Professional Documents
Culture Documents
Ajurry Qawaid4 Albadr PDF
Ajurry Qawaid4 Albadr PDF
املقـدمــة:
¢
إن الحمد هلل نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ،ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا وسيئات
أعمالنا ،من يهده اهلل فال مضل له ،ومن يضلل فال هادي له .وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال
اهلل َو َس ّل ْم َع َل ْيه َو َع َلى آله َو َص ْحبه َأ ْج َمعين.
شريك له ،وأشهد أن محمدا عبده ورسوله َص ّلى ه
نعم :
الشــرح:
اإلمام شيخ اإلسالم محمد بن عبد الوهاب -رحمه اهلل تعالى -كان ناصحا للناس أعظم
نصيحة يف بيان التوحيد الذي هخلقوا ألجله و هأوجدوا لتحقيقه ،والتحذير من الشرك باهلل َع ّز َو َج ّل
حرمات.
الم ّ
الذي هو أعظم اآلثام وأكرب ه
وتنوعت مصنفاته -رحمه اهلل تعالى -يف بيان التوحيد وتقريره والتحذير من الشرك
وإبطاله ،وبيان فساده وبطالن هشبه أهله ،فأ ّلف يف ذلك مؤلفات كثيرة هنصحا لألمة وبيانا للناس
وإعذارا وإنذارا ،فكان -رحمه اهلل -ناصحا معلما مرب ّيا موجها متمسكا بكتاب اهلل َج ّل َو َع َال وسنة
ت اهلل َو َس َال هم هه َع َل ْيه.-
رسوله َ -ص َل َوا ه
وكان -رحمه اهلل -يف بياناته وتقريراته للتوحيد والسنة ينطلق يف ذلك كله من كتاب اهلل َج ّل
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم ،سائرا يف ذلك على َسنَن الصحابة الكرام وتابعيهم
َو َع َال وسنة رسوله َص ّلى ه
للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ 4
بإحسان ،فهو ماض على الطريق ،على األثر يف االقتفاء واإلتباع لكتاب اهلل َج ّل َو َع َال وسنة رسوله
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم.
َص ّلى ه
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم.
ولهذا كانت كتبه كلها قائمة على الدليل؛ قال اهلل ،قال رسوله َص ّلى ه
ال يأيت بشيء من قبل نفسه أو هينشئ أمرا تكلفا من عنده ،حاشاه وحاشا أئمة المسلمين
وعلماء السنة أن يكونوا كذلك ،بل كان -رحمه اهلل -يف تقريراته وتأصيالته وتقعيداته منطلقا يف
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم.
ذلك كله من كتاب اهلل َج ّل َو َع َال وسنة رسوله َص ّلى ه
وقد تنوعت مصنفاته -رحمه اهلل تعالى -يف بيان التوحيد وتقريره والتأصيل له وجمع
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم.
الشواهد والدالئل عليه من كتاب اهلل َج ّل َو َع َال وسنة نبيه َص ّلى ه
وكان من عنايته -رحمه اهلل تعالى -هبذا الباب العظيم هذه الرسالة الصغيرة الحجم الكبيرة
الفائدة ،التي ال يستغني عنها كل مسلم ،فهي بحق رسالة عظيمة و هكت ّيب ق ّيم يف باب هو أعظم
األبواب ،وقد جمع -رحمه اهلل -يف هذه الرسالة قواعد أربعة وذكر أدلتها من كتاب اهلل َع ّز َو َج ّل
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم ،فكان َمن َضبط هذه القواعد وفهمها ال يلتبس عليه األمر وال تشتبه
وسنة نبيه َص ّلى ه
عليه األمور وال تنطلي عليه أضاليل أهل الضالل وأباطيل أهل الباطل.
فهي قواعد أربعة كبار عظيمة ال غنى ألي مسلم عنها يف باب معرفة التوحيد والشرك،
والتمييز بين الحق الذي هو التوحيد والباطل الذي هو الشرك.
ملحة والسيما يف مثل هذه األزمة
وأصبح معرفة التمييز بين التوحيد والشرك ضرورة ّ
المتأخرة التي هل ّبس على كثير من الناس يف مفهوم التوحيد ،و هأدخلت عليهم صورا من الشرك
وأبوابا منه على أهنا ليست مضادة للتوحيد وال منافية له.
فمن أعظم الضرورات وأشد الحاجات التي ينبغي على كل مسلم ومسلمة أن هيعني هبا :أن
يعرف هذه القواعد العظيمة األربعة الكبار التي قررها -رحمه اهلل تعالى -ليميز هبا المسلم بين
الشرك والتوحيد ،وحتى يكون المسلم على بصيرة يف دينه وعلى ب ّينة من أمره وعلى نور من كتاب
اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى وسنة نبيه َ -ص ّل َو ه
ات اهلل َو َس َال هم هه َع َل ْيه.-
5 شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ
وقد بدأ -رحمه اهلل تعالى -هذه الرسالة كعادته يف كتبه عموما ورسائله بالدعاء لمن يطلع
على كتابه ويقرأ رسالته ،ويدعو -رحمه اهلل -بدعوات عظيمة؛ دعوات جامعة تجمع للمسلم
خيري الدنيا واآلخرة .وهذا كذلك من نصحه -رحمه اهلل تعالى -ومن شفقته على الناس عموما
ليتبصروا يف دينهم ،وليعرفوا الحق الذي هخلقوا ألجله و هأوجدوا لتحقيقه ،وليكونوا على حذر من
ّ
الضالل والباطل.
( )1رواه الطربي من طريق بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال السيوطي و بشر ضعيف و الضحاك لم
جل ثناؤه هه َو َت َقدّ َس ْت َأ ْس َماؤه هه :اهلل.
يسمع من بن عباس .كتاب :جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،باب :القول يف تأويل قول اهلل ّ
للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ 6
فاسمه َت َب َار َك َو َت َعا َلى (اهلل) يدل على أوصاف الكمال ونعوت الجالل وأوصاف العظمة،
التي استحق هبا َ -ت َب َار َك َو َت َعا َلى -أن هيؤله وأن هيعبد وأن هيخضع له و هيذل َ -ج ّل َو َع َال. -
ودال أيضا على العبودية التي هي وصف العبد ،وأن الواجب على العبد أن يكون عبدا
لإلله ،ذليال له ،خاضعا لجنابه ،منكسرا بين يديه ،قائما بطاعته وأمره َ -ج ّل َو َع َال ،-محققا العبودية
التي هخلق ألجلها و هأوجد لتحقيقها.
الن على ثبوت الرحمة صفة هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى؛ واسمه َ -ج ّل
الرحيم) :اسمان دا ّ
الر ْح َمن ّ
و( ّ
الر ْح َمن) يدل على صفة الرحمة القائمة به سبحانه.
َو َع َالّ ( -
واسمه (الرحيم) :دال على تعلقها بالمرحومين .كما قال -ج ّل وع َالَ ﴿ :-و ََك َن بال ْ ُم ْؤمن َ
ني ِ ِِ َ َ َ ّ
َرح ً
يما﴾ . ِ
فهذه أسماء ثالثة عظيمة جاءت يف البسملة ،وبدأ هبا -رحمه اهلل تعالى -مؤ ّلفه تأس ّيا بكتاب
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم يف همكاتباته و همراسالته َ -ص َل َو ه
ات اهلل َو َس َال همه اهلل َج ّل َو َع َال ،وتأس ّيا بنبينا َص ّلى ه
َع َل ْيه ،-وتأس ّيا بأئمة المسلمين وعلماء اإلسالم يف أول الزمان وآخره.
يم َر ّب ا ْل َع ْرش ا ْل َعظيم َأ ْن َيت ََو ّال َك في الدُ ْن َيا َواآلخ َرة »؛ قال « َأ ْس َأ هل َ
اهلل ا ْل َكر َ
(أسأل اهلل الكريم) أي :أطلب منه َج ّل َو َع َال.
(الكريم) :اسم من أسماء اهلل َ -ج ّل َو َع َال -وهو دال على صفة الكرم؛ وهذه الصفة تعني
اجتماع صفات الخير وكوامل الصفات وجوامع النعوت .ولهذا؛ فإن هذا االسم من األسماء التي
تدل على أوصاف عظيمة ال على معنى مفرد ،من األسماء الدالة على أوصاف عظيمة ونعوت
جليلة كثيرة ،ثابتة للرب الكريم -هس ْب َحا َن هه َو َت َعالى.-
يم َر ّب ا ْل َع ْرش ا ْل َعظيم»؛ (رب العرش العظيم) :ذكر هنا ربوبية اهلل قالَ « :أ ْس َأ هل َ
اهلل ا ْل َكر َ
هس ْب َحا َن هه َو َت َعالى ،والربوبية :هي ه
الملك والخلق والتصرف والتدبير يف هذه الكائنات.
وخص بالذكر هنا العرش -ربوبية اهلل هس ْب َحا َن هه َو َت َعالى للعرش -ألنه أعظم المخلوقات
وأكربها ،واهلل هسبْ َحا َن هه َو َت َعالى وصف عرشه يف القرآن الكريم بالعظمة والكرم والمجد ،وجاءت
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم ،فذكر المصنف -رحمه اهلل
أيضا أوصاف كثيرة له يف سنة النبي الكريم َص ّلى ه
تعالى -هنا ربوبية اهلل َج ّل َو َع َال للعرش ،و ّ
خصه بالذكر ألنه أكرب المخلوقات وأعظمها.
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم ذكر ربوبية اهلل
ويأيت يف بعض األذكار والدعوات الثابتة عن النبي َص ّلى ه
الس َالم بالذكر ،كما يف الذكر الذي يقال عند الكرب "ال إله إال اهلل ويخصه َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ ُ للعرش،
العظيم ال إله إال اهلل رب العرش الكريم" ،وكما أيضا يف الدعاء الذي يقال عند النوم" :اللهم رب
السماوات السبع ،ورب األرض ،ورب العرش العظيم ،ربنا ورب كل شيء ومليكه ،فالق الحب
والنوى ،منزل التوراة والقرآن واإلنجيل "...إلى آخر الدعاء ،فيأيت مثل ذلك يف دعوات النبي
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم.
الكريم َص ّلى ه
والعرش مخلوق من مخلوقات اهلل -هس ْب َحا َن هه َو َت َعالى -العظيمة ،وهو أكرب المخلوقات
الس َالم يف تسبيحه هلل أن يذكر أثقل األوزان ذكر العرش، وأعظمها .ولهذا لما أراد َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم زنة العرش ألن
قال" :سبحان اهلل وبحمده عدد خلقه وزنة عرشه" ،ذكر َص ّلى ه
العرش أثقل المخلوقات وأكربها وأعظمها ،والعرش مخلوق هلل َج ّل َو َع َال ،خلقه هس ْب َحا َن هه،
وأوجده من العدم ،وشاء َج ّل َو َع َال أن يستوي عليه ،أي يعلو ويرتفع عليه ّ
علوا وارتفاعا يليق
بجالله وكماله وعظمته سبحانه .كما أخرب بذلك عن نفسه يف كتابه يف مواضع من القرآن يف قوله
لَع الْ َع ْرش ْ
استَ َوى﴾ .
َ َْ ُ ََ َ ْ ج ّل وع َالُ ﴿ :ث َّم ْ
استَ َوى َلَع ال َع ْر ِش﴾ ،وقوله َج ّل َو َع َال﴿ :الرْحن
ِ َ َ َ
وكم هو جميل للمؤمن يف دعائه هلل َ -ج ّل َو َع َال -ومناجاته له ،أن يذكر عظمة ربه َ -ج ّل
َو َع َال -وكماله وكربياءه ،وعندما تناجي اهلل َع ّز َو َج ّل وتدعوه متذكرا ربوبيته والسيما ربوبيته َ -ج ّل
َو َع َال -للعرش العظيم ،وتذكر عظمة هذا المخلوق وك َبره وضآلة المخلوقات األخرى بالنسبة
إليه ،مما هيعينك على ذكر عظمة اهلل َ -ج ّل َو َع َال -وكربيائه.
وأن هذا الكون الذي تحت العرش ودون العرش كله مسخر ومد ّبر هلل َج ّل َو َع َالّ ،
يصرفه
كيف يشاء ويقضي فيه بما يريد ،ال را ّد لحكمه ،وال معقب لقضائه ،وهو هس ْب َحا َن هه َو َت َعالى فوق
علي عليه ،يقضي بما يشاء ويحكم بما يريد ،ال راد لحكمه وال معقب لقضائه ،كل
عرشه المجيدّ ،
يوم هو يف شأن ،هيحي و هيميت ،و هيعز و هيذل ،و هيغني و هيقني ،و هيضحك و هيبكي ،و هيصح و هيمرض ..إلى
غير ذلك من األمور التي هي تصريفه وتدبيره لمملكته َج ّل َو َع َال ،ال شريك له يف التدبير وال
والحكم هحكمه َ -ج ّل َو َع َال.-
شريك له يف التسخير والقضاء ،األمر أمره ،والقضاء قضاؤه ،ه
فيذكر العبد عظمة اهلل وجالله وكماله وربوبيته ،ويجعل ذلك وسيلة له إلى اهلل َج ّل َو َع َال
بين يدي دعائه يف مناجاته هلل ،ومناداته له َ -ج ّل َو َع َال.-
يم َر ّب ا ْل َع ْرش ا ْل َعظيم ». ولهذا قال -رحمه اهللَ « :-أ ْس َأ هل َ
اهلل ا ْل َكر َ
َيحتمل قوله( :العظيم) أن المراد بالعظيم صفة هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى ،و َيحتمل أن يكون صفة
للعرش ،وكل منهما حق؛ فاهلل هس ْب َحا َن هه َو َت َعالى( :العظيم) ،ومن أسمائه الحسنى َت َب َار َك َو َت َعا َلى:
ْ
﴿و ُه َو ال َع ُ
يِل (العظيم) ،وقد هختمت أعظم آية يف القرآن الكريم وهي آية الكرسي هبذا االسم َ
ِ
( )1اآلية رقم 43 :من سورة األعراف ،السجدة ،3:الفرقان ،45:الرعد ،0:يونس.4:
( )2اآلية رقم 4 :من سورة طه.
9 شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ
الْ َعظ ُ
يّم﴾ ،فالعظيم اسم من أسماء اهلل ،والعظيم أيضا صفة من صفات العرش ،فيحتمل هذا ِ
ويحتمل ذاك.
يم َر ّب ا ْل َع ْرش ا ْل َعظيم» :يكون العظيم صفة هلل َج ّل َو َع َال. « َأ ْس َأ هل َ
اهلل ا ْل َكر َ
يم َر ّب ا ْل َع ْرش ا ْل َعظيم» :يكون العظيم هبذا صفة للعرش. و « َأ ْس َأ هل َ
اهلل ا ْل َكر َ
قالَ « :أ ْن َيت ََو ّال َك في الدُ ْن َيا َواآلخ َرة » هذا هو المطلوب وما قبله وسيلة بين يديه .المطلوب
قالَ « :أ ْن َيت ََو ّال َك في الدُ ْن َيا َواآلخ َرة » ،أي أن يكون ول ّيا لك ،يف دنياك وأخراك ،قال اهلل تعالى:
ات إ ََل اّنلُ َُ َ ُ َ َ َُ ُْ ُ ُ ْ َ ُ
الظلُ َ
ور﴾ ؛ ِ ِ ِ م اَّلين آمنوا ُي ِرجهّم ِمن
﴿اَّلل و ِيِل ِ
يتوالك يف الدنيا :أي بحفظه وتوفيقه وتسديده وعونه لك على طاعته وإخراجه لك من
الظلمات إلى النور ،وتبصيرك يف دينك و يف الحق الذي هخلقت ألجله وأ هوجدت لتحقيقه ،وأن
هيث ّبتك على هذا الحق ،وأن يعيذك من الضالل وسبل الغواية ،كل ذلك يتناوله قولهَ « :أ ْن َيت ََو ّال َك
في الدُ ْن َيا»؛ فتولي اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى لعبده يف الدنيا بحفظه يف هذه الدنيا من مضالت الفتن وتثبيته
لعبده على االستقامة والحق والهدى وعلى صراط اهلل المستقيم إلى أن يتوفاه َت َب َار َك َو َت َعا َلى وهو
عنه راض.
قالَ « :واآلخ َرة »؛ وتولي اهلل َتبَ َار َك َو َت َعا َلى لعبده يف اآلخرة :يكون بحفظه من أهوالها
وشدائدها ،ويكون بإنقاذه وإنجائه من النار ومن دخولها ،وتوفيقه له بدخول الجنة والفوز بنعيمها،
وأجل منة وهي أن يرى اهلل َتبَ َار َك َو َت َعا َلى؛ وهي أكرب النعم
ّ وأن يكرمه َت َب َار َك َو َت َعا َلى بأعظم نعمة
وأعظم المنن.
فكل ذلك داخل يف قوله -رحمه اهلل تعالىَ « :-واآلخ َرة » ،أي أن يتوالك َت َب َار َك َو َت َعا َلى يف
اآلخرة؛ بأن يكون ول ّيا لك ،بالحفظ والتوفيق والتسديد والعون ..إلى غير ذلك.
قالَ « :و َأ ْن َي ْج َع َل َك هم َب َاركا َأ ْين ََما هكن َْت»؛ وهذه دعوة من أعظم الدعوات وأج ّلها وأفخمها
ُ َ َ َ َ ُ َ ًَ َْ َ َ ُ
وأكربها ،قد قال اهلل تعالى يف ذكر نبيه عيسى﴿ :وجعل ِِن مبارَك أين ما كنت﴾ ،وال يكون اإلنسان
مبار كا أينما كان إال إذا كان يف مجالسه كلها صالحا مصلحا ،صالحا يف نفسه ليس منه شر وال أذى
وال إفساد وال نحو ذلك ،وأن يكون مصلحا بحيث أنه يف كل مجلس من مجالسه هيسمع منه الخير،
هتسمع منه الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة والتنبيه النافع ونحو ذلك.
ولهذا ذكر ابن القيم -رحمه اهلل -يف بعض كتبه ،وأظن أنه ذكره يف كتابه« :الرسالة
التبوكية» ،قال ":ال يكون العبد مباركا أينما كان إال إذا كان يف كل مجلس يجلسه يكون فيه نفع
للناس" ،وهبذا يكون مباركا أينما كان ،أي يف أي مكان ّ
حل ويف أي موضع نزل ،فهو أينما كان
حل نزل.كمثل الغيث أينما ّ هينتفع بهَ ،م َثله َ
ار ًَك أَ ْي َن َما ُك ُ
نت﴾ ،وهذا يتناول أن يكون العبد مباركا أيضا يف نفسه ،يف ﴿و َج َعلَِن ُمبَ َ
قالَ :
ِ
ماله ،ورزقه ،وعمله ،وبيته ،وحاله ،وشؤونه.
قالَ « :و َأ ْن َي ْج َع َل َك هم َب َاركا َأ ْين ََما هكن َْتَ ،و َأ ْن َي ْج َع َل َك م ّم ْن إ َذا هأ ْعط َي َش َك َرَ ،وإ َذا ا ْب هتل َي َص َب َر،
اس َت ْغ َف َر »؛ دعا هبذه األمور الثالثة العظيمة التي جمعت الخير كله والسعادة برمتها. َوإ َذا أ َذ َ
نب ْ
ولهذا قال -رحمه اهلل -يف خاتمة هذه الدعوة همب ّينا مكانتها وعظم شأهنا ،قالَ « :فإ ّن َه هؤالء
الس َعا َدة »؛ أي أن السعادة اجتمعت يف هذه الثالث ،فإذا هوجدت هذه األمور الثالثة
ان ّالث هعن َْو ه
ال ّث َ
يف العبد فإن السعادة اجتمعت فيه وتحققت فيه ونالها بأعلى صورها وأهبى حللها.
والسعادة من أعظم المطالب التي يسعى الناس لتحقيقها ،وتعقد المؤتمرات والندوات
والمجالس وتكتب المؤلفات لطلب السعادة ،وليس أحد من الناس إال وهو يريد لنفسه سعادة،
حتى الذين يباشرون الفساد ويتعاطون أمور االنحراف يظنون أهنا تجلب لهم سعادة وأن السعادة
تتحقق لهم بتلك المسالك التي هي يف الحقيقة مهالك لهم ومضار عليهم يف دنياهم وأخراهم.
فالسعادة ال هتنال إال بتحقيق هذه األوصاف الثالث التي ذكرها -رحمه اهلل تعالى -يف هذه
الدعوة المباركة العظيمة .ال هتنال إال هبذه األوصاف الثالثة :الشكر والصرب واالستغفار .فهذه
األمور الثالثة إذا اجتمعت يف العبد اجتمعت فيه السعادة وتحققت له.
اس َت ْغ َف َر » ،ولو تأملت قالَ « :و َأ ْن َي ْج َع َل َك م ّم ْن إ َذا هأ ْعط َي َش َك َرَ ،وإ َذا ا ْب هتل َي َص َب َرَ ،وإ َذا أ َذ َ
نب ْ
تجد أن أحوال العبد يف هذه الحياة الدنيا ال تخرج عن هذه األمور الثالثة؛ إما أن يكون مبتلى
بمصيبة ،أو أن يكون ممت ّن عليه بنعمة ومنة ،أو أن يكون واقعا يف ذنب.
ال تخرج أحوال العبد يف حياته عن هذه األمور الثالثة :إما مبتلى بمصيبة ،أو من َعم عليه
بنعمة -و مما يدخل يف النعمة نعمة الدين ،فهي من أعظم النعم ،بأن يوفق للصالة والصيام وطلب
العلم وبر الوالدين وصلة األرحام ،هذه أعظم النعم -أو أن يكون قد وقع يف ذنب.
فالعبد ال يخرج يف حياته عن هذه األمور الثالثة :إما مبتلى بمصاب ،أو من َعم عليه بنعمة ،أو
واقع يف ذنب ،ال يخرج عن هذه األمور الثالثة.
والواجب على العبد أن يجاهد نفسه مجاهدة تامة على أن يكون عند البالء من الصابرين،
وعند النعم من الشاكرين للمنعم هس ْب َحا َن هه َو َت َعالى ،وعند وقوعه يف الذنوب من المستغفرين ،فإذا
كان كذلك جمع لنفسه الخير كله.
سراء شكر
الس َالم" :عجبا ألمر ،المؤمن إن أمره كله خير ،إن إصابته ّ قد قال َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
فكان خيرا له ،وإن أصابته ضراء صرب فكان خيرا له ،وال يكون ذلك إال للمؤمن" ،هكذا قال َع َل ْيه
الس َالم ،بدأ أول الحديث بقوله" :عجبا ألمر المؤمن" ،وختم الحديث بقوله" :وذلك ال
الص َال هة َو ّ
ّ
يكون إال للمؤمن".
فالمؤمن عند المصيبة صابر وعند النعمة شاكر ،يف المصائب يفوز بثواب الصابرين ويف
النعم يفوز بثواب الشاكرين ،فهو فائز يف كال الحالين ،يف مصائبه فائز ويف نعمه فائز ،يف مصائبه فائز
بثواب الصابرين ويف نعمه فائز بثواب الشاكرين .
اس َت ْغ َف َر»؛ أي إذا وقع يف الذنب بادر إلى االستغفار ،ويعلم واألمر الثالث قالَ « :وإ َذا أ َذ َ
نب ْ
أن اهلل َع ّز َو َج ّل يغفر الذنوب ويعفو عن السيئات ،وال يتعاظمه َ -ت َب َار َك َو َت َعا َلى -ذنب أن يغفره،
ولهذا ال يقنط من رحمة اهلل وال ييأس من روح اهلل مهما كان ذنبه ومهما عظم جرمه ،فإنه يبادر
باألوبة والرجوع إلى اهلل َج ّل َو َع َال.
ْ
الس َالم قصة العبد الذي أذنب ذنبا ،فقال" :أذنب عبد ذنبا، وقد ذكر النبي َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
فقال :اللهم! اغفر لي ذنبي ،فقال َت َب َار َك َو َت َعا َلى :أذنب عبدي ذنبا ،فعلم أن له ربا يغفر الذنب،
ويأخذ بالذنب .ثم عاد فأذنب ،فقال :أي رب! اغفر لي ذنبي ،فقال َت َب َار َك َو َت َعا َلى :عبدي أذنب
ذنبا ،فعلم أن له ر ّبا يغفر الذنب ،ويأخذ بالذنب .ثم عاد فأذنب فقال :أي رب! اغفر لي ذنبي ،فقال
َت َب َار َك َو َت َعا َلى :أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ر ّبا يغفر الذنب ،ويأخذ بالذنب ،اعمل ما شئت فقد
غفرت لك" ،أي ما دمت على هذه الحال.
ه
دمت على هذه الحال؛ مالزما لالستغفار،
غفرت لك"؛ أي ما َ
ه شئت فقد
انتبهوا" :اعمل ما َ
مجاهدا نفسك على أن ال تقع يف المعصية وأن ال تقع يف الخطيئة ،وإن بدر منك زلل أو وقعت يف
خطأ بادرت إلى االستغفار ،ما دمت على هذه الحال فأنت مغفور لك.
اهلل َع َل ْيه َو َس ّلم" :كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" ؛ ابن آدم ليس
وقد قال َص ّلى ه
رب يغفر -هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى -ويتجاوز ويصفح َع ّز َو َج ّل.
معصوما ،ابن آدم خطاء ،لكن له ّ
جره إليه قرناء
جرته إليه نفسه الضعيفة ودعاه إليه الشيطان ،أو ّ
ولهذا؛ إذا وقع العبد يف ذنب ّ
السوء وخلطاء الفساد أو أغوته نفسه للوقوع فيه ،عليه أن يعلم فورا أن له ر ّبا يغفر الذنب ويتجاوز،
( )2رواه األلباين يف صحيح ابن ماجه ( )4331ويف صحيح الجامع ( )3474وقال:حسن.
03 شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ
َ َْ َ َ ََ َ ْ ُ ُُ َ َ ً َُ ُْ َ َ َ َ َ َ ْ َ ُ ََ َ ُ
نفسه ّْم ال َت ْقنَ ُ
يعا ِإنه َج
اَّلل إِن اَّلل يغ ِفر اَّلنوب ِ
ِ ة
ِ ْحر ن م
ِ وا ط اَّلين أْسفوا لَع أ ِ ِ
﴿قل يا ِعبا ِدي ِ
الرح ُ َُ َُْ ُ
يّم﴾ ،فال يزال العبد بخير مادام يعلم أن له ر ّبا يغفر ويتجاوز ويصفح -هس ْب َحا َن هه هو الغفور َ ِ
َو َت َعا َلى ،-وأما ابن آدم فضعيف وكثير الخطأ والزلل ،ودواعي الخطأ كثيرة جدا" ،ليس العجب
ممن هلك كيف هلك ،ولكن العجب ممن نجا كيف نجا".
تجر اإلنسان إلى الخطأ كثيرة جدا ،لكن ال يزال العبد بخير مادام يعلم أن له
األمور التي ُ
ر ّبا يغفر ،لهذا ال يزال العبد يجاهد نفسه على البعد عن الذنوب وعدم الوقوع فيها ،وإذا انفلتت
نفسه ووقع يف زلة أو وقع يف خطيئة بادر إلى االستغفار.
ومن عظيم حب اهلل َج ّل َو َع َال لالستغفار والمستغفرين قال َع ّز َو َج ّل يف الحديث القدسي:
"لو لم تذنبوا لذهب اهلل بكم ،ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون اهلل ،فيغفر لهم" .
ولهذا؛ ربما كانت بعض الذنوب على اإلنسان خير له ،ألهنا تفتح عليه باب ندم عظيم وباب
استغفار كثير ،ربما بدون هذا الذنب يقل استغفاره ،لكنه يقع يف ذنب وزلة ثم يقع يف قلبه حياء
عظيم من اهلل َع ّز َو َج ّل ومراقبة هلل وألم وندم على ما وقع فيه من ذنب وخطيئة فيكثر على لسانه
االستغفار كثرة ربما ال تكثر على لسانه لوال أنه ما وقع يف هذا الذنب الذي ابتلي به ،ولهذا ال يزال
العبد بخير مادام أنه إذا أذنب استغفر.
ولهذا؛ الحظوا الدعوة قالَ « :وأَ ْن َي ْج َع َل َك م ّم ْن إ َذا هأ ْعط َي َش َك َرَ ،وإ َذا ا ْب هتل َي َص َب َرَ ،وإ َذا أ َذ َ
نب
اس َت ْغ َف َر ».
ْ
والذنب ال بد منه ،الذنب يف ابن آدم ال بد منه ،ال بد أن يقع يف الذنب ،وذنوب اإلنسان
كثيرة ،لكن ينبغي أن يكون العبد كثير االستغفار.
وقد كان سيد ولد آدم أكثر الناس استغفارا وليس يف عباد اهلل أكثر استغفارا من رسول اهلل
اهلل َع َل ْيه َو َس ّلم ،وقد غفر اهلل له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ،ولكنه مع ذلك كان أكثر الناس
َص ّلى ه
الشاهد أن العبد تتحقق له السعادة إذا اجتمعت فيه هذه الخصال الثالث العظيمة ،أال وهي:
الصرب والشكر واالستغفار.
ولعل يف هذه الدعوة العظيمة المباركة التي دعا هبا المصنف -رحمه اهلل -أن تكون فاتحة
باب لك أن تعتني هبذه األمور الثالث التي هي عنوان السعادة :الصرب والشكر واالستغفار ،بحيث
تكون مجاهدا لنفسك على تحقيق هذه األمور الثالثة؛ إذا كان صربك ضعيفا فاجتهد يف تنميته
واسأل اهلل َج ّل َو َع َال المعونة على ذلك ،وإذا كان شكرك قليال فاجتهد أيضا على تكثيره وتقويته
َ ّ َ ْ ْ َ ْ َ ْ ُ َ ْ َ َ َ َّ َ ْ َ ْ َ َ َ
لَعَ واسأل اهلل َع ّز َو َج ّل المعونة على ذلك ،قال﴿ :ر ِب أو ِزع ِِن أن أشكر نِعمتك ال ِِت أنعمت
َ ََ َ َ َ
ويسر لك ،وأن تعتني باالستغفار ولَع و ِالي﴾ ،ال تكون شاكرا هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى إال إذا أعانك اهلل ّ
وأن تكثر منه ،وأن يكون استغفارك يف مجالسك ويف تنقالتك ويف حركاتك استغفرا كثيرا.
( )1رواه النسائي يف السنن الكربى ( ،)770/6وابن حبان يف صحيحه (.)500 -021/4
( )2أخرجه األلباين يف السلسلة الصحيحة ( ،)0114وقال :إسناده صحيح على شرط الشيخين .عن عائشة رضي اهلل عنها قالت" :كان يعوذ
هبذه الكلمات :اللهم رب الناس أذهب الباس ،واشف وأنت الشايف ،ال شفاء إال شفاؤك شفاء ال يغادر سقما .فلما ثقل يف مرضه الذي مات فيه
أخذت بيده فجعلت أمسحه هبا وأقولها فنزع يده من يدي وقال" :اللهم اغفر لي وألحقني بالرفيق األعلى" .قالت :فكان هذا آخر ما سمعت
من كالمه".
( )3اآلية رقم75 :من سورة النمل.
05 شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ
فهذه كما أهنا دعوة فهي لفتة من المصنف -رحمه اهلل -إلى العناية هبذه األمور الثالثة التي
هي أبواب السعادة.
وتكون عنايتك هبا من جهتين:
الجهة األولى :أن تدعو لنفسك هبذا الدعاء أن ييسر اهلل لك َ -ع ّز َو َج ّل -هذه األمور الثالثة،
التي هي عنوان السعادة.
واألمر الثاين :أن هت ْتبع الدعاء بفعل السبب؛ وذلك بأن تجاهد نفسك على أن تكون من الذين
إذا ابتلوا صربوا ،وإذا أنعم عليهم شكروا ،وإذا أذنبوا استغفروا.
نعم :
املتـن - :املقدمـة -
الشــرح:
يم َأ ْن َت ْع هبدَ َ
اهلل َو ْحدَ هه هم ْخلصا َل هه الدّ ي َن» ،هذه هي الحنيفية. قال« :ا ْع َل ْم َأ ّن ا ْل َحنيف ّي َة م ّل هة إ ْب َراه َ
الحنيفية التي هي ملة إبراهيم :هي أن تعبد اهلل مخلصا له الدين ،ولهذا ال يكون اإلنسان حنيفا إال
اء﴾ ،ال يكون من الحنفاء - ين ُحنَ َف َ ني َ َُل ِ
ال َ إذا كان مخلصاَ ﴿ ،و َما أُم ُروا إ َال ِلَ ْعبُ ُدوا َ َ
اَّلل ُُمْلص َ
ِ ِ ِ ِ ِ
والحنفاء جمع حنيف -إال إذا كان مخلصا دينه هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى ،بدون ذلك ال يكون حنيفا.
الحنَف :أصله يف اللغة :الميل ،والمراد هنا :الميل والعدول عن الباطل إلى الحق والهدى
و َ
والتوحيد واالستقامة؛ مائال عن الشرك إلى التوحيد ،وعن الضالل إلى الهدى ،وعن الباطل إلى
الحق ،وعن الغواية إلى الرشاد ،هذا هو الحنيف.
يم َأ ْن َت ْع هبدَ َ
اهلل َو ْحدَ هه هم ْخلصا َل هه الدّ ي َن» ،وقوله أن تعبد اهلل وحده قال« :ا ْل َحنيف ّي َة م ّل هة إ ْب َراه َ
مخلصا له الدين ،هذا هو التوحيد الذي هخلقنا ألجله و هأوجدنا لتحقيقه.
َ ََ َ َْ ُ ْ َ َ ْ ْ
اْلن َس ِإال اْلن و ِ ولهذا قال المصنف -رحمه اهلل « :-ك ََما َق َال َت َعا َلى﴿ :وما خلقت ِ
َُُْ
ون﴾ » ،فالتوحيد الذي هخلق الخلق ألجله و هأوجدوا لتحقيقه هو أن يعبدوا اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى
ِِلعبد ِ
مخلصين له الدين.
وهذا يتطلب منك أن تعرف:
أوال :العبادة ما هي ،ما حقيقتها ،ما أفرادها.
ويتطلب منك ثانيا :أن تجعلها كلها هلل ،ال تجعل ألحد منها شيئا.
يتطلب منك أن تعرف العبادة التي هخلقت ألجلها و هأوجدت لتحقيقها ،ويتطلب منك أن
تجعل العبادة كلها هلل هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى ،ال تجعل ألحد أ ّيا كان ومهما كان ح ّظا وال نصيبا ،ال لملك
مقرب وال لنبي مرسل وال لغيرهما ،فالعبادة حق هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى.
َ َُُْ
ون﴾ العبادة فعل العبد ،واهلل هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى جعل يف العبد مشيئة ،وهداه
وقولهِ ﴿ :إال ِِلعب ِ
د
َُ َ ُْ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ
ت َعليْ ِه النجدين؛ طريق الحق وطريق الضالل ،قال تعالى﴿ :ف ِمن ُهّم م ْن هدى اَّلل و ِمنهّم من حق
َ َُُْ َ َُ
ون﴾ أي إال ليقوموا بعباديت ،هذا الذي خلقهم ألجله. الضاللة﴾ ،فقولهِ ﴿ :إال ِِلعب ِ
د
ََ ْ
لكن هل كلهم فعل ذلك الذي هخلقوا له؟ الجواب :ال ،ولهذا قال يف آية أخرىَ ﴿ :ولقد
اَّلل َومنْ ُه ّْم َم ْن َح َقتْ َ ُ َ
وت فَمنْ ُه ّْم َم ْن َه َدى َ ُ َ ََ َ ْ ُِ َُ َ ُ ً َ ُ ْ ُ ُ َْ
ِ ِ َب َعثنا ِِف لُك أم ٍة رسوال أ ِن اعبدوا اَّلل واجتنِبوا الطاغ
ُ
َ َُ َ
َعليْ ِه الضاللة﴾ .
اهلل َخ َل َق َك لعبَا َدته؛ َفا ْع َل ْم َأ ّن ا ْلع َبا َد َة ال هت َس ّمى ع َبا َدة إال َم َع الت ّْوحيد»؛
ت َأ ّن َ
قالَ « :فإ َذا َع َر ْف َ
نقلت لكم عن ابن عباس أنه قال" :كل أمر بالعبادة أمر
وهذا أصل ال بد أن يعرفه كل مسلم ،ولهذا ه
بالتوحيد" ،ألن العبادة ال تكون عبادة إال بالتوحيد.
العبادة إذا دخلها إرادة غير اهلل وإشراك غير اهلل َ -ت َب َار َك َو َت َعا َلى -معه يف العبادة ماذا تكون؟
ََ َ َْ ُ ْ َ َ ْ َ َ َُُْ
ون﴾ ،هذه
اْلنس ِإال ِِلعب ِ
د اْلن و ِ
هل هي العبادة التي خلق اهلل الخلق ألجلها؟ قال﴿ :وما خلقت ِ
العبادة التي خلق اهلل َع ّز َو َج ّل الخلق ألجلها هل هي تلك األعمال التي يمارسها كثير من الناس؛
يسألون اهلل ويسألون األحجار ،يعبدون اهلل ويعبدون القباب واألحجار واألشجار وغيرها ،هل
ََ َ َْ ُ ْ َ َ ْ َ َ َُُْ
ون﴾؟ حاشا
اْلنس ِإال ِِلعب ِ
د هذا الذي هخلقوا ألجله؟ هل هذا المعني بقوله﴿ :وما خلقت ِ
اْلن و ِ
وكالّ ،هذا ليس عبادة وإنما هو شرك.
ولهذا؛ العبادة ال تكون عبادة إال مع التوحيد.
ون ّظر -رحمه اهلل -لذلك بمثال يوضح ذلك قالَ « :فا ْع َل ْم َأ ّن ا ْلعبَا َد َة ال هت َس ّمى ع َبا َدة إال َم َع
الت ّْوحيد ،ك ََما َأ ّن ّ
الصال َة ال هت َس ّمى َصالة إال َم َع ال ّط َه َارة»؛ لو أن إنسانا صلى؛ ركع وسجد وأتى
بأعمال الصالة من أولها إلى آخرها وهو على غير طهارة ،هل يقال له صليت أو يقال له لم تصل؟
تصل ،أي لم تصلي الصالة التي هأمرت هبا و هطلبت منك ،فالذي يصلي بغير
فصل فإنك لم ّ
ارجع ّ
طهارة كأنه ما صلى ،صالته وجودها وعدمها سواء ،ألن الصالة ال تكون صالة إال مع الطهارة،
والعبادة ال تكون عبادة إال مع التوحيد ،فإذا كانت العبادة قائمة على التوحيد كانت عبادة صحيحة
مقبولة.
وإذا كانت العبادة ولو كانت كثيرة أمضى فيها اإلنسان حياته ودهره إذا لم تكن قائمة على
التوحيد ،فإهنا كلها تذهب سدى وتضيع هباء ﴿ َوقَ ِد ْمنَا إ ََل َما َع ِملُوا ِم ْن َع َمل فَ َج َعلْنَاهُ َهبَ ً
اء ٍ ِ
ال ْنيَا َو ُهّمْ ْ
اْلَيَاة ُ ْ ُ ُ َ َ َ َ َ ْ َ ُْ َ ْ َُُِ ُ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ُ ً
ِ اَّلين ضل سعيهّم ِِف َسغن أعماال (ِ )724 منثورا﴾ ﴿ ،قل هل ننبئكّم بِاألخ ِ
َ ََ ُْ ُ َ ْ َْ
َي َسبُون أن ُه ّْم َي ِسنون ُصن ًعا﴾ .
فهذا أصل عظيم يجب على كل مسلم أن يضبطه؛ العبادة ال تكون عبادة إال مع التوحيد ،كما
أن الصالة ال تكون صالة إال بالطهارة ،فمن عبد اهلل بغير التوحيد فهو مشرك باهلل ،ال يقبل اهلل
هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى عبادته ،ومن عبد اهلل َع ّز َو َج ّل بالصالة من غير طهارة لم يقبل اهلل منه صالته،
وجود صالته وعدمها سواء.
فهذا أصل عظيم يجب على كل مسلم أن يضبطه وأن يعتني به؛ وهذا يعني أن تعرف العبادة
ما هي ،واألمر الثاين أن تجعلها كلها هلل ،لماذا؟ ألن اإلنسان لو جعل لغير اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى شيئا
من العبادة ولو شيئا قليال أبطل دينه كله ،لماذا هيبطل دينه هكله؟ ألن العبادة ال تكون عبادة إال مع
التوحيد ،فإذا هجعل مع اهلل هسبْ َحا َن هه َو َت َعا َلى شريك يف العبادة ولو يف شيء قليل منها أبطل العبادة
كلها.
والشرك يف العبادة مثل السم يف الطعام ،إذا هوضع السم يف بعض الطعام أفسد الطعام كله
وأتلفه أجمعه ،و َمن الذي يقبل طعاما هوضع يف بعضه سم؟ السم يسري يف الطعام كله ويفسده كله.
العبادة ال تكون إال مع التوحيد؛ بأن يكون العبد موحدا هلل َج ّل َو َع َال ،مخلصا يف عبادته
كلها ،وهذا يعني أن تكون صالتك هلل ،حجك هلل ،ذبحك هلل ،نذرك هلل ،دعاؤك تتوجه به إلى اهلل،
توكلك على اهلل ،رجاؤك من اهلل ،خوفك من اهلل ،كل العبادات ال تصرف شيئا منها إال هلل هس ْب َحا َن هه
ََ َ ُ َ َ َ ِ ُ ْ َ ِ ُ َ َ ََ ُْ َ َُُْ ُ
َ ُ
َ
َّلل الين اْلالِص﴾ ﴿ ،وأن َو َت َعا َلى﴿ ،وما أ ِمروا ِإال ِِلعبدوا اَّلل ُم ِل ِصني َل الين﴾ ﴿ ،أال ِ ِ
َْ َ َ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ ً
اَّلل أ َحدا﴾ ،واآليات يف هذا المعنى كثيرة جدا.
َّلل فال تدعوا مع ِ اجد ِ ِ
المس ِ
الش ْر هك في ا ْلع َبا َدة َف َسدَ ْت؛ كَا ْل َحدَ ث إ َذا َد َخ َل في ال ّط َه َارة »؛ الشرك إذا دخل
قالَ «:فإ َذا َد َخ َل ّ
يف العبادة فسدت كالحدث إذا دخل يف الطهارة ،اإلنسان إذا كان على طهارة ،توضأ وأصبح طاهرا
ثم أحدث هل تبقى طهارته على ما هي عليه وقد أحدث؟ الجواب :ال ،والشرك إذا دخل يف العبادة
أفسدها مثل الحدث إذا دخل على الطاهر فإنه يفسد طهارته ويحتاج أن يتطهر من جديد.
وهذا الشبه بين الطهارة من الحدث والطهارة من الشرك جاء اإلشارة إليه يف قوله َت َب َار َك
َ َ ِ
َو َت َعا َلىَ ﴿ :و ِثيَابَك ف َطه ْر﴾؛ قيل يف معناها :طهر نفسك من الشرك ومما ينقض الدين ويفسد
اإليمان ،وقيل يف معناه :طهر ثيابك من النجاسة الحسية.
َ َ ِ كَََِْ َ َ َ
ْب (َ )4و ِثيَابَك ف َطه ْر (طهر ثيابك) يتناول الطهارة المعنوية والطهارة الحسية ﴿وربك ف
َ ُ ْ َ ْ
الرج َز فاه ُج ْر ( ﴾)4؛ أي األصنام ،وعبادة غير اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى.( )3و
الش ْر هك في ا ْلع َبا َدة َف َسدَ ْت؛ كَا ْل َحدَث إ َذا َد َخ َل في ال ّط َه َارة » المثال الذي
قالَ « :فإ َذا َد َخ َل ّ
ذكره المصنف مثال هيج ّلي هذا األمر تجلية واضحةَ ،من الذي يعرف مكانة الطهارة يف الصالة ثم
هيقدم أن يصلي وعليه حدث؟ اسأل عامة المصلين ،اسأل من يصلي وقد عرف أن صالته ال هتقبل
إال بالطهارة ،هل من عرف ذلك إذا توجه للمسجد ثم أحدث يف الطريق هل يستمر يف سيره
للمسجد أو يبحث عن مكان ليتطهر ثم يدخل يصلي طاهرا؟ هذا أمر معروف.
وسلمت من
األمر تماما يف باب العبادة ،العبادة ال تكون عبادة مقبولة إال إذا خلصت و هنق ّيت َ
الشرك ،فإذا دخل الشرك يف العبادة أفسد العبادة وأتلفها.
الش ْر َك إ َذا َخا َل َط ا ْلع َبا َد َة َأ ْف َسدَ َهاَ ،و َأ ْح َب َط ا ْل َع َم َلَ ،و َص َار َصاح هب هه ،م َن
قالَ « :فإ َذا َع َر ْف َت َأ ّن ّ
ا ْل َخالدي َن في النّار؛ َع َر ْف َت َأ ّن َأ َه ّم َما َع َليْ َك َم ْعر َف هة َذل َك »؛ أي معرفة الشرك ،لماذا تعرفه؟ الشرك
عرفنا أنه إذا دخل يف العبادة أفسدها ،جعلها حابطة باطلة غير مقبولة ،إذن يجب علينا أن َنعرف
الشرك أو ال يجب؟ يجب علينا أن نعرف الشرك ،من أجل ماذا؟ من أجل أن هنن ّقي عبادتنا هلل -
َت َب َار َك َو َت َعا َلى -منه ونصفيها منه ،ونجعلها خالصة ليس فيها شيء من الشرك ،فإذن يجب على كل
مسلم أن يعرف الشرك من أجل أن يحذره.
إذا لم يعرف اإلنسان الشرك وحقيقته ربما دخل الشرك يف جوانب من عبادته فأفسدها وهو
يف قرارة نفسه ال يزال يظن أنه من أهل التوحيد ومن أهل ال إله إال اهلل؛ بينما قد أدخل على نفسه
أعماال من الشرك تفسد عمله وعبادته وتحبط دينه.
ولهذا كان واجبا على كل مسلم أن يعرف الشرك من أجل أن يحذره ،وأن يكون خائفا على
نفسه من الوقوع يف الشرك.
( )1قال اإلمام األلباين $يف كتاب «األجوبة النافعة» ( ص(( :) 67:هذا المعنى مستقى من السنة ،فقد قال حذيفة بن اليمان
ﭬ :كان الناس يسألون رسول اهلل ﷺ عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت :يا رسول اهلل! إنا كنا يف جاهلية
وشر فجاءنا اهلل هبذا الخير ،فهل بعد هذا الخير شر؟ قال" :نعم" فقلت :هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال " :نعم ،وفيه دخن" قلت:
وما دخنه؟ قال " :قوم يستنون بغير سنتي ،ويهدون بغير هديي ،تعرف منهم وتنكر" ،فقلت :هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال" :
نعم دعاة على أبواب جهنم من أجاهبم إليها قذفوه فيها " ،فقلت :يا رسول اهلل صفهم لنا ،قال " :نعم قوم من جلدتنا ويتكلمون
بألسنتنا ...الحديث" أخرجه البخاري ومسلم)) اهـ.
للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ 14
َ ُْْ ََ َ َ َْ َ
ِن أن نع ُبد وتأمل دعوة إمام الحنفاء إبراهيم الخليل َع َل ْيه ّ
الس َال ْم قال﴿ :واجنب ِِن وب ِ
َ َ َ ِ َُ َ َ ْ ََْ َ ً ِ َ َ ْ َ
اس﴾ ،فإذن يجب على المسلم أن يعرف الشرك األصنام ( )44رب ِإنهن أضللن ك ِثريا من اّنل ِ
من أجل أن يحذره ،كما أنه يجب عليه أن يعرف التوحيد من أجل أن هيحققه ويكون من أهله.
الش ْر َك إ َذا َخا َل َط ا ْلعبَا َد َة َأ ْف َسدَ َهاَ ،و َأ ْح َب َط ا ْل َع َم َلَ ،و َص َار َصاح هب هه ،م َن
قالَ « :فإ َذا َع َر ْف َت أَ ّن ّ
َََ ْ ُ َ َْ َ َ َ
وِح إِِلك و ِإَل ا ْل َخالدي َن في النّار» ،قولهَ « :و َأ ْح َب َط ا ْل َع َم َل» يدل عليه قول اهلل يف القرآن﴿ :ولقد أ ِ
َ ََ َ ْ ْ اْلَاْس َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ ََ ْ ََ َ َ َ ُ َ َََ ُ َ َ َ ْ
اَّلل فاعبُد) -أي غن ( )64ب ِل ِ ِ اَّلين ِمن بب ِلك ل ِْن أَركت ِلببطن عملك وَتكونن ِمن ِ
َُ ِ ْ َ
الشا ِكر َ
غن ( ، ﴾)66فالشرك إذا دخل العبادة أفسدها وأحبط العمل ،وصار ِ وحده( -وكن من
ُ َ َ َ ْ
َر َ ِب ِه َو َغغ ِف ُر َما دون ذلِك ال َي ْغف ُر أَن ش ُ ْ ََ َ َ
صاحبه من المخلدين يف النار ،لقوله تعالىِ ﴿ :إن اَّلل
ِ
َ
ل ِ َمن شَشاء﴾ .
« َع َر ْف َت َأ ّن َأ َه ّم َما َع َليْ َك َم ْعر َف هة َذل َك» أي معرفة الشرك لتو ّقيه ومعرفة التوحيد لتحقيقه.
اهلل َأ ْن هي َخ ّل َص َك م ْن َهذه ّ
الش َب َكة » وانظر هذا الوصف العجيب للشرك ،الشرك: قالَ « :ل َع ّل َ
شبكة ،وأنتم تعرفون أن الشبكة لها خيوط كثيرة ممتدة األطراف هنا وهناك وإذا المس اإلنسان
شيئا من خيوط هذه الشبكة اب هتلي هبا وأمسكته وصار من أهلها.
الشرك شبكة له خيوط ،له فروع كثيرة ،له أنواع كثيرة ،له أبواب عديدة ،فإذا عرفت أن
الشرك أخطر شيء وأنه إذا دخل العبادة أفسدها أو أبطلها ،وجب عليك أن تكون على معرفة
ّ
وتوق و هبعد عنه. بالشرك حتى تكون منه على حذر
الش َب َكة» أن الشرك له مجاالت كثيرة
وأيضا هنا يفيدك هذا التعبير من المصنف بقولهَ « :هذه ّ
وجوانب عديدة من خاللها هيصطاد الناس ويخرجون عن اإلخالص والصفاء يف العبادة هلل َت َب َار َك
َو َت َعا َلى إلى الوقوع يف شبكة الشرك ،والعياذ باهلل.
( )1رواه البخاري يف األدب المفرد ( ،)176وأبو يعلى يف مسنده ( ،)67/7وصححه األلباين يف صحيح األدب المفرد ( ،)447من
حديث معقل بن يسار المزين ﭬ .
( )2اآلية رقم 30 ،776 :من سورة النساء.
( )3اآلية رقم 46 :من سورة فاطر.
( )4اآلية رقم 30 :من سورة النبأ.
للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ 16
َ َ َُ ُ ََ َ َ ُ
هي قول اهلل تعالى﴿ :فذوقوا فلن ن ِزغدك ّْم ِإال َعذابًا﴾ ،ألهنم عندما يدخلون النار ال يزال عندهم
َُ َََ َ ْ ْ َ َ ْ َ ْ َ ً َ َْ َ
اَّلي كنا
اْلا غري ِبعض اآلمال ،من اآلمال أن هيعادوا إلى الدنيا مرة ثانية ﴿ربنا أخ ِرجنا نعمل ص ِ
َْ ُ
نع َمل﴾ ،من اآلمال أن هيقضى عليهم فيموتوا و َيسلموا من هذا العذاب ومن هذه الشدائد ،ومن
اآلمال أن هيخ ّفف عنهم العذاب ولو قليال ،ثم يأتيهم هذا األمر الذي يقطع عليهم كل اآلمال
َ َ َُ ُ ََ َ َ ُ
﴿فذوقوا فلن ن ِزغدك ّْم إِال َعذابًا﴾ ،أي لن تنالوا يف النار إال زيادة العذاب ،ال ينقطع وال هيخفف
وال هيقضى على أهله فيموتوا ،بل ال يزالون يف العذاب أبد اآلباد مخ ّلدين يف نار جهنم -أجارنا اهلل
وأجاركم ووقانا ووقاكم.-
فإذن يجب على العبد أن يكون على غاية الحذر من هذا الشرك الذي هو أخطر أمر وأعظم
أمر هنى اهلل هس ْب ْحا َن هه َو َت َعا َلى عباده عنه.
ولهذا أول أمر يصادفك يف القرآن هو األمر بالعبادة ،وأول هني يصادفك يف القرآن النهي عن
َ َ ََْ ُ ْ َ َ َ ً ََ ُ ْ َ ْ َ ُ َ
َّلل أندادا وأنتّم تعلمون﴾ :هذا أول شيء هنى اهلل عنه يف القرآن الكريم.
الشرك﴿ .فال َتعلوا ِ ِ
ثم قال -رحمه اهللَ « :-و َذل َك ب َم ْعر َفة َأ ْر َبع َق َواعدَ َذك ََر َها ه
اهلل َت َعا َلى في كتَابه »؛
الرجل -رحمة اهلل عليه- وانتبه لقوله -رحمه اهللَ « :-ذك ََر َها ه
اهلل في كتَابه» لتعلم من خالل ذلك أن ّ
ال يأيت بشيء من نفسه ،ال يتكلف من نفسه؛ وإنما يجمع للناس ما جاء يف القرآن ،وما جاء يف سنة
النبي الكريم َع َل ْيه ّ
الص َال هة َوالس َال ْم.
قال َ « :و َذل َك ب َم ْعر َفة َأ ْر َبع َق َواعدَ َذك ََر َها ه
اهلل َت َعا َلى في كتَابه» ثم ذكرها قاعدة قاعدة ،ذاكرا مع
كل قاعدة دليلها وشاهدها من كتاب اهلل َع ّز َو َج ّل.
وهي قواعد عظيمة جليلة كبيرة ينبغي على كل مسلم ومسلمة أن يحفظها.
ولعل أعظم هدية يقدمها من حج إلخوانه وجيرانه وأهله ورفقائه أن يعرف هذه القواعد
معرفة جيدة وأن يقدمها هدية ،هي أثمن هدية يقدّ مها للجار وللقريب وللصديق وللحبيب
وللرفيق ،أعظم ما هيقدّ م له هذه القواعد العظام الكبار التي دل عليها كتاب اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى وسنة
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم.
نبيه َص ّلى ه
والحديث له صلة إن شاء اهلل ،ونسأل اهلل أن ينفعنا أجمعين بما ع ّلمنا وأن يفقهنا يف ديننا وأن
يصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأن يصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأن يصلح لنا آخرتنا
التي في ها معادنا وأن يجعل الحياة زيادة لنا يف كل خير والموت راحة لنا من كل شر ،وأن يغفر لنا
ولوالدينا والمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات األحياء منهم واألموات ،إنه َت َب َار َك
َو َت َعا َلى غفور رحيم.
اهلل َو َس ّل ْم على عبد اهلل ورسوله؛ نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وص ّلى ه
واهلل أعلمَ .
للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ 18
القـاعـدة األولـى:
¢
إن الحمد هلل نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ،ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا وسيئات
أعمالنا ،من يهده اهلل فال مضل له ،ومن يضلل فال هادي له .وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال
اهلل َو َس ّل ْم َع َل ْيه َو َع َلى آله َو َأ ْص َحابه َأ ْج َمعين.
شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله َص ّلى ه
نعم:
الشــرح:
هذه قواعد أربعة جمعها المصنف -رحمه اهلل تعالى -يف هذه الرسالة التي اشتهرت
بالقواعد األربع ألهنا جمعت أربع قواعد عظيمة جدا ومهمة يحتاج إليها كل مسلم ،ألن بمعرفة
هذه القواعد َيميز المسلم بين الحق والباطل ،والتوحيد والشرك ،والهدى والضالل ،وال تلتبس
عليه األمور ،وال تنطلي عليه شبهات المضلين وأضاليل المبطلين ،بل إن هذه القواعد تكون له -
بإذن اهلل َع ّز َو َج ّل -نعم ال َع ون على المحافظة على التوحيد الصحيح واإليمان الراسخ والبعد عن
الشرك ،الذي هو أعظم الذنوب وأظلم الظلم.
هذه القواعد -أيها اإلخوة الكرام -قواعد عظيمة جمعها المصنف -رحمه اهلل -ل َيميز هبا
المسلم بين التوحيد والشرك؛ يعرف حقيقة التوحيد الذي هخلق الخلق ألجله و هأوجدوا لتحقيقه،
19 شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ
ويعرف من خاللها حقيقة ضده وما ينقضه وهو الشرك باهلل َع ّز َو َج ّل ،الذي هو أعظم شيء هنى اهلل
َت َب َار َك َو َت َعا َلى عباده عنه ،وتو ّعد أهله بأن ّ
يعذهبم يوم القيامة ،وأن يخ ّلدهم يف نار جهنم أبد اآلباد،
وأن يدخلهم نار جهنم وأن يبقوا فيها مخلدين ،ال يقضى عليهم فيموتوا وال يخفف عنهم من
عذاهبا.
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم من الوعيد
وكل مسلم قرأ ما جاء يف القرآن الكريم وسنة النبي َص ّلى ه
للمشركين والتهديد لهم والعقوبات التي أعدها اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى لهم يخاف من الشرك أعظم
الخوف ،ويحاذره أشد المحاذرة ،ويحتاط لنفسه من أن يقع فيه أو يف شيء من جوانبه.
مت فإن هذه القواعد العظيمة المباركة التي جمعها المصنف -رحمه اهلل تعالى-
وكما قدّ ه
تعين العبد على ضبط هذا األمر و تعينه على حسن فهمه ،وعلى السالمة من شبهات أهل الباطل.
وقد بدأها -رحمه اهلل تعالى -بقولهَ « :و َذل َك ب َم ْعر َفة َأ ْر َبع َق َواعدَ َذك ََر َها ه
اهلل َت َعا َلى في كتَابه»؛
فهو -رحمه اهلل تعالى -ال يبني شيئا من أمور الدين إال على قال اهلل وقال رسوله َص ّلى ه
اهلل
َع َل ْيه َو َس ّل ْم ،ولهذا جاءت عامة كتبه -رحمه اهلل تعالى -قائمة على هذا األصل؛ يذكر الحكم
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم.
مضموما إليه دليله من كتاب اهلل َع ّز َو َج ّل وسنة نبيه َص ّلى ه
وهذه الطريقة هي الطريقة الصحيحة التي ينبغي أن يكون عليها كل مسلم يف عقيدته ودينه،
إذ كيف هتعرف العقيدة الصحيحة واإليمان القويم بغير االعتماد على كالم اهلل وكالم رسوله َص ّلى
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم؟!
ه
للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ 31
وكما قال من قال من أهل العلم" :كيف هيرام الوصول إلى علم األصول بغير معرفة ما جاء به
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم.
الرسول" َص ّلى ه
وكان شيخ اإلسالم ابن تيمية -رحمه اهلل -كثيرا ما يقول" :من فارق الدليل ضل السبيل ،وال
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم.
دليل إال بما جاء به الرسول" َص ّلى ه
فهذه جادة مباركة وطريق قويمة كان عليها اإلمام المجدد -رحمه اهلل تعالى ،-وكان عليها
اهلل َع َل ْيه
أئمة أهل العلم من قبله وكذا من بعده ،يقيمون أمور الدين على قال اهلل قال رسوله َص ّلى ه
َو َس ّل ْم.
ولهذا قال لك هناَ « :و َذل َك ب َم ْعر َفة َأ ْر َبع َق َواعدَ َذك ََر َها ه
اهلل َت َعا َلى في كتَابه» ،ثم شرع يف ذكرها
قاعدة تلوى األخرى؛
َو َس ّل ْم كانوا مقرين بأن الخالق الرازق المنعم المتصرف المدبر هو اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى ولم يدخلهم
هذا اإلقرار يف اإلسالم ،كما بين ذلك المصنف -رحمه اهلل ،-قالَ « :ل ْم هيدْ خ ْل هه ْم في اإل ْسالم »؛
ألن الدخول يف اإلسالم ال يكون بمجرد اإلقرار بربوبية اهلل وأنه َع ّز َو َج ّل الخالق الرازق المنعم
فرد َت َب َار َك َو َت َعا َلى بالعبادة
المتصرف؛ بل ال بد مع ذلك من اإلتيان بالزم هذا اإلقرار ،أال وهو أن هي َ
خص وحده َع ّز َو َج ّل بالطاعة ،وأن ال هيجعل معه شريك وأن يخلص الدين له َج ّل َو َع َال ، وأن هي ّ
َ ِ ُ َ َ ََ ُْ َ َُُْ َ ُ
ُ
﴿وما أ ِمروا ِإال ِِلعبدوا اَّلل ُم ِل ِصني َل الين﴾ . كما قال سبحانهَ :
َ ْ ُ ُ ْ ََ َ َ ُْ ُ ْ َ ْ
َركوا ِب ِه شيئًا﴾ . وكما قال َج ّل َو َع َال﴿ :واعبدوا اَّلل وال ت ِ
َ َ َ َْ ُ ْ َ ََ َ
﴿وقَض َر ُبك أال تعبُدوا ِإال ِإيَ ُاه﴾ . وكما قال َج ّل َو َع َال:
ُِ َُ َ ُ ً َ ْ ُ ُ ْ ََ َ ْ َ ُ ْ َ ُ َ ََ ْ َْ
وكما قال َج ّل َو َع َالَ ﴿ :ولقد َب َعثنا ِِف لُك أم ٍة رسوال أ ِن اعبدوا اَّلل واجتنِبوا الطاغوت﴾ .
ُْ َ َ َْ َُْ َ َ َ َ َُ ُ ْ َ َْ ُ ْ َ َ ُْ ُ ْ َ ْ
َركوا ِب ِه شيئًا﴾ .
وكما قال َج ّل َو َع َال﴿ :قل تعالوا أتل ما حرم ربكّم عليكّم أال ت ِ
ُ َ َ َ ِ ُ ْ
َّلل الين اْلالِص﴾ . وكما قال َج ّل َو َع َال﴿ :أال ِ ِ
َ َ ََْ ُ ْ َ َ َ ً ََ ُ ْ َ ْ َ ُ َ
َّلل أندادا وأنتّم تعلمون﴾ . وكما قال َج ّل َو َع َال﴿ :فال َتعلوا ِ ِ
واآليات يف هذا المعنى كثيرة جدا.
فال يكون المرء موحدا هلل َع ّز َو َج ّل إال إذا أخلص العبادة هلل ،ال بمجرد إقراره بأن الرب اهلل،
والرازق اهلل ،والخالق اهلل ،والمنعم اهلل ،هذه وحدها ليست كافية ألن يكون هبا العبد موحدا ،إذ ال
يكون موحدا إال إذا جاء بالتوحيد العملي الذي هو :إخالص العبادة هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى وإفراده
سبحانه بالعبادة دون سواه ؛ بأن ال يدعو إال اهلل ،وال يستغيث إال باهلل ،وال يصلي ويسجد ويركع
إال هلل ،وال يذبح وال ينذر إال هلل ،وال يتوكل ويرجو ويخاف إال من اهلل ،وال يصرف شيئا من العبادة
ني ()760 اي َو َم َماِت ََّلل َر ِب الْ َعالَم َإال له َع ّز وج ّل ،كما قال سبحانه﴿:قُ ْل إ َن َصالِت َون ُ ُسِك َو ََمْيَ َ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ َ َ
َ َ ُ
ك أم ْر ُت َوأنَا ْ أ َو ُل ال ْ ُم ْسلم َ َ َ َ َ َ َ
ني﴾ ؛ أي هبذا التوحيد وهذا اإلخالص هلل َع ّز َو َج ّل. ِِ َرغك َُل َو ِبذل ِ ِ
ال ِ
َََ ْ ُ َ َْ َ َ َ َ َ ْ َْ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ ََ ْ ََ َ َ َ ُ َ
اَّلين ِمن بب ِلك ل ِْن أَركت ِلببطن عملك وِح إِِلك و ِإَل ِ وقال اهلل َت َبا َر َك َو َت َعا َلى﴿ :ولقد أ ِ
ََ َ َ َ ْ َ ََ ُ الشا ِكر َ َ ََ َ ْ ُ ْ َُ ِ ْ َ اْلَاْس َ َََ ُ َ َ َ ْ
غن (َ )66وما قدروا اَّلل حّق قد ِرهِ ِ ن م ن كو د باع ف اَّلل لِ ب ) 64 ( غن ِ ِ وَتكونن ِمن
ُ ْ َ َُ َََ َ َ َ ُْ ُ َ َ َ َْ ُ َ ً َْ َ ُُ ََْ ْ َ َ َ َ َ َ ُ َ ْ َ ٌ
َركون َجيعا ببضته يوم ال ِقيام ِة والسماوات مط ِوغات ِبي ِمي ِن ِه سببانه وتعاَل عما ش ِ واألرض ِ
(. ﴾)61
ولما كانت هذه الرسالة رسالة مختصرة ال تحتمل االستيعاب وبسط الدالئل والشواهد
ّ
اكتفى بذكر دليل واحد من دالئل القرآن الكريم على أن الكفار المشركين الذين قاتلهم النبي َص ّلى
المتصرف المدبر هو اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى.
ّ مقرين بأن الخالق الرازق المنعم اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم كانوا ّ
ه
ُْ َ ْ َُُْ ُ
الس َما ِء
ك ّْم م َن َ
ِ فساق -رحمه اهلل -ما جاء يف سورة يونس قول اهلل َع ّز َو َج ّل﴿ :قل من يرزق
ْ َ
عثت فيهم قائال لهم :من يرزقكم؟ ه َب الذين للمشركين الخطاب ا موجه النبي أيها قل ؛﴾ ض َو ِر األ
ار َو َم ْن ُُيْرجُ األبْ َص ََْ ََ ْ َ ْ ُ َ َْ َ َ ْ َُُْ ُ
ِ الس َما ِء َواألر ِض أمن يم ِلك السمع َو
ك ّْم م َن َ
ِ سلهم هذا السؤال﴿ :من يرزق
َ ْ َ َ َ َّْ َ ُْ ُ َّْ َ َ َْ ّ َ َ ْ َُ ُّ َ ْ
َح ومن يد ِبر األمر﴾ ،سل المشركين الذين يعبدون ت وُي ِرج الم ِيت ِمن ال ِ الَح ِمن الم ِي ِ
األصنام والذين اتخذوا اآللهة واألنداد وعبدوا مع اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى غيره ،سلهم هذا السؤال :قل
لهم من يرزقكم من السماء واألرض؟ من الذي يم ُن عليكم بالرزق من السماء؟ أي باألمطار التي
حملة بالخير والربكة والغيث للناس والعباد والماشية ،ومن األرض بإخراج
تنزل من السماء هم ّ
يمن َ -ت َب َار َك َو َت َعا َلى -هبا على عباده ،ماذا يقولون؟ هل
النباتات والزرع وأصناف النعم التي ُ
يقولون إن الذي يرزقنا من السماء واألرض هو األصنام؟ ال يقولون ذلك ،بل يعتقدون أن األصنام
ليست خالقة وال رازقة وال مد ّبرة وال متصرفة ،إذن لماذا يعبدوهنا؟ سيأيت الجواب على ذلك .ال
يعتقدون أهنا خالقة وال يعتقدون أهنا رازقة وال يعتقدون أهنا مدبرة أو مصرفة ،ال يعتقدون ذلك،
وإذا سئلوا :من يرزقكم من السماء واألرض؟ ال يقولون األصنام ،بل يقولون :اهلل هو الذي يرزقنا
من السماء واألرض .أيضا سلهم :من يملك السمع واألبصار؟ من الذي بيده ملك السمع وملك
البصر وملك كل شيء؟ سيقولون :اهلل هو المالك للسمع والبصر والمالك لكل شيء .أيضا
سلهم من هيخرج الحي من الميت و هيخرج الميت من الحي؟ من هو الذي بيده الحياة والموت
والتصريف والتدبير ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي؟ ال يقولون األصنام ،بل
يقولون :الذي يفعل ذلك هو اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى ،الخالق لكل شيء ،المتصرف يف هذا الكون وحده
َ -ج ّل َو َع َال .-أيضا سلهم من الذي يدبر األمر؟ أي أمور هذا الكون من إحياء وإماتة ،وعطاء
ومنع ،وخفض ورفع ،وعز وذل ،وغير ذلك من أنواع التدبيرات ،من الذي يقوم بذلك؟ ال يقولون
َ ُ ُ َ
األصنام هي التي تدبر األمر ،بل يقولون :اهلل.ولهذا قال َت َب َار َك َو َت َعا َلى﴿ :ف َسيَقولون اهلل﴾ هذا
الجواب الذي يجيبون به.
َ ُ ُ َ
﴿ف َسيَقولون اهلل﴾ ؛ أي فسيقول المشركون الكفار إذا سألتهم هذا السؤال الذي يرزق من
السماء واألرض ،والذي يملك السمع والبصر ،والذي يخرج الحي من الميت ،ويخرج الميت
من الحي ،والذي يدبر األمر هو :اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى.
َ ُ ْ َ َ َ َّ ُ َ
﴿فقل أفال تتقون﴾؛ إذا قالوا الذي يخلق هذه األشياء ويدبر هذه األمور هو :اهلل ،فقل لهم:
تقرون أنه ال خالق لكم
أال تتقون اهلل؟ لماذا تتخذون معه األنداد وتتخذون معه الشركاء؟ وأنتم ُ
وتخصونه
ُ غير اهلل ،وال مدبر لألمر غير اهلل ،وال مالك إال اهلل ،أال تتقون اهلل ،ف هتفردونه بالتوحيد
بالطاعة وتخلصون له الدين ،وقد أقررتم أنه خالقكم ورازقكم والمدبر لألمور كلها؟ أال تتقون اهلل
َُْ ََ ََُ َ
َع ّز َو َج ّل؟ ﴿فقل أفال تتقون﴾؛ أي برتك الشرك والبعد عن الكفر وباإلخالص هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى
بالعبادة والتوحيد.
للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ 34
فهذه اآلية ولها نظائر كثيرة جدا يف كتاب اهلل تركها المصنف مراعاة لالختصار يف هذه
قرون بأن الخالق الرازق المنعم المتصرف هو
الرسالة ،كلها تشهد وتدل على أن المشركين كانوا هي ُ
اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى.
ويأيت هنا سؤال ّقرر من خالله المصنف -رحمه اهلل تبارك وتعالى -هذه القاعدة :هل إقرار
المشركين بأن الخالق الرازق المنعم المالك هو اهلل ،هل هذا اإلقرار أدخلهم يف التوحيد
واإلسالم؟ هل كانوا هبذا اإلقرار موحدين مسلمين؟ أم هم مع هذا اإلقرار مشركون باهلل كفار؟
َ َُ َ َ ُْ ُ َ َُْ ُ ْ َ
وانظر الجواب على هذا السؤال يف قوله َت َب َار َك َو َت َعا َلى﴿ :وما يؤ ِمن أكَثهّم ِب ِ
اَّلل إِال وهّم
َ َ َ ُْ ُ َ َُْ ُ ْ َ ُ ْ ُ َ
اَّلل﴾؟ أي خالقا رازقا مالكا مدبرا متصرفا ﴿ ِإال ِ ِ ب ّم ه َث ك أ ن م
ِ ؤ ي ا م﴿و :قوله معنى ما . ﴾ ون َرك
م ِ
َُ ُ ْ ُ َ
يقرون بأنه الخالق ولكن يدعون غيره، ُ العبادة، يف غيره معه مشركون وهم إال أي ﴾ ون َرك
وهّم م ِ
ويتوكلون على غيره ،ويذبحون لغيره ،ويصرفون أنواعا من العبادة لغيره ،هذا هو معنى قوله:
َ َ ُْ ُ َ َُْ ُ ْ َ َ َ ُ ُ ْ ُ َ
َركون﴾.اَّلل ِإال وهّم م ِ﴿وما يؤ ِمن أكَثهّم بِ ِ
كّمَْ ََ ُ َ ََُ َ ُ ُُْ ََ ُ ُ َ
اَّلي خلق وأيضا قوله َت َب َار َك َو َت َعا َلى يف سورة البقرة﴿ :يا أيها اّنلاس اعبدوا ربكّم ِ
َ َ َ َ ُ ُ َْ ْ َ َ ً َ َ َ َ َ ً َْ َ َ َ َ َ ْ َْ ُ ْ َََ ُ ْ ََُ َ
اء َوأن َزل ِم َن اَّلي جعل لكّم األرض فِراشا والسماء ِبن ين ِمن بب ِلكّم لعلكّم تتقون (ِ )07 اَّل
و ِ
ْ ً َ ُ ْ َ َ ََْ ُ َ َْ َ ً ََُْ ْ َ ْ َ ُ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ً ََ ْ
َّلل أندادا وأنتّم تعلمون﴾ ؛ ات ِرزقا لكّم ۖ فال َتعلوا ِ ِ
السما ِء ماء فأخرج ِب ِه ِمن اّثلمر ِ
ََ ََْ ُ َ ََُْ ْ َ ْ َ ُ َ
َّلل
ِ ِ وا لع َت ال ف﴿ األنداد اتخذوا الذين للمشركين الخطاب و ؟ ﴾ون ما معنى قوله﴿ :وأنتّم تعلم
َْ َ ً ََُْ ْ َ ْ َ ُ َ
أندادا وأنتّم تعلمون﴾ ،تعلمون ماذا؟ تعلمون أنه ال خالق لكم غير اهلل ،ال رازق لكم غير اهلل ،ال
مدبر لألمر غير اهلل ،أنتم تعلمون ذلك ،والشواهد على أهنم يعلمون ذلك ها هي أمامنا من كتاب
اهلل :من يملك السمع واألبصار؟ من يرزقكم من السماء واألرض؟ من يدبر األمر؟ من يخرج
الحي من الميت؟ كل ذلك يجيبون قائلين :اهلل .إذن هم يعلمون أن الذي يخلق ويرزق و هينعم
لهدايتهم وتركهم لعبادة األوثان وتخ ُلصهم من عبادة األصنام التي ال تملك شيئا ،وال تملك ّ
ضرا
وال عطاء وال نفعا.
مثل قصة عمرو بن الجموح وهي قصة عجيبة كانت سبب إسالمه ،وكان سيدا يف قومه،
خص نفسه بصنم عنده يف البيت همحتفيا به همعتنيا به ،يط ّيبه وينظفه ويجمله ،ووضعه يف
وكان قد ّ
مكان جميل يف البيت ،وكان كلما دخل إلى بيته عبده .فم ّن اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى على ابنه معاذ
باإلسالم وعلى بعض صغار األنصار -صغار الخزرج ،-فخططوا خطة يوضحوا من خاللها
لعمرو بن الجموح أن هذه األصنام ال تست حق العبادة ،مثل الخطة التي قام هبا إمام الحنفاء إبراهيم
الخليل َع َل ْيه ّ
الس َال ْم ،فجاؤوا يف الليل وعمرو بن الجموح نائم ،وأخذوا الصنم وذهبوا به إلى
المكان الذي تقضى فيه الحاجة ووضعوا الصنم همن ّكسا على رأسه فوق ال َعذرة ،فلما أصبح يريد
أن يعبد ذلك الصنم ،أخذ يبحث عنه هنا وهناك إلى أن وجده من ّكسا على رأسه فوق ال َعذرة،
فغضب من هذا المنظر وال يزال قلبه متعلقا هبذا الصنم ،فأخذه وغسله ونظفه وط ّيبه وأعاده إلى
مكانه وعبده ،وهو قبل قليل حمله من فوق ال َعذرة ملطخا بال َعذرة ،وأخذه وغسله بنفسه وأزال عنه
الوسخ بيده ونظفه ثم وضعه أمامه وقام على عبادته!!
ثم أعادوا الكرة مرة ثانية ،بحث عنه ووجده هبذه الصفة ونظفه وأعاده إلى مكانه واستمر
على عبادته.
المرة الثالثة لما أعاد الصنم إلى البيت جاء يف الليل ووضع بجانب الصنم سيف ،قال :إن
كنت صادقا دافع عن نفسك ،يعني إلى متى أنا الذي أدافع عنك وأنا الذي أبحث عنك وأنظفك؟
جاؤوا يف الليل وأخذوا الصنم بالسيف وذهبوا إلى المكان الذي تلقي فيه النساء الحيض
والقاذورات ،وربطوا يف عنقه كلب ميت ،وأخذوا السيف ورموه يف هذا المكان ،وأخذ يبحث عنه
ثم وجده هبذه الصفة ،وحينئذ طابت نفسه ،طابت نفسه لما تقرر عنده هذا األمر؛ إذا كان ال ينفع
نفسه ،كيف ينفعني؟ إذا كان ال يملك لنفسه دفعا وال نفعا وال عطاء وال منعا ،لماذا أعبده؟ لماذا
أبكي عنده؟ لماذا أرجوه؟ لماذا أمد يدي عنده أدعوه ،وهو ال يملك شيئا لنفسه؟ كيف يملك لي
شيئا وهو ال يملك شيئا لنفسه؟
مثل هذه القصة أيضا ،قصة رجل من المشركين سافر إلى مكان بعيد ومعه أغنامه إلى صنم
من األصنام ،وهو يريد أن يدعوه ويسأله ويعرض عليه حاجاته ،ولما وصل إلى الصنم فوجئ أن
فوق الصنم ثعلب ،والثعلب يبول ،والبول ينزل من فوق رأس الصنم إلى أسفل قدميه ،فهاله
المنظر ثم قال بيتا:
ان َم ْن َبا َلـ ْت َع َل ْيه ال ّث َعال ه
ب َل َقدْ َه َ َأ َر ّب َي هبــ ه
ول ال ُث ْع هلبــــ ه
ان ب َرأسه
ورجع ،ال تملك شيئا لنفسها ،فكيف تملك شيئا لغيرها؟
37 شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ
َََ ََُ َ
يقول اهلل﴿ :أفال تتقون﴾ أال تتقون اهلل؟ كيف تعبدون أحجارا أو أشجارا ال تملك لنفسها
ضرا وال منعا وال عطاء وال خفضا وال رفعا ،كيف تعبدون هذه األشياء؟
ّ
ثم هنا يأتيك سؤال ضعه يف بالك ألنه سيأيت فيه قاعدة عند المصنف -رحمه اهلل ،-قاعدة
حرمه اهلل هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى هو عبادة األحجار واألشجار فقط؟ أو عبادة كل
مهمة ،هل الشرك الذي ّ
شيء سوى اهلل؟ مثال من عبد َملكا من المالئكة ،هل يكون مشركا أو ال يكون مشركا إال إذا عبد
إذن هذه القاعدة (القاعدة األولى)ّ ،قرر فيها -رحمه تعالى -أن إقرار العبد ّ
بأن الخالق
المنعم المتصرف المدبر هو اهلل ،هذا وحده ال يكفي ألن يكون به موحدا ،بل ال بد مع ذلك
الرازق ه
ّ
قر وأن يأيت بالزم ذلك وهو توحيد اهلل َع ّز َو َج ّل بالعبادة وإخالص الدين له َع ّز َو َج ّل.
أن هي ّ
للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ 38
القاعـدة الثانية:
املتـن - :القاعـدة الثانية -
الش َفا َعةَ .فدَ ل هيل ا ْل هق ْر َبة؛
ال ل َط َلب ا ْل هق ْر َبة َو ّ
َاه ْم َو َت َو ّج ْهنَا إ َل ْيه ْم إ ّ
ونَ :ما َد َع ْون ه َأن هّه ْم َي هقو هل َ
َْ َ َ َ َُُْ ُ ْ َ َُُِ َ َ َ َُْ َ ْ ُ َ َ َ ََ ُ
اَّلل زلَف ِإن اَّلين اَّتذوا ِمن دونِ ِه أو ِِلاء ما نعبدهّم ِإال ِِلقربونا ِإَل ِ َق ْو هل هه َت َعا َلى﴿ :و ِ
ار﴾ اَّلل ال َي ْهدي َم ْن ُه َو ََكذ ٌب َك َف ٌ ون إ َن َ َََْ ُ َ َ ُ ْ ََ َ ْ ُ ُ ََْ ُ ْ
ِ ِ اَّلل َيكّم بينهّم ِِف ما هّم ِفي ِه ُيت ِلف ِ
َ ُ ُ ُ َ ََُُْ َ ْ ُ
رُضه ّْم َوال اَّلل َما ال يون ِ الش َفا َعة؛ َق ْو هل هه َت َعا َلى﴿ :وغعبدون ِمن د ِ [الزمرَ ،]4:و َدل هيل ّ
َ َ َ َ ُ ُ َ َ َُ ْ َ َ ُْ ََُُِ َ ََ َ َ َ ْ َ ََْ ُ ُ ْ َُ ُ َ َ ُ
ات وال ينفعهّم َوغقولون هؤال ِء شفعاؤنا ِعند اَّلل قل أتنبئون اَّلل ِبما ال يعلّم ِِف السماو ِ
َ
ُ ْ َ َُ َََ َ َ َ ُْ ُ َ َ
األ ْ
َركون﴾ [يونس.]70 : ِ ش ا م ع اَل ع ت و ه ان ب بس ض ِ ر ِِف
الش َفا َع هة َش َفا َعتَان:
َو ّ
َ .7ش َفا َعة َمنْف ّية.
َ .0و َش َفا َعة هم ْث َبتَة.
اهلل؛ َوالدّ ل هيل َق ْو هل هه
يما ال َي ْقد هر َع َل ْيه إال ه ب م ْن َغ ْير اهلل ف َ َت هت ْط َل هالش َفا َع هة ا ْل َمنْفيّ هةَ :ما كَان ْ
َف ّ
َ ْ َ َََْ ُ َ َُ َ َ َ َُ َْ ُ
اك ّْم ِم ْن َببْل أ ْن يَأ ِ َ
ِت يَ ْو ٌم ال َبيْ ٌع ِفي ِه َوال نب ز ر ا م م
اَّلين آمنوا أن ِف ِ
وا ق َت َعا َلى﴿ :يا أيها ِ
ِ
َ َ ُ َ ُ ٌَ َ َ َ ٌَ َْ
اعة َوالَكفِ ُرون ه ُّم الظال ِ ُمون﴾ [البقرة.]43: خلة وال شف
وع َل هه:
الش َفا َعةَ ،وا ْل َم ْش هف ه
الشاف هع هم ْك َرم ب ّ الش َفا َع هة ا ْل همثْ َب َتةه :ه َي ا ّلتي هت ْط َل ه
ب م َن اهللَ ،و ّ َو ّ
َْ َ ْ َ َ ْ َ َ
اَّلي شَشف ُع ِعندهُ ِإال اهلل َق ْو َل هه َو َع َم َل هه َب ْعدَ اإل ْذن؛ ك ََما َق َال َت َعا َلى﴿ :من ذا ِ َم ْن َرض َي ه
ْ
ِب ِإذنِ ِه﴾ [البقرة.]044 :
الشــرح:
وهذه هي القاعدة الثانية ،وهي قاعدة عظيمة ومهمة جدا ،وهي متممة ومكملة للقاعدة
اهلل َع َل ْيه
األولى ،وذلك أننا عرفنا يف القاعدة األولى أن المشركين الذين هبعث فيهم رسول اهلل َص ّلى ه
يقرون بأن الخالق الرازق المنعم المتصرف هو اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى ،وأن هذا لم يدخلهم
َو َس ّل ْم كانوا ُ
يف اإلسالم.
39 شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ
ْ ُ َْ َ َ َْ ُ ُ َ َ َ َ ََ ُ
اء َما نعبُده ّْم إِال ،» ﴾..اآلن ين اَّتذوا ِمن دو ِن ِه أو ِِل قالَ « :فدَ ل هيل ا ْل هق ْر َبة؛ َق ْو هل هه َت َعا َلى﴿ :و ِ
اَّل
ال :ألهنا هتحي وتميت وتدبر األمر؟
ال :ألهنا ترزق؟ إ ّ
ال :ألهنا تخلق؟ إ ّ
يأتيك السبب ،هل السبب إ ّ
َ َُ ُِ َ َ َ َْ
اَّلل ُزلَف﴾ ،ال لكوهنا خالقة ،وال لكوهنا رازقة ،وال
ال ،إذن ما هو السبب؟ ﴿ ِإال ِِلقربونا ِإَل ِ
لكوهنا مد ّبرة ،هذه أمور ال تملكها ،هم يعتقدون أهنا ال تملك شيئا من ذلك .إذن لماذا عبدتموها؟
َ َُُِ َ َ َ َْ
اَّلل ُزلَف﴾ ،أي من أجل
لماذا دعوتموها؟ لماذا توجهتم إليها؟ أجابوا قائلين﴿ :إِال ِِلقربونا إَِل ِ
قربنا إلى اهلل هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى؛ يقولون :نحن أهل ذنوب ،وأهل خطايا وأهل إسراف على
أن هت ّ
أنفسنا ،وهذه فاضلة وكريمة ول ها منزلة ومكانة عند اهلل ،فنحن نعبدها ونتوجه إليها من أجل أن
تقربنا إلى اهلل َع ّز َو َج ّل.
ْ ُ َْ َ َ َ َُُْ ُ ْ َ َُُِ َ َ َ َ َ ََ ُ
ين اَّتذوا ِمن دونِ ِه أو ِِلاء ما نعبدهّم ِإال ِِلقربونا ِإَل قالَ « :دل هيل ا ْل هق ْر َبة؛ َق ْو هل هه َت َعا َلى﴿ :و ِ
اَّل
اَّلل ال َي ْهدي َم ْن ُه َو ََكذ ٌب َك َف ٌ ََْ ُ َ
ون إ َن َ َ َ َُْ َ ََ َْ ُ
ك ُّم بَيْنَ ُه ّْم ِف َما ُه ْ
ار﴾ »، ِ ِ ِ ف لتُي
ِ ِ ِهي ف ّم ِ اَّلل زلَف إِن اَّلل َي
ِ
سمى اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى هذه األمور التي يمارسها هؤالء ويقومون هبا كفرا باهلل َ -ج ّل َو َع َال( -اتخاذ
ّ
األنداد والوسائط بينهم وبين اهلل َ -ت َب َار َك َو َت َعا َلى -من أجل أن تقرهبم إلى اهلل َع ّز َو َج ّل)ّ ،
سمى اهلل
َت َب َار َك وتعالى ذلك كفرا باهلل َج ّل َو َع َال.
إذن هذا األمر األول الذي أشار إليه المصنف وهو :القربة ،أي أهنم إنما عبدوا هذه األصنام
من أجل القربة ،أي من أجل أن تقرهبم من اهلل َع ّز َو َج ّل.
األمر الثاين هو :الشفاعة ،ما دليله؟ أي ما الدليل على أهنم عبدوها لتكون شافعا لهم عند اهلل
َ ُ ُ ُ َ ََُُْ َ ْ ُ
رُضه ّْم اَّلل َما ال ي
ون ِ َع ّز َو َج ّل؟ ما الدليل على ذلك؟ قالَ « :ق ْو هل اهلل َع ّز َو َج ّل﴿ :وغعبدون ِمن د ِ
ُ َ َُ َْ َ َُ ُ ُ َ ََْ
َوال ينف ُع ُه ّْم َو َغقولون) -أي الكفار المشركون( -هؤال ِء شف َعاؤنا ِعند اَّلل﴾ »؛ أي نحن عبدنا هذه
التي ال تضر وال تنفع من أجل أن تكون شافعا لنا عند اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى.
إذن هذه قاعدة مهمة ينبغي أن يفهمها المسلم حتى ال هيل ّبس عليه األمر وحتى ال هيوقع يف
الشرك من حيث أراد الحق والهدى ،حتى ال يأيت بعض المبطلين و هيل ّبسون عليه هذه الحقيقة
و هيوقعونه يف الشرك باهلل من حيث أراد لنفسه الخير والهدى ،ويقولون له هذه األصنام أو هذه
المعبودات أو هذه القباب واألضرحة إنما هتدعى و هي ّ
توجه إليها من أجل أن تكون واسطة بيننا وبين
اهلل َع ّز َو َج ّل ،تقربنا إليه زلفى.
يقال له :هذا األمر هو الذي ألجله عبد الكفار المشركون األصنام وتوجهوا إليها بالدعاء
والرجاء ،ويقولون هؤالء شفعاؤنا عند اهلل.
ثم انطلق المصنف من هذا الموضع ل هيب ّين -رحمة اهلل عليه -أن الشفاعة نوعان ،حتى ال
يلتبس باب الشفاعة وأمرها عند المسلم؛
الش َفا َع هة َش َفا َعتَان:
قالَ :و ّ
َ .7ش َفا َعة َمنْف ّية.
َ .0و َش َفا َعة هم ْث َبتَة.
ما معنى شفاعة منفية وشفاعة مثبتة؟ منفية أي نفاها اهلل ،مثبتة أي أثبتها اهلل.
عندما تقرأ يف القرآن اآليات التي جاء فيها ذكر الشفاعة تجد أن يف القرآن :شفاعة منفية
وشفاعة مثبتة.
إذا كان يف القرآن شفاعة منفية وشفاعة مثبتة ،هل نحن نجعل الشفاعات كلها مثبتة أو ننفي ما
نفى اهلل منها ونثبت ما أثبته؟ انتبه ،هنا قاعدة مهمة يف باب الشفاعة ،عندما تقرأ القرآن الكريم تجد
يف القرآن شفاعة منفية :نفاها اهلل ،وشفاعة مثبتة :أثبتها اهلل.
((( )1الشيخ يسأل الحاضرين وينتظر اإلجابة :ما معنى شفاعة منفية وشفاعة مثبتة؟ السؤال لكم :ما معنى منفية ومثبتة؟ أنا أريد أن
أفهم معنى منفية ومثبتة)).
للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ 41
إذن الواجب علينا نحن عباد اهلل -هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى -أن ننفي ما نفاه اهلل ،وأن نثبت ما أثبته اهلل
هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى ،أما -والعياذ باهلل -أن هيثبت اإلنسان من الشفاعة ما نفاه اهلل ،هذا هو الباطل
والضالل.
إذن هذه قاعدة وأصل مهم يف هذا الباب؛ أن نميز بين الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية،
الش َفا َع هة َش َفا َعتَانَ :ش َفا َعة َمنْف ّيةَ ،و َش َفا َعة هم ْث َبتَة»؛
وألجل هذا قال المصنف -رحمه اهلل تعالىّ « :-
-شفاعة منفية :أي نفاها اهلل َ -ت َب َار َك َو َت َعا َلى -يف القرآن.
-وشفاعة مثبتة :أي أثبتها َ -ت َب َار َك َو َت َعا َلى -يف القرآن.
وإذا كان األمر كذلك الواجب علينا أن ننفي من الشفاعة ما نفى اهلل ،وأن نثبت من الشفاعة
ما أثبت اهلل ،أما من يثبت شفاعة نفاها اهلل َتبَ َار َك َو َت َعا َلى فهذا عين الضالل والباطل.
إذا كان الناس يف الفلك وتالطمت هبم األمواج وأدركهم الغرق ،من الذي ينقذهم؟ من الذي
يوقف الرياح ويهدئ األمواج ويس ّكن السفينة؟ من هو؟ اهلل رب العالمين.
َ َُ ِ َ َ َ ََ ُ ُْ ْ َ َ ُ ََ ُْ َ َ
ين فل َما ناه ّْماَّلل ُم ِل ِصني َل ال واهلل ذكر عن أهل الشرك قال﴿ :ف ِإذا َر ِكبُوا ِِف الفل ِك دعوا
َ َِْ َ ُ ْ ُْ ُ َ
َركون﴾ ؛ يعرفون وهم يف تالطم األمواج ويف الشدائد أن الذي ينجي من ِإَل الْب ِإذا هّم ش ِ
الشدائد هو اهلل ليست األصنام ،فلهذا كانوا يخلصون هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى يف الشدة ويشركون يف
الرخاء.
مع أن بعض المشركين يف األزمان المتأخرة الذين تعلقوا بغير اهلل من األنداد واألولياء
والقباب حتى يف الشدائد ويف الكربات يفزعون إلى تلك المعبودات.
وقرأت يف بعض الكتب أن جماعة كانوا يف سفينة وكان معهم رجل مسن ،على التوحيد
والفطرة ،فبدأت السفينة تتالطم ،وبدأ كل يهتف بمعبوده :يا سيدي فالن ،يا موالي فالن ،أدركني
يا فالن ...يناجون المخلوقين ،التفت هذا الرجل وإذا كل من على السفينة ليس فيهم من ينادي
اهلل ،فمد يديه وقال :يا رب! أغرق ..أغرق فما على السفينة من يعبدك ،كلهم يدعون غيرك.
الس َال ْم يف مثل هذه الحالة ،ما كانوا يلتجئون المشركون الذين هبعث فيهم النبي َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
ال إلى من؟ يف مثل هذه الشدة ما كانوا يلتجئون إال إلى اهلل هسبْ َحا َن هه َو َت َعا َلى ،لهذا قال اهلل: يف الشدة إ ّ
َ َُ ِ َ َ َ َ ََ ُ ْ َ َِْ َ ُ ْ ُ ْ ُ َ ُْ ْ َ َ ُ ََ ُْ َ َ َ ُ
َركون﴾. ِ ش ّم ه ا ذإ
ِ ْب ال َلإ
ِ ّم اه ن ا م لف ينال َل نيص﴿ف ِإذا ر ِكبوا ِِف الفل ِك دعوا اَّلل ُم ِ ِ
ل
إذن الشفاعة المنفية :ما هيطلب من غير اهلل فيما ال يقدر عليه إال اهلل.
أذكر لكم اآلن مثاال ننظر فيه هل هو من الشفاعة المثبتة أو من المنفية ،بعض الزوار يأيت إلى
الس َال ْم ،خطاب المدينة ومعه خطابات من بعض الناس يف بلده موجهة إلى النبي َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
موجه إلى النبي ،أنا اطلعت على شيء منها ،أحدهم قرأت كالمه بلفظه ،يقول :يا رسول اهلل ،يا
سيدي ،يا موالي ...يا كذا -ألقاب يذكرها -أنا عبد كسير وفقير ذليل ومحتاج كذا وأنا الئذ بك
وملتجئ إليك ،فال ترد طلبي وال ترد حاجتي ،ثم ذكر حاجته؛ ذكر أنه يريد -هذه طلباته بما قرأته
بنفسي :-يريد زوجة صالحة و يريد (فيال) جميلة ويريد ماال ،وذكر أشياء ،لكن أحفظ منها:
الس َال ْم، الزوجة الصالحة و(فيال) جميلة ويريد أيضا ماال ،هذه ك َتبها يطلبها من النبي َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
ويف النهاية قال :وعنواين يف المكان الفالين.
َ ِ َ ِ َ َ َ َ ََ َ
أين هذا الكاتب لهذه الورقة من قوله َت َب َار َك َو َت َعا َلى لنب ّيه﴿ :و ِإذا سألك ِعبا ِدي عِن ف ِإِّن
َ ٌ ُ ُ َ ََْ َ ِ َ َ
اع ِإذا د ََع ِن﴾ ؟ق ِرغب ۖ أ ِجيب دعوة ال
وهنا انتبه إلى لطيفة عجيبة يف هذه اآلية يف سورة البقرة وسور أخرى ،يقول اهلل تعالى:
َ
ُْ َ ْ َُ َ َ
الس َال ْم واسطة يف إبالغ الدين ﴿شسألونك﴾ و هيتبع ذلك بقوله﴿ :قل﴾ لهم كذا ،ألنه َعل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
ُْ ُ ًَ ك َعن ال ْ َ َ َ ْ َُ َ َ َ ْ َُ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ َ ُ َ
يض ۖ قل ه َو أذى﴾ ، ب
ِ ِ م ِ ون لأس شو ﴿ ، ﴾اس
﴿شسألونك ع ِن األ ِهل ِة ۖ قل ِِه موا ِبيت لِلن ِ
ٌ ْ َ َ ْ َُ َ َ َ ََْ َ ه ُ ْ ْ َ ٌ َُ ْ َ
﴿وشسألونك ع ِن اِلتاَم ۖ قل إِصالح لهّم خري﴾ ،إلى غير ذلك من اآليات.
َ َ َ ََ َ
هنا يف هذه اآلية قالَ ﴿ :و ِإذا َسألك ِعبَا ِدي ع ِِن﴾ لم يقل( :قل) ،ال تواجد هنا (قل)َ ﴿ ،و ِإذا
ٌ َ ِ َ ِ َ َ َ ََ َ
سألك ِعبا ِدي عِن ف ِإِّن ق ِرغب﴾ ألن التوجه إلى اهلل توجه بال واسطة.
أينما تكون يف الدنيا واحتجت إلى حاجة سل اهلل بدون واسطة ،ال تبحث عن وسطاء،
مباشرة اتجه إلى اهلل ،اسأله مباشرة ،ارفع يديك أينما كنت يف الدنيا ،حتى لو كنت يف كهف مظلم،
ويف صخرة هم ْطبقة عليك يف مكان مظلم توجه إليه ،يراك رب العالمين ويطلع عليك ويكشف
والخ ْلق َخ ْلقه -
َ كربتك ويزيل همك ،ويرزقك من حيث ال تحتسب ،األمور بيده والملك ملكه
َت َب َار َك َو َت َعا َلى.-
المثال الذي ذكرته يف الخطاب الذي أشرت إليه ،يندرج تحت أي شفاعة؟ مثبتة أو منفية؟
شفاعة منفية.
الس َال ْم شفيع للناس ،أليس هو ما نخلط األمور ونقول دلت األدلة على أنه َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
الس َال ْم قال لفاطمة ابنته " :يا فاطمة بنت محمد ،سليني ما شئت من مالي ،ال أغني َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
عنك من اهلل شيئا" ؟ وقال ذلك لعمه العباس ،ولعمته صفية ولقرابته ،خاطبهم بذلك ،وناداهم به
ات اهلل َو َس َال هم هه َع َل ْيه.-
َ -ص َل َو ه
إذن هذه شفاعة نفاها اهلل ،نفاها اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى يف القرآن ،فيجب علينا أن نحذر من الوقوع
يف مثل هذا األمر الذي نفاه اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى يف القرآن.
الش َفا َع هة ا ْل همثْ َب َت هة- :أي التي أثبتها اهلل يف القرآن -ه َي ا ّلتي هت ْط َل ه
ب م َن اهلل» -أنظر جمال قالَ « :و ّ
الشاف هع هم ْك َرم
ب م َن اهللَ ،و ّ الش َفا َع هة ا ْل هم ْث َب َت هة :ه َي ا ّلتي هت ْط َل ه
العلم وجمال البيان والنصيحةّ « -
اهلل َق ْو َل هه َو َع َم َل هه َب ْعدَ اإل ْذن»؛ الشفاعة المثبتة هي التي هتطلب من وع َل ههَ :م ْن َرض َي ه
الش َفا َعةَ ،وا ْل َم ْش هف ه
ب ّ
يعا﴾ أي الشفاعة هلل. اع ُة ََج ً ُْ َ َ
الش َف َ َّلل
ِ اهلل ،الشافع يطلبها من اهلل ،ألن اهلل قال﴿ :قل ِ ِ
ْ َ َ ْ َ َ
اَّلي شَشف ُعمن أراد أن يشفع البد أن يأذن اهلل له ،بدون إذن اهلل ال يكون ،قال تعالى﴿ :من ذا ِ
َ ْ َ َ َ َ َ ُْ َ َ َ ََ ْ ْ ََ َْ َ ْ
ات ال تغ ِِن شفاعتُ ُه ّْم شيئًا إِال ﴿وكّم ِمن مل ٍك ِِف السماو ِ ِعند ُه إِال ِب ِإذنِ ِه﴾ ،ويف اآلية األخرى:
ْ َ ْ َ ْ ََْ َ َُ َ ْ ََ ُ ََْ َ
ِمن بع ِد أن يأذن اَّلل لِمن ششاء وغرض﴾ ،فإذن هي ملك هلل ،وبيده َت َب َار َك َو َت َعا َلى.
وأي أحد كائنا من كان يريد أن يشفع عند اهلل البد أن يأذن اهلل له بالشفاعة ،هذا أمر.
وأيضا من أراد لنفسه أن يكون األنبياء والمالئكة شفعاء له عند اهلل يطلبها منهم أو من بيده
الشفاعة؟ انتبهوا ،يطلبها منهم أي يتوجه إليهم يف طلبها ،يناديهم ،أو يتوجه إلى اهلل هسبْ َحا َن هه
( )1صحيح مسلم ( ،)026صحيح البخاري ( ،)3117( )0144من حديث أبي هريرة ﭬ قال" :قام رسول اهلل ﷺ حين أنزل
ََْ ْ َ ََ َ َْ
األقْ َرب َ
ني﴾ .قال " :يا معشر قريش ،أو كلمة نحوها ،اشرتوا أنفسكم ،ال أغني عنكم من اهلل شيئا ،يا بني عبدِ اهلل ﴿ :وأن ِذر ع ِشريتك
مناف ال أغني عنكم من اهلل شيئا ،يا عباس ابن عبد المطلب ال أغني عنك من اهلل شيئا ،ويا صفية عمة رسول اهلل ال أغني عنك من
اهلل شيئا ،ويا فاطمة بنت محمد صلى اهلل عليه وسلم ،سليني ما شئت من مالي ،ال أغني عنك من اهلل شيئا".
( )2اآلية رقم 33 :من سورة الزمر.
( )3اآلية رقم 044 :من سورة البقرة.
( )4اآلية رقم 06 :من سورة النجم.
47 شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ
َو َت َعا َلى؟ الشفاعة بيده ،فمن أراد لنفسه أن يكون األنبياء والمالئكة شفعاء له عليه أن يقول يف طلبه
ودعائه :يا رب ،يا اهلل -يسأل اهلل -ش ّفع يفّ أنبياءك ،أو يقول :اللهم اجعل نبيك محمدا َص ّلى ه
اهلل
َع َل ْيه َو َس ّل َم شفيعا لي يوم القيامة ،وهكذا نقول يف دعائنا -نسأل اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى ،-نقول :اللهم
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل َم شفيعا لنا يوم القيامة ،اللهم اجعلنا ممن يشفع لهم نبيك
اجعل نبيك محمدا َص ّلى ه
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل َم يوم القيامة ،نسأل اهلل َج ّل َو َع َال ،نطلب من اهلل ،ألن الشفاعة هملك هلل هس ْب َحا َن هه
َص ّلى ه
َو َت َعا َلى.
ََ ْ َ َ َ
﴿وال شَشف ُعون إِال وهي ال تكون إال بإذنه للشافع ورضاه َ -ت َب َار َك َو َت َعا َلى -عن المشفوع له
َ َْ َ
ارتَض﴾ . لِم ِن
وشفع له عند اهلل أرأيتم لو أن شخصا كافرا مشركا يعبد األوثان ومات على عبادة األوثان ه
َ ََْ
خرج هبا من النار؟ قال تعالى﴿ :ف َما تنف ُع ُه ّْم
َت َب َار َك َو َت َعا َلى ،هل تنقذه هذه الشفاعة من النار؟ و هي َ
َ َ َُ َ
الشافع َ
ني﴾ . ِِ شفاعة
هزا ،رواها اإلمام البخاري يف صحيحه،
ويف صحيح البخاري قصة عظيمة جدّ ا هتز القلوب ّ
الس َالم ،قالَ ":يلقى وهي قصة إبراهيم الخليل مع والده يوم القيامة ذكرها نبينا َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
إبراهيم الخليل أباه يوم القيامة فيقول له :ألم أقل لك ال تعصني؟ فيقول والده :اآلن ال أعصيك،
ال هتخزين يوم يبعثونُ ،
وأي خزي ثم يقول إبراهيم الخليل ،خليل الرحمن يقول :يا رب ألم تعدين أ ّ
أخزى من أبي األبعد؟ فيقول اهلل َتبَ َار َك َو َت َعا َلى" :إين حرمت الجنة على الكافرين" هذا جواب اهلل
إلبراهيم -خليل الرحمن ،-ثم يقول اهلل له :أنظر ،فيلتفت وإذا والده صار على هيئة ذيخ -الذيخ
ذكر الضباع -ملطخ بدمه ،قال :فيؤخذ بقوائمه و هيطرح يف النار" .ذكر اهلل هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى ذلك
عن والد إبراهيم.
ْ َ َ َ َ َ َُ ًََ َ َ َ َ
ين كف ُروا ام َرأت واقرأ يف آخر سورة التحريم قول اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلىَ﴿ :ضب اَّلل مثال ل ِ ِ
َّل
ْ َ َ َ َْ َ َ ََ ُ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ ُْ َ َ َ ْ َ ََ َْ َ َ َْ َ ْ ََ َ ُ ُ
اَّلل
ني فخانتاهما فلّم يغ ِنيا عنهما ِمن ِ اْل ِ
وط ۖ َكنتا َتت عبدي ِن ِمن ِعبا ِدنا ص ِ وح وامرأت ل ٍن ٍ
َ ْ
شيئًا﴾ ،ونوح لم يغني عن ابنه شيئا ألنه كان كافرا ،ولم يغني عن زوجته شيئا ألهنا كانت كافرة،
إبراهيم لم يغني عن أبيه شيئا ألنه كان كافرا.
فالشفاعة ال تكون إال بإذن اهلل للشافع ورضا اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى عن المشفوع له.
اهلل عنه سأل
واسمع حديثا رواه اإلمام مسلم يف صحيحه -ينفعك اهلل به -أبو هريرة َرض َي ه
الس َال ْم سؤاال مهما وعظيما وكبيرا ،قال :يا رسول اهلل من أحق الناس النبي َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
بشفاعتك يوم القيامة؟ ماذا كان الجواب؟ قال" :من قال ال إله إال اهلل خالصا من قلبه" .
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل َم أنه قال" :لكل نبي دعوة
وأيضا روى مسلم يف صحيحه عن نبينا َص ّلى ه
مستجابة وإين ادخرت دعويت شفاعة ألمتي يوم القيامة ،وإهنا نائلة إن شاء اهلل ،من ال يشرك باهلل
شيئا" ،انتبه هنا( :من ال يشرك باهلل شيئا) هل تنال كل أحد؟ "وإهنا نائلة إن شاء اهلل من ال يشرك
باهلل شيئا".
ولهذا أنبهك هنا :أن يف موضوع الشفاعة ثالثة فصول مهمة ينبغي أن تحفظها:
-الفصل األول :أن الشفاعة ال تكون إال بإذن اهلل.
-الفصل الثاين :أن الشفاعة ال تكون إال عن من رضي اهلل عنه ،من رضي اهلل قوله وعمله.
-الفصل الثالث :أن اهلل هسبْ َحا َن هه َو َت َعا َلى ال يرضى إال عن أهل التوحيد.
هذه ثالثة فصول يف الشفاعة احفظها ينفعك اهلل َ -ت َب َار َك َو َت َعا َلى -هبا.
هذه الشفاعة هبذه الضوابط هي الشفاعة التي أثبتها اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى يف القرآن.
الش َفا َعة،
الشاف هع هم ْك َرم ب ّ
ب م َن اهللَ ،و ّالش َفا َع هة ا ْل همثْ َب َت هة :ه َي ا ّلتي هت ْط َل ه قال المصنفَ « :و ّ
اهلل َق ْو َل هه َو َع َم َل هه َب ْعدَ اإل ْذن ».
وع َل ههَ :م ْن َرض َي ه َوا ْل َم ْش هف ه
َ َ َ َ ََ ْ ْ ََ
ات ال﴿وكّم ِمن مل ٍك ِِف السماو ِ وجمع بين هذين الشرطين :الرضا واإلذن يف قوله تعالى: ه
َ
اء َو َغ ْرض﴾ . اعتُ ُه ّْم َشيْئًا إ َال م ْن َب ْعد أَ ْن يَأْ َذ َن َ ُ
اَّلل ل ِ َم ْن ش َ َش ُ ُْ َ َ َ
تغ ِِن شف
ِ ِ ِ
اإلذن للشافع ،والرضا عن المشفوع له ،واهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى ال يرضى إال عن أهل التوحيد.
َْ َ ْ ْ َ َ ْ َ َ
اَّلي شَشف ُع ِعند ُه إِال ِب ِإذنِ ِه﴾ ».قال -رحمه اهلل « :-ك ََما َق َال َت َعا َلى﴿ :من ذا ِ
نعم:
( )1الحديث " :ما يصيب المسلم ،من نصب وال وصب ،وال هم وال حزن وال أذى وال غم ،حتى الشوكة يشاكها ،إال كفر اهلل هبا
من خطاياه" رواه البخاري ( )4637من حديث أبي هريرة ﭬ.
50 شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ
الشــرح:
هذه القواعد األربع -كما عرفنا -قواعد مهمة للغاية ويحتاج كل مسلم إلى معرفتها ،ألن
معرفة هذه القواعد -بإذن اهلل َتبَ َار َك َو َت َعا َلى -وضبطها يكون -بإذن اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى -صمام أمان
للمسلم من الوقوع يف شبكة الشرك وحبائل أهله ومصائد الشيطان.
للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ 51
وكنا عرفنا من خالل القاعدة األولى التي قررها المصنف -رحمه اهلل تعالى -أن الكفار
( )1رواه الرتمذي وصححه ( ،) 3392عن أبي هريرة ﭬ أن أبا بكر الصديق ﭬ قال :يا رسول اهلل مرين بشيء أقوله إذا
أصبحت وإذا أمسيت ،قال" :قل اللهم عالم الغيب والشهادة ،فاطر السموات واألرض ،رب كل شيء ومليكه ،أشهد أن ال إله إال
أنت أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه ،قال قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك" .
( )2قال النووي $يف «األذكار» ) (( :(1/179قوله" :وشركه" ،روي علـى وجهين :أظهرهما وأشهرهما :بكسر الشين مع
إسكان الراء من اإلشراك :أي :ما يدعو إليه ويوسوس به من اإلشراك باهلل تعالى .والثاينَ :ش َركه بفتـح الشين والراء :أي :حبائله
ومصائده ،وأحدهاَ :ش َركه بفتـح الشين والراء ،وآخره هاء )) اهـ .
53 شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ
َ ْ َ َ ُْ ُ َ َُْ ُ ْ َ َ َ ُ ْ ُ ْ ُ َ
﴿و َما يُؤ ِم ُن َركون﴾ ؛
اَّلل ِإال وهّم م ِ
كافر باهلل العظيم ،ولهذا قال اهلل تعالى﴿ :وما يؤ ِمن أكَثهّم ِب ِ
َ َُ ْ ُ ْ ُ َ َ َُْ ُ ْ َ
َركون﴾ أي :مشركون معه اَّلل﴾ أي :ر ّبا رازقا خالقا منعما متصرفا مدبراِ ﴿ ،إال وهّم م ِ
أكَثهّم ِب ِ
غيره َ -ت َب َار َك َو َت َعا َلى -يف العبادة التي هي ّ
حق خالص هلل َج ّل َو َع َال ،ال يجوز أن هيجعل ألحد معه
فيه شركة.
ثم بعد ذلك ذكر -رحمه اهلل تعالى -القاعدة الثانية؛ وهي أن المشركين الكفار عندما
تقرون أهنا ليست خالقة وال رازقة
هيسألون :لماذا تعبدون هذه األوثان وتدعوهنا من دون اهلل وأنتم ُ
وال منعمة وال متصرفة ،وال تملك عطاء وال منعا ،وال خفضا وال رفعا ،وال موتا وال حياة ،وال
تقرون أهنا نفسها مملوكة هلل،
تقرون أهنا ال تملك شيئا من ذلك؟ بل ُ
نشورا؟ لماذا تعبدوهنا وأنتم ُ
خاضعة هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى ،مربوبة له َع ّز َو َج ّل.
ولهذا؛ كانوا يحجون ويقولون يف تلبيتهم يف الحج :لبيك ال شريك لك إال شريكا هو لك،
تملكه وما ملك ،هكذا يعتقدون( ،تملكه) :أي هو مملوك لك ،هذا الشريك الذي جعلناه لك أنت
يا اهلل تملكه ،هو مملوك لك خاضع لك( ،وما ملك) :هو ال يملك ،أي ال يملك لنفسه عطاء أو
يقرون بذلك ،فإذا سئلوا قيل لهم:
منعا أو خفضا أو رفعا ،فضال عن أن يملك ذلك لغيره ،هم ُ
لماذا تعبدوهنا وتدعوهنا وتتوجهون إليها وأنتم تعتقدون يف قرارة نفوسكم أهنا ال تملك ،وأهنا ال
مر معنا يف القاعدة السابقة -فإذن لماذا
يقرون بذلك ّ
تخلق ،وأهنا ال ترزق؟ -والدليل على أهنم ُ
تعبدوهنا؟ ماذا يقولون؟
يقولون :نحن نعبدها ونتوجه إليها لطلب القربة و الشفاعة؛ لطلب القربة :أي من أجل أن
تقربنا إلى اهلل ،نحن هبعداء عن اهلل بالذنوب والمعاصي والخطايا والتفريط ،فنحن نتوجه إليها ال
لشيء إال من أجل أن تقربنا إلى اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى ،من أجل أن تكون واسطة بيننا وبين اهلل ،من
أجل أن تكون شفيعا لنا عند اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى.
َ َ َ َ ََ
اَّت ُذوا ِم ْن ُدو ِن ِه أ ْو ِِلَ َ
اء اَّلينوذكر المصنف الدليل على ذلك و هو قوله َت َب َار َك َو َت َعا َلى﴿ :و ِ
ََُُْ َ ْ ُ َ َ َ َ َ َُُْ ُ ْ َ َُ ُِ َ َ َ َُْ
ون
ِ د ن م
ِ ون د ب عغ ﴿و :ى ل ا ع
َ ت و
َ ك ار
َ ب
َ ت اهلل قول ا أيض وذكر ، ﴾َف اَّلل زل
ما نعبدهّم ِإال ِِلقربونا ِإَل ِ
ُ َ َُ َْ َ ُ ُ َ َُ ََْ َ ُ ُ ُ َ
رُضه ّْم َوال ينف ُع ُه ّْم َو َغقولون هؤال ِء شف َعاؤنا ِعند اَّلل﴾ ،أي نحن نعبد هذا الذي ال اَّلل َما ال ي
ِ
يضر وال ينفع ال لشيء إال ألجل أن يكون شفيعا لنا عند اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى.
يقرون بأن هذه األصنام ال تخلق وال ترزق وال تحي وال
إذن القاعدة األولى أن الكفار كانوا ُ
تميت وال تعطي وال تمنع وال تخفض وال ترفع...إلخ ،ولم هيدخلهم هذا اإلقرار باإلسالم ،ألهنم
لم يخلصوا العبادة هلل ،والشيء الثاين أن هؤالء عندما هيسألون لماذا تعبدوهنا وأنتم تقرون أهنا ال
تملك شيئا ،وال تخلق ،وال ترزق؟ يقولون :نحن نعبدها وندعوها ونتوجه إليها من أجل أن تقربنا
إلى اهلل َ -ت َب َار َك َو َت َعا َلى -زلفى ،ومن أجل أن تكون شفيعا لنا عند اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى.
هذه الممارسة التي يفعلها المشركون -والذي هذه خالصتها -ماذا تسمى يف شرع اإلسالم
ويف دين اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى؟ هل هم معذورون يف هذا التوجيه الذي ذكروه؛ قالوا :نحن ال ندعوها
سوغا
خوال و هم ّ
ألننا نعتقد فيها أهنا خالقة رزاقة ،بل ندعوها ألجل أن تقربنا إلى اهلل زلفى ،هل هذا هم ّ
إلعفائهم من تبعة ذلك العمل وتلك الممارسة؟ حاشا وكال؛ بل هم بذلك كفار مشركون ،ولهذا
َ َ ُ ُ ْ َ َه َ َ ُ َ ٌَْ
ّت ال تكون فِتنةالس َال ْم ،واستباح أموالهم ودماءهم ﴿وقاتِلوهّم ح قاتلهم النبي َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
ََ ُ َ ِ ُ َ
َّلل﴾ .
وغكون الين ِ ِ
فإذن هذه القاعدة األولى والقاعدة الثانية ،ثم تأيت قاعدة ثالثة مهمة جدا ،وهي َتنْ َبني على
القاعدتين السابقتين ،أال وهي:
تأيت هذه القاعدة -أي الثالثة -جوابا على تساؤل :هل الشرك الذي ذمه اهلل ّ
وحذر منه وعاب
أهله وتوعدهم وهتددهم ،هل هو خاص بمن عبد صنما؟ أو توجه إلى الحجر؟ هل هو خاص
بذلك ،أو أنه شامل لكل ما هعبد من دون اهلل أ ّيا كان ومهما كانت صفته؟ هذه قاعدة مهمة هنا يف
هذا الباب ،لماذا؟
ألن بعض من اب هتلوا بالباطل والتوجه إلى غير اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى بالدعاء والرجاء والطلب
والسؤال وإنزال الحاجات والطلبات والرغبات ،إذا هتليت عليه مثل هذه اآليات لوعظه وتنبيهه
وتذكيره وتحذيره مما هو عليه من ضالل وباطل ،ماذا يقول؟ يقول :هذه اآليات التي هتتلى يف
القرآن تختص بمن توجه إلى حجر وشجر ،أما نحن لم نتوجه ال إلى حجر وال إلى شجر -مثل
هؤالء المشركين -نحن توجهنا إلى أولياء صالحين ،أو إلى أنبياء مقربين ،أو إلى مالئكة ،نحن لم
نتوجه إلى شجر أو حجر ،فكيف هتتلى علينا هذه اآليات ونوعظ هبا وهي ال تتناول العمل الذي
نقوم به؟ ألن اآليات تتعلق بمن عبد األصنام :الالت ،العزى ،مناة ،هبل ...الخ ،أما الذي يتوجه
إلى ولي من األولياء ،أو صالح من الصالحين ،أو نبي من األنبياء أو نحو ذلك ،هذه اآليات ال
تتناوله وال عالقة لها به -هكذا يقولون.-
فهل هذا الزعم زعم صحيح أم هو زعم باطل فاسد َأ ْودى بأصحابه إلى دركة الشرك وهلكة
الباطل -والعياذ باهلل-؟
فتأيت القاعدة الثالثة عند المصنف -رحمه اهلل -ل هيرسي هذا األمر ويج ّليه ويزيل الغبش الذي
قد يصاب به بعض الناس ،و هيبتلى به بعض الناس فيدخلون يف وحل الشرك وشبكة الباطل من
َ َ َ َ ََ ْ ُْ ْ َ َ ََََ َ
اَّلل فكأنما خر ِمن السما ِء
َر ِب ِ
حيث يظنون أهنم لم يقعوا يف هذه الهوة السحيقة ﴿ومن ش ِ
يّق﴾ ،ال يشعر أنه وقع يف هذه الهوة السحيقة-ب غح ِف َم ََكن َ
س ري أَ ْو َت ْهوي ب ِه ِ
الر ُ ََ ْ
خ َط ُف ُه َ
الط ْ ُ فت
ٍ ِ ٍ ِ ِ ِ
والعياذ باهلل ،-فتأيت هذه القاعدة لتج ّلي هذا األمر.
ولهذا ينبغي أن هن رعي هذه القاعدة بالنا واهتمامنا وأن نحسن فهمها وضبطها ألهنا مهمة جدا
يف هذا الباب.
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم َظ َه َر َع َلى هأنَاس
يقول -رحمه اهلل -يف القاعدة الثالثةَ « :أ ّن النّب ّي َص ّلى ه
هم َت َف ّرقي َن في ع َبا َداته ْم»؛
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم َظ َه َر َع َلى هأنَاس هم َت َف ّرقي َن في ع َبا َداته ْم» ،ما معنى
انتبه للكالمَ « :أ ّن النّب ّي َص ّلى ه
متفرقين يف عباداهتم؟ أي لم تكن عبادهتم مختصة بمعبودات معينة ،مثل :األحجار أو األصنام ،لم
تكن عبادهتم مختصة بذلك ،أبدا ،بل كانوا متفرقين يف عبادهتم ،يعبدون أشياء كثيرة جدا .ما هي
هذه األشياء؟
فصل الشيخ -رحمه اهلل -ثم ذكر على كل ما ذكره من تفصيل الدليل عليه من القرآن ،قال:
ّ
الصالحي َنَ ،ومنْ هه ْم َم ْن َي ْع هبده األَ ْش َج َار
«من هْه ْم َم ْن َي ْع هبده ا ْل َمالئ َكةََ ،ومن هْه ْم َم ْن َي ْع هبده األَنْب َيا َء َو ّ
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم هبعث يف أقوام َواألَ ْح َج َارَ ،ومن هْه ْم َم ْن َي ْع هبده ّ
الش ْم َس َوا ْل َق َم َر» ،إذن النبي َص ّلى ه
يشركون ،وشركهم ليس منحصرا يف شرك معين من الشرك كعبادة األصنام؛ بل إن شرك من بهعث
الس َال ْم شرك متنوع ،و األبواب التي سلكها هؤالء المشركون أبواب متفرقة، فيهم َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
منهم من يعبد المالئكة ،منهم من يعبد األنبياء ،منهم من يعبد األولياء والصالحين ،منهم من يعبد
الس َال ْم همعلنا دعوة األشجار واألضرحة ونحو ذلك ،وكل هؤالء ظهر عليهم النبي َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
ات اهلل َو َس َال هم هه َع َل ْيه -والدعوة إلى اإلخالص هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى ونبذ الشرك
التوحيد َ -ص َل َو ه
واضطراحه أ ّيا كانت صفته وكان نوعه.
يروجها أهل الباطل.
فهذه القاعدة تأيت جوابا وإزالة لتلك الشبهة التي قد ّ
الس َال ْم -و هبعث فيهم كانوا متفرقين يف وتقرير القاعدة أن من ظهر عليهمَ -ع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
العبادة ،منهم من يعبد المالئكة ،منهم من يعبد األنبياء والصالحين ،منهم من يعبد األشجار
واألحجار ،منهم من يعبد الشمس والقمر.
وتقول هنا :هات الدليل على ذلك ،فيأيت المنصف -رحمه اهلل -بالدليل على كل ذلك من
كتاب اهلل َع ّز َو َج ّل؛
57 شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ
ُ َ َ َ ُ َ ٌَْ ََ ُ ُ
﴿وقا ِتلوه ّْم َح َّت ال تكون فِتنة َو َغكون أوال قال -رحمه اهللَ « :-والدّ ل هيل َق ْو هل هه َت َعا َلى:
ّ ُ ُُ
ين ُك ُه ِ ََّلل﴾ » ،هذا فيه أوال استشهاد لقول المصنف -رحمه اهللَ « :-و َقا َت َل هه ْم َر هس ه
ول اهلل» أي ل
ا ِ
يفرق َع َل ْيه ّ
الص َال هة أجمعين بأنواع الشرك المختلفة التي كانوا عليها ،فهؤالء كلهم قاتلهم ،لم ّ
الس َال ْم ،أو م َلكا من المالئكة كجربيل الس َال ْم بين من ع َبد حجرا أو عبد نب ّيا كعيسى َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ َو ّ
أو غيره من المالئكة َ -ع َل ْيه هم ّ
الس َال ْم ،-لم يفرق بين ال هؤالء وال هؤالء ،كلهم يشملهم قول اهلل
َ َ ُ ُ ْ َ َ َ َ ُ َ ٌَْ ََ ُ َ ّ ُ ُُُ َ
ين ُكه َِّلل﴾ ،قاتلهم النبي َع َل ْيهلَت َب َار َك َو َت َعا َلى﴿ :وقاتِلوهّم حّت ال تكون فِتنة وغكون ا ِ
الس َال ْم أجمعين ،دعاهم إلى هذا اإلسالم ،وبعث الدعاة وأرسل البعوث وأرسل الرسل
الص َال هة َو ّ
ّ
ودعا هؤالء؛ دعا الذين يعبدون المالئكة ،ودعا الذين يعبدون النجوم ،ودعا الذين يعبدون
الس َال ْم إلى نبذ هذا األنبياء ،ودعا الذين يعبدون األصنام ،كل أولئك دعاهم النبي َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
الشرك ،وإلى إخالص العبادة هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى.
ثم بدأ يسوق األدلة دليال دليال على ما ذكر سابقا من تفرق المشركين وتنوع شركهم.
يتحرون عبادهتا فيه ،عند أول طلوع الشمس وعند وقت الغروب هع ّباد الشمس كانوا يتحرون هذين
الوقتين ،فيعبدون الشمس يف هذين الوقتين ،ولهذا جاء النهي الغليظ والمؤكد عن نبينا َع َل ْيه
الس َال ْم من أن نصلي هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى مخلصين يف هذين الوقتين.
الص َال هة َو ّ
ّ
الس َال ْم أن "الشمس تطلع بين قرين شيطان" ،وهذا فيه أن الشيطان له وذكر َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
فتنة يف هذا الوقت لصرف القلوب عن التوحيد إلى الشرك ،والتعلق هبذه المخلوقات الكبيرة،
البديعة ،العجيبة ،العظيمة ،التي خلقها اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى.
عندما تضعف بعض القلوب عن راسخ اإليمان وعميق التوحيد قد تتعلق بمثل هذه
المخلوقات الكبار وتلجأ إليها ،فتدهشها الشمس بغروهبا وطلوعها ،فتتوجه إليها بحاجاهتا
( )1رواه مسلم ( )670من حديث عبد اهلل بن عمرو بن العاص ﭬ.
59 شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ
إذن هذا دليل ساقه المصنف من القرآن الكريم شاهدا على أن من هبعث فيهم َع َل ْيه ّ
الص َال هة
الس َال ْم كان منهم من يعبد الشمس والقمر.
َو ّ
ِ َه َُْ ْ
يستحقون من العبادة أي شيء ،ولهذا قال اهلل َع ّز َو َج ّل يف شأن المالئكةَ ﴿ :و َم ْن يقل ِمن ُه ّْم ِإِّن ِإ ٌَل
َ َ َه َ َ ْ ُ
ِم ْن دونِ ِه فذلِك ن ِزغ ِه َج َهن َّم﴾ ،المالئكة ال يقولون ذلك ،المالئكة عباد مكرمون يعبدون اهلل َع ّز
ون﴾ ،هذا شأن اهلل َما َأ َم َر هه ْم َو َي ْف َع هل َ
ون َما هي ْؤ َم هر َ ون َ َو َج ّل ،الليل والنهار ال يفرتون ﴿ َال َي ْع هص َ
المالئكة.
وقد هوجد يف الناس من عبدهم ،وتوجه إليهم يف طلباته ورغباته ،وجعلهم واسطة بينه وبين
الس َال ْم إلبطال هذا الشرك -اتخاذ اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى يف عرض حاجاته ،فبهعث النبي َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
المالئكة أربابا وأندادا وشركاء هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى يف العبادة.-
ثم ذكر -رحمه اهلل -دليل األنبياء ،أي الدليل على أن من المشركين الذين بهعث فيهم َ -ع َل ْيه
َ الص َال هة والس َالم -من كان يعبد األنبياء فذكر قول اهلل تعالىَ ﴿ :وإ ْذ قَ َال َ ُ
اَّلل يَا ِعيَس ابْ َن َم ْرغَ َّم ِ َ ّ ْ ّ
َْ ُ ُ َ ْ َُ َ َ َ َ َ َ َ ُ ِ َ َه َ ْ ْ ُ َ ُ ََْ َ ُ ْ َ َ
اَّلل ۖ قال ُسبْ َبانك َما يَكون ِِل أن أقول َما لي َس ِ ِ ون د ن م ني
ِ ِ ِه لإ ِّمأو وِن
ِ ذ اَّت
ِ اس
أأنت قلت لِلن ِ
َْ َ َ َ َْ َ َ َ َ َْ َْ ُ ََْ َّ ْ ُْ ُ ُْ ُ ََ ْ
ت َعال ُم ت قلتُه فقد َع ِل ْمتَه ۚ تعل ُّم َما ِِف نف ِِس َوال أعل ُّم َما ِِف نف ِسك ۖ ِإنك أن ِِل ِِبّق ۖ إِن كن
الس َال ْم -من كان يعبد األنبياء و ة
ه ال
َ الص هي َ
ل ع - فيهم عث ب الذين المشركين من كان إذن ، ﴾ وب الْ ُغيُ
ّ َ ّ ْ َ ه ِ
من دون اهلل َع ّز َو َج ّل ،مثل من كانوا يعبدون عيسى ويتوجهون إليه بالدعاء والطلب والرغبات
ويعبدون أمه ،وأمه ليست نب ّية وإنما هي صالحة من الصالحات ومن خيار نساء العالمين ،فكانوا
يعبدون األنبياء والصالحين ،األنبياء مثل عيسى ،والصالحين مثل أمه ،كانوا يعبدوهنا من دون اهلل،
َ ُ َ ََ َ ُ ََ َ
اَّلل ثا ِلث ثالث ٍة﴾ ؛ جعلوا المستحقين للعبادة ثالثة :اهلل ومريم وجعلوهما شريكا هلل ﴿قالوا إِن
وعيسى ،وعبدوا هؤالء الثالثة كلهم ،عبدوا اهلل ،وعبدوا معه عيسى ،وعبدوا معه أمه.
الس َال ْم منهم من كان شركه عبادة لألنبياء وعبادة إذن من هبعث فيهم َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
للصالحين.
قائال لهم :إن هؤالء الجن ُيون الذين تعبدوهنم من دون اهلل أسلموا وأخلصوا العبادة هلل ،يرجون
رحمة اهلل ويخافون عذابه ،وأنتم ال تزالون مقيمين على عبادهتم.
إذن اآلية واضحة يف إنكار شرك من كان شركه عبادة الصالحين و األولياء.
هيقال لمن عبد ول ّيا أو عبد صالحا :إن هذا الذي تعبده وتلجأ إليه هو نفسه عبد هلل ،يرجوا اهلل،
ويطمع يف مغفرة اهلل ورحمته ،وإن كان مات فإن هذه األمور -رجاء الرحمة والعبادة وابتغاء
الوسيلة -انقطعت بموته" ،إذا مات ابن آدم انقطع عمله إال من ثالث" ،ال يستطيع أن يقوم بعبادة
وال يستطيع أن يقوم بدعاء أو برجاء أو بخوف أو بأي أمر من األمور التي هي مجال اإلنسان للقيام
هبا يف حياته الدنيا ،أما إذا مات انقطع عمله ،ال يستطيع أن يدعو لنفسه وال لغيره ،ولهذا قال َع َل ْيه
اهلل َعنْ َها" :إن كان ذاك وأنا
الس َال ْم كما يف صحيح البخاري ألم المؤمنين عائشة َرض َي ه
الص َال هة َو ّ
ّ
حي استغفرت لك" يعني وأنا على قيد الحياة استغفرت لك ،أما بعد الموت ال يستغفر َ -ع َل ْيه
الس َال ْم -ألحد ،وال أيضا غيرهم من الذين توفاهم اهلل َ -ع ّز َو َج ّل -يستغفرون ألحد،
الص َال هة َو ّ
ّ
ولهذا قال" :إن كان ذاك وأنا حي استغفرت لك".
علي أعمالكم، ه ّ أما ما يستدل به بعض الناس من أن النبي َص ّلى ه َ
اهلل َعل ْيه َو َسل ْم قال" :تعرض ّ
وأنا ميت ،حسنها وسيئها ،فإذا رأيت حسنها حمدت اهلل ،وإذا رأيت سيئها استغفرت اهلل لكم"
هذا حديث غير صحيح ،فيستدل به بعض الناس ويرتكون الحديث الذي يف صحيح البخاري،
اهلل َعنْ َها" :إن كان ذاك وأنا حي
الس َال ْم لعائشة َرض َي ه الحديث الذي يقول فيه النبي َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
الس َال ْم -ألحد. استغفرت لك" أي بعد الموت ال يستغفر َ -ع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
( )1رواه مسلم( )7647من حديث أبي هريرة ،بلفظ" :إذا مات اإلنسان انقطع عنه عمله إال من ثالثة :إال من صدقة جارية أو علم
ينتفع به أو ولد صالح يدعو له".
( )2رواه البخاري ( ،)1071 ( )4666من حديث عائشة رضي اهلل عنها.
( )3قال الشيخ األلباين $بعد أن ساق جميع طرق الرواية قي الضعيفة ( (( : ) 326- 323 /0وجملة القول أن الحديث
ضعيف بجميع طرقه ،وخيرها حديث بكر بن عبد اهلل المزين وهو مرسل ،وهو من أقسام الحديث الضعيف عند المحدثين ،ثم
حديث ابن مسعود ،وهو خطأ ،وشرها حديث أنس بطريقيه)) اهـ.
63 شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ
ولهذا؛ الصحابة بعد موته قالوا -كما جاء عن عمر" :-اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا واآلن
نتوسل إليك بعم نبينا" ،لماذا؟ -والمراد الدعاء :اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا واآلن نتوسل
الس َال ْم ما كانوا يتوسلون إليك بعم نبينا؛ قم يا العباس ادع اهلل لنا -يف زمن النبي َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
الس َال ْم ،يدعو لهم هو َ -ص َل َو ه
ات اهلل بالعباس أو بغيره ،كانوا يتوسلون بدعاء النبي َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
الس َال ْم : ويؤ ّمنون على دعائه ،أما بعد موته انقطع هذا األمر ،لقوله َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ َو َس َال هم هه َع َل ْيهَ -
"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إال من ثالث".
الشاهد ،أن هذا دليل الصالحين .ما دليل األشجار واألحجار؟
َ ُ ْ َ َ َ َ ْ ََ َْ
قالَ « :ق ْو هل هه َت َعا َلى﴿ :أف َرأيتُ ُّم الالت َوال ُع َزى َو َمناة اّثلَ ِاّثلَة األخ َرى﴾ » هذه معبودات كان
والعزى
ّ والعزى ومناة الثالثة األخرى .الالت ما هي؟
ّ يعبدها المشركون ويتوجهون إليها؛ الالّت
ما هي؟ ومناة الثالثة األخرى ما هي؟
الالّت :هذه صخرة -وقيل قرب ،جاء هذا المعنى عن ابن عباس وغيره -لرجل كان ي هل ُت
السويق؛ يعجنه ويهيئه ويخبزه ويجهزه ضيافة وقرى للحجاج ،فكان معروفا بذلك ،رجل هيعرف
ّ
السويق ويهيئه ويخبزه ويقدمه ضيافة للحجاج الذين يتوافدون إلى مكة.
هبذا :يعجن ّ
لما مات بنوا على قربه وعبدوه ،أخذوا يجعلونه واسطة ،قالوا ألن هذا رجل معروف بيننا
السويق ،قالوا:
هبذا الكرم وهذه الضيافة ،فعبدوا قربه ،وقيل عبدوا الصخرة التي كان يعجن عليها ّ
السويق ،ما أجمل أن تكون واسطة بيننا وبين اهلل،
هذه صخرة فاضلة ،سنوات طويلة هيعجن عليها ّ
والسويق هيعجن عليها و هيقدم للحجاج ضيافة لها ،إذن هذه الصخرة فاضلة ،مميزة،
سنوات طويلة ّ
لها خاصية ،فما أجمل أن نجعلها واسطة بيننا وبين اهلل ،فجعلوها واسطة .وقيل أهنم جعلوا قربه
واسطة بينهم وبين اهلل َع ّز َو َج ّل ،يأتون عند القرب ويبكون ويعرضون الحاجات والرغبات
ويتحرون الدعاء عند قربه ،أو عند هذه الصخرة.
وال هع ّزى :شجرة كان يقصدها المشركون ،وكان يزيد الشرك والتعلق هبذه الشجرة أن جنية
كانت مختفية وإذا جاءوا عند هذه الشجرة خاطبتهم الجنية فيهخدعون بذلك ،ألن الشجر ال هيعرف
أنه يخاطب الناس ،فيهخدعون بذلك و هيستدرجون ،فتخاطبهم هذه الجنية وتذكر لهم أمورا ،وربما
سألوها عن مفقود أو ضائع فأشارت إلى مكانه أو دلتهم على موضعه أو نحو ذلك ،ف هفتنوا فصاروا
الس َال ْم يتوافدون عليها من األنحاء العديدة يعبدون هذه الشجرة ،حتى بعث النبي َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
السير واألخبار .فال هع ّزى شجرة
إليها خالد بن الوليد فقطع الشجرة وقتل الجنية ،كما جاء يف كتب ّ
كان يعبدها المشركون.
وال يزال مثل هذا الشرك يوجد ،من الناس من يتعلقون بأشجار ويعتقدون أهنا أشجار
يتمسحون هبا ،يضع صدره على الشجرة يطلب
مباركة ،ولهذا يذهبون ويعلقون عليها الخيوطّ ،
منها بركة ،يطوف على الشجرة..
كان قديما ،وقد أدرك المصنف -رحمه اهلل -شيئا من ذلك ورآه ،كانوا يطوفون على شجرة ؛
تذهب النساء وتطوف على الشجرة ،المرأة التي ال تلد تذهب وتطوف على الشجرة وتقول :يا
فحل الفحول أريد ولدا قبل الحول ،تنادي الشجرة ،ال تنجب لسنوات ،فتقول لها النساء هناك
شجرة مباركة يف المكان الفالين ،اذهبي وطويف هبا أشواطا ،واطلبي منها ،فهي شجرة مباركة،
وربما قالوا لها فالنة جربت وفالنة فعلت ..وهكذا يستدرج الناس إلى الشرك والباطل-والعياذ
باهلل -فكن يذهبن إلى تلك الشجرة ويطفن عليها ،ويقلن :يا فحل الفحول أريد ولدا قبل الحول.
الس َال ْم يف الحديث الصحيح" :ال تقوم الساعة حتى تضطرب َأليات وقد قال َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
الخ َل َصة" ؛ (ذو ال َخلصة) :صنم ،وثن من األوثان( .تضطرب َأليات النساء)
نساء َد ْوس على ذي َ
الخ َلصة ،وهذا فيه إشارة إلى
أي تضرب ألياهتن بعضا من شدة تزاحمهن على الطواف على ذي َ
الخ َلصة.
كثرة النساء الطائفات على ذي َ
الس َال ْم" :ال تقوم الساعة حتى يعبد فئام من أمتي األوثان" ،واألحاديث وقال َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
الس َال ْم. يف هذا الباب كثيرة وثابتة عن نبينا َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
الس َال ْم" :ل َت ّتبع ّن َسنَن من كان قبلكم" .انتبه هناَ :من قبلنا فيهم من عبد وقال َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
المالئكة ،فيهم من عبد األنبياء ،وفيهم من عبد األولياء ،وفيهم من عبد األشجار ،وفيهم من عبد
الصالحين .ونبينا قال" :ل َت ّتبع ّن َسنَن من كان قبلكم ،شربا بشرب وذراعا بذراع ،حتى لو دخلوا جحر
ضب لدخلتموه" ،فإذن هذه أمور خطيرة جدّ ا.
الس َال ْم عندما قال لنا" :ل َت ّتبع ّن َسنَن من كان قبلكم" هل قالها لنا مجرد النبي َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
معلومة نسمعها ونعرفها؟ أو من أجل أن نحذر ونحتاط ألنفسنا من هذا الباطل الذي كان عليه من
الس َال ْم قال يف دعائه: قبلنا ونحذر على المجانبة منه والبعد عنه؟ خليل الرحمن إبراهيم َع َل ْيه ّ
َ َُ َ َ َ ّ َُ َ َ ْ ََْ َ ً ّ َ َ َّ ْ ُ َ َ
األ ْصنَ َ اجنُبِْن َوب َ َ ْ
اس ف َم ْن ت ِب َع ِِن ف ِإنه ِم ِِن
ِ َ اّنل َ
ن م اري
ِ ِ ثك ن للض أ ن هن إ ب
ِ ِ ر ) 44( ام ِن أن نعبد ِ ِ ﴿و
يّم (.﴾)46 ك َغ ُف ٌ
ور َرح ٌ َ َ َ
َو َم ْن َع َص ِاِّن ف ِإن
ِ
َ ََََُْ ُ َ َ َ ُْ َ َ َ َ َ َ ََ ُ ْ
ثم ذكر دليل األشجار واألحجار قال﴿ :أفرأيتّم الالت والعزى ومناة اّثل ِاّثلة األخرى﴾ ،مناة
هذا أيضا حجر وصنم من األصنام كان يعبده أهل الجاهلية ،وكان بين مكة والمدينة.
ثم ختم بحديث أبي واقد الليثي ،وهذا حديث عظيم جدّ ا يف هذا الباب .هيبيّن لنا هذا
الحديث خطورة حال اإلنسان عندما يكون حديث عهد بإسالم أو تكون معلوماته اإلسالمية
ضعيفة أو يكون نشأ يف مجتمع تكثر فيه الجاهلية ،فهنا فيه خطورة هيبينها و هيجليها لنا هذا الحديث؛
الس َال ْم إلى هحنَين ونحن هحدَ ثاء عهد بكفر" قال أبو واقد الليثي" :خرجنا مع النب ّي َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
اهلل َعنْ هه من المقالة التي قالوها ،قال" :ونحن هحدَ ثاء َعهد بكفر" يعني عهدنا
هذا اعتذار قدّ مه َرض َي ه
بالكفر كان قريبا ،كنا على الكفر من وقت قريب ،والذي على الكفر من وقت قريب معلوماته
الشرعية عن اإلسالم وعن التوحيد وعن تفاصيل الشرع تكون ضعيفة ،وربما يف الوقت نفسه
تكون بعض األمور التي كان عليها يف الجاهلية لم يتبين له ولم يظهر له أهنا مصادمة لإلسالم الذي
اعتنقه ودخل فيه ،ومثل هذا األمر من ينشأ يف مجتمعات تكثر فيها الجاهلية ويكثر فيها دعاة
الضالل وأئمة الباطل ربما ينشأ ال يعرف بعض األمور وال يفهمها وال يدركها ويقع يف الشرك
والضالل من حيث أنه يظن أنه على التوحيد واإلسالم.
الس َال ْم إلى هحنين" ،انظر من هم هؤالء يقول أبو واقد" :خرجنا مع النبي َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
الرجال ،من هم هؤالء الرجال؟ -هذه الكلمة مهمة -هؤالء رجال خرجوا مع النبي َع َل ْيه ّ
الص َال هة
الس َال ْم بائعين أنفسهم يف سبيل اهلل ،معهم السيوف يقاتلون ،منهم من س هيقتل ويموت يف سبيل
َو ّ
اهلل ،خرجوا مقاتلين يف سبيل اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى ثم يقولون هذه المقالة التي هب ّينت يف الحديث.
اهلل َعنْ هه" :ونحن هحدثاء عهد بكفر ،وللمشركين سدرةَ ،يع هكفون عندها وينوطون
قال َرض َي ه
مروا
مروا بسدرة أي ُ
هبا أسلحتهم" ،جاء يف بعض الروايات" :فمررنا بسدرة" ،وهم يف الطريق ُ
بشجرة ،لمن هذه الشجرة؟ للمشركين ،ماذا يفعلون عندها؟ قالَ " :يع هكفون عندها وينوطون هبا
أسلحتهم " ،هذا نوع من الشرك؛ الشرك من أنواعه ومجاالته العكوف عند القرب أو عند الشجرة أو
عند المكان الذي هيعبد و هيقصد و هيتَوجه إليه.
َ
(يعكف عنده) :أي يبقى عنده مدة طويلة ،ساكنا خاضعا متذ ّلال راهبا ،هذه عبادةَ ﴿ ،وال
َُ ُ ُ َ ََُْ ْ َ ُ َ
ون ِف ال ْ َم َ
اج ِد﴾ ،العكوف :عبادة هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى( ،يعكفون عندها):
ِ س اَروهن وأنتّم َع ِكف ِ
تب ِ
يبقى قائما ساعة ،ساعتين ،أقل أو أكثر ،ساكنا خاشعا ،ربما ال يتكلم بكلمة ،فقط مجرد وقوف،
وهو يعتقد يف قرارة نفسه أن عكوفه هذا يجلب له بركة ،ألن هذه الشجرة مباركة فربكتها تنعكس
عليه وتنجذب إليه ويعود إليه نصيب منها ،فيعكفون عندها ،هم بأشخاصهم.
وأيضا (ينوطون هبا أسلحتهم) أي :يعلقون أسلحتهم ،لماذا؟ ألهنم يعتقدون أن السالح إذا
هع ّلق على هذه الشجرة المباركة -بزعمهم -بورك السالح وأصبح قو ّيا يف القتال .فكانوا يعتقدون
هذه العقائد؛ يعكفون عندها وينوطون هبا أسلحتهم.
" هيقال لها :ذات أنواط" ،لماذا سموها هبذا االسم؟ (ذات أنواط) :لكثرة ما هيع ّلقون عليها من
أسلحتهم -ينوطون أي :هيع ّلقون -رجاء الربكة وطلبها.
مروا بسدرة أخرى غير تلك -فقلنا :يا رسول اهلل! اجعل لنا ذات
قال":فمررنا بسدرة -أي ُ
َأن َْواط كما لهم ذات أنواط"؛ يعني اجعل لنا نحنّ ،
خصص لنا شجرة معينة نمارس عندها مثل هذه
الممارسة؛ نعكف ونعلق السالح .من أجل ماذا العكوف؟ ومن أجل ماذا هيع ّلق السالح؟ كانوا
يفعلون ذلك يف الجاهلية طلب الربكة.
فقالوا" :اجعل لنا ذات َأن َْواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول اهلل َص ّلى ه
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل َم" :اهلل
السنَن-ويف رواية قال" :سبحان اهلل" ،-قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى أكرب ،إهنا ُ
ٌ ْ ْ َ َ َ َ
لموسى﴿ :اج َعل ّنلَا ِإل ًها ك َما ل ُه ّْم آل ِ َهة﴾- ،ثم قال :-لتتبعن َسنَن من كان قبلكم" .
وخذ نفسك مأخذ الس َال ْم ،ه انظر هذا النصح العظيم والتحذير البالغ من نبينا َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
ْ ْ َ َ
الحزم والحيطة والحذر" ،قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى﴿ :اج َعل ّنلَا ِإل ًها
ٌ َ َ َ ُ َ َْ ُ َ َ َ
ك َما ل ُه ّْم آل ِ َهة قال إِنك ّْم ق ْو ٌم َت َهلون﴾ ،لتتبعن َسنَن من كان قبلكم" ،أي" :شربا شربا ،ذراعا
ذراعا حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه".
الس َال ْم يف بعض الروايات يف غير هذا الحديث "حتى لو هوجد فيهم بل جاء عنه َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
من يأيت أمه عالنية هلوجد يف أمتي من يأيت أمه عالنية" .
( )1الحديث" :عن أبي واقد الليثي ،قال :خرجنا مع رسول اهلل ﷺ إلى حنين ،ونحن حدثاء عهد بكفر ،وللمشركين سدرة يعكفون
بالسدرة ،فقلنا :يا رسول اهلل ،ا جعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات عندها ،وينوطون هبا أسلحتهم يقال لها :ذات َأن َْواط ،قال :فمررنا ّ
ٌ َ َ َ ُ َ ْ ْ َ َ َ َ
السنَن ،قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل﴿ :اج َعل ّنلَا ِإل ًها ك َما ل ُه ّْم آل ِ َهة قال ِإنك ّْم ق ْو ٌم
أنواط ،فقال رسول اهلل ﷺ :إهنا ُ
َْ ُ َ
َت َهلون﴾َ ،لت َْر َك هب ّن َسن ََن من كان قبلكم" .رواه الرتمذي يف سننه ( )0702وأحمد يف مسنده ( )07452و صححه األلباين ِف
«جلباب المرأة المسلمة» (.)020
( )2اآلية رقم740 :من سورة األعراف.
( )3رواه الرتمذي يف سننه ( )0637من حديث عبد اهلل بن عمرو بن العاص.
للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ 68
يجب على اإلنسان أن يحذر ،خاصة يف زماننا هذا؛ هذا الزمن انفتح على الناس انفتاح
عجيب حال المجتمعات الكافرة وأمم الكفر ،وأصبح الناس من خالل القنوات الفضائية ومن
خالل شبكة العنكبوت (االنرتنت) ،واإلنسان جالس يف بيته ،والمرأة جالسة يف بيتها ينفتح عليها
العالم كله ،وترى وثن ّية الوثن ّيين وشرك المشركين وضالل المضلين ه
وشبه المبطلين ،ويكون هذا
المسكين الذي ينظر هذا كله بضاعته الشرعية وعلمه بالتوحيد علم ضعيف محدود ،ثم يرجو
لنفسه سالمة.
السفينَ َة َال َت ْمشي َع َلى ال َي َبس
إن ّّ َت ْر هجو الن َّجا َة َو َل ْم َت ْس هل ْك َم َسال َك َها
فالشاهد أن األمر جد خطير! وأن األمر -كما قرر الشيخ رحمة اهلل عليه :-أن الشرك الذي
الس َال ْم ليس عبادة أصنام فقط. كان عليه المشركون يف زمن النبي َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
وبعض الناس عندما يقرأ اآليات التي فيها التحذير من الشرك ينصب يف ذهنه فقط -وهذه
الشبه التي هأدرجت على الناس :-الالّت وال هع ّزى ومناة ،ويقول :الحمد هلل ،هذه أصنام ليست
من ُ
الس َال ْم وال يوجد شرك ،بل بعض الناس هوجد من وح ّطمت يف زمن النبي َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ موجودة ه
أئمة الضالل أنه قال :أمة محمد إلى قيام الساعة لن يوجد فيها شرك ،هذا قيل و هكتب يف بعض
الج ّهال يمارس ممارسات من الشرك ويقول الكتب و هل ّبس فيه على بعض ه
الج ّهال ،وأصبح بعض ه
لهم هؤالء :أمة محمد معصومة من الشرك ،وربما استدلوا ببعض األحاديث ووضعوها يف غير
( )1قال أمير المؤمنين هارون الرشيد ذات مرة ألبي العتاهية عظني بأبيات من الشعر وأوجز؛ فقال:
بالحجاب والحرس
الموت يف طرف وال نفس :::ولو تمتعت ه
َ ال تأمن
واعلم بأن سهـام المـوت صــائـبة :::لكــــل مــدّ رع منــــها ومتــــــرس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها :::إن السفينة ال تجــري على اليبس
الح ّالج ،كما هينسب إلى المفكر الصويف عبد الغني النابلسي الدمشقي.
( )2البيت هينسب إلى الفيلسوف الصويف َ
69 شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ
باهبا ،مثل حديث ":إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون يف جزيرة العرب" ،يستدلون هبذا
الحديث ويرتكون أحاديث محكمة صريحة يف أن العبادة ستوجد ،مثل" :ال تقوم الساعة حتى يعبد
الس َال ْم" :ل َت ّتبع ّن َسنَن فئام من أمتي األوثان" ،هل أوضح من هذا شيء؟ ومثل قوله َع َل ْيه ّ
الص َال هة َو ّ
من كان قبلكم ،شربا شربا" ،ونحن عرفنا من كان قبلنا -هبذه اآليات الب ّينات -فيهم من عبد
األنبياء ،وفيهم من عبد الصالحين ،وفيهم من عبد المالئكة.
القـاعـدة الـرابـعة:
املتـن - :القاعـدة الرابعـة -
الر َخاء، َأ ّن هم ْشركي َز َماننَا َأ ْغ َل هظ ش ْركا م َن األَ ّولي َن؛ ألَ ّن األ َ ّولي َن هي ْشر هك َ
ون في ّ
الر َخاء َو ّ
الشدّ ة. الشدّ ةَ ،و هم ْشر هكو َز َماننَا ش ْر هك هه ْم َدائم؛ في ّ
ون في ّ َو هي ْخل هص َ
َ َُ ِ َ َ َ ََ ُ ُْ ْ َ َ ُ ََ ُْ َ َ
ين فل َما ناه ّْماَّلل ُم ِل ِصني َل ال َوالدّ ل هيل َق ْو هل هه َت َعا َلى﴿ :ف ِإذا َر ِكبُوا ِِف الفل ِك دعوا
َ َِْ َ ُ ْ ُْ ُ َ
َركون﴾ [العنكبوت.]64: ِإَل الْب ِإذا هّم ش ِ
اهلل َع َلى هم َح ّمد َو َع َلى آله َو َص ْحبه َو َس ّل َم.
َت ّم ْت َو َص ّلى ه
الشــرح:
ثم ختم هذه القواعد األربع هبذه القاعدة العظيمة ،المهمة -حقيقة -وهي قوله -رحمه اهلل-
الر َخاء، « َأ ّن هم ْشركي َز َماننَا َأ ْغ َل هظ ش ْركا م َن األَ ّولي َن» ،لماذا؟ قال« :ألَ ّن األَ ّولي َن هي ْشر هك َ
ون في ّ
َو هي ْخل هص َ
ون في ّ
الشدّ ة» ،ما معنى يشركون يف الرخاء ويخلصون يف الشدة؟ أي وقت الصحة والعافية
واألمن والراحة والطمأنينة -ونحو ذلك -يشركون ،يعبدون مع اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى األشجار
واألحجار والمالئكة...الخ ،أما وقت الشدة عندما تشتد األمور وتعظم الكربات ال يعبدون شيئا
من تلك المعبودات ،بل يتوجهون إلى اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى وحده مخلصين له الدين ،هكذا كانوا.
َ َ ُْ ْ َ َ ُ ََ ُْ َ َ
ني َُل اَّلل ُم ِل ِص ما الدليل على ذلك؟ قالَ « :والدّ ل هيل َق ْو هل هه َت َعا َلى﴿ :فإِذا َر ِكبُوا ِِف الفل ِك دعوا
ِ َ ََ َ ََ ُ ْ َ َِْ َ ُ ْ ُْ ُ َ
َركون﴾ » ،هذه حالهم ،من هم؟ المشركون األه ّول. الين فلما ناهّم ِإَل الْب ِإذا هّم ش ِ
إذا ركبوا يف الفلك وأتت الرياح العاتية وتالطمت األمواج وأدركهم الغرق وعظم فيهم
الخطب أخلصوا الدين هلل ،فقط يقولون :يا رب ..يا رب ،ال يناجون الالت وال هبل وال غيرها مما
ني َ َُل ِ
ال َ
ين﴾ إخالص تام يف ﴿ُمْلص َ
ُ
كانوا يدعوهنا يف حال الرخاء ،فقط يقولون :يا رب ..يا رب،
ِ ِ
التوجه والسؤال والطلب ،الوسائط كلها تسقط وتذهب وال يتعلقون بشيء منها ،هيخلصون الدين
هلل ،والدليل واضح أمامك﴿ :فَإ َذا َركبُوا﴾ -أي المشركين﴿ -فَإ َذا َركبُوا ِف الْ ُفلْك َد َع ُوا َ َ
اَّلل ِ ِ ِ ِ ِ ِ
َ َُ ِ َ َ َ َ ََ ُ ْ َ َِْ َ ُ ْ ُ ْ ُ َ ُْ
َركون﴾ يعني إذا انتهوا من البحر ومشاكل الغرق ُم ِل ِصني َل الين فلما ناهّم ِإَل الْب ِإذا هّم ش ِ
وكانوا يف ال َبر ،وطأت أقدامهم الرب ،رجعوا للشرك ،بدؤوا ينادون الالت والعزى ...الخ ويف حال
الشدة هيخلصون هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى.
ولهذا؛ اقرأ يف هذا السياق بيان اهلل َع ّز َو َج ّل لهؤالء أن اهلل قادر عليهم يف حال كوهنم يف البحر
ويف حال كوهنم يف الرب ،األمر سواء يف قدرته َج ّل َو َع َال ،قادر على إهالكهم َب ّرا وبحرا ،ال فرق بين
أن يدرك اإلنسان هالك اهلل َع ّز َو َج ّل سواء كان يف الرب أو البحر ،فيقال للمشرك :إذا كنت تؤمن أنه
ال ينجيك يف البحر إال اهلل ،فكذلك ال ينجيك يف الرب إال اهلل ،ألن اهلل قادر عليك يف الرب و يف البحر،
فماذا تغني عنك هذه األصنام من اهلل شيئا سواء كنت يف الرب أو يف البحر.
ْ َ ْ َْ ْ َ َْ ُ َُ ُ ُ َ ُْ َ ُ ُ ُْ ْ َ
ولهذا اقرأ قول اهلل َع ّز َو َج ّل﴿ :ربكّم ِ
اَّلي يز ِِج لكّم الفلك ِِف اَّلب ِر َِتبتغوا ِمن فض ِل ِه
َْ َ َ َْ ْ َ َ ك ُّم ُ ُ ُ ْ َ ً َ َ َ َ ُ َُ َ َ
اَّلب ِر ضل َمن تد ُعون ِإال ِإيَاهُ) -هذه بيان حال الرُض ِِف ِإنه َكن بِكّم ر ِحيما و ِإذا مس
ً َ ُ َُ َ َ َ ََ ُ ْ َ َِْ َ ْ َ ْ ُ ْ ََ َ
اْلنسان كفورا﴾ ؛ المشركين( -فلما ناكّم ِإَل الْب أعرضتّم وَكن ِ
َ َْ َ َ َ َ
قوله﴿ :ضل َمن تد ُعون ِإال ِإيَ ُاه﴾ أي ذهب كل من تتعلقون به وتدعونه وترجونهِ ﴿ ،إال
َْ َ َ َ َ
ِإيَ ُاه﴾ :إال اهلل .وانتبه لآلية ﴿ضل َمن تد ُعون ِإال ِإيَ ُاه﴾ :تدل هذه اآلية على أن المشركين كانوا
يعبدون اهلل ويعبدون معه غيره ،لكنهم يف البحر كل من يعبدونه من دون اهلل يذهب عن قلوهبم
وعن أفكارهم وعن توجهاهتم ،فال يعبدون إال اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى وحده مخلصين له الدين.
ُ
كّمْ َََ ُ ْ َ َْ َ ً َ ُ َُ ََ َ ََ ُ ْ َ َِْ َ ْ َ ْ ُ ْ ََ َ
اْلنسان كفورا) -انتبه(-أفأ ِمنتّم أن ُي ِسف ِب ﴿فلما ناكّم إَِل الْب أعرضتّم وَكن ِ
ْب﴾ ،اآلن وطئت أقدامكم الرب وأحسستم بالسالمة والنجاة من كربات وشدة البحر ب الْ َ ِ
َجان َ
ِ
ورجعتم إلى الشرك ،هل عندما رجعتم إلى الشرك بعد أن وطئت أقدامكم الرب ،وأحسستم
بالسالمة ،هل أمنتم أن يخسف اهلل بكم جانب الرب؟ هل تأمنون من ذلك؟ إذن لماذا تعودون إلى
َْ ُْ َ َ َْ ُ
ك ّْم َ
اصبًا﴾ ،هل تأمنون من ذلك؟
ِ ح الشرك؟ أمر آخر﴿ :أو ير ِسل علي
أي وأنتم يف الرب فيه احتمالين؛ األول :أن يخسف اهلل بكم جانب الرب ،األرض التي تحتكم
تنخسف ،وتسقطون يف هوة من األرض ال يعلم مداها إال اهلل ،وتنطبق عليكم األرض ،وال هيرى
ْ
لكم أثر وال شيء ،اهلل قادر على كل شيء ،وقد أخرب أنه عاقب من عاقب بشيء من ذلك ﴿ َو ِمن ُه ّْم
األ ْر َض﴾ ،هل تأمنون من ذلك؟ هذا جانب .جانب آخر أو احتمال آخر﴿ :أَوْ َْ َ َْ
َم ْن خ َسفنا ِب ِه
اصبًا﴾ أي وأنتم يف الرب هل تأمنون أن اهلل َع ّز َو َج ّل يبعث ريح شديدة قوية ُْ َ َ َْ ُ ْ َ
ير ِسل عليكّم ح ِ
تحمل الحصباء فيهلككم وأنتم يف الرب؟ هذا احتمال ثاين ضعوه يف بالكم .أيضا احتمال ثالث ذكره
َُْ َ َ َْ ُ ْ َ ً َ َ ًَ ُ ْ كْ َْ َ ُْ َ ُ َ ُ
اصفا
ِ ق ّم ك يلع ل س
ِ ري ف ( - البحر يف أي- ) ىر خ أ ةار ت هيف
ِ ِ ّم اهلل َع ّز َو َج ّل﴿ :أم أ ِمنتّم أن ي ِعيد
َ َ ُ ِ َ ِ َ ْ َ ُ
غح فيُغ ِرقكّم بِ َما كف ْرت ّْم﴾ . من الر ِ
هذه احتماالت ثالث ذكرها اهلل لهم:
-هيحتمل أن تأتيكم العقوبة يف الرب خسفا.
-و هيحتمل أن تأتيكم العقوبة يف الرب ريحا عاصفة تحمل الحصباء هتلككم.
-ويحتمل أن يعيدكم اهلل َع ّز َو َج ّل فيما بعد إلى البحر يف حاجة من حاجاتكم وطلب من
طلباتكم ويرسل عليكم وأنتم يف البحر خاسفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم.
إذن من هت خلصون له يف الشدة وتشركون معه يف الرخاء حقه والواجب عليكم أن تكونوا
همخلصين له يف الرخاء والشدة ،ألنكم لستم يف َأ َمنة من عقوبته ونقمته ،ال يف الرب وال يف البحر.
فكان المشركون األه ّول يشركون يف الرخاء ويخلصون يف الشدة.
وعرضت لذهني اآلن أن أحد المشركين كان سبب دخوله يف اإلسالم والتحاقه بالنبي َع َل ْيه
الس َال ْم هو مثل هذه القصة؛ كانوا يف البحر وأدركهم الغرق وعاينوا الموت فأخلص
الص َال هة َو ّ
ّ
الناس يف ذلك الموقف هلل فقال -وهو عكرمة بن أبي جهل :-لئن كان ال يخ ّلصني من هذا الكرب
علي لئن كتب اهلل لي نجاة ّ
يف هذا المكان إال اهلل فال يخلصني منه يف الرب إال اهلل ،ثم قال :ح ّق ّ
ألذهبن إلى محمد و ألبايعنّه على اإلسالم ،نجاه اهلل وفعل ذلك وأسلم ،فكانت هذه عظة له
وعربة يف دخوله يف اإلسالم ورجوعه للدين.
إذن أولئك كانوا يشركون يف الرخاء ويخلصون يف الشدة ،ويقول المصنف -رحمه اهلل -أما
المشركون يف زماننا فحالهم أهنم يشركون يف الرخاء ويف الشدة .ما معنى يشركون يف الشدة؟ أي أن
حالهم عندما يركبون يف الفلك ويعاي نون شدة الغرق ومقاربة الموت يفزعون إلى المعبودات التي
تعلقت قلوهبم هبا ،ففي مثل هذه الحال تراهم يقولون :مدَ د يا فالن ،أدركنا يا فالن ،إن لم تلحقنا
يف هذا من يلحقنا؟ إن لم تنقذنا من هذا الغرق ،من الذي ينقذنا؟ يخاطبون أموات! يخاطبون
مقبورين! أنا عائذ بك ،أنا ملتجئ إليك ،أنا يف جنابك ...الخ ،يف الشدة يفعلون ذلك ،وهذا شرك
ما كان المشركون يفعلونه يف حال الشدة ،يف الشدة كانوا يخلصون.
قرأت يف بعض الكتب أن جماعة كانوا يف سفينة وأدركهم الغرق ،فأخذ كل يهتف بمعبوده:
مدد يا فالن ،ألحقنا يا شيخ فالن ،أدركنا يا فالن ..وينادونّ ،
كل ينادي شيخه أو معبوده .فكان
فيهم رجل على الفطرة ،رجل مسن ،التفت فإذا كل من على السفينة ال ينادون إال هذه المعبودات،
ليس فيهم من ينادي اهلل ،فمدّ يديه وقال :يارب! أغرق ..أغرق ما على السفينة من يعبدك ،كل من
على السفينة متجهين إلى غيرك.
ُ
اصبًا ث َّّم ب الْ َ ّ َ ْ ُ ْ َ َ َ ْ ُ ْ َ
ك ّْم َجان َُ َََ ُْ ْ َ ْ َْ َ
ْب أو ير ِسل عليكّم ح ِ ِ ِ ب
ِ ف ( )1القصة ذكرها الحافظ بن كثير $يف تفسير قوله تعالى﴿ :أفأ ِمنتّم أن ُي ِس
َ َ ً ُ ْ َ َ ُ ْ َ َ َ ْ ُ ْ َ ً َ ّ َ ُ ْ َ ُ ْ َ َ َ ْ ُ ْ ُ َّ َ َ ْ َ ُْ ْ َ ْ ُ َ ُ ْ ً َال َ ُ َ ُ ْ
غح فيغ ِرقكّم ِبما كفرتّم ثّم ال الر ِ
اصفا ِمن ِ َتدوا لكّم َو ِكيال ( )60أم أ ِمنتّم أن ي ِعيدكّم ِفي ِه تارة أخرى فري ِسل عليكّم ق ِ ِ
يعا (.﴾)65 ََت ُدوا لك ّْم َعليْنَا به تب ً
َ َ ُ َ
ِِ ِ ِ
للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ 74
قد تتساءل -أيها األخ الكريم -تقول :لماذا هؤالء يشركون يف الرخاء ويف الشدة؟ ما السبب؟
يأتيك سؤال :لماذا هؤالء يشركون يف الرخاء ويف الشدة؟
أقول لك إن من وراء ذلك أئمة الضالل وشيوخ الباطل؛ أئمة الضالل وشيوخ الباطل غرسوا
أدركت
َ يف نفوس هؤالء التعلق هبم وقالوا لهم -كما هو واضح يف كتب هؤالء -قالوا لهم :إذا
وعاينت الشدة يف أي مكان تكون اهتف باسمي ،اهتف باسمي سرتاين بجنبك آخذ بيدك،
َ الكربة
حتى بعد مويت ال تنسوا ،حتى بعد مويت تنادي باسمي أخرج إليك وآخذ بيدك .كتب هؤالء
يعددون من كراماهتم ،يقولون أنه من كراماهتم أنه كان ينقذ السفن يف البحر من الغرق ،ينادون
باسمه فينقذ السفن يف البحر .حتى يف أحد الكتب المشهورة يف بيان طبقات هؤالء -شيوخ
الضالل -ذكروا أن واحدا منهم -يعددون شيئا من كراماته -أنه كان -والعياذ باهلل -يمسك
و هيطلب أن هتمسك له الحمارة ليمارس معها الممارسة الباطلة ،ثم بعضهم قال له يف ذلك لماذا
رتقت هبذا العمل خرق سفينة كان يغرق أهلها يف البحر .والعوام
ه هذه الممارسة؟ قال :هذه كرامة،
يسمعون مثل هذه القصص ويصدقوهنا وترسخ يف قلوهبم ،ثم إذا ركبوا يف الفلك يغلظ شركهم
على شرك المشركين األه ّول ،فتجده إلى أن يغرق ،إلى أن يموت ،وهو ينادي شيخه ويهتف باسم
شيخه إلى أن يغرق -والعياذ باهلل -على الشرك باهلل -نسأل اهلل العافية والسالمة .-واهلل إهنا حال
مؤلمة جدا ومؤسفة ،تجد المسكين يغرق ويموت وهو يهتف باسم شيخه إلى أن تفارق روحه
الحياة وهو ال يزال يظن أن شيخه اآلن يأيت ،اآلن يدركه ،اآلن ينقذه ،وهو ينادي باسمه ...ينادي
باسمه إلى أن يغرق ،ال يقول يا اهلل ،يموت مشركا ،ال يعبد اهلل وال يخلص هلل حتى يف شدته.
فذكر -رحمة اهلل عليه -أن شرك المشركين أغلظ من شرك أولئك ،من جهة أن أولئك كانوا
يشركون يف الرخاء وال يشركون يف الشدة ،وأن هؤالء يشركون يف الرخاء -والعياذ باهلل -ويف
الشدة ،شركا أغلظ من شرك المشركين األوائل.
75 شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ
فنسأل اهلل َع ّز َو َج ّل أن يجزي هذا اإلمام خير الجزاء على هذا النصح العظيم ،والبيان الموفق
واإليضاح للتوحيد والتحذير من الشرك الذي كان هو شغله الشاغل -رحمة اهلل عليه -يف حياته،
فنفع اهلل َع ّز َو َج ّل بدعوته نفعا عظيما ،وال يزال الناس مع مر األيام يستفيدون من هذه الدعوة،
ويستفيدون من هذا النصح ،ويستفيدون من هذه اآليات والحجج والب ّيانات التي جمعها -رحمه
اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى -فأفاد من ذلك خلق ،واهتدى خلق كتب اهلل َع ّز َو َج ّل لهم الهداية.
معرفا بكتاب
( )1يقول الشيخ عبد المحسن الع ّباد -حفظه اهلل -يف كتابه« :منهج شيخ اإلسالم محمد بن عبد الوهاب يف التأليف»ّ ،
الشبهات التي ذكَ رها أهل البدع ،همل ّبسين هبا على
ورد فيه ُ
«كشف الشبهات»(( :اسم الكتاب مطابق لموضوعه؛ فالشيخ $أ َ
والصراط المستقيم ،ومخالفين فيها لما كان عليه سلف هذه األمة من الصحابة ومن سار على نَهجهم ،وذلك
الحق ّ
الدعوة إلى ّ
والصالحين ،وجعلهم وسائط بينهم وبين اهلل ،يدعوهنم ويستغيثون هبم ،فجمع الشيخ :جمال كبيرة من هذه=
بتعلقهم باألولياء ّ
األمة .وكتابه هذا ّ
مستدال على ذلك بنصوص الكتاب والسنة وما كان عليه سلف ّ الشبه ،فيذكر ُ
الشبهة ثم يذكر الجواب عليها، ُ
متمم لكتبه األخرى يف العقيدة ،التي أ وضح فيها ما يجب اعتقاده وفقا لنصوص الكتاب والسنة ،فإنه هبذا الكتاب أجاب على ما
ّ
األمة)) اهـ.
للحق والهدى الذي كان عليه سلف هذه ّ
ّ يورد على العقيدة الصحيحة من شبهات ،همب ّينا بطالهنا ومخالفتها
للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ 76
فيأيت خائف ويسد أذنيه ويحذر غاية الحذر ،ألنه ال يمكن أن يسمع لشخص ال يصلي على النبي -
اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم.-
َص ّلى ه
اهلل َع َلى هم َح ّمد َوآله َو َص ْحبه
ختم -رحمه اهلل -هذه الرسالة المباركة بقولهَ « :ت ّم ْت َو َص ّلى ه
َو َس ّل ْم».
فجزاه اهلل خيرا على ما قدّ م وأعلى درجاته ورفع موازينه يف عليين ،وجمعنا به أجمعين
وبالصالحين من عباده وبأنبيائه وأوليائه يف جنات النعيم ،وهدانا صراطه المستقيم ،وأصلح لنا
جميعا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا جميعا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي
فيها معادنا ،ونسأله َع ّز َو َج ّل أن يجعل الحياة زيادة لنا يف كل خير والموت راحة لنا من كل شر،
وأن يغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات األحياء منهم واألموات.
وأختم بتذكير بأمر سبق أن ذكرت به ،أال وهو :أن الهدية نافعة جدا ،وهي من أعظم أسباب
جلب المحبة والمودة ،وكثير من الحجاج يحرصون جدّ ا على أمر الهدية.
فأنبه الجميع :ال تنسى وأنت تحرص على شراء الهدايا أن تشرتي لقرابتك أثمن هدية ،أال
وهي كتب التوحيد ،التي هتع ّلم الناس التوحيد الذي هخلقوا ألجله و هأوجدوا لتحقيقه.
أسأل اهلل أن يهدينا وأن يهدي بنا وأن يهدي لنا ،وأن يجعلنا من عباده المهتدين.
اهلل َو َس ّل ْم َع َلى َنب ّينَا هم َح ّمدْ َو َع َلى آله َو َص ْحبه َأ ْج َمعي ْن.
وص ّلى ه
َ
77 شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ
الفـهــــــــرس:
املـقدمـــة
القـاعــــــدة األولــــــى
القـاعــــــدة الثــــــانـية
القـاعــــــدة الثــــــالـثة
القـاعــــــدة الرابــــعة