Professional Documents
Culture Documents
أربعون حديثًا
الن اكرم
محمد P
عن
جعفر مح ّمد
حس فضل الله
مصححة ومن ّقحة
ّ الطبعة الثانية
بريوت 1442هـ ـ 2020م
أربعون حديثًا
الن اكرم
محمد P
عن
جعفر مح ّمد
حس فضل الله
بسم الله الرحمن الرحيم
وسالم على عباده المصط َفين ،وص ّلى الله على رسوله محم ٍد ِ
وآله ّ
بالحق ،وصدح بالعدل ،وعادى ّ نورا إلى العا َلم ،فنطقَ
وس ّلم؛ أرسله ً
وقرب األبعدين إذ اقتربوا من الله ،وكان مع ِّلم مع ّلمي األقربين في اللهّ ،
َ
بعرقهِ
العا َلم ،بذرت كلماتُه في األرض بذور اإلنسانية الحقّة ،ورواها ِ
ّ َ
تمنح
أشجارا وارفة ،وحدائقَ غ ّناءُ ،
ً وجهاده ح ّتى استوت على سوقها،
نتاج ُه في َ
استطال ُ وغيره ،ح ّتى
ُ يأك ُل منها المؤمن كل ٍ
جيلُ ، ثمراتِها في ّ
رياح اإلسالم في مدى الرحمة التي حمل ْتها ُ مساحة امتداد القيم ،وسعة ّ
العا َلم.
تفسيرية
ّ وبعد ،ففكرة هذا الكتاب انطلقت من محاولة تأمين ما ّدة
ُ
الرحمة
المروية عن رسول ّ ّ مختصرة لمجموعة من األحاديث الشريفة
ينيين في دروسهم للكادر الد ّ َ
لتكون معي ًنا للمرشدين ّ محمد ،Pّ
المبرات ،وذلك في أحد األعوام السابقة التي
ّ مؤسسات
التعليمي في ّ
تمحورت حول النبي .P
5
لحظت في اختياراتها مالءمتها لحاجات التربية بالدرجة
ُ وقد
التصور
ّ األولى ،إضافة إلى تشكيلها ما ّدة ثقافية في وضوح بعض
تشكل ً
بعضا من حيوية ّ
ّ اإلسالمي لبعض المفاهيم المرتبطة بقضايا
قضايا العصر.
عادية
كان في ّنيتي في البداية أن ال يعدو شرح الحديث صفحة ّ
َ
ضغط رأيت وأنا أراجع الكتاب للطباعة أنّ االختصار
ُ واحدة ،ولكن
شرعت في
ُ بعض األفكار التي احتاجت إلى توضيح أكبر ،ولذلك
بكل حديث ،من دون التوسع ألجل إثارة أكبر قدر من القضايا المرتبطة ّ
ّ
أن يعني ذلك استنفاد اإليحاءات ك ّلها التي يمكن أن يثيرها ّ
التفكر فيها؛
يناقض مبدأ أنّنا ننتج وفق ما نقتنع به ضمن ظروف الزمان والمكان
ُ فهذا
والحاالت ،وذلك ك ُّله مالزم للنقص؛ ومنه نستمد التسديد.
العام،
واكتفيت بمبدأ الوثوق ّ
ُ السندية لألحاديث،
ّ لم أعتمد الدراسة
ٍ
شاهد من كتاب الله المستنِد إلى شهرة ِ
بعضها من جهة ،وإلى وجود
العام
ّ على بعضها اآلخر ،وإلى موافقة مضامين بعضها الثالث للمناخ
تهم اإلنسان
شرعت في االستيحاءات التي ُّ للفكر اإلسالمي ،ولذلك
مسؤولياته المحيطة به ،وكذلك في صوغه وبنائه
ّ المسلم في بعض
لشخصيته الرسالية.
ّ
وأعيد التأكيد على أنّ استيحاءات عديدة قد تفرض نفسها على
ولكن حسبي أنّ ما كتب ُته حولها ـ بتوفيق الله
ْ ٍ
حديث، المتأمل في ّ
كل ّ
مما أرجو أن يشركني في ثوابه وجل ـ قد ّ
يشكل إثارات للقارئّ ، ّ عز
ّ
بمن الله ولطفه؛ إنّه ذو فضل عظيم.
ّ
6
كما أرجو من القراء األحبة أن ال يبخلوا علي ٍ
بنقد لفكرة ،أو َّ ّ ّ
سد ٍ ٍ
نقص فيها ،أو مزيد إيضاحٍ سببا في ّ بإشكال أمام طرحٍ ،لع ّله يكون ً
وآخرا.
ً لها ،والكمال لله وحده ،والحمد لله ّأو ًل
7
منشأ فكرة األربعين حديثًا
النبي « :Pمن حفظ مما روي عن ّ نشأت فكرة األربعين حديثًا ّ
َ
ينتفعون بها في أمر دينهم بعثه الله يوم القيامة على ّأمتي أربعين حديثًا
عالما»(((.
فقيها ً
ً
يؤكّ د هذا الحديث الشريف على نقاط ّ
عدة:
1 .االنتفاع؛ فالحفظ ليس لغرض زيادة المعلومات فحسب ،وإنّما
عمليا ،سواء كان مضمونهًّ يتم تطبيق مضمون الحديث لكي ّ
شرعية. أخالقية أو ٍ
مفردة عمليا في توجيها
ً معرفيا أو
ّ ّ ًّ ًّ
أمرا في العقيدة،
معرفيا ،كما لو كان ً
ًّ 2 .إذا كان مضمون الحديث
نفسها ليس هد ُفها المعرفة فحسب ،وإنّما هدفها أنفإنّ العقيدة َ
ٍ
شيء ٍ
ثابت في تتحول فيها المعرفة إلى إيمانية، تؤسس لحالة
ّ ّ ّ
وموج ًها للسلوك العملي،
ِّ محر ًكا
الوجدان ،ويكون ـ بالتالي ـ ِّ
بما أطلق عليه القرآن الكريم عنوان (العمل الصالح).
14
بتدفّق التأثير من قبل الصديق إليه ،والمساحات التي تحتاج
إلى الحذر وتتط ّلب العمل على عكس اتجاه التدفّق في
طبعا
والتغير لديهً .
ّ الصديق،
التأثير ،فيكون التأثير منه إلى َّ
والجدلية ،نتيجـة العالقة
ّ هذا الموضوع شديـد الخطـورة
والعفويـة التي تؤ ّثـر على حركـة ّ
الصداقة ،وتخ ّفف ّ العاطفيـة
ـ عادة ـ من الحذر ،وذلك بسبب أنّ الحذر يتط ّلب أخذ مسافة،
للعفوية ،وإعمال العقل
ّ وأخذ المسافة يتط ّلب تجميدً ا ً
نسبيا
خاصة. ٍ
ظروف ّ في مقابل العاطفة ،ولو في
15
2
التأديب العاقل
ِ
الغضب(((. نهى رسول الله Pعن األ َد ِب عندَ
18
جدا ،وأوجبت الدِّ ية
استثنائية ًّ
ّ الضرب إ ّال في حاالت
فحرمت ّ
للتأديبّ ،
احمرارا أو ازرقا ًقا أو اسودا ًدا في
ً الضربعلى المعتدي إذا أوجب َّ
عما هو أكثر من ذلك ،إضافة إلى أنّ بعض حاالت استخدام الجلدً ،
فضل ّ
األبوة
الشرعية .وبذلك ال تعتبر ّّ القضائية
ّ القوة تتط ّلب اإلذن من السلطة
ّ
ومسؤولية عن ٍ
ملكية للولد ،وإنّما هي حالة رعاية وإحسان
ّ واألمومة حالة ّ
العامة للشخصية والسلوك.
التنشئة وفق منظومة القيم والقواعد ّ
ربما ال يكون من الطبيعي أن نلغي عامل يبقى أن نُشير إلى أنّه ّ
سلوكا مخال ًفا
ً الغضب واالنفعال لدى رؤية المسؤول عن التأديب
للمعايير والقيم واألحكام ،وهذا الغضب ـ في الواقع ـ ضروري
بد
لكن مع ذلك ال ّالسلوكْ ،إلعطاء الحافز نحو العمل على تعديل ُّ
عملية نقل للمعارف والمهاراتكأي ّ
دوره في التأديبّ ، للعقل أن يأخذ َ
السيد فضل الله (ره)« :الظاهر أنّ المراد بالغضب حالة
والوعي .يقول ِّ
تصرفاته؛ األمر الذي
االنفعال النفسي الذي يفقد اإلنسان معه توازنه في ّ
الشرعية المطلوبة في التأديب،
ّ قد يؤ ّدي إلى فقدان التركيز في الوسائل
بي بما ال ضرورة فيه
بالص ّ
المحرمة التي تعنف َّ
َّ فيتجاوزها إلى الوسائل
أشد في الوقت الذي تحتاج فيه الحالة
تتعدى إلى عنف ّ إلى العنف ،أو ّ
عنف َّ
أخف»(((. إلى ٍ
النبي « :Pياّ التفكر في قدرة الله وحلمه ،فقد ورد عن ّ 2.2
الرب
ّ وتفكر في قدرة ّ غضبت فاقعد
َ علي ،ال تغضب؛ فإذاّ
غضب َك
َ وحلم ِه عنهم ،وإذا قيل لك :ا ّت ِق الل َه فانبِذ
ِ على العباد
تفعيل لحضور الله تعالى ً لمك»((( .هذا األمر يتط ّلب ِ ِ
وراج ْع ح َ
جزء من المسار اإليماني البنائي
حقيقة في نفس اإلنسان ،وهو ٌ
المستمر للشخصية بطبيعة الحال .وقد ورد في الحديث عن
ّ
الحق
ّ للدنيا؛ فإذا أغضبه
يغضب ُّ
ُ علي « :Qكان Pال ّ
مما ِ
لم يعرف ُْه أحدٌ ولم يقم لغضبِه
ينتصر له» ّ ، شيء ح ّتى
(((
َ ٌ
يشير إلى تربية النفس على استضغار أي هدف يرتبط ّ
بالذات
المنفعلة تلقائي ًا مع شؤون الدنيا ،وبالتالي تحويل ّ
اتجاه النفس
العام من االنفعال الذاتي إلى تحقيق األهداف التي تتط ّلبها
مصلحة الموقف.
عذا َب ُه»(((.
الغضب من
َ 5.5الوضوء ،فقد ورد عن رسول الله « :Pإنّ
فليتوضأ»(((.
ّ أحد ُكم
غضب ُ
َ
الغضـب
َ علي « :Qداووا
ّ الصمـت ،فقـد ورد عن
َّ 6.6
بالص ِ
مت»(((. َّ
((( تنبيه الخواطر ،ج ،1ص.121
((( بحار األنوار ،ج ،73ص ،263ح.7
((( الترغيب والترهيب.16 / 450 / 3 :
((( م.ن .19 / 451
((( غرر الحكم.5155 :
21
3
ٌ
وعمل صالح وجدان فاعل
ٌ اإليمان
قلبا وتجسيدً ا
اإليمان ً
إنّ افتراض أنّ اإليمان يمكن أن يحصل لدى اإلنسان من دون
أمر أقرب ما يكون إلى الوهم منه إلى الحقيقة؛ ألنّ عبادية هو ٌ
ّ ممارسة
حيز الفكرة التجريدية النظرية
فقدان هذا الجانب ال يخرج اإليمان من ّ
إلى حالة الشعور واإلحساس الوجداني ،كما أنّ طبيعة المجال الما ّدي
الذي نعيش فيه سيح ّفز انغماس اإلنسان فيه إلى الدرجة التي تستحوذ
على األحاسيس والمشاعر ،فال تعود تنطلق خارج أفق الما ّدة لتحاكي
وجدانيا.
ً تتحسسه
ّ نظريا ولك ّنها ال
تؤمن به ًّ
عالما ورا َءها ُ
ً
وجدانيا ،أصبحت
ًّ وشعورا
ً فكرا ُ
اإلنسان الل َه في ذاتهً ، وإذا َ
عاش
بحب ،ويغدق عليه تلقائية تجاه ما يوافق رضاه ،ويباد ُل ُه الله ُح ًّبا ّ
ّ حركته
القدسي(((« :ما
ّ من ألطافه ونعمه ،على النحو الذي أشار إليه الحديث
إلي
ليتقرب ّ
ّ مما افترضت عليه ،وإنّه إلي ّ
أحب ّإلي عبد بشيء ّ تقرب َّ
كنت َس ْم َعه الذي يسمع به ،وبصره الذي بالنافلة ح ّتى أحبه ،فإذا أحبب ُته ُ
يبصر به ،ولسانه الذي ينطق به ،ويده التي يبطش بها ،إن دعاني أجبته،
وإن سألني أعطيته»(((.
ربمــا يكــون
المتضمــن لــكالم اللــهّ ،
ّ ((( الحديــث القدســي مصطلــح يــراد بــه الحديــث
مــن دون أن P ـي مســتقًى مــن كتـ ٍ
ـاب آخــر ،أو مــن وحــيٍ ألنبيــاء ســابقين أو للنبـ ّ
يكــون جــز ًءا مــن القــرآن الكريــم.
(( ( الشيخ الكليني ،الكافي ،ج ،2ص ٧ /٣٥٢و ح .٨
25
تربوية
ّ عملي ٌة
َّ خلوص اإليمان في القلب هو
َ انطال ًقا من ذلك ،فإنّ
بد أن تؤ ّدي في نهاية المطاف إلى تحقيق التجانس بين تراكمية ،ال ّ
ّ
داخل اإلنسان (وجدانه اإليماني) وبين خارجه (العمل الصالح) ،وهذا
دائما بين اإليمان وبين
القرآنية التي ربطت ً
ّ ما تؤكّ د عليه عشرات اآليات
العمل الصالح.
بنا ًء على ذلك ً
أيضا ،تكون فكرة التفكيك بين اإليمان وبين العمل
خط رضىتتحرك في ّ
والممارسة ،غير صحيحة؛ ألنّ الممارسة التي ال ّ
الله تعالى تشير إلى أنّ القلب ال يعيش صفاء اإليمان وخلوصه ،على
طريقة الشاعر الذي قال:
بديــع ِ
الفعال مرك في
ُ هذا َلع ُ تعصي اإلله وأنت تُظهر ُح َّب ُه
مطيع
ُ حب
المحب لمن ُي ُّ
َّ إنَّ كان ُح ُّب َك صاد ًقا ألطع َت ُه
لو َ
26
4
جزاء األعمال
(( ( الشيخ الصدوق ،ثواب األعمال ،ص ٥؛ الهيثمي ،مجمع الزوائد ،ج ،١ص .١٨
((( سورة النساء ،اآلية .123
27
النبي Pقد ترجمه
ّ وحساسيته نجد أنّ
ّ وألهمية هذا الجانب
ّ القيامة.
عام في آخر حياته كما سيأتي. ٍ
توجيه ٍّ في
أهم األمور
للسالم مضمونه العميق في حياة اإلنسان ،وهو أحد ّ
التي جاءت بها الرساالت وبعثت من أجلها الرسل؛ وهذا ما نستوحيه
مبرر جعل اإلنسان آدم ،حيث كان سؤال المالئكة عن ّ قصة َ ّأو ًل من ّ
خليفةَ ﴿ :قا ُلو ْا َأت َْج َع ُل ِف َيها َمن ُي ْف ِسدُ ِف َيها َو َي ْس ِف ُك الدِّ َماء﴾((( ،فمراد
يتحرك اإلنسان ُليصلح في األرض ويحقن ّ الله تعالى من الخالفة أن
والرسل ،وأنزلت ُ ِ
الدماء ،كهدف استراتيجي أرسل من أجله األنبياء ّ
من أجله الكتب لتواكب مسيرة اإلنسان على األرض ّ
وتطور أوضاعه
بفعل حركة الزمن ،وهذا ال يكون ّإل من خالل إشاعة السالم في كل
مجاالت الحياة وعالقات اإلنسان فيها.
اسم من أسماء الله الحسنى التي أمرنا أن
السالم ٌ ّ
ولعل وعي أنّ ّ
نتقرب بها إليه تعالى ،يعطي
السبل التي ّ ندعوه بها ،فتكون ً
سبيل من ُّ
متأصلة ،تُكسب الوجود ّ وجودية
ّ للسالم معنى الثبات كحقيقة
َّ
((( أمالي المفيد ،ص .317
((( سورة البقرة ،اآلية .30
36
خيارا ُيفرض على اإلنسان من
ً اإلنساني معناه ،أكثر من كونها
خارجه بهدف تحقيق مصلحة االجتماع البشري فقط ،وال ترتبط
بطبيعته اإلنسانية.
﴿و َأن ت َْع ُفو ْا َو ْل َي ْص َف ُحوا َأ َل ت ُِح ُّبونَ َأن َيغْ ِف َر ال َّل ُه َل ُك ْم﴾((( وقوله تعالىَ :
َأ ْق َر ُب لِل َّتق َْوى﴾((( ،ولزوم الجنوح نحو السالم وقبوله عندما يعلن
اج َن ْح َل َها ِ
لس ْل ِم َف ْ﴿وإِن َج َن ُحو ْا ل َّ اآلخرون االلتزام به ،وهو قوله تعالىَ :
َوت ََو َّك ْل َع َلى ال ّل ِه﴾((( ،وغير ذلك.
انجر الكالم إلى الحديث عن
ّ ومما ينبغي التأكيد عليه هنا ،وقد
ّ
السالم كهدف استراتيجي ،أمران: ّ
38
السالم مع هؤالء
أي حديث عن ّ َظ َل ُموا ِم ْن ُه ْم﴾((( ،األمر الذي يجعل ّ
للقوة وموازينها،
لتبعية مبدأ العدل ّ
وتكريسا ّ
ً للحق،
ّ تشريعا للظلم مبدأ
ً
ال للمعايير الموضوعية التي ُيقاس بها الفعل هنا وهناك.
سالم ال ّلقاء
التحية ،يهدف ّ للسالم في انطال ًقا من هذا ّ
الجو ،فإنّ التزام اإلسالم َّ
وروحيته في الذهن ،بحيث ّ إلى الربط بين ال ّلقاء وبين فكرة السالم
ٍ
وروحيتيهما؛
ّ أي لقاء بين اثنين مح ّف ًزا لهذا المعنى في ّ
ذهنيتيهما يكون ّ
فإذا كانت هناك عداوة سابقة على ذلك اللقاء ،كان ذكر السالم مح ّف ًزا
السالم تنافر في العالقات كان ّ ثمة ٌ لتخفيف مشاعر العداوة ،وإذا كان ّ
الحق تبارك ّ باعثًا على إعادة ال ُّلحمة ،وبالتالي البحث ّ
عما يريده
الذهنية ٍ
موقف جديد يرتكز إلى تلك وعما يقتضيه العدل من
ّ وتعالىّ ،
والروحية.
ّ
األجر منه كما ورد عن اإلمام
ُ وألنّ السالم ٌ
أمر من الله تعالى ،وعليه
تسع وس ّتون للمبتدئ ،وواحدةالحسين « :Qالسالم سبعون حسن ًةٌ ،
السالم على الذي بيننا وبينه
فعشر» ،فلن يكون في َّ
(((
ٌ أحسن
َ للرا ّد ،وإن
أي ُذ ٍّل
حق من الحقوق ،لن يكون فيه ّ عداو ٌة أو شحناء أو ضغينة أو ّ
العزة أمام إلقاء
يسوله الشيطان لإلنسان ،لكي يدفعه إلى أن تأخذه ّقد ّ
التحية ،والحقًا أمام إصالح ذات البين ،أو الدفع بالتي هي أحسن ،وما
ّ
مما أراده الله تعالى ً
سبيل إلشاعة الطمأنينة والسالم في حياة إلى ذلك ّ
السالم
إفشاء ّ
السالم يبدأ من الداخل ،فإذا استشعره اإلنسان حقيق ًة في نفسه ،فإنّه
وحبا في نبرة الصوت ونظرات ً
انبساطا في تقاسيمهًّ ، سيبدو على وجهه
ٍ
تواصل ُيمكن السالم نفسه ـ على بساطته ـ رسالة
ُ العينين ..وبهذا يكون
مما كان. أن تعيد األمر إلى أحسن ّ
إزاء ذلك ك ّله ،يكون األجدر باإلنسان أن يفشي السالم ال أن يبخل
به ،وحيث إنّ السالم ال يك ّلف اإلنسان غير كلمة ،فإنَّ عدم إلقاء السالم
بخل على ّ
الذات، على اآلخرين يمثّل أبخل البخل؛ وهذا في الحقيقة ٌ
﴿و َمن َي ْب َخ ْل َفإِن ََّما َي ْب َخ ُل َعن َّن ْف ِس ِه﴾(((؛ ألنّ الله عندما
كما قال تعالىَ :
عامة ،فإنّ ت َْر َك ُه يمثّل حرمانًا للنفس ذاتية أو ّ يأمر بشيء لمصلحة ّ
وللمجتمع من الحصول على تلك المصلحة.
تحيـة بد في نهاية الحديث هنا من التأكيد على أنّ لكل ّ وال ّ
وصـل الدائـرة بينهما ،كما أشـار إلى ذلك قول ِ بـد مـن طر َفين ،وال ّ
﴿وإِ َذا ُح ِّي ْي ُتم بِ َت ِح َّي ٍة َف َح ُّيو ْا بِ َأ ْح َس َن ِم ْن َها َأ ْو ُر ُّد َ
وها إِ َّن ال ّل َه الله تعالىَ :
ُ
استجابة التحية هوّ َكانَ َع َلى ُك ِّل َش ْي ٍء َح ِسيب ًا﴾((( .إنّ الر ّد هنا بمثل
ولكن الر ّد باألحسن هو التعبير ّ التحية،
ّ خي ٍر لرسالة الو ّد التي تختزنها
التحية الملقاة فحسب ،وإنّما
ّ الحي ال عن االنفعال اإليجابي بمضمون
ّ
عن مبادرة مستأنَفة في زيادة منسوب الو ّد ،وعن إرادة للخير للطرف
التحايا المستوردة
الهام أن نُشير إلى الخطأ الذي يقع فيه
ّ تبقى نقطة ،وهي أنّ من
تحية اإلسالم ،وهي قول (السالم
المؤمنون عندما يشعرون بالحرج من ّ
أجنبية.
ّ عربية أو
عليكم) ،ولذلك يستبدلون بها غيرها من تحايا ّ
طبعا هذا األمر يفرضه التقهقر الثقافي والحضاري الذي تقع فيه ً
يدفعها إلى ال ّنظر إلى نفسها نظرة توهين واستخفاف المجتمعات ،ما ُ
حد جلد ّ
الذات وبعضها ُ
يصل إلى ّ ُ وتصف حالها بالتخ ّلف،
ُ بما عندها
المتقدم في ّ
كل ّ وإسقاطها أمام نظرتها إلى اآلخر الذي تراه في الموقع
ما عنده! عند هذه اللحظة تفقد المجتمعات ثقتها بنفسها ،وتصبح
يمارس ُه األفراد في
ُ التحية المستوردة هي أحد أوجه التعويض الذي ّ
تبعا للواقع الذي تلك المجتمعات تجاه نظرتهم السلبية إلى أنفسهم ً
يرزحون تحته.
التحية اإلسالمية من تركيز لثقافتنا
ّ هذا إضاف ًة إلى ما ّ
يفوته علينا ترك
فضل عنوجه نحوها اإلسالمً ، التي نعيش فيها المعاني السامية التي ّ
للسالم في نفوسنا
حاجة العالقات إلى إثارة ذلك المعنى الجميل ّ
41
حد ذاته يمثّل النقص الحقيقي لنا
عند لقائنا مع اآلخرين ،وهذا في ّ
ولمجتمعاتنا وثقافتنا.
42
6
أحسن اإليمان
وحيث أمر الله تعالى بحسن الخلق ،فإنّ اإليمان سيتج ّلى ًّ
حبا
((( ابن شهر آشوب ،مناقب آل أبي طالب ،ج ،١ص .٢٠٢
46
أي مع ًنى للبذل أو العطاء الذي يعكس مرتبة عالية من االتجاه يحقّق ّ
فضل عن أن نقول إنَّ االقتصاص إذا كانالنفسي والروحي لإلنسانً ،
سلبية تجاه اآلخر ،كأن يمتلئ قلبه بالعداوة والكراهية،
نابعا من حالة ّ ً
أخالقي بطبيعة الحال.
ّ سلبي ال
ّ فهنا نكون أمام مع ًنى
األخالقية
ّ إنّ الحديث عن كون األخذ بالحقوق ال ينافي الحالة
انعكاسا لحالة روحية ونفسية
ً إنّما يثبت في حالة ال يكون ذلك األخذ
حقّ .أما معقّدة تجاه اآلخر ،ويكون بالتالي مجرد ٍ
أخذ لما لإلنسان من ّ ّ
داخلي يجب أن يأخذ مكانه ليعتدل
ّ إصالح
ٌ عندما يكون كذلك ،فهناك
الموقف.
47
متعددة ،كالكرم والجود والتضحيةّ ً
أشكال هذا العطاء قد يأخذ
األخالقية ،التي تستند
ّ والمساعدة والصدقة والحلم وغيرها من القيم
أساسيين:
ّ إلى أمرين
أ ـ ثبات روحية العطاء لدى اإلنسان ،لتكون كالشّ مس التي تشرق
كل ٍ
أرض. ٍ
مكان ،والمطر الذي ينزل على ّ على ّ
كل
تبعا لما تفرضه مواقف الحياة،
ب ـ التفاوت في طبيعة العطاء ً
يحجم ليكون المنع
ُ إيثارا ،وبعضها
حيث بعضها يزيد ،ليكون ً
أمورا غائبة في النفس أو في
يعزز ًنوعا من العطاء الذي ّ
نفسه ً
ُ
السلوك.
48
تلقائيا إلى
ً متطر ًفا إليها ،في الوقت الذي ّ
تنشد فيه النفس مطلق انشدا ًدا ّ
ٌ
متوازن تجاه القيمة األخالقية من االنتصار لذاتها ،وبذلك يتحقّق ٌ
ميل
يمهد الطريق
شد الحبل وهذا ما ّ دون نفيٍ لالنتصار ّ
للذات ،يشبه لعبة ّ
للخطوة الثانية.
يتم تدريب اإلنسان على تحليل الحاالت التي يواجهها، ثانياّ :
ً
ليحدد الخيار األفضل في ر ّد الفعل ،وذلك وفق مصلحة اآلخر. ّ وذلك
التجرد ،والتي ُي ّتكأ فيها على الخطوة
ّ وهذه النقطة تحتاج إلى الكثير من
نفسه مشدود ًة إلى العفو ً
مثل ،ح ّتى تكون األولى؛ ألنّها تفرض أن تبقى ُ
مصلحة اآلخر ال ذاته هي التي ت ّتجه به نحو االقتصاص .فإذا أصبحت
تلك المصلحة من الوضوح بحيث فرضت على اإلنسان أن يأخذ بها،
مما تشتهيه
أخذ بها اإلنسان وهو يتم ّنى لو لم ُيدفع إلى ذلك؛ ألنّه ليس ّ
المضطر إلى جرح المريض ّ روحه ،تما ًما كالطبيب
نفسه ،وتطيب ُ ُ
الستخراج المرض.
التربوية ـ من أن يسارع اإلنسان
ّ العملية
ّ بد من الحذر ـ في وهنا ال ّ
ات الفعل التي ينتصر فيها لإلساءة ،أو ُي ّبرر فيها إلى التبرير لذاته ر ّد ِ
ترك مساعدة اآلخرين؛ ألنّ هذا التبرير والمسارعة ُبخ َله عن العطاء أو َ
مما يجعل النفوس حكما في ذواتناّ ،
ً غريزيا
ًّ يعزز األنا التي هيإليه ّ
ميال ًة إلى الطرف المقابل للقيمة األخالقية التي ال تهواها النفس لو ّ
تُركت على رسلها.
حب ذاته،
غريزيا على ّ
ًّ مفطورا
ً بتعبير آخر ،عندما يكون اإلنسان
األخالقية قائمة على البذل لآلخر واستبطانه في اهتمام
ّ وتكون القيمة
الذات ،فهذا يقتضي تعزيز البذل والعطاء ،وهذا يستدعي أن يزيل
49
اإلنسان الموانع أمام ذلك ،في حين أنّ التبرير للذات بخلها ،وللنفس
األخالقية ..إنّه الموقف الذي يحتاج
ّ ضد القيمة
يقوي ما هو ّ
أنانيتهاّ ،
إلى صراع الذات ،وجهاد النفس ،ال التبرير لها.
إنّ المطلوب هنا هو إثارة الطرف الذي يمارس التربية أو التوجيه
نوعا من الحوار غير المباشر ،والذي يطرح الديني أو الروحي ً
الخيارات األخالقية في ر ّدات الفعل ،انطال ًقا من أحاديث شريفة،
وصف مكارم األخالق« :تصل َم ْن َق َط َعك ،وتعفو ِ من قبيل ما ورد في
عمن ظ َل َمك ،وتعطي َمن َح َر َمك ،(((»...لتكون اإلجابات من المتلقّينَّ
الطرف ٍ
بمثابة تأكيد أنّ ر ّدة الفعل باالنتصار للذات لم تكن إال ألجل ّ
التعرض
أمر يحتاج إلى الكثير من المواكبة عبر ّ اآلخر ومصلحته ،وهو ٌ
يمر بها المتع ّلم أو التي تحصل أمامه بشكل
للمواقف واألحداث التي ّ
مما يندرج تحت عنوان التع ّلم العميق، العامةّ ،
ّ خاص أو في الحياة
يستغل الحدث ويربطه بالموقف األخالقي المناسب. ّ الذي
ٌ
ويل للمتأ ّلين من أ ّمتي! الذين يقولون:
فالنٌ في الج َّنة ،وفالنٌ في النار(((.
هذا السلوك الذي يشير إليه الحديث دخلت فيه الفرق والمذاهب
مر التاريخ ،وحكمت على طريقته ال على األفراد اإلسالمية على ّ
ّ
فحسب ،وإنّما على جماعات وفرق ومذاهب بأسرها ،بحيث لم يكن
مذهب بإخراج المسلمينٌ ثمة حرج من أن تقوم فرقة من المسلمين أو ّ
الباقين ك ّلهم من رحمة الله ،وإثبات أنّهم داخلون ً
حتما في نار جه ّنم،
مستحقّون لغضب الله وعذابه.
(( ( الم ّتقي الهندي ،كنز األعمال ،ج ،3ص ،559حديث .7902السيوطي ،الجامع
الصغير ،ج ،2ص ،719ح.9650
51
يعاقب
ُ الحجة عليهم ،والله تعالى ال ّ عباده وظروفهم ومقدار ما تقوم
الحق
ّ الحجة عليه ،أي أن يعرف اإلنسان ّ اإلنسان ّإل بمقدار ما تقوم
ثم يجحده ،وهذا ما ورد في قوله تعالىَ ﴿ :و َما ُك َّنا ُم َع ِّذبِ َ
ين َح َّتى ن َْب َع َث ّ
ً (((
َر ُسوال﴾ .
فعلية دخول النار؛
فرق بين استحقاق دخول النار وبين ّ ثانيا :هناك ًٌ
شخص مستحقًّا لدخول النار ،وعفا الله تعالى عنه ،لم يدخل، ٌ فإن كان
ٍ
فالن أو على حصرا ،فمن أين يجزم اإلنسان على والعفو هو بيد الله
ً
جماعة أنّهم في النار؟!
وتتبع
الذهنية تجعل اإلنسان يستغرق في مراقبة الناسّ ،
ّ ثالثًا :إنّ هذه
أمورهم وعثراتهم ،وهذا خالف المنهج التربوي اإلسالمي الذي أراد
من اإلنسان أن ينشغل بعيوبه عن عيوب الناس؛ ألنّ عيوب اإلنسان قد
ترديه ،وهي التي تحتاج منه إلى الجهد من أجل إصالحها ،ليصلح حاله
عيبه عن
في الدنيا واآلخرة ،وقد ورد في الحديث« :طوبى لمن شغله ُ
عيوب الناس»(((.
رابعا :إنّ االستغراق المذكور قد يؤ ّدي ـ نتيجة تساهل اإلنسان ـ إلى
ً
الشخصيين ،والهوى الذاتي،
ّ الحب والبغضّ أن يصبح المعيار عنده
باب من أبواب
أحبه أدخله الج ّنة ،وقد أبغضه أدخله النار ،وهذا ٌ فمن َّ
العصبية المذمومة.
ّ
الذهنية إذا أصبحت حال ًة ّ
عامة ،فإنّها تُفقد المجتمع ّ خامسا :إنّ هذه
ً
57
اهتموا بتهذيب النفس
ومما نقله لي بعض عن أحد العلماء الذين ّ ّ
بمجرد أن يفتح عينيه من النوم وقت صالة الليل أو
ّ وتزكيتها ،أنّه كان
لئل يستسلمالفجر ال يتوانى عن أن ينفض عنه لحافه وينهض من فراشهّ ،
مجد ًدا. ّ
للذة النوم فيدفعه التواني عن النهوض إلى االستغراق فيه ّ
كتوجه عام
ّ اإلحجام
لمرة ،بل إنّ لهذا التراجع عن ٍ
فعل ما ّ ُ حد
تقف األمور عند ّ وال ُ
المتكرر عن فعل
ّ توجهات النفس ،حيث إنّ اإلحجام تأثيرا على ّ
ال ّنوع ً
عام؛ ألنّ النفس
نفسي ّ
ّ توجه
يتحول إلى ّ ّ الخير والمبادرة إليه يمكن أن
ٍ
موقف أي ٍ
حينئذ إلى الخيارات التي يرسل العقل إشارات لها في ّ تضمه ّ
ٍ
مشابه ..وفي المقابل يمكن إلشباع ّنية الخير عبر تكرار المبادرة إليه فيِ
ٍ
األول الذي تبعثموقف أن يح ّفز النفس لجعل فعل الخير هو الخيار ّ
ليتحرك نحوه.
ّ به نفس اإلنسان
لع ّلنا نستطيع أن نفهم السبب في هذا التعجيل الذي يدفع نحوه
الحديث أعاله انطال ًقا من ذلك ،بمعنى أن نحتال لفعل الخير ،وال نترك
أنفسنا للكثير من الهواجس التي يثيرها الشيطان الذي يجري م ّنا مجرى
الدم في العروق .كما نستطيع أن نفهم السبب في أنّ بعض الظروف قد ّ
تكون الفرصة فيها مؤاتية للفعل ،فيكون ترك األمر والتواني في اإلقدام
تغير الظروف التي من الممكن أن تعيق الفعل نفسه سببا في ّ
على فعلهً ،
النية.
لو ثبت عليه اإلنسان ،ولم تتزلزل نحوه ّ
ّ
يتجذر في ّ
ولعل من الممكن لنا هنا اإلشارة إلى أنّ الفساد الذي
غالبا نتيجة التقاعس عن أداء واجب المعارضة في حياة ال ّناس يكون ً
58
المهمة فيها التي يكون فيها الفاسدون
ّ اللحظات األولى والتي يكون أداء
ساعين إلى تثبيت وجودهم ،ولذلك فإنّ عدم المبادرة إلى المعارضة
وتصر عليه،
ُّ ُ
تعرف ماذا تريد أن تراه على أرض الواقع، الحقيقية ،والتي
ّ
يؤ ّدي إلى تفويت الفرصة في تصويب المسار ،والذي يبدو أنّه سيكون
ليل! شمس نها ٍر وسطع ُ
نجم ٍ ُ امتناعا على التصويب ك ّلما أفلت
ً أكثر
السحاب»(((!
مر ّتمر ّ
ولذلك ورد في الحديث« :اغتنموا الفرص؛ فإنّها ّ
َأ ْخ ُذ ِ
الع َبر
توجهات النفس ونزوعها العفوي نحو فعل والذي يبدو في ال ّنهاية أنّ ّ
للشخصية بوحي القيم التي ُيدخلها اإلنسان
ّ طابعا
تتشكل لتكون ً الخير ّ
التوجهات ،والتي
ّ أساسا لتلك
ً االعتقادية ،ويجعلها بالتالي
ّ في منظومته
تحتك بفرص عمل الخيرّ صوت دا ٍع في داخل النفس عندما ٍ تتحول إلى
ّ
يخفت صوتَها من خالل الطريقة ُ يكرسها أوفي حركة الحياة ،ولك ّنه ّ
الداخلي؛ األمر الذي يفرض إيالء
الصوت ّالتي يتعامل فيها مع هذا ّ
وربما يتط ّلب ِ
أهمية في تشكيل الشخصية المبادرةّ ،
العملية التربوية ّ
ّ
ذلك االلتفات إلى بعض الخطوات:
أو ًل :عدم الوقوع في ّ
فخ طلب المثالية ،وبالتالي الخوف من الوقوع ّ
في الخطأ عند المبادرة .فإنّ هذا الخوف يدفع اإلنسان ال إلى ّ
مجرد
االحتياط أو التفكير في األخطاء المحتملة والمخاطر التي قد تحصل،
يتحول هذا إلى نوع من الهاجس الذي يشبه الوسواس الذي يبتعدّ بل
والواقعية .فالواقعية تفرض المبادرة ،والخوف
ّ باإلنسان عن الواقع
(( ( علي بن محمد الليثي الواسطي ،عيون الحكم والمواعظ ،ص .٨٩
59
أي خلل قد يطرأ خالل العمل ،وذلك أولى من يفرض العمل إلصالح ّ
التر ّدد الذي يدفع اإلنسان إلى اإلحجام عن العمل قبل أن يبدأ ،ويقتل
المبادرات قبل أن تجد لها مجا ً
ال في الواقع.
ثانيا :تحفيز التوكّ ل على الله ،بمعنى أن يقوم اإلنسان بما عليه ويترك
ً
ُّ
التحكم بها أو ضمن األمور األخرى التي ال تدخل ضمن قدرته على
النية من
معرفته بتركها لله تعالى لكي يحقّقها بإرادته عندما يرى صدق ّ
كثيرا ما ندع
عبده ،أو بأن يوفّق اإلنسان إلى الهداية لها كذلك؛ ألنّنا ً
فعل ما بسبب شعورنا بأن ال شيء من جهدنا سينفع أمام المبادرة إلى ٍ
النتائج الكبيرة التي نتو ّقعها ،والحال أنّ عملنا قد يكون ً
شرطا أو جز ًءا
من شروط أو أجزاء تحقّق النتائج عندما تتوافر لها الظروف أو شروط
وأجزاء أخرى يقوم بها مبادرون آخرون .وقد ورد في الحديث أن على
فربما دخل بسببها الج ّنة(((.
اإلنسان أن ال يستصغر حسنة ّ
ثالثًا :أخذ العبر من نتائج مبادرات اآلخرين التي ّ
يعجل فيها الخير
حافزا
ً في مجتمعنا أو في تاريخنا القريب أو البعيد ،فإنّ تلك ّ
تشكل
لإلنسان نحو المبادرة.
الضائعة والتي يندم اإلنسان فيها على
التأمل في الفرص ّ رابعاّ :ً
عدم مبادرته إلى ا ّتخاذ الموقف في اللحظة المناسبة ،ما يجعل محاولة
اللحقة.التعويض غير ذي جدوى في ال ّلحظات ّ
(( ( انظر الحر العاملي ،وسائل الشيعة (آل البيت) ،ج ،١٥ص .٣١٢
60
9
سلبيّتنا تفض ُحنا!
تتبع الله
تتبع عثرات أخيه ّ
فإن من ّ
ال تطلبوا عثرات المؤمنين؛ ّ
يفضحه ولو في جوف بيته(((.
ْ تتبع الله عثراتِه
عثراته ،ومن ّ
األيام دوائر
ّ
واستنا ًدا إلى ذلك ،فإنّ من ّ
يتتبع عيوب اآلخرين ليظهر في مظهر
وشخصيته وزواياه
ّ الكامل أمام الناس ،ال يلغي وجود العيوب في نفسه
التي يخفيها عن الناس ،وفي ال ّناس من هم كذلك في سلوكهم تجاه
خطوات عملية
عدة قد تساهم
ربما يحسن بنا الوقوف عند أمور ّ
وفي نهاية المطافّ ،
يطلع على عيوب اآلخرين:في تذكير الواحد م ّنا بما يلزمه عندما ّ
((( ابن أبي الحديد ،شرح نهج البالغة ،ج ،٢٠ص .٤٩
64
ٍ
وعندئذ عيبا في الوقت الذي ال يراه الله كذلك،
اجتماعية تراه ً
ّ منظومة
تتبعي َخلقًا لوقائع أو ا ّدعا ًء لها ،ويكون حديثي عنها ُبهتانًا ال
يكون ّ
إثبات
ُ غيبة؛ ألنّ الغيبة ذكر اآلخرين بعيوبهم الموجودة ،بينما البهتان
ما ليس فيهم!
65
10
خيانة المجلس
السمع والبصر
أمانة ّ
وقيمة األمانة ال تقتصر على حفظ الجوانب الما ّد ّية ،كالودائع المالية
خصوصيات
ّ التي يستودعها اإلنسان لدى اإلنسان؛ ألنّها تنطلق من احترام
يطلع اإلنسان عليه اآلخرين ،ولذلك فهي تشمل أسرار اإلنسان ،وما ّ
الحشرية في
ّ بطريقة وأخرى .والله سبحانه أراد لإلنسان أن ال يعيش
اجتماعية
ّ ثغرات
جراء المشاكل
ومما ينبغي لفت النظر إليه هو ما نعانيه في مجتمعاتنا ّ
ّ
في العالقات ،والتي منها:
67
أو ًل :المشاكل التي تحدث بين الزوجين ،حيث يستبيح ٌّ
كل منهما، ّ
أحدهما ،أو َمن حو َلهما أسرار أحدهما أو كليهما ،وهي األسرار أو ُ
ّ
ولعل المقربون.
ّ التي ال ّ
يطلع عليها في كثير من األحيان ح ّتى األرحام
أهم المواقع وأخطرها التيهذا المجال ،أعني المجال الزوجي ،من ّ
يجب فيها حفظ اآلخر وأسراره ،وخطورتها ال تكمن فقط في فقدان
الثّقة بالحياة الزوجية ،وإنّما في انعكاساتها على األوالد ـ في حال
سلبيات الطريقة التي تُدار بها خالفات أهاليهم
وجودهم ـ الذين يجنون ّ
وفضحهم ألسرار بعضهم البعض.
يتحول اآلخر ّ حدثنا الله تعالى عن ضرورة أن الوربما ألجل ذلك ّ ّ
الزوجية،
ّ إيجابيات فيها عند الخالفات
ّ إلى صورة سلبية بالكامل ال
﴿و َال ت َ
َنس ُو ْا الطالق واالنفصال ،فقال تعالىَ : أو إذا وصل األمر إلى ّ
بالطالق ال يعني زوال ا ْل َف ْض َل َب ْي َن ُك ْم﴾((( ،فإنّ زوال العالقة الزوجية ّ
حد اإليمانية التي لها حقوق وواجبات في ّ ّ األخوة
ّ االحترام ،أو انفصام
ذاتها ،قبل الزواج وأثناءه وبعده.
اطالع اإلنسان بحكم وظيفته وعمله على أسرار العمل ثانيا :إنّ ّ
ً
المتكرر بهم ،أو في ما يرتبط بما يدورّ والعاملين ،نتيجة االحتكاك
ّ
الموظفين من في االجتماعات المغلقة ،أو ما تشتمل عليه مل ّفات
خاصة ،أو ما يتع ّلق بأوضاع المرضى في المستشفيات ّ معلومات
سيما في مجال العالج النفسي الذي يفتح المجال وخصوصياتهم ،وال ّ
ّ
شخصية
ّ الخصوصيات في
ّ اطالع الطبيب أو المعالج على عمق على ّ
وغيره ،ك ُّله يمثّل أمانة في عنق اإلنسان ،ال
ُ من يعالجه ويتعامل معه،
(( ( سورة البقرة ،اآلية .237
68
يحق له إفشاؤها آلخرين من دون إذن أصحابها.
ّ
عبد ِه إذا َ
خرج إلى إخوانه إن الله تعالى يحب من ِ
ُّ ّ
ويتجمل(((.
َّ يتهيأ لهم
أن ّ
يوجهها ٌ
ورسالة ّ المظهر الخارجي هو عنوان اإلنسان االجتماعي،
جميل فالرسالة ستحمل معاني ً إلى الناظرين له؛ فإذا كان المظهر
الراحة ك ّلها للعين ولألحاسيس ،وتُحقّق شي ًئا من االنجذاب إليهّ ،
وأما
قبيحا ،فالرسالة من شأنها أن تو ّلد ً
نفورا لدى اآلخرين، إذا كان المظهر ً
ٍ َ
يقدمه لل ّناس ،من كالم أو
مما ّ وأ ْخ ُذ مسافة منه قد تنعكس على الكثير ّ
ّ
فيخف تأثيره ،على اعتبار أنّ التأثير ينشأ ـ في نسبة كبيرة منه ـ موقف،
الحق فيه.
ّ مما هي موازين المضمون الحس وتفاعالته أكثر ّ
ّ من
وإذا كان اإلنسان يعيش اإليمان في قلبه ،فإنّه بذلك يعيش معاني
اإللهي ك ّلها ،وهذا ما يدفعه إلى أن يكون عمله
ّ الجمال الروحي والنور
انعكاسا لمعاني الجمال األخالقي ،من القول الحسن، ً في الخارج
والعمل الصالح.
الحر العاملي ،وسائل الشيعة (آل البيت) ،ج ،5ص .11نقله عن الشيخ الحسن
ّ (( (
الطبرسي (ت ،)٥٤٨مكارم األخالق ،ص .،٣٥
70
بد أنوفي االتجاه نفسه ،وفيما يتع ّلق بالجانب الما ّدي الجسدي ،ال ّ
يتجانس إحساس اإلنسان بجمال الله وجالله ،على مظهره الخارجي،
وكأنّ الحديث الشريف يقول لإلنسان إنّ القبح في المظهر ال يتناسب
والعملية ك ّلها ،وهذا ما يجعل
ّ وتجلياته الروحية
ّ مع اإليمان بأبعاده
وربما يشير إلى ذلك ما ورد عنالتجمل في المظهر ،جز ًءا من اإليمانّ ،
ّ
يحب النظافة ،ويبغض البؤس والتباؤس» ، النبي « :Pإنّ الله نظيف ُّ
(((
ّ
وفي حديث آخر عنه « :بئس العبدُ القاذورة» .
((( P ٍ
المتميز
ّ سيما المجتمع اإلسالمي بد ألي مجتمع ،وال ّ ولكن ال ّ
ْ
وقيما ُيراد ٍ
بمنظومته الثقافية ،هذه المنظومة التي تعكس معتقدات
ً
من خاللها أن تتكامل حركة الداخل والخارج في الشخصية ،أن ال
يعتمد الالمباالة تجاه األنماط الوافدة من اللباس على عربة التسويق
عملية
ّ المعبر ضم ًنا عن ثقافات أخرى ،بحيث يجب ضبط ّ االقتصادي،
التثاقف أو التأ ُّثر والتأثير في المظهر الخارجي عبر التدقيق والدراسة،
ّ
التحكم وإعادة إنتاج األنماط الوافدة من اللباس عملية
ّ ثم العمل على
ّ
العامة ،فال يستورد اإلنسان ِ
بما ينسجم مع المعايير والمبادئ والق َيم
ّ
والقيمية
ّ يحدد االنعكاسات الثقافية من اآلخرين لباسهم كما هو ،بل ّ
الموجودة فيه ،ليدفعه ذلك إلى ترك ما ال يمكن تعديله ،وإلى تغيير ما
يحتاج إلى ذلك.
76
12
شكر النِّعمة ..وفتنة البالء!
(( ( الشيخ الصدوق ،عيون أخبار الرضا ،Qج ،٢ص ،31ح .٢٠
77
يشبع
ُ ويعرون حيث
َ األساسية ،فيجوعون
ّ يلبي حاجاتهم
المال الذي ّ
شكرا لله ،فيعطي الفقراء بال
نصيبا من ماله ًً هو و ُيكسى ،ولذلك يجعل
م ّنة وال أذى((( ،وبذلك يدخل بماله الج ّنة.
ومسؤولية َب ْذلِها هو ما ورد في الحديث
ّ وهذا االرتباط بين النعمة
نعم على ٍ
عبد نعم ًة ّإل عن اإلمام جعفر الصادق « :Qإنّ الله لم ي ِ
ُ
فحجته
قويا ّ من الله عليه فجعله ًّ الحجة من الله ،فمن َّ
ّ وقد ألزمه فيها
أضعف منه ،ومن ُ ممن هو عليه القيام بما ك َّل َف ُه واحتمال من هو دون َُه ّ
ثم تعاهده الفقراء فحجته عليه مالهّ ، موس ًعا عليه ّ
من الله عليه فجعله َّ َّ
جميل في صورته، ً الله عليه فجعله شري ًفا في بيته،من َُب ْع ُد بنوافله ،ومن َّ
فحجته عليه أن يحمد الله تعالى على ذلك ،وأن ال يتطاول على غيره ّ
حقوق الضعفاء لحال شرفه وجماله»(((. َ فيمنع
(( ( وذلك هو قوله تعالىَ ﴿ :ال ت ُْب ِط ُلو ْا َصدَ َقاتِ ُكم بِا ْل َم ِّن َواأل َذى﴾ [البقرة .]264 :
(( ( الشيخ الكليني ،الكافي ،ج ،1ص.163
78
ويكتسب الموضوع خطورة كبيرة في الذهنية التي تحكم الشّ عوب
حكامهم ،حيث يرون أنّ المواقع القيادية العليا التي يحت ّلونها تجاه ّ
ومسؤولية
ّ الحكام ،وليست مواقع تكليف ّ هي مناصب ذاتية لهؤالء
إلدارة شؤون ال ّناس وتحقيق مصالحهم ،والتي تتط ّلب أعلى درجات
التجرد عن الشهوات والغرائزّ نكران الحاكم لذاته ،وأرقى مستوى من
العام .المشكلة
ّ الصالح
يضر ّلئل تنحرف بالموقع إلى ما ّ الشخصية ّ
أنّ الناس أنفسهم عندما يسقطون تحت تأثير ال ّنعم لهؤالء ،ويفقدون
الثقة بأنفسهم ،كأفراد وكشعوب ،فإنّهم يربطون وجودهم ك ّله بأولئك،
ويسخرون أنفسهم وأجيالهم ال لخدمتهم فقط ،بل لخدمة أوالدهم ّ
يؤمر
يستحق الواحد منهم أن َّ
ّ وعوائلهم ،فينتخبونهم في الوقت الذي ال
فضل عن ٍ
بلد كبير على بيته الذي يعيش فيه ،أو على مزرعة صغيرة! ً
تتضارب فيه المصالح بين الذات والشّ عوب ،وتتط َّلب فيه االستقامة
والقوة الروحية.
ّ الكثير من المواصفات الشخصية والخبرة العملية
هل ذلك ك ّله يعني أن ال يشعر ال ّناس بجميل اآلخرين عليه؟
نوعا من الكفر الذي ال يرضاه الله تعالى ،فإنَّ « َمن
أبدً ا ،فهذا يمثّل ً
لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق»((( ،بل المقصود هو أن ال يعيش
يلبث هذا ثم ما ُ اإلنسان اإلحساس بالمذ ّلة عندما يعطيه اآلخرونّ ،
يسترق فيها اإلنسان نفسه ألصحاب السلطة ُّ الشّ عور أن يتحول إلى ٍ
حالة ّ
بالمسؤولية
ّ الشكر على تأدية الواجب والقيام ثم أن يكون ُّوالمالّ .
الغني عطاءه ال غناه ،وفي القائدّ الملقاة على عاتقه بحيث نشكر في
قيادته ال زعامته ،وفي المدير إدارته ال موقعه ،وهكذا...
خطورة المكابرة
«وفقير
ٌ تبقى الفقرة األخيرة من الحديث الشريف ،وهي قوله:
فخور» ،وهي مرتبطة بجانب البالء ،وهو هنا الفقر ،حيث إنّ الله يفرض
إنسانيته المنسجمة مع معنى التواضع، ّ على اإلنسان أن يستكين إلى
بتجلياته ك ِّلها التي منها الفخر واالستعالء
ّ التكبر النفسي
ّ وأن يبتعد عن
وما إلى ذلك ،وبذلك يكون الفقر مساعدً ا على التواضع والتذ ّلل
لله سبحانهّ .أما أن يندفع اإلنسان لالستكبار مع الفقر ،فهذا يعني أنّ
ضد اإلنسان يبذل جهدً ا مضاع ًفا في الجانب السلبيُ ،ليظ ِه َر مع الفقر ّ
سلبية مضاعفة يدل على ّما يقتضيه ،وهو التواضع والتذ ّلل ،وهذا قد ّ
حكما ً الداخلي لإلنسان ،الذي سينعكس
ّ والذهنية والواقع
ّ الروحية
ّ في
يستحق اإلنسان عليه دخول النار؛ ألنّ
ّ على العمل والسلوك ،وبذلك
أيضا خالف الشكر ،والله أعلم وأحكم. هذا ً
80
13
طاعةِ اهلل
نصب نفس ُه في ِ
طاعة الله، ِ َ
أ َح ُّب المؤمنين إلى الله من َ َ
َ
وعمل(((. َ
وعقل، وأبصر،
َ وتفك َر في عيوبِ ِه،
نبيهَّ ،
ونصح أل ّمة ِّ
َ
يتحرك
ّ أساسية ينبغي أن
ّ الحديث الشريف يركّ ز على ثالثة عناصر
اإلنسان وفقها في حياته:
((( ورام بن أبي فراس المالكي (ت ،)٦٠٥تنبيه الخواطر ونزهة النواظر ،ج ، 2ص.٥٣٢
81
ُسننه الثابتةّ .أما أن يبرز اإلنسان لله تعالى بالمعصية ،فإنّه بذلك يلبس
العبودية والطاعة ،كما قال ّ غير ردائه؛ ألنّه ال يصلح لإلنسان أمام الله ّإل
﴿و َما َكانَ لِ ُم ْؤ ِم ٍن َو َل ُم ْؤ ِم َن ٍة إِ َذا َق َضى ال َّل ُه َو َر ُسو ُل ُه َأ ْمر ًا َأن َي ُكونَ
تعالىَ :
ِ َ ِ ِ
علما أنَّ الطاعة تعود بال ّنفع على اإلنسان؛ َل ُه ُم ا ْلخ َي َر ُة م ْن أ ْم ِره ْم﴾ ً ،
(((
ألنَّ أوامر الله تنطلق إلى مصلحة اإلنسان في المأمور به ،ونواهي الله
ترتكز إلى مفسدة يتو ّقاها اإلنسان في المنهي عنه عندما يجتنبه.
كل ما يريد أنريا لإلنسان من ّ تحر ًّ
مسارا ّ
ً العبودية تمثّل
ّ على أنّ
الحقيقية وما يصلح حاله
ّ إنسانيته
ّ يفرض عليه إرادة على خالف معنى
نفس وشهوتَها ،أو كان إنسانًا آخر في الدنيا واآلخرة ،سواء كان نوازع ٍ
تجليا لصفات الله تعالى فيالحق الذي يمثّل ًّ
ّ قوة أخرى ،بعيدً ا عنأو ّ
خلقه وفي الحياة.
المسؤولية االجتماعية
ّ 2ـ
أ ّما العنصر الثاني ،فهو المسؤولية االجتماعية ،وذلك قوله P
ّ
وأمة ،واستمرار
جزء من مجتمعٍ ّ ٌ نبيه» ،ألنّ اإلنسانألمة ِّ
«ونصح ّ
َ
واألمة ال ينعكس على اآلخرين فحسب ،وإنّما ّ الصالح في المجتمع
اإليماني،
ّ يقوي موقفه
ضخ القيم في حياة الناس ،بما ّ يمثّل استدام ًة في ّ
الق َيم من حوله وفي حياة األجيال الالحقة .فإذا ترك يعزز حضور ِكما ّ
عنصرا
ً مسؤوليته في هذا اال ّتجاه ،فمعنى ذلك أنّه أفقد الصالح
ّ اإلنسان
وقوته واستمراره ،وهذه مساحة فرا ٍغ ستملؤها من عناصر تحقّقه ّ
العناصر الفاسدة ،وبذلك تضعف بنية المجتمع على مستوى القيم،
السلبي للمحيط
التأثير ّ
الهام في عالم التغيير أن نلتفت إلى تأثير الظروف المحيطة بنا؛
ومن ّ
قررنا تغييره ،وبالتالي إذا
السلوك الذي ّ ألنّ هذه الظروف قد ّ
تعزز لدينا ُّ
وغالبا
ً ضد قرار التغيير الذي ا ّتخذناه ـ على الفرض ـ، ُ
فستعمل ّ بقيت
83
ما تكون تأثيراتها أقوى من قرارنا.
كثير من ال ّناس ال ينجحون في تغيير بعض خصالهم أو عاداتهم،
بسبب أنّهم ال يعملون على إيجاد البيئة المالئمة لعملية التغيير ،ومن
المقدمات أو المداخل ذاتها تدفع نحو النتيجة نفسها ،فال ّ الواضح أنّ
يمكن أن تحصل على نتيجة مختلفة إذا تركت األمور السابقة على ما
تغييرا.
تعديل أو ًً هي عليه ،فلم تُج ِر فيها
ّ
وجل، عز
وهذا األمر ذاته هو ما نحتاجه في التوبة عن المعصية لله ّ
نضع ُف أمام معاودة ارتكاب ما تُبنا منه ،فقط
كثيرا ما ُ
حيث نجد أنّنا ً
ألنّنا لم نبذل جهدً ا في تغيير الظروف التي دفعتنا سابقًا إلى المعصية،
مرة أخرى.
تتغير الظروف فسنكون عرضة للضغط من قبلها ّ وعندما ال ّ
دافعا إلى
صنف من الرفاق ًٍ فعلى سبيل المثال ،إذا كان السهر مع
المحرمات ،فإنّ التوبة والبكاء من خشية الله
ّ ضعف اإلرادة أمام بعض
تموضعا جديدً ا
ً وطلب مغفرته ورضوانه في لحظة ما ،سوف لن يكون
مثلمما يتط ّلب ً
السابقةّ ،
يغير من ظروفه ّلإلنسان في عالم الطاعة إذا لم ّ
ً
تعديل في زمان ال ّلقاء بالرفاق ،أو التخفيف من االحتكاك ببعضهم ،أو
ربما يتط ّلب األمر قطع العالقة مع بعضهم ولو لبعض الوقت ،ريثما ّ
وتترسخ العادة.
ّ تقوى العزيمة
84
14
األمور بعواقبها
فأمض ِه،
يك ُرشدً ا ِ
فتدب ْر عاقب َت ُه ،فإن ُ
هممت بأم ٍر َّ
َ إذا أنت
يك َغيا ِ
فانته عنه(((. وإن ُ ًّ
بفعل أو َ
تركه؟ هل ٍ نقرر القيام
ما هو الميزان الذي على أساسه ّ
ثم ِ
مضمونه؟ هل هو ّ ٍ
اللذة التي نحصل عليها ّ بمعزل عن هو عنوانُه
اآلنية التي نحققها من
تلبث أن تتالشى وتذهب؟ هل هو المنفعة ّ ال ُ
اجتماعي ًة ّ
شكلت جز ًءا من عادات مجتمعنا أو َّ جرائه؟ أو كونه عاد ًة
ّ
تقاليده؟ أو كونه موافقًا للقوى المسيطرة على موازين األمور في الحياة
التي تفرض نفسها على الواقع السياسي واالقتصادي واألمني ،وح ّتى
الفكري والمعرفي ،الذي يركن معه اإلنسان إلى سلطة فكرة سائدة
وضد َمن يخالفها؟
ّ ً
ضغطا با ّتجاه تب ّنيها يمارس المجتمع
ٍ
منفعة من ذلك، لذ ٍة أو
ليس ما يمنع اإلنسان من أن يحصل على ّ
أو أن يتماشى مع المجتمع في عاداته وتقاليده ،أو أن يصادف عم ُله
ٍ
عمل من أي
األساسية بمضمون ّ
ّ طبيعة موازين القوىّ ..إل أنّ العبرة
استنسابية ِ
الق َيم ليست
ّ
أخالقية ،تمثّل المنهج شرعية أم منظومة ِ
الق َيم ،سواء كانت عقدية أم
ّ ّ
والقواعد التي يضبط اإلنسان عليها حركته في الحياة ،وهي التي تمثّل
الحق،
ّ الميزان لما يقبل ولما ير َفض؛ فإذا كان من بين تلك ِ
الق َيم قيمة ُ ُ َ
فال يمكن لإلنسان أن يجمع بينها وبين األخذ بالباطل في القول أو
الفعل ،مهما كانت الظروف الخارجية أو النفسية تفرضه؛ وإذا كانت
قيمة العدل ،فال يمكن لإلنسان أن يأخذ بالظلم الذي يضا ّدها في ذلك
أيضا؛ وإذا كانت قيمة الصدق ،فال ُيمكن لإلنسان أن يأخذ بالكذب في ً
قول أو في عمل؛ وهكذا..ٍ
وقد نجد في االتجاه نفسه ـ على سبيل المثال ـ كيف أنّ القرآن الكريم
يحب أو من ُيبغض ،من أخرج المواقف التي يأخذها اإلنسان تجاه َمن ُّ
الموضوعية ،فقال ّ للحب والبغض ،إلى القيمة ّ عقال االنفعال الذاتي
ين آ َم ُنو ْا اع ِد ُلو ْا َو َل ْو َكانَ َذا ُق ْر َبى﴾(((َ ﴿ ،يا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ ﴿وإِ َذا ُق ْل ُت ْم َف ْ
تعالىَ :
ين لِ ّل ِه ُش َهدَ اء بِا ْل ِق ْس ِط َو َال َي ْج ِر َم َّن ُك ْم َشنَآنُ َق ْو ٍم َع َلى َأ َّال ت َْع ِد ُلو ْا
ُكونُو ْا َق َّو ِام َ
معيارا التخاذ ً ْاع ِد ُلو ْا ُه َو َأ ْق َر ُب لِل َّتق َْوى﴾(((؛ فليست القرابة وال العداوة
ضد من المواقف ،بل العدل هو المعيار الذي بسببه قد يحكم اإلنسان ّ
يحب حتى لو كانت نفسه التي بين جنبيه ،ويحكم مع َمن يبغض حتى ُّ
ألد أعدائه! لو كان ّ
((( سورة األنعام ،آية .152
((( سورة المائدة ،آية .8
86
عامل مع
األساسية في ال ّت ُ
ّ اإلسالمية
ّ يشكل القاعدة وهذا األمر ّ
األطر االجتماعية أو السياسية التي ينتمي إليها اإلنسان ،فال يعتبر ُ
الحق والباطل ،فيكون ما دخل ّ اإلطار هو المعيار الذي نقيس عليه
باطل ،وما خرج عنه الباطل ولو كان فيه فيه حقَّا ولو كان في طبيعته ً
يتحول انتماء اإلنسان إلى مشاركة لآلخرين ّ الحق ك ُّله .وبهذه القاعدة
ّ
في األهداف الكبرى التي يعتقد بهـا ،و ُيبقي هامشً ا لإلنسـان تجاه
معين ،وهذا
األحداث والمواقف والمشاريع التي تُطرح في إطار ّ
ويتأمل ويستخلص نتائج قد
ّ ّ
ويتفكر يتدبر
الهامش يسمح لإلنسان بأن ّ
ممن ينتمون إلى اإلطار ٍ
تجعله في موقف معاكس لما عليه هذا أو ذاك ّ
نفسه ،ويعتقدون به كما يعتقد.
الحزبية ،التي
ّ إنّ ما نعيشه في كثير من واقعنا ،وال ّ
سيما في التجربة
وتم الخلط فيها بين
العصبية للقبيلة بعض أدواتهاّ ،
ّ أخذت من الذهنية
أي الحق والعدل وسائر القيم ،فأصبح ّ
ّ مقتضيات النظام وبين موازين
يستحق صاحبه ال ّلوم
ّ األكثرية ،أو للقيادةً ،
باطل، ٍ
مخالف لرأي ٍ
رأي
ّ
وتتحول المعارضة داخل الحزب إلى مسا ٍر ّ واالتهام باإلخالص،
تهديمي للنمط الواحد ،والرأي الفريد ،والموقف األوحد ،في الوقت
ّ
الذي تمثّل المعارضة ـ ح ّتى في الحركة السياسية ـ هامشً ا لمناورة
الحزب نفسه ،تُخرجه من بعض الحرج الذي قد تفرضه ضرورة
بالضرورة مع المبادئمما قد ال ينسجم َّ
التعامل مع موازين القوىّ ،
الحزبية إلى صنمٍ ،
ّ تتحول التجربة
ّ الحزب ،وبذلك ال
ُ التي يؤمن بها
لتعبر عن
تتحرك فيه المعارضة أو اختالف اآلراء َّّ في الوقت الذي ال
آليات تحقّق التوازن بين األمرين ،بما
ثمة ّعملية انشقاق أو تهديم؛ بل ّ
ّ
87
وتتطور فيه التجربة على هدى
ّ إطارا ُيعبد فيه الله،
يتيح أن يبقى الحزب ً
المبادئ والقيم التي يرتكز إليها العاملون لإلسالم .وعلى كل حال،
الحرية
ّ فقضية الجمع بين مقتضيات النظام الذي يفرضه اإلطار ،وبين
الفكرية مسألة تحتاج إلى معالجة مستقلة ،ليس هنا مجالها.
ّ
مهمة صعبة
تدبر العواقب ّ
ّ
بالعودة إلى الحديث ،فإنّه يتح ّتم على اإلنسان ،إذا ما خطر في باله
ٍ
طريق ما، أمر ما ،أو أراد منه اآلخرون األخذ بمنهج ما ،أو السلوك في ٌ
حيث النتيجة التي تنتظره من ذلك األمر ،أو ُ أن يدرس ذلك ك ّله من
المنهج ،أو الطريق؛ فإذا كان موافقًا للقيم التي يعتقد بها اإلنسان ،وهي
التعب والعناء،
ُ هنا تمثّل قناعاته والتزاماته ،أخذ بها ،ح ّتى لو كان فيها
أو الجوع والحرمان؛ وإذا كانت مصطدم ًة بذلك ك ّله ،فإنّ العاقل ال
لذة أو مصلحة يقدم على النتيجة الخطيرة لمصلحة الحصول على ّ
آنية.
هامشية أو ّ
ّ
وهذا ما نجده في حياة العقالء ك ّلهم الذين يحرمون أنفسهم من
الصحة الجسدية ،أو يمارسون بعض الرياضات ّ الطعام؛ ألجل تحقيق
لذتها عندما يكون صحتهم النفسية ،ويحرمون أنفسهم ّ
الروحية ألجل ّ
ّ
ٍ
طريق يعتقدون أنّه قد يؤ ّدي إلى خطرا ،وال يسيرون في
ً نفسه
الطعام ُ
يمد
لمجرد أنّهم رأوا سع َت ُه أو جماله أو ما إلى ذلك؛ وهل ّ
ّ هالكهم
اإلنسان يده إلى األفعى لحسن شكلها أو لونها ،أو نعومة جلدها!
بالمهمة
ّ تدبر عواقب األمور ليس
بد من االلتفات إلى أن ّ
هذا وال ّ
مهمة قد تكون بالغة التعقيد ،وتتط ّلب مهارات
البسيطة ،وإنّما هي ّ
88
كثيرة ،نشير إلى بعضها على النحو اآلتي:
أو ًل :درجة عالية من الخبرة الحياتية ،والقدرة على تحليل األوضاعّ
تدبر
واألحداث ،وربط األسباب بالنتائج ،في الميدان الذي نحاول ّ
أي كلمة فيه ،أو أي قرار ُيراد ا ّتخاذه.
عاقبة ّ
بيد أصحاب السلطة هذه الخبرة والقدرة التحليلية قد ال تكون ِ
ّ
جزء من
ٌ االجتماعية أو السياسية أو ح ّتى الدينية ،وإنّما هي
تتنوع لدى ال ّناس ،األمر الذي يفرض أن يدخل في
االختصاصات التي ّ
أي مجالائيين في ّ
األخص ّ
ّ حسابات أصحاب القرار االستعانة بهؤالء
ُ
نتعامل معه؛ فنستعين بأصحاب الرأي في السياسة عندما نريد اتخاذ
موقف سياسي ،وفي االقتصاد كذلك ،وعندما نريد معالجة ظاهرة ٍ
معينة فنشاور علماء االجتماع ،وهكذا..
اجتماعية ّ
ً
تعامل دقيقًا مع الظروف تدبر عواقب األمور يتط ّلب
ثانياّ :
ً
الموضوعية التي تختلف من حال إلى حال ،ومن مجال إلى آخر.
وهذا ما يتط ّلب جمع معلومات دقيقة عن الواقع ،وعن المؤ ّثرات
يتم التعامل معها ،وعدم االعتماد على التي تكتنفه ،والجهات التي ّ
العلمية .فالكلمة الواحدة قد
ّ اإلحساس الشخصي ،أو التقديرات غير
تكون لها عواقب وخيمة في ظرف الفتنة ،أو مع وجود من ّ
يخطط لها،
أساسا للغنى الفكري في ظرف الحوار الموضوعي ً وهي ذاتها قد تكون
تطور العلم.
وضمن مسارات ّ
ثالثًا :ضرورة المعرفة الدقيقة للمفاهيم والمنهج والقواعد التي
على أساسها تقاس األفعال ونتائجها؛ ألنّ عدم المعرفة الدقيقة قد
89
ٍ
إنسان أو جهة ،أو يقيس مثل ـ يرتبط بالشكل في ا ّتباعيجعل اإلنسان ـ ً
قيمة هذا أو ذاك على أساس ما يبرزونه من عاطفة مغالية في مجال
والدعوة إليه ،وهو فيتخيل أنّ فالن ًا أكثر ّ
تدي ًنا أو أولى باال ّتباع ّ ّ الدين،
ّ
إنّما حكم بذلك على ضوء احتكامه إلى منهج يرى القيمة بالشكل
دون المضمون ،وبالعاطفة دون الفكر ،في الوقت الذي نجد فيه
توجيه ًا ديني ًا واضح ًا نحو المعايير التي على أساسها يجب أن ُيقاس
محمد الجواد Qعن أبيه األشخاص ،من قبيل ما روي عن اإلمام ّ
علي « :Qال تنظروا إلى كثرة صالتهم وصومهم، عن آبائه عن ّ
الحج والمعروف وطنطنتهم بالليل ،انظروا إلى صدق الحديث ّ وكثرة
وأداء األمانة»(((.
الديني، رابعا :استنا ًدا إلى ما ّ
تقدم ،فإنّ التربية والتعليم والتوجيه ّ ً
المجردة ،بل يجب أن
ّ يجب أن ال يقتصر على إلقاء المعرفة النظرية
يتم تدريب ال ّناس على منهج التفكير في األمور ،وهذا ال يكون ّإل ّ
الحية ،وبيان كيفية االنتقال من
ّ من خالل ضرب األمثال الحياتية
المبدأ إلى الممارسة ،ومن الفكرة إلى تطبيقاتها ،وكيف يتج ّلى منهج
التفكير السليم في الوصول إلى األحكام ،ومنها إلى المواقف ،وكيف
تلقي تعقيدات الواقع ،وتشابك األمور ،بظاللها على طبيعة الموقف
مما قد يختلف
المنسجم مع األهداف التي يسعى اإلنسان إلى تحقيقهاّ ،
فيه الموقف بين حالة وأخرى.
ً
مسؤول أن تكون
فاألمير الذي يستلم زمام الحكم والسلطة ،ويملك إنفاذ أمره ونهيه،
تأثيره يكون على المجتمع الذي يسمع كالمه ،ويطيع أمره ،وين ِّف ُذ
((( صحيح البخاري ،ج ،٢ص ١٢٥؛ صحيح مسلم ،ج ،٦ص .٨
91
أمره قبل إصداره ،في تأثيره فمسؤوليته أن يدرس َ
ّ توجهاته ،ولذلك
ّ
رعيته ،ال أن يكون األساس في إصداره لألمر هو على الناس الذين هم ّ
الخاصة في الهواء .كما
ّ الذاتية ،أو أحالمه
ّ الشخصية ،أو نوازعه
ّ رغباته
يجب عليه أن يدرس تأثير ذلك عليهم في المدى القريب وفي المدى ُ
وكيف يمكن ألمره أن يكون منسجما مع ِ
الق َيم التي تحكم ً َ ُ البعيد،
ٌ
مسؤول عنه. المجتمع أو الدولة أو اإلطار الذي هو
ٍ
جماعة ٍ
شخص لسلطة ما على وعلى هذا األساس ،فإنّ امتالك ّ
أي
مقيدً ا بتحقيق مصلحة الجماعة،
ما ،تجعل الجانب الشخصي لديه ّ
حلما ،فال يسمح لغضبه أن يسيطرولذلك ُفيطلب منه أن يكون أكثر ً
لتهوره الشخصي أنعلى مواقفه؛ وأن يكون أكثر حكمة ،فال يسمح ّ
إخالصا للقضايا
ً ٍ
خيارات غير مدروسة؛ وأن يكون أكثر يندفع به إلى
واألهداف الكبرى التي يسعى إليها المجتمع ،فال يسمح لضعفه الذاتي
أن يفرض نفسه على ساحتها وحركتها.
92
حيث يصدِّ ُق ال ّناس بالقيمة في سلوك ال ّنبي قبل أن ينزل به الوحي،
ويتأ ّثرون بمواقفه ويتابعون خطواته ليكون الوحي بمثابة القاعدة التي
خصوصيات ال ّنبي ،وبالتالي يصبح
ّ تثبت الموقف كمبدأ ،وتخرجه عن ّ
الزمن.ممتدا في حياة المؤمنين برسالته في حركة ّ
الموقف ًّ
خط من الخطوط الفكرية ،سواء كانت دينية أي ّ وإنّ ضعف تأثير ّ
بالضرورة من الضعف في المحمول النظري الذي أم غيرها ،ال ينشأ ّ
تشتمل عليه ،أو عدم العمق في التقعيد الفكري ،وإنّما قد ينشأ من
ُ
ضعف يتحول
ّ خالل ضعف ال ّنماذج الممثّلة للنظرية أو للفكر ،والتي
ُّ
للتشكك بالنظرية التي تحملها ،وبالفكر الذي تستند تمثيلها إلى عنصر
إليه.
ّ
للخط قد المجسدة
َّ بل قد نجد من تجارب الحياة أنّ النماذج ّ
الحية
ّ
الخط الذي تلتزمه تؤ ّثر في الجماهير ،فتدفعهم إلى اعتناق المبدأ أو
ومنطقية ،بل قد يحمل
ّ فكرية
نظريا ،أو تناقضات ّخلل ًّح ّتى وهو يعاني ً
متعددة في
طبعا تساهم عوامل ّ شريرةً .متطرفة أو ّ
سلوكيات منحرفة أو ّّ
مما لسنا بصدد مناقشته هنا.
تعزيز هذا التأثيرّ ،
من خالل ذلك ك ّله ،قد نفهم أنّ المسؤولية التي يشير إليها
الحديث هي أبعد من المسؤولية التنفيذية للمـوقع الـذي يشغله ،بل
عمليا ،بحيث يكون
ً ّ
والخط والنهج مسؤولية تمثيل المبدأ
ّ تتعداها إلى
ّ
توجهاته للناس بعمله قبل
تقرب حكمه أو قراراته أو ّ هو القدوة التي ّ
قوله وأمره.
93
المبدئيين
ّ سبب فشل تجارب
وربما يحسن بنا أن نختم باإلشارة إلى اإلخفاق التي تُمنى به ّ
اإلسالميين ،وهي أنّهم ال يحسنون تمثيل
ّ بعض تجارب الحكم لدى
اإلسالمية عندما يتس ّلمون
ّ الحي للمبادئ والقيم والقواعد
ّ النموذج
القمعية بعد فترات طويلة
ّ سيما بعد سيادة األنظمة
مواقع الحكم ،وال ّ
من الزمن ،والتي تؤ ّثر بطبيعتها على الشّ عوب وأوضاعها االجتماعية
والنفسية والثقافية وما إلى ذلك ،األمر الذي تحتاج معه إلى تراكم
يترسخ
ثم لكي ّ تغيره ،ومن ّطويل لكي ينمو وعي الشّ عوب لما ينبغي ّ
الحي
ّ التغير في بنى المجتمع ،في الوقت الذي يؤ ّدي فيه النموذج
هذا ّ
أساسيا في
ً دورا
اإلسالميون في مواقع الحكم ًّ للمبادئ الذي يمثّله
السيىء.
تثبيت تجربة الحكم ،أو في إفشالها عبر النموذج ّ
آمن المسلمون بال ّنبي واإلسالم وخاضوا في سبيله ال ّلجج،
لقد َ
يتعرفوا الكثير عن مفاهيم إسالمهم،
المهج ،ح ّتى قبل أن ّ وبذلوا ُ
والقوانين التي يجب أن تحكمهم ،والنظام الذي يجب أن يسودهم،
للنبي ،Pوالتي
ّ قوة النموذج التي كانت
وذلك لم يكن ليكون لوال ّ
رأوا فيها المبادئ قبل أن يسمعوا بها ،والسلوك القيمي قبل أن يقرأوه
في آيات الكتاب.
تأ ّمل!
نتأمل في بعض العوامل التي تجعل استمرار ولع ّلنا نستطيع هنا أن ّ
عائليا ،بحيث يصبح استمرارها ره ًنا نحوا
سية ينحو ً ُ
ًّ المؤس ّ
َّ األطر
المؤسسين أو القيادات إلى
ّ ناشئ من ركون
ٌ بالتوريث العائلي ،فهذا
حد ذاتهالشخصية باستمرار القريبين على المبادئ ،وهذا في ّّ الثقة
األسرية تستبطن اعتبار العمل جز ًءا من
ّ نسبيا ،بمعنى أنّ الحالة
صحيح ً
التزاماتها ،ما ينقل هذا «اإليمان» إلى أفراد األسرة بشكل ال شعوري.
العملية
ّ المؤسسية ،وفي
ّ ّإل أنّ هذا يشير إلى ضعف في البنية
التربوية التي يجب أن تكون جز ًءا من صناعة القيادات المؤمنة بالعمل
التحديات ،وبعد
ّ ويتم اختبار إخالصها عند
ومبادئه ورسالته وأهدافهّ ،
ٍ
جديد في العمل ،ال ضخ د ٍم
ذلك يكون االستمرار عبر هؤالء جز ًءا من ّ
ذاتي لألسرة أو لالنتماء الخاص ،بل يبقيه في إطاره
يحوله إلى شيء ّ ّ
العام.
ّ
العائلية ،التي تمنع أفراد
ّ ليس المطلوب هنا أن يكون لدينا عقدة ضد
ولكن المطلوب ّ العائلة من التعبير عن إيمانهم وكفاءتهم في العمل،
ٌ
ضعف في بنيته ،بحيث يكون استمراره ره ًنا ً
أيضا أن ال يكون في العمل
بها ،بل تكون المعايير هنا وهناك هي األساس.
97
16
ٌ
أخالق ال تجارة!
99
تكب ٍر أو مزايدة ٍ
وهكذا تمثّل األخالق هنا حالة تعال للذات ،ال من موقع ُّ
ألي
يهذب نفسه ،بحيث ال تذعن ّ على اآلخر ،بل ألنّ اإلنسان يريد أن ّ
ضد اآلخر ،بل تحذفها من ذاكرتها بالفعل المضا ّد الذي
سلبية ّ
مبررات ّ ّ
يخرج من النفس أضغانها.
ُ
كل ما يثقلها من ٍ
تنظيف وتزكية للنفس من ّ عملية إنّ األخالق هنا
ّ
تتحول بفعل التراكم وتعقيدات الزمن إلى
ّ سلبيات اآلخرين ،ح ّتى ال ّ
موج ًها ٍ ٍ
حالة بغضاء وكراهية وحقد ،تأكل نفس اإلنسان قبل أن يكون ّ
داء
«دب إليكم ُالنبي َّ :P ِ ّ
ولعل هذا يحيلنا إلى حديث ِّ نحو اآلخرين.
األمم قبلكم :الحسد والبغضاء .هي الحالقة! ال أقول تحلق الشّ عر،
الدين»((( .هذا من جهة. ولكن تحلق ّ
والسلم االجتماعي
مكارم األخالق ّ
ومن جهة أخرى ،إنّ تحقيق السلم االجتماعي يتط ّلب تربية النفس
األخالقية ،واأللق اإلنساني؛ ألنّ ّ على هذا المستوى من األريحية
ستهان به من العالقات بين ُ الظلم واإلساءة تمثّل جز ًءا ال ُي حاالت ُّ
س َأل َّم َ
ار ٌة ال ّناس ،إن لم تكن هي النسبة الغالبة على قاعدة أنّ ﴿ال َّن ْف َ
وء إِ َّال َما َر ِح َم َر ِّب َي﴾((( ،وعلى ُهدى ما قال الشّ اعر:
بِالس ِ
ُّ
يظلــــم ذا ع ّف ٍ
ـــة فلـعـ ّلـة ال ُّ
والظلم من شيم ال ّنفوس فإن تجد
ُ
وعليه فر ّد الفعل إذا لم يكن بهذا المستوى من الترفّع عن ر ّد اإلساءة
((( ابن عبد البر ،جامع بيان العلم وفضله ،ج ،٢ص ١٥٠
((( سورة يوسف ،اآلية .53
100
عامل من عوامل زيادة مساحة الظلمعتبر ً بمثلهاّ ،
والظلم بنظيره ،فهو ُي َ
تبعا لحاالت ربما تزداد مساحة ُّ
الظلم ً عبر ر ّد الفعل الطبيعي ً
أيضا ،بل ّ
دي
مما اع ُت َ
والتعدي بأزيد ّ
ّ التش ّفي واالنتقام التي تدفع نحو الجور
السلبية في تراكم للسلبيات إلى تدخل العالقات ُ ٍ
وعندئذ وظلم.به ُ
ّ
درجة التعقيد الذي ال يقتصر على ٍ
جيل ،بل تتوارثه األجيال .وهذا ما
شهدنا أمثاله في العائالت التي انغلقت على أحكا ٍم مبرمة تجاه بعض
معين،
جيل ّ سلبية الفعل ور ّد الفعل لدى ٍ
تحركت في ّ العالقات التي ّ
فأصبحت بفعل تراكمات الزمن وتعقيدات المشاعر ،جز ًءا من قواعد
بحثت عن أصل َ الديني مع اآلخرين! ولو
تعاطيها االجتماعي ،وح ّتى ّ
ٍ
ميراث أو حفنة من المال أو إساءة ٍ
أجداد على المشكلة لوجدتها نزاع
كفيل بتغيير المعتدي والمعتدى عليهٌ في كلمة ..والحال أنّ الزمن
تتم المبادرة
طبيعيا بفعل الزمن ،وتبريد كثير من المشاعر ،ولكن ال ّ ًّ
أي طرف بفعل تزيين الشيطان تحت عنوان االنتصار ٍ بإيجابية من قبل ّ
ّ
للكرامة الشخصية!
102
17
االسترزاق عبادة
ٍ
أجزاء في طلب الحالل(((. العبادة عشرة أجزاء ،تسعة
(( ( بحار األنوار ،ج ،١٠٠ص ،٩ح ،٣٧وقد روي هذا الحديث كحديث قدسي« :يا
أحمد ،إنّ العبادة عشرة أجزاء ،تسعة منها طلب الحالل» .إرشاد القلوب ،ص .٢٣
103
الحكمة ك ُّلها ،وتزكية النفس في أعلى مراتبها .وقد أشار الله تعالى إلى
آيات عديدة في كتابه العزيز ،والتي أب َلغُ ها ما ورد في الرؤية ذلك في ٍ
الرسل وإنزال الكتب ،وهي هداية ال ّناس الك ّلية التي تحكم إرسال ُّ
والسعادة ،كقوله تعالى ـ في حديثه عن مرحلة ما بعد هبوط إلى األمن ّ
اإلنسان من الج ّنة ـُ ﴿ :ق ْل َنا ْاهبِ ُطو ْا ِم ْن َها َج ِميع ًا َفإِ َّما َي ْأتِ َي َّن ُكم ِّم ِّني ُهدً ى
ال َخ ْو ٌف َع َل ْي ِه ْم َو َال ُه ْم َي ْح َز ُنونَ ﴾(((. اي َف َ
َف َمن َتبِ َع ُهدَ َ
األنانية والجشع
ّ يعبر عن نوازع لنتخيل ـ ً
مثل ـ أن يكون لإلنسان أن ّ ّ
في تجارته ،فكيف سيكون انعكاس ذلك على نفس اإلنسان؟
مرتعا للشيطان،
نفس اإلنسان ً بال ٍ
شك ،إنّ ذلك
سيؤسس لتكون ُ ّ
ُ
ويجول ،فيدفعه تارة إلى أن يدخل في مداخل المال الحرام، ُ
يصول فيها
عمن يحتاجها؛ والصفقات المشبوهة ،أو أن يمنع اإلنسان نعمة المال ّ
على قاعدة أنّ «الله سبحانه فرض في أموال األغنياء أقوات الفقراء ،فما
جاع فقير ّإل بما م ّتع به غني ،والله تعالى سائلهم عن ذلك»((( ،بحيث
مسؤولية. ٍ
نعمة لدى اإلنسان إلى أي
تتحول ّ
ّ ّ
ٍ
عمل في أي
وفي مطلق األحوال ،يصبح العمل التجاري ،أو ّ
ّ
الخط المتنوعة ،ميدانًا الختبار مدى االستقامة على
ّ مجاالت الحياة
طلب الحالل الذي يرضاه الله تعالى ،أو االنحراف عنه ،وبذلك يكون ُ
ّ
التحكم بنوازع النفس ك ّلها أمام حد ذاته تجسيدً ا للعبودية لله ،عبر
في ّ
مثيراتها؛ ألنّ مشكلة اإلنسان تنشأ من موافقة نوازع هوى النفس بعيدً ا
عن عقال العقل والقيم.
(( ( سورة البقرة ،اآلية .38
(( ( نهج البالغة ،ج ،٤ص .٣٢٧ ،٧٨
104
معايير طلب الحالل
وربما يحسن بنا هنا أن نثير الكالم حول بعض معايير طلب الحالل:
ّ
األول :طبيعة العمل ،فهناك أعمال مح ّللة وأخرى ّ
محرمة، المعيار ّ
العلماء أحكا َمها
ُ والس ّنة الشريفة ،واستنبط
حددتها اآليات الكريمة ُّوقد ّ
وسطروها في كتبهم الفقهية .هذه األعمال تتمحور حول التجارة ّ
كل ما يرتبط بالغريزة الجنسية ،أو بما يدخل إلى الجسد بالجسد ،في ّ
صحته أو في عالقاته بمن حوله ،كالخمر والميتة ولحم ويؤذيه في ّ
خط التوازن والهداية العاقلة فييضل اإلنسان عن ّ ّ الخنزير ،أو بما
حياته ،كالغناء المح ّفز للشهوات أو الباطل ،أو بما يساهم في انحراف
مما
المنهج الذي يوازن حركة اإلنسان ،كالسحر والشعوذة ،وغير ذلك ّ
الفقهية.
ّ راجع في المراجعُي َ
بد هنا من االلتفات إلى أنّ طلب الحالل من خالل العمل وال ّ
تحد ًيا ،وهو أنّ السوق التي تحكم حركة
الحالل قد يواجه في نفسه ّ
المحرمة،
ّ التجارة واألعمال قد تجعل الربح والوفرة أكبر في األعمال
يتحول العمل الحالل إلى خيار صعب ،ويضعه في مواجهة ّ وبذلك
حبها للخير وتوقها للحصول على ما ُيشبعها من المال هوى النفس ،في ّ
والشهوة ،أو بما يثيره الشعور بالحرمان عبر النظر إلى ما حصل عليه
بد أن يبتعد اإلنسان عنها بسبب حرمتها ..هذا ٍ
أعمال ال ّ اآلخرون من
ال ّلون من المواجهة مع ال ّنفس يندرج تحت عنوان الجهاد األكبر(((،
السير
وذلك لحفظها من االنحراف عن الطريق الذي ارتضى الله لنا ّ
سرية فلما رجعوا ،قال:
النبي Pبعث ّ ّ ((( روي عن اإلمام جعفر الصادق Qأنّ
مرحب ًا بقوم قضوا الجهاد األصغر وبقي عليهم الجهاد األكبر ،فقيل :يا رسول الله ،ما
الجهاد األكبر ،قال :جهاد ال ّنفس .الكليني ،الكافي ،ج ،5الباب ،12ح .3
105
فيه ،وصونها من االنجذاب نحو الخطوط والخيارات السهلة والمربحة
وتحديات.
ّ قياسا بالعمل الحالل وما يفرضه من صعوبات
ً
القرآني على أنّ الرزق
ّ ولع ّلنا نستطيع هنا أن نفهم لماذا كان اإلصرار
أعده له ،وأن مما تك ّفل به الله لعباده ،وأنّ على اإلنسان أن يثق ّ
بربه فيما ّ ّ
يقنع بما يمنحه ّإياه ،وأن يعرف في الوقت نفسه أنّ الطمع ضرر له؛ ألنّه
بدل من أن يكون المال عبد ألصحابه ًيحوله إلى خادم للمال أو إلى ٍ
ّ
وسيلة له لعيش حياة أفضل ،وتحقيق ارتقاء إنساني أعلى .من تلك
﴿و َمن َي َّت ِق ال َّل َه َي ْج َعل َّل ُه َم ْخ َرج ًا َ
*و َي ْرزُ ْق ُه اآليات الموحية قوله تعالىَ :
ِم ْن َح ْي ُث َل َي ْح َت ِس ُب َو َمن َي َت َو َّك ْل َع َلى ال َّل ِه َف ُه َو َح ْس ُب ُه إِ َّن ال َّل َه َبالِغُ َأ ْم ِر ِه َق ْد
الس َماء ِرزْ ُق ُك ْم َو َما َج َع َل ال َّل ُه لِ ُك ِّل َشي ٍء َق ْدر ًا﴾((( ،وقوله تعالىِ َ :
﴿وفي َّ ْ
ِ ُ َ َ
ض إِ َّن ُه ل َح ٌّق ِّمثْل َما أنَّك ْم تَنط ُقونَ ﴾ . َ َ ْ
الس َماء َوال ْر ِ ُوعدُ ونَ * َف َو َر ِّب َّت َ
(((3
مسؤولية
ّ المستمر
ّ التدريب
المستمر ،بما يحافظ معه اإلنسان
ّ التدرب
ّ أيضا إلى أنّ
وربما نشير ً
ّ
بتطورات الحياة واألعمال ،هو
ّ قياسا
على كفاءته العملية والعلمية ً
للترهل الوظيفي بأن
ّ جراء سماحه
تعرضه الكتساب اإلثم ّ مسؤولية قد ّ
ّ
يجب .والتدريب، يصب في النهاية في عدم أدائه لمهنته كما ُُّ يصيبه؛ ألنّه
مسؤولية الجهة المالكة أو المديرة للعمل ،ولك ّنها ال تعفي
ّ وإن كان من
شخصية ،أو
ّ العامل نفسه من المطالبة بها ،أو الحصول عليها من ناحية
عبر الوسائل الحديثة التي أصبح فيها التع ّلم سهل التناول.
ُ
العمل عبادةً؛ إذ تقدم ك ّله ،يجعلنا نفهم بد ّقة كيف يكون
إنَّ ما َّ
يكفينا أن نرى حجم الجهاد النفسي الذي يتط ّلبه ،والد ّقة التي يجب
َ
ندرك أن يتعامل من خاللها مع الخيارات واألداء وما إلى ذلك ،ح ّتى
أنّ اإلنسان المستقيم على المبادئ ،المخالِف لهوى النفس ،يمارس
والعبودية .وقد
ّ ركوعا وسجو ًدا إلرادة الله ،وهو المعنى العميق للعبادة
ً
تقدم ،أنّ التجزئة التي ذكرها الحديث يكون لنا أن نفهم انطالق ًا ّ
مما َّ
108
ـ في أن انقسام األجزاء العشرة للعبادة ،بين تسعة في طلب الحالل
التحديات الكثيرة التي تواجه اإلنسان
ّ وواحدة في غيرها ـ إشارة إلى
ّ
األقل، في الحياة ،ما يجعل المجال الطقوسي والشعائري هو المجال
يصوب خيارات اإلنسان عندما بد أن ّ وهو الذي يمثّل الجزء الذي ال ّ
يقدم على هذا العمل ويحجم عن ذاك ،وعندما يختار صنعة أو مهنة،
وعندما يمارسها ويجني ثمارها ،والله الهادي إلى سواء السبيل.
109
18
والظن والحسد
ّ عالج الطيَرة
الحق
ّ بالحق ،وأراد من اإلنسان أن يجعل
ّ خلق الله تعالى الحياة
ميزانًا في حياته ك ّلها ،في ما يقدم عليه أو يحجم ،وفي ما يخوض فيه أو
يترك ،وفي أهدافه ووسائله وخططه.
وقد يحصل أن يقع اإلنسان فريسة الوهم ،فيربط بين أمور ال رابط
حقيقيا بينها ،وهذا هو منشأ َ
الط َيرة ،أو التشاؤم ـ بتعبي ٍر آخر ـ ،فقد يربط ًّ
سي ًئا يصله بأنّ
خبرا ّ
اإلنسان بين طائر البوم والنحوسة ،أو قد يربط ً
بسيارته
هرة ّ
دهس ّ ِ مصيره كذلك في نهاره ك ّله ،وقد يتشاءم اإلنسان من
وتتنوع ،ولك ّنها في
ّ تتعدد أسباب التشاؤمكانت تعبر الطريق .وهكذا ّ
واحد ،وهي فكرة الربط الذهني بين األشياء ،من ٍ الحقيقة ترجع إلى أم ٍر
ثمة ارتباط حقيقي بينها. دون أن يكون ّ
الحسد والعمل
ّأما األمر الثالث الذي يذكره الحديث ،فهو الحسد ،والحسد هو
تم ّني زوال النعمة عن اآلخرين ،وهذا الحسد قد يدفع اإلنسان إلى
فخ ًا يقع
الكيد للمحسود ،كأن يشي به ُليطرد من عمله ،أو أن ينصب له ّ
فيه ،أو أن يعتدي عليه بأصناف االعتداء ،كما حصل مع إخوة يوسف
ثم رموه بالبئر
عندما كادوا له فاحتالوا على أبيهم ليرسله معهمّ ،
Q
ويرحل عنهم.
ّ لتلتقطه القافلة ويباع
ولذلك يلفت الحديث إلى أنّ على اإلنسان عندما تقتحم عليه
سلبي في الواقع .وهذا ٍ
سلوك يحولها إلى
ّ السلبية ،أن ال ّ
ّ بعض المشاعر
ُ
يوسع اإلنسان من خاللها أفقه ،على أساس أنّ
تربوية ّ
ّ عملية
ّ يتط ّلب
يقدر اإلنسان
قادر على إعطائه كذلك ،وأن ّ
غيره ٌ
الله تعالى الذي أعطى َ
112
وربما يكون قد ُح ِر َمها اآلخرون .وإنّ أكثر النتائج ال ّنعم التي هو فيهاّ ،
سو ًءا للحسد هو أن يفقد اإلنسان اإلحساس بجميل ما عنده ،فال يعود
يحس ـ في الوقت ذاته ـ بال ّنعمة التي لآلخرين ألنّه يتنعم بما لديه ،وال ُّ ّ
﴿و َل ت َُم َّد َّن َع ْي َن ْي َك إِ َلى َما َم َّت ْع َنا بِ ِه
ولعل في قول الله تعالىَ : ّ ال يملكها،
يه َو ِرزْ ُق َر ِّب َك َخ ْي ٌر َو َأ ْب َقى﴾ الدنيا لِ َن ْفتِ َن ُهم ِف ِ ِ َ
أزْ َواج ًا ِّم ْن ُه ْم زَ ْه َر َة ا ْل َح َياة ُّ َ
(((
ْ
خير إشارة إلى ذلك.
يبقى أنّ هذه اآلية إشارة إلى العالج لداء الحسد ،وهو أن يقطع
عما عند اآلخرين من النعم ،وأن ال يسترسل في الخيال اإلنسان نظره ّ
يتصورها لنفسه مع هذه ال ّنعمة ..ببساطة
ّ المرتبط بها ،واألوضاع التي
مد النظر هو الذي يجعل والتخيل؛ ألنّ ّ
ُّ المطلوب قطع حبل التفكير
اإلنسان مستغر ًقا في ال ّنعمة التي لدى اآلخر ،وفي حرمانه منها،
وضد صاحب النعمة ،وقد ّ فيتضخم لديه الشّ عور السلبي بالحرمان،
ّ
بالسلوك
يدفعه ذلك إلى العدوان النفسي بالحقد ،أو العدوان الجسدي ّ
حق نفسه.
وكالهما خطيئة في ّ
ُ العنفي،
ّ
تأثير
يتصور أن الحسد إنّما هو ٌ
ّ ردا على من ّ
ولعل في هذا الحديث ًّ
خفي تجاه المحسود؛ فإنّ ما يفترضه الحديث أنّ الحسد ٌ
دافع للبغي ٌّ
والتعدي على اآلخرين ،وليس عبارة تأثير عين الحاسد في المحسود
ّ
خفية؛ والله أعلم.
بطريقة ّ
ٍ
باحث في اكتشاف مواقع المعرفة ،وذلك أنّه أي ُ
يسلك ُه ّ مسار
ٌ ثمة
ّ
يعبر عن حاجته لذلك االكتشاف بسؤال .والسؤال قد يتع ّلق بوجود ّ
الشيء ،فنسأل بـ «هل» ،ويتع ّلق بحال الشّ يء أو بصفاته ،فنسأل بـ
«كيف» أو «ماذا» ،و «أين» و «متى» ،وغير ذلك.
يغطي مساحة نصف الجواب؛ ألنّ الجواب ّ ُ ويبدو أنّ تحديد السؤال
ُجاب على ما ال يفيدنا ،أو
السؤال ،فإذا لم نحسن صوغ أسئلتنا ،فقد ن ُ
األمر الذي جرت عليه مناهج إعداد ُ على موضو ٍع آخر .وهذا هو
األساسية،
ّ بص ْوغ األسئلة
البحوث والدراسات ،حيث يقوم الباحث َ
معمقة لتلك األسئلة .وأحيانًا ما يتيه البحث
عملية إجابة ّ
ّ ليكون بحثُه
في كثير من التفاصيل التي ال تخدم الغرض األساس منه ،وقد تجيب
(( ( الشريف الرضي ،المجازات النبوية ،ص .209أبوالفتح الكراجكي ،كنز الفوائد،
ص .٣٢٩والصدوق ،عيون أخبار الرضا ،Qج ،٢ص .٣٢والم ّتقي الهندي ،كنز
العمال ،ج ،١٠ص .٢٨٦٦٢ ،١٣٣
114
عن أسئلة ليس هي المطروحة في مقام البحث.
حرية السؤال
ّ
بحر ّية ،يعني فتح الباب
اإلفساح في المجال أمام السؤال أن ينطلق ّ
تلمس ما يشغل حقيق ًة ذهن اإلنسان السائل ،في الوقت الذي أمام ّ
ٍ
خطبة أو مهتما بنقطة أخرى ،وكم من سؤال أبطل مفعول قد نحسبه ًّ
ٍ
بإتقان؛ ألنّها لم تالمس ما يدور المحاضر أعد لها الخطيب أو ٍ
محاضرة ّ
ُ
المعد لذلك كان ينطلق من أسئلة في داخله
ّ في اهتمام المستمعين؛ ألنّ
يحسب أنّها أسئلة الذين سيحاضر أو يخطب فيهم ،ولم تكن كذلك!
وقد يكون في الحديث الشريف الذي نحن بصدده إشارة إلى
أي سؤال؛ ألنّ السؤال في ّ
حد ضرورة أن ال يشعر اإلنسان بالحرج من ّ
ُسد وتُمأل ،واإلحراج الذي يحصل ّإمامعرفية تحتاج إلى أن ت ّ
ّ ذاته فجوة
ٌ
خوف وإما
شعور بالخوف من تقييم ال ّناس السلبي للسؤال وصاحبهّ ، ٌ
من إحراج المسؤول بسبب تع ّلق السؤال بما يشير إلى إخالله بالتزاماته
ُ
اإلنسان عن جاب
أو بخرق صورته بين الناس ،وفي كليهما ال ّبد أن ُي َ
تحولت سؤاله؛ ألنّ الفجوة المعرفية التي ّ
يعبر عنها السؤال إذا لم تمأل ّ
إلى فجوة نفسية موجبة للقلق وعدم الشّ عور بالسكينة واالطمئنان والثقة.
آنيا وال يكون كذلك تافها ًّ
والسؤال التافه بنظر ال ّناس قد يكون ً
زمنية فتح آفا ًقا ٍ
بميزان العلم ومسيرته ،فكم من سؤال تافه في مرحلة ّ
فعل ،فهو فرصة علمية في مرحلة أخرى؟! وإذا كان ال جدوى منه ًّ
للتع ّلم ،وذلك عندما ندرك أن السؤال ً
فعل ال قيمة له ،وهذا اإلدراك
بحد
ال يكون حقيقة من دون اإلجابة عليه ،ولذلك يكون للسؤال قيمة ّ
115
ذاته تفترض اإلجابة ،وال يمكن إهماله.
ّأما إحراج المسؤول بالسؤال ،فهو ً
أيضا ال ينبغي أن يكون عائقًا
كل ماأمام طرح السؤال عليه؛ ألنّ موقعه يفرض عليه أن يجيب عن ّ
يتحدث به ،أو تجاه مواقفه
ّ اإلشكالية في نفوس ال ّناس تجاه ما
ّ يثير
التي ي ّتخذها ،فإذا كان صاد ًقا فال ينبغي أن يحرجه الجواب ،بل هو
فرصة ليرفع نظر ال ّناس إلى جميل ما صنع ،وإلى مشاركته العذر في
الظروف التي منعته من تحقيق ما وعدهم به إذا لم يحصل ...وإذا كان
يستحق أن يكون في موقع
ُّ محرجا له ،فمثله ال
ً كاذ ًبا فليكن السؤال
المسؤول ،وهذا قد ال تحصل معرفته من دون إحراجه بالسؤال!
أجر السؤال
وأخير ًا :وبالعودة إلى النتائج اإليجابية للسؤال على ما يبنيه
الحديث ،فإنَّ األجر ،وهو الثواب من الله الذي يكتبه لعباده على ٍ
عمل
الدنيا واآلخرة ،يحصل عليه أربعة أفراد:
ما ،سواء في ّ
1ـ السائل الذي فتح باب اإلجابة.
2ـ المجيب ،وهو المع ّلم ـ بحسب تعبير الحديث ـ ،وذلك بما
وتسد
ّ يضمنه الجواب من علم وخبرة تشفي غليل السائل، ّ
باب الحاجة إلى المعرفة لديه ،وهو ما يتط َّلب منه اإلخالص
ووافيا
ً في بذل الجهد كي يكون الجواب على طبق السؤال،
بالحاجة المباشرة وغير المباشرة.
مما أثاره السؤال والجواب.
يتزود ّ
3ـ المستمع ،وهو الذي ّ
118
المحب لهم ،وهو الذي يكون لديه الحافز لهذا اللون من الحركة
ّ 4ـ
المعرفية بين السؤال والجواب ،ولكن قد ال تتوفّر له الظروف
الواقعية ليكون أحدهم ،ولكن لديه الرغبة الكامنة التي إذا ما
وعبرت عن نفسها. فعليتها انطلقت َّ
توفّرت عناصر ّ
ّ
ولعل في هذا الفرد الرابع إشارة بليغة إلى اعتناء التخطيط اإلسالمي
بوجود جذوة العلم والخير في النفس ،ح ّتى لو لم تكن الظروف مالئمة
لكل صواب. المسدد ّ
ّ لفعليتها ،والله
ّ
119
20
أش ّد الناس ندامة
أشد الناس ندام ًة يوم القيامة رجل باع آخرتَه بدنيا غيره(((.
ّإن ّ
ٍ
مباريات ويتم اختبارها في
القوة بعناصرها الما ّد ّية ّ
عادة ما تقاس ّ
القـوة ،كالمصارعة ورفع األثقال أو رمي األحجار أو السهام ّ الختبار
أو سائر فنون الرياضة وألوانها ،وهذا ك ُّله ال َ
ريب فيه إذا ما ك ّنا بصدد
التحمل والصبر
ّ قوة جانبا ً
أيضا من ّ قوة الجسد ،والتي تعكس ً قياس ّ
والمثابرة وإرادة النجاح واإلبداع.
((( الشيخ الصدوق ،األمالي ،ص ٧٢؛ ومعاني األخبار ،ص .٣٦٦
124
الجسدي فقط ،وإنّما يمثّل الجسد ُبعدً ا من أبعاده ،وهو الذي يحيا به،
يعبر عن اإلنسان عن وجوده الفاعل ويمثّل الوسيلة التي من خاللها ّ
والعملي ك ّله.
ّ والشعوري
ّ الفكري
ّ ويشكل وعاء نشاطهّ المتحرك،
ّ
الروح التي هي «نفخة من روح الله» ،وقد
(((
فإلى جانب الجسد هناك ّ
دائما على نوازع الجسد وانجذاباته الطبيعية أرادها الله تعالى مسيطرة ً
لمثيرات الحياة ،من المأكل والملبس والمشرب والجاه والسلطة
مما جعله الله ضرورة من أجل الصراع على والجنس ،وما إلى ذلك ّ
البقاء ،أو وسيلة لتحقيق غاياتها الكبيرة ،بل هذه اللذائذ هي التي بني
وبناء الضمير
ُ األبدية في اآلخرة،
ّ جذب اإلنسان إلى مثل الحياة
ُ عليها
والمستمرة ،وهكذا.
ّ اآلنية بتلك الباقية
اإلنساني الذي يزن النتائج ّ
ولكن هذا إنّما يحصل لإلنسان إذا استطاع أن يبقي الروح في حالة
َّ
حواسنا في
ّ وتحكمّ ،
وإل فالما ّدة التي تحيط بنا كفيلة بإغراق ّ سيطرة
مما يقصم المعنى
ملذاتها وشهواتها ،ليغيب اإلنسان في سجن الجسدّ ، ّ
الحقيقي لوجودنا ،وال ينسجم بالتالي مع صالح نفوسنا وحياتنا.
الجسدية ألجل
ّ وعلى هذا األساس ،ال ينبغي أن تكون الرياضة
تتحول إلى حالة من اإلدمان الذي يثقل اإلنسانّ الرياضة ،فإنّها بذلك
ٍ
وهدف يرتبط دائما وسيلة ألجل شيء
في نفسه وروحه ،بل الرياضة هي ً
ِ
والوظيفة الك ّلية التي يسعى بالمعنى الحقيقي لإلنسان في هذه الحياة،
الجسدية.
ّ القوة
عملية بناء ّ
ّ البعد هو المستهدف فيإلى تحقيقها .وهذا ُ
وبكلمة نقول ،إنّه ال يمكننا عزل الرياضة التي يقوم بها اإلنسان عن
الرؤية والهدف من وجوده!
ـه ِمــن ر ِ
ـت ِفيـ ِ ـق َبشَ ــر ًا ِمــن ِط ٍ
(( ( قــال تعالــى﴿ :إِ ِّنــي َخالِـ ٌ
وحــي ُّ ين* َفـإِ َذا َسـ َّ
ـو ْي ُت ُه َو َن َف ْخـ ُ
ين﴾ [ص 71 :ـ ]72 ـاج ِد ََف َق ُعــوا َل ـ ُه َسـ ِ
125
قوي على نفسه
القوي ٌّ
ّ
القوي هو الذي يملك
ّ يبين أنّ اإلنسان
ويريد الحديث أعاله أن ّ
ّ
التحكم ال التحكم بنفسه ،ومن كان أملك لنفسه كان َ
أملك لغيره .وهذا ّ
توجهه
بد أن يخضع لمعيار القيم التي يلتزمها اإلنسان؛ ألنها هي التي ّ
ّ
أي اتجاه ،وتمنح وجوده معناه الحقيقي العميق. في ّ
تقدم ،إذا كان اإلنسان ال يملك توازنه مع تق ّلبات حاالته انطال ًقا ّ
مما ّ
لقوة
فأي مع ًنى ّ ً
راسخا في قواعدهّ ، النفسية ،ليكون ثاب ًتا على مبادئه،
ّ
ٍ
الجسد حينئذ؟!
محبتها لهذا عندما يتم ّلك اإلنسان الشعور بالرضى ،وت ُْؤ َسر نفسه في ّ
أي قاعدة للعقل أو للمبدأ ،ومع أو لذاك ،وتغيب عن ساحة المشاعر ّ
ذلك يقف اإلنسان في مواجهة ذلك ،ليتوازن في حكمـه على صاحبـه
القوة ،وذلك يحب عندما يحيد عن الطريق ،فهنا منتهى ّ أو قريبه أو من ُّ
اع ِد ُلو ْا َو َل ْو َكانَ َذا ُق ْر َبى﴾((( .وعندما ﴿وإِ َذا ُق ْل ُت ْم َف ْ هو قوله تعالىَ :
تضغط عليه مشاعر العداوة والكراهية ،فإنّه يملك أن يكبح ذلك ك ّله،
ً
امتثال السلبية،
ّ ليعطي لآلخر قيمته التي يستحقّها بعيدً ا عن المشاعر
﴿و َال َي ْج ِر َم َّن ُك ْم َشنَآنُ َق ْو ٍم َع َلى َأ َّال ت َْع ِد ُلو ْا ْاع ِد ُلو ْا ُه َو
لقول الله تعالىَ :
َأ ْق َر ُب لِل َّتق َْوى﴾(((.
غضبا وحنقًا ،ويبدأ العقل ليغيب في
ً وعندما تنتفخ أوداج اإلنسان
حق ،والضربة في ّ
خط الظلم، غيابات االنفعال ،لتنطلق اللكمة بغير ّ
127
وجهة التربية
التربوية ،سواء في داخل األسرة،
ّ تتوجه إليه العملية
وهذا ما ينبغي أن ّ
يتم العمل على
الديني ،بحيث ّالدراسة ،أو في التوجيه ّ أو على مقاعد ّ
تمكين اإلنسان من قياس منسوب انسجامه مع المبادئ والقيم في
الحب والبغض والغضب ّ مواقف الحياة المختلفة التي تدور بين
متنوعة من األحاسيس
تستفز عنده مجموعة ّ ّ غالبا ،هذه المواقف التي
ً
والمشاعر التي من طبيعتها أنّها تجذب اإلنسان إلى سطح األمور ال إلى
الصورة ال ك ّلها ،وبذلك قد يجانب اإلنسان عمقها ،وإلى جانب من ّ
الصواب في مواقفه نتيجة لذلك. الرشد ،وينحرف عن ّ ّ
وهذا ما يفرض على القائمين على أمور التربية والثقافة اإلسالمية
بكل ما يصدر منها من كلمات أن يظ ّلوا في حالة مالحقة للمواقعّ ،
ثم يحاولوا أن يحدِّ دوا القيمة لهذه الكلمة أو لذاك الموقف،ومواقفّ ،
استناد ًا إلى مدى انسجامها مع ِ
الق َيم والمبادئ األخالقية والقواعد
الخطة التي يلزم ا ّتباعها في تدريب اإلنسان على ّ الشرعية ،وما هي
مستوى أفضل من االنسجام ،أو لضمان عدم ً ُّ
التحكم بمشاعره لتحقيق
الخارجية.
ّ انحرافه أو انجرافه مع المؤ ّثرات
128
22
العام
ّ االهتمام بالشأن
شخصية متوازنة،
ّ شخصية الفرد المسلم
ّ يهدف اإلسالم إلى بناء
تعيش اإليمان وتجسد ِ
الق َيم والمبادئ في مفردات حياتها ك ّلها، ّ
لتحصل على القرب من الله في الدنيا واآلخرة.
يؤسس فقط لعالقة ال يعني ذلك أنّ اإلسالم ّ
يعبر عن منهج فردي ّ
أخالقية مرتبطة بتفاعل شخصه مع
ّ وربه ،أو عالقةعمودية بين اإلنسان ّ ّ
سلبا أو إيجا ًبا ،وبذلك يقتصر اهتمام أفراد آخرين يؤ ّثرون عليهٍ
شخصيا ً
ًّ
الفردية؛ بل إنّ اإلسالم يريد من اإلنسان أنّ الفرد المسلم على شؤونه
الخاص؛ بل إنّ الفصل بين هذين ّ الهم
العام إلى جانب ّ ّ الهم
يعيش ّ
الهمين َو ْه ٌم في َو ْهمٍ ؛ ألنّ ُك ًّل منهما يؤ ّثر في اآلخر بطريقة وبأخرى؛
ّ
عما يجري من حوله ،بل هو متأ ّثر ً
باعتبار أنّ اإلنسان ال يعيش معزول ّ
به بشكل مباشر أو غير مباشر.
انغالق وقسوة!
النفعية ،لوجدنا أنّ فقدان
ّ تأملنا بنحو أعمق في المسألة ولو ّ
الخاصة،
ّ للذات على شؤونها ٌ
انغالق ّ العامة هو
ّ اإلحساس بالقضايا
المجرد ،والذي ال
ّ وقسو ٌة في القلب وجفاء عن اإلحساس اإلنساني
اختباره إال عبر اآلخرين وما يقاسونَه في معيشتهم أو ما يرزحون
ُ يتحقّق
تحته من اآلالم.
حاجزا عن استدرار ً هذه القسوة القلبية ،واألنانية الذاتية ،تمثّالن
اإللهية ،والتي ورد في كثير من األحاديث الشّ ريفة أنّها لمن ّ الرحمة
ّ
«لما مات إبراهيم بكى ال ّنبي P الرحمة في قلبه ،فقد ورد أنّه ّ يعيش ّ
((( َ
رسول الله! تنهى عن البكاء ح ّتى جرت دموعه على لحيته ،فقيل :يا
رحم الوأنت تبكي! فقال« :ليس هذا بكا ًء ،وإنّما رحمة ،و َم ْن ال َي َ
رحم»(((!
ُي َ
والهم
ّ بين االهتمام
نعم ،ال ينبغي لإلنسان أن يحول االهتمام بالشأن العام إلى ٍ
جزء من ّ ّ
ينفكون عن حمل ثقل األرض وما عليها ،ويرزحون عيشه ،ككثيرين ال ّ
يشكل ذلك االهتمام الهم؛ إذ المطلوب هو أن ّ بالتالي تحت سلطان ّ
يحمل اإلنسان نفسه والمسؤولية فال ّ
ّ حافزا للعمل؛ ّأما العمل
ً الكبير
يسد
الغني أن ّ ّ فربما يكون بمقدور مسؤولية ما ال يستطيع القيام بهّ ، ّ
يؤمن لهم فرص عمل تضمن حاجات األقربين ،بأن يساعدهم ما ّد ًيا أو ّ
يحل مشكلة فقراء البلد ك ّلهم، لهم العيش الكريم ،لك ّنه ال يستطيع أن ّ
فهذا يحتاج إلى تضافر قوى آخرين على شاكلته ،وقد يحتاج إلى قوى
وحية التي
الر ّ ومؤسسات ضخمة .إنّ المطلوب هو ّ ّ في حجم دول
الروحية وبين ولكن هناك فر ًقا بين ّ َّ تحل مشكلة العالم بأسره، يهمها أن ّ ّ
المسؤولية؛ إذ ُيقتصر في المسؤولية على ما يملكه اإلنسان من طاقات ّ
َّ ِ ً ّ ُ ِّ َ َ
وإمكانيات ،كما قال تعالى﴿ :ال ُيكلف الل ُه َن ْفسا إال ُو ْس َع َها﴾ .
(((
األولى َ
فاألولى َ
يصبح لزا ًما على المشتغلين في مجال التربية والتعليم ُ وبهذا
دورا في تنمية االهتمام
عدة تؤ ّدي ً
الديني ،أن يلتفتوا إلى أمور ّوالتوجيه ّ
العامة:
بالقضايا ّ
أو ًل :توسيع أفق اإلنسان نحو إدراك القضايا الكبرى ،ومدى تأثيرها
ّ
على حياته وحياة المجتمع من حوله.
(( ( سليمان بن األشعث السجستاني ،سنن أبي داود ،ج ،٢ص .٤٥٩الجملة األخيرة
المس ِّل ُم من الهجرة.
ذكر المصنف أن أحمد زادها ،وهي :وخرج ُ
135
السلبية للقطيعة
ّ التأثيرات
الحديث يشير إلى حرمة((( الهجران بين المؤمنين َ
فوق ثالثة ّأيام؛
كبيرا،
السلبي في أوان الحدث الموجب له مهما كان ً ّ ألنّ الشّ عور
مجرد ذكرى ويتحول إلى ّ
ّ ومهما كان محقًّاّ ،إل أنّه يضعف شي ًئا فشي ًئا
مجد ًدا ،وليس إلى شعو ٍر حقيقي في اللحظة الثانية التي ّ تثير الشّ عور
الحد
تلي الحدث أو في اللحظة الثالثة وما بعدها .وقد وضع الحديث ّ
الحارة والنافرة
ّ األقصى للهجران باأليام الثالثة ،وذلك لمنح المشاعر
لكي تبرد مع الوقت؛ فإنّ طبيعة اإلنسان تجعله ينشغل بأمور كثيرة في
غمرة حياته اليومية ،بما يدفعه إلى برودة المشاعر السلبية والنسيان،
بمجرد االنفصال عن الحدث وحرارته. ّ وذلك قد يحصل
ّ
ولعل فترة األيام الثالثة التي يذكرها الحديث ،تختزن إشارة إلى
حاجة تصحيح العالقات بين المتخاصمين إلى أن تبرد المشاعر
السلبية الناتجة عن األلم والضيق .ولذلك ،ومن ناحية واقعية ،قد ّ
الثابت بعض الوقت ،في حين يمكن للمبادرة مع ُ التصحيح
ُ يتط ّلب
تتحول إلى تصحيح شكلي ،ومصالحة في المظهر، ّ النفور النفسي أن
األمر الذي يجعلها غير نابعة من الحالة النفسية الساكنة ،ولعل هذا أحد
العوامل التي تجعل الخصومة تلتهب من جديد عند أدنى مشكلة.
137
الشرعية باب للمعالجة
ّ الحرمة
ولعل تأكيد الحديث على حرمة الهجران ألجل معالجة هذا اللون ّ
من السلوك الذاتي ،والعمل على منع اإلنسان من االستسالم للمشاعر
يقوي الحالة السلبية لدى اإلنسان
السلبية والمواقف الماضية بما ّ
حد
ويعمق حالة الحقد الشخصي في داخل نفسه ،وذلك في ّ ّ ويثبتها،
ّ
اإليمانية.
ّ وروحيته
ّ ً
ذاته أذى لإلنسان
يتلخص بمبدأ جداّ ، ٌ
بسيط ًّ األسلوب الذي يؤكّ د عليه الحديث
إسالميا باألجر والثواب
ً التحية ،وهي التي ترتبط
ّ المبادرة المستندة إلى
السالم نفسه ،وبذلك تكون مبادرة الذي يطلبه اإلنسان من الله على ّ
ال يشعر فيها المبادر بالمذ ّلة؛ ألنّها صفقة مع الله تعالى ،وفي الوقت
أيضا؛ ألنّ ر ّد
بعزة نفس ًعينه تفتح المجال للتراجع لدى الطرف اآلخر ّ
السالم واجب.
األول ما عليه،
بالسالم ولم ير ّد اآلخر ،فقد فعل ّ
فإذا بادر اإلنسان ّ
فيستحق اإلثم بذلك ،ال اإلثم
ّ وخرج عن إثم الهجرانّ .أما اآلخر
سيئات في صحيفة األعمال فحسب ،وإنّما اإلثم الناشئ عن تسجيل ّ
الذي يلحق اإلنسان في كيانه النفسي والروحي نتيجة سماحه للحقد
الشخصي بأن ينمو في ذاته.
تطويع النفس
تدرب المتع ّلمين
التربوية أن ّ
ّ للعملية
ّ يبقى أن نُشير إلى أنّ من ّ
الهام
يفرقون بين
على االرتباط باللحظة الحاضرة في وعي ذواتهم ،بحيث ّ
ٍ
إساءة أو ألمٍ ،وبين ذكرى المشاعر في حال ثورانها كر ّد ٍ
فعل في لحظة
138
هذه المشاعر ،أو الصورة التي يستذكر بها العقل نوع تلك المشاعر
َ
الحدث نفسه من أقوال وأفعال ومواقف. َ
اكتنف ومستواها ،من خالل ما
الظالمات التيغض النظر عن اإلساءات أو ُّ هذا ال يعني أبدً ا َّ
نوع من البرودة والسذاجة
يتعرض لها اإلنسان ،بل على العكس ،فهذا ٌ ّ
المرفوضة! بل إنّ المطلوب هو ترك الذات ّ
لتطور مشاعرها مع الزمن
الحارة إلى
ّ وانشغاالت الحياة ،بما يؤ ّدي إلى انتقال اإلنسان من الحالة
الحالة الباردة على مستوى االنفعال النفسي ،وبذلك يكون أقدر على
وعيا لما يتط ّلبه الحاضر من المسيء!التفكير بهدوء ،وأكثر ً
هامة صعبة، طبعا ،مسألة ارتباط اإلنسان بال ّلحظة هي في ّ
حد ذاتها ّ ً
وتحتاج إلى الكثير من التدريب ،ألنّنا نعيش أكثر ما نعيش في داخل
أفكارنا ،وهي بين تجاذب الماضي وقلق المستقبل ،وبين هذا وذاك
والمتغيرات المحيطة بها ،فنتعامل مع الحاضر
ّ يغيب الوعي عن ذواتنا
بذهنية الماضي أو بقلق المستقبل ،وفي كليهما إضافات متو ّترة.
ويحضر هنا قول الشاعر:
ـت فيها
ولك الساعة التي أنـ َ والمؤم ُل ٌ
غيب َّ فات
ما مضى َ
139
٢٤
اإلسالم عقيدة وأثر
يدخ ُل في نطاق
يمكن لإلنسان أن يشهد الشّ هادتين ،وبالتالي ُ
االجتماع اإلسالمي و ُيصبح واحدً ا من المسلمين ،له ما ُلهم وعليه
يعبر عن ذلك في حياتناالشرعية ،وقد ّ
ّ القانونية
ّ ما عليهم من الناحية
لصحة االنتماء
ّ الجنسية؛ حيث تكفي هاتان الشهادتان
ّ المعاصرة بمنح
واجتماعيا ،ويجري عليه بذلك نظام
ً سياسيا
ً إلى الكيان اإلسالمي
الحقوق والواجبات.
حق االنتماء قد يكون في قرارة نفسه منافقًا، وهذا الذي حصل على ّ
ٍ
لمصلحة يرومها .وقد بمعنى أنّه ُيبطن الكفر ويظهر اإلسالم خو ًفا أو
يطبع تتحول إلى طابعٍ الفكرية لم ولكن هذه القناعة
َّ ٍ
قناعة يشهد عن
ُ ّ ّ
تتحول معها الشهادتان إلى قاعدة للسلوك والعمل، َّ الشخصية ،بحيث
ّ
أساسا لاللتزام بما أمر الله ورسو ُله
ً بالرسول
ويكون التوحيد واإليمان ّ
ونهيا عنه.
عدائيا
ًّ ال يكون المسلم
تأملنا في الروح العدوانية التي تعيشها بعض النفوس ،لوجدنا
لو ّ
تعبر فيه النفس النفس ذاتَها ،ومن ٍ
نقص ّ ُ ٍ
ضيق تسجن فيه أنّها تنطلق من
علي بن الحسين Qبقوله:
عن عقدها ،على هدى ما أشار إليه اإلمام ٌّ
(( ( سورة األنعام ،اآليتان ١٦٢ـ .١٦٣
141
ال من ذ ّلة يجدها في نفسه»((( ،وفي حديث آخر« :ماتيه إ ّ
«ما من أحد َي ُ
تجبر إ ّ
ال لذ ّلة يجدها في نفسه»(((. تكبر أو َّمن رجل َّ
ّأما اإلسالم فيرتقي باإلنسان عن ذلك ك ّله ،فال يعود الناس معه
يحب لهم الحياة ،ولو رآهم على
ُّ مسلم
ٌ إال آمنين على أنفسهم؛ ألنّه
أحب لهم الهداية ،ولو وجدهم على معصية رغب لهم بالتوبة
ضاللة ّ
بلذة تحقيق رضى الله عنهم ،ولو أبصرهم سادرين في ِ
واإلحساس ّ
غيهم طلب لهم سبل الرشاد من خالل الحكمة والموعظة الحسنة، ّ
لحقد عليهم، ٍ القوة فليس ذلك
وعندما تفرض عليه الحياة استخدام ّ
رحمة بهم كما هي رحمة الطبيب الذي يجرح مريضه ُلي ْخ ِرج
ٌ وإنّما هي
فناطق
ٌ وأما اللسان
منه داءه ،وذلك في حاالت دفع العدوان والظلمّ ...
لهم ّ
بكل خير ،ألنّه قد ُشغل بذكر الله الذي ّ
يبصره عيوبه قبل أن يلتمس
ويعرفه مواطن ضعفه قبل أن يستغرق في نقاط ضعف
للناس المعايبّ ،
اآلخرين.
وأخالقيا يرتبط بالسالم ً اجتماعيا
ًّ وبذلك يكون اإلسالم سال ًما
جميعا ،كما أشار إلى ً وصية األنبياءّ اإليماني ،وهو اإلسالم الذي كان
وب َيا َبنِ َّي إِ َّن اهيم َبنِ ِ
يه َو َي ْع ُق ُ ِ
﴿و َو َّص ٰى بِ َها إِ ْب َر ُذلك القرآن الكريم بقولهَ :
ين َف َل ت َُموت َُّن إِ َّل َو َأ ْن ُت ْم ُم ْس ِل ُمونَ ﴾(((.
اص َط َف ٰى َل ُك ُم الدِّ َ
ال َّل َه ْ
وبنا ًء على ذلك ك ّله يخرج اإلسالم من معنى االنتماء السياسي أو
143
٢٥
الصالة من اإليمان
موقع َّ
َّ
استخف بصالته، ال ينال شفاعتي من
ِ ((( َ
الحوض! ال والله! علي
وال ير ُد َّ
يرتكز هذا الحديث إلى مبدأ من مبادئ النجاة يوم القيامة؛ وهذه
الصالح الذي يقوم عليه اإلنسان
أول ما ترتكز إلى العمل ّالنجاة ترتكز ّ
ُ
األجل وانتقل اإلنسان عن دار العمل إلى الدنيا ،فإذا جاء
في حياته ّ
وقف اإلنسان أمام أعماله لتكون هي طوق النجاة له .وقد دار الجزاءَ ،
بعض عباده؛ وهذهكان من ِم ّنة الله تعالى على اإلنسان أن ش ّفع فيه َ
الشّ فاعة هي التي تكمل النقص الذي يحصل بالعمل ،وتمنح ـ بفضل
الله تعالى ـ اإلنسان الطاقة التي يستطيع من خاللها أن يكمل بعض
الصعود إلى رضوان الله ،ولذلك كانت الشفاعة مرتكزة إلى درجات ّ
أساس العمل ّأو ًل ،وليست منطلقة ـ كما هي حال شفاعة ّ
الدنيا ـ من
يتلمس
شخصية بمن ُيراد منه أن يشفع ،وهو الذي يجعل اإلنسان ّ
ّ عالقة
شفاعة أصحاب النفوذ ،بتقديم الهدايا لهم والتز ّلف لنيل رضاهم!
148
٢٦
الصبر
أنواع َّ
وصبر على ّ
الطاعة، ٌ صبر عند المصيبة،
الصبر ثالثةٌ :
ُ
وصبر عن المعصية(((.
ٌ
يتحمل
النفسية التي يستطيع اإلنسان من خاللها أن ّ
ّ القوة
يمثّل الصبر ّ
ضغط الواقع عليه؛ وعادة ما ينشأ هذا الضغط من التنافر الحاصل بين
أساسا لسلوكه ،وبين الواقع الذي المبادئ ِ
والق َيم التي يجعلها اإلنسان
ً
ضد هذه المبادئ والقيم .وليس بالضرورة أن يكون هذا الواقع يعمل ّ
ممارسا من خارج ذات اإلنسان،ً ً
ضغطا خارجيا ،بمعنى أن يكون
ً
معي ًنا ً
سلوكا ّ كالمجتمع أو السلطة السياسية التي تفرض على اإلنسان
ممارسا من ذات اإلنسان؛
ً ً
ضغطا ال ينسجم مع مبادئه ،بل قد يكون
باعتبار أنّ المبادئ والقيم مجالها العقيدة وااللتزام الفكري ،والتي قد
ضدها الغريزة والشّ هوة ،وقد تدفع اإلنسان إلى االنحراف عنتعمل ّ
مسارها المبدئي والقيمي المفترض في عالم السلوك.
152
الصبر على العمل
بالصبر على تحقيق النتائج، الصبر على العمل ،فهو يرتبط َّ وأما َّ
ّ
والذي يتط ّلب من اإلنسان التضحية ببعض راحته ،والمثابرة على
العمل ،وعدم االستعجال في الحكم عليه بالفشل ،إضافة إلى ما يرتبط
بالبعد اإلنساني للعمل الذي يلحظ بتحقيق جودة العمل ،والتي تتصل ُ
اس
يحبه لنفسه؛ فال ُيطعم ال ّن َ
المنتج الذي ّ ويطلب له ُ
ُ اآلخر في حاجاته،
يطعمه ألوالده ،وال يصنع لهم المنتجات التي ال يقتنيها في بيته، ُ ما ال
العامل أفضل ما عنده ،ويحول اآلخر إلى ٍ
جزء ُ وهكذا يعطي اإلنسان
ّ
بالشكر العفوي ُستدام ُّ
ُ متميزة ت
إنسانية ّ
ّ ٌ
رسالة من ذاته وشؤونه ،وهذا ك ُّله
يعبر عنه بلسانه.
الذي يعيشه اآلخر في أعماق نفسه ،قبل أن ّ
157
رابعا :يجب أن تلحظ البرامج التعليمية تدريب المتع ّلمين على ً
الضغط ،وذلك بشكل التحمل ،وتطوير مهاراتهم لكي تعمل تحت ّ ّ
ٍ
مدروس في وسائله ونتائجه ،وكذلك في تنمية ال ّنظر با ّتساع وعمق إلى
كل ذلك على قاعدة الثقة بالله سبحانه طبيعة الخيارات المتاحة ،وبناء ّ
وتعالى ،كواحدة من المفردات التي تحفل بها المنظومة الفكرية
والقيمية التي ينتمي إليها المتع ّلمون ،والله المستعان في ذلك ك ّله.
158
٢٧
الصداقة عطر ُ ال ِّدين!
مجرد
ّ الخ ّلة ليست
وربما يقال إنّ ُ
الخالل والمخالة :المصادقةّ .
كل منهمايمر ٌّ
المصادقة ،بل توحي باالندماج بين الشخصين ،بحيث ّ
خالل اآلخر ،بينما تُب ِرز الصداقة معنى الصدق الذي يكون بين
زيف ،ومن دونكل منهما مع اآلخر من دون ٍ الشخصين ،بحيث يتعامل ٌّ
وكالهما ـ أي الخ ّلة َّ
والصداقة ـ ُ فعل أو في شعو ٍر، نفاق في ٍ
قول أو في ٍ
ِ
ينبعان من المو ّدة التي تجمع بين شخصين وتربط بينهما ،بعد أن كان قد
ٌّ
كل منهما فر ًدا له حدوده التي تفصله عن اآلخر ،فتأتي المو ّدة لتضع
ٍ
بشكل وبآخر. جسرا أو لتلغي الفواصل
ً
ودورها
ُ المو ّدة
ومن الواضح أنّ تلك العالقة التي تقوم بين الطرفين بهذا النحو،
أساسا لتفاعل مختلف؛ ألنّ المو ّدة هي الجسر التي ُ
تعب ُر عنه ً ستكون
كثير من الصفات ليأخذها الخليل من خليله ،والصديق من صديقه، ٌ
((( الشيخ الطوسي ،األمالي ،ص .518
159
وهي الماء الذي يسير عليه زورق األفكار ليحملها إلى قناعات اآلخر
بالدليل والبرهان إثباتًا عقلية صارمة ،ال تقبل ّإل ّ ّ من دون حسابات
نفيا ،وهي ـ أي المو ّدة ـ القاعدة التي تُدخل اإلنسان في كثي ٍر من أو ً
حذرا من خدش ً التسويات والتنازالت خو ًفا من فقدان العالقة ،أو
ولعل إشارة من اآلية الكريمةَ ﴿ :يا َو ْي َل َت ٰى َل ْي َتنِي َل ْم ّ الصديق. مشاعر ّ
الذ ْك ِر َب ْعدَ إِ ْذ َج َاءنِي َو َكانَ َّ
الش ْي َطانُ َأت َِّخ ْذ ُف َلنًا َخ ِل ًيل* َل َق ْد َأ َض َّلنِي َع ِن ِّ
ول﴾((( تؤكّ د هذا المعنى بشكل واضح. ان َخ ُذ ً لِ ْ ِ
لن َْس ِ
((( راجع ميزان الحكمة ،ج ،2ص 1582وما بعدها تحت عنوان (الصديق).
165
٢٨
ص َدقة اإلنسانية!
َ
ِ ِ
بالمعروف تبس ُمك في وجه أخيك َصدَ ٌقةُ ،
وأمرك ُّ
جل في ِ
أرض الر َ
ونهيك عن المنك ِر َصدَ قة ،وإرشادك َّ ُ
الردي البصر لك َصدَ قة،
ِّ الضالل صدقة ،وبصرك للرجلِ
ٌ
صدقة، وإماطتك الحجر والشّ وك والعظم عن ّ
الطريق لك
وإفراغك من دلوك في دل ِو أخيك صدقة(((.
ُ
169
٢٩
الصالة ّ
الضائعة! ّ
والم َ
نك ِر تنه ُه َصال ُت ُه عن ال َف ْح ِ
شاء ُ من لم َ
((( لم ْيز َد ْد من ِ
الله ّإل ُبعدً ا
فعالية الصالة
دور الخشوع في ّ
الصالة وبين
نؤسس للعالقة بين ّ وعلى هذا األساس نستطيع أن ّ
الصالة تمثّل الوسيلة التي ي ّتصل اإلنسان منالفحشاء والمنكر؛ إذ إنّ ّ
بمجرد
ّ التقرب ال يحصل
ولكن ّ َّ ويتقرب بها إليه،
ّ خاللها بالله تعالى
للصالة ،بمعنى اإلتيان بأفعالها وأقوالها ،بل يحصل من األداء الرسمي َّ
خالل الخشوع ،وهو اإلحساس بالمعنى في عمق ّ
الذات ،وقد ورد في
الصالة،
الحديث عن رسول الله Pفي تفسير الخشوع« :التواضع في َّ
وأن يقبل العبد بقلبه ك ّله على ّ
ّ (((
علي :Q وجل» ،وعن اإلمام ّ عز
ربه ّ
قلب ُه خشعت جوارحه»(((.
«من خشع ُ
ومن ذلك نفهم أنّ الخشوع يتط ّلب ّأو ًل معرف ًة في العقل ،وهذه
ليست معرفة تجريدية نظرية على طريقة المعادالت ،وإنّما هي معرفة
وبينت
تعرضت للفطرةّ ، ((( يمكـن البحـث عنـه في عـدد من اآليات أو الروايات التي ّ
ـ ً
مثل ـ أنّ التوحيد فطرة الله ،ويمكن ً
أيضا أن نص ّنف الفطرة إلى فطرة نفسية روحية،
اقتصادية ..كما يمكن أن يتأثر
ّ وإلى فطرة جسدية ،وإلى فطرة اجتماعية ،وإلى فطرة
صنف باآلخر ،كأن تكون الفطرة االقتصادية القائمة على جلب ما ُيصلح واقع ٍ ُّ
كل
ُ
نعرف فيه ً
أيضا أن فطرة اإلنسان منافرا للربا ،في الوقت الذي
ً الناس االقتصادي
فتأمل.
تقتضي أن يتج ّنب اإلنسان الجشع واألنانية التي تقتضيها؛ ّ
((( الميرزا النوري ،مستدرك الوسائل :ج ،1ص .98
(( ( الشيخ الصدوق ،الخصال ،ص .628
172
تمتزج بما يحاكي المشاعر واألحاسيس .وبذلك يكون االستغراق
فتالمس
ُ بالفكرة إطاللة للنفس على مساحة من المعاني الروحية،
نوعا من السكينة الروحية على أبعاد اإلنسان ك ّلها،
القلب الذي يعكس ً
َ
ومنه الجسد.
توسعنا ً
قليل ،قلنا إنّ هذه السكينة الروحية تتج ّلى في مجاالت وإذا ّ
يجتذب
ُ وكل ما يمثّل ً
فعل ّ
يحتك به عادةًّ ، كل ماحياة اإلنسان ك ّلها ،في ّ
فعل فيما تفرضه طبيعة الحياة ،والحال أنّ هذه السكينة الروحيةر ّدة ٍ
التي لم تكن إال من خالل االرتقاء بين يدي الله ،في معنى اختبار
كل شيء ،هذه السكينة تدفع النفس لالرتفاع القُ رب من المطلق في ّ
تلقائيا عن الصغائر والدنايا ك ّلها ،وعن الفواحش والمنكرات ك ّلها..
ًّ
النفس حين تخشع بين يدي الله ال يعود ينعكس على صفحتها إ ّ
ال ُ
ما يالمس فطرتَها ،وك ّلما كانت تلك الصفحة أكثر نصاعة ونقا ًء كان
اجتذابها لكل ما هو قبيح أبعدَ وأثقل..
الصالة تنهى عن ذلك؛ إذ األمر بهذا قد نستطيع أن نفهم كيف أنّ َّ
الصالة ،وباستثمار طاقتها الكامنة فيها انطال ًقا من ٌ
مرتبط بكيفية ّ ك ّله
الصلة بالله ،والذوبان في ساحة قدسه ،واستشراف مواقع ال ّنور في ّ
كل
ٍ
سكون فيها ينفتح وكل ٍ
حرف من حروفهاُّ ، حركة من حركاتهاّ ،
وكل
على ِ
ألف مع ًنى ومع ًنى.
الحديث الذي نحن بصدده ،فإنّ
ُ وبذلك نفهم ً
أيضا ما رمى إليه
الصالة التي ال تنهى عن المنكر والفحشاء ليست صالةً ،وإنّما هي
إلزامي يحصل فيه اإلنسان على سقوط الواجب بالمعنى
ّ ٍ
لواجب أداء
ٌ
الفقهي ،ولك ّنه ّ
يظل في السطح ،وال ينفذ إلى عمق النفس ليصقلها
173
وتنعكس إشراقتها على أفعاله وأقواله وا ّتجاهاته ك ّلها في الحياة.
يزداد بذلك ّإل ُبعدً ا؛ ألنّ الله تعالـى ـ كما ورد في القرآن ـ ال ُ فهو ،ال
ينظر إلى الشكل وإنّما إلى المضمـون ،وهـو ما أشـار الله تعالى إليه
وم َها َو َل ِد َماؤُ َها َو َل ِكن َي َنا ُل ُه ال َّتق َْوى ِم ُ
نك ْم﴾(((؛ بقولهَ ﴿ :لن َي َن َ
ال ال َّل َه ُل ُح ُ
ال بمعنى أنّ الشكل ال يصبح ذا قيمة ـ كما تحاول بعض اال ّتجاهات
طريق لتحصيل المعنى وتثبيت المضمون في ٌ ُنظر ـ ،بل الشكل أن ت ّ
وتعبر وتسعى بين الناس وفي ٍ
تتحرك ّ ّ صالة تتحول إلى ّ النفس ،لكي
دروب الحياة.
يجب العمل عليه تربو ًيا في التوجيه الديني ،بحيث ال ُ وهذا ما
يتم
الصالة في حدودها الفقهية ،في الوقت الذي ّ ُيكتفى بتعليم أداء ّ
مما يتط َّلب الكثير
بنوعية األداءّ ،
ّ فيه إهمال الجوانب األخرى المرتبطة
للتقدم ،كما يرتبط
ّ المستمر
ّ من الجهد في التدريب العملي ،والتقييم
باألجواء التي يحيط اإلنسان نفسه بها ،سواء ما يرتبط بالبيئة المكانية
وكونها تساعد على التركيز ،أو الوسائل التي يمكن أن تصرف ذهنه
خارج نطاق الصالة ،كالهاتف الذي ُي َترك مشغَّ ًل ويمكن أن يرنّ في
مما ورد في النصوص مما يمكن االستفادة فيه ّ
أي لحظة ،وغير ذلك ّ ّ
الشرعية ،أو األبحاث التي تدرس موضوع التركيز الذهني والروحي
ووسائل تحقيقه؛ والله أعلم وأحكم.
((( الشيخ الصدوق ،من ال يحضره الفقيه ،ج ،٤ص ٣٦١؛ الحميري القمي ،قرب
اإلسناد ،ص .٢٨
((( ابن منظور ،لسان العرب ،ج ،12ص.373
175
وعلى هذا األساس ،يقوم افتراض الظلم على أساس تحديد النظام
الذي تثبت فيه األشياء في مواضعها ،فيعمد اإلنسان إلى اإلخالل بذلك
يسمى ٍ
مسبق لما ّ فيظلم ،وال يمكن الحديث عن الظلم من دون تحديد
مما يجعل الحديث عن نظام الحقوق الثابتة بين األشياء واألشخاصّ ،
الظلم من دون مرجعية حقوقية أو قيمية أمر ًا ال معنى له.
نفسي
ٌّ ُّ
الظلم مرض
الحديث الشريف إذ يطرح عالمات الظالم ،فهو يشير بشكل غير
ظلما ناش ًئا من النفسية المرتبطة بالذات؛ فهو ليس ً
ّ مباشر إلى بواعثها
متأصل في داخله. َ ظروف خارجية ت ِ
ٍ
شيء ٌّ اإلنسان فيه ،وإنّما هو ُوقع ّ
ولعل الظالم يختزن منطق الضعف الذاتي الذي ُيفقده التوازن أمام ّ
حقوق اآلخرين؛ فإذا كان ذلك اآلخر ضعي ًفا أمامه ظلمه بالغلبة الما ّد ّية
مال يسلبه منه ،وقد فاستولى على حقوقه ،وهذه الحقوق قد تكون ً
جاها فيعمل الظالم على سلخه عنه ،وغير ذلك .وهذا ما نجده يكون ً
بالقوة ،ولك ّنهم
ّ في كثير من نماذج الظالمين الذين يوحون لآلخرين
يعيشون ـ في الحقيقة ـ ارتهانًا للحاجة التي لدى اآلخرين ،وعدم
الشعور بالقناعة التي توحي بتوازن الشخصية .وقد ورد في بعض
الضعيف»(((. األدعية« :وإنّما يحتاج إلى ُّ
الظلم َّ
تعبر عن نفسها بسلب الحقوق ـ
هذه الشخصية الضعيفة للظالم ّ
ممن فو َقها؛ وفي الحديث إشارة إلى ُظلم العبد ّ
لربه حيث تستطيع ـ َّ
حق لله تعالى على العباد ،وشأن اإلنسان هو
بالمعصية؛ إذ الطاعة ٌّ
178
٣١
ه ْين!
ذو الوج َ
ٍ
بوجه. ٍ
بوجه و ُيدبِ ُر بئس العبدُ عبدٌ له وجهان؛ ُيقبِ ُل
وإن ْاب ُت ِل َي خَ َذ َله(((.
حسدَ ُهْ ،المسلم خَ ْي ًرا َ
ُ إن أوتِ َي أخو ُه
((( الميرزا النوري ،مستدرك الوسائل ،ج ،9ص 96؛ بحار األنوار ،ج ،٦٩ص .٢٠١
(( ( سورة البقرة ،اآلية .10
((( سورة النساء ،اآلية .١٤٥
179
مرضا من األمراض التي إليه اآلية األولى المذكورة ،في أنّ النفاق يمثّل ً
سوية؛ ألنّ اإلنسان عندما ينافق فإنّه يبذل تصيب القلب ،وليس حالة ّ
سجيته،
ّ بعفويته ،وال يبرز على
ّ يتصرف
ّ جهدً ا في إخفاء نفسه ،فال يعود
بل يكبت مشاعره وأحاسيسه ،ويخفي أفكاره ومواقفه ،وبذلك يفقد
تتحول
ّ المجتمع ،وبالتالي
َ يتلبس
كائن ّ ويتحول إلى ٍ
ّ اإلنسان وجوده،
َ
اإلنسان تجمع أحوال المجتمع وتق ّلباته وإرادته ،وهذا ما ُيفقد ذاتُه إلى ّ
الح ّر عنها
نفسه في مجاالت الحياة الواسعة ،وانحصار التعبير ُ حضور ِ
َ
ضيقة ،إن لم يفرض عليها النفاق أن تخفي نفسها في تلك في دائرة ّ
الخاصة ً
أيضا. ّ المواقع
أيضا ،أنْ ليس ضرور ًيا أن يقتصرولع ّلنا نفهم من اآلية أعاله ً
العذاب األليم الذي يصيب المنافقين على العذاب األخروي ،بل قد
جراء ما يعيشه المنافق من هذه الحالة القلقة يكون عذا ًبا دنيو ًيا ً
أيضا ّ
كثيرا من المشاكل النفسية.
التي تراكم ً
180
الخلفيات التي ينطلق منها الناس في أفعالهم وأقوالهم.
ّ إليها لمعرفة
ينبه إلى خطورة مصاحبة المنافق، وهذا ما يؤكّ ده هذا الحديث الذي ّ
وذلك أن مصاحبته مرتبطة بطبيعة سير الحياة ،فإن كانت الحياة مقبلة
التحديات
ّ مقبل بوجهه عليه ،وإن أدبرت الحياة وأقبلتفإنّه سيكون ً
التي تفرض المواقف الصادقة ،رأيت المنافق يبحث عن مصلحته،
والتي أول ما تتمثّل في خذالن تاريخ الصحبة ك ّله.
182
هنا سيجد اإلنسان نفسه أمام إعادة تقويم لذاته انطال ًقا من احتكاكها
بالمجتمع ،فيخفي عيوبه ونقائصه ال نفا ًقا ،وإنّما لكي ال َّ
يذل نفسه أمام
سد ذلك النقص ،وإصالح ذلك العيب. ال ّناس ريثما يعمل على ّ
ّ
الخط المقابل قد ُيدرك اإلنسان أنّ المشكلة في السلوك الثاني :في
االجتماعي الذي ُيعاب على مخالفته و ُيالم ،وهذا ينبغي أن ّ
يشكل
تأملنا في دافع
دافعا لتغيير ذلك السلوك لكي ينسجم مع القيمة .ولو ّ ً
التغيير هذا لوجدنا أنّه يرتكز إلى مبدأ الحذر من النفاق نفسه .ذلك
ً
معزول في مشاعره وأحاسيسه عنه، أنّ اإلنسان ال يعيش في المجتمع
مما يجعله ـ في بل هو خاضع ال محالة للون من الضغط االجتماعيّ ،
احتكاكه بالسلوك االجتماعي السيئ ـ أمام خيارينّ :إما أن ينسجم مع
ٌ
انحراف عن القيمة؛ ألنّنا افترضنا أنّ ذلك السلوك االجتماعي ،وهذا
وإما أن ينافقَ وبذلك يعيش ذلك السلوك االجتماعي ال ينسجم معها؛ ّ
حالة من االزدواجية في الشخصية بين ما يؤمن به ويسعى إليه وبين ما
مما يكون في ذاته حالة من يفرضه المجتمع من مماشاته في سلوكهّ ،
التوجه ،واهتزاز الذات ،وهو ما يدفع عاد ًة
ّ حاالت تأزيم النفس ،وقلق
إلى التنازل عن القيمة لكي يحظى اإلنسان بالقبول االجتماعي ،أو في
فرارا بدينه ومبادئه.
حاالت قليلة ـ يدفع ذلك اإلنسان إلى الهجرة ً
واستنا ًدا إلى ذلك ك ّله ،كان هذا الحديث المروي عن رسول الله
لينبه اإلنسان إلى خطورة مصاحبة هذا الصنف من الناس؛ ألنّّ
P
األول :حيث ُيفقده فرصة تصحيح الخطأ وإدراك
وباله عليه مزدوج؛ ّ
الصواب الذي ينطلق من الوضوح في حركة الناس من حوله ،والثاني:
أي ساحة مواجهة مع الواقع المنحرف؛ ألنّ
حيث يهرب هؤالء من ّ
183
المواجهة قد تفقدهم بعض امتيازاتهم التي حصلوا عليها في مراحل
الرخاء.
بد لنا في النهاية من اإلشارة إلى أنّ تربية الشخصية
يبقى شيء ال ّ
على عدم النفاق يتط ّلب حركة تربوية في ا ّتجاهين:
األول :تقوية عناصر الشخصية على التعبير عن ذاتها أمام المجتمع،
ّ
استناد ًا إلى منظومة ِ
الق َيم والمبادئ التي تحكم اإلنسان الملتزم.
الثاني :وضوح الفوارق العملية ـ إضافة للفوارق المفهومية ـ بين
النفاق وبين مداراة الناس ،والحاالت التي تفرض على اإلنسان أن
وخصوصياته بعيدً ا عن أعين الناس،
ّ يحتفظ لنفسه ببعض أسراره
الشر المؤذية لدى
الذات نتيجة وجود نوازع ّ انطال ًقا من الحفاظ على ّ
ٍ
بشكل طبيعي ،والله كثير من النماذج التي تعيش في قلب المجتمع
الهادي إلى سواء السبيل.
184
32
األرشيف السيّئ!
186
اإليمانية
ّ األخوة
ّ
ومن ذلك نؤكّ د على الفكرة التي ذكرناها ً
مرارا ،وهي أنّ اإليمان
عامة يختزنها اإلنسان في قناعاته العقدية ،وإنّما هي
مجرد فكرة ّ ليس ّ
دائم لهذه الفكرة العامة في تفاصيل الحياة كلها ،وهو ما
حي ٌ تجسيد ّ
واعيا لحركة إيمانه ،والمنزلقات التي
ً يح ّتم على اإلنسان أن يكون
يمكن أن تؤ ّثر عليه.
األخوة ،والتي يعيش فيها اإلنسان المؤمنّ إنّ اإليمان يتج ّلى في
تستمد نقاءها من
ّ االندماج مع أخيه المؤمن ،في حالة روحية صافية
يتحول هذا اإليمان إلى كف ٍر،
ّ محبة الله ورعاية مواقع إرادته ،بينما قد
ّ
نسبيا ،عندما تفقد هذه العالقة هذا الصفاء اإليماني الم ّتصل بالله
ولو ً
تعالى.
أشد ما
األمة إلى ّ ينبه ّ
وهو ّ
موحيا للنبي P
ّ ً ونستذكر هنا حديثًا
داء األمم من «دب إليكم ُالمروي عنه ـ ّ :ّ يخاف عليها ،فيقول ـ في
قبلكم ،الحسد والبغضاء ،والبغضاء هي الحالقة .ال أقول تحلق الشّ عر،
الدين .والذي نفسي بيده ال تدخلوا الج ّنة حتى تؤمنوا، ولكن تحلق ّ
السالم
يثبت ذاكم لكم؟ أفشوا ّ أنبئكم بما ّ تحابوا .أفال ّ
وال تؤمنوا ح ّتى ّ
التحية ،وإنّما السالم الداخلي الذي
ّ مجرد
بينكم» .والسالم هنا ليس ّ
(((
المحبة لآلخر،
ّ تورثه التحية في معناها ،فيعيش فيه اإلنسان معنى
سلبي قد يودي بالعالقة ،أو يؤ ّدي
ّ أي شعو ٍر وبذلك ّ
يكف عن استثارة ّ
الدين من نفسه ومواقفه.
بها إلى بعض المواقف التي تحلق ّ
((( ابن عبد البر ،جامع بيان العلم وفضله ،ج ،٢ص .١٥٠
187
عملية
ّ آليات
اآلليات التي تساعد على إعمال وفي نهاية المطاف قد نجد أنّ من ّ
درب اإلنسان فكره على المبدأ الذي يشير إليه هذا الحديث ،هو أن ُي ّ
عدم االحتفاظ بالذكريات السلبية ،أعني تلك التي تمثّل عيو ًبا لآلخرين،
ً
أفعال مسيئة قاموا بها ،قد ال يستطيع المرء حذفها من ذاكرته تما ًما، أو
يغذيها اإلنسان عبر استذكارها المتكرر كلما خبت، بد أن ال ّولكن ال ّ
وتثبيت الشعور السلبي تجاهها ،وذلك كما يلي:
خطاء ،وأنّ اإلنسان ال تختصره كل ابن آدم ّأو ًل :وعي مبدأ أنّ ّّ
أخطاؤه ،وإنّما قد تكون حوافز للتوبة والتصحيح وإعادة وصل العالقة
كل واحدمما سبق ،فإذا كان هذا ما يقع فيه ُّ
فاعلية ّ
ّ مع الله بطريقة أكثر
فلم نستبعده عن اآلخرين؟!م ّناَ ،
والتلذذ بالحديث عن أوضاعّ والتجسس
ّ ثانيا :االبتعاد عن الغيبة
ً
محرم في القرآن والس ّنة ،يساهم
اآلخرين السلبية ،فهذا األمر ،مع أنّه ّ
في كبح جماح النفس في استعادة الذاكرة وشحذها باستمرار.
ثالثًا :النظر بعينين إلى ال ّناس وما يصدر منهم ،أي بالتركيز على
إيجابياتهم وتعويد الذهن على ذلك ،إضافة إلى مالحظة ظروفهم التي
حد ذاته تخفيف تؤ ّثر في حركة إرادتهم وتدفعهم إلى الخطأ ،فهذا في ّ
وسعيا إلى
ً ميل لها السلبية التي عادة ما تكون ال ّنفس أكثر ً ّ من الصورة
ار ٌة بِالس ِ
س َأل َّم َ
وء ُّ التركيز عليها ،كما يوحي بذلك قوله تعالى﴿ :إِ َّن ال َّن ْف َ
إِ َّال َما َر ِح َم َر ِّب َي﴾(((.
تكرهه من غيرك»(((.
اإليجابية تنمو
ّ الروح خامساّ :
الدعاء لآلخرين بالهداية ،وهذه ّ ً
الدائم لألشخاص الذين يرى فيهم عيو ًبا ،وهو ما قد يمثّل
بالدعاء ّ
ّ
والدعاء لهم بظهر الغيب،
الحكمة من استحباب االستغفار للمؤمنين ّ
عبد مسلمٍ يدعو ألخيه بظهر الغيب ّإل قالففي الحديث« :ما من ٍ
الملك :ولك ٍ
بمثل»(((.
يتميز عن عقل يتميز اإلنسان بالعقل عن غيره ،ح ّتى أنّ عقله ّ ّ
ومبدعا،ً متحر ًكا
ّ قابليات عقل اإلنسان تجعله ّ المالئكة ،وذلك أنّ
محددة .وهذا ما نستوحيه من قوله مهمات ّ مبرمجا وفق ّ ً عقل وليس ً
الئِ َك ِة َف َق َ
ال ﴿و َع َّلم آ َد َم َ
األ ْس َماء ُك َّل َها ُث َّم َع َر َض ُه ْم َع َلى ا ْل َم َ تعالىَ َ :
ين * َقا ُلو ْا ُس ْب َحان ََك َال ِع ْل َم َل َنا إِ َّال َأنبِئُونِي بِ َأس َماء َهـؤُ الء إِن ُكن ُتم َص ِ
اد ِق َ ْ ْ
ِ ِ َما َع َّل ْم َت َنا إِن ََّك َأ َ
العملية يم﴾ ،فوضعهم أمام التجربة يم ا ْل َحك ُ نت ا ْل َعل ُ
(((
ّ
بمهمة الخالفة التي جعلها الله ّ التي أثبتت أنّهم عاجزون عن القيام
تعالى آلدم على األرض.
الحية التي يقتنع بها
ّ وإذا عدنا إلى اإليمان ،فإنّه يمثّل الفكرة
العقل ،وينبض بها الوجدان .وك ّلما كانت القناعة بالفكرة أوضح ،كان
أشد ،بحيث إنّ العقل هو الذي يعطي اإلشارة للقلب اإلحساس بها ّ
بالتفاعل مع ما فيه.
191
نوعان من المعرفة لإليمان
ُ
فضل اإليمان مرهونًا بنوعين من وانطال ًقا من ذلك ك ّله ،سيكون
المعرفة:
تتضمن المعرفة العميقة بالمفاهيم
ّ الدينية ،وهي
األول :المعرفة ّ
ّ
اإلسالمية ،سواء منها ما يرتبط بالفكر أو العقيدة ـ بمعناها الواسع
بالسلوك ،في ما هي األحكام
يبينه اإلسالم ـ أو ما يرتبط ّ الشّ امل ّ
لكل ما ّ
األخالقية.
ّ الفقهية والمبادئ
الدينية ترتكز على منهج الهام هنا االلتفات إلى أنّ المعرفة ّ
ّ ومن
متعددة في
ثمة مناهج ّ ي ّتبعه الباحث لفهم ال ّنصوص ،ومن المعلوم أنّ ّ
بد لإلنسان من وعي االختالفات فيما بينها ،وتأثير اختالفها ذلك ال ّ
طبعا ليس المطلوب من على النتائج التي يتب ّناها الباحثون أو العلماءً .
تفصيل ،بل يكفي أن يعرفً يتعرف على ذلك
المختص أن ّ
ّ اإلنسان غير
بعموميتها ،أي إنّ هناك اختال ًفا في بعض قواعد التفكير والتي
ّ المسألة
تختلف معها النتائج؛ فإنّ هذا المقدار هو المطلوب ّ
لتقبل االختالفات
في الدائرة الدينية ،وعدم تحويل االختالف إلى مشكلة في العالقات.
وفي مطلق األحوال ،نكتفي هنا باإلشارة إلى أنّ ما نعتقد أنّه يمثّل
معيارية في
ّ مرجعية
ّ ّ
األدق ،ذلك الذي ي ّتخذ القرآن الكريم المنهج
الفهم وتوجيه المعرفة بالحديث ،فإنّ ما يوافق كتاب الله ُيقبل ،وما
ُ
يخالف ُه ُيترك(((.
193
التزود بالمعرفة بتق ّلباتها وأوضاعها ،وما يخفيه
ّ الحياة ،وعزفت عن
سطح األمور منها ،وجدنا أنّ هذه النماذج انحرفت ـ باسم اإليمان ـ
ٍ
أدوات لهؤالء، إلى السير مع خطط المستكبرين والمنحرفين ،فكانت
وإلبا على المؤمنين!
ً
ِ
ولع ّلنا نستطيع أن نشير ،ولو لما ًما ،إلى أنّ واحد ًة من ّ
أهم
استراتيجيات الشيطان في إغواء ابن آدم هي التزيين((( ،وهي تعني
ّ
الحق ،والظلم بصورة العدل ،فإذا رآه من يرتبط
ّ تغليف الباطل بغالف
مخلصا في اعتقاد نسبته لله ،واندفع في العمل
ً بسطح األمور أخذ به
به نشدانًا لرضوانهّ .أما من يتس ّلح بالمعرفة ،وال ينحصر فكره بسطح
البراق ،فهو الذي يكون أقدر على مواجهة األشياء ،وال ينبهر بغالفها ّ
مما يخالفها .وهذاخطط الشيطان ،وتحديد ما يوافق حقيقة مبادئه ّ
وفاعليته
ّ يوضح لنا ،بد ّقةّ ،
الدور الذي تلعبه المعرفة في تعميق اإليمان
في حياتنا.
((( راجع على سبيل المثال سورة :األنعام ،43األنفال ،48التوبة ،37النحل ،63النمل
،24العنكبوت .38
194
والتحديات المعقّدة ،ال يكون بفك ٍر ضعيف ،قائمٍ على تشكيل القناعات
ّ
ّ
المتحكمة بحركة تبعا للسائد ،أو لِ َما تمليه الظروف ،أو موازين القوى
ً
سلبيا من
ً يقف التوجيه اإلسالمي موق ًفا المجتمع واإلنسان .ولذلك ُ
الدينية عمو ًما على الخرافة ،وعلى المبالغات بناء العقيدة والمعرفة ّ
بالغلو؛ ذلك ك ُّله ألنّ انعكاساتها على بناء الشخصية
ّ التي اصطلح عليها
أمر خطير وليس تحكم الشيطان بصاحبهاٌ ، ّ وتوجهاتها ،وبالتالي
ّ
هامشيا.
ً
ومن جهة أخرى ،فعندما يبني اإلنسان إيمانه على المعرفة المستندة
الحق ،والقائمة على الدليل والبرهان ،فإنّه ال يمكن أن يخشى النقد ّ إلى
الحق ضا ّلته ،والباطل َح َذ ُره ،ولذلك
ّ الموجه إليه من اآلخرين؛ ألنّ
ّ
َ
يتوان ح ّتى يحذفه ،وإذا ما فتح موضعا للباطل لم
ً النقد
إذا ما كشف له ُ
وضمه إلى أفكاره وقناعاته. أسرع لتلقّفه
َ ٍ
شيء من الحقِّ عينيه على
ّ
ولع ّلنا في نهاية المطاف نفهم لماذا رفع اإلسالم من شأن العلم
ح ّتى كان من أفضل األعمال ،وهو الذي تتكثّف معه العبادة ،فورد عن
ينفعك معه قليل «أفضل األعمال العلم ِ
بالله .إنّ ُ
العلم ُ
َ ُ رسول الله :P
(((.
كثير ُه» ِ
العمل وال ُ ينفعك معه ُ
قليل وكثير ُه ،وإنَّ الجهل ال ُ
ُ العمل
عصبية،
ّ عصبية ،وليس م ّنا من َ
قاتل على ّ ليس م ّنا من دعا إلى
عصبية(((.
ّ وليس م ّنا من مات على
العاطفة وتوازنها
اإلنسانية ّ
تشكل عما ًدا من أعمدة ّ من البديهي القول ،إنّ العاطفة
يحول اإلنسان إلى نو ٍع من الوجود
بناء الشخصية المتوازنة ،وفقدانُها ّ
((( سليمان بن األشعث السجستاني ،سنن أبي داود ،ج ،٢ص .٥٠٣
196
ولكن المطلوب في ّ البارد ،الفاقد للحيوية تجاه الحياة ومؤ ّثراتها.
الشخصية؛ ألنّها بذلك تُفقد اإلنسان
ّ حركة العاطفة أن ال تطغى على
الخارجية
ّ الميزان الموضوعي لحركته ،وتجعله رهن الموجودات
المؤ ّثرة ،كالجماعة والقبيلة والحزب والحركة واإلطار ،أو منسا ًقا
وراء المؤ ّثرات الداخلية في ما يرتبط بالغريزة والشهوة الطبيعية التي
تستثيرها أسبابها في واقع الحياة.
وعلى هذا األساس ،فإنّ ما يحكم حياتنا ك ّلها هو منظومة ِ
الق َيم،
بصحتها ،والتي تُبنى على الفكر العميق في ّ والمفاهيم التي نعتقد
ُ
المستمدة من مصادرها المشروعة ،سواء في مجاالتناّ براهينه وأد ّلته
االجتماعية أو السياسية ،و كذلك في المجال الفردي؛ وما تصنعه
أي قيمة ،فيصبح االسم الذي العصبية هو تفريغ دائرة االنتماء من ّ
ّ
تتسمى به ،أو العنوان الذي تتعنون به ،هو الذي يمثّل المائز بين القيمة
ّ
والمتسمى باسمها
ّ وعدمها؛ وبالتالي يصبح من هو في داخل الدائرة،
القيمة ك ُّلها ،ويفقد من هم خارجها ّ
أي قيمة. ُ له
العصبية انغالق
ّ
اإلسالمية
ّ المذهبية
ّ العصبية وجدنا أنّه في عالم االنتماءات
ّ بسبب
دينيا ،أفضل من غير
يصبح المنتمي إلى المذهب ولك ّنه غير ملتز ٍم ًّ
صحيحا
ً دينيا بحسب قناعته .ويصبحالمنتمي إلى المذهب ولك ّنه ملتزم ًّ
يتحرك به الحزب ،فيّ ٍ
باطل في العمل الحزبي أن يدافع اإلنسان عن
رمز الحزب
الحق الذي يقترحه الحزب المناوئ ،ويصبح ُ ّ مقابل رفض
رئيس اإلطار هو الميزان للقبول والرفض ،بمعزل ُ رأس القبيلة أو
أو ُ
197
الحق والعدل والخير ،وسائر ما يندرج
ّ عن مدى احتكامه إلى موازين
في منظومة القيم وقواعد السلوك القيمي واإليماني.
كل دائرة وعلى هذا ينتقل ميزان القيمة من مقدار ما تشتمل عليه ّ
الحق في كلماتها أو مواقفها أو مشاريعها ،إلى أن تتمحور حول ّ من
صنما يؤ ّلهه ً العنوان نفسه؛ وبذلك يصبح عنوان الجماعة أو اسمها
نطبق عليه قوله تعالى ـ في إشارة إلى أصنام أتباعه ،ونستطيع بذلك أن ّ
ُ
سمي ُتموها أن ُتم وآباؤُ كم ما أن َْز َل الل ُه
أسماء َّ
ٌ هي ّإل
﴿إن َ
المشركين ـ ْ :
بها ِم ْن ُس ٍ
لطان﴾(((.
مجر ًدا عن منظومة لمعيارية االنتماء ّ
ّ ولعل من أوضح اآليات طر ًدا ّ
ٍ
حديث من قوله تعالى﴿ :يا ُّأيها القيم العليا ،ما ذكرناه وشرحناه لغير
لله ولو على أن ُْف ِس ُكم أو
هداء ِ
سط ُش َ بالق ِ
امين ِ
قو َالذين آمنوا كونوا ّ َ
ألغيت قيمة القرابة والذات لمصلحة الوالدَ ْي ِن واأل ْق َربين﴾ ،حيث َ
(((
التطور
ُّ العصبية مانع من
ّ
العصبية على المجال التربوي والعلمي،
ّ بد أن نُشير إلى تأثير
وال ّ
بالضرورة على
التطور ،والذي يقوم ّ
ّ حاجزا أمام
ً العصبية
ّ حيث ّ
تشكل
النقد ،بما يعنيه النقد عملي ًا من العمل على استكشاف عناصر الفكرة
الحق فيها من الباطل ،وما
ّ أو الموقف من الناحية الموضوعية ،لتمييز
200
تحول
العصبية في تأثيراتها ّ
ّ ينسجم فيها مع القيمة وما يتنافر معها.
يبرر للجماعة
همه أن ّ تبريريّ ،
ّ ٍ
كائن نتج للمعرفة إلىالم َ
اإلنسان ُ
اضطره ذلك إلى ّ
التنكر للمنهج العلمي ّ معتقداتها وتقاليدها ،ح ّتى لو
للحقّ ،
فكل ّ نفسها إلى محو ٍرتتحول الجماعة ُّ الرصين في الفكر .هنا
الحق ح ّتى لو لم يكن كذلك حقيقةُّ ،
وكل ما هو ّ ما في داخلها يمثّل
الحق معه.
ّ يخالفها من خارجها يمثّل الباطل ح ّتى لو كان
سلطوية
ّ تحول المواقع القيادية إلى مواقع
للعصبية أن ّ
ّ كما يمكن
قمعية ،تمارس الضغط على األفكار المن َتجة ،واإلبداعات المحقّقة، ّ
بمجرد مخالفتها لرأيها ،وأحيانًا لمزاجها ،وثالثة الستثارتها اإلحساس
ّ
ٍ
بأي حوار أو
السماح ألصحابها ّ بالضعف أمام قوة اآلخرين ،من دون ّ
والدليل عليه .وهذا لم
الحق ّّ يبين جدواها في ميزاننقاش يمكن أن ّ ٍ
الحق لنفسها،
ّ الدينية التي احتكرت
القيادية ّ
ّ تسلم منه ح ّتى المواقع
وسائرا في طريق الباطل ،في
ً للحق،
ّ واعتبرت من يخالفها مخال ًفا
الدين ،ليس بالضرورة أنّها
تعبر فيه عن اجتهادات في فهم ّ الوقت الذي ّ
تمتلك العصمة والسالمة من الخطأ.
201
واقتناعه
ُ يحكمه،
ُ ُ
ونقاشها هو الذي تهمه،
غيره .فقط الفكرة هي التي ّ
خضوعا لقناعته ،وليس لصاحبها!
ً ٍ
عندئذ يكون بها
مقدسات لدى الجماعات وميادين هذا ال يعني استبعاد فكرة وجود ّ
أيضا عن حركة االكتشاف المقدسات ليست بعيدة ً ّ ولكن هذه
ّ األفكار،
فكرية بأنّه
ّ اعتقادية
ّ يمارسه العقل والفكر ،فالقداسة هي قناعة ُ الذي
تقبل ال ّنقاش ،ولذلك ينقطع الحق والعدل بدرجة واضحة تما ًما ال ُ ّ يمثّل
النقدي عنده .وهذا ال يمنع ـ في الوقت ذاته ـ من أن ال يكون ّ السؤال ّ
المقدس غير القابل للنقد إلى أمرٍ ّ يتحول
ّ مقد ًسا عند اآلخرين ،أو أن ّ
المتغيرات في الفكر ،أو مع بروز بعض المعطيات ّ قابل له نتيجة بعض ٍ
مقدس .ذلك ك ُّله ُيبقيالمقدس إلى غير ّ ّ تحول معهاواالكتشافات التي ّ
تتحول إلىعصبية ،بحيث ّ ّ متحركة ،وال يغلقها في دائرة
ّ الحوارية
ّ الحالة
والبرهان.قداسة خاضعة للفكر ُ ٌ دائما
قداسة من خارج الفكر ،بل هي ً
العصبية
ّ للحد من
ّ آليات
الضوء على بعض وانطال ًقا من ذلكّ ،
ربما يكون من المفيد تسليط ّ
العصبية ،نذكرها وفق اآلتي:
ّ الحد من
اآلليات التربوية التي قد تنفع في ّ
ّ
العبودية لله تعالى ،وتحقيق االستعداد للسير وفق إرادة ّ أو ًل :تنمية ّ
أساسا ليبني اإلنسان عليه أموره ً أمر وفي ما نهى ،لتكون الله ،في ما َ
الذات أمام المبادئ ،على هدى قول الله تعالى: تضمحل ّّ ك ّلها ،وبذلك
﴿و َما َكانَ لِ ُم ْؤ ِم ٍن َو َل ُم ْؤ ِم َن ٍة إِ َذا َق َضى ال َّل ُه َو َر ُسو ُل ُه َأ ْمر ًا َأن َي ُكونَ َل ُه ُم َ
ا ْل ِخ َي َر ُة ِم ْن َأ ْم ِر ِه ْم﴾(((.
203
35
إذاعة الفاحشة
ٍ
بشيء أذاع فاحش ًة كان كمبتدئها ،و َم ْن َّ
عي َر مؤم ًنا من َ
يركب ُه(((.
لم ُيم ْت ح ّتى َ
206
الدنيا قبل أن مؤج ًل لآلخرة ،بل آثاره ّ
تتحرك لتصيب اإلنسان في ّ ليس ّ
يغادرها.
التقنيات الحديثة
ّ دور
والبرمجيات الحديثة التي
ّ التقنيات
ّ الهام هنا أن نشير إلى أنّ
ّ من
شكلت خطورة مضاعفة آليات العولمةّ ، ٍ
تحولت إلى جزء فاعل من ّ ّ
السلبيات والفواحش أصبحت محكومة ّ في هذا المجال؛ ألنّ إذاعة
المسماة بالحداثة أو ما بعد
ّ لمنظومة قيم أنتجتها المرحلة البشرية
يتم التنظير لها ـ عن
الحرية في التعبير ،التي ّ
الحداثة ،وعلى رأسها قيمة ّ
يتم ٍ ٍ ٍ
يخص حياة المجتمعات ،وذلك ّ ّ سقف فيما قصد ـ بال قصد أو غير
المشاعرية التي تدفع اإلنسان إلى التعبير المباشر عنها
ّ في حجم اللحظة
يتم تثبيت هذه المشاعرثم ّ قبل إدخالها في مصفاة العقل والنقد ،ومن َّ
إلى فترة طويلة من الزمن؛ عبر إعجاب اآلخرين بها ،أو التعليق عليها،
أو مشاركتها ،كما يحصل على وسائل التواصل االجتماعي .ناهيك
يتم تحميلها للشبكة الصور والفيديوهات التي ّ الكم الهائل من ّ ّ عن
خاصة إلى طابع سببا في تحويل حالة ّ العنكبوتية ( )internetلتكون ً
ّ
مجتمعا أو شعو ًبا
ً مذهبا فكر ًيا ،أو دول ًة أو
ً يطبع جماعة أو طائفة دينية ،أو
وبخاصة عندما نالحظ وجود كثير من أجهزة المخابرات ،التي ّ بأسرها؛
تعمل على ضوء الكثير من الدراسات واألبحاث ،والتي تنطلق منها
الكثير من الخطط التي تستهدف الشّ عوب في ثقافتها أو سياستها أو
اقتصادها.
ذهنية إنّ عصرنا الحاضر هو عصر ّ
الصورة بامتياز ،وإعادة تشكيل ّ
207
رسوخا لها
ً يتم من خالل التدفّق الهائل للصور ،والذي ُيحقّق
ال ّناس ّ
ّانيتها
الحية ،ال بسبب حق ّ
يحولها إلى نوع من البديهة ّ في الذهن ،قد ّ
بالضرورة ،بل بسبب تكرارها.
ّ
الديني والتربوي اإلصرار على منظومة وهذا ما يفرض على التوجيه ّ
للسلوك ،والتي ُيضاف إليها اليوم العالم االفتراضي؛ إذالقيم الحاكمة ّ
سيما أن تأثيراته
افتراضيا ال يجعله خارج تلك المنظومة ،وال ًّّ كونه
بد أن تنزل
السلبية قد تتجاوز تأثيرات الواقع .هذه المنظومة من القيم ال ّ
ّ
لتحدد لها القيم والقواعد واألحكام المرتبطة
ّ التطبيقية
ّ إلى التفاصيل
بها ،ويكون التدريب على مراعاتها من شؤون التدريب على استخدام
ٍ
حاصل يقيس اإلنسان عليه أفعاله لتتحول إلى تحصيل
ّ التقنيات،
ّ تلك
ويحدد درجة استقامته وانحرافه عنها ،والله الهادي إلى سواء السبيل، ّ
والمسدد لكل صواب.
ّ
208
36
الفراغ والبطالة
الدنيا
شغل ُّ َ
الفارغ ،ال في ِ إن الله يبغض الصحيح
ّ
وال في ِ
شغل اآلخرة(((.
((( ابن أبي الحديد ،شرح نهج البالغة ،ج ،17ص .146
209
طاقتك مسؤوليتك
تتحرك وفق قانون ،واإلنسان هو الكائن الوحيد الذي أعطاه فالحياة ّ
ّ
الخط الذي يمثّل يحرك إرادته في
حرية اإلرادة ،وأراد له أن ّ الله تعالى ّ
الدنيا واآلخرة ،استنا ًدا
الدنيا ،أو غاية حياته بما يشمل ّ غاية وجوده في ّ
ٌ
مخلوق لله تعالى ،وقد ولكن اإلنسان في النهاية ّ إلى الرؤية الدينية.
كثيرا
وسخر له ًّ متمي ًزا ،وجعله خليفته على األرض، موضعا ّ
ً وضعه الله
خاضع لرؤية ك ّلية ،أرادها
ٌ من مخلوقاته ،ذلك ك ُّله ليس عبثًا ،وإنّما هو
الله لإلنسان نفسه ،في سيره نحو تكامله الذاتي ،سواء في الجانب
الفكري أو الروحي أو العملي ،وأرادها الله للحياة ك ّلها ،والتي يمثّل
هامشيا.
ً اإلنسان فيها جز ًءا محور ًيا ال
النتيجة من ذلك ك ِّله ،أنّ الصحيح البدن ،والسليم القدرات
يفوت الكثير على نفسه وعلى الحياة، يحركهاّ ، ّ والطاقات ،وال
حيز التأثير ،وهذا لن يكون ـ بطبيعة الحال
عمليا من ّ
ً وسيحذف نفسه
ّ
محل رضى الله تعالى؛ ألنّ الله ال يرضى لإلنسان سوى الهداية ـ في
والسير وفقها ،وهذا ال يتحقّق مع الفراغ الذي هو حالة سلبية من حيث
الفاعلية والحركة نحو األهداف!
211
الفردية
ّ أهمية الهواية
ّ
وربما يكون من المفيد لنا في نهاية المطاف أن نؤكّ د على ّ
أهمية ّ
الهوايات التي يجد ال ّناس أنفسهم مشدودين نحوهاٌّ ،
كل إلى هواية
محددة؛ إذ إنّ هذه الهوايات تمثّل وسيلة من وسائل الترفيه الهادف، ّ
يحب القيام به ،في الوقت
ّ والذي يعيش فيه اإلنسان لونًا من ألوان ما
الذي ال يكون ملز ًما فيه بإلزامات العمل الجا ّد الخاضع لضغط اإلنتاج
الدنيا بما يسمح
نوع من االنشغال في أمور ُّ عمو ًما .إنّ هذا الترفيه هو ٌ
يشكل عونًا على استعادة ال ّنشاط من أجل العمل تتروح ،بما ّ للنفس بأن ّ
دوامة من الملل الذي قد لمجرد أن ال تقع النفس في ّ
ّ في يوم جديد ،أو
يؤ ّدي في بعض تج ّلياته إلى الكآبة أو التو ّتر النفسي.
أحيانًا ننظر باستخفاف إلى هذا ال ّلون من االنشغال ،بحيث يمارس
المجتمع على أفراده لونًا من التوجيه إلى تفاهة هذه األمور ،أو أنّها
غير الئقة ببعض أصحاب المواقع االجتماعية ،أو أنّها مضيعة للوقت،
نفسه ألجل جودة الحياة أو جودة في الوقت الذي يحتاجها اإلنسان ُ
علي Qفي قوله« :للمؤمن ثالث اإلنتاج ،على هدى ما ورد عن ّ
يرم معاشه ،وساعة يخ ّلي بين
ربه ،وساعة ّ ساعات :فساعة يناجي فيها ّ
لذتها فيما ُّ
يحل ويجمل»(((. نفسه وبين ّ
ننبه إلى ضرورة أن تولي السلطات ومن الطبيعـي لنـا هنا أن ّ
مؤسسات تربوية وتعليمية
بلديات أو ّ
المعنية ،سواء كانت حكومات أو ّ ّ
مؤسسات دينية ،عناية بتأمين المرافق واألنشطة التي تسمح لإلنسان
أو ّ
214
37
ر ّد الرسالة واجب
السالم(((.
حق كر ِّد َّ ِ
الكتاب ٌّ ِ
جواب ر ّد
األسئلة التي تطرأ على أذهاننا ،أو الطلبات التي نحتاج إلى تلبيتها
نحب التواصل عبرها معهم ،هي من قبل اآلخرين ،أو التعبيرات التي ُّ
حاجات تضغط
ٌ ثغرات في اطمئنان النفس المعرفي أو النفسي ،وهي ٌ
على حياتنا التي ال تهنأ إ ّ
ال حين تُمأل.
الدائرة التواصلية بين
يطرح ُه هذا الحديث هو ضرورة وصل ُّ ما
جوابي؛ ٍ
وإرسال ٍ
استقبال ٌ
مرسل من دون األفراد ،بحيث ال يكون هناك
ّ
يعزز الحافز نحو المزيد منألنّ هذا ال ّلون من الوصل هو الذي ّ
التواصل في المستقبل.
احترام لشخصك
ٌ احترام اآلخر
جاب عليها ،قد يشعر بعدم التقدير من قبل ُ
يرسل رسالة ال ُي ُ فالذي
المرس ِل إليه .وإذا كانت الرسالة تعكس حاج ًة يطلبها ،فإنّ عدم اإلجابة
َ
الطلب تُشعر الطالب باإلذالل المضاعف؛ ّأوله بسبب طلب على ّ
تربوية
ّ وقفة
ٍ
وجوب لر ّد الرسالة ،تما ًما كما أي حال ،قد يمثّل الحديث عن
على ّ
يتضمنه،
ّ السالم الذي ً
وصل لدائرة معنى ّ السالم،
هو الوجوب في ر ّد َّ
يعم وينتشر.
والذي ينبغي أن ّ
األدبيات التي
ّ وتوج َهه على
ُّ يربي وجدانه
الهام لإلنسان أن ّ
ّ ومن
بمسؤولية بذل الخير لآلخرين ،وما يمكن أن يؤ ّثر فيه
ّ تعزز الشّ عور
ّ
البخل ببذل الخير ،أو االستكبار عليهم بر ّد الجواب على الرسالة،
تفريجا عن
ً لهم ،أوتنفيسا ٍّ
ً فربما يكون في الجواب بلسمة لجرح ،أو ّ
محروم من
ٌ ّ
وأقل ما ُيقال في البخيل أنّه ٍ
كرب ،أو استعادة لثقة نفس.
المسؤوليةّ ،
فأقل ما يقال ّ سد حاجات ال ّناس .وإذا كان في موقع نعمة ّ
ومسؤولية المنصب.
ّ مفر ٌط بأمانة الموقع،
فيه إنّه ّ
مجرد الر ّد على
ّ يبقى ضرورة االلتفات إلى أنّ المطلوب ليس
مراعيا للمرسل وظروفه ،والهدف
ً بد أن يكون الر ّد
الرسالة ،بل ال ّ
217
الذي يسعى لبلوغه من خالل رسالته ،وهذا يتط ّلب اختيار الكلمات
مما يخلق حالة من التفاعل اإلنساني
واألسلوب إضافة إلى المضمونّ ،
والرسالة والمرسل إليه.
بين المرسل ّ
المتسرع
ِّ ّ
التفكر ُيغني عن عواقب الر ّد
بنت ظروفها ،وقد بد من وعي أنّ الرسالة هي ُ إضافة إلى ذلك ،ال ّ
مستفزة للمرسلة ّ آنية ،وقد تحمل مضامين تكون ناشئة من انفعاالت ّ
إليه ،وقد تثير لديه أحقا ًدا دفينة ،أو تخلق مشاعر سلبية لم تكن
الرسالة ،أق ّله ح ّتى تبرد المشاعر، موجودة .هنا قد يتط ّلب األمر إهمال ّ
أو إهمال بعض مضمونها ،والر ّد على البعض اآلخر ،على طريقة ما
علي ِه
وأظه َر ُه الل ُه ْ
َ أت ِبه
﴿فلما َّنب ْ
ّ حكاه الله تعالى من فعل ال ّنبي :P
بعض﴾((( ،وقد يقتضي األمر الر ّد على ٍ َ
وأعرض عن عر َف َ
بعضه َّ
الدفع بالتي
السلبي ،وهو من باب ّ
الرسالة بغير ما يقتضيه مضمونها ّ
تلمس الخيارات
والروية في ّ
ّ أحسن((( .وهذا ك ّله يتط ّلب الحكمة
ُ هي
الفضلى ،بحسب األشخاص والمضامين واألساليب التي تشتمل
تغيرها،
عليها الرسائل ،وكذلك بحسب الظروف المحيطة وإمكانية ّ
األخالقية التي يستند إليها اإلنسان في التعامل مع
ّ إضاف ًة إلى القواعد
اآلخرين ،إيجاب ًا أو سلب ًا.
(( ( المتقي الهندي ،كنز العمال ،ج ،١٠ص .١٤٤تنبيه الخواطر ونزهة النواظر ،ج،١
ص.٩٠
(( ( سورة البقرة ،اآلية .156
219
وصف اإلنسان هو أنّه خليفة الله في َ وثمة حقيقة ثانية ،وهي أنّ
ض َخ ِلي َف ًة﴾(((. اع ٌل ِفي َ
األ ْر ِ الئِ َك ِة إِنِّي َج ِ
ال َر ُّب َك لِ ْل َم َ ﴿وإِ ْذ َق َ األرضَ :
وأما الحقيقة الثالثة فهي أنّ الله تعالى هو الحقيقة المطلقة ،قال تعالى: ّ
﴿ َذلِ َك بِ َأ َّن ال َّل َه ُه َو ا ْل َح ُّق َو َأ َّن َما َي ْد ُعونَ ِمن ُدونِ ِه ُه َو ا ْلب ِ
اط ُل﴾(((َ ﴿ ،ف َما َذا َ
ال ُل َف َأنَّى ت ُْص َر ُفونَ ﴾(((. الض ََب ْعدَ ا ْل َحقِّ إِ َّال َّ
221
النبي Pيشير فيه إلى حالة التقوى في حركة العلم« :من
حديث عن ٌّ
كان بالله أعرف كان من الله أخوف»(((.
يبقى أن نشير إلى نقطة ،وهي أنّ هذا الربط ليس مصادر ًة مسبقة
بد أن يبدأ من لعملية البحث ،حتى يقال إن الباحث عن الخالق ال َّ
يحق له أنَّ يؤمن أن للكون خالقًا قبل أن يقيم الدليل
الصفر ،بمعنى أنه ال ّ
عليه ،وهذا يقتضي أنّه يتشارك مع غير المؤمن المسار نفسه في البحث
لعل ما يرمي إليه هذا الربط هو اإلشارة إلى أنّهعن ما وراء الكون .بل َّ
حافزا
ً إنصات العالِم الذي يبحث عن الله إلى صوت الفطرة ُ قد يكون
لعدم استسهال حسم الجواب بنفي عالقة الكون بشي وراءه ،ذلك
الذي وقع فيه كثير من الباحثين في مجال العلوم الطبيعية واإلنسانية،
مما دفعهم إلى اإللحاد! في الوقت الذي يقتضي البحث العلمي نفسه ّ
عدم الحسم البات بالنفي؛ ألن عدم وجود دليل ـ على الفرض ـ ال يعني
الدليل على النفي ،بل يمكن ـ بمنطق العلم نفسه ـ أن يحمل المستقبل
أو إعادة البحث بعض المعطيات الجديدة التي تقلب النتائج األولى
رأسا على عقب ..وهذا ما يدفعنا إلى القول إن الملحد هو في عمقه ً
شاك وليس مؤم ًنا بالعدم تجاه الخالق وما وراء هذا العا َلم.
ٌّ
وعلى هذا فالعقيدة نفسها التي يسعى إليها اإلنسان هي عملية بحث
عملية تخضع لمصادرات معرفية يسعى اإلنسان ّ واكتشاف ،وليست
لتبريرها؛ والله الهادي إلى سواء السبيل.
بذل العلم هو واحد من األمور التي تلحق اإلنسان بعد موته ،وهو
ما ورد في المروي عن رسول الله « :Pإذا مات ابن آدم انقطع عمله
ال من ثالث :صدقة جارية ،أو علم ينتفع به ،أو ولد صالح يدعو إ ّ
له»(((.
والذي يختزنه ذلك ،هو أنّ دور اإلنسان في عمله هو أن يحقّق
البشرية
ّ نوعية فيما تحتاجه
ّ وجوده إضافة
ُ للحياة شي ًئا ،بحيث ّ
يشكل
استمر أثر هذه اإلضافة في
ّ مستمرا ما
ًّ األجر
ُ في ارتقائها ،وبهذا يكون
الحياة .وهذا ـ في الحقيقة ـ هو المعنى العميق للوجود اإلنساني؛ إذ
ليس اإلنسان بوجوده الجسدي ،بل بوجوده الذي يخرجه من ذاته،
ِ
العلم ال يموت بموت صاحبه
أعز ما خلقه الله تعالى ،وهو
فاعلية ّ
ّ العلم يمثّل التعبير العملي عن
فاعليته هي التي تمنحه القدرة على إمداد اإلنسان
ّ واستمرارية
ّ العقل(((،
باألجر في حال حياته .ومع أنّ العمل ينقطع بموت اإلنسان فإنّ اآلثار
التي تركها اإلنسان في حياته تبقى تعطيه؛ ألنّها ارتبطت بالحياة التي هي
أوسع من حياة الجسد.
ويحسن هنا االلتفات إلى نقطتين:
األولى ،أنّ نشر العلم ال ينحصر في الكتاب؛ ألنّ الكتاب وسيلة
لنشر المعرفة ،وليس هو الوسيلة الوحيدة .وعليه يمكن لهذا الحديث
شخص في تعديل فكرة أو تصويب ٍ فكرية أ ّثرت في
أن ينطبق على ندوة ّ
ربمـا مقالة منشورة في صحيفة، مفهـوم ،أو في محاضـرة أو خطبـة ،أو ّ
ٍ
مجال من مجاالت العلوم المفيدة ،أو دراسة أو إعطاء درس تعليمي في
الهامة للحياة.
علمية حول موضوع من المواضيع ّ ّ
واليوم بعد أن ا ّتسع نطاق التقنيات الحديثة ،يمكن أن ينطبق ذلك
على التطبيقات الكمبيوترية والهاتفية وغيرها ،بل على مقابلة متلفزة ،أو
يعد وال يحصى.مما يكاد ال ّ
تعليق بسيط على شبكة التواصل ،وغير ذلك ّ
((( كما جاء في الحديث عن اإلمام الباقر« :لما خلق الله العقل قال له أدبر فأدبر ،ثم قال
له أقبل فأقبل ،فقال :وعزتي وجاللي ما خلقت خلقًا أحسن منك ،إياك آمر ،وإياك
أنهى ،وإياك أثيب وإياك أعاقب» .العالمة المجلسي ،بحار األنوار ،ج ،١ص .٩٦
224
الثانية ،أنّ الحديث ّقيد ما يلحق اإلنسان بعد وفاته بال ّنفع ،فالعلم
الذي يؤجر اإلنسان عليه هو العلم النافع ،أي الذي يبدو أثره في
اآلخرين.
وبناء على ذلك ،قد يكون من المفيد لنا أن نلتفت إلى أنّ بعض ما
درج ال ّناس من طباعة الكتاب العزيز وكتب األدعية من أجل توزيعها
بغض النظر عن أنّ
ربطا بذكره بعد موته ـ ّ ربما لتكون ً عن روح الميتّ ،
الميت نفسه ـ قد
الحديث يذكر أن بذل العلم ينبغي أن يكون من عمل ّ
ال يكون فيه فائدة وأثر .ح ّتى أن ن َُس َخ الكتاب العزيز التي توزّ ع عن روح
نفع حقيقي«للب َر َكة» وال ُيقرأ فيها ،وبذلك ال يكون فيه ٌ
الميت تؤخذ َ
في واقع األمر .وبالتالي ينبغي لإلنسان أن يحرص على بذل ما ينفع
حمله الله تعالى ّإياها تجاه
بالمسؤولية التي ّ
ّ الناس انطال ًقا من إحساسه
الجاهلين؛ ألنّ المدار على ذلك النفع في األجر الدنيوي واألخروي؛
والله العالم بحقائق األمور.
225
40
اإلصالح مسؤوليّة بشريّة
((( المقصود بالوجوب الكفائي هو وجوبه على جميع المك ّلفين ،ولك ّنه إذا قام به البعض
بشكل ٍ
كاف سقط عن الباقين.
227
بالسلطة السياسية فقط ،وإنّما يكمل ما
بالمعروف والنهي عن المنكر ره ًنا ّ
نطلق عليه هنا «معادلة السالمة االجتماعية» التي تتأ ّلف من ثالثة عناصر:
أ ـ القانون أو الشريعة أو المبادئ.
ب ـ السلطة أو نخبة الحكم.
ت ـ الشّ عب أو المجتمع.
بد له من سلطة؛ وإذا كان ال يمكن للقانون أن يحكم بنصوصه ،بل ال ّ
فهذه السلطة تتركّ ز في مجموعة من الحاكمين الذين يمتلكون معايير
ولكن األمر بالمعروف ّ شرعيته ،من خالل انتخاب ال ّناس عمو ًما،
بد أن وال ّنهي عن المنكر يبقيان جز ًءا من مسؤولية المجتمع الذي ال ّ
يمارس الرقابة على تطبيق هذه المبادئ من قبل السلطة وال ّناس على
﴿وا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َوا ْل ُم ْؤ ِم َن ُ
ات َب ْع ُض ُه ْم حد سواء ،ومن ذلك قوله تعالىَ : ّ
نك ِر﴾(((. ُ ُ َأ ْولِ َياء َب ْع ٍ
ض َي ْأ ُمرونَ بِا ْل َم ْعر ِ
وف َو َي ْن َه ْونَ َع ِن ا ْل ُم َ
ولكن هذا األمر يتط ّلب في العصر الحديث ،ومع تعقيد حاالت
ّ
سية تكفل
مؤس ّ
تنظيما يرتكز إلى قواعد ّ
ً الصراع ومتط ّلبات التغيير،
ّ
تحركت المسألة ٍ
وصبها في هدف واحدّ ،
وإل ّ ّ المتنوعة
ّ توجيه الجهود
خط الفوضى. في ّ
والدول
كثيرا من مشاكل الفساد الذي يلحق بالمجتمعات ّ ّ
ولعل ً
هو في فقدان العنصر الثالث من المعادلة ،أعني الشّ عب أو المجتمع،
الصالح في مفردات حياته ،أو في حركة فعاليـته في عملية ضبط ّ
ّ
ّ
الحكم .وبذلك تتحكم جماعة من الفاسدين بحياة ال ّناس ،ح ّتى أنها
230
محتويات الكتاب
232