You are on page 1of 33

‫التص ُور السياسي عند اإلخوان المسلمين‬

‫رؤية و تحليل‬

‫إشراف البروفيسور مصطفى الفقي‬

‫تقديم محمد علي حسين موسى‬

‫التص ُور السياسي عند اإلخوان المسلمين‬


‫‪1‬‬
‫رؤية و تحليل‬

‫فهرس‬

‫اهــــــــــــــــــــــداء‬

‫مقدمــــــــــــــــــــة‬

‫تعريف بحسن البنا و جماعته‬

‫تعليق‬

‫تصور اإلخوان للديمقراطية‬

‫تعليق‬

‫تصور اإلخوان للنظم واالجتماعية ‪ :‬االشتراكية و الرأسمالية في نظرهم‬

‫القضية االقتصادية و الطبقة العاملة‬

‫تعليق‬

‫تصور اإلخوان للقضية الفلسطينية‬

‫تعليق‬

‫موقف اإلخوان من الوحدة الوطنية المصرية‬

‫تعليق‬

‫المرحلة النفطية ‪ :‬تداعيات منطق و المنطق المتداعي‬

‫تعليق‬

‫اهــــــــــــــــــــــداء‬

‫‪2‬‬
‫الى أقـ ــراني و رفـ ــاقي من شـ ــباب هـ ــذا الجيـ ــل المتعـ ــثر بين مـ ــاض مشـ ــوه و غـ ــد‬
‫مجهــول‪ ...‬الى كــل المحاصــرين في جــوف حاضــر معتم يــدفعهم الى طــرق بيــوت‬
‫األشــــباح و االستســــالم لمنطــــق أهل الكهــــف لتلمس أي بصــــيص من نــــور عنـ ــد‬
‫شيوخهم الموقرين‪...‬‬

‫الى جيل مهزوم ينساق تحت راية فاشية باهتة ال يعــرف لهـا مصــدر ‪ ،‬و ال يـدري‬
‫الى أين تتجه او لصالح من تعمل ‪ .....‬الى كل هؤالء الرفاق الذين يسكنون قلبي‬
‫و عقلي ‪ ...‬اهدي هذا العمل المتواضع‪.....‬‬

‫محمد علي موسى‬

‫القاهرة‪24/4/1987 ،‬م‬

‫مقدمــــــــــــــــــــة‬
‫‪3‬‬
‫في الوقت الذي يتصاعد فيه المد اإلسالمي في العالم العـربي بشـكل عـام ‪ ،‬و في مصـر بشـكل‬
‫خــاص ‪ ،‬ويــزداد أتبــاع هــذا التيــار يومــا بعــد يــوم حــتى صــاروا يمثلــون قــوة سياســية ال يمكن‬
‫تجاهله ــا في الش ــارع الع ــربي ‪ ،‬يك ــون من األهمية بمك ــان رص ــد ه ــذا التي ــار و التع ــرف على‬
‫برامجــه و توجهاتــه و رؤاه السياســية‪ .‬و إن كــان من اليســير على بــاحث ديــني‪/‬إســالمي أن‬
‫يقتفي آثار أتباع اإلخوان المسلمين و يتتبع مــواطئ أقــدامهم ‪ ،‬فــان األمــر ليس كــذلك بالنســبة‬
‫للبــاحث السياســي و ذلــك ألســباب عــدة من بين أهمها أن أفــراد هــذا التيــار لم يمتثلــوا في (أو‬
‫ينضــووا تحت) حــزب سياســي معلن كي نطــالع برامجــه ‪ ،‬كمــا أن هــذا التيــار ال ينطــوي تحت‬
‫رايــة جماعــة واحــدة ذات تصــور واحــد‪ ،‬باإلضــافة الى عــدم تواجــد شــروح جــدة لشــكل الدولــة‬
‫المنشودة التي يسعون الى تطبيقها ‪ .‬فمن المطالعــة األولى ألعمـال بعض أقطـاب هـذا التيــار ‪،‬‬
‫على ســبيل المثــال نجــد في كتــاب أبي األعلى المــودودي " الحكومــة اإلســالمية " خلطــا شــديدا‬
‫بين التص ــور العقائ ــدي و الرؤي ــة السياس ــية ‪ ،‬فه ــو في واق ــع األمر ال يش ــرح تل ــك الش ــعارات‬
‫المبهمــة الــتي طالمــا يرددهــا أقطــاب ذلــك التيــار ‪ ،‬و لكنــه يؤيــد تلــك الشــعارات من القــرآن و‬
‫السنة و سائر المصادر دون تفصــيل أو تفســير لهــا‪ .‬كــذلك األمر ينطبــق على عمــر التلمســاني‬
‫في كتابه " الحكومة الدينية " ‪ ،‬و عبد القادر عودة في مؤلفاته "اإلسالم و أوضاعنا السياسية‬
‫" ‪ " ،‬اإلسالم و أوضاعنا االجتماعية " ‪ " ،‬اإلسالم و أوضاعنا االقتصادية " ‪...‬الخ‪.‬‬

‫و لذلك سأكون مضطرا الى الرجـوع قليال الى الـوراء لتـبين مواقـف تلـك الجماعـة " المتعـددة"‬
‫التي أنا بصدد اقتفاء مالمحهــا و تصــوراتها السياســية ‪ ،‬و ســأحاول أيضا االســتعانة بمواقفهــا‬
‫القريبة زمانيا و مكانيا و ذلك من خالل كتابات بعض أقطابها لعلني افلح في النهاية في رسم‬
‫أو تبيين تلك المالمح التي أسعى جاهدا لرؤيتها بوضــوح‪ .‬سـيبدأ بحــثي بنبــذة عن حســن البنــا‬
‫ملقيا بعض الضوء على طبيعـة الفـترة الـتي كـان يعيش فيهـا هـذا الشـيخ المـوقر ثم انتقـل الى‬
‫تصـ ــورات الجماعـ ــة " المتعـ ــددة " لكـ ــل من الديمقراطيـ ــة و النظم االجتماسياسـ ــية و للمشـ ــكلة‬
‫االقتصادية و القضية الفلسطينية ‪ ،‬و ســيتخلل كـل عنـوان تعليــق خــاص في نهايتـه‪ .‬ثم يعقب‬
‫ذلــك عــرض ألهم األفكــار الــتي تعــبر عن منطــق اإلخــوان في فهم و تصــور دعــوتهم‪ .‬وســأختم‬

‫‪4‬‬
‫دراس ــتي ه ــذه بتعلي ــق ع ــام م ــوجز مبين ــا في ــه كاف ــة تحفظ ــاتي و معلن ــا عن م ــوقفي من تل ــك‬
‫التصورات و الرؤى بشكل محدد و محدود‪.‬‬

‫و أرجو في األخ ــير أن أك ــون به ــذا العم ــل المتواض ــع ق ــد وض ــعت وردة بيض ــاء تنقي أج ــواء‬
‫مسمومة كلها دجلٌ و شعوذة ‪.....‬‬

‫حسن البنّا و جماعته‪....‬‬

‫ظن انه من غير الممكن الشـروع في دراسـة جماعـة "اإلخـوان المسـلمون" دون التوقـف عنـد‬
‫أ ُّ‬
‫شيخها الموقر الذي التف حوله أعضاء الجماعة التفافـا عجيبـا وصـل أحيانا الى حـد التقـديس‬
‫‪5‬‬
‫و التصديق الكاملين لكل مـا يخــرج من فمــه‪ .‬إن دراســة لهــذه الجماعــة تتجاهــل هـذا الشــخص‬
‫العجيب تكــون بمثابــة لوحــة غامضــة لشــخص بال رأس ‪ ،‬وال أقصــد بهــذا التعبــير ان اخــتزل‬
‫الجماعـة كلهـا في شـخص حسـن البنـا ‪ ،‬بيـد أني أجـزم بأنـه من غـير الممكن تجـاوزه ان كنت‬
‫أتوخى اإلنصاف و انشد الحقيقةـ بشأن تلك الجماعة‪.‬‬

‫ال اعرف كيف ألج دراسة رجل و أنا غير واثق من معظم المعطيات المتوفرة لدي عنه ‪ ،‬كما‬
‫أني ال اعلم كيفيــة ســبر أغــواره و غــالب الروايــات في حــوزتي تتــأرجح بين المــديح القريــر و‬
‫القــدح المريــر ‪ .‬و لــذلك آثــرت أن اكتب بطاقــة تعريفيــة محايــدة عن هــذا الرجــل ‪ ،‬بطاقــة تكــاد‬
‫تجمع عليها كل الدراسات الــتي تنــاولت الســيرة الشخصــية لحســن البنــا‪ ،‬مــع اإلشــارة الى تلكم‬
‫الظروف االجتماعية و االقتصادية و السياسية و الحضارية التي كان البنا ابنا شرعيا لها‪.‬‬

‫هــو حســن احمــد ابن عبــد الــرحمن بن محمــد البنــا الســاعاتي ‪ ،‬ولــد في المحموديــة ‪ ،‬محافظــة‬
‫البحيرة في الرابع عشر من شهر أكتوبر عام ‪1906‬م ‪ ،‬وكـانت مهنـة والــده مــأذون الناحيــة‬
‫و إمام مسجد القرية‪ .‬وكـان هـذا األب واحـدا من طالب األزهـر على زمن اإلمــام محمــد عبـده‪،‬‬
‫ويعد واحد من األزهريين الــذين واصـلوا طـوال حيـاتهم الدراسـية البحث في كتب الفقـه‪ .‬و قـد‬
‫أنجب الشــيخ أحمــد خمســة أبنــاء أكــبرهم حســن الــذي حــرص أبــوه فيمــا بعــد على أن يؤكــد أن‬
‫مولده و طفولته قد أحاطت بها هاالت من الخــوارق و الكرامــات‪ .‬و عنــدما بلــغ حســن الثامنــة‬
‫من عمره ‪ ،‬دفعه أبـوه إلى ُكتّـاب القريـة حيث تتلمـذ على يـد أزهـري شـديد التـدين هـو الشـيخ‬
‫محمــد زهــران‪ .‬و من الكُتّ ـاب الى المدرســة االبتدائيــة في ســن الثانيــة عشــر‪ ،‬و هنــاك التقى‬
‫بم ــدرس مت ــدين آخر ض ـ ّـمه إلى جماع ـ ٍـة بالمدرس ــة اس ــمها جماعـــة الســـلوك االجتمـــاعي‪ ،‬و‬
‫سرعان ما أصبح الفتى المتدين "حسن" رئيسا للجماعة وسرعان ما اكتشف هذا الفتى ضـعف‬
‫منطلقات تلك الجماعــة‪ ،‬فيؤلــف مــع زمالئـه األكـثر حماسـا جماعـة النهي عن المنكــر‪ ،‬ثم تـأتي‬
‫الخطوة التالية‪ :‬من جماعة النهي إلى جماعة أخوان الحصــافية‪ .‬و هكــذا أصـبح الفــتى صـوفيا‬
‫و لكنه يلتقي في حلقات بتلميذ صغير هو أحمد السمكري الذي يؤسس معه جمعية الحصــافية‬
‫(‪)1‬‬
‫التي تعتبر نفسها فرعا من الجماعة ‪ ،‬و أصبح حسن سكرتيرا لها‪.‬‬

‫يلتحــق الفــتى وهــو في ســن الرابعــة عشــر بمدرســة المعلمين األوليــة في دمنهــور حيث باشــر‬
‫بشدة وحماسة نشاطه الــديني‪ ،‬وبــدأ في دراســة كتب الفقــه اإلســالمي‪ ،‬ثم التحــق علم ‪1923‬م‬
‫‪6‬‬
‫" وهكــذا يصــل الفــتى الــريفي إلى قــاهرة العشــرينات الــتي كــانت تمــوج آنــذاك‬ ‫(‪)2‬ــ‬
‫بــدار العلــوم‪.‬‬
‫المدنيـة الحديثـة في وقت‬
‫ّ‬ ‫بصراعات حزبية مريرة و تيارات علمانية عارمة باتجاه قـوي نحـو‬
‫المح ــافظين‪ )3(".‬ـ ـ هــو إذن ص ــوفي يأخ ــذ نفســه بالجــد في‬
‫الم َجــ دِّدين و ُ‬
‫يق ــوى فيــه الخالف بين ُ‬
‫العبــادات كغــيره من أبنــاء جماعتــه ‪ ،‬و هــو بــاحث عن المعرفــة اإلســالمية يســتمع كثــيرا إلى‬
‫محاضــراتها‪ ،‬بيــد أن كــل ذلــك ال ُيصـ ِـلح حــال القــاهرة المتمــردة أمــام وفي عينيــه‪ ،‬تلــك المدينــة‬
‫الــتي يشــعر تجاههــا بغربــة قاتلــة‪ .‬و هنــا تتكــون القناعــة األساســية الــتي حـ ّـركت وجــدان الفــتى‬
‫طــوال مــا بقى من حياتــه‪ " :‬المســجد وحــده ال يكفي" فال بــد من رجــال يهبــون حيــاتهم لألمــر‬
‫فكـون مـع مجموعـة من زمالئـه مجموعـات للوعـظ واإلرشـاد‬
‫بالمعروف و النهي عن المنكـر‪ّ ،‬‬
‫في المساجد و المقاهي و التجمعات الشـعبية‪ ،‬و من القـاهرة إلى الريـف انطلـق الشـبان الـذين‬
‫يمكننا اعتبارهم النواة األولى لجماعة اإلخوان المسلمون‪.‬‬
‫(‪)4‬‬

‫وفي ‪ ،19/9/1927‬وفي رواي ــة أخ ــرى ‪ ،1928‬يب ــدأ الع ــام الدراس ــي‪ ،‬وك ــان على الم ــدرس‬
‫الشاب أن يرحل إلى مدينة جديدة فذهب إلى اإلسماعيلية حيث وهب حياته لتنفيذ الفكرة الــتي‬
‫آمن بهــا‪ ،‬وكــان ُي َعلّ ُم األطفــال نهــارا و آبــائهم ليال‪ ،‬و كــان معظم هــؤالء اآلبــاء من العمــال و‬
‫و هكذا كانت بداية الجماعة‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫الموظفين البسطاء و صغار التجار‪.‬‬

‫ربما كــان من الضــروري أن نســلط األضــواء على الفــترة األولى من القــرن العشــرين و حصــر‬
‫هذه األضواء تحديدا في مصر لمعرفة المناخ الذي خــرج منــه حســن الب ّنــا‪ .‬إذ كــانت مصــر في‬
‫تلك الفترة بحاجة إلى هزة عنيفة كي تفيق و تقشع عن عينهــا غشــاوة الهزيمــة و االستســالم‬
‫و اليأس لتنهض فتمضي من جديد‪ .‬برز و تقدم الكثير من المفكرين كي يحــاولوا اإلســهام في‬
‫شميل تعقيبا على الضوضاء الفكريــة الــتي تلت صــدور كتابــه‬
‫يقول شبلي ّ‬
‫(‪)6‬‬
‫إحداث تلك الهزة‪.‬‬
‫"فلسفة النشوء و االرتقاء"‪ :‬هذه الهــزة الــتي حــدثت اليــوم هي المقصــودة مــني في ذلــك الحين‬
‫و بينمــا كــان الحــوار الــدائر بين المتعلمين و مـ ّـدعي التعلم‬ ‫إليقاظ األفكار من نومها العميق‪.‬‬
‫(‪)7‬‬

‫ال يزال منحصرا تماما في مجادالت سفسطائية تجاوزها الزمن‪ ،‬من نوع هــل األرض كرويــة؟‬
‫و ه ــل ت ــدور ح ــول نفس ــها؟ الخ‪ ...‬يكتب يعق ــوب ص ــروف في المقتط ــف ق ــائال‪" :‬إن موض ــوع‬
‫دوران األرض ح ــول نفس ــها و ح ــول الش ــمس ص ــار أش ــهر من ن ــار على علم و أوض ــح ل ــذي‬
‫الرجة المطلوبة و واكبها مفكرون ُكثُر مثل فرح أنطوان‪ ،‬سالمة موسى‪،‬‬
‫عينين‪ ... ".‬حدثت ّ‬
‫(‪)8‬‬

‫‪7‬‬
‫مصــطفى حســنين المنصــوري بكتابــاتهم المســتنيرة عن االشــتراكية‪ .‬و لعــل ذلــك يكــون بمثابــة‬
‫(‪)9‬‬
‫أضواء خافتة عن طبيعة الصراع بين المجددين و الحافظين في تلك الفترة‪.‬‬

‫ظهــرت في أواخــر القــرن التاســع عشــر و أوائــل القــرن العشــرين أفكــار شــتى تحــاول تحديــد‬
‫الهويــة المصــرية‪ .‬فهنــاك من ينــادي بــأن مصــر للمصــريين‪ ،‬وهنــاك من يحــاول تــرميم وجــه‬
‫الخالفة العثمانية بعـد سـقوطها‪ .‬فهـاهو محمـد فريـد يقـاوم دعـوة الجامعـة اإلسـالمية و ينقـدها‬
‫نقدا شديدا وهو يشير في مذكراته إلى الشيخ جاويش‪ " ،‬إن حبه للدولة العثمانية أدى به إلى‬
‫وقــد أحــاطت بالــدعوة إلى‬ ‫(‪)10‬‬
‫نســيان مصــر‪ ،‬فأصــبح يقــول أن مصــر للمســلمين ال للمصــريين‪".‬‬
‫الخالفــة شــبهات موضــوعية تتعلــق بطمــوح الملــك فــؤاد وحاشــيته من شــيوخ األزهــر‪ .‬فتكــون‬
‫قصة الخالفة سببا في حــدوث معركــة ضــارية خاضــها شــيوخ األزهــر ضــد شــيخ أزهــري‪ .‬ففي‬
‫ابريـ ــل من عـ ــام ‪1925‬م أصـ ــدر الشـ ــيخ علي عبـ ــد الـ ــرازق ‪ -‬القاضـ ــي الشـ ــرعي بمحكمـ ــة‬
‫المنصــورة – كتابــه الشــهير " اإلســالم و أصــول الحكم"ـ مؤكــدا فيــه أن فصــل الــدين عن الدولــة‬
‫يتطــابق مــع تعــاليم القــران و السـ ّنة‪ .‬وفي عــام ‪1926‬م اصــدر طــه حســين كتابــا بعنــوان " في‬
‫الشعر الجاهلي" احدث ضجة ال تقل عن تلك التي أحدثها كتاب علي عبد الرازق وكتاب شبلي‬
‫ـرواد ‪ ،‬و تكــون تلــك الصــراعات بالضــرورة واحــدة من مكونــات المنــاخ‬
‫ـميل وغــيرهم من الـ ّ‬
‫شـ ّ‬
‫(‪)11‬‬
‫الفكري الذي عاشه الفتى حسن الب ّنا‪.‬‬

‫كما كانت هناك أيضا جماعات التبشــير الــتي انتشــرت في أمــاكن عديــدة في ربــوع مصــر‪ ،‬وقــد‬
‫اس ــتفز النش ــاط التبش ــيري مش ــاعر المس ــلمين هن ــاك‪ ،‬و ك ــان لح ــوادث الغواي ــة عن ال ــدين و‬
‫ولقــد قيــل في هــذا‬ ‫(‪)12‬ـ‬
‫ذم عــنيف‪.‬‬
‫لحــوادث نقــد اإلســالم بمحاضــرات بعض المبشــرين و كتبهم ٌّ‬
‫كثير لعل أكثره صــح ًة هــو أن التبشــير لم يكن أكــثر من لعبــة اســتعمارية‬
‫كالم ٌ‬
‫الموضوع وعنه ٌ‬
‫تستهدف استفزاز المشاعر اإلسالمية و صرفها عن مسار الكفاح الطبيعي لتحرير الوطن إلى‬
‫(‪)13‬‬
‫مسارات تستهلك قواها في صراعات داخلية‪.‬‬

‫وفي خضــم ذلــك كلــه تنمــو فكــرة التنــاقض بين الحضــارتين الشــرقية و الغربيــة‪ :‬فهنــاك حركــة‬
‫مص ــر الفت ــاة ال ــتي تس ــتلهم في مطل ــع الثالثين ــات نهض ــة الياب ــان كنم ــوذج للنهض ــة الش ــرقية‬
‫المرغوبــة ؛ أمــا التيــارات اإلســالمية فكــانت تــرى الشــرقية كــدعوة ذات طــابع و منطلــق ديــني‬
‫تستهدف حشد جهـود مســلمي الشــرق ضـد الـدعاوى الغربيـة و مظـاهر الحيــاة الغربيــة‪ .‬و من‬
‫‪8‬‬
‫هنـا تـأتي قضـية الصـدام بين المجـددين و التقليـديين‪ ،‬وللصـراع هـذا قصـ ٌة طويلـ ٌة اسـتطيع أن‬
‫ألخصها في انه قد تمخض عن ثالث مدارس أو اتجاهات هي(‪:)14‬‬

‫‪ -1‬التقليديون المحافظون من شيوخ األزهر‪.‬‬

‫المستنيرين‪.‬‬
‫‪ -2‬المجددون ويتمثلون في الشيخ محمد عبده و تالميذه ُ‬

‫‪ -3‬المجددون المحافظون ( الشيخ رضا و تالمذته)‪.‬‬

‫ـبير من األهميــة في موضــوع البحث‪،‬‬


‫ـيب كـ ٌ‬
‫و هــذا التحديــد لتلــك المــدارس‪/‬االتجاهــات لــه نصـ ٌ‬
‫أمر بالغُ األهمية وله تفصـيل‬
‫وذلك آلمرين‪ :‬األول ‪ ،‬أن اإلسالميين ليسوا اتجاها واحدا‪ ،‬وهذا ٌ‬
‫فيما بعد‪ .‬األمر الثاني‪ ،‬أن الخالف بين اإلســالميين يعكس بالضــرورة تمثيــل طبقــات اجتماعيــة‬
‫(‪)15‬‬
‫مختلفة‪ ،‬كما انه يدل على وجود رؤى متباينة لإلسالميين في فهم الواقع الجديد‪.‬‬

‫تــعــلـــــــــــــــــيق‪....‬‬

‫أظن أنه من الصـ ــعوبة بمكـ ــان أن نرجع ظـ ــاهرة ما إلى عامل واحـ ــد‪ ،‬و كـ ــذلك يكـ ــون األمر أكـ ــثر‬
‫ص ــعوبة حين نلجأ إلى عامل او ع ــاملين في فهم شخص ــية حسن البن ــا‪ .‬كما أني ال أرى أن معرفة‬
‫النشأة الخاصة بحسن البنا و الظروف الموضوعية التي أحــاطت بها تكفل لنا رؤيته بشــكل كامــل‪،‬‬
‫أضواء ال غنى لنا عنها إذا ما أردنا فهم هذا الشيخ الموقر‪.‬‬
‫ً‬ ‫بيد أنها على األقل تلقي‬

‫فحسن الب ّنا هو ذلك القروي البسيط الذي ينحدر من إحدى الشرائح االجتماعية المتوســطة الحــال‬
‫في الريف المصري و بكل ما يعنيه الريف المصري في أوائل القرن العشــرين من انغالق شــديد ‪.‬‬
‫و حسن ابن مخلص للريف القـــديم و بكل ما فيه من أصـــول دينية قديمة ‪ ،‬و هو الـــريفي الـــذي‬
‫حملته الظروف إلى أجواء القــاهرة الصــاخبة ‪ ،‬و هو ذلك القــروي الــذي يقتحم مجــاالت السياسة‬
‫في فترة تنتشر فيها تيارات عديدة متناقضة يتخير موقفا منها و هو ال يزال مشــدودا إلى قريته و‬
‫تراثه السلفي‪ ،‬و هو ذلك الفتى الــذي ينشأ في فــترة ُتشــخص فيها أنظــار التيــارات السياســية إلى‬
‫القضـــية الوطنية (المصـــرية) وحـــدها مع تجاهل شـــديد للبـــدائل المنشـــودة ومع تغافل للبـــدائل‬
‫االقتصادية المرجــوة‪ ،‬و هو ذلك الــبرجوازي الصــغير الــذي يقتحم دهــاليز السياسة فتزيــده حنكة‬
‫وخبرة؛ ومن ثم‪ ،‬ليس غريبا أن يكون حسن البنا ابنا شرعيا للريف المصري المحافظ‪ .‬فهو الذي‬
‫وقف موقفا محافظا من و في معظم القضايا ال ُمثارة بين التيارات اإلسالمية آنذاك‪ ،‬حــتى انه دافع‬
‫عن الخالفة العثمانية و نــادى بــالرجوع إليها دون كل البــدائل األخــرى محــدثا بــذلك هــذه الثنائية‬

‫‪9‬‬
‫المفتعلة بين الــدين و الوطنيــة‪ .‬لقد دخل البنا التــاريخ في غفلة منه فال يعبا و ال يكــترث ببــدائل‬
‫اقتصادية عادلة‪ ،‬و ال يحفل بكل أنواع الظلم و الجور االجتماعي الشديد‪ ،‬فهو أسير فكرة الجنة و‬
‫النار ‪ ،‬وهو مشدود إلى تراثه السلفي بكل ما يخلّفه ذلك في نفسه من أحادية النظــرة و المنطق و‬
‫الموقف مما يلقيه في خنــدق اليمين اإلصــالحي وقتــذاك‪ ،‬إذ كــان ينــادي بــان تســتقيم العالقة بين‬
‫فضـها‪ ،‬و‬
‫العامل و صاحب العمل ليشجب اإلضــرابات و االعتصــامات العماليــة‪ ،‬بل و يشــارك في ّ‬
‫كان ينكر الصراع الطبقي باعتباره يثير العداوة و البغضاء بين أبناء الدين الواحد‪.‬‬

‫و حسن البنا برجوازي صغير اقتحم ميادين السياسة فاختــار أســهل الحلــول و ابســطها و أبعــدها‬
‫عن الصــدام‪ ،‬وكــان كثــيرا ما يتــأرجح في الكثــير من مواقفــه؛ و لكنه ال يرضى إال أن يكــون على‬
‫جناح السلطة‪ ،‬يخشى الصدام و يرهب المواجهة‪ ،‬ولكنه يــود أن يظل دوما في دائــرة النــور‪ ،‬فهو‬
‫ليس زعيما لحزب سياســي‪ ،‬و لكنه مرشــدا لجماعة دينيــة‪ ،‬و لكن هــذه الجماعة ال تجد غضاضة‬
‫في أن تقحم نفســـها في ميـــدان السياسة بال برنـــامج وبال أي بـــديل للواقع ‪ ،‬وبال تحديد للموقع‬
‫السياسي‪ :‬هل أفراد هذه الجماعة هم اصالحيون أم ثوريون؟ و أين موقعهم من السلطة القائمــة؟‬
‫إذ كل ما يرددونه هو "هللا غايتنا و اإلسالم ديننا" و كفى‪.‬‬

‫ولذلك‪ ،‬يمكنني القــول أن حسن الب ّنا وليد هــذا الواقع بكل تناقضــاته‪ ،‬وقد دفعته قــوى سياســية ما‬
‫دفعا إلى ميــدان السياسة و اســتثمرته نفس القــوى اســتثمارا جيــدا‪ ،‬فحينما كــان يظهر أي بــادرة‬
‫ـرد كــانت نفس القــوى الــتي زجت به إلى الواقع تلطمه بقــوة؛ و تــاريخ العالقة بين اإلخــوان و‬
‫تمـ ُّ‬
‫القصر يطفح بمثلها مواقــف‪ .‬و لعل هــذا يفسر أحــداث كثــيرة تلت مــوت حسن البنا كــذهاب قــادة‬
‫اإلخوان إلى القصر بعد موته مباشرة؛ و تتوالى األحداث و تــأتي ثــورة يوليــو‪ ،‬ويــرحب اإلخــوان‬
‫بشدة بقــرار حل األحــزاب‪ ،‬ثم ينتفضــون انتفاضا شــديدا لقــرار حل الجماعــة‪ ،‬رغم أن المنطق ال‬
‫يختلف‪ ،‬و لكن هكذا يكون "الميكيافليون"‪.‬‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫رفعت الســعيد‪ ،‬حسن البنــا‪ :‬مــتى‪..‬كيــف‪..‬و لمــاذا؟‪ ،‬مكتبة مــدبولي‪ ،‬القــاهرة‪1977 ،‬م‪،‬‬
‫صص ‪. 15-13‬‬
‫(‪)2‬‬
‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.16‬‬
‫(‪)3‬‬
‫محمد حبيب احمد‪ ،‬نهضة الشعوب اإلسالمية في العصر الحديث‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬القاهرة‪،‬‬

‫‪1983‬م‪ ،‬ص‪.105‬‬

‫‪10‬‬
‫(‪)4‬‬
‫‪R. Mitchell, The Society of the Muslim Brothers, Oxford‬‬
‫‪.University Press, London, 1969, p.99‬‬
‫(‪)5‬‬
‫فتحي العسال‪ ،‬حسن البنا كما عرفته ‪ ،‬دار الشهاب‪ ،‬القاهرة‪1977 ،‬م ‪ ،‬ص ‪.54‬‬
‫(‪)6‬‬
‫رفعت السعيد‪ ،‬مصدر سبق ذكره‪ ،‬ص ‪.17‬‬
‫(‪)7‬‬
‫شبلي شم ّيل ‪ ،‬فلسفة النشوء و االرتقاء‪ ،‬مطبعة المقتطف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،.‬ص ‪.52‬‬
‫(‪)8‬‬
‫المقتطف ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬مج ‪1876‬م‪.‬‬
‫(‪)9‬‬
‫‪J. Ahmad, The Intellectual Origins of the Egyptian Nationalism,‬‬
‫‪.Oxford University Press, London, 1960, p. 78‬‬

‫(‪ )10‬رفعت السعيد‪ ،‬مصدر سبق ذكره‪ ،‬صص ‪.19-18‬‬

‫(‪ )11‬علي عبد الرازق‪ ،‬اإلسالم وأصول الحكمـ‪ ،‬مطبعة بيروت‪ ،1972 ،‬ص ‪.27‬‬

‫(‪ )12‬طارق البشري‪ ،‬الحركة السياسية في مصر عام ‪1945‬م – ‪1952‬م‪ ،‬مكتبة‬

‫مدبولي‪ ،‬القاهرة‪1971 ،‬م‪ ،‬ص ‪.236‬‬

‫(‪ )13‬رفعت السعيد‪ ،‬سبق ذكره‪ ،‬صص ‪.22-20‬‬

‫(‪ )14‬المصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪.29‬‬

‫(‪ )15‬فرج فودة‪ ،‬قبل السقوط ‪،‬المؤلف‪ ،‬القاهرة‪ ،1985 ،‬ص ‪.187‬‬

‫تص ُورـ اإلخوان للديمقراطية‪....‬‬


‫َ‬
‫لعل من الصـــعب أن يتم تحديد شـــكل الديمقراطية المرجـــوة لـــدى أية جماعة دينية من أدبياتها‬
‫ً‬
‫خاصــة إذا كــانت هــذه الجماعة لم ُت َتح لها فرصة المشــاركة في الحكم ولو لفــترة‬ ‫الخاصــة ‪ ،‬و‬
‫ّ‬
‫قصيرة‪ ،‬او أنها تتسم بديماغوجية شديدة؛ ومما يزيد األمر تعقيدا أن تكــون هـذه الجماعة نفســها‬
‫ال ترفع برنامجا ‪ ،‬إن لم يكن بديال ‪ ،‬و تطرحه للنقاش ‪ .‬و هكذا هي جماعة اإلخوان ‪ .‬ولكني أرى‬
‫أن الديمقراطية ال تتجزأ ‪ ،‬فال يختلف شقها ال ُمعلَن عن شقها السلوكي‪ ،‬ولذلك سأحاول جاهــدا أن‬
‫أستشف هذا التصور من خالل األدبيــات المعلنة لإلخــوان ‪ ،‬ومن خالل تــاريخهم و مشــاركتهم في‬
‫الحركة الجماهيرية ‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫يعتــبر أبو األعلى المــودودي احد أشــهر المفكــرين اإلســالميين في نظر اإلخــوان‪ ،‬ففي إحــدى‬
‫يجسد تصورهم للديمقراطية قائال بالحرف الواحد‪ " :‬اإلسالم ال يجعل من كثرة األصوات‬ ‫ّ‬ ‫مؤلفاته‬
‫ميزانا للحق والباطل‪ ،‬فانه من الممكن في نظر اإلسالم أن يكون الفــرد أصــوب رأيا و أحـ ّد بصــرا‬
‫في مسألة من المسائل عن سائر أعضاء المجلس‪ ،‬فإذا كان األمر كذلك‪ ،‬فليس من الحق أن يؤخذ‬
‫بــرأي الجماعة و ُيســلب رأي الفــرد‪ ،‬فــاألمير له الحق أن يوافق األقلية او األغلبية في رأيهم و‬
‫كـــذلك له الحق في أن يخـــالف أعضـــاء المجلس كلهم و يقضي برأيـــه‪ )1(".‬و هكـــذا ُي َج ِّ‬
‫ســـد لنا‬
‫المــودودي موقف األمــير او الخليفة من أعضــاء لجنة الحل و العقــد‪ .‬فهو ال يلــتزم باألخذ بــرأي‬
‫األغلبية ألن هذا الرأي قد يكون خاطئا‪.‬‬

‫و لنظر معي إلى كلمـــات عمر التلمســـاني في كتابه " الحكومة الدينيـــة" إذ يقـــول‪ " :‬إن تـــرك‬
‫ـرع الفــرد فهو نــاظر إلى‬
‫التشريع للبشر ظلم ما بعده ظلم‪ ،‬ذلك أن الظلم من شيم النفــوس ‪ ،‬إذا شـ ّ‬
‫مصلحته‪ ،‬أما شرع هللا فهو لمصلحة البشر جميعا‪ )2(".‬و يقول التلمساني أيضــا‪ .... " :‬ليس من‬
‫حق الحكومة اإلسالمية أن تعتقل او تحبس او تع ّذب او تقتل او تؤمم او تصــادر او تســتولي على‬
‫مال أحـد‪ )3(".‬و بالنســبة للتعــديالت الـتي طرحها الشــيخ حسن البنا في ظل النظـام الملكي لم تكن‬
‫تتعدّى موضوع الشورى‪ ...‬فما رأيه فيها؟‬

‫يقول حسن الب ّنا‪ " :‬إن أهل الشورى يكونــون إما من رجــال الــدين و إما من الرجــال المتمرســين‬
‫في القيــادة مثل ورؤســاء القبائل و العــائالت‪ ...‬و ال تكــون االنتخابــات مقبولة إذا ما أســفرت عن‬
‫غير هذين الصنفين‪ )4(".‬كــانت تلك العبــارات تجسد رؤية اإلخــوان للديمقراطية السياســية‪ ،‬ولكن‬
‫نتخب لإلمــارة إال‬
‫ُ‬ ‫تعال معي لنرى رؤاهم في كيفية ممارسة الديمقراطية‪ .‬يقول المــودودي‪ " :‬ال ُي‬
‫َمن كان المسلمون يثقون به و بسيرته وبطباعه و ِب ُخلُقه فإذا انتخبوه فهو ولي األمر ال ُمطاع في‬
‫(‪)5‬‬
‫ُحكمه و ال ُيعصى له أمر و ُيعتمد عليه في تنفيذ األوامر اعتمادا كامال‪".‬‬

‫أما بالنسبة لكيفية عمل و ممارسة اإلخوان في الحركات الجماهيرية فهو أمر صعب العــرض الن‬
‫اإلخــوان ال يثــورون لغالء األســعار أو لتــدنيس أرض وطنهم و ال لقــدوم االســتعمار في صــوره‬
‫التقليدية او ال ُم َق ّنعة‪ ،‬ولكنهم يثورون ثورة عارمة تضامنا مع ما يسمونه بالمجاهدين األفغــان أو‬
‫المتمردين األفغان إن دق التعبــير‪ ،‬وقد ال يكــون هنــاك أي شــكل علمي للتعــرض لتلك المــؤتمرات‬
‫الــتي يعقــدها اإلخــوان‪ ،‬و لكــني أجد نفسي ُمضــطرا إليه لمحاولة جمع أشــالء الصــورة‪ .‬فــأول ما‬
‫المسه في مؤتمراتهم التي كانت ُتصحب بضجة شــديدة في أواخر الســبعينات على وجه التحديــد‪،‬‬
‫ذلك أن بعض قادة اإلخوان يعتلون المنصات العالية و يخــاطبون جمهــورهم الواقف على األرض‬
‫خطابا وجدانيا خالصا خاصا يخلو تماما من أي عــرض أو تحليل لما يحــدث‪ ،‬فعلى ســبيل المثــال‪،‬‬
‫في أفغانستان‪ ،‬كأن يقولوا مثال أن اإلسالم اليوم ُيحارب من الشيوعيين و الصليبيين و الصهاينة‬
‫بال تحديد أو توضــيح لشــكل الحــرب و طبيعة المرحلــة‪ ،‬ثم ينتهي حــديثهم بــذكر احد الصــحابة‬
‫األجالء و يقــاطعهمـ بعض األعضــاء الــواقفين بين الجمهــور بشــعاراتهم التقليديــة‪ :‬اله اكــبر وهلل‬
‫الحمد‪ ،‬بيد أنهم بالضرورة يرفضون رفضا قاطعا أن يأخذوا بأي نقاش‪.‬‬

‫تــعــلـــــــــــــــــيق‪....‬‬

‫‪12‬‬
‫سـ ّطح للديمقراطية ال ُيظهــرون او يوضــحون لنا أي جــانب من‬ ‫لعل اإلخــوان في هــذا العــرض ال ُم َ‬
‫أشــكال الديمقراطية االجتماعية يعنــون إال ما قد نستش ـ ّفه ضــمنيا من كالم عمر التلمســاني الــذي‬
‫يســتبعد فيه أن تقــوم الحكومة اإلســالمية بتــأميم او مصــادرة أمالك كبــار ال ُماّل ك ذلك ألن التــأميم‬
‫عنــدهم هو نــوع من المصــادرة لحرية الفــرد‪ .‬و هــذا ما يجعل اإلخــوان قريــبين بعض الشئ من‬
‫الديمقراطية الليبرالية بأشكال ظلمها الفادح لإلنســان ال ُمعاصــر‪ .‬أما شــكل الديمقراطية السياسـية‬
‫عند اإلخوان هو ما قد نستشفه ضمنا أيضا من خالل عباراتهم و تعبيراتهم الديماغوجية؛ فاألمير‬
‫عندهم ُيختار او ُينتخب طبقا للمواصفات الخاصة وال يحق ألحد أن يعصاه ويخــرج عن رأيــه‪ .‬إن‬
‫حديث حسن الب ّنا عن األفــراد او الطبقة الــتي ينبغي لها أن تشــارك في العملية السياسة ‪ ،‬وهو ما‬
‫قد يعود بنا إلى القرون الوسطى في وجــوب طاعة الخليفة ‪ ،‬و ربما أيضا هو ما قد يعــزز الجــانب‬
‫السلبي للدين في منع الفرد من التعبير عن نفسه‪.‬‬

‫إن حديث التلمســاني عن الحكومة الدينية الــتي ال تقتل و ال ُت َعـ ّذب و ال ُتصــادر‪ ...‬إنما هو حــديث‬
‫ُمنــافٍ تماما ألشــكال الحكومــات اإلســالمية الــتي أُبتلينا بها في تاريخنا العــربي‪ .‬ولعل اســترجاع‬
‫التلمساني او استقرائه للتاريخ مــرة ثانية قد يصــدمه لما حــدث من تنكيل لكل من يحمل فكر جديد‬
‫او يخالف ما يعتقد الخليفة او الوالي ‪ ،‬فلينظر التلمساني إلى ما حدث للجعد بن درهم وابن عربي‬
‫والجهم ابن صفوان ولكبار العلماء الموقرين من األئمة األربعة أمثــال أبي حنيفة وابن حنبل و ما‬
‫تعرضا له من تعذيب شديد المتناع األول عن تولي القضاء و لرفض الثاني اإلقرار بخلق القــران‪.‬‬
‫بل وانه يمكن للتلمساني نفسه أن يسترجع الحكمـ العثماني أقصد احدثا الحكم العثماني و ما شــاع‬
‫فيه من ظلم ب ّين واستئثار الخلفــاء العثمــانيين للســلطة و الــثروة‪ ،‬هــذا بالنســبة للخالفة العثمانية‬
‫التي ينادي اإلخوان بعودتها‪.‬‬

‫إن شرع هللا الــذي يحقق العــدل و المســاواة والــذي ال يقتل و ال يــؤمم الممتلكــات و الحقــوق هو‬
‫شرد و ينفي و ُي ّ‬
‫عــذب‬ ‫نفس الشرع الذي ُيسلّط على رقاب الخارجين عن طاعة السلطات فيقتل و ُي ّ‬
‫وما صفحات التاريخ ببعيدة‪ ،‬أما حاضرنا فكلنا يراه و يعايشه‬

‫الهوامش‪:‬‬

‫أبو األعلى المودودي‪ ،‬نظرية اإلسالم السياسية‪ ،‬دار المختار اإلسالمي‪ ،‬القاهرة‪،‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪ 1977‬م‪ ،‬صص ‪.30-29‬‬

‫عمر التلمساني‪ ،‬الحكومة الدينية‪ ،‬دار االعتصام‪ ،‬القاهرة‪1982 ،‬م‪ ،‬ص ‪.19‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫نفس المصدر‪ ،‬ص ‪.18‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫‪13‬‬
‫حسن الب ّنا‪ ،‬مشكالتنا في ضوء النظام اإلسالمي‪ ،‬دار الشهاب‪ ،‬القاهرة‪1984 ،‬م‪ ،‬ص ‪.15‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫المودودي‪ ،‬سبق ذكره‪ ،‬صص ‪.31-30‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫تص ُورـ اإلخوان للنظم االجتماعية‪ :‬االشتراكية و الرأسمالية في نظرهم‬


‫َ‬
‫تصورها للنظم االجتماعية و موقفها منها ولكن بــالطبع ليس كموضــوع‬ ‫ُ‬ ‫ُتجس ُد لنا أدبيات اإلخوان‬
‫مستقل وإنما ضمن مواضيع عدة‪ .‬فنج ُد عمر التلمســاني ‪ ،‬على ســبيل المثــال ‪ ،‬يقــول‪ " :‬إن تــرك‬
‫التشريع للبشر ظلم ‪ ...‬لقد قامت في مصر دساتير وضعية أنكرها الجميع او األغلبية الساحقة‪ ،‬ثم‬
‫ـرين من كل هـذه الدســاتير‪ ،‬فهل ُيــترك التشـريع لعامة النــاس‬ ‫اُلغي دســتور بعد دســتور و ُذقنا األ َمـ ّ‬
‫ولهم أهواء و فيهم شــطحات وبينهم خالف‪ ،‬و هم أوزاع‪ ،‬فمن أين تــأتي عدالة التشــريع من هــذه‬
‫(‪)1‬‬
‫الصورة؟"‬

‫ثم ينتقل التلمساني الى وصف جانب آخر من ال ُن ُظم االجتماعية فيقول‪ " :‬إن المال الــذي من اجله‬
‫يتحــارب النــاس قد ب ّين إدارته و التصــرف فيه صــاحبه (هللا) وحــدد للحكومة اإلســالمية وجــوب‬
‫اإلنفاق و التداول و التعامل‪ .‬لقد قرر هللا في كتابه أن المال مال هللا وحـده وأن النـاس ُمسـتخلَفون‬
‫ـق معلــوم للســائل و المحــروم‪ ،‬و بهــذا تنــد ُّك حجة‬
‫فيــه‪ ،‬فهو إذن حق لكل إفــراد الشــعب‪ ،‬وفيه حـ ٌ‬
‫(‪)2‬‬
‫الرأسماليين و االشتراكيين و الشيوعيين او ما شئت من أسماء و مسميات‪".‬‬
‫‪14‬‬
‫وما المودودي الــذي يــو ّقر اإلخــوان كل كتاباته فنجــده يقــول تحت عنــوان "عيــوب الرأســمالية و‬
‫االشتراكية"‪.." :‬الحقيقةـ األساسية أن النظام الرأســمالي الــذي نتج عن الثــورة الفرنســية و اتخذ‬
‫من الحرية الفردية الليبرالية و الرأســـمالية الديمقراطية الالدينية أساسا له إنما هو نظـــام ينـــافي‬
‫العدالة االجتماعية فعيب هذا النظام انه أعطى الفرد حرية أكثر من الحد الالزم و سمح له بالتعدي‬
‫و التطاول على األسرة و القبيلة و المجتمع و الشــعب و تـراخى مع القـوى الضـابطة في المجتمع‬
‫(‪)3‬‬
‫التي ُيرجى بها تحقيق الخير للشعب‪".‬‬

‫أما عن النظام االشتراكي‪ ،‬فنجد المــودودي يقــول‪" :‬إن النظــام االشــتراكي يعطي الحكومة قــوة و‬
‫ســلطة أكــثر من الحد الالزم و يســلب األفــراد و األسر و القبائل حــريتهم جميعــا‪ ،‬فيســخر األفــراد‬
‫لخدمة المجتمع و يقلب حقيقة اإلنســــــان من آدمي ذي روح الى آلة او جــــــزء من آلة بال روح‪،‬‬
‫فالعمر الحق أن َمن يزعم أن العدالة االجتماعية تتحقق عن طريق مثل هذا النظام إنما يقــول كــذبا‬
‫يجسـد لنا أبو األعلى المــودودي رأيه في النظــامين االشــتراكي و‬‫ّ‬ ‫و افــتراء و بهتانــا‪ )4(".‬و هكــذا‬
‫الرأسمالي على السواء‪.‬‬

‫تــعــلـــــــــــــــــيق‪....‬‬

‫تص ـ ُور اإلخــوان الغــريب للمــذاهب االجتماعيــة‪ ،‬هــذا‬


‫لعلك تشــاركني هــذا الشــعور بالدهشة من َّ‬
‫التصور الذي انقله بأمانة شديدة وبال إيجاز مخل بالمعنى‪ .‬فالتلمســاني يعــود مــرة ثانية و يســلب‬
‫حق النــاس في اختيــار نظــام اجتمــاعي ألن نظــام هللا موجــود و هو يحقق العــدل االجتمــاعي‪ .‬و‬
‫بالرغم من أن التلمساني و ســائر أقطــاب اإلخــوان ينقلــون لنا بــديلهم المزعــوم في شــكل مبــادئ‬
‫فضفاضة ال تخلو من رنين الخطابة ‪ ،‬وال أرى فيها أي جديد‪ ،‬هذا باإلضافة الى أن شرع هللا الذي‬
‫يحدثنا عنه التلمساني ال ُيطبقه هللا نفسه‪ ،‬ولكن يطبقه الحاكم او األمير وهو بشر خاضع للضعف‬
‫اإلنساني الذي يحذر منه التلمساني‪ .‬و حين نعود الستقراء تاريخنا الغــابر و الحاضر معا نجد أن‬
‫الحكام العباسيين ومن بعدهم العثمانيين يضفون على أنفسهم هذه المهابة تحت ما يســمى بخليفة‬
‫هللا في األرض و ظل هللا على األرض بما يعني مصادرة حق الناس في االعتراض او المخالفة او‬
‫حتى مجرد إبداء الرأي المغاير‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫إن حديث التلمســاني عن إن المــال مــال هللا ‪ ،‬المــال الحق هلل‪ ،‬فهو حــديث ال يســمن وال يغــني من‬
‫جــوع‪ ،‬إذ ما زال يتحـ ّدث عن قــوة علوية تنظم كل شئ بال تحديد او توضـيح بالـدور اإلنسـاني‪ ،‬و‬
‫كيفية انتظام العالقات اإلنتاجية و عالقات التوزيع بين البشر في ظل هذا النظام المنشود‪.‬‬

‫أما انتقــاد المــودودي للرأســمالية فهو كالم فضــفاض جــدا حيث يخــتزل فيه النظــام الرأســمالي‬
‫كمرحلة تاريخية هامة في تطور المجتمعات اإلنســانية في عــدة ســطور و بإيجــاز ُمخــل‪ ،‬و حديثه‬
‫عن االشـــتراكية فهـــذا هو العجب ال ُعجـــاب ‪..‬هو أقـــرب بل وأشـــبه بمنـــاهج التربية القومية في‬
‫المراحل االبتدائية منه الى أي شكل علمي للبحث‪ ،‬ذلك ألنه يخــتزل االشــتراكية بكل مدارســها في‬
‫عدة سطور و يسلخ النظام المتداول من أي شكل تطـبيقي او أي مثـال واقعي‪ ،‬فهل هو مثال يقصد‬
‫بهــذا الحــديث االشــتراكية العلمية أم االشــتراكية الفابية أم الماركســية التروتســكية أم اشــتراكية‬
‫سوكارنو؟ ‪...‬هللا اعلم!‬

‫بيد أن األمر الذي أجد نفسي مدفوعا إليه هو إن اسأل هل يعترف هؤالء السادة الموقرون بتطور‬
‫المجتمعات اإلنسانية و قــوانين التحــول االجتمــاعي؟ أم أنهم يـرون أن المجتمع المعاصر ال يـزال‬
‫مستعدا الستيعاب األشكال و النظم البالية و البائدة؟‬

‫الهوامش‪:‬‬

‫عمر التلمساني‪ ،‬الحكومة الدينية‪ ،‬دار االعتصام‪ ،‬القاهرة‪1982 ،‬م‪ ،‬ص ‪.22‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫نفس المصدر‪ ،‬ص ‪.23‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫أبو األعلى المودودي‪ ،‬الحكومة اإلسالمية‪ ،‬دار المختار اإلسالمي‪ ،‬القاهرة‪،‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫‪ 1980‬م‪ ،‬ص ‪.281‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.283‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫‪16‬‬
‫القضيةـ االقتصادية و الطبقة العاملة ‪....‬‬

‫أُعاود محاولتي الستشفاف البرنامج الذي يتح ّدث عنه اإلخوان المسلمون في ثنايا أدبيــاتهم لنجد‬
‫جس ُد موقفه من رأس المال في العبــارة التاليــة‪":‬ونطــالب بــإحالل رأس المــال‬
‫الشيخ حسن البنا ُي ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫المحلي محل رأس المــــال األجنــــبي‪ ".‬و نــــراه أيضا ُيجسد موقفه إزاء المشــــكلة الزراعية‬
‫بقولــه‪...":‬و نطــالب بتحديد حق أقصى للملكية الزراعية على أن يقــوم المالك بــبيع ما يزيد عن‬
‫(‪)2‬‬
‫هذا الحد بأسعار معقولة و مقسطة على آماد طويلة للفقراء و المعدمين من الفالحين‪".‬‬

‫أما بالنسبة لموقف اإلخــوان من الطبقة العاملة فيمكن أن نلمس تصـ ُـور أحد أقطــابهم وهو عمر‬
‫التلمساني‪ ،‬إذ يقول‪ " :‬وما أظن أحد يجهل ما كفله اإلسالم للعمال و األُجراء من الحقوق الــتي ال‬
‫تصل النقابات الى معشار ما كفله اإلسالم منها‪ ،‬فإما أن نكون مؤمنين باهلل و هذا يقتضي االلتزام‬
‫بما أُنزل‪ ،‬و إما أن ال نكون كذلك فال شــأن لنا بكم ‪ ...‬إن شــرع هللا ليس معرضا للبحث ألنه الحق‬
‫(‪)3‬‬
‫الذي ال مراء فيه و هللا يقول الحق وهو يهدي السبيل و ما عداه باطل بطالنا ظاهرا و باطنا‪".‬‬

‫‪17‬‬
‫ثم تعال معي ننظر في تاريخ اإلخــوان و مــوقفهم من الطبقة العاملــة‪ ،‬لنجد اشــياءا مناقضة تماما‬
‫لمجمل كالمهم ال ُمعلَن‪ ،‬ذلك ألنهم اتخـــذوا مواقف عملية مناهضة بل و معادية للعمـــال عموما "‬
‫فقد قاوم اإلخوان حق اإلضــراب الــذي كــان ســالح العمــال الوحيد في مجتمع يخيم عليه اســتغالل‬
‫رأسمالي بشع و حكم غارق في العمالة‪ ،‬ذلك أنهم اعتبروا إن االمتناع عن العمل و اإلضــراب هو‬
‫أم ٌر يخـل ُّ بروابط اإلخــاء بين المســلمين و يثــير الفرقة و الجفــوة بين فــرقهم‪)4(".‬ــ و يقــول رفعت‬
‫الســعيد عن إحــدى تلك المواقــف‪" :‬و في شــبرا الخيمة حيث نظم العمــال إضــرابهم الكبــير الــذي‬
‫تحول في تاريخ النضال العمالي حيث شارك العمال االخوان ّيــون في اإلضــراب بهــدف‬ ‫يعتبر نقطة ُ‬
‫تخريبه من الداخل ولما فشــلوا انســحبوا منه و حــاولت جريــدة اإلخــوان تــبرير ذلك قائلة انه البد‬
‫للعامل في هذه المنطقة (شبرا الخيمة) من سالحين هما قوة اإليمان و ُحسن ال ُخلُق فتقوم الصــلة‬
‫(‪)5‬‬
‫بين العامل و صاحب العمل على االحترام و العطف المتبادلين و هذه انجح الوسائل‪".‬‬

‫تــعــلـــــــــــــــــيق‪....‬‬

‫معان عدة كما يمكن‬


‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫المطاطة التي بوسعها أن تحتمل‬ ‫لعلك تلمس معي تلك العبارات الفضفاضة و‬
‫أن نلمس أن مطلب حسن الب ّنا بـــإحالل رأس المـــال المحلي محل رأس المـــال األجنـــبي كـــان هو‬
‫مطلب الرأسماليين المصريين في ذلك الوقت و الــذين ضــاقوا من المنافسة األجنبية لهم و أرادوا‬
‫االنفراد بالسوق المصري‪.‬‬

‫أما بالنســبة لحــديث البنا عن وضع حد أقصى للملكية فهــذا المطلب نفسه كــان مطلبا بين كبــار‬
‫ال ُمالك المصــريين في األربعينــات مثل مشــروعات مــريت غــالي و محمد خ ّطـ اب ولكن مع أهمية‬
‫اإلشارة الى أن هــذا المطلب لم يكن صــادرا عن قناعة بحقــوق الطبقة العاملة و إنما كــان صــادرا‬
‫من تخــوف بعض الرأســماليين المصــريين من ثــورة مقبلــة‪ ،‬فكــانوا بــذلك يحــاولون امتصــاص‬
‫الغضب الجماهيري و إجهاض الثورة المقبلة او حتى إرجائها على أدنى تقدير‪.‬‬

‫أما حديث التلمساني عن الطبقة العاملة هو حديث غريب و مثير للدهشــة‪ ،‬فهو يـرى أن النقابــات‬
‫العمالية لم تعــطِ العمــال معشــار ما أعطــاهم اإلســالم‪ ،‬و التلمســاني هنا لم ُي ِّ‬
‫فصــل لنا ماهية تلك‬
‫الحقوق‪ ،‬ثم لم يحدد موقع اإلسالم الذي أعطاهم‪ :‬فهل المقصود بهــذا خالفة عثمــان أم معاوية أم‬
‫الخالفة العباسية أم الخالفة العثمانية؟! فهو كعهدنا به يطلق الكالم على سجيته و يتحــدّ ث بشــكل‬
‫تجريدي تماما معتمدا في ذلك على منطق أرسطي عقيم‪ :‬فاهلل حكيم‪ ،‬و من ثم فهو أدرى بمصلحة‬
‫البشر و من ثم كل ما يقوله حق و ما عداه باطل!!‬

‫أما تاريخ اإلخــوان فهو طـافح بعـداء شــديد و سـوء فهم لحركة الطبقة العاملة المصـرية‪ .‬فحسن‬
‫البنـــا‪،‬مثال ‪ ،‬يعلن ‪ " :‬على العمـــال أن يتـــذكروا واجبهم نحو هللا و نحو انفســـهمـ ونحو صـــاحب‬
‫(‪)6‬‬
‫العمل‪" .‬‬

‫واإلخوان بشكل عام يستنكرون أن يقوم صــراع بين العمــال وأصــحاب األعمــال‪ ،‬بل ويبلّغــوا عن‬
‫ـداء حــادا بل‬
‫أعضاء الحركة العمالية للبوليس المصري‪ .‬فمجمل القول أن تأريخ الجماعة يمثل عـ ً‬
‫و صارخا للطبقة العاملة ولحقوقها وحركتها بشكل عام‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫الهوامش‪:‬‬

‫(‪ )1‬حسن البنا‪ ،‬المأثورات‪ ،‬ط‪ ،2‬دار الشهاب‪ ،‬القاهرة‪ ،1975 ،‬ص ‪18‬‬

‫(‪ )2‬حسن البنا‪ ،‬مشكالتنا في ضوء النظام اإلسالمي‪ ،‬ص ‪83‬‬

‫(‪ )3‬عمر التلمساني‪ ،‬الحكومة الدينية‪ ،‬ص ‪30‬‬

‫(‪ )4‬أمين عز الدين‪ ،‬تأريخ الطبقة العاملة المصرية‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬القاهرة‪، 1978،‬‬

‫ص ‪176‬‬
‫(‪)5‬‬
‫رفعت السعيد‪ ،‬ص ‪100‬‬
‫(‪)6‬‬
‫مجلة اإلخوان المسلمون‪ ،‬عدد يوم ‪24/8/1946‬‬

‫‪19‬‬
‫قضيــــــة فلســــــــــــــــــــــــــــــطين ‪....‬‬

‫ال شك أن قضــية فلســطين هي إحــدى أهم القضــايا ال ٌملحة لكافة القــوى السياســية المصــرية و‬
‫العربية‪ .‬و نظرا لقدم هذه القضية وكــثرة المتغــيرات الطارئة عليهــا‪ ،‬فــان تلمس موقف اإلخــوان‬
‫منها يمكن أن يكون بمعزل عن تاريخ مشاركتهم الفعلية فيها‪.‬‬

‫ويمكن تت ٌبع موقف اإلخوان من القضية الفلسطينية بشكل سريع من خالل ما أدلى به المتخصص‬
‫في شــئون اإلخــوان ريتشــارد ميتشــيل و ذلك على النحو اآلتي‪ ... ( :‬في أعقــاب األمم المتحــدة‬
‫لقــرار التقســيم في شــهر نوفمــبر ‪ ،1947‬أصــبحت مشــكلة فلســطين هي األكــثر إلحاحا وأهمية‬
‫بالنســبة للجماعة ‪ ...‬وأرســلت الجماعة بعض الخــبراء الفنــيين للمســاعدة في تأســيس وتــدريب‬
‫الجوالة الفلسطينية وكان من أبرز هؤالء الفنيين محمود لبيب الضــابط المتقاعد ‪ ...‬وبعد صــدور‬
‫القــرار اشــترك البنا مع بعض الشخصــيات اإلســالمية مثل صــالح حــرب باشا ومحمد علّوفة في‬
‫إنشاء لجنة وادي النيل لجمع المال والســالح و المتطــوعين الــذين أصــبحوا ٌيجنــدون علنا إلنقــاذ‬
‫شعب وخاليا الجماعة ببدء االستعدادـ للجهـاد‪،‬‬ ‫فلسطين‪ .‬وفي أكتوبر ‪1947‬م اصدر البنا أوامره ل ٌ‬
‫وفي العشــرين من نفس الســهر و الســنة‪ ،‬تــوجهت الكتيبة األولى إلى الميــدان ‪ ...‬وقبل أن يصل‬
‫المتطوعــون الرســميون للجامعة العربية كــان اإلخــوان قد اشــتبكوا مع الصــهاينة في صــحراء‬
‫النقب‪ ،‬وخالل محــاوالتهم االســتيالء على بعض المســتوطنات تعلمــوا بعض الــدروس المبكــرة‬
‫والمريــرة فيما يتعلق بطبيعة القتــال الــدائر ‪ ،‬وبعد إعالن الحــرب رســميا في مــايو عــام ‪1948‬م‬
‫التحرش في المواقع الصهيونية ولم‬ ‫وقعت بعض االشتباكات الصغيرة التي لم تتعد بعض مهمات ّ‬
‫‪20‬‬
‫تكن ذات أهمية كبيرة باستثناء مساهماتهم في تعزيز الدفاع العــربي على القــدس و بيت لحم‪ ،‬أما‬
‫قـدّ موها لل ٌمحاصـرين في جيب الفالوجا ‪ ...‬وفي‬ ‫االنجاز الملحوظ لإلخـوان فكـان المسـاعدة الـتي ّّ‬
‫نوفمـبر ‪1948‬م فقـدت الجماعة تواجـدها الشـرعي بقـرار من رئيس الـوزراء المصـري آنـذاك‪،‬‬
‫وترك فؤاد صدقي قائد القوات المصرية للمحاربين حرية االختيــار بين تســليم أســلحتهم والعــودة‬
‫(‪)1‬‬
‫إلى القاهرة أو البقاء في الجبهة‪).‬‬

‫و يقــول طــارق البشــري حــول موقف اإلخــوان من قضــية فلســطين‪ ( :‬وقد اســتطاعت حركة أن‬
‫تخاطب هذا الجانب في المصريين وان تمتص رد الفعل المعادي للصهيونية لصالحها‪ ،‬ال باعتبــار‬
‫أن المعركة بين الصــــــــهيونية والحركة الوطنية العربية ولكن باعتبارها معركة بين اليهــــــــود‬
‫واإلســالم‪ ،‬وأحيت بهــذا ما كــان قد ٌحسم من قضــايا الخالفة و الجامعة اإلســالمية و بنت لنفســها‬
‫باسم الــدين مكانا في مواجهة الحركة الوطنية وأثــارت ثنائية مفتعلة في حيــاة مصر السياســية‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫ثنائية الدين و الوطن‪).‬‬

‫يقول عمر التلمساني في مجلة الدعوة بعد ذهاب السادات إلى فلسطين المحتلة ‪ (:‬إن اليهود كما‬
‫ذكـرهم القـرآن لن يرتـاح لهم بـال حـتى يبلعـوا العـالم اإلسـالمي كلـه‪ ،‬وان اسـترجاعنا لما ذكـره‬
‫القـرآن عنهم في سـورة البقـرة يجـزم بـأنهم قـوم ال أمـان و ال وعد لهم ففيما إذن نقضي كل هـذا‬
‫(‪)3‬‬
‫الوقت و الجهد في مناورة يائسة وفي مهاترات دبلوماسية مع هؤالء القوم‪).‬‬

‫تــعــلـــــــــــــــــيق‪....‬‬

‫لقد كــان ريتشــارد ميتشــيل محقا ومنصــفا في وصف دور اإلخــوان في فلســطين بال تضــخيم أو‬
‫تحجيم‪ ،‬إذ ابرز دورهم في حجمه الطبيعي ‪ ...‬هذا الــدور الــذي ما زالــوا يتغنــون به إلى اليــوم‪ ،‬و‬
‫ليس سرا أن اإلخوان تلقوا أمرا بان يقاتلوا الصهاينة صفا واحدا عمال بســورة الصف مما س ـ ّهل‬
‫للصهاينة أن يوقعوا بهم خسائر كبيرة بسهولة وهــذا ما لم يفســره ميتشــيل بيد أن ما يعنيــني هنا‬
‫هو إبراز أمرين‪ :‬األول أن اإلخوان حين حاربوا في فلســطين كــانوا في الحقيقةـ يســعون جاهــدين‬
‫إلى اتخــاذ قضــية فلســطين مطية أو مظلة لتعزيز جهــازهم العســكري والســتخباراتي‪ .‬أما األمر‬
‫اآلخر فان اإلخوان حين شاركوا في حــرب ‪1948‬م كــانت البرجوازية العربية تقــود الصــراع في‬
‫ذاك الــوقت وكــان تصــور األمر على انه حــرب ببن المســلمين و اليهــود بمنتهى التجاهل لقضــايا‬
‫الصراع الرئيسية و بتســطيح شــديد في تنــاول و فهم ظــاهرة الصــهيونية كــإفراز جــانبي لمرحلة‬
‫تاريخية‪.‬‬

‫والي أود أن أقوله هنا هو أن اعتبار الصراع صراعا إســالميا مع اليهــود يعــني أن نحــارب كيــان‬
‫دخيل وقـــائم كالصـــهاينة بكيانه الـــوهمي ليس له وجـــود إال في أذهـــان اإلخـــوان وهو الكيـــان‬
‫اإلسالمي‪ ،‬كما أن هذه القناعة الغريبة لدى اإلخوان ليست جديدة فهي نفسها قناعة البرجوازيين‬
‫العرب قبل ‪1948‬م‪ ،‬وهي نفسها التي أجهضت الكفاح الفلسطيني من قبل ومن بعد‪.‬‬

‫أما حديث التلمســاني الــذي يتصــور فيه الصــهاينة اليــوم على أنهم نفس اليهــود المقصــودين في‬
‫سورة البقرة إنما هو حــديث أو تصــور يفــترض أن القيم ال ٌخلقية متوارثة جيال بعد جيل ‪ ،‬كما أنه‬
‫‪21‬‬
‫يعزز الفكــرة الصــهيونية الــتي تـ ّدعي أن بهــود اليــوم هم من نسل اليهــود القــدامى الــذين ســكنوا‬
‫فلسطين في إحدى الحقب التاريخية‪.‬‬

‫الهوامش‪:‬‬

‫(‪R. Mitchell, op.cit., p. 124 )1‬‬

‫(‪ )2‬طارق البشري‪ ،‬مصدر سبق ذكره‪ ،‬ص ‪251‬‬

‫(‪ )3‬مجلة الدعوة ‪8/12/1977 ،‬‬

‫‪22‬‬
‫الوحدة الوطنية المصرية و اإلخوان ‪....‬‬

‫ّّ‬
‫الحساسة جدا لــدى اإلخــوان ولــدى‬ ‫لعل قضية الوحدة الوطنية بشكل خاص من القضايا المهمة و‬
‫الشــارع المصــري عموما بســبب بعض األحــداث المفتعلة مثل حادثة الزاوية الحمــراء و اعتقــال‬
‫الســـادات لكل القـــوى السياســـية بذريعة حماية الجبهة الداخلية وإغالقه للعديد من الصـــحف و‬
‫المجالت مثل الـــدعوة و األهـــالي و الطليعة حـــتى توقع بعض الصـــحفيين أن يمتد ذلك اإلغالق‬
‫ليشمل مجلة سمير و ميكي و تان تان‪.‬‬

‫فقد يثير الدهشة حوادث اإلخوان في هذا الصدد‪ .‬ففي جريدة مصر نقرأ الخــبر التــالي‪ ":‬أقــامت‬
‫جماعة اإلخوان حفال أمام كنيسة ماري جرجس وكان الخطيب يردد‪ :‬غدا تؤول شركة المياه إلينا‬
‫قبطي‬
‫ٌ‬ ‫فال نــترك فيها قبطيا واحــدا‪ ،‬وغــدا يســيطر المســلمون على جميع الشــركات فال يبقى فيها‬
‫(‪)1‬‬
‫واحد‪".‬‬

‫وتتضاعف تلكم الدهشة حينما نقرأ لمحمد الغزالي‪ ...":‬إن اتفاق زعمــاء المســلمين و النصــارى‬
‫إبان ثــورة ‪1919‬م كــان على أن ينسى الجميع أديــانهم في ســبيل طــرد العــدو هو اتفــاق أعتــبره‬
‫غريبا وتنفيذه أغرب؛ فقد كان كثرة الموظفين النصارى في اإلدارات المصرية هو بمثابة إقصــاء‬
‫(‪)2‬‬
‫لإلسالم وتغليب غيره عليه‪"...‬‬

‫وفي هــذا الصــدد يقــول عمر التلمســاني‪ " :‬في كل دولة من دول العــالم توجد أقليــات‪ ،‬فهل يمكن‬
‫للباكين أن يتحـدّون بــأن هنــاك أقلية تتمتع بما تتمتع به األقليــات في ظل الحكومة اإلســالمية ‪....‬‬
‫انه لوال اإلسالم ما بقي يهودي واحد على األرض في العصــور الوســطى ‪ ،‬وهل هنــاك دولة غــير‬
‫إسالمية متحضرة بها أقلية مسلمة ع ّينت مسلما واحدا وزيــرا من بين وزرائهــا؟ ولكننا نــرى في‬

‫‪23‬‬
‫ظل الحكومات اإلسالمية مسيحيين ّولوا رئاسة الوزارة و الوزارات وكذا رئاسة مجلس النــواب‪،‬‬
‫(‪)3‬‬
‫وتملكوا العديد من العمارات واآلالف من األفدنة‪"...‬‬

‫ولعل القــارئ يشــاركني دهشــتي حين يقــرأ معي قــول احمد عمر هاشــم‪ " :‬إن اإلســالم ال يمنع‬
‫(‪)4‬‬
‫التعامل مع أهل الكتاب ولكنه يمنع المواالة والمودة القلبية ‪"..‬‬

‫لذلك كان من الطبيعي جدا أن نلمس بعض الظواهر التصــادمية بين المســلمين و المســيحيين مثل‬
‫(‬
‫اقتحام بعض الشباب الملتحي لمحالت الصاغة المسيحيين وسرقة الذهب منها لتمويل تنظيمهم‪.‬‬
‫‪)5‬‬

‫تــعــلـــــــــــــــــيق ‪....‬‬

‫أود أن أشــير بــادئ ذي بــدء أن اإلخــوان المســلمين كــانوا ممن اثــأروا ثنائية الــدين‪/‬الــوطن في‬
‫محاولة منهم إلنكــار الــوطن الــذي ال يجمع كل مســلمي العــالم تحت رايتــه‪ ،‬األمر الــذي جعلهم‬
‫يتخذون موقفا عــدائيا من كل األقليــات غــير االســالمبة ‪ ،‬ويظهر مــوقفهم هــذا بوضــوح فج تجــاه‬
‫المسيحيين من خالل أدبياتهم ومواقفهم الكثــيرة وهم يــودّون أن يجعلــوا النصــارى مواطــنين من‬
‫الدرجة الثانية على أقصى األمـــور تفـــاؤال بمنعهم من حقـــوق الـــدفاع عن الـــوطن وأداء الجزية‬
‫الحساسة في جهاز الدولة‪.‬‬‫ّ‬ ‫ومنعهمـ من تولي قيادة األماكن‬

‫أما حديث عمر التلمساني عن األقليات اإلســالمية داخل دول أخــرى هو حــديث غــريب للغاية فهو‬
‫يتساءل هل هناك أقليات تنعم بما ينعم به المسيحيون داخل مصر؟ وهذا الكالم منافي للمنطق الن‬
‫الحكومات التي ينعم من خاللها المســيحيون بامتيــازات جزئية إنما هي حكومــات غــير إســالمية‪،‬‬
‫وينكر كثـير من اإلخــوان هـذه االمتيـازات الجزئية باإلضــافة إلى أن قيــاس حقــوق المسـيحيين ال‬
‫يجب أن يتم بشكل نسبي مع أقليات في دول أخـرى‪ ،‬فالمســيحيون و المســلمون أبنـاء وطن واحد‬
‫ولكن إذا استرجع التلمساني ما عانى منه المسيحيون في ظل الخالفة العثمانية الــتي يتشــدق بها‬
‫اإلخوان فلســوف يجد الصــورة مختلفة بشــكل أوضــح‪ ،‬و أكتفي هنا بعــرض مثــال واحد فقط وهو‬
‫منع أي فرد مسيحي داخل الدولة العثمانية من ركوب دابة في عرض الطريق الن هذا من حقــوق‬
‫المسلمين فقط!‬

‫‪24‬‬
‫الهوامش‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫جريدة مصر عدد ‪8/7/1947‬‬
‫ّ‬
‫ّّّّ‬
‫ّ‬ ‫(‪)2‬‬
‫صب بين المسيحية واإلسالم‪ ،‬مدبولي‪ ،‬القاهرة‪ ،1977 ،‬ص ‪21‬‬
‫محمد الغزالي‪ ،‬التع ّ‬
‫(‪)3‬‬
‫التلمساني ‪ ،‬الحكومة الدينية‪ ،‬مصدر سبق ذكره ‪ ،‬صص ‪26-25‬‬
‫(‪)4‬‬
‫فرج فودة‪ ،‬قبل السقوط‪ ،‬سبق ذكره‪ ،‬ص ‪82‬‬
‫(‪)5‬‬
‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪83‬‬

‫‪25‬‬
‫تداعيات منطق ‪...‬ـ والمنطق المتداعي ‪....‬ـ‬
‫تــداعيات منطق هو ذلك العنــوان الــذي أردت أن أضــعه لهــذا الفصل في محاولة الن أســوق تلك‬
‫الحجج و البراهين التي يرفعها دائما أعضاء جماعة اإلخوان في الشارع المصري‪ ،‬وإذا كان لكل‬
‫حزب أو جماعة سياسية جانبها اإليديولوجي و التنظيمي و الجماهيري‪ ،‬فان من الصعوبة بمكان‬
‫تغطية الجـانب الجمـاهيري بشـكل موثـوق ‪ ،‬ولـذا فـان المـؤتمرات العامة و النـدوات الجماهيرية‬
‫ولقاءاتي و مقابالتي مع أعضاء الجماعة تكون هي سناد و ينبــوع مــادة هــذا الفصــل‪ ،‬وأرجو أال‬
‫يكون في هذا خـروج عن الطـابع األكـاديمي‪ ،‬أو غلبة الطــابع الصــحفي على البحث ولكن "مكـرهٌ‬
‫أخوك ال بطل‪".‬‬

‫(‪ )1‬هل أنت مع اإلسالم؟‬

‫بهذا السؤال يبدأ أعضاء اإلخــوان أحــاديثهم مع رجل الشــارع المصــري‪ ،‬و يشــيع نفس التســاؤل‬
‫ولكن بصــيغ أخــرى في المــؤتمرات العامة والنــدوات مثــل‪ :‬هل تريــدون شــرع هللا؟ وهل تبتغــون‬
‫حكما من دون هللا؟ وبالضــرورة فــان إجابة رجل الشــارع المســكين والمحاصر أمــام هــذا الســيف‬
‫القــاطع ســتكون بالتصــديق و الخضــوع‪ ،‬و إن كــان من حقي أن اصف هــذا التســاؤل بالفجاجة‬
‫الشديدة الن هذا السؤال يعني أن اإلخــوان هم الممثلـون الوحيـدون لإلسـالم‪ ،‬كما انه يفـترض أن‬
‫الوحي مازال يتنزل على أقطاب الجماعة للفصل في كافة األمور الدنيوية المعلقة‪ .‬كما أن السؤال‬
‫ذاته يتجاهل مناحي االختالف وما أكثرها في التاريخ اإلسالمي نفسه‪ ،‬بدءا بجدل السقيفةـ وبعدها‬
‫الفتنة الكبرى وتشيع المسلمين لعلي أو معاوية وانتهاء بتعدد الجماعات اإلســالمية اليــوم‪ .‬أيضا‬
‫فان هذا السؤال الغريب ال يوضح أو ال يجيب عن ماهية الشريعة المنشودة وموقفها من القضــية‬

‫‪26‬‬
‫الوطنية و االقتصادية والديمقراطية‪ ،‬مما يدعوني إلى القــول وأنا مســتريح تماما بـان ذلك مجــرد‬
‫يافطة خادعة أو قول ٌ حق ُيراد به باطل‪.‬‬

‫(‪ )2‬المسجد و الدور المنشود ‪...‬‬

‫خرج أئمة عظام وخلق جيال سويا‪ ،‬ذلك‬ ‫يشيع في مؤتمرات اإلخوان كال ٌم كثير حول المسجد الذي ّ‬
‫المسجد الذي كان ُتفصل فيه المنازعات و ُتناقش داخله كافة أحوالـ المجتمع اإلسالمي؛ و بالتــالي‬
‫يترحمون على مساجد اليوم التي تقتصر على كونها أماكن للعبادة‪ ،‬ولكنهم يتناسون ها االختالف‬
‫الواضح بين واقع اليوم وواقع األمس‪ .‬فلو سلّمنا بان ُتمنح مساجدنا اليــوم ذلك الــدور القــديم كي‬
‫نستقبل فيها الدبلوماسيين األجانب‪ ،‬ســنجد بطبيعة الحــال أن المســجد غــير مناسب لــذلك‪ ،‬كما أن‬
‫هؤالء الدبلوماسيين قد يكونوا غير مسلمين بما يتنافى مع قدســية المســجد‪ .‬ولو افترضــنا أحقية‬
‫اإلمـــام في التعليق على كافة القضـــايا من خالل المنـــبر‪ ،‬فـــان آراء هـــؤالء األئمة قد تختلف بل‬
‫وتتنـــاقض مع كونها مصـــحوبة بقدســـية خاصة مما يـــدعو إلى البلبلة و االختالف بين عمـــوم‬
‫المســلمين‪ .‬وعلى ســبيل المثــال الموقف من معاهــدة كــامب ديفيــد‪ ،‬فلو أن خطيبا اعتلى المنــبر‬
‫وأعلن أن من يصــالح اليهــود كــافر‪ ،‬وأعلن خطيب آخر في مســجد آخر من نفس البلــدة بجــواز‬
‫مصالحة اليهود فماذا سيكون موقف أولئك البسطاء الجالسين في المسجد؟‬

‫(‪ )3‬الساعاتي و الساعات المريضة ‪...‬‬

‫تحدث فضـيلة الشـيخ محمد متـولي الشـعراوي في إحـدى حلقاته التلفزيونية عقب صـالة الجمعة‬
‫متســائال‪ ":‬إذا تــوقفت الســاعة فــإلى من نعهد بإصــالحها؟ بــالطبع إلى الســاعاتي ألنه هو الــذي‬
‫صنعها وهو خبير بكافة مكوناتها ومناحي العطب فيها وأسباب توقفها‪ ،‬فكذلك يكــون األمر إذا مر‬
‫ـيق أو حلت بــالمجتمع أزمة فــإلى من نعهد بحلهــا؟" ويجيب الشــعراوي على نفسه‬ ‫باإلنســان ضـ ٌ‬
‫ُ‬
‫اســتمعت إلى هــذا‬ ‫قــائال‪ ":‬إلى هللا الواحد القهــار‪ ".‬ويعلم هللا إذ اندهشت وقهقهت كثــيرا حينما‬
‫التساؤل ولكن عظمت دهشتي حين وجــدت أقطــاب اإلخــوان يســتخدمون نفس التســاؤل و بصــيغ‬
‫أخرى في مؤتمراتهم االنتخابية كقول عبد رب النبي توفيق الذي كان مرشح اإلخوان مســتقل في‬
‫اإلســكندرية عن الــدائرة األولى في مــؤتمره المقــام بمحطة مصر في ‪1/4/1987‬م‪ ،‬حيث قــال‪":‬‬
‫إذا فســـدت الســـيارة وتـــوقفت فـــإلى من نتوجه بطلب اإلصـــالح؟ البد أننا ســـنلجأ إلى مهنـــدس‬
‫السيارات المختص ‪ -‬أي الميكانيكي – و كذلك يا إخوة ال بد أن نلتمس حلــوال لكل أزماتنا عند هللا‬
‫سبحانه وتعالى‪".‬‬

‫أولئك الســادة قد امتهنــوا جمهــورهم بمثل تلك األمثلة امتهانا ب ّينا إذ حولــوا هــذا الجمهــور إلى‬
‫سيارات معطبة معطلة وساعات متوقفة‪ ،‬رغم أنهم –اإلخوان‪ -‬يعلمــون أن اإلنسـان يختلف تماما‬
‫عن تلك األمثلة من حيث كونه يمتلك وعيا وإرادة ويســـــــــتقل بذاته تماما خاصة بعد مرحلة من‬
‫العمر راســـما طريق حياتـــه‪ ،‬ولو طبقنا نفس هـــذا االعتقـــاد على اســـتقامته النتهت حاجتنا إلى‬
‫األطبـــاء ولـــذهب المرضى يلتمســـون العالج في النصـــوص القرآنية وكتب البخـــاري ومســـلم‪،‬‬
‫باإلضــافة إلى أن تلك األمثلة ُتســاق دون إيضــاح لكيفية التوجه ومكانه وماهيته ‪ ،‬فــانتبهوا أيها‬
‫السادة ‪ ،‬إن شعبنا العربي ليس قطيعا من األغنام ينتظر من يسوقه‪.‬‬
‫‪27‬‬
‫(‪ )4‬إسالمية ‪ ...‬إسالمية ‪ ...‬ال صليبية وال شيوعية ‪...‬‬

‫بهذا الشعار المدوي ترتفع صيحات شباب اإلخوان داخل المؤتمرات وقد استمعت إلى هذا الشعار‬
‫في بداية األمر في إحدى خطب الشيخ كشك والتي ينسخها في أشرطة كاسـيت حين طرحها أو قل‬
‫اقترح اقتراحا مؤداه‪":‬لقد جربنا من قبل االشتراكية و فشلنا‪ ،‬وجربنا الرأسمالية و فشلنا‪ ،‬فلمــاذا‬
‫ال نجرب اإلسـالم؟" وليس هـذا االقـتراح هو المثـير للدهشـة‪ ،‬بل أن األكـثر إثـارة ودهشة هو أن‬
‫اإلخوان تبنوا هذا االقــتراح وصــار شــعارا يتصــدر أوراقهم اإلعالمية في الجامعــات ‪ ،‬و ُيرفع في‬
‫الطــرق كأحد أشــكال دعــايتهم االنتخابيــة‪ ،‬وقد اســتمعت مــؤخرا من مرشح اإلخــوان محمد عبد‬
‫السالم الشيتاني عن الدائرة األولى في محافظة الغربية‪ ،‬وهو عضو سابق في مجلس الشعب عن‬
‫صــرح بــان اإلســالم له علينا حق ولو كــان حق التجربة مثلما فعلنا مع‬ ‫ّ‬ ‫انتخابــات ‪1984‬م حيث‬
‫الرأسمالية واالشتراكية‪ .‬وال اعــرف لمــاذا يصــيبني التقــزز والنفــور حين اســمع لفظة تجربة في‬
‫الحديث عن القضايا التي تخص األوطان‪ ،‬إذ أن شــعبنا العــربي والمصــري على وجه الخصــوص‬
‫ليس حقال للتجــارب ناهيك عن الــروح الصــبيانية الــتي يشــتمها المــرء من تلك العبــارات الغثــة‪،‬‬
‫باإلضــافة إلى كــوني ال اعــرف أي اشــتراكية هــذه الــتي يتحــدّ ثون عنها على الــرغم من أن عبد‬
‫الناصر نفسه لم يصــرح أو يعلن بــان ما فعله كــان اشــتراكية‪ ،‬وهل هنــاك اشــتراكية حقة ترتضي‬
‫بصــيغة التحــالف الطبقي بــديال عن الصــراع‪ ،‬واألدهى من ذلك كله هو اخــتزال ثمانية عشر عاما‬
‫من عمر مصر في عبارة واحــدة‪( :‬لقد فشـلت االشـتراكية في مصـر) واخــتزال سـبعة عشر عاما‬
‫أخــرى في عبــارة ثانيــة‪(:‬لقد فشــلت الرأســمالية)‪ ،‬ومــوجز القــول أن اإلخــوان في شــعارهم هــذا‬
‫يتعرضــون ألحــداث تاريخية طويلة بتبســيط ُمخل باإلضــافة إلى تصــدير نتــائج عالية النــبرة دون‬
‫ّ‬
‫مقدمات كافية أو دون مقدمات على اإلطالق إن دق التعبير‪.‬‬

‫(‪ )5‬الغضب اإللهي والنكسة ‪...‬‬

‫لقد ظهر في الســبعينات فريقــان كالهما موتــور من ثــورة يوليو والحقبة الناصــرية ورموزهــا‪ ،‬و‬
‫هــذان الفريقــان همــا‪ :‬اإلخــوان والســاداتيون الــذين تنفســوا الصــعداء بقــدوم الســادات للســاحة‬
‫السياسية وبدأوا وجودهم الفعلي في أعقــاب قــانون ‪ 48‬لســنة ‪1974‬م‪ ،‬وقد أفسح الفريق األول‬
‫للفريق الثاني مكانا واسعا في الجامعات المصرية وبعض وســائل اإلعالم ألهــداف عديــدة ال يسع‬
‫المجال هنا لذكرها‪ ،‬وقد بدأ اإلخــوان هجــومهم على ثــورة يوليو وهم ال يــرون منها ســوى نكسة‬
‫‪967‬م‪ .‬و لإلخوان أن يتخذوا ما شــاءوا من المواقف إزاء الحقبة الناصــرية‪ ،‬إال أن بيت القصــيد‬
‫هو تحليلهم ألسباب النكسة أسباب انتصار أكتوبر‪ .‬فقد نشرت مجلة الدعوة مقــاال بعنــوان " عبد‬
‫الناصر والنكسة" بقلم جابر رزق‪ ،‬وسأنقل بضعة سطور من هذه المقالة‪ " :‬و هكذا ترى معي يا‬
‫أخي أن هللا قد عاقب عبد الناصر والفئة الظالمة التي معه بابتعادهم عن نهج هللا ونشرهم للفساد‬
‫في األرض بــأن أوقع بهم هزيمة لم ير التــأريخ لها مثيــل‪ ،‬حــتى فــاق العبــاد من ســباتهم فكــان‬
‫جزا ُءهم النصر من عند هللا(‪()1‬يقصد انتصــار أكتــوبر‪ -‬التوكيد من لــدنا)‪ ".‬و ليس خافيا على احد‬
‫أن احد أســباب انتشــار المد اإلســالمي هو نكسة ‪1967‬م‪ ،‬حيث اســتغل اإلخــوان حالة اإلحبــاط‬
‫واليأس عند الجماهير العربية بشكل عام جراء الهزيمة أمــام كيــان يرونه ثيوقراطيــا‪ ،‬وبعد وفــاة‬
‫جمال عبد الناصر انطلقت أبواق اإلخوان تتحدّ ث عن النكسة ومرجعهم إياها إلى االبتعاد عن هللا‪.‬‬
‫موجز القــول أنهم يــردّون حــدثا تاريخيا ضــخما كنكسة حزيــران إلى مجــرد االبتعــاد عن هللا دون‬

‫‪28‬‬
‫تحليل حقيقي لألسباب الفعلية للنكسة حتى صـار اصـغر أعضـاء اإلخـوان ينـاقش ظـاهرة النكسة‬
‫وكأنه محلل سياسي محنـــك‪ ،‬وانأ ال ارفض بـــالطبع مناقشة أســـباب النكسة ولكـــني ارفض ذلك‬
‫الطابع األحادي النظرة الذي يرجع الظــواهر للقــرب أو ال ُبعد عن النهج الربــاني‪ .‬ولو سـلّمنا بــان‬
‫سبب النكسة هو االبتعاد عن هللا‪ ،‬فهل كان سبب انتصار العــدو هو قــربهم من هللا ورضــاه عنهم؟‬
‫ولو كنا قريـــبين من نهج هللا وحلّت علينا النكســـة‪ ،‬فهل كنا ســـنقول أن هـــذا ابتالء‪ .‬إن األمر ال‬
‫يقتصر على رأي سطحي تجاه النكسة ولكن هذا الرأي ذاته يصلح مؤشــرا إلرجــاع كافة األزمــات‬
‫ش َّخص بمعزل عن سـياقاتها وبردّها إلى‬ ‫إلى تشخيص ّم َعدّ سلفا باالبتعاد عن نهج هللا‪ ،‬فالظاهرة ُت َ‬
‫قوى علويـة‪ .‬وكل ما ارجـوه في النهاية هو أن يجيبـني هـؤالء السـادة عن سـبب انتصـار أمريكا‬
‫على جرينادا!‬

‫(‪ )6‬األزمة األخالقية والضمير الديني ‪....‬‬

‫لقد كــان على كافة األحــزاب السياســية المصــرية في انتخابــات ‪1987‬م أن يتم تشــخيص األزمة‬
‫الــتي تمسك بأعنــاق مصــر‪ .‬وقد جــاء تشــخيص التحــالف (اإلخــوان‪ ،‬العمــل‪ ،‬األحــرار) لالزمة‬
‫تشخيصا فريــدا‪ ،‬إذ أنهم اعتــبروا األزمة أزمة أخالقية أو أزمة ضــمير‪ .‬جــاء ذلك في البرنــامج‬
‫القصــير الــذي طرحــوه في بضــعة نقــاط لم تــزد على صــفحة و نصــف‪ .‬انطلق دعــاة اإلخــوان في‬
‫المؤتمرات يروجون لهذا التشخيص بالحديث عن الضــمائر الميتة واألخالقيــات الغافلــة‪ .‬وأنا هنا‬
‫أسجل تحفظي الشديد على هذا التشخيص من حيث كونهم يرون الضمير عنصرا مستقال وفــاعال‬
‫في إحــداث تغ ٌّير اجتمــاعي‪ ،‬بينما أراه أنا عنصــرا تابعا وإفــرازا لقــوى ماديــة‪ ،‬بمعــنى انه يــدخل‬
‫ضــمن ال ُبــنى الفوقية الــتي تتش ـ ّكل وفقا للبــنى التحتية وتتحــدد معالمه داخل الطبقة االجتماعيــة‪.‬‬
‫باإلضافة إلى أني ارفض تلك الرؤية الضيقة للضمير الفردي وكأن البشر ُجزر منفصلة تماما عن‬
‫بعضها البعض دون تأثير أو تأ ُثر تتشكل ضمائرهم بالبعد الديني والديني فقط دون تأ ُثرها بالطبقة‬
‫االجتماعية وبمــدى التطــور االقتصــادي واالجتمــاعي والثقــافي‪ ،‬باإلضــافة إلى أني ال أح ّبذ هــذا‬
‫الضمير الديني وأراه نهجا برجماتيا مفتقداـ لألصالة في بنيته ‪ ،‬فان الناس أو قل المؤمنين ينــأون‬
‫عن أفعال بعينها ألنها ال ترضي هللا ويلتصقون بأفعال أخرى لكونها ترضي هللا وهــذا يجعل البشر‬
‫رغبة في ثواب مأمول وخوفا من عذاب قادم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫دُمى فاقدة لإلرادة والوعي تتحرك داخل أّطر ذهنية‬
‫فهــذا التصـ ّـور ال ينمي فيهم القــدرة النقدية على رؤية الفعل ‪ ،‬وهــذا ما ال أراه يختلف كثــيرا عن‬
‫منطق رجال األعمال‪.‬‬

‫تعليق عـــام ‪....‬ـ‬


‫تعرض بحثي لموضوع محــدد‪ ،‬و هو التصـ ّـور السياسي لإلخــوان المســلمين‪ ،‬ولم أكن ملتزما‬
‫لقد ّ‬
‫بفترة تاريخية‪ ،‬وقد عرضت في البحث تعريفا شخصــيا بحسن البنا وأدمجته بــالظروف التاريخية‬

‫‪29‬‬
‫لمصر في تلك الحقبــة‪ ،‬ثم عرضت تصــور اإلخــوان للديمقراطية ثم تصــورهم للنظم االجتماعية‬
‫فالسياسية فاالقتصادية‪ ،‬ثم رؤاهم حول المشـكلة الفلسـطينية فالوحـدة الوطنيـة‪ ،‬وأعقبت كال من‬
‫هذه التصورات بتعلق خاص‪.‬‬

‫وقد تم التعاطي مع مثل هذا الموضوع من قبل العديد من المفكرين والباحثين المصريين والعــرب‬
‫وبعض المستشرقين غيرهم ولكنهم لم يتناولوه كموضوع مستقل‪ ،‬إذ عاب تناولهم أنهم عرضوه‬
‫تلك التصــورات بحصــرها منفــردة ومســتقلة عن بعضــها البعض دون إدماجها أو ربطها بواقع‬
‫المجتمع المصـــري‪ .‬وهنا أرى أن هنـــاك قـــدرا من التنـــافر باديا بين تلك األطروحـــات وبعضـــها‬
‫البعض‪ ،‬ويمكن إبراز ذلك على النحو التالي‪:‬‬

‫أوال‪ :‬فإذا تصورنا مثال السوق المصري مفتوحا على مصــراعيه للرأســمال المحلي وبــزوال كافة‬
‫القيود التي تعــوق هــذا القطــاع‪ ،‬فالبد من التســليم بضــرورة وجــود طبقة اجتماعية قوية تســتأثر‬
‫برصيد ضخم في‪/‬من النشاط االقتصادي‪ ،‬ومن ثم فــان هــذه الطبقة ســوف تمتلك قــدرة اصــدرا او‬
‫استصدار قرارات ستكون هي الفاعل الحقيقي في صنع القرار المصــري بما يصــطدم مع الســلطة‬
‫الخاصـين به تحت اسم أهل العقد‬
‫ّ‬ ‫الكاملة التي سـتؤول لألمـير العـام او الخليفة المنتظر والصـبية‬
‫والحل‪.‬‬

‫ثانيـــا‪ :‬في ظل هـــذه الحرية االقتصـــادية المأمولة ستنحصر الـــثروة في أيـــدي حفنة من كبـــار‬
‫الرأسماليين و لن يستطيع اإلخوان تحقيق ما وعدوا به من توفــير الخــبز والمســكن و المســتوى‬
‫اإلنساني الالئق لكل مواطن ‪ ،‬و سائر الشعارات االنتخابية ‪ ،‬بل ستزداد أحوال اإلنسـان المصـري‬
‫سوءاً ألن تجربة التنمية الغربية في العالم الثالث ومصر تحديدا تقول ذلك‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬إن سوقا مفتوحة بهذا الشكل الذي ينشده اإلخوان البد أن يكون مرتبطا ارتباطا ذيليا‬
‫بالسوق العالمي والبد أن يدور في فلك المعسكر الغربي بما يعني حرمان القاهرة من سلطة‬
‫إصدار القرار وتدخل الغرب في صياغة القرار وخاصة القرارات القومية مما يصطدم ويتصادم‬
‫تماما مع شعارات الجهاد المقدس واستعادة المسجد األقصى ومناصرة الشعب الفلسطيني‪.....‬‬
‫تلك الشعارات التي ال يزال اإلخوان يتغنون بها إلى اليوم‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬إن امتالك "نصارى" مصر لقوة اقتصادية ملحوظة سوف يعني استثمارهم لهذا المناخ‬
‫االقتصادي وتكوين ثروات ضخمة وامتالك نصيب كبير في الحياة االقتصادية يمكنهم من فرض‬
‫قرارات تخرجهم من حالة الضعف و انحسار الحقوق التي يصابون بها في ظل تلك الحكومة‬
‫السعيدة‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫أخيرا‪ :‬إن تطبيق الشريعة اإلسالمية و إقامة الحدود ومنع أشكال الفجور و الفسوق او ما شئت‬
‫من تعبيرات و مسميات ال يعني شيئا بسيطا في الواقع المصري‪ ،‬وال يعني تغييرا هامشيا‪ ،‬بل‬
‫يعني تغييرا شامال في الكثير من نواحي الحياة ‪ .‬فالبد حينئذ من إغالق المالهي الليلية وإلغاء‬
‫كافة أشكال الترفيه التي تتاح للسائح األجنبي مما يعني انحسار لحركة السياحة في مصر‪ ،‬و البد‬
‫من تغيير نظام البنوك التي ُيسميها اإلخوان بالبنوك الربوية بنظام إسالمي آخر وفقا لشكل‬
‫البنوك اإلسالمية غير محددة الربح والتي تلقي بأموالها في سوق المضاربات الدولية وتحول‬
‫مدخرات المصريين إلى البنوك العالمية مع استقطاعها لنسبة من الربح او العائد‪ .‬وليس هذا من‬
‫اإلسالم في شئ بل هو نشاط طفيلي يعود بأسوأ األثر على االقتصاد المصري‪ .‬إنها هي تلك‬
‫الحكومة المنشودة التي سوف تعمل على إقامة الفرائض كالصالة مثال‪ ،‬و لو بالفرض و القوة‬
‫وستتعقب الكسالى وتصب عليهم العقاب الرادع بما يتنافى مع حرية الفرد و يصطدم مع أي شكل‬
‫من أشكال العصرية والتحرر و الحرية‪.‬‬

‫أتعرض لفكرة الحكومة الدينية بشكل عام‪ ،‬فهي الفكرة األساسية التي يتمحور‬‫و أود هنا أن ّ‬
‫حولها جدل ٌ كثير هذه األيام‪ ،‬وبحثي هذا جزء من هذه الفكرة إن صح التعبير‪ .‬فاإلسالم لم يتنزل‬
‫على مالئكة ولكنه تنزل على بشر مثلنا وأي استقراء للتاريخ اإلسالمي قد يوصلنا ويصل بنا إلى‬
‫نتائج ومالحظات مذهلة‪ .‬و لتلمس معي بعضا من هذه المالحظات والنتائج‪:‬‬

‫أوال‪ :‬إن المجتمعات المثالية او اليوتوبيا اإلسالمية لم تتحقق في تاريخ البشرية وال حتى في‬
‫أزهى العصور اإلسالمية‪ ،‬وأي استرجاع لفترة الخالفة العباسية التي يلطم اإلخوان خدودهم على‬
‫ذهابها ستجد معي إن الحضارة العباسية لم تقم على أكتاف المسلمين وحدهم بل هي صورة‬
‫لحضارات أخرى بوحه إسالمي مستعار‪ .‬فكل الذين ق ّعدوا كانوا من الفرس وأبناء الحضارات‬
‫األخرى وان استقراء كتب التاريخ األدبي وما يحفل به أواخر العصر األموي والعصر العباسي‬
‫من فجور ومجون أم ّثل له بأخبار ح ّماد الراوية و أبي نواس وح ّماد عجرد وخلف األحمر‪ ،‬هذا‬
‫ناهيك ع ّما كان يدور في القصور و على الشطآن وفي الثغور ‪ . ...‬كل ذلك يؤكد لنا أن هذا الواقع‬
‫يصوره اإلخوان‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يختلف تماما عن الواقع الذي‬

‫ثانيا‪ :‬انه ال يمكن أن نفرق بين اإلسالم كدين و ممثليه السياسيين‪ .‬فاإلسالم هو دين ورسالة الى‬
‫البشر وهو ال ُيط ّبق من تلقاء نفسه بل يقوم على تطبيقه أفراد خاضعين للضعف اإلنساني و‬
‫لأهوائهم ولمصالحهم الشخصية‪ ،‬و لذا يمكن أن نجد تفاوتا هائال في تطبيق‬

‫‪31‬‬
32
33

You might also like