Professional Documents
Culture Documents
فئة :مقاالت
لقد أ ّدى التّراكم المعرف ّي المؤسّس على أرضيّة وعي دين ّي إلى خطاب عمدته التشريع لقوانين تح ّدد لإلنس ان طقوس ه وطرائ ق
تعامله مع اآلخرين ،وتضبط كثيرا من األحكام المتعلّقة بالسياسية والمجتمع ،وفي المجم ل تح ّدد عالق ة الف رد باهلل والجماع ة.
واشتغل علم الكالم على قاعدة الر ّد على أصحاب العقائد المارقة وتحديد أسس عقيدة الفرق ة الناجي ة وس ط ف رق اله الكين .ولم
يكن ذلك بمنكر في عصر كان هاجس رجل الدين فقيها أو متكلّم ا مأسس ة الخط اب ال دين ّي وحمايت ه وف ق منط ق س لطو ّ
ي من
خطر التع ّدد والتف ّكك .فقد كان الهدف من وراء تلك التشريعات خلق التجانس وضمان والء المؤمنين لقانون واحد يمنع تف رّقهم
يفس ر ح ديث الفقه اء عن الس نّة والجماع ة وتش ديدهم على ض رورة االنض باط للجماع ة في
ويزيد من لحمتهم .ولع ّل ذلك م ا ّ
الصالة أو الح ّج أو الحرب ومنطق االصطفاف وراء القائ د وطاعت ه مقاب ل نهيهم عن الفرق ة ،وت رك ص الة الجماع ة وتهدي د
المتخلّفين منهم بأش ّد العقاب[ .]1إالّ أنّه رغم المغانم السّلطويّة التي جناه ا ال ُمس لمون من من ع االختالف وح روب ال ر ّدة وإدان ة
فإن ميراث ذلك المنهج قد أ ّدى إلى ترسيخ عقليّة الطّاعة ال في السّياسة فحسب ،وإنّما في الفكر أيضا ،وهو ما عطّل
المارقينّ ،
ّ
والتحض ر ،وإث ر ص دمة الحداث ة ي وجعل حضوره ضعيفا .وقد احتاج المف ّكرون ،زمن البحث عن مسالك للنهض ة
الفكر النقد ّ
واالطّالع على تق ّدم الغ رب ،إلى مس وّغات دينيّ ة وم داخل ش رعيّة من أج ل اإلقن اع بقيم ة النق د وأهميّت ه في تجدي د العق ل
أن النقد ظ ّل ُمدانا وكثيرا ما أُلحقت تهمة الكفر بمن حاولوا الخ روج عن نط اق الق راءة الرس ميّة واختب ار س بل
اإلسالم ّي ،بيد ّ
جديدة في التأويل[ .]2إذ كانت مس الكه وع رة وب دا االجته اد والتجدي د منك را وبدع ة ،فك انت مس اعي المج ّددين عس يرة ،وهم
يطمحون إلى إصالح الفكر الدين ّي بطرح األسئلة العقليّ ة ومحاول ة إيج اد ط رق لتحطيم األس يجة األورثودكس يّة .ول ذلك ،فق د
انتقل كثير من المف ّكرين من طور التفكير في إيجاد سبل للتجديد والتأويل إلى البحث عن األسباب التي عطلت العقل اإلس المي
معلوماته ]3[".فالنقد حسب رأيه يوسّع حق ل التفحّص الت اريخ ّي داخ ل المج ال الع رب ّي اإلس الم ّي عن طري ق إدخ ال مص طلح
جديد هو :سوسيولوجيا الممكن التفكير فيه /والمستحيل التفكير في ه ،وك ذلك المف ّك ر في ه /والالمف ّك ر في ه في النّطاق ات اللغويّ ة
ي]4[.
والسياس ّ الفكريّة المتعايشة داخل نفس الفضاء االجتماع ّي
انتقل كثير من المف ّكرين من طور التفكير في إيجاد سبل للتجديد والتأويل إلى البحث عن األسباب التي عطلت العقل اإلس المي
يش هد انتش ارا واس عا للحرك ات األص وليّة المتش ّددة ال تي ب دأت ب الخروج من ط ور االنحس ار والتخفّي إلى ط ور الظه ور
واالنتش ار .فق د اس تفاد االنغالق الاله وت ّي من الفض اءات التلفزيونيّ ة الجدي دة الع ابرة للح دود والق ادرة على توس يع القاع دة
الجماهيريّة .وتبوّأ الشيوخ مقاعدهم من القنوات الدينيّة التي ألهبت مشاعر الخوف والرجاء من المق ّدس .وصار لهم جمه ورهم
المؤمن برسائلهم والمتابع لبرامجهم ،ث ّم استكملت وس ائل االتّص ال الحديث ة ومواق ع التواص ل االجتم اع ّي م ا ب دأه التلفزي ون.
ّ
وتوس عت وأضحى جمهور الكتاب المؤمن بالنقد في تناقص .أ ّما جمه ور اإلعالم ال دين ّي الم ؤمن ب االنغالق ،فق د زاد وانتش ر
شبكته ،ولم يعد خاضعا للرقاب ة .ول ذلك ،فق د أض حى الس ؤال عن األس باب ال تي عطّلت الفك ر النق ديّ ،وأس همت في انتش ار
الدوغمائيّة أمرا ضروريّا تقتضيه مقاصد البحث عن سبل لتحرير العقل اإلسالم ّي وتجديده.
وبالمقابل يق ّدم "علي حرب" ثالثة مفاتيح تم ّكن من تجاوز العقبات التي تقف في طريق العقل النقديّ :يتمثّ ل المفت اح األوّل في
مواجهة عقليّة الوصاية؛ ويعني ذلك عدم الوثوق في وج ود ش خص يمكن أن يمثّ ل للن اس والمجتم ع أو إلى األم ة أو البش ريّة
الوعي والضمير أو العقل واالستنارة أو المعنى والقيمة .فهذه العقليّة من شأنها أن تنتج الطاعة العمياء واالنقياد والقهر .وأزمة
ق المطل ق في التفك ير وتحدي د المص ير ،بينم ا تُس لَبُ تل ك الملك ة من الجمه ور ،باعتب اره
الوصاية في كونها تهب النخبة الح ّ
ّ
يخص ص كتاب ا قاصرا وجاهال ال يمكنه تأسيس وعيه بنفسه]5[.ولع ّل أهميّ ة ه ذا الع ائق هي ال تي دفعت "علي ح رب" إلى أن
المثقّف]6[. يكشف فيه أوهام النخبة وينقد
ي ،فيقوم على تجاوز عادة التقديس التي تتمثّل في "خلع ط ابع المفارق ة واأللوه ة والتجري د
أ ّما المفتاح الثاني لتأسيس عقل نقد ّ
والتعالي على المعاني والقيم التي هي ممارسات بشريّة ،دنيويّ ة ومحايت ة ،أو مح دودة وع ابرة ]7[".وليس مع نى رف ع القداس ة
االقتصار على إدانة الوعي الدين ّي ،وإنّما يشمل أيضا من يمارسون التقديس والتعظيم باسم العق ل واإلنس ان .ففي ال وقت ال ذي
يعتقد فيه اإلنسان أنّه يحافظ على القيم بالقداسة التي يمنحه ا له ا ،يتس بّب في ك وارث وفواج ع لع ّل من أبرزه ا اس تقالة العق ل
حقائق متعالية غير قابلة للنقد .وتؤ ّدي مسارات المطابقة إلى اختزال الواقع أو القفز فوقه أو قولبته ،وهو ما جع ل مف اهيم مث ل
المساواة واالشتراكيّة والعدالة االجتماعيّة تتحوّل إلى شعارات مفرغة من المعنى وفاقدة لروحها على أرض الواقع.
اتفق كثير من المف ّكرين حول عوائق النقد في الفكر اإلسالم ّي ،ولذلك فق د اتّج ه س عيهم إلى أنس نة الت اريخ اإلس الم ّي بمحاول ة
إن خالصة هذه المداخل التي يق ّدمها "علي حرب" ،باعتبارها مفاتيح النقد وأس س العق ل المتح رّر لت دور في فل ك واح د وه و
ّ
أن المق ّدس هو من يجعل اإلنسان يعتقد في وجود حقيقة متعالية غير قابلة للنق د ،ول ذلك
المق ّدس ،إذ يبدو من خالل هذه العوائق ّ
الس لوك لي درك أنّ ه ن اتج عن نزع تين :األولى هي التواك ل فهو يسلّم مقاليد عقله وروحه لهاّ .
وإن الناظر بعم ق إلى مث ل ه ذا ّ
ي الذي يغني التابع والمطيع عن طرح األسئلة .ولعلّه فك ر ناش ئ في بيئ ة س لطويّة دأب أص حابها على عقليّ ة المحافظ ة
الفكر ّ
على ما هو كائن وعدم البحث عن سبل لتغييره .والثانية نزعة الخوف ال تي تنت اب الط رف المطي ع من خط ورة الخ روج عن
التصورات الصّراطيّة الثّابتة في ظ ّل وجود ترسانة من القوانين الرادعة وسهولة الوسم بالكفر والر ّدة والبدعة.
وإن الناظر في الوسائط النقديّة التي ق ّدمها "نصر حامد أبو زيد" ،ليلحظ اتفاقا حول أصل األزمة التي عطّلت النق د ،وأض عفت
ّ
من فاعليّته في الثقافة العربيّة اإلسالميّة .ففي سياق حديثه ،عن آليّات الخطاب الديني يع ّدد الكاتب األس باب ال تي عطّلت الفك ر
ّ
ويسن تشريعاتهم ،ومادام تأويل السلف الصالح هو األقرب إلى تلك القداسة لقربه التفويض لإلله الواحد كي يقرّر مصير الناس
فإن آراءه وأحكامه تظ ّل هي األكثر اتصاال بالمق ّدس ،وهو ما نتج عن ه يقين ذه ن ّي وحس م فك ر ّ
ي أساس ه االعتق اد من منابعهاّ ،
بالرافد اإلله ّي .وبذلك ،ثبتت مواقع المق ّدس ومواقف أصحابه ،فغاب البع د الت اريخ ّي عن تص ّورات العق ل اإلس الم ّي ،وص ار
لقد اتفق كثير من المف ّكرين إذن حول عوائق النقد في الفكر اإلس الم ّي ،ول ذلك فق د اتّج ه س عيهم إلى أنس نة الت اريخ اإلس الم ّي
بمحاولة نزع القداسة عن شخصيّاته وأحداثه ،وهو ما احتاج إلى القيام بحفريات تاريخيّة من أجل إع ادة ق راءة ال تراث وفهم ه
وتأويله باعتماد أدوات نقديّة بعيدة عن التقديس والتبرير .ولئن وقعت بعض القراءات المعاصرة في التلوين مثل تجربة اليس ار
فإن التنبيه على أهميّة المداخل النقديّة وتقديم آليّات لتجاوز الدوغمائيّة قد ولّ د فك را نق ديّا ،وإن ض عفت فاعليت ه في
اإلسالم ّيّ ،
المسلمين ،فإنّه يظ ّل واعدا بآفاق االنتشار في ظ ّل ارتباط النزعات الدوغمائيّة المؤمنة بالحقيقة المطلقة بالجماعات العنيفة التي
لم تهدر البعد التاريخ ّي فحسب ،وإنما أهدرت القيمة الرمزيّة للدين وحوّلته إلى مصدر خوف وذعر للمسلمين أنفس هم .ول ذلك،
ّ
فإن مسارات النقد هي وحدها ال تي يمكن أن تعطي المس لمين الق درة على مواجه ة أس ئلة العص ر دون خ وف أو رهب ة ودون
الحاجة إلى إضفاء القداسة على آراء أسالفهم الذين ف ّكروا بحسب حاجات عصرهم.
يل ّخص "كانط" (( )Immanuel Kantت 1804م) في جوابه عن سؤال "ما هي األنوار؟" شروط العقل النقد ّ
ي بقول هّ :
"إن
بلوغ األنوار هو خروج اإلنسان من القصور الذي هو مسؤول عنه ،والذي يعني عجزه عن استعمال عقل ه دون إرش اد الغ ير.
ّ
وإن الم رء نفس ه مس ؤول عن حال ة القص ور ه ذه عن دما يك ون الس بب في ذل ك ليس نقص ا في العق ل ،ب ل نقص ا في الح زم
والشجاعة في استعماله دون إرشاد الغير .تج ّرأ على أن تعرف! كن جريئا في استعمال عقلك أنت
[ ]1ج اء في ص حيح مس لم م ا يلي" :ح ّدثنا س فيان بن عتيب ة عن أبي الزن اد عن األع رج عن أبي هري رة ّ
أن رس ول هللا
ﷺ فقد ناسا في بعض الصلوات فقال" :لقد هممت أن آمر رجال يصلّي بالنّاس ،ث ّم أخالف إلى رجال يتخلّفون
عنها .فآمر بهم فيحرقوا عليهم ،بحزم الحطب ،بيوتهم ،ولو علم أحدهم أنّه يجد عظما س مينا لش هدها "".يع ني ص الة العش اء،
صحيح مسلم ،ط ،1الرياض ،دار طيبة ،2006 ،ج ،1ص( .293حديث رقم .)651
[ ]2انظر مثال ما قابلت به اللجنة العلميّة كتاب نصر حامد أب و زي د "نق د الخط اب ال دين ّي ".من تكف ير نتجت محاكم ة قض ائيّة
[ ]3مح ّمد أركون ،نحو نقد العقل اإلسالم ّي( ،ترجمة وتقديم هاشم صالح) ،ط ،1بيروت ،دار الطليعة ،2009 ،ص 32
[ ]5انظر علي ح رب ،أص نام النظريّ ة وأطي اف الحريّ ة( ،نق د بوردي و وتشومس كي) ،ط ،1ال دار البيض اء /ب يروت ،المرك ز
[ ]6انظر :علي حرب ،أوهام النخبة والمثقف ،ط ،3الدار البيضاء /بيروت ،المركز الثقافي العربي2004 ،
شهدت السنوات األخيرة صدور عشرات الكتب التي تبحث في المتغيرات الجديدة على عالم اليوم ،هكذا ظهرت كتب مثل «رأس المال في
القرن الحادي والعشرين » لتوماس بيكتي ،و «الحداثة السائلة» للبولندي زيغمونت باومان ،و«عصر الوصول :ثورة االقتصاد الجديد»
لجيرمي ريفكين ،وغيرها العشرات.
هذه الكتب تكاد تطيح بكل ما سبق وعرفناه عن العالم ،ويكاد مؤلفوها يجمعون على مقولة« :العالم الذي كنا نعرفه انتهى».
ومن بين هذه الكتب يبرز كتاب عالم االجتماع الفرنسي آالن تورين ،المعنون «براديغما جديدة لفهم عالم اليوم» ،والذي ترجمه د.جورج
سلمان ،ونشرته المنظمة العربية للترجمة.
بالنسبة لعالم اجتماع معروف مثل آالن تورين ،يعتبر أن الموضوع الرئيسي لعلم االجتماع هو
دراسة التصرفات االجتماعية التي ترتبط بالتاريخية ،أي بعالقات وصراعات الطبقات ،قد يكون مفاج ًئا أن يظهر كتاب له ،كهذا ،يحاول أن
يثبت فيه أن التحليل االجتماعي لم يعد أساس علم االجتماع ،وقد ح ّل مكانه التحليل الثقافي ،وأن المجتمع أصبح «ال اجتماعيًا» تنوب فيه
المقوالت الثقافية عن المقوالت االجتماعية.
يستهل تورين كتابه بالتأكيد على أننا نحتاج إلى براديغما جديدة لتحليل وفهم العالم الذي نعيش فيه اآلن ،ويقول« :إذا كنا لبثنا فترة طويلة
نتو ّس ل ،في وصفنا وتحليلنا الواقع االجتماعي ،مصطلحات سياسية ،كالفوضى والنظام ،والسالم والحرب ،والسلطة والدولة ،والملك واألمة
والجمهورية ،والشعب والثورة ،حتى إذا تحررت الثورة الصناعية والرأسمالية من قبضة السلطة السياسية وظهرتا «قاعدة» للتنظيم
االجتماعي ،عمدنا إلى االستعاضة عن البراديغما السياسية ببراديغما اقتصادية واجتماعية ،بحيث أصبحت الطبقات االجتماعية والثورة،
والبرجوازية والبروليتاريا ،والنقابات واإلضرابات (…) هي مقوالتنا التحليلية األكثر تداواًل )..( .أما اليوم ،فقد باتت هذه المقوالت مبهمة،
وبتنا بحاجة إلى براديغما جديدة )..( .ال سيما أن القضايا الثقافية بلغت من األهمية ح ًدا يفرض على الفكر االجتماعي االنتظام حولها».
بمعنى آخر ،يرى تورين أن المجتمعات الغربية انتقلت من البراديغما السياسيّة ،في الحداثة األولى ،التي حلت محل النظام الديني وتفسيره
للعالم ،إلى براديغما اقتصادية اجتماعية ،في الحداثة الثانية ،واآلن في عالم اليوم ،نحتاج إلى براديغما جديدة من لغة أو تحليل اجتماعي إلى
لغة ثقافية تتناول الحياة االجتماعية.
يعني تورين في مفهوم البراديغما نموذجً ا جدي ًد ا لفهم طبيعة التحوالت التي طرأت وتطرأ على المجتمع .وقد بات هذا المفهوم ،بحسب
تورين ،يحيل إلى قيم جديدة ،ثقافية ،أصبحت مهيمنة على وعي األفراد والجماعات تتمثل في :الحرية ،وحقوق اإلنسان ،والهوس،
واالستالب ،والهوية.
ويوضح تورين الفرق بين «البراديغم» و«الخطاب» ،باالستناد إلى ميشيل فوكو الذي يرى أن عقلنة المجتمعات أدت إلى تعزيز منطق
التكامل االجتماعي ،والسيطرة ،وبالتالي توافر آليات متعددة (ميكروفيزياء النظام) للسيطرة على الفرد .ولكن في عالم سريع التغير ،حيث
يصعب السيطرة عليه ،يضيف تورين إلى تحليل أو تشخيص فوكو للـ«الخطاب» آليات المقاومة ،فيقول« :إذا كان الخطاب هو شكل من
ضا ،إنشاء لدفاعات وانتقادات وحركة تحرير».أشكال السيطرة ،فإن البراديغم ليست أداة في يد النظام الحاكم وحسب بل هي أي ً
على أي حال ،يؤكد تورين على «انهيار المجتمع» ،أي انهيار النظرة االجتماعية للحياة االجتماعية ،محاواًل تبني تحليل «ال اجتماعي»
للواقع ،وهذا هي الفكرة المركزية للقسم األول من الكتاب.
لتحديد أطروحته هذه يقسم تورين «البراديغما الجديدة» إلى قسمين :في القسم األول يحلل نهاية االجتماعي وجميع ظواهر التفكك والفصل
االجتماعيين التي تميز التحوالت في القرن الحادي والعشرين ،أما في القسم الثاني فيحلل المفاهيم التي تشكل لب النموذج الجديد
(البراديغما) ،وهي :الذات الفاعلة والحقوق الثقافية .ونقطة االنطالق بالنسبة لتورين هي تحليله للعولمة كشكل من أشكال الرأسمالية
المتطرفة التي عملت على فصل االقتصاد عن المؤسسات االجتماعية والسياسية القومية .وكان من نتيجة ذلك كله تشظي ما كنا نسميه
«مجتم ًع ا» وانهيار الفئات االجتماعية القديمة ،وكذلك انتصار الدعوة إلى الفردانية التي تصورها وتروجها وسائل االتصال واإلعالم.
انطال ًق ا من كل ذلك يدعو تورين القارئ إلى إعادة النظر ،وعن حق ،في المفاهيم واألطر الفكرية المستخدمة في تحليل ودراسة المجتمعات
الحالية .ذلك أن مفاهيم مثل الطبقة االجتماعية ،التحرر ،الحركة العمالية (…) يجب أن ينظر إليها في ضوء المتغيرات الجديدة.
وكتاب تورين هذا تحليل جدي ،وربما صاعق ،للمتغيرات التي شهدها العالم خالل العقدين األخيرين ،أو منذ بداية القرن الجديد .لقد تغيرت
الظروف التي كانت تعيش فيها المؤسسات االقتصادية واالجتماعية بفعل مجموعة معقدة من القواعد واألعراف الجديدة .بحيث صرنا
«نعيش في مجتمع أصبح «الاجتماع ًي ا» تنوب فيه المقوالت الثقافية عن المقوالت االجتماعية ،وحيث عالقة كل امرئ مع ذاته تضاهي في
األهمية ما كانت عليه عملية غزو العالم قديمًا».
القطيعة مع الماضي
ينطلق آالن تورين من هجمات 11أيلول/سبتمبر 2001وتداعياتها كنقطة فاصلة بين عصرين ،حيث دخلت أمريكا والعالم معها في
مرحلة تاريخية جديدة ،عنوانها البارز هو لغة الحرب ،كتلك التي عاشتها أوروبا سنة ،1914تاريخ بدء الحرب العالمية األولى ،أي
الدخول في مرحلة حرب الكل ضد الكل .ويرى تورين أن العالم سيدخل بعد 11أيلول مرحلة مشابهة لهذه األخيرة« ،إذ أن أيلول/سبتمبر
2001ال يشكل نهاية عهد وحسب ،بل نهاية تصوّ ر معيّن ،نهاية سير معيّن للمجتمع األميركي والعالم كله )..( .إذا نظرنا إلى ما حولنا
رأينا مجتمعات مدمرة ،مشرذمة ،مقلوبة رأ ًس ا على عقب .ولقد كنا نعرف أن الحياة العامة تخضع لسيطرة األهواء أكثر منها لسيطرة
المصالح ،لكن األهواء باتت ترمي أكثر فأكثر ،في عالم اليوم ،إلى إنكار األخر بداًل من الدخول معه في صراع».
أصبحت حياة المجتمعات ،حتى أكثرها وفرة وغنى وأشدها تعقي ًدا وحصانة ،مهددة منذ ذلك الحين بالخوف والعنف والحرب .وسطوة
الخوف هذه الناجمة عن الشعور باقتراب النهاية والتهديد القاتل ،جعلت من فكرة الحرب المقدسة التي ينبغي خوضها باسم الخير ضد الشر،
فوق كل الحقائق االجتماعية.
وتحت جلبة الحروب المق ّد سة بات العالم في تراجع مستمر ،وحيثما نظرنا نرى ماليين الناس المهجرة والالجئة ،يعيشون تغييرات جغرافية
وسوسيو-ثقافية تد ّم رهم أكثر مما تدخلهم في الحداثة .كما أدت هذه المتغيرات إلى تراجع المكاسب التي حققتها الحركات النقابية .ومن يقود
صراعات التخلف هذه ليس الفئات األشد فقرً ا ،بل تلك األقدر على الضغط على الدولة .إن الطبقات الوسطى المهددة هي التي تقود
صراعات التخلف أكثر من الطبقات األشد فقرً ا وضع ًفا.
ولعل من تداعيات كل ذلك أننا فقدنا المعنى في عالم اليوم .ولم نعد نؤمن بالتطور وإنما بتنا نشعر بالقلق والخوف من تفكك المدن والمناطق
الريفية بفعل العنف االجتماعي والحروب الجهادية.
وإلى التفكك والفصل االجتماعي ،يضاف تقهقر التنشئة االجتماعية ،أي أفول االجتماعي ،وتغلغل العنف بألف شكل وشكل في كل مكان،
ث أو بشكل مطيحً ا بكل المعايير والقيم «االجتماعية» ،وهذا يضيف صورة جديدة ،هي «تزايد المطالب الثقافية ،سواء بشكل طائفي محدَ ّ
دعوة إلى ذات فاعلة شخصية والمطالبة بحقوق ثقافية .لقد كنا باألمس نتحدث عن فاعلين اجتماعيين وعن حركات اجتماعية ،أما في العالم
الذي دخلنا فيه فغالبًا ما يقتضي الكالم عن ذوات فاعلة شخصية و«حركات ثقافية»».
وفي المجمل ،يتناول هذا الفصل من الكتاب ثالثة موضوعات ،هي :أواًل :التفكك االجتماعي ،وثانيًا :تعاظم القوى الموضوعة فوق
المجتمع :الحرب ،واألسواق ،والطائفية ،والعنف الشخصي والبين-شخصي ،وأخيرً ا :الدعوة إلى الفردانية بصفتها مبدأ ألخالقية معينة.
يقول تورين« :ولكن أليست هذه الموضوعات مترابطة؟ أليس أفول االجتماعي هو الذي يؤدي إلى تفاقم العنف؟».
مع ذلك ،فتورين ليس متشائ ًم ا ،فهو يرى أنه ورغم انتصار الفردانية المفككة فإننا نسعى إلى إنقاذ وجودنا الفردي المميز ،ما يعمل على
تكوين ذات فاعلة حرة عبر النضال من أجل تحصيل الحقوق ،وأن هذه الذات الفاعلة تجهد من أجل إيجاد مؤسسات وقواعد قانونية تدعم
حريتها وقدرتها اإلبداعية ،ومحط الرهان في هذا النضال هما العائلة والمدرسة.
خالصات
ينتهي تورين في مؤلفه «براديغما جديدة لفهم عالم اليوم» إلى خالصات أساسية تساعد في فهم طبيعة التحول في المجتمعات المعاصرة.
- 1نقطة االنطالق هي العولمة ،التي ليست في عرفنا عولمة اإلنتاج والتبادالت وحسب ،بل هي شكل متطرف من أشكال الرأسمالية ،بنوع
خاص ،يقوم على الفصل التام بين االقتصاد وسائر المؤسسات التي ال يسعها ضبطها والتحكم بها ،ال سيما االجتماعية منها والسياسية.
-2زوال الحدود هذا ،من كل نوع ،يجر إلى تفتيت ما كان يسمى مجتمعا.
- 4إن وقوف الفردانية منتصرة على أنقاض التصور االجتماعي لوجودنا ،يظهر هشاشة «أنا» تتبدل باستمرار بفعل ما تخضع له من
مؤثرات .وإن تفسيرً ا أكثر تأنيًا لهذه الحقيقة من شأنه أن يركز على دور وسائل اإلعالم في تكوين هذه األنا الفردية التي تبدو وحدتها
واستقاللها مهددتين.
-5على أن لهذه الفردانية بع ًد ا آخر ،أال وهو أننا ،في مجتمع نخضع فيه ال لتقنيات اإلنتاج وحسب ،بل لتقنيات االستهالك والتواصل،
ض ا ،نسعى إلى إنقاد وجودنا الفردي ،المميز .وهو ازدواج خالق يلد ،إلى جانب الكائن اإلمبريقي كائ ًنا حقوقيًا يعمل على تكوين ذاته
أي ً
فاعال حرا عبر نضاله من أجل نيل حقوقه.
- 6لقد كان لدينا صورة عن قدراتنا الخالقة ،على الدوام ،لكن ،لطالما كان يتم إسقاط هذه الصورة ما وراء تجربتنا الخاصة .لقد اتخذت
وجو ًه ا متتالية هي :هللا ،والدولة ،والتقدم ،والمجتمع الالطبقي .أما اليوم فإننا مباشرة وبدون خطاب وسيط ،نولي البحث عن ذواتنا أهمية
مركزية .وإرادة الفرد هذه هي الذات الفاعلة.
- 7إن وجود الذات الفاعلة كمبدأ تحليلي مشروط بشمول طبيعتها ،فهي ،كالحداثة ،تقوم على مبدأين أساسيين :اعتناق الفكر العقالني،
واحترام الحقوق الفردية الشاملة ،تلك التي تتخطى جميع الفئات االجتماعية الخاصة .وقد تجسدت الذات الفاعلة أول ما تجسدت ،تاريخيًا،
في فكرة المواطنية التي فرضت احترام الحقوق السياسية الشاملة بغض النظر عن كل االنتماءات الطائفية .وأحد التعابير المهمة عن هذا
الفصل بين المواطنية والطوائف هي العلمانية التي تفصل الدولة عن الكنائس.
-8لقد كان النضال من أجل الحقوق االجتماعية قائ ًم ا في صميم الحياة االجتماعية والسياسية خالل الفترة التي كانت فيها البراديغما
االجتماعية مسيطرة ،أما اليوم فقيام البراديغما الثقافية ،يضع المطالبة بالحقوق الثقافية في الواجهة ،مثل هذه الحقوق ،وإن كان ال يزال
يجري التعبير عنها بالدفاع عن نعوت خاصة ،تخلع على الدفاع المذكور معنى شموليًا.
- 9ينشأ على أنقاض المجتمع الذي زعزعته وهدمته العولمة صراع مركزي بين قوى الاجتماعية عززتها العولمة ،كحركات السوق
والحروب والكوارث المحتملة ،من جهة ،وبين الذات الفاعلة المحرومة من دعم القيم االجتماعية التي تم القضاء عليها.
-10المعركة ،رغم ما سبق ،ليست خاسرة سل ًف ا ،ألن الذات الفاعلة تجهد من أجل إيجاد مؤسسات وقواعد قانونية تدعم حريتها وقدرتها
اإلبداعية ،ومحط الرهان في هذه المعركة هما المدرسة والعائلة.
- 11بالعودة إلى التاريخ ،كان تاريخ التحديث األوروبي يكمن في استقطاب المجتمع بتكديسه الموارد والثروات ،على أنواعها ،في أيدي
نخبة معينة وتحديده سلبيًا الفئات المقابلة والمتشكلة دونيًا .لقد كان هذا النموذج من الفاعلية ً
بحثا غزا قسمًا كبيرً ا من العالم .لكنه كان أيضًا،
بحكم طبيعته هذه بالذات ،حافاًل بالصراعات والتوترات.
- 12لقد كونت الفئات االجتماعية الموصومة بالدونية ،إبان هذين القرنين األخيرين ،وال سيما فئة العمال ،تليها فئة المستعمرين ،والنساء
في الفترة نفسها ،حركات اجتماعية ترمي إلى التحرر .وقد تم للفئات المذكورة تحقيق الكثير من أهدافها ،ما أدى ،أواًل ،إلى تخفيف
ض ا ،إلى إضعاف دينامية هذا األخير .والخطر يتهدد هذا القسم من العالم هو أنه لم يعد مؤهاًل التوترات المالزمة للنموذج الغربي ،ولكن ،أي ً
ألن يضع نصب عينيه المزيد من األهداف ،وال قادرً ا على مواجهة صراعات جديدة.
- 13ال مطمع ألي دينامية جديدة في أن تبصر النور إال على قاعدة عمل قادر على إعادة جمع ما باعد بينه النموذج الغربي ،بتجاوزه كل
االستقطابات .مثل هذا العمل بدأ يظهر من خالل حركات حماية البيئة ،مثاًل ،تلك التي تناضل ضد العولمة .لكن الفاعالت الرئيسات لهذا
العمل ،اآلن وغ ًد ا ،هن النساء ،ألنهن يشكلن ،بفعل الهيمنة الذكورية ،فئة دنيا ،ويتولين قيادة عمل أشمل من معركتهن التحررية ،يتمثل في
التأليف بين كل التجارب الفردية والجماعية.
اقرأ/ي أيضا