Professional Documents
Culture Documents
1
احلمد هلل الذي خلق خلقه أطوارا ،وصرفهم يف أطوار التخليق كيف شاء عزة
واقتدارا ،وأرسل الرسل إىل املكلفني إعذارا منه وإنذارا ،فأمت هبم على من اتبع
سبيلهم نعمته السابغة ،وأقام هبم على من خالف مناهجهم حجته البالغة،
فنصب الدليل ،وأ انر السبيل ،وأزاح العلل ،وقطع املعاذير ،وأقام احلجة،
وأوضح احملجة ،وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين لئال يكون للناس حجة على
هللا إن خالفوا أمره ،فعمت الدعوة مجيع خلقه على ألسنة رسله حجة منه
وعدال ،وخص ابهلداية من شاء منهم نعمة منه وفضال ،فقبل نعمة اهلداية من
سبق ت له من هللا سابقة السعادة ،وتلقاها ابليمني ،وردها من غلبت عليه
الشقاوة ومل يرفع هبا رأسا بني العاملني ،فهذا فضله وعطاؤه ،وال فضله مبمنون،
عما يفعل وهم يسألون. وهذا عدله وقضاؤه فـال يسأل ّ
وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له ،كلمة قامت هبا األرض
والسم اوات ،وفطر هللا عليها مجيع املخلوقات ،وعليها أسست امللة ،ونصبت
القبلة ،وألجلها جردت سيوف اجلهاد ،وهبا أمر هللا سبحانه مجيع العباد ،وهي
فطرة هللا اليت فطر الناس عليها ،ومفتاح عبوديته اليت دعا األمم على ألسن
رسله إليها ،وهي كلمة اإلسالم ،ومفتاح دار السالم ،وأساس الفرض والسنة،
ومن كان آخر كالمه :ال إله إال هللا ،دخل اجلنة.
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
2
وأشهد أن حممدا عبده ورسوله وخريته من خلقه ،وحجته على عباده ،وأمينه
على وحيه ،أرسله رمحة للعاملني ،وقدوة للعاملني ،وحمجة للسالكني ،وحجة
على املعاندين ،وحسرة على الكافرين.
أرسله ابهلدى ودين احل ق بني يدي الساعة بشريا ونذيرا ،وداعيا إىل هللا ذإذنه
وسراجا منريا ،وأنعم به على أهل األرض نعمة ال يستطيعون هلا شكورا ،فأمده
مبالئكته املقربني ،وأيده بنصره وابملؤمنني ،وأنزل عليه كتابه املبني ،الفارق بني
اهلدى والضالل ،والغي والرشاد ،والشك واليقني.
فشرح هللا له صدره ،ووضع عنه وزره ،ورفع له ذكره ،وجعل الذلة والصغار
كر
على من خالف أمره ،وأقسم حبياته يف كتابه املبني ،وقرن امسه ابمسه ،فإذا ذُ َ
كر معه ،كما يف اخلطب والتشهد والتأذين ،وافرتض على العباد طاعته وحمبته ذُ َ
والقيام حبقوقه ،وسد الطرق كلها إليه وإىل جنته فلم يفتح ألحد إال من طريقه،
فهو امليزان الراجح الذي على أخالقه وأقواله وأعماله توزن األخالق واألقوال
واألعمال ،والفرقان املبني الذي ابتباعه متيز أهل اهلدى من أهل الضالل.
أما بعد:
حرمهما :فاخلري كله حرم ،ومها مورد انقسام العباد إىل مرحوم وحمروم ،وهبما
الغوي ،والظامل من املظلوم.
يتميز الرب من الفاجر ،والتقي من ّ
وملا كان العلم للعمل قرينا وشافعا ،وشرفه لشرف معلُ ِ
ومه اتبعا ،كان أشرف
العلوم على اإلطالق علم التوحيد ،وأنفعها على أحكام أفعال العبيد ،وال
سبيل إىل اقتباس هذين النورين ،وتلقي هذين العلمني ،إال من مشكاة من
قامت األدلة القاطعة على عصمته ،وصرحت الكتب السماوية بوجوب طاعته
ومتابعته ،وهو الصادق املصدوق ،الذي ال ينطق عن اهلوى ،إن هو إال وحي
( )1
يوحى.
وإن من علم التوحيد الواجب أن يعلم العبد مقتضياته ومدلوالت كلمة ال إله
ك وال حاكم إال هللا ،واليت من معانيها أن احلكم هلل وحده ال شريك له ال ملِ ٍ
وال رئيس وال قانون ،ويعلم أن من نواقض كلمة التوحيد احلكم بغري شريعة هللا
اليت أنزهلا على رسوله ﷺ واستبداهلا بقوانني ومواثيق من صنع البشر القاصرين
اجلاهلني.
وقد كان هذا األصل اثبتا ال يتزعزع وراسخا ال يهتز عند السلف األوائل ،حىت
جاء زمن غربة الدين وأهله ،ودخلت البدع يف دين كثري من الناس ،وصارت
السنة بدعة والبدعة سنة ،واملنكر معروفا واملعروف منكرا ،فأصبح عندهم أن
العدل هو احلكم ابلقانون البشري الوضعي والتخلف والضالل والتطرف هو
احلكم بشريعة احلكيم اخلبري ،وقد ال نعجب من أانس رموا كتاب هللا وراء
( )1اقتبست املقدمة من مقدمة كتاب (إعالم املوقعني) البن القيم رمحه هللا بتصرف.
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
4
فهؤالء مجيعا لبسوا على الناس دينهم ونشروا بينهم الشبهات فاتفقوا كلهم مع
اختالف التوجهات والنيات على التهوين من شأن هذا األصل والدعوة إليه
والتحذير من تركه ،حىت صار عند الناس مبنزلة مسائل الفروع اليت جيوز فيها
اخلالف ،فكان لزاما على كل من عرف احلق أن يرد ابطلهم ويفند شبهاهتم
مبا استطاع ،فإن هذا أحد نوعي اجلهاد يف سبيل هللا.
فقمنا مستعينني ابهلل تعاىل برد شبهاهتم ونسفها من أصوهلا ،ليحىي من حي
عن بينة ويهلك من هلك عن بينة ،وقبل كل ابب قدمنا أصوال يُبىن عليها ما
بعدها ،ألن الرد على الشبهات ال يكون إال عن أصول اثبتة حىت ال يكون
املرء متقلبا مع كل ريح ،مث نعرض الشبهات والرد عليها وجها وجها نفنّد
أصوهلا وفروعها حىت أنيت عليها كلها ذإذن هللا.
ومع هذا فما دام الكاتب من البشر ،فإنه جيوز عليه اخلطأ والنسيان والزلل،
فإن ُوفّقنا فيما كتبنا فمن هللا وحده ،وإن كان من خطأ فمنّا ومن الشيطان
وس ّد
نعوذ ابهلل منه ،فما وجدت أيها القارئ من ذلك شيئا فالتمس العذر ُ
جل من ال عيب فيه وعال.
اخللل ،إذ ّ
َ
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
6
اّلل من الديـن
منزلة احلكم مبا أنـزل ه
.1احلكم مبا أنزل هللا من توحيد الربوبية (التوحيد العلمي):
ومن خصائص الربوبية التشريع ،فهو من معاين ال إله إال هللا كما قال تعاىل:
{ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ }( . )1
ذكر تفرده سبحانه ابحلكم مث بني أنه جيب أن يعبد به ،فاعتقاد األول هو
التوحيد العلمي ،وامتثال الثاين هو التوحيد العملي ،واملقصود ابحلكم هنا
التشريع ،فواجب على كل مكلف أن يوحد هللا به ،وذلك أبن يعتقد أن
فشرع
األحكام ال تُقبل من غري هللا تعاىل ،فمن انزع هللا سبحانه التشريع ّ
ُحكما من دون هللا فقد انزع هللا يف الربوبية وكان طاغوات ،ومن اختذه مشِّرعا
فنقض
َ أو َح َك ًـما من دون هللا فهو مشرك ،ألنه قَبِل بغري هللا ِّ
مشرعا ُمطاعا
{ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ توحيد الربوبية ،والدليل قوله تعاىل:
ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ
ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ }( .)2
قال ابن جرير رمحه هللا((" :)3أراباب من دون هللا) يعين سادةً هلم من دون هللا،
يطيعوهنم يف معاصي هللا ،فيحلون ما أحلُّوه هلم مما قد َّ
حرمه هللا عليهمِّ ،
وحيرمون
حيرمونه عليهم مما قد أحلَّه هللا هلم" .اهـ
ما ِّ
فتوحيد األلوهية هو توحيد هللا سبحانه وتعاىل ابألعمال اليت أمر هبا ،ومنها
احلكم بشرعه والتحاكم له فهو عبادة ال جتوز لغري هللا تعاىل ،ومن صرف منها
شيئا لغري هللا تعاىل فقد أشرك ،قال تعاىل{ :ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ
{ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ } ( ،)1وقال سبحانه:
ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ
ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ } ( . )2
فجعل التحاكم للطاغوت سببا يف إبطال اإلميان املزعوم ،ألن نفس اإلميان
يقتضي الكفر ابلطاغوت برتك التحاكم له ،ومن فعل العكس بطل إميانه،
فالذي حيكم أو حيتكم لغري حكم هللا تعاىل من الطواغيت كالقانون الوضعي
أو الدستور أو غري ذلك مما ُش ِّرع من دون هللا ،قد أشرك ابهلل تعاىل يف حكمه
ولو حكم ببعض ما فيه أو خلطه مع حكم هللا تعاىل.
قال الشيخ حممد األمني الشنقيطي رمحه هللا(" :)2قرأ هذا احلرف عامة السبعة
وضم الكاف على اخلرب،
شرك" ابلياء املثناة التحتيةّ ،ما عدا ابن عامر "وال يُ ُ
وال انفية ،واملعىن :وال يُشرك هللا جل وعال أحدا يف حكمه ،بل احلكم له وحده
حرمه ،والدين
جل وعال ال حكم لغريه البتة ،فاحلالل ما أحلّه تعاىل ،واحلرام ما ّ
ّ
ما شرعه ،والقضاء ما قضاه.
شرك" بضم التاء املثناة الفوقية وسكونوقرأه ابن عامر من السبعة" :وال تُ ْ
الكاف بصيغة النهي ،أي :ال تشرك اي نيب هللا ،أو ال تشرك أيها املخاطب
أحدا يف حكم هللا جل وعال ،بل أخلص احلكم هلل من شوائب شرك غريه يف
احلكم ،وحكمه جل وعال املذكور يف قوله :وال يشرك يف حكمه أحدا شامل
لكل ما يقضيه جل وعال ،ويدخل يف ذلك التشريع دخوال أوليا" .اهـ
إن من اإلميان ابهلل اإلميان أبمسائه وصفاته سبحانه ،والواجب أن يفرد هبا وحده
ال شريك له بال متثيل وال حتريف وال تعطيل وال تكييف ،وأن يعمل مبقتضى
املعاين اليت دلت عليها ،ومن أمساء هللا تعاىل احلَ َكم ومن أفعاله احلُ ْكم.
قال اخلطايب رمحه هللا (" :)5هو الذي ُسلِّم له احلكم ،ورد إليه فيه األمر" .اهـ
ومعىن التسليم والرد يف األمر هو توحيده به ،واألمر هو أحكام هللا وتشريعه
لعباده ،فوجب إفراده به هبذا املعىن ،واختاذ شريك هلل يف حكمه أو التحاكم
لغري هللا سبحانه يناقض إفراده ابسم احلكم وصفة احلكم.
قال ابن القيم رمحه هللا( )6عن احلكم الشرعي" :فهذا حقه أن يُ َّ
تلقى ابملساملة
والتسليم وترك املنازعة بل ابالنقياد احملض ،وهذا تسليم العبودية احملضة ،فال
يعارض بذوق وال وجد وال سياسة وال قياس وال تقليد وال يُرى إىل خالفه
سبيال البتة ،وإمنا هو االنقياد احملض والتسليم واإلذعان والقبول ،فإذا َّ
تلقى
هبذا التسليم واملساملة إقرارا وتصديقا بقي هناك انقياد آخر وتسليم آخر له،
إرادةً وتنفي ًذا وعمال ،فال تكون له شهوة تنازع مراد هللا من تنفيذ حكمه كما
مل تكن له شبهة تعارض إميانه وإقراره ،وهذا حقيقة القلب السليم الذي سلم
من شبهة تعارض احلق وشهوة تعارض األمر" .اهـ
أن احلكمة من إ رسال الرسل هي طاعتهم مبا أذن هللا فيه ،ومن طاعتهم
احلكم مبا بعثوا به والتحاكم هلم ،ألن سياق اآلايت السابقة والالحقة يف قضية
احلكم والتحاكم.
وأن من مل حي ّكم النيب ﷺ عند مواضع النزاع والشجار فليس مبؤمن ،ونفي
اإلميان هنا نفي ألصله ال لكماله ،فهو نفي حقيقي.
رد شيئا
قال أبو بكر اجلصاص رمحه هللا(" :)1يف هذه اآلية داللة على أن من َّ
رده منمن أوامر هللا تعاىل أو أوامر رسوله ﷺ فهو خارج من اإلسالم ،سواءً ّ
جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول واالمتناع من التسليم ،وذلك يوجب
صحة ما ذهب إليه الصحابة يف حكمهم ابرتداد من امتنع من أداء الزكاة
وقْتلِ ِهم ِْ
وسيب ذراريهم ألن هللا تعاىل حكم أبن من مل يسلّم للنيب ﷺ قضاءه
وحكمه فليس من أهل اإلميان" .اهـ
ولكن قبل ذلك عليك حبفظ تلك األصول السابقة ،فإهنا أصل العلم هبذه
املسألة فمىت ما ضبطها اإلنسان سلم قلبه من كل شبهة ترد عليه من أهل
التمسك ابألصول قبل الفروع هو الطريقة العلمية السليمة اليت حتفظ
األهواء ،و ّ
اإلنسان من األفهام اخلاطئة والتأويالت املنحرفة.
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه هللا(" :)1ال بد أن يكون مع اإلنسان أصول
كلية يرد إليها اجلزئيات ليتكلم بعلم وعدل ،مث يعرف اجلزئيات كيف وقعت،
وإال فيبقى يف كذب وجهل يف اجلزئيات وجهل وظلم يف الكليات فيتولد فساد
عظيم" .اهـ
حد الشبهة :قال الفريوزآابدي رمحه هللا(" :)1والشُّبهة ،ابلضم :االلتباس ،واملثل، ُّ
وشبِّه عليه األمر تشبيها :لـبِّـس عليه" .اهـ
ُ
وقال ابن القيم رمحه هللا(" :)2وإمنا مسيت الشبهة شبهةً الشتباه احلق ابلباطل
س ثوب احلق على جسم الباطل" .اهـ فيها ،فإهنا تُـ ـ ْلـبَ ُ
أسباب الشبهات:
يروجه
اعلم أن صاحب اهلوى ال بد له من دليل يستدل به على ابطله حىت ّ
لشبهة يف قوله ،إما
بني الناس ،وإال ُرَّد قوله أبنه ال دليل عليه ،مث إن منشأ ا ُّ
ِ
وموضعه، أن يرجع لنفس الدليل الذي يستدل به أو لوجه االستدالل به
أو للناظر يف الدليل ،فهي ثالث صور:
وجعلِه
.1أن يرجع السبب لنفس الدليل وذلك ابستدالله ابلدليل الضعيفْ ،
أصال وقاعدة لقوله الباطل.
ولكن نظر صاحب اهلوى فيه غري صحيح مما .2أن يكون الدليل صحيحاْ ،
يُنتج حكما ابطال ،وهذه أخطر أسباب الشبهات اليت يكثر فيها التلبيس على
الناس.
فإن الدليل هو :ما يوصل بصحيح النظر فيه إىل مطلوب خربي ،ومعىن النظر
هو إعمال الفكر يف الدليل ،ومبعىن آخر هو طرق االستنباط املوصلة الستخراج
حصل
احلكم من الدليل ،هذه الطرق منها صحيح إذا أعملها الناظر يف الدليل ّ
منها علما صحيحا ،ومنها ابطل إذا نُ ِظر يف الدليل هبا أنتـجت األقوال الباطلة
والشبهات.
إما بـتحريف النص احملكم وصرفه عن ظاهره ابلتأويل الباطل ،أو زعمهم أنه
ليس من النصوص احملكمة ليعطلوا داللته.
ِ
وإما ابتباع املتشابه دون رده للمحكم ،فيجعلون املتشابه خ َ
نجرا تُطعن به
النصوص احملكمة ويُعرتض به عليها.
طرق أهل الزيغ الذين حذران هللا منهم يف قوله{ :ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ وكالمها من
ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
15
ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ
ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ } ( . )1
فبني سبحانه أن هناك نوعني من األدلة حمكم ومتشابه ،وأن هناك نوعني من
النظر فيها:
وهو أن كل دليل وقع فيه اشتباه أو إمجال واحتاج ملفسر خارجي ،فال يصح
جعله دليال مستقال ،والنظر فيه على أنه دليل مستقل ال يُنتج إال الشبهة.
أن يكون حمكما يظهر املراد منه يف نفسه دون احتياج لغريه.
أال يكون معا ِرضا ألصل قطعي.
وقد علم العلماء أن كل دليل فيه اشتباه وإشكال ليس بدليل يف احلقيقة ،حىت
صل قطعي، يتبني معناه ويظهر املراد منه ،ويُشرتط يف ذلك أ ْن ال يعارضه أ ٌ
ّ
فإذا مل يظهر معناه إلمجال أو اشرتاك ،أو عارضه قطعي كظهور تشبيه ،فليس
بدليل ،ألن حقيقة الدليل أن يكون ظاهرا يف نفسه ،وداال على غريه ،وإال
احتيج إىل دليل عليه ،فإن دل الدليل على عدم صحته ،فأحرى أ ْن ال يكون
دليال .اهـ
تأو ُل اجلزئيات حىت ترجع إىل الكليات ،فمن عكس األمر ،حاول شططا، ويُ ّ
ودخل يف حكم الذم ،ألن متّبع الشبهات مذموم ،فكيف يعتد ابملتشاهبات
دليال؟ أو يبىن عليها حكم من األحكام؟ وإذا مل تكن دليال يف نفس األمر،
فجعلها دليال بدعة حمدثة هو احلق .اهـ
فإن اجلهل ابألمرين دليل على عدم الرسوخ يف العلم ،ومن مل يكن راسخا يف
العلم إن نظر يف األدلة فلن ينظر إال جبهل ولن حيصل من نظره إال الشبهات،
ولذلك ال جيوز له النظر ما دام جاهال بطرق االستنباط وقواعده ،وهذا الناظر
إن كان من أهل األهواء فهو أشد فحري أال يؤخذ منهم ،ألنه مع جهله فهو
ينظر نظر الزائغني الذين ال يريدون إال الفتنة واالعرتاض على احملكمات
الواضحات.
وبعد هذه املقدمة نعلم أمهية معرفة منشأ الشبهات وأسباهبا ،ألن العلم أبصوهلا
معني على إبطاهلا ،ولكن قبل هذا على اإلنسان أن ميأل قلبه من العلم الصحيح
احملكم الواضح حىت يكون يقينا يف نفسه أو اثبتا ال يهتز مع ورود رايح
قل كان أتثري الشبهات أخطر.
الشبهات عليه ،فإن العلم كلما ّ
قال ابن القيم رمحه هللا (:)1
الشبهة وارد يَـ ِرد على القلب حيول بينه وبني انكشاف احلق له فمىت ابشر
القلب حقيقة العلم مل تؤثر تلك الشبهة فيه ،بل يقوى علمه ويقينه بردها
الشك أبول
ومعرفة بطالهنا ،ومىت مل يباشر حقيقة العلم ابحلق قلبُه قَ َد َحت فيه َّ
وهلة ،فإن تداركها وإال تتابعت على قلبه أمثاهلا حىت يصري شاكا مراتاب.
والقلب يتوارده جيشان من الباطل جيش شهوات الغي وجيش شبهات الباطل
فينضح لسانه وجوارحه
تشرهبا وامتأل هباَ ،
فأميا قلب صغا إليها وركن إليـهاّ ،
مبوجبها ،فإن أشرب ش بهات الباطل تفجرت على لسانه الشكوك والشبهات
لس َعة علمه ،وإمنا ذلك من عدم علمه
واإليرادات ،فيظن اجلاهل أن ذلك َ
ويقينه .اهـ
الشبهة األوىل:
.1أن هذا األثر ال يثبت :فقد أخرجه هبذا اللفظ احلاكم يف املستدرك(.)2
وحيىي بن معني :قال عبد هللا بن أمحد :سألت حيىي عن هشام بن حجري
( )3
فضعفه جدا.
وحيىي بن سعيد :قال علي بن املديين :قرأت على حيىي بن سعيد :حدثنا ابن
جريج عن هشام بن حجري ،فقال حيىي بن سعيد :خليق أن أدعه ،قلت:
( )4
أضرب على حديثه؟ قال :نعم.
فإن قيل قد احتج به البخاري ومسلم ،قلنا إمنا أخرجا له متابعة ال استقالال،
ومثل هذا ال يعد تقوية أو توثيقا ،فحديثه على الراجح يقال فيه ممن إذا وافق
الثقات قُبِل ،فإن انفرد ُرَّدت روايته ،فكيف وإن خالف من هو ُ
أوثق منه وهي
العلة الثانية:
فقد رواه ابن طاوس عن طاوس عن ابن عباس بلفظ :هي به كفر.
أخرجه عبد الرزاق يف التفسري واملروزي يف تعظيم قدر الصالة واخلالل يف
( )1
السنة
وأما ما ورد يف بعض ألفاظه" :وليس كمن كفر ابهلل ومالئكته ورسله"،
فالصحيح أنه من قول عبد هللا بن طاوس ال من قول ابن عباس ،كما تـُبيّنه
رواية عبد الرزاق عن معمر عنه حيث صرح به.
.2الصحيح يف هذه اآلية أهنا نزلت يف اليهود لتبديلهم حكم هللا تعاىل واحلكم مبا
ب ّدلوه ،أخرج مسلم يف صحيحه( )2قصة سبب النزول من حديث الرباء بن
ـجلودا ،فدعاهمعازب رضي هللا عنه قالُ :م َّـر على النيب ﷺ بيهودي مـُ َح ّـم ًما م ْ
ﷺ ،فقال" :هكذا جتدون ح ّد الزاين يف كتابكم؟ ،قالوا :نعم ،فدعا رجال من
علمائهم ،فقال" :أنشدك ابهلل الذي أنزل التوراة على موسى ،أهكذا جتدون
الرجم،
أخربك ،جنده َّ
حد الزاين يف كتابكم" ،قال :ال ،ولوال أنك نَش ْدتَين هبذا مل ْ
ولكنه كثر يف أشرافنا ،فكـنا إذا أخذان الشريف تركـناه ،وإذا أخذان الضعيف
أقـمنا عليه احلد ،قلنا :تعالوا فلنجتمع على شيء نُقيمه على الشريف والوضيع،
فجعل نا التحمـيـم واجللد مكان الرجم ،فقال رسول هللا ﷺ" :اللهم إين أول من
{ﮔﮕﮖ أحيا أمرك إذ أماتوه" ،فأمر به ُفرجم ،فأنزل هللا عز وجل:
( )1التفسري لعبد الرازق الصنعاين ( 15/2رقم ،)411تعظيم الصالة (ص 421رقم ،)444السنة للخالل ( 104/2رقم
.)1424
( )2صحيح مسلم ( 1124/1رقم )1444
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
22
ورجح هذا القول إمام املفسرين الطربي( )2قال رمحه هللا" :وأوىل األقوال عندي
ابلصواب قول من قال :نزلت هذه اآلايت يف كفار أهل الكتاب ،ألن ما قبلها
وما بعدها من اآلايت فيهم نزلت وهم املعنيون هبا ،وهذه اآلايت سياق اخلرب
عنهم ،فكوهنا خربا عنهم أوىل" .اهـ
وكذلك ابن كثري يف تفسريه( )3قال رمحه هللا" :والصحيح أهنا نزلت يف اليهوديـَّ ْ ِ
ـني
اللّذي ِن زنيا" .اهـ
وقد روي عن حذيفة رضي هللا عنه إنكار من جيعل هذه اآلايت يف اليهود
خاصة دون أن يلحق حكمها من فعل فعلهم من أمة النيب ﷺ :فعن مهام بن
{ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ احلارث قال كنا عند حذيفة فذكروا:
ﮬ} فقال رجل من القوم :إن هذا يف بين إسرائيل فقال حذيفة" :نعم
اإلخوة بنو إسرائيل إن كان لكم احللو وهلم الـ ُمـّر ،كال والذي نفسي بيده حىت
ابلسنة حذو ال َق ّذة ابل َق ّذة" .أخرجه املروزي يف السنة واحلاكم يف
السنة ُّ
حتذوا ُّ
املستدرك( )1بسند صحيح.
ومما يدل على هذه القاعدة أيضا ما جاء يف حديث عبد هللا بن مسعود رضي
هللا عنه :أن رجال أصاب من امرأة قبلة ،فأتى رسول هللا ﷺ فذكر ذلك له،
فأُن ِزلت عليه{ :ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ
أيل هذه؟ قال" :ملن عمل هبا من أميت". الرجل: قال ﯗ ﯘ ﯙ } ( . )2
َ
( )3
متفق عليه
وما جاء عن عب د هللا بن معقل قال :قعدت إىل كعب بن عجرة رضي هللا عنه
{ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ } ( . )1 وهو يف املسجد ،فسألته عن هذه اآلية:
ـح ِملت إىل ِ
فقال كعب رضي هللا عنه :نزلت ف َّـي ،كان يب أ ًذى من رأسي ،ف ُ
ـج ْهد بلغ
رسول هللا ﷺ والقمل يتناثر على وجهي ،فقال :ما كنت أرى أن ال َ
ال ،فنزلت هذه اآلية { :ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ منك ما أرى أجتد شاة؟ فقلت:
ﯴ ﯵ} ،قال" :صوم ثالثة أايم ،أو إطعام ستة مساكني نصف صاع ،طعاما
لكل مسكني" ،قال :فنزلت فـِ َّي خاصة ،وهي لكم عامة.
وذكر شيخ اإلسالم ابن تيمية أن هذا مما ال نزاع فيه بني العلماء فقال رمحه
هللا(" :)2ال نزاع بينهم أن أكثر العمومات الواردة على أسباب ال ختتص أبسباهبا،
كاآلايت النازلة بسبب معني :مثل آايت املواريث واجلهاد والظهار واللعان
والقذف واحملاربة والقضاء والفيء والراب والصدقات؛ وغري ذلك ،فعامتها نزلت
على أسباب معينة مشهورة يف كتب احلديث والتفسري والفقه واملغازي ،مع
اتفاق األمة على أن حكمها عام يف حق غري أولئك املعيَّـنني ،وغري ذلك مما
يـُماثل قضاايهم من كل وجه" .اهـ
وعليه فالقول أبن هذه اآلايت نزلت يف الكفار خاصة فال يلحق هبم من فعل
مثلهم من أهل اإلسالم قول مردود ،ألن احلكم يدور مع علته ومناطه ،فمىت
وجد املناط وجد احلكم ،وهذا يف اللفظ العام أوىل ،ألن العام ُكلِّـ ــيّةٌ يدخل
حتتها جزئيات كثرية ،فكل جزئي انطبق عليه املناط املذكور يف العام يدخل
فيه ،فهي داخلة فيه من جهة عموم اللفظ واحلكم ال من جهة القياس ،وهذا
أقوى من حيث احلكم.
قال الشيخ عبد الرمحن بن حسن رمحه هللا(" :)1فإن قيل :ما ذكرمت خاص
ابلكفار ،كيف جتعلوننا مثل الكفار؟ أم كيف تُن ِزلون اآلايت النازلة فيمن
حارب الرسول ﷺ وصار مع الكفار أعداء الرسول ﷺ علينا؟ قيل له :معلوم
أن القرآن نزل أبسباب ،فإن كان ال يستدل به إال يف تلك األسباب ،بطل
االستدالل ابلقرآن ،وهذا خروج من الدين.
وأيضاً ،فما زال العلماء من عصر الصحابة ومن بعدهم ،يستدلون ابآلايت
اليت نزلت يف اليهود ،ويف غريهم ،على من يعمل هبا.
من قال منهم :إن اآلية إذا نزلت يف رجل كافر ،أهنا ال تعم من عمل هبا من
املسلمني؟!
ـجاج والباطل ،يدفعون يف نـحر لكن هذا شأن اجلاهلني الظاملني ،أهل اللَّ َ
النصوص عما دلت عليه ،بنح ٍو من هذه األابطيل ،اليت يعرف املسلم بطالهنا
بـمجرد فطرته ،فاهلل املستعان" .اهـ
.4على فرض صـحة إسناد قول ابن عباس رضي هللا عنهما ،فإنه من ابب
االستدالل مبا نزل يف الكفر األكرب على الكفر األصغر وهي الصورة غري
املك ّفرة ،وهذه قاعدة معلومة عند السلف ،حيث يستشهدون ابآلية حبسب
ما يقتضيه املقام واحلال ،وال يكون قصدهم أن هذا ختصيص حلكمها العام،
وقد أوضح الشاطيب رمحه هللا عمل السلف يف هذا بقوله(:)1
إمنا حيملونه على ما يشمله املوضع حبسب احلاجة احلاضرة ال حبسب ما يقتضيه
اللفظ لغة ،وهكذا ينبغي أن تُـفهم أقوال املفسرين املتقدمني ،وهو األوىل
ملناصبهم يف العلم ،ومراتبهم يف فهم الكتاب والسنة .اهـ
وعليه فال يدل تفسريه هلا يف موضع ابلكفر األصغر ،أهنا خاصة به فقط
وال تتناول األكرب ،فهذا ختصيص بغري خمصص ،مع أن ابن عباس رضي هللا
عنهما مل يدع التخصيص يف كالمه.
.5أن من فسرها بكفر دون كفر من السلف ،إمنا قاله يف مقابلة قول اخلوارج
الذين ّنزلوا هذه اآلية يف غري حملها فك ّفروا به من ظلم وجار يف احلكم ومل يب ّدل
حكم هللا أو حيكم بغري شرعه ،كما يف قصة أيب جملز اليت أخرجها الطربي يف
تفسريه(:)2
يدينون به ،وبه يقولون ،وإليه يدعون ،فإن مبا أنزل هللا؟ قال" :هو دينهم الذي ِ
هم تركوا شيئًا منه عرفوا أهنم قد أصابوا ذنبًا" فقالوا :ال وهللا ،ولكنك تَـ ْف َر ُق(،!)1
حتر ُجون ،ولكنها قال :أنتم أوىل هبذا مين ال أرى ،وإنكم أنتم ترون هذا وال َّ
حنوا من هذا .اهـ
أنزلت يف اليهود والنصارى وأهل الشرك ،أو ً
ويف رواية أن من جاءه من اإلابضية أخرجها الطربي عقب هذه.
وأما من أنزل حكم اآلية يف حملها ومناطها ويف صورة كصورة السبب الذي
نزلت فيه فال ينكر عليه بل هو األوىل ألن كل ما وافق عني سبب النزول فهو
داخل يف احلكم العام دخوال أوليا.
فالقوانني الوضعية فيها تبديل حلكم هللا واحلكم به ،وهذا عني فعل اليهود الذين
ب ّدلوا حكم هللا وحكموا به ،فاآلية إذا تتناول الصنفني:
من ّ
شرع غري شرع هللا.
ومن حكم هبذا الشرع املبدل ولو مل يُ ِّ
شرعه هو.
قال الشيخ حممود شاك ر رمحه هللا يف تعليقه عليه يف حاشية تفسري الطربي(:)2
"إن أهل الريب والفنت ممن تصدروا للكالم يف زماننا هذا ،قد تـل َّـمس املعذرة
ألهل السلطان يف ترك احلكم مبا أنزل هللا ،ويف القضاء يف الدماء واألعراض
واألموال بغري شريعة هللا اليت أنزهلا يف كتابه ،ويف اختاذهم قانون أهل الكفر
( )1أي ختشى من األم ارء ،وقالوا هذا ألنه مل يكفرهم فظنوا أن احلامل على ترك تكفريهم هو اخلوف منهم.
( )2تفسري الطربي ( )148/14طبعة مؤسسة الرسالة
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
28
شريعة يف بالد اإلسالم .فلما وقف على هذين اخلربين ،اختذمها ر ًأاي يرى به
صواب القضاء يف األموال واألعراض والدماء بغري ما أنزل هللا ،وأن خمالفة
شريعة هللا يف القضاء العام ال تكفر الراضي هبا ،والعامل عليها.
وإذن ،فلم يكن سؤاهلم عما احتج به مبتدعة زماننا ،من القضاء يف األموال
واألعراض والدماء بقانون خمالف لشريعة أهل اإلسالم ،وال يف إصدار قانون
ملزم ألهل اإلسالم ،ابالحتكام إىل حكم غري حكم هللا يف كتابه وعلى لسان
نبيه ﷺ ،فهذا الفعل إعراض عن حكم هللا ،ورغبة عن دينه ،وإيثار ألحكام
أهل الكفر على حكم هللا سبحانه وتعاىل ،وهذا كفر ال يشك أحد من أهل
القبلة على اختالفهم يف تكفري القائل به والداعي إليه.
والذي حنن فيه اليوم ،هو هجر ألحكام هللا عامة بال استثناء ،وإيثار أحكام
غري حكمه يف كتابه وسنة نبيه ،وتعطيل لكل ما يف شريعة هللا ،بل بلغ األمر
مبلغ االحتجاج على تفضيل أحكام القانون املوضوع ،على أحكام هللا الـ ُمـن ّـزلة،
وادعاء احملتجني لذلك أبن أحكام الشريعة إمنا نزلت لزمان غري زماننا ،ولعلل
وأسباب انقضت ،فسقطت األحكام كلها ابنقضائها ،فأين هذا مما ب ـيَّـنَّاه من
حديث أيب مـِجلز ،والنفر من اإلابضية من بين عمرو بن سدوس!!
ولو كان األمر على ما ظنوا يف خرب أيب جملز ،أهنم أرادوا خمالفة السلطان يف
حاكم
ٌ سن
حكم من أحكام الشريعة ،فإنه مل حيدث يف اتريخ اإلسالم أن َّ
حكـما وجعله شريعة ُمل ِزمة للقضاء هبا .هذه واحدة .وأخرى ،أن احلاكم الذي
حكم يف قضية بعينها بغري حكم هللا فيها ،فإنه إما أن يكون حكم هبا وهو
جاهل ،فهذا أمره أمر اجلاهل ابلشريعة ،وإما أن يكون حكم هبا هوى ومعصية،
حكما
فهذا ذنب تَـنَ َاولُه التوبة ،وتلحقه املغفرة ،وإما أن يكون حكم به متأوال ً
خالف به سائر العلماء ،فهذا حكمه حكم كل متأول يستمد أتويله من اإلقرار
بنص الكتاب ،وسنة رسول هللا.
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
31
وأما أن يكون كان يف زمن أيب جملز أو قبله أو بعده حاكم حكم بقضاء يف
مؤثرا ألحكام أهل الكفر على جاحدا حلكم من أحكام الشريعة ،أو ً ً أمر،
أحكام أهل اإلسالم ،فذلك مل يكن قط .فال ميكن صرف كالم أيب جملز
واإلابضيني إليه ،فمن احتج هبذين األثرين وغريمها يف غري ابهبا ،وصرفها إىل
غري معناها ،رغبة يف نصرة سلطان ،أو احتياال على تسويغ احلكم بغري ما أنزل
هللا وفرض على عباده ،فحكمه يف الشريعة حكم اجلاحد حلكم من أحكام
هللا :أن يستتاب ،فإن أصر وكابر وجحد حكم هللا ،ورضى بتبديل األحكام
فحكم الكافر املصر على كفره معروف ألهل هذا الدين" .اهـ خمتصرا
وق ال العالمة أمحد شاكر رمحه هللا يف حاشية عمدة التفسري(" :)1وهذه اآلاثر
عن ابن عباس وغريه مما يلعب به املضللون يف عصران هذا ،من املنتسبني للعلم،
ـج َّـرآء على الدين :جيعلوهنا عذراً أو إابحة للقوانني الوثنية
ومن غريهم من ال ُ
املوضوعة اليت ضربت على بالد اإلسالم.
وهناك أثر عن أيب جملز يف جدال اإلابضية اخلوارج إايه ،فيما كان يصنع بعض
األمراء من اجلور ،فيحكمون يف بعض قضائهم مبا خيالف الشريعة ،عمداً إىل
اهلوى ،أو جهالً ابحلكم ،واخلوارج من مذهبهم أن مرتكب الكبرية كافر ،فهم
جيادلون يريدون من أيب جملز أن يوافقهم على ما يرون من كفر هؤالء األمراء،
ليكون ذلك عذراً هلم فيما يرون من اخلروج عليهم ابلسيف .اهـ
.6أن قول ابن عباس رضي هللا عنهما لو صح فهو حممول على امللتزم حلكم
هللا مث خالف يف قضية ما أبن ينفي شرطا اثبتا أو يثبت مانعا غري موجود يف
ـجلز يف ِ
حكم من األحكام دون تبديل ألصل حكم هللا فيها ،وهلذا قال أبو م ْ
األثر السابق" :هو دينهم الذي يدينون به ،وبه يقولون ،وإليه يدعون ،فإن هم
تركوا شيئًا منه عرفوا أهنم قد أصابوا ذنبًا".
ٍ
كقاض أيتيه سارق ثبتت فيه شروط إقامة احلد ،فيلغي إحداها لئال يقام وهذا
عليه احلد ،أبن يثبت أنه مل يسرق من حرز أو أن املال مل يبلغ النصاب وحنو
يغري أصل حكم السرقة وهو القطع ،فيكون منع إقامة احلد عليه هذا ،دون أن ّ
لفقدان شرط أو وجود مانع ،وهذا ليس تبديال للحكم ،بل هو ظلم ومعصية
اتبع فيها القاضي هواه ألمر ما وهو يعلم هذا.
أما إن قال له ثبت يف حقك كل الشروط اليت توجب احلد وحكمك هو
السجن أو دفع مال غرامة ،فإن هذا من تبديل حكم هللا وليس من ابب كفر
دون كفر ،ألنه ب ّدل أصل احلكم املقطوع به ،وحكم القطع يف السرقة من
حيل تبديله.
الشرع املنزل الذي ال ّ
الس ِّدي رمحه هللا يف تفسريها" :من مل حيكم مبا أنزلت فرتكه عمدا
كما قال ُّ
وجار وهو يعلم فهو من الكافرين" .أخرجه ابن أيب حامت والطربي يف
( )1
تفسرييْ ِهما
َ
أما شروط إقامة احلد فبعضها من الشرع املؤول الذي وقع فيه اخلالف ،وقد
أيخذ القاضي أبضعف األقوال هلوى أو لقرابة وحنوه فيحكم به.
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه هللا(" :)1لفظ الشرع يقال يف عرف الناس
على ثالثة معان:
الشرع املنزل :وهو ما جاء به الرسول وهذا جيب اتباعه ومن خالفه وجبت
عقوبته.
والثاين :الشرع املؤول :وهو آراء العلماء اجملتهدين فيها كمذهب مالك وحنوه،
ـحرم ،وليس ألحد أن يلزم عموم الناس به
فهذا يسوغ اتباعه وال جيب وال يُ َ
وال مينع عموم الناس منه.
والثالث :الشرع املبدل :وهو الكذب على هللا ورسوله ﷺ أو على الناس
بشهادات الزور وحنوها والظلم البني فمن قال إن هذا من شرع هللا فقد كفر
بال نزاع .اهـ
فمن ب ّدل الشرع املنزل ولو حكما واحدا فقد كفر ألنه مما أمجع عليه ،وهلذا
قال شيخ اإلسال م قبل هذا التقسيم :واإلنسان مىت حلل احلرام اجملمع عليه
أو حرم احلالل اجملمع عليه أو بدل الشرع اجملمع عليه كان كافرا مرتدا ابتفاق
الفقهاء .اهـ
الشبهة الثانية:
قوهلم أ هن احلاكم بغري ما أنزل هللا ال يكفر إال ابالستحالل له أو جحد
حكم هللا.
واجلواب عليها من وجوه:
املستحل للحرام اجملمع عليه
ّ .1أ ّن االستحالل كفر بذاته ولو مل يعمل ،فإن
الذي دون الكفر يكفر ،فمن ابب أوىل فيما حكم الشرع على فاعله ابلكفر،
كاحلكم بغري ما أنزل هللا ،وهي ثالث صور بعضها أشد من بعض:
أن يستحل احلكم بغري ما أنزل هللا وال يفعله فهذا كفر.
أن يستحل احلكم بغري ما أنزل هللا وحيكم مبا أنزل هللا فهذا كفر ،فحكمه
مبا أنزل هللا ال ينفعه مع جحده له.
أن يستحل احلكم بغري ما أنزل هللا وحيكم بغري ما أنزل هللا فهذا كفر أشد،
ألنه فعل انقضني مستقلني.
فعلم هبذا أن تعليق احلكم ابالستحالل خارج عن املسألة ألنه كفر سواء فعل
أم ال ،ومسألتنا فيمن حكم بغري ما أنزل هللا ،وال يصح تعليق األحكام على
مناطات خارجة عنها ،توجد هبا أو بدوهنا ،ألن احلكم يدور مع علته ،فإن
وجدت العلة دون احلكم أو الفعل علم أهنا ليست علة له ،كما تبني يف الصور
السابقة ،حيث وجد االستحالل دون وجود الفعل ،فلو كان االستحالل علة
له لَلزم أن يوجد احلكم بغري ما أنزل هللا كلما وجد ،وهذا غري حاصل وبه نعلم
بطالن القول أ ّن مناط الكفر هو االستحالل.
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
35
.2أن اآلايت يف ابب احلكم مبا أنزل هللا أانطت احلكم على أفعال اجلوارح
فج ْعل مناط الكفر فيها هو االستحالل ُّ
حتكم يف معناها ال أعمال القلوبُ َ ،
بغري دليل ،وصرف هلا عن ظاهرها.
احلكم
ُ . ( )1
ففي قوله تعاىل{ :ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ}
املنفي يف مجلة فعل يف مجلة جواب الشرط (هم الْ َكافِ
فعل َّ
َ من على اقع
ٌ و ) ن
َ ور
ُ ُُ
(وَم ْن َملْ َْحي ُك ْم ِمبَا أَنْـ َزَل َّ
اَّللُ) أي ومن حكم بغري ما أنزل هللا ،فاحلكم الشرط َ
ابلكفر متوجه له ،وهذا حكم على فعل ظاهر ال اعتقاد ابطن ،فتقييدها
وحتكم يف معىن اآلية وصرفابالستحالل أو اجلحود ،ختصيص للعام بال دليل ُّ
هلا عن الظاهر.
فإهنا عامة تشمل ثالثة ال خيص منهم أحد دون اآلخر:
املستحل للحكم بغري ما أنزل هللا بقياس األوىل.
واجلاحد حلكم هللا بقياس األوىل.
واحلاكم بغري ما أنزل هللا بنص اآلية.
أتول اآلية على ترك احلكم مبا أنزل هللا
قال ابن القيم رمحه هللا " :ومنهم من ّ
( )2
جاحدا له ،وهو قول عكرمة ،وهو أتويل مرجوح ،فإن نفس جحوده كفر،
سواء حكم أو مل حيكم" .اهـ
ومما يؤكد أن اآلية نصت على الفعل الظاهر ،أن سبب نزوهلا هو ما حصل
من اليهود ،وهو الرتك واإلعراض والتويل عن حكم هللا مث تبديله حبكم من
عندهم ،وهذا من أعمال اجلوارح ال من أعمال القلوب.
لكوهنا تناقض أصل اإلميان ،وهلذا جيعلون الكفر العملي قسما واحد فقط
كله كفر أصغر.
أما أهل السنة واجلماعة فيعتقدون أن العمل ركن يف اإلميان ،وأن نواقض اإلميان
منها اعتقادي ومنها عملي ومنها قويل.
وأن الكفر العملي قسمان:
قسم يناقض اإلميان وخيرج صاحبه من امللة مبجرد فعله وال يشرتط فيه اعتقاد
القلب كالشرك العملي.
وقسم ال يناقض اإلميان وهو مبنزلة سائر املعاصي اليت ال يك ّفر إال من
استحلها ،كالكبائر اليت وصفت يف الشرع ابلكفر وقُصد هبا الكفر األصغر.
ومن األدلة على ما ع ّده الشرع كفرا من األعمال الظاهرة دون اشرتاط االعتقاد
قوله تعاىل{ :ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ
ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ
ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ }( .)1
فاالستهزاء ابهلل ورسوله ﷺ عمل ظاهر حكم هللا به عليهم مبجرد فعلهم له،
وملا اعتذروا أهنم مل يقصدوه والقصد عمل قلب ،رد هللا سبحانه عليهم اعتذارهم
أبنه غري انفع لكونكم كفرمت بعملكم الظاهر ،وهذا نص صريح على عدم
اعتبار عمل القلب يف احلكم على الظاهر ،وإن كان العمل الظاهر ال يصدر
الزم له ،وال يعين هذا أن مناط احلكم على الظاهر ال
إال منه يف األصل ألنه ٌ
يعلّق مبعرفة الباطن ،ففي هذه اآلية يقال املستهزئ ابهلل ورسوله ﷺ حكم عليه
مبا صدر منه وإن مل يعتقد ،مع أن هذا القول ال ميكن أن يصدر ممن معه إميان
يف قلبه ،وهذه مسألة تالزم الظاهر والباطن عند أهل السنة واجلماعة.
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه هللا( " :)1فقد أخرب أهنم كفروا بعد إمياهنم مع
قوهلم إان تكلمنا ابلكفر من غري اعتقاد له ،بل كنا خنوض ونلعب ،وبني أن
االستهزاء آبايت هللا كفر ،وال يكون هذا إال ممن شرح صدره هبذا الكالم ،ولو
كان اإلميان يف قلبه منعه أن يتكلم هبذا الكالم" .اهـ
وقال أيضا(" :)2فدل على أهنم مل يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفراً ،بل ظنوا أن
ذلك ليس بكفر ،فبني أن االستهزاء ابهلل وآايته ورسوله كفر يكفر به صاحبه
بعد إميانه ،فدل على أنه كان عندهم إميان ضعيف ،ففعلوا هذا احملرم الذي
عرفوا أنه حمرم ،ولكن مل يظنوه كفراً ،وكان كفراً كفروا به ،فإهنم مل يعتقدوا
جوازه" .اهـ
سب هللا تعاىل أو انتقاص دينه سبحانه أو سب ومن األدلة كذلك اإلمجاع أن ّ
النيب ﷺ ُّ
يعد كفرا ولو مل يعتقد.
كفر
سب هللا أو سب رسوله ٌ إن َّقال شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه هللا(َّ " :)3
الساب يعتقد أن ذلك حمرم أو كان مستحال له أو ُّ ظاهرا وابطنا وسواء كان
كان ذاهال عن اعتقاده ،هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلني أبن
اإلميان قول وعمل" .اهـ
فر ،لكن ال فرق يف ذلك بني سب يف احملرمات املعلوم حترميها أهنا حالل ك َ
النيب ﷺ وبني قذف املؤمنني والكذب عليهم والغيبة هلم إىل غري ذلك من
األقوال اليت عُلم أن هللا حرمها ،فإنه من فعل شيئا من ذلك مستحال كفر،
مع أنه ال جيوز أن يقال من قذف مسلما أو اغتابه كفر ويعىن بذلك إذا
استحله.
كفر سواء اقرتن به وجود السب أو مل حل السب ٌ الوجه الثالث :أن اعتقاد ِّ
يقرتن ،فإذا ال أثر للسب يف التكفري وجودا وعدما وإمنا املؤثر هو االعتقاد وهو
خالف ما أمجع عليه العلماء.
السب ما يدل على يف فليس ِ
احلل اعتقاد هو ر الوجه الرابع :أنه إذا كان املك ِّ
ف
ّ ّ
أن الساب مستحل فيجب أن ال يكفر ،ال سيما إذا قال" :أان اعتقد أن هذا
حرام وإمنا أقول غيظا وس َفها أو عبثا أو لعبا" كما قال املنافقون" :إَِّمنَا ُكنَّا
وض َونَـ ْل َعب" كما إذا قال: :إمنا قذفت هذا أو كذبت عليه لعبا وعبثا"، َخنُ ُ
فإن قيل ال يكونون كفارا فهو خالف نص القرآن ،وإن قيل يكونون كفارا
فهو تكفري بغري موجب إذا مل جيعل نفس السب مك ِّفرا ،وقول القائل أان ال
أصدقه يف هذا ال يستقيم فإن التكفري ال يكون أبمر حمتمل فإذا كان قد قال:
"أان أعتقد أن ذلك ذنب ومعصية وأان أفعله" فكيف يكفر إن مل يكن ذلك
كفرا؟ وهلذا قال سبحانه وتعاىل" :ال تَـ ْعتَ ِذ ُروا قَ ْد َك َف ْرُْمت بَـ ْع َد إِميَانِ ُك ْم" ومل يقل
قد كذبتم يف قولكم إمنا كنا خنوض ونلعب فلم يكذهبم يف هذا العذر كما
كذهبم يف سائر ما أظهروه من العذر الذي يوجب براءهتم من الكفر كما لو
كانوا صادقني بل بني أهنم كفروا بعد إمياهنم هبذا اخلوض واللعب.
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
42
إىل أن قال :وم نشأ هذه الشبهة اليت أوجبت هذا الوهم من املتكلمني ومن
حذا حذوهم من الفقهاء أهنم رأوا أن اإلميان هو تصديق الرسول ﷺ فيما
أخرب به ،ورأوا أن اعتقاد صدقه ال ينايف السب والشتم ابلذات ،كما أن اعتقاد
إجياب طاعته ال ينايف معصيته ،فإن اإلنسان قد يُهني من يعتقد وجوب إكرامه
كما يرتك ما يعتقد وجوب فعله ويفعل ما يعتقد وجوب تركه ،مث رأوا أن األمة
كفرت الساب فقالوا :إمنا كفر ألن سبَّه دليل على أنه مل يعتقد أنه حرام،قد َّ
واعتقاد حله تكذيب للرسول فكفر هبذا التكذيب ال بتلك اإلهانة وإمنا اإلهانة
دليل على التكذيب ،فإذا فرض أنه يف نفس األمر ليس مبكذب كان يف نفس
األمر مؤمنا وإن كان حكم الظاهر إمنا جيري عليه مبا أظهره فهذا مأخذ املرجئة
ومعتضديهم وهم الذين يقولون" :اإلميان هو االعتقاد والقول" .اهـ
وما قاله رمحه هللا يف السب يقال يف احلكم بغري ما أنزل هللا ألن كليهما عمل
ظاهر حكم هللا سبحانه على فاعله ابلكفر.
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
43
الشبهة الثالثة:
أصغر فقط إال إذا استحله بقلبه مث بنوا عليه أن
قوهلم أبن الكفر العملي ٌ
احلكم بغري ما أنزل هللا أصغر إال إذا استحل.
واجلواب عليها من وجوه:
.1تفريعهم أبن احلكم بغري ما أنزل هللا كفر أصغر إال إذا استحل ،مبين على
أصل ابطل من أصول املرجئة الذين ُخيرجون العمل من أصل اإلميان ،وليس
عندهم عمل واجب من أصل اإلميان ينتفي اإلميان ابنتفائه كما عليه أهل
السنة واجلماعة ،فأصل اإلميان عند املرجئة هو تصديق القلب فقط فيكون
نقيضه الكفر ابالعتقاد فقط ،إما ابلتكذيب وهو اجلحود أو االستحالل ،فمن
عمل عمال حكم الشرع على فاعله ابلكفر ال يكفر عندهم إال إذا عُلِم
اعتقاده ،وهلذا قالوا أبن الكفر العملي كله أصغر ،لعدم ع ّدهم العمل الظاهر
ركنا يقوم عليه اإلميان.
وقول أهل السنة واجلماعة يف منزلة العمل من اإلميان أنه على مراتب:
منه ما هو ركن يف اإلميان ال يثبت اإلميان إال به ،وهذه مرتبة أصل اإلميان.
ومنه ما هو واجب ال يُنفى اإلميان برتكه ،لكن يستحق التارك اإلمث وهذه
مرتبة اإلميان الواجب.
ومنه ما هو مستحب ال يعاقب اتركه ،وهذه مرتبة اإلميان املستحب.
واملرتبة األوىل (أصل اإلميان) قسمان:
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
44
نبيا من أنبياء هللا عز وجل" :أنه كافر بذلك وان كان مقرا بكل ما أنزل هللا.
اهـ
وقول ابن حزم رمحه هللا( :)1من أظهر الكفر ال قارائً وال شاهدا وال حاكيا
وال مكرها ،فإمجاع األمة على احلكم له حبكم الكفر وحبكم رسول هللا ﷺ
بذلك ،وبنص القرآن على من قال كلمة الكفر أنه كافر .اهـ الفصل يف امللل
واألهواء والنحل بتصرف يسري جدا
وقول أيب بطني رمحه هللا( :)2واملرت ّد هو الذي يكفر بعد إسالمه بكالم
ابلشهادتني ويصلّي ويصوم،
شك ،وهو قبل ذلك يتل ّفظ ّ أو اعتقاد أو فعل أو ّ
ابلشهادتني ،ويصلّي
فإذا أتى بشيء مما ذكروه صار مرت ّداً ،مع كونه يتكلّم ّ
ابلشهادتني وصالته وصومه عن احلكم عليه ابلردة،
ويصوم ،وال مينعه تكلّمه ّ
السنة واإلمجاع .اهـ
وهذا ظاهر ابألدلّة من الكتاب و ّ
.2بناء على التأصيل السابق نقول إن احلكم بغري ما أنزل هللا من الكفر
العملي ،ومبا أن الكفر العملي قسمان ،فإن احلكم بغري ما أنزل هللا قسمان
أيضا :أكرب وأصغر.
ومن صور الكفر العملي األصغر :أن يكون ملتزما حلكم هللا مث حيكم ظلما
أو هلوى يف قضية معينة دون أن يبدل أصل حكم هللا فيها ،ودون إلزام عام
أو تقنني ،وهي اليت ال يكفر فيها إال املستحل أو اجلاحد.
ومن أقوال أهل العلم يف بيان القسم األول (األكرب):
قول ابن حزم رمحه هللا( : )1النسيء كفر وهو عمل من األعمال ،وهو حتليل
ما حرم هللا تعاىل ،فمن أحل ما حرم هللا تعاىل وهو عامل أبن هللا تعاىل حرمه
حرم
حرم ما أحل هللا تعاىل فقد أحل ما ّفهو كافر بذلك الفعل نفسه ،وكل من ّ
حرم على الناس أن حيرموا ما أحل هللا .اهـ الفصلهللا عز وجل ألن هللا تعاىل ّ
يف امللل واألهواء والنحل
{ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ وقول ابن كثري رمحه هللا( )2عن قوله تعاىل:
ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ } ( . )3
" ينكر تعاىل على من خرج عن حكم هللا احملكم املشتمل على كل خري،
الناهي عن كل شر وعدل إىل ما سواه من اآلراء واألهواء واالصطالحات،
اليت وضعها الرجال بال مستند من شريعة هللا ،كما كان أهل اجلاهلية حيكمون
به من الضالالت واجلهاالت ،مما يضعوهنا آبرائهم وأهوائهم ،وكما حيكم به
التتار من السياسات امللكية املأخوذة عن ملكهم َجْن ِك ْز َخان ،الذي وضع هلم
الياسق وهو :عبارة عن كتاب جمموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شىت،
من اليهودية والنصرانية وامللة اإلسالمية ،وفيها كثري من األحكام أخذها من
جمرد نظره وهواه ،فصارت يف بنيه شرعا متبعا ،يقدموهنا على احلكم بكتاب
هللا وسنة رسوله ﷺ ،ومن فعل ذلك منهم فهو كافر جيب قتاله ،حىت يرجع
إىل حكم هللا ورسوله ﷺ فال حيكم سواه يف قليل وال كثري" .اهـ
وقال أيضا( " :)1مث ذكر اجلويين شيئا من الياسق من ذلك ،أنه من زان قتل،
حمصنا كان أو غري حمصن ،وكذلك من الط قتل ،ومن تعمد الكذب قتل،
ومن سحر قتل ،ومن جتسس قتل ،ومن دخل بني اثنني خيتصمان فأعان
أحدمها قتل ،ومن ابل يف املاء الواق ف قتل ،ومن انغمس فيه قتل ،ومن أطعم
أسريا أو سقاه أو كساه بغري إذن أهله قتل ،ومن وجد هاراب ومل يرده قتل،
ومن رمى إىل أحد شيئا من املأكول قتل ،بل يناوله من يده إىل يده ،ومن
أطعم أحدا شيئا فليأكل منه أوال ،ولو كان املطعم أمريا ألسري ،ومن أكل ومل
يطعم من عنده قتل ،ومن ذبح حيواان ذبح مثله ،بل يشق جوفه ،ويتناول قلبه
بيده يستخرجه من جوفه أوال.
ويف ذلك كله خمالفة لشرائع هللا املنزلة على عباده األنبياء عليهم الصالة
والسالم ،فمن ترك الشرع احملكم املنزل على حممد بن عبد هللا خامت األنبياء،
وحتاكم إىل غريه من الشرائع املنسوخة كفر ،فكيف مبن حتاكم
إىل " الياسق " وقدمها عليه؟! من فعل ذلك كفر ذإمجاع املسلمني" .اهـ
وقال محد بن عتيق رمحه هللا( )1معلقا على بعض كالم ابن كثري السابق :قلت:
ومثل هؤالء ما وقع فيه عامة البوادي ومن شاهبهم ،من حتكيم عادات آابءهم،
وما وضعه أوائلهم من ا ملوضوعات امللعونة اليت يسموهنا (شرع الرفاقة) يقدموهنا
على كتاب هللا وسنة رسوله صلى هللا عليه وسلم ،ومن فعل ذلك فهو كافر،
جيب قتاله حىت يرجع إىل حكم هللا ورسوله .اهـ
{ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ وقال السعدي رمحه هللا( )2عن قوله تعاىل:
ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥﭦ
ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ} (. )3
ين يَـ ْزعُ ُمو َن أَنـَّ ُه ْم" مؤمنون مبا جاء َّ ِ ِ
عج ب تعاىل عباده من حالة املنافقني "الذ َ يُ ّ
وت" وهو كل يدو َن أَ ْن يـتحا َكموا إِ َىل الطَّاغُ ِ
به الرسول ومبا قبله ،ومع هذا "يُِر ُ
ََ َ ُ
من حكم بغري شرع هللا فهو طاغوت ،واحلال أهنم "قد أ ُِم ُروا أَ ْن يَ ْك ُف ُروا
بِِه " فكيف جيتمع هذا واإلميان؟ فإن اإلميان يقتضي االنقياد لشرع هللا وحتكيمه
فم ْن زعم أنه مؤمن واختار حكم الطاغوت على حكم يف كل أمر من األمورَ ،
"ويُِر ُ
يد هللا ،فهو كاذب يف ذلك .وهذا من إضالل الشيطان إايهم ،وهلذا قالَ :
يدا" عن احلق .اهـ ضالال بَعِ ً ِ
الشَّْيطَا ُن أَ ْن يُضلَّ ُه ْم َ
وقال أمحد شاكر رمحه هللا( : )1إن األمر يف هذه القوانني الوضعية واضح
وضوح الشمس ،هي كفر بواح ،ال خفاء فيه وال مداراة ،وال عذر ألحد ممن
ينتسبون لإلسالم كائناً من كان يف العمل هبا أو اخلضوع هلا أو إقرارها .اهـ
وقال األمني الشنقيطي رمحه هللا(" :)2وهبذه النصوص السماوية اليت ذكران
يظهر غاية الظهور :أن الذين يتبعون القوانني الوضعية اليت شرعها الشيطان
على ألسنة أوليائه خمالفة ملا شرعه هللا جل وعال على ألسنة رسله صلى هللا
عليهم وسلم ،أنه ال يشك يف كفرهم وشركهم إال من طمس هللا بصريته ،وأعماه
عن نور الوحي مثلهم" .اهـ
وقال أيضا(" :)3وأما النظام الشرعي املخالف لتشريع خالق السماوات واألرض
فتحكيمه كفر خبالق السماوات واألرض ،كدعوى أن تفضيل الذكر على
األنثى يف املرياث ليس ذإنصاف ،وأهنما يلزم استواؤمها يف املرياث ،وكدعوى أن
تعدد الزوجات ظلم ،وأ ن الطالق ظلم للمرأة ،وأن الرجم والقطع وحنومها أعمال
وحشية ال يسوغ فعلها ابإلنسان ،وحنو ذلك.
فتحكيم هذا النوع من النظام يف أنفس اجملتمع وأمواهلم وأعراضهم وأنساهبم
وعقوهلم وأدايهنم كفر خبالق السماوات واألرض ،ومترد على نظام السماء الذي
وضعه من خلق اخلالئق كله ا وهو أعلم مبصاحلها سبحانه وتعاىل عن أن يكون
معه مشرع آخر علوا كبريا" .اهـ
وقال أيضا( " :)1ومن هدي القرآن لليت هي أقوم بيانه أنه كل من اتبع تشريعا
غري التشريع الذي جاء به سيد ولد آدم حممد بن عبد هللا صلوات هللا وسالمه
عليه ،فاتباعه لذلك التشريع املخالف كفر بواح ،خمرج عن امللة اإلسالمية .اهـ
أضواء البيان
وقال أيضا :والعجب ممن حيكم غري تشريع هللا مث يدعي اإلسالم" .اهـ
ومن كالم العلماء عن القسم الثاين (األصغر):
قول شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه هللا( :)2وأما من كان ملتزما حلكم هللا
ورسوله ابطنا وظاهرا ،لكن عصى واتبع هواه ،فهذا مبنزلة أمثاله من العصاة".
اهـ
وقال أيضا( " :)3فإن احلاكم إذا كان دينا لكنه حكم بغري علم كان من أهل
النار وإن كان عاملا لكنه حكم خبالف احلق الذي يعلمه كان من أهل النار
وإذا حكم بال عدل وال علم كان أوىل أن يكون من أهل النار .وهذا إذا حكم
يف قضية معينة لشخص" .اهـ
قول ابن القيم رمحه هللا( :)4والصحيح أن احلكم بغري ما أنزل هللا يتناول الكفرين،
األصغر واألكرب حبسب حال احلاكم ،فإنه إن اعتقد وجوب احلكم مبا أنزل هللا
يف هذه الواقعة ،وعدل عنه عصياان ،مع اعرتافه أبنه مستحق للعقوبة ،فهذا
كفر أصغر .اهـ
وقال األمني الشنقيطي رمحه هللا( : )1أما من حكم بغري حكم هللا ،وهو عامل أنه
مرتكب ذنبا ،فاعل قبيحا ،وإمنا محله على ذلك اهلوى فهو من سائر عصاة
املسلمني .اهـ
.3أن ما جاء عن بعض علماء أهل السنة من تقسيمهم الكفر إىل نوعني
اعتقادي وعملي ،وجعلوا األول هو األكرب املخرج من امللة والثاين هو األصغر،
ال يقصدون به ما فهمه بعض مرجئة زماننا أن الكفر العملي أصغر مطلقا،
نقض أصل ي ال هاُل ع إمنا من حكى ذلك من العلماء عىن به األعمال اليت فِ
َ ُ ْ
اإلميان على التقسيم السابق الذي ذكرانه يف الوجه األول وهي الكبائر ،فإهنم
قالوا ذلك يف مق ابلة قول اخلوارج الذين جعلوا فعل الكبائر من الكفر األكرب،
استدالال مبا ُمسّي يف بعض النصوص أبنه كفر كحديث" :سباب املسلم فسوق
وقتاله كفر" ،فقالوا الكفر املقصود هنا هو الكفر العملي الذي ال خيرج من
امللة وال يكفر إال املستحل له ،فمن استحل قتل املسلم كفر ومن قتله بال
استحالل لذلك كان كفرا عمليا أصغر.
ولذلك جتد هؤالء العلماء ملا ذكروا هذا التقسيم ،ذكروا يف مواضع أخرى صورا
لبعض األعمال املكفرة وحكموا على فاعلها ابلكفر األكرب ،ولو كان الكفر
العملي عندهم أصغر مطلقا لطردوا هذا القول ،ولكن ِذ ْك ُره يف مواضع دون
مواضع يُعلم منه أن تفسريه كما ذكرانه ال كما فهمه مرجئة زماننا ،ونصوص
العامل تفسر بعضها بعضا ،وال جيوز أن يؤخذ رأيه من بعض كالمه بل ال بد
من مجع كالمه كله يف الباب ليعلم رأيه ومذهبه.
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه هللا(" :)1ليس ألحد أن حيمل كالم أحد من
الناس إال على ما عرف أنه أراده ال على ما حيتمله ذلك اللفظ يف كالم كل
يتأول النصوص املخالفة لقوله ،يسلك مسلك من أحد فإن كثريا من الناس ّ
جيعل "التأويل" كأنه ذكر ما حيتمله اللفظ وقصده به دفع ذلك احملتج عليه
بذلك النص وهذا خطأ" .اهـ
فسر كالم املتكلم بعضه ببعض ويؤخذ كالمه هاهنا وقال أيضا(" :)2جيب أن يُ َّ
وهاهنا وتعرف ما عادته يعني ه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به وتعرف املعاين
اليت عرف أنه أرادها يف موضع آخر فإذا عرف عرفه وعادته يف معانيه وألفاظه
كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده.
وأما إذا استعمل لفظه يف معىن مل جتر عادته ابستعماله فيه وترك استعماله يف
املعىن الذي جرت عادته ابستعماله فيه ومحل كالمه على خالف املعىن الذي
قد عرف أنه يريده بذلك اللفظ جبعل كالمه متناقضا وترك محله على ما يناسب
سائر كالمه كان ذلك حتريفا لكالمه عن موضعه وتبديال ملقاصده وكذاب عليه".
اهـ
ومن األمثلة يف ذلك اقتصاص املرجئة بعض كالم ابن القيم رمحه هللا يف تقسيم
الكفر ،وفهمهم منه أن احلكم بغري ما أنزل هللا من الكفر العملي األصغر
مطلقا ،ومن ثَـ َّـم بنوا على فهمهم أن احلكم ابلقوانني الوضعية كفر أصغر
ال يكفر احلاكم هبا حىت يستحلّها أو جيحد حكم هللا ،وهذه طريقة أهل البدع
الذين يقتطعون النصوص وحيرفون معانيها لنصرة مذهبهم.
فالنص الذي اقتطعوه هو قوله( :)1وأما احلكم بغري ما أنزل هللا وترك الصالة
فهو من الكفر العملي قطعا ،وال ميكن أن ينفى عنه اسم الكفر بعد أن أطلقه
هللا ورسوله ﷺ عليه ،فاحلاكم بغري ما أنزل هللا كافر ،واترك الصالة كافر بنص
رسول هللا ﷺ ،ولكن هو كفر عمل ال كفر اعتقاد ،ومن املمتنع أن يُس ِّم َي
سم َي رسول هللا ﷺ اترك الصالة ِ
هللا سبحانه احلاكم بغري ما أنزل هللا كافرا ويُ ّ
كافرا وال يطلق عليهما اسم كافر ،وقد نفى رسول هللا ﷺ اإلميان عن الزاين
والسارق وشارب اخلمر ،وعمن ال أيمن جاره بوائقه ،وإذا نُفي عنه اسم اإلميان
فهو كافر من جهة العمل وانتفى عنه كفر اجلحود واالعتقاد ،وكذلك قوله:
"ال ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" ،فهذا كفر عمل ،وكذلك
قوله" :من أتى كاهنا فصدقه أو امرأة يف دبرها فقد كفر مبا أنزل على حممد
ﷺ" ،وقوله" :إذا قال الرجل ألخيه اي كافر فقد ابء هبا أحدمها" .اهـ
ابطل لوجوه: ِ
وهذا الفهم منهم لكالم ابن القيم رمحه هللا ورأيه ٌ
األول :أن سياق كالم ابن القيم هنا يدل على أنه يتكلم عن الكبائر اليت
دون الكفر األكرب ،واليت مسّى هللا تعاىل فاعلها كافرا أو نُِف َي اإلميان عنه ،ومبا
أن احلكم بغري ما أنزل هللا له مرتبتان منه ما هو كفر أكرب ومنه ما هو كفر
أصغر ،فإن املقصود هنا هو األصغر بال شك.
وقد ّبني قصده هنا بعد كالمه أبسطر ،حيث قال :وقد أعلن النيب ﷺ مبا
ففرق
قلناه يف قوله يف احلديث الصحيح" :سباب املسلم فسوق وقتاله كفر" ّ
بني قتاله وسبابه ،وجعل أحدمها فسوقا ال يكفر به واآلخر كفر ،ومعلوم أنه
إمنا أراد الكفر العلمي ال االعتقادي وهذا الكفر ال خيرجه من الدائرة اإلسالمية
وامللة ابلكلية ،كما ال خيرج الزاين والسارق والشارب من امللة وإن زال عنه اسم
اإلميان.
وهذا التفصي ل هو قول الصحابة الذين هم أعلم األمة بكتاب هللا وابإلسالم
والكفر ولوازمهما ،فال تـُتَ لقى هذه املسائل إال عنهم ،فإن املتأخرين مل يفهموا
مرادهم فانقسموا فريقني فريقا أخرجوا من امللة ابلكبائر وقضوا على أصحاهبا
ابخللود يف النار ،وفريقا جعلوهم مؤمنني كاملي اإلميان فهؤالء غلوا وهؤالء
جفوا وهدى هللا أ هل السنة للطريقة املثلى والقول الوسط .اهـ
فالسياق واضح أن املقصود ابلكالم هنا الكبائر اليت ال تناقض أصل اإلميان.
الثاين :أن ابن القيم ال جيعل الكفر العملي أصغر مطلقا كما يقوله هؤالء
املرجئة ،إمنا يقسمه كما قسمه أهل ا لسنة واجلماعة ،وهلذا قال قبل النص
املذكور :وأما كفر العمل فينقسم إىل ما يضاد اإلميان وإىل ما ال يضاده
فالسجود للصن م واالستهانة ابملصحف وقتل النيب وسبه يضاد اإلميان .اهـ
وهذا نص صريح منه ال يقبل التأويل يف أن من الكفر العملي ما هو أكرب.
الثالث :أن ابن القي م يف كتبه األخرى ذكر أن احلكم بغري ما أنزل هللا على
قسمني أكرب وأصغر حيث قال( :)1والصحيح أن احلكم بغري ما أنزل هللا يتناول
الكفرين ،األصغر واألكرب حبسب حال احلاكم ،فإنه إن اعتقد وجوب احلكم
مبا أنزل هللا يف هذه الواقعة ،وعدل عنه عصياان ،مع اعرتافه أبنه مستحق
للعقوبة ،فهذا كفر أصغر ،وإن اعتقد أنه غري واجب ،وأنه خمري فيه ،مع تيقنّه
أنه حكم هللا ،فهذا كفر أكرب ،وإن جهله وأخطأه فهذا خمطئ ،له حكم
املخطئني ،والقصد أن املعاصي كلها من نوع الكفر األصغر .اهـ
فإن قيل :ملا قيّد صورة الكفر األكرب ابالعتقاد هنا؟
قلنا :ألن سياق الكالم فيمن حيكم مبا أنزل هللا ملتزما به مث تركه يف قضية
معينة ،ولذلك جعل األمر حبسب احلاكم ألن احملكوم به هنا هو حكم هللا،
واحلاكم هو الذي يرتكه أو حيكم به ،فمعىن كالمه أن من يلتزم حكم هللا مث
تركه يف واقعة معينة مع اعتقاد وجوبه وأنه عاص بفعله هو الذي يقال عنه كفر
أصغر ،ومن تركه يف هذه الواقعة مع اعتقاده عدم وجوبه وأنه خمري فيه هو الذي
يقال عنه كفر أكرب ،فكان قيد االعتقاد ألن صورة األصغر هذه ال تكون كفرا
أكرب إال إذا استحلها ،وقد سبق ذكر بعض كالم العلماء فيها.
فال حجة يف هذا الكالم للمستدل به على أن من حيكم ابلطاغوت كالقوانني
الوضعية واألعراف اجلاهلية يشرتط فيه االعتقاد ،ألن هذا حتاكم للطاغوت
والتزام حلكمه وتقدمي له على حكم هللا ،أما كالم ابن القيم هنا فهو يف الواقعة
املعينة ِم ْن حاك ٍم حيكم بشرع هللا يف األصل مث تركه يف هذه القضية دون جعله
شرعا ملزما أو قانوان متبعا.
الرابع :أن البن القيم كالما صرحيا فيمن حكم أو حتاكم لطاغوت احلكم
أبنه كفر أكرب مطلقا ،وهو غري التفصيل السابق الذي ذكره.
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
56
الرسول ،فقد
ُ قال( :)1أخرب سبحانه أن َم ْن حتاكم أو حاكم إىل غري ما جاء به
العبد حدَّه من معبود الطاغوت وحتاكم إليه ،والطاغوتُ :كل ما جتاوز به ُ َ َح َّكم
اَّلل ورسوله ﷺ، فطاغوت كل قوم َم ْن يتحاكمون إليه غري َُّ أو متبوع أو ُمطَ ٍاع؛
اَّلل ،أو يطيعونه فيما اَّلل ،أو يتبعونه على غري بصرية من َّ أو يعبدونه من دون َّ
ال يعلمون أنه طاعة ََّّلل؛ فهذه طواغيت العامل إذا أتملتَـ َها وأتملت أحوا َل الناس
اَّلل إىل عبادة الطاغوت ،وعن معها ،رأيت أكثرهم ممن أعرض عن عبادة َّ
اَّلل ورسوله ﷺ إىل التحاكم إىل الطاغوت ،وعن طاعته ومتابعة التحاكم إىل َّ
ني الفائزين ِ
يق الناج َ رسوله إىل طاعة الطاغوت ومتابعته ،وهؤالء مل يسلكوا طر َ
ص َدهم ،بل خالفوهم يف من هذه األمة وهم الصحابة ومن تبعهم وال قَصدوا قَ ْ
معا .اهـ
الطريق والقصد ً
بح لنا ُّ
قط ي لم ف ﷺ رسوله وإىل إليه فيه تنازعنا ما اَّلل ِ
برد وقال( :)2وقد أمران َّ
ُْ ّ
أن نَـ ُرَّد ذلك إىل رأي ،وال قياس ،وال تقليد إمام ،وال منام ،وال ُكشوف ،وال
إهلام ،وال حديث قلب ،وال استحسان ،وال معقول ،وال شريعة الديوان ،وال
أضر منها ،فكل سياسة امللوك ،وال عوائد الناس اليت ليس على شرائع املرسلني َّ
منازعه إىل التحاكم إليها فقد حاكم إىل هذه طواغيت َم ْن حتاكم إليها أو َد َعا َ
الطاغوت .اهـ
وقال أيضا( : )3االعرتاض على شرعه وأمره .وأهل هذا االعرتاض ثالثة أنواع:
ِ
املتضمنة حتليل ما حرم هللا سبحانه أحدها :املعرتضون عليه آبرائهم وأقيستهم،
ّ
وتعاىل ،وحترمي ما أابحه ،وإسقاط ما أوجبه ،وإجياب ما أسقطه ،وإبطال
ما صححه ،وتصحيح ما أبطله ،واعتبار ما ألغاه ،وإلغاء ما اعتربه ،وتقييد
ما أطلقه ،وإطالق ما قيده.
النوع الثاين :االعرتاض على حقائق اإلميان والشرع ابألذواق واملواجيد
ع دين مل أيذن به هللا،شر َ
واخلياالت ،والكشوفات الباطلة الشيطانية ،املتضمنة ْ
التعوض عن حقائق اإلميان ِخب َدع
وإبطال دينه الذي شرعه على لسان رسوله ،و ُّ
الشيطان وحظوظ النفوس.
وهؤالء يف حظوظ اختذوها دينا ،وقدموها على شرع هللا ودينه ،واغتالوا هبا
القلوب ،واقتطعوها عن طريق هللا.
النوع الثالث :االعرتاض على ذلك ابلسياسات اجلائرة ،اليت ألرابب الوالايت
اليت قدموها على حكم هللا ورسوله ﷺ وحكموا هبا بني عباده ،وعطلوا هلا وهبا
شرعه وعدله وحدوده.
فقال األولون :إذا تعا رض العقل والنقل أيهما يقدم؟ :قدمنا العقل.
وقال اآلخرون :إذا تعارض األثر والقياس :قدمنا القياس.
وقال أصحاب الذوق والكشف والوجد :إذا تعارض الذوق وال ِو ْجد والكشف
وظاهر الشرع :قدمنا الذوق وال ِو ْجد والكشف.
وقال أصحاب السياسة :إذا تعارضت السياسة والشرع ،قدمنا السياسة.
فجعلت كل طائفة قُـبَالة دين هللا وشرعه طاغوات يتحاكمون إليه.
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
58
فاعتقاد تفرد هللا تعاىل ابحلكم والتشريع من التوحيد العلمي اخلربي ،ألن هللا
سبحانه هو الذي يشرع لعباده األحكام اليت يُعبد هبا ،فتوحيده هنا أبن يعتقد
ويصدق ويسلّم أن األمر والنهي ،والتحليل والتحرمي ،والتشريع ،هلل تعاىل وحده
ال شريك له.
{ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ} (. )1 وهلذا قال تعاىل:
{ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ} (. )2 وقال سبحانه:
النفي واإلثبات وهي حقيقة التوحيد.
وهذه من أعلى صيغ احلصرُ ،
وشرعه أي األوامر والنواهي ،فمن التوحيد القصدي وأما طاعته فيما حكم به ّ
الطليب ،وتوحيده هنا بقبوهلا واالنقياد هلا واخلضوع وااللتزام هبا وهذه عبادة
الطاعة.
( )3
{ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ} قال تعاىل
فلما ذكر تفرده ابحلكم وهو :األمر والنهي والتحليل والتحرمي والتشريع ،كان
وحيكم به ويُتحاكم له ،فمن مل يقبل
وخيضع له ُال بد أن يُعبد به ،أبن يطاع فيه ُ
رده أو ب ّدله حبكم غريه كان مشركا
حكم هللا أو مل يْنـ َق ْد له أو مل يلتزم به أو ّ
يصحب عمله اعتقاد أن حكم غري هللا ابهلل تعاىل شركا عمليا ،وال يشرتط أن َ
أحسن من حكمه أو أعدل منه أو أصح منه أو يساويه ،فإن اعتقد هذه
األمور انضاف إىل ما معه من شرك فصار مشركا ابلعمل وابالعتقاد.
مثال هذا:
من أعط ى صفة احلكم والتشريع لغري هللا تعاىل كقول الدميقراطيني:
(الشعب مصدر السلطات) ومنها السلطة التشريعية.
فهذا شرك يف االعتقاد ألهنم اعتقدوا شريكا هلل تعاىل يف التشريع واحلكم واألمر
والنهي والتحليل والتحرمي ،وهو نقض للتوحيد العلمي االعتقادي.
ومن أطاع هذا التشريع أبن حتاكم له أو حكم به فقد أشرك ابهلل شركا عمليا
ألنه قَبِلَه وخضع وانقاد له وهذا معىن الطاعة ولذلك ُِمسّي :شرك الطاعة.
وال يشرتط يف طاعته له أن يعتقد :أن الشعب مصدر التشريع ،حىت حيكم
حكمه به وعمله به كاف يف ذلك ،ألنه انقياد وطاعة
عليه أنه مشرك ،بل ُ
لغري تشريع هللا تعاىل وحكمه ،فإن أضاف لطاعته له االعتقاد فهو مشرك من
انحية االعتقاد ومن انحية العمل.
وهذا كفعل أهل الكتاب مع األحبار والرهبان مما قصه هللا علينا يف كتابه
{ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ أهنم:
ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ
ﯰ } ( . )1
فاختاذهم هلم أراباب هو بطاعتهم هلم يف حتليل ما حرم هللا أو حترمي ما أحل هللا،
وهو (التشريع) فكانوا مشركني مبجرد الطاعة واالتباع ،ومل يَ ْذ ُكر أهنم أشركوا
ألهنم اعتقدوا صحة هذا التشريع من األحبار والرهبان.
مث هذا الشرك العملي يكفر به صاحبه ولو فعله يف حكم واحد من أحكام
هللا ،فمن ب ّدل حكما من أحكام هللا كفر ولو اعتقد عند تبديله أن حكم هللا
املب َد ِل منه ،فاملب ّدل متع ٍّد على حق من حقوق هللا تعاىل
أفضل من احلكم ْ
اخلاصة به وهو :التحليل والتحرمي واألمر والنهي والتشريع ،فإن ح َك َم بتبديله
كان مشركا شرك الطاعة ،ألنه أطاع وخضع وانقاد لغري تشريع هللا تعاىل.
شكل عليه هنا طاعة من أَمر مبعصية ،فإن ِ
اآلم َر هبا مل يعتقد أهنا حالل وال ي ِ
َ ُ
يطعه على أنه تشريع وحكم ،أما إنفأمره ليس بتشريع وحكم ،وال ُـمطيع له مل ُْ
اآلمر ابملعصية ِحلّها كان كافرا ابستحالله ال أمره ،ألنه تشريع وتبديل
اعتقد ِ
حلكم هللا وكان ال طائع له يف هذا احلكم والتشريع مشركا.
{ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ومثال هذا قوله تعاىل:
ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ} (. )1
فإن الشياطني تقول ألوليائهم أن املْيـتَةَ حالل ألن موهتا من هللا وأما ما ذحبتم
فأنتم من قتلتموها ،وهذا تشريع ،ولذلك كان من أطاعهم فيه مشركا ،أما من
أمر مبعصية ،وهو إمثٌ غريُ كفر ،فإن
أمر غريه أبكل امليتة دون حتليلها ،فهذا ٌ
غريه.
أطاعه اآلخر كان آمثا مثله ،ألن كالمها مل يبدل حكم هللا أو يُ ّ
وكذلك فعل اليهود حيث جاءوا حلكم هللا تعاىل يف الزان فبدلوه حلكم آخر
وهو التحميم واجللد ،فكان املب ّدل كافرا بتبديله ،وكان احلاكم هبذا احلكم املبدَّل
واملتحاكم له كافرا ،ألنه أطاع غري هللا يف :التشريع والتحليل والتحرمي ،وهلذا
ابملبدل دون حكمحكم هللا عليهم أبهنم هم الكافرون لتبديل حكم هللا واحلكم َّ
هللا ،والصوراتن كفر عملي أكرب.
ويُنبَّه هنا أنه مل يُذكر يف تبديلهم وحكمهم به اعتقاد أن حكمهم أفضل من
حكم هللا الذي استبدلوه أو أهنم جحدوا حكم هللا مع تبديله ،بل عند أتمل
ويقرون
احلوار بينهم وبني النيب ﷺ يظهر أهنم مل جيحدوا حكم هللا بل يعرفونه ّ
به وال ينكرونه ،كما أجاب أحد أحبارهم النيب ﷺ عن حكم هللا يف التوراة
فبني له أنه ال رجم ،ولو كان يرى حكمهم أفضل جلادل عنه ولو كان جيحد
ورده ،وزاد هذا أتكيدا ِذ ْكره سبب تبديلهم وأنه
حكم هللا الذي عندهم ألنكره ّ
حماابة أصحاب اجلاه والقوة والشرف فيهم دون الضعفاء ،مث اجتمعوا على
جعله حكما ملزما على اجلميع ،فأين اجلحد واالستحالل فيما فعلوه ،وأين
هي من حكم هللا عليهم ابلكفر األكرب وقد حكم هللا على عملهم
ال اعتقادهم؟!
ويُنبه أيضا أن هذان املثاالن فيمن ب ّدل حكما واحدا فقط وفيمن أطاعه فيه،
وكالمها عمل جوارح مل يذكر معه اعتقاد ،فكيف مبن جعل قانوان آخر يضاهي
بتشريعاته وأحكامه حكم هللا وشرعه ،فيكون القانون هو اآلمر والناهي وله
حق العقاب والثواب ومصدر التشريع فيه للشعب أو للدستور ال هلل تعاىل،
فهل يشك من عرف التوحيد أن هذا هو الكفر األكرب املستبني والشرك األكرب
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
64
اللعني الذي تواترت النصوص على حترميه وتكفري فاعله وعدم املغفرة له وخلوده
يف النار إن هو مات عليه.
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
65
الشبهة الرابعة:
أن احلاكم بغري ما أنزل هللا من القوانني الوضعية أو األعراف اجلاهلية حنكم
ابلكفر على فعله دون عينه حىت تقام عليه احلجة.
واجلواب عليها من وجوه:
.1أن التفريق بني الفعل والفاعل واشرتاط قيام احلجة إمنا يقال يف النواقض
اخلفية اليت حتتمل اجلهل أو التأويل ودخول الشبهة على فاعلها ،أما احلكم
بغري شريعة هللا كاحلكم ابلقوانني الوضعية أو األعراف اجلاهلية ،فإهنا من نواقض
اإلسالم الظاهرة ،اليت يك ُفر فيها الفاعل إذا كان مكلّفا خمتارا ،وال يُعذر فيها
إال املكره إكراها ملجئا.
مقرر ومكرر ومؤكد يف فإ ّن وجوب احلكم مبا أنزل هللا والتحاكم لشرعه أصل ّ
القرآن كثريا وأبوجه خمتلفة وصيغ متنوعة:
منها األمر به.
أو النهي عن ضده.
أو نفي اإلميان عن احلاكم واملتحاكم لغري شريعة هللا.
أو بيان تفرد هللا تعاىل ابحلكم والتشريع.
أو إبطال الشرائع اجلاهلية.
فهذا أتكيد بعد أتكيد بياان ملقامه ومنزلته من التوحيد.
ومما جاء يف القرآن عن احلكم مبا أنزل هللا:
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
66
{ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ وقوله:
ﭟﭠﭡﭢﭣ ﭤﭥﭦﭧ ﭨﭩﭪ ﭫﭬ
ﭭ ﭮ ﭯ} (.)2
وقوله{ :ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ
ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ} (.)3
{ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ وقوله:
ﯴ ﯵ ﯶ } ( . )4
ﯬﯭﯮﯯﯰﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ
ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ
ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ
ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ
ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ
ﮪﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ
ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ
ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ
ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ} ( . )1
{ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ} ( . )2 وقوله:
{ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ } ( . )3 وقوله:
{ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﮛ وقوله تعاىل:
ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ } ( . )4
{ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ وقوله تعاىل:
ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ } ( . )1
وقوله{ :ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ
ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ} (. )1
{ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ } ( . )4 وقوله:
{ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ} (. )5 وقوله:
فهل بعد هذا يزعم أحد أن احلكم بغري شريعة هللا أمر ميكن أن يـُجهل
كال وهللا ،إمنا هو اإلعراض والتويل عن حكم هللا تعاىل.
تأولّ ،
أو يُ ّ
.2معىن قوهلم إقامة احلجة على احلاكم بغري شريعة هللا هو إفهامها له قبل
احلكم عليه ،وهذا يعين أ ّن قراءة اآلايت السابقة عليه ال يكفي لقيام احلجة
عليه حىت يفهمها ،ويلزم من قوهلم أ ّن هذه اآلايت قاصرة عن إقامة احلجة
وبيان احملجة هلذه املسألة ال عظيمة ،وقد تقرر سابقا أن آايت احلكم مبا أنزل
هللا الدالة على وجوبه وكفر احلاكم ابلطاغوت كالقوانني ،من أحكم احملكمات
فإن الذي مل تقم عليه احلجة ،هو الذي حديث عهد ابإلسالم ،والذي نشأ
ببادية بعيدة ،أو يكون ذلك يف مسألة خفية ،مثل الصرف والعطف ،فال يكفر
حىت يعرف.
وأما أصول الدين اليت أوضحها هللا وأحكمها يف كتابه ،فإن حجة هللا هو
القرآن ،فمن بلغه القرآن فقد بلغته احلجة ،ولكن أصل اإلشكال ،أنكم مل
تفرقوا بني قيام احلجة ،وبني فهم احلجة ،فإن أكثر الكفار واملنافقني من
املسلمني ،مل يفهموا حجة هللا مع قيامها عليهم ،كما قال تعاىل{ :ﭑ ﭒ ﭓ
ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ} ،وقيام احلجة
نوع ،وبلوغها نوع ،وقد قامت عليهم ،وفهمهم إايها نوع آخر ،وُكفرهم ببلوغها
إايهم ،وإن مل يفهموها.
إن أشكل عليكم ذلك ،فانظروا قوله ﷺ يف اخلوارج" :أينما لقيتموهم
فاقتلوهم" ،وقوله" :شر قتلى حتت أدمي السماء" ،مع كوهنم يف عصر الصحابة،
وحيقر اإلنسان عمل الصحابة معهم ،ومع إمجاع الناس أن الذي أخرجهم من
الدين هو التشدد والغلو واالجتهاد؛ وهم يظنون أهنم يطيعون هللا ،وقد بلغتهم
احلجة ،ولكن مل يفهموها.
علي رضي هللا عنه الذين اعتقدوا فيه ،وحتريقهم ابلنار ،مع كوهنم
وكذلك قتل ّ
تالميذ الصحابة ،ومع عبادهت م وصالهتم وصيامهم ،وهم يظنون أهنم على حق.
وكذلك إمجاع السلف على تكفري غالة القدرية وغريهم ،مع علمهم وشدة
عبادهتم ،وكوهنم حيسبون أهنم حيسنون صنعا ،ومل يتوقف أحد من السلف يف
تكفريهم ألجل كوهنم مل يفهموا ،فإن هؤالء كلهم مل يفهموا.
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
72
إذا علمتم ذلك ،فإن هذا الذ ي أنتم فيه كفر ،الناس يعبدون الطواغيت،
ويعادون دين اإلسالم ،فيزعمون أنه ليس ردة لعلهم ما فهموا احلجة ،كل هذا
بني .اهـ
قال الشيخ أبو بطني رمحه هللا(:)1
فمن بلغته رسالة حممد ﷺ وبلغه القرآن ،فقد قامت عليه احلجة ،فال يعذر
يف عدم اإلميان ابهلل ،ومالئكته ،وكتبه ،ورسله ،واليوم اآلخر ،فال عذر له بعد
ذلك ابجلهل.
وقد أخرب هللا سبحانه جبهل كثري من الكفار ،مع تصرحيه بكفرهم ،ووصف
النصارى ابجلهل ،مع أنه ال يشك مسلم يف كفرهم ،ونقطع أن أكثر اليهود
والنصارى اليوم جهال مقلدون ،فنعتقد كفرهم ،وكفر من شك يف كفرهم.
وقد دل القرآن على أن الشك يف أصول الدين كفر ،والشك هو الرتدد بني
شيئني ،كالذي ال جيزم بصدق الرسول ﷺ وال كذبه ،وال جيزم بوقوع البعث
وال عدم وقوعه ،وحنو ذلك ،كالذي ال يعتقد وجوب الصالة وال عدم وجوهبا،
أو ال يعتقد حترمي الزىن وال عدم حترميه؛ وهذا كفر ذإمجاع العلماء ،وال عذر ملن
كان حاله هكذا ،بكونه مل يفهم حجج هللا وبيّناته ،ألنه ال عذر له بعد
بلوغها ،وإن مل يفهمها.
وقد أخرب هللا تعاىل عن الكفار أهنم مل يفهموا ،فقال{ :ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ
{ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ} ،وقال:
ﰆ ﰇ ﰈ }.
فبني هللا سبحانه أهنم مل يفقهوا ،فلم يعذرهم لكوهنم مل يفهموا ،بل صرح القرآن
{ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ بكفر هذا اجلنس من الكفار ،كما يف قوله تعاىل:
ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ
ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ } .اهـ
وقال الشيخ محد بن انصر بن معمر رمحه هللا(:)1
وكل من بلغه القرآن فليس مبعذور؛ فإن األصول الكبار ،اليت هي أصل دين
اإل سالم ،قد بينها هللا تعاىل يف كتابه ،وأوضحها وأقام هبا حجته على عباده،
وليس املراد بقيام احلجة أن يفهمها اإلنسان فهما جليا ،كما يفهمها من هداه
هللا ووفقه ،وانقاد ألمره ،فإن الكفار قد قامت عليهم احلجة من هللا تعاىل ،مع
{ﯘ ﯙ ﯚ إخباره أبنه جعل على قلوهبم أكنة أن يفقهوا كالمه ،فقال:
{ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ} ،وقال:
ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ } ،وقال تعاىل{ :ﯿ ﰀ
{ﮓ ﮔ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ} ،وقال تعاىل:
ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ }.
واآلايت يف هذا املعىن كثرية ،خيرب سبحانه أهنم مل يفهموا القرآن ومل يفقهوه،
وأنه عاقبهم اب ألكنة على قلوهبم ،والوقر يف آذاهنم ،وأنه ختم على قلوهبم
وأمساعهم وأبصارهم ،فلم يعذرهم مع هذا كله ،بل حكم بكفرهم وأمر بقتاهلم،
وقاتلهم رسول هللا ﷺ وحكم بكفرهم ،فهذا يبني لك أن بلوغ احلجة نوع،
وفهمها نوع آخر .اهـ
وقال الشيخ إسحاق بن عبد الرمحن رمحه هللا( )1يف جواب من يشرتط إقامة
احلجة على فاعل الشرك األكرب:
ومسألتنا هذه وهي عبادة هللا وحده ال شريك له والرباءة من عبادة ما سواه،
وأن من عبد مع هللا غريه فقد أشرك الشرك األكرب الذي ينقل عن امللة ،وهي
أصل األصول وهبا أرسل هللا الرسل وأنزل الكتب وقامت على الناس احلجة
ابلرسول وابلقرآن ،وهكذا جتد اجلواب من أئمة الدين يف ذلك األصل عند
تكفري من أشرك ابهلل فإنه يستتاب فإن اتب وإال قتل ال يذكرون التعريف يف
مسائل األصول ،إمنا يذكرون التعريف يف املسائل اخلفية اليت قد خيفي دليلها
على بعض املسلمني كمسائل انزع هبا بعض أهل البدع كالقدرية واملرجئة أو يف
مسألة خفية :كالصرف والعطف .اهـ
وما قاله عن شرك العبادة يدخل فيه شرك احلكم ألنه نوع منه ،وقد سبق بيان
هذا يف رد الشبهة السابقة فلريجع له لزاما من أشكل عليه هذا.
وقال الشيوخ عبد هللا وإبراهيم ابنا عبد اللطيف آل الشيخ ،وسليمان بن
سحمان رمحهم هللا( )2يف جواب عمن يقول ابلتفريق بني النوع والعني يف املسائل
الظاهرة مما وقع فيه بعض اجلهمية وعباد القبور يف زمنهم:
أما قوله نقول أبن القول كفر ،وال حنكم بكفر القائل ،فإطالق هذا جهل
صرف ،ألن هذه العبارة ال تنطبق إال على املعني ،ومسألة تكفري املعني مسألة
معروفة ،إذا قال قوال يكون القول به كفرا ،فيقال من قال هبذا القول فهو
( )1رسالة حكم تكفري املعني ص ، 141طبعت ضمن جمموع (عقيدة املوحدين والرد على الضالل
واملبتدعني).
( )2الدرر السنية (.)412/14
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
75
كافر ،لكن الشخص املعني ،إذا قال ذلك ال حيكم بكفره ،حىت تقوم عليه
احلجة اليت يكفر اتركها.
وهذا يف املسائل اخلفية ،اليت قد خيفى دليلها على بعض الناس ،كما يف مسائل
القدر واإلرجاء وحنو ذلك مما قاله أهل األهواء ،فإن بعض أقواهلم تتضمن أمورا
كفرية ،من رد أدلة الكتاب والسنة املتواترة ،فيكون القول املتضمن لرد بعض
النصوص كفرا ،وال حيكم على قائله ابلكفر ،الحتمال وجود مانع كاجلهل،
وعدم العلم بنقض النص ،أو بداللته ،فإن الشرائع ال تلزم إال بعد بلوغها،
ذكر ذلك شيخ اإلسالم ابن تيمية ،قدس هللا روحه يف كثري من كتبه.
وذكر أيضا تكفري أانس من أعيان املتكلمني ،بعد أن قرر هذه املسألة ،قال:
وهذا إذا كان يف املسائل اخلفية ،فقد يقال بعدم التكفري ،وأما ما يقع منهم
يف املسائل الظاهرة اجللية ،أو ما يعلم من الدين ابلضرورة ،فهذا ال يتوقف يف
كفر قائله ،وال جتعل هذه الكلمة عكازة ،تدفع هبا يف حنر من كفر البلدة
املمتنعة عن توحيد العبادة والصفات ،بعد بلوغ احلجة ووضوح احملجة.
وأما قوله :وهؤالء ما فهموا احلجة ،فهذا مما يدل على جهله ،وأنه مل يفرق بني
فهم احلجة ،وبلوغ احلجة ،ففهمها نوع وبلوغها نوع آخر ،فقد تقوم احلجة
على من مل يفهمها .اهـ
ردا على من يشرتط إقامة احلجة وقال الشيخ سليمان بن سحمان رمحه هللا(ًّ )1
يف املسائل الظاهرة الحتمال جهل الفاعل هبا:
وهؤالء األغبياء أمجلوا القضية وجعلوا كل جهل عذرا ومل يفصلوا ،وجعلوا
املسائل الظاهرة اجللية وما يعلم من الدين ابلضرورة كاملسائل اخلفية اليت قد
خيفى دليلها على بعض الناس ،وكذلك من كان بني أظهر املسلمني كمن نشأ
ببادية بعيدة أو كان حديث عهد ابإلسالم فضلوا وأضلوا كثريا وضلوا عن
سواء السبيل .اهـ
وهبذا يتقرر أن احلاكم ابلقوانني الوضعية أو األعراف اجلاهلية أو املتحاكم هلا
يكفر بفعله وال يشرتط إقامة احلجة عليه ألهنا قائمة ابلفعل ،لكون ما اقرتفه
من النواقض الظاهرة اجللية اليت ال يعذر فيها ابجلهل والتأويل.
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
77
الشبهة اخلامسة:
أن الكفر يف احلكم ابلقوانني الوضعية ال يكون كفرا إال بتبديل الشريعة
كامال ،أو احلكم ابلقانون كله.
اجلواب عليها:
.1أن اآلايت النازلة يف احلكم بغري ما أنزل هللا نزلت فيمن حصل منه تبديل
احلكم مبا ب ّدله ولو مرة واحدة ،ومل تشرتط التكرار حىت يكون
املنزل و َالشرع ّ
كفرا.
{ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ فمن ذلك قوله تعاىل:
ﮭ } ( . )1
فإهنا نزلت يف اليهود ملا ب ّدلوا حكما واحدا وهو الرجم للزاين ،مث اجتمعوا على
تغيريه إىل اجللد والرجم ،كما يف صحيح مسلم( )2من حديث الرباء بن عازب
حممما جملودا ،فدعاهم ﷺ، رضي هللا عنه قالُ :مَّر على النيب ﷺ بيهودي ّ
فقال" :هكذا جتدون حد الزاين يف كتابكم؟ ،قالوا :نعم ،فدعا رجال من
علمائهم ،فقال" :أنشدك ابهلل الذي أنزل التوراة على موسى ،أهكذا جتدون
حد الزاين يف كتابكم" ،قال :ال ،ولوال أنك نشدتين هبذا مل أخربك ،جنده الرجم،
ولكنه كثر يف أشرافنا ،فكنا إذا أخذان الشريف تركناه ،وإذا أخذان الضعيف
أقمنا عليه احلد ،قلنا :تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع،
فجعلنا التحميم واجللد مكان الرجم ،فقال رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم" :اللهم إين أول من أحيا أمرك إذ أماتوه" ،فأمر به فرجم ،فأنزل هللا عز
وجل{ :ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ} إىل قوله{ :
ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ } يقول :ائتوا حممدا ﷺ ،فإن أمركم ابلتحميم واجللد
فخذوه ،وإن أفتاكم ابلرجم فاحذروا ،فأنزل هللا تعاىل {:ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ
ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ}{ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ
ﯯ}{ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ} يف الكفار كلها.
ويف الصحيحني( )1عن ابن عمر رضي هللا عنهما :أن اليهود جاءوا إىل رسول
هللا ﷺ ،فذكروا له أن رجال منهم وامرأة زنيا ،فقال هلم رسول هللا ﷺ :ما جتدون
يف التوراة يف شأن الرجم؟ فقالوا :نفضحهم وجيلدون ،فقال عبد هللا بن سالم:
كذبتم إن فيها الرجم فأتوا ابلتوراة فنشروها ،فوضع أحدهم يده على آية الرجم،
فقرأ ما قبلها وما بعدها ،فقال له عبد هللا بن سالم :ارفع يدك ،فرفع يده فإذا
فيها آية الرجم ،فقالوا :صدق اي حممد ،فيها آية الرجم ،فأمر هبما رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم فرمجا ،قال عبد هللا :فرأيت الرجل جينأ على املرأة يقيها
احلجارة.
ويف لفظ للبخاري( :)2فقال هلم« :كيف تفعلون مبن زىن منكم؟" قالوا :حنممهما
ونضرهبما ،فقال« :ال جتدون يف التوراة الرجم؟" فقالوا :ال جند فيها شيئا.
ويف لفظ له أيضا( :)1فقال هلم« :ما جتدون يف كتابكم" قالوا :إن أحباران أحدثوا
حتميم الوجه والتجبيه.
ويف لفظ له أيضا( : )2فقالوا لرجل ممن يرضون :اي أعور ،اقرأ فقرأ حىت انتهى إىل
موضع منها فوضع يده عليه ،قال« :ارفع يدك» ،فرفع يده فإذا فيه آية الرجم
تلوح ،فقال :اي حممد ،إن عليهما الرجم ،ولكنا نتكامته بيننا.
ويستفاد من جمموع األلفاظ وكلها متقاربة مبعىن واحد:
أن ما حصل منهم كان يف تبديل حلكم واحد من أحكام هللا تعاىل.
أن ما حصل منهم هو (ترك حلكم هللا تعمدا) مع (االجتماع على كتمه
وإخفائه) مث (تبديل حكم هللا) ،فحكم هللا سبحانه عليهم ابلكفر بسبب
األفعال ،وأكد احلكم أبكثر من مؤكد بقوله:
(فأولئك هم الكافرون)
فإن أولئك مبتدأ والكافرون خرب وكالمها معرفة ،وتعريف طريف اجلملة من أعلى
صيغ احلصر ،مث زاد احلصر والتأكيد بضمري الفصل الذي يدل على قصر ما
حكم به يف اخلرب على املبتدأ ،كما قال األخضري يف اجلوهر املكنون:
ـويف(ُ )3ه ـ ـ َو امل ـ ـه ـ ـت ـ ـ ــدي
َع ـ ـل ـ ـي ـ ـ ــه ك"الص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّ امل ْسنَ ِد صَر
قَ ْ فيد
يُ ُ صلُه
َوفَ ْ
ُ
أي فصل املسند إليه وهو املبتدأ عن املسند وهو اخلرب بضمري مما يفيد احلصر
والقصر ،ف كأنه قال فأولئك اليهود الذين بدلوا حكم هللا وحكموا بغريه هم
الكافرون املستحقون لصفة الكفر األكرب دون غريهم ،وهذا من أكرب الدالئل
أن الكفر يف اآلية األصل فيه الكفر األكرب على الصحيح.
أن أحبارهم هم من بدلوا حكم هللا فاتبعهم عامتهم عليه كما قال (إن
أحباران أح دثوا) أي استبدلوا حكم هللا تعاىل حبكم حمدث منهم.
وقد روي عن ابن عباس رضي هللا عنهما سبب آخر يف نزوهلا ،وأهنا نزلت يف
تبديل اليهود حلكم هللا يف القصاص يف القتل كما أخرجه أمحد والطرباين :قال:
{:ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ}{ إن هللا عز وجل أنزل:
ﯭ ﯮ ﯯ}{ ﭻ ﭼ ﭽ} أنزهلا هللا يف الطائفتني من
اليهود ،وكانت إحدامها قد قهرت األخرى يف اجلاهلية ،حىت ارتضوا واصطلحوا
وسقا ،وكل قتيل قتلته
على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة ،فديته مخسون َ
الذليلة من العزيزة ،فديته مائة وسق ،فكانوا على ذلك حىت قدم النيب ﷺ
املدينة ،وذلّت الطائفتان كلتامها ملقدم رسول هللا ﷺ ،ورسول هللا ﷺ يومئذ
مل يظهر ،ومل ي ِ
وط ْئـ ُه َما عليه ،وهو يف الصلح ،فقتلت الذليلة من العزيزة قتيال،ُ
فأرسلت العزيزة إىل الذليلة :أن ابعثوا إلينا مبائة وسق ،فقالت الذليلة :وهل
كان هذا يف حيني قط دينهما واحد ،ونسبهما واحد ،وبلدمها واحد ،دية
وفرقا منكم،
بعضهم نصف دية بعض؟ إان إمنا أعطيناكم هذا ضيما منكم لناَ ،
فأما إذ قدم حممد فال نعطيكم ذلك ،فكادت احلرب هتيج بينهما ،مث ارتضوا
على أن جيعلوا رسول هللا ﷺ بينهم ،مث ذكرت العزيزة ،فقالت :وهللا ما حممد
مبعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ،ولقد صدقوا ،ما أعطوان هذا إال
فد ُّسوا إىل حممد من خيرب لكم رأيه :إن أعطاكم ما تريدون
ضيما منا ،وقهرا هلمُ ،
حكمتموه ،وإن مل يعطكم حذرمت ،فلم حتكموه ،فدسوا إىل رسول هللا صلى
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
81
هللا عليه وسلم انسا من املنافقني ليخربوا هلم رأي رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم ،فلما جاء رسول هللا ﷺ ،أخرب هللا رسوله ﷺ أبمرهم كله وما أرادوا،
فأنزل هللا عز وجل" :اي أيها الرسول ال حيزنك الذين يسارعون يف الكفر من
الذين قالوا آمنا" إىل قوله" :ومن مل حيكم مبا أنزل هللا فأولئك هم الفاسقون" مث
قال فيهما :وهللا نزلت ،وإايمها عىن هللا عز وجل.
لكن يف إسناده عبد الرمحن بن أ يب الزاند متكلم فيه من جهة حفظه.
وحاصل ما فعلوه أهنم بدلوا حكم القصاص يف القتل إىل الدية مث ظلَم القوي
الذليل فيها ،فح كم هللا عليهم ابلكفر لتبديلهم هذا احلكم ،وهذا إنَ العزيز
صح أهنا نزلت يف هذه الصورة وإال فاملشهور أهنا نزلت يف تبديل حد الزان كما
وجوز أيضا تعدد سبب النزول خلربرجحه ابن كثري يف تفسريهّ ، سبق ،وهو ما ّ
ابن عباس هذا فقال( : )1وقد يكون اجتمع هذان السببان يف وقت واحد،
{ﮮ ف نزلت هذه اآلايت يف ذلك كله ،وهللا أعلم ،وهلذا قال بعد ذلك:
ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ} إىل آخرها ،وهذا يقوي أن
سبب النزول قضية القصاص ،وهللا سبحانه وتعاىل أعلم .اهـ
فيؤخذ من هذا كله:
أن تبديل حكم واحد من أحكام هللا كفر أكرب.
وأن طاعة املبدل هلذا احلكم والتحاكم له واالحتكم إليه عند النزاع كفر
أكرب.
سن قانوان واحدا دون حكم هللا كفر ،وقول من قال ال بد أن يرتك حكم فمن ّ
هللا كله أو يبدله كله قول ضعيف مردود ،وقد ضعّف ابن القيم قول من محل
الكفر يف اآلية على هذا املعىن حيث قال( :)1ومنهم من أتوهلا على ترك احلكم
جبميع ما أنزل هللا ،قال :ويدخل يف ذلك احلكم ابلتوحيد واإلسالم وهذا أتويل
عبد العزيز الكناين وهو أيضا بعيد إذ الوعيد على نفي احلكم ابملنزل وهو
يتناول تعطيل احلكم جبميعه وببعضه .اهـ
هذا مع العلم أن احلاصل اليوم ليس تبديال حلكم واحد بل هو تبديل لكامل
املشرعني هلذا القانون واحلاكمني به
الشريعة وجعل للقانون مكاهنا ،فإن ّ
داخلون يف هذه اآلية دخوال ّأوليّا ،ألن فعلهم أشد كفرا مما فعله اليهود الذين
نزلت فيهم اآلية.
ومن اآلايت النازلة يف هذا أيضا قوله تعاىل{ :ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ
ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ
ﮕ ﮖ } ( . )2
فإهنا نزلت فيمن أطاع املشركني يف حتليل امليتة احملرمة ،فجعل طاعة هذا املب ّدل
حلكم هللا شركا ،ألن التبديل كفر من ابب أوىل.
قال ابن كثري رمحه هللا( : )3قال السدي يف تفسري هذه اآلية :إن املشركني قالوا
للمؤمنني ،كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة هللا ،وما ذبح هللا فال أتكلونه،
وما ذحبتم أنتم أكلتموه؟ فقال هللا" :وإن أطعتموهم" فأكلتم امليتة "إنكم
ملشركون" وهكذا قاله جماهد ،والضحاك ،وغري واحد من علماء السلف ،رمحهم
هللا.
وقوله تعاىل" :وإن أطعتموهم إنكم ملشركون" أي حيث عدلتم عن أمر هللا لكم
وشرعه إىل قول غريه ،فقدمتم عليه غريه فهذا هو الشرك .اهـ
قلت :أتمل قول ابن كثري (حيث عدلتم عن أمر هللا لكم )...مل يقيده ابعتقاد
القلب من استحالل أو جحد وحنوه مما يقيّد به املرجئة حكم التبديل ،ألن هللا
حكم ابلشرك مبجرد الطاعة ملن أحل احلرام ،فهذا هو مناط احلكم وزايدة أمر
آخر على املناط بال دليل أمر مردود.
فسر ابن جرير الطربي اآلية فقال( :)1وأما قوله" :إنكم ملشركون" يعين: وهكذا ّ
إنكم إ ًذا مثلهم ،إذ كان هؤالء أيكلون امليتة استحالال ،فإذا أنتم أكلتموها
كذلك ،فقد صرمت مثلهم مشركني .اهـ
أي إذا أكلتموها طاعة هلم يف استحالهلم هلا فهذا هو الشرك ،وإن كان هذا
استحل حمرما واحدا وب ّدله ،فمن ابب أوىل من ب ّدل الشريعة كلها ّ فيمن
أو غالبها ،وأحل احلرام اجملمع عليه وحرم احلالل اجملمع عليه ،وكذلك من
أطاعهم يف تبديلهم هذا وحكم به أو حتاكم إليه.
قال الزجاج رمحه هللا( : )2وفيه دليل على أن من أحل شيئا مما حرم هللا أو حرم
ما أحل هللا فهو مشرك .اهـ
وقال القرطيب رمحه هللا( : )1فدلت اآلية على أن من استحل شيئا مما حرم هللا
تعاىل صار به مشركا ،وقد حرم هللا سبحانه امليتة نصا ،فإذا قبل حتليلها من
غريه فقد أشرك .اهـ تفسري القرطيب
أتمل قول القرطيب (فإذا قبِل حتليلها عن غريه) أي قبِل حكما من مصدر
تشريع غري شريعة هللا تعاىل كان مشركا شرك الطاعة.
ولذلك قال ابن عادل احلنبلي رمحه هللا( :)2وإن أطعتموهم يف استحالل امليتة،
إنكم ملشركون ،وإمنا مسي مشركا ،ألنه أثبت حاكما سوى هللا ،وهذا هو
الشرك .اهـ اللباب يف علوم الكتاب
وقال األمني الشنقيطي رمحه هللا( :)3ومن هدي القرآن لليت هي أقوم بيانه أنه
كل من اتبع تشريعا غري التشريع الذي جاء به سيد ولد آدم حممد بن عبد هللا
صلوات هللا وسالمه عليه ،فاتباعه لذلك التشريع املخالف كفر بواح ،خمرج عن
امللة اإلسالمية ،وملا قال الكفار للنيب ﷺ :الشاة تصبح ميتة من قتلها؟ فقال
هلم« :هللا قتلها» فقالوا له :ما ذحبتم أبيديكم حالل ،وما ذحبه هللا بيده الكرمية
{ﮀ تقولون إنه حرام! فأنتم إذن أحسن من هللا؟ أنزل هللا فيهم قوله تعاىل:
ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ
ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ} وح ْذف الفاء من قوله( :إنكم ملشركون)
قسم حمذوف ،فهو قسم من هللا جل وعال أقسم به على أن من اتبع
يدل على َ
الشيطان يف حتليل امليتة أنه مشرك ،وهذا الشرك خمرج عن امللة ذإمجاع املسلمني،
آدم أ ْن ال تَـ ْعبُ ُدوا
وسيوبخ هللا مرتكبه يوم القيامة بقوله" :أمل أ َْع َه ْد إلَْي ُك ْم اي بين َ
ني " ألن طاعته يف تشريعه املخالف للوحي هي الشَّيطَ ِ
ان إنَّهُ لكم َع ُد ٌّو ُمبِ ٌ ْ
عبادته .اهـ
وهذا كمثل من جيعل الدستور حكما ومصدرا للقوانني والتشريعات عن طريق
استفتاء الناس عليه ،فيكون الدستور حكما بينهما ومرجعا هلم وأصل نشوئه
من (حكم الشعب) ال (حكم هللا تعاىل) ،فمن قبِل تشريعاهتم وقوانينهم فهو
مشرك ،ألن معىن القبول هنا هو الطاعة الظاهرة.
{ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ومن اآلايت أيضا قوله تعاىل:
ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ
ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ } ( . )1
وأكثر أقوال املفسرين أن سبب نزوهلا كان يف قضية واحدة ،وهي أن رجال من
املسلمني دعا رجال من اليهود للتحاكم حلكم الطاغوت قيل هو أحكام
ختل األخبار اليت روت سبب النزول
اجلاهلية وقيل هو كعب بن األشرف ،ومل ُ
من ضعف.
قال ابن كثري رمحه هللا( :)2هذا إنكار من هللا ،عز وجل ،على من يدعي اإلميان
مبا أنزل هللا على رسوله وعلى األنبياء األقدمني ،وهو مع ذلك يريد التحاكم
يف فصل اخلصومات إىل غري كتاب هللا وسنة رسوله ،كما ذكر يف سبب نزول
على ذلك ابنه عباد بن حذيفة ،مث قام بعد عباد :قَـلَ ُع بن عباد ،مث قام بعد
قلع :أمية بن قلع ،مث قام بعد أمية :عوف بن أمية ،مث قام بعد عوف أبو مثامة
جنادة بن عوف ،وكان آخرهم ،وعليه قام اإلسالم ،وكانت العرب إذا فرغت
من حجها اجتمعت إليه ،فحرم األشهر احلرم األربعة( :رجبا ،وذا القعدة ،وذا
وحرم مكانه
احملرم فأحلوهّ ،
احلجة ،واحملرم) فإذا أراد أن حيل منها شيئا أحل ّ
صفر فحرموه ،ليواطئوا عدة األربعة األشهر احلرم .اهـ
قال ابن كثري رمحه هللا( :)1هذا مما ذم هللا تعاىل به املشركني من تصرفهم يف شرع
هللا آبرائهم الفاسدة ،وتغيريهم أحكام هللا أبهوائهم الباردة ،وحتليلهم ما حرم
هللا وحترميهم ما أحل هللا ،فإهنم كان فيهم من القوة الغضبية والشهامة واحلمية
ما استطالوا به مدة األشهر الثالثة يف التحرمي املانع هلم من قضاء أوطارهم من
قتال أعدائهم ،فكانوا قد أحدثوا قبل اإلسالم مبدة حتليل احملرم وأتخريه إىل
صفر ،فيحلون الشهر احلرام ،وحيرمون الشهر احلالل ،ليواطئوا عدة األشهر
األربعة .اهـ
قال األمني الشنقيطي رمحه هللا( :)2ومن أصرح األدلة يف هذا أن الكفار إذا
أحلوا شيئا يعلمون أن هللا حرمه ،وحرموا شيئا يعلمون أن هللا أحله ،فإهنم
يزدادون كفرا جديدا بذلك مع كفرهم األول ،وذلك يف قوله تعاىل" :إمنا
النسيء زايدة يف الكفر" إىل قوله" :وهللا ال يهدي القوم الكافرين" ،وعلى كل
حال فال شك أن كل من أطاع غري هللا يف تشريع خمالف ملا شرعه هللا فقد
أشرك به مع هللا .اهـ
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
89
فصل
بعض شبهات مشاهري املعاصرين اليت يتكئ عليها مرجئة العصر
قال عبد العزيز بن ابز( : )1أما من حكم بغري ما أنزل هللا وهو يعلم أنه واجب
عليه احلكم مبا أنزل هللا وأنه خا لف الشرع ولكن استباح هذا األمر ورأى أنه
ال حرج عليه يف ذلك ،وأنه جيوز له أن حيكم بغري شريعة هللا ،هذا كافر كفرا
أكرب عند مجيع العلماء.
من استحل احلكم بغري ما أنزل هللا كاحلكم ابلقوانني الوضعية اليت وضعها
الرجال من النصارى أو اليهود أو غريهم ،وزعم أنه جيوز احلكم هبا ،أو زعم
أهنا أفضل من حكم هللا والعياذ ابهلل ،أو زعم أهنا تساوي حكم هللا ،وأن
اإلنسان خمري إن شاء حكم ابلقرآن والسنة وإن شاء حكم ابلقوانني الوضعية
من اعتقد هذا كفر عند مجيع املسلمني.
من قال إنه جيوز احلكم ابلقوانني أو أهنا أفضل أو أهنا مساوية حلكم هللا كفر
إمجاعا.
أو أهنا أنسب ألهل الزمان فهو كافر ابإلمجاع.
أما من حكم بغري ما أنزل هللا هلوى وحظ عاجل وهو يعلم أنه خمطئ ويعلم
أنه فعل منكرا وأن الواجب حكم هللا ولكن حكم بقانون أو برشوة أو حلاجات
أخرى يف نفسه.
هذا يكون أتى منكرا عظيما ومعصية كبرية وكفرا لكن يسمى كفرا أصغر كما
قال ابن عباس وجماهد وغريه كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق
كالذي حيكم ابلرشوة أو حيكم أبي قانون لكن مع إميانه أبنه خمطئ وأنه
غلطان ولكن محله اهلوى أو حب الرائسة ويعلم أنه خمطئ وأنه ظامل فهذا قد
أتى كفرا لكن ليس بكفر أكرب كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق
هذا عند أهل السنة واجلماعة .اهـ
فنقول:
حاصل ما ذكره من مناطات كفر احلاكم بغري ما أنزل هللا أربعة وهي:
.1استحالل احلكم بغري ما أنزل هللا ،ومثّل هلذا بـمن حيكم ابلقوانني الوضعية
مستحال هلا.
.2تفضيل القوانني على حكم هللا.
.3تسوية القوانني حبكم هللا.
.4أن اإلنسان خمري يف احلكم ابلقوانني أو حبكم هللا.
وكل هذه املناطات مكفرة ابإلمجاع كما ذكره وال خيالف يف ذلك أحد ،لكنّها
مك ِّفرة بذاهتا ألهنا (اعتقاد) وال يشرتط معها (الفعل) أي احلكم بغري ما أنزل
هللا ،فمن اعتقدها فهو كافر ولو مل حيكم أصال ،فتقييد مناط الكفر يف احلكم
بغري ما أنزل هللا هبا غري صحيح للوجوه اآلتية:
.1أن هذه املناطات اليت علّق عليها كفر تستوي فيها كل الذنوب واحملرمات
القطعية فمن استحل شيئا منها أو جوز فعلها فهو كافر ،كمن استحل الراب
والزان والسرقة والقتل ولو مل يفعلها ،وأما على قوله فال يوجد فرق بينها وبني
احلكم بغري ما أنزل هللا إذا كان فاعله ال يكفر إال إذا استحله ،وحينئذ يكون
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
91
احلكم بغري ما أنزل هللا من كبائر الذنوب اليت ال يكفر فيها إال املستحل بقلبه،
وهذا ابطل ألن هللا سبحانه قد فرق بينها وجعل احلكم مبا أنزل هللا من توحيده
سبحانه واإلميان به ،وجعل التحاكم لغريه وترك شرعه من اإلميان ابلطاغوت
والكفر ابهلل ،فمنزلته أعلى من كبائر الذنوب اليت ال خترج من امللة إال
ابستحالهلا ،والقاعدة :أن ما جعله الشرع كفرا أكرب ابلعمل ال جيوز تقييده
ابعتقاد القلب.
وهلذا قال شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه هللا ردا على القاضي أيب يعلى رمحه هللا
ملا جعل السب كفرا ألجل استحالله له ال ألنه كفر بذاته مع أن الشرع حكم
على الفاعل مبجرد فعله ال ابعتقاده.
فقال رمحه هللا( :)1قال( :)2وأما من علم أنه سبه معتقدا الستحالله فال شك
يف كفره بذلك وكذلك إن كان سبه يف نفسه كفرا كتكذيبه أو تكفريه وحنوه
فهذا ما ال إشكال فيه وكذلك من مل يظهر التوبة واعرتاف مبا شهد به وصمم
عليه فهو كافر بقوله واستحالله هتك حرمة هللا أو حرمة نبيه وهذا أيضا تثبيت
منه أبن السب يكفر به ألجل استحالله له إذا مل يكن يف نفسه تكذيبا صرحيا.
وهذا أي ضا تثبيت منه أبن السب يكفر به ألجل استحالله له إذا مل يكن يف
نفسه تكذيبا صرحيا.
وهذا موضع ال بد من حتريره وجيب أن يعلم أن القول أبن كفر الساب يف
السب ،زلة منكرة وهفوة عظيمة ،ويرحم هللاَّ نفس األمر إمنا هو الستحالله
القاضي أاب يعلى قد ذكر يف غري موضع ما يناقض ما قاله هنا ،وإمنا وقع من
وقع يف هذه املهواة ما تلقوه من كالم طائفة من متأخري املتكلمني وهم اجلهمية
اإلانث الذين ذهبوا مذهب اجلهمية األوىل يف أن اإلميان هو جمرد التصديق
الذي يف القلب وإن مل يقرتن به قول اللسان ومل يقتض عمال يف القلب وال يف
اجلوارح .اهـ
.2أن االستحالل للحكم بغري ما أنزل هللا كفر بذاته ولو مل يعمل ،ألن
املستحل للحرام اجملمع عليه الذي دون الكفر يكفر ،فمن ابب أوىل ما حكم
الشرع على فاعله ابلكفر كاحلكم بغري ما أنزل هللا ،فمن استحله كفر ولو مل
يفعله ،بل لو حكم مبا أنزل هللا واستحل احلكم بغريه كان كافرا ،وأشد منه إن
استحل احلكم بغري ما أنزل هللا مث حكم به فإن هذا زايدة يف الكفر فهما
انقضان مستقالن انقض اعتقادي وانقض عملي.
.3أن قصر املناط املكفر يف احلكم بغري ما أنزل هللا على االعتقاد،
كاالستحالل أو تسوية حكم هللا حبكم القانون أو تفضيل حكم القانون على
حكم هللا ،وإخراج عمل اجلوارح من املناط املكفر مع أن الشرع قد حكم على
الظاهر دون الباطن ،هو مذهب املرجئة الذين يشرتطون فيما حكم الشرع
على فاعله ابلكفر أن يكون معتقدا بقلبه ،فال يكون العمل عندهم كفرا بذاته،
وأهل السنة واجلماعة يرون أن العمل منه ما هو كفر بذاته دون االعتقاد ،ومنه
ما ال يكون كفرا إال ابالعتقاد ،وأما قول ابن ابز هنا فهو خمالف لعقيدة أهل
السنة حني قصر املناط على اعتقاد القلب فقط.
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
93
.4أن اآلايت الواردة يف املسألة قد أانطت احلكم أبعمال اجلوارح ،فمن علق
حكم الكفر فيها على اعتقاد القلب فقط ،فقد زاد على النص ونفى أتثري
املناط الذي علق الشرع عليه حكم الكفر.
{ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ } ( . )1 فقوله تعاىل:
ليس فيه إال احلكم على العمل الظاهر وهو (ترك احلكم مبا أنزل هللا واحلكم
بغريه) وهذا هو ما يتنزل عليه قوله (هم الكافرون).
قال ابن القيم رمحه هللا( :)2ومنهم من أتول اآلية على ترك احلكم مبا أنزل هللا
جاحدا له ،وهو قول عكرمة ،وهو أتويل مرجوح ،فإن نفس جحوده كفر،
سواء حكم أو مل حيكم .اهـ
ويؤكد هذا سبب نزول اآلية وهو ما حصل من اليهود حني تركوا حكم هللا مث
بدلوه حبكم من عندهم ،وهذا عمل جوارح ال اعتقاد قلب.
{ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ وقال تعاىل:
ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ} (. )3
قال ابن جرير الطربي رمحه هللا( :)4يعين تعاىل ذكره ،وكيف حيكمك هؤالء
اليهود ،اي حممد ،بينهم ،فريضون بك حكما بينهم" ،وعندهم التوراة " اليت
أنزلتها على موسى ،اليت يقرون هبا أهنا حق ،وأهنا كتايب الذي أنزلته إىل نبيي،
وأن ما فيه من حكم فمن حكمي ،يعلمون ذلك ال يتناكرونه ،وال يتدافعونه،
ويعلمون أن حكمي فيها على الزاين احملصن الرجم ،وهم مع علمهم بذلك
"يتولون" ،يقول :يرتكون احلكم به ،بعد العلم حبكمي فيه ،جراءة علي وعصياان
يل.
مث قال تعاىل ذكره خمربا عن حال هؤالء اليهود الذين وصف صفتهم يف هذه
اآلية عنده ،وحال نظرائهم من اجلائرين عن حكمه ،الزائلني عن حمجة احلق
"وما أولئك ابملؤمنني " ،يقول:
ليس من فعل هذا الفعل أي :من توىل عن حكم هللا ،الذي حكم به يف كتابه
الذي أنزله على نبيه ،يف خلقه ابلذي صدق هللا ورسوله فأقر بتوحيده ونبوة
نبيه صلى هللا عليه وسلم ،ألن ذلك ليس من فعل أهل اإلميان .اهـ
{ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ويف قوله تعاىل:
ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ
ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ } ( . )1
إذ جعل سبحانه إميان من أراد التحاكم للطاغوت جمرد زعم ال حقيقة له،
ملخالفته مقتضى اإلميان ابهلل املوجب للتحاكم له فلما أراد التحاكم لغريه مل
يكن مؤمنا ابهلل بل مؤمنا ابلطاغوت ،وهذا فيمن أراد التحاكم للطاغوت،
فكيف مبن حتاكم للطاغوت فعال وترك التحاكم ملا أنزله هللا ،فهذا فيه أيضا
تعليق احلكم على عمل اجلوارح ال أعمال القلوب ،وهلذا قال ابن كثري رمحه
هللا( : )1واآلية أعم من ذلك كله ،فإهنا ذامة ملن عدل عن الكتاب والسنة،
وحتاكموا إىل ما سوامها من الباطل ،وهو املراد ابلطاغوت هاهنا .اهـ
.5أن علماء أهل السنة واجلماعة قد حكموا على احلاكم بغري شريعة هللا من
قوانني وضعية أو أعراف جاهلية ابلكفر األكرب مبجرد عمله ومل يشرتطوا
االعتقاد ومنهم:
{ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ابن كثري رمحه هللا قال( )2عن قوله تعاىل:
ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ} (. )3
ينكر تعاىل على من خرج عن حكم هللا احملكم املشتمل على كل خري ،الناهي
عن كل شر وعدل إىل ما سواه من اآلراء واألهواء واالصطالحات ،اليت وضعها
الرجال بال مستند من شري عة هللا ،كما كان أهل اجلاهلية حيكمون به من
الضالالت واجلهاالت ،مما يضعوهنا آبرائهم وأهوائهم ،وكما حيكم به التتار من
السياسات امللكية املأخوذة عن ملكهم جنكزخان ،الذي وضع هلم الياسق
وهو عبارة عن كتاب جمموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شىت ،من
اليهودية والنصرانية وامللة اإلسالمية ،وفيها كثري من األحكام أخذها من جمرد
نظره وهواه ،فصارت يف بنيه شرعا متبعا ،يقدموهنا على احلكم بكتاب هللا
وسنة رسوله صلى هللا عليه وسلم .ومن فعل ذلك منهم فهو كافر جيب قتاله،
حىت يرجع إىل حكم هللا ورسوله ﷺ فال حيكم سواه يف قليل وال كثري .اهـ
وقال رمحه هللا يف البداية والنهاية( : )1ذكر اجلويين شيئا من الياسق من ذلك:
أنه من زان قتل ،حمصنا كان أو غري حمصن ،وكذلك من الط قتل ،ومن تعمد
الكذب قتل ،ومن سحر قتل ،ومن جتسس قتل ،ومن دخل بني اثنني خيتصمان
فأعان أحدمها قتل ،ومن ابل يف املاء الواقف قتل ،ومن انغمس فيه قتل ،ومن
أطعم أسريا أو سقاه أو كساه بغري إذن أهله قتل ،ومن وجد هاراب ومل يرده
قتل ،ومن رمى إىل أحد شيئا من املأكول قتل ،بل يناوله من يده إىل يده،
ومن أطعم أحدا شيئا فليأكل منه أوال ،ولو كان املطعم أمريا ألسري ،ومن أكل
ومل يطعم من عنده قتل ،ومن ذبح حيواان ذبح مثله ،بل يشق جوفه ،ويتناول
قلبه بيده يستخرجه من جوفه أوال.
ويف ذلك كله خمالفة لشرائع هللا املنزلة على عباده األنبياء عليهم الصالة
والسالم ،فمن ترك الشرع احملكم املنزل على حممد بن عبد هللا خامت األنبياء،
وحتاكم إىل غريه من الشرائع املنسوخة كفر ،فكيف مبن حتاكم إىل " الياسق "
وقدمها عليه؟! من فعل ذلك كفر ذإمجاع املسلمني .اهـ
وقال محد بن عتيق رمحه هللا( )2معلقا على بعض كالم ابن كثري السابق :قلت:
ومثل هؤالء ما وقع فيه عامة البوادي ومن شاهبهم ،من حتكيم عادات آابءهم،
وما وضعه أوائلهم من املوضوعات امللعونة اليت يسموهنا (شرع الرفاقة) يقدموهنا
على كتاب هللا وسنة رسوله صلى هللا عليه وسلم ،ومن فعل ذلك فهو كافر،
جيب قتاله حىت يرجع إىل حكم هللا ورسوله .اهـ
وقال أمحد شاكر رمحه هللا( :)1إن األمر يف هذه القوانني الوضعية واضح وضوح
الشمس ،هي كفر بواح ،ال خفاء فيه وال مداراة ،وال عذر ألحد ممن ينتسب
لإلسالم كائنا من كان يف العمل هبا أو اخلضوع هلا أو إقرارها ،فليحذر امرؤ
لنفسه ،وكل امرئ حسيب نفسه أال فليصدع العلماء ابحلق غري هيابني،
وليبلغوا ما أمروا بتبليغه غري موانني وال مقصرين.
سيقول عين عبيد هذا "الياسق ا لعصري " وانصروه ،أين جامد ،وأين رجعي،
وما إىل ذلك من األقاويل ،أال فليقولوا ما شاءوا ،فما عبأت يوما ما مبا يقال
عين ،ولكين قلت ما جيب أن أقول .اهـ
{ ﯴﯵ وقال األمني الشنقيطي رمحه هللا( : )2ويفهم من هذه اآلايت ،كقوله:
ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ} ( ، )3أن متبعي أحكام املشرعني غري ما شرعه هللا أهنم
مشركون ابهلل ،وهذا املفهوم جاء مبينا يف آايت أخر ،كقوله فيمن اتبع تشريع
إابحة امليتة بدعوى أهنا ذبيحة هللا{ :ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ الشيطان يف
ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ
ﮕ ﮖ} ( ، )4فصرح أبهنم مشركون بطاعتهم ،وهذا اإلشراك يف الطاعة،
واتباع الت شريع املخالف ملا شرعه هللا تعاىل هو املراد بعبادة الشيطان يف قوله
تعاىل{:ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ
تعدد الزوجات ظلم ،وأن الطالق ظلم للمرأة ،وأن الرجم والقطع وحنومها
أعمال ،وحشية ال يسوغ فعلها ابإلنسان ،وحنو ذلك.
فتحكيم هذا النوع من النظام يف أنفس اجملتمع وأمواهلم وأعراضهم وأنساهبم
وعقوهلم وأدايهنم كفر خبالق السماوات واألرض ،ومترد على نظام السماء الذي
وضعه من خلق اخلالئق كلها وهو أعلم مبصاحلها سبحانه وتعاىل عن أن يكون
معه مشرع آخر علوا كبريا .اهـ أضواء البيان
وقال أيضا :ومن هدي القرآن لليت هي أقوم بيانه أنه كل من اتبع تشريعا غري
التشريع الذي جاء به سيد ولد آدم حممد بن عبد هللا صلوات هللا وسالمه
عليه ،فاتباعه لذلك التشريع املخالف كفر بواح ،خمرج عن امللة اإلسالمية .اهـ
وقال أيضا( : )1والعجب ممن حيكم غري تشريع هللا مث يدعي اإلسالم .اهـ
.6ما ذكره فيمن حيكم بغري ما أنزل هللا هلوى مع اعتقاد أنه عاص وظامل
وخمطئ فهذا قيده علماء أهل السنة مبن كان ملتزما حبكم شريعة هللا مث حصل
منه ظلم يف احلكم وجور يف قضية معينة دون تبديل حلكم هللا أو حكم بغري
شريعته
يرد شهادة الشهود ظلما هلم فيمن ثبتت عليه السرقة ابلشهود ،أو جيعل كمن ّ
املال املسروق مل يبلغ احلرز مع أنه كذلك ليربئ السارق لقرابة أو رشوة ،فمن
حصل منه هذا هو الذي قال عنه العلماء كفر دون كفر.
وضابطه هذه الصورة :أهنا حتصل يف قضية معينة دون تبديل حلكم هللا فيها أو
احلكم حبكم مبدل.
فالذي حيكم يف قضية معينة ابلقانون الوضعي ال يقال فيه كفر دون كفر كما
قال ابن ابز هنا ،إمنا هو من الكفر األكرب كما سبق.
ومن أقوال العلماء يف ذلك:
ما أخرجه الطربي رمحه هللا يف تفسريه( )1من طريق عمران بن حدير قال :أتى
أاب جملز انس من بين عمرو بن سدوس فقالوا :اي أاب جملز ،أرأيت قول هللا{ :
ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ} ،أحق هو؟ قال :نعم ،قالوا:
{ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ} ،أحق هو؟ قال :نعم،
قالوا { :ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ} ،أحق هو؟ قال:
نعم ،قال فقالوا :اي أاب جملز ،فيحكم هؤالء مبا أنزل هللا؟ قال" :هو دينهم الذي
يدينون به ،وبه يقولون ،وإليه يدعون ،فإن هم تركوا شيئا منه عرفوا أهنم قد
تفرق! ،قال :أنتم أوىل هبذا مين ال أرى، أصابوا ذنبا" فقالوا :ال وهللا ،ولكنك َ
وإنكم أنتم ترون هذا وال حترجون ،ولكنها أنزلت يف اليهود والنصارى وأهل
الشرك ،أو حنوا من هذا .اهـ
وقول شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه هللا( :)2وأما من كان ملتزما حلكم هللا ورسوله
ابطنا وظاهرا ،لكن عصى واتبع هواه ،فهذا مبنزلة أمثاله من العصاة .اهـ
وقال أيضا( :)3فإ ّن احلاكم إذا كان ديِّنا لكنه حكم بغري علم كان من أهل النار،
وإن كان عاملا لكنه حكم خبالف احلق الذي يعلمه كان من أهل النار ،وإذا
حكم بال عدل وال علم كان أوىل أن ي كون من أهل النار .وهذا إذا حكم يف
قضية معينة لشخص .اهـ
وقول ابن القيم رمحه هللا( : )1والصحيح أن احلكم بغري ما أنزل هللا يتناول
الكفرين ،األصغر واألكرب حبسب حال احلاكم ،فإنه إن اعتقد وجوب احلكم
مبا أنزل هللا يف هذه الواقعة ،وعدل عنه عصياان ،مع اعرتافه أبنه مستحق
للعقوبة ،فهذا كفر أصغر .اهـ مدارج السالكني
وقول األمني الشنقيطي رمحه هللا( : )2أما من حكم بغري حكم هللا ،وهو عامل أنه
مرتكب ذنبا ،فاعل قبيحا ،وإمنا محله على ذلك اهلوى فهو من سائر عصاة
املسلمني .اهـ
وعند أتمل قول ابن جملز( :هو دينهم الذي يدينون به ،وبه يقولون ،وإليه
يدعون).
مع قول شيخ اإلسالم( :وأما من كان ملتزما حلكم هللا ورسوله ابطنا وظاهرا).
وقوله( :فإن احلاكم إذا كان دينا).
وقوله( :وهذا إذا حكم يف قضية معينة لشخص)
وقول ابن القيم( :إن اعتقد وجوب احلكم مبا أنزل هللا يف هذه الواقعة)
تعلم أن مقصود ابن عباس رضي هللا عنه وغريه ممن روي عنهم هذا القول املراد
به احلكام الذين حيكمون مبا أنزل هللا مث حصل منهم جور وظلم يف احلكم،
فإن هؤالء هم من يقال فيهم كفر فوق كفر ،وال يقصدون به املتبعني لغري
تشريع هللا أو املبدلني ألحكام هللا تعاىل كما هو الواقع اليوم من حال من حيكم
ابلقانون الوضعي.
ف ال يصح تنزيل كالم عبد هللا بن عباس رضي هللا عنه وغريه ممن روي عنهم
قوهلم يف اآلية (كفر دون كفر) على الواقع اليوم ،ألنه مع ما سبق بيانه ،فإن
كالمهم هذا جاء يف مقابلة كالم اخلوارج الذين يكفرون احلكام احلاكمني
بشريعة هللا ولك ن حصل منهم الظلم ،ومل حيصل يف زمن الصحابة والتابعني
ومن بعدهم تبديل حكم هللا تعاىل ابلقوانني والتشريعات البشرية ،وهلذا رد
العلماء على من استدل بقوهلم على عدم تكفري من حيكم ابلقوانني الوضعية(.)1
( )1انظر ما نقل سابقا عن الشيخني أمحد شاكر حممود شاكر رمحهما هللا.
( )2سلسلة اهلدى والنور.
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
113
هؤالء ،وبني من حيكم بغري ما أنزل هللا كلهم جمرمون ،كل األوساط ولكن كما
قيل :حنانيك بعض الشر أهون من بعض.
ذاك الذي يرايب والراب من أكرب الكبائر كما تعلمون إن استحل ذلك بقلبه ارتد
عن دينه! وإذا اعرتف مبعصيته فهو فاسق أمره إىل هللا ،وداخل يف عموم قوله
{ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ تعاىل:
ﯕﯖﯗ}
كذلك كل من حيكم بغري ما أنزل هللا إن حكم مبا حكم به ،ولو يف حكومة
واحدة مش ضروري يف كل األحكام ،ولو يف حكومة واحدة إذا رأى أن هذا
احلكم هو الذي يصلح هلذا الزمان خبالف حكم اإلسالم فقد ارتد عن دينه،
ليس يف كل األحكام ولو يف حكم واحد ،فما ابلك إذا كان يستحسن احلكم
بكل القوانني اليت هو يطبقها على األمة ،فإن استحل ذلك قلبيا فهو مرتد
عن دينه ،أما لو حوسب ونوقش فقيل له :ملاذا أنت تفعل هكذا ،وهذا خالف
الشرع؟ هللا يتوب علينا وإن شاء هللا نتمكن من احلكم مبا أنزل هللا ،فهذا ليس
كفره كفر ملة ،وإمنا هو كفر عملي.
لذلك فم ا استفدانه من كالم شيخ اإلسالم ابن تيمية يف كتبه تقسيم الكفر
إىل قسمني بل إىل أربعة أقسام ،لكن مها يف النتيجة قسمان :كفر عملي،
وكفر اعتقادي ،كفر لفظي وكفر قليب ،الكفر اللفظي ال خيرج من امللة الذي
خيرج هو الكفر القليب .اهـ
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
114
.1كالم ابن جرير رمحه هللا الذي قصده هو قوله يف تفسري اآلية( :)1القول
يف كل من مل حيكم مبا أنزل هللا جاحدا به ،هو ابهلل كافر ،كما قال ابن عباس،
ألنه جبحوده حكم هللا بعد علمه أنه أنزله يف كتابه ،نظري جحوده نبوة نبيه بعد
علمه أنه نيب .اهـ
.2وقفات مع استدالل األلباين به:
• أوال :ال ُجيعل تفسري أحد من العلماء آلية من كتاب هللا أنه التفسري الوحيد
والصحيح هلا وكل ما خالفها فهو ابطل ،ولذلك ذكر ابن جرير رمحه هللا
اختالف السلف يف فهمها مث رجح ما رآه صوااب ،وال يعين هذا إبطال كالم
غريه ،ألن فهم أحد من العلماء ال يكون حجة على غريه كما هو معلوم،
وهذا على فرض اتفاق معىن قول األلباين مع قصد ابن جرير رمحه هللا يف هذا
املوضع ،وإال فهو غري صحيح.
• اثنيا :أن كالم العامل ورأيه يف مسألة يؤخذ من جمموع كالمه ال بعضه.
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه هللا( :)2ليس ألحد أن حيمل كالم أحد من
الناس إال على ما عرف أنه أراده ال على ما حيتمله ذلك اللفظ يف كالم كل
يتأول النصوص املخالفة لقوله ،يسلك مسلك من أحد ،فإن كثريا من الناس ّ
جيعل " التأويل " كأنه ذكر ما حيتمله اللفظ وقصده به دفع ذلك احملتج عليه
بذلك النص وهذا خطأ .اهـ
وقال أيضا( : )1جيب أن يفسر كالم املتكلم بعضه ببعض ويؤخذ كالمه هاهنا
وهاهن ا وتعرف ما عادته يعينه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به وتعرف املعاين
اليت عرف أنه أرادها يف موضع آخر فإذا عرف عرفه وعادته يف معانيه وألفاظه
كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده.
وأما إذا استعمل لفظه يف معىن مل جتر عادته ابستعماله فيه وترك استعماله يف
املعىن الذي جرت عادته ابستعماله فيه ومحل كالمه على خالف املعىن الذي
قد عرف أنه يريده بذلك اللفظ جبعل كالمه متناقضا وترك محله على ما يناسب
سائر كالمه كان ذلك حتريفا لكالمه عن موضعه وتبديال ملقاصده وكذاب عليه.
اهـ
وبناء على ذلك عند مجع كالم ابن جرير رمحه هللا يف هذه املسألة ،يتبني لك
أنه يعين ابجلحد هنا ما يرادف (ترك احلكم وتبديله) وليس كما فهمه األلباين
أنه (اجلحد القليب) فضال عن أن يكون (االستحالل القليب).
فإن هذه اللفظة هي من متشابه األلفاظ اليت ترد يف كالم كل متكلم ،والواجب
فيها ردها للمحكم املفصل من كالمه ح ىت تفهم على مراده ال على ما فهمه
الفاهم منها.
قال ابن جرير رمحه هللا( : )2إن هللا تعاىل عم ابخلرب بذلك عن قوم كانوا حبكم
هللا الذي حكم به يف كتابه جاحدين ،فأخرب عنهم أهنم برتكهم احلكم ،على
سبيل ما تركوه ،كافرون .اهـ
فهو هنا يتحدث عن اليهود وذكر أهنم جاحدون حبكم هللا الذي حكم به.
وإذا أخذان كالمه اآلخر عن هؤالء اليهود نفسهم سنعلم أنه عىن ابجلحد هنا
(ترك احلكم وتبديله) وليس جحده مبعىن إنكاره.
قال( )1عند قوله تعاىل:
{ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ
ﭾ ﭿ ﮀ } ( . )2
يعين تعاىل ذكره وكيف حيكمك هؤالء اليهود ،اي حممد ،بينهم ،فريضون بك
حكما بينهم "وعندهم التوراة " اليت أنزلتها على موسى ،اليت يقرون هبا أهنا
حق ،وأهنا كتايب الذي أنزلته إىل نبيّي ،وأن ما فيه من حكم فمن حكمي،
يعلمون ذلك ال يتناكرونه ،وال يتدافعونه ،ويعلمون أن حكمي فيها على الزاين
احملصن الرجم ،وهم مع علمهم بذلك "يتولون " ،يقول :يرتكون احلكم به ،بعد
العلم حبكمي فيه ،جراءة علي وعصياان يل.
يقول هلم تعاىل ذكره :كيف تقرون ،أيها اليهود ،حبكم نبيي حممد صلى هللا
عليه وسلم ،مع جحودكم نبوته وتكذيبكم إايه ،وأنتم ترتكون حكمي الذي
ت قرون به أنه حق عليكم واجب .اهـ
{ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ } ( . )4 وقال( )3عند قوله تعاىل:
يقول :وال أتخذوا برتك احلكم آبايت كتايب الذي أنزلته على موسى ،أيها
األحبار ،عوضا خسيسا وذلك هو "الثمن القليل ".
وإمنا أراد تعاىل ذكره ،هنيهم عن أكل السحت على حتريفهم كتاب هللا،
وتغيريهم حكمه عما حكم به يف الزانيني احملصنني ،وغري ذلك من األحكام
اليت بدلوها طلبا منهم للرشى .اهـ
{ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ } ( . )2 وقال( )1عند قوله تعاىل:
ومن كتم حكم هللا الذي أنزله يف كتابه وجعله حكما بني عباده ،فأخفاه وحكم
بغريه ،كحكم اليهود يف الزانيني احملصنني ابلتجبيه والتحميم ،وكتماهنم الرجم،
وكقضائهم يف بعض قتالهم بدية كاملة ويف بعض بنصف الدية ،ويف األشراف
ابلقصاص ،ويف األدنياء ابلدية ،وقد سوى هللا بني مجيعهم يف احلكم عليهم يف
التوراة "فأولئك هم الكافرون ".
هؤالء الذين مل حيكموا مبا أنزل هللا يف كتابه ،ولكن بدلوا وغريوا حكمه ،وكتموا
احل ق الذي أنزله يف كتابه "هم الكافرون " يقول :هم الذين سرتوا احلق الذي
كان عليهم كشفه وتبيينه ،وغطوه عن الناس ،وأظهروا هلم غريه ،وقضوا به،
لسحت أخذوه منهم عليه .اهـ
وعند أتمل قوله( :يقرون هبا أهنا حق) .أي ال ينكرون أنه حكم هللا.
وقوله( :يعلمون ذلك ال يتناكرونه وال يتدافعونه) أي ال ينكرونه وال يدفعونه.
وقوله( :ويعلمون أن حكمي فيها على الزاين احملصن الرجم).
وقوله( :وهم مع علمهم بذلك "يتولون " يقول يرتكون احلكم به).
وقوله( :وأنتم ترتكون حكمي الذي تقرون به).
وقوله( :وتغيريهم حكمه عما حكم به يف الزانيني احملصنني ،وغري ذلك من
األحكام اليت بدلوها).
وقوله( :ومن كتم حكم هللا الذي أنزله يف كتابه).
وقوله( :فأخفاه وحكم بغريه).
وقوله( :هؤالء الذين مل حيكموا مبا أنزل هللا يف كتابه ،ولكن بدلوا وغريوا حكمه،
وكتموا احلق).
وقوله( :وأظهروا هلم غريه ،وقضوا به).
نعلم أن ( اجلحد) يف كالم ابن جرير رمحه هللا الذي استدل به األلباين ،ال
يقصد به اجلحد القليب الذي هو اإلنكار ،إذ كيف يستقيم هذا مع أقواله
الصرحية اليت تدل على أن اليهود مل جيحدوا حكم هللا ومل ينكروه بل كتموه
وتركوه وبدلوه وغريوه مث حكموا هبذا احلكم املستبدل احملرف.
مث إننا جند يف كالم ابن جرير أن املناط الذي علق عليه احلكم هو عني ما ورد
يف اآلية وسبب النزول ،وهو التويل الذي هو الرتك حلكم هللا واحلكم أبحكام
البشر اليت أوجدوها أبنفسهم مستبدلني حكم هللا تعاىل هبا ،وقد فسره ابن
جرير بقوله( :)1وأصل "التويل عن الشيء " ،االنصراف عنه .اهـ
فهذا الرتك واالنصراف من أعمال اجلوارح ال أعمال القلوب.
فأين اجلحد القليب واالستحالل القليب الذي يدندن حوله األلباين من كالم
ابن جرير احملكم الصريح البني ،وهبذا يبطل استدالله ٍ
بلفظة مشتبهة من كالم
وجعلِها هي احلاكمة على كل كالمه ورأيه مع تركه لكالمه ابن جرير رمحه هللا ْ
احملكم اآلخر.
وما فعله هو طريق أهل األهواء الذين يتبعون متشابه الكالم وجيعلونه أصال
نصرة مل ذهبهم ،بينما يرتكون املـحكم ويعرضون عنه ،وما ظهرت بدعة من البدع
إال هبذا املنهج املنحرف.
.3أن قول األلباين( :وال فرق بني هؤالء ،وبني من حيكم بغري ما أنزل هللا
كلهم جمرمون ) قول ابطل ،ألنه تسوية بني املعاصي اليت ال خترج من امللة وبني
املعاصي اليت خترج من امللة ،ولكنه يقول هبذا بناء على معتقده الفاسد الذي
هو عني مذهب املرجئة ،وهو أن الكفر العملي كله أصغر ،وأن الكفر املخرج
من امللة هو االعتقادي فقط ،ويوضح هذا قوله( :الكفر اللفظي ال خيرج من
امللة الذي خيرج هو الكفر القليب).
والكتاب والسنة وإمجاع سلف األمة على بطالن هذا املذهب الذي يبين عليه
كالمه يف جعل احلكم بغري ما أنزل هللا كفرا عمليا أصغر مطلقا.
قال تعاىل{ :ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ
ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ
ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ} ( . )1
أخرج ابن جرير الطربي يف تفسريه()1عن عبد هللا بن عمر رضي هللا عنهما قال:
قال رجل يف غزوة تبوك يف جملس :ما رأينا مثل قرائنا هؤالء ،أرغب بطوان ،وال
أكذب ألسنا ،وال أجنب عند اللقاء! فقال رجل يف اجمللس :كذبت ،ولكنك
منافق! ألخربن رسول هللا ﷺ ،فبلغ ذلك النيب ﷺ ونزل القرآن .قال عبد هللا
بن عمر :فأان رأيته متعلقا حبقب انقة رسول هللا ﷺ تنكبه احلجارة ،وهو
يقول" :اي رسول هللا ،إمنا كنا خنوض ونلعب! " ،ورسول هللا ﷺ يقول( :أابهلل
وآايته ورسوله كنتم تستهزئون ال تعتذروا قد كفرمت بعد إميانكم) .اهـ
فإهنم تلفظوا مبا مل يقصدوه إمنا قصدوا به اخلوض واللعب ،فكفرهم هللا سبحانه
به وأبطل اعتذارهم بعدم القصد القليب (االعتقاد).
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه هللا( :)2فقد أخرب أهنم كفروا بعد إمياهنم مع
قوهلم إان تكلمنا ابلكفر من غري اعتقاد له بل كنا خنوض ونلعب .اهـ
فاالستهزاء ابهلل وآايته كفر لفظي أكرب ،فكيف يقول األلباين أن الكفر اللفظي
ال خيرج من امللة!
{ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ وقال تعاىل:
ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ
ﮕ } ( . )3
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه هللا( :)1معلوم أنه مل يرد ابلكفر هنا اعتقاد
القلب فقط ألن ذلك ال يكره الرجل عليه وهو قد استثىن من أكره ،ومل يرد
من قال واعتقد ألنه استثىن املكره وهو ال يكره على العقد والقول ،وإمنا يكره
على القول فقط فعلم أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من هللا وله
عذاب عظيم وأنه كافر بذلك إال من أكره وهو مطمئن ابإلميان .اهـ
فصل
يف حترير قول شيخ اإلسالم ابن تيمية يف احلاكم بغري ما أنزل هللا
كعادة أهل األهواء يف اتباع متشابه الكالم وترك حمكمه ،فإهنم يستدلون ببعض
األلفاظ اليت جاءت يف كالم شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه هللا لينصروا هبا
مذهبهم ،وذلك كقوله رمحه هللا( :)1وال ريب أن من مل يعتقد وجوب احلكم مبا
أنزل هللا على رسوله فهو كافر ،فمن استحل أن حيكم بني الناس مبا يراه هو
عدال من غري اتباع ملا أنزل هللا فهو كافر .اهـ
فقالوا إن شيخ اإلسالم يشرتط يف تكفري من حيكم بغري ما أنزل هللا االستحالل
لذلك ،فإن مل يستحل بقلبه فال يكفر ،ويقررون على هذا أن احلاكم ابلقانون
الوضعي ال يكفر حىت يستحله.
وهذا فهم ابطل لقول شيخ اإلسالم ورأيه يف هذا الباب ،وملعرفة رأيه سنذكر
بعض كالمه املشهور املتفرق يف كتبه ،ألن رأي العامل ومذهبه ال يعرف إال إذا
مجع.
فمن ذلك:
قوله بعد تقريره السابق( :)2فمن مل يلتزم حتكيم هللا ورسوله فيما شجر بينهم
فقد أقسم هللا بنفسه أنه ال يؤمن ،وأما من كان ملتزما حلكم هللا ورسوله ابطنا
وظاهرا ،لكن عصى واتبع هواه ،فهذا مبنزلة أمثاله من العصاة .اهـ
وقال( :)1واإلنسان مىت حلل احلرام اجملمع عليه أو حرم احلالل اجملمع عليه
أو بدل الشرع اجملمع عليه كان كافرا مرتدا ابتفاق الفقهاء .اهـ
وبه يعلم أن قوله( :فمن استحل )...يقصد به املب ّدل لشريعة هللا،
واحلاكم هبذه الشريعة املب ّدلة ألنه التزم بغري شرع هللا ،وال يشرتط عنده
يف كفره استحالل القلب كما يزعم املرجئة ،ألن حتليل احلرام وحتليل
احلالل والتزام غري شرع هللا كلها أفعال جوارح وقد بني رمحه هللا أن
فاعلها كافر ومل يشرتط يف ذلك االستحالل ،وإمنا غاية ما يقصده من
لفظ االستحالل أنه الزم ملن ب ّدل شرع هللا أو التزم شرعا مب ّدال ،إذ
كيف يدعي إنسان أنه مؤمن ابهلل ومصدق بشرعه مث يبدله أو حيكم
بشرع مب ّدل ويرتك شرع هللا تعاىل ،فإن هذا ال يصدر إال عن استحالل
،فاالستحالل الزم ملا حصل منه وليس شرطا يف تكفريه ،وفرق بني
الالزم والشرط.
فصل
الرد على شبهات جموزي الدميقراطية
حقيقة الدميقراطية:
هي كلمة يواننية مركبة من (دميو) (كراتس) وتعين حكم الشعب ،أي هو
صاحب القرار والتشريع لألحكام.
وهلا ثالث صور:
يع للقوانني
نفسه التشر َ
.1الدميقراطية املباشرة :وهي أن يباشر الشعب ُ
واحلكم هبا بناء على ما يتفقون عليه ،وهذه انقرضت منذ العهد اليوانين لعدم
إمكان تطبيقها مع كثرة العدد.
.2الدميقراطية غري املباشرة :وهي أن ينيب الشعب عنه من يقوم بتشريع
القوانني واحلكم هبا ،دون أن يكون للشعب أي حق بعد اإلانبة ،وهذه ال
توجد اليوم إال يف األنظمة الدميقراطية االستبدادية (الديكتاتورية) ،أما يف النظام
الدميقراطي الطبيعي فال تطبق.
.3الدميقراطية شبه املباشرة :وهي أن ينيب الشعب عنه من يقوم بتشريع
القوانني واحلكم هبا ،مع بقاء حق الشعب يف االعرتاض واالستفتاء واالنتخاب
وحنوها ،فيكون للشعب رأي مع اجلهة التشريعية احلاكمة ،وهذه الصورة هي
املعمول هبا اليوم يف غالب الدول الدميقراطية وهي اليت تنص عليها القوانني
العامة هلم ،وهي ما سنتكلم عنها.
.1السيادة للشعب فهو مصدر السلطات الثالثة اليت تقوم عليها الدميقراطية
وهي:
• السلطة التشريعية :وهي اجلهة النائبة عن الشعب يف تشريع القوانني وتعرف
ابلربملان أو جملس النواب.
• السلطة التنفيذية :وهي اجلهة املكلفة ابحلكم مبا تشرعه السلطة التشريعية
وهي احلكومة.
املشرعة وموافقتها
• السلطة القضائية :وهي اجلهة اليت تنظر يف القوانني ّ
للدستور من عدمه ،وصحتها قانوان وتعرف ابحملكمة الدستورية.
.2مبدأ احلرايت العامة (حرية الرأي _ حرية املعتقد).
.3فصل الدين عن احلكم (العلمانية).
وهذه األركان مناقضة لإلسالم من الوجوه التالية:
.1القول أبن (السيادة للشعب) وهو مصدر السلطات يناقض قوله تعاىل:
تعاىل {:ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ { ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ } ( ، )1وقوله
ﯸ ﯹ } ( . )2
النواب عنه ينايف إفراد هللا تعاىل ابحلكم ،فاهلل
فإسناد احلكم للشعب عن طريق ّ
هو احلَ َكم والسيد سبحانه وتعاىل ،وإعطاء هذا احلق لغريه تعاىل إشراك به،
وهلذا كانت الدميق راطية من صور الشرك ابهلل ،وهذا النص موجود يف كل
الدساتري الوضعية.
.2القول حبرية الرأي واملعتقد ينايف وجوب اتباع دين اإلسالم وأن اخلروج
{ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ منه كفر وردة ،وقد قال تعاىل:
ﭹ ﭺ ﭻ} (. )1
وقوله ﷺ" :من بدل دينه فاقتلوه" .أخرجه البخاري
( )2
فإعطاء احلق لكل شخص يف تبديل دينه واعتقاد ما يريده من إابحة الكفر
والردة ،هو ما جيعل الدميقراطية مناقضة لإلسالم ،وهذا املبدأ تنص عليه كل
الدساتري الوضعية يف الدول الدميقراطية.
.3القول حبرية الرأي يعطي احلق يف فعل املنكرات احملرمة إال ما نص عليها
القانون الوضعي ،كالراب والزان وأفعال قوم لوط وسب الدين والسخرية به
والسحر والشعوذة ،ولو منع القانون بعضها فلم مينعها ألن حمرمة شرعا ألنه مل
يستند عليه يف التشريع ،وهلذا حىت ما ُمنِع منها قانوان ليس منعا اتما كاملنع
الشرعي ،مث هذا املبدأ يبطل وجوب إنكار املنكر الذي هو من أعظم صفات
أمة اإلسالم ،فإن أُنكر على من هذه فعل احملرمات يف العلن قيل هذا من
تضييق احلرايت العامة وحرية الرأي.
.4القول بفصل الدين عن احلكم وهو (العلمانية) معناه أن الدين اإلسالمي
أو غريه من األداين احملرفة ال دخل هلا يف تشريع األحكام ،وهذا ردٌّ للشريعة
اإل سالمية وطعن فيها بعدم صالحيتها للحكم وأهنا ال تكفي الناس لصالح
فصل
شبهات حول الدميقراطية
جيوز كثري من الزائغني العمل ابلدميقراطية بعدة شبهات نرد عليها تباعا ليعلم
ّ
بطالهنا:
الشبهة األوىل:
قوهلم :أن الدميقراطية كالشورى ،والشرع قد أجاز الشورى.
واجلواب عنه من وجوه:
.1أن الشورى هلا حقيقة شرعية والدميقراطية هلا حقيقة عرفية عند صانعها،
وبينهما تباين.
فالشورى :هي املراجعة يف األمر الستخراج رأي فيه ،واحلكم فيها هلل تعاىل.
والدميقراطية :هي إعطاء الرأي والقرار والسيادة للشعب.
.2أن الشورى ال تكون يف األحكام الشرعية إمنا يف األمور املباحة،
والدميقراطية تكون يف كل شيء ولو كان قطعيا ومعلوما من الدين ابلضرورة.
،. ( )1
{ﭭ ﭮ ﭯﭰ} .3أن الشورى عبادة مأمور هبا بقوله تعاىل:
والدميقراطية منهي عنها بل أصلها هو الشرك ابهلل الذي هو أعظم احملرمات.
.4أن الشورى الرأي فيها لألصلح واألصوب واألقرب للشرع ،والدميقراطية
الرأي فيها لألكثر واألغلب ولو خالف الشرع وانقضه.
.5أن الشورى من دين هللا ،والدميقراطية من دين الطاغوت ألهنا ُحت ِّكم غري
هللا وتعظمه وتقدمه على دين هللا.
.6أن وسيل ة الشورى يف أخذ الرأي مباحة وهي مشاورة أهل احلل والعقد،
ووسيلة الدميقراطية بدعة حمرمة وهي االنتخاب والتصويت من اجلميع دون
النظر للدين أو الصالح.
.7أن الشورى من فعل النيب ﷺ وأصحابه فكان التشبه هبم سنة قال اإلمام
البخاري رمحه يف الصحيح يف كتاب االعتصام( :)1وشاور النيب ﷺ أصحابه
يوم أحد يف املقام واخلروج ،فرأوا له اخلروج ،فلما لبس ألمته وعزم قالوا :أقم،
فلم ميل إليهم بعد العزم ،وقال" :ال ينبغي لنيب يلبس ألمته فيضعها حىت حيكم
هللا".
وشاور عليا ،وأسامة فيما رمى به أهل اإلفك عائشة فسمع منهما حىت نزل
القرآن ،فجلد ال رامني ،ومل يلتفت إىل تنازعهم ،ولكن حكم مبا أمره هللا.
وكانت األئمة بعد النيب ﷺ يستشريون األمناء من أهل العلم يف األمور املباحة
ليأخذوا أبسهلها ،فإذا وضح الكتاب أو السنة مل يتعدوه إىل غريه ،اقتداء ابلنيب
ﷺ.
ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة ،فقال عمر :كيف تقاتل الناس وقد قال
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم " :أمرت أن أقاتل الناس حىت يقولوا ال إله إال
هللا ،فإذا قالوا :ال إله إال هللا عصموا مين دماءهم وأمواهلم إال حبقها وحساهبم
على هللا " فقال أبو بكر :وهللا ألقاتلن من فرق بني ما مجع رسول هللا ﷺ،
مث اتبعه بعد عم ر فلم يلتفت أبو بكر إىل مشورة إذ كان عنده حكم رسول
هللا ﷺ يف الذين فرقوا بني الصالة والزكاة وأرادوا تبديل الدين وأحكامه" ،وقال
النيبﷺ" :من بدل دينه فاقتلوه".
وكان ال ُق ّراء أصحاب مشورة عمر كهوال كانوا أو شباان ،وكان وقافا عند كتاب
هللا عز وجل .اهـ
وأما الدميقراطية ف من فعل الكفار والواجب ترك التشبه هبم فيها ،فإن كان هللا
{ﯓ سبحانه هناان أن نتشبه هبم يف كلمة يقولوهنا كما يف قوله تعاىل:
ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ
ﯟ ﯠ} (. )1
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه هللا( :)2فهذا كله يبني أن هذه الكلمة ُهني
املسلمون عن قوهلا أل ن اليهود كانوا يقولوهنا ،وإن كانت من اليهود قبيحة ومن
املسلمني مل تكن قبيحة ،ملا كان يف مشاهبتهم فيها من مشاهبة الكفار،
وتطريقهم إىل بلوغ غرضهم .اهـ
فكيف ابلتشبه هبم يف الدميقراطية وهي نظام كامل له أركان وشروط وليست
جمرد كلمة ،على أنه لو تركت كل شروطها وأخذان الكلمة فقط تعامال هبا من
ابب (مصلحة الدعوة) كما يقول من ِّ
جيوزها لكان ذلك منهيا عنه ألنه تشبه
ابلكفار يف االسم ،وهو ذريعة إىل التشبه هبم ابلفعل ،وسد الذريعة أصل مقرر
يف الشريعة اإلسالمية ال سيما املوصلة للكفر والشرك ،ولذلك هني عن أن
يذبح هلل عند القرب ملا فيه من التشبه ابلكفار يف الصورة.
أخرج أبو داود يف سننه( :)1عن اثبت بن الضحاك رضي هللا عنه قال :نذر
رجل على عهد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن ينحر إبال ببوانة فأتى النيب
صلى هللا عليه وسلم ،فقال :إين نذرت أن أحنر إبال ببوانة ،فقال النيب صلى
هللا عليه وسلم" :هل كان ف يها وثن من أواثن اجلاهلية يعبد؟" قالوا :ال ،قال:
"هل كان فيها عيد من أعيادهم؟" ،قالوا :ال ،قال رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم" :أوف بنذرك ،فإنه ال وفاء لنذر يف معصية هللا ،وال فيما ال ميلك ابن
آدم".
وقد ذكر شيخ اإلسالم مفاسد جمرد التشبه ابلكفار ظاهرا يف شيء قد يكون
مباحا يف األصل ،فكيف إن كان حمرما ،قال رمحه هللا(:)2
وقد بعث هللا حممدا صلى هللا عليه وسلم ابحلكمة اليت هي سنته ،وهي الشرعة
واملنهاج الذي شرعه له ،فكان من هذه احلكمة أن شرع له من األعمال
واألقوال ما يباين سبيل املغضوب عليهم والضالني ،فأمر مبخالفتهم يف اهلدي
الظاهر وإن مل يظهر لكثري من اخللق يف ذلك مفسدة ،ألمور:
منها :أن املشاركة يف اهلدي الظاهر تورث تناسبا وتشاكال بني املتشاهبني ،يقود
إىل موافقة ما يف األخالق واألعمال ،وهذا أمر حمسوس ،فإن الالبس ثياب
أهل العلم جيد من نفسه نوع انضمام إليهم ،والالبس لثياب اجلند املقاتلة مثال
( )1سنن أيب داود ( 244/4رقم ،)1111قال شيخ اإلسالم يف اقتضاء الصراط املستقيم (:)454/1
وهذا اإلسناد على شرط الصحيحني ،وإسناده كلهم ثقات مشاهري ،وهو متصل بال عنعنة .اهـ
( )2اقتضاء الصراط املستقيم (.)54/1
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
123
جيد من نفسه نوع ختلق أبخالقهم ،ويصري طبعه متقاضيا لذلك ،إال أن مينعه
مانع.
ومنها :أن املخالفة يف اهلدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب االنقطاع
عن موجبات الغضب وأسباب الضالل ،واالنعطاف على أهل اهلدى
والرضوان ،وحتقق ما قطع هللا من املواالة بني جنده املفلحني وأعدائه اخلاسرين.
وكلما كان القلب أمت حياة ،وأعرف ابإلسالم الذي هو اإلسالم ،لست أعين
جمرد التوسم به ظاهرا أو ابطنا مبجرد االعتقادات من حيث اجلملة كان
إحساسه مبفارقة اليهود والنصارى ابطنا وظاهرا أمت ،وبعده عن أخالقهم
املوجودة يف بعض املسلمني أشد.
ومنها :أن مشاركتهم يف اهلدي الظاهر ،توجب االختالط الظاهر ،حىت يرتفع
التميز ظاهرا ،بني املهديني املرضيني ،وبني املغضوب عليهم والضالني إىل غري
ذلك من األسباب احلكمية.
هذا إذا مل يكن ذلك اهلدي الظاهر إال مباحا حمضا لو جترد عن مشاهبتهم،
فأما إن كان من موجبات كفرهم ،كان شعبة من شعب الكفر ،فموافقتهم فيه
موافقة يف نوع من أنواع معاصيهم ،فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له .اهـ
تنزلنا أن جمرد استعمال لفظ الدميقراطية مباح فاستعماله بدعوى فنقول لو ّ
مصلحة الدعوة حمرم ألنه سيؤول إىل ترقيق القلب حنوها وقبوهلا يف آخر األمر
كما هي عند الكفار ،وهذا أمر مشاهد حسا ،فكل أصحاب هذه الشبهة
آل هبم األمر إىل السقوط يف الوحل الدميقراطي كامال فال املصلحة رجحت
وال الدعوة بقيت ،ألن جمرد استعمال االسم مستحيل يف الواقع ومل يقع أصال،
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
124
ألن الدميقراطية اسم له حقيقة وهلذا كان الواجب سد ذريعة كل ما يوصل هلا
أو يعني على ذلك.
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
125
الشبهة الثانية:
نقر أن الدميقراطية حكم الشعب ولكن أنخذ منها اآلليات فقط.
قوهلم :ه
واجلواب عليه من وجوه:
.1أن آليات الدميقراطية منها والعمل آبلياهتا دون أصلها ال ميكن فعله يف
الواقع ،فلو أخذان حق التصويت واالستفتاء مثال ،فهو يف الدميقراطية جائز يف
كل شيء حىت يف القطعيات ،وإذا قيل بتقييده مبا دون القطعيات واألحكام
املتفق عليها ،فال معىن للدميقراطية هنا ألن جوهرها وهو أن الرأي للشعب
ولألكثر ٍ
منتف ،وانتفاء أصلها انتفاء هلا.
.2أن آليات الدميقراطية بدعة حمرمة ال دليل عليها من الكتاب والسنة وعمل
سلف األمة.
.3أن القول أبخذ آليات الدميقراطية يلزم منه انتقاص دين اإلسالم ،وأنه مل
أيت فيه بيان آليات احلكم واإلمامة ،وإال فما معىن تركها مع وجودها واألخذ
بغريها ،فإن قيل حنن أنخذها ونع ّدل عليها مبا يوافق الشرع ،نقول هذا مجع
بني املتناقضات ،مث مل أتخذوهنا وعندكم دين كامل فيه كل شيء من هللا
سبحانه وتعاىل ،والزم دعواهم بتعديلها الطعن يف اإلسالم أبنه انقص وهلذا
جلأوا ملا عند الكافرين.
.4أن آليات الدميقراطية كاالنتخاابت والتصويت يكون الرأي فيها لألكثر،
ويف الشريعة الرأي ملا وافق احلق ولو كان أقل القليل.
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
126
.5أن الكثرة اليت تعتمدها الدميقراطية يف اختاذ اآلراء مذمومة شرعا ،قال
{ .ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ( )1
{ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ} تعاىل:
ﰙ } ( { . )2ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ } ( { . )3ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ
{ .ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ( )4
ﰋ ﰌ}
ﭻ ﭼ ﭽ} (. )5
الشبهة الثالثة:
قوهلم جيوز املشا ركة مع العلمانيني يف الدميقراطية قياسا على حلف الفضول
الذي أثىن عليه النيب ﷺ وهو حلف مع الكفار.
واجلواب عليها من وجوه:
.1أن قصة (حلف الفضول) أو (املطيبني) على خالف ،هل مها واحد أو
حلف املطيبني قبل ،فالقصة وإن اشتهرت يف كتب السري فإن يف سندها لينا،
فقد أخرجها أمحد والبخاري يف األدب املفرد وابن حبان من حديث عبد
الرمحن بن عوف عن النيب ﷺ قال" :شهدت حلف املطيبني مع عموميت وأان
غالم ،فما أحب أن يل محر النعم ،وأين أنكثه".
ومداره على عبد الرمحن بن إسحاق.
قال أبو حامت( :)1يكتب حديثه وال حيتج به ،وهو حسن احلديث ليس بثبت
وال قوي .اهـ
وقال الدارقطين( :)2ضعيف احلديث ،ووثقه ابن معني( ،)3وقال البخاري( :)4ليس
ممن يعتمد على حفظه إذا خالف من ليس بدونه .اهـ
فمثله إذا تفرد ال تقبل روايته ،خاصة أنه روى عن الزهري ما مل يروه عنه أوثق
أصحابه املالزمني له ،وقد أنكر اإلمام أمحد تفرده هبذا احلديث عن الزهري
كما قال املروذي( : )1قلت أليب عبد هللا :فعبد الرمحن بن إسحاق ،كيف هو؟
قال :أما ما كتبنا من حديثه ،فقد حدث عن الزهري أبحاديث ،كأنه أراد،
تفرد هبا ،مث ذكر حديث حممد بن جبري يف احللف ،حلف املطيبني ،فأنكره
أبو عبد هللا ،وقال :ما رواه غريه .اهـ
وله شاهد عن أيب هريرة أخرجه ابن حبان( )2بلفظ" :ما شهدت من حلف
قريش إال حلف املطيبني ،وما أحب أن يل محر النعم ،وأين كنت نقضته".
ولكن إسناده ضعيف فيه:
معلى بن مهدي :قال أبو حامت( :)3حيدث أحياان ابحلديث املنكر .اهـ
وعمر بن أيب سلمة :قال البخاري :صدوق إال أنه خيَالَف يف بعض حديثه.
وقال حيىي بن سعيد( : )4كان شعبة يضعف عمر بن أيب سلمة.
وقال أبو حامت( : )5هو عندي صاحل صدوق يف األصل ،ليس بذاك القوى يكتب
حديثه ،وال حيتج به ،خيالف يف بعض الشيء.
وقال النسائي( :)6ليس ابلقوي.
وقال ابن معني( :)1ليس به أبس ،ومرة أخرى قال( :)2ضعيف احلديث.
فظهر هبذا أن القصة ابألسانيد املتصلة ال تثبت ،وقد رويت مرسلة ،فإن قيل
مشهورة يف كتب السري وشهرهتا تدل على صحتها ،قلنا شهرهتا يف حكايتها
كما تروى أحداث التاريخ ال أن تبىن عليها األحكام ،ألن األحكام ال تبىن
إال على ما صح سنده وثبت ،وخاصة إذا كان تلك األحكام مما يتعلق ابلتوحيد
وما يناقضه واحلالل واحلرام.
بذي
سئل أمحد بن حنبل رمحه هللا فقيل له :ما تقول يف موسى بن عبيدة الر ّ
( )3
وقال عبد الرمحن بن مهدي رمحه هللا( :)1إذا روينا عن النيب ﷺ يف احلالل
واحلرام واألحكام شددان يف األسانيد وانتقدان الرجال ،وإذا روينا يف فضائل
األعمال والثواب ،والعقاب ،واملباحات ،والدعوات تساهلنا يف األسانيد .اهـ
قال اخلطيب البغدادي( )2رمحه هللا :قد ورد عن غري واحد من السلف أنه ال
جيوز محل األحاديث املتعلقة ابلتحليل والتحرمي إال عمن كان بريئا من التهمة،
بعيدا من الظنة ،وأما أحاديث الرتغيب واملواعظ وحنو ذلك فإنه جيوز كتبها
عن سائر املشايخ .اهـ
وأشار هلذا العراقي رمحه هللا يف األلفية:
من غري تبيني لض ـ ـ ـ ـ ـ ــعف ،ورأوا وسهلوا يف غري موضوع رووا
ـدي) وغري واحـ ــد عن (ابن مهـ ـ ّ ب ـي ـ ـ ــان ـ ـ ــه يف احل ـك ــم وال ـع ـق ـ ـ ــائ ـ ـ ــد
.2وعلى فرض صحتها تبعا ملن صححها من أهل العلم ،فإن األصل الذي
قام عليه هذا احللف يناقض األصل الذي قامت عليه الدميقراطية ،فحلف
الفضول قام لنصرة املظلوم واالقتصاص من الظامل ،قال الزبري بن عبد املطلب(:)3
وإن ك ـ ـن ـ ـ ــا مجـ ـ ـيـ ـ ـع ـ ـ ــا أه ـ ـ ــل دار حلف ـ ــت لنعق ـ ــد ّن حلف ـ ــا عليهم
يعز ب ـ ـ ــه الغري ـ ـ ــب ل ـ ـ ــذي اجلوار ّ نس ـ ـ ـ ـ ـ ــميــه الفض ـ ـ ـ ـ ـ ــول إذا عقــدان
أابة الض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيــم منـنــع ك ـ ـ ــل ع ـ ـ ــار وي ـع ـلــم مــن ح ـوايل ال ـب ـي ـ ـ ــت َّأان
وقال الزبري أيضا:
أال ي ـق ـيــم ب ـب ـطــن م ـك ـ ـ ــة ظ ـ ـ ــامل إن الفض ـ ـ ـ ـ ـ ــول تعــاقــدوا وحتــالفوا
ف ـ ـ ــاجل ـ ـ ــار واملعرت فيهم س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــامل أمــر عـلـي ـ ـ ــه تـع ـ ـ ــاق ـ ـ ــدوا وتـواثـقـوا
والدميقراطية قامت على الظلم األكرب وهو الشرك ابهلل تعاىل يف الربوبية ذإعطاء
حق التشريع لغريه ،ويف األلوهية ابلتحاكم للطاغوت ،فكيف تقاس على حلف
الفضول.
.3أن حلف الفضول مل يكتب فيه دستور يعطي السيادة واحلكم لغري هللا
تعاىل ،بل ليس قائما على ميثاق إمنا حصل الوفاق على نصرة املظلوم بعده،
أما الدميقراطية فإن الربملاانت تقوم فيها على أساس الدستور القائم الذي تكون
فيه السيادة واحلكم للشعب ال هلل تعاىل.
.4أن حلف الفضول قام ملعاقبة الظامل وأخذ احلق منه ،أما الدميقراطية فتقوم
على إعطاء احلرية للظامل والفاسق يف ارتكاب جرمه من خالل مبدأ احلرايت
العامة اليت تبيح الراب والزان والفجور والردة.
.5أن النيب ﷺ قال بقبول حلف الفضول لو دعي له يف اإلسالم حال كونه
إمام الدولة اإلسالمية ،وإمام املسلمني جيوز له عقد الصلح مع الكفار
األصل يني فيما ال خيالف اإلسالم ويناقضه ،أما الدميقراطية فالداخلون هلا من
ليجوزوا الصلح مع الكفار ،بل أحزاب وأفراد ليسوا على رأس دولة إسالمية ّ
هم داخلون حتت شعار إقامة الشرع عن طريق الدميقراطية ،ففرق كبري بني
الصورتني ،مث هم سيدخلون فيها مع املرتدين ال الكفار األصليني ،وحىت لو
كانوا كفارا أصليني فال يصح.
.6أن ثناء النيب ﷺ على حلف الفضول مل مينعه جهاد الكفار واملشركني،
بينما الدميقراطيون مينعون جهاد الكفار حتت مبدأ حرية املعتقد ،وجيعلون قتاهلم
أو اإلنكار عليهم من اإلرهاب والعنف!
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
132
وهبذا يظهر لنا فساد القياس بني حلف الفضول والدميقراطية ،الختالف أصل
كل منهما ،وإذا بطل القياس بطل االستدالل به هنا وهو املطلوب.
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
133
الشبهة الرابعة:
قوهلم حنن نقر أن الدميقراطية حمرمة وفيها شرك ابهلل ،لكن ندخل فيها من
ابب الدعوة إىل هللا تعاىل ومن ابب أهنا السبيل الوحيد املتاح اليوم لتحكيم
الشريعة.
واجلواب عليها من وجوه:
.1أن الدعوة إىل هللا عبادة جيب فيها اإلخالص واملتابعة ،وقد جاء بيان
{ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ شروطها يف قوله تعاىل:
ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ} ( . ) 1
فبني سبحانه أن من سبيل النيب ﷺ يف الدعوة اعتزال املشركني واجتناهبم ال
خمالطتهم والعمل حتت نظامهم وبقانوهنم.
.2أن خمالطة العلمانيني واملرتدين واملشركني على الصورة احلاصلة يف الربملاانت
الدميقراطية من املواالة الكربى املخرجة من امللة اليت هني عنها بقوله تعاىل{ :
ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ} ( ، )2فكيف ُجيعل ما يناقض
اإلسالم سبيال يف الدعوة إليه ،فإن قالوا حنن ننكر عليهم أابطيلهم حتت قبة
الربملان ،قلنا إن أنكرمت عليهم بعضها فال ميكن أن تنكروا الدميقراطية اليت
مجعتكم يف الربملان وهي اليت جعلت بينكم املواالة مبوافقتكم عليها وعملكم
هبا ،فأنتم تنكرون كفرهم مع موافقتكم عليه وعملكم به معهم ،أأتمرون الناس
برتك الكفر واملنكرات وأنتم هلا عاملون ،كيف يستقيم هذا لو كانت لكم
عقول؟! ،كان األوىل أن تنكروا على أنفسكم وترتكوا مواالهتم وموافقتهم يف
قوانينهم الوضعية.
.3أن الدعوة إىل هللا دعوة إىل توحيده يف األلوهية والربوبية ومنها توحيده يف
احلكم والتشريع ،والدميقراطية تدعو إىل حكم الشعب وهذا شرك ابهلل ،فكيف
نتخذ طريق الشرك للدعوة إىل التوحيد الذي هو نقيضه؟!
.4أن اختاذ الدميقراطية سبيال للدعوة إىل هللا وإىل احلكم بشرعه يلزم منه
التنقص والطعن يف السبل الشرعية يف ذلك ،وأن اإلسالم ليس فيه منهج إلقامة
احلكم يف ظل العصر احلديث ،وهذا هو الواقع فإننا جند الدميقراطيون أبصنافهم
حيرمون اجلهاد يف سبيل هللا إلقامة احلكم اإلسالمي ويسمون هذا عنفا وإرهااب،
ودائما ما يدندنون على أن منهجهم هو (التغيري السلمي) يعين ال جهاد
عندهم.
.5أن هللا أمران يف كتابه أن هنجر اجملالس اليت يُستهزأ هبا بدينه وبكالمه فإن
{ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ بقينا ومل ننكر فإننا مثلهم وذلك يف قوله سبحانه:
ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ
ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ} ( ، )1وأي استهزاء
أعظم من الشرك ابهلل يف احلكم واستباحة احملرمات القطعية كما حيصل حتت
قبة الربملاانت ،كيف ترضون ابلبقاء معهم وأنتم تسمعون هذا الكالم يف كل
جلسة ،ولو أنكرمت عليهم التحاكم لطاغوت القانون والدستور ،لردوا عليكم
أب نكم أقررمت به معنا مبجرد دخولكم يف هذه العملية ،فلم تنكرون علينا ما أنتم
قرون؟!به م ّ
.6أن الواقع شاهد أبن كل من دخل للعملية الدميقراطية بدعوى حتكيم
الشريعة والدعوة إىل هللا ،انقلب على عقبه فصار يدعو للدميقراطية ويدافع عن
دخوله فيها ،فال هو فعل ما ّادعاه وال هو سكت إذ عجز.
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
136
الشبهة اخلامسة:
قوهلم حنن نستدل ابلعمل يف الدميقراطية بعمل يوسف عليه السالم عند
ملك مصر وهو كافر.
واجلواب عليها من وجوه:
.1أن يوسف عليه السالم كان ممكنا يف األرض حبكم مستقل فال رقيب عليه
وال دستور يعمل به وال أقسم على قسم ،فكانت له وزارة مستقلة ،ومن م ّكنه
هو رب العاملني قال تعاىل{ :ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ
ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ} ( ، )1قال السدي()2رمحه هللا:
البيع والتجارة
استعمله امللك على مصر ،وكان صاحب أمرها ،وكان يلي َ
أمرها كله .اهـ
و َ
وقال ابن زيد()3رمحه هللا :ملكناه فيما يكون فيها حيث يشاء من تلك الدنيا،
جيعل فرعون من حتتت إليه ،قال :ولو شاء أن َ ضْ يصنع فيها ما يشاء ،فـُ ِّو َ
يديه ،وجيعله فوقه لفعل .اهـ
أما الدميقراطية ف تلزم على الداخلني يف الربملان القسم على احرتام الدستور
الوضعي الذي فيه اإلشراك ابهلل ،وفيها الرقابة على أعضاء الربملان فليس عملهم
مبستقل وليسوا أحراراً يف اختاذ القرارات ،وفيها أهنم سيعملون ابلقانون الوضعي
ال أبحكام الشريعة ،فشتان بني الصورتني.
.2مما يدل أن يوسف عليه السالم كان مستقال يف احلكم وأنه مل يعمل بقانون
امللك أنه مل حيكم أخاه بقانون امللك بل حكم مبا عليه األنبياء عليهم السالم
قبله كما قال تعاىل{ :ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ} ( ، )1قال ابن زيد(:)2
ليس يف دين امللك أن يؤخذ السارق بسرقته .قال :وكان احلكم عند األنبياء،
يسرتق .اهـ
ّ بدا
يعقوب وبنيه ،أن يؤخذ السارق بسرقته ع ً
أما يف الدميقراطية ال ميكن أن ُخيرج عن القانون احملكوم به ومن خرج عنه
عوقب ،ومن دعاهم إىل حتكيم الشريعة ونبذ القانون الوضعي فهو عندهم
ضال متخلف رجعي ،فهل ميكن ألنصار الدميقراطية أن يكفروا بطاغوت
القانون وحيكموا حبكم هللا حتت قبة الربملان؟!
.3أن دعواهم هذه فيها طعن يف يوسف عليه السالم واهتامه أبنه حكم
أقره كما يفعل الدميقراطيون ،وهذه الدعوى أشد كفرا من احلكم ابلطاغوت و ّ
ابلدميقراطية ،ألهنا تتضمن نفي العصمة عن نيب هللا تعاىل عليه السالم يف أعظم
ما بعث به وهو التوحيد ،فيوسف عليه السالم كان يصدع به وهو يف السجن
ويصرح أن احلكم هلل وحده ال شريك فكيف خيالفه بعد خروجه ،قال تعاىل:
{ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﭑ ﭒ ﭓ
ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ
ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ
ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀ
ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ
ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ } ( ، )1
.4وهذه الفرية على يوسف عليه السالم من جنس ما اتُّـهم به من امرأة العزيز
وبرأه هللا منها ،ليأيت اليوم الدميقراطيون ويفرتوا على نيب هللا يوسف عليه السالم
أبنه فعل كفعلهم مث قاسوا أنفسهم عليه قبحهم هللا ،وهم الذين حيكمون بغري
ما أنزل هللا وحيللون احلرام وحيرمون احلالل ويقرون احلرايت العامة ومنها الكفر
ابهلل تعاىل ،فهل ميكن أن نقول إن يوسف عليه السالم فعل كل هذا؟! حاشا
وكال ،إن هي إال أابطيل اخرتعوها ما أنزل هللا هبا من سلطان.
.5أنه قد ورد عن بعض السلف أن امللك قد أسلم على يد يوسف عليه
السالم ،كما قال روي ذلك عن جماهد وغريه قوله( :)2فلم يزل يوسف عليه
ال سالم يدعو امللك إىل اإلسالم ويتلطف له حىت أسلم امللك وكثري من الناس.
ا هـ
فهل دعا أنصار الدميقراطية أعضاء الربملان إىل اإلسالم والتوحيد والكفر
ابلطاغوت واحلكم مبا أنزل هللا أم أهنم رضوا وخنعوا وانقادوا هلم.
فصل
شبهات حول االنتخاابت
الشبهة األوىل:
قوهلم االنتخاب عبارة عن تصويت واختيار وليس من العبادات حىت يكون
فيه شرك ابهلل.
اجلواب عليها من وجوه:
.1أن اختيار احلاكم وطريقة تنصيبه عبادة شرعية بـُيّنت أحكامها يف الكتاب
والسنة وذكرت صفات احلاكم وواجباته وشروطه ومىت ينعزل وحنو هذا من
أحكام اإلمامة ،فيكف جنعل اال نتخاابت وهي (عملية الختيار احلكام
املشرعني) أمرا دنيواي ال مدخل للعبادات فيه ،بل حىت على القول الباطل عند
جيوزها فإنه جيعل حكمها الوجوب الذي يستحق العقاب اتركه ،ويدخلها من ّ
يف ابب الشهادة اليت أيمث كامتها ،وهذا يدل على أهنم يعدوهنا عبادة عندهم.
.2كوهنا من الشرك ابهلل هو أن الناخب خيتار من ينوب عنه يف العمل
اب لدميقراطية عن طريق الدستور ،والدميقراطية غري املباشرة خيتار الشعب فيها
من ينوب عنه مث له حق النقد واالعرتاض ،ومن هذا الوجه كان عمل النائب
يف الربملان عمال للناخب يف األصل وإمنا انب عنه بناء على هذا النظام ،وملا
كان الربملاين يشرك ابهلل يف حكمه ويتحاكم للطاغوت كان هذا أيضا حكم
وفوضه وكان سببا يف شركه ،والقاعدة الشرعية تقول:
من اختاره ألنه أانبه منابه ّ
(املتسبب له حكم املباشر إذا شاركه يف العمل) وكذلك (الردء له حكم املباشر)
فالناخب ردءٌ ومتسبب رئيسي يف جعل ذلك النائب مشرعا مع هللا بناء على
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
141
أن السيادة يف األصل للشعب وإمنا النائب قام مقامه ،ولوال انتخابه ملا كان
انئبا ،فكان وجود النائب متوقفا على الناخب ،مث من انحية أخرى فإن
الناخب يتخذ هؤالء النواب ليكونوا مطاعني يف التشريع والتحليل والتحرمي،
وهذا هو شرك الطاعة وهو اختاذ ٍ
ند هلل تعاىل يطاع كطاعة هللا تعاىل يف التحليل
والتحرمي.
.3تسمية االنتخاب تصويت ال يغري من حقيقتها ،فإن العربة ابحلقائق واملعاين
ال ابألمساء واملباين ،وما هذا إال من تزيني الشيطان ليظهر الباطل احملرم يف
صورة احلق اجلائز ،منها ما ذكره ابن القيم رمحه هللا( :)1ومن أنواع الشرك سجود
املريد للشيخ ،فإنه شرك من الساجد واملسجود له ،والعجب أهنم يقولون ليس
هذا بسجود ،وإمنا هو وضع الرأس قدام الشيخ احرتاما وتواضعا ،فيقال هلؤالء
ولو مسيتموه ما مسيتموه ،فحقيقة السجود وضع الرأس ملن يسجد له ،وكذلك
السجود للصنم ،وللشمس ،وللنجم ،وللحجر ،كله وضع الرأس قُ َّدامه .اهـ
فكذلك يقال ألهل الدميقراطية لو مسيتم االنتخاابت ما مسيتم فحقيقتها اختيار
مشرعني من دون هللا تعاىل بناء على الدستور الوضعي.
الشبهة الثانية:
القول أبن االنتخاابت من الشهادة وال جيوز كتماهنا إذا وجبت.
اجلواب عليها من وجوه:
.1أن حقيقة االنتخاابت ختتلف عن حقيقة الشهادة ،فإن االنتخاب تفويض
للمنتخب أن يعمل يف اجمللس التشريعي وفق القانون ،نعم قد َ من الناخب
يقال أ ّن التفويض فيه نوع شهادة من الناخب ملن انتخبه ،ولكن ال يعين أن
تكون االنتخاابت كالشهادة من كل وجه حبيث تعطى أحكامها.
.2أن االنتخاابت من حقيقة الدميقراطية ،والشهادة حكم شرعي ،فكيف
يقاس ما هو ابطل على ما هو مندوب أو واجب ،فهذا قياس مع الفارق
الختالف احلقائق.
.3أن الشهادة تكون فيما هو جائز شرعا ،فال جيوز أن يشهد على ابطل،
تنزال أبهنا شهادة ،فإهنا شهادة زور ،ألن الناخب يشهد واالنتخاابت لو قيل ّ
املنتخب ألن يكون حاكما ومشرعا من دون هللا وفق الدستور ،وهذا بصالح َ
أبطل الباطل وأشد الزور ،فإن كانت شهادة الزور حمرمة ألهنا شهادة على
كذب ،فالشهادة ملن يشرع من دون هللا أشد حترميا ألهنا شهادة ملن سيفعل
الشرك.
وحترتم فيها
.4أن االنتخاابت تقوم على االعرتاف ابخلصم ولو كان مشركاُ ،
النتائج مهما كانت ،وال يصح أن يعرتض على الفائز املشرك أو العلماين أو
النصراين ،فهل يوجد هذا يف الشهادة؟!
فوضوا املرشحني للحكم وفقا .5أن االنتخاابت يشارك فيها كل الناس ليُ ِّ
للدميقراطية ،وأما الشهادة يف أحكام اإلمامة يف اإلسالم فتكون ألهل احلل
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
142
والعقد ،وهم الذين يشهدون أبن فالان من خري الناس وأصلحهم للحكم وفقا
للضوابط الشرعية يف ذلك.
.6القول أبن االنتخاابت شهادة لألصلح ،إن عُين به الصالح الشرعي فهذا
ابطل ،ألن املرشح ال ميكن أن يكون صاحلا البتة وهو يقبل ابلدميقراطية نظاما
للحكم ،ويعمل مع العلمانيني الذي ينبذون أحكام الدين ،ويوافق على العمل
ابلدستور الوضعي ،فأين الصالح مع هذا كله ،فهي يف حقيقتها شهادة ألفسد
اخللق وأشرار الناس أن يكونوا حكاما ومشرعني من دون هللا تعاىل ،فكيف
يقال خيتار أصلحهم؟!
.7أن االنتخاابت لو تنزال قيل أبهنا شهادة ،فإهنا شهادة ملن يرشح نفسه
للحكم وحيرص على اإلمارة ،وسؤال اإلمارة ال جيوز شرعا كما قال ﷺ لعبد
الرمحن بن مسرة رضي هللا عنه(" :)1اي عبد الرمحن بن مسرة ،ال تسأل اإلمارة"...
احلديث.
وعن أيب موسى رضي هللا عنه قال( :)2دخلت على النيب صلى هللا عليه وسلم
أان ورجالن من قومي ،فقال أحد الرجلني :أمران اي رسول هللا ،وقال اآلخر
مثله ،فقال" :إان ال نويل هذا من سأله ،وال من حرص عليه".
يوىل من حرص على اإلمارة وسعى هلا ،فهو يف فإن كان يف اإلسالم ال ّ
الدميقراطية أش ّد ألن املرشح حيرص على أن يكون مشرعا من دون هللا وحاكما
بغري ما أنزل هللا ولو ادعى غري ذلك فإن حقيقة عمله كذلك ،لذلك من يرشح
نفسه للدخول يف اجملالس التشريعية ،الواجب أن يبغض ويعادى ويك ّفر بفعله،
ال أن يشهد له أنه يصلح للحكم؟!
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
144
فصل
حكم التحاكم للمحاكم والقوانني الوضعية
()1
والنظام والشريعة املتبعة كما يف قوله تعاىل{ :ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ}
.
أقرها أو حتاكم هلا فهو مؤمن بدين
شرع هذه القوانني أو آمن هبا و ّ فمن ّ
الطاغوت كافر بدين هللا تعاىل.
ومن صور احلكم ابلقوانني الوضعية اليوم:
.1اجملالس التشريعية (الربملاانت).
.2احملاكم الوضعية على اختالف أنواعها( :حماكم عامة -حماكم عسكرية –
حماكم جتارية – حماكم أحوال شخصية – حماكم دستورية).
أما النظام اإلداري :فهو ا لقوانني اليت توضع لتنظيم األعمال وترتيبها وال
عالقة ابألحكام الشرعية ،وهي مباحة يف األصل إال أن تكون خمالفة للشريعة.
اثنيا :حكم التحاكم للمحاكم الوضعية:
تتكون كل قضية ترفع للمحاكم الوضعية من متحاكم (امل ّدعي) ومطلوب
للتحاكم (مدعى عليه).
فأما املتحاكِم :وهو املدعي الذي يرفع القضية عند احملكمة الوضعية طلبا حلقه،
إن فعل ذلك خمتارا غري مكره فهو كافر ابهلل مؤمن ابلطاغوت ،وال يشرتط
الرضى أو االعتقاد أو االستحالل للتحاكم حىت يكفر.
ومن قال ابجلواز حمتج ا بفعل إبراهيم عليه السالم يف دفاعه عن نفسه أمام
املشركني أو بفعل يوسف عليه السالم يف دفاعه عن نفسه ملا اهتم ،ال يصح
استدالله للوجوه اآلتية:
.1أن صورة الدليل غري الصورة املستدل عليها ،وعليه فالقياس ابطل.
يء ج .2أن إبراهيم ويوسف عليهما الصالة والسالم مل يذهبا ابختيارمها بل ِ
َ
{ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ هبما ،قال تعاىل يف إبراهيم عليه السالم:
{ﮃ ﮄ ﮅ ﭲ ﭳ} ( ، )1وقال يف يوسف عليه السالم:
ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ
ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ} ( ، )2فلم يذهب بل قُ ّدر له أن جيد امللك أمام الباب ،وحيصل
فصل النزاع آنذاك.
.3أن إبراهيم ويوسف عليهما الصالة والسالم دافعا عن نفسيهما بغري القانون
الوضعي ،فأما إبراهيم عليه السالم فقد دافع عن نفسه ابلتوحيد كما قال
{ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ تعاىل:
ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ
ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ
ﮙﮚﮛﮜﮝ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ
ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ} (، )3
واخلالصة :أنه ال جيوز مطلقا التحاكم للطاغوت سواء كان املتحاكم مدعيا
أو مدعى عليه ،وسواء كان خمتارا أو مضطرا إال املكره ،فمن حتاكم ومل يكن
مكرها فقد خلع ربقة اإلسالم من عنقه وصار من املرتدين.
فصل
شبهات التحاكم للمحاكم الوضعية
الشبهة األوىل:
قوهلم جيوز التحاكم للطاغوت اضطرارا ودليله قول يوسف عليه السالم
{ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ } ( . )1 فيما حكاه هللا عنه:
واجلواب عليه من وجوه:
.1أن قول يوسف عليه السالم ليس حتاكما وال طلبا للتحاكم وال توكيال ٍ
حملام
عنه كما حيصل يف احملاكم الوضعية ،إمنا هو طلب من أحد الناجني ممن ُسجن
معه أن يذكر أمره أمام امللك ،وأنه سجن ظلما ،وهذا خطاب من سجني
لساجنه يدافع فيه عن نفسه ،وهذا ليس حتاكما أو إقرارا بقانون وضعي ،قال
ابن جرير الطربي رمحه هللا( :)2اذكرين عند سيدك ،وأخربه مبظلميت وأين حمبوس
بغري ُج ْرم .اهـ
.2إن قيل أنّه طلب حتاكم فإن يوسف عليه السالم كان سجينا عندهم ومل
يذهب بنفسه ليتحاكم هلم ،وليس كمن كان حرا وذهب ليتحاكم للمحكمة
الوضعية ،فالقياس عليه ابطل.
.3أن املتحاكم للمحكمة الوضعية يرتافع هلم وهو يعلم أهنم سيحكمون
ابلقانون الوضعي ،وهذا طلب للحق عن طريق حكم الطاغوت ،وليس يف
فعل يوسف عليه السالم طلب حقه عن طريق حكم الطاغوت ،بل غاية فعله
عليه السالم أنه اهتم فدفع التهمة عن نفسه مبا أابحه هللا ،فلما مل يقبلوا منه
حكموا ب سجنه ،وملا سجن استمر مدافعا عن نفسه مبا أابحه هللا وليس عن
طريق القانون وحكم الطاغوت.
.4أن هذه الدعوى فيها طعن يف عصمة نيب هللا يوسف عليه السالم ،إذ
كيف يقال عنه أنه حتاكم للطاغوت ،وهو الذي قد قرر مرارا يف السجن
{ﰆ ﰇ وخا رجه دعوة التوحيد وأن احلكم هلل وحده ال شريك قال تعاىل:
ﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﭑﭒﭓﭔ
ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ
ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ
ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ
ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ
ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ} ( ، )1فهل بعد هذا التقرير والتأكيد على مقام
التوحيد يقال أ ّن يوسف عليه السالم طلب حتاكم للطاغوت ،سبحانك هذا
هبتان عظيم!
.5أن قصة سجن يوسف عليه السالم ال تقاس أبي حال من األحوال مبا
حيصل يف احملاكم الوضعية ،ففيها حيضر طرفا القضية وجيلس القاضي ليحكم
بينهم ابلقانون الوضعي ويـَمنَع خمالفته أثناء اجللسة ويُل ِزم الطرفني به ،وكالمها
قد أتى للتحاكم بغري إكراه ،أما يوسف عليه السالم وامرأة العزيز وجدا امللك
عند الباب وهو الزوج ،فحصل ما حصل مما حكاه هللا تعاىل ،ومل تعقد جلسة
حماكمة كما يف احملاكم الوضعية ،مث اهتم يوسف عليه السالم فدفع التهمة عن
نفسه ابملباح ،دون أن يُ َلزم بقانون امللك ،ومل يذهب هو ليدافع عن نفسه
أمامه كما يذهب املتحاكم للمحكمة الوضعية ،وملا ُسجن استمر يف الدفاع
عن نفسه دون التزام ابلقانون ،بل حىت ملا طلبه امللك ليسمع منه أتويل الرؤاي
مل خيرج له حىت تظهر براءته ،وبعث له من يذكر له دالئل ذلك دون حتاكم
{ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ لقانون امللك أو أي قانون وضعي آخر ،قال تعاىل:
ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ
ﯡ ﯢ} ( ، )1فأين وجه الشبه بني هذه القصة وبني التحاكم للمحاكم
الوضعية اليوم؟! ،وما القياس عليها إال ضرب من التكلف ال غري.
الشبهة الثانية:
قوهلم التحاكم جيوز اضطرارا لعدم وجود حمكمة شرعية ،والشريعة ال ترتك
احلقوق تضيع دون أن يكون هلا حكم يف مثل هذا الواقع.
اجلواب عليها من وجوه:
.1إذا تقرر أن التحاكم عبادة ،فإن العبادة ال جيوز أن تصرف لغري هللا تعاىل
ال لضرورة وال لغري ضرورة ،ألن الشرك والكفر ال يباح ابلضرورة ،قال شيخ
اإلسالم ابن تيمية رمحه هللا( :)1احملرمات قسمان:
أحدمها" :ما يقطع أبن الشرع مل يبح منه شيئا ال لضرورة وال لغري ضرورة،
كالشرك والفواحش والقول على هللا بغري علم والظلم احملض ،وهي األربعة
{ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ املذكورة يف قوله تعاىل:
ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ} ( . )2اهـ
.2من جييز التحاكم للمحاكم الوضعية ضرورة إن كان مقرا أبن التحاكم
عبادة ،فهو سيضطرب ألنه سيمنع صرف غريه من العبادات لغري هللا ضرورة
كالدعاء والسجود ،وال ميكنه طرد قوله ،وعدم اطراد األصل على كل الصور
دليل على فساده ،ألن األصل الذي بين عليه هذا احلكم عنده أن االضطرار
أجاز صرف عبادة التحاكم لغري هللا ،وطردها أن يقول جبواز ذلك يف كل ما
صح عليه وصف العبادة ،فيجيز صرفها لغري هللا حالة االضطرار ،وهو ال يقول
بذلك ،وهذا يرجع على أصله ابإلبطال.
إال أن يقول التحاكم ليس عبادة وهذا يبطل قوله أيضا ،ألنه إن مل يكن عبادة
كيف جيعله حمرما يف األصل مث جييزه اضطرارا ،فالتحرمي حكم شرعي وامتثاله
عبادة ،ومما يدل على أن هللا تعاىل جعل التحاكم عبادة ،أنه أمر ابلكفر
{ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ابلطاغوت وترك التحاكم له يف قوله تعاىل:
ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ} ُ ،
فح ْك ُم التحاكم للطاغوت التحرمي ،ومرتبة حترميه ( )1
داخلة يف أصل اإلميان الذي يُنفى اإلميان عمن أخل به ،ولذلك نفى اإلميان
عمن ترك التحاكم له وحتاكم للطاغوت ،واألمر والنهي هو حد العبادة شرعا.
.3أن إظهار الكفر والشرك مل جيزه هللا تعاىل إال للمكره إكراها حقيقيا ملجئا،
قال ابن حجر رمحه هللا( :)2وشروط اإلكراه أربعة:
األول :أن يكون فاعله قادرا على إيقاع ما يهدد به واملأمور عاجزا عن الدفع
ولو ابلفرار.
الثاين :أن يغلب على ظنه أنه إذا امتنع أوقع به ذلك.
الثالث :أن يكون ما هدده به فوراي فلو قال إن مل تفعل كذا ضربتك غدا ال
يعد م كرها ويستثىن ما إذا ذكر زمنا قريبا جدا أو جرت العادة أبنه ال خيلف.
الرابع :أ ْن ال يظهر من املأمور ما يدل على اختياره كمن أكره على الزان فأوجل
وأمكنه أن ينزع ويقول أنزلت فيتمادى حىت ينزل .اهـ
وهبذه الشروط خيالف اإلكراهُ الضرورَة ،فاملتحاكم لضرورة ليس مهددا على
التحاكم وقادر على الدفع عن نفسه بغري التحاكم ،وهو خمتار يف فعله غري
جمرب ،فبطل قول من جعل صورة الضرورة كصورة اإلكراه.
.4قوهلم أبن الشريعة ال ترتك حقوق الناس تضيع ،نقول نعم ،مل ترتك هذه
احلالة دون حكم يف شرع هللا ،بل أوجبت جهاد الطواغيت الذين حيكمون
ابل قوانني الوضعية السرتداد احلقوق وأعالها حق حتكيم الشريعة ،لكن الناس
كثري منهم قد ترك هذا الواجب وأخلد إىل األرض ،وذهب يبحث عن أعذار
يكيّف هبا عيشه يف هذا الواقع قاعدا عن جهاد الطواغيت ،وما ضياع حقوقهم
إال بسبب قعودهم.
قال الشيخ سليمان بن سحمان رمحه هللا(:)1
ومن ذلك أنه إذا قيل ألهل الطاغوت :ارجعوا إىل حكم هللا ورسوله ،واتركوا
أحكام الطواغيت ،قالوا :إان ال نفعل ذلك إال خوفا من أن يقتل بعضنا بعضا،
فإين إذا مل أوافق صاحيب ،على التحاكم إىل "شرع الرفاقة" قتلين أو قتلته.
فاجلواب أن نقول :يظهر فساد هذه الشبهة الشيطانية ،بتقرير ثالثة مقامات:
املقام األول :أن الفساد الواقع يف األرض ،من قتل النفوس ،وهنب األموال،
{ﯾ إمنا هو بسبب إضاعة أوامر هللا ،وارتكاب نواهيه ،كما قال تعاىل:
ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ } ( . )2
أخرب تعاىل أن ظهور الفساد يف البادية واحلاضرة ،سببه أعماهلم ،فلو أهنم عبدوا
رهبم ،وحكموا نبيهم ﷺ ،لصلحت أحواهلم ،ومنت أمواهلم وأنفسهم .اهـ
.5ال يصح القول أبن مقاصد الشريعة يف حفظ أموال الناس وأنفسهم تبيح
هلم التحاكم للقوانني الوضعية عند ضياع هذه احلقوق بدعوى ضرورة
اسرتدادها ،ألن أعلى مقاصد الشريعة هو حفظ الدين وأصله التوحيد وهو
مقدم على كل مقصد ،فال يؤخر ويقدم غريه بدعوى الضرورة ،بل ذهاب املال
أوىل من ضياع الدين ابلتحاكم للطاغوت.
قال الشيخ سليمان بن سحمان رمحه هللا يف جوابه على من أتى ابلشبه
السابقة(:)1
املقام الثاين :أن يقال :إذا عرفت أن التحاكم إىل الطاغوت كفر ،فقد ذكر هللا
يف كتابه أن الكفر أكرب من القتل ،قال{ :ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ} ،والفتنة
هي الكفر ،فلو اقتتلت البادية واحلاضرة ،حىت يذهبوا ،لكان أهون من أن
ينصبوا يف األرض طاغوات ،حيكم خبالف شريعة اإلسالم ،اليت بعث هللا هبا
رسوله صلى هللا عليه وسلم.
املقام الثالث :أن نقول إذا كان هذا التحاكم كفرا ،والنّزاع إمنا يكون ألجل
الدنيا ،فكيف جيوز لك أن تكفر ألجل ذلك؟ فإنه ال يؤمن اإلنسان ،حىت
يكون هللا ورسوله أحب إليه مما سوامها ،وحىت يكون الرسول أحب إليه من
ولده ووالده والناس أمجعني.
فلو ذهبت دنياك كلها ،ملا جاز لك احملاكمة إىل الطاغوت ألجلها ،ولو
اضطرك مضطر وخريك ،بني أن حتاكم إىل الطاغوت ،أو تبذل دنياك ،لوجب
عليك البذل ،ومل جيز لك احملاكمة إىل الطاغوت .اهـ
.6أن من يعلق جواز التحاكم للمحاكم الوضعية بعدم وجود حماكم شرعية،
قد أخطأ يف تنقيح مناط الكفر يف التحاكم ،فإن التحاكم كفر ألنه صرف
عبادة لغري هللا ،واملتحاكم للقانون مطيع له ملتزم وإال ملا ذهب للتحاكم ،وهذه
الطاعة شرك ابهلل تعاىل ،وهي كفر يف كل حال ،سواء وجدت حمكمة شرعية
أم مل توجد.
.7القول بعدم إمكان اسرتداد احلقوق إال عن طريق احملاكم الوضعية وأن هذا
قول ابطل ،لوجود طرق أخرى ميكن رد احلقوق هبا دون التحاكم ضرورةٌ ،
للمحاكم الوضعية ،كتحكيم أهل العلم واحلكمة أو أهل اخلري والصالح ،وال
خيلو منهم بلد وهلل احلمد ،فليست هنالك ضرورة للتحاكم للمحاكم الوضعية
إذا.
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
157
²
الصفحة العنوان
1 املقدمة
6 منزلة احلكم مبا أنزل هللا من الدين
13 شبهات املبتدعة حول احلكم بغري ما أنزل هللا
13 فصل يف بيان معىن الشبهة وأسباهبا
22 شبهات حول احلكم بغري ما أنزل هللا
22 الشبهة األوىل
34 الشبهة الثانية
43 الشبهة الثالثة
65 الشبهة الرابعة
77 الشبهة اخلامسة
89 فصل يف بعض شبهات املعاصرين اليت يتكئ عليها املرجئة
112 فصل يف حترير قول شيخ اإلسالم يف احلاكم بغري ما أنزل هللا
115 فصل يف الرد على شبهات جموزي الدميقراطية
119 الشبهة األوىل
125 الشبهة الثانية
127 الشبهة الثالثة
133 الشبهة الرابعة
136 الشبهة اخلامسة
139 فصل شبهات حول االنتخاابت
139 الشبهة األوىل
نسـفُ الشبهات حول الحكم بشرْعة ربِّ البريات
158