Professional Documents
Culture Documents
فئة :مقاالت
يعيش العالم اإلسالمي منذ قرون طويلة في حالة من التخلف والتراجع على كافة األصعدة ،رافق ذلك حالة من الجمود الفك ري،
جعلته غير قادر على تجاوز هذا الواقع ،وقد بدأ منذ القرن السادس عش ر في الش عور بالض عف أم ام التق دم العس كري للغ رب،
ومن ثم كانت هناك بعض محاوالت لإلصالح في العديد من الدول اإلسالمية ،سواء الواقعة تحت الخالف ة العثماني ة أم الخارج ة
عن سلطتها ك المغرب الع ربي ،لكنه ا لم تس فر عن نتيج ة جوهري ة ،ويرك ز ه ذا البحث على واق ع المجتم ع الع ربي ممثاًل في
المشرق العربي ،والذي بدأ في االنتباه إلى وجود فجوة حضارية بينه ،وبين الغرب كما أدرك أهمية العامل الثقافي في إنتاج هذه
الفجوة ،وكان ذلك منذ دخول الحملة الفرنسية إلى مصر نهاي ة الق رن الث امن عش ر ،ثم م ا تبعه ا من بعث ات علمي ة س اهمت في
التعرف أكثر على الحضارة الغربية ،وق د أث ار ه ذا االتص ال ع دة اس تجابات متباين ة داخ ل المجتم ع الع ربي تحم ل ك ل منه ا
محاوالت لتش خيص أس باب أزم ة الواق ع الع ربي وتص ورات لكيفي ة إص الحه ،وق د تمثلت ه ذه االس تجابات في مجموع ة من
التيارات الفكرية ،لكن الواقع العربي ظل منذ ذلك الحين ،وحتى اآلن مأزو ًما ،ولم يستطع المجتمع الخروج من كبوت ه رغم تل ك
المحاوالت؛ األمر الذي جعلنا نتساءل عن أسباب ذلك ،وهل من الممكن أن تكون طبيعة التكوين النفسي والفكري للفرد الع ربي،
وهو ما أسميناه الشخصية العربية ،تعد سببًا في تعثر النهضة واإلصالح في المجتمع العربي؟
من هنا بدأنا محاولة اإلجابة عن هذا السؤال من خالل عدة مراحل ،وهي أواًل متى بدأ العقل العربي في اليقظة لواقع ه الم أزوم،
ثم هل توجد شخصية عربية لها سمات مشتركة ،ثم ما هي سمات هذه الشخصية ،وأخيرًا وضحنا العالق ة بين طبيع ة الشخص ية
مقدمة:
ال يحتاج الناظر إلى واقع المجتم ع الع ربي لكث ير من التفك ير والتمحيص واألدوات ،لكي ي درك من خالله ا طبيع ة ه ذا الواق ع
المأزوم في كل الج وانب وعلى جمي ع المس تويات؛ فعلى مس توى االقتص اد الزال الكث ير من أبنائ ه يعيش ون تحت خ ط الفق ر،
والزالت موارده مهدرة وطاقاته معطلة ،والزالت العديد من دوله تعجز عن اإلنتاج وتعيش على ما ينتجه الغ رب من منتج ات،
وعلى مستوى السياسة الزالت الديمقراطية لم تترسخ بعد في ثقافت ه ونظم ه ومؤسس اته بش كل كام ل ،وعلى مس توى االجتم اع
الزالت مجتمعاتنا تموج بالصراعات والخالفات التي تشق صفوفه ،وتحدث الكثير من التصدعات في جسده ،م ا بين ص راعات
طائفية ومذهبية وسياسية ،وعلى مستوى الفكر الزالت مجتمعاتنا غير قادرة على إنتاج األفك ار ،والزالت العق ول تحم ل الكث ير
من القناعات وأنماط التفكير التي تقف عائقًا أمام تقدمها .ورغم سهولة االتفاق حول طبيعة الواقع المأزوم ،إال أن هن اك ص عوبة
في االتفاق حول أسباب هذا الواق ع ،إذ تختل ف اآلراء ح ول تل ك األس باب نظ رًا لطبيع ة األزم ة المركب ة ،ولوج ود الكث ير من
العوامل واألسباب المتباينة والمتداخلة ،لكننا نود هن ا أن نبحث عن العالق ة بين متغ يرين؛ بين طبيع ة الشخص ية العربي ة ،وبين
ويتفرع عن هذا السؤال الرئيس ،عدد من األسئلة الفرعية تمثل محاور البحث ،وهي:
-متى تنبّه العقل العربي إلى واقعه المأزوم ،وبدأ في البحث عن أسباب النهضة؟
-ما العالقة بين تلك السمات ،وبين الواقع المأزوم والنهضة المتعثرة؟
مرّت الدولة اإلسالمية منذ نشأتها بمراحل عديدة ،اتس م بعض ها ب القوة وبعض ها بالض عف ،وش هد بعض ها حال ة انتش ار وش هد
البعض اآلخر حالة انحسار ،وكما شهدت وقتًا من الوحدة لم يدم طوياًل شهدت أوقاتًا وأزمنة من الفرقة ك انت هي الس مة الغالب ة
منذ نهايات القرن األول الهجري .ورغم وج ود حلق ات من االتص ال بين الع الم اإلس المي ،وبين الغ رب في ف ترات طويل ة من
التاريخ ،سواء عن طريق الحروب والمواجهات العسكرية ،أو عن طريق التعرف على ثقافة الغرب وفلسفته في بعض الفترات،
إال أن اللحظة الضاغطة التي مثلت تح ّديًا أمام العقل اإلسالمي ،وجعلته ينتبه إلى الفجوة الكبيرة بينه وبين الغرب ،وجعلته يدرك
أهمية البعد الثقافي في إحداث هذه الفجوة ،لم تأت إال منذ القرن الثامن عشر وم ا بع دها ،وال ذي ك ان ق د س بقته ع دة ق رون من
الشعور بالطمأنينة وعدم الحاجة إلى اإلصالح ،سواء في بعض مراحل الضعف أو التقدم العسكري للدولة اإلس المية ،وال ذي لم
يدم بسبب حالة الجمود الفكري الذي كان يعيشها المجتمع ،مما جعله عرضة للحركة االستعمارية األوروبية في العصر الحديث.
وكانت محاوالت أوروبا االستعمارية بدأت منذ القرن السادس عشر ،وحتى القرن العش رين على العدي د من البالد الواقع ة تحت
سلطة الخالفة العثمانية والبالد اإلسالمية األخرى التي تخرج عن سيطرتها مثل بالد المغ رب الع ربي؛ لكنن ا هن ا س وف نرك ز
على بدايات االتصال بين الغرب ودول المشرق العربي ،والذي بدأ مع الحملة الفرنسية على مصر في الع ام ،1798إذ ب دأ من ذ
ذلك الحين إدراك الفجوة الحضارية الكبيرة بين الشرق والغرب ،مما أثار السؤال ال ذي أرق المجتم ع الع ربي من وقته ا وح تى
اآلن وهو ،لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟ منذ ذلك الحين بدأ المجتمع العربي في االقتراب من الحضارة الغربية والس عي في التع رف
على مكوناتها ومنطلقاتها الفكرية ،وقد ساهمت في هذا االقتراب البعثات العلمية التي بدأت تزداد لهذا الغرض من بدايات الق رن
التاسع عشر.
بدأ المجتمع العربي في االنتباه إلى وجود فجوة حضارية بينه وبين الغرب ،كما أدرك أهمية العامل الثقافي في إنتاج هذه الفجوة
لكن وألن هذا االقتراب تم في سياق حملة استعمارية ،فقد تسلّل شعور بالخطر والخوف على الهوية من جانب شريحة كبيرة من
هذا المجتمع ،األمر الذي تسبب في أن يكون ه ذا التع رف على الحض ارة الغربي ة مش وبًا بالح ذر ،ومن ثم ال رفض لك ل المنتج
الحضاري الغربي من جانب تيار كبير من المجتمع ،وبجانب هذه االستجابة من هذا التيار كانت هن اك اس تجابات أخ رى تمثلت
في اتجاه توفيقي إصالحي يرى ضرورة االستفادة من الحضارة الغربية ،لكن مع محاولة تكييفها مع واق ع المجتم ع ،وض رورة
وعلى الرغم من تعدد االتجاهات ومحاوالت اإلص الح المتباين ة والمختلف ة ،إال أن الحقيق ة المؤك دة ه و أن المجتم ع الع ربي لم
يستطع حتى اآلن الخروج من كبوته منذ أن تنبّه إليها قبل أكثر من قرنين من الزمان ،األمر ال ذي يجع ل من الس ؤال المط روح
منذ بدايات القرن التاسع عشر ،وهو :لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا ،قائ ًما يبحث عن إجابة حتى اللحظة!
في جوانب عديدة بيولوجية واجتماعية وثقافية ،رغم انحدار البشر جميعًا من أص ل واح د ،ومن أج ل اإلجاب ة عن ه ذا الس ؤال
تأسس علم األنثروبولوجيا الذي يسعى إلى دراسة اإلنسان دراس ة ش مولية ،ليتع رف على الس بب في تل ك االختالف ات ،وق د ر ّد
السبب إلى اختالف البيئة الذي تنتج عنه استجابات متنوعة من جانب األف راد ،تختل ف حس ب طبيع ة البيئ ة ال تي يعيش ون به ا،
ويرجع ذلك إلى قدرة اإلنسان على التكيف بنا ًء على ما يمتلكه من لغة ومن قدرات ذهنية وبدنية تمنحه هذه اإلمكاني ة ،ومن هن ا
نتج عن اختالف طبيعة وظروف كل بيئة أن اختلف البشر من مجتمع آلخر في جوانب عدي دة بداي ة من التك وين الجس ماني إلى
ثقافة المجتمع السائدة ،وطبيعة التنظيم االجتماعي ،وطبيعة العالقات االجتماعية القائمة داخل كل مجتمع.
وعلى الرغم من االختالف ح ول فك رة الشخص ية القومي ة ورفض البعض لفك رة وج ود س مات مش تركة تجم ع بين أف راد ك ل
مجتمع ،إال أنه على الجانب اآلخر توجد الكثير من اآلراء التي ترى وجود ذلك الخط المشترك ال ذي يم يز األف راد المنتمين إلى
ك ل مجتم ع عن اآلخ ر بس بب بعض العوام ل منه ا اللغ ة وال دين والتح ديات المش تركة والواق ع المش ترك ال ذي يعيش ون في ه
ومما يؤكد عليه علم االجتماع ،أن هناك سمات وثقافة مشتركة تميّز كل مجتمع عن اآلخر ،وحتى داخ ل المجتم ع الواح د توج د
ثقافات فرعية مشتركة تميز كل بيئة عن األخرى ،حيث تختلف بعض القيم وأشكال التنظيم االجتماعي في البيئة الحضرية عنه ا
في البيئة الريفية عنها في البيئة البدوية ،وينتج ذلك عن اختالف طبيعة وظروف وتح ّديات كل بيئ ة مم ا ينتج قيمًا وثقاف ة معين ة
تتطلبها تلك البيئة ،وال يعني ذلك أن هناك تماثال تا ّمًا في السمات المميزة لكل مجتمع ،ولكن هناك خ ط رئيس وخط وط فرعي ة،
أو كما أطلق عليها الدكتور السيد ياسين أستاذ علم االجتماع "النسق الرئيسي واألنساق الفرعية" في إطار حديث ه عن الشخص ية
العربية.
على مستوى الفكر ،الزالت مجتمعاتنا غير قادرة على إنتاج األفكار ،والزالت العقول تحمل الكثير من القناعات وأنماط التفك ير
وقد أصبح االتجاه نحو دراسة الشخصية القومية متزايدًا خالل النصف األول من القرن العشرين ،وتحديدًا بع د الح رب العالمي ة
الثانية من جانب بعض الدول ،والتي كانت تنطلق من "التسليم بوجود حد أدنى من التشابه في االتجاه ات وأنم اط التفك ير والقيم
واالستجابات لدى أبناء المجتمع الواحد أو القومية الواحدة ،بحكم وجودهم معًا في ظل ظروف متشابهة"[ ،]1كم ا تزاي دت خالل
النصف الثاني من القرن العشرين وأثناء الحرب الباردة بهدف دراس ة الط ابع الق ومي لك ل ش عب والس مات المم يزة ل ه به دف
االستعداد في حالة قيام الحرب ،كما أنه قد أُج ريت العدي د من الدراس ات الميداني ة من قب ل بعض المراك ز البحثي ة في المجتم ع
وأيض ا
ً العربي لدراسة الشخصية القومية ،ومنها دراسة بعنوان (المصري المعاصر) للدكتور أحم د زاي د أس تاذ علم االجتم اع،
دراسة للدكتور جابر عبد الحميد أستاذ علم االجتماع الذي قام بعمل دراسة مقارنة بين الشخصية المصرية والشخص ية العراقي ة
العينتين]2[. من خالل عينة من المجتمعين ،ليصل في النهاية إلى وجود ثالث عشرة صفة مشتركة بين أفراد
من هنا يمكننا القول بوجود خط رئيس يميز الشخصية العربية يتمثل في بعض السمات الفكرية والنفسية نظرًا لوجود العدي د من
العوامل المشتركة من أهمها اللغة والدين والموروث الثقافي والحضاري والتجرب ة التاريخي ة المش تركة والتح ديات المش تركة،
باإلضافة إلى العديد من الخطوط األخرى الفرعية التي تميز كل مجتمع قطري عن اآلخر ،وتميز كل طبق ة وبيئ ة عن األخ رى
داخل المجتمع القطري الواحد ،ونود أن نؤكد هنا على أهمية عام ل ال دين كمح دد رئيس للشخص ية العربي ة؛ فال دين اإلس المي
يحت ّل مكانة كبيرة في المجتمع العربي ،ويتمتع بدور مركزي في تحديد المنطلقات التي ينطلق منها العقل ،وفي تحديد تص وراته
وثقافته وقيمه وسلوكياته ،وقد أصبح الدين بما له من دور مركزي في المجتمع العربي من أسباب األزم ة الرئيس ة ال تي يحياه ا
المجتمع؛ ليس لكونه غير صالح للحياة اليوم ،أو ألنه يحمل بداخله عوامل األزمة ،ولكن ألن قراءته من قبل المؤسسات ورج ال
الدين المعبرين عنه لم يكن على الوجه الذي يجعل منه رافعة للتقدم والنهوض ،فلم تحدث جهود تجديدي ة تس عى إلى الول وج إلى
روح النصوص ال إلى ظاهرها ،حيث تجعل الدين متوافقًا مع العصر دافعًا ومعينًا نحو التقدم ال عائقًا أمامه ،وهكذا وقفت األم ة
أساس ا
ً موق ف الجم ود بين نقط تين؛ فهي لم تس تطع تج اوز ال دين والبحث عن مرجعي ة أخ رى من األفك ار تص لح ألن تك ون
وعلى ذلك ،نستطيع أن نرسم بعض مالمح الشخصية العربية ،ونصف بعض سماتها التي له ا عالق ة بتع ثر نهض تها ،من خالل
المحور التالي.
يغلب على العق ل الع ربي النزع ة العاطفي ة ،حيث تص بح هي المحرك ة لس لوكه والمح ددة لمواقف ه؛ فالعالق ات غالبًا في إط ار
المجتمع العربي تحكمها المعايير الشخص ية ،وتتحكم مش اعر الحب والك ره واالنتم اء ال ديني والقبلي والوط ني في الممارس ات
والمواقف أكثر مما يتحكم فيها المنطق والعقل ،فالوهم والخرافة في مجتمعاتنا قادرة على أن تتحكم فيها وتشكل أفكاره ا وتح دد
سلوكها بقدر ما تتحكم فيها الحقائق ،بل ربما أكثر ،والشخصية العربية بطبيعتها تميل إلى االرتجالي ة ،وتته رب من النظ ام ق در
اإلمكان ،وال تعطي قيمة لألسباب بقدر ما تعطيها ألمور خارج ة عن اإلرادة ك أن تمي ل إلى تفس ير أس باب المش كالت ،إم ا إلى
مؤامرات خارجية أو قوى غير طبيعية وهكذا ،ويؤدي هذا النمط من التفك ير إلى غي اب الحقيق ة عن حياتن ا بش كل كب ير بس بب
غياب المنطق ،أو تغييبه في تفكيرنا وفي حكمنا على األشياء وتقديرنا لألمور ،كما يؤدي إلى السطحية في تش خيص المش كالت
وعدم القدرة بالتالي على الوصول إلى حلول جذرية وناجحة لها.
تسلّل شعور بالخطر والخ وف على الهوي ة من ج انب ش ريحة كب يرة من ه ذا المجتم ع ،األم ر ال ذي تس بب في أن يك ون ه ذا
التعرف على الحضارة الغربية مشوبًا بالحذر ،ومن ثم الرفض لكل المنتج الحضاري الغربي من جانب تيار كبير من المجتمع
من سمات الشخصية العربية ك ذلك ه و ذل ك الح نين دومًا إلى الماض ي ،والرغب ة في اس تعادة أمج اده والنظ ر إلي ه ،باعتب اره
النموذج المثالي الذي يتمنى أن يعود ،ورغم بروز ه ذه الس مة في التي ارات اإلس المية بش كل كب ير من حيث تمس كها بالتجرب ة
التاريخية للدولة اإلسالمية ،ووقوفها على اجتهادات الفقه القديم واعتبارها ب أن ذل ك ه و أقص ى م ا يمكن الوص ول إلي ه ،إال أن
الناظر في أحوال المجتمع العربي يرى أن الحنين إلى الماضي ورؤيته بصورة مثالية هو س مت الغالبي ة العظمى من أبن اء ه ذا
المجتمع ،وقد تناول العديد من المفكرين هذه السمة ،فيق ول علي أحم د س عيد(أدونيس) ب أن "شخص ية الع ربي كثقافت ه تتمح ور
أيض ا ال دكتور س يد ع ويس ق ائاًل " :إنن ا كش عب ،على وج ه العم وم ،نعيش في
ح ول الماض ي"[ ،]3كم ا يص ف ه ذه الس مة ً
الماضي ...كما نعيش في الحاضر أكثر مما نعيش في المستقبل"[ ،]4وربما ي أتي ه ذا الش عور ب الحنين إلى الماض ي وض رورة
التمترس خلف أسواره إلى الرغبة في الهروب من الواقع والتخفيف من قسوة اإلحساس بالعجز وضعف اإلرادة تجاه المش كالت
القائمة ،وعدم القدرة على تحقيق تقدم يعمل على التقليل من تلك الهوة الحضارية التي يقع فيها المجتمع.
يؤكد علم االجتماع ،أن هناك سمات وثقافة مشتركة تميّز كل مجتم ع عن اآلخ ر ،وح تى داخ ل المجتم ع الواح د توج د ثقاف ات
ربما يعود السبب في الكثير من المشكالت والظواهر الموجودة في المجتمع إلى سبب خفي ،وهو امتهان اإلنسان وع دم الش عور
بقيمته في المطلق؛ فكثيرًا ما نجد في مواقف كثيرة وبصور مختلفة أن يتم معامل ة الف رد في المجتم ع بش كل يفتق د إلى االح ترام
والتقدير ،وقد يصل في بعض المواقف إلى حد اإلي ذاء الب دني أو االعت داء على الحي اة نفس ها ،فق د نج د ه ذا الس مت في تعام ل
األفراد مع بعضهم البعض أو نجده في تعامل الدولة ومؤسساتها مع األفراد ،وقد يفسر البعض كل موقف من هذه المواق ف على
حدة؛ فتارة يفسرها بغياب الديمقراطية أو بسبب الفساد في قطاع ما ،أو داخل مؤسسة بعينها ،لكن أظن أن األمر أعمق من ه ذا،
فربما تجد نفس الفرد الذي تم االعتداء على كرامته أو على بدنه في موقف ما يقوم هو اآلخر بنفس التصرف في موقف مختلف،
إذا ما أُتيحت له الفرصة ،وهذا ما يجعلنا نفسر األمر بأن الفرد في المجتمع العربي يفتقد إلى احترام اإلنس ان في المطل ق كك ائن
يمكننا القول بوجود خط رئيس يميز الشخصية العربية يتمثل في بعض السمات الفكرية والنفسية نظرًا لوجود العديد من العوامل
المشتركة من أهمها اللغة والدين والموروث الثقافي والحضاري والتجربة التاريخية المشتركة والتحديات المشتركة
يسود داخل المجتمع العربي نظ رة خاص ة نح و مفه وم الق وة ،فتتمث ل غالبًا في الق وة المادي ة ال تي تعتم د على ق وة الس الح أو
العضالت أو المال ،وربما يفسر لنا هذا جانبًا من سيطرة مفهوم الجه اد ل دى التي ار اإلس المي برمت ه ح تى اآلن ،وال ذي الزال
يرى أن امتالك القوة المادية ،سواء على مستوى الجماعة أو الدولة هي التي ستحقق له السيادة والتقدم على اآلخر ،وعدم نظرته
للجهاد على أنه وسيلة ،وليس هدفًا في حد ذاته ،وأنه في العصر الحالي توجد العديد من الوسائل لنشر الدين وتعري ف اآلخ ر ب ه
غير وسيلة الغزو ودخول البلدان األخرى لنش ر ال دين عن طريق ه ،والزال الش عور ب أن امتالك الق وة المادي ة ه و رم ٌز للع زة
والكرامة ،بينما يقل في المقابل تقدير العلم والمعرفة وعدم اعتبارها أنها في الوقت الحالي هي السبيل للتق دم والوس يلة للس يطرة
وتحقيق النهضة بشكل أساسي ،وقد تحدث عن هذا األمر ع الم االجتم اع األم ريكي ت الكوت بارس ونز Talcott Parsonsفي
إطار نظريته عن الفعل ،حيث حدد أربعة عناصر يتكون منها نسق أي فعل ،وهي :الجسد والشخصية والمجتمع والثقافة ،ويقول
بأن نسق الفعل الذي يملك قدرًا أكبر من الثقافة يتحكم ويسيطر على النسق الذي يمتلك ق درًا أك بر من الطاق ة والمع بر عنه ا في
النظرية بالجسد[ ،]5وهكذا فإن الدول التي تملك قدرًا أكبر من الثقافة والمعرف ة ،تس تطيع أن تس يطر على تل ك ال تي تمتل ك ق درًا
من سمات الشخصية العربية ك ذلك ه و ذل ك الح نين دومًا إلى الماض ي ،والرغب ة في اس تعادة أمج اده والنظ ر إلي ه ،باعتب اره
نقصد هنا بالطبيعة المحافظة والنزعة الس لفية نمط ا معين ا من التفك ير ،وليس مج رد خي ارات فقهي ة ،وه ذه الطبيع ة المحافظ ة
موجودة في كل المجتمعات ،وفي كل األزمنة وتمثلها اتجاهات معينة ،وهذا النمط له عدة مظاهر؛ منها التمس ك بالس ائد وتعظيم
الموروث ،ورفض التغيير بدرجة كبيرة ،كما يرفض أصحاب هذا النمط الفكر النقدي والتغيير الثوري الج ذري ،ويس عى دائمًا
إلى الحفاظ على األوضاع القائمة والوقوف ضد محاوالت تغييرها أو تطويرها ،وه ذا النم ط من التفك ير يع د ه و النم ط الس ائد
بشكل كبير في المجتمع العربي ،وال يقتصر فقط على التيارات اإلسالمية ،ولكنه نمط تشترك في ه العدي د من التي ارات وش رائح
واسعة من المجتمع ،حتى وإن بدا بأشكال مختلفة ،وقد يعود هذا األمر إلى سيطرة التيار المحافظ من ب دايات الدول ة اإلس المية،
عندما انتصر المذهب الحنبلي الذي يأخذ بظاهر النصوص ،ويرفض التأوي ل وإعم ال العق ل في تفس يرها ،على التي ار العقالني
الذي يتمثل في المعتزلة الذين يعلون من قيمة العقل ،نتيجة أسباب عديدة من ضمنها تدخل اإلرادة السياسية التي كانت في جانب
االتجاه المحافظ في وقت من األوقات ،والتي ساهمت في تقويض المذهب المعتزلي ،وانحسار انتشاره ،وس يادة النزع ة الس لفية
والفكر المحافظ في األمة ،ولذلك فالمجتمع العربي في عمومه يتسم بهذه النزعة الس لفية ،ويس يطر علي ه النم ط المحاف ظ ،ال ذي
يرفض التغيير ويعتبره ه د ًما للث وابت ،وإن ك ان ال يل تزم به ا على الج انب الف ردي بالض رورة؛ فالعق ل الع ربي عمومًا يكتفي
بظواهر األمور في كل شيء ،ولم يعتد على الولوج على العمق ،وربما يخاف من ذلك حتى ال يصدم في قناعاته وال أفكاره التي
تشكل عقله ،فهو عقل ال يجرؤ على طرح األسئلة ،ويزهد في غير المعتاد بالنسبة إلي ه ،ويس عى دائمًا إلى االس تقرار في مكان ه
والزال الشعور بأن امتالك القوة المادية هو رم ٌز للعزة والكرامة ،بينما يقل في المقابل تقدير العلم والمعرفة
تأتي هذه السمة كنتيجة للسمات السابقة ،فالعقل العربي يفتقر إلى الشعور بالنجاح والق وة ،ويش عر ب العجز والخ وف باس تمرار،
ومن ثم يبحث عن بعض العالمات التي يهتدي بها ،وتمنحه شعورًا بالوجود والقيمة ،كما أنه ع اجز عن إنت اج المعرف ة وتحقي ق
إنجازات حقيقية؛ ولذلك فهو دائ ًما ما يحمل قدرًا زائدًا من التقدير ،والذي يصل إلى حد التقديس ،لبعض األشخاص الذين يمثلون
في تاريخه عالمة بارزة ،ولما يحملونه من أفكار كذلك .غير أن التقدير هو حالة موضوعية تتسم باالتزان ،ال تقوم على االتّب اع
األعمى والثقة المطلقة ،وال تمنع من المراجعة والمخالفة ،وال تتصف بالمبالغة الشديدة في اإليجابيات ،وال تتغافل عن السلبيات،
بينما التقديس يضع هالة حول الشخص أو الفكرة يحول دون رؤية عيوبها وأوجه قصورها ،كما يحول دون نقدها ومخالفتها ،بل
ويجعلها من المحرمات!
فالنهض ة تحت اج إلى امتالك الج رأة على التفك ير أواًل ،تحت اج إلى ذل ك العق ل ال واعي الق ادر على إدراك واقع ه ومعطيات ه
للفرد ،وليس فقط بالمقومات المادية؛ فالنهضة تحتاج إلى امتالك الجرأة على التفكير أواًل ،تحتاج إلى ذلك العق ل ال واعي الق ادر
على إدراك واقعه ومعطياته وتحدياته ،القادر على تش خيص مش كالته بش كل دقي ق ،تحت اج إلى عق ل ق ادر على ممارس ة النق د
الذاتي ألقصى درجة ،بهدف الوصول إلى الحقائق ال مج رد االكتف اء باألوه ام ال تي تجعل ه يتقب ل واقع ه ويتغاف ل عن مش كالته
وعيوبه وأسبابها ،تحتاج النهضة إلى القدرة على التجدي د ،والتجدي د ال ي أتي إال من خالل إدراك الماض ي ودراس ته بعين ناق دة
ونفس بعيدة عن التحيز ونظرة موضوعية تبتعد عن إضفاء هاالت القداسة على األفكار واألش خاص ،النهض ة تحت اج إلى ق درة
على اكتساب العلم والمعرفة ،وعلى إنتاجهما واستخدامهما ،وقبل ذلك على تق دير قيم ة المعرف ة والنظ ر إليه ا على أنه ا أس اس
التقدم في العصر الحديث ،كما تحتاج النهضة بشكل ض روري إلى حرك ة تجدي د وإص الح ديني ة حقيقي ة وج ادة وواعي ة ،وإلى
توفير مناخ من التفاهم والحوار والقدرة على التعايش ونزع فتيل االستقطاب والتصدع الداخلي في المجتمع.
خاتمة:
من خالل المحاور السابقة ،وال تي حاولن ا من خالله ا البحث عن العالق ة بين طبيع ة الشخص ية العربي ة والنهض ة المتع ثرة في
المجتمع العربي ،والتي بدأت المحاوالت التي تسعى إلى تحقيقها منذ بدايات القرن التاس ع عش ر في المش رق الع ربي ،وتحدي دًا
منذ قدوم الحملة الفرنس ية إلى مص ر ،ومالحظ ة الفج وة الكب يرة بين الواق ع الع ربي والغ ربي ،واالنتب اه ألهمي ة البع د الثق افي
وعالقته بهذا الواقع المأزوم ،وتبين لنا أنه هناك سمات مشتركة للشخصية العربي ة تمث ل خطًا رئيس ا ال ينفي وج ود العدي د من
الخطوط الفرعية األخرى التي تميز كل مجتمع قطري عن اآلخر ،وتميز بعض الجماعات داخل المجتمع القطري ذات ه ،ورأين ا
أن الشخصية القومية ،رغم اعتراض البعض عليها ،إال أنها حقيقة واقعية تم إثباتها من خالل العدي د من الدراس ات الميداني ة ،ثم
رأينا أن الشخصية العربية تتسم ببعض الس مات ال تي تق ف عائقًا أم ام نهض ة المجتم ع ،وتجعله ا ع اجزة عن إح داث النهض ة
والتقدم ،وهي أن الشخصية العربية تتحكم فيها العاطفة ويغيب عنها التفكير العقالني ،كم ا أنه ا يس يطر عليه ا الح نين دومًا إلى
الماضي ،حيث ترى فيه النموذج األمثل الذي تسعى إلى استعادته ،كما أنها تعاني من الشعور بقيمة الفرد بشكل عام ،ك ذلك فهي
ال تقدر قيمة العلم والمعرفة والزالت ترى في القوة المادية العامل ال رئيس في التف وق والتق دم ،كم ا أنه ا تس يطر عليه ا النزع ة
المحافظة التي تمنعها من التجديد والتغيير ،وأنها تضع هاالت من التقديس ح ول بعض األش خاص واألفك ار ،مم ا يجعله ا غ ير
قادرة على تجاوز آراء وأفكار تلك األشخاص ،مما يجعلها أسيرة لمجموعة من القناعات والتصورات؛ كل ذل ك يجع ل من أم ر
النهضة العربية أمرًا صعبًا ،طالما ظلت الشخص ية العربي ة على تل ك الحال ة دون تغي ير ،األم ر ال ذي يجعلن ا نق ول ب أن أزم ة
المجتمع العربي هي أزمة اجتماعية بشكل أساسي ،وليست أزم ة سياس ية تتطلب حل واًل سياس ية فق ط ،فهي أزم ة تتعل ق بفك ره
وثقافته وطريقة تفكيره وطبيعة عالقاته االجتماعية ،فأزمة المجتم ع الع ربي ال تحت اج لحل ول سياس ية بق در م ا هي بحاج ة إلى
تغييرات وإصالحات اجتماعية وفكرية تتمثل في تغيير ثقافت ه وقناعات ه ومنطلقات ه الفكري ة ،وفي تغي ير نظرت ه إلى نفس ه وإلى
العالم ،إلى الماضي والمستقبل ،ولذلك تظل النهضة العربية متعثرة ،ويظل الواقع العربي في تأزم طالما ظلت الشخصية العربية
تحمل من السمات الفكرية والنفسية ،ما يجعلها عاجزة عن تجاوز واقعها وتحقيق نهضتها المنشودة.
[ ]1فتحي أبو العينين ،الثقافة والشخصية ،القاهرة ،الهيئة المصرية العامة للكتاب ،2015 ،ص139
[ ]2مذكور في :حليم بركات ،المجتمع العربي المعاصر :بحث استطالعي اجتماعي ،ب يروت ،مرك ز دراس ات الوح دة العربي ة،
،1984ص45
[ ]3علي أحمد سعيد(أدونيس) ،الثابت والمتحول :بحث في االتباع واالبداع عند العرب ،ج ،3ب يروت ،دار الع ودة ،1974 ،ص
9
[ ]4سيد عويس ،حديث عن الثقافة :بعض الحقائق الثقافية المصرية المعاصرة ،القاهرة ،األنجلو المصرية ،ص277
[ ]5مذكور في :أحمد زايد ،علم االجتماع :النظريات الكالسيكية والنقدية ،القاهرة ،األنجلو المصرية ،1983 ،ص120
البحث في الوسم