Professional Documents
Culture Documents
رشيد رضا وشكيب أرسلان
رشيد رضا وشكيب أرسلان
يسرد األمري شكيب أرسالن قصة عالقته بالسيد رشيد رضا يف كتاب "إخاء أربعني سنة"،
فيستهلها بذكر البدايات فيقول" :الذي أتذكره أنه يف سنة 1312هـ وفق سنة 1895م قيل يل
يف بريوت إن شاباً أديباً من طرابلس الشام يسأل عنك ويهمه االجتماع بك ( .)...وما مضت
أيام حىت جاءين ،وكنت نازالً يف فندق ببريوت يقال له "كوكب الشرق" ()...
املرة األوىل كان بدء احلديث تعبري السيد رضا عن ولعه بقراءة مرة أوىل وثانية وثالثة ،يف ّ
وكان أن التقياّ ،
ديوان شكيب أرسالن املسمى "بالباكورة" والذي كان قد نشره عندما كان يف السابعة عشرة من عمره (أي
يف العام .)1887
على أن مقصد التعارف كان أبعد من ذلك ،وكما يستنتج من قراءة السرية املشرتكة ودالالت النص:
فالقصد األول :طلب رضا من أرسالن أن حي ّدثه عن اتصال هذا األخري باملصلحني اللذين ذاع صيتهما يف
فهم اإلصالح أوالً كان مشرتكاً منذ البدايات. العامل اإلسالمي السيد مجال الدين األفغاين والشيخ حممد عبدهّ .
تتسرب خفية إىل الداخل املرجعية املباشرة هلذا اإلصالح ،تتمثل يف أفكار نشرات "العروة الوثقى" اليت كانت ّ
العثماين ،وعرب أقنية اتصال ،تتمثل بأفراد من خنب هتيأت هلا فرص االتصال بالشيخني مجال الدين وحممد عبده.
أما القصد الثاين :وهو قصد إجرائي متعلق باألول ،فقد عرّب عنه رشيد رضا يف مقابلته الثالثة يف العام
أسر إىل شكيب أرسالن بعزمه إىل السفر إىل مصر لتأسيس جملة إصالحية "وأوصاه آنذاك ،1897عندما ّ
بكتمان اخلرب" .ويعلق أرسالن على ذلك "ألنه جيوز أن احلكومة يف حال معرفتها باخلرب أن متنع الشيخ رشيد
من السفر ،فقد كنا يف عصر السلطان عبد احلميد ال نقدر على السياحة إىل اخلارج إال بإذن ،وكان هذا اإلذن
متعذراً كثرياً( ".ص .)145
ويذكر أرسالن يف هذا السياق ما جرى من حديث بني رشيد رضا وعبد القادر القباين صاحب جريدة
"مثرات الفنون" .واحلديث يكشف ما كان عليه حال االجتماع السياسي العثماين يف عالقته باحلريات السياسية
متايزات يف مواقف خنب ذاك العصر وسلم ٍ والفكرية ،وقضايا اإلصالح بشكل عام ،ولكنه كان يكشف أيضاً
األولويات فيها.
الحوار بين رشيد رضا وعبد القادر القباني في العام :1897
"عرض علي عبد القادر أفندي القباين أن أقيم يف بريوت وأتوىل رئاسة التحرير جلريدته ،إذ أخربته بعزمي
على إنشاء صحيفة إصالحية يف مصر ،فنقلت له أن احلرية اليت يف بريوت ال تسعين فقال :أو تريد أن تنتقد
عبد احلميد أو أن ختوض يف سياسته؟ قلت إمنا أريد إصالح األخالق والاجتماع والرتبية والتعليم ،قال :إن لك
أوسع احلرية يف هذا ،قلت :إذا أردت أن أكتب يف فضيلة الصدق ومضار الكذب ومفاسده ،فأبني أن أكرب
عجل بالذهاب إىل أسباب فشو الكذب يف األمم احلكم االستبدادي أتنشر يل ذلك جريدتكم؟ قال :ال الّ ،
مصر وال خترب أحداً( ".إخاء أربعني سنة ،ص.)129
إذن ،إ ّن أو إشكالية االستبداد على وجه العموم هي اليت يطرحها رشيد رضا يف حيثيات سفره ،بدءاً من
معاناة هذا االستبداد يف أسلوب الرتبية والثقافة الصوفية السائدة وفقه احلشوية (كما يسميهم) إىل معاناة ذلك
يف مؤسسات السلطنة العثمانية ومشيختها واليت كانت تتمثل آنذاك يف دور أيب اهلدى الصيّادي وسياسته جتاه
ولعل أبرز من نقل هذه املعاناة من حيز معايشة الظاهرة إىل حيز وعيها وجتليها وعقل أسباهبا
احلياة الثقافيةّ .
واستقراء نتائجها يف الطبائع والسلوك والثقافة اليومية هو عبد الرمحن الكواكيب يف كتابه "طبائع االستبداد".
وإن كان كل من رشيد رضا وشكيب أرسالن قد عاين الظاهرة وعرّب عنها كل من موقعه :رشيد رضا
من موقع الفقيه املهاجر الذي يبغي من هجرته ممارسة اإلصالح من كل وجوهه الرتبوية والدينية والسياسية،
وشكيب أرسالن من موقع املثقف املقيم املنتمي إىل بيت إمارة ،يف نظام السلطات األهلية يف الدولة العثمانية
ولكن املنتمي أيضاً إىل ثقافة إسالمية تنويرية .هذه الثقافة كان يتم تلقي عناصرها من أفكار مجال الدين وحممد
عبده أوالً ،ومن خالل اطالع واسع وتدرجيي على تاريخ إسالمي عريق وحضارة إسالمية زاهرة اكتسبت
عامليتها بفعل دورها الرائد يف مراحل معينة من التاريخ العاملي .فضالً عن حالة التماس مع احلضارة األوروبية
احلديثة ،األمر الذي يدعو إىل املقارنة بني التواريخ واىل طرح السؤال املهم والدائم الذي صاغه أرسالن :ملاذا
تأخر املسلمون وتقدم غريهم؟
وكانت الدولة العثمانية ال زالت تشكل يف هذه الثقافة املكونة لوعي أرسالن معلماً من معامل هذا التاريخ.
فكيف إذا هتدد مصري هذه الدولة بالتقسيم أو الزوال يف خضم املشاريع األوروبية املعلنة وغري املعلنة يف نطاق
ما مسي آنذاك "باملسألة الشرقية".
لنالحظ هنا أن البدايات عند كل من رشيد رضا وشكيب أرسالن (وهذه فرضية من فرضيات هذه
الورقة) كانت تشي باجتاهني جيري تبلورمها بشكل تدرجيي عند كل من الرجلني :اجتاه يشدد على السياسات
اإلصالحية للمجتمع وللدولة ،وهو اجتاه رشيد رضا .واجتاه يشدد على وحدة الدولة العثمانية ومنعتها وقوهتا
وكصيغة تارخيية ممكنة تؤمن استمرارية االجتماع السياسي اإلسالمي وهو االجتاه الذي ميثله شكيب أرسالن.
هذا على أن التمييز بني االجتاهني يف حاليت أرسالن ورضا مل يش ّكل قطعاً أو تناقضاً ،فأولوية اإلصالح
عند رشيد رضا ،وكما برزت يف البدايات ال تعين غياب اهتمام رضا بوحدة الدولة ومنعتها .وأولوية الوحدة
وقوة الدولة عند شكيب أرسالن مل تكن لتعين أيضاً إغفاالً ملشاريع اإلصالح فيها ويف جمتمعاهتا .اخلالف أو
التمييز بني االجتاهني يرتسم يف حيز األولويات واملداخل .وهذا ما سيربز ويفسر الحقاً االختالف يف تقدير
تداعيات بعض املواقف والسياسات عند كل منهما.
يعرب شكيب أرسالن عن حالة "التآخي" بني الرجلني ويف ظل ما كانت تستنبطه البدايات من أوجه
اختالف بالفقرة التالية:
إيل من مصر إيل ( )...وكان يكتب ّ "وبعد أن وصل الشيخ رشيد إىل مصر ،أصدر جملته املنار وبعث هبا ّ
يف أخاً وفياً مشاركاً له يف مبادئه وأفكاره ،ولو مل يكن بيننا من رابطة سوى كوننا من وقت إىل آخر ويرى ّ
حنن االثنني من مريدي األستاذ اإلمام فكان ذلك كافياً" (ص .)146
ووحد شىت االجتاهات التغيريية واإلصالحية يف واليات وحدمهاّ ، على أن احلدث الكبري الذي مجعهما ،بل ّ
الدولة العثمانية هو إعالن الدستور العثماين يف العام .1908ويكتب أرسالن عن لقائه رشيد رضا يف تلك
املناسبة ما يلي" :وملا أعلن الدستور العثماين سنة 1908وجاء عهد احلرية ،جاء السيد رشيد رضا لزيارة
مرة أو مرتني وطنه ورأيته يف بريوت واجتمعت به طويالً يف نادي االحتاد والرتقي بتلك البلدة ،وكذلك جاء ّ
فسهر عند عمي األمري مصطفى أرسالن فكنت هناك فجرت بيننا أحاديث ذكِر بعضها يف املنار" (ص.)147
واحلق أن إعالن الدستور أطلق يف البدايات( ،وبالتحديد يف السنتني األوليني) إمجاع رأي عام وحريات
واسعة والسيما يف جمال النشر واملطبوعات وتأسيس اجلمعيات واألحزاب .فشكل هذا اإلعالن من جهة أوىل
مرجعية للرهان على إمكانات التقدم وآماله ،وكما يعرّب عن ذلك كتاب نائب والية بريوت سليمان البستاين
"عربة وذكرى" ولكنه ش ّكل من جهة أخرى حافزاً للتعبري عن خصوصيات قومية ودينية واثنية وجهوية شىت.
والتفسخ ،وملا كانت السياسات األوروبيةّ وملا كان إطار الدولة ومؤسساهتا على درجة كربى من الضعف
ّ
مجيعها متأهبة الستثمار هذا الضعف ،فإن التعبري الصريح عن اخلصوصيات وخروج برامج احلركات املطلبية يف
حادة بني اجلماعات الواليات إىل حيز الفعل السياسي الدويل ،كان مثرياً للنقاش وحمفزاً لربوز اخلالفات بصورة ّ
وبني أطروحات النخب .ويف طليعة هذه األطروحات :أطروحة الالمركزية وحدودها ،مث مشاركة األقوام
األخرى والسيما العرب يف أجهزة الدولة وهياكلها ،ومكانة اللغة العربية يف الدولة اخل...
والتحرك من أجلها ،تثور اخلالفات يف املمارسةّ حول هذه األطروحات وصيغة فهمها وتطبيقها
والتوجهات .فيذهب حزب اإلحتاد والرتقي احلاكم ،والسيما بعد العام 1910حيث تسلّم احلكم الثالثي
العسكري أنور وطلعت ومجال حنو تغليب القومية الرتكية يف اإلدارة والرتبية واملؤسسات والثقافة ،كما يذهب
حنو مزيد من تشديد القبضة املركزية وإضعاف مشاركة األقوام األخرى والسيما العرب يف إدارات الدولة.
األمر الذي أثار موضوعة املساواة يف املواطنة العثمانية ،أي التابعية العثمانية اليت نص عليها الدستور واليت
متسكت هبا احلركة املطلبية العربية .وكان رشيد رضا من أبرز املعربين عن هذا املنحى يف املطالبة "باملساواة"
درءاً ملا يسميه "عصبيات اجلنسيات".
يعطينا رشيد رضا يف جملة "املنار" صورة عن هذا االفرتاق يف املوقع الذي بدأ يربز بوضوح بني النخب
الرتكية والنخب العربية ،وبعض صور اجلدال الذي قام بني الكتاب األتراك والكتّاب العرب.
من نصوصه اليت ميكن االستشهاد هبا مقالته الشهرية املعنونة "العرب والرتك" (املنار ،جملد ،12جزء ،12
11يناير ( 1910ص )914 – 913
يقول" :كتب أحد شبان الرتك املقيمني يف القطر املصري مقاالت يف جريدة األهرام يفاخر فيها العرب
بقوته وجنسه معرباً عنهم بامللة املالكة متبجحاً بزعمه أهنم هم وحدهم الذين أزالوا احلكومة االستبدادية،
وأزالوا منها الدستور واحلرية _ وأهنم هم وحدهم الذين هلم احلق بالتمتع بثمرات الدستور الكاملة _ وليس
للعرب وال لغريهم من األجناس أن يطمعوا يف مساواهتم يف مناصب الدولة وأعماهلم ألن والياهتم مستعمرات
أو مستملكات للرتك! فيجب أن يكون قصارى حظ العرب من الدستور أن يسرتحيوا من أعباء الظلم ويتذوقوا
طعم العدل فيكونوا من الرتك كأهل اجلزائر من فرنسا أو كأهل اهلند من إنكلرتا".
ويتابع رشيد رضا استعراض مقاالت هذا االجتاه العنصري يف جرائد االستانة فيقول " :قامت بعض جرائد
االستانة تضرب على نغمة التغاير بني الرتك والعرب وتلغط بتلك الكلمات املنفرة " ملة مالكة ،مستملكات،
استقالل العرب ،اخلالفة العربية ،بغض العرب للرتك ،فضل الرتك على العرب ،عجز العرب عن تدوين لغتهم
ونشر اإلسالم خارج جزيرهتم - ،إىل غري ذلك من الكلم الدال على اجلهل بالتاريخ."...
مث يستعرض أسباب "سوء التفاهم" .فيقول":وإن األسباب املتعلقة حبكومة العاصمة فمنها إسرافها يف عزل
أبناء العرب من وظائفهم حىت أهنا عزلت يف وقت قصري زهاء بضعة عشر متصرفاً منهم ،منها خبلها بالوظائف
على طالهبا ومنها وجودها هبا على غريهم من العناصر األخرى ،ومنها تعجلها بأمور تشعر بتعمد إضعاف
اللغة العربية املرافعات يف حماكم الواليات العربية باللغة الرتكية مع علمها بأن الناس جيعلوهنا يف الغالب حىت
وكالء الدعاوى (احملامني) وكجعل الكشوف (البيان نامة) اليت يقدمها التجار من أبناء العرب يف بالدهم إىل
إدارة املكس (اجلمرك) باللغة الرتكية أو الفرنسية ...وكعدم قبول عرائض الشكوى بالعربية حىت يف جملس
األمة ،مع أن املشتكني من األمة وهي ذات لغات متعددة للعربية منها مكانة خاصة من حيث هي لغة الدين
التوسع راجع كتابنا :رشيد رضا ،خمتارات سياسية من جملة الرمسي الذي يكفله مقام اخلالفة "..اخل ...ملزيد من ّ
املنار ،بريوت ،دار الطليعة.1979 ،
موقف شكيب أرسالن من هذه التحوالت؟
متيز موقف شكيب أرسالن يف هذه املرحلة بتجنب اخلوض يف السجال القومي بني النخب الرتكية
والعربية ،معطياً األولوية ملوقف تدعيم السياسة اخلارجية للدولة لكي تتمكن من مواجهة الضغوط األجنبية
اهلادفة إىل إضعافها أو تفكيكها.
وهذا املوقف جيد بالفعل ما يفسره يف السياسات الدولية .إذ جلأت هذه األخرية إىل استثمار التناقضات
السياسية واالجتماعية والثقافية يف الداخل ،وتوظيف معطياهتا _ حيث أمكن ذلك _ يف اسرتاتيجيتها .وقد
استخدمنا ونشرنا يف أحباثنا السابقة العديد من الوثائق الدبلوماسية (والسيما الفرنسية) ،اليت أشارت إىل هذه
املعطيات واقرتحت على مراكز اختاذ القرار يف الدول الكربى استخدامها من أجل متكني مراكز النفوذ يف
واليات الدولة العثمانية ،حىت حتني حلظة اقتسام مناطق النفوذ فيها(أنظر كتابنا :بالد الشام :االقتصاد والسكان
والسياسة الفرنسية يف مطالع القرن العشرين ،1980وكتابنا أيضاً :وثائق املؤمتر العريب األول ،1913بريوت
.1980
وفيما يلي منوذج من هذه الوثائق:
يف خضم األجواء اليت سادت املدن العربية املشرقية عام 1912وهو عام هزمية تركيا يف البلقان،
واالنسحاب من ليبيا ،وعام املطالبة باإلدارة الالمركزية واإلصالحات للواليات العربية ،والتوجه حنو الدول
األوروبية لطلب االستشارة أو الدعم أو ممارسة الضغط على "االحتاديني" ،كانت تتواىل تقارير قناصل الدول
األجنبية على وزارات اخلارجية حاملة وصفاً للوضع واقرتاحات ومشاريع للتدخل .يصف قنصل فرنسا يف
بريوت M. Coulondreاحلالة العامة يف املدن الشامية وحياول أن يلتقط الوجهة السياسية اليت يسري وفقها
األعيان العرب املسلمون يف تلك املدن.
يقول" :إن العرب يطالبون حبقهم يف مزيد من املسامهة يف حكم بالدهم ،واجتاه حكم االحتاديني إىل
املركزية قد سبب سخطاً أسفر عن حركة انفصالية زادهتا األزمة الراهنة حدة".
"واألزمة" نتجت يف رأيه عما يلي":إن التخلي عن طرابلس الغرب واجتياح جيوش الدول البلقانية
املتحالفة لألراضي العثمانية قد وجها ضربة قامسة إىل نفوذ تركيا ومن مث إىل اجلامعة اإلسالمية.
"فطاملا أن األتراك يهملون رعيتهم ومل يعودوا أقوياء كفاية للذود عن راية النيب ،فان العرب يتساءلون ملاذا
جيب إبقاء الراية هذه يف عهدهتم؟ وهكذا فان فكرة خالفة عربية قد بدأت تتبلور يوماً بعد يوم".
ويضيف القنصل إىل هذه النزعة العربية اليت يالحظها ،عنصراً جديداً يبين عليه رهانه يف حتقيق حركة
انفصالية عربية .هذا العنصر ارتبط حبركة التجارة العاملية اليت بدأ أعيان ينخرطون فيها يف شبكة العالقة مع
الغرب ،أو أخذوا على األقل ينزعون إليها.
يقول " :باإلضافة إىل ذلك رمبا جيب أن نلمح هنا العنصر الرئيسي للحركة االنفصالية :فان مثل تونس
واجلزائر ومصر ،يدعو املسلمني املوسرين وخصوصاً مالكي األراضي إىل التفكري :لقد بات هؤالء يدركون أن
إدارة أجنبية وحدها بإمكاهنا أن هتز بالدهم من اخلمود الذي ألقتها فيها اإلدارة الرتكية وأن ترد هلا ازدهارها
وقيمتها اليت ال تقدر".
وبعد أن يستعرض األهواء السياسية املوجودة وانقسامها بني إسالمي ومسيحي وتوزعها يف والءات
إنكليزية وفرنسية ،يستنتج" :كل شيء ينبئ بأن احلركة االنفصالية اليت ظهرت معاملها بوضوح سوف تزداد
باستمرار يف حني تزول هنائياً فكرة الوطن العثماين(.")...
"إن سورية هي مثرة ناضجة مبتناول الذي يرغب يف قطفها وإذا مل ننتبه فإهنا سوف تنفصل عن األصل
العثماين يف مستقبل قد يكون قريباً ،لتسقط على أرض اجلريان" (يقصد اإلنكليز يف مصر).
ولعله ،هلذه األسباب اليت ينطق به تقرير القنصل الفرنسي ،وتقارير أخرى اختذ شكيب أرسالن املوقف
املدافع عن وحدة أراضي الدولة .ويف الوقت الذي كانت جتري فيه السجاالت السياسية الداخلية بني مركزية
وال مركزية وبني أحقية عربية وأحقية تركية ،اختار شكيب أرسالن يف العام 1911الذهاب إىل طرابلس
الغرب جماهداً ضد القوات اإليطالية اليت اجتاحت ليبيا .ويذكر يف تعليقاته يف كتاب "إخاء أربعني سنة " أنه
أثناء مروره مبصر إىل ليبيا عرض عليه اخلديوي عباس حلمي الدخول يف "مشروعات أخرى سياسية" لكي يثنيه
عن مشروعه "اجلهادي" .ويعلق أرسالن على هذا الغرض" :اعتذرت له عن قبول أمره وقلت له إين قاصد إىل
اجلهاد يف طرابلس ،وما خرجت من بييت يف جبل لبنان إال هبذه النية ،فال بد يل من إمتامها بالعمل( "..إخاء
أربعني سنة ،ص.)149
وخالصة موقف أرسالن يف هذه املرحلة اخلطرية ،حيث جيثم خطران أساسيان على الدولة (من جهة ليبيا
ومن جهة البلقان) ،تعرب عنها كلمة أرسالن" :إين مل أكن موافقاً يف تلك األزمة على مناوأة االحتاديني الذي
كان يف أيديهم زمام الدولة وحصلت بيين وبني فريد باشا األرناؤوطي الصدر األعظم السابق يف سراي عابدين
مشادة شديدة من أجل االحتاديني ووجوب احلملة عليهم يف أثناء احلرب البلقانية وعدمه .إذ كنت ممن ال جييز
املضي يف االختالفات الداخلية إىل ذلك احلد األقصى ،حينما يكون البلقانيون على أبواب االستانة عاصمة
اإلسالم .وكنت أرى وجوب اهلدنة بني األحزاب داخل السلطنة العثمانية ،ريثما ينعقد الصلح ويزول اخلطر
على الدولة"(إخاء أربعني سنة ،ص.)151
ويشدد شكيب أرسالن على هذا املوقف أيضاً عندما انعقد "املؤمتر العريب األول يف العام 1913يف
باريس ،مببادرة من اللجنة العليا حلزب الالمركزية يف مصر ،والذي كان رشيد رضا عضواً مؤسساً فيه .يكتب
أرسالن يف سريته "كنت ساخطاً على عقد هذا املؤمتر ( )..وكانت وجهة نظري أن مؤمتراً كهذا ال ينبغي أن
يُعقد يف عاصمة كباريس هلا ما هلا من املطامع يف سورية ،وال جيوز أن يعقد بينما الدولة مشغولة باحلرب
البلقانية ،وقد فقدت قسماً عظيماً من السلطنة ،وسقطت أمهيتها العسكرية والسياسية ،وأن سوط أمهية الدولة
ال ينحصر ضرورةً يف الرتك وحدهم ،بل يتناول مجيع املسلمني ،ألن األوربيني ال يعرفون املسلمني إال أمة
واحدة ،إذا سقط بعضهم رأيت األوروبيني احتقروا اجلميع( ".شكيب أرسالن ،سرية ذاتية ،بريوت ،1969
ص.)109
تتحول إىل ٍ
يف هذه املرحلة متر العالقة بني رشيد رضا وشكيب أرسالن حبالة من الفتور ولكن دون أن ّ
مناكفة أو سجال عدواين .إذ حيافظ الواحد منهم على احرتام اآلخر وميتدح ما يف اآلخر من إجيابيات .فذاك
فقيه عظيم ،بل أهم فقيه يف العامل اإلسالمي برأي أرسالن .وهذا كاتب عظيم ،بل أهم ٍ
كاتب يف العامل
اإلسالمي ومن أهم رجال السياسة برأي رشيد رضا.
على أن مسألة املوقف من االحتاديني والذهاب بعيداً يف مطالبتهم باإلصالح والالمركزية ،تبقى مسألة
خالفية ،حيث جيتهد كل واحد منهما يف إجياد تفسري ذايت ملوقف اآلخر.
ومن ذلك مثالً ،ما يكتبه أرسالن عن تفسري "عداوة" رشيد رضا لالحتاديني األتراك .إذ يقول " ...علمت
أن السيد رشيد رضا ذهب بعد إعالن الدستور مبدة إىل االستانة وسعى لدى رجال اإلحتاد والرتقي يف تأسيس
مدرسة باسم دار الدعوة واإلرشاد ،وهو املشروع الذي قام به يف مصر بعد أن أخفق فيه باألستانة ،فيظهر أن
تامة ومل يفز بشيء االحتاديني بذلوا له املواعيد يف البداية ،ولكن ماطلوه يف إجنازها حىت قضى يف االستانة سنة ّ
وخرج من االستانة عائداً إىل مصر معتقداً أنه ال يرجى شيء من اخلري للعرب من مجعية االحتاد والرتقي وصار
عدواً هلا ينتقد سياستها يف كل فرصة" (إخاء أربعني سنة ،ص.)148
على أن هذا التقليل من األمهية السياسية يف سجاالت رشيد رضا مع االحتاديني ،يوازنه شكيب أرسالن يف
التأكيد على إخالص كل منهم "ملذهبه السياسي" وقبول الواحد منهم لآلخر ،وحرصهم املشرتك على
اإلسالم .يقول" :بالرغم مما وقع بيننا كان اعتقادي متيناً بإخالصه ،وأنه ال ميكن أن يواطئ على اإلسالم يف
كثري وال قليل وال يف املنام ،وأنه مع كراهيته لألتراك يف آخر األمر يفضلهم على اإلنكليز من جهة كوهنم
مسلمني" (إخاء أربعني سنة ،ص.)155
هذا على أن االختالف يف املواقف سيتخذ طابعاً درامياً خالل احلرب العاملية األوىل .إذ تشري إجراءات
مجال باشا الدموية يف لبنان وسورية ،والسيما عندما أعدم كوكبة من النخب العربية يف بريوت ودمشق،
سخطاً عربياً قوياً على حكم االحتاديني األتراك حيث أخذت صورة هذا احلكم تتماهى يف بعض مستويات
الوعي العريب املتشكل مع صورة الدولة العثمانية ككل وحيث بدأ مسار املطالبة باإلصالح واحلقوق العربية
والالمركزية ،مساراً مقفالً وأوصل إىل مأزق ال خروج منه إالّ عرب الرهان على "استقالل عريب" حممول على
"وعود إنكليزية" أو أوروبية كان ميهد له منذ سنوات ،وكان بعض من خنب عربية وفعاليات أهلية قد استميل
إليه يف القاهرة ويف احلجاز.
على أنه بالنسبة لرشيد رضا ،يبقى االستقالل عن األتراك مرتبطاً (وعلى قاعدة ثقافة فقيه مسلم) مبدى
األمانة التارخيية لإلسالم وفقاً لتصوره لدوره التارخيي :محاية اإلسالم وإنشاء دولته .فإذا كان االحتاديون
(املالحدة) كما يصفهم "قد خانوا اإلسالم ونكلوا بالعرب" ،ومل يعد باإلمكان الرهان عليهم ،فإن مشروع
الشريف حسني يقدم لرشيد رضا يف العام 1916احتماالً ملشروع بديل يف حال سقوط الدولة العثمانية:
"االحتياط ملا جيب إذا سقطت الدولة" على حد قوله _املنار ،اجمللد ،20 ،ج ،6فرباير ،1918ص.)281
يقول يف خطبته اليت ألقاها يف مىن مبناسبة األضحى عام ،1916وكان الشريف حسني قد أعلن الثورة
واستقالل احلجاز عن الدولة" :لكن العمل إلنقاذ الدولة نفسها من اخلطر قد أصبح فوق طاقته وطاقة غريه،
فرأى أن يبدأ باملستطاع وهو إنقاذ ما ميكن إنقاذه من البالد العربية ،ليكون ذلك بيئة حلفظ االستقالل
اإلسالمي وعدم زواله ملا خيشى ويتوقع أن حيل بالدولة العثمانية والعياذ باهلل تعاىل" (املرجع نفسه ،ص.)285
هذا يف حني يذهب شكيب أرسالن مذهباً آخر يف تقدير املوقف خالل احلرب العاملية األوىل .يعارض
سياسة مجال باشا الدموية يف سورية ،وحيذره من مغبة هذه السياسة وخماطرها على العالقات العربية _ الرتكية،
ويستنجد بصديقه طلعت باشا لردع زميله عن هذه املمارسات ،ولكنه ميتنع عن التصريح أو العمل ضد الدولة
العثمانية ،ألن رأيه يتلخص دائماً يف تفضيل الدولة العثمانية على حكم األجانب ،ومهما بلغت أخطاء احلكام
األتراك .بل أن شكيب أرسالن يشري يف مذكراته إىل اجملاعة يف لبنان ال تعود إىل مسؤولية األتراك ،بل إىل
احلصار الذي ضربه احللفاء على السواحل السورية واللبنانية (انظر :شكيب أرسالن) سرية ذاتية ،ال سيما فصل
"دور احللفاء يف جماعة لبنان" ،ص )238 – 227فأدى ذلك إىل إيقاف حركة التبادل السلعي واملايل اليت
يقوم عليها اقتصاد الساحل واجلبل.
هذه املواقف أثارت لشكيب أرسالن خصومات حادة من قبل طالب االستقالل العريب بصيغتيه
الالمركزية أو االنفصال ،كما ّأدت إىل شيوع تأويالت "وتقويالت" ملواقفه وآرائه.
ويشري رشيد رضا إىل هذا احلال مدافعاً عن أخيه متفهماً مواقفه ،ولكن مربزاً اخلالف يف وجهيت النظر.
يقول" :لقد كان كثريون من الناس يزعمون أنه ليس له مبدأ أو مذهب يف السياسة ثابت ،وإمنا يدهن للدولة
ولكرباء رجاهلا ألجل املنفعة ،وأكثر هؤالء من حساده أو خمالفيه يف مذهبه السياسي ،وبعضهم من كانوا
ينكرون عليه مشايعته للحميديني يف عهد عبد احلميد الذي كان يطريه بالنظم والنثر ،مث مشايعته لالحتاديني
عندما صاروا يف الدولة أصحاب النهي واألمر ،وأنه مل يكن من طالّب اإلصالح للدولة يف مجلتها وال لبالده
السورية أو العربية يف خاصتها .وعندي أن مثله يف هذا كمثل مسلمي مصر واهلند وغريمها من األقطار البعيدة
يريد من مشايعة من بيده زمام الدولة تأييدها على األجانب ال الرضى بسوء اإلدارة أو السياسة( ".إخاء
أربعني سنة ،ص.)197 – 196
وحقيقة األمر أن الواحد منهما كان متفهماً ملوقف اآلخر ،يف مسألة تعيني األولويات واألفضليات يف
مسألة موقفهما من الدولة العثمانية.
ففي العام ،1921يلتقي الصديقان يف جنيف مبناسبة انعقاد املؤمتر السوري – الفلسطيين ،ويسمع رشيد
رضا من صديقه القدمي "أخباراً تفصيلية لفظائع مجال باشا يف سورية ،وما كان من معارضته له باحلسىن مث
باملغاضبة :فيطلب رشيد رضا لو تنشر هذه الوقائع لبيان احلقيقة التارخيية" .ويكتب شكيب أرسالن يف املنار
فصالً بعنوان " كوارث سورية يف سنوات احلرب من تقتيل وتصليب وخممصة ونفي :مشاهدات وجماهدات
شاهد عيان هو األمري شكيب أرسالن " - .املنار ،اجلزء الثاين 30 ،مجادي اآلخرة ،سنة 1340هـ ،من اجمللد
الثالث والعشرين) (انظر مقتطفات منه يف :إخاء أربعني سنة (ص .)205 – 194ومن تعليقات شكيب
تأت بفائدة ،شرعت أبنّي لرجال الدولة أرسالن يف احلاشية :بعد أن رأيت أن النصيحة باحلسىن جلمال باشا مل ِ
خطر سياسة هذه وأطالبهم بردعه عنها" .األمر الذي أثار نقمة مجال عليه .ففكر هذا األخري بالبطش به
وبأخيه عادل ،وما ردعه عن ذلك إالّ مكانة شكيب أرسالن لدى طلعت وأنور.
وعلى كل حال ،مل تتأخر األوهام اليت بنيت على وعود احللفاء يف أذهان دعاة االستقالل العريب ،من
االنكشاف عن لعبة دولية كربى كان من أبرز حلقاهتا اتفاقية سايكس – بيكو ووعد بلفور وتداعياهتما يف
مؤمتري سان رميو ولوزان .فيصاب رشيد رضا خبيبة أمل مريرة من حقيقة مشروع الشريف حسني ووعود
اإلنكليز ،ومدى مصداقية مبادئ ويلسون .فيكتب" :ولكننا وجدنا أن عهد عصبة األمم الذي حيسب الرئيس
غري به يف نظام الدول واألمم ونقل البشر من طور سافل إىل طور عال من احلرية والسالم قد أجاز ويلسون أنه ّ
تقسيم بالد الشعوب الضعيفة بني األقوياء ،بشرط أن يسمى تصرف كل دولة فيما تأخذه منها وصاية
وتوكيالً ال محاية وال استعماراً .وزاد على ذلك أن الشعوب الراقية من أولئك الضعفاء واليت يُعرتف باستقالهلا
مؤقتاً بشرط قبول هذه الوصاية – أي بشرط أالّ تكون مستقلة – يسمح هلا بأن يكون هلا صوت يف اختيار
الدولة املوكلة هبا ،ليكون ذلك حجة عليها"( ،املنار ،اجمللد ،21ج ،4عام .)1919
ويعود بعدها باحثاً عن الدولة اليت ميكن أن تنقذ اإلسالم واملسلمني ،فتقرأ يف هذا السياق حمطتني من
حمطات هذا البحث اجلديد يف املرحلة اجلديدة.
حمطة أوىل :يبحث فيها عن بطل منقذ يتصوره يف مصطفى كمال ،عندما كان هذا األخري يقود حركة
التحرير والتوحيد ضد تقسيم تركيا ،ويف إمكانية إجراء مصاحلة عربية _ تركية يف إطار خالفة إسالمية.
حمطة ثانية :يراهن فيها على قوة سياسية إسالمية جديدة هي قوة امللك عبد العزيز آل سعود.
في المحطة األولى :تربز حيثيات حتول رشيد رضا من جديد حنو األتراك من خالل دافعني:
الدافع األول :انتصارات مصطفى كمال يف التصدي للمشروع التقسيمي واإلحلاقي الذي رمسته معاهدة
سيفر ( )Sévresفبدت صورة مصطفى كمال كصورة السلطان "الغازي" يف أذهان مجاعات واسعة من
املسلمني ،األمر الذي جدد يف وعي رشيد رضا إمكانية جتديد للخالفة اإلسالمية يف صورته.
الدافع الثاين :تراجع صورة الشريف حسني وتقهقر املشروع العريب ليصبح مشروعات إلمارات وممالك يف
مهد
املشرق العريب ،تديرها السياسة الربيطانية ودبلوماسيوها املعتمدون يف الشرق .وهذا الدافع هو الذي ّ
للمحطة الثانية ،بعد أن خيّب مصطفى كمال أمله يف اخلالفة من جديد.
يف هذه الفرتة االنتقالية واملمتدة على سنوات أربع ( ،)23 – 20واليت ميكن أن نسميها "مرحلة ما قبل
لوزان " تتجاذب النخب العربية تيارات فكرية وسياسية شىت ،ينجذب كل واحد منها إىل مشروع سياسي
"دولوي" (من دولة) .يف إطار هذا التجاذب ميكن متييز تيارات كربى ثالث :تيار إسالمي يستعيد فكرة
اخلالفة مبناسبة ما يقوم به مصطفى كمال ،ويف هذا التيار ينتظم رشيد رضا ،وتيار علماين يدعو إىل القطيعة مع
مؤسسات التاريخ اإلسالمي ،ومنها مؤسسة اخلالفة ،حتت غطاء مفهوم التاريخ الوسيط (مجاعة املقتطف ومن
أبرزهم من رجال السياسة عبد الرمحن الشهبندر) ،وتيار واقعي – تارخيي ،ينطلق من الواقع وتارخيية األشياء
النسبية.
وأبرز من مثّل هذا التيار األخري ،علي عبد الرازق ،الذي حاول ،وقد وضعت إجراءات مصطفى كمال
مؤسسة اخلالفة موضع تساؤل ،أن يقرأ تارخيية اخلالفة كظاهرة سياسية نسبية ،ال كمعطى ديين ثابت( .للتوسع
انظر يف هذا املوضوع ،كتابنا :الدولة واخلالفة يف اخلطاب العريب إبان الثورة الكمالية يف تركيا ،دار الطليعة،
بريوت .)1996
يف هذا اإلطار ،كيف نقرأ مواقع كل من رشيد رضا وشكيب أرسالن؟
نذكر أنه يف هذا السياق ،كتب رشيد رضا جمموعة مقاالته يف املنار يف مسألة اخلالفة واليت أصدرها يف
كتابه املعروف" :اخلالفة أو اإلمامة العظمى" ومنطلق فكرته "أن مسألة اخلالفة كان مسكوتاً عنها – كما
يقول – فجعلها االنقالب الرتكي اجلديد أهم املسائل اليت يبحث فيها".
ويف رأيه أن قرار فصل اخلالفة عن السلطنة الذي اختذه مصطفى كمال بعد أن أصبح السلطان العثماين
عاجزاً ومغلوباً على أمره ،يستدعي البحث يف مسألة اخلالفة من جديد ،ال إللغائها ولكن لتجديدها .فهي
مناسبة كما يقول للعمل على جتديد اخلالفة الشورية على النموذج الراشدي".
وهنا بعد أن يفنّد "موانع جعل اخلالفة يف احلجاز " ويف الشريف حسني واليت أمهها كما يقول" :إن امللك
املتغلب على احلجاز هلذا العهد يعتمد يف تأييد ملكه على دولة غري إسالمية مستعبدة لكثري من شعوب املسلمني
وطامعة يف استبعاد غريها" .حياول أن يفنّد مرجحات اخلالفة يف بالد الرتك" .وهذه املرجحات هي:
" -1أن الرتك اآلن يف موقف وسط بني مجود التقاليد وطموح التفرنج ...وحضارة اإلسالم وحكومة
اخلالفة هي وسط بني اجلمود وبني حضارة اإلفرنج املادية ".
-2أن ما ظهر من عزم احلكومة الرتكية اجلديدة وحزمها وشجاعتها وعلو مهتها ،يضمن بفضل اهلل تعاىل
جناحها يف إقامة هذا اإلصالح اإلسالمي بل اإلنساين األعظم بإقامة حكومة اخلالفة اجلامعة بني القوة املادية
والفضائل اإلنسانية".
" -3إن الدولة الرتكية اجلديدة هي الدولة اإلسالمية اليت برعت يف فنون احلرب احلديثة ويرجى إذا جنحت
فيما تعين به من األخذ بوسائل الثروة والعمران أن متكنها مواردها من االستغناء عن جلب األسلحة وغريها من
أدوات احلرب بصنعها يف بالدها فتزداد قوة على حفظ حكومتها وبالدها وتكون قدوة جلرياهنا وأستاذاً هلم".
" -4إن جعل مقام اخلليفة يف بالد الرتك أو كفالتهم له يقوي هداية الدين يف هذا الشعب اإلسالمي الكبري
وحيول دون جناح مالحدة املتفرجنني وغالة العصبية اجلنسية."...
" -5لئن كان جهل العرب والرتك يف الزمن املاضي مبعىن اخلالفة ووظائفها – والسيما مجعها لكلمة
املسلمني – سبباً من أسباب تقاطعهما وتدابرمها اليت انتهت بسقوط السلطنة العثمانية وباستيالء األجانب على
قسم كبري من بالد العرب والتمهيد لالستيالء على الباقي ،فإن ما نسعى إليه اآلن سيكون إن شاء اهلل تعاىل،
أقوى األسباب جلمع الكلمة والتعاون على إحياء علوم اإلسالم ومدنيته مع استقالل كل فريق بإدارة بالده
مستمداً السلطة من اخلليفة اإلمام اجملتهد يف علوم الشرع اإلسالمي املنتخب بالشورى من أهل احلل والعقد من
العرب والرتك وغريمها من الشعوب اإلسالمية مبقتضى النظام الذي يوضع لذلك ".
بعد هذا االستعراض ،يقرتح رشيد رضا بالرغم من "ضعف أمله" ولكن دون أن يتسرب اليأس إليه" :على
حزب اإلصالح أن يسعى إلقناع الرتك أوالً جبعل اخلالفة يف مركز الدولة ،فإن مل يستجيبوا فليساعدوا على
جعلها يف منطقة وسطى من البالد اليت يكثر فيها العرب والرتك والكرد كاملوصل املتنازع عليها بني العراق
واألناضول وسورية ويضم إليها مثلها من البالد املتنازع فيها بني سورية واألناضول وجتعل شقة حياد ورابطة
وصل معنوي ،يف مظهر فصل جغرايف فتكون املوصل امساً وافق املسمى".
والواقع أن رشيد رضا حياول خالل هذه الفرتة اليت سبقت إلغاء اخلالفة (قبل آذار )1924أن يوظّف
أمالً – ولو كان ضعيفاً كما يقول – يف احتمال عودة مصطفى كمال إىل اإلسالم واالنطالق من اإلجناز
الذي حققه هذا األخري يف استقالل "تركيا" ،وحتييده عن حزب "املتفرجنني" و"مالحدة األتراك" على حد
تعبريه .ففي 30كانون الثاين (يناير) سنة 1923يبعث برسالة إىل صديقه شكيب أرسالن يرى فيها أنه يف
حال فشل مؤمتر لوزان املرتقب يصبح من الضروري ومن أجل مصلحة األتراك "توثيق روابط اإلخاء الديين"
بينهم وبني العرب.
ويذهب إىل حد ترجيح الرتك على اإلفرنج فيكتب" :إنين ال أكتم عنك أنين ما زلت أرجح الرتك على
اإلفرنج كافة وأن ظلمونا وحقرونا وبغوا علينا وأعرضوا عنّا وأمسعونا أذى كثرياً ومل يعذروا من تعلموا منهم
التعصب القومي (أي العرب الذين يناهضون لغتنا وديننا وحيتقرون سلفنا الصاحل الذي نفاخر به مجيع األمم يف
صاحلها) – أرجح أن يعود الرتك سائدين حاكمني لبالدنا على بقاء اإلفرنج فيها بأي اسم من األمساء أوصفة
من الصفات"..
ويضيف " :أمتىن أن جند عند عقالء الرتك إنصافاً نبين عليه اتفاقاً ثابتاً ال يستطيع أعداؤنا نقضه" ،اتفاقاً
قائماً على "العدل واملساواة" .ويرى أن هذا االتفاق ميكن أن حيدث يف ظل انتصار األتراك والعودة إىل إلسالم
"أعظم انقالب اجتماعي يف األرض" .ويبقى أمله حىت حينه معلقاً على مصطفى كمال ،إذ يضيف" :لو عرف
اهلمة مصطفى كمال من اإلسالم ما أعلم ألمكنه أن يكون رجل العامل ال رجل الرتك فقط هذا الرجل العايل ّ
(...،)...لكن هذا الرجل الكبري ال يعلم ومن يل بأن يعلم وقد كتب بعض زعماء اهلند مبثل ما يطالبين
صاحب يل هنا من الرتك وهو الرتغيب يف الذهاب إىل أنقرة".
ومن املؤكد أن رشيد رضا قد كتب جمموعة مقاالته يف موضوع "اخلالفة" يف سياق هذا االهتمام بالتوجه
إىل األتراك" بغية إقناعهم ،إذ يقول خماطباً أرسالن "قد كتبت مقاالً طويالً يف مسألة اخلالفة نشرت منه إىل
اآلن سبع كراريس يف املنار مث طبعتها على حدة وإنين مرسل هبا إليك فتعلم أنه مل يكتب مثلها يف اإلسالم وأين
واثق بأهنا سترتجم بعدة لغات وسيعلم منها إخواننا الرتك أهنم ال يستطيعون السيادة على العامل مبنصب اخلالفة
إالّ إذا تآخوا مع العرب".
وجواباً على مطلب بعض زعماء اهلند وصاحبه الرتكي ،يف الذهاب إىل أنقرة ،يقرتح رشيد رضا على
شكيب أرسالن أن يتوىل هذه املهمة ،إذ يقول" :وخالصة القول إن الفصل يف أمر االتفاق مع القوم أرجى ما
يرجي من مثلك ومن ذا الذي يقدر على ما تقدر عليه وله ما لك من املكانة عندنا وعندهم فإن عجزت كان
عجزك برهاناً على سوء نيتهم وفساد طويتهم".
ومل يدم االنتظار طويالً ،ففي هذه الفرتة كان مصطفى كمال يهيئ عرب خطواته التمهيدية اليت أشرنا إليها
لقوانني آذار 1924واليت من ضمنها إلغاء اخلالفة هنائياً.
ويكتب شكيب أرسالن يف تعليقه على كتاب صاحبه رشيد رضا معرباً عن عجزه يف مهمته اليت كان
حيملها منذ عهد "االحتاديني"" :نعم عجزت عن إمتام أمر كانت حتول دونه املبادئ اليت أراد مصطفى كمال
بثها ال يف تركية فقط ،بل يف كل العامل اإلسالمي واليت لو جنح هبا ألتى على اإلسالم من قواعده .:وبعد تاريخ
هذا املكتوب بعدة سنوات جاءين من يونس نادي رئيس جلنة األمور اخلارجية يف أنقرة وصاحب جريدة
"مجهورية" كتاب يدعوين فيه إىل سياسة التآخي اليت يشري إليها الشيخ رشيد ولكن كنت أعلم أن التآخي
الذي يرمي إليه يونس نادي تريد تركية الكمالية بناءه على قواعد الالدينية وما يتفرع منها ،وكنت مبعرفيت
ألحوال تركية أكثر من غريي عاملاً بأنه ال سبيل إىل االتفاق بني العرب والرتك ما دام الرتك غري مقلعني عن
مبادئهم هذه وما دامت احلكومة الرتكية هي يف يد هذه الفئة .فكتبت إىل يونس نادي وقد كان زميلي يف
جملس األمة العثماين أقول له :إننا شاكرون لكم حسن نيتكم حبق العرب كما أننا حنن ال نريد بالرتك إال خرياً
فأما استعدادكم ملعاونتنا يف جهادنا للتخلص من حكم اإلفرنج فإن العرب سيخلصون من هذا احلكم
ويتحررون بأنفسهم دون احتياج إىل غريهم وما جرى من االنفصال بني العرب والرتك إما أن يكون فاصلة
صغرى أو فاصلة كربى فأما إذا كان الذي فصل بني األمتني هي السياسة فهذه هي فاصلة صغرى ألنه ال
يوجد شيء أسرع تغرياً من السياسة .وإن كان الفاصل ما أنتم فيه من املبادئ الالدينية ومن مظاهر التفرنج
حبذافريها فهي الفاصلة الكربى .هذا كان جوايب ليونس نادي وقتئذ فلم يعد بعدها إىل مكاتبيت".
ومهما يكن فإن أسباباً أخرى ستعمق هذه "الفاصلة بني العرب واألتراك ذلك أن األطماع اإلحلاقية للدولة
القومية الرتكية اليت أخذ مصطفى كمال ببنائها ستضيف إىل عناصر االفرتاق عن اإلسالم يف وعي النخب
العربية اإلسالمية أبعاد" قومية للصراع وستربز مشكالت احلدود بني القوميات بصورة حادة ومتمثلة بأطماع
مصطفى كمال يف مناطق ذات تعددية سكنية قومية وذات ثروات يف املوقع واالقتصاد ،كاإلسكندرون
واملوصل.
ذاك هو املسار الذي قاد رشيد رضا إىل احملطة األخرية يف فكره السياسي :تأثري مشروع عبد العزيز آل
سعود يف اجلزيرة ،واالكتفاء على صعيد فكرة اإلسالمية والعامل اإلسالمي باقرتاح تأجيل البت يف مسألة
اخلالفة ،بعد أن أثار مؤمتر القاهرة ( )1926مسألة مركزها وبرزت خالفات املسلمني يف العامل اإلسالمي
حول موقعها ودورها ومكاهنا ،وبطرح صيغتني إعداديتني هلا :صيغة مدرسة اجملتهدين اليت سبق أن اقرتحها
وصيغة احلزب اإلسالمي اإلصالحي الذي دعا إليه.
أما شكيب أرسالن فتنم مواقفه وكتاباته يف هذه املرحلة (مرحلة ما بعد العثمانية) عن مفارقة الفتة يف
حال املقارنة بني مساره ومسار رشيد رضا يف كل من املرحلتني :العثمانية وما بعد العثمانية.
ففي حني يبتعد رشيد رضا أكثر فأكثر عن سياسات احلركة العربية ويتهمها باخليانة ،يف حني كان قبل
ذلك مؤيداً هلا يف احلرب األوىل ،يقرتب شكيب أرسالن يف مرحلة ما بعد العثمانية أكثر فأكثر من أطروحات
اهلامشية العربية ،والسيما من أطروحات امللك فيصل ،يف حني أنه كان خالل احلرب األوىل معادياً هلا.
يفسرها شكيب أرسالن يف عدة مناسبات. وهذه املفارقة َّ
من ذلك على سبيل املثال تعليقه يف احلاشية على رسالة من رشيد رضا مؤرخة يف العام 1923يهاجم
فيها رضا "األمراء احلجازيني" ،فيكتب أرسالن يف التعليق" :كان كتاب السيد رشيد هذا قبل استقالل العراق،
ألنه مؤرخ يف سنة ،1923واستقالل العراق جرى سنة .1932واحلق أن امللك فيصل الذي هو أحد األمراء
الذين أشار إليهم رشيد رضا يف هذا الكتاب قد قام بنهضة كبرية لألمة العربية ،وهو الذي بدهائه ومرونته
وحزمه وبصالبة الشعب العراقي يف وجه اإلنكليز متكن من فك قيد االنتداب اإلنكليزي على العراق ،وإدخال
ذلك القطر العراقي يف دور االستقالل( "..إخاء أربعني سنة ،ص.)320 – 319
وكان رشيد رضا قد أرسل إىل شكيب أرسالن كتاباً مؤرخاً يف 24ربيع األول سنة )1924( ،1342
يهاجم فيها الشريف حسني وأبناءه ويبارك النتصار السعوديني يف احلجاز ،ويدافع عن مواقفهم.
ميتنع شكيب أرسالن عن نشر كل ما ورد يف الرسالة (يف إخاء أربعني سنة) ويضطر إىل حذف ما يعتقد
أنه "يوغر الصدور" ويكتب تعليقاً يف احلاشية جاء فيه:
"كنت يف الصف املقاوم للملك حسني قبل احلرب وأيام احلرب كما يعلم ذلك اجلمهور منتقداً سياسته
علي محالت شديدة باللسان والقلم ( )...ومل وكان امللك حسني عفا اهلل عنه وأنصاره من العرب حيملون ّ
عف اللسان حبقّي غري امللك فيصل .وكنت أحبه منذ كان زميالً يل يف جملس األمة باألستانة".. يكن من هو ٌّ
ويضيف أرسالن أنه "عند تأسيس احلكومة املستقلة يف دمشق أعلنت وجوب تأييد فيصل واالنضواء حتت
لوائه ،وكتبت يف الصحف وإىل أصحايب بأنين كنت ضد امللك حسني وأوالده يف خروجهم على الدولة
حينئذ بني عريب وأجنيب ،لوما زحف ابن سعود على احلجاز ألسباب يعرفها اخلاص والعام ،ألن القضية تكون ٍ
ونشبت احلرب بينه وبني احلسني خفت أن تقع مذابح وتنزل بأهل احلجاز مصائب وأن تسيل الدماء يف باحة
املسجد احلرام فيحتقرنا األجانب ويشمت بنا أعداء اإلسالم ،فكنت ذلك اليـوم من دعـاة الصـلح بـني احلسـني
وابن سعود( "..إخاء أربعني سنة ..ص .)361
خالصة ومحاولة مقاربة معرفية نقدية.
ما عرضنا إليه حىت اآلن ،كان مبثابة استعادة حملطات أساسية من حمطات مواقف الرجلني ،جتاه الدولة
العثمانيةّ ،أرخنا هلا تأسيساً على تصوراهتما لفضاء اإلسالم يف جانبه األيديولوجي السياسي ،وبصورة خاصة يف
اجلانب الذي خيتص بتصورمها ملفهوم الدولة ونطاقها اجلغرايف – السياسي .وهذا املفهوم جيد مرجعيته املشرتكة
يف تارخيية الدولة اإلسالمية ،املتمثلة يف الواقع بصيغ شىت ويف ما يقوم بني تلك الصيغ من تداخل وتناوب ،يف
األدوار والوظائف عرب مراحل التاريخ اإلسالمي.
وملا كان هذا التناوب والتداخل مؤديني يف الوعي إىل التباس ،فان االختالف يف الرؤية بني الرجلني ،بل
ٍ
مرحلة وأخرى ،يتغذى من هذا االلتباس أوالً ،التباس الذاكرة التارخيية املتمثلة حبشد عند الرجل الواحد بني
هائل من النصوص التارخيية والفقهية واآلداب السلطانية اليت تتعامل معها أيديولوجيا وليس معرفياً ،بل ويتغذى
ومدوخة للعقول ولألفكار يف ثانياً من العجز عن مالحقة ومتابعة انعطافات تارخيية عاملية غري منتظرة متالحقة ّ
مرحلة اتسمت بعاملية إمربيالية كاسحة (أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين) .وبناءً عليه ميكن
إبداء عدد من االستنتاجات لتعميق معرفتنا بإشكاليات تلك املرحلة:
-1إن دراسة ذاك االلتباس يساعد على فهم هذا التعبري يف املواقف واآلراء عند كل منهما :فصيغة الدولة
يف الوعي التارخيي ملتبس ،وكذلك نطاقها يف اجلغرافية – السياسية والبشرية للعامل اإلسالمي .ويأيت مفهوم
الدولة القومية القادم مع أفكار العاملية الغربية ليزيد من درجة هذا االلتباس ويضاعفه ،فينشأ لدى النخب نوع
من تصورات شىت وتربيرات مفتوحة لشرعنة نشوء عصبيات الدول احلديثة أو احملدثة يف التاريخ العريب املعاصر
سواء باسم اإلسالم أو باسم القومية ،وسواء تأسيساً على مرجعية الفقيه (شأن رشيد رضا) أو على مرجعية
دارس التاريخ اإلسالمي واملتابع للعالقات الدولية (شأن شكيب أرسالن).
-2يالحظ أنه تربز يف كل مرحلة من مراحل العمل الفكري – السياسي عند كل من الرجلني اهتمامات
أو منظومات من األفكار تسود على حساب أخرى ،وأحياناً تطردها من جمال االهتمام طرداً كلياً ،فإذا أخذنا
منظومة األفكار اليت تتعلّق بالدستور واحلريات ،وجمال السلطة املدنية ،ومفهوم املواطنة وحقوقها ،الحظنا
بالنسبة لرشيد رضا وهو منوذج دال ،أن منظومة األفكار اليت طابعها العام ما مسيته "املنظومة الدستورية"
سادت يف فكره حىت سنوات احلرب األوىل ،بل كانت سبباً ودافعاً هلجرته ملصر ،وكانت جماالً مشرتكاً للقيام
بنشاط سياسي مطليب (دميقراطي) مع ليرباليني وعلمانيني وكان هذا بدءاً من تأسيس مجعية الشورى العثمانية،
إىل حزب الالمركزية اإلدارية ،إىل االحتاد السوري ..اخل...
ومعروف نصه الشهري الذي يقول فيه إننا مل نتنبّه حنن املسلمني إىل الشورى ،إال عندما نبّهنا األوروبيون هلا
عرب دساتريهم وجمالسهم التمثيلية ،كما هي معروفة مواقفه أيضاً من أجل االنتصار للمشروطة العثمانية
(الدستور).
غري أنه ،بعد احلرب األوىل ،وبعد االحتالالت املباشرة ،وانكشاف الوجه السياسي التوسعي ألوروبا
وللغرب عموماً ،يُسكت عن هذه األفكار ،بل تغيب من خطاب املنار ،وحيل مكاهنا اهتمام صارخ بالدولة،
أي دولة تنطلق من دعوة دينية وتستقوي بعصبية غالبة ،وكأن التاريخ يف هذا املنطق يعيد نفسه ،يف تطبيق
دورات ابن خلدون املتصورة يف نشوء الدول وتعاقب أجياهلا وأسرها.
التحول يف أفكار رشيد رضا عن حالة تراجع يف استيعاب الفكر الدستوري فهل يعرّب هذا املنحى من ّ
وفكرة السلطة املدنية وثقافة املواطن ،وهو استيعاب بدا جلياً مع اجليل األول والثاين من النهضويني العرب
واملسلمني ،فانتهى هذا الرتاجع إىل حصر الثقافة السياسية لديه يف عصبية الدولة اإلسالمية ويف تأسيس احلزب
اإلسالمي املمهد للخالفة؟
نتذ ّكر اليوم ،كم كانت خطرية بل مميتة ،وحنن نكتب هذا الكالم ،الضربة اليت مين هبا كتاب علي عبد
الرازق" ،اإلسالم وأصول احلكم" ال ألمهيته العلمية اليوم ،بل ألمهيته املعرفية املنهجية آنذاك ،فهي أول حماولة
يف التاريخ العريب املعاصر ،تتص ّدى ملعاجلة إشكالية العالقة بني الدين والسياسة وبالتحديد بني اخلالفة والسلطة
معاجلة معرفية ال إيديولوجية ،بل لعلها أو حماولة لدراسة بدائل الدولة العربية مبناهج علم السياسة واالجتماع،
ال بوسائل الفقه التقليدية..
أما بالنسبة لشكيب أرسالن ،فيبدو أن املسألة الدستورية وما يرتبط هبا من قضايا احلريات املدنية والسياسية
وحقوق املواطنة يف الداخل ،مل تشغله ومل تثر اهتمامه منذ البدء ،على الرغم من انتسابه إىل املرجعية اإلسالمية
اإلصالحية احلديثة املتمثلة جبمال الدين األفغاين وحممد عبده .لقد أخذ من هذه املرجعية ،على ما يبدو يل،
فكرة اجلامعة والوحدة والتوحيد ،واالستقالل وليس طبيعة هذه الدولة وعالقتها باجملتمع .أما جمال تطبيق
(فكرة الوحدة) ،فيبدأ بالتناقص وفقاً لتحوالت التاريخ السياسي يف العامل ،وتقاطع املشاريع بني الداخل
واخلارج ،بدءاً من جمال العامل اإلسالمي ،إىل اجملال العثماين ،إىل اجملال العريب ،إىل اجملال اإلقليمي والقطري.
وأما شروط تطبيق الفكرة ،فتتمثل يف وعيه السياسي منذ الفرتة احلميدية وحىت حتقيق االستقالالت العربية يف
مناهضة السياسات االستعمارية .ويف ممارسة أسلوب النشر والدعاية لقضايا العرب باألجنبية ،ولعله يف هذا
السياق ،تأيت نشرته املعنونة بالفرنسية يف سويسرا ”lA NATION ARABEواقرتاحه إنشاء جملة
"مغرب" يف باريس للدفاع عن قضية املغرب يف أوروبا يف العام .1931هذا وعندما نتحدث عن حصرية
االهتمام مبنظومات من األفكار عند رجل كشكيب أرسالن ،أو عن غلبتها على أخرى ،فإمنا اهلدف هو إبراز
املسكوت عنه يف اخلطاب أو الالمف ّكر به .فهو عندما حياول اإلجابة على سؤال .ملاذا تأخر املسلمون؟ حيصر
اإلجابة بغياب "روح التضحية" عند املسلمني .مث ال يلبث أن حيصر غياب التضحية يف جمال اإلعالم والنشر.
املوجهة إىل قارئ جيبويت "أن املسلمني حيبون الشورى ،والفتح كثرياً ،ولكن بشرط أن يقول يف إحدى رسائله ّ
ال يدفعوا شيئاً وبشرط أن أصحاب اجلرائد تلذذهم باألحباث اللطيفة جماناً ( .)...وما دام روح التضحية يف
املسلمني معدوماً فال ميكن هلذه األمة أن تتق ّدم "رسالتنا "ملاذا تأخر املسلمون" أكثرها يف هذا املعىن _ .وردت
يف ،جنيب البعيين ،من أمري البيان شكيب أرسالن إىل كبار رجال العصر "..دار املناهل ،بريوت ،ص.179
ويف رسالة أخرى إىل مجيل بيهم ،يشدد شكيب أرسالن على املوقف نفسه ،والتوصيف نفسه ،يقول يف
رسالته( :آب " )1931فكأن أهم اجلهاد هي يف تصحيح أفكارهم (أفكار الغربيني) قبل أن تصري أفعاالً ،وهذا
يتوقف على الدعاية ،وهذه تتوقف على املال وبذل املال يف هذا السبيل يتوقف على العلم ،وهذه أمور ال يزال
املسلمون _ إال النادر – غري فامهني قيمتها .يعتبون على اهلل ملاذا خذهلم وجعل النصارى واليهود والوثنيني
أعلى منهم ،وال ينظرون أنفسهم يف إمهاهلم لألوامر اإلهلية أن كانوا متدينني ،ويف إمهاهلم للمصاحل الدنيوية إن
كانوا غري متدينني ..يريدون كل شيء بال تعب وال تضحية( "..املرجع نفسه ،ص.)282
قد يكون صحيحاً توصيف شكيب أرسالن هلذه الظاهرة يف جماهلا املعني واليت قد تكون ممتدة حىت اليوم،
ولكن التساؤل ينبغي أن ينصب حول أحادية حصر األسباب .فلماذا هذه احلصرية يف تعيني أسباب قد تكون
من باب النتائج ال من باب العلل؟ وإذا كان اإلحجام عن "التضحية" يف جمال اإلعالم وتشجيع العلم قائماً،
وال يزل فالتضحية يف جماالت أخرى ،ويف طليعتها جمال االستشهاد أي التضحية بالنفس ،كان وال يزال قائماً!
فلماذا إذن تأخر املسلمون؟ السؤال ال يزال قائماً ومفتوحاً؟
*********************