You are on page 1of 79

‫‪3‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫املقـدمــة‪:‬‬
‫‪¢‬‬
‫إن الحمد هلل نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه‪ ،‬ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا وسيئات‬
‫أعمالنا‪ ،‬من يهده اهلل فال مضل له‪ ،‬ومن يضلل فال هادي له‪ .‬وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال‬
‫اهلل َو َس ّل ْم َع َل ْيه َو َع َلى آله َو َص ْحبه َأ ْج َمعين‪.‬‬
‫شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدا عبده ورسوله َص ّلى ه‬
‫نعم ‪:‬‬

‫املتـن‪ - :‬املقدمـة ‪-‬‬


‫الرحيم‬
‫الر ْح َمن ّ‬
‫ب ْسم اهلل ّ‬
‫يم َر ّب ا ْل َع ْرش ا ْل َعظيم َأ ْن َيت ََو ّال َك في الدُ ْن َيا َواآلخ َرة‪َ ،‬و َأ ْن َي ْج َع َل َك‬ ‫َأ ْس َأ هل َ‬
‫اهلل ا ْل َكر َ‬
‫اس َت ْغ َف َر‪.‬‬ ‫هم َب َاركا َأ ْين ََما هكن َْت‪َ ،‬و َأ ْن َي ْج َع َل َك م ّم ْن إ َذا هأ ْعط َي َش َك َر‪َ ،‬وإ َذا ا ْب هتل َي َص َب َر‪َ ،‬وإ َذا أ َذ َ‬
‫نب ْ‬
‫الس َعا َدة‪.‬‬
‫ان ّ‬‫الث هعن َْو ه‬
‫َفإ ّن َه هؤالء ال ّث َ‬

‫الشــرح‪:‬‬

‫اإلمام شيخ اإلسالم محمد بن عبد الوهاب ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬كان ناصحا للناس أعظم‬
‫نصيحة يف بيان التوحيد الذي هخلقوا ألجله و هأوجدوا لتحقيقه‪ ،‬والتحذير من الشرك باهلل َع ّز َو َج ّل‬
‫حرمات‪.‬‬
‫الم ّ‬
‫الذي هو أعظم اآلثام وأكرب ه‬
‫وتنوعت مصنفاته ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬يف بيان التوحيد وتقريره والتحذير من الشرك‬
‫وإبطاله‪ ،‬وبيان فساده وبطالن هشبه أهله‪ ،‬فأ ّلف يف ذلك مؤلفات كثيرة هنصحا لألمة وبيانا للناس‬
‫وإعذارا وإنذارا‪ ،‬فكان ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬ناصحا معلما مرب ّيا موجها متمسكا بكتاب اهلل َج ّل َو َع َال وسنة‬
‫ت اهلل َو َس َال هم هه َع َل ْيه‪.-‬‬
‫رسوله ‪َ -‬ص َل َوا ه‬
‫وكان ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬يف بياناته وتقريراته للتوحيد والسنة ينطلق يف ذلك كله من كتاب اهلل َج ّل‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم‪ ،‬سائرا يف ذلك على َسنَن الصحابة الكرام وتابعيهم‬
‫َو َع َال وسنة رسوله َص ّلى ه‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪4‬‬

‫بإحسان‪ ،‬فهو ماض على الطريق‪ ،‬على األثر يف االقتفاء واإلتباع لكتاب اهلل َج ّل َو َع َال وسنة رسوله‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم‪.‬‬
‫َص ّلى ه‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم‪.‬‬
‫ولهذا كانت كتبه كلها قائمة على الدليل؛ قال اهلل‪ ،‬قال رسوله َص ّلى ه‬
‫ال يأيت بشيء من قبل نفسه أو هينشئ أمرا تكلفا من عنده‪ ،‬حاشاه وحاشا أئمة المسلمين‬
‫وعلماء السنة أن يكونوا كذلك‪ ،‬بل كان ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬يف تقريراته وتأصيالته وتقعيداته منطلقا يف‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم‪.‬‬
‫ذلك كله من كتاب اهلل َج ّل َو َع َال وسنة رسوله َص ّلى ه‬
‫وقد تنوعت مصنفاته ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬يف بيان التوحيد وتقريره والتأصيل له وجمع‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم‪.‬‬
‫الشواهد والدالئل عليه من كتاب اهلل َج ّل َو َع َال وسنة نبيه َص ّلى ه‬
‫وكان من عنايته ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬هبذا الباب العظيم هذه الرسالة الصغيرة الحجم الكبيرة‬
‫الفائدة‪ ،‬التي ال يستغني عنها كل مسلم‪ ،‬فهي بحق رسالة عظيمة و هكت ّيب ق ّيم يف باب هو أعظم‬
‫األبواب‪ ،‬وقد جمع ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬يف هذه الرسالة قواعد أربعة وذكر أدلتها من كتاب اهلل َع ّز َو َج ّل‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم‪ ،‬فكان َمن َضبط هذه القواعد وفهمها ال يلتبس عليه األمر وال تشتبه‬
‫وسنة نبيه َص ّلى ه‬
‫عليه األمور وال تنطلي عليه أضاليل أهل الضالل وأباطيل أهل الباطل‪.‬‬
‫فهي قواعد أربعة كبار عظيمة ال غنى ألي مسلم عنها يف باب معرفة التوحيد والشرك‪،‬‬
‫والتمييز بين الحق الذي هو التوحيد والباطل الذي هو الشرك‪.‬‬
‫ملحة والسيما يف مثل هذه األزمة‬
‫وأصبح معرفة التمييز بين التوحيد والشرك ضرورة ّ‬
‫المتأخرة التي هل ّبس على كثير من الناس يف مفهوم التوحيد‪ ،‬و هأدخلت عليهم صورا من الشرك‬
‫وأبوابا منه على أهنا ليست مضادة للتوحيد وال منافية له‪.‬‬
‫فمن أعظم الضرورات وأشد الحاجات التي ينبغي على كل مسلم ومسلمة أن هيعني هبا‪ :‬أن‬
‫يعرف هذه القواعد العظيمة األربعة الكبار التي قررها ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬ليميز هبا المسلم بين‬
‫الشرك والتوحيد‪ ،‬وحتى يكون المسلم على بصيرة يف دينه وعلى ب ّينة من أمره وعلى نور من كتاب‬
‫اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى وسنة نبيه ‪َ -‬ص ّل َو ه‬
‫ات اهلل َو َس َال هم هه َع َل ْيه‪.-‬‬
‫‪5‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫وقد بدأ ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬هذه الرسالة كعادته يف كتبه عموما ورسائله بالدعاء لمن يطلع‬
‫على كتابه ويقرأ رسالته‪ ،‬ويدعو ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬بدعوات عظيمة؛ دعوات جامعة تجمع للمسلم‬
‫خيري الدنيا واآلخرة‪ .‬وهذا كذلك من نصحه ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬ومن شفقته على الناس عموما‬
‫ليتبصروا يف دينهم‪ ،‬وليعرفوا الحق الذي هخلقوا ألجله و هأوجدوا لتحقيقه‪ ،‬وليكونوا على حذر من‬
‫ّ‬
‫الضالل والباطل‪.‬‬

‫الرحيم » وهذه كلمة هيبدأ هبا يف‬


‫الر ْح َمن ّ‬
‫بدأ هذه الرسالة (القواعد األربعة) بقوله‪ « :‬ب ْسم اهلل ّ‬
‫الدروس والمقاالت والكتب‪ ،‬وهي مفتاح هيبدأ به طلبا لعون اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى وتوفيقه وتسديده‪.‬‬
‫الرحيم » هذه كلمة استعانة؛ تبدأ كالمك أو كتابك أو دخولك‬
‫الر ْح َمن ّ‬
‫فقولك‪ « :‬ب ْسم اهلل ّ‬
‫أو خروجك أو غير ذلك مما بسملت ألجله‪ ،‬تبدؤه بالبسملة طالبا بذلك عون اهلل َج ّل َو َع َال‪ ،‬ولهذا‬
‫قال العلماء ‪-‬رحمهم اهلل‪ :-‬الباء يف (ب ْسم اهلل) باء االستعانة؛ أي‪ :‬أبدأ مستعينا باهلل‪ ،‬طالبا عونه‬
‫َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ ،‬متمنيا وطالبا الربكة بذكر اسمه َج ّل َو َع َال‪.‬‬
‫وقولك‪( :‬بسم اهلل) الجار والمجرور هنا متعلق بمحذوف مقدّ ر‪ ،‬يقدّ ر له فعل بحسب حال‬
‫الفاعل‪ ،‬إن كان خروجا فيقدر‪ :‬أخرج باسم اهلل‪ ،‬وإن كان دخوال‪ :‬أدخل بسم اهلل‪ ،‬وإن كان كتابة‪:‬‬
‫أكتب بسم اهلل‪ ،‬وإن كان قراءة‪ :‬أقرأ بسم اهلل‪ .‬ففي (بسم اهلل) الجار والمجرور متعلق بمحذوف‬
‫مقدّ ر هيقدر بحسب حال الفاعل‪.‬‬
‫الرحيم » اجتمعت ثالث أسماء‬
‫الر ْح َمن ّ‬
‫الرحيم »‪ ،‬ويف « ب ْسم اهلل ّ‬
‫الر ْح َمن ّ‬
‫قال‪ « :‬ب ْسم اهلل ّ‬
‫حسنى هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪:‬‬
‫أولها اسمه َت َب َار َك َو َت َعا َلى (اهلل)‪ :‬ومعناه كما قال ابن عباس َر َض َي ال هله َعنْ هه َما‪" :‬اهلل‪ :‬ذو‬
‫األلوهية‪ ،‬والعبودية على خلقه أجمعين" ‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه الطربي من طريق بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال السيوطي و بشر ضعيف و الضحاك لم‬
‫جل ثناؤه هه َو َت َقدّ َس ْت َأ ْس َماؤه هه‪ :‬اهلل‪.‬‬
‫يسمع من بن عباس‪ .‬كتاب‪ :‬جامع البيان عن تأويل آي القرآن‪ ،‬باب‪ :‬القول يف تأويل قول اهلل ّ‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪6‬‬

‫فاسمه َت َب َار َك َو َت َعا َلى (اهلل) يدل على أوصاف الكمال ونعوت الجالل وأوصاف العظمة‪،‬‬
‫التي استحق هبا ‪َ -‬ت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ -‬أن هيؤله وأن هيعبد وأن هيخضع له و هيذل ‪َ -‬ج ّل َو َع َال‪. -‬‬
‫ودال أيضا على العبودية التي هي وصف العبد‪ ،‬وأن الواجب على العبد أن يكون عبدا‬
‫لإلله‪ ،‬ذليال له‪ ،‬خاضعا لجنابه‪ ،‬منكسرا بين يديه‪ ،‬قائما بطاعته وأمره ‪َ -‬ج ّل َو َع َال‪ ،-‬محققا العبودية‬
‫التي هخلق ألجلها و هأوجد لتحقيقها‪.‬‬
‫الن على ثبوت الرحمة صفة هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى؛ واسمه ‪َ -‬ج ّل‬
‫الرحيم)‪ :‬اسمان دا ّ‬
‫الر ْح َمن ّ‬
‫و( ّ‬
‫الر ْح َمن) يدل على صفة الرحمة القائمة به سبحانه‪.‬‬
‫َو َع َال‪ّ ( -‬‬
‫واسمه (الرحيم)‪ :‬دال على تعلقها بالمرحومين‪ .‬كما قال ‪-‬ج ّل وع َال‪َ ﴿ :-‬و ََك َن بال ْ ُم ْؤمن َ‬
‫ني‬ ‫ِ ِِ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ّ‬
‫َرح ً‬
‫يما﴾ ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫فهذه أسماء ثالثة عظيمة جاءت يف البسملة‪ ،‬وبدأ هبا ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬مؤ ّلفه تأس ّيا بكتاب‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم يف همكاتباته و همراسالته ‪َ -‬ص َل َو ه‬
‫ات اهلل َو َس َال همه‬ ‫اهلل َج ّل َو َع َال‪ ،‬وتأس ّيا بنبينا َص ّلى ه‬
‫َع َل ْيه‪ ،-‬وتأس ّيا بأئمة المسلمين وعلماء اإلسالم يف أول الزمان وآخره‪.‬‬

‫يم َر ّب ا ْل َع ْرش ا ْل َعظيم َأ ْن َيت ََو ّال َك في الدُ ْن َيا َواآلخ َرة »؛‬ ‫قال « َأ ْس َأ هل َ‬
‫اهلل ا ْل َكر َ‬
‫(أسأل اهلل الكريم) أي‪ :‬أطلب منه َج ّل َو َع َال‪.‬‬
‫(الكريم)‪ :‬اسم من أسماء اهلل ‪َ -‬ج ّل َو َع َال‪ -‬وهو دال على صفة الكرم؛ وهذه الصفة تعني‬
‫اجتماع صفات الخير وكوامل الصفات وجوامع النعوت‪ .‬ولهذا؛ فإن هذا االسم من األسماء التي‬
‫تدل على أوصاف عظيمة ال على معنى مفرد‪ ،‬من األسماء الدالة على أوصاف عظيمة ونعوت‬
‫جليلة كثيرة‪ ،‬ثابتة للرب الكريم ‪ -‬هس ْب َحا َن هه َو َت َعالى‪.-‬‬
‫يم َر ّب ا ْل َع ْرش ا ْل َعظيم»؛ (رب العرش العظيم)‪ :‬ذكر هنا ربوبية اهلل‬ ‫قال‪َ « :‬أ ْس َأ هل َ‬
‫اهلل ا ْل َكر َ‬
‫هس ْب َحا َن هه َو َت َعالى‪ ،‬والربوبية‪ :‬هي ه‬
‫الملك والخلق والتصرف والتدبير يف هذه الكائنات‪.‬‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 34 :‬من سورة األحزاب‪.‬‬


‫‪7‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫وخص بالذكر هنا العرش ‪-‬ربوبية اهلل هس ْب َحا َن هه َو َت َعالى للعرش‪ -‬ألنه أعظم المخلوقات‬
‫وأكربها‪ ،‬واهلل هسبْ َحا َن هه َو َت َعالى وصف عرشه يف القرآن الكريم بالعظمة والكرم والمجد‪ ،‬وجاءت‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم‪ ،‬فذكر المصنف ‪-‬رحمه اهلل‬
‫أيضا أوصاف كثيرة له يف سنة النبي الكريم َص ّلى ه‬
‫تعالى‪ -‬هنا ربوبية اهلل َج ّل َو َع َال للعرش‪ ،‬و ّ‬
‫خصه بالذكر ألنه أكرب المخلوقات وأعظمها‪.‬‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم ذكر ربوبية اهلل‬
‫ويأيت يف بعض األذكار والدعوات الثابتة عن النبي َص ّلى ه‬
‫الس َالم بالذكر‪ ،‬كما يف الذكر الذي يقال عند الكرب "ال إله إال اهلل‬ ‫ويخصه َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬ ‫ُ‬ ‫للعرش‪،‬‬
‫العظيم ال إله إال اهلل رب العرش الكريم" ‪ ،‬وكما أيضا يف الدعاء الذي يقال عند النوم‪" :‬اللهم رب‬
‫السماوات السبع‪ ،‬ورب األرض‪ ،‬ورب العرش العظيم‪ ،‬ربنا ورب كل شيء ومليكه‪ ،‬فالق الحب‬
‫والنوى‪ ،‬منزل التوراة والقرآن واإلنجيل‪ "...‬إلى آخر الدعاء‪ ،‬فيأيت مثل ذلك يف دعوات النبي‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم‪.‬‬
‫الكريم َص ّلى ه‬
‫والعرش مخلوق من مخلوقات اهلل ‪ -‬هس ْب َحا َن هه َو َت َعالى‪ -‬العظيمة‪ ،‬وهو أكرب المخلوقات‬
‫الس َالم يف تسبيحه هلل أن يذكر أثقل األوزان ذكر العرش‪،‬‬ ‫وأعظمها‪ .‬ولهذا لما أراد َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم زنة العرش ألن‬
‫قال‪" :‬سبحان اهلل وبحمده عدد خلقه وزنة عرشه" ‪ ،‬ذكر َص ّلى ه‬
‫العرش أثقل المخلوقات وأكربها وأعظمها‪ ،‬والعرش مخلوق هلل َج ّل َو َع َال‪ ،‬خلقه هس ْب َحا َن هه‪،‬‬

‫وأوجده من العدم‪ ،‬وشاء َج ّل َو َع َال أن يستوي عليه‪ ،‬أي يعلو ويرتفع عليه ّ‬
‫علوا وارتفاعا يليق‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري (‪ ،)6436( )1347‬ومسلم (‪ ،)0142‬من حديث عبداهلل بن عباس‪.‬‬


‫(‪ )2‬رواه مسلم (‪.)0203 /3‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم (‪.)0106‬‬
‫قال ابن القيم ‪ $‬يف «المنار المنيف يف الصحيح والضعيف» (ص‪(( :)41:‬وقوله ‪" :‬وزنة عرشه" فيه إثبات للعرش‪ ،‬وإضافته‬
‫إلى الرب هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى‪ ،‬وأنه أثقل المخلوقات على اإلطالق؛ إذ لو كان شيء أثقل منه هلوزن به التسبيح‪ ،‬وهذا َي هر ُد على من يقول‬
‫إن العرش ليس بثقيل وال خفيف‪ ،‬وهذا لم يعرف العرش وال َقدّ َر هه حق قدره)) اهـ‪.‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪8‬‬

‫بجالله وكماله وعظمته سبحانه‪ .‬كما أخرب بذلك عن نفسه يف كتابه يف مواضع من القرآن يف قوله‬
‫لَع الْ َع ْرش ْ‬
‫استَ َوى﴾ ‪.‬‬
‫َ َْ ُ ََ‬ ‫َ ْ‬ ‫ج ّل وع َال‪ُ ﴿ :‬ث َّم ْ‬
‫استَ َوى َلَع ال َع ْر ِش﴾ ‪ ،‬وقوله َج ّل َو َع َال‪﴿ :‬الرْحن‬
‫ِ‬ ‫َ َ َ‬

‫وكم هو جميل للمؤمن يف دعائه هلل ‪َ -‬ج ّل َو َع َال‪ -‬ومناجاته له‪ ،‬أن يذكر عظمة ربه ‪َ -‬ج ّل‬
‫َو َع َال‪ -‬وكماله وكربياءه‪ ،‬وعندما تناجي اهلل َع ّز َو َج ّل وتدعوه متذكرا ربوبيته والسيما ربوبيته ‪َ -‬ج ّل‬
‫َو َع َال‪ -‬للعرش العظيم‪ ،‬وتذكر عظمة هذا المخلوق وك َبره وضآلة المخلوقات األخرى بالنسبة‬
‫إليه‪ ،‬مما هيعينك على ذكر عظمة اهلل ‪َ -‬ج ّل َو َع َال‪ -‬وكربيائه‪.‬‬

‫وأن هذا الكون الذي تحت العرش ودون العرش كله مسخر ومد ّبر هلل َج ّل َو َع َال‪ّ ،‬‬
‫يصرفه‬
‫كيف يشاء ويقضي فيه بما يريد‪ ،‬ال را ّد لحكمه‪ ،‬وال معقب لقضائه‪ ،‬وهو هس ْب َحا َن هه َو َت َعالى فوق‬
‫علي عليه‪ ،‬يقضي بما يشاء ويحكم بما يريد‪ ،‬ال راد لحكمه وال معقب لقضائه‪ ،‬كل‬
‫عرشه المجيد‪ّ ،‬‬
‫يوم هو يف شأن‪ ،‬هيحي و هيميت‪ ،‬و هيعز و هيذل‪ ،‬و هيغني و هيقني‪ ،‬و هيضحك و هيبكي‪ ،‬و هيصح و هيمرض‪ ..‬إلى‬
‫غير ذلك من األمور التي هي تصريفه وتدبيره لمملكته َج ّل َو َع َال‪ ،‬ال شريك له يف التدبير وال‬
‫والحكم هحكمه ‪َ -‬ج ّل َو َع َال‪.-‬‬
‫شريك له يف التسخير والقضاء‪ ،‬األمر أمره‪ ،‬والقضاء قضاؤه‪ ،‬ه‬
‫فيذكر العبد عظمة اهلل وجالله وكماله وربوبيته‪ ،‬ويجعل ذلك وسيلة له إلى اهلل َج ّل َو َع َال‬
‫بين يدي دعائه يف مناجاته هلل‪ ،‬ومناداته له ‪َ -‬ج ّل َو َع َال‪.-‬‬
‫يم َر ّب ا ْل َع ْرش ا ْل َعظيم »‪.‬‬ ‫ولهذا قال ‪-‬رحمه اهلل‪َ « :-‬أ ْس َأ هل َ‬
‫اهلل ا ْل َكر َ‬
‫َيحتمل قوله‪( :‬العظيم) أن المراد بالعظيم صفة هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ ،‬و َيحتمل أن يكون صفة‬
‫للعرش‪ ،‬وكل منهما حق؛ فاهلل هس ْب َحا َن هه َو َت َعالى‪( :‬العظيم)‪ ،‬ومن أسمائه الحسنى َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪:‬‬
‫ْ‬
‫﴿و ُه َو ال َع ُ‬
‫يِل‬ ‫(العظيم)‪ ،‬وقد هختمت أعظم آية يف القرآن الكريم وهي آية الكرسي هبذا االسم َ‬
‫ِ‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 43 :‬من سورة األعراف‪ ،‬السجدة‪ ،3:‬الفرقان‪ ،45:‬الرعد‪ ،0:‬يونس‪.4:‬‬
‫(‪ )2‬اآلية رقم‪ 4 :‬من سورة طه‪.‬‬
‫‪9‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫الْ َعظ ُ‬
‫يّم﴾ ‪ ،‬فالعظيم اسم من أسماء اهلل‪ ،‬والعظيم أيضا صفة من صفات العرش‪ ،‬فيحتمل هذا‬ ‫ِ‬
‫ويحتمل ذاك‪.‬‬
‫يم َر ّب ا ْل َع ْرش ا ْل َعظيم»‪ :‬يكون العظيم صفة هلل َج ّل َو َع َال‪.‬‬ ‫« َأ ْس َأ هل َ‬
‫اهلل ا ْل َكر َ‬
‫يم َر ّب ا ْل َع ْرش ا ْل َعظيم»‪ :‬يكون العظيم هبذا صفة للعرش‪.‬‬ ‫و « َأ ْس َأ هل َ‬
‫اهلل ا ْل َكر َ‬

‫قال‪َ « :‬أ ْن َيت ََو ّال َك في الدُ ْن َيا َواآلخ َرة » هذا هو المطلوب وما قبله وسيلة بين يديه‪ .‬المطلوب‬
‫قال‪َ « :‬أ ْن َيت ََو ّال َك في الدُ ْن َيا َواآلخ َرة »‪ ،‬أي أن يكون ول ّيا لك‪ ،‬يف دنياك وأخراك‪ ،‬قال اهلل تعالى‪:‬‬
‫ات إ ََل اّنلُ‬ ‫َُ َ ُ َ َ َُ ُْ ُ ُ ْ َ ُ‬
‫الظلُ َ‬
‫ور﴾ ؛‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫اَّلين آمنوا ُي ِرجهّم ِمن‬
‫﴿اَّلل و ِيِل ِ‬
‫يتوالك يف الدنيا‪ :‬أي بحفظه وتوفيقه وتسديده وعونه لك على طاعته وإخراجه لك من‬
‫الظلمات إلى النور‪ ،‬وتبصيرك يف دينك و يف الحق الذي هخلقت ألجله وأ هوجدت لتحقيقه‪ ،‬وأن‬
‫هيث ّبتك على هذا الحق‪ ،‬وأن يعيذك من الضالل وسبل الغواية‪ ،‬كل ذلك يتناوله قوله‪َ « :‬أ ْن َيت ََو ّال َك‬
‫في الدُ ْن َيا»؛ فتولي اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى لعبده يف الدنيا بحفظه يف هذه الدنيا من مضالت الفتن وتثبيته‬
‫لعبده على االستقامة والحق والهدى وعلى صراط اهلل المستقيم إلى أن يتوفاه َت َب َار َك َو َت َعا َلى وهو‬
‫عنه راض‪.‬‬
‫قال‪َ « :‬واآلخ َرة »؛ وتولي اهلل َتبَ َار َك َو َت َعا َلى لعبده يف اآلخرة‪ :‬يكون بحفظه من أهوالها‬
‫وشدائدها‪ ،‬ويكون بإنقاذه وإنجائه من النار ومن دخولها‪ ،‬وتوفيقه له بدخول الجنة والفوز بنعيمها‪،‬‬
‫وأجل منة وهي أن يرى اهلل َتبَ َار َك َو َت َعا َلى؛ وهي أكرب النعم‬
‫ّ‬ ‫وأن يكرمه َت َب َار َك َو َت َعا َلى بأعظم نعمة‬
‫وأعظم المنن‪.‬‬
‫فكل ذلك داخل يف قوله ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪َ « :-‬واآلخ َرة »‪ ،‬أي أن يتوالك َت َب َار َك َو َت َعا َلى يف‬
‫اآلخرة؛ بأن يكون ول ّيا لك‪ ،‬بالحفظ والتوفيق والتسديد والعون‪ ..‬إلى غير ذلك‪.‬‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪044 :‬من سورة البقرة‪.‬‬


‫(‪ )2‬اآلية رقم‪ 041 :‬من سورة البقرة‪.‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪01‬‬

‫قال‪َ « :‬و َأ ْن َي ْج َع َل َك هم َب َاركا َأ ْين ََما هكن َْت»؛ وهذه دعوة من أعظم الدعوات وأج ّلها وأفخمها‬
‫ُ‬ ‫َ َ َ َ ُ َ ًَ َْ َ َ ُ‬
‫وأكربها‪ ،‬قد قال اهلل تعالى يف ذكر نبيه عيسى‪﴿ :‬وجعل ِِن مبارَك أين ما كنت﴾ ‪ ،‬وال يكون اإلنسان‬
‫مبار كا أينما كان إال إذا كان يف مجالسه كلها صالحا مصلحا‪ ،‬صالحا يف نفسه ليس منه شر وال أذى‬
‫وال إفساد وال نحو ذلك‪ ،‬وأن يكون مصلحا بحيث أنه يف كل مجلس من مجالسه هيسمع منه الخير‪،‬‬
‫هتسمع منه الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة والتنبيه النافع ونحو ذلك‪.‬‬
‫ولهذا ذكر ابن القيم ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬يف بعض كتبه‪ ،‬وأظن أنه ذكره يف كتابه‪« :‬الرسالة‬
‫التبوكية»‪ ،‬قال ‪":‬ال يكون العبد مباركا أينما كان إال إذا كان يف كل مجلس يجلسه يكون فيه نفع‬
‫للناس"‪ ،‬وهبذا يكون مباركا أينما كان‪ ،‬أي يف أي مكان ّ‬
‫حل ويف أي موضع نزل‪ ،‬فهو أينما كان‬
‫حل نزل‪.‬‬‫كمثل الغيث أينما ّ‬ ‫هينتفع به‪َ ،‬م َثله َ‬
‫ار ًَك أَ ْي َن َما ُك ُ‬
‫نت﴾ ‪ ،‬وهذا يتناول أن يكون العبد مباركا أيضا يف نفسه‪ ،‬يف‬ ‫﴿و َج َعلَِن ُمبَ َ‬
‫قال‪َ :‬‬
‫ِ‬
‫ماله‪ ،‬ورزقه‪ ،‬وعمله‪ ،‬وبيته‪ ،‬وحاله‪ ،‬وشؤونه‪.‬‬

‫قال‪َ « :‬و َأ ْن َي ْج َع َل َك هم َب َاركا َأ ْين ََما هكن َْت‪َ ،‬و َأ ْن َي ْج َع َل َك م ّم ْن إ َذا هأ ْعط َي َش َك َر‪َ ،‬وإ َذا ا ْب هتل َي َص َب َر‪،‬‬
‫اس َت ْغ َف َر »؛ دعا هبذه األمور الثالثة العظيمة التي جمعت الخير كله والسعادة برمتها‪.‬‬ ‫َوإ َذا أ َذ َ‬
‫نب ْ‬
‫ولهذا قال ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬يف خاتمة هذه الدعوة همب ّينا مكانتها وعظم شأهنا‪ ،‬قال‪َ « :‬فإ ّن َه هؤالء‬
‫الس َعا َدة »؛ أي أن السعادة اجتمعت يف هذه الثالث‪ ،‬فإذا هوجدت هذه األمور الثالثة‬
‫ان ّ‬‫الث هعن َْو ه‬
‫ال ّث َ‬
‫يف العبد فإن السعادة اجتمعت فيه وتحققت فيه ونالها بأعلى صورها وأهبى حللها‪.‬‬

‫والسعادة من أعظم المطالب التي يسعى الناس لتحقيقها‪ ،‬وتعقد المؤتمرات والندوات‬
‫والمجالس وتكتب المؤلفات لطلب السعادة‪ ،‬وليس أحد من الناس إال وهو يريد لنفسه سعادة‪،‬‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 47 :‬من سورة مريم‪.‬‬


‫(‪ )2‬اآلية رقم‪ 47 :‬من سورة مريم‪.‬‬
‫‪00‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫حتى الذين يباشرون الفساد ويتعاطون أمور االنحراف يظنون أهنا تجلب لهم سعادة وأن السعادة‬
‫تتحقق لهم بتلك المسالك التي هي يف الحقيقة مهالك لهم ومضار عليهم يف دنياهم وأخراهم‪.‬‬
‫فالسعادة ال هتنال إال بتحقيق هذه األوصاف الثالث التي ذكرها ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬يف هذه‬
‫الدعوة المباركة العظيمة‪ .‬ال هتنال إال هبذه األوصاف الثالثة‪ :‬الشكر والصرب واالستغفار‪ .‬فهذه‬
‫األمور الثالثة إذا اجتمعت يف العبد اجتمعت فيه السعادة وتحققت له‪.‬‬
‫اس َت ْغ َف َر »‪ ،‬ولو تأملت‬ ‫قال‪َ « :‬و َأ ْن َي ْج َع َل َك م ّم ْن إ َذا هأ ْعط َي َش َك َر‪َ ،‬وإ َذا ا ْب هتل َي َص َب َر‪َ ،‬وإ َذا أ َذ َ‬
‫نب ْ‬
‫تجد أن أحوال العبد يف هذه الحياة الدنيا ال تخرج عن هذه األمور الثالثة؛ إما أن يكون مبتلى‬
‫بمصيبة‪ ،‬أو أن يكون ممت ّن عليه بنعمة ومنة‪ ،‬أو أن يكون واقعا يف ذنب‪.‬‬
‫ال تخرج أحوال العبد يف حياته عن هذه األمور الثالثة‪ :‬إما مبتلى بمصيبة‪ ،‬أو من َعم عليه‬
‫بنعمة ‪-‬و مما يدخل يف النعمة نعمة الدين‪ ،‬فهي من أعظم النعم‪ ،‬بأن يوفق للصالة والصيام وطلب‬
‫العلم وبر الوالدين وصلة األرحام‪ ،‬هذه أعظم النعم‪ -‬أو أن يكون قد وقع يف ذنب‪.‬‬
‫فالعبد ال يخرج يف حياته عن هذه األمور الثالثة‪ :‬إما مبتلى بمصاب‪ ،‬أو من َعم عليه بنعمة‪ ،‬أو‬
‫واقع يف ذنب‪ ،‬ال يخرج عن هذه األمور الثالثة‪.‬‬
‫والواجب على العبد أن يجاهد نفسه مجاهدة تامة على أن يكون عند البالء من الصابرين‪،‬‬
‫وعند النعم من الشاكرين للمنعم هس ْب َحا َن هه َو َت َعالى‪ ،‬وعند وقوعه يف الذنوب من المستغفرين‪ ،‬فإذا‬
‫كان كذلك جمع لنفسه الخير كله‪.‬‬
‫سراء شكر‬
‫الس َالم‪" :‬عجبا ألمر‪ ،‬المؤمن إن أمره كله خير‪ ،‬إن إصابته ّ‬ ‫قد قال َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫فكان خيرا له‪ ،‬وإن أصابته ضراء صرب فكان خيرا له‪ ،‬وال يكون ذلك إال للمؤمن" ‪ ،‬هكذا قال َع َل ْيه‬
‫الس َالم‪ ،‬بدأ أول الحديث بقوله‪" :‬عجبا ألمر المؤمن"‪ ،‬وختم الحديث بقوله‪" :‬وذلك ال‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫ّ‬
‫يكون إال للمؤمن"‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه مسلم (‪.)2999‬‬


‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪01‬‬

‫فالمؤمن عند المصيبة صابر وعند النعمة شاكر‪ ،‬يف المصائب يفوز بثواب الصابرين ويف‬
‫النعم يفوز بثواب الشاكرين‪ ،‬فهو فائز يف كال الحالين‪ ،‬يف مصائبه فائز ويف نعمه فائز‪ ،‬يف مصائبه فائز‬
‫بثواب الصابرين ويف نعمه فائز بثواب الشاكرين ‪.‬‬
‫اس َت ْغ َف َر»؛ أي إذا وقع يف الذنب بادر إلى االستغفار‪ ،‬ويعلم‬ ‫واألمر الثالث قال‪َ « :‬وإ َذا أ َذ َ‬
‫نب ْ‬
‫أن اهلل َع ّز َو َج ّل يغفر الذنوب ويعفو عن السيئات‪ ،‬وال يتعاظمه ‪َ -‬ت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ -‬ذنب أن يغفره‪،‬‬
‫ولهذا ال يقنط من رحمة اهلل وال ييأس من روح اهلل مهما كان ذنبه ومهما عظم جرمه‪ ،‬فإنه يبادر‬
‫باألوبة والرجوع إلى اهلل َج ّل َو َع َال‪.‬‬
‫ْ‬
‫الس َالم قصة العبد الذي أذنب ذنبا‪ ،‬فقال‪" :‬أذنب عبد ذنبا‪،‬‬ ‫وقد ذكر النبي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫فقال‪ :‬اللهم! اغفر لي ذنبي‪ ،‬فقال َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ :‬أذنب عبدي ذنبا‪ ،‬فعلم أن له ربا يغفر الذنب‪،‬‬
‫ويأخذ بالذنب‪ .‬ثم عاد فأذنب‪ ،‬فقال‪ :‬أي رب! اغفر لي ذنبي‪ ،‬فقال َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ :‬عبدي أذنب‬
‫ذنبا‪ ،‬فعلم أن له ر ّبا يغفر الذنب‪ ،‬ويأخذ بالذنب‪ .‬ثم عاد فأذنب فقال‪ :‬أي رب! اغفر لي ذنبي‪ ،‬فقال‬
‫َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ :‬أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ر ّبا يغفر الذنب‪ ،‬ويأخذ بالذنب‪ ،‬اعمل ما شئت فقد‬
‫غفرت لك" ‪ ،‬أي ما دمت على هذه الحال‪.‬‬
‫ه‬
‫دمت على هذه الحال؛ مالزما لالستغفار‪،‬‬
‫غفرت لك"؛ أي ما َ‬
‫ه‬ ‫شئت فقد‬
‫انتبهوا‪" :‬اعمل ما َ‬
‫مجاهدا نفسك على أن ال تقع يف المعصية وأن ال تقع يف الخطيئة‪ ،‬وإن بدر منك زلل أو وقعت يف‬
‫خطأ بادرت إلى االستغفار‪ ،‬ما دمت على هذه الحال فأنت مغفور لك‪.‬‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّلم‪" :‬كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" ؛ ابن آدم ليس‬
‫وقد قال َص ّلى ه‬
‫رب يغفر ‪ -‬هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى‪ -‬ويتجاوز ويصفح َع ّز َو َج ّل‪.‬‬
‫معصوما‪ ،‬ابن آدم خطاء‪ ،‬لكن له ّ‬
‫جره إليه قرناء‬
‫جرته إليه نفسه الضعيفة ودعاه إليه الشيطان‪ ،‬أو ّ‬
‫ولهذا؛ إذا وقع العبد يف ذنب ّ‬
‫السوء وخلطاء الفساد أو أغوته نفسه للوقوع فيه‪ ،‬عليه أن يعلم فورا أن له ر ّبا يغفر الذنب ويتجاوز‪،‬‬

‫(‪ )1‬رواه مسلم (‪ )0140‬من حديث أبي هريرة‪.‬‬

‫(‪ )2‬رواه األلباين يف صحيح ابن ماجه (‪ )4331‬ويف صحيح الجامع (‪ )3474‬وقال‪:‬حسن‪.‬‬
‫‪03‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫َ َْ َ َ ََ َ ْ ُ ُُ َ َ ً َُ‬ ‫ُْ َ َ َ َ َ َ ْ َ ُ ََ َ ُ‬
‫نفسه ّْم ال َت ْقنَ ُ‬
‫يعا ِإنه‬ ‫َج‬
‫اَّلل إِن اَّلل يغ ِفر اَّلنوب ِ‬
‫ِ‬ ‫ة‬
‫ِ‬ ‫ْح‬‫ر‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫وا‬ ‫ط‬ ‫اَّلين أْسفوا لَع أ ِ ِ‬
‫﴿قل يا ِعبا ِدي ِ‬
‫الرح ُ‬ ‫َُ َُْ ُ‬
‫يّم﴾ ‪ ،‬فال يزال العبد بخير مادام يعلم أن له ر ّبا يغفر ويتجاوز ويصفح ‪ -‬هس ْب َحا َن هه‬ ‫هو الغفور َ ِ‬
‫َو َت َعا َلى‪ ،-‬وأما ابن آدم فضعيف وكثير الخطأ والزلل‪ ،‬ودواعي الخطأ كثيرة جدا‪" ،‬ليس العجب‬
‫ممن هلك كيف هلك‪ ،‬ولكن العجب ممن نجا كيف نجا"‪.‬‬
‫تجر اإلنسان إلى الخطأ كثيرة جدا‪ ،‬لكن ال يزال العبد بخير مادام يعلم أن له‬
‫األمور التي ُ‬
‫ر ّبا يغفر‪ ،‬لهذا ال يزال العبد يجاهد نفسه على البعد عن الذنوب وعدم الوقوع فيها‪ ،‬وإذا انفلتت‬
‫نفسه ووقع يف زلة أو وقع يف خطيئة بادر إلى االستغفار‪.‬‬
‫ومن عظيم حب اهلل َج ّل َو َع َال لالستغفار والمستغفرين قال َع ّز َو َج ّل يف الحديث القدسي‪:‬‬
‫"لو لم تذنبوا لذهب اهلل بكم‪ ،‬ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون اهلل‪ ،‬فيغفر لهم" ‪.‬‬
‫ولهذا؛ ربما كانت بعض الذنوب على اإلنسان خير له‪ ،‬ألهنا تفتح عليه باب ندم عظيم وباب‬
‫استغفار كثير‪ ،‬ربما بدون هذا الذنب يقل استغفاره‪ ،‬لكنه يقع يف ذنب وزلة ثم يقع يف قلبه حياء‬
‫عظيم من اهلل َع ّز َو َج ّل ومراقبة هلل وألم وندم على ما وقع فيه من ذنب وخطيئة فيكثر على لسانه‬
‫االستغفار كثرة ربما ال تكثر على لسانه لوال أنه ما وقع يف هذا الذنب الذي ابتلي به‪ ،‬ولهذا ال يزال‬
‫العبد بخير مادام أنه إذا أذنب استغفر‪.‬‬

‫ولهذا؛ الحظوا الدعوة قال‪َ « :‬وأَ ْن َي ْج َع َل َك م ّم ْن إ َذا هأ ْعط َي َش َك َر‪َ ،‬وإ َذا ا ْب هتل َي َص َب َر‪َ ،‬وإ َذا أ َذ َ‬
‫نب‬
‫اس َت ْغ َف َر »‪.‬‬
‫ْ‬
‫والذنب ال بد منه‪ ،‬الذنب يف ابن آدم ال بد منه‪ ،‬ال بد أن يقع يف الذنب‪ ،‬وذنوب اإلنسان‬
‫كثيرة‪ ،‬لكن ينبغي أن يكون العبد كثير االستغفار‪.‬‬
‫وقد كان سيد ولد آدم أكثر الناس استغفارا وليس يف عباد اهلل أكثر استغفارا من رسول اهلل‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّلم‪ ،‬وقد غفر اهلل له ما تقدم من ذنبه وما تأخر‪ ،‬ولكنه مع ذلك كان أكثر الناس‬
‫َص ّلى ه‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 44 :‬من سورة الزمر‪.‬‬


‫(‪ )2‬أخرجه األلباين يف السلسلة الصحيحة (‪ ،)645/0‬من حديث أبي سعيد الخدري‪ ،‬وقال‪ :‬صحيح لغيره‪.‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪04‬‬

‫اهلل َعلَ ْيه‬


‫استغفارا‪ ،‬حتى قال أبو هريرة َرض َي اهلل َعنْ هه‪" :‬ما رأيت أحدا أكثر من رسول اهلل َصلّى ه‬
‫َو َس ّلم يقول أستغفر اهلل وأتوب إليه" ‪ ،‬وقد رأى أبو هريرة هع ّباد الصحابة وخيار األمة وأكثر الناس‬
‫الس َال ْم مالزمة لالستغفار‪.‬‬ ‫استغفارا وما رأى يف ذلك الجيل أكثر من النبي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫الس َال ْم مالزما لالستغفار يف حياته كلها‪ ،‬حتى إنه ختم حياته كلها‬ ‫فكان َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّلم بين صدري ونحري‬
‫باالستغفار؛ كما جاء يف حديث أم المؤمنين عائشة‪ :‬مات َص ّلى ه‬
‫وهو يقول‪" :‬اللهم اغفر لي وألحقني بالرفيق األعلى" كانت هذه من آخر كلماته التي فارق َع َل ْيه‬
‫الس َالم هبا الدنيا"‪.‬‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫ّ‬

‫الشاهد أن العبد تتحقق له السعادة إذا اجتمعت فيه هذه الخصال الثالث العظيمة‪ ،‬أال وهي‪:‬‬
‫الصرب والشكر واالستغفار‪.‬‬
‫ولعل يف هذه الدعوة العظيمة المباركة التي دعا هبا المصنف ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬أن تكون فاتحة‬
‫باب لك أن تعتني هبذه األمور الثالث التي هي عنوان السعادة‪ :‬الصرب والشكر واالستغفار‪ ،‬بحيث‬
‫تكون مجاهدا لنفسك على تحقيق هذه األمور الثالثة؛ إذا كان صربك ضعيفا فاجتهد يف تنميته‬
‫واسأل اهلل َج ّل َو َع َال المعونة على ذلك‪ ،‬وإذا كان شكرك قليال فاجتهد أيضا على تكثيره وتقويته‬
‫َ ّ َ ْ ْ َ ْ َ ْ ُ َ ْ َ َ َ َّ َ ْ َ ْ َ َ َ‬
‫لَعَ‬ ‫واسأل اهلل َع ّز َو َج ّل المعونة على ذلك‪ ،‬قال‪﴿ :‬ر ِب أو ِزع ِِن أن أشكر نِعمتك ال ِِت أنعمت‬
‫َ ََ َ َ َ‬
‫ويسر لك‪ ،‬وأن تعتني باالستغفار‬ ‫ولَع و ِالي﴾ ‪ ،‬ال تكون شاكرا هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى إال إذا أعانك اهلل ّ‬
‫وأن تكثر منه‪ ،‬وأن يكون استغفارك يف مجالسك ويف تنقالتك ويف حركاتك استغفرا كثيرا‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه النسائي يف السنن الكربى (‪ ،)770/6‬وابن حبان يف صحيحه (‪.)500 -021/4‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه األلباين يف السلسلة الصحيحة (‪ ،)0114‬وقال‪ :‬إسناده صحيح على شرط الشيخين‪ .‬عن عائشة رضي اهلل عنها قالت‪" :‬كان يعوذ‬
‫هبذه الكلمات‪ :‬اللهم رب الناس أذهب الباس‪ ،‬واشف وأنت الشايف‪ ،‬ال شفاء إال شفاؤك شفاء ال يغادر سقما‪ .‬فلما ثقل يف مرضه الذي مات فيه‬
‫أخذت بيده فجعلت أمسحه هبا وأقولها فنزع يده من يدي وقال‪" :‬اللهم اغفر لي وألحقني بالرفيق األعلى"‪ .‬قالت ‪ :‬فكان هذا آخر ما سمعت‬
‫من كالمه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬اآلية رقم‪75 :‬من سورة النمل‪.‬‬
‫‪05‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫فهذه كما أهنا دعوة فهي لفتة من المصنف ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬إلى العناية هبذه األمور الثالثة التي‬
‫هي أبواب السعادة‪.‬‬
‫وتكون عنايتك هبا من جهتين‪:‬‬
‫الجهة األولى‪ :‬أن تدعو لنفسك هبذا الدعاء أن ييسر اهلل لك ‪َ -‬ع ّز َو َج ّل‪ -‬هذه األمور الثالثة‪،‬‬
‫التي هي عنوان السعادة‪.‬‬
‫واألمر الثاين‪ :‬أن هت ْتبع الدعاء بفعل السبب؛ وذلك بأن تجاهد نفسك على أن تكون من الذين‬
‫إذا ابتلوا صربوا‪ ،‬وإذا أنعم عليهم شكروا‪ ،‬وإذا أذنبوا استغفروا‪.‬‬

‫نعم ‪:‬‬
‫املتـن‪ - :‬املقدمـة ‪-‬‬

‫يم‪َ :‬أ ْن َت ْع هبدَ َ‬


‫اهلل َو ْحدَ هه هم ْخلصا َل هه‬ ‫اهلل ل َطا َعته؛ َأ ّن ا ْل َحنيف ّي َة م ّل هة إ ْب َراه َ‬
‫ا ْع َل ْم َأ ْر َشدَ َك ه‬
‫ََ َ َْ ُ ْ‬
‫اْل َن‬
‫يع النّاس‪َ ،‬و َخ َل َق ههم َل َها؛ ك ََما َق َال َت َعا َلى‪﴿ :‬وما خلقت ِ‬ ‫اهلل َجم َ‬‫الدّ ي َن‪َ ،‬وب َذل َك َأ َم َر ه‬
‫َ ْ َ َ َُُْ‬
‫ون﴾ [الذريات‪.]46:‬‬ ‫اْلنس إال ِِلعب ِ‬
‫د‬ ‫و ِ‬
‫اهلل َخ َل َق َك لعبَا َدته؛ َفا ْع َل ْم َأ ّن ا ْلعبَا َد َة ال هت َس ّمى ع َبا َدة إال َم َع الت ّْوحيد‪،‬‬
‫َفإ َذا َع َر ْف َت َأ ّن َ‬
‫ك ََما َأ ّن ّ‬
‫الصال َة ال هت َس ّمى َص َالة إال َم َع ال ّط َه َارة‪.‬‬
‫الش ْر هك في ا ْلع َبا َدة َف َسدَ ْت؛ كَا ْل َحدَ ث إ َذا َد َخ َل في ال ّط َه َارة‪.‬‬
‫َفإ َذا َد َخ َل ّ‬
‫الش ْر َك إ َذا َخا َل َط ا ْلع َبا َد َة َأ ْف َسدَ َها‪َ ،‬و َأ ْح َب َط ا ْل َع َم َل‪َ ،‬و َصا َر َصاح هب هه‪ ،‬م َن‬
‫َفإ َذا َع َر ْف َت َأ ّن ّ‬
‫اهلل َأ ْن هي َخ ّل َص َك م ْن َهذه‬‫ا ْل َخالدي َن في النّار؛ َع َر ْف َت أَ ّن َأ َه ّم َما َع َل ْي َك َم ْعر َف هة َذل َك؛ َل َع ّل َ‬
‫ْ‬ ‫ال َي ْغف ُر أَن ش ُ ْ َ‬
‫َر َ ِب ِه َو َغغ ِف ُر‬
‫َ ََ َ‬
‫الش ْر هك باهلل‪ ،‬ا ّلذي َق َال اهلل َت َعا َلى فيه‪ِ ﴿ :‬إن اَّلل‬ ‫الش َب َكة‪َ ،‬وه َي ّ‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُ َ َ َ‬
‫َما دون ذلِك ل ِ َمن شَشاء﴾ [النساء‪.]776:‬‬

‫َو َذل َك ب َم ْعر َفة َأ ْر َبع َق َواعدَ َذك ََر َها ه‬


‫اهلل َت َعا َلى في كتَابه‪.‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪06‬‬

‫الشــرح‪:‬‬

‫قال ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ « :-‬ا ْع َل ْم َأ ْر َشدَ َك ه‬


‫اهلل ل َطا َعته » ؛‬
‫(اعلم)‪ :‬هذه الكلمة يؤتى هبا بين يدي األمور العظيمة واألمور الكبار‪ ،‬وقد تكرر مجيئها يف‬
‫َ َْ ََُ َ‬
‫كتاب اهلل َع ّز َو ّج ّل يف التنبيه على األمور العظام‪ ،‬ومن ذلكم قوله هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى‪﴿ :‬فاعل ّْم أنه ال‬
‫َ َ‬
‫ِإ ََل ِإال اهلل﴾ ‪ .‬فهذه يؤتى هبا لشد االنتباه ولفت االنتباه واستدعاء القلوب لإلصغاء ووعي هذه‬
‫األمور العظيمة الكبيرة‪.‬‬

‫قال‪« :‬ا ْع َل ْم َأ ْر َشدَ َك ه‬


‫اهلل ل َطا َعته»‪ ،‬وهنا دعا هبذه الدعوة العظيمة بعد أن دعا إلى االنتباه لما‬
‫سيقال ولما س هيبيّنه ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪.-‬‬
‫(أرشدك)‪ :‬أي جعلك من أهل الرشاد‪ ،‬والرشاد ضد الغواية‪ ،‬قد قال اهلل هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى عن‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ َ‬
‫احبُك ّْم َو َما غ َوى﴾ ‪ ،‬الضالل ضده الهداية‪ ،‬والغواية‬ ‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم‪﴿ :‬ما ضل ص ِ‬
‫نبيه َص ّلى ه‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ َ‬
‫احبُك ّْم َو َما غ َوى﴾ أي أنه سالم من الضالل والغواية‪ ،‬وذلك‬ ‫ضدها الرشاد‪ ،‬وقوله‪﴿ :‬ما ضل ص ِ‬
‫الس َال ْم كمال العلم النافع والعمل الصالح‪.‬‬ ‫بأنه اجتمع له َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫الس َال ْم يف ذكر الخلفاء الراشدين‪" :‬عليكم بسنتي وسنة الخلفاء‬ ‫وقد قال نبينا َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫الراشدين المهديين" ‪ ،‬جمع لهم بين هاتين الخصلتين‪ ،‬وهما تعنيان صالح علم اإلنسان وصالح‬
‫عمله‪.‬‬
‫الهداية‪ :‬صالح العلم‪.‬‬
‫والرشاد‪ :‬صالح العمل‪.‬‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 75 :‬من سورة محمد‪.‬‬


‫(‪ )2‬اآلية رقم‪ 0 :‬من سورة النجم‪.‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه األلباين يف صحيح الرتغيب (‪ )41‬وقال‪ :‬صحيح‪ ،‬عن العرباض بن سارية قال‪ :‬وعظنا رسول اهلل موعظة وجلت منها القلوب‪،‬‬
‫وذرفت منها العيون‪ ،‬فقلنا‪ :‬يا رسول اهلل! كأهنا موعظة مودع فأوصنا قال‪" :‬أوصيكم بتقوى اهلل‪ ،‬والسمع والطاعة‪ ،‬و إن تأمر عليكم عبد‪ ،‬وأنه‬
‫من يعش منكم فسيرى اختالفا كثيرا‪ ،‬فعليكم بسنتي‪ ،‬وسنة الخلفاء الراشدين المهديين‪ ،‬عضوا عليها بالنواجذ‪ ،‬و إياكم و محدثات األمور‪ ،‬فإن‬
‫كل بدعة ضاللة"‬
‫‪07‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫قال‪َ « :‬أ ْر َشدَ َك ه‬


‫اهلل ل َطا َعته» أي جعلك اهلل من أهل الرشاد الذين هم عالمون بالطاعة‪ ،‬عاملون‬
‫هبا‪ ،‬محافظون عليها‪.‬‬

‫يم‪َ :‬أ ْن َت ْع هبدَ َ‬


‫اهلل َو ْحدَ هه هم ْخلصا َل هه الدّ ي َن»‪ ،‬هذا األمر الذي دعا ‪-‬رحمه‬ ‫« َأ ّن ا ْل َحنيف ّي َة م ّل هة إ ْب َراه َ‬
‫اهلل‪ -‬االنتباه إلى ضبطه والعلم به ومعرفته؛ أن الحنيفية ملة إبراهيم أن تعبد اهلل وحده مخلصا له‬
‫الدين‪ ،‬هذه هي الحنيفية‪ ،‬التي هي ملة أبينا إبراهيم خليل الرحمن َع َل ْيه َص َل َو ه‬
‫ات اهلل َو َس َال هم هه‪.‬‬
‫يفا َو َما ََك َن ِمنَ‬ ‫ُ َ َ ْ َ َْ َْ َ َ َ ْ ََ َْ َ َ ً‬
‫وقد قال اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪﴿ :‬ثّم أوحينا إِِلك أ ِن ات ِبع ِملة ِإبرا ِهيّم ح ِن‬
‫ُ َ َ ْ َ َْ َْ َ‬ ‫الم َْرك َ‬
‫ُ‬
‫ني﴾ ‪ ،‬فم ّلة إبراهيم التي هأمرنا بإتباعها هي‪ :‬الحنيفية‪ ،‬وتأمل اآلية‪ ،‬قال‪﴿ :‬ثّم أوحينا إِِلك‬ ‫ِِ‬
‫يّم َح ِنيفا﴾‪ ،‬فالدين الذي هأمرنا بإتباعه ولزومه هو الحنيفية ملة إبراهيم‪ ،‬ولهذا‬
‫ً‬ ‫أَن اتَب ْع ِملَ َة إبْ َراه َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫كان متأ ّكدا على كل مسلم أن يعرف الحنيفية ما هي‪ ،‬ألننا هأمرنا باتباعها ولزومها والتمسك هبا‬
‫والمحافظة عليها وأن نكون من أهلها‪.‬‬

‫يم َأ ْن َت ْع هبدَ َ‬
‫اهلل َو ْحدَ هه هم ْخلصا َل هه الدّ ي َن»‪ ،‬هذه هي الحنيفية‪.‬‬ ‫قال‪« :‬ا ْع َل ْم َأ ّن ا ْل َحنيف ّي َة م ّل هة إ ْب َراه َ‬
‫الحنيفية التي هي ملة إبراهيم‪ :‬هي أن تعبد اهلل مخلصا له الدين‪ ،‬ولهذا ال يكون اإلنسان حنيفا إال‬
‫اء﴾ ‪ ،‬ال يكون من الحنفاء ‪-‬‬ ‫ين ُحنَ َف َ‬ ‫ني َ َُل ِ‬
‫ال َ‬ ‫إذا كان مخلصا‪َ ﴿ ،‬و َما أُم ُروا إ َال ِلَ ْعبُ ُدوا َ َ‬
‫اَّلل ُُمْلص َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫والحنفاء جمع حنيف‪ -‬إال إذا كان مخلصا دينه هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ ،‬بدون ذلك ال يكون حنيفا‪.‬‬
‫الحنَف‪ :‬أصله يف اللغة‪ :‬الميل‪ ،‬والمراد هنا‪ :‬الميل والعدول عن الباطل إلى الحق والهدى‬
‫و َ‬
‫والتوحيد واالستقامة؛ مائال عن الشرك إلى التوحيد‪ ،‬وعن الضالل إلى الهدى‪ ،‬وعن الباطل إلى‬
‫الحق‪ ،‬وعن الغواية إلى الرشاد‪ ،‬هذا هو الحنيف‪.‬‬

‫يم َأ ْن َت ْع هبدَ َ‬
‫اهلل َو ْحدَ هه هم ْخلصا َل هه الدّ ي َن»‪ ،‬وقوله أن تعبد اهلل وحده‬ ‫قال‪« :‬ا ْل َحنيف ّي َة م ّل هة إ ْب َراه َ‬
‫مخلصا له الدين‪ ،‬هذا هو التوحيد الذي هخلقنا ألجله و هأوجدنا لتحقيقه‪.‬‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 704 :‬من سورة النحل‪.‬‬

‫(‪ )2‬اآلية رقم‪ 4 :‬من سورة البينة‪.‬‬


‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪08‬‬

‫َ‬ ‫ََ َ َْ ُ ْ َ َ ْ ْ‬
‫اْلن َس ِإال‬ ‫اْلن و ِ‬ ‫ولهذا قال المصنف ‪-‬رحمه اهلل‪ « :-‬ك ََما َق َال َت َعا َلى‪﴿ :‬وما خلقت ِ‬
‫َُُْ‬
‫ون﴾ »‪ ،‬فالتوحيد الذي هخلق الخلق ألجله و هأوجدوا لتحقيقه هو أن يعبدوا اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‬
‫ِِلعبد ِ‬
‫مخلصين له الدين‪.‬‬
‫وهذا يتطلب منك أن تعرف‪:‬‬
‫أوال‪ :‬العبادة ما هي‪ ،‬ما حقيقتها‪ ،‬ما أفرادها‪.‬‬
‫ويتطلب منك ثانيا‪ :‬أن تجعلها كلها هلل‪ ،‬ال تجعل ألحد منها شيئا‪.‬‬
‫يتطلب منك أن تعرف العبادة التي هخلقت ألجلها و هأوجدت لتحقيقها‪ ،‬ويتطلب منك أن‬
‫تجعل العبادة كلها هلل هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى‪ ،‬ال تجعل ألحد أ ّيا كان ومهما كان ح ّظا وال نصيبا ‪ ،‬ال لملك‬
‫مقرب وال لنبي مرسل وال لغيرهما‪ ،‬فالعبادة حق هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪.‬‬

‫قال‪َ « :‬أ ْن َت ْع هبدَ َ‬


‫اهلل هم ْخلصا»‪ ،‬ومعنى (مخلصا)‪ :‬أي أن تكون عبادتك هلل خالصة‪ ،‬ومعنى‬
‫خالصة‪ :‬أي صافية نقية‪ ،‬ليس فيها شائبة شرك وال رياء وال نحو ذلك‪ ،‬بل هي صافية هلل َت َب َار َك‬
‫َو َت َعا َلى‪.‬‬
‫وإذا أردت أن تعرف معنى اإلخالص يف لغة العرب فاقرأ قول اهلل تعالى يف سورة النحل‪،‬‬
‫َْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ََْ َ ًَْ ُ‬ ‫كْ‬ ‫َ َ َ ُ‬
‫ني‬
‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ن‬‫م‬‫ِ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ن‬
‫ِ‬ ‫و‬ ‫ط‬ ‫ب‬ ‫ِف‬
‫ِ‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ّم‬ ‫يك‬‫ق‬‫ِ‬ ‫س‬ ‫ن‬ ‫ة‬‫ْب‬ ‫ع‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫امِ‬ ‫ع‬‫ن‬ ‫األ‬ ‫ِف‬
‫ِ‬ ‫ّم‬ ‫سورة النّعم‪ ،‬اقرأ قوله َج ّل َو َع َال‪﴿ :‬و ِإن ل‬
‫لشارب َ‬‫َْ ََ ًََ َ ً َ ً َ‬
‫ني﴾ ‪( ،‬خالصا)‪ :‬أي صافيا نقيا‪ ،‬هذا معنى الخالص‪.‬‬ ‫فر ٍث ودمٍ َّلنا خالِصا سا ِئغا ل ِ ِ ِ‬
‫الخالص يف اللغة‪ :‬الصايف النقي‪.‬‬
‫وقد وصف ربنا َج ّل َو َع َال اللبن الذي يخرج من هبيمة األنعام بأنه خالص أي صايف نقي‪،‬‬
‫وذكر َت َب َار َك َو َت َعا َلى أنه أخرجه من بين فرث ودم‪ ،‬خرج اللبن من بين الفرث والدم لكنه خرج‬
‫خالصا ال ترى فيه نقطة دم وال قطعة فرث‪ ،‬مع أنه خرج من بين فرث ودم‪ ،‬فيخرج خالصا أي‬
‫صافيا نقيا‪ .‬ويخرج أيضا سائغا للشاربين‪ ،‬مع أهنم علموا مخرجه‪ ،‬علموا من أين خرج؛ لكنه سائغ‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 46 :‬من سورة الذاريات‪.‬‬


‫(‪ )2‬اآلية رقم‪ 66 :‬من سورة النحل‪.‬‬
‫‪09‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫ب له‪ ،‬مع أهنم يعلمون من أين خرج‪ ،‬فهذه اآلية تبين‬


‫وح ّ‬
‫لهم‪ ،‬أي يشربونه بتلذذ وهناءة وتط ُعم له ه‬
‫لك معنى الخالص يف لغة العرب‪.‬‬
‫َ َ ِ ُ ْ‬ ‫ني َ َُل ِ‬ ‫وقوله‪َ ﴿ :‬و َما أُم ُروا إ َال ِلَ ْعبُ ُدوا َ َ‬
‫اَّلل ُُمْلص َ‬
‫ين اْلَال ِ ُص﴾ أي‬‫َّلل ال‬
‫ِ ِ‬ ‫ال‬‫أ‬ ‫﴿‬ ‫‪:‬‬‫وقوله‬ ‫‪،‬‬ ‫﴾‬ ‫ال َ‬
‫ين‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫الصايف النقي‪.‬‬
‫ولهذا؛ العبادة ال تكون مقبولة من العبد إال إذا كانت هلل خالصة‪ ،‬ومعنى خالصة أي صافية‬
‫نقية‪ ،‬لم هي َرد هبا إال اهلل َج ّل َو َع َال‪.‬‬
‫ولهذا؛ إذا خالط العبادة نية أخرى فإهنا تخرج عن اإلخالص‪ ،‬وإذا خرجت عن اإلخالص‬
‫لم هتقبل‪ ،‬ولهذا قال ربنا َع ّز َو َج ّل يف الحديث القدسي‪" :‬أنا أغنى الشركاء عن الشرك‪ ،‬من عمل‬
‫عمال أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" ‪ ،‬أي أنه هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى ال يقبل العمل إال إذا كان‬
‫صافيا نقيا خالصا لم هي َرد به إال اهلل َت َبا َر َك َو َت َعا َلى‪.‬‬
‫ََ َ َْ ُ ْ‬
‫اْل َن َو ْاْلن ْ َس إ َال ِلَ ْعبُ ُدون﴾ »؛ ﴿ َو َما َخلَ ْق ُ‬
‫ت﴾ ‪-‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫قال‪َ « :‬ك َما َق َال َت َعا َلى‪﴿ :‬وما خلقت ِ‬
‫ه‬ ‫َ‬ ‫ََ َ َْ ُ ْ َ َ ْ ْ‬
‫اْلنس﴾ أي لم أوجد الثقلين من العدم إال‬ ‫اْلن و ِ‬ ‫لق فعله هسبْ َحا َن هه َو َت َعا َلى‪ -‬قال‪﴿ :‬وما خلقت ِ‬ ‫َ‬
‫الخ ه‬
‫َ َُُْ‬
‫ون﴾‪.‬‬ ‫لغاية بينها هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى بقوله‪ِ ﴿ :‬إال ِِلعب ِ‬
‫د‬
‫اهلل َعنْ هه‪ -‬وغيره أن كل أمر بالعبادة يف القرآن أمر بالتوحيد‪.‬‬
‫وقد جاء عن ابن عباس ‪َ -‬ر َض َي ه‬
‫َ َُُْ‬
‫ون﴾ أي إال ليوحدون يف العبادة‪ ،‬ليخصوين بالعبادة‪ ،‬ال يعبدوا معي‬ ‫فمعنى قوله‪ِ ﴿ :‬إال ِِلعب ِ‬
‫د‬
‫غيري‪ ،‬ليفردوين يف العبادة‪.‬‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 4 :‬من سورة البينة‪.‬‬


‫(‪ )2‬اآلية رقم‪ 4 :‬من سورة الزمر‪.‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه مسلم يف الزهد والرقائق (‪ ،)0504‬من حديث أبي هريرة‪.‬‬
‫(‪ )4‬اآلية رقم‪ 46 :‬من سورة الذاريات‪.‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪11‬‬

‫َ َُُْ‬
‫ون﴾ العبادة فعل العبد‪ ،‬واهلل هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى جعل يف العبد مشيئة‪ ،‬وهداه‬
‫وقوله‪ِ ﴿ :‬إال ِِلعب ِ‬
‫د‬
‫َُ َ ُْ َ ْ َ َ ْ َ‬ ‫َ ْ َ َ َ‬
‫ت َعليْ ِه‬ ‫النجدين؛ طريق الحق وطريق الضالل‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ف ِمن ُهّم م ْن هدى اَّلل و ِمنهّم من حق‬
‫َ َُُْ‬ ‫َ َُ‬
‫ون﴾ أي إال ليقوموا بعباديت‪ ،‬هذا الذي خلقهم ألجله‪.‬‬ ‫الضاللة﴾ ‪ ،‬فقوله‪ِ ﴿ :‬إال ِِلعب ِ‬
‫د‬

‫ََ ْ‬
‫لكن هل كلهم فعل ذلك الذي هخلقوا له؟ الجواب‪ :‬ال‪ ،‬ولهذا قال يف آية أخرى‪َ ﴿ :‬ولقد‬
‫اَّلل َومنْ ُه ّْم َم ْن َح َقتْ‬ ‫َ ُ َ‬
‫وت فَمنْ ُه ّْم َم ْن َه َدى َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ ْ‬ ‫ُِ َُ َ ُ ً َ ُ ْ ُ ُ‬ ‫َْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َب َعثنا ِِف لُك أم ٍة رسوال أ ِن اعبدوا اَّلل واجتنِبوا الطاغ‬
‫ُ‬
‫َ َُ‬ ‫َ‬
‫َعليْ ِه الضاللة﴾ ‪.‬‬

‫اهلل َخ َل َق َك لعبَا َدته؛ َفا ْع َل ْم َأ ّن ا ْلع َبا َد َة ال هت َس ّمى ع َبا َدة إال َم َع الت ّْوحيد»؛‬
‫ت َأ ّن َ‬
‫قال‪َ « :‬فإ َذا َع َر ْف َ‬
‫نقلت لكم عن ابن عباس أنه قال‪" :‬كل أمر بالعبادة أمر‬
‫وهذا أصل ال بد أن يعرفه كل مسلم‪ ،‬ولهذا ه‬
‫بالتوحيد"‪ ،‬ألن العبادة ال تكون عبادة إال بالتوحيد‪.‬‬
‫العبادة إذا دخلها إرادة غير اهلل وإشراك غير اهلل ‪َ -‬ت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ -‬معه يف العبادة ماذا تكون؟‬
‫ََ َ َْ ُ ْ َ َ ْ َ َ َُُْ‬
‫ون﴾‪ ،‬هذه‬
‫اْلنس ِإال ِِلعب ِ‬
‫د‬ ‫اْلن و ِ‬
‫هل هي العبادة التي خلق اهلل الخلق ألجلها؟ قال‪﴿ :‬وما خلقت ِ‬
‫العبادة التي خلق اهلل َع ّز َو َج ّل الخلق ألجلها هل هي تلك األعمال التي يمارسها كثير من الناس؛‬
‫يسألون اهلل ويسألون األحجار‪ ،‬يعبدون اهلل ويعبدون القباب واألحجار واألشجار وغيرها‪ ،‬هل‬
‫ََ َ َْ ُ ْ َ َ ْ َ َ َُُْ‬
‫ون﴾؟ حاشا‬
‫اْلنس ِإال ِِلعب ِ‬
‫د‬ ‫هذا الذي هخلقوا ألجله؟ هل هذا المعني بقوله‪﴿ :‬وما خلقت ِ‬
‫اْلن و ِ‬
‫وكالّ‪ ،‬هذا ليس عبادة وإنما هو شرك‪.‬‬
‫ولهذا؛ العبادة ال تكون عبادة إال مع التوحيد‪.‬‬

‫ون ّظر ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬لذلك بمثال يوضح ذلك قال‪َ « :‬فا ْع َل ْم َأ ّن ا ْلعبَا َد َة ال هت َس ّمى ع َبا َدة إال َم َع‬
‫الت ّْوحيد‪ ،‬ك ََما َأ ّن ّ‬
‫الصال َة ال هت َس ّمى َصالة إال َم َع ال ّط َه َارة»؛ لو أن إنسانا صلى؛ ركع وسجد وأتى‬
‫بأعمال الصالة من أولها إلى آخرها وهو على غير طهارة‪ ،‬هل يقال له صليت أو يقال له لم تصل؟‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 46 :‬من سورة النحل‪.‬‬


‫(‪ )2‬اآلية رقم‪ 46 :‬من سورة النحل‪.‬‬
‫‪10‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫تصل‪ ،‬أي لم تصلي الصالة التي هأمرت هبا و هطلبت منك‪ ،‬فالذي يصلي بغير‬
‫فصل فإنك لم ّ‬
‫ارجع ّ‬
‫طهارة كأنه ما صلى‪ ،‬صالته وجودها وعدمها سواء‪ ،‬ألن الصالة ال تكون صالة إال مع الطهارة‪،‬‬
‫والعبادة ال تكون عبادة إال مع التوحيد‪ ،‬فإذا كانت العبادة قائمة على التوحيد كانت عبادة صحيحة‬
‫مقبولة‪.‬‬
‫وإذا كانت العبادة ولو كانت كثيرة أمضى فيها اإلنسان حياته ودهره إذا لم تكن قائمة على‬
‫التوحيد‪ ،‬فإهنا كلها تذهب سدى وتضيع هباء ﴿ َوقَ ِد ْمنَا إ ََل َما َع ِملُوا ِم ْن َع َمل فَ َج َعلْنَاهُ َهبَ ً‬
‫اء‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ال ْنيَا َو ُهّمْ‬ ‫ْ‬
‫اْلَيَاة ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُْ َ ْ َُُِ ُ ْ َ ْ َ َ َ ْ‬ ‫َ ُ ً‬
‫ِ‬ ‫اَّلين ضل سعيهّم ِِف‬ ‫َسغن أعماال (‪ِ )724‬‬ ‫منثورا﴾ ‪﴿ ،‬قل هل ننبئكّم بِاألخ ِ‬
‫َ ََ ُْ ُ َ ْ‬ ‫َْ‬
‫َي َسبُون أن ُه ّْم َي ِسنون ُصن ًعا﴾ ‪.‬‬
‫فهذا أصل عظيم يجب على كل مسلم أن يضبطه؛ العبادة ال تكون عبادة إال مع التوحيد‪ ،‬كما‬
‫أن الصالة ال تكون صالة إال بالطهارة‪ ،‬فمن عبد اهلل بغير التوحيد فهو مشرك باهلل‪ ،‬ال يقبل اهلل‬
‫هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى عبادته‪ ،‬ومن عبد اهلل َع ّز َو َج ّل بالصالة من غير طهارة لم يقبل اهلل منه صالته‪،‬‬
‫وجود صالته وعدمها سواء‪.‬‬
‫فهذا أصل عظيم يجب على كل مسلم أن يضبطه وأن يعتني به؛ وهذا يعني أن تعرف العبادة‬
‫ما هي‪ ،‬واألمر الثاين أن تجعلها كلها هلل‪ ،‬لماذا؟ ألن اإلنسان لو جعل لغير اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى شيئا‬
‫من العبادة ولو شيئا قليال أبطل دينه كله‪ ،‬لماذا هيبطل دينه هكله؟ ألن العبادة ال تكون عبادة إال مع‬
‫التوحيد‪ ،‬فإذا هجعل مع اهلل هسبْ َحا َن هه َو َت َعا َلى شريك يف العبادة ولو يف شيء قليل منها أبطل العبادة‬
‫كلها‪.‬‬
‫والشرك يف العبادة مثل السم يف الطعام‪ ،‬إذا هوضع السم يف بعض الطعام أفسد الطعام كله‬
‫وأتلفه أجمعه‪ ،‬و َمن الذي يقبل طعاما هوضع يف بعضه سم؟ السم يسري يف الطعام كله ويفسده كله‪.‬‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 04 :‬من سورة الفرقان‬


‫(‪ )2‬اآليات‪ )723 -724( :‬من سورة الكهف‪.‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪11‬‬

‫العبادة ال تكون إال مع التوحيد؛ بأن يكون العبد موحدا هلل َج ّل َو َع َال‪ ،‬مخلصا يف عبادته‬
‫كلها‪ ،‬وهذا يعني أن تكون صالتك هلل‪ ،‬حجك هلل‪ ،‬ذبحك هلل‪ ،‬نذرك هلل ‪ ،‬دعاؤك تتوجه به إلى اهلل‪،‬‬
‫توكلك على اهلل‪ ،‬رجاؤك من اهلل‪ ،‬خوفك من اهلل‪ ،‬كل العبادات ال تصرف شيئا منها إال هلل هس ْب َحا َن هه‬
‫ََ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ِ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ ُْ‬ ‫َ َُُْ‬ ‫ُ‬
‫َ ُ‬
‫َ‬
‫َّلل الين اْلالِص﴾ ‪﴿ ،‬وأن‬ ‫َو َت َعا َلى‪﴿ ،‬وما أ ِمروا ِإال ِِلعبدوا اَّلل ُم ِل ِصني َل الين﴾ ‪﴿ ،‬أال ِ ِ‬
‫َْ َ َ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ ً‬
‫اَّلل أ َحدا﴾ ‪ ،‬واآليات يف هذا المعنى كثيرة جدا‪.‬‬
‫َّلل فال تدعوا مع ِ‬ ‫اجد ِ ِ‬
‫المس ِ‬
‫الش ْر هك في ا ْلع َبا َدة َف َسدَ ْت؛ كَا ْل َحدَ ث إ َذا َد َخ َل في ال ّط َه َارة »؛ الشرك إذا دخل‬
‫قال‪َ «:‬فإ َذا َد َخ َل ّ‬
‫يف العبادة فسدت كالحدث إذا دخل يف الطهارة‪ ،‬اإلنسان إذا كان على طهارة‪ ،‬توضأ وأصبح طاهرا‬
‫ثم أحدث هل تبقى طهارته على ما هي عليه وقد أحدث؟ الجواب‪ :‬ال‪ ،‬والشرك إذا دخل يف العبادة‬
‫أفسدها مثل الحدث إذا دخل على الطاهر فإنه يفسد طهارته ويحتاج أن يتطهر من جديد‪.‬‬
‫وهذا الشبه بين الطهارة من الحدث والطهارة من الشرك جاء اإلشارة إليه يف قوله َت َب َار َك‬
‫َ َ ِ‬
‫َو َت َعا َلى‪َ ﴿ :‬و ِثيَابَك ف َطه ْر﴾؛ قيل يف معناها‪ :‬طهر نفسك من الشرك ومما ينقض الدين ويفسد‬
‫اإليمان‪ ،‬وقيل يف معناه‪ :‬طهر ثيابك من النجاسة الحسية‪.‬‬
‫َ َ ِ‬ ‫كِْ‬‫َََ َ َ َ‬
‫ْب (‪َ )4‬و ِثيَابَك ف َطه ْر‬ ‫(طهر ثيابك) يتناول الطهارة المعنوية والطهارة الحسية ﴿وربك ف‬
‫َ ُ ْ َ ْ‬
‫الرج َز فاه ُج ْر (‪ ﴾)4‬؛ أي األصنام‪ ،‬وعبادة غير اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪.‬‬‫(‪ )3‬و‬
‫الش ْر هك في ا ْلع َبا َدة َف َسدَ ْت؛ كَا ْل َحدَث إ َذا َد َخ َل في ال ّط َه َارة » المثال الذي‬
‫قال‪َ « :‬فإ َذا َد َخ َل ّ‬
‫ذكره المصنف مثال هيج ّلي هذا األمر تجلية واضحة‪َ ،‬من الذي يعرف مكانة الطهارة يف الصالة ثم‬
‫هيقدم أن يصلي وعليه حدث؟ اسأل عامة المصلين‪ ،‬اسأل من يصلي وقد عرف أن صالته ال هتقبل‬
‫إال بالطهارة‪ ،‬هل من عرف ذلك إذا توجه للمسجد ثم أحدث يف الطريق هل يستمر يف سيره‬
‫للمسجد أو يبحث عن مكان ليتطهر ثم يدخل يصلي طاهرا؟ هذا أمر معروف‪.‬‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 4 :‬من سورة البينة‬


‫(‪ )2‬اآلية رقم‪ 4 :‬من سورة الزمر‪.‬‬
‫(‪ )3‬اآلية رقم‪ 70 :‬من سورة الجن‪.‬‬
‫(‪ )4‬اآليات‪ )4 - 4( :‬من سورة المدثر‪.‬‬
‫‪13‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫وسلمت من‬
‫األمر تماما يف باب العبادة‪ ،‬العبادة ال تكون عبادة مقبولة إال إذا خلصت و هنق ّيت َ‬
‫الشرك‪ ،‬فإذا دخل الشرك يف العبادة أفسد العبادة وأتلفها‪.‬‬

‫الش ْر َك إ َذا َخا َل َط ا ْلع َبا َد َة َأ ْف َسدَ َها‪َ ،‬و َأ ْح َب َط ا ْل َع َم َل‪َ ،‬و َص َار َصاح هب هه‪ ،‬م َن‬
‫قال‪َ « :‬فإ َذا َع َر ْف َت َأ ّن ّ‬
‫ا ْل َخالدي َن في النّار؛ َع َر ْف َت َأ ّن َأ َه ّم َما َع َليْ َك َم ْعر َف هة َذل َك »؛ أي معرفة الشرك‪ ،‬لماذا تعرفه؟ الشرك‬
‫عرفنا أنه إذا دخل يف العبادة أفسدها‪ ،‬جعلها حابطة باطلة غير مقبولة‪ ،‬إذن يجب علينا أن َنعرف‬
‫الشرك أو ال يجب؟ يجب علينا أن نعرف الشرك‪ ،‬من أجل ماذا؟ من أجل أن هنن ّقي عبادتنا هلل ‪-‬‬
‫َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ -‬منه ونصفيها منه‪ ،‬ونجعلها خالصة ليس فيها شيء من الشرك‪ ،‬فإذن يجب على كل‬
‫مسلم أن يعرف الشرك من أجل أن يحذره‪.‬‬

‫َلــكـــ ْن لـ َتــ َو ّقـيــــه‬ ‫َع َر ْف هت ّ‬


‫الش ّر َ‬
‫ال ل ّ‬
‫لش ّر‬
‫م َن النّاس َي َق هع فيـه‬ ‫َف َم ْن َل ْم َي ْعرف ّ‬
‫الش ّر‬

‫إذا لم يعرف اإلنسان الشرك وحقيقته ربما دخل الشرك يف جوانب من عبادته فأفسدها وهو‬
‫يف قرارة نفسه ال يزال يظن أنه من أهل التوحيد ومن أهل ال إله إال اهلل؛ بينما قد أدخل على نفسه‬
‫أعماال من الشرك تفسد عمله وعبادته وتحبط دينه‪.‬‬
‫ولهذا كان واجبا على كل مسلم أن يعرف الشرك من أجل أن يحذره‪ ،‬وأن يكون خائفا على‬
‫نفسه من الوقوع يف الشرك‪.‬‬

‫(‪ )1‬قال اإلمام األلباين ‪ $‬يف كتاب «األجوبة النافعة» ( ص‪(( :) 67:‬هذا المعنى مستقى من السنة‪ ،‬فقد قال حذيفة بن اليمان‬
‫ﭬ‪ :‬كان الناس يسألون رسول اهلل ﷺ عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت‪ :‬يا رسول اهلل! إنا كنا يف جاهلية‬
‫وشر فجاءنا اهلل هبذا الخير‪ ،‬فهل بعد هذا الخير شر؟ قال‪" :‬نعم" فقلت‪ :‬هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال‪ " :‬نعم‪ ،‬وفيه دخن" قلت‪:‬‬
‫وما دخنه؟ قال‪ " :‬قوم يستنون بغير سنتي‪ ،‬ويهدون بغير هديي‪ ،‬تعرف منهم وتنكر"‪ ،‬فقلت‪ :‬هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال‪" :‬‬
‫نعم دعاة على أبواب جهنم من أجاهبم إليها قذفوه فيها "‪ ،‬فقلت ‪ :‬يا رسول اهلل صفهم لنا‪ ،‬قال‪ " :‬نعم قوم من جلدتنا ويتكلمون‬
‫بألسنتنا ‪...‬الحديث" أخرجه البخاري ومسلم)) اهـ‪.‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪14‬‬

‫َ ُْْ ََ َ َ َْ َ‬
‫ِن أن نع ُبد‬ ‫وتأمل دعوة إمام الحنفاء إبراهيم الخليل َع َل ْيه ّ‬
‫الس َال ْم قال‪﴿ :‬واجنب ِِن وب ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ِ َُ َ َ ْ ََْ َ ً ِ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ‬
‫اس﴾ ‪ ،‬فإذن يجب على المسلم أن يعرف الشرك‬ ‫األصنام (‪ )44‬رب ِإنهن أضللن ك ِثريا من اّنل ِ‬
‫من أجل أن يحذره‪ ،‬كما أنه يجب عليه أن يعرف التوحيد من أجل أن هيحققه ويكون من أهله‪.‬‬
‫الش ْر َك إ َذا َخا َل َط ا ْلعبَا َد َة َأ ْف َسدَ َها‪َ ،‬و َأ ْح َب َط ا ْل َع َم َل‪َ ،‬و َص َار َصاح هب هه‪ ،‬م َن‬
‫قال‪َ « :‬فإ َذا َع َر ْف َت أَ ّن ّ‬
‫َََ ْ ُ َ َْ َ َ َ‬
‫وِح إِِلك و ِإَل‬ ‫ا ْل َخالدي َن في النّار»‪ ،‬قوله‪َ « :‬و َأ ْح َب َط ا ْل َع َم َل» يدل عليه قول اهلل يف القرآن‪﴿ :‬ولقد أ ِ‬
‫َ ََ َ ْ ْ‬ ‫اْلَاْس َ‬ ‫َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ ََ ْ ََ َ َ َ ُ َ َََ ُ َ َ َ ْ‬
‫اَّلل فاعبُد) ‪-‬أي‬ ‫غن (‪ )64‬ب ِل‬ ‫ِ ِ‬ ‫اَّلين ِمن بب ِلك ل ِْن أَركت ِلببطن عملك وَتكونن ِمن‬ ‫ِ‬
‫َُ ِ ْ َ‬
‫الشا ِكر َ‬
‫غن (‪ ، ﴾)66‬فالشرك إذا دخل العبادة أفسدها وأحبط العمل‪ ،‬وصار‬ ‫ِ‬ ‫وحده‪( -‬وكن من‬
‫ُ َ َ َ‬ ‫ْ‬
‫َر َ ِب ِه َو َغغ ِف ُر َما دون ذلِك‬ ‫ال َي ْغف ُر أَن ش ُ ْ َ‬‫َ َ َ‬
‫صاحبه من المخلدين يف النار‪ ،‬لقوله تعالى‪ِ ﴿ :‬إن اَّلل‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫ل ِ َمن شَشاء﴾ ‪.‬‬
‫« َع َر ْف َت َأ ّن َأ َه ّم َما َع َليْ َك َم ْعر َف هة َذل َك» أي معرفة الشرك لتو ّقيه ومعرفة التوحيد لتحقيقه‪.‬‬

‫اهلل َأ ْن هي َخ ّل َص َك م ْن َهذه ّ‬
‫الش َب َكة » وانظر هذا الوصف العجيب للشرك‪ ،‬الشرك‪:‬‬ ‫قال‪َ « :‬ل َع ّل َ‬
‫شبكة‪ ،‬وأنتم تعرفون أن الشبكة لها خيوط كثيرة ممتدة األطراف هنا وهناك وإذا المس اإلنسان‬
‫شيئا من خيوط هذه الشبكة اب هتلي هبا وأمسكته وصار من أهلها‪.‬‬
‫الشرك شبكة له خيوط‪ ،‬له فروع كثيرة‪ ،‬له أنواع كثيرة‪ ،‬له أبواب عديدة‪ ،‬فإذا عرفت أن‬
‫الشرك أخطر شيء وأنه إذا دخل العبادة أفسدها أو أبطلها‪ ،‬وجب عليك أن تكون على معرفة‬
‫ّ‬
‫وتوق و هبعد عنه‪.‬‬ ‫بالشرك حتى تكون منه على حذر‬
‫الش َب َكة» أن الشرك له مجاالت كثيرة‬
‫وأيضا هنا يفيدك هذا التعبير من المصنف بقوله‪َ « :‬هذه ّ‬
‫وجوانب عديدة من خاللها هيصطاد الناس ويخرجون عن اإلخالص والصفاء يف العبادة هلل َت َب َار َك‬
‫َو َت َعا َلى إلى الوقوع يف شبكة الشرك‪ ،‬والعياذ باهلل‪.‬‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ )46 - 44( :‬من سورة إبراهيم‪.‬‬


‫(‪ )2‬اآليات‪ )66 - 65( :‬من سورة الزمر ‪.‬‬
‫(‪ )3‬اآلية رقم‪ 30 ،776 :‬من سورة النساء‪.‬‬
‫‪15‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫الش ْر هك باهلل»‪ ،‬يتطلب منك ‪-‬‬ ‫اهلل َأ ْن هي َخ ّل َص َك م ْن َهذه ّ‬


‫الش َب َكة َوه َي ّ‬ ‫قوله ‪-‬رحمه اهلل‪َ « :-‬ل َع ّل َ‬
‫كما قدمت وأعيد ذلك ألهميته‪:-‬‬
‫‪ -‬أن تعرف الشرك‪.‬‬
‫‪ -‬وأن تكون منه على حذر‪.‬‬
‫‪ -‬وأن تسأل اهلل َع ّز َو َج ّل أن يعيذك منه‪.‬‬
‫الس َالم أصحابه‪ ،‬عندما قال لهم‪" :‬إن‬ ‫قد جاء يف دعاء عظيم‪ ،‬ع ّلمه النبي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل‪ ،‬ثم قال‪ :‬أال أخربكم بشيء إذا قلتموه أذهب اهلل عنكم قليل‬
‫الشرك وكثيره قالوا‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪ :‬تقولون‪ :‬اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك ونحن نعلم ونستغفرك لما‬
‫ال نعلم" ‪ ،‬فيدعو اإلنسان ربه َج ّل َو َع َال أن يخ ّلصه من الشرك‪ ،‬ويعرف الشرك‪ ،‬ويكون منه على‬
‫حذر‪.‬‬
‫َر َ به َو َغ ْغف ُر ماَ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َْ ُ َ ُْ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫الش ْر هك باهلل‪ ،‬ا ّلذي َق َال اهلل َت َعا َلى فيه‪﴿:‬إِن اَّلل ال يغ ِفر أن ش‬
‫قال‪َ « :‬وه َي ّ‬
‫َ‬ ‫ُ َ َ َ‬
‫دون ذلِك ل ِ َمن شَشاء﴾ »‪ .‬وهذه وردت يف موضعين من سورة النساء‪ ،‬وقد تو ّعد ‪َ -‬ت َب َار َك َو َت َعا َلى‪-‬‬
‫المشرك الذي يموت على الشرك ويلقى اهلل هس ْب َحانَ هه َو َت َعا َلى مشركا بأنه ال يغفر له‪ ،‬بل يعذبه يف‬
‫النار ويخلده فيها أبد اآلباد‪ ،‬وال مطمع له يف رحمة اهلل أبدا إذا مات على الشرك باهلل ‪َ -‬ج ّل َو َع َال‪،-‬‬
‫ََُ ُ َ ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُْ َ‬ ‫َ‬ ‫ك َف ُروا ل َ ُه ّْم نَ ُ‬‫َ َ َ َ‬
‫ار َج َهن َّم ال يقَض َعليْ ِه ّْم فيَ ُموتوا َوال ُيفف عن ُهّم‬ ‫اَّلين‬
‫ولهذا قال اهلل تعالى‪﴿ :‬و ِ‬
‫َُ َ ُ‬ ‫ِ ْ َ َ َ َ َ َ َْ‬
‫دخل يوم القيامة النار و هيخ ّلد فيها أبد‬ ‫ور﴾ ‪ ،‬فالكافر المشرك هي َ‬ ‫ٍ‬ ‫ف‬ ‫ك‬ ‫لُك‬ ‫ي‬‫ز‬‫من عذ ِابها كذلِك ن ِ‬
‫اآلباد‪ ،‬وال هيخفف عنه من عذاهبا‪ ،‬ال هيخفف العذاب! بل إنه يزيد‪ ،‬ولهذا قال َج ّل َو َع َال يف سورة‬
‫َ َ‬ ‫َُ ُ ََ َ َ ُ‬
‫النبأ‪﴿ :‬فذوقوا فلن ن ِزغدك ّْم ِإال َعذابًا﴾ ‪ ،‬ولهذا قال بعض المفسرين إن أشد آية على أهل النار‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري يف األدب المفرد (‪ ،)176‬وأبو يعلى يف مسنده (‪ ،)67/7‬وصححه األلباين يف صحيح األدب المفرد (‪ ،)447‬من‬
‫حديث معقل بن يسار المزين ﭬ ‪.‬‬
‫(‪ )2‬اآلية رقم‪ 30 ،776 :‬من سورة النساء‪.‬‬
‫(‪ )3‬اآلية رقم‪ 46 :‬من سورة فاطر‪.‬‬
‫(‪ )4‬اآلية رقم‪ 30 :‬من سورة النبأ‪.‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪16‬‬

‫َ َ‬ ‫َُ ُ ََ َ َ ُ‬
‫هي قول اهلل تعالى‪﴿ :‬فذوقوا فلن ن ِزغدك ّْم ِإال َعذابًا﴾‪ ،‬ألهنم عندما يدخلون النار ال يزال عندهم‬
‫َُ‬ ‫َََ َ ْ ْ َ َ ْ َ ْ َ ً َ َْ َ‬
‫اَّلي كنا‬
‫اْلا غري ِ‬‫بعض اآلمال‪ ،‬من اآلمال أن هيعادوا إلى الدنيا مرة ثانية ﴿ربنا أخ ِرجنا نعمل ص ِ‬
‫َْ ُ‬
‫نع َمل﴾ ‪ ،‬من اآلمال أن هيقضى عليهم فيموتوا و َيسلموا من هذا العذاب ومن هذه الشدائد‪ ،‬ومن‬
‫اآلمال أن هيخ ّفف عنهم العذاب ولو قليال‪ ،‬ثم يأتيهم هذا األمر الذي يقطع عليهم كل اآلمال‬
‫َ َ‬ ‫َُ ُ ََ َ َ ُ‬
‫﴿فذوقوا فلن ن ِزغدك ّْم إِال َعذابًا﴾‪ ،‬أي لن تنالوا يف النار إال زيادة العذاب‪ ،‬ال ينقطع وال هيخفف‬
‫وال هيقضى على أهله فيموتوا‪ ،‬بل ال يزالون يف العذاب أبد اآلباد مخ ّلدين يف نار جهنم ‪-‬أجارنا اهلل‬
‫وأجاركم ووقانا ووقاكم‪.-‬‬
‫فإذن يجب على العبد أن يكون على غاية الحذر من هذا الشرك الذي هو أخطر أمر وأعظم‬
‫أمر هنى اهلل هس ْب ْحا َن هه َو َت َعا َلى عباده عنه‪.‬‬
‫ولهذا أول أمر يصادفك يف القرآن هو األمر بالعبادة‪ ،‬وأول هني يصادفك يف القرآن النهي عن‬
‫َ َ ََْ ُ ْ َ َ َ ً ََ ُ ْ َ ْ َ ُ َ‬
‫َّلل أندادا وأنتّم تعلمون﴾ ‪ :‬هذا أول شيء هنى اهلل عنه يف القرآن الكريم‪.‬‬
‫الشرك‪﴿ .‬فال َتعلوا ِ ِ‬

‫ثم قال ‪-‬رحمه اهلل‪َ « :-‬و َذل َك ب َم ْعر َفة َأ ْر َبع َق َواعدَ َذك ََر َها ه‬
‫اهلل َت َعا َلى في كتَابه »؛‬
‫الرجل ‪-‬رحمة اهلل عليه‪-‬‬ ‫وانتبه لقوله ‪-‬رحمه اهلل‪َ « :-‬ذك ََر َها ه‬
‫اهلل في كتَابه» لتعلم من خالل ذلك أن ّ‬
‫ال يأيت بشيء من نفسه‪ ،‬ال يتكلف من نفسه؛ وإنما يجمع للناس ما جاء يف القرآن‪ ،‬وما جاء يف سنة‬
‫النبي الكريم َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َوالس َال ْم‪.‬‬

‫قال ‪َ « :‬و َذل َك ب َم ْعر َفة َأ ْر َبع َق َواعدَ َذك ََر َها ه‬
‫اهلل َت َعا َلى في كتَابه» ثم ذكرها قاعدة قاعدة‪ ،‬ذاكرا مع‬
‫كل قاعدة دليلها وشاهدها من كتاب اهلل َع ّز َو َج ّل‪.‬‬
‫وهي قواعد عظيمة جليلة كبيرة ينبغي على كل مسلم ومسلمة أن يحفظها‪.‬‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 41 :‬من سورة فاطر‪.‬‬


‫(‪ )2‬اآلية رقم‪ 22 :‬من سورة البقرة‪.‬‬
‫‪17‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫ولعل أعظم هدية يقدمها من حج إلخوانه وجيرانه وأهله ورفقائه أن يعرف هذه القواعد‬
‫معرفة جيدة وأن يقدمها هدية‪ ،‬هي أثمن هدية يقدّ مها للجار وللقريب وللصديق وللحبيب‬
‫وللرفيق‪ ،‬أعظم ما هيقدّ م له هذه القواعد العظام الكبار التي دل عليها كتاب اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى وسنة‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم‪.‬‬
‫نبيه َص ّلى ه‬

‫والحديث له صلة إن شاء اهلل‪ ،‬ونسأل اهلل أن ينفعنا أجمعين بما ع ّلمنا وأن يفقهنا يف ديننا وأن‬
‫يصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأن يصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأن يصلح لنا آخرتنا‬
‫التي في ها معادنا وأن يجعل الحياة زيادة لنا يف كل خير والموت راحة لنا من كل شر‪ ،‬وأن يغفر لنا‬
‫ولوالدينا والمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات األحياء منهم واألموات‪ ،‬إنه َت َب َار َك‬
‫َو َت َعا َلى غفور رحيم‪.‬‬
‫اهلل َو َس ّل ْم على عبد اهلل ورسوله؛ نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫وص ّلى ه‬
‫واهلل أعلم‪َ .‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪18‬‬

‫القـاعـدة األولـى‪:‬‬
‫‪¢‬‬
‫إن الحمد هلل نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه‪ ،‬ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا وسيئات‬
‫أعمالنا‪ ،‬من يهده اهلل فال مضل له‪ ،‬ومن يضلل فال هادي له‪ .‬وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال‬
‫اهلل َو َس ّل ْم َع َل ْيه َو َع َلى آله َو َأ ْص َحابه َأ ْج َمعين‪.‬‬
‫شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله َص ّلى ه‬

‫نعم‪:‬‬

‫املتـن‪ - :‬القاعـدة األوىل ‪-‬‬

‫ول اهلل ﷺ همق ُرو َن ب َأ ّن َ‬


‫اهلل َت َعا َلى هه هو ا ْل َ‬
‫خال هق‬ ‫َأ ْن َت ْع َل َم َأ ّن ا ْل هك ّف َار ا ّلذي َن َقا َت َل هه ْم َر هس ه‬
‫الراز هق ا ْل همدَ ّب هر‪َ ،‬و َأ ّن َذل َك َل ْم هيدْ خ ْل هه ْم في اإل ْسالم‪.‬‬
‫ّ‬
‫َ ْ َ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ َ ْ َُُْ ُ‬
‫الس ْم َع‬
‫ك َ‬ ‫الس َما ِء َواأل ْر ِض أمن يم ِل‬ ‫ك ّْم م َن َ‬
‫ِ‬ ‫َوالدّ ل هيل َق ْو هل هه َت َعا َلى‪﴿ :‬قل من يرزق‬
‫َْ‬ ‫َ‬ ‫ت ِم َن الْ َ ّ‬
‫َح م َن ال ْ َميّت َو ُُيْر ُج ال ْ َميّ َ‬‫ار َو َم ْن ُُيْر ُج الْ َ‬ ‫َ‬
‫َح َو َم ْن يُد ِبّ ُر األم َر‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫األبْ َص َ‬ ‫َو‬
‫َ َ َُ ُ َ َُ َ ُ ْ ََ َُّ َ‬
‫اَّلل فقل أفال تتَقون﴾‪[ .‬يونس‪]47:‬‬ ‫فسيقولون‬

‫الشــرح‪:‬‬

‫هذه قواعد أربعة جمعها المصنف ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬يف هذه الرسالة التي اشتهرت‬
‫بالقواعد األربع ألهنا جمعت أربع قواعد عظيمة جدا ومهمة يحتاج إليها كل مسلم‪ ،‬ألن بمعرفة‬
‫هذه القواعد َيميز المسلم بين الحق والباطل‪ ،‬والتوحيد والشرك‪ ،‬والهدى والضالل‪ ،‬وال تلتبس‬
‫عليه األمور‪ ،‬وال تنطلي عليه شبهات المضلين وأضاليل المبطلين‪ ،‬بل إن هذه القواعد تكون له ‪-‬‬
‫بإذن اهلل َع ّز َو َج ّل‪ -‬نعم ال َع ون على المحافظة على التوحيد الصحيح واإليمان الراسخ والبعد عن‬
‫الشرك‪ ،‬الذي هو أعظم الذنوب وأظلم الظلم‪.‬‬
‫هذه القواعد ‪-‬أيها اإلخوة الكرام‪ -‬قواعد عظيمة جمعها المصنف ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬ل َيميز هبا‬
‫المسلم بين التوحيد والشرك؛ يعرف حقيقة التوحيد الذي هخلق الخلق ألجله و هأوجدوا لتحقيقه‪،‬‬
‫‪19‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫ويعرف من خاللها حقيقة ضده وما ينقضه وهو الشرك باهلل َع ّز َو َج ّل‪ ،‬الذي هو أعظم شيء هنى اهلل‬
‫َت َب َار َك َو َت َعا َلى عباده عنه‪ ،‬وتو ّعد أهله بأن ّ‬
‫يعذهبم يوم القيامة‪ ،‬وأن يخ ّلدهم يف نار جهنم أبد اآلباد‪،‬‬
‫وأن يدخلهم نار جهنم وأن يبقوا فيها مخلدين‪ ،‬ال يقضى عليهم فيموتوا وال يخفف عنهم من‬
‫عذاهبا‪.‬‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم من الوعيد‬
‫وكل مسلم قرأ ما جاء يف القرآن الكريم وسنة النبي َص ّلى ه‬
‫للمشركين والتهديد لهم والعقوبات التي أعدها اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى لهم يخاف من الشرك أعظم‬
‫الخوف‪ ،‬ويحاذره أشد المحاذرة‪ ،‬ويحتاط لنفسه من أن يقع فيه أو يف شيء من جوانبه‪.‬‬
‫مت فإن هذه القواعد العظيمة المباركة التي جمعها المصنف ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪-‬‬
‫وكما قدّ ه‬
‫تعين العبد على ضبط هذا األمر و تعينه على حسن فهمه‪ ،‬وعلى السالمة من شبهات أهل الباطل‪.‬‬

‫وقد بدأها ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬بقوله‪َ « :‬و َذل َك ب َم ْعر َفة َأ ْر َبع َق َواعدَ َذك ََر َها ه‬
‫اهلل َت َعا َلى في كتَابه»؛‬

‫وقوله ‪-‬رحمة اهلل عليه‪َ « :-‬ذك ََر َها ه‬


‫اهلل في كتَابه» هيبيّن لنا المنهج الذي سار عليه ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬يف بيان‬
‫ويقرره يذكر شواهد ذلك من كتاب اهلل َع ّز َو َج ّل‬
‫العلم وتقرير الحق والهدى‪ ،‬فهو يف كل ما يب ّينه ّ‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم‪ ،‬ال يأيت بشيء من ق َبل نفسه‪ ،‬وال َيبني هحكما على الهوى أو على‬
‫وسنة نبيه َص ّلى ه‬
‫التجربة أو على الذوق أو نحو ذلك من المسالك التي يسلكها كثير من الناس يف االستدالل لما‬
‫يقومون به من عبادات وأعمال‪.‬‬

‫فهو ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬ال يبني شيئا من أمور الدين إال على قال اهلل وقال رسوله َص ّلى ه‬
‫اهلل‬
‫َع َل ْيه َو َس ّل ْم‪ ،‬ولهذا جاءت عامة كتبه ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬قائمة على هذا األصل؛ يذكر الحكم‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم‪.‬‬
‫مضموما إليه دليله من كتاب اهلل َع ّز َو َج ّل وسنة نبيه َص ّلى ه‬
‫وهذه الطريقة هي الطريقة الصحيحة التي ينبغي أن يكون عليها كل مسلم يف عقيدته ودينه‪،‬‬
‫إذ كيف هتعرف العقيدة الصحيحة واإليمان القويم بغير االعتماد على كالم اهلل وكالم رسوله َص ّلى‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم؟!‬
‫ه‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪31‬‬

‫وكما قال من قال من أهل العلم‪" :‬كيف هيرام الوصول إلى علم األصول بغير معرفة ما جاء به‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم‪.‬‬
‫الرسول" َص ّلى ه‬
‫وكان شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬كثيرا ما يقول‪" :‬من فارق الدليل ضل السبيل‪ ،‬وال‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم‪.‬‬
‫دليل إال بما جاء به الرسول" َص ّلى ه‬
‫فهذه جادة مباركة وطريق قويمة كان عليها اإلمام المجدد ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ ،-‬وكان عليها‬
‫اهلل َع َل ْيه‬
‫أئمة أهل العلم من قبله وكذا من بعده‪ ،‬يقيمون أمور الدين على قال اهلل قال رسوله َص ّلى ه‬
‫َو َس ّل ْم‪.‬‬

‫ولهذا قال لك هنا‪َ « :‬و َذل َك ب َم ْعر َفة َأ ْر َبع َق َواعدَ َذك ََر َها ه‬
‫اهلل َت َعا َلى في كتَابه»‪ ،‬ثم شرع يف ذكرها‬
‫قاعدة تلوى األخرى؛‬

‫بدأ بالقاعدة األولى‪ ،‬قال‪:‬‬

‫الراز هق‬ ‫ون ب َأ ّن َ‬


‫اهلل َت َعا َلى هه هو ا ْل َخال هق ّ‬ ‫« َأ ْن َت ْع َل َم َأ ّن ا ْل هك ّف َار ا ّلذي َن َقا َت َل هه ْم َر هس ه‬
‫ول اهلل ﷺ همق ُر َ‬
‫ا ْل همدَ ّب هر‪َ ،‬و َأ ّن َذل َك َل ْم هيدْ خ ْل هه ْم في اإل ْسالم »‪.‬‬
‫وهذا ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬أصل عظيم وقاعدة مهمة جدا يف هذا الباب؛ أن نعلم أن الكفار‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم‬
‫المشركين الذين ورد ذ ُمهم يف آيات كثيرة من القرآن الكريم وقاتلهم النبي َص ّلى ه‬
‫المنعم هو اهلل‬ ‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم‪ -‬كانوا ّ‬
‫مقرين بأن الخالق الرازق ه‬ ‫واستباح أموالهم وقاتلهم ‪َ -‬ص ّلى ه‬
‫َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ ،‬ما كانوا يقولون إن الذي يخلق هو األصنام‪ ،‬أو الذي يرزق هو األصنام‪ ،‬أو الذي‬
‫يعطي ويمنع هو األصنام‪ ،‬ما كانوا يقولون ذلك؛ بل يقولون‪ :‬الخالق هو اهلل‪ ،‬الرازق اهلل‪ ،‬المنعم‬
‫ويقرون به‪ ،‬واهلل هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى ب ّين لنا ذلك يف القرآن الكريم‬
‫اهلل‪ ،‬المدبر اهلل‪ ،‬كانوا يقولون ذلك ّ‬
‫يف آيات كثيرة جدا‪ ،‬ب ّين فيها َت َب َار َك َو َت َعا َلى أن المشركين الكفار الذين قاتلهم النبي َص ّلى ه‬
‫اهلل َع َل ْيه‬

‫(‪ )1‬ابن أبي العز الحنفي‪ ،‬شرح العقيدة الطحاوية (ص‪.)70:‬‬


‫(‪ )2‬ابن القيم‪ ،‬مفتاح دار السعادة (‪.)04/7‬‬
‫‪30‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫َو َس ّل ْم كانوا مقرين بأن الخالق الرازق المنعم المتصرف المدبر هو اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى ولم يدخلهم‬
‫هذا اإلقرار يف اإلسالم‪ ،‬كما بين ذلك المصنف ‪-‬رحمه اهلل‪ ،-‬قال‪َ « :‬ل ْم هيدْ خ ْل هه ْم في اإل ْسالم »؛‬
‫ألن الدخول يف اإلسالم ال يكون بمجرد اإلقرار بربوبية اهلل وأنه َع ّز َو َج ّل الخالق الرازق المنعم‬
‫فرد َت َب َار َك َو َت َعا َلى بالعبادة‬
‫المتصرف؛ بل ال بد مع ذلك من اإلتيان بالزم هذا اإلقرار‪ ،‬أال وهو أن هي َ‬
‫خص وحده َع ّز َو َج ّل بالطاعة‪ ،‬وأن ال هيجعل معه شريك وأن يخلص الدين له َج ّل َو َع َال ‪،‬‬ ‫وأن هي ّ‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ ُْ‬ ‫َ َُُْ‬ ‫َ ُ‬
‫ُ‬
‫﴿وما أ ِمروا ِإال ِِلعبدوا اَّلل ُم ِل ِصني َل الين﴾ ‪.‬‬ ‫كما قال سبحانه‪َ :‬‬
‫َ ْ ُ ُ ْ ََ َ َ ُْ ُ ْ َ ْ‬
‫َركوا ِب ِه شيئًا﴾ ‪.‬‬ ‫وكما قال َج ّل َو َع َال‪﴿ :‬واعبدوا اَّلل وال ت ِ‬
‫َ َ َ َْ ُ ْ َ‬ ‫ََ َ‬
‫﴿وقَض َر ُبك أال تعبُدوا ِإال ِإيَ ُاه﴾ ‪.‬‬ ‫وكما قال َج ّل َو َع َال‪:‬‬
‫ُِ َُ َ ُ ً َ ْ ُ ُ ْ ََ َ ْ َ ُ ْ َ ُ َ‬ ‫ََ ْ َْ‬
‫وكما قال َج ّل َو َع َال‪َ ﴿ :‬ولقد َب َعثنا ِِف لُك أم ٍة رسوال أ ِن اعبدوا اَّلل واجتنِبوا الطاغوت﴾ ‪.‬‬
‫ُْ َ َ َْ َُْ َ َ َ َ َُ ُ ْ َ َْ ُ ْ َ َ ُْ ُ ْ َ ْ‬
‫َركوا ِب ِه شيئًا﴾ ‪.‬‬
‫وكما قال َج ّل َو َع َال‪﴿ :‬قل تعالوا أتل ما حرم ربكّم عليكّم أال ت ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ِ ُ ْ‬
‫َّلل الين اْلالِص﴾ ‪.‬‬ ‫وكما قال َج ّل َو َع َال‪﴿ :‬أال ِ ِ‬
‫َ َ ََْ ُ ْ َ َ َ ً ََ ُ ْ َ ْ َ ُ َ‬
‫َّلل أندادا وأنتّم تعلمون﴾ ‪.‬‬ ‫وكما قال َج ّل َو َع َال‪﴿ :‬فال َتعلوا ِ ِ‬
‫واآليات يف هذا المعنى كثيرة جدا‪.‬‬
‫فال يكون المرء موحدا هلل َع ّز َو َج ّل إال إذا أخلص العبادة هلل‪ ،‬ال بمجرد إقراره بأن الرب اهلل‪،‬‬
‫والرازق اهلل‪ ،‬والخالق اهلل‪ ،‬والمنعم اهلل‪ ،‬هذه وحدها ليست كافية ألن يكون هبا العبد موحدا‪ ،‬إذ ال‬
‫يكون موحدا إال إذا جاء بالتوحيد العملي الذي هو‪ :‬إخالص العبادة هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى وإفراده‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 4 :‬من سورة البينة‪.‬‬


‫(‪ )2‬اآلية رقم‪ 46 :‬من سورة النساء‪.‬‬
‫(‪ )3‬اآلية رقم‪ 04 :‬من سورة اإلسراء‪.‬‬
‫(‪ )4‬اآلية رقم‪ 46 :‬من سورة النحل‪.‬‬
‫(‪ )5‬اآلية رقم‪ 747 :‬من سورة األنعام‪.‬‬
‫(‪ )6‬اآلية رقم‪ 4 :‬من سورة الزمر‪.‬‬
‫(‪ )7‬اآلية رقم‪ 00 :‬من سورة البقرة‪.‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪31‬‬

‫سبحانه بالعبادة دون سواه ؛ بأن ال يدعو إال اهلل‪ ،‬وال يستغيث إال باهلل‪ ،‬وال يصلي ويسجد ويركع‬
‫إال هلل‪ ،‬وال يذبح وال ينذر إال هلل‪ ،‬وال يتوكل ويرجو ويخاف إال من اهلل‪ ،‬وال يصرف شيئا من العبادة‬
‫ني (‪)760‬‬ ‫اي َو َم َماِت ََّلل َر ِب الْ َعالَم َ‬‫إال له َع ّز وج ّل‪ ،‬كما قال سبحانه‪﴿:‬قُ ْل إ َن َصالِت َون ُ ُسِك َو ََمْيَ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ك أم ْر ُت َوأنَا ْ أ َو ُل ال ْ ُم ْسلم َ‬ ‫َ َ َ َ َ َ‬
‫ني﴾ ؛ أي هبذا التوحيد وهذا اإلخالص هلل َع ّز َو َج ّل‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫َرغك َُل َو ِبذل ِ ِ‬
‫ال ِ‬
‫َََ ْ ُ َ َْ َ َ َ َ َ ْ َْ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ ََ ْ ََ َ َ َ ُ َ‬
‫اَّلين ِمن بب ِلك ل ِْن أَركت ِلببطن عملك‬ ‫وِح إِِلك و ِإَل ِ‬ ‫وقال اهلل َت َبا َر َك َو َت َعا َلى‪﴿ :‬ولقد أ ِ‬
‫ََ َ َ َ ْ‬ ‫َ ََ ُ‬ ‫الشا ِكر َ‬ ‫َ ََ َ ْ ُ ْ َُ ِ ْ َ‬ ‫اْلَاْس َ‬ ‫َََ ُ َ َ َ ْ‬
‫غن (‪َ )66‬وما قدروا اَّلل حّق قد ِرهِ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫ك‬‫و‬ ‫د‬ ‫ب‬‫اع‬ ‫ف‬ ‫اَّلل‬ ‫ل‬‫ِ‬ ‫ب‬ ‫)‬ ‫‪64‬‬ ‫(‬ ‫غن‬ ‫ِ ِ‬ ‫وَتكونن ِمن‬
‫ُ ْ َ َُ َََ َ َ َ ُْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ ُ َ ً َْ َ ُُ ََْ ْ َ َ َ َ َ َ ُ َ ْ َ ٌ‬
‫َركون‬ ‫َجيعا ببضته يوم ال ِقيام ِة والسماوات مط ِوغات ِبي ِمي ِن ِه سببانه وتعاَل عما ش ِ‬ ‫واألرض ِ‬
‫(‪. ﴾)61‬‬
‫ولما كانت هذه الرسالة رسالة مختصرة ال تحتمل االستيعاب وبسط الدالئل والشواهد‬
‫ّ‬
‫اكتفى بذكر دليل واحد من دالئل القرآن الكريم على أن الكفار المشركين الذين قاتلهم النبي َص ّلى‬
‫المتصرف المدبر هو اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مقرين بأن الخالق الرازق المنعم‬ ‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم كانوا ّ‬
‫ه‬
‫ُْ َ ْ َُُْ ُ‬
‫الس َما ِء‬
‫ك ّْم م َن َ‬
‫ِ‬ ‫فساق ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬ما جاء يف سورة يونس قول اهلل َع ّز َو َج ّل‪﴿ :‬قل من يرزق‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫عثت فيهم قائال لهم‪ :‬من يرزقكم؟‬ ‫ه َ‬‫ب‬ ‫الذين‬ ‫للمشركين‬ ‫الخطاب‬ ‫ا‬ ‫موجه‬ ‫النبي‬ ‫أيها‬ ‫قل‬ ‫؛‬‫﴾‬ ‫ض‬ ‫َو ِ‬‫ر‬ ‫األ‬
‫ار َو َم ْن ُُيْرجُ‬ ‫األبْ َص َ‬‫َْ ََ ْ َ ْ ُ َ َْ َ‬ ‫َ ْ َُُْ ُ‬
‫ِ‬ ‫الس َما ِء َواألر ِض أمن يم ِلك السمع َو‬
‫ك ّْم م َن َ‬
‫ِ‬ ‫سلهم هذا السؤال‪﴿ :‬من يرزق‬
‫َ‬ ‫ْ َ َ َ َّْ َ ُْ ُ َّْ َ َ َْ ّ َ َ ْ َُ ُّ َ ْ‬
‫َح ومن يد ِبر األمر﴾ ‪ ،‬سل المشركين الذين يعبدون‬ ‫ت وُي ِرج الم ِيت ِمن ال ِ‬ ‫الَح ِمن الم ِي ِ‬
‫األصنام والذين اتخذوا اآللهة واألنداد وعبدوا مع اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى غيره‪ ،‬سلهم هذا السؤال‪ :‬قل‬
‫لهم من يرزقكم من السماء واألرض؟ من الذي يم ُن عليكم بالرزق من السماء؟ أي باألمطار التي‬
‫حملة بالخير والربكة والغيث للناس والعباد والماشية‪ ،‬ومن األرض بإخراج‬
‫تنزل من السماء هم ّ‬
‫يمن ‪َ -‬ت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ -‬هبا على عباده‪ ،‬ماذا يقولون؟ هل‬
‫النباتات والزرع وأصناف النعم التي ُ‬
‫يقولون إن الذي يرزقنا من السماء واألرض هو األصنام؟ ال يقولون ذلك‪ ،‬بل يعتقدون أن األصنام‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ )764 -760( :‬من سورة األنعام‪.‬‬


‫(‪ )2‬اآليات رقم‪ )61 - 64( :‬من سورة الزمر‪.‬‬
‫(‪ )3‬اآلية رقم‪ 47 :‬من سورة يونس‪.‬‬
‫‪33‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫ليست خالقة وال رازقة وال مد ّبرة وال متصرفة‪ ،‬إذن لماذا يعبدوهنا؟ سيأيت الجواب على ذلك‪ .‬ال‬
‫يعتقدون أهنا خالقة وال يعتقدون أهنا رازقة وال يعتقدون أهنا مدبرة أو مصرفة‪ ،‬ال يعتقدون ذلك‪،‬‬
‫وإذا سئلوا‪ :‬من يرزقكم من السماء واألرض؟ ال يقولون األصنام‪ ،‬بل يقولون‪ :‬اهلل هو الذي يرزقنا‬
‫من السماء واألرض‪ .‬أيضا سلهم‪ :‬من يملك السمع واألبصار؟ من الذي بيده ملك السمع وملك‬
‫البصر وملك كل شيء؟ سيقولون ‪ :‬اهلل هو المالك للسمع والبصر والمالك لكل شيء‪ .‬أيضا‬
‫سلهم من هيخرج الحي من الميت و هيخرج الميت من الحي؟ من هو الذي بيده الحياة والموت‬
‫والتصريف والتدبير ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي؟ ال يقولون األصنام‪ ،‬بل‬
‫يقولون‪ :‬الذي يفعل ذلك هو اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ ،‬الخالق لكل شيء‪ ،‬المتصرف يف هذا الكون وحده‬
‫‪َ -‬ج ّل َو َع َال‪ .-‬أيضا سلهم من الذي يدبر األمر؟ أي أمور هذا الكون من إحياء وإماتة‪ ،‬وعطاء‬
‫ومنع‪ ،‬وخفض ورفع‪ ،‬وعز وذل‪ ،‬وغير ذلك من أنواع التدبيرات‪ ،‬من الذي يقوم بذلك؟ ال يقولون‬
‫َ ُ ُ َ‬
‫األصنام هي التي تدبر األمر‪ ،‬بل يقولون‪ :‬اهلل‪.‬ولهذا قال َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪﴿ :‬ف َسيَقولون اهلل﴾ هذا‬
‫الجواب الذي يجيبون به‪.‬‬
‫َ ُ ُ َ‬
‫﴿ف َسيَقولون اهلل﴾ ؛ أي فسيقول المشركون الكفار إذا سألتهم هذا السؤال الذي يرزق من‬
‫السماء واألرض‪ ،‬والذي يملك السمع والبصر‪ ،‬والذي يخرج الحي من الميت‪ ،‬ويخرج الميت‬
‫من الحي‪ ،‬والذي يدبر األمر هو‪ :‬اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪.‬‬
‫َ ُ ْ َ َ َ َّ ُ َ‬
‫﴿فقل أفال تتقون﴾؛ إذا قالوا الذي يخلق هذه األشياء ويدبر هذه األمور هو‪ :‬اهلل‪ ،‬فقل لهم‪:‬‬
‫تقرون أنه ال خالق لكم‬
‫أال تتقون اهلل؟ لماذا تتخذون معه األنداد وتتخذون معه الشركاء؟ وأنتم ُ‬
‫وتخصونه‬
‫ُ‬ ‫غير اهلل‪ ،‬وال مدبر لألمر غير اهلل‪ ،‬وال مالك إال اهلل‪ ،‬أال تتقون اهلل‪ ،‬ف هتفردونه بالتوحيد‬
‫بالطاعة وتخلصون له الدين‪ ،‬وقد أقررتم أنه خالقكم ورازقكم والمدبر لألمور كلها؟ أال تتقون اهلل‬
‫َُْ ََ ََُ َ‬
‫َع ّز َو َج ّل؟ ﴿فقل أفال تتقون﴾؛ أي برتك الشرك والبعد عن الكفر وباإلخالص هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‬
‫بالعبادة والتوحيد‪.‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪34‬‬

‫فهذه اآلية ولها نظائر كثيرة جدا يف كتاب اهلل تركها المصنف مراعاة لالختصار يف هذه‬
‫قرون بأن الخالق الرازق المنعم المتصرف هو‬
‫الرسالة‪ ،‬كلها تشهد وتدل على أن المشركين كانوا هي ُ‬
‫اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪.‬‬
‫ويأيت هنا سؤال ّقرر من خالله المصنف ‪-‬رحمه اهلل تبارك وتعالى‪ -‬هذه القاعدة‪ :‬هل إقرار‬
‫المشركين بأن الخالق الرازق المنعم المالك هو اهلل‪ ،‬هل هذا اإلقرار أدخلهم يف التوحيد‬
‫واإلسالم؟ هل كانوا هبذا اإلقرار موحدين مسلمين؟ أم هم مع هذا اإلقرار مشركون باهلل كفار؟‬
‫َ َُ‬ ‫َ َ ُْ ُ َ َُْ ُ ْ َ‬
‫وانظر الجواب على هذا السؤال يف قوله َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪﴿ :‬وما يؤ ِمن أكَثهّم ِب ِ‬
‫اَّلل إِال وهّم‬
‫َ‬ ‫َ َ ُْ ُ َ َُْ ُ ْ َ‬ ‫ُ ْ ُ َ‬
‫اَّلل﴾؟ أي خالقا رازقا مالكا مدبرا متصرفا ﴿ ِإال‬ ‫ِ ِ‬ ‫ب‬ ‫ّم‬ ‫ه‬ ‫َث‬ ‫ك‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ؤ‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫م‬‫﴿و‬ ‫‪:‬‬‫قوله‬ ‫معنى‬ ‫ما‬ ‫‪.‬‬ ‫﴾‬ ‫ون‬ ‫َرك‬
‫م ِ‬
‫َُ ُ ْ ُ َ‬
‫يقرون بأنه الخالق ولكن يدعون غيره‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫العبادة‪،‬‬ ‫يف‬ ‫غيره‬ ‫معه‬ ‫مشركون‬ ‫وهم‬ ‫إال‬ ‫أي‬ ‫﴾‬ ‫ون‬ ‫َرك‬
‫وهّم م ِ‬
‫ويتوكلون على غيره‪ ،‬ويذبحون لغيره‪ ،‬ويصرفون أنواعا من العبادة لغيره‪ ،‬هذا هو معنى قوله‪:‬‬
‫َ َ ُْ ُ َ َُْ ُ ْ َ َ َ ُ ُ ْ ُ َ‬
‫َركون﴾‪.‬‬‫اَّلل ِإال وهّم م ِ‬‫﴿وما يؤ ِمن أكَثهّم بِ ِ‬
‫كّمْ‬‫َ ََ ُ‬ ‫َ ََُ َ ُ ُُْ ََ ُ ُ َ‬
‫اَّلي خلق‬ ‫وأيضا قوله َت َب َار َك َو َت َعا َلى يف سورة البقرة‪﴿ :‬يا أيها اّنلاس اعبدوا ربكّم ِ‬
‫َ َ َ َ ُ ُ َْ ْ َ َ ً َ َ َ َ َ ً َْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ْ َْ ُ ْ َََ ُ ْ ََُ َ‬
‫اء َوأن َزل ِم َن‬ ‫اَّلي جعل لكّم األرض فِراشا والسماء ِبن‬ ‫ين ِمن بب ِلكّم لعلكّم تتقون (‪ِ )07‬‬ ‫اَّل‬
‫و ِ‬
‫ْ ً َ ُ ْ َ َ ََْ ُ َ َْ َ ً ََُْ ْ َ ْ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ً ََ ْ‬
‫َّلل أندادا وأنتّم تعلمون﴾ ؛‬ ‫ات ِرزقا لكّم ۖ فال َتعلوا ِ ِ‬
‫السما ِء ماء فأخرج ِب ِه ِمن اّثلمر ِ‬
‫ََ ََْ ُ َ‬ ‫ََُْ ْ َ ْ َ ُ َ‬
‫َّلل‬
‫ِ ِ‬ ‫وا‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫َت‬ ‫ال‬ ‫ف‬‫﴿‬ ‫األنداد‬ ‫اتخذوا‬ ‫الذين‬ ‫للمشركين‬ ‫الخطاب‬ ‫و‬ ‫؟‬ ‫﴾‬‫ون‬ ‫ما معنى قوله‪﴿ :‬وأنتّم تعلم‬
‫َْ َ ً ََُْ ْ َ ْ َ ُ َ‬
‫أندادا وأنتّم تعلمون﴾‪ ،‬تعلمون ماذا؟ تعلمون أنه ال خالق لكم غير اهلل‪ ،‬ال رازق لكم غير اهلل‪ ،‬ال‬
‫مدبر لألمر غير اهلل‪ ،‬أنتم تعلمون ذلك‪ ،‬والشواهد على أهنم يعلمون ذلك ها هي أمامنا من كتاب‬
‫اهلل‪ :‬من يملك السمع واألبصار؟ من يرزقكم من السماء واألرض؟ من يدبر األمر؟ من يخرج‬
‫الحي من الميت؟ كل ذلك يجيبون قائلين‪ :‬اهلل‪ .‬إذن هم يعلمون أن الذي يخلق ويرزق و هينعم‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 726 :‬من سورة يوسف‪.‬‬


‫(‪ )2‬اآليات‪ )00 -07( :‬من سورة البقرة‪.‬‬
‫‪35‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫والموجد لذلك والخالق لذلك هو اهلل‬


‫ويدبر و هيحي ويميت ويتصرف يعلمون أن الفاعل لذلك ه‬
‫َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ ،‬ليس له شريك يف ذلك‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬لماذا يتخذون األنداد والشركاء؟ هذا سؤال‪ ،‬هل الجواب على ذلك أهنم اتخذوا‬
‫األنداد والشركاء ألهنم يعتقدون أن هذه األنداد تخلق؟ وأهنا تحي وتميت؟ وأهنا ترزق من السماء‬
‫واألرض؟ وأهنا تملك السمع واألبصار؟ هل هذا الجواب على هذا السؤال صحيح؟ أبدا‪ ،‬إذن‬
‫يقرون أهنا ال تخلق‪ ،‬وال ترزق‪ ،‬وال تدبر األمر‪ ،‬وال هتحي‪ ،‬وال‬
‫لماذا كانوا يتخذون األنداد مع أهنم ُ‬
‫تميت؟ لماذا كانوا يتخذون األنداد؟ الجواب على ذلك سيأيت عند المصنف ‪-‬رحمه اهلل تبارك‬
‫وتعالى‪ -‬يف قاعدة آتية‪.‬‬
‫لكن هنا ينبغي أن نفهم من هذه القاعدة العظيمة التي ذكرها ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬أن إقرار‬
‫المرء بأن الخالق‪ ،‬الرازق‪ ،‬المنعم‪ ،‬المتصرف‪ ،‬هو اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ ،‬هذا وحده ال يكفي ألن يكون‬
‫به موحدا هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ ،‬بل ال يكون موحدا هلل إال إذا أتى بالزمه؛ أال وهو إفراد اهلل َت َب َار َك‬
‫َ َ ََْ ُ ْ َ َ َ ً َ‬
‫َّلل أندادا َوأنتُ ّْم‬‫َو َت َعا َلى بالعبادة وإخالص الدين له‪ ،‬كما قال ربنا َج ّل َو َع َال‪﴿ :‬فال َتعلوا ِ ِ‬
‫َََ َُ ُ ْ َ ْ ُ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ََُْ َ‬
‫تفرد بالخلق‬ ‫ّ‬ ‫الذي‬ ‫الرب‬ ‫اعبدوا‬ ‫أي‬ ‫؛‬ ‫﴾‬ ‫ون‬
‫ِ‬ ‫د‬ ‫ب‬‫اع‬ ‫ف‬ ‫ّم‬ ‫ك‬ ‫ب‬‫ر‬ ‫ا‬ ‫ن‬‫أ‬‫﴿و‬ ‫‪:‬‬‫ال‬
‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫ل‬
‫َ َ‬ ‫ج‬ ‫قال‬ ‫كما‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬‫﴾‬ ‫ون‬ ‫تعلم‬
‫والرزق والملك واإلحياء والتدبير والتصرف‪َ ،‬أفردوه وحده ‪َ -‬ت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ -‬بالعبادة‪.‬‬
‫ولهذا كانت هذه الحقيقة التي قررها القرآن واهتدى إليها بعض المشركين كانت سببا‬

‫لهدايتهم وتركهم لعبادة األوثان وتخ ُلصهم من عبادة األصنام التي ال تملك شيئا‪ ،‬وال تملك ّ‬
‫ضرا‬
‫وال عطاء وال نفعا‪.‬‬
‫مثل قصة عمرو بن الجموح وهي قصة عجيبة كانت سبب إسالمه‪ ،‬وكان سيدا يف قومه‪،‬‬
‫خص نفسه بصنم عنده يف البيت همحتفيا به همعتنيا به‪ ،‬يط ّيبه وينظفه ويجمله‪ ،‬ووضعه يف‬
‫وكان قد ّ‬
‫مكان جميل يف البيت‪ ،‬وكان كلما دخل إلى بيته عبده‪ .‬فم ّن اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى على ابنه معاذ‬
‫باإلسالم وعلى بعض صغار األنصار ‪-‬صغار الخزرج‪ ،-‬فخططوا خطة يوضحوا من خاللها‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 50 :‬من سورة األنبياء‪.‬‬


‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪36‬‬

‫لعمرو بن الجموح أن هذه األصنام ال تست حق العبادة‪ ،‬مثل الخطة التي قام هبا إمام الحنفاء إبراهيم‬

‫الخليل َع َل ْيه ّ‬
‫الس َال ْم‪ ،‬فجاؤوا يف الليل وعمرو بن الجموح نائم‪ ،‬وأخذوا الصنم وذهبوا به إلى‬
‫المكان الذي تقضى فيه الحاجة ووضعوا الصنم همن ّكسا على رأسه فوق ال َعذرة‪ ،‬فلما أصبح يريد‬
‫أن يعبد ذلك الصنم‪ ،‬أخذ يبحث عنه هنا وهناك إلى أن وجده من ّكسا على رأسه فوق ال َعذرة‪،‬‬
‫فغضب من هذا المنظر وال يزال قلبه متعلقا هبذا الصنم‪ ،‬فأخذه وغسله ونظفه وط ّيبه وأعاده إلى‬
‫مكانه وعبده‪ ،‬وهو قبل قليل حمله من فوق ال َعذرة ملطخا بال َعذرة‪ ،‬وأخذه وغسله بنفسه وأزال عنه‬
‫الوسخ بيده ونظفه ثم وضعه أمامه وقام على عبادته!!‬
‫ثم أعادوا الكرة مرة ثانية‪ ،‬بحث عنه ووجده هبذه الصفة ونظفه وأعاده إلى مكانه واستمر‬
‫على عبادته‪.‬‬
‫المرة الثالثة لما أعاد الصنم إلى البيت جاء يف الليل ووضع بجانب الصنم سيف‪ ،‬قال‪ :‬إن‬
‫كنت صادقا دافع عن نفسك‪ ،‬يعني إلى متى أنا الذي أدافع عنك وأنا الذي أبحث عنك وأنظفك؟‬
‫جاؤوا يف الليل وأخذوا الصنم بالسيف وذهبوا إلى المكان الذي تلقي فيه النساء الحيض‬
‫والقاذورات‪ ،‬وربطوا يف عنقه كلب ميت‪ ،‬وأخذوا السيف ورموه يف هذا المكان‪ ،‬وأخذ يبحث عنه‬
‫ثم وجده هبذه الصفة‪ ،‬وحينئذ طابت نفسه‪ ،‬طابت نفسه لما تقرر عنده هذا األمر؛ إذا كان ال ينفع‬
‫نفسه‪ ،‬كيف ينفعني؟ إذا كان ال يملك لنفسه دفعا وال نفعا وال عطاء وال منعا‪ ،‬لماذا أعبده؟ لماذا‬
‫أبكي عنده؟ لماذا أرجوه؟ لماذا أمد يدي عنده أدعوه‪ ،‬وهو ال يملك شيئا لنفسه؟ كيف يملك لي‬
‫شيئا وهو ال يملك شيئا لنفسه؟‬
‫مثل هذه القصة أيضا‪ ،‬قصة رجل من المشركين سافر إلى مكان بعيد ومعه أغنامه إلى صنم‬
‫من األصنام‪ ،‬وهو يريد أن يدعوه ويسأله ويعرض عليه حاجاته‪ ،‬ولما وصل إلى الصنم فوجئ أن‬
‫فوق الصنم ثعلب‪ ،‬والثعلب يبول‪ ،‬والبول ينزل من فوق رأس الصنم إلى أسفل قدميه‪ ،‬فهاله‬
‫المنظر ثم قال بيتا‪:‬‬
‫ان َم ْن َبا َلـ ْت َع َل ْيه ال ّث َعال ه‬
‫ب‬ ‫َل َقدْ َه َ‬ ‫َأ َر ّب َي هبــ ه‬
‫ول ال ُث ْع هلبــــ ه‬
‫ان ب َرأسه‬
‫ورجع‪ ،‬ال تملك شيئا لنفسها‪ ،‬فكيف تملك شيئا لغيرها؟‬
‫‪37‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫َََ ََُ َ‬
‫يقول اهلل‪﴿ :‬أفال تتقون﴾ أال تتقون اهلل؟ كيف تعبدون أحجارا أو أشجارا ال تملك لنفسها‬
‫ضرا وال منعا وال عطاء وال خفضا وال رفعا‪ ،‬كيف تعبدون هذه األشياء؟‬
‫ّ‬
‫ثم هنا يأتيك سؤال ضعه يف بالك ألنه سيأيت فيه قاعدة عند المصنف ‪-‬رحمه اهلل‪ ،-‬قاعدة‬
‫حرمه اهلل هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى هو عبادة األحجار واألشجار فقط؟ أو عبادة كل‬
‫مهمة‪ ،‬هل الشرك الذي ّ‬
‫شيء سوى اهلل؟ مثال من عبد َملكا من المالئكة‪ ،‬هل يكون مشركا أو ال يكون مشركا إال إذا عبد‬

‫حجرا؟ من عبد نب ّيا من األنبياء كعيسى َع َل ْيه ّ‬


‫الس َال ْم أو غيره من األنبياء‪ ،‬هل يكون بذلك مشركا؟‬
‫أو ال يكون مشركا إال إذا عبد حجرا من األحجار؟‬
‫هذه مسألة مهمة‪ ،‬وسيأيت تقريرها وذكر الدالئل عليها من كتاب اهلل يف قاعدة مهمة جدا عند‬
‫المصنف ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪.-‬‬

‫إذن هذه القاعدة (القاعدة األولى)‪ّ ،‬قرر فيها ‪-‬رحمه تعالى‪ -‬أن إقرار العبد ّ‬
‫بأن الخالق‬
‫المنعم المتصرف المدبر هو اهلل‪ ،‬هذا وحده ال يكفي ألن يكون به موحدا‪ ،‬بل ال بد مع ذلك‬
‫الرازق ه‬
‫ّ‬
‫قر وأن يأيت بالزم ذلك وهو توحيد اهلل َع ّز َو َج ّل بالعبادة وإخالص الدين له َع ّز َو َج ّل‪.‬‬
‫أن هي ّ‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪38‬‬

‫القاعـدة الثانية‪:‬‬
‫املتـن‪ - :‬القاعـدة الثانية ‪-‬‬
‫الش َفا َعة‪َ .‬فدَ ل هيل ا ْل هق ْر َبة؛‬
‫ال ل َط َلب ا ْل هق ْر َبة َو ّ‬
‫َاه ْم َو َت َو ّج ْهنَا إ َل ْيه ْم إ ّ‬
‫ون‪َ :‬ما َد َع ْون ه‬ ‫َأن هّه ْم َي هقو هل َ‬
‫َْ َ َ َ َُُْ ُ ْ َ َُُِ َ َ َ َُْ َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ َ َ ََ ُ‬
‫اَّلل زلَف ِإن‬ ‫اَّلين اَّتذوا ِمن دونِ ِه أو ِِلاء ما نعبدهّم ِإال ِِلقربونا ِإَل ِ‬ ‫َق ْو هل هه َت َعا َلى‪﴿ :‬و ِ‬
‫ار﴾‬ ‫اَّلل ال َي ْهدي َم ْن ُه َو ََكذ ٌب َك َف ٌ‬ ‫ون إ َن َ َ‬‫ََْ ُ َ‬ ‫َ ُ ْ‬ ‫ََ َ ْ ُ ُ ََْ ُ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اَّلل َيكّم بينهّم ِِف ما هّم ِفي ِه ُيت ِلف ِ‬
‫َ ُ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ََُُْ َ ْ ُ‬
‫رُضه ّْم َوال‬ ‫اَّلل َما ال ي‬‫ون ِ‬ ‫الش َفا َعة؛ َق ْو هل هه َت َعا َلى‪﴿ :‬وغعبدون ِمن د ِ‬ ‫[الزمر‪َ ،]4:‬و َدل هيل ّ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ َ َُ ْ َ َ ُْ ََُُِ َ ََ َ َ َ ْ َ‬ ‫ََْ ُ ُ ْ َُ ُ َ َ ُ‬
‫ات وال‬ ‫ينفعهّم َوغقولون هؤال ِء شفعاؤنا ِعند اَّلل قل أتنبئون اَّلل ِبما ال يعلّم ِِف السماو ِ‬
‫َ‬
‫ُ ْ َ َُ َََ َ َ َ ُْ ُ َ‬ ‫َ‬
‫األ ْ‬
‫َركون﴾ [يونس‪.]70 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ش‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫اَل‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ان‬ ‫ب‬ ‫ب‬‫س‬ ‫ض‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِِف‬
‫الش َفا َع هة َش َفا َعتَان‪:‬‬
‫َو ّ‬
‫‪َ .7‬ش َفا َعة َمنْف ّية‪.‬‬
‫‪َ .0‬و َش َفا َعة هم ْث َبتَة‪.‬‬
‫اهلل؛ َوالدّ ل هيل َق ْو هل هه‬
‫يما ال َي ْقد هر َع َل ْيه إال ه‬ ‫ب م ْن َغ ْير اهلل ف َ‬ ‫َت هت ْط َل ه‬‫الش َفا َع هة ا ْل َمنْفيّ هة‪َ :‬ما كَان ْ‬
‫َف ّ‬
‫َ ْ‬ ‫َ َََْ ُ‬ ‫َ َُ َ َ َ َُ َْ ُ‬
‫اك ّْم ِم ْن َببْل أ ْن يَأ ِ َ‬
‫ِت يَ ْو ٌم ال َبيْ ٌع ِفي ِه َوال‬ ‫ن‬‫ب‬ ‫ز‬ ‫ر‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫م‬
‫اَّلين آمنوا أن ِف ِ‬
‫وا‬ ‫ق‬ ‫َت َعا َلى‪﴿ :‬يا أيها ِ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫ُ ٌَ َ َ َ ٌَ َْ‬
‫اعة َوالَكفِ ُرون ه ُّم الظال ِ ُمون﴾ [البقرة‪.]43:‬‬ ‫خلة وال شف‬
‫وع َل هه‪:‬‬
‫الش َفا َعة‪َ ،‬وا ْل َم ْش هف ه‬
‫الشاف هع هم ْك َرم ب ّ‬ ‫الش َفا َع هة ا ْل همثْ َب َتةه‪ :‬ه َي ا ّلتي هت ْط َل ه‬
‫ب م َن اهلل‪َ ،‬و ّ‬ ‫َو ّ‬
‫َْ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ْ َ َ‬
‫اَّلي شَشف ُع ِعندهُ ِإال‬ ‫اهلل َق ْو َل هه َو َع َم َل هه َب ْعدَ اإل ْذن؛ ك ََما َق َال َت َعا َلى‪﴿ :‬من ذا ِ‬ ‫َم ْن َرض َي ه‬
‫ْ‬
‫ِب ِإذنِ ِه﴾ [البقرة‪.]044 :‬‬

‫الشــرح‪:‬‬

‫وهذه هي القاعدة الثانية‪ ،‬وهي قاعدة عظيمة ومهمة جدا‪ ،‬وهي متممة ومكملة للقاعدة‬
‫اهلل َع َل ْيه‬
‫األولى‪ ،‬وذلك أننا عرفنا يف القاعدة األولى أن المشركين الذين هبعث فيهم رسول اهلل َص ّلى ه‬
‫يقرون بأن الخالق الرازق المنعم المتصرف هو اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ ،‬وأن هذا لم يدخلهم‬
‫َو َس ّل ْم كانوا ُ‬
‫يف اإلسالم‪.‬‬
‫‪39‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫قرون بأن الذي يخلق ويرزق و هينعم ويتصرف و هيدبر‬


‫إذن يأيت سؤال يطرح نفسه‪ ،‬إذا كانوا هي ُ‬
‫األمر هو اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ ،‬فلماذا يعبدون هذه األصنام؟ إذا كانوا هي ُ‬
‫قرون أهنا ال تخلق وال ترزق‬
‫قرون أهنا ال تخلق وال تملك وال ترزق وال تدبر األمر؟‬
‫وال تعطي وال تمنع‪ ،‬لماذا يعبدوهنا؟ وهم هي ُ‬
‫كما هو واضح يف الدليل الذي ساقه المصنف ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬يف القاعدة األولى‪ ،‬إذن يأيت سؤال هنا‬
‫يطرح نفسه‪ :‬لماذا يعبدوهنا؟ لماذا يتجهون إليها بالسؤال؟ لماذا يبكون عندها ويتضرعون إليها‪،‬‬
‫ويلحون عليها بالطلب ويصرفون لها أنواعا من العبادة؟ لماذا؟ ما السبب؟‬
‫ُ‬
‫يأيت الجواب يف هذه القاعدة‪.‬‬
‫ال ل َط َلب ا ْل هق ْر َبة‬
‫َاه ْم َو َت َو ّج ْهنَا إ َل ْيه ْم إ ّ‬ ‫قال ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬القاعدة الثانية‪َ « :‬أن هّه ْم َي هقو هل َ‬
‫ون‪َ :‬ما َد َع ْون ه‬
‫الش َفا َعة»؛ المشركون يقولون‪ :‬نحن لم نتجه إلى هذه األصنام ولم ندعو هذه األصنام ألهنا تخلق‬
‫َو ّ‬
‫أو ألهنا ترزق أو ألهنا هتحي‪ ،‬هذه أمور ليست إال هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ .‬إذن لماذا تعبدوهنا؟‬
‫يقولون‪ :‬نحن لم نعبدها إال للقربة والشفاعة‪ .‬ما معنى القربة؟ أي لتكون وسيلة لنا عند اهلل‪،‬‬

‫لتكون واسطة لنا عند اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ّ ،‬‬


‫نتوسط هبا إلى اهلل‪ ،‬نطلب منها هي أن تقربنا إلى اهلل‪ ،‬هي‬
‫يف نفسها نعتقد أهنا ال تخلق وال ترزق وال تملك وال تدبر ولكننا نعبدها من أجل أن تكون واسطة‬
‫لنا عند اهلل َتبَ َار َك َو َت َعا َلى‪ ،‬تقربنا من اهلل و هتدنينا منه َع ّز َو َج ّل‪ ،‬هذا هو السبب‪.‬‬
‫َاه ْم َو َت َو ّج ْهنَا إ َل ْيه ْم إال ل َط َلب ا ْل هق ْر َبة‬ ‫ولهذا قال‪َ « :‬أ ّن هه ْم ‪-‬أي المشركون‪َ -‬ي هقو هل َ‬
‫ون‪َ :‬ما َد َع ْون ه‬
‫الش َفا َعة»‪.‬‬
‫َو ّ‬
‫أعطنا الدليل على ذلك‪ ،‬ما الدليل على أن المشركين كانوا يعبدون األصنام لهذا السبب‬
‫بعينه‪ ،‬ولهذا الغرض بذاته؟‬
‫وقد عرفنا أن المصنف التزم يف بداية هذه القواعد أن يذكر دليلها من القرآن‪ ،‬ال يأيت بشيء‬
‫من نفسه؛ وإنما يذكر لك األمر مضموما إليه دليله من القرآن‪ ،‬فهنا ذكر القاعدة الثانية وهي‪ :‬أن‬
‫وتوجهنا إليها من أجل القربة‬
‫ّ‬ ‫المشركين كانوا يقولون أننا إنما دعونا هذه األصنام ورجوناها‬
‫والشفاعة‪ ،‬أعطنا الدليل على ذلك‪..‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪41‬‬

‫ْ ُ َْ َ َ َْ ُ ُ َ‬ ‫َ َ َ ََ ُ‬
‫اء َما نعبُده ّْم إِال ‪ ،» ﴾..‬اآلن‬ ‫ين اَّتذوا ِمن دو ِن ِه أو ِِل‬ ‫قال‪َ « :‬فدَ ل هيل ا ْل هق ْر َبة؛ َق ْو هل هه َت َعا َلى‪﴿ :‬و ِ‬
‫اَّل‬
‫ال‪ :‬ألهنا هتحي وتميت وتدبر األمر؟‬
‫ال‪ :‬ألهنا ترزق؟ إ ّ‬
‫ال‪ :‬ألهنا تخلق؟ إ ّ‬
‫يأتيك السبب‪ ،‬هل السبب إ ّ‬
‫َ َُ ُِ َ َ َ َْ‬
‫اَّلل ُزلَف﴾‪ ،‬ال لكوهنا خالقة‪ ،‬وال لكوهنا رازقة‪ ،‬وال‬
‫ال‪ ،‬إذن ما هو السبب؟ ﴿ ِإال ِِلقربونا ِإَل ِ‬
‫لكوهنا مد ّبرة‪ ،‬هذه أمور ال تملكها‪ ،‬هم يعتقدون أهنا ال تملك شيئا من ذلك‪ .‬إذن لماذا عبدتموها؟‬
‫َ َُُِ َ َ َ َْ‬
‫اَّلل ُزلَف﴾‪ ،‬أي من أجل‬
‫لماذا دعوتموها؟ لماذا توجهتم إليها؟ أجابوا قائلين‪﴿ :‬إِال ِِلقربونا إَِل ِ‬
‫قربنا إلى اهلل هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى؛ يقولون‪ :‬نحن أهل ذنوب‪ ،‬وأهل خطايا وأهل إسراف على‬
‫أن هت ّ‬
‫أنفسنا‪ ،‬وهذه فاضلة وكريمة ول ها منزلة ومكانة عند اهلل‪ ،‬فنحن نعبدها ونتوجه إليها من أجل أن‬
‫تقربنا إلى اهلل َع ّز َو َج ّل‪.‬‬
‫ْ ُ َْ َ َ َ َُُْ ُ ْ َ َُُِ َ َ‬ ‫َ َ َ ََ ُ‬
‫ين اَّتذوا ِمن دونِ ِه أو ِِلاء ما نعبدهّم ِإال ِِلقربونا ِإَل‬ ‫قال‪َ « :‬دل هيل ا ْل هق ْر َبة؛ َق ْو هل هه َت َعا َلى‪﴿ :‬و ِ‬
‫اَّل‬
‫اَّلل ال َي ْهدي َم ْن ُه َو ََكذ ٌب َك َف ٌ‬ ‫ََْ ُ َ‬
‫ون إ َن َ َ‬ ‫َ َُْ َ ََ َْ ُ‬
‫ك ُّم بَيْنَ ُه ّْم ِف َما ُه ْ‬
‫ار﴾ »‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف‬ ‫ل‬‫ت‬‫ُي‬
‫ِ ِ ِ‬‫ه‬‫ي‬ ‫ف‬ ‫ّم‬ ‫ِ‬ ‫اَّلل زلَف إِن اَّلل َي‬
‫ِ‬
‫سمى اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى هذه األمور التي يمارسها هؤالء ويقومون هبا كفرا باهلل ‪َ -‬ج ّل َو َع َال‪( -‬اتخاذ‬
‫ّ‬
‫األنداد والوسائط بينهم وبين اهلل ‪َ -‬ت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ -‬من أجل أن تقرهبم إلى اهلل َع ّز َو َج ّل)‪ّ ،‬‬
‫سمى اهلل‬
‫َت َب َار َك وتعالى ذلك كفرا باهلل َج ّل َو َع َال‪.‬‬
‫إذن هذا األمر األول الذي أشار إليه المصنف وهو‪ :‬القربة‪ ،‬أي أهنم إنما عبدوا هذه األصنام‬
‫من أجل القربة‪ ،‬أي من أجل أن تقرهبم من اهلل َع ّز َو َج ّل‪.‬‬
‫األمر الثاين هو‪ :‬الشفاعة‪ ،‬ما دليله؟ أي ما الدليل على أهنم عبدوها لتكون شافعا لهم عند اهلل‬
‫َ ُ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ََُُْ َ ْ ُ‬
‫رُضه ّْم‬ ‫اَّلل َما ال ي‬
‫ون ِ‬ ‫َع ّز َو َج ّل؟ ما الدليل على ذلك؟ قال‪َ « :‬ق ْو هل اهلل َع ّز َو َج ّل‪﴿ :‬وغعبدون ِمن د ِ‬
‫ُ َ َُ َْ َ‬ ‫َُ‬ ‫ُ ُ َ‬ ‫ََْ‬
‫َوال ينف ُع ُه ّْم َو َغقولون) ‪-‬أي الكفار المشركون‪( -‬هؤال ِء شف َعاؤنا ِعند اَّلل﴾ »؛ أي نحن عبدنا هذه‬
‫التي ال تضر وال تنفع من أجل أن تكون شافعا لنا عند اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪.‬‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 4 :‬من سورة الزمر‪.‬‬


‫(‪ )2‬اآلية رقم‪70 :‬من سورة يونس‪.‬‬
‫‪40‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫إذن هذه قاعدة مهمة ينبغي أن يفهمها المسلم حتى ال هيل ّبس عليه األمر وحتى ال هيوقع يف‬
‫الشرك من حيث أراد الحق والهدى‪ ،‬حتى ال يأيت بعض المبطلين و هيل ّبسون عليه هذه الحقيقة‬
‫و هيوقعونه يف الشرك باهلل من حيث أراد لنفسه الخير والهدى‪ ،‬ويقولون له هذه األصنام أو هذه‬
‫المعبودات أو هذه القباب واألضرحة إنما هتدعى و هي ّ‬
‫توجه إليها من أجل أن تكون واسطة بيننا وبين‬
‫اهلل َع ّز َو َج ّل‪ ،‬تقربنا إليه زلفى‪.‬‬
‫يقال له‪ :‬هذا األمر هو الذي ألجله عبد الكفار المشركون األصنام وتوجهوا إليها بالدعاء‬
‫والرجاء‪ ،‬ويقولون هؤالء شفعاؤنا عند اهلل‪.‬‬

‫ثم انطلق المصنف من هذا الموضع ل هيب ّين ‪-‬رحمة اهلل عليه‪ -‬أن الشفاعة نوعان‪ ،‬حتى ال‬
‫يلتبس باب الشفاعة وأمرها عند المسلم؛‬
‫الش َفا َع هة َش َفا َعتَان‪:‬‬
‫قال‪َ :‬و ّ‬
‫‪َ .7‬ش َفا َعة َمنْف ّية‪.‬‬
‫‪َ .0‬و َش َفا َعة هم ْث َبتَة‪.‬‬
‫ما معنى شفاعة منفية وشفاعة مثبتة؟ منفية أي نفاها اهلل‪ ،‬مثبتة أي أثبتها اهلل‪.‬‬
‫عندما تقرأ يف القرآن اآليات التي جاء فيها ذكر الشفاعة تجد أن يف القرآن‪ :‬شفاعة منفية‬
‫وشفاعة مثبتة‪.‬‬
‫إذا كان يف القرآن شفاعة منفية وشفاعة مثبتة‪ ،‬هل نحن نجعل الشفاعات كلها مثبتة أو ننفي ما‬
‫نفى اهلل منها ونثبت ما أثبته؟ انتبه‪ ،‬هنا قاعدة مهمة يف باب الشفاعة‪ ،‬عندما تقرأ القرآن الكريم تجد‬
‫يف القرآن شفاعة منفية‪ :‬نفاها اهلل‪ ،‬وشفاعة مثبتة‪ :‬أثبتها اهلل‪.‬‬

‫(‪(( )1‬الشيخ يسأل الحاضرين وينتظر اإلجابة‪ :‬ما معنى شفاعة منفية وشفاعة مثبتة؟ السؤال لكم‪ :‬ما معنى منفية ومثبتة؟ أنا أريد أن‬
‫أفهم معنى منفية ومثبتة))‪.‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪41‬‬

‫إذن الواجب علينا نحن عباد اهلل ‪ -‬هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى‪ -‬أن ننفي ما نفاه اهلل‪ ،‬وأن نثبت ما أثبته اهلل‬
‫هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى‪ ،‬أما ‪-‬والعياذ باهلل‪ -‬أن هيثبت اإلنسان من الشفاعة ما نفاه اهلل‪ ،‬هذا هو الباطل‬
‫والضالل‪.‬‬
‫إذن هذه قاعدة وأصل مهم يف هذا الباب؛ أن نميز بين الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية‪،‬‬
‫الش َفا َع هة َش َفا َعتَان‪َ :‬ش َفا َعة َمنْف ّية‪َ ،‬و َش َفا َعة هم ْث َبتَة»؛‬
‫وألجل هذا قال المصنف ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ّ « :-‬‬
‫‪ -‬شفاعة منفية‪ :‬أي نفاها اهلل ‪َ -‬ت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ -‬يف القرآن‪.‬‬
‫‪ -‬وشفاعة مثبتة‪ :‬أي أثبتها ‪َ -‬ت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ -‬يف القرآن‪.‬‬
‫وإذا كان األمر كذلك الواجب علينا أن ننفي من الشفاعة ما نفى اهلل‪ ،‬وأن نثبت من الشفاعة‬
‫ما أثبت اهلل‪ ،‬أما من يثبت شفاعة نفاها اهلل َتبَ َار َك َو َت َعا َلى فهذا عين الضالل والباطل‪.‬‬

‫الش َفا َع هة ا ْل َمنْف ّي هة‪َ :‬ما‬


‫الش َفا َع هة َش َفا َعتَان‪َ :‬ش َفا َعة َمنْف ّية‪َ ،‬و َش َفا َعة هم ْث َبتَة؛ َف ّ‬
‫قال ‪-‬رحمه اهلل‪َ «:-‬و ّ‬
‫اهلل» ؛‬
‫ال ه‬ ‫يما ال َي ْقد هر َع َل ْيه إ ّ‬ ‫َت هت ْط َل ه‬
‫ب م ْن َغ ْير اهلل ف َ‬ ‫كَان ْ‬
‫الشفاعة المنفية ‪-‬أي التي نفاها اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى يف القرآن‪ -‬واجب على كل مسلم أن‬
‫يعرفها‪ ،‬من أجل ماذا؟ من أجل أن يحذرها وأن يجتنبها وأن ال يقع فيها‪ ،‬ألن اهلل نفاها وأبطلها‪.‬‬
‫يما ال َي ْقد هر َع َل ْيه‬ ‫ما هي الشفاعة التي نفاها اهلل يف القرآن؟ قال‪َ « :‬ما كَان َْت هت ْط َل ه‬
‫ب م ْن َغ ْير اهلل ف َ‬
‫اهلل»؛ لو قال قائل لمخلوق كائنا من كان‪ :‬أسألك أن هتدخلني الجنة أو أن تجيرين من النار‪ ،‬أو أن‬
‫ال ه‬ ‫إ ّ‬
‫تث ّبتني على اإليمان‪ ،‬أو أن تعصمني من الخطأ‪ ،‬أو أن هتديني سواء السبيل‪ ،‬أو أن تجنبني مضالت‬
‫الفتن‪ ،‬أو أن تصلح لي ذريتي‪ ،‬أو أن تمن علي بالزوجة الصالحة‪ ،‬أو تمن علي بالذرية الصالحة‪ ،‬أو‬
‫أن تكتب لي رزقا وملكا‪...‬إلخ‪ ،‬من قدم هذه الطلبات لمخلوق من المخلوقات كائنا من كان‪،‬‬
‫مهما علت درجته وبلغت منزلته ‪(-‬ما كانت هتطلب من غير اهلل فيما ال يقدر عليه إال اهلل)‪ -‬هذه‬
‫شفاعة نفاها اهلل يف القرآن‪ .‬ما الدليل على أن اهلل نفاها يف القرآن؟‬
‫َ َُ َ َ‬
‫اَّلينَ‬
‫مضى المصنف على طريقته يذكر األمر بدليله‪ ،‬قال‪َ « :‬والدّ ل هيل َق ْو هل هه َت َعا َلى‪﴿ :‬يا أيها ِ‬
‫َ ُ ٌَ َ َ َ ٌَ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َْ ُ ْ ْ َ ْ َ ْ َْ‬ ‫َُ َْ ُ‬
‫آمنوا أن ِفقوا ِمما َرزبناكّم ِمن بب ِل أن يأ ِِت يوم ال بيع ِفي ِه وال خلة وال شفاعة﴾»‪ ،‬هنا‪﴿ :‬وال‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫‪43‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬
‫َ َ ٌَ‬
‫اعة﴾ نفي أو إثبات؟ نفي‪ ،‬هذه شفاعة نفاها اهلل هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى وأبطلها‪ ،‬وهي ما هيطلب من‬ ‫شف‬
‫غير اهلل فيما ال يقدر عليه إال اهلل‪.‬‬
‫هذا ضابط مهم ينبغي أن تحفظه ‪-‬أيها األخ المسلم‪ ،-‬هذا ضابط مهم تعرف من خالله‬
‫الشفاعة التي نفاها اهلل يف القرآن الكريم؛ ما هيطلب من غير اهلل فيما ال يقدر عليه إال اهلل هس ْب َحا َن هه‬
‫َو َت َعا َلى‪.‬‬
‫لو وقف رجل أمام ضريح من األضرحة أو قبة من القباب‪ ،‬وقال باكيا راجيا‪ :‬يا سيدي فالن‪،‬‬
‫أو يا فالن أرجو أن تمن علي بالولد والذرية‪ ،‬أنا عقيم‪ ،‬مثل ما كان بعض الجاهليين؛ تطوف المرأة‬
‫السنة‪( ،‬يا فحل‬
‫حول شجرة وتقول‪ :‬يا فحل الفحول أريد ولدا قبل الحول‪ ،‬يعني قبل أن تتم ّ‬
‫الفحول) تنادي الشجرة‪ .‬من نادى شجرة‪ ،‬أو ضريحا‪ ،‬أو قبة‪ ،‬أو وليا‪ ،‬أو نبيا‪ ،‬أو ملكا أو غير ذلك‪،‬‬
‫يطلب منه الذرية الصالحة‪ ،‬األنبياء عندما كانوا يطلبون الذرية ألنفسهم‪ ،‬ممن يطلبوهنا؟ اقرؤوا‬
‫ذلك يف آيات كثيرة من القرآن الكريم‪ ،‬يف قصة إبراهيم وقصة زكريا وقصص كثيرة‪ ،‬فاألنبياء ما‬
‫يكونوا يطلبون إال من اهلل‪ ،‬من طلب الذرية أو الزوجة أو الهداية أو الصالح أو الثبات أو االستقامة‬
‫أو كشف الكربات وإزالة الهموم‪ ،‬بعض الناس يخاطب بعض المقبورين يقول‪ :‬يا كاشف الغم‪ ،‬يا‬
‫مجيب المكروب‪ ،‬يا مغيث الملهوف‪ ،‬يا جابر الكسير أنا طريح عند بابك‪ ،‬أنا الئذ بجانبك إن لم‬
‫تأخذ بيدي من الذي يأخذ بيدي‪ ،‬يناجي مخلوقا‪.‬‬
‫َ َه ٌ َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ََُْ ُ ْ ُ ََ َْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ََ ْ ُ ُ ُْ ْ َ َ َ َ َ ُ ََ ْ ُ‬
‫اَّلل ۚ‬
‫أ ِإَل مع ِ‬ ‫ُييب المضطر ِإذا دَعه وغك ِشف السوء وُيعلكّم خلفاء األر ِض ۗ‬ ‫﴿أمن ِ‬
‫ََ َ َ‬ ‫َ ً‬
‫ق ِليال َما تذك ُرون﴾ ‪.‬‬
‫ال إليه ‪ -‬هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى‪.-‬‬ ‫هذه أمور هلل هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى‪ ،‬ال هي َ‬
‫لجأ فيها إ ّ‬
‫إذن الشفاعة التي نفاها اهلل َتبَ َار َك َو َت َعا َلى يف القرآن الكريم هي‪ :‬ما هيطلب من غير اهلل فيما ال‬
‫يقدر عليه إال اهلل‪ -‬هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى‪.-‬‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 64 :‬من سورة العنكبوت‪.‬‬


‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪44‬‬

‫إذا كان الناس يف الفلك وتالطمت هبم األمواج وأدركهم الغرق‪ ،‬من الذي ينقذهم؟ من الذي‬
‫يوقف الرياح ويهدئ األمواج ويس ّكن السفينة؟ من هو؟ اهلل رب العالمين‪.‬‬
‫َ َُ ِ َ َ َ ََ ُ‬ ‫ُْ ْ َ َ ُ ََ ُْ‬ ‫َ َ‬
‫ين فل َما ناه ّْم‬‫اَّلل ُم ِل ِصني َل ال‬ ‫واهلل ذكر عن أهل الشرك قال‪﴿ :‬ف ِإذا َر ِكبُوا ِِف الفل ِك دعوا‬
‫َ َِْ َ ُ ْ ُْ ُ َ‬
‫َركون﴾ ؛ يعرفون وهم يف تالطم األمواج ويف الشدائد أن الذي ينجي من‬ ‫ِإَل الْب ِإذا هّم ش ِ‬
‫الشدائد هو اهلل ليست األصنام‪ ،‬فلهذا كانوا يخلصون هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى يف الشدة ويشركون يف‬
‫الرخاء‪.‬‬
‫مع أن بعض المشركين يف األزمان المتأخرة الذين تعلقوا بغير اهلل من األنداد واألولياء‬
‫والقباب حتى يف الشدائد ويف الكربات يفزعون إلى تلك المعبودات‪.‬‬
‫وقرأت يف بعض الكتب أن جماعة كانوا يف سفينة وكان معهم رجل مسن‪ ،‬على التوحيد‬
‫والفطرة‪ ،‬فبدأت السفينة تتالطم‪ ،‬وبدأ كل يهتف بمعبوده‪ :‬يا سيدي فالن‪ ،‬يا موالي فالن‪ ،‬أدركني‬
‫يا فالن‪ ...‬يناجون المخلوقين‪ ،‬التفت هذا الرجل وإذا كل من على السفينة ليس فيهم من ينادي‬
‫اهلل‪ ،‬فمد يديه وقال‪ :‬يا رب! أغرق‪ ..‬أغرق فما على السفينة من يعبدك‪ ،‬كلهم يدعون غيرك‪.‬‬
‫الس َال ْم يف مثل هذه الحالة‪ ،‬ما كانوا يلتجئون‬ ‫المشركون الذين هبعث فيهم النبي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫ال إلى من؟ يف مثل هذه الشدة ما كانوا يلتجئون إال إلى اهلل هسبْ َحا َن هه َو َت َعا َلى‪ ،‬لهذا قال اهلل‪:‬‬ ‫يف الشدة إ ّ‬
‫َ َُ ِ َ َ َ َ ََ ُ ْ َ َِْ َ ُ ْ ُ ْ ُ َ‬ ‫ُْ ْ َ َ ُ ََ ُْ‬ ‫َ َ َ ُ‬
‫َركون﴾‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ش‬ ‫ّم‬ ‫ه‬ ‫ا‬ ‫ذ‬‫إ‬
‫ِ‬ ‫ْب‬ ‫ال‬ ‫َل‬‫إ‬
‫ِ‬ ‫ّم‬ ‫اه‬ ‫ن‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ل‬‫ف‬ ‫ين‬‫ال‬ ‫َل‬ ‫ني‬‫ص‬‫﴿ف ِإذا ر ِكبوا ِِف الفل ِك دعوا اَّلل ُم ِ ِ‬
‫ل‬
‫إذن الشفاعة المنفية‪ :‬ما هيطلب من غير اهلل فيما ال يقدر عليه إال اهلل‪.‬‬
‫أذكر لكم اآلن مثاال ننظر فيه هل هو من الشفاعة المثبتة أو من المنفية‪ ،‬بعض الزوار يأيت إلى‬
‫الس َال ْم‪ ،‬خطاب‬ ‫المدينة ومعه خطابات من بعض الناس يف بلده موجهة إلى النبي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫موجه إلى النبي‪ ،‬أنا اطلعت على شيء منها‪ ،‬أحدهم قرأت كالمه بلفظه‪ ،‬يقول‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬يا‬
‫سيدي‪ ،‬يا موالي‪ ...‬يا كذا ‪-‬ألقاب يذكرها‪ -‬أنا عبد كسير وفقير ذليل ومحتاج كذا وأنا الئذ بك‬
‫وملتجئ إليك‪ ،‬فال ترد طلبي وال ترد حاجتي‪ ،‬ثم ذكر حاجته؛ ذكر أنه يريد ‪-‬هذه طلباته بما قرأته‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 4 :‬من سورة طه‪.‬‬


‫‪45‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫بنفسي‪ :-‬يريد زوجة صالحة و يريد (فيال) جميلة ويريد ماال‪ ،‬وذكر أشياء‪ ،‬لكن أحفظ منها‪:‬‬
‫الس َال ْم‪،‬‬ ‫الزوجة الصالحة و(فيال) جميلة ويريد أيضا ماال‪ ،‬هذه ك َتبها يطلبها من النبي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫ويف النهاية قال‪ :‬وعنواين يف المكان الفالين‪.‬‬
‫َ ِ َ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ََ َ‬
‫أين هذا الكاتب لهذه الورقة من قوله َت َب َار َك َو َت َعا َلى لنب ّيه‪﴿ :‬و ِإذا سألك ِعبا ِدي عِن ف ِإِّن‬
‫َ ٌ ُ ُ َ ََْ َ ِ َ َ‬
‫اع ِإذا د ََع ِن﴾ ؟‬‫ق ِرغب ۖ أ ِجيب دعوة ال‬
‫وهنا انتبه إلى لطيفة عجيبة يف هذه اآلية يف سورة البقرة وسور أخرى‪ ،‬يقول اهلل تعالى‪:‬‬
‫َ‬
‫ُْ‬ ‫َ ْ َُ َ َ‬
‫الس َال ْم واسطة يف إبالغ الدين‬ ‫﴿شسألونك﴾ و هيتبع ذلك بقوله‪﴿ :‬قل﴾ لهم كذا‪ ،‬ألنه َعل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫ُْ ُ ًَ‬ ‫ك َعن ال ْ َ‬ ‫َ َ ْ َُ َ َ‬ ‫َ ْ َُ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ َ ُ َ‬
‫يض ۖ قل ه َو أذى﴾ ‪،‬‬ ‫ب‬
‫ِ ِ‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ون‬ ‫ل‬‫أ‬‫س‬ ‫ش‬‫و‬ ‫﴿‬ ‫‪،‬‬ ‫﴾‬‫اس‬
‫﴿شسألونك ع ِن األ ِهل ِة ۖ قل ِِه موا ِبيت لِلن ِ‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ْ َُ َ َ َ ََْ َ ه ُ ْ ْ َ ٌ َُ ْ َ‬
‫﴿وشسألونك ع ِن اِلتاَم ۖ قل إِصالح لهّم خري﴾ ‪ ،‬إلى غير ذلك من اآليات‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ َ‬
‫هنا يف هذه اآلية قال‪َ ﴿ :‬و ِإذا َسألك ِعبَا ِدي ع ِِن﴾ لم يقل‪( :‬قل)‪ ،‬ال تواجد هنا (قل)‪َ ﴿ ،‬و ِإذا‬
‫ٌ‬ ‫َ ِ َ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ َ‬
‫سألك ِعبا ِدي عِن ف ِإِّن ق ِرغب﴾ ألن التوجه إلى اهلل توجه بال واسطة‪.‬‬
‫أينما تكون يف الدنيا واحتجت إلى حاجة سل اهلل بدون واسطة‪ ،‬ال تبحث عن وسطاء‪،‬‬
‫مباشرة اتجه إلى اهلل‪ ،‬اسأله مباشرة‪ ،‬ارفع يديك أينما كنت يف الدنيا‪ ،‬حتى لو كنت يف كهف مظلم‪،‬‬
‫ويف صخرة هم ْطبقة عليك يف مكان مظلم توجه إليه‪ ،‬يراك رب العالمين ويطلع عليك ويكشف‬
‫والخ ْلق َخ ْلقه ‪-‬‬
‫َ‬ ‫كربتك ويزيل همك‪ ،‬ويرزقك من حيث ال تحتسب‪ ،‬األمور بيده والملك ملكه‬
‫َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪.-‬‬
‫المثال الذي ذكرته يف الخطاب الذي أشرت إليه‪ ،‬يندرج تحت أي شفاعة؟ مثبتة أو منفية؟‬
‫شفاعة منفية‪.‬‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 706 :‬من سورة البقرة‪.‬‬


‫(‪ )2‬اآلية رقم‪ 705 :‬من سورة البقرة‪.‬‬
‫(‪ )3‬اآلية رقم‪ 000 :‬من سورة البقرة‪.‬‬
‫(‪ )4‬اآلية رقم‪ 002 :‬من سورة البقرة‪.‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪46‬‬

‫الس َال ْم شفيع للناس‪ ،‬أليس هو‬ ‫ما نخلط األمور ونقول دلت األدلة على أنه َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫الس َال ْم قال لفاطمة ابنته‪ " :‬يا فاطمة بنت محمد‪ ،‬سليني ما شئت من مالي‪ ،‬ال أغني‬ ‫َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫عنك من اهلل شيئا" ؟ وقال ذلك لعمه العباس‪ ،‬ولعمته صفية ولقرابته‪ ،‬خاطبهم بذلك‪ ،‬وناداهم به‬
‫ات اهلل َو َس َال هم هه َع َل ْيه‪.-‬‬
‫‪َ -‬ص َل َو ه‬
‫إذن هذه شفاعة نفاها اهلل‪ ،‬نفاها اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى يف القرآن‪ ،‬فيجب علينا أن نحذر من الوقوع‬
‫يف مثل هذا األمر الذي نفاه اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى يف القرآن‪.‬‬

‫الش َفا َع هة ا ْل همثْ َب َت هة‪- :‬أي التي أثبتها اهلل يف القرآن‪ -‬ه َي ا ّلتي هت ْط َل ه‬
‫ب م َن اهلل» ‪-‬أنظر جمال‬ ‫قال‪َ « :‬و ّ‬
‫الشاف هع هم ْك َرم‬
‫ب م َن اهلل‪َ ،‬و ّ‬ ‫الش َفا َع هة ا ْل هم ْث َب َت هة‪ :‬ه َي ا ّلتي هت ْط َل ه‬
‫العلم وجمال البيان والنصيحة‪ّ « -‬‬
‫اهلل َق ْو َل هه َو َع َم َل هه َب ْعدَ اإل ْذن»؛ الشفاعة المثبتة هي التي هتطلب من‬ ‫وع َل هه‪َ :‬م ْن َرض َي ه‬
‫الش َفا َعة‪َ ،‬وا ْل َم ْش هف ه‬
‫ب ّ‬
‫يعا﴾ أي الشفاعة هلل‪.‬‬ ‫اع ُة ََج ً‬ ‫ُْ َ َ‬
‫الش َف َ‬ ‫َّلل‬
‫ِ‬ ‫اهلل‪ ،‬الشافع يطلبها من اهلل‪ ،‬ألن اهلل قال‪﴿ :‬قل ِ ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َ ْ َ َ‬
‫اَّلي شَشف ُع‬‫من أراد أن يشفع البد أن يأذن اهلل له‪ ،‬بدون إذن اهلل ال يكون‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬من ذا ِ‬
‫َ ْ َ‬ ‫َ َ َ َ ُْ َ َ َ‬ ‫ََ ْ ْ ََ‬ ‫َْ َ ْ‬
‫ات ال تغ ِِن شفاعتُ ُه ّْم شيئًا إِال‬ ‫﴿وكّم ِمن مل ٍك ِِف السماو ِ‬ ‫ِعند ُه إِال ِب ِإذنِ ِه﴾ ‪ ،‬ويف اآلية األخرى‪:‬‬
‫ْ َ ْ َ ْ ََْ َ َُ َ ْ ََ ُ ََْ َ‬
‫ِمن بع ِد أن يأذن اَّلل لِمن ششاء وغرض﴾ ‪ ،‬فإذن هي ملك هلل‪ ،‬وبيده َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪.‬‬
‫وأي أحد كائنا من كان يريد أن يشفع عند اهلل البد أن يأذن اهلل له بالشفاعة‪ ،‬هذا أمر‪.‬‬
‫وأيضا من أراد لنفسه أن يكون األنبياء والمالئكة شفعاء له عند اهلل يطلبها منهم أو من بيده‬
‫الشفاعة؟ انتبهوا‪ ،‬يطلبها منهم أي يتوجه إليهم يف طلبها‪ ،‬يناديهم‪ ،‬أو يتوجه إلى اهلل هسبْ َحا َن هه‬

‫(‪ )1‬صحيح مسلم (‪ ،)026‬صحيح البخاري (‪ ،)3117( )0144‬من حديث أبي هريرة ﭬ قال‪" :‬قام رسول اهلل ﷺ حين أنزل‬
‫ََْ ْ َ ََ َ َْ‬
‫األقْ َرب َ‬
‫ني﴾‪ .‬قال ‪ " :‬يا معشر قريش‪ ،‬أو كلمة نحوها‪ ،‬اشرتوا أنفسكم‪ ،‬ال أغني عنكم من اهلل شيئا ‪ ،‬يا بني عبد‬‫ِ‬ ‫اهلل ‪﴿ :‬وأن ِذر ع ِشريتك‬
‫مناف ال أغني عنكم من اهلل شيئا‪ ،‬يا عباس ابن عبد المطلب ال أغني عنك من اهلل شيئا‪ ،‬ويا صفية عمة رسول اهلل ال أغني عنك من‬
‫اهلل شيئا‪ ،‬ويا فاطمة بنت محمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬سليني ما شئت من مالي‪ ،‬ال أغني عنك من اهلل شيئا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬اآلية رقم‪ 33 :‬من سورة الزمر‪.‬‬
‫(‪ )3‬اآلية رقم‪ 044 :‬من سورة البقرة‪.‬‬
‫(‪ )4‬اآلية رقم‪ 06 :‬من سورة النجم‪.‬‬
‫‪47‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫َو َت َعا َلى؟ الشفاعة بيده‪ ،‬فمن أراد لنفسه أن يكون األنبياء والمالئكة شفعاء له عليه أن يقول يف طلبه‬

‫ودعائه‪ :‬يا رب‪ ،‬يا اهلل ‪-‬يسأل اهلل‪ -‬ش ّفع يفّ أنبياءك‪ ،‬أو يقول‪ :‬اللهم اجعل نبيك محمدا َص ّلى ه‬
‫اهلل‬
‫َع َل ْيه َو َس ّل َم شفيعا لي يوم القيامة‪ ،‬وهكذا نقول يف دعائنا ‪-‬نسأل اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ ،-‬نقول‪ :‬اللهم‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل َم شفيعا لنا يوم القيامة‪ ،‬اللهم اجعلنا ممن يشفع لهم نبيك‬
‫اجعل نبيك محمدا َص ّلى ه‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل َم يوم القيامة‪ ،‬نسأل اهلل َج ّل َو َع َال‪ ،‬نطلب من اهلل‪ ،‬ألن الشفاعة هملك هلل هس ْب َحا َن هه‬
‫َص ّلى ه‬
‫َو َت َعا َلى‪.‬‬
‫ََ ْ َ َ َ‬
‫﴿وال شَشف ُعون إِال‬ ‫وهي ال تكون إال بإذنه للشافع ورضاه ‪َ -‬ت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ -‬عن المشفوع له‬
‫َ َْ َ‬
‫ارتَض﴾ ‪.‬‬ ‫لِم ِن‬
‫وشفع له عند اهلل‬ ‫أرأيتم لو أن شخصا كافرا مشركا يعبد األوثان ومات على عبادة األوثان ه‬
‫َ ََْ‬
‫خرج هبا من النار؟ قال تعالى‪﴿ :‬ف َما تنف ُع ُه ّْم‬
‫َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ ،‬هل تنقذه هذه الشفاعة من النار؟ و هي َ‬
‫َ َ َُ َ‬
‫الشافع َ‬
‫ني﴾ ‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫شفاعة‬
‫هزا‪ ،‬رواها اإلمام البخاري يف صحيحه‪،‬‬
‫ويف صحيح البخاري قصة عظيمة جدّ ا هتز القلوب ّ‬
‫الس َالم‪ ،‬قال‪َ ":‬يلقى‬ ‫وهي قصة إبراهيم الخليل مع والده يوم القيامة ذكرها نبينا َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫إبراهيم الخليل أباه يوم القيامة فيقول له‪ :‬ألم أقل لك ال تعصني؟ فيقول والده‪ :‬اآلن ال أعصيك‪،‬‬
‫ال هتخزين يوم يبعثون‪ُ ،‬‬
‫وأي خزي‬ ‫ثم يقول إبراهيم الخليل‪ ،‬خليل الرحمن يقول‪ :‬يا رب ألم تعدين أ ّ‬
‫أخزى من أبي األبعد؟ فيقول اهلل َتبَ َار َك َو َت َعا َلى‪" :‬إين حرمت الجنة على الكافرين" هذا جواب اهلل‬
‫إلبراهيم ‪-‬خليل الرحمن‪ ،-‬ثم يقول اهلل له‪ :‬أنظر‪ ،‬فيلتفت وإذا والده صار على هيئة ذيخ ‪-‬الذيخ‬
‫ذكر الضباع‪ -‬ملطخ بدمه‪ ،‬قال‪ :‬فيؤخذ بقوائمه و هيطرح يف النار" ‪ .‬ذكر اهلل هس ْب َحا َن هه َو َت َعا َلى ذلك‬
‫عن والد إبراهيم‪.‬‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 82 :‬من سورة األنبياء‪.‬‬


‫(‪ )2‬اآلية رقم‪ 30 :‬من سورة المدثر‪.‬‬
‫(‪)3‬رواه البخاري (‪ ،)4442‬من حديث أبي هريرة ﭬ‪.‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪48‬‬

‫ْ َ َ‬ ‫َ َ َ َُ ًََ َ َ َ َ‬
‫ين كف ُروا ام َرأت‬ ‫واقرأ يف آخر سورة التحريم قول اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪َ﴿ :‬ضب اَّلل مثال ل ِ ِ‬
‫َّل‬
‫ْ َ َ َ َْ َ َ ََ ُ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ ُْ َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ََ َْ َ َ َْ‬ ‫َ ْ ََ َ ُ‬ ‫ُ‬
‫اَّلل‬
‫ني فخانتاهما فلّم يغ ِنيا عنهما ِمن ِ‬ ‫اْل ِ‬
‫وط ۖ َكنتا َتت عبدي ِن ِمن ِعبا ِدنا ص ِ‬ ‫وح وامرأت ل ٍ‬‫ن ٍ‬
‫َ ْ‬
‫شيئًا﴾ ‪ ،‬ونوح لم يغني عن ابنه شيئا ألنه كان كافرا‪ ،‬ولم يغني عن زوجته شيئا ألهنا كانت كافرة‪،‬‬
‫إبراهيم لم يغني عن أبيه شيئا ألنه كان كافرا‪.‬‬
‫فالشفاعة ال تكون إال بإذن اهلل للشافع ورضا اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى عن المشفوع له‪.‬‬
‫اهلل عنه سأل‬
‫واسمع حديثا رواه اإلمام مسلم يف صحيحه ‪-‬ينفعك اهلل به‪ -‬أبو هريرة َرض َي ه‬
‫الس َال ْم سؤاال مهما وعظيما وكبيرا‪ ،‬قال‪ :‬يا رسول اهلل من أحق الناس‬ ‫النبي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫بشفاعتك يوم القيامة؟ ماذا كان الجواب؟ قال‪" :‬من قال ال إله إال اهلل خالصا من قلبه" ‪.‬‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل َم أنه قال‪" :‬لكل نبي دعوة‬
‫وأيضا روى مسلم يف صحيحه عن نبينا َص ّلى ه‬
‫مستجابة وإين ادخرت دعويت شفاعة ألمتي يوم القيامة‪ ،‬وإهنا نائلة إن شاء اهلل‪ ،‬من ال يشرك باهلل‬
‫شيئا" ‪ ،‬انتبه هنا‪( :‬من ال يشرك باهلل شيئا) هل تنال كل أحد؟ "وإهنا نائلة إن شاء اهلل من ال يشرك‬
‫باهلل شيئا"‪.‬‬
‫ولهذا أنبهك هنا‪ :‬أن يف موضوع الشفاعة ثالثة فصول مهمة ينبغي أن تحفظها‪:‬‬
‫‪ -‬الفصل األول‪ :‬أن الشفاعة ال تكون إال بإذن اهلل‪.‬‬
‫‪ -‬الفصل الثاين‪ :‬أن الشفاعة ال تكون إال عن من رضي اهلل عنه‪ ،‬من رضي اهلل قوله وعمله‪.‬‬
‫‪ -‬الفصل الثالث‪ :‬أن اهلل هسبْ َحا َن هه َو َت َعا َلى ال يرضى إال عن أهل التوحيد‪.‬‬
‫هذه ثالثة فصول يف الشفاعة احفظها ينفعك اهلل ‪َ -‬ت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ -‬هبا‪.‬‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 72 :‬من سورة التحريم‪.‬‬


‫(‪ )2‬رواه البخاري (‪ ،)55‬من حديث أبي هريرة‪.‬‬
‫(‪(( )3‬ظاهر الحديث أهنا دعوة واحدة مستجابة وهذا خالف ما نعرفه عن دعوات األنبياء فغالبها مستجاب؛ ولذلك َأ ّو َل العلماء‬
‫عامة باإلهالك أو النجاة‪ ،‬أو الدعوة‬
‫هذه الكلمة على معان كثيرة‪ :‬كأن تكون هذه أهم الدعوات‪ ،‬أو تكون الدعوة على األمة ّ‬
‫المجابة على سبيل القطع ال الرجاء‪ ،‬وغير ذلك))‪ ،‬ابن حجر‪ :‬فتح الباري ( ‪.)56/77‬‬
‫(‪ )4‬رواه مسلم (‪ )755‬والرتمذي (‪ ،)4620‬من حديث أبي هريرة ﭬ‪.‬‬
‫‪49‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫هذه الشفاعة هبذه الضوابط هي الشفاعة التي أثبتها اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى يف القرآن‪.‬‬
‫الش َفا َعة‪،‬‬
‫الشاف هع هم ْك َرم ب ّ‬
‫ب م َن اهلل‪َ ،‬و ّ‬‫الش َفا َع هة ا ْل همثْ َب َت هة‪ :‬ه َي ا ّلتي هت ْط َل ه‬ ‫قال المصنف‪َ « :‬و ّ‬
‫اهلل َق ْو َل هه َو َع َم َل هه َب ْعدَ اإل ْذن »‪.‬‬
‫وع َل هه‪َ :‬م ْن َرض َي ه‬ ‫َوا ْل َم ْش هف ه‬
‫َ َ َ َ‬ ‫ََ ْ ْ ََ‬
‫ات ال‬‫﴿وكّم ِمن مل ٍك ِِف السماو ِ‬ ‫وجمع بين هذين الشرطين‪ :‬الرضا واإلذن يف قوله تعالى‪:‬‬ ‫ه‬
‫َ‬
‫اء َو َغ ْرض﴾ ‪.‬‬ ‫اعتُ ُه ّْم َشيْئًا إ َال م ْن َب ْعد أَ ْن يَأْ َذ َن َ ُ‬
‫اَّلل ل ِ َم ْن ش َ َش ُ‬ ‫ُْ َ َ َ‬
‫تغ ِِن شف‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬

‫اإلذن للشافع‪ ،‬والرضا عن المشفوع له‪ ،‬واهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى ال يرضى إال عن أهل التوحيد‪.‬‬
‫َْ َ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ْ َ َ‬
‫اَّلي شَشف ُع ِعند ُه إِال ِب ِإذنِ ِه﴾ »‪.‬‬‫قال ‪-‬رحمه اهلل‪ « :-‬ك ََما َق َال َت َعا َلى‪﴿ :‬من ذا ِ‬

‫هذا‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬


‫اهلل َو َس ّل ْم على عبد اهلل ورسوله؛ نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫وص ّلى ه‬
‫َ‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 26:‬من سورة النجم‪.‬‬


‫(‪ )2‬اآلية رقم‪ 044 :‬من سورة البقرة‪.‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪51‬‬

‫القـاعـدة الثـالثـة ‪:‬‬


‫‪¢‬‬
‫إ ن الحمد هلل نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه‪ ،‬ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا وسيئات‬
‫أعمالنا‪ ،‬من يهده اهلل فال مضل له‪ ،‬ومن يضلل فال هادي له‪ .‬وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال‬
‫اهلل َو َس ّل ْم َع َل ْيه َو َع َلى آله َو َأ ْص َحابه َأ ْج َمعين‪.‬‬
‫شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدا عبده ورسوله َص ّلى ه‬
‫أما بعد ؛‬
‫يالحظ على عدد ليس بالقليل من الحجاج اإلصابة بالسعال‪ ،‬وذلك بعد الجهاد الذي كانوا‬
‫َ‬
‫فيه يف أداء هذه الطاعة العظيمة والعبادة الجليلة‪ :‬حج بيت اهلل الحرام‪ ،‬وإنا لنرجو اهلل هس ْب َحا َن هه‬
‫َو َت َعا َلى أن تكون هذه اإلصابة وهذا التعب وهذه المعاناة رفعة يف درجات الجميع وسببا لتكفير‬
‫الخطيئات‪.‬‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم أحاديث عديدة تدل على أن المصائب ك ّفارات‪،‬‬
‫وقد جاء عن النبي َص ّلى ه‬
‫"وأن العبد ما أصابه من هم أو غم أو حزن حتى الشوكة يشاكها إال هك ّفر هبا من خطاياه" ‪ ،‬وجاء‬
‫ات اهلل َو َس َال هم هه َع َل ْيه‪ -‬أحاديث كثيرة‪ ،‬ولهذا ينبغي أن هيح َتسب هذا‬
‫عنه يف هذا المعنى ‪َ -‬ص َل َو ه‬
‫التعب وغيره من التعب يف باب التكفير ورفعة الدرجات‪.‬‬
‫وكذلك نسأل اهلل َع ّز َو َج ّل للجميع الصحة والعافية واألمن واإليمان والسالمة واإلسالم‪،‬‬
‫إنه َت َب َار َك َو َت َعا َلى ولي التوفيق‪ ،‬ال إله غيره وال رب سواه‪.‬‬

‫نعم‪:‬‬

‫(‪ )1‬الحديث‪ " :‬ما يصيب المسلم‪ ،‬من نصب وال وصب‪ ،‬وال هم وال حزن وال أذى وال غم‪ ،‬حتى الشوكة يشاكها‪ ،‬إال كفر اهلل هبا‬
‫من خطاياه" رواه البخاري (‪ )4637‬من حديث أبي هريرة ﭬ‪.‬‬
‫‪50‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫املتـن‪ - :‬القاعـدة الثالثـة ‪-‬‬


‫َأ ّن النّب ّي ﷺ َظ َه َر َع َلى هأنَاس هم َت َف ّرقي َن في ع َبا َداته ْم؛ من هْه ْم َم ْن َي ْع هبده ا ْل َمالئ َكةَ‪َ ،‬ومن هْه ْم‬
‫الصالحي َن‪َ ،‬ومنْ هه ْم َم ْن َي ْع هبده األَ ْش َج َار َواألَ ْح َج َار‪َ ،‬ومن هْه ْم َم ْن َي ْع هبده‬
‫َم ْن َي ْع هبده األَنْب َيا َء َو ّ‬
‫ول اهلل ﷺ َو َل ْم هي َف ّر ْق َبيْن هَه ْم‪َ ،‬والدّ ل هيل َق ْو هل هه َت َعا َلى‪:‬‬ ‫الش ْم َس َوا ْل َق َم َر‪َ ،‬و َقا َت َل هه ْم َر هس ه‬ ‫ّ‬
‫َ َ ُ ُ ْ َ َ َ َ ُ َ ٌَْ ََ ُ َ ّ ُ ُُُ َ‬
‫ين ُكه َِّلل﴾ [األنفال ‪.]45 :‬‬ ‫ل‬‫﴿وقاتِلوهّم حّت ال تكون فِتنة وغكون ا ِ‬
‫َْ‬ ‫َُْ َ ََ ُ َ‬
‫ار َوالش ْم ُس َوالق َم ُر ال‬ ‫﴿و ِم ْن آيَاتِ ِه الليل واّنله‬ ‫الشمس وا ْل َقمر؛ َقو هله َتعا َلى‪َ :‬‬
‫َو َدل هيل ّ ْ َ َ ْ ه َ‬
‫َْ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ََ‬ ‫َ َْ َ َ ْ ُ ُ َ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َْ ُ ُ‬
‫اَّلي خلق ُه َن إِن كنتُ ّْم ِإيَ ُاه تعبُدون﴾‬ ‫َّلل ِ‬ ‫تسجدوا لِلشم ِس وال لِلقم ِر واسجدوا ِ ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َُْ َُ ْ َ ََ ُ ْ ْ‬
‫[فصلت‪َ .]41:‬و َدل هيل ا ْل َمالئ َكة؛ َق ْو هل هه َت َعا َلى‪﴿ :‬وال يأمركّم أن تت ِخذوا المالئِكة‬
‫﴿وإ ْذ قَ َال َ ُ‬ ‫ِ َ َ‬
‫اَّلل ياَ‬ ‫ني أ ْر َبابًا‪[ ﴾ ..‬آل عمران ‪ .]02 :‬ودل هيل األَنْبياء؛ َقو هله َتعا َلى‪َ :‬‬ ‫َواّنلَ ِبي‬
‫ِ‬ ‫ْ ه َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ََُِ ََ ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ ْ َ َ ْ َ َ ََ َ ُ ْ َ َ‬
‫اَّلل ‪[ ﴾..‬المائدة ‪:‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ون‬ ‫د‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ني‬
‫ِ ِ‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ِّم‬‫أ‬‫و‬ ‫وِن‬
‫ِ ِ‬ ‫ذ‬ ‫اَّت‬ ‫اس‬‫ِ‬ ‫ِعيَس ابن مرغّم أأنت قلت لِلن‬
‫ُ َْ َ َ َ َ ْ ُ َ َ َْ ُ َ َ َ ِ ُ َْ َ َ‬
‫اَّلين يدعون يبتغون إَِل رب ِهّم الو ِسيلة‬ ‫الصالحي َن؛ َق ْو هل هه َت َعا َلى‪ ﴿ :‬أو َِلك ِ‬ ‫‪َ .]776‬و َدل هيل ّ‬
‫ك ََك َن ََمْ ُذ ً‬ ‫َُ ُ ْ ََْ ُ ََْ ُ َ َ ََُْ َ ََ ُ َ َ َ َُ َ َ َ َ َِ َ‬
‫ورا ﴾ [اإلسراء‪:‬‬ ‫أيهّم أقرب وغرجون رْحته وُيافون عذابه ُ ۚ ِإن عذاب رب‬
‫ََََُْ ُ َ َ َ ُْ َ َ َ َ َ َ ََ‬
‫‪َ .]41‬و َدل هيل األ َ ْش َجار َواأل َ ْح َجار؛ َق ْو هل هه َت َعا َلى‪﴿ :‬أفرأيتّم الالت والعزى ومناة اّثل ِاّثلة‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ‬
‫األخرى﴾ [النجم ‪75 :‬ـ‪َ ،]02‬و َحد هيث أبي َواقد الل ْيث ّي ﭬ قال‪" :‬خ َر ْجنَا َم َع النّب ّي ﷺ‬
‫ون ب َها‬‫ون عنْدَ َها َو َينه ْو هط َ‬ ‫إ َلى هحنَ ْين َون َْح هن هحدَ َثا هء َع ْهد ب هك ْفر‪َ ،‬ولل هم ْشركي َن سدْ َرة‪َ ،‬ي ْع هك هف َ‬
‫ات َأن َْواط‬
‫اج َع ْل َلنَا َذ َ‬ ‫ات َأن َْواط‪َ ،‬ف َم َر ْرنَا بسدْ َرة َف هق ْلنَا‪َ :‬يا َر هس َ‬
‫ول اهلل! ْ‬ ‫َأ ْسل َحت هَه ْم‪ ،‬هي َق هال َل َها َذ ه‬
‫يث‪.‬‬ ‫ات َأن َْواط‪َ "...‬‬
‫الحد َ‬ ‫ك ََما َل هه ْم َذ ه‬

‫الشــرح‪:‬‬
‫هذه القواعد األربع ‪-‬كما عرفنا‪ -‬قواعد مهمة للغاية ويحتاج كل مسلم إلى معرفتها‪ ،‬ألن‬
‫معرفة هذه القواعد ‪-‬بإذن اهلل َتبَ َار َك َو َت َعا َلى‪ -‬وضبطها يكون ‪-‬بإذن اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ -‬صمام أمان‬
‫للمسلم من الوقوع يف شبكة الشرك وحبائل أهله ومصائد الشيطان‪.‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪51‬‬

‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم‪" :‬أعوذ بك من الشيطان‬


‫وقد جاء يف التعوذات المأثورة عن النبي َص ّلى ه‬
‫وش ْركه" ‪ ،‬ويف رواية " َ‬
‫وش َركه" أي حبائله وشباكه التي يضعها للناس ليهوقعهم يف الشرك باهلل‬
‫َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪.‬‬
‫والشرك ‪-‬كما كنا عرفنا‪ -‬شبكة‪ ،‬له جوانب كثيرة ومجاالت متعددة‪ ،‬ومن لم يكن يف هذا‬
‫الباب على أصول ثابتة وقواعد راسخة ربما زلت به القدم يف أخطر أمر وأعظم باب‪.‬‬
‫ولهذا ينبغي على كل المسلم أن يكون على عناية تامة ورعاية قوية لهذه القواعد األربعة‬
‫العظيمة التي قررها اإلمام ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬وذكر دالئلها وشواهدها من كتاب اهلل َت َب َار َك‬
‫َو َت َعا َلى‪.‬‬
‫كذلك ينبغي أن نعلم أن هذه القواعد األربعة قواعد َينْ َبني بعضها على بعض ويرت ّتب بعضها‬
‫على بعض‪ ،‬وبفهمها مجموعة تتحقق ‪-‬بإذن اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ -‬السالمة والعافية‪.‬‬

‫وكنا عرفنا من خالل القاعدة األولى التي قررها المصنف ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬أن الكفار‬

‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم‪ ،‬كانوا ُ‬


‫يقرون بأن الخالق‪ ،‬الرزاق‪ ،‬المنعم‪،‬‬ ‫الذين هبعث فيهم رسول اهلل َص ّلى ه‬
‫المتصرف‪ ،‬المدبر لألمور هو‪ :‬اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى وحده‪ ،‬كانوا ُ‬
‫يقرون بذلك‪ ،‬وذكر الشيخ ‪-‬رحمه‬
‫اهلل تعالى‪ -‬الدليل على ذلك من كتاب اهلل َع ّز َو َج ّل‪ ،‬ولم هيدخلهم ذلك يف اإلسالم‪.‬‬
‫ف هعلم بذلك أن مجرد اإلقرار بأن اهلل الخالق‪ ،‬الرزاق‪ ،‬المنعم‪ ،‬المتصرف‪ ،‬المدبر لشؤون‬
‫يقر‬
‫الخالئق ليس كافيا وحده لدخول المرء باإلسالم‪ ،‬ما لم يعبد اهلل مخلصا له الدين‪ ،‬وإذا كان ُ‬
‫بأن اهلل الخالق الرزاق المنعم المتصرف وال هيخلص الدين له ‪َ -‬ت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ -‬فهو مشرك باهلل‪،‬‬

‫(‪ )1‬رواه الرتمذي وصححه (‪ ،) 3392‬عن أبي هريرة ﭬ أن أبا بكر الصديق ﭬ قال‪ :‬يا رسول اهلل مرين بشيء أقوله إذا‬
‫أصبحت وإذا أمسيت‪ ،‬قال‪" :‬قل اللهم عالم الغيب والشهادة‪ ،‬فاطر السموات واألرض‪ ،‬رب كل شيء ومليكه‪ ،‬أشهد أن ال إله إال‬
‫أنت أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه‪ ،‬قال قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك" ‪.‬‬
‫(‪ )2‬قال النووي ‪ $‬يف «األذكار» )‪ (( :(1/179‬قوله‪" :‬وشركه"‪ ،‬روي علـى وجهين‪ :‬أظهرهما وأشهرهما‪ :‬بكسر الشين مع‬
‫إسكان الراء من اإلشراك‪ :‬أي‪ :‬ما يدعو إليه ويوسوس به من اإلشراك باهلل تعالى‪ .‬والثاين‪َ :‬ش َركه بفتـح الشين والراء‪ :‬أي‪ :‬حبائله‬
‫ومصائده‪ ،‬وأحدها‪َ :‬ش َركه بفتـح الشين والراء‪ ،‬وآخره هاء )) اهـ ‪.‬‬
‫‪53‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫َ ْ‬ ‫َ َ ُْ ُ َ َُْ ُ ْ َ َ َ ُ ْ ُ ْ ُ َ‬
‫﴿و َما يُؤ ِم ُن‬ ‫َركون﴾ ؛‬
‫اَّلل ِإال وهّم م ِ‬
‫كافر باهلل العظيم‪ ،‬ولهذا قال اهلل تعالى‪﴿ :‬وما يؤ ِمن أكَثهّم ِب ِ‬
‫َ َُ ْ ُ ْ ُ َ‬ ‫َ َُْ ُ ْ َ‬
‫َركون﴾ أي‪ :‬مشركون معه‬ ‫اَّلل﴾ أي‪ :‬ر ّبا رازقا خالقا منعما متصرفا مدبرا‪ِ ﴿ ،‬إال وهّم م ِ‬
‫أكَثهّم ِب ِ‬
‫غيره ‪َ -‬ت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ -‬يف العبادة التي هي ّ‬
‫حق خالص هلل َج ّل َو َع َال‪ ،‬ال يجوز أن هيجعل ألحد معه‬
‫فيه شركة‪.‬‬

‫ثم بعد ذلك ذكر ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬القاعدة الثانية؛ وهي أن المشركين الكفار عندما‬
‫تقرون أهنا ليست خالقة وال رازقة‬
‫هيسألون‪ :‬لماذا تعبدون هذه األوثان وتدعوهنا من دون اهلل وأنتم ُ‬
‫وال منعمة وال متصرفة‪ ،‬وال تملك عطاء وال منعا‪ ،‬وال خفضا وال رفعا‪ ،‬وال موتا وال حياة‪ ،‬وال‬
‫تقرون أهنا نفسها مملوكة هلل‪،‬‬
‫تقرون أهنا ال تملك شيئا من ذلك؟ بل ُ‬
‫نشورا؟ لماذا تعبدوهنا وأنتم ُ‬
‫خاضعة هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ ،‬مربوبة له َع ّز َو َج ّل‪.‬‬
‫ولهذا؛ كانوا يحجون ويقولون يف تلبيتهم يف الحج‪ :‬لبيك ال شريك لك إال شريكا هو لك‪،‬‬
‫تملكه وما ملك‪ ،‬هكذا يعتقدون‪( ،‬تملكه)‪ :‬أي هو مملوك لك‪ ،‬هذا الشريك الذي جعلناه لك أنت‬
‫يا اهلل تملكه‪ ،‬هو مملوك لك خاضع لك‪( ،‬وما ملك)‪ :‬هو ال يملك‪ ،‬أي ال يملك لنفسه عطاء أو‬
‫يقرون بذلك‪ ،‬فإذا سئلوا قيل لهم‪:‬‬
‫منعا أو خفضا أو رفعا‪ ،‬فضال عن أن يملك ذلك لغيره‪ ،‬هم ُ‬
‫لماذا تعبدوهنا وتدعوهنا وتتوجهون إليها وأنتم تعتقدون يف قرارة نفوسكم أهنا ال تملك‪ ،‬وأهنا ال‬
‫مر معنا يف القاعدة السابقة‪ -‬فإذن لماذا‬
‫يقرون بذلك ّ‬
‫تخلق‪ ،‬وأهنا ال ترزق؟ ‪-‬والدليل على أهنم ُ‬
‫تعبدوهنا؟ ماذا يقولون؟‬
‫يقولون‪ :‬نحن نعبدها ونتوجه إليها لطلب القربة و الشفاعة؛ لطلب القربة‪ :‬أي من أجل أن‬
‫تقربنا إلى اهلل‪ ،‬نحن هبعداء عن اهلل بالذنوب والمعاصي والخطايا والتفريط‪ ،‬فنحن نتوجه إليها ال‬
‫لشيء إال من أجل أن تقربنا إلى اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ ،‬من أجل أن تكون واسطة بيننا وبين اهلل‪ ،‬من‬
‫أجل أن تكون شفيعا لنا عند اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪.‬‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 726 :‬من سورة يوسف‪.‬‬


‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪54‬‬

‫َ‬ ‫َ َ َ ََ‬
‫اَّت ُذوا ِم ْن ُدو ِن ِه أ ْو ِِلَ َ‬
‫اء‬ ‫اَّلين‬‫وذكر المصنف الدليل على ذلك و هو قوله َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪﴿ :‬و ِ‬
‫ََُُْ َ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َُُْ ُ ْ َ َُ ُِ َ َ َ َُْ‬
‫ون‬
‫ِ‬ ‫د‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ون‬ ‫د‬ ‫ب‬ ‫ع‬‫غ‬ ‫﴿و‬ ‫‪:‬‬‫ى‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ت‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ك‬ ‫ار‬
‫َ‬ ‫ب‬
‫َ‬ ‫ت‬ ‫اهلل‬ ‫قول‬ ‫ا‬ ‫أيض‬ ‫وذكر‬ ‫‪،‬‬ ‫﴾‬‫َف‬ ‫اَّلل زل‬
‫ما نعبدهّم ِإال ِِلقربونا ِإَل ِ‬
‫ُ َ َُ َْ َ‬ ‫ُ ُ َ َُ‬ ‫ََْ‬ ‫َ ُ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫رُضه ّْم َوال ينف ُع ُه ّْم َو َغقولون هؤال ِء شف َعاؤنا ِعند اَّلل﴾ ‪ ،‬أي نحن نعبد هذا الذي ال‬ ‫اَّلل َما ال ي‬
‫ِ‬
‫يضر وال ينفع ال لشيء إال ألجل أن يكون شفيعا لنا عند اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪.‬‬

‫يقرون بأن هذه األصنام ال تخلق وال ترزق وال تحي وال‬
‫إذن القاعدة األولى أن الكفار كانوا ُ‬
‫تميت وال تعطي وال تمنع وال تخفض وال ترفع‪...‬إلخ‪ ،‬ولم هيدخلهم هذا اإلقرار باإلسالم‪ ،‬ألهنم‬
‫لم يخلصوا العبادة هلل‪ ،‬والشيء الثاين أن هؤالء عندما هيسألون لماذا تعبدوهنا وأنتم تقرون أهنا ال‬
‫تملك شيئا‪ ،‬وال تخلق‪ ،‬وال ترزق؟ يقولون‪ :‬نحن نعبدها وندعوها ونتوجه إليها من أجل أن تقربنا‬
‫إلى اهلل ‪َ -‬ت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ -‬زلفى‪ ،‬ومن أجل أن تكون شفيعا لنا عند اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪.‬‬
‫هذه الممارسة التي يفعلها المشركون ‪-‬والذي هذه خالصتها‪ -‬ماذا تسمى يف شرع اإلسالم‬
‫ويف دين اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى؟ هل هم معذورون يف هذا التوجيه الذي ذكروه؛ قالوا‪ :‬نحن ال ندعوها‬
‫سوغا‬
‫خوال و هم ّ‬
‫ألننا نعتقد فيها أهنا خالقة رزاقة‪ ،‬بل ندعوها ألجل أن تقربنا إلى اهلل زلفى‪ ،‬هل هذا هم ّ‬
‫إلعفائهم من تبعة ذلك العمل وتلك الممارسة؟ حاشا وكال؛ بل هم بذلك كفار مشركون‪ ،‬ولهذا‬
‫َ َ ُ ُ ْ َ َه َ َ ُ َ ٌَْ‬
‫ّت ال تكون فِتنة‬‫الس َال ْم‪ ،‬واستباح أموالهم ودماءهم ﴿وقاتِلوهّم ح‬ ‫قاتلهم النبي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫ََ ُ َ ِ ُ َ‬
‫َّلل﴾ ‪.‬‬
‫وغكون الين ِ ِ‬

‫فإذن هذه القاعدة األولى والقاعدة الثانية‪ ،‬ثم تأيت قاعدة ثالثة مهمة جدا‪ ،‬وهي َتنْ َبني على‬
‫القاعدتين السابقتين‪ ،‬أال وهي‪:‬‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 4 :‬من سورة الزمر‪.‬‬


‫(‪ )2‬اآلية رقم‪ 70 :‬من سورة يونس‪.‬‬
‫(‪ )3‬اآلية رقم‪ 754 :‬من سورة البقرة‪ .‬اآلية رقم‪ 45 :‬من سورة األنفال‪.‬‬
‫‪55‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫تأيت هذه القاعدة ‪-‬أي الثالثة‪ -‬جوابا على تساؤل‪ :‬هل الشرك الذي ذمه اهلل ّ‬
‫وحذر منه وعاب‬
‫أهله وتوعدهم وهتددهم‪ ،‬هل هو خاص بمن عبد صنما؟ أو توجه إلى الحجر؟ هل هو خاص‬
‫بذلك‪ ،‬أو أنه شامل لكل ما هعبد من دون اهلل أ ّيا كان ومهما كانت صفته؟ هذه قاعدة مهمة هنا يف‬
‫هذا الباب‪ ،‬لماذا؟‬
‫ألن بعض من اب هتلوا بالباطل والتوجه إلى غير اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى بالدعاء والرجاء والطلب‬
‫والسؤال وإنزال الحاجات والطلبات والرغبات‪ ،‬إذا هتليت عليه مثل هذه اآليات لوعظه وتنبيهه‬
‫وتذكيره وتحذيره مما هو عليه من ضالل وباطل‪ ،‬ماذا يقول؟ يقول‪ :‬هذه اآليات التي هتتلى يف‬
‫القرآن تختص بمن توجه إلى حجر وشجر‪ ،‬أما نحن لم نتوجه ال إلى حجر وال إلى شجر ‪-‬مثل‬
‫هؤالء المشركين‪ -‬نحن توجهنا إلى أولياء صالحين‪ ،‬أو إلى أنبياء مقربين‪ ،‬أو إلى مالئكة‪ ،‬نحن لم‬
‫نتوجه إلى شجر أو حجر‪ ،‬فكيف هتتلى علينا هذه اآليات ونوعظ هبا وهي ال تتناول العمل الذي‬
‫نقوم به؟ ألن اآليات تتعلق بمن عبد األصنام‪ :‬الالت‪ ،‬العزى‪ ،‬مناة‪ ،‬هبل‪ ...‬الخ‪ ،‬أما الذي يتوجه‬
‫إلى ولي من األولياء‪ ،‬أو صالح من الصالحين‪ ،‬أو نبي من األنبياء أو نحو ذلك‪ ،‬هذه اآليات ال‬
‫تتناوله وال عالقة لها به ‪-‬هكذا يقولون‪.-‬‬
‫فهل هذا الزعم زعم صحيح أم هو زعم باطل فاسد َأ ْودى بأصحابه إلى دركة الشرك وهلكة‬
‫الباطل‪ -‬والعياذ باهلل‪-‬؟‬
‫فتأيت القاعدة الثالثة عند المصنف ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬ل هيرسي هذا األمر ويج ّليه ويزيل الغبش الذي‬
‫قد يصاب به بعض الناس‪ ،‬و هيبتلى به بعض الناس فيدخلون يف وحل الشرك وشبكة الباطل من‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ْ ُْ ْ َ َ ََََ َ‬
‫اَّلل فكأنما خر ِمن السما ِء‬
‫َر ِب ِ‬
‫حيث يظنون أهنم لم يقعوا يف هذه الهوة السحيقة ﴿ومن ش ِ‬
‫يّق﴾ ‪ ،‬ال يشعر أنه وقع يف هذه الهوة السحيقة‪-‬‬‫ب‬ ‫غح ِف َم ََكن َ‬
‫س‬ ‫ري أَ ْو َت ْهوي ب ِه ِ‬
‫الر ُ‬ ‫ََ ْ‬
‫خ َط ُف ُه َ‬
‫الط ْ ُ‬ ‫فت‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫والعياذ باهلل‪ ،-‬فتأيت هذه القاعدة لتج ّلي هذا األمر‪.‬‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 47 :‬من سورة الحج‪.‬‬


‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪56‬‬

‫ولهذا ينبغي أن هن رعي هذه القاعدة بالنا واهتمامنا وأن نحسن فهمها وضبطها ألهنا مهمة جدا‬
‫يف هذا الباب‪.‬‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم َظ َه َر َع َلى هأنَاس‬
‫يقول ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬يف القاعدة الثالثة‪َ « :‬أ ّن النّب ّي َص ّلى ه‬
‫هم َت َف ّرقي َن في ع َبا َداته ْم»؛‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم َظ َه َر َع َلى هأنَاس هم َت َف ّرقي َن في ع َبا َداته ْم»‪ ،‬ما معنى‬
‫انتبه للكالم‪َ « :‬أ ّن النّب ّي َص ّلى ه‬
‫متفرقين يف عباداهتم؟ أي لم تكن عبادهتم مختصة بمعبودات معينة‪ ،‬مثل‪ :‬األحجار أو األصنام‪ ،‬لم‬
‫تكن عبادهتم مختصة بذلك‪ ،‬أبدا‪ ،‬بل كانوا متفرقين يف عبادهتم‪ ،‬يعبدون أشياء كثيرة جدا‪ .‬ما هي‬
‫هذه األشياء؟‬
‫فصل الشيخ‪ -‬رحمه اهلل‪ -‬ثم ذكر على كل ما ذكره من تفصيل الدليل عليه من القرآن‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ّ‬
‫الصالحي َن‪َ ،‬ومنْ هه ْم َم ْن َي ْع هبده األَ ْش َج َار‬
‫«من هْه ْم َم ْن َي ْع هبده ا ْل َمالئ َكةَ‪َ ،‬ومن هْه ْم َم ْن َي ْع هبده األَنْب َيا َء َو ّ‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم هبعث يف أقوام‬ ‫َواألَ ْح َج َار‪َ ،‬ومن هْه ْم َم ْن َي ْع هبده ّ‬
‫الش ْم َس َوا ْل َق َم َر»‪ ،‬إذن النبي َص ّلى ه‬
‫يشركون‪ ،‬وشركهم ليس منحصرا يف شرك معين من الشرك كعبادة األصنام؛ بل إن شرك من بهعث‬
‫الس َال ْم شرك متنوع‪ ،‬و األبواب التي سلكها هؤالء المشركون أبواب متفرقة‪،‬‬ ‫فيهم َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫منهم من يعبد المالئكة‪ ،‬منهم من يعبد األنبياء‪ ،‬منهم من يعبد األولياء والصالحين‪ ،‬منهم من يعبد‬
‫الس َال ْم همعلنا دعوة‬ ‫األشجار واألضرحة ونحو ذلك‪ ،‬وكل هؤالء ظهر عليهم النبي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫ات اهلل َو َس َال هم هه َع َل ْيه‪ -‬والدعوة إلى اإلخالص هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى ونبذ الشرك‬
‫التوحيد ‪َ -‬ص َل َو ه‬
‫واضطراحه أ ّيا كانت صفته وكان نوعه‪.‬‬
‫يروجها أهل الباطل‪.‬‬
‫فهذه القاعدة تأيت جوابا وإزالة لتلك الشبهة التي قد ّ‬
‫الس َال ْم‪ -‬و هبعث فيهم كانوا متفرقين يف‬ ‫وتقرير القاعدة أن من ظهر عليهم‪َ -‬ع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫العبادة‪ ،‬منهم من يعبد المالئكة‪ ،‬منهم من يعبد األنبياء والصالحين‪ ،‬منهم من يعبد األشجار‬
‫واألحجار‪ ،‬منهم من يعبد الشمس والقمر‪.‬‬
‫وتقول هنا‪ :‬هات الدليل على ذلك‪ ،‬فيأيت المنصف ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬بالدليل على كل ذلك من‬
‫كتاب اهلل َع ّز َو َج ّل؛‬
‫‪57‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫ُ َ‬ ‫َ َ ُ َ ٌَْ‬ ‫ََ ُ ُ‬
‫﴿وقا ِتلوه ّْم َح َّت ال تكون فِتنة َو َغكون‬ ‫أوال قال‪ -‬رحمه اهلل‪َ « :-‬والدّ ل هيل َق ْو هل هه َت َعا َلى‪:‬‬
‫ّ ُ ُُ‬
‫ين ُك ُه ِ ََّلل﴾ »‪ ،‬هذا فيه أوال استشهاد لقول المصنف ‪-‬رحمه اهلل‪َ « :-‬و َقا َت َل هه ْم َر هس ه‬
‫ول اهلل» أي‬ ‫ل‬
‫ا ِ‬
‫يفرق َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة‬ ‫أجمعين بأنواع الشرك المختلفة التي كانوا عليها‪ ،‬فهؤالء كلهم قاتلهم‪ ،‬لم ّ‬
‫الس َال ْم‪ ،‬أو م َلكا من المالئكة كجربيل‬ ‫الس َال ْم بين من ع َبد حجرا أو عبد نب ّيا كعيسى َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬ ‫َو ّ‬
‫أو غيره من المالئكة ‪َ -‬ع َل ْيه هم ّ‬
‫الس َال ْم‪ ،-‬لم يفرق بين ال هؤالء وال هؤالء‪ ،‬كلهم يشملهم قول اهلل‬
‫َ َ ُ ُ ْ َ َ َ َ ُ َ ٌَْ ََ ُ َ ّ ُ ُُُ َ‬
‫ين ُكه َِّلل﴾ ‪ ،‬قاتلهم النبي َع َل ْيه‬‫ل‬‫َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪﴿ :‬وقاتِلوهّم حّت ال تكون فِتنة وغكون ا ِ‬
‫الس َال ْم أجمعين‪ ،‬دعاهم إلى هذا اإلسالم‪ ،‬وبعث الدعاة وأرسل البعوث وأرسل الرسل‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫ّ‬
‫ودعا هؤالء؛ دعا الذين يعبدون المالئكة‪ ،‬ودعا الذين يعبدون النجوم‪ ،‬ودعا الذين يعبدون‬
‫الس َال ْم إلى نبذ هذا‬ ‫األنبياء‪ ،‬ودعا الذين يعبدون األصنام‪ ،‬كل أولئك دعاهم النبي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫الشرك‪ ،‬وإلى إخالص العبادة هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪.‬‬

‫ثم بدأ يسوق األدلة دليال دليال على ما ذكر سابقا من تفرق المشركين وتنوع شركهم‪.‬‬

‫الش ْمس َوا ْل َق َمر» أي‪ :‬والدليل على أن من‬


‫الش ْمس َوا ْل َق َمر»؛ قوله‪َ « :‬و َدل هيل ّ‬
‫قال‪َ « :‬و َدل هيل ّ‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم و هبعث فيهم‪،‬‬
‫الناس من كان يعبد الشمس والقمر ممن ظهر عليهم النبي َص ّلى ه‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َْ‬ ‫َُْ َ ََ ُ َ‬
‫ار َوالش ْم ُس َوالق َم ُر ال ت ْس ُجدوا لِلش ْم ِس‬ ‫﴿و ِم ْن آيَاتِ ِه الليل واّنله‬
‫الدليل على ذلك قوله اهلل تعالى‪َ :‬‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َْ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ََ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ َ َ ْ ُ ُ‬
‫اَّلي خلق ُه َن ِإن كنتُ ّْم إِيَ ُاه تعبُدون﴾ ‪﴿ ،‬ال ت ْس ُجدوا لِلش ْم ِس َوال‬ ‫َّلل‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫وا‬ ‫د‬ ‫َوال لِلقم ِر واسج‬
‫َْ‬
‫لِلق َم ِر﴾‪ :‬ألن هناك من كان يعبد الشمس والقمر‪.‬‬
‫الس َال ْم للتوحيد وحفاظه لجانبه وسدّ ه ‪َ -‬ص َل َو ه‬
‫ات اهلل‬ ‫بل إن من رعاية نبينا َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫ات اهلل َو َس َال هم هه َع َل ْي ْه‪ -‬أن هيص ُلوا هلل َت َب َار َك‬
‫َو َس َال هم هه َع َل ْي ْه‪ -‬لذرائع الشرك هنى أمة اإلسالم ‪َ -‬ص َل َو ه‬
‫َو َت َعا َلى مخلصين عند وقت طلوع الشمس ووقت غروهبا‪ ،‬ألن هذا الوقت كان هعبّاد الشمس‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪45 :‬من سورة األنفال‪.‬‬


‫(‪ )2‬اآلية رقم‪45 :‬من سورة األنفال‪.‬‬
‫(‪ )3‬اآلية رقم‪41 :‬من سورة فصلت‪.‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪58‬‬

‫يتحرون عبادهتا فيه‪ ،‬عند أول طلوع الشمس وعند وقت الغروب هع ّباد الشمس كانوا يتحرون هذين‬
‫الوقتين‪ ،‬فيعبدون الشمس يف هذين الوقتين‪ ،‬ولهذا جاء النهي الغليظ والمؤكد عن نبينا َع َل ْيه‬
‫الس َال ْم من أن نصلي هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى مخلصين يف هذين الوقتين‪.‬‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫ّ‬
‫الس َال ْم أن "الشمس تطلع بين قرين شيطان" ‪ ،‬وهذا فيه أن الشيطان له‬ ‫وذكر َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫فتنة يف هذا الوقت لصرف القلوب عن التوحيد إلى الشرك‪ ،‬والتعلق هبذه المخلوقات الكبيرة‪،‬‬
‫البديعة‪ ،‬العجيبة‪ ،‬العظيمة‪ ،‬التي خلقها اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪.‬‬
‫عندما تضعف بعض القلوب عن راسخ اإليمان وعميق التوحيد قد تتعلق بمثل هذه‬
‫المخلوقات الكبار وتلجأ إليها‪ ،‬فتدهشها الشمس بغروهبا وطلوعها‪ ،‬فتتوجه إليها بحاجاهتا‬

‫الس َال ْم الطريق وسدّ ذريعة الشرك‪ ،‬وهنى أن هت َت ّ‬


‫حرى العبادة يف‬ ‫ورغباهتا‪ ،‬فقطع النبي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫هذين الوقتين‪ :‬وقت طلوع الشمس ووقت غروهبا‪ ،‬ولو كان اإلنسان ال يقصد بعبادته إال وجه اهلل‬
‫الس َال ْم عن العبادة يف هذين الوقتين‪ ،‬وجاء عنه يف ذلك أحاديث‬ ‫مخلصا له هناه النبي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫كثيرة‪ ،‬لماذا؟ كل ذلك محافظة على التوحيد وصيانة لجانبه وسدا للذرائع التي تفضي إلى الشرك‬
‫باهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪.‬‬
‫ات اهلل َو َس َال هم هه َع َل ْي ْه‪ -‬كان‬
‫هذا إذن من الدالئل والشواهد الب ّينات أن من هبعث فيهم‪َ -‬ص َل َو ه‬
‫منهم من شركه باهلل عبادة للشمس وللقمر‪.‬‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم خشي على بعض األمة أن يتل ّبسوا بشيء من هذا الباطل‪ ،‬فكان‬
‫والنبي َص ّلى ه‬
‫من صيانته لجناب التوحيد وسده لذرائع الشرك أن هنى األمة عن عبادة اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى يف هذين‬
‫الس َال ْم باألمة أن يكون فيه شيء من المشاهبة‬ ‫الوقتين؛ سدّ ا لذريعة الشرك وأيضا ربأ َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫ولو يف الصورة الظاهرة ل َع َبدة الشمس والقمر‪َ ،‬ع َبدة هذه المخلوقات‪ ،‬فنهى‪َ -‬ص َل َو ه‬
‫ات اهلل َو َس َال هم هه‬
‫َع َل ْي ْه‪ -‬عن العبادة يف هذين الوقتين صيانة للتوحيد وحفاظا لجانبه وسدّ ا لذرائع الشرك والباطل‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه مسلم (‪ )670‬من حديث عبد اهلل بن عمرو بن العاص ﭬ‪.‬‬
‫‪59‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫إذن هذا دليل ساقه المصنف من القرآن الكريم شاهدا على أن من هبعث فيهم َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة‬
‫الس َال ْم كان منهم من يعبد الشمس والقمر‪.‬‬
‫َو ّ‬

‫ما الدليل على أن منهم من كان يعبد المالئكة؟‬


‫ً‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ َ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َُْ َُ ْ َ ََ ُ ْ ْ‬
‫قال‪َ « :‬ق ْو هل هه َت َعا َلى‪﴿ :‬وال يأمركّم أن تت ِخذوا المالئِكة واّنل ِبيني أربابا﴾ » أي من دون اهلل‬
‫َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ ،‬فهذا شاهد ودليل على أن من الناس من اتخذ المالئكة أربابا‪ ،‬وعبدوا المالئكة مع‬
‫اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ ،‬ودعوهم وسألوهم وعرضوا عليهم حاجاهتم وطلباهتم‪ ،‬فكان من الناس من عبد‬
‫المالئكة‪ ،‬والمالئكة جند مكرمون وعباد مسخرون‪ ،‬ال يستحقون من العبادة وال مقدار ذرة‪.‬‬
‫ولهذا؛ يف سياق إبطال الشرك يف القرآن الكريم يف سورة سبأ‪ ،‬ذكر اهلل َع ّز َو َج ّل ضعف‬
‫المالئكة‪ ،‬همب ّينا َج ّل َو َع َال بذلك أن المالئكة مع ضخامة أجسامها وقوهتا‪ ،‬وعظم قدرهتا التي منحها‬
‫اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى إياها‪ ،‬فهي ضعيفة مخلوقة مربوبة ال تستحق من العبادة شيء‪ ،‬وتأمل هذا المعنى‬
‫ُ ْ ُ َ‬
‫اَّل َ‬
‫ين‬ ‫العظيم يف اآليات الواردة إلبطال الشرك‪ ،‬يف سور سبأ‪ ،‬وهي قول اهلل تعالى‪﴿ :‬ق ِل ادعوا ِ‬
‫َْ‬
‫األ ْر ِض َو َما ل َ ُه ّْم فيه َما ِم ْن َرْ‬ ‫ََ‬ ‫ون مثْ َق َال َذ َرة ِف َ‬‫َ َ َ ْ ُ َ‬ ‫َ َ ُْْ ْ ُ‬
‫ِف‬ ‫ال‬ ‫و‬ ‫ات‬ ‫الس َم َ‬
‫او‬ ‫اَّلل ۖ ال يم ِلك‬
‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫زعمتّم ِمن دو ِن ِ‬
‫ََ َ َْ ُ َ َ َ ُ ْ َ ُ َ َ ْ َ َ َُ َ َ َ ُِ َ َ ْ ُ ُ‬ ‫َ َ َُ ُْ ْ ْ َ‬
‫وب ِه ّْم) ‪-‬‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ق‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫ع‬‫ز‬ ‫ف‬ ‫ا‬ ‫ذ‬ ‫إ‬
‫ِ‬ ‫ه‬
‫ّت‬‫ح‬ ‫ۖ‬ ‫َل‬ ‫ن‬ ‫ذ‬
‫ِ‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫م‬‫ِ ِ ِ‬‫ل‬ ‫ال‬‫إ‬ ‫ه‬‫د‬ ‫ن‬‫ع‬ ‫ة‬ ‫اع‬ ‫ف‬ ‫الش‬ ‫ع‬ ‫ف‬ ‫ن‬‫ت‬ ‫ال‬‫و‬ ‫)‬ ‫‪00‬‬ ‫(‬ ‫ري‬
‫وما َل ِمنهّم ِمن ِ ٍ‬
‫ه‬ ‫ظ‬
‫كب ُ‬ ‫َ ُ َ َ َ َ َ ُ ُ ْ َ ُ َْ َ َ ُ َ ْ َ ْ َ‬
‫ري (‪. ﴾)04‬‬ ‫يِل ال ِ‬ ‫أي المالئكة‪( -‬قالوا ماذا قال ربكّم ۖ قالوا اْلّق ۖ وهو الع ُ‬
‫ِ‬
‫الس َال ْم يف الحديث الصحيح‪" :‬إذا تكلم اهلل بالوحي‬ ‫فسر هذه اآلية قول نبينا َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬ ‫هي ّ‬
‫خرت المالئكة صعقة َخضعانا لقوله" ‪ ،‬هذه المالئكة الضخمة األجسام العظيمة القوة والقدرة‬
‫ّ‬
‫خرت صعقة‪ ،‬هيغشى عليها و هيغمى عليها‪َ ،‬خضعانا لقوله َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ ،‬فهي‬ ‫إذا تكلم اهلل بالوحي ّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ُ َ‬ ‫َ َ ْ ُ َ ََ َ ُ‬
‫اَّلل َما أ َم َره ّْم َو َغف َعلون َما يُؤ َم ُرون﴾ ‪ ،‬وال‬ ‫مخلوقة ضعيفة‪ ،‬مربوبة هلل‪ ،‬هم ّ‬
‫سخرة هلل ﴿ال يعصون‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 02 :‬من سورة آل عمران‪.‬‬


‫(‪ )2‬اآليات‪ )04 -00( :‬من سورة سبأ‪.‬‬
‫(‪ )3‬اختلفت رواياته وتعددت متونه ولمح لمثل هذه الرواية النحاس يف معاين القرآن‪ ،‬والصحيح فيها "إذا قضى اهلل األمر يف‬
‫السماء‪ ،‬ضربت المالئكة بأجنحتها خضعانا لقوله" رواه البخاري (‪ )3127( )3022( )1307‬من حديث أبي هريرة‪.‬‬
‫(‪ )4‬اآلية رقم‪ 6:‬من سورة التحريم‪.‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪61‬‬

‫ِ َه‬ ‫َُْ ْ‬
‫يستحقون من العبادة أي شيء‪ ،‬ولهذا قال اهلل َع ّز َو َج ّل يف شأن المالئكة‪َ ﴿ :‬و َم ْن يقل ِمن ُه ّْم ِإِّن ِإ ٌَل‬
‫َ‬ ‫َ َه َ َ ْ‬ ‫ُ‬
‫ِم ْن دونِ ِه فذلِك ن ِزغ ِه َج َهن َّم﴾ ‪ ،‬المالئكة ال يقولون ذلك‪ ،‬المالئكة عباد مكرمون يعبدون اهلل َع ّز‬
‫ون﴾‪ ،‬هذا شأن‬ ‫اهلل َما َأ َم َر هه ْم َو َي ْف َع هل َ‬
‫ون َما هي ْؤ َم هر َ‬ ‫ون َ‬ ‫َو َج ّل‪ ،‬الليل والنهار ال يفرتون ﴿ َال َي ْع هص َ‬
‫المالئكة‪.‬‬
‫وقد هوجد يف الناس من عبدهم‪ ،‬وتوجه إليهم يف طلباته ورغباته‪ ،‬وجعلهم واسطة بينه وبين‬
‫الس َال ْم إلبطال هذا الشرك ‪-‬اتخاذ‬ ‫اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى يف عرض حاجاته‪ ،‬فبهعث النبي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫المالئكة أربابا وأندادا وشركاء هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى يف العبادة‪.-‬‬
‫ثم ذكر‪ -‬رحمه اهلل‪ -‬دليل األنبياء‪ ،‬أي الدليل على أن من المشركين الذين بهعث فيهم ‪َ -‬ع َل ْيه‬
‫َ‬ ‫الص َال هة والس َالم‪ -‬من كان يعبد األنبياء فذكر قول اهلل تعالى‪َ ﴿ :‬وإ ْذ قَ َال َ ُ‬
‫اَّلل يَا ِعيَس ابْ َن َم ْرغَ َّم‬ ‫ِ‬ ‫َ ّ ْ‬ ‫ّ‬
‫َْ‬ ‫ُ ُ َ ْ َُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ ُ ِ َ َه َ ْ ْ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ََْ َ ُ ْ َ َ‬
‫اَّلل ۖ قال ُسبْ َبانك َما يَكون ِِل أن أقول َما لي َس‬ ‫ِ ِ‬ ‫ون‬ ‫د‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ني‬
‫ِ ِ ِ‬‫ه‬ ‫ل‬‫إ‬ ‫ِّم‬‫أ‬‫و‬ ‫وِن‬
‫ِ‬ ‫ذ‬ ‫اَّت‬
‫ِ‬ ‫اس‬
‫أأنت قلت لِلن ِ‬
‫َْ َ َ َ َْ َ َ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫َْ‬ ‫ُ ََْ‬ ‫َّ ْ ُْ ُ ُْ ُ ََ ْ‬
‫ت َعال ُم‬ ‫ت قلتُه فقد َع ِل ْمتَه ۚ تعل ُّم َما ِِف نف ِِس َوال أعل ُّم َما ِِف نف ِسك ۖ ِإنك أن‬ ‫ِِل ِِبّق ۖ إِن كن‬
‫الس َال ْم‪ -‬من كان يعبد األنبياء‬ ‫و‬ ‫ة‬
‫ه‬ ‫ال‬
‫َ‬ ‫الص‬ ‫ه‬‫ي‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ع‬ ‫‪-‬‬ ‫فيهم‬ ‫عث‬ ‫ب‬ ‫الذين‬ ‫المشركين‬ ‫من‬ ‫كان‬ ‫إذن‬ ‫‪،‬‬ ‫﴾‬ ‫وب‬ ‫الْ ُغيُ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫ِ‬
‫من دون اهلل َع ّز َو َج ّل‪ ،‬مثل من كانوا يعبدون عيسى ويتوجهون إليه بالدعاء والطلب والرغبات‬
‫ويعبدون أمه‪ ،‬وأمه ليست نب ّية وإنما هي صالحة من الصالحات ومن خيار نساء العالمين‪ ،‬فكانوا‬
‫يعبدون األنبياء والصالحين‪ ،‬األنبياء مثل عيسى‪ ،‬والصالحين مثل أمه‪ ،‬كانوا يعبدوهنا من دون اهلل‪،‬‬
‫َ ُ َ ََ َ ُ ََ َ‬
‫اَّلل ثا ِلث ثالث ٍة﴾ ؛ جعلوا المستحقين للعبادة ثالثة‪ :‬اهلل ومريم‬ ‫وجعلوهما شريكا هلل ﴿قالوا إِن‬
‫وعيسى‪ ،‬وعبدوا هؤالء الثالثة كلهم‪ ،‬عبدوا اهلل‪ ،‬وعبدوا معه عيسى‪ ،‬وعبدوا معه أمه‪.‬‬
‫الس َال ْم منهم من كان شركه عبادة لألنبياء وعبادة‬ ‫إذن من هبعث فيهم َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫للصالحين‪.‬‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 05 :‬من سورة األنبياء‪.‬‬


‫(‪ )2‬اآلية رقم‪ 776 :‬من سورة المائدة‪.‬‬
‫(‪ )3‬اآلية رقم‪ 14 :‬من سورة المائدة‪.‬‬
‫‪60‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬
‫َُْ َ َ َ ْ َ ْ ُ َ َ‬
‫ين يَد ُعون يَبتَغون ِإَل‬ ‫الصالحي َن؛ َق ْو هل هه َت َعا َلى‪﴿ :‬أو َِلك ِ‬
‫اَّل‬ ‫ثم قال‪ -‬رحمه اهلل‪َ «:-‬و َدل هيل ّ‬
‫ً‬ ‫َِ ُ َْ ََ َُ ُ ْ َ َْ ُ َ َ ْ ُ َ َ ََْ ُ َ ََ ُ َ َ َ َُ َ َ َ َ َِ َ َ َ َْ ُ‬
‫رب ِهّم الو ِسيلة أيهّم أقرب وغرجون رْحته وُيافون عذابه ۖ ِإن عذاب ربك َكن َمذورا﴾ »‪.‬‬
‫الس َال ْم منهم من كان يعبد الصالحين‬ ‫هذه اآلية دليل واضح على أن هبعث فيهم َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫ُ َْ َ َ َ َ ْ ُ َ ََْ ُ َ‬
‫ون إ ََل َر ِبهّمُ‬
‫ِ‬ ‫اَّلين يدعون يبتغ ِ‬ ‫من دون اهلل َع ّز َو َج ّل‪ ،‬وذلك أن معنى اآلية وهي‪﴿ :‬أو َِلك ِ‬
‫ْ ََ‬
‫ال َو ِسيلة﴾ تتعلق ببيان حال طائفة من المشركين‪ ،‬واقرأ اآلية التي قبلها‪ ،‬وهي قول اهلل َع ّز َو َج ّل‪:‬‬
‫ُ َه َ‬ ‫ُ ِ َ ْ ُ ْ َ َْ ً‬ ‫ََ َ ُ َ َ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ْ ُ َ َ َ‬
‫وَلك‬ ‫الرُض عنكّم َوال َت ِوغال (‪ )46‬أ ِ‬ ‫ين َزع ْمتُ ّْم ِم ْن دو ِن ِه فال ي ْم ِلكون كشف‬ ‫اَّل‬
‫﴿ق ِل ادعوا ِ‬
‫ُ َه َ َ َ َ ْ ُ َ‬ ‫ْ ََ‬ ‫َ َ َ ْ ُ َ ََْ ُ َ‬
‫ون إ َ ه ِ‬
‫اَّلين يدعون﴾ أي أولئك الذين يدعوهم‬ ‫وَلك ِ‬ ‫َل َرب ِه ُّم ال َو ِسيلة﴾ ؛ ﴿أ ِ‬‫اَّلين يدعون يبتغ ِ‬ ‫ِ‬
‫هؤالء المشركون المتخذون األنداد قوم هداهم اهلل َع ّز َو َج ّل وعبدوا اهلل وأخلصوا الدين له ‪َ -‬ج ّل‬
‫ََْ ُ َ َ َِ ُ َْ ََ َُ ُ ْ َ َْ ُ ََ ْ ُ َ َ ََْ ُ َ ََ ُ َ َ َ َُ‬
‫َو َع َال‪﴿ ،-‬يبتغون ِإَل رب ِهّم الو ِسيلة أيهّم أقرب وغرجون رْحته وُيافون عذابه﴾ وهذه نزلت يف‬
‫قوم من المشركين كانوا يعبدون نفرا من الصالحين‪ ،‬مثل‪ :‬هعز ْيز وعيسى وبعض الصالحين من‬
‫ُ َه َ َ َ ْ َ ْ ُ َ َ‬
‫ين يَد ُعون يَبتَغون ِإ هَل َر ِب ِه ُّم‬ ‫اَّل‬
‫وَلك ِ‬‫عباد اهلل‪ ،‬فاهلل ينهاهم عن هذا الشرك بقوله سبحانه‪﴿ :‬أ ِ‬
‫ْ ََ‬
‫ال َو ِسيلة﴾ أي هؤالء الذين تدعوهنم وتعبدوهنم هم أنفسهم عباد هلل‪ ،‬خاضعون هلل‪ ،‬متذللون بين‬
‫ٌ ََْ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َْ ُ َ ْ ُ‬
‫اَّلل ِعبَاد أمثالك ّْم﴾ هم عباد هلل‪ ،‬خاضعون‬ ‫اَّلين تدعون ِمن ِ ِ‬
‫ون‬ ‫د‬ ‫يدي اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى ﴿ ِإن ِ‬
‫هلل َع ّز َو َج ّل‪ ،‬عباد أللوهيته‪ ،‬مطيعين له‪ ،‬قائمين بعبادته‪ ،‬خاضعين له‪ ،‬يرجون رحمته ويخافون‬
‫عذابه‪ ،‬فكيف تتوجهون إليهم؟ فالسياق جاء يف إنكار الشرك على قوم من المشركين كانوا يعبدون‬
‫نفرا من الصالحين‪ ،‬سواء نفرا من الصالحين من اإلنس ‪-‬على قول من المفسرين‪ -‬أو نفرا من‬
‫الصالحين من الجن‪ ،‬ألن اآلية قيل ‪ -‬يف بعض أقوال أهل العلم‪ -‬أهنا نزلت يف قوم من اإلنس كانوا‬
‫يعبدون نفرا من الجن‪ ،‬فأسلم الجن ُيون وبقي اإلنس ُيون على عبادهتم‪ ،‬فأنكر اهلل عليهم هذا الشرك‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 41 :‬من سورة اإلسراء‪.‬‬


‫(‪ )2‬اآليات‪ )41 -46( :‬من سورة اإلسراء‪.‬‬
‫(‪ )3‬اآلية رقم‪ 753 :‬من سورة األعراف‪.‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪61‬‬

‫قائال لهم‪ :‬إن هؤالء الجن ُيون الذين تعبدوهنم من دون اهلل أسلموا وأخلصوا العبادة هلل‪ ،‬يرجون‬
‫رحمة اهلل ويخافون عذابه‪ ،‬وأنتم ال تزالون مقيمين على عبادهتم‪.‬‬
‫إذن اآلية واضحة يف إنكار شرك من كان شركه عبادة الصالحين و األولياء‪.‬‬
‫هيقال لمن عبد ول ّيا أو عبد صالحا‪ :‬إن هذا الذي تعبده وتلجأ إليه هو نفسه عبد هلل‪ ،‬يرجوا اهلل‪،‬‬
‫ويطمع يف مغفرة اهلل ورحمته‪ ،‬وإن كان مات فإن هذه األمور ‪-‬رجاء الرحمة والعبادة وابتغاء‬
‫الوسيلة‪ -‬انقطعت بموته‪" ،‬إذا مات ابن آدم انقطع عمله إال من ثالث" ‪ ،‬ال يستطيع أن يقوم بعبادة‬
‫وال يستطيع أن يقوم بدعاء أو برجاء أو بخوف أو بأي أمر من األمور التي هي مجال اإلنسان للقيام‬
‫هبا يف حياته الدنيا‪ ،‬أما إذا مات انقطع عمله‪ ،‬ال يستطيع أن يدعو لنفسه وال لغيره‪ ،‬ولهذا قال َع َل ْيه‬
‫اهلل َعنْ َها‪" :‬إن كان ذاك وأنا‬
‫الس َال ْم كما يف صحيح البخاري ألم المؤمنين عائشة َرض َي ه‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫ّ‬
‫حي استغفرت لك" يعني وأنا على قيد الحياة استغفرت لك‪ ،‬أما بعد الموت ال يستغفر ‪َ -‬ع َل ْيه‬
‫الس َال ْم‪ -‬ألحد‪ ،‬وال أيضا غيرهم من الذين توفاهم اهلل ‪َ -‬ع ّز َو َج ّل‪ -‬يستغفرون ألحد‪،‬‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫ّ‬
‫ولهذا قال‪" :‬إن كان ذاك وأنا حي استغفرت لك"‪.‬‬
‫علي أعمالكم‪،‬‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫أما ما يستدل به بعض الناس من أن النبي َص ّلى ه َ‬
‫اهلل َعل ْيه َو َسل ْم قال‪" :‬تعرض ّ‬
‫وأنا ميت‪ ،‬حسنها وسيئها‪ ،‬فإذا رأيت حسنها حمدت اهلل‪ ،‬وإذا رأيت سيئها استغفرت اهلل لكم"‬
‫هذا حديث غير صحيح‪ ،‬فيستدل به بعض الناس ويرتكون الحديث الذي يف صحيح البخاري‪،‬‬
‫اهلل َعنْ َها‪" :‬إن كان ذاك وأنا حي‬
‫الس َال ْم لعائشة َرض َي ه‬ ‫الحديث الذي يقول فيه النبي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫الس َال ْم‪ -‬ألحد‪.‬‬ ‫استغفرت لك" أي بعد الموت ال يستغفر ‪َ -‬ع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬

‫(‪ )1‬رواه مسلم(‪ )7647‬من حديث أبي هريرة‪ ،‬بلفظ‪" :‬إذا مات اإلنسان انقطع عنه عمله إال من ثالثة‪ :‬إال من صدقة جارية أو علم‬
‫ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري (‪ ،)1071 ( )4666‬من حديث عائشة رضي اهلل عنها‪.‬‬
‫(‪ )3‬قال الشيخ األلباين ‪ $‬بعد أن ساق جميع طرق الرواية قي الضعيفة ( ‪(( : ) 326- 323 /0‬وجملة القول أن الحديث‬
‫ضعيف بجميع طرقه‪ ،‬وخيرها حديث بكر بن عبد اهلل المزين وهو مرسل‪ ،‬وهو من أقسام الحديث الضعيف عند المحدثين‪ ،‬ثم‬
‫حديث ابن مسعود‪ ،‬وهو خطأ‪ ،‬وشرها حديث أنس بطريقيه)) اهـ‪.‬‬
‫‪63‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫ولهذا؛ الصحابة بعد موته قالوا ‪-‬كما جاء عن عمر‪" :-‬اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا واآلن‬
‫نتوسل إليك بعم نبينا" ‪ ،‬لماذا؟ ‪-‬والمراد الدعاء‪ :‬اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا واآلن نتوسل‬
‫الس َال ْم ما كانوا يتوسلون‬ ‫إليك بعم نبينا؛ قم يا العباس ادع اهلل لنا‪ -‬يف زمن النبي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫الس َال ْم‪ ،‬يدعو لهم هو ‪َ -‬ص َل َو ه‬
‫ات اهلل‬ ‫بالعباس أو بغيره‪ ،‬كانوا يتوسلون بدعاء النبي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫الس َال ْم ‪:‬‬ ‫ويؤ ّمنون على دعائه‪ ،‬أما بعد موته انقطع هذا األمر‪ ،‬لقوله َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬ ‫َو َس َال هم هه َع َل ْيه‪َ -‬‬
‫"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إال من ثالث"‪.‬‬
‫الشاهد‪ ،‬أن هذا دليل الصالحين‪ .‬ما دليل األشجار واألحجار؟‬

‫َ ُ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ََ َْ‬
‫قال‪َ « :‬ق ْو هل هه َت َعا َلى‪﴿ :‬أف َرأيتُ ُّم الالت َوال ُع َزى َو َمناة اّثلَ ِاّثلَة األخ َرى﴾ » هذه معبودات كان‬
‫والعزى‬
‫ّ‬ ‫والعزى ومناة الثالثة األخرى‪ .‬الالت ما هي؟‬
‫ّ‬ ‫يعبدها المشركون ويتوجهون إليها؛ الالّت‬
‫ما هي؟ ومناة الثالثة األخرى ما هي؟‬
‫الالّت‪ :‬هذه صخرة ‪-‬وقيل قرب‪ ،‬جاء هذا المعنى عن ابن عباس وغيره‪ -‬لرجل كان ي هل ُت‬
‫السويق؛ يعجنه ويهيئه ويخبزه ويجهزه ضيافة وقرى للحجاج‪ ،‬فكان معروفا بذلك‪ ،‬رجل هيعرف‬
‫ّ‬
‫السويق ويهيئه ويخبزه ويقدمه ضيافة للحجاج الذين يتوافدون إلى مكة‪.‬‬
‫هبذا‪ :‬يعجن ّ‬
‫لما مات بنوا على قربه وعبدوه‪ ،‬أخذوا يجعلونه واسطة‪ ،‬قالوا ألن هذا رجل معروف بيننا‬
‫السويق‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫هبذا الكرم وهذه الضيافة‪ ،‬فعبدوا قربه‪ ،‬وقيل عبدوا الصخرة التي كان يعجن عليها ّ‬
‫السويق‪ ،‬ما أجمل أن تكون واسطة بيننا وبين اهلل‪،‬‬
‫هذه صخرة فاضلة‪ ،‬سنوات طويلة هيعجن عليها ّ‬
‫والسويق هيعجن عليها و هيقدم للحجاج ضيافة لها‪ ،‬إذن هذه الصخرة فاضلة‪ ،‬مميزة‪،‬‬
‫سنوات طويلة ّ‬
‫لها خاصية‪ ،‬فما أجمل أن نجعلها واسطة بيننا وبين اهلل‪ ،‬فجعلوها واسطة‪ .‬وقيل أهنم جعلوا قربه‬
‫واسطة بينهم وبين اهلل َع ّز َو َج ّل‪ ،‬يأتون عند القرب ويبكون ويعرضون الحاجات والرغبات‬
‫ويتحرون الدعاء عند قربه‪ ،‬أو عند هذه الصخرة‪.‬‬

‫(‪ )1‬صحيح البخاري (‪ )4172( )7272‬من حديث أنس بن مالك ﭬ‪.‬‬


‫(‪ )2‬اآليات‪ )02-75( :‬من سورة النجم‪.‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪64‬‬

‫وال هع ّزى‪ :‬شجرة كان يقصدها المشركون‪ ،‬وكان يزيد الشرك والتعلق هبذه الشجرة أن جنية‬
‫كانت مختفية وإذا جاءوا عند هذه الشجرة خاطبتهم الجنية فيهخدعون بذلك‪ ،‬ألن الشجر ال هيعرف‬
‫أنه يخاطب الناس‪ ،‬فيهخدعون بذلك و هيستدرجون‪ ،‬فتخاطبهم هذه الجنية وتذكر لهم أمورا‪ ،‬وربما‬
‫سألوها عن مفقود أو ضائع فأشارت إلى مكانه أو دلتهم على موضعه أو نحو ذلك‪ ،‬ف هفتنوا فصاروا‬
‫الس َال ْم‬ ‫يتوافدون عليها من األنحاء العديدة يعبدون هذه الشجرة‪ ،‬حتى بعث النبي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫السير واألخبار‪ .‬فال هع ّزى شجرة‬
‫إليها خالد بن الوليد فقطع الشجرة وقتل الجنية‪ ،‬كما جاء يف كتب ّ‬
‫كان يعبدها المشركون‪.‬‬
‫وال يزال مثل هذا الشرك يوجد‪ ،‬من الناس من يتعلقون بأشجار ويعتقدون أهنا أشجار‬
‫يتمسحون هبا‪ ،‬يضع صدره على الشجرة يطلب‬
‫مباركة‪ ،‬ولهذا يذهبون ويعلقون عليها الخيوط‪ّ ،‬‬
‫منها بركة‪ ،‬يطوف على الشجرة‪..‬‬
‫كان قديما‪ ،‬وقد أدرك المصنف‪ -‬رحمه اهلل‪ -‬شيئا من ذلك ورآه‪ ،‬كانوا يطوفون على شجرة ؛‬
‫تذهب النساء وتطوف على الشجرة‪ ،‬المرأة التي ال تلد تذهب وتطوف على الشجرة وتقول‪ :‬يا‬
‫فحل الفحول أريد ولدا قبل الحول‪ ،‬تنادي الشجرة‪ ،‬ال تنجب لسنوات‪ ،‬فتقول لها النساء هناك‬
‫شجرة مباركة يف المكان الفالين‪ ،‬اذهبي وطويف هبا أشواطا‪ ،‬واطلبي منها‪ ،‬فهي شجرة مباركة‪،‬‬
‫وربما قالوا لها فالنة جربت وفالنة فعلت‪ ..‬وهكذا يستدرج الناس إلى الشرك والباطل‪-‬والعياذ‬
‫باهلل‪ -‬فكن يذهبن إلى تلك الشجرة ويطفن عليها‪ ،‬ويقلن‪ :‬يا فحل الفحول أريد ولدا قبل الحول‪.‬‬
‫الس َال ْم يف الحديث الصحيح‪" :‬ال تقوم الساعة حتى تضطرب َأليات‬ ‫وقد قال َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫الخ َل َصة" ؛ (ذو ال َخلصة)‪ :‬صنم‪ ،‬وثن من األوثان‪( .‬تضطرب َأليات النساء)‬
‫نساء َد ْوس على ذي َ‬
‫الخ َلصة‪ ،‬وهذا فيه إشارة إلى‬
‫أي تضرب ألياهتن بعضا من شدة تزاحمهن على الطواف على ذي َ‬
‫الخ َلصة‪.‬‬
‫كثرة النساء الطائفات على ذي َ‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري (‪ )1776‬ومسلم (‪ )0526‬من حديث أبي هريرة ﭬ‪.‬‬


‫‪65‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫الس َال ْم‪" :‬ال تقوم الساعة حتى يعبد فئام من أمتي األوثان" ‪ ،‬واألحاديث‬ ‫وقال َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫الس َال ْم‪.‬‬ ‫يف هذا الباب كثيرة وثابتة عن نبينا َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫الس َال ْم‪" :‬ل َت ّتبع ّن َسنَن من كان قبلكم"‪ .‬انتبه هنا‪َ :‬من قبلنا فيهم من عبد‬ ‫وقال َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫المالئكة‪ ،‬فيهم من عبد األنبياء‪ ،‬وفيهم من عبد األولياء‪ ،‬وفيهم من عبد األشجار‪ ،‬وفيهم من عبد‬
‫الصالحين‪ .‬ونبينا قال‪" :‬ل َت ّتبع ّن َسنَن من كان قبلكم‪ ،‬شربا بشرب وذراعا بذراع‪ ،‬حتى لو دخلوا جحر‬
‫ضب لدخلتموه" ‪ ،‬فإذن هذه أمور خطيرة جدّ ا‪.‬‬
‫الس َال ْم عندما قال لنا‪" :‬ل َت ّتبع ّن َسنَن من كان قبلكم" هل قالها لنا مجرد‬ ‫النبي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫معلومة نسمعها ونعرفها؟ أو من أجل أن نحذر ونحتاط ألنفسنا من هذا الباطل الذي كان عليه من‬
‫الس َال ْم قال يف دعائه‪:‬‬ ‫قبلنا ونحذر على المجانبة منه والبعد عنه؟ خليل الرحمن إبراهيم َع َل ْيه ّ‬
‫َ َُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ّ َُ َ َ ْ ََْ َ ً ّ‬ ‫َ َ َّ ْ ُ َ َ‬
‫األ ْصنَ َ‬ ‫اجنُبِْن َوب َ‬ ‫َ ْ‬
‫اس ف َم ْن ت ِب َع ِِن ف ِإنه ِم ِِن‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫اّنل‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫م‬ ‫ا‬‫ري‬
‫ِ ِ‬ ‫ث‬‫ك‬ ‫ن‬ ‫ل‬‫ل‬‫ض‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫ه‬‫ن‬ ‫إ‬ ‫ب‬
‫ِ ِ‬ ‫ر‬ ‫)‬ ‫‪44‬‬‫(‬ ‫ام‬ ‫ِن أن نعبد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿و‬
‫يّم (‪.﴾)46‬‬ ‫ك َغ ُف ٌ‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫َ َ َ‬
‫َو َم ْن َع َص ِاِّن ف ِإن‬
‫ِ‬

‫َ‬ ‫ََََُْ ُ َ َ َ ُْ َ َ َ َ َ َ ََ ُ ْ‬
‫ثم ذكر دليل األشجار واألحجار قال‪﴿ :‬أفرأيتّم الالت والعزى ومناة اّثل ِاّثلة األخرى﴾‪ ،‬مناة‬
‫هذا أيضا حجر وصنم من األصنام كان يعبده أهل الجاهلية‪ ،‬وكان بين مكة والمدينة‪.‬‬
‫ثم ختم بحديث أبي واقد الليثي‪ ،‬وهذا حديث عظيم جدّ ا يف هذا الباب‪ .‬هيبيّن لنا هذا‬
‫الحديث خطورة حال اإلنسان عندما يكون حديث عهد بإسالم أو تكون معلوماته اإلسالمية‬
‫ضعيفة أو يكون نشأ يف مجتمع تكثر فيه الجاهلية‪ ،‬فهنا فيه خطورة هيبينها و هيجليها لنا هذا الحديث؛‬
‫الس َال ْم إلى هحنَين ونحن هحدَ ثاء عهد بكفر"‬ ‫قال أبو واقد الليثي‪" :‬خرجنا مع النب ّي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫اهلل َعنْ هه من المقالة التي قالوها‪ ،‬قال‪" :‬ونحن هحدَ ثاء َعهد بكفر" يعني عهدنا‬
‫هذا اعتذار قدّ مه َرض َي ه‬
‫بالكفر كان قريبا‪ ،‬كنا على الكفر من وقت قريب‪ ،‬والذي على الكفر من وقت قريب معلوماته‬
‫الشرعية عن اإلسالم وعن التوحيد وعن تفاصيل الشرع تكون ضعيفة‪ ،‬وربما يف الوقت نفسه‬

‫(‪)1‬أخرجه أبو نعيم األصبهاين يف «حلية األولياء» (‪ )005/0‬من حديث َث ْو َبان‪.‬‬


‫(‪ )2‬رواه البخاري (‪ )1402‬عن أبي سعيد الخدري‪.‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪66‬‬

‫تكون بعض األمور التي كان عليها يف الجاهلية لم يتبين له ولم يظهر له أهنا مصادمة لإلسالم الذي‬
‫اعتنقه ودخل فيه‪ ،‬ومثل هذا األمر من ينشأ يف مجتمعات تكثر فيها الجاهلية ويكثر فيها دعاة‬
‫الضالل وأئمة الباطل ربما ينشأ ال يعرف بعض األمور وال يفهمها وال يدركها ويقع يف الشرك‬
‫والضالل من حيث أنه يظن أنه على التوحيد واإلسالم‪.‬‬
‫الس َال ْم إلى هحنين"‪ ،‬انظر من هم هؤالء‬ ‫يقول أبو واقد‪" :‬خرجنا مع النبي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫الرجال‪ ،‬من هم هؤالء الرجال؟ ‪-‬هذه الكلمة مهمة‪ -‬هؤالء رجال خرجوا مع النبي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة‬
‫الس َال ْم بائعين أنفسهم يف سبيل اهلل‪ ،‬معهم السيوف يقاتلون‪ ،‬منهم من س هيقتل ويموت يف سبيل‬
‫َو ّ‬
‫اهلل‪ ،‬خرجوا مقاتلين يف سبيل اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى ثم يقولون هذه المقالة التي هب ّينت يف الحديث‪.‬‬
‫اهلل َعنْ هه‪" :‬ونحن هحدثاء عهد بكفر‪ ،‬وللمشركين سدرة‪َ ،‬يع هكفون عندها وينوطون‬
‫قال َرض َي ه‬
‫مروا‬
‫مروا بسدرة أي ُ‬
‫هبا أسلحتهم"‪ ،‬جاء يف بعض الروايات‪" :‬فمررنا بسدرة"‪ ،‬وهم يف الطريق ُ‬
‫بشجرة‪ ،‬لمن هذه الشجرة؟ للمشركين‪ ،‬ماذا يفعلون عندها؟ قال‪َ " :‬يع هكفون عندها وينوطون هبا‬
‫أسلحتهم "‪ ،‬هذا نوع من الشرك؛ الشرك من أنواعه ومجاالته العكوف عند القرب أو عند الشجرة أو‬
‫عند المكان الذي هيعبد و هيقصد و هيتَوجه إليه‪.‬‬
‫َ‬
‫(يعكف عنده)‪ :‬أي يبقى عنده مدة طويلة‪ ،‬ساكنا خاضعا متذ ّلال راهبا‪ ،‬هذه عبادة‪َ ﴿ ،‬وال‬
‫َُ ُ ُ َ ََُْ ْ َ ُ َ‬
‫ون ِف ال ْ َم َ‬
‫اج ِد﴾ ‪ ،‬العكوف‪ :‬عبادة هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪( ،‬يعكفون عندها)‪:‬‬
‫ِ‬ ‫س‬ ‫اَروهن وأنتّم َع ِكف ِ‬
‫تب ِ‬
‫يبقى قائما ساعة‪ ،‬ساعتين‪ ،‬أقل أو أكثر‪ ،‬ساكنا خاشعا‪ ،‬ربما ال يتكلم بكلمة‪ ،‬فقط مجرد وقوف‪،‬‬
‫وهو يعتقد يف قرارة نفسه أن عكوفه هذا يجلب له بركة‪ ،‬ألن هذه الشجرة مباركة فربكتها تنعكس‬
‫عليه وتنجذب إليه ويعود إليه نصيب منها‪ ،‬فيعكفون عندها‪ ،‬هم بأشخاصهم‪.‬‬
‫وأيضا (ينوطون هبا أسلحتهم) أي‪ :‬يعلقون أسلحتهم‪ ،‬لماذا؟ ألهنم يعتقدون أن السالح إذا‬
‫هع ّلق على هذه الشجرة المباركة‪ -‬بزعمهم‪ -‬بورك السالح وأصبح قو ّيا يف القتال‪ .‬فكانوا يعتقدون‬
‫هذه العقائد؛ يعكفون عندها وينوطون هبا أسلحتهم‪.‬‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 701 :‬من سورة البقرة‪.‬‬


‫‪67‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫" هيقال لها‪ :‬ذات أنواط"‪ ،‬لماذا سموها هبذا االسم؟ (ذات أنواط)‪ :‬لكثرة ما هيع ّلقون عليها من‬
‫أسلحتهم ‪-‬ينوطون أي‪ :‬هيع ّلقون‪ -‬رجاء الربكة وطلبها‪.‬‬
‫مروا بسدرة أخرى غير تلك‪ -‬فقلنا‪ :‬يا رسول اهلل! اجعل لنا ذات‬
‫قال‪":‬فمررنا بسدرة ‪-‬أي ُ‬
‫َأن َْواط كما لهم ذات أنواط"؛ يعني اجعل لنا نحن‪ّ ،‬‬
‫خصص لنا شجرة معينة نمارس عندها مثل هذه‬
‫الممارسة؛ نعكف ونعلق السالح‪ .‬من أجل ماذا العكوف؟ ومن أجل ماذا هيع ّلق السالح؟ كانوا‬
‫يفعلون ذلك يف الجاهلية طلب الربكة‪.‬‬

‫فقالوا‪" :‬اجعل لنا ذات َأن َْواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول اهلل َص ّلى ه‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل َم‪" :‬اهلل‬
‫السنَن‪-‬ويف رواية قال‪" :‬سبحان اهلل"‪ ،-‬قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى‬ ‫أكرب‪ ،‬إهنا ُ‬
‫ٌ‬ ‫ْ ْ َ َ َ َ‬
‫لموسى‪﴿ :‬اج َعل ّنلَا ِإل ًها ك َما ل ُه ّْم آل ِ َهة﴾‪- ،‬ثم قال‪ :-‬لتتبعن َسنَن من كان قبلكم" ‪.‬‬
‫وخذ نفسك مأخذ‬ ‫الس َال ْم‪ ،‬ه‬ ‫انظر هذا النصح العظيم والتحذير البالغ من نبينا َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫ْ ْ َ َ‬
‫الحزم والحيطة والحذر‪" ،‬قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى‪﴿ :‬اج َعل ّنلَا ِإل ًها‬
‫ٌ َ َ َ ُ َ َْ ُ َ‬ ‫َ َ‬
‫ك َما ل ُه ّْم آل ِ َهة قال إِنك ّْم ق ْو ٌم َت َهلون﴾ ‪ ،‬لتتبعن َسنَن من كان قبلكم"‪ ،‬أي‪" :‬شربا شربا‪ ،‬ذراعا‬
‫ذراعا حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه"‪.‬‬
‫الس َال ْم يف بعض الروايات يف غير هذا الحديث "حتى لو هوجد فيهم‬ ‫بل جاء عنه َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫من يأيت أمه عالنية هلوجد يف أمتي من يأيت أمه عالنية" ‪.‬‬

‫(‪ )1‬الحديث‪" :‬عن أبي واقد الليثي‪ ،‬قال‪ :‬خرجنا مع رسول اهلل ﷺ إلى حنين‪ ،‬ونحن حدثاء عهد بكفر‪ ،‬وللمشركين سدرة يعكفون‬
‫بالسدرة‪ ،‬فقلنا‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬ا جعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات‬ ‫عندها‪ ،‬وينوطون هبا أسلحتهم يقال لها‪ :‬ذات َأن َْواط‪ ،‬قال‪ :‬فمررنا ّ‬
‫ٌ َ َ َ ُ َ‬ ‫ْ ْ َ َ َ َ‬
‫السنَن‪ ،‬قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل‪﴿ :‬اج َعل ّنلَا ِإل ًها ك َما ل ُه ّْم آل ِ َهة قال ِإنك ّْم ق ْو ٌم‬
‫أنواط‪ ،‬فقال رسول اهلل ﷺ‪ :‬إهنا ُ‬
‫َْ ُ َ‬
‫َت َهلون﴾‪َ ،‬لت َْر َك هب ّن َسن ََن من كان قبلكم"‪ .‬رواه الرتمذي يف سننه (‪ )0702‬وأحمد يف مسنده (‪ )07452‬و صححه األلباين ِف‬
‫«جلباب المرأة المسلمة» (‪.)020‬‬
‫(‪ )2‬اآلية رقم‪740 :‬من سورة األعراف‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه الرتمذي يف سننه (‪ )0637‬من حديث عبد اهلل بن عمرو بن العاص‪.‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪68‬‬

‫يجب على اإلنسان أن يحذر‪ ،‬خاصة يف زماننا هذا؛ هذا الزمن انفتح على الناس انفتاح‬
‫عجيب حال المجتمعات الكافرة وأمم الكفر‪ ،‬وأصبح الناس من خالل القنوات الفضائية ومن‬
‫خالل شبكة العنكبوت (االنرتنت)‪ ،‬واإلنسان جالس يف بيته‪ ،‬والمرأة جالسة يف بيتها ينفتح عليها‬
‫العالم كله‪ ،‬وترى وثن ّية الوثن ّيين وشرك المشركين وضالل المضلين ه‬
‫وشبه المبطلين‪ ،‬ويكون هذا‬
‫المسكين الذي ينظر هذا كله بضاعته الشرعية وعلمه بالتوحيد علم ضعيف محدود‪ ،‬ثم يرجو‬
‫لنفسه سالمة‪.‬‬
‫السفينَ َة َال َت ْمشي َع َلى ال َي َبس‬
‫إن ّ‬‫ّ‬ ‫َت ْر هجو الن َّجا َة َو َل ْم َت ْس هل ْك َم َسال َك َها‬
‫‪‬‬

‫اك َأ ْن َت ْبتـَـ ّـل ب َ‬


‫المــــاء‬ ‫اك إيـّـــ َ‬
‫إيـّــ َ‬ ‫َأ ْل َقــا هه في ّ‬
‫اليـم َم ْكتـهــوفا َو َقـ َال َلـ هه‬

‫فالشاهد أن األمر جد خطير! وأن األمر ‪-‬كما قرر الشيخ رحمة اهلل عليه‪ :-‬أن الشرك الذي‬
‫الس َال ْم ليس عبادة أصنام فقط‪.‬‬ ‫كان عليه المشركون يف زمن النبي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬

‫وبعض الناس عندما يقرأ اآليات التي فيها التحذير من الشرك ينصب يف ذهنه فقط ‪-‬وهذه‬
‫الشبه التي هأدرجت على الناس‪ :-‬الالّت وال هع ّزى ومناة‪ ،‬ويقول‪ :‬الحمد هلل‪ ،‬هذه أصنام ليست‬
‫من ُ‬
‫الس َال ْم وال يوجد شرك‪ ،‬بل بعض الناس هوجد من‬ ‫وح ّطمت يف زمن النبي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬ ‫موجودة ه‬
‫أئمة الضالل أنه قال‪ :‬أمة محمد إلى قيام الساعة لن يوجد فيها شرك‪ ،‬هذا قيل و هكتب يف بعض‬
‫الج ّهال يمارس ممارسات من الشرك ويقول‬ ‫الكتب و هل ّبس فيه على بعض ه‬
‫الج ّهال‪ ،‬وأصبح بعض ه‬
‫لهم هؤالء‪ :‬أمة محمد معصومة من الشرك‪ ،‬وربما استدلوا ببعض األحاديث ووضعوها يف غير‬

‫(‪ )1‬قال أمير المؤمنين هارون الرشيد ذات مرة ألبي العتاهية عظني بأبيات من الشعر وأوجز؛ فقال‪:‬‬
‫بالحجاب والحرس‬
‫الموت يف طرف وال نفس ‪ :::‬ولو تمتعت ه‬
‫َ‬ ‫ال تأمن‬
‫واعلم بأن سهـام المـوت صــائـبة ‪ :::‬لكــــل مــدّ رع منــــها ومتــــــرس‬
‫ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ‪ :::‬إن السفينة ال تجــري على اليبس‬
‫الح ّالج‪ ،‬كما هينسب إلى المفكر الصويف عبد الغني النابلسي الدمشقي‪.‬‬
‫(‪ )2‬البيت هينسب إلى الفيلسوف الصويف َ‬
‫‪69‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫باهبا‪ ،‬مثل حديث ‪":‬إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون يف جزيرة العرب" ‪ ،‬يستدلون هبذا‬
‫الحديث ويرتكون أحاديث محكمة صريحة يف أن العبادة ستوجد‪ ،‬مثل‪" :‬ال تقوم الساعة حتى يعبد‬
‫الس َال ْم‪" :‬ل َت ّتبع ّن َسنَن‬ ‫فئام من أمتي األوثان"‪ ،‬هل أوضح من هذا شيء؟ ومثل قوله َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫من كان قبلكم‪ ،‬شربا شربا"‪ ،‬ونحن عرفنا من كان قبلنا ‪-‬هبذه اآليات الب ّينات‪ -‬فيهم من عبد‬
‫األنبياء‪ ،‬وفيهم من عبد الصالحين‪ ،‬وفيهم من عبد المالئكة‪.‬‬

‫ولهذا؛ تقريرا لهذا األمر أعيد عليكم‪:‬‬


‫لو قيل لك‪ :‬هل سيوجد يف أمة النبي ‪-‬هذه األمة‪ -‬من سيعبد المالئكة‪ ،‬وسيعبد األنبياء‬
‫وسيعبد الصالحين‪ ،‬وسيعبد األشجار‪ ،‬وسيعبد الشمس‪ ،‬وسيعبد القمر؟ هل سيوجد من سيفعل‬
‫ذلك أو ال يوجد؟ ماذا تقول؟ يوجد‪ ،‬لماذا؟ لدليلين‪:‬‬
‫الدليل األول‪ :‬أن هذه آيات ب ّينات يف القرآن الكريم أن هذه الممارسات كانت موجودة فيمن‬
‫كان قبلنا‪ ،‬هذا األول‪.‬‬
‫الس َال ْم قال‪" :‬لتتبعن َسنَن من كان قبلكم شربا شربا ذراعا‬ ‫الدليل الثاين‪ :‬أن نبينا َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫ذراعا‪ ،‬حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه"‪.‬‬
‫وال يعني ذلك وجوده يف األمة بأسرها؛ يوجد يف أفراد من الناس وآحاد من الناس و بعض‬
‫من يضلون سواء السبيل‪ ،‬يوجد فيهم من ينحرف هذا االنحراف‪.‬‬

‫ودريت هذه الدراية اتق اهلل َع ّز َو َج ّل واحفظ‬


‫َ‬ ‫وفهمت هذا الفهم‬
‫َ‬ ‫علمت هذا العلم‬
‫َ‬ ‫فإذا‬
‫توحيدك وصن إيمانك وابعد نفسك عن الشرك‪ ،‬واسأل اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى أن يثبتك على التوحيد‬
‫وأن يعيذك من الشرك وأن يحييك مسلما وأن يتوفاك مؤمنا‪.‬‬
‫فإنه َت َب َار َك َو َت َعا َلى وحده ولي التوفيق والسداد‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه مسلم (‪ ،)0070‬من حديث جابر بن عبد اهلل‪.‬‬


‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪71‬‬

‫القـاعـدة الـرابـعة‪:‬‬
‫املتـن‪ - :‬القاعـدة الرابعـة ‪-‬‬
‫الر َخاء‪،‬‬ ‫َأ ّن هم ْشركي َز َماننَا َأ ْغ َل هظ ش ْركا م َن األَ ّولي َن؛ ألَ ّن األ َ ّولي َن هي ْشر هك َ‬
‫ون في ّ‬
‫الر َخاء َو ّ‬
‫الشدّ ة‪.‬‬ ‫الشدّ ة‪َ ،‬و هم ْشر هكو َز َماننَا ش ْر هك هه ْم َدائم؛ في ّ‬
‫ون في ّ‬ ‫َو هي ْخل هص َ‬
‫َ َُ ِ َ َ َ ََ ُ‬ ‫ُْ ْ َ َ ُ ََ ُْ‬ ‫َ َ‬
‫ين فل َما ناه ّْم‬‫اَّلل ُم ِل ِصني َل ال‬ ‫َوالدّ ل هيل َق ْو هل هه َت َعا َلى‪﴿ :‬ف ِإذا َر ِكبُوا ِِف الفل ِك دعوا‬
‫َ َِْ َ ُ ْ ُْ ُ َ‬
‫َركون﴾ [العنكبوت‪.]64:‬‬ ‫ِإَل الْب ِإذا هّم ش ِ‬
‫اهلل َع َلى هم َح ّمد َو َع َلى آله َو َص ْحبه َو َس ّل َم‪.‬‬
‫َت ّم ْت َو َص ّلى ه‬

‫الشــرح‪:‬‬

‫ثم ختم هذه القواعد األربع هبذه القاعدة العظيمة‪ ،‬المهمة‪ -‬حقيقة‪ -‬وهي قوله ‪-‬رحمه اهلل‪-‬‬
‫الر َخاء‪،‬‬ ‫« َأ ّن هم ْشركي َز َماننَا َأ ْغ َل هظ ش ْركا م َن األَ ّولي َن»‪ ،‬لماذا؟ قال‪« :‬ألَ ّن األَ ّولي َن هي ْشر هك َ‬
‫ون في ّ‬
‫َو هي ْخل هص َ‬
‫ون في ّ‬
‫الشدّ ة»‪ ،‬ما معنى يشركون يف الرخاء ويخلصون يف الشدة؟ أي وقت الصحة والعافية‬
‫واألمن والراحة والطمأنينة ‪-‬ونحو ذلك‪ -‬يشركون‪ ،‬يعبدون مع اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى األشجار‬
‫واألحجار والمالئكة‪...‬الخ‪ ،‬أما وقت الشدة عندما تشتد األمور وتعظم الكربات ال يعبدون شيئا‬
‫من تلك المعبودات‪ ،‬بل يتوجهون إلى اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى وحده مخلصين له الدين‪ ،‬هكذا كانوا‪.‬‬
‫َ َ‬ ‫ُْ ْ َ َ ُ ََ ُْ‬ ‫َ َ‬
‫ني َُل‬ ‫اَّلل ُم ِل ِص‬ ‫ما الدليل على ذلك؟ قال‪َ « :‬والدّ ل هيل َق ْو هل هه َت َعا َلى‪﴿ :‬فإِذا َر ِكبُوا ِِف الفل ِك دعوا‬
‫ِ َ ََ َ ََ ُ ْ َ َِْ َ ُ ْ ُْ ُ َ‬
‫َركون﴾ »‪ ،‬هذه حالهم‪ ،‬من هم؟ المشركون األه ّول‪.‬‬ ‫الين فلما ناهّم ِإَل الْب ِإذا هّم ش ِ‬
‫إذا ركبوا يف الفلك وأتت الرياح العاتية وتالطمت األمواج وأدركهم الغرق وعظم فيهم‬
‫الخطب أخلصوا الدين هلل‪ ،‬فقط يقولون‪ :‬يا رب‪ ..‬يا رب‪ ،‬ال يناجون الالت وال هبل وال غيرها مما‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 64 :‬من سورة العنكبوت‪.‬‬


‫‪70‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫ني َ َُل ِ‬
‫ال َ‬
‫ين﴾ إخالص تام يف‬ ‫﴿ُمْلص َ‬
‫ُ‬
‫كانوا يدعوهنا يف حال الرخاء‪ ،‬فقط يقولون‪ :‬يا رب‪ ..‬يا رب‪،‬‬
‫ِ ِ‬
‫التوجه والسؤال والطلب‪ ،‬الوسائط كلها تسقط وتذهب وال يتعلقون بشيء منها‪ ،‬هيخلصون الدين‬
‫هلل‪ ،‬والدليل واضح أمامك‪﴿ :‬فَإ َذا َركبُوا﴾ ‪-‬أي المشركين‪﴿ -‬فَإ َذا َركبُوا ِف الْ ُفلْك َد َع ُوا َ َ‬
‫اَّلل‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َُ ِ َ َ َ َ ََ ُ ْ َ َِْ َ ُ ْ ُ ْ ُ َ‬ ‫ُْ‬
‫َركون﴾ يعني إذا انتهوا من البحر ومشاكل الغرق‬ ‫ُم ِل ِصني َل الين فلما ناهّم ِإَل الْب ِإذا هّم ش ِ‬
‫وكانوا يف ال َبر‪ ،‬وطأت أقدامهم الرب‪ ،‬رجعوا للشرك‪ ،‬بدؤوا ينادون الالت والعزى‪ ...‬الخ ويف حال‬
‫الشدة هيخلصون هلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪.‬‬

‫ولهذا؛ اقرأ يف هذا السياق بيان اهلل َع ّز َو َج ّل لهؤالء أن اهلل قادر عليهم يف حال كوهنم يف البحر‬
‫ويف حال كوهنم يف الرب‪ ،‬األمر سواء يف قدرته َج ّل َو َع َال‪ ،‬قادر على إهالكهم َب ّرا وبحرا‪ ،‬ال فرق بين‬
‫أن يدرك اإلنسان هالك اهلل َع ّز َو َج ّل سواء كان يف الرب أو البحر‪ ،‬فيقال للمشرك‪ :‬إذا كنت تؤمن أنه‬
‫ال ينجيك يف البحر إال اهلل‪ ،‬فكذلك ال ينجيك يف الرب إال اهلل‪ ،‬ألن اهلل قادر عليك يف الرب و يف البحر‪،‬‬
‫فماذا تغني عنك هذه األصنام من اهلل شيئا سواء كنت يف الرب أو يف البحر‪.‬‬
‫ْ َ ْ‬ ‫َْ ْ َ َْ ُ‬ ‫َُ ُ ُ َ ُْ َ ُ ُ ُْ ْ َ‬
‫ولهذا اقرأ قول اهلل َع ّز َو َج ّل‪﴿ :‬ربكّم ِ‬
‫اَّلي يز ِِج لكّم الفلك ِِف اَّلب ِر َِتبتغوا ِمن فض ِل ِه‬
‫َْ َ َ‬ ‫َْ ْ َ َ‬ ‫ك ُّم ُ ُ‬ ‫ُ ْ َ ً َ َ َ َ ُ‬ ‫َُ َ َ‬
‫اَّلب ِر ضل َمن تد ُعون ِإال ِإيَاهُ) ‪-‬هذه بيان حال‬ ‫الرُض ِِف‬ ‫ِإنه َكن بِكّم ر ِحيما و ِإذا مس‬
‫ً‬ ‫َ ُ َُ‬ ‫َ َ َ ََ ُ ْ َ َِْ َ ْ َ ْ ُ ْ ََ َ‬
‫اْلنسان كفورا﴾ ؛‬ ‫المشركين‪( -‬فلما ناكّم ِإَل الْب أعرضتّم وَكن ِ‬
‫َ‬ ‫َْ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫قوله‪﴿ :‬ضل َمن تد ُعون ِإال ِإيَ ُاه﴾ أي ذهب كل من تتعلقون به وتدعونه وترجونه‪ِ ﴿ ،‬إال‬
‫َْ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ِإيَ ُاه﴾‪ :‬إال اهلل‪ .‬وانتبه لآلية ﴿ضل َمن تد ُعون ِإال ِإيَ ُاه﴾‪ :‬تدل هذه اآلية على أن المشركين كانوا‬
‫يعبدون اهلل ويعبدون معه غيره‪ ،‬لكنهم يف البحر كل من يعبدونه من دون اهلل يذهب عن قلوهبم‬
‫وعن أفكارهم وعن توجهاهتم‪ ،‬فال يعبدون إال اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى وحده مخلصين له الدين‪.‬‬
‫ُ‬
‫كّمْ‬ ‫َََ ُ ْ َ َْ َ‬ ‫ً‬ ‫َ ُ َُ‬ ‫ََ َ ََ ُ ْ َ َِْ َ ْ َ ْ ُ ْ ََ َ‬
‫اْلنسان كفورا)‪ -‬انتبه‪(-‬أفأ ِمنتّم أن ُي ِسف ِب‬ ‫﴿فلما ناكّم إَِل الْب أعرضتّم وَكن ِ‬
‫ْب﴾ ‪ ،‬اآلن وطئت أقدامكم الرب وأحسستم بالسالمة والنجاة من كربات وشدة البحر‬ ‫ب الْ َ ِ‬
‫َجان َ‬
‫ِ‬

‫(‪ )1‬اآليات‪ )61- 66( :‬من سورة اإلسراء‪.‬‬


‫(‪ )2‬اآلية رقم‪ 60 :‬من سورة اإلسراء‪.‬‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪71‬‬

‫ورجعتم إلى الشرك‪ ،‬هل عندما رجعتم إلى الشرك بعد أن وطئت أقدامكم الرب‪ ،‬وأحسستم‬
‫بالسالمة‪ ،‬هل أمنتم أن يخسف اهلل بكم جانب الرب؟ هل تأمنون من ذلك؟ إذن لماذا تعودون إلى‬
‫َْ ُْ َ َ َْ ُ‬
‫ك ّْم َ‬
‫اصبًا﴾‪ ،‬هل تأمنون من ذلك؟‬
‫ِ‬ ‫ح‬ ‫الشرك؟ أمر آخر‪﴿ :‬أو ير ِسل علي‬
‫أي وأنتم يف الرب فيه احتمالين؛ األول‪ :‬أن يخسف اهلل بكم جانب الرب‪ ،‬األرض التي تحتكم‬
‫تنخسف‪ ،‬وتسقطون يف هوة من األرض ال يعلم مداها إال اهلل‪ ،‬وتنطبق عليكم األرض‪ ،‬وال هيرى‬
‫ْ‬
‫لكم أثر وال شيء‪ ،‬اهلل قادر على كل شيء‪ ،‬وقد أخرب أنه عاقب من عاقب بشيء من ذلك ﴿ َو ِمن ُه ّْم‬
‫األ ْر َض﴾ ‪ ،‬هل تأمنون من ذلك؟ هذا جانب‪ .‬جانب آخر أو احتمال آخر‪﴿ :‬أَوْ‬ ‫َْ‬ ‫َ َْ‬
‫َم ْن خ َسفنا ِب ِه‬
‫اصبًا﴾ أي وأنتم يف الرب هل تأمنون أن اهلل َع ّز َو َج ّل يبعث ريح شديدة قوية‬ ‫ُْ َ َ َْ ُ ْ َ‬
‫ير ِسل عليكّم ح ِ‬
‫تحمل الحصباء فيهلككم وأنتم يف الرب؟ هذا احتمال ثاين ضعوه يف بالكم‪ .‬أيضا احتمال ثالث ذكره‬
‫َُْ َ َ َْ ُ ْ َ ً‬ ‫َ‬ ‫َ ًَ ُ ْ‬ ‫كْ‬ ‫َْ َ ُْ َ ُ َ ُ‬
‫اصفا‬
‫ِ‬ ‫ق‬ ‫ّم‬ ‫ك‬ ‫ي‬‫ل‬‫ع‬ ‫ل‬ ‫س‬
‫ِ‬ ‫ري‬ ‫ف‬ ‫(‬ ‫‪-‬‬ ‫البحر‬ ‫يف‬ ‫أي‬‫‪-‬‬ ‫)‬ ‫ى‬‫ر‬ ‫خ‬ ‫أ‬ ‫ة‬‫ار‬ ‫ت‬ ‫ه‬‫ي‬‫ف‬
‫ِ ِ‬ ‫ّم‬ ‫اهلل َع ّز َو َج ّل‪﴿ :‬أم أ ِمنتّم أن ي ِعيد‬
‫َ َ ُ‬ ‫ِ َ ِ َ ْ َ ُ‬
‫غح فيُغ ِرقكّم بِ َما كف ْرت ّْم﴾ ‪.‬‬ ‫من الر ِ‬
‫هذه احتماالت ثالث ذكرها اهلل لهم‪:‬‬
‫‪ -‬هيحتمل أن تأتيكم العقوبة يف الرب خسفا‪.‬‬
‫‪ -‬و هيحتمل أن تأتيكم العقوبة يف الرب ريحا عاصفة تحمل الحصباء هتلككم‪.‬‬
‫‪ -‬ويحتمل أن يعيدكم اهلل َع ّز َو َج ّل فيما بعد إلى البحر يف حاجة من حاجاتكم وطلب من‬
‫طلباتكم ويرسل عليكم وأنتم يف البحر خاسفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم‪.‬‬
‫إذن من هت خلصون له يف الشدة وتشركون معه يف الرخاء حقه والواجب عليكم أن تكونوا‬
‫همخلصين له يف الرخاء والشدة‪ ،‬ألنكم لستم يف َأ َمنة من عقوبته ونقمته‪ ،‬ال يف الرب وال يف البحر‪.‬‬
‫فكان المشركون األه ّول يشركون يف الرخاء ويخلصون يف الشدة‪.‬‬

‫(‪ )1‬اآلية رقم‪ 32 :‬من سورة العنكبوت‪.‬‬


‫(‪ )2‬اآلية رقم‪ 65 :‬من سورة اإلسراء‪.‬‬
‫‪73‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫وعرضت لذهني اآلن أن أحد المشركين كان سبب دخوله يف اإلسالم والتحاقه بالنبي َع َل ْيه‬
‫الس َال ْم هو مثل هذه القصة؛ كانوا يف البحر وأدركهم الغرق وعاينوا الموت فأخلص‬
‫الص َال هة َو ّ‬
‫ّ‬
‫الناس يف ذلك الموقف هلل فقال ‪-‬وهو عكرمة بن أبي جهل‪ :-‬لئن كان ال يخ ّلصني من هذا الكرب‬
‫علي لئن كتب اهلل لي نجاة‬ ‫ّ‬
‫يف هذا المكان إال اهلل فال يخلصني منه يف الرب إال اهلل‪ ،‬ثم قال‪ :‬ح ّق ّ‬
‫ألذهبن إلى محمد و ألبايعنّه على اإلسالم‪ ،‬نجاه اهلل وفعل ذلك وأسلم ‪ ،‬فكانت هذه عظة له‬
‫وعربة يف دخوله يف اإلسالم ورجوعه للدين‪.‬‬
‫إذن أولئك كانوا يشركون يف الرخاء ويخلصون يف الشدة‪ ،‬ويقول المصنف ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬أما‬
‫المشركون يف زماننا فحالهم أهنم يشركون يف الرخاء ويف الشدة‪ .‬ما معنى يشركون يف الشدة؟ أي أن‬
‫حالهم عندما يركبون يف الفلك ويعاي نون شدة الغرق ومقاربة الموت يفزعون إلى المعبودات التي‬
‫تعلقت قلوهبم هبا‪ ،‬ففي مثل هذه الحال تراهم يقولون‪ :‬مدَ د يا فالن‪ ،‬أدركنا يا فالن‪ ،‬إن لم تلحقنا‬
‫يف هذا من يلحقنا؟ إن لم تنقذنا من هذا الغرق‪ ،‬من الذي ينقذنا؟ يخاطبون أموات! يخاطبون‬
‫مقبورين! أنا عائذ بك‪ ،‬أنا ملتجئ إليك‪ ،‬أنا يف جنابك‪ ...‬الخ‪ ،‬يف الشدة يفعلون ذلك‪ ،‬وهذا شرك‬
‫ما كان المشركون يفعلونه يف حال الشدة‪ ،‬يف الشدة كانوا يخلصون‪.‬‬
‫قرأت يف بعض الكتب أن جماعة كانوا يف سفينة وأدركهم الغرق‪ ،‬فأخذ كل يهتف بمعبوده‪:‬‬
‫مدد يا فالن‪ ،‬ألحقنا يا شيخ فالن‪ ،‬أدركنا يا فالن‪ ..‬وينادون‪ّ ،‬‬
‫كل ينادي شيخه أو معبوده‪ .‬فكان‬
‫فيهم رجل على الفطرة‪ ،‬رجل مسن‪ ،‬التفت فإذا كل من على السفينة ال ينادون إال هذه المعبودات‪،‬‬
‫ليس فيهم من ينادي اهلل‪ ،‬فمدّ يديه وقال‪ :‬يارب! أغرق‪ ..‬أغرق ما على السفينة من يعبدك‪ ،‬كل من‬
‫على السفينة متجهين إلى غيرك‪.‬‬

‫ُ‬
‫اصبًا ث َّّم‬ ‫ب الْ َ ّ َ ْ ُ ْ َ َ َ ْ ُ ْ َ‬
‫ك ّْم َجان َ‬‫ُ‬ ‫َََ ُْ ْ َ ْ َْ َ‬
‫ْب أو ير ِسل عليكّم ح ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫ف‬ ‫(‪ )1‬القصة ذكرها الحافظ بن كثير ‪ $‬يف تفسير قوله تعالى‪﴿ :‬أفأ ِمنتّم أن ُي ِس‬
‫َ َ ً ُ ْ َ َ ُ ْ َ َ َ ْ ُ ْ َ ً َ ّ َ ُ ْ َ ُ ْ َ َ َ ْ ُ ْ ُ َّ َ‬ ‫َ ْ َ ُْ ْ َ ْ ُ َ ُ ْ‬ ‫ً‬ ‫َال َ ُ َ ُ ْ‬
‫غح فيغ ِرقكّم ِبما كفرتّم ثّم ال‬ ‫الر ِ‬
‫اصفا ِمن ِ‬ ‫َتدوا لكّم َو ِكيال (‪ )60‬أم أ ِمنتّم أن ي ِعيدكّم ِفي ِه تارة أخرى فري ِسل عليكّم ق ِ‬ ‫ِ‬
‫يعا (‪.﴾)65‬‬ ‫ََت ُدوا لك ّْم َعليْنَا به تب ً‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪74‬‬

‫قد تتساءل ‪-‬أيها األخ الكريم‪ -‬تقول‪ :‬لماذا هؤالء يشركون يف الرخاء ويف الشدة؟ ما السبب؟‬
‫يأتيك سؤال‪ :‬لماذا هؤالء يشركون يف الرخاء ويف الشدة؟‬
‫أقول لك إن من وراء ذلك أئمة الضالل وشيوخ الباطل؛ أئمة الضالل وشيوخ الباطل غرسوا‬
‫أدركت‬
‫َ‬ ‫يف نفوس هؤالء التعلق هبم وقالوا لهم ‪-‬كما هو واضح يف كتب هؤالء‪ -‬قالوا لهم‪ :‬إذا‬
‫وعاينت الشدة يف أي مكان تكون اهتف باسمي‪ ،‬اهتف باسمي سرتاين بجنبك آخذ بيدك‪،‬‬
‫َ‬ ‫الكربة‬
‫حتى بعد مويت ال تنسوا‪ ،‬حتى بعد مويت تنادي باسمي أخرج إليك وآخذ بيدك‪ .‬كتب هؤالء‬
‫يعددون من كراماهتم‪ ،‬يقولون أنه من كراماهتم أنه كان ينقذ السفن يف البحر من الغرق‪ ،‬ينادون‬
‫باسمه فينقذ السفن يف البحر‪ .‬حتى يف أحد الكتب المشهورة يف بيان طبقات هؤالء‪ -‬شيوخ‬
‫الضالل‪ -‬ذكروا أن واحدا منهم ‪-‬يعددون شيئا من كراماته‪ -‬أنه كان ‪-‬والعياذ باهلل‪ -‬يمسك‬
‫و هيطلب أن هتمسك له الحمارة ليمارس معها الممارسة الباطلة‪ ،‬ثم بعضهم قال له يف ذلك لماذا‬
‫رتقت هبذا العمل خرق سفينة كان يغرق أهلها يف البحر‪ .‬والعوام‬
‫ه‬ ‫هذه الممارسة؟ قال‪ :‬هذه كرامة‪،‬‬
‫يسمعون مثل هذه القصص ويصدقوهنا وترسخ يف قلوهبم‪ ،‬ثم إذا ركبوا يف الفلك يغلظ شركهم‬
‫على شرك المشركين األه ّول‪ ،‬فتجده إلى أن يغرق‪ ،‬إلى أن يموت‪ ،‬وهو ينادي شيخه ويهتف باسم‬
‫شيخه إلى أن يغرق ‪-‬والعياذ باهلل‪ -‬على الشرك باهلل ‪-‬نسأل اهلل العافية والسالمة‪ .-‬واهلل إهنا حال‬
‫مؤلمة جدا ومؤسفة‪ ،‬تجد المسكين يغرق ويموت وهو يهتف باسم شيخه إلى أن تفارق روحه‬
‫الحياة وهو ال يزال يظن أن شيخه اآلن يأيت‪ ،‬اآلن يدركه‪ ،‬اآلن ينقذه‪ ،‬وهو ينادي باسمه‪ ...‬ينادي‬
‫باسمه إلى أن يغرق‪ ،‬ال يقول يا اهلل‪ ،‬يموت مشركا‪ ،‬ال يعبد اهلل وال يخلص هلل حتى يف شدته‪.‬‬

‫فذكر‪ -‬رحمة اهلل عليه‪ -‬أن شرك المشركين أغلظ من شرك أولئك‪ ،‬من جهة أن أولئك كانوا‬
‫يشركون يف الرخاء وال يشركون يف الشدة‪ ،‬وأن هؤالء يشركون يف الرخاء ‪-‬والعياذ باهلل‪ -‬ويف‬
‫الشدة‪ ،‬شركا أغلظ من شرك المشركين األوائل‪.‬‬
‫‪75‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫وهذه المسائل والتوسع فيها والرد على ُ‬


‫الشبه التي يطرحها أهل الشرك والباطل توسع فيها‪-‬‬
‫رحمه اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ -‬يف كتاب له معروف‪ ،‬اسمه‪« :‬كشف الشبهات» كتاب مهم جدا‪ ،‬ال‬
‫يستغني عنه طالب العلم‪ ،‬وذكر فيه هذه القواعد مفصلة تفصيال أوسع من هنا‪ ،‬و ذكر أيضا أصول‬
‫أخرى‪ ،‬وذكر أيضا تقعيدات وتأصيالت يحتاج إليها طالب العلم يف كشف شبهات أهل الشرك‬
‫والباطل‪ ،‬ثم بعد ذلك ذكر شبهات تفصيلية يستدل هبا هؤالء يف كتابه العظيم المبارك الذي سماه‪-‬‬
‫رحمه اهلل‪« :-‬كشف الشبهات»‪.‬‬

‫فنسأل اهلل َع ّز َو َج ّل أن يجزي هذا اإلمام خير الجزاء على هذا النصح العظيم‪ ،‬والبيان الموفق‬
‫واإليضاح للتوحيد والتحذير من الشرك الذي كان هو شغله الشاغل‪ -‬رحمة اهلل عليه‪ -‬يف حياته‪،‬‬
‫فنفع اهلل َع ّز َو َج ّل بدعوته نفعا عظيما‪ ،‬وال يزال الناس مع مر األيام يستفيدون من هذه الدعوة‪،‬‬
‫ويستفيدون من هذا النصح‪ ،‬ويستفيدون من هذه اآليات والحجج والب ّيانات التي جمعها ‪-‬رحمه‬
‫اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪ -‬فأفاد من ذلك خلق‪ ،‬واهتدى خلق كتب اهلل َع ّز َو َج ّل لهم الهداية‪.‬‬

‫اهلل َع َلى هم َح ّمد َوآله َو َص ْحبه َو َس ّل ْم»‪.‬‬


‫وختم‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬الرسالة بقوله‪َ « :‬ت ّم ْت َو َص ّلى ه‬
‫ويوجد يف بعض المجتمعات من يصدون الناس عن دعوته‪ ،‬حتى إن بعضهم قيل له ‪-‬كما ذكر لنا‬
‫بعضهم ذلك‪ -‬قيل له يف التحذير من الشيخ محمد بن عبد الوهاب‪ -‬رحمه اهلل‪ -‬هو ال يصلي على‬
‫الس َال ْم‪،‬‬ ‫النبي‪ ،‬ويأيت خائف مسكين‪ ،‬من يريد أن يسمع لشخص ال يصلي على النبي َع َل ْيه ّ‬
‫الص َال هة َو ّ‬

‫معرفا بكتاب‬
‫(‪ )1‬يقول الشيخ عبد المحسن الع ّباد ‪-‬حفظه اهلل‪ -‬يف كتابه‪« :‬منهج شيخ اإلسالم محمد بن عبد الوهاب يف التأليف»‪ّ ،‬‬
‫الشبهات التي ذكَ رها أهل البدع‪ ،‬همل ّبسين هبا على‬
‫ورد فيه ُ‬
‫«كشف الشبهات»‪(( :‬اسم الكتاب مطابق لموضوعه؛ فالشيخ ‪ $‬أ َ‬
‫والصراط المستقيم‪ ،‬ومخالفين فيها لما كان عليه سلف هذه األمة من الصحابة ومن سار على نَهجهم‪ ،‬وذلك‬
‫الحق ّ‬
‫الدعوة إلى ّ‬
‫والصالحين‪ ،‬وجعلهم وسائط بينهم وبين اهلل‪ ،‬يدعوهنم ويستغيثون هبم‪ ،‬فجمع الشيخ ‪ :‬جمال كبيرة من هذه=‬
‫بتعلقهم باألولياء ّ‬
‫األمة‪ .‬وكتابه هذا‬ ‫ّ‬
‫مستدال على ذلك بنصوص الكتاب والسنة وما كان عليه سلف ّ‬ ‫الشبه‪ ،‬فيذكر ُ‬
‫الشبهة ثم يذكر الجواب عليها‪،‬‬ ‫ُ‬
‫متمم لكتبه األخرى يف العقيدة‪ ،‬التي أ وضح فيها ما يجب اعتقاده وفقا لنصوص الكتاب والسنة‪ ،‬فإنه هبذا الكتاب أجاب على ما‬
‫ّ‬
‫األمة)) اهـ‪.‬‬
‫للحق والهدى الذي كان عليه سلف هذه ّ‬
‫ّ‬ ‫يورد على العقيدة الصحيحة من شبهات‪ ،‬همب ّينا بطالهنا ومخالفتها‬
‫للشَيْخِ عَبْدُ الرَزّاقِ البَدْرِ‬ ‫‪76‬‬

‫فيأيت خائف ويسد أذنيه ويحذر غاية الحذر‪ ،‬ألنه ال يمكن أن يسمع لشخص ال يصلي على النبي ‪-‬‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس ّل ْم‪.-‬‬
‫َص ّلى ه‬
‫اهلل َع َلى هم َح ّمد َوآله َو َص ْحبه‬
‫ختم‪ -‬رحمه اهلل‪ -‬هذه الرسالة المباركة بقوله‪َ « :‬ت ّم ْت َو َص ّلى ه‬
‫َو َس ّل ْم»‪.‬‬
‫فجزاه اهلل خيرا على ما قدّ م وأعلى درجاته ورفع موازينه يف عليين‪ ،‬وجمعنا به أجمعين‬
‫وبالصالحين من عباده وبأنبيائه وأوليائه يف جنات النعيم‪ ،‬وهدانا صراطه المستقيم‪ ،‬وأصلح لنا‬
‫جميعا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا جميعا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي‬
‫فيها معادنا‪ ،‬ونسأله َع ّز َو َج ّل أن يجعل الحياة زيادة لنا يف كل خير والموت راحة لنا من كل شر‪،‬‬
‫وأن يغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات األحياء منهم واألموات‪.‬‬

‫وأختم بتذكير بأمر سبق أن ذكرت به‪ ،‬أال وهو‪ :‬أن الهدية نافعة جدا‪ ،‬وهي من أعظم أسباب‬
‫جلب المحبة والمودة‪ ،‬وكثير من الحجاج يحرصون جدّ ا على أمر الهدية‪.‬‬

‫فأنبه الجميع‪ :‬ال تنسى وأنت تحرص على شراء الهدايا أن تشرتي لقرابتك أثمن هدية‪ ،‬أال‬
‫وهي كتب التوحيد‪ ،‬التي هتع ّلم الناس التوحيد الذي هخلقوا ألجله و هأوجدوا لتحقيقه‪.‬‬

‫أسأل اهلل أن يهدينا وأن يهدي بنا وأن يهدي لنا‪ ،‬وأن يجعلنا من عباده المهتدين‪.‬‬

‫اهلل َو َس ّل ْم َع َلى َنب ّينَا هم َح ّمدْ َو َع َلى آله َو َص ْحبه َأ ْج َمعي ْن‪.‬‬
‫وص ّلى ه‬
‫َ‬

‫‪‬‬
‫‪77‬‬ ‫شَرْحُ القَوَاعِ ِد األَرْبَعْ‬

‫الفـهــــــــرس‪:‬‬
‫املـقدمـــة‬
‫القـاعــــــدة األولــــــى‬
‫القـاعــــــدة الثــــــانـية‬
‫القـاعــــــدة الثــــــالـثة‬
‫القـاعــــــدة الرابــــعة‬

‫))الفهرس بروابط داخلية((‬

You might also like