You are on page 1of 11

‫أعطال الفكر النقدي‬

‫‪ ‬فئة ‪  :‬مقاالت‬

‫‪02‬أبريل ‪2019‬بقلم‪ ‬عمار بنحمودةقسم‪ :‬الدين وقضايا المجتمع الراهنة‬


‫حجم الخط‪+18- ‬للنشر‪:‬‬

‫لقد أ ّدى التّراكم المعرف ّي المؤسّس على أرضيّة وعي دين ّي إلى خطاب عمدته التشريع لقوانين تح ّدد لإلنس ان طقوس ه وطرائ ق‬

‫تعامله مع اآلخرين‪ ،‬وتضبط كثيرا من األحكام المتعلّقة بالسياسية والمجتمع‪ ،‬وفي المجم ل تح ّدد عالق ة الف رد باهلل والجماع ة‪.‬‬

‫واشتغل علم الكالم على قاعدة الر ّد على أصحاب العقائد المارقة وتحديد أسس عقيدة الفرق ة الناجي ة وس ط ف رق اله الكين‪ .‬ولم‬

‫يكن ذلك بمنكر في عصر كان هاجس رجل الدين فقيها أو متكلّم ا مأسس ة الخط اب ال دين ّي وحمايت ه وف ق منط ق س لطو ّ‬
‫ي من‬

‫خطر التع ّدد والتف ّكك‪ .‬فقد كان الهدف من وراء تلك التشريعات خلق التجانس وضمان والء المؤمنين لقانون واحد يمنع تف رّقهم‬

‫يفس ر ح ديث الفقه اء عن الس نّة والجماع ة وتش ديدهم على ض رورة االنض باط للجماع ة في‬
‫ويزيد من لحمتهم‪ .‬ولع ّل ذلك م ا ّ‬

‫الصالة أو الح ّج أو الحرب ومنطق االصطفاف وراء القائ د وطاعت ه مقاب ل نهيهم عن الفرق ة‪ ،‬وت رك ص الة الجماع ة وتهدي د‬

‫المتخلّفين منهم بأش ّد العقاب[‪ .]1‬إالّ أنّه رغم المغانم السّلطويّة التي جناه ا ال ُمس لمون من من ع االختالف وح روب ال ر ّدة وإدان ة‬

‫فإن ميراث ذلك المنهج قد أ ّدى إلى ترسيخ عقليّة الطّاعة ال في السّياسة فحسب‪ ،‬وإنّما في الفكر أيضا‪ ،‬وهو ما عطّل‬
‫المارقين‪ّ ،‬‬

‫ّ‬
‫والتحض ر‪ ،‬وإث ر ص دمة الحداث ة‬ ‫ي وجعل حضوره ضعيفا‪ .‬وقد احتاج المف ّكرون‪ ،‬زمن البحث عن مسالك للنهض ة‬
‫الفكر النقد ّ‬

‫واالطّالع على تق ّدم الغ رب‪ ،‬إلى مس وّغات دينيّ ة وم داخل ش رعيّة من أج ل اإلقن اع بقيم ة النق د وأهميّت ه في تجدي د العق ل‬

‫أن النقد ظ ّل ُمدانا وكثيرا ما أُلحقت تهمة الكفر بمن حاولوا الخ روج عن نط اق الق راءة الرس ميّة واختب ار س بل‬
‫اإلسالم ّي‪ ،‬بيد ّ‬

‫جديدة في التأويل[‪ .]2‬إذ كانت مس الكه وع رة وب دا االجته اد والتجدي د منك را وبدع ة‪ ،‬فك انت مس اعي المج ّددين عس يرة‪ ،‬وهم‬

‫يطمحون إلى إصالح الفكر الدين ّي بطرح األسئلة العقليّ ة ومحاول ة إيج اد ط رق لتحطيم األس يجة األورثودكس يّة‪ .‬ول ذلك‪ ،‬فق د‬

‫انتقل كثير من المف ّكرين من طور التفكير في إيجاد سبل للتجديد والتأويل إلى البحث عن األسباب التي عطلت العقل اإلس المي‬

‫وأضعفت الفكر النقديّ‪.‬‬

‫ص ُد في جمي ع الثقاف ات‬


‫الص اعد‪ ،‬وه و إذ "يُتَ َر َّ‬
‫لقد أسّس "مح ّمد أركون" لمواجهة الدوغمائيّة مثال مفهوم العقل الجديد المنبثق ّ‬

‫ومن دون توقّ ف التح ّديات الجدي دة لت اريخ البش ر‪ ،‬فإنّ ه ّ‬


‫يوس ع من أفق ه باس تمرار ويك ثر من س احات تجارب ه‪ ،‬ومص ادر‬

‫معلوماته‪ ]3[".‬فالنقد حسب رأيه يوسّع حق ل التفحّص الت اريخ ّي داخ ل المج ال الع رب ّي اإلس الم ّي عن طري ق إدخ ال مص طلح‬
‫جديد هو‪ :‬سوسيولوجيا الممكن التفكير فيه‪ /‬والمستحيل التفكير في ه‪ ،‬وك ذلك المف ّك ر في ه‪ /‬والالمف ّك ر في ه في النّطاق ات اللغويّ ة‬
‫ي‪]4[.‬‬
‫والسياس ّ‬ ‫الفكريّة المتعايشة داخل نفس الفضاء االجتماع ّي‬

‫انتقل كثير من المف ّكرين من طور التفكير في إيجاد سبل للتجديد والتأويل إلى البحث عن األسباب التي عطلت العقل اإلس المي‬

‫وأضعفت الفكر النقد ّ‬


‫ي‬

‫ي في بداي ة األلفيّ ة الثالث ة‪ ،‬وه و يت وق إلى أف ق مع رف ّي‬ ‫ولعلّه من المفارقات ّ‬


‫أن "مح ّمد أركون" كان يؤسّس مقوّمات فكر نقد ّ‬
‫يتحرّر فيه العقل اإلسالم ّي من األسيجة الدوغمائيّة‪ ،‬ويحطّم حدود الاّل مف ّكر فيه قديما ليصير مف ّكرا فيه‪ ،‬والحال ّ‬
‫أن الواقع ك ان‬

‫يش هد انتش ارا واس عا للحرك ات األص وليّة المتش ّددة ال تي ب دأت ب الخروج من ط ور االنحس ار والتخفّي إلى ط ور الظه ور‬

‫واالنتش ار‪ .‬فق د اس تفاد االنغالق الاله وت ّي من الفض اءات التلفزيونيّ ة الجدي دة الع ابرة للح دود والق ادرة على توس يع القاع دة‬

‫الجماهيريّة‪ .‬وتبوّأ الشيوخ مقاعدهم من القنوات الدينيّة التي ألهبت مشاعر الخوف والرجاء من المق ّدس‪ .‬وصار لهم جمه ورهم‬

‫المؤمن برسائلهم والمتابع لبرامجهم‪ ،‬ث ّم استكملت وس ائل االتّص ال الحديث ة ومواق ع التواص ل االجتم اع ّي م ا ب دأه التلفزي ون‪.‬‬

‫ّ‬
‫وتوس عت‬ ‫وأضحى جمهور الكتاب المؤمن بالنقد في تناقص‪ .‬أ ّما جمه ور اإلعالم ال دين ّي الم ؤمن ب االنغالق‪ ،‬فق د زاد وانتش ر‬

‫شبكته‪ ،‬ولم يعد خاضعا للرقاب ة‪ .‬ول ذلك‪ ،‬فق د أض حى الس ؤال عن األس باب ال تي عطّلت الفك ر النق ديّ‪ ،‬وأس همت في انتش ار‬

‫الدوغمائيّة أمرا ضروريّا تقتضيه مقاصد البحث عن سبل لتحرير العقل اإلسالم ّي وتجديده‪.‬‬

‫وبالمقابل يق ّدم "علي حرب" ثالثة مفاتيح تم ّكن من تجاوز العقبات التي تقف في طريق العقل النقديّ‪ :‬يتمثّ ل المفت اح األوّل في‬

‫مواجهة عقليّة الوصاية؛ ويعني ذلك عدم الوثوق في وج ود ش خص يمكن أن يمثّ ل للن اس والمجتم ع أو إلى األم ة أو البش ريّة‬

‫الوعي والضمير أو العقل واالستنارة أو المعنى والقيمة‪ .‬فهذه العقليّة من شأنها أن تنتج الطاعة العمياء واالنقياد والقهر‪ .‬وأزمة‬

‫ق المطل ق في التفك ير وتحدي د المص ير‪ ،‬بينم ا تُس لَبُ تل ك الملك ة من الجمه ور‪ ،‬باعتب اره‬
‫الوصاية في كونها تهب النخبة الح ّ‬

‫ّ‬
‫يخص ص كتاب ا‬ ‫قاصرا وجاهال ال يمكنه تأسيس وعيه بنفسه‪]5[.‬ولع ّل أهميّ ة ه ذا الع ائق هي ال تي دفعت "علي ح رب" إلى أن‬
‫المثقّف‪]6[.‬‬ ‫يكشف فيه أوهام النخبة وينقد‬

‫ي‪ ،‬فيقوم على تجاوز عادة التقديس التي تتمثّل في "خلع ط ابع المفارق ة واأللوه ة والتجري د‬
‫أ ّما المفتاح الثاني لتأسيس عقل نقد ّ‬

‫والتعالي على المعاني والقيم التي هي ممارسات بشريّة‪ ،‬دنيويّ ة ومحايت ة‪ ،‬أو مح دودة وع ابرة‪ ]7[".‬وليس مع نى رف ع القداس ة‬

‫االقتصار على إدانة الوعي الدين ّي‪ ،‬وإنّما يشمل أيضا من يمارسون التقديس والتعظيم باسم العق ل واإلنس ان‪ .‬ففي ال وقت ال ذي‬

‫يعتقد فيه اإلنسان أنّه يحافظ على القيم بالقداسة التي يمنحه ا له ا‪ ،‬يتس بّب في ك وارث وفواج ع لع ّل من أبرزه ا اس تقالة العق ل‬

‫وتسليم مقاليد التفكير لآلخرين وتدنيس العقل باستقالته التفكير‪.‬‬


‫وآخر المفاتيح التي يقترحها "علي حرب" هو نفي منطق المطابق ة‪ ،‬باعتب اره يعام ل األفك ار بعق ل غي ب ّي م ا ورائ ّي بوص فها‬

‫حقائق متعالية غير قابلة للنقد‪ .‬وتؤ ّدي مسارات المطابقة إلى اختزال الواقع أو القفز فوقه أو قولبته‪ ،‬وهو ما جع ل مف اهيم مث ل‬

‫المساواة واالشتراكيّة والعدالة االجتماعيّة تتحوّل إلى شعارات مفرغة من المعنى وفاقدة لروحها على أرض الواقع‪.‬‬

‫اتفق كثير من المف ّكرين حول عوائق النقد في الفكر اإلسالم ّي‪ ،‬ولذلك فق د اتّج ه س عيهم إلى أنس نة الت اريخ اإلس الم ّي بمحاول ة‬

‫نزع القداسة عن شخصيّاته وأحداثه‬

‫إن خالصة هذه المداخل التي يق ّدمها "علي حرب"‪ ،‬باعتبارها مفاتيح النقد وأس س العق ل المتح رّر لت دور في فل ك واح د وه و‬
‫ّ‬

‫أن المق ّدس هو من يجعل اإلنسان يعتقد في وجود حقيقة متعالية غير قابلة للنق د‪ ،‬ول ذلك‬
‫المق ّدس‪ ،‬إذ يبدو من خالل هذه العوائق ّ‬

‫الس لوك لي درك أنّ ه ن اتج عن نزع تين‪ :‬األولى هي التواك ل‬ ‫فهو يسلّم مقاليد عقله وروحه لها‪ّ .‬‬
‫وإن الناظر بعم ق إلى مث ل ه ذا ّ‬

‫ي الذي يغني التابع والمطيع عن طرح األسئلة‪ .‬ولعلّه فك ر ناش ئ في بيئ ة س لطويّة دأب أص حابها على عقليّ ة المحافظ ة‬
‫الفكر ّ‬

‫على ما هو كائن وعدم البحث عن سبل لتغييره‪ .‬والثانية نزعة الخوف ال تي تنت اب الط رف المطي ع من خط ورة الخ روج عن‬

‫التصورات الصّراطيّة الثّابتة في ظ ّل وجود ترسانة من القوانين الرادعة وسهولة الوسم بالكفر والر ّدة والبدعة‪.‬‬

‫وإن الناظر في الوسائط النقديّة التي ق ّدمها "نصر حامد أبو زيد"‪ ،‬ليلحظ اتفاقا حول أصل األزمة التي عطّلت النق د‪ ،‬وأض عفت‬
‫ّ‬

‫من فاعليّته في الثقافة العربيّة اإلسالميّة‪ .‬ففي سياق حديثه‪ ،‬عن آليّات الخطاب الديني يع ّدد الكاتب األس باب ال تي عطّلت الفك ر‬

‫والس لف واليقين ال ذهن ّي والحس م الفك ر ّ‬


‫ي وإه دار البع د‬ ‫ّ‬ ‫ي مثل ر ّد الظواهر إلى مبدأ واحد واالعتماد على س لطة ال تراث‬
‫النقد ّ‬

‫أن ك ّل تلك العوائق التي عطّلت الفكر النقد ّ‬


‫ي لهي قائمة على مبدأ القداس ة‪ ،‬باعتب اره يمنح‬ ‫التاريخ ّي‪ ،‬وإنّه لمن اليسير أن ندرك ّ‬

‫ّ‬
‫ويسن تشريعاتهم‪ ،‬ومادام تأويل السلف الصالح هو األقرب إلى تلك القداسة لقربه‬ ‫التفويض لإلله الواحد كي يقرّر مصير الناس‬

‫فإن آراءه وأحكامه تظ ّل هي األكثر اتصاال بالمق ّدس‪ ،‬وهو ما نتج عن ه يقين ذه ن ّي وحس م فك ر ّ‬
‫ي أساس ه االعتق اد‬ ‫من منابعها‪ّ ،‬‬

‫بالرافد اإلله ّي‪ .‬وبذلك‪ ،‬ثبتت مواقع المق ّدس ومواقف أصحابه‪ ،‬فغاب البع د الت اريخ ّي عن تص ّورات العق ل اإلس الم ّي‪ ،‬وص ار‬

‫ي غير مف ّكر فيه‪ ،‬بل هو منكر وبدعة‪.‬‬


‫الفكر النقد ّ‬

‫لقد اتفق كثير من المف ّكرين إذن حول عوائق النقد في الفكر اإلس الم ّي‪ ،‬ول ذلك فق د اتّج ه س عيهم إلى أنس نة الت اريخ اإلس الم ّي‬

‫بمحاولة نزع القداسة عن شخصيّاته وأحداثه‪ ،‬وهو ما احتاج إلى القيام بحفريات تاريخيّة من أجل إع ادة ق راءة ال تراث وفهم ه‬

‫وتأويله باعتماد أدوات نقديّة بعيدة عن التقديس والتبرير‪ .‬ولئن وقعت بعض القراءات المعاصرة في التلوين مثل تجربة اليس ار‬

‫فإن التنبيه على أهميّة المداخل النقديّة وتقديم آليّات لتجاوز الدوغمائيّة قد ولّ د فك را نق ديّا‪ ،‬وإن ض عفت فاعليت ه في‬
‫اإلسالم ّي‪ّ ،‬‬
‫المسلمين‪ ،‬فإنّه يظ ّل واعدا بآفاق االنتشار في ظ ّل ارتباط النزعات الدوغمائيّة المؤمنة بالحقيقة المطلقة بالجماعات العنيفة التي‬

‫لم تهدر البعد التاريخ ّي فحسب‪ ،‬وإنما أهدرت القيمة الرمزيّة للدين وحوّلته إلى مصدر خوف وذعر للمسلمين أنفس هم‪ .‬ول ذلك‪،‬‬
‫ّ‬
‫فإن مسارات النقد هي وحدها ال تي يمكن أن تعطي المس لمين الق درة على مواجه ة أس ئلة العص ر دون خ وف أو رهب ة ودون‬

‫الحاجة إلى إضفاء القداسة على آراء أسالفهم الذين ف ّكروا بحسب حاجات عصرهم‪.‬‬

‫يل ّخص "كانط" (‪( )Immanuel Kant‬ت ‪ 1804‬م) في جوابه عن سؤال "ما هي األنوار؟" شروط العقل النقد ّ‬
‫ي بقول ه‪ّ :‬‬
‫"إن‬

‫بلوغ األنوار هو خروج اإلنسان من القصور الذي هو مسؤول عنه‪ ،‬والذي يعني عجزه عن استعمال عقل ه دون إرش اد الغ ير‪.‬‬
‫ّ‬
‫وإن الم رء نفس ه مس ؤول عن حال ة القص ور ه ذه عن دما يك ون الس بب في ذل ك ليس نقص ا في العق ل‪ ،‬ب ل نقص ا في الح زم‬

‫والشجاعة في استعماله دون إرشاد الغير‪ .‬تج ّرأ على أن تعرف! كن جريئا في استعمال عقلك أنت‬

‫[‪ ]1‬ج اء في ص حيح مس لم م ا يلي‪" :‬ح ّدثنا س فيان بن عتيب ة عن أبي الزن اد عن األع رج عن أبي هري رة ّ‬
‫أن رس ول هللا‬

‫ﷺ فقد ناسا في بعض الصلوات فقال‪" :‬لقد هممت أن آمر رجال يصلّي بالنّاس‪ ،‬ث ّم أخالف إلى رجال يتخلّفون‬

‫عنها‪ .‬فآمر بهم فيحرقوا عليهم‪ ،‬بحزم الحطب‪ ،‬بيوتهم‪ ،‬ولو علم أحدهم أنّه يجد عظما س مينا لش هدها‪ "".‬يع ني ص الة العش اء‪،‬‬

‫صحيح مسلم‪ ،‬ط‪ ،1‬الرياض‪ ،‬دار طيبة‪ ،2006 ،‬ج‪ ،1‬ص‪( .293‬حديث رقم ‪.)651‬‬

‫[‪ ]2‬انظر مثال ما قابلت به اللجنة العلميّة كتاب نصر حامد أب و زي د "نق د الخط اب ال دين ّي‪ ".‬من تكف ير نتجت محاكم ة قض ائيّة‬

‫بتهمة الر ّدة والكفر‬

‫[‪ ]3‬مح ّمد أركون‪ ،‬نحو نقد العقل اإلسالم ّي‪( ،‬ترجمة وتقديم هاشم صالح)‪ ،‬ط‪ ،1‬بيروت‪ ،‬دار الطليعة‪ ،2009 ،‬ص ‪32‬‬

‫[‪ ]4‬انظر‪ :‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪37‬‬

‫[‪ ]5‬انظر علي ح رب‪ ،‬أص نام النظريّ ة وأطي اف الحريّ ة‪( ،‬نق د بوردي و وتشومس كي)‪ ،‬ط‪ ،1‬ال دار البيض اء‪ /‬ب يروت‪ ،‬المرك ز‬

‫الثقافي العربي‪ ،2010 ،‬ص‪9‬‬

‫[‪ ]6‬انظر‪ :‬علي حرب‪ ،‬أوهام النخبة والمثقف‪ ،‬ط‪ ،3‬الدار البيضاء‪ /‬بيروت‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪2004 ،‬‬

‫[‪ ]7‬انظر‪ :‬علي حرب‪ ،‬أصنام النظريّة وأطياف النظريّة‪ ،‬ص ‪9‬‬


‫البحث في الوسم‬

‫مؤمنون بال حدود‪ ‬عمار بنحمودة‪ ‬الدراسات الدينية‪ ‬الغرب‪ ‬اإلصالح الديني‪ ‬التأويل‪ ‬العقل اإلسالمي‪ ‬الفكر النقدي‬

‫هاية المجتمعات‪ :‬كيف نفهم عالم اليوم؟‬


‫محمد عمر‬
‫السبت ‪ 26‬تشرين الثاني ‪2016‬‬
‫عالم االجتماع الفرنسي أالن تورين وغالف كتابه الجديد‪ ،‬براديغما جديدة لفهم عالم اليوم‪.‬‬

‫شهدت السنوات األخيرة صدور عشرات الكتب التي تبحث في المتغيرات الجديدة على عالم اليوم‪ ،‬هكذا ظهرت كتب مثل «رأس المال في‬
‫القرن الحادي والعشرين » لتوماس بيكتي‪ ،‬و «الحداثة السائلة» للبولندي زيغمونت باومان‪ ،‬و«عصر الوصول‪ :‬ثورة االقتصاد الجديد»‬
‫لجيرمي ريفكين‪ ،‬وغيرها العشرات‪.‬‬

‫هذه الكتب تكاد تطيح بكل ما سبق وعرفناه عن العالم‪ ،‬ويكاد مؤلفوها يجمعون على مقولة‪« :‬العالم الذي كنا نعرفه انتهى»‪.‬‬

‫ومن بين هذه الكتب يبرز كتاب عالم االجتماع الفرنسي آالن تورين‪ ،‬المعنون «براديغما جديدة لفهم عالم اليوم»‪ ،‬والذي ترجمه د‪.‬جورج‬
‫سلمان‪ ،‬ونشرته المنظمة العربية للترجمة‪.‬‬
‫بالنسبة لعالم اجتماع معروف مثل آالن تورين‪ ،‬يعتبر أن الموضوع الرئيسي لعلم االجتماع هو‬
‫دراسة التصرفات االجتماعية التي ترتبط بالتاريخية‪ ،‬أي بعالقات وصراعات الطبقات‪ ،‬قد يكون مفاج ًئا أن يظهر كتاب له‪ ،‬كهذا‪ ،‬يحاول أن‬
‫يثبت فيه أن التحليل االجتماعي لم يعد أساس علم االجتماع‪ ،‬وقد ح ّل مكانه التحليل الثقافي‪ ،‬وأن المجتمع أصبح «ال اجتماعيًا» تنوب فيه‬
‫المقوالت الثقافية عن المقوالت االجتماعية‪.‬‬

‫يستهل تورين كتابه بالتأكيد على أننا نحتاج إلى براديغما جديدة لتحليل وفهم العالم الذي نعيش فيه اآلن‪ ،‬ويقول‪« :‬إذا كنا لبثنا فترة طويلة‬
‫نتو ّس ل‪ ،‬في وصفنا وتحليلنا الواقع االجتماعي‪ ،‬مصطلحات سياسية‪ ،‬كالفوضى والنظام‪ ،‬والسالم والحرب‪ ،‬والسلطة والدولة‪ ،‬والملك واألمة‬
‫والجمهورية‪ ،‬والشعب والثورة‪ ،‬حتى إذا تحررت الثورة الصناعية والرأسمالية من قبضة السلطة السياسية وظهرتا «قاعدة» للتنظيم‬
‫االجتماعي‪ ،‬عمدنا إلى االستعاضة عن البراديغما السياسية ببراديغما اقتصادية واجتماعية‪ ،‬بحيث أصبحت الطبقات االجتماعية والثورة‪،‬‬
‫والبرجوازية والبروليتاريا‪ ،‬والنقابات واإلضرابات (…) هي مقوالتنا التحليلية األكثر تداواًل ‪ )..( .‬أما اليوم‪ ،‬فقد باتت هذه المقوالت مبهمة‪،‬‬
‫وبتنا بحاجة إلى براديغما جديدة‪ )..( .‬ال سيما أن القضايا الثقافية بلغت من األهمية ح ًدا يفرض على الفكر االجتماعي االنتظام حولها»‪.‬‬

‫بمعنى آخر‪ ،‬يرى تورين أن المجتمعات الغربية انتقلت من البراديغما السياسيّة‪ ،‬في الحداثة األولى‪ ،‬التي حلت محل النظام الديني وتفسيره‬
‫للعالم‪ ،‬إلى براديغما اقتصادية اجتماعية‪ ،‬في الحداثة الثانية‪ ،‬واآلن في عالم اليوم‪ ،‬نحتاج إلى براديغما جديدة من لغة أو تحليل اجتماعي إلى‬
‫لغة ثقافية تتناول الحياة االجتماعية‪.‬‬

‫يعني تورين في مفهوم البراديغما نموذجً ا جدي ًد ا لفهم طبيعة التحوالت التي طرأت وتطرأ على المجتمع‪ .‬وقد بات هذا المفهوم‪ ،‬بحسب‬
‫تورين‪ ،‬يحيل إلى قيم جديدة‪ ،‬ثقافية‪ ،‬أصبحت مهيمنة على وعي األفراد والجماعات تتمثل في‪ :‬الحرية‪ ،‬وحقوق اإلنسان‪ ،‬والهوس‪،‬‬
‫واالستالب‪ ،‬والهوية‪.‬‬

‫ويوضح تورين الفرق بين «البراديغم» و«الخطاب»‪ ،‬باالستناد إلى ميشيل فوكو الذي يرى أن عقلنة المجتمعات أدت إلى تعزيز منطق‬
‫التكامل االجتماعي‪ ،‬والسيطرة‪ ،‬وبالتالي توافر آليات متعددة (ميكروفيزياء النظام) للسيطرة على الفرد‪ .‬ولكن في عالم سريع التغير‪ ،‬حيث‬
‫يصعب السيطرة عليه‪ ،‬يضيف تورين إلى تحليل أو تشخيص فوكو للـ«الخطاب» آليات المقاومة‪ ،‬فيقول‪« :‬إذا كان الخطاب هو شكل من‬
‫ضا‪ ،‬إنشاء لدفاعات وانتقادات وحركة تحرير»‪.‬‬‫أشكال السيطرة‪ ،‬فإن البراديغم ليست أداة في يد النظام الحاكم وحسب بل هي أي ً‬

‫على أي حال‪ ،‬يؤكد تورين على «انهيار المجتمع»‪ ،‬أي انهيار النظرة االجتماعية للحياة االجتماعية‪ ،‬محاواًل تبني تحليل «ال اجتماعي»‬
‫للواقع‪ ،‬وهذا هي الفكرة المركزية للقسم األول من الكتاب‪.‬‬

‫لتحديد أطروحته هذه يقسم تورين «البراديغما الجديدة» إلى قسمين‪ :‬في القسم األول يحلل نهاية االجتماعي وجميع ظواهر التفكك والفصل‬
‫االجتماعيين التي تميز التحوالت في القرن الحادي والعشرين‪ ،‬أما في القسم الثاني فيحلل المفاهيم التي تشكل لب النموذج الجديد‬
‫(البراديغما)‪ ،‬وهي‪ :‬الذات الفاعلة والحقوق الثقافية‪ .‬ونقطة االنطالق بالنسبة لتورين هي تحليله للعولمة كشكل من أشكال الرأسمالية‬
‫المتطرفة التي عملت على فصل االقتصاد عن المؤسسات االجتماعية والسياسية القومية‪ .‬وكان من نتيجة ذلك كله تشظي ما كنا نسميه‬
‫«مجتم ًع ا» وانهيار الفئات االجتماعية القديمة‪ ،‬وكذلك انتصار الدعوة إلى الفردانية التي تصورها وتروجها وسائل االتصال واإلعالم‪.‬‬
‫انطال ًق ا من كل ذلك يدعو تورين القارئ إلى إعادة النظر‪ ،‬وعن حق‪ ،‬في المفاهيم واألطر الفكرية المستخدمة في تحليل ودراسة المجتمعات‬
‫الحالية‪ .‬ذلك أن مفاهيم مثل الطبقة االجتماعية‪ ،‬التحرر‪ ،‬الحركة العمالية (…) يجب أن ينظر إليها في ضوء المتغيرات الجديدة‪.‬‬

‫وكتاب تورين هذا تحليل جدي‪ ،‬وربما صاعق‪ ،‬للمتغيرات التي شهدها العالم خالل العقدين األخيرين‪ ،‬أو منذ بداية القرن الجديد‪ .‬لقد تغيرت‬
‫الظروف التي كانت تعيش فيها المؤسسات االقتصادية واالجتماعية بفعل مجموعة معقدة من القواعد واألعراف الجديدة‪ .‬بحيث صرنا‬
‫«نعيش في مجتمع أصبح «الاجتماع ًي ا» تنوب فيه المقوالت الثقافية عن المقوالت االجتماعية‪ ،‬وحيث عالقة كل امرئ مع ذاته تضاهي في‬
‫األهمية ما كانت عليه عملية غزو العالم قديمًا»‪.‬‬

‫القطيعة مع الماضي‬

‫ينطلق آالن تورين من هجمات ‪ 11‬أيلول‪/‬سبتمبر ‪ 2001‬وتداعياتها كنقطة فاصلة بين عصرين‪ ،‬حيث دخلت أمريكا والعالم معها في‬
‫مرحلة تاريخية جديدة‪ ،‬عنوانها البارز هو لغة الحرب‪ ،‬كتلك التي عاشتها أوروبا سنة ‪ ،1914‬تاريخ بدء الحرب العالمية األولى‪ ،‬أي‬
‫الدخول في مرحلة حرب الكل ضد الكل‪ .‬ويرى تورين أن العالم سيدخل بعد ‪ 11‬أيلول مرحلة مشابهة لهذه األخيرة‪« ،‬إذ أن أيلول‪/‬سبتمبر‬
‫‪ 2001‬ال يشكل نهاية عهد وحسب‪ ،‬بل نهاية تصوّ ر معيّن‪ ،‬نهاية سير معيّن للمجتمع األميركي والعالم كله‪ )..( .‬إذا نظرنا إلى ما حولنا‬
‫رأينا مجتمعات مدمرة‪ ،‬مشرذمة‪ ،‬مقلوبة رأ ًس ا على عقب‪ .‬ولقد كنا نعرف أن الحياة العامة تخضع لسيطرة األهواء أكثر منها لسيطرة‬
‫المصالح‪ ،‬لكن األهواء باتت ترمي أكثر فأكثر‪ ،‬في عالم اليوم‪ ،‬إلى إنكار األخر بداًل من الدخول معه في صراع»‪.‬‬

‫أصبحت حياة المجتمعات‪ ،‬حتى أكثرها وفرة وغنى وأشدها تعقي ًدا وحصانة‪ ،‬مهددة منذ ذلك الحين بالخوف والعنف والحرب‪ .‬وسطوة‬
‫الخوف هذه الناجمة عن الشعور باقتراب النهاية والتهديد القاتل‪ ،‬جعلت من فكرة الحرب المقدسة التي ينبغي خوضها باسم الخير ضد الشر‪،‬‬
‫فوق كل الحقائق االجتماعية‪.‬‬

‫وتحت جلبة الحروب المق ّد سة بات العالم في تراجع مستمر‪ ،‬وحيثما نظرنا نرى ماليين الناس المهجرة والالجئة‪ ،‬يعيشون تغييرات جغرافية‬
‫وسوسيو‪-‬ثقافية تد ّم رهم أكثر مما تدخلهم في الحداثة‪ .‬كما أدت هذه المتغيرات إلى تراجع المكاسب التي حققتها الحركات النقابية‪ .‬ومن يقود‬
‫صراعات التخلف هذه ليس الفئات األشد فقرً ا‪ ،‬بل تلك األقدر على الضغط على الدولة‪ .‬إن الطبقات الوسطى المهددة هي التي تقود‬
‫صراعات التخلف أكثر من الطبقات األشد فقرً ا وضع ًفا‪.‬‬

‫ولعل من تداعيات كل ذلك أننا فقدنا المعنى في عالم اليوم‪ .‬ولم نعد نؤمن بالتطور وإنما بتنا نشعر بالقلق والخوف من تفكك المدن والمناطق‬
‫الريفية بفعل العنف االجتماعي والحروب الجهادية‪.‬‬

‫وإلى التفكك والفصل االجتماعي‪ ،‬يضاف تقهقر التنشئة االجتماعية‪ ،‬أي أفول االجتماعي‪ ،‬وتغلغل العنف بألف شكل وشكل في كل مكان‪،‬‬
‫ث أو بشكل‬ ‫مطيحً ا بكل المعايير والقيم «االجتماعية»‪ ،‬وهذا يضيف صورة جديدة‪ ،‬هي «تزايد المطالب الثقافية‪ ،‬سواء بشكل طائفي محدَ ّ‬
‫دعوة إلى ذات فاعلة شخصية والمطالبة بحقوق ثقافية‪ .‬لقد كنا باألمس نتحدث عن فاعلين اجتماعيين وعن حركات اجتماعية‪ ،‬أما في العالم‬
‫الذي دخلنا فيه فغالبًا ما يقتضي الكالم عن ذوات فاعلة شخصية و«حركات ثقافية»»‪.‬‬

‫وفي المجمل‪ ،‬يتناول هذا الفصل من الكتاب ثالثة موضوعات‪ ،‬هي‪ :‬أواًل ‪ :‬التفكك االجتماعي‪ ،‬وثانيًا‪ :‬تعاظم القوى الموضوعة فوق‬
‫المجتمع‪ :‬الحرب‪ ،‬واألسواق‪ ،‬والطائفية‪ ،‬والعنف الشخصي والبين‪-‬شخصي‪ ،‬وأخيرً ا‪ :‬الدعوة إلى الفردانية بصفتها مبدأ ألخالقية معينة‪.‬‬
‫يقول تورين‪« :‬ولكن أليست هذه الموضوعات مترابطة؟ أليس أفول االجتماعي هو الذي يؤدي إلى تفاقم العنف؟»‪.‬‬

‫مع ذلك‪ ،‬فتورين ليس متشائ ًم ا‪ ،‬فهو يرى أنه ورغم انتصار الفردانية المفككة فإننا نسعى إلى إنقاذ وجودنا الفردي المميز‪ ،‬ما يعمل على‬
‫تكوين ذات فاعلة حرة عبر النضال من أجل تحصيل الحقوق‪ ،‬وأن هذه الذات الفاعلة تجهد من أجل إيجاد مؤسسات وقواعد قانونية تدعم‬
‫حريتها وقدرتها اإلبداعية‪ ،‬ومحط الرهان في هذا النضال هما العائلة والمدرسة‪.‬‬

‫خالصات‬

‫ينتهي تورين في مؤلفه «براديغما جديدة لفهم عالم اليوم» إلى خالصات أساسية تساعد في فهم طبيعة التحول في المجتمعات المعاصرة‪.‬‬
‫‪ - 1‬نقطة االنطالق هي العولمة‪ ،‬التي ليست في عرفنا عولمة اإلنتاج والتبادالت وحسب‪ ،‬بل هي شكل متطرف من أشكال الرأسمالية‪ ،‬بنوع‬
‫خاص‪ ،‬يقوم على الفصل التام بين االقتصاد وسائر المؤسسات التي ال يسعها ضبطها والتحكم بها‪ ،‬ال سيما االجتماعية منها والسياسية‪.‬‬

‫‪ -2‬زوال الحدود هذا‪ ،‬من كل نوع‪ ،‬يجر إلى تفتيت ما كان يسمى مجتمعا‪.‬‬

‫‪ -3‬االنهيار المتالحق لمقوالت التحليل والعمل االجتماعية ليس ً‬


‫حدث ا غير مسبوق‪ ،‬فقد كنا‪ ،‬في بداية الحداثة‪ ،‬نتمثل الواقعات االجتماعية‬
‫ونعبر عنها بمصطلحات سياسية‪ ،‬كالنظام والفوضى والسيادة والسلطة والدولة والثورة‪ .‬لم نستبدل بهذه المصطلحات السياسية‪ ،‬إال بعد‬
‫الثورة الصناعية‪ ،‬أخرى اقتصادية اجتماعية‪ ،‬كالطبقات والكسب والتنافس والتوظيف والمفاوضات الجماعية‪ .‬لكن التغيرات الراهنة هي من‬
‫العمق بحيث تقودنا إلى التأكيد أن براديغما جديدة هي في صدد الحلول مكان البراديغما االجتماعية‪ ،‬كما حلّت هذه األخيرة محل البراديغما‬
‫السياسية‪.‬‬

‫‪ - 4‬إن وقوف الفردانية منتصرة على أنقاض التصور االجتماعي لوجودنا‪ ،‬يظهر هشاشة «أنا» تتبدل باستمرار بفعل ما تخضع له من‬
‫مؤثرات‪ .‬وإن تفسيرً ا أكثر تأنيًا لهذه الحقيقة من شأنه أن يركز على دور وسائل اإلعالم في تكوين هذه األنا الفردية التي تبدو وحدتها‬
‫واستقاللها مهددتين‪.‬‬

‫‪ -5‬على أن لهذه الفردانية بع ًد ا آخر‪ ،‬أال وهو أننا‪ ،‬في مجتمع نخضع فيه ال لتقنيات اإلنتاج وحسب‪ ،‬بل لتقنيات االستهالك والتواصل‪،‬‬
‫ض ا‪ ،‬نسعى إلى إنقاد وجودنا الفردي‪ ،‬المميز‪ .‬وهو ازدواج خالق يلد‪ ،‬إلى جانب الكائن اإلمبريقي كائ ًنا حقوقيًا يعمل على تكوين ذاته‬
‫أي ً‬
‫فاعال حرا عبر نضاله من أجل نيل حقوقه‪.‬‬

‫‪ - 6‬لقد كان لدينا صورة عن قدراتنا الخالقة‪ ،‬على الدوام‪ ،‬لكن‪ ،‬لطالما كان يتم إسقاط هذه الصورة ما وراء تجربتنا الخاصة‪ .‬لقد اتخذت‬
‫وجو ًه ا متتالية هي‪ :‬هللا‪ ،‬والدولة‪ ،‬والتقدم‪ ،‬والمجتمع الالطبقي‪ .‬أما اليوم فإننا مباشرة وبدون خطاب وسيط‪ ،‬نولي البحث عن ذواتنا أهمية‬
‫مركزية‪ .‬وإرادة الفرد هذه هي الذات الفاعلة‪.‬‬

‫‪ - 7‬إن وجود الذات الفاعلة كمبدأ تحليلي مشروط بشمول طبيعتها‪ ،‬فهي‪ ،‬كالحداثة‪ ،‬تقوم على مبدأين أساسيين‪ :‬اعتناق الفكر العقالني‪،‬‬
‫واحترام الحقوق الفردية الشاملة‪ ،‬تلك التي تتخطى جميع الفئات االجتماعية الخاصة‪ .‬وقد تجسدت الذات الفاعلة أول ما تجسدت‪ ،‬تاريخيًا‪،‬‬
‫في فكرة المواطنية التي فرضت احترام الحقوق السياسية الشاملة بغض النظر عن كل االنتماءات الطائفية‪ .‬وأحد التعابير المهمة عن هذا‬
‫الفصل بين المواطنية والطوائف هي العلمانية التي تفصل الدولة عن الكنائس‪.‬‬

‫‪ -8‬لقد كان النضال من أجل الحقوق االجتماعية قائ ًم ا في صميم الحياة االجتماعية والسياسية خالل الفترة التي كانت فيها البراديغما‬
‫االجتماعية مسيطرة‪ ،‬أما اليوم فقيام البراديغما الثقافية‪ ،‬يضع المطالبة بالحقوق الثقافية في الواجهة‪ ،‬مثل هذه الحقوق‪ ،‬وإن كان ال يزال‬
‫يجري التعبير عنها بالدفاع عن نعوت خاصة‪ ،‬تخلع على الدفاع المذكور معنى شموليًا‪.‬‬

‫‪ - 9‬ينشأ على أنقاض المجتمع الذي زعزعته وهدمته العولمة صراع مركزي بين قوى الاجتماعية عززتها العولمة‪ ،‬كحركات السوق‬
‫والحروب والكوارث المحتملة‪ ،‬من جهة‪ ،‬وبين الذات الفاعلة المحرومة من دعم القيم االجتماعية التي تم القضاء عليها‪.‬‬

‫‪ -10‬المعركة‪ ،‬رغم ما سبق‪ ،‬ليست خاسرة سل ًف ا‪ ،‬ألن الذات الفاعلة تجهد من أجل إيجاد مؤسسات وقواعد قانونية تدعم حريتها وقدرتها‬
‫اإلبداعية‪ ،‬ومحط الرهان في هذه المعركة هما المدرسة والعائلة‪.‬‬

‫‪ - 11‬بالعودة إلى التاريخ‪ ،‬كان تاريخ التحديث األوروبي يكمن في استقطاب المجتمع بتكديسه الموارد والثروات‪ ،‬على أنواعها‪ ،‬في أيدي‬
‫نخبة معينة وتحديده سلبيًا الفئات المقابلة والمتشكلة دونيًا‪ .‬لقد كان هذا النموذج من الفاعلية ً‬
‫بحثا غزا قسمًا كبيرً ا من العالم‪ .‬لكنه كان أيضًا‪،‬‬
‫بحكم طبيعته هذه بالذات‪ ،‬حافاًل بالصراعات والتوترات‪.‬‬

‫‪ - 12‬لقد كونت الفئات االجتماعية الموصومة بالدونية‪ ،‬إبان هذين القرنين األخيرين‪ ،‬وال سيما فئة العمال‪ ،‬تليها فئة المستعمرين‪ ،‬والنساء‬
‫في الفترة نفسها‪ ،‬حركات اجتماعية ترمي إلى التحرر‪ .‬وقد تم للفئات المذكورة تحقيق الكثير من أهدافها‪ ،‬ما أدى‪ ،‬أواًل ‪ ،‬إلى تخفيف‬
‫ض ا‪ ،‬إلى إضعاف دينامية هذا األخير‪ .‬والخطر يتهدد هذا القسم من العالم هو أنه لم يعد مؤهاًل‬ ‫التوترات المالزمة للنموذج الغربي‪ ،‬ولكن‪ ،‬أي ً‬
‫ألن يضع نصب عينيه المزيد من األهداف‪ ،‬وال قادرً ا على مواجهة صراعات جديدة‪.‬‬
‫‪ - 13‬ال مطمع ألي دينامية جديدة في أن تبصر النور إال على قاعدة عمل قادر على إعادة جمع ما باعد بينه النموذج الغربي‪ ،‬بتجاوزه كل‬
‫االستقطابات‪ .‬مثل هذا العمل بدأ يظهر من خالل حركات حماية البيئة‪ ،‬مثاًل ‪ ،‬تلك التي تناضل ضد العولمة‪ .‬لكن الفاعالت الرئيسات لهذا‬
‫العمل‪ ،‬اآلن وغ ًد ا‪ ،‬هن النساء‪ ،‬ألنهن يشكلن‪ ،‬بفعل الهيمنة الذكورية‪ ،‬فئة دنيا‪ ،‬ويتولين قيادة عمل أشمل من معركتهن التحررية‪ ،‬يتمثل في‬
‫التأليف بين كل التجارب الفردية والجماعية‪.‬‬

‫رزنامة الفعاليات | ‪Events Calendar‬‬


‫تغطية خاصة‬

‫‪‬‬

‫‪December 12, 2018‬‬


‫ملف‪ :‬الخبز‬

‫‪‬‬

‫‪November 13, 2018‬‬


‫ملف‪ :‬أي إصالحات اقتصادية في العالم العربي؟‬

‫‪‬‬

‫‪September 25, 2018‬‬


‫االنفتاح االقتصادي على حساب العدالة‪ :‬ثالثة عقود من قوانين ضريبة الدخل‬

‫‪‬‬

‫‪July 17, 2018‬‬


‫ملف‪ :‬تسعون عامًا على تأسيس جماعة اإلخوان المسلمين‬

‫اقرأ‪/‬ي أيضا‬

‫أبناء البحر‪ :‬الهزيمة للجميع‬ ‫‪‬‬

You might also like