You are on page 1of 194

‫قََصص األنْبِياءِ‬

‫َ ُ َ‬

‫لإلمام ابن الحافظ ابن كثير‬

‫الجزء األول‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫باب‪ :‬ما ورد في خلق آدم عليه السالم‬


‫ض َخلِيفَةً قَالُوا أَتَجْ َع ُل فِيهَا‬ ‫اع ٌل فِي األَرْ ِ‬ ‫ال َرب َُّك لِ ْل َمالَئِ َك ِة إِنِّي َج ِ‬ ‫قال هللا تعالى‪َ { :‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫ون‪.‬‬ ‫ال إِنِّي أَ ْعلَ ُم َما الَ تَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ك قَ َ‬ ‫ك َونُقَ ِّدسُ لَ َ‬ ‫ك ال ِّد َما َء َونَحْ ُن نُ َسبِّ ُح بِ َح ْم ِد َ‬ ‫َم ْن يُ ْف ِس ُد فِيهَا َويَ ْسفِ ُ‬
‫ال أَ ْنبِئُونِي بِأ َ ْس َما ِء هَ ُؤالَء إِ ْن ُكنتُ ْم‬ ‫ضهُ ْم َعلَى ْال َمالَئِ َك ِة فَقَ َ‬ ‫َو َعلَّ َم آ َد َم األَ ْس َما َء ُكلَّهَا ثُ َّم َع َر َ‬
‫ال يَا آ َد ُم أَ ْنبِ ْئهُ ْم‬ ‫ت ْال َعلِي ُم ْال َح ِكي ُم‪ .‬قَ َ‬ ‫ك أَ ْن َ‬ ‫ك الَ ِع ْل َم لَنَا إِالَّ َما َعلَّ ْمتَنَا إِنَّ َ‬ ‫ين‪ .‬قَالُوا ُسب َْحانَ َ‬ ‫صا ِدقِ َ‬ ‫َ‬
‫ض َوأَ ْعلَ ُم َما‬ ‫ت َواألَرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ْب ال َّس َم َ‬ ‫بِأ َ ْس َمائِ ِه ْم فَلَ َّما أَ ْنبَأَهُ ْم بِأ َ ْس َمائِ ِه ْم قَا َل أَلَ ْم أَقُلْ لَ ُك ْم إِنِّي أَ ْعلَ ُم َغي َ‬
‫يس أَبَى َوا ْستَ ْكبَ َر‬ ‫ون‪َ .‬وإِ ْذ قُ ْلنَا لِ ْل َمالَئِ َك ِة ا ْس ُج ُدوا آِل َد َم فَ َس َج ُدوا إِالَّ إِ ْبلِ َ‬ ‫ون َو َما ُكنتُ ْم تَ ْكتُ ُم َ‬ ‫تُ ْب ُد َ‬
‫ْث ِش ْئتُ َما َوالَ‬ ‫ُك الجنَّة َو ُكاَل ِم ْنهَا َر َغداً َحي ُ‬ ‫ت َو َز ْوج َ‬ ‫ين‪َ .‬وقُ ْلنَا يَا آ َد ُم ا ْس ُك ْن أَ ْن َ‬ ‫ان ِم ْن ْال َكافِ ِر َ‬ ‫َو َك َ‬
‫ين‪ .‬فَأ َ َزلَّهُ َما ال ّشيْطان َع ْنهَا فَأ َ ْخ َر َجهُ َما‪ِ d‬م َّما َكانَا فِي ِه‬ ‫تَ ْق َربَا هَ ِذ ِه ال َّش َج َرةَ فَتَ ُكونَا ِم ْن الظَّالِ ِم َ‬
‫ين‪ .‬فَتَلَقَّى آ َد ُم ِم ْن‬ ‫ع إِلَى ِح ٍ‬ ‫ض ُم ْستَقَرٌّ َو َمتَا ٌ‬ ‫ْض َع ُد ٌّو َولَ ُك ْم فِي األَرْ ِ‬ ‫ض ُك ْم لِبَع ٍ‬ ‫َوقُ ْلنَا ا ْهبِطُوا بَ ْع ُ‬
‫َّحي ُم‪ .‬قُ ْلنَا ا ْهبِطُوا ِم ْنهَا َج ِميعا ً فَإِ َّما يَأْتِيَنَّ ُك ْم ِمنِّي‬ ‫اب َعلَ ْي ِه إِنَّهُ هُ َو التَّ َّوابُ الر ِ‬ ‫ت فَتَ َ‬ ‫َربِّ ِه َكلِ َما ٍ‬
‫ك‬‫ين َكفَرُوا َو َك َّذبُوا بِآيَاتِنَا أُ ْولَئِ َ‬ ‫ون‪َ .‬والَّ ِذ َ‬ ‫ف َعلَ ْي ِه ْم َوالَ هُ ْم يَحْ َزنُ َ‬ ‫اي فَالَ َخ ْو ٌ‬ ‫هُدًى فَ َم ْن تَبِ َع هُ َد َ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫ار هُ ْم فِيهَا َخالِ ُد َ‬ ‫أَصْ َحابُ النَّ ِ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫ال لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ‬ ‫ب ثُ َّم قَ َ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬إِ َّن َمثَ َل ِعي َسى ِع ْن َد هَّللا ِ َك َمثَ ِل آ َد َم َخلَقَهُ ِم ْن تُ َرا ٍ‬
‫ق ِم ْنهَا َز ْو َجهَا‬ ‫اح َد ٍة َو َخلَ َ‬ ‫س َو ِ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا َربَّ ُك ْم الَّ ِذي َخلَقَ ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍ‬
‫ان َعلَ ْي ُك ْم‬ ‫ون بِ ِه َواألَرْ َحا َم إِ َّن هَّللا َ َك َ‬ ‫ث ِم ْنهُ َما ِر َجاالً َكثِيراً َونِ َسا ًء َواتَّقُوا هَّللا َ الَّ ِذي تَتَ َسا َءلُ َ‬ ‫َوبَ َّ‬
‫َرقِيبا ً}‪.‬‬
‫ارفُوا‬ ‫كما قال‪{ :‬يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا َخلَ ْقنَا ُك ْم ِم ْن َذ َك ٍر َوأُنثَى َو َج َع ْلنَا ُك ْم ُشعُوبا ً َوقَبَائِ َل لِتَ َع َ‬
‫إِ َّن أَ ْك َر َم ُك ْم ِع ْن َد هَّللا ِ أَ ْتقَا ُك ْم إِ َّن هَّللا َ َعلِي ٌم َخبِي ٌر}‪.‬‬
‫اح َد ٍة َو َج َع َل ِم ْنهَا َز ْو َجهَا لِيَ ْس ُك َن إِلَ ْيهَا}‪.‬‬ ‫س َو ِ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬هُ َو الَّ ِذي َخلَقَ ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍ‬
‫ص َّورْ نَا ُك ْم ثُ َّم قُ ْلنَا لِ ْل َمالَئِ َك ِة ا ْس ُج ُدوا آِل َد َم فَ َس َج ُدوا إِالَّ‬ ‫وقال تعالى‪َ { :‬ولَقَ ْد َخلَ ْقنَا ُك ْم ثُ َّم َ‬
‫ال أَنَا َخ ْي ٌر ِم ْنهُ َخلَ ْقتَنِي ِم ْن‬ ‫ك قَ َ‬ ‫ك أَالَّ تَ ْس ُج َد إِ ْذ أَ َمرْ تُ َ‬ ‫ال َما َمنَ َع َ‬ ‫ين‪ .‬قَ َ‬ ‫يس لَ ْم يَ ُك ْن ِم ْن الس ِ‬
‫َّاج ِد َ‬ ‫إِ ْبلِ َ‬
‫ك ِم ْن‬ ‫اخرُجْ إِنَّ َ‬ ‫ك أَ ْن تَتَ َكب ََّر فِيهَا فَ ْ‬ ‫ون لَ َ‬ ‫ط ِم ْنهَا فَ َما يَ ُك ُ‬ ‫ال فَا ْهبِ ْ‬
‫ين‪ .‬قَ َ‬ ‫ار َو َخلَ ْقتَهُ ِم ْن ِط ٍ‬ ‫نَ ٍ‬
‫ين‪ ،‬قَا َل فَبِ َما أَ ْغ َو ْيتَنِي‬ ‫ك ِم ْن ْال ُمنظَ ِر َ‬ ‫ال إِنَّ َ‬‫ون‪ ،‬قَ َ‬ ‫نظرْ نِي إِلَى يَ ْو ِم يُ ْب َعثُ َ‬ ‫ال أَ ِ‬ ‫ين‪ ،‬قَ َ‬ ‫الصَّا ِغ ِر َ‬
‫ك ْال ُم ْستَقِي َم‪ .‬ثُ َّم آَل تِيَنَّهُ ْم ِم ْن بَ ْي ِن أَ ْي ِدي ِه ْم َو ِم ْن َخ ْلفِ ِه ْم َو َع ْن أَ ْي َمانِ ِه ْم َو َع ْن‬ ‫ص َراطَ َ‬ ‫أَل َ ْق ُع َد َّن لَهُ ْم ِ‬
‫ك ِم ْنهُ ْم‬ ‫اخرُجْ ِم ْنهَا َم ْذ ُءوما ً َم ْدحُوراً لَ َم ْن تَبِ َع َ‬ ‫ال ْ‬ ‫ين‪ ،‬قَ َ‬ ‫َش َمائِلِ ِه ْم َوالَ تَ ِج ُد أَ ْكثَ َرهُ ْم َشا ِك ِر َ‬
‫ْث ِش ْئتُ َما َوالَ‬ ‫ُك الجنَّة فَ ُكالَ ِم ْن َحي ُ‬ ‫ت َو َز ْوج َ‬ ‫ين‪َ ،‬ويَا آ َد ُم ا ْس ُك ْن أَ ْن َ‬ ‫ألَ ْمألَ َّن َجهَنَّ َم ِم ْن ُك ْم أَجْ َم ِع َ‬
‫ي‬
‫ور َ‬ ‫ي لَهُ َما َما ُو ِ‬ ‫س لَهُ َما ال ّشيْطان لِيُ ْب ِد َ‬ ‫ين‪ ،‬فَ َو ْس َو َ‬ ‫تَ ْق َربَا هَ ِذ ِه ال َّش َج َرةَ فَتَ ُكونَا ِم ْن الظَّالِ ِم َ‬
‫َع ْنهُ َما ِم ْن َس ْوآتِ ِه َما َوقَا َل َما نَهَا ُك َما َربُّ ُك َما َع ْن هَ ِذ ِه ال َّش َج َر ِة إِالَّ أَ ْن تَ ُكونَا َملَ َكي ِْن أَ ْو تَ ُكونَا ِم ْن‬
‫ت لَهُ َما‬ ‫ُور فَلَ َّما َذاقَا ال َّش َج َرةَ بَ َد ْ‬ ‫ين‪ d،‬فَ َدالَّهُ َما بِ ُغر ٍ‬ ‫اص ِح َ‬ ‫ين‪َ ،‬وقَا َس َمهُ َما إِنِّي لَ ُك َما لَ ِم ْن النَّ ِ‬ ‫ْال َخالِ ِد َ‬
‫ق الجنَّة‪َ ،‬ونَا َداهُ َما َربُّهُ َما أَلَ ْم أَ ْنهَ ُك َما َع ْن تِ ْل ُك َما‬ ‫ان َعلَ ْي ِه َما ِم ْن َو َر ِ‬ ‫صفَ ِ‬ ‫َس ْوآتُهُ َما َوطَفِقَا يَ ْخ ِ‬
‫ين‪ ،‬قَاَال َربَّنَا ظَلَ ْمنَا أَنفُ َسنَا َوإِ ْن لَ ْم تَ ْغفِرْ لَنَا‬ ‫ال َّش َج َر ِة َوأَقُلْ لَ ُك َما إِ َّن ال ّشيْطان لَ ُك َما َع ُد ٌّو ُمبِ ٌ‬
‫ض ُم ْستَقَ ٌّر‬ ‫ْض َع ُد ٌّو َولَ ُك ْم فِي األَرْ ِ‬ ‫ض ُك ْم لِبَع ٍ‬ ‫ال ا ْهبِطُوا بَ ْع ُ‬ ‫ين‪ .‬قَ َ‬ ‫اس ِر َ‬ ‫َوتَرْ َح ْمنَا لَنَ ُكونَ َّن ِم ْن ْال َخ ِ‬
‫ع إِلَى ِح ٍ‬
‫ين‪،‬‬ ‫َو َمتَا ٌ‬
‫ون َو ِم ْنهَا تُ ْخ َرج َ‬
‫ُون}‪.‬‬ ‫ال فِيهَا تَحْ يَ ْو َن َوفِيهَا تَ ُموتُ َ‬ ‫قَ َ‬
‫كما قال في اآلية األخرى‪ِ { :‬م ْنهَا َخلَ ْقنَا ُك ْم َوفِيهَا نُ ِعي ُد ُك ْم َو ِم ْنهَا نُ ْخ ِر ُج ُك ْم تَا َرةً أُ ْخ َرى}‪.‬‬
‫ان َخلَ ْقنَاهُ ِم ْن قَ ْب ُل ِم ْن‬ ‫ون‪َ .‬و ْال َج َّ‬ ‫ال ِم ْن َح َمأ َم ْسنُ ٍ‬ ‫ص ٍ‪d‬‬ ‫ص ْل َ‬ ‫ان ِم ْن َ‬ ‫وقال تعالى‪َ { :‬ولَقَ ْد َخلَ ْقنَا ا ِإل ْن َس َ‬
‫ال ِم ْن َح َمأ َم ْسنُو ٍن‪ .‬فَإِ َذا‬ ‫ص ٍ‪d‬‬ ‫ص ْل َ‬ ‫ق بَ َشراً ِم ْن َ‬ ‫ال َرب َُّك لِ ْل َمالَئِ َك ِة إِنِّي َخالِ ٌ‬ ‫وم‪َ .‬وإِ ْذ قَ َ‬ ‫ار ال َّس ُم ِ‬ ‫نَ ِ‬
‫يس‬‫ُون‪ .‬إِالَّ إِ ْبلِ َ‬ ‫ين‪ .‬فَ َس َج َد ْال َمالَئِ َكةُ ُكلُّهُ ْم أَجْ َمع َ‬ ‫اج ِد َ‬ ‫ُوحي فَقَعُوا لَهُ َس ِ‬ ‫ت فِي ِه ِم ْن ر ِ‬ ‫َس َّو ْيتُهُ َونَفَ ْخ ُ‬
‫ال لَ ْم أَ ُك ْن َِِألَ‪ْ d‬س ُج َد‬ ‫ين‪ .‬قَ َ‬ ‫َّاج ِد َ‬
‫ون َم َع الس ِ‬ ‫ك أَالَّ تَ ُك َ‬ ‫ال يَا إِ ْبلِيسُ َما لَ َ‬ ‫ين‪ .‬قَ َ‬ ‫َّاج ِد َ‬
‫ون َم َع الس ِ‬ ‫أَبَى أَ ْن يَ ُك َ‬
‫ك اللَّ ْعنَةَ‬ ‫ك َر ِجي ٌم‪َ .‬وإِ َّن َعلَ ْي َ‬ ‫اخرُجْ ِم ْنهَا فَإِنَّ َ‬ ‫ال فَ ْ‬ ‫ون‪ .‬قَ َ‬ ‫صا ٍل ِم ْن َح َمأ َم ْسنُ ٍ‬ ‫ص ْل َ‬ ‫لِبَ َش ٍر َخلَ ْقتَهُ ِم ْن َ‬
‫ين‪ .‬إِلَى يَ ْو ِم ْال َو ْق ِ‬
‫ت‬ ‫ك ِم ْن ْال ُم ْنظَ ِر َ‬ ‫ون‪ .‬قَا َل فَإِنَّ َ‬ ‫ال َربِّ فَأ َ ْن ِظرْ نِي إِلَى يَ ْو ِم يُ ْب َعثُ َ‬ ‫ِّين‪ .‬قَ َ‬ ‫إِلَى يَ ْو ِم الد ِ‬
‫ك‬ ‫ين‪ .‬إِالَّ ِعبَا َد َ‬ ‫ض َوألَُ ْغ ِويَنَّهُ ْم أَجْ َم ِع َ‬ ‫ُ‬
‫ال َربِّ بِ َما أَ ْغ َو ْيتَنِي ألَ َزيِّنَ َّن لَهُ ْم فِي األَرْ ِ‬ ‫وم‪ .‬قَ َ‬ ‫ْال َم ْعلُ ِ‬
‫ان إِالَّ َم ْن‬ ‫ك َعلَ ْي ِه ْم س ُْلطَ ٌ‬ ‫ْس لَ َ‬ ‫ي ُم ْستَقِي ٌم‪ .‬إِ َّن ِعبَا ِدي لَي َ‬ ‫ص َراطٌ َعلَ َّ‬ ‫ال هَ َذا ِ‬ ‫ين‪ .‬قَ َ‬ ‫ص َ‬ ‫ِم ْنهُ ْم ْال ُم ْخلَ ِ‬
‫ب ِم ْنهُ ْم ج ُْز ٌء‬ ‫ب لِ ُكلِّ بَا ٍ‬ ‫ين‪ .‬لَهَا َس ْب َعةُ أَب َْوا ٍ‬ ‫ين‪َ .‬وإِ َّن َجهَنَّ َم لَ َم ْو ِع ُدهُ ْم أَجْ َم ِع َ‬ ‫او َ‬ ‫ك ِم ْن ْال َغ ِ‬ ‫اتَّبَ َع َ‬
‫َم ْقسُو ٌم}‪.‬‬
‫ت‬ ‫يس قَا َل أَأَ ْس ُج ُد لِ َم ْن َخلَ ْق َ‬ ‫وقال تعالى‪َ { :‬وإِ ْذ قُ ْلنَا لِ ْل َمالَئِ َك ِة ا ْس ُج ُدوا آل َد َم فَ َس َج ُدوا إِالَّ إِ ْبلِ َ‬
‫ي لَئِ ْن أَ َّخرْ تَنِي إِلَى يَ ْو ِم ْالقِيَا َم ِة ألَحْ تَنِ َك َّن ُذ ِّريَّتَهُ إِالَّ‬ ‫ت َعلَ َّ‬ ‫ك هَ َذا الَّ ِذي َك َّر ْم َ‬ ‫ال أَ َرأَ ْيتَ َ‬‫ِطينا ً‪ .‬قَ َ‬
‫ك ِم ْنهُ ْم فَإِ َّن َجهَنَّ َم َج َزا ُؤ ُك ْم َج َزا ًء َم ْوفُوراً‪َ .‬وا ْستَ ْف ِز ْز َم ْن ا ْستَطَع َ‬
‫ْت‬ ‫ال ْاذهَبْ فَ َم ْن تَبِ َع َ‬ ‫قَلِيالً‪.‬قَ َ‬
‫ال َواألَواَل ِد َو ِع ْدهُ ْم َو َما‬ ‫ار ْكهُ ْم فِي األَ ْم َو ِ‬ ‫ك َو َش ِ‬ ‫ك َو َر ِجلِ َ‬ ‫ك َوأَجْ لِبْ َعلَ ْي ِه ْم بِ َخ ْيلِ َ‬ ‫ص ْوتِ َ‬‫ِم ْنهُ ْم بِ َ‬
‫ان َو َكفَى بِ َرب َِّك َو ِكيالً}‪ .‬وقال‬ ‫ك َعلَ ْي ِه ْم س ُْلطَ ٌ‬ ‫ْس لَ َ‬ ‫يَ ِع ُدهُ ْم ال ّشيْطان إِالَّ ُغرُوراً‪ .‬إِ َّن ِعبَا ِدي لَي َ‬
‫ق َع ْن أَ ْم ِر‬ ‫ان ِم ْن ْال ِجنِّ فَفَ َس َ‬ ‫يس َك َ‬ ‫تعالى‪َ { :‬وإِ ْذ قُ ْلنَا لِ ْل َمالَئِ َك ِة ا ْس ُج ُدوا آِل َد َم فَ َس َج ُدوا إِالّ إِ ْبلِ َ‬
‫ين بَ َدالً}‪ .‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫س لِلظَّالِ ِم َ‬ ‫َربِّ ِه أَفَتَتَّ ِخ ُذونَهُ َو ُذرِّ يَّتَهُ أَ ْولِيَا َء ِم ْن ُدونِي َوهُ ْم لَ ُك ْم َع ُد ٌّو بِ ْئ َ‬
‫{ َولَقَ ْد َع ِه ْدنَا إِلَى آ َد َم ِم ْن قَ ْب ُل فَنَ ِس َي َولَ ْم نَ ِج ْد لَهُ َع ْزما ً‪َ .‬وإِ ْذ قُ ْلنَا لِ ْل َمالَئِ َك ِة ا ْس ُج ُدوا آل َد َم‬
‫ك فَالَ ي ُْخ ِر َجنَّ ُك َما ِم ْن الجنَّة‬ ‫ك َولِ َز ْو ِج َ‬ ‫يس أَبَى‪ .‬فَقُ ْلنَا يَا آ َد ُم إِ َّن هَ َذا َع ُد ٌّو لَ َ‬ ‫فَ َس َج ُدوا إِالَّ إِ ْبلِ َ‬
‫س إِلَ ْي ِه‬ ‫ظ َمأ ُ فِيهَا َوال تَضْ َحى‪ .‬فَ َوس َْو َ‬ ‫ك ال تَ ْ‬ ‫ك أَالَّ تَجُو َع فِيهَا َوالَ تَ ْع َرى‪َ .‬وأَنَّ َ‬ ‫فَتَ ْشقَى‪ .‬إِ َّن لَ َ‬
‫ت لَهُ َما‬ ‫ك ال يَ ْبلَى‪ .‬فَأَكَاَل ِم ْنهَا فَبَ َد ْ‬ ‫ك َعلَى َش َج َر ِة ْال ُخ ْل ِد َو ُم ْل ٍ‬ ‫ال يَا آ َد ُم هَلْ أَ ُدلُّ َ‬ ‫ال ّشيْطان قَ َ‬
‫صى آ َد ُم َربَّهُ فَ َغ َوى‪ .‬ثُ َّم اجْ تَبَاهُ َربُّهُ‬ ‫ق الجنَّة َو َع َ‬ ‫ان َعلَ ْي ِه َما ِم ْن َو َر ِ‬ ‫صفَ ِ‬ ‫َس ْوآتُهُ َما َوطَفِقَا يَ ْخ ِ‬
‫ْض َع ُد ٌّو فَإِ َّما يَأْتِيَنَّ ُك ْم ِمنِّي هُدًى فَ َم ْن‬ ‫ض ُك ْم لِبَع ٍ‬ ‫ال ا ْهبِطَا ِم ْنهَا َج ِميعا ً بَ ْع ُ‬ ‫اب َعلَ ْي ِه َوهَ َدى‪ .‬قَ َ‬ ‫فَتَ َ‬
‫ضنكا ً َونَحْ ُش ُرهُ‬ ‫ض َع ْن ِذ ْك ِري فَإِ َّن لَهُ َم ِعي َشةً َ‬ ‫ضلُّ َوال يَ ْشقَى‪َ .‬و َم ْن أَ ْع َر َ‬ ‫اي فَال يَ ِ‬ ‫اتَّبَ َع هُ َد َ‬
‫ك آيَاتُنَا‬ ‫ك أَتَ ْت َ‬ ‫ال َك َذلِ َ‬ ‫صيراً‪ .‬قَ َ‬ ‫نت بَ ِ‬ ‫ال َربِّ لِ َم َحشَرْ تَنِي أَ ْع َمى َوقَ ْد ُك ُ‬ ‫يَ ْو َم ْالقِيَا َم ِة أَ ْع َمى‪ .‬قَ َ‬
‫ٌ‬
‫ُون‪َ .‬ما َك َ‬
‫ان‬ ‫ْرض َ‬ ‫ك ْاليَ ْو َم تُن َسى}‪ .‬وقال تعالى‪{ :‬قُلْ هُ َو نَبَأ َع ِظي ٌم‪ .‬أَ ْنتُ ْم َع ْنهُ ُمع ِ‬ ‫فَنَ ِسيتَهَا َو َك َذلِ َ‬
‫ك‬‫ين‪ .‬إِ ْذ قَا َل َربُّ َ‬ ‫ي إِالَّ إَنَّ َما أَنَا نَ ِذي ٌر ُمبِ ٌ‬ ‫ُوحى إِلَ َّ‬ ‫ون‪ .‬إِ ْن ي َ‬ ‫ص ُم َ‬ ‫إل األَ ْعلَى إِ ْذ يَ ْختَ ِ‬ ‫لِي ِم ْن ِع ْل ٍم بِ ْال َم ِ‬
‫ين‪.‬‬ ‫ُوحي فَقَعُوا لَهُ َسا ِج ِد َ‬ ‫ت فِي ِه ِم ْن ر ِ‬ ‫ق بَ َشراً ِم ْن ِطي ٍن‪ .‬فَإِ َذا َس َّو ْيتُهُ َونَفَ ْخ ُ‬ ‫لِ ْل َماَل ئِ َك ِة إِنِّي َخالِ ٌ‬
‫ال يَا إِ ْبلِيسُ َما َمنَ َع َ‬
‫ك‬ ‫ين‪ .‬قَ َ‬ ‫ان ِم ْن ْال َكافِ ِر َ‬ ‫يس ا ْستَ ْكبَ َر َو َك َ‬ ‫ُون‪ .‬إِالَّ إِ ْبلِ َ‬ ‫فَ َس َج َد ْال َمالئِ َكةُ ُكلُّهُ ْم أَجْ َمع َ‬
‫ال أَنَا َخ ْي ٌر ِم ْنهُ َخلَ ْقتَنِي ِم ْن نَ ٍ‬
‫ار‬ ‫ين‪ .‬قَ َ‬ ‫نت ِم ْن ْال َعالِ َ‬ ‫ت أَ ْم ُك َ‬ ‫ي أَا ْستَ ْكبَرْ َ‬ ‫أَ ْن تَ ْس ُج َد لِ َما َخلَ ْق ُ‬
‫ت بِيَ َد َّ‬
‫ك لَ ْعنَتِي إِلَى يَ ْو ِم الدِّي ِن‪ .‬قَا َل َربِّ‬ ‫ك َر ِجي ٌم‪َ .‬وإِ َّن َعلَ ْي َ‬ ‫اخرُجْ ِم ْنهَا فَإِنَّ َ‬ ‫ال فَ ْ‬ ‫ين‪ .‬قَ َ‬ ‫َو َخلَ ْقتَهُ ِم ْن ِط ٍ‬
‫ك‬‫ال فَبِ ِع َّزتِ َ‬ ‫ت ْال َم ْعلُ ِ‬
‫وم‪ .‬قَ َ‬ ‫ين‪ .‬إِلَى يَ ْو ِم ْال َو ْق ِ‬ ‫ك ِم ْن ْال ُمنظَ ِر َ‬ ‫ال فَإِنَّ َ‬
‫ون‪ .‬قَ َ‬ ‫نظرْ نِي إِلَى يَ ْو ِم يُ ْب َعثُ َ‬ ‫َأَ ِ‬
‫ك‬‫ق أَقُو ُل‪ .‬ألَ ْمألَ َّن َجهَنَّ َم ِم ْن َ‬ ‫ق َو ْال َح َّ‬ ‫ال فَ ْال َح ُّ‬ ‫ين‪ .‬قَ َ‬ ‫ص َ‬ ‫ك ِم ْنهُ ْم ْال ُم ْخلَ ِ‬ ‫ين‪ .‬إِالَّ ِعبَا َد َ‬ ‫ألُ ْغ ِويَنَّهُ ْم أَجْ َم ِع َ‬
‫ين‪ .‬إِ ْن هُ َو إِالَّ‬ ‫ين‪ .‬قُلْ َما أَسْأَلُ ُك ْم َعلَ ْي ِه ِم ْن أَجْ ٍر َو َما أَنَا ِم ْن ْال ُمتَ َكلِّفِ َ‬ ‫ك ِم ْنهُ ْم أَجْ َم ِع َ‬ ‫َو ِم َّم ْن تَبِ َع َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ين‪َ .‬ولَتَ ْعلَ ُم َّن نَبَأَهُ بَ ْع َد ِح ٍ‬ ‫ِذ ْك ٌر لِ ْل َعالَ ِم َ‬

‫فهذا ذكر هذه القصة من مواضع متفرقة من القرآن‪ ،‬وقد تكلمنا على ذلك كله في‬
‫التفسير‪ ،‬ولنذكر هاهنا مضمون ما دلت عليه هذه اآليات الكريمات‪ ،‬وما يتعلق بها من‬
‫األحاديث الواردة في ذلك عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وهللا المستعان‪.‬‬
‫ض َخلِيفَةً} أعلم بما‬ ‫اع ٌل فِي األَرْ ِ‬ ‫فأخبر تعالى أنه خاطب المالئكة قائالً لهم‪{ :‬إِنِّي َج ِ‬
‫يريد أن يخلق من آدم وذريته الذين يخلف بعضهم بعضا ً كمال قال‪َ { :‬وهُ َو الَّ ِذي َج َعلَ ُك ْم‬
‫ض} فأخبرهم بذلك على سبيل التنويه‬ ‫ض} وقال‪َ { :‬ويَجْ َعلُ ُك ْم ُخلَفَا َء األَرْ ِ‬ ‫ف األَرْ ِ‬ ‫َخالئِ َ‬
‫بخلق آدم وذريته‪ ،‬كما يخبر باألمر العظيم قبل كونه‪ ،‬فقالت‪ d‬المالئكة سائلين على وجه‬
‫االستكشاف واالستعالم عن وجه الحكمة‪ ،‬ال على وجه االعتراض والتنقص لبني آدم‬
‫والحسد لهم‪ ،‬كما قد يتوهمه بعض جهلة المفسرين‪ ،‬قالوا‪{ :‬أَتَجْ َع ُل فِيهَا َم ْن يُ ْف ِس ُد فِيهَا‬
‫ك ال ِّد َما َء}‪.‬‬ ‫َويَ ْسفِ ُ‬
‫قيل علموا أن ذلك كائن بما رأوا ممن كان قبل آدم من الجن والبن‪ .‬قاله قتادة‪.‬‬
‫وقال عبد هللا بن عمر‪ :‬كانت الجن قبل آدم بألفي عام فسفكوا الدماء‪ ،‬فبعث هللا إليهم‬
‫جنداً من المالئكة فطردوهم إلى جزائر البحور‪ .‬وعن ابن عبَّاس نحوه‪ .‬وعن الحسن‪:‬‬
‫ألهموا ذلك‪ .‬وقيل‪ :‬لما اطلعوا عليه من اللوح المحفوظ‪ ،‬فقيل أطلعهم عليه هاروت‬
‫وماروت عن ملك فوقهما يقال له السجل‪ .‬رواه ابن أبي حاتم عن أبي جعفر الباقر‪ .‬وقيل‪:‬‬
‫ألنهم علموا أن األرض ال يخلق منها إال من يكون بهذه المثابة غالبا ً‪.‬‬
‫ك} أي نعبدك دائما ً ال يعصيك منا أحد‪ ،‬فإن كان‬ ‫ك َونُقَ ِّدسُ لَ َ‬ ‫{ َونَحْ ُن نُ َسبِّ ُح بِ َح ْم ِد َ‬
‫المراد بخلق هؤالء أن يعبدوك فها نحن ال نفتر ليالً وال نهاراً‪.‬‬
‫ون} أي أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هؤالء ما ال‬ ‫{قَا َل إِنِّي أَ ْعلَ ُم َما ال تَ ْعلَ ُم َ‬
‫تعلمون‪ ،‬أي سيوجد منهم األنبياء والمرسلون والصديقون والشهداء‪.‬‬
‫ثم بين لهم شرف آدم عليهم في العلم فقال‪َ { :‬و َعلَّ َم آ َد َم األَ ْس َما َء ُكلَّهَا}‪ .‬قال ابن عبَّاس‪:‬‬
‫هي هذه األسماء التي يتعارف بها الناس‪ :‬إنسان‪ ،‬ودابة‪ ،‬وأرض وسهل‪ ،‬وبحر‪ ،‬وجبل‪،‬‬
‫وجمل‪ ،‬وحمار‪ ،‬وأشباه ذلك من األمم وغيرها‪ .‬وفي رواية‪ :‬علمه اسم الصحفة‪ d،‬والقدر‪،‬‬
‫حتى الفسوة والفسية‪ .‬وقال مجاهد‪ :‬علمه اسم كل دابة‪ ،‬وكل طير وكل شيء‪ .‬وكذا قال‬
‫سعيد بن جبير وقتادة وغير واحد‪.‬‬
‫وقال الربيع‪ :‬علمه أسماء المالئكة‪ .‬وقال عبد الرحمن بن زيد‪ :‬علمه أسماء ذريته‪.‬‬
‫والصحيح‪ :‬أنه علمه أسماء الذوات وأفعالها مكبرها ومصغرها‪ ،‬كما أشار إليه ابن عبَّاس‬
‫رضي هللا عنهما‪.‬‬
‫ي هنا ما رواه هو ومسلم من طريق سعيد وهشام عن قتادة‪ ،‬عن أنس‬ ‫وذكر الب َُخار ّ‬
‫بن مالك‪ ،‬عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون‬
‫لو استشفعنا إلى ربنا‪ ،‬فيأتون آدم فيقولون أنت أبو البشر‪ ،‬خلقك هللا بيده‪ ،‬وأسجد لك‬
‫مالئكته‪ ،‬وعلمك أسماء كل شيء" وذكر تمام الحديث‪.‬‬
‫ين}‪ .‬قال‬ ‫ال أَ ْنبِئُونِي بِأ َ ْس َما ِء هَ ُؤالء إِ ْن ُكنتُ ْم َ‬
‫صا ِدقِ َ‬ ‫ضهُ ْم َعلَى ْال َمالئِ َك ِة فَقَ َ‬ ‫{ثُ َّم َع َر َ‬
‫الحسن البصري‪ :‬لما أراد هللا خلق آدم‪ ،‬قالت المالئكة‪ :‬ال يخلق ربنا خلقا ً إال كنا أعلم‬
‫ين}‪ .‬وقيل غير ذلك كما بسطناه في التفسير‪.‬‬ ‫صا ِدقِ َ‬ ‫منه‪ .‬فابتلوا بهذا‪ .‬وذلك قوله {إِ ْن ُكنتُ ْم َ‬
‫ت ْال َعلِي ُم ْال َح ِكي ُم} أي سبحانك أن يحيط‬ ‫ك أَ ْن َ‬‫ك ال ِع ْل َم لَنَا إالَّ َما َعلَّ ْمتَنَا إِنَّ َ‬ ‫{قَالُوا ُسب َْحانَ َ‬
‫ون بِ َش ْي ٍء ِم ْن ِع ْل ِم ِه إِالَّ بِ َما‬
‫أحد بشيء من علمك من غير تعليمك‪ ،‬كما قال‪َ { :‬وال ي ُِحيطُ َ‬
‫َشا َء}‪.‬‬
‫ْب‬‫ال أَلَ ْم أَقُلْ لَ ُك ْم إِنِّي أَ ْعلَ ُم َغي َ‬
‫{قَا َل يَا آ َد ُم أَ ْنبِ ْئهُ ْم بِأ َ ْس َمائِ ِه ْم فَلَ َّما أَ ْنبَأَهُ ْم بِأ َ ْس َمائِ ِه ْم قَ َ‬
‫ون}‪ .‬أي أعلم السر كما أعلم العالنية‪.‬‬ ‫ون َو َما ُكنتُ ْم تَ ْكتُ ُم َ‬ ‫ض َوأَ ْعلَ ُم َما تُ ْب ُد َ‬ ‫ت َواألَرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ال َّس َم َ‬
‫ون } ما قالوا‪ :‬أتجعل فيها من يفسد فيها‪ ،‬وبقوله‬ ‫وقيل أن المراد بقوله‪َ { :‬وأَ ْعلَ ُم َما تُ ْب ُد َ‬
‫{ َو َما ُكنتُ ْم‬
‫ون} المراد بهذا الكالم إبليس حين أسر الكثير والخيرية على آدم عليه السالم‪.‬‬ ‫تَ ْكتُ ُم َ‬
‫قاله سعيد بن جبير ومجاهد وال ُّسدِّي والضحاك‪ d‬والثوري واختاره ابن جرير‪ .‬وقال أبو‬
‫ون} قولهم‪ :‬لن يخلق ربنا خلقا ً إال كنا‬ ‫العالية والربيع والحسن وقتاده‪َ { :‬و َما ُكنتُ ْم تَ ْكتُ ُم َ‬
‫أعلم منه وأكرم عليه منه‪.‬‬
‫يس أَبَى َوا ْستَ ْكبَ َر} هذا إكرام‬ ‫قوله‪َ { :‬وإِ ْذ قُ ْلنَا لِ ْل َمالئِ َك ِة ا ْس ُج ُدوا آل َد َم فَ َس َج ُدوا إِالَّ إِ ْبلِ َ‬
‫ت فِي ِه‬ ‫عظيم من هللا آلدم حين خلقه بيده‪ ،‬ونفخ فيه من روحه‪ ،‬كما قال‪{ :‬فَإِ َذا َس َّو ْيتُهُ َونَفَ ْخ ُ‬
‫ين} فهذه أربع تشريفات‪ :‬خلقه له بيده الكريمة‪ ،‬ونفخه من‬ ‫اج ِد َ‬ ‫ُوحي فَقَعُوا لَهُ َس ِ‬ ‫ِم ْن ر ِ‬
‫روحه‪ ،‬وأمره المالئكة بالسجود له‪ ،‬وتعليمه أسماء األشياء‪.‬‬
‫ولهذا قال له موسى الكليم حين اجتمع هو وإياه في المأل األعلى وتناظرا كما سيأتي‪:‬‬
‫أنت آدم أبو البشر الذي خلقك هللا بيده‪ ،‬ونفخ فيك من روحه‪ ،‬وأجد لك مالئكته‪ ،‬وعلمك‬
‫أسماء كل شيء‪ .‬وهكذا يقول أهل المحشر يوم القيامة كما تقدم‪ ،‬وكما سيأتي إن شاء هللا‬
‫تعالى‪.‬‬
‫ص َّورْ نَا ُك ْم ثُ َّم قُ ْلنَا لِ ْل َمالئِ َك ِة ا ْس ُج ُدوا آل َد َم‬ ‫وقال في اآلية األخرى‪َ { :‬ولَقَ ْد َخلَ ْقنَا ُك ْم ثُ َّم َ‬
‫ك قَا َل أَنَا َخ ْي ٌر ِم ْنهُ‬ ‫ك أَالَّ تَ ْس ُج َد إِ ْذ أَ َمرْ تُ َ‬ ‫ين‪ .‬قَا َل َما َمنَ َع َ‬ ‫يس لَ ْم يَ ُك ْن ِم ْن السَّا ِج ِد َ‬ ‫فَ َس َج ُدوا إِالَّ إِ ْبلِ َ‬
‫ين}‪ .‬قال الحسن البصري‪ :‬قاس إبليس وهو أول من قاس‪،‬‬ ‫ار َو َخلَ ْقتَهُ ِم ْن ِط ٍ‬ ‫َخلَ ْقتَنِي ِم ْن نَ ٍ‬
‫وقال‬
‫عبدت الشمس والقمر إال بالمقايس‬ ‫يرين‪ :‬أول من قاس إبليس‪ ،‬وما ُ‬ ‫ُم َح ْمد بن ِس ِ‬
‫رواهما ابن جرير‪.‬‬
‫ومعنى هذا أنه نظر نفسه بطريق المقايسة بينه وبين آدم‪ ،‬فرأى نفسه أشرف من آدم‬
‫فامتنع من السجود له‪ ،‬مع وجود األمر له ولسائر المالئكة بالسجود‪ .‬والقياس إذا كان‬
‫مقابالً بالنص كان فاسد االعتبار‪ .‬ثم هو فاسد في نفسه‪ ،‬فإن الطين أنفع وخير من النار‪،‬‬
‫ألن الطين فيه الرزانة والحلم واألناة والنمو‪ ،‬والنار فيها الطيش والخفة والسرعة‬
‫واإلحراق‪.‬‬
‫ثم آدم شرفه هللا بخلقه له بيده ونفخه فيه من روحه‪ ،‬ولهذا أمر المالئكة بالسجود له‪،‬‬
‫صا ٍ‪d‬ل ِم ْن َح َمأ َم ْسنُو ٍن‪ .‬فَإِ َذا‬ ‫ص ْل َ‬ ‫ق بَ َشراً ِم ْن َ‬ ‫ال َرب َُّك لِ ْل َمالئِ َك ِة إِنِّي َخالِ ٌ‬ ‫كما قال‪َ { :‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫يس‬ ‫ُون‪ .‬إِالَّ إِ ْبلِ َ‬ ‫ين‪ .‬فَ َس َج َد ْال َماَل ئِ َكةُ ُكلُّهُ ْم أَجْ َمع َ‬ ‫ُوحي فَقَعُوا لَهُ َس ِ‬
‫اج ِد َ‬ ‫ت فِي ِه ِم ْن ر ِ‬ ‫َس َّو ْيتُهُ َونَفَ ْخ ُ‬
‫ال لَ ْم أَ ُك ْن ألَ ْس ُج َد‬ ‫ين‪ .‬قَ َ‬ ‫َّاج ِد َ‬
‫ون َم َع الس ِ‬ ‫ك أَالَّ تَ ُك َ‬ ‫ال يَا إِ ْبلِيسُ َما لَ َ‬ ‫ين‪ .‬قَ َ‬ ‫َّاج ِد َ‬
‫ون َم َع الس ِ‬ ‫أَبَى أَ ْن يَ ُك َ‬
‫ك اللَّ ْعنَةَ‬ ‫ك َر ِجي ٌم‪َ .‬وإِ َّن َعلَ ْي َ‬ ‫اخرُجْ ِم ْنهَا فَإِنَّ َ‬ ‫ال فَ ْ‬ ‫ون‪ .‬قَ َ‬‫صا ٍل ِم ْن َح َمأ َم ْسنُ ٍ‬ ‫ص ْل َ‬ ‫لِبَ َش ٍر َخلَ ْقتَهُ ِم ْن َ‬
‫ِّين}‪ .‬استحق هذا من هللا تعالى ألنه استلزم تنقصه آلدم وازدراؤه به وترفعهّ‬ ‫إِلَى يَ ْو ِم الد ِ‬
‫عليه مخالفة األمر اإللهي‪ ،‬ومعاندة الحق في النص على آدم على التعيين‪.‬‬
‫وشرع في االعتذار بما ال يجدي عنه شيئاً‪ ،‬وكان اعتذاره أشد من ذنبه كما قال‬
‫تعالى في سورة سبحان‪َ { :‬وإِ ْذ قُ ْلنَا لِ ْل َمالئِ َك ِة ا ْس ُج ُدوا‬
‫ي‬‫ت َعلَ َّ‬ ‫ك هَ َذا الَّ ِذي َك َّر ْم َ‬ ‫ال أَ َرأَ ْيتَ َ‬‫ت ِطينا ً‪ .‬قَ َ‬ ‫ال أَأَ ْس ُج ُد لِ َم ْن َخلَ ْق َ‬ ‫يس قَ َ‬ ‫آل َد َم فَ َس َج ُدوا إِالَّ إِ ْبلِ َ‬
‫ك ِم ْنهُ ْم فَإِ َّن َجهَنَّ َم‬ ‫ال ْاذهَبْ فَ َم ْن تَبِ َع َ‬ ‫لَئِ ْن أَ َّخرْ تَنِي إِلَى يَ ْو ِم ْالقِيَا َم ِة ألَحْ تَنِ َك َّن ُذرِّ يَّتَهُ إِالَّ قَلِيالً‪ .‬قَ َ‬
‫ك‬‫ك َو َر ِجلِ َ‬ ‫ك َوأَجْ لِبْ َعلَ ْي ِه ْم بِ َخ ْيلِ َ‬ ‫ص ْوتِ َ‬ ‫ْت ِم ْنهُ ْم بِ َ‬ ‫َج َزا ُؤ ُك ْم َج َزا ًء َم ْوفُوراً‪َ .‬وا ْستَ ْف ِز ْز َم ْن ا ْستَطَع َ‬
‫ك‬ ‫ْس لَ َ‬ ‫ال َواأْل َوال ِد َو ِع ْدهُ ْم َو َما يَ ِع ُدهُ ْم ال ّشيْطان إِالَّ ُغرُوراً‪ .‬إِ َّن ِعبَا ِدي لَي َ‬ ‫ار ْكهُ ْم فِي األَ ْم َو ِ‬ ‫َو َش ِ‬
‫ان َو َكفَى بِ َرب َِّك َو ِكيالً}‪.‬‬ ‫َعلَ ْي ِه ْم س ُْلطَ ٌ‬
‫ان ِم ْن‬ ‫يس َك َ‬ ‫وقال في سورة الكهف‪َ { :‬وإِ ْذ قُ ْلنَا لِ ْل َمالئِ َك ِة ا ْس ُج ُدوا آل َد َم فَ َس َج ُدوا إِاَّل إِ ْبلِ َ‬
‫ق َع ْن أَ ْم ِر َربِّ ِه أَفَتَتَّ ِخ ُذونَهُ َو ُذ ِّريَّتَهُ أَ ْولِيَا َء ِم ْن ُدونِي}‪ .‬أي خرج عن طاعة هللا‬ ‫ْال ِجنِّ فَفَ َس َ‬
‫عمداً وعناداً واستكباراً عن امتثال أمره‪ ،‬وما ذاك إال ألنه خانه طبعه ومادته الخبيثة‬
‫أحوج ما كان إليها‪ ،‬فإنه مخلوق من نار كما قال "وكما قررنا"‪ ،‬كما جاء في "صحيح‬
‫مسلم" عن عائشة عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬خلقت المالئكة من نور‬
‫"العرش"‪ ،‬وخلق الجان من مارج من نار‪ ،‬وخلق آدم مما وصف لكم"‪.‬‬
‫قال الحسن البصري‪ :‬لم يكن إبليس من المالئكة طرفة عين قط‪ .‬وقال شهر بن‬
‫حوشب‪ :‬كان من الجن‪ ،‬فلما أفسدوا في األرض بعث هللا إليهم جنداً من المالئكة فقتلوهم‬
‫وأجلوهم إلى جزائر البحار‪ ،‬وكان إبليس ممن أسر فأخذوه معهم إلى السماء فكان هناك‪.‬‬
‫فلما أمرت المالئكة بالسجود امتنع إبليس منه‪.‬‬
‫وقال ابن مسعود وابن عبَّاس وجماعة من الصحابة وسعيد بن ال ُمسَّيب وآخرون‪:‬‬
‫كان إبليس رئيس المالئكة بالسماء الدنيا‪ .‬قال ابن عبَّاس‪ :‬وكان اسمه عزازيل‪ ،‬وفي‬
‫رواية عنه‪ :‬الحارث‪ .d‬قال النقاش‪ :‬وكنيته أبو كردوس‪ .‬قال ابن عبَّاس‪ :‬وكان من حي من‬
‫المالئكة يقال لهم الجن‪ ،‬وكانوا خزان الجنان‪ ،‬وكان من أشرفهم وأكثرهم علما ً وعبادة‪،‬‬
‫وكان من أولي األجنحة األربعة فمسخه هللا شيطانا ً رجيما ً‪.‬‬
‫ق بَ َشراً ِم ْن ِطي ٍن‪ .‬فَإِ َذا َس َّو ْيتُهُ‬ ‫ك لِ ْل َمالئِ َك ِة إِنِّي َخالِ ٌ‬ ‫وقال في سورة ص‪{ :‬إِ ْذ قَا َل َربُّ َ‬
‫يس ا ْستَ ْكبَ َر‬ ‫ُون‪ .‬إِالّ إِ ْبلِ َ‬ ‫ين‪ .‬فَ َس َج َد ْال َمالئِ َكةُ ُكلُّهُ ْم أَجْ َمع َ‬ ‫اج ِد َ‬ ‫ُوحي فَقَعُوا لَهُ َس ِ‬ ‫ت فِي ِه ِم ْن ر ِ‬ ‫َونَفَ ْخ ُ‬
‫نت ِم ْن‬ ‫ت أَ ْم ُك َ‬ ‫ي أَ ْستَ ْكبَرْ َ‬
‫ت بِيَ َد َّ‬ ‫ك أَ ْن تَ ْس ُج َد لِ َما َخلَ ْق ُ‬ ‫ال يَا إِ ْبلِيسُ َما َمنَ َع َ‬ ‫ين‪ .‬قَ َ‬ ‫ان ِم ْن ْال َكافِ ِر َ‬ ‫َو َك َ‬
‫ك َر ِجي ٌم‪.‬‬ ‫اخرُجْ ِم ْنهَا فَإِنَّ َ‬ ‫ال فَ ْ‬ ‫ين‪ .‬قَ َ‬ ‫ار َو َخلَ ْقتَهُ ِم ْن ِط ٍ‬ ‫ين‪ .‬قَا َل أَنَا َخ ْي ٌر ِم ْنهُ َخلَ ْقتَنِي ِم ْن نَ ٍ‬ ‫ْال َعالِ َ‬
‫ك ِم ْن‬ ‫ال فَإِنَّ َ‬
‫ون‪ .‬قَ َ‬ ‫ْك لَ ْعنَتِي إِلَى يَ ْو ِم الدِّي ِن‪ .‬قَا َل َربِّ فَأَن ِظرْ نِي إِلَى يَ ْو ِم يُ ْب َعثُ َ‬ ‫َوإِ َّن َعلَي َ‬
‫ك ِم ْنهُ ْم‬ ‫ين‪ .‬إالَّ ِعبَا َد َ‬ ‫ك ألُ ْغ ِويَنَّهُ ْم أَجْ َم ِع َ‬ ‫ال فَبِ ِع َّزتِ َ‬ ‫وم‪ .‬قَ َ‬‫ت ْال َم ْعلُ ِ‬ ‫ين‪ .‬إِلَى يَ ْو ِم ْال َو ْق ِ‬ ‫ْال ُمنظَ ِر َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ك ِم ْنهُ ْم أَجْ َم ِع َ‬ ‫ك َو ِم َّم ْن تَبِ َع َ‬ ‫ق أَقُو ُل‪ .‬ألَ ْمألَ َّن َجهَنَّ َم ِم ْن َ‬ ‫ق َو ْال َح َّ‬ ‫ال فَ ْال َح ُّ‬
‫ين‪ .‬قَ َ‬ ‫ص َ‬ ‫ْال ُم ْخلَ ِ‬
‫ك ْال ُم ْستَقِي َم‪ .‬ثُ َّم‬ ‫ص َراطَ َ‬ ‫ال فَبِ َما أَ ْغ َو ْيتَنِي ألَ ْق ُع َد َّن لَهُ ْم ِ‬ ‫وقال في سورة األعراف‪{:‬قَ َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫آلتِيَنَّهُ ْم ِم ْن بَي ِْن أَ ْي ِدي ِه ْم َو ِم ْن َخ ْلفِ ِه ْم َو َع ْن أَ ْي َمانِ ِه ْم َو َع ْن َش َمائِلِ ِه ْم َوال تَ ِج ُد أَ ْكثَ َرهُ ْم َشا ِك ِر َ‬
‫أي بسبب إغوائك إياي ألقعدن لهم كل مرصد‪ ،‬وألتينهم من كل جهة منهم‪ ،‬فالسعيد من‬
‫خالفه والشقي من اتبعه‪.‬‬
‫وقال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا هاشم بن القاسم‪َ ،‬ح َّدثَنا أبو عقيل ‪ -‬هو عبد هللا بن عقيل‬
‫الثقفي ‪َ -‬ح َّدثَنا موسى بن ال ُمسَّيب‪ ،‬عن سالم بن أبي الجعد‪ ،‬عن سبرة بن أبي الفاكه قال‪:‬‬
‫سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬إن ال ّشيْطان يقعد البن آدم بأطرقه" وذكر‬
‫الحديث‬
‫"كما قدمناه في صفة إبليس"‪.‬‬

‫وقد اختلف المفسرون في المالئكة المأمورين بالسجود آلدم‪ :‬أهم جميع المالئكة كما‬
‫دل عليه عموم اآليات؟ وهو قول الجمهور‪ .‬أو المراد بهم مالئكة األرض؟ كما رواه ابن‬
‫جرير من طريق الضحاك‪ d‬عن ابن عبَّاس‪ ،‬وفيه انقطاع‪ ،‬وفي السياق نكارة‪ ،‬وإن كان‬
‫بعض المتأخرين قد رجحه‪ .‬ولكن األظهر من السياقات األول‪ ،‬ويدل عليه الحديث‪:‬‬
‫"وأسجد لك مالئكته" وهذا عموم أيضا ً وهللا أعلم‪.‬‬
‫اخرُجْ ِم ْنهَا} دليل على أنه كان في السماء‬ ‫ط ِم ْنهَا} و { ْ‬ ‫وقوله تعالى إلبليس‪{ :‬فَا ْهبِ ْ‬
‫فأمر بالهبوط منها‪ ،‬والخروج من المنزلة والمكانة التي كان قد نالها بعبادته‪ ،‬وتشبهه‬
‫بالمالئكة في الطاعة والعبادة‪ ،‬ثم سلب ذلك بكبره وحسده ومخالفته لربه‪ ،‬فأهبط إلى‬
‫األرض مذموما ً مدحوراً‪ .‬وأمر هللا آدم عليه السالم أن يسكن هو وزوجته الجنَّة فقال‪:‬‬
‫ْث ِش ْئتُ َما َوال تَ ْق َربَا هَ ِذ ِه ال َّش َج َرةَ‬ ‫ُك الجنَّة َو ُكاَل ِم ْنهَا َر َغداً َحي ُ‬ ‫ت َو َز ْوج َ‬ ‫{ َوقُ ْلنَا يَا آ َد ُم ا ْس ُك ْن أَ ْن َ‬
‫ك‬‫اخرُجْ ِم ْنهَا َم ْذ ُءوما ً َم ْدحُوراً لَ َم ْن تَبِ َع َ‬ ‫ال ْ‬ ‫ين}‪ .‬وقال في األعراف‪{ :‬قَ َ‬ ‫فَتَ ُكونَا ِم ْن الظَّالِ ِم َ‬
‫ْث ِش ْئتُ َما‬ ‫ك الجنَّة فَ ُكال ِم ْن َحي ُ‬ ‫ت َو َز ْو ُج َ‬ ‫ين‪َ .‬ويَا آ َد ُم ا ْس ُك ْن أَ ْن َ‬ ‫ِم ْنهُ ْم ألَ ْمألَ َّن َجهَنَّ َم ِم ْن ُك ْم أَجْ َم ِع َ‬
‫ين}‪ .‬وقال تعالى‪َ { :‬وإِ ْذ قُ ْلنَا لِ ْل َمالئِ َك ِة ا ْس ُج ُدوا آل َد َم‬ ‫َوال تَ ْق َربَا هَ ِذ ِه ال َّش َج َرةَ فَتَ ُكونَا ِم ْن الظَّالِ ِم َ‬
‫ك فَاَل ي ُْخ ِر َجنَّ ُك َما ِم ْن الجنَّة‬ ‫ك َولِ َز ْو ِج َ‬‫يس أَبَى‪ .‬فَقُ ْلنَا يَا آ َد ُم إِ َّن هَ َذا َع ُد ٌّو لَ َ‬ ‫فَ َس َج ُدوا إِال إِ ْبلِ َ‬
‫فَتَ ْشقَى‬
‫ظ َمأ ُ فِيهَا َوال تَضْ َحى}‪.‬‬ ‫ك ال تَ ْ‬ ‫ك أَال تَجُو َع فِيهَا َوال تَع َْرى‪َ .‬وأَنَّ َ‬ ‫إِ َّن لَ َ‬
‫وسياق هذه اآليات يقتضي أن خلق َح َّواء كان قبل دخول آدم الجنَّة لقوله‪َ { :‬ويَا آ َد ُم‬
‫ُك الجنَّة} وهذا قد صرح به إسحاق بن يسار وهو ظاهر هذه اآليات‪.‬‬ ‫ت َو َز ْوج َ‬ ‫ا ْس ُك ْن أَ ْن َ‬
‫ولكن حكى ال ُّسدِّي عن أبي صالح وأبي مالك عن ابن عبَّاس‪ ،‬وعن ُمرَّة‪ ،‬عن ابن‬
‫س من الصحابة أنهم قالوا‪ :‬أخرج إبليس من الجنَّة وأسكن آدم الجنَّة‪،‬‬ ‫مسعود‪ ،‬وعن نا ٍ‬
‫فكان يمشي فيها وحشيا ً ليس له فيها زوج يسكن إليها‪ ،‬فنام نومة فاستيقظ وعند رأسه‬
‫امرأة قاعدة خلقها هللا من ضلعه‪ .‬فسألها‪ :‬من أنت؟ قالت‪ :‬امرأة‪ .‬قال‪ :‬ولم خلقت؟ قالت‪:‬‬
‫لتسكن إلي‪ ،‬فقالت‪ d‬له المالئكة ينظرون ما بلغ من علمه‪ :‬ما أسمها يا آدم؟ قال َح َّواء‪ ،‬قالوا‬
‫ولم كانت َح َّواء؟ قال ألنها خلقت من شيء حي‪ .‬وذكر ُم َح ْمد بن اسحاق عن ابن عبَّاس‬
‫أنها خلقت‪ d‬من ضلعه األقصر األيسر وهو نائم وألم مكانه لحما ً‪.‬‬
‫س َوا ِح َد ٍة‬ ‫ومصداق هذا في قوله تعالى‪{ :‬يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا َربَّ ُك ْم الَّ ِذي َخلَقَ ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍ‬
‫ث ِم ْنهُ َما ِر َجاالً َكثِيراً َونِ َسا ًء} اآلية‪ .‬وفي قوله تعالى‪{ :‬هُ َو الَّ ِذي‬ ‫ق ِم ْنهَا َز ْو َجهَا َوبَ َّ‬ ‫َو َخلَ َ‬
‫ت َح ْمالً َخفِيفا ً‬ ‫اح َد ٍة َو َج َع َل ِم ْنهَا َز ْو َجهَا لِيَ ْس ُك َن إِلَ ْيهَا فَلَ َّما تَ َغ َّشاهَا َح َملَ ْ‬ ‫س َو ِ‬ ‫َخلَقَ ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍ‬
‫َّت بِ ِه} اآلية‪ .‬وسنتكلم عليها فيما بعد إن شاء هللا تعالى‬ ‫فَ َمر ْ‬
‫وفي "الصحيحين"‪ d‬من حديث زائدة‪ ،‬عن ميسرة األشجعي‪ ،‬عن أبي حازم‪ ،‬عن أبي‬
‫هريرة‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم أنه قال‪" :‬استوصوا بالنساء خيراً‪ ،‬فإن المرأة‬
‫خلقت من ضلع‪ ،‬وإن أعوج شيء في الضلع أعاله‪ ،‬فإن ذهبت تقيمه كسرته‪ ،‬وإن تركته‬
‫ي‪.‬‬‫لم يزل أعوج‪ ،‬فاستوصوا بالنساء خيراً"‪ .‬لفظ الب َُخار ّ‬
‫وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى‪َ { :‬وال تَ ْق َربَا هَ ِذ ِه ال َّش َج َرةَ} فقيل‪ :‬هي الكرم‪،‬‬
‫وروي عن ابن عبَّاس‪ ،‬وسعيد بن جبير‪ ،‬وال َّشعبي‪ ،‬وجعدة بن هبيرة‪ ،‬و ُم َح ْمد بن قيس‪،‬‬
‫وال ُّسدِّي في رواية عن ابن عبَّاس‪ ،‬وابن مسعود‪ ،‬وناس من الصحابة‪ .‬قال‪ :‬وتزعم يهود‬
‫أنها الحنطة‪ ،‬وهذا مروي عن ابن عبَّاس‪ ،‬والحسن البصري‪ ،‬ووهب بن منبه‪ ،‬وعطية‬
‫العوفي‪ ،‬وأبي مالك‪ ،‬ومحارب بن دثار‪ ،‬وعبد الرحمن بن أبي ليلى‪ .‬قال وهب‪ :‬والحبة‬
‫منه ألين من الزبد وأحلى من العسل‪ .‬وقال الثوري عن أبي حصين‪ ،‬عن أبي مالك‪َ { :‬وال‬
‫تَ ْق َربَا هَ ِذ ِه ال َّش َج َرةَ} هي النخلة‪ .‬وقال ابن ُج َريْج عن مجاهد‪ :‬هي التينة‪ ،‬وبه قال قتادة‪،‬‬
‫وابن ج َُريْج‪ .‬وقال أبو العالية‪ :‬كانت شجرة من أكل منها أحدث‪ ،‬وال ينبغي في الجنَّة‬
‫حدث‪.‬‬
‫وهذا الخالف قريب‪ ،‬وقد أبهم هللا ذكرها وتعيينها‪ ،‬ولو كان في ذكرها مصلحة تعود‬
‫إلينا لعينها لنا كما في غيرها من المحال التي تبهم في القرآن‪.‬‬
‫وإنما الخالف الذي ذكروه في أن هذه الجنَّة التي أدخلها آدم‪ :‬هل‬
‫هي في السماء أو في األرض‪ ،‬هو الخالف الذي ينبغي فصله والخروج منه‪.‬‬
‫والجمهور على أنها هي التي في السماء وهي جنة المأوى‪ ،‬لظاهر اآليات‬
‫ك الجنَّة} واأللف والالم ليست‬ ‫واألحاديث كقوله تعالى‪َ { :‬وقُ ْلنَا يَا آ َد ُم ا ْس ُك ْن أَ ْن َ‬
‫ت َو َز ْو ُج َ‬
‫للعموم وال لمعهود لفظي‪ ،‬وإنما تعود على معهود ذهني‪ ،‬وهو المستقر شرعا ً من جنة‬
‫المأوى‪ ،‬وكقول موسى عليه السالم آلدم عليه السالم‪" :‬عالم أخرجتنا ونفسك من‬
‫الجنَّة؟‪ "...‬الحديث كما سيأتي الكالم عليه‪.‬‬
‫وروى مسلم في "صحيحه" من حديث أبي مالك األشجعي ‪ -‬واسمه سعد بن طارق ‪-‬‬
‫عن أبي حازم سلمة بن دينار‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬وأبو مالك عن ربعي‪ ،‬عن حذيفة قاال‪ :‬قال‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬يجمع هللا الناس فيقوم المؤمنون حين تزلف لهم الجنَّة‪.‬‬
‫فيأتون آدم فيقولون‪ :‬يا أبانا استفتح لنا الجنَّة‪ ،‬فيقول‪ :‬وهل أخرجكم من الجنَّة إال خطيئة‬
‫أبيكم؟" وذكر الحديث بطوله‪.‬‬
‫وهذا فيه قوة جيدة ظاهرة في الداللة على أنها جنة المأوى‪ ،‬وليست تخلو عن نظر‪.‬‬
‫وقال آخرون‪ :‬بل الجنَّة التي أسكنها آدم لم تكن جنة الخلد‪ ،‬ألنه كلف فيها أال يأكل‬
‫من تلك الشجرة‪ ،‬وألنه نام فيها وأخرج منها‪ ،‬ودخل عليه إبليس فيها‪ ،‬وهذا مما ينافي أن‬
‫تكون جنة المأوى‪.‬‬
‫وهذا القول محكي عن أُبَ ّي بن َكعب‪ ،‬وعبد هللا بن عبَّاس‪ ،‬ووهب بن منبه‪ ،‬وسفيان‬
‫بن ُعيينة‪ ،‬واختاره ابن قتيبة في "المعارف"‪ ،‬والقاضي منذر بن سعيد البلوطي في‬
‫"تفسيره" وأفرد له مصنفا ً على حدة‪ .‬وحكاه عن أبي حنيفة اإلمام وأصحابه رحمهم هللا‪.‬‬
‫ونقله أبو عبد هللا ُم َح ْمد بن عمر الرازي ابن خطيب الري في "تفسيره" عن أبي القاسم‬
‫البلخي وأبي مسلم األصبهاني‪ .‬ونقله القرطبي في "تفسيره" عن المعتزلة والقدرية وهذا‬
‫القول هو نص التوراة التي بأيدي أهل الكتاب‪.‬‬
‫وممن حكى الخالف في هذه المسألة أبو ُم َح ْمد بن حزم في الملل والنحل‪ ،‬وأبو ُم َح ْمد‬
‫بن عطية في تفسيره‪ ،‬وأبو عيسى الرماني في "تفسيره" ‪ -‬وحكى عن الجمهور األول ‪-‬‬
‫وأبو القاسم الراغب والقاضي الماوردي في "تفسيره" فقال‪" :‬واختلف في الجنَّة التي‬
‫أسكناها يعني آدم و َح َّواء على قولين‪ :‬أحدهما أنها جنة الخلد‪ .‬الثاني جنة أعدها هللا لهما‬
‫وجعلها دار ابتالء‪ ،‬وليست جنة الخلد التي جعلها دار جزاء‪.‬‬
‫ومن قال بهذا اختلفوا على قولين‪ :‬أحدهما أنها في السماء ألنه أهبطهما منها‪ ،‬وهذا‬
‫قول الحسن‪ ،‬والثاني أنها في األرض ألنه امتحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نهيا‬
‫عنها دون غيرها من الثمار‪ .‬وهذا قول ابن يحيى‪ ،‬وكان ذلك بعد أن أمر إبليس بالسجود‬
‫آلدم‪ ،‬وهللا أعلم بالصواب‪ d‬من ذلك"‪ .‬هذا كالمه‪ .‬فقد تضمن كالمه حكاية أقوال ثالثة‪،‬‬
‫وأشعر كالمه أنه متوقف في المسألة‪.‬‬
‫ولقد حكى أبو عبد هللا الرازي في "تفسيره" في هذه المسألة أربعة أقوال‪ :‬هذه الثالثة‬
‫التي أوردها الماوردي‪ ،‬ورابعها الوقف‪ .‬وحكى القول بأنها في السماء وليست جنة‬
‫المأوى‪ ،‬عن أبي علي الجبائي‪.‬‬
‫وقد أورد أصحاب‪ d‬القول الثاني سؤاالً يحتاج مثله إلى جواب‪ ،‬فقالوا‪ :‬الشك أن هللا‬
‫سبحانه وتعالى طرد إبليس حين امتنع من السجود عن الحضرة اإللهية‪ ،‬وأمره بالخروج‬
‫عنها والهبوط منها وهذا األمر ليس من األوامر الشرعية بحيث يمكن مخالفته‪ ،‬وإنما هو‬
‫اخرُجْ ِم ْنهَا َم ْذ ُءوما ً َم ْدحُوراً}‪ .‬وقال‪:‬‬ ‫أمر قدري ال يخالف وال يمانع‪ ،‬ولهذا قال‪ْ { :‬‬
‫ك َر ِجي ٌم} والضمير‬ ‫ك أَ ْن تَتَ َكبَّ َر فِيهَا} وقال‪{ :‬فَ ْ‬
‫اخرُجْ ِم ْنهَا فَإِنَّ َ‬ ‫ون لَ َ‬‫ط ِم ْنهَا فَ َما يَ ُك ُ‬ ‫{فَا ْهبِ ْ‬
‫عائد إلى الجنَّة أو السماء أو المنزلة‪ .‬وأيا ً ما كان فمعلوم أنه ليس له الكون قدراً في‬
‫المكان الذي طرد منه وأبعد منه‪ ،‬ال على سبيل االستقرار وال على سبيل المرور‬
‫واالجتياز‪ .‬قالوا‪ :‬ومعلوم من ظاهر سياقات القرآن أنه وسوس آلدم وخاطبه بقوله له‪:‬‬
‫ك ال يَ ْبلَى} وبقوله‪َ { :‬ما نَهَا ُك َما َربُّ ُك َما َع ْن هَ ِذ ِه ال َّش َج َر ِة‬ ‫ك َعلَى َش َج َر ِة ْال ُخ ْل ِد َو ُم ْل ٍ‬ ‫{هَلْ أَ ُدلُّ َ‬
‫ين‪ .‬فَ َدالهُ َما‬ ‫اص ِح َ‬ ‫إِال أَ ْن تَ ُكونَا َملَ َكي ِْن أَ ْو تَ ُكونَا ِم ْن ْال َخالِ ِد َ‬
‫ين‪َ .‬وقَا َس َمهُ َما إِنِّي لَ ُك َما لَ ِم ْن النَّ ِ‬
‫ُور} اآلية وهذا ظاهر في اجتماعه معهما في جنتهما‪.‬‬ ‫بِ ُغر ٍ‬
‫وقد أجيبوا عن هذا بأنه‪ :‬ال يمتنع أن يجتمع بهما في الجنَّة على سبيل المرور فيها ال‬
‫على سبيل االستقرار بها‪ ،‬وأنه وسوس لهما وهو على باب الجنَّة أو من تحت السماء‪.‬‬
‫وفي الثالثة نظر‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫ومما احتج به أصحاب‪ d‬هذه المقالة‪ :‬ما رواه عبد هللا بن اإلمام أحمد في الزيادات عن‬
‫هدبة بن خالد‪ ،‬عن حماد بن سلمة‪ ،‬عن حميد‪ ،‬عن الحسن البصري‪ ،‬عن يحيى بن ضمرة‬
‫السعدي‪ ،‬عن أُبَ ّي بن َكعب‪ ،‬قال‪ :‬إن آدم لما احتضر اشتهى قطفا ً من عنب الجنَّة‪ ،‬فانطلق‬
‫بنوه ليطلبوه له‪ ،‬فلقيتهم المالئكة فقالوا‪ :‬أين تريدون يا بني آدم؟ فقالوا إن أبانا اشتهى‬
‫قطفا ً من عنب الجنَّة‪ .‬فقالوا لهم‪ :‬ارجعوا فقد كفيتموه‪ .‬فانتهوا إليه فقبضوا روحه وغسلوه‬
‫وحنطوه وكفنوه‪ ،‬وصلى عليه جبريل ومن خلفه المالئكة ودفنوه‪ ،‬وقالوا‪ :‬هذه سنتكم في‬
‫موتاكم‪ .‬وسيأتي الحديث بسنده‪ ،‬وتمام لفظه عند ذكر وفاة آدم عليه السالم‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فلوال أنه كان الوصول إلى الجنَّة التي كان فيها آدم التي اشتهى منها القطف‬
‫ممكناً‪ ،‬لما ذهبوا يطلبون ذلك‪ ،‬فدل على أنها في األرض ال في السماء وهللا تعالى أعلم‪.‬‬
‫ك الجنَّة} لم‬ ‫ت َو َز ْو ُج َ‬ ‫قالوا‪ :‬واالحتجاج بأن األلف والالم في قوله‪َ { :‬ويَا آ َد ُم ا ْس ُك ْن أَ ْن َ‬
‫يتقدم عهد يعود عليه فهو المعهود الذهني مسلم‪ ،‬ولكن هو ما دل عليه سياق الكالم‪ ،‬فإن‬
‫آدم خلق من األرض ولم ينقل أنه رفع إلى السماء‪ ،‬وخلق ليكون في األرض‪ ،‬وبهذا أعلم‬
‫ض َخلِيفَةً}‪.‬‬ ‫اع ٌل فِي األَرْ ِ‬ ‫الرب المالئكة حيث قال‪{ :‬إِنِّي َج ِ‬
‫اب الجنَّة} والالم ليس للعموم‪،‬‬ ‫قالوا‪ :‬وهذا كقوله تعالى‪{ :‬إِنَّا بَلَ ْونَاهُ ْم َك َما بَلَ ْونَا أَصْ َح َ‬
‫ولم يتقدم معهود لفظي‪ ،‬وإنما هي للمعهود الذهني الذي دل عليه السياق وهو البستان‪.‬‬
‫يل يَا نُو ُح‬ ‫قالوا‪ :‬وذكر الهبوط ال يدل على النزول من السماء‪ ،‬قال هللا تعالى‪{ :‬قِ َ‬
‫ك} وإنما كان في السفينة حين استقرت‬ ‫ْك َو َعلَى أُ َم ٍم ِم َّم ْن َم َع َ‬
‫ت َعلَي َ‬‫الم ِمنَّا َوبَ َر َكا ٍ‬‫ط بِ َس ٍ‬ ‫ا ْهبِ ْ‬
‫على‬
‫ي ونضب الماء عن وجه األرض أمر أن يهبط إليها هو ومن معه مباركا ً عليه‬ ‫الجود ّ‬
‫وعليهم‪ .‬وقال هللا تعالى‪{ :‬ا ْهبِطُوا ِمصْ راً فَإِ َّن لَ ُك ْم َما َسأ َ ْلتُ ْم} اآلية‪ .‬وقال تعالى‪َ { :‬وإِ َّن ِم ْنهَا‬
‫لَ َما يَ ْهبِطُ ِم ْن َخ ْشيَ ِة هَّللا ِ} اآلية‪ .‬وفي األحاديث واللغة من هذا كثير‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وال مانع ‪ -‬بل هو الواقع ‪ -‬أن الجنَّة التي أسكنها آدم كانت مرتفعة عن سائر‬
‫ك‬‫بقاع األرض‪ ،‬ذات أشجار وثمار وظالل ونعيم ونضرة وسرور‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬إِ َّن لَ َ‬
‫ظ َمأ ُ‬
‫ك ال تَ ْ‬ ‫أَال تَجُو َع فِيهَا َوال تَ ْع َرى} أي ال يذل باطنك بالجوع وال ظاهرك بالعرى { َوأَنَّ َ‬
‫فِيهَا َوال تَضْ َحى} أي ال يمس باطنك حر الظمأ وال ظاهرك حر الشمس‪ ،‬ولهذا قرن بين‬
‫هذا وهذا‪ ،‬وبين هذا وهذا‪ ،‬لما بينهما من المالءمة‪ .‬فلما كان منه ما كان من أكله من‬
‫الشجرة التي نهي عنها‪ ،‬أهبط إلى أرض الشقاء والتعب والنصب والكدر والسعي والنكد‪،‬‬
‫واالبتالء واالختبار واالمتحان‪ ،‬واختالف السكان دينا ً وأخالقا ً وأعماالً‪ ،‬وقصوداً‬
‫ع إِلَى ِحي ٍن}‪ .‬وال‬ ‫ض ُم ْستَقَرٌّ َو َمتَا ٌ‬ ‫وارادات وأقواالً وأفعاالً‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ولَ ُك ْم فِي األَرْ ِ‬
‫ض‬‫يل ا ْس ُكنُوا األَرْ َ‬ ‫يلزم من هذا أنهم كانوا في السماء كما قال‪َ { :‬وقُ ْلنَا ِم ْن بَ ْع ِد ِه لِبَنِي إِس َْرائِ َ‬
‫اآلخ َر ِة ِج ْئنَا بِ ُك ْم لَفِيفا ً} ومعلوم أنهم كانوا فيها ولم يكونوا في السماء‪.‬‬ ‫فَإِ َذا َجا َء َو ْع ُد ِ‬
‫قالوا‪ :‬وليس هذا القول مفرعا ً على قول من ينكر وجود الجنَّة والنار اليوم وال تالزم‬
‫بينهما‪ ،‬فكل من حكى عنه هذا القول من السلف وأكثر الخلف‪ d،‬ممن يثبت وجود الجنَّة‬
‫والنار اليوم‪ ،‬كما دلت عليه اآليات واألحاديث الصحاح‪ .‬وهللا سبحانه وتعالى أعلم‬
‫بالصواب‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪{ :‬فَأ َ َزلَّهُ َما ال ّشيْطان َع ْنهَا} أي عن الجنَّة {فَأ َ ْخ َر َجهُ َما ِم َّما َكانَا فِي ِه} أي‬
‫من النعيم والنضرة والسرور إلى دار التعب والكد والنكد‪ ،‬وذلك بما وسوس لهما وزينه‬
‫ي َع ْنهُ َما ِم ْن‬ ‫ي لَهُ َما َما ُو ِ‬
‫ور َ‬ ‫س لَهُ َما ال ّشيْطان لِيُ ْب ِد َ‬ ‫في صدورهما‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬فَ َوس َْو َ‬
‫ين}‬ ‫ال َما نَهَا ُك َما َربُّ ُك َما َع ْن هَ ِذ ِه ال َّش َج َر ِة إِال أَ ْن تَ ُكونَا َملَ َك ْي ِن أَ ْو تَ ُكونَا ِم ْن ْال َخالِ ِد َ‬ ‫َس ْوآتِ ِه َما َوقَ َ‬
‫يقول‪ :‬ما نهاكما عن أكل هذه الشجرة إال أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين‪ ،‬أي لو‬
‫أكلتما منها لصرتما كذلك { َوقَا َس َمهُ َما} أي حلف لهما على ذلك {إِنِّي لَ ُك َما لَ ِم ْن‬
‫ك َعلَى‬ ‫ال يَا آ َد ُم هَلْ أَ ُدلُّ َ‬ ‫س إِلَ ْي ِه ال ّشيْطان قَ َ‬ ‫ين} كما قال في اآلية األخرى‪{ :‬فَ َوس َْو َ‬ ‫اص ِح َ‬ ‫النَّ ِ‬
‫ك ال يَ ْبلَى} أي هل أدلك على الشجرة التي إذا أكلت منها حصل لك الخلد‬ ‫َش َج َر ِة ْال ُخ ْل ِد َو ُم ْل ٍ‬
‫فيما أنت فيه من النعيم‪ ،‬واستمررت في ملك ال يبيد وال ينقضي؟ وهذا من التغرير‬
‫والتزوير واإلخبار بخالف الواقع‪.‬‬
‫والمقصود أن قوله شجرة الخلد التي إذا أكلت منها خلدت‪ .‬وقد تكون هي الشجرة‬
‫التي قال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا عبد الرحمن بن مهدي‪َ ،‬ح َّدثَنا شعبة‪ ،‬عن أبي الضحاك‪،‬‬
‫سمعت أبا هريرة يقول‪ :‬قال رسول هللا صلى هَّللا عليه وسلم‪" :‬إن في الجنَّة شجرة يسير‬
‫الراكب في ظلها مائة عام ال يقطعها‪ ،‬شجرة الخلد"‪ .‬وكذا رواه أيضا ً عن غندر وحجاج‪،‬‬
‫عن شعبة‪ .‬ورواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن شعبة أيضا ً به‪ .‬قال غندر‪ :‬قلت‬
‫لشعبة‪ :‬هي شجرة الخلد؟ قال‪ :‬ليس فيها هي‪ .‬تفرد به اإلمام أحمد‪.‬‬
‫صفَا ِن َعلَ ْي ِه َما‬ ‫ت لَهُ َما َس ْوآتُهُ َما َوطَفِقَا يَ ْخ ِ‬ ‫ُور فَلَ َّما َذاقَا ال َّش َج َرةَ بَ َد ْ‬
‫وقوله‪{ :‬فَ َدالهُ َما بِ ُغر ٍ‬
‫ان َعلَ ْي ِه َما‬‫صفَ ِ‬ ‫ت لَهُ َما َس ْوآتُهُ َما َوطَفِقَا يَ ْخ ِ‬ ‫ق الجنَّة} كما قال في طه {فَأ َ َكال ِم ْنهَا فَبَ َد ْ‬ ‫ِم ْن َو َر ِ‬
‫ق الجنَّة} وكانت َح َّواء أكلت من الشجرة قبل آدم‪ ،‬وهي التي حدته على أكلها وهللا‬ ‫ِم ْن َو َر ِ‬
‫أعلم‪.‬‬
‫ي‪َ :‬ح َّدثَنا بشر بن محمد‪َ ،‬ح َّدثَنا عبد هللا‪ ،‬أنبأنا‬ ‫وعليه يحمل الحديث الذي رواه الب َُخار ّ‬
‫معمر‪ ،‬عن همام بن منبه‪ ،‬عن أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه وسلم نحوه‪" :‬لوال بنو‬
‫إسرائيل لم يخنز اللحم‪ ،‬ولوال َح َّواء لم تخن أنثى زوجها"‪.‬‬
‫تفرد به من هذا الوجه‪ ،‬وأخرجاه في "الصحيحين" من حديث عبد الرزاق‪ ،‬عن‬
‫معمر‪ ،‬عن همام‪ ،‬عن أبي هريرة به‪ ،‬ورواه أحمد ومسلم عن هارون بن معروف‪ ،‬عن‬
‫أبي وهب‪ ،‬عن عمرو بن حارث‪ ،‬عن أبي يونس‪ ،‬عن أبي هريرة به‪.‬‬
‫وفي كتاب التوراة التي بين أيدي أهل الكتاب‪ :‬أن الذي دل َح َّواء على األكل من‬
‫الشجرة هي الحية‪ ،‬وكانت من أحسن األشكال وأعظمها‪ ،‬فأكلت َح َّواء عن قولها وأطعمت‬
‫آدم عليه السالم‪ ،‬وليس فيها ذكر إلبليس‪ ،‬فعند ذلك انفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان‪،‬‬
‫فوصال من ورق التين وعمال مآزر‪ .‬وفيها‪ :‬أنهما كانا عريانين‪ .‬وكذا قال وهب بن منبه‪:‬‬
‫كان لباسهما نوراً على فرجه وفرجها‪.‬‬
‫وهذا الذي في هذه التوراة التي بأيديهم غلط منهم‪ ،‬وتحريف وخطأ في التعريب؛ فإن‬
‫نقل الكالم من لغة إلى لغة ال يكاد يتيسر لكل أحد‪ ،‬وال سيما ممن ال يعرف كالم العرب‬
‫جيداً‪ ،‬وال يحيط علما ً بفهم كتابه أيضاً‪ d،‬فلهذا وقع في تعريبهم لها خطأ كثير لفظا ً ومعنى‪.‬‬
‫ع َع ْنهُ َما لِبَا َسهُ َما لِي ُِريَهُ َما‬ ‫نز ُ‬
‫وقد دل القرآن العظيم على أنه كان عليهما لباس فيقوله‪{ :‬يَ ِ‬
‫َس ْوآتِ ِه َما} فهذا ال يرد لغيره من الكالم وهللا تعالى أعلم‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم‪َ :‬ح َّدثَنا علي بن الحسن بن أسكاب‪َ ،‬ح َّدثَنا علي بن عاصم‪ ،‬عن‬
‫سعيد بن أبي عروبة‪ ،‬عن قتادة‪ ،‬عن الحسن‪ ،‬عن أُبَ ّي بن َكعب قال‪ :‬قال رسول هللا صلى‬
‫هَّللا عليه وسلم‪" :‬إن هللا خلق آدم رجالً طواالً كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق‪ ،‬فلما‬
‫ذاق الشجرة سقط عنه لباسه‪ ،‬فأول ما بدا منه عورته‪ ،‬فلما نظر إلى عورته جعل يشتد‬
‫في الجنَّة‪ ،‬فأخذت شعره شجرة فنازعها‪ ،‬فناداه الرحمن ع ّز وج ّل‪ :‬يا آدم مني تفر؟ فلما‬
‫سمع كالم الرحمن قال يا رب ال‪ ،‬ولكن استحياء"‪.‬‬
‫وقال الثوري عن ابن أبي ليلى‪ ،‬عن المنهال بن عمرو‪ ،‬عن سعيد بن جبير عن ابن‬
‫ق الجنَّة} ورق التين‪.‬‬ ‫ان َعلَ ْي ِه َما ِم ْن َو َر ِ‬
‫صفَ ِ‬ ‫عبَّاس‪َ { :‬وطَفِقَا يَ ْخ ِ‬
‫وهذا إسناد صحيح إليه‪ ،‬وكأنه مأخوذ من أهل الكتاب‪ d،‬وظاهر اآلية يقتضي أعم من‬
‫ذلك‪ ،‬وبتقدير تسليمه فال يضر‪ ،‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬
‫وروى الحافظ ابن عساكر من طريق ُم َح ْمد بن اسحاق‪ ،‬عن الحسن بن ذكوان‪ ،‬عن‬
‫الحسن البصري‪ ،‬عن أُبَ ّي بن َكعب قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هَّللا عليه وسلم‪" :‬إن أباكم‬
‫آدم كان كالنخلة السحوق‪ ،‬ستون ذراعا ً كثير الشعر موارى العورة‪ ،‬فلما أصاب الخطيئة‬
‫في الجنَّة بدت له سوأته‪ ،‬فخرج من الجنَّة‪ ،‬فلقيته شجرة فأخذت بناصيته‪ ،‬فناداه ربه‪:‬‬
‫أفراراً مني يا آدم‪ .‬قال‪ :‬بل حياء منك وهللا يا رب مما جئت به"‪ .‬ثم رواه من طريق سعيد‬
‫بن أبي عروبة‪ ،‬عن قتادة‪ ،‬عن الحسن‪ ،‬عن يحيى بن ضمرة‪ ،‬عن أُبَ ّي بن َكعب عن النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم بنحوه‪ .‬وهذا أصح‪ ،‬فإن الحسن لم يدرك أبيا ً‪ .‬ثم أورده أيضا ً من‬
‫طريق خيثمة بن سليمان األطرابلسي‪ ،‬عن ُم َح ْمد بن عبد الوهاب أبي مرصافة‬
‫العسقالني‪ ،‬عن آدم بن أبي إياس‪ ،‬عن سنان‪ ،‬عن قتادة عن أنس مرفوعا ً بنحوه‪.‬‬
‫{ َونَا َداهُ َما َربُّهُ َما أَلَ ْم أَ ْنهَ ُك َما َع ْن تِ ْل ُك َما ال َّش َج َر ِة َوأَقُلْ لَ ُك َما إِ َّن ال ّشيْطان لَ ُك َما َع ُد ٌّو ُمبِ ٌ‬
‫ين‪.‬‬
‫ين}‪.‬‬‫اس ِر َ‬ ‫قَاال َربَّنَا ظَلَ ْمنَا أَنفُ َسنَا َوإِ ْن لَ ْم تَ ْغفِرْ لَنَا َوتَرْ َح ْمنَا لَنَ ُكونَ َّن ِم ْن ْال َخ ِ‬
‫وهذا اعتراف ورجوع إلى اإلنابة‪ ،‬وتذلل وخضوع واستكانة‪ ،‬وافتقار إليه تعالى في‬
‫الساعة الراهنة‪ ،‬وهذا السر ما سرى في أحد من ذريته إال كانت عاقبته إلى خير في دنياه‬
‫وأخراه‪.‬‬
‫ع إِلَى ِحي ٍن} وهذا‬ ‫ض ُم ْستَقَرٌّ َو َمتَا ٌ‬ ‫ْض َع ُد ٌّو َولَ ُك ْم فِي األَرْ ِ‬ ‫ض ُك ْم لِبَع ٍ‬ ‫{قَا َل ا ْهبِطُوا بَ ْع ُ‬
‫خطاب آلدم و َح َّواء وإبليس‪ ،‬قيل والحية معهم‪ .‬أمروا أن يهبطوا من الجنَّة في حال كونهم‬
‫متعادين متحاربين‪ .‬وقد يستشهد لذكر الحية معهما بما ثبت في الحديث عن رسول هَّللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم أنه أمر بقتل الحيات‪ ،‬وقال‪ :‬ما سالمناهن منذ حاربناهن‪ .‬وقوله في‬
‫ْض َع ُد ٌّو} هو أمر آلدم وإبليس‪ .‬واستتبع‬ ‫ض ُك ْم لِبَع ٍ‬ ‫ال ا ْهبِطَا ِم ْنهَا َج ِميعا ً بَ ْع ُ‬ ‫سورة طه‪{ :‬قَ َ‬
‫آدم َح َّواء وإبليس الحية‪ .‬وقيل هو أمر لهم بصيغة التثنية كما في قوله تعالى‪َ { :‬و َدا ُوو َد‬
‫ين} والصحيح‬ ‫ت فِي ِه َغنَ ُم ْالقَ ْو ِم َو ُكنَّا لِ ُح ْك ِم ِه ْم َشا ِه ِد َ‬‫ث إِ ْذ نَفَ َش ْ‬
‫ان فِي ْال َحرْ ِ‪d‬‬ ‫ان إِ ْذ يَحْ ُك َم ِ‬‫َو ُسلَ ْي َم َ‬
‫أن هذا لما كان الحاكم ال يحكم إال بين اثنين مدع ومدعى عليه‪ ،‬قال‪َ { :‬و ُكنَّا لِ ُح ْك ِم ِه ْم‬
‫ين}‪.‬‬‫َشا ِه ِد َ‬
‫ْض َع ُد ٌّو‬ ‫ض ُك ْم لِبَع ٍ‬ ‫وأما تكريره الهباط في سورة البقرة في قوله‪َ { :‬وقُ ْلنَا ا ْهبِطُوا بَ ْع ُ‬
‫اب َعلَ ْي ِه إِنَّهُ هُ َو‬ ‫ت فَتَ َ‬‫ين‪ .‬فَتَلَقَّى آ َد ُم ِم ْن َربِّ ِه َكلِ َما ٍ‬ ‫ع إِلَى ِح ٍ‬ ‫َولَ ُك ْم فِي األَرْ ِ‬
‫ض ُم ْستَقَرٌّ َو َمتَا ٌ‬
‫ف‬‫اي فَال َخ ْو ٌ‬ ‫َّحي ُم‪ .‬قُ ْلنَا ا ْهبِطُوا ِم ْنهَا َج ِميعا ً فَإِ َّما يَأْتِيَنَّ ُك ْم ِمنِّي هُدًى فَ َم ْن تَبِ َع هُ َد َ‬‫التَّ َّوابُ الر ِ‬
‫اب‬‫ك أَصْ َح ُ‪d‬‬ ‫ين َكفَرُوا َو َك َّذبُوا بِآيَاتِنَا أُ ْولَئِ َ‬‫ون‪َ .‬والَّ ِذ َ‬
‫َعلَ ْي ِه ْم َوال هُ ْم يَحْ َزنُ َ‬
‫ون}‪ .‬فقال بعض المفسرين‪ :‬المراد باالهباط األول‪ :‬الهبوط من‬ ‫ار هُ ْم فِيهَا َخالِ ُد َ‬‫النَّ ِ‬
‫الجنَّة إلى السماء الدنيا‪ ،‬وبالثاني من السماء الدنيا إلى األرض‪ .‬وهذا ضعيف لقوله في‬
‫ع إِلَى ِحي ٍن} فدل‬ ‫ْض َع ُد ٌّو َولَ ُك ْم فِي األَرْ ِ‬
‫ض ُم ْستَقَرٌّ َو َمتَا ٌ‬ ‫ض ُك ْم لِبَع ٍ‬ ‫األول‪َ { :‬وقُ ْلنَا ا ْهبِطُوا بَ ْع ُ‬
‫على أنهم اهبطوا إلى األرض باالهباط األول وهللا أعلم‪.‬‬
‫والصحيح أنه كرره لفظا ً وإن كان واحداً‪ ،‬وناط مع كل مرة حكماً؛ فناط باألول‬
‫عداوتهم فيما بينهم‪ ،‬وبالثاني االشتراط عليهم أن من تبع هداه الذي ينزله عليهم بعد ذلك‬
‫فهو السعيد‪ ،‬ومن خالفه فهو الشقي‪ ،‬وهذا األسلوب في الكالم له نظائر في القرآن الحكيم‪.‬‬
‫وروى الحافظ ابن عساكر عن مجاهد قال‪ :‬أمر هللا ملكين أن يخرجا آدم و َح َّواء من‬
‫جواره‪ ،‬فنزع جبريل التاج عن رأسه‪ ،‬وحل ميكائيل اإلكليل عن جبينه‪ ،‬وتعلق به غصن‪،‬‬
‫فظن آدم أنه قد عوجل بالعقوبة‪ ،‬فنكس رأسه يقول‪ :‬العفو العفو‪ ،‬فقال هللا‪ :‬فراراً مني؟‬
‫قال‪ :‬بل حياء منك يا سيدي!‬
‫وقال األوزاعي عن حسان ‪ -‬هو ابن عطية ‪ -‬مكث آدم في الجنَّة مائة عام‪ ،‬وفي‬
‫رواية ستين عاماً‪ ،‬وبكى على الجنَّة سبعين عاماً‪ ،‬وعلى خطيئته سبعين عاماً‪ ،‬وعلى ولده‬
‫حين قتل أربعين عاما ً‪ .‬رواه ابن عساكر‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم‪َ :‬ح َّدثَنا أبو زرعة‪َ ،‬ح َّدثَنا عثمان بن أبي شيبة‪َ ،‬ح َّدثَنا جرير‪ ،‬عن‬
‫سعيد‪ ،‬عن ابن عبَّاس قال‪ :‬أهبط آدم عليه السالم إلى أرض يقال لها "دحنا" بين مكة‬
‫وح َّواء بجدة‪ ،‬وإبليس بدستميان من البصرة‬ ‫والطائف‪ .‬وعن الحسن قال‪ :‬أهبط آدم بالهند‪َ ،‬‬
‫على أميال‪ ،‬وأهبطت الحية بأصبهان‪ .‬رواه ابن أبي حاتم أيضا ً‪ .‬وقال ال ُّسدِّي‪ :‬نزل آدم‬
‫بالهند ونزل معه بالحجر األسود وبقبضة من ورق الجنَّة‪ ،‬فبثه في الهند فنبتت شجرة‬
‫وح َّواء بالمروة‪ .‬رواه ابن أبي حاتم‬ ‫الطيب هناك‪ .‬وعن ابن عمر قال‪ :‬أهبط آدم بالصفا‪َ d،‬‬
‫أيضا ً‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق‪ :‬قال معمر‪ :‬أخبرني عوف‪ ،‬عن قسامة بن زهير‪ ،‬عن أبي موسى‬
‫األشعري‪ ،‬قال‪ :‬إن هللا حين أهبط آدم من الجنَّة إلى األرض علمه صنعة كل شيء‪.‬‬
‫وزوده من ثمار الجنَّة‪ ،‬فثماركم هذه من ثمار الجنَّة‪ ،‬غير أن هذه تتغير وتلك ال تتغير‪.‬‬
‫وقال الحاكم في "مستدركه"‪ :‬أنبأنا أبو بكر بن بالويه‪ ،‬عن ُم َح ْمد بن أحمد بن‬
‫النضر‪ ،‬عن معاوية بن عمرو‪ ،‬عن زائدة‪ ،‬عن عمار بن أبي معاوية البجلي‪ d،‬عن سعيد‬
‫بن جبير‪ ،‬عن ابن عبَّاس قال‪ :‬ما أسكن آدم الجنَّة إال ما بين صالة العصر إلى غروب‬
‫الشمس‪ .‬ثم قال‪ :‬صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه‪.‬‬
‫وفي "صحيح مسلم" من حديث الزهري عن األعرج‪ ،‬عن أبي هريرة قال‪ :‬قال‬
‫رسول هللا صلى هَّللا عليه وسلم‪" :‬خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة‪ :‬فيه خلق آدم‪،‬‬
‫وفيه أدخل الجنَّة‪ ،‬وفيه أخرج منها"‪ .‬وفي الصحيح من وجه آخر‪ " :‬وفيه تقوم الساعة"‪.‬‬
‫وقال أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا ُم َح ْمد بن مصعب‪َ ،‬ح َّدثَنا األوزاعي‪ ،‬عن أبي عمار‪ ،‬عن عبد هللا‬
‫بن فروخ‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬خير يوم طلعت فيه‬
‫الشمس يوم الجمعة‪ ،‬فيه خلق آدم‪ ،‬وفيه أدخل الجنَّة‪ ،‬وفيه أخرج منها‪ ،‬وفيه تقوم‬
‫الساعة"‪ .‬على شرط مسلم‪.‬‬
‫فأما الحديث الذي رواه ابن عساكر من طريق أبي القاسم البغوي‪َ ،‬ح َّدثَنا ُم َح ْمد بن‬
‫جعفر الوركاني‪َ ،‬ح َّدثَنا سعيد بن ميسرة‪ ،‬عن أنس قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هَّللا عليه‬
‫وح َّواء عريانين جميعاً‪ ،‬عليهما ورق الجنَّة‪ ،‬فأصابه الحر حتى قعد يبكي‬ ‫وسلم‪" :‬هبط آدم َ‬
‫ويقول لها‪ :‬يا َح َّواء قد آذاني الحر‪ d،‬قال فجاءه جبريل بقطن‪ ،‬وأمرها أن تغزل وعلمها‪،‬‬
‫وأمر آدم بالحياكة وعلمه أن ينسج"‪ ،‬وقال‪" :‬كان آدم لم يجامع امرأته في الجنَّة‪ ،‬حتى‬
‫هبط منها للخطيئة التي أصابتهما بأكلهما من الشجرة"‪ ،‬قال‪" :‬وكان كل واحد منهما ينام‬
‫على حدة؛ وينام أحدهما في البطحاء واآلخر من ناحية أخرى‪ ،‬حتى أتاه جبريل فأمره أن‬
‫يأتي أهله"‪ ،‬قال‪" :‬وعلمه كيف يأتيها‪ ،‬فلما أتاها جاءه جبريل فقال‪ :‬كيف وجدت امرأتك‪،‬‬
‫قال‪ :‬صالحة"‪.‬‬
‫فإنه حديث غريب ورفعه منكر جداً‪ .‬وقد يكون من كالم بعض السلف وسعيد بن‬
‫ي‪ :‬منكر الحديث‪ d،‬وقال ابن‬ ‫ميسرة هذا هو أبو عمران البكري البصري‪ ،‬قال فيه الب َُخار ّ‬
‫حبان‪ :‬يروي الموضوعات‪ ،‬وقال ابن عدي‪ :‬مظلم األمر‪.‬‬
‫اب َعلَ ْي ِه إِنَّهُ هُ َو التَّ َّوابُ‬
‫ت فَتَ َ‬ ‫وقوله‪{ :‬فَتَلَقَّى آ َد ُم ِم ْن َربِّ ِه َكلِ َما ٍ‬
‫ال َّر ِحي ُم} قيل هي قوله‪َ { :‬ربَّنَا ظَلَ ْمنَا أَنفُ َسنَا َوإِ ْن لَ ْم تَ ْغفِرْ لَنَا َوتَرْ َح ْمنَا لَنَ ُكونَ َّن ِم ْن‬
‫ين}‪ .‬روي هذا عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي العالية والربيع بن أنس والحسن‬ ‫ْال َخ ِ‬
‫اس ِر َ‬
‫وقتادة و ُم َح ْمد بن كعب وخالد بن معدان وعطاء الخراساني وعبد الرحمن بن زيد بن‬
‫أسلم‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم‪َ :‬ح َّدثَنا علي بن الحسن بن أسكاب‪َ ،‬ح َّدثَنا علي بن عاصم‪ ،‬عن‬
‫سعيد بن أبي عروبة ‪،‬عن قتادة‪ ،‬عن الحسن‪ ،‬عن أُبَ ّي بن َكعب‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول هللا‬
‫صلى هَّللا عليه وسلم‪" :‬قال آدم عليه السالم‪ :‬أرأيت يا رب إن تبت ورجعت أعائدي إلى‬
‫اب َعلَ ْي ِه}‪ .‬وهذا غريب من هذا‬ ‫ت فَتَ َ‬ ‫الجنَّة قال‪ :‬نعم" فذلك قوله‪{ :‬فَتَلَقَّى آ َد ُم ِم ْن َربِّ ِه َكلِ َما ٍ‬
‫الوجه وفيه انقطاع‪.‬‬
‫وقال ابن أبي نجيح‪ ،‬عن مجاهد قال‪ :‬الكلمات‪" d‬اللهم ال إله إال أنت سبحانك وبحمدك‪،‬‬
‫رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الراحمين‪ .‬اللهم ال إله إال أنت سبحانك‬
‫وبحمدك‪ ،‬رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم"‪.‬‬
‫وروى الحاكم في "مستدركه" من طريق سعيد بن جبير‪ ،‬عن ابن عبَّاس‪{ :‬فَتَلَقَّى آ َد ُم‬
‫اب َعلَ ْي ِه} قال‪ :‬قال آدم يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قيل له بلى‪ ،‬ونفخت في‬ ‫ت فَتَ َ‬
‫ِم ْن َربِّ ِه َكلِ َما ٍ‬
‫من روحك؟ قيل له بلى‪ ،‬وعطست فقلت يرحمك هللا وسبقت رحمتك غضبك؟ قيل له‪:‬‬
‫بلى‪ ،‬وكتبت علي أن أعمل هذا؟ قيل له بلى‪ ،‬قال أفرأيت إن تبت هل أنت راجعي‬
‫إلى الجنَّة؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬ثم قال الحاكم‪ :‬صحيح اإلسناد ولم يخرجاه‪.‬‬
‫وروى الحاكم أيضا ً والبيهقي وابن عساكر من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‪،‬‬
‫عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هَّللا عليه وسلم‪" :‬لما‬
‫اقترف آدم الخطيئة قال‪ :‬يا رب أسألك بحق محمد أن تغفر لي"‪ .‬فقال هللا‪ :‬فكيف عرفت‬
‫محمداً ولم أخلقه بعد؟ فقال‪ :‬يا رب ألنك لما خلقتني بيدك‪ ،‬ونفخت في من روحك‪ ،‬رفعت‬
‫رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا ً‪ :‬ال إله إال هللا محمد رسول هللا‪ ،‬فعلمت أنك لم‬
‫تضف إلى اسمك إال أحب الخلق إليك‪.‬فقال هللا‪ :‬صدقت يا آدم‪ ،‬إنه ألحب الخلق إلي‪ ،‬وإذ‬
‫سألتني بحقه فقد غفرت لك‪ ،‬ولوال محمد ما خلقتك‪ .‬قال البيهقي‪ :‬تفرد به عبد الرحمن بن‬
‫زيد بن أسلم من هذا الوجه وهو ضعيف‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫صى آ َد ُم َربَّهُ فَ َغ َوى‪ .‬ثُ َّم اجْ تَبَاهُ َربُّهُ فَتَ َ‬
‫اب َعلَ ْي ِه َوهَ َدى}‪.‬‬ ‫وهذه اآلية كقوله تعالى‪َ { :‬و َع َ‬
‫ذكر احتجاج‪ d‬آدم وموسى عليهما السالم‬
‫ي‪َ :‬ح َّدثَنا قتيبة‪َ ،‬ح َّدثَنا أيوب بن النجار‪ d،‬عن يحيى بن أبي كثير‪ ،‬عن أبي‬ ‫قال الب َُخار ّ‬
‫سلمة‪ ،‬عن أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪ :‬حاج موسى آدم عليهما السالم‬
‫فقال له‪ :‬أنت الذي أخرجت‪ d‬الناس بذنبك من الجنَّة وأشقيتهم‪.‬‬
‫قال آدم‪ " :‬يا موسى أنت الذي اصطفاك هللا برساالته وبكالمه‪ ،‬أتلومني على أمر قد‬
‫كتبه هللا علي قبل أن يخلقني‪ ،‬أو قدره علي قبل أن يخلقني"؟‪.‬‬
‫قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم "فحج آدم موسى"‪.‬‬
‫وقد رواه مسلم عن عمرو الناقد‪ ،‬والنسائي عن ُم َح ْمد بن عبد هللا بن يزيد‪ ،‬عن أيوب‬
‫بن النجار به‪ .‬قال أبو مسعود الدمشقي‪ :‬ولم يخرجا عنه في "الصحيحين" سواه‪.‬‬
‫وقد رواه أحمد‪ ،‬عن عبد الرزاق عن معمر‪ ،‬عن همام‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬ورواه مسلم‬
‫عن ُم َح ْمد بن رافع‪ ،‬عن عبد الرازق به‪.‬‬
‫وقال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا أبو كامل‪َ ،‬ح َّدثَنا إبراهيم‪َ ،‬ح َّدثَنا‬
‫أبو شهاب‪ ،‬عن حميد بن عبد الرحمن‪ ،‬عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هَّللا‬
‫عليه وسلم‪" :‬احتج آدم موسى‪ ،‬فقال له موسى‪ :‬أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من‬
‫الجنَّة؟‪ .‬فقال له آدم‪ :‬وأنت موسى الذي اصطفاك هللا برساالته وبكالمه تلومني على أمر‬
‫ق ّدر علي قبل أن أخلق؟ قال رسول هللا صلى هَّللا عليه وسلم‪" :‬فحج آدم موسى" مرتين‪.‬‬
‫ي ومسلم من حديث الزهري عن حميد بن عبد‬ ‫قلت‪ :‬وقد روى هذا الحديث الب َُخار ّ‬
‫الرحمن‪ ،‬عن أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه وسلم بنحوه‪.‬‬
‫وقال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا معاوية بن عمرو‪َ ،‬ح َّدثَنا زائدة‪ ،‬عن األعمش‪ ،‬عن أبي‬
‫صالح‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬احتج آدم وموسى‪ ،‬فقال‬
‫موسى‪ :‬يا آدم أنت الذي خلقك هللا بيده‪ ،‬ونفخ فيك من روحه‪ ،‬أغويت الناس وأخرجتهم‬
‫من الجنَّة"‪ .‬قال‪ :‬فقال آدم‪" :‬وأنت موسى الذي اصطفاك هللا بكالمه تلومني على عمل‬
‫أعمله‪ ،‬كتبه هللا علي قبل أن يخلق السماوات واألرض"؟ قال فحج آدم موسى"‪.‬‬
‫وقد رواه الترمذي والنسائي جميعا ً عن يحيى بن حبيب بن عدي‪ ،‬عن معمر بن‬
‫سليمان‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن األعمش به‪ .‬قال الترمذي‪ :‬وهو غريب عن حديث سليمان التيمي‬
‫عن األعمش‪ .‬قال‪ :‬وقد رواه بعضهم عن األعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد‪ .‬قلت‪:‬‬
‫هكذا رواه الحافظ أبو بكر البزار في "مسنده"‪ ،‬عن ُم َح ْمد بن مثنى‪ ،‬عن معاذ بن‬
‫أسد‪ ،‬عن الفضل‪ d‬بن موسى‪ ،‬عن األعمش‪ ،‬عن أبي صالح‪ ،‬عن أبي سعيد‪ ،‬ورواه البزار‬
‫أيضا ً‪َ :‬ح َّدثَنا عمرو بن علي الفالس‪َ ،‬ح َّدثَنا أبو معاوية‪ ،‬عن األعمش‪ ،‬عن أبي صالح‪،‬‬
‫عن أبي هريرة‪ ،‬أو أبي سعيد عن النبي صلى هللا عليه وسلم فذكر نحوه‪.‬‬
‫وقال أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا سفيان عن عمرو سمع طاووساً‪ ،‬سمع أبا هريرة يقول‪ :‬قال رسول‬
‫هللا صلى هَّللا عليه وسلم‪" :‬احتج آدم وموسى‪ ،‬فقال موسى‪ :‬يا آدم أنت أبونا خيبتنا‬
‫وأخرجتنا من الجنَّة‪ .‬فقال له آدم‪ :‬يا موسى أنت الذي اصطفاك هللا بكالمه ‪ -‬وقال مرة‪:‬‬
‫برسالته ‪ -‬وخط لك بيده‪ ،‬أتلومني على أمر قدره هللا علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟"‬
‫قال‪" :‬حج آدم موسى‪ ،‬حج آدم موسى‪ ،‬حج آدم موسى"‪.‬‬
‫ي عن علي بن المديني‪ ،‬عن سفيان‪ ،‬قال حفظناه من عمرو عن‬ ‫وهكذا رواه الب َُخار ّ‬
‫طاووس‪ ،‬قال سمعت أبا هريرة عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪ :‬احتج آدم وموسى‪،‬‬
‫فقال موسى‪ :‬يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنَّة‪ ،‬فقال له آدم‪ :‬يا موسى‪ :‬اصطفاك‬
‫هللا بكالمه وخط لك بيده‪ ،‬أتلومني على أمر قدره هللا علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟‬
‫فحج آدم موسى‪ ،‬فحج آدم موسى‪ ،‬فحج آدم موسى‪ .‬هكذا ثالثا ً‪.‬‬
‫قال سفيان‪َ :‬ح َّدثَنا أبو الزناد‪ ،‬عن األعرج‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم مثله‪.‬‬
‫وقد رواه الجماعة إال ابن ماجة من عشر طرق‪ ،‬عن سفيان بن ُعيينة‪ ،‬عن عمرو بن‬
‫دينار‪ ،‬عن عبد هللا بن طاووس‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫بنحوه‪.‬‬
‫وقال أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا عبد الرحمن‪َ ،‬ح َّدثَنا حماد‪ ،‬عن عمار‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬عن النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬لقي آدم موسى‪ ،‬فقال‪ :‬أنت آدم الذي خلقك هللا بيده‪ ،‬وأسجد لك‬
‫مالئكته‪ ،‬وأسكنك الجنَّة‪ ،‬ثم فعلت ما فعلت؟ فقال أنت موسى الذي كلمك هللا واصطفاك‬
‫برسالته‪ ،‬وأنزل عليك التوراة‪ ،‬أنا أقدم أم الذكر؟ قال‪ :‬ال بل الذكر‪ .‬فحج آدم موسى‪.‬‬
‫وح َّدثَنا عفان‪َ ،‬ح َّدثَنا حماد‪ ،‬عن عمار بن أبي عمار‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬عن‬ ‫قال أحمد‪َ :‬‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم وحميد عن الحسن عن رجل ‪ -‬قال حماد أظنه جندب بن عبد‬
‫هللا البجلي ‪ -‬عن النبي صلى هَّللا عليه وسلم قال‪" :‬لقي آدم موسى" فذكر معناه‪.‬‬
‫تفرد به أحمد من هذا الوجه‪.‬‬
‫يرين‪،‬‬ ‫وقال أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا حسين‪َ ،‬ح َّدثَنا جرير ‪ -‬هو ابن حازم ‪ -‬عن محمد‪ ،‬هو ابن ِس ِ‬
‫عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬لقي آدم موسى فقال‪ :‬أنت آدم‬
‫الذي خلقك هللا بيده‪ ،‬وأسكنك جنته‪ ،‬وأسجد لك مالئكته‪ ،‬ثم صنعت ما صنعت؟ قال آدم‬
‫لموسى‪ :‬أنت الذي كلمه هللا‪ ،‬وأنزل عليه التوراة؟ قال‪ :‬نعم قال‪ :‬فهل تجده مكتوبا ً علي‬
‫قبل أن أخلق؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪" :‬فحج آدم موسى‪ ،‬فحج آدم موسى"‪.‬‬
‫يرين‪ ،‬عن أبي هريرة‬ ‫وكذا رواه حماد بن زيد‪ ،‬عن أيوب‪ ،‬وهشام عن ُم َح ْمد بن ِس ِ‬
‫رفعه‪ .‬وكذا رواه علي بن عاصم‪ ،‬عن خالد‪،‬‬
‫يرين وهذا على شرطهما من هذه الوجوه‪.‬‬ ‫وهشام‪ ،‬عن ُم َح ْمد بن ِس ِ‬
‫وقال ابن أبي حاتم‪َ :‬ح َّدثَنا يونس بن عبد األعلى‪ ،‬أنبأنا ابن وهب‪ ،‬أخبرني أنس بن‬
‫عياض‪ ،‬عن الحارث‪ d‬بن أبي دياب‪ ،‬عن يزيد بن هرمز‪ ،‬سمعت أبا هريرة يقول‪ :‬قال‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم "احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى‪ ،‬قال‬
‫موسى‪ :‬أنت الذي خلقك هللا بيده‪ ،‬ونفخ فيك من روحه‪ ،‬وأسجد لك مالئكته‪ ،‬وأسكنك‬
‫جنته‪ ،‬ثم أهبطت الناس إلى األرض بخطيئتك؟ قال آدم‪ :‬أنت موسى الذي اصطفاك هللا‬
‫برسالته وكالمه‪ ،‬وأعطاك األلواح فيها تبيان كل شيء‪ ،‬وقربك نجيا؟ فبكم وجدت هللا‬
‫كتب التوراة قال موسى‪ :‬بأربعين عاماً‪ ،‬قال آدم‪ :‬فهل وجدت فيها‪" :‬وعصى آدم ربه‬
‫فغوى"؟ قال‪ :‬نعم قال أفتلومني على أن عملت عمالً كتب هللا علي أن أعمله قبل أن‬
‫يخلقني بأربعين سنة"؟ قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هَّللا عليه وسلم‪" :‬فحج آدم موسى"‪.‬‬
‫قال الحارث‪ :d‬وحدثني عبد الرحمن بن هرمز بذلك‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬عن رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫وقد رواه مسلم عن إسحاق بن موسى األنصاري‪ ،‬عن أنس بن عياض‪ ،‬عن الحارث‪d‬‬
‫بن عبد الرحمن بن أبي ذباب‪ d،‬عن يزيد بن هرمز واألعرج‪ ،‬كالهما عن أبي هريرة عن‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم بنحوه‪.‬‬
‫وقال أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا عبد الرزاق‪ ،‬أنبأنا معمر‪ ،‬عن الزهري‪ ،‬عن أبي سلمة‪ ،‬عن أبي‬
‫هريرة قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬احتج آدم وموسى‪ ،‬فقال موسى آلدم‪ :‬يا‬
‫آدم أنت الذي أدخلت ذريتك النار‪ .‬فقال آدم‪ :‬يا موسى اصطفاك هللا برساالته وبكالمه‪،‬‬
‫وأنزل عليك التوراة‪ ،‬فهل وجدت أن أهبط؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فحجه آدم"‪.‬‬
‫وهذا على شرطهما ولم يخرجاه من هذا الوجه‪ ،‬وفي قوله أدخلت ذريتك النار‪،‬‬
‫نكارة‪.‬‬
‫فهذه طرق هذا الحديث عن أبي هريرة‪ ،‬رواه عنه حميد بن عبد الرحمن‪ ،‬وذكوان‬
‫أبو صالح السمان‪ ،‬وطاووس بن كيسان‪ ،‬وعبد الرحمن بن هرمز األعرج‪ ،‬وعمار بن‬
‫يرين‪ ،‬وهمام بن منبه‪ ،‬ويزيد بن هرمز‪ ،‬وأبو سلمة بن عبد‬ ‫أبي عمار‪ ،‬و ُم َح ْمد بن ِس ِ‬
‫الرحمن‪.‬‬
‫وقد رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في "مسنده" من حديث أمير المؤمنين عمر بن‬
‫الخطاب رضي هللا عنه فقال‪َ :‬ح َّدثَنا الحارث‪ d‬بن مسكين المصري‪َ ،‬ح َّدثَنا عبد هللا بن‬
‫وهب‪ ،‬أخبرني هشام بن سعد‪ ،‬عن زيد بن أسلم‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن عمر بن الخطاب‪ d،‬عن‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬قال موسى عليه السالم‪ :‬يا رب أرنا آدم الذي أخرجنا‬
‫ونفسه من الجنَّة‪ .‬فأراه آدم عليه السالم‪ ،‬فقال‪ :‬أنت آدم؟ فقال له آدم‪ :‬نعم فقال‪ :‬أنت الذي‬
‫نفخ هللا فيك من روحه‪ ،‬وأسجد لك مالئكته‪ ،‬وعلمك األسماء كلها؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬فما‬
‫حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنَّة؟‬
‫فقال له آدم‪ :‬من أنت؟ قال‪ :‬أنا موسى‪ .‬قال‪ :‬أنت موسى نبي بني إسرائيل؟ أنت الذي‬
‫كلمك هللا من وراء الحجاب‪ d،‬فلم يجعل بينك وبينه رسوالً من خلقه؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪:‬‬
‫تلومني على أمر قد سبق من هللا عز وجل القضاء به قبل ؟! قال رسول هللا صلى هَّللا‬
‫عليه وسلم‪" :‬فحج آدم موسى‪ ،‬فحج آدم موسى"‪.‬‬
‫ورواه أبو داود عن أحمد بن صالح المصري‪ ،‬عن ابن وهب به‪.‬‬
‫وح َّدثَنا ُم َح ْمد بن المثنى‪َ ،‬ح َّدثَنا عبد الملك بن الصباح المسمعي‪َ ،‬ح َّدثَنا‬
‫قال أبو يعلى‪َ :‬‬
‫عمران‪ ،‬عن الرديني‪ ،‬عن أبي مجلز عن يحيى بن يعمر‪ ،‬عن ابن عمر‪ ،‬عن عمر ‪ -‬قال‬
‫أبو محمد‪ :‬أكبر ظني أنه رفعه ‪ -‬قال‪" :‬التقى آدم وموسى‪ ،‬فقال موسى آلدم‪ :‬أنت أبو‬
‫البشر‪ ،‬أسكنك هللا جنته‪ ،‬وأسجد لك مالئكته‪ .‬قال آدم‪ :‬يا موسى أما تجده علي مكتوباً؟‬
‫قال‪ :‬فحج آدم موسى‪ ،‬فحج آدم موسى"‪ .‬وهذا اإلسناد أيضا ً ال بأس به‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫وقد تقدم رواية الفضل بن موسى لهذا الحديث عن األعمش‪ ،‬عن أبي صالح عن أبي‬
‫سعيد‪ ،‬ورواية اإلمام أحمد له عن عفان‪ ،‬عن حماد بن سلمة عن حميد‪ ،‬عن الحسن عن‬
‫رجل‪ .‬قال حماد‪ :‬أظنه جندب بن عبد هللا البجلي‪ d،‬عن النبي صلى هَّللا عليه وسلم‪" :‬لقي‬
‫آدم موسى" فذكر معناه‪.‬‬
‫وقد اختلفت‪ d‬مسالك الناس في هذا الحديث‪:‬‬
‫فرده قوم من القدرية لما تضمن من إثبات القدر السابق‪.‬‬
‫واحتج به قوم من الجبرية‪ ،‬وهو ظاهر لهم بادي الرأي حيث قال‪ :‬فحج آدم موسى‪،‬‬
‫لما احتج عليه بتقديم كتابه‪ ،‬وسيأتي الجواب عن هذا‪.‬‬
‫وقال آخرون‪ :‬إنما حجه ألنه المه على ذنب قد تاب منه‪ ،‬والتائب من الذنب كمن ال‬
‫ذنب له‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إنما حجة ألنه أكبر منه وأقدم‪ .‬وقيل‪ :‬ألنه أبوه‪ .‬وقيل‪ :‬ألنهما في شريعتين‬
‫متغايرتين‪ .‬وقيل‪ :‬ألنهما في دار البرزخ وقد انقطع التكليف فيما يزعمون‪.‬‬
‫والتحقيق‪ :‬أن هذا الحديث روي بألفاظ كثيرة بعضها مروي بالمعنى‪ ،‬وفيه نظر‪.‬‬
‫ومدار معظمها في "الصحيحين"‪ d‬وغيرهما على أنه المه على إخراجه نفسه وذريته‬
‫من الجنَّة‪ ،‬فقال له آدم‪ :‬أنا لم أخرجكم‪ ،‬وإنما أخرجكم الذي رتب اإلخراج على أكلي من‬
‫الشجرة‪ ،‬والذي رتب ذلك وقدره وكتبه قبل أن أخلق‪ ،‬هو هللا عز وجل‪ ،‬فأنت تلومني‬
‫على أمر ليس له نسبة إلى كثر من أني نهيت عن األكل من الشجرة فأكلت منها‪ ،‬وكون‬
‫اإلخراج مترتبا ً على ذلك ليس من فعلي‪ ،‬فأنا لم أخرجكم وال نفسي من الجنَّة‪ ،‬وإنما كان‬
‫هذا من قدر هللا وصنعه‪ ،‬وله الحكمة في ذلك‪ .‬فلهذا حج آدم موسى‪.‬‬
‫ومن كذب بهذا الحديث فمعاند؛ ألنه متواتر عن أبي هريرة رضي هللا عنه‪ ،‬وناهيك‬
‫به عدالة وحفظا ً وإتقانا ً‪.‬‬
‫ثم هو مروي عن غيره من الصحابة كما ذكرنا‪.‬‬
‫ومن تأوله بتلك التأويالت المذكورة آنفاً‪ ،‬فهو بعيد من اللفظ والمعنى‪ ،‬وما فيهم من‬
‫هو أقوى مسلكا ً من الجبرية‪.‬‬
‫وفيما قالوه نظر من وجوه‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أن موسى عليه السالم ال يلوم على أمر قد تاب عنه فاعله‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أنه قد قتل نفسا ً لم يؤمر بقتلها‪ ،‬وقد سأل هللا في ذلك بقوله‪{ :‬قَ َ‬
‫ال َربِّ إِنِّي‬
‫ت نَ ْف ِسي فَا ْغفِرْ لِي فَ َغفَ َر لَهُ}‪.‬‬ ‫َ‬
‫ظلَ ْم ُ‬
‫الثالث‪ :‬أنه لو كان الجواب عن اللوم على الذنب بالقدر المتقدم كتابته على العبد‪،‬‬
‫النفتح هذا لكل من ليم على أمر قد فعله‪ ،‬فيحتج بالقدر السابق فينسد باب القصاص‬
‫والحدود‪ .‬ولو كان القدر حجة الحتج به كل أحد على األمر الذي ارتكبه في األمور الكبار‬
‫والصغار‪ ،‬وهذا يفضي إلى لوازم فظيعة‪ .‬فلهذا قال من قال من العلماء‪ ،‬بأن جواب آدم‬
‫إنما كان احتجاجا ً بالقدر على المصيبة ال المعصية‪.‬‬
‫وهللا تعالى أعلم‪.‬‬

‫ذكر األحاديث الواردة في خلق آدم عليه السالم‬


‫قال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا يحيى و ُم َح ْمد بن جعفر‪َ ،‬ح َّدثَنا عوف‪ ،‬حدثني قسامة بن‬
‫زهير‪ ،‬عن أبي موسى‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪ :‬إن هللا خلق آدم من قبضة‬
‫قبضها من جميع األرض‪ ،‬فجاء بنو آدم على قدر األرض‪ ،‬فجاء منهم األبيض واألحمر‬
‫واألسود وبين ذلك‪ ،‬والخبيث والطيب‪ ،‬والسهل والحزن وبين ذلك‪.‬‬
‫ورواه أيضا ً عن هوذة‪ ،‬عن عوف‪ ،‬عن قسامة بن زهير‪ ،‬سمعت األشعري قال‪ :‬قال‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪" :‬إن هللا خلق آدم من قبضة قبضها من جميع األرض‪،‬‬
‫فجاء بنو آدم على قدر األرض‪ ،‬فجاء منهم األبيض واألحمر واألسود وبين ذلك‪ ،‬والسهل‬
‫والحزن وبين ذلك‪ ،‬والخبيث والطيب وبين ذلك"‪.‬‬
‫وكذا رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في "صحيحه"‪ ،‬من حديث عوف بن أبي‬
‫جميلة األعرابي‪ ،‬عن قسامة بن زهير المازني البصري‪ ،‬عن أبي موسى عبد هللا بن قيس‬
‫األشعري عن النبي صلى هللا عليه وسلم بنحوه‪ .‬وقال الترمذي‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬
‫وقد ذكر ال ُّسدِّي عن أبي مالك وأبي صالح‪ ،‬عن ابن عبَّاس‪ ،‬وعن ُمرَّة عن ابن‬
‫س من أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قالوا‪ :‬فبعث هللا عز وجل‬ ‫مسعود‪ ،‬وعن نا ٍ‬
‫جبريل في األرض ليأتيه بطين منها‪ ،‬فقالت األرض‪ :‬أعوذ باهلل منك أن تنقص مني أو‬
‫تشينني‪ ،‬فرجع ولم يأخذ‪ ،‬وقال‪ :‬رب إنها عاذت بك فأعذتها‪.‬‬
‫فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها‪ ،‬فرجع فقال كما قال جبريل‪ .‬فبعث هللا ملك الموت‬
‫فعاذت منه‪ ،‬فقال‪ :‬وأنا أعوذ باهلل أن أرجع ولم أنفذ أمره‪ ،‬فأخذ من وجه األرض وخلطه‪،‬‬
‫ولم يأخذ من مكان واحد‪ ،‬وأخذ من تربة بيضاء وحمراء وسوداء‪ ،‬فلذلك خرج بنو آدم‬
‫مختلفين‪.‬‬
‫فصعد به فبل التراب حتى عاد طينا ً الزبا ً‪ .‬والالزب‪ :‬هو الذي يلزق بعضه ببعض‪،‬‬
‫ُوحي فَقَعُوا لَهُ‬
‫ت فِي ِه ِم ْن ر ِ‬ ‫ق بَ َشراً ِم ْن ِط ٍ‬
‫ين‪ .‬فَإِ َذا َس َّو ْيتُهُ َونَفَ ْخ ُ‬ ‫ثم قال للمالئكة‪{ :‬إِنِّي َخالِ ٌ‬
‫ين}‪.‬‬
‫اج ِد َ‬
‫َس ِ‬
‫فخلقه هللا بيده لئال يتكبر إبليس عنه‪ ،‬فخلقه بشراً‪ ،‬فكان جسداً من طين أربعين سنة‬
‫من مقدار يوم الجمعة‪ ،‬فمرت به المالئكة ففزعوا منه لما رأوه‪ ،‬وكان أشدهم منه فزعا ً‬
‫إبليس‪ ،‬فكان يمر به فيضربه‪ ،‬فيصوت الجسد كما يصوت الفخار‪ d‬يكون له صلصلة‪ ،‬فذلك‬
‫ار} ويقول‪ :‬ألمر ما خلقت‪ ،‬ودخل من فيه وخرج من‬ ‫ال َك ْالفَ َّخ ِ‪d‬‬‫ص ٍ‬ ‫ص ْل َ‬
‫حين يقول‪ِ { :‬م ْن َ‬
‫دبره‪ ،‬وقال للمالئكة‪ :‬ال ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف‪ ،‬لئن سلطت عليه‬
‫ألهلكنه‪.‬‬
‫فلما بلغ الحين الذي يريد هللا عز وجل أن ينفخ فيه الروح‪ ،‬قال للمالئكة‪ :‬إذا نفخت‬
‫فيه من روحي فاسجدوا له‪ ،‬فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس‪ ،‬فقالت‪d‬‬
‫المالئكة قل‪ :‬الحمد هلل‪ ،‬فقال‪ :‬الحمد هلل‪ ،‬فقال له هللا‪ :‬رحمك ربك‪ ،‬فلما دخلت الروح في‬
‫عينيه نظر إلى ثمار الجنَّة‪ ،‬فلما دخلت الروح في جوفه اشتهى الطعام‪ ،‬فوثب قبل أن تبلغ‬
‫ان ِم ْن‬ ‫الروح إلى رجليه عجالن إلى ثمار الجنَّة‪ ،‬وذلك حين يقول هللا تعالى‪ُ { :‬خلِ َ‬
‫ق ا ِإلن َس ُ‬
‫َع َج ٍل} {فَ َس َج َد ْال َماَل ئِ َكةُ‬
‫ين} وذكر تمام القصة‪.‬‬ ‫َّاج ِد َ‬ ‫يس أَبَى أَ ْن يَ ُك َ‬
‫ون َم َع الس ِ‬ ‫ُون‪ ،‬إِاَّل إِ ْبلِ َ‬ ‫ُكلُّهُ ْم أَجْ َمع َ‬
‫ولبعض هذا السياق شاهد من األحاديث‪ d،‬وإن كان كثير منه متلقى من اإلسرائيليات‪.‬‬
‫فقال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا عبد الصمد‪َ ،‬ح َّدثَنا حماد‪ ،‬عن ثابت‪ ،‬عن أنس أن النبي صلى‬
‫هللا عليه وسلم قال‪" :‬لما خلق هللا آدم تركه ما شاء أن يدعه‪ ،‬فجعل إبليس يطيف به‪ ،‬فلما‬
‫رآه أجوف عرف أنه خلق ال يتمالك"‪.‬‬
‫وقال ابن حبان في "صحيحه"‪َ :‬ح َّدثَنا الحسن بن سفيان‪َ ،‬ح َّدثَنا هدبة بن خالد‪َ ،‬ح َّدثَنا‬
‫حماد بن سلمة‪ ،‬عن ثابت‪ ،‬عن أنس بن مالك أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬لما‬
‫نفخ في آدم فبلغ الروح رأسه عطس‪ ،‬فقال‪ :‬الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬فقال له تبارك‬
‫وتعالى‪ :‬يرحمك هللا"‪.‬‬
‫وقال الحافظ أبو بكر البزار‪َ :‬ح َّدثَنا يحيى بن ُم َح ْمد بن السكن‪َ ،‬ح َّدثَنا حبان بن هالل‪،‬‬
‫َح َّدثَنا مبارك بن فضالة‪ ،‬عن عبيد هللا‪ ،‬عن حبيب‪ ،‬عن حفص ‪ -‬هو ابن عاصم بن عبيد‬
‫هللا بن عمر بن الخطاب‪ - d‬عن أبي هريرة رفعه قال‪" :‬لما خلق هللا آدم عطس‪ ،‬فقال الحمد‬
‫هلل‪ ،‬فقال له ربه رحمك ربك يا آدم"‪ .‬وهذا اإلسناد ال بأس به ولم يخرجوه‪.‬‬
‫وقال عمر بن عبد العزيز‪ :‬لما أمرت المالئكة بالسجود كان أول من سجد منهم‬
‫إسرافيل‪ ،‬فآتاه هللا أن كتب القرآن في جبهته‪ .‬رواه ابن عساكر‪.‬‬
‫وقال الحافظ أبو يعلى‪َ :‬ح َّدثَنا عقبة بن مكرم‪َ ،‬ح َّدثَنا عمرو بن محمد‪ ،‬عن إسماعيل‬
‫بن رافع‪ ،‬عن المقبري‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬إن هللا‬
‫خلق آدم من تراب‪ ،‬ثم جعله طينا ً ثم تركه‪ ،‬حتى إذا كان حمأ مسنون خلقه هللا وصوره ثم‬
‫تركه‪ ،‬حتى إذا كان صلصاالً كالفخار قال‪ :‬فكان إبليس يمر به فيقول‪ :‬لقد خلقت‪ d‬ألمر‬
‫عظيم‪.‬‬
‫ثم نفخ هللا فيه من روحه فكان أول ما جرى فيه الروح بصره وخياشيمه‪ ،‬فعطس‬
‫فلقاه هللا رحمة به‪ ،‬فقال هللا! يرحمك ربك‪ ،‬ثم قال هللا‪ :‬يا آدم اذهب إلى هؤالء النفر فقل‬
‫لهم فانظر ماذا يقولون؟ فجاء فسلم عليهم فقالوا‪ :‬وعليك السالم ورحمة هللا وبركاته‪ .‬فقال‪:‬‬
‫يا آدم هذا تحيتك وتحية ذريتك‪ .‬قال يا رب‪ :‬وما ذريتي؟ قال‪ :‬اختر "احدى" يدي يا آدم‪،‬‬
‫قال‪ :‬أختار يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين‪ ،‬فبسط كفه فإذا من هو كائن من ذريته في‬
‫كف الرحمن‪ ،‬فإذا رجال منهم أفواههم النور‪ ،‬وإذا رجل يعجب آدم نوره‪ ،‬قال يا رب من‬
‫هذا؟ قال ابنك داود‪ ،‬قال‪ :‬يا رب فكم جعلت له من العمر؟ قال جعلت له ستين‪ ،‬قال‪ :‬يا‬
‫رب فأتم له من عمري حتى يكون له من العمر مائة سنة‪ ،‬ففعل هللا ذلك‪ ،‬وأشهد على‬
‫ذلك‪.‬‬
‫فلما نفذ عمر آدم بعث هللا ملك الموت‪ ،‬فقال آدم‪ :‬أولم يبق من عمري أربعون سنة؟‬
‫قال له الملك‪ :‬أولم تعطها ابنك داود؟ فجحد ذلك‪ ،‬فجحدت ذريته‪ ،‬ونسي فنسيت ذريته!"‪.‬‬
‫وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار والترمذي والنسائي في اليوم والليلة من حديث‬
‫صفوان بن عيسى‪ ،‬عن الحارث بن عبد الرحمن بن‬
‫أبي ذباب‪ d،‬عن أبي سعيد المقبري‪ ،‬عن أبي هريرة عن النبي صلى هَّللا عليه وسلم‪.‬‬
‫وقال الترمذي حديث حسن غريب من هذا الوجه‪ .‬وقال النسائي‪ :‬هذا حديث منكر‪ .‬وقد‬
‫رواه ُم َح ْمد بن عجالن‪ ،‬عن أبيه عن أبي سعيد المقبري‪ ،‬عن عبد هللا بن سالم‪.‬‬
‫وقال الترمذي‪َ :‬ح َّدثَنا عبد بن حميد‪َ ،‬ح َّدثَنا أبو نعيم‪َ ،‬ح َّدثَنا هشام بن سعد‪ ،‬عن زيد بن‬
‫أسلم‪ ،‬عن أبي صالح‪ ،‬عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪" :‬لما‬
‫خلق هللا آدم مسح ظهره‪ ،‬فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة‪،‬‬
‫وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا ً من نور‪ ،‬ثم عرضهم على آدم فقال‪ :‬أي رب من‬
‫هؤالء؟ قال‪ :‬هؤالء ذريتك‪ ،‬فرأى رجالً فأعجبه وبيص ما بين عينيه‪ ،‬فقال‪ :‬أي رب من‬
‫هذا؟ قال هذا رجل من آخر األمم من ذريتك يقال له داود‪ ،‬قال‪ :‬رب وكم جعلت عمره؟‬
‫قال ستين سنة‪ ،‬قال‪ :‬أي رب زده من عمري أربعين سنة‪ .‬فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك‬
‫الموت‪ ،‬قال‪ :‬أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال‪ :‬أو لم تعطها ابنك داود؟ قال فجحد‬
‫فجحدت ذريته‪ ،‬ونسي آدم فنسيت ذريته‪ ،‬وخطىء آدم فخطئت ذريته"‪.‬‬
‫ثم قال الترمذي‪ :‬حسن صحيح‪ .‬وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي‬
‫صلى هَّللا عليه وسلم‪ .‬ورواه الحاكم في "مستدركه" من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين‪،‬‬
‫وقال‪ :‬صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه‪.‬‬
‫وروى ابن أبي حاتم من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه‪ ،‬عن عطاء بن‬
‫يسار‪ ،‬عن أبي هريرة مرفوعا ً فذكره وفيه‪" :‬ثم عرضهم على آدم فقال‪ :‬يا آدم هؤالء‬
‫ذريتك‪ ،‬وإذا فيهم األجذم واألبرص واألعمى وأنواع األسقام‪ ،‬فقال آدم‪ :‬يا رب لم فعلت‬
‫هذا بذريتي؟ قال‪ :‬كي تشكر نعمتي"‪ .‬ثم ذكر قصة داود‪ .‬وستأتي من رواية ابن عبَّاس‬
‫أيضا ً‪.‬‬
‫وقال اإلمام أحمد في "مسنده"‪َ :‬ح َّدثَنا الهيثم بن خارجة‪َ ،‬ح َّدثَنا أبو الربيع عن يونس‬
‫بن ميسرة‪ ،‬عن أبي إدريس‪ ،‬عن أبي الدرداء‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬خلق‬
‫هللا آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى‪ ،‬فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الدر‪ ،‬وضرب كتفه‬
‫اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم‪ ،‬فقال للذي في يمينه‪ :‬إلى الجنَّة وال أبالي‪ ،‬وقال‬
‫للذي في كتفه اليسرى‪ :‬إلى النار وال أبالي"‪.‬‬
‫وقال ابن أبي الدنيا‪َ :‬ح َّدثَنا خلف بن هشام‪َ ،‬ح َّدثَنا الحكم بن سنان‪ ،‬عن حوشب‪ ،‬عن‬
‫الحسن قال‪ :‬خلق هللا آدم حين خلقه فأخرج أهل الجنَّة من صفحته اليمنى‪ ،‬وأخرج أهل‬
‫النار من صفحته اليسرى‪ ،‬فألقوا على وجه األرض؛ منهم األعمى واألصم والمبتلى‪ .‬فقال‬
‫آدم‪ :‬يا رب أال سويت بين ولدي؟ قال‪ :‬يا آدم إني أردت أن أشكر‪.‬‬
‫وهكذا روى عبد الرزاق عن معمر‪ ،‬عن قتادة عن الحسن بنحوه‪.‬‬
‫وقد رواه أبو حاتم وابن حبان في "صحيحه" فقال‪َ :‬ح َّدثَنا ُم َح ْمد بن إسحاق بن‬
‫خزيمة‪َ ،‬ح َّدثَنا ُم َح ْمد بن بشار‪َ ،‬ح َّدثَنا صفوان بن عيسى‪َ ،‬ح َّدثَنا الحارث‪ d‬بن عبد الرحمن‬
‫بن أبي ذباب‪ ،‬عن سعيد المقبري‪ ،‬عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم ‪" :‬لما خلق هللا آدم ونفخ فيه الروح عطس‪ ،‬فقال الحمد هلل‪ .‬فحمد هللا بإذن هللا‪ ،‬فقال‬
‫له ربه‪ :‬يرحمك ربك يا آدم‪ ،‬اذهب إلى أولئك المالئكة إلى مأل منهم جلوس فسلم عليهم ‪،‬‬
‫فقال‪ :‬السالم عليكم‪ ،‬فقالوا وعليكم السالم ورحمة هللا‪ .‬ثم رجع إلى ربه فقال هذه تحيتك‬
‫وتحية بنيك بينهم‪ .‬وقال هللا ويداه مقبوضتان‪ :‬اختر أيهما شئت‪ ،‬فقال اخترت يمين ربي‬
‫وكلتا يدي ربي يمين مباركة‪ ،‬ثم بسطهما فإذا فيهما آدم وذريته‪ ،‬فقال‪ :‬أي رب ما هؤالء؟‬
‫قال هؤالء ذريتك‪ ،‬وإذا كل إنسان منهم مكتوب عمره بين عينيه‪ ،‬وإذا فيهم رجل‬
‫أضوؤهم ‪ -‬أو من أضوئهم ‪ -‬لم يكتب له إال أربعون سنة‪ ،‬قال‪ :‬يا رب من هذا؟ قال‪ :‬هذا‬
‫ابنك داود‪ .‬وقد كتب هللا عمره أربعين سنة‪ .‬قال‪ :‬أي رب زد في عمره‪ ،‬فقال ذاك الذي‬
‫كتب له‪ ،‬قال‪ :‬فإني قد جعلت له من عمري ستين سنة‪ ،‬قال‪ :‬أنت وذاك‪ .‬اسكن الجنَّة‪.‬‬
‫فسكن الجنَّة ما شاء هللا ثم هبط منها‪ ،‬وكان آدم يعد لنفسه‪ .‬فأتاه ملك الموت فقال له آدم‪:‬‬
‫قد عجلت‪ ،‬قد كتب لي ألف سنة‪ .‬قال‪ :‬بلى‪ ،‬ولكنك جعلت البنك داود منها ستين سنة‪،‬‬
‫فجحد آدم فجحدت ذريته‪ ،‬ونسي فنسيت ذريته‪ ،‬فيومئذ أمر بالكتاب والشهود" هذا لفظه‪.‬‬
‫ي‪َ :‬ح َّدثَنا عبد هللا بن محمد‪َ ،‬ح َّدثَنا عبد الرزاق‪ ،‬عن معمر‪ ،‬عن همام‬ ‫وقد قال الب َُخار ّ‬
‫بن منبه‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬خلق هللا آدم وطوله ستون‬
‫ذراعاً‪ ،‬ثم قال اذهب فسلم على أولئك "النفر" من المالئكة‪ ،‬فاستمع ما يجيبونك‪ ،‬فإنها‬
‫تحيتك وتحية ذريتك‪ ،‬فقال‪ :‬السالم عليكم‪ ،‬فقالوا السالم عليك ورحمة هللا‪ .‬فزادوه ورحمة‬
‫هللا‪ .‬فكل من يدخل الجنَّة على صورة آدم‪ ،‬فلم يزل الخلق ينقص حتى اآلن"‪.‬‬
‫ي في كتاب االستئذان‪ ،‬عن يحيى بن جعفر‪ ،‬ومسلم‪ ،‬عن ُم َح ْمد‬ ‫وهكذا رواه الب َُخار ّ‬
‫بن رافع‪ ،‬كالهما عن عبد الرزاق به‪.‬‬
‫وقال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا روح‪َ ،‬ح َّدثَنا حماد بن سلمة‪ ،‬عن علي بن زيد عن سعيد بن‬
‫ال ُمسَّيب‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬كان طول آدم ستين‬
‫ذراعا ً في سبع أذرع عرضا ً"‪ .‬انفرد به أحمد‪.‬‬
‫وقال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا عفان‪َ ،‬ح َّدثَنا حماد بن سلمة‪ ،‬عن علي بن زيد‪ ،‬عن يوسف‬
‫بن مهران‪ ،‬عن ابن عبَّاس‪ ،‬قال لما نزلت آية الدين قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪:‬‬
‫"أن أول من جحد آدم‪ ،‬أن أول من جحد آدم‪ ،‬أن أول من جحد آدم‪ .‬أن هللا لما خلق آدم‬
‫مسح ظهره‪ ،‬فأخرج منه ما هو ذارئ إلى يوم القيامة‪ ،‬فجعل يعرض ذريته عليه‪ ،‬فرأى‬
‫فيهم رجالً يزهر‪ ،‬قال‪ :‬أي رب من هذا؟ قال‪ :‬هذا ابنك داود‪ ،‬قال أي رب كم عمره‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ستون عاماً‪ ،‬قال‪ :‬أي رب زد في عمره‪ .‬قال‪ :‬ال‪ ،‬إال أن أزيده من عمرك‪ ،‬وكان عمر آدم‬
‫ألف عام فزاده أربعين عاما ً‪ .‬فكتب هللا عليه بذلك كتابا ً وأشهد عليه المالئكة‪ .‬فلما احتضر‬
‫آدم أتته المالئكة لقبضه‪ ،‬قال‪ :‬أنه قد بقي من عمري أربعون عاما ً‪ .‬فقيل له‪ :‬إنك قد‬
‫وهبتها البنك داود قال‪ :‬ما فعلت‪ ،‬وأبرز هللا عليه الكتاب وشهدت عليه المالئكة‪.‬‬
‫وقال أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا أسود بن عامر‪َ ،‬ح َّدثَنا حماد بن سلمة‪ ،‬عن علي بن زيد‪ ،‬عن‬
‫يوسف بن مهران‪ ،‬عن ابن عبَّاس قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪" :‬أن أول من‬
‫جحد آدم‪ .‬قالها ثالث مرات‪ .‬إن هللا عز وجل لما خلقه مسح ظهره فأخرج ذريته فعرضهم‬
‫عليه‪ ،‬فرأى فيهم رجالً يزهر‪ ،‬فقال أي رب زد في عمره‪ .‬قال‪ :‬ال‪ ،‬إال أن تزيده أنت من‬
‫عمرك‪ .‬فزاده أربعين سنة من عمره‪ .‬فكتب هللا تعالى عليه كتابا ً وأشهد عليه المالئكة‪:‬‬
‫فلما أراد أن يقبض روحه قال‪ :‬إنه بقي من أجلي أربعون سنة‪ ،‬فقيل له‪ :‬إنك قد جعلتها‬
‫البنك داود‪ .‬قال‪ :‬فجحد‪ ،‬قال فأخرج هللا الكتاب‪ d،‬وأقام عليه البينة‪ ،‬فأتمها لداود مائة سنة‪،‬‬
‫وأتم آلدم عمره ألف سنة‪ .‬تفرد به أحمد وعلي بن زيد‪ ،‬في حديثه نكارة‪.‬‬
‫ورواه الطبراني عن علي بن عبد العزيز‪ ،‬عن حجاج‪ d‬بن منهال‪ ،‬عن حماد بن سلمة‪،‬‬
‫عن علي بن زيد‪ ،‬عن يوسف بن مهران‪ ،‬عن ابن عبَّاس وغير واحد‪ ،‬عن الحسن قال‪:‬‬
‫لما نزلت آية الدين قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ " :‬إن أول من جحد آدم ثالثا ً"‬
‫وذكره‪.‬‬
‫وقال اإلمام مالك بن أنس في "موطئه" عن زيد بن أبي أنيسة‪ ،‬أن عبد الحميد بن‬
‫عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب‪ d،‬أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب‪d‬‬
‫ُور ِه ْم ُذ ِّريَّتَهُ ْم َوأَ ْشهَ َدهُ ْم َعلَى‬
‫سئل عن هذه اآلية‪َ { :‬وإِ ْذ أَ َخ َذ َرب َُّك ِم ْن بَنِي آ َد َم ِم ْن ظُه ِ‬
‫ْت بِ َربِّ ُك ْم قَالُوا بَلَى} اآلية‪ ،‬فقال عمر بن الخطاب‪ :‬سمعت رسول هللا صلى هللا‬ ‫أَنفُ ِس ِه ْم أَلَس ُ‬
‫عليه وسلم يسئل عنها فقال‪" :‬إن هللا خلق آدم عليه السالم‪ ،‬ثم مسح ظهره بيمينه‪،‬‬
‫فاستخرج منه ذرية‪ ،‬قال‪ :‬خلقت هؤالء للجنة وبعمل أهل الجنَّة يعملون‪ .‬ثم مسح ظهره‬
‫فاستخرج منه ذرية قال‪ :‬خلقت‪ d‬هؤالء للنار‪ ،‬وبعمل أهل النار يعملون"‪ .‬فقال رجل‪ :‬يا‬
‫رسول هللا ففيم العمل؟ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ " :‬إذا خلق هللا العبد للجنة‬
‫استعمله بعمل أهل الجنَّة‪ ،‬حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنَّة فيدخل به الجنَّة‪،‬‬
‫وإذا خلق هللا العبد للنار‪ ،‬استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل‬
‫النار فيدخل به النار"‪.‬‬
‫وهكذا رواه اإلمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم‪،‬‬
‫وأبو حاتم بن حبان في "صحيحه" من طرق‪ ،‬عن اإلمام مالك به‪.‬‬
‫وقال الترمذي‪ :‬هذا حديث حسن‪ ،‬ومسلم بن يسار لم يسمع عمر‪ .‬وكذا قال أبو حاتم‬
‫وأبو زرعة‪ ،‬زاد أبو حاتم‪ :‬وبينهما نعيم بن ربيعة‪.‬‬
‫وقد رواه أبو داود عن ُم َح ْمد بن مصفى‪ ،‬عن بقية‪ ،‬عن عمر بن جثعم‪ ،‬عن زيد بن‬
‫أبي أنيسة‪ ،‬عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب‪ ،‬عن مسلم بن يسار‪ ،‬عن‬
‫نعيم بن ربيعة‪ ،‬قال‪ :‬كنت عند عمر بن الخطاب وقد سئل عن هذه اآلية فذكر الحديث‪.‬‬
‫قال الحافظ الدارقطني‪ :‬وقد تابع عمر بن جثعم أبو فروة بن يزيد بن سنان الرهاوي‪ ،‬عن‬
‫زيد بن أبي أنيسة قال‪ :‬وقولهما أولى بالصواب‪ d‬من قول مالك رحمه هللا‪.‬‬

‫وهذه األحاديث كلها دالة على استخراجه تعالى ذرية آدم من ظهره كالذر‪ ،‬وقسمتهم‬
‫قسمين‪ :‬أهل اليمين وأهل الشمال‪ ،‬وقال‪ :‬هؤالء للجنة وال أبالي‪ ،‬وهؤالء للنار وال أبالي‪.‬‬
‫فأما اإلشهاد عليهم واستنطاقهم باإلقرار بالوحدانية؛ فلم يجيء في األحاديث الثابتة‪.‬‬
‫وتفسير اآلية التي في سورة األعراف وحملها على هذا فيه نظر كما بيناه هناك وذكرنا‬
‫األحاديث واآلثار مستقصاة بأسانيدها وألفاظ متونها‪ ،‬فمن أراد تحريره فليراجعه ثم‪ .‬وهللا‬
‫أعلم‪.‬‬
‫فأما الحديث الذي رواه أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا حسين بن محمد‪َ ،‬ح َّدثَنا جرير ‪ -‬يعني ابن حازم‬
‫‪ -‬عن كلثوم بن جبر‪ ،‬عن سعيد بن جبير‪ ،‬عن ابن عبَّاس‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫قال‪ :‬إن هللا أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السالم بنعمان يوم عرفة‪ ،‬فأخرج من صلبه كل‬
‫ْت بِ َربِّ ُك ْم قَالُوا بَلَى َش ِه ْدنَا أَ ْن تَقُولُوا‬‫ذرية ذرأها فنثرها بين يديه ثم كلمهم قبالً قال‪{ :‬أَلَس ُ‬
‫ين‪ .‬أَ ْو تَقُولُوا إِنَّ َما أَ ْش َر َ‬
‫ك آبَا ُؤنَا ِم ْن قَ ْب ُل َو ُكنَّا ُذ ِّريَّةً ِم ْن‬ ‫يَ ْو َم ْالقِيَا َم ِة إِنَّا ُكنَّا َع ْن هَ َذا َغافِلِ َ‬
‫بَ ْع ِد ِه ْم أَفَتُ ْهلِ ُكنَا بِ َما فَ َع َل ْال ُمب ِْطلُ َ‬
‫ون}‪.‬‬
‫فهو بإسناد جيد قوي على شرط مسلم‪ ،‬رواه النسائي وابن جرير والحاكم في‬
‫"مستدركه" من حديث حسين بن محمد المروزي به‪ .‬وقال الحاكم‪ :‬صحيح اإلسناد ولم‬
‫يخرجاه‪ ،‬إال أنه اختلف فيه على كلثوم ابن جبر فروي عنه مرفوعا ً وموقوفاً‪ ،‬وكذا روي‬
‫عن سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس موقوفا‪ .‬وهكذا رواه العوفي والوالبي والضحاك وأبو‬
‫جمرة‪ ،‬عن ابن عبَّاس من قوله‪ .‬وهذا أكثر وأثبت وهللا أعلم‪ .‬وهكذا روي عن عبد هللا بن‬
‫عمر موقوفا ً ومرفوعاً‪ ،‬والموقوف أصح‪.‬‬
‫واستأنس القائلون بهذا القول ‪ -‬وهو أخذ الميثاق على الذرية وهم الجمهور ‪ -‬بما قال‬
‫اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا حجاج‪ ،‬حدثني شعبة‪ ،‬عن أبي عمران الجوني‪ ،‬عن أنس بن مالك‪،‬‬
‫عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة‪ :‬لو كان لك ما‬
‫على األرض من شيء أكنت مفتديا ً به؟ قال‪ :‬فيقول نعم‪ .‬فيقول قد أردت منك ما هو أهون‬
‫من ذلك‪ ،‬قد أخذت عليك في ظهر آدم أن ال تشرك بي شيئاً‪ ،‬فأبيت إال أن تشرك بي"‪.‬‬
‫أخرجاه من حديث شعبة به‪.‬‬
‫وقال أبو جعفر الرازي‪ :‬عن الربيع بن أنس‪ ،‬عن أبي العالية‪ ،‬عن أُبَ ّي بن َكعب‪ ،‬في‬
‫ُور ِه ْم ُذرِّ يَّتَهُ ْم} اآلية والتي بعدها‪ .‬قال‪:‬‬ ‫قوله تعالى‪َ { :‬وإِ ْذ أَ َخ َذ َرب َُّك ِم ْن بَنِي آ َد َم ِم ْن ظُه ِ‬
‫فجمعهم له يومئذ جميعا ً ما هو كائن منه إلى يوم القيامة‪ ،‬فخلقهم ثم صورهم‪ ،‬ثم‬
‫استنطقهم فتكلموا‪ ،‬وأخذ عليهم العهد والميثاق‪ ،‬وأشهد عليهم أنفسهم‪{ :‬أَلَس ُ‬
‫ْت بِ َربِّ ُك ْم قَالُوا‬
‫بَلَى} اآلية‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإني أشهد عليكم السماوات السبع واألرضين السبع‪ ،‬وأشهد عليكم أباكم آدم‪ ،‬أن‬
‫ال تقولوا يوم القيامة‪ :‬لم نعلم بهذا‪ ،‬اعلموا أنه ال إله غيري وال رب غيري‪ ،‬وال تشركوا‬
‫بي شيئاً‪ ،‬وإني سأرسل إليكم رسالً ينذرونكم عهدي وميثاقي‪ ،‬وأنزل عليكم كتابي‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫نشهد أنك ربنا وإلهنا‪ ،‬ال رب لنا غيرك‪ ،‬وال إله لنا غيرك‪ .‬فأقروا له يومئذ بالطاعة‪.‬‬
‫ورفع أباهم آدم فنظر إليهم‪ ،‬فرأى فيهم الغني والفقير‪ ،‬وحسن الصورة ودون ذلك‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يا رب لو سويت بين عبادك؟ فقال‪ :‬إني أحببت أن أشكر‪ .‬ورأى فيهم األنبياء مثل‬
‫السرج عليهم النور‪ ،‬وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة‪ ،‬فهو الذي يقول هللا تعالى‪:‬‬
‫وح َوإِب َْرا ِهي َم َو ُمو َسى َو ِعي َسى ا ْب ِن َمرْ يَ َم‬ ‫ك َو ِم ْن نُ ٍ‬ ‫{ َوإِ ْذ أَ َخ ْذنَا ِم ْن النَّبِي َ‬
‫ِّين ِميثَاقَهُ ْم َو ِم ْن َ‬
‫ط َرةَ هَّللا ِ الَّتِي فَطَ َر‬‫ِّين َحنِيفا ً فِ ْ‬
‫ك لِلد ِ‬ ‫َوأَ َخ ْذنَا ِم ْنهُ ْم ِميثَاقا ً َغلِيظا ً} وهو الذي يقول‪{ :‬فَأَقِ ْم َوجْ هَ َ‬
‫ق هَّللا ِ} وفي ذلك قال‪{ :‬هَ َذا نَ ِذي ٌر ِم ْن النُّ ُذ ِر اأْل ُولَى} وفي ذلك‬ ‫اس َعلَ ْيهَا ال تَ ْب ِدي َل لِ َخ ْل ِ‬
‫النَّ َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫قال‪َ { :‬و َما َو َج ْدنَا ألَ ْكثَ ِر ِه ْم ِم ْن َع ْه ٍد َوإِ ْن َو َج ْدنَا أَ ْكثَ َرهُ ْم لَفَ ِ‬
‫اسقِ َ‬
‫رواه األئمة‪ :‬عبد هللا بن أحمد‪ ،‬وابن أبي حاتم‪ ،‬وأبن جرير‪ ،‬وابن مردويه‪ ،‬في‬
‫تفاسيرهم من طريق أبي جعفر‪ .‬وروي عن مجاهد‪ ،‬وعكرمة‪ ،‬وسعيد بن جبير‪ ،‬والحسن‬
‫البصري‪ ،‬وقتادة‪ ،‬وال ُّسدِّي‪ ،‬وغير واحد من علماء السلف بسياقات توافق هذه األحاديث‪.‬‬
‫وتقدم أنه تعالى لما أمر المالئكة بالسجود آلدم‪ ،‬امتثلوا كلهم األمر اإللهي‪ ،‬وامتنع‬
‫إبليس من السجود له حسداً وعداوة له‪ ،‬فطرده هللا وأبعده‪ ،‬وأخرجه من الحضرة اإللهية‬
‫ونفاه عنها‪ ،‬وأهبطه إلى األرض طريداً ملعونا ً شيطانا ً رجيما ً‪.‬‬
‫وقد قال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا وكيع ويعلى ومحمد ابنا عبيد‪ ،‬قالوا َح َّدثَنا األعمش‪ ،‬عن‬
‫أبيصالح‪ ،‬عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪" :‬إذا قرأ ابن آدم‬
‫السجدة فسجد‪ ،‬اعتزل ال ّشيْطان يبكي يقول‪ :‬يا ويله‪ ،‬أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله‬
‫الجنَّة‪ ،‬وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار"‪.‬‬
‫ورواه مسلم من حديث وكيع وأبي معاوية عن األعمش به‪.‬‬
‫ثم لما اسكن آدم الجنَّة التي أسكنها‪ ،‬سواء أكانت في السماء أم في األرض على ما‬
‫تقدم من الخالف فيه‪ ،‬أقام بها هو وزوجته َح َّواء عليهما السالم‪ ،‬يأكالن منها رغداً حيث‬
‫شاءا‪ ،‬فلما أكال من الشجرة التي نهيا عنها‪ ،‬سلبا ما كانا فيه من اللباس وأهبطا إلى‬
‫األرض‪ .‬وقد ذكرنا االختالف في مواضع هبوطه منها‪.‬‬
‫واختلفوا في مقدار مقامه في الجنَّة‪ :‬فقيل بعض يوم من أيام الدنيا‪ ،‬وقد قدمنا ما رواه‬
‫مسلم عن أبي هريرة مرفوعا ً‪" :‬وخلق آدم في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة" وتقدم‬
‫أيضا ً حديثه عنه‪ ،‬وفيه ‪ -‬يعني يوم الجمعة ‪ -‬خلق آدم‪ ،‬وفيه أخرج منها‪.‬‬
‫فإن كان اليوم الذي خلق فيه فيه أخرج ‪ -‬وقلنا إن األيام الستة‬

‫كهذه األيام ‪ -‬فقد لبث بعض يوم من هذه‪ ،‬وفي هذا نظر‪ .‬وإن كان إخراجه في غير‬
‫اليوم الذي خلق فيه‪ ،‬أو قلنا بأن تلك األيام مقدارها ستة آالف سنة‪ ،‬كما تقدم عن ابن‬
‫عبَّاس ومجاهد والضحاك واختاره ابن جرير‪ ،‬فقد لبث هناك مدة طويلة‪.‬‬
‫قال ابن جرير‪ :‬ومعلوم أنه خلق في آخر ساعة من يوم الجمعة‪ ،‬والساعة منه ثالث‬
‫وثمانون سنة وأربعة أشهر‪ ،‬فمكث مصوراً طينا ً قبل أن ينفخ فيه الروح أربعين سنة‪،‬‬
‫وأقام في الجنَّة قبل أن يهبط ثالثا ً وأربعين سنة وأربعة أشهر‪ ،‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬
‫وقد روى عبد الرزاق‪ ،‬عن هشام أن حسان‪ ،‬عن سوار خبر عطاء بن أبي رباح‪ :‬أنه‬
‫كان لما أهبط رجاله في األرض ورأسه في السماء‪ ،‬فحطه هللا إلى ستين ذراعا ً‪ .‬وقد‬
‫روي عن ابن عبَّاس نحوه‪.‬‬
‫وفي هذا نظر‪ ،‬لما تقدم من الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة أن رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬إن هللا خلق آدم وطوله ستون ذراعا ً فلم يزل الخلق ينقص‬
‫حتى اآلن" وهذا يقتضي أنه خلق كذلك ال أطول من ستين ذراعاً‪ ،‬وأن ذريته لم يزالوا‬
‫يتناقص خلقهم حتى اآلن‪.‬‬
‫وذكر ابن جرير عن ابن عبَّاس‪ :‬أن هللا قال‪ :‬يا آدم إن لي حرما ً بحيال عرشي‪،‬‬
‫فانطلق فابن لي فيه بيتاً‪ ،‬فطف به كما تطوف مالئكتي بعرشي‪ ،‬وأرسل هللا له ملكا ً فعرفه‬
‫مكانه وعلمه المناسك‪ ،‬وذكر أن موضع كل خطوة خطاها آدم صارت قربة بعد ذلك‪.‬‬
‫وعنه‪ :‬أن أول طعام أكله آدم في األرض‪ ،‬أن جاءه جبريل بسبع حبات من حنطة‪،‬‬
‫فقال‪ :‬ما هذا؟ قال‪:‬هذا من الشجرة التي نهيت عنها فأكلت منها فقال‪ :‬وما أصنع بهذا؟‬
‫قال‪ :‬ابذره في األرض‪ ،‬فبذره‪ .‬وكان كل حبة منها زنتها أزيد من مائة ألف‪ ،‬فنبتت‬
‫فحصده‪ ،‬ثم درسه ثم ذراه‪ ،‬ثم طحنه ثم عجنه ثم خبزه‪ ،‬فأكله بعد جهد عظيم‪ .‬وتعب‬
‫ونكد‪ ،‬وذلك قوله تعالى‪{ :‬فَاَل ي ُْخ ِر َجنَّ ُك َما ِم ْن الجنَّة فَتَ ْشقَى}‪.‬‬
‫وكان أول كسوتهما من شعر الضأن‪ :‬جزاه ثم غزاله‪ ،‬فنسج آدم له جبة‪ ،‬ول َح َّواء‬
‫درعا ً وخماراً‪.‬‬
‫واختلفوا‪ :‬هل ولد لهما بالجنَّة شيء من األوالد؟ فقيل‪ :‬لم يولد لهما إال في األرض‪،‬‬
‫وقيل بل ولد فيها‪ ،‬فكان قابيل وأخته ممن ولد بها‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫وذكروا أنه كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى‪ ،‬وأمر أن يزوج كل ابن أخت أخيه‬
‫التي ولدت معه‪ ،‬واآلخر باألخرى وهلم جرا‪ ،‬ولم يكن تحل أخت ألخيها الذي ولدت معه‪.‬‬

‫ذكر قصة ابني آدم ‪ -‬قابيل وهابيل‪.‬‬


‫ق إِ ْذ قَ َّربَا قُرْ بَانا ً فَتُقُب َِّل ِم ْن أَ َح ِد ِه َما َولَ ْم‬ ‫قال هللا تعالى‪َ { :‬وا ْت ُل َعلَ ْي ِه ْم نَبَأ َ ا ْبنَ ْي آ َد َم بِ ْال َح ِّ‬
‫ك لِتَ ْقتُلَنِي َما‬ ‫ي يَ َد َ‬ ‫طت إِلَ َّ‬
‫ين‪ .‬لَئِ ْن بَ َس َ‬ ‫ال إِنَّ َما يَتَقَبَّ ُل هَّللا ُ ِم ْن ْال ُمتَّقِ َ‬ ‫ك قَ َ‬ ‫ال ألَ ْقتُلَنَّ َ‬
‫اآلخ ِر قَ َ‬‫يُتَقَبَّلْ ِم ْن َ‬
‫ك‬‫ين‪ .‬إِنِّي أُ ِري ُد أَ ْن تَبُو َء بِإِ ْث ِمي َوإِ ْث ِم َ‬ ‫اف هَّللا َ َربَّ ْال َعالَ ِم َ‬ ‫ك إِنِّي أَ َخ ُ‬ ‫ك ألَ ْقتُلَ َ‬ ‫أَنَا بِبَا ِس ٍط يَ ِدي إِلَ ْي َ‬
‫ت لَهُ نَ ْف ُسهُ قَ ْت َل أَ ِخي ِه فَقَتَلَهُ فَأَصْ بَ َح‬ ‫ين‪ .‬فَطَ َّو َع ْ‬ ‫ك َج َزا ُء الظَّالِ ِم َ‬ ‫ار َو َذلِ َ‬ ‫ب النَّ ِ‬ ‫ون ِم ْن أَصْ َحا ِ‬ ‫فَتَ ُك َ‬
‫اري َس ْوأَةَ أَ ِخي ِه قَا َل يَا‬ ‫ْف ي َُو ِ‬ ‫ض لِي ُِريَهُ َكي َ‬ ‫ث فِي األَرْ ِ‬ ‫ث هَّللا ُ ُغ َرابا ً يَب َْح ُ‬ ‫ين‪ .‬فَبَ َع َ‬ ‫اس ِر َ‬ ‫ِم ْن ْال َخ ِ‬
‫ي َس ْوأَةَ أَ ِخي فَأَصْ بَ َح ِم ْن النَّا ِد ِم َ‬ ‫ون ِم ْث َل هَ َذا ْال ُغ َرا ِ ُ‬ ‫ت أَ ْن أَ ُك َ‬ ‫َو ْيلَتَا أَ َع َج ْز ُ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ار َ‬‫ب فَأ َو ِ‬
‫وقد تكلمنا على هذه القصة في سورة المائدة في التفسير بما فيه كفاية‪ .‬وهلل الحمد‪.‬‬
‫ولنذكر هنا ملخص ما ذكره أئمة السلف في ذلك‪.‬‬
‫فذكر ال ُّسدِّي عن أبي مالك وأبي صالح‪ ،‬عن ابن عبَّاس‪ ،‬وعن ُمرَّة عن ابن مسعود‬
‫س من الصحابة‪ d،‬أن آدم كان يزوج ذكر كل بطن بأنثى "البطن" اآلخر وأن هابيل‬ ‫وعن نا ٍ‬
‫أراد أن يتزوج بأخت قابيل‪ ،‬وكان أكبر من هابيل‪ ،‬وأخت قابيل أحسن‪ ،‬فأراد قابيل أن‬
‫يستأثر بها على أخيه‪ ،‬وأمره آدم عليه السالم أن يزوجه إياها فأبى‪ ،‬فأمرهما أن يقربا‬
‫قرباناً‪ ،‬وذهب آدم ليحج إلى مكة‪ ،‬واستحفظ السماوات على بنيه فأبين‪ ،‬واألرضين‬
‫والجبال فأبين‪ ،‬فتقبل قابيل بحفظ ذلك‪.‬‬
‫فلما ذهب قربا قربانهما؛ فقرب هابيل جذعة سمينة‪ ،‬وكان صاحب‪ d‬غنم‪ ،‬وقرب قابيل‬
‫حزمة من زرع من رديء زرعه‪ ،‬فنزلت نار فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل‪،‬‬
‫فغضب وقال‪ :‬ألقتلنك حتى ال تنكح أختي‪ ،‬فقال‪ :‬إنما يتقبل هللا من المتقين‪.‬‬
‫وروي عن ابن عبَّاس من وجوه أخر‪ ،‬وعن عبد هللا بن عمرو‪ ،‬وقال عبد هللا بن‬
‫عمرو‪ :‬وأيم هللا إن كان المقتول ألشد الرجلين‪ ،‬ولكن منعه التحرج أن يبسط إليه يده!‬
‫وذكر أبو جعفر الباقر أن آدم كان مباشراً لتقريبهما القربان والتقبل من هابيل دون‬
‫قابيل‪ ،‬فقال قابيل آلدم‪ :‬إنما تقبل منه ألنك دعوت له ولم تدع لي‪ .‬وتوعد أخاه فيما بينه‬
‫وبينه‪.‬‬
‫فلما كان ذات ليلة أبطأ هابيل في الرعي‪ ،‬فبعث آدم قابيل لينظر ما أبطأ به‪ ،‬فلما‬
‫ذهب إذا هو به‪ ،‬فقال له‪ :‬تقبل منك ولم يتقبل مني‪ .‬فقال‪ :‬إنما يتقبل هللا من المتقين‪.‬‬
‫فغضب قابيل عندها وضربه بحديدة كانت معه فقتله‪ .‬وقيل‪ :‬إنه إنما قتله بصخرة رماها‬
‫على رأسه وهو نائم فشدخته‪ .‬وقيل‪ :‬بل خنقه خنقا ً شديداً وعضه كما تفعل السباع فمات‪.‬‬
‫وهللا أعلم‪.‬‬
‫اس ٍط يَ ِدي إِلَ ْي َ‬
‫ك‬ ‫ك لِتَ ْقتُلَنِي َما أَنَا بِبَ ِ‬ ‫ي يَ َد َ‬ ‫طت إِلَ َّ‬
‫وقوله له لما توعده بالقتل‪{ :‬لَئِ ْن بَ َس َ‬
‫ين} دل على خلق حسن‪ ،‬وخوف من هللا تعالى وخشية‬ ‫اف هَّللا َ َربَّ ْال َعالَ ِم َ‬ ‫ك إِنِّي أَ َخ ُ‬ ‫ألَ ْقتُلَ َ‬
‫منه‪ ،‬وتورع أن يقابل أخاه بالسوء الذي أراد منه أخوه مثله‪.‬‬
‫ولهذا ثبت في "الصحيحين" عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أنه قال‪ " :‬إذا تواجه‬
‫المسلمان بسيفيهما فالقاتل‪ d‬والمقتول في النار‪ .‬قالوا يا رسول هللا‪ :‬هذا القاتل‪ d،‬فما بال‬
‫المقتول؟ قال‪ :‬إنه كان حريصا ً على قتل صاحبه"‪.‬‬
‫ار َو َذلِ َ‬
‫ك َج َزا ُء‬ ‫ون ِم ْن أَصْ َحا ِ‬
‫ب النَّ ِ‬ ‫ك فَتَ ُك َ‬‫وقوله‪{ :‬إِنِّي أُ ِري ُد أَ ْن تَبُو َء بِإِ ْث ِمي َوإِ ْث ِم َ‬
‫ين} أي إني أريد ترك مقاتلتك وإن كنت أشد منك وأقوى‪ ،‬إذ قد عزمت على ما‬ ‫الظَّالِ ِم َ‬
‫عزمت عليه‪ ،‬أن تبوء بإثمي وإثمك‪ ،‬أي تتحمل إثم مقاتلتي مع ما لك من األثام المتقدمة‬
‫قبل ذلك‪ .‬قاله مجاهد وال ُّسدِّي وابن جرير وغير واحد‪.‬‬
‫وليس المراد أن آثام المقتول تتحول بمجرد قتله إلى القاتل كما قد توهمه بعض من‬
‫قال‪ :‬فإن ابن جرير حكى اإلجماع على خالف ذلك‪.‬‬
‫وأما الحديث الذي يورده بعض من ال يعلم عن النبي صلى هللا عليه وسلم أنه قال‪:‬‬
‫"ما ترك القاتل على المقتول من ذنب" فال أصل له‪ ،‬و ال يعرف في شيء من كتب‬
‫الحديث بسند صحيح وال حسن وال ضعيف أيضا ً‪.‬‬
‫ولكن قد يتفق في بعض األشخاص يوم القيامة‪ ،‬أن يطالب المقتول القاتل فتكون‬
‫حسنات القاتل ال تفي بهذه المظلمة فتحول من سيئات المقتول إلى القاتل‪ ،‬كما ثبت به‬
‫الحديث الصحيح في سائر المظالم‪ ،‬والقتل من أعظمها وهللا أعلم‪ .‬وقد حررنا هذا كله في‬
‫التفسير وهلل الحمد‪.‬‬
‫وقد روى اإلمام أحمد وأبو داود والترمذي‪ ،‬عن سعد بن أبي وقاص‪ ،‬أنه قال عند‬
‫فتنة عثمان بن عفان‪ :‬أشهد أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬إنها ستكون فتنة؛‬
‫القاعد فيها خير من القائم‪ ،‬والقائم خير من الماشي‪ ،‬والماشي خير من الساعي" قال‪:‬‬
‫أفرأيت إن دخل على بيتي فبسط يده إلي ليقتلني‪ .‬قال "كن كابن آدم"‪.‬‬
‫ورواه ابن مردويه عن حذيفة بن اليمان مرفوعا ً‪ :‬كن كخير ابني آدم‪ .‬وروى مسلم‬
‫وأهل السنن إال النسائي عن أبي ذر نحو هذا‪.‬‬
‫وأما اآلخر فقد قال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا أبو معاوية ووكيع‪ ،‬قاال‪ :‬قال َح َّدثَنا األعمش‪،‬‬
‫عن عبد هللا بن مرة‪ ،‬عن مسروق‪ ،‬عن ابن مسعود‪ ،‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪:‬‬
‫"ال تقتل نفسا ً ظلما ً إال كان على ابن آدم األول كفل من دمها؛ ألنه كان أول من سن‬
‫القتل"‪.‬‬
‫ورواه الجماعة سوى أبي داود من حديث األعمش به‪ .‬وهكذا روي عن عبد هللا بن‬
‫عمرو بن العاص وإبراهيم النخعي أنهما قاال مثل هذا سواء‪.‬‬
‫وبجبل قاسيون شمالي دمشق مغارة يقال لها مغارة الدم‪ ،‬مشهورة بأنها المكان الذي‬
‫قتل قابيل أخاه هابيل عندها‪ ،‬وذلك مما تلقوه عن أهل الكتاب فاهلل أعلم بصحة ذلك‪.‬‬
‫وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة أحمد بن كثير ‪ -‬وقال إنه كان من الصالحين‬
‫‪ -‬أنه رأى النبي صلى هللا عليه وسلم وأبا بكر وعمر وهابيل‪ ،‬وأنه استحلف هابيل أن هذا‬
‫دمه فحلف له‪ ،‬وذكر أنه سأل هللا تعالى أن يجعل هذا المكان يستجاب عنده الدعاء‪ ،‬فأجابه‬
‫إلى ذلك‪ ،‬وصدقه في ذلك رسول هللا صلى هَّللا عليه وسلم‪ ،‬وقال إنه وأبا بكر وعمر‬
‫يزورون هذا المكان في كل يوم خميس‪ .‬وهذا منام لو صح عن أحمد بن كثير هذا‪ ،‬لم‬
‫يترتب عليه حكم شرعي وهللا أعلم‪.‬‬
‫اري َس ْوأَةَ أَ ِخي ِه قَا َل‬ ‫ْف ي َُو ِ‬ ‫ث فِي األَرْ ِ‬
‫ض لِي ُِريَهُ َكي َ‬ ‫ث هَّللا ُ ُغ َرابا ً يَب َْح ُ‬
‫وقوله تعالى‪{ :‬فَبَ َع َ‬
‫ي َس ْوأَةَ أَ ِخي فَأَصْ بَ َح ِم ْن النَّا ِد ِم َ‬ ‫ون ِم ْث َل هَ َذا ْال ُغ َرا ِ ُ‬ ‫ت أَ ْن أَ ُك َ‬ ‫يَا َو ْيلَتَا أَ َع َج ْز ُ‬
‫ين}‪ .‬ذكر‬ ‫ب فَأ َو ِ‬
‫ار َ‬
‫بعضهم أنه لما قتله حمله على ظهره سنة‪ ،‬وقال آخرون حمله مائة سنة‪ ،‬ولم يزل كذلك‬
‫حتى بعث هللا غرابين‪ .‬قال ال ُّسدِّي بإسناده عن الصحابة‪ :‬أخوين‪ ،‬فتقاتال فقتل أحدهما‬
‫اآلخر‪ ،‬فلما قتله عمد إلى األرض يحفر له فيها ثم ألقاه ودفنه وواراه‪ ،‬فلما رآه يصنع ذلك‬
‫ي َس ْوأَةَ أَ ِخي} ؟ ففعل مثل ما فعل‬ ‫ون ِم ْث َل هَ َذا ْال ُغ َرا ِ ُ‬‫ت أَ ْن أَ ُك َ‬ ‫{قَا َل يَا َو ْيلَتَا أَ َع َج ْز ُ‬
‫ب فَأ َو ِ‬
‫ار َ‬
‫الغراب فواراه ودفنه‪.‬‬
‫وذكر أهل التواريخ والسير أن آدم حزن على ابنه هابيل حزنا ً شديداً‪ ،‬وأنه قال في‬
‫ذلك شعراً‪ ،‬وهو قوله فيما ذكره ابن جرير عن ابن حميد‪:‬‬
‫تغيرت البالد ومن عليها ** فوجه األرض مغبر قبيح‬
‫تغير كل ذي لون وطعم ** * وقل بشاشة الوجه المليح‬

‫فأجيب آدم‪:‬‬
‫أبا هابيل قد قتال جميعا ً ** وصار الحي كالميت الذبيح‬
‫وجاء بشرة قد كان منها ** على خوف فجاء بها يصيح‬
‫وهذا الشعر فيه نظر‪ .‬وقد يكون آدم عليه السالم قال كالما ً يتحزن به بلغته‪ ،‬فألفه‬
‫بعضهم إلى هذا‪ ،‬وفيه أقوال وهللا أعلم‪.‬‬
‫وقد ذكر مجاهد أن قابيل عوجل بالعقوبة يوم قتل أخاه؛ فعلقت ساقه إلى فخذه‪،‬‬
‫وجعل وجهه إلى الشمس كيفما دارت‪ ،‬تنكيالً به وتعجيالً لذنبه وبغيه وحسده ألخيه‬
‫ألبويه‪.‬‬
‫وقد جاء في الحديث عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أنه قال‪" :‬ما من ذنب أجدر‬
‫أن يعجل هللا عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في اآلخرة من البغي وقطيعة الرحم"‪.‬‬
‫والذي رأيته في الكتاب الذي بأيدي أهل الكتاب الذين يزعمون أنه التوراة‪ :‬أن هللا‬
‫عز وجل أجله ونظره‪ ،‬وأنه سكن في أرض "نود" في شرقي عدن وهم يسمونه قنين‪،‬‬
‫وأنه ولد له خنوخ‪ ،‬ولخنوخ عندر‪ ،‬ولعندر محوايل‪ ،‬ولمحوايل متوشيل‪ ،‬ولمتوشيل المك‪.‬‬
‫وتزوج هذا امرأتين‪ :‬عدا وصال‪ .‬فولدت "عدا" ولداً اسمه ابل‪ ،‬وهو أول من سكن القباب‪d‬‬
‫واقتنى المال‪ ،‬وولدت أيضا ً نوبل‪ ،‬وهو أول من أخذ في ضرب الونج والصنج‪ .‬وولدت‬
‫"صال" ولدا اسمه توبلقين‪ ،‬وهو أول من صنع النحاس والحديد‪ ،‬وبنتا اسمها "نعمى"‪.‬‬
‫وفيها أيضا ً أن آدم طاف على امرأته فولدت غالما ً ودعت اسمه "شيث" وقالت من‬
‫أجل أنه قد وهب لي خلفا ً من هابيل الذي قتله قابيل‪ .‬وولد لشيث أنوش‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وكان عمر آدم يوم ولد له شيث مائة وثالثين سنة‪ ،‬وعاش بعد ذلك ثمانمائة‬
‫سنة‪ ،‬وكان عمر شيث يوم ولد له أنوش مائة وخمسا ً وستين‪ ،‬وعاش بعد ذلك ثمانمائة‬
‫سنة وسبع سنين‪ .‬وولد له بنون وبنات غير أنوش‪.‬‬
‫فولد ألنوش "قينان" وله من العمر تسعون سنة‪ ،‬وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة‬
‫وخمس عشر سنة‪ ،‬وولد له بنون وبنات‪.‬‬
‫فلما كان عمر قينان سبعين سنه ولد له مهالييل‪ ،‬وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة‬
‫وأربعين سنة‪ ،‬وولد له بنون وبنات‪ .‬فلما كان لمهالييل من العمر خمس وستون سنة ولد‬
‫له "يرد" وعاش بعد ذلك ثمانمائة وثالثين سنة وولد له بنون وبنات‪.‬‬
‫فلما كان ليرد مائة سنة واثنتان وستون سنة ولد له "خنوخ" وعاش بعد ذلك ثمانمائة‬
‫سنة وولد له بنون وبنات‪.‬‬
‫فلما كان لخنوخ خمس وستون سنة ولد له متوشلخ‪ ،‬وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة‪،‬‬
‫وولد له بنون وبنات‪ .‬فلما كان لمتوشلخ مائة وسبع وثمانون سنة ولد له "المك" وعاش‬
‫بعد ذلك سبعمائة واثنين وثمانين سنة وولد له بنون وبنات‪.‬‬
‫فلما كان لالمك من العمر مائة واثنتان وثمانون سنة ولد له "نوح" وعاش بعد ذلك‬
‫خمسمائة وخمسا ً وتسعين سنة‪ ،‬وولد له بنون وبنات‪ .‬فلما كان لنوح خمسمائة سنة ولد له‬
‫بنون‪ :‬سام وحام ويافث‪ .‬هذا مضمون ما في كتابهم صريحا ً‪.‬‬
‫وفي كون هذه التواريخ محفوظة فيما نزل من السماء نظر‪ ،‬كما ذكره غير واحد من‬
‫العلماء طاعنين عليهم في ذلك‪ .‬والظاهر أنها مقحمة فيها‪ ،‬ذكرها بعضهم على سبيل‬
‫الزيادة والتفسير‪ .‬وفيها غلط كثير كما سنذكره في مواضعه إن شاء هللا تعالى‪.‬‬
‫وقد ذكر اإلمام أبو جعفر بن جرير في "تاريخه" عن بعضهم‪ :‬أن َح َّواء ولدت آلدم‬
‫أربعين ولداً في عشرين بطنا ً‪ .‬قاله ابن إسحاق وسماهم‪ .‬وهللا تعالى أعلم‪ .‬وقيل مائة‬
‫وعشرين بطنا ً في كل واحد ذكر وأنثى‪ ،‬أولهم قابيل وأخته قليما‪ ،‬وآخرهم عبد المغيث‬
‫وأخته أم المغيث‪.‬‬
‫ثم انتشر الناس بعد ذلك وكثروا‪ ،‬وامتدوا في األرض ونموا؛ كما قال هللا تعالى‪{ :‬يَا‬
‫ث ِم ْنهُ َما ِر َجاالً‬ ‫ق ِم ْنهَا َز ْو َجهَا َوبَ َّ‬‫اح َد ٍة َو َخلَ َ‬ ‫س َو ِ‬ ‫أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا َربَّ ُك ْم الَّ ِذي َخلَقَ ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍ‬
‫َكثِيراً َونِ َسا ًء} اآلية‪.‬‬
‫وقد ذكر أهل التاريخ أن آدم عليه السالم لم يمت حتى رأى من ذريته من أوالده‬
‫وأوالد أوالده أربعمائة ألف نسمة‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫اح َد ٍة َو َج َع َل ِم ْنهَا َز ْو َجهَا لِيَ ْس ُك َن إِلَ ْيهَا فَلَ َّما‬‫س َو ِ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬هُ َو الَّ ِذي َخلَقَ ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍ‬
‫صالِحا ً لَنَ ُكونَ َّن‬ ‫ت َد َع َوا هَّللا َ َربَّهُ َما لَئِ ْن آتَ ْيتَنَا َ‬ ‫َّت بِ ِه فَلَ َّما أَ ْثقَلَ ْ‬
‫ت َح ْمالً َخفِيفا ً فَ َمر ْ‬ ‫تَ َغ َّشاهَا َح َملَ ْ‬
‫ون}‬ ‫صالِحا ً َج َعال لَهُ ُش َر َكا َء فِي َما آتَاهُ َما فَتَ َعالَى هَّللا ُ َع َّما يُ ْش ِر ُك َ‬ ‫ِم ْن ال َّشا ِك ِر َ‬
‫ين‪ .‬فَلَ َّما آتَاهُ َما َ‬
‫اآليات‪ .‬فهذا تنبيه أوالً بذكر آدم‪ ،‬ثم استطرد إلى الجنس‪ .‬وليس المراد بهذا ذكر آدم‬
‫و َح َّواء‪ ،‬بل لما جرى ذكر الشخص استطرد إلى الجنس كما في قوله تعالى‪َ { :‬ولَقَ ْد َخلَ ْقنَا‬
‫ين} وقال تعالى‪َ { :‬ولَقَ ْد َزيَّنَّا‬ ‫ار َم ِك ٍ‬‫طفَةً فِي قَ َر ٍ‬ ‫ان ِم ْن سُاللَ ٍة ِم ْن ِطي ٍن‪ .‬ثُ َّم َج َع ْلنَاهُ نُ ْ‬ ‫اإلن َس َ‬ ‫ِ‬
‫ين} ومعلوم أن رجوم الشياطين ليست‬ ‫اط ِ‬ ‫يح َو َج َع ْلنَاهَا ُرجُوما ً لِل َّشيَ ِ‬ ‫صابِ َ‬ ‫ال َّس َما َء ال ُّد ْنيَا بِ َم َ‬
‫هي أعيان مصابيح السماء‪ ،‬وإنما استطرد من شخصها إلى جنسها‪.‬‬
‫فأما الحديث الذي رواه اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا عبد الصمد‪َ ،‬ح َّدثَنا عمر بن إبراهيم‪،‬‬
‫َح َّدثَنا قتادة عن الحسن‪ ،‬عن سمرة‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬لما ولدت َح َّواء‬
‫طاف بها إبليس وكان ال يعيش لها ولد‪ ،‬فقال سميه عبد الحارث فإنه يعيش‪ .‬فسمته عبد‬
‫الحارث فعاش‪ ،‬وكان ذلك من وحي ال ّشيْطان وأمره"‪.‬‬
‫وهكذا رواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه في تفاسيرهم عند هذه‬
‫اآلية‪ ،‬وأخرجه الحاكم في "مستدركه"‪ ،‬كلهم من حديث عبد الصمد ابن عبد الوارث به‪،‬‬
‫فقال الحاكم‪ :‬صحيح اإلسناد ولم يخرجاه‪ ،‬وقال الترمذي حسن غريب ال نعرفه إال من‬
‫حديث عمر بن إبراهيم‪ ،‬ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه‪.‬‬
‫فهذه علة قادحة في الحديث أنه روي موقوفا ً على الصحابي‪ d‬وهذا أشبه والظاهر أنه‬
‫تلقاه من اإلسرائيليات‪ d،‬وهكذا روي موقوفا ً عن ابن عبَّاس‪ .‬والظاهر أن هذا متلقى عن‬
‫كعب األحبار وذويه‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫وقد فسر الحسن البصري هذه اآليات بخالف هذا‪ ،‬فلو كان عنده عن سمرة مرفوعا ً‬
‫لما عدل عنه إلى غيره‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫وأيضا ً فاهلل تعالى إنما خلق آدم و َح َّواء ليكونا أصل البشر‪ ،‬وليبث منهما رجاالً كثيراً‬
‫ونساء‪ .‬فكيف كانت َح َّواء ال يعيش لها ولد كما ذكر في هذا الحديث إن كان محفوظاً؟!‬
‫والمظنون بل المقطوع به أن رفعه إلى النبي صلى هللا عليه وسلم خطأ‪ ،‬والصواب‬
‫وقفه وهللا أعلم‪ .‬وقد حررنا هذا في كتابنا التفسير وهلل الحمد‪.‬‬
‫وح َّواء أتقى هلل مما ذكر عنهما في هذا؛ فإن آدم أبو البشر الذي خلقه‬ ‫ثم قد كان آدم َ‬
‫هللا بيده‪ ،‬ونفخ فيه من روحه‪ ،‬وأسجد له مالئكته‪ ،‬وعلمه أسماء كل شيء وأسكنه جنته‪.‬‬
‫وقد روى ابن حبان في "صحيحه" عن أبي ذر قال‪ :‬قلت يا رسول هللا كم األنبياء؟‬
‫قال‪" :‬مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ً"‪ .‬قلت يا رسول هللا كم الرسل منهم؟ قال‪:‬‬
‫"ثالثمائة وثالثة عشر جم غفير" قلت يا رسول هللا من كان أولهم؟ قال‪ :‬آدم‪ .‬قلت يا‬
‫رسول هللا نبي مرسل؟ قال‪ :‬نعم خلقه هللا بيده ثم نفخ فيه من روحه ثم سواه قبال"‪.‬‬
‫وقال الطبراني‪َ :‬ح َّدثَنا إبراهيم بن نائلة األصبهاني‪َ ،‬ح َّدثَنا شيبان بن فروخ‪َ ،‬ح َّدثَنا‬
‫نافع بن هرمز‪ ،‬عن عطاء بن أبي رباح‪ ،‬عن ابن عبَّاس قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم ‪" :‬أال أخبركم بأفضل المالئكة‪ :‬جبريل‪ ،‬وأفضل النبيين آدم‪ ،‬وأفضل األيام يوم‬
‫الجمعة‪ ،‬وأفضل الشهور شهر رمضان‪ ،‬وأفضل الليالي ليلة القدر‪ ،‬وأفضل النساء مريم‬
‫بنت عمران"‪.‬‬
‫وهذا إسناد ضعيف‪ ،‬فإن نافعا ً أبا هرمز كذبه ابن معين‪ ،‬وضعفه أحمد وأبو زرعة‬
‫وأبو حاتم وابن حبان وغيرهم‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫وقال كعب األحبار‪ :‬ليس أحد في الجنَّة له لحية إال آدم‪ ،‬لحيته سوداء إلى سرته‪.‬‬
‫وليس أحد يكنى في الجنَّة إال آدم؛ كنيته في الدنيا أبو البشر وفي الجنَّة أبو محمد‪.‬‬
‫وقد روى ابن عدي من طريق شيخ بن أبي خالد‪ ،‬عن حماد بن سلمة‪ ،‬عن عمرو بن‬
‫دينار‪ ،‬عن جابر مرفوعا ً‪ :‬أهل الجنَّة يدعون بأسمائهم إال آدم فإنه يكنى أبا محمد‪.‬‬
‫ورواه ابن عدي أيضا ً من حديث علي بن أبي طالب‪ ،‬وهو ضعيف من كل وجه‪.‬‬
‫وهللا أعلم‪.‬‬
‫وفي حديث اإلسراء الذي في "الصحيحين"‪ :‬أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لما‬
‫م ّر بآدم وهو في السماء الدنيا‪ ،‬قال له مرحبا ً باالبن الصالح والنبي الصالح‪ d،‬قال‪ :‬وإذا‬
‫عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة‪ ،‬فإذا نظر عن يمينه ضحك‪ ،‬وإذا نظر عن شماله‬
‫بكى‪ ،‬فقلت‪ :‬يا جبريل ما هذا؟ قال‪ :‬هذا آدم وهؤالء نسم بنيه‪ ،‬فإذا نظر قبل أهل اليمين ‪-‬‬
‫وهم أهل الجنَّة ‪ -‬ضحك‪ d،‬وإذا نظر قبل أهل الشمال ‪ -‬وهم أهل النار ‪ -‬بكى‪.‬‬
‫وهذا معنى الحديث‪.‬‬
‫وقال أبو بكر البزار‪َ :‬ح َّدثَنا ُم َح ْمد بن المثنى‪ ،‬حدثني يزيد بن هارون‪ ،‬أنبأنا هشام بن‬
‫حسان بن الحسن قال‪ :‬كان عقل آدم مثل عقل جميع ولده‪.‬‬
‫وقال بعض العلماء في قوله صلى هللا عليه وسلّم ‪" :‬فمررت بيوسف وإذا هو قد‬
‫أعطي شطر الحسن" قالوا‪ :‬معناه أنه كان على النصف من حسن آدم عليه السالم‪ .‬وهذا‬
‫مناسب‪ ،‬فإن هللا خلق آدم وصوره بيده الكريمة‪ ،‬ونفخ فيه من روحه‪ ،‬فما كان ليخلق إال‬
‫أحسن األشباه‪.‬‬
‫وقد روينا عن عبد هللا بن عمر وابن عمر أيضا ً موقوفا ً ومرفوعا ً‪ :‬أن هللا تعالى لما‬
‫خلق الجنَّة‪ ،‬قالت المالئكة‪ :‬يا ربنا اجعل لنا هذه‪ ،‬فإنك خلقت لبني آدم الدنيا يأكلون فيها‬
‫ويشربون‪ ،‬فقال هللا تعالى‪ :‬وعزتي وجاللي ال أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن‬
‫قلت له كن فكان‪.‬‬
‫وقد ورد الحديث المروي في "الصحيحين"‪ d‬وغيرهما من طرق‪ :‬أن رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم قال‪" :‬إن هللا خلق آدم على صورته" وقد تكلم العلماء على هذا الحديث‬
‫فذكروا فيه مسالك كثيرة ليس هذا موضع بسطها‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫ذكر وفاة آدم ووصيته إلى ابنه شيث عليه السالم‬


‫ومعنى شيث‪ :‬هبة هللا‪ ،‬وسمياه بذلك ألنهما رزقاه بعد أن قتل هابيل‪.‬‬
‫قال أبو ذر في حديثه عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪" :‬إن هللا أنزل مائة‬
‫صحيفة وأربع صحف‪ ،‬على شيث خمسين صحيفة"‪.‬‬
‫قال ُم َح ْمد بن إسحاق‪ :‬ولما حضرت آدم الوفاة عهد إلى ابنه شيث وعلمه ساعات‬
‫الليل والنهار‪ ،‬وعلمه عبادات تلك الساعات‪ ،‬وأعلمه بوقوع الطوفان بعد ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬ويقال أن أنساب بني آدم اليوم كلها تنتهي إلى شيث‪ ،‬وسائر أوالد آدم غيره‬
‫انقرضوا وبادوا‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫ولما توفي آدم عليه السالم ‪ -‬وكان ذلك يوم الجمعة ‪ -‬جاءته المالئكة بحنوط‪ ،‬وكفن‬
‫من عند هللا عز وجل من الجنَّة‪ ،‬وعزوا فيه ابنه ووصيه شيثا ً عليه السالم‪ .‬قال ابن‬
‫اسحاق‪ :‬وكسفت الشمس والقمر سبعة أيام بلياليهن‪.‬‬
‫وقد قال عبد هللا ابن اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا هدبة بن خالد‪َ ،‬ح َّدثَنا حماد بن سلمة‪ ،‬عن‬
‫حميد‪ ،‬عن الحسن‪ ،‬عن يحيى ‪ -‬هو ابن ضمرة السعدي ‪ -‬قال‪ :‬رأيت شيخا ً بالمدينة يتكلم‬
‫فسألت عنه فقالوا هذا أُبَ ّي بن َكعب‪ ،‬فقال‪ :‬إن آدم لما حضره الموت قال لبنيه‪ :‬أي بني‪،‬‬
‫إني أشتهي من ثمار الجنَّة‪ .‬قال‪ :‬فذهبوا يطلبون له‪ ،‬فاستقبلتهم المالئكة ومعهم أكفانه‬
‫وحنوطه‪ ،‬ومعهم الفؤوس والمساحي والمكاتل‪ ،‬فقالوا لهم‪ :‬يا بني آدم ما تريدون وما‬
‫تطلبون؟ أو ما تريدون وأين تطلبون؟ قالوا‪ :‬أبونا مريض واشتهى من ثمار الجنَّة‪ ،‬فقالوا‬
‫لهم‪ :‬ارجعوا فقد قضي أبوكم‪ .‬فجاءوا فلما رأتهم َح َّواء عرفتهم فالذت بآدم‪ ،‬فقال‪ :‬إليك‬
‫عني فإني إنما أتيت من قبلك‪ ،‬فخلي بيني وبين مالئكة ربي عز وجل‪ .‬فقبضوه وغسلوه‬
‫وكفنوه وحنطوه‪ ،‬وحفروا له ولحدوه وصلوا عليه ثم أدخلوه قبره فوضعوه في قبره‪ ،‬ثم‬
‫حثوا عليه‪ ،‬ثم قالوا‪ :‬يا بني آدم هذه سنتكم‪ .‬إسناد صحيح إليه‪.‬‬
‫وروى ابن عساكر من طريق شيبان بن فروخ‪ ،‬عن ُم َح ْمد بن زياد‪ ،‬عن ميمون بن‬
‫مهران‪ ،‬عن ابن عبَّاس‪ ،‬أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬كبرت المالئكة على‬
‫آدم أربعاً‪ ،‬وكبر أبو بكر على فاطمة أربعاً‪ ،‬وكبر عمر على أبي بكر أربعاً‪ ،‬وكبر‬
‫صهيب على عمر أربعا ً"‪.‬‬
‫قال ابن عساكر‪ :‬ورواه غيره عن ميمون فقال عن ابن عمر‪.‬‬
‫واختلفوا في موضع دفنه‪ :‬فالمشهور أنه دفن عند الجبل الذي أهبط عليه في الهند‪،‬‬
‫وقيل بجبل أبي قبيس بمكة‪ .‬ويقال إن نوحا ً عليه السالم لما كان زمن الطوفان حمله هو‬
‫و َح َّواء في تابوت‪ ،‬فدفنهما ببيت المقدس‪ .‬حكى ذلك ابن جرير‪.‬‬
‫وروى ابن عساكر عن بعضهم أنه قال‪ :‬رأسه عند مسجد إبراهيم ورجاله عند‬
‫صخرة بيت المقدس‪ .‬وقد ماتت بعد َح َّواء بسنة واحدة‪.‬‬
‫واختلف في مقدار عمره عليه السالم‪ :‬فقدمنا في الحديث عن ابن عبَّاس وأبي هريرة‬
‫مرفوعا ً‪ :‬أن عمره اكتتب في اللوح المحفوظ ألف سنة‪.‬‬
‫وهذا ال يعارضه ما في التوراة من أنه عاش تسعمائة وثالثين سنة‪ ،‬ألن قولهم هذا‬
‫مطعون فيه مردود‪ ،‬إذا خالف الحق الذي بأيدينا مما هو المحفوظ عن المعصوم‪.‬‬
‫وأيضا ً فإن قولهم هذا يمكن الجمع بينه وبين ما في الحديث‪ :‬فإن ما في التوراة ‪ -‬إن‬
‫كان محفوظا ً ‪ -‬محمول على مدة مقامه في األرض بعد اإلهباط‪ ،‬وذلك تسعمائة سنة‬
‫وثالثون سنة شمسية‪ ،‬وهي بالقمرية تسعمائة وسبع وخمسون سنة‪ ،‬ويضاف إلى ذلك‬
‫ثالث وأربعون سنة مدة مقامه في الجنَّة قبل اإلهباط على ما ذكره ابن جرير وغيره‪،‬‬
‫فيكون الجميع ألف سنة‪.‬‬
‫وقال عطاء الخراساني‪ :‬لما مات آدم بكت الخالئق عليه سبع أيام‪ .‬رواه ابن عساكر‪.‬‬
‫فلما مات آدم عليه السالم قام بأعباء األمر بعده ولده شيث عليه السالم وكان نبيا ً‬
‫بنص الحديث الذي رواه ابن حبان في "صحيحه"‪ ،‬عن أبي ذر مرفوعا ً أنزل عليه‬
‫خمسون صحيفة‪.‬‬
‫فلما حانت وفاته أوصى إلى أبنه أنوش فقام باألمر بعده‪ ،‬ثم بعده ولده قينن ثم من‬
‫بعده ابنه مهالييل ‪ -‬وهو الذي يزعم األعاجم من الفرس أنه ملك األقاليم السبعة‪ ،‬وأنه أول‬
‫من قطع األشجار‪ ،‬وبنى المدائن والحصون الكبار‪ ،‬وأنه هو الذي بنى مدينة بابل ومدينة‬
‫السوس األقصى وأنه قهر إبليس وجنوده وشردهم عن األرض إلى أطرافها وشعاب‬
‫جبالها وأنه قتل خلقا ً من مردة الجن والغيالن‪ ،‬وكان له تاج عظيم‪ ،‬وكان يخطب الناس‬
‫ودامت دولته أربعين سنة‪.‬‬
‫فلما مات قام باألمر بعده ولده يرد فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ولده خنوخ‪ ،‬وهو‬
‫إدريس عليه السالم على المشهور‪.‬‬

‫ذكر إدريس عليه السالم‬

‫صدِّيقا ً نَبِيّا ً‪َ .‬و َرفَ ْعنَاهُ َم َكانا ً َعلِيّا ً}‬ ‫يس إِنَّهُ َك َ‬
‫ان ِ‬ ‫قال هللا تعالى‪َ { :‬و ْاذ ُكرْ فِي ْال ِكتَا ِ‬
‫ب إِ ْد ِر َ‬
‫فإدريس عليه السالم قد أثنى هللا عليه ووصفه بالنبوة والصديقية‪ ،‬وهو خنوخ هذا‪ .‬وهو‬
‫في عمود نسب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على ما ذكره غير واحد من علماء النسب‪.‬‬
‫وكان أول بني آدم أعطي النبوة بعد آدم وشيث عليهما السالم‪.‬‬
‫وذكر ابن اسحاق أنه أول من خط بالقلم‪ d،‬وقد أدرك من حياة آدم ثالثمائة سنة وثماني‬
‫سنين‪ .‬وقد قال طائفة من الناس أنه المشار إليه في حديث معاوية بن الحكم السلمي لما‬
‫سأل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن الخط بالرمل فقال‪ " :‬إنه كان نبي يخط به فمن‬
‫وافق خطه فذاك"‪.‬‬
‫ويزعم كثير من علماء التفسير واألحكام أنه أول من تكلم في ذلك‪ ،‬ويسمونه هرمس‬
‫الهرامسة‪ ،‬ويكذبون عليه أشياء كثيرة كما كذبوا على غيره من األنبياء والعلماء‬
‫والحكماء واألولياء‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪َ { :‬و َرفَ ْعنَاهُ َم َكانا ً َعلِيّا ً} هو كما ثبت في "الصحيحين"‪ d‬في حديث‬
‫اإلسراء‪ :‬أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم م ّر به وهو في السماء الرابعة‪ .‬وقد روى ابن‬
‫جرير عن يونس عن عبد األعلى‪ ،‬عن ابن وهب‪ ،‬عن جرير بن حازم‪ ،‬عن األعمش‪،‬‬
‫عن شمر بن عطية‪ ،‬عن هالل بن يساف قال‪ :‬سأل ابن عبَّاس كعبا ً وأنا حاضر فقال له‪:‬‬
‫ما قول هللا تعالى إلدريس { َو َرفَ ْعنَاهُ َم َكانا ً َعلِيّا ً}؟ فقال كعب‪ :‬أما إدريس فإن هللا أوحى‬
‫إليه‪ :‬أني أرفع لك كل يوم مثل جميع عمل بني آدم ‪ -‬لعله من أهل زمانه ‪ -‬فأحب أن يزداد‬
‫عمالً‪ ،‬فأتاه خليل له من المالئكة‪ ،‬فقال "له"‪ :‬إن هللا أوحى إلي كذا وكذا فكلم ملك الموت‬
‫حتى ازداد عمالً‪ ،‬فحمله بين جناحيه ثم صعد به إلى السماء‪ ،‬فلما كان في السماء الرابعة‬
‫تلقاه ملك الموت منحدراً‪ ،‬فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس‪ ،‬فقال‪ :‬وأين إدريس؟‬
‫قال هو ذا على ظهري‪ ،‬فقال ملك الموت‪ :‬يا للعجب! بعثت وقيل لي اقبض روح إدريس‬
‫في السماء الرابعة‪ ،‬فجعلت أقول‪ :‬كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في‬
‫األرض؟! فقبض روحه هناك‪ .‬فذلك قول هللا عز وجل { َو َرفَ ْعنَاهُ َم َكانا ً َعلِيّا ً}‪.‬‬
‫ورواه ابن أبي حاتم عند تفسيرها‪ .‬وعنده فقال لذلك الملك سل لي ملك الموت كم بقي‬
‫من عمري؟ فسأله وهو معه‪ :‬كم بقي من عمره؟ فقال‪ :‬ال أدري حتى أنظر‪ ،‬فنظر فقال‬
‫إنك لتسألني عن رجل ما بقي من عمره إال طرفة عين‪ ،‬فنظر الملك إلى تحت جناحه إلى‬
‫إدريس فإذا هو قد قبض وهو ال يشعر‪ .‬وهذا من اإلسرائيليات‪ d،‬وفي بعضه نكارة‪.‬‬
‫وقول ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله‪َ { :‬و َرفَ ْعنَاهُ َم َكانا ً َعلِيّا ً} قال‪ :‬إدريس رفع‬
‫ولم يمت كما رفع عيسى‪ .‬إن أراد أنه لم يمت إلى اآلن ففي هذا نظر‪ ،‬وإن أراد أنه رفع‬
‫حيا ً إلى السماء ثم قبض هناك‪ .‬فال ينافي ما تقدم عن كعب األحبار‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫وقال العوفي عن ابن عبَّاس في قوله‪َ { :‬و َرفَ ْعنَاهُ َم َكانا ً َعلِيّا ً} ‪ :‬رفع إلى السماء‬
‫السادسة فمات بها‪ ،‬وهكذا قال الضحاك‪ .d‬والحديث المتفق عليه من أنه في السماء الرابعة‬
‫أصح‪ ،‬وهو قول مجاهد وغير واحد‪ .‬وقال الحسن البصري‪َ { :‬و َرفَ ْعنَاهُ َم َكانا ً َعلِيّا ً} قال‪:‬‬
‫إلى الجنَّة‪ ،‬وقال قائلون رفع في حياة أبيه يرد بن مهالييل وهللا أعلم‪ .‬وقد زعم بعضهم أن‬
‫إدريس لم يكن قبل نوح بل في زمان بني إسرائيل‪.‬‬
‫ي‪ :‬ويذكر عن ابن مسعود وابن عبَّاس أن إلياس هو إدريس‪ ،‬واستأنسوا‬ ‫قال الب َُخار ّ‬
‫في ذلك بما جاء في حديث الزهري عن أنس في اإلسراء‪ :‬أنه لما م ّر به عليه السالم قال‬
‫له مرحبا ً باألخ الصالح والنبي الصالح‪ d،‬ولم يقل كما قال آدم وإبراهيم‪ :‬مرحبا ً بالنبي‬
‫الصالح واالبن الصالح‪ d،‬قالوا‪ :‬فلو كان في عمود نسبه لقال له كما قاال له‪ .‬وهذا ال يدل‬
‫والبد‪ ،‬قد ال يكون الراوي حفظه جيداً‪ ،‬أو لعله قاله على سبيل الهضم والتواضع‪ ،‬ولم‬
‫ينتصب له في مقام األبوة كما انتصب آلدم أبي البشر‪ ،‬وإبراهيم الذي هو خليل الرحمن‪،‬‬
‫وأكبر أولي العزم بعد محمد صلوات هللا عليهم أجمعين‪.‬‬

‫قصة نوح عليه السالم‬

‫هو نوح بن المك بن متوشلخ بن خنوخ ‪ -‬وهو إدريس ‪ -‬بن يرد بن مهالييل بن قينن‬
‫بن أنوش بن شيث بن آدم أبي البشر عليه السالم‪.‬‬
‫وكان مولده بعد وفاة آدم بمائة سنة وست وعشرين سنة‪ ،‬فيما ذكره ابن جرير‬
‫وغيره‪.‬‬
‫وعلى تاريخ أهل الكتاب المتقدم يكون بين مولد نوح وموت آدم مائة وست وأربعون‬
‫سنة‪ ،‬وكان بينهما عشرة قرون كما قال الحافظ أبو حاتم بن حبان في "صحيحه"‪َ :‬ح َّدثَنا‬
‫ُم َح ْمد بن عمر بن يوسف‪َ ،‬ح َّدثَنا ُم َح ْمد بن عبد الملك بن زنجويه‪َ ،‬ح َّدثَنا أبو توبة‪َ ،‬ح َّدثَنا‬
‫معاوية بن سالم‪ ،‬عن أخيه زيد بن سالم‪ ،‬سمعت أبا سالم سمعت أبا أمامه‪ :‬أن رجالً قال‪:‬‬
‫يا رسول هللا أنبي كان آدم؟ قال‪ :‬نعم مكلم‪ .‬قال‪ :‬فكم كان بينه وبن نوح؟ قال عشرة قرون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا على شرط مسلم ولم يخرجه‪.‬‬
‫ي عن ابن عبَّاس قال‪ :‬كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على‬ ‫وفي صحيح البُ َخار ّ‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫فإن كان المراد بالقرن مائة سنة ‪ -‬كما هو المتبادر عند كثير من الناس ‪ -‬فبينهما ألف‬
‫سنة ال محالة‪ ،‬لكن ال ينفي أن يكون أكثر باعتبار ما قيد به ابن عبَّاس باإلسالم‪ ،‬إذ قد‬
‫يكون بينهما قرون أخر متأخرة لم يكونوا على اإلسالم‪ ،‬لكن حديث أبي أمامة يدل على‬
‫الحصر في عشرة قرون‪ ،‬وزادنا ابن عبَّاس أنهم كلهم كانوا على اإلسالم‪.‬‬
‫وهذا يرد قول من زعم من أهل التواريخ وغيرهم من أهل الكتاب‪ :‬أن قابيل وبنيه‬
‫عبدوا النار‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫وإن كان المراد بالقرن الجيل من الناس كما في قوله تعالى‪َ { :‬و َك ْم أَ ْهلَ ْكنَا ِم ْن ْالقُرُو ِن‬
‫ك‬‫ين} وقال تعالى‪َ { :‬وقُرُونا ً بَي َْن َذلِ َ‬ ‫وح} وقوله‪{ :‬ثُ َّم أَن َشأْنَا ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم قَرْ نا ً َ‬
‫آخ ِر َ‬ ‫ِم ْن بَ ْع ِد نُ ٍ‬
‫َكثِيراً} وقال‪َ { :‬و َك ْم أَ ْهلَ ْكنَا قَ ْبلَهُ ْم ِم ْن قَرْ ٍن} وكقوله عليه السالم‪" :‬خير القرون قرني"‪.‬‬
‫الحديث‪ ،‬فقد كان الجيل قبل نوح يعمرون الدهور الطويلة‪ ،‬فعلى هذا يكون بين آدم ونوح‬
‫ألوف من السنين‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫وبالجملة فنوح عليه السالم إنما بعثه هللا تعالى لما عبدت األصنام والطواغيت‪،‬‬
‫وشرع الناس في الضاللة والكفر‪ ،‬فبعثه هللا رحمة للعباد فكان أول رسول بعث إلى أهل‬
‫األرض‪ ،‬كما يقول أهل الموقف يوم القيامة‪.‬‬
‫وكان قومه يقال لهم بنو راسب فيما ذكره ابن جبير وغيره‪.‬‬
‫واختلفوا في مقدار سنه يوم بعث‪ ،‬فقيل كان ابن خمسين سنة‪ ،‬وقيل ابن ثالثمائة‬
‫وخمسين سنة‪ ،‬وقيل ابن أربعمائة وثمانين سنة حكاها ابن جرير‪ ،‬وعزا الثالثة منها إلى‬
‫ابن عبَّاس‪.‬‬
‫وقد ذكر هللا قصته وما كان من قومه‪ ،‬وما أنزل بمن كفر به من العذاب بالطوفان‪،‬‬
‫وكيف أنجاه وأصحاب السفينة‪ ،‬في غير ما موضع من كتابه العزيز‪ :‬ففي األعراف‬
‫ويونس وهود واألنبياء والمؤمنون والشعراء والعنكبوت والصافات‪ d‬واقتربت‪ ،‬وأنزل فيه‬
‫سورة كاملة‪.‬‬
‫فقال في سورة األعراف‪{ :‬لَقَ ْد أَرْ َس ْلنَا نُوحا ً إِلَى قَ ْو ِم ِه فَقَا َل يَا قَ ْو ِم ا ْعبُ ُدوا هَّللا َ َما لَ ُك ْم‬
‫ضال ٍل‬ ‫ك فِي َ‬ ‫ال ْال َمألُ ِم ْن قَ ْو ِم ِه إِنَّا لَنَ َرا َ‬ ‫اب يَ ْو ٍم َع ِظ ٍيم‪ .‬قَ َ‬ ‫اف َعلَ ْي ُك ْم َع َذ َ‬ ‫ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ إِنِّي أَ َخ ُ‬
‫ت َربِّي‬ ‫ين‪ .‬أُبَلِّ ُغ ُك ْم ِر َسااَل ِ‬ ‫ضاَل لَةٌ َولَ ِكنِّي َرسُو ٌل ِم ْن َربِّ ْال َعالَ ِم َ‬ ‫ْس بِي َ‬ ‫ال يَا قَ ْو ِم لَي َ‬ ‫ُمبِي ٍن‪ .‬قَ َ‬
‫ون‪ .‬أَ َو َع ِج ْبتُ ْم أَ ْن َجا َء ُك ْم ِذ ْك ٌر ِم ْن َربِّ ُك ْم َعلَى َر ُج ٍل‬ ‫نص ُح لَ ُك ْم َوأَ ْعلَ ُم ِم ْن هَّللا ِ َما ال تَ ْعلَ ُم َ‬ ‫َوأَ َ‬
‫ك َوأَ ْغ َر ْقنَا‬ ‫ين َم َعهُ فِي ْالفُ ْل ِ‬ ‫ون‪ .‬فَ َك َّذبُوهُ فَأ َ َ‬
‫نج ْينَاهُ َوالَّ ِذ َ‬ ‫ِم ْن ُك ْم لِيُن ِذ َر ُك ْم َولِتَتَّقُوا َولَ َعلَّ ُك ْم تُرْ َح ُم َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ين َك َّذبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُ ْم َكانُوا قَ ْوما ً َع ِم َ‬ ‫الَّ ِذ َ‬
‫ان َكبُ َر‬ ‫ال لِقَ ْو ِم ِه يَا قَ ْو ِم إِ ْن َك َ‬ ‫وح إِ ْذ قَ َ‬ ‫وقال تعالى في سورة يونس‪َ { :‬وا ْت ُل َعلَ ْي ِه ْم نَبَأ َ نُ ٍ‬
‫ت فَأَجْ ِمعُوا أَ ْم َر ُك ْم َو ُش َر َكا َء ُك ْم ثُ َّم ال يَ ُك ْن‬ ‫ت هَّللا ِ فَ َعلَى هَّللا ِ تَ َو َّك ْل ُ‬ ‫يري بِآيَا ِ‬ ‫َعلَ ْي ُك ْم َمقَا ِمي َوتَ ْذ ِك ِ‬
‫ي َوال تُ ْن ِظرُونِي‪ .‬فَإِ ْن تَ َولَّ ْيتُ ْم فَ َما َسأ َ ْلتُ ُك ْم ِم ْن أَجْ ٍر إِ ْن أَجْ ِري‬ ‫أَ ْم ُر ُك ْم َعلَ ْي ُك ْم ُغ َّمةً ثُ َّم ا ْقضُوا إِلَ َّ‬
‫ك َو َج َع ْلنَاهُ ْم‬ ‫ين‪ .‬فَ َك َّذبُوهُ فَنَ َّج ْينَاهُ َو َم ْن َم َعهُ فِي ْالفُ ْل ِ‬ ‫ون ِم ْن ْال ُم ْسلِ ِم َ‬ ‫ت أَ ْن أَ ُك َ‬ ‫إِاَّل َعلَى هَّللا ِ َوأُ ِمرْ ُ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ان َعاقِبَةُ ْال ُم ْن َذ ِر َ‬ ‫ْف َك َ‬ ‫ين َك َّذبُوا بِآيَاتِنَا فَا ْنظُرْ َكي َ‬ ‫ف َوأَ ْغ َر ْقنَا الَّ ِذ َ‬ ‫َخالئِ َ‬
‫ين‪ .‬أَ ْن ال‬ ‫وقال تعالى في سورة هود‪َ { :‬ولَقَ ْد أَرْ َس ْلنَا نُوحا ً إِلَى قَ ْو ِم ِه إِنِّي لَ ُك ْم نَ ِذي ٌر ُمبِ ٌ‬
‫ك‬ ‫ين َكفَرُوا ِم ْن قَ ْو ِم ِه َما نَ َرا َ‬ ‫ال ْال َمألُ الَّ ِذ َ‬ ‫اب يَ ْو ٍم أَلِ ٍيم‪ .‬فَقَ َ‬ ‫اف َعلَ ْي ُك ْم َع َذ َ‬ ‫تَ ْعبُ ُدوا إِالَّ هَّللا َ إِنِّي أَ َخ ُ‬
‫ْ‬
‫ي َو َما نَ َرى لَ ُك ْم َعلَ ْينَا ِم ْن‬ ‫ين هُ ْم أَ َرا ِذلُنَا بَا ِدي الرَّأ ِ‬ ‫ك إِالَّ الَّ ِذ َ‬ ‫إِالَّ بَ َشراً ِم ْثلَنَا َو َما نَ َر َ‬
‫اك اتَّبَ َع َ‬
‫نت َعلَى بَيِّنَ ٍة ِم ْن َربِّي َوآتَانِي َرحْ َمةً ِم ْن‬ ‫ال يَا قَ ْو ِم أَ َرأَ ْيتُ ْم إِ ْن ُك ُ‬ ‫ين‪ .‬قَ َ‬ ‫فَضْ ٍل بَلْ نَظُنُّ ُك ْم َكا ِذبِ َ‬
‫ون‪َ .‬ويَا قَ ْو ِم اَل أَسْأَلُ ُك ْم َعلَ ْي ِه َماالً إِ ْن أَجْ ِري‬ ‫ارهُ َ‬ ‫ت َعلَ ْي ُك ْم أَنُ ْل ِز ُم ُك ُموهَا َوأَ ْنتُ ْم لَهَا َك ِ‬ ‫ِع ْن ِد ِه فَ ُع ِّميَ ْ‬
‫ون‪َ .‬ويَا‬ ‫ين آ َمنُوا إِنَّهُ ْم ُمالقُو َربِّ ِه ْم َولَ ِكنِّي أَ َرا ُك ْم قَ ْوما ً تَجْ هَلُ َ‬ ‫ار ِد الَّ ِذ َ‬‫إِالَّ َعلَى هَّللا ِ َو َما أَنَا بِطَ ِ‬
‫ُون‪َ .‬وال أَقُو ُل لَ ُك ْم ِعن ِدي َخ َزائِ ُن هَّللا ِ َوال‬ ‫ص ُرنِي ِم ْن هَّللا ِ إِ ْن طَ َر ْدتُهُ ْم أَفَال تَ َذ َّكر َ‬ ‫قَ ْو ِم َم ْن يَن ُ‬
‫ين تَ ْز َد ِري أَ ْعيُنُ ُك ْم لَ ْن ي ُْؤتِيَهُ ْم هَّللا ُ َخيْراً هَّللا ُ أَ ْعلَ ُم‬ ‫ك َوال أَقُو ُل لِلَّ ِذ َ‬ ‫ْب َوال أَقُو ُل إِنِّي َملَ ٌ‬ ‫أَ ْعلَ ُم ْال َغي َ‬
‫ت ِج َدالَنَا فَأْتِنَا بِ َما تَ ِع ُدنَا‬ ‫ين‪ .‬قَالُوا يَا نُو ُح قَ ْد َجا َد ْلتَنَا فَأ َ ْكثَرْ َ‬ ‫بِ َما فِي أَنفُ ِس ِه ْم إِنِّي إِذاً لَ ِم ْن الظَّالِ ِم َ‬
‫ين‪َ .‬وال يَنفَ ُع ُك ْم‬ ‫ْج ِز َ‬‫ال إِنَّ َما يَأْتِي ُك ْم بِ ِه هَّللا ُ إِ ْن َشا َء َو َما أَ ْنتُ ْم بِ ُمع ِ‬ ‫ين‪ .‬قَ َ‬ ‫نت ِم ْن الصَّا ِدقِ َ‬ ‫إِ ْن ُك َ‬
‫ُون‪ .‬أَ ْم‬ ‫ان هَّللا ُ ي ُِري ُد أَ ْن يُ ْغ ِويَ ُك ْم هُ َو َربُّ ُك ْم َوإِلَ ْي ِه تُرْ َجع َ‬ ‫نص َح لَ ُك ْم إِ ْن َك َ‬ ‫ت أَ ْن أَ َ‬ ‫نُصْ ِحي إِ ْن أَ َر ْد ُ‬
‫وح أَنَّهُ‬ ‫ي إِجْ َرا ِمي َوأَنَا بَري ٌء ِم َّما تُجْ ر ُم َ ُ‬ ‫ون ا ْفتَ َراهُ قُلْ إِ ْن ا ْفتَ َر ْيتُهُ فَ َعلَ َّ‬ ‫يَقُولُ َ‬
‫ون‪َ .‬وأو ِح َي إِلَى نُ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك بِأ َ ْعيُنِنَا‬ ‫ون‪َ .‬واصْ نَ ْع ْالفُ ْل َ‬ ‫ك إِالَّ َم ْن قَ ْد آ َم َن فَاَل تَ ْبتَئِسْ بِ َما َكانُوا يَ ْف َعلُ َ‬ ‫لَ ْن ي ُْؤ ِم َن ِم ْن قَ ْو ِم َ‬
‫ك َو ُكلَّ َما َم َّر َعلَ ْي ِه َمألٌ ِم ْن‬ ‫ون‪َ .‬ويَصْ نَ ُع ْالفُ ْل َ‬ ‫ين ظَلَ ُموا إِنَّهُ ْم ُم ْغ َرقُ َ‬ ‫اط ْبنِي فِي الَّ ِذ َ‬ ‫َو َوحْ يِنَا َوال تُ َخ ِ‬
‫ون َم ْن‬ ‫ف تَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ُون‪ .‬فَ َس ْو َ‬ ‫ْخر َ‬ ‫ْخ ُر ِم ْن ُك ْم َك َما تَس َ‬ ‫ْخرُوا ِمنَّا فَإِنَّا نَس َ‬ ‫ال إِ ْن تَس َ‬ ‫قَ ْو ِم ِه َس ِخرُوا ِم ْنهُ قَ َ‬
‫ار التَّنُّو ُر قُ ْلنَا احْ ِملْ فِيهَا‬ ‫يَأْتِي ِه َع َذابٌ ي ُْخ ِزي ِه َويَ ِحلُّ َعلَ ْي ِه َع َذابٌ ُمقِي ٌم‪َ .‬حتَّى إِ َذا َجا َء أَ ْم ُرنَا َوفَ َ‬
‫ق َعلَ ْي ِه ْالقَ ْو ُل َو َم ْن آ َم َن َو َما آ َم َن َم َعهُ إِالَّ قَلِي ٌل‪.‬‬ ‫ك إِالَّ َم ْن َسبَ َ‬ ‫ِم ْن ُك ٍّل َز ْو َج ْي ِن ْاثنَي ِْن َوأَ ْهلَ َ‬
‫َوقَا َل ارْ َكبُوا فِيهَا بِاِس ِْم هَّللا ِ َمجْ َراهَا َو ُمرْ َساهَا إِ َّن َربِّي لَ َغفُو ٌر َر ِحي ٌم‪َ .‬و ِه َي تَجْ ِري بِ ِه ْم فِي‬
‫ين‪.‬‬ ‫ي ارْ َكبْ َم َعنَا َوالَ تَ ُك ْن َم َع ْال َكافِ ِر َ‬ ‫ْز ٍل يَا بُنَ َّ‬ ‫ان فِي َمع ِ‬ ‫ال َونَا َدى نُو ٌح ا ْبنَهُ َو َك َ‬ ‫ج َك ْال ِجبَ ِ‬ ‫َم ْو ٍ‬
‫اص َم ْاليَ ْو َم ِم ْن أَ ْم ِر هَّللا ِ إِالَّ َم ْن َر ِح َم َو َحا َل‬ ‫ال الَ َع ِ‬ ‫ص ُمنِي ِم ْن ْال َما ِء قَ َ‬ ‫آوي إِلَى َجبَ ٍل يَ ْع ِ‬ ‫ال َس ِ‬ ‫قَ َ‬
‫ك َويَا َس َما ُء أَ ْقلِ ِعي َو ِغ َ‬
‫يض‬ ‫يل يَا أَرْ ضُ ا ْبلَ ِعي َما َء ِ‬ ‫ين‪َ .‬وقِ َ‬ ‫ان ِم ْن ْال ُم ْغ َرقِ َ‬ ‫بَ ْينَهُ َما ْال َم ْو ُج فَ َك َ‬
‫ين‪َ .‬ونَا َدى نُو ٌح َربَّهُ‬ ‫يل بُعْداً لِ ْلقَ ْو ِم الظَّالِ ِم َ‬ ‫ت َعلَى ْالجُو ِديِّ َوقِ َ‬ ‫ض َي اأْل َ ْم ُر َوا ْستَ َو ْ‬ ‫ْال َما ُء َوقُ ِ‬
‫ْس‬‫ال يَا نُو ُح إِنَّهُ لَي َ‬ ‫ين‪ .‬قَ َ‬ ‫ت أَحْ َك ُم ْال َحا ِك ِم َ‬ ‫ق َوأَ ْن َ‬ ‫ك ْال َح ُّ‬ ‫فَقَا َل َربِّ إِ َّن ا ْبنِي ِم ْن أَ ْهلِي َوإِ َّن َو ْع َد َ‬
‫ون ِم ْن‬ ‫ك أَ ْن تَ ُك َ‬ ‫ك بِ ِه ِع ْل ٌم إِنِّي أَ ِعظُ َ‬ ‫ْس لَ َ‬ ‫ح فَال تَسْأ َ ْلنِي َما لَي َ‬ ‫صالِ ٍ‬ ‫ك إِنَّهُ َع َم ٌل َغ ْي ُر َ‬ ‫ِم ْن أَ ْهلِ َ‬
‫ْس لِي بِ ِه ِع ْل ٌم َوإِالَّ تَ ْغفِرْ لِي َوتَرْ َح ْمنِي أَ ُك ْن‬ ‫ك َما لَي َ‬ ‫ك أَ ْن أَسْأَلَ َ‬ ‫ين‪ .‬قَا َل َربِّ إِنِّي أَ ُعو ُذ بِ َ‬ ‫ْال َجا ِهلِ َ‬
‫ك َوأُ َم ٌم‬ ‫ك َو َعلَى أُ َم ٍم ِم َّم ْن َم َع َ‬ ‫ت َعلَ ْي َ‬ ‫الم ِمنَّا َوبَ َر َكا ٍ‬ ‫ط بِ َس ٍ‬ ‫يل يَا نُو ُح ا ْهبِ ْ‬ ‫ين‪ .‬قِ َ‬ ‫اس ِر َ‬ ‫ِم ْن ْال َخ ِ‬
‫ت‬‫نت تَ ْعلَ ُمهَا أَ ْن َ‬ ‫ْك َما ُك َ‬ ‫ب نُو ِحيهَا إِلَي َ‬ ‫ك ِم ْن أَ ْنبَا ِء ْال َغ ْي ِ‬ ‫َسنُ َمتِّ ُعهُ ْم ثُ َّم يَ َم ُّسهُ ْم ِمنَّا َع َذابٌ أَلِي ٌم‪ .‬تِ ْل َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ك ِم ْن قَب ِْل هَ َذا فَاصْ بِرْ إِ َّن ْالعاقِبَةَ لِ ْل ُمتَّقِ َ‬ ‫َوال قَ ْو ُم َ‬
‫وقال تعالى في سورة األنبياء‪َ { :‬ونُوحا ً إِ ْذ نَا َدى ِم ْن قَ ْب ُل فَا ْستَ َج ْبنَا لَهُ فَنَ َّج ْينَاهُ َوأَ ْهلَهُ ِم ْن‬
‫ين َك َّذبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُ ْم َكانُوا قَ ْو َم َس ْو ٍء فَأ َ ْغ َر ْقنَاهُ ْم‬ ‫صرْ نَاهُ ِم ْن ْالقَ ْو ِم الَّ ِذ َ‬ ‫ب ْال َع ِظ ِيم‪َ .‬ونَ َ‬ ‫ْال َكرْ ِ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫أَجْ َم ِع َ‬
‫وقال تعالى في سورة قد أفلح المؤمنون‪َ { :‬ولَقَ ْد أَرْ َس ْلنَا نُوحا ً إِلَى قَ ْو ِم ِه فَقَا َل يَا قَ ْو ِم‬
‫ين َكفَرُوا ِم ْن قَ ْو ِم ِه َما هَ َذا إِاَّل‬ ‫ال ْال َمأَل ُ الَّ ِذ َ‬ ‫ون‪ ،‬فَقَ َ‬ ‫ا ْعبُ ُدوا هَّللا َ َما لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ أَفَاَل تَتَّقُ َ‬
‫نز َل َماَل ئِ َكةً َما َس ِم ْعنَا بِهَ َذا فِي آبَائِنَا‬ ‫ض َل َعلَ ْي ُك ْم َولَ ْو َشا َء هَّللا ُ أَل َ َ‬ ‫بَ َش ٌر ِم ْثلُ ُك ْم ي ُِري ُد أَ ْن يَتَفَ َّ‬
‫ال َربِّ انصُرْ نِي بِ َما َك َّذبُونِي‪،‬‬ ‫ين‪ ،‬إِ ْن هُ َو إِاَّل َر ُج ٌل بِ ِه ِجنَّةٌ فَتَ َربَّصُوا بِ ِه َحتَّى ِحي ٍن‪ ،‬قَ َ‬ ‫اأْل َ َّولِ َ‬
‫ك بِأ َ ْعيُنِنَا َو َوحْ يِنَا فَإِ َذا َجا َء أَ ْم ُرنَا َوفَا َر التَّنُّو ُر فَا ْسلُ ْك فِيهَا ِم ْن ُك ٍّل‬ ‫فَأ َ ْو َح ْينَا إِلَ ْي ِه أَ ْن اصْ نَ ْع ْالفُ ْل َ‬
‫ظلَ ُموا إِنَّهُ ْم‬ ‫ين َ‬ ‫ق َعلَ ْي ِه ْالقَ ْو ُل ِم ْنهُ ْم َواَل تُ َخا ِط ْبنِي فِي الَّ ِذ َ‬ ‫ك إِاَّل َم ْن َسبَ َ‬ ‫َز ْو َج ْي ِن ْاثنَي ِْن َوأَ ْهلَ َ‬
‫ك فَقُلْ ْال َح ْم ُد هَّلِل ِ الَّ ِذي نَجَّانَا ِم ْن ْالقَ ْو ِم‬ ‫ك َعلَى ْالفُ ْل ِ‬ ‫ت َو َم ْن َم َع َ‬ ‫ْت أَ ْن َ‬ ‫ون‪ ،‬فَإِ َذا ا ْستَ َوي َ‬ ‫ُم ْغ َرقُ َ‬
‫ت َوإِ ْن ُكنَّا‬ ‫ك آَل يَا ٍ‬ ‫ين‪ ،‬إِ َّن فِي َذلِ َ‬ ‫نزلِ َ‬‫ت َخ ْي ُر ْال ُم ِ‬ ‫اركا ً َوأَ ْن َ‬ ‫نز ْلنِي ُم ْن َزالً ُمبَ َ‬ ‫ين‪َ ،‬وقُلْ َربِّ أَ ِ‬ ‫الظَّالِ ِم َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫لَ ُم ْبتَلِ َ‬
‫ال لَهُ ْم أَ ُخوهُ ْم نُو ٌح‬ ‫ين‪ .‬إِ ْذ قَ َ‬ ‫وح ْال ُمرْ َسلِ َ‬ ‫ت قَ ْو ُم نُ ٍ‬ ‫وقال تعالى في سورة الشعراء‪َ { :‬ك َّذبَ ْ‬
‫ُون‪َ .‬و َما أَسْأَلُ ُك ْم َعلَ ْي ِه ِم ْن أَجْ ٍر إِ ْن أَجْ ِري‬ ‫ين‪ .‬فَاتَّقُوا هَّللا َ َوأَ ِطيع ِ‬ ‫ون‪ .‬إِنِّي لَ ُك ْم َرسُو ٌل أَ ِم ٌ‬ ‫أَال تَتَّقُ َ‬
‫ون‪ .‬قَا َل َو َما‬ ‫ك األَرْ َذلُ َ‬ ‫ك َواتَّبَ َع َ‬ ‫ين‪ .‬فَاتَّقُوا هَّللا َ َوأَ ِطيعُونِي‪ .‬قَالُوا أَنُ ْؤ ِم ُن لَ َ‬ ‫إِالَّ َعلَى َربِّ ْال َعالَ ِم َ‬
‫ين‪.‬‬ ‫ار ِد ْال ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ُون‪َ .‬و َما أَنَا بِطَ ِ‬ ‫ون‪ .‬إِ ْن ِح َسابُهُ ْم إِالَّ َعلَى َربِّي لَ ْو تَ ْش ُعر َ‬ ‫ِع ْل ِمي بِ َما َكانُوا يَ ْع َملُ َ‬
‫ال َربِّ إِ َّن قَ ْو ِمي‬ ‫ين‪ .‬قَ َ‬ ‫ين‪ .‬قَالُوا لَئِ ْن لَ ْم تَ ْنتَ ِه يَا نُو ُح لَتَ ُكونَ َّن ِم ْن ْال َمرْ جُو ِم َ‬ ‫إِ ْن أَنَا إِالَّ نَ ِذي ٌر ُمبِ ٌ‬
‫نج ْينَاهُ َو َم ْن َم َعهُ فِي‬ ‫ين‪ .‬فَأ َ َ‬ ‫َك َّذبُونِي‪ .‬فَا ْفتَحْ بَ ْينِي َوبَ ْينَهُ ْم فَ ْتحا ً َونَجِّ نِي َو َم ْن َم ِعي ِم ْن ْال ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين‪َ .‬وإِ َّن‬ ‫ان أَ ْكثَ ُرهُ ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ك آليَةً َو َما َك َ‬ ‫ين‪ .‬إِ َّن فِي َذلِ َ‬ ‫ُون‪ .‬ثُ َّم أَ ْغ َر ْقنَا بَ ْع ُد ْالبَاقِ َ‬‫ك ْال َم ْشح ِ‬ ‫ْالفُ ْل ِ‬
‫َّحي ُم}‪.‬‬‫َرب ََّك لَه َُو ْال َع ِزي ُز الر ِ‬
‫ف َسنَ ٍة إِالَّ‬ ‫ث فِي ِه ْم أَ ْل َ‬‫وقال تعالى في سورة العنكبوت‪َ { :‬ولَقَ ْد أَرْ َس ْلنَا نُوحا ً إِلَى قَ ْو ِم ِه فَلَبِ َ‬
‫اب ال َّسفِينَ ِة َو َج َع ْلنَاهَا آيَةً‬ ‫ون‪ .‬فَأَن َج ْينَاهُ َوأَصْ َح َ‪d‬‬ ‫ان َوهُ ْم ظَالِ ُم َ‬ ‫الطوفَ ُ‬‫ين َعاما ً فَأ َ َخ َذهُ ْم ُّ‬ ‫َخ ْم ِس َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫لِ ْل َعالَ ِم َ‬
‫ُون‪َ .‬ونَ َّج ْينَاهُ َوأَ ْهلَهُ‬ ‫وقال تعالى في سورة والصافات‪َ { :d‬ولَقَ ْد نَا َدانَا نُو ٌح فَلَنِ ْع َم ْال ُم ِجيب َ‬
‫ين‪َ .‬سال ٌم َعلَى نُ ٍ‬
‫وح‬ ‫اآلخ ِر َ‬‫ين‪َ .‬وتَ َر ْكنَا َعلَ ْي ِه فِي ِ‬ ‫ب ْال َع ِظ ِيم‪َ .‬و َج َع ْلنَا ُذ ِّريَّتَهُ هُ ْم ْالبَاقِ َ‬ ‫ِم ْن ْال َكرْ ِ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ين‪ .‬ثُ َّم أَ ْغ َر ْقنَا اآل َخ ِر َ‬ ‫ين‪ .‬إِنَّهُ ِم ْن ِعبَا ِدنَا ْال ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ك نَجْ ِزي ْال ُمحْ ِسنِ َ‬ ‫ين‪ .‬إِنَّا َك َذلِ َ‬‫فِي ْال َعالَ ِم َ‬
‫وح فَ َك َّذبُوا َع ْب َدنَا َوقَالُوا َمجْ نُ ٌ‬
‫ون‬ ‫ت قَ ْبلَهُ ْم قَ ْو ُم نُ ٍ‬ ‫وقال تعالى في سورة اقتربت‪َ { :‬ك َّذبَ ْ‬
‫اب ال َّس َما ِء بِ َما ٍء ُم ْنهَ ِم ٍر‪َ .‬وفَجَّرْ نَا‬ ‫صرْ ‪ .‬فَفَتَحْ نَا أَب َْو َ‬ ‫از ُد ِج َر‪ .‬فَ َد َعا َربَّهُ أَنِّي َم ْغلُوبٌ فَا ْنتَ ِ‬ ‫َو ْ‬
‫اح َو ُدس ٍُر‪ .‬تَجْ ِري‬ ‫ت أَ ْل َو ٍ‬ ‫ض ُعيُونا ً فَ ْالتَقَى ْال َما ُء َعلَى أَ ْم ٍر قَ ْد قُ ِد َر‪َ .‬و َح َم ْلنَاهُ َعلَى َذا ِ‬ ‫األَرْ َ‬
‫ان َع َذابِي َونُ ُذ ِر‪َ .‬ولَقَ ْد‬ ‫ْف َك َ‬ ‫ان ُكفِ َر‪َ .‬ولَقَ ْد تَ َر ْكنَاهَا آيَةً فَهَلْ ِم ْن ُم َّد ِك ٍر‪ .‬فَ َكي َ‬ ‫بِأ َ ْعيُنِنَا َج َزا ًء لِ َم ْن َك َ‬
‫آن لِل ِّذ ْك ِر فَهَلْ ِم ْن ُم َّد ِك ٍر}‪.‬‬ ‫يَسَّرْ نَا ْالقُرْ َ‬
‫ك ِم ْن‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬بسم هللا الرحمن الرحيم‪ ،‬إِنَّا أَرْ َس ْلنَا نُوحا ً إِلَى قَ ْو ِم ِه أَ ْن أَن ِذرْ قَ ْو َم َ‬
‫ين‪ ،‬أَ ْن ا ْعبُ ُدوا هَّللا َ َواتَّقُوهُ َوأَ ِطيعُونِي‪،‬‬ ‫قَ ْب ِل أَ ْن يَأْتِيَهُ ْم َع َذابٌ أَلِي ٌم‪ ،‬قَا َل يَا قَ ْو ِم إِنِّي لَ ُك ْم نَ ِذي ٌر ُمبِ ٌ‬
‫يَ ْغفِرْ لَ ُك ْم ِم ْن ُذنُوبِ ُك ْم َويُ َؤ ِّخرْ ُك ْم إِلَى أَ َج ٍل ُم َس ًّمى إِ َّن أَ َج َل هَّللا ِ إِ َذا َجا َء الَ ي َُؤ َّخ ُر لَ ْو ُكنتُ ْم‬
‫ت قَ ْو ِمي لَ ْيالً َونَهَاراً‪ ،‬فَلَ ْم يَ ِز ْدهُ ْم ُد َعائِي إِالَّ فِ َراراً َوإِنِّي ُكلَّ َما‬ ‫ون‪ ،‬قَا َل َربِّ إِنِّي َد َع ْو ُ‬ ‫تَ ْعلَ ُم َ‬
‫صرُّ وا َوا ْستَ ْكبَرُوا‬ ‫صابِ َعهُ ْم فِي آ َذانِ ِه ْم َوا ْستَ ْغ َش ْوا ثِيَابَهُ ْم َوأَ َ‬ ‫َد َع ْوتُهُ ْم لِتَ ْغفِ َر لَهُ ْم َج َعلُوا أَ َ‬
‫ت ا ْستَ ْغفِرُوا‬ ‫ت لَهُ ْم إِ ْس َراراً‪ ،‬فَقُ ْل ُ‬ ‫نت لَهُ ْم َوأَس َْررْ ُ‬ ‫ا ْستِ ْكبَاراً‪ ،‬ثُ َّم إِنِّي َد َع ْوتُهُ ْم ِجهَاراً‪ d،‬ثُ َّم إِنِّي أَ ْعلَ ُ‬
‫ين َويَجْ َعلْ لَ ُك ْم‬ ‫ال َوبَنِ َ‬ ‫ان َغفَّاراً‪ ،‬يُرْ ِسلْ ال َّس َما َء َعلَ ْي ُك ْم ِم ْد َراراً‪َ ،‬ويُ ْم ِد ْد ُك ْم بِأ َ ْم َو ٍ‬ ‫َربَّ ُك ْم إِنَّهُ َك َ‬
‫ْف‬‫ط َواراً أَلَ ْم تَ َر ْوا َكي َ‬ ‫ُون هَّلِل ِ َوقَاراً‪َ ،‬وقَ ْد َخلَقَ ُك ْم أَ ْ‬ ‫ت َويَجْ َعلْ لَ ُك ْم أَ ْنهَاراً‪َ ،‬ما لَ ُك ْم الَ تَرْ ج َ‬ ‫َجنَّا ٍ‬
‫س ِس َراجاً‪َ ،‬وهَّللا ُ أَ ْنبَتَ ُك ْم‬ ‫ت ِطبَاقاً‪َ ،‬و َج َع َل ْالقَ َم َر فِي ِه َّن نُوراً َو َج َع َل ال َّش ْم َ‬ ‫اوا ٍ‬ ‫ق هَّللا ُ َس ْب َع َس َم َ‬ ‫َخلَ َ‬
‫ض بِ َساطاً‪،‬‬ ‫ض نَبَاتاً‪ ،‬ثُ َّم ي ُِعي ُد ُك ْم فِيهَا َوي ُْخ ِر ُج ُك ْم إِ ْخ َراجاً‪َ ،‬وهَّللا ُ َج َع َل لَ ُك ْم األَرْ َ‬ ‫ِم ْن األَرْ ِ‬
‫ص ْونِي َواتَّبَعُوا َم ْن لَ ْم يَ ِز ْدهُ َمالُهُ َو َولَ ُدهُ إِالَّ‬ ‫ال نُو ٌح َربِّ إِنَّهُ ْم َع َ‬ ‫لِتَ ْسلُ ُكوا ِم ْنهَا ُسبُالً فِ َجاجاً‪ ،‬قَ َ‬
‫وث‬ ‫َخ َساراً‪َ ،‬و َم َكرُوا َم ْكراً ُكبَّاراً َوقَالُوا الَ تَ َذر َُّن آلِهَتَ ُك ْم َوالَ تَ َذر َُّن َو ّداً َوالَ س َُواعا ً َوالَ يَ ُغ َ‬
‫ضالَالً‪ِ ،‬م َّما َخ ِطيئَاتِ ِه ْم أُ ْغ ِرقُوا‬ ‫ين إِالَّ َ‬ ‫ضلُّوا َكثِيراً َوالَ تَ ِز ْد الظَّالِ ِم َ‬ ‫ق َونَسْراً‪َ ،‬وقَ ْد أَ َ‬ ‫َويَعُو َ‬
‫ض ِم ْن‬ ‫ال نُو ٌح َربِّ الَ تَ َذرْ َعلَى األَرْ ِ‬ ‫صاراً‪َ ،‬وقَ َ‬ ‫ون هَّللا ِ أَ ْن َ‬ ‫فَأ ُ ْد ِخلُوا نَاراً فَلَ ْم يَ ِج ُدوا لَهُ ْم ِم ْن ُد ِ‬
‫ك َوالَ يَلِ ُدوا إِالَّ فَا ِجراً َكفَّاراً َربِّ ا ْغفِرْ لِي‬ ‫ُضلُّوا ِعبَا َد َ‬ ‫ك إِ ْن تَ َذرْ هُ ْم ي ِ‬ ‫ين َديَّاراً‪ ،‬إِنَّ َ‬ ‫ْال َكافِ ِر َ‬
‫ين إِالَّ تَبَاراً}‪.‬‬ ‫ت َوالَ تَ ِز ْد الظَّالِ ِم َ‬ ‫ين َو ْال ُم ْؤ ِمنَا ِ‬ ‫ي َولِ َم ْن َد َخ َل بَ ْيتِي ُم ْؤ ِمنا ً َولِ ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫َولِ َوالِ َد َّ‬
‫وقد تكلمنا على كل موضع من هذه في التفسير‪ .‬وسنذكر مضمون القصة مجموعا ً‬
‫من هذه األماكن المتفرقة‪ ،‬ومما دلت عليه األحاديث واآلثار‪.‬‬
‫وقد جرى ذكره أيضا ً في مواضع متفرقة من القرآن فيها مدحه وذم من خالفه‪ ،‬فقال‬
‫ِّين ِم ْن بَ ْع ِد ِه َوأَ ْو َح ْينَا‬ ‫وح َوالنَّبِي َ‬ ‫ْك َك َما أَ ْو َح ْينَا إِلَى نُ ٍ‬ ‫تعالى في سورة النساء‪{ :‬إِنَّا أَ ْو َح ْينَا إِلَي َ‬
‫ُون‬
‫س َوهَار َ‬ ‫ُّوب َويُونُ َ‬ ‫اط َو ِعي َسى َوأَي َ‬ ‫وب َواألَ ْسبَ ِ‬ ‫ق َويَ ْعقُ َ‬ ‫ْحا َ‬ ‫يل َوإِس َ‬ ‫اع َ‬‫إِلَى إِب َْرا ِهي َم َوإِ ْس َم ِ‬
‫ك ِم ْن قَ ْب ُل َو ُر ُسالً لَ ْم نَ ْقصُصْ هُ ْم‬ ‫صصْ نَاهُ ْم َعلَ ْي َ‬ ‫ان َوآتَ ْينَا َدا ُوو َد َزبُوراً‪َ ،‬و ُر ُسالً قَ ْد قَ َ‬ ‫َو ُسلَ ْي َم َ‬
‫اس َعلَى هَّللا ِ ُح َّجةٌ بَ ْع َد‬ ‫ون لِلنَّ ِ‬ ‫ين ألَالَّ يَ ُك َ‬ ‫ين َو ُمن ِذ ِر َ‬ ‫ك َو َكلَّ َم هَّللا ُ ُمو َسى تَ ْكلِيماً‪ُ ،‬ر ُسالً ُمبَ ِّش ِر َ‬ ‫َعلَ ْي َ‬
‫ان هَّللا ُ َع ِزيزاً َح ِكيما ً}‪.‬‬ ‫الرُّ ُس ِل َو َك َ‬
‫ت َم ْن‬ ‫ك ُح َّجتُنَا آتَ ْينَاهَا إِ ْب َرا ِهي َم َعلَى قَ ْو ِم ِه نَرْ فَ ُع َد َر َجا ٍ‬ ‫وقال في سورة األنعام { َوتِ ْل َ‬
‫وب ُكالُّ هَ َد ْينَا َونُوحا ً هَ َد ْينَا ِم ْن قَ ْب ُل َو ِم ْن‬ ‫ق َويَ ْعقُ َ‬ ‫ْحا َ‬‫نَ َشا ُء إِ َّن َرب ََّك َح ِكي ٌم َعلِي ٌم‪َ ،‬و َوهَ ْبنَا لَهُ إِس َ‬
‫ين‪،‬‬ ‫ك نَجْ ِزي ْال ُمحْ ِسنِ َ‬ ‫ُون َو َك َذلِ َ‬‫ُف َو ُمو َسى َوهَار َ‬ ‫ُّوب َويُوس َ‬ ‫ان َوأَي َ‬ ‫ُذ ِّريَّتِ ِه َدا ُوو َد َو ُسلَ ْي َم َ‬
‫س َولُوطا ً‬ ‫يل َو ْاليَ َس َع َويُونُ َ‬ ‫اع َ‬ ‫ين‪َ d،‬وإِ ْس َم ِ‬ ‫اس ُكلٌّ ِم ْن الصَّالِ ِح َ‬ ‫َو َز َك ِريَّا َويَحْ يَى َو ِعي َسى َوإِ ْليَ َ‬
‫ين َو ِم ْن آبَائِ ِه ْم َو ُذرِّ يَّاتِ ِه ْم َوإِ ْخ َوانِ ِه ْم َواجْ تَبَ ْينَاهُ ْم َوهَ َد ْينَاهُ ْم إِلَى‬ ‫َو ُكالًّ فَض َّْلنَا َعلَى ْال َعالَ ِم َ‬
‫ص َرا ٍط ُم ْستَقِ ٍيم}‪ .‬اآليات‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وتقدمت قصته في األعراف‪.‬‬
‫وح َو َعا ٍد َوثَ ُمو َد َوقَ ْو ِم‬ ‫ين ِم ْن قَ ْبلِ ِه ْم قَ ْو ِم نُ ٍ‬ ‫وقال في سورة براءة‪{ :‬أَلَ ْم يَأْتِ ِه ْم نَبَأ ُ الَّ ِذ َ‬
‫ظلِ َمهُ ْم َولَ ِك ْن‬ ‫ان هَّللا ُ لِيَ ْ‬ ‫ت فَ َما َك َ‬ ‫ت أَتَ ْتهُ ْم ُر ُسلُهُ ْم بِالبَيِّنَا ِ‬ ‫ب َم ْديَ َن َو ْال ُم ْؤتَفِ َكا ِ‬ ‫إِ ْب َرا ِهي َم َوأَصْ َحا ِ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫ظلِ ُم َ‬ ‫َكانُوا أَنفُ َسهُ ْم يَ ْ‬
‫وتقدمت قصته في يونس وهود‪.‬‬
‫ين‬‫وح َو َعا ٍد َوثَ ُمو َد َوالَّ ِذ َ‬ ‫ين ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم قَ ْو ِم نُ ٍ‬ ‫وقال في سورة إبراهيم‪{ :‬أَلَ ْم يَأْتِ ُك ْم نَبَأ ُ الَّ ِذ َ‬
‫ت فَ َر ُّدوا أَ ْي ِديَهُ ْم فِي أَ ْف َوا ِه ِه ْم َوقَالُوا إِنَّا‬ ‫ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم اَل يَ ْعلَ ُمهُ ْم إِاَّل هَّللا ُ َجا َء ْتهُ ْم ُر ُسلُهُ ْم بِ ْالبَيِّنَا ِ‬
‫ب}‪.‬‬ ‫ك ِم َّما تَ ْد ُعونَنَا إِلَ ْي ِه ُم ِري ٍ‬ ‫َكفَرْ نَا بِ َما أُرْ ِس ْلتُ ْم بِ ِه َوإِنَّا لَفِي َش ٍّ‬
‫ان َعبْداً َش ُكوراً}وقال فيها‬ ‫وح إِنَّهُ َك َ‬ ‫وقال في سورة سبحان‪ُ { :‬ذرِّ يَّةَ َم ْن َح َم ْلنَا َم َع نُ ٍ‬
‫صيراً}‪.‬‬ ‫ب ِعبَا ِد ِه َخبِيراً بَ ِ‬ ‫وح َو َكفَى بِ َرب َِّك بِ ُذنُو ِ‬ ‫ُون ِم ْن بَ ْع ِد نُ ٍ‬ ‫أيضا ً‪َ { :‬و َك ْم أَ ْهلَ ْكنَا ِم ْن ْالقُر ِ‬
‫وتقدمت قصته في األنبياء والمؤمنون والشعراء والعنكبوت‪.‬‬
‫وح َوإِ ْب َرا ِهي َم‬ ‫ك َو ِم ْن نُ ٍ‬ ‫ِّين ِميثَاقَهُ ْم َو ِم ْن َ‬ ‫وقال في سورة األحزاب‪َ { :‬وإِ ْذ أَ َخ ْذنَا ِم ْن النَّبِي َ‬
‫ت قَ ْبلَهُ ْم‬ ‫َو ُمو َسى َو ِعي َسى اب ِْن َمرْ يَ َم َوأَ َخ ْذنَا ِم ْنهُ ْم ِميثَاقا ً َغلِيظا ً}‪ .‬وقال في سورة ص‪َ { :‬ك َّذبَ ْ‬
‫ك األَحْ َزابُ ‪،‬‬ ‫اب األَ ْي َك ِة أُ ْولَئِ َ‬ ‫وط َوأَصْ َح ُ‪d‬‬ ‫وح َو َعا ٌد َوفِرْ َع ْو ُن ُذو األَ ْوتَا ِد‪َ ،‬وثَ ُمو ُد َوقَ ْو ُم لُ ٍ‬ ‫قَ ْو ُم نُ ٍ‬
‫ب}‪.‬‬ ‫ق ِعقَا ِ‬ ‫ب الرُّ س َُل فَ َح َّ‬ ‫إِ ْن ُك ٌّل إِالَّ َك َّذ َ‬
‫ت ُكلُّ أُ َّم ٍة‬ ‫وح َواألَحْ َزابُ ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم َوهَ َّم ْ‬ ‫ت قَ ْبلَهُ ْم قَ ْو ُم نُ ٍ‬ ‫وقال في سورة غافر‪َ { :‬ك َّذبَ ْ‬
‫ك‬‫ان ِعقَاب‪َ ،‬و َك َذلِ َ‬ ‫ْف َك َ‬ ‫ق فَأ َ َخ ْذتُهُ ْم فَ َكي َ‬ ‫اط ِل لِيُ ْد ِحضُوا بِ ِه ْال َح َّ‬ ‫بِ َرسُولِ ِه ْم لِيَأْ ُخ ُذوهُ َو َجا َدلُوا بِ ْالبَ ِ‬
‫ار}‪.‬‬ ‫ين َكفَرُوا أَنَّهُ ْم أَصْ َحابُ النَّ ِ‬ ‫ت َكلِ َمةُ َرب َِّك َعلَى الَّ ِذ َ‬ ‫َحقَّ ْ‬
‫ك‬‫وقال في سورة الشورى‪َ { :‬ش َر َع لَ ُك ْم ِم ْن الدِّي ِن َما َوصَّى بِ ِه نُوحا ً َوالَّ ِذي أَ ْو َح ْينَا إِلَ ْي َ‬
‫ِّين َوالَ تَتَفَ َّرقُوا فِي ِه َكب َُر َعلَى‬ ‫ص ْينَا بِ ِه إِب َْرا ِهي َم َو ُمو َسى َو ِعي َسى أَ ْن أَقِي ُموا الد َ‬ ‫َو َما َو َّ‬
‫ين َما تَ ْد ُعوهُ ْم إِلَ ْي ِه هَّللا ُ يَجْ تَبِي إِلَ ْي ِه َم ْن يَ َشا ُء َويَ ْه ِدي إِلَ ْي ِه َم ْن يُنِيبُ }‪.‬‬ ‫ْال ُم ْش ِر ِك َ‬
‫وح َوأَصْ َحابُ الرَّسِّ َوثَ ُمو ُد‪َ ،‬و َعا ٌد‬ ‫ت قَ ْبلَهُ ْم قَ ْو ُم نُ ٍ‬ ‫وقال تعالى في سورة ق‪َ { :‬ك َّذبَ ْ‬
‫ق َو ِعي ِد}‪.‬‬ ‫ب الرُّ س َُل فَ َح َّ‬ ‫وط‪َ ،‬وأَصْ َحابُ اأْل َ ْي َك ِة َوقَ ْو ُم تُب ٍَّع ُكلٌّ َك َّذ َ‬ ‫ان لُ ٍ‬ ‫َوفِرْ َع ْو ُن َوإِ ْخ َو ُ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫وح ِم ْن قَ ْب ُل إِنَّهُ ْم َكانُوا قَ ْوما ً فَا ِسقِ َ‬ ‫وقال في الذاريات‪َ { :‬وقَ ْو َم نُ ٍ‬
‫ط َغى}‪.‬‬ ‫ظلَ َم َوأَ ْ‬
‫وح ِم ْن قَ ْب ُل إِنَّهُ ْم َكانُوا هُ ْم أَ ْ‬ ‫وقال في النجم‪َ { :‬وقَ ْو َم نُ ٍ‬
‫وتقدمت قصته في سورة اقتربت الساعة‪.‬‬
‫وقال تعالى في سورة الحديد‪َ { :‬ولَقَ ْد أَرْ َس ْلنَا نُوحا ً َوإِ ْب َرا ِهي َم َو َج َع ْلنَا فِي ُذرِّ يَّتِ ِه َما النُّبُ َّوةَ‬
‫ون}‪.‬‬‫اسقُ َ‬ ‫اب فَ ِم ْنهُ ْم ُم ْهتَ ٍد َو َكثِي ٌر ِم ْنهُ ْم فَ ِ‬ ‫َو ْال ِكتَ َ‬
‫وح َواِ ْم َرأَةَ لُو ٍط‬ ‫ين َكفَرُوا اِ ْم َرأَةَ نُ ٍ‬ ‫ب هَّللا ُ َمثَالً لِلَّ ِذ َ‬
‫ض َر َ‬ ‫وقال تعالى في سورة التحريم‪َ { :‬‬
‫صالِ َح ْي ِن فَ َخانَتَاهُ َما‪ d‬فَلَ ْم يُ ْغنِيَا َع ْنهُ َما ِم ْن هَّللا ِ َشيْئا ً َوقِي َل ا ْد ُخالَ‬ ‫ت َع ْب َدي ِْن ِم ْن ِعبَا ِدنَا َ‬ ‫َكانَتَا تَحْ َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫النَّا َر َم َع ال َّد ِ‬
‫اخلِ َ‬
‫وأما مضمون ما جرى له مع قومه مأخوذاً من الكتاب والسنة واآلثار‪ ،‬فقد قدمنا عن‬
‫ي‪.‬‬‫ابن عبَّاس‪ :‬أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على اإلسالم‪ ،‬رواه الب َُخار ّ‬
‫وذكرنا أن المراد بالقرن الجيل أو المدة على ما سلف‪.‬‬
‫ثم بعد تلك القرون الصالحة حدثت أمور اقتضت أن آل الحال‪ d‬بأهل ذلك الزمان إلى‬
‫عبادة األصنام‪.‬‬
‫ي من حديث ابن ج َُريْج عن عطاء عن ابن عبَّاس‬ ‫وكان سبب ذلك ما رواه الب َُخار ّ‬
‫عند تفسير قوله تعالى‪َ { :‬وقَالُوا الَ تَ َذر َُّن آلِهَتَ ُك ْم َوالَ تَ َذر َُّن َو ّداً َوالَ س َُواعا ً َوالَ يَ ُغ َ‬
‫وث‬
‫ق َونَسْراً}‪ .‬قال‪ :‬هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح‪ ،‬فلما هلكوا أوحى ال ّشيْطان‬ ‫َويَعُو َ‬
‫إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا ً وسموها بأسمائهم‪،‬‬
‫ففعلوا فلم تعبد‪ ،‬حتى إذا هلك أولئك وانتسخ العلم عبدت‪.‬‬
‫قال ابن عبَّاس‪ :‬وصارت هذه األوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد‪.‬‬
‫وهكذا قال عكرمة والضحاك وقتادة و ُم َح ْمد بن اسحاق‪.‬‬
‫وقال ابن جرير "تفسيره"‪َ :‬ح َّدثَنا ابن حميد‪َ ،‬ح َّدثَنا مهران‪ ،‬عن سفيان‪ ،‬عن موسى‪،‬‬
‫عن ُم َح ْمد بن قيس قال‪ :‬كانوا قوما ً صالحين بين آدم ونوح وكان لهم أتباع يقتدون بهم‪،‬‬
‫فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم‪ :‬لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة‬
‫إذا ذكرناهم‪ ،‬فصوروهم‪ .‬فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال‪ :‬إنما كانوا‬
‫يعبدونهم وبهم يسقون المطر‪ .‬فعبدوهم‪.‬‬
‫وروى ابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير أنه قال‪ :‬ود ويغوث ويعوق وسواع ونسر‪،‬‬
‫أوالد آدم‪ ،‬وكان "ود" أكبرهم وأبرهم به‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم‪َ :‬ح َّدثَنا أحمد بن منصور‪َ ،‬ح َّدثَنا الحسن بن موسى؛ َح َّدثَنا يعقوب‬
‫عن أبي المطهر‪ ،‬قال‪ :‬ذكروا عند أبي جعفر ‪ -‬هو الباقر ‪ -‬وهو قائم يصلي يزيد بن‬
‫المهلب‪ ،‬قال فلما انفتل من صالته قال‪ :‬ذكرتم يزيد بن المهلب‪ d،‬أما إنه قتل في أول أرض‬
‫عبد فيها غير هللا تعالى‪ .‬قال ذكر وداً قال‪ :‬كان رجالً صالحاً‪ d،‬وكان محببا ً في قومه‪ ،‬فلما‬
‫مات عكفوا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه‪ ،‬فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه‬
‫في صورة إنسان ثم قال‪ :‬إني أرى جزعكم على هذا الرجل‪ ،‬فهل لكم أن أصور لكم مثله‬
‫فيكون في ناديكم فتذكرونه به؟ قالوا‪ :‬نعم‪ .‬فصور لهم مثله‪ ،‬قال‪ :‬فوضعوه في ناديهم‬
‫وجعلوا يذكرونه فلما رأى ما بهم من ذكره قال‪ :‬هل لكم أجعل في منزل كل واحد منكم‬
‫تمثاالً مثله ليكون له في بيته فتذكرونه؟ قالوا‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬فمثل لكل أهل بيت تمثاله مثله‪،‬‬
‫فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به‪ .‬قال‪ :‬وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به‪ ،‬قال‪:‬‬
‫وتناسلوا ودرس أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلها ً يعبدونه من دون هللا أوالد أوالدهم‪،‬‬
‫فكان أول ما عبد غير هللا "ود" الصنم الذي سموه وداً‪.‬‬
‫ومقتضى هذا السياق أن كل صنم من هذه عبده طائفة من الناس‪ .‬وقد ذكر أنه لما‬
‫تطاولت العهود واألزمان‪ ،‬جعلوا تلك الصور تماثيل مجسدة ليكون أثبت لهم‪ ،‬ثم عبدت‬
‫بعد ذلك من دون هللا عز وجل‪ .‬ولهم في عبادتها مسالك كثيرة جداً قد ذكرنا في مواضعها‬
‫من كتابنا التفسير‪ .‬وهلل الحمد والمنة‪.‬‬
‫وقد ثبت في "الصحيحين"‪ d‬عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ :‬أنه لما ذكرت عنده‬
‫أم سلمة وأم حبيبة‪ ،‬تلك الكنيسة التي رأينها بأرض الحبشة‪ ،‬ويقال لها مارية‪ ،‬وذكرتا من‬
‫حسنها وتصاوير فيها قال‪" :‬أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً‪ ،‬ثم‬
‫صوروا فيه تلك الصورة‪ ،‬أولئك شرار الخلق عند هللا عز وجل"‪.‬‬
‫والمقصود أن الفساد لما انتشر في األرض‪ ،‬وعم البالد بعبادة األصنام فيها‪ ،‬بعث هللا‬
‫عبده ورسوله نوحا ً عليه السالم‪ ،‬يدعو إلى عبادة هللا وحده ال شريك له‪ ،‬وينهي عن عبادة‬
‫ما سواه‪.‬‬
‫فكان أول رسول بعثه هللا إلى أهل األرض‪ ،‬كما ثبت في "الصحيحين"‪ d‬من حديث‬
‫ابن حبان‪ ،‬عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير‪ ،‬عن أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم في حديث الشفاعة قال‪" :‬فيأتون آدم فيقولون‪ :‬يا آدم أنت أبو البشر‪ ،‬خلقك هللا بيده‪،‬‬
‫ونفخ فيك من روحه‪ ،‬وأمر المالئكة فسجدوا لك وأسكنك الجنَّة‪ ،‬أال تشفع لنا إلى ربك؟ أال‬
‫ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فيقول‪ :‬ربي قد غضب غضبا ً شديداً لم يغضب قبله مثله وال‬
‫يغضب بعده مثله‪ ،‬ونهاني عن شجرة فعصيت‪ ،‬نفسي نفسي‪ .‬اذهبوا إلى غيري‪ ،‬اذهبوا‬
‫إلى نوح‪.‬‬
‫فيأتون نوحا ً فيقولون‪ :‬يا نوح‪ ،‬أنت أول الرسل إلى أهل األرض‪ ،‬وس ّماك هللا عبداً‬
‫شكورا‪ ،‬أال ترى إلى ما نحن فيه؟ أال ترى إلى ما بلغنا؟ أال تشفع لنا إلى ربك عز وجل؟‬
‫فيقول‪ :‬ربي قد غضب اليوم غضبا ً لم يغضب قبله مثله وال يغضب بعده مثله‪ ،‬نفسي‬
‫ي في قصة نوح‪.‬‬ ‫نفسي‪ ،‬وذكر تمام الحديث بطوله كما أورده الب َُخار ّ‬
‫فلما بعث هللا نوحا ً عليه السالم‪ ،‬دعاهم إلى إفراد عبادة هللا وحده ال شريك له‪ ،‬وأال‬
‫يعبدوا معه صنما ً وال تمثاالً وال طاغوتا ً وأن يعترفوا بوحدانيته‪ ،‬وأنه ال إله غيره وال‬
‫رب سواه‪ ،‬كما أمر هللا تعالى من بعده من الرسل الذين هم كلهم من ذريته‪ ،‬كما قال‬
‫ين}‪ .‬وقال فيه وفي إبراهيم‪َ { :‬و َج َع ْلنَا فِي ُذرِّ يَّتِ ِه َما النُّبُ َّوةَ‬ ‫تعالى‪َ { :‬و َج َع ْلنَا ُذرِّ يَّتَهُ هُ ْم ْالبَاقِ َ‬
‫اب} أي كل نبي من بعد نوح فمن ذريته‪ .‬وكذلك إبراهيم‪.‬‬ ‫َو ْال ِكتَ َ‬
‫وت}‪.‬‬ ‫قال هللا تعالى‪َ { :‬ولَقَ ْد بَ َع ْثنَا فِي ُكلِّ أُ َّم ٍة َرسُوالً أَ ْن اُ ْعبُ ُدوا هَّللا َ َواجْ تَنِبُوا الطَّا ُغ َ‬
‫ك ِم ْن ُر ُسلِنَا أَ َج َع ْلنَا ِم ْن ُدو ِن الرَّحْ َما ِن آلِهَةً‬ ‫وقال تعالى { َواسْأَلْ َم ْن أَرْ َس ْلنَا ِم ْن قَ ْبلِ َ‬
‫وحي إِلَ ْي ِه أَنَّهُ الَ إِلَهَ إِالَّ أَنَا‬ ‫ُول إِالَّ نُ ِ‬ ‫ك ِم ْن َرس ٍ‬ ‫ون}‪ .‬وقال تعالى{ َو َما أَرْ َس ْلنَا ِم ْن قَ ْبلِ َ‬ ‫يُ ْعبَ ُد َ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫فَا ْعبُ ُد ِ‬
‫اب يَ ْو ٍم‬ ‫اف َعلَ ْي ُك ْم َع َذ َ‬ ‫ولهذا قال نوح لقومه‪{ :‬ا ْعبُ ُدوا هَّللا َ َما لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ إِنِّي أَ َخ ُ‬
‫اب يَ ْو ٍم أَلِ ٍيم}‪ .‬وقال‪{ :‬يَا قَ ْو ِم‬ ‫اف َعلَ ْي ُك ْم َع َذ َ‬ ‫َع ِظ ٍيم} وقال‪{ :‬أَ ْن الَ تَ ْعبُ ُدوا إِاَّل هَّللا َ إِنِّي أَ َخ ُ‬
‫ين‪ ،‬أَ ْن‬ ‫ون} وقال‪{ :‬قَا َل يَا قَ ْو ِم إِنِّي لَ ُك ْم نَ ِذي ٌر ُمبِ ٌ‬ ‫ا ْعبُ ُدوا هَّللا َ َما لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ أَفَالَ تَتَّقُ َ‬
‫ط َواراً} اآليات الكريمات‪.‬‬ ‫ُون} إلى‪َ { :‬وقَ ْد َخلَقَ ُك ْم أَ ْ‬ ‫ا ْعبُ ُدوا هَّللا َ َواتَّقُوهُ َوأَ ِطيع ِ‬
‫فذكر أنهم دعاهم إلى هللا بأنواع الدعوة في الليل والنهار‪ ،‬والسر واالجهار‪،‬‬
‫بالترغيب تارة والترهيب أخرى‪ ،‬وكل هذا لم ينجح فيهم‪ ،‬بل استمر أكثرهم على الضاللة‬
‫والطغيان وعبادة األصنام واألوثان‪ .‬ونصبوا له العداوة في كل وقت وأوان‪ ،‬وتنقصوه‬
‫وتنقصوا من آمن به‪ ،‬وتوعدهم بالرجم واإلخراج‪ d،‬ونالوا منهم وبالغوا في أمرهم‪.‬‬
‫ضالَ ٍل ُمبِي ٍن}‪.‬‬ ‫اك فِي َ‬ ‫{قال المأل من قومه} أي السادة الكبراء منهم‪{ :‬إِنَّا لَنَ َر َ‬
‫ين} أي لست كما تزعمون‬ ‫ضاللَةٌ َولَ ِكنِّي َرسُو ٌل ِم ْن َربِّ ْال َعالَ ِم َ‬ ‫ْس بِي َ‬ ‫{قَا َل يَا قَ ْو ِم لَي َ‬
‫من أني ضال‪ d،‬بل على الهدى المستقيم رسول من رب العالمين‪ ،‬أي الذي يقول للشيء‬
‫ون}‪ .‬وهذا شأن‬ ‫نص ُح لَ ُك ْم َوأَ ْعلَ ُم ِم ْن هَّللا ِ َما الَ تَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ت َربِّي َوأَ َ‬ ‫كن فيكون {أُبَلِّ ُغ ُك ْم ِر َساالَ ِ‬
‫الرسول أن يكون بليغاً‪ ،‬أي فصيحا ً ناصحاً‪ ،‬أعلم الناس باهلل عز وجل‪.‬‬
‫ين هُ ْم أَ َرا ِذلُنَا‬ ‫ك إِالَّ الَّ ِذ َ‬ ‫ك إِالَّ بَ َشراً ِم ْثلَنَا َو َما نَ َرا َ‬
‫ك اتَّبَ َع َ‬ ‫وقالوا له فيما قالوا‪َ { :‬ما نَ َرا َ‬
‫ين}‪.‬‬‫ي َو َما نَ َرى لَ ُك ْم َعلَ ْينَا ِم ْن فَضْ ٍل بَلْ نَظُنُّ ُك ْم َكا ِذبِ َ‬ ‫ْ‬
‫بَا ِدي الرَّأ ِ‬
‫تعجبوا أن يكون بشراً رسوالً‪ ،‬وتنقصوا من اتبعه‪ ،‬ورأوهم أراذلهم‪ .‬وقد قيل‪ :‬إنهم‬
‫كانوا من أفناد الناس‪ ،‬وهم ضعفاؤهم‪ ،‬كما قال هرقل‪ :‬وهم أتباع الرسل‪ ،‬وما ذاك إال ألنه‬
‫ال مانع لهم من اتباع الحق‪.‬‬
‫ي} أي بمجرد ما دعوتهم استجابوا لك من غير نظر وال روية‪.‬‬ ‫ْ‬
‫وقولهم {بَا ِدي الرَّأ ِ‬
‫وهذا الذي رموهم به هو عين ما يمدحون بسببه رضي هللا عنهم‪ ،‬فإن الحق الظاهر ال‬
‫يحتاج إلى روية وال فكر وال نظر‪ ،‬بل يجب إتباعه واالنقياد له متى ظهر‪.‬‬
‫ولهذا قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم مادحا ً للصديق‪" :‬ما دعوت أحداً إلى‬
‫اإلسالم إال كانت له كبوة غير أبي بكر‪ ،‬فإنه لم يتلعثم"‪ .‬ولهذا كانت بيعته يوم السقيفة‬
‫أيضا ً سريعة من غير نظر وال روية‪ ،‬ألن أفضليته على من عداه ظاهرة جلية عند‬
‫الصحابة رضي هللا عنهم‪ .‬ولهذا قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لما أراد أن يكتب‬
‫الكتاب الذي أراد أن ينص فيه على خالفته فتركه‪ ،‬قال‪ :‬يأبى هللا والمؤمنون إال أبا بكر‬
‫رضي هللا عنه‪.‬‬
‫وقول كفرة قوم نوح له ولمن آمن به‪َ { .‬و َما نَ َرى لَ ُك ْم َعلَ ْينَا ِم ْن فَضْ ٍل} أي لم يظهر‬
‫ين‪ ،‬قَا َل يَا قَ ْو ِم أَ َرأَ ْيتُ ْم إِ ْن‬ ‫لكم أمر بعد اتصافكم باإليمان وال مرية علينا {بَلْ نَظُنُّ ُك ْم َكا ِذبِ َ‬
‫ت َعلَ ْي ُك ْم أَنُ ْل ِز ُم ُك ُموهَا َوأَ ْنتُ ْم لَهَا‬ ‫نت َعلَى بَيِّنَ ٍة ِم ْن َربِّي َوآتَانِي َرحْ َمةً ِم ْن ِع ْن ِد ِه فَ ُع ِّميَ ْ‬ ‫ُك ُ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫ارهُ َ‬ ‫َك ِ‬
‫وهذا تلطف في الخطاب معهم‪ ،‬وترفق بهم في الدعوة إلى الحق‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫يل َرب َِّك بِ ْال ِح ْك َم ِة‬ ‫ع إِلَى َسبِ ِ‬ ‫{فَقُوالَ لَهُ قَ ْوالً لَيِّنا ً لَ َعلَّهُ يَتَ َذ َّك ُر أَ ْو يَ ْخ َشى}‪ .‬وقال تعالى‪{ :‬ا ْد ُ‬
‫َو ْال َم ْو ِعظَ ِة ْال َح َسنَ ِة َو َجا ِد ْلهُ ْم بِالَّتِي ِه َي أَحْ َس ُن} وهذا منه‪.‬‬
‫نت َعلَى بَيِّنَ ٍة ِم ْن َربِّي َوآتَانِي َرحْ َمةً ِم ْن ِع ْن ِد ِه} أي النبوة‬ ‫يقول لهم‪{ :‬أَ َرأَ ْيتُ ْم إِ ْن ُك ُ‬
‫والرسالة‪{ ،‬فعميت عليكم} أي فلم تفهموها ولم تهتدوا إليها‪{ ،‬أَنُ ْل ِز ُم ُك ُموهَا} أي أنغصبكم‬
‫ون} ؟ أي ليس لي فيكم حيلة والحالة هذه‪َ { .‬ويَا قَ ْو ِم‬ ‫ارهُ َ‬ ‫بها ونجبركم عليها‪َ { ،‬وأَ ْنتُ ْم لَهَا َك ِ‬
‫الَ أَسْأَلُ ُك ْم َعلَ ْي ِه َماالً إِ ْن أَجْ ِري إِالَّ َعلَى هَّللا ِ} أي لست أريد منكم أجرة على إبالغي إياكم‬
‫ما ينفعكم في دنياكم وأخراكم‪ ،‬إن أطلب ذلك إال من هللا الذي ثوابه خير لي‪ ،‬وأبقى مما‬
‫تعطونني أنتم‪.‬‬
‫ون}‬ ‫ين آ َمنُوا إِنَّهُ ْم ُمالَقُو َربِّ ِه ْم َولَ ِكنِّي أَ َرا ُك ْم قَ ْوما ً تَجْ هَلُ َ‬ ‫وقوله‪َ { :‬و َما أَنَا بِطَ ِ‬
‫ار ِد الَّ ِذ َ‬
‫كأنهم طلبوا منه أن يبعد هؤالء عنه‪ ،‬ووعدوه أن يجتمعوا به إذا هو فعل ذلك‪ ،‬فأبى عليهم‬
‫ذلك وقال‪{ :‬إِنَّهُ ْم ُمالَقُو َربِّ ِه ْم} أي‪ :‬فأخاف إن طردتهم‪ ،‬أفال تذكرون‪.‬‬
‫ولهذا لما سأل كفار قريش رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن يطرد عنه ضعفاء‬
‫المؤمنين‪ ،‬كعمار وصهيب وبالل وخباب وأشباههم‪ ،‬نهاه هللا عن ذلك‪ ،‬كما بيناه في‬
‫سورتي األنعام والكهف‪.‬‬
‫ك} أي بل أنا عبد‬ ‫ْب َوالَ أَقُو ُل إِنِّي َملَ ٌ‬ ‫{ َوالَ أَقُو ُل لَ ُك ْم ِعن ِدي َخ َزائِ ُن هَّللا ِ َوالَ أَ ْعلَ ُم ْال َغي َ‬
‫رسول‪ ،‬ال أعلم من علم هللا إال ما أعلمني به‪ ،‬وال أقدر إال على ما أقدرني عليه‪ ،‬وال أملك‬
‫ين تَ ْز َد ِري أَ ْعيُنُ ُك ْم} يعني من أتباعه‬ ‫لنفسي نفعا ً وال ضراً إال ما شاء هللا‪َ { .‬والَ أَقُو ُل لِلَّ ِذ َ‬
‫ين} أي ال أشهد عليهم‬ ‫{لَ ْن ي ُْؤتِيَهُ ْم هَّللا ُ َخيْراً هَّللا ُ أَ ْعلَ ُم بِ َما فِي أَنفُ ِس ِه ْم إِنِّي إِذاً لَ ِم ْن الظَّالِ ِم َ‬
‫بأنهم ال خير لهم عند هللا يوم القيامة‪ ،‬هللا أعلم بهم‪ ،‬وسيجازيهم على ما في نفوسهم‪ ،‬إن‬
‫ون‪،‬‬‫ك األَرْ َذلُ َ‬ ‫ك َواتَّبَ َع َ‬ ‫خيراً فخير‪ ،‬وإن شراً فشر‪ ،‬كما قالوا في المواضع األخر‪{ :‬أَنُ ْؤ ِم ُن لَ َ‬
‫ار ِد‬ ‫ُون‪َ ،‬و َما أَنَا بِطَ ِ‬ ‫ون‪ ،‬إِ ْن ِح َسابُهُ ْم إِالَّ َعلَى َربِّي لَ ْو تَ ْش ُعر َ‬ ‫ال َو َما ِع ْل ِمي بِ َما َكانُوا يَ ْع َملُ َ‬ ‫قَ َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ين‪ ،‬إِ ْن أَنَا إِالَّ نَ ِذي ٌر ُمبِ ٌ‬ ‫ْال ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ف َسنَ ٍة إِالَّ‬ ‫ث فِي ِه ْم أَ ْل َ‬‫وقد تطاول الزمان والمجادلة بينه وبينهم كما قال تعالى‪{ :‬فَلَبِ َ‬
‫ون} أي ومع هذه المدة الطويلة فما آمن به إال‬ ‫ان َوهُ ْم ظَالِ ُم َ‬ ‫ين َعاما ً فَأ َ َخ َذهُ ْم ُّ‬
‫الطوفَ ُ‬ ‫َخ ْم ِس َ‬
‫القليل منهم‪.‬‬
‫وكان كلما انقرض جيل وصوا من بعدهم بعدم اإليمان به ومحاربته ومخالفته‪ .‬وكان‬
‫الوالد إذا بلغ ولده وعقل عنه كالمه‪ ،‬وصاه فيما بينه وبينه‪ :‬أال يؤمن بنوح أبداً ما عاش‪،‬‬
‫ودائما ً ما بقى‪.‬‬
‫وكانت سجاياهم تأبى اإليمان وإتباع الحق‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬والَ يَلِ ُدوا إِالَّ فَا ِجراً َكفَّاراً}‪.‬‬
‫نت ِم ْن الصَّا ِدقِ َ‬
‫ين‪،‬‬ ‫ت ِج َدالَنَا فَأْتِنَا بِ َما تَ ِع ُدنَا إِ ْن ُك َ‬ ‫ولهذا‪{ :‬قَالُوا يَا نُو ُح قَ ْد َجا َد ْلتَنَا فَأ َ ْكثَرْ َ‬
‫ين} أي إنما يقدر على ذلك هللا عز وجل‪،‬‬ ‫ْج ِز َ‬ ‫ال إِنَّ َما يَأْتِي ُك ْم بِ ِه هَّللا ُ إِ ْن َشا َء َو َما أَ ْنتُ ْم بِ ُمع ِ‬
‫قَ َ‬
‫فإنه الذي ال يعجزه شيء وال يكترثه أمر‪ ،‬بل هو الذي يقول للشيء كن فيكون‪َ { .‬والَ‬
‫ان هَّللا ُ ي ُِري ُد أَ ْن يُ ْغ ِويَ ُك ْم هُ َو َربُّ ُك ْم َوإِلَ ْي ِه‬
‫نص َح لَ ُك ْم إِ ْن َك َ‬ ‫ت أَ ْن أَ َ‬ ‫يَنفَ ُع ُك ْم نُصْ ِحي إِ ْن أَ َر ْد ُ‬
‫ُون} أي من يرد هللا فتنته فلن يملك أحد هدايته‪ ،‬هو الذي يهدي من يشاء ويضل من‬ ‫تُرْ َجع َ‬
‫يشاء‪ ،‬وهو الفعال لما يريد‪ ،‬وهو العزيز الحكيم‪ ،‬العليم بمن يستحق الهداية ومن يستحق‬
‫الغواية‪ ،‬وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة‪.‬‬
‫ك إِالَّ َم ْن قَ ْد آ َم َن} تسلية له عما كان منهم‬ ‫وح أَنَّهُ لَ ْن ي ُْؤ ِم َن ِم ْن قَ ْو ِم َ‬ ‫وح َي إِلَى نُ ٍ‬ ‫{ َوأُ ِ‬
‫ون} وهذه تعزية لنوح عليه السالم في قومه أنه لن يؤمن‬ ‫إليه {فَالَ تَ ْبتَئِسْ بِ َما َكانُوا يَ ْف َعلُ َ‬
‫منهم إال من قد آمن‪ ،‬أي ال يسوأنك ما جرى فإن النصر قريب والنبأ "عجب" عجيب‪.‬‬
‫ون}‪.‬‬ ‫ين ظَلَ ُموا إِنَّهُ ْم ُم ْغ َرقُ َ‬ ‫ك بِأ َ ْعيُنِنَا َو َوحْ يِنَا َوالَ تُ َخا ِط ْبنِي فِي الَّ ِذ َ‬ ‫{ َواصْ نَ ْع ْالفُ ْل َ‬
‫وذلك أن نوحا ً عليه السالم لما يئس من صالحهم وفالحهم‪ ،‬ورأى أنهم ال خير فيهم‪،‬‬
‫وتوصلوا إلى أذيته ومخالفته وتكذيبه بكل طريق‪ ،‬من فعال ومقال‪ ،‬دعا عليهم دعوة‬
‫ُون‪،‬‬ ‫غضب فلبى هللا دعوته وأجاب طلبته قال هللا تعالى‪َ { :‬ولَقَ ْد نَا َدانَا نُو ٌح فَلَنِ ْع َم ْال ُم ِجيب َ‬
‫ب ْال َع ِظ ِيم}‪ .‬وقال تعالى‪َ { :‬ونُوحا ً إِ ْذ نَا َدى ِم ْن قَ ْب ُل فَا ْستَ َج ْبنَا لَهُ‬ ‫َونَ َّج ْينَاهُ َوأَ ْهلَهُ ِم ْن ْال َكرْ ِ‬
‫ال َربِّ إِ َّن قَ ْو ِمي َك َّذبُونِي‪ ،‬فَا ْفتَحْ بَ ْينِي‬ ‫ب ْال َع ِظ ِيم}‪ .‬وقال تعالى‪{ :‬قَ َ‬ ‫فَنَ َّج ْينَاهُ َوأَ ْهلَهُ ِم ْن ْال َكرْ ِ‬
‫ين} وقال تعالى‪{ :‬فَ َد َعا َربَّهُ أَنِّي َم ْغلُوبٌ‬ ‫َوبَ ْينَهُ ْم فَ ْتحا ً َونَ ِّجنِي َو َم ْن َم ِعي ِم ْن ْال ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ال َربِّ انصُرْ نِي بِ َما َك َّذبُونِي}‪ .‬وقال تعالى‪ِ { :‬م َّما َخ ِطيئَاتِ ِه ْم‬ ‫صرْ } وقال تعالى‪{ :‬قَ َ‬ ‫فَا ْنتَ ِ‬
‫ال نُو ٌح َربِّ الَ تَ َذرْ َعلَى‬ ‫صاراً‪َ ،‬وقَ َ‬ ‫ون هَّللا ِ أَ ْن َ‬ ‫أُ ْغ ِرقُوا فَأ ُ ْد ِخلُوا نَاراً فَلَ ْم يَ ِج ُدوا لَهُ ْم ِم ْن ُد ِ‬
‫اجراً َكفَّاراً}‪.‬‬ ‫ك َوالَ يَلِ ُدوا إِالَّ فَ ِ‬ ‫ُضلُّوا ِعبَا َد َ‬ ‫ك إِ ْن تَ َذرْ هُ ْم ي ِ‬ ‫ين َديَّاراً‪ ،‬إِنَّ َ‬ ‫ض ِم ْن ْال َكافِ ِر َ‬ ‫األَرْ ِ‬
‫فاجتمع عليهم خطاياهم من كفرهم وفجورهم ودعوة نبيهم عليهم‪.‬‬
‫فعند ذلك أمره هللا تعالى أن يصنع الفلك‪ d،‬وهي السفينة العظيمة التي لم يكن لها نظير‬
‫قبلها وال يكون بعدها مثلها‪.‬‬
‫وقدم هللا تعالى إليه أنه إذا جاء أمره‪ ،‬وحل بهم بأسه الذي ال يرد عن القوم‬
‫المجرمين‪ ،‬أنه ال يعاوده فيهم وال يراجعه؛ فإنه لعله قد تدركه رقة على قومه عند معاينة‬
‫ين َ‬
‫ظلَ ُموا‬ ‫العذاب النازل بهم‪ ،‬فإنه ليس الخبر كالمعاينة‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬والَ تُ َخا ِط ْبنِي فِي الَّ ِذ َ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫إِنَّهُ ْم ُم ْغ َرقُ َ‬
‫ك َو ُكلَّ َما َم َّر َعلَ ْي ِه َمألٌ ِم ْن قَ ْو ِم ِه َس ِخرُوا ِم ْنهُ} أي يستهزئون به استبعاداً‬ ‫{ َويَصْ نَ ُع ْالفُ ْل َ‬
‫ُون} أي نحن الذين‬ ‫ْخر َ‬ ‫ْخ ُر ِم ْن ُك ْم َك َما تَس َ‬
‫ْخرُوا ِمنَّا فَإِنَّا نَس َ‬ ‫ال إِ ْن تَس َ‬ ‫لوقوع ما توعدهم به‪{ .‬قَ َ‬
‫نسخر منكم ونتعجب منكم في استمراركم على كفركم وعنادكم الذي يقتضي وقوع‬
‫ون َم ْن يَأْتِي ِه َع َذابٌ ي ُْخ ِزي ِه َويَ ِحلُّ َعلَ ْي ِه َع َذابٌ‬ ‫ف تَ ْعلَ ُم َ‬ ‫العذاب بكم وحلوله عليكم‪{ .‬فَ َس ْو َ‬
‫ُمقِي ٌم}‪.‬‬
‫وقد كانت سجاياهم الكفر الغليظ والعناد البالغ في الدنيا‪ ،‬وهكذا في اآلخرة فإنهم‬
‫يجحدون أيضا ً أن يكون جاءهم رسول‪.‬‬
‫ي‪َ :‬ح َّدثَنا موسى بن إسماعيل‪َ ،‬ح َّدثَنا عبد الواحد بن زياد‪َ ،‬ح َّدثَنا‬ ‫كما قال البُ َخار ّ‬
‫األعمش‪ ،‬عن أبي صالح‪ ،‬عن أبي سعيد قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم "يجيء‬
‫نوح عليه السالم وأمته‪ ،‬فيقول هللا عز وجل‪ :‬هل بلغت؟ فيقول‪ :‬نعم أي رب‪ .‬فيقول ألمته‬
‫هل بلغكم؟ فيقولون‪ :‬ال ما جاءنا من نبي‪ ،‬فيقول لنوح‪ :‬من شهد لك؟ فيقول محمد وأمته‪،‬‬
‫ك َج َع ْلنَا ُك ْم أُ َّمةً َو َسطا ً لِتَ ُكونُوا ُشهَ َدا َء َعلَى‬ ‫فتشهد أنه قد بلغه" وهو قوله تعالى‪َ { :‬و َك َذلِ َ‬
‫ون ال َّرسُو ُل َعلَ ْي ُك ْم َش ِهيداً}‪.‬‬ ‫اس َويَ ُك َ‬ ‫النَّ ِ‬
‫والوسط العدل‪ .‬فهذه األمة تشهد على شهادة نبيها الصادق المصدوق‪ ،‬بأن هللا قد‬
‫بعث نوحا ً بالحق‪ ،‬وأنزل عليه الحق وأمره به‪ ،‬وأنه بلغه إلى أمته على أكمل الوجوه‬
‫وأتمها‪ ،‬ولم يدع شيئا ً مما قد ينفعهم في دينهم إال وقد أمرهم به‪ ،‬وال شيئا ً مما قد يضرهم‬
‫إال وقد نهاهم عنه‪ ،‬وحذرهم منه‪.‬‬
‫وهكذا شأن جميع الرسل‪ ،‬حتى أنه حذر قومه المسيح الدجال وإن كان ال يتوقع‬
‫خروجه في زمانهم؛ حذراً عليهم وشفقة ورحمة بهم‪.‬‬
‫ي‪َ :‬ح َّدثَنا عبدان‪َ ،‬ح َّدثَنا عبد هللا‪ ،‬عن يونس‪ ،‬عن الزهري‪ ،‬قال سالم‬ ‫كما قال البُ َخار ّ‬
‫قال ابن عمر‪ :‬قام رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في الناس فأثنى على هللا بما هو أهله‪،‬‬
‫ثم ذكر الدجال فقال‪" :‬إني ألنذرتموه‪ ،‬وما من نبي إال وقد أنذره قومه‪ ،‬لقد أنذره نوح‬
‫قومه‪ ،‬ولكني أقول لكم فيه قوالً لم يقله نبي لقومه‪ :‬تعلمون أنه أعور‪ ،‬وأن هللا ليس‬
‫بأعور"‪.‬‬
‫وهذا الحديث في "الصحيحين"‪ d‬أيضا ً من حديث شيبان بن عبد الرحمن عن يحيى بن‬
‫أبي كثير‪ ،‬عن أبي سلمة بن عبد الرحمن‪ ،‬عن أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫قال‪" :‬أال أحدثكم عن الدجال حديثا ً ما حدث به نبي قومه؟ إنه أعور‪ ،‬وإنه يجيء معه‬
‫بمثال الجنَّة والنار والتي يقول عليها الجنَّة هي النار‪ ،‬وإني أنذركم كما أنذر به نوح‬
‫ي‪.‬‬ ‫قومه" لفظ الب َُخار ّ‬
‫وقد قال بعض علماء السلف‪ :‬لما استجاب هللا له‪ ،‬أمره أن يغرس شجراً ليعمل منه‬
‫السفينة‪ ،‬فغرسه وانتظره مائة سنة‪ ،‬ثم نجره في مائة أخرى‪ ،‬وقيل في أربعين سنة‪ .‬وهللا‬
‫أعلم‪.‬‬
‫قال ُم َح ْمد بن إسحاق عن الثوري‪ :‬وكانت من خشب الساج‪ ،‬وقيل من الصنوبر وهو‬
‫نص التوراة‪.‬‬
‫قال الثوري‪ :‬وأمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعاً‪ ،‬وأن يطلي ظاهرها وباطنها‬
‫بالقار‪ ،‬وأن يجعل لها جؤجؤا أزور يشق الماء‪.‬‬
‫وقال قتادة‪ :‬كان طولها ثالثمائة ذراع في عرض خمسين ذراعا ً‪ .‬وهذا الذي في‬
‫التوراة على ما رأيته‪ .‬وقال الحسن البصري‪ :‬ستمائة في عرض ثالثمائة‪ ،‬وعن ابن‬
‫عبَّاس‪ :‬ألف ومائتا ذراع في عرض ستمائة ذراع وقيل‪ :‬كان طولها ألفي ذراع‪،‬‬
‫وعرضها مائة ذراع‪.‬‬
‫قالوا كلهم‪ :‬وكان ارتفاعها ثالثين ذراعاً‪ ،‬وكانت ثالث طبقات كل واحد عشرة‬
‫أذرع‪ ،‬فالسفلى للدواب والوحوش‪ ،‬والوسطى للناس‪ ،‬والعليا للطيور‪ .‬وكان بابها في‬
‫عرضها‪ ،‬ولها غطاء من فوقها مطبق عليها‪.‬‬
‫ك بِأ َ ْعيُنِنَا‬
‫ال َربِّ انصُرْ نِي بِ َما َك َّذبُونِي‪ ،‬فَأ َ ْو َح ْينَا إِلَ ْي ِه أَ ْن اصْ نَ ْع ْالفُ ْل َ‬ ‫قال هللا تعالى‪{ :‬قَ َ‬
‫َو َوحْ يِنَا} أي بأمرنا لك‪ ،‬وبمرأى منا لصنعتك لها‪ ،‬ومشاهدتنا لذلك‪ ،‬لنرشدك إلى الصواب‪d‬‬
‫في صنعتها‪.‬‬
‫ق‬‫ك إِالَّ َم ْن َسبَ َ‬ ‫{فَإِ َذا َجا َء أَ ْم ُرنَا َوفَا َر التَّنُّو ُر فَا ْسلُ ْك فِيهَا ِم ْن ُكلٍّ َز ْو َجي ِْن ْاثنَ ْي ِن َوأَ ْهلَ َ‬
‫ون}‪.‬‬‫ظلَ ُموا إِنَّهُ ْم ُم ْغ َرقُ َ‬ ‫ين َ‬ ‫َعلَ ْي ِه ْالقَ ْو ُل ِم ْنهُ ْم َوالَ تُ َخا ِط ْبنِي فِي الَّ ِذ َ‬
‫فتقدم إليه بأمره العظيم العالي أنه إذا جاء أمره وحل بأسه‪ ،‬أن يحمل في هذه السفينة‬
‫من كل زوجين اثنين من الحيوانات‪ d،‬وسائر ما فيه روح من المأكوالت وغيرها لبقاء‬
‫نسلها‪ ،‬وأن يحمل معه أهله‪ ،‬أي أهل بيته‪ ،‬إال من سبق عليه القول منهم‪ ،‬أي إال من كان‬
‫كافراً فإنه قد نفذت فيه الدعوة التي ال ترد‪ ،‬ووجب عليه حلول البأس الذي ال يرد‪ .‬وأمر‬
‫أنه ال يراجعه فيهم إذا حل بهم ما يعانيه من العذاب العظيم‪ ،‬الذي قد حتمه عليهم الفعال‬
‫لما يريد‪ .‬كما قدمنا بيانه قبل‪.‬‬
‫والمراد بالتنور عند الجمهور وجه األرض‪ ،‬أي نبعت األرض من سائر أرجائها‬
‫حتى نبعت التنانير التي هي محال النار‪ .‬وعن ابن عبَّاس‪ :‬التنور عين في الهند‪ ،‬وعن‬
‫ال َّشعبي بالكوفة‪ ،‬وعن قتادة بالجزيرة‪.‬‬
‫وقال علي بن أبي طالب‪ :‬المراد بالتنور فلق الصبح وتنوير الفجر‪ ،‬أي إشراقه‬
‫وضياؤه‪ .‬أي عند ذلك فاحمل فيها من كل زوجين اثنين وهذا قول غريب‪.‬‬
‫ار التَّنُّو ُر قُ ْلنَا احْ ِملْ فِيهَا ِم ْن ُكلٍّ َز ْو َجي ِْن ْاثنَي ِْن‬‫وقوله تعالى‪َ { :‬حتَّى إِ َذا َجا َء أَ ْم ُرنَا َوفَ َ‬
‫ق َعلَ ْي ِه ْالقَ ْو ُل َو َم ْن آ َم َن َو َما آ َم َن َم َعهُ إِالَّ قَلِي ٌل} هذا أمر بأنه عند حلول‬ ‫َوأَ ْهلَ َ‬
‫ك إِالَّ َم ْن َسبَ َ‬
‫النقمة بهم أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين‪.‬‬
‫وفي كتاب أهل الكتاب‪ :‬أنه أمر أن يحمل من كل ما يؤكل سبعة أزواج‪ ،‬وما ال يؤكل‬
‫زوجين ذكر وأنثى‪.‬‬
‫وهذا مغاير لمفهوم قوله تعالى في كتابنا الحق‪" :‬اثنين" أن جعلنا ذلك مفعوالً به‪،‬‬
‫وأما إن جعلناه توكيداً لزوجين والمفعول به محذوف فال ينافي‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫وذكر بعضهم ‪ -‬ويروى عن ابن عبَّاس‪ :‬أن أول ما دخل من الطيور الدرة‪ ،‬وأخر ما‬
‫دخل من الحيوانات الحمار‪ .‬ودخل إبليس متعلقا ً بذنب الحمار‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم‪َ :‬ح َّدثَنا أبي‪َ ،‬ح َّدثَنا عبد هللا بن صالح‪ ،‬حدثني الليث‪ d،‬حدثني هشام‬
‫بن سعد‪ ،‬عن زيد بن أسلم‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪ " :‬لما حمل‬
‫نوح في السفينة من كل زوجين اثنين‪ ،‬قال أصحابه‪ :‬وكيف نطمئن؟ أو كيف تطمئن‬
‫المواشي ومعنا األسد؟ فسلط هللا عليه الحمى‪ ،‬فكانت أول حمى نزلت في األرض‪ .‬ثم‬
‫شكوا الفأرة‪ d،‬فقالوا الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا‪ .‬فأوحى هللا إلى األسد فعطس‪،‬‬
‫فخرجت الهرة منه فتخبأت الفأرة منها‪ .‬هذا مرسل‪.‬‬
‫ق َعلَ ْي ِه ْالقَ ْو ُل} أي من استجيبت فيهم الدعوة النافذة ممن‬ ‫وقوله‪َ { :‬وأَ ْهلَ َ‬
‫ك إِالَّ َم ْن َسبَ َ‬
‫كفر‪ ،‬فكان منهم ابنه "يام" الذي غرق كما سيأتي بيانه‪.‬‬
‫{ َو َم ْن آ َم َن} أي واحمل فيها من آمن بك من أمتك‪ .‬قال هللا تعالى‪َ { :‬و َما آ َم َن َم َعهُ إِالَّ‬
‫قَلِي ٌل} هذا مع طول المدة والمقام بين أظهرهم‪ ،‬ودعوتهم األكيدة ليالً ونهاراً‪ ،‬بضروب‬
‫المقال‪ ،‬وفنون التلطفات‪ d،‬والتهديد والوعيد تارة‪ ،‬والترغيب والوعيد أخرى‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء في عدة من كان معه في السفينة‪:‬‬
‫فعن ابن عبَّاس‪ :‬كانوا ثمانين نفسا ً معهم نساؤهم‪ .‬وعن كعب األحبار‪ :‬كانوا اثنين‬
‫وسبعين نفسا ً‪ .‬وقيل‪ :‬كانوا عشرة‪ .‬وقيل‪ :‬إنما كانوا نوحا ً وبنيه الثالثة وكنائنه األربع‬
‫بامرأة "يام" الذي انخذل وانعزل‪ ،‬وتسلل عن طريق النجاة فما عدل إذ عدل‪.‬‬
‫وهذا القول فيه مخالفة لظاهر اآلية‪ ،‬بل هي نص في أنه قد ركب معه من غير أهله‬
‫ين}‪.‬‬ ‫طائفة ممن آمن به‪ ،‬كما قال‪َ { :‬ونَجِّ نِي َو َم ْن َم ِعي ِم ْن ْال ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫وقيل كانوا سبعة‪.‬‬
‫وأما امرأة نوح وهي أم أوالده كلهم‪ :‬وهم حام وسام ويافث ويام‪ ،‬ويسميه أهل الكتاب‬
‫كنعان وهو الذي قد غرق‪ ،‬وعابر‪ ،‬فقد ماتت قبل الطوفان‪ ،‬وقيل إنها غرقت مع من‬
‫غرق‪ ،‬وكانت ممن سبق عليه القول لكفرها‪.‬‬
‫وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة‪ ،‬فيحتمل أنها كفرت بعد ذلك‪ ،‬أو أنها أنظرت‬
‫ض ِم ْن ْال َكافِ ِر َ‬
‫ين َديَّاراً}‪.‬‬ ‫ليوم القيامة‪ ،‬والظاهر األول لقوله‪{ :‬الَ تَ َذرْ َعلَى األَرْ ِ‬
‫ك فَقُلْ ْال َح ْم ُد هَّلِل ِ الَّ ِذي نَجَّانَا ِم ْن‬ ‫ك َعلَى ْالفُ ْل ِ‬ ‫ت َو َم ْن َم َع َ‬ ‫ْت أَ ْن َ‬
‫قال هللا تعالى‪{ :‬فَإِ َذا ا ْستَ َوي َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫نزلِ َ‬‫ت َخ ْي ُر ْال ُم ِ‬ ‫اركا ً َوأَ ْن َ‬ ‫نز ْلنِي ُم ْن َزالً ُمبَ َ‬
‫ين‪َ ،‬وقُلْ َربِّ أَ ِ‬ ‫ْالقَ ْو ِم الظَّالِ ِم َ‬
‫أمره أن يحمد ربه على ما سخر له من هذه السفينة‪ ،‬فنجاه بها وفتح بينه وبين قومه‪،‬‬
‫اج ُكلَّهَا َو َج َع َل لَ ُك ْم ِم ْن‬ ‫ق األَ ْز َو َ‬ ‫وأقر عينه ممن خالفه وكذبه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬والَّ ِذي َخلَ َ‬
‫ُور ِه ثُ َّم تَ ْذ ُكرُوا نِ ْع َمةَ َربِّ ُك ْم إِ َذا ا ْستَ َو ْيتُ ْم َعلَ ْي ِه‬ ‫ُون‪ ،‬لِتَ ْستَ ُووا َعلَى ظُه ِ‬ ‫ك َواألَ ْن َع ِام َما تَرْ َكب َ‬ ‫ْالفُ ْل ِ‬
‫ُون}‪.‬‬ ‫ين‪َ ،‬وإِنَّا إِلَى َربِّنَا لَ ُمنقَلِب َ‬ ‫ْحان الَّ ِذي َس َّخ َر لَنَا هَ َذا َو َما ُكنَّا لَهُ ُم ْق ِرنِ َ‬ ‫َوتَقُولُوا ُسب َ‬
‫وهكذا يؤمر بالدعاء في ابتداء األمور‪ :‬أن يكون على الخير والبركة‪ ،‬وأن تكون‬
‫عاقبتها محمودة‪ ،‬كما قال تعالى لرسوله صلى هللا عليه وسلم حين هاجر‪َ { :‬وقُلْ َربِّ‬
‫صيراً}‪.‬‬ ‫ك س ُْلطَانا ً نَ ِ‬ ‫ق َواجْ َعلْ لِي ِم ْن لَ ُد ْن َ‬ ‫ص ْد ٍ‬ ‫ق َوأَ ْخ ِرجْ نِي ُم ْخ َر َج ِ‬ ‫ص ْد ٍ‬‫أَ ْد ِخ ْلنِي ُم ْد َخ َل ِ‬
‫ال ارْ َكبُوا فِيهَا بِاِس ِْم هَّللا ِ َمجْ َراهَا‬ ‫وقد امتثل نوح عليه السالم هذه الوصية وقال‪َ { :‬وقَ َ‬
‫َو ُمرْ َساهَا إِ َّن َربِّي لَ َغفُو ٌر َر ِحي ٌم} أي على اسم هللا ابتداء سيرها وانتهاؤه‪{ .‬إِ َّن َربِّي لَ َغفُو ٌر‬
‫َر ِحي ٌم} أي وذو عقاب أليم‪ ،‬مع كونه غفوراً رحيماً‪ ،‬ال يرد بأسه عن القوم المجرمين‪،‬‬
‫كما أحل بأهل األرض الذين كفروا به وعبدوا غيره‪.‬‬
‫ال} وذلك أن هللا تعالى أرسل من‬ ‫ج َك ْال ِجبَ ِ‪d‬‬ ‫قال هللا تعالى‪َ { :‬و ِه َي تَجْ ِري بِ ِه ْم فِي َم ْو ٍ‬
‫السماء مطراً لم تعهده األرض قبله وال تمطره بعده‪ ،‬كان كأفواه القرب‪ d،‬وأمر األرض‬
‫صرْ ‪،‬‬ ‫فنبعت من جميع فجاجها وسائر أرجائها‪ .‬كما قال تعالى‪{ :‬فَ َد َعا َربَّهُ أَنِّي َم ْغلُوبٌ فَا ْنتَ ِ‬
‫ض ُعيُونا ً فَ ْالتَقَى ْال َما ُء َعلَى أَ ْم ٍر قَ ْد قُ ِد َر‪،‬‬ ‫اب ال َّس َما ِء بِ َما ٍء ُم ْنهَ ِم ٍر‪َ ،‬وفَجَّرْ نَا األَرْ َ‬ ‫فَفَتَحْ نَا أَب َْو َ‬
‫اح َو ُدس ٍُر} والدسر المسامير {تَجْ ِري بِأ َ ْعيُنِنَا} أي بحفظنا وكالءتنا‬ ‫ت أَ ْل َو ٍ‬
‫َو َح َم ْلنَاهُ َعلَى َذا ِ‬
‫ان ُكفِ َر}‪.‬‬ ‫وحراستنا ومشاهدتنا لها { َج َزا ًء لِ َم ْن َك َ‬
‫وقد ذكر ابن جرير وغيره‪ :‬أن الطوفان كان في ثالث عشر من شهر آب في حساب‬
‫القبط‪.‬‬
‫اريَ ِة} أي السفينة {لِنَجْ َعلَهَا لَ ُك ْم‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬إِنَّا لَ َّما طَ َغى ْال َما ُء َح َم ْلنَا ُك ْم فِي ْال َج ِ‬
‫اعيَةٌ} قال جماعة من المفسرين‪ :‬ارتفع الماء على أعلى جبل في‬ ‫تَ ْذ ِك َرةً َوتَ ِعيَهَا أُ ُذ ٌن َو ِ‬
‫األرض خمسة عشر ذراعاً‪ ،‬وهو الذي عند أهل الكتاب‪ .‬وقيل ثمانين ذراعاً‪ ،‬وعم جميع‬
‫األرض طولها والعرض‪ ،‬سهلها وحزنها‪ ،‬وجبالها وقفارها ورمالها‪ d،‬ولم يبق على وجه‬
‫األرض ممن كان بها من األحياء عين تطرف‪ ،‬وال صغير وال كبير‪.‬‬
‫قال اإلمام مالك عن زيد بن أسلم‪ :‬كان أهل ذلك الزمان قد مألوا السهل والجبل‪.‬‬
‫وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‪ :‬لم تكن بقعة في األرض إال ولها مالك وحائز‪.‬‬
‫رواهما ابن أبي حاتم‪.‬‬
‫ين‪ ،‬قَا َل‬ ‫ي ارْ َكبْ َم َعنَا َوالَ تَ ُك ْن َم َع ْال َكافِ ِر َ‬ ‫ْز ٍل يَا بُنَ َّ‬
‫ان فِي َمع ِ‬ ‫{ َونَا َدى نُو ٌح ا ْبنَهُ َو َك َ‬
‫اص َم ْاليَ ْو َم ِم ْن أَ ْم ِر هَّللا ِ إِالَّ َم ْن َر ِح َم َو َحا َل‬ ‫ال الَ َع ِ‬ ‫ص ُمنِي ِم ْن ْال َما ِء قَ َ‬ ‫آوي إِلَى َجبَ ٍل يَ ْع ِ‬ ‫َس ِ‬
‫ان ِم ْن ْال ُم ْغ َرقِ َ‬
‫ين}‬ ‫بَ ْينَهُ َما ْال َم ْو ُج فَ َك َ‬
‫وهذا االبن هو "يام" أخو سام وحام ويافث‪ ،‬وقيل اسمه كنعان‪ .‬وكان كافراً عمل‬
‫عمالً غير صالح‪ ،‬فخالف أباه في دينه ومذهبه‪ ،‬فهلك مع من هلك‪ .‬هذا وقد نجا مع أبيه‬
‫األجانب في النسب‪ ،‬لما كانوا موافقين في الدين والمذهب‪.‬‬
‫ت‬‫ض َي األَ ْم ُر َوا ْستَ َو ْ‬ ‫يض ْال َما ُء َوقُ ِ‬ ‫ك َويَا َس َما ُء أَ ْقلِ ِعي َو ِغ َ‬ ‫يل يَا أَرْ ضُ ا ْبلَ ِعي َما َء ِ‬ ‫{ َوقِ َ‬
‫ين}‬ ‫يل بُعْداً لِ ْلقَ ْو ِم الظَّالِ ِم َ‬ ‫َعلَى ْالجُو ِديِّ َوقِ َ‬
‫أي لما فرغ من أهل األرض‪ ،‬ولم يبقى بها أحد ممن عبد غير هللا عز وجل‪ ،‬أمر هللا‬
‫األرض أن تبتلع ماءها‪ ،‬وأمر السماء أن تقلع أي تمسك عن المطر{وغيض الماء} أي‬
‫نقص عما كان وقيل بعداً للقوم الظالمين {وقضي األمر} أي وقع بهم الذي كان قد سبق‬
‫في علمه وقدره؛ من إحالله بهم ما حل بهم‪.‬‬
‫{وقيل بعداً للقوم الظالمين} أي نودي عليهم بلسان القدرة‪ :‬بعداً لهم من الرحمة‬
‫والمغفرة‪.‬‬
‫ين َك َّذبُوا بِآيَاتِنَا‬ ‫ك َوأَ ْغ َر ْقنَا الَّ ِذ َ‬ ‫ين َم َعهُ فِي ْالفُ ْل ِ‬ ‫نج ْينَاهُ َوالَّ ِذ َ‬ ‫كما قال تعالى‪{ :‬فَ َك َّذبُوهُ فَأ َ َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫إِنَّهُ ْم َكانُوا قَ ْوما ً َع ِم َ‬
‫ف َوأَ ْغ َر ْقنَا الَّ ِذ َ‬
‫ين‬ ‫ك َو َج َع ْلنَاهُ ْم َخالئِ َ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬فَ َك َّذبُوهُ فَنَ َّج ْينَاهُ َو َم ْن َم َعهُ فِي ْالفُ ْل ِ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ان َعاقِبَةُ ْال ُم ْن َذ ِر َ‬ ‫ْف َك َ‬ ‫َك َّذبُوا بِآيَاتِنَا فَا ْنظُرْ َكي َ‬
‫ين َك َّذبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُ ْم َكانُوا قَ ْو َم َس ْو ٍء فَأ َ ْغ َر ْقنَاهُ ْم‬ ‫صرْ نَاهُ ِم ْن ْالقَ ْو ِم الَّ ِذ َ‬ ‫وقال تعالى‪َ { :‬ونَ َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫أَجْ َم ِع َ‬
‫ين‪ ،‬إِ َّن فِي‬ ‫ك ْال َم ْشحُون‪ ،‬ثُ َّم أَ ْغ َر ْقنَا بَ ْع ُد ْالبَاقِ َ‬ ‫نج ْينَاهُ َو َم ْن َم َعهُ فِي ْالفُ ْل ِ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬فَأ َ َ‬
‫َّحي ُم}‪.‬‬ ‫ين‪َ ،‬وإِ َّن َرب ََّك لَه َُو ْال َع ِزي ُز الر ِ‬ ‫ان أَ ْكثَ ُرهُ ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ك آليَةً َو َما َك َ‬ ‫َذلِ َ‬
‫ين} وقال تعالى‪{:‬ثُ َّم‬ ‫اب ال َّسفِينَ ِة َو َج َع ْلنَاهَا آيَةً لِ ْل َعالَ ِم َ‬ ‫نج ْينَاهُ َوأَصْ َح َ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬فَأ َ َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫أَ ْغ َر ْقنَا َ‬
‫اآلخ ِر َ‬
‫ان َع َذابِي َونُ ُذ ِر‪َ ،‬ولَقَ ْد يَسَّرْ نَا ْالقُرْ َ‬
‫آن‬ ‫ْف َك َ‬ ‫وقال‪َ { :‬ولَقَ ْد تَ َر ْكنَاهَا آيَةً فَهَلْ ِم ْن ُم َّد ِك ٍر‪ ،‬فَ َكي َ‬
‫لِل ِّذ ْك ِر فَهَلْ ِم ْن ُم َّد ِك ٍر}‪.‬‬
‫صاراً‪d،‬‬ ‫وقال تعالى‪ِ { :‬م َّما َخ ِطيئَاتِ ِه ْم أُ ْغ ِرقُوا فَأ ُ ْد ِخلُوا نَاراً فَلَ ْم يَ ِج ُدوا لَهُ ْم ِم ْن ُد ِ‬
‫ون هَّللا ِ أَ ْن َ‬
‫ك َوالَ‬ ‫ُضلُّوا ِعبَا َد َ‬ ‫ك إِ ْن تَ َذرْ هُ ْم ي ِ‬ ‫ين َديَّاراً‪ ،‬إِنَّ َ‬ ‫ض ِم ْن ْال َكافِ ِر َ‬ ‫َوقَا َل نُو ٌح َربِّ الَ تَ َذرْ َعلَى األَرْ ِ‬
‫اجراً َكفَّاراً}‪.‬‬ ‫يَلِ ُدوا إِالَّ فَ ِ‬
‫وقد استجاب هللا تعالى ‪ -‬وله الحمد والمنة ‪ -‬دعوته‪ ،‬فلم يبق منهم عين تطرف‪.‬‬
‫وقد روى اإلمامان أبو جعفر بن جرير وأبو ُم َح ْمد بن أبي حاتم في تفسيرهما من‬
‫طريق يعقوب بن محمد الزهري‪ ،‬عن قائد مولى عبد هللا بن أبي رافع‪ ،‬أن إبراهيم بن‬
‫عبد الرحمن بن أبي ربيعة أخبره أن عائشة أم المؤمنين أخبرته أن رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم قال‪ " :‬فلو رحم هللا من قوم نوح أحداً لرحم أم الصبي!"‪.‬‬
‫قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪" :‬مكث نوح عليه السالم في قومه ألف سنة ‪-‬‬
‫يعني إال خمسين عاما ً ‪ -‬وغرس مائة سنة الشجر‪ ،‬فعظمت وذهبت كل مذهب‪ ،‬ثم قطعها‬
‫ثم جعلها سفينة‪ ،‬ويمرون عليه ويسخرون منه‪ ،‬ويقولون‪ :‬تعمل سفينة في البر؟ كيف‬
‫تجري؟ قال‪ :‬سوف تعلمون‪.‬‬
‫فلما فرغ ونبع الماء وصار في السكك خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حبا ً‬
‫شديداً‪ .‬فخرجت‪ d‬به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه‪ ،‬فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت‬
‫على الجبل‪ ،‬فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها فغرقا‪ ،‬فلو رحم هللا منهم أحداً لرحم أم‬
‫الصبي!"‬
‫وهذا حديث غريب‪ .‬وقد روي عن كعب األحبار ومجاهد وغير واحد‪ ،‬شبيه لهذه‬
‫القصة‪ .‬وأحرى بهذا الحديث أن يكون موقوفا ً متلقى عن مثل كعب األحبار‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫والمقصود أن هللا لم يبقي من الكافرين دياراً‪.‬‬
‫فكيف يزعم بعض المفسرين أن عوج بن عنق ‪ -‬ويقال ابن عناق ‪ -‬كان موجوداً من‬
‫قبل نوح إلى زمان موسى‪ .‬ويقولون كان كافراً متمرداً جباراً عنيداً‪ .‬ويقولون كان لغير‬
‫رشدة‪ ،‬بل ولدته أمه بنت آدم من زنى‪ ،‬وأنه كان يأخذ من طوله السمك من قرار البحار‬
‫ويشويه في عين الشمس‪ ،‬وأنه كان يقول لنوح وهو في السفينة‪ :‬ما هذه القصعة التي لك؟‬
‫ويستهزئ به‪ .‬ويذكرون أنه كان طوله ثالثة آلف ذراع وثالثمائة وثالثة وثالثين ذراعا ً‬
‫وثلثا ً إلى غير ذلك من الهذيانات التي لوال أنها مسطرة في كثير من كتب التفاسير‬
‫وغيرها من التواريخ وأيام الناس‪ ،‬لما تعرضنا لحكايتها‪ ،‬لسقاطتها وركاكتها‪ .‬ثم إنها‬
‫مخالفة للمعقول والمنقول‪.‬‬
‫أما المعقول‪ :‬فكيف يسوغ فيه أن يهلك هللا ولد نوح لكفره‪ ،‬وأبوه نبي األمة وزعيم‬
‫أهل اإليمان‪ ،‬وال يهلك عوج بن عنق‪ ،‬ويقال عناق‪ ،‬وهو أظلم وأطغى على ما ذكروا؟‬
‫وكيف ال يرحم هللا منهم أحداً وال أم الصبي وال الصبي‪ ،‬ويترك هذا الدعى الجبار‬
‫العنيد الفاجر‪ d،‬الشديد الكافر‪ d،‬ال ّشيْطان المريد على ما ذكروا؟‬
‫وأما المنقول فقد قال هللا تعالى‪{ :‬ثُ َّم أَ ْغ َر ْقنَا اآل َخ ِر َ‬
‫ين } وقال‪َ { :‬ربِّ الَ تَ َذرْ َعلَى‬
‫ض ِم ْن ْال َكافِ ِر َ‬
‫ين َديَّاراً}‪.‬‬ ‫األَرْ ِ‬
‫ثم هذا الطول الذي ذكروه مخالف لما في "الصحيحين"‪ d‬عن النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم أنه قال‪ " :‬إن هللا خلق آدم وطوله ستون ذراعا ً ثم لم يزل الخلق ينقص حتى اآلن"‪.‬‬
‫فهذا نص الصادق المصدوق المعصوم الذي ال ينطق عن الهوى {إِ ْن هُ َو إِالَّ َوحْ ٌي‬
‫ُوحى} أنه لم يزل الخلق ينقص حتى اآلن‪ ،‬أي لم يزل الناس في نقصان في طولهم من‬ ‫ي َ‬
‫آدم إلى يوم إخباره بذلك وهلم جرا إلى يوم القيامة‪ .‬وهذا يقتضي أنه لم يوجد من ذرية آدم‬
‫من كان أطول منه‪.‬‬
‫فكيف يترك هذا ويذهل عنه‪ ،‬ويصار إلى أقوال الكذبة الكفرة من أهل الكتاب‪ d،‬الذين‬
‫بدلوا كتب هللا المنزلة وحرفوها وأولوها ووضعوها على غير مواضعها؟ فما ظنك بما‬
‫هم يستقلون بنقله‪ ،‬أو يؤتمنون عليه‪ ،‬وهم الخونة والكذبة‪ ،‬عليهم لعائن هللا المتتابعة إلى‬
‫يوم القيامة‪ ،‬وما أظن أن هذا الخبر عن عوج بن عناق إال اختالقا ً من بعض زنادقتهم‬
‫وفجارهم الذين كانوا أعداء األنبياء‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫ثم ذكر هللا تعالى مناشدة نوح ربه في ولده‪ ،‬وسؤاله له عن غرقه على وجه‬
‫االستعالم واالستكشاف‪.‬‬
‫ووجه السؤال‪ :‬إنك وعدتني بنجاة أهلي معي وهو منهم وقد غرق؟‬
‫فأجيب بأنه ليس من أهلك‪ ،‬أي الذين وعدت بنجاتهم‪ ،‬أي أنّا قلنا لك‪{ :‬وأهلك إالّ من‬
‫سبق علي ِه القول منهم} فكان هذا ممن سبق عليه القول منهم بأنه سيغرق بكفره‪ ،‬ولهذا‬
‫ساقته األقدار إلى أن انحاز عن حوزة أهل اإليمان‪ ،‬فغرق مع حزبه أهل الكفر والطغيان‪.‬‬
‫ك َوأُ َم ٌم‬ ‫ك َو َعلَى أُ َم ٍم ِم َّم ْن َم َع َ‬‫ت َعلَ ْي َ‬ ‫يل يَا نُو ُح ا ْهبِ ْ‬
‫ط بِ َسالَ ٍم ِمنَّا َوبَ َر َكا ٍ‬ ‫ثم قال تعالى‪{ :‬قِ َ‬
‫َسنُ َمتِّ ُعهُ ْم ثُ َّم يَ َم ُّسهُ ْم ِمنَّا َع َذابٌ أَلِي ٌم}‪.‬‬
‫هذا أمر لنوح عليه السالم لما نضب الماء عن وجه األرض وأمكن السعي فيها‬
‫واالستقرار عليها‪ ،‬أن يهبط من السفينة التي كانت قد استقرت بعد سيرها العظيم على‬
‫ت } أي اهبط‬ ‫ظهر جبل الجودي‪ ،‬وهو جبل بأرض الجزيرة مشهور‪{ ،‬بِ َسالَ ٍم ِمنَّا َوبَ َر َكا ٍ‬
‫سالما ً مباركا ً عليك‪ ،‬وعلى أمم ممن سيولد بعد‪ ،‬أي من أوالدك‪ ،‬فإن هللا لم يجعل ألحد‬
‫ممن كان معه من المؤمنين نسالً وال عقبا ً سوى نوح عليه السالم‪ .‬قال تعالى‪َ { :‬و َج َع ْلنَا‬
‫ين} فكل من على وجه األرض اليوم من سائر أجناس بني آدم‪ ،‬ينسبون إلى‬ ‫ُذ ِّريَّتَهُ هُ ْم ْالبَاقِ َ‬
‫أوالد نوح الثالثة وهم‪ :‬سام وحام ويافث‪.‬‬
‫قال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا عبد الوهاب‪ d،‬عن سعيد عن قتادة‪ ،‬عن الحسن‪ ،‬عن سمرة‪ ،‬أن‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬سام أبو العرب‪ d،‬وحام أبو الحبش‪ ،‬ويافث أبو الروم"‪.‬‬
‫ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ العقدي‪ ،‬عن يزيد بن زريع‪ ،‬عن سعيد بن أبي‬
‫عروبة‪ ،‬عن قتادة‪ ،‬عن الحسن‪ ،‬عن سمرة مرفوعا ً نحوه‪.‬‬
‫وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر‪ :‬وقد روي عن عمران بن حصين عن النبي صلى‬
‫هللا عليه وسلم مثله‪ .‬قال‪ :‬والمراد بالروم هنا الروم األول وهم اليونان المنتسبون إلى‬
‫رومي بن لقطي بن يونان بن يافث بن نوح عليه السالم‪.‬‬
‫ثم روى من حديث إسماعيل بن عياش‪ ،‬عن يحيى بن سعيد‪ ،‬عن سعيد بن ال ُمسَّيب‪،‬‬
‫أنه قال‪ :‬ولد نوح ثالثة‪ :‬سام ويافث وحام‪ ،‬وولد كل واحد من هذه الثالثة‪ ،‬فولد سام‪:‬‬
‫العرب وفارس والروم‪ .‬وولد يافث‪ :‬الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج‪ .‬وولد حام‪ :‬القبط‬
‫والسودان والبربر‪.‬‬
‫قلت وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في "مسنده"‪َ :‬ح َّدثَنا إبراهيم بن هانئ وأحمد بن‬
‫حسين بن عباد أبو العباس قال‪ :‬حدثني ُم َح ْمد بن يزيد بن سنان الرهاوي‪ ،‬حدثني أبي عن‬
‫يحيى بن سعيد‪ ،‬عن سعيد بن ال ُمسَّيب‪ ،‬عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪" :‬ولد لنوح‪ :‬سام وحام ويافث‪ ،‬فولد لسام العرب وفارس والروم والخير فيهم‪ .‬وولد‬
‫ليافث‪ :‬يأجوج وماجوج والترك والصقالبة وال خير فيهم‪ .‬وولد لحام‪ :‬القبط والبربر‬
‫والسودان"‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬ال نعلم يروى مرفوعا ً إال من هذا الوجه‪ .‬تفرد به ُم َح ْمد بن يزيد بن سنان‬
‫عن أبيه‪ ،‬وقد حدث عنه جماعة من أهل العلم واحتملوا حديثه ورواه غيره عن يحيى بن‬
‫سعيد مرسالً ولم يسنده‪ ،‬وإنما جعله من قول سعيد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا الذي ذكره أبو عمر‪ ،‬هو المحفوظ عن سعيد قوله‪ ،‬وهكذا روي عن وهب‬
‫بن منبه مثله وهللا أعلم ويزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي ضعيف بمرة ال يعتمد عليه‪.‬‬
‫وقد قيل أن نوحا ً عليه السالم لم يولد له هؤالء الثالثة األوالد إال بعد الطوفان‪ ،‬وإنما‬
‫ولد له قبل السفينة كنعان الذي غرق‪ ،‬وعابر مات قبل الطوفان‪.‬‬
‫والصحيح أن األوالد الثالثة كانوا معه في السفينة هم ونساؤهم وأمهم وهو نص‬
‫التوراة‪ .‬وقد ذكر أن "حاما ً" واقع امرأته في السفينة‪ ،‬فدعا عليه نوح أن تشوه خلقة‬
‫نطفته‪ ،‬فولد له ولد أسود وهو كنعان بن حام جد السودان‪ .‬وقيل‪ :‬بل رأى أباه نائما ً وقد‬
‫بدت عورته فلم يسترها وسترها أخواه‪ ،‬فلهذا دعا عليه أن تغير نطفته‪ ،‬وأن يكون أوالده‬
‫عبيداً الخوته‪.‬‬
‫وذكر اإلمام أبو جعفر بن جرير من طريق علي بن زيد بن جدعان‪ ،‬عن يوسف بن‬
‫مهران‪ ،‬عن ابن عبَّاس أنه قال‪ :‬قال الحواريون لعيسى ابن مريم‪ :‬لو بعثت لنا رجالً شهد‬
‫فح َّدثَنا عنها‪ ،‬قال فانطلق بهم حتى أتى إلى كثيب من تراب‪ ،‬فأخذ كفا ً من ذلك‬ ‫السفينة َ‬
‫التراب بكفه‪ ،‬وقال‪ :‬أتدرون ما هذا؟ قالوا‪ :‬هللا ورسوله أعلم‪ .‬قال‪ :‬هذا كعب بن حام بن‬
‫نوح‪ .‬قال‪ :‬وضرب الكثيب بعصاه وقال‪ :‬قم بإذن هللا‪ ،‬فإذا هو قائم ينفض التراب عن‬
‫رأسه قد شاب‪ .‬فقال له عيسى عليه السالم‪ :‬هكذا هلكت؟ قال‪ :‬ال‪ .‬ولكني مت وأنا شاب‪،‬‬
‫ولكني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت‪.‬‬
‫قال‪َ :‬ح َّدثَنا عن سفينة نوح‪ .‬قال كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع‪ ،‬وعرضها‬
‫ستمائة ذراع‪ ،‬وكانت ثالث طبقات‪ :‬فطبقة فيها الدواب والوحش‪ ،‬وطبقة فيها اإلنس‪،‬‬
‫وطبقة فيها الطير‪ .‬فلما كثر أرواث الدواب أوحى هللا عز وجل إلى نوح عليه السالم أن‬
‫اغمز ذنب الفيل‪ ،‬فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة‪ ،‬فأقبال على الروث‪ .‬ولما وقع الفأر‬
‫يخرز السفينة بقرضه‪ ،‬أوحى هللا عز وجل إلى نوح عليه السالم‪ :‬أن اضرب بين عيني‬
‫األسد‪ ،‬فخرج من منخره سنور وسنورة فأقبال على الفأر‪ :‬فقال له عيسى‪ :‬كيف علم نوح‬
‫عليه السالم أن البالد قد غرقت؟ قال‪ :‬بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها‪،‬‬
‫فدعا عليه بالخوف فلذلك ال يألف البيوت‪.‬‬
‫قال‪ :‬ثم بعث الحمامة فجاءت‪ d‬بورق زيتون بمنقارها وطين برجلها‪ ،‬فعلم أن البالد قد‬
‫غرقت فطوقها الخضرة التي في عنقها‪ ،‬ودعا لها أن تكون في أنس وأمان‪ ،‬فمن ثم تألف‬
‫ويح َّدثَنا؟ قال‪:‬‬
‫البيوت‪ .‬قال‪ :‬فقالوا‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬أال ننطلق به إلى أهلينا فيجلس معنا َ‬
‫كيف يتبعكم من ال رزق له؟ قال‪ :‬فقال له‪ :‬عد بإذن هللا‪ .‬فعاد ترابا ً‪.‬‬
‫وهذا أثر غريب جداً‪.‬‬
‫وروى علباء بن أحمر‪ ،‬عن عكرمة‪ ،‬عن ابن عبَّاس‪ ،‬قال‪ :‬كان مع نوح في السفينة‬
‫ثمانون رجالً معهم أهلوهم‪ ،‬وأنهم كانوا في السفينة مائة وخمسين يوماً‪ ،‬وإن هللا وجه‬
‫السفينة إلى مكة فدارت بالبيت أربعين يوماً‪ ،‬ثم وجهها إلى الجودي فاستقرت عليه‪ ،‬فبعث‬
‫نوح عليه السالم الغراب ليأتيه بخبر األرض‪ ،‬فذهب فوقع على الجيف فأبطأ عليه‪ ،‬فبعث‬
‫الحمامة فأتته بورق الزيتون ولطخت رجليها بالطين‪ ،‬فعرف نوح أن الماء قد نضب‪،‬‬
‫فهبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية وسماها ثمانين‪ ،‬فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت‬
‫ألسنتهم على ثمانين لغة‪ ،‬إحداهما العربية‪ .‬وكان بعضهم ال يفقه كالم بعض‪ ،‬فكان نوح‬
‫عليه السالم يعبر عنهم‪.‬‬
‫وقال قتادة وغيره‪ :‬ركبوا في السفينة في اليوم العاشر من شهر رجب‪ ،‬فساروا مائة‬
‫وخمسين يوما ً واستقرت بهم على الجودي شهراً‪.‬‬
‫وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم‪ .‬وقد روى ابن جرير خبراً‬
‫مرفوعا ً يوافق هذا‪ ،‬وأنهم صاموا يومهم ذلك‪.‬‬
‫وقال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا أبو جعفر‪َ ،‬ح َّدثَنا عبد الصمد بن حبيب األزدي‪ ،‬عن أبيه‬
‫حبيب بن عبد هللا‪ ،‬عن شبل‪ ،‬عن أبي هريرة قال‪ :‬م ّر النبي صلى هللا عليه وسلم بأناس‬
‫من اليهود وقد صاموا يوم عاشوراء‪ ،‬فقال‪ :‬ما هذا الصوم؟ فقالوا‪ :‬هذا اليوم الذي نجى‬
‫هللا فيه موسى وبني إسرائيل من الغرق‪ ،‬وغرق فيه فرعون‪ ،‬وهذا اليوم استوت فيه‬
‫السفينة على الجودي‪ ،‬فصامه نوح وموسى عليهما السالم شكراً هلل عز وجل‪ ،‬فقال النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪" :‬أنا أحق بموسى وأحق بصوم هذا اليوم" وقال ألصحابه‪" :‬من كان‬
‫منكم أصبح صائما ً فليتم صومه‪ ،‬ومن كان منكم قد أصاب من غد أهله فليتم بقية يومه"‪.‬‬
‫وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من وجه آخر‪ ،‬والمستغرب ذكر نوح أيضا ً‪ .‬وهللا‬
‫أعلم‪.‬‬
‫وأما ما يذكره كثير من الجهلة أنهم أكلوا من فضول أزوادهم‪ ،‬ومن حبوب كانت‬
‫معهم قد استصحبوها‪ ،‬وطحنوا الحبوب يومئذ‪ ،‬واكتحلوا باألثمد لتقوية أبصارهم لما‬
‫انهارت من الضياء‪ d‬بعد ما كانوا في ظلمة السفينة ‪ -‬فكل هذا ال يصح فيه شيء‪ ،‬وإنما‬
‫يذكر فيه آثار منقطعة عن بني إسرائيل ال يعتمد عليها وال يقتدى بها‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫وقال ُم َح ْمد بن إسحاق‪ :‬لما أراد هللا أن يكف ذلك الطوفان ‪ -‬أرسل ريحا ً على وجه‬
‫األرض‪ ،‬فسكن الماء وانسدت ينابيع األرض‪ ،‬فجعل الماء ينقص ويغيض ويدبر‪ ،‬وكان‬
‫استواء الفلك فيما يزعم أهل التوراة ‪ -‬في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه‪ .‬وفي‬
‫أول يوم من الشهر العاشر رئيت رؤوس الجبال‪ .d‬فلما مضى بعد أربعون يوما ً فتح نوح‬
‫كوة الفلك التي صنع فيها‪ ،‬ثم أرسل الغراب لينظر له ما فعل الماء فلم يرجع إليه‪ ،‬فأرسل‬
‫الحمامة فرجعت إليه لم يجد لرجلها موضعاً‪ ،‬فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها‪ d،‬ثم‬
‫مضت سبعة أيام ثم أرسلها لتنظر له ما فعل الماء فلم ترجع‪ ،‬فرجعت حين أمست وفي‬
‫فيها ورق زيتونة‪ ،‬فعلم نوح أن الماء قد قل عن وجه األرض‪ .‬ثم مكث سبعة أيام ثم‬
‫أرسلها فلم ترجع إليه‪ ،‬فعلم نوح أن األرض قد برزت‪ ،‬فلما كملت السنة فيما بين أن‬
‫أرسل هللا الطوفان إلى أن أرسل نوح الحمامة ودخل يوم واحد من الشهر األول من سنة‬
‫اثنين‪ ،‬برز وجه األرض‪ ،‬وظهر البر وكشف نوح غطاء الفلك‪.‬‬
‫وهذا الذي ذكره ابن إسحاق هو بعينه مضمون سياق التوراة التي بأيدي أهل الكتاب‪.‬‬
‫وقال ابن إسحاق‪ :‬وفي الشهر الثاني من سنة اثنين في ست وعشرين ليلة منه {قِي َل‬
‫ك َوأُ َم ٌم َسنُ َمتِّ ُعهُ ْم ثُ َّم يَ َم ُّسهُ ْم ِمنَّا‬
‫ْك َو َعلَى أُ َم ٍم ِم َّم ْن َم َع َ‬ ‫يَا نُو ُح ا ْهبِ ْ‬
‫ط بِ َسالَ ٍم ِمنَّا َوبَ َر َكا ٍ‬
‫ت َعلَي َ‬
‫َع َذابٌ أَلِي ٌم}‪.‬‬
‫وفيما ذكر أهل الكتاب أن هللا كلم نوحا ً قائالً له‪ :‬أخرج من الفلك أنت وامرأتك‬
‫وبنوك ونساء بنيك معك‪ ،‬وجميع الدواب التي معك‪ ،‬ولينمو وليكثروا في األرض‪.‬‬
‫فخرجوا وابتنى نوح مذبحا ً هلل عز وجل وأخذ من جميع الدواب الحالل والطير الحالل‬
‫فذبحها قربانا ً إلى هللا عز وجل وعهد هللا إليه أال يعيد الطوفان على أهل األرض‪.‬‬
‫وجعل تذكاراً لميثاقه إليه القوس الذي في الغمام‪ ،‬وهو قوس قزح الذي روي عن ابن‬
‫عبَّاس أنه أمان من الغرق‪ .‬قال بعضهم‪ :‬فيه إشارة إلى أنه قوس بال وتر‪ ،‬أي أن هذا‬
‫الغمام ال يوجد منه طوفان كأول مرة‪.‬‬
‫وقد أنكرت طائفة من جهلة الفرس وأهل الهند وقوع الطوفان‪ ،‬واعترف به آخرون‬
‫منهم وقالوا‪ :‬إنما كان بأرض بابل ولم يصل إلينا‪ .‬قالوا‪ :‬ولم نزل نتوارث الملك كابراً عن‬
‫كابر‪ ،‬من لدن كيومرث ‪ -‬يعنون آدم ‪ -‬إلى زماننا هذا‪.‬‬
‫وهذا قاله من قاله من زنادقة المجوس عباد النيران‪ ،‬وأتباع ال ّشيْطان‪ .‬وهذه سفسطة‬
‫منهم وكفر فظيع وجهل بليغ‪ ،‬ومكابرة للمحسوسات‪ ،‬وتكذيب لرب األرض والسماوات‪.‬‬
‫وقد أجمع أهل األديان الناقلون عن رسل الرحمن‪ ،‬مع ما تواتر عند الناس في سائر‬
‫األزمان‪ ،‬على وقوع الطوفان‪ ،‬وأنه عم جميع البالد‪ ،‬ولم يبق هللا أحداً من كفرة العباد؛‬
‫استجابة لدعوة نبيه المؤيد المعصوم‪ ،‬وتنفيذاً لما سبق في القدر المحتوم‪.‬‬

‫ذكر شيء من أخبار نوح نفسه عليه السالم‬


‫ان َعبْداً َش ُكوراً}‪ .‬قيل‪ :‬أنه كان يحمد هللا على طعامه وشرابه‬
‫قال هللا تعالى‪{ :‬إِنَّهُ َك َ‬
‫ولباسه وشأنه كله‪.‬‬
‫وقال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا أبو أسامة‪َ ،‬ح َّدثَنا زكريا بن أبي زائدة عن سعيد بن أبي‬
‫بردة‪ ،‬عن أنس بن مالك قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هَّللا عليه وسلم‪" :‬إن هللا ليرضى عن‬
‫العبد أن يأكل األكلة فيحمده عليها‪ ،‬أو يشرب الشربة فيحمده عليها"‪.‬‬
‫وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث أبي أسامة‪.‬‬
‫والظاهر أن الشكور هو الذي يعمل بجميع الطاعات القلبية والقولية والعملية؛ فإن‬
‫الشكر يكون بهذا وبهذا كما قال الشاعر‪:‬‬
‫أفادتكم النعماء مني ثالثة ** يدي ولساني والضمير المحجبا‪d‬‬

‫ذكر صومه عليه السالم‬


‫وقال ابن ماجة‪ :‬باب صيام نوح عليه السالم‪َ :‬ح َّدثَنا سهل بن أبي سهل َح َّدثَنا سعيد بن‬
‫أبي مريم‪ ،‬عن ابن لهيعة‪ ،‬عن جعفر بن ربيعة‪ ،‬عن أبي فراس‪ ،‬أنه سمع عبد هللا بن‬
‫عمرو يقول‪ :‬سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول‪" :‬صام نوح الدهر إال يوم عيد‬
‫الفطر ويوم األضحى"‪.‬‬
‫وهكذا رواه ابن ماجة عن طريق عبد هللا بن لهيعة بإسناده ولفظه‪.‬‬
‫وقد قال الطبراني‪َ :‬ح َّدثَنا أبو الزنباع روح بن فرج‪َ ،‬ح َّدثَنا عمر بن خالد الحراني‪d،‬‬
‫َح َّدثَنا ابن لهيعة‪ ،‬عن أبي قتادة‪ ،‬عن يزيد عن رباح أبي فراس‪ ،‬أنه سمع عبد هللا بن‬
‫عمرو يقول‪ :‬سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول‪" :‬صام نوح الدهر إال يوم‬
‫الفطر واألضحى‪ ،‬وصام داود نصف الدهر‪ ،‬وصام إبراهيم ثالثة أيام من كل شهر‪ ،‬صام‬
‫الدهر وأفطر الدهر"‪.‬‬

‫ذكر حجه عليه السالم‬


‫وقال الحافظ أبو يعلى‪َ :‬ح َّدثَنا سفيان بن وكيع‪َ ،‬ح َّدثَنا أبي‪ ،‬عن زمعة ‪ -‬هو ابن أبي‬
‫صالح ‪ -‬عن سلمة بن دهران‪ ،‬عن عكرمة‪ ،‬عن ابن عبَّاس قال‪ :‬حج رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم فلما أتى وادي عسفان قال‪" :‬يا أبا بكر أي واد هذا؟" قال هذا وادي عسفان‪.‬‬
‫قال‪" :‬لقد م ّر بهذا نوح وهود وإبراهيم على بكران لهم حمر خطمهم الليف‪ ،‬أزرهم العباء‬
‫وأرديتهم النمار يحجون البيت العتيق"‪ .‬فيه غرابة‪.‬‬

‫ذكر وصيته لولده عليه السالم‬


‫قال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا سليمان بن حرب‪َ ،‬ح َّدثَنا حماد بن زيد‪ ،‬عن الصقعب بن‬
‫زهير‪ ،‬عن زيد بن أسلم ‪ -‬قال حماد‪ :‬أظنه عن عطاء بن يسار‪ ،‬عن عبد هللا بن عمرو‬
‫قال‪ :‬كنا عند رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فجاء رجل من أهل البادية عليه جبة سيحان‬
‫مزرورة بالديباج فقال‪" :‬أال إن صاحبكم هذا قد وضع كل فارس ابن فارس‪ ،‬أو قال‪ :‬يريد‬
‫أن يضع كل فارس ابن فارس‪ ،‬ورفع كل راع ابن راع"‪ .‬قال‪ :‬فأخذ رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم بمجامع جبته وقال‪" :‬أال أرى عليك لباس من ال يعقل!" ثم قال‪" :‬أن نبي هللا‬
‫نوحا ً عليه السالم لما حضرته الوفاة قال البنه‪ :‬إني قاص عليك وصية؛ آمرك باثنتين‬
‫وأنهاك عن اثنتين‪ :‬آمرك بال إله إال هللا‪ ،‬فإن السماوات السبع واألرضين السبع لو‬
‫وضعت في كفة ووضعت ال إله إال هللا في كفة رجحت بهن ال إله إال هللا‪ .‬ولو أن‬
‫السماوات السبع واألرضين السبع كن حلقة مبهمة ضمتهن ال إله إال هللا‪ ،‬وبسبحان هللا‬
‫وبحمده‪ .‬فإن بها صالت كل شيء‪ ،‬وبها يرزق الخلق‪ .‬وأنهاك عن الشرك والكبر" قال‪:‬‬
‫قلت ‪ -‬أو قيل ‪ -‬يا رسول هللا‪ ،‬هذا الشرك قد عرفناه فما الكبر؟ أن يكون ألحدنا نعالن‬
‫حسنتان لهما شراكان حسنان؟ قال "ال" قال‪ :‬هو أن يكون ألحدنا حلة يلبسها؟ قال "ال"‬
‫قال‪ :‬هو أن يكون ألحدنا دابة يركبها؟ قال "ال" قال‪ :‬هو أن يكون ألحدنا أصحاب‬
‫يجلسون إليه؟ قال‪" :‬ال" قلت ‪ -‬أو قيل ‪ -‬يا رسول هللا فما الكبر؟ قال‪" :‬سفه الحق وغمط‬
‫الناس"‪.‬‬
‫وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه‪.‬‬
‫ورواه أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الرحيم بن سليمان عن ُم َح ْمد بن إسحاق‪،‬‬
‫عن عمرو بن دينار‪ ،‬عن عبد هللا بن عمرو‪ ،‬أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪:‬‬
‫"كان في وصية نوح البنه‪ :‬أوصيك بخصلتين وأنهاك عن خصلتين" فذكر نحوه‪.‬‬
‫وقد رواه أبو بكر البزار عن إبراهيم بن سعيد‪ ،‬عن أبي معاوية الضرير عن ُم َح ْمد‬
‫بن إسحاق‪ ،‬عن عمرو بن دينار‪ ،‬عن عبد هللا بن عمر بن الخطاب‪ d،‬عن النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم بنحوه‪ .‬والظاهر أنه عن عبد هللا بن عمرو بن العاص‪ ،‬كما رواه أحمد‬
‫والطبراني‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫ويزعم أهل الكتاب أن نوحا ً عليه السالم لما ركب في السفينة كان عمره ستمائة‬
‫سنة‪ .‬وقدمنا عن ابن عبَّاس مثله‪ ،‬وزاد‪ :‬وعاش بعد ذلك ثالثمائة وخمسين سنة‪ ،‬وفي هذا‬
‫القول نظر‪ .‬ثم إن لم يكن الجمع بينه وبين داللة القرآن فهو خطأ محض‪ .‬فإن القرآن‬
‫يقتضي أن نوحا ً مكث في قومه بعد البعثة وقبل الطوفان ألف سنة إال خمسين عاما ً‬
‫فأخذهم الطوفان وهم ظالمون‪ .‬ثم هللا أعلم كم عاش بعد ذلك؟‬
‫فإن كان ما ذكر محفوظا ً عن ابن عبَّاس ‪ -‬من أنه بعث وله أربعمائة وثمانون سنة‪،‬‬
‫وأنه عاش بعد الطوفان ثالثمائة وخمسين سنة ‪ -‬فيكون قد عاش على هذا ألف سنة‬
‫وسبعمائة وثمانين سنة‪.‬‬
‫وأما قبره عليه السالم‪ :‬فروى ابن جرير واألزرقي عن عبد الرحمن بن سابط أو‬
‫غيره من التابعين مرسالً‪ ،‬أن قبر نوح عليه السالم بالمسجد الحرام‪.‬‬
‫وهذا أقوى وأثبت من الذي يذكره كثير من المتأخرين‪ ،‬من أنه ببلدة بالبقاع تعرف‬
‫اليوم بكرك نوح‪ ،‬وهناك جامع قد بني بسبب ذلك فيما ذكر‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫قصة هود عليه السالم‬


‫وهو هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السالم‪.‬‬
‫ويقال أن هوداً هو عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح‪ ،‬ويقال هود بن عبد هللا‬
‫بن رباح الجارود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السالم‪ .‬ذكره ابن‬
‫جرير‪.‬‬
‫وكان من قبيلة يقال لهم عاد بن عوص بن سام بن نوح‪ .‬وكانوا عربا ً يسكنون‬
‫األحقاف ‪ -‬وهي جبال الرمل ‪ -‬وكانت باليمن بين عمان وحضرموت‪ ،‬بأرض مطلة على‬
‫البحر يقال لها الشحر‪ ،‬واسم واديهم مغيث‪.‬‬
‫وكانوا كثيراً ما يسكنون الخيام ذوات األعمدة الضخام‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬أَلَ ْم تَ َرى‬
‫ت ْال ِع َما ِد } أي عاد ارم وهم عاد األولى‪ .‬وأما عاد الثانية‬ ‫ار َم َذا ِ‬ ‫ْف فَ َع َل َربُّ َ‬
‫ك بِ َعا ٍد‪َ ،‬‬ ‫َكي َ‬
‫ت ْال ِع َما ِد‪،‬‬
‫فمتأخرة كما سيأتي بيان ذلك في موضعه‪ ..‬وأما عاد األولى فهم عاد {ا َر َم َذا ِ‬
‫الَّتِي لَ ْم ي ُْخلَ ْق ِم ْثلُهَا فِي ْالبِال ِد} أي مثل القبيلة‪ ،‬وقيل مثل العمد‪ .‬والصحيح األولى كما‬
‫بيناه في التفسير‪.‬‬
‫ومن زعم أن "ارم" مدينة تدور في األرض‪ ،‬فتارة في الشام‪ ،‬وتارة في اليمن وتارة‬
‫في الحجاز‪ d،‬وتارة في غيرها‪ ،‬فقد أبعد النجعة‪ ،‬وقال ما ال دليل عليه‪ ،‬وال برهان يعول‬
‫عليه‪ ،‬وال مستند يركن إليه‪.‬‬
‫وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر في حديثه الطويل في ذكر األنبياء والمرسلين قال‬
‫فيه‪" :‬منهم أربعة من العرب‪ :‬هود‪ ،‬وصالح‪ ،‬وشعيب‪ ،‬ونبيك يا أبا ذر"‪.‬‬
‫ويقال أن هوداً عليه السالم أول من تكلم بالعربية‪ .‬وزعم وهب بن منبه أن أباه أول‬
‫من تكلم بها‪ .‬وقال غيره‪ :‬أول من تكلم بها نوح‪ .‬وقيل‪ :‬آدم وهو األشبه‪ ،‬وقيل غير ذلك‪.‬‬
‫وهللا أعلم‪.‬‬
‫ويقال للعرب الذين كانوا قبل إسماعيل عليه السالم‪ ،‬العرب العاربة‪ ،‬وهم قبائل‬
‫كثيرة‪ :‬منهم عاد‪ ،‬وثمود‪ ،‬وجرهم‪ ،‬وطسم‪ ،‬وجميس‪ ،‬وأميم‪ ،‬ومدين‪ ،‬وعمالق‪ ،‬وعبيل‪،‬‬
‫وجاسم‪ ،‬وقحطان‪ ،‬وبنو يقطن‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫وأما العرب المستعربة فهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل وكان إسماعيل بن‬
‫إبراهيم عليهما السالم أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة وكان قد أخذ كالم العرب‬
‫من جرهم الذين نزلوا عند أمه هاجر بالحرم كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء هللا‬
‫تعالى‪ ،‬ولكن أنطقه هللا بها في غاية الفصاحة والبيان‪ .‬وكذلك كان يتلفظ بها رسول هللا‬
‫صلى هَّللا عليه وسلم‪.‬‬
‫والمقصود أن عاداً ‪ -‬وهم عاد األولى ‪ -‬كانوا أول من عبد األصنام بعد الطوفان‪.‬‬
‫وكانت أصنامهم ثالثة‪ :‬صدا‪ ،‬وصمودا‪ ،‬وهرا‪.‬‬
‫فبعث هللا فيهم أخاهم هوداً عليه السالم فدعاهم إلى هللا‪ ،‬كما قال تعالى بعد ذكر قوم‬
‫ال يَا قَ ْو ِم ا ْعبُ ُدوا‬ ‫نوح‪ ،‬وما كان من أمرهم في سورة األعراف‪َ { :‬وإِلَى َعا ٍد أَ َخاهُ ْم هُوداً قَ َ‬
‫اك فِي َسفَاهَ ٍة‬ ‫ين َكفَرُوا ِم ْن قَ ْو ِم ِه إِنَّا لَنَ َر َ‬ ‫ون‪ ،‬قَا َل ْال َمألُ الَّ ِذ َ‬ ‫هَّللا َ َما لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ أَفَال تَتَّقُ َ‬
‫ين‪ ،‬أُبَلِّ ُغ ُك ْم‬ ‫ْس بِي َسفَاهَةٌ َولَ ِكنِّي َرسُو ٌل ِم ْن َربِّ ْال َعالَ ِم َ‬ ‫ال يَا قَ ْو ِم لَي َ‬ ‫ين قَ َ‬‫ك ِم ْن ْال َكا ِذبِ َ‬ ‫َوإِنَّا لَنَظُنُّ َ‬
‫ين‪ ،‬أَ َو َع ِج ْبتُ ْم أَ ْن َجا َء ُك ْم ِذ ْك ٌر ِم ْن َربِّ ُك ْم َعلَى َر ُج ٍل ِم ْن ُك ْم‬ ‫اص ٌح أَ ِم ٌ‬ ‫ت َربِّي َوأَنَا لَ ُك ْم نَ ِ‬ ‫ِر َساالَ ِ‬
‫ق بَ ْسطَةً فَ ْاذ ُكرُوا آالَ َء‬ ‫وح َو َزا َد ُك ْم فِي ْال َخ ْل ِ‬ ‫لِيُن ِذ َر ُك ْم َو ْاذ ُكرُوا إِ ْذ َج َعلَ ُك ْم ُخلَفَا َ‪d‬ء ِم ْن بَ ْع ِد قَ ْو ِم نُ ٍ‬
‫ان يَ ْعبُ ُد آبَا ُؤنَا فَأْتِنَا بِ َما تَ ِع ُدنَا إِ ْن‬ ‫ُون‪ ،‬قَالُوا أَ ِج ْئتَنَا لِنَ ْعبُ َد هَّللا َ َوحْ َدهُ َونَ َذ َر َما َك َ‬ ‫هَّللا ِ لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْفلِح َ‬
‫ضبٌ أَتُ َجا ِدلُونَنِي فِي أَ ْس َما ٍء‬ ‫ال قَ ْد َوقَ َع َعلَ ْي ُك ْم ِم ْن َربِّ ُك ْم ِرجْ سٌ َو َغ َ‬ ‫ين قَ َ‬ ‫نت ِم ْن الصَّا ِدقِ َ‬ ‫ُك َ‬
‫ين‪،‬‬ ‫َس َّم ْيتُ ُموهَا أَ ْنتُ ْم َوآبَا ُؤ ُك ْم َما نَ َّز َل هَّللا ُ بِهَا ِم ْن س ُْلطَا ٍن فَانتَ ِظرُوا إِنِّي َم َع ُك ْم ِم ْن ْال ُمنتَ ِظ ِر َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ين َك َّذبُوا بِآيَاتِنَا َو َما َكانُوا ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ين َم َعهُ بِ َرحْ َم ٍة ِمنَّا َوقَطَ ْعنَا َدابِ َر الَّ ِذ َ‬ ‫فَأَن َج ْينَاهُ َوالَّ ِذ َ‬
‫ال يَا قَ ْو ِم‬ ‫وقال تعالى بعد ذكر قصة نوح في سورة هود‪َ { :‬وإِلَى َعا ٍد أَ َخاهُ ْم هُوداً قَ َ‬
‫ُون‪ ،‬يَا قَ ْو ِم ال أَسْأَلُ ُك ْم َعلَ ْي ِه أَجْ راً إِ ْن أَجْ ِري‬ ‫ا ْعبُ ُدوا هَّللا َ َما لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ إِ ْن أَ ْنتُ ْم إِال ُم ْفتَر َ‬
‫ون‪َ ،‬ويَا قَ ْو ِم ا ْستَ ْغفِرُوا َربَّ ُك ْم ثُ َّم تُوبُوا إِلَ ْي ِه يُرْ ِسلْ ال َّس َما َء‬ ‫إِال َعلَى الَّ ِذي فَطَ َرنِي أَفَال تَ ْعقِلُ َ‬
‫ين‪ ،‬قَالُوا يَا هُو ُد َما ِج ْئتَنَا بِبَيِّنَ ٍة َو َما‬ ‫َعلَ ْي ُك ْم ِم ْد َراراً َويَ ِز ْد ُك ْم قُ َّوةً إِلَى قُ َّوتِ ُك ْم َوالَ تَتَ َولَّ ْوا ُمجْ ِر ِم َ‬
‫اك بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُو ٍء‬ ‫ين إِ ْن نَقُو ُل إِالَّ ا ْعتَ َر َ‬ ‫ك بِ ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ك َو َما نَحْ ُن لَ َ‬ ‫ار ِكي آلِهَتِنَا َع ْن قَ ْولِ َ‬ ‫نَحْ ُن بِتَ ِ‬
‫ون‪ِ ،‬م ْن ُدونِ ِه فَ ِكي ُدونِي َج ِميعا ً ثُ َّم الَ‬ ‫ال إِنِّي أُ ْش ِه ُد هَّللا َ َوا ْشهَ ُدوا أَنِّي بَ ِري ٌء ِم َّما تُ ْش ِر ُك َ‬ ‫قَ َ‬
‫اصيَتِهَا إِ َّن َربِّي َعلَى‬ ‫ت َعلَى هَّللا ِ َربِّي َو َربِّ ُك ْم َما ِم ْن َدابَّ ٍة إِالَّ هُ َو آ ِخ ٌذ بِنَ ِ‬ ‫تُ ْن ِظرُونِي‪ ،‬إِنِّي تَ َو َّك ْل ُ‬
‫ف َربِّي قَ ْوما ً َغي َْر ُك ْم َوالَ‬ ‫ت بِ ِه إِلَ ْي ُك ْم َويَ ْستَ ْخلِ ُ‬ ‫ص َرا ٍط ُم ْستَقِيم‪ ،‬فَإِ ْن تَ َولَّ ْوا فَقَ ْد أَ ْبلَ ْغتُ ُك ْم َما أُرْ ِس ْل ُ‬ ‫ِ‬
‫ين آ َمنُوا َم َعهُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬
‫تَضُرُّ ونَهُ َشيْئا ً إِ َّن َربِّي َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء َحفِيظ َولَ َّما َجا َء أ ْم ُرنَا نَ َّج ْينَا هُوداً َوال ِذ َ‬
‫ص ْوا ُر ُسلَهُ‬ ‫ت َربِّ ِه ْم َو َع َ‬ ‫ك َعا ٌد َج َح ُدوا بِآيَا ِ‬ ‫يظ‪َ ،‬وتِ ْل َ‬‫ب َغلِ ٍ‬ ‫بِ َرحْ َم ٍة ِمنَّا َونَ َّج ْينَاهُ ْم ِم ْن َع َذا ٍ‬
‫َّار َعنِي ٍد‪َ ،‬وأُ ْتبِعُوا فِي هَ ِذ ِه ال ُّد ْنيَا لَ ْعنَةً َويَ ْو َم ْالقِيَا َم ِة أَالَ إِ َّن َعاداً َكفَرُوا‬ ‫َواتَّبَعُوا أَ ْم َر ُكلِّ َجب ٍ‬
‫َربَّهُ ْم أَالَ بُعْداً لِ َعا ٍد قَ ْو ِم هُو ٍد}‪.‬‬
‫ون} بعد قصة قوم نوح‪{ :‬ثُ َّم أَن َشأْنَا ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم‬ ‫وقال تعالى في سورة {قَ ْد أَ ْفلَ َح ْال ُم ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون‪،‬‬ ‫آخ ِرين‪ ،‬فَأَرْ َس ْلنَا فِي ِه ْم َرسُوالً ِم ْنهُ ْم أَ ْن ا ْعبُ ُدوا هَّللا َ َما لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ أَفَالَ تَتَّقُ َ‬ ‫قَرْ نا ً َ‬
‫ين َكفَرُوا َو َك َّذبُوا بِلِقَا ِء اآل ِخ َر ِة َوأَ ْت َر ْفنَاهُ ْم فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َما هَ َذا إِالَّ‬ ‫َوقَا َل ْال َمألُ ِم ْن قَ ْو ِم ِه الَّ ِذ َ‬
‫ُون‪َ ،‬ولَئِ ْن أَطَ ْعتُ ْم بَ َشراً ِم ْثلَ ُك ْم إِنَّ ُك ْم إِذاً‬ ‫ون ِم ْنهُ َويَ ْش َربُ ِم َّما تَ ْش َرب َ‬ ‫بَ َش ٌر ِم ْثلُ ُك ْم يَأْ ُك ُل ِم َّما تَأْ ُكلُ َ‬
‫ات لِ َما‬ ‫ات هَ ْيهَ َ‬ ‫ُون هَ ْيهَ َ‬‫لَ َخا ِسرُون‪ ،‬أَيَ ِع ُد ُك ْم أَنَّ ُك ْم إِ َذا ِمتُّ ْم َو ُكنتُ ْم تُ َرابا ً َو ِعظَاما ً أَنَّ ُك ْم ُم ْخ َرج َ‬
‫ين‪ ،‬إِ ْن هُ َو إِالَّ َر ُج ٌل ا ْفتَ َرى‬ ‫وت َونَحْ يَا َو َما نَحْ ُن بِ َم ْبعُوثِ َ‬ ‫ون‪ ،‬إِ ْن ِه َي إِالَّ َحيَاتُنَا ال ُّد ْنيَا نَ ُم ُ‬ ‫تُو َع ُد َ‬
‫ال َربِّ انصُرْ نِي بِ َما َك َّذبُونِي‪ ،‬قَا َل َع َّما قَلِي ٍل لَيُصْ بِح َُّن‬ ‫ين‪ ،‬قَ َ‬ ‫َعلَى هَّللا ِ َك ِذبا ً َو َما نَحْ ُن لَهُ بِ ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ق فَ َج َع ْلنَاهُ ْم ُغثَا ًء فَبُعْداً لِ ْلقَ ْو ِم الظَّالِ ِم َ‬ ‫صي َْحةُ بِ ْال َح ِّ‬ ‫ين‪ ،‬فَأ َ َخ َذ ْتهُ ْم ال َّ‬ ‫نَا ِد ِم َ‬
‫ين‪،‬‬ ‫ت َعا ٌد ْال ُمرْ َسلِ َ‬ ‫وقال هللا تعالى في سورة الشعراء بعد قصة قوم نوح أيضا ً‪َ { :‬ك َّذبَ ْ‬
‫ين‪ ،‬فَاتَّقُوا هَّللا َ َوأَ ِطيعُونِي‪َ ،‬و َما أَسْأَلُ ُك ْم‬ ‫إِ ْذ قَا َل لَهُ ْم أَ ُخوهُ ْم هُو ٌد أَالَ تَتَّقُون‪ ،‬إِنِّي لَ ُك ْم َرسُو ٌل أَ ِم ٌ‬
‫ون‬ ‫ون‪َ ،‬وتَتَّ ِخ ُذ َ‬ ‫يع آيَةً تَ ْعبَثُ َ‬ ‫ون بِ ُكلِّ ِر ٍ‬ ‫ين‪ ،‬أَتَ ْبنُ َ‬ ‫َعلَ ْي ِه ِم ْن أَجْ ٍر إِ ْن أَجْ ِري إِالَّ َعلَى َربِّ ْال َعالَ ِم َ‬
‫ين‪ ،‬فَاتَّقُوا هَّللا َ َوأَ ِطيعُونِي‪َ ،‬واتَّقُوا الَّ ِذي‬ ‫صانِ َع لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْخلُ ُدون‪َ ،‬وإِ َذا بَطَ ْشتُ ْم بَطَ ْشتُ ْم َجب ِ‬
‫َّار َ‬ ‫َم َ‬
‫اب يَ ْو ٍم‬ ‫اف َعلَ ْي ُك ْم َع َذ َ‬ ‫ت َو ُعيُون‪ ،‬إِنِّي أَ َخ ُ‬ ‫ين‪َ ،‬و َجنَّا ٍ‬ ‫أَ َم َّد ُك ْم بِ َما تَ ْعلَ ُمون‪ ،‬أَ َم َّد ُك ْم بِأ َ ْن َع ٍام َوبَنِ َ‬
‫ين‪َ ،‬و َما‬ ‫ق األَ َّولِ َ‬ ‫ين‪ ،‬إِ ْن هَ َذا إِالَّ ُخلُ ُ‬ ‫ت أَ ْم لَ ْم تَ ُك ْن ِم ْن ْال َوا ِع ِظ َ‬ ‫ظ َ‬ ‫َع ِظ ٍيم‪ ،‬قَالُوا َس َوا ٌء َعلَ ْينَا أَ َو َع ْ‬
‫ك لَهُ َو‬ ‫ين‪َ ،‬وإِ َّن َربَّ َ‬ ‫ان أَ ْكثَ ُرهُ ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬‫ك آليَةً َو َما َك َ‬ ‫ين‪ ،‬فَ َك َّذبُوهُ فَأ َ ْهلَ ْكنَاهُ ْم إِ َّن فِي َذلِ َ‬ ‫نَحْ ُن بِ ُم َع َّذبِ َ‬
‫ْال َع ِزي ُز ال َّر ِحي ُم}‪.‬‬
‫ض بِ َغي ِْر ْال َح ِّ‬
‫ق‬ ‫وقال تعالى في سورة حم السجدة‪{ :‬فَأ َ َّما َعا ٌد فَا ْستَ ْكبَرُوا فِي األَرْ ِ‬
‫َوقَالُوا َم ْن أَ َش ُّد ِمنَّا قُ َّوةً أَ َولَ ْم يَ َر ْوا أَ َّن هَّللا َ الَّ ِذي َخلَقَهُ ْم هُ َو أَ َش ُّد ِم ْنهُ ْم قُ َّوةً َو َكانُوا بِآيَاتِنَا‬
‫ي فِي ْال َحيَا ِة‬ ‫اب ْال ِخ ْز ِ‬ ‫صراً فِي أَي ٍَّام نَ ِح َسا ٍ‬
‫ت لِنُ ِذيقَهُ ْم َع َذ َ‬ ‫صرْ َ‬ ‫ون‪ ،‬فَأَرْ َس ْلنَا َعلَ ْي ِه ْم ِريحا ً َ‬ ‫يَجْ َح ُد َ‬
‫ُون}‪.‬‬ ‫صر َ‬ ‫اآلخ َر ِة أَ ْخ َزى َوهُ ْم الَ يُ ْن َ‬ ‫ِ‬ ‫ال ُّد ْنيَا َولَ َع َذابُ‬
‫ت‬ ‫اف َوقَ ْد َخلَ ْ‬ ‫وقال تعالى في سورة األحقاف‪َ { :‬و ْاذ ُكرْ أَ َخا َعا ٍد إِ ْذ أَ ْن َذ َر قَ ْو َمهُ بِاألَحْ قَ ِ‬
‫اب يَ ْو ٍم َع ِظ ٍيم‪ ،‬قَالُوا‬ ‫اف َعلَ ْي ُك ْم َع َذ َ‬ ‫النُّ ُذ ُر ِم ْن بَي ِْن يَ َد ْي ِه َو ِم ْن َخ ْلفِ ِه أَالَّ تَ ْعبُ ُدوا إِالَّ هَّللا َ إِنِّي أَ َخ ُ‬
‫ين‪ ،‬قَا َل إِنَّ َما ْال ِع ْل ُم ِع ْن َد هَّللا ِ‬
‫ت ِم ْن الصَّا ِدقِ َ‬ ‫أَ ِج ْئتَنَا لِتَأْفِ َكنَا َع ْن آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِ َما تَ ِع ُدنَا إِ ْن ُك ْن َ‬
‫ارضا ً ُم ْستَ ْقبِ َل أَ ْو ِديَتِ ِه ْم قَالُوا‬ ‫ون‪ ،‬فَلَ َّما َرأَ ْوهُ َع ِ‬ ‫ت بِ ِه َولَ ِكنِّي أَ َرا ُك ْم قَ ْوما ً تَجْ هَلُ َ‬ ‫َوأُبَلِّ ُغ ُك ْم َما أُرْ ِس ْل ُ‬
‫ْج ْلتُ ْم بِ ِه ِري ٌح فِيهَا َع َذابٌ أَلِي ٌم‪ ،‬تُ َد ِّم ُر ُك َّل َش ْي ٍء بِأ َ ْم ِر‬ ‫ارضٌ ُم ْم ِط ُرنَا بَلْ هُ َو َما ا ْستَع َ‬ ‫هَ َذا َع ِ‬
‫ك نَجْ ِزي ْالقَ ْو َم ْال ُمجْ ِر ِمين}‪.‬‬ ‫َربِّهَا فَأَصْ بَحُوا الَ ي َُرى إِالَّ َم َسا ِكنُهُ ْم َك َذلِ َ‬
‫يح ْال َعقِي َم‪َ ،‬ما تَ َذ ُر ِم ْن َش ْي ٍء‬ ‫وقال تعالى في الذاريات { َوفِي َعا ٍد إِ ْذ أَرْ َس ْلنَا َعلَ ْي ِه ْم الرِّ َ‬
‫ت َعلَ ْي ِه إِالَّ َج َعلَ ْتهُ َكال َّر ِم ِيم}‬ ‫أَتَ ْ‬
‫ُ‬
‫وح ِم ْن قَ ْب ُل‬ ‫ك َعاداً األولَى‪َ ،‬وثَ ُمو َد فَ َما أَ ْبقَى‪َ ،‬وقَ ْو َم نُ ٍ‬ ‫وقال تعالى في النجم‪َ { :‬وأَنَّهُ أَ ْهلَ َ‬
‫ك تَتَ َما َرى}‪.‬‬ ‫ط َغى‪َ ،‬و ْال ُم ْؤتَفِ َكةَ أَ ْه َوى‪ ،‬فَ َغ َّشاهَا َما َغ َّشى‪ ،‬فَبِأَيِّ آالَ ِء َربِّ َ‬ ‫ظلَ َم َوأَ ْ‬ ‫إِنَّهُ ْم َكانُوا هُ ْم أَ ْ‬
‫ان َع َذابِي َونُ ُذ ِر‪ ،‬إِنَّا أَرْ َس ْلنَا َعلَ ْي ِه ْم‬ ‫ْف َك َ‬ ‫ت َعا ٌد فَ َكي َ‬ ‫وقال تعالى في سورة اقتربت‪َ { :‬ك َّذبَ ْ‬
‫ان‬‫ْف َك َ‬ ‫اس َكأَنَّهُ ْم أَ ْع َجا ُز نَ ْخ ٍل ُم ْنقَ ِعر‪ ،‬فَ َكي َ‬ ‫ع النَّ َ‬ ‫نز ُ‬ ‫س ُم ْستَ ِمرٍّ‪ ،‬تَ ِ‬ ‫صراً فِي يَ ْو ِم نَحْ ٍ‬ ‫صرْ َ‬ ‫ِريحا ً َ‬
‫آن لِل ِّذ ْك ِر فَهَلْ ِم ْن ُم َّد ِك ٍر}‪.‬‬ ‫َع َذابِي َونُ ُذ ِر‪َ ،‬ولَقَ ْد يَسَّرْ نَا ْالقُرْ َ‬
‫ُ‬
‫ص ٍر َعاتِيَ ٍة‪َ ،‬س َّخ َرهَا َعلَ ْي ِه ْم َس ْب َع لَيَا ٍل‬ ‫صرْ َ‬ ‫يح َ‬ ‫وقال في الحاقة‪َ { :‬وأَ َّما َعا ٌد فَأ ْهلِ ُكوا بِ ِر ٍ‬
‫اويَ ٍة‪ ،‬فَهَلْ تَ َرى لَهُ ْم ِم ْن‬ ‫صرْ َعى َكأَنَّهُ ْم أَ ْع َجا ُز نَ ْخ ٍل َخ ِ‬ ‫َوثَ َمانِيَةَ أَي ٍَّام ُحسُوما ً فَتَ َرى ْالقَ ْو َم فِيهَا َ‬
‫بَاقِيَ ٍة}‪.‬‬
‫ت ْال ِع َما ِد‪ ،‬الَّتِي لَ ْم ي ُْخلَ ْق‬ ‫ار َم َذا ِ‬
‫ْف فَ َع َل َرب َُّك بِ َعا ٍد‪َ ،‬‬ ‫وقال في سورة الفجر‪{ :‬أَلَ ْم تَ َرى َكي َ‬
‫ط َغ ْوا‬ ‫ين َ‬ ‫ين َجابُوا الص َّْخ َر بِ ْال َوا ِدي‪َ ،‬وفِرْ َع ْو َن ِذي األَ ْوتَا ِد‪ ،‬الَّ ِذ َ‬ ‫ِم ْثلُهَا فِي ْالبِالَ ِد‪َ ،‬وثَ ُمو َد الَّ ِذ َ‬
‫صا ِد}‪.‬‬ ‫صبَّ َعلَ ْي ِه ْم َرب َُّك َس ْوطَ َع َذاب‪ ،‬إِ َّن َرب ََّك لَبِ ْال ِمرْ َ‬ ‫فِي ْالبِالَ ِد‪ ،‬فَأ َ ْكثَرُوا فِيهَا ْالفَ َسا َد‪ ،‬فَ َ‬
‫وقد تكلمنا على كل من هذه القصص في أماكنها من كتابنا التفسير‪ .‬وهلل الحمد‬
‫والمنة‪.‬‬
‫وقد جرى ذكر عاد في سورة براءة وإبراهيم والفرقان والعنكبوت وفي سورة ص‪،‬‬
‫وفي سورة ق‪.‬‬
‫ولنذكر مضمون القصة مجموعا ً من هذه السياقات‪ ،‬مع ما يضاف إلى ذلك من‬
‫األخبار‪.‬‬
‫وقد قدمنا أنهم أول األمم الذين عبدوا األصنام بعد الطوفان‪ .‬وذلك بين في قوله لهم‪:‬‬
‫ق بَ ْسطَةً} أي جعلهم أشد أهل‬ ‫وح َو َزا َد ُك ْم فِي ْال َخ ْل ِ‬
‫{ َو ْاذ ُكرُوا إِ ْذ َج َعلَ ُك ْم ُخلَفَا َ‪d‬ء ِم ْن بَ ْع ِد قَ ْو ِم نُ ٍ‬
‫زمانهم في الخلقة والشدة والبطش‪ .‬وقال في المؤمنون‪{ :‬ثُ َّم أَن َشأْنَا ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم قَرْ نا ً‬
‫ين} وهم قوم هود على الصحيح‪.‬‬ ‫آ َخ ِر َ‬
‫ق فَ َج َع ْلنَاهُ ْم ُغثَا ًء}‪ .‬قالوا‪:‬‬ ‫صي َْحةُ بِ ْال َح ِّ‬‫وزعم آخرون أنهم ثمود لقوله‪{ :‬فَأ َ َخ َذ ْتهُ ْم ال َّ‬
‫ُ‬
‫ص ٍر َعاتِيَ ٍة}‪ .‬وهذا‬ ‫صرْ َ‬ ‫يح َ‬ ‫وقوم صالح هم الذين أهلكوا بالصيحة { َوأَ َّما َعا ٌد فَأ ْهلِ ُكوا بِ ِر ٍ‬
‫الذي قالوه ال يمنع من اجتماع الصيحة والريح العاتية عليهم كما سيأتي في قصة أهل‬
‫مدين أصحاب‪ d‬األيكة‪ ،‬فإنه اجتمع عليهم أنواع من العقوبات‪ .‬ثم ال خالف أن عاداً قبل‬
‫ثمود‪.‬‬
‫والمقصود أن عاداً كانوا جفاة كافرين‪ ،‬عتاة متمردين في عبادة األصنام‪ ،‬فأرسل هللا‬
‫فيهم رجالً منهم يدعوهم إلى هللا وإلى إفراده بالعبادة واإلخالص له‪ ،‬فكذبوه وخالفوه‬
‫وتنقصوه‪ ،‬فأخذهم هللا أخذ عزيز مقتدر‪.‬‬
‫فلما أمرهم بعبادة هللا ورغبهم في طاعته واستغفاره‪ ،‬ووعدهم على ذلك خير الدنيا‬
‫ين َكفَرُوا ِم ْن‬ ‫ال ْال َمألُ الَّ ِذ َ‬
‫واآلخرة‪ ،‬وتوعدهم على مخالفة ذلك عقوبة الدنيا واآلخرة {قَ َ‬
‫اك فِي َسفَاهَ ٍة} أي هذا األمر الذي تدعونا إليه سفه بالنسبة إلى ما نحن عليه‬ ‫قَ ْو ِم ِه إِنَّا لَنَ َر َ‬
‫من عبادة هذه األصنام التي يرتجى منها النصر والرزق‪ ،‬ومع هذا نظن أنك تكذب في‬
‫دعواك أن هللا أرسلك‪.‬‬
‫ين }‪ .‬أي ليس األمر كما‬ ‫ْس بِي َسفَاهَةٌ َولَ ِكنِّي َرسُو ٌل ِم ْن َربِّ ْال َعالَ ِم َ‬ ‫{قَا َل يَا قَ ْو ِم لَي َ‬
‫ين}‪ .‬والبالغ يستلزم‬ ‫ص ٌح أَ ِم ٌ‬ ‫ت َربِّي َوأَنَا لَ ُك ْم نَا ِ‬ ‫تظنون وال ما تعتقدون‪{ :‬أُبَلِّ ُغ ُك ْم ِر َساالَ ِ‬
‫عدم الكذب في أصل المبلغ‪ ،‬وعدم الزيادة فيه والنقص منه‪ ،‬ويستلزم أداءه بعبارة فصيحة‬
‫وجيزة جامعة مانعة ال لبس فيها وال اختالف وال اضطراب‪.‬‬
‫وهو مع هذا البالغ على هذه الصفة في غاية النصح لقومه والشفقة عليهم‪ ،‬والحرص‬
‫على هدايتهم‪ ،‬ال يبتغي منهم أجراً‪ ،‬وال يطلب منهم جعالً‪ ،‬بل هو مخلص هلل عز وجل في‬
‫الدعوة إليه‪ ،‬والنصح لخلقه‪ ،‬ال يطلب أجره إال من الذي أرسله‪ ،‬فإن خير الدنيا واآلخرة‬
‫كله في يديه‪ ،‬وأمره إليه‪ ،‬ولهذا قال‪{ :‬يَا قَ ْو ِم الَ أَسْأَلُ ُك ْم َعلَ ْي ِه أَجْ راً إِ ْن أَجْ ِري إِالَّ َعلَى الَّ ِذي‬
‫ون} أي أما لكم عقل تميزون به وتفهمون أني أدعوكم إلى الحق المبين‬ ‫فَطَ َرنِي أَفَالَ تَ ْعقِلُ َ‬
‫الذي تشهد به فطركم التي خلقتم عليها‪ ،‬وهو دين الحق الذي بعث هللا به نوحا ً وهلك من‬
‫خالفه من الخلق‪ .‬وها أنا أدعوكم إليه وال أسألكم أجراً عليه‪ ،‬بل أبتغي ذلك عند هللا مالك‬
‫ون‪َ ،‬و َما لِي‬ ‫الضر والنفع‪ .‬ولهذا قال مؤمن {يس} {اتَّبِعُوا َم ْن الَ يَسْأَلُ ُك ْم أَجْ راً َوهُ ْم ُم ْهتَ ُد َ‬
‫الَ أَ ْعبُ ُد الَّ ِذي فَطَ َرنِي َوإِلَ ْي ِه تُرْ َجع َ‬
‫ُون}‪.‬‬
‫ار ِكي آلِهَتِنَا َع ْن قَ ْولِ َ‬
‫ك‬ ‫وقال قوم هود له فيما قالوا‪{ :‬يَا هُو ُد َما ِج ْئتَنَا بِبَيِّنَ ٍة َو َما نَحْ ُن بِتَ ِ‬
‫ك بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُو ٍء} يقولون ما جئتنا بخارق‬ ‫ين‪ ،‬إِ ْن نَقُو ُل إِالَّ ا ْعتَ َرا َ‬ ‫َو َما نَحْ ُن لَ َ‬
‫ك بِ ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫يشهد لك بصدق ما جئت به‪ ،‬وما نحن بالذين نترك عبادة أصنامنا عن مجرد قولك؛ بال‬
‫دليل أقمته وال برهان نصبته‪ ،‬وما نظن إال أنك مجنون فيما تزعمه‪ .‬وعندنا أنه إنما‬
‫أصابك هذا ألن بعض آلهتنا غضب عليك فأصابك في عقلك فاعتراك جنون بسبب ذلك‪.‬‬
‫ك بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُو ٍء}‪.‬‬ ‫وهو قولهم‪{ :‬إِ ْن نَقُو ُل إِالَّ ا ْعتَ َرا َ‬
‫ون‪ِ ،‬م ْن ُدونِ ِه فَ ِكي ُدونِي َج ِميعا ً ثُ َّم الَ‬ ‫{قَا َل إِنِّي أُ ْش ِه ُد هَّللا َ َوا ْشهَ ُدوا أَنِّي بَ ِري ٌء ِم َّما تُ ْش ِر ُك َ‬
‫تُ ْن ِظرُونِي}‪.‬‬
‫وهذا تحد منه لهم‪ ،‬وتبرأ من آلهتهم وتنقص منه لها‪ ،‬وبيان أنها ال تنفع شيئا ً وال‬
‫تضر‪ ،‬وأنها جماد حكمها حكمه وفعلها فعله‪ .‬فإن كانت كما تزعمون من أنها تنصر وتنفع‬
‫وتضر فها أنا بريء منها العن لها {فكيدوني جميعا ً ثم ال تنظرون} أنتم جميعا ً بجميع ما‬
‫يمكنكم أن تصلوا إليه وتقدروا عليه‪ ،‬وال تؤخروني ساعة واحدة وال طرفة عين فإني ال‬
‫ت َعلَى هَّللا ِ َربِّي َو َربِّ ُك ْم َما ِم ْن َدابَّ ٍة إِالَّ‬ ‫أبالي بكم وال أفكر فيكم‪ ،‬وال أنظر إليكم‪{ .‬إِنِّي تَ َو َّك ْل ُ‬
‫اط ُم ْستَقِ ٍيم} أي أنا متوكل على هللا ومتأيد به‪ ،‬وواثق‬ ‫ص َر ٍ‬ ‫اصيَتِهَا إِ َّن َربِّي َعلَى ِ‬ ‫آخ ٌذ بِنَ ِ‬ ‫هُ َو ِ‬
‫بجنابه الذي ال يضيع من الذ به واستند إليه‪ ،‬فلست أبالي مخلوقا ً سواه‪ ،‬لست أتوكل إال‬
‫عليه وال أعبد إال إياه‪.‬‬
‫وهذا وحده برهان قاطع على أن هوداً عبد هللا ورسوله‪ ،‬وأنهم على جهل وضالل‬
‫في عبادتهم غير هللا؛ ألنهم لم يصلوا إليه بسوء وال نالوا منه مكروها ً‪ .‬فدل على صدقه‬
‫فيما جاءهم به‪ ،‬وبطالن ما هم عليه وفساد ما ذهبوا إليه‪.‬‬
‫ان َكب َُر‬ ‫وهذا الدليل بعينه قد استدل به نوح عليه السالم قبله في قوله‪{ :‬يَا قَ ْو ِم إِ ْن َك َ‬
‫ت فَأَجْ ِمعُوا أَ ْم َر ُك ْم َو ُش َر َكا َء ُك ْم ثُ َّم الَ يَ ُك ْن‬ ‫ت هَّللا ِ فَ َعلَى هَّللا ِ تَ َو َّك ْل ُ‬‫يري بِآيَا ِ‬ ‫َعلَ ْي ُك ْم َمقَا ِمي َوتَ ْذ ِك ِ‬
‫ي َوالَ تُ ْن ِظرُونِي}‪.‬‬ ‫أَ ْم ُر ُك ْم َعلَ ْي ُك ْم ُغ َّمةً ثُ َّم ا ْقضُوا إِلَ َّ‬
‫ون بِ ِه إِالَّ أَ ْن يَ َشا َء َربِّي َشيْئا ً‬ ‫اف َما تُ ْش ِر ُك َ‬ ‫وهكذا قال الخليل عليه السالم‪َ { :‬والَ أَ َخ ُ‬
‫ون أَنَّ ُك ْم‬
‫اف َما أَ ْش َر ْكتُ ْم َوال تَ َخافُ َ‬ ‫ْف أَ َخ ُ‬ ‫َو ِس َع َربِّي ُك َّل َش ْي ٍء ِع ْلما ً أَفَال تَتَ َذ َّكرُون‪َ ،‬و َكي َ‬
‫ين‬‫ق بِاألَ ْم ِن إِ ْن ُكنتُ ْم تَ ْعلَ ُمون‪ ،‬الَّ ِذ َ‬ ‫أَ ْش َر ْكتُ ْم بِاهَّلل ِ َما لَ ْم يُنَ ِّزلْ بِ ِه َعلَ ْي ُك ْم س ُْلطَانا ً فَأَيُّ ْالفَ ِريقَي ِْن أَ َح ُّ‬
‫ك ُح َّجتُنَا آتَ ْينَاهَا إِ ْب َرا ِهي َم‬ ‫ون َوتِ ْل َ‬
‫ك لَهُ ْم األَ ْم ُن َوهُ ْم ُم ْهتَ ُد َ‬ ‫آ َمنُوا َولَ ْم يَ ْلبِسُوا إِي َمانَهُ ْم بِظُ ْل ٍم أُ ْولَئِ َ‬
‫ت َم ْن نَ َشا ُء إِ َّن َرب ََّك َح ِكي ٌم َعلِي ٌم}‪.‬‬ ‫َعلَى قَ ْو ِم ِه نَرْ فَ ُع َد َر َجا ٍ‬
‫ين َكفَرُوا َو َك َّذبُوا بِلِقَا ِء اآل ِخ َر ِة َوأَ ْت َر ْفنَاهُ ْم فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َما‬ ‫ال ْال َمألُ ِم ْن قَ ْو ِم ِه الَّ ِذ َ‬ ‫{ َوقَ َ‬
‫ون ِم ْنهُ َويَ ْش َربُ ِم َّما تَ ْش َربُون‪َ ،‬ولَئِ ْن أَطَ ْعتُ ْم بَ َشراً ِم ْثلَ ُك ْم‬ ‫هَ َذا إِال بَ َش ٌر ِم ْثلُ ُك ْم يَأْ ُك ُل ِم َّما تَأْ ُكلُ َ‬
‫ُون}‪.‬‬ ‫اسرُون‪ ،‬أَيَ ِع ُد ُك ْم أَنَّ ُك ْم إِ َذا ِمتُّ ْم َو ُكنتُ ْم تُ َرابا ً َو ِعظَاما ً أَنَّ ُك ْم ُم ْخ َرج َ‬ ‫إِنَّ ُك ْم إِذاً لَ َخ ِ‬
‫استبعدوا أن يبعث هللا رسوالً بشريا ً‪ .‬وهذه الشبهة أدلى بها كثير من جهلة الكفرة‬
‫اس َع َجبا ً أَ ْن أَ ْو َح ْينَا إِلَى َر ُج ٍل ِم ْنهُ ْم أَ ْن أَ ْن ِذرْ‬
‫ان لِلنَّ ِ‬ ‫قديما ً وحديثاً‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬أَ َك َ‬
‫ث هَّللا ُ‬ ‫اس أَ ْن ي ُْؤ ِمنُوا إِ ْذ َجا َءهُ ْم ْالهُ َدى إِالَّ أَ ْن قَالُوا أَبَ َع َ‬ ‫اس} وقال تعالى‪َ { :‬و َما َمنَ َع النَّ َ‬ ‫النَّ َ‬
‫ين لَنَ َّز ْلنَا َعلَ ْي ِه ْم ِم ْن ال َّس َما ِء‬ ‫ون ُم ْ‬
‫ط َمئِنِّ َ‬ ‫ض َمالئِ َكةٌ يَ ْم ُش َ‬ ‫ان فِي األَرْ ِ‬ ‫بَ َشراً َرسُوالً‪ ،‬قُلْ لَ ْو َك َ‬
‫َملَكا ً َرسُوالً}‪.‬‬
‫ولهذا قال لهم هود عليه السالم‪{ :‬أَ َو َع ِج ْبتُ ْم أَ ْن َجا َء ُك ْم ِذ ْك ٌر ِم ْن َربِّ ُك ْم َعلَى َر ُج ٍل ِم ْن ُك ْم‬
‫لِيُن ِذ َر ُك ْم} أي ليس هذا بعجيب‪ :‬فإن هللا أعلم حيث يجعل رسالته‪.‬‬
‫ات لِ َما‬ ‫ات هَ ْيهَ َ‬ ‫وقوله‪{ :‬أَيَ ِع ُد ُك ْم أَنَّ ُك ْم إِ َذا ِمتُّ ْم َو ُكنتُ ْم تُ َرابا ً َو ِعظَاما ً أَنَّ ُك ْم ُم ْخ َرجُون‪ ،‬هَ ْيهَ َ‬
‫ين‪ ،‬إِ ْن هُ َو إِالَّ َر ُج ٌل ا ْفتَ َرى‬ ‫وت َونَحْ يَا َو َما نَحْ ُن بِ َم ْبعُوثِ َ‬ ‫ون‪ ،‬إِ ْن ِه َي إِالّ َحيَاتُنَا ال ُّد ْنيَا نَ ُم ُ‬ ‫تُو َع ُد َ‬
‫ال َربِّ انصُرْ نِي بما كذبون} استبعدوا الميعاد‬ ‫ين‪ ،‬قَ َ‬ ‫َعلَى هَّللا ِ َك ِذبا ً َو َما نَحْ ُن لَهُ بِ ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ات}‪ ،‬أي بعيد‬ ‫ات هَ ْيهَ َ‬ ‫وأنكروا قيام األجساد بعد صيرورتها ترابا ً وعظاماً‪ ،‬وقالوا‪{ :‬هَ ْيهَ َ‬
‫ين} أي يموت قوم‬ ‫وت َونَحْ يَا َو َما نَحْ ُن بِ َم ْبعُوثِ َ‬ ‫بعيد هذا الوعد‪{ ،‬إِ ْن ِه َي إِالّ َحيَاتُنَا ال ُّد ْنيَا نَ ُم ُ‬
‫ويحيا آخرون‪ .‬وهذا هو اعتقاد الدهرية‪ ،‬كما يقول بعض الجهلة من الزنادقة‪ :‬أرحام تدفع‬
‫وأرض تبلع‪.‬‬
‫وأما الدورية فهم الذين يعتقدون أنهم يعودون إلى هذه الدار بعد كل ستة وثالثين ألف‬
‫سنة‪.‬‬
‫وهذا كله كذب وكفر وجهل وضالل‪ ،‬وأقوال باطلة وخيال فاسد بال برهان وال دليل‪،‬‬
‫يستميل عقل الفجرة الكفرة من بني آدم الذين ال يعقلون وال يهتدون‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫ون}‪.‬‬ ‫ض ْوهُ َولِيَ ْقتَ ِرفُوا َما هُ ْم ُم ْقتَ ِرفُ َ‬ ‫اآلخ َر ِة َولِيَرْ َ‬
‫ون بِ ِ‬ ‫ين الَ ي ُْؤ ِمنُ َ‬ ‫{ َولِتَصْ َغى إِلَ ْي ِه أَ ْفئِ َدةُ الَّ ِذ َ‬
‫صانِ َع لَ َعلَّ ُك ْم‬‫ون َم َ‬ ‫يع آيَةً تَ ْعبَثُون‪َ ،‬وتَتَّ ِخ ُذ َ‬ ‫ون بِ ُك ِّل ِر ٍ‬‫وقال لهم فيما وعظهم به‪{ :‬أَتَ ْبنُ َ‬
‫ون}‪ .‬يقول لهم‪ :‬أتبنون بكل مكان مرتفع بناء عظيما ً هائالً كالقصور ونحوها‪،‬‬ ‫تَ ْخلُ ُد َ‬
‫تعبثون ببنائها ألنه ال حاجة لكم فيه‪ ،‬وما ذاك إال ألنهم كانوا يسكنون الخيام‪ d،‬كما قال‬
‫ت ْال ِع َما ِد‪ ،‬الَّتِي لَ ْم ي ُْخلَ ْق ِم ْثلُهَا فِي ْالبِالَ ِد}‬ ‫ار َم َذا ِ‬‫ْف فَ َع َل َرب َُّك بِ َعا ٍد‪َ ،‬‬ ‫تعالى‪{ :‬ألم تَ َرى َكي َ‬
‫فعاد ارم هم عاد األولى الذين كانوا يسكنون األعمدة التي تحمل الخيام‪.‬‬
‫ومن زعم أن "ارم" مدينة من ذهب وفضة وهي تنتقل في البالد‪ ،‬فقد غلط وأخطأ‪،‬‬
‫وقال ما ال دليل عليه‪.‬‬
‫صانِ َع} قيل هي القصور‪ d،‬وقيل بروج الحمام وقيل مآخذ الماء‬ ‫ون َم َ‬ ‫وقوله‪َ { :‬وتَتَّ ِخ ُذ َ‬
‫ون} أي رجاء منكم أن تعمروا في هذه الدار أعماراً طويلة { َوإِ َذا بَطَ ْشتُ ْم‬ ‫{لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْخلُ ُد َ‬
‫ين‪،‬‬ ‫ين‪ ،‬فَاتَّقُوا هَّللا َ َوأَ ِطيعُونِي‪َ ،‬واتَّقُوا الَّ ِذي أَ َم َّد ُك ْم بِ َما تَ ْعلَ ُمون‪ ،‬أَ َم َّد ُك ْم بِأ َ ْن َع ٍام َوبَنِ َ‬ ‫بَطَ ْشتُ ْم َجب ِ‬
‫َّار َ‬
‫اب يَ ْو ٍم َع ِظ ٍيم}‪.‬‬ ‫اف َعلَ ْي ُك ْم َع َذ َ‬ ‫ُون‪ ،‬إِنِّي أَ َخ ُ‬ ‫ت َو ُعي ٍ‬ ‫َو َجنَّا ٍ‬
‫ان يَ ْعبُ ُد آبَا ُؤنَا فَأْتِنَا بِ َما تَ ِع ُدنَا إِ ْن‬ ‫وقالوا له مما قالوا‪{ :‬أَ ِج ْئتَنَا لِنَ ْعبُ َد هَّللا َ َوحْ َدهُ َونَ َذ َر َما َك َ‬
‫ين} أي جئتنا لنعبد هللا وحده‪ ،‬ونخالف آباءنا وأسالفنا وما كانوا عليه؟‬ ‫نت ِم ْن الصَّا ِدقِ َ‬ ‫ُك َ‬
‫فإن كنت صادقا ً فيما جئت به فأتنا بما تعدنا من العذاب والنكال‪ ،‬فإنا ال نؤمن بك وال‬
‫نتبعك وال نصدقك‪.‬‬
‫ين‪،‬‬ ‫ق األَ َّولِ َ‬ ‫ين‪ ،‬إِ ْن هَ َذا إِال ُخلُ ُ‬ ‫اع ِظ َ‬ ‫ت أَ ْم لَ ْم تَ ُك ْن ِم ْن ْال َو ِ‬ ‫ظ َ‬ ‫كما قالوا‪َ { :‬س َوا ٌء َعلَ ْينَا أَ َو َع ْ‬
‫ين}‪ .‬أما على قراءة فتح الخاء‪ ،‬فالمراد به اختالق األولين‪ ،‬أي أن هذا‬ ‫َو َما نَحْ ُن بِ ُم َع َّذبِ َ‬
‫الذي جئت به إال اختالق منك‪ ،‬أخذته من كتب األولين‪ .‬هكذا فسره غير واحد من‬
‫الصحابة والتابعين‪ .‬وأما على قراءة ضم الخاء والالم ‪ -‬فالمراد به الدين‪ ،‬أي أن هذا‬
‫الدين الذي نحن عليه إال دين األباء واألجداد من األسالف‪ ،‬ولن نتحول عنه وال نتغير‪،‬‬
‫وال نزال متمسكين به‪.‬‬
‫ين}‪.‬‬‫ويناسب كال القراءتين األولى والثانية قولهم‪َ { :‬و َما نَحْ ُن بِ ُم َع َّذبِ َ‬
‫ضبٌ أَتُ َجا ِدلُونَنِي فِي أَ ْس َما ٍء َس َّم ْيتُ ُموهَا أَ ْنتُ ْم‬ ‫قال‪{ :‬قَ ْد َوقَ َع َعلَ ْي ُك ْم ِم ْن َربِّ ُك ْم ِرجْ سٌ َو َغ َ‬
‫ين} أي قد استحققتم‬ ‫َوآبَا ُؤ ُك ْم َما نَ َّز َل هَّللا ُ بِهَا ِم ْن س ُْلطَا ٍن فَانتَ ِظرُوا إِنِّي َم َع ُك ْم ِم ْن ْال ُمنتَ ِظ ِر َ‬
‫بهذه المقالة الرجس والغضب من هللا‪ ،‬أتعارضون عبادة هللا وحده ال شريك له بعبادة‬
‫أصنام أنتم نحتموها وسميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم؟ اصطلحتم عليها أنتم وآباؤكم‪ ،‬ما‬
‫نزل هللا بها من سلطان‪ .‬أي لم ينزل على ما ذهبتم إليه دليالً وال برهانا ً‪ .‬وإذ أبيتم قبول‬
‫الحق وتماديتم في الباطل‪ ،‬وسواء عليكم أنهيتكم عما أنتم فيه أم ال‪ ،‬فانتظروا اآلن عذاب‬
‫هللا الواقع بكم‪ ،‬وبأسه الذي ال يرد ونكاله الذي ال يصد‪.‬‬
‫ين‪ ،‬فَأ َ َخ َذ ْتهُ ْم‬ ‫يل لَيُصْ بِح َُّن نَا ِد ِم َ‬ ‫ال َع َّما قَلِ ٍ‬ ‫ال َربِّ انصُرْ نِي بِ َما َك َّذبُونِي‪ ،‬قَ َ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬قَ َ‬
‫ين} وقال تعالى‪{ :‬قَالُوا أَ ِج ْئتَنَا لِتَأْفِ َكنَا َع ْن‬ ‫ق فَ َج َع ْلنَاهُ ْم ُغثَا ًء فَبُعْداً لِ ْلقَ ْو ِم الظَّالِ ِم َ‬ ‫صي َْحةُ بِ ْال َح ِّ‬ ‫ال َّ‬
‫ت بِ ِه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ال إِنَّ َما ْال ِع ْل ُم ِع ْن َد هَّللا ِ َوأبَلِّ ُغ ُك ْم َما أرْ ِس ْل ُ‬
‫ين‪ ،‬قَ َ‬‫ت ِم ْن الصَّا ِدقِ َ‬ ‫ْ‬
‫آلِهَتِنَا فَأتِنَا بِ َما تَ ِع ُدنَا إِ ْن ُك ْن َ‬
‫ارضٌ ُم ْم ِط ُرنَا‬ ‫ارضا ً ُم ْستَ ْقبِ َل أَ ْو ِديَتِ ِه ْم قَالُوا هَ َذا َع ِ‬ ‫ون‪ ،‬فَلَ َّما َرأَ ْوهُ َع ِ‬ ‫َولَ ِكنِّي أَ َرا ُك ْم قَ ْوما ً تَجْ هَلُ َ‬
‫ْج ْلتُ ْم بِ ِه ِري ٌح فِيهَا َع َذابٌ أَلِي ٌم‪ ،‬تُ َد ِّم ُر ُك َّل َش ْي ٍء بِأ َ ْم ِر َربِّهَا فَأَصْ بَحُوا اَل يُ َرى‬ ‫بَلْ هُ َو َما ا ْستَع َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ك نَجْ ِزي ْالقَ ْو َم ْال ُمجْ ِر ِم َ‬ ‫إِال َم َسا ِكنُهُ ْم َك َذلِ َ‬
‫وقد ذكر هللا تعالى خبر إهالكهم في غير آية كما تقدم مجمالً ومفصالً‪ ،‬كقوله‪:‬‬
‫ين}‬‫ين َك َّذبُوا بِآيَاتِنَا َو َما َكانُوا ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ين َم َعهُ بِ َرحْ َم ٍة ِمنَّا َوقَطَ ْعنَا َدابِ َر الَّ ِذ َ‬ ‫نج ْينَاهُ َوالَّ ِذ َ‬ ‫{فَأ َ َ‬
‫ين آ َمنُوا َم َعهُ بِ َرحْ َم ٍة ِمنَّا َونَ َّج ْينَاهُ ْم ِم ْن َع َذا ٍ‬
‫ب‬ ‫وكقوله‪َ { :‬ولَ َّما َجا َء أَ ْم ُرنَا نَ َّج ْينَا هُوداً َوالَّ ِذ َ‬
‫َّار َعنِي ٍد‪َ ،‬وأُ ْتبِعُوا‬ ‫ص ْوا ُر ُسلَهُ َواتَّبَعُوا أَ ْم َر ُك ِّل َجب ٍ‬ ‫ت َربِّ ِه ْم َو َع َ‬ ‫ك َعا ٌد َج َح ُدوا بِآيَا ِ‬ ‫يظ‪َ ،‬وتِ ْل َ‬ ‫َغلِ ٍ‬
‫فِي هَ ِذ ِه ال ُّد ْنيَا لَ ْعنَةً َويَ ْو َم ْالقِيَا َم ِة أَال إِ َّن َعاداً َكفَرُوا َربَّهُ ْم أَال بُعْداً لِ َعا ٍد قَ ْو ِم هُو ٍد}‪ .‬وكقوله‪:‬‬
‫ين} وقال تعالى‪{ :‬فَ َك َّذبُوهُ‬ ‫ق فَ َج َع ْلنَاهُ ْم ُغثَا ًء فَبُعْداً لِ ْلقَ ْو ِم الظَّالِ ِم َ‬‫ص ْي َحةُ بِ ْال َح ِّ‬
‫{فَأ َ َخ َذ ْتهُ ْم ال َّ‬
‫ين‪َ ،‬وإِ َّن َرب ََّك لَه َُو ْال َع ِزي ُز ال َّر ِحي ُم}‪.‬‬ ‫ان أَ ْكثَ ُرهُ ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ك آَل يَةً َو َما َك َ‬ ‫فَأ َ ْهلَ ْكنَاهُ ْم إِ َّن فِي َذلِ َ‬
‫ارضا ً ُم ْستَ ْقبِ َل أَ ْو ِديَتِ ِه ْم قَالُوا هَ َذا‬ ‫وأما تفصيل إهالكهم فلما قال تعالى‪{ :‬فَلَ َّما َرأَ ْوهُ َع ِ‬
‫ْج ْلتُ ْم بِ ِه ِري ٌح فِيهَا َع َذابٌ أَلِيم} كان هذا أول ما ابتدأهم‬ ‫ارضٌ ُم ْم ِط ُرنَا بَلْ هُ َو َما ا ْستَع َ‬ ‫َع ِ‬
‫العذاب‪ ،‬أنهم كانوا ممحلين مسنتين‪ ،‬فطلبوا السقيا فرأوا عارضا ً في السماء وظنوه سقيا‬
‫رحمة‪ ،‬فإذا هو سقيا عذاب‪ .‬ولهذا قال تعالى‪{ :‬بَلْ هُ َو َما ا ْستَ ْع َج ْلتُ ْم بِ ِه} أي من وقوع‬
‫ين} ومثلها في األعراف‪.‬‬ ‫ت ِم ْن الصَّا ِدقِ َ‬ ‫العذاب وهو قولهم‪{ :‬فَأْتِنَا بِ َما تَ ِع ُدنَا إِ ْن ُك ْن َ‬
‫وقد ذكر المفسرون وغيرهم هاهنا الخبر الذي ذكره اإلمام ُم َح ْمد بن إسحاق بن يسار‬
‫قال‪ :‬فلما أبوا إال الكفر باهلل عز وجل‪ ،‬أمسك عنهم القطر ثالث سنين‪ ،‬حتى جهدهم ذلك‬
‫قال‪ :‬وكان الناس إذا جهدهم أمر في ذلك الزمان فطلبوا من هللا الفرج منه إنما يطلبونه‬
‫بحرمة ومكان بيته‪ .‬وكان معروفا ً عند أهل ذلك الزمان‪ ،‬وبه العماليق مقيمون‪ ،‬وهم من‬
‫ساللة عمليق بن الوذ بن سام بن نوح‪ ،‬وكان سيدهم إذ ذاك رجالً يقال إنه معاوية بن‬
‫بكر‪ ،‬وكانت أمه من قوم عاد واسمها جلهدة ابنة الخيبري‪ .‬قال‪ :‬فبعث عاد وفداً قريبا ً من‬
‫سبعين رجالً ليستسقوا لهم عند الحرم‪ ،‬فمروا بمعاوية بن بكر بظاهر مكة‪ ،‬فنزلوا عليه‬
‫فأقاموا عنده شهراً‪ ،‬يشربون الخمر‪ ،‬وتغنيهم الجرادتان‪ ،‬قينتان لمعاوية وكانوا قد وصلوا‬
‫إليه في شهر‪ .‬فلما طال مقامهم عنده‪ ،‬وأخذته شفقة على قومه‪ ،‬واستحيا منهم أن يأمرهم‬
‫باالنصراف ‪ -‬عمل شعراً يعرض لهم فيه باالنصراف‪ ،‬وأمر القينتين أن تغنيهم به‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫أال يا قيل ويحك قم فهينم ** لعل هللا يمنحنا غماما‬
‫فيسقي أرض عاد إن عادا ** قد أمسوا ال يبينون الكالما‬
‫من العطش الشديد فليس نرجو * به الشيخ الكبير وال الغالما‬
‫وقد كانت نساؤهم بخير ** فقد أمست نساؤهم أيامى‬
‫وإن الوحش يأتيهم جهارا ** وال يخشى لعادي سهاما‬
‫وأنتم ها هنا فيما اشتهيتم ** نهاركم وليلكم تماما‬
‫فقبح وفدكم من وفد قوم ** وال لقوا التحية والسالما‬
‫قال‪ :‬فعند ذلك تنبه القوم لما جاءوا له‪ ،‬فنهضوا إلى الحرم ودعوا لقومهم‪ ،‬فدعا‬
‫داعيهم وهو قيل بن عنز‪ ،‬فأنشأ هللا سحابات ثالثا ً‪ :‬بيضاء وحمراء وسوداء‪ ،‬ثم ناداه مناد‬
‫من السماء‪ :‬اختر لنفسك أو لقومك من هذا السحاب‪ d،‬فقال‪ :‬اخترت السحابة السوداء فإنها‬
‫أكثر السحاب ماء‪ ،‬فناداه مناد‪ :‬اخترت رماد رمددا‪ ،‬ال تبقي من عاد أحداً‪ ،‬ال والداً يترك‬
‫وال ولداً إال جعلته همداً إال بني اللوذية الهمدا‪ .‬قال وهم من بطن عاد كانوا مقيمين بمكة‪،‬‬
‫فلم يصبهم ما أصاب قومهم‪ .‬قال‪ :‬ومن بقي من أنسابهم وأعقابهم هم عاد اآلخرة‪.‬‬
‫قال‪ :‬وساق هللا السحابة السوداء التي اختارها قيل بن عنز بما فيها من النقمة إلى‬
‫عاد‪ ،‬حتى تخرج عليهم من واد يقال له المغيث‪ ،‬فلما رأوها استبشروا‪ ،‬وقالوا هذا‬
‫عارض ممطرنا‪ ،‬فيقول تعالى‪{ :‬بَلْ هُ َو َما ا ْستَ ْع َج ْلتُ ْم بِ ِه ِري ٌح فِيهَا َع َذابٌ أَلِي ٌم‪ ،‬تُ َد ِّم ُر ُك َّل‬
‫َش ْي ٍء بِأ َ ْم ِر َربِّهَا} أي تهلك كل شيء أمرت به‪.‬‬
‫فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح فيما يذكرون امرأة من عاد يقال لها‬
‫"مهد" فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت‪ .‬فلما أفاقت قالوا ما رأيت يا مهد؟ قالت‬
‫رأيت ريحا ً فيها شبه النار أمامها رجال يقودونها‪ ،‬فسخرها هللا عليهم سبع ليال وثمانية‬
‫أيام حسوماً‪ ،‬والحسوم الدائمة؛ فلم تدع من عاد أحداً إال هلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬واعتزل هود عليه السالم ‪ -‬فيما ذكر لي ‪ -‬في حظيرة هو ومن معه من‬
‫المؤمنين‪ ،‬ما يصيبهم إال ما تلين عليه الجلود‪ ،‬وتلذ األنفس‪ ،‬وإنها لتمر على عاد بالظعن‬
‫فيما بين السماء واألرض‪ ،‬وتدمغهم بالحجارة‪ .d‬وذكر تمام القصة‪.‬‬
‫وقد روى اإلمام أحمد حديثا ً في "مسنده" يشبه هذه القصة فقال‪َ :‬ح َّدثَنا زيد بن‬
‫الحباب‪ d،‬حدثني أبو المنذر سالم بن سليمان النحوي‪َ ،‬ح َّدثَنا عاصم بن أبي النجود‪ ،‬عن‬
‫أبي وائل‪ ،‬عن الحارث ‪ -‬وهو ابن حسان ‪ -‬ويقال ابن زيد البكري‪ ،‬قال‪ :‬خرجت أشكو‬
‫العالء بن الحضرمي إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فمررت بالربذة‪ ،‬فإذا عجوز من‬
‫بني تميم منقطع بها‪ ،‬فقالت لي‪ :‬يا عبد هللا إن لي إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫حاجة‪ ،‬فهل أنت مبلغي إليه؟ قال‪ :‬فحملتها فأتيت المدينة‪ ،‬فإذا المسجد غاص بأهله‪ ،‬وإذا‬
‫راية سوداء تخفق‪ ،‬وإذا بالل متقلد السيف بين يدي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬ما شأن الناس؟ قالوا‪ :‬يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها ً‪.‬‬
‫قال‪ :‬فجلست‪ ،‬قال‪ :‬فدخل منزله ‪ -‬أو قال رحله ‪ -‬فاستأذنت عليه فأذن لي‪ ،‬فدخلت‬
‫فسلمت فقال‪" :‬هل كان بينكم وبين بني تميم شيء"؟ فقلت‪ :‬نعم‪ .‬وكانت لنا الدائرة عليهم‬
‫ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها‪ ،‬فسألتني أن أحملها إليك‪ ،‬وها هي بالباب‪ .‬فأذن‬
‫لها فدخلت‪ d،‬فقلت يا رسول هللا‪ :‬إن رأيت أن تجعل بيننا وبين بني تميم حاجزاً‪ ،‬فاجعل‬
‫الدهناء‪ ،‬فإنها كانت لنا‪ ،‬قال‪ :‬فحميت العجوز واستوفزت وقالت‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬فإلى أين‬
‫يضطر مضطرك؟ قال‪ :‬فقلت‪ :‬إن مثلي ما قال األول‪" :‬معزى حملت حتفها" حملت هذه‬
‫األمة وال أشعر أنها كانت لي خصماً‪ d،‬أعوذ باهلل ورسوله أن أكون كوافد عاد‪ ،‬قال‪ :‬هيه‬
‫وما وافد عاد؟ وهو أعلم بالحديث مني ولكن يستطعمه‪ .‬قلت‪ :‬إن عاداً قحطوا فبعثوا وافداً‬
‫لهم يقال له قيل‪ ،‬فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهراً يسقيه الخمر‪ ،‬وتغنيه جاريتان يقال‬
‫لهما الجرادتان‪ ،‬فلما مضى الشهر خرج إلى جبال تهامة‪ ،‬فقال‪ :‬اللهم إنك تعلم أني لم أجئ‬
‫إلى مريض فأداويه‪ ،‬وال إلى أسير فأفاديه‪ ،‬اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيه‪ .‬فمرت به‬
‫سحابات سود‪ ،‬فنودي‪ :‬منها اختر‪ .‬فأومأ إلى سحابة منها سوداء‪ ،‬فنودي منها‪ :‬خذها‬
‫رماداً رمدداً‪ ،‬ال تبقي من عاد أحداً‪ .‬قال‪ :‬فلما بلغني أنه بعث عليهم من الريح إال كقدر ما‬
‫يجري في خاتمي هذا من الريح حتى هلكوا‪.‬‬
‫قال أبو وائل‪ :‬وصدق‪ ،‬وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافداً لهم قالوا‪ :‬ال تكن كوافد‬
‫عاد‪.‬‬
‫وهكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد‪ ،‬عن زيد بن الحباب به‪ .‬ورواه النسائي من‬
‫حديث سالم أبي المنذر عن عاصم بن بهدلة‪ ،‬ومن طريقه رواه ابن ماجة‪ .‬وهكذا أورد‬
‫هذا الحديث وهذه القصة عند تفسير هذه القصة غير واحد من المفسرين كابن جرير‬
‫وغيره‪.‬‬
‫وقد يكون هذا السياق إلهالك عاد اآلخرة؛ فإن فيما ذكره ابن إسحاق وغيره ذكر‬
‫لمكة‪ ،‬ولم تبن إال بعد إبراهيم الخليل‪ ،‬حين أسكن فيها هاجر وابنه إسماعيل‪ ،‬فنزلت‬
‫جرهم عندهم كما سيأتي‪ ،‬وعاد األولى قبل الخليل‪ ،‬وفيه ذكر معاوية بن بكر وشعره‪،‬‬
‫وهو من الشعر المتأخر عن زمان عاد األولى‪ ،‬وال يشبه كالم المتقدمين‪ .‬وفيه أن في تلك‬
‫السحابة شرر نار‪ ،‬وعاد األولى إنما أهلكوا بريح صرصر‪ .‬وقد قال ابن مسعود وابن‬
‫عبَّاس وغير واحد من أئمة التابعين‪ :‬هي الباردة‪ ،‬والعاتية الشديد الهبوب‪.‬‬
‫ال َوثَ َمانِيَةَ أَي ٍَّام ُحسُوما ً} أي كوامل متتابعات‪ .‬قيل كان أولها‬ ‫{ َس َّخ َرهَا َعلَ ْي ِه ْم َس ْب َع لَيَ ٍ‬
‫الجمعة‪ ،‬وقيل األربعاء‪.‬‬
‫اويَ ٍة} شبههم بأعجاز النخل التي ال‬ ‫صرْ َعى َكأَنَّهُ ْم أَ ْع َجا ُز نَ ْخ ٍل َخ ِ‬ ‫{فَتَ َرى ْالقَ ْو َم فِيهَا َ‬
‫رؤوس لها‪ ،‬وذلك ألن الريح كانت تجيء إلى أحدهم فتحمله فترفعه في الهواء؛ ثم تنكسه‬
‫صراً‬ ‫صرْ َ‬ ‫على أم رأسه فتشدخه فيبقى جثة بال رأس‪ ،‬كما قال‪{ :‬إِنَّا أَرْ َس ْلنَا َعلَ ْي ِه ْم ِريحا ً َ‬
‫س ُم ْستَ ِمرٍّ } أي في يوم نحس عليهم‪ ،‬مستمر عذابه عليهم‪.‬‬ ‫فِي يَ ْو ِم نَحْ ٍ‬
‫اس َكأَنَّهُ ْم أَ ْع َجا ُز نَ ْخ ٍل ُم ْنقَ ِع ٍر} ومن قال أن اليوم النحس المستمر هو يوم‬ ‫ع النَّ َ‬ ‫نز ُ‬ ‫{ت َ ِ‬
‫األربعاء وتشاءم به لهذا الفهم‪ ،‬فقد أخطأ وخالف القرآن؛ فإنه قال في اآلية األخرى‪:‬‬
‫ت} ومعلوم أنها ثمانية أيام متتابعات‪ ،‬فلو‬ ‫صراً فِي أَي ٍَّام نَ ِح َسا ٍ‬ ‫صرْ َ‬ ‫{فَأَرْ َس ْلنَا َعلَ ْي ِه ْم ِريحا ً َ‬
‫كانت نحسات في أنفسها لكانت جميع األيام السبعة المندرجة فيها مشئومة‪ ،‬وهذا ال يقوله‬
‫أحد‪ ،‬وإنما المراد في أيام نحسات‪ ،‬أي عليهم‪.‬‬
‫يح ْال َعقِي َم} أي التي ال تنتج خيراً‪ ،‬فإن‬ ‫وقال تعالى‪َ { :‬وفِي َعا ٍد إِ ْذ أَرْ َس ْلنَا َعلَ ْي ِه ْم الرِّ َ‬
‫الريح المفردة ال تثير سحابا ً وال تلقح شجراً‪ ،‬بل هي عقيم ال نتيجة خير لها‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫ت َعلَ ْي ِه إِالَّ َج َعلَ ْتهُ َكال َّر ِم ِيم} أي كالشيء البالي الفاني الذي ال ينتفع به‬ ‫{ َما تَ َذ ُر ِم ْن َش ْي ٍء أَتَ ْ‬
‫بالكلية‪.‬‬
‫وقد ثبت في "الصحيحين"‪ d‬من حديث شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عبَّاس عن‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أنه قال‪" :‬نصرت بالصبا‪ ،‬وأهلكت عاد بالدبور"‪.‬‬
‫ت النُّ ُذ ُر ِم ْن بَ ْي ِن‬
‫اف َوقَ ْد َخلَ ْ‬‫وأما قوله تعالى‪َ { :‬و ْاذ ُكرْ أَ َخا َعا ٍد إِ ْذ أَ ْن َذ َر قَ ْو َمهُ بِاألَحْ قَ ِ‬
‫اب يَ ْو ٍم َع ِظ ٍيم} فالظاهر أن عاداً هذه‬ ‫اف َعلَ ْي ُك ْم َع َذ َ‬ ‫يَ َد ْي ِه َو ِم ْن َخ ْلفِ ِه أَال تَ ْعبُ ُدوا إِال هَّللا َ إِنِّي أَ َخ ُ‬
‫هي عاد األولى؛ فإن سياقها شبيه بسياق قوم هود وهم األولى‪ .‬ويحتمل أن يكون‬
‫المذكورون في هذه القصة هم عاد الثانية‪ .‬ويدل على ما ذكرنا وما سيأتي من الحديث عن‬
‫عائشة رضي هللا عنها‪.‬‬
‫ارضا ً ُم ْستَ ْقبِ َل أَ ْو ِديَتِ ِه ْم قَالُوا هَ َذا َع ِ‬
‫ارضٌ ُم ْم ِط ُرنَا} فإن عاداً‬ ‫وأما قوله‪{ :‬فَلَ َّما َرأَ ْوهُ َع ِ‬
‫لما رأوا هذا العارض وهو الناشئ في الجو كالسحاب ظنوه سحاب مطر‪ ،‬فإذا هو سحاب‬
‫عذاب‪ .‬اعتقدوه رحمة فإذا هو نقمة رجوا فيه الخير فنالوا منه غاية الشر‪ .‬قال تعالى‪{ :‬بَلْ‬
‫ْج ْلتُ ْم بِ ِه} أي من العذاب‪ ،‬ثم فسره بقوله‪ِ { :‬ري ٌح فِيهَا َع َذابٌ أَلِي ٌم} يحتمل أن‬ ‫هُ َو َما ا ْستَع َ‬
‫ذلك العذاب هو ما أصابهم من الريح الصرصر العاتية الباردة الشديدة الهبوط‪ ،‬التي‬
‫استمرت عليهم سبع ليال بأيامها الثمانية فلم تبق منهم أحداً‪ ،‬بل تتبعتهم حتى كانت تدخل‬
‫عليهم كهوف الجبال والغيران فتلفهم وتخرجهم وتهلكهم‪ ،‬وتدمر عليهم البيوت المحكمة‬
‫والقصور المشيدة‪ ،‬فكما منوا بشدتهم وبقوتهم وقالوا‪ :‬من أشد منا قوة؟ سلط هللا عليهم ما‬
‫هو أشد منهم قوة‪ ،‬وأقدر عليهم‪ ،‬وهو الريح العقيم‪.‬‬
‫ويحتمل أن هذه الريح أثارت في آخر األمر سحابة‪ ،‬ظن من بقي منهم أنها سحابة‬
‫فيها رحمة بهم وغياث لمن بقي منهم‪ ،‬فأرسلها هللا عليهم شرراً وناراً‪ .‬كما ذكره غير‬
‫واحد‪ .‬ويكون هذا كما أصاب أصحاب‪ d‬الظلة من أهل مدين‪ ،‬وجمع لهم بين الريح الباردة‬
‫وعذاب النار‪ ،‬وهو أشد ما يكون من العذاب باألشياء المختلفة المتضادة‪ ،‬مع الصيحة‬
‫التي ذكرها في سورة قد أفلح المؤمنون‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫وقد قال ابن أبي حاتم‪َ :‬ح َّدثَنا أبي‪َ ،‬ح َّدثَنا ُم َح ْمد بن يحيى بن الضريس‪َ ،‬ح َّدثَنا ابن‬
‫فضيل عن مسلم‪ ،‬عن مجاهد‪ ،‬عن ابن عمر قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ما‬
‫فتح هللا على عاد من الريح التي أهلكوا بها إال مثل موضع الخاتم‪ d،‬فمرت بأهل البادية‬
‫فحملتهم ومواشيهم وأموالهم بين السماء واألرض‪ ،‬فلما رأى ذلك أهل الحاضرة‪ d‬من عاد‪،‬‬
‫ارضٌ ُم ْم ِط ُرنَا} فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل‬ ‫الريح وما فيها {قَالُوا هَ َذا َع ِ‬
‫الحاضرة‪.‬‬
‫وقد رواه الطبراني عن عبدان بن أحمد‪ ،‬عن إسماعيل بن زكريا الكوفي‪ ،‬عن أبي‬
‫مالك‪ ،‬عن مسلم المالئي‪ ،‬عن مجاهد وسعيد بن جبير‪ ،‬عن ابن عبَّاس قال‪ :‬قال رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ما فتح هللا على عاد من الريح إال مثل موضع الخاتم‪ ،‬ثم أرسلت‬
‫عليهم البدو إلى الحضر‪ ،‬فلما رآها أهل الحضر قالوا هذا عارض ممطرنا مستقبل‬
‫أوديتنا‪ .‬وكان أهل البوادي فيها‪ ،‬فألقي أهل البادية على أهل الحاضرة حتى هلكوا"‪.‬‬
‫قال‪ :‬عتت على خزائنها حتى خرجت من خالل األبواب‪ .‬قلت‪ :‬وقال غيره‪ :‬خرجت‬
‫بغير حساب‪.‬‬
‫والمقصود أن هذا الحديث في رفعه نظر‪ .‬ثم اختلف فيه على مسلم المالئي‪ ،‬وفيه‬
‫نوع اضطراب وهللا أعلم‪.‬‬
‫وظاهر اآلية أنهم رأوا عارضا ً والمفهوم منه لغة السحاب‪ d،‬كما دل عليه حديث‬
‫الحارث بن حسان البكري‪ ،‬إن جعلناه مفسراً لهذه القصة‪.‬‬
‫وأصرح منه في ذلك ما رواه مسلم في "صحيحه" حيث قال‪َ :‬ح َّدثَنا أبو بكر الطاهر‪،‬‬
‫َح َّدثَنا ابن وهب قال‪ :‬سمعت ابن ج َُريْج َح َّدثَنا عن عطاء بن أبي رباح‪ ،‬عن عائشة رضي‬
‫هللا عنها قالت‪ :‬كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إذا عصفت الريح قال‪" :‬اللهم إني‬
‫أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به‪ ،‬وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر‬
‫ما أرسلت به" قالت‪" :‬وإذا غيبت السماء تغير لونه‪ ،‬وخرج ودخل‪ ،‬وأقبل وأدبر‪ .‬فإذا‬
‫أمطرت سرى عنه‪ ،‬فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال‪" :‬لعله يا عائشة كما قال قوم عاد‪:‬‬
‫{فلما رأوه عارضا ً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا}"‪.‬‬
‫رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة‪ ،‬من حديث ابن ُج َريْج‪.‬‬
‫طريق أخرى‪ :‬قال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا هارون بن معروف‪ ،‬أنبأنا عبد هللا بن وهب‪،‬‬
‫أنبأنا عمرو ‪ -‬وهو ابن الحارث‪ - d‬أن أبا النضر حدثه عن سليمان بن يسار‪ ،‬عن عائشة‬
‫أنها قالت‪ :‬ما رأيت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم مستجمعا ً ضاحكا ً قط حتى أرى منه‬
‫لهواته‪ ،‬إنما كانت يبتسم وقالت‪ :‬كان إذا رأى غيما ً أو ريحا ً عرف ذلك في وجهه‪ ،‬قالت يا‬
‫رسول هللا‪ :‬إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر‪ ،‬وأراك إذا رأيته‬
‫عرف في وجهك الكراهية؟ فقال‪" :‬يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب! قد عذب قوم‬
‫نوح بالريح‪ ،‬وقد رأى قوم العذاب فقالوا‪ :‬هذا عارض ممطرنا" فهذا الحديث كالصريح‬
‫في تغاير القصتين كما أشرنا إليه أوالً‪ .‬فعلى هذا تكون القصة المذكورة في سورة‬
‫األحقاف خبراً عن قوم عاد الثانية وتكون بقية السياقات في القرآن خبراً عن عاد األولى‪،‬‬
‫وهللا أعلم بالصواب‪.d‬‬
‫ي وأبو داود من حديث‬ ‫وهكذا رواه مسلم عن هارون بن معروف‪ ،‬وأخرجه الب َُخار ّ‬
‫ابن وهب‪.‬‬
‫وقدمنا حج هود عليه السالم عند ذكر حج نوح عليه السالم‪ .‬وروي عن أمير‬
‫المؤمنين علي بن أبي طالب أنه ذكر صفة قبر هود عليه السالم في بالد اليمن‪ .‬وذكر‬
‫آخرون أنه بدمشق‪ ،‬وبجامعها مكان في حائطه القبلي يزعم بعض الناس أنه قبر هود‬
‫عليه السالم‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫قصة صالح عليه السالم نبي ثمود‬


‫وهم قبيلة مشهورة‪ ،‬يقال لهم ثمود باسم جدهم ثمود أخي جديس‪ ،‬وهما ابنا عاثر بن‬
‫ارم بن سام بن نوح‪.‬‬
‫وكانوا عربا ً من العاربة يسكنون الحجر الذي بين الحجاز وتبوك وقد م ّر به رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم وهو ذاهب إلى تبوك بمن معه من المسلمين‪.‬‬
‫وكانوا بعد قوم عاد‪ ،‬وكانوا يعبدون األصنام كأولئك‪.‬‬
‫فبعث هللا فيهم رجالً منهم وهو عبد هللا ورسوله‪ :‬صالح بن عبيد بن ماسح بن عبيد‬
‫بن حادر بن ثمود بن عاثر بن ارم بن نوح فدعاهم إلى عبادة هللا وحده ال شريك له‪ ،‬وأن‬
‫يخلعوا األصنام واألنداد وال يشركوا به شيئا ً‪ .‬فآمنت به طائفة منهم‪ ،‬وكفر جمهورهم‪،‬‬
‫ونالوا منه بالمقال والفعال‪ ،‬وهموا بقتله‪ ،‬وقتلوا الناقة التي جعلها هللا حجة عليهم‪ ،‬فأخذهم‬
‫هللا أخذ عزيز مقتدر‪.‬‬
‫صالِحا ً قَا َل يَا قَ ْو ِم ا ْعبُ ُدوا هَّللا َ‬ ‫كما قال تعالى في سورة األعراف‪َ { :‬وإِلَى ثَ ُمو َد أَ َخاهُ ْم َ‬
‫ْ‬
‫َما لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ قَ ْد َجا َء ْت ُك ْم بَيِّنَةٌ ِم ْن َربِّ ُك ْم هَ ِذ ِه نَاقَةُ هَّللا ِ لَ ُك ْم آيَةً فَ َذرُوهَا تَأ ُكلْ فِي أَرْ ِ‬
‫ض‬
‫هَّللا ِ َوالَ تَ َمسُّوهَا بِسُو ٍء فَيَأْ ُخ َذ ُك ْم َع َذابٌ أَلِي ٌم‪َ ،‬و ْاذ ُكرُوا إِ ْذ َج َعلَ ُك ْم ُخلَفَا َء ِم ْن بَ ْع ِد َعا ٍد َوبَ َّوأَ ُك ْم‬
‫ون ْال ِجبَا َ‪d‬ل بُيُوتا ً فَ ْاذ ُكرُوا آالَ َء هَّللا ِ َوالَ تَ ْعثَ ْوا‬ ‫ون ِم ْن ُسهُولِهَا قُصُوراً َوتَ ْن ِحتُ َ‬ ‫ض تَتَّ ِخ ُذ َ‬ ‫فِي األَرْ ِ‬
‫ين ا ْستُضْ ِعفُوا لِ َم ْن آ َم َن ِم ْنهُ ْم‬ ‫ين ا ْستَ ْكبَرُوا ِم ْن قَ ْو ِم ِه لِلَّ ِذ َ‬ ‫ال ْال َمألُ الَّ ِذ َ‬ ‫ين‪ ،‬قَ َ‬ ‫ض ُم ْف ِس ِد َ‬ ‫فِي األَرْ ِ‬
‫ين ا ْستَ ْكبَرُوا إِنَّا‬ ‫ال الَّ ِذ َ‬
‫ون‪ ،‬قَ َ‬ ‫صالِحاً‪ُ d‬مرْ َس ٌل ِم ْن َربِّ ِه قَالُوا إِنَّا بِ َما أُرْ ِس َل بِ ِه ُم ْؤ ِمنُ َ‬ ‫ون أَ َّن َ‬ ‫أَتَ ْعلَ ُم َ‬
‫صالِ ُح ا ْئتِنَا بِ َما تَ ِع ُدنَا‬ ‫ُون‪ ،‬فَ َعقَرُوا النَّاقَةَ َو َعتَ ْوا َع ْن أَ ْم ِر َربِّ ِه ْم َوقَالُوا يَا َ‬ ‫بِالَّ ِذي آ َمنتُ ْم بِ ِه َكافِر َ‬
‫ال يَا‬ ‫ين‪ ،‬فَتَ َولَّى َع ْنهُ ْم َوقَ َ‬ ‫ار ِه ْم َجاثِ ِم َ‬ ‫ين‪ ،‬فَأ َ َخ َذ ْتهُ ْم الرَّجْ فَةُ فَأَصْ بَحُوا فِي َد ِ‬ ‫نت ِم ْن ْال ُمرْ َسلِ َ‬ ‫إِ ْن ُك َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫اص ِح َ‬ ‫ُّون النَّ ِ‬ ‫ت لَ ُك ْم َولَ ِك ْن ال تُ ِحب َ‬ ‫صحْ ُ‪d‬‬ ‫قَ ْو ِم لَقَ ْد أَ ْبلَ ْغتُ ُك ْم ِر َسالَةَ َربِّي َونَ َ‬
‫ال يَا قَ ْو ِم ا ْعبُ ُدوا هَّللا َ َما لَ ُك ْم‬ ‫صالِحاً‪ d‬قَ َ‬ ‫وقال تعالى في سورة هود‪َ { :‬وإِلَى ثَ ُمو َد أَ َخاهُ ْم َ‬
‫ض َوا ْستَ ْع َم َر ُك ْم فِيهَا فَا ْستَ ْغفِرُوهُ ثُ َّم تُوبُوا إِلَ ْي ِه إِ َّن َربِّي‬ ‫ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ هُ َو أَن َشأ َ ُك ْم ِم ْن األَرْ ِ‬
‫نت فِينَا َمرْ ُج ّواً قَ ْب َل هَ َذا أَتَ ْنهَانَا أَ ْن نَ ْعبُ َد َما يَ ْعبُ ُد آبَا ُؤنَا‬ ‫صالِ ُح قَ ْد ُك َ‬ ‫قَ ِريبٌ ُم ِجيبٌ ‪ ،‬قَالُوا يَا َ‬
‫نت َعلَى بَيِّنَ ٍة ِم ْن َربِّي َوآتَانِي‬ ‫ب‪ ،‬قَا َل يَا قَ ْو ِم أَ َرأَ ْيتُ ْم إِ ْن ُك ُ‬ ‫ك ِم َّما تَ ْد ُعونَا إِلَ ْي ِه ُم ِري ٍ‬ ‫َوإِنَّنَا لَفِي َش ٍّ‬
‫ير‪َ ،‬ويَا قَ ْو ِم هَ ِذ ِه نَاقَةُ‬ ‫ص ْيتُهُ‪ ،‬فَ َما تَ ِزي ُدونَنِي َغي َْر تَ ْخ ِس ٍ‬ ‫ص ُرنِي ِم ْن هَّللا ِ إِ ْن َع َ‬ ‫ِم ْنهُ َرحْ َمةً فَ َم ْن يَن ُ‬
‫ض هَّللا ِ َوالَ تَ َمسُّوهَا بِسُو ٍء فَيَأْ ُخ َذ ُك ْم َع َذابٌ قَ ِريبٌ ‪ ،‬فَ َعقَرُوهَا‬ ‫ْ‬
‫هَّللا ِ لَ ُك ْم آيَةً فَ َذرُوهَا تَأ ُكلْ فِي أَرْ ِ‬
‫صالِحا ً‬ ‫ب‪ ،‬فَلَ َّما َجا َء أَ ْم ُرنَا نَ َّج ْينَا َ‬ ‫ك َو ْع ٌد َغ ْي ُر َم ْك ُذو ٍ‬ ‫ار ُك ْم ثَاَل ثَةَ أَي ٍَّام َذلِ َ‬ ‫فَقَا َل تَ َمتَّعُوا فِي َد ِ‬
‫ي يَ ْو ِمئِ ٍذ إِ َّن َرب ََّك هُ َو ْالقَ ِويُّ ْال َع ِزي ُز‪َ ،‬وأَ َخ َذ الَّ ِذ َ‬
‫ين‬ ‫ين آ َمنُوا َم َعهُ بِ َرحْ َم ٍة ِمنَّا َو ِم ْن ِخ ْز ِ‬ ‫َوالَّ ِذ َ‬
‫ين‪َ ،‬كأ َ ْن لَ ْم يَ ْغنَ ْوا فِيهَا أَالَ إِ َّن ثَ ُمو َد َكفَرُوا َربَّهُ ْم‬ ‫ار ِه ْم َجاثِ ِم َ‬ ‫ص ْي َحةُ فَأَصْ بَحُوا فِي ِديَ ِ‬ ‫ظلَ ُموا ال َّ‬ ‫َ‬
‫أَالَ بُعْداً لِثَ ُمو َد}‪.‬‬
‫ين‪َ ،‬وآتَ ْينَاهُ ْم آيَاتِنَا‬ ‫اب ْال ِحجْ ِر ْال ُمرْ َسلِ َ‬ ‫ب أَصْ َح ُ‪d‬‬ ‫وقال تعالى في سورة الحجر‪َ {:‬ولَقَ ْد َك َّذ َ‬
‫ص ْي َحةُ‬‫ين‪ ،‬فَأ َ َخ َذ ْتهُ ْم ال َّ‬ ‫ون ِم ْن ْال ِجبَا ِ‪d‬ل بُيُوتا ً آ ِمنِ َ‬ ‫ين‪َ ،‬و َكانُوا يَ ْن ِحتُ َ‬ ‫ض َ‬ ‫فَ َكانُوا َع ْنهَا ُمع ِ‬
‫ْر ِ‬
‫ُون}‪.‬‬ ‫ين‪ ،‬فَ َما أَ ْغنَى َع ْنهُ ْم َما َكانُوا يَ ْك ِسب َ‬ ‫ُمصْ بِ ِح َ‬

‫ت إِالَّ أَ ْن َك َّذ َ‬
‫ب بِهَا‬ ‫وقال سبحانه وتعالى في سورة سبحان‪َ { :‬و َما َمنَ َعنَا أَ ْن نُرْ ِس َل بِاآليَا ِ‬
‫ت إِالَّ تَ ْخ ِويفا ً}‪.‬‬
‫ص َرةً فَظَلَ ُموا بِهَا َو َما نُرْ ِس ُل بِاآليَا ِ‬ ‫األَ َّولُ َ‬
‫ون َوآتَ ْينَا ثَ ُمو َد النَّاقَةَ ُم ْب ِ‬
‫صالِ ٌح أَالَ‬ ‫ين‪ ،‬إِ ْذ قَا َل لَهُ ْم أَ ُخوهُ ْم َ‬ ‫ت ثَ ُمو ُد ْال ُمرْ َسلِ َ‬ ‫وقال تعالى في سورة الشعراء‪َ {:‬ك َّذبَ ْ‬
‫ين‪ ،‬فَاتَّقُوا هَّللا َ َوأَ ِطيعُونِي‪َ ،‬و َما أَسْأَلُ ُك ْم َعلَ ْي ِه ِم ْن أَجْ ٍر إِ ْن أَجْ ِري إِالَّ‬ ‫تَتَّقُون‪ ،‬إِنِّي لَ ُك ْم َرسُو ٌل أَ ِم ٌ‬
‫ُوع َونَ ْخ ٍل طَ ْل ُعهَا‬ ‫ُون‪َ ،‬و ُزر ٍ‬ ‫ت َو ُعي ٍ‬ ‫ين‪ ،‬فِي َجنَّا ٍ‬ ‫ون فِي َما هَاهُنَا آ ِمنِ َ‬ ‫ين‪ ،‬أَتُ ْت َر ُك َ‬ ‫َعلَى َربِّ ْال َعالَ ِم َ‬
‫ين‪ ،‬فَاتَّقُوا هَّللا َ َوأَ ِطيعُونِي‪َ ،‬والَ تُ ِطيعُوا أَ ْم َر‬ ‫ار ِه َ‬ ‫ال بُيُوتا ً فَ ِ‬ ‫ون ِم ْن ْال ِجبَ ِ‪d‬‬ ‫ضي ٌم‪َ ،‬وتَ ْن ِحتُ َ‬ ‫هَ ِ‬
‫ين‪َ ،‬ما‬ ‫َّر َ‬ ‫ت ِم ْن ْال ُم َسح ِ‬ ‫ُون‪ ،‬قَالُوا إِنَّ َما أَ ْن َ‬ ‫ض َوالَ يُصْ لِح َ‬ ‫ون فِي األَرْ ِ‬ ‫ين يُ ْف ِس ُد َ‬ ‫ين‪ ،‬الَّ ِذ َ‬ ‫ْال ُمس ِ‬
‫ْرفِ َ‬
‫ال هَ ِذ ِه نَاقَةٌ لَهَا ِشرْ بٌ َولَ ُك ْم ِشرْ بُ‬ ‫ين‪ ،‬قَ َ‬ ‫ت ِم ْن الصَّا ِدقِ َ‬ ‫ت بِآيَ ٍة إِ ْن ُك ْن َ‬ ‫ت إِالَّ بَ َش ٌر ِم ْثلُنَا فَأْ ِ‬ ‫أَ ْن َ‬
‫ين‪،‬‬ ‫وم‪َ ،‬والَ تَ َمسُّوهَا بِسُو ٍء فَيَأْ ُخ َذ ُك ْم َع َذابُ يَ ْو ٍم َع ِظ ٍيم‪ ،‬فَ َعقَرُوهَا فَأَصْ بَحُوا نَا ِد ِم َ‬ ‫يَ ْو ٍم َم ْعلُ ٍ‬
‫ك لَه َُو ْال َع ِزي ُز ال َّر ِحي ُم}‪.‬‬ ‫ين‪َ ،‬وإِ َّن َربَّ َ‬ ‫ان أَ ْكثَ ُرهُ ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ك آليَةً َو َما َك َ‬ ‫فَأ َ َخ َذهُ ْم ْال َع َذابُ إِ َّن فِي َذلِ َ‬
‫صالِحاً‪ d‬أَ ْن ا ْعبُ ُدوا هَّللا َ فَإِ َذا‬ ‫وقال تعالى في سورة النمل‪َ { :‬ولَقَ ْد أَرْ َس ْلنَا إِلَى ثَ ُمو َد أَ َخاهُ ْم َ‬
‫ُون هَّللا َ‬ ‫ون بِال َّسيِّئَ ِة قَب َْل ْال َح َسنَ ِة لَ ْوالَ تَ ْستَ ْغفِر َ‬ ‫ْجلُ َ‬ ‫ال يَا قَ ْو ِم لِ َم تَ ْستَع ِ‬ ‫ون‪ ،‬قَ َ‬ ‫ص ُم َ‬ ‫ان يَ ْختَ ِ‬ ‫هُ ْم فَ ِريقَ ِ‬
‫ون‪،‬‬ ‫طائِ ُر ُك ْم ِع ْن َد هَّللا ِ بَلْ أَ ْنتُ ْم قَ ْو ٌم تُ ْفتَنُ َ‬ ‫ال َ‬ ‫ك قَ َ‬ ‫ك َوبِ َم ْن َم َع َ‬ ‫ون‪ ،‬قَالُوا اطَّيَّرْ نَا بِ َ‬ ‫لَ َعلَّ ُك ْم تُرْ َح ُم َ‬
‫ض َوالَ يُصْ لِحُون‪ ،‬قَالُوا تَقَا َس ُموا بِاهَّلل ِ لَنُبَيِّتَنَّهُ‬ ‫ون فِي األَرْ ِ‬ ‫ان فِي ْال َم ِدينَ ِة تِ ْس َعةُ َر ْه ٍط يُ ْف ِس ُد َ‬ ‫َو َك َ‬
‫ون‪َ ،‬و َم َكرُوا َم ْكراً‬ ‫صا ِدقُ َ‬ ‫ك أَ ْهلِ ِه َوإِنَّا لَ َ‬ ‫َوأَ ْهلَهُ ثُ َّم لَنَقُولَ َّن لِ َولِيِّ ِه ثُ َّم لَنَقُولَ َّن لِ َولِيِّ ِه َما َش ِه ْدنَا َم ْهلِ َ‬
‫ان َعاقِبَةُ َم ْك ِر ِه ْم أَنَّا َد َّمرْ نَاهُ ْم َوقَ ْو َمهُ ْم‬ ‫ْف َك َ‬ ‫ُون‪ ،‬فَانظُرْ َكي َ‬ ‫َو َم َكرْ نَا َم ْكراً َوهُ ْم الَ يَ ْش ُعر َ‬
‫ين آ َمنُوا‬ ‫ك آلَيَةً لِقَ ْو ٍم يَ ْعلَ ُمون‪َ ،‬وأَن َج ْينَا الَّ ِذ َ‬ ‫اويَةً بِ َما ظَلَ ُموا إِ َّن فِي َذلِ َ‬ ‫ك بُيُوتُهُ ْم َخ ِ‬ ‫ين‪ ،‬فَتِ ْل َ‬ ‫أَجْ َم ِع َ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫َو َكانُوا يَتَّقُ َ‬
‫وقال تعالى في سورة حم السجدة‪َ { :‬وأَ َّما ثَ ُمو ُد فَهَ َد ْينَاهُ ْم فَا ْستَ َحبُّوا ْال َع َمى َعلَى ْالهُ َدى‬
‫ون}‪.‬‬ ‫ين آ َمنُوا َو َكانُوا يَتَّقُ َ‬ ‫ُون‪َ ،‬ونَ َّج ْينَا الَّ ِذ َ‬ ‫ب ْالهُو ِن بِ َما َكانُوا يَ ْك ِسب َ‬ ‫اعقَةُ ْال َع َذا ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫فَأ َ َخ َذ ْتهُ ْم َ‬
‫ت ثَ ُمو ُد بِالنُّ ُذ ِر‪ ،‬فَقَالُوا أَبَ َشراً ِمنَّا َوا ِحداً نَتَّبِ ُعهُ إِنَّا‬ ‫وقال تعالى في سورة اقتربت‪َ { :‬ك َّذبَ ْ‬
‫ون َغداً َم ْن‬ ‫ُر‪ ،‬أَ ُؤ ْلقِ َي ال ِّذ ْك ُر َعلَ ْي ِه ِم ْن بَ ْينِنَا بَلْ هُ َو َك َّذابٌ أَ ِشرٌ‪َ ،‬سيَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ضالَ ٍل َو ُسع ٍ‬ ‫إِذاً لَفِي َ‬
‫ْال َك َّذابُ األَ ِشرُ‪ ،‬إِنَّا ُمرْ ِسلُو النَّاقَ ِة فِ ْتنَةً لَهُ ْم فَارْ تَقِ ْبهُ ْم َواصْ طَبِرْ ‪َ ،‬ونَبِّ ْئهُ ْم أَ َّن ْال َما َء قِ ْس َمةٌ بَ ْينَهُ ْم‬
‫ان َع َذابِي َونُ ُذ ِر إِنَّا أَرْ َس ْلنَا‬ ‫ْف َك َ‬ ‫احبَهُ ْم فَتَ َعاطَى فَ َعقَ َر‪ ،‬فَ َكي َ‬ ‫ص ِ‬ ‫ضرٌ‪ ،‬فَنَا َد ْوا َ‬ ‫ب ُمحْ تَ َ‬ ‫ُكلُّ ِشرْ ٍ‬
‫آن لِل ِّذ ْك ِر فَهَلْ ِم ْن ُم َّد ِك ٍر}‪.‬‬ ‫اح َدةً فَ َكانُوا َكهَ ِش ِيم ْال ُمحْ تَ ِظ ِر‪َ ،‬ولَقَ ْد يَسَّرْ نَا ْالقُرْ َ‬ ‫صي َْحةً َو ِ‬ ‫َعلَ ْي ِه ْم َ‬
‫ال لَهُ ْم َرسُو ُل هَّللا ِ نَاقَةَ هَّللا ِ‬ ‫ث أَ ْشقَاهَا‪ ،‬فَقَ َ‬ ‫ت ثَ ُمو ُد بِطَ ْغ َواهَا‪ ،‬إِ ْذ ا ْنبَ َع َ‬ ‫وقال تعالى‪َ { :‬ك َّذبَ ْ‬
‫اف ُع ْقبَاهَا}‪.‬‬ ‫َو ُس ْقيَاهَا‪ ،‬فَ َك َّذبُوهُ فَ َعقَرُوهَا فَ َد ْم َد َم َعلَ ْي ِه ْم َربُّهُ ْم بِ َذ ْنبِ ِه ْم فَ َس َّواهَا‪َ ،‬والَ يَ َخ ُ‬
‫وكثيراً ما يقرن هللا في كتابه بين ذكر عاد وثمود‪ ،‬كما في سورة براءة وإبراهيم‬
‫والفرقان‪ ،‬وسورة ص‪ ،‬وسورة ق‪ ،‬والنجم‪ ،‬والفجر‪.‬‬
‫ويقال أن هاتين األمتين ال يعرف خبرهما أهل الكتاب‪ ،‬وليس لهما ذكر في كتابهم‬
‫التوراة‪ .‬ولكن في القرآن ما يدل على أن موسى أخبر عنهما‪ ،‬كما قال تعالى في سورة‬
‫ض َج ِميعا ً فَإِ َّن هَّللا َ لَ َغنِ ٌّي َح ِمي ٌد‪ ،‬أَلَ ْم‬ ‫ال ُمو َسى إِ ْن تَ ْكفُرُوا أَ ْنتُ ْم َو َم ْن فِي األَرْ ِ‬ ‫إبراهيم‪َ { :‬وقَ َ‬
‫ين ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم الَ يَ ْعلَ ُمهُ ْم إِاَّل هَّللا ُ َجا َء ْتهُ ْم‬ ‫وح َو َعا ٍد َوثَ ُمو َد َوالَّ ِذ َ‬ ‫ين ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم قَ ْو ِم نُ ٍ‬ ‫يَأْتِ ُك ْم نَبَأ ُ الَّ ِذ َ‬
‫ت} اآلية‪ .‬الظاهر أن هذا من تمام كالم موسى مع قومه‪ ،‬ولكن لما كان‬ ‫ُر ُسلُهُ ْم بِ ْالبَيِّنَا ِ‬
‫هاتان األمتان من العرب لم يضبطوا خبرهما جيداً‪ ،‬وال اعتنوا بحفظه‪ ،‬وإن كان خبرهما‬
‫كان مشهوراً في زمان موسى عليه السالم‪ .‬وقد تكلمنا على هذا كله في التفسير‬
‫مستقصي‪ .‬وهلل الحمد والمنة‪.‬‬
‫والمقصود اآلن ذكر قصتهم وما كان من أمرهم‪ ،‬وكيف نجى هللا نبيه صالحا ً عليه‬
‫السالم ومن آمن به‪ ،‬وكيف قطع دابر القوم الذين ظلموا بكفرهم وعتوهم‪ ،‬ومخالفتهم‬
‫رسولهم عليه السالم‪.‬‬
‫وقد قدمنا أنهم كانوا عرباً‪ ،‬وكانوا بعد عاد ولم يعتبروا بما كان من أمرهم‪ .‬ولهذا قال‬
‫لهم نبيهم عليه السالم‪{ :‬ا ْعبُ ُدوا هَّللا َ َما لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ قَ ْد َجا َء ْت ُك ْم بَيِّنَةٌ ِم ْن َربِّ ُك ْم هَ ِذ ِه نَاقَةُ‬
‫ض هَّللا ِ َوالَ تَ َمسُّوهَا بِسُو ٍء فَيَأْ ُخ َذ ُك ْم َع َذابٌ أَلِي ٌم‪َ ،‬و ْاذ ُكرُوا إِ ْذ‬ ‫ْ‬
‫هَّللا ِ لَ ُك ْم آيَةً فَ َذرُوهَا تَأ ُكلْ فِي أَرْ ِ‬
‫ون ِم ْن ُسهُولِهَا قُصُوراً َوتَ ْن ِحتُ َ‬
‫ون‬ ‫َج َعلَ ُك ْم ُخلَفَا َ‪d‬ء ِم ْن بَ ْع ِد َعا ٍد َوبَ َّوأَ ُك ْم فِي األَرْ ِ‬
‫ض تَتَّ ِخ ُذ َ‬
‫ين} أي إنما جعلكم خلفاء من‬ ‫ض ُم ْف ِس ِد َ‬ ‫ال بُيُوتا ً فَ ْاذ ُكرُوا آالَ َء هَّللا ِ َوالَ تَ ْعثَ ْوا فِي األَرْ ِ‬ ‫ْال ِجبَ َ‬
‫بعدهم لتعتبروا بما كان من أمرهم‪ ،‬وتعملوا بخالف عملهم‪ .‬وأباح لكم هذه األرض تبنون‬
‫ين} أي حاذقين في صنعتها‬ ‫ار ِه َ‬ ‫ال بُيُوتا ً فَ ِ‬ ‫ون ِم ْن ْال ِجبَ ِ‪d‬‬ ‫في سهولها القصور‪َ { d،‬وتَ ْن ِحتُ َ‬
‫وإتقانها وإحكامها‪ .‬فقابلوا نعمة هللا بالشكر والعمل الصالح‪ d،‬والعبادة له وحده ال شريك‬
‫له‪ ،‬وإياكم ومخالفته والعدول عن طاعته‪ ،‬فإن عاقبة ذلك وخيمة‪.‬‬
‫ت َو ُعيُو ٍن‪َ ،‬و ُزر ٍ‬
‫ُوع‬ ‫ين‪ ،‬فِي َجنَّا ٍ‬ ‫ون فِي َما هَاهُنَا آ ِمنِ َ‬ ‫ولهذا وعظهم بقوله‪{ :‬أَتُ ْت َر ُك َ‬
‫ون ِم ْن ْال ِجبَا ِل بُيُوتا ً‬ ‫ضي ٌم} أي متراكم كثير حسن بهي ناضج‪َ { .‬وتَ ْن ِحتُ َ‬ ‫ط ْل ُعهَا هَ ِ‬‫َونَ ْخ ٍل َ‬
‫ض َوالَ‬ ‫ون فِي األَرْ ِ‬ ‫ين يُ ْف ِس ُد َ‬ ‫ين‪ ،‬الَّ ِذ َ‬‫ْرفِ َ‬ ‫ين‪ ،‬فَاتَّقُوا هَّللا َ َوأَ ِطيعُونِي‪َ ،‬والَ تُ ِطيعُوا أَ ْم َر ْال ُمس ِ‬ ‫فَ ِ‬
‫ار ِه َ‬
‫يُصْ لِح َ‬
‫ُون}‪.‬‬
‫وقال لهم أيضا ً‪{ :‬يَا قَ ْو ِم ا ْعبُ ُدوا هَّللا َ َما لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ هُ َو أَن َشأ َ ُك ْم ِم ْن األَرْ ِ‬
‫ض‬
‫َوا ْستَ ْع َم َر ُك ْم فِيهَا} أي هو الذي خلقكم فأنشأكم من األرض‪ ،‬وجعلكم عمارها‪ ،‬أي‬
‫أعطاكموها بما فيها من الزروع والثمار‪ ،‬فهو الخالق الرزاق‪ ،‬وهو الذي يستحق العبادة‬
‫وحده ال ما سواه‪{ .‬فَا ْستَ ْغفِرُوهُ ثُ َّم تُوبُوا إِلَ ْي ِه} أي أقلعوا عما أنتم فيه وأقبلوا على عبادته‪،‬‬
‫فإنه يقبل منكم ويتجاوز عنكم {إِ َّن َربِّي قَ ِريبٌ ُم ِجيبٌ }‪.‬‬
‫نت فِينَا َمرْ ُج ّواً قَب َْل هَ َذا} أي قد كنا نرجو أن يكون عقلك كامالً‬ ‫{قَالُوا يَا َ‬
‫صالِ ُح قَ ْد ُك َ‬
‫قبل هذه المقالة‪ ،‬وهي دعاؤك إيانا إلى إفراد العبادة‪ ،‬وترك ما كنا نعبده من األنداد‪،‬‬
‫والعدول عن دين اآلباء واألجداد ولهذا قالوا‪{ :‬أَتَ ْنهَانَا أَ ْن نَ ْعبُ َد َما يَ ْعبُ ُد آبَا ُؤنَا َوإِنَّنَا لَفِي َش ٍّ‬
‫ك‬
‫ِم َّما تَ ْد ُعونَا إِلَ ْي ِه ُم ِريب}‪.‬‬

‫{قَا َل يَا قَ ْو ِم أَ َرأَ ْيتُ ْم إِ ْن ُك ُ‬


‫نت َعلَى بَيِّنَ ٍة ِم ْن َربِّي َوآتَانِي ِم ْنهُ َرحْ َمةً فَ َم ْن يَن ُ‬
‫ص ُرنِي ِم ْن‬
‫ير}‪.‬‬‫ص ْيتُهُ فَ َما تَ ِزي ُدونَنِي َغي َْر تَ ْخ ِس ٍ‬ ‫هَّللا ِ إِ ْن َع َ‬
‫وهذا تلطف منه لهم في العبارة ولين الجانب‪ ،‬وحسن تأت في الدعوة لهم إلى الخير‪.‬‬
‫أي فما ظنكم إن كان األمر كما أقول لكم وأدعوكم إليه؟ ما عذركم عند هللا؟ وماذا‬
‫يخلصكم بين يديه وأنتم تطلبون مني أن أترك دعاءكم إلى طاعته؟ وأنا ال يمكنني هذا‬
‫ألنه واجب علي‪ ،‬ولو تركته لما قدر أحد منكم وال من غيركم أن يجيرني منه وال‬
‫ينصرني‪ .‬فأنا ال أزال أدعوكم إلى هللا وحده ال شريك له‪ ،‬حتى يحكم هللا بيني وبينكم‪.‬‬
‫ين} أي من المسحورين‪ ،‬يعنون مسحوراً ال‬ ‫ت ِم ْن ْال ُم َسح ِ‬
‫َّر َ‬ ‫وقالوا له أيضا ً‪{ :‬إِنَّ َما أَ ْن َ‬
‫تدري ما تقول في دعائك إيانا إلى إفراد العبادة هلل وحده‪ ،‬وخلع ما سواه من األنداد‪ .‬وهذا‬
‫القول عليه الجمهور‪ ،‬وهو أن المراد بالمسحرين المسحورين‪ .‬وقيل من المسحرين‪ :‬أي‬
‫ممن له سحر ‪ -‬وهو الرئي ‪ -‬كأنهم يقولون إنما أنت بشر له سحر‪ .‬واألول أظهر لقولهم‬
‫ين} سألوا منه أن‬ ‫ت ِم ْن الصَّا ِدقِ َ‬ ‫بعد هذا‪{ :‬ما أنت إال بشر مثلنا} وقولهم {فَأْ ِ‬
‫ت بِآيَ ٍة إِ ْن ُك ْن َ‬
‫يأتيهم بخارق يدل على صدق ما جاءهم به‪ .‬قال‪{ :‬قَا َل هَ ِذ ِه نَاقَةٌ لَهَا ِشرْ بٌ َولَ ُك ْم ِشرْ بُ يَ ْو ٍم‬
‫وم‪َ ،‬والَ تَ َمسُّوهَا بِسُو ٍء فَيَأْ ُخ َذ ُك ْم َع َذابُ يَ ْو ٍم َع ِظ ٍيم} كما قال‪{ :‬قَ ْد َجا َء ْت ُك ْم بَيِّنَةٌ ِم ْن َربِّ ُك ْم‬ ‫َم ْعلُ ٍ‬
‫ض هَّللا ِ َوالَ تَ َمسُّوهَا بِسُو ٍء فَيَأْ ُخ َذ ُك ْم َع َذابٌ أَلِيم}‬ ‫ْ‬
‫هَ ِذ ِه نَاقَةُ هَّللا ِ لَ ُك ْم آيَةً فَ َذرُوهَا تَأ ُكلْ فِي أَرْ ِ‬
‫ْص َرةً فَظَلَ ُموا بِهَا}‪.‬‬ ‫وقال تعالى‪َ { :‬وآتَ ْينَا ثَ ُمو َد النَّاقَةَ ُمب ِ‬

‫وقد ذكر المفسرون أن ثمود اجتمعوا يوما ً في ناديهم‪ ،‬فجاءهم رسول هللا صالح‬
‫فدعاهم إلى هللا‪ ،‬وذكرهم وحذرهم ووعظهم وأمرهم‪ ،‬فقالوا له‪ :‬إن أنت أخرجت‪ d‬لنا من‬
‫هذه الصخرة ‪ -‬وأشاروا إلى صخرة هناك ‪ -‬ناقة‪ ،‬من صفتها كيت وكيت وذكروا أوصافا ً‬
‫سموها ونعتوها‪ ،‬وتعنتوا فيها‪ ،‬وأن تكون عشراء‪ ،‬طويلة‪ ،‬من صفتها كذا وكذا‪ ،‬فقال لهم‬
‫النبي صالح عليه السالم‪ :‬أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم‪ ،‬على الوجه الذي طلبتم‪ ،‬أتؤمنون‬
‫بما جئتكم به وتصدقوني فيما أرسلت به؟ قالوا‪ :‬نعم‪ .‬فأخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك‪.‬‬
‫ثم قام إلى مصاله فصلى هلل عز وجل ما قدر له‪ ،‬ثم دعا ربه عز وجل أن يجيبهم إلى‬
‫ما طلبوا‪ ،‬فأمر هللا عز وجل تلك الصخرة أن تنفطر عن ناقة عظيمة عشراء‪ ،‬على الوجه‬
‫المطلوب الذي طلبوا‪ ،‬أو على الصفة التي نعتوا‪.‬‬
‫فلما عاينوها كذلك‪ ،‬رأوا أمراً عظيماً‪ ،‬ومنظراً هائالً‪ ،‬وقدرة باهرة‪ ،‬ودليالً قاطعاً‪،‬‬
‫وبرهانا ً ساطعاً‪ ،‬فآمن كثير منهم‪ ،‬واستمر أكثرهم على كفرهم وضاللهم وعنادهم‪ .‬ولهذا‬
‫قال‪{ :‬فَظَلَ ُموا بِهَا} أي جحدوا بها‪ ،‬ولم يتبعوا الحق بسببها‪ ،‬أي أكثرهم‪ ،‬وكان رئيس‬
‫الذين آمنوا‪ :‬جندع بن عمرو بن محالة بن لبيد بن جواس‪ ،‬وكان من رؤسائهم‪ .‬وهم بقية‬
‫األشراف باإلسالم‪ ،‬فصدهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد‪ ،‬والحباب‪ ،‬صاحب‪ d‬أوثانهم‪ ،‬ورباب‬
‫بن صعر بن جلمس‪ ،‬ودعا جندع ابن عمه شهاب بن خليفة‪ ،‬وكان من أشرافهم‪ ،‬فهم‬
‫باإلسالم فنهاه أولئك‪ ،‬فمال إليهم فقال في ذلك رجل من المسلمين يقال له مهرش بن غنمة‬
‫بن الذميل رحمه هللا‪:‬‬
‫وكانت عصبة من آل عمرو *** إلى دين النبي دعوا شهابا‬
‫عزيز ثمود كلهم جميعا *** فهم بأن يجيب ولو أجابا‬
‫ألصبح صالح فينا عزيزا *** وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا‬
‫ولكن الغواة من آل حجر ** *** تولوا بعد رشدهم ذبابا‬
‫ولهذا قال لهم صالح عليه السالم‪{ :‬هَ ِذ ِه نَاقَةُ هَّللا ِ} أضافها هلل سبحانه وتعالى إضافة‬
‫تشريف وتعظيم‪ ،‬كقوله بيت هللا وعبد هللا {لَ ُك ْم آيَةً} أي دليالً على صدق ما جئتكم به‬
‫ض هَّللا ِ َوالَ تَ َمسُّوهَا بِسُو ٍء فَيَأْ ُخ َذ ُك ْم َع َذابٌ قَ ِريبٌ }‪.‬‬ ‫ْ‬
‫{فَ َذرُوهَا تَأ ُكلْ فِي أَرْ ِ‬
‫فاتفق الحال‪ d‬على أن تبقى هذه الناقة بين أظهرهم‪ ،‬ترعى حيث شاءت من أرضهم‪،‬‬
‫وترد الماء يوما ً بعد يوم‪ ،‬وكانت إذا وردت الماء تشرب ماء البئر يومها ذلك‪ ،‬فكانوا‬
‫يرفعون حاجتهم من الماء في يومهم لغدهم‪ .‬ويقال أنهم كانوا يشربون من لبنها كفايتهم‪،‬‬
‫وم}‪.‬‬ ‫ولهذا قال‪{ :‬لَهَا ِشرْ بٌ َولَ ُك ْم ِشرْ بُ يَ ْو ٍم َم ْعلُ ٍ‬
‫ولهذا قال تعالى‪{ :‬إنا ُمرْ ِسلُو النَّاقَ ِة فِ ْتنَةً لَهُ ْم} أي اختبار لهم أيؤمنون بها أم يكفرون؟‬
‫وهللا أعلم بما يفعلون‪{ .‬فَارْ تَقِ ْبهُ ْم} أي انتظر ما يكون من أمرهم { َواصْ طَبِرْ } على أذاهم‬
‫ض ٌر}‪.‬‬‫ب ُمحْ تَ َ‬ ‫فسيأتيك الخبر على جلية‪َ { .‬ونَبِّ ْئهُ ْم أَ َّن ْال َما َء قِ ْس َمةٌ بَ ْينَهُ ْم ُكلُّ ِشرْ ٍ‬
‫فلما طال عليهم هذا الحال اجتمع أمرهم واتفق رأيهم على أن يعقروا هذه الناقة‪،‬‬
‫ليستريحوا منها ويتوفر عليهم ماؤهم‪ ،‬وزين لهم ال ّشيْطان أعمالهم‪ .‬قال هللا تعالى‪:‬‬
‫نت ِم ْن‬ ‫{فَ َعقَرُوا النَّاقَةَ َو َعتَ ْوا َع ْن أَ ْم ِر َربِّ ِه ْم َوقَالُوا يَا َ‬
‫صالِ ُح ا ْئتِنَا بِ َما تَ ِع ُدنَا إِ ْن ُك َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ْال ُمرْ َسلِ َ‬
‫وكان الذي تولى قتلها منهم رئيسهم‪ :‬قدار بن سالف بن جندع‪ ،‬وكان أحمر أزرق‬
‫أصهب‪ .‬وكان يقال أنه ولد زانية‪ ،‬ولد على فراش سالف‪ ،‬وهو ابن رجل يقال له صيبان‪.‬‬
‫وكان فعله ذلك باتفاق جميعهم‪ ،‬فلهذا نسب الفعل إلى جميعهم كلهم‪.‬‬
‫وذكر ابن جرير وغيره من علماء المفسرين‪ :‬أن امرأتين من ثمود اسم إحداهما‬
‫"صدوقة" ابنة المحيا بن زهير بن المختار‪ .‬وكانت ذات حسب ومال‪ ،‬وكانت تحت رجل‬
‫من أسلم ففارقته‪ ،‬فدعت ابن عم لها يقال له "مصرع" بن مهرج بن المحيا‪ ،‬وعرضت‬
‫عليه نفسها إن هو عقر الناقة‪ .‬واسم األخرى "عنيزة" بنت غنيم بن مجلز‪ ،‬وتكنى أم‬
‫عثمان وكانت عجوزاً كافرة‪ ،‬لها بنات من زوجها ذؤاب بن عمرو أحد الرؤساء‪،‬‬
‫فعرضت بناتها األربع على قدار بن سالف‪ ،‬إن هو عقر الناقة فله أي بناتها شاء‪ ،‬فانتدب‬
‫هذان الشابان لعقرها وسعوا في قومهم بذلك‪ ،‬فاستجاب لهم سبعة آخرون فصاروا تسعة‪.‬‬
‫ض َوالَ‬ ‫ون فِي األَرْ ِ‬ ‫ان فِي ْال َم ِدينَ ِة تِ ْس َعةُ َر ْه ٍط يُ ْف ِس ُد َ‬ ‫وهم المذكورون في قوله تعالى‪َ { :‬و َك َ‬
‫ُون}‪ .‬وسعوا في بقية القبيلة وحسنوا لهم عقرها‪ ،‬فأجابوهم إلى ذلك وطاوعوهم في‬ ‫يُصْ لِح َ‬
‫ذلك‪ .‬فانطلقوا يرصدون الناقة‪ ،‬فلما صدرت من وردها كمن لها "مصرع" فرماها بسهم‬
‫فانتظم عظم ساقها‪ ،‬وجاء النساء يذمرن القبيلة في قتلها‪ ،‬وحسرن عن وجوههن ترغيبا ً‬
‫لهم في ذلك فابتدرهم قدار بن سالف‪ ،‬فشد عليها بالسيف فكشف عن عرقوبها فخرت‬
‫ساقطة إلى األرض‪ .‬ورغت رغاة واحدة عظيمة تحذر ولدها‪ ،‬ثم طعن في لبتها فنحرها‪،‬‬
‫وانطلق سقبها ‪ -‬وهو فصيلها ‪ -‬فصعد جبالً منيعا ً ورغا ثالثا ً‪.‬‬
‫وروى عبد الرزاق‪ ،‬عن معمر‪ ،‬عمن سمع الحسن أنه قال‪ :‬يارب أين أمي؟ ثم دخل‬
‫في صخرة فغاب فيها‪ .‬ويقال‪ :‬بل اتبعوه فعقروه أيضا ً‪.‬‬
‫ان َع َذابِي َونُ ُذ ِر}‪ .‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫ْف َك َ‬ ‫صا ِحبَهُ ْم فَتَ َعاطَى فَ َعقَ َر فَ َكي َ‬
‫قال هللا تعالى‪{ :‬فَنَا َد ْوا َ‬
‫ال لَهُ ْم َرسُو ُل هَّللا ِ نَاقَةَ هَّللا ِ َو ُس ْقيَاهَا} أي احذروها {فَ َك َّذبُوهُ فَ َعقَرُوهَا‬ ‫ث أَ ْشقَاهَا‪ ،‬فَقَ َ‬ ‫{إِ ْذ ا ْنبَ َع َ‬
‫اف ُع ْقبَاهَا}‪.‬‬ ‫فَ َد ْم َد َم َعلَ ْي ِه ْم َربُّهُ ْم بِ َذ ْنبِ ِه ْم فَ َس َّواهَا‪َ ،‬والَ يَ َخ ُ‬
‫قال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا عبد هللا بن نمير‪َ ،‬ح َّدثَنا هشام ‪ -‬أبو عروة ‪ -‬عن أبيه عن عبد‬
‫هللا بن زمعة قال‪ :‬خطب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فذكر الناقة وذكر الذي عقرها‬
‫فقال‪" :‬إذ انبعث أشقاها‪ :‬انبعث لها رجل عارم عزيز منيع في رهطه‪ ،‬مثل أبي زمعة"‪.‬‬
‫أخرجاه من حديث هشام به‪ .‬عارم‪ :‬أي شهم‪ .‬عزيز‪ ،‬أي‪ :‬رئيس‪ .‬منيع‪ ،‬أي‪ :‬مطاع‬
‫في قومه‪.‬‬
‫وقال ُم َح ْمد بن إسحاق‪ :‬حدثني يزيد بن ُم َح ْمد بن خثيم‪ ،‬عن ُم َح ْمد بن كعب‪ ،‬عن‬
‫ُم َح ْمد بن خثيم بن يزيد‪ ،‬عن عمار بن ياسر قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫لعلي‪" :‬أال أحدثك بأشقى الناس؟ قال‪ :‬بلى‪ .‬قال‪ :‬رجالن‪ ،‬أحدهما أحيمر ثمود الذي عقر‬
‫الناقة‪ ،‬والذي يضربك يا علي على هذا ‪ -‬يعني قرنه ‪ -‬حتى تبتل منه هذه ‪ -‬يعني لحيته"‪.‬‬
‫رواه ابن أبي حاتم‪.‬‬
‫صالِ ُح ا ْئتِنَا بِ َما تَ ِع ُدنَا إِ ْن‬‫وقال تعالى‪{ :‬فَ َعقَرُوا النَّاقَةَ َو َعتَ ْوا َع ْن أَ ْم ِر َربِّ ِه ْم َوقَالُوا يَا َ‬
‫ين} فجمعوا في كالمهم هذا بين كفر بليغ من وجوه‪:‬‬ ‫نت ِم ْن ْال ُمرْ َسلِ َ‬ ‫ُك َ‬
‫منها‪ :‬أنهم خالفوا هللا ورسوله في ارتكابهم النهي األكيد في عقر الناقة التي جعلها هللا‬
‫لهم آية‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنهم استعجلوا وقوع العذاب بهم فاستحقوه من وجهين‪ :‬أحدهما الشرط عليهم‬
‫في قوله‪َ { :‬والَ تَ َمسُّوهَا بِسُو ٍء فَيَأْ ُخ َذ ُك ْم َع َذابٌ قَ ِريبٌ } وفي آية{عظيم} وفي‬
‫األخرى{أليم} والكل حق‪ .‬والثاني استعجالهم على ذلك‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنهم كذبوا الرسول الذي قد قام الدليل القاطع على نبوته وصدقه‪ ،‬وهم‬
‫يعلمون ذلك علما ً جازماً‪ d،‬ولكن حملهم الكفر والضالل والعناد على استبعاد الحق ووقوع‬
‫ك َو ْع ٌد َغ ْي ُر‬ ‫ار ُك ْم ثَالَثَةَ أَي ٍَّام َذلِ َ‬
‫ال تَ َمتَّعُوا فِي َد ِ‬‫العذاب بهم‪ .‬قال هللا تعالى‪{ :‬فَ َعقَرُوهَا فَقَ َ‬
‫ب}‪.‬‬ ‫َم ْك ُذو ٍ‬
‫وذكروا أنهم لما عقروا الناقة كان أول من سطا عليها قدار بن سالف‪ ،‬لعنه هللا‪،‬‬
‫فعرقبها فسقطت إلى األرض‪ ،‬ثم ابتدروها بأسيافهم يقطعونها فلما عاين ذلك سقبها ‪ -‬وهو‬
‫ولدها ‪ -‬شرد عنهم فعال أعلى الجبل هناك‪ ،‬ورغا ثالث مرات‪.‬‬
‫ار ُك ْم ثَالَثَةَ أَي ٍَّام} أي غير يومهم ذلك‪ ،‬فلم يصدقوه‬ ‫فلهذا قال لهم صالح‪{ :‬تَ َمتَّعُوا فِي َد ِ‬
‫أيضا ً في هذا الوعد األكيد‪ ،‬بل لما أمسوا هموا بقتله وأرادوا ‪ -‬فيما يزعمون ‪ -‬أن يلحقوه‬
‫بالناقة‪{ .‬قَالُوا تَقَا َس ُموا بِاهَّلل ِ لَنُبَيِّتَنَّهُ َوأَ ْهلَهُ} أي لنكبسنه في داره مع أهله فلنقتلنه‪ ،‬ثم‬
‫نجحدن قتله ولننكرن ذلك إن طالبنا أولياؤه بدمه‪ ،‬ولهذا قالوا‪{ :‬ثُ َّم لَنَقُولَ َّن لِ َولِيِّ ِه َما َش ِه ْدنَا‬
‫صا ِدقُون}‪.‬‬ ‫ك أَ ْهلِ ِه َوإِنَّا لَ َ‬ ‫َم ْهلِ َ‬
‫ْف َك َ‬
‫ان‬ ‫قال هللا تعالى‪َ { :‬و َم َكرُوا َم ْكراً َو َم َكرْ نَا َم ْكراً َوهُ ْم الَ يَ ْش ُعرُون‪ ،‬فَانظُرْ َكي َ‬
‫ك آلَيَةً‬ ‫ظلَ ُموا إِ َّن فِي َذلِ َ‬ ‫اويَةً بِ َما َ‬ ‫ين‪ ،‬فَتِ ْل َ‬
‫ك بُيُوتُهُ ْم َخ ِ‬ ‫َعاقِبَةُ َم ْك ِر ِه ْم أَنَّا َد َّمرْ نَاهُ ْم َوقَ ْو َمهُ ْم أَجْ َم ِع َ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫ين آ َمنُوا َو َكانُوا يَتَّقُ َ‬ ‫ون‪َ ،‬وأَ َ‬
‫نج ْينَا الَّ ِذ َ‬ ‫لِقَ ْو ٍم يَ ْعلَ ُم َ‬
‫وذلك أن هللا تعالى أرسل على أولئك النفر الذين قصدوا قتل صالح حجارة رضختهم‬
‫فأهلكهم سلفا ً وتعجيالً قبل قومهم‪ ،‬وأصبحت ثمود يوم الخميس ‪ -‬وهو اليوم األول من‬
‫أيام النظرة ‪ -‬ووجوهم مصفرة‪ ،‬كما أنذرهم صالح عليه السالم‪ .‬فلما أمسوا نادوا‬
‫بأجمعهم‪ :‬أال قد مضى يوم من األجل‪ .‬ثم أصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل وهو‬
‫يوم الجمعة ‪ -‬ووجوههم محمرة‪ ،‬فلما أمسوا نادوا‪ :‬أال قد مضى يومان من األجل‪ ،‬ثم‬
‫أصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع ‪ -‬وهو يوم السبت ‪ -‬ووجوهم مسودة‪ ،‬فلما أمسوا‬
‫نادوا‪ :‬أال قد مضى األجل‪.‬‬
‫فلما كان صبيحة يوم األحد تحنطوا وتأهبوا وقعدوا ينتظرون ماذا يحل بهم من‬
‫العذاب والنكال والنقمة‪ ،‬ال يدرون كيف يفعل بهم؟ وال من أي جهة يأتيهم العذاب‪.‬‬
‫فلما أشرقت الشمس جاءتهم صيحة من السماء من فوقهم‪ ،‬ورجفة من أسفل منهم‪،‬‬
‫ففاضت األرواح وزهقت النفوس‪ ،‬وسكنت الحركات‪ ،‬وخشعت األصوات‪ d،‬وحقت‬
‫الحقائق فأصبحوا في دارهم جاثمين‪ ،‬جثثا ً ال أرواح فيها وال حراك بها‪ .‬قالوا ولم يبق‬
‫منهم أحد إال جارية كانت مقعدة واسمها "كلبة" بنت السلق ‪ -‬ويقال لها الذريعة ‪ -‬وكانت‬
‫شديدة الكفر والعداوة لصالح عليه السالم‪ ،‬فلما رأت العذاب أطلقت رجالها‪ ،‬فقامت‬
‫تسعى كأسرع شيء‪ ،‬فأتت حيا ً من العرب فأخبرتهم بما رأت وما حل بقومها واستسقتهم‬
‫ماء‪ ،‬فلما شربت ماتت‪.‬‬
‫قال هللا تعالى‪َ { :‬كأ َ ْن لَ ْم يَ ْغنَ ْوا فِيهَا} أي لم يقيموا فيها في سعة ورزق وغناء‪{ ،‬أَالَ إِ َّن‬
‫ثَ ُمو َد َكفَرُوا َربَّهُ ْم أَالَ بُعْداً لِثَ ُمو َد} أي نادى عليهم لسان القدر بهذا‪.‬‬
‫قال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا عبد الرزاق‪َ ،‬ح َّدثَنا معمر‪َ ،‬ح َّدثَنا عبد هللا بن عثمان بن خثيم‪،‬‬
‫عن أبي الزبير‪ ،‬عن جابر قال‪ :‬لما م ّر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بالحجر قال‪" :‬ال‬
‫تسألوا اآليات فقد سألها قوم صالح‪ ،‬فكانت ‪ -‬يعني الناقة ‪ -‬ترد من هذا الفج وتصدر من‬
‫هذا الفج‪ ،‬فعتوا عن أمر ربهم فعقروها‪ .‬وكانت تشرب ماءهم يوما ً ويشربون لبنها يوماً‪،‬‬
‫فعقروها فأخذتهم صيحة أهمد هللا بها من تحت أديم السماء منهم إال رجالً واحداً كان في‬
‫حرم هللا" فقالوا‪ :‬من هو يا رسول هللا؟ قال‪ :‬هو أبو رغال‪ ،‬فلما خرج من الحرم أصابه ما‬
‫أصاب قومه"‪.‬‬
‫وهذا الحديث على شرط مسلم وليس هو في شيء من الكتب الستة‪ .‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬
‫وقد قال عبد الرزاق أيضا ً‪ :‬قال معمر‪ :‬أخبرني إسماعيل بن أمية أن النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم م ّر بقبر أبي رغال‪ ،‬فقال‪" :‬أتدرون من هذا؟" قالوا‪ :‬هللا ورسوله أعلم‪ .‬قال‪:‬‬
‫"هذا قبر أبي رغال‪ ،‬رجل من ثمود‪ ،‬كان في حرم هللا فمنعه حرم هللا عذاب هللا‪ ،‬فلما‬
‫خرج أصابه ما أصاب‪ d‬قومه فدفن ها هنا‪ ،‬ودفن معه غصن من ذهب‪ .‬فنزل القوم‬
‫فابتدروه بأسيافهم‪ ،‬فبحثوا عنه فاستخرجوا الغصن"‪ .‬قال عبد الرزاق‪ :‬قال معمر‪ :‬قال‬
‫الزهري‪ :‬أبو رغال أبو ثقيف‪ ..‬هذا مرسل من هذا الوجه‪.‬‬
‫وقد جاء من وجه آخر متصالً كما ذكره ُم َح ْمد بن إسحاق في السيرة عن إسماعيل‬
‫بن أمية‪ ،‬عن بجير بن أبي بجير‪ ،‬قال‪ :‬سمعت عبد هللا بن عمر يقول‪ :‬سمعت رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم حين خرجنا معه إلى الطائف‪ ،‬فمررنا بقبر‪ ،‬فقال‪" :‬إن هذا قبر أبي‬
‫رغال‪ ،‬وهو أبو ثقيف‪ ،‬وكان من ثمود‪ ،‬وكان بهذا الحرم يدفع عنه‪ ،‬فلما خرج منه‬
‫أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه‪ ،‬وآية ذلك أنه دفن معه غصن من‬
‫ذهب‪ ،‬إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه‪ .‬فابتدره الناس فاستخرجوا منه الغصن" وهكذا‬
‫رواه أبو داود من طريق ُم َح ْمد بن إسحاق به‪ .‬قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج‪ d‬المزي‬
‫رحمه هللا‪ :‬هذا حديث حسن عزيز‪.‬‬
‫قلت‪ :‬تفرد به بجير بن أبي بجير هذا‪ ،‬وال يعرف إال بهذا الحديث‪ ،‬ولم يرو عنه‬
‫سوى إسماعيل بن أمية‪ .‬قال شيخنا‪ :‬فيحتمل أنه وهم في رفعه‪ ،‬وإنما يكون من كالم عبد‬
‫هللا بن عمرو من زاملتيه‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لكن في المرسل الذي قبله وفي حديث جابر أيضا ً شاهد له‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫ت لَ ُك ْم َولَ ِك ْن الَ‬ ‫ال يَا قَ ْو ِم لَقَ ْد أَ ْبلَ ْغتُ ُك ْم ِر َسالَةَ َربِّي َونَ َ‬
‫صحْ ُ‪d‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬فَتَ َولَّى َع ْنهُ ْم َوقَ َ‬
‫ين} إخبار عن صالح عليه السالم‪ ،‬أنه خاطب قومه بعد هالكهم‪ ،‬وقد أخذ‬ ‫ُّون النَّ ِ‬
‫اص ِح َ‬ ‫تُ ِحب َ‬
‫ت‬‫صحْ ُ‬ ‫في الذهاب عن محلتهم إلى غيرها قائالً لهم‪{ :‬يَا قَ ْو ِم لَقَ ْد أَ ْبلَ ْغتُ ُك ْم ِر َسالَةَ َربِّي َونَ َ‬
‫لَ ُك ْم} أي‪ :‬جهدت في هدايتكم بكل ما أمكنني‪ ،‬وحرصت على ذلك بقولي وفعلي ونيتي‪.‬‬
‫ين}‪ .‬أي‪ :‬لم تكن سجاياكم تقبل الحق وال تريده‪ ،‬فلهذا‬ ‫اص ِح َ‬ ‫ُّون النَّ ِ‬
‫{ َولَ ِك ْن الَ تُ ِحب َ‬
‫صرتم إلى ما أنتم فيه من العذاب األليم‪ ،‬المستمر بكم المتصل إلى األبد‪ ،‬وليس لي فيكم‬
‫حيلة‪ ،‬وال لي بالدفع عنكم يدان‪ .‬والذي وجب علي من أداء الرسالة والنصح لكم قد فعلته‪،‬‬
‫وبذلته لكم‪ ،‬ولكن هللا يفعل ما يريد‪.‬‬
‫وهكذا خاطب النبي صلى هللا عليه وسلم أهل قليب بدر بعد ثالث ليال‪ :‬وقف عليهم‬
‫وقد ركب راحلته وأمر بالرحيل من آخر الليل فقال‪" :‬يا أهل القليب‪ d،‬هل وجدتم ما‬
‫وعدكم ربكم حقاً؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا ً"‪ .‬وقال لهم فيما قال‪ " :‬بئس‬
‫عشيرة النبي كنتم لنبيكم"‪ ،‬كذبتموني وصدقني الناس‪ ،‬وأخرجتموني وآواني الناس‪،‬‬
‫وقاتلتموني ونصرني الناس‪ ،‬فبئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم"‪ .‬فقال له عمر‪ :‬يا رسول هللا‬
‫تخاطب أقواما ً قد جيفوا؟ فقال‪" :‬والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم‪ ،‬ولكنهم ال‬
‫يجيبون"‪.‬‬
‫ويقال أن صالحاً‪ d‬عليه السالم انتقل إلى حرم هللا فأقام به حتى مات‪.‬‬

‫قال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا وكيع‪َ ،‬ح َّدثَنا زمعة بن صالح‪ ،‬عن سلمة بن وهرام‪ ،‬عن‬
‫عكرمة‪ ،‬عن ابن عبَّاس قال‪ :‬لما م ّر النبي صلى هللا عليه وسلم بوادي عسفان حين حج‬
‫قال‪" :‬يا أبا بكر أي واد هذا؟" قال وادي عسفان‪ .‬قال‪" :‬لقد م ّر به هود وصالح عليهما‬
‫السالم على بكرات خطمها الليف‪ ،‬أزرهم العباء‪ d،‬وأرديتهم النمار يلبون يحجون البيت‬
‫العتيق"‪.‬‬
‫إسناد حسن‪ .‬وقد تقدم في قصة نوح عليه السالم من رواية الطبراني‪ ،‬وفيه نوح‬
‫وهود وإبراهيم‪.‬‬

‫ذكر مرور النبي صلى هللا عليه وسلم بواد الحجر من أرض ثمود عام تبوك‬
‫قال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا عبد الصمد‪َ ،‬ح َّدثَنا صخر بن جويرية عن نافع‪ ،‬عن ابن عمر‬
‫قال‪ :‬لما نزل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بالناس على تبوك‪ ،‬نزل بهم الحجر عند‬
‫بيوت ثمود‪ ،‬فاستقى الناس من اآلبار التي كانت تشرب منها ثمود‪ ،‬فعجنوا منها ونصبوا‬
‫القدور‪ ،‬فأمرهم رسول هللا فأهراقوا القدور‪ ،‬وعلفوا العجين اإلبل‪ ،‬ثم ارتحل بهم حتى‬
‫نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة‪ ،‬ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين‬
‫عذبوا فقال‪" :‬إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فال تدخلوا عليهم"‪.‬‬
‫مسلم‪،‬ح َّدثَنا عبد هللا بن دينار‪،‬‬
‫َ‬ ‫وقال أحمد أيضا ً‪َ :‬ح َّدثَنا عفان‪َ ،‬ح َّدثَنا عبد العزيز بن‬
‫عن عبد هللا بن عمر قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وهو بالحجر‪" :‬ال تدخلوا‬
‫على هؤالء المعذبين إال أن تكونوا باكين‪ ،‬فإن لم تكونوا باكين فال تدخلوا عليهم‪ ،‬أن‬
‫يصيبكم مثل ما أصابهم"‪.‬‬
‫أخرجاه في "الصحيحين"‪ d‬من غير وجه‪.‬‬
‫وفي بعض الروايات‪ :‬أنه عليه السالم لما م ّر بمنازلهم قنع رأسه‪ ،‬وأسرع راحلته‪،‬‬
‫ونهى عن دخول منازلهم‪ ،‬إال أن يكونوا باكين‪ .‬وفي رواية‪" :‬فإن لم تبكوا فتباكوا خشية‬
‫أن يصيبكم مثل ما أصابهم" صلوات هللا وسالمه عليه‪.‬‬
‫وقال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا يزيد بن هارون‪َ ،‬ح َّدثَنا المسعودي‪ ،‬عن إسماعيل بن أوسط‪،‬‬
‫عن ُم َح ْمد بن أبي كبشة األنباري عن أبيه ‪ -‬واسمه عمرو بن سعد ويقال عامر بن سعد ‪-‬‬
‫رضي هللا عنه قال‪ :‬لما كان في غزوة تبوك تسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون‬
‫عليهم‪ ،‬فبلغ ذلك رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فنادى في الناس‪" :‬الصالة جامعة" قال‬
‫فأتيت النبي صلى هللا عليه وسلم وهو ممسك بعيره وهو يقول‪" :‬ما تدخلون على قوم‬
‫غضب هللا عليهم" فناداه رجل‪ :‬نعجب منهم يا رسول هللا! قال‪" :‬أفال أنبئكم بأعجب من‬
‫ذلك؟ رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وما هو كائن بعدكم‪ ،‬فاستقيموا وسددوا‪ ،‬فإن‬
‫هللا ال يعبأ بعذابكم شيئاً‪ ،‬وسيأتي قوم ال يدفعون عن أنفسهم شيئا ً"‪ .‬إسناد حسن ولم‬
‫يخرجوه‪.‬‬
‫وقد ذكر أن قوم صالح كانت أعمارهم طويلة‪ ،‬فكانوا يبنون البيوت من المدر‬
‫فتخرب قبل موت الواحد منهم‪ ،‬فنحتوا لهم بيوتا ً في الجبال‪.‬‬
‫وذكروا أن صالحاً‪ d‬عليه السالم لما سألوه آية‪ ،‬فأخرج هللا لهم الناقة من الصخرة‪،‬‬
‫أمرهم بها وبالولد الذي كان في جوفها‪ ،‬وحذرهم بأس هللا إن هم نالوها بسوء‪ ،‬وأخبرهم‬
‫أنهم سيعقرونها‪ ،‬ويكون سبب هالكهم ذلك‪ .‬وذكر لهم صفة عاقرها‪ ،‬وأنه أحمر أزرق‬
‫أصهب‪ ،‬فبعثوا القوابل في البلد متى وجدوا مولوداً بهذه الصفة يقتلنه‪ ،‬فكانوا على ذلك‬
‫دهراً طويالً‪.‬‬
‫وانقرض جيل‪ ،‬وأتى جيل آخر‪ .‬فلما كان في بعض األعصار خطب رئيس من‬
‫رؤسائهم على ابنة بنت آخر مثله في الرياسة‪ ،‬فزوجه‪ ،‬فولد بينهما عاقر الناقة‪ ،‬وهو قدار‬
‫بن سالف‪ ،‬فلم تتمكن القوابل من قتله لشرف أبويه وجده فيهم‪ ،‬فنشأ نشأة سريعة‪ ،‬فكان‬
‫يشب في الجمعة كما يشب غيره في شهر‪ ،‬حتى كان من أمره أن خرج مطاعا ً فيهم‬
‫رئيسا ً بينهم‪ .‬فسولت له نفسه عقر الناقة واتبعه على ذلك ثمانية من أشرافهم‪ ،‬وهم التسعة‬
‫الذين أرادوا قتل صالح عليه السالم‪.‬‬
‫فلما وقع من أمرهم ما وقع من عقر الناقة‪ ،‬وبلغ ذلك صالحا ً عليه السالم‪ ،‬جاءهم‬
‫باكيا ً عليها‪ ،‬فتلقوه يعتذرون إليه‪ ،‬ويقولون‪ :‬إن هذا لم يقع عن مأل منا‪ .‬وإنما فعل هذا‬
‫هؤالء األحداث فينا‪ .‬فيقال‪ :‬أنه أمرهم باستدراك سقبها حتى يحسنوا إليه عوضا ً عنها‪،‬‬
‫فذهبوا وراءه فصعد جبالً هناك‪ ،‬فلما تصاعدوا فيه وراءه تعالى الجبل حتى ارتفع‪ ،‬فال‬
‫يناله الطير‪ ،‬وبكى الفصيل حتى سالت دموعه‪ .‬ثم استقبل صالحا ً عليه السالم ورغا ثالثاً‪،‬‬
‫ب} وأخبرهم أنهم‬ ‫ار ُك ْم ثَالثَةَ أَي ٍَّام َذلِ َ‬
‫ك َو ْع ٌد َغ ْي ُر َم ْك ُذو ٍ‬ ‫فعندها قال صالح‪{ :‬تَ َمتَّعُوا فِي َد ِ‬
‫يصبحون من غدهم صفراً‪ ،‬ثم تحمر وجوههم في الثاني‪ ،‬وفي اليوم الثالث تسود‬
‫وجوههم‪ .‬فلما كان في اليوم الرابع أتتهم صيحة فيها صوت كل صاعقة‪ ،‬فأخذتهم‬
‫فأصبحوا في دارهم جاثمين‪.‬‬
‫وفي بعض هذا السياق نظر ومخالفة لظاهر ما يفهم من القرآن في شأنهم وقصتهم‬
‫كما قدمنا‪ .‬وهللا سبحانه وتعالى أعلم بالصواب‪.‬‬

‫قصة إبراهيم الخليل عليه السالم‬


‫هو إبراهيم بن تارخ "‪ "250‬بن ناحور "‪ "148‬بن ساروغ "‪ "230‬بن راغو "‬
‫‪ "239‬بن فالغ "‪ "439‬بن عابر"‪ "464‬بن شالح "‪ "433‬بن ارفخشذ "‪ "438‬بن سام "‬
‫‪ "600‬بن نوح عليه السالم‪.‬‬
‫هذا نص أهل الكتاب في كتابهم‪ ،‬وقد أعلمت على أعمارهم تحت أسمائهم بالهندي‬
‫كما ذكروه من المدد وقدمنا الكالم على عمر نوح عليه السالم فأغنى عن إعادته‪.‬‬
‫وحكى الحافظ ابن عساكر في ترجمة إبراهيم الخليل من تاريخه عن إسحاق بن بشر‬
‫الكاهلي صاحب كتاب "المبتدأ" ‪ ،‬أن اسم أم إبراهيم "أميلة"‪ .‬ثم أورد عنه في خبر‬
‫والدتها له حكاية طويلة وقال الكلبي‪ :‬اسمها "بونا" بنت كربتا بن كرثى‪ ،‬من بني أرفخشذ‬
‫بن سام بن نوح‪.‬‬
‫وروى ابن عساكر من غير وجه عن عكرمة أنه قال‪ :‬كان إبراهيم عليه السالم يكنى‬
‫"أبا الضيفان"‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ولما كان عمر تارخ خمسا ً وسبعين سنة ولد له إبراهيم عليه السالم‪ ،‬و‬
‫"تاحور" و "هاران" وولد لهاران "لوط"‪.‬‬
‫وعندهم أن إبراهيم عليه السالم هو األوسط‪ ،‬وأن هاران مات في حياة أبيه في‬
‫أرضه التي ولد فيها‪ ،‬وهي أرض الكلدانيين يعنون أرض بابل‪.‬‬

‫وهذا هو الصحيح المشهور عند أهل السير والتواريخ واألخبار‪ ،‬وصحح ذلك الحافظ‬
‫ابن عساكر‪ ،‬بعدما روي من طريق هشام بن عمار‪ ،‬عن الوليد‪ ،‬عن سعيد بن عبد‬
‫العزيز‪ ،‬عن مكحول‪ ،‬عن ابن عبَّاس قال‪ :‬ولد إبراهيم بغوطة دمشق‪ ،‬في قرية يقال لها‬
‫برزة‪ ،‬في جبل يقال له قاسيون‪ .‬ثم قال‪ :‬والصحيح أنه ولد ببابل‪ .‬وإنما نسب إليه هذا‬
‫المقام ألنه صلى فيه إذ جاء معينا ً للوط عليه السالم‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فتزوج إبراهيم سارة‪ ،‬وناحور "ملكا" ابنة هاران يعنون ابنة أخيه‪ .‬قالوا‬
‫وكانت سارة عاقراً ال تلد‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وانطلق تارخ بابنه إبراهيم وامرأته سارة وابن أخيه لوط بن هاران‪ ،‬فخرج‬
‫بهم من أرض الكلدانيين إلى أرض الكنعانيين‪ ،‬فنزلوا حران‪ ،‬فمات فيها تارخ وله مائتان‬
‫وخمسون سنة‪ .‬وهذا يدل على أنه لم يولد بحران‪ ،‬وإنما مولده بأرض الكلدانيين وهي‬
‫أرض بابل وما واالها‪.‬‬
‫ثم ارتحلوا قاصدين أرض الكنعانيين‪ ،‬وهي بالد بيت المقدس‪ ،‬فأقاموا بحران وهي‬
‫أرض الكلدانيين في ذلك الزمان‪ ،‬وكذلك أرض الجزيرة والشام أيضا ً‪ .‬وكانوا يعبدون‬
‫الكواكب السبعة‪ .‬والذين عمروا مدينة دمشق كانوا على هذا الدين‪ ،‬يستقبلون القطب‬
‫الشمالي ويعبدون الكواكب السبعة بأنواع من الفعال والمقال‪ .‬ولهذا كان على كل باب من‬
‫أبواب دمشق السبعة القديمة هيكل لكوكب منها‪ ،‬ويعملون لها أعياد وقرابين‪.‬‬
‫وهكذا كان أهل حران يعبدون الكواكب واألصنام وكل من كان على وجه األرض‬
‫كانوا كفاراً‪ ،‬سوى إبراهيم الخليل وامرأته وابن أخيه لوط عليهم السالم‪.‬‬

‫وكان الخليل عليه السالم هو الذي أزال هللا به تلك الشرور وأبطل به ذاك الضالل‪،‬‬
‫فإن هللا سبحانه وتعالى آتاه رشده في صغره‪ ،‬وابتعثه رسوالً‪ ،‬واتخذه خليالً في كبره‪ ،‬قال‬
‫ين}‪ .‬أي كان أهالً لذلك‪.‬‬ ‫هللا تعالى‪َ :‬ولَقَ ْد آتَ ْينَا إِب َْرا ِهي َم ُر ْش َدهُ ِم ْن قَ ْب ُل َو ُكنَّا بِ ِه َعالِ ِم َ‬
‫ال لِقَ ْو ِم ِه ا ْعبُ ُدوا هَّللا َ َواتَّقُوهُ َذلِ ُك ْم َخ ْي ٌر لَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنتُ ْم‬ ‫وقال تعالى‪َ { :‬وإِ ْب َرا ِهي َم إِ ْذ قَ َ‬
‫ون هَّللا ِ الَ‬ ‫ون ِم ْن ُد ِ‬ ‫ين تَ ْعبُ ُد َ‬ ‫ون هَّللا ِ أَ ْوثَانا ً َوتَ ْخلُقُ َ‬
‫ون إِ ْفكا ً إِ َّن الَّ ِذ َ‬ ‫ون ِم ْن ُد ِ‬ ‫ون‪ ،‬إِنَّ َما تَ ْعبُ ُد َ‬ ‫تَ ْعلَ ُم َ‬
‫ق َوا ْعبُ ُدوهُ َوا ْش ُكرُوا لَهُ إِلَ ْي ِه تُرْ َجعُون‪َ ،‬وإِ ْن تُ َك ِّذبُوا‬ ‫ون لَ ُك ْم ِر ْزقا ً فَا ْبتَ ُغوا ِع ْن َد هَّللا ِ الرِّ ْز َ‬ ‫يَ ْملِ ُك َ‬
‫ئ هَّللا ُ ْال َخ ْل َ‬
‫ق‬ ‫ين‪ ،‬أَ َولَ ْم يَ َر ْوا َكي َ‬
‫ْف يُ ْب ِد ُ‬ ‫غ ْال ُمبِ ُ‬ ‫ُول إِالَّ ْالبَالَ ُ‬ ‫ب أُ َم ٌم ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم َو َما َعلَى ال َّرس ِ‬ ‫فَقَ ْد َك َّذ َ‬
‫ق ثُ َّم هَّللا ُ‬ ‫ْف بَ َدأَ ْال َخ ْل َ‬‫ض فَا ْنظُرُوا َكي َ‬ ‫ك َعلَى هَّللا ِ يَ ِسي ٌر قُلْ ِسيرُوا فِي األَرْ ِ‬ ‫ثُ َّم ي ُِعي ُدهُ إِ َّن َذلِ َ‬
‫يُن ِش ُئ النَّ ْشأَةَ اآل ِخ َرةَ إِ َّن هَّللا َ َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء قَ ِديرٌ‪ ،‬يُ َع ِّذبُ َم ْن يَ َشا ُء َويَرْ َح ُم َم ْن يَ َشا ُء َوإِلَ ْي ِه‬
‫ض َوالَ فِي ال َّس َما ِء َو َما لَ ُك ْم ِم ْن ُدو ِن هَّللا ِ ِم ْن َولِ ٍّي َوالَ‬ ‫ين فِي األَرْ ِ‬ ‫ُون‪َ ،‬و َما أَ ْنتُ ْم بِ ُمع ِ‬
‫ْج ِز َ‬ ‫تُ ْقلَب َ‬
‫ك لَهُ ْم َع َذابٌ أَلِي ٌم‪،‬‬ ‫ك يَئِسُوا ِم ْن َرحْ َمتِي َوأُ ْولَئِ َ‬ ‫ت هَّللا ِ َولِقَائِ ِه أُ ْولَئِ َ‬ ‫ين َكفَرُوا بِآيَا ِ‬ ‫ير‪َ ،‬والَّ ِذ َ‬ ‫ص ٍ‬ ‫نَ ِ‬
‫ك آلَيَا ٍ‬
‫ت‬ ‫ار إِ َّن فِي َذلِ َ‬ ‫نجاهُ هَّللا ُ ِم ْن النَّ ِ‬ ‫اب قَ ْو ِم ِه إِالَّ أَ ْن قَالُوا ا ْقتُلُوهُ أَ ْو َحرِّ قُوهُ فَأ َ َ‬ ‫ان َج َو َ‬ ‫فَ َما َك َ‬
‫ون هَّللا ِ أَ ْوثَانا ً َم َو َّدةَ بَ ْينِ ُك ْم فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا ثُ َّم يَ ْو َم‬ ‫لِقَ ْو ٍم ي ُْؤ ِمنُون‪َ ،‬وقَا َل إِنَّ َما اتَّ َخ ْذتُ ْم ِم ْن ُد ِ‬
‫ين‪،‬‬ ‫ص ِر َ‬ ‫ض ُك ْم بَعْضا ً َو َمأْ َوا ُك ْم النَّا ُر َو َما لَ ُك ْم ِم ْن نَا ِ‬ ‫ْض َويَ ْل َع ُن بَ ْع ُ‬ ‫ض ُك ْم بِبَع ٍ‬ ‫ْالقِيَا َم ِة يَ ْكفُ ُر بَ ْع ُ‬
‫ق َويَ ْعقُ َ‬
‫وب‬ ‫اج ٌر إِلَى َربِّي إِنَّهُ هُ َو ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم‪َ ،‬و َوهَ ْبنَا لَهُ إِ ْس َحا َ‬ ‫فَآ َم َن لَهُ لُوطٌ َوقَا َل إِنِّي ُمهَ ِ‬
‫اب َوآتَ ْينَاهُ أَجْ َرهُ فِي ال ُّد ْنيَا َوآتَ ْينَاهُ أَجْ َرهُ فِي ال ُّد ْنيَا َوإِنَّهُ فِي‬ ‫َو َج َع ْلنَا فِي ُذرِّ يَّتِ ِه النُّبُ َّوةَ َو ْال ِكتَ َ‬
‫ين}‪.‬‬‫اآلخ َر ِة لَ ِم ْن الصَّالِ ِح َ‬ ‫ِ‬
‫ثم ذكر تعالى مناظرته ألبيه وقومه كما سنذكره إن شاء هللا تعالى‪.‬‬

‫وكان أول دعوته ألبيه‪ ،‬وكان أبوه ممن يعبد األصنام‪ ،‬ألنه أحق الناس بإخالص‬
‫صدِّيقا ً نَبِيّاً‪ ،‬إِ ْذ قَا َل ألَبِي ِه‬
‫ان ِ‬ ‫النصيحة له كما قال تعالى‪َ { :‬و ْاذ ُكرْ فِي ْال ِكتَا ِ‬
‫ب إِب َْرا ِهي َم إِنَّهُ َك َ‬
‫ت إِنِّي قَ ْد َجا َءنِي ِم ْن ْال ِع ْل ِم‬ ‫ك َشيْئاً‪ ،‬يَا أَبَ ِ‬ ‫ْص ُر َوالَ يُ ْغنِي َع ْن َ‬ ‫ت لِ َم تَ ْعبُ ُد َما الَ يَ ْس َم ُع َوالَ يُب ِ‬‫يَا أَبَ ِ‬
‫ان لِلرَّحْ َم ِ‬
‫ان‬ ‫ت الَ تَ ْعبُ ْد ال ّشيْطان إِ َّن ال ّشيْطان َك َ‬ ‫ص َراطا ً َس ِويّاً‪ ،‬يَا أَبَ ِ‬ ‫ك ِ‬ ‫َما لَ ْم يَأْتِ َ‬
‫ك فَاتَّبِ ْعنِي أَ ْه ِد َ‬
‫ان َولِيّاً‪ ،‬قَا َل أَ َرا ِغبٌ‬ ‫ون لِل َّش ْيطَ ِ‬
‫ان فَتَ ُك َ‬‫َّك َع َذابٌ ِم ْن الرَّحْ َم ِ‬ ‫اف أَ ْن يَ َمس َ‬
‫ت إِنِّي أَ َخ ُ‬ ‫صيّاً‪ ،‬يَا أَبَ ِ‬ ‫َع ِ‬
‫ْك َسأ َ ْستَ ْغفِ ُر‬
‫ك َوا ْهجُرْ نِي َملِيّاً‪ ،‬قَا َل َسال ٌم َعلَي َ‬ ‫ت َع ْن آلِهَتِي يَا إِبْرا ِهي ُم لَئِ ْن لَ ْم تَنتَ ِه ألَرْ ُج َمنَّ َ‬ ‫أَ ْن َ‬
‫ون هَّللا ِ َوأَ ْد ُعو َربِّي َع َسى أَالَّ أَ ُك َ‬
‫ون‬ ‫ون ِم ْن ُد ِ‬ ‫ان بِي َحفِيّاً‪َ d،‬وأَ ْعتَ ِزلُ ُك ْم َو َما تَ ْد ُع َ‬ ‫ك َربِّي إِنَّهُ َك َ‬ ‫لَ َ‬
‫بِ ُد َعا ِء َربِّي َشقِيّا ً}‪.‬‬
‫فذكر تعالى ما كان بينه وبين أبيه من المحاورة والمجادلة‪ ،‬وكيف دعا أباه إلى الحق‬
‫بألطف عبارة وأحسن اشارة‪ ،‬بين له بطالن ما هو عليه من عبادة األوثان التي ال تسمع‬
‫دعاء عابدها وال تبصر مكانه فكيف تغني عنه شيئاً‪ ،‬أو تفعل به خيراً من رزق أو نصر؟‬
‫ثم قال له منبها ً على ما أعطاه هللا من الهدى والعلم النافع وإن كان أصغر سنا ً من أبيه‪:‬‬
‫ص َراطا ً َس ِويّا ً} أي مستقيما ً‬ ‫ك ِ‬ ‫ك فَاتَّبِ ْعنِي أَ ْه ِد َ‬‫ت إِنِّي قَ ْد َجا َءنِي ِم ْن ْال ِع ْل ِم َما لَ ْم يَأْتِ َ‬
‫{يَاأَبَ ِ‬
‫واضحاً‪ ،‬سهالً حنيفاً‪ ،‬يفضي بك إلى الخير في دنياك وأخراك‪.‬‬
‫فلما عرض هذا الرشد عليه وأهدى هذه النصيحة إليه‪ ،‬لم يقبلها منه‪ ،‬وال أخذها عنه‪،‬‬
‫ك} قيل‬ ‫ت َع ْن آلِهَتِي يَا إِبْرا ِهي ُم لَئِ ْن لَ ْم تَنتَ ِه ألَرْ ُج َمنَّ َ‬ ‫اغبٌ أَ ْن َ‬ ‫بل تهدده وتوعده قال‪{ :‬أَ َر ِ‬
‫بالمقال وقيل بالفعال‪َ { .‬وا ْهجُرْ نِي َملِيّا ً} أي واقطعني وأطل هجراني‪.‬‬

‫ْك} أي ال يصلك مني مكروه وال ينالك مني أذى‪،‬‬ ‫فعندها قال له إبراهيم‪َ { :‬سال ٌم َعلَي َ‬
‫ان بِي َحفِيّا ً}‪.‬‬ ‫ك َربِّي إِنَّهُ َك َ‬ ‫ْك َسأ َ ْستَ ْغفِ ُر لَ َ‬
‫بل أنت سالم من ناحيتي‪ .‬وزاده خيراً فقال‪َ { :‬علَي َ‬
‫قال ابن عبَّاس وغيره‪ :‬أي لطيفاً‪ ،‬يعني في أن هداني لعبادته واإلخالص له‪ .‬ولهذا قال‪:‬‬
‫ون بِ ُد َعا ِء َربِّي َشقِيّا ً}‪.‬‬ ‫ون ِم ْن ُدو ِن هَّللا ِ َوأَ ْد ُعو َربِّي َع َسى أَالَّ أَ ُك َ‬ ‫{ َوأَ ْعتَ ِزلُ ُك ْم َو َما تَ ْد ُع َ‬
‫وقد استغفر له إبراهيم عليه السالم كما وعده في أدعيته‪ ،‬فلما تبين له أنه عدو هلل‬
‫ان ا ْستِ ْغفَا ُر إِب َْرا ِهي َم ألَبِي ِه إِال َع ْن َم ْو ِع َد ٍة َو َع َدهَا إِيَّاهُ فَلَ َّما‬ ‫تبرأ منه كما قال تعالى‪َ { :‬و َما َك َ‬
‫تَبَي ََّن لَهُ أَنَّهُ َع ُد ٌّو هَّلِل ِ تَبَرَّأَ ِم ْنهُ إِ َّن إِب َْرا ِهي َم ألَ َّواهٌ َحلِي ٌم}‪.‬‬
‫ي‪َ :‬ح َّدثَنا إسماعيل بن عبد هللا‪ ،‬حدثني أخي عبد الحميد‪ ،‬عن ابن أبي‬ ‫وقال البُ َخار ّ‬
‫ذئب‪ ،‬عن سعيد المقبري‪ ،‬عن أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬يلقى‬
‫إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة‪ ،‬فيقول له إبراهيم‪ :‬ألم أقل لك ال‬
‫تعصني؟ فيقول له أبوه‪ :‬فاليوم ال أعصيك‪ ،‬فيقول إبراهيم‪ :‬يا رب إنك وعدتني أن ال‬
‫تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي األبعد؟ فيقول هللا‪ :‬إني حرمت الجنَّة على‬
‫الكافرين‪ .‬ثم يقال يا إبراهيم انظر ما تحت رجليك؟ فينظر‪ ،‬فإذا هو بذبح متلطخ‪ ،‬فيؤخذ‬
‫بقوائمه فيلقى في النار"‪ .‬هكذا رواه في قصة إبراهيم منفرداً‪.‬‬
‫وقال في التفسير‪ :‬وقال إبراهيم بن طهمان عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري‪ ،‬عن‬
‫أبيه عن أبي هريرة‪.‬‬

‫وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن حفص بن عبد هللا‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن إبراهيم بن‬
‫يرين‪،‬‬
‫طهمان به‪ .‬وقد رواه البزار عن حديث حماد بن سلمة عن أيوب‪ ،‬عن ُم َح ْمد بن ِس ِ‬
‫عن أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه وسلم بنحوه‪ ،‬وفي سياقه غرابة‪ .‬ورواه أيضا ً من‬
‫حديث قتادة عن عقبة بن عبد الغافر‪ d،‬عن أبي سعيد عن النبي صلى هللا عليه وسلم بنحوه‪.‬‬
‫ك فِي‬ ‫ال إِب َْرا ِهي ُم ألَبِي ِه آ َز َر أَتَتَّ ِخ ُذ أَصْ نَاما ً آلِهَةً إِنِّي أَ َر َ‬
‫اك َوقَ ْو َم َ‬ ‫وقال تعالى‪َ { :‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫ين} هذا يدل على أن اسم أبي إبراهيم آزر‪ ،‬وجمهور أهل النسب‪ ،‬منهم ابن‬ ‫الل ُمبِ ٍ‬
‫ض ٍ‬ ‫َ‬
‫عبَّاس‪ ،‬على أن اسم أبيه تارخ‪ .‬وأهل الكتاب يقولون تارخ بالخاء‪ d‬المعجمة‪ ،‬فقيل‪ :‬إنه لقب‬
‫بصنم كان يعبده اسمه آزر‪ .‬وقال ابن جرير‪ :‬والصواب أن اسمه آزر‪ .‬ولعل له اسمان‬
‫علمان‪ ،‬أو أحدهما لقب واآلخر علم‪ .‬وهذا الذي قاله محتمل‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫ون ِم ْن‬‫ض َولِيَ ُك َ‬ ‫ت َواألَرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫وت ال َّس َم َ‬ ‫ك نُ ِري إِب َْرا ِهي َم َملَ ُك َ‬ ‫ثم قال تعالى‪َ { :‬و َك َذلِ َ‬
‫ال ال أُ ِحبُّ اآلفِلِين‪ ،‬فَلَ َّما‬ ‫ال هَ َذا َربِّي فَلَ َّما أَفَ َل قَ َ‬ ‫ين‪ ،‬فَلَ َّما َج َّن َعلَ ْي ِه اللَّ ْي ُل َرأَى َك ْو َكبا ً قَ َ‬ ‫ْال ُموقِنِ َ‬
‫ال هَ َذا َربِّي فَلَ َّما أَفَ َل قَا َل لَئِ ْن لَ ْم يَ ْه ِدنِي َربِّي ألَ ُكونَ َّن ِم ْن ْالقَ ْو ِم الضَّالِّ َ‬
‫ين‪،‬‬ ‫ازغا ً قَ َ‬ ‫َرأَى ْالقَ َم َر بَ ِ‬
‫ال يَا قَ ْو ِم إِنِّي بَ ِري ٌء ِم َّما‬ ‫ت قَ َ‬ ‫ال هَ َذا َربِّي هَ َذا أَ ْكبَ ُر فَلَ َّما أَفَلَ ْ‬ ‫از َغةً قَ َ‬ ‫س بَ ِ‬ ‫فَلَ َّما َرأَى ال َّش ْم َ‬
‫ين‪،‬‬ ‫ض َحنِيفا ً َو َما أَنَا ِم ْن ْال ُم ْش ِر ِك َ‬ ‫ت َواألَرْ َ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ْت َوجْ ِهي لِلَّ ِذي فَطَ َر ال َّس َم َ‬ ‫تُ ْش ِر ُكون َإِنِّي َو َّجه ُ‬
‫ون بِ ِه إِال أَ ْن يَ َشا َء َربِّي‬ ‫اف َما تُ ْش ِر ُك َ‬ ‫ال أَتُ َحاجُّ ونِي فِي هَّللا ِ َوقَ ْد هَ َدانِي َوال أَ َخ ُ‬ ‫َو َحا َّجهُ قَ ْو ُمهُ قَ َ‬
‫ون أَنَّ ُك ْم‬ ‫اف َما أَ ْش َر ْكتُ ْم َوال تَ َخافُ َ‬ ‫ْف أَ َخ ُ‬ ‫ُون‪َ ،‬و َكي َ‬ ‫َشيْئا ً َو ِس َع َربِّي ُك َّل َش ْي ٍء ِع ْلما ً أَفَال تَتَ َذ َّكر َ‬
‫ين‬‫ون الَّ ِذ َ‬ ‫ق بِاألَ ْم ِن إِ ْن ُكنتُ ْم تَ ْعلَ ُم َ‬ ‫أَ ْش َر ْكتُ ْم بِاهَّلل ِ َما لَ ْم يُنَ ِّزلْ بِ ِه َعلَ ْي ُك ْم س ُْلطَانا ً فَأَيُّ ْالفَ ِريقَي ِْن أَ َح ُّ‬
‫ك ُح َّجتُنَا آتَ ْينَاهَا إِب َْرا ِهي َم‬ ‫ون‪َ ،‬وتِ ْل َ‬ ‫ك لَهُ ْم األَ ْم ُن َوهُ ْم ُم ْهتَ ُد َ‬ ‫آ َمنُوا َولَ ْم يَ ْلبِسُوا إِي َمانَهُ ْم بِظُ ْل ٍم أُ ْولَئِ َ‬
‫ت َم ْن نَ َشا ُء إِ َّن َرب ََّك َح ِكي ٌم َعلِي ٌم}‪.‬‬ ‫َعلَى قَ ْو ِم ِه نَرْ فَ ُع َد َر َجا ٍ‬
‫وهذا المقام مقام مناظرة لقومه‪ ،‬وبيان لهم أن هذه األجرام المشاهدة من الكواكب‬
‫النيرة‪ ،‬ال تصلح لأللوهية‪ ،‬وال أن تعبد مع هللا عز وجل‪ ،‬ألنها مخلوقة مربوبة مصنوعة‬
‫مدبرة مسخرة‪ ،‬تطلع تارة وتأفل أخرى‪ ،‬فتغيب عن هذا العالم‪ ،‬والرب تعالى ال يغيب‬
‫عنه شيء وال تخفى عليه خافية‪ ،‬بل هو الدائم الباقي بال زوال‪ ،‬ال إله إال هو وال رب‬
‫سواه‪.‬‬
‫فبين لهم أوالً عدم صالحية الكوكب لذلك قيل هو الزهرة‪ ،‬ثم ترقى منها إلى القمر‬
‫الذي هو أضوأ منها‪ ،‬وأبهى من حسنها‪ ،‬ثم ترقى إلى الشمس التي هي أشد األجرام‬
‫المشاهدة ضياء وسناء وبهاء‪ ،‬فبين أنها مسخرة مسيرة مقدرة مربوبة‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫س َوال لِ ْلقَ َم ِر َوا ْس ُج ُدوا هَّلِل ِ الَّ ِذي‬ ‫{ َو ِم ْن آيَاتِ ِه اللَّ ْي ُل َوالنَّهَا ُر َوال َّش ْمسُ َو ْالقَ َم ُر ال تَ ْس ُج ُدوا لِل َّش ْم ِ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫َخلَقَه َُّن إِ ْن ُك ْنتُ ْم إِيَّاهُ تَ ْعبُ ُد َ‬
‫ت‬ ‫قال هَ َذا َربِّي هَ َذا أَ ْكبَ ُر فَلَ َّما أَفَلَ ْ‬ ‫از َغةً} أي طالعة { َ‬ ‫س بَ ِ‬ ‫ولهذا قال‪{ :‬فَلَ َّما َرأَى ال َّش ْم َ‬
‫ض‬ ‫ت َواألَرْ َ‬ ‫اوا ِ‬‫ْت َوجْ ِهي لِلَّ ِذي فَطَ َر ال َّس َم َ‬ ‫ون‪ ،‬إِنِّي َو َّجه ُ‬ ‫ال يَا قَ ْو ِم إِنِّي بَ ِري ٌء ِم َّما تُ ْش ِر ُك َ‬ ‫قَ َ‬
‫اف َما‬ ‫ال أَتُ َحاجُّ ونِي فِي هَّللا ِ َوقَ ْد هَ َدانِي َوال أَ َخ ُ‬ ‫ين‪َ ،‬و َحا َّجهُ قَ ْو ُمهُ قَ َ‬ ‫َحنِيفا ً َو َما أَنَا ِم ْن ْال ُم ْش ِر ِك َ‬
‫ون بِ ِه إِال أَ ْن يَ َشا َء َربِّي َشيْئا ً} أي لست أبالي هذه اآللهة التي تعبدونها من دون هللا‪،‬‬ ‫تُ ْش ِر ُك َ‬
‫فإنها ال تنفع شيئا ً وال تسمع وال تعقل‪ ،‬بل هي مربوبة مسخرة كالكواكب ونحوها‪ ،‬أو‬
‫مصنوعة منحوتة منجورة‪.‬‬
‫والظاهرة أن موعظته هذه في الكواكب ألهل حران‪ ،‬فإنهم كانوا يعبدونها‪ .‬وهذا يرد‬
‫قول من زعم أنه قال هذا حين خرج من السرب لما كان صغيراً‪ ،‬كما ذكره ابن إسحاق‬
‫وغيره وهو مستند إلى أخبار إسرائيلية ال يوثق بها‪ ،‬وال سيما إذا خالفت الحق‪.‬‬
‫وأما أهل بابل فكانوا يعبدون األصنام‪ ،‬وهم الذين ناظرهم في عبادتها وكسرها‬
‫ون هَّللا ِ أَ ْوثَانا ً َم َو َّدةَ‬ ‫ال إِنَّ َما اتَّ َخ ْذتُ ْم ِم ْن ُد ِ‬ ‫عليهم‪ ،‬وأهانها وبين بطالنها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬وقَ َ‬
‫ض ُك ْم بَعْضا ً َو َمأْ َوا ُك ْم‬ ‫ْض َويَ ْل َع ُن بَ ْع ُ‬ ‫ض ُك ْم بِبَع ٍ‬ ‫بَ ْينِ ُك ْم فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا ثُ َّم يَ ْو َم ْالقِيَا َم ِة يَ ْكفُ ُر بَ ْع ُ‬
‫ين} وقال في سورة األنبياء‪َ { :‬ولَقَ ْد آتَ ْينَا إِب َْرا ِهي َم ُر ْش َدهُ ِم ْن قَ ْب ُل‬ ‫اص ِر َ‬ ‫النَّا ُر َو َما لَ ُك ْم ِم ْن نَ ِ‬
‫ون‪ ،‬قَالُوا َو َج ْدنَا‬ ‫ال ألَبِي ِه َوقَ ْو ِم ِه َما هَ ِذ ِه التَّ َماثِي ُل الَّتِي أَ ْنتُ ْم لَهَا َعا ِكفُ َ‬ ‫ين‪ ،‬إِ ْذ قَ َ‬ ‫َو ُكنَّا بِ ِه َعالِ ِم َ‬
‫ت‬ ‫ق أَ ْم أَ ْن َ‬ ‫ين‪ ،‬قَالُوا أَ ِج ْئتَنَا بِ ْال َح ِّ‬ ‫الل ُمبِ ٍ‬ ‫ض ٍ‬ ‫ين‪ ،‬قَا َل لَقَ ْد ُكنتُ ْم أَ ْنتُ ْم َوآبَا ُؤ ُك ْم فِي َ‬ ‫آبَا َءنَا لَهَا َعابِ ِد َ‬
‫ض الَّ ِذي فَطَ َرهُ َّن َوأَنَا َعلَى َذلِ ُك ْم ِم ْن‬ ‫ت َواألَرْ ِ‬ ‫ين‪ ،‬قَا َل بَل َربُّ ُك ْم َربُّ ال َّس َما َوا ِ‬ ‫ِم ْن الال ِعبِ َ‬
‫ين فَ َج َعلَهُ ْم ُج َذاذاً إِال َكبِيراً لَهُ ْم لَ َعلَّهُ ْم‬ ‫ين‪َ ،‬وتَاهَّلل ِ ألَ ِكي َد َّن أَصْ نَا َم ُك ْم بَ ْع َد أَ ْن تُ َولُّوا ُم ْدبِ ِر َ‬ ‫ال َّشا ِه ِد َ‬
‫ين‪ ،‬قَالُوا َس ِم ْعنَا فَتًى يَ ْذ ُك ُرهُ ْم يُقَا ُل‬ ‫ُون‪ ،‬قَالُوا َم ْن فَ َع َل هَ َذا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَ ِم ْن الظَّالِ ِم َ‬ ‫إِلَ ْي ِه يَرْ ِجع َ‬
‫ت فَ َع ْل َ‬ ‫اس لَ َعلَّهُ ْم يَ ْشهَ ُدون‪ ،‬قَالُوا أَأَ ْن َ‬ ‫ْ‬
‫ت هَ َذا بِآلِهَتِنَا‬ ‫لَهُ إِ ْب َرا ِهي ُم‪ ،‬قَالُوا فَأتُوا بِ ِه َعلَى أَ ْعيُ ِن النَّ ِ‬
‫ون‪ ،‬فَ َر َجعُوا إِلَى أَنفُ ِس ِه ْم فَقَالُوا‬ ‫ال بَلْ فَ َعلَهُ َكبِي ُرهُ ْم هَ َذا فَاسْأَلُوهُ ْم إِ ْن َكانُوا يَن ِطقُ َ‬ ‫يَاإِ ْب َرا ِهي ُم‪ ،‬قَ َ‬
‫ون ِم ْن‬ ‫ون‪ ،‬قَا َل أَفَتَ ْعبُ ُد َ‬ ‫ت َما هَ ُؤال ِء يَن ِطقُ َ‬ ‫وس ِه ْم لَقَ ْد َعلِ ْم َ‬ ‫ون ثُ َّم نُ ِكسُوا َعلَى ُر ُء ِ‬ ‫إِنَّ ُك ْم أَ ْنتُ ْم الظَّالِ ُم َ‬
‫ون‪،‬‬ ‫ون هَّللا ِ أَفَال تَ ْعقِلُ َ‬ ‫ون ِم ْن ُد ِ‬ ‫ف لَ ُك ْم َولِ َما تَ ْعبُ ُد َ‬ ‫ُدو ِن هَّللا ِ َما ال يَنفَ ُع ُك ْم َشيْئا ً َوال يَضُرُّ ُك ْم‪ ،‬أُ ٍّ‬
‫ين‪ ،‬قُ ْلنَا يَانَا ُر ُكونِي بَرْ داً َو َسالما ً َعلَى إِب َْرا ِهي َم‪،‬‬ ‫اعلِ َ‬ ‫صرُوا آلِهَتَ ُك ْم إِ ْن ُكنتُ ْم فَ ِ‬ ‫قَالُوا َحرِّ قُوهُ َوان ُ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫َوأَ َرا ُدوا بِ ِه َكيْداً فَ َج َع ْلنَاهُ ْم األَ ْخ َس ِر َ‬
‫ون‪،‬‬ ‫ال ألَبِي ِه َوقَ ْو ِم ِه َما تَ ْعبُ ُد َ‬ ‫وقال في سورة الشعراء‪َ { :‬وا ْت ُل َعلَ ْي ِه ْم نَبَأ َ إِب َْرا ِهي َم‪ ،‬إِ ْذ قَ َ‬
‫ون‪ ،‬أَ ْو يَ ْنفَعُونَ ُك ْم أَ ْو‬ ‫ين‪ ،‬قَا َل هَلْ يَ ْس َمعُونَ ُك ْم إِ ْذ تَ ْد ُع َ‬ ‫قَالُوا نَ ْعبُ ُد أَصْ نَاما ً فَنَظَلُّ لَهَا َعا ِكفِ َ‬
‫ون‪ ،‬أَ ْنتُ ْم َوآبَا ُؤ ُك ْم‬ ‫ون‪ ،‬قَا َل أَفَ َرأَ ْيتُ ْم َما ُك ْنتُ ْم تَ ْعبُ ُد َ‬ ‫ك يَ ْف َعلُ َ‬‫ون‪ ،‬قَالُوا بَلْ َو َج ْدنَا آبَا َءنَا َك َذلِ َ‬ ‫يَضُرُّ َ‬
‫ُط ِع ُمنِي‬ ‫ين‪ ،‬الَّ ِذي َخلَقَنِي فَهُ َو يَ ْه ِدينِي‪َ ،‬والَّ ِذي هُ َو ي ْ‬ ‫ون‪ ،‬فَإِنَّهُ ْم َع ُد ٌّو لِي إِال َربَّ ْال َعالَ ِم َ‬ ‫األَ ْق َد ُم َ‬
‫ط َم ُع أَ ْن يَ ْغفِ َر لِي‬ ‫ين‪َ ،‬والَّ ِذي أَ ْ‬ ‫ت فَهُ َو يَ ْشفِينِي‪َ ،‬والَّ ِذي يُ ِميتُنِي ثُ َّم يُحْ يِ ِ‬ ‫َويَ ْسقِينِي َوإِ َذا َم ِرضْ ُ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ِّين‪َ ،‬ربِّ هَبْ لِي ُح ْكما ً َوأَ ْل ِح ْقنِي بِالصَّالِ ِح َ‬ ‫َخ ِطيئَتِي يَ ْو َم الد ِ‬
‫ب َسلِ ٍيم‪،‬‬ ‫وقال تعالى في سورة الصافات‪َ { :d‬وإِ َّن ِم ْن ِشي َعتِ ِه ِإل ْب َرا ِهي َم‪ ،‬إِ ْذ َجا َء َربَّهُ بِقَ ْل ٍ‬
‫ين‪،‬‬ ‫ظنُّ ُك ْم بِ َربِّ ْال َعالَ ِم َ‬ ‫ون‪ ،‬فَ َما َ‬ ‫ون هَّللا ِ تُ ِري ُد َ‬ ‫ون‪ ،‬أَئِ ْفكا ً آلِهَةً ُد َ‬ ‫إِ ْذ قَا َل ألَبِي ِه َوقَ ْو ِم ِه َما َذا تَ ْعبُ ُد َ‬
‫ين‪ ،‬فَ َرا َغ إِلَى آلِهَتِ ِه ْم فَقَا َل أَال‬ ‫ال إِنِّي َسقِي ٌم‪ ،‬فَتَ َولَّ ْوا َع ْنهُ ُم ْدبِ ِر َ‬ ‫ُوم‪ ،‬فَقَ َ‬ ‫ظ َرةً فِي النُّج ِ‬ ‫فَنَظَ َر نَ ْ‬
‫ون‬‫ون‪ ،‬قَا َل أَتَ ْعبُ ُد َ‬ ‫ين‪ ،‬فَأ َ ْقبَلُوا إِلَ ْي ِه يَ ِزفُّ َ‬ ‫ضرْ با ً بِ ْاليَ ِم ِ‬ ‫نطقُون‪ ،‬فَ َرا َغ َعلَ ْي ِه ْم َ‬ ‫ون‪َ ،‬ما لَ ُك ْم ال تَ ِ‬ ‫تَأْ ُكلُ َ‬
‫ون‪ ،‬قَالُوا ا ْبنُوا لَهُ بُ ْنيَانا ً فَأ َ ْلقُوهُ فِي ْال َج ِح ِيم‪ ،‬فَأ َ َرا ُدوا بِ ِه َكيْداً‬ ‫ون َوهَّللا ُ َخلَقَ ُك ْم َو َما تَ ْع َملُ َ‬ ‫َما تَ ْن ِحتُ َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫فَ َج َع ْلنَاهُ ْم األَ ْسفَلِ َ‬
‫يخبر هللا تعالى عن إبراهيم خليله عليه السالم‪ ،‬أنه أنكر على قومه عبادة األوثان‬
‫ون} أي‬ ‫وحقرها عندهم وصغرها وتنقصها‪ d،‬فقال‪َ { :‬ما هَ ِذ ِه التَّ َماثِي ُل الَّتِي أَ ْنتُ ْم لَهَا َعا ِكفُ َ‬
‫ين}‪ .‬ما كان حجتهم إال‬ ‫معتكفون عندها وخاضعون لها‪ ،‬قالوا‪َ { :‬و َج ْدنَا آبَا َءنَا لَهَا َعابِ ِد َ‬
‫صنيع األباء واألجداد‪ ،‬وما كانوا عليه من عبادة األنداد‪.‬‬
‫ال ألَبِي ِه َوقَ ْو ِم ِه‬
‫ين} كما قال تعالى‪{ :‬إِ ْذ قَ َ‬ ‫ضاَل ٍل ُمبِ ٍ‬ ‫{قَا َل لَقَ ْد ُكنتُ ْم أَ ْنتُ ْم َوآبَا ُؤ ُك ْم فِي َ‬
‫ين}‪ .‬قال قتادة‪ :‬فما ظنكم‬ ‫ظنُّ ُك ْم بِ َربِّ ْال َعالَ ِم َ‬
‫ون‪ ،‬فَ َما َ‬ ‫ون هَّللا ِ تُ ِري ُد َ‬ ‫ون‪ ،‬أَئِ ْفكا ً آلِهَةً ُد َ‬ ‫َما َذا تَ ْعبُ ُد َ‬
‫به أنه فاعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؟‬
‫ون‪ ،‬قَالُوا بَلْ َو َج ْدنَا آبَا َءنَا‬ ‫ون‪ ،‬أَ ْو يَ ْنفَعُونَ ُك ْم أَ ْو يَضُرُّ َ‬ ‫وقال لهم‪{ :‬هَلْ يَ ْس َمعُونَ ُك ْم إِ ْذ تَ ْد ُع َ‬
‫ون}‪ .‬سلموا له أنها ال تسمع داعيا ً وال تنفع وال تضر شيئاً‪ ،‬وإنما الحامل لهم‬ ‫ك يَ ْف َعلُ َ‬
‫َك َذلِ َ‬
‫على عبادتها اإلقتداء بأسالفهم ومن هو مثلهم في الضالل من األباء الجهال‪ .‬ولهذا قال‬
‫ين}‬ ‫ون‪ ،‬فَإِنَّهُ ْم َع ُد ٌّو لِي إِال َربَّ ْال َعالَ ِم َ‬ ‫ون‪ ،‬أَ ْنتُ ْم َوآبَا ُؤ ُك ْم األَ ْق َد ُم َ‬ ‫لهم‪{ :‬أَفَ َرأَ ْيتُ ْم َما ُك ْنتُ ْم تَ ْعبُ ُد َ‬
‫وهذا برهان قاطع على بطالن إلهية ما ادعوه من األصنام‪ ،‬ألنه تبرأ منها‪ ،‬وتنقص بها‪،‬‬
‫فلو كانت تضر لضرته‪ ،‬أو تؤثر ألثرت فيه‪.‬‬
‫ين} ويقولون‪ :‬هذا الكالم الذي تقوله لنا‬ ‫ت ِم ْن الال ِعبِ َ‬ ‫ق أَ ْم أَ ْن َ‬
‫{قَالُوا أَ ِج ْئتَنَا بِ ْال َح ِّ‬
‫وتنتقص به ألهتنا‪ ،‬وتطعن بسببه في آبائنا أتقوله محقا ً جاداً فيه أم العباً؟‬

‫ين}‬‫ض الَّ ِذي فَطَ َرهُ َّن َوأَنَا َعلَى َذلِ ُك ْم ِم ْن ال َّشا ِه ِد َ‬ ‫ت َواألَرْ ِ‬ ‫{قَا َل بَل َربُّ ُك ْم َربُّ ال َّس َما َوا ِ‬
‫يعني بل أقول لكم ذلك جاداً محقاً‪ ،‬إنما إلهكم هللا الذي ال إله إال هو ربكم ورب كل شيء‪،‬‬
‫فاطر السماوات واألرض‪ ،‬الخالق لهما على غير مثال سبق‪ .‬فهو المستحق للعبادة وحده‬
‫ال شريك له‪ ،‬وأنا على ذلكم من الشاهدين‪.‬‬
‫ين} أقسم ليكيدن هذه األصنام التي‬ ‫وقوله‪َ { :‬وتَاهَّلل ِ ألَ ِكي َد َّن أَصْ نَا َم ُك ْم بَ ْع َد أَ ْن تُ َولُّوا ُم ْدبِ ِر َ‬
‫يعبدونها بعد أن تولوا مدبرين إلى عيدهم‪.‬‬
‫قيل‪ :‬إنه قال هذا خفية في نفسه‪ .‬وقال ابن مسعود‪ :‬سمعه بعضهم‪.‬‬
‫وكان لهم عيد يذهبون إليه في كل عام مرة إلى ظاهر البلد‪ ،‬فدعاه أبوه ليحضره‬
‫ال إِنِّي َسقِي ٌم}‪ .‬عرض لهم في‬ ‫ُوم‪ ،‬فَقَ َ‬ ‫ظ َرةً فِي النُّج ِ‬ ‫فقال‪ :‬إني سقيم‪ .‬كما قال تعالى‪{ :‬فَنَظَ َر نَ ْ‬
‫الكالم حتى توصل إلى مقصودة من إهانة أصنامهم ونصرة دين هللا الحق وبطالن ما هم‬
‫عليه من عبادة األصنام التي تستحق أن تكسر وأن تهان غاية اإلهانة‪.‬‬
‫فلما خرجوا إلى عيدها‪ ،‬واستقر هو في بلدهم {فَ َرا َغ إِلَى آلِهَتِ ِه ْم} أي ذهب إليها‬
‫مسرعا ً مستخفياً‪ ،‬فوجدها في بهو عظيم‪ ،‬وقد وضعوا بين أيديها أنواعا ً من األطعمة‬
‫ون‪ ،‬فَ َرا َغ‬ ‫نطقُ َ‬
‫ون‪َ ،‬ما لَ ُك ْم ال تَ ِ‬ ‫قربانا ً إليها فقال لها على سبيل التهكم واإلزدراء {أَال تَأْ ُكلُ َ‬
‫ضرْ با ً بِ ْاليَ ِمين} ألنها أقوى وأبطش وأسرع وأقهر‪ ،‬فكسرها بقدوم في يده كما قال‬ ‫َعلَ ْي ِه ْم َ‬
‫ُون}‪.‬‬ ‫فج َعلَهُ ْم ُج َذاذاً}‪ .‬أي حطاماً‪ ،‬كسرها كلها {إِال َكبِيراً لَهُ ْم لَ َعلَّهُ ْم إِلَ ْي ِه يَرْ ِجع َ‬ ‫تعالى‪َ { :‬‬
‫قيل إنه وضع القدوم في يد الكبير‪ ،‬إشارة إلى أنه غار أن تعبد معه هذه الصغار!‬
‫فلما رجعوا من عيدهم ووجدوا ما حل بمعبودهم {قَالُوا َم ْن فَ َع َل هَ َذا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَ ِم ْن‬
‫ين}‪.‬‬ ‫الظَّالِ ِم َ‬
‫وهذا فيه دليل ظاهر لهم لو كانوا يعقلون‪ ،‬وهو ما حل بألهتهم التي كانوا يعبدونها‪،‬‬
‫فلو كانت ألهة لدفعت عن أنفسها من أرادها بسوء لكنهم قالوا من جهلهم وقلة عقلهم‬
‫ين}‪.‬‬ ‫وكثرة ضاللهم وخبالهم‪َ { :‬م ْن فَ َع َل هَ َذا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَ ِم ْن الظَّالِ ِم َ‬
‫{قَالُوا َس ِم ْعنَا فَتًى يَ ْذ ُك ُرهُ ْم يُقَا ُل لَهُ إِب َْرا ِهي ُم} أي يذكرها بالعيب والتنقص لها‬
‫واإلزدراء بها‪ ،‬فهو المقيم عليها والكاسر لها‪ .‬وعلى قول ابن مسعود‪ ،‬أي يذكرهم بقوله‪:‬‬
‫ين}‪.‬‬ ‫{ َوتَاهَّلل ِ ألَ ِكي َد َّن أَصْ نَا َم ُك ْم بَ ْع َد أَ ْن تُ َولُّوا ُم ْدبِ ِر َ‬
‫ْ‬
‫ون} أي في المأل األكبر على رؤوس‬ ‫{قَالُوا فَأتُوا بِ ِه َعلَى أَ ْعي ُِن النَّ ِ‬
‫اس لَ َعلَّهُ ْم يَ ْشهَ ُد َ‬
‫األشهاد‪ ،‬لعلهم يشهدون مقالته ويسمعون كالمه‪ ،‬ويعاينون ما يحل به من االقتصاص‬
‫منه‪.‬‬
‫وكان هذا أكبر مقاصد الخليل عليه السالم أن يجتمع الناس كلهم‪ ،‬فيقيم على جميع‬
‫عباد األصنام الحجة على بطالن ما هم عليه‪ ،‬كما قال موسى عليه السالم لفرعون‪:‬‬
‫ضحًى}‪.‬‬ ‫الزينَ ِة َوأَ ْن يُحْ َش َر النَّاسُ ُ‬ ‫{ َم ْو ِع ُد ُك ْم يَ ْو ُم ِّ‬
‫ت هَ َذا بِآلِهَتِنَا يَاإِ ْب َرا ِهي ُم‪ ،‬قَا َل بَلْ‬ ‫ت فَ َع ْل َ‬‫فلما اجتمعوا وجاءوا به كما ذكروا {قَالُوا أَأَ ْن َ‬
‫فَ َعلَهُ َكبِي ُرهُ ْم}‪ .‬قيل معناه‪ :‬هو الحامل لي على تكسيرهم وإنما عرض لهم في القول‬
‫ون}‪.‬‬ ‫نطقُ َ‬ ‫{فَاسْأَلُوهُ ْم إِ ْن َكانُوا يَ ِ‬
‫وإنما أراد بقوله هذا أن يبادر إلى القول بأن هذه ال تنطق‪ ،‬فيعترفوا بأنها جماد‬
‫كسائر الجمادات‪.d‬‬
‫ون}‪ .‬أي فعادوا على أنفسهم بالمالمة‪،‬‬ ‫{فَ َر َجعُوا إِلَى أَنفُ ِس ِه ْم فَقَالُوا إِنَّ ُك ْم أَ ْنتُ ْم الظَّالِ ُم َ‬
‫فقالوا إنكم أنتم الظالمون‪ .‬أي في تركها ال حافظ لها وال حارس عندها‪.‬‬
‫وس ِه ْم}‪ .‬قال ال ُّسدِّي‪ :‬أي ثم رجعوا إلى الفتنة‪ ،‬فعلى هذا يكون‬ ‫{ثُ َّم نُ ِكسُوا َعلَى ُر ُء ِ‬
‫ون}‪ .‬أي في عبادتها‪.‬‬ ‫قوله‪{ :‬إِنَّ ُك ْم أَ ْنتُ ْم الظَّالِ ُم َ‬
‫ت َما هَؤُاَل ِء‬ ‫وقال قتادة‪ :‬أدركت القوم حيرة سوء‪ .‬أي فأطرقوا ثم قالوا‪{ :‬لَقَ ْد َعلِ ْم َ‬
‫ون}‪ .‬أي لقد علمت يا إبراهيم أن هذه ال تنطق‪ ،‬فكيف تأمرنا بسؤالها!‬ ‫يَن ِطقُ َ‬
‫ون هَّللا ِ َما ال يَنفَ ُع ُك ْم َشيْئا ً َوال‬ ‫ون ِم ْن ُد ِ‬ ‫فعند ذلك قال لهم الخليل عليه السالم‪{ :‬أَفَتَ ْعبُ ُد َ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫ون هَّللا ِ أَفَال تَ ْعقِلُ َ‬
‫ون ِم ْن ُد ِ‬ ‫ف لَ ُك ْم َولِ َما تَ ْعبُ ُد َ‬ ‫يَضُرُّ ُك ْم‪ ،‬أُ ٍّ‬
‫ون} قال مجاهد‪ :‬يسرعون‪.‬‬ ‫كما قال‪{ :‬فَأ َ ْقبَلُوا إِلَ ْي ِه يَ ِزفُّ َ‬
‫ون} أي كيف تعبدون أصناما ً أنتم تنحتونها من الخشب‬ ‫ون َما تَ ْن ِحتُ َ‬ ‫(قال)‪{ :‬أَتَ ْعبُ ُد َ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫والحجارة وتصورونها وتشكلونها كما تريدون { َوهَّللا ُ َخلَقَ ُك ْم َو َما تَ ْع َملُ َ‬
‫وسواء كانت "ما" مصدرية‪ ،‬أو بمعنى الذي‪ ،‬فمقتضى الكالم أنكم مخلوقون‪ ،‬وهذه‬
‫األصنام مخلوقة‪ ،‬فكيف يتعبد مخلوق لمخلوق مثله؟ فإنه ليس عبادتكم لها بأولى من‬
‫عبادتها لكم‪ ،‬وهذا باطل‪ ،‬فاآلخر باطل للتحكم إذ ليست العبادة تصلح‪ ،‬وال تجب إال‬
‫للخالق وحده ال شريك له‪.‬‬
‫ين}‪.‬‬ ‫{قَالُوا ا ْبنُوا لَهُ بُ ْنيَانا ً فَأ َ ْلقُوهُ فِي ْال َج ِح ِيم‪ ،‬فَأ َ َرا ُدوا بِ ِه َكيْداً فَ َج َع ْلنَاهُ ْم األَ ْسفَلِ َ‬
‫عدلوا عن الجدال والمناظرة لما انقطعوا وغلبوا‪ ،‬ولم تبق لهم حجة وال شبهة إلى‬
‫استعمال قوتهم وسلطانهم‪ ،‬لينصروا ما هم عليه من سفههم وطغيانهم‪ ،‬فكادهم الرب جل‬
‫صرُوا آلِهَتَ ُك ْم إِ ْن‬ ‫جالله وأعلى كلمته ودينه وبرهانه‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬قَالُوا َح ِّرقُوهُ َوان ُ‬
‫ين‪ ،‬قُ ْلنَا يَا نَا ُر ُكونِي بَرْ داً َو َسالما ً َعلَى إِب َْرا ِهي َم‪َ ،‬وأَ َرا ُدوا بِ ِه َكيْداً فَ َج َع ْلنَاهُ ْم‬ ‫ُكنتُ ْم فَ ِ‬
‫اعلِ َ‬
‫ين}‪.‬‬‫األَ ْخ َس ِر َ‬

‫وذلك أنهم شرعوا يجمعون حطبا ً من جميع ما يمكنهم من األماكن‪ ،‬فمكثوا مدة‬
‫يجمعون له‪ ،‬حتى أن المرأة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطبا ً‬
‫لحريق إبراهيم‪ .‬ثم عمدوا إلى جوبة عظيمة‪ ،‬فوضعوا فيها ذلك الحطب وأطلقوا فيه النار‬
‫فاضطربت وتأججت‪ ،‬والتهبت وعال لها شر ٌر لم ير مثله قط‪.‬‬
‫ثم وضعوا إبراهيم عليه السالم في كفة منجنيق صنعه لهم رجل من األكراد يقال له‬
‫"هزن" وكان أول من صنع المجانيق‪ ،‬فخسف هللا به األرض‪ ،‬فهو يتجلجل فيها إلى يوم‬
‫القيامة‪.‬‬
‫ثم أخذوا يقيدونه ويكتفونه وهو يقول‪ :‬ال إله إال أنت سبحانك رب العالمين‪ ،‬لك الحمد‬
‫ولك الملك‪ ،‬ال شريك لك‪.‬‬
‫فلما وضع الخليل عليه السالم في كفة المنجنيق مقيداً مكتوفاً‪ ،‬ثم ألقوه منه إلى النار‪،‬‬
‫ي عن ابن عبَّاس أنه قال‪ :‬حسبنا هللا ونعم‬ ‫قال‪ :‬حسبنا هللا ونعم الوكيل‪ .‬كما روى الب َُخار ّ‬
‫الوكيل‪ ،‬قالها إبراهيم حين ألقي في النار‪ ،‬وقالها محمد حين قيل له‪{ :‬إِ َّن النَّ َ‬
‫اس قَ ْد َج َمعُوا‬
‫اخ َش ْوهُ ْم فَ َزا َدهُ ْم إِي َمانا ً َوقَالُوا َح ْسبُنَا هَّللا ُ َونِ ْع َم ْال َو ِكيلُ‪ ،‬فَا ْنقَلَبُوا بِنِ ْع َم ٍة ِم ْن هَّللا ِ َوفَضْ ٍل لَ ْم‬
‫لَ ُك ْم فَ ْ‬
‫يَ ْم َس ْسهُ ْم سُو ٌء} اآلية‪.‬‬
‫وقال أبو يعلى‪َ :‬ح َّدثَنا أبو هشام الرفاعي‪َ ،‬ح َّدثَنا إسحاق بن سليمان‪ ،‬عن أبي جعفر‬
‫الرازي‪ ،‬عن عاصم بن أبي النجود‪ ،‬عن أبي صالح‪ ،‬عن أبي هريرة قال قال‪ :‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم "لما ألقي إبراهيم في النار قال‪ :‬اللهم إنك في السماء واحد وأنا في األرض‬
‫واحد أعبدك"‪.‬‬

‫وذكر بعض السلف أن جبريل عرض له في الهواء فقال‪ :‬يا إبراهيم ألك حاجة؟ فقال‬
‫أ ّما إليك فال‪.‬‬
‫ويروى عن ابن عبَّاس وسعيد بن جبير أنه قال جعل ملك المطر يقول متى أوم َر‬
‫فأرسل المطر؟ فكان أمر هللا أسرع‪.‬‬
‫{قُ ْلنَا يَا نَا ُر ُكونِي بَرْ داً َو َسالما ً َعلَى إِب َْرا ِهي َم}‪ .‬قال علي بن أبي طالب‪ :‬أي ال‬
‫تضريه‪.‬‬
‫وقال ابن عبَّاس وأبو العالية‪ :‬لوال أن هللا قال { َو َسالما ً َعلَى إِب َْرا ِهي َم} آلذى إبراهيم‬
‫بردها‪.‬‬
‫وقال كعب األحبار‪ :‬لم ينتفع أهل األرض يومئذ بنار‪ ،‬ولم تحرق منه سوى وثاقه‪.‬‬
‫وقال الضحاك‪ :d‬يروي أن جبريل عليه السالم كان معه يمسح العرق عن وجهه لم‬
‫يصبه منها شيء غيره‪.‬‬
‫ك الظل‪ .‬وصار إبراهيم عليه السالم في ميل الجوبة‬ ‫وقال ال ُّسدِّي‪ :‬كان معه أيضا ً مل ُ‬
‫حوله النار‪ ،‬وهو في روضة خضراء‪ ،‬والناس ينظرون إليه ال يقدرون على الوصول‪،‬‬
‫وال هو يخرج إليهم‪ .‬فعن أبي هريرة أنه قال‪ :‬أحسن كلمة قالها أبو إبراهيم إذ قال لما رأى‬
‫ولده على تلك الحال‪ :‬نعم الرب ربك يا إبراهيم!‬
‫وروى ابن عساكر عن عكرمة أن أم إبراهيم نظرت إلى ابنها عليه السالم فنادته‪ .‬يا‬
‫بني أريد أن أجئ إليك فادع هللا أن ينجيني من حر النار حولك‪ .‬فقال‪ :‬نعم فأقبلت إليه ال‬
‫يمسها شيء من حر النار‪ .‬فلما وصلت إليه اعتنقته وقبلته ثم عادت‪.‬‬
‫وعن المنهال بن عمرو أنه قال‪ :‬أخبرت أن إبراهيم مكث هناك إما أربعين وإما‬
‫خمسين يوماً‪ ،‬وأنه قال‪ :‬ما كنت أياما ً وليالي أطيب عيشا ً إذ كنت فيها‪ .‬ووددت أن عيشي‬
‫وحياتي كلها مثل إذ كنت فيها‪ .‬صلوات هللا وسالمه عليه‪.‬‬
‫فأرادوا أن ينتصروا فخذلوا‪ ،‬وأرادوا أن يرتفعوا فاتضعوا‪ ،‬وأرادوا أن يغلبوا فغلبوا‪.‬‬
‫ين}‬ ‫ين}‪ ،‬وفي اآلية األخرى‪{ :‬األَ ْسفَلِ َ‬ ‫قال هللا تعالى‪َ { :‬وأَ َرا ُدوا بِ ِه َكيْداً فَ َج َع ْلنَاهُ ْم األَ ْخ َس ِر َ‬
‫فإن نارهم ال تكون عليهم برداً‬ ‫ففازوا بالخسارة والسفال‪ ،‬هذا في الدنيا وأما في اآلخرة َّ‬
‫ت ُم ْستَقَ ّراً‬
‫وال سالماً‪ ،‬وال يلقون تحية وال سالماً‪ ،‬بل هي كما قال تعالى {إِنَّهَا َسا َء ْ‬
‫َو ُمقَاما ً}‪.‬‬
‫ي‪َ :‬ح َّدثَنا عبد هللا بن موسى‪ ،‬أو ابن سالم عنه‪ ،‬أنبأنا ابن ج َُريْج‪ ،‬عن عبد‬ ‫قال الب َُخار ّ‬
‫الحميد بن جبير‪ ،‬عن سعيد بن ال ُمسَّيب‪ ،‬عن أم شريك أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫"أمر بقتل الوزغ‪ ،‬وقال‪ :‬كان ينفخ على إبراهيم"‪.‬‬
‫ورواه مسلم من حديث ابن ج َُريْج‪ .‬وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث سفيان بن‬
‫ُعيينة‪ ،‬كالهما عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة به‪.‬‬

‫وقال أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا ُم َح ْمد بن بكر‪َ ،‬ح َّدثَنا ابن ج َُريْج‪ ،‬أخبرني عبد هللا بن عبد الرحمن‬
‫بن أبي أمية‪ ،‬أن نافعا ً مولى ابن عمر أخبره أن عائشة أخبرته أن رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم قال‪" :‬اقتلوا الوزغ فإنه كان ينفخ النار على إبراهيم" قال فكانت عائشة‬
‫تقتلهن‪.‬‬
‫وقال أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا إسماعيل‪َ ،‬ح َّدثَنا أيوب عن نافع‪ ،‬أن امرأة دخلت على عائشة فإذا‬
‫رمح منصوب فقالت‪ :‬ما هذا الرمح؟ فقالت‪ :d‬نقتل به األوزاغ‪ .‬ثم حدثت عن رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم أن إبراهيم لما ألقي في النار جعلت الدواب كلها تطفئ عنه إال‬
‫الوزغ فإنه جعل ينفخها عليه‪.‬‬
‫تفرد به أحمد من هذين الوجهين‪.‬‬
‫وقال أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا عفان‪َ ،‬ح َّدثَنا جرير‪َ ،‬ح َّدثَنا نافع‪ ،‬حدثتني سمامة موالة الفاكه بن‬
‫المغيرة‪ ،‬قالت‪ :‬دخلت على عائشة فرأيت في بيتها رمحا ً موضوعاً‪ ،‬فقلت‪ :‬يا أم المؤمنين‬
‫ما تصنعين بهذا الرمح؟ قالت‪ :‬هذا لهذه األوزاغ نقتلهن به‪ ،‬فإن رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪َ :‬ح َّدثَنا أن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في األرض دابة إال تطفئ عنه النار‪،‬‬
‫غير الوزغ كان ينفخ عليه‪ ،‬فأمرنا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ :‬بقتله‪.‬‬
‫ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يونس بن محمد عن جرير بن حازم‬
‫به‪.‬‬

‫ذكر مناظرة إبراهيم الخليل مع النمرود‬


‫ذكر مناظرة إبراهيم الخليل مع من أراد أن ينازع العظيم الجليل في العظمة ورداء‬
‫وهو أح ُد العبيد الضعفاء‬ ‫الكبرياء فادعى الربوبية‪َ ،‬‬
‫ك إِ ْذ قَا َل إِ ْب َرا ِهي ُم‬
‫قال هللا تعالى‪{ :‬أَلَ ْم تَ َر إِلَى الَّ ِذي َحا َّج إِب َْرا ِهي َم فِي َربِّ ِه أَ ْن آتَاهُ هَّللا ُ ْال ُم ْل َ‬
‫ْ‬ ‫ال أَنَا أُحْ يِي َوأُ ِم ُ‬
‫ال إِب َْرا ِهي ُم فَإِ َّن هَّللا َ يَأتِي بِال َّش ْم ِ‬
‫س ِم ْن‬ ‫يت قَ َ‬ ‫يت قَ َ‬ ‫َربِّي الَّ ِذي يُحْ يِي َويُ ِم ُ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ت الَّ ِذي َكفَ َر َوهَّللا ُ ال يَ ْه ِدي ْالقَ ْو َم الظَّالِ ِم َ‬ ‫ب فَبُ ِه َ‬ ‫ق فَأْ ِ‬
‫ت بِهَا ِم ْن ْال َم ْغ ِر ِ‬ ‫ْال َم ْش ِر ِ‬
‫يذكر تعالى مناظرة خليله مع هذا الملك الجبار المتمرد الذي ادعى لنفسه الربوبية‪،‬‬
‫فأبطل الخليل عليه دليله‪ ،‬وبين كثرة جهله‪ ،‬وقلة عقله‪ ،‬وألجمه الحجة‪ ،‬وأوضح له طريق‬
‫المحجة‪.‬‬
‫قال المفسرون وغيرهم من علماء النسب واألخبار‪ ،‬وهذا الملك هو ملك بابل‪،‬‬
‫واسمه النمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح قال مجاهد‪ .‬وقال غيره‪ :‬نمرود بن‬
‫فالح بن عابر بن صالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح‪.‬‬
‫قال مجاهد وغيره‪ :‬وكان أحد ملوك الدنيا‪ ،‬فإنه قد ملك الدنيا فيما ذكروا أربعة‪:‬‬
‫مؤمنان وكافران‪ .‬فالمؤمنان‪ :‬ذو القرنين وسليمان‪ .‬والكافران‪ :‬النمرود وبختنصّر‪.‬‬
‫وذكروا أن نمرود هذا استمر في ملكه أربعمائة سنة‪ ،‬وكان طغا وبغا‪ ،‬وتجبر وعتا‪،‬‬
‫وآثر الحياة الدنيا‪.‬‬
‫ولما دعاه إبراهيم الخليل إلى عبادة هللا وحده ال شريك له حمله الجهل والضالل‬
‫وطول اآلمال على إنكار الصانع‪ d،‬فحا ّج إبراهيم الخليل في ذلك وادعى لنفسه الربوبية‪.‬‬
‫فلما قال الخليل‪( :‬ربي الذي يحي ويميت قال‪ :‬أنا أحي وأميت)‪.‬‬
‫قال قتادة وال ُّسدِّي و ُم َح ْمد بن إسحاق‪ :‬يعني أنه إذا آتى بالرجلين قد تحتم قتلهما‪ ،‬فإذا‬
‫أمر بقتل أحدهما‪ ،‬وعفا عن اآلخر‪ ،‬فكأنه قد أحيا هذا وأمات اآلخر‪.‬‬
‫وهذا ليس بمعارضة للخليل‪ ،‬بل هو كالم خارجي عن مقام المناظرة‪ ،‬ليس بمنع وال‬
‫بمعارضة‪ ،‬بل هو تشغيب محض‪ ،‬وهو انقطاع في الحقيقة‪ ،‬فإن الخليل استدل على وجود‬
‫الصانع بحدوث هذه المشاهدات من إحياء الحيوانات‪ d‬وموتها‪( ،‬هذا دليل) على وجود‬
‫فاعل‪( .‬و) ذلك‪ ،‬الذي ال بد من استنادها إلى وجوده ضرورة عدم قيامها بنفسها‪ ،‬وال بد‬
‫من فاعل لهذه الحوادث المشاهدة من خلقها وتسخيرها وتسيير هذه الكواكب والرياح‬
‫والسحاب والمطر وخلق هذه الحيوانات‪ d‬التي توجد مشاهدة‪ ،‬ثم إماتتها ولهذا قَ َ‬
‫ال إِب َْرا ِهي ُم‪:‬‬
‫{ َربِّي الَّ ِذي يُحْ يِي َويُ ِم ُ‬
‫يت}‪.‬‬
‫فقول هذا الملك الجاهل‪( d‬أنا أحيي وأميت) إن عنى أنه الفاعل لهذه المشاهدات فقد‬
‫كابر وعاند‪ ،‬وإن عنى ما ذكره قتادة وال ُّسدِّي و ُم َح ْمد بن إسحاق فلم يقل شيئا ً يتعلق بكالم‬
‫الخليل إذ لم يمنع مقدمة وال عارض الدليل‪.‬‬
‫ولما كان انقطاع مناظرة هذا الملك قد تخفى على كثير من الناس ممن حضره‬
‫وغيرهم‪ ،‬ذكر دليالً آخر بين وجود الصانع وبطالن ما ا ّدعاه النمرود وانقطاعه جهرة‪:‬‬
‫ب} أي هذه الشمس مسخرة‬ ‫ق فَأْ ِ‬
‫ت بِهَا ِم ْن ْال َم ْغ ِر ِ‬ ‫س ِم ْن ْال َم ْش ِر ِ‬
‫ْ‬
‫قَال‪{ :‬فَإِ َّن هَّللا َ يَأتِي بِال َّش ْم ِ‬
‫كل يوم تطلع من المشرق كما سخرها خالقها‪ d‬ومسيرها وقاهرها‪ .‬وهو الذي ال إله إال هو‬
‫خالق كل شيء‪ .‬فإن كنت كما زعمت من أنك الذي تحي وتميت فأت بهذه الشمس من‬
‫فإن الذي يحي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء وال يمانع وال يغالب بل قد قهر كل‬ ‫المغرب ّ‬
‫شيء‪ ،‬ودان له كل شيء‪ ،‬فإن كنت كما تزعم فافعل هذا‪ ،‬فإن لم تفعله فلست كما زعمت‪،‬‬
‫وأنت تعلم وكل أحد‪ ،‬أنك ال تقدر على شيء من هذا بل أنت أعجز وأقل من أن تخلق‬
‫بعوضة أو تنتصر منها‪.‬‬
‫فبين ضالله وجهله وكذبه فيما ادعاه‪ ،‬وبطالن ما سلكه وتبجح به عند جهلة قومه‪،‬‬
‫ت الَّ ِذي َكفَ َر َوهَّللا ُ ال‬
‫ولم يبق له كالم يجيب الخليل به بل انقطع وسكت‪ .‬ولهذا قال‪{ :‬فَبُ ِه َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫يَ ْه ِدي ْالقَ ْو َم الظَّالِ ِم َ‬
‫وقد ذكر ال ُّسدِّي‪ :‬أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم وبين النمرود‪ ،‬يوم خرج من‬
‫النار‪ ،‬ولم يكن اجتمع به يومئذ‪ ،‬فكانت بينهما هذه المناظرة‪.‬‬
‫وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم‪ :‬أن النمرود كان عنده طعام‪،‬‬
‫وكان الناس يفدون إليه للميرة‪ ،‬فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة ولم يكن اجتمع به‬
‫إال يومئذ‪ ،‬فكان بينهما هذه المناظرة‪ ،‬ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس‪ ،‬بل‬
‫خرج وليس معه شيء من الطعام‪.‬‬
‫فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب فمأل منه عدليه وقال‪ :‬اشغل أهلي إذا‬
‫قدمت عليهم‪ ،‬فلما قدم‪ :‬وضع رحاله وجاء فاتكأ فنام‪ ،‬فقامت امرأته سارة إلى العدلين‬
‫فوجدتهما مآلنين طعاما ً طيباً‪ ،‬فعملت منه طعاما ً‪ .‬فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد‬
‫ق َرزقَهُموه هللا عز‬ ‫أصلحوه؛ فقال‪ :‬أنى لكم هذا؟ قالت‪ :‬من الذي جئت به‪ .‬فعرف أنه ِر ْز ٌ‬
‫وجل‪.‬‬
‫قال زيد بن أسلم‪ :‬وبعث هللا إلى ذلك الملك الجبّار ملكا ً يأمره باإليمان باهلل فأبى‬
‫عليه‪ .‬ثم دعاه الثانية فأبى عليه‪ .‬ثم دعاه الثالثة فأبى عليه‪ .‬وقال‪ :‬اجمع جموعك وأجمع‬
‫جموعي‪.‬‬
‫فجمع النمرود جيشه وجنوده‪ ،‬وقت طلوع الشمس فأرسل هللا عليه ذبابا ً من‬
‫البعوض‪ ،‬بحيث لم يروا عين الشمس وسلّطها هللا عليهم‪ ،‬فأكلت لحومهم ودمائهم‬
‫ك فمكثت في منخره أربعمائة‬ ‫وتركتهم عظاما ً باديةً‪ ،‬ودخلت واحدةٌ منها في م ْن َخر المل ِ‬
‫بالمرازب في هذه المدة كلها حتى أهلكه هللا‬ ‫ِ‬ ‫سنة‪ ،‬عذبه هللا تعالى بها فكان يُضْ َربُ رأسُه‬
‫عز وجل بها‪.‬‬

‫ذكر هجرة الخليل عليه السالم إلى بالد الشام‪ ،‬ودخوله الديار المصرية واستقراره‬
‫في األرض المقدسة‬
‫اج ٌر إِلَى َربِّي إِنَّهُ هُ َو ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم‪َ ،‬و َوهَ ْبنَا لَهُ‬ ‫ال إِنِّي ُمهَ ِ‬ ‫قال هللا‪{ :‬فَآ َم َن لَهُ لُوطٌ َوقَ َ‬
‫اب َوآتَ ْينَاهُ أَجْ َرهُ فِي ال ُّد ْنيَا َوإِنَّهُ فِي اآل ِخ َر ِة‬ ‫وب َو َج َع ْلنَا فِي ُذرِّ يَّتِ ِه النُّبُ َّوةَ َو ْال ِكتَ َ‬
‫ق َويَ ْعقُ َ‬ ‫إِ ْس َحا َ‬
‫لَ ِم ْن الصَّالِ ِح َ‬
‫ين}‪.‬‬
‫ين‪َ ،‬و َوهَ ْبنَا لَهُ‬ ‫ض الَّتِي بَا َر ْكنَا فِيهَا لِ ْل َعالَ ِم َ‬ ‫وقال تعالى‪َ { :‬ونَ َّج ْينَاهُ َولُوطا ً إِلَى األَرْ ِ‬
‫ون بِأ َ ْم ِرنَا َوأَ ْو َح ْينَا إِلَ ْي ِه ْم‬
‫ين‪َ d،‬و َج َع ْلنَاهُ ْم أَئِ َّمةً يَ ْه ُد َ‬ ‫صالِ ِح َ‬ ‫وب نَافِلَةً َو ُكال َج َع ْلنَا َ‬ ‫ق َويَ ْعقُ َ‬ ‫إِ ْس َحا َ‬
‫ين}‪.‬‬‫ت َوإِقَا َم ِة الصَّال ِة َوإِيتَا َء ال َّز َكا ِة َو َكانُوا لَنَا َعابِ ِد َ‬ ‫فِع َْل ْال َخي َْرا ِ‪d‬‬

‫لما هجر قومه في هللا وهاجر من بين أظهرهم وكانت امرأته عاقراً ال يولد لها‪ ،‬ولم‬
‫يكن له من الولد أحد بل معه ابن أخيه لوط بن هاران بن آزر‪ ،‬وهبه هللا تعالى بعد ذلك‬
‫األوالد الصالحين‪ ،‬وجعل في ذريته النبوة والكتاب‪ d،‬فكل نبي بعث بعده فهو من ذريته‪،‬‬
‫وكل كتاب نزل من السماء على نبي من األنبياء من بعده فعلى أحد نسله وعقبه‪ ،‬خلعة‬
‫من هللا وكرامة له‪ ،‬حين ترك بالده وأهله وأقرباءه‪ ،‬وهاجر إلى بلد يتمكن فيها من عبادة‬
‫ربه عز وجل‪ ،‬ودعوة الخلق إليه‪.‬‬
‫واألرض التي قصدها بالهجرة أرض الشام‪ ،‬وهي التي قال هللا عز وجل‪{ :‬إِلَى‬
‫ين}‪.‬‬‫ار ْكنَا فِيهَا لِ ْل َعالَ ِم َ‬ ‫األَرْ ِ‬
‫ض الَّتِي بَ َ‬
‫قاله أُبَ ّي بن َكعب وأبو العالية وقتادة وغيرهم‪.‬‬
‫ين} مكة ألم‬ ‫ار ْكنَا فِيهَا لِ ْل َعالَ ِم َ‬ ‫وروى العوفي عن ابن عبَّاس قوله‪{ :‬إِلَى األَرْ ِ‬
‫ض الَّتِي بَ َ‬
‫ين} وزعم كعب‬ ‫اركا ً َوهُدًى لِ ْل َعالَ ِم َ‬
‫اس لَلَّ ِذي بِبَ َّكةَ ُمبَ َ‬
‫ض َع لِلنَّ ِ‬
‫ت ُو ِ‬ ‫تسمع إلى قوله {إِ َّن أَ َّو َل بَ ْي ٍ‬
‫األحبار أنها حران‪.‬‬
‫وقد قدمنا عن نقل أهل الكتاب أنه خرج من أرض بابل هو وابن أخيه لوط وأخوه‬
‫ناحور وامرأة إبراهيم سارة‪ ،‬وامرأة أخيه "ملكا"‪ ،‬فنزلوا حران فمات تارح أبو إبراهيم‬
‫بها‪.‬‬
‫وقال ال ُّسدِّي‪ :‬انطلق إبراهيم ولوط قبل الشام‪ ،‬فلقي إبراهيم سارة وهي ابنة ملك‬
‫حران‪ ،‬وقد طعنت على قومها في دينهم فتزوجها على أن ال يغيرها‪ .‬رواه ابن جرير‬
‫وهو غريب‪.‬‬
‫والمشهور أنها ابنة عمه هاران‪ ،‬الذي تنسب إليه حران‪.‬‬

‫ومن زعم أنها ابنة أخيه هاران أخت لوط كما حكاه السهيلي عن القتيبي والنقاش فقد‬
‫أبعد النجعة‪ ،‬وقال بال علم‪.‬‬
‫ومن ادعى أن تزويج بنت األخ كان إذ ذاك مشروعاً‪ ،‬فليس له على ذلك دليل‪ .‬ولو‬
‫فرض أن هذا كان مشروعا ً في وقت كما هو منقول عن الربانيين من اليهود فإن األنبياء‬
‫ال تتعاطاه وهللا أعلم‪ .‬ثم المشهور أن إبراهيم عليه السالم لما هاجر من بابل خرج بسارة‬
‫مهاجراً من بالده كما تقدم وهللا أعلم‪.‬‬
‫وذكر أهل الكتاب‪ :‬أنه لما قدم الشام أوحى هللا إليه "إني جاعل هذه األرض لخلفك‬
‫من بعدك" فابتنى إبراهيم مذبحا ً هلل شكراً على هذه النعمة‪ ،‬وضرب قبته شرقي بيت‬
‫ع‪ ،‬أي قحط وش ّدة وغالء‪ ،‬فارتحلوا‬ ‫المقدس‪ ،‬ثم انطلق مرتحالً إلى التيمن‪ ،‬وأنه كان جو ٌ‬
‫إلى مصر‪.‬‬
‫وذكروا قصّة سارة مع ملكها‪ ،‬وأن إبراهيم قال لها‪ :‬قولي أنا أخته وذكروا اخدام‬
‫الملك إيّاها هاجر‪ .‬ثم أخرجهم منها فرجعوا إلى بالد التيمن يعني أرض بيت المقدس‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وما واالها ومعه دواب وعبيد وأموال‪.‬‬
‫ي‪َ :‬ح َّدثَنا ُم َح ْمد بن محبوب‪َ ،‬ح َّدثَنا حماد بن زيد‪ ،‬عن أيوب عن محمد‪،‬‬ ‫وقال البُ َخار ّ‬
‫عن أبي هريرة قال‪" :‬لم يكذب إبراهيم إال ثالث كذبات اثنتان منهن في ذات هللا قوله‬
‫{إِنِّي َسقِي ٌم} وقوله {بَلْ فَ َعلَهُ َكبِي ُرهُ ْم هَ َذا} وقال بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار‬
‫من الجبابرة فقيل له إن هاهنا رجل معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه وسأله عنها؟‬
‫فقال من هذه؟ قال‪ :‬أختي فأتى سارة فقال‪ :‬يا سارة ليس على وجه األرض مؤمن غيري‬
‫وغيرك‪ ،‬وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي فال تكذبيني‪.‬‬
‫فأرسل إليها فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده‪ ،‬فأخذ فقال ادعى هللا لي وال أضرك‪،‬‬
‫فدعت هللا فأطلق‪ ،‬ثم تناولها الثانية مثلها أو أشد‪ ،‬فقال "ادعي هللا لي وال أضرك‪ ،‬فدعت‬
‫فأطلقت‪ .‬فدعا بعض حجبته فقال‪ :‬إنكم لم تأتوني بإنسان وإنما أتيتموني بشيطان‪ ،‬فأخدمها‬
‫هاجر‪.‬‬
‫فأتته وهو قائم يصلي فأومأ بيده َم ْهيَ ْم‪ .‬فقالت‪ :‬رد هللا كيد الكافر أو الفاجر في نحره‪،‬‬
‫وأخدم هاجر‪.‬‬
‫قال أبو هريرة‪ :‬فتلك أمكم يا بني ماء السماء"‪.‬‬
‫تفرد به من هذا الوجه موقوفا ً‪.‬‬
‫وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار‪ ،‬عن عمرو بن علي الفالس‪ ،‬عن عبد الوهاب‬
‫يرين‪ ،‬عن أبي هريرة عن النبي صلى هللا‬ ‫الثقفي‪ ،‬عن هشام بن حسام‪ ،‬عن ُم َح ْمد بن ِس ِ‬
‫عليه وسلم قال‪" :‬إن إبراهيم لم يكذب قط إال ثالث كذبات كل ذلك في ذات هللا قوله {إِنِّي‬
‫َسقِي ٌم} وقوله {بَلْ فَ َعلَهُ َكبِي ُرهُ ْم هَ َذا} وبينما هو يسير في أرض جبار من الجبابرة‪ ،‬إذ‬
‫نزل منزالً فأتى الجبار فقيل له‪ :‬إنه قد نزل هاهنا رجل معه امرأة من أحسن الناس‪.‬‬
‫إن هذا سألني عنك؟ فقلت إنك‬ ‫فأرسل إليه فسأله عنها فقال إنها أختي‪ ،‬فلما رجع إليها قال َّ‬
‫أختي وإنه ليس اليوم مسلم غيري وغيرك وأنك أختي فال تكذبيني عنده‪.‬‬
‫فانطلق بها‪ ،‬فلما ذهب يتناولها أخذ فقال‪" :‬ادعى هللا لي وال أضرك‪ ،‬فدعت له‬
‫فأرسل‪ ،‬فذهب يتناولها فأخذ مثلها أو أشد منها‪.‬‬

‫فقال ادعي هللا لي وال أضرك فدعت فأرسل ثالث مرات فدعا أدنى حشمه فقال‪ :‬إنك‬
‫لم تأتني بإنسان ولكن أتيتني بشيطان أخرجها وأعطها هاجر‪.‬‬
‫فجاءت وإبراهيم قائم يصلي فلما أحس بها انصرف فقال‪َ :‬م ْهيَ ْم‪ ،‬فقالت‪ :‬كفى هللا كيد‬
‫الظالم وأخدمني هاجر"‪.‬‬
‫وأخرجاه من حديث هشام‪ .‬ثم قال البزار‪ :‬ال يعلم أسنده عن محمد عن أبي هريرة إال‬
‫هشام ورواه غيره موقوفا ً‪.‬‬
‫وقال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا علي بن الحفص‪ ،‬عن ورقاء ‪ -‬هو أبو عمر اليشكري ‪ -‬عن‬
‫أبي الزناد‪ ،‬عن األعرج‪ ،‬عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬لم‬
‫يكذب إبراهيم إال ثالث كذبات قوله حين دعي إلى آلهتهم فقال {إِنِّي َسقِي ٌم} وقوله {بَلْ‬
‫فَ َعلَهُ َكبِي ُرهُ ْم هَ َذا} وقوله لسارة "إنها أختي"‪.‬‬
‫قال‪ :‬ودخل إبراهيم قرية فيها ملك من الملوك‪ ،‬أو جبار من الجبابرة‪ d،‬فقيل‪ :‬دخل‬
‫إبراهيم الليلة بامرأة من أحسن الناس‪ ،‬قال‪ :‬فأرسل إليه الملك أو الجبار من هذه معك؟‬
‫قال‪ :‬أختي قال‪ :‬فأرسل بها‪ ،‬قال‪ :‬فأرسل بها إليه‪ ،‬وقال ال تكذبي قولي فإني قد أخبرته‬
‫إن ما على األرض مؤمن غيري وغيرك‪.‬‬ ‫ك أختي ْ‬‫أن ِ‬
‫فلما دخلت عليه قام إليها فأقبلت تتوضَّأ وتصلَّي‪ ،‬وتقول اللهم إن كنت تعلم إني آمنت‬
‫ي الكافر‪ d،‬قال‪ :‬فغطَّ حتى‬
‫بك وبرسولك وأحصنت فرجي إالّ على زوجي فال تسلط عل َّ‬
‫َر َك َ‬
‫ض برجله‪.‬‬
‫قال أبو الزناد‪ :‬قال أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة "إنها قالت‪ :‬اللهم أن‬
‫يمت يقال هي قتلته‪ ،‬قال‪ :‬فأرسل‪.‬‬

‫قال‪ :‬ثم قام إليها‪ ،‬قال‪ :‬فقامت تتوضأ وتصلّي وتقول‪ :‬اللهم إن كنت تعلم أني آمنت‬
‫بك وبرسولك وأحصنت فرجي إال على زوجي فال تسلط علي الكافر‪ .‬قال فغطَّ حتى‬
‫ركض برجله‪ ،‬قال أبو الزناد وقال أبو سلمة عن أبي هريرة‪ :‬إنها قالت اللهم أن يمت يقل‬ ‫َ‬
‫هي قتلته‪ ،‬قال‪ :‬فأرسل‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقال في الثالثة أو الرابعة‪ :‬ما أرسلتم إل ّي إال شيطانا ً أرجعوها إلى إبراهيم‪،‬‬
‫وأعطوها هاجر‪.‬‬
‫قال‪ :‬فرجعت فقالت‪ d‬إلبراهيم‪ :‬أشعرت أن هللا رد كيد الكافرين ْ‬
‫وأخ َد َم وليدة! تفرد به‬
‫أحمد من هذا الوجه وهو على شرط الصحيح‪.‬‬
‫ي عن أبي اليمان‪ ،‬عن شعيب بن أبي حمزة‪ ،‬عن أبي الزناد‪ ،‬عن‬ ‫وقد رواه الب َُخار ّ‬
‫األعرج‪ ،‬عن أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه وسلم به مختصراً‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم‪َ :‬ح َّدثَنا أبي‪َ ،‬ح َّدثَنا سفيان‪ ،‬عن علي بن زيد بن جدعان‪ ،‬عن أبي‬
‫نضرة‪ ،‬عن أبي سعيد قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في كلمات إبراهيم الثالث‬
‫التي قالها‪" :‬ما منها كلمة إالّ ما حل بها عن دين هللا فقال‪ :‬إني سقيم‪ ،‬وقال بل فعله كبيرهم‬
‫هذا‪ ،‬وقال للملك حين أراد امرأته‪ :‬هي أختي"‪.‬‬
‫فقوله في الحديث "هي أختي"‪ ،‬أي في دين هللا‪ ،‬وقوله لها‪ :‬إنه ليس على وجه‬
‫األرض مؤمن غيري وغيرك يعني زوجين مؤمنين غيري وغيرك‪ ،‬ويتعين حمله على‬
‫هذا ألن لوطا ً كان معهم وهو ٌّ‬
‫نبي عليه السالم‪.‬‬

‫وقوله لها لما رجعت إليه‪َ :‬م ْهيَ ْم؟ معناه ما الخبر؟ فقالت‪ :d‬إن هللا رد كيد الكافرين‪.‬‬
‫وفي رواية الفاجر‪ .d‬وهو الملك‪ d،‬وأخدم جارية‪ .‬وكان إبراهيم عليه السالم من وقت ذهب‬
‫بها إلى الملك قام يصلي هلل عز وجل ويسأله أن يدفع عن أهله‪ ،‬وأن يرد بأس هذا الذي‬
‫ينال منها أمراً قامت إلى‬
‫أراد أهله بسوء‪ ،‬وهكذا فعلت هي أيضاً‪ ،‬فلما أراد عدو هللا‪ ،‬أن َ‬
‫وضوئها وصالتها‪ ،‬ودعت هللا عز وجل بما تقدم من الدعاء العظيم‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪:‬‬
‫صب ِْر َوالصَّال ِة} فعصمها هللا وصانها لعصمة عبده ورسوله وحبيبه وخليله‬ ‫{ َوا ْستَ ِعينُوا بِال َّ‬
‫إبراهيم عليه السالم‪.‬‬
‫وقد ذهب بعضُ العلماء إلى نبوة ثالث نسوة سارة وأم موسى ومريم عليهن السالم‪.‬‬
‫والذي عليه الجمهور أنهن صدِّيقات رضي هللا عنهن وأرضاهن‪.‬‬
‫ورأيت في بعض اآلثار‪ :‬أن هللا عز وجل كشف الحجاب‪ d‬فيما بين إبراهيم عليه‬
‫السالم وبينها‪ ،‬فلم يزل يراها منذ خرجت من عنده إلى أن رجعت إليه‪ ،‬وكان مشاهداً لها‪،‬‬
‫وهي عند الملك‪ ،‬وكيف عصمها هللا منه‪ ،‬ليكون ذلك أطيب لقلبه وأقر لعينه‪ ،‬وأشد‬
‫لطمأنينته‪ ،‬فإنه كان يحبّها حبا ً شديداً لدينها وقرابتها منه‪ ،‬وحسنها الباهر‪ ،‬فإنه قد قيل‪ :‬إنه‬
‫لم تكن امرأة بعد َح َّواء إلى زمانها أحسن منها رضي هللا عنها‪ .‬وهلل الحمد والمنة‪.‬‬
‫فرعون مصر هذا كان أخا ً للضحاك الملك المشهور‬ ‫َ‬ ‫وذكر بعض أهل التواريخ أن‬
‫بالظلم‪ ،‬وكان عامالً ألخيه على مصر‪ .‬ويقال كان اسمه سنان بن علوان بن عبيد بن‬
‫عويج بن عمالق بن الود بن سام بن نوح‪ .‬وذكر ابن هشام في التيجان أن الذي أرادها‬
‫عمرو بن امرئ القيس بن مايلون بن سبأ‪ ،‬وكان على مصر‪ .‬نقله السهيلي وهللا أعلم‪.‬‬
‫ثم إن الخليل عليه السالم رجع من بالد مصر إلى أرض التيمن‪ ،‬وهي األرض‬
‫المقدسة التي كان فيها‪ ،‬ومعه أنعام وعبيد ومال جزيل‪ ،‬وصحبتهم هاجر القبطية‬
‫المصرية‪.‬‬
‫ثم إن لوطا ً عليه السالم نزح بماله من األموال الجزيلة بأمر الخليل له في ذلك إلى‬
‫أرض الغور‪ ،‬المعروف بغور زغر فنزل بمدينة سدوم‪ ،‬وهي أم تلك البالد في ذلك‬
‫الزمان‪ ،‬وكان أهلها أشراراً كفاراً فجاراً‪.‬‬
‫وأوحى هللا تعالى إلى إبراهيم الخليل‪ ،‬فأمره أن يمد بصره‪ ،‬وينظر شماالً وجنوبا ً‬
‫وشرقا ً وغرباً‪ ،‬وب َّشره بأن هذه األرض كلها سأجعلها لك ولخلفك إلى آخر الدهر‪،‬‬
‫وسأكثر ذريتك حتى يصيروا بعدد تراب األرض‪.‬‬
‫وهذه البشارة اتصلت بهذه األمة بل ما كملت وال كانت أعظم منها في هذه األمة‬
‫المحمدية‪ .‬يؤيد ذلك قول رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬إن هللا زوى لي األرض‪،‬‬
‫فرأيت مشارقها ومغاربها‪ ،‬وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها"‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ثم إن طائفة من الجبّارين تسلّطوا على لوط عليه السالم‪ ،‬فأسروه وأخذوا‬
‫أمواله‪ ،‬واستاقوا أنعامه‪ .‬فلما بلغ الخبر إبراهيم الخليل سار إليه في ثالثمائة وثمانية عشر‬
‫رجالً فاستنقذ لوطا ً عليه السالم واسترجع أمواله وقتل من أعداء هللا ورسوله خلقا ً كثيراً‪،‬‬
‫وهزمهم وساق في آثارهم‪ ،‬حتى وصل إلى شمالي دمشق‪ ،‬وعسكر بظاهرها عند برزة‪،‬‬
‫وأظن مقام إبراهيم إنما سمي ألنه كان موقف جيش الخليل وهللا أعلم‪.‬‬
‫ثم رجع مؤيداً منصوراً إلى بالده‪ ،‬وتلقاه ملوك بالد بيت المقدس معظمين له‬
‫مكرمين خاضعين‪ ،‬واستقر ببالده صلوات هللا وسالمه عليه‪.‬‬
‫ذكر مولد إسماعيل عليه السالم ِم ْن هاجر‬
‫قال أهل الكتاب‪ :‬إن إبراهيم عليه السالم سأل هللا ذرية طيبة‪ ،‬وان هللا ب َّشره بذلك‪،‬‬
‫وأنه لما كان إلبراهيم ببالد المقدس عشرون سنة‪ ،‬قالت سارة إلبراهيم عليه السالم‪ ،‬إن‬
‫الرب قد حرمني الولد‪ ،‬فادخل على أمتي هذه‪ ،‬لعل هللا يرزقني منها ولداً‪.‬‬
‫فلما وهبتها له دخل بها إبراهيم عليه السالم‪ ،‬فحين دخل بها حملت منه‪ ،‬قالوا‪ :‬فلما‬
‫حملت ارتفعت نفسها‪ ،‬وتعاظمت على سيدتها‪ ،‬فغارت منها سارة‪ ،‬فشكت ذلك إلى‬
‫إبراهيم‪ ،‬فقال‪ :‬لها افعلي بها ما شئت‪ ،‬فخافت‪ d‬هاجر فهربت‪ ،‬فنزلت عند عين هناك‪ ،‬فقال‬
‫فإن هللا جاع ٌل من هذا الغالم الذي حملت خيراً‪ ،‬وأمرها‬ ‫لها ملك من المالئكة‪ ،‬ال تخافي َّ‬
‫بالرجوع‪ ،‬وب َّشرها أنها ستلد ابناً‪ ،‬وتسمية إسماعيل‪ ،‬ويكون وحش الناس‪ ،‬يده على الكل‬
‫ويد الكل به‪ ،‬ويملك جميع بالد اخوته‪ ،‬فشكرت هللا عز وجل على ذلك‪.‬‬
‫وهذه البشارة إنما انطبقت على ولده محمد صلوات هللا وسالمه عليه‪ ،‬فإنه الذي به‬
‫سادت العرب‪ ،‬وملكت جميع البالد غربا ً وشرقاً‪ ،‬وأتاها هللا من العلم النافع والعمل‬
‫ت أُ ّمةٌ من األمم قبلهم‪ ،‬وما ذاك إال بشرف رسولها على سائر الرسل‪،‬‬ ‫الصالح ما لم تُ ْؤ َ‬
‫وبركة رسالته ويمن بشارته وكماله فيما جاء به‪ ،‬وعموم بعثته لجميع أهل األرض‪.‬‬
‫ولما رجعت هاجر وضعت إسماعيل عليه السالم‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وولدته وإلبراهيم من العمر ست وثمانون سنة‪ ،‬قبل مولد إسحاق بثالث عشرة‬
‫سنة‪.‬‬
‫ولما ولد إسماعيل أوحى هللا إلى إبراهيم يبشره بإسحاق من سارة‪ ،‬فخر هلل ساجداً‪،‬‬
‫وقال له وقد استجبت لك في إسماعيل وباركت عليه وكثرته ويمنته جداً كثيراً‪ ،‬ويولد له‬
‫اثنا عشر عظيما ً‪ .‬وأجعله رئيسا ً لشعب عظيم‪.‬‬
‫وهذه أيضا ً بشارة بهذه األمة العظيمة‪ ،‬وهؤالء االثنا عشر عظيما ً هم الخلفاء‬
‫الراشدون االثنا عشر المبشر بهم في حديث عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة عن‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم قال"يكون اثنا عشر أميراً" ثم قال كلمة لم أفهمها‪ ،‬فسألت أبي‬
‫ما قال؟ قال‪" :‬كلهم من قريش" أخرجاه في "الصحيحين"‪.‬‬
‫وفي رواية "ال يزال هذا األمر قائما ً" وفي رواية (عزيزاً حتى يكون اثنا عشر‬
‫خليفة كلهم من قريش)‪.‬‬

‫فهؤالء منهم األئمة األربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي‪ .‬ومنهم عمر بن عبد‬
‫العزيز أيضا ً‪ .‬ومنهم بعض بني العباس وليس المراد أنهم يكونون اثني عشر نسقا ً بل ال‬
‫بد من وجودهم‪.‬‬
‫وليس المراد األئمة األثني عشر الذين يعتقد فيهم الرافضة الذين أولهم علي بن أبي‬
‫طالب وأخرهم المنتظر بسرداب سامرّا وهو ُم َح ْمد بن الحسن العسكري فيما يزعمون‪،‬‬
‫فإن أولئك لم يكن فيهم أنفع من علي وابنه الحسن بن علي‪ ،‬حين ترك القتال وسلم األمر‬
‫لمعاوية‪ ،‬وأخمد نار الفتنة‪ ،‬وسكن رحى الحرب‪ d‬بين المسلمين‪ ،‬والباقون من جملة الرعايا‬
‫لم يكن لهم حكم على األمة في أمر من األمور‪ .‬وأما ما يعتقدونه بسرداب سامرا فذلك‬
‫ه َوسٌ في الرؤوس‪ ،‬وهذيان في النفوس ال حقيقة له وال عين وال أثر‪.‬‬
‫والمقصود أن هاجر عليها السالم لما ولد لها إسماعيل واشتدت غيرة سارة منها‪،‬‬
‫وطلبت من الخليل أن يغيب وجهها عنها‪ ،‬فذهب بها وبولدها فسا َر بهما حتى وضعهما‬
‫حيث مكة اليوم‪.‬‬
‫إن ولدها كان إذ ذاك رضيعا ً‪.‬‬‫ويقال َّ‬
‫فلما تركهما هناك وولّى ظهره عنهما‪ ،‬قامت إليه هاجر وتعلقت بثيابه وقالت‪ :‬يا‬
‫إبراهيم أين تذهب وتدعنا هاهنا‪ ،‬وليس معنا ما يكفينا؟ فلم يجبها‪ ،‬فلما ألحت‪ d‬عليه وهو ال‬
‫يجيبها‪ ،‬قالت له‪ :‬آهلل أمرك بهذا؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قالت فإذاً ال يضيّعنا‪.‬‬
‫وقد ذكر الشيخ أبو ُم َح ْمد بن أبي زيد رحمه هللا في كتاب النوادر‪ :‬أن سارة غضبت‬
‫على هاجر‪ ،‬فحلفت لتقطعن ثالثة أعضاء منها‪ ،‬فأمرها الخليل أن تثقب أذنيها‪ ،‬وأن‬
‫ضها فتبر قس َمها‪.‬‬ ‫تخف َ‬
‫قال السهيلي‪ :‬فكانت أول من اختتن من النساء‪ ،‬وأول من ثقبت أذنها منهن‪ ،‬وأول من‬
‫ط ّولت ذيلها‪.‬‬

‫ذكر مهاجرة إبراهيم بابنه إسماعيل وأمه هاجر إلى جبال فاران وهي أرض م ّكة‪،‬‬
‫وبنائه البيت العتيق‪.‬‬
‫ي‪ :‬قال عبد هللا بن محمد ‪ -‬هو أبو بكر بن أبي شيبه ‪َ -‬ح َّدثَنا عبد الرزاق‪،‬‬
‫قال الب َُخار ّ‬
‫َح َّدثَنا معمر‪ ،‬عن أيوب السختياني وكثير بن كثير بن عبد المطلب بن أبي وداعة‪ ،‬يزيد‬
‫أحدهما عن اآلخر‪ ،‬عن سعيد بن جبير‪ ،‬عن ابن عبَّاس قال‪" :‬أول ما اتخذ النساء المنطق‬
‫من قبل أم إسماعيل‪ ،‬اتخذت منطقا ً لتعفى أثرها على سارة"‪ .‬ثم جاء بها إبراهيم وبابنها‬
‫إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت‪ ،‬عند دوحة فوق زمزم في أعلى‬
‫المسجد وليس بمكة يومئذ أحد‪ ،‬وليس بها ماء فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا ً فيه‬
‫تمر‪ ،‬وسقاء فيه ماء‪.‬‬
‫ثم قفّى إبراهيم منطلقاً‪ ،‬فتبعته أم إسماعيل فقالت‪ :‬يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا‬
‫الوادي الذي ليس به أنيس وال شيء؟ فقالت له ذلك مراراً؛ وجعل ال يلتفت إليها‪ ،‬فقالت‪d‬‬
‫له‪ :‬آهلل أمرك بهذا؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قالت‪ :‬إذا ال يضيعنا‪ .‬ثم رجعت‪.‬‬
‫فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث ال يرونه استقبل بوجهه البيت‪ ،‬ثم دعا‬
‫ع ِع ْن َد‬‫نت ِم ْن ُذ ِّريَّتِي بِ َوا ٍد َغي ِْر ِذي َزرْ ٍ‬ ‫بهؤالء الدعوات‪ d،‬ورفع يديه فقال‪َ { :‬ربَّنَا إِنِّي أَ ْس َك ُ‬
‫ت‬ ‫ك ْال ُم َحر َِّم َربَّنَا لِيُقِي ُموا الصَّالةَ فَاجْ َعلْ أَ ْفئِ َدةً ِم ْن النَّ ِ‬
‫اس تَه ِْوي إِلَ ْي ِه ْم َوارْ ُز ْقهُ ْم ِم ْن الثَّ َم َرا ِ‬ ‫بَ ْيتِ َ‬
‫ُون}‪.‬‬ ‫لَ َعلَّهُ ْم يَ ْش ُكر َ‬
‫وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفذ ما في‬
‫السقاء عطشت وعطش ابنها‪ ،‬وجعلت تنظر إليه يتلوى‪ ،‬أو قال‪ :‬يتلبط‪ ،‬فانطلقت كراهية‬
‫أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في األرض يليها‪ ،‬فقامت عليه‪ ،‬ثم استقبلت‬
‫الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً‪ ،‬فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت بطن الوادي‬
‫رفعت طرف درعها ثم سعت سعي اإلنسان المجهود‪ ،‬حتى جاوزت الوادي‪ ،‬ثم أتت‬
‫المروة فقامت عليها‪ ،‬ونظرت هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرات‪.‬‬
‫قال ابن عبَّاس قال النبي صلى هللا عليه وسلم "فلذلك سعى الناس بينهما"‪.‬‬
‫فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا ً فقالت‪ :‬صه‪ ،‬تريد نفسها‪.‬‬
‫ثم تسمعت فسمعت أيضاً‪ d،‬فقالت‪ :‬قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك‬
‫عند موضع زمزم‪ ،‬فبحث بعقبه‪ ،‬أو قال بجناحه‪ ،‬حتى ظهر الماء‪ d،‬فجعلت تحوضُه‬
‫وتقول بيدها هكذا‪ ،‬وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف‪.‬‬
‫قال ابن عبَّاس قال النبي صلى هللا عليه وسلم "يرحم هللا أم إسماعيل لو تركت‬
‫زمزم"‪ .‬أو قال‪" :‬لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا ً َم ِعيْنا ً"‪ .‬قال‪ :‬فشربت‬
‫وأرضعت ولدها‪ .‬فقال لها الملك‪ :‬ال تخافي الضيعة‪ ،‬فإن هاهنا بيتا ً هلل يبنيه هذا الغالم‬
‫وأبوه‪ ،‬وإن هللا ال يضيع أهله‪.‬‬
‫وكان البيت مرتفعا ً من األرض كالرابية‪ ،‬تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله‪،‬‬
‫فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم‪ ،‬أو أهل بيت من جرهم‪ ،‬مقبلين من طريق‬
‫كداء‪ ،‬فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن هذا الطائر ليدور على الماء‪d،‬‬
‫لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء‪ ،‬فأرسلوا جريا أو جرييّن فإذا هم بالماء‪ ،‬فرجعوا‬
‫فأخبروهم بالماء‪ d،‬فأقبلوا‪.‬‬
‫قال‪ :‬وأم إسماعيل عند الماء‪ ،‬فقالوا‪ :‬أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت‪ :‬نعم ولكن ال‬
‫ق لكم في الماء عندنا‪ .‬قالوا‪ :‬نعم‪.‬‬ ‫ح َّ‬
‫قال عبد هللا بن عبَّاس قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪" :‬فألفى ذلك أ َّم إسماعيل وهي‬
‫تحب األنس‪ ،‬فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم‪ ،‬فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم‪.‬‬
‫وشبَّ الغالم وتعلّم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب‪ ،‬فلما أدرك‪ ،‬ز ّوجوه‬
‫امرأة منهم‪.‬‬
‫وماتت أم إسماعيل‪ ،‬فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل‪ ،‬يطالع تركته فلم يجد‬
‫إسماعيل‪ ،‬فسأل امرأته عنه؟ فقالت‪ :d‬خرج يبتغي لنا‪ .‬ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم؟‬
‫فقالت‪ :‬نحن بشرٍّ نحن في ضيق وش ّد ٍة وشكت إليه‪ .‬قال‪ :‬فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه‬
‫السالم وقولي له يغيّر عتبة بابه‪.‬‬
‫فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً‪ ،‬فقال‪ :‬هل جاءكم من أحد؟ فقالت‪ :d‬نعم جاءنا شيخ‬
‫كذا كذا‪ ،‬فسألنا عنك فأخبرته‪ ،‬وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة‪ .‬قال‪ :‬فهل‬
‫أوصاك بشيء؟ قالت‪ :‬نعم أمرني أن أقرأ عليك السالم‪ ،‬ويقول لك غيّر عتبة بابك‪ .‬قال‪:‬‬
‫ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك‪ d،‬فالحقي بأهلك‪ ،‬وطلقها وتز َّوج منهم أخرى‪ ،‬ولبث عنهم‬
‫إبراهيم ما شاء هللا‪ .‬ثم أتاهم بعد فلم يجده‪ ،‬فدخل على امرأته فسألها عنه؟ فقالت‪ :‬خرج‬
‫يبتغي لنا‪ ،‬قال‪ :‬كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم‪ ،‬فقالت‪ :‬نحن بخير وسعة‪ ،‬وأثنت‬
‫على هللا عز وجل‪ ،‬فقال‪ :‬ما طعامكم؟ قالت‪ :‬اللحم قال‪ :‬فما شرابكم؟ قالت‪ :‬الماء‪ .‬قال‬
‫اللهم بارك لهم في اللحم والماء‪.‬‬
‫قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ولم يكن لهم يومئذ حب‪ .‬ولو كان لهم حب لدعا لهم‬
‫فيه" قال‪ :‬فهما ال يخلو عليهما أحد بغير مكة إال لم يوافقاه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السالم و ُمريه يثبت عتبة بابه‪ .‬فلما جاء إسماعيل‬
‫قال هل أتاكم من أحد؟ قالت‪ :‬نعم أتانا شيخ حسن الهيئة‪ ،‬وأثنت عليه‪ ،‬فسألني عنك‬
‫فأخبرته فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنّا بخير‪ .‬قال‪ :‬فأوصاك بشيء؟ قالت‪ :‬نعم هو يقرأ‬
‫عليك السالم ويأمرك أن تثبت عتبة بابك‪ .‬قال‪ :‬ذاك أبي وأنت العتبة‪ ،‬أمرني أن أمسكك‪.‬‬
‫ثم ما لبث عنهم ما شاء هللا‪ .‬ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نَ ْبالً له تحت دوح ٍة‬
‫قريبا ً من زمزم‪ ،‬فلما رآه قام إليه فصنعا‪ ،‬كما يصنع الوالد بالولد‪ ،‬والولد بالوالد‪ .‬ثم قال‪:‬‬
‫يا إسماعيل إن هللا أمرني بأمر‪ ،‬قال‪ :‬فاصنع ما أمرك به ربك‪ ،‬قال‪ :‬وتعينني؟ قال‪:‬‬
‫وأعينك‪ .‬قال‪ :‬فإن هللا أمرني أن أبني هاهنا بيتاً‪ ،‬وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها‪.‬‬
‫قال فعند ذلك رفعا القواعد من البيت‪ ،‬فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة‪ d،‬وإبراهيم يبني‬
‫حتى إذا ارتفع البناء‪ ،‬جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه‪ ،‬وهو يبني وإسماعيل يناوله‬
‫ت ال َّس ِمي ُع ْال َعلِي ُم}‪.‬‬
‫ك أَ ْن َ‬
‫الحجارة‪ d،‬وهما يقوالن { َربَّنَا تَقَبَّلْ ِمنَّا إِنَّ َ‬
‫ك أَ ْن َ‬
‫ت‬ ‫قال‪ :‬فجعال يبنيان‪ ،‬حتى يدورا حول البيت‪ ،‬وهما يقوالن‪َ { :‬ربَّنَا تَقَبَّلْ ِمنَّا إِنَّ َ‬
‫ال َّس ِمي ُع ْال َعلِي ُم}‪.‬‬
‫ثم قال‪َ :‬ح َّدثَنا عبد هللا بن محمد‪َ ،‬ح َّدثَنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو‪َ ،‬ح َّدثَنا إبراهيم‬
‫بن نافع‪ ،‬عن كثير بن كثير‪ ،‬عن سعيد بن جبير‪ ،‬عن ابن عبَّاس قال‪ :‬لما كان من إبراهيم‬
‫وأهله ما كان‪ ،‬خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم َشنَّةٌ فيها ماء‪ .‬وذكر تمامه بنحو ما‬
‫تقدم‪.‬‬
‫وهذا الحديث من كالم ابن عبَّاس وموشح برفع بعضه‪ ،‬وفي بعضه غرابة‪ ،‬وكأنه‬
‫مما تلقاه ابن عبَّاس عن اإلسرائيليات‪ d،‬وفيه أن إسماعيل كان رضيعا ً إذ ذاك‪.‬‬
‫وعند أهل التوراة أن إبراهيم أمره هللا بأن يختن ولده إسماعيل‪ ،‬وكل من عنده من‬
‫العبيد‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬فختنهم‪ ،‬وذلك بعد مضي تسع وتسعين سنة من عمره‪ ،‬فيكون عمر‬
‫إسماعيل يومئذ ثالث عشرة سنة‪ ،‬وهذا امتثال ألمر هللا عز وجل في أهله‪ ،‬فيدل على أنه‬
‫فعله على وجه الوجوب‪ ،‬ولهذا كان الصحيح من أقوال العلماء أنه واجب على الرجال‬
‫كما هو مقرر في موضعه‪.‬‬
‫ي‪َ :‬ح َّدثَنا قتيبة بن سعيد‪َ ،‬ح َّدثَنا مغيرة بن عبد‬
‫وقد ثبت في الحديث الذي رواه البُ َخار ّ‬
‫الرحمن القرشي‪ ،‬عن أبي الزناد عن األعرج عن أبي هريرة قال‪ :‬قال النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم "اختتن إبراهيم النبي عليه السالم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم"‪.‬‬
‫تابعه عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي الزناد‪ ،‬وتابعه عجالن عن أبي هريرة‪ ،‬ورواه‬
‫ُم َح ْمد بن عمرو عن أبي سلمة‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬وهكذا رواه مسلم عن قتيبة به‪.‬‬
‫وفي بعض األلفاظ‪" :‬اختتن إبراهيم بعد ما أتت عليه ثمانون سنة واختتن بالقدوم"‬
‫والقدوم هو اآللة‪ ،‬وقيل‪ :‬موضع‪.‬‬
‫وهذا اللفظ ال ينافي الزيادة على الثمانين‪ .‬وهللا أعلم لما سيأتي من الحديث عند ذكر‬
‫وفاته عن أبي هريرة عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم "أنه قال اختتن إبراهيم وهو‬
‫ابن مائة وعشرين سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة"‪ .‬رواه ابن حيان في "صحيحه"‪.‬‬
‫وليس في هذا السياق ذكر قصة الذبيح‪ ،‬وأنه إسماعيل‪ ،‬ولم يذكر في قدمات إبراهيم‬
‫عليه السالم إال ثالث مرات‪ ،‬أوالهن بعد أن تزوج إسماعيل بعد موت هاجر‪ ،‬وكيف‬
‫ص َغر الولد على ما ذكر إلى حين تزويجه ال ينظر في حالهم‪ .‬وقد ذكر أن‬ ‫تركهم من حين ِ‬
‫األرض كانت تنطوي له‪ ،‬وقيل إنه كان يركب البراق إذا سار إليهم‪ ،‬فكيف يتخلف عن‬
‫مطالعة حالهم وهم في غاية الضرورة الشديدة والحاجة األكيدة؟!‬
‫وكأن بعض هذا السياق متلقى من اإلسرائيليات ومطرز بشيء من المرفوعات ولم‬
‫يذكر فيه قصة الذبيح‪ ،‬وقد دللنا على أن الذبيح هو إسماعيل على الصحيح في سورة‬
‫الصافات‪.d‬‬

‫قصة الذبيح‬
‫ال إِنِّي َذا ِهبٌ إِلَى َربِّي َسيَ ْه ِدينِي‪َ ،‬ربِّ هَبْ لِي ِم ْن الصَّالِ ِح َ‬
‫ين‪d،‬‬ ‫قال هللا تعالى‪َ { :‬وقَ َ‬
‫ُك فَانظُرْ‬ ‫ي إِنِّي أَ َرى فِي ْال َمنَ ِام أَنِّي أَ ْذبَح َ‬ ‫ْي قَ َ‬
‫ال يَا بُنَ َّ‬ ‫الم َحلِ ٍيم‪ ،‬فَلَ َّما بَلَ َغ َم َعهُ ال َّسع َ‬ ‫فَبَ َّشرْ نَاهُ بِ ُغ ٍ‬
‫ين‪ ،‬فَلَ َّما أَ ْسلَ َما َوتَلَّهُ‬
‫ت ا ْف َعلْ َما تُ ْؤ َم ُر َستَ ِج ُدنِي إِ ْن َشا َء هَّللا ُ ِم ْن الصَّابِ ِر َ‬ ‫َما َذا تَ َرى قَا َل يا أب ِ‬
‫ين‪ ،‬إِ َّن هَ َذا لَه َُو‬ ‫ك نَجْ ِزي ْال ُمحْ ِسنِ َ‬ ‫ت الرُّ ْؤيَا إِنَّا َك َذلِ َ‬ ‫لِ ْل َجبِي ِن‪َ ،‬ونَا َد ْينَاهُ أَ ْن يَا إِب َْرا ِهي ُم‪ ،‬قَ ْد َ‬
‫ص َّد ْق َ‬
‫ك‬ ‫ين‪َ ،‬سال ٌم َعلَى إِ ْب َرا ِهي َم‪َ ،‬ك َذلِ َ‬ ‫ْح َع ِظ ٍيم‪َ ،‬وتَ َر ْكنَا َعلَ ْي ِه فِي اآل ِخ ِر َ‬ ‫ين‪َ ،‬وفَ َد ْينَاهُ بِ ِذب ٍ‬‫ْالبَال ُء ْال ُمبِ ُ‬
‫ق نَبِيّا ً ِم ْن الصَّالِ ِحين‪َ ،‬وبَا َر ْكنَا‬ ‫ْحا َ‬‫ين‪َ ،‬وبَ َّشرْ نَاهُ بِإِس َ‬ ‫ين‪ ،‬إِنَّهُ ِم ْن ِعبَا ِدنَا ْال ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫نَجْ ِزي ْال ُمحْ ِسنِ َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ق َو ِم ْن ُذرِّ يَّتِ ِه َما ُمحْ ِس ٌن َوظَالِ ٌم لِنَ ْف ِس ِه ُمبِ ٌ‬ ‫ْحا َ‬ ‫َعلَ ْي ِه َو َعلَى إِس َ‬
‫يذكر تعالى عن خليله إبراهيم أنه لما هاجر من بالد قومه سأل ربه أن يهب له ولداً‬
‫صالحاً‪ d،‬فب ّشره هللا تعالى بغالم حليم وهو إسماعيل عليه السالم‪ ،‬ألنه أول من ولد له على‬
‫ت وثمانين سنة من عمر الخليل‪ .‬وهذا ما ال خالف فيه بين أهل الملل‪ ،‬ألنه أول‬ ‫رأس س ٍ‬
‫ولده وبكره‪.‬‬
‫ْي} أي شبَّ وصار يسعى في مصالحه كأبيه‪ .‬قال مجاهد‪:‬‬ ‫وقوله {فَلَ َّما بَلَ َغ َم َعهُ ال َّسع َ‬
‫ْي} أي شبَّ وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل‪.‬‬ ‫{فَلَ َّما بَلَ َغ َم َعهُ ال َّسع َ‬
‫فلما كان هذا رأى إبراهيم عليه السالم في المنام أنه يؤمر بذبح ولده هذا‪ .‬وفي‬
‫الحديث عن ابن عبَّاس مرفوعا ً "رؤيا األنبياء وح ٌي"‪ .‬قاله عبيد ابن عمير أيضا ً‪.‬‬
‫وهذا اختبار من هللا عز وجل لخليل ِه في أن يذبح هذا الوزير العزيز الذي جاءه على‬
‫كبر‪ ،‬وقد طعن في السن بعد ما أمر بأن يسكنه هو وأمه في بالد قفر‪ ،‬وواد ليس به‬
‫حسيس وال أنيس‪ ،‬وال زرع وال ضرع‪ ،‬فامتثل أمر هللا في ذلك وتركها هناك‪ ،‬ثقة باهلل‬
‫وتوكالً عليه‪ ،‬فجعل هللا لهما فرجا ً ومخرجاً‪ d،‬ورزقهما من حيث ال يحتسبان‪.‬‬
‫ثم لما أمر بعد هذا كله بذبح ولده هذا الذي قد أفرده عن أمر ربه‪ ،‬وهو بكره‬
‫ووحيده‪ ،‬الذي ليس له غيره‪ ،‬أجاب ربَّه وامتثل أمره وسارع إلى طاعته‪.‬‬
‫ليكون أطيب لقلب ِه وأهون عليه‪ ،‬من أن يأخذه قَسْراً ويذبحه‬ ‫َ‬ ‫ك على ولده‬ ‫ثم عرض ذل َ‬
‫ُك فَانظُرْ َما َذا تَ َرى}‪.‬‬ ‫ي إِنِّي أَ َرى فِي ْال َمنَ ِام أَنِّي أَ ْذبَح َ‬ ‫قهراً {قَ َ‬
‫ال يَا بُنَ َّ‬
‫فبادر الغالم الحليم‪ d،‬سر والده الخليل إبراهيم‪ ،‬فقال‪{ :‬يَا أَبَ ِ‬
‫ت ا ْف َعلْ َما تُ ْؤ َم ُر َستَ ِج ُدنِي‬
‫ين}‪ .‬وهذا الجواب في غاية السداد والطاعة للوالد ولرب العباد‪.‬‬ ‫إِ ْن َشا َء هَّللا ُ ِم ْن الصَّابِ ِر َ‬
‫قال هللا تعالى‪{ :‬فَلَ َّما أَ ْسلَ َما َوتَلَّهُ لِ ْل َجبِي ِن} قيل‪ :‬أسلما‪ ،‬أي استسلما ألمر هللا وعزما‬
‫ين}‪ ،‬أي ألقاه على وجهه‪.‬‬ ‫على ذلك‪ .‬وقيل‪ :‬وهذا من المقدم والمؤخر‪ ،‬والمعنى {تَلَّهُ لِ ْل َجبِ ِ‬
‫قيل‪ :‬أراد أن يذبحه من قفاه‪ ،‬لئال يشاهده في حال ذبحه‪ ،‬قال ابن عبَّاس ومجاهد وسعيد‬
‫بن جبير وقتادة والضحاك‪ .d‬وقيل‪ :‬بل أضجعه كما تضجع الذبائح‪ ،‬وبقي طرف جبينه‬
‫الصقا ً باألرض‪( .‬وأسلما) أي سمى إبراهيم وكبر‪ ،‬وت ّشهد الولد للموت‪ .‬قال ال ُّسدِّي‬
‫حلقِ ِه فلم تقطع شيئاً‪ ،‬ويقال جعل بينها وبين حلقه صفيحة من‬ ‫وغيره‪ :‬أ َم َّر السّكين على ْ‬
‫نحاس وهللا أعلم‪.‬‬
‫ت الرُّ ْؤيَا}‪ .‬أي قد حصل‬ ‫فعند ذلك نودي من هللا عز وجل‪{ :‬أَ ْن يَا إِب َْرا ِهي ُم‪ ،‬قَ ْد َ‬
‫ص َّد ْق َ‬
‫المقصود من اختبارك وطاعتك ومبادرتك إلى أمر ربك‪ .‬وب ّدلك ولدك للقربان‪ ،‬كما‬
‫سمحت ببدنك للنيران‪ ،‬وكما مالك مبذول للضيفان‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪{ :‬إِ َّن هَ َذا لَهُ َو ْالبَال ُء‬
‫ين}‪ .‬أي االختبار الظاهر البين‪.‬‬ ‫ْال ُمبِ ُ‬
‫ْح َع ِظيم}‪ .‬أي وجعلنا فداء ذبح ولده ما يَ َّس َرهُ هللا تعالى له من‬ ‫وقوله‪َ { :‬وفَ َد ْينَاهُ بِ ِذب ٍ‬
‫العوض عنه‪.‬‬
‫والمشهور عن الجمهور أنه كبش أبيض أعين أقرن‪ ،‬رآه مربوطا ً بسمرة في ثبير‪.‬‬
‫قال الثوري عن عبد هللا بن عثمان بن خثيم‪ ،‬عن سعيد بن جبير‪ ،‬عن ابن عبَّاس قال‪:‬‬
‫كبش قد رعى في الجنَّة أربعين خريفا ً‪ .‬وقال سعيد بن جبير‪ :‬كان يرتع في الجنَّة حتى‬
‫تشقق عنه ثبير‪ ،‬وكان عليه ِعه ٌْن أحمر‪ .‬وعن ابن عبَّاس‪ :‬هبط عليه من ثبير كبش أعين‪،‬‬
‫أقرن‪ ،‬له ثغاء‪ ،‬فذبحه‪ ،‬وهو الكبش الذي قرّبه ابن آدم فتقبل منه‪ .‬رواه ابن أبي حاتم‪.‬‬
‫قال مجاهد‪ :‬فذبحه بمنى وقال عبيد بن عمير ذبحه بالمقام‪.‬‬
‫فأما ما روي عن ابن عبَّاس أنه كان َو ْعالً‪ .‬وعن الحسن أنه كان تيسا ً من األروى‪،‬‬
‫واسمه جرير‪ ،‬فال يكاد يصح عنهما‪.‬‬

‫ثم غالب ما ها هنا من اآلثار مأخوذ من اإلسرائيليات‪ .‬وفي القرآن كفاية عما جرى‬
‫ي بذبح عظيم‪ ،‬وقد ورد في الحديث أنه كان‬ ‫من األمر العظيم واالختبار الباهر وأنه فُ ِد َ‬
‫كبشا ً‪.‬‬
‫قال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا سفيان‪َ ،‬ح َّدثَنا منصور‪ ،‬عن خاله نافع‪ ،‬عن صفية بنت شيبة‬
‫ت عامة أهل دارنا‪ ،‬قالت‪ :‬أرسل رسول هللا صلى‬ ‫قالت أخبرتني امرأة من بني سليم ولّ َد ْ‬
‫هللا عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة‪ ،‬وقالت مرّة إنها سألت عثمان لِ َم دعاك رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬إني كنت رأيت قَرْ بَي الكبش حين دخلت البيت‪ ،‬فنسيت أن‬
‫آمرك أن تخمرها فخمرها‪ ،‬فإنه ال ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي"‪.‬‬
‫قال سفيان‪ :‬لم يزل قرنا الكبش في البيت حتى احترق البيت فاحترقا‪.d‬‬
‫وكذا روى عن ابن عبَّاس ‪ :‬أن رأس الكبش لم يزل معلقا ً عند ميزاب الكعبة قد يبس‪.‬‬
‫وهذا وحده دليل على أن الذبيح إسماعيل‪ ،‬ألنه كان هو المقيم بمكة‪ .‬وإسحاق ال نعلم‬
‫أنه قدمها في حال صغره وهللا أعلم‪.‬‬
‫وهذا هو الظاهر من القرآن بل كأنه نص على أن الذبيح هو إسماعيل ألنه ذكر قصة‬
‫ين}‪ .‬ومن جعله حاال فقد تكلف‪،‬‬ ‫ق نَبِيّا ً ِم ْن الصَّالِ ِح َ‬
‫ْحا َ‬ ‫الذبيح‪ ،‬ثم قال بعده { َوبَ َّشرْ نَاهُ بِإِس َ‬
‫ومستنده انه إسحاق إنما هو إسرائيليات‪ ،‬وكتابهم فيه تحريف‪ ،‬وال سيما هاهنا قطعاً‪ ،‬وال‬
‫محيد عنه‪ ،‬فإن عندهم أن هللا أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده‪ ،‬وفي نسخة من المعربة‬
‫ب ْكره إسحاق‪ ،‬فلفظة إسحاق هاهنا مقحمة مكذوبة مفتراة‪ ،‬ألنه ليس هو الوحيد وال البكر‪.‬‬
‫إنما ذاك إسماعيل‪.‬‬
‫وإنما حملهم على هذا حسد العرب‪ ،‬فإن إسماعيل أبو العرب الذين يسكنون الحجاز‪d،‬‬
‫الذين منهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وإسحاق والد يعقوب وهو إسرائيل‪ ،‬الذي‬
‫ينتسبون إليه فأرادوا أن يجروا هذا الشرف إليهم‪ ،‬فحرفوا كالم هللا وزادوا فيه‪ ،‬وهم قوم‬
‫ْت‪ ،‬ولم يقرّوا بأن الفضل‪ d‬بيد هللا يؤتيه من يشاء‪.‬‬ ‫بُه ٌ‬
‫وقد قال بأنه إسحاق طائفة كثيرة من السلف وغيرهم‪ .‬وإنما أخذوه وهللا أعلم من‬
‫كعب األحبار‪ ،‬أو من صحف أهل الكتاب‪.‬‬
‫حديث صحيح عن المعصوم حتى نترك ألجله ظاهر الكتاب العزيز‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وليس في ذلك‬
‫وال يفهم هذا من القرآن‪ ،‬بل المفهوم‪ ،‬بل المنطوق‪ ،‬بل النص‪ ،‬عند التأمل على أنه‬
‫إسماعيل‪.‬‬
‫وما أحسن ما استدل به ابن كعب القرظي على أنه إسماعيل‪ ،‬وليس بإسحاق من قوله‬
‫وب} قال‪ :‬فكيف تقع البشارة بإسحاق وانه‬ ‫ق يَ ْعقُ َ‬ ‫ق َو ِم ْن َو َرا ِء إِس َ‬
‫ْحا َ‬ ‫{فَبَ َّشرْ نَاهَا بِإِس َ‬
‫ْحا َ‬
‫سيولد له يعقوب‪ ،‬ثم يؤمر بذبح إسحاق وهو صغير قبل أن يولد له؟‬
‫هذا ال يكون‪ ،‬ألنه يناقض البشارة المتقدمة وهللا أعلم‪.‬‬
‫ق}‬ ‫وقد اعترض السهيلي على هذا االستدالل بما حاصله أن قوله {فَبَ َّشرْ نَاهَا بِإِ ْس َحا َ‬
‫وب} جملة أخرى ليست في حيز البشارة‪ .‬قال‬ ‫ق يَ ْعقُ َ‬ ‫جملة تامة وقوله { َو ِم ْن َو َرا ِء إِس َ‬
‫ْحا َ‬
‫ألنه ال يجوز من حيث العربية أن يكون مخفوضاً‪ ،‬إال أن يعاد معه حرف الجر‪ d،‬فال‬
‫يجوز أن يقال مررت بزيد ومن بعده عمر وحتى يقال ومن بعده بعمر‪ .‬وقال‪ :‬فقوله‪:‬‬
‫وب}‪ .‬منصوب بفعل مضمر تقديره {ووهبنا إلسحاق يعقوب}‪.‬‬ ‫ق يَ ْعقُ َ‬ ‫{ َو ِم ْن َو َرا ِء إِس َ‬
‫ْحا َ‬
‫وفي هذا الذي قاله نظر‪.‬‬
‫ْي} قال‪ :‬وإسماعيل لم يكن عنده‬ ‫ورجّح أنه إسحاق واحتج بقوله {فَلَ َّما بَلَ َغ َم َعهُ ال َّسع َ‬
‫إنما كان في حال صغره هو وأمه بجبال مكة‪ ،‬فكيف يبلغ معه السعي؟‬
‫وهذا أيضا ً فيه نظر ألنه قد روي أن الخليل كان يذهب في كثير من األوقات راكبا ً‬
‫البراق إلى مكة‪ ،‬يطلع على ولده وابنه ثم يرجع وهللا تعالى أعلم‪.‬‬
‫فممن حكى القول عنه بأنه إسحاق كعب األحبار‪ .‬وروى عن عمر والعباس وعلي‬
‫وابن مسعود ومسروق وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وال َّشعبي ومقاتل وعبيد‬
‫بن عمير وأبي ميسرة وزيد بن أسلم وعبد هللا بن شقيق والزهري والقاسم وابن أبي بردة‬
‫ومكحول وعثمان بن حاضر وال ُّسدِّي والحسن وقتادة وأبي الهذيل وابن سابط‪ ،‬وهو‬
‫اختيار ابن جرير‪ ،‬وهذا عجب منه وهو إحدى الروايتين عن ابن عبَّاس‪.‬‬
‫ولكن الصحيح عنه ‪ -‬وعن أكثر هؤالء ‪ -‬أنه إسماعيل عليه السالم‪ .‬قال مجاهد‬
‫وسعيد وال َّشعبي ويوسف بن مهران وعطاء وغير واحد عن ابن عبَّاس هو إسماعيل عليه‬
‫السالم‪.‬‬
‫وقال ابن جرير حدثني يونس أنبأنا ابن وهب‪ ،‬أخبرني عمرو بن قيس‪ ،‬عن عطاء‬
‫بن أبي رباح‪ ،‬عن ابن عبَّاس أنه قال‪ :‬المفدى إسماعيل‪ .‬وزعمت اليهود أنه إسحاق‬
‫وكذبت اليهود‪.‬‬
‫وقال عبد هللا بن اإلمام أحمد عن أبيه هو إسماعيل‪ .‬وقال ابن أبي حاتم سألت أبي‬
‫عن الذبيح؟ فقال‪ :‬الصحيح أنه إسماعيل عليه السالم‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم وروى عن علي وابن عمر وأبي هريرة وأبي الطفيل وسعيد بن‬
‫ال ُمسَّيب وسعيد ابن جبير والحسن ومجاهد وال َّشعبي و ُم َح ْمد بن كعب وأبي جعفر ُم َح ْمد‬
‫بن علي وأبي صالح أنهم قالوا‪ :‬الذبيح هو إسماعيل عليه السالم‪ .‬وحكاه البغوي أيضا ً عن‬
‫الربيع بن أنس والكلبي وأبي عمرو بن العالء‪.‬‬
‫قلت وروي عن معاوية‪ ،‬وجاء عنه أن رجالً قال لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم يا‬
‫ابن الذبيحين‪ ،‬فضحك رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز و ُم َح ْمد بن إسحاق بن يسار وكان الحسن البصري‬
‫يقول‪ :‬ال شك في هذا‪.‬‬
‫وقال ُم َح ْمد بن إسحاق عن بريدة عن سفيان بن فروة األسلمي عن ُم َح ْمد بن كعب أنه‬
‫حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة إذ كان معه بالشام‪ ،‬يعني استدالله‬
‫وب} فقال له عمر‪ :‬إن‬ ‫ق يَ ْعقُ َ‬
‫ق َو ِم ْن َو َرا ِء إِ ْس َحا َ‬ ‫بقوله بعد ذكر القصة‪{ :‬فَبَ َّشرْ نَاهَا بِإِس َ‬
‫ْحا َ‬
‫هذا الشيء ما كنت أنظر فيه وإني ألراه كما قلت‪.‬‬
‫ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهو ّديا ً فأسلم وحسن إسالمه‪ ،‬وكان يرى أنه‬
‫من علمائهم‪ ،‬قال‪ :‬فسأله عمر بن عبد العزيز أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال إسماعيل‬
‫وهللا يا أمير المؤمنين‪ ،‬وإن اليهو َد لتعلم بذلك‪ ،‬ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن‬
‫يكون أباكم الذي كان من أمر هللا فيه‪ ،‬والفضل الذي ذكره هللا منه لصبره‪ ،‬لما أمر به‪.‬‬
‫فهم يجحدون ذلك‪ ،‬ويزعمون أنه إسحاق‪ ،‬ألن إسحاق أبوهم‪.‬‬
‫وقد ذكرنا هذه المسألة مستقصاة بأدلتها وآثارها في كتابنا التفسير وهلل الحمد والمنة‪.‬‬

‫ذكر مولد إسحاق عليه السالم‬


‫ين‪َ ،‬وبَا َر ْكنَا َعلَ ْي ِه َو َعلَى إِ ْس َحا َ‬
‫ق‬ ‫ق نَبِيّا ً ِم ْن الصَّالِ ِح َ‬ ‫ْحا َ‬‫قال هللا تعالى‪َ { :‬وبَ َّشرْ نَاهُ بِإِس َ‬
‫ين}‪.‬‬‫َو ِم ْن ُذ ِّريَّتِ ِه َما ُمحْ ِس ٌن َوظَالِ ٌم لِنَ ْف ِس ِه ُمبِ ٌ‬
‫وقد كانت البشارة به من المالئكة إلبراهيم وسارة‪ ،‬لما مروا بهما مجتازين ذاهبين‬
‫إلى مدائن قوم لوط‪ ،‬ليدمروا عليهم‪ ،‬لكفرهم وفجورهم كما سيأتي بيانه في موضعه إن‬
‫شاء هللا تعالى‪.‬‬
‫ث أَ ْن‬‫ت ُر ُسلُنَا إِ ْب َرا ِهي َم بِ ْالبُ ْش َرى قَالُوا َسالما ً قَا َل َسال ٌم فَ َما لَبِ َ‬ ‫قال هللا تعالى‪َ { :‬ولَقَ ْد َجا َء ْ‪d‬‬
‫س ِم ْنهُ ْم ِخيفَةً قَالُوا ال تَ َخ ْ‬
‫ف‬ ‫ص ُل إِلَ ْي ِه نَ ِك َرهُ ْم َوأَ ْو َج َ‬ ‫َجا َء بِ ِعجْ ٍل َحنِي ٍذ‪ ،‬فَلَ َّما َرأَى أَ ْي ِديَهُ ْم ال تَ ِ‬
‫ق َو ِم ْن َو َرا ِء إِ ْس َحا َ‬
‫ق‬ ‫ت فَبَ َّشرْ نَاهَا بِإِ ْس َحا َ‬ ‫ض ِح َك ْ‬ ‫وط‪َ ،‬وا ْم َرأَتُهُ قَائِ َمةٌ فَ َ‬ ‫إِنَّا أُرْ ِس ْلنَا إِلَى قَ ْو ِم لُ ٍ‬
‫ت يَا َو ْيلَتَا أَأَلِ ُد َوأَنَا َعجُو ٌز َوهَ َذا بَ ْعلِي َشيْخا ً إِ َّن هَ َذا لَ َش ْي ٌء َع ِجيبٌ ‪ ،‬قَالُوا‬ ‫وب‪ ،‬قَالَ ْ‬‫يَ ْعقُ َ‬
‫ت إِنَّهُ َح ِمي ٌد َم ِجي ٌد}‪.‬‬‫ين ِم ْن أَ ْم ِر هَّللا ِ َرحْ َمةُ هَّللا ِ َوبَ َر َكاتُهُ َعلَ ْي ُك ْم أَ ْه َل ْالبَ ْي ِ‬
‫أَتَ ْع َجبِ َ‬
‫ْف إِب َْرا ِهي َم‪ ،‬إِ ْذ َد َخلُوا َعلَ ْي ِه فَقَالُوا َسالما ً قَا َل إِنَّا ِم ْن ُك ْم‬ ‫ضي ِ‬ ‫وقال تعالى‪َ { :‬ونَبِّ ْئهُ ْم َع ْن َ‬
‫الم َعلِ ٍيم‪ ،‬قَا َل أَبَ َّشرْ تُ ُمونِي َعلَى أَ ْن َم َّسنِي ْال ِكبَ ُر فَبِ َم‬ ‫ُك بِ ُغ ٍ‬ ‫ون‪ ،‬قَالُوا ال تَ ْو َجلْ إِنَّا نُبَ ِّشر َ‬ ‫َو ِجلُ َ‬
‫ين‪ ،‬قَا َل َو َم ْن يَ ْقنَطُ ِم ْن َرحْ َم ِة َربِّ ِه إِال‬ ‫ق فَال تَ ُك ْن ِم ْن ْالقَانِ ِط َ‬ ‫ك بِ ْال َح ِّ‬‫ُون‪ ،‬قَالُوا بَ َّشرْ نَا َ‬‫تُبَ ِّشر َ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫الضَّالُّ َ‬
‫ين‪ ،‬إِ ْذ َد َخلُوا َعلَ ْي ِه فَقَالُوا َسالما ً‬ ‫ْف إِب َْرا ِهي َم ْال ُم ْك َر ِم َ‬
‫ضي ِ‬‫يث َ‬ ‫ك َح ِد ُ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬هَلْ أَتَا َ‬
‫ون‪،‬‬ ‫ال أال تَأْ ُكلُ َ‬ ‫ُون‪ ،‬فَ َرا َغ إِلَى أَ ْهلِ ِه فَ َجا َء بِ ِعجْ ٍل َس ِمي ٍن‪ ،‬فَقَ َّربَهُ إِلَ ْي ِه ْم قَ َ‬ ‫ال َسال ٌم قَ ْو ٌم ُمن َكر َ‬ ‫قَ َ‬
‫ت‬ ‫ص َّك ْ‬ ‫ص َّر ٍة فَ َ‬‫ت ا ْم َرأَتُهُ فِي َ‬ ‫الم َعلِيم‪ ،‬فَأ َ ْقبَلَ ْ‪d‬‬ ‫ف َوبَ َّشرُوهُ بِ ُغ ٍ‬ ‫س ِم ْنهُ ْم ِخيفَةً قَالُوا ال تَ َخ ْ‬ ‫فَأ َ ْو َج َ‬
‫ال َرب ُِّك إِنَّهُ هُ َو ْال َح ِكي ُم ْال َعلِي ُم}‪.‬‬ ‫ت َعجُو ٌز َعقِي ٌم‪ ،‬قَالُوا َك َذلِ َ‬
‫ك قَ َ‬ ‫َوجْ هَهَا َوقَالَ ْ‬
‫يذكر تعالى‪ :‬أن المالئكة قالوا‪ ،‬وكانوا ثالثة جبريل وميكائيل واسرافيل‪ ،‬لما وردوا‬
‫على الخليل‪ ،‬حسبهم أوالً أضيافاً‪ d،‬فعاملهم معاملة الضيوف‪ ،‬و َش َوى لهم عجالً سميناً‪ ،‬من‬
‫خيار بقره‪ ،‬فلما قرّبه إليهم وعرض عليهم‪ ،‬لم يَ َر لهم ه ّمةً إلى األكل بالكلية‪ ،‬وذلك ألن‬
‫المالئكة ليس فيهم قوة الحاجة إلى الطعام (فنكرهم) إبراهيم وأوجس منهم خيفة { َوأَ ْو َج َ‬
‫س‬
‫وط} أي لندمر عليهم‪.‬‬ ‫ف إِنَّا أُرْ ِس ْلنَا إِلَى قَ ْو ِم لُ ٍ‬ ‫ِم ْنهُ ْم ِخيفَةً قَالُوا ال تَ َخ ْ‬

‫فاستبشرت عند ذلك سارة غضبا ً هلل عليهم‪ ،‬وكانت قائمة على رؤوس األضياف‪،‬‬
‫كما جرت به عادة الناس من العرب وغيرهم‪ ،‬فلما ضحكت استبشاراً بذلك قال هللا تعالى‪:‬‬
‫ت ا ْم َرأَتُهُ‬ ‫وب} أي بشرتها المالئكة بذلك {فَأ َ ْقبَلَ ْ‪d‬‬ ‫ق يَ ْعقُ َ‬ ‫ْحا َ‬ ‫ق َو ِم ْن َو َرا ِء إِس َ‬ ‫{فَبَ َّشرْ نَاهَا بِإِس َ‬
‫ْحا َ‬
‫ت َوجْ هَهَا} أي كما يفعل النساء عند التعجب‪ .‬وقالت‪:‬‬ ‫ص َّك ْ‬‫ص َّر ٍة} أي في صرخة {فَ َ‬ ‫فِي َ‬
‫{يَا َو ْيلَتَا أَأَلِ ُد َوأَنَا َعجُو ٌز َوهَ َذا بَ ْعلِي َشيْخا ً} أي كيف يلد مثلي وأنا كبيرة وعقيم أيضاً‪d،‬‬
‫وهذا بعلي أي زوجي شيخاً؟ تعجبت من وجود ولد‪ ،‬والحالة هذه‪ ،‬ولهذا قالت‪{ :‬إِ َّن هَ َذا‬
‫ت إِنَّهُ َح ِمي ٌد‬ ‫ين ِم ْن أَ ْم ِر هَّللا ِ َرحْ َمةُ هَّللا ِ َوبَ َر َكاتُهُ َعلَ ْي ُك ْم أَ ْه َل ْالبَ ْي ِ‬ ‫لَ َش ْي ٌء َع ِجيبٌ ‪ d،‬قَالُوا أَتَع َ‬
‫ْجبِ َ‬
‫َم ِجي ٌد}‪.‬‬
‫وكذلك تعجَّب إبراهيم عليه السالم استبشاراً بهذه البشارة وتثبيتا ً لها وفرحا ً بها‪:‬‬
‫ق فَال تَ ُك ْن ِم ْن‬ ‫اك بِ ْال َح ِّ‬
‫ُون‪ ،‬قَالُوا بَ َّشرْ نَ َ‬ ‫{قَا َل أَبَ َّشرْ تُ ُمونِي َعلَى أَ ْن َم َّسنِي ْال ِكبَ ُر فَبِ َم تُبَ ِّشر َ‬
‫الم َعلِ ٍيم}‪ .‬وهو إسحاق‬ ‫ين} أكدوا الخبر بهذه البشارة وقرروه معه فبشروهما {بِ ُغ ٍ‬ ‫ْالقَانِ ِط َ‬
‫أخو إسماعيل غالم عليم‪ ،‬مناسب لمقامه وصبره‪ ،‬وهكذا وصفه ربه بصدق الوعد‬
‫وب}‪.‬‬ ‫ق يَ ْعقُ َ‬ ‫ق َو ِم ْن َو َرا ِء إِ ْس َحا َ‬ ‫والصبر‪ .‬وقال في اآلية األخرى {فَبَ َّشرْ نَاهَا بِإِس َ‬
‫ْحا َ‬
‫وهذا مما استدل به ُم َح ْمد بن كعب القرظي وغيره على أن الذبيح هو إسماعيل‪ ،‬وأن‬
‫إسحاق ال يجوز أن يؤمر بذبحه بعد أن وقعت عليه البشارة بوجوده ووجود ولده يعقوب‬
‫المشتق من العقب من بعده‪.‬‬
‫وعند أهل الكتاب أنه أحضر مع العجل الحنيذ وهو المشوي رغيفا ً من مكة فيه ثالثة‬
‫اكيال‪ ،‬وسمن ولبن‪ .‬وعندهم أنهم أكلوا وهذا غلط محض‪ .‬وقيل‪ :‬كانوا يرون أنهم يأكلون‪،‬‬
‫والطعام يتالشى في الهواء‪.‬‬
‫وعندهم أن هللا تعالى قال إلبراهيم‪ :‬أما ساراي امرأتك فال يدعى اسمها ساراي‪،‬‬
‫ولكن اسمها سارّة‪ ،‬وأبارك عليها وأعطيك منها ابناً‪ ،‬وأباركه ويكون الشعوب وملوك‬
‫الشعوب منه‪ ،‬فخ ّر إبراهيم على وجهه‪ ،‬يعني ساجداً‪ ،‬وضحك قائالً‪ :‬في نفسه أبعد مائة‬
‫سنة يولد لي غالم؟ أو سارة تلد؟ وقد أتت عليها تسعون سنة؟!‬
‫وقال إبراهيم هلل تعالى ليت إسماعيل يعيش قدامك‪ .‬فقال هللا إلبراهيم بحقي إن‬
‫امرأتك سارة تلد لك غالما ً وتدعو اسمه إسحاق إلى مثل هذا الحين من قابل‪ ،‬وأوثقه‬
‫ميثاقي إلى الدهر‪ ،‬ولخلفه من بعده‪ ،‬وقد استجبت لك في إسماعيل‪ ،‬وباركت عليه وكبرته‬
‫ونميته جداً كثيراً‪ ،‬ويولد له اثنا عشر عظيماً‪ ،‬وأجعله رئيسا ً لشعب عظيم‪.‬‬
‫وقد تكلمنا على هذا بما تقدم وهللا أعلم‪.‬‬
‫وب} دليل على أنها تستمتع‬ ‫ق يَ ْعقُ َ‬ ‫ق َو ِم ْن َو َرا ِء إِس َ‬
‫ْحا َ‬ ‫فقوله تعالى‪{ :‬فَبَ َّشرْ نَاهَا بِإِس َ‬
‫ْحا َ‬
‫بوجود ولدها إسحاق‪ ،‬ثم من بعده بولده يعقوب‪.‬‬
‫أي يولد في حياتهما لتقر أعينهما به كما قرت بولده‪ .‬ولو لم يرد هذا لم يكن لذكر‬
‫يعقوب وتخصيص التنصيص عليه من دون سائر نسل إسحاق فائدة‪ ،‬ولما عين بالذكر‬
‫دل على أنهما يتمتعان به ويسران بولده كما سرا بمولد أبيه من قبله‪ ،‬وقال تعالى‪:‬‬
‫ون ِم ْن ُد ِ‬
‫ون‬ ‫وب ُكال هَ َد ْينَا}‪ .‬وقال تعالى‪{ :‬فَلَ َّما ا ْعتَ َزلَهُ ْم َو َما يَ ْعبُ ُد َ‬ ‫ق َويَ ْعقُ َ‬ ‫ْحا َ‬‫{ َو َوهَ ْبنَا لَهُ إِس َ‬
‫وب}‪.‬‬ ‫ق َويَ ْعقُ َ‬ ‫هَّللا ِ َوهَ ْبنَا لَهُ إِ ْس َحا َ‬
‫وهذا إن شاء هللا ظاهر قوي ويؤيده ما ثبت في "الصحيحين"‪ d.‬في حديث سليمان بن‬
‫مهران األعمش‪ ،‬عن إبراهيم بن يزيد التيمي‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن أبي ذر قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول‬
‫هللا أي مسجد وضع أول؟ قال‪ :‬المسجد الحرام‪ .‬قلت‪ :‬ثم أي؟ قال‪ :‬المسجد األقصى‪ .‬قلت‪:‬‬
‫كم بينهما؟ قال‪ :‬أربعون سنة‪ .‬قلت‪ :‬ثم أي؟ قال‪ :‬ثم حيث أدركت الصالة فص ِّل فكلها‬
‫مسجد"‪.‬‬
‫وعند أهل الكتاب أن يعقوب عليه السالم هو الذي أسس المسجد األقصى‪ ،‬وهو‬
‫مسجد إيليا بيت المقدس شرفه هللا‪.‬‬
‫وهذا متجه‪ ،‬ويشهد له ما ذكرناه من الحديث‪ ،‬فعلى هذا يكون بناء يعقوب عليه‬
‫السالم وهو إسرائيل بعد بناء الخليل‪ d،‬وابنه إسماعيل المسجد الحرام بأربعين سنة سواء‪،‬‬
‫وقد كان بناؤهما ذلك بعد وجوب إسحاق ألن إبراهيم عليه السالم لما دعا قال في دعائه‪:‬‬
‫ي أَ ْن نَ ْعبُ َد‬
‫ال إِب َْرا ِهي ُم َربِّ اجْ َعلْ هَ َذا ْالبَلَ َد آ ِمنا ً َواجْ نُ ْبنِي َوبَنِ َّ‬
‫كما قال تعالى‪َ { :‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫ك َغفُو ٌر‬‫صانِي فَإِنَّ َ‬ ‫اس فَ َم ْن تَبِ َعنِي فَإِنَّهُ ِمنِّي َو َم ْن َع َ‬ ‫األَصْ نَا َم‪َ ،‬ربِّ إِنَّه َُّن أَضْ لَ ْل َن َكثِيراً ِم ْن النَّ ِ‬
‫ك ْال ُم َحر َِّم َربَّنَا لِيُقِي ُموا‬ ‫ع ِع ْن َد بَ ْيتِ َ‬‫نت ِم ْن ُذرِّ يَّتِي بِ َوا ٍد َغي ِْر ِذي َزرْ ٍ‬ ‫َر ِحي ٌم‪َ ،‬ربَّنَا إِنِّي أَ ْس َك ُ‬
‫ُون‪َ ،‬ربَّنَا إِنَّ َ‬
‫ك‬ ‫ت لَ َعلَّهُ ْم يَ ْش ُكر َ‬ ‫الصَّالةَ فَاجْ َعلْ أَ ْفئِ َدةً ِم ْن النَّ ِ‬
‫اس تَه ِْوي إِلَ ْي ِه ْم َوارْ ُز ْقهُ ْم ِم ْن الثَّ َم َرا ِ‬
‫ض َوال فِي ال َّس َما ِء‪ْ ،‬ال َح ْم ُد هَّلِل ِ‬ ‫تَ ْعلَ ُم َما نُ ْخفِي َو َما نُ ْعلِ ُن َو َما يَ ْخفَى َعلَى هَّللا ِ ِم ْن َش ْي ٍء فِي األَرْ ِ‬
‫ق إِ َّن َربِّي لَ َس ِمي ُع ال ُّد َعا ِء‪َ ،‬ربِّ اجْ َع ْلنِي ُمقِي َم‬ ‫ْحا َ‬
‫يل َوإِس َ‬ ‫ب لِي َعلَى ْال ِكبَ ِر إِ ْس َم ِ‬
‫اع َ‬ ‫الَّ ِذي َوهَ َ‬
‫ي َولِ ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين يَ ْو َم يَقُو ُم‬ ‫صاَل ِة َو ِم ْن ُذرِّ يَّتِي َربَّنَا َوتَقَبَّلْ ُد َعا ِء‪َ ،‬ربَّنَا ا ْغفِرْ لِي َولِ َوالِ َد َّ‬
‫ال َّ‬
‫ْال ِح َسابُ }‪.‬‬
‫وما جاء في الحديث من أن سليمان بن داود عليهما السالم لما بنى بيت المقدس سأل‬
‫هللا خالالً ثالثا ً كما ذكرناه عند قوله‪َ { :‬ربِّ ا ْغفِرْ لِي َوهَبْ لِي ُم ْلكا ً ال يَ ْنبَ ِغي ألَ َح ٍد ِم ْن‬
‫بَ ْع ِدي}‪ ،‬وكما سنورده في قصته‪ ،‬فالمراد من ذلك وهللا أعلم أنه جدد بناءه كما تقدم من أن‬
‫إن بين سليمان وإبراهيم أربعين سنة سوى ابن حبان في‬ ‫بينهما أربعين سنة‪ ،‬ولم يقل أحد َّ‬
‫تقاسيمه وأنواعه‪ ،‬وهذا القول لم يوافق عليه وال سبق إليه‪.‬‬

‫ذكر بناية البيت العتيق‬


‫ت أَ ْن ال تُ ْش ِر ْك بِي َشيْئا ً َوطَهِّرْ بَ ْيتِي‬ ‫قال هللا تعالى‪َ { :‬وإِ ْذ بَ َّو ْأنَا ِإلب َْرا ِهي َم َم َك َ‬
‫ان ْالبَ ْي ِ‬
‫ضا ِم ٍر‬ ‫وك ِر َجاال َو َعلَى ُكلِّ َ‬ ‫اس بِ ْال َحجِّ يَأْتُ َ‬ ‫ين َوالرُّ َّك ِع ال ُّسجُو ِد‪َ ،‬وأَ ِّذ ْن فِي النَّ ِ‬ ‫ين َو ْالقَائِ ِم َ‬ ‫لِلطَّائِفِ َ‬
‫ق}‪.‬‬ ‫ين ِم ْن ُكلِّ فَجٍّ َع ِمي ٍ‬ ‫يَأْتِ َ‬
‫ات‬ ‫اس لَلَّ ِذي بِبَ َّكةَ ُمبَا َركا ً َوهُدًى لِ ْل َعالَ ِمين‪ ،‬فِي ِه آيَ ٌ‬ ‫ض َع لِلنَّ ِ‬ ‫ت ُو ِ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬إِ َّن أَ َّو َل بَ ْي ٍ‬
‫ت َم ْن ا ْستَطَا َع إِلَ ْي ِه َسبِيال‬ ‫اس ِحجُّ ْالبَ ْي ِ‬ ‫ان آ ِمنا ً َوهَّلِل ِ َعلَى النَّ ِ‬ ‫ات َمقَا ُم إِب َْرا ِهي َم َو َم ْن َد َخلَهُ َك َ‬ ‫بَيِّنَ ٌ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫َو َم ْن َكفَ َر فَإِ َّن هَّللا َ َغنِ ٌّي َع ْن ْال َعالَ ِم َ‬
‫اس إِ َماما ً قَا َل‬ ‫ك لِلنَّ ِ‬ ‫اعلُ َ‬‫ال إِنِّي َج ِ‬ ‫ت فَأَتَ َّمه َُّن قَ َ‬ ‫وقال تعالى‪َ { :‬وإِ ْذ ا ْبتَلَى إِب َْرا ِهي َم َربُّهُ بِ َكلِ َما ٍ‬
‫اس َوأَ ْمنا ً َواتَّ ِخ ُذوا ِم ْن‬ ‫ْت َمثَابَةً لِلنَّ ِ‬ ‫ين‪َ ،‬وإِ ْذ َج َع ْلنَا ْالبَي َ‬ ‫ال ال يَنَا ُل َع ْه ِدي الظَّالِ ِم َ‬ ‫َو ِم ْن ُذ ِّريَّتِي قَ َ‬
‫ين‬‫ين َو ْال َعا ِكفِ َ‬ ‫طهِّ َرا بَ ْيتِي لِلطَّائِفِ َ‬ ‫يل أَ ْن َ‬ ‫اع َ‬ ‫صلًّى‪َ ،‬و َع ِه ْدنَا إِلَى إِب َْرا ِهي َم َوإِ ْس َم ِ‬ ‫َمقَ ِام إِب َْرا ِهي َم ُم َ‬
‫ت َم ْن‬ ‫ال إِب َْرا ِهي ُم َربِّ اجْ َعلْ هَ َذا بَلَداً آ ِمنا ً َوارْ ُز ْق أَ ْهلَهُ ِم ْن الثَّ َم َرا ِ‬ ‫َوالرُّ َّك ِع ال ُّسجُو ِد‪َ ،‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫س‬‫ار َوبِ ْئ َ‬ ‫ب النَّ ِ‬ ‫ال َو َم ْن َكفَ َر فَأ ُ َمتِّ ُعهُ قَلِيالً ثُ َّم أَضْ طَرُّ هُ إِلَى َع َذا ِ‬ ‫اآلخ ِر قَ َ‬‫آ َم َن ِم ْنهُ ْم بِاهَّلل ِ َو ْاليَ ْو ِم ِ‬
‫ت ال َّس ِمي ُع‬ ‫ك أَ ْن َ‬
‫ت َوإِ ْس َما ِعي ُل َربَّنَا تَقَبَّلْ ِمنَّا إِنَّ َ‬ ‫اع َد ِم ْن ْالبَ ْي ِ‬ ‫صيرُ‪َ ،‬وإِ ْذ يَرْ فَ ُع إِ ْب َرا ِهي ُم ْالقَ َو ِ‬ ‫ْال َم ِ‬
‫ك‬ ‫اس َكنَا َوتُبْ َعلَ ْينَا إِنَّ َ‬ ‫ك َوأَ ِرنَا َمنَ ِ‬ ‫ك َو ِم ْن ُذرِّ يَّتِنَا أُ َّمةً ُم ْسلِ َمةً لَ َ‬ ‫ْال َعلِي ُم‪َ ،‬ربَّنَا َواجْ َع ْلنَا ُم ْسلِ َمي ِْن لَ َ‬
‫ك َويُ َعلِّ ُمهُ ْم ْال ِكتَ َ‬
‫اب‬ ‫ث فِي ِه ْم َرسُوال ِم ْنهُ ْم يَ ْتلُو َعلَ ْي ِه ْم آيَاتِ َ‬ ‫َّحي ُم‪َ ،‬ربَّنَا َوا ْب َع ْ‬ ‫ت التَّ َّوابُ الر ِ‬ ‫أَ ْن َ‬
‫ت ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم}‪.‬‬ ‫ك أَ ْن َ‬ ‫َو ْال ِح ْك َمةَ َوي َُز ِّكي ِه ْم إِنَّ َ‬
‫يذك ُر تعالى عن عبده ورسوله وصفيه وخليله إمام الحنفاء‪ d،‬ووالد األنبياء إبراهيم‬
‫عليه السالم أنه بنى البيت العتيق‪ ،‬الذي هو أول مسجد وضع لعموم الناس‪ ،‬يعبدون هللا‬
‫فيه وب ّوأه هللا مكانه‪ ،‬أي أرشده إليه ودلّه عليه‪.‬‬
‫وقد روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وغيره أنه أرشد إليه بوحي من هللا‬
‫عز وجل‪ .‬وقد قدمنا في صفة خلق السماوات‪ ،‬أن الكعبة بحيال البيت المعمور‪ ،‬بحيث أنه‬
‫لو سقط لسقط عليها‪ ،‬وكذلك معابد السماوات السبع‪ ،‬كما قال بعض السلف‪ :‬إن في كل‬
‫سماء بيتا ً يعبد هللا فيه أهل كل سماء‪ ،‬وهو فيها ككعبة ألهل األرض‪.‬‬
‫فأمر هللا تعالى إبراهيم عليه السالم‪ ،‬أن يبني له بيتا ً يكون ألهل األرض‪ ،‬كتلك‬
‫المعابد لمالئكة السماوات‪ ،‬وأرشده هللا إلى مكان البيت المهيأ له‪ ،‬المعين لذلك منذ خلق‬
‫السماوات واألرض‪ ،‬كما ثبت في "الصحيحين"‪" d:‬أن هذا البلد حرمه هللا يوم خلق‬
‫السماوات واألرض فهو حرام بحرمة هللا إلى يوم القيامة"‪.‬‬

‫ولم يجئ في خبر صحيح‪ ،‬عن معصوم‪ ،‬أن البيت كان مبنيّا ً قبل الخليل عليه السالم‪.‬‬
‫ت} فليس بناهض وال ظاهر‪ ،‬ألن المراد مكانه‬ ‫ان ْالبَ ْي ِ‬‫ومن تمسك في هذا بقوله { َم َك َ‬
‫المقدر في علم هللا المقرر في قدرته‪ ،‬المعظم عند األنبياء موضعه من لدن آدم إلى زمان‬
‫إبراهيم‪.‬‬
‫نصب عليه قُبّةً وأن المالئكة قالوا له‪ :‬قد طفنا قبلك بهذا البيت‪ ،‬وأن‬ ‫َ‬ ‫وقد ذكرنا أن آدم‬
‫السفينة طافت به أربعين يوماً‪ ،‬أو نحو ذلك‪ ،‬ولكن كل هذه األخبار عن بني إسرائيل‪ .‬وقد‬
‫قررنا أنها ال تصدق وال تكذب فال يحتج بها فأما إن ردها الحق فهي مردودة‪.‬‬
‫ين}‪ .‬أي أول‬ ‫اركا ً َوهُدًى لِ ْل َعالَ ِم َ‬ ‫اس لَلَّ ِذي بِبَ َّكةَ ُمبَ َ‬‫ض َع لِلنَّ ِ‬ ‫ت ُو ِ‬ ‫وقد قال هللا‪{ :‬إِ َّن أَ َّو َل بَ ْي ٍ‬
‫بيت وضع لعموم الناس للبركة والهدى البيت الذي ببكة‪ .‬وقيل محل الكعبة {فِي ِه آيَ ٌ‬
‫ات‬
‫ات} أي على أنه بناء الخليل والد األنبياء ممن بعده‪ ،‬وإمام الحنفاء من ولده‪ ،‬الذين‬ ‫بَيِّنَ ٌ‬
‫الحجْ ر الذي كان يقف عليه‬ ‫يقتدون به ويتمسكون بسنته‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬مقَا ُم إِ ْب َرا ِهي َم} أي ِ‬
‫قائما ً لما ارتفع البناء عن قامته‪ ،‬فوضع له ولده هذا الحجر المشهور ليرتفع عليه ل ّما‬
‫تعالى البناء‪ d،‬وعظم الفناء‪ ،‬كما ذكر في حديث ابن عبَّاس الطويل‪.‬‬
‫وقد كان هذا ال َح َج ُر ملصقا ً بحائط الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام‬
‫عمر بن الخطاب رضي هللا عنه فأ ّخره عن البيت قليالً‪ ،‬لئال يشغل المصلّين عنده‬
‫الطائفين بالبيت‪ ،‬واتبع عمر بن الخطاب‪ d‬رضي هللا عنه في هذا‪ ،‬فإنّه قد وافقه ربه في‬
‫أشياء‪ ،‬منها قوله لرسوله صلى هللا عليه وسلم لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى؟ فأنزل‬
‫صلًّى}‪ .‬وقد كانت آثار قدم ّي الخليل باقية في الصخرة‬ ‫هللا { َواتَّ ِخ ُذوا ِم ْن َمقَ ِام إِب َْرا ِهي َم ُم َ‬
‫إلى أول اإلسالم‪ .‬وقد قال أبو طالب في قصيدته الالمية المشهورة‪:‬‬
‫ونازل‬
‫ِ‬ ‫ق ليرٌقى في ِحراء‬ ‫ومن أرسى ثَبيراً مكانَهُ ** ورا َ‬ ‫وثور ْ‬ ‫ٍ‬
‫إن هللا ليس بغافِل‬ ‫بطن مكة وباهللِ ّ‬ ‫ق البيت من ِ‬ ‫تح ّ‬ ‫وبالبي ِ‬
‫وبالحجر المسو ّد إذ يمسحّونه ** إ ِذ اكتنفوهُ بالضّحى واألَصائل‬ ‫ِ‪d‬‬
‫وموطئ إبراهي َم في الصّخر رطبة ** على قدمي ِه َحافيا ً غي َر ناعل‬
‫يعني أن رجله الكريمة غاصت في الصخرة فصارت‪ d،‬على قدر قدمه حافية ال‬
‫اعي ُل} أي في حال‬ ‫ت َوإِ ْس َم ِ‬‫منتعلة‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪َ { :‬وإِ ْذ يَرْ فَ ُع إِب َْرا ِهي ُم ْالقَ َوا ِع َد ِم ْن ْالبَ ْي ِ‬
‫ت ال َّس ِمي ُع ْال َعلِي ُم} فهما في غاية اإلخالص والطاعة هلل عز‬ ‫ك أَ ْن َ‬‫قولهما‪َ { :‬ربَّنَا تَقَبَّلْ ِمنَّا إِنَّ َ‬
‫وجل‪ ،‬وهما يسأالن من هللا عز وجل السميع العليم أن يتقبل منهما ما هما فيه من الطاعة‬
‫ك َوأَ ِرنَا‬ ‫ك َو ِم ْن ُذرِّ يَّتِنَا أُ َّمةً ُم ْسلِ َمةً لَ َ‬
‫العظيمة والسعي المشكور { َربَّنَا َواجْ َع ْلنَا ُم ْسلِ َمي ِْن لَ َ‬
‫ت التَّ َّوابُ الر ِ‬
‫َّحي ُم}‪.‬‬ ‫ك أَ ْن َ‬‫اس َكنَا َوتُبْ َعلَ ْينَا إِنَّ َ‬ ‫َمنَ ِ‬
‫والمقصود أن الخليل بنى أشرف المساجد في أشرف البقاع في وا ٍد غير ذي زرع‪،‬‬
‫ودعا ألهلها بالبركة وأن يرزقوا من الثمرات‪ ،‬مع قلة المياه وعدم األشجار والزروع‬
‫والثمار‪ ،‬وأن يجعله حرما ً محرماً‪ ،‬وآمنا محتما‪.‬‬
‫فاستجاب هللا وله الحمد له مسألته‪ ،‬ولبّى دعوته وآتاه طلبته فقال تعالى‪{ :‬أَ َولَ ْم يَ َر ْوا‬
‫ف النَّاسُ ِم ْن َح ْولِ ِه ْم} وقال تعالى‪{ :‬أَ َولَ ْم نُ َم ِّك ْن لَهُ ْم َح َرما ً آ ِمنا ً‬ ‫أَنَّا َج َع ْلنَا َح َرما ً آ ِمنا ً َويُتَ َخطَّ ُ‬
‫ات ُكلِّ َش ْي ٍء ِر ْزقا ً ِم ْن لَ ُدنَّا}‪.‬‬ ‫يُجْ بَى إِلَ ْي ِه ثَ َم َر ُ‬

‫وسأل هللا أن يبعث فيهم رسوالً منهم‪ ،‬أي من جنسهم وعلى لغتهم الفصيحة البليغة‬
‫النصيحة‪ ،‬لتتم عليهم النعمتان الدنيوية والدينية سعادة األولى واآلخرة‪.‬‬
‫وقد استجاب هللا له فبعث فيهم رسوالً‪ ،‬وأي رسول ختم به أنبياءه ورسله‪ ،‬وأكمل له‬
‫من الدين ما لم يؤت أحداً قبله وع ّم بدعوته أهل األرض على اختالف أجناسهم ولغاتهم‬
‫وصفاتهم في سائر األقطار واألمصار واألعصار إلى يوم القيامة‪ ،‬وكان هذا من‬
‫خصائصه من بين سائر األنبياء لشرفه على نفسه وكمال ما أرسل به‪ ،‬وشرف بقعته‬
‫وفصاحة لغته‪ ،‬وكمال شفقته على أمته‪ ،‬ولطفه ورحمته وكريم محتده‪ ،‬وعظيم مولده‬
‫وطيب مصدره ومورده‪.‬‬
‫ولهذا استحق إبراهيم الخليل عليه السالم إذ كان باني الكعبة ألهل األرض‪ ،‬أن يكون‬
‫منصبه ومحله وموضعه في منازل السماوات‪ ،‬ورفيع الدرجات عند البيت المعمور‪،‬‬
‫الذي هو كعبة أهل السماء السابعة المبارك المبرور‪ ،‬الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا ً من‬
‫المالئكة يتعبدون فيه‪ .‬ثم ال يعودون إليه إلى يوم البعث والنشور‪.‬‬
‫وقد ذكرنا في التفسير من سورة البقرة صفة بناية البيت‪ ،‬وما ورد في ذلك من‬
‫األخبار واآلثار بما فيه الكفاية‪ ،‬فمن أراد فليراجعه ثم‪ .‬وهلل الحمد‪.‬‬
‫فمن ذلك ما قاله ال ُّسدِّي‪ :‬لما أمر هللا إبراهيم وإسماعيل أن يبنيا البيت‪ ،‬ثم لم يدريا أين‬
‫مكانه؟ حتى بعث هللا ريحا ً يقال له الخجوج لها جناحان ورأس في صورة حية‪ ،‬فكنست‬
‫لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت األول‪ ،‬واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا‬
‫ت}‪.‬‬ ‫األساس‪ ،‬وذلك حين يقول تعالى‪َ { :‬وإِ ْذ بَ َّو ْأنَا ِإلب َْرا ِهي َم َم َك َ‬
‫ان ْالبَ ْي ِ‬
‫فلما بلغا القواعد وبنيا الركن‪ ،‬قال إبراهيم إلسماعيل‪ :‬يا بني اطلب لي الحجر األسود‬
‫من الهند‪ ،‬وكان أبيض ياقوتة بيضاء‪ ،‬مثل النعامة‪ ،‬وكان آدم هبط به من الجنَّة فاسّود من‬
‫خطايا الناس‪ ،‬فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن‪ .‬فقال‪ :‬يا أبتي من جاءك بهذا؟ قال‬
‫ت ال َّس ِمي ُع ْال َعلِي ُم}‪.‬‬ ‫ك أَ ْن َ‬
‫جاء به َم ْن هو أنشط منك‪ .‬فبنيا وهما يدعوان هللا‪َ { :‬ربَّنَا تَقَبَّلْ ِمنَّا إِنَّ َ‬
‫وذكر ابن أبي حاتم‪ :‬أنه بناه من خمسة أجبل‪ ،‬وأن ذا القرنين‪ ،‬وكان ملك األرض إذ‬
‫ذاك‪ ،‬مر بهما وهما يبنيانه‪ ،‬فقال‪ :‬من أمركما بهذا؟ فقال إبراهيم‪ :‬هللا أمرنا به‪ ،‬فقال‪ :‬وما‬
‫يدريني بما تقول؟ فشهدت خمسة اكبش أنه أمره بذلك‪ ،‬فآمن وصدق‪ .‬وذكر األزرقي‪ :‬أنه‬
‫طاف مع الخليل بالبيت‪.‬‬
‫وقد كانت على بناء الخليل مدة طويلة‪ ،‬ثم بعد ذلك بنتها قريش‪ ،‬فقصرت بها عن‬
‫قواعد إبراهيم من جهة الشمال‪ ،‬مما يلي الشام على ما هي عليه اليوم‪.‬‬
‫وفي "الصحيحين"‪ d‬من حديث مالك‪ ،‬عن ابن شهاب‪ ،‬عن سالم‪ :‬أن عبد هللا بن ُم َح ْمد‬
‫بن أبي بكر أخبر عن ابن عمر‪ ،‬عن عائشة أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬ألم‬
‫ت َر أن قو ِمك حين بنوا الكعبةَ اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟ فقلت‪ :‬يا رسول هللا أال تر ّدها‬
‫أن قو َمك‬ ‫على قواعد إبراهيم؟ فقال‪ :‬لوال حدثان قومك بالكفر لفعلت‪ d،‬وفي رواية‪ :‬لوال ّ‬
‫ألنفقت كنز الكعبة في سبيل هللا‪ ،‬ولجعلت بابها‬ ‫ُ‬ ‫بكفر‬
‫ٍ‬ ‫حديثو عهد بجاهلية‪ ،‬أو قال‪:‬‬
‫باألرض‪ ،‬وألدخلت فيها الحجر"‪.‬‬
‫وقد بناها ابن الزبير رحمه هللا في أيامه‪ ،‬على ما أشار إليه رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم حسبما أخبرته به خالته عائشة أم المؤمنين عنه‪ ،‬فلما قتله الحجاج‪ d‬في سنة ثالث‬
‫وسبعين كتب إلى عبد الملك بن مروان الخليفة إذ ذاك فاعتقدوا أن ابن الزبير إنما صن َع‬
‫ي وأخرجوا منها‬ ‫ذلك من تلقاء نفسه‪ ،‬فأمر بردِّها إلى ما كانت عليه فنقضوا الحائطَ الشام َّ‬
‫جوف الكعبة‪ ،‬فارتفع بابها الشرقي وس ُّدوا‬ ‫ِ‬ ‫األحجار في‬
‫َ‬ ‫الحجر‪ ،‬ثم س ّدوا الحائطَ ور َد ُموا‬
‫الغربي بالكلية‪ ،‬كما هو مشاهد إلى اليوم‪.‬‬
‫ثم لما بلغهم أن ابن الزبير إنما فعل هذا لما أخبرته عائشة أم المؤمنين ندموا على ما‬
‫فعلوا‪ ،‬وتأسّفوا أن لو كانوا تركوه وما تولّى من ذلك‪.‬‬
‫ثم لما كان في زمن المهدي بن المنصور استشار اإلمام مالك بن أنس في ر ّدها على‬
‫الصفة التي بناها ابن الزبير فقال‪ ،‬له‪ :‬إني أخشى أن يتخذها الملوك لعبة‪ .‬يعني كلما جاء‬
‫ملك بناها على الصفة التي يريد‪ ،‬فاستقر األمر على ما هي عليه اليوم‪.‬‬

‫ذكر ثناء هللا ورسوله الكريم على عبده وخليله إبراهيم‬


‫اس إِ َماما ً‬ ‫اعلُ َ‬
‫ك لِلنَّ ِ‬ ‫ت فَأَتَ َّمه َُّن قَ َ‬
‫ال إِنِّي َج ِ‬ ‫قال هللا تعالى‪َ { :‬وإِ ْذ ا ْبتَلَى إِب َْرا ِهي َم َربُّهُ بِ َكلِ َما ٍ‬
‫ين} لما وفى ما أمره به ربه‪ ،‬من التكاليف‬ ‫ال ال يَنَا ُل َع ْه ِدي الظَّالِ ِم َ‬ ‫ال َو ِم ْن ُذ ِّريَّتِي قَ َ‬
‫قَ َ‬
‫العظيمة‪ ،‬جعله للناس إماما ً يقتدون به‪ ،‬ويأتمون بهديه‪ ،‬وسأل هللا أن تكون هذه اإلمامة‬
‫متصلة بسببه‪ ،‬وباقية في نسبه‪ ،‬وخالدة في عقبه‪ ،‬فأجيب إلى ما سأل ورام‪ ،‬وسلمت إليه‬
‫اإلمامة بزمام‪ ،‬واستثنى من نيلها الظالمون‪ ،‬واختص بها من ذريته العلماء العاملون‪ ،‬كما‬
‫اب َوآتَ ْينَاهُ أَجْ َرهُ فِي‬ ‫وب َو َج َع ْلنَا فِي ُذرِّ يَّتِ ِه النُّبُ َّوةَ َو ْال ِكتَ َ‬ ‫ق َويَ ْعقُ َ‬ ‫ْحا َ‬ ‫قال تعالى‪َ { :‬و َوهَ ْبنَا لَهُ إِس َ‬
‫وب ُكال‬ ‫ق َويَ ْعقُ َ‬ ‫ْحا َ‬ ‫ين}‪ .‬وقال تعالى‪َ { :‬و َوهَ ْبنَا لَهُ إِس َ‬ ‫اآلخ َر ِة لَ ِم ْن الصَّالِ ِح َ‬‫ال ُّد ْنيَا َوإِنَّهُ فِي ِ‬
‫ُون‬
‫ُف َو ُمو َسى َوهَار َ‬ ‫ُّوب َويُوس َ‬ ‫ان َوأَي َ‬ ‫هَ َد ْينَا َونُوحا ً هَ َد ْينَا ِم ْن قَ ْب ُل َو ِم ْن ُذرِّ يَّتِ ِه َدا ُوو َد َو ُسلَ ْي َم َ‬
‫ين‪َ d،‬وإِ ْس َما ِعي َل‬ ‫اس ُكلٌّ ِم ْن الصَّالِ ِح َ‬ ‫ين‪َ ،‬و َز َك ِريَّا َويَحْ يَى َو ِعي َسى َوإِ ْليَ َ‬ ‫ك نَجْ ِزي ْال ُمحْ ِسنِ َ‬ ‫َو َك َذلِ َ‬
‫ين‪َ ،‬و ِم ْن آبَائِ ِه ْم َو ُذرِّ يَّاتِ ِه ْم َوإِ ْخ َوانِ ِه ْم‬ ‫س َولُوطا ً َو ُكال فَض َّْلنَا َعلَى ْال َعالَ ِم َ‬ ‫َو ْاليَ َس َع َويُونُ َ‬
‫اط ُم ْستَقِ ٍيم}‪.‬‬ ‫ص َر ٍ‬ ‫َواجْ تَبَ ْينَاهُ ْم َوهَ َد ْينَاهُ ْم إِلَى ِ‬
‫فالضمير في قوله { َو ِم ْن ُذرِّ يَّتِ ِه} عائد على إبراهيم على المشهور‪ .‬ولوط وإن كان‬
‫ابن أخيه إالّ أنه دخل في الذرية تغليبا ً‪ .‬وهذا هو الحامل للقائل اآلخر‪ :‬إن الضمير على‬
‫نوح كما قدمنا في قصته وهللا أعلم‪.‬‬
‫اب}‪ .‬اآلية‪.‬‬ ‫وقال تعالى‪َ { :‬ولَقَ ْد أَرْ َس ْلنَا نُوحا ً َوإِب َْرا ِهي َم َو َج َع ْلنَا فِي ُذرِّ يَّتِ ِه َما النُّبُ َّوةَ َو ْال ِكتَ َ‬
‫فكل كتاب أنزل من السماء على نبي من األنبياء بعد إبراهيم الخليل فمن ذريته وشيعته‪.‬‬
‫وهذه خلعة سنية ال تضاهي ومرتبة عليّة ال تباهى‪ .‬وذلك أنه ولد له لصلبه ولدان ذكران‬
‫عظيمان إسماعيل من هاجر ثم إسحاق من سارة‪ ،‬وولد له يعقوب‪ ،‬وهو إسرائيل‪ ،‬الذي‬
‫ينتسب إليه سائر أسباطهم‪ ،‬فكانت فيهم النبوة وكثروا ج ّداً بحيث ال يعلم عددهم إالّ الذي‬
‫بعثهم واختصهم بالرسالة والنبوة‪ ،‬حتى ختموا بعيسى ابن مريم من بني إسرائيل‪.‬‬
‫وأما إسماعيل عليه السالم فكانت منه العرب على اختالف قبائلها‪ ،‬كما سنبينه فيما‬
‫بعد إن شاء هللا تعالى‪ ،‬ولم يوجد من ساللته من األنبياء سوى خاتمهم على اإلطالق‪،‬‬
‫وسيّدهم‪ ،‬وفخر بني آدم في الدنيا واآلخرة ُم َح ْمد بن عبد هللا بن عبد المطلب بن هاشم‬
‫القرشي الهاشمي الم ّكي ثم المدني صلوات هللا وسالمه عليه‪.‬‬
‫فلم يوجد من هذا الفرع الشريف‪ ،‬والغصن المنيف سوى هذه الجوهرة الباهرة‪،‬‬
‫والدرة الزاهرة‪ ،‬وواسطة العقد الفاخرة‪ ،‬وهو السيِّد الذي يفتخر به أهل الجمع‪ ،‬ويغبطه‬
‫األولون واآلخرون‪ ،‬يوم القيامة‪.‬‬
‫وقد ثبت عنه في "صحيح مسلم" كما سنورده أنه قال‪" :‬سأقوم مقاما ً يرغبُ إلى‬
‫الخلق كلهم‪ ،‬حتى إبراهيم"‪.‬‬
‫فمدح إبراهيم أباه مدحةً عظيمة في هذا السياق‪ ،‬ودل كالمه على أنه أفضل الخالئق‬
‫بعده عند الخالق في هذه الحياة الدنيا ويوم يكشف عن ساق‪.‬‬
‫ي‪َ :‬ح َّدثَنا عثمان بن أبي شيبة‪َ ،‬ح َّدثَنا جرير‪ ،‬عن منصور عن المنهال‪،‬‬ ‫وقال البُ َخار ّ‬
‫عن سعيد بن جبير‪ ،‬عن ابن عبَّاس قال‪" :‬كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يع ّوذ‬
‫الحسن والحسين‪ ،‬ويقول‪ :‬إن أباكما كان يع ّوذ بهما إسماعيل وإسحاق‪ .‬أعوذ بكلمات هللا‬
‫التامة‪ ،‬من كل شيطان وها ّمة‪ ،‬ومن كل عين ال ّمة"‪ ،‬ورواه أهل السنن‪ ،‬من حديث‬
‫منصور به‪.‬‬
‫ْف تُحْ ِي ْال َم ْوتَى قَا َل أَ َولَ ْم تُ ْؤ ِم ْن قَا َل بَلَى‬‫ال إِب َْرا ِهي ُم َربِّ أَ ِرنِي َكي َ‬ ‫وقال تعالى‪َ { :‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫ْك ثُ َّم اجْ َعلْ َعلَى ُكلِّ َجبَ ٍل ِم ْنه َُّن‬ ‫ال فَ ُخ ْذ أَرْ بَ َعةً ِم ْن الطَّي ِْر فَصُرْ هُ َّن إِلَي َ‬
‫ط َمئِ َّن قَ ْلبِي قَ َ‬ ‫َولَ ِك ْن لِيَ ْ‬
‫ك َسعْيا ً َوا ْعلَ ْم أَ َّن هَّللا َ َع ِزي ٌز َح ِكي ٌم}‪ .‬ذكر المفسرون لهذا السؤال‬ ‫ج ُْزءاً ثُ َّم ا ْد ُعه َُّن يَأْتِينَ َ‬
‫أسبابا ً بسطناها في التفسير‪ ،‬وقررناها بأتم تقرير‪.‬‬
‫والحاصل أن هللا عز وجل أجابه إلى ما سأل‪ ،‬فأمره أن يعمد إلى أربعة من الطيور‪،‬‬
‫واختلفوا في تعيينها‪ ،‬على أقوال‪ ،‬والمقصود حاصل على كل تقدير‪ ،‬فأمره أن يمزق‬
‫لحومهن وريشهن‪ ،‬ويخلط ذلك بعضه في بعض‪ ،‬ثم يقسمه قِ َسماً‪ ،‬ويجعل على كل جبل‬
‫منهن جزءاً‪ d،‬ففعل ما أمر به‪ ،‬ثم أمر أن يدعوهن بإذن ربهن‪ ،‬فلما دعاهن جعل ُك َّل عضو‬
‫يطير إلى صاحبه‪ ،‬وك َّل ريش ٍة تأتي إلى أختها حتى اجتمع بدن كل طائر على ما كان‬
‫عليه‪ ،‬وهو ينظر إلى قدرة الذي يقول للشيء‪ :‬كن فيكون‪ ،‬فأتين إليه سعياً‪ ،‬ليكون أبين له‬
‫وأوضح لمشاهدته‪ ،‬من أن يأتين طيرانا ً‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬إنه أمر أن يأخذ رؤوسهن في يده فجعل كل طائر يأتي فيلقي رأسه فيتركب‬
‫على جثته كما كان فال إله إال هللا‪.‬‬

‫وقد كان إبراهيم عليه السالم يعلم قدرة هللا تعالى على إحياء الموتى علما ً يقينا ً ال‬
‫يحتمل النقيض‪ ،‬ولكن أحب أن يشاهد ذلك عياناً‪ ،‬ويترقى من علم اليقين إلى عين اليقين‪،‬‬
‫فأجابه هللا إلى سؤاله وأعطاه غاية مأموله‪.‬‬
‫اإلن ِجي ُل إِال‬ ‫ت التَّ ْو َراةُ َو ِ‬ ‫ون فِي إِب َْرا ِهي َم َو َما أُ ْن ِزلَ ْ‬ ‫قال تعالى‪{ :‬يَا أَ ْه َل ْال ِكتَا ِ‬
‫ب لِ َم تُ َحاجُّ َ‬
‫ْس لَ ُك ْم بِ ِه‬‫ون فِي َما لَي َ‬ ‫اججْ تُ ْم فِي َما لَ ُك ْم بِ ِه ِع ْل ٌم فَلِ َم تُ َحاجُّ َ‬
‫ون‪ ،‬هَاأَ ْنتُ ْم هَ ُؤال ِء َح َ‬ ‫ِم ْن بَ ْع ِد ِه أَفَال تَ ْعقِلُ َ‬
‫ان َحنِيفا ً‬‫ان إِ ْب َرا ِهي ُم يَهُو ِديّا ً َوال نَصْ َرانِيّا ً َولَ ِك ْن َك َ‬ ‫ون‪َ ،‬ما َك َ‬ ‫ِع ْل ٌم َوهَّللا ُ يَ ْعلَ ُم َوأَ ْنتُ ْم ال تَ ْعلَ ُم َ‬
‫ين اتَّبَعُوهُ َوهَ َذا النَّبِ ُّي َوالَّ ِذ َ‬
‫ين‬ ‫ين‪ ،‬إِ َّن أَ ْولَى النَّ ِ‬
‫اس بِإِب َْرا ِهي َم لَلَّ ِذ َ‬ ‫ان ِم ْن ْال ُم ْش ِر ِك َ‬ ‫ُم ْسلِما ً َو َما َك َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫آ َمنُوا َوهَّللا ُ َولِ ُّي ْال ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ينكر تعالى على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في دعوى كلِّ من الفريقين كون‬
‫الخليل على ملّتهم وطريقتهم‪ ،‬فبرّأه هللا منهم‪ ،‬وبين كثرة جهلهم وقلة عقلهم في قوله‪:‬‬
‫نجي ُل إِال ِم ْن بَ ْع ِد ِه } أي فكيف يكون على دينكم وأنتم إنما شرع‬ ‫اإل ِ‬‫ت التَّ ْو َراةُ َو ِ‬ ‫{ َو َما أُ ْن ِزلَ ْ‬
‫ان إِب َْرا ِهي ُم‬ ‫ون} إلى أن قال‪َ { :‬ما َك َ‬ ‫لكم ما شرع بعده بمد ٍد متطاولة‪ ،‬ولهذا قال‪{ :‬أَفَال تَ ْعقِلُ َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ان ِم ْن ْال ُم ْش ِر ِك َ‬ ‫ان َحنِيفا ً ُم ْسلِما ً َو َما َك َ‬‫يَهُو ِديّا ً َوال نَصْ َرانِيّا ً َولَ ِك ْن َك َ‬
‫فبين أنه كان على دين هللا الحنيف‪ ،‬وهو القصد إلى اإلخالص‪ ،‬واالنحراف عمداً عن‬
‫الباطل إلى الحق الذي هو مخالف لليهودية والنصرانية والمشركية‪.‬‬

‫كما قال تعالى‪َ { :‬و َم ْن يَرْ َغبُ َع ْن ِملَّ ِة إِ ْب َرا ِهي َم إِاَّل َم ْن َسفِهَ نَ ْف َسهُ َولَقَ ْد اصْ طَفَ ْينَاهُ فِي‬
‫ين‪،‬‬‫ت لِ َربِّ ْال َعالَ ِم َ‬‫ال أَ ْسلَ ْم ُ‬
‫ال لَهُ َربُّهُ أَ ْسلِ ْم قَ َ‬
‫ين‪ d،‬إِ ْذ قَ َ‬ ‫ال ُّد ْنيَا َوإِنَّهُ فِي ِ‬
‫اآلخ َر ِة لَ ِم ْن الصَّالِ ِح َ‬
‫ِّين فَال تَ ُموتُ َّن إِال َوأَ ْنتُ ْم‬ ‫ي إِ َّن هَّللا َ اصْ طَفَى لَ ُك ْم الد َ‬ ‫َو َوصَّى بِهَا إِب َْرا ِهي ُم بَنِي ِه َويَ ْعقُوبُ يَا بَنِ َّ‬
‫ون ِم ْن بَ ْع ِدي قَالُوا‬ ‫ال لِبَنِي ِه َما تَ ْعبُ ُد َ‬ ‫ت إِ ْذ قَ َ‬ ‫وب ْال َم ْو ُ‬ ‫ض َر يَ ْعقُ َ‬ ‫ون‪ ،‬أَ ْم ُكنتُ ْم ُشهَ َدا َء إِ ْذ َح َ‬ ‫ُم ْسلِ ُم َ‬
‫ون‪،‬‬ ‫احداً َونَحْ ُن لَهُ ُم ْسلِ ُم َ‬ ‫احداً إِلَها ً َو ِ‬‫ق إِلَها ً َو ِ‬ ‫ْحا َ‬ ‫ك إِ ْب َرا ِهي َم َوإِ ْس َما ِعي َل َوإِس َ‬ ‫ك َوإِلَهَ آبَائِ َ‬ ‫نَ ْعبُ ُد إِلَهَ َ‬
‫ون‪َ ،‬وقَالُوا ُكونُوا‬ ‫ون َع َّما َكانُوا يَ ْع َملُ َ‬ ‫ت َولَ ُك ْم َما َك َس ْبتُ ْم َوال تُسْأَلُ َ‬ ‫ت لَهَا َما َك َسبَ ْ‬ ‫ك أُ َّمةٌ قَ ْد َخلَ ْ‬ ‫تِ ْل َ‬
‫ين‪ ،‬قُولُوا آ َمنَّا بِاهَّلل ِ‬ ‫ان ِم ْن ْال ُم ْش ِر ِك َ‬ ‫ارى تَ ْهتَ ُدوا قُلْ بَلْ ِملَّةَ إِب َْرا ِهي َم َحنِيفا ً َو َما َك َ‬ ‫ص َ‬ ‫هُوداً أَ ْو نَ َ‬
‫اط َو َما أُوتِ َي‬ ‫وب َواألَ ْسبَ ِ‬ ‫ق َويَ ْعقُ َ‬ ‫ْحا َ‬ ‫يل َوإِس َ‬ ‫اع َ‬ ‫نز َل إِلَى إِب َْرا ِهي َم َوإِ ْس َم ِ‬ ‫ُ‬
‫نز َل إِلَ ْينَا َو َما أ ِ‬
‫ُ‬
‫َو َما أ ِ‬
‫ق بَي َْن أَ َح ٍد ِم ْنهُ ْم‬ ‫ق بَي َْن أَ َح ٍد ِم ْنهُ ْم ال نُفَرِّ ُ‬ ‫ُّون ِم ْن َربِّ ِه ْم ال نُفَ ِّر ُ‬ ‫ُمو َسى َو ِعي َسى َو َما أُوتِ َي النَّبِي َ‬
‫ق‬‫ون‪ ،‬فَإِ ْن آ َمنُوا بِ ِم ْث ِل َما آ َمنتُ ْم بِ ِه فَقَ ْد ا ْهتَ َدوا َوإِ ْن تَ َولَّ ْوا فَإِنَّ َما هُ ْم فِي ِشقَا ٍ‬ ‫َونَحْ ُن لَهُ ُم ْسلِ ُم َ‬
‫ون‪،‬‬ ‫ص ْب َغةً َونَحْ ُن لَهُ َعابِ ُد َ‬ ‫ص ْب َغةَ هَّللا ِ َو َم ْن أَحْ َس ُن ِم ْن هَّللا ِ ِ‬ ‫فَ َسيَ ْكفِي َكهُ ْم هَّللا ُ َوهُ َو ال َّس ِمي ُع ْال َعلِي ُم‪ِ ،‬‬
‫ُون‪ ،‬أَ ْم‬ ‫قُلْ أَتُ َحاجُّ ونَنَا فِي هَّللا ِ َوهُ َو َربُّنَا َو َربُّ ُك ْم َولَنَا أَ ْع َمالُنَا َولَ ُك ْم أَ ْع َمالُ ُك ْم َونَحْ ُن لَهُ ُم ْخلِص َ‬
‫ارى قُلْ أَأَ ْنتُ ْم‬ ‫ص َ‬ ‫وب َواألَ ْسبَاطَ َكانُوا هُوداً أَ ْو نَ َ‬ ‫ق َويَ ْعقُ َ‬ ‫ْحا َ‬‫يل َوإِس َ‬ ‫ون إِ َّن إِب َْرا ِهي َم َوإِ ْس َم ِ‬
‫اع َ‬ ‫تَقُولُ َ‬
‫ك أُ َّمةٌ قَ ْد‬ ‫ون‪ ،‬تِ ْل َ‬
‫ظلَ ُم ِم َّم ْن َكتَ َم َشهَا َدةً ِع ْن َدهُ ِم ْن هَّللا ِ َو َما هَّللا ُ بِ َغافِ ٍل َع َّما تَ ْع َملُ َ‬‫أَ ْعلَ ُم أَ ْم هَّللا ُ َو َم ْن أَ ْ‬
‫ون}‪.‬‬‫ون َع َّما َكانُوا يَ ْع َملُ َ‬ ‫ت َولَ ُك ْم َما َك َس ْبتُ ْم َوال تُسْأَلُ َ‬ ‫ت لَهَا َما َك َسبَ ْ‬ ‫َخلَ ْ‬
‫فنزه هللا عز وجل خليله عليه السالم عن أن يكون يهوديا ً أو نصرانياً‪ ،‬وبين أنه إنما‬
‫اس بِإِ ْب َرا ِهي َم‬‫كان حنيفا ً مسلماً‪ ،‬ولم يكن من المشركين‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪{ :‬إِ َّن أَ ْولَى النَّ ِ‬
‫ين اتَّبَعُوهُ} يعني الذين كانوا على ملته من أتباعه في زمانه ومن تمسك بدينه من‬ ‫لَلَّ ِذ َ‬
‫بعدهم‪.‬‬

‫{ َوهَ َذا النَّبِ ُّي} يعني محمداً صلى هللا عليه وسلم‪ .‬فإن هللا شرع له الدين الحنيف الذي‬
‫شرعه للخليل‪ d،‬وكمله هللا تعالى له وأعطاه ما لم يع ِط نبيا ً وال رسوالً من قبله‪ ،‬كما قال‬
‫ان ِم ْن‬ ‫اط ُم ْستَقِ ٍيم ِدينا ً قِيَما ً ِملَّةَ إِب َْرا ِهي َم َحنِيفا ً َو َما َك َ‬‫ص َر ٍ‬ ‫تعالى‪{ :‬قُلْ إِنَّنِي هَ َدانِي َربِّي إِلَى ِ‬
‫ك‬‫ك لَهُ َوبِ َذلِ َ‬ ‫ين‪ ،‬ال َش ِري َ‬ ‫صالتِي َونُ ُس ِكي َو َمحْ يَاي َو َم َماتِي هَّلِل ِ َربِّ ْال َعالَ ِم َ‬ ‫ين‪ ،‬قُلْ إِ َّن َ‬ ‫ْال ُم ْش ِر ِك َ‬
‫ان أُ َّمةً قَانِتا ً هَّلِل ِ َحنِيفا ً َولَ ْم يَ ُك ْن ِم َن‬
‫ين}‪ .‬وقال تعالى‪{ :‬إِ َّن إِب َْرا ِهي َم َك َ‬ ‫ت َوأَنَا أَ َّو ُل ْال ُم ْسلِ ِم َ‬ ‫أُ ِمرْ ُ‬
‫ص َرا ٍط ُم ْستَقِ ٍيم‪َ ،‬وآتَ ْينَاهُ فِي ال ُّد ْنيَا َح َسنَةً َوإِنَّهُ‬ ‫ين‪َ ،‬شا ِكراً أِل َ ْن ُع ِم ِه اجْ تَبَاهُ َوهَ َداهُ إِلَى ِ‬ ‫ْال ُم ْش ِر ِك َ‬
‫ان ِم ْن‬‫ْك أَ ْن اتَّبِ ْع ِملَّةَ إِب َْرا ِهي َم َحنِيفا ً َو َما َك َ‬‫ين‪ ،‬ثُ َّم أَ ْو َح ْينَا إِلَي َ‬
‫اآلخ َر ِة لَ ِم ْن الصَّالِ ِح َ‬ ‫فِي ِ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ْال ُم ْش ِر ِك َ‬
‫ي‪َ :‬ح َّدثَنا إبراهيم بن موسى‪َ ،‬ح َّدثَنا هشام‪ ،‬عن معمر‪ ،‬عن أيوب‪ ،‬عن‬ ‫وقال البُ َخار ّ‬
‫عكرمة‪ ،‬عن ابن عبَّاس أن النبي صلى هللا عليه وسلم لما رأى الصور في البيت لم يدخل‬
‫حتى أمر بها فمحيت‪ .‬ورأى إبراهيم وإسماعيل بأيديهما األزالم فقال‪" :‬قاتلهم هللا! وهللا ْ‬
‫إن‬
‫يستقسما باألزالم قط"‪ .‬لم يخرجه مسلم‪.‬‬
‫ي‪" :‬قاتلهم هللا! لقد علموا أن شيخنا لم يستقسم بها قط"‪.‬‬ ‫وفي بعض ألفاظ الب َُخار ّ‬
‫وقوله {أُ َّمةً} أي قدوة إماما ً مهتديا ً داعيا ً إلى الخير‪ ،‬يقتدى به فيه {قَانِتا ً هَّلِل } أي‬
‫خاشعا ً له في جميع حاالته‪ ،‬وحركاته وسكناته { َحنِيفا ً} أي مخلصا ً على بصيرة{ َولَ ْم يَ ُك ْن‬
‫ين‪َ ،‬شا ِكراً أِل َ ْن ُع ِم ِه} أي قائما ً بشكر ربه بجميع جوارحه من قلبه ولسانه‬ ‫ِم َن ْال ُم ْش ِر ِك َ‬
‫وأعماله‬

‫{اجْ تَبَاهُ} أي اختاره هللا لنفسه واصطفاه لرسالته واتخذه خليالً‪ ،‬وجمع له بين خيري‬
‫الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫وقال تعالى‪َ { :‬و َم ْن أَحْ َس ُن ِدينا ً ِم َّم ْن أَ ْسلَ َم َوجْ هَهُ هَّلِل ِ َوهُ َو ُمحْ ِس ٌن َواتَّبَ َع ِملَّةَ إِ ْب َرا ِهي َم‬
‫َحنِيفا ً َواتَّ َخ َذ هَّللا ُ إِب َْرا ِهي َم َخلِيالً} يرغب تعالى في إتباع إبراهيم عليه السالم‪ ،‬ألنه كان‬
‫على الدين القويم والصراط المستقيم‪ ،‬وقد قام بجميع ما أمره به ربه ومدحه تعالى بذلك‬
‫فقال‪َ { :‬وإِب َْرا ِهي َم الَّ ِذي َوفَّى} واتخذه هللا خليالً‪ ،‬والخلة هي غاية المحبة‪ ،‬كما قال بعضهم‪:‬‬
‫الروح مني ** ** وبذا سُم ّي الخلي ُل خليال‬ ‫ك َ‬ ‫قد تخلّ َ‬
‫لت مسْل َ‬
‫وهكذا نال هذه المنزلة خاتم األنبياء‪ ،‬وسيد الرسل محمد صلوات هللا وسالمه عليه‪،‬‬
‫كما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما‪ ،‬من حديث جندب البجلي وعبد هللا بن عمرو وابن‬
‫مسعود عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أنه قال‪" :‬أيها الناس إن هللا اتخذني خليالً"‪.‬‬
‫وقال أيضا ً في آخر خطبة خطبها‪" :‬أيها الناس لو كنت متّخذاً من أهل األرض خليالً‬
‫ولكن صاحبكم خليل هللا"‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫التخذت أبا بكر خليال‪،‬‬
‫أخرجاه من حديث أبي سعيد‪.‬‬
‫ي‬ ‫وثبت أيضا ً من حديث عبد هللا بن الزبير‪ ،‬وابن عبَّاس وابن مسعود‪ .‬وروى البُ َخار ّ‬
‫في "صحيحه"‪َ :‬ح َّدثَنا سليمان بن حرب‪َ ،‬ح َّدثَنا شعبة‪ ،‬عن حبيب بن أبي ثابت‪ ،‬عن سعيد‬
‫اليمن صلّى بهم الصُّ بح فقرأ‪:‬‬ ‫َ‬ ‫إن معاذاً ل ّما قدم‬ ‫بن جبير‪ ،‬عن عمرو بن ميمون قال‪َّ :‬‬
‫ّت عين أ ّم إبراهيم!‬ ‫{ َواتَّ َخ َذ هَّللا ُ إِب َْرا ِهي َم َخلِيالً} فقال رجل من القوم‪ :‬لقد قر ْ‬
‫وقال ابن مردويه‪َ :‬ح َّدثَنا عبد الرحيم بن ُم َح ْمد بن مسلم‪َ ،‬ح َّدثَنا إسماعيل بن أحمد بن‬
‫أسيد‪َ ،‬ح َّدثَنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني بمكة‪َ ،‬ح َّدثَنا عبد هللا الحنفي‪َ ،‬ح َّدثَنا زمعة بن‬
‫صالح‪ ،‬عن سلمة بن وهرام‪ ،‬عن عكرمة‪ ،‬عن ابن عبَّاس قال‪ :‬جلس ناس من أصحاب‪d‬‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ينتظرونه‪ ،‬فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون‪،‬‬
‫فسمع حديثهم‪ ،‬وإذا بعضهم يقول‪ :‬عجب أن هللا اتخذ من خلقه خليالً! فإبراهيم خليله‪،‬‬
‫وقال آخر‪ :‬ماذا بأعجب من أن هللا كلّم موسى تكليما ً! وقال آخر‪ :‬فعيسى رو ُح هللا وكلمته!‬
‫وقال آخر‪ :‬آدم اصطفاه هللا! فخرج عليهم فسلّم وقال‪" :‬قد سمعت كالمكم وعجبكم‪ ،‬أن‬
‫إبراهيم خليل هللا وهو كذلك‪ ،‬وموسى كليمه وهو كذلك‪ ،‬وعيسى روحه وكلمته وهو‬
‫كذلك‪ ،‬وآدم اصطفاه هللا وهو كذلك‪ .‬أال وإني حبيبُ هللا وال فخر‪ ،‬أال وإني أول شافع‬
‫وأول مشفع وال فخر‪ ،‬وأنا أول من يحرك حلقة باب الجنَّة‪ ،‬فيفتحه هللا فيدخلنيها ومعي‬
‫فقراء المؤمنين‪ ،‬وأنا اكرم األولين واآلخرين يوم القيامة وال فخر"‪.‬‬
‫هذا حديث غريب من هذا الوجه وله شواهد من وجوه أخر وهللا أعلم‪.‬‬
‫وروى الحاكم في "مستدركه" من حديث قتادة‪ ،‬عن عكرمة‪ ،‬عن ابن عبَّاس قال‪:‬‬
‫أتنكرون أن تكون الخلة إلبراهيم؟ والكالم لموسى؟ والرؤية لمحمد؟ صلوات هللا وسالمه‬
‫عليهم أجمعين"‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم‪َ :‬ح َّدثَنا أبي‪َ ،‬ح َّدثَنا محمود بن خالد السلمي‪َ ،‬ح َّدثَنا الوليد‪ ،‬عن‬
‫الو َجل حتى أن كان خفقان‬ ‫إسحاق بن يسار قال‪ :‬لما اتخذ هللا إبراهيم خليالً ألقى في قلبه َ‬
‫قلبه ليسمع من بعد كما يسمع خفقان الطير في الهواء‪.‬‬
‫وقال عبيد بن عمير‪ :‬كان إبراهيم عليه السالم يضيف الناس‪ ،‬فخرج يوما ً يلتمس‬
‫إنسانا ً يضيفه فلم يجد أحداً يضيفه‪ ،‬فرجع إلى داره فوجد فيها رجالً قائماً‪ ،‬فقال‪ :‬يا عبد‬
‫هللا ما أدخلك داري بغير إذني؟ قال‪ :‬دخلتها بإذن ربها‪ .‬قال‪ :‬ومن أنت؟ قال‪ :‬أنا ملك‬
‫الموت‪ ،‬أرسلني ربي إلى عب ٍد من عباده‪ ،‬أب ّشره بأن هللا قد اتخذه خليالً‪ ،‬قال‪َ :‬م ْن هو؟ فو‬
‫هللا إن أخبرتني به‪ ،‬ثم كان بأقصى البالد آلتينّه‪ ،‬ثم ال أبرح له جاراً حتى يفرّق بيننا‬
‫الموت‪ ،‬قال‪ :‬ذلك العبد أنت‪ .‬قال‪ :‬أنا! قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬فبم اتخذني ربي خليالً؟ قال‪ :‬بأنك‬
‫تعطي الناس وال تسألهم‪.‬‬
‫رواه ابن أبي حاتم‪.‬‬
‫وقد ذكره هللا تعالى في القرآن كثيراً في غير ما موضع بالثناء عليه‪ ،‬والمدح له‪،‬‬
‫فقيل‪ :‬إنه مذكور في خمسة وثالثين موضعاً‪ ،‬منها خمسة عشر في البقرة وحدها‪.‬‬
‫وهو أحد أولي العزم الخمسة المنصوص على أسمائهم تخصيصاً‪ ،‬من بين سائر‬
‫األنبياء في آيتي األحزاب والشورى وهما قوله تعالى‪{ :‬أَ َخ ْذنَا ِم ْن النَّبِي َ‬
‫ِّين ِميثَاقَهُ ْم َو ِم ْن َ‬
‫ك‬
‫وح َوإِب َْرا ِهي َم َو ُمو َسى َو ِعي َسى اب ِْن َمرْ يَ َم َوأَ َخ ْذنَا ِم ْنهُ ْم ِميثَاقا ً َغلِيظا ً} وقوله‪َ { :‬ش َر َع‬ ‫َو ِم ْن نُ ٍ‬
‫ص ْينَا بِ ِه إِب َْرا ِهي َم َو ُمو َسى‬ ‫ِّين َما َوصَّى بِ ِه نُوحا ً َوالَّ ِذي أَ ْو َح ْينَا إِلَي َ‬
‫ْك َو َما َو َّ‬ ‫لَ ُك ْم ِم ْن الد ِ‬
‫ِّين َوال تَتَفَ َّرقُوا فِي ِه} اآلية‪.‬‬ ‫َو ِعي َسى أَ ْن أَقِي ُموا الد َ‬
‫ثم هو أشرف أولي العزم بعد محمد صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫وهو الذي وجده عليه السالم في السماء السابعة‪ ،‬مسنداً ظهره بالبيت المعمور‪ ،‬الذي‬
‫يدخله كل يوم سبعون ألفا ً من المالئكة‪ ،‬ثم ال يعودون إليه آخر ما عليهم‪ .‬وما وقع في‬
‫حديث شريك ابن أبي نمير عن أنس في حديث اإلسراء "من أن إبراهيم في السادسة‪،‬‬
‫وموسى في السابعة‪ ،‬فمما انتقد على شريك في هذا الحديث‪ .‬والصحيح األول‪.‬‬
‫وقال أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا ُم َح ْمد بن بشر‪َ ،‬ح َّدثَنا ُم َح ْمد بن عمرو‪َ ،‬ح َّدثَنا أبو سلمة‪ ،‬عن أبي‬
‫هريرة قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن‬
‫الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن"‪.‬‬
‫تفرد به أحمد‪.‬‬
‫ثم مما يدل على أن إبراهيم أفضل من موسى الحديث الذي قال فيه‪" :‬وأخرت الثالثة‬
‫ليوم يرغب إلى الخلق كلهم حتى إبراهيم"‪.‬‬
‫رواه مسلم‪ ،‬من حديث أُبَ ّي بن َكعب رضي هللا عنه‪.‬‬
‫وهذا هو المقام المحمود الذي أخبر عنه صلوات هللا وسالمه عليه بقوله‪" :‬أنا سيد‬
‫ولد آدم يوم القيامة وال فخر" ثم ذكر استشفاع الناس بآدم ثم بنوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم‬
‫عيسى فكلهم يحيد عنها حتى يأتوا محمداً صلى هللا عليه وسلم فيقول‪" :‬أنا لها‪ ،‬أنا لها"‬
‫الحديث بتمامه‪.‬‬

‫ي‪َ :‬ح َّدثَنا علي بن عبد هللا‪َ ،‬ح َّدثَنا يحيى بن سعيد‪َ ،‬ح َّدثَنا عبيد هللا‪ ،‬حدثني‬ ‫وقال البُ َخار ّ‬
‫سعيد‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن أبي هريرة قال‪ :‬قيل‪ :‬يا رسول هللا من أكرم الناس؟ قال ‪ :‬أكرمهم‬
‫أتقاهم" فقالوا ليس عن هذا نسألك قال "فأكرم الناس يوسف نبي هللا‪ ،‬ابن نبي هللا ابن نبي‬
‫هللا ابن خليل هللا"‪ .‬قالوا ليس عن هذا نسألك‪ .‬قال " فعن معادن العرب تسألونني"؟ قالوا‬
‫نعم قال "فخيارهم في الجاهلية خيارهم في اإلسالم إذا فقهوا"‪.‬‬
‫ي في مواضع أخر‪ ،‬ومسلم والنسائي من طرق‪ ،‬عن يحيى بن‬ ‫وهكذا رواه الب َُخار ّ‬
‫سعيد القطان‪ ،‬عن عبيد هللا ‪ -‬وهو ابن عمر ‪ -‬العمري به‪.‬‬
‫ي‪ :‬قال أبو أسامة ومعتمر عن عبيد هللا‪ ،‬عن سعيد‪ ،‬عن أبي هريرة عن‬ ‫ثم قال الب َُخار ّ‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وقد أسنده في موضع آخر من حديثهما‪ ،‬وحديث عبدة بن سليمان‪ .‬والنسائي من‬
‫حديث ُم َح ْمد بن بشر‪ ،‬أربعتهم عن عبيد هللا بن عمر‪ ،‬عن سعيد‪ ،‬عن أبي هريرة عن‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم ولم يذكروا أباه‪.‬‬
‫وقال أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا ُم َح ْمد بن بشر‪َ ،‬ح َّدثَنا ُم َح ْمد بن عمرو‪َ ،‬ح َّدثَنا أبو سلمة‪ ،‬عن أبي‬
‫هريرة قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم‬
‫يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل هللا"‪ .‬تفرد به أحمد‪.‬‬
‫ي‪َ :‬ح َّدثَنا عبدة‪َ ،‬ح َّدثَنا عبد الصمد بن عبد الرحمن‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن ابن‬ ‫وقال البُ َخار ّ‬
‫عمر‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم‬
‫يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم"‪.‬‬
‫تفرد به من طريق عبد الرحمن بن عبد هللا بن دينار‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن ابن عمر به‪.‬‬
‫فأما الحديث الذي رواه اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا يحيى‪ ،‬عن سفيان‪ ،‬حدثني مغيرة بن‬
‫النعمان‪ ،‬عن سعيد بن جبير‪ ،‬عن ابن عبَّاس عن النبي صلى هللا عليه وسلم‪" :‬يحشر‬
‫الناس عراة ُع ْزالً‪ ،‬فأول من يكسى إبراهيم عليه السالم" ثم قرأ { َك َما بَ َد ْأنَا أَ َّو َل َخ ْل ٍ‬
‫ق‬
‫نُ ِعي ُدهُ} فأخرجاه‪ d‬في "الصحيحين"‪ d‬من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج كالهما‬
‫عن مغيرة بن النعمان النخعي الكوفي‪ ،‬عن سعيد بن جبير‪ ،‬عن ابن عبَّاس به‪.‬‬
‫وهذه الفضيلة المعينة ال تقتضي األفضلية بالنسبة إلى ما قابلها مما ثبت لصاحب‬
‫المقام المحمود الذي يغبطه به األولون واآلخرون‪.‬‬
‫وأما الحديث اآلخر الذي قال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا وكيع وأبو نعيم‪َ ،‬ح َّدثَنا سفيان ‪ -‬هو‬
‫سفيان هو الثوري ‪ -‬عن مختار بن فلفل‪ ،‬عن أنس بن مالك‪ ،‬قال‪ :‬قال رجل للنبي صلى‬
‫هللا عليه وسلم يا خير البرية فقال "ذاك إبراهيم" فقد رواه مسلم من حديث الثوري وعبد‬
‫هللا بن إدريس‪ ،‬وعلي بن مسهر و ُم َح ْمد بن فضيل‪ ،‬أربعتهم عن المختار بن فلفل‪.‬‬
‫وقال الترمذي‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬
‫وهذا من باب الهضم والتواضع مع والده الخليل عليه السالم‪ ،‬كما قال‪" :‬ال تفضلوني‬
‫على األنبياء"‪ .‬وقال‪" :‬ال تفضلوني على موسى‪ ،‬فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون‬
‫أول من يفيق‪ ،‬فأجد موسى باطشا ً بقائمة العرش‪ ،‬فال أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة‬
‫الطور؟"‪.‬‬
‫وهذا كله ال ينافي ما ثبت بالتواتر عنه صلوات هللا وسالمه عليه من أنه سيد ولد آدم‬
‫يوم القيامة‪ ،‬وكذلك حديث أُبَ ّي بن َكعب في "صحيح مسلم" "وأخرت الثالثة ليوم يرغب‬
‫إلى الخلق كلهم حتى إبراهيم"‪.‬‬
‫ولما كان إبراهيم عليه السالم أفضل الرسل‪ ،‬وأولى العزم بعد محمد صلوات هللا‬
‫وسالمه عليهم أجمعين‪ ،‬أمر المصلي أن يقول في تشهده‪ :‬ما ثبت في "الصحيحين"‪ ،d‬من‬
‫حديث كعب بن عجرة وغيره‪ ،‬قال‪ :‬قلنا‪" :‬يا رسول هللا هذا السالم عليك قد عرفناه‪،‬‬
‫فكيف الصالة عليك؟ "قال‪ :‬قالوا‪ :‬اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد‪ ،‬كما صليت‬
‫على إبراهيم وعلى آل إبراهيم‪ ،‬وبارك على محمد وعلى آل محمد‪ ،‬كما باركت على‬
‫إبراهيم وعلى آل إبراهيم‪ ،‬إنك حميد مجيد"‪.‬‬
‫وقال هللا تعالى‪َ { :‬وإِب َْرا ِهي َم الَّ ِذي َوفَّى}‪ .‬قالوا‪ :‬وفّي جميع ما أمر به‪ ،‬وقام بجميع‬
‫خصال اإليمان وشعبه‪ ،‬وكان ال يشغله مراعاة األمر الجليل عن القيام بمصلحة األمر‬
‫القليل‪ ،‬وال ينسيه القيام بأعباء المصالح الكبار عن الصغار‪.‬‬
‫قال عبد الرزاق‪ :‬أنبأنا معمر‪ ،‬عن ابن طاووس عن أبيه‪ ،‬عن ابن عبَّاس في قوله‬
‫ت فَأَتَ َّمه َُّن} قال‪ :‬ابتاله هللا بالطهارة‪ :‬خمس في‬
‫تعالى‪َ { :‬وإِ ْذ ا ْبتَلَى إِب َْرا ِهي َم َربُّهُ بِ َكلِ َما ٍ‬
‫الرأس‪ ،‬وخمس في الجسد‪ ،‬في الرأس‪ :‬قص الشارب‪ ،‬والمضمضة‪ ،‬والسواك‪،‬‬
‫واالستنشاق‪ ،‬وفرق الرأس‪ .‬وفي الجسد‪ :‬تقليم األظفار‪ ،‬وحلق العانة‪ ،‬والختان‪ ،‬ونتف‬
‫اإلبط‪ ،‬وغسل أثر الغائط والبول بالماء"‪ .‬رواه ابن أبي حاتم‪.‬‬
‫وقال‪ :‬وروى عن سعيد بن ال ُمسَّيب ومجاهد وال َّشعبي والنخعي وأبي صالح وأبي‬
‫الجلد نحو ذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وفي "الصحيحين"‪ d‬عن أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪:‬‬
‫"الفطرة خمس‪ :‬الختان واالستحداد وقص الشارب وتقليم األظفار ونتف اإلبط"‪.‬‬
‫وفي "صحيح مسلم" وأهل السنن من حديث وكيع‪ ،‬عن زكريا بن أبي زائدة‪ ،‬عن‬
‫مصعب بن شيبة العبدري المكي الحجبي‪ d،‬عن طلق بن حبيب العتري‪ ،‬عن عبد هللا بن‬
‫الزبير‪ ،‬عن عائشة قالت‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬عشر من الفطرة قص‬
‫الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص األظفار وغسل البراجم ونتف‬
‫اإلبط وحلق العانة وانتقاص الماء يعني االستنجاء"‪.‬‬
‫وسيأتي‪ ،‬في ذكر مقدار عمره‪ ،‬الكال ُم على الختان‪.‬‬
‫والمقصود أنه عليه الصالة والسالم كان ال يشغله القيام باإلخالص هلل عز وجل‪،‬‬
‫وخشوع العبادة العظيمة عن مراعاة مصلحة بدنه‪ ،‬وإعطاء كل عضو ما يستحقه من‬
‫اإلصالح والتحسين‪ ،‬وإزالة ما يشين من زيادة شعر أو ظفر أو وجود قلح‪ ،‬أو وسخ‪.‬‬
‫فهذا من جملة قوله تعالى في حقه من المدح العظيم { َوإِ ْب َرا ِهي َم الَّ ِذي َوفَّى}‪.‬‬

‫ذكر قصره في الجنَّة‬


‫قال الحافظ أبو بكر البزار‪َ :‬ح َّدثَنا أحمد بن سنان القطان الواسطي و ُم َح ْمد بن موسى‬
‫القطان قال‪َ :‬ح َّدثَنا يزيد بن هارون‪َ ،‬ح َّدثَنا حماد بن سلمة‪ ،‬عن سماك عن عكرمة‪ ،‬عن‬
‫أبي هريرة‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬إن في الجنَّة قصراً‪ ،‬أحسبه قال‬
‫من لؤلؤة‪ ،‬ليس فيه فَصْ ٌم‪ ،‬وال وهى‪ ،‬أعده هللا لخليله إبراهيم عليه السالم نزالً" قال‬
‫وح َّدثَنا أحمد بن جميل المروزي‪َ ،‬ح َّدثَنا النضر بن شميل‪َ ،‬ح َّدثَنا حماد بن سلمة‪،‬‬
‫البزار‪َ :‬‬
‫عن سماك عن عكرمة‪ ،‬عن أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه وسلم بنحوه‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬وهذا الحديث ال نعلم من رواه عن حماد بن سلمة فأسنده إال يزيد بن هارون‬
‫والنضر بن شميل‪ ،‬وغيرهما يرويه موقوفا ً‪ .‬قلت‪ :‬لوال هذه العلة لكان على شرط‬
‫الصحيح‪ .‬ولم يخرجوه‪.‬‬

‫ذكر صفة إبراهيم عليه السالم‬


‫قال اإلمام أحمد ‪َ :‬ح َّدثَنا يونس وحجين قاال‪َ :‬ح َّدثَنا الليث‪ d،‬عن أبي الزبير‪ ،‬عن جابر‬
‫عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أنه قال‪" :‬عرض عل ّي األنبياء فإذا موسى ضرب من‬
‫الرجال كأنه من رجال شنوءة ورأيت عيسى بن مريم فإذا أقرب من رأيت به شبها ً عروة‬
‫بن مسعود ورأيت إبراهيم فإذا أقرب من رأيت به شبها دحية"‪ .‬تفرد به اإلمام أحمد من‬
‫هذا الوجه وبهذا اللفظ‪.‬‬
‫وقال أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا أسود بن عامر‪َ ،‬ح َّدثَنا إسرائيل‪ ،‬عن عثمان ‪ -‬يعني ابن المغيرة ‪-‬‬
‫عن مجاهد‪ ،‬عن ابن عبَّاس قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬رأيت عيسى بن‬
‫مريم وموسى وإبراهيم فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر ‪ -‬وأما موسى فآدم جسيم‪.‬‬
‫قالوا له فإبراهيم قال انظروا إلى صاحبكم يعني نفسه"‪.‬‬
‫ي‪َ :‬ح َّدثَنا بنان بن عمرو‪َ ،‬ح َّدثَنا النضر‪ ،‬أنبأنا ابن عون‪ ،‬عن مجاهد أنه‬‫وقال البُ َخار ّ‬
‫سمع ابن عبَّاس ‪ ،‬وذكروا له الدجال وأنه مكتوب بين عينيه كافر أو"ك ف ر" فقال‪ :‬لم‬
‫أسمعه‪ ،‬ولكنه قال‪ :‬قال صلى هللا عليه وسلم‪" :‬أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم‪ ،‬وأما‬
‫موسى فجعد آدم على جمل أحمر‪ ،‬مخطوم بخلبة‪ ،‬كأني أنظر إليه انحدر في الوادي"‪.‬‬
‫ي أيضا ً ومسلم‪ ،‬عن ُم َح ْمد بن المثنى‪ ،‬عن بن أبي عدي‪ ،‬عن عبد هللا‬ ‫ورواه الب َُخار ّ‬
‫ي أيضا ً في كتاب الحج وفي اللباس‪ ،‬ومسلم‪ ،‬جميعا ً عن‬ ‫بن عون به‪ .‬وهكذا رواه الب َُخار ّ‬
‫ُم َح ْمد بن المثنى عن ابن أبي عدي‪ ،‬عن عبد هللا بن عون به‪.‬‬

‫ذكر وفاة إبراهيم وما قيل في عمره‬


‫ذكر ابن جرير في "تاريخه"‪ :‬أن مولده كان في زمن النمرود بن كنعان وهو فيما‬
‫قيل‪ :‬الضحاك‪ d‬الملك المشهور‪ ،‬الذي يقال‪ :‬إنه ملك ألف سنة‪ ،‬وكان في غاية الغشم‬
‫والظلم‪.‬‬
‫وذكر بعضهم‪ :‬أنه من بني راسب‪ ،‬الذي بعث إليهم نوح عليه السالم‪ ،‬وأنه كان إذ‬
‫ذاك ملك الدنيا‪ .‬وذكروا أنه طلع نجم أخفى ضوء الشمس والقمر‪ ،‬فهاك ذلك أهل الزمان‬
‫وفزع النمرود‪ .‬فجمع الكهنة والمنجمين وسألهم عن ذلك؟ فقالوا‪ :‬يولد مولود في رعيتك‬
‫يكون زوال ملكك على يديه‪ .‬فأمر عند ذلك بمنع الرجال عن النساء‪ ،‬وأن يقتل المولودون‬
‫من ذلك الحين‪ .‬فكان مولد إبراهيم الخليل في ذلك الحين فحماه هللا عز وجل وصانه من‬
‫كيد الفجار‪ ،‬شبَّ شبابا ً باهراً‪ ،‬وأنبته هللا نباتا ً حسناً‪ ،‬حتى كان من أمره ما تقدم‪.‬‬
‫وكان مولده بالسوس‪ .‬وقيل‪ :‬ببابل‪ ،‬وقيل‪ :‬بالسواد من ناحية ُك ْوثى وتقدم عن ابن‬
‫عبَّاس‪ :‬أنه ولد ببرزة شرقي دمشق‪ ،‬فلما أهلك هللا نمرود على يديه‪ ،‬هاجر إلى حران‪ ،‬ثم‬
‫إلى أرض الشام‪ ،‬وأقام ببالد إيليا كما ذكرنا‪ ،‬وولد له إسماعيل وإسحاق‪ ،‬وماتت سارة‬
‫قبله بقرية حبرون‪ ،‬التي في أرض كنعان‪ ،‬ولها من العمر مائة وسبع وعشرون سنة‪ ،‬فيما‬
‫ذكر أهل الكتاب‪ ،‬فحزن عليها إبراهيم عليه السالم ورثاها رحمها هللا‪ ،‬واشترى من رجل‬
‫من بني حث‪ ،‬يقال له عفرون بن صخر مغارة بأربع مائة مثقال‪ ،‬ودفن فيها سارة هنالك‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ثم خطب إبراهيم على ابنه إسحاق‪ ،‬فز ّوجه ِر ْفقَا ً بنت بتوئيل بن ناحور بن‬
‫تارح‪ ،‬وبعث مواله فحملها من بالدها‪ ،‬ومعها مرضعتها‪ ،‬وجواريها على اإلبل‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ثم تزوج إبراهيم عليه السالم قنطورا‪ ،‬فولدت له زمران‪ ،‬ويقشان‪ ،‬ومادان‪،‬‬
‫ومدين‪ ،‬وشياق‪ ،‬وشوح‪ .‬وذكروا‪ :‬ما ولد كل واحد من هؤالء أوالد قنطورا‪.‬‬
‫وقد روى ابن عساكر عن غير واحد من السلف‪ ،‬عن أخبار أهل الكتاب‪ d،‬في صفة‬
‫مجيء ملك الموت إلى إبراهيم عليه السالم أخباراً كثيرة هللا أعلم بصحتها‪ .‬وقد قيل‪ :‬إنه‬
‫مات فجأة‪ ،‬وكذا داود وسليمان‪ ،‬والذي ذكره أهل الكتاب وغيرهم خالف ذلك‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬ثم مرض إبراهيم عليه السالم‪ ،‬ومات عن مائة وخمس وسبعين‪ .‬وقيل وتسعين‬
‫سنة‪ ،‬ودفن في المغارة المذكورة التي كانت بحبرون الحيثي‪ ،‬عند امرأته سارة التي في‬
‫مزرعة عفرون الحيثي‪ ،‬وتولى دفنه إسماعيل وإسحاق صلوات هللا وسالمه عليهم‬
‫أجمعين‪ .‬وقد ورد ما يدل على أنه عاش مائتي سنة‪ ،‬كما قاله ابن الكلبي‪.‬‬
‫فقال أبو حاتم بن حبان في "صحيحه"‪ :‬أنبأنا المفضل بن محمد الجندي بمكة‪َ ،‬ح َّدثَنا‬
‫علي بن زياد اللخمي‪َ d،‬ح َّدثَنا أبو قرة‪ ،‬عن ابن ج َُريْج‪ ،‬عن يحيى بن سعيد‪ ،‬عن سعيد بن‬
‫ال ُمسَّيب عن أبي هريرة أن النبي صلى هللا عليه وسلم‪ :‬قال ‪" :‬اختتن إبراهيم بالقدوم‪،‬‬
‫وهو ابن عشرين‪ ،‬ومائة سنة‪ ،‬وعاش بعد ذلك ثمانين سنة"‪.‬‬
‫وقد رواه الحافظ ابن عساكر من طريق عكرمة بن إبراهيم وجعفر بن عون‬
‫العمري‪ ،‬عن يحيى بن سعيد‪ ،‬عن سعيد‪ ،‬عن أبي هريرة موقوفا ً‪.‬‬
‫ثم قال ابن حبان‪ :‬ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن رفع هذا الخبر وهم‪ :‬أخبرنا‬
‫ُم َح ْمد بن عبد هللا بن الجنيد‪َ ،‬ح َّدثَنا قتية بن سعيد‪َ ،‬ح َّدثَنا الليث‪ ،‬عن ابن عجالن‪ ،‬عن أبيه‬
‫عن أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪ :‬اختتن إبراهيم حين بلغ عشرين ومائة‬
‫سنة‪ ،‬وعاش بعد ذلك ثمانين سنة‪ ،‬واختتن بقدوم"‪.‬‬
‫وقد رواه الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن سعيد‪ ،‬عن ابن عجالن‪ ،‬عن أبيه‬
‫عن أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫ثم روى ابن حبان عن عبد الرزاق‪ ،‬أنه قال‪ :‬القدوم اسم القرية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬الذي في الصحيح أنه اختتن‪ .‬وقد أتت عليه ثمانون سنة‪.‬‬

‫وفي رواية‪ :‬وهو ابن ثمانين سنة‪ .‬وليس فيهما تعرض لما عاش بعد ذلك وهللا أعلم‪.‬‬
‫وقال ُم َح ْمد بن إسماعيل الحساني الواسطي‪ :‬زاد في تفسير وكيع عنه فيما ذكره من‬
‫الزيادات‪َ ،‬ح َّدثَنا أبو معاوية‪ ،‬عن يحيى بن سعيد‪ ،‬عن سعيد بن ال ُمسَّيب‪ ،‬عن أبي هريرة‪،‬‬
‫قال‪ :‬كان إبراهيم أول من تسرول‪ ،‬وأول من فرق‪ ،‬وأول من استحد‪ ،‬وأول من اختتن‬
‫بالقدوم‪ ،‬وهو ابن عشرين ومائة سنة‪ .‬وعاش بعد ذلك ثمانين سنة‪ .‬وأول من قرى‬
‫شاب‪.‬‬
‫َ‬ ‫الضيف‪ ،‬وأول من‬
‫هكذا رواه موقوفا ً‪ .‬وهو أشبه بالمرفوع خالفا ً البن حبان وهللا أعلم‪.‬‬
‫وقال مالك عن يحيى بن سعيد بن ال ُمسَّيب قال‪ :‬كان إبراهيم أول من أضاف‬
‫الضيف‪ ،‬وأول الناس اختتن‪ ،‬وأول الناس قصَّ شاربه‪ ،‬وأول الناس رأى الشيب‪ ،‬فقال‪ :‬يا‬
‫ربّ ما هذا؟ فقال هللا‪ " :‬وقار"‪ .‬فقال‪ :‬يا ربّ زدني وقاراً‪.‬‬
‫وزاد غيرهما‪ :‬وأ ّول من قصَّ شاربه‪ ،‬وأول من استح ّد‪ ،‬وأ ّول من لبس السراويل‪.‬‬
‫فقبره وقبر ولده إسحاق وقبر ولد ولده يعقوب في المربعة التي بناها سليمان بن داود‬
‫عليه السالم ببلد حبرون وهو البلد المعروف بالخليل اليوم‪ .‬وهذا متلقى بالتواتر أمة بعد‬
‫أمة‪ ،‬وجيل بعد جيل‪ ،‬من زمن بني إسرائيل وإلى زماننا هذا أن قبره بالمربعة تحقيقا ً‪.‬‬
‫فأما تعيينه منها فليس فيه خبر صحيح عن معصوم‪ ،‬فينبغي أن تراعى تلك المحلة‪ ،‬وأن‬
‫تحترم احترام مثلها‪ ،‬وأن تبجل وأن تجل أن يداس في أرجائها‪ d،‬خشية أن يكون قبر‬
‫الخليل‪ ،‬أو أحد أوالد األنبياء عليهم السالم تحتها‪.‬‬
‫وروى ابن عساكر بسنده إلى وهب بن منبه قال‪ :‬وجد عند قبر إبراهيم الخليل على‬
‫حجر كتابة خلقة‪:‬‬
‫يموت َم ْن جا أ َجلُه‬
‫ُ‬ ‫ألهى جهوالً أملُه ** ***‬
‫غن عنه ِحيَلُه‬
‫و َمن دما ِم ْن حتفه *** لم تُ ِ‬
‫وكيف يبقى آخراً *** من َ‬
‫مات عنهُ أ ّوله‬ ‫َ‬
‫والمر ُء ال يصحبه ** في القبر إال عملُه‬

‫ذكر أوالد إبراهيم الخليل‬


‫أول من ولد له‪ :‬إسماعيل من هاجر القبطية المصرية‪ ،‬ثم ولد له إسحاق من سارة‬
‫بنت عم الخليل‪ ،‬ثم تزوج بعدها قنطورا بنت يقطن الكنعانية‪ ،‬فولدت له ستة‪َ :‬م ْدين‪،‬‬
‫وزمران‪ ،‬وسرج‪ ،‬ويقشان‪ ،‬ونشق‪ ،‬ولم يُ َس ّم السادس‪ .‬ثم تزوج بعدها حجون بنت أمين‪،‬‬
‫فولدت له خمسة‪ :‬كيسان‪ ،‬وسورج‪ ،‬واميم‪ ،‬ولوطان‪ ،‬ونافس‪.‬‬
‫هكذا ذكره أبو القاسم السهيلي في كتابه "التعريف واالعالم"‪.‬‬

‫قصة لوط عليه السالم‬


‫ومما وقع في حياة إبراهيم الخليل من األمور العظيمة قصة قوم لوط عليه السالم‪،‬‬
‫وما حل بهم من النقمة العميمة‪.‬‬
‫وذلك أن لوطا ً بن هاران بن تارح‪ ،‬وهو آزر‪ ،‬كما تقدم‪ ،‬ولوط ابن أخي إبراهيم‬
‫إن هاران هذا هو الذي بنى‬‫الخليل‪ ،‬فإبراهيم‪ ،‬وهاران وناحور إخوة كما قدمنا‪ .‬ويقال‪َّ :‬‬
‫حرّان‪ .‬وهذا ضعيف لمخالفته ما بأيدي أهل الكتاب وهللا تعالى أعلم‪.‬‬
‫وكان لوط قد نزح عن محلة عمه الخليل عليهما السالم بأمره له وأذنه‪ ،‬فنزل بمدينة‬
‫سدوم من أرض غور‪ُ ،‬ز َغر‪ ،‬وكان أ ّم تلك المحله‪ ،‬ولها أرض ومعتمالت وقرى‪ ،‬مضافة‬
‫إليها ولها أهل من أفجر الناس وأكفرهم وأسوأهم طوية‪ ،‬وأرداهم سريرة وسيرة‪،‬‬
‫يقطعون السبيل ويأتون في ناديهم المنكر‪ ،‬وال يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا‬
‫يفعلون‪.‬‬
‫ابتدعوا فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم‪ ،‬وهي إتيان الذكران من العالمين‪،‬‬
‫وترك ما خلق هللا من النسوان لعباده الصالحين‪.‬‬
‫فدعاهم لوط إلى عبادة هللا تعالى وحده ال شريك له‪ ،‬ونهاهم عن تعاطي هذه‬
‫المحرمات‪ d،‬والفواحش المنكرات‪ d،‬واألفاعيل المستقبحات‪ ،‬فتمادوا على ضاللهم‬
‫وطغيانهم‪ ،‬واستمروا على فجورهم وكفرانهم‪ ،‬فأحل هللا بهم من البأس الذي ال يرد ما لم‬
‫يكن في خلدهم وحسبانهم‪ ،‬وجعلهم مثله في العالمين‪ ،‬وعبرة يتعظ بها األلباء من‬
‫العالمين‪.‬‬
‫ولهذا ذكر هللا تعالى قصتهم في غير ما موضع في كتابه المبين‪ ،‬فقال تعالى في‬
‫ين‪،‬‬ ‫اح َشةَ َما َسبَقَ ُك ْم بِهَا ِم ْن أَ َح ٍد ِم ْن ْال َعالَ ِم َ‬ ‫ون ْالفَ ِ‬ ‫ال لِقَ ْو ِم ِه أَتَأْتُ َ‬ ‫سورة األعراف‪َ { :‬ولُوطا ً إِ ْذ قَ َ‬
‫اب قَ ْو ِم ِه إِال‬ ‫ان َج َو َ‬ ‫ون‪َ ،‬و َما َك َ‬ ‫ْرفُ َ‬ ‫ال َشه َْوةً ِم ْن ُدو ِن النِّ َسا ِء بَلْ أَ ْنتُ ْم قَ ْو ٌم ُمس ِ‬ ‫الرِّج َ‬
‫َ‬ ‫ون‬ ‫إِنَّ ُك ْم لَتَأْتُ َ‬
‫ت ِم ْن‬ ‫نج ْينَاهُ َوأَ ْهلَهُ إِال ا ْم َرأَتَهُ َكانَ ْ‬ ‫ُون‪ ،‬فَأ َ َ‬ ‫أَ ْن قَالُوا أَ ْخ ِرجُوهُ ْم ِم ْن قَرْ يَتِ ُك ْم إِنَّهُ ْم أُنَاسٌ يَتَطَهَّر َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ان َعاقِبَةُ ْال ُمجْ ِر ِم َ‬ ‫ْف َك َ‬ ‫ين‪َ ،‬وأَ ْمطَرْ نَا َعلَ ْي ِه ْم َمطَراً فَانظُرْ َكي َ‬ ‫ْال َغابِ ِر َ‬
‫ت ُر ُسلُنَا إِب َْرا ِهي َم بِ ْالبُ ْش َرى قَالُوا َسالما ً قَا َل‬ ‫وقال تعالى في سورة هود‪َ { :‬ولَقَ ْد َجا َء ْ‬
‫س ِم ْنهُ ْم‬ ‫ص ُل إِلَ ْي ِه نَ ِك َرهُ ْم َوأَ ْو َج َ‬ ‫ث أَ ْن َجا َء بِ ِعجْ ٍل َحنِي ٍذ‪ ،‬فَلَ َّما َرأَى أَ ْي ِديَهُ ْم ال تَ ِ‬ ‫َسال ٌم فَ َما لَبِ َ‬
‫ق‬‫ْحا َ‬ ‫ت فَبَ َّشرْ نَاهَا بِإِس َ‬ ‫ض ِح َك ْ‬ ‫وط‪َ ،‬وا ْم َرأَتُهُ قَائِ َمةٌ فَ َ‬ ‫ف إِنَّا أُرْ ِس ْلنَا إِلَى قَ ْو ِم لُ ٍ‬ ‫ِخيفَةً قَالُوا ال تَ َخ ْ‬
‫ت يَا َو ْيلَتَا أَأَلِ ُد َوأَنَا َعجُو ٌز َوهَ َذا بَ ْعلِي َشيْخا ً إِ َّن هَ َذا لَ َش ْي ٌء‬ ‫وب‪ ،‬قَالَ ْ‬ ‫ق يَ ْعقُ َ‬ ‫ْحا َ‬‫َو ِم ْن َو َرا ِء إِس َ‬
‫ت إِنَّهُ َح ِمي ٌد َم ِجي ٌد‪،‬‬ ‫ين ِم ْن أَ ْم ِر هَّللا ِ َرحْ َمةُ هَّللا ِ َوبَ َر َكاتُهُ َعلَ ْي ُك ْم أَ ْه َل ْالبَ ْي ِ‬ ‫ْجبِ َ‬ ‫َع ِجيبٌ ‪ d،‬قَالُوا أَتَع َ‬
‫وط‪ ،‬إِ َّن إِ ْب َرا ِهي َم لَ َحلِي ٌم أَ َّواهٌ‬ ‫ع َو َجا َء ْتهُ ْالبُ ْش َرى ي َُجا ِدلُنَا فِي قَ ْو ِم لُ ٍ‬ ‫ب َع ْن إِب َْرا ِهي َم الر َّْو ُ‬ ‫فَلَ َّما َذهَ َ‬
‫ك َوإِنَّهُ ْم آتِي ِه ْم َع َذابٌ َغ ْي ُر َمرْ ُدو ٍد‪،‬‬ ‫ُمنِيبٌ ‪ ،‬يَا إِب َْرا ِهي ُم أَ ْع ِرضْ َع ْن هَ َذا إِنَّهُ قَ ْد َجا َء أَ ْم ُر َربِّ َ‬
‫صيبٌ ‪َ ،‬و َجا َءهُ قَ ْو ُمهُ‬ ‫ال هَ َذا يَ ْو ٌم َع ِ‬ ‫ق بِ ِه ْم َذرْ عا ً َوقَ َ‬ ‫ضا َ‬ ‫ت ُر ُسلُنَا لُوطا ً ِسي َء بِ ِه ْم َو َ‬ ‫َولَ َّما َجا َء ْ‪d‬‬
‫طهَ ُر لَ ُك ْم فَاتَّقُوا‬ ‫ال يَا قَ ْو ِم هَ ُؤالَ ِء بَنَاتِي هُ َّن أَ ْ‬ ‫ت قَ َ‬ ‫ون ال َّسيِّئَا ِ‬ ‫ون إِلَ ْي ِه َو ِم ْن قَ ْب ُل َكانُوا يَ ْع َملُ َ‬ ‫يُ ْه َر ُع َ‬
‫ك ِم ْن‬ ‫ت َما لَنَا فِي بَنَاتِ َ‬ ‫ْس ِم ْن ُك ْم َر ُج ٌل َر ِشي ٌد‪ ،‬قَالُوا لَقَ ْد َعلِ ْم َ‬ ‫ض ْيفِي أَلَي َ‬ ‫هَّللا َ َوالَ تُ ْخ ُزونِي فِي َ‬
‫آوي إِلَى ُر ْك ٍن َش ِدي ٍد‪ ،‬قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا‬ ‫ال لَ ْو أَ َّن لِي بِ ُك ْم قُ َّوةً أَ ْو ِ‬ ‫ك لَتَ ْعلَ ُم َما نُ ِري ُد‪ ،‬قَ َ‬ ‫ق َوإِنَّ َ‬‫َح ٍّ‬
‫ط ٍع ِم ْن اللَّ ْي ِل َوالَ‬ ‫ك بِقِ ْ‬ ‫ْر بِأ َ ْهلِ َ‬
‫ط ٍع ِم ْن اللَّي ِْل فَأَس ِ‬ ‫ك بِقِ ْ‬ ‫ْر بِأ َ ْهلِ َ‬‫ْك فَأَس ِ‬‫صلُوا إِلَي َ‬ ‫ُر ُس ُل َرب َِّك لَ ْن يَ ِ‬
‫ْس الصُّ ْب ُح‬ ‫صابَهُ ْم إِ َّن َم ْو ِع َدهُ ْم الصُّ ْب ُح أَلَي َ‬ ‫صيبُهَا َما أَ َ‬ ‫ك إِنَّهُ ُم ِ‬ ‫ت ِم ْن ُك ْم أَ َح ٌد إِالَّ ا ْم َرأَتَ َ‬ ‫يَ ْلتَفِ ْ‬
‫يل َم ْنضُو ٍد‪،‬‬ ‫ارةً ِم ْن ِسجِّ ٍ‬ ‫بِقَ ِريب‪ ،‬فَلَ َّما َجا َء أَ ْم ُرنَا َج َع ْلنَا َعالِيَهَا َسافِلَهَا َوأَ ْمطَرْ نَا َعلَ ْيهَا ِح َج َ‬
‫ين بِبَ ِعي ٍد}‪.‬‬‫ُم َس َّو َمةً ِع ْن َد َرب َِّك َو َما ِه َي ِم ْن الظَّالِ ِم َ‬
‫ْف إِب َْرا ِهي َم‪ ،‬إِ ْذ َد َخلُوا َعلَ ْي ِه فَقَالُوا‬ ‫ضي ِ‬ ‫وقال تعالى في سورة الحجر‪َ { :‬ونَبِّ ْئهُ ْم َع ْن َ‬
‫ال أَبَ َّشرْ تُ ُمونِي َعلَى أَ ْن‬ ‫ك بِ ُغالَ ٍم َعلِ ٍيم‪ ،‬قَ َ‬ ‫ون‪ ،‬قَالُوا الَ تَ ْو َجلْ إِنَّا نُبَ ِّش ُر َ‬ ‫َسالَما ً قَا َل إِنَّا ِم ْن ُك ْم َو ِجلُ َ‬
‫ال َو َم ْن يَ ْقنَطُ ِم ْن‬ ‫ين‪ ،‬قَ َ‬ ‫ق فَالَ تَ ُك ْن ِم ْن ْالقَانِ ِط َ‬ ‫اك بِ ْال َح ِّ‬‫ُون‪ ،‬قَالُوا بَ َّشرْ نَ َ‬ ‫َم َّسنِي ْال ِكبَ ُر فَبِ َم تُبَ ِّشر َ‬
‫ون‪ ،‬قَالُوا إِنَّا أُرْ ِس ْلنَا إِلَى قَ ْو ٍم‬ ‫طبُ ُك ْم أَيُّهَا ْال ُمرْ َسلُ َ‬ ‫ال فَ َما َخ ْ‬ ‫ون‪ d،‬قَ َ‬‫َرحْ َم ِة َربِّ ِه إِالَّ الضَّالُّ َ‬
‫ين‪ ،‬فَلَ َّما َجا َء‬ ‫ين إِالَّ ا ْم َرأَتَهُ قَ َّدرْ نَا إِنَّهَا لَ ِم ْن ْال َغابِ ِر َ‬‫وط إِنَّا لَ ُمنَجُّ وهُ ْم أَجْ َم ِع َ‬ ‫ين‪ ،‬إِالَّ آ َل لُ ٍ‬ ‫ُمجْ ِر ِم َ‬
‫ُون‪َ ،‬وأَتَ ْينَا َ‬
‫ك‬ ‫اك بِ َما َكانُوا فِي ِه يَ ْمتَر َ‬ ‫ُون‪ ،‬قَالُوا بَلْ ِج ْئنَ َ‬ ‫ال إِنَّ ُك ْم قَ ْو ٌم ُم ْن َكر َ‬ ‫ون‪ ،‬قَ َ‬ ‫آ َل لُو ٍط ْال ُمرْ َسلُ َ‬
‫ت ِم ْن ُك ْم أَ َح ٌد‬ ‫ارهُ ْم َوالَ يَ ْلتَفِ ْ‬
‫ط ٍع ِم ْن اللَّي ِْل َواتَّبِ ْع أَ ْدبَ َ‬ ‫ك بِقِ ْ‬ ‫ْر بِأ َ ْهلِ َ‬
‫ون‪ ،‬فَأَس ِ‬ ‫صا ِدقُ َ‬ ‫ق َوإِنَّا لَ َ‬ ‫بِ ْال َح ِّ‬
‫ين‪َ ،‬و َجا َء‬ ‫ع ُمصْ بِ ِح َ‬ ‫ك األَ ْم َر أَ َّن َدابِ َر هَ ُؤال ِء َم ْقطُو ٌ‬ ‫ض ْينَا إِلَ ْي ِه َذلِ َ‬‫ُون‪َ ،‬وقَ َ‬ ‫ْث تُ ْؤ َمر َ‬ ‫َوا ْمضُوا َحي ُ‬
‫ضحُونِي‪َ ،‬واتَّقُوا هَّللا َ َوالَ تُ ْخ ُزونِي‪،‬‬ ‫ض ْيفِي فَالَ تَ ْف َ‬ ‫ال إِ َّن هَ ُؤالَ ِء َ‬ ‫ُون قَ َ‬‫أَ ْه ُل ْال َم ِدينَ ِة يَ ْستَب ِْشر َ‬
‫ُك إِنَّهُ ْم لَفِي َس ْك َرتِ ِه ْم‬ ‫ين‪ ،‬لَ َع ْمر َ‬‫اعلِ َ‬‫ين‪ ،‬قَا َل هَ ُؤالَ ِء بَنَاتِي إِ ْن ُك ْنتُ ْم فَ ِ‬ ‫ك َع ْن ْال َعالَ ِم َ‬ ‫قَالُوا أَ َولَ ْم نَ ْنهَ َ‬
‫ين‪ ،‬فَ َج َع ْلنَا َعالِيَهَا َسافِلَهَا َوأَ ْمطَرْ نَا َعلَ ْي ِه ْم ِح َجا َرةً ِم ْن‬ ‫ص ْي َحةُ ُم ْش ِرقِ َ‬ ‫يَ ْع َمهُون‪ ،‬فَأ َ َخ َذ ْتهُ ْم ال َّ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ك آليَةً لِ ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫يل ُمقِ ٍيم‪ ،‬إِ َّن فِي َذلِ َ‬ ‫ين‪َ ،‬وإِنَّهَا لَبِ َسبِ ٍ‬ ‫ت لِ ْل ُمتَ َو ِّس ِم َ‬‫ك آليَا ٍ‬ ‫يل‪ ،‬إِ َّن فِي َذلِ َ‬ ‫ِسجِّ ٍ‬
‫ال لَهُ ْم أَ ُخوهُ ْم لُوطٌ‬ ‫ين‪ ،‬إِ ْذ قَ َ‬ ‫وط ْال ُمرْ َسلِ َ‬ ‫ت قَ ْو ُم لُ ٍ‬ ‫وقال تعالى في سورة الشعراء‪َ { :‬ك َّذبَ ْ‬
‫ين‪ ،‬فَاتَّقُوا هَّللا َ َوأَ ِطيعُونِي‪َ ،‬و َما أَسْأَلُ ُك ْم َعلَ ْي ِه ِم ْن أَجْ ٍر إِ ْن أَجْ ِري‬ ‫ون‪ ،‬إِنِّي لَ ُك ْم َرسُو ٌل أَ ِم ٌ‬ ‫أَالَ تَتَّقُ َ‬
‫ق لَ ُك ْم َربُّ ُك ْم ِم ْن‬ ‫ُون َما َخلَ َ‬ ‫ين‪َ ،‬وتَ َذر َ‬ ‫ان ِم ْن ْال َعالَ ِم َ‬ ‫ون ُّ‬
‫الذ ْك َر َ‬ ‫إِالَّ َعلَى َربِّ ْال َعالَ ِمين‪ ،‬أَتَأْتُ َ‬
‫ين‪ ،‬قَا َل إِنِّي‬ ‫ون‪ ،‬قَالُوا لَئِ ْن لَ ْم تَ ْنتَ ِه يَا لُوطُ لَتَ ُكونَ َّن ِم ْن ْال ُم ْخ َر ِج َ‬ ‫اج ُك ْم بَلْ أَ ْنتُ ْم قَ ْو ٌم َعا ُد َ‬ ‫أَ ْز َو ِ‬
‫ين‪ ،‬إِالَّ َعجُوزاً فِي‬ ‫ون‪ ،‬فَنَ َّج ْينَاهُ َوأَ ْهلَهُ أَجْ َم ِع َ‬ ‫ين َربِّ نَ ِّجنِي َوأَ ْهلِي ِم َّما يَ ْع َملُ َ‬ ‫لِ َع َملِ ُك ْم ِم ْن ْالقَالِ َ‬
‫ك آليَةً‬ ‫ين‪ ،‬إِ َّن فِي َذلِ َ‬ ‫ين‪َ ،‬وأَ ْمطَرْ نَا َعلَ ْي ِه ْم َمطَراً فَ َسا َء َمطَ ُر ْال ُمن َذ ِر َ‬ ‫ين‪ ،‬ثُ َّم َد َّمرْ نَا َ‬
‫اآلخ ِر َ‬ ‫ْال َغابِ ِر َ‬
‫َّحي ُم}‪.‬‬ ‫ك لَه َُو ْال َع ِزي ُز الر ِ‬ ‫ين‪َ ،‬وإِ َّن َربَّ َ‬ ‫ان أَ ْكثَ ُرهُ ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫َو َما َك َ‬
‫ُون‪،‬‬
‫صر َ‬ ‫اح َشةَ َوأَ ْنتُ ْم تُ ْب ِ‬ ‫ون ْالفَ ِ‬ ‫ال لِقَ ْو ِم ِه أَتَأْتُ َ‬‫وقال تعالى في سورة النمل‪َ { :‬ولُوطا ً إِ ْذ قَ َ‬
‫اب قَ ْو ِم ِه إِالَّ‬ ‫ان َج َو َ‬ ‫ون‪ ،‬فَ َما َك َ‬ ‫ون النِّ َسا ِء بَلْ أَ ْنتُ ْم قَ ْو ٌم تَجْ هَلُ َ‬ ‫ال َشه َْوةً ِم ْن ُد ِ‬ ‫ون ال ِّر َج َ‬ ‫أَئِنَّ ُك ْم لَتَأْتُ َ‬
‫نج ْينَاهُ َوأَ ْهلَهُ إِالَّ ا ْم َرأَتَهُ‬ ‫ُون‪ ،‬فَأ َ َ‬ ‫وط ِم ْن قَرْ يَتِ ُك ْم إِنَّهُ ْم أُنَاسٌ يَتَطَهَّر َ‬ ‫أَ ْن قَالُوا أَ ْخ ِرجُوا آ َل لُ ٍ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ين‪َ ،‬وأَ ْمطَرْ نَا َعلَ ْي ِه ْم َمطَراً فَ َسا َء َمطَ ُر ْال ُمن َذ ِر َ‬ ‫قَ َّدرْ نَاهَا ِم ْن ْال َغابِ ِر َ‬
‫ون ْالفَا ِح َشةَ َما َسبَقَ ُك ْم‬ ‫ال لِقَ ْو ِم ِه إِنَّ ُك ْم لَتَأْتُ َ‬‫وقال تعالى في سورة العنكبوت‪َ { :‬ولُوطا ً إِ ْذ قَ َ‬
‫ون فِي نَا ِدي ُك ْم ْال ُمن َك َر‬ ‫يل َوتَأْتُ َ‬‫ُون ال َّسبِ َ‬ ‫ال َوتَ ْقطَع َ‬ ‫الرِّج َ‪d‬‬
‫َ‬ ‫ين‪ ،‬أَئِنَّ ُك ْم لَتَأْتُ َ‬
‫ون‬ ‫بِهَا ِم ْن أَ َح ٍد ِم ْن ْال َعالَ ِم َ‬
‫ال َربِّ انصُرْ نِي‬ ‫ين‪ ،‬قَ َ‬ ‫نت ِم ْن الصَّا ِدقِ َ‬ ‫ب هَّللا ِ إِ ْن ُك َ‬ ‫اب قَ ْو ِم ِه إِالَّ أَ ْن قَالُوا ا ْئتِنَا بِ َع َذا ِ‬ ‫ان َج َو َ‬ ‫فَ َما َك َ‬
‫ت ُر ُسلُنَا إِب َْرا ِهي َم بِ ْالبُ ْش َرى قَالُوا إِنَّا ُم ْهلِ ُكو أَ ْه ِل هَ ِذ ِه ْالقَرْ يَ ِة‬ ‫ين‪َ ،‬ولَ َّما َجا َء ْ‬ ‫َعلَى ْالقَ ْو ِم ْال ُم ْف ِس ِد َ‬
‫ال إِ َّن فِيهَا لُوطا ً قَالُوا نَحْ ُن أَ ْعلَ ُم بِ َم ْن فِيهَا لَنُنَ ِّجيَنَّهُ َوأَ ْهلَهُ إِالَّ‬ ‫ين‪ ،‬قَ َ‬ ‫ظالِ ِم َ‬ ‫إِ َّن أَ ْهلَهَا َكانُوا َ‬
‫ق بِ ِه ْم َذرْ عا ً َوقَالُوا‬ ‫ضا َ‬ ‫ت ُر ُسلُنَا لُوطا ً ِسي َء بِ ِه ْم َو َ‬ ‫ين‪َ ،‬ولَ َّما أَ ْن َجا َء ْ‪d‬‬ ‫ت ِم ْن ْال َغابِ ِر َ‬ ‫ا ْم َرأَتَهُ َكانَ ْ‬
‫ون َعلَى‬ ‫نزلُ َ‬ ‫ين‪ ،‬إِنَّا ُم ِ‬ ‫ت ِم ْن ْال َغابِ ِر َ‬ ‫ك َكانَ ْ‬ ‫ك إِالَّ ا ْم َرأَتَ َ‬ ‫وك َوأَ ْهلَ َ‬ ‫ف َوالَ تَحْ َز ْن إِنَّا ُمنَجُّ َ‬ ‫الَ تَ َخ ْ‬
‫ون‪َ ،‬ولَقَد تَ َر ْكنَا ِم ْنهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَ ْو ٍم‬ ‫أَ ْه ِل هَ ِذ ِه ْالقَرْ يَ ِة ِرجْ زاً ِم ْن ال َّس َما ِء بِ َما َكانُوا يَ ْف ُسقُ َ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫يَ ْعقِلُ َ‬
‫ين‪ ،‬إِ ْذ نَ َّج ْينَاهُ َوأَ ْهلَهُ أَجْ َم ِع َ‬
‫ين‪،‬‬ ‫وقال تعالى في سورة الصافات‪َ { :d‬وإِ َّن لُوطا ً لَ ِم ْن ْال ُمرْ َسلِ َ‬
‫ين‪َ ،‬وبِاللَّي ِْل أَفَالَ‬ ‫ون َعلَ ْي ِه ْم ُمصْ بِ ِح َ‬ ‫ين‪َ ،‬وإِنَّ ُك ْم لَتَ ُمرُّ َ‬ ‫اآلخ ِر َ‬‫ين‪ ،‬ثُ َّم َد َّمرْ نَا َ‬ ‫إِالَّ َعجُوزاً فِي ْال َغابِ ِر َ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫تَ ْعقِلُ َ‬
‫وقال تعالى في الذاريات بعد قصة ضيف إبراهيم وبشارتهم إياه بغالم عليم‪{ :‬قَ َ‬
‫ال‬
‫ين‪ ،‬لِنُرْ ِس َل َعلَ ْي ِه ْم ِح َجا َرةً ِم ْن‬ ‫ون‪ ،‬قَالُوا إِنَّا أُرْ ِس ْلنَا إِلَى قَ ْو ٍم ُمجْ ِر ِم َ‬ ‫طبُ ُك ْم أَيُّهَا ْال ُمرْ َسلُ َ‬ ‫فَ َما َخ ْ‬
‫ين‪ ،‬فَ َما َو َج ْدنَا فِيهَا‬ ‫ان فِيهَا ِم ْن ْال ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ين‪ ،‬فَأ َ ْخ َرجْ نَا َم ْن َك َ‬ ‫ْرفِ َ‬ ‫ِطي ٍن‪ُ ،‬م َس َّو َمةً ِع ْن َد َرب َِّك لِ ْل ُمس ِ‬
‫اب األَلِي َم}‪.‬‬ ‫ون ْال َع َذ َ‬‫ين يَ َخافُ َ‬ ‫ين‪َ ،‬وتَ َر ْكنَا فِيهَا آيَةً لِلَّ ِذ َ‬ ‫ت ِم ْن ْال ُم ْسلِ ِم َ‬ ‫َغي َْر بَ ْي ٍ‬
‫اصبا ً إِالَّ آ َل لُ ٍ‬
‫وط‬ ‫وط بِالنُّ ُذ ِر‪ ،‬إِنَّا أَرْ َس ْلنَا َعلَ ْي ِه ْم َح ِ‬ ‫ت قَ ْو ُم لُ ٍ‬ ‫وقال في سورة القمر‪َ { :‬ك َّذبَ ْ‬
‫ط َشتَنَا فَتَ َم َ‬
‫ار ْوا‬ ‫ك نَجْ ِزي َم ْن َش َك َر‪َ ،‬ولَقَ ْد أَن َذ َرهُ ْم بَ ْ‬ ‫نَ َّج ْينَاهُ ْم بِ َس َح ٍر‪ ،‬نِ ْع َمةً ِم ْن ِع ْن ِدنَا َك َذلِ َ‬
‫ض ْيفِ ِه فَطَ َم ْسنَا أَ ْعيُنَهُ ْم فَ ُذوقُوا َع َذابِي َونُ ُذ ِر‪َ ،‬ولَقَ ْد َ‬
‫صب ََّحهُ ْم بُ ْك َرةً‬ ‫او ُدوهُ َع ْن َ‬ ‫بِالنُّ ُذ ِر‪َ ،‬ولَقَ ْد َر َ‬
‫آن لِل ِّذ ْك ِر فَهَلْ ِم ْن ُم َّد ِك ٍر}‪.‬‬ ‫َع َذابٌ ُم ْستَقِرّ‪ ،‬فَ ُذوقُوا َع َذابِي َونُ ُذ ِر‪َ ،‬ولَقَ ْد يَسَّرْ نَا ْالقُرْ َ‬

‫وقد تكلمنا على هذه القصص في أماكنها من هذه السورة في التفسير‪.‬‬


‫وقد ذكر هللا لوطا ً وقومه في مواضع أخر من القرآن‪ ،‬تقدم ذكرها مع نوح وعاد‬
‫وثمود‪.‬‬
‫والمقصود اآلن إيراد ما كان من أمرهم وما أحل هللا بهم مجموعا ً من اآليات واآلثار‬
‫وباهلل المستعان‪ .‬وذلك أن لوطا ً عليه السالم لما دعاهم إلى عبادة هللا وحده ال شريك له‪،‬‬
‫ونهاهم عن تعاطي ما ذكر هللا عنهم من الفواحش‪ d،‬لم يستجيبوا له ولم يؤمنوا به‪ ،‬حتى‬
‫وال رجل واحد منهم‪ ،‬ولم يتركوا ما عنه نهوا‪ ،‬بل استمروا على حالهم‪ ،‬ولم يرتدعوا عن‬
‫غيهم وضاللهم‪ ،‬وه ّموا بإخراج رسولهم من بين ظهرانيهم‪{ .‬واستضعفوه وسخروا منه}‬
‫وما كان حاصل جوابهم عن خطابهم إذ كانوا ال يعقلون إال أن قالوا‪{ :‬أَ ْخ ِرجُوا َ‬
‫آل لُو ٍط‬
‫ُون} فجعلوا غاية المدح ذما ً يقتضي اإلخراج‪ ،‬وما حملهم‬ ‫ِم ْن قَرْ يَتِ ُك ْم إِنَّهُ ْم أُنَاسٌ يَتَطَهَّر َ‬
‫على مقالتهم هذه إال العناد واللجاج‪.d‬‬
‫فطهره هللا وأهله إال امرأته‪ ،‬وأخرجهم منها أحسن إخراج‪ d،‬وتركهم في محلتهم‬
‫خالدين‪ ،‬لكن بعد ما صيّرها عليهم بحرة منتنة‪ ،‬ذات أمواج‪ ،‬لكنها عليهم في الحقيقة نار‬
‫تأجج‪ ،‬وح ّر يتوهج‪ ،‬وماؤها ملح أجاج‪.‬‬
‫وما كان هذا جوابهم إالّ لما نهاهم عن الطامة العظمى والفاحشة الكبرى‪ ،‬التي لم‬
‫يسبقهم إليها أحد من أهل الدنيا‪ .‬ولهذا صاروا مثلة فيها وعبرة لمن عليها‪ .‬وكانوا مع ذلك‬
‫يقطعون الطريق‪ ،‬ويخونون الرفيق‪ ،‬ويأتون في ناديهم‪ ،‬وهو مجتمعهم ومحل حديثهم‬
‫وسمرهم‪ ،‬المنكر من األقوال واألفعال‪ ،‬على اختالف أصنافه‪ ،‬حتى قيل‪ :‬إنهم كانوا‬
‫يتضارطون في مجالسهم‪ ،‬وال يستحيون من مجالسهم‪ ،‬وربما وقع منهم الفعلة العظيمة‬
‫في المحافل‪ d،‬وال يستنكفون وال يرعوون لوعظ واعظ‪ ،‬وال نصيحة من عاقل‪ ،‬وكانوا في‬
‫ذلك وغيره كاألنعام بل أضل سبيالً‪ ،‬ولم يقلعوا عما كانوا عليه في الحاضر‪ d،‬وال ندموا‬
‫على ما سلف من الماضي‪ d،‬وال راموا في المستقبل تحويالً‪ ،‬فأخذهم هللا أخذاً وبيالً‪.‬‬
‫ين} فطلبوا منه وقوع ما‬ ‫نت ِم ْن الصَّا ِدقِ َ‬ ‫ب هَّللا ِ إِ ْن ُك َ‬
‫وقالوا له فيما قالوا‪{ :‬ا ْئتِنَا بِ َع َذا ِ‬
‫حذرهم عنه من العذاب األليم وحلول البأس العظيم‪.‬‬ ‫ّ‬
‫فعند ذلك دعا عليهم نبيهم الكريم‪ ،‬فسأل من رب العالمين وإله المرسلين‪ ،‬أن ينصره‬
‫على القوم المفسدين‪.‬‬
‫فغار هللا لغيرته‪ ،‬وغضب لغضبته‪ ،‬واستجاب لدعوته‪ ،‬وأجابه إلى طلبته‪ ،‬وبعث‬
‫رسله الكرام‪ ،‬ومالئكته العظام‪ ،‬فمروا على الخليل إبراهيم‪ ،‬وب ّشروه بالغالم العليم‪،‬‬
‫ون‪،‬‬‫طبُ ُك ْم أَيُّهَا ْال ُمرْ َسلُ َ‬ ‫وأخبروه بما جاؤا له من األمر الجسيم والخطب العميم {قَا َل فَ َما َخ ْ‬
‫ك‬ ‫ين‪ُ ،‬م َس َّو َمةً ِع ْن َد َربِّ َ‬ ‫ارةً ِم ْن ِط ٍ‬ ‫ين‪ ،‬لِنُرْ ِس َل َعلَ ْي ِه ْم ِح َج َ‬ ‫قَالُوا إِنَّا أُرْ ِس ْلنَا إِلَى قَ ْو ٍم ُمجْ ِر ِم َ‬
‫ت ُر ُسلُنَا إِب َْرا ِهي َم بِ ْالبُ ْش َرى قَالُوا إِنَّا ُم ْهلِ ُكو أَ ْه ِل هَ ِذ ِه ْالقَرْ يَ ِة إِ َّن‬ ‫ين} وقال‪َ { :‬ولَ َّما َجا َء ْ‪d‬‬ ‫ْرفِ َ‬‫لِ ْل ُمس ِ‬
‫ال إِ َّن فِيهَا لُوطا ً قَالُوا نَحْ ُن أَ ْعلَ ُم بِ َم ْن فِيهَا لَنُنَجِّ يَنَّهُ َوأَ ْهلَهُ إِالَّ ا ْم َرأَتَهُ‬ ‫ين‪ ،‬قَ َ‬ ‫أَ ْهلَهَا َكانُوا َ‬
‫ظالِ ِم َ‬
‫ع َو َجا َء ْتهُ ْالبُ ْش َرى‬ ‫ب َع ْن إِب َْرا ِهي َم الر َّْو ُ‬ ‫ين} وقال هللا تعالى‪{ :‬فَلَ َّما َذهَ َ‬ ‫ت ِم ْن ْال َغابِ ِر َ‬ ‫َكانَ ْ‬
‫وط}‪ .‬وذلك إنه كان يرجو أن يجيبوا أو ينيبوا ويسلموا ويقلعوا ويرجعوا‪.‬‬ ‫يُ َجا ِدلُنَا فِي قَ ْو ِم لُ ٍ‬
‫لهذا قال تعالى‪{ :‬إِ َّن إِب َْرا ِهي َم لَ َحلِي ٌم أَ َّواهٌ ُمنِيبٌ ‪ ،‬يَا إِب َْرا ِهي ُم أَ ْع ِرضْ َع ْن هَ َذا إِنَّهُ قَ ْد َجا َء أَ ْم ُر‬
‫َرب َِّك َوإِنَّهُ ْم آتِي ِه ْم َع َذابٌ َغ ْي ُر َمرْ ُدو ٍد}‪ .‬أي أعرض عن هذا وتكلم في غيره فإنه قد حتم‬
‫أمرهم ووجب عذابهم وتدميرهم وهالكهم إنه قد جاء أمر ربك أي قد أمر به من ال يرد‬
‫أمره وال يرد بأسه وال معقب لحكمه وإنهم آتيهم عذاب غير مردود‪.‬‬
‫وذكر سعيد بن جبير وال ُّسدِّي وقتادة و ُم َح ْمد بن إسحاق أن إبراهيم عليه السالم جعل‬
‫يقول "أتهلكون قرية فيها ثالثمائة مؤمن قالوا ال قال فمائتا مؤمن قالوا ال قال فأربعون‬
‫مؤمنا ً قالوا‪ :‬ال قال فأربعة عشر مؤمنا ً قالوا ال) قال ابن إسحاق‪ :‬إلى أن قال‪" :‬أفرأيتم إن‬
‫كان فيها مؤمن واحد قالوا ال" قال‪ { :‬إِ َّن فِيهَا لُوطا ً قَالُوا نَحْ ُن أَ ْعلَ ُم بِ َم ْن فِيهَا} اآلية‪.‬‬
‫وعند أهل الكتاب أنه قال "يا رب أتهلكهم وفيهم خمسون رجالً صالحاً؟‪ d‬فقال هللا‪ :‬ال‬
‫أهلكهم وفيهم خمسون صالحاً‪ ،‬ثم تنازل عشرة فقال هللا‪" :‬ال أهلكهم وفيهم عشرة‬
‫صالحون"‪.‬‬
‫ال هَ َذا يَ ْو ٌم‬ ‫ق بِ ِه ْم َذرْ عا ً َوقَ َ‬ ‫ضا َ‬ ‫ت ُر ُسلُنَا لُوطا ً ِسي َء بِ ِه ْم َو َ‬ ‫قال هللا تعالى‪َ {:‬ولَ َّما َجا َء ْ‬
‫صيبٌ }‪ .‬قال المفسرون‪ :‬لما فصلت المالئكة من عند إبراهيم‪ ،‬وهم جبريل وميكائيل‬ ‫َع ِ‬
‫ان اختباراً من هللا تعالى‬ ‫وإسرافيل‪ ،‬أقبلوا حتى أتوا أرض سدوم‪ ،‬في ص َُو ِر ُشب ٍ‬
‫ّان ِح َس ٍ‬
‫لقوم لوط‪ ،‬وإقامة للحجة عليهم‪ ،‬فتضيفوا لوطا ً عليه السالم وذلك عند غروب الشمس‪،‬‬
‫ق بِ ِه ْم‬ ‫ضا َ‬ ‫وسي َء بِ ِه ْم َو َ‬ ‫فخشي إن لم يضفهم أن يضيفهم غيره‪ ،‬وحسبهم بشراً من الناس‪ِ { ،‬‬
‫صيبٌ }‪ .‬قال ابن عبَّاس ومجاهد وقتادة و ُم َح ْمد بن إسحاق‪ ،‬شديد‬ ‫ال هَ َذا يَ ْو ٌم َع ِ‬ ‫َذرْ عا ً َوقَ َ‬
‫بالؤه‪ ،‬وذلك لما يعلم من مدافعته الليلة عنهم‪ ،‬كما كان يصنع بهم في غيرهم‪ ،‬وكانوا قد‬
‫اشترطوا عليه أن ال يضيف أحداً‪ ،‬ولكن رأى من ال يمكن المحيد عنه‪.‬‬
‫وذكر قتادة أنهم وردوا عليه وهو في أرض له‪ ،‬يعمل فيها فتضيفوا‪ ،‬فاستحيا منهم‪،‬‬
‫وانطلق أمامهم‪ ،‬وجعل يعرض لهم في الكالم لعلهم ينصرفون عن هذه القرية‪ ،‬وينزلون‬
‫في غيرها‪ ،‬فقال لهم فيما قال‪ :‬وهللا يا هؤالء ما أعلم على وجه األرض أهل بلد أخبث من‬
‫هؤالء‪ ،‬ثم مشى قليالً ثم أعاد ذلك عليهم‪ ،‬حتى كرره أربع مرات‪ .‬قال‪ :‬وكانوا قد أمروا‬
‫أن ال يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيّهم بذلك‪.‬‬
‫وقال ال ُّسدِّي‪ :‬خرجت المالئكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط‪ ،‬فأتوها نصف النهار‪،‬‬
‫فلما بلغوا سدوم‪ ،‬لقوا ابنة لوط تستقي من الماء ألهلها‪ ،‬وكانت له ابنتان اسم الكبرى‬
‫"ريثا"‪ ،‬والصغرى "زغرتا"‪ ،‬فقالوا لها‪ :‬يا جارية هل من منزل؟ فقالت لهم‪ :‬مكانكم ال‬
‫تدخلوا حتى آتيكم‪ ،‬فرقت عليهم من قومها‪ ،‬فأتت أباها فقالت‪ :d‬يا أبتاه‪ ،‬أرادك فتيان على‬
‫باب المدينة‪ ،‬ما رأيت وجوه قوم قط هي أحسن منهم‪ ،‬ال يأخذهم قومك‪ ،‬فيفضحوهم‪ .‬وقد‬
‫كان قومه نهوه أن يضيف رجالً فقالوا‪ :‬خل عنا فلنضف الرجال‪.d‬‬
‫فجاء بهم‪ ،‬فلم يعلم أحد إال أهل البيت‪ ،‬فخرجت‪ d‬امرأته فأخبرت قومها‪ ،‬فقالت‪ :d‬إن في‬
‫بيت لوط رجاالً ما رأيت مثل وجوههم قط فجاءه قومه يهرعون إليه‪.‬‬
‫ت}‪ .‬أي هذا مع ما سلف لهم من الذنوب‬ ‫ون ال َّسيِّئَا ِ‬‫وقوله‪َ { :‬و ِم ْن قَ ْب ُل َكانُوا يَ ْع َملُ َ‬
‫طهَ ُر لَ ُك ْم} يرشدهم إلى غشيان‬ ‫ال يَا قَ ْو ِم هَ ُؤالَ ِء بَنَاتِي هُ َّن أَ ْ‬ ‫العظيمة الكبيرة الكثيرة‪{ ،‬قَ َ‬
‫نسائهم‪ ،‬وهن بناته شرعا ً ألن النبي لألمة بمنزلة الوالد‪ ،‬كما ورد في الحديث‪ ،‬وكما قال‬
‫ين ِم ْن أَ ْنفُ ِس ِه ْم َوأَ ْز َوا ُجهُ أُ َّمهَاتُهُ ْم} وفي قول بعض الصحابة‬ ‫تعالى‪{ :‬النَّبِ ُّي أَ ْولَى بِ ْال ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ق لَ ُك ْم‬
‫ُون َما َخلَ َ‬
‫ين‪َ ،‬وتَ َذر َ‬ ‫ان ِم ْن ْال َعالَ ِم َ‬ ‫ون ُّ‬
‫الذ ْك َر َ‬ ‫والسلف وهو أب لهم‪ .‬وهذا كقوله‪{ :‬أَتَأْتُ َ‬
‫اج ُك ْم بَلْ أَ ْنتُ ْم قَ ْو ٌم َعا ُد َ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫َربُّ ُك ْم ِم ْن أَ ْز َو ِ‬
‫وهذا هو الذي نص عليه مجاهد وسعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة وال ُّسدِّي‬
‫و ُم َح ْمد بن إسحاق وهو الصواب‪.d‬‬
‫والقول اآلخر خطأ مأخوذ من أهل الكتاب‪ d،‬وقد تصحّف عليهم كما أخطأوا في‬
‫قولهم‪ :‬إن المالئكة كانوا إثنين‪ ،‬وإنهم تع ّشوا عنده‪ ،‬وقد خبط أهل الكتاب في هذه القصة‬
‫ْس ِم ْن ُك ْم َر ُج ٌل َر ِشي ٌد} نهى‬‫ض ْيفِي أَلَي َ‬ ‫تخبيطا ً عظيما ً‪ .‬وقوله‪{ :‬فَاتَّقُوا هَّللا َ َوال تُ ْخ ُزونِي فِي َ‬
‫لهم عن تعاطي ما ال يليق من الفاحشة‪ ،‬وشهادة عليهم بأنه ليس فيهم رجل له مسكة‪ ،‬وال‬
‫فيه خير‪ ،‬بل الجميع سفهاء‪ ،‬فجرة أقوياء‪ ،‬كفرة أغبياء‪.‬‬
‫وكان هذا من جملة ما أراد المالئكة أن يسمعوه منه من قبل أن يسألوه عنه‪.‬‬
‫فقال قومه عليهم لعنة هللا الحميد المجيد‪ .‬مجيبين لنبيهم فيما أمرهم به من األمر‬
‫ك لَتَ ْعلَ ُم َما نُ ِري ُد} يقولون‪ :‬عليهم‬ ‫ق َوإِنَّ َ‬ ‫ك ِم ْن َح ٍّ‬ ‫ت َما لَنَا فِي بَنَاتِ َ‬ ‫ال ُّسدِّيد ‪{ :‬قَالُوا لَقَ ْد َعلِ ْم َ‬
‫لعائن هللا‪ ،‬لقد علمت يا لوط إنه ال أربّ لنا في نسائنا‪ ،‬وإنك لتعلم مرادنا وغرضنا "من‬
‫غير النساء"‪.‬‬
‫واجهوا بهذا الكالم القبيح رسولهم الكريم‪ ،‬ولم يخافوا سطوة العظيم‪ ،‬ذي العذاب‬
‫ال لَ ْو أَ َّن لِي بِ ُك ْم قُ َّوةً أَ ْو ِ‬
‫آوي إِلَى ُر ْك ٍن َش ِدي ٍد} ود أن لو‬ ‫األليم‪ .‬ولهذا قال عليه السالم {قَ َ‬
‫كان له بهم قوة‪ ،‬أو له منعة وعشيرة ينصرونه عليهم‪ ،‬ليحل بهم ما يستحقونه من العذاب‪،‬‬
‫على هذا الخطاب‪ .‬وقد قال الزهري عن سعيد بن ال ُمسَّيب وأبي سلمة عن أبي هريرة‬
‫مرفوعا ً "نحن أحق بالشك من إبراهيم‪ ،‬ويرحم هللا لوطا ً لقد كان يأوي إلى ركن شديد‪،‬‬
‫ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ألجبت الداعي"‪.‬‬
‫ورواه أبو الزناد عن األعرج عن أبي هريرة‪.‬‬

‫وقال ُم َح ْمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم قال "رحمة هللا على لوط‪ ،‬إن كان يأوي إلى ركن شديد‪ ،‬يعني هللا عز‬
‫وجل‪ ،‬فما بعث هللا بعده نبي إال في ثروة من قومه"‪.‬‬
‫ضحُونِي‪،‬‬ ‫ض ْيفِي فَالَ تَ ْف َ‬ ‫ال إِ َّن هَ ُؤال ِء َ‬ ‫ُون‪ ،‬قَ َ‬ ‫وقال تعالى‪َ { :‬و َجا َء أَ ْه ُل ْال َم ِدينَ ِة يَ ْستَ ْب ِشر َ‬
‫ين}‬ ‫ال هَ ُؤالَ ِء بَنَاتِي إِ ْن ُك ْنتُ ْم فَا ِعلِ َ‬
‫ين‪ ،‬قَ َ‬ ‫ك َع ْن ْال َعالَ ِم َ‬ ‫َواتَّقُوا هَّللا َ َوالَ تُ ْخ ُزونِي‪ ،‬قَالُوا أَ َولَ ْم نَ ْنهَ َ‬
‫فأمرهم بقربان نسائهم‪ ،‬وحذرهم االستمرار على طريقتهم وسيآتهم‪.‬‬
‫هذا وهم في ذلك ال ينتهون وال يرعوون‪ ،‬بل كلما نهاهم يبالغون في تحصيل هؤالء‬
‫الضيفان ويحرصون‪ .‬ولم يعلموا ما ح ّم به القدر مما هم إليه صائرون‪ ،‬وصبيحة ليلتهم‬
‫إليه منقلبون‪.‬‬
‫ولهذا قال تعالى مقسما ً بحياة نبيه محمد صلوات هللا وسالمه عليه‪{ :‬لَ َع ْم ُر َ‬
‫ك إِنَّهُ ْم لَفِي‬
‫ُون} وقال تعالى‪َ { :‬ولَقَ ْد أَن َذ َرهُ ْم بَ ْ‬
‫ط َشتَنَا فَتَ َما َر ْوا بِالنُّ ُذ ِر‪َ ،‬ولَقَ ْد َرا َو ُدوهُ َع ْن‬ ‫َس ْك َرتِ ِه ْم يَ ْع َمه َ‬
‫صب ََّحهُ ْم بُ ْك َرةً َع َذابٌ ُم ْستَقِرٌّ }‪.‬‬ ‫ض ْيفِ ِه فَطَ َم ْسنَا أَ ْعيُنَهُ ْم فَ ُذوقُوا َع َذابِي َونُ ُذ ِر‪َ ،‬ولَقَ ْد َ‬ ‫َ‬
‫ذكر المفسرون وغيرهم أن نبي هللا لوطا ً عليه السالم جعل يمانع قومه الدخول‪،‬‬
‫ويدافعهم‪ ،‬والباب مغلق‪ ،‬وهم يرومون فتحه وولوجه‪ ،‬وهو يعظهم وينهاهم من وراء‬
‫الباب‪ ،‬وكل ما لهم في إلحاح وإنحاح‪ d،‬فلما ضاق األمر وعسر الحال قال ما قال {قَا َل لَ ْو‬
‫آوي إِلَى ُر ْك ٍن َش ِدي ٍد} ألحللت بكم النكال‪.‬‬ ‫أَ َّن لِي بِ ُك ْم قُ َّوةً أَ ْو ِ‬

‫ْك} وذكروا أن جبريل عليه‬‫صلُوا إِلَي َ‬ ‫قالت المالئكة {يَا لُوطُ إِنَّا ُر ُس ُل َربِّ َ‬
‫ك لَ ْن يَ ِ‬
‫السالم خرج عليهم فضرب وجوههم خفقة بطرف جناحه‪ ،‬فطمست أعينهم‪ ،‬حتى قيل‪:‬‬
‫إنها غارت بالكلية‪ ،‬ولم يبق لها محل وال عين‪ ،‬وال أثر‪ ،‬فرجعوا يتحسسون مع الحيطان‪،‬‬
‫ويتوعدون رسول الرحمن‪ ،‬ويقولون‪ :‬إذا كان الغد كان لنا وله شأن‪.‬‬
‫ض ْيفِ ِه فَطَ َم ْسنَا أَ ْعيُنَهُ ْم فَ ُذوقُوا َع َذابِي َونُ ُذ ِر‪َ ،‬ولَقَ ْد‬
‫او ُدوهُ َع ْن َ‬ ‫قال هللا تعالى { َولَقَ ْد َر َ‬
‫صب ََّحهُ ْم بُ ْك َرةً َع َذابٌ ُم ْستَقِرٌّ }‪.‬‬ ‫َ‬
‫فذلك أن المالئكة تقدمت إلى لوط عليه السالم آمرين له بأن يسري هو وأهله من‬
‫آخر الليل‪ d،‬وال يلتفت منكم أحد‪ ،‬يعني عند سماع صوت العذاب إذا ح ّل بقومه‪ ،‬وأمروه‬
‫أن يكون سيره في آخرهم كالسّاقة لهم‪.‬‬
‫ك} على قراءة النصب‪ d،‬يحتمل أن يكون مستثنى من قوله {فَأَس ِ‬
‫ْر‬ ‫وقوله‪{ :‬إِالَّ ا ْم َرأَتَ َ‬
‫ت ِم ْن ُك ْم‬ ‫ْر بها‪ .‬ويحتمل أن يكون من قوله‪َ { :‬والَ يَ ْلتَفِ ْ‬ ‫ك}‪ ،‬كأنه يقول‪ :‬إال امرأتك فال تَس ِ‬ ‫بِأ َ ْهلِ َ‬
‫ي هذا االحتمال قراءة‬ ‫ك}‪ ،‬أي‪ :‬فإنها ستلتفت فيصيبها ما أصابهم‪ .‬ويقو ّ‬ ‫أَ َح ٌد إِالَّ ا ْم َرأَتَ َ‬
‫الرفع‪ ،‬ولكن األول أظهر في المعنى وهللا أعلم‪.‬‬
‫قال السهيلي واسم امرأة لوط "والهة" واسم امرأة نوح "والغة"‪.‬‬
‫وقالوا له مبشرين بهالك هؤالء البغاة العتاة الملعونين النظراء واألشباه الذين جعلهم‬
‫ب}‪.‬‬ ‫ْس الصُّ ْب ُح بِقَ ِري ٍ‬ ‫هللا سلفا ً لكل خائن مريب‪{ :‬إِ َّن َم ْو ِع َدهُ ْم الصُّ ْب ُح أَلَي َ‬

‫فلما خرج لوط عليه السالم بأهله‪ ،‬وهم ابنتاه‪ ،‬لم يتبعه منهم رجل واحد‪ ،‬ويقال‪ :‬إن‬
‫امرأته خرجت معه فاهلل أعلم‪.‬‬
‫فلما خلصوا من بالدهم‪ ،‬وطلعت الشمس فكان عند شروقها جاءهم من أمر هللا ما ال‬
‫يرد‪ .‬ومن البأس الشديد ما ال يمكن أن يصد‪.‬‬
‫وعند أهل الكتاب أن المالئكة أمروه أن يصعد إلى رأس الجبل الذي هناك‪ ،‬فاستبعده‬
‫وسأل منهم أن يذهب إلى قرية قريبة منهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬اذهب فانا ننتظرك حتى تصير إليها‬
‫وتستقر فيها‪ ،‬ثم نَ ُح ّل بهم العذاب‪ d،‬فذكروا أنه ذهب إلى قرية "صُو َغر" التي يقول الناس‬
‫"غور ُز َغر" فلما أشرقت الشمس نزل بهم العذاب‪.‬‬
‫قال هللا تعالى‪{ :‬فَلَ َّما َجا َء أَ ْم ُرنَا َج َع ْلنَا َعالِيَهَا َسافِلَهَا َوأَ ْمطَرْ نَا َعلَ ْيهَا ِح َجا َرةً ِم ْن ِسجِّي ٍل‬
‫ك َو َما ِه َي ِم ْن الظَّالِ ِم َ‬
‫ين بِبَ ِعي ٍد}‪.‬‬ ‫َم ْنضُو ٍد‪ُ ،‬م َس َّو َمةً ِع ْن َد َربِّ َ‬
‫قالوا‪ :‬اقتلعهن جبريل بطرف جناحه من قرارهن‪ ،‬وكن سبع مدن بمن فيهن من‬
‫األمم‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنهم كانوا أربع مائة نسمة‪ .‬وقيل‪ :‬أربعة آالف نسمة وما معهم من‬
‫الحيوانات‪ d،‬وما يتبع تلك المدن من األراضي واألماكن والمعتمالت‪ ،‬فرفع الجميع حتى‬
‫بلغ بهن عنان السماء‪ ،‬حتى سمعت المالئكة أصوات ديكتهم ونباح كالبهم‪ ،‬ثم قلبها‬
‫عليهم‪ ،‬فجعل عاليها سافلها‪ .‬قال مجاهد‪ :‬فكان أول ما سقط منها شرفاتها‪.‬‬
‫ارةً ِم ْن ِسجِّي ٍل} والسجّيل فارسي معرب‪ ،‬وهو الشديد الصّلب‬ ‫{ َوأَ ْمطَرْ نَا َعلَ ْيهَا ِح َج َ‬
‫القوي (منضود) أي يتبع بعضها بعضا ً في نزولها عليهم من السماء (مسومة) أي معلمة‬
‫مكتوب على كل حجر اسم صاحبه‪ ،‬الذي يهبط عليه فيدمغه‪ ،‬كما قال‪ُ { :‬م َس َّو َمةً ِع ْن َد َرب َِّك‬
‫ين}‪ .‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫ين} وكما قال تعالى‪َ { :‬وأَ ْمطَرْ نَا َعلَ ْي ِه ْم َمطَراً فَ َسا َء َمطَ ُر ْال ُمن َذ ِر َ‬ ‫لِ ْل ُمس ِ‬
‫ْرفِ َ‬
‫{ َو ْال ُم ْؤتَفِ َكةَ أَ ْه َوى‪ ،‬فَ َغ َّشاهَا َما َغ َّشى} يعني‪ :‬قلبها فأهوى بها من ّكسة عاليها سافلها‪،‬‬
‫وغشاها بمطر من حجارة من سجيل‪ ،‬متتابعة مسومة مرقومة‪ ،‬على كل حجر اسم‬
‫صاحبه الذي سقط عليه من الحاضرين‪ ،‬منهم في بلدهم والغائبين عنها من المسافرين‪،‬‬
‫والنازحين والشاذين منها‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬إن امرأة لوط مكثت مع قومها‪ .‬ويقال‪ :‬إنها خرجت مع زوجها وبنتيها‪،‬‬
‫ولكنها لما سمعت الصيحة‪ ،‬وسقوط البلدة) التفتت إلى قومها‪ ،‬وخالف أمر ربها قديما ً‬
‫وحديثاً‪ ،‬وقالت‪ :‬وا قوماه فسقط عليها حجر‪ ،‬فدمغها وألحقها بقومها‪ ،‬إذ كانت على دينهم‪،‬‬
‫وكانت عينا ً لهم‪ ،‬على من يكون عند لوط من الضيفان‪.‬‬
‫وط َكانَتَا تَحْ َ‬
‫ت‬ ‫وح َواِ ْم َرأَةَ لُ ٍ‬
‫ين َكفَرُوا اِ ْم َرأَةَ نُ ٍ‬ ‫ب هَّللا ُ َمثَالً لِلَّ ِذ َ‬
‫ض َر َ‬‫كما قال تعالى‪َ { :‬‬
‫صالِ َحي ِْن فَ َخانَتَاهُ َما‪ d‬فَلَ ْم يُ ْغنِيَا َع ْنهُ َما ِم ْن هَّللا ِ َشيْئا ً َوقِي َل ا ْد ُخالَ النَّا َر َم َع‬‫َع ْب َد ْي ِن ِم ْن ِعبَا ِدنَا َ‬
‫ين} أي خانتاهما في الدين فلم يتبعاهما فيه‪ .‬وليس المراد أنهما كانتا على فاحشة‪،‬‬ ‫ال َّدا ِخلِ َ‬
‫حاشا وكال‪ .‬فإن هللا ال يقدر على نبي قط أن تبغى امرأته‪ ،‬كما قال ابن عبَّاس وغيره من‬
‫أئمة السلف والخلف‪ :‬ما بغت امرأة نبي قط‪ .‬ومن قال خالف هذا فقد أخطأ خطأ كبيراً‪.‬‬
‫قال هللا تعالى في قصة اإلفك‪ ،‬لما أنزل براءة أم المؤمنين عائشة بنت الصديق‪ ،‬زوج‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬حين قال لها أهل اإلفك ما قالوا‪ ،‬فعاتب هللا المؤمنين‬
‫ون بِأ َ ْف َوا ِه ُك ْم َما لَي َ‬
‫ْس‬ ‫وأنّب وزجر ووعظ وحذر‪ ،‬وقال فيما قال‪{ :‬تَلَقَّ ْونَهُ بِأ َ ْل ِسنَتِ ُك ْم َوتَقُولُ َ‬
‫لَ ُك ْم بِ ِه ِع ْل ٌم َوتَحْ َسبُونَهُ هَيِّنا ً َوهُ َو ِع ْن َد هَّللا ِ َع ِظي ٌم}‪ .‬أي سبحانك أن تكون زوجة نبيك بهذه‬
‫المثابة‪.‬‬
‫ين بِبَ ِعي ٍد} أي وما هذه العقوبة ببعيدة ممن أشبههم في‬ ‫وقوله هنا‪َ { :‬و َما ِه َي ِم ْن الظَّالِ ِم َ‬
‫فعلهم‪ .‬ولهذا ذهب من ذهب من العلماء إلى أن الالئط يرجم سواء كان محصنا ً أو ال‪،‬‬
‫ونصَّ عليه الشافعي وأحمد بن حنبل وطائفة كثيرة من األئمة‪.‬‬
‫واحتجوا أيضا ً بما رواه اإلمام أحمد وأهل السنن من حديث عمرو بن أبي عمرو‪،‬‬
‫عن عكرمة‪ ،‬عن ابن عبَّاس أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬من وجدتموه يعمل‬
‫عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به"‪.‬‬
‫وذهب أبو حنيفة إلى أن الالئط يلقى من شاهق جبل‪ ،‬ويتبع بالحجارة‪ ،‬كما فُ ِعل بقوم‬
‫ين بِبَ ِعي ٍد}‪.‬‬‫لوط‪ ،‬لقوله تعالى‪َ { :‬و َما ِه َي ِم ْن الظَّالِ ِم َ‬
‫وجعل هللا مكان تلك البالد بحرة منتنة ال ينتفع بمائها وال بما حولها من األراضي‬
‫المتاخمة لفنائها‪ d،‬لرداءتها ودناءتها‪ ،‬فصارت عبرة ومثلة وعظة وآية على قدرة هللا تعالى‬
‫وكذب رسله واتّبع هواه وعصى مواله‪.‬‬ ‫وعظمته وعزته في انتقامه ممن خالف أمره ّ‬
‫ودليالً على رحمته بعباده المؤمنين في انجائه إياهم من المهلكات‪ ،‬وإخراجه إياهم من‬
‫ك‬‫ين‪َ ،‬وإِ َّن َربَّ َ‬ ‫ان أَ ْكثَ ُرهُ ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ك آلَيَةً َو َما َك َ‬ ‫النور إلى الظلمات‪ d،‬كما قال تعالى‪{ :‬إِ َّن فِي َذلِ َ‬
‫لَه َُو ْال َع ِزي ُز الر ِ‬
‫َّحي ُم}‪.‬‬
‫ين‪ ،‬فَ َج َع ْلنَا َعالِيَهَا َسافِلَهَا َوأَ ْمطَرْ نَا َعلَ ْي ِه ْم‬ ‫صي َْحةُ ُم ْش ِرقِ َ‬ ‫وقال هللا تعالى‪{ :‬فَأ َ َخ َذ ْتهُ ْم ال َّ‬
‫ك آليَةً‬ ‫ين‪َ ،‬وإِنَّهَا لَبِ َسبِي ٍل ُمقِ ٍيم‪ ،‬إِ َّن فِي َذلِ َ‬ ‫ت لِ ْل ُمتَ َو ِّس ِم َ‬
‫ك آلَيَا ٍ‬ ‫يل‪ ،‬إِ َّن فِي َذلِ َ‬ ‫ِح َجا َرةً ِم ْن ِسجِّ ٍ‬
‫ين} أي من نظر بعين الفراسة والتوسّم فيهم‪ ،‬كيف غير هللا تلك البالد وأهلها‪،‬‬ ‫لِ ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫وكيف جعلها بعد ما كانت آهلة عامرة‪ ،‬هالكة غامرة‪.‬‬
‫كما روى الترمذي وغيره مرفوعا ً "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور هللا"‪ .‬ثم‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ت لِ ْل ُمتَ َو ِّس ِم َ‬‫ك آليَا ٍ‬ ‫قرأ‪{ :‬إِ َّن فِي َذلِ َ‬
‫يل ُمقِ ٍيم} أي لبطريق مهيع مسلوك إلى اآلن‪ ،‬كما قال‪َ { :‬وإِنَّ ُك ْم‬ ‫وقوله { َوإِنَّهَا لَبِ َسبِ ٍ‬
‫ين‪َ ،‬وبِاللَّي ِْل أَفَالَ تَ ْعقِلُون} وقال تعالى‪َ { :‬ولَقَد تَ َر ْكنَا ِم ْنهَا آيَةً بَيِّنَةً‬ ‫ون َعلَ ْي ِه ْم ُمصْ بِ ِح َ‬ ‫لَتَ ُمرُّ َ‬
‫ين‪ ،‬فَ َما َو َج ْدنَا فِيهَا َغ ْي َر بَ ْي ٍ‬
‫ت‬ ‫ان فِيهَا ِم ْن ْال ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ون} وقال تعالى‪{ :‬فَأ َ ْخ َرجْ نَا َم ْن َك َ‬ ‫لِقَ ْو ٍم يَ ْعقِلُ َ‬
‫اب األَلِي َم}‪.‬‬ ‫ون ْال َع َذ َ‬ ‫ين يَ َخافُ َ‬ ‫ين‪َ ،‬وتَ َر ْكنَا فِيهَا آيَةً لِلَّ ِذ َ‬ ‫ِم ْن ْال ُم ْسلِ ِم َ‬
‫أي تركناها عبرة وعظة لمن خاف عذاب اآلخرة وخشي الرحمن بالغيب‪ ،‬وخاف‬
‫مقام ربه ونهى النفس عن الهوى‪ ،‬فانزجر عن محارم هللا وترك معاصيه وخاف أن‬
‫يشابه قوم لوط‪ .‬ومن تشبه بقوم فهو منهم‪ ،‬وإن لم يكن من كل وجه فمن بعض الوجوه‪،‬‬
‫كما قال بعضهم‪:‬‬
‫فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم ** فما قوم لوط منكم ببعيد‬
‫فالعاقل اللبيب الفاهم الخائف من ربه يمتثل ما أمره هللا به عز وجل‪ ،‬ويقبل ما أرشده‬
‫إليه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من إتيان ما خلق له من الزوجات الحالل‪ d،‬والجواري‬
‫من السراري ذوات الجمال‪ .d‬وإياه أن يتبع كل شيطان مريد‪ .‬فيحق عليه الوعيد‪ .‬ويدخل‬
‫ين بِبَ ِعي ٍد}‪.‬‬ ‫في قوله تعالى‪َ { :‬و َما ِه َي ِم ْن الظَّالِ ِم َ‬

‫قصة مدين قوم شعيب عليه السالم‬


‫قال هللا تعالى في سورة األعراف بعد قصة قوم لوط‪َ { :‬وإِلَى َم ْديَ َن أَ َخاهُ ْم ُش َعيْبا ً قَا َل‬
‫ان َوالَ‬ ‫يَا قَ ْو ِم ا ْعبُ ُدوا هَّللا َ َما لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ قَ ْد َجا َء ْت ُك ْم بَيِّنَةٌ ِم ْن َربِّ ُك ْم فَأ َ ْوفُوا ْال َكي َْل َو ْال ِمي َز َ‬
‫ض بَ ْع َد إِصْ الَ ِحهَا‪َ d‬ذلِ ُك ْم َخ ْي ٌر لَ ُك ْم إِ ْن ُكنتُ ْم‬ ‫اس أَ ْشيَا َءهُ ْم َوالَ تُ ْف ِس ُدوا فِي األَرْ ِ‬ ‫تَ ْب َخسُوا النَّ َ‬
‫ون َع ْن َسبِي ِل هَّللا ِ َم ْن آ َم َن بِ ِه َوتَ ْب ُغونَهَا‬ ‫ص ُّد َ‬ ‫ون َوتَ ُ‬ ‫وع ُد َ‬ ‫ص َرا ٍط تُ ِ‬ ‫ين‪َ ،‬والَ تَ ْق ُع ُدوا بِ ُكلِّ ِ‬ ‫ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ان طَائِفَةٌ‬ ‫ين َوإِ ْن َك َ‬ ‫ان َعاقِبَةُ ْال ُم ْف ِس ِد َ‬ ‫ْف َك َ‬ ‫ِع َوجا ً َو ْاذ ُكرُوا إِ ْذ ُكنتُ ْم قَلِيالً فَ َكثَّ َر ُك ْم َوانظُرُوا َكي َ‬
‫ت بِ ِه َوطَائِفَةٌ لَ ْم ي ُْؤ ِمنُوا فَاصْ بِرُوا َحتَّى يَحْ ُك َم هَّللا ُ بَ ْينَنَا َوهُ َو َخ ْي ُر‬ ‫ِم ْن ُك ْم آ َمنُوا بِالَّ ِذي أُرْ ِس ْل ُ‬
‫ك ِم ْن‬ ‫ين آ َمنُوا َم َع َ‬ ‫ك يَا ُش َعيْبُ َوالَّ ِذ َ‬ ‫ين ا ْستَ ْكبَرُوا ِم ْن قَ ْو ِم ِه لَنُ ْخ ِر َجنَّ َ‬ ‫ال ْال َمألُ الَّ ِذ َ‬ ‫ين‪ ،‬قَ َ‬ ‫ْال َحا ِك ِم َ‬
‫ين‪ ،‬قَ ْد ا ْفتَ َر ْينَا َعلَى هَّللا ِ َك ِذبا ً إِ ْن ُع ْدنَا فِي ِملَّتِ ُك ْم‬ ‫ار ِه َ‬ ‫ال أَ َولَ ْو ُكنَّا َك ِ‬ ‫قَرْ يَتِنَا أَ ْو لَتَعُو ُد َّن فِي ِملَّتِنَا قَ َ‬
‫ون لَنَا أَ ْن نَعُو َد فِيهَا إِالَّ أَ ْن يَ َشا َء هَّللا ُ َربُّنَا َو ِس َع َربُّنَا ُك َّل َش ْي ٍء‬ ‫بَ ْع َد إِ ْذ نَجَّانَا هَّللا ُ ِم ْنهَا َو َما يَ ُك ُ‬
‫ين‪َ d،‬وقَا َل ْال َمألُ‬ ‫ت َخ ْي ُر ْالفَاتِ ِح َ‬ ‫ق َوأَ ْن َ‬ ‫ِع ْلما ً َعلَى هَّللا ِ تَ َو َّك ْلنَا َربَّنَا ا ْفتَحْ بَ ْينَنَا َوبَي َْن قَ ْو ِمنَا بِ ْال َح ِّ‬
‫ُون‪ ،‬فَأ َ َخ َذ ْتهُ ْم الرَّجْ فَةُ فَأَصْ بَحُوا فِي‬ ‫اسر َ‬ ‫ين َكفَرُوا ِم ْن قَ ْو ِم ِه لَئِ ْن اتَّبَ ْعتُ ْم ُش َعيْبا ً إِنَّ ُك ْم إِذاً لَ َخ ِ‬ ‫الَّ ِذ َ‬
‫ين َك َّذبُوا ُش َعيْبا ً َكأ َ ْن لَ ْم يَ ْغنَ ْوا فِيهَا الَّ ِذ َ‬
‫ين َك َّذبُوا ُش َعيْبا ً َكانُوا هُ ْم‬ ‫ين‪ ،‬الَّ ِذ َ‬‫ار ِه ْم َجاثِ ِم َ‬
‫َد ِ‬
‫ت لَ ُك ْم فَ َكي َ‬
‫ْف آ َسى‬ ‫صحْ ُ‪d‬‬ ‫ت َربِّي َونَ َ‬ ‫ال يَاقَ ْو ِم لَقَ ْد أَ ْبلَ ْغتُ ُك ْم ِر َساالَ ِ‬
‫ين‪ ،‬فَتَ َولَّى َع ْنهُ ْم َوقَ َ‬ ‫اس ِر َ‬ ‫ْال َخ ِ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫َعلَى قَ ْو ٍم َكافِ ِر َ‬
‫وقال في سورة هود بعد قصة قوم لوط أيضا ً‪َ { .‬وإِلَى َم ْديَ َن‬

‫ال َو ْال ِمي َز َ‬


‫ان‬ ‫ال يَاقَ ْو ِم ا ْعبُ ُدوا هَّللا َ َما لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ َوال تَنقُصُوا ْال ِم ْكيَ َ‬ ‫أَ َخاهُ ْم ُش َعيْبا ً قَ َ‬
‫ان‬
‫يز َ‬ ‫ال َو ْال ِم َ‬ ‫يط‪َ ،‬ويَاقَ ْو ِم أَ ْوفُوا ْال ِم ْكيَ َ‬ ‫اب يَ ْو ٍم ُم ِح ٍ‬ ‫اف َعلَ ْي ُك ْم َع َذ َ‬ ‫إِنِّي أَ َرا ُك ْم بِ َخي ٍْر َوإِنِّي أَ َخ ُ‬
‫ين‪ ،‬بَقِيَّةُ هَّللا ِ َخ ْي ٌر لَ ُك ْم إِ ْن‬ ‫ض ُم ْف ِس ِد َ‬ ‫اس أَ ْشيَا َءهُ ْم َوال تَ ْعثَ ْوا فِي األَرْ ِ‬ ‫ْط َوال تَب َْخسُوا النَّ َ‬ ‫بِ ْالقِس ِ‬
‫ُك َما يَ ْعبُ ُد آبَا ُؤنَا‬ ‫ُك أَ ْن نَ ْتر َ‬ ‫ك تَأْ ُمر َ‬ ‫صاَل تُ َ‬ ‫يظ‪ ،‬قَالُوا يَا ُش َعيْبُ أَ َ‬ ‫ين َو َما أَنَا َعلَ ْي ُك ْم بِ َحفِ ٍ‬ ‫ُكنتُ ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫نت َعلَى‬ ‫ت ْال َحلِي ُم ال َّر ِشي ُد‪ ،‬قَا َل يَا قَ ْو ِم أَ َرأَ ْيتُ ْم إِ ْن ُك ُ‬ ‫ك أَل َ ْن َ‬‫أَ ْو أَ ْن نَ ْف َع َل فِي أَ ْم َوالِنَا َما نَ َشا ُء إِنَّ َ‬
‫بَيِّنَ ٍة ِم ْن َربِّي َو َر َزقَنِي ِم ْنهُ ِر ْزقا ً َح َسنا ً َو َما أُ ِري ُد أَ ْن أُ َخالِفَ ُك ْم إِلَى َما أَ ْنهَا ُك ْم َع ْنهُ إِ ْن أُ ِري ُد إِال‬
‫قو ِم ال يَجْ ِر َمنَّ ُك ْم‬ ‫ت َوإِلَ ْي ِه أُنِيبُ ‪َ ،‬ويَا ْ‬ ‫ْت َو َما تَ ْوفِيقِي إِال بِاهَّلل ِ َعلَ ْي ِه تَ َو َّك ْل ُ‬ ‫اإلصْ اَل َح َما ا ْستَطَع ُ‬ ‫ِ‬
‫ح َو َما قَ ْو ُم لُو ٍط ِم ْنك ْمُ‬ ‫صالِ ٍ‬ ‫َ‬
‫وح أ ْو قَ ْو َم هُو ٍد أ ْو قَ ْو َم َ‬ ‫َ‬ ‫اب قَ ْو َم نُ ٍ‬ ‫ص َ‪d‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ُصيبَك ْم ِمث ُل َما أ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِشقَاقِي أ ْن ي ِ‬
‫بِبَ ِعي ٍد‪َ ،‬وا ْستَ ْغفِرُوا َربَّ ُك ْم ثُ َّم تُوبُوا إِلَ ْي ِه إِ َّن َربِّي َر ِحي ٌم َو ُدو ٌد‪ ،‬قَالُوا يَا ُش َعيْبُ َما نَ ْفقَهُ َكثِيراً‬
‫ال يَا قَ ْو ِم‬ ‫يز‪ ،‬قَ َ‬ ‫ت َعلَ ْينَا بِ َع ِز ٍ‬ ‫ك َو َما أَ ْن َ‬ ‫ك لَ َر َج ْمنَا َ‬ ‫ض ِعيفا ً َولَ ْوال َر ْهطُ َ‬ ‫ك فِينَا َ‬ ‫ِم َّما تَقُو ُل َوإِنَّا لَنَ َرا َ‬
‫ون ُم ِحيطٌ‪َ ،‬ويَا قَ ْو ِم‬ ‫أَ َر ْه ِطي أَ َع ُّز َعلَ ْي ُك ْم ِم ْن هَّللا ِ َواتَّ َخ ْذتُ ُموهُ َو َرا َء ُك ْم ِظه ِْريّا ً إِ َّن َربِّي بِ َما تَ ْع َملُ َ‬
‫ون َم ْن‬ ‫ف تَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ون َم ْن يَأْتِي ِه َع َذابٌ ي ُْخ ِزي ِه َس ْو َ‬ ‫ف تَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ا ْع َملُوا َعلَى َم َكانَتِ ُك ْم إِنِّي َعا ِم ٌل َس ْو َ‬
‫يَأْتِي ِه َع َذابٌ ي ُْخ ِزي ِه َو َم ْن هُ َو َكا ِذبٌ َوارْ تَقِبُوا إِنِّي َم َع ُك ْم َرقِيبٌ ‪َ ،‬ولَ َّما َجا َء أَ ْم ُرنَا نَ َّج ْينَا ُش َعيْبا ً‬
‫ين‪،‬‬ ‫ار ِه ْم َجاثِ ِم َ‬ ‫ص ْي َحةُ فَأَصْ بَحُوا فِي ِديَ ِ‬ ‫ين ظَلَ ُموا ال َّ‬ ‫ت الَّ ِذ َ‬ ‫ين آ َمنُوا َم َعهُ بِ َرحْ َم ٍة ِمنَّا َوأَ َخ َذ ْ‬ ‫َوالَّ ِذ َ‬
‫ت ثَ ُمو ُد}‪.‬‬ ‫َكأ َ ْن لَ ْم يَ ْغنَ ْوا فِيهَا أَال بُعْداً لِ َم ْديَ َن َك َما بَ ِع َد ْ‬
‫ين‪ ،‬فَا ْنتَقَ ْمنَا‬ ‫ان أَصْ َحابُ األَ ْي َك ِة لَظَالِ ِم َ‬ ‫وقال في الحجر بعد قصة لوط أيضا ً‪َ { :‬وإِ ْن َك َ‬
‫ين}‪.‬‬‫ِم ْنهُ ْم َوإِنَّهُ َما لَبِإِ َم ٍام ُمبِ ٍ‬
‫ين‪ ،‬إِ ْذ قَا َل لَهُ ْم‬ ‫اب األَ ْي َك ِة ْال ُمرْ َسلِ َ‬ ‫ب أَصْ َح ُ‪d‬‬ ‫وقال تعالى في الشعراء بعد قصتهم { َك َّذ َ‬
‫ين‪ ،‬فَاتَّقُوا هَّللا َ َوأَ ِطيعُونِي‪َ ،‬و َما أَسْأَلُ ُك ْم َعلَ ْي ِه ِم ْن أَجْ ٍر إِ ْن‬ ‫ون‪ ،‬إِنِّي لَ ُك ْم َرسُو ٌل أَ ِم ٌ‬ ‫ُش َعيْبٌ أَال تَتَّقُ َ‬
‫ين‪َ ،‬و ِزنُوا بِ ْالقِ ْسطَ ِ‬
‫اس‬ ‫ين‪ ،‬أَ ْوفُوا ْال َكي َْل َوال تَ ُكونُوا ِم ْن ْال ُم ْخ ِس ِر َ‬ ‫أَجْ ِري إِال َعلَى َربِّ ْال َعالَ ِم َ‬
‫ين‪َ ،‬واتَّقُوا الَّ ِذي َخلَقَ ُك ْم‬ ‫ض ُم ْف ِس ِد َ‬ ‫اس أَ ْشيَا َءهُ ْم َوال تَ ْعثَ ْوا فِي األَرْ ِ‬ ‫ْال ُم ْستَقِ ِيم‪َ ،‬وال تَ ْب َخسُوا النَّ َ‬
‫ك لَ ِم ْن‬ ‫ت إِال بَ َش ٌر ِم ْثلُنَا َوإِ ْن نَظُنُّ َ‬ ‫ين‪َ ،‬و َما أَ ْن َ‬ ‫َّر َ‬ ‫ت ِم ْن ْال ُم َسح ِ‬ ‫ين‪ ،‬قَالُوا إِنَّ َما أَ ْن َ‬ ‫َو ْال ِجبِلَّةَ األَ َّولِ َ‬
‫ون‪،‬‬ ‫ال َربِّي أَ ْعلَ ُم بِ َما تَ ْع َملُ َ‬ ‫ين‪ ،‬قَ َ‬ ‫ت ِم ْن الصَّا ِدقِ َ‬ ‫ط َعلَ ْينَا ِك َسفا ً ِم ْن ال َّس َما ِء إِ ْن ُك ْن َ‬ ‫ين‪ ،‬فَأ َ ْسقِ ْ‬ ‫ْال َكا ِذبِ َ‬
‫ك آليَةً َو َما َك َ‬
‫ان‬ ‫اب يَ ْو ٍم َع ِظ ٍيم‪ ،‬إِ َّن فِي َذلِ َ‬ ‫ان َع َذ َ‬ ‫فَ َك َّذبُوهُ فَأ َ َخ َذهُ ْم َع َذابُ يَ ْو ِم ُّ‬
‫الظلَّ ِة إِنَّهُ َك َ‬
‫َّحي ُم}‪.‬‬ ‫أَ ْكثَ ُرهُ ْم ُم ْؤ ِمنِين‪َ ،‬وإِ َّن َرب ََّك لَه َُو ْال َع ِزي ُز الر ِ‬
‫كان أهل مدين قوما ً عربا ً يسكنون مدينتهم مدين‪ ،‬التي هي قريبة من أرض َم َعان من‬
‫أطراف الشام‪ ،‬مما يلي ناحية الحجار‪ d‬قريبا ً من بحيرة قوم لوط‪ .‬وكانوا بعدهم بمدة قريبة‪.‬‬
‫ومدين مدينة عرفت بالقبيلة وهم من بني مدين بن مديان بن إبراهيم الخليل‪.‬‬
‫وشعيب نبيهم هو ابن ميكيل بن يشجن ذكره ابن إسحاق‪.‬‬
‫قال‪ :‬ويقال له بالسريانية يترون وفي هذا نظر ويقال‪ :‬شعيب بن يشخر بن الوي بن‬
‫يعقوب‪ .‬ويقال‪ :‬شعيب بن نويب بن عيفا بن مدين بن إبراهيم‪ .‬ويقال شعيب بن صيفور‬
‫بن عيفا بن ثابت بن مدين بن إبراهيم‪ .‬وقيل غير ذلك في نسبه‪.‬‬
‫قال ابن عساكر‪ :‬ويقال جدته‪ ،‬ويقال أمه بنت لوط‪.‬‬
‫وكان ممن آمن بإبراهيم وهاجر معه‪ ،‬ودخل معه دمشق‪.‬‬

‫وعن وهب بن منبه انه قال‪ :‬شعيب وملغم ممن آمن بإبراهيم يوم أحرق بالنار‪،‬‬
‫وهاجرا معه إلى الشام‪ ،‬فزوجهما بنتي لوط عليه السالم‪ .‬ذكره ابن قتيبة‪ .‬وفي هذا كله‬
‫نظر أيضا ً وهللا تعالى أعلم‪.‬‬
‫وذكر أبو عمرو بن عبد البر في االستيعاب‪ ،‬في ترجمة سلمة بن سعد العنزي‪ :‬أنه‬
‫الحي‬
‫ُّ‬ ‫قدم على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فأسلم وانتسب إلى عنزة‪ ،‬فقال‪" :‬نِ ْع َم‬
‫عنزة‪ ،‬مبغي عليهم منصورين‪ ،‬قوم شعيب وأَ ْختَان موسى"‪.‬‬
‫فلو صح هذا لدل على أن شعيبا ً صهر موسى وأنه من قبيلة من العرب العاربة‪ ،‬يقال‬
‫لهم عنزة‪ ،‬ال أنهم من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان فإن هؤالء بعده‬
‫بدهر طويل‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫وفي حديث أبي ذر الذي في صحيح ابن حبان في ذكر األنبياء والرسل قال ‪" :‬أربعة‬
‫من العرب هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر" وكان بعض السلف يسمي شعيبا ً خطيب‬
‫األنبياء يعني لفصاحته وعلو عبارته وبالغته في دعاية قومه إلى اإليمان برسالته‪.‬‬
‫وقد روى ابن إسحاق بن بشر عن جويبر ومقاتل‪ ،‬عن الضحاك‪ d،‬عن ابن عبَّاس قال‪:‬‬
‫كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إذا ذكر شعيبا ً قال‪( :‬ذاك خطيب األنبياء)‪.‬‬
‫وكان أهل مدين كفاراً‪ ،‬يقطعون السبيل ويخيفون المارة‪ ،‬ويعبدون األيكة وهي‬
‫شجرة من األيك حولها غيضة ملتفة بها‪.‬‬

‫وكانوا من أسوأ الناس معاملة‪ ،‬يبخسون المكيال والميزان‪ ،‬ويطففون فيهما‪ ،‬يأخذون‬
‫بالزائد ويدفعون بالناقص‪.‬‬
‫فبعث هللا فيهم رجالً منهم وهو رسول هللا شعيب عليه السالم‪ ،‬فدعاهم إلى عبادة هللا‬
‫وحده ال شريك له‪ ،‬ونهاهم عن تعاطي هذه األفاعيل القبيحة‪ ،‬من بخس الناس أشيائهم‬
‫واخافتهم لهم في سبلهم وطرقاتهم فآمن به بعضهم وكفر أكثرهم‪ ،‬حتى أح َّل هللا بهم البأس‬
‫الشديد‪ .‬وهو الولي الحميد‪.‬‬
‫ال يَا قَ ْو ِم ا ْعبُ ُدوا هَّللا َ َما لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ‬ ‫كما قال تعالى‪َ { :‬وإِلَى َم ْديَ َن أَ َخاهُ ْم ُش َعيْبا ً قَ َ‬
‫قَ ْد َجا َء ْت ُك ْم بَيِّنَةٌ ِم ْن َربِّ ُك ْم} أي داللة وحجة واضحة وبرهان قاطع على صدق ما جئتكم به‬
‫وأنه أرسلني‪ ،‬وهو ما أجرى هللا على يديه من المعجزات التي لم تنقل إلينا تفصيالً وإن‬
‫كان هذا اللفظ قد دل عليها إجماالً‪.‬‬
‫اس أَ ْشيَا َءهُ ْم َوال تُ ْف ِس ُدوا فِي األَرْ ِ‬
‫ض بَ ْع َد‬ ‫ان َوال تَب َْخسُوا النَّ َ‬ ‫يز َ‬‫{فَأ َ ْوفُوا ْال َك ْي َل َو ْال ِم َ‬
‫إِصْ اَل ِحهَا}‪ .‬أمرهم بالعدل ونهاهم عن الظلم وتوعدهم على خالف ذلك فقال‪َ { :‬ذلِ ُك ْم َخ ْي ٌر‬
‫ون} أي تتوعدون الناس‬ ‫اط} أي طريق {تُو ِع ُد َ‬ ‫ص َر ٍ‬ ‫ين‪َ ،‬وال تَ ْق ُع ُدوا بِ ُكلِّ ِ‬ ‫لَ ُك ْم إِ ْن ُكنتُ ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫بأخذ أموالهم من مكوس وغير ذلك‪ ،‬وتخيفون السبل‪.‬‬
‫قال ال ُّسدِّي في "تفسيره" عن الصحابة "وال تقعدوا بكل صراط توعدون" أنهم كانوا‬
‫يأخذون العشور من أموال المارة‪.‬‬
‫وقال إسحاق بن بشر عن جويبر عن الضحاك‪ ،‬عن ابن عبَّاس قال‪ :‬كانوا قوما ً طغاة‬
‫بغاة يجلسون على الطريق يبخسون الناس يعني يعشرونهم‪ .‬وكانوا أول من سن ذلك‪.‬‬
‫ون َع ْن َسبِي ِل هَّللا ِ َم ْن آ َم َن بِ ِه َوتَ ْب ُغونَهَا ِع َوجا ً} فنهاهم عن قطع الطريق‬ ‫ص ُّد َ‬‫{ َوتَ ُ‬
‫الحسية الدنيوية‪ ،‬والمعنوية الدينية‪.‬‬
‫ين} ذكرهم بنعمة هللا‬ ‫ان َعاقِبَةُ ْال ُم ْف ِس ِد َ‬ ‫ْف َك َ‬‫{ َو ْاذ ُكرُوا إِ ْذ ُكنتُ ْم قَلِيال فَ َكثَّ َر ُك ْم َوانظُرُوا َكي َ‬
‫تعالى عليهم في تكثيرهم بعد القلة‪ ،‬وحذرهم نقمة هللا بهم إن خالفوا ما أرشدهم إليه ودلهم‬
‫ان إِنِّي أَ َرا ُك ْم بِ َخي ٍْر‬ ‫ال َو ْال ِمي َز َ‬ ‫عليه‪ ،‬كما قال لهم في القصة األخرى‪َ { :‬وال تَنقُصُوا ْال ِم ْكيَ َ‬
‫يط} أي ال تركبوا ما أنتم عليه وتستمروا فيه فيمحق هللا‬ ‫اب يَ ْو ٍم ُم ِح ٍ‬ ‫اف َعلَ ْي ُك ْم َع َذ َ‬ ‫َوإِنِّي أَ َخ ُ‬
‫بركة ما في أيديكم ويفقركم‪ ،‬ويذهب ما به يغنيكم‪.‬‬
‫وهذا مضاف إلى عذاب اآلخرة‪ ،‬ومن جمع له هذا وهذا فقد باء بالصفقة الخاسرة‪.‬‬
‫وحذرهم سلب نعمة هللا عليهم في‬ ‫ّ‬ ‫فنهاهم أوالً عن تعاطي ما ال يليق من التطفيف‪،‬‬
‫دنياهم‪ ،‬وعذابه األليم في أخراهم وعنفهم أشد تعنيف‪.‬‬
‫ثم قال لهم آمراً بعد ما كان عن ضده زاجراً‪َ { :‬ويَا قَ ْو ِم أَ ْوفُوا ْال ِم ْكيَا َل َو ْال ِمي َز َ‬
‫ان‬
‫ين‪ ،‬بَقِيَّةُ هَّللا ِ َخ ْي ٌر لَ ُك ْم إِ ْن‬ ‫ض ُم ْف ِس ِد َ‬‫اس أَ ْشيَا َءهُ ْم َوال تَ ْعثَ ْوا فِي األَرْ ِ‬ ‫ْط َوال تَب َْخسُوا النَّ َ‬ ‫بِ ْالقِس ِ‬
‫يظ}‪.‬‬ ‫ين َو َما أَنَا َعلَ ْي ُك ْم بِ َحفِ ٍ‬‫ُكنتُ ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫قال ابن عبَّاس والحسن البصري‪" :‬بقيّة هللا خير لكم" أي رزق هللا خير لكم من أخذ‬
‫أموال الناس‪ .‬وقال ابن جرير‪ :‬ما فضل لكم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان خير لكم‬
‫من أخذ أموال الناس بالتطفيف‪ .‬قال‪ :‬وقد روي هذا عن ابن عبَّاس‪.‬‬
‫يث َوالطَّيِّبُ‬ ‫وهذا الذي قاله وحكاه حسن‪ ،‬وهو شبيه بقوله تعالى‪{ :‬قُلْ ال يَ ْستَ ِوي ْال َخبِ ُ‬
‫ث} يعني أن القليل من الحالل خير لكم من الكثير من الحرام‪ ،‬فإن‬ ‫ك َك ْث َرةُ ْال َخبِي ِ‬ ‫َولَ ْو أَ ْع َجبَ َ‬
‫ق هَّللا ُ ال ِّربَا‬
‫الحالل مبارك وأن قل‪ ،‬والحرام ممحوق وإن كثر‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬يَ ْم َح ُ‬
‫ت}‪.‬‬ ‫ص َدقَا ِ‪d‬‬‫َويُرْ بِي ال َّ‬
‫وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬إن الربا وان كثر فإن مصيره إلى قُل" رواه‬
‫أحمد‪ .‬أي‪ :‬إلى قلة‪.‬‬
‫وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا‬
‫بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما"‪.‬‬
‫والمقصود أن الربح الحالل مبارك فيه وإن قل والحرام ال يجدي وإن كثر‪ ،‬ولهذا‬
‫قال نبي هللا شعيب "بقيت هللا خير لكم إن كنتم مؤمنين"‪.‬‬
‫وقوله "وما أنا عليكم بحفيظ" أي افعلوا ما آمركم به ابتغاء وجه هللا ورجاء ثوابه ال‬
‫ألراكم أنا وغيري‪.‬‬
‫ك َما يَ ْعبُ ُد آبَا ُؤنَا أَ ْو أَ ْن نَ ْف َع َل فِي أَ ْم َوالِنَا َما‬ ‫ك تَأْ ُمر َ‬
‫ُك أَ ْن نَ ْت ُر َ‬ ‫صالتُ َ‬ ‫{قَالُوا يَا ُش َعيْبُ أَ َ‬
‫َّشي ُد}‪ .‬يقولون هذا على سبيل االستهزاء والتنقص والتهكم‪:‬‬ ‫ت ْال َحلِي ُم الر ِ‬ ‫ك ألَ ْن َ‬ ‫نَ َشا ُء إِنَّ َ‬
‫أصالتك هذه التي تصليها هي اآلمرة لك بأن تحجر علينا فال نعبد إال إلهك ونترك ما يعبد‬
‫آباؤنا األقدمون‪ ،‬وأسالفنا األولون؟ أو أن ال نتعامل إالّ على الوجه الذي ترتضيه أنت‬
‫ونترك المعامالت التي تأباها وإن كنا نحن نرضاها؟‬
‫ت ْال َحلِي ُم ال َّر ِشي ُد} قال ابن عبَّاس وميمون بن مهران وابن ُج َريْج وزيد بن‬ ‫ك ألَ ْن َ‬‫{إِنَّ َ‬
‫أسلم وابن جرير‪ ،‬يقولون ذلك أعداء هللا على سبيل االستهزاء‪.‬‬
‫نت َعلَى بَيِّنَ ٍة ِم ْن َربِّي َو َر َزقَنِي ِم ْنهُ ِر ْزقا ً َح َسنا ً َو َما أُ ِري ُد أَ ْن‬ ‫{قَا َل يَا قَ ْو ِم أَ َرأَ ْيتُ ْم إِ ْن ُك ُ‬
‫ْت َو َما تَ ْوفِيقِي إِال بِاهَّلل ِ َعلَ ْي ِه‬‫اإلصْ اَل َح َما ا ْستَطَع ُ‬ ‫أُ َخالِفَ ُك ْم إِلَى َما أَ ْنهَا ُك ْم َع ْنهُ إِ ْن أُ ِري ُد إِال ِ‬
‫ت َوإِلَ ْي ِه أُنِيبُ }‪.‬‬ ‫تَ َو َّك ْل ُ‬
‫هذا تلطف معهم في العبارة ودعوة لهم إلى الحق بأبين إشارة‪.‬‬
‫يقول لهم‪ :‬أرأيتم أيها المكذبون {إن كنت على بينة من ربي} أي على أمر بيِّن من‬
‫هللا تعالى‪ ،‬أنه أرسلني إليكم‪َ { ،‬و َر َزقَنِي ِم ْنهُ ِر ْزقا ً َح َسنا ً} يعني النبوة والرسالة‪ ،‬يعني‬
‫وعمى عليكم معرفتها‪ ،‬فأي حيلة لي فيكم؟‬
‫وهذا كما تقدم عن نوح عليه السالم أنه قال لقومه سواء‪.‬‬
‫وقوله { َو َما أُ ِري ُد أَ ْن أُ َخالِفَ ُك ْم إِلَى َما أَ ْنهَا ُك ْم َع ْنهُ} أي لست آمركم باألمر إال وأنا أول‬
‫فاعل له‪ ،‬وإذا نهيتكم عن الشيء فأنا أول من يتركه‪.‬‬
‫وهذه هي الصفة المحمودة العظيمة‪ ،‬وضدها هي المردودة الذميمة‪ ،‬كما تلبس بها‬
‫علماء بني إسرائيل في آخر زمانهم وخطباءهم الجاهلون‪ .‬قال هللا تعالى ‪ {:‬أَتَأْ ُمر َ‬
‫ُون‬
‫ون} وذكرنا عندها في الصحيح‬ ‫اب أَفَال تَ ْعقِلُ َ‬ ‫ون ْال ِكتَ َ‬ ‫اس بِ ْالبِرِّ َوتَن َس ْو َن أَنفُ َس ُك ْم َوأَ ْنتُ ْم تَ ْتلُ َ‬‫النَّ َ‬
‫عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أنه قال‪" :‬يؤتى بالرجل فيلقى في النار فتندلق أقتابُ‬
‫بطنه‪ ،‬أي تخرج أمعاؤه من بطنه‪ ،‬فيدور بها كما يدور الحمار برحاه‪ ،‬فيجتمع أهل النار‪،‬‬
‫فيقولون‪ :‬يا فالن مالك‪ ،‬ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول‪ :‬بلى‪ ،‬كنت‬
‫آمر بالمعروف وال آتيه‪ ،‬وأنهى عن المنكر وآتيه"‪.‬‬
‫وهذه صفة مخالفي األنبياء من الفجار‪ d‬واألشقياء فأما السادة من النجباء‪ d‬واأللباء من‬
‫العلماء الذين يخشون ربهم بالغيب فحالهم كما قال نبي هللا شعيب‪" :‬وما أريد أن أخالفكم‬
‫إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إال اإلصالح ما استطعت" أي ما أريد في جميع أمري إال‬
‫اإلصالح في الفعال والمقال بجهدي وطاقتي‪.‬‬
‫"وما توفيقي" أي في جميع أحوالي "إال باهلل عليه توكلت وإليه أنيب" أي‪ :‬عليه‬
‫أتوكل في سائر األمور وإليه مرجعي ومصيري في كل أمري وهذا مقام ترغيب‪.‬‬
‫صيبَ ُك ْم ِم ْث ُل َما‬
‫ثم انتقل إلى نوه من الترهيب فقال‪َ { :‬ويَا قَ ْو ِم ال يَجْ ِر َمنَّ ُك ْم ِشقَاقِي أَ ْن يُ ِ‬
‫ح َو َما قَ ْو ُم لُو ٍط ِم ْن ُك ْم بِبَ ِعي ٍد}‪.‬‬ ‫وح أَ ْو قَ ْو َم هُو ٍد أَ ْو قَ ْو َم َ‬
‫صالِ ٍ‬ ‫اب قَ ْو َم نُ ٍ‬
‫ص َ‬‫أَ َ‬
‫أي ال تحملنكم مخالفتي وبغضكم ما جئتكم به على االستمرار على ضاللكم وجهلكم‬
‫ومخالفتكم‪ d،‬فيحل هللا بكم من العذاب والنكال نظير ما أحله بنظرائكم وأشباهكم‪ ،‬من قوم‬
‫نوح وقوم هود وقوم صالح من المكذبين المخالفين‪.‬‬

‫وط ِم ْن ُك ْم بِبَ ِعي ٍد} قيل معناه في الزمان‪ ،‬أي ما بالعهد من قدم مما قد‬ ‫وقوله { َو َما قَ ْو ُم لُ ٍ‬
‫بلغكم ما أحل بهم على كفرهم وعتوهم‪ .‬وقيل‪ :‬معناه وما هم منكم ببعيد في المحلة‬
‫والمكان‪ .‬وقيل في الصفات‪ d‬واألفعال المستقبحات من قطع الطريق وأخذ أموال الناس‬
‫جهرة وخفية بأنواع الحيل والشبهات‪.‬‬
‫والجمع بين هذه األقوال ممكن فإنهم لم يكونوا بعيدين منهم ال زمانا ً وال مكانا ً وال‬
‫صفات‪.‬‬
‫ثم مزج الترهيب بالترغيب فقال‪َ { :‬وا ْستَ ْغفِرُوا َربَّ ُك ْم ثُ َّم تُوبُوا إِلَ ْي ِه إِ َّن َربِّي َر ِحي ٌم‬
‫َو ُدو ٌد} أي اقلعوا عما أنتم فيه وتوبوا إلى ربكم الرحيم الودود‪ ،‬فإنه من تاب إليه تاب‬
‫عليه‪ ،‬فإنه رحيم بعباده أرحم بهم من الوالدة بولدها‪ ،‬ودود وهو الحبيب ولو بعد التوبة‬
‫على عبده ولو من الموبقات العظام‪.‬‬
‫ض ِعيفا ً}‪.‬‬ ‫ك فِينَا َ‬ ‫{قَالُوا يَا ُش َعيْبُ َما نَ ْفقَهُ َكثِيراً ِم َّما تَقُو ُل َوإِنَّا لَنَ َرا َ‬
‫روي عن ابن عبَّاس وسعيد بن جبير والثوري‪ ،‬أنهم قالوا‪ :‬كان ضرير البصر‪ .‬وقد‬
‫روي في حديث مرفوع "أنه بكى من حب هللا حتى عمى فرد هللا عليه بصره‪ .‬وقال ‪ :‬يا‬
‫شعيب أتبكي خوفا ً من النار‪ ،‬أو من شوقك إلى الجنَّة؟ فقال‪ :‬بل من محبتك‪ ،‬فإذا نظرت‬
‫إليك فال أبالي ماذا يصنع بي‪ ،‬فأوحى هللا إليه هنيئا ً لك يا شعيب لقائي فلذلك أخدمتك‬
‫موسى بن عمران كليمي"‪.‬‬
‫رواه الواحدي عن أبي الفتح ُم َح ْمد بن علي الكوفي‪ ،‬عن علي بن الحسن بن بندار‪،‬‬
‫عن عبد هللا ُم َح ْمد بن إسحاق الرملي عن هشام بن عمار‪ ،‬عن إسماعيل بن عبَّاس‪ ،‬عن‬
‫يحيى بن سعيد‪ ،‬عن شداد بن أوس عن النبي صلى هللا عليه وسلم بنحوه‪.‬‬
‫وهو غريب جداً‪ ،‬وقد ضعفه الخطيب البغدادي‪.‬‬
‫يز} وهذا من كفرهم البليغ‬ ‫ت َعلَ ْينَا بِ َع ِز ٍ‬‫اك َو َما أَ ْن َ‬ ‫ك لَ َر َج ْمنَ َ‬ ‫وقولهم { َولَ ْوال َر ْهطُ َ‬
‫وعنادهم الشنيع حيث قالوا‪" :‬ما نفقه كثيراً مما تقول" أي ما نفهمه وال نعقله‪ ،‬ألنه ال‬
‫نحبه وال نريده‪ ،‬وليس لنا همة إليه وال إقبال عليه‪.‬‬
‫وهو كما قال كفار قريش لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم { َوقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَ ِكنَّ ٍة ِم َّما‬
‫ون} ‪.‬‬ ‫ك ِح َجابٌ فَا ْع َملْ إِنَّنَا َعا ِملُ َ‬ ‫تَ ْد ُعونَا إِلَ ْي ِه َوفِي آ َذانِنَا َو ْق ٌر َو ِم ْن بَ ْينِنَا َوبَ ْينِ َ‬
‫ك} أي قبيلتك‬ ‫ض ِعيفا ً} أي مضطهداً مهجوراً { َولَ ْوال َر ْهطُ َ‬ ‫اك فِينَا َ‬ ‫وقولهم{ َوإِنَّا لَنَ َر َ‬
‫يز}‪.‬‬ ‫ت َعلَ ْينَا بِ َع ِز ٍ‬ ‫اك َو َما أَ ْن َ‬
‫وعشيرتك فينا {لَ َر َج ْمنَ َ‬
‫{قَا َل يَا قَ ْو ِم أَ َر ْه ِطي أَ َع ُّز َعلَ ْي ُك ْم ِم ْن هَّللا ِ} أي تخافون قبيلتي وعشيرتي وترعوني‬
‫بسببهم وال تخافون عذاب هللا وال تراعوني ألني رسول هللا‪ ،‬فصار رهطي أعز عليكم‬
‫من هللا "أي جانب هللا وراء ظهوركم" أي هو عليم بما تعملونه وما تصنعونه محيط بذلك‬
‫وسيجزيكم عليه يوم ترجعون إليه‪.‬‬
‫ون َم ْن يَأْتِي ِه َع َذابٌ ي ُْخ ِزي ِه َو َم ْن‬ ‫{ َويَا قَ ْو ِم ا ْع َملُوا َعلَى َم َكانَتِ ُك ْم إِنِّي َعا ِم ٌل َس ْو َ‬
‫ف تَ ْعلَ ُم َ‬
‫هُ َو َكا ِذبٌ َوارْ تَقِبُوا إِنِّي َم َع ُك ْم َرقِيبٌ }‪.‬‬

‫هذا أمر تهديد شديد ووعيد أكيد بأن يستمروا على طريقتهم ومنهجهم وشاكلتهم‪،‬‬
‫فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار‪ ،‬ومن يحل عليه الهالك والبوار { َم ْن يَأْتِي ِه َع َذابٌ‬
‫ي ُْخ ِزي ِه} أي في هذه الحياة الدنيا { َويَ ِحلُّ َعلَ ْي ِه َع َذابٌ ُمقِي ٌم} أي في األخرى { َو َم ْن هُ َو‬
‫َكا ِذبٌ } أي مني ومنكم فيما أخبر وبشر وحذر‪.‬‬
‫ت بِ ِه‬ ‫ان طَائِفَةٌ ِم ْن ُك ْم آ َمنُوا بِالَّ ِذي أُرْ ِس ْل ُ‬ ‫{ َوارْ تَقِبُوا إِنِّي َم َع ُك ْم َرقِيبٌ } هذا كقوله‪َ { :‬وإِ ْن َك َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫َوطَائِفَةٌ لَ ْم ي ُْؤ ِمنُوا فَاصْ بِرُوا َحتَّى يَحْ ُك َم هَّللا ُ بَ ْينَنَا َوهُ َو َخ ْي ُر ْال َحا ِك ِم َ‬
‫ك ِم ْن قَرْ يَتِنَا‬ ‫ك يَا ُش َعيْبُ َوالَّ ِذ َ‬
‫ين آ َمنُوا َم َع َ‬ ‫ين ا ْستَ ْكبَرُوا ِم ْن قَ ْو ِم ِه لَنُ ْخ ِر َجنَّ َ‬ ‫{قَا َل ْال َمألُ الَّ ِذ َ‬
‫ين‪ ،‬قَ ْد ا ْفتَ َر ْينَا َعلَى هَّللا ِ َك ِذبا ً إِ ْن ُع ْدنَا فِي ِملَّتِ ُك ْم بَ ْع َد‬ ‫ار ِه َ‬ ‫ال أَ َو لَ ْو ُكنَّا َك ِ‬ ‫أَ ْو لَتَعُو ُد َّن فِي ِملَّتِنَا قَ َ‬
‫ون لَنَا أَ ْن نَعُو َد فِيهَا إِال أَ ْن يَ َشا َء هَّللا ُ َربُّنَا َو ِس َع َربُّنَا ُك َّل َش ْي ٍء ِع ْلما ً‬ ‫إِ ْذ نَجَّانَا هَّللا ُ ِم ْنهَا َو َما يَ ُك ُ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ت َخ ْي ُر ْالفَاتِ ِح َ‬ ‫ق َوأَ ْن َ‬ ‫َعلَى هَّللا ِ تَ َو َّك ْلنَا َربَّنَا ا ْفتَحْ بَ ْينَنَا َوبَي َْن قَ ْو ِمنَا بِ ْال َح ِّ‬
‫طلبوا بزعمهم أن يردوا من آمن منهم إلى ملتهم فانتصب شعيب للمحاجة عن قومه‬
‫ين} أي هؤالء ال يعودون إليكم اختياراً‪ ،‬وإنما يعودون إليكم إن‬ ‫ار ِه َ‬‫فقال‪{ :‬أَ َو لَ ْو ُكنَّا َك ِ‬
‫ألن اإليمان إذا خالطت بشاشته القلوب ال يسخطه أحد‪،‬‬ ‫عادوا اضطراراً مكرهين‪ ،‬وذلك َّ‬
‫وال يرتد أحد عنه‪ ،‬وال محيد ألحد منه‪.‬‬
‫ولهذا قال‪{ :‬قَ ْد ا ْفتَ َر ْينَا َعلَى هَّللا ِ َك ِذبا ً إِ ْن ُع ْدنَا فِي ِملَّتِ ُك ْم بَ ْع َد إِ ْذ نَجَّانَا هَّللا ُ ِم ْنهَا َو َما يَ ُك ُ‬
‫ون‬
‫لَنَا أَ ْن نَعُو َد فِيهَا إِال أَ ْن يَ َشا َء هَّللا ُ َربُّنَا َو ِس َع َربُّنَا ُك َّل َش ْي ٍء ِع ْلما ً َعلَى هَّللا ِ تَ َو َّك ْلنَا} أي فهو‬
‫كافينا‪ ،‬وهو العاصم لنا‪ ،‬وإليه ملجأنا في جميع أمرنا‪ .‬ثم استفتح على قومه واستنصر ربه‬
‫ت َخ ْي ُر‬ ‫ق َوأَ ْن َ‬‫عليهم في تعجيل ما يستحقونه إليهم فقال‪َ { :‬ربَّنَا ا ْفتَحْ بَ ْينَنَا َوبَي َْن قَ ْو ِمنَا بِ ْال َح ِّ‬
‫ين} أي الحاكمين فدعا عليهم‪ ،‬وهللا ال يرد دعاء رسله إذا انتصروه على الذين‬ ‫ْالفَاتِ ِح َ‬
‫جحدوه وكفروه‪ ،‬ورسولهُ خالفوه‪.‬‬
‫ين َكفَرُوا‬ ‫ال ْال َمألُ الَّ ِذ َ‬ ‫ومع هذا صموا على ما هم عليه مشتملون‪ .‬وبه متلبسون { َوقَ َ‬
‫ُون}‪.‬‬ ‫اسر َ‬‫ِم ْن قَ ْو ِم ِه لَئِ ْن اتَّبَ ْعتُ ْم ُش َعيْبا ً إِنَّ ُك ْم إِذاً لَ َخ ِ‬
‫ين} ذكر في سورة‬ ‫ار ِه ْم َجاثِ ِم َ‬ ‫قال هللا تعالى‪{ :‬فَأ َ َخ َذ ْتهُ ْم الرَّجْ فَةُ فَأَصْ بَحُوا فِي َد ِ‬
‫األعراف أنهم أخذتهم رجفة‪ ،‬أي رجفت بهم أرضهم وزلزلت زلزاالً شديداً أزهقت‬
‫أرواحهم من أجسادها‪ ،‬وصيرت حيوان أرضهم كجمادها‪ ،‬وأصبحت جثثهم جاثية‪ ،‬ال‬
‫أرواح فيها‪ ،‬وال حركات بها وال حواس لها‪.‬‬
‫وقد جمع هللا عليهم أنواعا ً من العقوبات وصنوفا ً من المثالت‪ d،‬وأشكاالً من البليات‪،‬‬
‫وذلك لما اتصفوا به قبيح الصفات‪ d،‬سلط هللا عليهم رجفة شديدة أسكنت الحركات‪d،‬‬
‫وصيحة عظيمة أخمدت األصوات‪ ،‬وظلة أرسل عليهم منها شرر النار من سائر أرجائها‬
‫والجهات‪.‬‬
‫ولكنه تعالى أخبر عنهم في كل سورة بما يناسب سياقها‪ ،‬ويوافق طباقها‪ d،‬في سياق‬
‫قصة األعراف أرجفوا نبي هللا وأصحابه‪ ،‬وتوعدوهم باإلخراج من قريتهم‪ ،‬أو ليعودن‬
‫ين} فقابل‬ ‫ار ِه ْم َجاثِ ِم َ‬ ‫في ملتهم راجعين فقال تعالى‪{ :‬فَأ َ َخ َذ ْتهُ ْم الرَّجْ فَةُ فَأَصْ بَحُوا فِي َد ِ‬
‫األرجفاف بالرجفة واإلخافة بالخيفة وهذا مناسب هذا السياق ومتعلق بما تقدمه من‬
‫السياق‪.‬‬

‫وأما في سورة هود فذكر أنهم أخذتهم الصيحة‪ ،‬فأصبحوا في ديارهم جاثمين‪ ،‬وذلك‬
‫ك أَ ْن نَ ْت ُر َ‬
‫ك َما‬ ‫ك تَأْ ُم ُر َ‬
‫صالتُ َ‬ ‫ألنهم قالوا لنبي هللا على سبيل التهكم واالستهزاء والتنقص‪{ :‬أَ َ‬
‫َّشي ُد} فناسب أن يذكر‬ ‫ت ْال َحلِي ُم الر ِ‬ ‫ك ألَ ْن َ‬
‫يَ ْعبُ ُد آبَا ُؤنَا أَ ْو أَ ْن نَ ْف َع َل فِي أَ ْم َوالِنَا َما نَ َشا ُء إِنَّ َ‬
‫الصيحة التي هي كالزجر عن تعاطي هذا الكالم القبيح الذي واجهوا به الرسول الكريم‬
‫األمين الفصيح‪ ،‬فجاءتهم صيحة أسكتتهم مع رجفة أسكنتهم‪.‬‬
‫وأما في سورة الشعراء فذكر أنه أخذهم عذاب يوم الظلة‪ ،‬وكان ذلك إجابة لما‬
‫ت‬‫ين‪َ ،‬و َما أَ ْن َ‬ ‫ت ِم ْن ْال ُم َسح ِ‬
‫َّر َ‬ ‫طلبوا‪ ،‬وتقريبا ً إلى ما إليه رغبوا‪ .‬فإنهم قالوا‪{ :‬قَالُوا إِنَّ َما أَ ْن َ‬
‫ت ِم ْن‬ ‫ط َعلَ ْينَا ِك َسفا ً ِم ْن ال َّس َما ِء إِ ْن ُك ْن َ‬ ‫ين‪ ،‬فَأ َ ْسقِ ْ‬‫ك لَ ِم ْن ْال َكا ِذبِ َ‬ ‫إِال بَ َش ٌر ِم ْثلُنَا َوإِ ْن نَظُنُّ َ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫ين‪ ،‬قَا َل َربِّي أَ ْعلَ ُم بِ َما تَ ْع َملُ َ‬ ‫الصَّا ِدقِ َ‬
‫اب يَ ْو ٍم‬ ‫ان َع َذ َ‬ ‫قال هللا تعالى وهو السميع العليم {فَ َك َّذبُوهُ فَأ َ َخ َذهُ ْم َع َذابُ يَ ْو ِم ُّ‬
‫الظلَّ ِة إِنَّهُ َك َ‬
‫َع ِظ ٍيم}‪.‬‬
‫ومن زعم من المفسرين كقتادة وغيره أن أصحاب‪ d‬األيكة أمة أخرى غير أهل مدين‬
‫فقوله ضعيف‪.‬‬
‫ين‪ ،‬إِ ْذ قَ َ‬
‫ال لَهُ ْم‬ ‫اب األَ ْي َك ِة ْال ُمرْ َسلِ َ‬
‫ب أَصْ َح ُ‪d‬‬ ‫وإنما عمدتهم شيئان أحدهما ‪ :‬أنه قال‪َ { :‬ك َّذ َ‬
‫ُش َعيْبٌ } ولم يقل أخوهم كما قال‪َ { :‬وإِلَى َم ْديَ َن أَ َخاهُ ْم ُش َعيْبا ً}‪.‬‬
‫والثاني انه ذكر عذابهم بيوم الظلة وذكر في أولئك الرجفة أو الصيحة‪.‬‬

‫ين}‬ ‫ب أَصْ َحابُ األَ ْي َك ِة ْال ُمرْ َسلِ َ‬ ‫والجواب عن األول أنه لم يذكر األخوة بعد قوله‪َ { :‬ك َّذ َ‬
‫ألنه وصفهم بعبادة األيكة‪ ،‬فال يناسب ذكر األخوة ههنا ولما نسبهم إلى القبيلة‪ ،‬ساغ ذكر‬
‫شعيب بأنه أخوهم‪.‬‬
‫وهذا الفرق من النفائس اللطيفة العزيزة الشريفة‪.‬‬
‫وأما احتجاجهم‪ d‬بيوم الظلة فإن كان دليالً بمجرده على أن هؤالء أمة أخرى فليكن‬
‫تعداد االنتقام بالرجفة والصيحة دليالً على أنهما أمتان أخريان‪ ،‬وهذا ال يقوله أحد يفهم‬
‫شيئا ً من هذا الشأن‪.‬‬
‫فأما الحديث الذي أورده الحافظ ابن عساكر في ترجمة النبي شعيب عليه السالم‪ ،‬من‬
‫طريق ُم َح ْمد بن عثمان بن أبي شيبة‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن معاوية بن هشام‪ ،‬عن هشام بن سعد‪،‬‬
‫عن شفيق بن أبي هالل‪ ،‬عن ربيعة بن سيف‪ ،‬عن عبد هللا بن عمرو مرفوعا ً "إن قوم‬
‫مدين وأصحاب‪ d‬األيكة أمتان بعث هللا إليهما شعيبا ً النبي عليه السالم"‪.‬‬
‫فإنه حديث غريب وفي رجاله من تكلم فيه‪ .‬واألشبه أنه من كالم عبد هللا بن عمرو‪،‬‬
‫مما أصابه يوم اليرموك من تلك الزاملتين من أخبار بني إسرائيل وهللا أعلم‪.‬‬
‫ثم قد ذكر هللا عن أهل األيكة من المذمة ما ذكره عن أهل مدين من التطفيف في‬
‫المكيال والميزان‪ ،‬فد ّل على أنهم أمة واحدة أهلكوا بأنواع من العذاب‪ .‬وذكر في كل‬
‫موضع ما يناسب من الخطاب‪.‬‬
‫اب يَ ْو ٍم َع ِظ ٍيم} ذكروا أنهم أصابهم حر‬ ‫ان َع َذ َ‬ ‫وقوله‪{ :‬فَأ َ َخ َذهُ ْم َع َذابُ يَ ْو ِم ُّ‬
‫الظلَّ ِة إِنَّهُ َك َ‬
‫شديد‪ ،‬وأسكن هللا هبوب الهواء عنهم سبعة أيام فكان ال ينفعهم مع ذلك ماء وال ظل وال‬
‫دخولهم في األسراب‪ d،‬فهربوا من محلتهم إلى البرية‪ ،‬فأظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها‬
‫ليستظلوا بظلها‪ ،‬فلما تكاملوا فيه أرسلها هللا ترميهم بشرر وشهب‪ ،‬ورجفت بهم األرض‬
‫وجاءتهم صيحة من السماء فأزهقت األرواح‪ ،‬وخربت األشباح‪.‬‬
‫ين َك َّذبُوا ُش َعيْبا ً‬ ‫ين َك َّذبُوا ُش َعيْبا ً َكأ َ ْن لَ ْم يَ ْغنَ ْوا فِيهَا الَّ ِذ َ‬
‫ين‪ ،‬الَّ ِذ َ‬ ‫{فَأَصْ بَحُوا فِي َد ِ‬
‫ار ِه ْم َجاثِ ِم َ‬
‫ين}ونجى هللا شعيبا ً ومن معه من المؤمنين ‪ .‬كما قال تعالى وهو أصدق‬ ‫اس ِر َ‬ ‫َكانُوا هُ ْم ْال َخ ِ‬
‫ين ظَلَ ُموا‬ ‫ت الَّ ِذ َ‬ ‫ين آ َمنُوا َم َعهُ بِ َرحْ َم ٍة ِمنَّا َوأَ َخ َذ ْ‬ ‫القائلين‪َ { :‬ولَ َّما َجا َء أَ ْم ُرنَا نَ َّج ْينَا ُش َعيْبا ً َوالَّ ِذ َ‬
‫ت ثَ ُمو ُد}‪.‬‬ ‫ين‪َ ،‬كأ َ ْن لَ ْم يَ ْغنَ ْوا فِيهَا أَال بُعْداً لِ َم ْديَ َن َك َما بَ ِع َد ْ‬ ‫ار ِه ْم َجاثِ ِم َ‬ ‫صي َْحةُ فَأَصْ بَحُوا فِي ِديَ ِ‬ ‫ال َّ‬
‫ين َكفَرُوا ِم ْن قَ ْو ِم ِه لَئِ ْن اتَّبَ ْعتُ ْم ُش َعيْبا ً إِنَّ ُك ْم إِذاً لَ َخا ِسر َ‬
‫ُون‪،‬‬ ‫ال ْال َمألُ الَّ ِذ َ‬ ‫وقال تعالى‪َ { :‬وقَ َ‬
‫ين‬‫ين َك َّذبُوا ُش َعيْبا ً َكأ َ ْن لَ ْم يَ ْغنَ ْوا فِيهَا الَّ ِذ َ‬ ‫ين‪ ،‬الَّ ِذ َ‬
‫ار ِه ْم َجاثِ ِم َ‬ ‫فَأ َ َخ َذ ْتهُ ْم الرَّجْ فَةُ فَأَصْ بَحُوا فِي َد ِ‬
‫ين} وهذا في مقابلة قولهم {لَئِ ْن اتَّبَ ْعتُ ْم ُش َعيْبا ً إِنَّ ُك ْم إِذاً‬ ‫اس ِر َ‬ ‫َك َّذبُوا ُش َعيْبا ً َكانُوا هُ ْم ْال َخ ِ‬
‫لَ َخا ِسر َ‬
‫ُون}‪.‬‬
‫ثم ذكر تعالى عن نبيهم أنه نعاهم إلى أنفسهم موبخا ً ومؤنبا ً ومقرعاً‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬يَا‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ْف آ َسى َعلَى قَ ْو ٍم َكافِ ِر َ‬ ‫ت لَ ُك ْم فَ َكي َ‬‫صحْ ُ‬ ‫ت َربِّي َونَ َ‬ ‫قَ ْو ِم لَقَ ْد أَ ْبلَ ْغتُ ُك ْم ِر َسااَل ِ‬
‫أي أعرض عنهم موليا ً عن محلتهم بعد هلكتهم قائالً {يَا قَ ْو ِم لَقَ ْد أَ ْبلَ ْغتُ ُك ْم ِر َسااَل ِ‬
‫ت‬
‫ت لَ ُك ْم } أي قد أديت ما كان واجبا ً علي من البالغ التام والنصح الكامل‬ ‫صحْ ُ‪d‬‬ ‫َربِّي َونَ َ‬
‫وحرصت على هدايتكم بكل ما أقدر عليه وأتوصل إليه فلم ينفعكم ذلك ألن هللا ال يهدي‬
‫من يضل وما لهم من ناصرين‪ ،‬فلست أتأسف بعد هذا عليكم ألنكم لم تكونوا تقبلون‬
‫النصيحة وال تخافون يوم الفضيحة‪.‬‬
‫ين}‪ .‬أي ال يقبلون الحق وال‬ ‫ْف آ َسى} أي أحزن { َعلَى قَ ْو ٍم َكافِ ِر َ‬ ‫ولهذا قال‪{ :‬فَ َكي َ‬
‫يرجعون إليه وال يلتفتون إليه فحل بهم من بأس هللا الذي ال يرد ما ال يدافع وال يمانع وال‬
‫محيد ألحد أريد به عنه‪ ،‬وال مناص عنه‪.‬‬
‫وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في "تاريخه" عن ابن عبَّاس "أن شعيبا ً عليه السالم‬
‫كان بعد يوسف عليه السالم‪ ،‬وعن وهب بن منبه أن شعيبا ً عليه السالم مات بمكة ومن‬
‫معه من المؤمنين وقبورهم غربي الكعبة بين دار الندوة ودار بني سهم"‪.‬‬

‫باب ذكر ذرية إبراهيم عليه الصالة والتسليم‬


‫قد قدمنا قصته مع قومه‪ ،‬وما كان من أمرهم وما آل إليه أمره عليه الصالة والسالم‬
‫والتحية واإلكرام‪.‬‬
‫وذكرنا ما وقع في زمانه من قصة قوم لوط‪ ،‬واتبعنا ذلك بقصة مدين قوم شعيب‬
‫عليه السالم‪ ،‬ألنها قرينتها في كتاب هللا عز وجل‪ ،‬في مواضع متعددة‪ ،‬فذكر تعالى بعد‬
‫قصة قوم لوط قصة مدين‪ ،‬وهم أصحاب‪ d‬األيكة على الصحيح كما قدمنا‪ ،‬فذكرناها تبعا ً‬
‫لها إقتداء بالقرآن العظيم‪.‬‬
‫ثم نشرع اآلن في الكالم على تفصيل ذرية إبراهيم عليه السالم ألن هللا جعل في‬
‫ذريته النبوة والكتاب‪ ،‬فكل نبي أرسل بعده فمن ولده‪.‬‬

‫ذكر إسماعيل عليه السالم‬


‫وقد كان للخليل بنون كما ذكرنا‪ ،‬ولكن أشهرهم األخوان النبيان العظيمان الرسوالن‬
‫أسنهما وأجلهما‪ ،‬الذي هو الذبيح على الصحيح إسماعيل بكر إبراهيم الخليل من هاجر‬
‫القبطية المصرية عليها السالم‪ ،‬من العظيم الخليل‪.‬‬
‫ومن قال‪ :‬إن الذبيح هو إسحاق فأنما تلقاه من نقلة بني إسرائيل الذين ب ّد ْ‬
‫لوا وحرّفوا‬
‫وأ ّولوا التوراة واإلنجيل‪ ،‬وخالفوا ما بأيديهم في هذا من التنزيل‪ .‬فإن إبراهيم أمر بذبح‬
‫ولده البكر‪ .‬وفي رواية الوحيد‪.‬‬

‫وأيا ما كان فهو إسماعيل بنص الدليل‪ ،‬ففي نص كتابهم إن إسماعيل ولد‪ ،‬وإلبراهيم‬
‫من العمر ست وثمانون سنة‪ .‬وإنما ولد إسحاق بعد مضي مائة سنة من عمر الخليل‪d،‬‬
‫فإسماعيل هو البكر ال محالة‪ ،‬وهو الوحيد صورة ومعنى على كل حالة‪.‬‬
‫أما في الصورة فألنه كان ولده أزيد من ثالثة عشر سنة‪ ،‬وأم أنه وحيد في المعنى‬
‫فإنه هو الذي هاجر به أبوه ومعه أمه هاجر‪ ،‬وكان صغيراً رضيعا ً فيما قيل‪ ،‬فوضعهما‬
‫في وهاد جبال فاران‪ ،‬وهي الجبال‪ d‬التي حول مكة‪ ،‬نعم المقيل‪ ،‬وتركهما هنالك ليس‬
‫معهما من الزاد والماء إال القليل‪ ،‬وذلك ثقة باهلل وتوكالً عليه‪ ،‬فحاطهما هللا تعالى بعنايته‬
‫وكفايته‪ ،‬فنعم الحسيب والكافي والوكيل والكفيل‪.‬‬
‫فهذا هو الولد الوحيد في الصورة والمعنى‪ ،‬ولكن أين من يتفطّن لهذا السِّر‪ ،‬وأين من‬
‫يحل بهذا المحل‪ d،‬والمعنى ال يدركه ويحيط بعلمه إالّ كل نبيه نبيل‪.‬‬
‫وقد أثنى هللا تعالى عليه فوصفه بالحلم والصبر وصدق الوعد والمحافظة على‬
‫الصالة واألمر بها ألهله‪ ،‬ليقيهم العذاب مع ما كان يدعو إليه من عبادة رب األرباب‪ .‬قال‬
‫ي إِنِّي أَ َرى فِي ْال َمنَ ِام أَنِّي‬ ‫الم َحلِ ٍيم‪ ،‬فَلَ َّما بَلَ َغ َم َعهُ ال َّس ْع َي قَ َ‬
‫ال يَا بُنَ َّ‬ ‫هللا تعالى‪{ :‬فَبَ َّشرْ نَاهُ بِ ُغ ٍ‬
‫ين}‬‫ت ا ْف َعلْ َما تُ ْؤ َم ُر َستَ ِج ُدنِي إِ ْن َشا َء هَّللا ُ ِم ْن الصَّابِ ِر َ‬ ‫ال يَا أَبَ ِ‬‫ُك فَانظُرْ َما َذا تَ َرى قَ َ‬ ‫أَ ْذبَح َ‬
‫فطاوع أباه على ما إليه دعاه‪ ،‬ووعده بأن سيصبر فوفى بذلك وصبر على ذلك‪.‬‬
‫ان َرسُوال نَبِيّاً‪،‬‬ ‫ق ْال َو ْع ِد َو َك َ‬ ‫صا ِد َ‬‫ان َ‬ ‫يل إِنَّهُ َك َ‬
‫اع َ‬ ‫ب إِ ْس َم ِ‬ ‫وقال تعالى‪َ { :‬و ْاذ ُكرْ فِي ْال ِكتَا ِ‬
‫ضيّا ً}‪ .‬وقال تعالى‪َ { :‬و ْاذ ُكرْ ِعبَا َدنَا‬ ‫ان ِع ْن َد َربِّ ِه َمرْ ِ‬ ‫ان يَأْ ُم ُر أَ ْهلَهُ بِالصَّال ِة َوال َّز َكا ِة َو َك َ‬‫َو َك َ‬
‫ار‪،‬‬ ‫ص ٍة ِذ ْك َرى ال َّد ِ‬ ‫ار‪ ،‬إِنَّا أَ ْخلَصْ نَاهُ ْم بِ َخالِ َ‬ ‫ْص ِ‬‫وب أُ ْولِي األَ ْي ِدي َواألَب َ‬ ‫ق َويَ ْعقُ َ‬ ‫ْحا َ‬ ‫إ ْب َرا ِهي َم َوإِس َ‬
‫يس َو َذا ْال ِك ْف ِل ُك ٌّل‬ ‫ار} وقال تعالى‪َ { :‬وإِ ْس َما ِعي َل َوإِ ْد ِر َ‬ ‫َوإِنَّهُ ْم ِع ْن َدنَا لَ ِم ْن ْال ُمصْ طَفَي َْن األَ ْخيَ ِ‬
‫ين} وقال تعالى‪{ :‬إِنَّا أَ ْو َح ْينَا إِلَ ْي َ‬
‫ك‬ ‫ين‪َ ،‬وأَ ْد َخ ْلنَاهُ ْم فِي َرحْ َمتِنَا إِنَّهُ ْم ِم ْن الصَّالِ ِح َ‬ ‫ِم ْن الصَّابِ ِر َ‬
‫ق َويَ ْعقُ َ‬
‫وب‬ ‫ْحا َ‬‫يل َوإِس َ‬ ‫اع َ‬ ‫ِّين ِم ْن بَ ْع ِد ِه َوأَ ْو َح ْينَا إِلَى إِ ْب َرا ِهي َم َوإِ ْس َم ِ‬ ‫َك َما أَ ْو َح ْينَا إِلَى نُ ٍ‬
‫وح َوالنَّبِي َ‬
‫َواألَ ْسبَا ِط} اآلية‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يل َوإِ ْس َحا َ‬
‫ق‬ ‫اع َ‬ ‫نز َل إِلَى إِب َْرا ِهي َم َوإِ ْس َم ِ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬قُولُوا آ َمنَّا بِاهَّلل ِ َو َما أ ِ‬
‫نز َل إِلَ ْينَا َو َما أ ِ‬
‫اط} اآلية‪ .‬ونظيرتها من السورة األخرى‪ .‬وقال تعالى‪{ :‬أَ ْم تَقُولُ َ‬
‫ون إِ َّن‬ ‫وب َواألَ ْسبَ ِ‬ ‫َويَ ْعقُ َ‬
‫ارى قُلْ أَأَ ْنتُ ْم أَ ْعلَ ُم أَ ْم‬
‫ص َ‬‫وب َواألَ ْسبَاطَ َكانُوا هُوداً أَ ْو نَ َ‬
‫ق َويَ ْعقُ َ‬
‫ْحا َ‬
‫يل َوإِس َ‬ ‫إِ ْب َرا ِهي َم َوإِ ْس َم ِ‬
‫اع َ‬
‫هَّللا ُ}‪ .‬اآلية‪.‬‬
‫فذكر هللا عنه كل صفة جميلة وجعله نبيه ورسوله‪ ،‬وبرأه من كل ما نسب إليه‬
‫الجاهلون‪ .‬وأمر بأن يؤمن بما أنزل عليه عباده المؤمنون‪.‬‬
‫وذكر علماء النسب وأيام الناس‪ :‬أنه أول من ركب الخيل وكانت قبل ذلك وحوشا ً‬
‫فأنسَّها وركبها‪ .‬وقد قال سعيد بن يحيى األموي في مغازيه َح َّدثَنا شيخ من قريش‪َ ،‬ح َّدثَنا‬
‫عبد الملك بن عبد العزيز‪ ،‬عن عبد هللا بن عمر أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪:‬‬
‫"اتّخذوا الخيل واعتقبوها فإنها ميراث أبيكم إسماعيل"‪.‬‬
‫وكانت هذه العراب وحوشا ً فدعا لها بدعوته التي كان أعطي فأجابته‪ .‬وإنه أول من‬
‫تكلم بالعربية الفصيحة البليغة‪ ،‬وكان قد تعلمها من العرب العاربة الذين نزلوا عندهم‬
‫بمكة من جرهم‪ ،‬والعماليق وأهل اليمن من األمم المتقدمين من العرب قبل الخليل‪.‬‬
‫قال األموي‪ :‬حدثني علي بن المغيرة‪َ ،‬ح َّدثَنا أبو عبيدة‪ ،‬مسمع ابن مالك عن ُم َح ْمد بن‬
‫علي بن الحسين‪ ،‬عن آبائه عن النبي صلى هللا عليه وسلم أنه قال‪" :‬أول من فتق لسانه‬
‫بالعربية البينة إسماعيل وهو ابن أربع عشرة سنة"‪ ،‬فقال له يونس‪ :‬صدقت يا أبا سيار‪،‬‬
‫هكذا أبو جرى حدثني‪.‬‬
‫وقد قدمنا أنه تزوج لما شبَّ امرأة من العماليق‪ ،‬وأن أباه أمره بفراقها ففارقها‪ .‬قال‬
‫األموي‪ :‬هي عمارة بنت سعد بن أسامة بن أكيل العماليق‪ .‬ثم نكح غيرها فأمره أن يستمر‬
‫بها فاستمر بها‪ ،‬وهي السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي وقيل هذه ثالثة فولدت له‬
‫اثني عشر ولدا ذكراً‪ .‬وقد س ّماهم ُم َح ْمد بن إسحاق رحمه هللا‪ ،‬وهم نابت‪ ،‬وقيذر وازبل‪،‬‬
‫وميشى‪ ،‬ومسمع‪ ،‬وماش‪ ،‬ودوصا‪ ،‬وآرر‪ ،‬ويطور‪ ،‬ونبش‪ ،‬وطيما‪ ،‬وقيذما‪ .‬وهكذا ذكرهم‬
‫أهل الكتاب في كتابهم‪ .‬وعندهم أنهم االثنا عشر عظيما ً المبشر بهم المتقدم ذكرهم‪.‬‬
‫وكذبوا في تأويلهم ذلك‪.‬‬
‫وكان إسماعيل عليه السالم رسوالً إلى أهل تلك الناحية‪ ،‬وما واالها من قبائل جرهم‬
‫والعماليق وأهل اليمن صلوات هللا وسالمه عليه‪ .‬ولما حضرته الوفاة أوصى إلى أخيه‬
‫إسحاق وزوج ابنته نسمة من ابن أخيه العيص بن إسحاق‪ ،‬فولدت له الروم‪ .‬ويقال لهم‬
‫بنو األصفر لصفر ٍة كانت في العيص‪ .‬وولدت له اليونان في أحد األقوال‪ .‬ومن ولد‬
‫العيص األشبان قيل منهما أيضا ً‪ .‬وتوقف ابن جرير رحمه هللا‪.‬‬
‫ودفن (نبي هللا) إسماعيل نبي هللا بالحجر مع أمه هاجر‪ ،‬وكان عمره يوم مات مائة‬
‫وسبعا ً وثالثين سنة‪ .‬وروى عن عمر بن عبد العزيز أنه قال‪ :‬شكى إسماعيل عليه السالم‬
‫إلى ربه عز وجل ح َّر مكة‪ ،‬فأوحى هللا إليه أنى سأفتح لك بابا ً إلى الجنَّة‪ ،‬إلى الموضع‬
‫الذي تدفن فيه يجري عليك روحها إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫وعربُ الحجاز كلهم ينتسبون إلى ولديه نابت وقيذار‪.‬‬
‫ذكر إسحاق بن إبراهيم الكريم بن الكريم عليهما الصالة والتسليم‬
‫قد قدمنا أنه ولد وألبيه مائة سنة‪ ،‬بعد أخيه إسماعيل بأربع عشر سنة‪ ،‬وكان عمر‬
‫أمه سارة حين بُ ّشرت به تسعين سنة‪.‬‬
‫ق‬ ‫ق نَبِيّا ً ِم ْن الصَّالِ ِح َ‬
‫ين‪َ ،‬وبَا َر ْكنَا َعلَ ْي ِه َو َعلَى إِ ْس َحا َ‬ ‫ْحا َ‬‫قال هللا تعالى‪َ { :‬وبَ َّشرْ نَاهُ بِإِس َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫َو ِم ْن ُذ ِّريَّتِ ِه َما ُمحْ ِس ٌن َوظَالِ ٌم لِنَ ْف ِس ِه ُمبِ ٌ‬
‫وقد ذكر هللا تعالى بالثناء عليه في غير ما آية من كتابه العزيز‪.‬‬
‫وقدمنا في حديث أبي هريرة عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم "أن الكريم بن‬
‫الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم"‪.‬‬
‫وذكر أهل الكتاب‪ :‬أن اسحاق لما تزوج رفقا بنت بتواييل في حياة أبيه كان عمره‬
‫أربعين سنة‪ ،‬وأنها كانت عاقراً فدعا هللا لها فحملت‪ d،‬فولدت غالمين توأمين أولهما اسمه‬
‫(عيصو) وهو الذي تسميه العرب العيص‪ ،‬وهو والد الروم‪ .‬والثاني خرج وهو آخذ بعقب‬
‫أخيه فسموه "يعقوب" وهو إسرائيل الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وكان إسحاق يحب عيصو أكثر من يعقوب‪ ،‬ألنه بكره‪ ،‬وكانت أمهما رفقا‬
‫تحبُّ يعقوب أكثر ألنه األصغر‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬فلما كبر إسحاق وضعف بصره اشتهى على ابنه العيص طعاماً‪ ،‬وأمره أن‬
‫يذهب فيصطاد له صيداً‪ ،‬ويطبخه له ليبارك عليه ويدعو له‪ ،‬وكان العيص صاحب صيد‬
‫فذهب يبتغي ذلك‪ ،‬فأمرت رفقا ابنها يعقوب أن يذبح َج ْديَي ِْن من خيار غنم ِه ويصنع منهما‬
‫طعاما ً كما اشتهاه أبوه‪ ،‬ويأتي إليه به قبل أخيه‪ ،‬ليدعو لهن فقامت فألبسته ثياب أخيه‪،‬‬
‫وجعلت على ذراعيه وعنقه من جلد الجديين‪ ،‬ألن العيص كان أشعر الجسد‪ ،‬ويعقوب‬
‫ليس كذلك‪ ،‬فلما جاء به وقربه إليه قال‪ :‬من أنت قال‪ :‬ولدك‪ ،‬فضمه إليه وجسَّه وجعل‬
‫يقول‪ :‬أما الصوت فصوت يعقوب‪ ،‬وأما الجُسُّ والثياب فالعيص‪ ،‬فلما أكل وفرغ دعا له‬
‫أن يكون أكبر إخوته قدراً‪ ،‬وكلمته عليهم وعلى الشعوب بعده‪ ،‬وأن يكثر رزقه وولده‪.‬‬
‫فلما خرج من عنده جاء أخوه العيص بما أمره به والده فقربه إليه‪ ،‬فقال له‪ :‬ما هذا يا‬
‫بني؟ قال‪ :‬هذا الطعام الذي اشتهيته‪ .‬فقال‪ :‬أما جئتني به قبل السّاعة وأكلت منه ودعوت‬
‫لك؟ فقال‪ :‬ال وهللا‪ .‬وعرف أن أخاه قد سبقه إلى ذلك‪ ،‬فوجد في نفسه عليه وجداً كثيراً‪.‬‬
‫وذكروا أنه تواعده بالقتل إذا مات أبوهما‪ ،‬وسأل أباه فدعا له بدعوة أخرى‪ ،‬وأن يجعل‬
‫لذريته غليظ األرض‪ ،‬وأن يكثر أرزاقهم وثمارهم‪.‬‬
‫فلما سمعت أمهما ما يتواعد به العيصُ أخاه يعقوب‪ ،‬أمرت ابنها يعقوب أن يذهب‬
‫إلى أخيها "البان" الذي بأرض حران‪ ،‬وأن يكون عنده إلى حين يسكن غضب أخيه‪ ،‬وأن‬
‫يتزوج من بناته‪ ،‬وقالت لزوجها إسحاق أن يأمره بذلك ويوصيه ويدعو له ففعل‪.‬‬
‫فخرج يعقوب عليه السالم من عندهم من آخر ذلك اليوم‪ ،‬فأدركه المساء في موضع‪،‬‬
‫فنام فيه‪ ،‬وأخذ حجراً فوضعه تحت رأسه ونام‪ ،‬فرأى في نومه ذلك معراجا ً منصوبا ً من‬
‫السماء إلى األرض وإذا المالئكة يصعدون فيه وينزلون‪ ،‬والرب تبارك وتعالى يخاطبه‪،‬‬
‫ويقول له‪ :‬إني سأبارك عليك‪ ،‬وأكثر ذريتك‪ ،‬وأجعل لك هذه األرض ولعقبك من بعدك‪.‬‬
‫ليبنين في هذا‬
‫َ‬ ‫فلما هبَّ من نومه فرح بما رأى‪ ،‬ونذر هلل لئن رجع إلى أهله سالما ً‬
‫الموضع معبداً هلل عز وجل‪ ،‬وأن جميع ما يرزقه من شيء يكون هلل عشره‪.‬‬
‫ثم عمد إلى ذلك الحجر فجعل عليه دهنا ً يتعرّفه به‪ ،‬وسمي ذلك الموضع (بيت إيل)‬
‫أي بيت هللا وهو موضع بيت المقدس اليوم الذي بناه يعقوب بعد ذلك كما سيأتي‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فما قدم يعقوب على خاله أرض حران إذا له ابنتان اسم الكبرى "ليا" واسم‬
‫الصغرى "راحيل" وكانت أحسنهما وأجملهما فطلب يعقوب الصغرى من خاله‪ ،‬فأجابه‬
‫إلى ذلك بشرط أن يرعى على غنمه سبع سنين‪ ،‬فلما مضت المدة على خاله "البان"‪،‬‬
‫وزف إليه ابنته الكبرى "ليا"‪ ،‬وكانت ضعيفة العينين‬ ‫ّ‬ ‫صنع طعاما ً وجمع الناس عليه‪،‬‬
‫قبيحة المنظر‪ .‬فلما أصبح يعقوب إذا هي "ليا"‪ ،‬فقال لخاله‪ :‬لم غدرت بي‪ ،‬وأنت إنما‬
‫خطبت إليك راحيل؟‪ .‬فقال‪ :‬إنه ليس من سنتنا أن نزوج الصغرى قبل الكبرى‪ ،‬فإن‬
‫أحببت أختها فاعمل سبع سنين أخرى‪ ،‬وأزوجكها‪.‬‬
‫فعمل سبع سنين وأدخلها عليه مع أختها وكان ذلك سائغا ً في ملّتهم‪ .‬ثم نسخ في‬
‫شريعة التوراة‪ .‬وهذا وحده دليل كاف على وقوع النسخ ألن فعل يعقوب عليه السالم دليل‬
‫على جواز هذا وإباحته ألنه معصوم‪ .‬ووهب "البان" لكل واحدة من ابنتيه جارية فوهب‬
‫لليا جارية اسمها "زلفى"‪ ،‬ووهب لراحيل جارية اسمها "بلهى"‪.‬‬
‫وجبر هللا تعالى ضعف "ليا" بأن وهب لها أوالداً‪ ،‬فكان أول من ولدت ليعقوب‬
‫روبيل‪ ،‬ثم شمعون‪ ،‬ثم الوي‪ ،‬ثم يهوذا‪ ،‬فغارت عند ذلك "راحيل"‪ ،‬وكانت ال تحبل‪،‬‬
‫فوهبت ليعقوب جاريتها "بلهى" فوطئها فحملت وولدت له غالما ً سمته "دان"‪ ،‬وحملت‬
‫وولدت غالما ً آخر سمته "نيفتالي" فعمدت عند ذلك "ليا" فوهبت جاريتها "زلفى" من‬
‫يعقوب عليه السالم فولدت له جاد وأشير‪ ،‬غالمين ذكرين‪ ،‬ثم حملت "ليا" أيضا ً فولدت‬
‫غالما ً خامسا ً منها‪ ،‬وسمته "ايساخر"‪ .‬ثم حملت وولدت غالما ً سادسا ً سمته "زابلون"‪،‬‬
‫ثم حملت وولدت بنتا سمتها "دينار"‪ ،‬فصار لها سبعة من يعقوب‪.‬‬
‫ثم دعت هللا تعالى "راحيل" وسألته أن يهب لها غالما ً من يعقوب فسمع هللا ندائها‬
‫وأجاب دعائها فحملت من نبي هللا يعقوب فولدت له غالما ً عظيما ً شريفا ً حسنا ً جميالً‬
‫سمته "يوسف"‪.‬‬
‫كل هذا وهم مقيمون بأرض حران وهو يرعى على خاله غنمه بعد دخوله على‬
‫البنتين ست سنين أخرى‪ ،‬فصار مدة مقامه عشرين سنة‪.‬‬
‫فطلب يعقوب من خاله البان أن يسرّحه ليمر إلى أهله‪ ،‬فقال له خاله‪ :‬إني قد بورك‬
‫لي بسببك‪ ،‬فسلني من مالي ما شئت؟ فقال‪ :‬تعطيني كل حمل يولد من غنمك هذه السنة‬
‫أبقع‪ ،‬وكل حمل ملمع ابيض بسواد‪ ،‬وكل أملح ببياض‪ ،‬وكل أجلح أبيض من المعز‪،‬‬
‫فقال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫فعمد بنوه فابرزوا من غنم أبيهم ما كان على هذه الصفات‪ d‬من التيوس لئال يولد شيء‬
‫من الحمالن على هذه الصفات وساروا بها مسيرة ثالثة أيام عن غنم أبيهم‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فعمد يعقوب عليه السالم إلى قضبان رطبة بيض من لوز ولب‪ ،‬فكان يقشرها‬
‫بلقاً‪ ،‬وينصبها في مساقي الغنم من المياه‪ ،‬لينظر الغنم إليها فتفزع وتتحرك أوالدها في‬
‫بطونها فتصير ألوان حمالنها كذلك‪.‬‬
‫وهذا يكون من باب خوارق العادات‪ d،‬وينتظم في سلك المعجزات‪.‬‬
‫فصار ليعقوب عليه السالم أغنام كثيرة ودواب وعبيد وتغير له وجه خاله وبنيه‬
‫وكأنهم انحصروا منه‪.‬‬
‫وأوحى هللا تعالى إلى يعقوب أن يرجع إلى بالد أبيه وقومه ووعده بأن يكون معه‪،‬‬
‫فعرض ذلك على أهله فأجابوه مبادرين إلى طاعته‪ ،‬فتحمل بأهله وماله‪ ،‬وسرقت راحيل‬
‫أصنام أبيها‪.‬‬
‫فلما جاوزوا وتحّيزوا عن بالدهم‪ ،‬لحقهم البان وقومه‪ ،‬فلما اجتمع البان بيعقوب‬
‫عاتبه في خروجه بغير علمه‪ ،‬وهالَّ اعلمه فيخرجهم في فرح ومزاهر وطبول‪ ،‬وحتى‬
‫يو ّدع بناته وأوالدهن‪ ،‬ولِ َم أخذوا أصنامه معهم؟‬
‫ولم يكن عند يعقوب علم من أصنامه‪ ،‬فأنكر أن يكون أخذوا له أصناماً‪ ،‬فدخل بيوت‬
‫بناته وإمائهن يفتش فلم يجد شيئاً‪ ،‬وكانت راحيل قد جعلتهن في بَرْ ذع ِة الجمل‪ ،‬وهي‬
‫تحتها‪ ،‬فلم تقم واعتذرت بأنها طامث‪ ،‬فلم يقدر عليهن‪.‬‬
‫فعند ذلك تواثقوا على رابية هناك يقال لها "جلعاد" على أنه ال يهين بناته‪ ،‬وال‬
‫يتزوج عليهن‪ ،‬وال يجاوز هذه الرابية إلى بالد اآلخر‪ ،‬ال البان وال يعقوب‪ ،‬وعمال‬
‫طعاما ً واكل القو ُم معهم‪ ،‬وتو ّدع كل منهما من اآلخر‪ ،‬وتفارقوا راجعين إلى بالدهم‪.‬‬
‫فلما اقترب يعقوب من أرض ساعير‪ ،‬تلقته المالئكة يبشرونه بالقدوم‪ ،‬وبعث يعقوب‬
‫البُ ُر َد إلى أخيه العيصو‪ ،‬يترفق له ويتواضع له‪ ،‬فرجعت البرد‪ ،‬وأخبرت يعقوب بأن‬
‫العيص قد ركب إليك في أربعمائة رجل‪.‬‬
‫فخشي يعقوب من ذلك ودعا هللا عز وجل‪ ،‬وصلى له وتضرع إليه وتمسكن لديه‪،‬‬
‫وناشده عهده ووعده الذي وعده به‪ ،‬وسأله أن يكف عنه شر أخيه العيص‪ ،‬وأع ّد ألخيه‬
‫هدية عظيمة هي‪ :‬مائتا شاة‪ ،‬وعشرون تيساً‪ ،‬ومائتا نعجة‪ ،‬وعشرون كبشاً‪ ،‬وثالثون‬
‫لقحة‪ ،‬وأربعون بقرة‪ ،‬وعشرة من الثيران‪ ،‬وعشرون أتاناً‪ ،‬وعشرة من الحمر‪ .‬وأمر‬
‫عبيده أن يسوقوا كالً من هذه األصناف وحده‪ ،‬وليكن بين كل قطيع وقطيع مسافة‪ ،‬فإذا‬
‫لقيهم العيص‪ ،‬فقال لألول‪ :‬لمن أنت؟ ولمن هذه معك؟ فليقل لعبدك يعقوب‪ ،‬أهداها لسيدي‬
‫العيص‪ ،‬وليقل الذي بعده كذلك‪ ،‬وكذلك الذي بعده وكذا الذي بعده‪ ،‬ويقول كل منهم‪ .‬وهو‬
‫جاء بعدنا‪.‬‬
‫وتأخر يعقوب بزوجتيه وأمتيه وبنيه األحد عشر بعد الكل بليلتين‪ ،‬وجعل يسير فيهما‬
‫ليالً‪ ،‬ويكمن نهاراً‪ .‬فلما كان وقت الفجر من الليلة الثانية تب ّدى له ملك من المالئكة في‬
‫صورة رجل‪ ،‬فظنه يعقوبُ رجالً من الناس‪ ،‬فأتاه يعقوب ليصارعه ويغالبه فظهر عليه‬
‫يعقوب فيما يرى‪ ،‬إال أن الملك أصاب ِورْ َكهُ فعرج يعقوب‪ ،‬فلما أضاء الفجر قال له‬
‫الملك‪ .‬ما اسمك؟ قال‪ :‬يعقوب‪ .‬قال‪ :‬ال ينبغي أن تدعى بعد اليوم إال إسرائيل‪ .‬فقال له‬
‫يعقوب‪ :‬ومن أنت؟ وما اسمك؟ فذهب عنه‪ .‬فعلم أنه ملك من المالئكة‪ ،‬وأصبح يعقوب‬
‫وهو يعرج من رجله‪ ،‬فلذلك ال يأكل بنوا إسرائيل ِعرْ ق النّ َساء!‬
‫ورفع يعقوب عينيه فإذا أخوه عيصو قد أقبل في أربعمائة راجل‪ ،‬فتقدم أمام أهله‪،‬‬
‫فلما رأى أخاه العيص سجد له سبع مرات‪ ،‬وكانت هذه تحيتهم في ذلك الزمان‪ ،‬وكان‬
‫مشروعا ً لهم‪ ،‬كما سجدت المالئكة آلدم تحية‪ ،‬وكما سجد أخوة يوسف وأبواه له كما‬
‫سيأتي‪.‬‬
‫فلما رآه العيص تقدم إليه واحتضنه وقبله وبكى‪ ،‬ورفع العيصُ عينيه ونظر إلى‬
‫النساء والصبيان‪ ،‬فقال‪ :‬من أين لك هؤالء؟ فقال هؤالء الذين وهب لعبدك‪ .‬فدنت األمتان‬
‫وبنوهما فسجدوا له‪ ،‬ودنت "ليا" وبنوها فسجدوا له‪ ،‬ودنت "راحيل" وابنها يوسف فخرّا‬
‫سجدا له‪ ،‬وعرض عليه أن يقبل هديته‪ ،‬وألح عليه‪ ،‬فقبلها‪.‬‬
‫ورجع العيص فتقدم أمامه‪ ،‬ولحقه يعقوب بأهله وما معه من األنعام والمواشي‬
‫والعبيد‪ ،‬قاصدين جبال "ساعير"‪.‬‬

‫فلما مر بساحور‪ ،‬ابتنى له بيتا ً ولدوا به ظالالً‪ ،‬ثم مر على أورشليم‪ ،‬قرية شخيم‪،‬‬
‫فنزل قبل القرية‪ ،‬واشترى مزرعة شخيم بن جمور‪ ،‬بمائة نعجة‪ ،‬فضرب هنالك‬
‫فسطاطه‪ ،‬وابتنى ثم مذبحاً‪ ،‬فسماه "إيل" إله إسرائيل وأمره هللا ببنائه ليستعلن له فيه‪،‬‬
‫وهو بيت المقدس اليوم‪ ،‬الذي جدده بعد ذلك سليمان بن داود عليهما السالم‪ ،‬وهو مكان‬
‫الصخرة التي علمها بوضع ال ُّدهن عليها قبل ذلك كما ذكرنا أوالً‪.‬‬
‫وذكر أهل الكتاب هنا قصة "دينا" بنت يعقوب بنت "ليا"‪ ،‬وما كان من أمرها مع‬
‫شخيم بن جمور‪ ،‬الذي قهرها على نفسها وأدخلها منزله‪ ،‬ثم خطبها من أبيها واخوتها‪،‬‬
‫فقال اخوتها‪ :‬إال أن تختتنوا كلكم‪ ،‬فنصاهركم وتصاهرونا‪ ،‬فإنا ال نصاهر قوما ً غلفا‪.‬‬
‫فأجابوهم إلى ذلك‪ ،‬واختتنوا كلهم‪ .‬فلما كان اليوم الثالث واشتد وجعهم من ألم الختان‪،‬‬
‫مال عليهم بنو يعقوب فقتلوهم عن آخرهم‪ ،‬وقتلوا شخيما ً وأباه جمور لقبيح ما صنعوا‬
‫إليهم‪ ،‬مضافا ً إلى كفرهم‪ ،‬وما كانوا يعبدونه من أصنامهم‪ ،‬فلهذا قتلهم بنو يعقوب وأخذوا‬
‫أموالهم غنيمة‪.‬‬
‫ثم حملت "راحيل" فولدت غالما ً هو "بنيامين" إالّ أنها جهدت في طلقها به جهداً‬
‫شديداً‪ ،‬وماتت عقيبه‪ ،‬فدفنها يعقوب في "أفراث"‪ ،‬وهي بيت لحم‪ ،‬وصنع يعقوب على‬
‫قبرها حجراً‪ d،‬وهي الحجارة‪ d‬المعروفة بقبر راحيل إلى اليوم‪ .‬وكان أوالد يعقوب الذكور‬
‫اثني عشر رجالً‪ ،‬فمن ليا‪ :‬روبيل‪ ،‬وشمعون‪ ،‬والوي‪ ،‬ويهوذا‪ ،‬وايساخر‪ ،‬وزابلون‪ ،‬و ِم ْن‬
‫راحيل ‪ :‬يوسف‪ ،‬وبنيامين‪ ،‬ومن أمة راحيل‪ :‬دان‪ ،‬ونفتالي‪ .‬ومن أمة ليا‪ :‬جاد‪ ،‬واشير‪،‬‬
‫عليهم السالم‪.‬‬

‫وجاء يعقوب إلى أبيه اسحاق فأقام عنده بقرية حبرون‪ ،‬التي في أرض كنعان‪ ،‬حيث‬
‫كان يسكن إبراهيم‪ ،‬ثم مرض إسحاق‪ ،‬ومات عن مائة وثمانين سنة ‪ ،‬ودفنه ابناه العيص‬
‫ويعقوب مع أبيه إبراهيم الخليل في المغارة التي اشتراها كما قدمنا‪.‬‬

‫ذكر ما وقع من األمور العجيبة في حياة إسرائيل فمن ذلك قصة يوسف بن راحيل‪.‬‬
‫وقد أنزل هللا عز وجل في شأنه وما كان من أمره سورة من القرآن العظيم‪ ،‬ليتدبر‬
‫ما فيها من الحكم والمواعظ واآلداب واألمر الحكيم‪ .‬أعوذ باهلل من ال ّشيْطان الرجيم‪:‬‬
‫نز ْلنَاهُ قُرْ آنا ً َع َربِيّا ً لَ َعلَّ ُك ْم‬
‫ين‪ ،‬إِنَّا أَ َ‬
‫ب ْال ُمبِ ِ‬ ‫ات ْال ِكتَا ِ‬
‫ك آيَ ُ‬ ‫{بسم هللا الرحمن الرحيم‪ ،‬الر تِ ْل َ‬
‫نت ِم ْن قَ ْبلِ ِه‬ ‫آن َوإِ ْن ُك َ‬ ‫ْك هَ َذا ْالقُرْ َ‬ ‫ص بِ َما أَ ْو َح ْينَا إِلَي َ‬
‫ص ِ‬ ‫ْك أَحْ َس َن ْالقَ َ‬ ‫ون‪ ،‬نَحْ ُن نَقُصُّ َعلَي َ‬ ‫تَ ْعقِلُ َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫لَ ِم ْن ْال َغافِلِ َ‬
‫قد تكلمنا على الحروف المقطعة في أول تفسير سورة البقرة فمن أراد تحقيقه‬
‫فلينظره ث َّم‪ .‬وتكلمنا على هذه السورة مستقصى في موضعها من التفسير‪ ،‬ونحن نذكر‬
‫ههنا نبذاً مما هناك على وجه اإليجاز والنجاز‪.‬‬
‫وجملة القول في هذا المقام أنه تعالى يمدح كتابه العظيم الذي أنزله على عبده‬
‫ورسوله الكريم‪ ،‬بلسان عربي فصيح بين واضح جلّى يفهمه كل عاقل ذكي زكى‪ ،‬فهو‬
‫أشرف كتاب نزل من السماء‪ ،‬أنزله أشرف المالئكة على أشرف الخلق‪ ،‬في أشرف‬
‫زمان ومكان‪ .‬بأفصح لغة وأظهر بيان‪.‬‬
‫فإن كان السياق في األخبار الماضية أو اآلتية‪ ،‬ذكر أحسنها وأبينها‪ ،‬وأظهر الحق‬
‫مما اختلف الناس فيه‪ ،‬ودمغ الباطل وزيفه ور ّده‪ .‬وإن كان األوامر والنواهي فأعدل‬
‫الشرائع وأوضح المناهج‪ ،‬وأبين حُكما وأعدل حكما‪.‬‬
‫ص ْدقا ً َو َع ْدال}‪.‬‬ ‫ت َكلِ َمةُ َرب َِّك ِ‬ ‫فهو كما قال تعالى‪َ { :‬وتَ َّم ْ‬
‫يعني صدقا ً في األخبار‪ ،‬وعدالً في األوامر والنواهي‪.‬‬
‫آن َوإِ ْن‬ ‫ك هَ َذا ْالقُرْ َ‬ ‫ص بِ َما أَ ْو َح ْينَا إِلَ ْي َ‬ ‫ص ِ‬ ‫ْك أَحْ َس َن ْالقَ َ‬ ‫ولهذا قال تعالى‪{ :‬نَحْ ُن نَقُصُّ َعلَي َ‬
‫ين} أي بالنسبة إلى ما أوحى إليك فيه‪.‬‬ ‫نت ِم ْن قَ ْبلِ ِه لَ ِم ْن ْال َغافِلِ َ‬‫ُك َ‬
‫ت تَ ْد ِري َما ْال ِكتَابُ َوال‬ ‫ْك رُوحا ً ِم ْن أَ ْم ِرنَا َما ُك ْن َ‬ ‫ك أَ ْو َح ْينَا إِلَي َ‬ ‫كما قال تعالى‪َ { :‬و َك َذلِ َ‬
‫ص َرا ٍط ُم ْستَقِ ٍيم‪،‬‬ ‫ك لَتَ ْه ِدي إِلَى ِ‬ ‫ان َولَ ِك ْن َج َع ْلنَاهُ نُوراً نَ ْه ِدي بِ ِه َم ْن نَ َشا ُء ِم ْن ِعبَا ِدنَا َوإِنَّ َ‬ ‫اإلي َم ُ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ض أَال إِلَى هَّللا ِ تَ ِ‬
‫صي ُر األ ُمو ُر}‪.‬‬ ‫ت َو َما فِي األَرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ص َرا ِط هَّللا ِ الَّ ِذي لَهُ َما فِي ال َّس َم َ‬ ‫ِ‬
‫اك ِم ْن لَ ُدنَّا ِذ ْكراً‪َ ،‬م ْن‬ ‫ق َوقَ ْد آتَ ْينَ َ‬ ‫ْك ِم ْن أَ ْنبَا ِء َما قَ ْد َسبَ َ‬‫ك نَقُصُّ َعلَي َ‬ ‫وقال تعالى‪َ { :‬ك َذلِ َ‬
‫ين فِي ِه َو َسا َء لَهُ ْم يَ ْو َم ْالقِيَا َم ِة ِح ْمال}‪.‬‬ ‫ض َع ْنهُ فَإِنَّهُ يَحْ ِم ُل يَ ْو َم ْالقِيَا َم ِة ِو ْزراً‪َ ،‬خالِ ِد َ‬ ‫أَ ْع َر َ‬
‫يعني من أعرض عن هذا القرآن واتبع غيره من الكتب‪ ،‬فإنه يناله هذا الوعيد‪ ،‬كما‬
‫قال في الحديث المروي في المسند والترمذي عن أمير المؤمنين على مرفوعا ً وموقوفا ً‪:‬‬
‫"من ابتغى الهدى في غيره أضله هللا"‪.‬‬

‫وقال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا سريج بن النعمان‪َ ،‬ح َّدثَنا هشام أنبأنا خالد عن ال َّشعبي‪ ،‬عن‬
‫جابر‪" :‬أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى هللا عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل‬
‫الكتاب فقرأه على النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪ :‬فغضب وقال‪ :‬أتتهوكون فيها يا ابن‬
‫الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ال تسألوهم عن شيء فيخبروكم‬
‫أن موسى كان حيا ً ما وسعه إال‬ ‫بحق فتكذبونه‪ ،‬أو بباطل فتصدقونه‪ ،‬والذي نفسي بيده لو َّ‬
‫أن يتبعني" إسناد صحيح‪.‬‬
‫ورواه أحمد من وجه آخر عن عمرو فيه‪ ،‬فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫"والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم"‪ ،‬إنكم حظي من‬
‫األمم وأنا حظكم من النبيين"‪.‬‬
‫وقد أوردت طرق هذا الحديث وألفاظه في أول سورة يوسف‪ .‬وفي بعضها أن رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم خطب الناس فقال في خطبته‪" :‬أيها الناس إني قد أوتيت جوامع‬
‫الكلم وخواتيمه واختصر لي اختصاراً‪ ،‬ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فال تتهوكوا‪ ،‬وال‬
‫يغرنكم المتهوكون" ثم أمر بتلك الصحيفة فمحيت حرفا ً حرفا ً‪.‬‬

‫ذكر ما وقع من األمور العجيبة في حياة إسرائيل فمن ذلك قصة يوسف بن راحيل‪.‬‬
‫س َو ْالقَ َم َر‬ ‫ْت أَ َح َد َع َش َر َك ْو َكبا ً َوال َّش ْم َ‬ ‫ت إِنِّي َرأَي ُ‬ ‫ُف ألَبِي ِه يَاأَبَ ِ‬ ‫ال يُوس ُ‬ ‫قال تعالى {إِ ْذ قَ َ‬
‫ك َكيْداً إِ َّن‬ ‫ك فَيَ ِكي ُدوا لَ َ‬‫اك َعلَى إِ ْخ َوتِ َ‬ ‫ي ال تَ ْقصُصْ ر ُْؤيَ َ‬ ‫ين‪ ،‬قَ َ‬
‫ال يَا بُنَ َّ‬ ‫َرأَ ْيتُهُ ْم لِي َس ِ‬
‫اج ِد َ‬
‫ث َويُتِ ُّم نِ ْع َمتَهُ‬ ‫ك ِم ْن تَأْ ِوي ِل األَ َحا ِدي ِ‬ ‫يك َرب َُّك َويُ َعلِّ ُم َ‬
‫ك يَجْ تَبِ َ‬ ‫ين‪َ ،‬و َك َذلِ َ‬ ‫ان َع ُد ٌّو ُمبِ ٌ‬ ‫ال ّشيْطان لِ ِ‬
‫إلن َس ِ‬
‫ق إِ َّن َرب ََّك َعلِي ٌم‬ ‫ْحا َ‬ ‫ك ِم ْن قَ ْب ُل إِ ْب َرا ِهي َم َوإِس َ‬ ‫وب َك َما أَتَ َّمهَا َعلَى أَبَ َو ْي َ‬ ‫ك َو َعلَى آ ِل يَ ْعقُ َ‬ ‫َعلَ ْي َ‬
‫َح ِكي ٌم}‪.‬‬
‫قد قدمنا أن يعقوب كان له من البنين اثنا عشر ولداً ذكراً وسميناهم‪ ،‬وإليهم تنسب‬
‫أسباط بني إسرائيل كلهم‪ ،‬وكان أشرفهم وأجلهم وأعظمهم يوسف عليه السالم‪.‬‬
‫وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه لم يكن فيهم نبي غيره‪ ،‬وباقي اخوته لم يَ ْو َح‬
‫إليهم‪.‬‬
‫وظاهر ما ذكر من فعالهم ومقالهم في هذه القصة يدل على هذا القول‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫نز َل إِلَى إِ ْب َرا ِهي َم‬
‫نز َل إِلَ ْينَا َو َما أ ِ‬‫ومن استدل على نبوتهم بقوله‪{ :‬قُولُوا آ َمنَّا بِاهَّلل ِ َو َما أ ِ‬
‫اط} وزعم أن هؤالء هم األسباط‪ ،‬فليس استدالله‬ ‫وب َواألَ ْسبَ ِ‬ ‫ق َويَ ْعقُ َ‬ ‫ْحا َ‬
‫يل َوإِس َ‬ ‫اع َ‬ ‫َوإِ ْس َم ِ‬
‫بقوى‪ ،‬ألن المراد باألسباط شعوب بني إسرائيل وما كان يوجد فيهم من األنبياء الذين‬
‫ينزل عليهم الوحي من السماء وهللا أعلم‪.‬‬
‫ومما يؤيد أن يوسف عليه السالم هو المختص من بين اخوته بالرسالة والنبوة ‪ -‬أنه‬
‫ما نص على واحد من اخوته سواه فدل على ما ذكرناه‪.‬‬
‫ويستأنس لهذا بما قال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا عبد الصمد‪َ ،‬ح َّدثَنا عبد الرحمن‪ ،‬عن عبد‬
‫هللا بن دينار‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن ابن عمر‪ ،‬أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬الكريم‬
‫ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم"‪.‬‬
‫ي‪ .‬فرواه عن عبد هللا بن محمد وعبدة عن عبد الصمد بن عبد‬ ‫انفرد به البُ َخار ّ‬
‫الوارث به وقد ذكرنا طرقه في قصة إبراهيم بما أغنى عن إعادته هنا‪ .‬وهلل الحمد والمنة‪.‬‬
‫قال المفسرون وغيرهم‪ :‬رأى يوسف عليه السالم وهو صغير قبل أن يحتلم‪ ،‬كأن‬
‫أحد عشر كوكباً‪ ،‬وهم إشارة إلى بقية إخوته‪ ،‬والشمس والقمر وهما عبارة عن أبويه‪ ،‬قد‬
‫سجدوا له فهاله ذلك‪.‬‬
‫فلما استيقظ قصها على أبيه‪ ،‬فعرف أبوه أنه سينال منزلة عالية ورفعة عظيمة في‬
‫الدنيا واآلخرة‪ ،‬بحيث يخضع له أبواه وأخوته فيها‪ .‬فأمره بكتمانها وأال يقصها على‬
‫أخوته؛ كي ال يحسدوه ويبغوا له الغوائل ويكيدوه بأنواع الحيل والمكر‪.‬‬
‫وهذا يدل على ما ذكرناه‪.‬‬
‫ولهذا جاء في بعض اآلثار‪" :‬استعينوا على قضاء حوائجكم بكتمانها فإن كل ذي‬
‫نعمة محسود"‪.‬‬
‫وعند أهل الكتاب أنه قصها على أبيه وأخوته معا ً‪ .‬وهو غلط منهم‪.‬‬
‫ك‬‫يك َرب َُّك} أي وكما أراك هذه الرؤية العظيمة‪ ،‬فإذا كتمتها {يَجْ تَبِي َ‬ ‫ك يَجْ تَبِ َ‬ ‫{ َو َك َذلِ َ‬
‫ث} أي يفهمك من‬ ‫ك ِم ْن تَأْ ِوي ِل األَ َحا ِدي ِ‬ ‫َرب َُّك} أي يخصك بأنواع اللطف والرحمة‪َ { ،‬ويُ َعلِّ ُم َ‬
‫معاني الكالم وتعبير المنام ما ال يفهمه غيرك‪.‬‬
‫وب} أي بسببك‪ ،‬ويحصل لهم‬ ‫آل يَ ْعقُ َ‬ ‫ْك} أي بالوحي إليك { َو َعلَى ِ‬ ‫{ َويُتِ ُّم نِ ْع َمتَهُ َعلَي َ‬
‫ق} أي ينعم عليك‬ ‫ْك ِم ْن قَ ْب ُل إِب َْرا ِهي َم َوإِ ْس َحا َ‬ ‫بك خير الدنيا واآلخرة‪َ { .‬ك َما أَتَ َّمهَا َعلَى أَبَ َوي َ‬
‫ويحسن إليك بالنبوة‪ ،‬كما أعطاها أباك يعقوب‪ ،‬وجدك اسحاق‪ ،‬ووالد جدك إبراهيم‬
‫ك َعلِي ٌم َح ِكي ٌم}كما قال تعالى‪{ :‬هَّللا ُ أَ ْعلَ ُم َحي ُ‬
‫ْث يَجْ َع ُل ِر َسالَتَهُ}‪.‬‬ ‫الخليل‪{ ،‬إِ َّن َربَّ َ‬
‫ولهذا قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لما سئل أي الناس أكرم؟ قال‪" :‬يوسف نبي‬
‫هللا ابن نبي هللا ابن نبي هللا ابن خليل هللا"‪.‬‬
‫وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما‪ ،‬وأبو يعلى والبزار في مسنديهما‪،‬‬
‫من حديث الحكم بن ظهير ‪ -‬وقد ضعفه األئمة ‪ -‬على ال ُّسدِّي عن عبد الرحمن بن سابط‪،‬‬
‫عن جابر قال‪ :‬أتى النبي صلى هللا عليه وسلم رجل من اليهود يقال له‪ :‬بستانة اليهودي‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له ما أسماءها؟ قال‪:‬‬
‫فسكت النبي صلى هللا عليه وسلم فلم يجبه بشيء‪ ،‬ونزل جبريل عليه السالم بأسمائها‪،‬‬
‫قال‪ :‬فبعث إليه رسول هللا فقال‪" :‬هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسماءها؟" قال‪ :‬نعم‪ .‬فقال‪:‬‬
‫هي جريان‪ ،‬والطارق‪ ،‬والذيال‪ ،‬وذو الكتفان‪ ،‬وقابس‪ ،‬ووثاب‪ ،‬وعمودان‪ ،‬والفيلق‪،‬‬
‫والمصبح‪ ،‬والضروح‪ ،‬وذو الفرع‪ .‬والضياء‪ d،‬والنور"‪.‬‬
‫فقال اليهودي‪ :‬أي وهللا إنها ألسماؤها‪ .‬وعند أبي يعلى فلما قصها على أبيه قال‪ :‬هذا‬
‫أمر مشتت يجمعه هللا والشمس أبوه والقمر أمه‪.‬‬

‫ُف َوأَ ُخوهُ أَ َحبُّ‬ ‫ين‪ ،‬إِ ْذ قَالُوا لَيُوس ُ‬ ‫ات لِلسَّائِلِ َ‬ ‫ُف َو ْ‬
‫اخ َوتِ ِه آيَ ٌ‬ ‫ان فِي يُوس َ‬ ‫قال تعالى {لَقَ ْد َك َ‬
‫اط َرحُوهُ أَرْ ضا ً يَ ْخ ُل‬ ‫ُف أَ ْو ْ‬‫ين‪ ،‬ا ْقتُلُوا يُوس َ‬ ‫الل ُمبِ ٍ‬ ‫ض ٍ‬ ‫إِلَى أَبِينَا ِمنَّا َونَحْ ُن عُصْ بَةٌ إِ َّن أَبَانَا لَفِي َ‬
‫ُف َوأَ ْلقُوهُ فِي‬ ‫ال قَائِ ٌل ِم ْنهُ ْم ال تَ ْقتُلُوا يُوس َ‬‫ين‪ d،‬قَ َ‬‫صالِ ِح َ‬ ‫لَ ُك ْم َوجْ هُ أَبِي ُك ْم َوتَ ُكونُوا ِم ْن بَ ْع ِد ِه قَ ْوما ً َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫َّار ِة إِ ْن ُكنتُ ْم فَ ِ‬
‫اعلِ َ‬ ‫طهُ بَعْضُ ال َّسي َ‬ ‫َغيَابَ ِة ْالجُبِّ يَ ْلتَقِ ْ‬
‫ينبه تعالى على ما في هذه القصة من اآليات والحكم‪ ،‬والدالالت والمواعظ والبينات‪.‬‬
‫ثم ذكر حسد إخوة يوسف له على محبة أبيه له وألخيه ‪ -‬يعنون شقيقه ألمه بنيامين ‪ -‬أكثر‬
‫منهم‪ ،‬وهم عصبة أي جماعة يقولون‪ :‬فكنا نحن أحق بالمحبة من هذين {إِ َّن أَبَانَا لَفِي‬
‫ين} أي بتقديمه حبهما علينا‪.‬‬ ‫الل ُمبِ ٍ‬
‫ض ٍ‬ ‫َ‬
‫ثم اشتوروا فيما بينهم في قتل يوسف أو إبعاده إلى أرض ال يرجع منها ليخلو لهم‬
‫وجه أبيهم أي لتتمحض محبته لهم وتتوفر عليهم‪ ،‬وأضمروا التوبة بعد ذلك‪.‬‬
‫ال قَائِ ٌل ِم ْنهُ ْم} قال مجاهد‪ :‬هو شمعون‪ ،‬وقال‬ ‫فلما تماألوا على ذلك وتوافقوا عليه {قَ َ‬
‫ال ُّسدِّي‪ :‬هو يهوذا‪ ،‬وقال قتادة و ُم َح ْمد بن إسحاق‪ :‬هو أكبرهم روبيل‪{ :‬ال تَ ْقتُلُوا يُوس َ‬
‫ُف‬
‫ين}‬ ‫َّار ِة} أي المارة من المسافرين {إِ ْن ُكنتُ ْم فَا ِعلِ َ‬ ‫طهُ بَعْضُ ال َّسي َ‬ ‫َوأَ ْلقُوهُ فِي َغيَابَ ِة ْالجُبِّ يَ ْلتَقِ ْ‬
‫ما تقولون ال محالة‪ ،‬فليكن هذا الذي أقول لكم‪ ،‬فهو أقرب حاالً من قتله أو نفيه وتغريبه‪.‬‬
‫ُف َوإِنَّا لَهُ‬‫ك ال تَأْ َمنَّا َعلَى يُوس َ‬ ‫فأجمعوا رأيهم على هذا‪ ،‬فعند ذلك {قَالُوا يَا أَبَانَا َما لَ َ‬
‫ال إِنِّي لَيَحْ ُزنُنِي أَ ْن تَ ْذهَبُوا بِ ِه‬ ‫ون‪ ،‬قَ َ‬ ‫ُون‪ ،‬أَرْ ِس ْلهُ َم َعنَا َغداً يَرْ تَ ْع َويَ ْل َعبْ َوإِنَّا لَهُ لَ َحافِظُ َ‬ ‫صح َ‬ ‫لَنَا ِ‬
‫ون‪ ،‬قَالُوا لَئِ ْن أَ َكلَهُ ال ِّذ ْئبُ َونَحْ ُن عُصْ بَةٌ إِنَّا إِذاً‬ ‫اف أَ ْن يَأْ ُكلَهُ ال ِّذ ْئبُ َوأَ ْنتُ ْم َع ْنهُ َغافِلُ َ‬‫َوأَ َخ ُ‬
‫ُون}‪ .‬طلبوا من أبيهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف‪ ،‬وأظهروا له أنهم يريدون أن‬ ‫لَ َخا ِسر َ‬
‫يرعى معهم وأن يلعب وينبسط‪ ،‬وقد أضمروا له ما هللا به عليم‪.‬‬
‫ي أن أفارقه‬
‫فأجابهم الشيخ‪ ،‬عليه من هللا أفضل الصالة والتسليم‪ :‬يا بني يشق عل َّ‬
‫ساعة من النهار‪ ،‬ومع هذا أخشى أن تشتغلوا في لعبكم وما أنتم فيه‪ ،‬فيأتي الذئب فيأكله‪،‬‬
‫وال يقدر على دفعه عنه لصغره وغفلتكم عنه‪.‬‬
‫ُون} أي لئن عدا عليه الذئب فأكله‬‫{قَالُوا لَئِ ْن أَ َكلَهُ ال ِّذ ْئبُ َونَحْ ُن عُصْ بَةٌ إِنَّا إِذاً لَ َخا ِسر َ‬
‫من بيننا‪ ،‬أو اشتغلنا عنه حتى وقع هذا ونحن جماعة‪ ،‬إنا إذن لخاسرون‪ ،‬أي عاجزون‬
‫هالكون‪.‬‬
‫وعند أهل الكتاب‪ :‬أنه أرسله وراءهم يتبعهم‪ ،‬فضل عن الطريق حتى أرشده رجل‬
‫إليهم‪ .‬وهذا أيضا ً من غلطهم وخطئهم في التعريب؛ فإن يعقوب عليه السالم كان أحرص‬
‫عليه من أن يبعثه معهم‪ ،‬فكيف يبعثه وحده‪.‬‬

‫{فَلَ َّما َذهَبُوا بِ ِه َوأَجْ َمعُوا أَ ْن يَجْ َعلُوهُ فِي َغيَابَ ِة ْالجُبِّ َوأَ ْو َح ْينَا إِلَ ْي ِه لَتُنَبِّئَنَّهُ ْم بِأ َ ْم ِر ِه ْم هَ َذا‬
‫ق َوتَ َر ْكنَا يُوس َ‬
‫ُف‬ ‫ون‪ ،‬قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا َذهَ ْبنَا نَ ْستَبِ ُ‬ ‫ُون‪َ ،‬و َجا ُءوا أَبَاهُ ْم ِع َشا ًء يَ ْب ُك َ‬ ‫َوهُ ْم ال يَ ْش ُعر َ‬
‫ين‪َ ،‬و َجا ُءوا َعلَى قَ ِمي ِ‬
‫ص ِه بِ َد ٍم‬ ‫ت بِ ُم ْؤ ِم ٍن لَنَا َولَ ْو ُكنَّا َ‬
‫صا ِدقِ َ‬ ‫اعنَا فَأ َ َكلَهُ ال ِّذ ْئبُ َو َما أَ ْن َ‬
‫ِع ْن َد َمتَ ِ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫صفُ َ‬ ‫ان َعلَى َما تَ ِ‬ ‫ص ْب ٌر َج ِمي ٌل َوهَّللا ُ ْال ُم ْستَ َع ُ‬
‫ت لَ ُك ْم أَنفُ ُس ُك ْم أَ ْمراً فَ َ‬
‫ال بَلْ َس َّولَ ْ‬ ‫ب قَ َ‬
‫َك ِذ ٍ‬

‫لم يزالوا بأبيهم حتى بعثه معهم‪ ،‬فما كان إال أن غابوا عن عينيه‪ ،‬فجعلوا يشتمونه‬
‫ويهينونه بالفعال والمقال‪ d،‬وأجمعوا على إلقائه في غيابت الجب‪ ،‬أي في قعره على‬
‫راعونته‪ ،‬وهي الصخرة التي تكون في وسطه يقف عليها المائح‪ ،‬وهو الذي ينزل ليملي‬
‫ال ّدالء‪ ،‬إذا ق َّل الماء‪ ،‬والذي يرفعها بالحبل يس ّمى الماتح‪.‬‬
‫فرج ومخرج من هذه الشدة التي أنت‬ ‫ٍ‬ ‫فل ّما ألقوه فيه أوحى هللا إليه‪ :‬أنه ال ب ّد لك من‬
‫حال أنت فيها عزيز‪ ،‬وهم محتاجون إليك‬ ‫فيها‪ ،‬ولتخبرن أخوتك بصنيعهم هذا‪ ،‬في ٍ‬
‫ُون}‪.‬‬‫خائفون منك { َوهُ ْم ال يَ ْش ُعر َ‬
‫قال مجاهد وقتادة‪ :‬وهم ال يشعرون بإيحاء هللا إليه ذلك‪ .‬وعن ابن عبَّاس { َوهُ ْم ال‬
‫ُون}‪ ،‬أي لتخبرنهم بأمرهم هذا في حال ال يعرفونك فيها‪ .‬رواه ابن جرير عنه‪.‬‬ ‫يَ ْش ُعر َ‬
‫دم ورجعوا إلى أبيهم‬ ‫فلما وضعوه فيه ورجعوا عنه أخذوا قميصه فلطّخوه بشي ْء من ٍ‬
‫عشاء وهم يبكون‪ ،‬أي على أخيهم‪ .‬ولهذا قال بعض السلف‪ :‬ال يغرّنك بكاء المتظلم فربَّ‬
‫ظالم وهو باك‪ ،‬وذكر بكاء إخوة يوسف‪ ،‬وقد جاءوا أباهم عشا ًء يبكون‪ ،‬أي في ظلمه‬
‫الليل ليكون أمشي لغدرهم ال لعذرهم‪.‬‬
‫اعنَا} أي ثيابنا {فَأ َ َكلَهُ ال ِّذ ْئبُ }‬ ‫ُف ِع ْن َد َمتَ ِ‬ ‫{قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا َذهَ ْبنَا نَ ْستَبِ ُ‬
‫ق َوتَ َر ْكنَا يُوس َ‬
‫ين} أي وما‬ ‫صا ِدقِ َ‬ ‫أي في غيبتنا عنه في استباقنا‪ ،‬وقولهم‪َ { :‬و َما أَ ْن َ‬
‫ت بِ ُم ْؤ ِم ٍن لَنَا َولَ ْو ُكنَّا َ‬
‫أنت بمصدق لنا في الذي أخبرناك من أكل الذئب له‪ ،‬ولو كنّا غير متهمين عندك‪ ،‬فكيف‬
‫وأنت تتهمنا في هذا؟ فإنك خشيت أن يأكله الذئب‪ ،‬وض ّمنا لك أن ال يأكله لكثرتنا حوله‪،‬‬
‫فصرنا غير مصدقين عندك فمعذور أنت في عدم تصديقك لنا والحالة هذه‪َ { .‬و َجا ُءوا‬
‫ب} أي مكذوب مفتعل‪ ،‬ألنهم عمدوا إلى سخلة ذبحوها فأخذوا من‬ ‫َعلَى قَ ِمي ِ‬
‫ص ِه بِ َد ٍم َك ِذ ٍ‬
‫دمها فوضعوه على قميصه ليوهموه أنه أكله الذئب‪ ،‬قالوا‪ :‬ونسوا أن يخرّقوه‪ ،‬وآفة الكذب‬
‫النسيان‪ .‬ولما ظهرت عليهم عالئم الريبة لم يَرُجْ صنيعهم على أبيهم‪ ،‬فإنه كان يفهم‬
‫عداوتهم له‪ ،‬وحسدهم إياه على محبته له من بينهم أكثر منهم‪ ،‬لما كان يتوسّم فيه من‬
‫الجاللة والمهابة التي كانت عليه في صغره لما يريد هللا أن يخصه به من نبوته‪ .‬ولما‬
‫راودوه عن أخذه‪ ،‬فبمجرد ما أخذوه أعدموه وغيبوه عن عينيه وجاؤوا وهم يتباكون‪،‬‬
‫ت لَ ُك ْم أَنفُ ُس ُك ْم أَ ْمراً فَ َ‬
‫ص ْب ٌر َج ِمي ٌل َوهَّللا ُ‬ ‫ال بَلْ َس َّولَ ْ‬
‫وعلى ما تمألوا يتواطؤن ولهذا {قَ َ‬
‫صفُ َ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫ان َعلَى َما تَ ِ‬ ‫ْال ُم ْستَ َع ُ‬
‫وعند أهل الكتاب‪ :‬أن روبيل أشار بوضعه في الجب ليأخذه من حيث ال يشعرون‪،‬‬
‫ويرده إلى أبيه‪ ،‬فغافلوه وباعوه لتلك القافلة‪ .‬فلما جاء روبيل آخر النهار ليخرج يوسف لم‬
‫ي فذبحوه ولطّخوا من دمه جبةَ يوسف‪ .‬فلّما‬ ‫يجده فصاح وشق ثيابه‪ .‬وعمد أولئك إلى َج ْد ٍ‬
‫ق ثيابه ولبس مئزراً أسود‪ ،‬وحزن على ابنه أياما ً كثيرة‪.‬‬ ‫علم يعقوب ش َ‬
‫وهذه الركاكة جاءت‪ d‬من خطئهم في التعبير والتصوير‪.‬‬

‫ضا َعةً‬ ‫ال يَا بُ ْش َرى هَ َذا ُغال ٌم َوأَ َسرُّ وهُ بِ َ‬ ‫ار َدهُ ْم فَأ َ ْدلَى َد ْل َوهُ قَ َ‬
‫َّارةٌ فَأَرْ َسلُوا َو ِ‬ ‫ت َسي َ‬ ‫{ َو َجا َء ْ‬
‫ين‪َ ،‬وقَ َ‬
‫ال‬ ‫س َد َرا ِه َم َم ْع ُدو َد ٍة َو َكانُوا فِي ِه ِم ْن ال َّزا ِه ِد َ‬ ‫ون‪َ ،‬و َش َر ْوهُ بِثَ َم ٍن بَ ْخ ٍ‬ ‫َوهَّللا ُ َعلِي ٌم بِ َما يَ ْع َملُ َ‬
‫ك َم َّكنَّا‬ ‫الَّ ِذي ا ْشتَ َراهُ ِم ْن ِمصْ َر ال ْم َرأَتِ ِه أَ ْك ِر ِمي َم ْث َواهُ َع َسى أَ ْن يَنفَ َعنَا أَ ْو نَتَّ ِخ َذهُ َولَداً َو َك َذلِ َ‬
‫ث َوهَّللا ُ َغالِبٌ َعلَى أَ ْم ِر ِه َولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر النَّ ِ‬
‫اس‬ ‫يل األَ َحا ِدي ِ‬ ‫ض َولِنُ َعلِّ َمهُ ِم ْن تَأْ ِو ِ‬ ‫ُف فِي األَرْ ِ‬ ‫لِيُوس َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ك نَجْ ِزي ْال ُمحْ ِسنِ َ‬ ‫ون‪َ ،‬ولَ َّما بَلَ َغ أَ ُش َّدهُ آتَ ْينَاهُ ُح ْكما ً َو ِع ْلما ً َو َك َذلِ َ‬‫ال يَ ْعلَ ُم َ‬
‫يخبر تعالى عن قصة يوسف حين وضع في الجب أنه جلس ينتظر فرج هللا ولطفه‬
‫به فجاءت‪ d‬سيّارة‪ ،‬أي مسافرون‪.‬قال أهل الكتاب كانت بضاعتهم من الفستق والصنوبر‬
‫والبطم‪ ،‬قاصدين ديار مصر‪ ،‬من الشام‪ ،‬فأرسلوا بعضهم ليستقوا من ذلك البئر‪ ،‬فلما أدلى‬
‫أح ُدهم دلوه‪ ،‬تعلَّق فيه يوسف‪.‬‬
‫ضا َعةً}‬ ‫ال يَا بُ ْش َرى} أي يا بشارتي {هَ َذا ُغال ٌم َوأَ َسرُّ وهُ بِ َ‬ ‫فلما رآه ذلك الرجل‪{ :‬قَ َ‬
‫ون} أي هو عالم بما‬ ‫أي اوهموا انه معهم غالم من جملة متجرهم‪َ { ،‬وهَّللا ُ َعلِي ٌم بِ َما يَ ْع َملُ َ‬
‫تماأل عليه اخوته وبما ي ُِسرُّ هُ واجدوه‪ ،‬من انه بضاعةٌ لهم‪ ،‬ومع هذا ال يغيّره تعالى‪ ،‬لماله‬
‫في ذلك من الحكمة العظيمة‪ ،‬والقَ َدر السابق‪ ،‬والرحمة بأهل مصر‪ ،‬بما يجري هللا على‬
‫األمور‪،‬‬
‫ِ‬ ‫يدي هذا الغالم الذي يدخلها في صورة أسير رقيق‪ ،‬ثم بعد هذا يملّ ُكه أزمة‬
‫وينفعهم هللا به في دنياهم وأخراهم بما ال ي َُح ّد وال يوصف‪.‬‬
‫ولما استشعر أخوة يوسف بأخذ السيارة له‪ ،‬لحقوهم وقالوا‪ :‬هذا غالمنا أبق منا‬
‫فاشتروه منهم بثمن بخس‪ ،‬أي قليل نزر‪ ،‬وقيل‪ :‬هو ال َّزيف { َد َرا ِه َم َم ْع ُدو َد ٍة َو َكانُوا فِي ِه ِم ْن‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ال َّزا ِه ِد َ‬
‫قال ابن مسعود وابن عبَّاس ونوف البكالي وال ُّسدِّي وقتادة وعطية العوفي‪ :‬باعوه‬
‫بعشرين درهما ً اقتسموها درهمين‪ .‬وقال مجاهد‪ :‬اثنان وعشرون درهما ً‪ .‬وقال عكرمة‬
‫و ُم َح ْمد بن إسحاق‪ :‬أربعون درهماً‪ ،‬فاهلل أعلم‪.‬‬
‫ال الَّ ِذي ا ْشتَ َراهُ ِم ْن ِمصْ َر ال ْم َرأَتِ ِه أَ ْك ِر ِمي َم ْث َواهُ} أي أحسني إليه { َع َسى أَ ْن‬ ‫{ َوقَ َ‬
‫يَنفَ َعنَا أَ ْو نَتَّ ِخ َذهُ َولَداً} وهذا من لطف هللا به ورحمته وإحسانه إليه بما يريد أن يؤهله له‪،‬‬
‫ويعطيه من خيري الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وكان الذي اشتراه من أهل مصر عزيزها‪ ،‬وهو الوزير بها الذي {تكون}‬
‫الخزائن مسلمة إليه‪ .‬قال ابن إسحاق‪ :‬واسمه أطفير بن روحيب‪ ،‬قال‪ :‬وكان ملك مصر‬
‫يومئذ الريان بن الوليد‪ ،‬رجل من العماليق‪ ،‬قال‪ :‬واسم امرأة العزيز راعيل بنت رعاييل‪.‬‬
‫وقال غيره‪ :‬كان اسمها زليخا‪ ،‬والظاهر أنه لقبها‪ .‬وقيل‪" :‬فكا" بنت ينوس‪ ،‬رواه الثعلبي‬
‫عن ابن هشام الرفاعي‪.‬‬
‫وقال ُم َح ْمد بن إسحاق‪ ،‬عن ُم َح ْمد بن السائب‪ ،‬عن أبي الصالح‪ ،‬عن ابن عبَّاس‪ :‬كان‬
‫اسم الذي باعه بمصر‪ ،‬يعني الذي جلبه إليها مالك بن ذعر بن نويب بن عفقا بن مديان‬
‫بن إبراهيم‪ ،‬فاهلل أعلم‪.‬‬
‫وقال ابن إسحاق عن أبي عبيدة عن ابن مسعود‪ ،‬قال‪ :‬أفرس الناس ثالثة‪ :‬عزيز‬
‫مصر حين قال المرأته اكرمي مثواه‪ ،‬والمرأة التي قالت ألبيها عن موسى {يَا أَبَ ِ‬
‫ت‬
‫ين} وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن‬ ‫ا ْستَأْ ِجرْ هُ إِ َّن َخي َْر َم ْن ا ْستَأْ َجرْ َ‬
‫ت ْالقَ ِويُّ األَ ِم ُ‬
‫الخطاب رضي هللا عنهما‪.‬‬

‫ثم قيل‪ :‬اشتراه العزيز بعشرين ديناراً‪ .‬وقيل‪ :‬بوزنه مسكاً‪ ،‬ووزنه حريراً‪ ،‬ووزنه‬
‫َو ِرقا ً‪ .‬فاهلل أعلم‪.‬‬
‫ض} أي وكما قيضنا هذا العزيز وامرأته‬ ‫ُف فِي األَرْ ِ‬ ‫ك َم َّكنَّا لِيُوس َ‬ ‫وقوله‪َ { :‬و َك َذلِ َ‬
‫ث} أي‬ ‫يحسنان إليه‪ ،‬ويعتنيان به مكنا له في أرض مصر { َولِنُ َعلِّ َمهُ ِم ْن تَأْ ِوي ِل األَ َحا ِدي ِ‬
‫فهمها‪ .‬وتعبير الرؤيا من ذلك { َوهَّللا ُ َغالِبٌ َعلَى أَ ْم ِر ِه}‪ ،‬أي إذا أراد شيئا ً فإنه يقيض له‬
‫أسبابا ً وأموراً ال يهتدي إليها العباد‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪َ { :‬ولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر النَّ ِ‬
‫اس ال يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ون}‪.‬‬
‫ين} فدل على أن هذا كله‬ ‫ك نَجْ ِزي ْال ُمحْ ِسنِ َ‬ ‫{ َولَ َّما بَلَ َغ أَ ُش َّدهُ آتَ ْينَاهُ ُح ْكما ً َو ِع ْلما ً َو َك َذلِ َ‬
‫كان وهو قبل بلوغ األشد‪ ،‬وهو حد األربعين الذي يوحي هللا فيه إلى عباده النبيين عليهم‬
‫الصالة والسالم من رب العالمين‪.‬‬
‫وقد اختلفوا في مدة العمر الذي هو بلوغ األشد‪ ،‬فقال مالك وربيعة وزيد بن أسلم‬
‫وال َّشعبي‪ :‬هو الحلم‪ d،‬وقال سعيد بن جبير‪ ،‬ثماني عشرة سنة‪ ،‬وقال الضحاك‪ :d‬عشرون‬
‫سنة‪ ،‬وقال عكرمة‪ :‬خمس وعشرون سنة‪ ،‬وقال ال ُّسدِّي‪ :‬ثالثون سنة‪ .‬وقال ابن عبَّاس‬
‫ومجاهد وقتادة‪ ،‬ثالث وثالثون سنة‪ ،‬وقال الحسن أربعون سنة‪ .‬ويشهد له قوله تعالى‪:‬‬
‫{ َحتَّى إِ َذا بَلَ َغ أَ ُش َّدهُ َوبَلَ َغ أَرْ بَ ِع َ‬
‫ين َسنَةً}‪.‬‬

‫ك قَا َل َم َعا َذ هَّللا ِ‬‫ْت لَ َ‬ ‫ت هَي َ‬ ‫اب َوقَالَ ْ‬ ‫ت األَب َْو َ‬ ‫او َد ْتهُ الَّتِي هُ َو فِي بَ ْيتِهَا َع ْن نَ ْف ِس ِه َو َغلَّقَ ْ‬ ‫{ َو َر َ‬
‫ت بِ ِه َوهَ َّم بِهَا لَ ْوال أَ ْن َرأَى بُرْ هَ َ‬
‫ان‬ ‫ون‪َ ،‬ولَقَ ْد هَ َّم ْ‬ ‫اي إِنَّهُ ال يُ ْفلِ ُح الظَّالِ ُم َ‬‫إِنَّهُ َربِّي أَحْ َس َن َم ْث َو َ‬
‫ت‬‫اب َوقَ َّد ْ‬ ‫ين‪َ ،‬وا ْستَبَقَا ْالبَ َ‬ ‫ص َ‬ ‫ف َع ْنهُ السُّو َء َو ْالفَحْ َشا َء إِنَّهُ ِم ْن ِعبَا ِدنَا ْال ُم ْخلَ ِ‬ ‫ك لِنَصْ ِر َ‬ ‫َربِّ ِه َك َذلِ َ‬
‫ك سُوءاً إِال أَ ْن يُ ْس َج َن‬ ‫ت َما َج َزا ُء َم ْن أَ َرا َد بِأ َ ْهلِ َ‬ ‫ب قَالَ ْ‬‫يصهُ ِم ْن ُدب ٍُر َوأَ ْلفَيَا َسيِّ َدهَا لَ َدى ْالبَا ِ‬ ‫قَ ِم َ‬
‫صهُ قُ َّد ِم ْن‬ ‫ان قَ ِمي ُ‬ ‫أَ ْو َع َذابٌ أَلِي ٌم‪ ،‬قَا َل ِه َي َرا َو َد ْتنِي َع ْن نَ ْف ِسي َو َش ِه َد َشا ِه ٌد ِم ْن أَ ْهلِهَا إِ ْن َك َ‬
‫ين‪،‬‬ ‫ت َوهُ َو ِم ْن الصَّا ِدقِ َ‬ ‫صهُ قُ َّد ِم ْن ُدب ٍُر فَ َك َذبَ ْ‬ ‫ان قَ ِمي ُ‬ ‫ين‪َ ،‬وإِ ْن َك َ‬ ‫ت َوهُ َو ِم ْن ْال َكا ِذبِ َ‬ ‫قُبُ ٍل فَ َ‬
‫ص َدقَ ْ‬
‫ُف أَ ْع ِرضْ َع ْن هَ َذا‬ ‫ال إِنَّهُ ِم ْن َك ْي ِد ُك َّن إِ َّن َك ْي َد ُك َّن َع ِظي ٌم‪ ،‬يُوس ُ‬ ‫صهُ قُ َّد ِم ْن ُدب ٍُر قَ َ‬ ‫فَلَ َّما َرأَى قَ ِمي َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ت ِم ْن ْال َخا ِطئِ َ‬ ‫ك ُكن ِ‬ ‫ك إِنَّ ِ‬‫َوا ْستَ ْغفِ ِري لِ َذ ْنبِ ِ‬
‫يذكر تعالى ما كان من مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السالم عن نفسه‪ ،‬وطلبها‬
‫منه ما ال يليق بحاله ومقامه‪ ،‬وهي في غاية الجمال‪ d‬والمال والمنصب والشباب‪ ،‬وكيف‬
‫غلقت األبواب عليها وعليه‪ ،‬وتهيأت له‪ ،‬وتصنعت ولبست أحسن ثيابها وأفخر لباسها‪،‬‬
‫وهي مع هذا كله امرأة الوزير‪ .‬قال ابن إسحاق‪ :‬وبنت أخت الملك الريان بن الوليد‬
‫صاحب مصر‪.‬‬
‫وهذا كله مع أن يوسف عليه السالم شابً بديع الجمال والبهاء‪ ،‬إال انه نبي من ساللة‬
‫األنبياء‪ ،‬فعصمه ربُّه عن الفحشاء‪ .‬وحماه عن مكر النساء‪ .‬فهو سيد السادة النجباء السبعة‬
‫األتقياء‪ .‬المذكورين في "الصحيحين" عن خاتم األنبياء‪ .‬في قوله عليه الصالة والسالم‬
‫من رب األرض والسماء‪" :‬سبعة يظلهم هللا في ظله يوم ال ظل إال ظله إمام عادل ورجل‬
‫ذكر هللا خاليا ً ففاضت‪ d‬عيناه ورجل معلق قلبه بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه‬
‫ورجالن تحابا في هللا اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى ال‬
‫تعلم شماله ما تنفق يمينه وشاب نشأ في عبادة هللا ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال‬
‫فقال إني أخاف هللا"‪.‬‬

‫والمقصود أنها دعته إليها وحرصت على ذلك أشد الحرص‪ ،‬فقال‪َ { :‬م َعا َذ هَّللا ِ إِنَّهُ‬
‫اي} أي احسن إلي واكرم مقامي‬ ‫َربِّي}‪ .‬يعني زوجها صاحب‪ d‬المنزل سيدي {أَحْ َس َن َم ْث َو َ‬
‫ت بِ ِه َوهَ َّم بِهَا لَ ْوال أَ ْن َرأَى‬
‫ون} وقد تكلمنا على قوله‪َ { :‬ولَقَ ْد هَ َّم ْ‬ ‫عنده {إِنَّهُ ال يُ ْفلِ ُح الظَّالِ ُم َ‬
‫ان َربِّ ِه} بما فيه كفاية ومقنع في التفسير‪.‬‬ ‫بُرْ هَ َ‬
‫وأكثر أقوال المفسرين ها هنا متلقى من كتب أهل الكتاب فاإلعراض عنه أولى بنا‪.‬‬
‫والذي يجب أن يعتقد أن هللا تعالى عصمه وبرّأه ون ّزهه عن الفاحشة وحماه عنها‬
‫ف َع ْنهُ السُّو َء َو ْالفَحْ َشا َء إِنَّهُ ِم ْن ِعبَا ِدنَا‬ ‫ك لِنَصْ ِر َ‬ ‫وصانه منها‪ .‬ولهذا قال تعالى‪َ { :‬ك َذلِ َ‬
‫ين}‪.‬‬‫ص َ‬ ‫ْال ُم ْخلَ ِ‬
‫اب} أي هرب منها طالبا ً الباب ليخرج منه فراراً منها فاتبعته في أثره‬ ‫{ َوا ْستَبَقَا ْالبَ َ‬
‫ب}‪ ،‬فبدرته بالكالم وحرّضته عليه‬ ‫{ َوأَ ْلفَيَا} أي وجدا { َسيِّ َدهَا} أي زوجها {لَ َدى ْالبَا ِ‬
‫ْج َن أَ ْو َع َذابٌ أَلِي ٌم}‪ .‬اتهمته وهي المتهمة‪،‬‬ ‫ك سُوءاً إِال أَ ْن يُس َ‬ ‫ت َما َج َزا ُء َم ْن أَ َرا َد بِأ َ ْهلِ َ‬ ‫{قَالَ ْ‬
‫او َد ْتنِي َع ْن‬ ‫وبرأت عرضها‪ ،‬ونزهت ساحتها‪ ،‬فلهذا قال يوسف عليه السالم‪ِ { :‬ه َي َر َ‬
‫نَ ْف ِسي} احتاج إلى أن يقول الحق عند الحاجة‪.‬‬
‫{ َو َش ِه َد َشا ِه ٌد ِم ْن أَ ْهلِهَا} قيل‪ :‬كان صغيراً في المهد قاله ابن عبَّاس‪ .‬وروي عن أبي‬
‫هريرة‪ ،‬وهالل بن يساف‪ ،‬والحسن البصري‪ ،‬وسعيد بن جبير‪ ،‬والضحاك‪ d‬واختاره ابن‬
‫جرير‪ .‬وروى فيه حديثا ً مرفوعا ً عن ابن عبَّاس ووقفه غيره عنه‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬كان رجالً قريبا ً إلى أطفير بعلها‪ .‬وقيل قريبا ً إليها‪ .‬وممن قال‪ :‬إنه كان رجالً‪:‬‬
‫ابن عبَّاس وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة وال ُّسدِّي و ُم َح ْمد بن إسحاق وزيد بن أسلم‪.‬‬
‫ين}‪ .‬أي ألنه يكون قد‬ ‫ت َوهُ َو ِم ْن ْال َكا ِذبِ َ‬ ‫ص َدقَ ْ‬ ‫صهُ قُ َّد ِم ْن قُب ٍُل فَ َ‬ ‫ان قَ ِمي ُ‬ ‫فقال‪{ :‬إِ ْن َك َ‬
‫ت َوهُ َو ِم ْن‬ ‫صهُ قُ َّد ِم ْن ُدب ٍُر فَ َك َذبَ ْ‬ ‫ان قَ ِمي ُ‬ ‫راودها فدافعته حتى ق َّدت مقدم قميصه { َوإِ ْن َك َ‬
‫ين} أي ألنه يكون قد هرب منها فاتّبعته وتعلّقت فيه فانشق قميصه لذلك‪ ،‬وكذلك‬ ‫الصَّا ِدقِ َ‬
‫كان‪ .‬ولهذا قال تعالى‪{ :‬فَلَ َّما َرأَى قَ ِم َ‬
‫يصهُ قُ َّد ِم ْن ُدب ٍُر قَ َ‬
‫ال إِنَّهُ ِم ْن َك ْي ِد ُك َّن إِ َّن َك ْي َد ُك َّن َع ِظي ٌم}‬
‫ت راودتيه عن نفسه‪ .‬ثم اتهمته بالباطل‪.‬‬ ‫أي هذا الذي جرى من مكركن‪ ،‬أن ِ‬
‫ُف أَ ْع ِرضْ َع ْن هَ َذا} أي ال تذكره‬ ‫ثم أضرب بعلها عن هذا صفحاً‪ ،‬فقال‪{ :‬يُوس ُ‬
‫ألن كتمان مثل هذه األمور هو األليق واألحسن‪ ،‬وأمرها باالستغفار لذنبها الذي‬ ‫ألحد‪َّ ،‬‬
‫فإن العبد إذا تاب إلى هللا تاب هللا عليه‪.‬‬ ‫صدر منها‪ ،‬والتوبة إلى ربِّها َّ‬
‫وأهل مصر وإن كانوا يعبدون األصنام إالّ انهم يعلمون أن الذي يغفر الذنوب‬
‫ويؤاخذ بها هو هللا وحده ال شريك له في ذلك‪ .‬ولهذا قال لها بعلها‪ ،‬وعذرها من بعض‬
‫الوجوه‪ ،‬ألنها رأت ما ال صبر لها على مثله‪ ،‬إال انه عفيف نزيه برئ العرض سليم‬
‫اطئِين}‪.‬‬ ‫ت ِم ْن ْال َخ ِ‬ ‫ك ُكن ِ‬ ‫ك إِنَّ ِ‬ ‫الناحية‪ ،‬فقال‪َ { :‬وا ْستَ ْغفِ ِري لِ َذ ْنبِ ِ‬

‫او ُد فَتَاهَا َع ْن نَ ْف ِس ِه قَ ْد َش َغفَهَا ُحبّا ً إِنَّا لَنَ َراهَا‬ ‫ال نِ ْس َوةٌ فِي ْال َم ِدينَ ِة ا ْم َرأَةُ ْال َع ِز ِ‬
‫يز تُ َر ِ‬ ‫{ َوقَ َ‬
‫ت ُك َّل َوا ِح َد ٍة‬ ‫ت لَه َُّن ُمتَّ َكأ ً َوآتَ ْ‬ ‫ت بِ َم ْك ِر ِه َّن أَرْ َسلَ ْ‬
‫ت إِلَ ْي ِه َّن َوا ْعتَ َد ْ‬ ‫ين‪ ،‬فَلَ َّما َس ِم َع ْ‬‫الل ُمبِ ٍ‬‫ض ٍ‬ ‫فِي َ‬
‫اش هَّلِل ِ َما هَ َذا‬‫اخرُجْ َعلَ ْي ِه َّن فَلَ َّما َرأَ ْينَهُ أَ ْكبَرْ نَهُ َوقَطَّع َْن أَ ْي ِديَه َُّن َوقُ ْل َن َح َ‬ ‫ت ْ‬ ‫ِم ْنه َُّن ِس ِّكينا ً َوقَالَ ْ‬
‫ص َم‬ ‫ت فَ َذلِ ُك َّن الَّ ِذي لُ ْمتُنَّنِي فِي ِه َولَقَ ْد َرا َودتُّهُ َع ْن نَ ْف ِس ِه فَا ْستَ ْع َ‬ ‫ك َك ِري ٌم‪ ،‬قَالَ ْ‬ ‫بَ َشراً إِ ْن هَ َذا إِال َملَ ٌ‬
‫ي ِم َّما‬ ‫ال َربِّ ال ِّسجْ ُن أَ َحبُّ إِلَ َّ‬ ‫ين‪ ،‬قَ َ‬ ‫َّاغ ِر َ‬‫ون ِم َن الص ِ‬ ‫ْجنَ َّن َولَيَ ُك َ‬‫َولَئِ ْن لَ ْم يَ ْف َعلْ َما آ ُم ُرهُ لَيُس َ‬
‫اب لَهُ َربُّهُ‬ ‫ين‪ ،‬فَا ْستَ َج َ‬ ‫ف َعنِّي َك ْي َدهُ َّن أَصْ بُ إِلَ ْي ِه َّن َوأَ ُك ْن ِم ْن ْال َجا ِهلِ َ‬ ‫يَ ْد ُعونَنِي إِلَ ْي ِه َوإِال تَصْ ِر ْ‬
‫ف َع ْنهُ َك ْي َدهُ َّن إِنَّهُ هُ َو ال َّس ِمي ُع ْال َعلِي ُم}‪.‬‬ ‫فَ َ‬
‫ص َر َ‬
‫يذكر تعالى ما كان من قبل نساء المدينة‪ ،‬من نساء األمراء‪ ،‬وبنات الكبراء في‬
‫الطعن على امرأة العزيز‪ ،‬وعيبها والتشنيع عليها‪ ،‬في مراودتها فتاها‪ ،‬وحبها الشديد له‪،‬‬
‫وهو ال يساوي هذا‪ ،‬ألنه مولى من الموالي‪ ،‬وليس مثله أهالً لهذا‪ ،‬ولهذا قلن‪{ :‬إِنَّا لَنَ َراهَا‬
‫ين} أي في وضعها الشيء في غير محله‪.‬‬ ‫الل ُمبِ ٍ‬ ‫ض ٍ‬ ‫فِي َ‬
‫ت بِ َم ْك ِر ِه ّن} أي بتشنيعهن عليها والتنقص لها واإلشارة إليها بالعيب‪،‬‬ ‫{فَلَ َّما َس ِم َع ْ‬
‫والمذمة بحب موالها‪ ،‬وعشق فتاها‪ ،‬فأظهرن ذماً‪ ،‬وهي معذورة في نفس األمر‪ ،‬فلهذا‬
‫أحبت أن تبسط عذرها عندهن‪ ،‬وتتبيّن أن هذا الفتى ليس كما حسبن‪ ،‬وال من قبيل ما‬
‫لديهن‪ .‬فأرسلت إليهن فجمعتهن في منزلها‪ ،‬واعتدت لهن ضيافة مثلهن‪ ،‬وأحضرت في‬
‫جملة ذلك شيئا ً مما يقطع بالسكاكين‪ ،‬كاألتر ّج ونحوه‪ ،‬وأتت كل واحدة منهن س ّكيناً‪،‬‬
‫وكانت قد هيّأت يوسف عليه السالم وألبسته أحسن الثياب‪ d،‬وهو في غاية طراوة الشباب‪،‬‬
‫وأمرته بالخروج عليهن بهذه الحالة‪ d،‬فخرج وهو أحسن من البدر ال محالة‪.‬‬
‫{فَلَ َّما َرأَ ْينَهُ أَ ْكبَرْ نَهُ} أي أعظمنه وأجللنه‪ ،‬و ِه ْبنَه‪ ،‬وما ظنن أن يكون مثل هذا في بني‬
‫آدم‪ ،‬وبهرهن حسنه‪ ،‬حتى اشتغلن عن أنفسهن وجعلن يحززن في أيديهن بتلك السكاكين‪،‬‬
‫ك َك ِري ٌم}‪.‬‬ ‫اش هَّلِل ِ َما هَ َذا بَ َشراً إِ ْن هَ َذا إِال َملَ ٌ‬ ‫وال يشعرن بالجراح‪َ { d‬وقُ ْل َن َح َ‬
‫وقد جاء في حديث اإلسراء "فمررت بيوسف وإذا هو قد أعطي شطر الحسن"‪.‬‬
‫قال السهيلي وغيره من األئمة‪ ،‬معناه أنه كان على النصف من حسن آدم عليه‬
‫السالم‪ .‬ألن هللا تعالى خلق آدم بيده‪ ،‬ونفخ فيه من روحه‪ ،‬فكان في غاية نهايات الحسن‬
‫البشري‪ ،‬ولهذا يدخل أهل الجنَّة الجنَّة على طول آدم وحسنه‪ ،‬ويوسف كان على النصف‬
‫من حسن آدم‪ ،‬ولم يكن بينهما احسن منهما‪ ،‬كما أنه لم تكن أنثى بعد َح َّواء أشبه بها من‬
‫سارة امرأة الخليل عليه السالم‪.‬‬
‫قال ابن مسعود‪ :‬وكان وجه يوسف مثل البرق‪ ،‬وكان إذا أتته امرأة لحاجة غطَّى‬
‫وجهه‪ .‬وقال غيره‪ :‬كان في الغالب‪ d‬مبرقعاً‪ ،‬لئال يراه الناس‪ .‬ولهذا لما قدم عذر امرأة‬
‫العزيز في محبتها لهذا المعنى المذكور‪ ،‬وجرى لهن وعليهن ما جرى‪ ،‬من تقطيع أيديهن‬
‫بجراح السكاكين‪ ،‬وما ركبهن من المهابة والدهش عند رؤيته ومعاينته‪.‬‬
‫ت فَ َذلِ ُك َّن الَّ ِذي لُ ْمتُنَّنِي فِي ِه} ثم مدحته بالعفة التامة فقالت‪َ { :‬ولَقَ ْد َرا َودتُّهُ َع ْن نَ ْف ِس ِه‬ ‫{قَالَ ْ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫َّاغ ِر َ‬
‫ون ِم َن الص ِ‬ ‫ْجنَ َّن َولَيَ ُك َ‬‫ْص َم} أي امتنع { َولَئِ ْن لَ ْم يَ ْف َعلْ َما آ ُم ُرهُ لَيُس َ‬ ‫فَا ْستَع َ‬
‫وكان بقية النساء حرّضنه على السمع والطاعة لسيدته فأبى أش ّد اآلباء‪ ،‬ونأى ألنه‬
‫ي ِم َّما‬ ‫من ساللة األنبياء‪ ،‬ودعا فقال‪ :‬في دعائه لرب العالمين‪َ { ،‬ربِّ ال ِّسجْ ُن أَ َحبُّ إِلَ َّ‬
‫ين}‪ .‬يعني إن‬ ‫ف َعنِّي َك ْي َدهُ َّن أَصْ بُ إِلَ ْي ِه َّن َوأَ ُك ْن ِم ْن ْال َجا ِهلِ َ‬ ‫يَ ْد ُعونَنِي إِلَ ْي ِه َوإِال تَصْ ِر ْ‬
‫وكلتني إلى نفسي فليس لي من نفسي إال العجز والضعف‪ ،‬وال أملك لنفسي نفعا ً وال‬
‫ضراً‪ ،‬إال ما شاء هللا‪ ،‬فأنا ضعيف‪ ،‬إالّ ما قويتني وعصمتني وحفظتني وأحطتني بحولك‬
‫وقوتك‪.‬‬
‫ف َع ْنهُ َك ْي َدهُ َّن إِنَّهُ هُ َو ال َّس ِمي ُع ْال َعلِي ُم‪ ،‬ثُ َّم بَ َدا‬ ‫ص َر َ‬ ‫اب لَهُ َربُّهُ فَ َ‬ ‫ولهذا قال تعالى‪{ :‬فَا ْستَ َج َ‬
‫ين‪َ ،‬و َد َخ َل َم َعهُ ال ِّسجْ َن فَتَيَا ِن قَا َل أَ َح ُدهُ َما إِنِّي‬ ‫ت لَيَ ْس ُجنُنَّهُ َحتَّى ِح ٍ‬ ‫لَهُ ْم ِم ْن بَ ْع ِد َما َرأَ ْوا اآليَا ِ‬
‫ق َر ْأ ِسي ُخبْزاً تَأْ ُك ُل الطَّ ْي ُر ِم ْنهُ نَبِّ ْئنَا‬ ‫ص ُر َخ ْمراً َوقَا َل اآل َخ ُر إِنِّي أَ َرانِي أَحْ ِم ُل فَ ْو َ‬ ‫أَ َرانِي أَ ْع ِ‬
‫ط َعا ٌم تُرْ َزقَانِ ِه إِال نَبَّأْتُ ُك َما بِتَأْ ِويلِ ِه قَ ْب َل أَ ْن‬‫ال ال يَأْتِي ُك َما َ‬ ‫ين‪ ،‬قَ َ‬ ‫اك ِم ْن ْال ُمحْ ِسنِ َ‬ ‫بِتَأْ ِويلِ ِه إِنَّا نَ َر َ‬
‫ون بِاهَّلل ِ َوهُ ْم بِاآل ِخ َر ِة هُ ْم‬ ‫ت ِملَّةَ قَ ْو ٍم ال ي ُْؤ ِمنُ َ‬ ‫يَأْتِيَ ُك َما َذلِ ُك َما ِم َّما َعلَّ َمنِي َربِّي إِنِّي تَ َر ْك ُ‬
‫ك بِاهَّلل ِ ِم ْن َش ْي ٍء‬ ‫ان لَنَا أَ ْن نُ ْش ِر َ‬ ‫وب َما َك َ‬ ‫ق َويَ ْعقُ َ‬ ‫ْت ِملَّةَ آبَائِي إِب َْرا ِهي َم َوإِس َ‬
‫ْحا َ‬ ‫ُون‪َ ،‬واتَّبَع ُ‬‫َكافِر َ‬
‫احبَ ِي ال ِّسجْ ِن‬ ‫ص ِ‬ ‫ُون‪ ،‬يَا َ‬ ‫اس ال يَ ْش ُكر َ‬ ‫اس َولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر النَّ ِ‬
‫ك ِم ْن فَضْ ِل هَّللا ِ َعلَ ْينَا َو َعلَى النَّ ِ‬ ‫َذلِ َ‬
‫ون ِم ْن ُدونِ ِه إِال أَ ْس َما ًء َس َّم ْيتُ ُموهَا أَ ْنتُ ْم‬ ‫ون َخ ْي ٌر أَ ْم هَّللا ُ ْال َوا ِح ُد ْالقَهَّارُ‪َ ،‬ما تَ ْعبُ ُد َ‬‫أَأَرْ بَابٌ ُمتَفَرِّ قُ َ‬
‫ِّين ْالقَيِّ ُم‬‫ك الد ُ‬ ‫ان إِ ْن ْال ُح ْك ُم إِال هَّلِل ِ أَ َم َر أَال تَ ْعبُ ُدوا إِال إِيَّاهُ َذلِ َ‬ ‫نز َل هَّللا ُ بِهَا ِم ْن س ُْلطَ ٍ‬‫َوآبَا ُؤ ُك ْم َما أَ َ‬
‫صا ِحبَ ِي ال ِّسجْ ِن أَ َّما أَ َح ُد ُك َما فَيَ ْسقِي َربَّهُ َخ ْمراً َوأَ َّما اآل َخ ُر‬ ‫ون‪ ،‬يَا َ‬ ‫اس ال يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫َولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر النَّ ِ‬
‫ض َي األَ ْم ُر الَّ ِذي فِي ِه تَ ْستَ ْفتِيَا ِن}‪.‬‬ ‫فَيُصْ لَبُ فَتَأْ ُك ُل الطَّ ْي ُر ِم ْن َر ْأ ِس ِه قُ ِ‬
‫يذكر تعالى عن العزيز وامرأته أنهم بدا لهم‪ ،‬أي ظهر لهم من الرأي‪ ،‬بعد ما علموا‬
‫براءة يوسف‪ ،‬أن يسجنوه إلى وقت‪ ،‬ليكون ذلك أقل لكالم الناس‪ ،‬في تلك القضية‪ ،‬وأخمد‬
‫ألمرها‪ ،‬وليظهروا أنه راودها عن نفسها‪ ،‬فسجن بسببها‪ ،‬فسجنوه ظلما ً وعدوانا ً‪.‬‬
‫وكان هذا مما قدر هللا له‪ .‬ومن جملة ما عصمه به فإنه أبعد له عن معاشرتهم‬
‫ومخالطتهم‪ .‬ومن ها هنا استنبط بعض الصوفية ما حكاه عنهم الشافعي‪ :‬أن من العصمة‬
‫أن ال تجد!‪.‬‬
‫ان} قيل كان أحدهما ساقي الملك‪ d،‬واسمه فيما قيل‪:‬‬ ‫قال هللا { َو َد َخ َل َم َعهُ ال ِّسجْ َن فَتَيَ ِ‬
‫"نبوا"‪ .‬واآلخر خبازه‪ ،‬يعني الذي يلي طعامه‪ ،‬وهو الذي يقول له الترك (الجاشنكير)‬
‫واسمه فيما قيل‪" :‬مجلث"‪ .‬كان الملك قد اتهمهما في بعض األمور فسجنهما‪ .‬فلما رأيا‬
‫يوسف في السجن أعجبهما سمته وهديه‪ ،‬ودلّه وطريقته‪ ،‬وقوله وفعله‪ ،‬وكثرة عبادته‬
‫ربه‪ ،‬وإحسانه إلى خلقه‪ ،‬فرأى ك ّل واحد منهما رؤيا تناسبه‪.‬‬
‫قال أهل التفسير‪ :‬رأيا في ليلة واحدة‪ ،‬أما الساقي فرأى كأن ثالث قضبان من حبلة‪،‬‬
‫وقد أورقت وأينعت عناقيد العنب فأخذها‪ ،‬فاعتصرها في كأس الملك وسقاه‪ .‬ورأى‬
‫الخباز على رأسه ثالث سالل من خبز‪ ،‬وضواري الطيور تأكل من ال ّس ِّل األعلى‪.‬‬
‫ين} فأخبرهما‬ ‫اك ِم ْن ْال ُمحْ ِسنِ َ‬ ‫فقصّاها عليه وطلبا منه أن يعبرها لهما‪ ،‬وقاال‪{ :‬إِنَّا نَ َر َ‬
‫ط َعا ٌم تُرْ َزقَانِ ِه إِال نَبَّأْتُ ُك َما بِتَأْ ِويلِ ِه قَ ْب َل أَ ْن‬ ‫ال ال يَأْتِي ُك َما َ‬ ‫أنه عليم بتعبيرها خبير بأمرها {قَ َ‬
‫يَأْتِيَ ُك َما}‪ .‬قيل‪ :‬معناه مهما رأيتما من حلم فإني أعبره لكم قبل وقوعه فيكون كما أقول‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬معناه إني أخبركما بما يأتيكما من الطعام‪ ،‬قبل مجيئه حلواً أو حامضاً‪ d،‬كما‬
‫ُون فِي بُيُوتِ ُك ْم}‪.‬‬ ‫ون َو َما تَ َّد ِخر َ‬ ‫قال عيسى‪َ { :‬وأُنَبِّئُ ُك ْم بِ َما تَأْ ُكلُ َ‬
‫وقال لهما إن هذا من تعليم هللا إياي ألني مؤمن به موحد له متبع ملة آبائي الكرام‬
‫ك ِم ْن فَضْ ِل هَّللا ِ‬ ‫ك بِاهَّلل ِ ِم ْن َش ْي ٍء َذلِ َ‬ ‫ان لَنَا أَ ْن نُ ْش ِر َ‬‫إبراهيم الخليل وإسحاق ويعقوب { َما َك َ‬
‫اس} أي بأن أمرنا ندعوهم إليه ونرشدهم وندلهم‬ ‫َعلَ ْينَا} أي بأن هدانا لهذا { َو َعلَى النَّ ِ‬
‫ُون}‪.‬‬ ‫اس ال يَ ْش ُكر َ‬ ‫عليه وهو في فطرهم مركوز‪ ،‬وفي جبلّتهم مغروز { َولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر النَّ ِ‬
‫ثم دعاهم إلى التوحيد‪ ،‬وذ ّم عباد ِة ما سوى هللاِ ع َّز وج ّل وص ّغر أمر األوثان‪،‬‬
‫ون َخ ْي ٌر أَ ْم هَّللا ُ ْال َوا ِح ُد‬‫صا ِحبَ ِي ال ِّسجْ ِن أَأَرْ بَابٌ ُمتَفَ ِّرقُ َ‬ ‫وحقّرها وضعّف أمرها‪ ،‬فقال‪{ :‬يَا َ‬
‫نز َل هَّللا ُ بِهَا ِم ْن س ُْلطَا ٍن‬ ‫ون ِم ْن ُدونِ ِه إِال أَ ْس َما ًء َس َّم ْيتُ ُموهَا أَ ْنتُ ْم َوآبَا ُؤ ُك ْم َما أَ َ‬ ‫ْالقَهَّارُ‪َ ،‬ما تَ ْعبُ ُد َ‬
‫إِ ْن ْال ُح ْك ُم إِال هَّلِل ِ} أي المتصرف في خلقه الفعال لما يريد الذي يهدي من يشاء ويضل من‬
‫ِّين ْالقَيِّ ُم}‪ ،‬أي المستقيم‬ ‫ك الد ُ‬ ‫يشاء {أَ َم َر أَال تَ ْعبُ ُدوا إِال إِيَّاهُ} أي وحده ال شريك له و { َذلِ َ‬
‫ون} أي فهم ال يهتدون إليه مع وضوحه‬ ‫اس ال يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫والصراط القويم { َولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر النَّ ِ‬
‫وظهوره‪.‬‬
‫وكانت دعوته لهما في هذه الحال في غاية الكمال‪ ،‬ألن نفوسهما معظمة له منبعثة‬
‫على تلقي ما يقول بالقبول‪ ،‬فناسب أن يدعوهما إلى ما هو األنفع لهما‪ ،‬مما سأال عنه‬
‫وطلبا منه‪.‬‬
‫احبَ ِي ال ِّسجْ ِن أَ َّما‬ ‫ص ِ‬‫ثم لما قام بما وجب عليه‪ ،‬وأرشد إلى ما أرشد إليه‪ ،‬قال {يَا َ‬
‫أَ َح ُد ُك َما فَيَ ْسقِي َربَّهُ َخ ْمراً} قالوا‪ :‬وهو الساقي‬

‫ض َي األَ ْم ُر الَّ ِذي‬ ‫اآلخ ُر فَيُصْ لَبُ فَتَأْ ُك ُل الطَّ ْي ُر ِم ْن َر ْأ ِس ِه} قالوا‪ :‬وهو الخباز {قُ ِ‬ ‫{ َوأَ َّما َ‬
‫ان}‪ .‬أي وقع هذا ال محالة‪ ،‬ووجب كونه على كل حالة‪ .‬ولهذا جاء في الحديث‬ ‫فِي ِه تَ ْستَ ْفتِيَ ِ‬
‫"الرؤيا على ِرجْ ِل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت"‪.‬‬
‫وقد روي عن ابن مسعود ومجاهد وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم "أنهما قاال لم نر‬
‫ض َي األَ ْم ُر الَّ ِذي فِي ِه تَ ْستَ ْفتِيَان}‪.‬‬ ‫شيئا ً" فقال لهما‪{ :‬قُ ِ‬
‫ث فِي‬ ‫اج ِم ْنهُ َما ْاذ ُكرْ نِي ِع ْن َد َرب َِّك فَأَن َساهُ ال ّشيْطان ِذ ْك َر َربِّ ِه فَلَبِ َ‬
‫ظ َّن أَنَّهُ نَ ٍ‬
‫ال لِلَّ ِذي َ‬
‫{ َوقَ َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ال ِّسجْ ِن بِضْ َع ِسنِ َ‬
‫يخبر تعالى أن يوسف عليه السالم قال للذي ظنه ناجيا ً منهما وهو الساقي‪ْ { :‬اذ ُكرْ نِي‬
‫ِع ْن َد َرب َِّك} يعني أذكر أمري وما أنا فيه من السّجن بغير جرم عند الملك‪ .‬وفي هذا دليل‬
‫على جواز السّعي في األسباب‪ .‬وال ينافي ذلك التوكل على ربِّ األرباب‪.‬‬
‫وقوله {فَأَن َساهُ ال ّشيْطان ِذ ْك َر َربِّ ِه}‪ ،‬أي فأنسي الناجي منهما ال ّشيْطان‪ ،‬أن يذكر ما‬
‫وصّاه به يوسف عليه السالم‪ .‬قاله مجاهد و ُم َح ْمد بن إسحاق وغير واحد وهو الصواب‪d،‬‬
‫وهو منصوص أهل الكتاب‪.‬‬
‫ين} والبضع ما بين الثالث إلى التسع‪ .‬وقيل‬ ‫ث} يوسف {فِي ال ِّسجْ ِن بِضْ َع ِسنِ َ‬ ‫{فَلَبِ َ‬
‫إلى السبع‪ .‬وقيل إلى الخمس‪ .‬وقيل ما دون العشرة‪ .‬حكاها الثعلبي‪ .‬ويقال بضع نسوة‪.‬‬
‫وبضعة رجال‪ .‬ومنع الفّراء استعمال البضع فيما دون العشر‪ ،‬قال‪ :‬وإنما يقال نيّف‪ .‬وقال‬
‫ين} وهذا رد لقوله‪.‬‬‫ين} وقال تعالى‪{ :‬فِي بِضْ ِع ِسنِ َ‬ ‫هللا تعالى‪{ :‬فَلَبِ َ‬
‫ث فِي ال ِّسجْ ِن بِضْ َع ِسنِ َ‬

‫قال الفراء‪ :d‬ويقال بضعة عشر‪ ،‬وبضعة وعشرون إلى التسعين‪ ،‬وال يقال‪ :‬بضع‬
‫ومائة‪ ،‬وبضع وألف‪ ،‬وخالف الجوهري فيما زاد على بضعة عشر‪ ،‬فمنع أن يقال‪ :‬بضعة‬
‫وعشرون إلى تسعين‪ .‬وفي الصحيح "اإليمان بضع وستون شعبة‪ ،‬وفي رواية‪ :‬وسبعون‬
‫شعبة‪ ،‬وأعالها‪ :‬قول ال إله إال هللا‪ ،‬وأدناها‪ :‬إماطة األذى عن الطريق"‪.‬‬
‫ومن قال‪ :‬إن الضمير في قوله {فَأَن َساهُ ال ّشيْطان ِذ ْك َر َربِّ ِه} عائد على يوسف فقد‬
‫ضعف ما قاله‪ ،‬وإن كان قد روي عن ابن عبَّاس وعكرمة‪.‬‬
‫والحديث الذي رواه ابن جرير في هذا الموضع ضعيف من كل وجه‪ ،‬تفرد بإسناده‬
‫إبراهيم بن يزيد الخوري المكي وهو متروك‪ ،‬ومرسل الحسن وقتادة ال يقبل‪ ،‬وال ها هنا‬
‫بطريق األولى واألحرى‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫ُ‬
‫يوسف في‬ ‫فأما قول ابن حبان في "صحيحه" عند ذكر السبب الذي من أجله لبث‬
‫السجن ما لبث‪ :‬أخبرنا الفضل بن الحباب الجحمي‪َ d،‬ح َّدثَنا مسدد بن مسرهد‪َ ،‬ح َّدثَنا خالد‬
‫بن عبد هللا‪َ ،‬ح َّدثَنا ُم َح ْمد بن عمرو‪ ،‬عن أبي سلمة‪ ،‬عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم "رحم هللا يوسف لوال الكلمة التي قالها "اذكرني عند ربك" ما لبث‬
‫في السجن ما لبث‪ ،‬ورحم هللا لوطاً‪ ،‬إن كان ليأوي إلى ركن شديد‪ ،‬إذ قال لقومه "لو أن‬
‫لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد" قال‪ :‬فما بعث هللا نبيا ً بعده إال في ثروة من قومه"‪.‬‬
‫فإنه حديث منكر من هذا الوجه‪ ،‬و ُم َح ْمد بن عمرو بن علقمة له أشياء ينفرد بها وفيها‬
‫نكارة‪ ،‬وهذه اللفظة من أنكرها وأشدِّها‪ .‬والذي في "الصحيحين" يشهد بغلطها‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫ت ُخضْ ٍر‬ ‫اف َو َس ْب َع ُس ْنبُاَل ٍ‬ ‫ت ِس َما ٍن يَأْ ُكلُه َُّن َس ْب ٌع ِع َج ٌ‬ ‫ك إِنِّي أَ َرى َس ْب َع بَقَ َرا ٍ‬ ‫ال ْال َملِ ُ‬‫{ َوقَ َ‬
‫اث أَحْ ٍ‬
‫الم‬ ‫ُون‪ ،‬قَالُوا أَضْ َغ ُ‪d‬‬ ‫ت يَا أَيُّهَا ْال َمألُ أَ ْفتُونِي فِي ر ُْؤيَاي إِ ْن ُكنتُ ْم لِلرُّ ْؤيَا تَ ْعبُر َ‬ ‫َوأُ َخ َر يَابِ َسا ٍ‬
‫ال الَّ ِذي نَ َجا ِم ْنهُ َما َواِ َّد َك َر بَ ْع َد أُ َّم ٍة أَنَا أُنَبِّئُ ُك ْم بِتَأْ ِويلِ ِه‬
‫ين‪َ ،‬وقَ َ‬ ‫يل األَحْ اَل ِم بِ َعالِ ِم َ‬ ‫َو َما نَحْ ُن بِتَأْ ِو ِ‬
‫اف يَأْ ُكلُه َُّن‬‫ت ِس َما ٍن يَأْ ُكلُه َُّن َس ْب ٌع ِع َج ٌ‬ ‫ق أَ ْفتِنَا فِي َسب ِْع بَقَ َرا ٍ‬ ‫ُف أَيُّهَا الصِّ دِّي ُ‬ ‫فَأَرْ ِسلُونِي‪ ،‬يُوس ُ‬
‫ون‪ ،‬قَا َل‬ ‫اس لَ َعلَّهُ ْم يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ت لَ َعلِّي أَرْ ِج ُع إِلَى النَّ ِ‬ ‫ت ُخضْ ٍر َوأُ َخ َر يَابِ َسا ٍ‬ ‫اف َو َسب ِْع ُس ْنبُال ٍ‬ ‫َس ْب ٌع ِع َج ٌ‬
‫ص ْدتُ ْم فَ َذرُوهُ فِي ُس ْنبُلِ ِه إِال قَلِيال ِم َّما تَأْ ُكلُون‪ ،‬ثُ َّم يَأْتِي ِم ْن‬ ‫ين َدأَبا ً فَ َما َح َ‬ ‫ون َس ْب َع ِسنِ َ‬ ‫تَ ْز َر ُع َ‬
‫ك َعا ٌم‬ ‫ون‪ ،‬ثُ َّم يَأْتِي ِم ْن بَ ْع ِد َذلِ َ‬ ‫صن ُ َ‬ ‫ك َس ْب ٌع ِش َدا ٌد يَأْ ُك ْل َن َما قَ َّد ْمتُ ْم لَه َُّن إِال قَلِيال ِم َّما تُحْ ِ‬ ‫بَ ْع ِد َذلِ َ‬
‫ُون}‪.‬‬ ‫ْصر َ‬ ‫اث النَّاسُ َوفِي ِه يَع ِ‬ ‫فِي ِه يُ َغ ُ‬
‫هذا كان من جملة أسباب خروج يوسف عليه السالم من السجن على وجه االحترام‬
‫واإلكرام‪ ،‬وذلك أن ملك مصر وهو الريان بن الوليد بن ثروان بن اراشه بن فاران بن‬
‫عمرو بن عمالق بن الوذ بن سام بن نوح رأى هذه الرؤيا‪.‬‬
‫قال أهل الكتاب‪ :‬رأى كأنه على حافة نهر‪ ،‬وكأنه قد خرج منه سبع بقرات سمان‪،‬‬
‫فجعلن يرتعن في روض ٍة هناك فخرجت سبع هزال ضعاف من ذلك النهر‪ ،‬فرتعن معهن‬
‫ثم ملن عليهن فأكلتهن فاستيقظ مذعوراً‪.‬‬
‫ثم نام فرأى سبع سنبالت خضر في قصبة واحدة‪ ،‬وإذا سبع أُخر دقاق يابسات‪d،‬‬
‫فأكلنهن فاستيقظ مذعوراً‪ .‬فلما قصها على مأله وقومه‪ ،‬لم يكن فيهم من يحسن تعبيرها‬
‫الم} أي أخالط أحالم من الليل‪ d،‬لعلّها ال تعبير لها‪ ،‬ومع هذا فال‬ ‫اث أَحْ ٍ‬‫بل {قَالُوا أَضْ َغ ُ‪d‬‬
‫ين} فعند ذلك تذكر الناجي‬ ‫خبرة لنا بذلك‪ ،‬ولهذا قالوا‪َ { :‬و َما نَحْ ُن بِتَأْ ِو ِ‬
‫يل األَحْ اَل ِم بِ َعالِ ِم َ‬
‫منهما الذي وصّاه يوسف بأن يذكره عند ربه فنسيه إلى حينه هذا‪ .‬وذلك عن تقدير هللا عز‬
‫وجل‪ ،‬وله الحكمة في ذلك‪ ،‬فلما سمع رؤيا الملك‪ d،‬ورأى عجز الناس عن تعبيرها‪ ،‬تذكر‬
‫أمر يوسف‪ ،‬وما كان أوصاه به من التذكار‪.‬‬
‫ال الَّ ِذي نَ َجا ِم ْنهُ َما} أي تذكر {بَ ْع َد أُ َّم ٍة} أي بعد مدة من‬ ‫ولهذا قال تعالى‪َ { :‬وقَ َ‬
‫الزمان‪ ،‬وهو بضع سنين‪ ،‬وقرأ بعضهم‪ ،‬كما حكي عن ابن عبَّاس وعكرمة والضحاك‪:d‬‬
‫{ َواِ َّد َك َر بَ ْع َد أُ َّم ٍة} أي بعد نسيان‪ ،‬وقرأها مجاهد {بَ ْع َد أُ َّم ٍة} بإسكان الميم‪ ،‬وهو النسيان‬
‫أيضاً‪ ،‬يقال أ ِمهَ الرجل يأ َمه أمها ً وأمها‪ ،‬إذا نسي‪ .‬قال الشاعر‪:‬‬
‫ك ال ّده ُر يزري بال ُعقُ ِ‬
‫ول‬ ‫وكنت ال أنسى حديثا ً *** كذا َ‬ ‫ُ‬ ‫أ ِمه ُ‬
‫ْت‬
‫فقال لقومه وللملك {أَنَا أُنَبِّئُ ُك ْم بِتَأْ ِويلِ ِه فَأَرْ ِسلُونِي}‪ ،‬أي فأرسلوني إلى يوسف‪ ،‬فجاءه‬
‫اف يَأْ ُكلُه َُّن َس ْب ٌع‬
‫ان يَأْ ُكلُه َُّن َس ْب ٌع ِع َج ٌ‬ ‫ت ِس َم ٍ‬ ‫ق أَ ْفتِنَا فِي َسب ِْع بَقَ َرا ٍ‬
‫صدِّي ُ‬‫ُف أَيُّهَا ال ِّ‬
‫فقال‪{ :‬يُوس ُ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫ت لَ َعلِّي أَرْ ِج ُع إِلَى النَّ ِ‬
‫اس لَ َعلَّهُ ْم يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ت ُخضْ ٍر َوأُ َخ َر يَابِ َسا ٍ‬ ‫اف َو َسب ِْع ُس ْنبُال ٍ‬‫ِع َج ٌ‬
‫وعند أهل الكتاب أن الملك لما ذكره له الساقي استدعاه إلى حضرته وقص عليه ما‬
‫رآه ففسره له‪ ،‬وهذا غلط‪ ،‬والصواب‪ :‬ما قصّه هللا في كتابه القرآن ال ما عرَّبه هؤال ِء‬
‫الجهلة الثيران‪ ،‬من فري وهذيان‪.‬‬
‫فبذل يوسف عليه السالم ما عنده من العلم بال تأخر وال شرط وال طلب الخروج‬
‫سريعاً‪ ،‬بل أجابهم إلى ما سألوا‪ ،‬وعبّر لهم ما كان من منام الملك ال ّدال على وقوع سبع‬
‫اث النَّاسُ } يعني‬ ‫ك َعا ٌم فِي ِه يُ َغ ُ‬ ‫سنين من الخصب‪ d‬ويعقبهما سبع جدب‪{ :‬ثُ َّم يَأْتِي ِم ْن بَ ْع ِد َذلِ َ‬
‫ُون} يعني ما كانوا يعصرونه من‬ ‫ْصر َ‬ ‫يأتيهم الغيث والخصب والرفاهية { َوفِي ِه يَع ِ‬
‫األقصاب واألعناب والزيتون والسمسم وغيرها‪.‬‬
‫فعبّر لهم‪ .‬وعلى الخير دلّهم وأرشدهم‪ ،‬إلى ما يعتمدونه في حالتي خصبهم و َج ْدبِهم‬
‫وما يفعلونه من ا ّدخار حبوب سنّى الخصب‪ d‬في السبع األول في سنبله‪ ،‬إالّ ما يرصد‬
‫بسبب األكل ومن تقليل البذر في سني الجدب في السبع الثانية‪ ،‬إذ الغالب‪ d‬على الظن أنه‬
‫ال يرد البذر من الحقل‪ .‬وهذا يدل على كمال العلم وكمال الرأي والفهم‪.‬‬
‫ال ارْ ِج ْع إِلَى َرب َِّك فَاسْأ َ ْلهُ َما بَا ُل النِّس َْو ِة‬ ‫ك ا ْئتُونِي بِ ِه فَلَ َّما َجا َءهُ ال َّرسُو ُل قَ َ‬ ‫ال ْال َملِ ُ‬ ‫{ َوقَ َ‬
‫ُف َع ْن نَ ْف ِس ِه‬ ‫طبُ ُك َّن إِ ْذ َرا َودتُّ َّن يُوس َ‬ ‫ال َما َخ ْ‬ ‫الالتِي قَطَّع َْن أَ ْي ِديَه َُّن إِ َّن َربِّي بِ َك ْي ِد ِه َّن َعلِي ٌم‪ ،‬قَ َ‬
‫اودتُّهُ‬ ‫ق أَنَا َر َ‬ ‫ص ْال َح ُّ‬‫اآلن َحصْ َح َ‬ ‫يز َ‬ ‫ت ا ْم َرأَةُ ْال َع ِز ِ‬ ‫اش هَّلِل ِ َما َعلِ ْمنَا َعلَ ْي ِه ِم ْن سُو ٍء قَالَ ْ‬ ‫قُ ْل َن َح َ‬
‫ب َوأَ َّن هَّللا َ ال يَ ْه ِدي َك ْي َد‬
‫ك لِيَ ْعلَ َم أَنِّي لَ ْم أَ ُخ ْنهُ بِ ْال َغ ْي ِ‬
‫ين‪َ ،‬ذلِ َ‬ ‫َع ْن نَ ْف ِس ِه َوإِنَّهُ لَ ِم ْن الصَّا ِدقِ َ‬
‫ارةٌ بِالسُّو ِء إِال َما َر ِح َم َربِّي إِ َّن َربِّي َغفُو ٌر‬ ‫س ألَ َّم َ‬ ‫ين‪َ ،‬و َما أُبَرِّ ُ‬
‫ئ نَ ْف ِسي إِ َّن النَّ ْف َ‬ ‫ْال َخائِنِ َ‬
‫َر ِحي ٌم}‪.‬‬
‫لما أحاط الملك علما ً بكمال علم يوسف عليه الصالة والسالم وتمام عقله ورأيه‬
‫ال ُّسدِّيد وفهمه‪ ،‬أمر بإحضاره إلى حضرته‪ ،‬ليكون من جملة خاصته‪ ،‬فلما جاءه الرَّسول‬
‫بذلك أحب أن ال يخرج حتى يتبين لكل أحد انه حبس ظلما ً وعدواناً‪ ،‬وأنه بريء السَّاحة‬
‫ال ارْ ِج ْع إِلَى َرب َِّك} يعني الملك {فَاسْأ َ ْلهُ َما بَا ُل النِّ ْس َو ِة الالتِي‬ ‫مما نسبوه إليه بهتانا ً {قَ َ‬
‫قَطَّع َْن أَ ْي ِديَه َُّن إِ َّن َربِّي بِ َك ْي ِد ِه َّن َعلِي ٌم} قيل‪ :‬معناه إن سيدي العزيز يعلم براءتي مما نسب‬
‫إل ّي‪ ،‬أي فمر الملك فليسألهن‪ :‬كيف كان امتناعي الشديد عند مراودتهن إياي؟ وحثهن لي‬
‫على األمر الذي ليس برشيد وال سديد؟‬

‫فلما سئلن عن ذلك اعترفن بما وقع من األمر‪ ،‬وما كان منه من األمر الحميد و{قُ ْل َن‬
‫اش هَّلِل ِ َما َعلِ ْمنَا َعلَ ْي ِه ِم ْن سُو ٍء}‪.‬‬ ‫َح َ‬
‫ق}‪ .‬أي‪ :‬ظهر‬ ‫ص ْال َح ُّ‬ ‫اآلن َحصْ َح َ‬ ‫يز} وهي زليخا‪َ { :‬‬ ‫ت ا ْم َرأَةُ ْال َع ِز ِ‬ ‫فعند ذلك {قَالَ ْ‬
‫ين} أي فيما‬ ‫اودتُّهُ َع ْن نَ ْف ِس ِه َوإِنَّهُ لَ ِم ْن الصَّا ِدقِ َ‬ ‫وتبيّن ووضح‪ ،‬والحق أحق أن يتبع {أَنَا َر َ‬
‫يقوله من أنه بريء وأنه لم يراودني وأنه حبس ظلما ً وعدوانا ً وزوراً وبهتانا ً‪.‬‬
‫ين} قيل إنه من‬ ‫ب َوأَ َّن هَّللا َ ال يَ ْه ِدي َك ْي َد ْال َخائِنِ َ‬ ‫ك لِيَ ْعلَ َم أَنِّي لَ ْم أَ ُخ ْنهُ بِ ْال َغ ْي ِ‬‫وقوله { َذلِ َ‬
‫كالم يوسف أي إنما طلبت تحقيق هذا ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب‪ .‬وقيل إنه من‬
‫تمام كالم زليخا‪ ،‬أي‪ :‬إنما اعترفت بهذا ليعلم زوجي أني لم أخنه في نفس األمر‪ ،‬وإنما‬
‫كان مراودة لم يقع معها فعل فاحشة‪.‬‬
‫وهذا القول هو الذي نصره طائفة كثيرة من أئمة المتأخرين وغيرهم‪ ،‬ولم يحك ابن‬
‫جرير وابن أبي حاتم سوى األول‪.‬‬
‫س ألَ َّما َرةٌ بِالسُّو ِء إِال َما َر ِح َم َربِّي إِ َّن َربِّي َغفُو ٌر َر ِحي ٌم}‬ ‫ئ نَ ْف ِسي إِ َّن النَّ ْف َ‬ ‫{ َو َما أُبَرِّ ُ‬
‫قيل‪ :‬إنه من كالم يوسف‪ ،‬وقيل‪ :‬من كالم زليخا‪ d،‬وهو مفرع على القولين األولين‪ .‬وكونه‬
‫من تمام كالم زليخا أظهر وأنسب وأقوى‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫ين‪،‬‬‫ين أَ ِم ٌ‬
‫ك ْاليَ ْو َم لَ َد ْينَا َم ِك ٌ‬
‫ك ا ْئتُونِي بِ ِه أَ ْستَ ْخلِصْ هُ لِنَ ْف ِسي فَلَ َّما َكلَّ َمهُ قَا َل إِنَّ َ‬ ‫ال ْال َملِ ُ‬
‫{ َوقَ َ‬
‫ُف فِي اأْل َرْ ض يَتَبَ َّوأُ‬
‫ِ‬ ‫ك َم َّكنَّا لِيُوس َ‬ ‫ض إِنِّي َحفِيظٌ َعلِي ٌم‪َ ،‬و َك َذلِ َ‬ ‫ال اجْ َع ْلنِي َعلَى َخ َزائِ ِن األَرْ ِ‬ ‫قَ َ‬
‫ين‪َ ،‬وألَجْ ُر ِ‬
‫اآلخ َر ِة َخ ْي ٌر‬ ‫ضي ُع أَجْ َر ْال ُمحْ ِسنِ َ‬
‫صيبُ بِ َرحْ َمتِنَا َم ْن نَ َشا ُء َوال نُ ِ‬ ‫ِم ْنهَا َحي ُ‬
‫ْث يَ َشا ُء نُ ِ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫لِلَّ ِذ َ‬
‫ين آ َمنُوا َو َكانُوا يَتَّقُ َ‬

‫لما ظهر للملك براءة عرضه‪ ،‬ونزاهة ساحته عما كانوا أظهروا عنه مما نسبوه إليه‬
‫ك ا ْئتُونِي بِ ِه أَ ْستَ ْخلِصْ هُ لِنَ ْف ِسي} أي اجعله من خاصّتي ومن أكابر دولتي‪،‬‬ ‫ال ْال َملِ ُ‬
‫قال { َوقَ َ‬
‫ين}‬‫ين أَ ِم ٌ‬
‫ك ْاليَ ْو َم لَ َد ْينَا َم ِك ٌ‬
‫ومن أعيان حاشيتي‪ ،‬فل ّما كل ّمه وسمع مقاله وتبين حاله {قَا َل إِنَّ َ‬
‫ض إِنِّي َحفِيظٌ َعلِي ٌم} طلب أن يوليه‬ ‫ال اجْ َع ْلنِي َعلَى َخ َزائِ ِن األَرْ ِ‬
‫أي ذو مكانة وأمانة‪{ .‬قَ َ‬
‫النظر فيما يتعلق باألهراء لما يتوقع من حصول الخلل فيما بعد مضي سبع سنّى‬
‫الخصب‪ d،‬لينظر فيها بما يرضي هللا في خلقه من االحتياط لهم والرفق بهم‪ ،‬وأخبر الملك‬
‫إنه حفيظ‪ ،‬أي قوي على حفظ ما لديه أمين عليه‪ ،‬عليم بضبط األشياء ومصالح األهراء‪.‬‬
‫وفي هذا دليل على جواز طلب الوالية لمن علم من نفسه األمانة والكفاءة‪.‬‬
‫وعند أهل الكتاب أن فرعون عظّم يوسف عليه السالم ج ّداً‪ ،‬وسلطه على جميع‬
‫أرض مصر وألبسه خاتمه‪ ،‬وألبسه الحرير وط ّوقه الذهب وحمله على مركبه الثاني‪،‬‬
‫ونودي بين يديه‪ ،‬أنت ربُّ ومسلط‪ ،‬وقال له‪ :‬لست أعظم منك إال بالكرسي‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وكان يوسف إذ ذاك ابن ثالثين سنة‪ ،‬وزوجه امرأة عظيمة الشأن‪.‬‬
‫وحكى الثعلبي أنه عزل قطفير عن وظيفته‪ ،‬ووالها يوسف‪.‬‬
‫فوجدها عذراء ألن زوجها كان ال يأتي‬ ‫وقيل‪ :‬إنه مات‪ ،‬ز َّو َجهُ امرأتَهُ زليخا‪َ ،‬‬
‫النساء‪ ،‬فولدت ليوسف عليه السالم رجلين‪ ،‬وهما‪:‬‬

‫أفرايم‪ ،‬ومنسا‪ .‬قال‪ :‬واستوثق ليوسف ملك مصر‪ ،‬وعمل فيهم بالعدل فأحبَّه الرجال‬
‫والنساء‪.‬‬
‫أن يوسف كان يوم دخل على الملك عمره ثالثين سنة‪ ،‬وأن الملك خاطبه‬ ‫وحكي َّ‬
‫بسبعين لغة‪ ،‬وفي كل ذلك يجاوبه بكل لغة منها‪ ،‬فأعجبه ذلك مع حداثة سنّ ِه فاهلل أعلم‪.‬‬
‫ْث يَ َشا ُء} أي بعد‬ ‫ض يَتَبَ َّوأُ ِم ْنهَا َحي ُ‬‫ُف فِي األَرْ ِ‬ ‫ك َم َّكنَّا لِيُوس َ‬‫قال هللا تعالى‪َ { :‬و َك َذلِ َ‬
‫السجن والضيق والحصر صار مطلق الركاب بديار مصر‪{ ،‬يَتَبَ َّوأُ ِم ْنهَا َحي ُ‬
‫ْث يَ َشا ُء} أي‬
‫أين شاء حل منها مكرما ً محسوداً معظما ً‪.‬‬
‫ين} من أي هذا كله من جزاء هللا‬ ‫ضي ُع أَجْ َر ْال ُمحْ ِسنِ َ‬ ‫صيبُ بِ َرحْ َمتِنَا َم ْن نَ َشا ُء َوال نُ ِ‬
‫{ن ُ ِ‬
‫وثوابه للمؤمن‪ ،‬مع ما ي ّدخر له في آخرته من الخير الجزيل والثواب الجميل‪.‬‬
‫ون}‪.‬‬ ‫ين آ َمنُوا َو َكانُوا يَتَّقُ َ‬ ‫ولهذا قال‪َ { :‬وألَجْ ُر ِ‬
‫اآلخ َر ِة َخ ْي ٌر لِلَّ ِذ َ‬
‫ويقال‪ :‬إن قطفير زوج زليخا كان قد مات فواله الملك مكانه وزوجه امراته زليخا‬
‫فكان وزير صدق‪.‬‬
‫وذكر ُم َح ْمد بن إسحاق أن صاحب مصر ‪ -‬الوليد بن الريان ‪ -‬أسلم على يدي يوسف‬
‫عليه السالم وهللا أعلم‪ .‬وقد قال بعضهم‪:‬‬
‫ْ‬
‫الحزن‬ ‫مفروح به غايةُ‬
‫ٍ‬ ‫الخوف متّسع األَمن ** وأو ُل‬
‫ِ‬ ‫مضيق‬
‫ِ‬ ‫ورا َء‬
‫الخالص من السِّجن‬
‫ِ‬ ‫فال تيأ َس ْن فاهلل ملّك يوسُفا ً ** خزائنَه بع َد‬

‫از ِه ْم‬‫ُف فَ َد َخلُوا َعلَ ْي ِه فَ َع َرفَهُ ْم َوهُ ْم لَهُ ُمن ِكرُون‪ ،‬ولَ َّما َجهَّ َزهُ ْم بِ َجهَ ِ‬ ‫{ َو َجا َء إِ ْخ َوةُ يُوس َ‬
‫ين‪ ،‬فَإِ ْن لَ ْم تَأْتُونِي‬ ‫نزلِ َ‬ ‫ُ‬
‫خ لَ ُك ْم ِم ْن أَبِي ُك ْم أَال تَ َر ْو َن أَنِّي أوفِي ْال َكي َْل َوأَنَا َخ ْي ُر ْال ُم ِ‬ ‫ال ا ْئتُونِي بِأ َ ٍ‬
‫قَ َ‬
‫ال لِفِ ْتيَانِ ِه‬
‫ون‪َ ،‬وقَ َ‬‫اعلُ َ‬ ‫او ُد َع ْنهُ أَبَاهُ َوإِنَّا لَفَ ِ‬
‫بِ ِه فَال َكي َْل لَ ُك ْم ِعن ِدي َوال تَ ْق َربُونِي‪ ،‬قَالُوا َسنُ َر ِ‬
‫ُون}‪.‬‬ ‫ْرفُونَهَا إِ َذا انقَلَبُوا إِلَى أَ ْهلِ ِه ْم لَ َعلَّهُ ْم يَرْ ِجع َ‬‫ضا َعتَهُ ْم فِي ِر َحالِ ِه ْم لَ َعلَّهُ ْم يَع ِ‬ ‫اجْ َعلُوا بِ َ‬
‫يخبر تعالى عن قدوم أخوة يوسف عليه السالم إلى الديار المصرية يمتارون طعاماً‪،‬‬
‫وذلك بعد إتيان سنّى الجدب وعمومها على سائر العباد والبالد‪.‬‬
‫وكان يوسف عليه السالم إذ ذاك الحاكم في أمور الديار المصرية دينا ً ودنيا‪ .‬فلما‬
‫دخلوا عليه عرفهم ولم يعرفوه ألنهم لم يخطر ببالهم ما صار إليه يوسف عليه السالم من‬
‫المكانة والعظمة فلهذا عرفهم وهم له منكرون‪.‬‬
‫وعند أهل الكتاب‪ :‬أنهم لما قدموا عليه سجدوا له‪ ،‬فعرفهم وأراد أن ال يعرفوه‪،‬‬
‫فأغلظ لهم في القول‪ ،‬وقال‪ :‬أنتم جواسيس‪ ،‬جئتم لتأخذوا خير بالدي‪ .‬فقالوا‪ :‬معاذ هللا إنما‬
‫ب واح ٍد من كنعان‪ ،‬ونحن‬ ‫جئنا نمتار لقومنا من الجهد والجوع الذي أصابنا‪ d،‬ونحن بنو أ ٍ‬
‫اثنا عشر رجالً‪ ،‬ذهب منّا واح ٌد وصغيرنا عند أبينا‪ ،‬فقال‪ :‬ال بد أن استعلم أمركم‪.‬‬
‫وعندهم‪ :‬أنه حبسهم ثالثة أيام‪ ،‬ثم أخرجهم وأحتبس شمعون عنده ليأتوه باألخ اآلخر وفي‬
‫بعض هذا نظر‪.‬‬
‫از ِه ْم} أي أعطاهم من الميرة ما جرت به عادته في‬ ‫قال هللا تعالى { َولَ َّما َجه ََّزهُ ْم بِ َجهَ ِ‬
‫خ لَ ُك ْم ِم ْن أَبِي ُك ْم} وكان قد سألهم‬ ‫ال ا ْئتُونِي بِأ َ ٍ‬
‫بعير ال يزيده عليه {قَ َ‬ ‫ٍ‬ ‫إعطاء ك ّل إنسان ِح ْم َل‬
‫عن حالهم وكم هم‪ ،‬فقالوا‪ :‬كنا إثني عشر رجالً‪ ،‬فذهب منا واحد وبقي شقيقه عند أبينا‪،‬‬
‫فقال‪ :‬إذا قدمتم من العام المقبل فأتوني به معكم‪.‬‬
‫ُ‬
‫ين} أي قد أحسنت نزلكم وقِ َراكم‪ ،‬فر َّغبهم‬ ‫{أَال تَ َر ْو َن أَنِّي أوفِي ْال َك ْي َل َوأَنَا َخ ْي ُر ْال ُم ِ‬
‫نزلِ َ‬
‫ليأتوه به‪ ،‬ثم رهّبهم إن لم يأتوه به‪ ،‬قال‪{ :‬فَإِ ْن لَ ْم تَأْتُونِي بِ ِه فَال َك ْي َل لَ ُك ْم ِعن ِدي َوال‬
‫تَ ْق َربُونِي} أي فلست أعطيكم ميرة‪ ،‬وال أقربكم بالكلية‪ ،‬عكس ما أسدى إليهم أوالً‪.‬‬
‫فاجتهد في إحضاره معهم‪ ،‬ليب ِّل شوقه منه بالترغيب والترهيب‬
‫او ُد َع ْنهُ أَبَاهُ} أي سنجتهد في مجيئه معنا‪ ،‬وإتيانه إليك بكل ممكن { َوإِنَّا‬ ‫{قَالُوا َسنُ َر ِ‬
‫ون} أي وإنا لقادرون على تحصيله‪.‬‬ ‫اعلُ َ‬ ‫لَفَ ِ‬
‫ثم أمر فتيانه أن يضعوا بضاعتهم‪ ،‬وهي ما جاؤا به يتع ّوضون به عن الميرة‪ ،‬في‬
‫ُون}‬ ‫ْرفُونَهَا إِ َذا انقَلَبُوا إِلَى أَ ْهلِ ِه ْم لَ َعلَّهُ ْم يَرْ ِجع َ‬ ‫أمتعتهم من حيث ال يشعرون بها {لَ َعلَّهُ ْم يَع ِ‬
‫قيل‪ :‬أراد أن يردوها إذا وجدوها في بالدهم‪ .‬وقيل‪ :‬خشي أن ال يكون عندهم ما يرجعون‬
‫به مرة ثانية‪ .‬وقيل‪ :‬تذمم أن يأخذ منهم عوضا ً عن الميرة‪.‬‬
‫وقد اختلف المفسرون في بضاعتهم‪ ،‬على أقوال سيأتي ذكرها‪ .‬وعند أهل الكتاب‪:‬‬
‫أنها كانت صرراً من َو ِرق‪ ،‬وهو أشبه وهللا أعلم‪.‬‬

‫{فَلَ َّما َر َجعُوا إِلَى أَبِي ِه ْم قَالُوا يَا أَبَانَا ُمنِ َع ِمنَّا ْال َك ْي ُل فَأَرْ ِسلْ َم َعنَا أَ َخانَا نَ ْكتَلْ َوإِنَّا لَهُ‬
‫ال هَلْ آ َمنُ ُك ْم َعلَ ْي ِه إِال َك َما أَ ِمنتُ ُك ْم َعلَى أَ ِخي ِه ِم ْن قَ ْب ُل فَاهَّلل ُ َخ ْي ٌر َحافِظا ً َوهُ َو‬ ‫ون‪ ،‬قَ َ‬ ‫لَ َحافِظُ َ‬
‫ت إِلَ ْي ِه ْم قَالُوا يَا أَبَانَا َما نَ ْب ِغي هَ ِذ ِه‬ ‫ضا َعتَهُ ْم ُر َّد ْ‬ ‫ين‪َ ،‬ولَ َّما فَتَحُوا َمتَا َعهُ ْم َو َج ُدوا بِ َ‬ ‫َّاح ِم َ‬ ‫أَرْ َح ُم الر ِ‬
‫ك َك ْي ٌل يَ ِسيرٌ‪ ،‬قَا َل لَ ْن‬ ‫ير َذلِ َ‬‫ت إِلَ ْينَا َونَ ِمي ُر أَ ْهلَنَا َونَحْ فَظُ أَ َخانَا َونَ ْز َدا ُد َكي َْل بَ ِع ٍ‬ ‫ضا َعتُنَا ُر َّد ْ‬
‫بِ َ‬
‫أُرْ ِسلَهُ َم َع ُك ْم َحتَّى تُ ْؤتُونِي َم ْوثِقا ً ِم ْن هَّللا ِ لَتَأْتُونَنِي بِ ِه إِال أَ ْن ي َُحاطَ بِ ُك ْم فَلَ َّما آتَ ْوهُ َم ْوثِقَهُ ْم قَ َ‬
‫ال‬
‫ب ُمتَفَ ِّرقَ ٍة‬ ‫ب َوا ِح ٍد َوا ْد ُخلُوا ِم ْن أَ ْب َوا ٍ‬ ‫ي ال تَ ْد ُخلُوا ِم ْن بَا ٍ‬ ‫هَّللا ُ َعلَى َما نَقُو ُل َو ِكيلٌ‪َ ،‬وقَ َ‬
‫ال يَا بَنِ َّ‬
‫ون‪،‬‬‫ت َو َعلَ ْي ِه فَ ْليَتَ َو َّكلْ ْال ُمتَ َو ِّكلُ َ‬ ‫َو َما أُ ْغنِي َعن ُك ْم ِم ْن هَّللا ِ ِم ْن َش ْي ٍء إِ ْن ْال ُح ْك ُم إِال هَّلِل ِ َعلَ ْي ِه تَ َو َّك ْل ُ‬
‫ان يُ ْغنِي َع ْنهُ ْم ِم ْن هَّللا ِ ِم ْن َش ْي ٍء إِال َحا َجةً فِي نَ ْف ِ‬
‫س‬ ‫ْث أَ َم َرهُ ْم أَبُوهُ ْم َما َك َ‬ ‫َولَ َّما َد َخلُوا ِم ْن َحي ُ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫اس ال يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ضاهَا َوإِنَّهُ لَ ُذو ِع ْل ٍم لِ َما َعلَّ ْمنَاهُ َولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر النَّ ِ‬ ‫وب قَ َ‬‫يَ ْعقُ َ‬
‫يذكر تعالى ما كان من أمرهم بعد رجوعهم إلى أبيهم‪ ،‬وقولهم له‪ُ { :‬منِ َع ِمنَّا ْال َك ْي ُل}‬
‫أي بعد عامنا هذا إن لم ترسل معنا أخانا‪ ،‬فإن أرسلته معنا لم يمنع منا‪.‬‬
‫ت إِلَ ْي ِه ْم قَالُوا يَا أَبَانَا َما نَ ْب ِغي} أي‪ :‬أي‬ ‫ضا َعتَهُ ْم ُر َّد ْ‬ ‫{ َولَ َّما فَتَحُوا َمتَا َعهُ ْم َو َج ُدوا بِ َ‬
‫شيء نريد وقد ردت إلينا بضاعتنا { َونَ ِمي ُر أَ ْهلَنَا} أي نمتار لهم‪ ،‬ونأتيهم بما يصلحهم في‬
‫ير}‪.‬‬ ‫سنتهم و َمحْ لِهم { َونَحْ فَظُ أَ َخانَا َونَ ْز َدا ُد} بسببه { َكي َْل بَ ِع ٍ‬
‫ك َك ْي ٌل يَ ِسي ٌر} أي في مقابلة ذهاب ولده اآلخر‪.‬‬ ‫قال هللا تعالى‪َ { :‬ذلِ َ‬
‫اضن شيء بولده بنيامين‪ ،‬ألنه كان يش ّم فيه رائحة أخيه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وكان يعقوب عليه السالم‬
‫ويتسلّى به عنه‪ ،‬ويتعوض بسببه منه‪.‬‬

‫فلهذا قال‪{ :‬قَا َل لَ ْن أُرْ ِسلَهُ َم َع ُك ْم َحتَّى تُ ْؤتُونِي َم ْوثِقا ً ِم ْن هَّللا ِ لَتَأْتُونَنِي بِ ِه إِال أَ ْن ي َُحاطَ‬
‫ال هَّللا ُ َعلَى َما نَقُو ُل َو ِكي ٌل}‪.‬‬ ‫بِ ُك ْم} أي إالّ أن تغلبوا كلكم عن اإلتيان به {فَلَ َّما آتَ ْوهُ َم ْوثِقَهُ ْم قَ َ‬
‫أك ّد المواثيق‪ ،‬وقرّر العهود‪ ،‬واحتاط لنفسه في ولده‪ ،‬ولن يغني َح َذ ٌر من قَ َدر‪ .‬ولوال‬
‫ولكن األقدار لها أحكام‪ ،‬والرب‬ ‫َّ‬ ‫بعث الولد العزي َز‪،‬‬ ‫حاجته وحاجة قومه إلى الميرة لما ّ‬
‫تعالى يقدر ما يشاء‪ ،‬ويختار ما يريد‪ ،‬ويحكم ما يشاء وهو الحكيم العليم‪.‬‬
‫ب واحد‪ ،‬ولكن ليدخلوا من أبواب متفرقة‪ .‬قيل‪:‬‬ ‫ثم أمرهم أن ال يدخلوا المدينة من با ٍ‬
‫أراد أن ال يصيبهم أحد بالعين وذلك ألنّهم كانوا أشكاالً حسنة‪ ،‬وصوراً بديعة‪ .‬قال ابن‬
‫عبَّاس و ُم َح ْمد بن كعب وقتادة وال ُّسدِّي والضحاك‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬أراد أن يتفرّقوا لعلهم يجدون خبر ليوسف‪ ،‬أو ي َُح َّدثُون عنه بأثر‪ .‬قال إبراهيم‬
‫النخعي‪ .‬واألول اظهر‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬و َما أُ ْغنِي َعن ُك ْم ِم ْن هَّللا ِ ِم ْن َش ْي ٍء}‪.‬‬
‫ان يُ ْغنِي َع ْنهُ ْم ِم ْن هَّللا ِ ِم ْن َش ْي ٍء‬ ‫ْث أَ َم َرهُ ْم أَبُوهُ ْم َما َك َ‬ ‫وقال تعالى { َولَ َّما َد َخلُوا ِم ْن َحي ُ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫اس ال يَ ْعلَ ُم َ‬‫ضاهَا َوإِنَّهُ لَ ُذو ِع ْل ٍم لِ َما َعلَّ ْمنَاهُ َولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر النَّ ِ‬ ‫س يَ ْعقُ َ‬
‫وب قَ َ‬ ‫اجةً فِي نَ ْف ِ‬
‫إِال َح َ‬
‫وعند أهل الكتاب‪ :‬أنه بعث معهم هدية إلى العزيز‪ ،‬من الفستق واللوز والصنوبر‬
‫والبطم والعسل‪ ،‬وأخذوا ال ّدراهم األولى‪ ،‬وعوضا ً آخر‪.‬‬

‫وك فَال تَ ْبتَئِسْ بِ َما َكانُوا‬ ‫ال إِنِّي أَنَا أَ ُخ َ‬ ‫آوى إِلَ ْي ِه أَ َخاهُ قَ َ‬ ‫ُف َ‬ ‫{ َولَ َّما َد َخلُوا َعلَى يُوس َ‬
‫از ِه ْم َج َع َل ال ِّسقَايَةَ فِي َرحْ ِل أَ ِخي ِه ثُ َّم أَ َّذ َن ُم َؤ ِّذ ٌن أَيَّتُهَا ْال ِعي ُر إِنَّ ُك ْم‬ ‫ون‪ ،‬فَلَ َّما َجه ََّزهُ ْم بِ َجهَ ِ‬ ‫يَ ْع َملُ َ‬
‫ك َولِ َم ْن َجا َء بِ ِه ِح ْم ُل‬ ‫ص َوا َع ْال َملِ ِ‬ ‫ون‪ ،‬قَالُوا نَ ْفقِ ُد ُ‬ ‫ون‪ ،‬قَالُوا َوأَ ْقبَلُوا َعلَ ْي ِه ْم َما َذا تَ ْفقِ ُد َ‬ ‫ارقُ َ‬ ‫لَ َس ِ‬
‫ين‪ ،‬قَالُوا‬ ‫ارقِ َ‬ ‫ض َو َما ُكنَّا َس ِ‬ ‫ير َوأَنَا بِ ِه َز ِعي ٌم‪ ،‬قَالُوا تَاهَّلل ِ لَقَ ْد َعلِ ْمتُ ْم َما ِج ْئنَا لِنُ ْف ِس َد فِي األَرْ ِ‬ ‫بَ ِع ٍ‬
‫ك نَجْ ِزي‬ ‫ين‪ ،‬قَالُوا َج َزا ُؤهُ َم ْن ُو ِج َد فِي َرحْ لِ ِه فَهُ َو َج َزا ُؤهُ َك َذلِ َ‬ ‫فَ َما َج َزا ُؤهُ إِ ْن ُكنتُ ْم َكا ِذبِ َ‬
‫ُف‬ ‫ك ِك ْدنَا لِيُوس َ‬ ‫ين‪ ،‬فَبَ َدأَ بِأ َ ْو ِعيَتِ ِه ْم قَ ْب َل ِو َعا ِء أَ ِخي ِه ثُ َّم ا ْستَ ْخ َر َجهَا ِم ْن ِو َعا ِء أَ ِخي ِه َك َذلِ َ‬ ‫الظَّالِ ِم َ‬
‫ق ُك ِّل ِذي ِع ْل ٍم‬ ‫ت َم ْن نَ َشا ُء َوفَ ْو َ‬ ‫ك إِال أَ ْن يَ َشا َء هَّللا ُ نَرْ فَ ُع َد َر َجا ٍ‬ ‫ين ْال َملِ ِ‬ ‫ان لِيَأْ ُخ َذ أَ َخاهُ فِي ِد ِ‬ ‫َما َك َ‬
‫ُف فِي نَ ْف ِس ِه َولَ ْم يُ ْب ِدهَا لَهُ ْم قَا َل‬ ‫ق أَ ٌخ لَهُ ِم ْن قَ ْب ُل فَأ َ َس َّرهَا يُوس ُ‬ ‫ْر ْق فَقَ ْد َس َر َ‬ ‫َعلِي ٌم‪ ،‬قَالُوا إِ ْن يَس ِ‬
‫ون قَالُوا يَا أَيُّهَا ْال َع ِزي ُز إِ َّن لَهُ أَبا ً َشيْخا ً َكبِيراً فَ ُخ ْذ أَ َح َدنَا‬ ‫صفُ َ‬ ‫أَ ْنتُ ْم َشرٌّ َم َكانا ً َوهللا أعلم بِ َما تَ ِ‬
‫ال َم َعا َذ هَّللا ِ أَ ْن نَأْ ُخ َذ إِال َم ْن َو َج ْدنَا َمتَا َعنَا ِع ْن َدهُ إِنَّا إِذاً‬ ‫ين‪ ،‬قَ َ‬ ‫ك ِم ْن ْال ُمحْ ِسنِ َ‬ ‫َم َكانَهُ إِنَّا نَ َرا َ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫لَظَالِ ُم َ‬
‫يذكر تعالى ما كان من أمرهم حين دخلوا بأخيهم بنيامين على شقيقه يوسف وإيوائه‬
‫إليه وإخباره له س ّراً عنهم بأنه أخوه‪ ،‬وأمره بكتم ذلك عنهم‪ ،‬وسالّه عما كان منهم من‬
‫اإلساءة إليه‪.‬‬
‫ثم احتال على أخذه منهم‪ ،‬وتركه إياه عنده دونهم‪ ،‬فأمر فتيانه بوضع سقايته‪ .‬وهي‬
‫التي كان يشرب بها ويكيل بها الناس الطعام‪ ،‬عن غرة في متاع بنيامين‪ .‬ثم أعلمهم بأنهم‬
‫قد سرقوا صُواع الملك‪ ،‬ووعدهم جعالة على ردِّه ِح ْمل بعير‪ ،‬وض ّمنه المنادي لهم‪،‬‬
‫فأقبلوا على من اتهمهم بذلك فأنبوه وهجّنوه فيما قاله لهم‪{ :‬قَالُوا تَاهَّلل ِ لَقَ ْد َعلِ ْمتُ ْم َما ِج ْئنَا‬
‫ين} يقولون‪ :‬أنتم تعلمون منا خالف ما رميتمونا له من‬ ‫ارقِ َ‬ ‫ض َو َما ُكنَّا َس ِ‬ ‫لِنُ ْف ِس َد فِي األَرْ ِ‬
‫السّرقة‪.‬‬
‫ك‬‫ين‪ ،‬قَالُوا َج َزا ُؤهُ َم ْن ُو ِج َد فِي َرحْ لِ ِه فَهُ َو َج َزا ُؤهُ َك َذلِ َ‬ ‫{قَالُوا فَ َما َج َزا ُؤهُ إِ ْن ُكنتُ ْم َكا ِذبِ َ‬
‫ين}‪ .‬وهذه كانت شريعتهم أن السّارق يدفع إلى المسروق منه ولهذا قالوا‪:‬‬ ‫نَجْ ِزي الظَّالِ ِم َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ك نَجْ ِزي الظَّالِ ِم َ‬ ‫{ َك َذلِ َ‬
‫قال هللا تعالى‪{ :‬فَبَ َدأَ بِأ َ ْو ِعيَتِ ِه ْم قَب َْل ِو َعا ِء أَ ِخي ِه ثُ َّم ا ْستَ ْخ َر َجهَا ِم ْن ِو َعا ِء أَ ِخي ِه} ليكون‬
‫ان لِيَأْ ُخ َذ‬‫ُف َما َك َ‬ ‫ك ِك ْدنَا لِيُوس َ‬ ‫ذلك أبعد للتهمة‪ ،‬وأبلغ في الحيلة‪ ،‬ثم قال هللا تعالى‪َ { :‬ك َذلِ َ‬
‫بأن جزاءه { َم ْن ُو ِج َد فِي َرحْ لِ ِه فَهُ َو َج َزا ُؤهُ} لما‬ ‫ك} أي لوال اعترافهم ّ‬ ‫أَ َخاهُ فِي ِدي ِن ْال َملِ ِ‬
‫ت َم ْن‬ ‫كان يقدر يوسف على أخذه منهم في سياسة ملك مصر {إِال أَ ْن يَ َشا َء هَّللا ُ نَرْ فَ ُع َد َر َجا ٍ‬
‫ق ُك ِّل ِذي ِع ْل ٍم َعلِي ٌم}‪.‬‬ ‫نَ َشا ُء} أي في العلم { َوفَ ْو َ‬
‫ألن يوسف كان أعلم منهم‪ ،‬وأتم رأياً‪ ،‬وأقوى عزما ً وحزماً‪ ،‬وإنما فعل ما فعل‬ ‫وذلك ّ‬
‫عن أمر هللا له في ذلك ألنه يترتب على هذا األمر مصلحة عظيمة بعد ذلك‪ ،‬من قدوم أبيه‬
‫وقومه عليه‪ ،‬ووفودهم إليه‪.‬‬
‫ق أَ ٌخ لَهُ ِم ْن‬ ‫ْر ْق فَقَ ْد َس َر َ‬‫فلما عاينوا استخراج الصّواع من حمل بنيامين {قَالُوا إِ ْن يَس ِ‬
‫قَ ْب ُل} يعنون يوسف‪ .‬قيل كان قد سرق صنم ج ّده‪ ،‬أبي أمه‪ ،‬فكسره‪ .‬وقيل‪ :‬كانت عمته قد‬
‫علقت عليه بين ثيابه‪ ،‬وهو صغير‪ ،‬منطقة كانت إلسحاق‪ ،‬ثم استخرجوها من بين ثيابه‪،‬‬
‫وهو ال يشعر بما صنعت‪ ،‬وإنما أرادت أن يكون عندها‪ ،‬وفي حضانتها لمحبتها له‪ .‬وقيل‪:‬‬
‫ْر ْق فَقَ ْد‬ ‫كان يأخذ الطّعام من البيت فيطعمه الفقراء‪ .d‬وقيل‪ :‬غير ذلك‪ .‬فلهذا {قَالُوا إِ ْن يَس ِ‬
‫ُف فِي نَ ْف ِس ِه} وهي كلمته بعدها‪ ،‬وقوله {أَ ْنتُ ْم َش ٌّر َم َكانا ً‬ ‫ق أَ ٌخ لَهُ ِم ْن قَ ْب ُل فَأ َ َس َّرهَا يُوس ُ‬ ‫َس َر َ‬
‫ون} أجابهم س ّراً ال جهراً‪ ،‬حلما ً وكرما ً وصفحا ً وعفواً‪ ،‬فدخلوا معه‬ ‫صفُ َ‬ ‫َوهللا أعلم بِ َما تَ ِ‬
‫في الترفق والتعطف‪ ،‬فقالوا‪{ :‬يَا أَيُّهَا ْال َع ِزي ُز إِ َّن لَهُ أَبا ً َشيْخا ً َكبِيراً فَ ُخ ْذ أَ َح َدنَا َم َكانَهُ إِنَّا‬
‫ون} أي‬ ‫ال َم َعا َذ هَّللا ِ أَ ْن نَأْ ُخ َذ إِال َم ْن َو َج ْدنَا َمتَا َعنَا ِع ْن َدهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِ ُم َ‬ ‫ين‪ ،‬قَ َ‬ ‫ك ِم ْن ْال ُمحْ ِسنِ َ‬ ‫نَ َرا َ‬
‫إن أطلقنا المتهم وأخذنا البريء‪ .‬هذا ما ال نفعله وال نسمح به‪ ،‬وإنما نأخذ من وجدنا‬
‫متاعنا عنده‪.‬‬
‫وعند أهل الكتاب‪ :‬أن يوسف تعرّف إليهم حينئذ وهذا مما غلطوا فيه ولم يفهموه‬
‫جيّداً‪.‬‬
‫ال َكبِي ُرهُ ْم أَلَ ْم تَ ْعلَ ُموا أَ َّن أَبَا ُك ْم قَ ْد أَ َخ َذ َعلَ ْي ُك ْم َم ْوثِقا ً‬‫{فَلَ َّما ا ْستَ ْيئَسُوا ِم ْنهُ َخلَصُوا نَ ِجيّا ً قَ َ‬
‫ض َحتَّى يَأْ َذ َن لِي أَبِي أَ ْو يَحْ ُك َم هَّللا ُ لِي‬ ‫ُف فَلَ ْن أَب َْر َح األَرْ َ‬ ‫ِم ْن هَّللا ِ َو ِم ْن قَ ْب ُل َما فَرَّطتُ ْم فِي يُوس َ‬
‫ق َو َما َش ِه ْدنَا إِال بِ َما‬ ‫ك َس َر َ‬ ‫ين‪ ،‬ارْ ِجعُوا إِلَى أَبِي ُك ْم فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِ َّن ا ْبنَ َ‬ ‫َوهُ َو َخ ْي ُر ْال َحا ِك ِم َ‬
‫ير الَّتِي أَ ْقبَ ْلنَا فِيهَا َوإِنَّا‬
‫ين‪َ ،‬واسْأَلْ ْالقَرْ يَةَ الَّتِي ُكنَّا فِيهَا َو ْال ِع َ‬ ‫ب حافِ ِظ َ‬ ‫َعلِ ْمنَا َو َما ُكنَّا لِ ْل َغ ْي ِ‬
‫ص ْب ٌر َج ِمي ٌل َع َسى هَّللا ُ أَ ْن يَأْتِيَنِي بِ ِه ْم َج ِميعا ً إِنَّهُ‬ ‫ت لَ ُك ْم أَنفُ ُس ُك ْم أَ ْمراً فَ َ‬ ‫ال بَلْ َس َّولَ ْ‬ ‫ون‪ ،‬قَ َ‬ ‫صا ِدقُ َ‬ ‫لَ َ‬
‫َّت َع ْينَاهُ ِم َن ْالح ُْز ِن فَهُ َو‬ ‫ُف َوا ْبيَض ْ‬ ‫ال يَا أَ َسفَى َعلَى يُوس َ‬ ‫هُ َو ْال َعلِي ُم ْال َح ِكي ُم‪َ ،‬وتَ َولَّى َع ْنهُ ْم َوقَ َ‬
‫ين‪ ،‬قَا َل إِنَّ َما‬ ‫ون ِم ْن ْالهَالِ ِك َ‬‫ون َح َرضا ً أَ ْو تَ ُك َ‬ ‫ُف َحتَّى تَ ُك َ‬ ‫َك ِظي ٌم‪ ،‬قَالُوا تَاهَّلل ِ تَ ْفتَأ ُ تَ ْذ ُك ُر يُوس َ‬
‫ي ْاذهَبُوا فَتَ َح َّسسُوا ِم ْن يُوس َ‬
‫ُف‬ ‫ون‪ ،‬يَا بَنِ َّ‬ ‫أَ ْش ُكو بَثِّي َوح ُْزنِي إِلَى هَّللا ِ َوأَ ْعلَ ُم ِم ْن هَّللا ِ َما ال تَ ْعلَ ُم َ‬
‫ُون}‪.‬‬‫ح هَّللا ِ إِال ْالقَ ْو ُم ال َكافِر َ‬ ‫ح هَّللا ِ إِنَّهُ ال يَ ْيئَسُ ِم ْن َر ْو ِ‬ ‫َوأَ ِخي ِه َوال تَ ْيئَسُوا ِم ْن َر ْو ِ‬
‫يقول تعالى مخبراً عنهم‪ :‬إنهم لما استيأسوا من أخذه منه خلصُوا يتناجون فيما بينهم‪،‬‬
‫قال كبيرهم‪ ،‬وهو روبيل‪{ :‬أَلَ ْم تَ ْعلَ ُموا أَ َّن أَبَا ُك ْم قَ ْد أَ َخ َذ َعلَ ْي ُك ْم َم ْوثِقا ً ِم ْن هَّللا ِ} ‪ .‬لتأتنني به‬
‫اال أن يحاط بكم؟ لقد أخلفتم عهده وفرطتم فيه كما فرطتم في أخيه يوسف من قبله فلم يبق‬
‫ض} أي ال أزال مقيما ً ها هنا { َحتَّى يَأْ َذ َن لِي أَبِي} في‬ ‫لي وجه أقابله به {فَلَ ْن أَب َْر َح األَرْ َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫القدوم عليه {أَ ْو يَحْ ُك َم هَّللا ُ لِي} بأن يق ّدرني على ر ِّد أخي إلى أبي { َوهُ َو َخ ْي ُر ْال َحا ِك ِم َ‬
‫ق} أي أخبروه بما رأيتم من األمر في‬ ‫ك َس َر َ‬ ‫{ارْ ِجعُوا إِلَى أَبِي ُك ْم فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِ َّن ا ْبنَ َ‬
‫ين‪َ ،‬واسْأَلْ ْالقَرْ يَةَ الَّتِي ُكنَّا‬ ‫ب حافِ ِظ َ‬ ‫الظاهر المشاهدة { َو َما َش ِه ْدنَا إِال بِ َما َعلِ ْمنَا َو َما ُكنَّا لِ ْل َغ ْي ِ‬
‫ير الَّتِي أَ ْقبَ ْلنَا فِيهَا}‪ .‬أي فإن هذا الذي أخبرناك به ‪ -‬من أخذهم أخانا‪ ،‬ألنه سرق‬ ‫فِيهَا َو ْال ِع َ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫صا ِدقُ َ‬
‫‪ -‬أمر اشتهر بمصر وعلمه العير التي كنا نحن وهم هناك { َوإِنَّا لَ َ‬
‫ص ْب ٌر َج ِمي ٌل} أي ليس األمر كما ذكرتم لم يسرق‬ ‫ت لَ ُك ْم أَنفُ ُس ُك ْم أَ ْمراً فَ َ‬ ‫{قَا َل بَلْ َس َّولَ ْ‬
‫ص ْب ٌر َج ِمي ٌل}‪.‬‬ ‫ت لَ ُك ْم أَنفُ ُس ُك ْم أَ ْمراً فَ َ‬‫فإنه ليس سجية له‪ ،‬وال {هو} خلقه‪ ،‬وإنما { َس َّولَ ْ‬
‫قال ابن إسحاق وغيره‪ :‬لما كان التفريط منهم في بنيامين مترتبا ً على صنيعهم في‬
‫يوسف‪ ،‬قال لهم ما قال‪ ،‬وهذا كما قال بعض السلف‪ :‬إن من جزاء السيئة السيئة بعدها!‪.‬‬
‫ثم قال‪َ { :‬ع َسى هَّللا ُ أَ ْن يَأْتِيَنِي بِ ِه ْم َج ِميعا ً}‪ .‬يعني يوسف وبنيامين وروبيل {إِنَّهُ هُ َو‬
‫ْال َعلِي ُم} أي بحالي وما أنا فيه من فراق األحبة { ْال َح ِكي ُم} فيما يقدره ويفعله وله الحكمة‬
‫البالغة والحجة القاطعة‪.‬‬
‫ُف}‬ ‫ال يَا أَ َسفَى َعلَى يُوس َ‬ ‫{ َوتَ َولَّى َع ْنهُ ْم} أي أعرض عن بنيه { َوقَ َ‬

‫ذ ّكره حزنه الجديد بالحزن القديم‪ ،‬وحرّك ما كان كامناً‪ ،‬كما قال بعضهم‪:‬‬
‫ب األ ّو ِل‬ ‫الحب إالّ لِلحبي ِ‬ ‫ّ‪d‬‬ ‫من الهوى ** ما‬ ‫شئت َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫حيث‬ ‫ك‬‫نقّلْ فؤا َد َ‬
‫وقال آخر‪:‬‬
‫بور َعلى البُكا *** َرفيقي ْ‬ ‫لَقَ ْد الَ َمني عن َد القُ ِ‬
‫ك‬
‫موع السّواف ِ‬ ‫راف ال ّد ِ‬ ‫لتذ ِ‬
‫بين اللّوى فالدكا ِد ِ‬
‫ك‬ ‫لقبر ثوى َ‬ ‫فقا َل‪ :‬أتبكي ك ّل قبر رأيتَه ** ٍ‬
‫ك‬‫يبعث األسى ** فَد ْعني فه َذا كلّهُ قب ُر مالِ ِ‬ ‫ُ‬ ‫فقلت له‪ :‬إن األَسى‬ ‫ُ‬
‫َّت َع ْينَاهُ ِم َن ْالح ُْز ِن} أي من كثرة البكاء {فَه َُو َك ِظي ٌم} أي مكظم من‬ ‫وقوله‪َ { :‬وا ْبيَض ْ‬
‫كثرة حزنه وأسفه وشوقه إلى يوسف‪.‬‬
‫فلما رأى بنوه ما يقاسيه من الوجد وألم الفراق {قَالُوا} له على وجه الرحمة له‬
‫ون ِم ْن‬‫ون َح َرضا ً أَ ْو تَ ُك َ‬ ‫ُف َحتَّى تَ ُك َ‬ ‫والرأفة به والحرص عليه {تَا هَّلل ِ تَ ْفتَأ ُ تَ ْذ ُك ُر يُوس َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ْالهَالِ ِك َ‬
‫يقولون‪ :‬ال تزال تتذكره حتى ينحل جسدك‪ ،‬وتضعف ق ّوتك‪ ،‬فلو رفقت بنفسك كان‬
‫أولى بك‪.‬‬
‫ون} يقول لبنيه‪ :‬لست‬ ‫{قَا َل إِنَّ َما أَ ْش ُكو بَثِّي َوح ُْزنِي إِلَى هَّللا ِ َوأَ ْعلَ ُم ِم ْن هَّللا ِ َما ال تَ ْعلَ ُم َ‬
‫أشكو إليكم وال إلى أحد من الناس‪ ،‬ما أنا فيه‪ ،‬إنما أشكو إلى هللا عز وجل‪ ،‬واعلم أن هللا‬
‫سيجعل لي مما أنا فيه فرجا ً ومخرجاً‪ ،‬وأعلم أن رؤيا يوسف ال بد أن تقع‪ ،‬وال بد أن‬
‫ون}‪.‬‬ ‫أسجد له أنا وأنتم حسب ما رأى‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وأَ ْعلَ ُم ِم ْن هَّللا ِ َما ال تَ ْعلَ ُم َ‬
‫ي‬‫ثم قال لهم محرضا ً على تطلب يوسف وأخيه‪ ،‬وأن يبحثوا عن أمرهما {يَا بَنِ َّ‬
‫ح هَّللا ِ إِال‬ ‫ُف َوأَ ِخي ِه َوال تَ ْيئَسُوا ِم ْن َر ْو ِ‬
‫ح هَّللا ِ إِنَّهُ ال يَ ْيئَسُ ِم ْن َر ْو ِ‬ ‫ْاذهَبُوا فَتَ َح َّسسُوا ِم ْن يُوس َ‬
‫ُون} أي ال تيئسوا من الفرج بعد الشدة‪ ،‬فإنه ال ييأس من روح هللا وفرجه وما‬ ‫ْالقَ ْو ُم ال َكافِر َ‬
‫يقدره من المخرج في المضايق إال القوم الكافرون‪.‬‬

‫ف‬‫ضا َع ٍة ُم ْز َجا ٍة فَأ َ ْو ِ‬ ‫{فَلَ َّما َد َخلُوا َعلَ ْي ِه قَالُوا يَا أَيُّهَا ْال َع ِزي ُز َم َّسنَا َوأَ ْهلَنَا الضُّ رُّ َو ِج ْئنَا بِبِ َ‬
‫ُف َوأَ ِخي ِه‬ ‫ال هَلْ َعلِ ْمتُ ْم َما فَ َع ْلتُ ْم بِيُوس َ‬ ‫ين‪ ،‬قَ َ‬ ‫ص ِّدقِ َ‬‫ص َّد ْق َعلَ ْينَا إِ َّن هَّللا َ يَجْ ِزي ْال ُمتَ َ‬‫لَنَا ْال َك ْي َل َوتَ َ‬
‫ُف َوه َذا أَ ِخي قَ ْد َم َّن هَّللا ُ َعلَ ْينَا إِنَّهُ َم ْن‬ ‫ال أَنَا يُوس ُ‬ ‫ُف قَ َ‬
‫ت يُوس ُ‬ ‫ك ألَ ْن َ‬ ‫ون‪ ،‬قَالُوا أَئِنَّ َ‬
‫إِ ْذ أَ ْنتُ ْم َجا ِهلُ َ‬
‫ك هَّللا ُ َعلَ ْينَا َوإِ ْن ُكنَّا‬‫ين‪ ،‬قَالُوا تَاهَّلل ِ لَقَ ْد آثَ َر َ‬ ‫ُضي ُع أَجْ َر ْال ُمحْ ِسنِ َ‬ ‫ق َويَصْ بِرْ فَإِ َّن هَّللا َ ال ي ِ‬ ‫يَتَّ ِ‬
‫صي‬ ‫ين‪ْ ،‬اذهَبُوا بِقَ ِمي ِ‬ ‫يب َعلَ ْي ُك ْم ْاليَ ْو َم يَ ْغفِ ُر هَّللا ُ لَ ُك ْم َوهُ َو أَرْ َح ُم الر ِ‬
‫َّاح ِم َ‬ ‫ال ال تَ ْث ِر َ‬
‫ين‪ ،‬قَ َ‬ ‫لَ َخا ِطئِ َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫صيراً َو ْأتُونِي بِأ َ ْهلِ ُك ْم أَجْ َم ِع َ‬ ‫ت بَ ِ‬ ‫هَ َذا فَأ َ ْلقُوهُ َعلَى َوجْ ِه أَبِي يَأْ ِ‬
‫يخبر تعالى عن رجوع إخوة يوسف إليه وقدومهم عليه ورغبتهم فيما لديه من الميرة‬
‫والصدقة عليهم بر ّد أخيهم بنيامين إليهم {فَلَ َّما َد َخلُوا َعلَ ْي ِه قَالُوا يَا أَيُّهَا ْال َع ِزي ُز َم َّسنَا َوأَ ْهلَنَا‬
‫ضا َع ٍة ُم ْز َجا ٍة } أي ضعيفة‬ ‫الضُّ رُّ } أي من الجدب وضيق الحال‪ d‬وكثرة العيال { َو ِج ْئنَا بِبِ َ‬
‫ال يقبل مثلها منا إال أن يتجاوز عنّا قيل‪ :‬كانت دراهم رديئة‪ .‬وقيل‪ :‬قليلة‪ .‬وقيل حب‬
‫الغ َرائِ ِر والحبال‪ ،‬ونحو‬ ‫ق ِ‬ ‫الصنوبر‪ ،‬وحب البطم ونحو ذلك‪ .‬وعن ابن عبَّاس‪ :‬كانت َخلَ َ‬
‫ذلك‪.‬‬

‫ين} قيل‪ :‬بقبولها‪ ،‬قال ال ُّسدِّي‪.‬‬ ‫ص َّد ْق َعلَ ْينَا إِ َّن هَّللا َ يَجْ ِزي ْال ُمتَ َ‬
‫ص ِّدقِ َ‬ ‫ف لَنَا ْال َكي َْل َوتَ َ‬
‫{فَأ َ ْو ِ‬
‫وقيل‪ :‬بر ّد أخينا إلينا‪ ،‬قاله ابن ج َُريْج‪ .‬وقال سفيان بن ُعيينة‪ :‬إنما حرمت الصدقة على‬
‫نبينا محمد صلى هللا عليه وسلم ونزع بهذه اآلية رواه ابن جرير‪.‬‬
‫فلما رأى ما هم فيه من الحال وما جاؤا به مما لم يبق عندهم سواه‪ ،‬من ضعيف‬
‫المال‪ ،‬تعرف إليهم وعطف عليهم‪ ،‬قائالً‪ :‬لهم عن أمر ربه وربهم‪ .‬وقد حسر لهم عن‬
‫ُف َوأَ ِخي ِه‬
‫جبينه الشريف وما يحويه من الحال‪ d‬الذي يعرفون فيه {هَلْ َعلِ ْمتُ ْم َما فَ َع ْلتُ ْم بِيُوس َ‬
‫ون}‪{ .‬قَالُوا} وتعجبوا كل العجب‪ ،‬وقد ترددوا إليه مراراً عديدة‪ ،‬وهم ال‬ ‫إِ ْذ أَ ْنتُ ْم َجا ِهلُ َ‬
‫ُف }‪.‬‬ ‫ت يُوس ُ‬ ‫ك ألَ ْن َ‬
‫يعرفون أنه هو {أَئِنَّ َ‬
‫ُف َوه َذا أَ ِخي} يعني أنا يوسف الذي صنعتم معه ما صنعتم‪ ،‬وسلف من‬ ‫{قَا َل أَنَا يُوس ُ‬
‫أمركم فيه ما فرطتم‪ ،‬وقوله { َوه َذا أَ ِخي} تأكيد لما قال‪ ،‬وتنبيه على ما كانوا اضمروا‬
‫لهما من الحسد‪ ،‬وعملوا في أمرهما من االحتيال‪ ،‬ولهذا قال‪{ :‬قَ ْد َم َّن هَّللا ُ َعلَ ْينَا}‪ ،‬أي‬
‫بإحسانه إلينا وصدقته علينا‪ ،‬وإيوائه لنا وش ّده معاقد عزنا‪ ،‬وذلك بما أسلفنا من طاعة‬
‫ربنا‪ ،‬وصبرنا على ما كان منكم إلينا وطاعتنا وبرنا ألبينا‪ ،‬ومحبته الشديدة لنا وشفقته‬
‫ُضي ُع أَجْ َر ْال ُمحْ ِسنِ َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ق َويَصْ بِرْ فَإِ َّن هَّللا َ ال ي ِ‬ ‫علينا {إِنَّهُ َم ْن يَتَّ ِ‬
‫ك هَّللا ُ َعلَ ْينَا} أي فضلك‪ d،‬وأعطاك ما لم يعطنا { َوإِ ْن ُكنَّا‬ ‫{قَالُوا تَاهَّلل ِ لَقَ ْد آثَ َر َ‬
‫ين}‪ .‬أي فيما أسدينا إليك‪ ،‬وها نحن بين يديك‪.‬‬ ‫لَ َخا ِطئِ َ‬

‫يب َعلَ ْي ُك ْم ْاليَ ْو َم} أي لست أعاتبكم على ما كان منكم بعد يومكم هذا‪ ،‬ثم‬ ‫{قَا َل ال تَ ْث ِر َ‬
‫زادهم على ذلك فقال‪ْ { :‬اليَ ْو َم يَ ْغفِ ُر هَّللا ُ لَ ُك ْم َوهُ َو أَرْ َح ُم الرَّا ِح ِم َ‬
‫ين}‪.‬‬
‫يب َعلَ ْي ُك ْم}‪ ،‬وابتدأ بقوله { ْاليَ ْو َم يَ ْغفِ ُر هَّللا ُ لَ ُك ْم}‬ ‫ومن زعم أن الوقف على قوله {ال تَ ْث ِر َ‬
‫فقوله ضعيف‪ ،‬والصحيح األول‪.‬‬
‫ثم أمرهم بأن يذهبوا بقميصه‪ ،‬وهو الذي يلي جسده فيضعوه على عيني أبيه‪ ،‬فإنه‬
‫يرجع إليه بصره‪ ،‬بعد ما كان ذهب بإذن هللا‪ ،‬وهذا من خوارق العادات ودالئل النبوات‬
‫وأكبر المعجزات‪.‬‬
‫ثم أمرهم أن يتحملوا بأهلهم أجمعين إلى ديار مصر إلى الخير والدعة وجمع الشمل‬
‫بعد الفرقة على أكمل الوجوه وأعلى األمور‪.‬‬

‫ُف لَ ْوال أَ ْن تُفَنِّ ُدونِي‪ ،‬قَالُوا تَاهَّلل ِ إِنَّ َ‬


‫ك‬ ‫يح يُوس َ‬ ‫ال أَبُوهُ ْم إِنِّي ألَ ِج ُد ِر َ‬ ‫ت ْال ِعي ُر قَ َ‬‫صلَ ْ‬ ‫{ َولَ َّما فَ َ‬
‫صيراً قَا َل أَلَ ْم أَقُلْ لَ ُك ْم إِنِّي‬‫ك ْالقَ ِد ِيم‪ ،‬فَلَ َّما أَ ْن َجا َء ْالبَ ِشي ُر أَ ْلقَاهُ َعلَى َوجْ ِه ِه فَارْ تَ َّد بَ ِ‬
‫ضاللِ َ‬ ‫لَفِي َ‬
‫ف‬ ‫ين‪ ،‬قَا َل َس ْو َ‬ ‫ون‪ ،‬قَالُوا يَا أَبَانَا ا ْستَ ْغفِرْ لَنَا ُذنُوبَنَا إِنَّا ُكنَّا َخا ِطئِ َ‬
‫أَ ْعلَ ُم ِم ْن هَّللا ِ َما ال تَ ْعلَ ُم َ‬
‫أَ ْستَ ْغفِ ُر لَ ُك ْم َربِّي إِنَّهُ هُ َو ْال َغفُو ُر الر ِ‬
‫َّحي ُم}‪.‬‬
‫قال عبد الرزاق‪ :‬أنبأنا إسرائيل‪ ،‬عن أبي سنان‪ ،‬عن عبد هللا بن أبي الهذيل‪ ،‬سمعت‬
‫ت ْال ِعي ُر}‪ ،‬قال‪ :‬لما خرجت العير هاجت ريح‪ ،‬فجاءت‬ ‫صلَ ْ‬‫ابن عبَّاس يقول‪َ { :‬ولَ َّما فَ َ‬
‫ُف لَ ْوال أَ ْن تُفَنِّ ُدونِي} قال‪ :‬فوجد‬ ‫يح يُوس َ‬ ‫يعقوب بريح قميص يوسف فقال‪{ :‬إِنِّي ألَ ِج ُد ِر َ‬
‫ريحه من مسيرة ثالثة أيام‪ .‬وكذا رواه الثوري وشعبة وغيرهم عن أبي سنان به‪.‬‬

‫وقال الحسن البصري وابن ج َُريْج المكي‪ :‬كان بينهما مسيرة ثمانين فرسخاً‪ ،‬وكان له‬
‫منذ فارقه ثمانون سنة‪.‬‬
‫وقوله {لَ ْوال أَ ْن تُفَنِّ ُدونِي} أي تقولون‪ :‬إنما قلت هذا من الفند‪ ،‬وهو الخرف‪ ،‬وكبر‬
‫السن‪ .‬قال ابن عبَّاس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة‪{ :‬تُفَنِّ ُدونِي} تسفّهون‪ .‬وقال‬
‫مجاهد أيضا ً والحسن ‪ :‬تهر ّمون‪.‬‬
‫ك ْالقَ ِد ِيم} قال قتادة وال ُّسدِّي‪ :‬قالوا له كلمة غليظة‪.‬‬ ‫ك لَفِي َ‬
‫ضاللِ َ‬ ‫{قَالُوا تَاهَّلل ِ إِنَّ َ‬
‫صيراً} أي بمجرّد ما‬‫قال هللا تعالى‪{ :‬فَلَ َّما أَ ْن َجا َء ْالبَ ِشي ُر أَ ْلقَاهُ َعلَى َوجْ ِه ِه فَارْ تَ َّد بَ ِ‬
‫جاء ألقى القميص على وجه يعقوب‪ ،‬فرجع من فوره بصيراً بعد ما كان ضريراً‪ ،‬وقال‬
‫ون} أي أعلم أن هللا سيجمع شملي‬ ‫لنبيه عند ذلك {أَلَ ْم أَقُلْ لَ ُك ْم إِنِّي أَ ْعلَ ُم ِم ْن هَّللا ِ َما ال تَ ْعلَ ُم َ‬
‫يريني فيه ومنه ما يسرني‪.‬‬ ‫وس ِ‬ ‫بيوسف وستقر عيني به ِ‬
‫ين} طلبوا منه أن يستغفر لهم‬ ‫فعند ذلك {قَالُوا يَا أَبَانَا ا ْستَ ْغفِرْ لَنَا ُذنُوبَنَا إِنَّا ُكنَّا َخا ِطئِ َ‬
‫هللا عز وجل عما كانوا فعلوا‪ ،‬ونالوا منه ومن أبيه‪ ،‬وما كانوا عزموا عليه‪ .‬ولما كان من‬
‫نيتهم التوبة قبل الفعل وفقّهم هللا لالستغفار عند وقوع ذلك منهم فأجابهم أبوهم إلى ما‬
‫ف أَ ْستَ ْغفِ ُر لَ ُك ْم َربِّي إِنَّهُ هُ َو ْال َغفُو ُر ال َّر ِحي ُم}‪.‬‬
‫سألوا‪ ،‬وما عليه ع ّولوا قائالً { َس ْو َ‬

‫قال ابن مسعود وإبراهيم التيمي وعمرو بن قيس وابن ج َُريْج وغيرهم‪ ،‬أرجأهم إلى‬
‫وقت السحر‪ .‬قال ابن جرير‪ :‬حدثني أبو السائب‪َ ،‬ح َّدثَنا ابن إدريس قال‪ :‬سمعت عبد‬
‫الرحمن بن إسحاق يذكر عن محارب ابن دثار قال‪ :‬كان عمر يأتي المسجد فسمع إنسانا ً‬
‫يقول‪" :‬اللهم دعوتني فأجبت‪ ،‬وأمرتني فأطعت‪ ،‬وهذا السَّحر فاغفر لي" قال‪ :‬فاستمع إلى‬
‫الصوت‪ ،‬فإذا هو من دار عبد هللا بن مسعود‪ ،‬فسأل عبد هللا عن ذلك؟ فقال‪ :‬إن يعقوب‬
‫ف أَ ْستَ ْغفِ ُر لَ ُك ْم َربِّي}‪ .‬وقد قال هللا تعالى‪َ { :‬و ْال ُم ْستَ ْغفِ ِر َ‬
‫ين‬ ‫أ ّخر بنيه إلى السّحر‪ .‬بقوله‪َ { :‬س ْو َ‬
‫بِاألَ ْس َح ِ‬
‫ار}‪.‬‬
‫وثبت في "الصحيحين"‪ d‬عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬ينزل ربنا كل ليلة‬
‫إلى سماء الدنيا‪ ،‬فيقول‪ :‬هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من‬
‫مستغفر فأغفر له"‪.‬وقد ورد في حديث "أن يعقوب أرجأ بنيه إلى ليلة الجمعة"‪.‬‬
‫قال ابن جرير‪ :‬حدثني المثنى؛ قال‪َ :‬ح َّدثَنا سليمان بن عبد الرحمن أبو أيوب‬
‫الدمشقي‪َ ،‬ح َّدثَنا الوليد‪ ،‬أنبأنا ابن ج َُريْج‪ ،‬عن عطاء وعكرمة عن ابن عبَّاس عن رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬سوف استغفر لكم ربي"يقول‪ :‬حتى ليلة الجمعة وهو قول أخي‬
‫يعقوب لبنيه‪.‬وهذا غريب من هذا الوجه وفي رفعه نظر واألشبه أن يكون موقوفا ً على‬
‫ابن عبَّاس رضي هللا عنهما‪.‬‬

‫ين‪َ ،‬و َرفَ َع‬ ‫آوى إِلَ ْي ِه أَبَ َو ْي ِه َوقَ َ‬


‫ال ا ْد ُخلُوا ِمصْ َر إِ ْن َشا َء هَّللا ُ آ ِمنِ َ‬ ‫ُف َ‬ ‫{فَلَ َّما َد َخلُوا َعلَى يُوس َ‬
‫ت هَ َذا تَأْ ِوي ُل ر ُْؤيَاي ِم ْن قَ ْب ُل قَ ْد َج َعلَهَا َربِّي‬ ‫ال يَا أَبَ ِ‬ ‫ش َو َخرُّ وا لَهُ ُسجَّداً َوقَ َ‬ ‫أَبَ َو ْي ِه َعلَى ْال َعرْ ِ‬
‫َحقّا ً َوقَ ْد أَحْ َس َن بِي إِ ْذ أَ ْخ َر َجنِي ِم ْن ال ِّسجْ ِن َو َجا َء بِ ُك ْم ِم ْن ْالبَ ْد ِو ِم ْن بَ ْع ِد أَ ْن نَ َز َغ ال ّشيْطان‬
‫ك‬‫يف لِ َما يَ َشا ُء إِنَّهُ هُ َو ْال َعلِي ُم ْال َح ِكي ُم‪َ ،‬ربِّ قَ ْد آتَ ْيتَنِي ِم ْن ْال ُم ْل ِ‬ ‫اخ َوتِي إِ َّن َربِّي لَ ِط ٌ‬ ‫بَ ْينِي َوبَي َْن ْ‬
‫ت َولِ ِّي فِي ال ُّد ْنيَا َواآل ِخ َر ِة‬ ‫ض أَ ْن َ‬
‫ت َواألَرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫اط َر ال َّس َم َ‬ ‫ث فَ ِ‬ ‫َو َعلَّ ْمتَنِي ِم ْن تَأْ ِوي ِل األَ َحا ِدي ِ‬
‫ين}‪.‬‬‫تَ َوفَّنِي ُم ْسلِما ً َوأَ ْل ِح ْقنِي بِالصَّالِ ِح َ‬
‫هذا إخبار عن حال اجتماع المتحابين بعد الفرقة الطويلة التي قيل‪ :‬إنها ثمانون سنة‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬ثالث وثمانون سنة‪ ،‬وهما روايتان عن الحسن‪ .‬وقيل‪ :‬خمس وثالثون سنة‪ ،‬قاله‬
‫قتادة‪ .‬وقال ُم َح ْمد بن إسحاق‪ :‬ذكروا أنه غاب عنه ثماني عشرة سنة‪ .‬قال‪ :‬وأهل الكتاب‬
‫يزعمون أنه غاب عنه أربعين سنة‪.‬‬
‫فإن المرأة راودته‪ ،‬وهو شاب ابن‬ ‫وظاهر سياق القصة يرشد إلى تحديد المدة تقريباً‪َّ ،‬‬
‫سبع عشرة سنة‪ ،‬فيما قاله غير واحد‪ ،‬فامتنع فكان في السجن بضع سنين‪ ،‬وهي سبع عند‬
‫عكرمة وغيره‪ .‬ثم أخرج فكانت سنوات الخصب السبع‪ ،‬ثم لما امحل الناس في السبع‬
‫البواقي جاء اخوتهم يمتارون في السنة األولى وحدهم‪ ،‬وفي الثانية ومعهم أخوه بنيامين‪،‬‬
‫وفي الثالثة تعرّف إليهم وأمرهم بإحضار‪ d‬أهلهم أجمعين‪ ،‬فجاؤا كلهم‪.‬‬
‫آوى إِلَ ْي ِه أَبَ َو ْي ِه} اجتمع بهم خصوصا ً وحدهما دون اخوته‬ ‫ُف َ‬ ‫{فَلَ َّما َد َخلُوا َعلَى يُوس َ‬
‫ين}‪ .‬قيل‪ :‬هذا من المقدم والمؤخر‪ ،‬تقديره قال ادخلوا‬ ‫ال ا ْد ُخلُوا ِمصْ َر إِ ْن َشا َء هَّللا ُ آ ِمنِ َ‬
‫{ َوقَ َ‬
‫مصر وآوى إليه أبويه‪ .‬وضعفه ابن جرير وهو معذور‪ .‬وقيل‪ :‬بل تلقاهما وآواهما في‬
‫منزل الخيام‪ ،‬ثم لما اقتربوا من باب مصر قال {ا ْد ُخلُوا ِمصْ َر إِ ْن َشا َء هَّللا ُ آ ِمنِ َ‬
‫ين}‪ .‬قاله‬
‫ال ُّسدِّي‪ :‬ولو قيل‪ :‬إن األمر ال يحتاج إلى هذا أيضاً‪ d،‬وانه ضمن قوله‪ :‬ادخلوا بمعنى‪:‬‬
‫ين} لكان صحيحاً‪ d‬مليحا ً أيضا ً‪.‬‬ ‫اسكنوا مصر‪ ،‬أو أقيموا بها {إِ ْن َشا َء هَّللا ُ آ ِمنِ َ‬
‫وعند أهل الكتاب‪ :‬أن يعقوب لما وصل إلى أرض جاشر ‪ -‬وهي أرض بلبيس ‪-‬‬
‫خرج يوسف لتلقيه‪ ،‬وكان يعقوب قد بعث ابنه يهوذا بين يديه مب ّشراً بقدومه‪ ،‬وعندهم أن‬
‫الملك أطلق لهم أرض جاشر‪ ،‬يكونون فيها ويقيمون بها بنعمهم ومواشيهم‪ ،‬وقد ذكر‬
‫جماعة من المفسرين‪ ،‬أنه لما أزف قدوم نبي هللا يعقوب ‪ -‬وهو إسرائيل ‪ -‬أراد يوسف أن‬
‫يخرج لتلقيه فركب معه الملك وجنوده خدمة ليوسف‪ ،‬وتعظيما ً لنبي هللا "إسرائيل"‪ ،‬وأنه‬
‫دعا للملك‪ ،‬وأن هللا رفع عن أهل مصر بقية سنّى الجدب ببركة قدومه إليهم‪ ،‬فاهلل أعلم‪.‬‬
‫وكان جملة من قدم مع يعقوب من بنيه وأوالدهم ‪ -‬فيما قاله أبو إسحاق السبيعي عن‬
‫أبو عبيدة عن ابن مسعود ‪ -‬ثالثة وستين إنسانا ً‪.‬‬
‫وقال موسى بن عبيدة‪ ،‬عن ُم َح ْمد بن كعب‪ ،‬عن عبد هللا بن شداد‪ :‬كانوا ثالثة‬
‫وثمانين إنسانا ً‪.‬‬
‫وقال أبو إسحاق عن مسروق‪ :‬دخلوا وهم ثلثمائة وتسعون إنسانا ً‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وخرجوا مع موسى وهم أزيد من ستمائة ألف مقاتل‪ .‬وفي نص أهل الكتاب‪:‬‬
‫أنهم كانوا سبعين نفسا ً وسموهم‪.‬‬
‫ش} قيل‪ :‬كانت أمه قد ماتت كما هو عند‬ ‫قال هللا تعالى‪َ { :‬و َرفَ َع أَبَ َو ْي ِه َعلَى ْال َعرْ ِ‬
‫علماء التوراة‪ .‬وقال بعض المفسرين‪ :‬أحياها هللا تعالى‪ .‬وقال آخرون‪ :‬بل كانت خالته‬
‫"ليا" والخالة بمنزلة األم‪.‬‬
‫وقال ابن جرير وآخرون‪ :‬بل ظاهر القرآن يقتضي بقاء حياة أمه إلى يومئذ‪ ،‬فال‬
‫يع ّول على نقل أهل الكتاب فيما خالفه‪ ،‬وهذا قوي‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫ورفعهما على العرش‪ ،‬أي أجلسهما معه على سريره { َو َخرُّ وا لَهُ ُسجَّداً} أي سجد له‬
‫األبوان واألخوة األحد عشر تعظيما ً وتكريماً‪ ،‬وكان هذا مشروعا ً لهم‪ ،‬ولم يزل ذلك‬
‫معموالً به في سائر الشرائع حتى حرم في ملّتنا‪.‬‬
‫ت هَ َذا تَأْ ِوي ُل ر ُْؤيَاي ِم ْن قَ ْب ُل} أي هذا تعبير ما كنت قصصته عليك‪ :‬من‬ ‫ال يَا أَبَ ِ‬
‫{ َوقَ َ‬
‫رؤيتي األحد عشر كوكباً‪ ،‬والشمس والقمر‪ ،‬حين رأيتهم لي ساجدين وأمرتني بكتمانها‪،‬‬
‫ووعدتني ما وعدتني عند ذلك {قَ ْد َج َعلَهَا َربِّي َحقّا ً َوقَ ْد أَحْ َس َن بِي إِ ْذ أَ ْخ َر َجنِي ِم ْن‬
‫ال ِّسجْ ِن}‪ .‬أي بعد اله ِّم والضيق جعلني حاكماً‪ ،‬ناف َذ الكلمة‪ ،‬في الديار المصرية حيث شئت‬
‫{ َو َجا َء بِ ُك ْم ِم ْن ْالبَ ْد ِو} أي البادية‪ ،‬وكانوا يسكنون أرض العربات من بالد الخيل { ِم ْن‬
‫اخ َوتِي} أي فيما كان منهم إل ّي من األمر الذي تقدم‬ ‫بَ ْع ِد أَ ْن نَ َز َغ ال ّشيْطان بَ ْينِي َوبَي َْن ْ‬
‫وسبق ذكره‪.‬‬
‫يف لِ َما يَ َشا ُء} أي‪ :‬إذا أراد شيئا ً هيّأ أسبابه ويسّرها وسهلها من‬ ‫ثم قال‪{ :‬إِ َّن َربِّي لَ ِط ٌ‬
‫وجوه ال يهتدي إليها العباد بل يق ّدرها وييسّرها بلطيف صنعه وعظيم قدرته {إِنَّهُ هُ َو‬
‫ْال َعلِي ُم ْال َح ِكي ُم} أي بجميع األمور { ْال َح ِكي ُم} في خلقه وشرعه وقدره‪.‬‬
‫وعند أهل الكتاب أن يوسف باع أهل مصر وغيرهم من الطعام الذي كان تحت يده‬
‫بأموالهم كلها من الذهب والفضة والعقار واألثاث وما يملكونه كله‪ ،‬حتى باعهم بأنفسهم‬
‫فصاروا أرقاء‪ .‬ثم أطلق لهم أرضهم‪ ،‬وأعتق رقابهم‪ ،‬على أن يعملوا ويكون خمس ما‬
‫يشتغلون من زرعهم وثمارهم للملك‪ ،‬فصارت‪ d‬سنة أهل مصر بعده‪.‬‬
‫وحكى الثعلبي‪ :‬أنه كان ال يشبع في تلك السنين حتى ال ينسى الجيعان‪ ،‬وأنه إنما كان‬
‫يأكل أكلة واحدة نصف النهار قال‪ :‬فمن ثم اقتدى به الملوك في ذلك‪ .‬قلت‪ :‬وقد كان أمير‬
‫المؤمنين عمر بن الخطاب‪ d‬رضي هللا عنه ال يشبع بطنه عام الرمادة‪ ،‬حتى ذهب الجدب‬
‫وأتى الخصب‪.‬‬
‫قال الشافعي‪ :‬قال رجل من األعراب لعمر بعد ما ذهب عام الرمادة‪ :‬لقد انجلت‬
‫عنك‪ ،‬وإنك البن حرة‪.‬‬

‫ثم لما رأى يوسف عليه السالم نعمته قد تمت‪ ،‬وشمله قد اجتمع‪ ،‬عرف أن هذه الدار‬
‫ال يقربها قرار‪ .‬وأن كل شيء فيها ومن عليها فان‪ .‬وما بعد التمام إال النقصان فعند ذلك‬
‫أثنى على ربّه بما هو أهله‪ ،‬واعترف له بعظيم إحسانه وفضله‪ .‬وسأل منه ‪ -‬وهو خير‬
‫المسؤولين ‪ -‬أن يتوفاه‪ ،‬أي حين يتوفاه‪ ،‬على اإلسالم‪ .‬وأن يلحقه بعباده الصالحين‪ .‬وهكذا‬
‫كما يقال في الدعاء‪" .‬اللهم أحينا مسلمين وتوفّنا مسلمين" أي حين تتوفانا‪.‬‬
‫ويحتمل أنه سأل ذلك عند احتضاره عليه السالم‪ ،‬كما سأل النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫عند احتضاره أن يرفع روحه إلى المأل األعلى والرفقاء الصالحين‪ ،‬من النبيين‬
‫والمرسلين كما قال اللهم في الرفيق األعلى ‪ -‬ثالثا ‪ -‬ثم قضي‪.‬‬
‫ويحتمل أن يوسف عليه السالم سأل الوفاة على اإلسالم منجزاً في صحة بدنه‬
‫وسالمته‪ ،‬وان ذلك كان سائغا ً في ملتهم وشرعتهم‪ .‬كما روي عن ابن عبَّاس‪ ،‬أنه قال‪ :‬ما‬
‫تمنى نبي قط الموت قبل يوسف‪.‬‬
‫فأما في شريعتنا فقد نهى عن الدعاء بالموت إالّ عند الفتن‪ ،‬كما في حديث معاذ في‬
‫الدعاء الذي رواه أحمد "وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين" وفي الحديث‬
‫اآلخر "ابن آدم الموت خير لك من الفتنة"‪ .‬وقالت مريم عليها السالم‪{ :‬يَا لَ ْيتَنِي ِم ُّ‬
‫ت قَ ْب َل‬
‫نت نَ ْسيًا َم ْن ِسيًّا} وتمنى الموت علي بن أبي طالب لما تفاقمت األمور‪ ،‬وعظمت‬ ‫هَ َذا َو ُك ُ‬
‫ي أبو عبد هللا صاحب‪ d‬الصحيح‬ ‫الفتن واشتد القتال وكثر القيل والقال‪ ،‬وتمنى ذلك الب َُخار ّ‬
‫لما اشتد عليه الحال‪ ،‬ولقي من مخالفيه األهوال‪.‬‬
‫ي ومسلم في "صحيحه"ما من حديث أنس‬ ‫فأما في حال الرفاهية‪ ،‬فقد روى الب َُخار ّ‬
‫بن مالك قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ال يتمنى أحدكم الموت لض ّر نزل به‪،‬‬
‫إما محسنا ً فلعله يزداد‪ ،‬وإما مسيئاً‪ ،‬فلعله يستعتب‪ ،‬ولكن ليقل‪ :‬اللهم أحيني ما كانت‬
‫الحياة خيراً لي‪ ،‬وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي"والمراد بالضر ها هنا ما يخص العبد‬
‫في بدنه من مرض ونحوه ال في دينه‪ .‬والظاهر أن نبي هللا يوسف عليه السالم سأل ذلك‬
‫إما عند احتضاره‪ ،‬أو إذا كان ذلك أن يكون كذلك‪.‬‬

‫وقد ذكر ابن إسحاق عن أهل الكتاب‪ :‬أن يعقوب أقام بديار مصر عند يوسف سبع‬
‫عشرة سنة‪ ،‬ثم توفي عليه السالم‪ ،‬وكان قد أوصى إلى يوسف عليه السالم أن يدفن عند‬
‫صبِّره وسيَّره إلى بالد الشام‪ ،‬فدفنه بالمغارة عند‬ ‫أبويه إبراهيم وإسحاق‪ .‬قال ال ُّسدِّي‪ :‬فَ ُ‬
‫أبيه إسحاق وجده الخليل عليهم السالم‪.‬‬
‫وعند أهل الكتاب‪ :‬أن عمر يعقوب يوم دخل مصر مائة وثالثون سنة‪ .‬وعندهم انه‬
‫أقام بأرض مصر سبع عشرة سنة‪ ،‬ومع هذا قالوا‪ :‬فكان جميع عمره مائة وأربعين سنة‪.‬‬
‫هذا نص كتابهم‪ ،‬وهو غلط إما في النسخة‪ ،‬أو منهم‪ ،‬أو قد اسقطوا الكسر‪ ،‬وليس‬
‫بعادتهم فيما هو أكثر من هذا‪ ،‬فكيف يستعملون هذه الطريقة ها هنا؟‪.‬‬
‫ت إِ ْذ قَا َل لِبَنِي ِه‬
‫وب ْال َم ْو ُ‬
‫ض َر يَ ْعقُ َ‬‫وقد قال تعالى في كتابه العزيز‪{ :‬أَ ْم ُكنتُ ْم ُشهَ َدا َء إِ ْذ َح َ‬
‫ق إِلَها ً َوا ِحداً‬
‫يل َوإِ ْس َحا َ‬ ‫ك إِب َْرا ِهي َم َوإِ ْس َم ِ‬
‫اع َ‬ ‫ون ِم ْن بَ ْع ِدي قَالُوا نَ ْعبُ ُد إِلَهَ َ‬
‫ك َوإِلَهَ آبَائِ َ‬ ‫َما تَ ْعبُ ُد َ‬
‫ون} يوصي بنيه باإلخالص وهو دين اإلسالم الذي بعث هللا به األنبياء‬ ‫َونَحْ ُن لَهُ ُم ْسلِ ُم َ‬
‫عليهم السالم‪.‬‬
‫وقد ذكر أهل الكتاب‪ :‬أنه أوصى بنيه واحداً واحداً‪ ،‬وأخبرهم بما يكون من أمرهم‪،‬‬
‫وب ّشر يهوذا بخروج نب ّي عظيم من نسله‪ ،‬تطيعه الشعوب وهو عيسى بن مريم وهللا أعلم‪.‬‬
‫وذكروا‪ :‬أنه لما مات يعقوب بكى عليه أهل مصر سبعين يوما ً‬
‫وأمر يوسف األطباء فطيبوه بطيب‪ ،‬ومكث فيه أربعين يوما ً ثم استأذن يوسف ملك‬
‫مصر في الخروج مع أبيه ليدفنه عند أهله‪ ،‬فأذن له‪ ،‬وخرج معه أكابر مصر وشيوخها‪،‬‬
‫فل ّما وصلوا حبرون دفنوه في المغارة‪ ،‬التي كان اشتراها إبراهيم الخليل من عفرون بن‬
‫صخر الحيثي‪ ،‬وعملوا له عزاء سبعة أيام‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ثم رجعوا إلى بالدهم وع ّزى اخوة يوسف يوسف في أبيهم‪ ،‬وترققوا له‪،‬‬
‫فأكرمهم وأحسن منقلبهم‪ ،‬فأقاموا ببالد مصر‪.‬‬
‫ثم حضرت يوسف عليه السالم الوفاة فأوصى أن يحمل معهم إذا خرجوا من مصر‬
‫فيدفن عند آبائه‪ ،‬فحنّطوه ووضعوه في تابوت‪ ،‬فكان بمصر حتى أخرجه معه موسى‬
‫عليه السالم‪ ،‬فدفنه عند آبائه كما سيأتي‪ .‬قالوا‪ :‬فمات وهو ابن مائة سنة وعشر سنين‪.‬‬
‫هذا نصهم فيما رأيته وفيما حكاه ابن جرير أيضا ً‪ .‬وقال مبارك بن فضالة عن‬
‫الحسن‪ :‬ألقي يوسف في الجب‪ d‬وهو ابن سبع عشرة سنة‪ ،‬وغاب عن أبيه ثمانين سنة‪،‬‬
‫وعاش بعد ذلك ثالثا ً وعشرين سنة‪ .‬ومات وهو ابن مائة سنة وعشرين سنة‪ .‬وقال غيره‪:‬‬
‫أوصى إلى أخيه يهوذا‪ ،‬صلوات هللا عليه وسالمه‪.‬‬

‫قصة أيوب عليه السالم‬


‫قال ابن إسحاق‪ :‬كان رجالً من الروم‪ ،‬وهو أيوب بن موص بن زراح بن العيص بن‬
‫إسحاق بن إبراهيم الخليل ‪.‬‬
‫وقال غيره‪ :‬هو أيوب بن موص بن رعويل بن العيص بن إسحاق بن يعقوب ‪.‬وقيل ‪:‬‬
‫غير ذلك في نسبه‪ .‬وحكى ابن عساكر أن أمة بنت لوط عليه السالم ‪.‬وقيل كان أبوه ممن‬
‫آمن بإبراهيم عليه السالم‪ ،‬يوم ألقي في النار فلم تحرقه‪.‬‬
‫والمشهور األول‪ ،‬ألنه من ذرية إبراهيم كما قررنا عند قوله تعالى‪َ { :‬و ِم ْن ُذ ِّريَّتِ ِه‬
‫ُون} اآليات من أن الصحيح أن الضمير‬ ‫ُف َو ُمو َسى َوهَار َ‬ ‫ُّوب َويُوس َ‬ ‫ان َوأَي َ‬ ‫َدا ُوو َد َو ُسلَ ْي َم َ‬
‫عائد على إبراهيم دون نوح عليهما السالم‪.‬‬
‫وهو من األنبياء المنصوص على اإليحاء إليهم في سورة النساء‪ ،‬في قوله تعالى‪:‬‬
‫ِّين ِم ْن بَ ْع ِد ِه َوأَ ْو َح ْينَا إِلَى إِب َْرا ِهي َم َوإِ ْس َما ِعي َل‬ ‫ْك َك َما أَ ْو َح ْينَا إِلَى نُ ٍ‬
‫وح َوالنَّبِي َ‬ ‫{إِنَّا أَ ْو َح ْينَا إِلَي َ‬
‫ُّوب} اآلية‪.‬‬‫اط َو ِعي َسى َوأَي َ‬ ‫وب َواألَ ْسبَ ِ‬ ‫ق َويَ ْعقُ َ‬ ‫ْحا َ‬‫َوإِس َ‬
‫فالصحيح أنه من ساللة العيص بن إسحاق‪ ،‬وامرأته قيل‪ :‬اسمها "ليا" بنت يعقوب‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬رحمة بنت أفراثيم‪ .‬وقيل "ليا" بنت منسا بن يوسف بن يعقوب‪ .‬وهذا أشهر‪ ،‬فلهذا‬
‫ذكرناه ها هنا‪.‬‬
‫ثم نعطف بذكر أنبياء بني إسرائيل بعد ذكر قصته إن شاء هللا وبه الثقة وعليه‬
‫التكالن‪.‬‬
‫ين‪،‬‬ ‫ت أَرْ َح ُم الر ِ‬
‫َّاح ِم َ‬ ‫ُّوب إِ ْذ نَا َدى َربَّهُ أَنِّي َم َّسنِي الضُّ رُّ َوأَ ْن َ‬‫قال هللا تعالى‪َ { :‬وأَي َ‬
‫فَا ْستَ َج ْبنَا لَهُ فَ َك َش ْفنَا َما بِ ِه ِم ْن ضُرٍّ َوآتَ ْينَاهُ أَ ْهلَهُ َو ِم ْثلَهُ ْم َم َعهُ ْم َرحْ َمةً ِم ْن ِع ْن ِدنَا َو ِذ ْك َرى‬
‫ُّوب إِ ْذ نَا َدى َربَّهُ أَنِّي َم َّسنِي ال ّشيْطان‬ ‫ين} وقال تعالى في سورة ص { َو ْاذ ُكرْ َع ْب َدنَا أَي َ‬ ‫لِ ْل َعابِ ِد َ‬
‫ار ٌد َو َش َراب‪َ ،‬و َوهَ ْبنَا لَهُ أَ ْهلَهُ َو ِم ْثلَهُ ْم َم َعهُ ْم‬ ‫ك هَ َذا ُم ْغتَ َس ٌل بَ ِ‬‫ب‪ d،‬ارْ ُكضْ بِ ِرجْ لِ َ‬ ‫ب َو َع َذا ٍ‬ ‫بِنُصْ ٍ‬
‫ث إِنَّا َو َج ْدنَاهُ‬‫ض ْغثا ً فَاضْ ِربْ بِ ِه َوال تَحْ نَ ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫َرحْ َمةً ِمنَّا َو ِذ ْك َرى ألُ ْولِي األَ ْلبَاب‪َ d،‬و ُخ ْذ بِيَ ِد َ‬
‫صابِراً نِ ْع َم ْال َع ْب ُد إِنَّهُ أَ َّوابٌ }‪.‬‬ ‫َ‬
‫وروى ابن عساكر من طريق الكلبي‪ ،‬أنه قال‪ :‬أول نبي بعث إدريس‪ ،‬ثم نوح‪ ،‬ثم‬
‫إبراهيم‪ ،‬ثم إسماعيل‪ ،‬ثم إسحاق‪ ،‬ثم يعقوب‪ ،‬ثم يوسف‪ ،‬ثم لوط‪ ،‬ثم هود‪ ،‬ثم صالح‪ ،‬ثم‬
‫شعيب‪ ،‬ثم موسى وهارون‪ ،‬ثم إلياس‪ ،‬ثم اليسع‪ ،‬ثم عرفى بن سويلخ بن أفراثيم بن‬
‫يوسف بن يعقوب‪ ،‬ثم يونس بن متى من بني يعقوب‪ ،‬ثم أيوب بن زراح بن آموص بن‬
‫ليفرز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم‪ .‬وفي بعض هذا الترتيب نظر‪ ،‬فإن هوداً وصالحا ً‬
‫المشهور أنهما بعد نوح‪ .‬وقيل إبراهيم وهللا أعلم‪.‬‬
‫قال علماء التفسير والتاريخ وغيرهم‪ :‬كان أيوب رجالً كثير المال‪ ،‬من سائر صنوفه‬
‫وأنواعه من األنعام والعبيد والمواشي واألراضي المتسعة بأرض الثنية من أرض‬
‫حوران‪.‬وحكى ابن عساكر‪ :‬أنها كلها كانت له‪ ،‬وكان له أوالد وأهلون كثير‪.‬‬

‫فسلب منه ذلك جميعه‪ ،‬وابتلي في جسده بأنواع من البالء‪ ،‬ولم يبق منه عضو سليم‬
‫سوى قلبه ولسانه‪ .‬يذكر هللا عز وجل بهما وهو في ذلك كله صابر محتسب ذاكر هلل عز‬
‫وجل في ليله ونهاره وصباحه ومسائه‪.‬‬
‫وطال مرضه حتى عافه الجليس وأوحش منه األنيس‪ ،‬وأخرج من بلده‪ ،‬وألقي على‬
‫مزبلة خارجها‪ d،‬وانقطع عنه الناس‪ ،‬ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته‪ ،‬كانت ترعى‬
‫له حقه وتعرف قديم إحسانه إليها وشفقته عليها‪ ،‬فكانت تتردد إليه فتصلح من شأنه وتعينه‬
‫على قضاء حاجته وتقوم بمصلحته‪ .‬وضعف حالها‪ ،‬وق َّل ما لها حتى كانت تخدم الناس‬
‫باألجر لتطعمه‪ ،‬وتقوم بأوده رضي هللا عنها وأرضاها‪ d،‬وهي صابرة معه على ما حل‬
‫بهما من فراق المال والولد وما يختص بها من المصيبة بالزوج‪ ،‬وضيق ذات اليد وخدمة‬
‫الناس بعد السعادة والنعمة والخدمة والحرمة‪ ،‬فإنا هلل وإنا إليه راجعون!‪.‬‬
‫وقد ثبت في الصحيح‪ ،‬أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬أشد الناس بالء‬
‫األنبياء‪ .‬ثم الصالحون‪ .‬ثم األمثل فاألمثل"‪ ،‬وقال‪" :‬يبتلي الرجل على حسب دينه‪ ،‬فإن‬
‫كان في دينه صالبة زيد في بالئه"‪.‬‬
‫وقد ثبت في الصحيح أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬أشد حتى أن المثل‬
‫ليضرب بصبره عليه السالم‪ ،‬ويضرب المثل أيضا ً بما حصل له من أنواع الباليا‪.‬‬
‫وقد روي عن وهب بن منبه وغيره من علماء بني إسرائيل في قصة أيوب خبر‬
‫طويل في كيفية ذهاب ماله وولده وبالئه في جسده وهللا أعلم بصحته‪.‬‬
‫وعن مجاهد انه قال‪ :‬كان أيوب عليه السالم أول من أصابه الجدري‪.‬‬

‫وقد اختلفوا في مدة بلواه على أقوال فزعم وهب‪ :‬أنه ابتلي سنين ال تزيد وال تنقص‪.‬‬
‫وقال أنس‪ :‬ابتلى سبع سنين وأشهراً‪ ،‬وألقي على مزبلة لبني إسرائيل‪ ،‬تختلف الدواب في‬
‫جسده حتى فرج هللا عنه‪ ،‬وأعظم له األجر‪ ،‬وأحسن الثناء عليه‪ .‬وقال حميد‪ :‬مكث في‬
‫بلواه ثمانية عشرة سنة‪.‬‬
‫وقال ال ُّسدِّي‪ :‬تساقط لحمه حتى لم يبق إال العظم والعصب‪ .‬فكانت امرأته تأتيه‬
‫بالرّماد تفرشه تحته فلما طال عليها‪ ،‬قالت‪" :‬يا أيوب لو دعوت ربك لفرج عنك فقال قد‬
‫عشت سبعين سنة صحيحاً‪ d‬فهو قليل هلل أن أصبر له سبعين سنة"‪ .‬فجزعت من هذا الكالم‬
‫وكانت تخدم الناس باألجر وتطعم أيوب عليه السالم‪.‬‬
‫ثم إن الناس لم يكونوا يستخدمونها‪ ،‬لعلمهم أنها امرأة أيوب‪ ،‬خوفا ً أن ينالهم من‬
‫بالئه‪ ،‬أو تعديهم بمخالطته‪ ،‬فلما لم تجد أحداً يستخدمها عمدت فباعت لبعض بنات‬
‫األشراف إحدى ضفيرتيها بطعام طيب كثير‪ ،‬فأتت به أيوب‪ ،‬فقال‪ :‬من أين لك هذا؟‬
‫وأنكره‪ ،‬فقالت‪ :‬خدمت به أناساً‪ ،‬فلما كان الغد لم تجد أحداً‪ ،‬فباعت الضفيرة األخرى‬
‫بطعام فأتته به فأنكره أيضاً‪ ،‬وحلف ال يأكله حتى تخبره من أين لها هذا الطعام؟ فكشفت‬
‫عن رأسها خمارها‪ d،‬فلما رأى رأسها محلوقاً‪ ،‬قال في دعائه‪" :‬رب إني مسني الضر‬
‫وأنت أرحم الراحمين"‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم َح َّدثَنا أبي‪َ ،‬ح َّدثَنا أبو سلمة‪َ ،‬ح َّدثَنا جرير بن حازم‪ ،‬عن عبد هللا‬
‫بن عبيد بن عمير قال‪ :‬كان أليوب أخوان فجاءا يوماً‪ ،‬فلم يستطيعا أن يدنوا منه من‬
‫ريحه‪ ،‬فقاما من بعيد‪ ،‬فقال أحدهما لصاحبه‪ :‬لو كان هللا علم من أيوب خيراً ما ابتاله‬
‫بهذا‪ ،‬فجزع أيوب من قولهما جزعا ً لم يجزع مثله من شيء قط‪ ،‬قال‪" :‬اللهم أن كنت تعلم‬
‫أني لم أبت ليلة قط شبعانا ً وأنا اعلم مكان جائع فصدقني) فصدِّق من السماء وهما‬
‫عار‬
‫يسمعان" ثم قال‪" :‬اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط وأنا أعلم مكان ٍ‬
‫فصدقني فص ّدق من السماء وهما يسمعان" ثم قال‪ :‬اللهم بع ّزتك‪ ،‬وخ َّر ساجداً فقال‪ :‬اللهم‬
‫بع ّزتك ال ارفع رأسي أبداً‪ ،‬حتى تكشف عني‪ ،‬فما رفع رأسه حتى كشف عنه‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم وابن جرير جميعا ً‪َ :‬ح َّدثَنا يونس بن عبد األعلى أنبأنا ابن وهب‪،‬‬
‫أخبرني نافع بن يزيد‪ ،‬عن عقيل‪ ،‬عن الزهري‪ ،‬عن أنس بن مالك أن النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم قال‪" :‬إن نبي هللا أيوب لبث به بالؤه ثماني عشرة سنة‪ ،‬فرفضه القريب‬
‫والبعيد‪ ،‬إال رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه له‪ ،‬كانا يغدوان إليه ويروحان‪،‬‬
‫فقال‪ :‬أحدهما لصاحبه تعلم وهللا لقد أذنب أيوب ذنبا ً ما أذنبه أحد من العالمين‪ .‬قال له‬
‫صاحبه‪ :‬وما ذاك؟ قال‪ :‬منذ ثماني عشر سنة لم يرحمه ربه فيكشف ما به‪ .‬فلما راحا إليه‬
‫لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له‪ .‬فقال أيوب‪ :‬ال ادري ما تقول غير أن هللا عز وجل‬
‫يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران هللا فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما‬
‫كراهية أن يذكرا هللا إال في حق‪.‬‬
‫قال وكان يخرج في حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يرجع‪ ،‬فلما كان‬
‫ك هَ َذا ُم ْغتَ َس ٌل بَ ِ‬
‫ار ٌد‬ ‫ذات يوم أبطأت عليه فأوحى هللا إلى أيوب في مكانه أن {ارْ ُكضْ بِ ِرجْ لِ َ‬
‫َو َش َرابٌ }فاستبطأته فتلقته تنظر‪ ،‬وأقبل عليها قد أذهب هللا ما به من البالء‪ ،‬وهو على‬
‫ي هللا هذا المبتلى؟ فو هللاِ‬ ‫أحسن ما كان‪ ،‬فلما رأته‪ ،‬قالت‪ :‬أي بارك هللا فيك هل رأيت نب َّ‬
‫القدير على ذلك ما رأيت رجالً أشبه به منك إذ كان صحيحاً‪ d‬قال‪ :‬فإني أنا هو‪ .‬قال‪ :‬وكان‬
‫له اندران‪ ،‬اندر للقمح وأندر للشعير‪ ،‬فبعث هللا سحابتين‪ ،‬فلما كانت أحداهما على أندر‬
‫ق حتى‬ ‫الور َ‬
‫ِ‬ ‫القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض‪ ،‬وأفرغت األخرى في أندر الشعير‬
‫فاض"‪.‬‬

‫هذا لفظ ابن جرير‪ ،‬وهكذا رواه بتمامه ابن حبان في "صحيحه" عن ُم َح ْمد بن‬
‫الحسن بن قتيبة عن ابن وهب به‪ .‬وهذا غريب رفعه جداً‪ ،‬واألشبه أن يكون موقوفا ً‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم‪َ :‬ح َّدثَنا أبي‪َ ،‬ح َّدثَنا موسى بن إسماعيل‪َ ،‬ح َّدثَنا حماد‪ ،‬أنبأنا علي بن‬
‫زيد‪ ،‬عن يوسف بن مهران‪ ،‬عن ابن عبَّاس قال‪ :‬وألبسه هللا حلة من الجنَّة فتنحّى أيوب‪،‬‬
‫وجلس في ناحية‪ ،‬وجاءت امرأته فلم تعرفه‪ ،‬فقالت‪ :‬يا عبد هللا هذا المبتلى الذي كان‬
‫هاهنا‪ ،‬لعل الكالب ذهبت به‪ ،‬أو الذئاب؟ وجعلت تكلمه ساعة‪ .‬قال‪ :‬ويحك أنا أيوب‪،‬‬
‫قالت‪ :‬أتسخر مني يا عبد هللا؟ فقال‪ :‬ويحك أنا أيوب قد رد هللا عل ّي جسدي‪.‬‬
‫قال ابن عبَّاس‪ :‬ورد هللا عليه ماله وولده بأعيانهم ومثلهم معهم‪.‬‬
‫وقال وهب بن منبه‪ :‬أوحى هللا إليه‪ ( :‬قد رددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم‪،‬‬
‫فاغت ِسلْ بهذا الماء‪ ،‬فإن فيه شفاءك‪ ،‬وق ِّربْ عن صحابتك قرباناً‪ ،‬واستغفر لهم‪ ،‬فإنهم قد‬
‫عصوني فيك)‪.‬‬
‫رواه ابن أبي حاتم‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم‪َ ،‬ح َّدثَنا أبو زرعة‪َ ،‬ح َّدثَنا عمرو بن مرزوق‪َ ،‬ح َّدثَنا همام‪ ،‬عن‬
‫قتادة‪ ،‬عن النضر بن أنس‪ ،‬عن بشير بن نهيك‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬عن النبي‪ ،‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم قال ‪" :‬لما عافى هللا أيوب عليه السالم أمطر عليه جراداً من ذهب‪ ،‬فجعل‬
‫يأخذ بيده ويجعل في ثوبه‪ ،‬قال‪ :‬فقيل له‪ :‬يا أيوب أما تشبع؟ قال‪ :‬يا ربّ ومن يشبع من‬
‫رحمتك؟!"‪.‬‬
‫وهكذا رواه اإلمام أحمد عن أبي داود الطيالسي‪ ،‬وعبد الصمد عن همام عن قتادة به‪.‬‬
‫ورواه ابن حبان في "صحيحه" عن عبد هللا بن محمد األزدي‪ ،‬عن اسحاق بن راهويه‪،‬‬
‫عن عبد الصمد به‪ .‬ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب‪ ،‬وهو على شرط الصحيح‪ ،‬فاهلل‬
‫أعلم‪.‬‬
‫وقال اإلمام أحمد َح َّدثَنا سفيان‪ ،‬عن أبي الزناد‪ ،‬عن األعرج‪ ،‬عن أبي هريرة أُرْ ِس َل‬
‫أيوب ِرجْ ٌل من جراد من ذهب‪ ،‬فجعل يقبضها في ثوبه‪ ،‬فقيل‪ :‬يا أيوب ألم يكفك ما‬ ‫َ‬ ‫على‬
‫أعطيناك؟ قال‪ :‬أي رب ومن يستغني عن فضلك!‪.‬‬
‫هذا موقوف‪ .‬وقد روي عن أبي هريرة من وجه آخر مرفوعا‪.‬‬
‫وقال اإلمام أحمد َح َّدثَنا عبد الرزاق َح َّدثَنا معمر‪ ،‬عن همام بن منبه قال‪ :‬هذا ما‬
‫َح َّدثَنا أبو هريرة قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬بينما أيوب يغتسل عريانا ً َخ ّر‬
‫عليه رجل جرا ٌد من ذهب‪ ،‬فجعل أيوب يحثي في ثوبه‪ ،‬فناداه ربه عز وجل يا أيوب ألم‬
‫أكن أغنيتك عما ترى قال‪ :‬بلى يا رب‪ ،‬ولكن ال غنى لي عن بركتك"‪.‬‬
‫ي من حديث عبد الرزاق به‪.‬‬ ‫رواه البُ َخار ّ‬
‫ك} أي‪ :‬اضرب األرض برجلك‪ .‬فامتثل ما أمر به‪ ،‬فأنبع هللا له‬ ‫وقوله {ارْ ُكضْ بِ ِرجْ لِ َ‬
‫عينا ً باردة الماء‪ d،‬وأمر أن يغتسل فيها‪ ،‬ويشرب منها‪ .‬فأذهب هللا عنه ما كان يجده من‬
‫األلم واألذى والسقم والمرض‪ ،‬الذي كان في جسده ظاهراً وباطنا ًوأبدله هللا بعد ذلك كله‬
‫صحة ظاهرة وباطنة‪ ،‬وجماالً تاما ً وماالً كثيراً‪ ،‬حتى صب له من المال صبّا ً مطراً‬
‫عظيما ً جراداً من ذهب‪.‬‬
‫واخلف هللا له أهله كما قال تعالى‪َ { :‬وآتَ ْينَاهُ أَ ْهلَهُ َو ِم ْثلَهُ ْم َم َعهُ ْم} فقيل‪ :‬أحياهم هللا‬
‫بأعيانهم‪ .‬وقيل‪ :‬آجره فيمن سلف وعوضه عنهم في الدنيا بدلهم‪ ،‬وجمع له شمله بكلهم في‬
‫ض ٍّر}‬ ‫الدار اآلخرة‪ .‬وقوله‪َ { :‬رحْ َمةً ِم ْن ِع ْن ِدنَا} أي رفعنا عنه شدته {فَ َك َش ْفنَا َما بِ ِه ِم ْن ُ‬
‫ين} أي تذكرة لمن ابتلي في جسده أو ماله أو‬ ‫رحمه منا به ورأفة وإحسانا ً { َو ِذ ْك َرى لِ ْل َعابِ ِد َ‬
‫ولده‪ ،‬فله أسوة بنبي هللا أيوب‪ ،‬حيث ابتاله هللا بما هو أعظم من ذلك فصبر واحتسب حتى‬
‫فرج هللا عنه‪.‬‬
‫ومن فهم من هذا اسم امرأته فقال‪ :‬هي " َرحْ َمة" من هذه اآلية‪ ،‬فقد أبعد النجعة‬
‫وأغرق النزع‪ .‬وقال الضحاك‪ d‬عن ابن عبَّاس رد هللا إليها شبابها وزادها حتى ولدت له‬
‫ستة وعشرون ولداً ذكراً‪.‬‬
‫وعاش أيوب بعد ذلك سبعين سنة بأرض الروم على دين الحنيفية‪ ،‬ثم غيروا بعده‬
‫صابِراً نِ ْع َم ْال َع ْب ُد‬
‫ث إِنَّا َو َج ْدنَاهُ َ‬‫ب بِ ِه َوال تَحْ نَ ْ‬
‫ض ْغثا ً فَاضْ ِر ْ‪d‬‬ ‫ك ِ‬ ‫دين إبراهيم‪ .‬وقوله‪َ { :‬و ُخ ْذ بِيَ ِد َ‬
‫إِنَّهُ أَ َّوابٌ } هذه رخصة من هللا تعالى لعبده ورسوله أيوب عليه السالم فيما كان من حلفه‪،‬‬
‫ليضربن امرأته مائة سوط‪ ،‬فقيل‪ :‬حلفه ذلك لبيعها ضفائرها‪ .‬وقيل‪ :‬ألنه عرضها‬
‫ال ّشيْطان في صورة طبيب‪ ،‬يصف لها دواء أليوب‪ ،‬فأتته فأخبرته فعرف انه ال ّشيْطان‪،‬‬
‫فحلف ليضربها مائة سوط‪ .‬فلما عافاه هللا عز وجل أفتاه أن يأخذ ضغثا ً وهو كالعثكال‬
‫الذي يجمع الشماريخ فيجمعها كلها ويضربها به ضربة واحدة ويكون هذا منزالً منزلة‬
‫الضّرب بمائة سوط ويب ّر وال يحنث‪.‬‬

‫ج والمخرج لمن اتقى هللا وأطاعه‪ ،‬وال سيما في حق امرأته الصابرة‬ ‫وهذا من الفَ َر ِ‬
‫المحتسبة المكابدة الصديقة البارة الراشدة رضي هللا عنها‪.‬‬
‫صابِراً نِ ْع َم ْال َع ْب ُد إِنَّهُ أَ َّوابٌ } وقد‬
‫ولهذا عقب هللا الرخصة وعللها بقوله {إِنَّا َو َج ْدنَاهُ َ‬
‫استعمل كثير من الفقهاء هذه الرخصة في باب األيمان والنذور‪ ،‬وتوسّع آخرون فيها حتى‬
‫وضعوا كتاب الحيل في الخالص من األيمان‪ ،‬وص َّدرُوه بهذه اآلية الكريمة‪ ،‬وأتوا فيه‬
‫بأشياء من العجائب والغرائب‪ .‬وسنذكر طرفا ً من ذلك في كتاب األحكام عند الوصول‬
‫إليه إن شاء هللا تعالى‪.‬‬
‫وقد ذكر ابن جرير وغيره من علماء التاريخ أن أيوب عليه السالم لما توفي كان‬
‫عمره ثالثا ً وتسعين سنة‪ .‬وقيل‪ :‬إنه عاش اكثر من ذلك‪.‬‬
‫وقد روى ليث عن مجاهد ما معناه أن هللا يحتج يوم القيامة بسليمان عليه السالم على‬
‫األغنياء‪ ،‬وبيوسف عليه السالم على األرقّاء‪ ،‬وبأيوب عليه السالم على أهل البالء‪ .‬رواه‬
‫ابن عساكر بمعناه‪.‬‬
‫وأنه أوصى إلى ولده حومل‪ ،‬وقام باألمر بعده ولده بشر بن أيوب‪ ،‬وهو الذي يزعم‬
‫كثير من الناس أنه ذو الكفل فاهلل أعلم‪ .‬ومات ابنه هذا وكان نبيا ً فيما يزعمون‪ ،‬وكان‬
‫عمره من السنين خمسا ً وسبعين‪.‬‬
‫ولنذكر ها هنا قصّة ذي الكفل‪ ،‬إذ قال بعضهم إنه ابن أيوب عليهما السالم وهذه هي‪.‬‬

‫قصة ذي الكفل الذي زعم قوم أنه ابن أيوب‪.‬‬


‫قال هللا تعالى بعد قصة أيوب في سورة األنبياء { َوأَ ْد َخ ْلنَاهُ ْم فِي َرحْ َمتِنَا إِنَّهُ ْم ِم ْن‬
‫ين}‪ .‬وقال تعالى بعد قصة أيوب أيضا ً في سورة ص { َو ْاذ ُكرْ ِعبَا َدنَا إ ْب َرا ِهي َم‬ ‫الصَّالِ ِح َ‬
‫ار‪َ ،‬وإِنَّهُ ْم‬‫ص ٍة ِذ ْك َرى ال َّد ِ‬ ‫ار‪ ،‬إِنَّا أَ ْخلَصْ نَاهُ ْم بِ َخالِ َ‬ ‫وب أُ ْولِي األَ ْي ِدي َواألَب َ‬
‫ْص ِ‬ ‫ق َويَ ْعقُ َ‬‫ْحا َ‬ ‫َوإِس َ‬
‫ار}‪.‬‬ ‫يل َو ْاليَ َس َع َو َذا ْال ِك ْف ِل َو ُكلٌّ ِم ْن األَ ْخيَ ِ‬
‫اع َ‬‫ِع ْن َدنَا لَ ِم ْن ْال ُمصْ طَفَي َْن األَ ْخيَار‪َ ،‬و ْاذ ُكرْ إِ ْس َم ِ‬
‫فالظاهر من ذكره في القرآن العظيم بالثناء عليه مقرونا ً مع هؤالء السادة األنبياء أنه‬
‫نبي عليه من ربه الصالة والسالم وهذا هو المشهور‪.‬‬
‫وقد زعم آخرون أنه لم يكن نبيا ً وإنما كان رجالً صالحا ً وحكما ً مقسطا ً عادالً‪.‬‬
‫وتوقف ابن جرير في ذلك فاهلل أعلم‪.‬‬
‫وروى ابن جرير وأبو نجيح عن مجاهد أنه لم يكن نبياً‪ ،‬وإنما كان رجالً صالحاً‪.d‬‬
‫وكان قد تكفل لبني قومه أن يكفيهم أمرهم‪ ،‬ويقضي بينهم بالعدل فيفعل فسمي ذا‬
‫الكفل‪.‬‬
‫وروى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق داود بن أبي هند عن مجاهد أنه قال‪ :‬لما‬
‫كبر اليسع قال لو أني استخلفت رجالً على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف‬
‫يعمل؟ فجمع الناس فقال‪ :‬من يتقبل لي بثالث استخلفه‪ :‬يصوم النهار‪ ،‬ويقوم الليل‪ d،‬وال‬
‫يغضب‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقام رجل تزدريه العين‪ ،‬فقال‪ :‬أنا‪ ،‬فقال‪ :‬أنت تصوم النهار‪ ،‬وتقوم الليل‪ ،‬وال‬
‫تغضب؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬فر ّدهم ذلك اليوم‪ ،‬وقال مثلها اليوم اآلخر‪ ،‬فسكت الناس وقام ذلك‬
‫الرجل فقال أنا‪ ،‬فاستخلفه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فجعل إبليس يقول للشياطين‪ :‬عليكم بفالن‪ ،‬فأعياهم ذلك‪ .‬فقال دعوني وإياه فاتاه‬
‫في صورة شيخ كبير فقير‪ ،‬وأتاه حين اخذ مضجعه للقائلة‪ ،‬وكان ال ينام الليل والنهار‪ ،‬إال‬
‫ق الباب‪ .‬فقال‪ :‬من هذا؟ قال‪ :‬شيخ كبير مظلوم‪ .‬قال‪ :‬فقام ففتح الباب فجعل‬ ‫تلك النّومة فد ّ‬
‫إن بيني وبين قومي خصومة‪ ،‬وإنهم ظلموني وفعلوا بي وفعلوا وجعل‬ ‫يقص عليه‪ ،‬فقال َّ‬
‫يطول عليه حتى حضر الرواح‪ d،‬وذهبت القائلة‪ .‬وقال‪ :‬إذا رحت فإنني آخذ لك بحقّك‪.‬‬
‫فانطلق وراح‪ .‬فكان في مجلسه فجعل ينظر هل يرى الشيخ‪ ،‬فلم يره‪ ،‬فقام يتبعه‪ ،‬فلما‬
‫كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فال يراه‪ .‬فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه‪،‬‬
‫أتاه فدق الباب‪ ،‬فقال‪ :‬من هذا؟ فقال الشيخ الكبير المظلوم‪ .‬ففتح له فقال‪ :‬ألم أقل لك إذا‬
‫قعدت فاتني؟ فقال‪ :‬إنهم اخبث قوم إذا عرفوا انك قاعد‪ ،‬قالوا‪ :‬نحن نعطيك حقك‪ ،‬وإذا‬
‫قمت جحدوني‪ .‬قال‪ :‬فانطلق فإذا رحت فأتني‪.‬‬
‫قال‪ :‬ففاتته القائلة‪ ،‬فراح فجعل ينتظر فال يراه وشق عليه النعاس‪ ،‬فقال لبعض أهله‪:‬‬
‫تدعن أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام‪ ،‬فإني قد شق عل ّي النوم‪ .‬فلما كان تلك الساعة‬ ‫َّ‬ ‫ال‬
‫جاء فقال له الرجل وراءك وراءك‪ ،‬فقال‪ :‬قد أتيته أمس‪ ،‬فذكرت له أمري‪ ،‬فقال‪ :‬ال وهللا‬
‫لقد أمرنا أن ال ندع أحداً يقربه‪ ،‬فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسّور منها فإذا هو‬
‫في البيت‪ ،‬وإذا هو يدق الباب من داخل‪ ،‬قال فاستيقظ الرجل‪ d،‬فقال‪ :‬يا فالن ألم آمرك؟‬
‫قال‪ :‬أ ّما من قبلي وهللاِ فلم تؤت‪ ،‬فانظر من أين أتيت؟‬
‫قال‪ :‬فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه؟ وإذا الرجل معه في البيت‪ ،‬فعرفه فقال‪:‬‬
‫أَ َع ُد َّو هللاِ؟ قال‪ :‬نعم أعييتني في كل شيء ففعلت كل ما ترى ألغضبك‪.‬‬
‫فسماه هللا ذا الكفل ألنه تكفل بأمر فوفى به! **‬
‫وقد روى ابن أبي حاتم أيضا ً عن ابن عبَّاس قريبا ً من هذا السياق وهكذا روى عن‬
‫عبد هللا بن الحارث و ُم َح ْمد بن قيس وابن حجيرة األكبر‪ ،‬وغيرهم من السلف نحو هذا‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم‪َ :‬ح َّدثَنا أبي‪َ ،‬ح َّدثَنا أبو الجماهر‪ d،‬أنبأنا سعيد بن بشير َح َّدثَنا قتادة‬
‫عن كنانة بن األخنس قال سمعت األشعري ‪ -‬يعني أبا موسى رضي هللا عنه ‪ -‬وهو على‬
‫هذا المنبر يقول‪ :‬ما كان ذو الكفل نبيّاً‪ ،‬ولكن كان رجالً صالح يصلّي كل يوم مائة صالة‪،‬‬
‫فتكفّل له ذو الكفل من بعده يصلّي كل يوم مائة صالة‪ ،‬فسمى ذا الكفل ‪.‬‬

‫ورواه ابن جرير من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال‪ :‬قال أبو موسى‬
‫األشعري فذكره منقطعا ً‪.‬‬
‫فأما الحديث الذي رواه اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا أسباط بن محمد‪َ ،‬ح َّدثَنا األعمش‪ ،‬عن عبد‬
‫هللا بن عبد هللا‪ ،‬عن سعد مولى طلحة‪ ،‬عن ابن عمر قال‪ :‬سمعت من رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم حديثا ً لو لم أسمعه إال مرة أو مرتين ‪ -‬حتى عد سبع مرار ‪ ، -‬لم أحدث به‬
‫ولكني قد سمعته أكثر من ذلك‪ .‬قال‪ :‬كان الكفل من بني إسرائيل ال يتورّع من ذنب عمله‬
‫فأتته امرأة فأعطاها ستين ديناراً على أن يطأها‪ ،‬فل ّما قعد منها مقعد الرجل من امرأته‪،‬‬
‫أرعدت وبكت‪ ،‬فقال لها‪ :‬ما يبكيك أأكرهتك؟ قالت‪ :‬ال‪ ،‬ولكن هذا عمل لم أعمله قط‪،‬‬
‫وإنما حملتني إليه الحاجة‪ d،‬قال‪ :‬فتفعلين هذا ولم تفعليه قط‪ .‬ثم نزل فقال‪ :‬اذهبي بالدنانير‬
‫لك‪ .‬ثم قال‪ :‬وهللا ال يعصي هللا الكفل أبداً‪ ،‬فمات من ليلته فأصبح مكتوبا ً على بابه قد غفر‬
‫هللا للكفل!‬
‫ورواه الترمذي من حديث األعمش به وقال حسن‪ ،‬وذكر أن بعضهم رواه فوقفه‬
‫على ابن عمر‪.‬‬
‫فهو حديث غريب جداً وفي إسناده نظر فان سعداً هذا قال أبو حاتم‪ :‬ال أعرفه إال‬
‫بحديث واحد‪ .‬ووثقه ابن حبان‪ ،‬ولم يرو عنه سوى عبد هللا بن عبد هللا الرازي هذا‪ .‬فاهلل‬
‫أعلم‪.‬‬
‫وان كان محفوظا فليس هو ذا الكفل وإنما لفظ الحديث الكفل من غير إضافة فهو‬
‫رجل آخر غير المذكور في القرآن‪ .‬فاهلل تعالى أعلم‪.‬‬

‫باب ذكر أُ َمم أُهلكوا ب َعا ّمة‪.‬‬


‫اب ِم ْن بَ ْع ِد َما أَ ْهلَ ْكنَا‬
‫وذلك قبل نزول التوراة بدليل قوله تعالى‪َ { :‬ولَقَ ْد آتَ ْينَا ُمو َسى ْال ِكتَ َ‬
‫ُون األُولَى} اآلية‪.‬‬ ‫ْالقُر َ‬
‫كما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والبزار من حديث عوف األعرابي عن أبي‬
‫نضرة عن أبي سعيد الخدري قال‪ :‬ما أهلك هللا قوما ً بعذاب من السماء أو من األرض بعد‬
‫ما أنزلت التوراة على وجه األرض غير القرية التي مسخوا قردة ألم تر أن هللا تعالى‬
‫ُون األُولَى}‪.‬‬‫اب ِم ْن بَ ْع ِد َما أَ ْهلَ ْكنَا ْالقُر َ‬
‫يقول‪َ { :‬ولَقَ ْد آتَ ْينَا ُمو َسى ْال ِكتَ َ‬
‫ورفعه البزار في رواية له‪ .‬واألشبه وهللا أعلم وقفه‪ ،‬فدل على أن كل أمة أهلكت‬
‫بعامة قبل موسى عليه السالم‪.‬‬
‫فمنهم‪:‬‬
‫أصحاب الرَّسِّ‬
‫ك‬ ‫قال هللا تعالى في سورة الفرقان { َو َعاداً َوثَ ُمو َد َوأَصْ َح َ‪d‬‬
‫اب الرَّسِّ َوقُرُونا ً بَي َْن َذلِ َ‬
‫ال َو ُكاّل ً تَبَّرْ نَا تَ ْتبِيراً} وقال هللا تعالى في صورة ق‪َ { :‬ك َّذبَ ْ‬
‫ت‬ ‫ض َر ْبنَا لَهُ األَ ْمثَ َ‬ ‫َكثِيراً‪َ ،‬و ُكال َ‬
‫وط‪َ ،‬وأَصْ َحابُ األَ ْي َك ِة‬ ‫وح َوأَصْ َحابُ الرَّسِّ َوثَ ُمو ُد‪َ ،‬و َعا ٌد َوفِرْ َع ْو ُن َوإِ ْخ َو ُ‬
‫ان لُ ٍ‬ ‫قَ ْبلَهُ ْم قَ ْو ُم نُ ٍ‬
‫ق َو ِعي ِد}‪.‬‬‫ب الرُّ س َُل فَ َح َّ‬ ‫َوقَ ْو ُم تُب ٍَّع ُكلٌّ َك َّذ َ‬

‫وهذا السياق والذي قبله يدل على أنهم أهلكوا ودمروا‪ ،‬وتبرّوا وهو الهالك‪.‬‬
‫وهذا يرد اختيار ابن جرير من أنهم أصحاب‪ d‬األخدود الذين ذكروا في سورة‬
‫ألن أولئك عند بن إسحاق وجماعة كانوا بعد المسيح عليه السالم وفيه نظر‬ ‫البروج‪ّ ،‬‬
‫أيضا ً‪.‬‬
‫وروى ابن جرير قال‪ :‬قال ابن عبَّاس‪ :‬أصحاب الرس أهل قرية من قرى ثمود‪.‬‬
‫وقد ذكر الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر في أول تاريخه عند ذكر بناء دمشق‬
‫عن تاريخ أبي القاسم عبد هللا بن عبد هللا بن جرداد وغيره أن أصحاب الرس كانوا‬
‫ض َّور‪ ،‬فبعث هللا إليهم نبيّا ً يقال له‪ :‬حنظلة بن صفوان‪ ،‬فكذبوه وقتلوه‪ ،‬فسار عاد بن‬ ‫بِ َح َ‬
‫عوص بن ارم بن سام بن نوح بولده من الرس‪ ،‬فنزل األحقاف‪ d،‬وأهلك هللا أصحاب‪d‬‬
‫الرَّس‪ ،‬وانتشروا في اليمن كلها‪ ،‬وفشوا مع ذلك في األرض كلها‪ ،‬حتى نزل جيرون بن‬
‫سعد بن عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح دمشق‪ ،‬وبنى مدينتها‪ ،‬وسماها جيرون‪،‬‬
‫وهي ارم ذات العماد‪ ،‬وليس أعمدة الحجارة‪ d‬في موضع أكثر منها بدمشق‪ ،‬فبعث هللا هود‬
‫بن عبد هللا بن رباح بن خالد بن الحلود بن عاد إلى عاد‪ ،‬يعني أوالد عاد باألحقاف‪،‬‬
‫فكذبوه فأهلكم هللا عز وجل‪.‬‬
‫فهذا يقتضي أن أصحاب‪ d‬الرس قبل عاد بدهور متطاولة فاهلل أعلم‪.‬‬
‫وروى ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن أبي عاصم عن أبيه عن شبيب بن بشر عن‬
‫عكرمة عن ابن عبَّاس قال‪ :‬الرس بئر بأذربيجان‪ .‬وقال الثوري عن أبي بكر عن عكرمة‬
‫قال‪ :‬الرس بئر رسّوا فيها نبيَّهم‪ ،‬أي دفنوه فيها‪.‬‬
‫قال ابن ج َُريْج قال عكرمة‪ :‬أصحاب الرَّسِّ بفلج‪ ،‬وهم أصحاب يس‪ .‬وقال قتادة‪ :‬فلج‬
‫من قرى اليمامة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فإن كانوا أصحاب ياسين كما زعمه عكرمة فقد أهلكوا بعامة‪ ،‬قال هللا تعالى‬
‫ون} وستأتي قصتهم بعد هؤالء‪.‬‬ ‫اح َدةً فَإِ َذا هُ ْم َخا ِم ُد َ‬ ‫ت إِاَّل َ‬
‫صي َْحةً َو ِ‬ ‫في قصتهم‪{ :‬إِ ْن َكانَ ْ‬
‫وإن كانوا غيرهم وهو الظاهر فقد اهلكوا أيضا ً وتبرّوا‪ .‬وعلى كل تقدير فينافي ما‬
‫ذكره ابن جرير‪.‬‬
‫وقد ذكر أبو بكر ُم َح ْمد بن الحسن النقاش أن أصحاب‪ d‬الرس كانت لهم بئر ترويهم‬
‫وتكفي أرضهم جميعها‪ ،‬وكان لهم ملك عادل حسن السيرة‪ ،‬فلما مات وجدوا عليه وجداً‬
‫عظيماً‪ ،‬فلما كان بعد أيام تص ّور لهم ال ّشيْطان في صورته‪ ،‬وقال‪ :‬إني لم أمت‪ ،‬ولكن‬
‫تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم‪ ،‬ففرحوا أشد الفرح وأمر بضرب حجاب بينهم وبينه‪،‬‬
‫وأخبرهم أنه ال يموت أبداً‪ ،‬فصدق به أكثرهم وافتتنوا به وعبدوه‪ .‬فبعث هللا فيهم نبيا ً‬
‫فأخبرهم أن هذا شيطان يخاطبهم من وراء الحجاب‪ d،‬ونهاهم عن عبادته‪ ،‬وأمرهم بعبادة‬
‫هللا وحده ال شريك له‪.‬‬
‫دوا عليه‬ ‫قال السهيلي‪ :‬وكان يوحى إليه في النوم‪ ،‬وكان اسمه حنظلة بن صفوان‪ ،‬فَ َع ْ‬
‫فقتلوه‪ ،‬وألقوه في البئر‪ ،‬فغار ماؤها‪ ،‬وعطشوا بعد ريهم‪ ،‬ويبست أشجارهم وانقطعت‬
‫ثمارهم‪ ،‬وخربت ديارهم‪ ،‬وتبدلوا بعد األنس بالوحشة وبعد االجتماع بالفرقة وهلكوا عن‬
‫أخرهم‪ ،‬وسكن في مساكنهم الجن والوحوش‪ ،‬فال يسمع ببقاعهم إال عزيف الجن وزئير‬
‫األسود وصوت الضباع‪.‬‬
‫فأما ما رواه ‪ -‬أعني ابن جرير ‪ -‬عن ُم َح ْمد بن حميد عن سلمة عن ابن إسحاق عن‬
‫ُم َح ْمد بن كعب القرظي قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬إن أول الناس يدخل‬
‫الجنَّة يوم القيامة العبد األسود" وذلك أن هللا تعالى بعث نبيا ً إلى أهل قرية فلم يؤمن به‬
‫من أهلها إال ذلك العبد األسود‪ .‬ثم إن أهل القرية عدوا على النبي فحفروا له بئراً فألقوه‬
‫فيها‪ ،‬ثم أطبقوا عليه بحجر أصم‪ ،‬قال‪ :‬فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره ثم يأتي‬
‫بحطبه فيبيعه ويشتري به طعاما ً وشراباً‪ ،‬ثم يأتي به إلى تلك البئر فيرفع تلك الصخرة‬
‫ويعينه هللا عليها ويدلى إليه طعامه وشرابه ثم يردها‪ ،‬كما كانت‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكان كذلك ما شاء هللا أن يكون‪ .‬ثم إنه ذهب يوما ً يحتطب كما كان يصنع‪،‬‬
‫فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها‪ ،‬فلما أراد أن يحتملها وجد َسنَةً‪ ،‬فاضطجع ينام‬
‫فضرب هللا على أذنه سبع سنين نائماً‪ ،‬ثم إنه هب فتمطّى‪ ،‬وتح ّول لشقه اآلخر فاضطجع‬
‫فضرب هللا على أذنه سبع سنين أخرى‪ ،‬ثم إنه هب واحتمل حزمته‪ ،‬وال يحسب أنه نام‬
‫إال ساعة من نهار فجاء إلى القرية فباع حزمته‪ ،‬ثم اشترى طعاما ً وشرابا ً كما كان‬
‫يصنع‪ .‬ثم إنه ذهب إلى الحفيرة إلى موضعها الذي كانت فيه فالتمسه فلم يجده‪ ،‬وقد كان‬
‫بدا لقومه فيه بداء‪ ،‬فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه‪.‬‬

‫قال فكان نبيهم يسألهم عن ذلك األسود ما فعل؟ فيقولون له‪ :‬ما ندري حتى قبض هللا‬
‫النبي عليه السالم‪ ،‬وهبَّ األسود من نومته بعد ذلك‪ ،‬فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫"إن ذلك األسود ألول من يدخل الجنَّة"‪.‬‬
‫فإنه حديث مرسل ومثله فيه نظر‪ .‬ولعل بسط قصته من كالم ُم َح ْمد بن كعب القرظي‬
‫وهللا أعلم‪.‬‬
‫ثم قد رده ابن جرير نفسه وقال‪ :‬ال يجوز أن يحمل هؤالء على أنهم أصحاب الرس‬
‫المذكورون في القرآن‪ ،‬قال‪َّ :‬‬
‫ألن هللا أخبر عن أصحاب‪ d‬الرَّسِّ انه أهلكهم‪ ،‬وهؤالء قد بدا‬
‫لهم فآمنوا بنبيهم‪ .‬اللهم إال أن يكون حدثت لهم أحداث‪ d،‬آمنوا بالنبي بعد هالك آبائهم وهللا‬
‫أعلم‪ .‬ثم اختار أنهم أصحاب األخدود‪ ،‬وهو ضعيف لما تقدم ولما ذكر في قصة أصحاب‪d‬‬
‫األخدود حيث تو ّعدوا بالعذاب في اآلخرة إن لم يتوبوا ولم يذكر هالكهم‪ ،‬وقد صرح‬
‫بهالك أصحاب الرَّسِّ وهللا تعالى أعلم‪.‬‬

‫قصّة قوم يس‬


‫اب‬‫ومنهم أصحاب‪ d‬القرية أصحاب يس قال هللا تعالى‪َ { :‬واضْ ِربْ لَهُ ْم َمثَال أَصْ َح َ‬
‫ث فَقَالُوا إِنَّا إِلَ ْي ُك ْم‬ ‫ون‪ ،‬إِ ْذ أَرْ َس ْلنَا إِلَ ْي ِه ْم ْاثنَ ْي ِن فَ َك َّذبُوهُ َما فَ َع َّز ْزنَا بِثَالِ ٍ‬
‫ْالقَرْ يَ ِة إِ ْذ َجا َءهَا ْال ُمرْ َسلُ َ‬
‫ُون‪ ،‬قَالُوا‬ ‫ان ِم ْن َش ْي ٍء إِ ْن أَ ْنتُ ْم إِال تَ ْك ِذب َ‬ ‫نز َل الرَّحْ َم ُ‬ ‫ون‪ ،‬قَالُوا َما أَ ْنتُ ْم إِال بَ َش ٌر ِم ْثلُنَا َو َما أَ َ‬ ‫ُمرْ َسلُ َ‬
‫ين‪ ،‬قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْ نَا بِ ُك ْم لَئِ ْن لَ ْم تَنتَهُوا‬ ‫غ ْال ُمبِ ُ‬ ‫ون‪َ ،‬و َما َعلَ ْينَا إِال ْالبَال ُ‬ ‫َربُّنَا يَ ْعلَ ُم إِنَّا إِلَ ْي ُك ْم لَ ُمرْ َسلُ َ‬
‫ون‪،‬‬ ‫ْرفُ َ‬ ‫لَنَرْ ُج َمنَّ ُك ْم َولَيَ َم َّسنَّ ُك ْم ِمنَّا َع َذابٌ أَلِي ٌم‪ ،‬قَالُوا طَائِ ُر ُك ْم َم َع ُك ْم أَئِ ْن ُذ ِّكرْ تُ ْم بَلْ أَ ْنتُ ْم قَ ْو ٌم ُمس ِ‬
‫ين‪ ،‬اتَّبِعُوا َم ْن اَل يَسْأَلُ ُك ْم‬ ‫ال يَاقَ ْو ِم اتَّبِعُوا ْال ُمرْ َسلِ َ‬ ‫صى ْال َم ِدينَ ِة َر ُج ٌل يَ ْس َعى قَ َ‬ ‫َو َجا َء ِم ْن أَ ْق َ‬
‫ُون‪ ،‬أَأَتَّ ِخ ُذ ِم ْن ُدونِ ِه آلِهَةً إِ ْن‬ ‫ون‪َ ،‬و َما لِي ال أَ ْعبُ ُد الَّ ِذي فَطَ َرنِي َوإِلَ ْي ِه تُرْ َجع َ‬ ‫أَجْ راً َوهُ ْم ُم ْهتَ ُد َ‬
‫ضال ٍل ُمبِي ٍن‪،‬‬ ‫ان بِضُرٍّ ال تُ ْغ ِن َعنِّي َشفَا َعتُهُ ْم َشيْئا ً َوال يُنقِ ُذونِي‪ ،‬إِنِّي إِذاً لَفِي َ‬ ‫ي ُِر ْدنِي الرَّحْ َم ُ‬
‫ون‪ ،‬بِ َما َغفَ َر لِي َربِّي‬ ‫ْت قَ ْو ِمي يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ال يَا لَي َ‬ ‫يل ا ْد ُخلْ الجنَّة قَ َ‬ ‫ت بِ َربِّ ُك ْم فَا ْس َمعُونِي‪ ،‬قِ َ‬ ‫إِنِّي آ َم ْن ُ‬
‫نز ْلنَا َعلَى قَ ْو ِم ِه ِم ْن بَ ْع ِد ِه ِم ْن جُن ٍد ِم ْن ال َّس َما ِء َو َما ُكنَّا‬ ‫ين‪َ ،‬و َما أَ َ‬‫َو َج َعلَنِي ِم ْن ْال ُم ْك َر ِم َ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫اح َدةً فَإِ َذا هُ ْم َخا ِم ُد َ‬ ‫صي َْحةً َو ِ‬ ‫ت إِال َ‬ ‫ين‪ ،‬إِ ْن َكانَ ْ‬ ‫نزلِ َ‬
‫ُم ِ‬
‫اشتهر عن كثير من السلف والخلف أن هذه القرية أنطاكية‪ .‬رواه ابن إسحاق فيما‬
‫بلغه عن ابن عبَّاس وكعب األحبار ووهب بن منبه‪ ،‬وكذا روي عن بريدة بن الخطيب‬
‫وعكرمة وقتادة والزهري وغيرهم‪ ،‬قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عبَّاس وكعب‬
‫ووهب‪ ،‬إنهم قالوا‪ :‬وكان لها ملك اسمه انطيخس بن انطيخس‪ ،‬وكان يعبد األصنام‪.‬‬

‫فبعث هللا إليه ثالثة من الرسل وهم صادق ومصدوق وشلوم ّ‬


‫فكذبهم‪.‬‬
‫وهذا ظاهر انهم رسل من هللا عز وجل‪ .‬وزعم قتادة أنهم كانوا رسالً من المسيح‪.‬‬
‫وكذا قال ابن جرير عن وهب عن بن سليمان عن شعيب الجبائي‪ ،‬كان اسم المرسلين‬
‫األولين شمعون ويوحنا واسم الثالث‪ d‬بولس والقرية أنطاكية‪.‬‬
‫وهذا القول ضعيف جداً‪ ،‬ألن أهل أنطاكية لما بعث إليهم المسيح ثالثة من الحواريين‬
‫كانوا أول مدينة آمنت بالمسيح في ذلك الوقت‪.‬‬
‫ولهذا كانت إحدى المدن األربع التي تكون فيها بتاركة النصارى‪ .‬وهن أنطاكية‪،‬‬
‫والقدس‪ ،‬وإسكندرية‪ ،‬ورومية‪ .‬ثم بعدها القسطنطينية‪ ،‬ولم يهلكوا‪ .‬وأهل هذه القرية‬
‫المذكورة في القرآن اهلكوا‪ ،‬كما قال في آخر قصتها‪ ،‬بعد قتلهم صديق المرسلين‪{ :‬إِ ْن‬
‫ون} لكن إن كانت الرسل الثالثة المذكورون في‬ ‫اح َدةً فَإِ َذا هُ ْم َخا ِم ُد َ‬ ‫صي َْحةً َو ِ‬‫ت إِال َ‬‫َكانَ ْ‬
‫القرآن بعثوا إلى أهل أنطاكية قديما ً فكذبوهم‪ ،‬وأهلكهم هللا‪ ،‬ثم عمرت بعد ذلك‪ .‬فلما كان‬
‫في زمن المسيح آمنوا برسله إليهم‪ ،‬فال يمنع هذا وهللا أعلم‪.‬‬
‫فأما القول بأن هذه القصة المذكورة في القرآن هي قصة أصحاب‪ d‬المسيح فضعيف‬
‫لما تقدم‪ ،‬وألن ظاهر سياق القرآن يقتضي أن هؤالء الرسل من عند هللا‪.‬‬
‫اب ْالقَرْ يَ ِة} يعني‬ ‫قال هللا تعالى‪َ { :‬واضْ ِربْ لَهُ ْم َمثَال} يعني لقومك يا محمد {أَصْ َح َ‬
‫ث} أي أيدناهما‬ ‫ون‪ ،‬إِ ْذ أَرْ َس ْلنَا إِلَ ْي ِه ْم ْاثنَي ِْن فَ َك َّذبُوهُ َما فَ َع َّز ْزنَا بِثَالِ ٍ‬ ‫المدينة { إِ ْذ َجا َءهَا ْال ُمرْ َسلُ َ‬
‫ون}‪ ،‬فردوا عليهم بأنهم بشر مثلهم‪ ،‬كما قالت‬ ‫بثالث في الرّسالة {فَقَالُوا إِنَّا إِلَ ْي ُك ْم ُمرْ َسلُ َ‬
‫األمم الكافرة لرسلهم‪ ،‬يستبعدون أن يبعث هللا نبيا ً بشريا ً فأجابوهم بأن هللا يعلم أنا رسله‬
‫ين} أي‬ ‫غ ْال ُمبِ ُ‬
‫إليكم‪ ،‬ولو كنا كذبنا عليه لعاقبنا وأنتقم منا أشد االنتقام { َو َما َعلَ ْينَا إِال ْالبَال ُ‬
‫إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم‪ ،‬وهللا هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء‬
‫{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْ نَا بِ ُك ْم} أي تشائمنا بما جئتمونا به {لَئِ ْن لَ ْم تَنتَهُوا لَنَرْ ُج َمنَّ ُك ْم} بالمقال‪،‬‬
‫وقيل بالفعال‪ ،‬ويؤيد األول قوله { َولَيَ َم َّسنَّ ُك ْم ِمنَّا َع َذابٌ أَلِي ٌم} توعدوهم بالقتل واإلهانة‪.‬‬
‫{قَالُوا طَائِ ُر ُك ْم َم َع ُك ْم} أي مردود عليكم {أَئِ ْن ُذ ِّكرْ تُ ْم} أي بسبب أنا ذكرناكم بالهدى‬
‫ون} أي ال تقبلون الحق وال‬ ‫ْرفُ َ‬‫ودعوناكم إليه توعدتمونا بالقتل واإلهانة {بَلْ أَ ْنتُ ْم قَ ْو ٌم ُمس ِ‬
‫تريدونه‪.‬‬
‫صى ْال َم ِدينَ ِة َر ُج ٌل يَ ْس َعى} يعني لنصرة الرسل وإظهار‬ ‫وقوله تعالى { َو َجا َء ِم ْن أَ ْق َ‬
‫ون} أي‬ ‫ين‪ ،‬اتَّبِعُوا َم ْن ال يَسْأَلُ ُك ْم أَجْ راً َوهُ ْم ُم ْهتَ ُد َ‬ ‫اإليمان بهم {قَا َل يَا قَ ْو ِم اتَّبِعُوا ْال ُمرْ َسلِ َ‬
‫يدعونكم إلى الحق المحض بال أجرة وال جعالة‪.‬‬
‫ثم دعاهم إلى عبادة هللا وحده ال شريك له ونهاهم عن عبادة ما سواه مما ال ينفع شيئا ً‬
‫ين} أي إن تركت عبادة هللا وعبدت‬ ‫الل ُمبِ ٍ‬ ‫ض ٍ‬ ‫ال في الدنيا وال في اآلخرة {إِنِّي إِذاً لَفِي َ‬
‫معه ما سواه‪.‬‬
‫ت بِ َربِّ ُك ْم فَا ْس َمعُونِي} قيل‪ :‬فاستمعوا مقالتي واشهدوا‬ ‫ثم قال مخاطبا ً للرسل {إِنِّي آ َم ْن ُ‬
‫لي بها عند ربكم‪ .‬وقيل‪ :‬معناه فاسمعوا يا قومي إيماني برسل هللا جهرة‪ .‬فعند ذلك قتلوه‪.‬‬
‫صاً‪ ،‬وقيل وثبوا إليه وثبة رجل واحد فقتلوه‪.‬‬ ‫قيل رجماً‪ ،‬وقيل ع ّ‬

‫وحكى ابن إسحاق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود قال وطئوه بأرجلهم حتى‬
‫أخرجوا قصبته‪.‬‬
‫وقد روى الثوري عن عاصم األحول عن أبي مجلز كان اسم هذا الرجل "حبيب بن‬
‫مرى"‪ .‬ثم قيل‪ :‬كان نجّاراً وقيل حبَّاكاً‪ ،‬وقيل إسكافاً‪ ،‬وقيل قصّاراً‪ d،‬وقيل كان يتعبد في‬
‫غار هناك‪ .‬فاهلل أعلم‪.‬‬
‫وعن ابن عبَّاس‪ :‬كان حبيب النجار قد أسرع فيه الجذام وكان كثير الصّدقة‪ ،‬فقتله‬
‫قو ُمه‪ .‬ولهذا قال تعالى‪{ :‬ا ْد ُخلْ الجنَّة} يعني لما قتله قومه ادخله هللا الجنَّة‪ ،‬فلما رأى فيها‬
‫ون‪ ،‬بِ َما َغفَ َر لِي َربِّي َو َج َعلَنِي ِم ْن‬ ‫ْت قَ ْو ِمي يَ ْعلَ ُم َ‬
‫من النضرة والسرور {قَا َل يَا لَي َ‬
‫ين} يعني ليؤمنوا بما آمنت به فيحصل لهم ما حصل لي‪.‬‬ ‫ْال ُم ْك َر ِم َ‬
‫ين} وبعد مماته في قوله‬ ‫قال ابن عبَّاس نصح قومه في حياته {يَا قَ ْو ِم اتَّبِعُوا ْال ُمرْ َسلِ َ‬
‫ين} رواه ابن أبي حاتم‪،‬‬ ‫ون‪ ،‬بِ َما َغفَ َر لِي َربِّي َو َج َعلَنِي ِم ْن ْال ُم ْك َر ِم َ‬ ‫ْت قَ ْو ِمي يَ ْعلَ ُم َ‬
‫{قَا َل يَا لَي َ‬
‫وكذلك قال قتادة ال يلقى المؤمن إالّ ناصحاً‪ d،‬ال يلقى غا ّشا لما عاين ما عاين من كرامة‬
‫ين} تمنى وهللا أن يعلم‬ ‫ون‪ ،‬بِ َما َغفَ َر لِي َربِّي َو َج َعلَنِي ِم ْن ْال ُم ْك َر ِم َ‬ ‫ْت قَ ْو ِمي يَ ْعلَ ُم َ‬
‫هللا {يَا لَي َ‬
‫قومه بما عاين من كرامة هللا‪ ،‬وما هو عليه‪.‬‬
‫ص ْي َحةً َوا ِح َدةً فَإِ َذا هُ ْم‬
‫ت إِال َ‬ ‫قال قتادة‪ :‬فال وهللاِ ما عاتب هللا قومه بعد قتله‪{ .‬إِ ْن َكانَ ْ‬
‫ون}‪.‬‬‫َخا ِم ُد َ‬
‫ين}‬‫نزلِ َ‬‫نز ْلنَا َعلَى قَ ْو ِم ِه ِم ْن بَ ْع ِد ِه ِم ْن جُن ٍد ِم ْن ال َّس َما ِء َو َما ُكنَّا ُم ِ‬
‫وقوله تعالى‪َ { :‬و َما أَ َ‬
‫أي وما احتجنا في االنتقام منهم إلى إنزال جند من السماء عليهم‪.‬‬

‫هذا معنى ما رواه ابن إسحاق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود‪ .‬قال مجاهد‬
‫وقتادة‪ ،‬وما أنزل عليهم جنداً‪ ،‬أي رسالة أخرى‪ .‬قال ابن جرير‪ :‬واألول أولى‪.‬‬
‫ين} أي وما كنا نحتاج في االنتقام إلى هذا‬ ‫قلت‪ :‬وأقوى‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬و َما ُكنَّا ُم ِ‬
‫نزلِ َ‬
‫صي َْحةً َوا ِح َدةً فَإِ َذا هُ ْم َخا ِم ُد َ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫ت إِال َ‬ ‫حين كذبوا رسلنا وقتلوا ولينا {إِ ْن َكانَ ْ‬
‫قال المفسرون‪ :‬بعث هللا إليهم جبريل عليه السالم‪ ،‬فأخذ بعضادتي الباب الذي لبلدهم‬
‫ثم صاح بهم صيحة واحدة‪ ،‬فإذا هم خامدون‪ .‬أي قد أخمدت أصواتهم وسكنت حركاتهم‬
‫ولم يبق منهم عين تطرف‪.‬‬
‫وهذا كله مما يدل على أن هذه القرية ليست أنطاكية‪ ،‬ألن هؤالء أهلكوا بتكذيبهم‬
‫رسل هللا إليهم‪ ،‬وأهل انطاكية آمنوا واتبعوا رسل المسيح من الحواريين‪ ،‬إليهم‪ ،‬فلهذا‬
‫قيل‪ :‬إن انطاكية أول مدينة آمنت بالمسيح‪.‬‬
‫فأما الحديث الذي رواه الطبراني من حديث حسين األشقر‪ ،‬عن سفيان بن ُعيينة عن‬
‫ابن نجيح‪ ،‬عن مجاهد عن ابن عبَّاس عن النبي صلى هللا عليه وسلم‪" :‬السبق ثالثة‪:‬‬
‫فالسابق إلى موسى يوشع بن نون‪ ،‬والسابق إلى عيسى صاحبُ يس‪ ،‬والسابق إلى محمد‬
‫علي بن أبي طالب" فإنه حديث ال يثبت؛ ألن حسينا ً هذا متروك شيعي من الغالة‪ ،‬وتفرده‬
‫بهذا مما يدل على ضعفه بالكلية‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫قصّة يونس عليه السالم‬


‫س‬‫ت فَنَفَ َعهَا إِي َمانُهَا إِال قَ ْو َم يُونُ َ‬ ‫ت قَرْ يَةٌ آ َمنَ ْ‬ ‫قال هللا تعالى في سورة يونس‪{ :‬فَلَ ْوال َكانَ ْ‬
‫ين}‪.‬‬‫ي فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َو َمتَّ ْعنَاهُ ْم إِلَى ِح ٍ‬ ‫اب ْال ِخ ْز ِ‬ ‫لَ َّما آ َمنُوا َك َش ْفنَا َع ْنهُ ْم َع َذ َ‬
‫اضبا ً فَظَ َّن أَ ْن لَ ْن نَ ْق ِد َر َعلَ ْي ِه‬ ‫ب ُم َغ ِ‬ ‫ون إِ ْذ َذهَ َ‬‫وقال تعالى في سورة األنبياء‪َ { :‬و َذا النُّ ِ‬
‫ين‪ ،‬فَا ْستَ َج ْبنَا لَهُ َونَ َّج ْينَاهُ‬ ‫نت ِم ْن الظَّالِ ِم َ‬ ‫ك إِنِّي ُك ُ‬ ‫ت ُسب َْحانَ َ‬ ‫ت أَ ْن ال إِلَهَ إِال أَ ْن َ‬ ‫فَنَا َدى فِي ُّ‬
‫الظلُ َما ِ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ك نُ ْن ِجي ْال ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ِم ْن ْال َغ ِّم َو َك َذلِ َ‬
‫ك‬‫ق إِلَى ْالفُ ْل ِ‬ ‫ين‪ ،‬إِ ْذ أَبَ َ‬ ‫س لَ ِم ْن ْال ُمرْ َسلِ َ‬‫وقال تعالى في سورة والصافات‪َ { :d‬وإِ َّن يُونُ َ‬
‫ان ِم ْن‬ ‫ُوت َوهُ َو ُملِي ٌم‪ ،‬فَلَ ْوال أَنَّهُ َك َ‬ ‫ين‪ ،‬فَ ْالتَقَ َمهُ ْالح ُ‬ ‫ض َ‬ ‫ان ِم ْن ْال ُم ْد َح ِ‬ ‫ْال َم ْشحُو ِن‪ ،‬فَ َساهَ َم فَ َك َ‬
‫ون‪ ،‬فَنَبَ ْذنَاهُ بِ ْال َع َرا ِء َوهُ َو َسقِي ٌم‪َ ،‬وأَ ْنبَ ْتنَا َعلَ ْي ِه َش َج َرةً‬ ‫طنِ ِه إِلَى يَ ْو ِم يُ ْب َعثُ َ‬ ‫ث فِي بَ ْ‬ ‫ين‪ ،‬لَلَبِ َ‬ ‫ْال ُم َسب ِِّح َ‬
‫ون‪ ،‬فَآ َمنُوا فَ َمتَّ ْعنَاهُ ْم إِلَى ِحي ٍن}‪.‬‬ ‫ف أَ ْو يَ ِزي ُد َ‬ ‫ين‪َ ،‬وأَرْ َس ْلنَاهُ إِلَى ِمائَ ِة أَ ْل ٍ‬ ‫ِم ْن يَ ْق ِط ٍ‬
‫ت إِ ْذ نَا َدى َوهُ َو‬ ‫ب ْالحُو ِ‬ ‫اح ِ‪d‬‬‫ص ِ‬ ‫وقال تعالى في سورة ن‪{ :‬فَاصْ بِرْ لِ ُح ْك ِم َرب َِّك َوال تَ ُك ْن َك َ‬
‫َم ْكظُو ٌم‪ ،‬لَ ْوال أَ ْن تَ َدا َر َكهُ نِ ْع َمةٌ ِم ْن َربِّ ِه لَنُبِ َذ بِ ْال َع َرا ِء َوهُ َو َم ْذ ُمو ٌم‪ ،‬فَاجْ تَبَاهُ َربُّهُ فَ َج َعلَهُ ِم ْن‬
‫ين}‪.‬‬ ‫الصَّالِ ِح َ‬
‫قال أهل التفسير‪ :‬بعث هللا يونس عليه السالم إلى أهل (نينوى) من أرض الموصل‪،‬‬
‫فدعاهم إلى هللا عز وجل‪ ،‬فكذبوه وتمردوا على كفرهم وعنادهم‪ ،‬فلما طال ذلك عليه من‬
‫أمرهم‪ ،‬خرج من بين أظهرهم ووعدهم حلول العذاب بهم بعد ثالث‪.‬‬
‫قال ابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغير واحد من السلف والخلف‪ :‬فلما‬
‫خرج من بين ظهرانيهم وتحققوا نزول العذاب بهم قذف هللا في قلوبهم التوبة واإلنابة‬
‫وندموا على ما كان منهم إلى نبيهم‪ ،‬فلبسوا المسوح وفرقوا بين كل بهيمة وولدها ثم‬
‫عجوا إلى هللا عز وجل وصرخوا وتضرعوا إليه وتمسكنوا لديه‪ ،‬وبكى الرجال والنساء‬
‫ت األب ُل وفصالنُها‪،‬‬ ‫والبنون والبنات واألمهات‪ ،‬وجأرت اإلنعام والدواب والمواشي‪ ،‬فَ َر َغ ْ‬
‫وخارت البقر وأوالدها‪ ،‬وثغت الغنم وحمالنها‪ ،‬وكانت ساعة عظيمة هائلة‪.‬‬
‫فكشف هللا العظيم بحوله وقوته ورأفته ورحمته عنهم العذاب الذي كان قد اتصل بهم‬
‫سببه‪ ،‬ودار على رؤوسهم كقطع الليل المظلم‪.‬‬
‫ت فَنَفَ َعهَا إِي َمانُهَا} أي هال وجدت فيما سلف‬ ‫ت قَرْ يَةٌ آ َمنَ ْ‬ ‫ولهذا قال تعالى {فَلَ ْوال َكانَ ْ‬
‫من القرون قرية آمنت بكمالها فدل على أنه لم يقع ذلك‪ .‬بل كما قال تعالى { َو َما أَرْ َس ْلنَا‬
‫س لَ َّما‬ ‫ُون}‪ .‬وقوله {إِال قَ ْو َم يُونُ َ‬ ‫ال ُم ْت َرفُوهَا إِنَّا بِ َما أُرْ ِس ْلتُ ْم بِ ِه َكافِر َ‬ ‫ير إِال قَ َ‬ ‫فِي قَرْ يَ ٍة ِم ْن نَ ِذ ٍ‬
‫ي فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َو َمتَّ ْعنَاهُ ْم إِلَى ِحي ٍن} أي آمنوا بكمالهم‪.‬‬ ‫اب ْال ِخ ْز ِ‬ ‫آ َمنُوا َك َش ْفنَا َع ْنهُ ْم َع َذ َ‬
‫وقد اختلف المفسرون هل ينفعهم هذا اإليمان في الدار اآلخرة فينقذهم من العذاب‬
‫األخروي كما أنقذهم من العذاب الدنيوي؟ على قولين‪:‬‬
‫األظهر من السياق‪ :‬نعم‪ .‬وهللا أعلم‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬لَ َّما آ َمنُوا} وقال تعالى‪:‬‬
‫ين}‪ ،‬وهذا المتاع إلى حين ال‬ ‫ف أَ ْو يَ ِزي ُد َ‬
‫ون‪ ،‬فَآ َمنُوا فَ َمتَّ ْعنَاهُ ْم إِلَى ِح ٍ‬ ‫{ َوأَرْ َس ْلنَاهُ إِلَى ِمائَ ِة أَ ْل ٍ‬
‫ينفي أن يكون معه غيره من رفع العذاب األخروي وهللا أعلم‪.‬‬
‫وقد كانوا مائة ألف ال محالة‪ ،‬واختلفوا في الزيادة فعن مكحول عشرة آالف‪ .‬وروى‬
‫الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث زهير عمن سمع أبا العالية‪ :‬حدثني أُبَ ّي بن‬
‫ف أَ ْو‬
‫َكعب أنه سأل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن قوله { َوأَرْ َس ْلنَاهُ إِلَى ِمائَ ِة أَ ْل ٍ‬
‫ون} قال يزيدون عشرين ألفاً‪ ،‬فلوال هذا الرجل المبهم‪ ،‬لكان هذا الحديث فاصالً في‬ ‫يَ ِزي ُد َ‬
‫هذا الباب‪.‬‬
‫وعن ابن عبَّاس كانوا مائة ألف وثالثين ألفاً‪ d،‬وعنه وبضعة وثالثين ألفا ً‪ .‬وعنه‬
‫وبضعة وأربعين ألفا ً‪ .‬وقال سعيد بن جبير‪ :‬كانوا مائة ألف وسبعين ألفا ً‪.‬‬
‫واختلفوا هل كان إرساله إليهم قبل الحوت أو بعده؟ أو هما أمتان؟ على ثالثة أقوال‬
‫هي مبسوطة في التفسير‪.‬‬
‫والمقصود أنه عليه السالم لما ذهب مغاضبا ً بسبب قومه ركب سفينة في البحر‬
‫فلجَّت بهم‪ ،‬واضطربت وماجت بهم وثقلت بما فيها‪ ،‬وكادوا يغرقون على ما ذكره‬
‫المفسرون‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فاشتوروا فيما بينهم‪ ،‬على أن يقترعوا‪ ،‬فمن وقعت عليه القرعة ألقوه من‬
‫السفينة ليتخففوا منه‪.‬‬

‫فلما اقترعوا وقعت القرعة على نبي هللا يونس‪ ،‬فلم يسمحوا به‪ ،‬فأعادوها ثانية‬
‫فوقعت عليه أيضاً‪ ،‬فش ّمر ليخلع ثيابه ويلقي بنفسه فأبوا عليه ذلك‪ .‬ثم أعادوا القرعة ثالثة‬
‫فوقعت عليه أيضا ً لما يريده هللا به من األمر العظيم‪.‬‬
‫ك ْال َم ْشح ِ‬
‫ُون‪ ،‬فَ َساهَ َم فَ َك َ‬
‫ان‬ ‫ق إِلَى ْالفُ ْل ِ‬
‫س لَ ِم ْن ْال ُمرْ َسلِين‪ ،‬إِ ْذ أَبَ َ‬
‫قال هللا تعالى‪َ { :‬وإِ َّن يُونُ َ‬
‫ُوت َوهُ َو ُملِي ٌم} وذلك أنه لما وقعت عليه القرعة ألقي في‬ ‫ين‪ ،‬فَ ْالتَقَ َمهُ ْالح ُ‬
‫ض َ‬‫ِم ْن ْال ُم ْد َح ِ‬
‫البحر‪ ،‬وبعث هللا عز وجل حوتا ً عظيما ً من البحر األخضر فالتقمه‪ ،‬وأمره هللا تعالى أن‬
‫ال يأكل له لحما‪ d،‬وال يهشم له عظماً‪ ،‬فليس لك برزق فأخذه فطاف به البحار كلها‪ .‬وقيل‪:‬‬
‫إنه ابتلع ذلك الحوت حوت آخر أكبر منه‪ .‬قالوا‪ :‬ولما استقر في جوف الحوت حسب أنه‬
‫قد مات‪ ،‬فحرّك جوارحه فتحركت‪ ،‬فإذا هو حي‪ ،‬فخر هلل ساجداً‪ ،‬وقال‪ :‬يا رب اتخذت لك‬
‫مسجداً في موضع لم يعبدك أحداً في مثله‪.‬‬
‫وقد اختلفوا في مقدار لبثه في بطنه‪ .‬فقال مجالد عن ال َّشعبي‪ :‬التقمه ضح ًى ولفظه‬
‫ع َّشيةً‪ .‬وقال قتادة‪ :‬مكث فيه ثالثا ً وقال جعفر الصادق‪ ،‬سبعة أيام ويشهد له شعر أمية بن‬
‫أبي الصلت‪:‬‬
‫أضعاف حُوت لياليا‬
‫ِ‬ ‫ْبات في‬‫ّت يُونسا ً ** * وقد َ‬ ‫منك نجي َ‬ ‫وأنت بفض ٍل َ‬‫َ‬
‫وقال سعيد بن أبي الحسن وأبو مالك‪ :‬مكث في جوفه أربعين يوما ً‪ .‬وهللا أعلم كم‬
‫مقدار ما لبث فيه‪.‬‬

‫والمقصود أنه لما جعل الحوت يطوف به في قرار البحار اللجيّة‪ ،‬ويقتحم به لجج‬
‫الموج األُجاج ّي‪ d،‬فسمع تسبيح الحيتان للرحمن‪ ،‬وحتى سمع تسبيح الحصى لفالق الحب‪d‬‬
‫والنوى‪ ،‬ورب السماوات السبع واألرضين السبع‪ ،‬وما بينهما وما تحت الثرى‪ .‬فعند ذلك‬
‫وهنالك قال ما قال بلسان الحال‪ d‬والمقال كما اخبر عنه ذو العزة والجالل الذي يعلم السر‬
‫والنجوى‪ ،‬ويكشف الضر والبلوى‪ ،‬سامع األصوات وان ضعفت‪ d،‬وعالم الخفيات‪ d‬وإن‬
‫دقت‪ ،‬ومجيب الدعوات وإن عظمت حيث قال في كتابه المبين المنزل على رسوله‬
‫ب} أي إلى‬ ‫األمين وهو أصدق القائلين ورب العالمين وإله المرسلين‪َ { :‬و َذا النُّو ِن إِ ْذ َذهَ َ‬
‫ك إِنِّي‬‫ت ُس ْب َحانَ َ‬ ‫ت أَ ْن ال إِلَهَ إِال أَ ْن َ‬ ‫اضبا ً فَظَ َّن أَ ْن لَ ْن نَ ْق ِد َر َعلَ ْي ِه فَنَا َدى فِي ُّ‬
‫الظلُ َما ِ‬ ‫أهله { ُم َغ ِ‬
‫ين} {فَظَ َّن أَ ْن لَ ْن‬ ‫ك نُ ْن ِجي ْال ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين‪ ،‬فَا ْستَ َج ْبنَا لَهُ َونَ َّج ْينَاهُ ِم ْن ْال َغ ِّم َو َك َذلِ َ‬
‫نت ِم ْن الظَّالِ ِم َ‬
‫ُك ُ‬
‫نَ ْق ِد َر َعلَ ْي ِه} أن نضيق‪ .‬وقيل معناه نقدر من التقدير وهي لغة مشهورة قد َر وق ّدر كما قال‬
‫الشاعر‪.‬‬
‫ك األم ُر‬ ‫يكن‪ ،‬فَل َ‬ ‫ت؛ ما يُقدر ُ‬ ‫تبار ْك َ‬ ‫ضى * َ‬ ‫الزمان الذي م َ‬ ‫ُ‬ ‫فَالَ عائ ٌد َ‬
‫ذاك‬
‫ت} قال ابن مسعود وابن عبَّاس وعمرو بن ميمون وسعيد بن‬ ‫{فَنَا َدى فِي ُّ‬
‫الظلُ َما ِ‬
‫جبير و ُم َح ْمد بن كعب والحسن وقتادة والضحاك‪ :d‬ظلمة الحوت وظلمة البحر وظلمة‬
‫الليل‪.‬‬
‫وقال سالم بن أبي الجعد‪ :‬ابتلع الحوت حوت آخر فصار ظلمة الحوتين مع ظلمة‬
‫البحر‪.‬‬
‫ون} قيل‬ ‫طنِ ِه إِلَى يَ ْو ِم يُ ْب َعثُ َ‬‫ث فِي بَ ْ‬ ‫ين‪ ،‬لَلَبِ َ‬ ‫ان ِم ْن ْال ُم َسب ِِّح َ‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬فَلَ ْوال أَنَّهُ َك َ‬
‫معناه لوال أنه سبح هللا هنالك‪ ،‬وقال ما قال من التهليل والتسبيح واالعتراف هلل بالخضوع‬
‫والتوبة إليه والرجوع إليه للبث هنالك إلى يوم القيامة‪ .‬ولبعث من جوف ذلك الحوت‪ .‬هذا‬
‫معنى ما روي عن سعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه‪.‬‬
‫ين} أي المطيعين‬ ‫ان} من قبل أخذ الحوت له { ِم ْن ْال ُم َسب ِِّح َ‬ ‫وقيل معناه {فَلَ ْوال أَنَّهُ َك َ‬
‫المصلين الذاكرين هللا كثيراً‪ .‬قاله الضحاك بن قيس وابن عبَّاس وأبو العالية ووهب بن‬
‫منبه وسعيد بن جبير والضحاك وال ُّسدِّي وعطاء بن السائب والحسن البصري وقتادة‬
‫وغير واحد‪ .‬واختاره ابن جرير‪.‬‬
‫ويشهد لهذا ما رواه اإلمام أحمد وبعض أهل السنن عن ابن عبَّاس أن رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم قال له‪" :‬يا غالم إني معلمك كلمات‪ :‬احفظ هللا يحفظك احفظ هللا تجده‬
‫تجاهك تعرّف إلى هللا في الرخاء‪ d‬يعرفك في الشدة"‪.‬‬
‫وروى ابن جرير في "تفسيره" والبزار في "مسنده" من حديث ُم َح ْمد بن إسحاق‬
‫عمن حدثه عن عبد هللا بن رافع مولى أم سلمة قال سمعت أبا هريرة يقول‪ :‬قال رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪" :‬لما أراد هللا حبس يونس في بطن الحوت أوحى هللا إلى الحوت‪ :‬أن‬
‫خذه وال تخدش له لحما ً وال تكسر له عظما ً"‪ .‬فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس‬
‫حسا فقال في نفسه ما هذا؟ فأوحى هللا إليه وهو في بطن الحوت‪ :‬إن هذا تسبيح دواب‬
‫البحر‪ .‬قال فسبح وهو في بطن الحوت فسمعت المالئكة تسبيحه فقالوا‪ :‬يا ربنا إنا نسمع‬
‫صوتا ً ضعيفا ً بأرض غريبة! قال‪ :‬ذلك عدى يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في‬
‫البحر‪ .‬قالوا‪ :‬العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح؟ قال‪:‬‬
‫نعم‪ .‬قال‪ :‬فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال هللا { َوهُ َو َسقِي ٌم}‪.‬‬
‫هذا لفظ ابن جرير إسناداً ومتنا ً‪ .‬ثم قال البزار‪ :‬ال نعلمه يروى عن النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم إال من هذا الوجه بهذا اإلسناد كذا قال‪.‬‬
‫وقد قال ابن أبي حاتم "تفسيره"‪َ :‬ح َّدثَنا أبو عبد هللا أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي‬
‫وهب‪َ ،‬ح َّدثَنا عمي‪ ،‬حدثني أبو صخر‪ ،‬أن يزيد الرقاشي قال سمعت أنس بن مالك وال‬
‫أعلم إال أن أنسا ً يرفع الحديث إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول أن يونس النبي‬
‫عليه السالم حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت قال "اللهم ال إله إال‬
‫أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" فأقبلت‪ d‬هذه الدعوة تحت العرش‪ ،‬فقالت المالئكة يا‬
‫رب صوت ضعيف معروف من بالد غريبة‪ .‬فقال‪ :‬أما تعرفون ذاك؟ قالوا ‪ :‬ال يا رب‬
‫ومن هو؟ قال‪ :‬عبدي يونس‪ .‬قالوا‪ :‬عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة‬
‫مجابة؟ قالوا‪ :‬يا ربنا أو ال ترحم ما كان يصنعه في الرخاء‪ d‬فتنجيه من البالء؟ قال‪ :‬بلى‪.‬‬
‫فأمر الحوت فطرحه في العراء"‪ .‬ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب به‪.‬‬
‫زاد ابن أبي حاتم‪ :‬قال أبو صخر حميد بن زياد فأخبرني ابن قسيط وأنا أحدثه هذا‬
‫الحديث‪ ،‬أنه سمع أبا هريرة يقول‪ :‬طرح بالعراء وأنبت هللا عليه اليقطينة‪ .‬وقلنا‪ :‬يا أبا‬
‫هريرة وما اليقطينة؟ قال‪ :‬شجرة ال ّدباء‪ .‬قال أبو هريرة‪ :‬وهيأ هللا له أروية وحشية تأكل‬
‫من خشش األرض‪ .‬أو قال‪ :‬هشاش األرض‪ .‬قال فتفسخ عليه فترويه من لبنها كل عشية‬
‫وبكره‪ ،‬حتى نبت‪.‬‬
‫وقال أمية بن أبي الصلت‪ d‬في ذلك بيتا ً من شعره‪:‬‬
‫اويا‬
‫ض ِ‬‫أصبح َ‬
‫َ‬ ‫ت يقطينا ً َعلي ِه برحم ٍة * َ‬
‫من هللاِ لوال هللاُ‬ ‫فأ ْنبَ َ‬
‫وهذا غريب أيضا ً من هذا الوجه‪ .‬ويزيد الرقاشي ضعيف‪ ،‬ولكن يتقوى بحديث أبي‬
‫هريرة المتقدم؛ كما يتقوى ذاك بهذا‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫وقد قال تعالى‪{ :‬فَنَبَ ْذنَاهُ} أي ألقيناه {بِ ْال َع َرا ِء} وهو المكان القفر الذي ليس فيه شيء‬
‫عار منها { َوهُ َو َسقِي ٌم} أي ضعيف البدن‪ .‬قال ابن مسعود‪ :‬كهيئة‬ ‫من األشجار بل هو ٍ‬
‫الفرخ ليس عليه ريش‪ .‬وقال ابن عبَّاس وال ُّسدِّي وابن زيد‪ :‬كهيئة الصب ّي حين يولد وهو‬
‫المنفوس ليس عليه شيء { َوأَ ْنبَ ْتنَا َعلَ ْي ِه َش َج َرةً ِم ْن يَ ْق ِطي ٍن} قال ابن مسعود وابن عبَّاس‬
‫وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير ووهب بن منبه وهالل بن يساف وعبد هللا بن طاووس‬
‫وال ُّسدِّي وقتادة والضحاك‪ d‬وعطاء الخرساني وغير واحد هو القرع‪.‬‬
‫قال بعض العلماء في إنبات القرع عليه ِح َكم جمة‪ .‬منها أن ورقه في غاية النعومة‬
‫وكثير وظليل وال يقربه ذباب‪ ،‬ويؤكل ثمره من أول طلوعه إلى آخره نيا ً ومطبوخاً‪،‬‬
‫وبقشره وببزره أيضا ً‪ .‬وفيه نفع كثير وتقوية للدماغ وغير ذلك‪.‬‬
‫وتقدم كالم أبي هريرة في تسخير هللا تعالى له تلك األروية التي كانت ترضعه لبنها‪،‬‬
‫وترعى في البرية وتأتيه بكرة وعشية‪ .‬وهذا من رحمة هللا به ونعمته عليه وإحسانه إليه‬
‫ولهذا قال تعالى‪{ :‬فَا ْستَ َج ْبنَا لَهُ َونَ َّج ْينَاهُ ِم ْن ْال َغ ِّم} أي الكرب والضيق الذي كان فيه‬
‫ين}‪ .‬أي وهذا صنيعنا بكل من دعانا واستجار بنا‪.‬‬ ‫ك نُ ْن ِجي ْال ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫{ َو َك َذلِ َ‬
‫قال ابن جرير‪ :‬حدثني عمران بن بكار الكالعي‪َ ،‬ح َّدثَنا يحيى بن صالح‪َ ،‬ح َّدثَنا أبو‬
‫يحيى بن عبد الرحمن‪ ،‬حدثني بشر بن منصور‪ ،‬عن علي بن زيد‪ ،‬عن سعيد بن ال ُمسَّيب‬
‫قال سمعت سعد بن مالك ‪ -‬وهو ابن أبي وقاص يقول‪ :‬سمعت رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم يقول‪" :‬اسم هللا الذي إذا د ُعي به أجاب‪ d،‬وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى"‬
‫قال‪ :‬فقلت‪ :‬يا رسول هللا هي ليونس خاصة‪ ،‬أم لجماعة المسلمين؟ قال‪ :‬هي ليونس خاصة‬
‫ت أَ ْن ال إِلَهَ إِال‬ ‫وللمؤمنين عامة إذا دعوا بها‪ .‬ألم تسمع قول هللا تعالى‪{ :‬فَنَا َدى فِي ُّ‬
‫الظلُ َما ِ‬
‫ين}‬‫ك نُ ْن ِجي ْال ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين‪ ،‬فَا ْستَ َج ْبنَا لَهُ َونَ َّج ْينَاهُ ِم ْن ْال َغ ِّم َو َك َذلِ َ‬
‫نت ِم ْن الظَّالِ ِم َ‬ ‫ك إِنِّي ُك ُ‬ ‫ت ُسب َْحانَ َ‬ ‫أَ ْن َ‬
‫فهو شرط من هللا لمن دعاه به‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم‪َ :‬ح َّدثَنا أبو سعيد األشج‪َ ،‬ح َّدثَنا أبو خالد األحمر عن كثير بن زيد‪،‬‬
‫عن المطلب بن حنطب قال أبو خالد‪ :‬أحسبه عن مصعب ‪ -‬يعني ابن سعد ‪ -‬عن سعد‪،‬‬
‫قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬من دعا بدعاء يونس أستجيب له" قال أبو‬
‫ين} وهذان طريقان عن سعد‪.‬‬ ‫ك نُ ْن ِجي ْال ُم ْؤ ِمنِ َ‬‫سعيد األشج‪ :‬يريد به‪َ { :‬و َك َذلِ َ‬
‫وثالث أحسن منهما‪ :‬وقال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا إسماعيل بن عمير َح َّدثَنا يونس بن أبي‬
‫إسحاق الهمداني‪َ ،‬ح َّدثَنا إبراهيم بن ُم َح ْمد بن سعد‪ ،‬حدثني والدي محمد‪ ،‬عن أبيه سعد ‪-‬‬
‫وهو ابن أبي وقاص رضي هللا عنه ‪ -‬قال‪ :‬مررت بعثمان بن عفان في المسجد فسلمت‬
‫عليه فمأل عينيه مني‪ ،‬ثم لم يردد عل ّي السالم فأتيت عمر بن الخطاب فقلت يا أمير‬
‫المؤمنين هل حدث في اإلسالم شيء؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬وما ذاك؟ قلت‪ :‬ال‪ ،‬إال أني مررت بعثمان‬
‫آنفا ً في المسجد فسلمت عليه فمأل عينيه مني ثم لم يرد عل ّي السالم‪ .‬قال‪ :‬فأرسل عمر إلى‬
‫عثمان فدعاه فقال ما منعك أن ال تكون رددت على أخيك السالم؟ قال‪ :‬ما فعلت‪ .‬قال‬
‫سعد‪ :‬قلت بلى‪ ،‬حتى حلف وحلفت‪ .‬قال‪ :‬ثم إن عثمان ذكر فقال بلى واستغفر هللا وأتوب‬
‫إليه إنك مررت بي آنفا ً وأنا احدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ :‬ال وهللا ما ذكرتها قط أال تغشى بصري وقلبي غشاوة‪ .‬قال سعد فأنا أنبئك بها إن‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ذكر لنا أول دعوة ثم جاء أعرابي فشغله حتى قام رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم‪ :‬فاتبعته فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله‪ ،‬ضربت بقدمي‬
‫األرض فالتفت إلي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقال‪َ " :‬م ْن هذا؟ أبو إسحاق" قال‪ :‬قلت‬
‫نعم يا رسول هللا‪ ،‬قال‪ :‬خه؟ قلت‪ :‬ال وهللا إال أنك ذكرت لنا أول دعوة‪ .‬ثم جاء هذا‬
‫ت ُس ْب َحانَ َ‬
‫ك‬ ‫األعرابي فشغلك‪ .‬قال‪ :‬نعم دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت{ال إِلَهَ إِال أَ ْن َ‬
‫ين} فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إال استجاب‪ d‬له"‪.‬‬ ‫نت ِم ْن الظَّالِ ِم َ‬
‫إِنِّي ُك ُ‬
‫ورواه الترمذي والنسائي من حديث إبراهيم بن ُم َح ْمد بن سعد به‪.‬‬

‫ذكر فضل يونس عليه السالم‬


‫ين} وذكره تعالى في جملة األنبياء الكرام في‬ ‫س لَ ِم ْن ْال ُمرْ َسلِ َ‬
‫قال هللا تعالى‪َ { :‬وإِ َّن يُونُ َ‬
‫سورتي النساء واألنعام عليهم من هللا أفضل الصالة والسالم‪.‬‬
‫وقال اإلمام أحمد‪َ :‬ح َّدثَنا وكيع‪َ ،‬ح َّدثَنا سفيان‪ ،‬عن األعمش‪ ،‬عن أبي وائل‪ ،‬عن عبد‬
‫هللا قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ال ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس‬
‫بن متى"‪.‬‬
‫ي من حديث سفيان الثوري به‪.‬‬ ‫ورواه الب َُخار ّ‬
‫ي أيضا ً‪َ :‬ح َّدثَنا حفص بن عمر‪َ ،‬ح َّدثَنا شعبة‪ ،‬عن قتادة‪ ،‬عن ابن عبَّاس‪،‬‬ ‫وقال البُ َخار ّ‬
‫عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬ما ينبغي لعبد أن يقول إني خير من يونس بن متى‬
‫ونسبه إلى أبيه"‪.‬‬
‫ورواه أحمد ومسلم وأبو داود من حديث شعبة به‪ .‬قال شعبة فيما حكاه أبو داود عنه‪:‬‬
‫لم يسمع قتادة من أبي العالية سوى أربعة أحاديث‪ ،‬هذا أحدها‪.‬‬
‫وقد رواه اإلمام أحمد عن عفان‪ ،‬عن حماد بن سلمة‪ ،‬عن علي بن زيد عن يونس بن‬
‫مهران‪ ،‬عن ابن عبَّاس عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬وما ينبغي لعبد أن يقول أنا‬
‫خير من يونس بن متى"‪.‬‬
‫تفرد به أحمد‪.‬‬
‫ورواه الحافظ أبو القاسم الطبراني‪َ :‬ح َّدثَنا ُم َح ْمد بن الحسن بن كيسان‪َ ،‬ح َّدثَنا عبد هللا‬
‫بن رجاء‪ d،‬أنبأنا إسرائيل‪ ،‬عن أبي يحيى العتاب‪ d،‬عن مجاهد‪ ،‬عن ابن عبَّاس أن رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬ال ينبغي ألحد أن يقول أنا عند هللا خير من يونس بن‬
‫متى"‪.‬‬
‫إسناده جيد ولم يخرجوه‪.‬‬
‫ي‪َ :‬ح َّدثَنا أبو الوليد‪َ ،‬ح َّدثَنا شعبة‪ ،‬عن سعد بن إبراهيم‪ ،‬سمعت حميد بن‬ ‫وقال البُ َخار ّ‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬عن أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬ال ينبغي لعبد أن يقول‬
‫أنا خير من يونس بن متى"‪.‬‬
‫وكذا رواه مسلم من حديث شعبة به‪.‬‬
‫ي ومسلم من حديث عبد هللا بن الفضل‪ d،‬عن عبد الرحمن بن هرمز‬ ‫وفي الب َُخار ّ‬
‫األعرج‪ ،‬عن أبي هريرة في قصة المسلم الذي لطم وجه اليهودي حين قال ال والذي‬
‫اصطفى موسى على العالمين‪.‬‬
‫ي في آخره‪ :‬وال أقول‪ :‬إن أحداً أفضل من يونس بن متى وهذا اللفظ يقوي‬ ‫قال الب َُخار ّ‬
‫أحد القولين من المعنى‪ :‬ال ينبغي ألحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى أي ليس ألحد‬
‫أن يفضل نفسه على يونس‪.‬‬
‫والقول اآلخر ال ينبغي ألحد أن يفضلني على يونس بن متى‪ .‬كما قد ورد في بعض‬
‫األحاديث‪ ،‬ال تفضلوني على األنبياء وال على يونس بن متى‪ .‬وهذا من باب الهضم‬
‫والتواضع منه صلوات هللا وسالمه عليه وعلى سائر أنبياء هللا والمرسلين‪.‬‬

‫نهاية الجزء األول من (قصص األنبياء البن كثير)‬


‫ويتلوه الجزء الثاني وأوله (باب ‪ :‬قصة موسى الكليم) بعون هللا وتوفيقه‪.‬‬

You might also like