Professional Documents
Culture Documents
نقصد بالعلمانية ،بشكل عام ،الضرورة االجتماعية والسياسية لفصل الممارسات الحكومية أو الدستورية أو
ضا للداللة على ذلك المبدأ الداعي ،سواء في القضائية عن الدين و/أو عن المعتقدات الدينية F،لكن التعبير يستعمل أي ً
الممارسات العامة أو الخاصة ،إلى تفضيل األفكار والقيم العلمانية على الطرائق والقيم الدينيةF
ما يعني ،أنه من أحد جوانبها ،يمكن أن تفهم العلمانية بأنها المبدأ الداعي إلى االنعتاق من القوانين الدينية وما تبشر
به ،وإلى االنعتاق من فرض المؤسسات والحكومات الدين على الناس ضمن إطار دولة تتخذ موقفًا حياديًا في
.قضايا اإليمان ،وال تعطي األديان أية امتيازات و/أو أية مساعدات خاصة
اختلفت الحجج التي تؤيد العلمانية من بلد إلى آخر ومن عصر إلى آخر .ففي أوروبا ارتبطت العلمانية بحركة
التنوير والحداثة التي أدت في نهاية المطاف إلى االبتعاد عن القيم الدينية التقليدية وإلى فصل المؤسسات الدينيةF
عن الدولة التي أضحت مل ًك ا لجميع مواطنيها بغض النظر عن معتقداتهم الدينية أو الفلسفية ،وهي في الواليات
المتحدة ارتبطت بتأسيس الدولة وساهمت في حماية الدين من التدخالت الحكومية
وقد استخدم التعبير ألول مرة عام 1846من قبل الكاتب والفيلسوف البريطاني جورج هولي أوك .لكن ،ورغم أن
هذا التعبير كان حديثًا بحد ذاته ،إالّ أننا نجد دائ ًم ا عبر التاريخ تلك المفاهيم العامة التي استند إليها ،والمرتبطة
بحرّية التفكير؛ وخاصةً بالنسبة لنا كعرب ،نجد هذه المفاهيم لدى أولئك الفالسفة الذين كانوا يدعون إلى التمييز
بين الفلسفة وبين الدين كابن رشد ومدرسته على سبيل المثال
في علمانية الدولة
بوسعنا أن نقول ،من الناحية السياسية ،أن العلمانية هي اتجاه وفهم وممارسة يهدف إلى فصل الدين عن الحكومة،
ما يعني تخفيف الصالت بين هذه األخيرة وبين ما يمكن تصوّره دينًا للدولة بحيث تستبدل القوانين المستندة إلى
الكتب المقدسة (كالتوراة واألناجيل والقرآن) بقوانين مدنية تلغي أي تمييز بين األفراد على أساس ديني؛ ما يعني،
على أرض الواقع ،تعميق الديموقراطية وحماية حقوق األقليات الدينيةF
من هذا المنطلق ،يفضل العلمانيون أن تتخذ مؤسسات الدولة والقضاء ،ومن خاللها السياسيون ،قراراتها من
منطلقات علمانية وليس دينية؛ Fويمس هذا ،بشكل خاص ،مفاهيم مدنية واجتماعية كالزواج والطالق واألرث،
إلخ ...وقد أضحى هذا المفهوم مقبوالً ،بشكل أو بآخر ،في معظم أرجاء العالم ،ولم يعد يرفضه في أيامنا هذه إالّ
األصوليون (من المسيحيين والمسلمين واليهود) الذين ما زالوا إلى اليوم في مجتمعاتنا -ومع األسف -قوة سلبية
.مؤثرة
تتجلى العلمانية في المجتمعات المعاصرة ،وخاصة الغربية منها ،بقبول مبدأ الح ّرية الدينية الكاملة .حيث بوسع
المرء أن يؤمن بأي دين أو أن ال يؤمن على اإلطالق ،أن يبقى على دينه أو أن يتحول إلى دين آخر بكل حرّية.
وهذا ألنها مجتمعات ال تقرر األديان فيها سياسات الدولة التي يفترض أن تخدم المصالح المشتركة لجميع
مواطنيها -مع التأكيد أن هذا ال يعني البتة رفض األديان و/أو محاربتها
المجتمعات التي ترفض التماهي الكلّي مع أية رؤية أو مفهوم محدد لطبيعة الكون ولدور اإلنسان فيه -
المجتمعات التي تؤمن بالتسامح وتمارسه ،ما يعطي هام ًشا أوسع للحرية الفردية -
الخالصة
يمكن أن تكون العلمانية أخالقيًا ،بشكل عام ،وكما ع ّرفها ذات يوم جورج هولي أوك مجرد
مد ّو نة واجبات مدنية تنطلق من اعتبارات إنسانية محضة ...وتستند إلى ثالث مبادىء أساسية تقول
أنه من الجيد فعل الخير ،وسواء وجد شكل آخر للخير أم لم يوجد ،فإنه من الجيد السعي لتحقيق هذا الخير – 3
__________________________________
وضع الربيع العربي أسسا ً جديدة لمستقبل مختلف ،فال عودة إلى ما كانت عليه عقلية الحكم التي مارستها معظم األنظمة،
:لكن يبقى السؤال
هل ستنتج تلك الثورات أنظمة ديموقراطية حقيقية ،تلبي طموحات الشباب العربي وتؤسس لبلدان وأنظمة متطوّرة؟
أن هناك ظاهرة مخيفة ظهرت في السنوات األخيرة ،وتحديداً منذ احتالل العراق ،وتط ّورت تطوراً ال يخفى على أحد ّ
ً
،ملحوظا بعد بدء الثورات في البلدان العربية ،هي ظاهرة العودة إلى العصبيات الطائفية والمذهبيةF
فما يشهده العراق اليوم هو حرب طائفية حقيقية .كذلك تستعر نار الطائفية في مصر ،إلى ح ّد دعا بعض مجموعات
أن الوضع في مصر وصل إلى مرحلة المواجهات الطائفية ،ويستلزم ذلك جهداً مخلصا ً المجتمع المدني إلى التحذير من ّ
لنزع الفتيل قبل فوات األوان .أما في سوريا ،فمما ال شك فيه ّ
أن جذور األزمة تعود إلى انقسامات طائفية تاريخية .وفي
لبنان ،شهدت السنوات األخيرة خطابا ً طائفيا ً خطيراً ،رغم شعارات الوحدة الوطنية والعيش المشترك ،فبات كل مواطن
لبناني مشدوداً إلى طائفته على نحو غير مسبوق ،حتى بات التلطي وراء الطائفة سلوكا ً ينتهجه كل فرد ،ويمنحه حصانة
.مميزة في وجه المحاسبة والعقاب
الخطير في المشهد اليوم هو تقاطع األوضاع في الدول العربية مع ما كان يرسم من استراتيجيات وخطط للمنطقة ،منذ
انتهاء الحرب العالمية ،وصوالً الى ما س ّم ي الشرق األوسط الجديد .وال ننسى حين وصفت كوندوليزا رايس حرب تموز
2006.بمخاض الشرق األوسط الجديد
أن اإلمعان في المشهد الحالي يستحضر الكثير من االستراتيجيات التي رسمتها ال يحبّذ الكثيرون نظريات المؤامرة ،إال ّ
دول فاعلة ومراكز ق ّوة ،لضمان مصالحها هنا .المفكر اإلسرائيلي أوديد Fينون ،مثالً ،كان قد وضع في 1982استراتيجية
تحت عنوان «استراتيجية إلسرائيل في الثمانينيات والتسعينيات» تح ّولت إلى مرتكز تقوم عليه سياسة إسرائيل في المنطقة،
.وتهدف إلى تقسيم الشرق األوسط إلى دويالت طائفية ضعيفة
يقول ينون في معرض تصويره للمنطقة العربية« :هذا العالم العربي اإلسالمي ،بمجموعاته الطائفية وانقساماته وأزماته
الداخلية التي تع ّد عامل تدمير ذاتي مدهش كما نرى في لبنان ،هو غير قادر على التعامل بفعالية مع مشاكله األساسية،
وبالتالي ال يمثّل خطراً على دولة إسرائيل على المدى البعيد ،هذا العالم سيكون عاجزاً عن االستمرار بصيغته الراهنة إذا لم
إن العالم اإلسالمي العربي مصنوع كبيت من ورق مؤقت ،صممته الدول يجر تغييرات جذرية تواكب المرحلة المقبلةّ .
ِ
الغربية بصيغته الراهنة ،وقسّم قسراً إلى 19دولة مؤلفة من جماعات مذهبية وطائفية تحمل العدائية بعضها لبعض،
فإن كل دولة عربية تواجه فتيل تفكك طائفي إثني اجتماعي ».وبالتالي ّ
إن السادات عبّر في إحدى خطبه عن قلقه من أنويتابع« :في مصر ،هناك أكثرية سنية حاكمة تواجه أقلية مسيحية ،حتى ّ
تطالب األقليات المسيحية بدولة مستقلة ،شيء يشبه لبنان المسيحي في مصر .سوريا ال تختلف عن لبنان إال بنظامها
العسكري القوي ,أما دول الخليج ،والمملكة العربية السعودية ضمنها ،فهي مبنية كبيت ضعيف من الرمال ،في الكويت يمثّل
».الكويتيون ربع السكان ،في البحرين األكثرية شيعية لكنّها محرومة من الحكم
ويحدد ينون أهداف االستراتيجية كاآلتي :العمل على تقسيم مصر إلى مناطق محددة جغرافياً ،وتقسيم سوريا والعراق إلى
.مناطق طائفية ومذهبية Fمثل لبنان ،وذلك من األهداف الرئيسية إلسرائيل على الجبهة الشرقية
يحلّل الكاتب آالن شوييه ،مدير االستخبارات الفرنسي السابق ،في كتابه «في قلب االستخبارات الخاصة :التهديد اإلسالمي
،ـــــ أرضية خاطئة وأخطار حقيقية» ،واقع الثورات العربية
إن المشكلة هي في «انتقال الدول إلى الديموقراطية بعدما فرضنا عليها أنظمة ديكتاتورية ألكثر من خمسين عاماً»،
ويقول ّ
ّ
فالديموقراطية هي عملية ذاتية ،تتك ّون داخل مجتمع وال تفرض من الخارج أو عبر السالح .ويذكر بمخطط الشرق األوسط
الجديد انطالقا ً من كيسنجر الذي رسم تصوراً للمنطقة ،والمفكر أوديد ينون الذي رأى أنّ المصلحة االستراتيجية إلسرائيل
وألميركا في المنطقة هي بتفكيكها إلى دويالت ومجموعات طائفية .ويبرر ذلك وجود إسرائيل في الدرجة األولى كدولة
.إثنية ،ويجعلها محاطة بدويالت ضعيفة ال تمثّل تهديداً على المدى البعيد
إنّ تصوير المنطقة على أسس طائفية ،يتجلى في نمط التفكير المعتمد ،الذي تروج له إسرائيل يوميا ً .وفي دراسة للكاتب
أن هناك مشكلة هوية حقيقية في البلدان العربية ،حيث يغلب افريم هايفي نشرها «مركز أورشليم للشؤون االجتماعية» ،جاء ّ
ّ
االنتماء الطائفي أو القبلي االنتماء إلى الوطن أو الجماعة ككل .وبالتالي ،يمثل ذلك أزمة لتلك البلدان على المدى البعيد .وفي
أن االستراتيجية األفضل للتغلب على الجمهورية اإلسالمية معرض تحليلها للصراع اإلسرائيلي مع إيران ،رأت الدراسة ّ
ً ً
.ليست الوسائل العسكرية ،بل خلق مجموعة من البلدان الفاعلة في المنطقة ترى في إيران الشيعية تهديدا مباشرا لها
إنّ إسقاط الطابع اإلسالمي على دول المنطقة هو استراتيجية إسرائيلية متقدمة ،تبرر من خاللها وجودها كدولية إثنية،
إن خلق دويالت طائفية وإثنية حول إسرائيل، وكذلك ،كدولة ديموقراطية وحيدة ،حليفة للغرب .ويقول شوييه في هذا السياق ّ
يخدم االستراتيجية األميركية واإلسرائيلية على المدى الطويل .مثالً ،خلق دويالت :مارونستان ،دروزستان ،عالويستان...
ي مواطن عربي يدرك تلك أن أ ّتكون عاجزة وضعيفة وتمثّل دوالً عازلة بين إسرائيل وما س ّماه المحيط السني .الالفت ّ
.المخططات جيداً ،لكن نرى في المقابل انحدارا غريبا إلى الطائفية والمذهبيةF
ً ً
يرى شوييه «أنّ الثورات العربية األخيرة صنعها شباب متحمس ،مع وسائل تقنية متطورة وديموقراطية .تلك الفئة من
الشباب غير المنظم حزبيا ً ستتالشى على الصعيد السياسي ،ليحل محلّها أشخاص أكثر جدية ،ضالعون بالعمل السياسي».
أن األحزابينطلق شوييه من تلك الفكرة ليجزم بأنّه «ال يوجد حاليا ً إال اإلخوان المسلمون للقيام بذلك الدور ،وخاصة ّ
العلمانية األخرى فشلت في اكتساب شعبية على المستوى السياسي» .ويتابع« :إنّ الواليات المتحدة وحلفاءها األوروبيين
ينظرون إلى اإلخوان المسلمين اليوم على أنّهم يمثلون اإلسالم المعتدل في المنطقة» .ورأى ّ
«أن الواليات المتحدة تؤدي
دوراً رئيسيا ً في األحداث في المنطقة ،فهي ال تملك المال ،وبالتالي لم تعد Fقادرة على مد الجيوش العربية بالدعم ،تحديداً
الجيش المصري ،ولذلك يجب أن تخلق أنظمة جديدة تستطيع أن تضبط الشعوب العربية من دون أن تضطر الواليات
».المتحدة إلى الدفع لها مقابل ذلك .لكن ما يلزمها هو سلطة مدنية سياسية تكون رافعة للجيش من دون أن تسيطر عليه
يطرح المراقبون أسئلة من نوع :هل تخطط الواليات المتحدة فعليا ً لخلق أنظمة شبيهة بالنموذج التركي ،أي التزاوج بين
إن الخطورة في ذلك تكمن في ّ
أن الواليات المتحدة ال تتطلع بالفعل إلى أنظمة ديموقراطية سلطة الجيش وحزب إسالمي؟ ّ
علمانية ليبرالية .ج ّل ما تريده واشنطن هو خلق أنظمة تستطيع أن تسيطر على شعوبها بأقل كلفة ممكنة .فحدود
الديموقراطية المطلوبة تكمن في ضمان مصالح الواليات المتحدة في المنطقة .الديموقراطية في تركيا يختصرها رئيس
إن الديموقراطية مثل الباص ،نترجل منها عند الوصول ».الوزراء التركي رجب أردوغان بقوله الشهير ّ
يقول المفكر والكاتب األميركي ،نوام تشومسكي ،إنّ الواليات المتحدة وحلفاءها سيحاولون القيام ما في وسعهم لمنع
الديموقراطية األصيلة في العالم العربي .السبب بسيط جداً ،فاألغلبية الساحقة من السكان في الدول العربية تتطلع إلى
الواليات المتحدة باعتبارها التهديد Fالرئيسي لمصالحها ،وتتصرف واشنطن على هذا األساس :ما دام هناك ديكتاتور مطيع،
فاتركه يفعل ما يشاء .وينطبق ذلك على الدول النفطية تحديداً .أما في وضع مصر وتونس مثالً ،فاللعبة هي كاآلتي :لديك
ديكتاتور تحبه ،لكنّه يواجه المشاكل ،ادعمه إلى أقصى حدود ،وإذا لم يعد باإلمكان دعمه ،فتخ ّل عنه وأرسله إلى مكان
آخر ،أطلق شعارات رنانة حول الديموقراطية وحقوق اإلنسان والربيع اآلتي ،ثم أع ّد النظام القديم ،لكن بأسماء جديدة.
...هذا ما فعلته الواليات المتحدة سابقا ً في هاييتي ،وتايوان ،وكوريا الجنوبية
.ولكن يجب أال تتح ّول تلك الحاجة إلى مطيّة تستغلها أجندة خارجية لتطبيق «سايكس بيكو» جديد
.فالعلمانية تُ َع ّد حالً جذريا ً لخلق أنظمة ديموقراطية حقيقية تكون ضامنة للتعدد الديني والحقوق
أن األحزاب العلمانية فشلت في تأسيس أرضية صلبة ألفكارها وتطلعاتها ،ويعود ذلك إلى عوامل ع ّدة متراكمة .ولكن
إال ّ
ّ
التح ّوالت الجارية في المنطقة اليوم ،والتحديات التي تواجه الشعوب العربية قد تساهم في إخراج تلك األحزاب من أزمتها
.وطرح مشاريعها بديالً من التقوقع الطائفي والتعصّب المد ّمر
لذلك ،يجب على القوى الحيّة أن تسارع إلى تقديم نموذج فريد ومغاير لما يرسم للمنطقة ،وتطوير ذاك النموذج عبر اعتماد
العلمانية وفصل الدين عن الدولة ،وتحديث المجتمع المدني بدءاً بالتعليم إلى اعتماد إدارة شفافة بعيدة عن المحاصصات
.الطائفية تكون الكفاءة الركن األساسي فيها
http://www.al-akhbar.com/node/22051
)(40
و بعد ،فان كثيراً من المعترضين على مقاالتي قد تمسكوا بالحجة القائلة إن تطبيق الشريعة هو اآلن مطلب شعبي واسع
النطاق .و لست أملك أن أخالف رأيهم في هذه المسألة ،و لكن كل ما أستطيع أن أرد به عليهم هو أننا نشأنا في بلد اسالمي و
ظللنا عشرات السنين ال نعرف اال مواطنين متدينين معتدلين Fيمارسون العبادة من خالل العمل و الكفاح في سبيل النهوض
بأنفسهم و مجتمعهم ،و لم تكن صيحة المطالبة بتطبيق الشريعة إال صي
حة خافتة ال تأثير لها على المجرى العام لحياة الناس .هذه هي صورة الدين كما عرفه شعبنا طوال أجيال عديدة .أما الموجة
الحالية فانها برغم انتشارها الواسع ،ظاهرة جديدة و دخيلة على التدين المصري العاقل الهادئ .و كأي ظاهرة دخيلة ،ينبغي
علينا أن نتعقب أسبابها إلى عوامل طارئة ،كالقمع و التسلط الفكري و السياسي و انعدام المعارضة و النقد ،و إلى عوامل
خارجية مثل سعي الثروة البترولية إلى تأمين نفسها ،و بحث القوى المعادية لتقدمنا عن وسيلة لتخدير عقولنا و تفريق
.صفوفنا و صرف انتباهنا عن خصومنا الحقيقيين في الداخل و الخارج
"د .فؤاد زكريا -من كتابه "الحقيقة والوهم في الحركة اإلسالمية المعاصرة
)(39
و أخيراً فان هذا الحلم الوردي يؤدي بأصحابه إلى المبالغة في تأكيد قدرة أولي األمر ،في المجتمع المثالي الذي يدعون
إليه ،على تطوير تعاليم الدين بحيث يستطيع المجتمع أن يواجه بها تحديات القرن الحادي و العشرين .فهل لهذا األمل ما
يبرره؟
لكي نجيب عن هذا السؤال دعونا نستشهد بمثال واحد .فقد ظل العالم االسالمي سنوات طويلة عاجزاً عن االتفاق على تحديدF
موعد بدء الشهور القمرية ،و اختلف المسلمون مراراً في ت
حديد اليوم الذي يبدأ فيه الصوم أو عيد الفطر ،و كان مرجع هذا االختالف هو االصرار على تفسير كلمة "الرؤية" في
الحديث "صوموا لرؤيته و افطروا لرؤيته" على انها تعني الرؤية بالعين المجردة ،و العجز عن االعتراف بأن األجهزة
الفلكية هي أدق وسيلة لحساب موعد بدء الشهور القمرية .و في كل عام تثار من جديد قضية "الرؤية" و ترفض المؤسسات
.و المنظمات الدينية ،الرسمية منها و غير الرسمية ،أي تفسير غير رؤية الشهود بعيونهم الكليلة
و لم نسمع طوال عشرات السنين عن جماعة اسالمية من الجماعات المطالبة بتطبيق الشريعة ،اتخذت موقفا ً حاسما ً و
وافقت على مراعاة هذا الحد األدنى من المرونة في تلك المسألة البسيطة ،و أغلب الظن أن موعد شهر رمضان في عام
2000سيتحدد أيضا ً في ضوء ما يراه شيوخ يجهدون عيونهم الضعيفة ساعة الغروب ،و أغلب الظن أيضا ً أن البالد
العربية ستظل في مطلع القرن القادم عاجزة عن االتفاق على مطلع شهر الصوم أو نهايته ،فاذا كنا نواجه كل هذا القدر من
الجمود في مسألة بسيطة كهذه فهل نستطيع أن نطمئن إلى قدرة هذه المؤسسات و الجماعات على تكييف عقيدتها على نحو
يتيح لها أن تواجه تحديات عصر العقول االلكترونية و السفر بين الكواكب ؟ أال يدعونا هذا المثل الواضح إلى الشك في كل
ما يقدمونه إلينا من امنيات باسم هذا الحلم الوردي؟
د .فؤاد زكريا -من كتابه "الحقيقة والوهم في الحركة اإلسالمية المعاصرة
J’aime · · Partager
)(28
و اليضاح طبيعة ظاهرة العنف و دورها في تكوين هذه الجماعات لننظر إلى شيوع ظاهرة "التكفير" عندهم ،و سهولة
إطالق هذا الوصف .فالدولة في هذا العصر "كافرة" ،و من ال يحكم بالشريعة اإلسالمية و يطبق حدودها "كافر" ،و من
يفكر في غير االطار االسالمي البحت "كافر" ،بل ان المسلم الذي ال يسايرهم في تفسيراتهم هو في بعض االحيان "كافر"،
و ربما كان لفظ "كافر" هو أكثر األلفاظ تردداً على ألسنة المتهمين في تحقيقات ت
.نظيم الجهاد
و هنا ينبغي أن ننتبه إلى أن صفة "الكفر" هذه ليست في اإلطار الفكري لهذه التنظيمات شيئا ً هينا ً على االطالق .فهي ال
تعبر عن معارضة أو استنكار أو نقد عقلي فحسب .بل انها إدانة كاملة ،و إحالل للدم و المال ،و "محو" من الوجود .و كل
من تلصق به هذه الصفة ينبغي استئصاله و الغاؤه و إخراجه من مجال الفكر و الواقع .فالتكفير حكم باالعدام يتخذ طابعا ً
معنويا ً طوال الوقت الذي ال تكون القدرة على تنفيذه الفعلي متوافرة ،و لكن بمجرد أن تكتمل هذه القدرة يصبح تنفيذه أمراً
ضرورياً ،و يتم تطبيقه عمليا ً بكل هدوء نفس و راحة ضمير ،ألنه يصبح عندئذ واجبا ً دينياً F،و مثوبة في الدنيا و مدخالً إلى
.الجنة في اآلخرة
و بعبارة أخرة فإن التكفير هو المقابل الديني للسجن و القمع و التعذيب و االعدام الذي تملكه السلطة الدنيوية .و اذا كانت
الحكومة تستطيع أن تعزل خصومها عن المجتمع و تسكت ألسنتهم أو توقف نبضات قلوبهم ،فان الجماعة الدينية تفعل هذا
الشيء نفسه مع من يعارضها ،و لكن بطريقتها الخاصة ،و اذا كان هذا المحو من الوجود في الحالة األخيرة ال يتخذ الشكل
المادي في معظم األحيان ،فما ذلك إال ألنهم ال يحكمون ،و ال يملكون زمام األمور ،و لو حكموا لطبقوا هذا "المحو من
.الوجود" على نحو أوسع بكثير مما تمارسه الحكومات العلمانية مهما بلغت درجة دمويتها
و هكذا فإن العنف و كما هو جزء ال يتجزأ من االسلوب العسكري في الحكم ،فإنه بقدر أكبر ينتمي إلى صميم البناء الذهني
للجماعة الدينية Fالمتطرفة .و مجرد استخدام أفراد هذه الجماعة على نطاق واسع للتعبير "فالن كافر" أو "هذه الدولة أو
المؤسسة كافرة" يعادل بالضبط استخدام حاكم مثل السادات لتعبير "الذي يعارض سأفرمه" .بل ان سحق الخصوم يكون
أشد عنفا ً في الحالة األولى ،ألنه يتم عندئذ Fبضمير مستريح و ال يقترن على االطالق بذلك الوعي بالقسوة و البطش
.المقصود لذاته الذي يكون لدى الحاكم العلماني المستبدF
"د .فؤاد زكريا -من كتابه "الحقيقة والوهم في الحركة اإلسالمية المعاصرة
J’aime · · Partager
13 personnes aiment ça.
)(25
و بعد هذا كله ،دعونا نفكر في النموذج الذي تقدمه هذه االتجاهات المتطرفة لشبابنا ،لتلك األلوف المؤلفة من
إخوتنا و أبنائنا في الوطن ،الذين ينضمون إلى هذا الفكر بال وعي ،و لكن بحماسة جارفة ،هل نرضى نحن بحق
أن تكون صورة شبابنا هي صورة ذلك الفتى الذي يغمض عينيه أو يحلق بها في السماء و ال يعرف كيف يبتسم أو
يضحك من كل قلبه ،و الذي ال يستمتع بالفنون وال يطرب لها ،و يمتنع عن مشاهدة التلفزيون (كما كان
خالد االسالمبولي يفعل) ،أو تلك الفتاة التي ترى أن نظرتها إليك في عينيك عندما تخاطبك حرام ،و التي تلف
نفسها بألف غطاء و غطاء ألنها تفترض ضمنا ً أن أنوثتها عيب ،و أن عيون الرجال ال تقع عليها إال لكي تشتهيها
،و أن عليها هي أن تدفع ثمن أطماع الرجال على حين أن الطامعين أنفسهم ال يتحملون شيئا ً ؟ هل النموذج الذي
نريده ألبنائنا هو ذلك الشباب المطيع الذي يعطل عقله و يلغيه و بتبارى مع غيره في التراشق بالنصوص بدالً Fمن
أن ينتقد و يفكر و يبدع Fالجديد ؟ أليس من واجب المفكر المسؤول أن ينبه إلى هذا المرض الذي يزداد انتشاره
يوما ً بعد يوم حتى لو كان يعلم بأنه يعرض بذلك سالمته الشخصية للخطر إزاء جماعة يضيق صدرها بالمناقشة
المنطقية التي لم تتعود عليها ،و تلجأ كلما ضاقت بها الحجة إلى حسم الجدال بقبضة اليد ؟
"د .فؤاد زكريا -من كتابه "الحقيقة والوهم في الحركة اإلسالمية المعاصرة