Professional Documents
Culture Documents
المحاضرة الأولى
المحاضرة الأولى
المحاضرة الأولى
يف هذا التمهيد نتحدث عن معىن املصطلحات اليت كثريا ما جندها يف كتب علماء األديان مثل :مصطلح
الدين ،وامللة ،والنحلة ،مث نعرض بإجياز عن كيفية نشأة التدين والباعث عليه عند علماء الغرب وعلماء املسلمني،
وأمهية دراسة مقارنة األديان ،واملبادئ اليت وضعها القرآن للمقارنة بني األديان ،ومفهوم Fالتدين يف اإلسالم ،واملراد
بوحدة التدين يف اإلسالم ،ومنهج العلماء يف كتابتهم يف علم املقارنة بني األديان.
:2الملة
وردت كلمة امللة يف اللغة مبعان متعددة منها:
ال َـم َّل بفتح امليم :الرماد احلار كما يف احلديث (عن أىب هريرة رضي اهلل عنه ،أن رجالً قال :يا رسول اهلل ،إن يل
وأحلم عنهم وجيهلون علي .فقال :لئن كنت كما قلتُ قرابةً أصلهم ويقطعوين ،وأُحسن إليهم ويسيئون إيل،
فكأمنا تُس ّفهم ال َـم ّل ،وال يزال معك من اهلل ظهريٌ عليهم ما دمت على ذلك) ( ) أي الرماد احلار.
15
( ) الصحيحة وامللة الفاسدة ،ومل تأت مضافة إىل اهلل تعاىل .قال تعاىل:
( ملة إبراهيم حنيفا) 16يقصد هبا الدين
الصحيح .قال تعاىل على لسان سيدنا يوسف ( واتبعت ملة آبائي إبراهيم واسحاق ويعقوب ما كان لنا أن
( )
نشرك باهلل من شيء ذلك من فضل اهلل علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس ال يشكرون) 17 .وعن املتكربين من
قوم شعيب قال تعاىل(:قال املأل الذين استكربوا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو
()18
لتعودن يف ملتنا)
امللة يف االصطالح هي :اجتماع اإلنسان مع بين جنسه على شكل يصل به التمانع والتعاون وال يكون
أنبياءه)19(. ذلك إال على منهاج وشريعة وسنة يضعها اهلل تعاىل ويرسل هبا
-3النِحلة:
وردت كلمة حِن لة يف اللغة مبعان متعددة منها :ذباب العسل ذكرا كان أو أنثى .ووردت مبعىن العطاء واهلبة.
وجاءت كلمة النحلة مرة واحدة يف القرآن مبعىن اهلبة والعطية ،ومل ترد مبعىن الدين أو امللة .قال تعاىل ( :وآتوا
( )
النساء صدقاهتن حنلة) 20 .أي أعطوا املرأة الصداق هبة وعطاء خالصا.
النحلة يف االصطالح :وصف الشهرستاين أهل األهواء والنحل بأهنم املستبدون بالرأي املخرتعون له
الواضعون حدودا عقلية للتعايش بني الناس… وعد من هؤالء الصابئة والفالسفة وآراء العرب يف اجلاهلية وآراء
()21
اهلند.
اختلف علماء األديان األوربيون يف نشأة التدين وميكن حصر هذه اآلراء يف رأيني:
األول :يرى أن التدين أو االعتقاد عمل ال شعوري ،ال اختيار لإلنسان فيه ،يأيت عن طريق اإلهلام والعقل الباطن.
وعلى هذا يكون التدين عند هؤالء العلماء أمرا قهريا أو جربيا.
الثاين :يرى أن التدين واالعتقاد عمل العقل واإلرادة معا ،وأن اإلنسان هو الذي خيتار الدين الذي يؤمن به .وعلى
هذا يكون التدين عند هؤالء العلماء أمرا كسبيا.
ويف احلديث الشFFريف عن أيب هريFFرة قFFال رسFFول اهلل ) :كFFل مولFFود يولFFد على الفطFFرة فFFأبواه يهودانFFه أو
()25
وقFFال رسFFول اهلل يقFFول اهلل: ينصFFرانه أو ميجسFFانه كمFFا تولFFد البهيمFFة هبيمFFة مجعFFاء هFFل حتسFFون فيهFFا من جFFدعاء(
وحرمت عليهم ما أحللت هلم( ) (.
26
(يقول اهلل :إين خلقت عبادي حنفاء فجاءهتم الشياطني فاجتالتهم عن دينهم َّ
هذه األدلFة صFرحية يف بيFان أن اإلنسFFان مفطFور على اإلقFرار باخلالق ،والعبوديFة لFFه ،وهFFذا هFFو التFFدين وذلFFك
باعثه -ومن أصدق من اهلل حديثا -كما دلت هذه األدلة أيضاً على أمرين:
أحFFدمها :أن هFذه الفطFFرة واإلقFFرار باخلالق إهلاً وربًّا ،قابلFة للتFأثر والتغFري واالحنراف بفعFFل مFؤثرات خارجيFة،
ولFF F Fذلك نعتقFF F Fد بFF F Fأن السFF F Fبب يف وجFF F Fود الوثنيFF F Fات السFF F Fابقة يف األمم البائFF F Fدة ،والالحقFF F Fة يف األمم القدمية
واحلاضرة F،هو هذه املؤثرات اليت وردت يف هذه النصوص.
ثانيهم FFا :أن املؤثرات الFFيت تFFؤدي إىل احنراف الفط FFرة عن وجهتهFFا الصFFحيحة على ضFFوء هFFذه األدلFFة ثالثFFة
وهي:
الش ياطين :وهي املؤثر اخلارجي األصFF Fلي واألول يف هFF Fذا األمFF Fر ،كمFF Fا دل على ذلFF Fك حFF Fديث .1
عياض بن محار اجملاشعي رضي اهلل عنه املتقدم.
الوال دين :ويقFF Fوم اجملتمFF Fع بFF Fدور األبFF Fوين يف حFF Fال فقFF Fدمها ،وهFF Fذا املؤثر هFF Fو أقFF Fوى املؤثرات، .2
وأخطره FFا؛ لشFFدة التص FFاق األوالد بآبFFائهم وق FFوة ت FFأثريهم عليهم ،وق FFد دل على ذل FFك ح FFديث أيب
هريرة رضي اهلل عنه املتقدم ،وقFFد قFFدمت الشFياطني على اآلبFFاء؛ ألن الشFFياطني هي املؤثر اخلارجي
األول يف احنراف اآلباء أنفسهم.
الغفلة :وهي املؤثر الثالث يف احنراف هذه الفطرة ،كما دلت على ذلك آية سورة األعراف. .3
.)(24ورواه أبو داود ، والرتمذي ، ص305
.)(25رواه اإلمام البخاري يف صحيحه ،ج ،8كتاب اجلنائز ،باب ما قيل يف أوالد املشركني ،ص.214
)(26يف "صحيح مسلم" Fعن عياض بن محار..
-2الباعث على التدين عند علماء الغرب:
كما اختلف علماء الغرب يف نشأة التدين ،كذلك اختلفوا يف الباعث على التدين إىل عدة آراء أمهها:
()27 العقل:
(إن العقFFل هFFو البFFاعث على التFFدين ،وذلFFك أن العقFFل مFFيزة اإلنسFFان عن قFFال مFFاكس مFFوللر: .1
احليوان ،وهFو بFاعث على النظFر والتفكFر يف هFذه املخلوقFات ،واإلعجFاب هبا ،وتعظيمهFا ،ومن هنFا أخFذ
العق FFل يفك FFر فيم FFا وراء الطبيع FFة ،وأداه عقل FFه م FFع اللغ FFة املس FFتخدمة يف احلديث عن اجلم FFادات إىل ص FFبغها
بصبغة األحيFاء ذوات األرواح ،مما جعلFه يتعبFد هلا ويتخFذها إهلا( .ومصFداقا هلذا الFرأي يFرجح مFوللر أن
اإلنسان قد تدين منذ أوائل عهده ،ألنه أحس بروعة اجملهول وجالل األبد الذي ليس له انتهاء".
()28
أن احلاجة االجتماعية هي الباعث على التدين ،وذلك الحاجة االجتماعية :يرى إميل دوركامي . .2
أن اجملتمعات البشرية حتتاج إىل نظم وقوانني حتفظ احلقوق وتصون احلرمات ،ويؤدي كل إنسان واجبه
مبراقبة داخلية ،مما جعل بعض األفذاذ وذوي القيادة يتولد يف أذهاهنم الدين ،ويبثونه يف مجاعتهم ،فتقبله
اجلماعة حلاجتها لذلك.
الخوف من الطبيعة.يقول جيفونس يف كتابه املدخل اىل تاريخ األديان( :إن الدافع إىل التدين هو .3
اخلوف من الطبيعة حوله مبا فيها من برق ورعد وزالزل وبراكني وحيوانات متوحشة ،جعلت اإلنسان
يف األزمنة القدمية يبحث عن قوة غيبية هلا سيطرة وتأثري يف هذه الطبيعة حوله ،وهلا القدرة على محياته
وحفظه ،فأله وعبد مايرى أنه أقوى وأقدر على محايته مما حوله من املخلوقات كالشمس أو القمر أو
البحر).
الحاجات الفردية :يقول هنري برجسون ـ يرجع بالعقيFدة الدينيFة إىل مصFدرين :أحFدمها اجتمFاعي لفائFدة .4
اجملتمع أو فائدة النوع كله ،واآلخر فردي ميتاز به آحاد من ذوي البصرية والعبقرية املوهوبة.
.)(27ولFFد فريFFدريك مFFاكس مFFولر .)Friedrich Max Müller :يف مدينة ديسFFاو بأملانيا ،يف 6 ديسFFمرب 1823 وتFFوىف يف 28 أكتFFوبر.1900
كان عاملاً أملانياً اهتم بصفة خاصة باللغة السنسكريتية اهلندية القدمية .أسهم Fيف الدراسة املقارنة يف جماالت اللغة والدين وعلم األسFاطري على الFرغم من أن
علمFF F Fاء العصFF F Fر احلديث قFF F Fد نبFF F Fذوا الكثFF F Fري من نظرياتFF F Fه سFF F Fافر إىل اململكFF F Fة املتحFF F Fدة يف سFF F Fنة 1846 Fوع FF Fاش فيه FF Fا بقي FF Fة عم FF Fره .عم FF Fل أس FF Fتاذًا للغ FF Fات
األوروبية احلديثة جبامع FFة أكس FFفورد من س FFنة 1854 ح FFىت س FFنة 1868 وعلى ال FFرغم من عمل FFه املتعلق بالفلس FFفة واللغ FFات وال FFديانات اهلندي FFة إال أن FFه مل
يزر اهلند أبدا يف حياته.
بارعا وما لبث أن ().ولد إميل دوركامي سنة 1858مبدينة إبينال بفرنسا حيث نشأ يف عائلة من احلاخاميني ذات األصول اليهودية .وكان تلمي ًذا ً
28
احتك ببعض شبان فرنسا الواعدين Fمثل جان التحق بـمدرسة األساتذة العليا( وهي من أفضل مؤسسات التعليم العايل يف فرنسا ).سنة 1879حيث ّ
جوريس أو هنري برغسون غري أن األجواء باملدرسة مل تعجبه فالتجأ إىل الكتب ليتجاوز الفلسفة السطحية (يف نظره) اليت كان يدين هبا رفاقه .هكذا
تأثريا عمي ًقا فاستقى منها مشروع تكريس علم االجتماع كعلم مستقل قائم بذاته يهدف إىل كشف اكتشف أوغست كونت الذي أثرت مؤلفاته عليهً F
القواعد اليت ختضع هلا تطورات اجملتمع.
اتباع األباء واألجداد :قال تعاىل :بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتFFدون وكFFذلك .5
م FFا أرس FFلنا من قبل FFك يف قري FFة من ن FFذير إال ق FFال مرتفوه FFا إن FFا وج FFدنا آباءن FFا على أم FFة وإن FFا على آث FFارهم
مقتدون .
هذه األقوال يظهر منها واضحاً ادعاء أن الدين مصدره اإلنسان ،وأن باعثه أمر من األمور املتعلقFFة بالطبيعFFة حFFول
اإلنسان ،أو دوافع داخلية يف اإلنسان.
وال حتت FFاج ه FFذه األق FFوال إىل كث FFري عن FFاء يف إبطاهلا ورده FFا؛ إذ إن ه FFذه الب FFواعث املذكورة كث FFرياً م FFا تك FFون غ FFري
موجودة ،ومع ذلك يكون التدين ظاهراً واضحاً يصدم دعاة اإلحلاد ويهدم خترصاهتم.
وترجع أسباب اضطراب الفكر األوريب يف نشأة التدين والباعث عليه إىل ما يأيت:
1
-احلالة الدينية اليت عاشتها اجملتمعات األوربية حتت ظل الكنيسة اليت أقامت حماكم التفتيش وحكمت
()29
باإلعدام على كثري من العلماء الذين خالفوا آراءها.
()30
من هنا اعتقد األوربيون أن الدين والعقل متضادان جيب فصلهما وهذا ما يسمي بالعلمانية.
- 2أخذهم معلوماهتم من األناجيل ،واألناجيل مل يتفق على صحتها بني النصارى بشهادة علماء الغرب
أنفسهم ،أو صحة األشخاص الذين نسبت إليهم هذه األناجيل.
- 3كان السبب املباشر يف اختالفهم واضطراهبم تأثرهم بالفلسفات القدمية (الفلسفة الرواقية واألبيقورية)
( )
. 31
.)(29ويراد بالعلمانية F:فصل الدين عن السياسة أو عزل الدين عن احلياة .وأول ما نشأت نشأت يف أوربا بسبب فساد الكنيسة مث انتقلت إىل العامل
اإلسالمي على يد الذين تعلموا يف الغرب من أبناء املسلمني ،واملستشرقني ،واملبشرين .ولألسف مازالت العلمانية حتكم البالد اإلسالمية ويتخذها
الساسة دينا هلم .نقول هلم إن جاز للغرب أن يعزلوا الدين عن احلياة والسلوك فال جيوز ذلك يف بالد اإلسم ألن دينها نظام شامل للحياة دينا ودنيا
سياسة وعبادة ومل يأت اإلسالم ليعزل يف املساجد وهذا ظلم كبري نسأل اهلل تعاىل أن يدنا إىل شريعة اإلسالم والعمل هبا.
.)(30آهلة يف األسواق :د /رءوف شليب.
.)(31نشأ أبيقور بني القرن الرابع والقرن الثالث امليالدي يف جزيرة ساموس على مقربة من شواطئ أسيا الصغرى.نشأ الرواقيون األولون ماديون يؤمنون
بأن الوجود كله وحدة واحدة ولكنهم تدرجوا يف الروحانية إىل حد بعيد .يراجع حماضرات يف مقارنة األديان :إبراهيم خليل أمحد ،الطبعة األوىل ،سنة
1989م ،ص.20-18