You are on page 1of 8

‫العص ُر الوسيط والحداثة‬

‫ال َمنب ُع المنسي‬


‫‪ -‬محمد ٕاشو‬
‫أن ديكارت ‪ Descartes‬هو مؤسس العصر الحديث وأنه النقطة الفاصلة بين العصر الوسيط وبين األزمنة‬ ‫ُ‬
‫لَق ْد اعتقدنا منذ أم ٍد بعي ٍد َّ‬
‫قدر من الشك‪ ،‬فقد سيطرت على ذهن القارئ بفعل تراكم‬ ‫ٍ‬ ‫أدنى‬ ‫تجاهها‬ ‫ٌ‬
‫د‬ ‫أح‬ ‫يبدي‬ ‫يعد‬ ‫لم‬ ‫مسلمات‬ ‫بمثابة‬ ‫األفكار‬ ‫الحديثة‪ ،‬وكانت هذه‬
‫المعارف والصور المغالطة التي روج لها العديد‪ T‬من المؤرخين المهتمين‪ T‬بالفكر الفلسفي‪.‬‬
‫إن الرُّ جوع إلى هذه اللحظة التَّاريخية من الفكر البشريِّ لم يعد يُشكل "تحديّا ً للحس السليم"‪ .1‬بل من غير السليم أن ينطلق مؤرخ‬ ‫َّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫الفلسفة من الفكر اليوناني إلى ديكارت مباشرة ويتخطى العصر الوسيط‪ ،‬كأن تاريخا جديدا يبدأ مع ديكارت؛ "الفراغ ال يوجد في‬
‫التَّاريخ"‪ ،2‬فالتاريخ تاريخ واحد ليس فيه فراغات‪ ،‬فال ينبغي أن نجعل من العصر الوسيط مجرد جسر نعبره وال نعمره‪ ،‬قادمين‪ T‬من‬
‫اليونان ومتجهين إلى هولندا تاركين باريس وروما واإلسكندرية وبغداد ومراكش وقرطبة وطليطلة‪ .3‬لو لم تكن العصور الوسطى لما‬
‫أمكن لنا الحديث عن ديكارت وعن العصر الحديث ككل بمفكريه وعلمائه وبمؤسساته‪.4‬‬
‫المتأ ِّم ُل في فلسفة ديكارت سيص ُل حتما ً إلى نتيج ٍة ُمناقض ٍة تماما ً للمسلمة المعتادة‪ ،‬وسيكتشف‪ ،‬دون عناء‪ ،‬أن ديكارت ليس إال‬
‫فيلسوف مقلد لمحتوى الفالسفة السكوالئيين والكالسيكيين (من أمثال القديس توما األكويني والقديس أوغسطين‪ ،‬وألبير الكبير‪،)...‬‬
‫تقليداً يكاد يكون مطابقةً تامةً‪.‬‬
‫يجوز لنا إذن أن نبحث عن المنبع األصيل للعصر الحديث غير ديكارت‪ ،‬ومن جاء بعده ممن ورثوا التجربة الغنية التي تركها عظماء‬
‫العصر الوسيط من المعلمين الكبار‪.‬‬
‫إذ كيف ال يستوحي ديكارت ُج َّل األفكار التي شيد بها مذهبه الفلسفي من هؤالء المعلمين الذين أثبتوا أصو َل الفكر الفلسفي عبر تحرير‬
‫فصول بمثابة تعليقات دقيقة على أه ِّم المصادر الفلسفية اليوناني ِة والعربية اإلسالمية‪ ،‬وقدموا حلوالً مبينة ومفصلة إلشكاالت‬
‫ميتافيزيقية عويصة (على سبيل المثال إشكالية هللا والوجود) كانت قد شكلت تحديّا ً للعقل اليوناني‪ ،‬وبدون شك كانت ستشكل تحديّا ً‬
‫أكبر للعقل الحديث لو لم تعالج في القرون الوسطى‪ .‬وقد أضحت تلك الشروح والتعليقات فيما بعد منطلقا ً أساسيا ً لفالسفة العصر‬
‫الحديث في وضع اللبنات األولى لمذاهبهم‪.‬‬
‫ً‬
‫لكن اإلشكال المطروح في هذا السياق تحديدا هو‪ :‬ما الدور الذي لعبه العصر الوسيط في تشكل الفكر الحديث؟ وكيف تم االنتقال من‬
‫العصر الوسيط إلى األزمنة الحديثة؟ كيف تكون القرون الوسطى التي ننعتها بقرون الظالم والجمود الفكري هي منبع العقالنية‬
‫الخالصة التي يزعم بعض مؤرخي الفلسفة أن ديكارت هو واضع أسسها؟ بماذا نفسر جهلنا بحقيقة العصر الوسيط؛ بمفكريه‬
‫وبمدارسه وبتياراته وبمناهج العلم فيه‪ ،‬و ُكلُّ ما له عالقة به دينا ً أو فلسفةً أو ثقافةً أو فناً؟‬
‫أن الغايةَ من هذه الدراسة؛ أقصد البحث عن األصول السكوالئية واألوغسطينية للفكر الديكارتي ليس الوصول إلى‬ ‫تجد ُر اإلشارة إلى َّ‬
‫نتائج تؤكد أن ديكارت كان سكوالئيا ً أو أوغسطينيّا ً قسراً‪ ،‬بل الهدف‪ ،‬من جهة‪ ،‬ينحصر باألساس في تبيان أن ديكارت هو استمرار‬
‫للفكر المسيحي الوسطوي الذي شهد تطوراً وازدهاراً كبيراً في القرن الثالث عشر‪ ،‬فهو نفسه نموذج أنتجه هذا االزدهار البديع‪ T‬الذي‬
‫ٍكبير في بناء‬
‫ٍ‬ ‫ْ‬
‫ساهمت بشكل‬ ‫كان قائما ً على أسس متينة‪ T‬قل نظيرها‪ .‬ومن جه ٍة ثاني ٍة‪ ،‬التأكيد أنه كان في العصر الوسيط فلسفة‬
‫التصورات الحديثة‪ ،‬وفي خلق نموذج من التفكير يتميز عن التفكير اليوناني والعربي اإلسالمي‪.‬‬
‫من هنا جاءت محاور هذا البحث؛ حيث ركزنا في المحور األول على تحديد أصول تلك النظرة السوداوية نحو العصر الوسيط‪،‬‬
‫وحاولنا توضيح عدم صحة ما ألقي على هذه المرحلة التاريخية من نعوت سيئة‪ .‬أما في المحور الثاني فقد تناولنا فيه مساهمة العصر‬
‫الوسيط في تشكل الفكر العقالني الديكارتي‪ ،‬وما دامت فلسفة ديكارت تُعتبر بداية الحداثة الفكرية‪ ،‬وكانت هذه الفلسفة منبثقة عن‬
‫العصر الوسيط‪ ،‬فيمكن أن نستخلص أن جزءاً كبيراً من مبادئ هذه الحداثة (العقالنية) قد توصل إليه ديكارت بمساعدة من مفكري‬
‫العصر الوسيط؛ وجامعة باريس في العصر الوسيط شاهدة على هذا النضج الفكري الذي نهل منه ديكارت‪.‬‬
‫دحض التصور الشائع حول العصر الوسيط‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫إن القو َل بظالمية القرون الوسطى وعقالنية العصر الحديث‪ ،‬قو ٌل يفتقد لحجة علمية‪ ،‬فالذي يُنعت بأبي العقالنية (ديكارت والذي‬ ‫َّ‬
‫سنركز عليه في هذا المقال) تلقى كل تعليمه وتعاليمه وتكوينه من السكوالئيين‪ T،‬فهو من خريجي مدرسة "الفليش"‪ ،‬وهي من‬
‫المدارس التي أنشأتها الكنيسة في ذلك العصر؛ ولم يكن ديكارت قد تلقى في هذه المدرسة تعليما ً دينيا ً فحسب‪ ،‬بل هؤالء درسوه علوما ً‬
‫متنوعةً من رياضيات وفيزياء وفلك‪ ...‬إنها لمفارقة عويصة؛ عصر العتمة الفكرية والجهل‪ ،‬تدرس فيه جميع العلوم‪.‬‬
‫ما يؤكد اليوم عدم صحة هذه األفكار التي روج لها بعض فالسفة األنوار (فولتير وكانط وهيوم) وبعض التيارات المعاصرة‬
‫كالماركسية والوضعية‪ ،5‬من جهة‪ ،‬هو أنه عندما يظهر مخطوط ينتمي إلى هذا العصر يتهافت حوله الكل‪ ،‬دليالً على منزلته العلمية‪،‬‬
‫أن "هذه الكتب كثيراً ما أهملت‪ ،‬بل كان ينظر إليها في بعض األحيان على أنها تشكل ملحقا ً زائداً ال حاجة إليه‪ ،‬ومع ذلك فقد‬ ‫مع العلم َّ‬
‫كانت تكتسب قيمة وجماال مع مضي القرون"‪ ،6‬ومن جهة ثانية‪ ،‬أن أغلب األعمال الفكرية التي أنتجت في هذه المرحلة التاريخية من‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫كتب ورسائل ومذكرات وترجمات عبارة عن مخطوطات مكتوبة باللغة الالتينية‪ T‬واليونانية (في غالبيتها)‪ ،‬جزء كبير منها لم يترجم‬
‫ولم يحقق إال في النصف الثاني من القرن التاسع عشر‪ ،‬لذلك فإن أغلب المفكرين في الغرب وفي العالم اإلسالمي ال يكادون يعرفون‬
‫عن العصر الوسيط سوى النزر اليسير‪ .‬هذا يدل على أن رفض فكر هذا العصر لم يكن مبنيا ً على دراسة علمية أكاديمية‪ ،‬وإنما كان‬
‫رفضا ً ألسباب إيديولوجية منبثقة عن قناعات شخصية هيمنت على التَّاريخ الحديث ابتدا ًء من ديكارت‪.‬‬
‫تلك التيارات الحديثة والمعاصرة لم تكلف نفسها عناء البحث‪ ،‬اكتفت فقط باستنساخ أفكار ديكارت حين قال‪" :‬توجد أخطاء قليلة يتعين‪T‬‬
‫الحذر من الوقوع فيها بالفعل‪ ،‬وهي التي من الممكن أن تتسرب إلى أنفسنا بشكل كامل رغم كل المجهودات واالحتياطات‪ ،‬وهي‬
‫مترتبة عن قراءة مؤلفات هؤالء القدامى قراءة متمعنة‪ .‬وكلما انساق المؤلفون بشكل طبيعي في العمى والحماقة‪ ،‬كانوا ضحايا بعض‬
‫اآلراء‪ ،‬هي موضع جدال‪ ،‬وحاولوا دائما ً جرنا إلى خالصاتهم مستعملين من الحجج أدقها؛ في حين كلما حالفهم الحظ في العثور على‬
‫شيء يقيني بديهي ما ال يعرضونه إال بكيفية ملتوية ِج ّداً تحسبا ً من أن تقلل بساطة األدلة أهمية االكتشاف أو حتى حسداً؛ ألنهم‬
‫يجحدون علينا معرفة الحقيقة الواضحة وضوحا ً كليا ً‪.‬‬
‫وحتى وإن كان كل القدامى مخلصين صريحين‪ ،‬فإنهم لن يفرضوا علينا قبول أشياء مشكوك فيها على أنها حقائق‪ ...‬فما أن يدلي‬
‫أحدهم برأي في شيء حتى يثبت اآلخر نقيضه‪ ،‬بحيث يتعذر علينا أن نعلم بأيهما نثق"‪ .‬كما وثقوا "بجون السالسبوري حين صور لنا‬
‫أولئك الفالسفة األقحاح الذين ينظرون إلى كل شيء خال المنطق بازدراء؛ إنهم يمضون فيه حياتهم كلها‪ ،‬فإذا ما طعنوا في السن‬
‫وجدتهم شكاكا صبيانيين‪ T،‬يناقشون في كل مقطع‪ ،‬بل في كل حرف مما يقال أو يكتب؛ وهم في كل شيء مترددون‪ ،‬وال يصلون أبداً‬
‫إلى العلم‪ ...‬ينتحلون آراء الجميع‪ ،‬وكثرة اآلراء المتضاربة تكاد تجعل من رابع المستحيالت حتى على واضع هذا الكتاب [الجامع في‬
‫المنطق] أن يهتدي إلى أصولها"‪ .7‬كذلك كان حال بعض المؤرخين للفلسفة‪ ،‬يصورون لنا العصر الوسيط ومفكريه‪ ،‬تاركين أزي َد من‬
‫ألف عام من اإلنتاج الفكري‪ ،‬متجهين (من اليونان) مباشرة إلى ديكارت‪ .‬كما أن تلك المذاهب اكتفت باالحتجاج بأحداث مأساوية‬
‫تعرض لها علماء في تلك الحقبة وبعدها‪.‬‬
‫لقد تعاملوا مع ديكارت بانتقائية شديدة‪ ،‬حتى انقلبت تركيبة فكره‪ ،‬فالعبارة التي كانت قبل النص الديكارتي (المشار إليه) تحث على‬
‫أن فائدةً عظيمة جداً تحصل لنا كلما استطعنا استخدام أعمال عدد‪T‬‬ ‫وجوب قراءة كتب القدامى‪ ،‬قال‪" :‬يجب أن نقرأ كتب القدامى بما َّ‬
‫كبير من الناس‪ ،‬إما لمعرفة االكتشافات التي أنجزت في الماضي بنجاح‪ ،‬وإما للعلم بما بقي على مختلف االختصاصات اكتشافه‬
‫الحقاً"‪ .8‬غير أنَّهُ في الحقيقة معظم األفكار المكونة للنسق الديكارتي (مؤسس العصر الحديث حسب الزعم السائد) مستمدة من‬
‫العصر الوسيط‪ ،‬من الفكر المدرسي‪ ،‬ومن أوغسطين قمة عصر آباء الكنيسة األول‪.‬‬
‫ً‬
‫أما بخصوص توظيف بعض التيارات المعاصرة ألحداث مأساوية كان العصر الوسيط مسرحا لها‪ ،‬من قبيل إعدام جيوردانو برونو‬
‫بطريقة بشعة‪ ،‬وإعدام كوبيرنيك (بشكل صوري)‪ ،‬والحكم باإلقامة الجبرية على جاليليو حتى وفاته‪ ...‬واعتبرت ذلك محاربة للفكر‬
‫العلمي وكل ما له صلة بالفكر الحر باسم الدين‪.‬‬
‫ً‬
‫صحيح أن هذه األحداث كلها وقعت وباسم الدين‪ ،‬لكن المتأمل في تاريخ اإلنسانية سيدرك حتما أن هناك علماء وفالسفة ومفكرين‬
‫أحراراً قد أُعدموا وشردوا وعذبوا؛ ألم يعدم سقراط؟ ألم تحرق كتب ابن رشد؟ ألم ينف ابن الخطيب؟ ألم يقتل تروتسكي؟ ألم يغتل‬
‫كندي؟ ألم يعدم بويثيوس؟ ألم يمت ناصر حامد أبو زيد موتة تراجيدية (‪)2010‬؟‪ 9‬ألم "يطعن سيجير البرابانتي في البالط البابوي‬
‫وهو أستاذ بكلية الفنون في باريس (‪10")1284-1281‬؟ "ألم يرغم نيرون صفيه ومعلمه سينيكا ‪ Seneca‬على اختيار الميتة التي‬
‫يرضاها؟‪ .11‬وبابينيانوس ‪ Papinianus‬الذي كان ذا نفوذ طويل في البالط‪ ،‬ألم يسلمه اإلمبراطور أطونيوس كاركاال ‪A.‬‬
‫‪ Carcalla‬لسيوف جنده؟ لقد أراد كالهما أن يتنازل عن سلطته‪ ،‬بل لقد حاول سينيكا أن يعطي ثروته لنيرون ويحال على التقاعد‪.‬‬
‫لكن لم ينل أي منهما مأربه‪ ،‬وهوت به ثروته ونفوذه إلى الهالك مثلما يهوي بالشيء ثقله ووزنه"‪.12‬‬
‫ومن هؤالء فالسفة وسياسيين ورجال الدين وعلماء مسلمين ومسيحيين‪ ،‬فمنهم من عاصر إمبراطورية عظيمة قديمة "وثنية"‪ ،‬ومنهم‬
‫من عاش في إمبراطورية اشتراكية ال تجعل الدين من بين أولوياتها‪ ،‬ومنهم من عاش في عصرنا الحالي؛ عصر حقوق اإلنسان‬
‫والديموقراطية! ورغم ذلك فإنهم عانوا بفعل تفكيرهم وتأمالتهم ومواقفهم المارقة كما يعتقد خصومهم‪.‬‬
‫بالفعل هذه األخطاء ثابتة‪ ،‬لكن ليس الدين‪ ،13‬هو الفاعل المباشر فيها والداعي إليها‪ ،‬بل هي أحداث سياسية محضة‪ ،‬وكذلك الشأن‬
‫بالنسبة لوقائع مماثلة في القرون الوسطى‪ ،‬فهي ليست سبب الدين أو الفكر المسيحي‪ ،‬وإنما فا ِعلها بعض ممثلي الدين (رجال الكنيسة)‬
‫من الطبقة األرستقراطية الحاكمة‪ ،‬للحفاظ على مصالحهم‪ ،‬وتحقيق مطامعهم مهما كلف الثمن ذلك‪ ،‬وإرهاب الناس كيال يحذوا‬
‫حذوهم‪ .‬فليس الكتاب المقدس هو من دعا إلى اتخاذ فيزياء بطليموس ‪-‬التي تتأسس على ثبات األرض ومركزيتها ودوران جميع‬
‫الكواكب األخرى حولها‪ -‬مبدءاً ثابتا ً من مبادئ الكنيسة‪ ،‬وإنما األمر مرتبط بسياسة البابا الذي يتلقى أوامره من هللا مباشرة في مكان‬
‫واحد محدد ثابت!‬
‫نعل ُم جميعا ً أن َّالكنيسة استولت على جميع المجاالت اإلنسانية الحيوية‪ .14‬إبان سقوط اإلمبراطورية الرومانية‪ ،‬فكان هدفها في البداية‬
‫نبيال؛‪ T‬الحفاظ على السلم‪ ،‬وتوحيد البالد المسيحية وتجنيبها ويالت الحرب والفوضى واالنقسام‪ ،‬أي إعادة تقوية الدولة من األساس‪...‬‬
‫لكن مع مرور الزمن أضحت هذه األفكار ذريعة للسيطرة‪ ،‬وسارت تنال من كل فكر ال يتالءم وتوجهها وإيديولوجيتها‪ .‬وما ال مرية‬
‫فيه أن هذه المطامع كلها سياسية غلفت بغطاء ديني كي تكتسب قابلية لدى الرعية‪ ،‬وذلك شأن سائر األمم والشعوب في بقاع األرض‪،‬‬
‫كلما تشبثت بالحكم زاد بطشها وقل اهتمامها بالفكر والعلم‪ .‬والشك أن الفالسفة يتوقون على الدوام إلى التحرر واالنعتاق من العبودية‬
‫التي تفرضها األجهزة والمؤسسات الدينية والسياسية‪ ،‬لذلك نجدهم في الغالب في وضعية صراع مع هذه المؤسسات؛ فالفلسفة رهينة‬
‫بالديمقراطية حسب ‪-‬جون بيير فرنان‪ -‬ومن رحمها انبثقت؛ "فال وجود لعقالنية فلسفية إال إذا قبلنا بأن تخضع كل القضايا للنقاش‬
‫المفتوح والعلني‪ .‬ال وجود ألي مطلق نستطيع باسمه اإلدعاء في لحظة ما بإنهاء النقاش وقطع دابره"‪ .15‬وهذا المنطق يتنافى ُكليّا ً مع‬
‫المنطق الذي تتبناه النخبة الدينية‪ T‬والسياسية في العصر الوسيط‪.‬‬
‫األصول الوسيطية للفكر الديكارتي‬
‫اعتبار ديكارت الفيلسوف الفيصل بين عصر قديم وعصر حديث‪ ،‬بين نور وظالم فيه مبالغة كبيرة‪ ،‬فديكارت وارث تجربة فكرية‬
‫إن ما جعل من ديكارت أسطورة الفكر الفلسفي ليس ما قدمه من إنتاج علمي وفلسفي‪ ،‬بل انتماؤه‬ ‫متميزة بالمقارنة مع عصور مختلفة‪َّ .‬‬
‫إلى فرنسا‪ ،‬لقد بذلت هذه األخيرة كل ما في وسعها ليكون ديكارت رمزاً وشعاراً لفرنسا‪ ،‬تعويضا ً للفراغ العلمي الذي أصاب‬
‫تاريخها؛ "فقد كانت جامعة باريس أشهر من فالسفة باريس‪ ،‬واألوسع في باريس هو أبرز أو أوضح فيها من األعمق"‪ ،‬لقد وجدت‬
‫فيه فرنسا نموذجا ً مثاليا ً للظهور‪ ،‬مثلها في ذلك مثل إيطاليا وألمانيا وانجلترا اللواتي قدمن معلمين كبار من أمثال توما األكويني وألبير‬
‫الكبير وروجير بيكون‪...‬زيادة على ذلك أن ديكارت كتب باللغة الفرنسية التي كانت آنذاك مجرد لهجة محلية‪.‬‬
‫يخرج نوعا ً ما عما هو مألوف ‪-‬من‬
‫َ‬ ‫بشكل من األشكال‪ ،‬أن‬
‫ٍ‬ ‫إن الفيلسوف الفرنسي ديكارت استطاع‪،‬‬ ‫قد ال نجانب الصواب إن قلنا َّ‬
‫حيث التعامل مع القضايا الميتافيزيقية العويصة‪ -‬منذ أوغسطين إلى نيكوال دوكوز مروراً بإريجين وألبير الكبير وتوما األكويني‪.‬‬
‫ومن المرجح أن يكون ذلك بالصدفة‪ ،‬وبفعل عجزه عن قراءة مؤلفات القدامى‪ ،‬لما تحتويه هذه الكتب من حلول للمسائل الجدلية؛ وهذه‬
‫مسار البرهنة والتحليل‪ ،‬ومعلوم أن اهتمام ديكارت بالرياضيات (الحساب والهندسة) ينم عن‬ ‫ِ‬ ‫الحلول تتطلب جهداً فكريّا ً كبيراً لتتبع‬
‫كون عقله عقالً حسابيا ً تقنيا ً أكثر مما هو عقل أدبي تحليلي؛ أي كاآللة الحاسبة‪ ،‬ال يمكن أن يستوعب إال القضايا السهلة‪ ،‬ويدل على‬
‫ذلك ميله الملفت لالنتباه إلى البساطة‪ ،‬وخوفه المهول من الخطأ‪ ،‬وتمسكه بالمنهج الواضح؛ وكتاباته تعج بأقوال من قبيل" أما المنهج‬
‫فأعني به قواعد يقينية سهلة تعصم كل من يراعيها بصرامة من حمل الخطأ محمل الصواب‪ ،‬فيتوصل إلى معرفة ما هو أهل‬
‫لمعرفته‪ ،‬بتنمية‪ T‬علمه بكيفية متدرجة متواصلة دون أن يهدر أي جهد ذهني"‪ .16‬وفي موضع آخر يقول‪" :‬إن من بين العلوم التي ال‬
‫تخلو من الخطأ ومن عدم اليقين‪ ،‬الحساب والهندسة وحدهما ال غير"‪ .17‬كلها عبارات تؤكد على شيء واحد؛ البحث عن البساطة‪،‬‬
‫وتجنب السقوط في الخطأ‪ .‬فما يفسر انبهار ديكارت بالهندسة والحساب ليس كونهما تقليداً راسخا ً من اليونان إلى عصره‪ ،‬وإنما ألنهما‬
‫بسيطان وال يقبالن الخطأ‪ ،‬والوصول فيهما إلى نتائج أمر يسير‪ ،‬والخالف حولهما منعدم‪ ،‬ال يجلب إليه تهما أو نقداً‪ ،‬يحتاج بموجبه‬
‫إلى رد مقبول‪ ،‬فاألصعب أن تكون حججك كونيةً وأنت في مجال اإلنسان‪ ،‬واأليس ُر أن تكون استدالالتك‪ T‬كونيةً وصحيحةً وأنت في‬
‫مجال الطبيعة‪.‬‬
‫َّ‬
‫ديكارت قبِل بالتناقض ولم يقبل بالخطأ؛ فهو الذي قال‪ ،‬حين ع َّر ف الفلسفة‪" :‬بأنها أشبه بشجرة‪ ،‬جذورها الميتافيزيقا‪ ،‬وجذعها العلم‬
‫الطبيعي (الفيزيقا)‪ ،‬والفروع التي تخرج من هذا الجذع‪ ،‬هي كل العلوم األخرى التي تنتهي إلى ثالثة علوم رئيسة‪ ،‬هي الطب‬
‫والميكانيكا واألخالق"‪ .18‬لماذا جعل من الميتافيزيقا أساسا ً للعلوم الرئيسة؟ أليس هو الذي دعا مراراً إلى تجنب الفلسفة النظرية؟‬
‫لماذا المرور بالضرورة من الميتافيزيقا لبلوغ مراتب عليا من مراتب الحكمة؟ فهو على وعي تام أن الثمار ال تجنى من الجذور وإنما‬
‫من األغصان‪ ،‬لكن بقدر ما تكون الجذور قوية تكون الشجرة أكثر عطا ًء وإنتاجاً؛ فالجذور بالتالي تنتج بشكل من األشكال‪ ،‬إنتاجا غير‬
‫ملموس‪ .‬غير أن ديكارت‪ ،‬رغم إقراره بذلك في هذا الكتاب (مبادئ الفلسفة)‪ ،‬إال أنه رفض ذلك في كتاب آخر (مقال في المنهج)‪،‬‬
‫حين بين أن الميتافيزيقا عقيمة (الفلسفة النظرية)‪ .‬يقول‪" :‬يمكننا أن نجد‪ ،‬بدال من هذه الفلسفة النظرية التي تعلم في المدارس‪ ،‬فلسفة‬
‫عملية‪ ،‬إذا عرفنا بواسطتها ما للنار‪ ،‬والماء‪ ،‬والهواء‪ ،‬والكواكب‪ ،‬والسموات‪ ،‬وسائر األجسام األخرى التي تحيط بنا من قوة وأفعال‪،‬‬
‫معرفة متميزة كما نعرف آالت صنعناها‪ ،‬استطعنا أن نستعملها بالطريقة نفسها في جميع ما تصلح له من األعمال‪ ،‬وأن نجعل أنفسنا‬
‫بذلك سادة الطبيعة ومالكيها"‪ .19‬فالموقف الديكارتي إذن تلفه ضبابية‪ ،‬تنم عن االرتباك النفسي الداخلي في التعامل مع اإلشكاالت‬
‫الجوهرية‪ ،‬لم يحدد بعد من يؤسس اآلخر؛ الميتافيزيقا هي من يؤسس الفيزياء أم الفيزياء هي من يؤسس الميتافيزيقا؟ ويبدو بالتالي‬
‫السبب الحقيقي الذي أدى به إلى السقوط في التناقض‪ ،‬وهذا األخير أضل وأمر من السقوط في الخطأ‪.‬‬
‫إن ما يفسر انبهار العديد من المفكرين بفلسف ِة ديكارت هو ميلهم إلى البساطة‪ .‬وهذا اإلعجاب جعلهم يصنعون منه صنما ً يوجه‬
‫تأمالتهم‪ ،‬ويعتبرونَ ما قبل ديكارت مرحلة انتقالية لم يكن فيها غير فراغ فكري‪ ،‬أو فكر فارغ‪ ،‬ال أهمية له‪ .‬ونذكر من هؤالء‬
‫المفكرين أنتوني جوتليب‪ ،‬والذي أكد في مناسبات كثيرة أن الفلسفة الوسيطية ما هي إال تأمالت دينية؛ يقول‪" :‬النتاج الفلسفي للحقبتين‬
‫القديمة‪ T‬والمعاصرة بشك ٍل عام ليس أكثر إبداعا ً فحسب‪ ،‬بل أسهل فهما بالنسبة للقارئ المعاصر من التعليقات المطولة والممارسات‬
‫الجدلية التي لفظتها العصور الوسطى‪ .‬وفي ظل ضيق الوقت والمساحة فمن األفضل أن تترك فلسفة العصور الوسطى تتيه في غابتها‬
‫المظلمة التي تغطيها األشواك"‪ ،20‬ويضيف في السياق ذاته‪" ،‬يعد عام ‪ 529‬م عالمة فارقة في تاريخ الفلسفة؛ فمنذ ذلك التاريخ ظلت‬
‫الفلسفة في الغرب بشكل أو بآخر أسيرة للديانة المسيحية قرابة ألف عام‪ .‬وإذا نظرنا إلى األمر بعين الفكر الحديث‪ ،‬فمن المغري أن‬
‫ننظر إلى ذلك الفاصل الزمني الطويل وكأنه يشبه حكاية الجميلة النائمة‪ .‬فبعد أن التقت الفلسفة بالعقيدة المسيحية غرقت في سبات‬
‫عميق قرابة ألف عام حتى أيقظها ديكارت"‪21‬؛ حتى خلصها المخلص من قبضة الدين! فهذه نتائج بعيدة كل البعد‪ T‬عن الصواب‪،‬‬
‫يمكن دحضها بسؤال واحد‪ ،‬أين تعلم ديكارت الفلسفة والرياضيات والفيزياء؟ ربما قد يكون جواب جوتليب بسبب فرطه في اإلعجاب‬
‫بديكارت‪ ،‬أنها كانت فطرية في ذهنه! إن المتصفح لكتاب تأمالت ميتافيزيقية‪ ،‬سيكتشف بدون عناء‪ ،‬مدى ما تدين به الفلسفة‬
‫الديكارتية لفلسفة العصور الوسطى‪.‬‬
‫بالتأكيد لو أن ديكارت عاش في هذا العصر لوجدته يهاجم الرياضيات والفيزياء‪ ،‬وذلك بفعل ما وصلت إليه هذه العلوم من تطور‬
‫كبير يصعب تتبع عملياتها المجردة والعملية‪ ،‬فقد بلغت مبلغا ً ذهب معه اليقين ‪-‬كما كتب إليا بريغوجين‪ -22‬الذي كان ينشده ديكارت‬
‫منها‪ ،‬واختفت منها تلك البساطة التي يطلبها كشرط لمباشرة أي عمل‪.‬‬
‫وفي ما يأتي من الصفحات سنقدم بعض المعطيات واألدلة التي تبين أن ديكارت لم ينسلخ لحظة من التراث المسيحي‪ ،‬فقد ظل أمينا ً‬
‫لهذا التراث‪ ،‬سواء بوعي منه أو بغير وعي‪ .‬بل إنه يستنسخ بعض األفكار كما هي دون اإلحالة إلى أصحابها‪.‬‬
‫ديكارت والتراث األوغسطيني‬
‫حيث هي جوهر مفكر وواع‪ ،‬بمعنى أن التفكير هو الذي يشكل ماهيتها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫لقد بنيت فلسفة ديكارت بكاملها على مفهوم الذات‪ ،‬الذات من‬
‫أي أنه ال وجود لهذه الذات (العقل) بدون تفكير‪ ،‬وبدون ممارسة الشك‪ ،‬ويدل على هذا تعبيره الصريح "أنا أفكر إذن أنا موجود"‪،‬‬
‫معناه ارتباط الوجود بالتفكير‪ ،‬وال يمكن أن يكون حديثنا مشروعا ً عن الذات كوجود عقالني قائم بذاته إال بممارسة التفكير‪ ،‬وال يمكن‬
‫لعاقل أن يتجاهل هذا االنجاز العظيم في تاريخ الفكر البشري‪ ،‬أي وصول اإلنسان إلى درجة عالية في معرفة نفسه‪ ،‬وإدراكه أن ما‬
‫يحدده وما يجعله مختلفا ً هو الفكر‪.‬‬
‫لكن المفاجأة الصَّادمة هي اكتشاف ديكارت أن هذا االنجاز لم يكن من إبداعه الشخصي المحض‪ ،‬بل سبقه إليه القديس أوغسطين‪،‬‬
‫فبعد إصداره لكتاب المقالة في المنهج نبهه أحد أصدقائه بأن جل األفكار التي تطرق إليها في هذا الكتاب قد تناولها أوغسطين في‬
‫كتابه مدينة هللا‪ ،‬يقول جيلسون‪" :‬بعد قراءة صديق ديكارت وهو ميرسون لكتاب المقالة في المنهج أثار انتباهه التشابه بين الحجة التي‬
‫يقدمها ديكارت وبين تلك التي سبق ألوغسطين أن وظفها في كتابه مدينة هللا‪ ...‬ومنذ تلك اللحظة واالتجاه الديكارتي يتضح أكثر‪،‬‬
‫ومقاربته غير مهمة‪ ،‬ما دام جل أفكاره قد صرح بها من قبله أوغسطين‪ ،‬وبعد ذلك‪ ،‬وبمناسبة إصداره لكتاب التأمالت صديقه أرنولد‬
‫أثار انتباه ديكارت على التشابه الذي يوجد بينه وبين أوغسطين في كتابه الثالوث‪ ،‬وإعجاب أرنولد بأوغسطين وديكارت جعله يهتم‬
‫بهما‪ ،‬وقد الحظ االلتقاء الموجود بينهما إلى درجة أنه وجد نفس الشيء بينهما تقريباً"‪ ،23‬لكن على ما يدل هذا التشابه الكبير بين‬
‫ديكارت وأوغسطين؟ وما يزيد من غموض هذا اإلشكال عدم إشارة ديكارت إلى أوغسطين ال من قريب وال من بعيد في كتبه‪ ،‬وقد‬
‫يعبر هذا االنزالق عن أن ديكارت لم يقرأ ولم يطلع على كتب سلفه‪ ،‬ويؤدي بنا هذا االستنتاج إلى إثبات أن ديكارت لم تكن له إحاطة‬
‫شاملة بجميع علوم عصره وبمؤلفات كبار زمانه خصوصا ً أوغسطين الذي يشكل مفخرة الفكر المسيحي‪ ،‬لهذا فإنه من غير المنطقي‬
‫أن تكون مؤسسا ً لعصر وأنت تجهل العصر الذي أنت فيه أو الذي قبلك؛ ألن ما تعتقد أحيانا ً أنه إنجازك وإبداعك قد يسبقك إليه‬
‫غيرك‪ .‬وما حملنا على هذا القول أن جل المؤرخين للفلسفة "ومنذ أمد بعيد‪ ...‬يظنون أن ديكارت وبيكون قد شيدا فلسفةً مستقلةً جذريا ً‬
‫عن كل الفلسفات السابقة"‪ ،24‬التي كانت قبلهم‪ ،‬وأقصد الفلسفة المسيحية بكافة مشاربها وتياراتها‪ .‬وهذا يتنافى مع الواقع‪ ،‬فديكارت‪،‬‬
‫في غالب كتبه‪ ،‬اكتفى بما تعلمه من العصر الوسيط المتقدم‪ ،‬وبالضبط من مدرسة الفليش‪ .‬لقد أكد هيوت (أسقف أفرانش) على ذلك‬
‫حين قال إن "ديكارت لم يبدع على اإلطالق‪ ،‬فقد استمد جميع مبادئه حول الفيزياء والميتافيزيقا من بعض الفالسفة السابقين‪ :‬الشك‬
‫المنهجي‪ ،‬معيار البداهة والقواعد العامة للمنهج‪ ،‬من أرسطو ومن القديس أوغسطين‪ .‬التمييز بين النفس والجسد من أفالطون ومن‬
‫أبيقور ومن فالسفة وثوقيين آخرين‪ .‬الدليل على وجود هللا من القديس أوغسطين ومن كلوديين ماميرت ومن القديس أنسلم"‪.25‬‬
‫إن كون منطق التاريخ قائما ً على االستمرارية الدائمة‪ ،‬فالبد بالتالي من اإللمام بكافة اإلنتاجات الفكرية لألسالف‪ ،‬إلعادة تجديدها بغية‬
‫تجاوزها‪ .‬وهو ما لم يتم مع ديكارت (وهو ما يبدو)‪ .‬فالخطأ الذي ال يمكن تبريره والذي ارتكبه ديكارت هو عدم إشارته إلى‬
‫أوغسطين؛ ففي "ردوده على أصدقائه الشيء فيها يوحي بأنه قرأ أوغسطين أم لم يقرأه‪ ،‬لكن احتمال قراءته له كبير‪ ،‬غير أن تأكيداً‬
‫يقينيا ً على ذلك ال يوجد‪ ،‬كلُّ ما هنالك مجموعة من االفتراضات"‪.26‬‬
‫إذا افترضنا أن ديكارت قرأ أوغسطين فهل من المعقول أن يستمد جل أفكاره دون اإلحالة عليه؟ فمن شيم الفالسفة الكبار اإلحالة على‬
‫أي فكرة أخذها من مصدر كيفما كان؛ كتاب أو صديق أو أستاذ‪ ...‬يبين ما له وما ليس له‪ .‬ففي رسالة إلى صديقه ميرسون أجاب‬
‫ديكارت إجابة غير مقنعة حول هذه المسألة‪ ،‬قال‪" :‬القديس أوغسطين قد قال نفس الشيء من قبل‪ ،‬لكن ليس بنفس المعنى وبنفس‬
‫الغاية"‪ . 27‬هذا االعتراف الديكارتي بأن األفكار األوغسطينية هي نفسها األفكار التي يدافع عنها‪ ،‬لكن المعنى والمضمون مختلفان‪،‬‬
‫اعتراف ضمن ٌّي بأن أوغسطين بالفعل قد سبقه إلى هذه األفكار‪ ،‬مما يدل على أنها ليست إبداعا ً ديكارتيا ً محضاً‪ ،‬لقد كان "أنا أفكر"‬
‫ٌ‬
‫ً‬
‫بمثابة مبدأ كل منهما‪ ،‬وفي هذا السياق تحديدا‪ T‬يقول جيلسون‪" :‬السؤال الضمني الذي يطرحه أرنولد بوضوح‪ :‬هل كان أنا أفكر المبدأ‬
‫األول للفيلسوفين معاً؟ جواب ديكارت أقل جدارة باالهتمام ألنه تهربي"‪ .28‬وقد أدت هذه الواقعة بديكارت إلى االنزعاج والعودة إلى‬
‫كتب أوغسطين‪ ،‬إذ يقول في إحدى رسائله‪" :‬ترغمونني على أن أتقبل أن أنا أفكر إذن أنا موجود‪ ،‬مرتبطة بما كتبه أوغسطين‪،‬‬
‫حيث اندهش عندما علم أن‬‫ُ‬ ‫سأقرأه اآلن في مكتبة هذه المدينة (لييد)"‪ .29‬هذا الجواب يعبر عن االرتباك الذي أصاب ديكارت‪،‬‬
‫القديس أوغسطين قد تناول هذا الموضوع بدقة منذ‪ T‬ما يزيد عن إحدى عشر قرناً‪ .‬كما أن هذا الجواب يعبر عن كون ديكارت مستاء؛‬
‫ألن زمالءه علموا بعدم اطالعه بالمذهب الرسمي للعالم المسيحي إلى حدود القرن الرابع عشر‪ ،‬والمصدر الرئيس للفكر المسيحي‪.‬‬
‫لقد حاول باسكال أن يقدم حال لهذا اإلشكال‪ ،‬لكنه مع ذلك لم يقدم إال حال نسبيا ً ينتصر فيه لديكارت أكثر‪ ،‬والسبب في ذلك نابع من‬
‫إعجابه به خصوصا ً في الجانب الرياضي والفيزيائي‪ ،‬وبين أن "القديس أوغسطين يوظف الكوجيطو من أجل البحث عن صورة‬
‫الثالوث في اإلنسان‪ ،‬في حين يستخدمه ديكارت إلثبات التمييز الحقيقي بين النفس والجسد"‪ .30‬ويظهر أن اإلعجاب الشديد بديكارت‬
‫قد حجب عنه مطباته وانزالقاته‪ .‬فكما يرى جيلسون‪ ،‬إنه لفرق كبير بين كتابة كلمة وبين إبداعها؛ إبداعها يتطلب جهداً كبيراً ووقتا ً‬
‫طويالص وعمالً مضنيا ً‪ ،‬في حين أن كتابتها من السهولة بمكان‪ ،‬لن يواجه تلك المعاناة كلها‪ ،‬وأورد جيلسون هذه الفكرة في سياق أن‬
‫ما قام به ديكارت هو إعادة كتابة لكلمة أنا أفكر‪ ،‬ولم يبدعها‪ ،‬فالفضل يرجع إلى أوغسطين الذي قام باكتشافها وبهذا فإنه هو الذي‬
‫يستحق تعظيما ً وشرفا ً‪ .‬ويمكن اعتبار ما عمله ديكارت تجل من تجليات البساطة التي يفتش عنها في كل مرة‪ ،‬لم يكلف نفسه عناء‬
‫للبحث عن أصول األنا أفكر‪ .‬فسواء قرأ ديكارت أوغسطين أو لم يقرأه‪ ،‬فهو مطالب بذكر المصدر األول ألفكاره؛ ألنه من المرجح‬
‫أن يكون قد سمعها من أساتذته من األوغسطينيين‪ T‬الذين درس على أيديهم في مدرسة الفليش‪.‬‬
‫بالطبع ليس هدفنا ينحصر في هذا الباب على التقليل من شأن ديكارت‪ ،‬وإنما غايتنا باألساس تتجلى في التأكيد على االستمرارية‬
‫والتفاعل بين كافة المكونات التي ينطوي عليها تاريخ الفكر الفلسفي‪ ،‬وهذه المطابقة والمشابهة بين ديكارت وأوغسطين مظهر من‬
‫مظاهر هذه االستمرارية‪ ،‬وأقول التطابق ألنه بالفعل هناك تشابه كبير بينهما؛ "بالضبط ديكارت كأوغسطين إنه يستبعد بنفسه كل‬
‫حجج التي تقبل الشك‪ :‬أخطاء الحواس وأوهام الحلم والجنون ودالئل أخرى للشك معروفة"‪ ،31‬تلك هي نقط التقاء ديكارت‬
‫وأوغسطين‪ ،‬رفض الخطأ وعدم يقينية المعرفة الحسية‪ .‬من غير الممكن أن يكون هذا التوافق في األفكار إلى هذه الدرجة مجرد‬
‫مصادفة‪ ،‬أحيانا ً ال تكون التوافقات بين الفالسفة إال بعد تأويل مواقف كل منهما‪ ،‬لكن في حالة ديكارت وأوغسطين‪ ،‬نجد انسجاما كبيراً‬
‫دون العودة إلى التأويل‪.‬‬
‫ومن األفكار البليغة التي شكلت جوهر الفكر الديكارتي والتي افتتح بها ديكارت كتابه مقالة في المنهج هي أن‪" :‬العقل أعدل األشياء‬
‫قسمة بين الناس"‪ ،‬فال يمكن أن نتجاهل أصول هذه الفكرة‪ ،‬لقد استنبطها ديكارت من الكتاب المقدس‪ .‬فمعلوم أن الوحي المسيحي‬
‫تضمن آيات تؤكد على أن اإلنسان يعتبر صورة هللا‪ ،‬بمعنى أنه يمتلك صورة كونية‪ ،‬مما يؤكد على التشابه المطلق بين كافة البشر‪،‬‬
‫وهذا التشابه يدل على أن هناك شيئا ً مشتركا ً بين هذه الكائنات جميعها منبثق عن هذه الصورة وهو العقل‪ ،‬وبالتالي ال يمكن التمييز‬
‫بين الناس‪ ،‬واالختالف قائم في الطريقة التي يتم بها توظيف هذا العقل‪ ،‬هذه الخاصية اإلنسانية الخالصة‪ .‬وقد سبق ألفلوطين أن تحدث‬
‫عن هذه المسألة‪ ،‬مسألة كون اإلنسان يمتلك ملكة بمثابة ميزة تميزه عن كافة المخلوقات‪ ،‬يقول جونو‪" :‬يجب أن نوقظ فينا تلك الملكة‬
‫التي يحوزها الجميع‪ ،‬إذا صدقنا أفلوطين‪ ،‬ولكن عدد من يستعملها قليل"‪.32‬‬
‫أن الغايةَ التي من أجلها نوظف العقل والتفكير بشكل عام هي تجنب السقوط في الخطأ‪ ،‬ويبذل ديكارت كل ما في وسعه‬ ‫صحي ٌح َّ‬
‫َّ‬
‫لتحقيق هذا الطموح‪ ،‬طموح التخلص من األخطاء‪ ،‬لكن أال يمكن القول إن الخطأ نفسه من طبيعة إنسانية مثله مثل التفكير ال يمكن‬
‫االنفالت منه ومن نتائجه؟ بما أن الخطأ قد شكل بالنسبة لديكارت منبع الخوف‪ ،‬وأخذ منه قسطا ً طويالً من الوقت‪ ،‬فإنه يدل على أن‬
‫الخطأ حقيقة وواقعة غير مستقلة عن العلم والمعرفة‪ ،‬فهو إذن‪ ،‬ما دام عامال يحفز على التفكير‪ ،‬فهو إيجابي‪ ،‬من غير المعقول النظر‬
‫إليه كشيطان مضلل‪ .‬من إيجابياته األساسية أنه يرغمنا على البحث في خطة ومنهج لتفاديه‪ ،‬فهو بذلك تعقل ومصدر نجاحنا وإخفاقنا‪،‬‬
‫وقوة هذا الخطأ تضطرنا إلى توظيف آليات ذهنية وعمليات عقلية مستمرة لتجنبه‪ .‬ومن حيث هو كذلك فإنه وسيلة لتقييم أفعالنا‬
‫وتفكيرنا‪ ،‬فمنه نبدأ وإليه ننتهي‪ ،‬ألن انتهاء خطأ هو بمثابة بداية خطأ جديد‪ ،‬وبالتالي يصعب على اإلنسان أن يفكر بدونه‪ .‬إذن يمكن‬
‫القول إن الكوجيطو يتضمن داخله مسلمة مضمرة لن يكتمل بدونها ولن يفهم في غيابها وبها يتميز عمن سواه‪ ،‬والكوجيطو كامال هو‪:‬‬
‫"أنا أخطئ إذن أنا أفكر وأنا أفكر إذن أنا موجود"‪ .‬ما كان اإلنسان إلها ً لكي ال يسقط في الخطأ؛ الخطأ خاصية إنسانية محضة‪ ،‬علينا‬
‫مواجهته ال الخوف منه وتجنبه‪ .‬لقد كان ديكارت واعيّا ً بهذه المسألة "فمن العالمات األساسية على هذا الوعي استدعاء هللا لضمان‬
‫اليقين"‪ ، 33‬وهذه الضمانة هي عالمة على التأثر الذي أحدثه التراث السكوالئي على التوجه العام للفكر الديكارتي‪ .‬وهذا ما سنتناوله‬
‫في النقطة الموالية‪.‬‬
‫ديكارت والتراث السكوالئي‬
‫أول ما يمكن التأكيد عليه بهذا الصدد هو أن ديكارت لم يكن قد اكتشف السكوالئية صدفة أثناء البحث واالستقصاء‪ ،‬وإنما تعلمها‬ ‫َّ‬
‫إن َ‬
‫منذ صغره في مدرسة الفليش‪ ،‬ومن هذه المدرسة اكتسب جل أفكاره الفلسفية‪ ،‬ومن المعلوم أن ما اكتسبه اإلنسان في صغره يشكل‬
‫مكونا ً من مكونات كيانه ومحدداً لنمط تفكيره‪ ،‬ولن تكون تلك المكتسبات مجرد أفكار عرضية تزول بسهولة ال تحدث أي تأثير‪ .‬يقول‬
‫متحدثا عن هذه المرحلة‪" :‬لقد درست قليال وأنا في حداثة سني‪ ،‬من بين أقسام الفلسفة المنطق ومن بين أقسام الرياضيات التحليل‬
‫الهندسي والجبر"‪ ،34‬وقضى في "هذه المدرسة ثالث سنوات من ‪ 1609‬إلى ‪ 1612‬في السنة األولى درس المنطق واألخالق وفي‬
‫السنة الثانية درس الفيزياء والرياضيات والثالثة الميتافيزيقا"‪ ،35‬وما "سيدهشه هو َّ‬
‫أن هناك فالسفة ليسوا ال بفلكيين وال بفيزيائيين‬
‫وال ببيولوجيين‪ ،‬ومع ذلك السكوالئية قد علمت لديكارت كل هذا جملة واحدة"‪ ،36‬هذا يعني أن هؤالء ليسوا مجرد تيولوجيين كما‬
‫يعتقد بعض المؤرخين‪ ،‬وإنما هم فالسفة بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ ألن لديهم إلمام كبير بكافة علوم عصرهم‪ ،‬إنهم حقيقة‬
‫معلمون كبار‪ ،‬لم يقتصروا على تفسير وشرح مقتضيات وأحكام الدين‪ T،‬بل انفتحوا على الفلسفة وعلى مختلف العلوم‪ ،‬وهذه ميزة‬
‫اختص بها فالسفة القرون الوسطى‪ ،‬ال نعثر عليها في األزمنة الحديثة‪ ،‬ألنها مرحلة هيمن عليها تقسيم العلوم والتخصص‪ ،‬وغاب‬
‫عنها الفكر الموسوعي‪ .‬في الواقع هذا التخصص أحط من قيمة المعرفة‪.‬‬
‫لم يستطع ديكارت أن يقدم نقداً شامالً للسكوالئية بالمعنى الحديث للكلمة‪ ،‬وإنما حاول تصحيحها‪ ،‬الدليل على ذلك أن كتابه األخير‬
‫"مبادئ الفلسفة قد خصصه لتعويض النقص الذي تعاني منه المدارس في مادة الفلسفة السكوالئية‪ ،‬وهذا من جهة‪ ،‬أما من جهة أخرى‬
‫فإن "نقد الميتافيزيقا السكوالئية ‪-‬في نظره‪ -‬ليست ضرورية ألن مذهبه بكامله مرتبط بها أشد االرتباط في جميع مبادئه ومنهجه"‪،37‬‬
‫ويتبين‪ T‬ذلك في تعريفه المشهور للفلسفة‪ ،‬فهذا التعريف والذي يحاول فيه أن يعيد للفلسفة شموليتها باعتبارها أسمى العلوم‪ ،‬ويجعل من‬
‫الميتافيزيقا األساس القويم لتلك العلوم‪ ،‬وال غرو أن هذه الشمولية تعد من رواسب التراث السكوالئي في فكره‪ ،‬ويرى جيلسون "أن‬
‫المشروع الديكارتي يختلف فعال عن المذهب السكوالئي‪ ،‬لكن ليس أفضل منه بل إنه يعيد فقط الطريقة األرسطية في تفسير العالم‬
‫الفيزيائي بطريقة ميتافيزيقية فلسفية"‪.38‬‬
‫لقد كانت الفلسفة التي تدرس في مدرسة الفليش كلها تنهل من المذهب التومائي‪ ،‬فهذا األخير يعد من أكبر السكوالئيين‪ T‬في العصر‬
‫الوسيط حسب جيلسون‪ ،‬فلواله لما تحدثنا عن السكوالئية بمكانتها المرموقة التي نراها بها اليوم‪ .‬ومادامت هذه المدرسة (الفليش)‬
‫تدرس فيها فلسفة توما‪ ،‬وكان ديكارت طالبا ً فيها‪ ،‬فمن الضروري أن يتأثر ببعض أو كل أفكار المعلم الكبير توما؛ لنأخذ على سبيل‬
‫المثال األدلة التي وظفها ديكارت للبرهنة على وجود هللا‪ ،‬هي براهين أخذها مباشرة بدون تعديل‪ T‬من القديس توما األكويني‪" :‬ديكارت‬
‫أوال‪ :‬يتصور جوهراً متناهيا ً وأزليا ً‪ ،‬وال يمكن أن يتغير‪ ،‬ومستقال‪ ،‬لديه المعرفة الكاملة‪ ،‬والقدرة الكاملة‪ ،‬خلقني أنا نفسي‪ ،‬وكل شيء‬
‫آخر‪ .‬وثانياً‪ :‬من يعرف شيئا ً أكثر كماال من نفسه ال يمكن أن يكون وجوده ألنه ال يمكن أن يعطي المعرفة لنفسه بنفسه‪ ،‬فالبد أن يأتي‬
‫من وجود كامل بصورة ال متناهية‪ .‬ثالثا ً (هو إحياء للدليل األنطولوجي)‪ :‬إن التصور الخالص لوجود ال متناه وكامل بصورة مطلقة‬
‫يتضمن منطقيا ً وجود هذا الموجود"‪" .39‬فأثناء دراسة ديكارت في مدرسة الفليش تأثر مباشرة بتوما اإلكويني في مجال التيولوجيا‪،‬‬
‫أما اهتمامه الفلسفي فيرجع تأثيره إلى توما لكن بشكل غير مباشر عن طريق سواريز"‪ ،40‬ونستنبط من هذا التجاذب بين ديكارت‬
‫والسكوالئية أن‪" :‬الديكارتية ولدت داخل السكوالئية وهي في صراع مستمر معها من أجل تعويضها لتأخذ مكانها"‪ 41‬ومكانتها‪.‬‬
‫وكذلك من االختالفات الجوهرية التي كانت بين ديكارت والسكوالئية ‪-‬هذه األخيرة المتجسدة بالخصوص في رمزها ومعلمها الكبير‪-‬‬
‫هي‪" :‬أن توما يعتبر وجود العالم الخارجي حقيقة يقينية ال حاجة إذن للمرور من الكوجيطو‪ ،‬أما ديكارت على العكس من ذلك فيعتبر‬
‫وجود العالم الخارجي ليس ببديهي‪ T،‬فالشيء الوحيد اليقيني هو الكوجيطو"‪ ،42‬فبالنسبة لديكارت العالم الخارجي ال يمكن أن يكون‬
‫نقطة انطالق لبناء المعرفة‪ ،‬لكنه مع ذلك ظل مبدأه األول‪.43‬‬
‫خاتمة‬
‫رغم أن ديكارت هاج َم التراث السكوالئي بشدة وبصرامة تعبر عن رفضه الصريح لبعض أشكال التفكير في تلك الحقبة‪ ،‬فإنه فيما‬
‫يختص بالميتافيزيقا ظل وفيّا ً لمضامينها وتوجهاتها العامة‪ ،‬فقد تبين ذلك في مجموعة من الرسائل التي كشفت عن مشاعره الحقيقية‬
‫الداخلية اتجاهها‪ ،‬وهذه المشاعر تحمل في طياتها دالالت تتخطى إدراك المؤرخ؛ يقول جيلسون مبينا ذلك‪" :‬الجانب النفسي الشخصي‬
‫لفيلسوف ما‪ ،‬ينفلت من المؤرخ‪ ،‬لذلك ال نستطيع أن نقول بيقين كيف كان شعور ديكارت اتجاه الميتافيزيقا"‪ ،44‬ومن هنا يظهر أن‬
‫التأريخ لفيلسوف ما يظل مرتبطا ً بشخصية المؤرخ‪ ،‬بمعنى أن زاوية نظره تبقى نسبية مادام هناك جانب خفي ليس في مقدور أحد أن‬
‫فإن الرأي القائل بأن ديكارت قد تجاوز السكوالئية وأسس لنفسه فلسفة ومنهجا ً‬ ‫يعلمه وهو جانب اإلحساس الشخصي‪ ،‬وبالتالي َّ‬
‫مستقالً‪ ،‬ضرب من الخيال واالفتراض‪ ،‬وليس رأيا ً صائبا ً مطلقا ً‪.‬‬
‫اعتبار ديكارت فيلسوفا ً مكمالً للمسار الفكري الذي شيده مفكرو العصر الوسيط‪ ،‬وفيلسوفا معمقا للمذاهب الفلسفية الوسيطية‪ ،‬ال‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫إن‬
‫يحط بالقطع من منزلته كفيلسوف َمهَّ َد السَّبي َل لحقبة جديدة توجت بعصر األنوار‪.‬‬
‫إذ ال يختلف األمر مع فالسفة آخرين عن الحقبة نفسها‪ ،‬من قبيل اسبينوزا وباسكال‪ ،‬وفي العصر المعاصر‪ ،‬مثل مارتن هايدغر الذي‬
‫نال أطروحة الدكتوراه في موضوع ذي صلة مباشرة بالعصر الوسيط‪ ،‬وهو "نظرية المقوالت عند دونس سكوت"‪ ،‬وكذلك‬
‫شوبنهاور وهنري برغسون وآالن دو ليبيرا‪ ...‬وغيرهم كثير ممن شيدوا أنساقهم الفكرية بالعودة إلى العصر الوسيط‪ ،‬دون أن يكون‬
‫ذلك عامال في انحطاط درجتهم العلمية‪ ،‬وإنما كان مصدر دقة وصرامة أعمالهم الفلسفية‪.‬‬
‫من هذه الزاوية يبدو من غير المعقول أن يكون القارئ العربي غير مطلع على هذه المرحلة الرئيسة من تاريخ الفكر اإلنساني‪ ،‬في‬
‫ت الذي نؤكد فيه أن الفلسفة العربية اإلسالمية ال يمكن فهمها بدقة وعمق الزمين دن العودة الملحة إلى الفكر المسيحي في العصر‬ ‫الوق ِ‬
‫الوسيط؛ ألن أعمدة الفلسفة العربية اإلسالمية‪ ،‬أقصد ابن سينا وابن رشد وابن باجة والفارابي‪ ...‬قد تم شرح متونهم الفلسفية من قبل‬
‫أساتذة جامعة باريس في العصر الوسيط؛ فتوما األكويني وحده استدل بابن سينا أكثر من ثالث مائة مرة‪ .‬ولم يكن القديس توما مجرد‬
‫الهوتي منغلق‪ ،‬وإنما كان يمثل عصارة العصر الوسيط‪ ،‬وهذه حجة أن الفكر العربي اإلسالمي كان حيا ً وما يزال‪.‬‬
‫الهوامش‬
‫‪ .1‬إدوارد جونو‪ :‬الفلسفة الوسيطية‪ ،‬علي زيعور (المترجم)‪( ،‬بيروت‪ ،‬دار األندلس للطباعة والنشر‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ ،)1979‬ص‪:‬‬
‫‪.23‬‬
‫‪Etienne Gilson, l'esprit de la philosophie médiévale, (Paris, éd. J. Vrin, deuxième éditions 1978), .2‬‬
‫‪.p.383‬‬
‫‪ .3‬يعتبر هيغل هذا المسار الفكري الطويل "بمسار الروح"‪ ،‬وكل مدينة تمثل حقبة تاريخية بارزة‪ ،‬كما تمثل حضارة متقدمة‬
‫ومتطورة‪.‬‬
‫‪ .4‬الجامعات هي نظام تعليمي بدأ في تلك الحقبة التاريخية الوسيطية؛ نموذج جامعة باريس في القرن الثالث عشر‪.‬‬
‫‪F. Van. Steenberghen, Introduction à l’étude de la philosophie médiévale,( éd. Louvain .5‬‬
‫‪publications Universitaires (Belgique) 1974) ,p.217. « Non seulement les idées de la révolution‬‬
‫‪française avaient bouleversé toutes les doctrines traditionnelle, mais les courants de la philosophie‬‬
‫‪.» contemporaine, voltairiens et encyclopédiste en France Kant en Allemagne, Hume en Angleterre‬‬
‫‪ .6‬جونو‪ :‬الفلسفة الوسيطية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.23 :‬‬
‫‪ .7‬إميل برهييه‪ :‬تاريخ الفلسفة‪ .‬العصر الوسيط والنهضة‪ ،‬ج‪ ،3‬جورج طرابيشي (المترجم)‪( ،‬بيروت‪ :‬دار الطليعة‪ ،‬ط ‪،)1988 ،2‬‬
‫ص‪.102 :‬‬
‫‪ .8‬رينيه ديكارت‪ :‬قواعد لتوجيه الفكر‪ ،‬سفيان سعد هللا (المترجم)‪( ،‬تونس‪ ،‬دار سراس للنشر‪ ،)2001 ،‬ص‪.34 :‬‬
‫‪ .9‬ناصر حامد أبو زيد‪ :‬التفكير في زمن التكفير‪ ،‬ضد الجهل والزيف والخرافة‪( ،‬الدار البيضاء –المغرب‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬ط‬
‫‪ ،)2014 ،1‬ص‪.11 :‬‬
‫‪ .10‬إدوارد جونو‪ :‬الفلسفة الوسيطية‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪ ،‬ص‪.140 :‬‬
‫‪ .11‬كان سينيكا معلم نيرون في صباه ثم مستشاره حين صار إمبراطورياً‪ ،‬وحدث من فظائع نيرون ما هو مشهور من تقتيل وتشريد‪،‬‬
‫وكتب سينيكا كتابا ً أسماه "الرحمة"‪ ...‬وفكر سينيكا آخر األمر في أن يعتزل الحياة العامة‪ ،‬وأراد النزول عن جميع أمالكه‪ ،‬فأبى عليه‬
‫ذلك نيرون‪ ،‬واتهم الفيلسوف باالشتراك في مؤامرة سياسية‪ ،‬وأجبر على االنتحار بأمر نيرون‪ .‬ورغبت زوجنه أن تموت معه‪،‬‬
‫واجتمع أصدقاؤهما؛ وقطع سينيكا شريانا ً من شرايين ذراعه‪ ،‬وكذلك فعلت زوجته‪ ،‬وشرع سينيكا يلقي خطبة من أبلغ خطبه على‬
‫جمع من رفاقه والدم يسيل من جراحه‪ ،‬حتى مات‪ .‬أما امرأة سينيكا فعولجت بأمر من اإلمبراطور حتى شفيت من جراحها‪.‬‬
‫("حوليات" ثاكيتوس‪ ،‬انظر‪" :‬الفلسفة الرواقية " للدكتور عثمان أمين‪ ،‬مكتبة األنجلو‪ ،‬القاهرة ‪ ،1971‬ص‪.)231-230 :‬‬
‫‪ .12‬بوئثيوس‪ :‬عزاء الفلسفة‪ ،‬عادل مصطفى (المترجم)‪ ،‬مراجعة أحمد عتمان‪( ،‬القاهرة‪ ،‬دار رؤية للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة األولى‬
‫‪ ،)2008‬ص‪.145-144 :‬‬
‫‪ .13‬لسنا هنا بصدد الدفاع عن الدين ضد الفكر اإلنساني الحر‪ ،‬وإنما هنا التأكيد على الكيفية التي يتحول بها الدين من تعاليم إلى أفكار‬
‫إيديولوجية يؤولها رجال الدين حسب مصالحهم‪ .‬لهذا ال يجب إعدام هذا التراث الضخم‪ ،‬بسبب جنون رجال الدين‪ ،‬فالدين في العصر‬
‫ سمحت للفكر بالتجدد والبحث عن مصادر أخرى‬،‫ وكان عامالً في خلق نقاشات حادة‬،‫الوسيط كان مصدراً من مصادر المعرفة‬
.‫ لذلك اتجه مفكرو العصر الوسيط إلى الفكر اليوناني والفكر العربي اإلسالمي‬،‫لتنويع زوايا النظر‬
Will Durant, Histoire de la Civilisation, volume XII, l’âge de la foi III, l’Apogée du christianisme .14
tome I (1095-1300), De Georges Waringhienn (tra.), (Suisse, éd. Rencontre 1962,) p.364: « une
église qui était réellement un super Etat européen qui s’occupait du culte, de la morale, de
l’éducation, des mariages, des guerres, des croisades, des morts et des testaments de la population…
». cf. Louis Jacot, Histoire Critique de la Pensée. La bataille des idées en religion, volume I, (Paris,
éd. la pensée universelle), p.154. « Certes, au milieu d’un chaos indescriptible l’église resta le temple
.»de l’esprit, mais du petit. Pendant des siècles, l’activité intellectuelle se borna à la compilation
.68 :‫ ص‬،)1999 ‫ الطبعة األولى‬،‫ دار دمشق‬،‫ (دمشق‬،)‫ جمال شهيد (المترجم‬،‫ بين األسطرة والسياسة‬:‫ جون بيير فرنان‬.15
.40 :‫ ص‬،‫ مرجع سبق ذكره‬،‫ قواعد لتوجيه الفكر‬:‫ ديكارت‬.16
.82 :‫ ص‬،‫ نفسه‬.17
.43 :‫ ص‬،)1975 ،‫ دار الثقافة‬،‫ (القاهرة‬،)‫ عثمان أمين (المترجم‬،‫ مبادئ الفلسفة‬:‫ ديكارت‬.18
.195 :‫ ص‬،)1970 ‫ المكتبة الشرقية‬،‫ (بيروت‬،)‫ جميل صليبا (المترجم‬،‫ مقالة الطريقة‬:‫ رنيه ديكارت‬.19
‫ مؤسسة‬،‫ (القاهرة‬،)‫ محمد طلبة نصار (المترجم‬،‫ تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة‬.‫ حلم العقل‬:‫ جوتليب أنتوني‬.20
.377 :‫ ص‬،)2015 ،‫ الطبعة األولى‬،‫هنداوي للتعليم والثقافة‬
.376 :‫ ص‬،‫ نفسه‬.21
.Ilya Prigogine, la fin des certitudes, (Paris, éd. Odile Jacob, 1996) .22
Etienne Gilson, Etude sur le rôle de la pensée médiévale dans la formation du système .23
cartésienne,( Paris, éd. J. Vrin, Quatrième éditions 1975), p.191. « Après avoir lu le discours de la
méthode, Mersenne attire l’attention de son ami la ressemblance de son argument avec celui de saint
Augustin : De Civitate Dei]… [ Dés ce moment, l’attitude de Descartes s’annonce clairement : le
rapprochement ne l’intéresse pas, parce que, dit-il, saint Augustin . Plus tard, à l’occasion des
Méditations, c’est Arnauld qui attire l’attention de Descartes sur la ressemblance de son argument
avec celui de saint Augustin. De Trinitate (livre x). Admiration de saint Augustin et de Descartes,
Arnauld se réjouit de constater leur rencontre et trouvant à peu prés la même chose dans les deux
.» textes
E. Gilson, Index scolastico-cartésien, (Paris, éd. J. Vrin, seconde édition. 1979), p. (introduction). .24
« On a longtemps considéré que le principal titre de la gloire de Bacon et de Descartes avait été de
constituer une philosophie radicalement détachée de toutes philosophie antérieur, et d’en construire
.» l’édifice entier à nouveaux frais
François Picavet, Essais sur l'histoire générale et comparée des théologies et des philosophies .25
Médiévales, (Paris, éd. Librairie Félix Algan, 1913), P. 329. "Descartes n'a rien inventé du tout, mais
qu'il a emprunté tous ses principes de physique et de métaphysique, à quelque philosophe antérieur:
le doute méthodique, le critérium de l'évidence et les règles générales de la méthode, à Aristote et à
saint Augustin; la distinction de l'âme et du corps à Platon, à Epicure et aux autres philosophes
dogmatiques; la preuve de l'existence de Dieu à saint Augustin, à Claudien Mamert, à saint
."Anselme
E. Gilson, Etude sur le rôle de la pensée médiévale dans la formation du système cartésienne, .26
Op.Cit. p. 192. « Rien dans les réponses de Descartes, ne permet de conclure qu’il ait lu ou non
Augustin. Sans doute, les probabilités qu’il l’ait lu sont grandes, mais on n’en peut faire une certitude
» et toutes les spéculations sur se sujet sont condamnées à rester purement hypothétiques
Ibid., p. 192. « Elle est définie clairement dans les quelques mots de sa réponse à Mersenne que .27
nous avons cités. Saint Augustin peut avoir déjà dit la même chose, mais pas dans la même sens
» parce que en vue de la même fin
Ibid., p.193 .« La question implicitement posée par Arnauld était claire : le je pense est-il le .28
» premier principe des deux philosophes ? La réponse de Descartes est aussi aimable qu’évasive
Ibid., p.193 .« Vous m’avez obligé de m’avertir du passage de saint Augustin, auquel mon je .29
pense, donc je suis a quelque rapport ; je l’ai été lire aujourd’hui en la bibliothèque de cette
» ville(leyde)
Ibid., p.193.« Saint Augustin n’en sert pour retrouver l’image de la trinité en l’homme, au lieu .30
que Descartes s’en sert pour prouver la distinction réelle de l’âme et du corps, avec toutes ses
» conséquences, cette position a été formulée par Pascal
Ibid., p.195.« Exactement comme Descartes, Augustin s’est objecté à lui-même tous les .31
arguments des sceptiques : erreurs des sens, illusions du rêve et de la folie et autres raison de douter
» aussi connues
E . Jeauneau, la philosophie médiévale, (Paris, P.U.F. (que sais-je ?), Troisième édition, 1975).p.3 .32
.« Elle peut et doit réveiller en nous cette faculté que tous le monde possède, si l’on en croit Plotin,
»mais dont peu font usage
E. Gilson, Etude sur le rôle de la pensée médiévale dans la formation du système cartésien, .33
Op.Cit. p.234. «C’est un des trait caractéristique du cartésianisme que le besoin d’en appeler à Dieu
.»pour garantir la certitude
.99 :‫ ص‬،‫ مصدر سبق ذكره‬،‫ مقالة الطريقة‬:‫ ديكارت‬.34
.E. Gilson, La Liberté chez Descartes et la Théologie, (Paris, éditions J. Vrin, 1987). p.9 .35
E. Gilson, Index scolastico-cartésien, Op.Cit. p.358. « Ce qui les étonnerait peut être le plus, s’ils .36
revenaient parmi nous, serait des philosophes qui ne soient ni des astronomes, ni des physiciens ni
.» des biologistes. La scolastique enseignée à Descartes était tout cela à la fois
Ibid., p.359. « Une critique de la métaphysique de l’Ecole n’était pas nécessaire pour cela, car .37
» toute la doctrine étant liée dans ses principes et sa méthode
.Ibid., p.360 .38
‫ المشروع‬،‫ (مصر‬،)‫ إمام عبد الفتاح إمام (المراجع والمقدم‬،)‫ محمود سيد أحمد (المترجم‬،‫ تاريخ الفلسفة الحديثة‬:‫ وليم كلي رايت‬.39
.99 :‫ ص‬،)2005 ،2 ‫ ط‬،‫القومي للترجمة‬
.E. Gilson, Index scolastico-cartésien, Op.Cit. p. IV .40
Ibid., p.360. « Le cartésianisme est donc né en de hors de la scolastique il ne s’est trouvé en .41
.» conflit avec elle que parce que, pour la remplacer
.E. Gilson, Réalisme thomiste et la critique de la connaissance, (Paris, éd. J. Vrin 1986), p.96 .42
.Ibid., p.93 .43
»Ibid. p364. «La psychologie personnelle d’un philosophe échappe à l’historien de sa philosophie .44

You might also like