You are on page 1of 234

‫استيحاءات ‚ ƒ ­ال€بية والنفس وا جتماع‬

‫أربعون حديثًا‬
‫ ‬
‫الن ا كرم ‬
‫محمد ‪P‬‬
‫عن   ‬

‫جعفر مح ّمد  ‚‬
‫حسŒ فضل الله‬
‫مصححة ومن ّقحة‬
‫ّ‬ ‫الطبعة الثانية‬
‫بريوت ‪1442‬هـ ـ ‪2020‬م‬

‫مجيع احلقوق حمفوظة للنارش‬


‫استيحاءات ‚ ƒ ­ال€بية والنفس وا جتماع‬

‫أربعون حديثًا‬
‫ ‬
‫الن ا كرم ‬
‫محمد ‪P‬‬
‫عن   ‬

‫جعفر مح ّمد  ‚‬
‫حسŒ فضل الله‬
‫بسم الله الرحمن الرحيم‬

‫وسالم على عباده المصط َفين‪ ،‬وص ّلى الله على رسوله محم ٍد ِ‬
‫وآله‬ ‫ّ‬
‫بالحق‪ ،‬وصدح بالعدل‪ ،‬وعادى‬ ‫ّ‬ ‫نورا إلى العا َلم‪ ،‬فنطقَ‬
‫وس ّلم؛ أرسله ً‬
‫وقرب األبعدين إذ اقتربوا من الله‪ ،‬وكان مع ِّلم مع ّلمي‬ ‫األقربين في الله‪ّ ،‬‬
‫َ‬
‫بعرقهِ‬
‫العا َلم‪ ،‬بذرت كلماتُه في األرض بذور اإلنسانية الحقّة‪ ،‬ورواها ِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫تمنح‬
‫أشجارا وارفة‪ ،‬وحدائقَ غ ّناء‪ُ ،‬‬
‫ً‬ ‫وجهاده ح ّتى استوت على سوقها‪،‬‬
‫نتاج ُه في‬ ‫َ‬
‫استطال ُ‬ ‫وغيره‪ ،‬ح ّتى‬
‫ُ‬ ‫يأك ُل منها المؤمن‬ ‫كل ٍ‬
‫جيل‪ُ ،‬‬ ‫ثمراتِها في ّ‬
‫رياح اإلسالم في مدى‬ ‫الرحمة التي حمل ْتها ُ‬ ‫مساحة امتداد القيم‪ ،‬وسعة ّ‬
‫العا َلم‪.‬‬
‫تفسيرية‬
‫ّ‬ ‫وبعد‪ ،‬ففكرة هذا الكتاب انطلقت من محاولة تأمين ما ّدة‬
‫ُ‬
‫الرحمة‬
‫المروية عن رسول ّ‬ ‫ّ‬ ‫مختصرة لمجموعة من األحاديث الشريفة‬
‫ينيين في دروسهم للكادر‬ ‫الد ّ‬ ‫َ‬
‫لتكون معي ًنا للمرشدين ّ‬ ‫محمد ‪،P‬‬‫ّ‬
‫المبرات‪ ،‬وذلك في أحد األعوام السابقة التي‬
‫ّ‬ ‫مؤسسات‬
‫التعليمي في ّ‬
‫تمحورت حول النبي ‪.P‬‬

‫‪5‬‬
‫لحظت في اختياراتها مالءمتها لحاجات التربية بالدرجة‬
‫ُ‬ ‫وقد‬
‫التصور‬
‫ّ‬ ‫األولى‪ ،‬إضافة إلى تشكيلها ما ّدة ثقافية في وضوح بعض‬
‫تشكل ً‬
‫بعضا من‬ ‫حيوية ّ‬
‫ّ‬ ‫اإلسالمي لبعض المفاهيم المرتبطة بقضايا‬
‫قضايا العصر‪.‬‬
‫عادية‬
‫كان في ّنيتي في البداية أن ال يعدو شرح الحديث صفحة ّ‬
‫َ‬
‫ضغط‬ ‫رأيت وأنا أراجع الكتاب للطباعة أنّ االختصار‬
‫ُ‬ ‫واحدة‪ ،‬ولكن‬
‫شرعت في‬
‫ُ‬ ‫بعض األفكار التي احتاجت إلى توضيح أكبر‪ ،‬ولذلك‬
‫بكل حديث‪ ،‬من دون‬ ‫التوسع ألجل إثارة أكبر قدر من القضايا المرتبطة ّ‬
‫ّ‬
‫أن يعني ذلك استنفاد اإليحاءات ك ّلها التي يمكن أن يثيرها ّ‬
‫التفكر فيها؛‬
‫يناقض مبدأ أنّنا ننتج وفق ما نقتنع به ضمن ظروف الزمان والمكان‬
‫ُ‬ ‫فهذا‬
‫والحاالت‪ ،‬وذلك ك ُّله مالزم للنقص؛ ومنه نستمد التسديد‪.‬‬
‫العام‪،‬‬
‫واكتفيت بمبدأ الوثوق ّ‬
‫ُ‬ ‫السندية لألحاديث‪،‬‬
‫ّ‬ ‫لم أعتمد الدراسة‬
‫ٍ‬
‫شاهد من كتاب الله‬ ‫المستنِد إلى شهرة ِ‬
‫بعضها من جهة‪ ،‬وإلى وجود‬
‫العام‬
‫ّ‬ ‫على بعضها اآلخر‪ ،‬وإلى موافقة مضامين بعضها الثالث للمناخ‬
‫تهم اإلنسان‬
‫شرعت في االستيحاءات التي ّ‬‫ُ‬ ‫للفكر اإلسالمي‪ ،‬ولذلك‬
‫مسؤولياته المحيطة به‪ ،‬وكذلك في صوغه وبنائه‬
‫ّ‬ ‫المسلم في بعض‬
‫لشخصيته الرسالية‪.‬‬
‫ّ‬
‫وأعيد التأكيد على أنّ استيحاءات عديدة قد تفرض نفسها على‬
‫ولكن حسبي أنّ ما كتب ُته حولها ـ بتوفيق الله‬
‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫حديث‪،‬‬ ‫المتأمل في ّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬
‫مما أرجو أن يشركني في ثوابه‬ ‫وجل ـ قد ّ‬
‫يشكل إثارات للقارئ‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫عز‬
‫ّ‬
‫بمن الله ولطفه؛ إنّه ذو فضل عظيم‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪6‬‬
‫كما أرجو من القراء األحبة أن ال يبخلوا علي ٍ‬
‫بنقد لفكرة‪ ،‬أو‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫سد ٍ‬ ‫ٍ‬
‫نقص فيها‪ ،‬أو مزيد إيضاحٍ‬ ‫سببا في ّ‬ ‫بإشكال أمام طرحٍ ‪ ،‬لع ّله يكون ً‬
‫وآخرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫لها‪ ،‬والكمال لله وحده‪ ،‬والحمد لله ّأو ًل‬

‫جعفر فضل الله‬

‫‪7‬‬
‫منشأ فكرة األربعين حديثًا‬
‫النبي ‪« :P‬من حفظ‬ ‫مما روي عن ّ‬ ‫نشأت فكرة األربعين حديثًا ّ‬
‫َ‬
‫ينتفعون بها في أمر دينهم بعثه الله يوم القيامة‬ ‫على ّأمتي أربعين حديثًا‬
‫عالما»(((‪.‬‬
‫فقيها ً‬
‫ً‬
‫يؤكّ د هذا الحديث الشريف على نقاط ّ‬
‫عدة‪:‬‬
‫ ‪1 .‬االنتفاع؛ فالحفظ ليس لغرض زيادة المعلومات فحسب‪ ،‬وإنّما‬
‫عمليا‪ ،‬سواء كان مضمونه‬‫ًّ‬ ‫يتم تطبيق مضمون الحديث‬ ‫لكي ّ‬
‫شرعية‪.‬‬ ‫أخالقية أو‬ ‫ٍ‬
‫مفردة‬ ‫عمليا في‬ ‫توجيها‬
‫ً‬ ‫معرفيا أو‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬
‫أمرا في العقيدة‪،‬‬
‫معرفيا‪ ،‬كما لو كان ً‬
‫ًّ‬ ‫ ‪2 .‬إذا كان مضمون الحديث‬
‫نفسها ليس هد ُفها المعرفة فحسب‪ ،‬وإنّما هدفها أن‬‫فإنّ العقيدة َ‬
‫ٍ‬
‫شيء ٍ‬
‫ثابت في‬ ‫تتحول فيها المعرفة إلى‬ ‫إيمانية‪،‬‬ ‫تؤسس لحالة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وموج ًها للسلوك العملي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫محر ًكا‬
‫الوجدان‪ ،‬ويكون ـ بالتالي ـ ِّ‬
‫بما أطلق عليه القرآن الكريم عنوان (العمل الصالح)‪.‬‬

‫(( ( العالمة المجلسي‪ ،‬بحار األنوار‪ ،‬ج ‪ ،٢‬ص ‪ ،١٥٦‬ح ‪.١٠‬‬


‫‪9‬‬
‫عبار ًة عن مسائل العبادات‪ ،‬كالصالة‬ ‫ين ليس َ‬ ‫ ‪3 .‬أمر الدِّ ين‪ :‬الدِّ ُ‬
‫يدين به‬ ‫ُ‬ ‫والحج‪ ،‬فحسب‪ ،‬وإنّما يمثّل الدِّ ين ما‬‫ّ‬ ‫والصيام‬
‫اإلنسان‪ ،‬أي ما يخضع له ـ بحسب المدلول اللغوي للفظ‬
‫معيارا‬
‫ً‬ ‫كل ما يجعله اإلنسان‬‫(دان) ـ‪ .‬وعلى هذا فالدين يمثّل ّ‬
‫كوني ٍة‬
‫لمعرفته ومنهجه وسلوكه في الحياة‪ ،‬انطال ًقا من رؤية َّ‬
‫ومسؤولياته‪ ،‬على قاعدة اإليمان بالله‬
‫ّ‬ ‫لموقع اإلنسان في الحياة‬
‫والمالكية‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الخالقية‬
‫ّ‬ ‫سبحانه وتعالى‪ ،‬الذي يمثّل سلطة‬
‫وعلى هذا األساس‪ ،‬فإنّ حفظ األربعين حديثًا‪ ،‬والتي نحن بصدد‬
‫شرحها واستيحائها في هذا الكتاب‪ ،‬إنّما هي عبارة عن وعي مضامينها‬
‫التطبيقية‪ ،‬والعمل على تحويل هذا الوعي إلى‬
‫ّ‬ ‫النظرية‪ ،‬وتج ّلياتها‬
‫عنصر فاعل في الشخصية‪ ،‬وفي السلوك العملي‪.‬‬
‫وقد يحتاج ذلك في بعضها ـ إن لم يكن ك ّلها ـ إلى تخطيط وتدريب‪،‬‬
‫الديني التقليدي‪ ،‬والذي‬ ‫عملية التثقيف ّ‬
‫ّ‬ ‫وهو األمر الذي يكاد يغيب في‬
‫للتدرب‬
‫ّ‬ ‫آليات‬
‫يكتفي عادة بالمعرفة‪ ،‬وال ُينزل المعرفة إلى تقديم ّ‬
‫النبوية تع ّلم ال ّناس‬
‫ّ‬ ‫كثيرا من التوجيهات‬
‫العملي‪ ،‬في الوقت الذي نجد ً‬
‫كيفية التطبيق إلى جانب توضيح القيمة؛ على قاعدة قول الله تعـالى‪:‬‬ ‫ّ‬
‫ْ ِ ْ َ (((‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬
‫اب َوالحك َمة﴾ ‪.‬‬‫﴿و ُي َزكيه ْم َو ُي َعل ُم ُه ُم الك َت َ‬
‫َ‬

‫(( ( سورة الجمعة؛ اآلية ‪.2‬‬


‫‪10‬‬
‫‪١‬‬
‫معيار األخ ّوة‬

‫خَ ْي ُر إخوانِ َك من َأع َ‬


‫انك على طاعة الله‪،‬‬
‫َ‬
‫وأمرك برضاه (((‪.‬‬ ‫ِ‬
‫معاصيه‪،‬‬ ‫وص َّد َك عن‬
‫َ‬

‫موضوع الحديث‪ :‬معيار ا ّتخاذ األخ أو الصديق‪ .‬والمقصود باألخ‬


‫ٍ‬
‫احتكاك به في كثي ٍر‬ ‫ُ‬
‫ويكون على‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان منه‪،‬‬ ‫يقر ُبه‬
‫هنا الصديق الذي ِّ‬
‫لع عليه اإلنسان‬ ‫لع عاد ًة على ما ال ّ‬
‫يط ُ‬ ‫من أوقاته وشؤون حياته‪ ،‬وهو َّ‬
‫يط ُ‬
‫خصوصيات اإلنسان الذي يعاشره ويعايشه؛ فإنّ المعرفة‬ ‫ّ‬ ‫العادي من‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫تتعم ُق من خالل عشرته مع تق ّلبات الظروف‪ ،‬أي في‬ ‫ِ‬
‫بالشخص إنّما َّ‬
‫الشدة والرخاء‪،‬‬
‫حال الرضى والغضب‪ ،‬وفي حال الفقر والغنى‪ ،‬وفي ّ‬
‫َ‬
‫ومشاكل‬ ‫ونقائص‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫الصديق عيو ًبا‬ ‫وما إلى ذلك‪ ،‬وهذا ما قد ُيبرز أمام‬
‫يتحد ُد انتفاع اإلنسان باألخ أو‬
‫َّ‬ ‫عامة‪ .‬وانطال ًقا من ذلك‪،‬‬
‫خاصة أو ّ‬‫ّ‬
‫قضية المصير في‬ ‫ِ‬
‫بالصديق من خالل ثال َثة أمور‬
‫وأساسية في ّ‬
‫ّ‬ ‫حيوية‬
‫ّ‬
‫الدنيا واآلخرة‪:‬‬

‫((( تنبيه الخواطر‪ ،‬ج ‪ ،٢‬ص ‪.١٢٣‬‬


‫‪11‬‬
‫‪ 1‬ـ المعين على طاعة ال ّله‬
‫الصديق على مواقع طاعة الله؛ وهذا يتط ّلب أن يكون لدى‬
‫ُ‬ ‫أن َّ‬
‫يدل‬
‫الصديق القدرة على التمييز بين الهدى والضالل‪ ،‬والرشد والغي‪،‬‬ ‫ّ‬
‫العامة والشعارات فحسب‪ ،‬وإنّما في‬ ‫والحق والباطل‪ ،‬ال في العناوين ّ‬
‫التفاصيل والوقائع‪ .‬كما يتط ّلب أن يكون لديه الشجاعة لمواجهتك‬
‫فيما قد تكرهه؛ ألنّ النفس عندما تكون مقبل ًة بعاطفتها على أم ٍر‪ ،‬فإنّها‬
‫يزين لها خيارها الذي تُقبِ ُل عليه‪.‬‬
‫تحب ّإل من ّ‬
‫ال ُّ‬
‫المهم االلتفات هنا إلى أنّ الداللة على مواقع الطاعة ال تكون‬
‫ّ‬ ‫ومن‬
‫تخير األسلوب األحسن‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بط ٍ‬
‫رق مباشر ًة ّ‬ ‫ُ‬
‫للصديق من ُّ‬ ‫بد‬
‫فظة‪ ،‬بل ال ّ‬
‫والذي يح ِّق ُق النتيجة المطلوبة‪ .‬وليس بالضرورة أن يكون ذلك ً‬
‫حال‪،‬‬
‫لعلم ِه أنّ باب ِ‬
‫قلب‬ ‫فقد يؤجل الصديق مفاتحة صديقه بموضو ٍع ما؛ ِ‬
‫ّ‬
‫تهيؤ الظروف المناسبة‪ ،‬أو يقوم هو‬
‫مفتوحا اآلن‪ ،‬فينتظر ّ‬
‫ً‬ ‫صديق ِه ليس‬
‫ِ‬
‫بتهيئة الظروف‪ ،‬وهذا ما يجعل النصح عملية تحتاج إلى فكر وحكمة‬
‫مجرد كالم واعتراض!‬
‫وعمل وليس ّ‬

‫‪ 2‬ـ الحاجز أمام المعصية‬


‫والصد عن معصيته ما‬
‫ّ‬ ‫يعزز اإلعانة على طاعة الله‬ ‫َّ‬
‫ولعل أكثر ما ّ‬
‫يجسد الطاعة في سلوكه؛‬ ‫يكتسبه اإلنسان بالمصاحبة للشخص الذي ِّ‬
‫السوء‪ ،‬الذين ال صل َة لهم‬ ‫ولذلك ال ينبغي لإلنسان أن يختار رفاق ّ‬
‫ِ‬
‫الطريق الذي‬ ‫هم لهم في استقا َم ٍة على‬ ‫ٍ‬
‫بالله في صالة أو عبادة‪ ،‬وال َّ‬
‫صبر لهم عن المعاصي التي تدعو إليها تسويالت‬ ‫َ‬ ‫شرعه الله‪ ،‬وال‬
‫مشيرا‬
‫ً‬ ‫وقوته‪ ،‬وقد قال تعالى ـ‬
‫سيما في فورة الشباب ّ‬
‫الشيطان‪ ،‬وال ّ‬
‫‪12‬‬
‫ض َعدُ ٌّو‬‫﴿ال ِخ َّلء َي ْو َمئِ ٍذ َب ْع ُض ُه ْم لِ َب ْع ٍ‬
‫إلى معيار الصداقات المستمرة ـ ‪َ ْ :‬‬
‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫دين خليله؛ فلي ْن ُظر‬ ‫ٍ‬
‫ين﴾(((‪ ،‬وقد ورد في حديث‪« :‬المرء على ِ‬ ‫إِ َّل ا ْل ُم َّت ِق َ‬
‫أحد ُكم َمن يخالِل»(((‪.‬‬ ‫ُ‬

‫همه رضا الله‬


‫‪3‬ـ ّ‬
‫عد من مهلكات اإلنسان‪ ،‬وقد ُ‬
‫يصل‬ ‫وذلك في مقابل الهوى الذي ُي ّ‬
‫ٍ‬
‫يعب ُده من دون الله‪ .‬قال تعالى‪:‬‬ ‫يحو َل هواه إلى إله ُ‬ ‫األمر به إلى أن ِّ‬
‫علم وال معرفة‬ ‫يعود ينفع ٌ‬ ‫ُ‬ ‫﴿أ َف َر َأ ْي َت َم ِن ات ََّخ َذ إِ َل َه ُه َه َوا ُه﴾‪ ،‬وهنا ال‬
‫َ‬
‫﴿و َأ َض َّل ُه ال َّل ُه َع َلى‬
‫سابقة‪ ،‬كما يع ِّق ُب الله تعالى بقوله‪َ :‬‬ ‫ٌ‬ ‫تجارب‬
‫ُ‬ ‫وال‬
‫األصدقاء من أمرك برضا الله تعالى‪ ،‬وأبعدك عن ا ّتباع‬ ‫ِ‬ ‫وخير‬ ‫ِع ْل ٍم﴾(((‪.‬‬
‫ُ‬
‫ويستغل عاطفتك‬ ‫ُّ‬ ‫يزن معك األمور‪،‬‬ ‫ِ‬
‫خارج َك‪ُ ،‬‬ ‫عقل من‬ ‫الهوى‪ ،‬بأن كان ً‬
‫وعالقتك به في سبيل الخير لك‪ ،‬وال يتركك تضيع في متاهات الهوى‬
‫المـهلكة‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫وس ُبله ُ‬ ‫ُ‬

‫معايير لبدء الصداقة‬


‫العملية في اتخاذ‬
‫ّ‬ ‫تقدم نستطيع تلخيص بعض المعايير‬
‫بنا ًء على ما ّ‬
‫األصدقاء‪:‬‬
‫مما يساهم في طاعة‬‫أ‪ .‬أن يمتلك معرفة يمكن أن تضيف إليك‪ّ ،‬‬
‫عملية‪ ،‬ومعنى أنّها‬
‫ّ‬ ‫نظرية وخبرة‬
‫ّ‬ ‫الدنيا‪ .‬وهي معرفة‬
‫الله في ّ‬

‫(( ( سورة الزخرف؛ اآلية ‪.67‬‬


‫((( الشيخ الطوسي‪ ،‬األمالي‪ ،‬ص‪ ،518‬رقم ‪.1135‬‬
‫((( سورة الجاثية؛ اآلية ‪.23‬‬
‫‪13‬‬
‫عملية أن يمتلك القدرة على التمييز في وقائع األمور‪ ،‬وإرجاع‬
‫ّ‬
‫مرجعيته وقاعدته‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كل أم ٍر إلى‬
‫ّ‬
‫شخصيته‪ ،‬يعيش تقوى الله في سلوكه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مستقيما في‬
‫ً‬ ‫ب‪ .‬أن يكون‬
‫وذلك هو الذي يحقّق صورة االستقامة والطاعة في الواقع‬
‫مجرد فكرة في عالم التجريد‪.‬‬
‫المحسوس‪ ،‬فال تبقى ّ‬
‫بمسؤولياتك عندما تضغط عليك نوازعك الذاتية‬
‫ّ‬ ‫ت‪ .‬أن يذكّ رك‬
‫لتحرفك عن منظومة مبادئك وقيمك‪.‬‬
‫ث‪ .‬اختبار المرء قبل مصادقته‪ ،‬وعادة ما يكون ذلك في الحاالت‬
‫شخصيته‪ ،‬وطبيعة تربيته‪ ،‬والقيم التي‬
‫ّ‬ ‫التي تستخرج مكنون‬
‫أكثر ُه يكون في‬
‫يرتكز إليها في سلوكه وتفاعله وانفعاله‪ ..‬وهذا ُ‬
‫الحاالت الطارئة والضاغطة‪ ،‬كالغضب والسفر واالفتقار بعد‬
‫الغنى‪ ،‬وعند مواقف اإليثار والعطاء وما إلى ذلك‪.‬‬
‫الصدق‬‫ج‪ .‬الصداقة مأخوذة من ما ّدة (صدق)‪ ،‬وهو يتط ّلب ِّ‬
‫السر‬
‫ّ‬ ‫وعدم االزدواجية في الشخصية والموقف في حاالت‬
‫والعالنية‪ ،‬وفي الرضى والغضب‪ ،‬وفي األمن والخطر وما إلى‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ح‪ .‬بما أنّ اإلنسان ليس ً‬
‫كامل وال معصو ًما‪ ،‬وأنّ المطلوب في‬
‫الصداقة أن تضيف إلى اإلنسان ال أن تنقص منه‪ ،‬فإنّ ذلك‬
‫َّ‬
‫يحدد اإلنسان ما الذي دفعه ً‬
‫فعل إلى اتخاذ فالن‬ ‫يتط ّلب أن ّ‬
‫ليحدد مسبقًا‬
‫ّ‬ ‫صديقًا‪ ،‬وما الذي جذبه إليه بالضبط‪ ،‬ذلك‬
‫المساحات التي يترك نفسه فيها للتفاعل العفوي الذي يسمح‬

‫‪14‬‬
‫بتدفّق التأثير من قبل الصديق إليه‪ ،‬والمساحات التي تحتاج‬
‫إلى الحذر وتتط ّلب العمل على عكس اتجاه التدفّق في‬
‫طبعا‬
‫والتغير لديه‪ً .‬‬
‫ّ‬ ‫الصديق‪،‬‬
‫التأثير‪ ،‬فيكون التأثير منه إلى َّ‬
‫والجدلية‪ ،‬نتيجـة العالقة‬
‫ّ‬ ‫هذا الموضوع شديـد الخطـورة‬
‫والعفويـة التي تؤ ّثـر على حركـة ّ‬
‫الصداقة‪ ،‬وتخ ّفف‬ ‫ّ‬ ‫العاطفيـة‬
‫ـ عادة ـ من الحذر‪ ،‬وذلك بسبب أنّ الحذر يتط ّلب أخذ مسافة‪،‬‬
‫للعفوية‪ ،‬وإعمال العقل‬
‫ّ‬ ‫وأخذ المسافة يتط ّلب تجميدً ا ً‬
‫نسبيا‬
‫خاصة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ظروف ّ‬ ‫في مقابل العاطفة‪ ،‬ولو في‬

‫‪15‬‬
‫‪2‬‬
‫التأديب العاقل‬

‫ِ‬
‫الغضب(((‪.‬‬ ‫نهى رسول الله ‪ P‬عن األ َد ِب عندَ‬

‫سلوك اإلنسان في حال نشأته‪ ،‬وهو يمثّل‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬


‫حاجة لتقويم‬ ‫األدب‬
‫ُ‬
‫يقوم بها الوالدان ـ عاد ًة ـ ألوالدهم‪.‬‬
‫عملية التربية التي ُ‬
‫ّ‬
‫«أد َب ُه‬
‫معا‪ ،‬ولذلك ورد في اللغة‪َّ :‬‬ ‫يختزن المعرفة والتدريب ً‬ ‫ُ‬ ‫واألدب‬
‫مؤد ٌب»(((‪ ،‬وهذا‬ ‫وذ ِّل َل‪ٌ :‬‬
‫أديب َّ‬ ‫يض ُ‬‫قال للبعي ِر إذا ِر َ‬
‫فتأد َب‪ :‬ع َّل َم ُه‪ ...‬و ُي ُ‬
‫َّ‬
‫حال اإلنسان الذي‬ ‫ب مع ِ‬‫وبالتناس ِ‬ ‫األدب على التدريج‬ ‫يتم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يفترض أن ّ‬
‫تأديب ُه‪.‬‬
‫يتم ُ‬ ‫ُّ‬
‫قليل التجا ِرب‪،‬‬
‫السن‪َ ،‬‬
‫ِّ‬ ‫الغالب ـ ما يزال ِ‬
‫حد َث‬ ‫ُ‬ ‫فإذا كان ـ كما هو‬
‫ِِ‬
‫يؤخذ على قد ِر حاله‪ ،‬وال ّ‬
‫سيما أنّ‬ ‫َ‬ ‫بد أن‬ ‫فاألدب ال ّ‬
‫ُ‬ ‫طري العود‪،‬‬
‫َّ‬
‫يقع في األخطاء‪ ،‬وهذا يتط ّلب التخطيط الدقيق‬ ‫ِِ‬
‫الصغير من شأنه أن َ‬
‫َ‬
‫سلوك وعادة‪ٍ،‬‬
‫ٍ‬ ‫لكيفية تحويل المعرفة (المرحلة األولى من األدب) إلى‬ ‫ّ‬
‫والتخطيط ال يتم من دون تعقُّ ٍل وروية‪ٍ.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬

‫(( ( الكليني‪ ،‬الكافي‪ .١/٣/٢٦٠/٧ ،‬الطوسي‪ ،‬التهذيب‪.١/٢٠/١٤٨/١٠ ،‬‬


‫((( ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.206‬‬
‫‪16‬‬
‫غضبه لم يملك عق َله‬
‫َ‬ ‫من لم يملك‬
‫يتحرك‬
‫ّ‬ ‫يذهب ا ّت ُ‬
‫زان عقل اإلنسان‪ ،‬ويدفعه ألن‬ ‫ُ‬ ‫الغضب فبسببه‬
‫ُ‬ ‫ّأما‬
‫األدب عند الغضب إلى‬
‫ُ‬ ‫فعل غير حكيمة في الغالب‪ ،‬وقد يؤ ّدي‬ ‫بر ّدات ٍ‬
‫نفسية لدى اإلنسان الذي ُيراد تأديبه؛ ألنّ الغضب يدفع‬ ‫ٍ‬
‫عقدة‬ ‫إيجاد‬
‫ّ‬
‫إلى حالة من التنفيس الذاتي عن عقد النفس‪ ،‬وهو ما قد يتج ّلى في‬
‫كالسب والشتم‪ ،‬أو األسلوبي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫العنف الفعلي‪ ،‬كالضرب‪ ،‬أو القولي‪،‬‬
‫الطرف اآلخر إلى حالة من االنغالق‬ ‫كالصراخ‪ .‬وهذا ما يدفع دماغ ّ‬ ‫ُّ‬
‫وضعية التع ّلم واختزان الوعي الذي نستهدفه من خالل‬
‫ّ‬ ‫الذي تمتنع معه‬
‫ٍ‬
‫سلوك مغاير‪.‬‬ ‫التأديب‪ ،‬والذي نطلب من خالله تعديل السلوك إلى‬
‫هامة‪ ،‬وهي أنّ العنف قد يحقّق االرتداع عن‬ ‫بد من وعي نقطة ّ‬ ‫وال ّ‬
‫السلوك الخاطئ‪ ،‬وهو ما ك ّنا نراه في طريقة التربية التقليدية الممارسة‬ ‫ّ‬
‫تحقيق االرتداع عن السلوك الخاطئ أنّ ذلك‬ ‫ُ‬ ‫ولكن ال يعني‬
‫ّ‬ ‫تاريخيا‪،‬‬
‫ً‬
‫يعرف الخطأ من الصواب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بالضرب ـ‬
‫المضروب قد أصبح ـ َّ‬ ‫َ‬ ‫اإلنسان‬
‫يرتدع بسبب الخوف من السلطة التي يمتلكها َمن يملك موقع‬ ‫ُ‬ ‫فقد‬
‫مستمرا ما‬
‫ً‬ ‫ال‪ ،‬وهذا ما يجعل االرتداع‬ ‫التأديب‪ ،‬كاألب والمع ّلم مث ً‬
‫مستمرا‪ .‬ولذلك نجد بعض ال ّناس الذين يستقيم‬ ‫ًّ‬ ‫دام عامل السلطة‬
‫السلوك عندما يخرجون إلى‬ ‫سلوك ُهم في داخل أسرهم‪ ،‬ينحرفون في ُّ‬ ‫ُ‬
‫األسرية‪ ،‬وكذلك األمر بالنسبة لمجتمع‬
‫ّ‬ ‫السلطة‬ ‫ُ‬
‫تضعف معه تلك ُّ‬ ‫إطا ٍر‬
‫يمارس السلطة لقمع سلوك أفراده‪ ،‬سواء كان المجتمع الكبير أو‬
‫الصغير كاألحزاب ُ‬
‫واألطر حتى في المجال الديني‪.‬‬
‫مجر ًدا‬
‫ّ‬ ‫الضرب كان‬
‫َ‬ ‫صحيح لو أنّ‬
‫ٌ‬ ‫قائل‪ :‬إنّ هذا األمر‬ ‫ُ‬
‫يقول ٌ‬ ‫قد‬
‫عن تحديد السبب‪ ،‬وعليه فالشرح إلى جانب الضرب يحقّق أمرين‪:‬‬
‫‪17‬‬
‫السريع والقناعة بالسبب‪ ،‬وهذا الربط بين األمرين في الذهن‬
‫االرتداع ّ‬
‫االستمرارية‪ ،‬في الوقت الذي يكون على التأديب‬
‫ّ‬ ‫هو الذي يحقّق‬
‫ً‬
‫طويل ليحصل على نتائجه‪ ،‬وهو‬ ‫صح التعبير ـ أن ينتظر‬
‫الحواري ـ إن ّ‬
‫تصدقه التجارب‪.‬‬
‫ما ّ‬
‫مجرد تجريد ال واقع له؛ ألنّنا أشرنا إلى طبيعة‬
‫الفرضية ّ‬
‫ّ‬ ‫ولكن هذه‬
‫َّ‬
‫غضينا ال ّنظر عن ذلك‪،‬‬ ‫الحالة التي تعتري الدماغ عند العنف‪ .‬وإذا ّ‬
‫فإنّ توضيح السبب ال يعني بالنسبة للمتلقّي الموافقة على طريقة‬
‫علما أنّ توضيح السبب المترافق للغضب عادة ما ال يكون‬ ‫المعالجة‪ً ،‬‬
‫كافيا لالقتناع بسبب غياب المنطق العقالني الذي هو المدخل األساس‬ ‫ً‬
‫لتشكيل القناعة لدى اآلخر‪.‬‬
‫وربما نستطيع ا ّدعاء أنّ حاالت التأديب العنيف التي أورثت قناعة‪،‬‬
‫ّ‬
‫استمرارية للسلوك األدبي‪ ،‬إنّما كانت في الحقيقة عبر حوا ٍر‬
‫ّ‬ ‫وبالتالي‬
‫جرى بشكل هادئ بين الطرفين‪ ،‬جرى بشكل منفصل‪ ،‬أمكن من‬
‫خالله احتواء المشاعر واالنفعاالت وتقديم تقويم عقالني للموقف‬
‫والسلوك‪ .‬وهذا ما يؤكّ د ما يرمي إليه الحديث الشريف‪ ،‬من أنّ األدب‬
‫ال يكون مع الغضب‪ ،‬وإنّما بعد هدوء المشاعر‪ ،‬وسكون النفس‪.‬‬

‫التأديب من المنظور الشرعي‬


‫إنّ ما يهدف إليه اإلسالم هو نحو تثبيت القيمة في الوجدان؛ ليكون‬
‫ذاتيا غير خاضعٍ لطبيعة‬
‫أمرا ًّ‬
‫التعبير عن تلك القيمة بالقول أو الفعل ً‬
‫الظرف الخارجي المحيط باإلنسان‪.‬‬
‫ولع ّلنا نفهم هنا لماذا كانت مجموعة الحدود التي وضعتها الشّ ريعة‬

‫‪18‬‬
‫جدا‪ ،‬وأوجبت الدِّ ية‬
‫استثنائية ًّ‬
‫ّ‬ ‫الضرب إ ّال في حاالت‬
‫فحرمت ّ‬
‫للتأديب‪ّ ،‬‬
‫احمرارا أو ازرقا ًقا أو اسودا ًدا في‬
‫ً‬ ‫الضرب‬‫على المعتدي إذا أوجب َّ‬
‫عما هو أكثر من ذلك‪ ،‬إضافة إلى أنّ بعض حاالت استخدام‬ ‫الجلد‪ً ،‬‬
‫فضل ّ‬
‫األبوة‬
‫الشرعية‪ .‬وبذلك ال تعتبر ّ‬‫ّ‬ ‫القضائية‬
‫ّ‬ ‫القوة تتط ّلب اإلذن من السلطة‬
‫ّ‬
‫ومسؤولية عن‬ ‫ٍ‬
‫ملكية للولد‪ ،‬وإنّما هي حالة رعاية وإحسان‬
‫ّ‬ ‫واألمومة حالة ّ‬
‫العامة للشخصية والسلوك‪.‬‬
‫التنشئة وفق منظومة القيم والقواعد ّ‬
‫ربما ال يكون من الطبيعي أن نلغي عامل‬ ‫يبقى أن نُشير إلى أنّه ّ‬
‫سلوكا مخال ًفا‬
‫ً‬ ‫الغضب واالنفعال لدى رؤية المسؤول عن التأديب‬
‫للمعايير والقيم واألحكام‪ ،‬وهذا الغضب ـ في الواقع ـ ضروري‬
‫بد‬
‫لكن مع ذلك ال ّ‬‫السلوك‪ْ ،‬‬‫إلعطاء الحافز نحو العمل على تعديل ُّ‬
‫عملية نقل للمعارف والمهارات‬‫كأي ّ‬
‫دوره في التأديب‪ّ ،‬‬ ‫للعقل أن يأخذ َ‬
‫السيد فضل الله (ره)‪« :‬الظاهر أنّ المراد بالغضب حالة‬
‫والوعي‪ .‬يقول ِّ‬
‫تصرفاته؛ األمر الذي‬
‫االنفعال النفسي الذي يفقد اإلنسان معه توازنه في ّ‬
‫الشرعية المطلوبة في التأديب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫قد يؤ ّدي إلى فقدان التركيز في الوسائل‬
‫بي بما ال ضرورة فيه‬
‫بالص ّ‬
‫المحرمة التي تعنف َّ‬
‫َّ‬ ‫فيتجاوزها إلى الوسائل‬
‫أشد في الوقت الذي تحتاج فيه الحالة‬
‫تتعدى إلى عنف ّ‬ ‫إلى العنف‪ ،‬أو ّ‬
‫عنف َّ‬
‫أخف»(((‪.‬‬ ‫إلى ٍ‬

‫أخيرا‪ ،‬ذكرت الروايات بعض التوجيهات لتفادي النتائج السلبية‬


‫ً‬
‫للغضب‪:‬‬
‫وسلبيات انفالته من ّ‬
‫تحكم العقل‪ .‬هذا‬ ‫ّ‬ ‫‪ 1.1‬وعي وظيفة الغضب‬
‫السيد محمد حسين‪ ،‬دنيا الطفل‪ ،‬ط‪ ،3‬دار المالك‪2004 ،‬م‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫(( ( فضل الله‪ّ ،‬‬
‫لبنان‪ ،‬ص‪.90‬‬
‫‪19‬‬
‫ّ‬
‫للتحكم بالغضب‪ ،‬ومن‬ ‫عبر عن قناعة اإلنسان بالحاجة‬
‫الوعي ُي ّ‬
‫دونه ال يكون لإلنسان أدنى حاف ٍز لذلك‪.‬‬

‫النبي ‪« :P‬يا‬‫ّ‬ ‫التفكر في قدرة الله وحلمه‪ ،‬فقد ورد عن‬ ‫ّ‬ ‫‪2.2‬‬
‫الرب‬
‫ّ‬ ‫وتفكر في قدرة‬ ‫ّ‬ ‫غضبت فاقعد‬
‫َ‬ ‫علي‪ ،‬ال تغضب؛ فإذا‬‫ّ‬
‫غضب َك‬
‫َ‬ ‫وحلم ِه عنهم‪ ،‬وإذا قيل لك‪ :‬ا ّت ِق الل َه فانبِذ‬
‫ِ‬ ‫على العباد‬
‫تفعيل لحضور الله تعالى‬ ‫ً‬ ‫لمك»(((‪ .‬هذا األمر يتط ّلب‬ ‫ِ ِ‬
‫وراج ْع ح َ‬
‫جزء من المسار اإليماني البنائي‬
‫حقيقة في نفس اإلنسان‪ ،‬وهو ٌ‬
‫المستمر للشخصية بطبيعة الحال‪ .‬وقد ورد في الحديث عن‬
‫ّ‬
‫الحق‬
‫ّ‬ ‫للدنيا؛ فإذا أغضبه‬
‫يغضب ُّ‬
‫ُ‬ ‫علي ‪« :Q‬كان ‪ P‬ال‬ ‫ّ‬
‫مما‬ ‫ِ‬
‫لم يعرف ُْه أحدٌ ولم يقم لغضبِه‬
‫ينتصر له» ‪ّ ،‬‬ ‫شيء ح ّتى‬
‫(((‬
‫َ‬ ‫ٌ‬
‫يشير إلى تربية النفس على استضغار أي هدف يرتبط ّ‬
‫بالذات‬
‫المنفعلة تلقائي ًا مع شؤون الدنيا‪ ،‬وبالتالي تحويل ّ‬
‫اتجاه النفس‬
‫العام من االنفعال الذاتي إلى تحقيق األهداف التي تتط ّلبها‬
‫مصلحة الموقف‪.‬‬

‫اإللهيين كحاف ٍز للعالج‪ .‬وقد عملت‬


‫ّ‬ ‫‪ 3.3‬تفعيل الثواب والعقاب‬
‫عـدة على هذا الجانـب‪ ،‬فقال‬ ‫وحديثية ّ‬ ‫ّ‬ ‫توجيهـات قرآنية‬
‫اس َوال ّل ُه ُي ِح ُّب‬ ‫ين ا ْلغَ ْي َظ َوا ْل َع ِاف َ‬
‫ين َع ِن ال َّن ِ‬ ‫﴿وا ْل َك ِ‬
‫اظ ِم َ‬ ‫تعالى‪َ :‬‬
‫يدخ ُلها إال من‬ ‫ين﴾(((‪ ،‬وقوله ‪« :P‬إنّ لجه ّنم با ًبا ال ُ‬ ‫ا ْل ُم ْح ِسنِ َ‬
‫((( تحف العقول‪ ،‬ص‪.14‬‬
‫المحجة البيضاء‪ ،‬ج‪ ،٥‬ص‪.٣٠٣‬‬
‫ّ‬ ‫(((‬
‫((( سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.134‬‬
‫‪20‬‬
‫غضب ُه َّ‬
‫كف الله عنه‬ ‫كف َ‬‫شفى غيظه بمعصية الله تعالى»(((‪« ،‬من َّ‬

‫عذا َب ُه»(((‪.‬‬

‫الوضعية‪ ،‬كما في الحديث الشريف‪« :‬إذا غضب أحدكم‬


‫ّ‬ ‫‪ 4.4‬تغيير‬

‫قائم فليجلس‪ ،‬فإن ذهب عنه‪ ‬الغضب‪ ‬وإال فليضطجع»(((‪.‬‬


‫وهو ٌ‬

‫الغضب من‬
‫َ‬ ‫‪ 5.5‬الوضوء‪ ،‬فقد ورد عن رسول الله ‪« :P‬إنّ‬

‫الشيطان‪ ،‬وإنّ الشيطان من ال ّنار‪ ،‬وإنّما تُطفأ النار بالماء‪ ،‬فإذا‬

‫فليتوضأ»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أحد ُكم‬
‫غضب ُ‬
‫َ‬

‫الغضـب‬
‫َ‬ ‫علي ‪« :Q‬داووا‬
‫ّ‬ ‫الصمـت‪ ،‬فقـد ورد عن‬
‫‪َّ 6.6‬‬

‫بالص ِ‬
‫مت»(((‪.‬‬ ‫َّ‬
‫((( تنبيه الخواطر‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.121‬‬
‫((( بحار األنوار‪ ،‬ج‪ ،73‬ص‪ ،263‬ح‪.7‬‬
‫((( الترغيب والترهيب‪.16 / 450 / 3 :‬‬
‫((( م‪.‬ن ‪.19 / 451‬‬
‫((( غرر الحكم‪.5155 :‬‬
‫‪21‬‬
‫‪3‬‬
‫ٌ‬
‫وعمل صالح‬ ‫وجدان فاعل‬
‫ٌ‬ ‫اإليمان‬

‫ليس اإليمان بالتح ّلي وال بالتم ّني‪،‬‬


‫األع ُ‬
‫مال(((‪.‬‬ ‫لص في ال َق ْل ِب َ‬
‫وص ّدقه ْ‬ ‫ولكن اإليمانَ ما خَ َ‬
‫َّ‬

‫االنتماء لإلسالم دي ًنا له مرتبتان‪:‬‬


‫المرتبة األولى‪ :‬هي مرتبة اإلسالم‪ ،‬وذلك بإعالن االنتماء السياسي‬
‫واالجتماعي لإلسالم‪ ،‬وصورت ُُه أن يشهدَ اإلنسان أن ال إله ّإل الله وأنّ‬
‫يدخ ُل في اإلسالم‪ ،‬وتثبت له الحقوق ك ّلها‬ ‫ُ‬
‫رسول الله‪ ،‬وبذلك ُ‬ ‫محمدً ا‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫التي تثبت للمسلم‪ .‬وفي هذه المرتبة قد يكون دخول اإلنسان لغاية غير‬
‫مضر ٍة‪ ،‬وبذلك كان المنافقون جز ًءا‬ ‫إيمانية‪ ،‬وهي تحصيل منفعة أو دفع َّ‬ ‫ّ‬
‫من المسلمين بإعالنهم االنتماء‪ ،‬مع أنّهم في قرارة أنفسهم كافرون‬
‫ّ‬
‫األقل‪.‬‬ ‫بالشهادتين أو بإحداهما على‬
‫وجدانية‪ ،‬وهذا‬
‫ّ‬ ‫أ ّما المرتبة الثانية‪ :‬فهي تحويل الشهادتين إلى قناعة‬
‫يتط ّلب أمرين‪:‬‬
‫الموضوعية‬
‫ّ‬ ‫يتم من خالل األد ّلة‬
‫الفكرية‪ ،‬وذلك ّ‬
‫ّ‬ ‫األول‪ :‬القناعة‬
‫ّ‬
‫((( الشيخ الصدوق‪ ،‬معاني األخبار‪ .‬ص ‪.178‬‬
‫‪22‬‬
‫الفكرية ذات‬
‫ّ‬ ‫لكن هذه القناعة‬
‫محمد ‪َّ .P‬‬ ‫النبي ّ‬
‫ونبوة ِّ‬
‫الوحدانية ّ‬
‫ّ‬ ‫على‬
‫ُبعد نظري تجريدي ُيمكن أن يغيب في حركة الحياة وانشغاالتها‪ ،‬وال‬
‫مما‬‫الحسي واالنفعالي ّ‬
‫ّ‬ ‫سيما أنّ في الحياة الكثير من عناصر الجذب‬ ‫ّ‬
‫الفكرية‬
‫ّ‬ ‫أفكارا كثيرة نتيجة عدم التركيز عليها‪ .‬وهنا تحتاج القناعة‬
‫ً‬ ‫ُيبعد‬
‫مستمر‪ ،‬وهذا هو األمر الثاني اآلتي‪.‬‬ ‫إلى ٍ‬
‫رافد‬
‫ّ‬
‫اإلشكاليات التي‬
‫ّ‬ ‫بد قبل بيانه من اإلشارة إلى ضرورة مواجهة‬
‫وال ّ‬
‫تطرأ أمام الفكر وتتط ّلب إجابات شافية للعقل‪ُ ،‬م ّ‬
‫سكنة لقلق المعرفة‬
‫الضعيف‪ ،‬وال باألد ّلة الواهية التي ّ‬
‫همها‬ ‫لديه‪ .‬وهذا ال يكون بالمنطق ّ‬
‫الدامغة‪.‬‬
‫السائد كيفما كان‪ ،‬بل بالحجج والبراهين ّ‬
‫تبرر ّ‬
‫أن ّ‬
‫قضية االستدالل ليست‬‫ّ‬ ‫وقد نحتاج إلى التأكيد على نقطة‪ ،‬وهي أنّ‬
‫مثل قد ال تعود‬‫ثابتة‪ ،‬بمعنى أنّ األد ّلة التي أقيمت لدى جيل آبائنا ً‬
‫الشخصية‬
‫ّ‬ ‫العامة‪ ،‬أو تعقيد‬
‫ّ‬ ‫صالح ًة إلقناع األبناء؛ ألنّ ّ‬
‫تطور المعرفة‬
‫في الجيل الثاني‪ ،‬أو االكتشافات التي تحصل في ميادين علمية أخرى‪،‬‬
‫َّ‬
‫المفكر‬ ‫قد فرض أسئلة جديدة قد ال تعود اإلجابات القديمة بحدودها‬
‫يعرض الفكرة بتمامها‬ ‫مما ّ‬‫جزئيا‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫فيها صالحة لإلجابة عنها‪ُ ،‬ك ًّليا أو‬
‫لالهتزاز لدى الجيل الجديد‪ ،‬ما لم يؤ ِّد الفكر إلى اجتراح أد ّلة جديدة‬
‫حل اإلشكاليات المعاصرة واإلجابة عن األسئلة‬ ‫تنسجم مع متط ّلبات ّ‬
‫المستحدثة‪.‬‬
‫كثيرا‬
‫الصبر على المعرفة‪ ،‬حيث بتنا نرى أنّه ً‬
‫أهمية ّ‬
‫يبقى أن نشير إلى ّ‬
‫ما يستسهل الجيل المعاصر حسم بعض القضايا المعرفية المصيرية‪،‬‬
‫والدين واآلخرة وغير ذلك‪ ،‬ويستعجل ب ّتها تحت وطأة‬
‫كقضية الخلق ّ‬
‫بعض الضغوطات التي تفرضها ثقافة عالمية مسيطرة‪ ،‬أو أوضاع نفسية‬
‫‪23‬‬
‫واجتماعية قلقة‪ ،‬في الوقت الذي تحتاج هذه القضايا إلى صب ٍر وأناة‬
‫ٍ‬
‫وبحث دؤوب‪ ،‬وهو ما نجده في مسيرة العلمِ ‪ ،‬حيث ال ينسفون أنسا ًقا‬
‫ً‬
‫طويل ح ّتى‬ ‫قضية‪ ،‬بل ينتظرون‬‫ّ‬ ‫بمجرد بروز حالة ّ‬
‫شك في‬ ‫ّ‬ ‫معرفية‬
‫ّ‬
‫السابقة؛ وهكذا‪.‬‬
‫النظرية ّ‬
‫ّ‬ ‫نظرية تدحض‬
‫يجدوا ّ‬
‫و«الذكرى»‪ ،‬حيث ّ‬
‫يظل‬ ‫ِّ‬ ‫الثاني‪ :‬ما يندرج تحت عنوان ِّ‬
‫«الذكر»‬
‫التوحيدية أو للفكرة‬ ‫ِ‬
‫للفكرة‬ ‫وجداني دائمٍ‬ ‫اإلنسان في حالة استحضا ٍر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫معرفة الله وطاعته‪ .‬ومن هنا نفهم السبب‬ ‫ِ‬ ‫طريق إلى‬‫ٍ‬ ‫النبوية بما تمثّله من‬ ‫ّ‬
‫النبي ‪ ،‬حيث قال تعالى‪َ ﴿ :‬ف َذ ِّك ْر إِن ََّما‬‫‪P‬‬
‫المذكر على ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫في إطالق صفة‬
‫خطين‬ ‫يتحرك في ّ‬ ‫ّ‬ ‫كر‬ ‫ِّ‬
‫والذ ُ‬ ‫نت ُم َذ ِّك ٌر* َّل ْس َت َع َل ْي ِهم بِ ُم َص ْي ِط ٍر﴾(((‪.‬‬‫َأ َ‬
‫ميزا المنهج التربوي اإلسالمي‪:‬‬
‫أساسيين ّ‬
‫ّ‬
‫التوحيدية وبين مظاهر‬
‫ّ‬ ‫الوجدانية بين الفكرة‬
‫ّ‬ ‫أ‪ .‬إيجاد الترابطات‬
‫عدة ربطت بين الخالق‬
‫قرآنية ّ‬
‫الحياة‪ ،‬وهذا ما نلمحه في آيات ّ‬
‫نعم ولذائذ العيش لدى اإلنسان وما‬ ‫ومظاهر الطبيعة‪ ،‬وبين الم ِ‬
‫ُ‬
‫دائما مع مظاهر‬
‫إلى ذلك؛ األمر الذي يجعل اإلنسان يذكر الله ً‬
‫اإلسالمية في عمق الحياة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تترسخ العقيدة‬ ‫الحياة ك ِّلها‪ .‬وبهذا ّ‬
‫النظريات‬
‫ّ‬ ‫تجريدية في غياهب‬
‫ّ‬ ‫وتُصبح فكرة معاش ًة ال فكر ًة‬
‫التجريدية‪.‬‬
‫ّ‬
‫نعم من‬‫والرب والمـ ِ‬
‫ّ‬ ‫ب‪ .‬العبادة‪ ،‬بما هي حالة تواصل مع الخالق‬
‫ُ‬
‫العبد بين يديه‪،‬‬
‫والعبودية المطلقة التي يمثّلها ُ‬
‫ّ‬ ‫موقع الفقر الذاتي‬
‫وهذا ما يعم ُق الفكرة اإليمانية بتج ّلياتها التفصيلية ك ّلها في ٍ‬
‫حالة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬

‫(( ( سورة الغاشية‪ ،‬اآليتان ‪21‬ـ‪.22‬‬


‫‪24‬‬
‫يؤمنه الخشوع في الصالة والحركة‬
‫من التفاعل الوجداني الذي ّ‬
‫القولي‪ ،‬أو الطاقة التي يحصل عليها اإلنسان من‬
‫ّ‬ ‫العبادية والذكر‬
‫ّ‬
‫والحج وما إلى ذلك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الجماعية‪ ،‬كالصالة‬
‫ّ‬ ‫خالل العبادة‬

‫قلبا وتجسيدً ا‬
‫اإليمان ً‬
‫إنّ افتراض أنّ اإليمان يمكن أن يحصل لدى اإلنسان من دون‬
‫أمر أقرب ما يكون إلى الوهم منه إلى الحقيقة؛ ألنّ‬ ‫عبادية هو ٌ‬
‫ّ‬ ‫ممارسة‬
‫حيز الفكرة التجريدية النظرية‬
‫فقدان هذا الجانب ال يخرج اإليمان من ّ‬
‫إلى حالة الشعور واإلحساس الوجداني‪ ،‬كما أنّ طبيعة المجال الما ّدي‬
‫الذي نعيش فيه سيح ّفز انغماس اإلنسان فيه إلى الدرجة التي تستحوذ‬
‫على األحاسيس والمشاعر‪ ،‬فال تعود تنطلق خارج أفق الما ّدة لتحاكي‬
‫وجدانيا‪.‬‬
‫ً‬ ‫تتحسسه‬
‫ّ‬ ‫نظريا ولك ّنها ال‬
‫تؤمن به ًّ‬
‫عالما ورا َءها ُ‬
‫ً‬
‫وجدانيا‪ ،‬أصبحت‬
‫ًّ‬ ‫وشعورا‬
‫ً‬ ‫فكرا‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان الل َه في ذاته‪ً ،‬‬ ‫وإذا َ‬
‫عاش‬
‫بحب‪ ،‬ويغدق عليه‬ ‫تلقائية تجاه ما يوافق رضاه‪ ،‬ويباد ُل ُه الله ُح ًّبا ّ‬
‫ّ‬ ‫حركته‬
‫القدسي(((‪« :‬ما‬
‫ّ‬ ‫من ألطافه ونعمه‪ ،‬على النحو الذي أشار إليه الحديث‬
‫إلي‬
‫ليتقرب ّ‬
‫ّ‬ ‫مما افترضت عليه‪ ،‬وإنّه‬ ‫إلي ّ‬
‫أحب ّ‬‫إلي عبد بشيء ّ‬ ‫تقرب َّ‬
‫كنت َس ْم َعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي‬ ‫بالنافلة ح ّتى أحبه‪ ،‬فإذا أحبب ُته ُ‬
‫يبصر به‪ ،‬ولسانه الذي ينطق به‪ ،‬ويده التي يبطش بها‪ ،‬إن دعاني أجبته‪،‬‬
‫وإن سألني أعطيته»(((‪.‬‬

‫ربمــا يكــون‬
‫المتضمــن لــكالم اللــه‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫((( الحديــث القدســي مصطلــح يــراد بــه الحديــث‬
‫مــن دون أن‬ ‫‪P‬‬ ‫ـي‬ ‫مســتقًى مــن كتـ ٍ‬
‫ـاب آخــر‪ ،‬أو مــن وحــيٍ ألنبيــاء ســابقين أو للنبـ ّ‬
‫يكــون جــز ًءا مــن القــرآن الكريــم‪.‬‬
‫(( ( ‪ ‬الشيخ الكليني‪ ،‬الكافي‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪ ٧ /٣٥٢‬و ح ‪.٨‬‬
‫‪25‬‬
‫تربوية‬
‫ّ‬ ‫عملي ٌة‬
‫َّ‬ ‫خلوص اإليمان في القلب هو‬
‫َ‬ ‫انطال ًقا من ذلك‪ ،‬فإنّ‬
‫بد أن تؤ ّدي في نهاية المطاف إلى تحقيق التجانس بين‬ ‫تراكمية‪ ،‬ال ّ‬
‫ّ‬
‫داخل اإلنسان (وجدانه اإليماني) وبين خارجه (العمل الصالح)‪ ،‬وهذا‬
‫دائما بين اإليمان وبين‬
‫القرآنية التي ربطت ً‬
‫ّ‬ ‫ما تؤكّ د عليه عشرات اآليات‬
‫العمل الصالح‪.‬‬
‫بنا ًء على ذلك ً‬
‫أيضا‪ ،‬تكون فكرة التفكيك بين اإليمان وبين العمل‬
‫خط رضى‬‫تتحرك في ّ‬
‫والممارسة‪ ،‬غير صحيحة؛ ألنّ الممارسة التي ال ّ‬
‫الله تعالى تشير إلى أنّ القلب ال يعيش صفاء اإليمان وخلوصه‪ ،‬على‬
‫طريقة الشاعر الذي قال‪:‬‬
‫بديــع‬ ‫ِ‬
‫الفعال‬ ‫مرك في‬
‫ُ‬ ‫هذا َلع ُ‬ ‫تعصي اإلله وأنت تُظهر ُح َّب ُه‬
‫مطيع‬
‫ُ‬ ‫حب‬
‫المحب لمن ُي ُّ‬
‫َّ‬ ‫إنَّ‬ ‫كان ُح ُّب َك صاد ًقا ألطع َت ُه‬
‫لو َ‬

‫‪26‬‬
‫‪4‬‬
‫جزاء األعمال‬

‫مخلصا دخل الجنة‪.‬‬


‫ً‬ ‫من قال (ال إله إال الله)‬
‫َحج َزه عن محارم الله(((‪.‬‬
‫قيل‪ :‬وما إخالصها؟ قال‪ :‬أن ت ُ‬

‫هامة‪ ،‬وهي أنّ ً‬


‫كثيرا من األحاديث التي‬ ‫هذا الحديث ُيشير إلى مسألة ّ‬
‫تتحدث عن جزاء األعمال أو األقوال أو األذكار‪ ،‬تستهدف المغزى‬
‫ّ‬
‫تغير على مستوى‬ ‫العميق للقول أو للعمل أو ِّ‬
‫للذكر‪ ،‬بما يعكسه من ّ‬
‫الشخصية‪ ،‬وما يؤ ّثر ذلك على طبيعة العمل ّ‬
‫والسلوك الذي‬ ‫ّ‬ ‫الصالح في‬
‫َّ‬
‫وربه‪ ،‬أو في‬ ‫العملية‪ ،‬سواء في عالقته بنفسه ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتحرك به اإلنسان في حياته‬ ‫ّ‬
‫يوم القيامة‪،‬‬ ‫عالقته بال ّناس والحياة؛ ألنّ العمل هو ما يحاسب الله عليه َ‬
‫س بِ َأ َمانِ ِّي ُك ْم‬‫وهو الذي أكّ دته اآلية القرآنية على نحو المبدأ النهائي‪َّ ﴿ :‬ل ْي َ‬
‫ون ال ّل ِه‬ ‫اب َمن َي ْع َم ْل ُسوء ًا ُي ْج َز بِ ِه َو َال َي ِج ْد َل ُه ِمن ُد ِ‬‫َوال َأ َمانِ ِّي َأ ْه ِل ا ْل ِك َت ِ‬
‫وأما‬
‫األساسية هي الجزاء على األعمال‪ّ ،‬‬ ‫َصير ًا﴾(((‪ ،‬فالقاعدة‬ ‫َولِي ًا َو َال ن ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أي أحد مهما كان انتماؤه االجتماعي أو الديني‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫مسألة اإليمان من ّ‬
‫كاف لتحقيق الفوز‪ ،‬والحصول على رضوان الله يوم‬ ‫صحيحا‪ ،‬فهو غير ٍ‬ ‫ً‬

‫(( ( الشيخ الصدوق‪ ،‬ثواب األعمال‪ ،‬ص ‪٥‬؛ الهيثمي‪ ،‬مجمع الزوائد‪ ،‬ج ‪ ،١‬ص ‪.١٨‬‬
‫((( سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.123‬‬
‫‪27‬‬
‫النبي ‪ P‬قد ترجمه‬
‫ّ‬ ‫وحساسيته نجد أنّ‬
‫ّ‬ ‫وألهمية هذا الجانب‬
‫ّ‬ ‫القيامة‪.‬‬
‫عام في آخر حياته كما سيأتي‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫توجيه ٍّ‬ ‫في‬

‫تجانس أبعاد الشخصية‬


‫بد أن ينطلقا من‬‫إنّنا نفهم من خالل الحديث أنّ العمل والقول ال ّ‬
‫الشخصية‪ ،‬بد ًءا من إخالص القلب الذي ينبض‬
‫ّ‬ ‫حالة تجانُس في أبعاد‬
‫بالمبدأ‪ ،‬بمعنى أن يكون معنى الكلمة أو منطلق العمل ثاب ًتا في الوجدان‬
‫اإليماني‪ ،‬وهذا يح ّتم علينا أن نكون واعين للمعنى أو المغزى الذي‬
‫ينطوي عليه القول أو الفعل‪.‬‬
‫وفي ما يرتبط بمعنى قول (ال إله ّإل الله) الوارد في الحديث‪ ،‬فهو‬
‫على مستويات‪:‬‬
‫األلوهية عن غير‬
‫ّ‬ ‫األول‪ :‬المستوى العقدي الفكري‪ ،‬حيث يعني نفي‬ ‫ّ‬
‫رب معه‪،‬‬
‫الله تعالى بنحو مطلق‪ ،‬فال إله سواه‪ ،‬وال معبود غيره‪ ،‬وال ّ‬
‫وال شريك له‪ .‬وبناء هذا المستوى يرتبط باألد ّلة والبراهين التي يقيمها‬
‫ووحدانيته وصفاته‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫العقل على وجود الله‬
‫الثاني‪ :‬المستوى القلبي‪ ،‬وهو اشتمال الفكرة العقدية على الوجدان‪،‬‬
‫تتحول إلى فكـرة ممتزجـة بالشّ عور والعاطفة‪ ،‬وقد قال تعالى‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫بحيث‬
‫ون ال ّل ِه َأندَ اد ًا ُي ِح ُّبون َُه ْم َك ُح ِّب ال ّل ِه﴾ (((‪.‬‬
‫اس َمن َي َّت ِخ ُذ ِمن ُد ِ‬
‫﴿و ِم َن ال َّن ِ‬
‫َ‬

‫الثالث‪ :‬المستوى العملي‪ ،‬وهو ّ‬


‫يتحرك في ا ّتجاهين(((‪:‬‬

‫(( ( سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.165‬‬


‫بالتأمل يمكن إرجاع االتجاهين إلى اتجاه واحد‪ ،‬وهو يرتبط بالتجانس بين الداخل‬
‫ّ‬ ‫((( ‬
‫‪28‬‬
‫والتوجهات‬
‫ّ‬ ‫أ‪ .‬داخلي‪ ،‬بمعنى أن تنضبط حركة الغرائز والشهوات‬
‫يحرك اإلنسان‬
‫العامة للنفس في إطار التوحيد الخالص لله‪ ،‬فال ّ‬
‫غريزته وشهوته إال فيما ُيرضي الله تعالى‪.‬‬
‫ممن ينتمون‬ ‫ّ‬
‫يحتك فيهم‪ّ ،‬‬ ‫ب‪ .‬خارجي‪ ،‬يرتبط بعالقة اإلنسان بمن‬
‫متعددة‪ ،‬كاألسرة والجوار والجماعة والمجتمع‬ ‫ّ‬ ‫إلى أطر‬
‫وممن يشتركون معه في الحالة البشرية‪ ،‬وكذلك فيما‬ ‫واألمة ّ‬
‫ّ‬
‫يرتبط بالثقافة‪ ،‬كاألفكار والعادات والتقاليد والرموز التي‬
‫تتحرك في تلك األطر ك ّلها‪ ،‬ذلك ك ّله ينضبط في إطار التوحيد‪،‬‬
‫ّ‬
‫انسحاق أمام إرادته ّإل إذا كان يعكس‬
‫َ‬ ‫فال طاعة لمخلوق‪ ،‬وال‬
‫ذلك إرادة الله وطاعته‪ ،‬وما إلى ذلك‪.‬‬
‫بالبعد العقدي‬
‫المهم لنا في عالم التربية والتعليم أن ال نكتفي ُ‬
‫ّ‬ ‫ومن‬
‫لما كان العمل هو الهدف األساس‪،‬‬ ‫للتوحيد‪ ،‬كما ُيصنع عادة‪ ،‬حيث إنّه ّ‬
‫يصب في تمكين المتع ّلم‬
‫ُّ‬ ‫فإنّ الربط بين التوحيد والعمل هو الذي‬
‫ُ‬
‫والربط بين الفكرة‬ ‫المؤمن من نقل المعرفة إلى حركته في الواقع؛‬
‫بمجرد وعي‬
‫ّ‬ ‫التجريدية ومفردات الحياة تتط ّلب مهار ًة ال تحصل‬
‫الفكرة كما هو واضح‪.‬‬
‫إخالصا في‬
‫ً‬ ‫ثمة ًّ‬
‫خطا للتوحيد يبدأ من الوعي الفكري‪ ،‬ويتج ّلى‬ ‫إنّ ّ‬
‫القلب‪ ،‬وذلك عندما ينزع اإلنسان من نفسه الشعور بانسحاق إرادته‬
‫ٍ‬
‫موجود سوى الله سبحانه وتعالى‪ ،‬وبالتالي يستحوذ الله‬ ‫أي‬
‫أمام ّ‬
‫توجهاته وانفعاالته ك ّلها؛ لكي‬
‫وح ّبه وخشيته على ّ‬‫سبحانه وتعالى ُ‬
‫ولكن الفصل بينهما يرتبط بتوضيح‬
‫ّ‬ ‫وتفاعله مع الخارج ارتكازً ا على التوحيد‪،‬‬
‫التطبيقية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تجليات الفكرة من الناحية‬
‫‪29‬‬
‫عمليا‪ ،‬وهذا هو الذي يدفع‬
‫ًّ‬ ‫تكون منسجم ًة مع ما يريد الله سبحانه‬
‫حرم الله من ٍ‬
‫فعل أو‬ ‫عما ّ‬
‫والبعد ّ‬
‫اإلنسان نحو التقوى العملية والورع ُ‬
‫ٍ‬
‫ترك‪.‬‬

‫عالقة الثواب بالعمل‬


‫ٍ‬
‫بقاعدة بالنسبة إلى مثل‬ ‫بالعودة إلى ما بدأنا به‪ ،‬فقد نستطيع أن نخرج‬
‫يتضمنه الحديث‪ ،‬والذي يرد فيه الثواب على ٍ‬
‫عمل أو‬ ‫ّ‬ ‫هذا التعبير الذي‬
‫ٍ‬
‫معين؛ فإنّ الثواب ال يكون ّإل بخلوص‬ ‫قراءة للقرآن أو الدعاء أو ذك ٍر ّ‬
‫القلب ّأو ًل‪ ،‬وبالتعبير العملي عن القيمة التي يختزنها ذلك‪ .‬فإنّ قراءة‬
‫تتعمق معانيها‬
‫يتحد ُد ثوا ُبها العميق بمقدار ما ّ‬ ‫سورة اإلخالص ً‬
‫مثل إنّما َّ‬
‫تتكرر في صلواتنا وأورادنا‪،‬‬
‫في الوجدان‪ ،‬وكذلك في مثل األذكار التي ّ‬
‫النبي ‪ :P‬أنّه قال‪« :‬من قال‪« :‬سبحان الله» غرس الله له‬ ‫فقد ورد عن ّ‬
‫بها شجرة في الج ّنة‪ ،‬ومن قال‪« :‬الحمد لله» غرس الله له بها شجرة في‬
‫الجنة‪ ،‬ومن قال‪« :‬ال إله إال الله» غرس الله له بها شجرة في الج ّنة‪ ،‬ومن‬
‫قال‪« :‬الله أكبر» غرس الله له شجرة في الج ّنة‪ .‬فقال رجل من قريش‪:‬‬
‫يا رسول الله! إنّ شجرنا في الج ّنة لكثير؟! قال‪ :‬نعم‪ ،‬ولكن إياكم أن‬
‫وجل يقول‪َ ﴿ :‬يا َأ ُّي َها‬ ‫ّ‬ ‫ترسلوا عليها نيرانًا فتحرقوها‪ ،‬وذلك أنّ الله ّ‬
‫عز‬
‫ول َو َل ت ُْب ِط ُلوا َأ ْع َما َل ُك ْم﴾»(((‪،‬‬ ‫الر ُس َ‬ ‫َ ِ‬ ‫َ ِ‬
‫ين آ َم ُنوا أط ُيعوا ال َّل َه َوأط ُيعوا َّ‬‫ا َّل ِذ َ‬
‫فذلك ك ّله بشرطه وشروطه‪ ،‬والشرط الذي يمثّل الهدف األساس هو‬
‫اك ْم﴾(((‪،‬‬ ‫العمل والتقوى‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬إِ َّن َأ ْك َر َم ُك ْم ِعندَ ال َّل ِه َأ ْت َق ُ‬ ‫ُ‬

‫(( ( أمالي الصدوق‪.١٤ / ٤٨٦ :‬‬


‫(( ( سورة الحجرات‪ ،‬اآلية ‪.13‬‬
‫‪30‬‬
‫متمن وال‬
‫ٍّ‬ ‫يتمن‬
‫وكما قال رسول الله ‪ P‬في آخر حياته الشّ ريفة‪« :‬أال ال َّ‬
‫ٍ‬
‫رحمة»(((‪.‬‬ ‫مدعٍ‪ ،‬أما إنّه ال ينجي ّإل ٌ‬
‫عمل مع‬ ‫يدعِ َّ‬
‫ّ‬

‫معايير قبول أحاديث السنن‬


‫وفي الختام نشير إلى أنّ األحاديث التي وردت في ثواب األعمال‪،‬‬
‫والتي ورد فيها الثواب الكثير على صالة أو صيام أو صدقة أو عمل من‬
‫محددة‪ ،‬ينبغي الوقوف فيها‬
‫معينة‪ ،‬أو أذكار ّ‬
‫األعمال‪ ،‬أو في قراءة سور ّ‬
‫عند ما يلي‪:‬‬
‫سيما أنّ من‬
‫صحة صدور هذه األحاديث وال ّ‬ ‫أو ًل‪ :‬التأكّ د من ّ‬
‫ّ‬
‫الوضاعون‪ ،‬وليس بالضرورة أن يكون‬
‫مما وضعه ّ‬ ‫المحتمل أن تكون ّ‬
‫الدين‪ ،‬بل‬
‫ممن يتآمرون على ّ‬‫النية‪ ،‬أو ّ‬
‫سيئي ّ‬‫الوضاعون من ّ‬
‫ّ‬ ‫هؤالء‬
‫بعضهم كانوا مؤمنين‪ ،‬ولك ّنهم كانوا خاضعين لسذاجة في نواياهم‬
‫الزهاد انتدب في وضع أحاديث‬
‫رجل من ّ‬‫تزين لهم عملهم‪ ،‬فقد ورد أنّ ً‬‫ّ‬
‫في فضل‪ ‬القرآن‪ ‬وسوره‪ ،‬فقيل له‪ :‬لم فعلت هذا؟ فقال‪ :‬رأيت الناس‬
‫‪ ‬النبي ‪ P‬قال‪:‬‬
‫ّ‬ ‫زهدوا في‪ ‬القرآن‪ ‬فأحببت أن أرغّ بهم فيه فقيل له‪ :‬فإنّ‬
‫فليتبوأ مقعده من ال ّنار‪ ،‬فقال‪ :‬أنا ما‪ ‬كذبت‪ ‬عليه‬
‫ّ‬ ‫متعمد ًا‬
‫«من‪ ‬كذب‪ ‬علي ّ‬
‫ّ‬
‫إنّما‪ ‬كذبت‪ ‬له» ‪.‬‬
‫(((‬

‫خص الروايات التي‬ ‫ثمة قواعد يراها بعض الفقهاء في ما ّ‬


‫نعم ّ‬
‫ثواب على فعل كذا‬ ‫ٌ‬ ‫المستحبات التي عليها‬
‫ّ‬ ‫أي‬
‫مضمونها السنن‪ّ ،‬‬
‫وكذا‪ ،‬وهذه القواعد أخذوها من بعض الروايات‪ ،‬وبنا ًء عليها قالوا‬

‫(( ( العالمة المجلسي‪ ،‬بحار األنوار‪ ،‬ج ‪ ،٢٢‬ص ‪.٤٦٧‬‬


‫(( ( الشيخ األميني‪ ،‬الغدير‪ ،‬ج‪ ،5‬ص‪ً ،276‬‬
‫نقل عن‪ :‬القرطبي‪ ،‬األذكار‪ ،‬ص‪.156‬‬
‫‪31‬‬
‫إنّه ال ضرورة للتنقيب عن أسانيد هذا النوع من األحاديث‪ .‬ولكن‬
‫تأم ً‬
‫ال فيها ألجل بعض المحاذير التي سنطرحها في النقطة الثالثة‬ ‫لنا ّ‬
‫التالية‪.‬‬
‫صحة صدور الحديث ال يكون بالتحقّق السندي‬ ‫ثانيا‪ :‬التأكّ د من ّ‬
‫ً‬
‫المرجعية‬
‫ّ‬ ‫بالعرض على القرآن‪ ،‬حيث يمثّل القرآن الكريم‬
‫فقط‪ ،‬وإنّما َ‬
‫صحة المضمون الوارد‪ ،‬فـ «ما‬ ‫المعيارية التي نتحقّق من خاللها من ّ‬
‫القضية لم‬ ‫زخرف» ‪ّ .‬‬
‫ومما يؤسف له أنّ هذه‬ ‫خالف كتاب الله فهو ُ‬
‫(((‬
‫ّ‬
‫كبيرا في دراسات المناهج‪ ،‬حيث أتت الممارسة العملية‬‫حي ًزا ً‬‫تأخذ ّ‬
‫تحول العقل االجتهادي في كثير من الموارد إلى ٍ‬
‫عقل تبريري‬ ‫بحيث ّ‬
‫عزز مبدأ تأويل كالم الله حتى يتوافق مع‬ ‫مما ّ‬
‫لصالح الحديث‪ّ ،‬‬
‫منسجما مع قواعد اللغة وقرائن الخطاب‬
‫ً‬ ‫الحديث ولو لم يكن ذلك‬
‫وما إلى ذلك‪.‬‬
‫القرآنية في‬
‫ّ‬ ‫إنّ المطلوب ـ في المنهج ـ هو أن تُدرس الداللة‬
‫التوصل إلى صوغ المبدأ القرآني في التوحيد‬‫ّ‬ ‫مفرداتها ك ّلها‪ ،‬وبعد‬
‫العرض عليه‪ ،‬وبالتالي تحديد مستوى القبول والرفض‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يتم‬
‫مثل‪ّ ،‬‬‫ً‬
‫ال أن يكون الحديث أشبه باألداة التي ننتقل فيها من آية إلى أخرى‬
‫ٍ‬
‫وجه لتحقيق التوافق بين داللة اآلية مع‬ ‫متفرق‪ ،‬فنقوم باختراع‬ ‫بنح ٍو ّ‬
‫وجدلي وله مجال آخر((( نكتفي هنا بما‬
‫ّ‬ ‫الحديث‪ .‬الموضوع معقّد‬
‫أوردنا من إشارة‪.‬‬

‫(( ( الشيخ الكليني‪ ،‬الكافي‪ ،‬ج ‪ ،١‬ص ‪.٦٩‬‬


‫((( للمزيد يمكن مراجعة كتاب المؤ ّلف‪ :‬نظرة في المنهج االجتهادي للفقيه المجدد‬
‫السيد محمد حسين فضل الله‪ ،‬المركز اإلسالمي الثقافي‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان ‪.2011‬‬
‫ِّ‬
‫‪32‬‬
‫نقاشا بين علماء الفقه وأصوله حول قاعدة‬ ‫ثمة ً‬ ‫ثالثًا‪ :‬أشرنا إلى أنّ ّ‬
‫تتضمن‬
‫ّ‬ ‫«التسامح في أد ّلة السنن»‪ ،‬فلم يد ّققوا في األحاديث التي‬
‫كافيا لألخذ بها‪ ،‬وقد‬ ‫ٍ‬ ‫ثوا ًبا على ٍ‬
‫عمل ما‪ ،‬بل اعتبروا ورود حديث فيها ً‬
‫عن‪ ‬النبي ‪ P‬شيء‬
‫ّ‬ ‫استندوا في ذلك إلى أحاديث من قبيل‪« :‬من بلغه‬
‫قول‪ ‬النبي ‪ P‬كان له ذلك الثواب وإن‬ ‫ّ‬ ‫من الثواب ففعل ذلك طلب‬
‫كان‪ ‬النبي ‪ P‬لم يقله»(((‪ ،‬فهذا الحديث مع أنّه يجب تقييده بالفكرة‬‫ّ‬
‫ٍ‬
‫قدمناها‪ ،‬وهي عدم االنفكاك عن العمل‪ ،‬وبمعزل عن الجدل حول‬ ‫التي ّ‬
‫ما تفيده هذه القاعدة‪ ،‬فإنّ بعض األمور الواردة في مجال ثواب األعمال‬
‫والتوجه اإليماني نفسه‪،‬‬‫ّ‬ ‫التصور العقيدي‬
‫ّ‬ ‫مما يمكن أن ينعكس على‬ ‫ّ‬
‫وهو ما بدأنا نالحظه بسبب عدم الد ّقة في تطبيق المنهج الفقهي في‬
‫الصراع المذهبي‬ ‫ظل ازدياد منسوب ِّ‬ ‫وخصوصا في ّ‬
‫ً‬ ‫مثل هذه القضايا‪،‬‬
‫والسياسي‪ ،‬بحيث يلجأ البعض إلى بعض األحاديث التي تجعل ثواب‬
‫الحج(((‪،‬‬
‫ّ‬ ‫األئمة من أهل البيت ‪ R‬أفضل من‬ ‫زيارة لبعض أضرحة ّ‬
‫يفضلون شي ًئا على‬‫في الوقت الذي لم يكن أهل البيت ‪ R‬أنفسهم ّ‬
‫الحج!‬
‫ّ‬
‫علما‬
‫الغض عن النقاش السندي في ذاته لمثل هذه األحاديث‪ً ،‬‬
‫ّ‬ ‫ومع‬
‫أنّنا نفهم في توجيه أهل البيت ‪ R‬أنّ الزيارة ألضرحة األئمة ‪R‬‬
‫ّ‬
‫استراتيجية للحفاظ على اإلسالم الذي وضعه‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كخطة‬ ‫إنّما وجدت‬
‫ّ‬
‫الطغاة في خطر التشويه والتدمير الممنهج‪ ،‬وبالتالي كانت الزيارة‬
‫تكريس ًا للرمز الممثّل لإلسالم ـ وهو اإلمام ـ في وجدان الزائرين‬

‫(( ( وسائل الشيعة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،60‬ح‪.4‬‬


‫((( انظر الشيخ الكليني‪ ،‬الكافي‪ ،‬ج ‪ ،٤‬ص ‪.٥٨٠‬‬
‫‪33‬‬
‫الحية الممثّلة‪ ،‬وبقواعده‬
‫ّ‬ ‫ليستمر اإلسالم برموزه‬
‫ّ‬ ‫المؤمنين‪ ،‬وذلك‬
‫جليا ثاب ًتا‪ ،‬ومن هذه القواعد التي بني‬
‫واضحا ً‬
‫ً‬ ‫واألخالقية ك ّلها‬
‫ّ‬ ‫الشرعية‬
‫ّ‬
‫الحج‪ ،‬وتفصيل النقاش في مثل هذه المسألة في مح ّله‪ ،‬وإنّما‬ ‫ّ‬ ‫عليها‬
‫سيما أنّ‬ ‫أردنا اإلشارة إلى وعي تأثير بعض القضايا على ٍ‬
‫بعض‪ ،‬وال ّ‬
‫ا ّتساع رقعة وسائل التواصل االجتماعي وشبكة االنترنت التي نشر‬
‫المختصين‪ ،‬والتي‬
‫ّ‬ ‫كل شيء جعلت هذه القضايا في متناول غير‬ ‫عليها ّ‬
‫فرضت في بعض األحيان على بعض المختصين االنسياق وراء تبريرها‬
‫لمجرد موافقتها للمزاج الشعبي!‬
‫ّ‬
‫صحة‬ ‫رابعا‪ :‬بمعزل عن االنشغال بالتحقّق السندي للرواية‪ ،‬أي في ّ‬ ‫ً‬
‫عمن تُنسب إليه‪ ،‬فإنّها ال تنفع اإلنسان دون تحقُّ ق أث ٍر في‬ ‫صدورها ّ‬
‫الشخصية ينعكس على العمل وفق إرادة الله في أوامره ونواهيه‪ ،‬فإنّ‬
‫هذه األفعال ك ّلها هي وسائل لتطهير الذات‪ ،‬وإصالح السريرة‪ ،‬وزيادة‬
‫اإليمان‪ ،‬وهو ما أكّ دت عليه غير آية‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ق ْد َأ ْف َل َح‬
‫اها * َو َق ْد‬ ‫اس َم َر ِّب ِه َف َص َّلى﴾(((‪َ ﴿ ،‬ق ْد َأ ْف َل َح َمن زَ َّك َ‬ ‫َمن ت ََز َّكى * َو َذ َك َر ْ‬
‫اعتباره تأكيدً ا للقاعدة‬ ‫ُ‬ ‫اها﴾(((‪ ،‬وقد ورد في آية ما يمكن‬ ‫َخ َ‬
‫اب َمن َد َّس َ‬
‫وم َها َو َل ِد َماؤُ َها َو َل ِكن َي َنا ُل ُه ال َّتق َْوى‬ ‫في هذا المجال‪َ ﴿ :‬لن َي َن َ‬
‫ال ال َّل َه ُل ُح ُ‬
‫حيث شك ُلها فقط‪،‬‬ ‫الحج معتبرة من ُ‬ ‫ّ‬ ‫نك ْم﴾(((‪ ،‬فليست شعائر الله في‬ ‫ِم ُ‬
‫وإنّما من حيث أثرها في تحقيق خوف الله وتقواه في حركة العمل‪.‬‬
‫ار َة ا ْل َم ْس ِج ِد‬ ‫اج َو ِع َم َ‬‫﴿أ َج َع ْل ُت ْم ِس َقا َي َة ا ْل َح ِّ‬
‫وقال تعالى في آية أخرى‪َ :‬‬

‫(( ( سورة األعلى‪ ،‬اآليتان ‪ 14‬ـ ‪.15‬‬


‫(( ( سورة الشمس‪ ،‬اآلية ‪ 9‬ـ ‪.10‬‬
‫(( ( سورة الحج‪ ،‬اآلية ‪.37‬‬
‫‪34‬‬
‫يل ال ّل ِه َال َي ْس َت ُوونَ ِعندَ‬
‫اهدَ ِفي َسبِ ِ‬ ‫ا ْل َحرا ِم َك َم ْن آ َم َن بِال ّل ِه َوا ْليو ِم ِ‬
‫اآلخ ِر َو َج َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫ّ ِ (((‬
‫بالدين هي األساس‪ ،‬بل تكتسب‬ ‫الله﴾ ‪ ،‬فليست الطقوس المرتبطة ّ‬
‫تقرب منه إيمانًا وطاع ًة‪ .‬وقد ورد الحديث‬ ‫أهميتها عند الله بمقدار ما ّ‬ ‫ّ‬
‫أيضا بهذا المضمون‪« :‬إن الله تبارك وتعالى ال ينظر إلى‬ ‫النبي ‪ً P‬‬ ‫عن ّ‬
‫صوركم وال إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»(((‪.‬‬

‫((( سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.19‬‬


‫((( ‪  ‬أمالي‪ ‬الطوسي‪.1162 / 536 :‬‬
‫‪35‬‬
‫‪5‬‬
‫البخل بالسالم‬

‫إن أبخل الناس من بخل بالسالم(((‪.‬‬


‫ّ‬

‫أهم األمور‬
‫للسالم مضمونه العميق في حياة اإلنسان‪ ،‬وهو أحد ّ‬
‫التي جاءت بها الرساالت وبعثت من أجلها الرسل؛ وهذا ما نستوحيه‬
‫مبرر جعل اإلنسان‬ ‫آدم‪ ،‬حيث كان سؤال المالئكة عن ّ‬ ‫قصة َ‬ ‫ّأو ًل من ّ‬
‫خليفة‪َ ﴿ :‬قا ُلو ْا َأت َْج َع ُل ِف َيها َمن ُي ْف ِسدُ ِف َيها َو َي ْس ِف ُك الدِّ َماء﴾(((‪ ،‬فمراد‬
‫يتحرك اإلنسان ُليصلح في األرض ويحقن‬ ‫ّ‬ ‫الله تعالى من الخالفة أن‬
‫والرسل‪ ،‬وأنزلت‬ ‫ُ ِ‬
‫الدماء‪ ،‬كهدف استراتيجي أرسل من أجله األنبياء ّ‬
‫من أجله الكتب لتواكب مسيرة اإلنسان على األرض ّ‬
‫وتطور أوضاعه‬
‫بفعل حركة الزمن‪ ،‬وهذا ال يكون ّإل من خالل إشاعة السالم في كل‬
‫مجاالت الحياة وعالقات اإلنسان فيها‪.‬‬
‫اسم من أسماء الله الحسنى التي أمرنا أن‬
‫السالم ٌ‬ ‫ّ‬
‫ولعل وعي أنّ ّ‬
‫نتقرب بها إليه تعالى‪ ،‬يعطي‬
‫السبل التي ّ‬ ‫ندعوه بها‪ ،‬فتكون ً‬
‫سبيل من ُّ‬
‫متأصلة‪ ،‬تُكسب الوجود‬ ‫ّ‬ ‫وجودية‬
‫ّ‬ ‫للسالم معنى الثبات كحقيقة‬
‫َّ‬
‫((( أمالي المفيد‪ ،‬ص ‪.317‬‬
‫((( سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.30‬‬
‫‪36‬‬
‫خيارا ُيفرض على اإلنسان من‬
‫ً‬ ‫اإلنساني معناه‪ ،‬أكثر من كونها‬
‫خارجه بهدف تحقيق مصلحة االجتماع البشري فقط‪ ،‬وال ترتبط‬
‫بطبيعته اإلنسانية‪.‬‬

‫السالم طريقة حياة‬


‫ّ‬
‫تحدثت عن‬ ‫ثانيا ـ من اآليات التي ّ‬ ‫حركية هذا المفهوم ـ ً‬ ‫ّ‬ ‫ونستوحي‬
‫األخالقية لرفع النزاع‪ ،‬كقوله تعالى‪﴿ :‬ا ْد َف ْع بِا َّلتِي ِه َي َأ ْح َس ُن‬ ‫ّ‬ ‫اآلليات‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الس ِّي َئ َة﴾ ‪ ،‬وقوله تعالى‪﴿ :‬ا ْد َف ْع بِا َّلتي ه َي أ ْح َس ُن َفإِ َذا ا َّلذي َب ْي َن َك َو َب ْي َن ُه‬
‫(((‬
‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫﴿و ْل َي ْع ُفوا‬ ‫يم﴾ ‪ ،‬والعفو والتسامح كقوله تعالى‪َ :‬‬ ‫َعدَ َاو ٌة َكأ َّن ُه َول ٌّي َحم ٌ‬
‫(((‬

‫﴿و َأن ت َْع ُفو ْا‬ ‫َو ْل َي ْص َف ُحوا َأ َل ت ُِح ُّبونَ َأن َيغْ ِف َر ال َّل ُه َل ُك ْم﴾((( وقوله تعالى‪َ :‬‬
‫َأ ْق َر ُب لِل َّتق َْوى﴾(((‪ ،‬ولزوم الجنوح نحو السالم وقبوله عندما يعلن‬
‫اج َن ْح َل َها‬ ‫ِ‬
‫لس ْل ِم َف ْ‬‫﴿وإِن َج َن ُحو ْا ل َّ‬ ‫اآلخرون االلتزام به‪ ،‬وهو قوله تعالى‪َ :‬‬
‫َوت ََو َّك ْل َع َلى ال ّل ِه﴾(((‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫انجر الكالم إلى الحديث عن‬
‫ّ‬ ‫ومما ينبغي التأكيد عليه هنا‪ ،‬وقد‬
‫ّ‬
‫السالم كهدف استراتيجي‪ ،‬أمران‪:‬‬ ‫ّ‬

‫األول‪ :‬قاعدة السالم‬


‫ّ‬
‫الحق والعدل في الواقع‪ ،‬حيث ال يفيد‬
‫ّ‬ ‫إنّ ّ‬
‫السالم يبتني على تحديد‬

‫سورة المؤمنون‪ ،‬اآلية ‪.96‬‬ ‫((( ‬


‫سورة فصلت‪ ،‬اآلية ‪.34‬‬ ‫((( ‬
‫سورة النور‪ ،‬اآلية ‪.22‬‬ ‫((( ‬
‫سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.237‬‬ ‫(( (‬
‫سورة األنفال‪ ،‬اآلية ‪.61‬‬ ‫((( ‬
‫‪37‬‬
‫ً‬
‫مرتبطا بالظروف‬ ‫غالبا ما يكون‬ ‫سالم يقوم على الباطل ُّ‬
‫والظلم؛ ألنّه ً‬ ‫ٌ‬
‫مستمرا ما دامت تلك الظروف مؤاتية‬ ‫ًّ‬ ‫التي تفرضه‪ ،‬وتجعله بالتالي‬
‫الحق‬
‫ّ‬ ‫للسالم‪ .‬بينما ّ‬
‫يشكل إذعان اإلنسان الفرد أو المجتمع إلى قيم َتي‬
‫الذل إذا َقبِل بالسالم من موقع‬
‫أساسا للتخفيف من مشاعر ّ‬ ‫ً‬ ‫والعدل‪،‬‬
‫للحد من مشاعر الزهو إذا قبل به من موقع المنتصر‪،‬‬‫ّ‬ ‫المهزوم‪ ،‬وكذلك‬
‫السالم من الداخل‪،‬‬ ‫روحية ّ‬
‫ّ‬ ‫وبذلك ّ‬
‫يشكل الرابط اإليماني قاعدة لتفعيل‬
‫عبر ربطها بالله ومواقع رضاه‪..‬‬

‫الثاني‪ :‬ال سالم مع الظلم‬


‫الحرب التي ينطلق بها المؤمن‬ ‫ُ‬ ‫ض‬ ‫بناء على األمر األول‪ ،‬ال ِ‬
‫تناق ُ‬ ‫ّ‬
‫اش ال يشبع من سفك‬ ‫بط ٌ‬‫السالم التي تكمن في داخله‪ ،‬فليس هو ّ‬ ‫روحي َة ّ‬
‫ّ‬
‫الدماء‪ ،‬وال هو زاه يبحث عن وهم البطولة على جماجم األعداء‪ ،‬بل‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫بذهنية السالم‪ ،‬حيث ير ّد االعتداء بمثله ألنّه يريد أن يضع‬ ‫ّ‬ ‫هو ينطلق‬
‫حده‪ ،‬ويعيد إليه توازنه حيث يمثّل االعتداء حالة فقدان‬ ‫المعتدي عند ّ‬
‫السالم‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫حقيقية لتحقيق ّ‬ ‫ّ‬ ‫وعندئذ ينتهز المؤمنون أي فرصة‬ ‫للتوازن‪،‬‬
‫اج َن ْح َل َها‬ ‫ِ‬
‫﴿وإِن َج َن ُحو ْا ل َّ‬
‫لس ْل ِم َف ْ‬ ‫وهو ما نفهمه من قول الله تعالى‪َ :‬‬
‫َوت ََو َّك ْل َع َلى ال ّل ِه﴾‪.‬‬
‫العدو الصهيوني‬
‫ّ‬ ‫الصلح مع‬
‫وبنا ًء على ذلك‪ ،‬ال يعود للحديث عن ّ‬
‫أدبيات السالم الذي نؤمن به؛ ألنَّ صفة ُّ‬
‫الظلم مالزمة‬ ‫مكان في ّ‬ ‫ٌ‬
‫وتتحول إلى العدل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لالحتالل ألرض فلسطين‪ ،‬وما لم ت َُز ْل هذه الصفة‬
‫للسالم‪ ،‬وهو ما نجد قاعدته في مثل‬ ‫فإنّه ال مكان للحوار‪ ،‬وال موقع َّ‬
‫اب إِ َّل بِا َّلتِي ِه َي َأ ْح َس ُن إِ َّل ا َّل ِذ َ‬
‫ين‬ ‫اد ُلوا َأ ْه َل ا ْل ِك َت ِ‬
‫﴿و َل ت َُج ِ‬
‫قوله تعالى‪َ :‬‬

‫‪38‬‬
‫السالم مع هؤالء‬
‫أي حديث عن ّ‬ ‫َظ َل ُموا ِم ْن ُه ْم﴾(((‪ ،‬األمر الذي يجعل ّ‬
‫للقوة وموازينها‪،‬‬
‫لتبعية مبدأ العدل ّ‬
‫وتكريسا ّ‬
‫ً‬ ‫للحق‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تشريعا للظلم مبدأ‬
‫ً‬
‫ال للمعايير الموضوعية التي ُيقاس بها الفعل هنا وهناك‪.‬‬

‫سالم ال ّلقاء‬
‫التحية‪ ،‬يهدف‬ ‫ّ‬ ‫للسالم في‬ ‫انطال ًقا من هذا ّ‬
‫الجو‪ ،‬فإنّ التزام اإلسالم َّ‬
‫وروحيته في الذهن‪ ،‬بحيث‬ ‫ّ‬ ‫إلى الربط بين ال ّلقاء وبين فكرة السالم‬
‫ٍ‬
‫وروحيتيهما؛‬
‫ّ‬ ‫أي لقاء بين اثنين مح ّف ًزا لهذا المعنى في ّ‬
‫ذهنيتيهما‬ ‫يكون ّ‬
‫فإذا كانت هناك عداوة سابقة على ذلك اللقاء‪ ،‬كان ذكر السالم مح ّف ًزا‬
‫السالم‬ ‫تنافر في العالقات كان ّ‬ ‫ثمة ٌ‬ ‫لتخفيف مشاعر العداوة‪ ،‬وإذا كان ّ‬
‫الحق تبارك‬ ‫ّ‬ ‫باعثًا على إعادة ال ُّلحمة‪ ،‬وبالتالي البحث ّ‬
‫عما يريده‬
‫الذهنية‬ ‫ٍ‬
‫موقف جديد يرتكز إلى تلك‬ ‫وعما يقتضيه العدل من‬
‫ّ‬ ‫وتعالى‪ّ ،‬‬
‫والروحية‪.‬‬
‫ّ‬
‫األجر منه كما ورد عن اإلمام‬
‫ُ‬ ‫وألنّ السالم ٌ‬
‫أمر من الله تعالى‪ ،‬وعليه‬
‫تسع وس ّتون للمبتدئ‪ ،‬وواحدة‬‫الحسين ‪« :Q‬السالم سبعون حسن ًة‪ٌ ،‬‬
‫السالم على الذي بيننا وبينه‬
‫فعشر» ‪ ،‬فلن يكون في َّ‬
‫(((‬
‫ٌ‬ ‫أحسن‬
‫َ‬ ‫للرا ّد‪ ،‬وإن‬
‫أي ُذ ٍّل‬
‫حق من الحقوق‪ ،‬لن يكون فيه ّ‬ ‫عداو ٌة أو شحناء أو ضغينة أو ّ‬
‫العزة أمام إلقاء‬
‫يسوله الشيطان لإلنسان‪ ،‬لكي يدفعه إلى أن تأخذه ّ‬‫قد ّ‬
‫التحية‪ ،‬والحقًا أمام إصالح ذات البين‪ ،‬أو الدفع بالتي هي أحسن‪ ،‬وما‬
‫ّ‬
‫مما أراده الله تعالى ً‬
‫سبيل إلشاعة الطمأنينة والسالم في حياة‬ ‫إلى ذلك ّ‬

‫((( سورة العنكبوت‪ ،‬اآلية ‪.46‬‬


‫(( ( العالمة المجلسي ‪ ،‬بحار األنوار‪ ،‬ج ‪ ٧٣‬ـ ص ‪.١١‬‬
‫‪39‬‬
‫«السالم لله»‪.‬‬
‫الناس‪ ،‬وهذا ما نفهمه من المثل الشّ ائع القائل‪َّ :‬‬

‫السالم‬
‫إفشاء ّ‬
‫السالم يبدأ من الداخل‪ ،‬فإذا استشعره اإلنسان حقيق ًة في نفسه‪ ،‬فإنّه‬
‫وحبا في نبرة الصوت ونظرات‬ ‫ً‬
‫انبساطا في تقاسيمه‪ًّ ،‬‬ ‫سيبدو على وجهه‬
‫ٍ‬
‫تواصل ُيمكن‬ ‫السالم نفسه ـ على بساطته ـ رسالة‬
‫ُ‬ ‫العينين‪ ..‬وبهذا يكون‬
‫مما كان‪.‬‬ ‫أن تعيد األمر إلى أحسن ّ‬
‫إزاء ذلك ك ّله‪ ،‬يكون األجدر باإلنسان أن يفشي السالم ال أن يبخل‬
‫به‪ ،‬وحيث إنّ السالم ال يك ّلف اإلنسان غير كلمة‪ ،‬فإنَّ عدم إلقاء السالم‬
‫بخل على ّ‬
‫الذات‪،‬‬ ‫على اآلخرين يمثّل أبخل البخل؛ وهذا في الحقيقة ٌ‬
‫﴿و َمن َي ْب َخ ْل َفإِن ََّما َي ْب َخ ُل َعن َّن ْف ِس ِه﴾(((؛ ألنّ الله عندما‬
‫كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫عامة‪ ،‬فإنّ ت َْر َك ُه يمثّل حرمانًا للنفس‬ ‫ذاتية أو ّ‬ ‫يأمر بشيء لمصلحة ّ‬
‫وللمجتمع من الحصول على تلك المصلحة‪.‬‬
‫تحيـة‬ ‫بد في نهاية الحديث هنا من التأكيد على أنّ لكل ّ‬ ‫وال ّ‬
‫وصـل الدائـرة بينهما‪ ،‬كما أشـار إلى ذلك قول‬ ‫ِ‬ ‫بـد مـن‬ ‫طر َفين‪ ،‬وال ّ‬
‫﴿وإِ َذا ُح ِّي ْي ُتم بِ َت ِح َّي ٍة َف َح ُّيو ْا بِ َأ ْح َس َن ِم ْن َها َأ ْو ُر ُّد َ‬
‫وها إِ َّن ال ّل َه‬ ‫الله تعالى‪َ :‬‬
‫ُ‬
‫استجابة‬ ‫التحية هو‬‫ّ‬ ‫َكانَ َع َلى ُك ِّل َش ْي ٍء َح ِسيب ًا﴾(((‪ .‬إنّ الر ّد هنا بمثل‬
‫ولكن الر ّد باألحسن هو التعبير‬ ‫ّ‬ ‫التحية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫خي ٍر لرسالة الو ّد التي تختزنها‬
‫التحية الملقاة فحسب‪ ،‬وإنّما‬
‫ّ‬ ‫الحي ال عن االنفعال اإليجابي بمضمون‬
‫ّ‬
‫عن مبادرة مستأنَفة في زيادة منسوب الو ّد‪ ،‬وعن إرادة للخير للطرف‬

‫(( ( سورة محمد‪ ،‬اآلية ‪.38‬‬


‫((( سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.86‬‬
‫‪40‬‬
‫الملقي للتحية‪ ،‬مما يجعل الر ّد باألحسن استجابة ومبادرة في ٍ‬
‫آن‪ ،‬تزيد‬ ‫ّ ّ‬
‫والسالم‪.‬‬
‫التحية ّ‬
‫ّ‬ ‫من منسوب التفاعل اإليجابي بين طر َفي‬
‫التحية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫التأمل هنا كيف أنّ وصل ّ‬
‫الدائرة‪ ،‬وذلك بر ّد‬ ‫ربما يحسن بنا ّ‬ ‫ّ‬
‫يدخل في نطاق اإللزام الشّ رعي؛ ألنّ في ذلك المصلحة الملزمة التي‬
‫أي اعتبار‪.‬‬ ‫لم َ‬
‫يرض الله تعالى بتفويتها تحت ّ‬

‫التحايا المستوردة‬
‫الهام أن نُشير إلى الخطأ الذي يقع فيه‬
‫ّ‬ ‫تبقى نقطة‪ ،‬وهي أنّ من‬
‫تحية اإلسالم‪ ،‬وهي قول (السالم‬
‫المؤمنون عندما يشعرون بالحرج من ّ‬
‫أجنبية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عربية أو‬
‫عليكم)‪ ،‬ولذلك يستبدلون بها غيرها من تحايا ّ‬
‫طبعا هذا األمر يفرضه التقهقر الثقافي والحضاري الذي تقع فيه‬ ‫ً‬
‫يدفعها إلى ال ّنظر إلى نفسها نظرة توهين واستخفاف‬ ‫المجتمعات‪ ،‬ما ُ‬
‫حد جلد ّ‬
‫الذات‬ ‫وبعضها ُ‬
‫يصل إلى ّ‬ ‫ُ‬ ‫وتصف حالها بالتخ ّلف‪،‬‬
‫ُ‬ ‫بما عندها‬
‫المتقدم في ّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬ ‫وإسقاطها أمام نظرتها إلى اآلخر الذي تراه في الموقع‬
‫ما عنده! عند هذه اللحظة تفقد المجتمعات ثقتها بنفسها‪ ،‬وتصبح‬
‫يمارس ُه األفراد في‬
‫ُ‬ ‫التحية المستوردة هي أحد أوجه التعويض الذي‬ ‫ّ‬
‫تبعا للواقع الذي‬ ‫تلك المجتمعات تجاه نظرتهم السلبية إلى أنفسهم ً‬
‫يرزحون تحته‪.‬‬
‫التحية اإلسالمية من تركيز لثقافتنا‬
‫ّ‬ ‫هذا إضاف ًة إلى ما ّ‬
‫يفوته علينا ترك‬
‫فضل عن‬‫وجه نحوها اإلسالم‪ً ،‬‬ ‫التي نعيش فيها المعاني السامية التي ّ‬
‫للسالم في نفوسنا‬
‫حاجة العالقات إلى إثارة ذلك المعنى الجميل ّ‬

‫‪41‬‬
‫حد ذاته يمثّل النقص الحقيقي لنا‬
‫عند لقائنا مع اآلخرين‪ ،‬وهذا في ّ‬
‫ولمجتمعاتنا وثقافتنا‪.‬‬

‫بل قد نستطيع القول إنّ المعنى الجميل الذي تختزنه ّ‬


‫تحية اإلسالم‬
‫وربما وجدنا‬
‫تحيتهم وليس العكس! ّ‬
‫بد أن يصل إلى اآلخرين ليكون ّ‬ ‫ال ّ‬
‫أصر المسلمون ـ وال‬
‫بعضا من هذا التأثير في اآلخرين‪ ،‬وذلك عندما َّ‬‫ً‬
‫الحب الذي‬
‫ّ‬ ‫تحيتهم‪ ،‬مقرونة بالكثير من‬
‫سيما في المغتربات ـ على ّ‬
‫التحية التي يحملها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫روحية‬
‫ّ‬ ‫يبذله المسلم لآلخر انطال ًقا من‬

‫‪42‬‬
‫‪6‬‬
‫أحسن اإليمان‬

‫أحسن الناس إيمانًا أحسنهم ُخ ُل ًقا وألطفهم بأهله‪،‬‬


‫وأنا ألطفكم بأهلي(((‪.‬‬

‫إنسان بتمام االستدالل العقلي أو النقلي((( على‬ ‫ٍ‬ ‫يتم إيمان‬


‫ال ّ‬
‫العقيدة‪ ،‬بحيث تمثّل بالنسبة إليه القناعة الراسخة حسب موازين‬
‫داخلية‬
‫ّ‬ ‫حية‪ ،‬وطاقة‬ ‫وجدانية ّ‬
‫ّ‬ ‫يتحول اإليمان إلى حالة‬
‫ّ‬ ‫العقل‪ ،‬بل بأن‬
‫محركة لإلنسان‪ُ ،‬فيصبح التوحيد ـ على سبيل المثال ـ قناع ًة في العقل‪،‬‬
‫ّ‬
‫تقشعر منه الجلود‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫وخشوعا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ونبضا في اإلحساس‪،‬‬
‫وعفويا‬
‫ًّ‬ ‫تلقائيا‬
‫ًّ‬ ‫تحول اإليمان إلى هذا المستوى‪ ،‬ا ّتجه اإلنسان‬
‫فإذا ّ‬
‫نحو تجسيده في حياته وسلوكه؛ فإذا حضر الله في وجدانه‪ ،‬حضر أمام‬
‫موقف يريد أن يقفه‪ ،‬سواء ا ّتصل‬‫ٍ‬ ‫كل‬ ‫ٍ‬
‫كلمة يريد أن يطلقها‪ ،‬وأمام ّ‬ ‫ّ‬
‫كل‬
‫بنفسه أو بعالقاته باآلخرين‪.‬‬

‫وحيث أمر الله تعالى بحسن الخلق‪ ،‬فإنّ اإليمان سيتج ّلى ًّ‬
‫حبا‬

‫(( ( الصدوق‪ ،‬عيون األخبار الرضا‪ ،Q‬ج ‪ ،١‬ص‪.٤١‬‬


‫((( االســتدالل النقلــي هــو الــذي يعتمــد النصــوص القرآنيــة أو الحديثيــة‪ ،‬فــي مــوازاة‬
‫االســتدالل العقلــي الــذي يعتمــد البرهنــة مــن خــال قواعــد عقليــة‪.‬‬
‫‪43‬‬
‫العملية‪ ،‬فإذا قال‬
‫ّ‬ ‫وتوج ًها نحو امتثالها في الحياة‬
‫ّ‬ ‫بمحاسن األخالق‪،‬‬
‫للناس ُحس ًنا حمد الله واستزاد منه‪ ،‬وإذا سبق لسانُه بالسوء ـ بفعل‬
‫وتاب وعزم على التغيير نحو ما يريد‬
‫َ‬ ‫العادة أو التربية ـ تذكّ ر فاستغفر‪،‬‬
‫الله سبحانه من طهارة اللسان‪.‬‬
‫تحث اإلنسان على أن‬ ‫دائما‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫يتحول اإليمان إلى شعلة م ّتقدة ً‬
‫ّ‬ ‫بذلك‬
‫يحبه الله‪ ،‬وحركة‬
‫وتوجه نفسه ره ًنا بما ّ‬
‫ّ‬ ‫يجعل إرادته صدً ى إلرادة الله‪،‬‬
‫يتحول اإليمان‬
‫وأما إذا لم ّ‬
‫وحث عليه‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫عالقاته استنا ًدا إلى ما شرعه الله‬
‫خواص‬
‫ّ‬ ‫خاص ّية من‬
‫إلى حركة في العمل‪ ،‬وإلى ميزة في السلوك‪ ،‬وإلى ّ‬
‫نقص في اإليمان‪ ،‬بالمعنى الذي أسلفناه؛‬ ‫النفس‪ ،‬فإنّ ذلك يكشف عن ٍ‬
‫وبالتالي يحتاج من اإلنسان أن يعمل على إيجاده أو تفعيله‪ .‬وسيحرص‬
‫على أن يرضي الله في أقواله وأفعاله‪ ،‬وفي حركاته وسكناته‪ ،‬في حياته‬
‫واالجتماعية‪ ،‬وسائر أوضاعه وحاالته‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الفردية‬
‫ّ‬

‫الخ ُلق سلوك ًا؟‬


‫يتحول ُ‬
‫َّ‬ ‫كيف‬
‫األهمية‪ ،‬وهو أنّ وعي‬
‫ّ‬ ‫ويبدو لزا ًما علينا التنبيه على أم ٍر غاية في‬
‫بد‬
‫عملي‪ ،‬بل ال ّ‬ ‫ٍ‬
‫سلوك‬ ‫يتحول إلى‬
‫ّ‬ ‫كافيا لكي ّ‬ ‫ضرورة حسن الخلق ليس ً‬
‫أول ما‬
‫تتحول الفكرة إلى سلوك‪ ،‬والتي ترتكز ّ‬
‫ّ‬ ‫اآلليات كي‬
‫من اعتماد ّ‬
‫ترتكز على المعرفة‪.‬‬
‫إنّ معرفة ما هو السلوك األخالقي أمر يحتاج إلى الكثير من الد ّقـة؛‬
‫ألنّ الموضوع ال يرتبط بالحالة المثالية التي تجعـل اإلنسان ـ ً‬
‫مثل ـ‬
‫دائما في تعامله مع اآلخرين‪ ،‬وفي الظروف واألوضاع ك ّلها‪،‬‬ ‫متسامحا ً‬
‫ً‬
‫العدو في حال شهره سالحه ليقتله‪ ،‬أو‬ ‫ّ‬ ‫بحيث يمارسه اإلنسان مع‬
‫ّ‬
‫ليحتل أرضه‪.‬‬
‫‪44‬‬
‫أخالقيا أو ال ليس شكله‬
‫ً‬ ‫إنّ الرؤية التي يرتكز عليها اعتبار ّ‬
‫السلوك‬
‫يتحدد السلوك األخالقي وفق مبدأ‪ ،‬وهو‬ ‫أو صورته الخارجية فقط‪ ،‬بل َّ‬
‫أن ُيلغي اإلنسان من دوافعه أي اعتبار من اعتبارات الذات ونوازعها‪،‬‬
‫تشف أو من تنفيس ٍ‬
‫غيظ أو التعبير عن‬ ‫ٍّ‬ ‫صادرا من‬ ‫فال يكون الموقف‬
‫ً‬
‫دائما من مصلحة اآلخر؛ فإذا كانت مصلحته‬ ‫األنا‪ ،‬بل هو ينطلق ً‬
‫موقعا لآلخر‬
‫تقتضي العفو‪ ،‬فالعفو هو الفعل األخالقي‪ ،‬وإذا كان العفو ً‬
‫في التمادي واالستمرار في اإلضرار والخطأ‪ ،‬فالعفو ال يكون موق ًفا‬
‫أخالقية في االقتصاص منه‪ ،‬كما ال‬
‫ّ‬ ‫ثمة مشكلة‬‫أخالقيا‪ ،‬وال يكون ّ‬
‫ً‬
‫العدو وقتاله‪ ،‬وهو ما روي عن‬
‫ّ‬ ‫يتمثّل الموقف األخالقي في مقاومة‬
‫حق من‬ ‫«وأما ُّ‬
‫علي بن الحسين ‪ Q‬ـ في رسالة الحقوق ـ ‪ّ :‬‬ ‫اإلمام ّ‬
‫انتصرت»(((‪.‬‬
‫َ‬ ‫رأيت أنّ العفو عنه ّ‬
‫يضره‬ ‫تعفو عنه‪ ،‬فإذا َ‬
‫سا َءك فأن َ‬
‫تحدثنا به سابقًا عن عدم المنافاة‬
‫وهنا نستطيع ـ بالمنطق ذاته الذي ّ‬
‫السالم وبين الحرب ـ أن نقول إنّه ال تنافي بين الموقف‬ ‫بين روحية ّ‬
‫األخالقي وبين االنتصار واالقتصاص من اآلخر‪ ،‬من حيث إنّه يمثّل‬
‫ّ‬
‫عما ُيصلح حاله‪،‬‬
‫الحب الذي يبحث لآلخر ّ‬ ‫ُّ‬ ‫موضوعية يفرضها‬
‫ّ‬ ‫حال ًة‬
‫نابعا من اإلحساس باآلخر ودراسة ظروفه‪ ،‬وهذه‬ ‫ُ‬
‫الموقف ً‬ ‫فيكون‬
‫الروحية هي التي تقوم على أساسها فلسفة األخالق‪.‬‬
‫ثمة منطقًا تعمل لتسويقه بعض‬ ‫استنا ًدا إلى ذلك نشير إلى أنّ ّ‬
‫«أخالقي» يقوم به المسلمون‬ ‫ٍ‬
‫لموقف‬ ‫أساسا‬ ‫والدول‪ ،‬ليكون‬
‫الجهات ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫تجاه األعداء الذين احت ّلوا أرضهم‪ ،‬أو الذين ال ّ‬
‫ينفكون يمارسون‬
‫الظلم لحاضرهم ومستقبلهم‪ ،‬مستندين في ذلك إلى بعض ما روي‬
‫السيد محسن األمين‪ ،‬أعيان الشيعة‪ ،‬ج ‪ ،١‬ص ‪.٦٤٣‬‬
‫ِّ‬ ‫(( (‬
‫‪45‬‬
‫خطيبا في المسلمين في مرضه الذي توفّي‬ ‫ً‬ ‫النبي ‪ P‬أنّه وقف‬ ‫ّ‬ ‫عن‬
‫محمد َم ْظ َل َم ٌة إ ّ‬ ‫ِ‬
‫فليقتص منه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ال قام‬ ‫رجل منكم كانت له ق َب َل ّ‬ ‫ٍ‬ ‫«أي‬
‫به‪ّ :‬‬
‫إلي من القصاص في دار اآلخرة‪ ...‬فقام‬ ‫أحب ّ‬ ‫الدنيا ّ‬ ‫فالقصاص في دار ّ‬
‫َ‬
‫رسول‬ ‫وأمي يا‬ ‫فداك أبي ّ‬ ‫َ‬ ‫رجل يقال له سوادة بن قيس‪ ،‬فقال له‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫إليه‬
‫الطائف استقبل ُتك وأنت على ناقتك العضباء‪،‬‬ ‫أقبلت من ّ‬ ‫َ‬ ‫لما‬‫الله‪ ،‬إنّك ّ‬
‫القضيب الممشوق‪ ،‬فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وبيدك‬
‫النبي ‪ :P‬معاذ الله أن‬ ‫فأصاب بطني‪ ،‬فال أدري عمدً ا أو خطأ! فقال ّ‬
‫بي ‪ P‬من بالل أن يأتيه بالقضيب ذاته من‬ ‫ثم طلب ال ّن ّ‬ ‫دت‪ّ ،‬‬ ‫تعم ُ‬‫أكون ّ‬
‫فاقتص م ّني ح ّتى‬ ‫ّ‬ ‫ثم أعطاه للرجل وقال له‪َ :‬‬
‫تعال‬ ‫‪ّ ،‬‬
‫منزل فاطمة ‪O‬‬

‫ترضى‪ ،‬فقال الرجل‪ :‬فاكشف لي عن بطنك يا رسول الله‪ ،‬ففعل ‪،P‬‬


‫وأمي يا رسول الله! أتأذن لي أن أضع فمي على‬ ‫فقال الرجل‪ :‬بأبي أنت ّ‬
‫فأذن له ال ّنبي ‪ ،P‬فقال الرجل‪ :‬أعوذ بموضع القصاص من‬ ‫بطنك؟ َ‬
‫النبي ‪ :P‬يا سوادة بن‬ ‫من ال ّنار يوم ال ّنار‪ ،‬فقال ّ‬
‫بطن رسول الله ‪P‬‬ ‫ِ‬
‫النبي ‪:P‬‬ ‫قيس‪ ،‬أتعفو أم تقتص؟ فقال‪ :‬بل أعفو يا رسول الله! فقال ّ‬
‫محمد»(((‪ ،‬حيث‬ ‫ّ‬ ‫نبيك‬ ‫اعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن ّ‬ ‫اللهم ُ‬ ‫ّ‬
‫األذية واإلساءة‬ ‫ّ‬ ‫يستهوي البعض أن يأخذ منها قاعدة‪ ،‬وهي أن تبادل‬
‫من اآلخرين بقُ بلة أو بوردة! وهذا المبدأ صحيح‪ ،‬بالرغم من عدم‬
‫النبي ‪،P‬‬ ‫ّ‬ ‫اقتص من‬
‫ّ‬ ‫أخالقيا لو‬
‫ً‬ ‫قبولنا هنا أن يكون موقف سوادة‬
‫بي ‪ P‬بالدرجة األولى‪ ،‬وإن كان حقًّا له على‬ ‫لخصوصية ال ّن ّ‬
‫ّ‬ ‫وذلك‬
‫أخالقي بالمعنى‬ ‫ّ‬ ‫الفرض؛ فإنّ كونه حقًّا له ال يعني أنّ االقتصاص غير‬
‫أخالقيا بالمعنى الخاص‪ ،‬وذلك من حيث إنّه ال‬ ‫ً‬ ‫العام‪ ،‬ولك ّنه ليس‬ ‫ّ‬

‫((( ابن شهر آشوب ‪ ،‬مناقب آل أبي طالب‪ ،‬ج ‪ ،١‬ص ‪.٢٠٢‬‬
‫‪46‬‬
‫أي مع ًنى للبذل أو العطاء الذي يعكس مرتبة عالية من االتجاه‬ ‫يحقّق ّ‬
‫فضل عن أن نقول إنَّ االقتصاص إذا كان‬‫النفسي والروحي لإلنسان‪ً ،‬‬
‫سلبية تجاه اآلخر‪ ،‬كأن يمتلئ قلبه بالعداوة والكراهية‪،‬‬
‫نابعا من حالة ّ‬ ‫ً‬
‫أخالقي بطبيعة الحال‪.‬‬
‫ّ‬ ‫سلبي ال‬
‫ّ‬ ‫فهنا نكون أمام مع ًنى‬
‫األخالقية‬
‫ّ‬ ‫إنّ الحديث عن كون األخذ بالحقوق ال ينافي الحالة‬
‫انعكاسا لحالة روحية ونفسية‬
‫ً‬ ‫إنّما يثبت في حالة ال يكون ذلك األخذ‬
‫حق‪ّ .‬أما‬ ‫معقّدة تجاه اآلخر‪ ،‬ويكون بالتالي مجرد ٍ‬
‫أخذ لما لإلنسان من ّ‬ ‫ّ‬
‫داخلي يجب أن يأخذ مكانه ليعتدل‬
‫ّ‬ ‫إصالح‬
‫ٌ‬ ‫عندما يكون كذلك‪ ،‬فهناك‬
‫الموقف‪.‬‬

‫األخالق إشعاع ذاتي‬


‫الحق واألخالق‪ ،‬بقدر‬
‫ّ‬ ‫ال نريد هنا الغوص في جد ّلية العالقة بين‬
‫نتحدث عنه هو مرتبة من التعبير األخالقي‬ ‫ّ‬ ‫ما نريد اإلشارة إلى أنّ ما‬
‫روحي تحتضن اآلخر من جهة‪ ،‬وتنطلق في‬ ‫ّ‬ ‫الذي يعكس حالة ارتقاء‬
‫يتحرك من موقع اإلشعاع‬‫ّ‬ ‫ر ّدات فعلها من ذلك‪ ،‬بما يمثّل حالة عطاء‬
‫الذاتي كمبدأ في حركة الذات مع المواقف واألحداث واألشخاص‪،‬‬
‫حبها لآلخر‪ ،‬حيث‬‫وإنّما تُحجم عن العطاء ـ حيث تحجم ـ انطال ًقا من ّ‬
‫الحب في بعض الحاالت من العطاء‪ ،‬ال ألنّها تعيش البخل‬ ‫ّ‬ ‫يمنعها هذا‬
‫الذاتي‪ ،‬بل ألنّ مصلحة اآلخر تقتضي المنع‪ ،‬تما ًما كما يحصل في‬
‫حاالت التربية التي تمنع اآلخر شي ًئا لتدفعه إلى نوع من التفاعل الذي‬
‫بروحية‬
‫ّ‬ ‫فعل سيئ ال يكون إال بالمنع‪ ،‬أو بأن تجعله يرتقي‬‫يرتدع به عن ٍ‬
‫بذهنية يفرضها ذلك التفاعل‪ ،‬ويفسدها العطاء‪.‬‬‫ّ‬ ‫أو بسلوك أو‬

‫‪47‬‬
‫متعددة‪ ،‬كالكرم والجود والتضحية‬‫ّ‬ ‫ً‬
‫أشكال‬ ‫هذا العطاء قد يأخذ‬
‫األخالقية‪ ،‬التي تستند‬
‫ّ‬ ‫والمساعدة والصدقة والحلم وغيرها من القيم‬
‫أساسيين‪:‬‬
‫ّ‬ ‫إلى أمرين‬
‫أ ـ ثبات روحية العطاء لدى اإلنسان‪ ،‬لتكون كالشّ مس التي تشرق‬
‫كل ٍ‬
‫أرض‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫مكان‪ ،‬والمطر الذي ينزل على ّ‬ ‫على ّ‬
‫كل‬
‫تبعا لما تفرضه مواقف الحياة‪،‬‬
‫ب ـ التفاوت في طبيعة العطاء ً‬
‫يحجم ليكون المنع‬
‫ُ‬ ‫إيثارا‪ ،‬وبعضها‬
‫حيث بعضها يزيد‪ ،‬ليكون ً‬
‫أمورا غائبة في النفس أو في‬
‫يعزز ً‬‫نوعا من العطاء الذي ّ‬
‫نفسه ً‬
‫ُ‬
‫السلوك‪.‬‬

‫خطوتان في البناء األخالقي‬


‫قائما على‬
‫للشخصية ً‬
‫ّ‬ ‫انطال ًقا من هذين‪ ،‬يصبح البناء األخالقي‬
‫أساسيتين‪:‬‬
‫ّ‬ ‫خطوتين‬
‫ذاتيا‪ ،‬بمعنى أن تتم التربية‬
‫األخالقية ً‬
‫ّ‬ ‫أو ًل‪ :‬تعزيز حضور المبادئ‬
‫ّ‬
‫تتوجه إليه‪ ،‬وال إلى‬
‫على المبادئ األخالقية التي ال تنظر إلى ما ومن ّ‬
‫األول لإلنسان عندما‬
‫المتنوعة‪ ،‬ح ّتى يصبح الحافز ّ‬
‫ّ‬ ‫الحاالت والمواقف‬
‫األولية التي‬ ‫األخالقية‬ ‫ٍ‬
‫موقف من اآلخرين هو القيمة‬ ‫أي واقعٍ أو‬
‫يواجه ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫عفوي؛ للعفو واإلحسان‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تعبر عن نفسها بشكل‬
‫ّ‬
‫ساذجا في البداية؛‬
‫ً‬ ‫ٍ‬
‫حاجة إلى هذا الحضور‪ ،‬الذي قد يبدو‬ ‫ونحن في‬
‫ألنّنا نعلم أنّ النفس ّأمارة بالسوء انطال ًقا من أنّ الذات مفطورة على‬
‫االنتصار لألنا‪ ،‬ولذلك تحقّق التربية على القيمة األخالقية بشكل شبه‬

‫‪48‬‬
‫تلقائيا إلى‬
‫ً‬ ‫متطر ًفا إليها‪ ،‬في الوقت الذي ّ‬
‫تنشد فيه النفس‬ ‫مطلق انشدا ًدا ّ‬
‫ٌ‬
‫متوازن تجاه القيمة األخالقية من‬ ‫االنتصار لذاتها‪ ،‬وبذلك يتحقّق ٌ‬
‫ميل‬
‫يمهد الطريق‬
‫شد الحبل وهذا ما ّ‬ ‫دون نفيٍ لالنتصار ّ‬
‫للذات‪ ،‬يشبه لعبة ّ‬
‫للخطوة الثانية‪.‬‬
‫يتم تدريب اإلنسان على تحليل الحاالت التي يواجهها‪،‬‬ ‫ثانيا‪ّ :‬‬
‫ً‬
‫ليحدد الخيار األفضل في ر ّد الفعل‪ ،‬وذلك وفق مصلحة اآلخر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وذلك‬
‫التجرد‪ ،‬والتي ُي ّتكأ فيها على الخطوة‬
‫ّ‬ ‫وهذه النقطة تحتاج إلى الكثير من‬
‫نفسه مشدود ًة إلى العفو ً‬
‫مثل‪ ،‬ح ّتى تكون‬ ‫األولى؛ ألنّها تفرض أن تبقى ُ‬
‫مصلحة اآلخر ال ذاته هي التي ت ّتجه به نحو االقتصاص‪ .‬فإذا أصبحت‬
‫تلك المصلحة من الوضوح بحيث فرضت على اإلنسان أن يأخذ بها‪،‬‬
‫مما تشتهيه‬
‫أخذ بها اإلنسان وهو يتم ّنى لو لم ُيدفع إلى ذلك؛ ألنّه ليس ّ‬
‫المضطر إلى جرح المريض‬ ‫ّ‬ ‫روحه‪ ،‬تما ًما كالطبيب‬
‫نفسه‪ ،‬وتطيب ُ‬ ‫ُ‬
‫الستخراج المرض‪.‬‬
‫التربوية ـ من أن يسارع اإلنسان‬
‫ّ‬ ‫العملية‬
‫ّ‬ ‫بد من الحذر ـ في‬ ‫وهنا ال ّ‬
‫ات الفعل التي ينتصر فيها لإلساءة‪ ،‬أو ُي ّبرر فيها‬ ‫إلى التبرير لذاته ر ّد ِ‬
‫ترك مساعدة اآلخرين؛ ألنّ هذا التبرير والمسارعة‬ ‫ُبخ َله عن العطاء أو َ‬
‫مما يجعل النفوس‬ ‫حكما في ذواتنا‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫غريزيا‬
‫ًّ‬ ‫يعزز األنا التي هي‬‫إليه ّ‬
‫ميال ًة إلى الطرف المقابل للقيمة األخالقية التي ال تهواها النفس لو‬ ‫ّ‬
‫تُركت على رسلها‪.‬‬
‫حب ذاته‪،‬‬
‫غريزيا على ّ‬
‫ًّ‬ ‫مفطورا‬
‫ً‬ ‫بتعبير آخر‪ ،‬عندما يكون اإلنسان‬
‫األخالقية قائمة على البذل لآلخر واستبطانه في اهتمام‬
‫ّ‬ ‫وتكون القيمة‬
‫الذات‪ ،‬فهذا يقتضي تعزيز البذل والعطاء‪ ،‬وهذا يستدعي أن يزيل‬
‫‪49‬‬
‫اإلنسان الموانع أمام ذلك‪ ،‬في حين أنّ التبرير للذات بخلها‪ ،‬وللنفس‬
‫األخالقية‪ ..‬إنّه الموقف الذي يحتاج‬
‫ّ‬ ‫ضد القيمة‬
‫يقوي ما هو ّ‬
‫أنانيتها‪ّ ،‬‬
‫إلى صراع الذات‪ ،‬وجهاد النفس‪ ،‬ال التبرير لها‪.‬‬
‫إنّ المطلوب هنا هو إثارة الطرف الذي يمارس التربية أو التوجيه‬
‫نوعا من الحوار غير المباشر‪ ،‬والذي يطرح‬ ‫الديني أو الروحي ً‬
‫الخيارات األخالقية في ر ّدات الفعل‪ ،‬انطال ًقا من أحاديث شريفة‪،‬‬
‫وصف مكارم األخالق‪« :‬تصل َم ْن َق َط َعك‪ ،‬وتعفو‬ ‫ِ‬ ‫من قبيل ما ورد في‬
‫عمن ظ َل َمك‪ ،‬وتعطي َمن َح َر َمك‪ ،(((»...‬لتكون اإلجابات من المتلقّين‬‫َّ‬
‫الطرف‬ ‫ٍ‬
‫بمثابة تأكيد أنّ ر ّدة الفعل باالنتصار للذات لم تكن إال ألجل ّ‬
‫التعرض‬
‫أمر يحتاج إلى الكثير من المواكبة عبر ّ‬ ‫اآلخر ومصلحته‪ ،‬وهو ٌ‬
‫يمر بها المتع ّلم أو التي تحصل أمامه بشكل‬
‫للمواقف واألحداث التي ّ‬
‫مما يندرج تحت عنوان التع ّلم العميق‪،‬‬ ‫العامة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫خاص أو في الحياة‬
‫يستغل الحدث ويربطه بالموقف األخالقي المناسب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الذي‬

‫(( ( الشيخ الكليني‪ ،‬الكافي‪ ،‬ج ‪ ، ٢‬ص ‪.١٠٧‬‬


‫‪50‬‬
‫‪7‬‬
‫شغل اهلل!‬
‫ِ‬ ‫التد ّخل في‬

‫ٌ‬
‫ويل للمتأ ّلين من أ ّمتي! الذين يقولون‪:‬‬
‫فالنٌ في الج َّنة‪ ،‬وفالنٌ في النار(((‪.‬‬

‫هذا السلوك الذي يشير إليه الحديث دخلت فيه الفرق والمذاهب‬
‫مر التاريخ‪ ،‬وحكمت على طريقته ال على األفراد‬ ‫اإلسالمية على ّ‬
‫ّ‬
‫فحسب‪ ،‬وإنّما على جماعات وفرق ومذاهب بأسرها‪ ،‬بحيث لم يكن‬
‫مذهب بإخراج المسلمين‬‫ٌ‬ ‫ثمة حرج من أن تقوم فرقة من المسلمين أو‬ ‫ّ‬
‫الباقين ك ّلهم من رحمة الله‪ ،‬وإثبات أنّهم داخلون ً‬
‫حتما في نار جه ّنم‪،‬‬
‫مستحقّون لغضب الله وعذابه‪.‬‬

‫هل الج ّنة باالحتكار؟!‬


‫الهامة التي تس ّلط الضوء على فلسفة‬
‫ّ‬ ‫وهنا نشير إلى بعض النقاط‬
‫هذا الحديث‪:‬‬
‫أو ًل‪ :‬الج ّنة والنار بيد الله سبحانه وتعالى‪ ،‬وهو ّ‬
‫المطلع على نوايا‬ ‫ّ‬

‫(( ( الم ّتقي الهندي‪ ،‬كنز األعمال‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪ ،559‬حديث ‪ .7902‬السيوطي‪ ،‬الجامع‬
‫الصغير‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪ ،719‬ح‪.9650‬‬
‫‪51‬‬
‫يعاقب‬
‫ُ‬ ‫الحجة عليهم‪ ،‬والله تعالى ال‬ ‫ّ‬ ‫عباده وظروفهم ومقدار ما تقوم‬
‫الحق‬
‫ّ‬ ‫الحجة عليه‪ ،‬أي أن يعرف اإلنسان‬ ‫ّ‬ ‫اإلنسان ّإل بمقدار ما تقوم‬
‫ثم يجحده‪ ،‬وهذا ما ورد في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َما ُك َّنا ُم َع ِّذبِ َ‬
‫ين َح َّتى ن َْب َع َث‬ ‫ّ‬
‫ً (((‬
‫َر ُسوال﴾ ‪.‬‬
‫فعلية دخول النار؛‬
‫فرق بين استحقاق دخول النار وبين ّ‬ ‫ثانيا‪ :‬هناك ٌ‬‫ً‬
‫شخص مستحقًّا لدخول النار‪ ،‬وعفا الله تعالى عنه‪ ،‬لم يدخل‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫فإن كان‬
‫ٍ‬
‫فالن أو على‬ ‫حصرا‪ ،‬فمن أين يجزم اإلنسان على‬ ‫والعفو هو بيد الله‬
‫ً‬
‫جماعة أنّهم في النار؟!‬
‫وتتبع‬
‫الذهنية تجعل اإلنسان يستغرق في مراقبة الناس‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ثالثًا‪ :‬إنّ هذه‬
‫أمورهم وعثراتهم‪ ،‬وهذا خالف المنهج التربوي اإلسالمي الذي أراد‬
‫من اإلنسان أن ينشغل بعيوبه عن عيوب الناس؛ ألنّ عيوب اإلنسان قد‬
‫ترديه‪ ،‬وهي التي تحتاج منه إلى الجهد من أجل إصالحها‪ ،‬ليصلح حاله‬
‫عيبه عن‬
‫في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وقد ورد في الحديث‪« :‬طوبى لمن شغله ُ‬
‫عيوب الناس»(((‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬إنّ االستغراق المذكور قد يؤ ّدي ـ نتيجة تساهل اإلنسان ـ إلى‬
‫ً‬
‫الشخصيين‪ ،‬والهوى الذاتي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الحب والبغض‬‫ّ‬ ‫أن يصبح المعيار عنده‬
‫باب من أبواب‬
‫أحبه أدخله الج ّنة‪ ،‬وقد أبغضه أدخله النار‪ ،‬وهذا ٌ‬ ‫فمن َّ‬
‫العصبية المذمومة‪.‬‬
‫ّ‬
‫الذهنية إذا أصبحت حال ًة ّ‬
‫عامة‪ ،‬فإنّها تُفقد المجتمع‬ ‫ّ‬ ‫خامسا‪ :‬إنّ هذه‬
‫ً‬

‫(( ( سورة اإلسراء‪ ،‬اآلية ‪15‬‬


‫خطب اإلمام علي‪ ،Q‬نهج البالغة‪ ،‬ج ‪ ، ٢‬ص ‪.٩٦‬‬ ‫(( (‬
‫‪52‬‬
‫ثقته ببعضه البعض؛ ألنّ مسألة دخول النار تجعل اآلخرين في موقع‬
‫سخط الله‪ ،‬وفي موقع انعدام القيمة في الحياة‪ ،‬وعندما تفرض الحياة‬
‫يضطر لمواجهته بالقبول الظاهري‬
‫ّ‬ ‫على اإلنسان أن يتعامل معه‪ ،‬فإنّه‬
‫باب من أبواب النفاق‪.‬‬
‫حد ذاته ـ ٌ‬
‫الذي يخفي الرفض الداخلي‪ ،‬وهذا ـ في ّ‬

‫حديث «الفرقة الناجية»‬


‫ٍ‬
‫حديث اشتهرت روايته بين‬ ‫يبقى من الضروري هنا أن نقف عند‬
‫الفرق‪ ،‬وهو المروي عن رسول الله ‪« :P‬تفترق ّأمتي إحدى وسبعين‬
‫فرق ًة ك ّلها في ال ّنار إال فرقة واحدة»(((‪.‬‬
‫كل فرقة من المسلمين إلى تطبيق الفرقة الناجية عليها‪،‬‬ ‫وقد عمدت ّ‬
‫تام في مناحي العقيدة‬ ‫أو أن تعكس ذلك على إيجاد حالة انفصال ّ‬
‫والشريعة واألخالق‪ ،‬على قاعدة أنّ أهل الج ّنة وأهل النار ال يلتقيان‬
‫وال يختلطان‪ ،‬وال ينبغي ألهل الج ّنة أن يمارسوا عالقاتهم بنحو‬
‫يمنحون الشرعية ألهل ال ّنار‪.‬‬
‫عدة على هذا الحديث‪:‬‬
‫نسجل مالحظات ّ‬
‫ولنا أن ّ‬
‫أو ًل‪ :‬المعنى الظاهر للحديث مخالف للقرآن‪ ،‬باعتبار أنّ مسألة‬ ‫ّ‬
‫فردية‪ .‬قال تعالى‪:‬‬
‫الحسـاب‪ ،‬وبالتالي الثـواب والعقـاب‪ ،‬هي مسألة ّ‬
‫يه َي ْو َم ا ْل ِق َيا َم ِة َف ْرد ًا﴾(((‪ ،‬وأنّ األساس الذي ُيجزى به العبد‬
‫﴿و ُك ُّل ُهم آتِ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫الحق الذي يعتقد به‪ ،‬كما أشرنا إلى‬
‫ّ‬ ‫هو عمله‪ ،‬والذي ينبغي أن يوافق‬
‫المبرر الموضوعي‬‫ّ‬ ‫ذلك في ما سبق‪ .‬وعليه فيمكن أن نتساءل‪ :‬ما هو‬

‫(( ( العالمة المجلسي‪ ،‬بحار األنوار‪ ،‬ج ‪ ،٢٨‬ص ‪.٤‬‬


‫((( سورة مريم‪ ،‬اآلية ‪.95‬‬
‫‪53‬‬
‫بمجرد انتماء اإلنسان إلى جماعة معدودة‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫مرتبطا‬ ‫لجعل مصير اإلنسان‬
‫سل ًفا من أهل ال ّنار؟! هذا األمر ال يمكن القبول به بمنطق القرآن‪.‬‬
‫ٌ‬
‫حديث ما القرآن الكريم فينبغي طرحه‪ًّ ،‬أيا كان مستوى‬ ‫خالف‬‫َ‬ ‫وإذا‬
‫أي‬‫صحة سنده؛ ألنّ القرآن الكريم هو المرجعية التي تُقاس عليها ّ‬ ‫ّ‬
‫الص ْد ِق‬
‫﴿جاء بِ ِّ‬
‫النبي ‪َ P‬‬ ‫ٍ‬
‫معرفة منسوبة إلى اإلسالم‪ ،‬على قاعدة أنّ‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬
‫َو َص َّد َق بِ ِه﴾((( وأنّ «ما خالف كتاب الله فهو زخرف»(((‪.‬‬
‫المتميز عن األخرى هو‬ ‫ّ‬ ‫كل جماعة بعنوانها‬ ‫يشكل ّ‬‫ثانيا‪ :‬أنّ ما ّ‬‫ً‬
‫والسلوكيات والمناهج التي تلتزم بها‪ ،‬فلنا هنا‬
‫ّ‬ ‫مجموعة األفكار والقيم‬
‫كل شيء‪ ،‬وإنّما‬ ‫أن نتساءل‪ :‬إذا كانت هذه الجماعات ال تختلف في ّ‬
‫ّ‬
‫األقل ـ وت ّتفق فيما بينها‪ ،‬أي‬ ‫األساسية ـ على‬
‫ّ‬ ‫تلتقي في بعض األفكار‬
‫هذه المعدودة من أهل النار وتلك المعتبرة من أهل الج ّنة‪ ،‬وبالتالي ال‬
‫بد أن ُيقال إنّ الحديث ال يمكن أخذه بظاهره‪ ،‬ألنّه يلزم أن تكون بعض‬ ‫ّ‬
‫منطقي!‬
‫ّ‬ ‫معا‪ ،‬وهذا غير‬ ‫األفكار الملتزم بها من أفكار أهل الج ّنة والنار ً‬
‫األساسية‪ ،‬أنّها من‬
‫ّ‬ ‫بد أن يكون المراد اإلشارة إلى بعض األفكار‬ ‫فال ّ‬
‫األفكار التي ينبغي االبتعاد عنها؛ ألنّها تؤدي إلى ال ّنار‪ ،‬وبعض األفكار‬
‫سببا في‬
‫التي يجب األخذ بها ألنّها تؤدي إلى الج ّنة‪ .‬فال يكون االنتماء ً‬
‫دخول الج ّنة أو النار‪ ،‬وإنّما االلتزام ببعض األفكار أو عدم االلتزام بها‪.‬‬
‫األول هنا على حاله؛ إذ ال عقاب على‬
‫ومع ذلك يبقى اإلشكال ّ‬
‫االلتزام إذا كان مورد قناعة لإلنسان كما أسلفنا‪ ،‬ألنّ العقاب ليس‬
‫الحجة على‬
‫ّ‬ ‫على خطأ الفكرة في الواقع‪ ،‬وإنّما على مخالفة ما تقوم به‬
‫(( ( سورة الزمر‪ ،‬اآلية ‪.33‬‬
‫((( محمد هادي اليوسفي‪ ،‬موسوعة التاريخ اإلسالمي‪ ،‬ج ‪ ١‬ــ ص ‪.56‬‬
‫‪54‬‬
‫اإلنسان‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬بالعودة إلى المالحظة األولى‪ ،‬يمكن للبعض أن ُيشكل علينا‬
‫بأنّه قد ورد في القرآن الكريم أنّ هناك حسا ًبا لألمم كما األفراد‪ .‬قال‬
‫﴿وت ََرى ُك َّل ُأ َّم ٍة َجاثِ َي ًة ُك ُّل ُأ َّم ٍة ت ُْد َعى إِ َلى ِك َتابِ َها ا ْل َي ْو َم ت ُْج َز ْونَ َما‬
‫تعالى‪َ :‬‬
‫تحاسب كما األفراد‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ُكن ُت ْم ت َْع َم ُلونَ ﴾(((‪ ،‬مما ُيشير إلى أنّ األمم‬
‫والجواب على ذلك أنّ هذا بلحاظ عمل األفراد مع بعضهم البعض‪،‬‬
‫المبرر‬
‫ّ‬ ‫فعل مجتمعٍ ‪ ،‬وآثار ًا تتجاوز آثار عمل الفرد‪ّ ،‬‬
‫مما يعطي‬ ‫بما ُي ْنتِج َ‬
‫لحساب الجماعة‪ ،‬إضاف ًة إلى حساب الفرد‪ ،‬وهو في األحوال ك ّلها‬
‫المجرد‬
‫ّ‬ ‫حساب على العمل‪ ،‬ال على االنتماء القائم على االعتقاد‬ ‫ٌ‬
‫تامة على الفرض‪ ،‬ولذلك ُختمت اآلية بقوله تعالى‪:‬‬ ‫الناشئ من قناعة ّ‬
‫﴿ا ْل َي ْو َم ت ُْج َز ْونَ َما ُكن ُت ْم ت َْع َم ُلونَ ﴾‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬اختالف صيغة حديث الفرقة الناجية‪ ،‬والتي يخرج ُ‬
‫بعضها‬ ‫ً‬
‫مانحا للشرعية لفرق دون أخرى ‪.‬‬
‫(((‬
‫بالحديث عن أن يكون ً‬

‫((( سورة الجاثية‪ ،‬اآلية ‪.28‬‬


‫((( راجع في هذا المقام ما كتبه الشيخ حسين الخشن في كتابه «هل الجنة للمسلمين‬
‫وحدهم»؟ إصدار المركز اإلسالمي الثقافي‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان ‪.2011‬‬
‫‪55‬‬
‫‪8‬‬
‫تعجيل الخير‬

‫يحب من الخي ِر ما ُي َّ‬


‫عجل(((‪.‬‬ ‫إن الله ُّ‬
‫ّ‬

‫فعل خي ٍر ما‪ .‬قد‬


‫تمر في حياتنا الكثير من الحاالت التي تتط ّلب م ّنا َ‬ ‫ّ‬
‫تنفيسا عن َكرب‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫سد شيء من حاجته‪ ،‬أو‬ ‫يكون تخفي ًفا َ‬
‫له ّم إنسان‪ ،‬أو َّ‬
‫ً‬
‫بمجرد االستماع إلى‬
‫ّ‬ ‫ربما يكون ذلك‬ ‫أو مساعدة له في أم ٍر ّ‬
‫يهمه‪ ،‬أو ّ‬
‫شعر ُه باألمان والطمأنينة‪ ،‬أو‬ ‫ٍ‬
‫بعض ما يريد نفثَه من صدره إلى أحد ُي ُ‬
‫ٍ‬
‫موقف وما إلى ذلك‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫لمشورة في رأي‪ ،‬أو نصيحة في‬
‫يخطر في بال الواحد م ّنا في كثير من األحيان القيام بعيادة‬ ‫وقد ُ‬
‫صديق‪ ،‬أو صلة رحم‪ ،‬أو سؤال عن حال ٍ‬
‫بعيد‪ ،‬أو غير‬ ‫ٍ‬ ‫مريض‪ ،‬أو زيارة‬
‫ذلك من األمور التي يستشعر اإلنسان للحظة أنّه يو ّد القيام بها‪.‬‬
‫مسؤولية ما‪ ،‬فيدور في تفكيره أن‬
‫ّ‬ ‫وقد يكون اإلنسان م ّنا في موقع‬
‫يعدل في أسلوب ر ّد ٍ‬
‫فعل‬ ‫يغير طريقة في أداء‪ ،‬أو ّ‬
‫يقوم بمبادرة ما‪ ،‬أو أن ّ‬
‫تجاه العاملين معه‪ ،‬وقد يخطر في باله أن يعمل على ّ‬
‫حل مشكلة ما لم‬
‫السابق‪..‬‬
‫يكن يعيرها اهتما ًما في ّ‬

‫((( الشيخ الكليني‪ ،‬الكافي‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪ ،142‬ح ‪.٤‬‬


‫‪56‬‬
‫مجاهدة النفس‬
‫كثيرا من األفكار المضا ّدة‬
‫ولكن ً‬ ‫ّ‬ ‫كثيرا ما يحصل ذلك ك ُّله وغيره‪،‬‬‫ً‬
‫ُ‬
‫ظروف اإلقدام‬ ‫تزدحم‪ ،‬وتبدأ حسابات السلب واإليجاب‪ ،‬وتتعقّد‬ ‫ُ‬
‫وتنزع ال ّنفس ـ بوحيٍ من غريزة الحرص‬ ‫ُ‬ ‫واإلحجام‪ ،‬فيطفو التر ّدد‪،‬‬
‫المتأصلة فيها ـ نحو التأجيل‪ ..‬وهكذا ُ‬
‫تخف ُت ّنية الفعل في ثنايا النفس‪.‬‬ ‫ّ‬
‫مرة في حياته أن يفتح عينيه لصالة الفجر‬ ‫يجرب الواحد م ّنا ّ‬
‫ألم ّ‬
‫يبرر لنفسه عدم‬ ‫ً‬
‫مثل‪ ،‬ثم ما يلبث أن تأتيه األفكار تلو األفكار‪ ،‬ح ّتى ّ‬
‫بحجة أنه سيرتاح ً‬
‫قليل ثم يستيقظ؛ مع أنّ النومة الثانية قد‬ ‫النهوض ولو ّ‬
‫الصالة في وقتها؟!‬‫تكون أصعب من األولى‪ ،‬وتفوتنا بذلك ّ‬
‫ٍ‬ ‫توجه نفسي نحو ٍ‬
‫هدف‬ ‫فعل ما تجاه‬ ‫ُيقال إنّ اإلنسان إذا كان لديه ّ‬
‫بد أن يتحرك خالل ٍ‬
‫ثوان قليلـة‪،‬‬ ‫من األهداف التي يسعى إليهـا‪ ،‬فال ّ‬
‫ّ‬
‫التوجه! وليس ذلك ألنّ الدماغ‬
‫ّ‬ ‫ضد هذا‬
‫الدماغ سيقوم بالعمل ّ‬ ‫وإال فإنّ ّ‬
‫الدماغ لمصلحة‬ ‫ضد اإلنسان‪ ،‬بل ذلك ناشئ من طبيعة عمل ّ‬ ‫يعمل ّ‬
‫يتحرك اإلنسان تجاه الفعل الذي دعته إليه نفسه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اإلنسان؛ فحيث لم‬
‫المبررات ك ّلها التي تبقيك على حالتك‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فإنّ الدماغ سيقوم بإعطائك‬
‫المبررات هي المخزون الذهني من األفكار‪ ،‬والتي لها مصادر‬ ‫ّ‬ ‫وهذه‬
‫متعددة‪ ،‬ومن ضمنها الظروف الموضوعية نفسها‪ .‬فعلى سبيل المثال‬ ‫ّ‬
‫فعال‬ ‫لدي ٌ‬
‫توق نفسي ّ‬ ‫ويتكون ّ‬
‫ّ‬ ‫بالتريض‪،‬‬
‫ّ‬ ‫قد يخطر في بالي أن أقوم‬
‫ولكن عدم الحركة مباشرة سيستدعي إلى الذهن التعب الذي‬ ‫ّ‬ ‫لذلك‪،‬‬
‫أولوية‬
‫ّ‬ ‫الذي قد أشعر به‪ ،‬أو وجود فعل يكتسب في تصنيفاتي الذهنية‬
‫النية‪ ،‬ويتوانى اإلنسان عن الفعل‪،‬‬
‫الهمة‪ ،‬وتفتر ّ‬
‫أكثر‪ ،‬وهكذا تضعف ّ‬
‫لينشغل في أمو ٍر أخرى‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫اهتموا بتهذيب النفس‬
‫ومما نقله لي بعض عن أحد العلماء الذين ّ‬ ‫ّ‬
‫بمجرد أن يفتح عينيه من النوم وقت صالة الليل أو‬
‫ّ‬ ‫وتزكيتها‪ ،‬أنّه كان‬
‫لئل يستسلم‬‫الفجر ال يتوانى عن أن ينفض عنه لحافه وينهض من فراشه‪ّ ،‬‬
‫مجد ًدا‪.‬‬ ‫ّ‬
‫للذة النوم فيدفعه التواني عن النهوض إلى االستغراق فيه ّ‬

‫كتوجه عام‬
‫ّ‬ ‫اإلحجام‬
‫لمرة‪ ،‬بل إنّ لهذا‬ ‫التراجع عن ٍ‬
‫فعل ما ّ‬ ‫ُ‬ ‫حد‬
‫تقف األمور عند ّ‬ ‫وال ُ‬
‫المتكرر عن فعل‬
‫ّ‬ ‫توجهات النفس‪ ،‬حيث إنّ اإلحجام‬ ‫تأثيرا على ّ‬
‫ال ّنوع ً‬
‫عام؛ ألنّ النفس‬
‫نفسي ّ‬
‫ّ‬ ‫توجه‬
‫يتحول إلى ّ‬ ‫ّ‬ ‫الخير والمبادرة إليه يمكن أن‬
‫ٍ‬
‫موقف‬ ‫أي‬ ‫ٍ‬
‫حينئذ إلى الخيارات التي يرسل العقل إشارات لها في ّ‬ ‫تضمه‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫مشابه‪ ..‬وفي المقابل يمكن إلشباع ّنية الخير عبر تكرار المبادرة إليه في‬‫ِ‬
‫ٍ‬
‫األول الذي تبعث‬‫موقف أن يح ّفز النفس لجعل فعل الخير هو الخيار ّ‬
‫ليتحرك نحوه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫به نفس اإلنسان‬
‫لع ّلنا نستطيع أن نفهم السبب في هذا التعجيل الذي يدفع نحوه‬
‫الحديث أعاله انطال ًقا من ذلك‪ ،‬بمعنى أن نحتال لفعل الخير‪ ،‬وال نترك‬
‫أنفسنا للكثير من الهواجس التي يثيرها الشيطان الذي يجري م ّنا مجرى‬
‫الدم في العروق‪ .‬كما نستطيع أن نفهم السبب في أنّ بعض الظروف قد‬ ‫ّ‬
‫تكون الفرصة فيها مؤاتية للفعل‪ ،‬فيكون ترك األمر والتواني في اإلقدام‬
‫تغير الظروف التي من الممكن أن تعيق الفعل نفسه‬ ‫سببا في ّ‬
‫على فعله‪ً ،‬‬
‫النية‪.‬‬
‫لو ثبت عليه اإلنسان‪ ،‬ولم تتزلزل نحوه ّ‬
‫ّ‬
‫يتجذر في‬ ‫ّ‬
‫ولعل من الممكن لنا هنا اإلشارة إلى أنّ الفساد الذي‬
‫غالبا نتيجة التقاعس عن أداء واجب المعارضة في‬ ‫حياة ال ّناس يكون ً‬
‫‪58‬‬
‫المهمة فيها التي يكون فيها الفاسدون‬
‫ّ‬ ‫اللحظات األولى والتي يكون أداء‬
‫ساعين إلى تثبيت وجودهم‪ ،‬ولذلك فإنّ عدم المبادرة إلى المعارضة‬
‫وتصر عليه‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫تعرف ماذا تريد أن تراه على أرض الواقع‪،‬‬ ‫الحقيقية‪ ،‬والتي‬
‫ّ‬
‫يؤ ّدي إلى تفويت الفرصة في تصويب المسار‪ ،‬والذي يبدو أنّه سيكون‬
‫ليل!‬ ‫شمس نها ٍر وسطع ُ‬
‫نجم ٍ‬ ‫ُ‬ ‫امتناعا على التصويب ك ّلما أفلت‬
‫ً‬ ‫أكثر‬
‫السحاب»(((!‬
‫مر ّ‬‫تمر ّ‬
‫ولذلك ورد في الحديث‪« :‬اغتنموا الفرص؛ فإنّها ّ‬

‫َأ ْخ ُذ ِ‬
‫الع َبر‬
‫توجهات النفس ونزوعها العفوي نحو فعل‬ ‫والذي يبدو في ال ّنهاية أنّ ّ‬
‫للشخصية بوحي القيم التي ُيدخلها اإلنسان‬
‫ّ‬ ‫طابعا‬
‫تتشكل لتكون ً‬ ‫الخير ّ‬
‫التوجهات‪ ،‬والتي‬
‫ّ‬ ‫أساسا لتلك‬
‫ً‬ ‫االعتقادية‪ ،‬ويجعلها بالتالي‬
‫ّ‬ ‫في منظومته‬
‫تحتك بفرص عمل الخير‬‫ّ‬ ‫صوت دا ٍع في داخل النفس عندما‬ ‫ٍ‬ ‫تتحول إلى‬
‫ّ‬
‫يخفت صوتَها من خالل الطريقة‬ ‫ُ‬ ‫يكرسها أو‬‫في حركة الحياة‪ ،‬ولك ّنه ّ‬
‫الداخلي؛ األمر الذي يفرض إيالء‬
‫الصوت ّ‬‫التي يتعامل فيها مع هذا ّ‬
‫وربما يتط ّلب‬ ‫ِ‬
‫أهمية في تشكيل الشخصية المبادرة‪ّ ،‬‬
‫العملية التربوية ّ‬
‫ّ‬
‫ذلك االلتفات إلى بعض الخطوات‪:‬‬
‫أو ًل‪ :‬عدم الوقوع في ّ‬
‫فخ طلب المثالية‪ ،‬وبالتالي الخوف من الوقوع‬ ‫ّ‬
‫في الخطأ عند المبادرة‪ .‬فإنّ هذا الخوف يدفع اإلنسان ال إلى ّ‬
‫مجرد‬
‫االحتياط أو التفكير في األخطاء المحتملة والمخاطر التي قد تحصل‪،‬‬
‫يتحول هذا إلى نوع من الهاجس الذي يشبه الوسواس الذي يبتعد‬‫ّ‬ ‫بل‬
‫والواقعية‪ .‬فالواقعية تفرض المبادرة‪ ،‬والخوف‬
‫ّ‬ ‫باإلنسان عن الواقع‬

‫(( ( علي بن محمد الليثي الواسطي‪ ،‬عيون الحكم والمواعظ‪ ،‬ص ‪.٨٩‬‬
‫‪59‬‬
‫أي خلل قد يطرأ خالل العمل‪ ،‬وذلك أولى من‬ ‫يفرض العمل إلصالح ّ‬
‫التر ّدد الذي يدفع اإلنسان إلى اإلحجام عن العمل قبل أن يبدأ‪ ،‬ويقتل‬
‫المبادرات قبل أن تجد لها مجا ً‬
‫ال في الواقع‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬تحفيز التوكّ ل على الله‪ ،‬بمعنى أن يقوم اإلنسان بما عليه ويترك‬
‫ً‬
‫ُّ‬
‫التحكم بها أو ضمن‬ ‫األمور األخرى التي ال تدخل ضمن قدرته على‬
‫النية من‬
‫معرفته بتركها لله تعالى لكي يحقّقها بإرادته عندما يرى صدق ّ‬
‫كثيرا ما ندع‬
‫عبده‪ ،‬أو بأن يوفّق اإلنسان إلى الهداية لها كذلك؛ ألنّنا ً‬
‫فعل ما بسبب شعورنا بأن ال شيء من جهدنا سينفع أمام‬ ‫المبادرة إلى ٍ‬
‫النتائج الكبيرة التي نتو ّقعها‪ ،‬والحال أنّ عملنا قد يكون ً‬
‫شرطا أو جز ًءا‬
‫من شروط أو أجزاء تحقّق النتائج عندما تتوافر لها الظروف أو شروط‬
‫وأجزاء أخرى يقوم بها مبادرون آخرون‪ .‬وقد ورد في الحديث أن على‬
‫فربما دخل بسببها الج ّنة(((‪.‬‬
‫اإلنسان أن ال يستصغر حسنة ّ‬
‫ثالثًا‪ :‬أخذ العبر من نتائج مبادرات اآلخرين التي ّ‬
‫يعجل فيها الخير‬
‫حافزا‬
‫ً‬ ‫في مجتمعنا أو في تاريخنا القريب أو البعيد‪ ،‬فإنّ تلك ّ‬
‫تشكل‬
‫لإلنسان نحو المبادرة‪.‬‬
‫الضائعة والتي يندم اإلنسان فيها على‬
‫التأمل في الفرص ّ‬ ‫رابعا‪ّ :‬‬‫ً‬
‫عدم مبادرته إلى ا ّتخاذ الموقف في اللحظة المناسبة‪ ،‬ما يجعل محاولة‬
‫اللحقة‪.‬‬‫التعويض غير ذي جدوى في ال ّلحظات ّ‬

‫(( ( انظر الحر العاملي‪ ،‬وسائل الشيعة (آل البيت)‪ ،‬ج ‪ ،١٥‬ص ‪.٣١٢‬‬
‫‪60‬‬
‫‪9‬‬
‫سلبيّتنا تفض ُحنا!‬

‫تتبع الله‬
‫تتبع عثرات أخيه ّ‬
‫فإن من ّ‬
‫ال تطلبوا عثرات المؤمنين؛ ّ‬
‫يفضحه ولو في جوف بيته(((‪.‬‬
‫ْ‬ ‫تتبع الله عثراتِه‬
‫عثراته‪ ،‬ومن ّ‬

‫السلبية التي ال ترى في اآلخرين ّإل نقائصهم‪ ،‬أو التي‬


‫ّ‬ ‫الشخصية‬
‫ّ‬
‫تتلذذ بالبحث عن عيوب اآلخرين وعثراتهم ّ‬
‫وزلتهم‪ ،‬قد تخفي داخلها‬ ‫ّ‬
‫نقصا تخاف أن يظهر لآلخرين‪ ،‬فتعمد إلى التغطية عليه عبر البحث عن‬‫ً‬
‫ذهنية تصرف جهدها في‬ ‫يدل على ّ‬‫مثل ذلك في اآلخرين‪ .‬هذا األمر ُّ‬
‫غير موضعه؛ ألنّ إصالح النفس هو المطلوب للدنيا واآلخرة‪ ،‬وبه‬
‫النجاح والفوز فيهما‪.‬‬

‫األيام دوائر‬
‫ّ‬
‫واستنا ًدا إلى ذلك‪ ،‬فإنّ من ّ‬
‫يتتبع عيوب اآلخرين ليظهر في مظهر‬
‫وشخصيته وزواياه‬
‫ّ‬ ‫الكامل أمام الناس‪ ،‬ال يلغي وجود العيوب في نفسه‬
‫التي يخفيها عن الناس‪ ،‬وفي ال ّناس من هم كذلك في سلوكهم تجاه‬

‫((( الشيخ الكليني‪ ،‬الكافي‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪ ،355‬ح ‪.٥‬‬


‫‪61‬‬
‫وفر‪ ،‬وظروف‬‫كر ٌّ‬‫عيوب اآلخرين‪ ،‬والحياة متق ّلبة بأهلها‪ ،‬والزمان ٌّ‬
‫تغيرت الظروف‪،‬‬ ‫متغيرة‪ ،‬وال يدري اإلنسان إذا ما ّ‬ ‫الناس وأحوالهم ّ‬
‫ظهر على عيبه‪ ،‬وأن‬‫سره‪ ،‬وأن ُي َ‬
‫لع على ّ‬ ‫وتبدلت األحوال‪ ،‬أن ُي َّط َ‬
‫ّ‬
‫ُيكشَ ف عن مكنونه الذي كان يحاذر أن ّ‬
‫تطلع عليه القلوب واألبصار!‬
‫علما أنّ اإلنسان‪ ،‬لكثرة ما يواجه اآلخرين بعيوبهم‪ ،‬قد يشي بنفسه‪،‬‬ ‫ً‬
‫ريب أن يقول‬
‫الم ُ‬
‫عما فيه‪ ،‬على قاعدة «يكاد ُ‬ ‫فيلفت الناس إلى البحث ّ‬
‫ُخذوني»(((‪.‬‬
‫بكل ثقة‪ ،‬وأن يحصي عيوبها‬ ‫فحري باإلنسان أن يواجه نفسه ّ‬ ‫ٌّ‬
‫خططا ينجز من خاللها نقلها من ٍ‬
‫نقص إلى‬ ‫ً‬ ‫ونقائصها‪ ،‬ويضع لذلك‬
‫الناس على‬ ‫يضره أن ّ‬
‫يطلع‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫كمال‪ ،‬وبذلك يكسب اإلنسان نفسه‪ ،‬وال ّ‬
‫زلت‪ ،‬أو مارسه من‬ ‫سابق عهده‪ ،‬أو سالف حاله في ما وقع به من ّ‬
‫غير ما هو عليه‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ومعاص؛ ألنّه قد ّ‬ ‫أخطاء‪ ،‬أو انزلق إليه من ذنوب‬
‫وكسب ـ إضافة إلى ذلك ـ ثقة بنفسه تمنع اآلخرين من إسقاطه من‬
‫تتبع عثراته التي تجاوزها‪ ،‬على طريقة ما يقوم به الناس من‬ ‫خالل ّ‬
‫استمرار نبش الماضي‪ ،‬والتذكير بأخطائه‪ ،‬دونما النظر إلى الحاضر وما‬
‫حمله من تغيير‪.‬‬
‫ّ‬
‫وجل‪،‬‬ ‫ينبغي على اإلنسان أن يعلم أنّ األمور ومقاليدها بيد الله ّ‬
‫عز‬
‫إلهيا أرساه الله تعالى في حركة‬
‫وما يشير إليه الحديث قد يكون قانونًا ًّ‬
‫البشر‪ ،‬وقد يكون من خالل تعجيل العقاب في الدنيا على ٍ‬
‫عمل‪ ،‬لكي‬
‫نفسه بعيدً ا عن الله‪،‬‬
‫يكون ذلك ذكرى وعبر ًة لإلنسان عندما تذهب به ُ‬
‫وليحذر من مواقع سخطه‪ ،‬فيدفعه ذلك إلى التوازن‪ ،‬على هدى قول‬
‫(( ( جورج جرداق‪ ،‬روائع نهج البالغة‪ ،‬ص ‪.٥٣‬‬
‫‪62‬‬
‫﴿أ َخ ْذنَا َأ ْه َل َها بِا ْل َب ْأ َساء َو َّ‬
‫الض َّراء َل َع َّل ُه ْم َي َّض َّر ُعونَ ﴾(((‪ ،‬الذي‬ ‫الله تعالى‪َ :‬‬
‫يجعل البالء وسيلة من وسائل إعادة التوازن إلى اإلنسان‪.‬‬

‫خطوات عملية‬
‫عدة قد تساهم‬
‫ربما يحسن بنا الوقوف عند أمور ّ‬
‫وفي نهاية المطاف‪ّ ،‬‬
‫يطلع على عيوب اآلخرين‪:‬‬‫في تذكير الواحد م ّنا بما يلزمه عندما ّ‬

‫أو ًل‪ :‬أن أحاور نفسي‪:‬‬


‫ّ‬
‫أعيب عليه‪ ،‬فماذا أفعل؟‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫مكان الذي‬ ‫كنت‬
‫لو ُ‬
‫عيبا وساهمت‬
‫ما هي الظروف التي أحاطت بالشخص الذي أرى فيه ً‬
‫في بروز العيب في أخالقه‪ ،‬أو في سلوكه؟‬
‫الخطة التي ّ‬
‫أفكر فيها لكي أزيل هذا العيب إذا كان في‬ ‫ّ‬ ‫ما هي‬
‫ّ‬
‫الخطة النظرية إلى‬ ‫شخصيتي أو سلوكي؟ وكيف يمكن تحويل هذه‬ ‫ّ‬
‫تدريبية‪ ،‬على اعتبار أنّ إزالة العيوب وإصالح الذات‬
‫ّ‬ ‫عملية‬
‫ّ‬ ‫ممارسة‬
‫عملية سهلة‪ ،‬بل هي مسار صعب يتط َّلب الكثير من الجهد‬ ‫ّ‬ ‫ليست‬
‫والصبر؟‬
‫ّ‬
‫إنّ هذا اللون من التفكير ينفع في معرفة اإلجراءات التي يجب‬
‫العيب موجو ًدا عندي فيصبح‬
‫ُ‬ ‫القيام بها للتخ ّلص من العيوب‪ ،‬فإذا كان‬
‫الصالح‪.‬‬
‫واضحا لي ما هو الجهد الذي يجب بذله في اتجاه تغييره نحو ّ‬
‫ً‬
‫ثم يتركها تأخذ‬ ‫ٍ‬
‫يتتبع عيوبهم ليصفها‪ّ ،‬‬
‫وهذا ينقل الجهد من جهد ّ‬
‫يحدد ما الذي يجب فعله على أرض الواقع لتغييرها‪،‬‬ ‫مداها‪ ،‬إلى ٍ‬
‫جهد ّ‬

‫((( سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪.94‬‬


‫‪63‬‬
‫ويحول الحديث عنها‬‫ّ‬ ‫التغير فيها‪،‬‬
‫تتبع مدى ّ‬
‫تتبعها إلى ّ‬
‫وبالتالي ينقل ّ‬
‫إلى الحديث عن صورة الصالح المطلوب في مقابل العيب‪ .‬وبذلك‬
‫الفعلية إلى‬
‫ّ‬ ‫سببا في هدايتهم‬ ‫يكون ّ‬
‫اطالع اإلنسان على عيوب اآلخرين ً‬
‫اإلصالح‪.‬‬
‫بتجرد؛‬
‫سلبية من اآلخرين حاول أن أرصد أفعالي ّ‬ ‫ثانيا‪ :‬عندما أرى ّ‬
‫ً‬
‫إيجابياته‪ .‬وقد ورد‬
‫ّ‬ ‫ألنّ الواحد م ّنا عندما يندمج مع ذاته ال يعود يرى إال‬
‫في الحديث‪« :‬كفـاك أد ًبا لنفسـك اجتنـاب ما تكرهـه من غـيرك»(((‪.‬‬
‫قد يكون رصدي للسلبيات لدى اآلخرين فرصة إلصالح شيء مشابه‬
‫في نفسي قد ال أكون ملتف ًتا إليه‪ ،‬نتيجة استغراقي في الحياة بعيد ًا عن‬
‫ذاتي‪.‬‬

‫ثالثًا‪ :‬أن أعتني بالحدود ك ّلها التي جعلها الله ً‬


‫سببا في منع االسترسال‬
‫التجسس‪ ،‬فال أسعى إلى ّ‬
‫االطالع‬ ‫ُّ‬ ‫تتبع عيوب اآلخرين‪ ،‬والتي ّأولها‬
‫في ّ‬
‫على العيوب‪ ،‬وثانيها الغيبة التي هي إفشاء تلك العيوب وتثبيتها على‬
‫االطالع عليها‪ ،‬فال أعمل على نقل صورتها إلى اآلخرين‪ ،‬بل‬ ‫فرض ّ‬
‫أحاول إصالحها في َمن وجدت فيه‪ ،‬وبذلك أثبت لنفسي اإلخالص‬
‫في إرادة اإلصالح‪ ،‬خالف ًا للطريقة الغالبة على سلوكنا‪ ،‬حيث إذا ما‬
‫غالبا بأنّنا نريد اإلصالح!‬
‫تذرعنا ً‬ ‫أحدهم على الغيبة ّ‬
‫عا َبنا ُ‬
‫رابعا‪ :‬ال ينبغي أن يغيب عن البال السؤال المحوري التالي‪ :‬هل‬ ‫ً‬
‫تصورت ُُه‬
‫ّ‬ ‫عيبا حقيقة وإنّما‬
‫يمكن أنْ يكون ما رمي ُت ُه به وأثب ُّته له ليس ً‬
‫تسرع في حكمي‪ ،‬أو استنا ًدا إلى‬
‫نقص في رؤيتي‪ ،‬أو ّ‬ ‫كذلك انطال ًقا من ٍ‬

‫((( ابن أبي الحديد‪ ،‬شرح نهج البالغة‪ ،‬ج ‪ ،٢٠‬ص ‪.٤٩‬‬
‫‪64‬‬
‫ٍ‬
‫وعندئذ‬ ‫عيبا في الوقت الذي ال يراه الله كذلك‪،‬‬
‫اجتماعية تراه ً‬
‫ّ‬ ‫منظومة‬
‫تتبعي َخلقًا لوقائع أو ا ّدعا ًء لها‪ ،‬ويكون حديثي عنها ُبهتانًا ال‬
‫يكون ّ‬
‫إثبات‬
‫ُ‬ ‫غيبة؛ ألنّ الغيبة ذكر اآلخرين بعيوبهم الموجودة‪ ،‬بينما البهتان‬
‫ما ليس فيهم!‬

‫‪65‬‬
‫‪10‬‬
‫خيانة المجلس‬

‫سر أخيك خيانة‪ ،‬فاجتنب ذلك(((‪.‬‬


‫المجالس باألمانة‪ ،‬وإفشاء ّ‬

‫األساسية في اإلسالم قيمة األمانة‪ ،‬ح ّتى ُع ِّبر عن خالفة‬ ‫من ِ‬


‫الق َيم‬
‫ّ‬
‫اإلنسان على األرض بأنّها «أمانة»(((‪.‬‬
‫المسؤولية التي تجعل اإلنسان‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ولعل قيمة األمانة تنبع من مفهوم‬
‫ٌ‬
‫مسؤول عن نفسه‪ .‬وهذا ما‬ ‫بمسؤوليته عن اآلخرين كما هو‬
‫ّ‬ ‫يشعر‬
‫يجعله يتعامل مع األمانة كما لو كانت ً‬
‫ملكا له؛ بل أكثر من ذلك‪.‬‬

‫السمع والبصر‬
‫أمانة ّ‬
‫وقيمة األمانة ال تقتصر على حفظ الجوانب الما ّد ّية‪ ،‬كالودائع المالية‬
‫خصوصيات‬
‫ّ‬ ‫التي يستودعها اإلنسان لدى اإلنسان؛ ألنّها تنطلق من احترام‬
‫يطلع اإلنسان عليه‬ ‫اآلخرين‪ ،‬ولذلك فهي تشمل أسرار اإلنسان‪ ،‬وما ّ‬
‫الحشرية في‬
‫ّ‬ ‫بطريقة وأخرى‪ .‬والله سبحانه أراد لإلنسان أن ال يعيش‬

‫((( الوافي‪ ،‬الفيض الكاشاني‪ ،‬ج ‪ ،٢٦‬ص ‪.١٩٨‬‬


‫َ‬
‫ال َفأ َب ْي َن َأن‬
‫ض َوا ْل ِج َب ِ‬ ‫ات َو ْ َ‬
‫او ِ‬ ‫َْ‬
‫ال ْر ِ‬ ‫(( ( وذلك قوله تعالى‪﴿ :‬إِنَّا َع َر ْض َنا ال َما َن َة َع َلى َّ‬
‫الس َم َ‬
‫نسانُ إِ َّن ُه َكانَ َظ ُلوم ًا َج ُهو ًال﴾[األحزاب ‪]72 :‬‬ ‫َي ْح ِم ْل َن َها َو َأشْ َفق َْن ِم ْن َها َو َح َم َل َها ْ ِ‬
‫ال َ‬
‫‪66‬‬
‫التجسس‪ ،‬كما أراده أن ال يفشي ما ّ‬
‫يطلع‬ ‫ُّ‬ ‫حرم‬
‫تتبع عيوب الناس‪ ،‬ولذلك ّ‬‫ّ‬
‫اآلخر بعيوبه المستورة‪.‬‬
‫َ‬ ‫فحرم الغيبة‪ ،‬وهي أن يذكر اإلنسان‬
‫عليه‪ّ ،‬‬
‫خصوصية المجالس‪ ،‬في أنّ المجالس‬ ‫ّ‬ ‫أهمية الحفاظ على‬‫وتبرز ّ‬
‫ليبث‬
‫مالئما ّ‬
‫ً‬ ‫الخاصة منها‪ ،‬قد تكون ظر ًفا‬ ‫ّ‬ ‫سيما المجالس‬‫عمو ًما‪ ،‬وال ّ‬
‫اإلنسان بعض آرائه أو أفكاره أو يفشي بعض أسراره‪ ،‬أو بعض عاداته‪،‬‬
‫الخاصة‪ ،‬فيشعر كما لو‬
‫ّ‬ ‫انطال ًقا من أنّ اإلنسان قد يسترسل في الظروف‬
‫ٍ‬
‫حسابات في ضبط أقواله وأفعاله‪،‬‬ ‫وتغيب عنه ألجل ذلك ّأية‬
‫ُ‬ ‫أنّه وحده‪،‬‬
‫آنية ين ّفس فيها عن عقدة أو‬ ‫ٍ‬ ‫أو تتح َّفز بعض ّ‬
‫زلته الناشئة من حالة ضعف ّ‬
‫إمكانية تق ّلبات الناس في المستقبل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عن انفعال‪ ،‬أو ال يأخذ بالحسبان‬
‫يطلعون عليه من أسرار ال ّناس‪ ،‬من شعورهم‬ ‫مما ّ‬
‫يتغير موقفهم ّ‬
‫بحيث ّ‬
‫بلزوم حفظها إلى عدم المباالة في إفشائها‪ ،‬انطال ًقا من النوازع السلبية‬
‫تحب إلى ما تكره‪.‬‬ ‫مما ّ‬ ‫للنفس عندما تنتقل ّ‬
‫وبذلك كان التوجيه اإلسالمي أن يشعر اإلنسان المسلم بأنّ ما يكون‬
‫المطلعين على ما جرى‬ ‫الخاص يمثّل أمان ًة في عنق ّ‬
‫ّ‬ ‫في ضمن المجلس‬
‫فيه‪ ،‬وبالتالي قد ال يرضى اإلنسان بأن ينقل السامعون أو ّ‬
‫المطلعون ما‬
‫سمعوه ّ‬
‫واطلعوا عليه إلى خارج إطار المجلس؛ ألنّ العالقة التي تربطه‬
‫غير العالقة التي تربطه بالعالم الخارجي‪ ،‬التي قد‬
‫باألشخاص ضمنه ُ‬
‫يكون لديه تجاهها حسابات واحتياطات أخرى‪.‬‬

‫اجتماعية‬
‫ّ‬ ‫ثغرات‬
‫جراء المشاكل‬
‫ومما ينبغي لفت النظر إليه هو ما نعانيه في مجتمعاتنا ّ‬
‫ّ‬
‫في العالقات‪ ،‬والتي منها‪:‬‬
‫‪67‬‬
‫أو ًل‪ :‬المشاكل التي تحدث بين الزوجين‪ ،‬حيث يستبيح ٌّ‬
‫كل منهما‪،‬‬ ‫ّ‬
‫أحدهما‪ ،‬أو َمن حو َلهما أسرار أحدهما أو كليهما‪ ،‬وهي األسرار‬ ‫أو ُ‬
‫ّ‬
‫ولعل‬ ‫المقربون‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التي ال ّ‬
‫يطلع عليها في كثير من األحيان ح ّتى األرحام‬
‫أهم المواقع وأخطرها التي‬‫هذا المجال‪ ،‬أعني المجال الزوجي‪ ،‬من ّ‬
‫يجب فيها حفظ اآلخر وأسراره‪ ،‬وخطورتها ال تكمن فقط في فقدان‬
‫الثّقة بالحياة الزوجية‪ ،‬وإنّما في انعكاساتها على األوالد ـ في حال‬
‫سلبيات الطريقة التي تُدار بها خالفات أهاليهم‬
‫وجودهم ـ الذين يجنون ّ‬
‫وفضحهم ألسرار بعضهم البعض‪.‬‬
‫يتحول اآلخر‬ ‫ّ‬ ‫حدثنا الله تعالى عن ضرورة أن ال‬‫وربما ألجل ذلك ّ‬ ‫ّ‬
‫الزوجية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫إيجابيات فيها عند الخالفات‬
‫ّ‬ ‫إلى صورة سلبية بالكامل ال‬
‫﴿و َال ت َ‬
‫َنس ُو ْا‬ ‫الطالق واالنفصال‪ ،‬فقال تعالى‪َ :‬‬ ‫أو إذا وصل األمر إلى ّ‬
‫بالطالق ال يعني زوال‬ ‫ا ْل َف ْض َل َب ْي َن ُك ْم﴾(((‪ ،‬فإنّ زوال العالقة الزوجية ّ‬
‫حد‬ ‫اإليمانية التي لها حقوق وواجبات في ّ‬ ‫ّ‬ ‫األخوة‬
‫ّ‬ ‫االحترام‪ ،‬أو انفصام‬
‫ذاتها‪ ،‬قبل الزواج وأثناءه وبعده‪.‬‬
‫اطالع اإلنسان بحكم وظيفته وعمله على أسرار العمل‬ ‫ثانيا‪ :‬إنّ ّ‬
‫ً‬
‫المتكرر بهم‪ ،‬أو في ما يرتبط بما يدور‬‫ّ‬ ‫والعاملين‪ ،‬نتيجة االحتكاك‬
‫ّ‬
‫الموظفين من‬ ‫في االجتماعات المغلقة‪ ،‬أو ما تشتمل عليه مل ّفات‬
‫خاصة‪ ،‬أو ما يتع ّلق بأوضاع المرضى في المستشفيات‬ ‫ّ‬ ‫معلومات‬
‫سيما في مجال العالج النفسي الذي يفتح المجال‬ ‫وخصوصياتهم‪ ،‬وال ّ‬
‫ّ‬
‫شخصية‬
‫ّ‬ ‫الخصوصيات في‬
‫ّ‬ ‫اطالع الطبيب أو المعالج على عمق‬ ‫على ّ‬
‫وغيره‪ ،‬ك ُّله يمثّل أمانة في عنق اإلنسان‪ ،‬ال‬
‫ُ‬ ‫من يعالجه ويتعامل معه‪،‬‬
‫(( ( سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.237‬‬
‫‪68‬‬
‫يحق له إفشاؤها آلخرين من دون إذن أصحابها‪.‬‬
‫ّ‬

‫ثالثًا‪ :‬في اآلونة األخيرة‪ ،‬ومع ّ‬


‫تطور تكنولوجيا اال ّتصال‪ ،‬أصبح‬
‫الكثيرون يعمدون إلى التقاط الكلمات والمواقف التي تحصل وراء‬
‫الخاصة‪ ،‬أو في الغرف المغلقة من دون‬
‫ّ‬ ‫الكواليس‪ ،‬أو في المجالس‬
‫معرفة أو التفات من اآلخرين‪ ،‬وهذا ك ّله ينطبق عليه الحديث الذي نحن‬
‫مما يجعل إفشاءها وتداولها خيانة ألمانة المجلس‪ ،‬بمعزل عن‬
‫بصدده‪ّ ،‬‬
‫سلبية أخرى على اإلفشاء‪.‬‬
‫انطباق عناوين ّ‬
‫األخالقية اإلسالمية القاعدة التي تحفظ للمجتمع‬
‫ّ‬ ‫وبهذا تمثّل‬
‫خصوصياتهم‪ ،‬وال تأخذهم ببعض نقاط ضعفهم‬
‫ّ‬ ‫أسراره‪ ،‬ولألشخاص‬
‫التي قد تجعلهم أكثر انكشا ًفا أمام جلسائه وأصدقائه ً‬
‫قياسا بغيرهم‪،‬‬
‫تتحول إلى قيود وأثقال على التفاعل‬
‫ّ‬ ‫عفويتها فال‬
‫ّ‬ ‫كما تحفظ للمجالس‬
‫المجرد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإلنساني‬
‫النبي‬
‫ِّ‬ ‫ولعل من التوجيهات المناسبة لهذا المقام ما ورد عن‬ ‫ّ‬
‫محمد‪« :P‬إذا تالقيتم فتالقوا بالتسليم والتصافح»؛ ألنّ ذلك‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫روحيتها للحظات اللقاء كلها‪ ،‬بحيث‬ ‫ّ‬ ‫محبة وو ٍّد تنطلق‬
‫يمثّل رسالة ّ‬
‫تفرقتم‬‫اإليجابية تجاه اآلخرين‪« ،‬وإذا ّ‬
‫ّ‬ ‫يساهم ذلك في تعزيز الروح‬
‫فتفرقوا باالستغفار»(((‪ ،‬بما يعنيه االستغفار من حالة تجاو ٍز عن‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫السلبيات الناجمة عن اللقاء‪ ،‬سواء كانت مرتبطة باالطالع على بعض‬ ‫ّ‬
‫خصوصيات اآلخرين‪ ،‬أو بما أفشاه اآلخرون أنفسهم لسبب وآلخر‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫اإلنسان‬ ‫ّ‬
‫لملف اللقاء تما ًما‪ ،‬فال يشعر‬ ‫طيا‬
‫بحيث يكون هذا التجاوز ًّ‬
‫بالحاجة إلى فتحه أمام اآلخرين‪.‬‬

‫((( الشيخ الطوسي‪ ،‬األمالي‪ ،‬ص ‪.٢١٥‬‬


‫‪69‬‬
‫‪11‬‬
‫اإليمان وجمال المظهر!‬

‫عبد ِه إذا َ‬
‫خرج إلى إخوانه‬ ‫إن الله تعالى يحب من ِ‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫ويتجمل(((‪.‬‬
‫َّ‬ ‫يتهيأ لهم‬
‫أن ّ‬

‫يوجهها‬ ‫ٌ‬
‫ورسالة ّ‬ ‫المظهر الخارجي هو عنوان اإلنسان االجتماعي‪،‬‬
‫جميل فالرسالة ستحمل معاني‬ ‫ً‬ ‫إلى الناظرين له؛ فإذا كان المظهر‬
‫الراحة ك ّلها للعين ولألحاسيس‪ ،‬وتُحقّق شي ًئا من االنجذاب إليه‪ّ ،‬‬
‫وأما‬
‫قبيحا‪ ،‬فالرسالة من شأنها أن تو ّلد ً‬
‫نفورا لدى اآلخرين‪،‬‬ ‫إذا كان المظهر ً‬
‫ٍ‬ ‫َ‬
‫يقدمه لل ّناس‪ ،‬من كالم أو‬
‫مما ّ‬ ‫وأ ْخ ُذ مسافة منه قد تنعكس على الكثير ّ‬
‫ّ‬
‫فيخف تأثيره‪ ،‬على اعتبار أنّ التأثير ينشأ ـ في نسبة كبيرة منه ـ‬ ‫موقف‪،‬‬
‫الحق فيه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مما هي موازين المضمون‬ ‫الحس وتفاعالته أكثر ّ‬
‫ّ‬ ‫من‬
‫وإذا كان اإلنسان يعيش اإليمان في قلبه‪ ،‬فإنّه بذلك يعيش معاني‬
‫اإللهي ك ّلها‪ ،‬وهذا ما يدفعه إلى أن يكون عمله‬
‫ّ‬ ‫الجمال الروحي والنور‬
‫انعكاسا لمعاني الجمال األخالقي‪ ،‬من القول الحسن‪،‬‬ ‫ً‬ ‫في الخارج‬
‫والعمل الصالح‪.‬‬

‫الحر العاملي‪ ،‬وسائل الشيعة (آل البيت)‪ ،‬ج ‪ ،5‬ص ‪ .11‬نقله عن الشيخ الحسن‬
‫ّ‬ ‫(( (‬
‫الطبرسي (ت‪ ،)٥٤٨‬مكارم األخالق‪ ،‬ص ‪.،٣٥‬‬
‫‪70‬‬
‫بد أن‬‫وفي االتجاه نفسه‪ ،‬وفيما يتع ّلق بالجانب الما ّدي الجسدي‪ ،‬ال ّ‬
‫يتجانس إحساس اإلنسان بجمال الله وجالله‪ ،‬على مظهره الخارجي‪،‬‬
‫وكأنّ الحديث الشريف يقول لإلنسان إنّ القبح في المظهر ال يتناسب‬
‫والعملية ك ّلها‪ ،‬وهذا ما يجعل‬
‫ّ‬ ‫وتجلياته الروحية‬
‫ّ‬ ‫مع اإليمان بأبعاده‬
‫وربما يشير إلى ذلك ما ورد عن‬‫التجمل في المظهر‪ ،‬جز ًءا من اإليمان‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫يحب النظافة‪ ،‬ويبغض البؤس والتباؤس» ‪،‬‬ ‫النبي ‪« :P‬إنّ الله نظيف ُّ‬
‫(((‬
‫ّ‬
‫وفي حديث آخر عنه ‪« :‬بئس العبدُ القاذورة» ‪.‬‬
‫(((‬ ‫‪P‬‬ ‫ٍ‬

‫التجمل رغم الفقر‬


‫ّ‬
‫والتهيؤ الحسن للناس‪ ،‬ال‬
‫ّ‬ ‫التجمل‬
‫ّ‬ ‫وينبغي لفت النظر هنا إلى أنّ‬
‫يتو ّقف على أن يكون اإلنسان في حالة من الغنى ُ‬
‫واليسر‪ ،‬فإنّ الفقير‬
‫روحية‬
‫ّ‬ ‫نسبي‪ ،‬وعندما ينطلق من‬
‫ٌّ‬ ‫أيضا؛ ألنّ الجمال‬
‫قادر على ذلك ً‬ ‫ٌ‬
‫تحب الجمال‪ ،‬فإنّ ذلك يبرز في الرسالة التي يعطيها المظهر المتواضع‬
‫ّ‬
‫الداخلية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والبسيط‪ ،‬انطال ًقا من التكامل بين المظهر الخارجي والروح‬
‫التجمل هو في الحقيقة مبدأ قرآني‪ ،‬وذلك قوله تعالى‪َ ﴿ :‬يا‬ ‫ُّ‬ ‫ومبدأ‬
‫َبنِي آ َد َم ُخ ُذو ْا ِزي َن َت ُك ْم ِعندَ ُك ِّل َم ْس ِج ٍد﴾(((‪ ،‬وقوله تعالى‪ُ ﴿ :‬ق ْل َم ْن َح َّر َم‬
‫ين آ َم ُنو ْا ِفي‬‫الرزْ ِق ُق ْل ِهي لِ َّل ِذ َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ ِِ‬ ‫ِ ِ َ‬
‫ِزي َن َة ال ّله ا َّلت َي أ ْخ َر َج لع َباده َوا ْل َّط ِّي َبات م َن ِّ‬
‫الدن َْيا َخالِ َص ًة َي ْو َم ا ْل ِق َيا َمة﴾(((‪.‬‬
‫ا ْل َح َي ِاة ُّ‬

‫الحر العاملي‪ ،‬وسائل الشيعة (آل البيت)‪ ،‬ج ‪ ،5‬ص ‪.٥‬‬


‫ّ‬ ‫((( ‬
‫الشيخ الكليني‪ ،‬الكافي‪ ،‬ج ‪ ،٦‬ص ‪.٤٣٩‬‬ ‫(( (‬
‫سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪.31‬‬ ‫((( ‬
‫سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪.32‬‬ ‫((( ‬
‫‪71‬‬
‫أفكار خاطئة‬
‫ولعل فكرة خاطئ ًة قد تزحف إلى المجتمع اإليماني‪ ،‬تربط بين‬ ‫ّ‬
‫الزهد في الدنيا وبين عدم االهتمام بالمظهر الخارجي‪ ،‬وبالتالي يرتبط‬
‫التجمل‪ ،‬على اعتبار أنّ االعتناء بالمظهر الخارجي ستعتبر‬
‫ُّ‬ ‫اإليمان بترك‬
‫ٍ‬
‫حينئذ نوع ًا من اإلقبال على الدنيا‪.‬‬
‫مبني على مفهوم خاطئ للزهد؛ ألنّ الزهد ليس هو ت َْر ُك‬
‫ولكن هذا ٌّ‬
‫ّ‬
‫التوجه النفسي إلى التوازن‬
‫ّ‬ ‫الدنيا واالنعزال عن ّ‬
‫لذاتها‪ ،‬بل هو نوع من‬
‫لذة أو الحرمان من شهوة‪.‬‬ ‫بين الدنيا واآلخرة‪ ،‬وإلى عدم األسى بفقدان ّ‬
‫بشكل عادي‪ ،‬ال‬ ‫ٍ‬ ‫التصرف مع الحياة‬
‫ّ‬ ‫إنَّ الزهد يدفع اإلنسان إلى‬
‫يبالغ فيه اإلنسان في السرور بما حصل عليها منها‪ ،‬وال في الحزن على‬
‫ما زوي عنه منها‪ .‬وهذا ما وردت اإلشارة إليه في بعض األحاديث‪:‬‬
‫«الزهد ك ّله بين كلمتين من القرآن؛ قال الله سبحانه‪﴿ :‬لِ َك ْي َل ت َْأ َس ْوا َع َلى‬
‫يأس على الماضي‪ ،‬ولم‬ ‫َاك ْم﴾ ‪ ،‬فمن لم َ‬
‫(((‬ ‫َما َفات َُك ْم َو َل َت ْف َر ُحوا بِ َما آت ُ‬
‫يفرح باآلتي‪ ،‬فقد أخذ الزهد بطرفيه»(((‪.‬‬
‫خصوصا ـ بين‬
‫ً‬ ‫التجمل الربط ـ لدى المرأة‬
‫ُّ‬ ‫وربما يساهم في ترك‬‫ّ‬
‫التجمل ومفهوم اإلثارة الغريزية‪ ،‬بحيث تتنازل المرأة عن المظهر‬ ‫ّ‬
‫سببا من أسباب اإلثارة‪ ،‬وبذلك يرتبط اإليمان نفسه‬ ‫الالئق باعتباره ً‬
‫عاما بأنّ‬
‫توجيها ًّ‬
‫ً‬ ‫ولعل هذا الحديث يمثّل‬‫ّ‬ ‫بضد هذه القيمة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لديها‬
‫والتصرف‪،‬‬
‫ّ‬ ‫المفهومين مختلفان‪ ،‬فلإلثارة عناصرها في طريقة اللباس‬
‫وللتجمل عناصره المرتبطة بالنظافة والتناسب والترتيب مع المحافظة‬
‫ّ‬
‫(( ( سورة الحديد‪ ،‬اآلية ‪.23‬‬
‫((( نهج البالغة‪ ،‬الحكمة ‪ ،439‬ج‪ ،4‬ص ‪.102‬‬
‫‪72‬‬
‫تصرفها االجتماعي‪ ،‬على‬ ‫على ما اعتبره اإلسالم في ستر المرأة‪ ،‬وفي ّ‬
‫هدى ما أشار إليه الله تعالى في قوله‪َ ﴿ :‬ف َل ت َْخ َض ْع َن بِا ْل َق ْو ِل َف َي ْط َم َع‬
‫وغالبا ما نرمي سبب اإلثارة على شكل‬ ‫ً‬ ‫ض﴾(((‪.‬‬ ‫ا َّل ِذي ِفي َق ْلبِ ِه َم َر ٌ‬
‫بمجردهما شي ًئا في عالم‬ ‫ّ‬ ‫يشكالن‬ ‫ال ّلباس أو لونه‪ ،‬مع أنّ هذين قد ال ّ‬
‫اإلثارة‪ ،‬وإنّما عنصر اإلثارة قد يتركّ ز في جانب آخر له عالقة بالسلوك‬
‫وطريقة الكالم والحركة وال ّلفتات إضافة إلى الشكل أو اللون‪ ،‬بحيث‬
‫المتسرعة الربط بين اإلثارة والعنصر األبرز‪ ،‬وهو‬
‫ّ‬ ‫يتسارع لدى الذهنية‬
‫اللباس‪ .‬وبالتالي يقوم المجتمع بالضغط على إلغاء الشكل‪ ،‬وال يعطي‬
‫يتغير حال اإلثارة التي نروم‬
‫االهتمام بالجوانب األخرى‪ ،‬ولذلك ال ّ‬
‫كبحها ّإل بنسبة ضئيلة؛ ألننا أغفلنا عوامل أخرى وحصرنا اهتمامنا‬
‫فعالة‬
‫وتوجيهيا بعامل واحد‪ ،‬ولذلك بقيت العوامل األخرى ّ‬ ‫ًّ‬ ‫تربويا‬
‫ًّ‬
‫تغير شكل اللباس!‬‫ح ّتى مع ّ‬

‫الجمال وعالقته بالثقافة‬


‫بد من التأكيد هنا على أنّ ال ّلباس والمظهر‬ ‫إضافة إلى ذلك‪ ،‬ال ّ‬
‫يعبر فيها مجتمع ما عن رؤيته‬‫الخارجي عمو ًما هو جزء من الثقافة التي ّ‬
‫ُعد األزياء واحدة من‬‫هويته وذاته‪ .‬ولذلك ت ّ‬‫وقيمه وأسلوبه في إبراز ّ‬
‫األمور التي تستهدفها سياسات االحتواء أو التغيير أو ح ّتى التدمير‪،‬‬
‫شعوب أخرى‪ ،‬لتكون طريقة‬ ‫ٍ‬ ‫التي تقوم بها جهات ودول تجاه ثقافات‬
‫هوية جديدة‪ ،‬ال تقتصر على المظهر‪ ،‬بل‬ ‫البروز االجتماعي جز ًءا من ّ‬
‫ترتبط بطريقة العيش‪ .‬ولذلك يبرز الحديث هنا عن أنماط من اللباس‬

‫(( ( سورة األحزاب‪ ،‬اآلية ‪.32‬‬


‫‪73‬‬
‫السوق المهيمنة على‬ ‫آليات حركة ّ‬ ‫والتمظهر‪ ،‬والتي باتت تفرضها ّ‬
‫ٍ‬
‫وحينئذ ُيصبح‬ ‫اقتصاديات الشّ عوب في ّ‬
‫ظل العولمة المفتوحة الحدود‪.‬‬ ‫ّ‬
‫التصدي لمحاوالت الهيمنة‪ ،‬والتي ال تبدأ بال ّلباس إ ّ‬
‫ال‬ ‫ّ‬ ‫يتم‬
‫مفهو ًما أن ّ‬
‫وتعم سائر جوانب الحياة‪.‬‬
‫ّ‬
‫المتغيرات التي تفرض‬
‫ّ‬ ‫لسنا هنا من دعاة االنغالق أو الجمود تجاه‬
‫وربما‬
‫التجمل‪ ،‬فهذا خالف سنن التاريخ‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫نفسها على ال ّلباس أو‬
‫التطور الطبيعي في ال ّلباس‪ ،‬من‬
‫ّ‬ ‫أشارت بعض الروايات لدينا عن حركة‬
‫لباس‬
‫الصادق ‪« :Q‬خير لباس الزمان ُ‬ ‫قبيل ما روي عن اإلمام جعفر ّ‬
‫ٌ‬
‫مختلف باختالف الزمان والمكان‪.‬‬ ‫أهل ِه»(((‪ ،‬والذي هو‬
‫ِ‬

‫المتميز‬
‫ّ‬ ‫سيما المجتمع اإلسالمي‬ ‫بد ألي مجتمع‪ ،‬وال ّ‬ ‫ولكن ال ّ‬
‫ْ‬
‫وقيما ُيراد‬ ‫ٍ‬
‫بمنظومته الثقافية‪ ،‬هذه المنظومة التي تعكس معتقدات‬
‫ً‬
‫من خاللها أن تتكامل حركة الداخل والخارج في الشخصية‪ ،‬أن ال‬
‫يعتمد الالمباالة تجاه األنماط الوافدة من اللباس على عربة التسويق‬
‫عملية‬
‫ّ‬ ‫المعبر ضم ًنا عن ثقافات أخرى‪ ،‬بحيث يجب ضبط‬ ‫ّ‬ ‫االقتصادي‪،‬‬
‫التثاقف أو التأ ُّثر والتأثير في المظهر الخارجي عبر التدقيق والدراسة‪،‬‬
‫ّ‬
‫التحكم وإعادة إنتاج األنماط الوافدة من اللباس‬ ‫عملية‬
‫ّ‬ ‫ثم العمل على‬
‫ّ‬
‫العامة‪ ،‬فال يستورد اإلنسان‬ ‫ِ‬
‫بما ينسجم مع المعايير والمبادئ والق َيم‬
‫ّ‬
‫والقيمية‬
‫ّ‬ ‫يحدد االنعكاسات الثقافية‬ ‫من اآلخرين لباسهم كما هو‪ ،‬بل ّ‬
‫الموجودة فيه‪ ،‬ليدفعه ذلك إلى ترك ما ال يمكن تعديله‪ ،‬وإلى تغيير ما‬
‫يحتاج إلى ذلك‪.‬‬

‫((( ابن هشام الحميري‪ ،‬السيرة النبوية‪ ،‬ج ‪ ،٢‬ص ‪.٥٤١‬‬


‫‪74‬‬
‫معايير ال ّلباس الشرعي‬
‫بد أن نؤكّ د على ما يرتبط بلباس المرأة المسلمة‬ ‫وأخيرا‪ ،‬ال ّ‬
‫ً‬
‫بالخصوص‪ ،‬ل ُنشير إلى ضرورة التفريق بين المعيار اإلسالمي الذي‬
‫أبرزته النصوص‪ ،‬وبين األنماط المرتبطة بشكل ال ّلباس وألوانه‪ ،‬والتي‬
‫وتغير األوضاع االجتماعية والثقافية‪.‬‬
‫تطور الزمن ّ‬‫تشكلت بفعل حركة ّ‬ ‫ّ‬
‫وإنّ ارتباط أنماط ّ‬
‫معينة بالشريعة أو بمفاهيم الكمال أو نحوها‪ ،‬ال يعني‬
‫أنماطا شرعية وحيدة للباس‪ ،‬بل تبقى تعكس ثقافة مجتمعات‬ ‫ً‬ ‫أن تصبح‬
‫محددة‪.‬‬
‫متنوعة‪ ،‬أو سيادة نمط نتيجة ظروف تاريخية ّ‬
‫ّ‬
‫زمنية ألجل تحديد ما هو‬ ‫كل مرحلة ّ‬ ‫إنّ هذا التفريق ضروري في ّ‬
‫الشرعية‪ ،‬حتى ال‬‫ّ‬ ‫المتغير في ال ّلباس‪ ،‬ضمن المعايير‬
‫ّ‬ ‫الثّابت وما هو‬
‫معين هو الممثّل الوحيد‬ ‫يوضع ال ّناس أمام خيارات حا ّدة‪ّ ،‬إما نمط ّ‬
‫وإما أن تصبح المرأة خارج المنظومة ك ّل ًيا؛ فهذا‬ ‫للمنظومة اإلسالمية‪ّ ،‬‬
‫سلبا على شعور المرأة باألمن في‬ ‫استبعادي قد يؤثر ً‬
‫ّ‬ ‫حد ذاته ضغط‬
‫في ّ‬
‫تغطي تلك الحاجة‬ ‫مجتمعها اإلسالمي‪ ،‬وقد يدفع في اتجاه إمكانية أن ّ‬
‫عبر جهات جاهزة «للمساعدة» واالحتضان خارج المنظومة اإلسالمية‬
‫باسم الحرية ومناهضة العنف والقمع وما إلى ذلك من العناوين التي‬
‫ومنظمات تعمل على نقاط الضعف فينا‪ ،‬وبالتالي‬ ‫أصبحت لها جهات ّ‬
‫يتحول الحجاب الشرعي في معاييره‪« ،‬غير الشرعي» في نظرة المجتمع‬ ‫َّ‬
‫السائد!! إلى عدم حجاب‪ ،‬كما رأينا في بعض النماذج على األقل‪ .‬وهذا‬
‫النظر إلى نفسه على أنّه خارج المجتمع‪ ،‬أو لم يبلغ‬ ‫َ‬ ‫يح ّفز لدى اإلنسان‬
‫معينة‪ .‬ومع الوقت فإنَّ االعتياد على فكرة‬ ‫ِ‬
‫«الكمال» أو لم يحاك صور ًة ّ‬
‫كل‬ ‫ِ‬
‫المساعدة على االلتزام‪ّ ،‬‬ ‫تبدل الظروف‬ ‫أنّه خارج المنظومة‪ ،‬ومع ّ‬
‫‪75‬‬
‫والشرعية في أمور تخالف‬
‫ّ‬ ‫القيمية‬
‫ّ‬ ‫سهل عليه مخالفة المنظومة‬
‫ذلك ُي ّ‬
‫الشريعة فع ً‬
‫ال‪.‬‬
‫إنّ الثابت في ال ّلباس اإلسالمي ضمن المنظومة الشرعية والقيمية‬
‫محددة في لباس المرأة والرجل في‬ ‫ّ‬ ‫العامة‪ ،‬والتي هي‬
‫ّ‬ ‫هو المعايير‬
‫المتحرك‬
‫ّ‬ ‫وأما كيفية تمظهر هذه المعايير فهو العنصر‬‫الفقه اإلسالمي‪ّ ،‬‬
‫التام‪ ،‬وال االنفالش الك ّلي‪ ،‬بل التوازن‬‫الذي ال نعيش فيه االنغالق ّ‬
‫تقدمه متغيرات الزمان بالمرور على مقياس المنظومة‬ ‫الذي يسمح لما ّ‬
‫نابعا من‬ ‫ِ‬
‫التعديالت الالزمة‪ ،‬ليكون الخيار ً‬ ‫النقد‬
‫ُ‬ ‫التي نعتقد‪ُ ،‬فيجري‬
‫مفروضا من الخارج بما ّ‬
‫يخل بالمعايير الثابتة؛‬ ‫ً‬ ‫المجتمع نفسه‪ ،‬وليس‬
‫السبيل‪.‬‬ ‫والله تعالى هو الهادي إلى سواء ّ‬

‫‪76‬‬
‫‪12‬‬
‫شكر النِّعمة‪ ..‬وفتنة البالء!‬

‫أمير متس ّل ٌط لم يعدل‪،‬‬‫ّأول من يدخل النار ٌ‬


‫فخور(((‪.‬‬ ‫وفقير‬ ‫يعط ح َّق ُه‪،‬‬ ‫وذو ٍ‬
‫ثروة من المال لم ِ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬

‫هذا الحديث الشريف يريد أن يس ّلط الضوء على قاعدة ّ‬


‫هامة من‬
‫العملي الذي إذا‬ ‫شكرها‬ ‫ٍ‬
‫نعمة لها‬ ‫العملي‪ ،‬وهي أنّ ّ‬
‫كل‬ ‫قواعد الشكر‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫كافرا بالنعمة‪ ،‬وحاد بذلك عن ّ‬
‫خط‬ ‫لم يقم اإلنسان بما يقتضيه كان ً‬
‫المسؤولية التي ُح ِّم َلها بسبب تلك ال ِّنعمة‪.‬‬
‫ّ‬
‫َّ‬
‫يستغل‬ ‫بد أن‬‫فاألمير الذي ُينعم الله عليه بنعمة الجاه والسلطة‪ ،‬ال ّ‬
‫وقوته وجاهه في سبيل خدمة الناس‪ ،‬وتحقيق العدل في حركة‬ ‫سلطته ّ‬
‫يستحق بشكرها‬
‫ُّ‬ ‫حكمه وإدارته لسلطته‪ ،‬وبذلك تمثّل السلطة لديه نعم ًة‬
‫الطبيعية هي‬
‫ّ‬ ‫العملي دخول الج ّنة‪ ،‬بينما إذا كفر بذلك كانت وجهته‬‫ّ‬
‫ً‬
‫النار‪ ،‬بل قد يكون عذا ُب ُه مضاعفا‪ ،‬بسبب تأثيرات الموقع الذي يشغله‬
‫على حياة الناس في حاضرهم ومستقبلهم‪.‬‬
‫عما في أيدي اآلخرين‪،‬‬
‫غنيا ّ‬
‫وأما الذي أنعم الله عليه بالمال‪ ،‬فجعله ًّ‬
‫ّ‬
‫فإنّ عليه أن يشكر الله على نعمة الغنى‪ ،‬فيشعر بالفقراء الذين حرموا من‬

‫(( ( الشيخ الصدوق‪ ،‬عيون أخبار الرضا ‪ ،Q‬ج ‪ ،٢‬ص ‪ ،31‬ح ‪.٢٠‬‬
‫‪77‬‬
‫يشبع‬
‫ُ‬ ‫ويعرون حيث‬
‫َ‬ ‫األساسية‪ ،‬فيجوعون‬
‫ّ‬ ‫يلبي حاجاتهم‬
‫المال الذي ّ‬
‫شكرا لله‪ ،‬فيعطي الفقراء بال‬
‫نصيبا من ماله ً‬‫ً‬ ‫هو و ُيكسى‪ ،‬ولذلك يجعل‬
‫م ّنة وال أذى(((‪ ،‬وبذلك يدخل بماله الج ّنة‪.‬‬
‫ومسؤولية َب ْذلِها هو ما ورد في الحديث‬
‫ّ‬ ‫وهذا االرتباط بين النعمة‬
‫نعم على ٍ‬
‫عبد نعم ًة ّإل‬ ‫عن اإلمام جعفر الصادق ‪« :Q‬إنّ الله لم ي ِ‬
‫ُ‬
‫فحجته‬
‫قويا ّ‬ ‫من الله عليه فجعله ًّ‬ ‫الحجة من الله‪ ،‬فمن َّ‬
‫ّ‬ ‫وقد ألزمه فيها‬
‫أضعف منه‪ ،‬ومن‬ ‫ُ‬ ‫ممن هو‬ ‫عليه القيام بما ك َّل َف ُه واحتمال من هو دون َُه ّ‬
‫ثم تعاهده الفقراء‬ ‫فحجته عليه ماله‪ّ ،‬‬ ‫موس ًعا عليه ّ‬
‫من الله عليه فجعله َّ‬ ‫َّ‬
‫جميل في صورته‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الله عليه فجعله شري ًفا في بيته‪،‬‬‫من ُ‬‫َب ْع ُد بنوافله‪ ،‬ومن َّ‬
‫فحجته عليه أن يحمد الله تعالى على ذلك‪ ،‬وأن ال يتطاول على غيره‬ ‫ّ‬
‫حقوق الضعفاء لحال شرفه وجماله»(((‪.‬‬ ‫َ‬ ‫فيمنع‬

‫النظرة الخاطئة ألصحاب ال ِّنعم‬


‫يشكل ظواهر انزالق للمجتمعات‪ ،‬هو‬ ‫ومن زاوية أخرى‪ ،‬فإنَّ ما ّ‬
‫غياب صفة التسخير عن النظرة التي يتط ّلع من خاللها عموم ال ّناس‬
‫السلطة والمواقع السياسية‬ ‫إلى أصحاب ال ّنعم‪ ،‬وتحديدً ا إلى أصحاب ّ‬
‫سقطون‬‫واالجتماعية‪ ،‬وأصحاب المال والقوة االقتصادية‪ ،‬ولذلك ي ِ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أنفسهم أمام ما عندهم‪ ،‬وال يرون أنّ أصحاب ال ِّن َعم مك ّلفون ببذلها‬
‫ٍ‬
‫وعندئذ يشعرون بالم ّنة لهؤالء عليهم‬ ‫المسؤولية‪،‬‬ ‫لغيرهم من موقع‬
‫ّ‬
‫عندما يمنحونهم بعض حقوقهم‪.‬‬

‫(( ( وذلك هو قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ال ت ُْب ِط ُلو ْا َصدَ َقاتِ ُكم بِا ْل َم ِّن َواأل َذى﴾ [البقرة ‪.]264 :‬‬
‫(( ( الشيخ الكليني‪ ،‬الكافي‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.163‬‬
‫‪78‬‬
‫ويكتسب الموضوع خطورة كبيرة في الذهنية التي تحكم الشّ عوب‬
‫حكامهم‪ ،‬حيث يرون أنّ المواقع القيادية العليا التي يحت ّلونها‬ ‫تجاه ّ‬
‫ومسؤولية‬
‫ّ‬ ‫الحكام‪ ،‬وليست مواقع تكليف‬ ‫ّ‬ ‫هي مناصب ذاتية لهؤالء‬
‫إلدارة شؤون ال ّناس وتحقيق مصالحهم‪ ،‬والتي تتط ّلب أعلى درجات‬
‫التجرد عن الشهوات والغرائز‬‫ّ‬ ‫نكران الحاكم لذاته‪ ،‬وأرقى مستوى من‬
‫العام‪ .‬المشكلة‬
‫ّ‬ ‫الصالح‬
‫يضر ّ‬‫لئل تنحرف بالموقع إلى ما ّ‬ ‫الشخصية ّ‬
‫أنّ الناس أنفسهم عندما يسقطون تحت تأثير ال ّنعم لهؤالء‪ ،‬ويفقدون‬
‫الثقة بأنفسهم‪ ،‬كأفراد وكشعوب‪ ،‬فإنّهم يربطون وجودهم ك ّله بأولئك‪،‬‬
‫ويسخرون أنفسهم وأجيالهم ال لخدمتهم فقط‪ ،‬بل لخدمة أوالدهم‬ ‫ّ‬
‫يؤمر‬
‫يستحق الواحد منهم أن َّ‬
‫ّ‬ ‫وعوائلهم‪ ،‬فينتخبونهم في الوقت الذي ال‬
‫فضل عن ٍ‬
‫بلد كبير‬ ‫على بيته الذي يعيش فيه‪ ،‬أو على مزرعة صغيرة! ً‬
‫تتضارب فيه المصالح بين الذات والشّ عوب‪ ،‬وتتط َّلب فيه االستقامة‬
‫والقوة الروحية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الكثير من المواصفات الشخصية والخبرة العملية‬
‫هل ذلك ك ّله يعني أن ال يشعر ال ّناس بجميل اآلخرين عليه؟‬
‫نوعا من الكفر الذي ال يرضاه الله تعالى‪ ،‬فإنَّ « َمن‬
‫أبدً ا‪ ،‬فهذا يمثّل ً‬
‫لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق»(((‪ ،‬بل المقصود هو أن ال يعيش‬
‫يلبث هذا‬ ‫ثم ما ُ‬ ‫اإلنسان اإلحساس بالمذ ّلة عندما يعطيه اآلخرون‪ّ ،‬‬
‫يسترق فيها اإلنسان نفسه ألصحاب السلطة‬ ‫ُّ‬ ‫الشّ عور أن يتحول إلى ٍ‬
‫حالة‬ ‫ّ‬
‫بالمسؤولية‬
‫ّ‬ ‫الشكر على تأدية الواجب والقيام‬ ‫ثم أن يكون ُّ‬‫والمال‪ّ .‬‬
‫الغني عطاءه ال غناه‪ ،‬وفي القائد‬‫ّ‬ ‫الملقاة على عاتقه بحيث نشكر في‬
‫قيادته ال زعامته‪ ،‬وفي المدير إدارته ال موقعه‪ ،‬وهكذا‪...‬‬

‫(( ( الشيخ الصدوق‪ ،‬عيون أخبار الرضا ‪ ،Q‬ج ‪ ،١‬ص ‪.٢٧‬‬


‫‪79‬‬
‫مسخر للبعض اآلخر‪ ،‬فالفقير‬ ‫وهذا ك ّله يبتني على وعي أنّ بعضنا َّ‬
‫يعبر عن معنى العطاء في نفسه‪ ،‬ويخ ّلص نفسه‬ ‫للغني لكي ّ‬
‫ّ‬ ‫يمثّل فرصة‬
‫بمسؤولية ما أمره الله تعالى به تجاه‬
‫ّ‬ ‫من ّ‬
‫رق األنانية والبخل‪ ،‬ويقوم‬
‫عيف في المجتمع‬ ‫والض ُ‬
‫اآلخرين المحتاجين لبعض ما عنده من ال ّنعم‪ّ .‬‬
‫القوة لكي يتحقّق من فاعلية ميزان العدل‬ ‫حقيقية لصاحب ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫فرصة‬ ‫هو‬
‫واإلنصاف في نفسه‪ ،‬واالستقامة في سلوكه‪ ،‬عندما يعطيه حقّه وهو‬
‫يستطيع أن يغمطه ّإياه‪ ،‬أو يظلمه فيه‪ .‬وهكذا في موارد ال ّنعم ك ّلها‬
‫أي مجتمع‬ ‫الموجودة عند بعض والمفقودة عند البعض اآلخر‪ ،‬في ّ‬
‫ومجال‪ ،‬وبذلك تتوازن نظرتنا تجاه هؤالء وأولئك وغيرهم‪ ،‬فهي إذ‬
‫تشعر بالجميل لهؤالء‪ ،‬ال تسقط أمامه‪ ،‬وال تلغي ذاتها بسببه‪.‬‬
‫ُ‬

‫خطورة المكابرة‬
‫«وفقير‬
‫ٌ‬ ‫تبقى الفقرة األخيرة من الحديث الشريف‪ ،‬وهي قوله‪:‬‬
‫فخور»‪ ،‬وهي مرتبطة بجانب البالء‪ ،‬وهو هنا الفقر‪ ،‬حيث إنّ الله يفرض‬
‫إنسانيته المنسجمة مع معنى التواضع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫على اإلنسان أن يستكين إلى‬
‫بتجلياته ك ِّلها التي منها الفخر واالستعالء‬
‫ّ‬ ‫التكبر النفسي‬
‫ّ‬ ‫وأن يبتعد عن‬
‫وما إلى ذلك‪ ،‬وبذلك يكون الفقر مساعدً ا على التواضع والتذ ّلل‬
‫لله سبحانه‪ّ .‬أما أن يندفع اإلنسان لالستكبار مع الفقر‪ ،‬فهذا يعني أنّ‬
‫ضد‬ ‫اإلنسان يبذل جهدً ا مضاع ًفا في الجانب السلبي‪ُ ،‬ليظ ِه َر مع الفقر ّ‬
‫سلبية مضاعفة‬ ‫يدل على ّ‬‫ما يقتضيه‪ ،‬وهو التواضع والتذ ّلل‪ ،‬وهذا قد ّ‬
‫حكما‬ ‫ً‬ ‫الداخلي لإلنسان‪ ،‬الذي سينعكس‬
‫ّ‬ ‫والذهنية والواقع‬
‫ّ‬ ‫الروحية‬
‫ّ‬ ‫في‬
‫يستحق اإلنسان عليه دخول النار؛ ألنّ‬
‫ّ‬ ‫على العمل والسلوك‪ ،‬وبذلك‬
‫أيضا خالف الشكر‪ ،‬والله أعلم وأحكم‪.‬‬ ‫هذا ً‬

‫‪80‬‬
‫‪13‬‬
‫طاعةِ اهلل‬

‫نصب نفس ُه في ِ‬
‫طاعة الله‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫أ َح ُّب المؤمنين إلى الله من َ َ‬
‫َ‬
‫وعمل(((‪.‬‬ ‫َ‬
‫وعقل‪،‬‬ ‫وأبصر‪،‬‬
‫َ‬ ‫وتفك َر في عيوبِ ِه‪،‬‬
‫نبيه‪َّ ،‬‬
‫ونصح أل ّمة ِّ‬
‫َ‬

‫يتحرك‬
‫ّ‬ ‫أساسية ينبغي أن‬
‫ّ‬ ‫الحديث الشريف يركّ ز على ثالثة عناصر‬
‫اإلنسان وفقها في حياته‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ طاعة الله في الرؤية الوجودية‬


‫نصب‬
‫َ‬ ‫الوجودية‪ ،‬وهي قوله ‪« :P‬من‬
‫ّ‬ ‫األول‪ ،‬هو الرؤية‬
‫العنصر ّ‬
‫الله»‪ ،‬وذلك بأن يعرف اإلنسان أنّ وجوده في هذه‬ ‫نفس ُه في طاعة ِ‬
‫َ‬
‫تتحدد وفق موقع اإلنسان من الله‬
‫ّ‬ ‫الحياة إنّما ينطلق من فلسفة ورؤية‪،‬‬
‫العبودية المطلقة‪ ،‬التي ال يملك‬
‫ّ‬ ‫جل وعال ـ‪ ،‬وذلك الموقع هو موقع‬ ‫ـ ّ‬
‫اإلنسان معها شي ًئا أمام الله‪ ،‬وهو الذي تج ّلى في مفهوم اإلسالم‪ ،‬الذي‬
‫ً‬
‫وعمل‪.‬‬ ‫وروحا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وعقل‬ ‫يعني أن ُيسلم اإلنسان نفسه بك ِّلها لله تعالى‪ً ،‬‬
‫قلبا‬
‫وأن ينصب اإلنسان نفسه في طاعة الله‪ ،‬يعني أن يجعل اإلنسان‬
‫إرادته موافق ًة إلرادة الله‪ ،‬في ما ّبينه له في كتابه‪ ،‬وأوضحه ُّ‬
‫النبي ‪ P‬في‬

‫((( ورام بن أبي فراس المالكي (ت ‪ ،)٦٠٥‬تنبيه الخواطر ونزهة النواظر‪ ،‬ج‪ ، 2‬ص‪.٥٣٢‬‬
‫‪81‬‬
‫ُسننه الثابتة‪ّ .‬أما أن يبرز اإلنسان لله تعالى بالمعصية‪ ،‬فإنّه بذلك يلبس‬
‫العبودية والطاعة‪ ،‬كما قال‬ ‫ّ‬ ‫غير ردائه؛ ألنّه ال يصلح لإلنسان أمام الله ّإل‬
‫﴿و َما َكانَ لِ ُم ْؤ ِم ٍن َو َل ُم ْؤ ِم َن ٍة إِ َذا َق َضى ال َّل ُه َو َر ُسو ُل ُه َأ ْمر ًا َأن َي ُكونَ‬
‫تعالى‪َ :‬‬
‫ِ َ ِ‬ ‫ِ‬
‫علما أنَّ الطاعة تعود بال ّنفع على اإلنسان؛‬ ‫َل ُه ُم ا ْلخ َي َر ُة م ْن أ ْم ِره ْم﴾ ‪ً ،‬‬
‫(((‬

‫ألنَّ أوامر الله تنطلق إلى مصلحة اإلنسان في المأمور به‪ ،‬ونواهي الله‬
‫ترتكز إلى مفسدة يتو ّقاها اإلنسان في المنهي عنه عندما يجتنبه‪.‬‬
‫كل ما يريد أن‬‫ريا لإلنسان من ّ‬ ‫تحر ًّ‬
‫مسارا ّ‬
‫ً‬ ‫العبودية تمثّل‬
‫ّ‬ ‫على أنّ‬
‫الحقيقية وما يصلح حاله‬
‫ّ‬ ‫إنسانيته‬
‫ّ‬ ‫يفرض عليه إرادة على خالف معنى‬
‫نفس وشهوتَها‪ ،‬أو كان إنسانًا آخر‬ ‫في الدنيا واآلخرة‪ ،‬سواء كان نوازع ٍ‬
‫تجليا لصفات الله تعالى في‬‫الحق الذي يمثّل ًّ‬
‫ّ‬ ‫قوة أخرى‪ ،‬بعيدً ا عن‬‫أو ّ‬
‫خلقه وفي الحياة‪.‬‬

‫المسؤولية االجتماعية‬
‫ّ‬ ‫‪2‬ـ‬
‫أ ّما العنصر الثاني‪ ،‬فهو المسؤولية االجتماعية‪ ،‬وذلك قوله ‪P‬‬
‫ّ‬
‫وأمة‪ ،‬واستمرار‬
‫جزء من مجتمعٍ ّ‬ ‫ٌ‬ ‫نبيه»‪ ،‬ألنّ اإلنسان‬‫ألمة ِّ‬
‫«ونصح ّ‬
‫َ‬
‫واألمة ال ينعكس على اآلخرين فحسب‪ ،‬وإنّما‬ ‫ّ‬ ‫الصالح في المجتمع‬
‫اإليماني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يقوي موقفه‬
‫ضخ القيم في حياة الناس‪ ،‬بما ّ‬ ‫يمثّل استدام ًة في ّ‬
‫الق َيم من حوله وفي حياة األجيال الالحقة‪ .‬فإذا ترك‬ ‫يعزز حضور ِ‬‫كما ّ‬
‫عنصرا‬
‫ً‬ ‫مسؤوليته في هذا اال ّتجاه‪ ،‬فمعنى ذلك أنّه أفقد الصالح‬
‫ّ‬ ‫اإلنسان‬
‫وقوته واستمراره‪ ،‬وهذه مساحة فرا ٍغ ستملؤها‬ ‫من عناصر تحقّقه ّ‬
‫العناصر الفاسدة‪ ،‬وبذلك تضعف بنية المجتمع على مستوى القيم‪،‬‬

‫((( سورة األحزاب‪ ،‬اآلية‪.36 :‬‬


‫‪82‬‬
‫غريبا عن مجتمعه إذا ما أراد أن يحافظ على‬
‫وهو ما يجعل اإلنسان ً‬
‫يؤمن‬
‫يدفع ُه ذلك إلى االنعزال ـ وقد ال يستطيع االنعزال أن ّ‬
‫إيمانه‪ ،‬أو ُ‬
‫له ذلك ً‬
‫أيضا ـ أو يفقد المجتمع بيئة الصالح التي تكفل صالح أوالده‬
‫وذريته‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪ 3‬ـ إصالح ال َّنفس‬


‫يبقى العنصر الثالث‪ ،‬وهو إصالح النفس‪ ،‬وهذا إنّما يتحقّق بأن‬
‫بدل من االنشغال‬ ‫يعطي اإلنسان جهده في معرفة عيوبه ونقائصها‪ً ،‬‬
‫مسؤوليته‬
‫ّ‬ ‫يوجه‬ ‫ُ‬
‫تكليفهم‪ ،‬وإنّما عليه أن ّ‬ ‫بعيوب الناس؛ فإنّ عيوب الناس‬
‫االجتماعية في سبيل تعريف الناس بعيوبهم‪ ،‬أو بتحقيق جهده في‬
‫المسؤولية؛ ّأما الجهد األكبر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫جزء من‬
‫اإلصالح االجتماعي‪ ،‬وهذا ٌ‬
‫التبصر والتشخيص‬‫ثم ّ‬ ‫بالتفكر ّأو ًل‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫فهو أن يصلح ذاته ونفسه‪ ،‬وذلك‬
‫ثم التخطيط الدقيق‬ ‫الحقيقي‪ ،‬وقد نطلق على ذلك مفهوم التوصيف‪ّ ،‬‬‫ّ‬
‫الذي يضع الحلول والبرامج لتعديل ما يحتاج إلى تعديل‪ ،‬وتطوير ما‬
‫وأخيرا أن يعمل اإلنسان في تحقيق ذلك‪ ،‬ال أن‬ ‫ً‬ ‫يحتاج إلى تطوير‪،‬‬
‫يبقى اإلنسان في مرحلة التوصيف أو وضع الخطط التي ال تتبعها إرادة‬
‫عملية؛ وكثير من األمور يحتاج إلى تدريب ومثابرة‪.‬‬
‫ّ‬

‫السلبي للمحيط‬
‫التأثير ّ‬
‫الهام في عالم التغيير أن نلتفت إلى تأثير الظروف المحيطة بنا؛‬
‫ومن ّ‬
‫قررنا تغييره‪ ،‬وبالتالي إذا‬
‫السلوك الذي ّ‬ ‫ألنّ هذه الظروف قد ّ‬
‫تعزز لدينا ُّ‬
‫وغالبا‬
‫ً‬ ‫ضد قرار التغيير الذي ا ّتخذناه ـ على الفرض ـ‪،‬‬ ‫ُ‬
‫فستعمل ّ‬ ‫بقيت‬

‫‪83‬‬
‫ما تكون تأثيراتها أقوى من قرارنا‪.‬‬
‫كثير من ال ّناس ال ينجحون في تغيير بعض خصالهم أو عاداتهم‪،‬‬
‫بسبب أنّهم ال يعملون على إيجاد البيئة المالئمة لعملية التغيير‪ ،‬ومن‬
‫المقدمات أو المداخل ذاتها تدفع نحو النتيجة نفسها‪ ،‬فال‬ ‫ّ‬ ‫الواضح أنّ‬
‫يمكن أن تحصل على نتيجة مختلفة إذا تركت األمور السابقة على ما‬
‫تغييرا‪.‬‬
‫تعديل أو ً‬‫ً‬ ‫هي عليه‪ ،‬فلم تُج ِر فيها‬
‫ّ‬
‫وجل‪،‬‬ ‫عز‬
‫وهذا األمر ذاته هو ما نحتاجه في التوبة عن المعصية لله ّ‬
‫نضع ُف أمام معاودة ارتكاب ما تُبنا منه‪ ،‬فقط‬
‫كثيرا ما ُ‬
‫حيث نجد أنّنا ً‬
‫ألنّنا لم نبذل جهدً ا في تغيير الظروف التي دفعتنا سابقًا إلى المعصية‪،‬‬
‫مرة أخرى‪.‬‬
‫تتغير الظروف فسنكون عرضة للضغط من قبلها ّ‬ ‫وعندما ال ّ‬
‫دافعا إلى‬
‫صنف من الرفاق ً‬‫ٍ‬ ‫فعلى سبيل المثال‪ ،‬إذا كان السهر مع‬
‫المحرمات‪ ،‬فإنّ التوبة والبكاء من خشية الله‬
‫ّ‬ ‫ضعف اإلرادة أمام بعض‬
‫تموضعا جديدً ا‬
‫ً‬ ‫وطلب مغفرته ورضوانه في لحظة ما‪ ،‬سوف لن يكون‬
‫مثل‬‫مما يتط ّلب ً‬
‫السابقة‪ّ ،‬‬
‫يغير من ظروفه ّ‬‫لإلنسان في عالم الطاعة إذا لم ّ‬
‫ً‬
‫تعديل في زمان ال ّلقاء بالرفاق‪ ،‬أو التخفيف من االحتكاك ببعضهم‪ ،‬أو‬
‫ربما يتط ّلب األمر قطع العالقة مع بعضهم ولو لبعض الوقت‪ ،‬ريثما‬ ‫ّ‬
‫وتترسخ العادة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تقوى العزيمة‬

‫‪84‬‬
‫‪14‬‬
‫األمور بعواقبها‬

‫فأمض ِه‪،‬‬
‫يك ُرشدً ا ِ‬
‫فتدب ْر عاقب َت ُه‪ ،‬فإن ُ‬
‫هممت بأم ٍر َّ‬
‫َ‬ ‫إذا أنت‬
‫يك َغيا ِ‬
‫فانته عنه(((‪.‬‬ ‫وإن ُ ًّ‬

‫بفعل أو َ‬
‫تركه؟ هل‬ ‫ٍ‬ ‫نقرر القيام‬
‫ما هو الميزان الذي على أساسه ّ‬
‫ثم‬ ‫ِ‬
‫مضمونه؟ هل هو ّ‬ ‫ٍ‬
‫اللذة التي نحصل عليها ّ‬ ‫بمعزل عن‬ ‫هو عنوانُه‬
‫اآلنية التي نحققها من‬
‫تلبث أن تتالشى وتذهب؟ هل هو المنفعة ّ‬ ‫ال ُ‬
‫اجتماعي ًة ّ‬
‫شكلت جز ًءا من عادات مجتمعنا أو‬ ‫َّ‬ ‫جرائه؟ أو كونه عاد ًة‬
‫ّ‬
‫تقاليده؟ أو كونه موافقًا للقوى المسيطرة على موازين األمور في الحياة‬
‫التي تفرض نفسها على الواقع السياسي واالقتصادي واألمني‪ ،‬وح ّتى‬
‫الفكري والمعرفي‪ ،‬الذي يركن معه اإلنسان إلى سلطة فكرة سائدة‬
‫وضد َمن يخالفها؟‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ضغطا با ّتجاه تب ّنيها‬ ‫يمارس المجتمع‬
‫ٍ‬
‫منفعة من ذلك‪،‬‬ ‫لذ ٍة أو‬
‫ليس ما يمنع اإلنسان من أن يحصل على ّ‬
‫أو أن يتماشى مع المجتمع في عاداته وتقاليده‪ ،‬أو أن يصادف عم ُله‬
‫ٍ‬
‫عمل من‬ ‫أي‬
‫األساسية بمضمون ّ‬
‫ّ‬ ‫طبيعة موازين القوى‪ّ ..‬إل أنّ العبرة‬

‫((( الشيخ الكليني‪ ،‬الكافي‪ ،‬ج‪ ،8‬ص ‪.150‬‬


‫‪85‬‬
‫حيث موافقته أو عدم موافقته لمنظومة القيم التي يعتقد بها اإلنسان في‬
‫ُ‬
‫الحياة‪.‬‬

‫استنسابية‬ ‫ِ‬
‫الق َيم ليست‬
‫ّ‬
‫أخالقية‪ ،‬تمثّل المنهج‬ ‫شرعية أم‬ ‫منظومة ِ‬
‫الق َيم‪ ،‬سواء كانت عقدية أم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والقواعد التي يضبط اإلنسان عليها حركته في الحياة‪ ،‬وهي التي تمثّل‬
‫الحق‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الميزان لما يقبل ولما ير َفض؛ فإذا كان من بين تلك ِ‬
‫الق َيم قيمة‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬
‫فال يمكن لإلنسان أن يجمع بينها وبين األخذ بالباطل في القول أو‬
‫الفعل‪ ،‬مهما كانت الظروف الخارجية أو النفسية تفرضه؛ وإذا كانت‬
‫قيمة العدل‪ ،‬فال يمكن لإلنسان أن يأخذ بالظلم الذي يضا ّدها في ذلك‬
‫أيضا؛ وإذا كانت قيمة الصدق‪ ،‬فال ُيمكن لإلنسان أن يأخذ بالكذب في‬ ‫ً‬
‫قول أو في عمل؛ وهكذا‪..‬‬‫ٍ‬

‫وقد نجد في االتجاه نفسه ـ على سبيل المثال ـ كيف أنّ القرآن الكريم‬
‫يحب أو من ُيبغض‪ ،‬من‬ ‫أخرج المواقف التي يأخذها اإلنسان تجاه َمن ُّ‬
‫الموضوعية‪ ،‬فقال‬ ‫ّ‬ ‫للحب والبغض‪ ،‬إلى القيمة‬ ‫ّ‬ ‫عقال االنفعال الذاتي‬
‫ين آ َم ُنو ْا‬ ‫اع ِد ُلو ْا َو َل ْو َكانَ َذا ُق ْر َبى﴾(((‪َ ﴿ ،‬يا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ‬ ‫﴿وإِ َذا ُق ْل ُت ْم َف ْ‬
‫تعالى‪َ :‬‬
‫ين لِ ّل ِه ُش َهدَ اء بِا ْل ِق ْس ِط َو َال َي ْج ِر َم َّن ُك ْم َشنَآنُ َق ْو ٍم َع َلى َأ َّال ت َْع ِد ُلو ْا‬
‫ُكونُو ْا َق َّو ِام َ‬
‫معيارا التخاذ‬ ‫ً‬ ‫ْاع ِد ُلو ْا ُه َو َأ ْق َر ُب لِل َّتق َْوى﴾(((؛ فليست القرابة وال العداوة‬
‫ضد من‬ ‫المواقف‪ ،‬بل العدل هو المعيار الذي بسببه قد يحكم اإلنسان ّ‬
‫يحب حتى لو كانت نفسه التي بين جنبيه‪ ،‬ويحكم مع َمن يبغض حتى‬ ‫ُّ‬
‫ألد أعدائه!‬ ‫لو كان ّ‬
‫((( سورة األنعام‪ ،‬آية ‪.152‬‬
‫((( سورة المائدة‪ ،‬آية ‪.8‬‬
‫‪86‬‬
‫عامل مع‬
‫األساسية في ال ّت ُ‬
‫ّ‬ ‫اإلسالمية‬
‫ّ‬ ‫يشكل القاعدة‬ ‫وهذا األمر ّ‬
‫األطر االجتماعية أو السياسية التي ينتمي إليها اإلنسان‪ ،‬فال يعتبر‬ ‫ُ‬
‫الحق والباطل‪ ،‬فيكون ما دخل‬ ‫ّ‬ ‫اإلطار هو المعيار الذي نقيس عليه‬
‫باطل‪ ،‬وما خرج عنه الباطل ولو كان فيه‬ ‫فيه حقَّا ولو كان في طبيعته ً‬
‫يتحول انتماء اإلنسان إلى مشاركة لآلخرين‬ ‫ّ‬ ‫الحق ك ُّله‪ .‬وبهذه القاعدة‬
‫ّ‬
‫في األهداف الكبرى التي يعتقد بهـا‪ ،‬و ُيبقي هامشً ا لإلنسـان تجاه‬
‫معين‪ ،‬وهذا‬
‫األحداث والمواقف والمشاريع التي تُطرح في إطار ّ‬
‫ويتأمل ويستخلص نتائج قد‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ويتفكر‬ ‫يتدبر‬
‫الهامش يسمح لإلنسان بأن ّ‬
‫ممن ينتمون إلى اإلطار‬ ‫ٍ‬
‫تجعله في موقف معاكس لما عليه هذا أو ذاك ّ‬
‫نفسه‪ ،‬ويعتقدون به كما يعتقد‪.‬‬
‫الحزبية‪ ،‬التي‬
‫ّ‬ ‫إنّ ما نعيشه في كثير من واقعنا‪ ،‬وال ّ‬
‫سيما في التجربة‬
‫وتم الخلط فيها بين‬
‫العصبية للقبيلة بعض أدواتها‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫أخذت من الذهنية‬
‫أي‬ ‫الحق والعدل وسائر القيم‪ ،‬فأصبح ّ‬
‫ّ‬ ‫مقتضيات النظام وبين موازين‬
‫يستحق صاحبه ال ّلوم‬
‫ّ‬ ‫األكثرية‪ ،‬أو للقيادة‪ً ،‬‬
‫باطل‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫مخالف لرأي‬ ‫ٍ‬
‫رأي‬
‫ّ‬
‫وتتحول المعارضة داخل الحزب إلى مسا ٍر‬ ‫ّ‬ ‫واالتهام باإلخالص‪،‬‬
‫تهديمي للنمط الواحد‪ ،‬والرأي الفريد‪ ،‬والموقف األوحد‪ ،‬في الوقت‬
‫ّ‬
‫الذي تمثّل المعارضة ـ ح ّتى في الحركة السياسية ـ هامشً ا لمناورة‬
‫الحزب نفسه‪ ،‬تُخرجه من بعض الحرج الذي قد تفرضه ضرورة‬
‫بالضرورة مع المبادئ‬‫مما قد ال ينسجم َّ‬
‫التعامل مع موازين القوى‪ّ ،‬‬
‫الحزبية إلى صنمٍ ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تتحول التجربة‬
‫ّ‬ ‫الحزب‪ ،‬وبذلك ال‬
‫ُ‬ ‫التي يؤمن بها‬
‫لتعبر عن‬
‫تتحرك فيه المعارضة أو اختالف اآلراء ّ‬‫َّ‬ ‫في الوقت الذي ال‬
‫آليات تحقّق التوازن بين األمرين‪ ،‬بما‬
‫ثمة ّ‬‫عملية انشقاق أو تهديم؛ بل ّ‬
‫ّ‬
‫‪87‬‬
‫وتتطور فيه التجربة على هدى‬
‫ّ‬ ‫إطارا ُيعبد فيه الله‪،‬‬
‫يتيح أن يبقى الحزب ً‬
‫المبادئ والقيم التي يرتكز إليها العاملون لإلسالم‪ .‬وعلى كل حال‪،‬‬
‫الحرية‬
‫ّ‬ ‫فقضية الجمع بين مقتضيات النظام الذي يفرضه اإلطار‪ ،‬وبين‬
‫الفكرية مسألة تحتاج إلى معالجة مستقلة‪ ،‬ليس هنا مجالها‪.‬‬
‫ّ‬

‫مهمة صعبة‬
‫تدبر العواقب ّ‬
‫ّ‬
‫بالعودة إلى الحديث‪ ،‬فإنّه يتح ّتم على اإلنسان‪ ،‬إذا ما خطر في باله‬
‫ٍ‬
‫طريق ما‪،‬‬ ‫أمر ما‪ ،‬أو أراد منه اآلخرون األخذ بمنهج ما‪ ،‬أو السلوك في‬ ‫ٌ‬
‫حيث النتيجة التي تنتظره من ذلك األمر‪ ،‬أو‬ ‫ُ‬ ‫أن يدرس ذلك ك ّله من‬
‫المنهج‪ ،‬أو الطريق؛ فإذا كان موافقًا للقيم التي يعتقد بها اإلنسان‪ ،‬وهي‬
‫التعب والعناء‪،‬‬
‫ُ‬ ‫هنا تمثّل قناعاته والتزاماته‪ ،‬أخذ بها‪ ،‬ح ّتى لو كان فيها‬
‫أو الجوع والحرمان؛ وإذا كانت مصطدم ًة بذلك ك ّله‪ ،‬فإنّ العاقل ال‬
‫لذة أو مصلحة‬ ‫يقدم على النتيجة الخطيرة لمصلحة الحصول على ّ‬
‫آنية‪.‬‬
‫هامشية أو ّ‬
‫ّ‬
‫وهذا ما نجده في حياة العقالء ك ّلهم الذين يحرمون أنفسهم من‬
‫الصحة الجسدية‪ ،‬أو يمارسون بعض الرياضات‬ ‫ّ‬ ‫الطعام؛ ألجل تحقيق‬
‫لذتها عندما يكون‬ ‫صحتهم النفسية‪ ،‬ويحرمون أنفسهم ّ‬
‫الروحية ألجل ّ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫طريق يعتقدون أنّه قد يؤ ّدي إلى‬ ‫خطرا‪ ،‬وال يسيرون في‬
‫ً‬ ‫نفسه‬
‫الطعام ُ‬
‫يمد‬
‫لمجرد أنّهم رأوا سع َت ُه أو جماله أو ما إلى ذلك؛ وهل ّ‬
‫ّ‬ ‫هالكهم‬
‫اإلنسان يده إلى األفعى لحسن شكلها أو لونها‪ ،‬أو نعومة جلدها!‬
‫بالمهمة‬
‫ّ‬ ‫تدبر عواقب األمور ليس‬
‫بد من االلتفات إلى أن ّ‬
‫هذا وال ّ‬
‫مهمة قد تكون بالغة التعقيد‪ ،‬وتتط ّلب مهارات‬
‫البسيطة‪ ،‬وإنّما هي ّ‬
‫‪88‬‬
‫كثيرة‪ ،‬نشير إلى بعضها على النحو اآلتي‪:‬‬
‫أو ًل‪ :‬درجة عالية من الخبرة الحياتية‪ ،‬والقدرة على تحليل األوضاع‬‫ّ‬
‫تدبر‬
‫واألحداث‪ ،‬وربط األسباب بالنتائج‪ ،‬في الميدان الذي نحاول ّ‬
‫أي كلمة فيه‪ ،‬أو أي قرار ُيراد ا ّتخاذه‪.‬‬
‫عاقبة ّ‬
‫بيد أصحاب السلطة‬ ‫هذه الخبرة والقدرة التحليلية قد ال تكون ِ‬
‫ّ‬
‫جزء من‬
‫ٌ‬ ‫االجتماعية أو السياسية أو ح ّتى الدينية‪ ،‬وإنّما هي‬
‫تتنوع لدى ال ّناس‪ ،‬األمر الذي يفرض أن يدخل في‬
‫االختصاصات التي ّ‬
‫أي مجال‬‫ائيين في ّ‬
‫األخص ّ‬
‫ّ‬ ‫حسابات أصحاب القرار االستعانة بهؤالء‬
‫ُ‬
‫نتعامل معه؛ فنستعين بأصحاب الرأي في السياسة عندما نريد اتخاذ‬
‫موقف سياسي‪ ،‬وفي االقتصاد كذلك‪ ،‬وعندما نريد معالجة ظاهرة‬ ‫ٍ‬
‫معينة فنشاور علماء االجتماع‪ ،‬وهكذا‪..‬‬
‫اجتماعية ّ‬
‫ً‬
‫تعامل دقيقًا مع الظروف‬ ‫تدبر عواقب األمور يتط ّلب‬
‫ثانيا‪ّ :‬‬
‫ً‬
‫الموضوعية التي تختلف من حال إلى حال‪ ،‬ومن مجال إلى آخر‪.‬‬
‫وهذا ما يتط ّلب جمع معلومات دقيقة عن الواقع‪ ،‬وعن المؤ ّثرات‬
‫يتم التعامل معها‪ ،‬وعدم االعتماد على‬ ‫التي تكتنفه‪ ،‬والجهات التي ّ‬
‫العلمية‪ .‬فالكلمة الواحدة قد‬
‫ّ‬ ‫اإلحساس الشخصي‪ ،‬أو التقديرات غير‬
‫تكون لها عواقب وخيمة في ظرف الفتنة‪ ،‬أو مع وجود من ّ‬
‫يخطط لها‪،‬‬
‫أساسا للغنى الفكري في ظرف الحوار الموضوعي‬ ‫ً‬ ‫وهي ذاتها قد تكون‬
‫تطور العلم‪.‬‬
‫وضمن مسارات ّ‬
‫ثالثًا‪ :‬ضرورة المعرفة الدقيقة للمفاهيم والمنهج والقواعد التي‬
‫على أساسها تقاس األفعال ونتائجها؛ ألنّ عدم المعرفة الدقيقة قد‬

‫‪89‬‬
‫ٍ‬
‫إنسان أو جهة‪ ،‬أو يقيس‬ ‫مثل ـ يرتبط بالشكل في ا ّتباع‬‫يجعل اإلنسان ـ ً‬
‫قيمة هذا أو ذاك على أساس ما يبرزونه من عاطفة مغالية في مجال‬
‫والدعوة إليه‪ ،‬وهو‬ ‫فيتخيل أنّ فالن ًا أكثر ّ‬
‫تدي ًنا أو أولى باال ّتباع ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدين‪،‬‬
‫ّ‬
‫إنّما حكم بذلك على ضوء احتكامه إلى منهج يرى القيمة بالشكل‬
‫دون المضمون‪ ،‬وبالعاطفة دون الفكر‪ ،‬في الوقت الذي نجد فيه‬
‫توجيه ًا ديني ًا واضح ًا نحو المعايير التي على أساسها يجب أن ُيقاس‬
‫محمد الجواد ‪ Q‬عن أبيه‬ ‫األشخاص‪ ،‬من قبيل ما روي عن اإلمام ّ‬
‫علي ‪« :Q‬ال تنظروا إلى كثرة صالتهم وصومهم‪،‬‬ ‫عن آبائه عن ّ‬
‫الحج والمعروف وطنطنتهم بالليل‪ ،‬انظروا إلى صدق الحديث‬ ‫ّ‬ ‫وكثرة‬
‫وأداء األمانة»(((‪.‬‬
‫الديني‪،‬‬ ‫رابعا‪ :‬استنا ًدا إلى ما ّ‬
‫تقدم‪ ،‬فإنّ التربية والتعليم والتوجيه ّ‬ ‫ً‬
‫المجردة‪ ،‬بل يجب أن‬
‫ّ‬ ‫يجب أن ال يقتصر على إلقاء المعرفة النظرية‬
‫يتم تدريب ال ّناس على منهج التفكير في األمور‪ ،‬وهذا ال يكون ّإل‬ ‫ّ‬
‫الحية‪ ،‬وبيان كيفية االنتقال من‬
‫ّ‬ ‫من خالل ضرب األمثال الحياتية‬
‫المبدأ إلى الممارسة‪ ،‬ومن الفكرة إلى تطبيقاتها‪ ،‬وكيف يتج ّلى منهج‬
‫التفكير السليم في الوصول إلى األحكام‪ ،‬ومنها إلى المواقف‪ ،‬وكيف‬
‫تلقي تعقيدات الواقع‪ ،‬وتشابك األمور‪ ،‬بظاللها على طبيعة الموقف‬
‫مما قد يختلف‬
‫المنسجم مع األهداف التي يسعى اإلنسان إلى تحقيقها‪ّ ،‬‬
‫فيه الموقف بين حالة وأخرى‪.‬‬

‫((( الشيخ الصدوق‪ ،‬أمالي الصدوق‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ‪.249‬‬


‫‪90‬‬
‫‪15‬‬
‫توزّع المسؤوليّات وتراتُبُها‬

‫راع وك ّلكم مسؤول عن ّ‬


‫رعيته؛ فاألمير الذي على‬ ‫أال ك ُّلكم ٍ‬
‫راع على أهل بيته‬
‫رعيته‪ ،‬والرجل ٍ‬‫راع وهو مسؤول عن ّ‬‫الناس ٍ‬
‫وهو مسؤول عن رعيته‪ ،‬والمرأة راعية على بيت بعلها وولده‬
‫وهي مسؤولة عنهم(((‪.‬‬

‫الحديث يهدف إلى تأسيس قاعدة‪ ،‬وهي التالزم بين التأثير‬


‫تأثيرا‬ ‫ٍ‬ ‫والمسؤولية؛ ّ‬
‫فكل إنسان يملك ـ بحكم صفاته وحركته وموقعه ـ ً‬ ‫ّ‬
‫أشخاص آخرين‪ ،‬أو سلوكهم‪ ،‬أو ح ّتى على تشكيل‬ ‫ٍ‬ ‫على ا ّتجاهات‬
‫مسؤول عن حركته ومواقفه‬ ‫ً‬ ‫قناعاتهم وأنماط تفكيرهم‪ ،‬فإنّه ُيعتبر‬
‫يتصرف من‬‫ّ‬ ‫وأقواله بحجم تأثيره على هؤالء ك ّلهم‪ .‬وبالتالي ليس له أن‬
‫دون األخذ بعين االعتبار تأثير ما يقوله أو ما يفعله بمن حوله‪.‬‬

‫ً‬
‫مسؤول‬ ‫أن تكون‬
‫فاألمير الذي يستلم زمام الحكم والسلطة‪ ،‬ويملك إنفاذ أمره ونهيه‪،‬‬
‫تأثيره يكون على المجتمع الذي يسمع كالمه‪ ،‬ويطيع أمره‪ ،‬وين ِّف ُذ‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬ج ‪ ،٢‬ص ‪ ١٢٥‬؛ صحيح مسلم‪ ،‬ج ‪ ،٦‬ص ‪.٨‬‬
‫‪91‬‬
‫أمره قبل إصداره‪ ،‬في تأثيره‬ ‫فمسؤوليته أن يدرس َ‬
‫ّ‬ ‫توجهاته‪ ،‬ولذلك‬
‫ّ‬
‫رعيته‪ ،‬ال أن يكون األساس في إصداره لألمر هو‬ ‫على الناس الذين هم ّ‬
‫الخاصة في الهواء‪ .‬كما‬
‫ّ‬ ‫الذاتية‪ ،‬أو أحالمه‬
‫ّ‬ ‫الشخصية‪ ،‬أو نوازعه‬
‫ّ‬ ‫رغباته‬
‫يجب عليه أن يدرس تأثير ذلك عليهم في المدى القريب وفي المدى‬ ‫ُ‬
‫وكيف يمكن ألمره أن يكون منسجما مع ِ‬
‫الق َيم التي تحكم‬ ‫ً‬ ‫َ ُ‬ ‫البعيد‪،‬‬
‫ٌ‬
‫مسؤول عنه‪.‬‬ ‫المجتمع أو الدولة أو اإلطار الذي هو‬
‫ٍ‬
‫جماعة‬ ‫ٍ‬
‫شخص لسلطة ما على‬ ‫وعلى هذا األساس‪ ،‬فإنّ امتالك ّ‬
‫أي‬
‫مقيدً ا بتحقيق مصلحة الجماعة‪،‬‬
‫ما‪ ،‬تجعل الجانب الشخصي لديه ّ‬
‫حلما‪ ،‬فال يسمح لغضبه أن يسيطر‬‫ولذلك ُفيطلب منه أن يكون أكثر ً‬
‫لتهوره الشخصي أن‬‫على مواقفه؛ وأن يكون أكثر حكمة‪ ،‬فال يسمح ّ‬
‫إخالصا للقضايا‬
‫ً‬ ‫ٍ‬
‫خيارات غير مدروسة؛ وأن يكون أكثر‬ ‫يندفع به إلى‬
‫واألهداف الكبرى التي يسعى إليها المجتمع‪ ،‬فال يسمح لضعفه الذاتي‬
‫أن يفرض نفسه على ساحتها وحركتها‪.‬‬

‫خطورة دور النموذج‬


‫ٍ‬
‫أمثلة على الفكرة التي يطرحها‪ ،‬قد‬ ‫يعدده الحديث السابق من‬‫إنّ ما ّ‬
‫يؤكّ د خطورة مسألة النموذج في المواقع ك ّلها ذات ّ‬
‫الصلة باآلخرين‪،‬‬
‫حكما في حركة‬ ‫ِ‬
‫مستبط ًنا‬ ‫بحيث يصبح التأثير‪ ،‬اإليجابي أو السلبي‪،‬‬
‫ً‬
‫المسؤول وصوغ اتجاهاته ومواقفه‪ .‬وما يشير إليه الحديث يقوم‬
‫الحي أكثر من‬
‫ّ‬ ‫عام‪ ،‬وهو أنّ اإلنسان يتأ ّثر بالنموذج‬
‫إنساني ّ‬
‫ّ‬ ‫على مبدأ‬
‫المجرد‪ .‬ولذلك اعتمدت الرساالت‬ ‫ّ‬ ‫تأ ّثره بالكالم النظري‪ ،‬والتوجيه‬
‫السماوية على أن تكون القدوة الحسنة إلى جانب الكتاب السماوي‪،‬‬

‫‪92‬‬
‫حيث يصدِّ ُق ال ّناس بالقيمة في سلوك ال ّنبي قبل أن ينزل به الوحي‪،‬‬
‫ويتأ ّثرون بمواقفه ويتابعون خطواته ليكون الوحي بمثابة القاعدة التي‬
‫خصوصيات ال ّنبي‪ ،‬وبالتالي يصبح‬
‫ّ‬ ‫تثبت الموقف كمبدأ‪ ،‬وتخرجه عن‬ ‫ّ‬
‫الزمن‪.‬‬‫ممتدا في حياة المؤمنين برسالته في حركة ّ‬
‫الموقف ًّ‬
‫خط من الخطوط الفكرية‪ ،‬سواء كانت دينية‬ ‫أي ّ‬ ‫وإنّ ضعف تأثير ّ‬
‫بالضرورة من الضعف في المحمول النظري الذي‬ ‫أم غيرها‪ ،‬ال ينشأ ّ‬
‫تشتمل عليه‪ ،‬أو عدم العمق في التقعيد الفكري‪ ،‬وإنّما قد ينشأ من‬
‫ُ‬
‫ضعف‬ ‫يتحول‬
‫ّ‬ ‫خالل ضعف ال ّنماذج الممثّلة للنظرية أو للفكر‪ ،‬والتي‬
‫ُّ‬
‫للتشكك بالنظرية التي تحملها‪ ،‬وبالفكر الذي تستند‬ ‫تمثيلها إلى عنصر‬
‫إليه‪.‬‬
‫ّ‬
‫للخط قد‬ ‫المجسدة‬
‫َّ‬ ‫بل قد نجد من تجارب الحياة أنّ النماذج ّ‬
‫الحية‬
‫ّ‬
‫الخط الذي تلتزمه‬ ‫تؤ ّثر في الجماهير‪ ،‬فتدفعهم إلى اعتناق المبدأ أو‬
‫ومنطقية‪ ،‬بل قد يحمل‬
‫ّ‬ ‫فكرية‬
‫نظريا‪ ،‬أو تناقضات ّ‬‫خلل ًّ‬‫ح ّتى وهو يعاني ً‬
‫متعددة في‬
‫طبعا تساهم عوامل ّ‬ ‫شريرة‪ً .‬‬‫متطرفة أو ّ‬
‫سلوكيات منحرفة أو ّ‬‫ّ‬
‫مما لسنا بصدد مناقشته هنا‪.‬‬
‫تعزيز هذا التأثير‪ّ ،‬‬
‫من خالل ذلك ك ّله‪ ،‬قد نفهم أنّ المسؤولية التي يشير إليها‬
‫الحديث هي أبعد من المسؤولية التنفيذية للمـوقع الـذي يشغله‪ ،‬بل‬
‫عمليا‪ ،‬بحيث يكون‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫والخط والنهج‬ ‫مسؤولية تمثيل المبدأ‬
‫ّ‬ ‫تتعداها إلى‬
‫ّ‬
‫توجهاته للناس بعمله قبل‬
‫تقرب حكمه أو قراراته أو ّ‬ ‫هو القدوة التي ّ‬
‫قوله وأمره‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫المبدئيين‬
‫ّ‬ ‫سبب فشل تجارب‬
‫وربما يحسن بنا أن نختم باإلشارة إلى اإلخفاق التي تُمنى به‬ ‫ّ‬
‫اإلسالميين‪ ،‬وهي أنّهم ال يحسنون تمثيل‬
‫ّ‬ ‫بعض تجارب الحكم لدى‬
‫اإلسالمية عندما يتس ّلمون‬
‫ّ‬ ‫الحي للمبادئ والقيم والقواعد‬
‫ّ‬ ‫النموذج‬
‫القمعية بعد فترات طويلة‬
‫ّ‬ ‫سيما بعد سيادة األنظمة‬
‫مواقع الحكم‪ ،‬وال ّ‬
‫من الزمن‪ ،‬والتي تؤ ّثر بطبيعتها على الشّ عوب وأوضاعها االجتماعية‬
‫والنفسية والثقافية وما إلى ذلك‪ ،‬األمر الذي تحتاج معه إلى تراكم‬
‫يترسخ‬
‫ثم لكي ّ‬ ‫تغيره‪ ،‬ومن ّ‬‫طويل لكي ينمو وعي الشّ عوب لما ينبغي ّ‬
‫الحي‬
‫ّ‬ ‫التغير في بنى المجتمع‪ ،‬في الوقت الذي يؤ ّدي فيه النموذج‬
‫هذا ّ‬
‫أساسيا في‬
‫ً‬ ‫دورا‬
‫اإلسالميون في مواقع الحكم ً‬‫ّ‬ ‫للمبادئ الذي يمثّله‬
‫السيىء‪.‬‬
‫تثبيت تجربة الحكم‪ ،‬أو في إفشالها عبر النموذج ّ‬
‫آمن المسلمون بال ّنبي واإلسالم وخاضوا في سبيله ال ّلجج‪،‬‬
‫لقد َ‬
‫يتعرفوا الكثير عن مفاهيم إسالمهم‪،‬‬
‫المهج‪ ،‬ح ّتى قبل أن ّ‬ ‫وبذلوا ُ‬
‫والقوانين التي يجب أن تحكمهم‪ ،‬والنظام الذي يجب أن يسودهم‪،‬‬
‫للنبي ‪ ،P‬والتي‬
‫ّ‬ ‫قوة النموذج التي كانت‬
‫وذلك لم يكن ليكون لوال ّ‬
‫رأوا فيها المبادئ قبل أن يسمعوا بها‪ ،‬والسلوك القيمي قبل أن يقرأوه‬
‫في آيات الكتاب‪.‬‬

‫التنمية البشرية المطلوبة‬


‫وهذا هو األمر الذي ينبغي أن ُيعتنى به في عمل األحزاب‬
‫تستمر على المبادئ التي تؤمن بها؛‬
‫ّ‬ ‫والمؤسسات إذا ما أريد لها أن‬
‫ً‬
‫مرتبطا بالشكل واألدوات أو بال ُّن ُظم المكتوبة على‬ ‫فليس االستمرار‬
‫‪94‬‬
‫بالدرجة األولى باإلنسان الذي يستثمر‬ ‫الورق‪ ،‬وإنّما هي مرتبطة ّ‬
‫ويطبق ال ُّنظم عن قناعة وإيمان‪ .‬ولذلك يجب‬ ‫ّ‬ ‫الشكل واألدوات‪،‬‬
‫صرف الجهد الكبير على التربية والتثقيف والتدريب في أبعادها كافّة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫الفكرية والروحية والقيمية والف ّنية؛ ليكون العمل هو المجال الذي‬
‫أساسية‪ ،‬يمكن‬ ‫ّ‬ ‫تتج ّلى فيه عناصر الشخصية ك ُّلها‪ ،‬وذلك في ثالثة أبعاد‬
‫﴿ه َو‬
‫يبينها قول الله تعالى‪ُ :‬‬ ‫النبوية التي ّ‬ ‫ّ‬ ‫بالمهمة‬
‫ّ‬ ‫تتلخص ابتدا ًء‬ ‫أن ّ‬
‫ين َر ُسو ًال ِّم ْن ُه ْم َي ْت ُلو َع َل ْي ِه ْم آ َياتِ ِه َو ُي َز ِّكي ِه ْم َو ُي َع ِّل ُم ُه ُم‬ ‫ا َّل ِذي َب َع َث ِفي ْ ُ‬
‫ال ِّم ِّي َ‬
‫ين﴾(((‪:‬‬ ‫اب َوا ْل ِح ْك َم َة َوإِن َكانُوا ِمن َق ْب ُل َل ِفي َض َل ٍل ُّمبِ ٍ‬ ‫ا ْل ِك َت َ‬
‫األول‪ :‬التنمية اإليمانية‪ ،‬حيث المطلوب أن يوجد لدى العاملين‬ ‫ّ‬
‫اإليمان بالعمل‪ ،‬والقناعة الفكرية والوجدانية باألهداف التي يسعون‬
‫إليها‪ ،‬وذلك ليكون عملهم من موقع التب ّني‪ ،‬ال من موقع األداء المهني‬
‫النفعي‪.‬‬
‫هذا ال يعني أن ال يعير اإلنسان اهتما ًما بأمور معيشته التي ينشدها‬
‫استمرارية العمل‪ ،‬فنحن‬
‫ّ‬ ‫نتحدث عن‬ ‫ّ‬ ‫من وراء العمل‪ ،‬ولك ّننا عندما‬
‫جزء من طبيعة‬
‫وتحديات وضغوط هي ٌ‬ ‫ّ‬ ‫لمتغيرات‬
‫ّ‬ ‫نتحدث عن مواجهة‬ ‫ّ‬
‫النفعية‬
‫ّ‬ ‫وتطور حركة الزمن‪ ،‬وهذا يتط ّلب شي ًئا أبعد من المصلحة‬ ‫ّ‬ ‫الحياة‬
‫الما ّدية‪ ،‬يتط ّلب األمر إيمانًا بضرورة االستمرار‪ ،‬واستعدا ًدا للتضحية‬
‫شيء أشبه بالعالقة بين األب وأبنائه!‬ ‫ٌ‬ ‫في سبيلها‪ .‬إنّه‬
‫ّ‬
‫والمنظمات والحركات‬ ‫المؤسسات واألحزاب‬ ‫ّ‬ ‫إنّ مشكلة كثير من‬
‫رسالية كبيرة‪ ،‬تؤ ّدي من خاللها خدمة جليلة‬
‫ّ‬ ‫التي تنشأ على قاعدة‬

‫(( ( سورة الجمعة‪ ،‬اآلية ‪.2‬‬


‫‪95‬‬
‫للمجتمع‪ ،‬انطال ًقا من المسؤولية التي وضعها الله على عاتق اإلنسان‪،‬‬
‫الرسالية إلى الخدمة الوظيفية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تتحول من الخلفية‬ ‫ّ‬ ‫مشكلتها عندما‬
‫مجرد ُأ َجراء‪ ،‬يحوطونها ما انتفعوا بها‪ ،‬فإذا ّ‬
‫تبدلت‬ ‫ليكون العاملون فيها ّ‬
‫التحديات التي تتط ّلب التضحية ببعض المنافع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫األوضاع‪ ،‬وأقبلت‬
‫تركوها إلى خيارات أخرى!‬
‫العملية‪ ،‬وذلك باكتساب المهارات الضرورية ألداء‬‫ّ‬ ‫الثاني‪ :‬التنمية‬
‫التطورات‬
‫ّ‬ ‫مستمر مع‬
‫ّ‬ ‫العمل؛ وذلك هو الذي يحقّق جودة الخدمة بشكل‬
‫يلبيها‪ .‬إنّ عدم‬ ‫مما يتط ّلب ّ‬
‫تطو ًرا في الحاجات‪ ،‬وبالتالي ما ّ‬ ‫الزمانية‪ّ ،‬‬
‫المؤسسي العمود الفقري للدور‬
‫َّ‬ ‫إيالء هذا الموضوع عناية ُيفقد اإلطار‬
‫الذي يؤ ّديه في الحياة‪ ،‬مهما كان العاملون بها مؤمنين برسالته وأهدافه‪.‬‬
‫تسد الحاجة بأفضل ما‬
‫فالمطلوب في ال ّنهاية تأدية وظيفة أو خدمة ما ّ‬
‫يمكن وفقًا لمتط ّلباتها الموضوعية‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬التنمية الروحية‪ ،‬وذلك بتأكيد عنصر االستقامة على المبادئ‬
‫التي يقوم عليها العمل‪ ،‬وهو يتط ّلب الفهم العميق لهذه المبادئ‪ ،‬وفهم‬
‫ثم‬
‫تمظهرها وتطبيقاتها باختالف الظروف واألوضاع والحاالت‪ّ ،‬‬
‫عمليا في حركة العمل انطالق ًا من ّ‬
‫قوة االلتزام‪،‬‬ ‫ً‬ ‫امتالك إرادة تحريكها‬
‫وجل‪ .‬وإنّ واحدة من مشاكل‬ ‫عز َّ‬
‫وسالمة الضمير‪ ،‬وحسابات تقوى الله َّ‬
‫العمل هي الفجوة بين ما «ينبغي» وما « ُيفعل»‪ ،‬وهي الفجوة الحاصلة‬
‫تحرك األدوات‬‫بين أن تُدرك ما الذي يجب عليك أن تحقّقه‪ ،‬وبين أن ّ‬
‫في سبيل أن تحقّق الذي يجب عليك‪.‬‬
‫الشخصية القيادية في‬
‫ّ‬ ‫استمرارية‬
‫ّ‬ ‫تؤمن‬
‫هذه األبعاد الثالثة هي التي ّ‬
‫حركة العاملين‪ ،‬وهي التي توفّر العناصر التي يقع على عاتقها استمرار‬
‫‪96‬‬
‫تنبث في مفاصل‬
‫الرؤية والرسالة واألهداف‪ ،‬إضافة إلى الروح التي ُّ‬
‫العمل ك ّلها‪.‬‬

‫تأ ّمل!‬
‫نتأمل في بعض العوامل التي تجعل استمرار‬ ‫ولع ّلنا نستطيع هنا أن ّ‬
‫عائليا‪ ،‬بحيث يصبح استمرارها ره ًنا‬ ‫نحوا‬
‫سية ينحو ً‬ ‫ُ‬
‫ًّ‬ ‫المؤس ّ‬
‫َّ‬ ‫األطر‬
‫المؤسسين أو القيادات إلى‬
‫ّ‬ ‫ناشئ من ركون‬
‫ٌ‬ ‫بالتوريث العائلي‪ ،‬فهذا‬
‫حد ذاته‬‫الشخصية باستمرار القريبين على المبادئ‪ ،‬وهذا في ّ‬‫ّ‬ ‫الثقة‬
‫األسرية تستبطن اعتبار العمل جز ًءا من‬
‫ّ‬ ‫نسبيا‪ ،‬بمعنى أنّ الحالة‬
‫صحيح ً‬
‫التزاماتها‪ ،‬ما ينقل هذا «اإليمان» إلى أفراد األسرة بشكل ال شعوري‪.‬‬
‫العملية‬
‫ّ‬ ‫المؤسسية‪ ،‬وفي‬
‫ّ‬ ‫ّإل أنّ هذا يشير إلى ضعف في البنية‬
‫التربوية التي يجب أن تكون جز ًءا من صناعة القيادات المؤمنة بالعمل‬
‫التحديات‪ ،‬وبعد‬
‫ّ‬ ‫ويتم اختبار إخالصها عند‬
‫ومبادئه ورسالته وأهدافه‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫جديد في العمل‪ ،‬ال‬ ‫ضخ د ٍم‬
‫ذلك يكون االستمرار عبر هؤالء جز ًءا من ّ‬
‫ذاتي لألسرة أو لالنتماء الخاص‪ ،‬بل يبقيه في إطاره‬
‫يحوله إلى شيء ّ‬ ‫ّ‬
‫العام‪.‬‬
‫ّ‬
‫العائلية‪ ،‬التي تمنع أفراد‬
‫ّ‬ ‫ليس المطلوب هنا أن يكون لدينا عقدة ضد‬
‫ولكن المطلوب‬ ‫ّ‬ ‫العائلة من التعبير عن إيمانهم وكفاءتهم في العمل‪،‬‬
‫ٌ‬
‫ضعف في بنيته‪ ،‬بحيث يكون استمراره ره ًنا‬ ‫ً‬
‫أيضا أن ال يكون في العمل‬
‫بها‪ ،‬بل تكون المعايير هنا وهناك هي األساس‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫‪16‬‬
‫ٌ‬
‫أخالق ال تجارة!‬

‫وإن من مكار ِم‬ ‫عليك ْم بمكا ِر ِم األخالق؛ َّ‬


‫فإن الل َه بع َثني بها‪َّ .‬‬ ‫ُ‬
‫ظلم ُه‪ ،‬و ُيعطي من حر َم ُه‪،‬‬
‫عمن َ‬ ‫ُ‬
‫الرجل ّ‬ ‫ِ‬
‫األخالق أن يعفو‬
‫قطع ُه‪ ،‬وأن يعو َد من ال يعو ُده(((‪.‬‬
‫ويصل من َ‬ ‫ُ‬

‫التبادلية هي الدارجة بين الناس‪ ،‬فالناس يتبادلون الزيارات‬


‫ّ‬ ‫األخالق‬
‫اإليجابية‪ ،‬والتحايا في المناسبات‬
‫ّ‬ ‫والهدايا‪ ،‬ويتبادلون كذلك المواقف‬
‫مما يحتاجه الناس‬
‫االجتماعية وما إلى ذلك‪ .‬وهذا النوع من األخالق ّ‬‫ّ‬
‫حافز‬
‫النتظام حياتهم وتماسك مجتمعاتهم‪ ،‬ومن دونها لن يكون هناك ٌ‬
‫أي مجتمعٍ ‪ ،‬وبالتالي ي ّتجه شي ًئا فشي ًئا نحو ّ‬
‫التفكك‪.‬‬ ‫للتواصل بين أفراد ّ‬
‫من المفيد أن نذكر هنا أنَّ الشعور بالخجل والمجاملة قد يكون‬
‫األخالقية‪ ،‬بحيث إنّ اإلنسان قد ال يكون‬
‫ّ‬ ‫التبادلية‬
‫ّ‬ ‫الحافز وراء هذه‬
‫ٍ‬
‫تواصل‪ ،‬ولك ّنه يقوم بذلك بدافع‬ ‫إيجابي على‬
‫ّ‬ ‫لديه حافز لزيارة أو ر ّد‬
‫حذرا من ال ّلوم االجتماعي‪ .‬ومن البديهي‬
‫الخجل من الطرف اآلخر‪ ،‬أو ً‬
‫تتضخم لديه مشاعر الفردية إلى درجة فقدان‬ ‫ّ‬ ‫مجتمعا ما قد‬ ‫ٍ‬
‫حينئذ أنّ‬
‫ً‬

‫((( الشيخ الطوسي‪ ،‬األمالي‪ ،‬ص ‪.478‬‬


‫‪98‬‬
‫يربي عليها أبناءه إن لم يكن العكس‪ ،‬مثل‬ ‫الخجل في مثل ذلك‪ ،‬فال ّ‬
‫بأي حاف ٍز لمبادلة اآلخرين مبادراتهم الحسنة‪.‬‬
‫هذا المجتمع قد ال يشعر ّ‬

‫المبادرة األخالقية الحسنة‬


‫والضرورية بعيدة عن الجمال‬
‫ّ‬ ‫التبادلية الحسنة‬
‫ّ‬ ‫ولكن تبقى هذه‬
‫واأللق اإلنساني الداخلي في التعبير عن ذاته‪ّ .‬أما مكارم األخالق‬
‫يتحول فيها الحافز من‬
‫فتمثّل المستوى األعلى من األخالق‪ ،‬وهي التي ّ‬
‫قوة اإليمان بالله تعالى‬‫ذاتي‪ ،‬ينبع من ّ‬
‫داخلي ّ‬
‫ّ‬ ‫خارجي إلى حاف ٍز‬
‫ّ‬ ‫حاف ٍز‬
‫ٍ‬
‫مبادرات‪ ،‬وال تنظر إلى طبيعة المبادرة‬ ‫ومحبته‪ ،‬وهنا ال تنتظر األخالق‬‫ّ‬
‫لتتحدد المبادلة بما يوازيها‪ ،‬بل هي تنبع من إرادة‬
‫ّ‬ ‫ونوعيتها‬
‫ّ‬ ‫في حجمها‬
‫بمعزل عن مبادرات اآلخرين‪ ،‬وتنطلق من مستوى ٍ‬
‫عال من‬ ‫ٍ‬ ‫تجسيد ِ‬
‫الق َيم‬
‫تهذيب النفس وتربيتها على اإلحساس باآلخر وبقيمة المبادرة تجاهه‪.‬‬
‫ومع ذلك فقد نجد أنَّ هذا الذي ذكرناه ليس هو المستوى األعلى من‬
‫إيجابي‪ ،‬فهو في موقع محايد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫المكارم؛ ألنَّ اآلخر إذا لم يكن في موقع‬

‫مكارم األخالق عملية تطهير‬


‫ّأما مكارم األخالق التي يرمي إليها الحديث المختار‪ ،‬فهي تمثّل‬
‫يقف موق ًفا محايدً ا‪ ،‬وإنّما‬
‫مبادلة اإلساءة باإلحسان‪ ،‬فاآلخر هنا ال ُ‬
‫أجسد مكارم األخالق فأنا أعفو‬ ‫أردت أن ّ‬
‫ُ‬ ‫الظلم في حقّي‪ ،‬فإذا‬
‫َ‬ ‫يمارس‬
‫ولكن الحديث‬ ‫َّ‬ ‫عنه؛ واآلخر قد ال يعطي ألنّه لم يلتفت إلى حاجتي‪،‬‬
‫أي إنّ ذلك‬ ‫يتحدث عن ذلك بل عن الحرمان‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫الشريف السابق ال‬
‫يحتاج‪.‬‬
‫ُ‬ ‫عرف حاجتي وحرمني‪ ،‬ومع ذلك أقوم أنا بإعطائه عندما‬‫اآلخر َ‬

‫‪99‬‬
‫تكب ٍر أو مزايدة‬ ‫ٍ‬
‫وهكذا تمثّل األخالق هنا حالة تعال للذات‪ ،‬ال من موقع ُّ‬
‫ألي‬
‫يهذب نفسه‪ ،‬بحيث ال تذعن ّ‬ ‫على اآلخر‪ ،‬بل ألنّ اإلنسان يريد أن ّ‬
‫ضد اآلخر‪ ،‬بل تحذفها من ذاكرتها بالفعل المضا ّد الذي‬
‫سلبية ّ‬
‫مبررات ّ‬ ‫ّ‬
‫يخرج من النفس أضغانها‪.‬‬
‫ُ‬
‫كل ما يثقلها من‬ ‫ٍ‬
‫تنظيف وتزكية للنفس من ّ‬ ‫عملية‬ ‫إنّ األخالق هنا‬
‫ّ‬
‫تتحول بفعل التراكم وتعقيدات الزمن إلى‬
‫ّ‬ ‫سلبيات اآلخرين‪ ،‬ح ّتى ال‬ ‫ّ‬
‫موج ًها‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حالة بغضاء وكراهية وحقد‪ ،‬تأكل نفس اإلنسان قبل أن يكون ّ‬
‫داء‬
‫«دب إليكم ُ‬‫النبي ‪َّ :P‬‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬
‫ولعل هذا يحيلنا إلى حديث ِّ‬ ‫نحو اآلخرين‪.‬‬
‫األمم قبلكم‪ :‬الحسد والبغضاء‪ .‬هي الحالقة! ال أقول تحلق الشّ عر‪،‬‬
‫الدين»(((‪ .‬هذا من جهة‪.‬‬ ‫ولكن تحلق ّ‬

‫والسلم االجتماعي‬
‫مكارم األخالق ّ‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬إنّ تحقيق السلم االجتماعي يتط ّلب تربية النفس‬
‫األخالقية‪ ،‬واأللق اإلنساني؛ ألنّ‬ ‫ّ‬ ‫على هذا المستوى من األريحية‬
‫ستهان به من العالقات بين‬ ‫ُ‬ ‫الظلم واإلساءة تمثّل جز ًءا ال ُي‬ ‫حاالت ُّ‬
‫س َأل َّم َ‬
‫ار ٌة‬ ‫ال ّناس‪ ،‬إن لم تكن هي النسبة الغالبة على قاعدة أنّ ﴿ال َّن ْف َ‬
‫وء إِ َّال َما َر ِح َم َر ِّب َي﴾(((‪ ،‬وعلى ُهدى ما قال الشّ اعر‪:‬‬
‫بِالس ِ‬
‫ُّ‬
‫يظلــــم‬ ‫ذا ع ّف ٍ‬
‫ـــة فلـعـ ّلـة ال‬ ‫ُّ‬
‫والظلم من شيم ال ّنفوس فإن تجد‬
‫ُ‬
‫وعليه فر ّد الفعل إذا لم يكن بهذا المستوى من الترفّع عن ر ّد اإلساءة‬

‫((( ابن عبد البر‪ ،‬جامع بيان العلم وفضله‪ ،‬ج ‪ ،٢‬ص ‪١٥٠‬‬
‫((( سورة يوسف‪ ،‬اآلية ‪.53‬‬
‫‪100‬‬
‫عامل من عوامل زيادة مساحة الظلم‬‫عتبر ً‬ ‫بمثلها‪ّ ،‬‬
‫والظلم بنظيره‪ ،‬فهو ُي َ‬
‫تبعا لحاالت‬ ‫ربما تزداد مساحة ُّ‬
‫الظلم ً‬ ‫عبر ر ّد الفعل الطبيعي ً‬
‫أيضا‪ ،‬بل ّ‬
‫دي‬
‫مما اع ُت َ‬
‫والتعدي بأزيد ّ‬
‫ّ‬ ‫التش ّفي واالنتقام التي تدفع نحو الجور‬
‫السلبية في تراكم للسلبيات إلى‬ ‫تدخل العالقات‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫وعندئذ‬ ‫وظلم‪.‬‬‫به ُ‬
‫ّ‬
‫درجة التعقيد الذي ال يقتصر على ٍ‬
‫جيل‪ ،‬بل تتوارثه األجيال‪ .‬وهذا ما‬
‫شهدنا أمثاله في العائالت التي انغلقت على أحكا ٍم مبرمة تجاه بعض‬
‫معين‪،‬‬
‫جيل ّ‬ ‫سلبية الفعل ور ّد الفعل لدى ٍ‬
‫تحركت في ّ‬ ‫العالقات التي ّ‬
‫فأصبحت بفعل تراكمات الزمن وتعقيدات المشاعر‪ ،‬جز ًءا من قواعد‬
‫بحثت عن أصل‬ ‫َ‬ ‫الديني مع اآلخرين! ولو‬
‫تعاطيها االجتماعي‪ ،‬وح ّتى ّ‬
‫ٍ‬
‫ميراث أو حفنة من المال أو إساءة‬ ‫ٍ‬
‫أجداد على‬ ‫المشكلة لوجدتها نزاع‬
‫كفيل بتغيير المعتدي والمعتدى عليه‬‫ٌ‬ ‫في كلمة‪ ..‬والحال أنّ الزمن‬
‫تتم المبادرة‬
‫طبيعيا بفعل الزمن‪ ،‬وتبريد كثير من المشاعر‪ ،‬ولكن ال ّ‬ ‫ًّ‬
‫أي طرف بفعل تزيين الشيطان تحت عنوان االنتصار‬ ‫ٍ‬ ‫بإيجابية من قبل ّ‬
‫ّ‬
‫للكرامة الشخصية!‬

‫مكارم األخالق واإلغراء باإلساءة‬


‫ِ‬
‫األخالق أصحاب بعض النفوس‬ ‫مكارم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تسأل‪ :‬أال تغري‬ ‫قد‬
‫بالحس والوجدان!‬
‫ّ‬ ‫ثابت‬
‫أمر ٌ‬‫باالسترسال في اإلساءة؟ وهذا ٌ‬
‫والجواب على ذلك أنّ هناك جانبين‪:‬‬
‫األول‪ :‬االســتعداد النفســي والروحي لمقابلة اإلســاءة باإلحســان‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وهــذا مســتوى يحتــاج إلــى تربيــة النفــس وتزكيتهــا وجهادهــا‪ ،‬وهــو‬
‫مــا يــؤ ّدي إلــى أن يصبــح ال ّلجــوء إلــى مــكارم األخــاق هــو الخيــار‬
‫‪101‬‬
‫تلقائيــا وعفو ًيــا نتيجــة‬
‫ً‬ ‫النفــس إليــه‬
‫ُ‬ ‫األول‪ ،‬بــل هــو الــذي تنــزع‬
‫ّ‬
‫التربيــة‪.‬‬
‫الثانــي‪ :‬فــي بعــض الحــاالت قــد يجــد المــرء أنّ مقابلــة اإلســاءة‬
‫ٌ‬
‫فعــل يدفــع اآلخــر إلــى المزيــد مــن اإلســاءة‪ ،‬علــى‬ ‫باإلحســان‬
‫قاعــدة‪:‬‬
‫تمردا‬
‫وإن أنت أكرمت اللئيم ّ‬ ‫أكرمت الكريم ملكته‬
‫َ‬ ‫إذا أنت‬
‫وبهذا يكون الموقف األخالقي نفسه إساءة‪ ،‬وقد عالجنا ذلك فيما‬
‫سبق‪ ،‬و ُقلنا إنّ هذه الحالة تجعل الموقف األكثر انسجا ًما مع ما تهدف‬
‫إليه األخالق هو االنتصار للذات واالقتصاص‪ ،‬ولكن في العمق يكون‬
‫النفس نتيجة تربيتها‬
‫ُ‬ ‫هذا الموقف هو الخيار األخير الذي ال تهواه‬
‫رقيها وسكينتها النفسية‪ ،‬وهي‬ ‫وتزكيتها‪ ،‬بحيث إنّ الذات باقية على ّ‬
‫تتحرك في هذا الخيار من موقع األنا والتش ّفي من ناحية ذاتية‪ ،‬بل‬
‫ّ‬ ‫لم‬
‫َ‬
‫مستبطن في روحية‬ ‫دائما‬
‫من خالل مصلحة اآلخر والحياة‪ ،‬فاآلخر ً‬
‫ويحدده على أرض الواقع‬‫ّ‬ ‫اإلنسان المؤمن في ما يأخذه من خيارات‬
‫من مواقف‪.‬‬
‫يتحول الذين يحملون رسالة مكارم األخالق‬ ‫انطال ًقا من ذلك ك ّله‪ّ ،‬‬
‫اإليجابية في‬ ‫قادة للخير في المجتمع‪ ،‬وإلى من يو ّلدون الطاقة‬‫إلى ٍ‬
‫ّ‬
‫خب ْت شعلتها تحت ضغط شياطين‬ ‫حركة األخالق في المجتمع ك ّلما َ‬
‫الما ّدية وهجماتهم على نفس اإلنسان وروحه‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫‪17‬‬
‫االسترزاق عبادة‬

‫ٍ‬
‫أجزاء في طلب الحالل(((‪.‬‬ ‫العبادة عشرة أجزاء‪ ،‬تسعة‬

‫هاما من ُأسس اإليمان وبناء‬


‫هذا الحديث الشريف يشيد أساس ًا ًّ‬
‫العالقة مع الله‪.‬‬
‫الشعائرية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الفكرة السائدة أنّ العبادة تقتصر على بعض الممارسات‬
‫صبح مجال العبادة هو‬
‫والحج ونحو ذلك‪ ،‬وبذلك ُي ُ‬
‫ّ‬ ‫كالصالة والصيام‬
‫المحددة التي تص َّنف‬
‫ّ‬ ‫المحدد أو األفعال‬
‫ّ‬ ‫المحدد أو الزمان‬
‫ّ‬ ‫المكان‬
‫دينيا ضمن عنوان العبادات‪.‬‬
‫ً‬
‫لكن العبادة ـ في مفهومها ـ تختزن معنى انسحاق اإلنسان في إرادته‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫جانب؛ ألنّ‬ ‫جانبا من حياة اإلنسان دون‬
‫إلرادة الله‪ ،‬وهذا ال يشمل ً‬
‫األخالقية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫إرادة الله التشريعية‪ ،‬سواء في األحكام الشرعية أو في القيم‬
‫لم تتع ّلق بجانب العبادات ـ بالمعنى المصطلح ـ فحسب‪ ،‬وإنّما أرادت‬
‫من اإلنسان أن يستقيم في أوضاعه وشؤونه ومجاالته ك ّلها‪ ،‬وفي هذا‬

‫(( ( بحار األنوار‪ ،‬ج ‪ ،١٠٠‬ص ‪ ،٩‬ح ‪ ،٣٧‬وقد روي هذا الحديث كحديث قدسي‪« :‬يا‬
‫أحمد‪ ،‬إنّ العبادة عشرة أجزاء‪ ،‬تسعة منها طلب الحالل»‪ .‬إرشاد القلوب‪ ،‬ص ‪.٢٣‬‬
‫‪103‬‬
‫الحكمة ك ُّلها‪ ،‬وتزكية النفس في أعلى مراتبها‪ .‬وقد أشار الله تعالى إلى‬
‫آيات عديدة في كتابه العزيز‪ ،‬والتي أب َلغُ ها ما ورد في الرؤية‬ ‫ذلك في ٍ‬
‫الرسل وإنزال الكتب‪ ،‬وهي هداية ال ّناس‬ ‫الك ّلية التي تحكم إرسال ُّ‬
‫والسعادة‪ ،‬كقوله تعالى ـ في حديثه عن مرحلة ما بعد هبوط‬ ‫إلى األمن ّ‬
‫اإلنسان من الج ّنة ـ‪ُ ﴿ :‬ق ْل َنا ْاهبِ ُطو ْا ِم ْن َها َج ِميع ًا َفإِ َّما َي ْأتِ َي َّن ُكم ِّم ِّني ُهدً ى‬
‫ال َخ ْو ٌف َع َل ْي ِه ْم َو َال ُه ْم َي ْح َز ُنونَ ﴾(((‪.‬‬ ‫اي َف َ‬
‫َف َمن َتبِ َع ُهدَ َ‬
‫األنانية والجشع‬
‫ّ‬ ‫يعبر عن نوازع‬ ‫لنتخيل ـ ً‬
‫مثل ـ أن يكون لإلنسان أن ّ‬ ‫ّ‬
‫في تجارته‪ ،‬فكيف سيكون انعكاس ذلك على نفس اإلنسان؟‬
‫مرتعا للشيطان‪،‬‬
‫نفس اإلنسان ً‬ ‫بال ٍ‬
‫شك‪ ،‬إنّ ذلك‬
‫سيؤسس لتكون ُ‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫ويجول‪ ،‬فيدفعه تارة إلى أن يدخل في مداخل المال الحرام‪،‬‬ ‫ُ‬
‫يصول فيها‬
‫عمن يحتاجها؛‬ ‫والصفقات المشبوهة‪ ،‬أو أن يمنع اإلنسان نعمة المال ّ‬
‫على قاعدة أنّ «الله سبحانه فرض في أموال األغنياء أقوات الفقراء‪ ،‬فما‬
‫جاع فقير ّإل بما م ّتع به غني‪ ،‬والله تعالى سائلهم عن ذلك»(((‪ ،‬بحيث‬
‫مسؤولية‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫نعمة لدى اإلنسان إلى‬ ‫أي‬
‫تتحول ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫عمل في‬ ‫أي‬
‫وفي مطلق األحوال‪ ،‬يصبح العمل التجاري‪ ،‬أو ّ‬
‫ّ‬
‫الخط‬ ‫المتنوعة‪ ،‬ميدانًا الختبار مدى االستقامة على‬
‫ّ‬ ‫مجاالت الحياة‬
‫طلب الحالل‬ ‫الذي يرضاه الله تعالى‪ ،‬أو االنحراف عنه‪ ،‬وبذلك يكون ُ‬
‫ّ‬
‫التحكم بنوازع النفس ك ّلها أمام‬ ‫حد ذاته تجسيدً ا للعبودية لله‪ ،‬عبر‬
‫في ّ‬
‫مثيراتها؛ ألنّ مشكلة اإلنسان تنشأ من موافقة نوازع هوى النفس بعيدً ا‬
‫عن عقال العقل والقيم‪.‬‬
‫(( ( سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.38‬‬
‫(( ( نهج البالغة‪ ،‬ج ‪ ،٤‬ص ‪.٣٢٧ ،٧٨‬‬
‫‪104‬‬
‫معايير طلب الحالل‬
‫وربما يحسن بنا هنا أن نثير الكالم حول بعض معايير طلب الحالل‪:‬‬
‫ّ‬
‫األول‪ :‬طبيعة العمل‪ ،‬فهناك أعمال مح ّللة وأخرى ّ‬
‫محرمة‪،‬‬ ‫المعيار ّ‬
‫العلماء أحكا َمها‬
‫ُ‬ ‫والس ّنة الشريفة‪ ،‬واستنبط‬
‫حددتها اآليات الكريمة ُّ‬‫وقد ّ‬
‫وسطروها في كتبهم الفقهية‪ .‬هذه األعمال تتمحور حول التجارة‬ ‫ّ‬
‫كل ما يرتبط بالغريزة الجنسية‪ ،‬أو بما يدخل إلى الجسد‬ ‫بالجسد‪ ،‬في ّ‬
‫صحته أو في عالقاته بمن حوله‪ ،‬كالخمر والميتة ولحم‬ ‫ويؤذيه في ّ‬
‫خط التوازن والهداية العاقلة في‬‫يضل اإلنسان عن ّ‬ ‫ّ‬ ‫الخنزير‪ ،‬أو بما‬
‫حياته‪ ،‬كالغناء المح ّفز للشهوات أو الباطل‪ ،‬أو بما يساهم في انحراف‬
‫مما‬
‫المنهج الذي يوازن حركة اإلنسان‪ ،‬كالسحر والشعوذة‪ ،‬وغير ذلك ّ‬
‫الفقهية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫راجع في المراجع‬‫ُي َ‬
‫بد هنا من االلتفات إلى أنّ طلب الحالل من خالل العمل‬ ‫وال ّ‬
‫تحد ًيا‪ ،‬وهو أنّ السوق التي تحكم حركة‬
‫الحالل قد يواجه في نفسه ّ‬
‫المحرمة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫التجارة واألعمال قد تجعل الربح والوفرة أكبر في األعمال‬
‫يتحول العمل الحالل إلى خيار صعب‪ ،‬ويضعه في مواجهة‬ ‫ّ‬ ‫وبذلك‬
‫حبها للخير وتوقها للحصول على ما ُيشبعها من المال‬ ‫هوى النفس‪ ،‬في ّ‬
‫والشهوة‪ ،‬أو بما يثيره الشعور بالحرمان عبر النظر إلى ما حصل عليه‬
‫بد أن يبتعد اإلنسان عنها بسبب حرمتها‪ ..‬هذا‬ ‫ٍ‬
‫أعمال ال ّ‬ ‫اآلخرون من‬
‫ال ّلون من المواجهة مع ال ّنفس يندرج تحت عنوان الجهاد األكبر(((‪،‬‬
‫السير‬
‫وذلك لحفظها من االنحراف عن الطريق الذي ارتضى الله لنا ّ‬
‫سرية فلما رجعوا‪ ،‬قال‪:‬‬
‫النبي ‪ P‬بعث ّ‬ ‫ّ‬ ‫((( روي عن اإلمام جعفر الصادق ‪ Q‬أنّ‬
‫مرحب ًا بقوم قضوا الجهاد األصغر وبقي عليهم الجهاد األكبر‪ ،‬فقيل‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬ما‬
‫الجهاد األكبر‪ ،‬قال‪ :‬جهاد ال ّنفس‪ .‬الكليني‪ ،‬الكافي‪ ،‬ج ‪ ،5‬الباب ‪ ،12‬ح ‪.3‬‬
‫‪105‬‬
‫فيه‪ ،‬وصونها من االنجذاب نحو الخطوط والخيارات السهلة والمربحة‬
‫وتحديات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قياسا بالعمل الحالل وما يفرضه من صعوبات‬
‫ً‬
‫القرآني على أنّ الرزق‬
‫ّ‬ ‫ولع ّلنا نستطيع هنا أن نفهم لماذا كان اإلصرار‬
‫أعده له‪ ،‬وأن‬ ‫مما تك ّفل به الله لعباده‪ ،‬وأنّ على اإلنسان أن يثق ّ‬
‫بربه فيما ّ‬ ‫ّ‬
‫يقنع بما يمنحه ّإياه‪ ،‬وأن يعرف في الوقت نفسه أنّ الطمع ضرر له؛ ألنّه‬
‫بدل من أن يكون المال‬ ‫عبد ألصحابه ً‬‫يحوله إلى خادم للمال أو إلى ٍ‬
‫ّ‬
‫وسيلة له لعيش حياة أفضل‪ ،‬وتحقيق ارتقاء إنساني أعلى‪ .‬من تلك‬
‫﴿و َمن َي َّت ِق ال َّل َه َي ْج َعل َّل ُه َم ْخ َرج ًا َ‬
‫*و َي ْرزُ ْق ُه‬ ‫اآليات الموحية قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ِم ْن َح ْي ُث َل َي ْح َت ِس ُب َو َمن َي َت َو َّك ْل َع َلى ال َّل ِه َف ُه َو َح ْس ُب ُه إِ َّن ال َّل َه َبالِغُ َأ ْم ِر ِه َق ْد‬
‫الس َماء ِرزْ ُق ُك ْم َو َما‬ ‫َج َع َل ال َّل ُه لِ ُك ِّل َشي ٍء َق ْدر ًا﴾(((‪ ،‬وقوله تعالى‪ِ َ :‬‬
‫﴿وفي َّ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ض إِ َّن ُه ل َح ٌّق ِّمثْل َما أنَّك ْم تَنط ُقونَ ﴾ ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫الس َماء َوال ْر ِ‬ ‫ُوعدُ ونَ * َف َو َر ِّب َّ‬‫ت َ‬
‫(((‪3‬‬

‫كيفية تأدية العمل؛ فإنَّ هناك الكثير من االلتزامات‬


‫المعيار الثّاني‪ّ :‬‬
‫ً‬
‫حالل‬ ‫التي تجعل اإلنسان يمارس الحرام في عمله وإن كان عم ُل ُه‬
‫الغش في‬
‫ّ‬ ‫وحرم‬
‫حرم اإلسالم التطفيف في الموازين‪ّ ،‬‬ ‫في نفسه‪ .‬ولذا َّ‬
‫حرم اإلسالم تالعب اإلنسان في التزاماته سواء‬ ‫والكم ّية‪ ،‬كما َّ‬
‫ّ‬ ‫النوعية‬
‫ّ‬
‫رب العمل وقوانينه‬ ‫فيما يرتبط بالوقت أو بالشروط التي يشترطها ّ‬
‫التطورات الحديثة في ن ُُظم عمل‬ ‫ّ‬ ‫ركزت عليه‬ ‫مما َّ‬‫وما إلى ذلك ّ‬
‫المؤسسات‪.‬‬
‫ّ‬

‫(((  سورة الذاريات‪ ،‬اآليتان ‪ 22‬ـ ‪.23‬‬


‫(((  سورة الطالق‪ ،‬اآليتان ‪ 2‬ـ ‪.3‬‬
‫‪106‬‬
‫فقدان الكفاءة والعمل الحرام‬
‫الغش يجعل اإلنسان نفسه في موقعٍ قد ال يملك‬
‫ّ‬ ‫نجد أنّ‬
‫بل قد ُ‬
‫علمية لم ينخرط في تحصيلها‬
‫كفاءته‪ ،‬كمن يرشو للحصول على شهادة ّ‬
‫وظيفي‬ ‫نافذا من أجل الحصول على موقع‬ ‫علميا‪ ،‬أو الذي يحابي ً‬
‫ً‬
‫ّ‬
‫غش‬ ‫ال يستحقّه بحسب معايير العمل‪ ،‬فإنّ النتيجة من ذلك ك ّله هي ّ‬
‫يغطي في عمله شروطه‬‫راتبا على ما ال ّ‬
‫ال ّناس في نتائج عمله‪ ،‬وقبضه ً‬
‫والتزاماته؛ ألنّه ـ ببساطة ـ ال يملك أدواتها‪ ،‬ما يجعل وظيفته انخراط ًا‬
‫عمل حرام!‬‫في ٍ‬

‫الحكومية منها‪ ،‬قد تفسد بسبب‬


‫ّ‬ ‫سيما‬
‫المؤسسات‪ ،‬وال ّ‬
‫ّ‬ ‫كثير من‬
‫والمحسوبيات‪ ،‬والتي ت ُ‬
‫ُدخل إلى‬ ‫ّ‬ ‫يسمى اليوم نظام الوساطات‬
‫ما ّ‬
‫كما ال حاجة للعمل به‪ ،‬أو أعدا ًدا ال كفاءة‬
‫المؤسسة أو تلك ًّ‬
‫ّ‬ ‫هذه‬
‫المذهبية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫لها سوى أنّها تنتمي إلى ما يحقّق المحاصصة الطائفية أو‬
‫المحسوبية على هذا الزعيم أو ذاك ال ّنافذ‪ ،‬وما إلى ذلك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أو نتيجة‬
‫أي ٍ‬
‫بلد‪،‬‬ ‫الرئيس لعمل ّ‬ ‫والمؤسسات الحكومية هي التي ّ‬
‫تشكل العصب ّ‬ ‫ّ‬
‫تتعرض دورة الحياة العلمية‪ ،‬في المؤسسات العلمية‪ ،‬ودورة‬
‫وبذلك ّ‬
‫مؤسسات االقتصاد‪ ،‬ودورة الحياة السياسية‬
‫الحياة االقتصادية‪ ،‬في ّ‬
‫تتعرض إلى التعثّر ويفقد الشّ عب‬
‫واالجتماعية واألمنية في مجاالتها‪ّ ،‬‬
‫نتيجة ذلك الكثير من طاقته وموارده‪.‬‬
‫المؤسسات الحكومية‬
‫ّ‬ ‫إضافة إلى ذلك‪ ،‬قد يستسهل الكثيرون في‬
‫المحددة‪ ،‬أو‬
‫ّ‬ ‫المهمات في أوقاتها‬
‫ّ‬ ‫التهرب من الدوام‪ ،‬أو التلكؤ في أداء‬
‫ّ‬
‫تصب في مصلحة العمل‪ ،‬أو ما إلى ذلك‬
‫ُّ‬ ‫إعاقة كثير من المشاريع التي‬
‫‪107‬‬
‫مما يرتبط بسير العمل اليومي‪...‬‬
‫ّ‬
‫إنّ المسألة التي قد ال يلتفت إليها كثيرون هي أنّ قبول اإلنسان‬
‫ُ‬
‫يعرف اإلنسان‬ ‫محر ًما في نفسه‪ ،‬وذلك عندما‬ ‫ٍ‬
‫بدخول سلك ما قد يكون ّ‬
‫أنّه ال يملك كفاءة العمل‪ ،‬أو يمثّل ً‬
‫فائضا على الحاجة‪ ،‬وبالتالي قد‬
‫أي موقف‬ ‫لتتخيل هنا ّ‬ ‫يكون ثمة إثم شرعي ح ّتى فيما يقبضه من ٍ‬
‫مال‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ٌ‬
‫مما ال يحتاجها‬
‫يعلم أنّها ّ‬
‫عبادي يكون اإلنسان فيه عندما يرفض وظيفة ُ‬
‫ّ‬
‫العمل‪ ،‬وإنّما فرضها زعيم أو متن ّفذ لسبب خاص أو انفعال شخصي‪.‬‬

‫مسؤولية‬
‫ّ‬ ‫المستمر‬
‫ّ‬ ‫التدريب‬
‫المستمر‪ ،‬بما يحافظ معه اإلنسان‬
‫ّ‬ ‫التدرب‬
‫ّ‬ ‫أيضا إلى أنّ‬
‫وربما نشير ً‬
‫ّ‬
‫بتطورات الحياة واألعمال‪ ،‬هو‬
‫ّ‬ ‫قياسا‬
‫على كفاءته العملية والعلمية ً‬
‫للترهل الوظيفي بأن‬
‫ّ‬ ‫جراء سماحه‬
‫تعرضه الكتساب اإلثم ّ‬ ‫مسؤولية قد ّ‬
‫ّ‬
‫يجب‪ .‬والتدريب‪،‬‬ ‫يصب في النهاية في عدم أدائه لمهنته كما ُ‬‫ُّ‬ ‫يصيبه؛ ألنّه‬
‫مسؤولية الجهة المالكة أو المديرة للعمل‪ ،‬ولك ّنها ال تعفي‬
‫ّ‬ ‫وإن كان من‬
‫شخصية‪ ،‬أو‬
‫ّ‬ ‫العامل نفسه من المطالبة بها‪ ،‬أو الحصول عليها من ناحية‬
‫عبر الوسائل الحديثة التي أصبح فيها التع ّلم سهل التناول‪.‬‬
‫ُ‬
‫العمل عبادةً؛ إذ‬ ‫تقدم ك ّله‪ ،‬يجعلنا نفهم بد ّقة كيف يكون‬
‫إنَّ ما َّ‬
‫يكفينا أن نرى حجم الجهاد النفسي الذي يتط ّلبه‪ ،‬والد ّقة التي يجب‬
‫َ‬
‫ندرك‬ ‫أن يتعامل من خاللها مع الخيارات واألداء وما إلى ذلك‪ ،‬ح ّتى‬
‫أنّ اإلنسان المستقيم على المبادئ‪ ،‬المخالِف لهوى النفس‪ ،‬يمارس‬
‫والعبودية‪ .‬وقد‬
‫ّ‬ ‫ركوعا وسجو ًدا إلرادة الله‪ ،‬وهو المعنى العميق للعبادة‬
‫ً‬
‫تقدم‪ ،‬أنّ التجزئة التي ذكرها الحديث‬ ‫يكون لنا أن نفهم انطالق ًا ّ‬
‫مما َّ‬
‫‪108‬‬
‫ـ في أن انقسام األجزاء العشرة للعبادة‪ ،‬بين تسعة في طلب الحالل‬
‫التحديات الكثيرة التي تواجه اإلنسان‬
‫ّ‬ ‫وواحدة في غيرها ـ إشارة إلى‬
‫ّ‬
‫األقل‪،‬‬ ‫في الحياة‪ ،‬ما يجعل المجال الطقوسي والشعائري هو المجال‬
‫يصوب خيارات اإلنسان عندما‬ ‫بد أن ّ‬ ‫وهو الذي يمثّل الجزء الذي ال ّ‬
‫يقدم على هذا العمل ويحجم عن ذاك‪ ،‬وعندما يختار صنعة أو مهنة‪،‬‬
‫وعندما يمارسها ويجني ثمارها‪ ،‬والله الهادي إلى سواء السبيل‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫‪18‬‬
‫والظن والحسد‬
‫ّ‬ ‫عالج الطيَرة‬

‫فامض‪ ،‬وإذا ظن ْن َت فال ِ‬


‫تقض‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫رت‬ ‫إذا َ‬
‫تط َّي َ‬
‫تبغ(((‪.‬‬
‫حسدت فال ِ‬
‫َ‬ ‫وإذا‬

‫الحق‬
‫ّ‬ ‫بالحق‪ ،‬وأراد من اإلنسان أن يجعل‬
‫ّ‬ ‫خلق الله تعالى الحياة‬
‫ميزانًا في حياته ك ّلها‪ ،‬في ما يقدم عليه أو يحجم‪ ،‬وفي ما يخوض فيه أو‬
‫يترك‪ ،‬وفي أهدافه ووسائله وخططه‪.‬‬
‫وقد يحصل أن يقع اإلنسان فريسة الوهم‪ ،‬فيربط بين أمور ال رابط‬
‫حقيقيا بينها‪ ،‬وهذا هو منشأ َ‬
‫الط َيرة‪ ،‬أو التشاؤم ـ بتعبي ٍر آخر ـ‪ ،‬فقد يربط‬ ‫ًّ‬
‫سي ًئا يصله بأنّ‬
‫خبرا ّ‬
‫اإلنسان بين طائر البوم والنحوسة‪ ،‬أو قد يربط ً‬
‫بسيارته‬
‫هرة ّ‬
‫دهس ّ‬ ‫ِ‬ ‫مصيره كذلك في نهاره ك ّله‪ ،‬وقد يتشاءم اإلنسان من‬
‫وتتنوع‪ ،‬ولك ّنها في‬
‫ّ‬ ‫تتعدد أسباب التشاؤم‬‫كانت تعبر الطريق‪ .‬وهكذا ّ‬
‫واحد‪ ،‬وهي فكرة الربط الذهني بين األشياء‪ ،‬من‬ ‫ٍ‬ ‫الحقيقة ترجع إلى أم ٍر‬
‫ثمة ارتباط حقيقي بينها‪.‬‬ ‫دون أن يكون ّ‬

‫((( ابن شعبة الحراني‪ ،‬تحف العقول‪ ،‬ص ‪.٤٩‬‬


‫‪110‬‬
‫التشاؤم مح ّله الذهن‬
‫الحديث الشريف يريد أن يلفت اإلنسان إلى أنّ هذا الربط ليس‬
‫حقيقيا‪ ،‬وإنّما مجاله خضوع اإلنسان لفكرة التشاؤم في ذهنه‪ ،‬وهذه‬
‫ًّ‬
‫الداخلي‪ ،‬الذي يبدأ معه الذهن‬
‫ّ‬ ‫تتحول إلى نو ٍع من القلق‬
‫ّ‬ ‫الفكرة‬
‫أي حالة تدعو إلى التفاؤل‬ ‫عما يؤكّ دها‪ ،‬ويحذف الذهن َّ‬ ‫بالبحث ّ‬
‫النفسية التي هي‬
‫ّ‬ ‫وكأنّها لم تحصل‪ ،‬وبذلك يفقد اإلنسان الطمأنينة‬
‫ضروري لتوازن العمل في مجاالت الحياة ك ّلها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫شرط‬
‫ومن أجل ذلك يقوم العالج للتشاؤم هو مواجهة الفكرة بالعمل بما‬
‫شيء ودعاه ذلك إلى اإلحجام عن‬ ‫ٍ‬ ‫يخالفها‪ ،‬فإذا تشاءم اإلنسان من‬
‫الفعل الذي درسه وكان عاز ًما عليه‪ ،‬فإنّ عليه أن يمضي فيه‪ ،‬ويصارع‬
‫ّ‬
‫وينفك‬ ‫فكرته‪ ...‬وهكذا ح ّتى يعتاد الذهن على التفكير بطريقة متوازنة‪،‬‬
‫تبعا لعدم االرتباط حقيقة في الواقع‪.‬‬
‫االرتباط الحاصل ً‬

‫السيئ وعالقته بالنفس‬


‫الظن ّ‬
‫ّ‬
‫الظن‪ ،‬وقد قال تعالى‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫وفي موازاة ذلك‪ ،‬تناول الحديث مسألة‬
‫الظ ِّن إِ ْث ٌم﴾(((‪،‬‬
‫ض َّ‬ ‫اج َتنِ ُبوا َكثِير ًا ِّم َن َّ‬
‫الظ ِّن إِ َّن َب ْع َ‬ ‫﴿ َيا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ‬
‫ين آ َم ُنوا ْ‬
‫والظن ينشأ من طبيعة النظرة التي يعيشها اإلنسان تجاه اآلخرين‪ ،‬والتي‬
‫ُّ‬
‫سيئ قام به شخص ما على أفعاله ك ّلها‪ ،‬أو‬
‫قد تقوم على تغليب فعل ّ‬
‫اختزال صورته بمرحلة معينة من حياته‪...‬‬
‫السيئ من طبيعة نظرة اإلنسان تجاه نفسه؛ ألنّ‬
‫الظن ّ‬
‫ّ‬ ‫بل قد ينشأ‬
‫معينة في ذاته‪ ،‬تجد ذهنه‬ ‫ٍ‬
‫عيوب ّ‬ ‫اإلنسان الذي يعاني من عقد ٍ‬
‫نقص أو‬

‫(( ( سورة الحجرات‪ ،‬اآلية ‪.12‬‬


‫‪111‬‬
‫عملية إسقاط‬
‫ّ‬ ‫أسرع إلى تصديقها لدى اآلخرين‪ ،‬بحيث يمارس الذهن‬
‫يتطور األمر إلى‬
‫لعيوب الذات على اآلخرين كنو ٍع من التعويض‪ .‬وقد ّ‬
‫وواقعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫الظن حقيق ًة‬
‫البات بذلك‪ ،‬فيصبح ّ‬
‫ّ‬ ‫الحكم‬
‫ولذلك يريد الحديث الذي نحن بصدده أن يقول‪ :‬قد يحدس‬
‫يحول ذلك‬ ‫ٍ‬
‫ولكن عليه أن ال ّ‬
‫َّ‬ ‫صورة عن اآلخرين‪،‬‬ ‫اإلنسان بفكرة ما أو‬
‫الظن إلى حكم قاطع‪ ،‬وقضاء مبرم‪ ،‬بحيث ير ّتب األثر عليه‪ ،‬ويبني‬ ‫ّ‬
‫عليه مواقفه وردود أفعاله‪ ،‬بل يبقي ذلك في إطار الشّ ك‪ ،‬لتتوازن نظرته‬
‫السيئ وما ينفيه من الدالئل‪ ،‬دونما استبعاد مسبق‪،‬‬
‫يعزز الحكم ّ‬ ‫إلى ما ّ‬
‫وبذلك يتوازن حكمه على األشياء انطالق ًا من طبيعة الدالئل ال من‬
‫خالل انفعال ّ‬
‫الذات‪.‬‬

‫الحسد والعمل‬
‫ّأما األمر الثالث الذي يذكره الحديث‪ ،‬فهو الحسد‪ ،‬والحسد هو‬
‫تم ّني زوال النعمة عن اآلخرين‪ ،‬وهذا الحسد قد يدفع اإلنسان إلى‬
‫فخ ًا يقع‬
‫الكيد للمحسود‪ ،‬كأن يشي به ُليطرد من عمله‪ ،‬أو أن ينصب له ّ‬
‫فيه‪ ،‬أو أن يعتدي عليه بأصناف االعتداء‪ ،‬كما حصل مع إخوة يوسف‬
‫ثم رموه بالبئر‬
‫عندما كادوا له فاحتالوا على أبيهم ليرسله معهم‪ّ ،‬‬
‫‪Q‬‬

‫ويرحل عنهم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لتلتقطه القافلة ويباع‬
‫ولذلك يلفت الحديث إلى أنّ على اإلنسان عندما تقتحم عليه‬
‫سلبي في الواقع‪ .‬وهذا‬ ‫ٍ‬
‫سلوك‬ ‫يحولها إلى‬
‫ّ‬ ‫السلبية‪ ،‬أن ال ّ‬
‫ّ‬ ‫بعض المشاعر‬
‫ُ‬
‫يوسع اإلنسان من خاللها أفقه‪ ،‬على أساس أنّ‬
‫تربوية ّ‬
‫ّ‬ ‫عملية‬
‫ّ‬ ‫يتط ّلب‬
‫يقدر اإلنسان‬
‫قادر على إعطائه كذلك‪ ،‬وأن ّ‬
‫غيره ٌ‬
‫الله تعالى الذي أعطى َ‬
‫‪112‬‬
‫وربما يكون قد ُح ِر َمها اآلخرون‪ .‬وإنّ أكثر النتائج‬ ‫ال ّنعم التي هو فيها‪ّ ،‬‬
‫سو ًءا للحسد هو أن يفقد اإلنسان اإلحساس بجميل ما عنده‪ ،‬فال يعود‬
‫يحس ـ في الوقت ذاته ـ بال ّنعمة التي لآلخرين ألنّه‬ ‫يتنعم بما لديه‪ ،‬وال ُّ‬ ‫ّ‬
‫﴿و َل ت َُم َّد َّن َع ْي َن ْي َك إِ َلى َما َم َّت ْع َنا بِ ِه‬
‫ولعل في قول الله تعالى‪َ :‬‬ ‫ّ‬ ‫ال يملكها‪،‬‬
‫يه َو ِرزْ ُق َر ِّب َك َخ ْي ٌر َو َأ ْب َقى﴾‬ ‫الدنيا لِ َن ْفتِ َن ُهم ِف ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫أزْ َواج ًا ِّم ْن ُه ْم زَ ْه َر َة ا ْل َح َياة ُّ َ‬
‫(((‬
‫ْ‬
‫خير إشارة إلى ذلك‪.‬‬
‫يبقى أنّ هذه اآلية إشارة إلى العالج لداء الحسد‪ ،‬وهو أن يقطع‬
‫عما عند اآلخرين من النعم‪ ،‬وأن ال يسترسل في الخيال‬ ‫اإلنسان نظره ّ‬
‫يتصورها لنفسه مع هذه ال ّنعمة‪ ..‬ببساطة‬
‫ّ‬ ‫المرتبط بها‪ ،‬واألوضاع التي‬
‫مد النظر هو الذي يجعل‬ ‫والتخيل؛ ألنّ ّ‬
‫ُّ‬ ‫المطلوب قطع حبل التفكير‬
‫اإلنسان مستغر ًقا في ال ّنعمة التي لدى اآلخر‪ ،‬وفي حرمانه منها‪،‬‬
‫وضد صاحب النعمة‪ ،‬وقد‬ ‫ّ‬ ‫فيتضخم لديه الشّ عور السلبي بالحرمان‪،‬‬
‫ّ‬
‫بالسلوك‬
‫يدفعه ذلك إلى العدوان النفسي بالحقد‪ ،‬أو العدوان الجسدي ّ‬
‫حق نفسه‪.‬‬
‫وكالهما خطيئة في ّ‬
‫ُ‬ ‫العنفي‪،‬‬
‫ّ‬
‫تأثير‬
‫يتصور أن الحسد إنّما هو ٌ‬
‫ّ‬ ‫ردا على من‬ ‫ّ‬
‫ولعل في هذا الحديث ًّ‬
‫خفي تجاه المحسود؛ فإنّ ما يفترضه الحديث أنّ الحسد ٌ‬
‫دافع للبغي‬ ‫ٌّ‬
‫والتعدي على اآلخرين‪ ،‬وليس عبارة تأثير عين الحاسد في المحسود‬
‫ّ‬
‫خفية؛ والله أعلم‪.‬‬
‫بطريقة ّ‬

‫(( ( سورة طه‪ ،‬اآلية ‪.131‬‬


‫‪113‬‬
‫‪19‬‬
‫السؤال مفتاح العلم‬

‫يرحمكم الله‪ ،‬فإنّه‬


‫ْ‬ ‫ومفتاحها السؤال؛ فاسألوا‬
‫ُ‬ ‫خزائن‪،‬‬
‫ُ‬ ‫العلم‬
‫ُ‬
‫والمحب لهم(((‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫والمستمع‬
‫ُ‬ ‫أربعة‪ :‬السائل والمع ِّلم‬
‫ُي ْؤ َج ُر فيه ٌ‬

‫ٍ‬
‫باحث في اكتشاف مواقع المعرفة‪ ،‬وذلك أنّه‬ ‫أي‬ ‫ُ‬
‫يسلك ُه ّ‬ ‫مسار‬
‫ٌ‬ ‫ثمة‬
‫ّ‬
‫يعبر عن حاجته لذلك االكتشاف بسؤال‪ .‬والسؤال قد يتع ّلق بوجود‬ ‫ّ‬
‫الشيء‪ ،‬فنسأل بـ «هل»‪ ،‬ويتع ّلق بحال الشّ يء أو بصفاته‪ ،‬فنسأل بـ‬
‫«كيف» أو «ماذا»‪ ،‬و «أين» و «متى»‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫يغطي مساحة‬ ‫نصف الجواب؛ ألنّ الجواب ّ‬ ‫ُ‬ ‫ويبدو أنّ تحديد السؤال‬
‫ُجاب على ما ال يفيدنا‪ ،‬أو‬
‫السؤال‪ ،‬فإذا لم نحسن صوغ أسئلتنا‪ ،‬فقد ن ُ‬
‫األمر الذي جرت عليه مناهج إعداد‬ ‫ُ‬ ‫على موضو ٍع آخر‪ .‬وهذا هو‬
‫األساسية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بص ْوغ األسئلة‬
‫البحوث والدراسات‪ ،‬حيث يقوم الباحث َ‬
‫معمقة لتلك األسئلة‪ .‬وأحيانًا ما يتيه البحث‬
‫عملية إجابة ّ‬
‫ّ‬ ‫ليكون بحثُه‬
‫في كثير من التفاصيل التي ال تخدم الغرض األساس منه‪ ،‬وقد تجيب‬

‫(( ( الشريف الرضي‪ ،‬المجازات النبوية‪ ،‬ص ‪ .209‬أبوالفتح الكراجكي‪ ،‬كنز الفوائد‪،‬‬
‫ص ‪ .٣٢٩‬والصدوق‪ ،‬عيون أخبار الرضا ‪ ،Q‬ج ‪ ،٢‬ص ‪ .٣٢‬والم ّتقي الهندي‪ ،‬كنز‬
‫العمال‪ ،‬ج ‪ ،١٠‬ص ‪.٢٨٦٦٢ ،١٣٣‬‬
‫‪114‬‬
‫عن أسئلة ليس هي المطروحة في مقام البحث‪.‬‬

‫حرية السؤال‬
‫ّ‬
‫بحر ّية‪ ،‬يعني فتح الباب‬
‫اإلفساح في المجال أمام السؤال أن ينطلق ّ‬
‫تلمس ما يشغل حقيق ًة ذهن اإلنسان السائل‪ ،‬في الوقت الذي‬ ‫أمام ّ‬
‫ٍ‬
‫خطبة أو‬ ‫مهتما بنقطة أخرى‪ ،‬وكم من سؤال أبطل مفعول‬ ‫قد نحسبه ًّ‬
‫ٍ‬
‫بإتقان؛ ألنّها لم تالمس ما يدور‬ ‫المحاضر‬ ‫أعد لها الخطيب أو‬ ‫ٍ‬
‫محاضرة ّ‬
‫ُ‬
‫المعد لذلك كان ينطلق من أسئلة في داخله‬
‫ّ‬ ‫في اهتمام المستمعين؛ ألنّ‬
‫يحسب أنّها أسئلة الذين سيحاضر أو يخطب فيهم‪ ،‬ولم تكن كذلك!‬
‫وقد يكون في الحديث الشريف الذي نحن بصدده إشارة إلى‬
‫أي سؤال؛ ألنّ السؤال في ّ‬
‫حد‬ ‫ضرورة أن ال يشعر اإلنسان بالحرج من ّ‬
‫ُسد وتُمأل‪ ،‬واإلحراج الذي يحصل ّإما‬‫معرفية تحتاج إلى أن ت ّ‬
‫ّ‬ ‫ذاته فجوة‬
‫ٌ‬
‫خوف‬ ‫وإما‬
‫شعور بالخوف من تقييم ال ّناس السلبي للسؤال وصاحبه‪ّ ،‬‬ ‫ٌ‬
‫من إحراج المسؤول بسبب تع ّلق السؤال بما يشير إلى إخالله بالتزاماته‬
‫ُ‬
‫اإلنسان عن‬ ‫جاب‬
‫أو بخرق صورته بين الناس‪ ،‬وفي كليهما ال ّبد أن ُي َ‬
‫تحولت‬ ‫سؤاله؛ ألنّ الفجوة المعرفية التي ّ‬
‫يعبر عنها السؤال إذا لم تمأل ّ‬
‫إلى فجوة نفسية موجبة للقلق وعدم الشّ عور بالسكينة واالطمئنان والثقة‪.‬‬
‫آنيا وال يكون كذلك‬ ‫تافها ًّ‬
‫والسؤال التافه بنظر ال ّناس قد يكون ً‬
‫زمنية فتح آفا ًقا‬ ‫ٍ‬
‫بميزان العلم ومسيرته‪ ،‬فكم من سؤال تافه في مرحلة ّ‬
‫فعل‪ ،‬فهو فرصة‬ ‫علمية في مرحلة أخرى؟! وإذا كان ال جدوى منه ً‬‫ّ‬
‫للتع ّلم‪ ،‬وذلك عندما ندرك أن السؤال ً‬
‫فعل ال قيمة له‪ ،‬وهذا اإلدراك‬
‫بحد‬
‫ال يكون حقيقة من دون اإلجابة عليه‪ ،‬ولذلك يكون للسؤال قيمة ّ‬
‫‪115‬‬
‫ذاته تفترض اإلجابة‪ ،‬وال يمكن إهماله‪.‬‬
‫ّأما إحراج المسؤول بالسؤال‪ ،‬فهو ً‬
‫أيضا ال ينبغي أن يكون عائقًا‬
‫كل ما‬‫أمام طرح السؤال عليه؛ ألنّ موقعه يفرض عليه أن يجيب عن ّ‬
‫يتحدث به‪ ،‬أو تجاه مواقفه‬
‫ّ‬ ‫اإلشكالية في نفوس ال ّناس تجاه ما‬
‫ّ‬ ‫يثير‬
‫التي ي ّتخذها‪ ،‬فإذا كان صاد ًقا فال ينبغي أن يحرجه الجواب‪ ،‬بل هو‬
‫فرصة ليرفع نظر ال ّناس إلى جميل ما صنع‪ ،‬وإلى مشاركته العذر في‬
‫الظروف التي منعته من تحقيق ما وعدهم به إذا لم يحصل‪ ...‬وإذا كان‬
‫يستحق أن يكون في موقع‬
‫ُّ‬ ‫محرجا له‪ ،‬فمثله ال‬
‫ً‬ ‫كاذ ًبا فليكن السؤال‬
‫المسؤول‪ ،‬وهذا قد ال تحصل معرفته من دون إحراجه بالسؤال!‬

‫إغراء الناس بالسؤال‬


‫ومن أكثر الجهات التي يجب أن ال تجيب عن األسئلة فقط‪،‬‬
‫والمربون‪ ،‬سواء‬
‫ّ‬ ‫وإنّما أن تح ّفز ال ّناس على أن تسأل‪ ،‬هم المع ّلمون‬
‫شخصيات َمن‬
‫ّ‬ ‫في الشؤون التعليمية أو الدينية؛ ألنّ هدفهم هو إغناء‬
‫يتوجهون إليهم‪ ،‬وهذا يتط ّلب رفع الحواجز التي تحول دون السؤال‪،‬‬
‫ّ‬
‫بعضا من مفاتيح التع ّلم لدى‬
‫المربي أو القائد ً‬
‫ّ‬ ‫وهذا ما ّ‬
‫يمكن المع ّلم أو‬
‫يتوجه إليه‪ ،‬وأسرار التأثير في الشخصية لديه‪ ،‬وهذا يتط ّلب التفاعل‬
‫من ّ‬
‫بينهم وبين َمن يتعاملون معهم بطريقة إيجابية استكشافية احتضانية‪.‬‬

‫إخالص السؤال والجدل!‬


‫تبوأ اإلنسان موقع ًا ما‪،‬‬
‫وقد نجد من المفيد هنا اإلشارة إلى أنّ ّ‬
‫قد يبتعد عن إدراكه لما يعتمل في نفوس الطبقة األدنى منهمن أفكار‬
‫‪116‬‬
‫وهواجس‪ ،‬وهو ما يجعل من فتح المجال لطرح األسئلة من هذه الطبقة‬
‫وكثيرا ما‬
‫ً‬ ‫التعرف إليها عن كثب وعلى ما هي عليه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫با ًبا من أبواب‬
‫نقصا في التقارير التي تصلها من ِق َبل األعوان والحاشية‬
‫تكتشف القيادة ً‬
‫ّ‬
‫تحتك باألرض مباشرة‪.‬‬ ‫عندما‬
‫إنّ قمع األسئلة التي يطرحها الناس على أصحاب المواقع السياسية‬
‫بحجة منافاتها لالحترام أو‬
‫أو المواقع الدينية أو االجتماعية وغيرها‪ّ ،‬‬
‫وضرب للقداسة؛‬
‫ٌ‬ ‫للقداسة‪ ،‬هذا القمع هو في ذاته إهدار لالحترام‬
‫ألنّ االحترام إنّما يكتسبه اإلنسان من خالل ما يملكه فع ً‬
‫ال في نفوس‬
‫الناس‪ ،‬وفي بواطنهم ال ظاهرهم فحسب‪ ،‬وهذا يتط ّلب أخذ تساؤالت‬
‫الناس تجاه مدى انسجام سلوك هؤالء مع المبادئ والقواعد الم ّتبعة‪،‬‬
‫أو تنافرها مع األهداف التي يعلنونها في عملية اإلصالح أو تحقيق‬
‫مما يفرض عدم‬
‫المنافع للناس‪ ،‬أخذ هذه التساؤالت بعين االعتبار‪ّ ،‬‬
‫قمعها بل االستماع إليها ّ‬
‫بكل تقدير‪.‬‬
‫وقد يمكن لنا اعتبار قمع السؤال واحدة من الحواجز التي تفصل‬
‫مما يفقده معنى‬
‫المسؤول عن الناس‪ ،‬وتجعله يعيش في طبقة عاجية‪ّ ،‬‬
‫موقعه السياسي أو االجتماعي وح ّتى الديني‪.‬‬
‫كما من شأن هذا الحاجز أن يمنع الناس من االرتقاء إلى مستوى‬
‫يتم إ ّ‬
‫ال‬ ‫المستقبلية‪ ،‬إذ إنّ هذا ال ّ‬
‫ّ‬ ‫القيادة‪ ،‬ونظرتها لألمور‪ ،‬وتط ُّلعاتها‬
‫عما يعتمد في داخلها من أسئلة‬
‫عبر اإلفساح في المجال لل ّناس للتعبير ّ‬
‫تنبيها‬
‫وإشكاليات‪ ،‬حيث يمثل الجواب لفت نظر إلى جوانب خافية‪ ،‬أو ً‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫تعديل لفكرة ناقصة‪،‬‬ ‫على خطأ الفكرة‪ ،‬أو تعري ًفا للسائل بفكرة جديدة أو‬
‫مما يمثّل حالة إضافة لم تكن لتحصل لوال السؤال والجواب‪.‬‬
‫وهكذا ّ‬
‫‪117‬‬
‫قصة بني إسرائيل عندما‬‫قص القرآن الكريم علينا ّ‬ ‫ومن جهة أخرى ّ‬
‫فضيقوا على أنفسهم‪ ،‬حيث‬ ‫ّ‬
‫أكثروا من السؤال لنبي الله موسى ‪Q‬‬
‫ّ‬
‫أي بقرة‪ ،‬ولك ّنهم بدأوا يسألون‬
‫اإللهي لهم أن يذبحوا بقر ًة َّ‬
‫ّ‬ ‫كان األمر‬
‫بغرض الهروب من التكليف‪ ،‬فكان أن زادت األوصاف مع ّ‬
‫كل سؤال‪،‬‬
‫أصعب في نهاية األمر‪.‬‬
‫َ‬ ‫وأصبح التكليف عليهم‬
‫ّ‬
‫التهكم أو الهروب من‬ ‫فالسؤال ألجل المعرفة وليس للتعجيز أو‬
‫مفتاحا من مفاتيح العلم‪ ،‬ويثبت‬
‫ً‬ ‫المسؤولية‪ ،‬وبذلك يصبح السؤال‬
‫ّ‬
‫دور في تحويله إلى‬
‫لصاحبه األجر من الله تعالى‪ ،‬وكذلك لمن كان له ٌ‬
‫ٍ‬
‫ومعرفة‪.‬‬ ‫علمٍ‬

‫أجر السؤال‬
‫وأخير ًا‪ :‬وبالعودة إلى النتائج اإليجابية للسؤال على ما يبنيه‬
‫الحديث‪ ،‬فإنَّ األجر‪ ،‬وهو الثواب من الله الذي يكتبه لعباده على ٍ‬
‫عمل‬
‫الدنيا واآلخرة‪ ،‬يحصل عليه أربعة أفراد‪:‬‬
‫ما‪ ،‬سواء في ّ‬
‫‪ 1‬ـ السائل الذي فتح باب اإلجابة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ المجيب‪ ،‬وهو المع ّلم ـ بحسب تعبير الحديث ـ‪ ،‬وذلك بما‬
‫وتسد‬
‫ّ‬ ‫يضمنه الجواب من علم وخبرة تشفي غليل السائل‪،‬‬ ‫ّ‬
‫باب الحاجة إلى المعرفة لديه‪ ،‬وهو ما يتط َّلب منه اإلخالص‬
‫ووافيا‬
‫ً‬ ‫في بذل الجهد كي يكون الجواب على طبق السؤال‪،‬‬
‫بالحاجة المباشرة وغير المباشرة‪.‬‬
‫مما أثاره السؤال والجواب‪.‬‬
‫يتزود ّ‬
‫‪ 3‬ـ المستمع‪ ،‬وهو الذي ّ‬

‫‪118‬‬
‫المحب لهم‪ ،‬وهو الذي يكون لديه الحافز لهذا اللون من الحركة‬
‫ّ‬ ‫‪4‬ـ‬
‫المعرفية بين السؤال والجواب‪ ،‬ولكن قد ال تتوفّر له الظروف‬
‫الواقعية ليكون أحدهم‪ ،‬ولكن لديه الرغبة الكامنة التي إذا ما‬
‫وعبرت عن نفسها‪.‬‬ ‫فعليتها انطلقت َّ‬
‫توفّرت عناصر ّ‬
‫ّ‬
‫ولعل في هذا الفرد الرابع إشارة بليغة إلى اعتناء التخطيط اإلسالمي‬
‫بوجود جذوة العلم والخير في النفس‪ ،‬ح ّتى لو لم تكن الظروف مالئمة‬
‫لكل صواب‪.‬‬ ‫المسدد ّ‬
‫ّ‬ ‫لفعليتها‪ ،‬والله‬
‫ّ‬

‫‪119‬‬
‫‪20‬‬
‫أش ّد الناس ندامة‬

‫أشد الناس ندام ًة يوم القيامة رجل باع آخرتَه بدنيا غيره(((‪.‬‬
‫ّإن ّ‬

‫«الدنيا مزرعة اآلخرة»(((‪ ،‬كما ورد في الحديث‪ ،‬واإلنسان يحصد‬


‫عمل في دنياه‪ .‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬ي ْو َم ت َِجدُ ُك ُّل‬ ‫ٍ‬ ‫يقدمه من‬ ‫كل ما ّ‬ ‫في آخرته ّ‬
‫س َّما َع ِم َل ْت ِم ْن َخ ْي ٍر ُّم ْح َضر ًا َو َما َع ِم َل ْت ِمن ُس َو ٍء ت ََو ُّد َل ْو َأ َّن َب ْي َن َها َو َب ْي َن ُه‬
‫َن ْف ٍ‬
‫ويتنعم فيها بأصناف ال ِّنعم ك ِّلها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫َأ َمد ًا َب ِعيد ًا﴾(((‪ .‬واإلنسان يحيا دنياه‪،‬‬
‫نصيبا منها لذاته‪ ،‬وبذلك‬ ‫وهو بذلك يحصل على خي ٍر فيها لنفسه‪ ،‬وينال ً‬
‫مال‬ ‫الدنيا؛ فهو ربح ً‬ ‫رابحا في ميزان الربح والخسارة على مستوى ُّ‬ ‫يعد ً‬ ‫ُّ‬
‫ربما‬ ‫زوجا أو أوال ًدا‪ ،‬وحقَّقَ بعض أمنياته وطموحاته‪ .‬نعم‪ّ ،‬‬ ‫جاها أو ً‬ ‫أو ً‬
‫الدنيا ولك ّنه خاسر في اآلخرة‪ ،‬كما أشار‬ ‫رابحا في ذلك ك ّله في ّ‬ ‫يكون ً‬
‫ول َر َّب َنا آتِ َنا ِفي ُّ‬
‫الدن َْيا َو َما َل ُه‬ ‫إلى ذلك تعالى بقوله‪َ ﴿ :‬ف ِم َن ال َّن ِ‬
‫اس َمن َي ُق ُ‬
‫اآلخ َر ِة ِم ْن َخ َ‬
‫ال ٍق﴾(((‪.‬‬ ‫ِفي ِ‬

‫جالل الدين السيوطي‪ ،‬الجامع الصغير‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.336‬‬ ‫((( ‬


‫ابن أبي جمهور األحسائي‪ ،‬عوالي اللئالي ‪ ،‬ج ‪ ،١‬ص ‪.٢٦٧‬‬ ‫((( ‬
‫سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.30‬‬ ‫(( (‬
‫سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.200‬‬ ‫(( (‬
‫‪120‬‬
‫األخسرون أعما ًال‬
‫قصر جهده على الدنيـا‪ ،‬سيعيش أصناف الندم‬ ‫هذا اإلنسان الذي َ‬
‫صور اللـه تعالى بعضـه في قولـه‪:‬‬ ‫مما ّ‬ ‫فرط فيهـا‪ّ ،‬‬ ‫يوم القيـامة علـى ما ّ‬
‫ول َيا َلي َتنِي ات ََّخ ْذ ُت َم َع الر ُس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض َّ ِ‬
‫ول َسبِي ً‬
‫ال‬ ‫َّ‬ ‫الظال ُم َع َلى َيدَ ْيه َي ُق ُ ْ‬ ‫﴿و َي ْو َم َي َع ُّ‬
‫َ‬
‫ال* َل َق ْد َأ َض َّلنِي َع ِن ِّ‬
‫الذ ْك ِر َب ْعدَ إِ ْذ‬ ‫* َيا َو ْي َل َتى َل ْي َتنِي َل ْم َأت َِّخ ْذ ُف َلن ًا َخ ِلي ً‬
‫ان َخ ُذو ًال﴾(((‪.‬‬ ‫نس ِ‬‫ل َ‬ ‫الش ْي َطانُ لِ ْ ِ‬
‫َجاءنِي َو َكانَ َّ‬
‫يعد شي ًئا أمام ما يعيشه الذي صرف عمره لكي‬ ‫ولكن ذلك الندم ال ّ‬ ‫ّ‬
‫سياسيا‬
‫ًّ‬ ‫زعيما‬
‫ً‬ ‫اجتماعيا أو‬
‫ًّ‬ ‫الدنيا‪ .‬هذا الغير قد يكون ً‬
‫نافذا‬ ‫غيره ُّ‬
‫يربح ُ‬
‫فيسخر اإلنسان نفسه ليكون سي َفه الذي يضرب به‬ ‫ّ‬ ‫أو صاحب ثروة‪،‬‬
‫َ‬
‫وسوطه الذي يجلد‬ ‫المظلومين‪ ،‬ويده التي يسلب بها أقوات الفقراء‪،‬‬
‫يروج له‪.‬‬
‫يزور له الحقائق‪ ،‬وصوتَه الذي ّ‬ ‫به حياة الضعفاء‪ ،‬وقلمه الذي ّ‬
‫تصب في صالح هؤالء الذين يعمل عندهم‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فنتائج جهد هذا اإلنسان‬
‫أو يرهن نفسه لخدمة نفوذهم‪ ،‬في الوقت الذي يترك فيه طموحاته‬
‫ك ّلها ألجل طموحات ذلك المتن ّفذ أو الوجيه أو الزعيم‪ ،‬ويهمل أهله‬
‫وأوالده ألجل أهل ذاك وأوالده‪ ...‬فمثل هذا الذي جعل حياته خدم ًة‬
‫لدنيا اآلخرين‪ ،‬خسر دنياه؛ ألنّه لم ِ‬
‫يجن لنفسه شي ًئا ُيذكر مقابل عمره‬
‫المهدور‪ ،‬وجهده المبذول‪ ،‬وخسر آخرته؛ ألنّه كان عونًا للظالمين‪،‬‬
‫وقوة للمستكبرين‪ ،‬ويدً ا للجبابرة والطغاة‪...‬‬
‫ّ‬
‫بعضا من مشهد هؤالء في يوم القيامة حيث‬ ‫صور الله تعالى لنا ً‬ ‫وقد ّ‬
‫ين ا ُّتبِ ُعو ْا ِم َن ا َّل ِذ َ‬
‫ين ات ََّب ُعو ْا َو َر َأ ُو ْا ا ْل َع َذ َ‬
‫اب َو َت َق َّط َع ْت‬ ‫يقول‪﴿ :‬إِ ْذ ت ََب َّر َأ ا َّل ِذ َ‬

‫(( ( سورة الفرقان‪ ،‬اآلية ‪ 27‬إلى ‪.29‬‬


‫‪121‬‬
‫ين ات ََّب ُعو ْا َل ْو َأ َّن َل َنا َك َّر ًة َف َن َت َب َّر َأ ِم ْن ُه ْم َك َما ت ََب َّرؤُ و ْا‬
‫ال ا َّل ِذ َ‬
‫اب * َو َق َ‬ ‫بِ ِهم َ‬
‫األ ْس َب ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫ين م َن‬ ‫ِم َّنا َك َذل َك ُي ِري ِه ُم ال ّل ُه أ ْع َما َل ُه ْم َح َس َرات َع َل ْي ِه ْم َو َما ُهم بِ َخا ِر ِج َ‬
‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ال َّنا ِر﴾(((‪.‬‬
‫الحية على ذلك ما تعانيه الشّ عوب المستضعفة‬
‫وقد نجد من األمثلة ّ‬
‫يمتصون دماء الشّ عب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والمقهورة‪ ،‬الرازحة تحت نير الفاسدين الذين‬
‫العامة‪ ،‬وينهبون‬
‫ّ‬ ‫بالديون‬
‫ويسلبونه لقمة عيشه‪ ،‬و ُيثقلون ظهورهم ّ‬
‫ثرواته ألجل مصالحهم الذاتية‪ ،‬وصفقاتهم المشبوهة‪ ،‬ومنافعهم‬
‫الشخصية‪ ،‬وفي الوقت نفسه تجد هؤالء األتباع الذين يعانون من ذلك‬
‫ّ‬
‫مستعدين أن يهتفوا بأسماء ناهبيهم‪ ،‬ويرفعوا صور سارقيهم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ك ّله‪،‬‬
‫ويقبلوا سياط ظالميهم‪ ..‬فهؤالء ال دنيا حصلوا عليها كما حصل عليها‬
‫ّ‬
‫المحيطون بهؤالء الفاسدين أو الظالمين‪ ،‬وال آخرة لهم؛ ألنّهم قبلوا‬
‫الذليل‪ ،‬ولم يحاولوا أن يثبتوا على الرفض القلبي‪« ،‬وذلك‬‫بهذا الواقع ّ‬
‫ُ‬
‫أضعف اإليمان»(((!‬

‫نزع هيبة النافذين‬

‫ولعل من الضروري هنا االلتفات إلى أنّ من ّ‬


‫أهم وظائف التربية‬ ‫ّ‬
‫النفسية التي‬
‫ّ‬ ‫والتعليم هو تعزيز ثقة اإلنسان بنفسه‪ ،‬وتقوية الملكات‬
‫تسمح له بالتعبير عن ذاته أمام اآلخرين‪ ،‬وهذا األمر ال يجعله يشعر‬
‫بالسقوط أمام أصحاب الثروات والسلطة؛ ألنّ غالبية حاالت السقوط‬‫ّ‬
‫(( ( سورة البقرة‪ ،‬اآليتان ‪ 166‬ـ ‪.167‬‬
‫منكرا فليغيره بيده‪ ،‬فإن لم يستطع فبلسانه‪،‬‬
‫ً‬ ‫ال بالحديث الشريف‪« :‬من رأى منكم‬ ‫((( عم ً‬
‫السيد البروجردي‪ ،‬جامع‬‫ِّ‬ ‫فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف اإليمان»‪ ،‬راجع‪:‬‬
‫أحاديث الشيعة‪ ،‬ج ‪ ،١٤‬ص ‪.٣٩٨‬‬
‫‪122‬‬
‫هذه تنشأ من شعور اإلنسان بالنقص تجاه ما يملكون!‬
‫ولع ّلنا نستطيع أن نربط في التنشئة اإليمانية‪ ،‬بين التوحيد وبين‬
‫نزع الهيبة تجاه هؤالء؛ ألنّ من امتألت قلو ُبهم بالشعور بعظمة الله‪،‬‬
‫ونفوسهم باإلحساس بجبروت الله‪ ،‬ال يمكن أن ينظروا إلى غيره نظرة‬
‫ُ‬
‫يسقطون معها أمامه مهما عظمت ثروته وكبر موقعه!‬
‫الدينية أنّها قد‬ ‫نسجل مالحظة على الخطاب والتوجيه والتربية ّ‬ ‫وقد ّ‬
‫يتم ربطها بمظاهر‬ ‫تتحرك في بيان العقائد بطريقة تجريدية نظرية‪ ،‬وال ّ‬ ‫ّ‬
‫الحياة ومواقفها‪ ،‬وبالعمق العميق لمعنى وجود اإلنسان ودوره في هذه‬
‫الحياة‪ .‬وبسبب ذلك قد نجد الكثيرين يجمعون بين اإليمان بالتوحيد‬
‫مما يلتقي بالشّ رك‬ ‫العبودية لغيره ّ‬
‫ّ‬ ‫وجل‪ ،‬وبين كثير من ألوان‬ ‫ّ‬ ‫عز‬
‫للخالق ّ‬
‫﴿و َما ُي ْؤ ِم ُن‬
‫ربما يكون المغزى العميق لقوله تعالى‪َ :‬‬ ‫العملي‪ ،‬وهو ّ‬ ‫ّ‬
‫(((‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َأ ْكث َُر ُه ْم بالله إال َو ُهم ُّمشْ ركونَ ﴾ ‪ ،‬فكيف يكون للصالة معناها‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫العميق‪ ،‬عندما يقبل المص ّلي أن يرهن إرادته لفاسد‪ ،‬أو يمنح قوته‬
‫لظالم؟!‬
‫ولذلك قد نؤكّ د هنا أنّ التربية على التوحيد ال تنفصل عن التربية‬
‫على القناعة أمام زخارف الحياة وبهارجها‪ ،‬وال تحيد عن الثقة ّ‬
‫بالذات‬
‫ألي‬
‫وما تشتمل عليه من طاقات وقدرات‪ ،‬وعن الشجاعة في المواجهة ّ‬
‫ٍ‬
‫وجود يريد أن يسحق وجوده أو يستعبده في حاجاته!‬

‫((( سورة يوسف‪ ،‬اآلية ‪.106‬‬


‫‪123‬‬
‫‪21‬‬
‫أش ّدكم وأقواكم!‬

‫بأشدكم وأقواكم؟ قالوا‪ :‬بلى يا رسول الله‪.‬‬


‫أال أخبركم ّ‬
‫دخله رضاه في إثم‬‫أشدكم وأقواكم الذي إذا رضي لم ُي ِ‬
‫قال‪ّ :‬‬
‫وال باطل‪ ،‬وإذا سخط لم ُيخ ِرجه سخطه من قول الحق‪،‬‬
‫وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له بحق(((‪.‬‬

‫ٍ‬
‫مباريات‬ ‫ويتم اختبارها في‬
‫القوة بعناصرها الما ّد ّية ّ‬
‫عادة ما تقاس ّ‬
‫القـوة‪ ،‬كالمصارعة ورفع األثقال أو رمي األحجار أو السهام‬ ‫ّ‬ ‫الختبار‬
‫أو سائر فنون الرياضة وألوانها‪ ،‬وهذا ك ُّله ال َ‬
‫ريب فيه إذا ما ك ّنا بصدد‬
‫التحمل والصبر‬
‫ّ‬ ‫قوة‬ ‫جانبا ً‬
‫أيضا من ّ‬ ‫قوة الجسد‪ ،‬والتي تعكس ً‬ ‫قياس ّ‬
‫والمثابرة وإرادة النجاح واإلبداع‪.‬‬

‫الروح والما ّدة‬


‫بين ُّ‬
‫القوة تتبع النظرة إلى طبيعة دور اإلنسان‬
‫اإلسالمية إلى ّ‬
‫ّ‬ ‫ولكن النظرة‬
‫َّ‬
‫وموقعه في الحياة‪ ،‬وبالتالي طبيعة األهداف التي ينبغي له أن يعمل على‬
‫تحقيقها‪ .‬فاإلنسان ـ في الرؤية اإلسالمية ـ ال يختصر وجوده الجانب‬

‫((( الشيخ الصدوق‪ ،‬األمالي‪ ،‬ص ‪٧٢‬؛ ومعاني األخبار‪ ،‬ص ‪.٣٦٦‬‬
‫‪124‬‬
‫الجسدي فقط‪ ،‬وإنّما يمثّل الجسد ُبعدً ا من أبعاده‪ ،‬وهو الذي يحيا به‪،‬‬
‫يعبر عن اإلنسان عن وجوده الفاعل‬ ‫ويمثّل الوسيلة التي من خاللها ّ‬
‫والعملي ك ّله‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والشعوري‬
‫ّ‬ ‫الفكري‬
‫ّ‬ ‫ويشكل وعاء نشاطه‬‫ّ‬ ‫المتحرك‪،‬‬
‫ّ‬
‫الروح التي هي «نفخة من روح الله» ‪ ،‬وقد‬
‫(((‬
‫فإلى جانب الجسد هناك ّ‬
‫دائما على نوازع الجسد وانجذاباته الطبيعية‬ ‫أرادها الله تعالى مسيطرة ً‬
‫لمثيرات الحياة‪ ،‬من المأكل والملبس والمشرب والجاه والسلطة‬
‫مما جعله الله ضرورة من أجل الصراع على‬ ‫والجنس‪ ،‬وما إلى ذلك ّ‬
‫البقاء‪ ،‬أو وسيلة لتحقيق غاياتها الكبيرة‪ ،‬بل هذه اللذائذ هي التي بني‬
‫وبناء الضمير‬
‫ُ‬ ‫األبدية في اآلخرة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫جذب اإلنسان إلى مثل الحياة‬
‫ُ‬ ‫عليها‬
‫والمستمرة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اآلنية بتلك الباقية‬
‫اإلنساني الذي يزن النتائج ّ‬
‫ولكن هذا إنّما يحصل لإلنسان إذا استطاع أن يبقي الروح في حالة‬
‫َّ‬
‫حواسنا في‬
‫ّ‬ ‫وتحكم‪ّ ،‬‬
‫وإل فالما ّدة التي تحيط بنا كفيلة بإغراق‬ ‫ّ‬ ‫سيطرة‬
‫مما يقصم المعنى‬
‫ملذاتها وشهواتها‪ ،‬ليغيب اإلنسان في سجن الجسد‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫الحقيقي لوجودنا‪ ،‬وال ينسجم بالتالي مع صالح نفوسنا وحياتنا‪.‬‬
‫الجسدية ألجل‬
‫ّ‬ ‫وعلى هذا األساس‪ ،‬ال ينبغي أن تكون الرياضة‬
‫تتحول إلى حالة من اإلدمان الذي يثقل اإلنسان‬‫ّ‬ ‫الرياضة‪ ،‬فإنّها بذلك‬
‫ٍ‬
‫وهدف يرتبط‬ ‫دائما وسيلة ألجل شيء‬
‫في نفسه وروحه‪ ،‬بل الرياضة هي ً‬
‫ِ‬
‫والوظيفة الك ّلية التي يسعى‬ ‫بالمعنى الحقيقي لإلنسان في هذه الحياة‪،‬‬
‫الجسدية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫القوة‬
‫عملية بناء ّ‬
‫ّ‬ ‫البعد هو المستهدف في‬‫إلى تحقيقها‪ .‬وهذا ُ‬
‫وبكلمة نقول‪ ،‬إنّه ال يمكننا عزل الرياضة التي يقوم بها اإلنسان عن‬
‫الرؤية والهدف من وجوده!‬

‫ـه ِمــن ر ِ‬
‫ـت ِفيـ ِ‬ ‫ـق َبشَ ــر ًا ِمــن ِط ٍ‬
‫(( ( قــال تعالــى‪﴿ :‬إِ ِّنــي َخالِـ ٌ‬
‫وحــي‬ ‫ُّ‬ ‫ين* َفـإِ َذا َسـ َّ‬
‫ـو ْي ُت ُه َو َن َف ْخـ ُ‬
‫ين﴾ [ص ‪ 71 :‬ـ ‪]72‬‬ ‫ـاج ِد َ‬‫َف َق ُعــوا َل ـ ُه َسـ ِ‬
‫‪125‬‬
‫قوي على نفسه‬
‫القوي ٌّ‬
‫ّ‬
‫القوي هو الذي يملك‬
‫ّ‬ ‫يبين أنّ اإلنسان‬
‫ويريد الحديث أعاله أن ّ‬
‫ّ‬
‫التحكم ال‬ ‫التحكم بنفسه‪ ،‬ومن كان أملك لنفسه كان َ‬
‫أملك لغيره‪ .‬وهذا‬ ‫ّ‬
‫توجهه‬
‫بد أن يخضع لمعيار القيم التي يلتزمها اإلنسان؛ ألنها هي التي ّ‬
‫ّ‬
‫أي اتجاه‪ ،‬وتمنح وجوده معناه الحقيقي العميق‪.‬‬ ‫في ّ‬
‫تقدم‪ ،‬إذا كان اإلنسان ال يملك توازنه مع تق ّلبات حاالته‬ ‫انطال ًقا ّ‬
‫مما ّ‬
‫لقوة‬
‫فأي مع ًنى ّ‬ ‫ً‬
‫راسخا في قواعده‪ّ ،‬‬ ‫النفسية‪ ،‬ليكون ثاب ًتا على مبادئه‪،‬‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫الجسد حينئذ؟!‬
‫محبتها لهذا‬ ‫عندما يتم ّلك اإلنسان الشعور بالرضى‪ ،‬وت ُْؤ َسر نفسه في ّ‬
‫أي قاعدة للعقل أو للمبدأ‪ ،‬ومع‬ ‫أو لذاك‪ ،‬وتغيب عن ساحة المشاعر ّ‬
‫ذلك يقف اإلنسان في مواجهة ذلك‪ ،‬ليتوازن في حكمـه على صاحبـه‬
‫القوة‪ ،‬وذلك‬ ‫يحب عندما يحيد عن الطريق‪ ،‬فهنا منتهى ّ‬ ‫أو قريبه أو من ُّ‬
‫اع ِد ُلو ْا َو َل ْو َكانَ َذا ُق ْر َبى﴾(((‪ .‬وعندما‬ ‫﴿وإِ َذا ُق ْل ُت ْم َف ْ‬ ‫هو قوله تعالى‪َ :‬‬
‫تضغط عليه مشاعر العداوة والكراهية‪ ،‬فإنّه يملك أن يكبح ذلك ك ّله‪،‬‬
‫ً‬
‫امتثال‬ ‫السلبية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ليعطي لآلخر قيمته التي يستحقّها بعيدً ا عن المشاعر‬
‫﴿و َال َي ْج ِر َم َّن ُك ْم َشنَآنُ َق ْو ٍم َع َلى َأ َّال ت َْع ِد ُلو ْا ْاع ِد ُلو ْا ُه َو‬
‫لقول الله تعالى‪َ :‬‬
‫َأ ْق َر ُب لِل َّتق َْوى﴾(((‪.‬‬
‫غضبا وحنقًا‪ ،‬ويبدأ العقل ليغيب في‬
‫ً‬ ‫وعندما تنتفخ أوداج اإلنسان‬
‫حق‪ ،‬والضربة في ّ‬
‫خط الظلم‪،‬‬ ‫غيابات االنفعال‪ ،‬لتنطلق اللكمة بغير ّ‬

‫((( سورة األنعام‪ ،‬اآلية ‪.152‬‬


‫((( سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪.8‬‬
‫‪126‬‬
‫ليبرد أعصابه في‬
‫ثم يملك اإلنسان نفسه‪ّ ،‬‬‫والكلمة في غير موقعها‪ّ ،‬‬
‫بروية‪ ،‬وي ّتخذ الموقف‬
‫مواجهة ذلك الضغط الالهب‪ ،‬وليزن األمور ّ‬
‫القوة‪.‬‬
‫الحكيم؛ فهذا أعلى درجات ّ‬

‫القوة ضمن األطر‬


‫ّ‬
‫ولع ّله ينبغي االلتفات‪ ،‬وخصوص ًا بعد دخول العمل اإلسالمي في‬
‫المؤسسي‪ ،‬سواء كان إطار ًا اجتماعي ًا أو سياسي ًا‪ ،‬أنّ‬
‫ّ‬ ‫أسلوب العمل‬
‫يتحول إلى عنصر مؤ ّثر ضاغط على مشاعر األفراد‬ ‫ّ‬ ‫اإلطار نفسه قد‬
‫الذين ينتمون إليه‪ ،‬وذلك استناد ًا إلى شعور الفرد بالحاجة إلى البقاء‬
‫تارة‪ ،‬أو للحصول‬
‫ضمن الجماعة‪ ،‬ألجل الحصول على الشعور باألمن ّ‬
‫وسد بعض الحاجات أخرى‪.‬‬‫القوة ّ‬
‫على ّ‬
‫وقد يحصل أن يأخذ اإلطار ـ كمجموع ـ ببعض األساليب التي قد‬
‫ال يراها اإلسالم منسجمة مع مبادئه وقواعده‪ ،‬األمر الذي يتط َّلب من‬
‫األفراد أن ال ينساقوا وراء العقل الجمعي الذي يدفعهم نحو االنسياق‬
‫تدبر‪.‬‬
‫مع موقف الجماعة دون ُّ‬
‫ولكن كيف يمكن أن يحصل ذلك والحال أنّ اندماج الفرد مع‬
‫إرادية غالب ًا؟‬
‫الجماعة يفرض مشاعرها بطريقة ال ّ‬
‫الهام لإلنسان ُّ‬
‫التفكر مسبقًا باألساليب المنسجمة‬ ‫والجواب أنّ من ّ‬
‫ٍ‬
‫دائمة للحاالت‬ ‫ٍ‬
‫ومحاسبة‬ ‫ٍ‬
‫بمراجعة‬ ‫مع المبادئ‪ ،‬وكذلك أن يقوم‬
‫ّ‬
‫يحتك بها‪ ،‬وذلك بهدف زيادة تقويم األخطاء التي قد‬ ‫والمواقف التي‬
‫ٍ‬
‫بشكل طبيعي‪...‬‬ ‫تقع‬

‫‪127‬‬
‫وجهة التربية‬
‫التربوية‪ ،‬سواء في داخل األسرة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تتوجه إليه العملية‬
‫وهذا ما ينبغي أن ّ‬
‫يتم العمل على‬
‫الديني‪ ،‬بحيث ّ‬‫الدراسة‪ ،‬أو في التوجيه ّ‬ ‫أو على مقاعد ّ‬
‫تمكين اإلنسان من قياس منسوب انسجامه مع المبادئ والقيم في‬
‫الحب والبغض والغضب‬ ‫ّ‬ ‫مواقف الحياة المختلفة التي تدور بين‬
‫متنوعة من األحاسيس‬
‫تستفز عنده مجموعة ّ‬ ‫ّ‬ ‫غالبا‪ ،‬هذه المواقف التي‬
‫ً‬
‫والمشاعر التي من طبيعتها أنّها تجذب اإلنسان إلى سطح األمور ال إلى‬
‫الصورة ال ك ّلها‪ ،‬وبذلك قد يجانب اإلنسان‬ ‫عمقها‪ ،‬وإلى جانب من ّ‬
‫الصواب في مواقفه نتيجة لذلك‪.‬‬ ‫الرشد‪ ،‬وينحرف عن ّ‬ ‫ّ‬
‫وهذا ما يفرض على القائمين على أمور التربية والثقافة اإلسالمية‬
‫بكل ما يصدر منها من كلمات‬ ‫أن يظ ّلوا في حالة مالحقة للمواقع‪ّ ،‬‬
‫ثم يحاولوا أن يحدِّ دوا القيمة لهذه الكلمة أو لذاك الموقف‪،‬‬‫ومواقف‪ّ ،‬‬
‫استناد ًا إلى مدى انسجامها مع ِ‬
‫الق َيم والمبادئ األخالقية والقواعد‬
‫الخطة التي يلزم ا ّتباعها في تدريب اإلنسان على‬ ‫ّ‬ ‫الشرعية‪ ،‬وما هي‬
‫مستوى أفضل من االنسجام‪ ،‬أو لضمان عدم‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬
‫التحكم بمشاعره لتحقيق‬
‫الخارجية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫انحرافه أو انجرافه مع المؤ ّثرات‬

‫‪128‬‬
‫‪22‬‬
‫العام‬
‫ّ‬ ‫االهتمام بالشأن‬

‫يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم(((‪.‬‬


‫من أصبح ال ُّ‬

‫شخصية متوازنة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫شخصية الفرد المسلم‬
‫ّ‬ ‫يهدف اإلسالم إلى بناء‬
‫تعيش اإليمان وتجسد ِ‬
‫الق َيم والمبادئ في مفردات حياتها ك ّلها‪،‬‬ ‫ّ‬
‫لتحصل على القرب من الله في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫يؤسس فقط لعالقة‬ ‫ال يعني ذلك أنّ اإلسالم ّ‬
‫يعبر عن منهج فردي ّ‬
‫أخالقية مرتبطة بتفاعل شخصه مع‬
‫ّ‬ ‫وربه‪ ،‬أو عالقة‬‫عمودية بين اإلنسان ّ‬ ‫ّ‬
‫سلبا أو إيجا ًبا‪ ،‬وبذلك يقتصر اهتمام‬ ‫أفراد آخرين يؤ ّثرون عليه‬‫ٍ‬
‫شخصيا ً‬
‫ًّ‬
‫الفردية؛ بل إنّ اإلسالم يريد من اإلنسان أن‬‫ّ‬ ‫الفرد المسلم على شؤونه‬
‫الخاص؛ بل إنّ الفصل بين هذين‬ ‫ّ‬ ‫الهم‬
‫العام إلى جانب ّ‬ ‫ّ‬ ‫الهم‬
‫يعيش ّ‬
‫الهمين َو ْه ٌم في َو ْهمٍ ؛ ألنّ ُك ًّل منهما يؤ ّثر في اآلخر بطريقة وبأخرى؛‬
‫ّ‬
‫عما يجري من حوله‪ ،‬بل هو متأ ّثر‬ ‫ً‬
‫باعتبار أنّ اإلنسان ال يعيش معزول ّ‬
‫به بشكل مباشر أو غير مباشر‪.‬‬

‫(( ( الشيخ الكليني‪ ،‬الكافي‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.163‬‬


‫‪129‬‬
‫ماهية أمور المسلمين‬
‫النبوي أعاله‪ ،‬هي القضايا‬ ‫ّ‬ ‫أمور المسلمين التي يشير إليها الحديث‬
‫حضاري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كأمة أو ككيان‬ ‫العامة التي ت ّتصل بالمسلمين كمجتمع أو ّ‬ ‫ّ‬
‫معينة‬ ‫عام من أزمة ّ‬ ‫االجتماعية قد يعاني المجتمع بشكل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ففي القضايا‬
‫االجتماعية كالطالق‪ ،‬أو بعض األمراض‬ ‫ّ‬ ‫كالفقر‪ ،‬أو من بعض المشاكل‬
‫األمنية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫التحديات‬‫ّ‬ ‫النفسية أو بعض المشاكل االقتصادية أو‬ ‫ّ‬ ‫الصحية أو‬ ‫ّ‬
‫أفراد ال يعيشون هذه‬ ‫ٌ‬ ‫وما إلى ذلك‪ ،‬في الوقت الذي قد يكون فيه‬
‫ممن ي ّتصلون بهم بنسب أو‬ ‫المشاكل واألزمات واألمراض‪ ،‬وال أحدٌ ّ‬
‫يحد ُث اإلنسان نفسه فيرى بأنّه ال داعي ُليشغل رأسه‬ ‫سبب‪ .‬وهنا قد ّ‬
‫كل ما يجري‬ ‫تمسه بشكل مباشر‪ُ ،‬فيغلق سمعه واهتمامه عن ّ‬ ‫بقضايا ال ّ‬
‫ّ‬
‫يستدل اإلنسان‬ ‫وربما‬ ‫حوله ما دامت لم تصل تلك القضايا إلى بابه‪ّ .‬‬
‫األدبيات؛ بل ببعض اآليات كما‬ ‫ّ‬ ‫الخاصة ببعض‬ ‫ّ‬ ‫لحصر همومه بشؤونه‬
‫في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬يا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ‬
‫ين آ َم ُنو ْا َع َل ْي ُك ْم َأ ُنف َس ُك ْم َال َي ُض ُّر ُكم َّمن َض َّل‬
‫إِ َذا ْاه َتدَ ْي ُت ْم﴾(((‪.‬‬
‫العامة ّ‬
‫يمثل‬ ‫ّ‬ ‫ولك ّننا نالحظ أنّ هذا النمط من التعاطي مع القضايا‬
‫العام يرجع في نتائجه وتأثيراته على الفرد‬
‫ّ‬ ‫نظرة قاصرة؛ ألنّ الشأن‬
‫سيما‬
‫يهتم بها المجتمع‪ ،‬وال ّ‬
‫نفسه؛ فانتشار ظاهرة الفقر من دون أن ّ‬
‫تهيئ األرض للمشاكل االجتماعية والجريمة‬ ‫األغنياء‪ ،‬من شأنها أن ّ‬
‫الشر عبر استغاللها لحاجات الناس‪ ،‬وما إلى‬
‫ّ‬ ‫والجهل‪ ،‬ونفاذ قوى‬
‫ذلك‪ ،‬وهذه الظواهر ك ّلها ستنعكس على أفراد المجتمع ك ّلهم‪ ،‬ومن‬
‫الممكن أن تنال اإلنسان في أوالده أو أحفاده إذا سلم منها بشخصه!‬
‫((( سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪.105‬‬
‫‪130‬‬
‫األمنية لن تقتصر آثارها على بقعة دون أخرى ما دامت‬ ‫ّ‬ ‫والتحديات‬‫ّ‬
‫﴿وات َُّقو ْا ِف ْت َن ًة َّال ت ِ‬
‫ُص َيب َّن‬ ‫تستهدف المجتمع‪ .‬ولذا ورد في ِّ‬
‫الذكر الحكيم‪َ :‬‬
‫آص ًة﴾(((‪.‬‬ ‫ين َظ َل ُمو ْا ِم ُ‬
‫نك ْم َخ َّ‬ ‫ا َّل ِذ َ‬

‫انغالق وقسوة!‬
‫النفعية‪ ،‬لوجدنا أنّ فقدان‬
‫ّ‬ ‫تأملنا بنحو أعمق في المسألة‬ ‫ولو ّ‬
‫الخاصة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫للذات على شؤونها‬ ‫ٌ‬
‫انغالق ّ‬ ‫العامة هو‬
‫ّ‬ ‫اإلحساس بالقضايا‬
‫المجرد‪ ،‬والذي ال‬
‫ّ‬ ‫وقسو ٌة في القلب وجفاء عن اإلحساس اإلنساني‬
‫اختباره إال عبر اآلخرين وما يقاسونَه في معيشتهم أو ما يرزحون‬
‫ُ‬ ‫يتحقّق‬
‫تحته من اآلالم‪.‬‬
‫حاجزا عن استدرار‬ ‫ً‬ ‫هذه القسوة القلبية‪ ،‬واألنانية الذاتية‪ ،‬تمثّالن‬
‫اإللهية‪ ،‬والتي ورد في كثير من األحاديث الشّ ريفة أنّها لمن‬ ‫ّ‬ ‫الرحمة‬
‫ّ‬
‫«لما مات إبراهيم بكى ال ّنبي ‪P‬‬ ‫الرحمة في قلبه‪ ،‬فقد ورد أنّه ّ‬ ‫يعيش ّ‬
‫(((‬ ‫َ‬
‫رسول الله! تنهى عن البكاء‬ ‫ح ّتى جرت دموعه على لحيته‪ ،‬فقيل‪ :‬يا‬
‫رحم ال‬‫وأنت تبكي! فقال‪« :‬ليس هذا بكا ًء‪ ،‬وإنّما رحمة‪ ،‬و َم ْن ال َي َ‬
‫رحم»(((!‬
‫ُي َ‬

‫((( سورة األنفال‪ ،‬اآلية ‪.25‬‬


‫صحة الحديث سندً ا‪ ،‬فقد يكون المقصود بالبكاء هنا الجزع الذي يفقد‬ ‫((( على فرض ّ‬
‫يهمنا من‬
‫ْ ّ‬ ‫لكن‬ ‫الطبيعي؛‬ ‫اإلنساني‬
‫ّ‬ ‫االنفعال‬ ‫وليس‬ ‫عاطفته‪،‬‬ ‫أمام‬ ‫التوازن‬ ‫فيه اإلنسان‬
‫تستدر‬
‫ّ‬ ‫الحديث الشاهد الذي ورد في ذيله في اإلشارة إلى العاطفة اإلنسانية التي‬
‫رحمة الله تعالى؛ والله أعلم‪.‬‬
‫((( الشيخ الطوسي‪ ،‬األمالي‪ ،‬ص ‪.٣٨٨‬‬
‫‪131‬‬
‫عقبة أمام اإلصالح!‬
‫وقد يكون من المفيد هنا لفت ال ّنظر إلى أنّ استغراق أفراد المجتمع‬
‫الخاصة‪ ،‬من شأنه أن ّ‬
‫يشكل عقبة أمام اإلصالح التي تقتضي‬ ‫ّ‬ ‫ٌّ‬
‫كل بشؤونه‬
‫مواجهة مصادر الفساد ورموزه‪ ،‬والذين قد يجدون في االستغراق‬
‫يبدد القوى‪،‬‬
‫عب على استمالة هذا الفرد أو ذاك‪ ،‬بما ّ‬ ‫الفردي فرص ًة ل ّل ِ‬
‫ويفرق الجموع‪ ،‬فتخفت روح المعارضة‪ ،‬وتذهب رياح التغيير!‬ ‫ّ‬

‫والهم‬
‫ّ‬ ‫بين االهتمام‬
‫نعم‪ ،‬ال ينبغي لإلنسان أن يحول االهتمام بالشأن العام إلى ٍ‬
‫جزء من‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ينفكون عن حمل ثقل األرض وما عليها‪ ،‬ويرزحون‬ ‫عيشه‪ ،‬ككثيرين ال ّ‬
‫يشكل ذلك االهتمام‬ ‫الهم؛ إذ المطلوب هو أن ّ‬ ‫بالتالي تحت سلطان ّ‬
‫يحمل اإلنسان نفسه‬ ‫والمسؤولية فال ّ‬
‫ّ‬ ‫حافزا للعمل؛ ّأما العمل‬
‫ً‬ ‫الكبير‬
‫يسد‬
‫الغني أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫فربما يكون بمقدور‬ ‫مسؤولية ما ال يستطيع القيام به‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫يؤمن لهم فرص عمل تضمن‬ ‫حاجات األقربين‪ ،‬بأن يساعدهم ما ّد ًيا أو ّ‬
‫يحل مشكلة فقراء البلد ك ّلهم‪،‬‬ ‫لهم العيش الكريم‪ ،‬لك ّنه ال يستطيع أن ّ‬
‫فهذا يحتاج إلى تضافر قوى آخرين على شاكلته‪ ،‬وقد يحتاج إلى قوى‬
‫وحية التي‬
‫الر ّ‬ ‫ومؤسسات ضخمة‪ .‬إنّ المطلوب هو ّ‬ ‫ّ‬ ‫في حجم دول‬
‫الروحية وبين‬ ‫ولكن هناك فر ًقا بين ّ‬ ‫َّ‬ ‫تحل مشكلة العالم بأسره‪،‬‬ ‫يهمها أن ّ‬ ‫ّ‬
‫المسؤولية؛ إذ ُيقتصر في المسؤولية على ما يملكه اإلنسان من طاقات‬ ‫ّ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وإمكانيات‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬ال ُيكلف الل ُه َن ْفسا إال ُو ْس َع َها﴾ ‪.‬‬
‫(((‬

‫(( ( سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.286‬‬


‫‪132‬‬
‫االجتماعية عن الشأن‬
‫ّ‬ ‫المسؤولية‬
‫ّ‬ ‫الهامة في‬
‫ّ‬ ‫هنا تبرز إحدى النقاط‬
‫العام‪ ،‬والتي تتط ّلب التخطيط المشترك‪ ،‬وتوزّ ع األدوار‪ ،‬وتضافر‬ ‫ّ‬
‫تصب في تحقيق األهداف التي ال‬
‫َّ‬ ‫الجهود‪ ،‬وتعاون القوى‪ ،‬من أجل أن‬
‫أفراد معدودون على تحقيقها‪ ،‬أو في تجاوز العقبات التي‬ ‫فرد أو ٌ‬
‫يقوى ٌ‬
‫ُيراد تجاوزها من قبل المجتمع ككل‪ ،‬فإنّ هذا األمر يجعل االهتمام‬
‫يضم جهده إلى جهد اآلخرين‬ ‫كل ٍ‬ ‫الكبير الذي يعيشه ُّ‬
‫حافزا لكي ّ‬
‫ً‬ ‫فرد‬
‫بعد معرفته بأنّ الهدف الكبير الذي يشغل باله ويستحوذ على اهتمامه‬
‫لن يقدر على إنجازه إ ّ‬
‫ال بذلك‪.‬‬

‫األولى َ‬
‫فاألولى‬ ‫َ‬

‫يصبح لزا ًما على المشتغلين في مجال التربية والتعليم‬ ‫ُ‬ ‫وبهذا‬
‫دورا في تنمية االهتمام‬
‫عدة تؤ ّدي ً‬
‫الديني‪ ،‬أن يلتفتوا إلى أمور ّ‬‫والتوجيه ّ‬
‫العامة‪:‬‬
‫بالقضايا ّ‬
‫أو ًل‪ :‬توسيع أفق اإلنسان نحو إدراك القضايا الكبرى‪ ،‬ومدى تأثيرها‬
‫ّ‬
‫على حياته وحياة المجتمع من حوله‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬تنمية اإلحساس اإلنساني بآالم اآلخرين‪ ،‬وما يعانونَه في‬


‫ً‬
‫حياتهم من حرمان أو من ضغوط‪.‬‬

‫ثالثًا‪ :‬تمكين اإلنسان من التفريق بين ّ‬


‫الهم الكبير واألهداف الكبرى‪،‬‬
‫المسؤولية التي تفرض على اإلنسان القيام بفعل أو اتخاذ موقف‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وبين‬
‫والوسع الذي يملكه اإلنسان‪ ،‬وضرورة وجود‬ ‫ُ‬ ‫مما يتبع الممكن‬ ‫ّ‬
‫األمرين دون خلط‪.‬‬
‫‪133‬‬
‫التعاون مع اآلخرين في إنجاز مشاريع مشتركة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫حس‬‫رابعا‪ :‬تعزيز ّ‬
‫ً‬
‫ينضم إلى‬
‫َّ‬ ‫الحس وحده إذا لم‬‫ّ‬ ‫العملية؛ ألنّ‬
‫ّ‬ ‫والتدريب عليها من الناحية‬
‫ِ‬
‫العمل‬ ‫هم‬
‫ال ّ‬‫يحمل إ َّ‬
‫ُ‬ ‫المهارة ينتج حالة من التعاطف الساذج الذي ال‬
‫تحوله إلى فعل حقيقي‪.‬‬
‫الجماعي؛ لفقدانه مهارته التي ّ‬
‫العام عن الشأن‬ ‫ّ‬ ‫خامسا‪ :‬أن ال ينشغل اإلنسان باالهتمام بالشأن‬ ‫ً‬
‫الشخصية‪ ،‬في بناء ذاته‬ ‫ّ‬ ‫الخاص‪ ،‬بحيث ينسى اإلنسان التزاماته‬ ‫ّ‬
‫مسؤولية‬
‫ّ‬ ‫ممن يحمل‬ ‫وعلميا‪ ،‬وفي المحيطين به ّ‬ ‫ًّ‬ ‫إيمانيا‬
‫ًّ‬ ‫وتطويرها‬
‫وربما كان هذا ما تشير إليه‬ ‫تنشئتهم ورعايتهم‪ ،‬بل يوازن بين األمرين‪ّ ،‬‬
‫اآلية الكريمة التي سبق ذكرها‪ ،‬أعني قوله تعالى‪َ ﴿ :‬يا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ‬
‫ين آ َم ُنو ْا‬
‫َع َل ْي ُك ْم َأ ُنف َس ُك ْم‪ ،(((﴾...‬والله العالِم‪.‬‬

‫((( سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪.105‬‬


‫‪134‬‬
‫‪23‬‬
‫ال قطيعة فوق ثالث!‬

‫يحل لمؤمن أن يهجر مؤم ًنا فوق ثالث‪.‬‬ ‫ال ّ‬


‫فلي ْل َقه فليس ّلم عليه‪ ،‬فإن ر َّد السالم‬ ‫مرت به ٌ‬
‫ثالث َ‬ ‫فإن ّ‬
‫فقد اشتركا في األجر‪ ،‬وإن لم ير ّد السالم فقد باء باإلثم‪،‬‬
‫المس ِّل ُم من الهجرة(((‪.‬‬
‫وخرج ُ‬

‫يعتبر التعاضد والتماسك االجتماعي واحدً ا من األهداف الكبرى‬


‫التي سعى إليها اإلسالم‪ ،‬ح ّتى أنّه اعتبر المؤمنين إخوة‪ ،‬مستندً ا إلى ما‬
‫روحي بين أفراد العائلة الواحدة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عاطفي‬
‫ّ‬ ‫األخوة من اندماج‬
‫ّ‬ ‫تعنيه‬
‫أيضا تقتضي االعتراف بحصول التنافر والتصادم بين‬ ‫ولكن الواقعية ً‬‫َّ‬
‫أيضا‪ ،‬وذلك نتيجة اختالف األمزجة‪ ،‬وأحيانًا النوازع الذاتية‬ ‫اإلخوة ً‬
‫ٍ‬
‫أحيان تدفع إلى‬ ‫التي تحاول فيها األنا أن تحقّق الغلبة لذاتها‪ .‬وفي‬
‫التقاطع والتدا ُبر بين المؤمنين‪.‬‬

‫(( ( سليمان بن األشعث السجستاني‪ ،‬سنن أبي داود‪ ،‬ج ‪ ،٢‬ص ‪ .٤٥٩‬الجملة األخيرة‬
‫المس ِّل ُم من الهجرة‪.‬‬
‫ذكر المصنف أن أحمد زادها‪ ،‬وهي‪ :‬وخرج ُ‬
‫‪135‬‬
‫السلبية للقطيعة‬
‫ّ‬ ‫التأثيرات‬
‫الحديث يشير إلى حرمة((( الهجران بين المؤمنين َ‬
‫فوق ثالثة ّأيام؛‬
‫كبيرا‪،‬‬
‫السلبي في أوان الحدث الموجب له مهما كان ً‬ ‫ّ‬ ‫ألنّ الشّ عور‬
‫مجرد ذكرى‬ ‫ويتحول إلى ّ‬
‫ّ‬ ‫ومهما كان محقًّا‪ّ ،‬إل أنّه يضعف شي ًئا فشي ًئا‬
‫مجد ًدا‪ ،‬وليس إلى شعو ٍر حقيقي في اللحظة الثانية التي‬ ‫ّ‬ ‫تثير الشّ عور‬
‫الحد‬
‫تلي الحدث أو في اللحظة الثالثة وما بعدها‪ .‬وقد وضع الحديث ّ‬
‫الحارة والنافرة‬
‫ّ‬ ‫األقصى للهجران باأليام الثالثة‪ ،‬وذلك لمنح المشاعر‬
‫لكي تبرد مع الوقت؛ فإنّ طبيعة اإلنسان تجعله ينشغل بأمور كثيرة في‬
‫غمرة حياته اليومية‪ ،‬بما يدفعه إلى برودة المشاعر السلبية والنسيان‪،‬‬
‫بمجرد االنفصال عن الحدث وحرارته‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وذلك قد يحصل‬
‫ّ‬
‫ولعل فترة األيام الثالثة التي يذكرها الحديث‪ ،‬تختزن إشارة إلى‬
‫حاجة تصحيح العالقات بين المتخاصمين إلى أن تبرد المشاعر‬
‫السلبية الناتجة عن األلم والضيق‪ .‬ولذلك‪ ،‬ومن ناحية واقعية‪ ،‬قد‬ ‫ّ‬
‫الثابت بعض الوقت‪ ،‬في حين يمكن للمبادرة مع‬ ‫ُ‬ ‫التصحيح‬
‫ُ‬ ‫يتط ّلب‬
‫تتحول إلى تصحيح شكلي‪ ،‬ومصالحة في المظهر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫النفور النفسي أن‬
‫األمر الذي يجعلها غير نابعة من الحالة النفسية الساكنة‪ ،‬ولعل هذا أحد‬
‫العوامل التي تجعل الخصومة تلتهب من جديد عند أدنى مشكلة‪.‬‬

‫تحليل لسبب حرمة الهجران‬


‫يصح لنا أن نقول إنّ المشاعر السلبية‬
‫ّ‬ ‫تقدم‪ ،‬لع ّله‬
‫ومن خالل ما ّ‬

‫فقهيا‪ ،‬وإنّما في مقام شرح مضمونه األخالقي‪،‬‬


‫((( لسنا هنا في مقام االستدالل بالحديث ًّ‬
‫وأما البحث الفقهي فله مجاله‪.‬‬
‫‪136‬‬
‫ال فإنّ ذلك يشير إلى‬ ‫من شأنها أن تبرد مع الوقت‪ ،‬فإذا لم تبرد فع ً‬
‫إرادي يقوم فيه اإلنسان مقاو ٍم لهذه البرودة‪ ،‬وذلك من حيث إنّه‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫فعل‬
‫مرة بعد أخرى‪ ،‬في محاولة لتثبيت‬ ‫يقوم باستعـادة الذكرى بالمشاعر ّ‬
‫المشاعر السلبية التي حصل منها األذى واأللم‪ .‬ولذلك ترى الواحد‬
‫مستمر‬
‫ّ‬ ‫م ّنا يعيد تكرار رسم صورة الحدث في ذهنه‪ ،‬ويقوم باستذكا ٍر‬
‫يسجل ذلك على الورق‪،‬‬ ‫للكلمات واالنفعاالت‪ ،‬وقد يحلو للبعض أن ّ‬
‫أو بالوسائل التقنية الحديثة‪ ،‬كالفيديو وآالت التسجيل الصوتي‪.‬‬
‫آليات‬‫آلية من ّ‬ ‫وكذلك ّ‬
‫تشكل االستعادة الكالمية للحادثة أمام اآلخرين ّ‬
‫وغالبا ما نجد اإلنسان‬
‫ً‬ ‫تثبيت المشاعر السلبية التي حملتها في لحظتها‪.‬‬
‫يبرر له الشعور السلبي‪،‬‬ ‫في حاالت التخاصم والتنافر ينجذب إلى من ّ‬
‫وال يطيق االستماع إلى من يخالفونه‪ ،‬أو يحاولون أن يخ ّففوا من غلواء‬
‫السلبية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مشاعره‬
‫هذا مع العلم بأنّه في ّ‬
‫كل مرة تُستعاد فيها صورة الحدث ومشاعره‪،‬‬
‫وربما ال تتطابق مع الحدث ذاته؛‬
‫فإنّها ال تتساوى مع المشاعر ذاتها‪ّ ،‬‬
‫جزئية جديدة إلى الحدث‪ ،‬أو مشاعر‬
‫ّ‬ ‫مرة‬
‫كل ّ‬‫ألنّ النفس تضيف في ّ‬
‫مما كانت في الحدث ذاته‪.‬‬
‫يضخم المشاعر السلبية بأكثر ّ‬
‫مما ّ‬
‫جديدة‪ّ ،‬‬
‫ولتأكيد هذه النقطة‪ ،‬نجد أنّنا نقوم في كثير من األحيان بربط أحداث‬
‫َ‬
‫مواقف مشابهة‬ ‫نستجلب‬
‫ُ‬ ‫وربما‬
‫سابقة بالحدث مع أنّها ال عالقة لها به‪ّ ،‬‬
‫سببوا لنا األلم لنضيفها إلى‬
‫احتكوا بأولئك األشخاص الذين ّ‬ ‫ّ‬ ‫آلخرين‬
‫المضخمة بطبيعة‬
‫ّ‬ ‫وهذا ك ّله تضخيم للحدث وتثبيت للمشاعر‬ ‫ذلك‪ّ ،‬‬
‫الحال‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫الشرعية باب للمعالجة‬
‫ّ‬ ‫الحرمة‬
‫ولعل تأكيد الحديث على حرمة الهجران ألجل معالجة هذا اللون‬ ‫ّ‬
‫من السلوك الذاتي‪ ،‬والعمل على منع اإلنسان من االستسالم للمشاعر‬
‫يقوي الحالة السلبية لدى اإلنسان‬
‫السلبية والمواقف الماضية بما ّ‬
‫حد‬
‫ويعمق حالة الحقد الشخصي في داخل نفسه‪ ،‬وذلك في ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويثبتها‪،‬‬
‫ّ‬
‫اإليمانية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وروحيته‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ذاته أذى لإلنسان‬
‫يتلخص بمبدأ‬ ‫جدا‪ّ ،‬‬ ‫ٌ‬
‫بسيط ًّ‬ ‫األسلوب الذي يؤكّ د عليه الحديث‬
‫إسالميا باألجر والثواب‬
‫ً‬ ‫التحية‪ ،‬وهي التي ترتبط‬
‫ّ‬ ‫المبادرة المستندة إلى‬
‫السالم نفسه‪ ،‬وبذلك تكون مبادرة‬ ‫الذي يطلبه اإلنسان من الله على ّ‬
‫ال يشعر فيها المبادر بالمذ ّلة؛ ألنّها صفقة مع الله تعالى‪ ،‬وفي الوقت‬
‫أيضا؛ ألنّ ر ّد‬
‫بعزة نفس ً‬‫عينه تفتح المجال للتراجع لدى الطرف اآلخر ّ‬
‫السالم واجب‪.‬‬
‫األول ما عليه‪،‬‬
‫بالسالم ولم ير ّد اآلخر‪ ،‬فقد فعل ّ‬
‫فإذا بادر اإلنسان ّ‬
‫فيستحق اإلثم بذلك‪ ،‬ال اإلثم‬
‫ّ‬ ‫وخرج عن إثم الهجران‪ّ .‬أما اآلخر‬
‫سيئات في صحيفة األعمال فحسب‪ ،‬وإنّما اإلثم‬ ‫الناشئ عن تسجيل ّ‬
‫الذي يلحق اإلنسان في كيانه النفسي والروحي نتيجة سماحه للحقد‬
‫الشخصي بأن ينمو في ذاته‪.‬‬

‫تطويع النفس‬
‫تدرب المتع ّلمين‬
‫التربوية أن ّ‬
‫ّ‬ ‫للعملية‬
‫ّ‬ ‫يبقى أن نُشير إلى أنّ من ّ‬
‫الهام‬
‫يفرقون بين‬
‫على االرتباط باللحظة الحاضرة في وعي ذواتهم‪ ،‬بحيث ّ‬
‫ٍ‬
‫إساءة أو ألمٍ ‪ ،‬وبين ذكرى‬ ‫المشاعر في حال ثورانها كر ّد ٍ‬
‫فعل في لحظة‬
‫‪138‬‬
‫هذه المشاعر‪ ،‬أو الصورة التي يستذكر بها العقل نوع تلك المشاعر‬
‫َ‬
‫الحدث نفسه من أقوال وأفعال ومواقف‪.‬‬ ‫َ‬
‫اكتنف‬ ‫ومستواها‪ ،‬من خالل ما‬
‫الظالمات التي‬‫غض النظر عن اإلساءات أو ُّ‬ ‫هذا ال يعني أبدً ا َّ‬
‫نوع من البرودة والسذاجة‬
‫يتعرض لها اإلنسان‪ ،‬بل على العكس‪ ،‬فهذا ٌ‬ ‫ّ‬
‫المرفوضة! بل إنّ المطلوب هو ترك الذات ّ‬
‫لتطور مشاعرها مع الزمن‬
‫الحارة إلى‬
‫ّ‬ ‫وانشغاالت الحياة‪ ،‬بما يؤ ّدي إلى انتقال اإلنسان من الحالة‬
‫الحالة الباردة على مستوى االنفعال النفسي‪ ،‬وبذلك يكون أقدر على‬
‫وعيا لما يتط ّلبه الحاضر من المسيء!‬‫التفكير بهدوء‪ ،‬وأكثر ً‬
‫هامة صعبة‪،‬‬ ‫طبعا‪ ،‬مسألة ارتباط اإلنسان بال ّلحظة هي في ّ‬
‫حد ذاتها ّ‬ ‫ً‬
‫وتحتاج إلى الكثير من التدريب‪ ،‬ألنّنا نعيش أكثر ما نعيش في داخل‬
‫أفكارنا‪ ،‬وهي بين تجاذب الماضي وقلق المستقبل‪ ،‬وبين هذا وذاك‬
‫والمتغيرات المحيطة بها‪ ،‬فنتعامل مع الحاضر‬
‫ّ‬ ‫يغيب الوعي عن ذواتنا‬
‫بذهنية الماضي أو بقلق المستقبل‪ ،‬وفي كليهما إضافات متو ّترة‪.‬‬
‫ويحضر هنا قول الشاعر‪:‬‬
‫ـت فيها‬
‫ولك الساعة التي أنـ َ‬ ‫والمؤم ُل ٌ‬
‫غيب‬ ‫َّ‬ ‫فات‬
‫ما مضى َ‬

‫‪139‬‬
‫‪٢٤‬‬
‫اإلسالم عقيدة وأثر‬

‫أال أنبئكم بالمؤمن؟ من ائتمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم‪،‬‬


‫أال أنبئكم بالمسلم؟ من سلم المسلمون من يده ولسانه(((‪.‬‬

‫يدخ ُل في نطاق‬
‫يمكن لإلنسان أن يشهد الشّ هادتين‪ ،‬وبالتالي ُ‬
‫االجتماع اإلسالمي و ُيصبح واحدً ا من المسلمين‪ ،‬له ما ُلهم وعليه‬
‫يعبر عن ذلك في حياتنا‬‫الشرعية‪ ،‬وقد ّ‬
‫ّ‬ ‫القانونية‬
‫ّ‬ ‫ما عليهم من الناحية‬
‫لصحة االنتماء‬
‫ّ‬ ‫الجنسية؛ حيث تكفي هاتان الشهادتان‬
‫ّ‬ ‫المعاصرة بمنح‬
‫واجتماعيا‪ ،‬ويجري عليه بذلك نظام‬
‫ً‬ ‫سياسيا‬
‫ً‬ ‫إلى الكيان اإلسالمي‬
‫الحقوق والواجبات‪.‬‬
‫حق االنتماء قد يكون في قرارة نفسه منافقًا‪،‬‬ ‫وهذا الذي حصل على ّ‬
‫ٍ‬
‫لمصلحة يرومها‪ .‬وقد‬ ‫بمعنى أنّه ُيبطن الكفر ويظهر اإلسالم خو ًفا أو‬
‫يطبع‬ ‫تتحول إلى طابعٍ‬ ‫الفكرية لم‬ ‫ولكن هذه القناعة‬
‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫قناعة‬ ‫يشهد عن‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تتحول معها الشهادتان إلى قاعدة للسلوك والعمل‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الشخصية‪ ،‬بحيث‬
‫ّ‬
‫أساسا لاللتزام بما أمر الله ورسو ُله‬
‫ً‬ ‫بالرسول‬
‫ويكون التوحيد واإليمان ّ‬
‫ونهيا عنه‪.‬‬

‫(( ( الشيخ الكليني‪ ،‬الكافي‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪ ،٢٣٥‬ح ‪.١٩‬‬


‫‪140‬‬
‫سالم ال ّنفس‬
‫مجرد االنتماء هذا‪ ،‬وهو تحقيق‬ ‫مستوى أعلى من ّ‬ ‫ً‬ ‫ثمة‬
‫في الحقيقة ّ‬
‫المعنى‪ ،‬فاإلسالم يرتكز إلى التسليم لله‪ ،‬بحيث يحتكم اإلنسان إلى‬
‫الله تعالى في أموره ك ّلها‪ ،‬فيس ّلم أمره إليه‪ ،‬ويستسلم في حركته له‪،‬‬
‫اي َو َم َماتِي‬‫كما توحي به اآلية الكريمة‪ُ ﴿ :‬ق ْل إِ َّن َص َلتِي َون ُُس ِكي َو َم ْح َي َ‬
‫ين﴾(((‪.‬‬ ‫يك َل ُه َوبِ َٰذلِ َك ُأ ِم ْر ُت َو َأنَا َأ َّو ُل ا ْل ُم ْس ِل ِم َ‬ ‫لِ َّل ِه َر ِّب ا ْل َعا َل ِم َ‬
‫ين * َل َش ِر َ‬
‫وهذا ال ّلون من اإلسالم يجعل اإلنسان يعيش السكينة في ذاته‪ ،‬الستناده‬
‫وجودية صلبة‪ ،‬بل تمثّل عمق الوجود وحقيقته‪ ،‬ويرتفع به‬
‫ّ‬ ‫إلى قاعدة‬
‫تمده بمنظومة ِق َيم يحتكم إليها‬
‫ذاتياته؛ ألنّ تلك القاعدة الوجودية ّ‬
‫عن ّ‬
‫نفسه إلى‬‫تتحول ُ‬
‫ّ‬ ‫وجوده اإلنساني وحركة عالقاته في الحياة‪ .‬وبذلك‬
‫كل تعبي ٍر‬
‫كل خلجة من خلجاتها‪ ،‬وتنشره في ّ‬ ‫تعيش السالم في ّ‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫نفس‬
‫وكل حركة من حركاتها‪ ،‬ح ّتى كأنّ هذه النفس ذابت في‬‫من تعبيراتها‪ّ ،‬‬
‫روحها من أسمائه الحسنى‪ ،‬فلم‬ ‫ِ‬
‫والمستقية َ‬ ‫معين القيم النابعة من الله‪،‬‬
‫ذات تنتصر لما يشفي غليلها الشخصي‪ ،‬وإنّما من ٍ‬
‫نفس‬ ‫تعد تنطلق من ٍ‬
‫الشمس‬
‫ُ‬ ‫رسالية مط ّلة على العالم من َع ٍل‪ ،‬تشرق على الناس كما تُشرق‬
‫ّ‬
‫تعرف ّ‬
‫الظلمة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫التي ال‬

‫عدائيا‬
‫ًّ‬ ‫ال يكون المسلم‬
‫تأملنا في الروح العدوانية التي تعيشها بعض النفوس‪ ،‬لوجدنا‬
‫لو ّ‬
‫تعبر فيه النفس‬ ‫النفس ذاتَها‪ ،‬ومن ٍ‬
‫نقص ّ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫ضيق تسجن فيه‬ ‫أنّها تنطلق من‬
‫علي بن الحسين‪ Q‬بقوله‪:‬‬
‫عن عقدها‪ ،‬على هدى ما أشار إليه اإلمام ٌّ‬
‫(( ( سورة األنعام‪ ،‬اآليتان ‪ ١٦٢‬ـ ‪.١٦٣‬‬
‫‪141‬‬
‫ال من ذ ّلة يجدها في نفسه»(((‪ ،‬وفي حديث آخر‪« :‬ما‬‫تيه إ ّ‬
‫«ما من أحد َي ُ‬
‫تجبر إ ّ‬
‫ال لذ ّلة يجدها في نفسه»(((‪.‬‬ ‫تكبر أو َّ‬‫من رجل َّ‬
‫ّأما اإلسالم فيرتقي باإلنسان عن ذلك ك ّله‪ ،‬فال يعود الناس معه‬
‫يحب لهم الحياة‪ ،‬ولو رآهم على‬
‫ُّ‬ ‫مسلم‬
‫ٌ‬ ‫إال آمنين على أنفسهم؛ ألنّه‬
‫أحب لهم الهداية‪ ،‬ولو وجدهم على معصية رغب لهم بالتوبة‬
‫ضاللة ّ‬
‫بلذة تحقيق رضى الله عنهم‪ ،‬ولو أبصرهم سادرين في‬ ‫ِ‬
‫واإلحساس ّ‬
‫غيهم طلب لهم سبل الرشاد من خالل الحكمة والموعظة الحسنة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫لحقد عليهم‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫القوة فليس ذلك‬
‫وعندما تفرض عليه الحياة استخدام ّ‬
‫رحمة بهم كما هي رحمة الطبيب الذي يجرح مريضه ُلي ْخ ِرج‬
‫ٌ‬ ‫وإنّما هي‬
‫فناطق‬
‫ٌ‬ ‫وأما اللسان‬
‫منه داءه‪ ،‬وذلك في حاالت دفع العدوان والظلم‪ّ ...‬‬
‫لهم ّ‬
‫بكل خير‪ ،‬ألنّه قد ُشغل بذكر الله الذي ّ‬
‫يبصره عيوبه قبل أن يلتمس‬
‫ويعرفه مواطن ضعفه قبل أن يستغرق في نقاط ضعف‬
‫للناس المعايب‪ّ ،‬‬
‫اآلخرين‪.‬‬
‫وأخالقيا يرتبط بالسالم‬ ‫ً‬ ‫اجتماعيا‬
‫ًّ‬ ‫وبذلك يكون اإلسالم سال ًما‬
‫جميعا‪ ،‬كما أشار إلى‬ ‫ً‬ ‫وصية األنبياء‬‫ّ‬ ‫اإليماني‪ ،‬وهو اإلسالم الذي كان‬
‫وب َيا َبنِ َّي إِ َّن‬ ‫اهيم َبنِ ِ‬
‫يه َو َي ْع ُق ُ‬ ‫ِ‬
‫﴿و َو َّص ٰى بِ َها إِ ْب َر ُ‬‫ذلك القرآن الكريم بقوله‪َ :‬‬
‫ين َف َل ت َُموت َُّن إِ َّل َو َأ ْن ُت ْم ُم ْس ِل ُمونَ ﴾(((‪.‬‬
‫اص َط َف ٰى َل ُك ُم الدِّ َ‬
‫ال َّل َه ْ‬
‫وبنا ًء على ذلك ك ّله يخرج اإلسالم من معنى االنتماء السياسي أو‬

‫(( ( الشيخ الكليني‪ ،‬محمد بن يعقوب‪ ،‬الكافي‪ ،‬ج‪ ،٢‬ص‪.٣١٢‬‬


‫(( ( م‪.‬ن‪.‬‬
‫(( ( سورة البقرة‪ :‬اآلية ‪.132‬‬
‫‪142‬‬
‫تحو ًل في الذات التي ّ‬
‫تتروح من خالل ارتباطها‬ ‫االجتماعي‪ ،‬ليكون ّ‬
‫رب العالمين‪ ،‬الرحمن الرحيم‪ ،‬اللطيف الودود‪ ،‬إلى سائر‬
‫بالله تعالى‪ّ ،‬‬
‫صفاته التي تتج ّلى في حركة الوجود‪ ،‬وفي مواقف الحياة وعالقاتها‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫‪٢٥‬‬
‫الصالة من اإليمان‬
‫موقع َّ‬

‫َّ‬
‫استخف بصالته‪،‬‬ ‫ال ينال شفاعتي من‬
‫ِ (((‬ ‫َ‬
‫الحوض! ال والله!‬ ‫علي‬
‫وال ير ُد َّ‬

‫يرتكز هذا الحديث إلى مبدأ من مبادئ النجاة يوم القيامة؛ وهذه‬
‫الصالح الذي يقوم عليه اإلنسان‬
‫أول ما ترتكز إلى العمل ّ‬‫النجاة ترتكز ّ‬
‫ُ‬
‫األجل وانتقل اإلنسان عن دار العمل إلى‬ ‫الدنيا‪ ،‬فإذا جاء‬
‫في حياته ّ‬
‫وقف اإلنسان أمام أعماله لتكون هي طوق النجاة له‪ .‬وقد‬ ‫دار الجزاء‪َ ،‬‬
‫بعض عباده؛ وهذه‬‫كان من ِم ّنة الله تعالى على اإلنسان أن ش ّفع فيه َ‬
‫الشّ فاعة هي التي تكمل النقص الذي يحصل بالعمل‪ ،‬وتمنح ـ بفضل‬
‫الله تعالى ـ اإلنسان الطاقة التي يستطيع من خاللها أن يكمل بعض‬
‫الصعود إلى رضوان الله‪ ،‬ولذلك كانت الشفاعة مرتكزة إلى‬ ‫درجات ّ‬
‫أساس العمل ّأو ًل‪ ،‬وليست منطلقة ـ كما هي حال شفاعة ّ‬
‫الدنيا ـ من‬
‫يتلمس‬
‫شخصية بمن ُيراد منه أن يشفع‪ ،‬وهو الذي يجعل اإلنسان ّ‬
‫ّ‬ ‫عالقة‬
‫شفاعة أصحاب النفوذ‪ ،‬بتقديم الهدايا لهم والتز ّلف لنيل رضاهم!‬

‫(( ( الشيخ الكليني‪ ،‬الكافي‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ‪.٤٠٠‬‬


‫‪144‬‬
‫رضا الله أساس الشفاعة‬
‫قـرره اللـه تعالى في كتابه‪ ،‬حيث قال‪:‬‬ ‫أبدً ا‪ ،‬فالشفاعـة على منهـاجٍ ّ‬
‫*ل َي ْسبِ ُقو َن ُه‬ ‫الر ْح َٰم ُن َو َلدً ا ُس ْب َحا َن ُه َب ْل ِع َب ٌاد ُم ْك َر ُمونَ َ‬
‫﴿و َقا ُلوا ات ََّخ َذ َّ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫بِا ْل َق ْول َو ُه ْم بِأ ْم ِره َي ْع َم ُلونَ * َي ْع َل ُم َما َب ْي َن أ ْيدي ِه ْم َو َما َخ ْل َف ُه ْم َو َل‬
‫َيشْ َف ُعونَ إِ َّل لِ َم ِن ْارت ََض ٰى َو ُه ْم ِم ْن َخشْ َيتِ ِه ُمشْ ِف ُقونَ ﴾(((‪ ،‬فهؤالء يشفعون‬
‫شخصية‬ ‫ٍ‬
‫انفعاالت‬ ‫أحبت ذواتهم من خالل‬
‫ّ‬ ‫لمن ارتضى الله‪ ،‬ال لمن ّ‬
‫بعيدة عن القيمة التي يرتضيها الله سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وتجدر اإلشارة إلى أنّ كون هؤالء العباد مكرمين‪ ،‬أنّ ذواتهم لم‬
‫ّ‬
‫المتحكمة بهم بقدر رسالتهم التي ذابوا فيها ح ّتى أعطوها‬ ‫تعد هي‬
‫كل ما يملكون من جهد وطاقة وحياة‪ ،‬وبذلك لم تعد الشفاعة لديهم‬ ‫ّ‬
‫عما‬
‫بشكل شخصي‪ ،‬وإنّما هي معايير رسالية تبحث ّ‬ ‫ٍ‬ ‫شأنًا تهواه ّ‬
‫الذات‬
‫يحقّقها في َمن يطلب الشفاعة‪ ،‬وبذلك تغدو الشفاعة منسجمة مع‬
‫المعايير التي يرتضيها الله تعالى؛ والتي يأتي التأييد على بعضها في‬
‫اآلتي من الكالم‪.‬‬
‫وهذا الحديث يشير إلى هذه النكتة الجوهرية‪ ،‬وهي أنّ االستخفاف‬
‫بالصالة مانع من الشفاعة؛ ألنّ االستخفاف ّ‬
‫بالصالة يعكس طبيعة‬
‫بربه‪ ،‬وهي في الواقع عالقة مقطوعة؛ بل‬‫العالقة التي تربط اإلنسان ّ‬
‫تعيش لونًا من غياب معنى الله سبحانه وتعالى في نفس اإلنسان‪،‬‬
‫ويستمد منه اإلنسان‬
‫ّ‬ ‫كرب يملك وجوده‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫وفقدان الشّ عور بعظمته‬
‫أهون من صاحب قوة أو ثروة أو ٍ‬
‫جاه‬ ‫ُ‬ ‫حياته؛ ح ّتى كأنّ الله تعالى عنده‬
‫ّ‬

‫(( ( سورة األنبياء‪ ،‬اآليتان ‪ ٢٦‬ـ ‪.٢٨‬‬


‫‪145‬‬
‫عمل معناه الراسخ في‬ ‫ٍ‬ ‫أي‬ ‫ممن يهابهم ال ّناس‪ .‬وبذلك يفقد ّ‬ ‫في البشر ّ‬
‫الحياة‪ ،‬حيث إنّ ارتباط األمور بالله هو الذي يمنحها عمقها في ّ‬
‫حيز‬
‫ٌ‬
‫ظالل لتج ّلي‬ ‫الوجود‪ ،‬ويربطها بموقع الحقيقة في هذا الكون الذي ك ّله‬
‫(((‬
‫وربما يكون في قوله تعالى‪﴿ :‬إِن ََّما َي َت َق َّب ُل ال ّل ُه ِم َن ا ْل ُم َّت ِق َ‬
‫ين﴾‬ ‫عظمته‪ّ ..‬‬
‫إشارة إلى ذلك‪.‬‬
‫بل إنّ هذا اإلنسان الذي َف َقدَ اإلحساس بحضور الله تعالى إلى هذا‬
‫المستوى‪ ،‬لن يرد الحوض‪ ،‬وهو كناية عن المكان الرفيع الذي يسقي‬
‫يمر أمامه‪ً ،‬‬
‫فضل عن أن‬ ‫كأس ال ّنور اإللهي وأمنه‪ ،‬ولن ّ‬
‫منه النبي ‪P‬‬
‫ُّ‬
‫يطلب الشّ فاعة لنفسه‪...‬‬
‫النبي ‪P‬؛ كيف؟ وهو‬ ‫ليست المسألة هنا مرتبطة بقسوة في قلب ّ‬
‫ولكن الموضوع غير‬ ‫َّ‬ ‫﴿ر ْح َم ًة ِّل ْل َعا َل ِم َ‬
‫ين﴾(((‪،‬‬ ‫الذي أرسله الله تعالى َ‬
‫نعبر باللغة الرقمية الحديثة‪ :‬أنّ‬
‫قابل لتلقّي فيض الرحمة؛ وكما قد ّ‬
‫يتعرف على «كودات»‬ ‫الرقمي الذي يمكن أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلنسان قد أفسد البرنامج‬
‫السر التي تدخل إليه لتصلح ما فسد منه‪ .‬وبذلك ال تصل‬ ‫ِ‬
‫الرحمة وكلمة ّ‬
‫عندئذ‪ ،‬ال لعدم الرحمة منه تعالى‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫قابليته‬
‫الرحمة إليه لعدم ّ‬

‫الصالة الركيزة األساس‬


‫بالصالة‪،‬‬
‫بد لنا هنا من اإلشارة إلى بعض مظاهر االستخفاف َّ‬‫وال ّ‬
‫والتي قد يقع فيها ٌّ‬
‫كل م ّنا‪:‬‬
‫بأهميتها وال‬ ‫األول‪ :‬االستخفاف بأصل ّ‬
‫الصالة‪ ،‬فال يشعر اإلنسان ّ‬ ‫ّ‬
‫((( سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪.27‬‬
‫(( ( سورة األنبياء‪.١٠٧ :‬‬
‫‪146‬‬
‫أشد‬
‫الدنيا‪ .‬وهذا ّ‬
‫بمعناها‪ ،‬فيتركها لصالح انشغاله للكثير من األمور ّ‬
‫أنواع االستخفاف!‬
‫حق أدائها‬‫الثاني‪ :‬االستخفاف بأدائها‪ ،‬بحيث ال يؤ ّديها المص ّلي ّ‬
‫ّ‬
‫ولعل‬ ‫من حيث القيام بأجزائها وشروطها على طبق ما أمرت الشّ ريعة‪.‬‬
‫رجل ُيسرع في صالته‪،‬‬ ‫لما رأى ً‬ ‫علي ‪ّ Q‬‬ ‫الحديث الوارد عن اإلمام ّ‬
‫الصالة؟ فقال له الرجل‪ :‬منذ كذا وكذا‪،‬‬ ‫فقال له‪ :‬منذ كم ص َّليت بهذه َّ‬
‫مت‬ ‫فقال اإلمام ‪َ :Q‬م َث ُلك عند الله كمثل الغراب إذا نقر‪ ،‬لو َّ‬
‫مت َّ‬
‫أسرق ال ّناس َمن َ‬
‫سرق‬ ‫َ‬ ‫على غير م ّلة أبي القاسم ّ‬
‫محمد‪ ،‬إلى أن قال‪ :‬إنّ‬
‫صالتَه»(((‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬االستخفاف بوقتها‪ ،‬بحيث يسمح اإلنسان النشغاالته‬
‫غالبا إلى الركون إلى‬
‫األولوية على صالته‪ ،‬ويعمد ً‬
‫ّ‬ ‫الحياتية أن تكون لها‬
‫الصالة في‬
‫أعذار التأخير‪ ،‬وال يقوم بجهد في تكييف عمله وانشغاله مع َّ‬
‫وقتها‪ .‬هذا في التأخير ً‬
‫فضل عن ترك أدائها وقضائها خارج الوقت!‬
‫في مثل ذلك‪ ،‬تكون المحاولة في تكييف أموره لتتالءم مع أداء‬
‫نفسها مطلوبة لكي يتأكّ د اإلنسان‬
‫الصالة ح ّتى لو فشلت المحاولة‪ ،‬هي ُ‬ ‫َّ‬
‫من سالمة ّنيته‪ ،‬وأنّه ليس من المستخ ّفين بها‪.‬‬
‫عــد مــن جملــة االســتخفاف عــدم بــذل الجهــد‬ ‫الرابــع‪ :‬قــد ُي ّ‬
‫فــي تحصيــل الخشــوع‪ ،‬فإنّــه وإن ذكــر علمــاء الفقــه أنّ الخشــوع‬
‫بصحتهــا مــن الناحيــة‬
‫ـل عدمــه ّ‬ ‫الصــاة‪ ،‬وال يخـ ّ‬
‫ليــس مــن واجبــات َّ‬
‫ـر َك العمــل علــى تحصيــل الخشــوع يعكــس ً‬
‫نوعــا‬ ‫الشــرعية‪ّ ،‬إل أنّ َتـ ْ‬

‫(( ( وسائل الشيعة‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪ ،36‬ح‪.2‬‬


‫‪147‬‬
‫مــن عــدم االهتمــام بالتواصــل الحقيقــي مــع اللــه‪ ،‬والــذي يتو ّقــف‬
‫علــى الخشــوع‪.‬‬
‫ٍ‬
‫حينئذ بالتقصير في إيمانه‪ ،‬إذا‬ ‫إنّ على اإلنسان أن ُيشعر نفسه‬
‫وجد نفسه غير ٍ‬
‫مبال تما ًما بالعمل على تحقيق التواصل المعنوي مع‬
‫أمرا ال يحصل إ ّ‬
‫ال بالتركيز‬ ‫تدريجا؛ لكونه ً‬
‫ً‬ ‫الله تعالى في صالته‪ ،‬ولو‬
‫مما عدا الله‬
‫والتراكم وبذل الجهد في تخلية األحاسيس والمشاعر ّ‬
‫ولي التوفيق‪.‬‬
‫صعب في ذاته‪ ،‬والله ّ‬
‫ٌ‬ ‫أمر‬
‫تعالى‪ ،‬وهو ٌ‬

‫‪148‬‬
‫‪٢٦‬‬
‫الصبر‬
‫أنواع َّ‬

‫وصبر على ّ‬
‫الطاعة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫صبر عند المصيبة‪،‬‬
‫الصبر ثالثة‪ٌ :‬‬
‫ُ‬
‫وصبر عن المعصية(((‪.‬‬
‫ٌ‬

‫يتحمل‬
‫النفسية التي يستطيع اإلنسان من خاللها أن ّ‬
‫ّ‬ ‫القوة‬
‫يمثّل الصبر ّ‬
‫ضغط الواقع عليه؛ وعادة ما ينشأ هذا الضغط من التنافر الحاصل بين‬
‫أساسا لسلوكه‪ ،‬وبين الواقع الذي‬ ‫المبادئ ِ‬
‫والق َيم التي يجعلها اإلنسان‬
‫ً‬
‫ضد هذه المبادئ والقيم‪ .‬وليس بالضرورة أن يكون هذا الواقع‬ ‫يعمل ّ‬
‫ممارسا من خارج ذات اإلنسان‪،‬‬‫ً‬ ‫ً‬
‫ضغطا‬ ‫خارجيا‪ ،‬بمعنى أن يكون‬
‫ً‬
‫معي ًنا‬ ‫ً‬
‫سلوكا ّ‬ ‫كالمجتمع أو السلطة السياسية التي تفرض على اإلنسان‬
‫ممارسا من ذات اإلنسان؛‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ضغطا‬ ‫ال ينسجم مع مبادئه‪ ،‬بل قد يكون‬
‫باعتبار أنّ المبادئ والقيم مجالها العقيدة وااللتزام الفكري‪ ،‬والتي قد‬
‫ضدها الغريزة والشّ هوة‪ ،‬وقد تدفع اإلنسان إلى االنحراف عن‬‫تعمل ّ‬
‫مسارها المبدئي والقيمي المفترض في عالم السلوك‪.‬‬

‫((( الشيخ الكليني‪ ،‬الكافي‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.91‬‬


‫‪149‬‬
‫الصبر العملي‬
‫أهمية الصبر في حركة‬‫وقد ورد في األحاديث الشريفة التأكيد على ّ‬
‫اإليمان‪ ،‬من قبيل ما ورد عن األمام علي ‪« :Q‬وعليكم بالصبر؛ فإنّ‬
‫جسد ال رأس معه‪،‬‬‫ٍ‬ ‫الصبر من اإليمان كالرأس من الجسد‪ ،‬وال خير في‬ ‫َ‬
‫ال ألنّ الصبر هو الذي يحقّق‬‫وال في إيمان ال صبر معه» ‪ ،‬وليس ذلك إ َّ‬
‫(((‬

‫شروط تأدية العمل على النحو المطلوب‪ ،‬ويساعد في تحديد الموقف‬


‫انسجا ًما مع المصلحة التي يراها العقل والشّ رع‪.‬‬
‫الصبر عند المصيبة‪ ،‬فألنّ المصيبة تضغط على مشاعر اإلنسان‬ ‫ّأما ّ‬
‫ألم‬ ‫ٍ‬
‫مرض َّ‬ ‫الموت‪ ،‬أو نتيجة‬
‫ُ‬ ‫وأحاسيسه نتيجة الحرمان من عزيز خطفه‬
‫زوجين‪،‬‬
‫فرق الطالق فيه بين َ‬ ‫ٍ‬
‫بالنفس أو بمن يرتبط بها‪ ،‬أو نتيجة حدث ّ‬
‫أو ش ّتت شمل عائلة‪ ،‬أو حصلت في البين كارثة بيئية أو اجتماعية أو‬
‫ٍ‬
‫شعب‪.‬‬ ‫حرب ُش َّنت على مجتمع‪ ،‬أو احتالل جثم على صدر‬
‫ٌ‬ ‫طبيعية‪ ،‬أو‬
‫وهذا الضغط على المشاعر واألحاسيس قد يدفع اإلنسان إلى اليأس‬
‫عاجزا أمام التفكير‬
‫ً‬ ‫والقنوط من التغيير‪ ،‬وهو الذي يقف معه اإلنسان‬
‫بطريقة متوازنة‪ ،‬وبعقل هادئ‪ ،‬ود ٍم بـارد‪ ،‬من أجل تحديد المداخل‬
‫التي يمكن من خاللهـا النفـاذ إلى وضع حلول‪ ،‬وإلى اجتراح األمل‪،‬‬
‫أو التفكير باستمراريـة الحيـاة بعـد فقـدان العزيز بالموت أو الطالق‬
‫أو بسبب المرض وما إلى ذلك‪.‬‬
‫الصبر هنا هو الذي يحقّق هذا التوازن الذي يعطي للمشاعر‬ ‫إنّ ّ‬
‫فرصتها للتعبير والتنفيس‪ ،‬ولك ّنه ال يسمح لها بأن تُسقط الموقف‪،‬‬

‫(( ( اإلمام علي بن أبي طالب ‪ ،Q‬نهج البالغة‪ ،‬ج‪ ،٤‬ص‪.١٨‬‬


‫‪150‬‬
‫تلمس‬ ‫وال بأن ّ‬
‫تخل بالواجبات‪ ،‬وال بأن تدفع اإلنسان نحو الشّ لل عن ّ‬
‫الصادق ‪ Q‬في‬ ‫يجسده ما َو َر َد عن اإلمام جعفر ّ‬
‫الحلول‪ .‬وهذا ما ّ‬
‫«لما مات إبراهيم ابن رسول الله ‪ P‬هملت عينا رسول‬ ‫ٍ‬
‫حديث يقول‪ّ :‬‬
‫القلب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ويحزن‬ ‫«تدمع العين‬
‫ُ‬ ‫ثم قال رسول الله ‪:P‬‬ ‫بالدموع‪ّ ،‬‬
‫الله ‪ّ P‬‬
‫الرب‪ ،‬وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون»(((‪.‬‬
‫وال نقول ما يسخط َّ‬
‫الطاعة‪ ،‬فألنّ طاعة الله ال تالئم النفس ً‬
‫دائما‪،‬‬ ‫وأما الصبر على ّ‬ ‫ّ‬
‫وخصوصا عندما يكون اإلنسان في طور تربية نفسه على االنسجام‬ ‫ً‬
‫بسيطا وهو أداء صالة‬ ‫ً‬ ‫مع إرادة الله سبحانه وتعالى؛ فلو أخذنا ً‬
‫مثال‬
‫مرورا‬
‫ً‬ ‫لذة النوم‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫حرمان من ّ‬ ‫الفجر في وقتها‪ ،‬وما يقتضيه ذلك من‬
‫بما يقتضيه الصبر على الصوم من كبت مشاعر الجوع والتعب‪ ،‬وما‬
‫حج‬‫مال من أجل دفع واجباته المالية‪ ،‬أو السفر إلى ّ‬ ‫يبذله اإلنسان من ٍ‬
‫بيت الله الحرام؛ ذلك ك ُّله يحتاج إلى هذه القدرة النفسية على ضبط‬
‫المشاعر‪ ،‬وعدم السماح لها بالتأثير على الموقف الذي يدفع اإلنسان‬
‫سطحية‪ ،‬أو سريعة ال تؤتي ثمارها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إلى ترك الطاعة‪ ،‬أو تأديتها بطريقة‬
‫فالموضوع مرتبط هنا بتثمير الطاعة‪ ،‬وهو الذي لن يحصل لإلنسان إال‬
‫إذا صبر على نوازع الفراغ والتخ ّفف‪ ،‬وراكم نتيجة ذلك الصبر عناصر‬
‫صالة يقتصر فيها اإلنسان على أداء حركاتها‬ ‫ٍ‬ ‫االرتقاء باألداء ك ِّلها‪ ،‬من‬
‫فيحس في ّ‬
‫كل‬ ‫قلب اإلنسان‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫صالة يخشع فيها ُ‬ ‫وأقوالها وأذكارها‪ ،‬إلى‬
‫ّ‬
‫وإيمانيا‪.‬‬
‫ً‬ ‫روحيا‬
‫ً‬ ‫صالة بعظمة الله أكثر‪ ،‬وباالقتراب منه‬

‫الحر العاملي‪ ،‬وسائل الشيعة (آل البيت)‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪ ،128‬ح‪.3‬‬


‫ّ‬ ‫((( ‬
‫‪151‬‬
‫الصبر على المتع ّلم والتعليم والتربية‬
‫ولعل من األمور التي تمثّل مصدا ًقا من مصاديق َّ‬
‫الصبر على‬ ‫ّ‬
‫الطاعة‪ ،‬الصبر على التع ّلم والتعليم والعمل‪ ،‬وذلك ألنّ اكتساب‬‫ّ‬
‫يتم من خاللها‬‫مستمرة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫عملية‬
‫ّ‬ ‫المعرفة والمهارات الجديدة هي‬
‫بالعملية السهلة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تثبيت الموجود‪ ،‬واكتساب الجديد‪ ،‬وهي ك ّلها ليست‬
‫وتحتاج إلى صبر‪.‬‬
‫نفس ُه تبرير عدم االنخراط‬
‫تسول لإلنسان ُ‬
‫إضافة إلى ذلك قد ّ‬
‫المستمر أو في مسارات التطوير الذاتي‪ ،‬تحت وطأة‬
‫ّ‬ ‫في التع ّلم‬
‫تأثير المكانة االجتماعية التي يحظى بها‪ ،‬فيشعره التع ّلم بالنقص‬
‫الصبر على هذه النوازع جز ًءا من مسيرة‬
‫أمام المجتمع‪ .‬وهنا يكون َّ‬
‫االرتقاء الحقيقية‪ ،‬في الحياة وعند الله‪ ،‬وهو الذي يساهم في تغيير‬
‫نظرة المجتمع نفسه‪.‬‬
‫الصعبة والتي تقوم على‬ ‫ّأما مهنة التعليم والتربية فهي من المهن ّ‬
‫الصبر على إعطائها‪ ،‬وما‬ ‫ً‬
‫وصول إلى َّ‬ ‫الصبر‪ ،‬بد ًءا من تحضير الما ّدة‪،‬‬
‫َّ‬
‫وخصوصياتها من‬
‫ّ‬ ‫يكتنف ذلك من عقبات ترتبط بالمراحل العمرية‬
‫جهة‪ ،‬والفروقات الفردية من جهة أخرى‪ ،‬ومتط ّلبات إدارة العمل‬
‫الطالب واألبناء‪،‬‬‫الصبر على تحقيق النتائج لدى ّ‬ ‫ً‬
‫وصول إلى َّ‬ ‫التعليمي‪،‬‬
‫السلوك‪ ،‬وتتط ّلب قضاء وقت طويل‬ ‫سواء في نقل المعرفة أو في تعديل ّ‬
‫ربما في دراسة أسباب عدم تحقّق النتائج‪ ،‬وابتداع أساليب جديدة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫تقدم األثر‪ ،‬وما إلى ذلك‪ ،‬وهذا ك ّله يتط ّلب‬
‫ثم تحديد مدى ّ‬ ‫وتجربتها‪ّ ،‬‬
‫عادي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫جهدً ا غير‬

‫‪152‬‬
‫الصبر على العمل‬
‫بالصبر على تحقيق النتائج‪،‬‬ ‫الصبر على العمل‪ ،‬فهو يرتبط َّ‬ ‫وأما َّ‬
‫ّ‬
‫والذي يتط ّلب من اإلنسان التضحية ببعض راحته‪ ،‬والمثابرة على‬
‫العمل‪ ،‬وعدم االستعجال في الحكم عليه بالفشل‪ ،‬إضافة إلى ما يرتبط‬
‫بالبعد اإلنساني للعمل الذي يلحظ‬ ‫بتحقيق جودة العمل‪ ،‬والتي تتصل ُ‬
‫اس‬
‫يحبه لنفسه؛ فال ُيطعم ال ّن َ‬
‫المنتج الذي ّ‬ ‫ويطلب له ُ‬
‫ُ‬ ‫اآلخر في حاجاته‪،‬‬
‫يطعمه ألوالده‪ ،‬وال يصنع لهم المنتجات التي ال يقتنيها في بيته‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ما ال‬
‫العامل أفضل ما عنده‪ ،‬ويحول اآلخر إلى ٍ‬
‫جزء‬ ‫ُ‬ ‫وهكذا يعطي اإلنسان‬
‫ّ‬
‫بالشكر العفوي‬ ‫ُستدام ُّ‬
‫ُ‬ ‫متميزة ت‬
‫إنسانية ّ‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫رسالة‬ ‫من ذاته وشؤونه‪ ،‬وهذا ك ُّله‬
‫يعبر عنه بلسانه‪.‬‬
‫الذي يعيشه اآلخر في أعماق نفسه‪ ،‬قبل أن ّ‬

‫تج ّنب المعاصي والصبر‬


‫الصبر تفرضه محاولة دفع النفس‬ ‫الصبر عن المعصية‪ ،‬وهذا َّ‬ ‫يبقى ّ‬
‫عن التأ ّثر بتزيين الشيطان للمعصية؛ فالمعصية قد ال تبدو لإلنسان‬
‫ف ظاهر‬ ‫من خالل عناصرها القبيحة‪ ،‬وهي العناصر المخفية عادة َخ ْل َ‬
‫الفعل‪ ،‬وإنّما تبرز من خالل شكلها الخارجي الذي يغري اإلنسان‬
‫جزئية‬
‫آنية مقابل حسرة طويلة‪ ،‬أو منفعة ّ‬ ‫ويجذبه إلى الحصول على ّ‬
‫لذة ّ‬
‫فساد كبير‪ ،‬أو رضا المخلوق مقابل سخط الخالق؛ وهكذا‪ ..‬هذا‬ ‫ٍ‬ ‫مقابل‬
‫الصبر هو الذي يسمح لإلنسان بالتوازن بين المشاعر التي تفرضها‬
‫واللذة والنفع والناس‪ ،‬وبين ما تفرضه المبادئ الذي تحمل‬ ‫ّ‬ ‫اللحظة‬
‫اإلنسان على االستقامة والحصول على رضوان الله في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫العالمية ساهمت في تزيين الكثير‬
‫ّ‬ ‫وقد نجد أنّ شبكة العالقات‬
‫‪153‬‬
‫بالتطور الحضاري للدول الشعوب‪ ،‬أو‬ ‫ّ‬ ‫من المعاصي‪ ،‬وربطت ذلك‬
‫بالذكاء السياسي واالقتصادي‪ ،‬كما نجده في عالم التجارة المرتبطة بما‬
‫تجارية مع المحت ّلين‬
‫ّ‬ ‫والدخول في مشاريع‬ ‫حرم الله‪ ،‬كالخمر والربا‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫مالية مع المفسدين وما إلى ذلك‪ .‬ذلك كلهُّ‬‫والظالمين‪ ،‬أو في صفقات ّ‬
‫أصبح يضغط على اإلنسان ُليشعره بأنّه متخ ّلف عن العصر إذا ما التزم‬
‫بمبادئه‪ ،‬ولم يدخل ما بات ُي ُ‬
‫عرف بال ّنظام العالمي الحاكم للتجارة أو‬
‫للتطور السياسي أو اإلداري ونحوه‪.‬‬
‫ّ‬
‫كثيرا من السياسات غير المباشرة تجعل من التجـارة العالمية‬ ‫ً‬ ‫إنّ‬
‫الدولي أو‬
‫الدوليـة القابضـة علـى حركتهـا كالبنـك ّ‬‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المنظمات‬ ‫ـ عبر‬
‫العالمية وغيرهما ـ طريقًا إلى التطبيع السياسي والثقافي‬
‫ّ‬ ‫منظمة التجارة‬ ‫ّ‬
‫شرعية‬
‫ّ‬ ‫مع القوى الظالمة والمستكبرة‪ ،‬أو إلى منح االحتالالت‬
‫سياسية عبر الحصار االقتصادي‪ ،‬بمنع‬‫ّ‬ ‫سياسية‪ ،‬أو إلى تحقيق هزيمة‬
‫ّ‬
‫معينة‪ ،‬أو بفرض التسهيالت عبر االنخراط‬ ‫الدول من التعامل مع دولة ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫محتل‪.‬‬ ‫اقتصادية أو سياسية مع ٍ‬
‫كيان معتدٍّ‬ ‫ّ‬ ‫في عالقات‬
‫ّ‬
‫ثقافيا ً‬
‫أيضا‪ ،‬عبر ا ّتهام المقاومات‬ ‫ً‬ ‫يتم الضغط‬
‫من الممكن أن ّ‬
‫ظل غياب‬‫خصوصا في ّ‬
‫ً‬ ‫الشّ عبية لقوى الهيمنة واالحتالل باإلرهاب‪،‬‬
‫عالميا‪ ،‬كاإلرهاب ونحوه‬ ‫ٍ‬
‫تعريف واضح للمفاهيم التي يجري تداولها‬
‫ً‬
‫ّ‬
‫للمتحكمين بالمسار السياسي في هذا‬ ‫المشروعية‬
‫ّ‬ ‫يؤمن مساحة من‬
‫مما ّ‬
‫والمترفين‬
‫َ‬ ‫البلد أو ذاك‪ ،‬من الموصوفين بالقرآن الكريم بالمستكبرين‬
‫حر ّية للفكر أو للحركة‪ ،‬أو‬
‫أي ّ‬ ‫والمفسدين والظالمين‪ ،‬لكي يقمعوا ّ‬
‫يفرضوا الحصار االجتماعي والفكري على هؤالء‪.‬‬
‫الصراع‪ ،‬بل نجد ً‬
‫مثيل له في‬ ‫ذلك ك ُّله ليس جديدً ا في تاريخ ّ‬
‫‪154‬‬
‫محمد ‪ P‬اقتصاد ًيا‬‫بي ّ‬ ‫ٍ‬
‫قريش ال ّن ّ‬ ‫تاريخنا اإلسالمي‪ ،‬عندما حاصرت‬
‫ٍ‬
‫سنوات‪ ،‬وعاقبت‬ ‫طالب في مدى ثالث‬‫ٍ‬ ‫ب((( أبي‬‫واجتماعيا‪ ،‬في ُش َع ِ‬
‫ً‬
‫كل َمن يتعامل مع المسلمين أو يعينهم ولو في األمور الحياتية البسيطة؛‬ ‫َّ‬
‫وذلك كوسيلة للضغط على إرادتهم من أجل العودة إلى منظومة الشّ رك‬
‫العربية آنذاك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫قريش‪ ،‬ومعها الكثير من قبائل الجزيرة‬ ‫التي كانت تقودها‬

‫تج ّليات الصبر في العمل اإلسالمي‬


‫وأخيـرا نركّ ـز علـى نقـاط ّ‬
‫عـدة نحسـبها مفيـدة فـي مجـال العمل‬ ‫ً‬
‫اإلسلامي‪:‬‬
‫الصبر المطلوب في ُبعده المجتمعي‪ ،‬أي المرتبط بال ُّنظم‬ ‫أو ًل‪ :‬إنّ َّ‬
‫ّ‬
‫التي تحكم ال ّناس وتدفعهم في ا ّتجاه ارتكاب المعاصي ومخالفة‬
‫المبادئ‪ ،‬يتط ّل ُب عمل المجتمعات المبدئي لتغيير األنظمة‪ ،‬أو إليجاد‬
‫ُحمل الشّ عوب أكثر من‬ ‫تشكل هامشً ا للحركة‪ ،‬ح ّتى ال ت َّ‬ ‫ُأطر بديلة ّ‬
‫ٌ‬
‫مهلكة لها‪.‬‬ ‫مما تستطيع حمله‬ ‫طاقتها‪ ،‬فإنّ تحميل ال ّنفس أكبر ّ‬
‫تتحرك معه ال ّنفس والمجتمع في‬ ‫ّ‬ ‫الصبر المطلوب هو الذي‬ ‫إنّ َّ‬
‫حالة جهاد‪ ،‬ال في حالة إجهاد تفقد معه ال ّنفس توازنها الذي تبحث‬
‫سلبية يجلس‬‫الصبر ليس حالة ّ‬‫الصبر‪ ،‬وهذا يجعلنا نؤكّ د أنّ َّ‬
‫عنه في َّ‬
‫المتغيرات من الخارج‪ ،‬وإنّما حالة‬
‫ّ‬ ‫فيها اإلنسان أو المجتمع حصول‬
‫يفكر فيها اإلنسان بخطط المواجهة لضغوط الواقع‪ ،‬والبدائل‬ ‫إيجابية ّ‬
‫ّ‬
‫تقلب‬
‫المتاحة ضمن موازين القوى‪ ،‬والخيارات االستراتيجية التي قد ُ‬
‫الطاولة على رأس المستكبرين والظالمين!‬

‫((( الشعب في اللغة هو االنفراج بين جبلين‪ ،‬أو الطريق‪.‬‬


‫‪155‬‬
‫ّ‬
‫ولعل من الهام هنا االلتفات إلى أنّ الصبر يقتضي أن‪:‬‬
‫أ‪ .‬ال يستعجل األخذ بالنتائج القصيرة األمد ويتنازل عن الطويلة‬
‫األمد‪.‬‬
‫والحرية‬
‫ّ‬ ‫كالعزة واالستقالل‬
‫ّ‬ ‫ب‪ .‬ال يقبل بما ُّ‬
‫يخل بالقيم والمبادئ‪،‬‬
‫وغير ذلك‪.‬‬
‫الصعبة‬
‫السهل لسهولته‪ ،‬ويترك المواقف ّ‬
‫ت‪ .‬ال يقبل بالموقف ّ‬
‫والتحمل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التي تتط ّلب َّ‬
‫الصبر‬
‫السريع للضغوط‪،‬‬
‫السابقة نتيجة استسالمه ّ‬
‫يفرط بالمنجزات ّ‬
‫ث‪ .‬ال ّ‬
‫بل يعمل على المحافظة على ما يمكن منها‪.‬‬
‫تمتد إلى مجاالت أخرى في الحياة‪ ،‬كما‬
‫ج‪ .‬ال يسمح للضغوط أن ّ‬
‫يحصل من تأثير للضغوط االقتصادية على العالقات األسرية‪،‬‬
‫أو بين الجيران‪ ،‬أو في بيئة العمل‪.‬‬
‫تحدث الله تعالى عن صراع اإلرادات َق َر َن ال ّنصر‬ ‫ولذلك عندما ّ‬
‫ِ ِ‬ ‫بالصبر فقال‪﴿ :‬إِن َي ُكن ِّم ُ ِ‬
‫نك ْم عشْ ُرونَ َصابِ ُرونَ َيغْ ل ُبو ْا م َئ َت ْي ِن﴾ ‪ّ ،‬‬
‫فبين‬ ‫(((‬
‫َّ‬
‫التحمل‪ ،‬انطال ًقا من هدوء‬ ‫ّ‬ ‫يضاعف القدرة على‬‫ُ‬ ‫الصبر‬ ‫َّ‬
‫وجل ـ أنّ َّ‬ ‫عز‬
‫ـ ّ‬
‫العقل وسالمة الروح وصالبة الموقف‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬في ذلك ك ّله‪ ،‬يكون اإلنسان في حالة تواصل مع الله‪ ،‬بما‬
‫ً‬
‫الروح واإلرادة والفكر‪ ،‬ويحقّق‬
‫مسارا لالرتقاء في ّ‬
‫ً‬ ‫الصبر‬
‫يجعل من َّ‬
‫أكبر قدر من استنفار الطاقات التي يحفل بها المجتمع‪ ،‬األمر الذي‬

‫((( سورة األنفال‪65 :‬‬


‫‪156‬‬
‫القوة لم تكن لتحصل‬ ‫ٍ‬
‫الصابرين من حالة ضعف إلى حالة من ّ‬
‫ُيخرج ّ‬
‫الضغوط‪.‬‬
‫من دون هذه ّ‬
‫جيدً ا فلسفة االبتالء في اإلسالم‪ ،‬وأنّه ليس ّإل إيجاد‬
‫نفهم ّ‬
‫ُ‬ ‫هنا‬
‫الظرف الذي يتط ّلب من اإلنسان أن يواجهه بالجهاد النفسي تارة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫المتنوع أخرى‪ ،‬ليكون الجهاد طريقًا للتربية‬
‫ّ‬ ‫الصراعي‬‫وبالجهاد ّ‬
‫واالرتقاء في المستويات كافّة‪.‬‬
‫ومن هنا ي ّتسع مفهوم الجهاد ليشمل بذل الجهد في مناحي الحياة‬
‫أشد منه في حالة الحرب؛ ألنَّ‬ ‫ك ّلها‪ ،‬والذي قد يكون في حالة ّ‬
‫السلم ّ‬
‫السلم قد ال يكون واضح ًا‪ ،‬واألوضاع فيها قد تكون‬
‫العدو في حالة ّ‬
‫مما يتط َّلب الكثير من‬ ‫ٍ‬
‫بشكل مباشر؛ ّ‬ ‫معقّدة إلى درجة يصعب مواجهتها‬
‫البصيرة في كشف المواقف المناسبة والحكيمة‪ ،‬والصبر على تحقيق‬
‫النتائج‪.‬‬
‫جيد ًا في ما بات يطلق عليه في عصرنا‬ ‫ولع َّلنا نفهم قيمة الصبر ّ‬
‫تلعب على وتر السطحية في قراءة األحداث‬ ‫ُ‬ ‫الحروب الناعمة التي قد‬
‫المتنوعة التي‬
‫ّ‬ ‫بم َلكة الصبر أمام الضغوط‬ ‫من جهة‪ ،‬وعلى عدم التح ّلي َ‬
‫تدفع اإلنسان إلى ا ّتخاذ المواقف المرتجلة‪ ،‬عبر َك ْي ِل اال ّتهامات‪ ،‬وغير‬
‫مما خبرناه في غير موقع وحالة‪.‬‬ ‫ذلك ّ‬
‫ثالثًا‪َّ :‬‬
‫الصبر ليس قيمة جاهز ًة تُخلق مع اإلنسان أو يرثها من محيطه‪،‬‬
‫وتدريب يعيشه اإلنسان‪ ،‬بحيث تتحقّق لإلنسان‬‫ٍ‬ ‫بل هو نتيجة وعي‬
‫ّ‬
‫والتحكم بحركة وجوده لتبقى منسجم ًة مع‬ ‫جراء ذلك ملكة السيطرة‬ ‫ّ‬
‫المبادئ التي يلتزم بها في حياته‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫رابعا‪ :‬يجب أن تلحظ البرامج التعليمية تدريب المتع ّلمين على‬ ‫ً‬
‫الضغط‪ ،‬وذلك بشكل‬ ‫التحمل‪ ،‬وتطوير مهاراتهم لكي تعمل تحت ّ‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫مدروس في وسائله ونتائجه‪ ،‬وكذلك في تنمية ال ّنظر با ّتساع وعمق إلى‬
‫كل ذلك على قاعدة الثقة بالله سبحانه‬ ‫طبيعة الخيارات المتاحة‪ ،‬وبناء ّ‬
‫وتعالى‪ ،‬كواحدة من المفردات التي تحفل بها المنظومة الفكرية‬
‫والقيمية التي ينتمي إليها المتع ّلمون‪ ،‬والله المستعان في ذلك ك ّله‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫‪٢٧‬‬
‫الصداقة عطر ُ ال ِّدين!‬

‫دين خليله؛ فلينظر أحدُ ُكم َم ْن ُيخالِل(((‪.‬‬


‫المرء على ِ‬
‫ُ‬

‫مجرد‬
‫ّ‬ ‫الخ ّلة ليست‬
‫وربما يقال إنّ ُ‬
‫الخالل والمخالة‪ :‬المصادقة‪ّ .‬‬
‫كل منهما‬‫يمر ٌّ‬
‫المصادقة‪ ،‬بل توحي باالندماج بين الشخصين‪ ،‬بحيث ّ‬
‫خالل اآلخر‪ ،‬بينما تُب ِرز الصداقة معنى الصدق الذي يكون بين‬
‫زيف‪ ،‬ومن دون‬‫كل منهما مع اآلخر من دون ٍ‬ ‫الشخصين‪ ،‬بحيث يتعامل ٌّ‬
‫وكالهما ـ أي الخ ّلة َّ‬
‫والصداقة ـ‬ ‫ُ‬ ‫فعل أو في شعو ٍر‪،‬‬ ‫نفاق في ٍ‬
‫قول أو في ٍ‬
‫ِ‬
‫ينبعان من المو ّدة التي تجمع بين شخصين وتربط بينهما‪ ،‬بعد أن كان‬ ‫قد‬
‫ٌّ‬
‫كل منهما فر ًدا له حدوده التي تفصله عن اآلخر‪ ،‬فتأتي المو ّدة لتضع‬
‫ٍ‬
‫بشكل وبآخر‪.‬‬ ‫جسرا أو لتلغي الفواصل‬
‫ً‬

‫ودورها‬
‫ُ‬ ‫المو ّدة‬
‫ومن الواضح أنّ تلك العالقة التي تقوم بين الطرفين بهذا النحو‪،‬‬
‫أساسا لتفاعل مختلف؛ ألنّ المو ّدة هي الجسر التي ُ‬
‫تعب ُر عنه‬ ‫ً‬ ‫ستكون‬
‫كثير من الصفات ليأخذها الخليل من خليله‪ ،‬والصديق من صديقه‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫((( الشيخ الطوسي‪ ،‬األمالي‪ ،‬ص ‪.518‬‬
‫‪159‬‬
‫وهي الماء الذي يسير عليه زورق األفكار ليحملها إلى قناعات اآلخر‬
‫بالدليل والبرهان إثباتًا‬ ‫عقلية صارمة‪ ،‬ال تقبل ّإل ّ‬ ‫ّ‬ ‫من دون حسابات‬
‫نفيا‪ ،‬وهي ـ أي المو ّدة ـ القاعدة التي تُدخل اإلنسان في كثي ٍر من‬ ‫أو ً‬
‫حذرا من خدش‬ ‫ً‬ ‫التسويات والتنازالت خو ًفا من فقدان العالقة‪ ،‬أو‬
‫ولعل إشارة من اآلية الكريمة‪َ ﴿ :‬يا َو ْي َل َت ٰى َل ْي َتنِي َل ْم‬ ‫ّ‬ ‫الصديق‪.‬‬ ‫مشاعر ّ‬
‫الذ ْك ِر َب ْعدَ إِ ْذ َج َاءنِي َو َكانَ َّ‬
‫الش ْي َطانُ‬ ‫َأت َِّخ ْذ ُف َلنًا َخ ِل ًيل* َل َق ْد َأ َض َّلنِي َع ِن ِّ‬
‫ول﴾((( تؤكّ د هذا المعنى بشكل واضح‪.‬‬ ‫ان َخ ُذ ً‬ ‫لِ ْ ِ‬
‫لن َْس ِ‬

‫عملية اإلضالل‬‫ّ‬ ‫والالفت في اآلية هو تعبيرها عن الخليل بعد‬


‫بالشيطان‪ ،‬األمر الذي يعكس طبيعة العالقة القائمة بين اإلنسان وخليله‪،‬‬
‫شيطانية في‬
‫ّ‬ ‫وهي حركة قد تكون شيطانية في وسائلها‪ ،‬ح ّتى لو لم تكن‬
‫ويزين له‬
‫ليضل اإلنسان‪ّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫طيبة‬ ‫الصديق بروح ّ‬‫خلفياتها‪ ،‬حيث قد ينطلق ّ‬
‫ّ‬
‫الطاعة‪ ،‬انطال ًقا من استغالل للمشاعر واألحاسيس‬ ‫المعصية أو ترك ّ‬
‫وتقوي عنصر الغريزة مقابل المبادئ؛‬ ‫ّ‬ ‫التي تطغى على حركة العقل‪،‬‬
‫ومحل وعيه‪ ،‬بسبب استغراقه في‬ ‫ّ‬ ‫منظورا لإلنسان‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُّ‬
‫كل ذلك قد ال يكون‬
‫اإليجابية‬
‫ّ‬ ‫إيجابية‪ ،‬وال يلتفت إلى أنّ‬
‫ّ‬ ‫بعض جوانب العالقة التي يراها‬
‫اإليجابية في الوسائل والنتائج‪.‬‬
‫ّ‬ ‫في المنطلقات والخلفيات ال تالزم‬

‫الصداقة من المنظور القرآني‬


‫ّ‬
‫ّ‬
‫ولعل من الضروري هنا الوقوف عند بعض اآليات القرآنية األخرى‬
‫والصداقة في مآالت األمور‪ ،‬وذلك في‬
‫َّ‬ ‫التي تناولت موضوع الخ ّلة‬
‫عدة نعرض لها كالتالي‪:‬‬
‫موارد ّ‬

‫(( ( سورة الفرقان‪ ،‬اآليتان ‪ ٢٨‬ـ ‪.٢٩‬‬


‫‪160‬‬
‫أو ًل‪ :‬معيار استمرار ّ‬
‫الصداقة‪ ،‬حيث الصداقات ك ُّلها زائلة إال تلك‬ ‫ّ‬
‫الضامن لها‪،‬‬ ‫التي أقيمت على التقوى‪ ،‬فكان الله سبحانه وتعالى هو ّ‬
‫باطل‪ ،‬انطال ًقا‬
‫ٍ‬ ‫حيث لم تحد عن مبدأ‪ ،‬ولم تزغ عن حقٍّ ‪ ،‬ولم تدخل في‬
‫من عاطفة ينساق من خاللها اإلنسان وراء الحصول على رضى من‬
‫ينم عن‬ ‫ٍ‬
‫حياء من األصدقاء‪ ،‬فإنّ َّ‬ ‫ٍ‬
‫كل ذلك ّ‬ ‫خجل أو‬ ‫حوله‪ ،‬أو ألجل‬
‫وضعف في بنيتها‪ ،‬وهذا هو الذي يجعلها زائلة‬‫ٍ‬ ‫الشخصية‪،‬‬ ‫خلل في‬
‫ّ‬
‫الحق بال باطل‪ ،‬وأمام‬
‫ّ‬ ‫يوم القيامة؛ ألنّه اليوم الذي يبرز فيه اإلنسان أمام‬
‫الصدق بال كذب‪ ،‬وأمام المبادئ بال تسويات‪ ،‬وهو ما أشار الله تعالى‬
‫ين﴾(((‪ ،‬وقوله‬ ‫ض َعدُ ٌّو إِ َّل ا ْل ُم َّت ِق َ‬ ‫﴿ال ِخ َّل ُء َي ْو َمئِ ٍذ َب ْع ُض ُه ْم لِ َب ْع ٍ‬ ‫إليه بقوله‪َ ْ :‬‬
‫اك ْم ِم ْن َق ْب ِل َأ ْن َي ْأتِ َي َي ْو ٌم‬ ‫ين آ َم ُنوا َأن ِْف ُقوا ِم َّما َرزَ ْق َن ُ‬ ‫وجل‪َ ﴿ :‬يا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ‬
‫ّ‬ ‫عز‬
‫ّ‬
‫الظالِ ُمونَ ﴾(((‪ ،‬وقوله‬ ‫اع ٌة َوا ْل َك ِاف ُرونَ ُه ُم َّ‬ ‫يه َو َل ُخ َّل ٌة َو َل َش َف َ‬ ‫َل َبي ٌع ِف ِ‬
‫ْ‬
‫اه ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الص َل َة َو ُي ْنف ُقوا م َّما َرزَ ْق َن ُ‬ ‫يموا َّ‬ ‫ِ‬
‫ين آ َم ُنوا ُيق ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تعالى‪ُ ﴿ :‬ق ْل لع َباد َي ا َّلذ َ‬
‫يه َو َل ِخ َل ٌل﴾(((‪ ،‬أي صداقة‪.‬‬ ‫ِسرا َو َع َلنِي ًة ِم ْن َقب ِل َأ ْن َي ْأتِي َيو ٌم َل َبي ٌع ِف ِ‬
‫ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ًّ‬
‫ثانيا‪ :‬يحصل في كثير من الحاالت أن يتنازل اإلنسان عن بعض ما‬ ‫ً‬
‫يحب أن يراه كذلك‪،‬‬ ‫أمرا ألنّ صديقه ُّ‬
‫يعتقد‪ ،‬فينافق في إعالن موافقته ً‬
‫ٍ‬
‫مجون ألجل‬ ‫ٍ‬
‫وشراب أو‬ ‫وهو في قلبه رافض؛ أو ينساق وراء جلسة ندامة‬
‫منفتح‬
‫ٌ‬ ‫الجو العام للصداقة‪ ،‬أو ألن يقول عنه األصحاب إنّه‬
‫االنسجام مع ّ‬
‫رائجا‪ ،‬وهذا ما أشار الله تعالى‬
‫مما أصبح ً‬ ‫على العصر وما شاكل ذلك ّ‬
‫﴿وإِ ْن‬
‫مخاطبا رسوله ‪ P‬ومن خالل رسوله يخاطبنا ـ ‪َ :‬‬ ‫ً‬ ‫إليه بقوله ـ‬

‫(( ( سورة الزخرف‪ ،‬اآلية ‪.٦٧‬‬


‫(( ( سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.٢٥٤‬‬
‫((( سورة إبراهيم اآلية ‪.٣١‬‬
‫‪161‬‬
‫َك ُادوا َل َي ْفتِ ُنون ََك َع ِن ا َّل ِذي َأ ْو َح ْي َنا إِ َل ْي َك لِ َت ْف َت ِر َي َع َل ْي َنا َغ ْي َر ُه َوإِ ًذا َلت ََّخ ُذ َ‬
‫وك‬
‫َخ ِل ًيل﴾(((‪.‬‬
‫ولع ّله ألجل ذلك ورد في بعض األحاديث عن اإلمام علي ‪Q‬‬
‫ّ‬
‫أن يجعل اإلنسان مساف ًة ما بينه وبين صديقه على الرغم من المو ّدة‪،‬‬
‫وأبغض‬‫بغيضك يوما ما‪ِ ،‬‬ ‫َ‬
‫حبيبك َه ْونًا ما عسى أن يكون َ‬ ‫فقال‪َ :‬‬
‫«أحبِ ْب‬
‫ً‬
‫َ‬
‫حبيبك يو ًما ما»(((‪ ،‬وهذا ال يعني أن‬ ‫َ‬
‫بغيضك هونًا ما عسى أن يكون‬
‫يقوم اإلنسان بعملية صراع مع مشاعره وأحاسيسه‪ ،‬فإنّ هذا األمر ليس‬
‫يتم ذلك بأن يكون الله‬‫صح ًيا للنفس وصفائها‪ ،‬وإنّما ّ‬
‫صحيحا وال ّ‬
‫ً‬
‫ّ‬
‫األخلء‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫كخليل فوق‬ ‫حاضرا‬
‫ً‬ ‫سبحانه‬
‫الصداقات‬ ‫ثالثًا‪ :‬أشرنا إلى أنّ سعي اإلنسان الحقيقي إلى تحصيل ّ‬
‫يمر بصداقة الله تعالى‪ ،‬فهو الذي من خالله تعبر الصداقات‬ ‫بد أن ّ‬ ‫ال ّ‬
‫وتستمر‪ ،‬وقد أشار الله تعالى إلى هذا النوع من الصداقة أو‬ ‫ّ‬ ‫وتستقيم‬
‫﴿و َم ْن َأ ْح َس ُن‬‫نبي الله إبراهيم ‪ ،Q‬فقال تعالى‪َ :‬‬ ‫الخلة في نموذج ّ‬ ‫ُ‬
‫يم َحنِي ًفا َوات ََّخ َذ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫دي ًنا م َّم ْن َأ ْس َل َم َو ْج َه ُه ل َّله َو ُه َو ُم ْحس ٌن َوات ََّب َع م َّل َة إِ ْب َراه َ‬
‫يم َخ ِل ًيل﴾(((‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ال َّل ُه إِ ْب َراه َ‬
‫إنّ صداقة الله تعالى هي المحور الذي يوازن حركة ّ‬
‫الصداقة بين‬
‫الحقيقية مع الله‪ ،‬فإنّه يعمل‬
‫ّ‬ ‫ال ّناس؛ ألنّ اإلنسان عندما يعيش ّ‬
‫الصداقة‬
‫أي صداقة أخرى؛ ألنّ ما سوى‬ ‫الصداقة لصالح ّ‬
‫على أن ال يخسر هذه ّ‬
‫جزئيا‬
‫ً‬ ‫الله تعالى يرتبط بالشيطان وميدان حركته‪ ،‬كما أشرنا سابقًا‪ ،‬ولو‬

‫(( ( سورة اإلسراء‪ ،‬اآلية ‪.٧٣‬‬


‫(( ( نهج البالغة‪ ،‬ج‪ ،٤‬ص‪.٥٧‬‬
‫((( سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.١٢٥‬‬
‫‪162‬‬
‫الصديق‪ ،‬وفي حركة إضالله‪.‬‬
‫شخصية ّ‬
‫ّ‬ ‫من خالل الجوانب السلبية في‬
‫هذا من جهة‪.‬‬
‫قوة الصداقة مع الله تجعل اإلنسان ـ صديق‬ ‫ومن جهة أخرى‪ ،‬فإنّ ّ‬
‫الله ـ في موقع التأثير في اآلخرين‪ ،‬ال في موقع التأ ّثر بهم؛ ألنّه الذي‬
‫وشخصيته وحركته‪ ،‬ووضوح الرؤية في‬ ‫ّ‬ ‫القوة في ذاته‬
‫يملك عناصر ّ‬
‫تلقائيا على تعديل‬
‫ً‬ ‫أهدافه وحركته‪ ،‬ولذلك تجد مثل هذا اإلنسان يعمل‬
‫حق‪ ،‬وما‬
‫السلوك في أصدقائه‪ ،‬ليكسب طرفهم إلى ما يعتقد به من ّ‬ ‫ّ‬
‫يتحرك به من سلوك في‬ ‫يلتزم به من قيم‪ ،‬وما يرتكز إليه من مبادئ‪ ،‬وما ّ‬
‫مجاالت الحياة‪.‬‬
‫إنّ ما أثرناه في النقطة الثانية‪ ،‬من ضرورة أخذ مسافة بين األصدقاء‬
‫اإلنساني‬ ‫للبعد‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫كموقف يحتاط فيه اإلنسان لنفسه‪ ،‬لن يكون أبدً ا فقدانًا ُ‬
‫شعوري‪ ،‬في ّتخذه‬
‫ّ‬ ‫الذي ينجذب من خالله اإلنسان إلى اآلخر بنح ٍو ال‬
‫الصداقة مع الله هي القاعدة التي نجمع من خاللها‬ ‫صديقًا‪ ،‬بل ستكون ّ‬
‫بين هذا االنجذاب اإلنساني العفوي الطبعيي‪ ،‬وبين الثبات على‬
‫المبادئ‪ ،‬بما يحقّق التوازن المطلوب أمام حركة المشاعر وضبط‬
‫المؤ ّثرات المرتبطة بها؛ ألنّنا نعتقد أنّ العالقة مع الله تعالى ليست حالة‬
‫متأصلة في حركة الوجود‬ ‫وتوجهاتها‪ ،‬بل هي ّ‬ ‫ّ‬ ‫مفصول ًة عن حركة الذات‬
‫شخصية اإلنسان‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والذي يتج ّلى في هذا ُ‬
‫البعد التربوي في بناء‬
‫رات التقنية‬
‫التطو ُ‬
‫ّ‬ ‫أرضي َتها‬
‫َّ‬ ‫الصداقة الرقمية‪ .‬وهي التي ّأمنت‬
‫رابعا‪ّ :‬‬
‫ً‬
‫ً‬
‫موصول على‬ ‫المتسارعة في هذا العصر‪ ،‬حيث أصبح العالم ك ُّله‬
‫المتنوعة من نسج‬
‫ّ‬ ‫ومكنت التطبيقات الرقمية‬‫شبكة واحدة للتواصل‪ّ ،‬‬
‫تحولت‬
‫الصداقات الرقمية ّ‬ ‫عالقات وصداقات عبر تلك الشبكة‪ ،‬وهذه ّ‬
‫‪163‬‬
‫في الواقع إلى عالمٍ موا ٍز للعالم الواقعي‪ ،‬بحيث بات اإلنسان يقضي‬
‫كثيرا من وقته في إدارة األحاديث وتبادل الصور والمعلومات‪ ،‬وح ّتى‬
‫ً‬
‫ً‬
‫منخرطا في ما يجري في أسرته‬ ‫إجـراء لقـاءات متلفـزة‪ ،‬تجعل البعيد‬
‫أو بين أصدقائه عبر آالف الكيلومترات!‬
‫في الوقت ذاته‪ ،‬فإنّ من إفرازات هذه التطبيقات هو إمكانية إنشاء‬
‫وهويات ال وجود‬ ‫ّ‬ ‫حقيقية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وهمية قائمة على أسماء غير‬
‫ّ‬ ‫صداقات‬
‫لها‪ ،‬ذلك ك ُّله قد يعيش معه اإلنسان الخضوع لتأثيرات ّ‬
‫متنوعة‪،‬‬
‫سلبي‪ ،‬سواء من حيث تأ ّثره باألفكار السلبية‪ ،‬أو بإثارة‬‫ّ‬ ‫في غالبها‬
‫وربما أ ّدت تلك‬
‫المشاعر واألحاسيس المفقودة في عالقات الواقع‪ّ ،‬‬
‫«الصداقات» الرقمية إلى تخريب البيوت‪ ،‬وهدم األسر‪ ،‬وتمكين‬
‫فضل عن المنزلقات في‬ ‫جهات مشبوهة من االبتزاز الجنسي وغيره‪ً ،‬‬
‫اإليمانية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وهويته‬
‫ّ‬ ‫عالم الرذيلة والمعصية التي تهدم مبادئ اإلنسان‬
‫هذا ك ّله‪ ،‬يتط ّلب من التربية والتعليم والتوجيه ّ‬
‫الديني إدخال‬
‫السلوك في حركة العالم‬
‫المبادئ والقيم واألحكام الشرعية التي تضبط ّ‬
‫عملية التنشئة‪ ،‬بحيث ال يعيش اإلنسان حالة االنفصال‬
‫ّ‬ ‫االفتراضي في‬
‫شخصيته بين عالمه الواقعي وعالمه االفتراضي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫في حركة‬
‫السر ّية التي تطبع عالقة اإلنسان‬
‫ّ‬ ‫ويجب االلتفات هنا إلى أنّ‬
‫باآلخرين في العالم االفتراضي‪ ،‬وإمكان أن يبرز بهوية أخرى غير‬
‫هويته الحقيقية‪ ،‬هو بيئة خصبة لتسويالت الشيطان التي تدفع اإلنسان‬
‫ّ‬
‫إلى القفز على المبادئ‪ ،‬ومخالفة القيم‪ ،‬وارتكاب ما نهى الله عنه!‬
‫هذا النوع من التوجيه والتعليم والتربية هو أولى من ّ‬
‫الطريقة‬
‫التقليديون مثل هذه المجاالت‪ ،‬عبر المسارعة إلى‬
‫ّ‬ ‫التي يواجه فيها‬
‫‪164‬‬
‫إيجابياتها التي فرضت‬
‫ّ‬ ‫سلبياتها‪ ،‬دون وعي‬
‫تحريمها‪ ،‬وإلى التركيز على ّ‬
‫ٍ‬
‫خطاب‬ ‫أي‬
‫يحد منها ُّ‬‫نفسها على الحياة‪ ،‬والحال أنّ هذه المجاالت ال ّ‬
‫أي فتوى شرعية‪ ،‬فإنّ طبيعة اإلنسان ستسمح له بنسج بعض‬ ‫ديني‪ ،‬بل ّ‬
‫الجزئية للفتوى الشرعية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫دينيا مع مخالفته‬
‫التبريرات التي تجعله ملتز ًما ً‬
‫تصدر منهم؛‬
‫ُ‬ ‫هذا إذا لم تؤ ّثر ُ‬
‫مثل تلك الفتاوى على نظرة ال ّناس إلى من‬
‫التطور الذي‬
‫ّ‬ ‫ألنّها توحي بانتمائها إلى خارج العصر والزمن وحركة‬
‫لحق بالواقع اإلنساني!‬
‫الواقعية‪ ،‬قد تجعل من العالم‬ ‫ّ‬ ‫وبتعبير آخر إنّ تعقيدات الحياة‬
‫االفتراضي‪ ،‬والصداقات التي تنشأ فيه على قاعدة المبادئ والقيم‪،‬‬
‫أمر قد‬‫هامشً ا يخرج اإلنسان من قوقعة مجتمعه المغلق أحيانًا‪ ،‬وهو ٌ‬
‫يوسع أفق التفكير في بعض القضايا التي ال يسمع فيها اإلنسان رأ ًيا‬ ‫ّ‬
‫اجتماعيا‪،‬‬
‫ً‬ ‫مما ُفرض عليه تكوي ًنا أو‬ ‫آخر‪ ،‬أو يختبر أنّ هناك ً‬
‫عالما أوسع ّ‬
‫مجرد وسيلة مطروحة من بين‬ ‫نفسية‪ ،‬وليس ّ‬
‫ّ‬ ‫وهذا ك ُّله يجعله حاج ًة‬
‫الخيارات‪.‬‬
‫التسـرع‬
‫ّ‬ ‫تقدم ك ُّلـه ال يعفـي اإلنسـان من الحـذر وعـدم‬
‫خامسا‪ :‬ما ّ‬
‫ً‬
‫أو السطحية في نسج الصداقات الرقمية أو قبولها والتفاعل معها‪،‬‬
‫الواقعية‪ ،‬وهو ما يتط ّلب اختبار الصداقات قبل‬
‫ّ‬ ‫وكذلك الصداقات‬
‫العفوية‬
‫ّ‬ ‫االسترسال فيها‪ ،‬وهذا قد يكون عبر مالحظة ر ّدات الفعل‬
‫مثل‪ ،‬أو في حاالت الغضب وفقدان‬ ‫كالسفر ً‬
‫في مجاالت تفرضها‪َّ ،‬‬
‫أدبيات عديدة(((‪.‬‬
‫مما أشارت إليه ّ‬‫اال ّتزان‪ ،‬وغير ذلك ّ‬

‫((( راجع ميزان الحكمة‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪ 1582‬وما بعدها تحت عنوان (الصديق)‪.‬‬
‫‪165‬‬
‫‪٢٨‬‬
‫ص َدقة اإلنسانية!‬
‫َ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بالمعروف‬ ‫تبس ُمك في وجه أخيك َصدَ ٌقة‪ُ ،‬‬
‫وأمرك‬ ‫ُّ‬
‫جل في ِ‬
‫أرض‬ ‫الر َ‬
‫ونهيك عن المنك ِر َصدَ قة‪ ،‬وإرشادك َّ‬ ‫ُ‬
‫الردي البصر لك َصدَ قة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫الضالل صدقة‪ ،‬وبصرك للرجل‬‫ِ‬
‫ٌ‬
‫صدقة‪،‬‬ ‫وإماطتك الحجر والشّ وك والعظم عن ّ‬
‫الطريق لك‬
‫وإفراغك من دلوك في دل ِو أخيك صدقة(((‪.‬‬
‫ُ‬

‫الصدقة هو صدقة المال التي تُعطى للفقير‬ ‫الشائع في مفهوم ّ‬


‫والمسكين واليتيم‪ ،‬وهو ما ورد استخدامه كمصطلح في القرآن‬
‫ولكن بعض األحاديث تشير إلى أنّ المفهوم أوسع من‬ ‫َّ‬ ‫الكريم(((؛‬
‫المعنوية»‪ .‬وليس توصيفنا‬
‫ّ‬ ‫نسميه «الصدقة‬
‫ذلك‪ ،‬ليشمل ما يمكن أن ّ‬
‫لها بالمعنوية دقيقًا؛ ألنّها في الحقيقة ترجع إلى مظاهر وآثار ما ّد ّية في‬
‫حياة ال ّناس كذلك‪.‬‬

‫((( سنن الترمذي‪ ،‬ج ‪ ،٣‬ص ‪.٢٢٨‬‬


‫(( ( راجع سورة البقرة‪ ،263 ،196 :‬النساء‪ ،114:‬التوبة‪ ،103:‬المجادلة‪.12:‬‬
‫‪166‬‬
‫فلسفة الصدقة‬
‫تعمقنا أكثر‪ ،‬فيمكن لنا أن نغوص في الجوهر الذي تقوم عليه‬ ‫وإذا ّ‬
‫البعد النفسي‬
‫الصدقة‪ .‬وهذا الجوهر له ُبعد نفسي وله ُبعد اجتماعي‪ّ .‬أما ُ‬ ‫ّ‬
‫فهو إخراج خصال الحرص والبخل والطمع من نفس اإلنسان؛ وهي‬
‫حب التم ّلك التي فطر الله اإلنسان عليها‪،‬‬
‫الخصال التي تنشأ من غريزة ّ‬
‫المتأصلة‬
‫ّ‬ ‫آليات تهذيب هذه الغريزة‬ ‫آلية من ّ‬
‫الصدقة تمثّل ّ‬‫ما يعني أنّ َّ‬
‫في كينونة اإلنسان ح ّتى يبقى متوازنًا في داخله‪.‬‬
‫فالصدقة تستهدف تحقيق التكافل‬ ‫ّ‬ ‫البعد االجتماعي‪،‬‬ ‫وأما في ُ‬ ‫ّ‬
‫سد حاجات الجماعات المحرومة‪ ،‬والتي ال‬ ‫االجتماعي‪ ،‬عن طريق ّ‬
‫بد لإلنسان أن يستشعر المسؤولية عنها‪ ،‬انطال ًقا من ال ِّنعم التي حباه‬ ‫ّ‬
‫الصدقة إنّما‬ ‫سد حاجات المحرومين جز ًءا منها؛ ألنّ ّ‬ ‫الله بها‪ ،‬وجعل ّ‬
‫يتصدق على‬ ‫ّ‬ ‫فالغني‬
‫ّ‬ ‫أصحاب النعم من يفتقرون إليها؛‬ ‫ُ‬ ‫شرعت ُليعين‬ ‫ّ‬
‫يسد به حاجته وحاجة الفقير‪ .‬وهذا المبدأ‬ ‫الفقير من ماله ألنّه يملك ما ّ‬
‫بعض‪ ،‬كما‬ ‫بعض دون ٍ‬ ‫موجود في ال ِّنعم ك ّلها التي أنعم الله بها على ٍ‬
‫أشار إلى ذلك قوله تعالى‪﴿ :‬ن َْح ُن َق َس ْم َنا َب ْي َن ُهم َّم ِعيشَ َت ُه ْم ِفي ا ْل َح َي ِاة ُّ‬
‫الدن َْيا‬
‫ات لِ َي َّت ِخ َذ َب ْع ُض ُهم َب ْعض ًا ُس ْخ ِر ّي ًا﴾(((‪،‬‬ ‫ض َد َر َج ٍ‬ ‫َو َر َف ْع َنا َب ْع َض ُه ْم َف ْو َق َب ْع ٍ‬
‫حيث جعل الله حاجات الناس عند بعضهم البعض‪.‬‬
‫بروحية اإلنفاق؛ فإذا كانت‬
‫ّ‬ ‫والحديث يريد من اإلنسان أن يتح ّلى‬
‫وتعليمه‪ ،‬وزكاة المعرفة‬
‫ُ‬ ‫الصدقة زكا ًة للمال والنفس‪ ،‬فزكاة العلم إنفا ُقه‬
‫عناصرها للضا ّلين عنها‪،‬‬
‫َ‬ ‫نق ُلها إلى من يجه ُلها‪ ،‬وزكاة الهداية أن تمنح‬

‫(( ( سورة الزخرف‪ ،‬اآلية ‪.32‬‬


‫‪167‬‬
‫القوة أن يميط بها األذى عن طريق الناس‪ ،‬أو أن يتعاون مع‬ ‫وزكاة ّ‬
‫البر‪،‬‬
‫خط ّ‬ ‫قوتهم لتحقيق النتائج الكبيرة في ّ‬‫قوته إلى ّ‬‫فيضم ّ‬
‫ّ‬ ‫اآلخرين‬
‫وزكاة ال ّلسان القول الحسن الذي يميط األحقاد من القلوب‪ ،‬ويس ّلي‬
‫عن األحزان والهموم‪ ،‬ويبعث السكينة في النفوس‪ .‬ح ّتى العبادة يمكن‬
‫رقيها‬
‫يتصدق بها اإلنسان على نفسه في ّ‬‫ّ‬ ‫أن تكون صدق ًة؛ ألنّها ّ‬
‫مما‬
‫النبي ‪ّ :P‬‬
‫«كل خطوة‬ ‫وزيادة قربها من الله‪ ،‬وقد ورد في الحديث عن ّ‬
‫تخطوها إلى الصالة صدقة»(((؛ وبذلك ي ّتسع مفهوم الصدقة ليشمل‬
‫كل ما يمكن أن يعطيه اإلنسان ويبذله من نفسه لآلخرين‪.‬‬‫ّ‬
‫إنّ المعنى العميق الذي نستطيع استيحاؤه من ذلك ك ّله هو أنّ‬
‫الذات‪،‬‬ ‫الصدقة ترتكز إلى اإلحساس باآلخر‪ ،‬وتهذيب األنانية لدى ّ‬
‫كل ما يستطيعه اإلنسان تجاه ما‬‫بالمسؤولية عن ّ‬
‫ّ‬ ‫شعورا‬
‫ً‬ ‫وهذا ما ينتج‬
‫بقوة يستطيع من خاللها أن يزيح‬ ‫يصادفه في حياته؛ فإذا أنعم الله عليه ّ‬
‫ما يؤذي ال ّناس من طريقهم‪ ،‬سواء كان ذلك من خالل األمور الما ّدية‬
‫الطفيفة‪ ،‬كالحجر والشوك وما يعيق حركتهم‪ ،‬أو من خالل المشاكل‬
‫وتشكل ً‬
‫ثقل عليهم‪ ..‬ذلك ك ُّله يلتقي َّ‬
‫بالصدقة‬ ‫ّ‬ ‫التي تعيق حياة ال ّناس‬
‫في جوهرها وتأثيرها في حياة اإلنسان‪.‬‬

‫اإلنسانية منهج حياة‬


‫ّ‬ ‫الصدقة‬
‫ّ‬
‫مجرد فعل؛ ألنّ‬
‫نتحدث عن منهج وليس عن ّ‬ ‫ّ‬ ‫طبعا‪ ،‬هنا يمكن أن‬
‫ً‬
‫يفكر في طريقة‬‫تجذرت في اإلنسان فإنّه ال يعود ّ‬
‫هذه الروحية إذا ما ّ‬
‫تعاطيه مع كثير من األوضاع بطريقة ذاتية‪ ،‬ترتكز إلى مالحظة مصلحته‬

‫(( ( العالمة المجلسي‪ ،‬بحار األنوار‪ ،‬ج ‪ ،٧٤‬ص ‪.٨٥‬‬


‫‪168‬‬
‫مع نفسه بعيد ًا عن اآلخرين‪.‬‬
‫الطريق‬ ‫نتحـدث عن إماطة األذى عن ّ‬ ‫ّ‬ ‫ولنأخـذ ً‬
‫مثـل ـ ما ُدمنـا‬
‫كصدقة ـ النفايات التي تنتج عن حياتنا اليومية؛ فاإلنسان الذي يعيش‬
‫سي ُع ُّده من‬ ‫يفكر في العملية ك ّلها؛ بد ًءا ّ‬
‫مما َ‬ ‫الصدقة سوف ّ‬ ‫روحية َّ‬
‫تسد جوع جائع‪ ،‬أو‬ ‫كثيرا ما يرمي ال ّناس أطعم ًة يمكن أن ّ‬ ‫النفايات؛ إذ ً‬
‫وصول إلى الطريقة التي يفرزون فيها النفايات‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ثيا ًبا تكسو أجسادهم‪،‬‬
‫ثم الكيفية التي سيلقونها بها؛ فهل سيتركونها على الطرقات ليؤذي‬
‫المارة وجودها ورائحتها‪ ،‬أو سيغ ّلفونها في ما يقي الناس من ذلك؛‬ ‫ّ‬
‫تقدم‬ ‫ثم كيف سيتعاملون معها الحقًا؛ فهل سيشعرون بأنّها يمكن أن ّ‬ ‫ّ‬
‫المختصة على جعل استثمار الطاقة‬ ‫ّ‬ ‫الطاقة للناس‪ ،‬فتعمل الجهات‬
‫الصدقة أم أنّها س ُتترك لتؤذي األرض والماء؟! ذلك ك ُّله‬ ‫نوعا من َّ‬‫منها ً‬
‫تشكل‬ ‫إنسانية‪ِّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫أخالقية‬
‫ّ‬ ‫سيجعل الصدقة عبارة عن سلسلة مبادرات‬
‫عامة تؤ ّثر في طريقة تعاطي المسؤولين الذين‬ ‫ذهنية ّ‬
‫األساس في خلق ّ‬
‫وأنانياتهم‪ ،‬بل لما يخدمون به‬
‫ّ‬ ‫ال يعودون يستغ ّلون السلطة لمصالحهم‬
‫اآلخرين أكثر‪.‬‬
‫الفردي‬ ‫ٍ‬
‫حياة ينتقل من الجانب‬ ‫الصدقة إلى منهج‬
‫ّ‬ ‫تتحول َّ‬
‫ّ‬ ‫وبذلك‬
‫اآلخر في حساباته‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان‬ ‫يرص ُد فيه‬
‫إلى المجتمعي الواسع‪ ،‬حيث ُ‬
‫أنانيته التي‬
‫ثم يلغي ّ‬ ‫سدا لحاجته‪ّ ،‬‬‫يشكل ًّ‬‫ويتحسس معه ما يمكن أن ّ‬
‫ّ‬
‫عما يوافقه من دون أن يحسب‬ ‫الخاص الذي يف ّتش ّ‬
‫ّ‬ ‫تنطلق من المزاج‬
‫حساب اآلخرين!‬

‫‪169‬‬
‫‪٢٩‬‬
‫الصالة ّ‬
‫الضائعة!‬ ‫ّ‬

‫والم َ‬
‫نك ِر‬ ‫تنه ُه َصال ُت ُه عن ال َف ْح ِ‬
‫شاء ُ‬ ‫من لم َ‬
‫(((‬ ‫لم ْيز َد ْد من ِ‬
‫الله ّإل ُبعدً ا‬

‫ذاتيا لإلنسان عن الفحشاء‬ ‫حاجزا ًّ‬ ‫ً‬ ‫تشكل‬‫الصالة هي أن ّ‬ ‫وظيفة َّ‬


‫الص َل َة َت ْن َهى َع ِن ا ْل َف ْحشَ اء‬ ‫﴿أ ِق ِم َّ‬
‫الص َل َة إِ َّن َّ‬ ‫والمنكر‪ ،‬وهو قو ُل ُه تعالى‪َ :‬‬
‫القبيح من القول‬ ‫ُ‬ ‫نك ِر﴾(((‪ .‬و»الفحش والفحشاء والفاحشة‪:‬‬ ‫َوا ْل ُم َ‬
‫وأفحش عليه في المنطق أي قال‬ ‫َ‬ ‫والفعل‪ ،‬وجمعها الفواحش‪.‬‬
‫اسم الفاحشة‪ ...‬وفي الحديث‪« :‬إنّ الله يبغض‬ ‫والفحشاء‪ُ :‬‬
‫ُ‬ ‫ش‪.‬‬‫الف ْح َ‬ ‫ُ‬
‫ش»(((؛‪ ‬فالفاحش ذو الفحش والخنا من قول وفعل‪،‬‬ ‫المتفح َ‬
‫ِّ‬ ‫َ‬
‫الفاحش‬
‫الفحش‬ ‫تكرر ذكر ُ‬
‫ويتعمده‪ .‬وقد َّ‬
‫َّ‬ ‫ش ا ّلذي يتك ّلف َّ‬
‫سب ال ّناس‬ ‫والمتفح ُ‬
‫ِّ‬
‫يشتد قبحه من ُّ‬
‫الذنوب‬ ‫والفاحشة والفاحش في الحديث‪ ،‬وهو كل ما ُّ‬
‫ويسمى‬
‫ّ‬ ‫ترد الفاحشة بمعنى الزنا‬
‫وكثيرا ما ُ‬
‫ً‬ ‫قال‪ ‬ابن األثير‪:‬‬
‫ُ‬ ‫والمعاصي‪.‬‬

‫(( ( الطبراني‪ ،‬المعجم الكبير‪ ،‬ج ‪ ، ١١‬ص ‪.٤٦‬‬


‫((( سورة العنكبوت‪ ،‬اآلية ‪.45‬‬
‫(( ( الشيخ الكليني‪ ،‬الكافي‪ ،‬ج ‪ ،٢‬ص ‪.٢٩١‬‬
‫‪170‬‬
‫ُ‬
‫وصف اللواط((( بالفاحشة‪.‬‬ ‫الزنا فاحشة(((‪ ،‬وكذلك ورد‬
‫ِّ‬
‫شرعيا‬
‫ًّ‬ ‫اجتماعيا أو‬
‫ًّ‬ ‫ٌ‬
‫مرفوض‬ ‫ٍ‬
‫مرفوض؛ وهل هو‬ ‫ّأما المنكر فهو ُك ُّل‬
‫نفسيا؟‬
‫أو ً‬
‫مرفوض بسليقة الفطرة‪ ،‬أي‬ ‫ٍ‬ ‫المنكر هو ُّ‬
‫كل‬ ‫األقرب إلى االعتبار أنّ ُ‬ ‫ُ‬
‫الدين عليه‪،‬‬ ‫تم إقامة ّ‬ ‫بحسب الجوهر اإلنساني‪ ،‬وهو األساس الذي ّ‬
‫يل لِ َخ ْل ِق ال َّل ِه‬
‫اس َع َل ْي َها َل ت َْب ِد َ‬
‫﴿ف ْط َر َة ال َّل ِه ا َّلتِي َف َط َر ال َّن َ‬
‫كما قال تعالى‪ِ :‬‬
‫أوجب تحريمه أو كراهته‪ .‬كما أنّ‬ ‫َ‬ ‫ين ا ْل َق ِّي ُم﴾(((‪ ،‬وهذا ما لع ّله‬ ‫َذلِ َك الدِّ ُ‬
‫وتتقبله بحسب طبيعته وطبيعتها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫المعروف هو ُك ُّل ما تعر ُف ُه هذه الفطرة‬
‫وعلى هذا التفسير‪ ،‬نستطيع أن نخرج من اإلشكالية التي تجعل‬
‫بتبدل‬
‫متبدل ّ‬ ‫ِ‬
‫األعراف؛ ألنّ هذا ّ‬ ‫خاضع ْين العتبار‬
‫َ‬ ‫المعروف والمنكر‬
‫نكرا في مجتمعٍ وغير َ‬
‫منك ٍر في‬ ‫شيء ما ُم ً‬
‫ٌ‬ ‫المجتمعات‪ ،‬فقد يكون‬
‫مما‬‫منكرا ولك َّنه ّ‬
‫ً‬ ‫ٌ‬
‫معروف فيه‪ ،‬وقد يكون الشيء‬ ‫مجتمعٍ آخر بل هو‬
‫أيضا‪ ،‬بأن يكون الشيء معرو ًفا‬
‫العكس ً‬
‫ُ‬ ‫ينسجم مع الفطرة‪ ،‬وقد يكون‬
‫يحص ُل للمجتمعات عندما‬
‫ُ‬ ‫العرف‪ ،‬وهذا ما لع ّله‬ ‫نكر عند ُ‬ ‫ولك َّن ُه ُم ٌ‬
‫تنقلب فيها المفاهيم‬
‫ُ‬ ‫وذهنياتها إلى المستوى الذي‬ ‫ّ‬ ‫نفسياتها‬ ‫ّ‬ ‫تنحدر‬
‫﴿أ ْخ ِر ُج ُ‬
‫وهم‬ ‫والقيم‪ ،‬كما نلمح ذلك في جواب قو ِم ٍ‬
‫لوط له ‪َ :Q‬‬
‫الطهارة التي هي‬ ‫ِّمن َق ْر َيتِ ُك ْم إِن َُّه ْم ُأن ٌ‬
‫َاس َي َت َط َّه ُرونَ ﴾(((‪ ،‬حيث أصبحت ّ‬

‫((( ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.325‬‬


‫ـه إِن َُّكــم َل َت ْأ ُتــونَ ا ْل َف ِ‬
‫ـال لِ َقو ِمـ ِ‬
‫احشَ ـ َة َمــا َسـ َـب َق ُكم بِ َهــا‬ ‫ْ‬ ‫﴿و ُلوطـ ًا إِ ْذ َقـ َ ْ‬
‫((( انظــر قولــه تعالــى‪َ :‬‬
‫ـن﴾ [العنكبــوت ‪]28 :‬‬ ‫ـن ا ْل َعا َل ِميـ َ‬ ‫ـن َأ َحـ ٍ‬
‫ـد ِّمـ َ‬ ‫ِمـ ْ‬
‫((( سورة الروم‪ ،‬اآلية ‪.30‬‬
‫((( سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪.82‬‬
‫‪171‬‬
‫سلبية في ا ّتجاهاتهم!‬ ‫ّ‬
‫محط سعي النفس بفطرتها قيمة ّ‬
‫وعلى هذا يفترض بنا البحث عن المعيار الذي يلزم ا ّتباعه لتحديد‬
‫منكرا لها‪ ،‬وهذا ٌ‬
‫بحث آخر لسنا‬ ‫ً‬ ‫شيء ما معرو ًفا للفطرة أو‬
‫ٌ‬ ‫ما إذا كان‬
‫بصدده هنا(((‪.‬‬

‫فعالية الصالة‬
‫دور الخشوع في ّ‬
‫الصالة وبين‬
‫نؤسس للعالقة بين ّ‬ ‫وعلى هذا األساس نستطيع أن ّ‬
‫الصالة تمثّل الوسيلة التي ي ّتصل اإلنسان من‬‫الفحشاء والمنكر؛ إذ إنّ ّ‬
‫بمجرد‬
‫ّ‬ ‫التقرب ال يحصل‬
‫ولكن ّ‬ ‫َّ‬ ‫ويتقرب بها إليه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫خاللها بالله تعالى‬
‫للصالة‪ ،‬بمعنى اإلتيان بأفعالها وأقوالها‪ ،‬بل يحصل من‬ ‫األداء الرسمي َّ‬
‫خالل الخشوع‪ ،‬وهو اإلحساس بالمعنى في عمق ّ‬
‫الذات‪ ،‬وقد ورد في‬
‫الصالة‪،‬‬
‫الحديث عن رسول الله ‪ P‬في تفسير الخشوع‪« :‬التواضع في َّ‬
‫وأن يقبل العبد بقلبه ك ّله على ّ‬
‫ّ (((‬
‫علي ‪:Q‬‬ ‫وجل» ‪ ،‬وعن اإلمام ّ‬ ‫عز‬
‫ربه ّ‬
‫قلب ُه خشعت جوارحه»(((‪.‬‬
‫«من خشع ُ‬
‫ومن ذلك نفهم أنّ الخشوع يتط ّلب ّأو ًل معرف ًة في العقل‪ ،‬وهذه‬
‫ليست معرفة تجريدية نظرية على طريقة المعادالت‪ ،‬وإنّما هي معرفة‬

‫وبينت‬
‫تعرضت للفطرة‪ّ ،‬‬ ‫((( يمكـن البحـث عنـه في عـدد من اآليات أو الروايات التي ّ‬
‫ـ ً‬
‫مثل ـ أنّ التوحيد فطرة الله‪ ،‬ويمكن ً‬
‫أيضا أن نص ّنف الفطرة إلى فطرة نفسية روحية‪،‬‬
‫اقتصادية‪ ..‬كما يمكن أن يتأثر‬
‫ّ‬ ‫وإلى فطرة جسدية‪ ،‬وإلى فطرة اجتماعية‪ ،‬وإلى فطرة‬
‫صنف باآلخر‪ ،‬كأن تكون الفطرة االقتصادية القائمة على جلب ما ُيصلح واقع‬ ‫ٍ‬ ‫ُّ‬
‫كل‬
‫ُ‬
‫نعرف فيه ً‬
‫أيضا أن فطرة اإلنسان‬ ‫منافرا للربا‪ ،‬في الوقت الذي‬
‫ً‬ ‫الناس االقتصادي‬
‫فتأمل‪.‬‬
‫تقتضي أن يتج ّنب اإلنسان الجشع واألنانية التي تقتضيها؛ ّ‬
‫((( الميرزا النوري‪ ،‬مستدرك الوسائل‪ :‬ج ‪ ،1‬ص ‪.98‬‬
‫(( ( الشيخ الصدوق‪ ،‬الخصال‪ ،‬ص ‪.628‬‬
‫‪172‬‬
‫تمتزج بما يحاكي المشاعر واألحاسيس‪ .‬وبذلك يكون االستغراق‬
‫فتالمس‬
‫ُ‬ ‫بالفكرة إطاللة للنفس على مساحة من المعاني الروحية‪،‬‬
‫نوعا من السكينة الروحية على أبعاد اإلنسان ك ّلها‪،‬‬
‫القلب الذي يعكس ً‬
‫َ‬
‫ومنه الجسد‪.‬‬
‫توسعنا ً‬
‫قليل‪ ،‬قلنا إنّ هذه السكينة الروحية تتج ّلى في مجاالت‬ ‫وإذا ّ‬
‫يجتذب‬
‫ُ‬ ‫وكل ما يمثّل ً‬
‫فعل‬ ‫ّ‬
‫يحتك به عادةً‪ّ ،‬‬ ‫كل ما‬‫حياة اإلنسان ك ّلها‪ ،‬في ّ‬
‫فعل فيما تفرضه طبيعة الحياة‪ ،‬والحال أنّ هذه السكينة الروحية‬‫ر ّدة ٍ‬
‫التي لم تكن إال من خالل االرتقاء بين يدي الله‪ ،‬في معنى اختبار‬
‫كل شيء‪ ،‬هذه السكينة تدفع النفس لالرتفاع‬ ‫القُ رب من المطلق في ّ‬
‫تلقائيا عن الصغائر والدنايا ك ّلها‪ ،‬وعن الفواحش والمنكرات ك ّلها‪..‬‬
‫ًّ‬
‫النفس حين تخشع بين يدي الله ال يعود ينعكس على صفحتها إ ّ‬
‫ال‬ ‫ُ‬
‫ما يالمس فطرتَها‪ ،‬وك ّلما كانت تلك الصفحة أكثر نصاعة ونقا ًء كان‬
‫اجتذابها لكل ما هو قبيح أبعدَ وأثقل‪..‬‬
‫الصالة تنهى عن ذلك؛ إذ األمر‬ ‫بهذا قد نستطيع أن نفهم كيف أنّ َّ‬
‫الصالة‪ ،‬وباستثمار طاقتها الكامنة فيها انطال ًقا من‬ ‫ٌ‬
‫مرتبط بكيفية ّ‬ ‫ك ّله‬
‫الصلة بالله‪ ،‬والذوبان في ساحة قدسه‪ ،‬واستشراف مواقع ال ّنور في ّ‬
‫كل‬
‫ٍ‬
‫سكون فيها ينفتح‬ ‫وكل‬ ‫ٍ‬
‫حرف من حروفها‪ُّ ،‬‬ ‫حركة من حركاتها‪ّ ،‬‬
‫وكل‬
‫على ِ‬
‫ألف مع ًنى ومع ًنى‪.‬‬
‫الحديث الذي نحن بصدده‪ ،‬فإنّ‬
‫ُ‬ ‫وبذلك نفهم ً‬
‫أيضا ما رمى إليه‬
‫الصالة التي ال تنهى عن المنكر والفحشاء ليست صالةً‪ ،‬وإنّما هي‬
‫إلزامي يحصل فيه اإلنسان على سقوط الواجب بالمعنى‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫لواجب‬ ‫أداء‬
‫ٌ‬
‫الفقهي‪ ،‬ولك ّنه ّ‬
‫يظل في السطح‪ ،‬وال ينفذ إلى عمق النفس ليصقلها‬
‫‪173‬‬
‫وتنعكس إشراقتها على أفعاله وأقواله وا ّتجاهاته ك ّلها في الحياة‪.‬‬
‫يزداد بذلك ّإل ُبعدً ا؛ ألنّ الله تعالـى ـ كما ورد في القرآن ـ ال‬ ‫ُ‬ ‫فهو‪ ،‬ال‬
‫ينظر إلى الشكل وإنّما إلى المضمـون‪ ،‬وهـو ما أشـار الله تعالى إليه‬
‫وم َها َو َل ِد َماؤُ َها َو َل ِكن َي َنا ُل ُه ال َّتق َْوى ِم ُ‬
‫نك ْم﴾(((؛‬ ‫بقوله‪َ ﴿ :‬لن َي َن َ‬
‫ال ال َّل َه ُل ُح ُ‬
‫ال بمعنى أنّ الشكل ال يصبح ذا قيمة ـ كما تحاول بعض اال ّتجاهات‬
‫طريق لتحصيل المعنى وتثبيت المضمون في‬ ‫ٌ‬ ‫ُنظر ـ ‪ ،‬بل الشكل‬ ‫أن ت ّ‬
‫وتعبر وتسعى بين الناس وفي‬ ‫ٍ‬
‫تتحرك ّ‬ ‫ّ‬ ‫صالة‬ ‫تتحول إلى‬ ‫ّ‬ ‫النفس‪ ،‬لكي‬
‫دروب الحياة‪.‬‬
‫يجب العمل عليه تربو ًيا في التوجيه الديني‪ ،‬بحيث ال‬ ‫ُ‬ ‫وهذا ما‬
‫يتم‬
‫الصالة في حدودها الفقهية‪ ،‬في الوقت الذي ّ‬ ‫ُيكتفى بتعليم أداء ّ‬
‫مما يتط َّلب الكثير‬
‫بنوعية األداء‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫فيه إهمال الجوانب األخرى المرتبطة‬
‫للتقدم‪ ،‬كما يرتبط‬
‫ّ‬ ‫المستمر‬
‫ّ‬ ‫من الجهد في التدريب العملي‪ ،‬والتقييم‬
‫باألجواء التي يحيط اإلنسان نفسه بها‪ ،‬سواء ما يرتبط بالبيئة المكانية‬
‫وكونها تساعد على التركيز‪ ،‬أو الوسائل التي يمكن أن تصرف ذهنه‬
‫خارج نطاق الصالة‪ ،‬كالهاتف الذي ُي َترك مشغَّ ًل ويمكن أن يرنّ في‬
‫مما ورد في النصوص‬ ‫مما يمكن االستفادة فيه ّ‬
‫أي لحظة‪ ،‬وغير ذلك ّ‬ ‫ّ‬
‫الشرعية‪ ،‬أو األبحاث التي تدرس موضوع التركيز الذهني والروحي‬
‫ووسائل تحقيقه؛ والله أعلم وأحكم‪.‬‬

‫(( ( سورة الحج‪ ،‬اآلية ‪.37‬‬


‫‪174‬‬
‫‪٣٠‬‬
‫عالمات ّ‬
‫الظالم‬

‫يقهر من دو َن ُه بالغَ َل ِبة‪،‬‬ ‫ٍ‬


‫ثالث عالمات‪ُ :‬‬ ‫للظالم ُ‬
‫الظ َل َمة(((‪.‬‬ ‫ظاهر َّ‬ ‫ِ‬ ‫ومن فو َق ُه‬
‫بالمعصية‪ ،‬و ُي ُ‬
‫َ‬

‫الظلم ـ كما ورد في اللغة ـ ‪َ :‬و ْض ُع الشيء في غير موضعه‪ ،‬وأصل‬


‫الز ْم‬
‫والعرب تقول‪َ :‬‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫القصد‪،‬‬ ‫ُ‬
‫والميل عن‬ ‫الحد‪..‬‬
‫الج ْو ُر ومجاوز ُة ّ‬ ‫الظلم َ‬
‫تج ْر عنه(((‪.‬‬‫تظ ِل ْم عنه‪ ،‬أي ال ُ‬
‫الص ْو َب وال ْ‬
‫هذا َّ‬
‫ٍ‬
‫مسبق عن الواقع‪،‬‬ ‫و ُيشير مفهوم الظلم إلى وجود صورة أو نموذجٍ‬
‫عما يقتضيه ذلك النموذج‬
‫ويظلم اإلنسان في قوله عندما يحيد اإلنسان ّ‬
‫من القول‪ ،‬فال يضع قوله في موضعه‪ ،‬ويظلم اإلنسان في فعله عندما‬
‫المفترض والالزم عليه‪ ،‬ويظلم‬ ‫بسلوك ال ينسجم مع ما هو‬‫ٍ‬ ‫يقوم‬
‫َ‬
‫بشخص أو بجهة ما عندما ال يعطي ذلك الشخص‬ ‫ٍ‬ ‫اإلنسان في عالقته‬
‫بد أن تثبت‬
‫يجور عن المنهج الذي ال ّ‬
‫ُ‬ ‫الحق عليه‪ ،‬وبالتالي‬
‫َّ‬ ‫أو الجهة‬
‫عليه هذه العالقة‪.‬‬

‫((( الشيخ الصدوق‪ ،‬من ال يحضره الفقيه‪ ،‬ج ‪ ،٤‬ص ‪٣٦١‬؛ الحميري القمي‪ ،‬قرب‬
‫اإلسناد‪ ،‬ص ‪.٢٨‬‬
‫((( ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬ج‪ ،12‬ص‪.373‬‬
‫‪175‬‬
‫وعلى هذا األساس‪ ،‬يقوم افتراض الظلم على أساس تحديد النظام‬
‫الذي تثبت فيه األشياء في مواضعها‪ ،‬فيعمد اإلنسان إلى اإلخالل بذلك‬
‫يسمى‬ ‫ٍ‬
‫مسبق لما ّ‬ ‫فيظلم‪ ،‬وال يمكن الحديث عن الظلم من دون تحديد‬
‫مما يجعل الحديث عن‬ ‫نظام الحقوق الثابتة بين األشياء واألشخاص‪ّ ،‬‬
‫الظلم من دون مرجعية حقوقية أو قيمية أمر ًا ال معنى له‪.‬‬

‫نفسي‬
‫ٌّ‬ ‫ُّ‬
‫الظلم مرض‬
‫الحديث الشريف إذ يطرح عالمات الظالم‪ ،‬فهو يشير بشكل غير‬
‫ظلما ناش ًئا من‬ ‫النفسية المرتبطة بالذات؛ فهو ليس ً‬
‫ّ‬ ‫مباشر إلى بواعثها‬
‫متأصل في داخله‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ظروف خارجية ت ِ‬
‫ٍ‬
‫شيء ّ‬‫ٌ‬ ‫اإلنسان فيه‪ ،‬وإنّما هو‬ ‫ُوقع‬ ‫ّ‬
‫ولعل الظالم يختزن منطق الضعف الذاتي الذي ُيفقده التوازن أمام‬ ‫ّ‬
‫حقوق اآلخرين؛ فإذا كان ذلك اآلخر ضعي ًفا أمامه ظلمه بالغلبة الما ّد ّية‬
‫مال يسلبه منه‪ ،‬وقد‬ ‫فاستولى على حقوقه‪ ،‬وهذه الحقوق قد تكون ً‬
‫جاها فيعمل الظالم على سلخه عنه‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬وهذا ما نجده‬ ‫يكون ً‬
‫بالقوة‪ ،‬ولك ّنهم‬
‫ّ‬ ‫في كثير من نماذج الظالمين الذين يوحون لآلخرين‬
‫يعيشون ـ في الحقيقة ـ ارتهانًا للحاجة التي لدى اآلخرين‪ ،‬وعدم‬
‫الشعور بالقناعة التي توحي بتوازن الشخصية‪ .‬وقد ورد في بعض‬
‫الضعيف»(((‪.‬‬ ‫األدعية‪« :‬وإنّما يحتاج إلى ُّ‬
‫الظلم َّ‬
‫تعبر عن نفسها بسلب الحقوق ـ‬
‫هذه الشخصية الضعيفة للظالم ّ‬
‫ممن فو َقها؛ وفي الحديث إشارة إلى ُظلم العبد ّ‬
‫لربه‬ ‫حيث تستطيع ـ َّ‬
‫حق لله تعالى على العباد‪ ،‬وشأن اإلنسان هو‬
‫بالمعصية؛ إذ الطاعة ٌّ‬

‫السجادية لإلمام علي بن الحسين ‪ ،Q‬من دعائه مما يحذره ويخافه‪.‬‬


‫ّ‬ ‫(( ( الصحيفة‬
‫‪176‬‬
‫العبودية المطلقة؛ فإذا استكبر واستعلى فإنّما يفعل ذلك لعدم إدراكه‬ ‫ّ‬
‫شخصيته من داخلها‪ ،‬وهو الذي يجعله‬ ‫ّ‬ ‫لحقيقة ذاته‪ ،‬وعدم امتالء‬
‫يتحكم بنفسه أمام ما تقتضيه ّ‬
‫الطاعة‬ ‫ّ‬ ‫يرتهن لحاجات كثيرة تمنعه من أن‬
‫ُ‬
‫وعية؛ ألنَّ الله تعالى ال يأمر‬
‫لله‪ ،‬وهي الطاعة التي تلتقي بمصلحته ال ّن ّ‬
‫عما هو مفسدة له‪ .‬وهذا‬ ‫ال بما هو مصلحة له‪ ،‬وال ينهاه إ ّ‬
‫ال ّ‬ ‫اإلنسان إ ّ‬
‫ضعف أمام أشياء هي أصغر من ذات اإلنسان‪ ،‬وقد ورد‬ ‫ٌ‬ ‫الظلم ً‬
‫أيضا هو‬
‫تجبر إال لذ ّلة وجدها في‬‫تكبر أو ّ‬ ‫في بعض األحاديث‪« :‬ما من رجل ّ‬
‫نفسه»(((‪.‬‬

‫الظلم وصراع األجيال‬


‫الصراع بين األجيال‪ ،‬حيث‬‫من الممكن هنا أن نُشير إلى مسألة ِّ‬
‫بالتمرد على أوضاعهم‪ ،‬وعدم االكتراث‬ ‫ّ‬ ‫يعمد األبناء إلى ُظلم آبائهم‬
‫ٍ‬
‫عقدة إلثبات‬ ‫يتحول ذلك إلى‬ ‫وربما‬
‫ّ‬ ‫والجسدية‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫العاطفية‬
‫ّ‬ ‫لحاجاتهم‬
‫الحرية‪ ،‬في الوقت الذي قد ي ّتسم‬ ‫قيمة تفرضها ثقافة‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫الذات‪ ،‬أو إلى‬
‫ّ‬
‫الكثير من المفردات ّ‬
‫بالظلم لو د ّققنا ال ّنظر فيها‪.‬‬
‫إنّ عالقة األجيال مع بعضها البعض ال ينبغي أن تكون عالقة‬
‫جيل على اآلخر تكرار صورته في الجيل اآلخر‪،‬‬‫سلطوية‪ ،‬يفرض فيها ٌ‬
‫ّ‬
‫كل ٍ‬
‫جيل مع‬ ‫إيجابيات ّ‬
‫ّ‬ ‫حوارية‪ ،‬تتالقح فيها‬
‫ّ‬ ‫وإنّما يجب أن تكون حالة‬
‫استمراري ًة في التجارب المضيئة في الجيل‬
‫ّ‬ ‫بعضها البعض‪ ،‬بما ُينتج‬
‫السابق‪ ،‬من أمور تفرض‬ ‫ٍ‬
‫الالحق‪ ،‬وتعديالت في بعض ما عليه الجيل ّ‬
‫وكال الجيلين يحتكم في ذلك إلى‬ ‫تبديلها بفعل تطورات الحياة‪ِ ،‬‬
‫ّ‬
‫((( الكليني‪ ،‬الكافي‪ ،‬ج‪ ،٢‬ص‪.٣١٢‬‬
‫‪177‬‬
‫تجلياتها وأساليبها بفعل‬ ‫ِ‬
‫منظومة واحدة من المبادئ والق َيم‪ ،‬قد تختلف ّ‬
‫الزمان والمكان‪ ،‬ولكن ال يختلف جوهرها وقاعدتها‪.‬‬‫تطور ّ‬
‫ّ‬
‫وتبقى العالمة الثالثة للظالم‪ ،‬وهي أنّه اإلنسان الذي يجتذبه ُّ‬
‫الظلم‬
‫قوتهم‪ ،‬ح ّتى يكون‬
‫قوته إلى ّ‬‫ويضم ّ‬
‫ّ‬ ‫ليدخل فيه‪ ،‬فيعين القائمين به‪،‬‬
‫جراء ذلك‬‫ظهيرا لهم في أمورهم‪ ،‬وجز ًءا من مجتمعهم‪ ،‬ويستشعر ّ‬ ‫ً‬
‫بعض ضمي ٍر قد ينبض‬
‫سك ُت َ‬ ‫بعض القوة في ما يقوم به من ُظلم‪ ،‬أو ي ِ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫بين الحين واآلخر‪ ،‬عن طريق تكثير الظلم والظالمين من حوله‪ ،‬فيدفعه‬
‫طبيعية نتيجة كثرة الظالمين‪ ،‬أو نتيجة‬
‫ّ‬ ‫ذلك إلى الشعور أنّ الظلم حالة‬
‫مما يشاهده من ظلم َمن سواه‪.‬‬ ‫كون ظلمه هو ّ‬
‫أقل ّ‬

‫‪178‬‬
‫‪٣١‬‬
‫ه ْين!‬
‫ذو الوج َ‬

‫ٍ‬
‫بوجه‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بوجه و ُيدبِ ُر‬ ‫بئس العبدُ عبدٌ له وجهان؛ ُيقبِ ُل‬
‫وإن ْاب ُت ِل َي خَ َذ َله(((‪.‬‬
‫حسدَ ُه‪ْ ،‬‬‫المسلم خَ ْي ًرا َ‬
‫ُ‬ ‫إن أوتِ َي أخو ُه‬

‫الحديث أعاله يشير إلى النفاق‪ ،‬وهو من األمراض الخطيرة التي‬


‫تناولها القرآن الكريم في غير موضع‪ ،‬وفي غير موقف‪ .‬يكفينا في ذلك‬
‫قوله تعالى في اإلشارة إلى أولئك الذين يخادعون الله في إيمانهم‪،‬‬
‫﴿في ُق ُلوبِ ِه ْم َم َر ٌ‬
‫ض َف َزا َد ُه ُم ال َّل ُه َم َر ًضا‬ ‫ويقولون آم ّنا وليسوا كذلك‪ِ :‬‬
‫ولشدة األثر السلبي للنفاق‬ ‫ّ‬ ‫يم بِ َما َكانُوا َي ْك ِذ ُبونَ ﴾(((‪.‬‬ ‫َو َل ُهم َع َذ ٌ َ ِ‬
‫اب أل ٌ‬ ‫ْ‬
‫ين ِفي‬‫جعلهم الله في الدرك األسفل من ال ّنار‪ ،‬فقال تعالى‪﴿ :‬إِ َّن ا ْل ُم َن ِاف ِق َ‬
‫َص ًيرا﴾(((‪.‬‬ ‫ال ْس َف ِل ِم َن ال َّنا ِر َو َل ْن ت َِجدَ َل ُهم ن ِ‬
‫الدر ِك ْ َ‬
‫َّ ْ‬
‫ْ‬

‫ال ِّنفاق كمرض قلبي‬


‫واألثر السلبي للنفاق يمكن رصده ً‬
‫أول في النفس‪ ،‬وهو ما أشارت‬

‫((( الميرزا النوري‪ ،‬مستدرك الوسائل‪ ،‬ج ‪ ،9‬ص ‪96‬؛ بحار األنوار‪ ،‬ج ‪ ،٦٩‬ص ‪.٢٠١‬‬
‫(( ( سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.10‬‬
‫((( سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.١٤٥‬‬
‫‪179‬‬
‫مرضا من األمراض التي‬ ‫إليه اآلية األولى المذكورة‪ ،‬في أنّ النفاق يمثّل ً‬
‫سوية؛ ألنّ اإلنسان عندما ينافق فإنّه يبذل‬ ‫تصيب القلب‪ ،‬وليس حالة ّ‬
‫سجيته‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بعفويته‪ ،‬وال يبرز على‬
‫ّ‬ ‫يتصرف‬
‫ّ‬ ‫جهدً ا في إخفاء نفسه‪ ،‬فال يعود‬
‫بل يكبت مشاعره وأحاسيسه‪ ،‬ويخفي أفكاره ومواقفه‪ ،‬وبذلك يفقد‬
‫تتحول‬
‫ّ‬ ‫المجتمع‪ ،‬وبالتالي‬
‫َ‬ ‫يتلبس‬
‫كائن ّ‬ ‫ويتحول إلى ٍ‬
‫ّ‬ ‫اإلنسان وجوده‪،‬‬
‫َ‬
‫اإلنسان‬ ‫تجمع أحوال المجتمع وتق ّلباته وإرادته‪ ،‬وهذا ما ُيفقد‬ ‫ذاتُه إلى ّ‬
‫الح ّر عنها‬
‫نفسه في مجاالت الحياة الواسعة‪ ،‬وانحصار التعبير ُ‬ ‫حضور ِ‬
‫َ‬
‫ضيقة‪ ،‬إن لم يفرض عليها النفاق أن تخفي نفسها في تلك‬ ‫في دائرة ّ‬
‫الخاصة ً‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫المواقع‬
‫أيضا‪ ،‬أنْ ليس ضرور ًيا أن يقتصر‬‫ولع ّلنا نفهم من اآلية أعاله ً‬
‫العذاب األليم الذي يصيب المنافقين على العذاب األخروي‪ ،‬بل قد‬
‫جراء ما يعيشه المنافق من هذه الحالة القلقة‬ ‫يكون عذا ًبا دنيو ًيا ً‬
‫أيضا ّ‬
‫كثيرا من المشاكل النفسية‪.‬‬
‫التي تراكم ً‬

‫ال ّنفاق كمرض اجتماعي‬


‫جانب آخر‪ ،‬يمكن رصد األثر السلبي للنفاق في المجتمع‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وفي‬
‫تشد أواصر العالقات بين أبنائه‪،‬‬
‫حيث ُيفقد النفاق المجتمع الثقة التي ّ‬
‫ّ‬
‫الشك‬ ‫يثق بأبناء مجتمعه الذي يعيش فيه‪ ،‬ويعيش‬ ‫فال يعود اإلنسان ُ‬
‫سيئة وراء‬
‫خلفيات ّ‬
‫ّ‬ ‫دائما أن يكون هناك‬
‫والقلق في أموره؛ ألنّه يحتمل ً‬
‫وجه آخر غير الوجه الذي‬‫ما يظهر من صالح أمره‪ ،‬وأن يكون هناك ٌ‬
‫واالنطوائية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التفكك‬ ‫يبرز فيه للمجتمع‪ ،‬وهذا ما يؤ ّدي بالمجتمع إلى‬
‫ألفراده على أنفسهم؛ ألنّه ال تعود هناك قاعدة عفوية يمكن االستناد‬

‫‪180‬‬
‫الخلفيات التي ينطلق منها الناس في أفعالهم وأقوالهم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إليها لمعرفة‬
‫ينبه إلى خطورة مصاحبة المنافق‪،‬‬ ‫وهذا ما يؤكّ ده هذا الحديث الذي ّ‬
‫وذلك أن مصاحبته مرتبطة بطبيعة سير الحياة‪ ،‬فإن كانت الحياة مقبلة‬
‫التحديات‬
‫ّ‬ ‫مقبل بوجهه عليه‪ ،‬وإن أدبرت الحياة وأقبلت‬‫فإنّه سيكون ً‬
‫التي تفرض المواقف الصادقة‪ ،‬رأيت المنافق يبحث عن مصلحته‪،‬‬
‫والتي أول ما تتمثّل في خذالن تاريخ الصحبة ك ّله‪.‬‬

‫مصاحبة المنافق مشكلة واقعية!‬


‫الدافع إلى أن يصاحب اإلنسان‬ ‫وقد يتبادر سؤال هنا‪ ،‬وهو أنّه ما ّ‬
‫المنافـق وهو يعلم أنّه ذو وجهين ولسانين ـ كما ورد في بعض‬
‫وجهين وذا لسانين؛ ُيطري أخاه‬ ‫ْ‬ ‫العبد عبدٌ يكون ذا‬
‫األحاديث ـ‪« :‬بئس ُ‬
‫لي خذ َله»(((‪.‬‬ ‫ُ‬
‫حسدَ ه‪ ،‬وإن اب ُت َ‬
‫عطي َ‬
‫غائبا‪ .‬إن أ َ‬
‫في الله شاهدً ا‪ ،‬ويأكله ً‬
‫حب األنا والذاتية لدى‬ ‫والجواب على ذلك يرتكز إلى مالحظة ّ‬
‫تحب في كثير من األحيان الصدق الذي قد ُيظهر‬ ‫ّ‬ ‫اإلنسان‪ ،‬والتي ال‬
‫عيوبها‪ ،‬أو ينتقدها على مواقف خاطئة‪ ،‬أو ما إلى ذلك‪ ،‬فإذا بدرت‬
‫الصادق كلمة أو فعل يستدعيان نقد صاحبهما‪ ،‬فإنّه يبادر إلى ذلك‬ ‫أمام ّ‬
‫انطال ًقا من صدقه‪ ،‬وهذا ما ال يرتاح إليه اإلنسان عادةً‪ّ .‬أما الكبار والقادة‬
‫فكروا معهم‪ ،‬وليطرحوا وجهات نظرهم التي‬ ‫فهم ُيغرون َم ْن حو َل ُهم ُلي ّ‬
‫قد تُظهر للكبير بعض الجوانب التي تخفى عليه؛ ألنّ ّ‬
‫الهم لدى هؤالء‬
‫والصواب‪ ،‬وهؤالء ال يعيشون النقص الذي‬ ‫َّ‬ ‫الحق‬
‫ّ‬ ‫وأخيرا هو‬
‫ً‬ ‫ّأو ًل‬
‫يجتذب دفعه من خالل مدح المادحين‪ ،‬ومصانعة المنافقين‪.‬‬

‫الصدوق‪ ،‬الخصال‪ ،‬ص‪ ،38‬الحديث رقم ‪.20‬‬


‫((( الشيخ ّ‬
‫‪181‬‬
‫بين ال ّنفاق ِ‬
‫وس ْت ِر العيوب‬
‫تلبس المجتمع‬ ‫وثمة سؤال آخر قد يخطر على البال أمام فكرة ّ‬ ‫ّ‬
‫التي أثرناها في بداية الحديث‪ ،‬فهل يعني ذلك أنّه ال ينبغي لإلنسان أن‬
‫ينضبط بضوابط المجتمع‪ ،‬وال يتأ ّثر بنظرة ال ّناس إليه‪ّ ،‬‬
‫مما يدفعه إلى‬
‫إخفاء عيوبه ونقائصه؟ وأين نضع فكرة الحياء الذي ورد في كثير من‬
‫الحث عليه؟ أليس الحياء مسألة ترتبط بكبت توجه النفس‬ ‫ّ‬ ‫الروايات‬
‫إلى بعض األفعال استحيا ًء من المجتمع؟ هل يمكن أن يكون ذلك لونًا‬
‫من ألوان النفاق؟‬
‫والجواب على ذلك أنّ هذا ك ّله ليس من النفاق في شيء‪ ،‬بل هو‬
‫يخضع ألمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬أنّ اإلنسان في مسار تربيته وتنشئته ال ينشأ دفعة واحدة‪ ،‬وال‬ ‫ّ‬
‫التدرج في اكتساب‬ ‫ّ‬ ‫هو يعيش الكمال في ذاته كذلك‪ ،‬بل يحتاج إلى‬
‫فشخصيته تشتمل على‬ ‫ّ‬ ‫الطيبة‪ ،‬وبذلك‬‫الصفات الحسنة والشمائل ّ‬
‫سببا من أسباب إدراك‬ ‫ٍ‬
‫نقائص ال محالة‪ ،‬وعندئذ يكون المجتمع نفسه ً‬
‫اإلنسان لنقائصه‪ ،‬وذلك عندما يقوم اإلنسان بعمل ما فيصطدم باللوم‬
‫جراء ذلك أنّ هذا العمل مرفوض‪ ،‬وذلك السلوك‬ ‫االجتماعي‪ ،‬فيدرك ّ‬
‫ليحدد‬‫ّ‬ ‫معيب لدى ذلك المجتمع‪ ،‬وهذا ما ينبغي أن يدفعه إلى ّ‬
‫التفكر‬ ‫ٌ‬
‫حقيقية أو ليس ناش ًئا‬
‫ّ‬ ‫ما إذا كان ذلك الموقف االجتماعي ناش ًئا من قيمة‬
‫عمن سلفه‪ .‬وهذا األثر‬ ‫من ذلك‪ ،‬وإنّما هي عادة َح َك َم ْته‪ ،‬وأثر توارثه ّ‬
‫مما‬ ‫وهذه العادة قد يصطدمان بقيمة وقد ال يصطدمان بها‪ ،‬وإنما هما ّ‬
‫أي مجتمع في تعبيره عن ذاته وقيمه‪..‬‬ ‫يتحرك بهما ّ‬‫ّ‬

‫‪182‬‬
‫هنا سيجد اإلنسان نفسه أمام إعادة تقويم لذاته انطال ًقا من احتكاكها‬
‫بالمجتمع‪ ،‬فيخفي عيوبه ونقائصه ال نفا ًقا‪ ،‬وإنّما لكي ال َّ‬
‫يذل نفسه أمام‬
‫سد ذلك النقص‪ ،‬وإصالح ذلك العيب‪.‬‬ ‫ال ّناس ريثما يعمل على ّ‬
‫ّ‬
‫الخط المقابل قد ُيدرك اإلنسان أنّ المشكلة في السلوك‬ ‫الثاني‪ :‬في‬
‫االجتماعي الذي ُيعاب على مخالفته و ُيالم‪ ،‬وهذا ينبغي أن ّ‬
‫يشكل‬
‫تأملنا في دافع‬
‫دافعا لتغيير ذلك السلوك لكي ينسجم مع القيمة‪ .‬ولو ّ‬ ‫ً‬
‫التغيير هذا لوجدنا أنّه يرتكز إلى مبدأ الحذر من النفاق نفسه‪ .‬ذلك‬
‫ً‬
‫معزول في مشاعره وأحاسيسه عنه‪،‬‬ ‫أنّ اإلنسان ال يعيش في المجتمع‬
‫مما يجعله ـ في‬ ‫بل هو خاضع ال محالة للون من الضغط االجتماعي‪ّ ،‬‬
‫احتكاكه بالسلوك االجتماعي السيئ ـ أمام خيارين‪ّ :‬إما أن ينسجم مع‬
‫ٌ‬
‫انحراف عن القيمة؛ ألنّنا افترضنا أنّ‬ ‫ذلك السلوك االجتماعي‪ ،‬وهذا‬
‫وإما أن ينافقَ وبذلك يعيش‬ ‫ذلك السلوك االجتماعي ال ينسجم معها؛ ّ‬
‫حالة من االزدواجية في الشخصية بين ما يؤمن به ويسعى إليه وبين ما‬
‫مما يكون في ذاته حالة من‬ ‫يفرضه المجتمع من مماشاته في سلوكه‪ّ ،‬‬
‫التوجه‪ ،‬واهتزاز الذات‪ ،‬وهو ما يدفع عاد ًة‬
‫ّ‬ ‫حاالت تأزيم النفس‪ ،‬وقلق‬
‫إلى التنازل عن القيمة لكي يحظى اإلنسان بالقبول االجتماعي‪ ،‬أو في‬
‫فرارا بدينه ومبادئه‪.‬‬
‫حاالت قليلة ـ يدفع ذلك اإلنسان إلى الهجرة ً‬
‫واستنا ًدا إلى ذلك ك ّله‪ ،‬كان هذا الحديث المروي عن رسول الله‬
‫لينبه اإلنسان إلى خطورة مصاحبة هذا الصنف من الناس؛ ألنّ‬‫ّ‬
‫‪P‬‬
‫األول‪ :‬حيث ُيفقده فرصة تصحيح الخطأ وإدراك‬
‫وباله عليه مزدوج؛ ّ‬
‫الصواب الذي ينطلق من الوضوح في حركة الناس من حوله‪ ،‬والثاني‪:‬‬
‫أي ساحة مواجهة مع الواقع المنحرف؛ ألنّ‬
‫حيث يهرب هؤالء من ّ‬
‫‪183‬‬
‫المواجهة قد تفقدهم بعض امتيازاتهم التي حصلوا عليها في مراحل‬
‫الرخاء‪.‬‬
‫بد لنا في النهاية من اإلشارة إلى أنّ تربية الشخصية‬
‫يبقى شيء ال ّ‬
‫على عدم النفاق يتط ّلب حركة تربوية في ا ّتجاهين‪:‬‬
‫األول‪ :‬تقوية عناصر الشخصية على التعبير عن ذاتها أمام المجتمع‪،‬‬
‫ّ‬
‫استناد ًا إلى منظومة ِ‬
‫الق َيم والمبادئ التي تحكم اإلنسان الملتزم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬وضوح الفوارق العملية ـ إضافة للفوارق المفهومية ـ بين‬
‫النفاق وبين مداراة الناس‪ ،‬والحاالت التي تفرض على اإلنسان أن‬
‫وخصوصياته بعيدً ا عن أعين الناس‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يحتفظ لنفسه ببعض أسراره‬
‫الشر المؤذية لدى‬
‫الذات نتيجة وجود نوازع ّ‬ ‫انطال ًقا من الحفاظ على ّ‬
‫ٍ‬
‫بشكل طبيعي‪ ،‬والله‬ ‫كثير من النماذج التي تعيش في قلب المجتمع‬
‫الهادي إلى سواء السبيل‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫‪32‬‬
‫األرشيف السيّئ!‬

‫أدنى الكفر أن يسمع الرجل عن أخيه الكلمة فيحفظها‬


‫عليه يريد أن يفضحه بها‪ ،‬أولئك ال خالق لهم(((‪.‬‬

‫سرية‬ ‫في حياتنا االجتماعية‪ ،‬وال سيما في العالقات الزوجية ُ‬


‫واأل ّ‬
‫الخصوصيات التي تمثّل‬
‫ّ‬ ‫يطلع اإلنسان على كثير من‬ ‫والصداقات ّ‬
‫نوعا من األسرار بين الزوجين أو الصديقين أو أفراد األسرة‪ .‬وهذه‬ ‫ً‬
‫كال على وحدة الحال‪ ،‬الذي يدفع‬ ‫ٍ‬
‫كل طرف ا ّت ً‬‫األسرار يحصل عليها ّ‬
‫اإلنسان للتخ ّفف من كثير من القيود التي يضعها على حركته في الواقع‬
‫االجتماعي العام‪ ،‬حيث عاد ًة ما يخفي هامشً ا من شخصيته وأخالقه‬
‫االجتماعي ْين‪.‬‬
‫َّ‬ ‫حذرا من ال ّلوم أو العيب‬
‫ً‬
‫طبعا هذا االتكال على وحدة الحال يحصل عفو ًيا‪ ،‬وال يكون عادة‬ ‫ً‬
‫قرارا يختاره اإلنسان‪ ،‬ولذلك يصعب على اإلنسان ح ّتى أن يتحاشى‬ ‫ً‬
‫اطالع اآلخر على أسراره وخصوصياته‪ ،‬بسبب هذا ال ّنوع من العالقة‬ ‫ّ‬
‫الحميمة‪ ،‬التي تحيط بها مشاعر الرضى المانعة عادة من أخذ مسافة‬
‫ّ‬
‫المستقل وإعمال العقل ال ّناقد‪.‬‬ ‫للتفكير‬

‫(( ( العالمة المجلسي‪ ،‬بحار األنوار‪ ،‬ج ‪ ،٧٢‬ص ‪.١٩٣‬‬


‫‪185‬‬
‫تهذيب الذاكرة‬
‫نوعا من الحقد في إدارة عالقاته‪ ،‬فيدخل في‬
‫بعض ال ّناس هنا يعيش ً‬‫ُ‬
‫ٍ‬
‫عالقة ما مع إنسان على طريقة فتح المخابرات مل ًفا لشخص تتابعه‪ّ ،‬‬
‫ثم‬
‫تبدأ بملء هذا الملف يو ًما بعد يومٍ‪ .‬هذه حالة‪.‬‬
‫تتحول العالقة‬
‫ّ‬ ‫وحالة أخرى ال تكون كذلك منذ البداية‪ ،‬وإنّما قد‬
‫من مو ّدة إلى بغضاء‪ ،‬ومن انسجام إلى تنافر‪ ،‬وهنا تثور مشاعر الحقد‬
‫كجزء من نقاط الضعف التي تعاني منها الشخصية‪ ،‬فتنزع النفس إلى‬
‫مما سكن في‬ ‫استغالل ما أبصره اإلنسان من اآلخر‪ ،‬وما سمعه منه‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫استغالل لحذر‬ ‫الذاكرة‪ ،‬ليكون ذلك وسيلة انتقامٍ‪ ،‬أو وسيلة ابتزاز‪،‬‬
‫العام‪.‬‬
‫اإلنسان من بروز بعض أسراره إلى الحيز ّ‬
‫ربما ـ أن يؤكّ د على ضرورة عالج المسألة من‬ ‫يريد هذا الحديث ـ ّ‬
‫الناحية النفسية والروحية‪ ،‬بحيث يعمل اإلنسان على تهذيب نفسه‪،‬‬
‫مجال لمثل هذه األخالق‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وتربية شخصيته‪ ،‬بالنحو الذي ال يترك فيها‬
‫والتي ال يقتصر أذاها على الجانب السلوكي‪ ،‬وإنّما تؤ ّثر على اإليمان‬
‫نفسه‪ ،‬ليكون اإلنسان أقرب إلى الكفر منه إلى اإليمان‪.‬‬
‫إنّ المطلوب هنا هو إعادة برمجة للذهنية التي يعمل من خاللها‬
‫اإلنسان على االحتفاظ في ذاكرته بعيوب الناس ومواقفهم وكلماتهم‪،‬‬
‫واالرتقاء بالروحية إلى الحالة التي تجتذبها عناصر الجمال والخير‬
‫واإليجابية لدى اآلخرين‪ ،‬وهذا يحتاج إلى ُّ‬
‫تفكر في المعنى اإليجابي‬
‫من جهة‪ ،‬وإلى تدرب على عدم التركيز على السلب من ٍ‬
‫جهة ثانية‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪186‬‬
‫اإليمانية‬
‫ّ‬ ‫األخوة‬
‫ّ‬
‫ومن ذلك نؤكّ د على الفكرة التي ذكرناها ً‬
‫مرارا‪ ،‬وهي أنّ اإليمان‬
‫عامة يختزنها اإلنسان في قناعاته العقدية‪ ،‬وإنّما هي‬
‫مجرد فكرة ّ‬ ‫ليس ّ‬
‫دائم لهذه الفكرة العامة في تفاصيل الحياة كلها‪ ،‬وهو ما‬
‫حي ٌ‬ ‫تجسيد ّ‬
‫واعيا لحركة إيمانه‪ ،‬والمنزلقات التي‬
‫ً‬ ‫يح ّتم على اإلنسان أن يكون‬
‫يمكن أن تؤ ّثر عليه‪.‬‬
‫األخوة‪ ،‬والتي يعيش فيها اإلنسان المؤمن‬‫ّ‬ ‫إنّ اإليمان يتج ّلى في‬
‫تستمد نقاءها من‬
‫ّ‬ ‫االندماج مع أخيه المؤمن‪ ،‬في حالة روحية صافية‬
‫يتحول هذا اإليمان إلى كف ٍر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫محبة الله ورعاية مواقع إرادته‪ ،‬بينما قد‬
‫ّ‬
‫نسبيا‪ ،‬عندما تفقد هذه العالقة هذا الصفاء اإليماني الم ّتصل بالله‬
‫ولو ً‬
‫تعالى‪.‬‬
‫أشد ما‬
‫األمة إلى ّ‬ ‫ينبه ّ‬
‫وهو ّ‬
‫موحيا للنبي ‪P‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ونستذكر هنا حديثًا‬
‫داء األمم من‬ ‫«دب إليكم ُ‬‫المروي عنه ـ ‪ّ :‬‬‫ّ‬ ‫يخاف عليها‪ ،‬فيقول ـ في‬
‫قبلكم‪ ،‬الحسد والبغضاء‪ ،‬والبغضاء هي الحالقة‪ .‬ال أقول تحلق الشّ عر‪،‬‬
‫الدين‪ .‬والذي نفسي بيده ال تدخلوا الج ّنة حتى تؤمنوا‪،‬‬ ‫ولكن تحلق ّ‬
‫السالم‬
‫يثبت ذاكم لكم؟ أفشوا ّ‬ ‫أنبئكم بما ّ‬ ‫تحابوا‪ .‬أفال ّ‬
‫وال تؤمنوا ح ّتى ّ‬
‫التحية‪ ،‬وإنّما السالم الداخلي الذي‬
‫ّ‬ ‫مجرد‬
‫بينكم» ‪ .‬والسالم هنا ليس ّ‬
‫(((‬

‫المحبة لآلخر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تورثه التحية في معناها‪ ،‬فيعيش فيه اإلنسان معنى‬
‫سلبي قد يودي بالعالقة‪ ،‬أو يؤ ّدي‬
‫ّ‬ ‫أي شعو ٍر‬ ‫وبذلك ّ‬
‫يكف عن استثارة ّ‬
‫الدين من نفسه ومواقفه‪.‬‬
‫بها إلى بعض المواقف التي تحلق ّ‬

‫((( ابن عبد البر‪ ،‬جامع بيان العلم وفضله‪ ،‬ج ‪ ،٢‬ص ‪.١٥٠‬‬
‫‪187‬‬
‫عملية‬
‫ّ‬ ‫آليات‬
‫اآلليات التي تساعد على إعمال‬ ‫وفي نهاية المطاف قد نجد أنّ من ّ‬
‫درب اإلنسان فكره على‬ ‫المبدأ الذي يشير إليه هذا الحديث‪ ،‬هو أن ُي ّ‬
‫عدم االحتفاظ بالذكريات السلبية‪ ،‬أعني تلك التي تمثّل عيو ًبا لآلخرين‪،‬‬
‫ً‬
‫أفعال مسيئة قاموا بها‪ ،‬قد ال يستطيع المرء حذفها من ذاكرته تما ًما‪،‬‬ ‫أو‬
‫يغذيها اإلنسان عبر استذكارها المتكرر كلما خبت‪،‬‬ ‫بد أن ال ّ‬‫ولكن ال ّ‬
‫وتثبيت الشعور السلبي تجاهها‪ ،‬وذلك كما يلي‪:‬‬
‫خطاء‪ ،‬وأنّ اإلنسان ال تختصره‬ ‫كل ابن آدم ّ‬‫أو ًل‪ :‬وعي مبدأ أنّ ّ‬‫ّ‬
‫أخطاؤه‪ ،‬وإنّما قد تكون حوافز للتوبة والتصحيح وإعادة وصل العالقة‬
‫كل واحد‬‫مما سبق‪ ،‬فإذا كان هذا ما يقع فيه ُّ‬
‫فاعلية ّ‬
‫ّ‬ ‫مع الله بطريقة أكثر‬
‫فلم نستبعده عن اآلخرين؟!‬‫م ّنا‪َ ،‬‬
‫والتلذذ بالحديث عن أوضاع‬‫ّ‬ ‫والتجسس‬
‫ّ‬ ‫ثانيا‪ :‬االبتعاد عن الغيبة‬
‫ً‬
‫محرم في القرآن والس ّنة‪ ،‬يساهم‬
‫اآلخرين السلبية‪ ،‬فهذا األمر‪ ،‬مع أنّه ّ‬
‫في كبح جماح النفس في استعادة الذاكرة وشحذها باستمرار‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬النظر بعينين إلى ال ّناس وما يصدر منهم‪ ،‬أي بالتركيز على‬
‫إيجابياتهم وتعويد الذهن على ذلك‪ ،‬إضافة إلى مالحظة ظروفهم التي‬
‫حد ذاته تخفيف‬ ‫تؤ ّثر في حركة إرادتهم وتدفعهم إلى الخطأ‪ ،‬فهذا في ّ‬
‫وسعيا إلى‬
‫ً‬ ‫ميل لها‬ ‫السلبية التي عادة ما تكون ال ّنفس أكثر ً‬ ‫ّ‬ ‫من الصورة‬
‫ار ٌة بِالس ِ‬
‫س َأل َّم َ‬
‫وء‬ ‫ُّ‬ ‫التركيز عليها‪ ،‬كما يوحي بذلك قوله تعالى‪﴿ :‬إِ َّن ال َّن ْف َ‬
‫إِ َّال َما َر ِح َم َر ِّب َي﴾(((‪.‬‬

‫((( سورة يوسف‪ ،‬اآلية ‪.53‬‬


‫‪188‬‬
‫المرآتية‬
‫ّ‬ ‫رابعا‪ :‬االنشغال بإصالح أنفسنا‪ ،‬وذلك عبر تفعيل الحالة‬
‫ً‬
‫صح التعبير ـ عند النظر إلى اآلخرين وعيوبهم‪ ،‬بمعنى أن يجعل‬ ‫ـ إذا ّ‬
‫ّ‬
‫فلعل القشّ ة التي‬ ‫اإلنسان ذلك مرآة تصرف اإلنسان إلى فحص نفسه‪،‬‬
‫ربما‬
‫يراها في عين اآلخر ليست شي ًئا أمام الخشبة التي في عينه‪ .‬بل ّ‬
‫غالبا قد يكره في اآلخرين ما ال يريد أن‬ ‫نستطيع القول إنّ اإلنسان ً‬
‫نوع من التصا ُلح مع‬‫يعترف بوجوده في نفسه‪ ،‬والمطلوب فقط هو ٌ‬
‫وتتحول الحياة في‬
‫ّ‬ ‫المرآتية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يفعل تلك الحالة‬
‫الذات وعيوبها‪ ،‬فهذا ّ‬
‫سلبية في النفس‪ ،‬وقد‬
‫آثارا ّ‬‫يمر دون أن يترك ً‬
‫سلبيات ال ّناس إلى مشهد ّ‬
‫ّ‬
‫َ‬
‫‪« :‬كفاك أد ًبا لنفسك اجتناب ما‬ ‫علي‬
‫ورد في الحديث عن اإلمام ّ‬
‫‪Q‬‬

‫تكرهه من غيرك»(((‪.‬‬
‫اإليجابية تنمو‬
‫ّ‬ ‫الروح‬ ‫خامسا‪ّ :‬‬
‫الدعاء لآلخرين بالهداية‪ ،‬وهذه ّ‬ ‫ً‬
‫الدائم لألشخاص الذين يرى فيهم عيو ًبا‪ ،‬وهو ما قد يمثّل‬
‫بالدعاء ّ‬
‫ّ‬
‫والدعاء لهم بظهر الغيب‪،‬‬
‫الحكمة من استحباب االستغفار للمؤمنين ّ‬
‫عبد مسلمٍ يدعو ألخيه بظهر الغيب ّإل قال‬‫ففي الحديث‪« :‬ما من ٍ‬
‫الملك‪ :‬ولك ٍ‬
‫بمثل»(((‪.‬‬

‫((( ابن أبي الحديد‪ ،‬شرح نهج البالغة‪،‬ج ‪ ،٢٠‬ص ‪.٤٩‬‬


‫(( ( صحيح مسلم‪ ،‬رقم ‪.2732‬‬
‫‪189‬‬
‫‪33‬‬
‫كمال اإليمان بالمعرفة‬

‫أفض ُلكم إيمانًا أفض ُلكم معرف ًة(((‪.‬‬

‫يتميز عن عقل‬ ‫يتميز اإلنسان بالعقل عن غيره‪ ،‬ح ّتى أنّ عقله ّ‬ ‫ّ‬
‫ومبدعا‪،‬‬‫ً‬ ‫متحر ًكا‬
‫ّ‬ ‫قابليات عقل اإلنسان تجعله‬ ‫ّ‬ ‫المالئكة‪ ،‬وذلك أنّ‬
‫محددة‪ .‬وهذا ما نستوحيه من قوله‬ ‫مهمات ّ‬ ‫مبرمجا وفق ّ‬ ‫ً‬ ‫عقل‬ ‫وليس ً‬
‫الئِ َك ِة َف َق َ‬
‫ال‬ ‫﴿و َع َّلم آ َد َم َ‬
‫األ ْس َماء ُك َّل َها ُث َّم َع َر َض ُه ْم َع َلى ا ْل َم َ‬ ‫تعالى‪َ َ :‬‬
‫ين * َقا ُلو ْا ُس ْب َحان ََك َال ِع ْل َم َل َنا إِ َّال‬ ‫َأنبِئُونِي بِ َأس َماء َهـؤُ الء إِن ُكن ُتم َص ِ‬
‫اد ِق َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َما َع َّل ْم َت َنا إِن ََّك َأ َ‬
‫العملية‬ ‫يم﴾ ‪ ،‬فوضعهم أمام التجربة‬ ‫يم ا ْل َحك ُ‬ ‫نت ا ْل َعل ُ‬
‫(((‬
‫ّ‬
‫بمهمة الخالفة التي جعلها الله‬ ‫ّ‬ ‫التي أثبتت أنّهم عاجزون عن القيام‬
‫تعالى آلدم على األرض‪.‬‬
‫الحية التي يقتنع بها‬
‫ّ‬ ‫وإذا عدنا إلى اإليمان‪ ،‬فإنّه يمثّل الفكرة‬
‫العقل‪ ،‬وينبض بها الوجدان‪ .‬وك ّلما كانت القناعة بالفكرة أوضح‪ ،‬كان‬
‫أشد‪ ،‬بحيث إنّ العقل هو الذي يعطي اإلشارة للقلب‬ ‫اإلحساس بها ّ‬
‫بالتفاعل مع ما فيه‪.‬‬

‫(( ( العالمة المجلسي‪ ،‬بحار األنوار‪ ،‬ج ‪ ،٣‬ص ‪.١٤‬‬


‫(( ( سورة البقرة‪ ،‬اآليتان ‪ 31‬ـ ‪.32‬‬
‫‪190‬‬
‫اإليمان وانعكاساته‬
‫وإذا ذهبنا إلى تحليل مفاعيل اإليمان وآثاره في الحياة‪ ،‬وجدنا أنّه‬
‫جاهين رئيسين‪:‬‬
‫يوجه عالقة اإلنسان في ا ّت ْ‬
‫هو الذي ّ‬
‫ ‪1 .‬العالقة مع الله‪ ،‬وذلك في الخضوع له‪ ،‬والخشوع أمام إرادته‪،‬‬
‫الحقيقية التي ال يملك اإلنسان فيها‬
‫ّ‬ ‫العبودية‬
‫ّ‬ ‫وتجسيد معنى‬
‫شي ًئا أمام الله تعالى شأنُه‪ .‬وهذا ال يتحقّق إال من خالل المعرفة‬
‫العميقة بالله‪ ،‬في مواقع عظمته وقدرته وجبروته ورحمته‬
‫ولطفه وسائر صفاته التي تج ّلى من خاللها لهذا الوجود‪.‬‬
‫يتحرك اإلنسان وفق المبادئ‬ ‫ ‪2 .‬العالقة مع الناس والحياة‪ ،‬بحيث ّ‬
‫يقف موق ًفا ح ّتى‬
‫رجل أو ُ‬ ‫يقدم ً‬ ‫التي يمليها عليه إيمانه‪ ،‬فال ّ‬
‫رضى‪ ،‬وال ينبس ببنت ٍ‬
‫شفة ح ّتى يتأكّ د أنّ ما‬ ‫يعلم أنّ ذلك لله ً‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫عدل‪ .‬وطالما أنّ طبيعة الحياة معقّدة‪ ،‬وظواهرها‬ ‫حق أو ٌ‬ ‫يقوله ٌّ‬
‫تمكن اإلنسان من تحديد‬ ‫متشابكة‪ ،‬فإنّ المعرفة السطحية ال ّ‬
‫ثابت‪ ،‬بل سيكون اإلنسان السطحي‬ ‫خطواته ومواقفه بشكل ٍ‬
‫عرض ًة لالنفعال بما يحيط به من أوضاع وظروف‪ ،‬وبذلك‬
‫مداخل يعتقدها ـ بحسب نظرته السطحية ـ مواقع‬ ‫َ‬ ‫قد يدخل‬
‫الدنيوية واألخروية‪ ،‬وقد‬‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وتشكل مصلحته‬ ‫يرضى الله عنها‪،‬‬
‫مواقف العتقاده بأنّها تمثّل الضرر له على ذلك‬‫َ‬ ‫يحجم عن‬
‫الصعيد‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫نوعان من المعرفة لإليمان‬
‫ُ‬
‫فضل اإليمان مرهونًا بنوعين من‬ ‫وانطال ًقا من ذلك ك ّله‪ ،‬سيكون‬
‫المعرفة‪:‬‬
‫تتضمن المعرفة العميقة بالمفاهيم‬
‫ّ‬ ‫الدينية‪ ،‬وهي‬
‫األول‪ :‬المعرفة ّ‬
‫ّ‬
‫اإلسالمية‪ ،‬سواء منها ما يرتبط بالفكر أو العقيدة ـ بمعناها الواسع‬
‫بالسلوك‪ ،‬في ما هي األحكام‬
‫يبينه اإلسالم ـ أو ما يرتبط ّ‬ ‫الشّ امل ّ‬
‫لكل ما ّ‬
‫األخالقية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الفقهية والمبادئ‬
‫الدينية ترتكز على منهج‬ ‫الهام هنا االلتفات إلى أنّ المعرفة ّ‬
‫ّ‬ ‫ومن‬
‫متعددة في‬
‫ثمة مناهج ّ‬ ‫ي ّتبعه الباحث لفهم ال ّنصوص‪ ،‬ومن المعلوم أنّ ّ‬
‫بد لإلنسان من وعي االختالفات فيما بينها‪ ،‬وتأثير اختالفها‬ ‫ذلك ال ّ‬
‫طبعا ليس المطلوب من‬ ‫على النتائج التي يتب ّناها الباحثون أو العلماء‪ً .‬‬
‫تفصيل‪ ،‬بل يكفي أن يعرف‬‫ً‬ ‫يتعرف على ذلك‬
‫المختص أن ّ‬
‫ّ‬ ‫اإلنسان غير‬
‫بعموميتها‪ ،‬أي إنّ هناك اختال ًفا في بعض قواعد التفكير والتي‬
‫ّ‬ ‫المسألة‬
‫تختلف معها النتائج؛ فإنّ هذا المقدار هو المطلوب ّ‬
‫لتقبل االختالفات‬
‫في الدائرة الدينية‪ ،‬وعدم تحويل االختالف إلى مشكلة في العالقات‪.‬‬
‫وفي مطلق األحوال‪ ،‬نكتفي هنا باإلشارة إلى أنّ ما نعتقد أنّه يمثّل‬
‫معيارية في‬
‫ّ‬ ‫مرجعية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫األدق‪ ،‬ذلك الذي ي ّتخذ القرآن الكريم‬ ‫المنهج‬
‫الفهم وتوجيه المعرفة بالحديث‪ ،‬فإنّ ما يوافق كتاب الله ُيقبل‪ ،‬وما‬
‫ُ‬
‫يخالف ُه ُيترك(((‪.‬‬

‫((( راجع للمؤ ّلف‪ :‬نظرة في المنهج االجتهادي ّ‬


‫للسيد محمد حسين فضل الله‪ ،‬المركز‬
‫اإلسالمي الثقافي‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان ‪.2011‬‬
‫‪192‬‬
‫الثاني‪ :‬المعرفة بالواقع‪ ،‬وما يجري فيه من أحداث‪ ،‬وما يعكسه من‬
‫عالقات‪ ،‬ويبرزه من ترابطات يؤ ّثر بعضها في بعض‪ .‬وهذا الواقع هو‬
‫يتوصل إليها اإلنسان‪ ،‬سواء في‬‫ّ‬ ‫مجال تطبيق األفكار والنظريات التي‬
‫العقيدة أو الشريعة أو األخالق‪ ،‬ومن شأن المعرفة العميقة بالواقع أن‬
‫سليما وانسجا ًما لإلنسان مع مبادئه وقناعاته والتزاماته‪،‬‬
‫ً‬ ‫تحقّق تطبيقًا‬
‫تزل فيه أقدام الكثيرين عندما يريدون تطبيق ما درسوه‬‫في الوقت الذي ُّ‬
‫كثيرا من األخطاء من‬
‫أو أنتجوه نظر ًيا على تعقيدات الواقع‪ ،‬فيرتكبون ً‬
‫وربما يقعون في نتائج المعاصي وهم يرومون طاعة‬ ‫دون أن يشعروا‪ّ ،‬‬
‫الله!‬
‫َحسن اإلشارة إلى فكرة عالجها الباحثون في أصول الفقه‪،‬‬ ‫ولع ّله ت ُ‬
‫الثانوية‪ .‬مثال‬
‫ّ‬ ‫األو ّلية واألحكام‬
‫وهي التمييز بين ما ُيعرف باألحكام ّ‬
‫الثانية حاالت الضرر والحرج واالضطرار ونحوها‪ ،‬والتي إذا ما وجدت‬
‫الضرر أو‬
‫األولية ريثما ترتفع حاالت ّ‬ ‫تجمد األحكام ّ‬
‫في الواقع فإنّها ّ‬
‫المحرم في الشريعة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الحرج ويزول االضطرار‪ ،‬كما في أكل لحم الميتة‬
‫مباحا لمن ُيشرف على‬‫تتجمد ويصبح تناول اللحم ً‬ ‫ّ‬ ‫ولكن هذه الحرمة‬
‫ّ‬
‫طبعا هذا األمر قد يحتاج إلى‬‫بديل‪ً .‬‬‫الهالك إذا لم يأكل وليس هناك ٌ‬
‫الكثير من الد ّقة والخبرة في حركة الواقع وتشابك ظواهره‪ّ ،‬‬
‫مما ال يسهل‬
‫الثانوي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫معه تشخيص أنّ المورد هو مورد الحكم ّ‬
‫األولي أو‬

‫خطورة المعرفة الناقصة‬


‫كثيرا من‬
‫قدمت لنا ً‬ ‫انطال ًقا من َ‬
‫جانبي المعرفة المطلو َب ْين‪ ،‬فإنّ الحياة ّ‬
‫طقوسا‪ ،‬وابتعدت عن االحتكاك بحركة‬ ‫ً‬ ‫النماذج التي عاشت اإليمان‬

‫‪193‬‬
‫التزود بالمعرفة بتق ّلباتها وأوضاعها‪ ،‬وما يخفيه‬
‫ّ‬ ‫الحياة‪ ،‬وعزفت عن‬
‫سطح األمور منها‪ ،‬وجدنا أنّ هذه النماذج انحرفت ـ باسم اإليمان ـ‬
‫ٍ‬
‫أدوات لهؤالء‪،‬‬ ‫إلى السير مع خطط المستكبرين والمنحرفين‪ ،‬فكانت‬
‫وإلبا على المؤمنين!‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫ولع ّلنا نستطيع أن نشير‪ ،‬ولو لما ًما‪ ،‬إلى أنّ واحد ًة من ّ‬
‫أهم‬
‫استراتيجيات الشيطان في إغواء ابن آدم هي التزيين(((‪ ،‬وهي تعني‬
‫ّ‬
‫الحق‪ ،‬والظلم بصورة العدل‪ ،‬فإذا رآه من يرتبط‬
‫ّ‬ ‫تغليف الباطل بغالف‬
‫مخلصا في اعتقاد نسبته لله‪ ،‬واندفع في العمل‬
‫ً‬ ‫بسطح األمور أخذ به‬
‫به نشدانًا لرضوانه‪ّ .‬أما من يتس ّلح بالمعرفة‪ ،‬وال ينحصر فكره بسطح‬
‫البراق‪ ،‬فهو الذي يكون أقدر على مواجهة‬ ‫األشياء‪ ،‬وال ينبهر بغالفها ّ‬
‫مما يخالفها‪ .‬وهذا‬‫خطط الشيطان‪ ،‬وتحديد ما يوافق حقيقة مبادئه ّ‬
‫وفاعليته‬
‫ّ‬ ‫يوضح لنا‪ ،‬بد ّقة‪ّ ،‬‬
‫الدور الذي تلعبه المعرفة في تعميق اإليمان‬
‫في حياتنا‪.‬‬

‫القوي حماية الموقف‬


‫ّ‬ ‫الفكر‬
‫ومن هنا‪ ،‬يفرض اإليمان على اإلنسان أن يبني قناعاته على الفكر‬
‫القوي‪ ،‬وهو الفكر الذي ال يتب ّنى معرف ًة إال بعد أن يعضدها الدليل‬‫ّ‬
‫بالدليل انتفاءها‪ ،‬ويبقى‬
‫ويصدقها البرهان‪ ،‬وال ينفي فكر ًة ح ّتى يثبت ّ‬
‫ّ‬
‫مثبت أو ٍ‬
‫ناف‪ .‬وذلك‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫يصل إلى دليل‬ ‫الحق عندما ال‬
‫ّ‬ ‫باحثًا عق ُل ُه عن‬
‫ألنّ ثبات اإليمان الحقًا أمام األفكار ّ‬
‫البراقة‪ ،‬والمواقف الملتبسة‪،‬‬

‫((( راجع على سبيل المثال سورة‪ :‬األنعام ‪ ،43‬األنفال ‪ ،48‬التوبة ‪ ،37‬النحل ‪ ،63‬النمل‬
‫‪ ،24‬العنكبوت ‪.38‬‬
‫‪194‬‬
‫والتحديات المعقّدة‪ ،‬ال يكون بفك ٍر ضعيف‪ ،‬قائمٍ على تشكيل القناعات‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫المتحكمة بحركة‬ ‫تبعا للسائد‪ ،‬أو لِ َما تمليه الظروف‪ ،‬أو موازين القوى‬
‫ً‬
‫سلبيا من‬
‫ً‬ ‫يقف التوجيه اإلسالمي موق ًفا‬ ‫المجتمع واإلنسان‪ .‬ولذلك ُ‬
‫الدينية عمو ًما على الخرافة‪ ،‬وعلى المبالغات‬ ‫بناء العقيدة والمعرفة ّ‬
‫بالغلو؛ ذلك ك ُّله ألنّ انعكاساتها على بناء الشخصية‬
‫ّ‬ ‫التي اصطلح عليها‬
‫أمر خطير وليس‬ ‫تحكم الشيطان بصاحبها‪ٌ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫وتوجهاتها‪ ،‬وبالتالي‬
‫ّ‬
‫هامشيا‪.‬‬
‫ً‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬فعندما يبني اإلنسان إيمانه على المعرفة المستندة‬
‫الحق‪ ،‬والقائمة على الدليل والبرهان‪ ،‬فإنّه ال يمكن أن يخشى النقد‬ ‫ّ‬ ‫إلى‬
‫الحق ضا ّلته‪ ،‬والباطل َح َذ ُره‪ ،‬ولذلك‬
‫ّ‬ ‫الموجه إليه من اآلخرين؛ ألنّ‬
‫ّ‬
‫َ‬
‫يتوان ح ّتى يحذفه‪ ،‬وإذا ما فتح‬ ‫موضعا للباطل لم‬
‫ً‬ ‫النقد‬
‫إذا ما كشف له ُ‬
‫وضمه إلى أفكاره وقناعاته‪.‬‬ ‫أسرع لتلقّفه‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫شيء من الحقِّ‬ ‫عينيه على‬
‫ّ‬
‫ولع ّلنا في نهاية المطاف نفهم لماذا رفع اإلسالم من شأن العلم‬
‫ح ّتى كان من أفضل األعمال‪ ،‬وهو الذي تتكثّف معه العبادة‪ ،‬فورد عن‬
‫ينفعك معه قليل‬ ‫«أفضل األعمال العلم ِ‬
‫بالله‪ .‬إنّ‬ ‫ُ‬
‫العلم ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫رسول الله ‪:P‬‬
‫(((‪.‬‬
‫كثير ُه»‬ ‫ِ‬
‫العمل وال ُ‬ ‫ينفعك معه ُ‬
‫قليل‬ ‫وكثير ُه‪ ،‬وإنَّ الجهل ال ُ‬
‫ُ‬ ‫العمل‬

‫(( ( المتقي الهندي‪ ،‬كنز العمال‪ ،‬ج ‪ ،١٠‬ص ‪.١٤٤‬‬


‫‪195‬‬
‫‪34‬‬
‫العصبية‬

‫عصبية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عصبية‪ ،‬وليس م ّنا من َ‬
‫قاتل على‬ ‫ّ‬ ‫ليس م ّنا من دعا إلى‬
‫عصبية(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وليس م ّنا من مات على‬

‫العصبية هي حالة ت ّتصل بمشاعر اإلنسان الناشئة من االندماج في‬ ‫ّ‬


‫لقوميته أو لدينه أو لمذهبه هو‬
‫ّ‬ ‫فالمتعصب ألسرته أو‬
‫ّ‬ ‫يحب؛‬
‫َمن أو في ما ُّ‬
‫الحب واالنتماء في قلبه إلى درجة تدفعه للمحاماة والمدافعة‬ ‫ّ‬ ‫الذي بلغ‬
‫العصبية قوامها المشاعر واألحاسيس واالنفعاالت‪،‬‬‫ّ‬ ‫عن انتمائه‪ .‬وألنّ‬
‫الحب أو‬
‫ّ‬ ‫سلبا في وجه ذلك‬ ‫كل ما يثور ً‬‫ضد ّ‬
‫فإنّ التعبير عنها بر ّد الفعل ّ‬
‫يهم‬
‫تقوم بها األشياء‪ .‬ال ّ‬
‫سيتم من دون تدقيق في المعايير التي ّ‬ ‫االنتماء‪ُّ ،‬‬
‫يحبها‪ ،‬أو الشخص الذي يو ّده‬ ‫المتعصب إذا كانت الجماعة التي ّ‬ ‫ِّ‬ ‫كثيرا‬
‫ً‬
‫ظالما‪،‬‬ ‫ً‬
‫الصادر منهما عادل أو ً‬ ‫ٍ‬
‫على حقٍّ أو على باطل‪ ،‬أو كان الموقف ّ‬
‫ومستقيما أو منحر ًفا‪.‬‬
‫ً‬

‫العاطفة وتوازنها‬
‫اإلنسانية ّ‬
‫تشكل عما ًدا من أعمدة‬ ‫ّ‬ ‫من البديهي القول‪ ،‬إنّ العاطفة‬
‫يحول اإلنسان إلى نو ٍع من الوجود‬
‫بناء الشخصية المتوازنة‪ ،‬وفقدانُها ّ‬
‫((( سليمان بن األشعث السجستاني‪ ،‬سنن أبي داود‪ ،‬ج ‪ ،٢‬ص ‪.٥٠٣‬‬
‫‪196‬‬
‫ولكن المطلوب في‬ ‫ّ‬ ‫البارد‪ ،‬الفاقد للحيوية تجاه الحياة ومؤ ّثراتها‪.‬‬
‫الشخصية؛ ألنّها بذلك تُفقد اإلنسان‬
‫ّ‬ ‫حركة العاطفة أن ال تطغى على‬
‫الخارجية‬
‫ّ‬ ‫الميزان الموضوعي لحركته‪ ،‬وتجعله رهن الموجودات‬
‫المؤ ّثرة‪ ،‬كالجماعة والقبيلة والحزب والحركة واإلطار‪ ،‬أو منسا ًقا‬
‫وراء المؤ ّثرات الداخلية في ما يرتبط بالغريزة والشهوة الطبيعية التي‬
‫تستثيرها أسبابها في واقع الحياة‪.‬‬
‫وعلى هذا األساس‪ ،‬فإنّ ما يحكم حياتنا ك ّلها هو منظومة ِ‬
‫الق َيم‪،‬‬
‫بصحتها‪ ،‬والتي تُبنى على الفكر العميق في‬ ‫ّ‬ ‫والمفاهيم التي نعتقد‬
‫ُ‬
‫المستمدة من مصادرها المشروعة‪ ،‬سواء في مجاالتنا‬‫ّ‬ ‫براهينه وأد ّلته‬
‫االجتماعية أو السياسية‪ ،‬و كذلك في المجال الفردي؛ وما تصنعه‬
‫أي قيمة‪ ،‬فيصبح االسم الذي‬ ‫العصبية هو تفريغ دائرة االنتماء من ّ‬
‫ّ‬
‫تتسمى به‪ ،‬أو العنوان الذي تتعنون به‪ ،‬هو الذي يمثّل المائز بين القيمة‬
‫ّ‬
‫والمتسمى باسمها‬
‫ّ‬ ‫وعدمها؛ وبالتالي يصبح من هو في داخل الدائرة‪،‬‬
‫القيمة ك ُّلها ‪ ،‬ويفقد من هم خارجها ّ‬
‫أي قيمة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫له‬

‫العصبية انغالق‬
‫ّ‬
‫اإلسالمية‬
‫ّ‬ ‫المذهبية‬
‫ّ‬ ‫العصبية وجدنا أنّه في عالم االنتماءات‬
‫ّ‬ ‫بسبب‬
‫دينيا‪ ،‬أفضل من غير‬
‫يصبح المنتمي إلى المذهب ولك ّنه غير ملتز ٍم ًّ‬
‫صحيحا‬
‫ً‬ ‫دينيا بحسب قناعته‪ .‬ويصبح‬‫المنتمي إلى المذهب ولك ّنه ملتزم ًّ‬
‫يتحرك به الحزب‪ ،‬في‬‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫باطل‬ ‫في العمل الحزبي أن يدافع اإلنسان عن‬
‫رمز الحزب‬
‫الحق الذي يقترحه الحزب المناوئ‪ ،‬ويصبح ُ‬ ‫ّ‬ ‫مقابل رفض‬
‫رئيس اإلطار هو الميزان للقبول والرفض‪ ،‬بمعزل‬ ‫ُ‬ ‫رأس القبيلة أو‬
‫أو ُ‬
‫‪197‬‬
‫الحق والعدل والخير‪ ،‬وسائر ما يندرج‬
‫ّ‬ ‫عن مدى احتكامه إلى موازين‬
‫في منظومة القيم وقواعد السلوك القيمي واإليماني‪.‬‬
‫كل دائرة‬ ‫وعلى هذا ينتقل ميزان القيمة من مقدار ما تشتمل عليه ّ‬
‫الحق في كلماتها أو مواقفها أو مشاريعها‪ ،‬إلى أن تتمحور حول‬ ‫ّ‬ ‫من‬
‫صنما يؤ ّلهه‬ ‫ً‬ ‫العنوان نفسه؛ وبذلك يصبح عنوان الجماعة أو اسمها‬
‫نطبق عليه قوله تعالى ـ في إشارة إلى أصنام‬ ‫أتباعه‪ ،‬ونستطيع بذلك أن ّ‬
‫ُ‬
‫سمي ُتموها أن ُتم وآباؤُ كم ما أن َْز َل الل ُه‬
‫أسماء َّ‬
‫ٌ‬ ‫هي ّإل‬
‫﴿إن َ‬
‫المشركين ـ ‪ْ :‬‬
‫بها ِم ْن ُس ٍ‬
‫لطان﴾(((‪.‬‬
‫مجر ًدا عن منظومة‬ ‫لمعيارية االنتماء ّ‬
‫ّ‬ ‫ولعل من أوضح اآليات طر ًدا‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫حديث من قوله تعالى‪﴿ :‬يا ُّأيها‬ ‫القيم العليا‪ ،‬ما ذكرناه وشرحناه لغير‬
‫لله ولو على أن ُْف ِس ُكم أو‬
‫هداء ِ‬
‫سط ُش َ‬ ‫بالق ِ‬
‫امين ِ‬
‫قو َ‬‫الذين آمنوا كونوا ّ‬ ‫َ‬
‫ألغيت قيمة القرابة والذات لمصلحة‬ ‫الوالدَ ْي ِن واأل ْق َربين﴾ ‪ ،‬حيث َ‬
‫(((‬

‫خط مقابل رفض القرآن االنحراف عن العدالة بسبب‬ ‫العدل‪ .‬وفي ّ‬


‫لله ُش َ‬
‫هداء‬ ‫امين ِ‬ ‫قو َ‬
‫ضد اآلخر‪ ،‬فقال تعالى‪﴿ :‬كونوا ّ‬ ‫المشاعر السلبية ّ‬
‫أقرب‬
‫ُ‬ ‫أن ال ِ‬
‫تعدلوا ْاعدلوا هو‬ ‫بالق ْس ِط وال ْ‬
‫يج ِر َم َّن ُكم شنآنُ قو ٍم على ْ‬ ‫ِ‬
‫لل َّتقوى﴾(((‪.‬‬
‫العملية شاهد ٌة على‬ ‫هذا األمر ال يحتاج م ّنا إلى مزيد ٍ‬
‫بيان‪ ،‬فحياتُنا‬
‫ّ‬
‫مما‬
‫الروية والتعقّل‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫تغيب معه‬
‫العصبية لالنفعال النفسي‪ ،‬والذي ُ‬
‫ّ‬ ‫قيادة‬
‫ُ‬
‫سلوكه في الحياة‪.‬‬ ‫يحتاجه اإلنسان ليتوازن‬

‫((( سورة النجم‪ ،‬اآلية ‪.23‬‬


‫((( سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.135‬‬
‫((( سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪.8‬‬
‫‪198‬‬
‫والعصبية الجاهلية‬
‫ّ‬ ‫المحبة‬
‫ّ‬ ‫بين‬
‫ومع أنّ اإلنسان ال ُّ‬
‫ينفك عن التأ ّثر بالمشاعر واألحاسيس بشكل‬
‫إرادي‪ ،‬فإنّ هذا ال يعني أن يترك اإلنسان نفسه على‬
‫ّ‬ ‫عفوي وغير‬
‫ّ‬
‫أساس في ضبط‬
‫ٌ‬ ‫دور‬
‫تبعا لمثيراتها‪ ،‬وإنّما للتربية ٌ‬
‫عواهنها‪ ،‬وانفعاالته ً‬
‫هذه االنفعاالت‪ ،‬ولكن في مرحلة سابقة‪.‬‬
‫الشخصية الجامعة المانعة‬
‫ّ‬ ‫بتعبير آخر‪ ،‬تعمل التربية على ملء‬
‫القوة ك ّلها فيها‪ ،‬والتي تقوم على مجموعة من المفاهيم‬
‫لعناصر ّ‬
‫ً‬
‫ضابطا لإلثارة التي تحصل بسبب‬ ‫القوة تشكل‬
‫والقواعد والقيم‪ ،‬وهذه ّ‬
‫عالقة اإلنسان بمحيطه االجتماعي أو غيره‪.‬‬
‫من هنا عمل اإلسالم على تعديل المفاهيم عبر إعادة إنتاجها بما‬
‫علي‬
‫يتوافق ورؤيته ومنظومته القيمية‪ ،‬وهو ما يشير إليه حديث اإلمام ّ‬
‫صاحبها أن يرى‬
‫ُ‬ ‫«العصبية التي يأثم عليها‬
‫ّ‬ ‫بن الحسين ‪ Q‬بقوله‪:‬‬
‫العصبية أن‬
‫ّ‬ ‫خيرا من خيا ِر قو ٍم آخرين‪ ،‬وليس من‬
‫شرار قومه ً‬ ‫َ‬ ‫الر ُ‬
‫جل‬ ‫ّ‬
‫(((‬ ‫ُّ‬
‫العصبية أن يعين قومه على الظلم» ‪ ،‬حيث‬ ‫ّ‬ ‫ولكن‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫يحب الرجل قو َمه‪،‬‬
‫َّ‬
‫عصبية ممدوحة ومذمومة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫العصبية ـ بشكل غير مباشر ـ إلى‬ ‫ّ‬ ‫ص ّنف‬
‫ونبه إلى‬
‫ثم أعاد إنتاج المفهوم من جديد‪ ،‬فحصرها في المذمومة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫ضد قيمه‪.‬‬‫يدفع اإلنسان ّ‬
‫الحب المستغرق الذي ُ‬ ‫ُّ‬ ‫بواعثها‪ ،‬وهي‬
‫الهام في حديث اإلمام ‪ Q‬هو أنّه يحقّق االنسجام بين‬ ‫ّ‬ ‫لكن‬
‫َّ‬
‫الحب لقومه أو‬
‫ّ‬ ‫االنتماء الفطري‪ ،‬الذي ُيثير لدى اإلنسان مشاعر‬
‫أسرته أو حزبه‪ ،‬أو أي إطا ٍر من األطر االجتماعية والسياسية وغيرها‪،‬‬

‫(( ( الشيخ الكليني‪ ،‬الكافي‪ ،‬ج ‪ ،٢‬ص ‪.٣٠٨‬‬


‫‪199‬‬
‫الحب عندما تتجاوز حدودها‪ .‬وهذا‬‫ّ‬ ‫تجمد مفاعيل‬
‫وبين القيم التي ّ‬
‫االنسجام هو مراعاة حكيمة لواقع اإلنسان‪ ،‬حيث إنّه جسدٌ ينفعل‬
‫روح ال ينبغي أن يأسرها الجسد في انفعاالته‪،‬‬
‫بمثيرات محيطه‪ ،‬وهو ٌ‬
‫في الوقت الذي ال ّ‬
‫تتنكر هي له في عناصره‪.‬‬
‫ّ‬
‫الخط‬ ‫يحدد‬
‫وبالعودة إلى الحديث النبوي الذي نحن بصدده‪ ،‬فإنّه ّ‬
‫الجاهلية‪ ،‬حيث قامت الجاهلية‬
‫ّ‬ ‫الواضح بين رسالة اإلسالم ورسالة‬
‫تحدد إطار الجماعة بها‪ ،‬وتجعلها القيمة التي يكتسبها‬‫العصبية التي ّ‬
‫ّ‬ ‫على‬
‫وتتحرك تأثيرات هذا االنتماء في الواقع‪ ،‬ليدخل‬‫ّ‬ ‫الناس بانتمائهم إليها‪،‬‬
‫لمجرد أنّ اإلطار‬
‫ّ‬ ‫انتصارا لمظلوم‪ ،‬بل‬
‫ً‬ ‫حق أو‬
‫دفاعا عن ّ‬
‫اإلنسان حر ًبا‪ ،‬ال ً‬
‫الحرب أعضاءه ك ّلهم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫االجتماعي قد دخل حر ًبا فال ّبد أن تستنفر‬
‫ح ّتى لو كان دخول الحرب على قاعدة ظلم اآلخرين‪ ...‬وهذا النوع‬
‫الحق والعدل‪،‬‬‫ّ‬ ‫يتأسس على قاعدة‬ ‫من الحياة يرفضه اإلسالم؛ ألنّه ال ّ‬
‫بل يدفع اإلنسان إلى ارتكاب الفظائع استنا ًدا إلى انفعاالت ال ّلحظة‪،‬‬
‫يموت على غير دينه؛ ألنّ‬
‫ُ‬ ‫العصبية‬
‫ّ‬ ‫وبذلك فإنّ الذي يختم حياته بسبب‬
‫شكلية‪ ،‬بل هو منظومة قيم تتج ّلى في مفردات الحياة‬‫ّ‬ ‫طقوسا‬
‫ً‬ ‫الدين ليس‬
‫ك ّلها‪ ،‬لتطبعها بطابعها عندما يسير اإلنسان وفقها‪ ،‬ويحكم حياته بها‪.‬‬

‫التطور‬
‫ُّ‬ ‫العصبية مانع من‬
‫ّ‬
‫العصبية على المجال التربوي والعلمي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بد أن نُشير إلى تأثير‬
‫وال ّ‬
‫بالضرورة على‬
‫التطور‪ ،‬والذي يقوم ّ‬
‫ّ‬ ‫حاجزا أمام‬
‫ً‬ ‫العصبية‬
‫ّ‬ ‫حيث ّ‬
‫تشكل‬
‫النقد‪ ،‬بما يعنيه النقد عملي ًا من العمل على استكشاف عناصر الفكرة‬
‫الحق فيها من الباطل‪ ،‬وما‬
‫ّ‬ ‫أو الموقف من الناحية الموضوعية‪ ،‬لتمييز‬

‫‪200‬‬
‫تحول‬
‫العصبية في تأثيراتها ّ‬
‫ّ‬ ‫ينسجم فيها مع القيمة وما يتنافر معها‪.‬‬
‫يبرر للجماعة‬
‫همه أن ّ‬ ‫تبريري‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫كائن‬ ‫نتج للمعرفة إلى‬‫الم َ‬
‫اإلنسان ُ‬
‫اضطره ذلك إلى ّ‬
‫التنكر للمنهج العلمي‬ ‫ّ‬ ‫معتقداتها وتقاليدها‪ ،‬ح ّتى لو‬
‫للحق‪ّ ،‬‬
‫فكل‬ ‫ّ‬ ‫نفسها إلى محو ٍر‬‫تتحول الجماعة ُ‬‫ّ‬ ‫الرصين في الفكر‪ .‬هنا‬
‫الحق ح ّتى لو لم يكن كذلك حقيقة‪ُّ ،‬‬
‫وكل ما هو‬ ‫ّ‬ ‫ما في داخلها يمثّل‬
‫الحق معه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يخالفها من خارجها يمثّل الباطل ح ّتى لو كان‬
‫سلطوية‬
‫ّ‬ ‫تحول المواقع القيادية إلى مواقع‬
‫للعصبية أن ّ‬
‫ّ‬ ‫كما يمكن‬
‫قمعية‪ ،‬تمارس الضغط على األفكار المن َتجة‪ ،‬واإلبداعات المحقّقة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫بمجرد مخالفتها لرأيها‪ ،‬وأحيانًا لمزاجها‪ ،‬وثالثة الستثارتها اإلحساس‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫بأي حوار أو‬
‫السماح ألصحابها ّ‬ ‫بالضعف أمام قوة اآلخرين‪ ،‬من دون ّ‬
‫والدليل عليه‪ .‬وهذا لم‬
‫الحق ّ‬‫ّ‬ ‫يبين جدواها في ميزان‬‫نقاش يمكن أن ّ‬ ‫ٍ‬
‫الحق لنفسها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الدينية التي احتكرت‬
‫القيادية ّ‬
‫ّ‬ ‫تسلم منه ح ّتى المواقع‬
‫وسائرا في طريق الباطل‪ ،‬في‬
‫ً‬ ‫للحق‪،‬‬
‫ّ‬ ‫واعتبرت من يخالفها مخال ًفا‬
‫الدين‪ ،‬ليس بالضرورة أنّها‬
‫تعبر فيه عن اجتهادات في فهم ّ‬ ‫الوقت الذي ّ‬
‫تمتلك العصمة والسالمة من الخطأ‪.‬‬

‫بين االحترام والتقديس‬


‫نميز بين االحترام والتقديس‪ ،‬تما ًما كما‬
‫وهنا قد نجد لزا ًما علينا أن ّ‬
‫التعصب لهم؛ ألنّ‬
‫ُّ‬ ‫حب الرجل لقومه وبين‬ ‫ميز الحديث أعاله بين ّ‬ ‫ّ‬
‫التقديس يعني تحويل ما ال يملك القداسة إلى حالة طاردة ألي تفكير‬
‫موضوعيا‪ ،‬دون تأثير‬
‫ًّ‬ ‫ناقد‪ ،‬بينما يفرض االحترام تقدير الفكرة ونقاشها‬
‫دينيا أو‬
‫سياسيا أو ً‬‫ًّ‬ ‫اجتماعيا أو‬
‫ً‬ ‫للموقع الذي انطلقت منه‪ ،‬سواء كان‬

‫‪201‬‬
‫واقتناعه‬
‫ُ‬ ‫يحكمه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ونقاشها هو الذي‬ ‫تهمه‪،‬‬
‫غيره‪ .‬فقط الفكرة هي التي ّ‬
‫خضوعا لقناعته‪ ،‬وليس لصاحبها!‬
‫ً‬ ‫ٍ‬
‫عندئذ يكون‬ ‫بها‬
‫مقدسات لدى الجماعات وميادين‬ ‫هذا ال يعني استبعاد فكرة وجود ّ‬
‫أيضا عن حركة االكتشاف‬ ‫المقدسات ليست بعيدة ً‬ ‫ّ‬ ‫ولكن هذه‬
‫ّ‬ ‫األفكار‪،‬‬
‫فكرية بأنّه‬
‫ّ‬ ‫اعتقادية‬
‫ّ‬ ‫يمارسه العقل والفكر‪ ،‬فالقداسة هي قناعة‬ ‫ُ‬ ‫الذي‬
‫تقبل ال ّنقاش‪ ،‬ولذلك ينقطع‬ ‫الحق والعدل بدرجة واضحة تما ًما ال ُ‬ ‫ّ‬ ‫يمثّل‬
‫النقدي عنده‪ .‬وهذا ال يمنع ـ في الوقت ذاته ـ من أن ال يكون‬ ‫ّ‬ ‫السؤال‬ ‫ّ‬
‫المقدس غير القابل للنقد إلى أمرٍ‬ ‫ّ‬ ‫يتحول‬
‫ّ‬ ‫مقد ًسا عند اآلخرين‪ ،‬أو أن‬ ‫ّ‬
‫المتغيرات في الفكر‪ ،‬أو مع بروز بعض المعطيات‬ ‫ّ‬ ‫قابل له نتيجة بعض‬ ‫ٍ‬
‫مقدس‪ .‬ذلك ك ُّله ُيبقي‬‫المقدس إلى غير ّ‬ ‫ّ‬ ‫تحول معها‬‫واالكتشافات التي ّ‬
‫تتحول إلى‬‫عصبية‪ ،‬بحيث ّ‬ ‫ّ‬ ‫متحركة‪ ،‬وال يغلقها في دائرة‬
‫ّ‬ ‫الحوارية‬
‫ّ‬ ‫الحالة‬
‫والبرهان‪.‬‬‫قداسة خاضعة للفكر ُ‬ ‫ٌ‬ ‫دائما‬
‫قداسة من خارج الفكر‪ ،‬بل هي ً‬

‫العصبية‬
‫ّ‬ ‫للحد من‬
‫ّ‬ ‫آليات‬
‫الضوء على بعض‬ ‫وانطال ًقا من ذلك‪ّ ،‬‬
‫ربما يكون من المفيد تسليط ّ‬
‫العصبية‪ ،‬نذكرها وفق اآلتي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫الحد من‬
‫اآلليات التربوية التي قد تنفع في ّ‬
‫ّ‬
‫العبودية لله تعالى‪ ،‬وتحقيق االستعداد للسير وفق إرادة‬ ‫ّ‬ ‫أو ًل‪ :‬تنمية‬ ‫ّ‬
‫أساسا ليبني اإلنسان عليه أموره‬ ‫ً‬ ‫أمر وفي ما نهى‪ ،‬لتكون‬ ‫الله‪ ،‬في ما َ‬
‫الذات أمام المبادئ‪ ،‬على هدى قول الله تعالى‪:‬‬ ‫تضمحل ّ‬‫ّ‬ ‫ك ّلها‪ ،‬وبذلك‬
‫﴿و َما َكانَ لِ ُم ْؤ ِم ٍن َو َل ُم ْؤ ِم َن ٍة إِ َذا َق َضى ال َّل ُه َو َر ُسو ُل ُه َأ ْمر ًا َأن َي ُكونَ َل ُه ُم‬ ‫َ‬
‫ا ْل ِخ َي َر ُة ِم ْن َأ ْم ِر ِه ْم﴾(((‪.‬‬

‫((( سورة األحزاب‪ ،‬آية ‪.36‬‬


‫‪202‬‬
‫الحق‪ ،‬وأنّه نابع من اإليمان بالله تعالى‬
‫ّ‬ ‫محورية‬
‫ّ‬ ‫ثانيا‪ :‬التربية على‬
‫ً‬
‫الحق‪ ،‬والبحث عنه‪ ،‬واالرتباط به حيثُما وجد‪ ،‬وهذا ال يكون ّإل بتنمية‬‫ّ‬
‫بعمق إلى القضايا‪ .‬وقد يكون من‬ ‫ٍ‬ ‫مهارة االستدالل والبرهنة والنظر‬
‫جملة ذلك التركيز على القول ال القائل‪ ،‬والفكرة ال مطلقها‪ ،‬بحيث‬
‫لمجرد أنّه‬
‫ّ‬ ‫ال يخضع اإلنسان لمبدأ تبرير الفكرة أو القول أو الموقف‬
‫ينتسب إلى عظيم من العظماء‪ ،‬واسمٍ كبير في التاريخ أو المجتمع‪.‬‬
‫الذهن على البحث عن المشتركات بين الجماعات‬ ‫ثالثًا‪ :‬تعويد ّ‬
‫واألطر‪ ،‬وهو إنّما ُيبنى على خرق جدارنها عن طريق اختبار مضمونها‬
‫بعيدً ا عن أسمائها وأشكالها السطحية‪.‬‬
‫وبذلك يمكن أن تلتقي جماعتان متنافرتان على مقاربة مشتركة‪ ،‬أو‬
‫معا‪،‬‬
‫موقف أو مشروع مشترك‪ ،‬يؤسس للقائهما وتعاونهما بما يفيدهما ً‬
‫كرساها بذلك‪.‬‬‫كما يفيد القيمة المشتركة التي ّ‬
‫رابعا‪ :‬تنمية القدرة على السيطرة على االنفعاالت‪ ،‬سواء كانت‬ ‫ً‬
‫ُّ‬
‫التحكم بمستواها‪ ،‬كالغضب‪،‬‬ ‫سلبية كالبغض‪ ،‬أو‬
‫كالحب‪ ،‬أو ّ‬
‫ّ‬ ‫إيجابية‬
‫ّ‬
‫فذلك كله قد يساهم في التخفيف من غلواء االنفعال‪ ،‬الذي ُيفقد‬‫ُّ‬
‫غرائزيا وراء ما تفرضه‬
‫ًّ‬ ‫اإلنسان القدرة على التفكير الهادئ فيندفع‬
‫سلطة الواقع‪ ،‬كالجماعة أو القبيلة أو الحزب الذي ينتمي إليه‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫‪35‬‬
‫إذاعة الفاحشة‬

‫ٍ‬
‫بشيء‬ ‫أذاع فاحش ًة كان كمبتدئها‪ ،‬و َم ْن َّ‬
‫عي َر مؤم ًنا‬ ‫من َ‬
‫يركب ُه(((‪.‬‬
‫لم ُيم ْت ح ّتى َ‬

‫الحديث يعالج مسألة تُبتلى بها المجتمعات واألفراد‪ ،‬وهي تناول‬


‫السلبيات التي تقع في كلمات ال ّناس‪ ،‬وإدارة األحاديث حولها‪ ،‬وال‬
‫ّ‬
‫تتحول تلك السلبيات إلى‬
‫ّ‬ ‫سيما في جلسات الفراغ وال ّلغو‪ .‬وعندما‬
‫ّ‬
‫لوكة على ألسن ال ّناس‪ ،‬فإنّها تؤ ّدي إلى تكرار صورتها في أذهان‬
‫الصورة يؤ ّدي إلى تضخيمها شي ًئا فشي ًئا‪ ،‬فإن كانت‬
‫ال ّناس‪ ،‬وتكرار ّ‬
‫ٍ‬
‫شخص فإنّها تطبعه بطابعها‪ ،‬وإذا كانت صادرة‬ ‫السلبيات صادر ًة عن‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫يحولها إلى صورة للمجتمع‬ ‫يتوان ّ‬
‫َ‬
‫هن العادي عن أن ّ‬‫الذ ُ‬ ‫عن أفراد لم‬
‫ك ّله‪ ،‬وذلك استنا ًدا إلى عملية التعميم التي ينزع نحوها الذهن بشكل‬
‫اعتيادي‪.‬‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫فاحشة‬ ‫وعلى هذا جاء هذا الحديث ليشير إلى أنّ الكالم حول ّ‬
‫أي‬
‫ٍ‬
‫أفراد هو إعادة إنتاجٍ لها من جديد؛ ألنّ‬ ‫تحصل في المجتمع من قبل‬

‫(( ( الشيخ الكليني‪ ،‬الكافي‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.356‬‬


‫‪204‬‬
‫فعل الفاحشة محدود بحدود ظرفه وعناصره الما ّدية‪ ،‬فكأنّ الكالم‬
‫حولها يعيد تشكيل صورتها الذهنية في النفوس‪ ،‬وبذلك يكون المتك ّلم‬
‫ممارسا للدور الذي يمارسه من يفعلها‪ ،‬ولكن بطريقة‬
‫ً‬ ‫المذيع للفاحشة‬
‫تصويرية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كالمية‬

‫ال ت َُك ْن فتن ًة متنقّلة‬


‫ين ُي ِح ُّبونَ َأن‬
‫ولعل في الحديث إشارة إلى اآلية القرآنية‪﴿ :‬إِ َّن ا َّل ِذ َ‬ ‫ّ‬
‫الدن َْيا َو ْال ِخ َر ِة﴾(((‪،‬‬
‫يم ِفي ُّ‬ ‫ين آ َم ُنوا َل ُهم َع َذ ٌ َ ِ‬
‫اب أل ٌ‬ ‫ْ‬ ‫احشَ ُة ِفي ا َّل ِذ َ‬
‫يع ا ْل َف ِ‬‫ت َِش َ‬
‫الصادق ‪ Q‬على بعض ال ّنماذج التي‬ ‫طبقها اإلمام جعفر ّ‬ ‫والتي ّ‬
‫مؤمن ما رأته عيناه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫قال في‬‫التلبس بها‪ ،‬فقال‪« :‬من َ‬ ‫نستسهل حقيق ًة ّ‬
‫ين ُي ِح ُّبونَ َأن‬
‫وجل‪﴿ :‬إِ َّن ا َّل ِذ َ‬
‫ّ‬ ‫عز‬
‫وسمعته أذناه‪ ،‬فهو من الذين قال الله ّ‬
‫الدن َْيا َو ْال ِخ َر ِة﴾»(((‪.‬‬ ‫يم ِفي ُّ‬ ‫ين آ َم ُنوا َل ُهم َع َذ ٌ َ ِ‬
‫اب أل ٌ‬ ‫ْ‬ ‫احشَ ُة ِفي ا َّل ِذ َ‬
‫يع ا ْل َف ِ‬
‫ت َِش َ‬

‫إنّ الروحية التي يجب أن يتح ّلى بها اإلنسان المؤمن هو ّ‬


‫حبه للطاعة‬
‫سلوكيات‬
‫ّ‬ ‫تجلياتها في‬
‫ّ‬ ‫تلمس‬
‫نفس ُه إلى ّ‬
‫والفضيلة‪ ،‬وبالتالي أن تنزع ُ‬
‫إيجابيات‬
‫ّ‬ ‫يحب أن يركّ ز على‬
‫األفراد‪ ،‬وفي حركة المجتمعات‪ ،‬ولذلك ُّ‬
‫يحب فيها اإلنسان التركيز على السلبيات‪،‬‬
‫ال ّناس‪ ،‬بخالف الحالة التي ّ‬
‫حذرا على‪:‬‬
‫التي ال يخلو منها إنسان أو مجتمع‪ً ،‬‬
‫سلبياته‪،‬‬
‫ ‪1 .‬أنفسهم‪ ،‬أن ال تظلم اإلنسان اآلخر عبر اختزاله في ّ‬
‫عفوي؛ ألنّ عين اإلنسان عندما تركّ ز على‬
‫ّ‬ ‫والذي يحصل بشكل‬
‫الصورة فإنّ صورة الجانب اآلخر اإليجابي ال تعود‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫جانب من‬

‫((( سورة النور‪ ،‬اآلية ‪.19‬‬


‫(( ( الشيخ الكليني‪ ،‬الكافي‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪ ،356‬ح‪.2‬‬
‫‪205‬‬
‫ُهم ُل من الذهن والنفس‪.‬‬
‫واضح ًة لها‪ ،‬وبالتالي فإنّها ت َ‬
‫يتم‬
‫السلبية فيه إلى صورة نمطية ّ‬ ‫ّ‬ ‫تتحول‬
‫ّ‬ ‫ ‪2 .‬مجتمعهم‪ ،‬أن ال‬
‫جزء من‬ ‫تناقلها عند التعرض للمجتمع‪ ،‬وبالتالي تتحول إلى ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫هوية المجتمع التي يرى فيها ذاته‪ ،‬وكذلك يراه اآلخرون بها‪.‬‬ ‫ّ‬
‫مما‬ ‫وهذا ما وجدناه في كثير من التعميمات التي أصبحت جز ًءا ّ‬
‫ُ‬
‫فيوصف‬ ‫تتناقله األجيال عن المجتمعات الصغيرة أو الكبيرة‪،‬‬
‫بلد‪ ،‬أو أسرة من األسر‪ ،‬أو جماعة من الجماعات‬ ‫قرية أو ٍ‬
‫أهل ٍ‬ ‫ُ‬
‫التعرف‬ ‫ويتحول هذا الوصف إلى صورة تسبق‬ ‫عام‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بوصف ّ‬
‫على اإلنسان المنتمي لهذه المجتمعات‪ ،‬وتؤ ّثر ح ّتى على‬
‫ألي مجتمع مع الزمن‪ ،‬وكذلك‬ ‫المتغيرات التي تحدث ّ‬
‫ّ‬ ‫رصد‬
‫الواقعية للوصف ضمن‬ ‫ّ‬ ‫على فهمه‪ ،‬أو على رصد ال ِّن َسب‬
‫مجموع األفراد المنتمين‪ .‬وهذا ك ُّله ُظلم ِ‬
‫فاحش‪.‬‬ ‫ٌ‬

‫مخاطر آفة اإلذاعة‬


‫ذيل الحديث النبوي السابق يريد‬‫تضمنه ُ‬
‫وربما كان التهديد الذي ّ‬ ‫ّ‬
‫أن يؤكّ د على خطورة هذا السلوك‪ ،‬وعلى حجم الفساد الذي يمكن‬
‫أن يلحقه هذا االتجاه النفسي السلبي في صاحبه ّأو ًل‪ّ ،‬‬
‫ثم في المجتمع‬
‫يربي‬
‫حد سواء‪ ،‬وبالتالي ضرورة أن ّ‬ ‫ككل أو األفراد اآلخرين على ّ‬
‫«الحب» التلقائي‬
‫ّ‬ ‫الداخل على االبتعاد عن هذا‬ ‫اإلنسان نفسه من ّ‬
‫ّ‬
‫ولعل اآلية الكريمة في‬ ‫إلشاعة الفاحشة وإذاعتها‪ ،‬ح ّتى لو كانت‪.‬‬
‫ذكرها للعذاب الدنيوي ترمي إلى أن يلتفت ال ّناس إلى ذلك‪ ،‬فالعذاب‬

‫‪206‬‬
‫الدنيا قبل أن‬ ‫مؤج ًل لآلخرة‪ ،‬بل آثاره ّ‬
‫تتحرك لتصيب اإلنسان في ّ‬ ‫ليس ّ‬
‫يغادرها‪.‬‬

‫التقنيات الحديثة‬
‫ّ‬ ‫دور‬
‫والبرمجيات الحديثة التي‬
‫ّ‬ ‫التقنيات‬
‫ّ‬ ‫الهام هنا أن نشير إلى أنّ‬
‫ّ‬ ‫من‬
‫شكلت خطورة مضاعفة‬ ‫آليات العولمة‪ّ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫تحولت إلى جزء فاعل من ّ‬ ‫ّ‬
‫السلبيات والفواحش أصبحت محكومة‬ ‫ّ‬ ‫في هذا المجال؛ ألنّ إذاعة‬
‫المسماة بالحداثة أو ما بعد‬
‫ّ‬ ‫لمنظومة قيم أنتجتها المرحلة البشرية‬
‫يتم التنظير لها ـ عن‬
‫الحرية في التعبير‪ ،‬التي ّ‬
‫الحداثة‪ ،‬وعلى رأسها قيمة ّ‬
‫يتم‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫يخص حياة المجتمعات‪ ،‬وذلك ّ‬ ‫ّ‬ ‫سقف فيما‬ ‫قصد ـ بال‬ ‫قصد أو غير‬
‫المشاعرية التي تدفع اإلنسان إلى التعبير المباشر عنها‬
‫ّ‬ ‫في حجم اللحظة‬
‫يتم تثبيت هذه المشاعر‬‫ثم ّ‬ ‫قبل إدخالها في مصفاة العقل والنقد‪ ،‬ومن َّ‬
‫إلى فترة طويلة من الزمن؛ عبر إعجاب اآلخرين بها‪ ،‬أو التعليق عليها‪،‬‬
‫أو مشاركتها‪ ،‬كما يحصل على وسائل التواصل االجتماعي‪ .‬ناهيك‬
‫يتم تحميلها للشبكة‬ ‫الصور والفيديوهات التي ّ‬ ‫الكم الهائل من ّ‬ ‫ّ‬ ‫عن‬
‫خاصة إلى طابع‬ ‫سببا في تحويل حالة ّ‬ ‫العنكبوتية (‪ )internet‬لتكون ً‬
‫ّ‬
‫مجتمعا أو شعو ًبا‬
‫ً‬ ‫مذهبا فكر ًيا‪ ،‬أو دول ًة أو‬
‫ً‬ ‫يطبع جماعة أو طائفة دينية‪ ،‬أو‬
‫وبخاصة عندما نالحظ وجود كثير من أجهزة المخابرات‪ ،‬التي‬ ‫ّ‬ ‫بأسرها؛‬
‫تعمل على ضوء الكثير من الدراسات واألبحاث‪ ،‬والتي تنطلق منها‬
‫الكثير من الخطط التي تستهدف الشّ عوب في ثقافتها أو سياستها أو‬
‫اقتصادها‪.‬‬
‫ذهنية‬ ‫إنّ عصرنا الحاضر هو عصر ّ‬
‫الصورة بامتياز‪ ،‬وإعادة تشكيل ّ‬
‫‪207‬‬
‫رسوخا لها‬
‫ً‬ ‫يتم من خالل التدفّق الهائل للصور‪ ،‬والذي ُيحقّق‬
‫ال ّناس ّ‬
‫ّانيتها‬
‫الحية‪ ،‬ال بسبب حق ّ‬
‫يحولها إلى نوع من البديهة ّ‬ ‫في الذهن‪ ،‬قد ّ‬
‫بالضرورة‪ ،‬بل بسبب تكرارها‪.‬‬
‫ّ‬
‫الديني والتربوي اإلصرار على منظومة‬ ‫وهذا ما يفرض على التوجيه ّ‬
‫للسلوك‪ ،‬والتي ُيضاف إليها اليوم العالم االفتراضي؛ إذ‬‫القيم الحاكمة ّ‬
‫سيما أن تأثيراته‬
‫افتراضيا ال يجعله خارج تلك المنظومة‪ ،‬وال ّ‬‫ًّ‬ ‫كونه‬
‫بد أن تنزل‬
‫السلبية قد تتجاوز تأثيرات الواقع‪ .‬هذه المنظومة من القيم ال ّ‬
‫ّ‬
‫لتحدد لها القيم والقواعد واألحكام المرتبطة‬
‫ّ‬ ‫التطبيقية‬
‫ّ‬ ‫إلى التفاصيل‬
‫بها‪ ،‬ويكون التدريب على مراعاتها من شؤون التدريب على استخدام‬
‫ٍ‬
‫حاصل يقيس اإلنسان عليه أفعاله‬ ‫لتتحول إلى تحصيل‬
‫ّ‬ ‫التقنيات‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تلك‬
‫ويحدد درجة استقامته وانحرافه عنها‪ ،‬والله الهادي إلى سواء السبيل‪،‬‬ ‫ّ‬
‫والمسدد لكل صواب‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪208‬‬
‫‪36‬‬
‫الفراغ والبطالة‬

‫الدنيا‬
‫شغل ُّ‬ ‫َ‬
‫الفارغ‪ ،‬ال في ِ‬ ‫إن الله يبغض الصحيح‬
‫ّ‬
‫وال في ِ‬
‫شغل اآلخرة(((‪.‬‬

‫اإلنسان في كيانه مس ّلح بأجهزة ويمتلك طاقات للعمل واإلبداع‪،‬‬


‫كل يخضع لرؤية يرتضيها لوجوده‪ ،‬ويسعى وفق أهداف‬ ‫وهو في ذلك ّ‬
‫يسعى إلى تحقيقها في حياته؛ منها ما يرتبط بمعيشته‪ ،‬ومنها ما يرتبط‬
‫بعبادته‪ ،‬ومنها ما يرتبط بعالقاته وترفيهه عن نفسه وما إلى ذلك من‬
‫مجاالت‪.‬‬
‫واإلنسان ال يستطيع أن يحقّق شي ًئا من تلك األهداف من دون أن‬
‫يوجه جهده في سبيل تنفيذ تلك ّ‬
‫الخطة‪.‬‬ ‫يحرك فكره في إعداد ّ‬
‫خطة‪ ،‬أو ّ‬ ‫ّ‬
‫والتدرب على األداء‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫قادرا على ذلك‪ ،‬ولو بالتعلم‬
‫فإذا كان اإلنسان ً‬
‫عمليا‪ ،‬تما ًما كالريشة في‬ ‫ٍ‬
‫هدف‬ ‫يحرك ساك ًنا‪ ،‬فإنّ حياته تصبح بال‬
‫ً‬ ‫ولم ّ‬
‫التيار‪.‬‬
‫مهب الريح‪ ،‬أو كخشبة في مجرى ّ‬ ‫ّ‬

‫((( ابن أبي الحديد‪ ،‬شرح نهج البالغة‪ ،‬ج ‪ ،17‬ص ‪.146‬‬
‫‪209‬‬
‫طاقتك مسؤوليتك‬
‫تتحرك وفق قانون‪ ،‬واإلنسان هو الكائن الوحيد الذي أعطاه‬ ‫فالحياة ّ‬
‫ّ‬
‫الخط الذي يمثّل‬ ‫يحرك إرادته في‬
‫حرية اإلرادة‪ ،‬وأراد له أن ّ‬ ‫الله تعالى ّ‬
‫الدنيا واآلخرة‪ ،‬استنا ًدا‬
‫الدنيا‪ ،‬أو غاية حياته بما يشمل ّ‬ ‫غاية وجوده في ّ‬
‫ٌ‬
‫مخلوق لله تعالى‪ ،‬وقد‬ ‫ولكن اإلنسان في النهاية‬ ‫ّ‬ ‫إلى الرؤية الدينية‪.‬‬
‫كثيرا‬
‫وسخر له ً‬‫ّ‬ ‫متمي ًزا‪ ،‬وجعله خليفته على األرض‪،‬‬ ‫موضعا ّ‬
‫ً‬ ‫وضعه الله‬
‫خاضع لرؤية ك ّلية‪ ،‬أرادها‬
‫ٌ‬ ‫من مخلوقاته‪ ،‬ذلك ك ُّله ليس عبثًا‪ ،‬وإنّما هو‬
‫الله لإلنسان نفسه‪ ،‬في سيره نحو تكامله الذاتي‪ ،‬سواء في الجانب‬
‫الفكري أو الروحي أو العملي‪ ،‬وأرادها الله للحياة ك ّلها‪ ،‬والتي يمثّل‬
‫هامشيا‪.‬‬
‫ً‬ ‫اإلنسان فيها جز ًءا محور ًيا ال‬
‫النتيجة من ذلك ك ِّله‪ ،‬أنّ الصحيح البدن‪ ،‬والسليم القدرات‬
‫يفوت الكثير على نفسه وعلى الحياة‪،‬‬ ‫يحركها‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫والطاقات‪ ،‬وال‬
‫حيز التأثير‪ ،‬وهذا لن يكون ـ بطبيعة الحال‬
‫عمليا من ّ‬
‫ً‬ ‫وسيحذف نفسه‬
‫ّ‬
‫محل رضى الله تعالى؛ ألنّ الله ال يرضى لإلنسان سوى الهداية‬ ‫ـ في‬
‫والسير وفقها‪ ،‬وهذا ال يتحقّق مع الفراغ الذي هو حالة سلبية من حيث‬
‫الفاعلية والحركة نحو األهداف!‬

‫أليس شغل الدنيا من اآلخرة؟!‬


‫بقيت لدينا نقطة نحتاج إلى تجليتها؛ وهي أنّ الرؤية الدينية تفترض‬
‫يصب في اآلخرة‪ ،‬فهل التعبير الوارد في الحديث‬‫ُّ‬ ‫أنّ شغل ّ‬
‫الدنيا إنما‬
‫أعاله‪ ،‬أي «ال في شغل الدنيا‪ ،‬وال في شغل اآلخرة»‪ٌ ،‬‬
‫إقرار بأنّ انشغال‬
‫ُ‬
‫أفضل‬ ‫صحة مصيره األخروي‬ ‫يصب في ّ‬ ‫ُّ‬ ‫اإلنسان بشغل الدنيا الذي ال‬
‫‪210‬‬
‫من الفراغ؟!‬
‫الصمت أفضل من‬
‫ُ‬ ‫فقطعا سيكون‬
‫ً‬ ‫ال نستطيع الموافقة على ذلك؛‬
‫والنوم أفضل‬
‫ُ‬ ‫كالم السوء‪ ،‬والسكون أفضل من الحركة نحو الباطل‪،‬‬
‫من يقظة في الحرام‪ ...‬ذلك ك ُّله ندركه بوجداننا اإليماني‪ .‬ولذلك فقد‬
‫يكون ما يرمي إليه الحديث الذي نحن بصدد شرحه أحد أمرين‪:‬‬
‫المتعارف؛ بمعنى أنّ‬
‫َ‬ ‫األول‪ :‬التمييز على أساس التصنيف‬ ‫ّ‬
‫اإلنسان ّإما أن يعمل في ما يص ّنفه الناس على أنّه من شؤون الدنيا‪،‬‬
‫مما يطلب اإلنسان من خالله‬ ‫كالتجارة والصناعة وما إلى ذلك‪ّ ،‬‬
‫وإما أن يعمل في ما‬
‫لذته‪ّ ،‬‬ ‫تحقيق معيشته‪ ،‬وزيادة ثروته‪ ،‬وتحقيق ّ‬
‫وحج‬
‫ّ‬ ‫يص ّنفه الناس من شؤون اآلخرة‪ ،‬كالعبادات من صالة وصوم‬
‫وما إلى ذلك‪.‬‬
‫لما‬ ‫الثاني‪ :‬التمييز على أساس األدنى واألعلى؛ ْ‬
‫أي إنّ الله تعالى ّ‬
‫تنوعها‪،‬‬
‫أباح لإلنسان السير في األرض واألخذ بزينة الحياة الدنيا على ّ‬
‫وإما‬
‫بحدها األدنى‪ ،‬وهو أن يطلبها من حاللها‪ّ ،‬‬ ‫فهو ّإما أن ينشغل ّ‬
‫بحدها األعلى‪ ،‬وهو أن يجعل حركته في ذلك الحالل ألجل الله‬ ‫ّ‬
‫والعمل الذي هو ّ‬
‫محل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫العبادة‬ ‫ليتقوى بها على‬
‫تعالى‪ ،‬تما ًما كمن يأكل ّ‬
‫ً‬
‫نشاطا‬ ‫صحة تنعكس‬ ‫يتريض ألجل أن تكون له ّ‬ ‫رضى الله‪ ،‬أو الذي ّ‬
‫مما يكون في‬ ‫لتحقيق أهدافه التي ت ّتصل بالله تعالى‪ ،‬وما إلى ذلك ّ‬
‫يصب ثمره في اآلخرة؛ والله العالِم‬
‫ُّ‬ ‫الدنيا‪ ،‬ولك ّنه الذي‬
‫الحقيقة شغل ّ‬
‫بحقائق األمور‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫الفردية‬
‫ّ‬ ‫أهمية الهواية‬
‫ّ‬
‫وربما يكون من المفيد لنا في نهاية المطاف أن نؤكّ د على ّ‬
‫أهمية‬ ‫ّ‬
‫الهوايات التي يجد ال ّناس أنفسهم مشدودين نحوها‪ٌّ ،‬‬
‫كل إلى هواية‬
‫محددة؛ إذ إنّ هذه الهوايات تمثّل وسيلة من وسائل الترفيه الهادف‪،‬‬ ‫ّ‬
‫يحب القيام به‪ ،‬في الوقت‬
‫ّ‬ ‫والذي يعيش فيه اإلنسان لونًا من ألوان ما‬
‫الذي ال يكون ملز ًما فيه بإلزامات العمل الجا ّد الخاضع لضغط اإلنتاج‬
‫الدنيا بما يسمح‬
‫نوع من االنشغال في أمور ُّ‬ ‫عمو ًما‪ .‬إنّ هذا الترفيه هو ٌ‬
‫يشكل عونًا على استعادة ال ّنشاط من أجل العمل‬ ‫تتروح‪ ،‬بما ّ‬ ‫للنفس بأن ّ‬
‫دوامة من الملل الذي قد‬ ‫لمجرد أن ال تقع النفس في ّ‬
‫ّ‬ ‫في يوم جديد‪ ،‬أو‬
‫يؤ ّدي في بعض تج ّلياته إلى الكآبة أو التو ّتر النفسي‪.‬‬
‫أحيانًا ننظر باستخفاف إلى هذا ال ّلون من االنشغال‪ ،‬بحيث يمارس‬
‫المجتمع على أفراده لونًا من التوجيه إلى تفاهة هذه األمور‪ ،‬أو أنّها‬
‫غير الئقة ببعض أصحاب المواقع االجتماعية‪ ،‬أو أنّها مضيعة للوقت‪،‬‬
‫نفسه ألجل جودة الحياة أو جودة‬ ‫في الوقت الذي يحتاجها اإلنسان ُ‬
‫علي ‪ Q‬في قوله‪« :‬للمؤمن ثالث‬ ‫اإلنتاج‪ ،‬على هدى ما ورد عن ّ‬
‫يرم معاشه‪ ،‬وساعة يخ ّلي بين‬
‫ربه‪ ،‬وساعة ّ‬ ‫ساعات‪ :‬فساعة يناجي فيها ّ‬
‫لذتها فيما ُّ‬
‫يحل ويجمل»(((‪.‬‬ ‫نفسه وبين ّ‬
‫ننبه إلى ضرورة أن تولي السلطات‬ ‫ومن الطبيعـي لنـا هنا أن ّ‬
‫مؤسسات تربوية وتعليمية‬
‫بلديات أو ّ‬
‫المعنية‪ ،‬سواء كانت حكومات أو ّ‬ ‫ّ‬
‫مؤسسات دينية‪ ،‬عناية بتأمين المرافق واألنشطة التي تسمح لإلنسان‬
‫أو ّ‬

‫((( نهج البالغة‪ ،‬الحكمة ‪.390‬‬


‫‪212‬‬
‫ويجم ُل» من ألوان انشغاالته في بعض‬ ‫ُ‬ ‫بأن يكون انشغاله في «ما ُّ‬
‫يحل‬
‫سيتم‬
‫ّ‬ ‫حياته؛ ألنّ الفراغ ال وجود له‪ ،‬فإذا لم ُيمأل بطريقة هادفة‪ ،‬فإنّه‬
‫مما يسلب النفس طاقتها‪ ،‬ويدخلها في حالة من‬ ‫ملؤه من خالل الكثير ّ‬
‫مما نشهد الكثير منه في مجتمعاتنا‪ ،‬حيث يجلس‬ ‫العبث أو الخمول‪ّ ،‬‬
‫فيها الشباب الذي ال يجد ً‬
‫عمل في أماكن ال ّلهو والفراغ‪.‬‬
‫المسؤولية الملقاة على عاتق‬
‫ّ‬ ‫إنّ هذا الحديث يشير إلى نو ٍع من‬
‫المخططين لحركة المجتمع‪ ،‬وهي أنّ ً‬
‫كثيرا من التعقيدات قد ال تسمح‬ ‫ّ‬
‫يتوجه الواقع‬
‫الوظيفية التي ّ‬
‫ّ‬ ‫بالقضاء على البطالة‪ ،‬في ما يرتبط بالمهن‬
‫االقتصادي والمعيشي نحوها‪ ،‬ولك ّنه يستطيع تأمين منافذ تسمح ـ في‬
‫الطاقات في بعض المجاالت غير‬ ‫توفر العمل ـ بصرف ّ‬ ‫حاالت انتظار ّ‬
‫كالتطوع‪ ،‬أو العمل في بعض الهوايات‪ ،‬أو‬
‫ّ‬ ‫صح التعبير ـ‬
‫النظامية ـ إذا ّ‬
‫حد سواء‪.‬‬
‫مما يكون فيه فائدة لصاحبها للمجتمع على ّ‬ ‫غير ذلك ّ‬
‫تغييرا في الذهنية االجتماعية التي ننظر فيها‬
‫ً‬ ‫وهذا ك ّله يتط ّلب‬
‫المسؤولية االجتماعية التي تضطلع فيها الجهات‬
‫ّ‬ ‫إلى ذلك‪ ،‬وإلى‬
‫المسؤولة‪ ،‬والتي ال تقوم فقط على ما يشبه تصريف األعمال تجاه‬
‫األزمات‪ ،‬بل إيجاد مبادرات تساهم في ح ّلها ولو في المدى البعيد‪.‬‬

‫المطالعة في ميزان الحديث‬


‫وال يفوتنا هنا أن نلفت إلى ضرورة تحويل المطالعة إلى ٍ‬
‫جزء من‬
‫الحياة اليومية‪ ،‬بحيث ال تكون مجرد ٍ‬
‫ترف يمارسه اإلنسان‪ ،‬بل هي‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫كالطعام والشّ راب ال ّلذين ال يستغني اإلنسان عنهما‪ ،‬ليكون ذلك‬
‫يوسع فيه اإلنسان أفقه‪ ،‬ويزيد من خالله معارفه‪،‬‬
‫دائميا‪ّ ،‬‬
‫ًّ‬ ‫ً‬
‫انشغال‬
‫‪213‬‬
‫ويختزن بسببه تجارب جديدة‪ ،‬ويمنعه من االستغراق في أزمات عالمه‬
‫الدنيا وال في شغل‬
‫بال ّنحو الذي يدفعه إلى الفراغ المطلق‪« ،‬ال في شغل ّ‬
‫سببا في إخراج اإلنسان‬
‫يشكل ً‬‫لعل هذا ال ّلون من العادة ّ‬
‫اآلخرة»! بل ّ‬
‫من بعض مشاكل الواقع وضغطها‪ ،‬من خالل األفكار الجديدة التي قد‬
‫يفتحها أمام عقله‪ ،‬والمسارات التي يمكن أن تبدو من خالل ذلك‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫‪37‬‬
‫ر ّد الرسالة واجب‬

‫السالم(((‪.‬‬
‫حق كر ِّد َّ‬ ‫ِ‬
‫الكتاب ٌّ‬ ‫ِ‬
‫جواب‬ ‫ر ّد‬

‫األسئلة التي تطرأ على أذهاننا‪ ،‬أو الطلبات التي نحتاج إلى تلبيتها‬
‫نحب التواصل عبرها معهم‪ ،‬هي‬ ‫من قبل اآلخرين‪ ،‬أو التعبيرات التي ُّ‬
‫حاجات تضغط‬
‫ٌ‬ ‫ثغرات في اطمئنان النفس المعرفي أو النفسي‪ ،‬وهي‬ ‫ٌ‬
‫على حياتنا التي ال تهنأ إ ّ‬
‫ال حين تُمأل‪.‬‬
‫الدائرة التواصلية بين‬
‫يطرح ُه هذا الحديث هو ضرورة وصل ّ‬‫ُ‬ ‫ما‬
‫جوابي؛‬ ‫ٍ‬
‫وإرسال‬ ‫ٍ‬
‫استقبال‬ ‫ٌ‬
‫مرسل من دون‬ ‫األفراد‪ ،‬بحيث ال يكون هناك‬
‫ّ‬
‫يعزز الحافز نحو المزيد من‬‫ألنّ هذا ال ّلون من الوصل هو الذي ّ‬
‫التواصل في المستقبل‪.‬‬

‫احترام لشخصك‬
‫ٌ‬ ‫احترام اآلخر‬
‫جاب عليها‪ ،‬قد يشعر بعدم التقدير من قبل‬ ‫ُ‬
‫يرسل رسالة ال ُي ُ‬ ‫فالذي‬
‫المرس ِل إليه‪ .‬وإذا كانت الرسالة تعكس حاج ًة يطلبها‪ ،‬فإنّ عدم اإلجابة‬
‫َ‬
‫الطلب تُشعر الطالب باإلذالل المضاعف؛ ّأوله بسبب طلب‬ ‫على ّ‬

‫((( السيوطي‪ ،‬جالل الدين‪ ،‬الجامع الصغير‪ ،‬ج ‪ ،٢‬ص ‪.١٤‬‬


‫‪215‬‬
‫السؤال!»(((‪ ،‬والثاني عدم‬
‫ذل ّ‬ ‫الحاجة إلى الغير‪ ،‬فإنَّ «الموت أهون من ّ‬
‫التعويض عن هذا الشعور السلبي من خالل ر ّد الجواب‪.‬‬
‫جواب على السؤال‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫المرس ِل إليه‬
‫َ‬ ‫ليس بالضرورة أن يكون لدى‬
‫مجرد الر ّد يعكس االهتمام‬
‫ولكن ّ‬ ‫َّ‬ ‫تبينها الرسالة‪،‬‬
‫وال تلبية للحاجة التي ّ‬
‫ِ‬
‫واالحترام لموقع المرسل‪ ،‬بينما يمثّل اإلهمال موق ًفا ً‬
‫سلبيا وإهان ًة له‪.‬‬
‫وقد نجد في واقعنا المعاصر‪ ،‬أنّ انقطاع دائرة اإلجابة على الرسائل‬
‫قد يتأ ّثر بزيادة منسوب الشّ عور باألنا واالستعالء لدى بعض األشخاص‬
‫أو الجهات‪ّ ،‬إما لموقعٍ سياسي أو اجتماعي أو لحالة غ ًنى أو غير ذلك‪،‬‬
‫ٍ‬
‫رسالة‬ ‫بحيث ال يعود يشعر بأنّ من المناسب لمقامه أن يجيب على‬
‫عامة الشّ عب‪ ،‬أو يعيش في قعر المجتمع في ما يمنحه‬ ‫ٌ‬
‫إنسان من ّ‬ ‫أرسلها‬
‫المجتمع ألفراده من ِق َيم المواقع المختلفة‪ ،‬أو يعيش في فقر مدقع‪.‬‬
‫ٍ‬
‫حالة ال يعود يلتفت‬ ‫ولعل اإلنسان من هؤالء المستعلين قد ُ‬
‫يصل إلى‬ ‫ّ‬
‫فيها إلى مشاعر اآلخرين بالك ّلية‪.‬‬
‫في وسائل التواصل االجتماعي اليوم العديد من الرسائل التي‬
‫ولكن الملحوظ‬
‫ّ‬ ‫تنتشر بين ال ّناس في المناسبات االجتماعية واألعياد‪،‬‬
‫أنّ إهمال الرسائل تلك بات سمة بارزة! ال يخفى أنّ إمكانية اإلرسال‬
‫المرسل إليه قد تساهم بذلك‪ ،‬بحيث يقوم‬ ‫المتعدد ح ّتى من دون ِ‬
‫لحظ‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫اإلنسان بإرسال رسالة ما إلى الئحة بأرقام الهواتف أو الئحة األصدقاء‬
‫أو المتابعين المحفوظة لديه في مواقع التواصل االجتماعي‪ ،‬فتفقد هذه‬
‫خصوصيتها بالنسبة لألفراد الذين يتلقّونها‪ ،‬وبالتالي ال يشعرون‬
‫ّ‬ ‫الرسالة‬
‫علـي بن محمـد الليثي الواسطي‪ ،‬عيون الحكم والواعظ‪ ،‬ص ‪ ،25‬حديث رقم‬
‫ّ‬ ‫((( ‬
‫‪.253‬‬
‫‪216‬‬
‫طبعا ال ننسى أنّ مثل هذه الرسائل تكاد‬
‫معنيون باإلجابة عليها‪ً .‬‬
‫بأنّهم ّ‬
‫منسقة‪،‬‬
‫منمقة‪ ،‬وجملها ّ‬
‫تخلو من المشاعر الحقيقية مهما كانت ألفاظها ّ‬
‫شخصيا‪ ،‬وما لم يكن كذلك‬
‫ًّ‬ ‫ومعانيها جميلة؛ ألنّ التواصل ال يكون ّإل‬
‫يفقد معناه‪.‬‬
‫دورا في إفقاد الناس‬
‫هذا األمر يحتاج إلى التفاتة حقيقية؛ ألنّه يؤ ّدي ً‬
‫اآللية الجامدة‬
‫الفعال‪ ،‬ويحيلهم إلى الحالة ّ‬
‫وسيلة من وسائل التواصل ّ‬
‫الحي في عالقات ال ّناس بعضهم ببعض‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التي يسلب المعنى‬

‫تربوية‬
‫ّ‬ ‫وقفة‬
‫ٍ‬
‫وجوب لر ّد الرسالة‪ ،‬تما ًما كما‬ ‫أي حال‪ ،‬قد يمثّل الحديث عن‬
‫على ّ‬
‫يتضمنه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫السالم الذي‬ ‫ً‬
‫وصل لدائرة معنى ّ‬ ‫السالم‪،‬‬
‫هو الوجوب في ر ّد َّ‬
‫يعم وينتشر‪.‬‬
‫والذي ينبغي أن ّ‬
‫األدبيات التي‬
‫ّ‬ ‫وتوج َهه على‬
‫ُّ‬ ‫يربي وجدانه‬
‫الهام لإلنسان أن ّ‬
‫ّ‬ ‫ومن‬
‫بمسؤولية بذل الخير لآلخرين‪ ،‬وما يمكن أن يؤ ّثر فيه‬
‫ّ‬ ‫تعزز الشّ عور‬
‫ّ‬
‫البخل ببذل الخير‪ ،‬أو االستكبار عليهم بر ّد الجواب على الرسالة‪،‬‬
‫تفريجا عن‬
‫ً‬ ‫لهم‪ ،‬أو‬‫تنفيسا ٍّ‬
‫ً‬ ‫فربما يكون في الجواب بلسمة لجرح‪ ،‬أو‬ ‫ّ‬
‫محروم من‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫وأقل ما ُيقال في البخيل أنّه‬ ‫ٍ‬
‫كرب‪ ،‬أو استعادة لثقة نفس‪.‬‬
‫المسؤولية‪ّ ،‬‬
‫فأقل ما يقال‬ ‫ّ‬ ‫سد حاجات ال ّناس‪ .‬وإذا كان في موقع‬ ‫نعمة ّ‬
‫ومسؤولية المنصب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مفر ٌط بأمانة الموقع‪،‬‬
‫فيه إنّه ّ‬
‫مجرد الر ّد على‬
‫ّ‬ ‫يبقى ضرورة االلتفات إلى أنّ المطلوب ليس‬
‫مراعيا للمرسل وظروفه‪ ،‬والهدف‬
‫ً‬ ‫بد أن يكون الر ّد‬
‫الرسالة‪ ،‬بل ال ّ‬
‫‪217‬‬
‫الذي يسعى لبلوغه من خالل رسالته‪ ،‬وهذا يتط ّلب اختيار الكلمات‬
‫مما يخلق حالة من التفاعل اإلنساني‬
‫واألسلوب إضافة إلى المضمون‪ّ ،‬‬
‫والرسالة والمرسل إليه‪.‬‬
‫بين المرسل ّ‬

‫المتسرع‬
‫ِّ‬ ‫ّ‬
‫التفكر ُيغني عن عواقب الر ّد‬
‫بنت ظروفها‪ ،‬وقد‬ ‫بد من وعي أنّ الرسالة هي ُ‬ ‫إضافة إلى ذلك‪ ،‬ال ّ‬
‫مستفزة للمرسلة‬ ‫ّ‬ ‫آنية‪ ،‬وقد تحمل مضامين‬ ‫تكون ناشئة من انفعاالت ّ‬
‫إليه‪ ،‬وقد تثير لديه أحقا ًدا دفينة‪ ،‬أو تخلق مشاعر سلبية لم تكن‬
‫الرسالة‪ ،‬أق ّله ح ّتى تبرد المشاعر‪،‬‬ ‫موجودة‪ .‬هنا قد يتط ّلب األمر إهمال ّ‬
‫أو إهمال بعض مضمونها‪ ،‬والر ّد على البعض اآلخر‪ ،‬على طريقة ما‬
‫علي ِه‬
‫وأظه َر ُه الل ُه ْ‬
‫َ‬ ‫أت ِبه‬
‫﴿فلما َّنب ْ‬
‫ّ‬ ‫حكاه الله تعالى من فعل ال ّنبي ‪:P‬‬
‫بعض﴾(((‪ ،‬وقد يقتضي األمر الر ّد على‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬
‫وأعرض عن‬ ‫عر َف َ‬
‫بعضه‬ ‫َّ‬
‫الدفع بالتي‬
‫السلبي‪ ،‬وهو من باب ّ‬
‫الرسالة بغير ما يقتضيه مضمونها ّ‬
‫تلمس الخيارات‬
‫والروية في ّ‬
‫ّ‬ ‫أحسن(((‪ .‬وهذا ك ّله يتط ّلب الحكمة‬
‫ُ‬ ‫هي‬
‫الفضلى‪ ،‬بحسب األشخاص والمضامين واألساليب التي تشتمل‬
‫تغيرها‪،‬‬
‫عليها الرسائل‪ ،‬وكذلك بحسب الظروف المحيطة وإمكانية ّ‬
‫األخالقية التي يستند إليها اإلنسان في التعامل مع‬
‫ّ‬ ‫إضاف ًة إلى القواعد‬
‫اآلخرين‪ ،‬إيجاب ًا أو سلب ًا‪.‬‬

‫((( سورة التحريم‪ ،‬اآلية ‪.3‬‬


‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫((( كما ورد في قوله تعالى‪﴿ :‬ا ْد َف ْع بِا َّلتي ه َي أ ْح َس ُن َفإِذا ا َّلذي َب ْي َنك َو َب ْي َن ُه َعدَ َاو ٌة َكأ َّن ُه َول ٌّي‬
‫يم﴾ [فصلت ‪.]34 :‬‬ ‫ِ‬
‫َحم ٌ‬
‫‪218‬‬
‫‪38‬‬
‫العلم باهلل‬

‫سأل رجل رسول الله‪ P‬عن أفضل األعمال‪ ،‬فقال‪:‬‬


‫العلم بالله والفقه في دينه‪،‬‬
‫وكررهما عليه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ّ‬
‫يا رسول الله أسألك عن العمل فتخبرني عن العلم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫وكثيره‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ينفعك معه قليل العمل‬
‫ّإن العلم ُ‬
‫وإن الجهل ال ينفعك معه قليل العمل وال كثيره(((‪.‬‬
‫ّ‬

‫أساسيا في حركة اإلنسان في هذه الحياة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الحديث يعكس مبدأ‬


‫بد أن يخدم‬ ‫حيث ُّ‬
‫كل ما يسعى إليه اإلنسان أو يحصل عليه‪ ،‬أو يبنيه‪ ،‬ال ّ‬
‫بناء اإلنسان أو تحقيقه ألهدافه الفكرية والروحية والعملية‪ ،‬في مسيرة‬
‫فثمة حقيقة قرآنية يختصرها قوله تعالى‪﴿ :‬إنّا‬
‫اإلنسان إلى الله سبحانه‪ّ .‬‬
‫إلي ِه ِ‬
‫راجعونَ ﴾(((‪ ،‬حيث وجودنا ك ّله له نقطة بداية ونقطة نهاية‪،‬‬ ‫ِ‬
‫لله وإنّا ْ‬
‫بالعبودية المطلقة لله تعالى‪ .‬وبذلك فإنّ‬
‫ّ‬ ‫وهو فيما بين ذلك ا ّتصاف‬
‫بالدنيا فقط‪ ،‬وإنّما تشمل اآلخرة ً‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫حياة اإلنسان ال تنحصر ُّ‬

‫(( ( المتقي الهندي‪ ،‬كنز العمال‪ ،‬ج ‪ ،١٠‬ص ‪ .١٤٤‬تنبيه الخواطر ونزهة النواظر‪ ،‬ج‪،١‬‬
‫ص‪.٩٠‬‬
‫(( ( سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.156‬‬
‫‪219‬‬
‫وصف اإلنسان هو أنّه خليفة الله في‬ ‫َ‬ ‫وثمة حقيقة ثانية‪ ،‬وهي أنّ‬
‫ض َخ ِلي َف ًة﴾(((‪.‬‬ ‫اع ٌل ِفي َ‬
‫األ ْر ِ‬ ‫الئِ َك ِة إِنِّي َج ِ‬
‫ال َر ُّب َك لِ ْل َم َ‬ ‫﴿وإِ ْذ َق َ‬ ‫األرض‪َ :‬‬
‫وأما الحقيقة الثالثة فهي أنّ الله تعالى هو الحقيقة المطلقة‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫ّ‬
‫﴿ َذلِ َك بِ َأ َّن ال َّل َه ُه َو ا ْل َح ُّق َو َأ َّن َما َي ْد ُعونَ ِمن ُدونِ ِه ُه َو ا ْلب ِ‬
‫اط ُل﴾(((‪َ ﴿ ،‬ف َما َذا‬ ‫َ‬
‫ال ُل َف َأنَّى ت ُْص َر ُفونَ ﴾(((‪.‬‬ ‫الض َ‬‫َب ْعدَ ا ْل َحقِّ إِ َّال َّ‬

‫ميادين العلم النافع‬


‫بد أن ي ّتصل‬
‫أي علمٍ يسعى إليه اإلنسان ال ّ‬ ‫استنا ًدا إلى ذلك‪ ،‬فإنّ ّ‬
‫مجرد‬
‫بالله تعالى‪ ،‬بحيث يكون الله غاي َته ومآله‪ .‬وبذلك ال يغدو العلم ّ‬
‫يتحول إلى ذلك ك ِّله ًّ‬
‫مندكا‬ ‫ّ‬ ‫معارف أو اكتشافات نظرية أو عملية‪ ،‬وإنّما‬
‫بالقيمة الحقيقية لهذا الوجود‪ ،‬وهذه القيمة ليست سوى ما ارتبط بالله‬
‫ّ‬
‫وجل‪.‬‬ ‫عز‬
‫ّ‬
‫مثل عن خالق هذا الكون‬ ‫فعندما تبحث الفيزياء أو العلوم الطبيعية ً‬
‫عما إذا كان البحث يستهدف فهم طبيعة‬ ‫طعم آخر‪ ،‬يختلف ّ‬‫فسيكون لها ٌ‬
‫تتحرك العلوم اإلنسانية في فهمها‬
‫ّ‬ ‫حركة الكون فقط‪ ،‬وكذلك عندما‬
‫لإلنسان وللمجتمع وحركته‪ ،‬وكيف لهذا العلم أن يكشف القواعد التي‬
‫تسهل انقياد الفرد والمجتمع إلرادة الله في الحياة‪.‬‬
‫ّ‬
‫ومن خالل ذلك ك ّله يكون قليل العلم الم ّتصل بالله ً‬
‫كثيرا من‬
‫يثمر الله تعالى آثاره بشكل‬
‫خالل عمق ارتباطه بحقيقة الوجود‪ ،‬الذي ّ‬

‫(( ( سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.30‬‬


‫(( ( سورة الحج‪ ،‬اآلية ‪.62‬‬
‫(( ( سورة يونس‪ ،‬اآلية ‪.32‬‬
‫‪220‬‬
‫عالم خير من‬
‫مما يبذله اإلنسان فيه‪ ،‬ولذا كانت ركعتان يصليهما ٌ‬
‫أوسع ّ‬
‫ٍ‬
‫صلوات يؤديها عابدٌ جاهل لحقيقة ما هو فيه!‬
‫في مقابل ذلك‪ ،‬قد تفهم مفردة «العلم بالله» على أنّها علوم العقيدة‬
‫األهمية ألي علوم أخرى عاش اإلنسان عمره وهو‬ ‫ّ‬ ‫فقط في مقابل فقدان‬
‫ولكن ذلك فهم مجتزأ؛ لسببين؛‬ ‫ّ‬ ‫يسعى الكتشاف قواعدها وظواهرها‪.‬‬
‫األول‪ ،‬أنّ علم العقيدة نفسه يأخذ ً‬
‫كثيرا من مفرداته من العلوم التجريبية‬ ‫ّ‬
‫زاخر بالحديث‬
‫ٌ‬ ‫تأملنا فيها‪ ،‬والثاني‪ ،‬أنّ القرآن الكريم‬
‫واإلنسانية لو ّ‬
‫عن النظر في الكون والخلق واإلنسان‪ ،‬وفي ذلك ك ّله يستخدم القرآن‬
‫الكريم مصطلح (اآلية) و(اآليات)‪ ،‬والتي هي العالمة والعالمات على‬
‫والمدبر والمهيمن والحكيم‪ ،‬وسائر الصفات التي‬ ‫ّ‬ ‫الموجد والخالق‬
‫تربط بين الظواهر الكونية واإلنسانية وبين الله تعالى‪.‬‬

‫االنشغال العلمي انشغال ديني‬


‫تعارض بين انشغال اإلنسان بألوان‬‫ٌ‬ ‫ثمة‬
‫بهذا المعنى‪ ،‬ال يعود ّ‬
‫التخصصات العلمية ش ّتى التي تراكمت منذ تاريخ البشرية‪ ،‬وبين إيمانه‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫بالله‪ ،‬بل يتجانس اإليمان مع الحركة العلمية‪ ،‬ليشعر العالم والباحث‬
‫يسبح مع الكون من خالل ما يكتشف‪،‬‬ ‫أنّه في ميدان عبادة‪ ،‬عندما ّ‬
‫منبع‬
‫الله ـ ُ‬
‫ويتوازن اإلنسـان في مسـار االستفادة من العلم‪ ،‬ليكون ُ‬
‫يحدد طريقة استثمار االكتشافات‪ ،‬وهو طريق الخير ال‬ ‫القيم ـ هو الذي ّ‬
‫الشر‪ .‬وهذا هو المسار الذي يختلف فيه المؤمن عن غير المؤمن‪،‬‬ ‫طريق ّ‬
‫شخصيته ورؤيته‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫أصيل في حركة‬ ‫حيث يكون السعي بالعلم إلى الخير‬
‫وجل‪ .‬ويحضرنا هنا‬‫ّ‬ ‫عز‬
‫للحياة؛ ألنّه نابع من عقيدته بارتباطه بالله ّ‬

‫‪221‬‬
‫النبي ‪ P‬يشير فيه إلى حالة التقوى في حركة العلم‪« :‬من‬
‫حديث عن ّ‬‫ٌ‬
‫كان بالله أعرف كان من الله أخوف»(((‪.‬‬
‫يبقى أن نشير إلى نقطة‪ ،‬وهي أنّ هذا الربط ليس مصادر ًة مسبقة‬
‫بد أن يبدأ من‬ ‫لعملية البحث‪ ،‬حتى يقال إن الباحث عن الخالق ال َّ‬
‫يحق له أنَّ يؤمن أن للكون خالقًا قبل أن يقيم الدليل‬
‫الصفر‪ ،‬بمعنى أنه ال ّ‬
‫عليه‪ ،‬وهذا يقتضي أنّه يتشارك مع غير المؤمن المسار نفسه في البحث‬
‫لعل ما يرمي إليه هذا الربط هو اإلشارة إلى أنّه‬‫عن ما وراء الكون‪ .‬بل َّ‬
‫حافزا‬
‫ً‬ ‫إنصات العالِم الذي يبحث عن الله إلى صوت الفطرة‬ ‫ُ‬ ‫قد يكون‬
‫لعدم استسهال حسم الجواب بنفي عالقة الكون بشي وراءه‪ ،‬ذلك‬
‫الذي وقع فيه كثير من الباحثين في مجال العلوم الطبيعية واإلنسانية‪،‬‬
‫مما دفعهم إلى اإللحاد! في الوقت الذي يقتضي البحث العلمي نفسه‬ ‫ّ‬
‫عدم الحسم البات بالنفي؛ ألن عدم وجود دليل ـ على الفرض ـ ال يعني‬
‫الدليل على النفي‪ ،‬بل يمكن ـ بمنطق العلم نفسه ـ أن يحمل المستقبل‬
‫أو إعادة البحث بعض المعطيات الجديدة التي تقلب النتائج األولى‬
‫رأسا على عقب‪ ..‬وهذا ما يدفعنا إلى القول إن الملحد هو في عمقه‬ ‫ً‬
‫شاك وليس مؤم ًنا بالعدم تجاه الخالق وما وراء هذا العا َلم‪.‬‬
‫ٌّ‬

‫وعلى هذا فالعقيدة نفسها التي يسعى إليها اإلنسان هي عملية بحث‬
‫عملية تخضع لمصادرات معرفية يسعى اإلنسان‬ ‫ّ‬ ‫واكتشاف‪ ،‬وليست‬
‫لتبريرها؛ والله الهادي إلى سواء السبيل‪.‬‬

‫(( ( العالمة المجلسي‪ ،‬بحار األنوار‪ ،‬ج ‪ ،٦٧‬ص ‪.٣٩٣‬‬


‫‪222‬‬
‫‪39‬‬
‫أين تنمو بذرة العلم؟‬

‫كالسحاب‬‫يجيء الرجل يوم القيامة وله من الحسنات ّ‬


‫رب أنّى لي هذا‬ ‫الركام‪ ،‬أو كالجبال الرواسي‪ ،‬فيقول‪ :‬يا ّ‬
‫علمك الذي ع ّلمته ال ّناس‬
‫ولم أعملها؟ فيقول‪ :‬هذا ُ‬
‫ُيعمل به من بعدك(((‪.‬‬

‫بذل العلم هو واحد من األمور التي تلحق اإلنسان بعد موته‪ ،‬وهو‬
‫ما ورد في المروي عن رسول الله ‪« :P‬إذا مات ابن آدم انقطع عمله‬
‫ال من ثالث‪ :‬صدقة جارية‪ ،‬أو علم ينتفع به‪ ،‬أو ولد صالح يدعو‬ ‫إ ّ‬
‫له»(((‪.‬‬
‫والذي يختزنه ذلك‪ ،‬هو أنّ دور اإلنسان في عمله هو أن يحقّق‬
‫البشرية‬
‫ّ‬ ‫نوعية فيما تحتاجه‬
‫ّ‬ ‫وجوده إضافة‬
‫ُ‬ ‫للحياة شي ًئا‪ ،‬بحيث ّ‬
‫يشكل‬
‫استمر أثر هذه اإلضافة في‬
‫ّ‬ ‫مستمرا ما‬
‫ًّ‬ ‫األجر‬
‫ُ‬ ‫في ارتقائها‪ ،‬وبهذا يكون‬
‫الحياة‪ .‬وهذا ـ في الحقيقة ـ هو المعنى العميق للوجود اإلنساني؛ إذ‬
‫ليس اإلنسان بوجوده الجسدي‪ ،‬بل بوجوده الذي يخرجه من ذاته‪،‬‬

‫((( محمد بن الحسن الصفار‪ ،‬بصائر الدرجات‪ ،‬ص ‪.٢٥‬‬


‫((( ابن فهد الحلي‪ ،‬المهذب البارع ‪،‬ج ‪ ،٣‬ص ‪.٤٨‬‬
‫‪223‬‬
‫ويتحرك في مداراته لينشر عبقه ويمنح الكون‬
‫ّ‬ ‫فيضفيه على الوجود‪،‬‬
‫حياة جديدة‪.‬‬

‫ِ‬
‫العلم ال يموت بموت صاحبه‬
‫أعز ما خلقه الله تعالى‪ ،‬وهو‬
‫فاعلية ّ‬
‫ّ‬ ‫العلم يمثّل التعبير العملي عن‬
‫فاعليته هي التي تمنحه القدرة على إمداد اإلنسان‬
‫ّ‬ ‫واستمرارية‬
‫ّ‬ ‫العقل(((‪،‬‬
‫باألجر في حال حياته‪ .‬ومع أنّ العمل ينقطع بموت اإلنسان فإنّ اآلثار‬
‫التي تركها اإلنسان في حياته تبقى تعطيه؛ ألنّها ارتبطت بالحياة التي هي‬
‫أوسع من حياة الجسد‪.‬‬
‫ويحسن هنا االلتفات إلى نقطتين‪:‬‬
‫األولى‪ ،‬أنّ نشر العلم ال ينحصر في الكتاب؛ ألنّ الكتاب وسيلة‬
‫لنشر المعرفة‪ ،‬وليس هو الوسيلة الوحيدة‪ .‬وعليه يمكن لهذا الحديث‬
‫شخص في تعديل فكرة أو تصويب‬ ‫ٍ‬ ‫فكرية أ ّثرت في‬
‫أن ينطبق على ندوة ّ‬
‫ربمـا مقالة منشورة في صحيفة‪،‬‬ ‫مفهـوم‪ ،‬أو في محاضـرة أو خطبـة‪ ،‬أو ّ‬
‫ٍ‬
‫مجال من مجاالت العلوم المفيدة‪ ،‬أو دراسة‬ ‫أو إعطاء درس تعليمي في‬
‫الهامة للحياة‪.‬‬
‫علمية حول موضوع من المواضيع ّ‬ ‫ّ‬
‫واليوم بعد أن ا ّتسع نطاق التقنيات الحديثة‪ ،‬يمكن أن ينطبق ذلك‬
‫على التطبيقات الكمبيوترية والهاتفية وغيرها‪ ،‬بل على مقابلة متلفزة‪ ،‬أو‬
‫يعد وال يحصى‪.‬‬‫مما يكاد ال ّ‬
‫تعليق بسيط على شبكة التواصل‪ ،‬وغير ذلك ّ‬

‫((( كما جاء في الحديث عن اإلمام الباقر‪« :‬لما خلق الله العقل قال له أدبر فأدبر‪ ،‬ثم قال‬
‫له أقبل فأقبل‪ ،‬فقال‪ :‬وعزتي وجاللي ما خلقت خلقًا أحسن منك‪ ،‬إياك آمر‪ ،‬وإياك‬
‫أنهى‪ ،‬وإياك أثيب وإياك أعاقب»‪ .‬العالمة المجلسي‪ ،‬بحار األنوار‪ ،‬ج ‪ ،١‬ص ‪.٩٦‬‬
‫‪224‬‬
‫الثانية‪ ،‬أنّ الحديث ّقيد ما يلحق اإلنسان بعد وفاته بال ّنفع‪ ،‬فالعلم‬
‫الذي يؤجر اإلنسان عليه هو العلم النافع‪ ،‬أي الذي يبدو أثره في‬
‫اآلخرين‪.‬‬
‫وبناء على ذلك‪ ،‬قد يكون من المفيد لنا أن نلتفت إلى أنّ بعض ما‬
‫درج ال ّناس من طباعة الكتاب العزيز وكتب األدعية من أجل توزيعها‬
‫بغض النظر عن أنّ‬
‫ربطا بذكره بعد موته ـ ّ‬ ‫ربما لتكون ً‬ ‫عن روح الميت‪ّ ،‬‬
‫الميت نفسه ـ قد‬
‫الحديث يذكر أن بذل العلم ينبغي أن يكون من عمل ّ‬
‫ال يكون فيه فائدة وأثر‪ .‬ح ّتى أن ن َُس َخ الكتاب العزيز التي توزّ ع عن روح‬
‫نفع حقيقي‬‫«للب َر َكة» وال ُيقرأ فيها‪ ،‬وبذلك ال يكون فيه ٌ‬
‫الميت تؤخذ َ‬
‫في واقع األمر‪ .‬وبالتالي ينبغي لإلنسان أن يحرص على بذل ما ينفع‬
‫حمله الله تعالى ّإياها تجاه‬
‫بالمسؤولية التي ّ‬
‫ّ‬ ‫الناس انطال ًقا من إحساسه‬
‫الجاهلين؛ ألنّ المدار على ذلك النفع في األجر الدنيوي واألخروي؛‬
‫والله العالم بحقائق األمور‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫‪40‬‬
‫اإلصالح مسؤوليّة بشريّة‬

‫ال يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر‬


‫البر والتقوى‪ ،‬فإذا لم يفعلوا ذلك نُزعت عنهم‬
‫وتعاونوا على ّ‬
‫البركات‪ ،‬وس ّلط بعضهم على بعض‪ ،‬وليس لهم ناصر في‬
‫األرض وال في السماء(((‪.‬‬

‫يصب في مصلحة الحياة ويرفع من شأنها‪ ،‬وفي‬ ‫ُّ‬ ‫المعروف هو ما‬


‫اإلنسان يحافظ على صالحه في مجاالت حياته‪ ،‬ولذلك أمر الله تعالى‬
‫يصب في مفسدة الحياة واإلنسان‪ ،‬ولذلك نهى‬
‫ُّ‬ ‫وأما المنكر‪ ،‬فهو ما‬
‫به‪ّ .‬‬
‫الله تعالى عنه‪.‬‬
‫واجبا‬
‫ً‬ ‫المتوخاة‪ ،‬فيكون‬
‫ّ‬ ‫يصب مباشرة في النتائج‬
‫ُّ‬ ‫وهذا المعروف قد‬
‫مستحبا‪ .‬هذا‬
‫ًّ‬ ‫يصب بشكل بطيء وغير مباشر‪ ،‬فيكون‬ ‫ُّ‬ ‫من الله‪ ،‬وقد‬
‫يصح عكسي ًا بالنسبة‬
‫ّ‬ ‫بحسب التقسيمات الفقهية لألحكام‪ ،‬واألمر ذاته‬
‫مما يندرج تحت عنوان المنكر‪.‬‬ ‫للحرام والمكروه‪ّ ،‬‬

‫(( ( الشيخ الطوسي‪ ،‬تهذيب األحكام‪ ،‬ج ‪ ،٦‬ص ‪ ،١٨١‬ح ‪.٢٢‬‬


‫‪226‬‬
‫الواقع انعكاس لِما نحن عليه‬
‫في الحياة البشرية‪ ،‬يكون البشر هم المسؤولين عن إدارة شؤون‬
‫حياتهم وليس المالئكة‪ ،‬والله تعالى ال يحكم بشكل مباشر‪ ،‬بل وضع‬
‫قوانين وسن ًنا للحياة‪ ،‬وس ّلح اإلنسان بالعقل‪ ،‬وأنزل إليه الكتب‪ ،‬وبعث‬
‫األنبياء‪ ،‬ليكون ذلك ك ّله منهج الهداية التي يستطيع من خاللها أن يدير‬
‫شر وضرر وفساد‪.‬‬‫ونفع وصالح‪ ،‬ال فيما هو ّ‬
‫خير له ٌ‬ ‫شؤونه فيما هو ٌ‬
‫الصالح والفساد في‬ ‫وعلى هذا األساس‪ ،‬فمن هذه السنن أنّ َّ‬
‫المجتمعـات هو نتيجـة لسلـوك المجتمـع نفسه‪ ،‬سواء سلوك األفراد‬
‫أو حركة المؤسسات التي يقوم عليها المجتمـع‪ ،‬بد ًءا من األسرة‬
‫ومرورا بمجاالت الحياة وميادين العمل ك ّلها‪.‬‬
‫ً‬ ‫الدولة‪،‬‬ ‫ً‬
‫ووصول إلى ّ‬
‫والحديث الشّ ريف يؤكد على أنّ إبقاء المبادئ التي يقوم عليها‬
‫رهن بالجهد الذي يبذله أفراده تجاهها‪ .‬فلو تُرك ذلك‪ ،‬لكانت‬
‫المجتمع ٌ‬
‫حد‬
‫بالسوء كفيلة بانحراف األفراد والمجتمعات على ّ‬ ‫األمارة ّ‬
‫النفس ّ‬
‫منضمة‬
‫ّ‬ ‫البعد االجتماعي للصالح يتط ّلب جهود األفراد‬
‫سواء‪ .‬وإذا كان ُ‬
‫إلى بعضها البعض‪ ،‬فإنّ ذلك يتط ّلب تعاون ال ّناس فيما بينهم ألجل‬
‫ذلك‪.‬‬

‫معادلة السالمة االجتماعية‬


‫ولع ّلنا نلمح هنا أنّ اإلسالم ـ حيث يوجب األمر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر على الناس ك ّلهم ولو على نحو الكفاية((( ـ ال يعتبر األمر‬

‫((( المقصود بالوجوب الكفائي هو وجوبه على جميع المك ّلفين‪ ،‬ولك ّنه إذا قام به البعض‬
‫بشكل ٍ‬
‫كاف سقط عن الباقين‪.‬‬
‫‪227‬‬
‫بالسلطة السياسية فقط‪ ،‬وإنّما يكمل ما‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر ره ًنا ّ‬
‫نطلق عليه هنا «معادلة السالمة االجتماعية» التي تتأ ّلف من ثالثة عناصر‪:‬‬
‫أ ـ القانون أو الشريعة أو المبادئ‪.‬‬
‫ب ـ السلطة أو نخبة الحكم‪.‬‬
‫ت ـ الشّ عب أو المجتمع‪.‬‬
‫بد له من سلطة؛‬ ‫وإذا كان ال يمكن للقانون أن يحكم بنصوصه‪ ،‬بل ال ّ‬
‫فهذه السلطة تتركّ ز في مجموعة من الحاكمين الذين يمتلكون معايير‬
‫ولكن األمر بالمعروف‬ ‫ّ‬ ‫شرعيته‪ ،‬من خالل انتخاب ال ّناس عمو ًما‪،‬‬
‫بد أن‬ ‫وال ّنهي عن المنكر يبقيان جز ًءا من مسؤولية المجتمع الذي ال ّ‬
‫يمارس الرقابة على تطبيق هذه المبادئ من قبل السلطة وال ّناس على‬
‫﴿وا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َوا ْل ُم ْؤ ِم َن ُ‬
‫ات َب ْع ُض ُه ْم‬ ‫حد سواء‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪َ :‬‬ ‫ّ‬
‫نك ِر﴾(((‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َأ ْولِ َياء َب ْع ٍ‬
‫ض َي ْأ ُمرونَ بِا ْل َم ْعر ِ‬
‫وف َو َي ْن َه ْونَ َع ِن ا ْل ُم َ‬

‫ولكن هذا األمر يتط ّلب في العصر الحديث‪ ،‬ومع تعقيد حاالت‬
‫ّ‬
‫سية تكفل‬
‫مؤس ّ‬
‫تنظيما يرتكز إلى قواعد ّ‬
‫ً‬ ‫الصراع ومتط ّلبات التغيير‪،‬‬
‫ّ‬
‫تحركت المسألة‬ ‫ٍ‬
‫وصبها في هدف واحد‪ّ ،‬‬
‫وإل ّ‬ ‫ّ‬ ‫المتنوعة‬
‫ّ‬ ‫توجيه الجهود‬
‫خط الفوضى‪.‬‬ ‫في ّ‬

‫والدول‬
‫كثيرا من مشاكل الفساد الذي يلحق بالمجتمعات ّ‬ ‫ّ‬
‫ولعل ً‬
‫هو في فقدان العنصر الثالث من المعادلة‪ ،‬أعني الشّ عب أو المجتمع‪،‬‬
‫الصالح في مفردات حياته‪ ،‬أو في حركة‬ ‫فعاليـته في عملية ضبط ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫الحكم‪ .‬وبذلك تتحكم جماعة من الفاسدين بحياة ال ّناس‪ ،‬ح ّتى أنها‬

‫((( سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.71‬‬


‫‪228‬‬
‫لي عنق النصوص القانونية أو الشرعية‬
‫تلجأ في بعض األحيان إلى ّ‬
‫لتبرير فسادها‪.‬‬

‫مسؤولية الجماهير وإشكالية الفوضى‬


‫اإلشكالية التي أشرنا إليها‪ ،‬وهي أنّ‬
‫ّ‬ ‫يحسن ال ّت ّأمل بعمق في‬
‫نعم‪ ،‬قد ُ‬
‫مسؤولية األمر وال ّنهي بيد ال ّناس‪ ،‬قد يؤ ّدي إلى نوع من الفوضى‬
‫ّ‬ ‫جعل‬
‫واالستنسابية‪ ،‬بسبب االختالف في مستويات الوعي الجماهيري‬ ‫ّ‬
‫لمفردات األمر بالمعروف وال ّنهي عن المنكر‪ ،‬ومتط ّلبات تحقيقهما‬
‫عملية اإلصالح والتغيير المعقّدة سل ًفا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫المتوخاة في‬
‫ّ‬ ‫للنتائج‬
‫واقعيا أن ينساق ال ّناس وراء شعارات ّبراقة لإلصالح‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫فمن الممكن‬
‫أو وراء أساليب لألمر بالمعروف وال ّنهي عن المنكر‪ ،‬ناشئة من تخ ّلف‬
‫وتعصب في المنهج‪ ،‬كما شهدنا أمثاله في بعض الحركات‬ ‫ُّ‬ ‫في الفكر‪،‬‬
‫المتطرفة‪ ،‬والتي أخذت بمنطق التكفير لكل من خالفها‪ ،‬وبادرت‬ ‫ّ‬
‫إلى تطبيق حدود الله استنا ًدا إلى وجوب األمر بالمعروف وال ّنهي‬
‫الدماء‪ ،‬وهتك األعراض‪ ،‬وتمكين‬ ‫عن المنكر‪ ،‬ما أ ّدى إلى سفك ّ‬
‫األرضية للسيطرة على‬
‫ّ‬ ‫المستكبرين من رقاب المسلمين‪ ،‬ومنحهم‬
‫ودمرت وحدتهم‪ ،‬وأدخلتهم‬ ‫مقدراتهم نتيجة الفتن التي ش ّتتت قواهم‪ّ ،‬‬‫ّ‬
‫كارثي‬
‫ّ‬ ‫مما أ ّدى إلى واضع‬
‫داخلية‪ ،‬باسم تحقيق شرع الله! ّ‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫حروب‬ ‫في‬
‫الصورة التي قلبت‬
‫تطور وسائل اال ّتصال‪ ،‬ودخولنا في عصر ّ‬ ‫زاده ب ّلة ّ‬
‫طلب من هذه‬‫وشوهت القيم في عموم الجماهير؛ فكيف ُي ُ‬ ‫المفاهيم‪ّ ،‬‬
‫الجماهير أن تكون هي المبادرة لألمر وال ّنهي؟!‬
‫والجواب قد يكمن في ضرورة التمييز بين دور الجماهير‪ ،‬وهو‬
‫‪229‬‬
‫السلطة‬
‫عما يعتقدون أنّه المعروف أو المنكر‪ ،‬وبين دور ّ‬ ‫التعبير ّ‬
‫الحق بتحريك أدوات األمر وال ّنهي في عملية قيادة‬
‫ّ‬ ‫الشرعية التي تمتلك‬
‫الواقعي‪ ،‬فيكـون دور الجمـاهير ـ إضافة إلى‬
‫ّ‬ ‫الجماهير نحو التغيير‬
‫ذلك ـ دور المراقب لسالمة التطبيق عن طريقة ما تثيره من إشكاالت‬
‫السلطة‪.‬‬
‫وأسئلة أمام حركة ّ‬
‫وبعبارة أخرى؛ إنّ هناك فر ًقا بين المسؤولية االجتماعية التي تمارس‬
‫الجماهير فيها الرقابة على الحاكم‪ ،‬وتعترض عليه‪ ،‬وهي الجماهير التي‬
‫تنفعل بحركة الحاكم السياسية واالقتصادية واالجتماعية واألمنية‪،‬‬
‫العاديين‪ ،‬كما تشمل‬
‫ّ‬ ‫وهي ـ في الوقت نفسه ـ مستويات‪ ،‬تشمل ال ّناس‬
‫ممن يمثّلون األطر الوسطى‬ ‫ال ُّنخب الفكرية والثقافية والدينية‪ ،‬وغيرها ّ‬
‫في المجتمع‪ ،‬إنّ هناك فر ًقا بين ذلك وبين مسؤولية تحريك وسائل‬
‫واقعيا وعلى األرض؛ فهذا يحتاج إلى سلطة تحكمها ضوابط‬ ‫ً‬ ‫التغيير‬
‫لعفوية الجماهير؛ ألنّ ذلك‬
‫ّ‬ ‫وقواعد ون ُُظم‪ ،‬وال ُيمكن أن ُيترك األمر‬
‫مظ ّنة الفساد‪ ،‬من حيث إنّه مظ ّنة الفوضى عندما يتع ّلق األمر بقضايا‬
‫الدول والمجتمعات!‬ ‫كبرى تُعنى بها ّ‬
‫نعم قد يكون من المفيد هنا التأكيد على أهميّة الدور الذي تؤدّيه‬
‫تنوعهم‪ ،‬في‬ ‫ُ‬
‫والدعاة والمثقّفين على ّ‬
‫األطر الوسطى‪ ،‬من علماء الدين ُّ‬
‫توجه اعتراض الجماهير‪ ،‬ليكون‬ ‫ممارسة نوع من القيادة الوسطى التي ّ‬
‫ّ‬
‫األقل‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بنسبة ما‪ ،‬أو ال يؤ ّدي إلى الفوضى المفسدة على‬ ‫اعتراض ًا ّ‬
‫منظم ًا‬
‫وهو ما نالحظ فقدانه أو ضعفه أو شلل دوره في كثير من أوضاعنا‪،‬‬
‫المسدد لكل خي ٍر وصواب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والله تعالى هو‬

‫‪230‬‬
‫محتويات الكتاب‬

‫المقدّ مة ‪5. .........................................................‬‬


‫تقديم‪٩. ............................................................‬‬
‫األخوة ‪11................................................‬‬
‫ّ‬ ‫‪1.1‬معيار‬
‫‪2.2‬التأديب العاقل‪16...............................................‬‬
‫وعمل صالح ‪22..........................‬‬‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫وجدان فاعل‬ ‫‪3.3‬اإليمان‬
‫‪4.4‬جزاء األعمال ‪27...............................................‬‬
‫‪5.5‬البخل بالسالم‪36...............................................‬‬
‫‪6.6‬أحسن اإليمان‪43...............................................‬‬
‫التدخل في شغلِ الله! ‪51.......................................‬‬ ‫‪ّ 7.7‬‬
‫‪8.8‬تعجيل الخير ‪56................................................‬‬
‫تفضحنا!‪61.............................................‬‬‫ُ‬ ‫سلبيتنا‬
‫‪ّ 9.9‬‬
‫‪1010‬خيانة المجلس‪66.............................................‬‬
‫‪1111‬اإليمان وجمال المظهر! ‪70...................................‬‬
‫‪1212‬شكر النِّعمة‪ ..‬وفتنة البالء! ‪77.................................‬‬
‫‪ِ 1313‬‬
‫طاعة الله ‪81..................................................‬‬
‫‪1414‬األمور بعواقبها ‪85............................................‬‬
‫المسؤوليات وترا ُت ُبها‪91.................................‬‬
‫ّ‬ ‫‪1515‬توزّ ع‬
‫ٌ‬
‫أخالق ال تجارة! ‪98..........................................‬‬ ‫‪1616‬‬
‫‪1717‬االسترزاق عبادة ‪103.........................................‬‬
‫‪231‬‬
‫والظن والحسد ‪110.............................‬‬
‫ّ‬ ‫‪1818‬عالج الط َيرة‬
‫‪1919‬السؤال مفتاح العلم ‪114......................................‬‬
‫‪2020‬أشدّ الناس ندامة ‪120.........................................‬‬
‫‪2121‬أشدّ كم وأقواكم!‪124.........................................‬‬
‫العام ‪129....................................‬‬
‫‪2222‬االهتمام بالشأن ّ‬
‫‪2323‬ال قطيعة فوق ثالث!‪135.....................................‬‬
‫‪2424‬اإلسالم عقيدة وأثر ‪140......................................‬‬
‫الصالة من اإليمان ‪144.................................‬‬ ‫‪2525‬موقع َّ‬
‫الصبر ‪149..............................................‬‬ ‫‪2626‬أنواع َّ‬
‫عطر الدِّ ين! ‪159.....................................‬‬
‫‪2727‬الصداقة ُ‬
‫‪َ 2828‬صدَ قة اإلنسانية! ‪166.........................................‬‬
‫الضائعة! ‪170.........................................‬‬ ‫الصالة ّ‬ ‫‪ّ 2929‬‬
‫الظالم ‪175..........................................‬‬ ‫‪3030‬عالمات ّ‬
‫الوجه ْين! ‪179............................................‬‬
‫َ‬ ‫‪3131‬ذو‬
‫السيئ! ‪185........................................‬‬‫‪3232‬األرشيف ّ‬
‫‪3333‬كمال اإليمان بالمعرفة ‪190...................................‬‬
‫‪3434‬العصبية‪196..................................................‬‬
‫‪3535‬إذاعة الفاحشة ‪204...........................................‬‬
‫‪3636‬الفراغ والبطالة‪209...........................................‬‬
‫‪3737‬ر ّد الرسالة واجب‪215........................................‬‬
‫‪3838‬العلم بالله ‪219...............................................‬‬
‫‪3939‬أين تنمو بذرة العلم؟‪223.....................................‬‬
‫مسؤولية بشر ّية‪226.................................‬‬
‫ّ‬ ‫‪4040‬اإلصالح‬

‫‪232‬‬

You might also like