You are on page 1of 16

‫*رشيد رضا وشكيب أرسالن ‪" :‬الموقف من الدولة العثمانية ومن صيغة الدولة البديلة وجيه كوثراني‬

‫يسرد األمري شكيب أرسالن قصة عالقته بالسيد رشيد رضا يف كتاب "إخاء أربعني سنة"‪،‬‬
‫فيستهلها بذكر البدايات فيقول‪" :‬الذي أتذكره أنه يف سنة ‪ 1312‬هـ وفق سنة ‪ 1895‬م قيل يل‬
‫يف بريوت إن شاباً أديباً من طرابلس الشام يسأل عنك ويهمه االجتماع بك (‪ .)...‬وما مضت‬
‫أيام حىت جاءين‪ ،‬وكنت نازالً يف فندق ببريوت يقال له "كوكب الشرق" (‪)...‬‬
‫املرة األوىل كان بدء احلديث تعبري السيد رضا عن ولعه بقراءة‬ ‫مرة أوىل وثانية وثالثة‪ ،‬يف ّ‬
‫وكان أن التقيا‪ّ ،‬‬
‫ديوان شكيب أرسالن املسمى "بالباكورة" والذي كان قد نشره عندما كان يف السابعة عشرة من عمره (أي‬
‫يف العام ‪.)1887‬‬
‫على أن مقصد التعارف كان أبعد من ذلك‪ ،‬وكما يستنتج من قراءة السرية املشرتكة ودالالت النص‪:‬‬
‫فالقصد األول‪ :‬طلب رضا من أرسالن أن حي ّدثه عن اتصال هذا األخري باملصلحني اللذين ذاع صيتهما يف‬
‫فهم اإلصالح أوالً كان مشرتكاً منذ البدايات‪.‬‬ ‫العامل اإلسالمي السيد مجال الدين األفغاين والشيخ حممد عبده‪ّ .‬‬
‫تتسرب خفية إىل الداخل‬ ‫املرجعية املباشرة هلذا اإلصالح‪ ،‬تتمثل يف أفكار نشرات "العروة الوثقى" اليت كانت ّ‬
‫العثماين‪ ،‬وعرب أقنية اتصال‪ ،‬تتمثل بأفراد من خنب هتيأت هلا فرص االتصال بالشيخني مجال الدين وحممد عبده‪.‬‬
‫أما القصد الثاين‪ :‬وهو قصد إجرائي متعلق باألول‪ ،‬فقد عرّب عنه رشيد رضا يف مقابلته الثالثة يف العام‬
‫أسر إىل شكيب أرسالن بعزمه إىل السفر إىل مصر لتأسيس جملة إصالحية "وأوصاه آنذاك‬ ‫‪ ،1897‬عندما ّ‬
‫بكتمان اخلرب"‪ .‬ويعلق أرسالن على ذلك "ألنه جيوز أن احلكومة يف حال معرفتها باخلرب أن متنع الشيخ رشيد‬
‫من السفر‪ ،‬فقد كنا يف عصر السلطان عبد احلميد ال نقدر على السياحة إىل اخلارج إال بإذن‪ ،‬وكان هذا اإلذن‬
‫متعذراً كثرياً‪( ".‬ص ‪.)145‬‬
‫ويذكر أرسالن يف هذا السياق ما جرى من حديث بني رشيد رضا وعبد القادر القباين صاحب جريدة‬
‫"مثرات الفنون"‪ .‬واحلديث يكشف ما كان عليه حال االجتماع السياسي العثماين يف عالقته باحلريات السياسية‬
‫متايزات يف مواقف خنب ذاك العصر وسلم‬ ‫ٍ‬ ‫والفكرية‪ ،‬وقضايا اإلصالح بشكل عام‪ ،‬ولكنه كان يكشف أيضاً‬
‫األولويات فيها‪.‬‬
‫الحوار بين رشيد رضا وعبد القادر القباني في العام ‪:1897‬‬
‫"عرض علي عبد القادر أفندي القباين أن أقيم يف بريوت وأتوىل رئاسة التحرير جلريدته‪ ،‬إذ أخربته بعزمي‬
‫على إنشاء صحيفة إصالحية يف مصر‪ ،‬فنقلت له أن احلرية اليت يف بريوت ال تسعين فقال‪ :‬أو تريد أن تنتقد‬
‫عبد احلميد أو أن ختوض يف سياسته؟ قلت إمنا أريد إصالح األخالق والاجتماع والرتبية والتعليم‪ ،‬قال‪ :‬إن لك‬
‫أوسع احلرية يف هذا‪ ،‬قلت‪ :‬إذا أردت أن أكتب يف فضيلة الصدق ومضار الكذب ومفاسده‪ ،‬فأبني أن أكرب‬
‫عجل بالذهاب إىل‬ ‫أسباب فشو الكذب يف األمم احلكم االستبدادي أتنشر يل ذلك جريدتكم؟ قال‪ :‬ال ال‪ّ ،‬‬
‫مصر وال خترب أحداً‪( ".‬إخاء أربعني سنة‪ ،‬ص‪.)129‬‬
‫إذن‪ ،‬إ ّن أو إشكالية االستبداد على وجه العموم هي اليت يطرحها رشيد رضا يف حيثيات سفره‪ ،‬بدءاً من‬
‫معاناة هذا االستبداد يف أسلوب الرتبية والثقافة الصوفية السائدة وفقه احلشوية (كما يسميهم) إىل معاناة ذلك‬
‫يف مؤسسات السلطنة العثمانية ومشيختها واليت كانت تتمثل آنذاك يف دور أيب اهلدى الصيّادي وسياسته جتاه‬
‫ولعل أبرز من نقل هذه املعاناة من حيز معايشة الظاهرة إىل حيز وعيها وجتليها وعقل أسباهبا‬
‫احلياة الثقافية‪ّ .‬‬
‫واستقراء نتائجها يف الطبائع والسلوك والثقافة اليومية هو عبد الرمحن الكواكيب يف كتابه "طبائع االستبداد"‪.‬‬
‫وإن كان كل من رشيد رضا وشكيب أرسالن قد عاين الظاهرة وعرّب عنها كل من موقعه‪ :‬رشيد رضا‬
‫من موقع الفقيه املهاجر الذي يبغي من هجرته ممارسة اإلصالح من كل وجوهه الرتبوية والدينية والسياسية‪،‬‬
‫وشكيب أرسالن من موقع املثقف املقيم املنتمي إىل بيت إمارة‪ ،‬يف نظام السلطات األهلية يف الدولة العثمانية‬
‫ولكن املنتمي أيضاً إىل ثقافة إسالمية تنويرية‪ .‬هذه الثقافة كان يتم تلقي عناصرها من أفكار مجال الدين وحممد‬
‫عبده أوالً‪ ،‬ومن خالل اطالع واسع وتدرجيي على تاريخ إسالمي عريق وحضارة إسالمية زاهرة اكتسبت‬
‫عامليتها بفعل دورها الرائد يف مراحل معينة من التاريخ العاملي‪ .‬فضالً عن حالة التماس مع احلضارة األوروبية‬
‫احلديثة‪ ،‬األمر الذي يدعو إىل املقارنة بني التواريخ واىل طرح السؤال املهم والدائم الذي صاغه أرسالن‪ :‬ملاذا‬
‫تأخر املسلمون وتقدم غريهم؟‬
‫وكانت الدولة العثمانية ال زالت تشكل يف هذه الثقافة املكونة لوعي أرسالن معلماً من معامل هذا التاريخ‪.‬‬
‫فكيف إذا هتدد مصري هذه الدولة بالتقسيم أو الزوال يف خضم املشاريع األوروبية املعلنة وغري املعلنة يف نطاق‬
‫ما مسي آنذاك "باملسألة الشرقية"‪.‬‬
‫لنالحظ هنا أن البدايات عند كل من رشيد رضا وشكيب أرسالن (وهذه فرضية من فرضيات هذه‬
‫الورقة) كانت تشي باجتاهني جيري تبلورمها بشكل تدرجيي عند كل من الرجلني‪ :‬اجتاه يشدد على السياسات‬
‫اإلصالحية للمجتمع وللدولة‪ ،‬وهو اجتاه رشيد رضا‪ .‬واجتاه يشدد على وحدة الدولة العثمانية ومنعتها وقوهتا‬
‫وكصيغة تارخيية ممكنة تؤمن استمرارية االجتماع السياسي اإلسالمي وهو االجتاه الذي ميثله شكيب أرسالن‪.‬‬
‫هذا على أن التمييز بني االجتاهني يف حاليت أرسالن ورضا مل يش ّكل قطعاً أو تناقضاً‪ ،‬فأولوية اإلصالح‬
‫عند رشيد رضا‪ ،‬وكما برزت يف البدايات ال تعين غياب اهتمام رضا بوحدة الدولة ومنعتها‪ .‬وأولوية الوحدة‬
‫وقوة الدولة عند شكيب أرسالن مل تكن لتعين أيضاً إغفاالً ملشاريع اإلصالح فيها ويف جمتمعاهتا‪ .‬اخلالف أو‬
‫التمييز بني االجتاهني يرتسم يف حيز األولويات واملداخل‪ .‬وهذا ما سيربز ويفسر الحقاً االختالف يف تقدير‬
‫تداعيات بعض املواقف والسياسات عند كل منهما‪.‬‬
‫يعرب شكيب أرسالن عن حالة "التآخي" بني الرجلني ويف ظل ما كانت تستنبطه البدايات من أوجه‬
‫اختالف بالفقرة التالية‪:‬‬
‫إيل من مصر‬ ‫إيل (‪ )...‬وكان يكتب ّ‬ ‫"وبعد أن وصل الشيخ رشيد إىل مصر‪ ،‬أصدر جملته املنار وبعث هبا ّ‬
‫يف أخاً وفياً مشاركاً له يف مبادئه وأفكاره‪ ،‬ولو مل يكن بيننا من رابطة سوى كوننا‬ ‫من وقت إىل آخر ويرى ّ‬
‫حنن االثنني من مريدي األستاذ اإلمام فكان ذلك كافياً" (ص ‪.)146‬‬
‫ووحد شىت االجتاهات التغيريية واإلصالحية يف واليات‬ ‫وحدمها‪ّ ،‬‬ ‫على أن احلدث الكبري الذي مجعهما‪ ،‬بل ّ‬
‫الدولة العثمانية هو إعالن الدستور العثماين يف العام ‪ .1908‬ويكتب أرسالن عن لقائه رشيد رضا يف تلك‬
‫املناسبة ما يلي‪" :‬وملا أعلن الدستور العثماين سنة ‪ 1908‬وجاء عهد احلرية‪ ،‬جاء السيد رشيد رضا لزيارة‬
‫مرة أو مرتني‬ ‫وطنه ورأيته يف بريوت واجتمعت به طويالً يف نادي االحتاد والرتقي بتلك البلدة‪ ،‬وكذلك جاء ّ‬
‫فسهر عند عمي األمري مصطفى أرسالن فكنت هناك فجرت بيننا أحاديث ذكِر بعضها يف املنار" (ص‪.)147‬‬
‫واحلق أن إعالن الدستور أطلق يف البدايات‪( ،‬وبالتحديد يف السنتني األوليني) إمجاع رأي عام وحريات‬
‫واسعة والسيما يف جمال النشر واملطبوعات وتأسيس اجلمعيات واألحزاب‪ .‬فشكل هذا اإلعالن من جهة أوىل‬
‫مرجعية للرهان على إمكانات التقدم وآماله‪ ،‬وكما يعرّب عن ذلك كتاب نائب والية بريوت سليمان البستاين‬
‫"عربة وذكرى" ولكنه ش ّكل من جهة أخرى حافزاً للتعبري عن خصوصيات قومية ودينية واثنية وجهوية شىت‪.‬‬
‫والتفسخ‪ ،‬وملا كانت السياسات األوروبية‬‫ّ‬ ‫وملا كان إطار الدولة ومؤسساهتا على درجة كربى من الضعف‬
‫ّ‬
‫مجيعها متأهبة الستثمار هذا الضعف‪ ،‬فإن التعبري الصريح عن اخلصوصيات وخروج برامج احلركات املطلبية يف‬
‫حادة بني اجلماعات‬ ‫الواليات إىل حيز الفعل السياسي الدويل‪ ،‬كان مثرياً للنقاش وحمفزاً لربوز اخلالفات بصورة ّ‬
‫وبني أطروحات النخب‪ .‬ويف طليعة هذه األطروحات‪ :‬أطروحة الالمركزية وحدودها‪ ،‬مث مشاركة األقوام‬
‫األخرى والسيما العرب يف أجهزة الدولة وهياكلها‪ ،‬ومكانة اللغة العربية يف الدولة اخل‪...‬‬
‫والتحرك من أجلها‪ ،‬تثور اخلالفات يف املمارسة‬‫ّ‬ ‫حول هذه األطروحات وصيغة فهمها وتطبيقها‬
‫والتوجهات‪ .‬فيذهب حزب اإلحتاد والرتقي احلاكم‪ ،‬والسيما بعد العام ‪ 1910‬حيث تسلّم احلكم الثالثي‬
‫العسكري أنور وطلعت ومجال حنو تغليب القومية الرتكية يف اإلدارة والرتبية واملؤسسات والثقافة‪ ،‬كما يذهب‬
‫حنو مزيد من تشديد القبضة املركزية وإضعاف مشاركة األقوام األخرى والسيما العرب يف إدارات الدولة‪.‬‬
‫األمر الذي أثار موضوعة املساواة يف املواطنة العثمانية‪ ،‬أي التابعية العثمانية اليت نص عليها الدستور واليت‬
‫متسكت هبا احلركة املطلبية العربية‪ .‬وكان رشيد رضا من أبرز املعربين عن هذا املنحى يف املطالبة "باملساواة"‬
‫درءاً ملا يسميه "عصبيات اجلنسيات"‪.‬‬
‫يعطينا رشيد رضا يف جملة "املنار" صورة عن هذا االفرتاق يف املوقع الذي بدأ يربز بوضوح بني النخب‬
‫الرتكية والنخب العربية‪ ،‬وبعض صور اجلدال الذي قام بني الكتاب األتراك والكتّاب العرب‪.‬‬
‫من نصوصه اليت ميكن االستشهاد هبا مقالته الشهرية املعنونة "العرب والرتك" (املنار‪ ،‬جملد ‪ ،12‬جزء ‪،12‬‬
‫‪ 11‬يناير ‪( 1910‬ص ‪)914 – 913‬‬
‫يقول‪" :‬كتب أحد شبان الرتك املقيمني يف القطر املصري مقاالت يف جريدة األهرام يفاخر فيها العرب‬
‫بقوته وجنسه معرباً عنهم بامللة املالكة متبجحاً بزعمه أهنم هم وحدهم الذين أزالوا احلكومة االستبدادية‪،‬‬
‫وأزالوا منها الدستور واحلرية _ وأهنم هم وحدهم الذين هلم احلق بالتمتع بثمرات الدستور الكاملة _ وليس‬
‫للعرب وال لغريهم من األجناس أن يطمعوا يف مساواهتم يف مناصب الدولة وأعماهلم ألن والياهتم مستعمرات‬
‫أو مستملكات للرتك! فيجب أن يكون قصارى حظ العرب من الدستور أن يسرتحيوا من أعباء الظلم ويتذوقوا‬
‫طعم العدل فيكونوا من الرتك كأهل اجلزائر من فرنسا أو كأهل اهلند من إنكلرتا"‪.‬‬
‫ويتابع رشيد رضا استعراض مقاالت هذا االجتاه العنصري يف جرائد االستانة فيقول‪ " :‬قامت بعض جرائد‬
‫االستانة تضرب على نغمة التغاير بني الرتك والعرب وتلغط بتلك الكلمات املنفرة " ملة مالكة‪ ،‬مستملكات‪،‬‬
‫استقالل العرب‪ ،‬اخلالفة العربية‪ ،‬بغض العرب للرتك‪ ،‬فضل الرتك على العرب‪ ،‬عجز العرب عن تدوين لغتهم‬
‫ونشر اإلسالم خارج جزيرهتم‪ - ،‬إىل غري ذلك من الكلم الدال على اجلهل بالتاريخ‪."...‬‬
‫مث يستعرض أسباب "سوء التفاهم"‪ .‬فيقول‪":‬وإن األسباب املتعلقة حبكومة العاصمة فمنها إسرافها يف عزل‬
‫أبناء العرب من وظائفهم حىت أهنا عزلت يف وقت قصري زهاء بضعة عشر متصرفاً منهم‪ ،‬منها خبلها بالوظائف‬
‫على طالهبا ومنها وجودها هبا على غريهم من العناصر األخرى‪ ،‬ومنها تعجلها بأمور تشعر بتعمد إضعاف‬
‫اللغة العربية املرافعات يف حماكم الواليات العربية باللغة الرتكية مع علمها بأن الناس جيعلوهنا يف الغالب حىت‬
‫وكالء الدعاوى (احملامني) وكجعل الكشوف (البيان نامة) اليت يقدمها التجار من أبناء العرب يف بالدهم إىل‬
‫إدارة املكس (اجلمرك) باللغة الرتكية أو الفرنسية‪ ...‬وكعدم قبول عرائض الشكوى بالعربية حىت يف جملس‬
‫األمة‪ ،‬مع أن املشتكني من األمة وهي ذات لغات متعددة للعربية منها مكانة خاصة من حيث هي لغة الدين‬
‫التوسع راجع كتابنا‪ :‬رشيد رضا‪ ،‬خمتارات سياسية من جملة‬ ‫الرمسي الذي يكفله مقام اخلالفة‪ "..‬اخل‪ ...‬ملزيد من ّ‬
‫املنار‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الطليعة‪.1979 ،‬‬
‫موقف شكيب أرسالن من هذه التحوالت؟‬
‫متيز موقف شكيب أرسالن يف هذه املرحلة بتجنب اخلوض يف السجال القومي بني النخب الرتكية‬
‫والعربية‪ ،‬معطياً األولوية ملوقف تدعيم السياسة اخلارجية للدولة لكي تتمكن من مواجهة الضغوط األجنبية‬
‫اهلادفة إىل إضعافها أو تفكيكها‪.‬‬
‫وهذا املوقف جيد بالفعل ما يفسره يف السياسات الدولية‪ .‬إذ جلأت هذه األخرية إىل استثمار التناقضات‬
‫السياسية واالجتماعية والثقافية يف الداخل‪ ،‬وتوظيف معطياهتا _ حيث أمكن ذلك _ يف اسرتاتيجيتها‪ .‬وقد‬
‫استخدمنا ونشرنا يف أحباثنا السابقة العديد من الوثائق الدبلوماسية (والسيما الفرنسية)‪ ،‬اليت أشارت إىل هذه‬
‫املعطيات واقرتحت على مراكز اختاذ القرار يف الدول الكربى استخدامها من أجل متكني مراكز النفوذ يف‬
‫واليات الدولة العثمانية‪ ،‬حىت حتني حلظة اقتسام مناطق النفوذ فيها(أنظر كتابنا‪ :‬بالد الشام‪ :‬االقتصاد والسكان‬
‫والسياسة الفرنسية يف مطالع القرن العشرين ‪ ،1980‬وكتابنا أيضاً‪ :‬وثائق املؤمتر العريب األول ‪ ،1913‬بريوت‬
‫‪.1980‬‬
‫وفيما يلي منوذج من هذه الوثائق‪:‬‬
‫يف خضم األجواء اليت سادت املدن العربية املشرقية عام ‪ 1912‬وهو عام هزمية تركيا يف البلقان‪،‬‬
‫واالنسحاب من ليبيا‪ ،‬وعام املطالبة باإلدارة الالمركزية واإلصالحات للواليات العربية‪ ،‬والتوجه حنو الدول‬
‫األوروبية لطلب االستشارة أو الدعم أو ممارسة الضغط على "االحتاديني"‪ ،‬كانت تتواىل تقارير قناصل الدول‬
‫األجنبية على وزارات اخلارجية حاملة وصفاً للوضع واقرتاحات ومشاريع للتدخل‪ .‬يصف قنصل فرنسا يف‬
‫بريوت ‪ M. Coulondre‬احلالة العامة يف املدن الشامية وحياول أن يلتقط الوجهة السياسية اليت يسري وفقها‬
‫األعيان العرب املسلمون يف تلك املدن‪.‬‬
‫يقول‪" :‬إن العرب يطالبون حبقهم يف مزيد من املسامهة يف حكم بالدهم‪ ،‬واجتاه حكم االحتاديني إىل‬
‫املركزية قد سبب سخطاً أسفر عن حركة انفصالية زادهتا األزمة الراهنة حدة"‪.‬‬
‫"واألزمة" نتجت يف رأيه عما يلي‪":‬إن التخلي عن طرابلس الغرب واجتياح جيوش الدول البلقانية‬
‫املتحالفة لألراضي العثمانية قد وجها ضربة قامسة إىل نفوذ تركيا ومن مث إىل اجلامعة اإلسالمية‪.‬‬
‫"فطاملا أن األتراك يهملون رعيتهم ومل يعودوا أقوياء كفاية للذود عن راية النيب‪ ،‬فان العرب يتساءلون ملاذا‬
‫جيب إبقاء الراية هذه يف عهدهتم؟ وهكذا فان فكرة خالفة عربية قد بدأت تتبلور يوماً بعد يوم"‪.‬‬
‫ويضيف القنصل إىل هذه النزعة العربية اليت يالحظها‪ ،‬عنصراً جديداً يبين عليه رهانه يف حتقيق حركة‬
‫انفصالية عربية‪ .‬هذا العنصر ارتبط حبركة التجارة العاملية اليت بدأ أعيان ينخرطون فيها يف شبكة العالقة مع‬
‫الغرب‪ ،‬أو أخذوا على األقل ينزعون إليها‪.‬‬
‫يقول‪ " :‬باإلضافة إىل ذلك رمبا جيب أن نلمح هنا العنصر الرئيسي للحركة االنفصالية‪ :‬فان مثل تونس‬
‫واجلزائر ومصر‪ ،‬يدعو املسلمني املوسرين وخصوصاً مالكي األراضي إىل التفكري‪ :‬لقد بات هؤالء يدركون أن‬
‫إدارة أجنبية وحدها بإمكاهنا أن هتز بالدهم من اخلمود الذي ألقتها فيها اإلدارة الرتكية وأن ترد هلا ازدهارها‬
‫وقيمتها اليت ال تقدر"‪.‬‬
‫وبعد أن يستعرض األهواء السياسية املوجودة وانقسامها بني إسالمي ومسيحي وتوزعها يف والءات‬
‫إنكليزية وفرنسية‪ ،‬يستنتج‪" :‬كل شيء ينبئ بأن احلركة االنفصالية اليت ظهرت معاملها بوضوح سوف تزداد‬
‫باستمرار يف حني تزول هنائياً فكرة الوطن العثماين(‪.")...‬‬
‫"إن سورية هي مثرة ناضجة مبتناول الذي يرغب يف قطفها وإذا مل ننتبه فإهنا سوف تنفصل عن األصل‬
‫العثماين يف مستقبل قد يكون قريباً‪ ،‬لتسقط على أرض اجلريان" (يقصد اإلنكليز يف مصر)‪.‬‬
‫ولعله‪ ،‬هلذه األسباب اليت ينطق به تقرير القنصل الفرنسي‪ ،‬وتقارير أخرى اختذ شكيب أرسالن املوقف‬
‫املدافع عن وحدة أراضي الدولة‪ .‬ويف الوقت الذي كانت جتري فيه السجاالت السياسية الداخلية بني مركزية‬
‫وال مركزية وبني أحقية عربية وأحقية تركية‪ ،‬اختار شكيب أرسالن يف العام ‪ 1911‬الذهاب إىل طرابلس‬
‫الغرب جماهداً ضد القوات اإليطالية اليت اجتاحت ليبيا‪ .‬ويذكر يف تعليقاته يف كتاب "إخاء أربعني سنة " أنه‬
‫أثناء مروره مبصر إىل ليبيا عرض عليه اخلديوي عباس حلمي الدخول يف "مشروعات أخرى سياسية" لكي يثنيه‬
‫عن مشروعه "اجلهادي"‪ .‬ويعلق أرسالن على هذا الغرض‪" :‬اعتذرت له عن قبول أمره وقلت له إين قاصد إىل‬
‫اجلهاد يف طرابلس‪ ،‬وما خرجت من بييت يف جبل لبنان إال هبذه النية‪ ،‬فال بد يل من إمتامها بالعمل‪( "..‬إخاء‬
‫أربعني سنة‪ ،‬ص‪.)149‬‬
‫وخالصة موقف أرسالن يف هذه املرحلة اخلطرية‪ ،‬حيث جيثم خطران أساسيان على الدولة (من جهة ليبيا‬
‫ومن جهة البلقان)‪ ،‬تعرب عنها كلمة أرسالن‪" :‬إين مل أكن موافقاً يف تلك األزمة على مناوأة االحتاديني الذي‬
‫كان يف أيديهم زمام الدولة وحصلت بيين وبني فريد باشا األرناؤوطي الصدر األعظم السابق يف سراي عابدين‬
‫مشادة شديدة من أجل االحتاديني ووجوب احلملة عليهم يف أثناء احلرب البلقانية وعدمه‪ .‬إذ كنت ممن ال جييز‬
‫املضي يف االختالفات الداخلية إىل ذلك احلد األقصى‪ ،‬حينما يكون البلقانيون على أبواب االستانة عاصمة‬
‫اإلسالم‪ .‬وكنت أرى وجوب اهلدنة بني األحزاب داخل السلطنة العثمانية‪ ،‬ريثما ينعقد الصلح ويزول اخلطر‬
‫على الدولة"(إخاء أربعني سنة‪ ،‬ص‪.)151‬‬
‫ويشدد شكيب أرسالن على هذا املوقف أيضاً عندما انعقد "املؤمتر العريب األول يف العام ‪ 1913‬يف‬
‫باريس‪ ،‬مببادرة من اللجنة العليا حلزب الالمركزية يف مصر‪ ،‬والذي كان رشيد رضا عضواً مؤسساً فيه‪ .‬يكتب‬
‫أرسالن يف سريته "كنت ساخطاً على عقد هذا املؤمتر (‪ )..‬وكانت وجهة نظري أن مؤمتراً كهذا ال ينبغي أن‬
‫يُعقد يف عاصمة كباريس هلا ما هلا من املطامع يف سورية‪ ،‬وال جيوز أن يعقد بينما الدولة مشغولة باحلرب‬
‫البلقانية‪ ،‬وقد فقدت قسماً عظيماً من السلطنة‪ ،‬وسقطت أمهيتها العسكرية والسياسية‪ ،‬وأن سوط أمهية الدولة‬
‫ال ينحصر ضرورةً يف الرتك وحدهم‪ ،‬بل يتناول مجيع املسلمني‪ ،‬ألن األوربيني ال يعرفون املسلمني إال أمة‬
‫واحدة‪ ،‬إذا سقط بعضهم رأيت األوروبيني احتقروا اجلميع‪( ".‬شكيب أرسالن‪ ،‬سرية ذاتية‪ ،‬بريوت ‪،1969‬‬
‫ص‪.)109‬‬
‫تتحول إىل‬ ‫ٍ‬
‫يف هذه املرحلة متر العالقة بني رشيد رضا وشكيب أرسالن حبالة من الفتور ولكن دون أن ّ‬
‫مناكفة أو سجال عدواين‪ .‬إذ حيافظ الواحد منهم على احرتام اآلخر وميتدح ما يف اآلخر من إجيابيات‪ .‬فذاك‬
‫فقيه عظيم‪ ،‬بل أهم فقيه يف العامل اإلسالمي برأي أرسالن‪ .‬وهذا كاتب عظيم‪ ،‬بل أهم ٍ‬
‫كاتب يف العامل‬
‫اإلسالمي ومن أهم رجال السياسة برأي رشيد رضا‪.‬‬
‫على أن مسألة املوقف من االحتاديني والذهاب بعيداً يف مطالبتهم باإلصالح والالمركزية‪ ،‬تبقى مسألة‬
‫خالفية‪ ،‬حيث جيتهد كل واحد منهما يف إجياد تفسري ذايت ملوقف اآلخر‪.‬‬
‫ومن ذلك مثالً‪ ،‬ما يكتبه أرسالن عن تفسري "عداوة" رشيد رضا لالحتاديني األتراك‪ .‬إذ يقول "‪ ...‬علمت‬
‫أن السيد رشيد رضا ذهب بعد إعالن الدستور مبدة إىل االستانة وسعى لدى رجال اإلحتاد والرتقي يف تأسيس‬
‫مدرسة باسم دار الدعوة واإلرشاد‪ ،‬وهو املشروع الذي قام به يف مصر بعد أن أخفق فيه باألستانة‪ ،‬فيظهر أن‬
‫تامة ومل يفز بشيء‬ ‫االحتاديني بذلوا له املواعيد يف البداية‪ ،‬ولكن ماطلوه يف إجنازها حىت قضى يف االستانة سنة ّ‬
‫وخرج من االستانة عائداً إىل مصر معتقداً أنه ال يرجى شيء من اخلري للعرب من مجعية االحتاد والرتقي وصار‬
‫عدواً هلا ينتقد سياستها يف كل فرصة" (إخاء أربعني سنة‪ ،‬ص‪.)148‬‬
‫على أن هذا التقليل من األمهية السياسية يف سجاالت رشيد رضا مع االحتاديني‪ ،‬يوازنه شكيب أرسالن يف‬
‫التأكيد على إخالص كل منهم "ملذهبه السياسي" وقبول الواحد منهم لآلخر‪ ،‬وحرصهم املشرتك على‬
‫اإلسالم‪ .‬يقول‪" :‬بالرغم مما وقع بيننا كان اعتقادي متيناً بإخالصه‪ ،‬وأنه ال ميكن أن يواطئ على اإلسالم يف‬
‫كثري وال قليل وال يف املنام‪ ،‬وأنه مع كراهيته لألتراك يف آخر األمر يفضلهم على اإلنكليز من جهة كوهنم‬
‫مسلمني" (إخاء أربعني سنة‪ ،‬ص‪.)155‬‬
‫هذا على أن االختالف يف املواقف سيتخذ طابعاً درامياً خالل احلرب العاملية األوىل‪ .‬إذ تشري إجراءات‬
‫مجال باشا الدموية يف لبنان وسورية‪ ،‬والسيما عندما أعدم كوكبة من النخب العربية يف بريوت ودمشق‪،‬‬
‫سخطاً عربياً قوياً على حكم االحتاديني األتراك حيث أخذت صورة هذا احلكم تتماهى يف بعض مستويات‬
‫الوعي العريب املتشكل مع صورة الدولة العثمانية ككل وحيث بدأ مسار املطالبة باإلصالح واحلقوق العربية‬
‫والالمركزية‪ ،‬مساراً مقفالً وأوصل إىل مأزق ال خروج منه إالّ عرب الرهان على "استقالل عريب" حممول على‬
‫"وعود إنكليزية" أو أوروبية كان ميهد له منذ سنوات‪ ،‬وكان بعض من خنب عربية وفعاليات أهلية قد استميل‬
‫إليه يف القاهرة ويف احلجاز‪.‬‬
‫على أنه بالنسبة لرشيد رضا‪ ،‬يبقى االستقالل عن األتراك مرتبطاً (وعلى قاعدة ثقافة فقيه مسلم) مبدى‬
‫األمانة التارخيية لإلسالم وفقاً لتصوره لدوره التارخيي‪ :‬محاية اإلسالم وإنشاء دولته‪ .‬فإذا كان االحتاديون‬
‫(املالحدة) كما يصفهم "قد خانوا اإلسالم ونكلوا بالعرب"‪ ،‬ومل يعد باإلمكان الرهان عليهم‪ ،‬فإن مشروع‬
‫الشريف حسني يقدم لرشيد رضا يف العام ‪ 1916‬احتماالً ملشروع بديل يف حال سقوط الدولة العثمانية‪:‬‬
‫"االحتياط ملا جيب إذا سقطت الدولة" على حد قوله _املنار‪ ،‬اجمللد‪ ،20 ،‬ج‪ ،6‬فرباير ‪ ،1918‬ص‪.)281‬‬
‫يقول يف خطبته اليت ألقاها يف مىن مبناسبة األضحى عام ‪ ،1916‬وكان الشريف حسني قد أعلن الثورة‬
‫واستقالل احلجاز عن الدولة‪" :‬لكن العمل إلنقاذ الدولة نفسها من اخلطر قد أصبح فوق طاقته وطاقة غريه‪،‬‬
‫فرأى أن يبدأ باملستطاع وهو إنقاذ ما ميكن إنقاذه من البالد العربية‪ ،‬ليكون ذلك بيئة حلفظ االستقالل‬
‫اإلسالمي وعدم زواله ملا خيشى ويتوقع أن حيل بالدولة العثمانية والعياذ باهلل تعاىل" (املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.)285‬‬
‫هذا يف حني يذهب شكيب أرسالن مذهباً آخر يف تقدير املوقف خالل احلرب العاملية األوىل‪ .‬يعارض‬
‫سياسة مجال باشا الدموية يف سورية‪ ،‬وحيذره من مغبة هذه السياسة وخماطرها على العالقات العربية _ الرتكية‪،‬‬
‫ويستنجد بصديقه طلعت باشا لردع زميله عن هذه املمارسات‪ ،‬ولكنه ميتنع عن التصريح أو العمل ضد الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬ألن رأيه يتلخص دائماً يف تفضيل الدولة العثمانية على حكم األجانب‪ ،‬ومهما بلغت أخطاء احلكام‬
‫األتراك‪ .‬بل أن شكيب أرسالن يشري يف مذكراته إىل اجملاعة يف لبنان ال تعود إىل مسؤولية األتراك‪ ،‬بل إىل‬
‫احلصار الذي ضربه احللفاء على السواحل السورية واللبنانية (انظر‪ :‬شكيب أرسالن) سرية ذاتية‪ ،‬ال سيما فصل‬
‫"دور احللفاء يف جماعة لبنان"‪ ،‬ص‪ )238 – 227‬فأدى ذلك إىل إيقاف حركة التبادل السلعي واملايل اليت‬
‫يقوم عليها اقتصاد الساحل واجلبل‪.‬‬
‫هذه املواقف أثارت لشكيب أرسالن خصومات حادة من قبل طالب االستقالل العريب بصيغتيه‬
‫الالمركزية أو االنفصال‪ ،‬كما ّأدت إىل شيوع تأويالت "وتقويالت" ملواقفه وآرائه‪.‬‬
‫ويشري رشيد رضا إىل هذا احلال مدافعاً عن أخيه متفهماً مواقفه‪ ،‬ولكن مربزاً اخلالف يف وجهيت النظر‪.‬‬
‫يقول‪" :‬لقد كان كثريون من الناس يزعمون أنه ليس له مبدأ أو مذهب يف السياسة ثابت‪ ،‬وإمنا يدهن للدولة‬
‫ولكرباء رجاهلا ألجل املنفعة‪ ،‬وأكثر هؤالء من حساده أو خمالفيه يف مذهبه السياسي‪ ،‬وبعضهم من كانوا‬
‫ينكرون عليه مشايعته للحميديني يف عهد عبد احلميد الذي كان يطريه بالنظم والنثر‪ ،‬مث مشايعته لالحتاديني‬
‫عندما صاروا يف الدولة أصحاب النهي واألمر‪ ،‬وأنه مل يكن من طالّب اإلصالح للدولة يف مجلتها وال لبالده‬
‫السورية أو العربية يف خاصتها‪ .‬وعندي أن مثله يف هذا كمثل مسلمي مصر واهلند وغريمها من األقطار البعيدة‬
‫يريد من مشايعة من بيده زمام الدولة تأييدها على األجانب ال الرضى بسوء اإلدارة أو السياسة‪( ".‬إخاء‬
‫أربعني سنة‪ ،‬ص‪.)197 – 196‬‬
‫وحقيقة األمر أن الواحد منهما كان متفهماً ملوقف اآلخر‪ ،‬يف مسألة تعيني األولويات واألفضليات يف‬
‫مسألة موقفهما من الدولة العثمانية‪.‬‬
‫ففي العام ‪ ،1921‬يلتقي الصديقان يف جنيف مبناسبة انعقاد املؤمتر السوري – الفلسطيين‪ ،‬ويسمع رشيد‬
‫رضا من صديقه القدمي "أخباراً تفصيلية لفظائع مجال باشا يف سورية‪ ،‬وما كان من معارضته له باحلسىن مث‬
‫باملغاضبة‪ :‬فيطلب رشيد رضا لو تنشر هذه الوقائع لبيان احلقيقة التارخيية"‪ .‬ويكتب شكيب أرسالن يف املنار‬
‫فصالً بعنوان " كوارث سورية يف سنوات احلرب من تقتيل وتصليب وخممصة ونفي‪ :‬مشاهدات وجماهدات‬
‫شاهد عيان هو األمري شكيب أرسالن "‪ - .‬املنار‪ ،‬اجلزء الثاين‪ 30 ،‬مجادي اآلخرة‪ ،‬سنة ‪ 1340‬هـ‪ ،‬من اجمللد‬
‫الثالث والعشرين) (انظر مقتطفات منه يف‪ :‬إخاء أربعني سنة (ص‪ .)205 – 194‬ومن تعليقات شكيب‬
‫تأت بفائدة‪ ،‬شرعت أبنّي لرجال الدولة‬ ‫أرسالن يف احلاشية‪ :‬بعد أن رأيت أن النصيحة باحلسىن جلمال باشا مل ِ‬
‫خطر سياسة هذه وأطالبهم بردعه عنها"‪ .‬األمر الذي أثار نقمة مجال عليه‪ .‬ففكر هذا األخري بالبطش به‬
‫وبأخيه عادل‪ ،‬وما ردعه عن ذلك إالّ مكانة شكيب أرسالن لدى طلعت وأنور‪.‬‬
‫وعلى كل حال‪ ،‬مل تتأخر األوهام اليت بنيت على وعود احللفاء يف أذهان دعاة االستقالل العريب‪ ،‬من‬
‫االنكشاف عن لعبة دولية كربى كان من أبرز حلقاهتا اتفاقية سايكس – بيكو ووعد بلفور وتداعياهتما يف‬
‫مؤمتري سان رميو ولوزان‪ .‬فيصاب رشيد رضا خبيبة أمل مريرة من حقيقة مشروع الشريف حسني ووعود‬
‫اإلنكليز‪ ،‬ومدى مصداقية مبادئ ويلسون‪ .‬فيكتب‪" :‬ولكننا وجدنا أن عهد عصبة األمم الذي حيسب الرئيس‬
‫غري به يف نظام الدول واألمم ونقل البشر من طور سافل إىل طور عال من احلرية والسالم قد أجاز‬ ‫ويلسون أنه ّ‬
‫تقسيم بالد الشعوب الضعيفة بني األقوياء‪ ،‬بشرط أن يسمى تصرف كل دولة فيما تأخذه منها وصاية‬
‫وتوكيالً ال محاية وال استعماراً‪ .‬وزاد على ذلك أن الشعوب الراقية من أولئك الضعفاء واليت يُعرتف باستقالهلا‬
‫مؤقتاً بشرط قبول هذه الوصاية – أي بشرط أالّ تكون مستقلة – يسمح هلا بأن يكون هلا صوت يف اختيار‬
‫الدولة املوكلة هبا‪ ،‬ليكون ذلك حجة عليها"‪( ،‬املنار‪ ،‬اجمللد ‪ ،21‬ج‪ ،4‬عام ‪.)1919‬‬
‫ويعود بعدها باحثاً عن الدولة اليت ميكن أن تنقذ اإلسالم واملسلمني‪ ،‬فتقرأ يف هذا السياق حمطتني من‬
‫حمطات هذا البحث اجلديد يف املرحلة اجلديدة‪.‬‬
‫حمطة أوىل‪ :‬يبحث فيها عن بطل منقذ يتصوره يف مصطفى كمال‪ ،‬عندما كان هذا األخري يقود حركة‬
‫التحرير والتوحيد ضد تقسيم تركيا‪ ،‬ويف إمكانية إجراء مصاحلة عربية _ تركية يف إطار خالفة إسالمية‪.‬‬
‫حمطة ثانية‪ :‬يراهن فيها على قوة سياسية إسالمية جديدة هي قوة امللك عبد العزيز آل سعود‪.‬‬
‫في المحطة األولى‪ :‬تربز حيثيات حتول رشيد رضا من جديد حنو األتراك من خالل دافعني‪:‬‬
‫الدافع األول‪ :‬انتصارات مصطفى كمال يف التصدي للمشروع التقسيمي واإلحلاقي الذي رمسته معاهدة‬
‫سيفر (‪ )Sévres‬فبدت صورة مصطفى كمال كصورة السلطان "الغازي" يف أذهان مجاعات واسعة من‬
‫املسلمني‪ ،‬األمر الذي جدد يف وعي رشيد رضا إمكانية جتديد للخالفة اإلسالمية يف صورته‪.‬‬
‫الدافع الثاين‪ :‬تراجع صورة الشريف حسني وتقهقر املشروع العريب ليصبح مشروعات إلمارات وممالك يف‬
‫مهد‬
‫املشرق العريب‪ ،‬تديرها السياسة الربيطانية ودبلوماسيوها املعتمدون يف الشرق‪ .‬وهذا الدافع هو الذي ّ‬
‫للمحطة الثانية‪ ،‬بعد أن خيّب مصطفى كمال أمله يف اخلالفة من جديد‪.‬‬
‫يف هذه الفرتة االنتقالية واملمتدة على سنوات أربع (‪ ،)23 – 20‬واليت ميكن أن نسميها "مرحلة ما قبل‬
‫لوزان " تتجاذب النخب العربية تيارات فكرية وسياسية شىت‪ ،‬ينجذب كل واحد منها إىل مشروع سياسي‬
‫"دولوي" (من دولة)‪ .‬يف إطار هذا التجاذب ميكن متييز تيارات كربى ثالث‪ :‬تيار إسالمي يستعيد فكرة‬
‫اخلالفة مبناسبة ما يقوم به مصطفى كمال‪ ،‬ويف هذا التيار ينتظم رشيد رضا‪ ،‬وتيار علماين يدعو إىل القطيعة مع‬
‫مؤسسات التاريخ اإلسالمي‪ ،‬ومنها مؤسسة اخلالفة‪ ،‬حتت غطاء مفهوم التاريخ الوسيط (مجاعة املقتطف ومن‬
‫أبرزهم من رجال السياسة عبد الرمحن الشهبندر)‪ ،‬وتيار واقعي – تارخيي‪ ،‬ينطلق من الواقع وتارخيية األشياء‬
‫النسبية‪.‬‬
‫وأبرز من مثّل هذا التيار األخري‪ ،‬علي عبد الرازق‪ ،‬الذي حاول‪ ،‬وقد وضعت إجراءات مصطفى كمال‬
‫مؤسسة اخلالفة موضع تساؤل‪ ،‬أن يقرأ تارخيية اخلالفة كظاهرة سياسية نسبية‪ ،‬ال كمعطى ديين ثابت‪( .‬للتوسع‬
‫انظر يف هذا املوضوع‪ ،‬كتابنا‪ :‬الدولة واخلالفة يف اخلطاب العريب إبان الثورة الكمالية يف تركيا‪ ،‬دار الطليعة‪،‬‬
‫بريوت ‪.)1996‬‬
‫يف هذا اإلطار‪ ،‬كيف نقرأ مواقع كل من رشيد رضا وشكيب أرسالن؟‬
‫نذكر أنه يف هذا السياق‪ ،‬كتب رشيد رضا جمموعة مقاالته يف املنار يف مسألة اخلالفة واليت أصدرها يف‬
‫كتابه املعروف‪" :‬اخلالفة أو اإلمامة العظمى" ومنطلق فكرته "أن مسألة اخلالفة كان مسكوتاً عنها – كما‬
‫يقول – فجعلها االنقالب الرتكي اجلديد أهم املسائل اليت يبحث فيها"‪.‬‬
‫ويف رأيه أن قرار فصل اخلالفة عن السلطنة الذي اختذه مصطفى كمال بعد أن أصبح السلطان العثماين‬
‫عاجزاً ومغلوباً على أمره‪ ،‬يستدعي البحث يف مسألة اخلالفة من جديد‪ ،‬ال إللغائها ولكن لتجديدها‪ .‬فهي‬
‫مناسبة كما يقول للعمل على جتديد اخلالفة الشورية على النموذج الراشدي"‪.‬‬
‫وهنا بعد أن يفنّد "موانع جعل اخلالفة يف احلجاز " ويف الشريف حسني واليت أمهها كما يقول‪" :‬إن امللك‬
‫املتغلب على احلجاز هلذا العهد يعتمد يف تأييد ملكه على دولة غري إسالمية مستعبدة لكثري من شعوب املسلمني‬
‫وطامعة يف استبعاد غريها"‪ .‬حياول أن يفنّد مرجحات اخلالفة يف بالد الرتك"‪ .‬وهذه املرجحات هي‪:‬‬
‫‪"  -1‬أن الرتك اآلن يف موقف وسط بني مجود التقاليد وطموح التفرنج‪ ...‬وحضارة اإلسالم وحكومة‬
‫اخلالفة هي وسط بني اجلمود وبني حضارة اإلفرنج املادية "‪.‬‬
‫‪  -2‬أن ما ظهر من عزم احلكومة الرتكية اجلديدة وحزمها وشجاعتها وعلو مهتها‪ ،‬يضمن بفضل اهلل تعاىل‬
‫جناحها يف إقامة هذا اإلصالح اإلسالمي بل اإلنساين األعظم بإقامة حكومة اخلالفة اجلامعة بني القوة املادية‬
‫والفضائل اإلنسانية"‪.‬‬
‫‪"  -3‬إن الدولة الرتكية اجلديدة هي الدولة اإلسالمية اليت برعت يف فنون احلرب احلديثة ويرجى إذا جنحت‬
‫فيما تعين به من األخذ بوسائل الثروة والعمران أن متكنها مواردها من االستغناء عن جلب األسلحة وغريها من‬
‫أدوات احلرب بصنعها يف بالدها فتزداد قوة على حفظ حكومتها وبالدها وتكون قدوة جلرياهنا وأستاذاً هلم"‪.‬‬
‫‪"  -4‬إن جعل مقام اخلليفة يف بالد الرتك أو كفالتهم له يقوي هداية الدين يف هذا الشعب اإلسالمي الكبري‬
‫وحيول دون جناح مالحدة املتفرجنني وغالة العصبية اجلنسية‪."...‬‬
‫‪"  -5‬لئن كان جهل العرب والرتك يف الزمن املاضي مبعىن اخلالفة ووظائفها – والسيما مجعها لكلمة‬
‫املسلمني – سبباً من أسباب تقاطعهما وتدابرمها اليت انتهت بسقوط السلطنة العثمانية وباستيالء األجانب على‬
‫قسم كبري من بالد العرب والتمهيد لالستيالء على الباقي‪ ،‬فإن ما نسعى إليه اآلن سيكون إن شاء اهلل تعاىل‪،‬‬
‫أقوى األسباب جلمع الكلمة والتعاون على إحياء علوم اإلسالم ومدنيته مع استقالل كل فريق بإدارة بالده‬
‫مستمداً السلطة من اخلليفة اإلمام اجملتهد يف علوم الشرع اإلسالمي املنتخب بالشورى من أهل احلل والعقد من‬
‫العرب والرتك وغريمها من الشعوب اإلسالمية مبقتضى النظام الذي يوضع لذلك "‪.‬‬
‫بعد هذا االستعراض‪ ،‬يقرتح رشيد رضا بالرغم من "ضعف أمله" ولكن دون أن يتسرب اليأس إليه‪" :‬على‬
‫حزب اإلصالح أن يسعى إلقناع الرتك أوالً جبعل اخلالفة يف مركز الدولة‪ ،‬فإن مل يستجيبوا فليساعدوا على‬
‫جعلها يف منطقة وسطى من البالد اليت يكثر فيها العرب والرتك والكرد كاملوصل املتنازع عليها بني العراق‬
‫واألناضول وسورية ويضم إليها مثلها من البالد املتنازع فيها بني سورية واألناضول وجتعل شقة حياد ورابطة‬
‫وصل معنوي‪ ،‬يف مظهر فصل جغرايف فتكون املوصل امساً وافق املسمى"‪.‬‬
‫والواقع أن رشيد رضا حياول خالل هذه الفرتة اليت سبقت إلغاء اخلالفة (قبل آذار ‪ )1924‬أن يوظّف‬
‫أمالً – ولو كان ضعيفاً كما يقول – يف احتمال عودة مصطفى كمال إىل اإلسالم واالنطالق من اإلجناز‬
‫الذي حققه هذا األخري يف استقالل "تركيا"‪ ،‬وحتييده عن حزب "املتفرجنني" و"مالحدة األتراك" على حد‬
‫تعبريه‪ .‬ففي ‪ 30‬كانون الثاين (يناير) سنة ‪ 1923‬يبعث برسالة إىل صديقه شكيب أرسالن يرى فيها أنه يف‬
‫حال فشل مؤمتر لوزان املرتقب يصبح من الضروري ومن أجل مصلحة األتراك "توثيق روابط اإلخاء الديين"‬
‫بينهم وبني العرب‪.‬‬
‫ويذهب إىل حد ترجيح الرتك على اإلفرنج فيكتب‪" :‬إنين ال أكتم عنك أنين ما زلت أرجح الرتك على‬
‫اإلفرنج كافة وأن ظلمونا وحقرونا وبغوا علينا وأعرضوا عنّا وأمسعونا أذى كثرياً ومل يعذروا من تعلموا منهم‬
‫التعصب القومي (أي العرب الذين يناهضون لغتنا وديننا وحيتقرون سلفنا الصاحل الذي نفاخر به مجيع األمم يف‬
‫صاحلها) – أرجح أن يعود الرتك سائدين حاكمني لبالدنا على بقاء اإلفرنج فيها بأي اسم من األمساء أوصفة‬
‫من الصفات‪"..‬‬
‫ويضيف‪ " :‬أمتىن أن جند عند عقالء الرتك إنصافاً نبين عليه اتفاقاً ثابتاً ال يستطيع أعداؤنا نقضه"‪ ،‬اتفاقاً‬
‫قائماً على "العدل واملساواة"‪ .‬ويرى أن هذا االتفاق ميكن أن حيدث يف ظل انتصار األتراك والعودة إىل إلسالم‬
‫"أعظم انقالب اجتماعي يف األرض"‪ .‬ويبقى أمله حىت حينه معلقاً على مصطفى كمال‪ ،‬إذ يضيف‪" :‬لو عرف‬
‫اهلمة مصطفى كمال من اإلسالم ما أعلم ألمكنه أن يكون رجل العامل ال رجل الرتك فقط‬ ‫هذا الرجل العايل ّ‬
‫(‪...،)...‬لكن هذا الرجل الكبري ال يعلم ومن يل بأن يعلم وقد كتب بعض زعماء اهلند مبثل ما يطالبين‬
‫صاحب يل هنا من الرتك وهو الرتغيب يف الذهاب إىل أنقرة"‪.‬‬
‫ومن املؤكد أن رشيد رضا قد كتب جمموعة مقاالته يف موضوع "اخلالفة" يف سياق هذا االهتمام بالتوجه‬
‫إىل األتراك" بغية إقناعهم‪ ،‬إذ يقول خماطباً أرسالن "قد كتبت مقاالً طويالً يف مسألة اخلالفة نشرت منه إىل‬
‫اآلن سبع كراريس يف املنار مث طبعتها على حدة وإنين مرسل هبا إليك فتعلم أنه مل يكتب مثلها يف اإلسالم وأين‬
‫واثق بأهنا سترتجم بعدة لغات وسيعلم منها إخواننا الرتك أهنم ال يستطيعون السيادة على العامل مبنصب اخلالفة‬
‫إالّ إذا تآخوا مع العرب"‪.‬‬
‫وجواباً على مطلب بعض زعماء اهلند وصاحبه الرتكي‪ ،‬يف الذهاب إىل أنقرة‪ ،‬يقرتح رشيد رضا على‬
‫شكيب أرسالن أن يتوىل هذه املهمة‪ ،‬إذ يقول‪" :‬وخالصة القول إن الفصل يف أمر االتفاق مع القوم أرجى ما‬
‫يرجي من مثلك ومن ذا الذي يقدر على ما تقدر عليه وله ما لك من املكانة عندنا وعندهم فإن عجزت كان‬
‫عجزك برهاناً على سوء نيتهم وفساد طويتهم"‪.‬‬
‫ومل يدم االنتظار طويالً‪ ،‬ففي هذه الفرتة كان مصطفى كمال يهيئ عرب خطواته التمهيدية اليت أشرنا إليها‬
‫لقوانني آذار ‪ 1924‬واليت من ضمنها إلغاء اخلالفة هنائياً‪.‬‬
‫ويكتب شكيب أرسالن يف تعليقه على كتاب صاحبه رشيد رضا معرباً عن عجزه يف مهمته اليت كان‬
‫حيملها منذ عهد "االحتاديني"‪" :‬نعم عجزت عن إمتام أمر كانت حتول دونه املبادئ اليت أراد مصطفى كمال‬
‫بثها ال يف تركية فقط‪ ،‬بل يف كل العامل اإلسالمي واليت لو جنح هبا ألتى على اإلسالم من قواعده‪ .:‬وبعد تاريخ‬
‫هذا املكتوب بعدة سنوات جاءين من يونس نادي رئيس جلنة األمور اخلارجية يف أنقرة وصاحب جريدة‬
‫"مجهورية" كتاب يدعوين فيه إىل سياسة التآخي اليت يشري إليها الشيخ رشيد ولكن كنت أعلم أن التآخي‬
‫الذي يرمي إليه يونس نادي تريد تركية الكمالية بناءه على قواعد الالدينية وما يتفرع منها‪ ،‬وكنت مبعرفيت‬
‫ألحوال تركية أكثر من غريي عاملاً بأنه ال سبيل إىل االتفاق بني العرب والرتك ما دام الرتك غري مقلعني عن‬
‫مبادئهم هذه وما دامت احلكومة الرتكية هي يف يد هذه الفئة‪ .‬فكتبت إىل يونس نادي وقد كان زميلي يف‬
‫جملس األمة العثماين أقول له‪ :‬إننا شاكرون لكم حسن نيتكم حبق العرب كما أننا حنن ال نريد بالرتك إال خرياً‬
‫فأما استعدادكم ملعاونتنا يف جهادنا للتخلص من حكم اإلفرنج فإن العرب سيخلصون من هذا احلكم‬
‫ويتحررون بأنفسهم دون احتياج إىل غريهم وما جرى من االنفصال بني العرب والرتك إما أن يكون فاصلة‬
‫صغرى أو فاصلة كربى فأما إذا كان الذي فصل بني األمتني هي السياسة فهذه هي فاصلة صغرى ألنه ال‬
‫يوجد شيء أسرع تغرياً من السياسة‪ .‬وإن كان الفاصل ما أنتم فيه من املبادئ الالدينية ومن مظاهر التفرنج‬
‫حبذافريها فهي الفاصلة الكربى‪ .‬هذا كان جوايب ليونس نادي وقتئذ فلم يعد بعدها إىل مكاتبيت"‪.‬‬
‫ومهما يكن فإن أسباباً أخرى ستعمق هذه "الفاصلة بني العرب واألتراك ذلك أن األطماع اإلحلاقية للدولة‬
‫القومية الرتكية اليت أخذ مصطفى كمال ببنائها ستضيف إىل عناصر االفرتاق عن اإلسالم يف وعي النخب‬
‫العربية اإلسالمية أبعاد" قومية للصراع وستربز مشكالت احلدود بني القوميات بصورة حادة ومتمثلة بأطماع‬
‫مصطفى كمال يف مناطق ذات تعددية سكنية قومية وذات ثروات يف املوقع واالقتصاد‪ ،‬كاإلسكندرون‬
‫واملوصل‪.‬‬
‫ذاك هو املسار الذي قاد رشيد رضا إىل احملطة األخرية يف فكره السياسي‪ :‬تأثري مشروع عبد العزيز آل‬
‫سعود يف اجلزيرة‪ ،‬واالكتفاء على صعيد فكرة اإلسالمية والعامل اإلسالمي باقرتاح تأجيل البت يف مسألة‬
‫اخلالفة‪ ،‬بعد أن أثار مؤمتر القاهرة (‪ )1926‬مسألة مركزها وبرزت خالفات املسلمني يف العامل اإلسالمي‬
‫حول موقعها ودورها ومكاهنا‪ ،‬وبطرح صيغتني إعداديتني هلا‪ :‬صيغة مدرسة اجملتهدين اليت سبق أن اقرتحها‬
‫وصيغة احلزب اإلسالمي اإلصالحي الذي دعا إليه‪.‬‬
‫أما شكيب أرسالن فتنم مواقفه وكتاباته يف هذه املرحلة (مرحلة ما بعد العثمانية) عن مفارقة الفتة يف‬
‫حال املقارنة بني مساره ومسار رشيد رضا يف كل من املرحلتني‪ :‬العثمانية وما بعد العثمانية‪.‬‬
‫ففي حني يبتعد رشيد رضا أكثر فأكثر عن سياسات احلركة العربية ويتهمها باخليانة‪ ،‬يف حني كان قبل‬
‫ذلك مؤيداً هلا يف احلرب األوىل‪ ،‬يقرتب شكيب أرسالن يف مرحلة ما بعد العثمانية أكثر فأكثر من أطروحات‬
‫اهلامشية العربية‪ ،‬والسيما من أطروحات امللك فيصل‪ ،‬يف حني أنه كان خالل احلرب األوىل معادياً هلا‪.‬‬
‫يفسرها شكيب أرسالن يف عدة مناسبات‪.‬‬ ‫وهذه املفارقة َّ‬
‫من ذلك على سبيل املثال تعليقه يف احلاشية على رسالة من رشيد رضا مؤرخة يف العام ‪ 1923‬يهاجم‬
‫فيها رضا "األمراء احلجازيني"‪ ،‬فيكتب أرسالن يف التعليق‪" :‬كان كتاب السيد رشيد هذا قبل استقالل العراق‪،‬‬
‫ألنه مؤرخ يف سنة ‪ ،1923‬واستقالل العراق جرى سنة ‪ .1932‬واحلق أن امللك فيصل الذي هو أحد األمراء‬
‫الذين أشار إليهم رشيد رضا يف هذا الكتاب قد قام بنهضة كبرية لألمة العربية‪ ،‬وهو الذي بدهائه ومرونته‬
‫وحزمه وبصالبة الشعب العراقي يف وجه اإلنكليز متكن من فك قيد االنتداب اإلنكليزي على العراق‪ ،‬وإدخال‬
‫ذلك القطر العراقي يف دور االستقالل‪( "..‬إخاء أربعني سنة‪ ،‬ص‪.)320 – 319‬‬
‫وكان رشيد رضا قد أرسل إىل شكيب أرسالن كتاباً مؤرخاً يف ‪ 24‬ربيع األول سنة ‪)1924( ،1342‬‬
‫يهاجم فيها الشريف حسني وأبناءه ويبارك النتصار السعوديني يف احلجاز‪ ،‬ويدافع عن مواقفهم‪.‬‬
‫ميتنع شكيب أرسالن عن نشر كل ما ورد يف الرسالة (يف إخاء أربعني سنة) ويضطر إىل حذف ما يعتقد‬
‫أنه "يوغر الصدور" ويكتب تعليقاً يف احلاشية جاء فيه‪:‬‬
‫"كنت يف الصف املقاوم للملك حسني قبل احلرب وأيام احلرب كما يعلم ذلك اجلمهور منتقداً سياسته‬
‫علي محالت شديدة باللسان والقلم (‪ )...‬ومل‬ ‫وكان امللك حسني عفا اهلل عنه وأنصاره من العرب حيملون ّ‬
‫عف اللسان حبقّي غري امللك فيصل‪ .‬وكنت أحبه منذ كان زميالً يل يف جملس األمة باألستانة‪"..‬‬ ‫يكن من هو ٌّ‬
‫ويضيف أرسالن أنه "عند تأسيس احلكومة املستقلة يف دمشق أعلنت وجوب تأييد فيصل واالنضواء حتت‬
‫لوائه‪ ،‬وكتبت يف الصحف وإىل أصحايب بأنين كنت ضد امللك حسني وأوالده يف خروجهم على الدولة‬
‫حينئذ بني عريب وأجنيب‪ ،‬لوما زحف ابن سعود على احلجاز‬ ‫ألسباب يعرفها اخلاص والعام‪ ،‬ألن القضية تكون ٍ‬
‫ونشبت احلرب بينه وبني احلسني خفت أن تقع مذابح وتنزل بأهل احلجاز مصائب وأن تسيل الدماء يف باحة‬
‫املسجد احلرام فيحتقرنا األجانب ويشمت بنا أعداء اإلسالم‪ ،‬فكنت ذلك اليـوم من دعـاة الصـلح بـني احلسـني‬
‫وابن سعود‪( "..‬إخاء أربعني سنة‪ ..‬ص ‪.)361‬‬
‫خالصة ومحاولة مقاربة معرفية نقدية‪.‬‬
‫ما عرضنا إليه حىت اآلن‪ ،‬كان مبثابة استعادة حملطات أساسية من حمطات مواقف الرجلني‪ ،‬جتاه الدولة‬
‫العثمانية‪ّ ،‬أرخنا هلا تأسيساً على تصوراهتما لفضاء اإلسالم يف جانبه األيديولوجي السياسي‪ ،‬وبصورة خاصة يف‬
‫اجلانب الذي خيتص بتصورمها ملفهوم الدولة ونطاقها اجلغرايف – السياسي‪ .‬وهذا املفهوم جيد مرجعيته املشرتكة‬
‫يف تارخيية الدولة اإلسالمية‪ ،‬املتمثلة يف الواقع بصيغ شىت ويف ما يقوم بني تلك الصيغ من تداخل وتناوب‪ ،‬يف‬
‫األدوار والوظائف عرب مراحل التاريخ اإلسالمي‪.‬‬
‫وملا كان هذا التناوب والتداخل مؤديني يف الوعي إىل التباس‪ ،‬فان االختالف يف الرؤية بني الرجلني‪ ،‬بل‬
‫ٍ‬
‫مرحلة وأخرى‪ ،‬يتغذى من هذا االلتباس أوالً‪ ،‬التباس الذاكرة التارخيية املتمثلة حبشد‬ ‫عند الرجل الواحد بني‬
‫هائل من النصوص التارخيية والفقهية واآلداب السلطانية اليت تتعامل معها أيديولوجيا وليس معرفياً‪ ،‬بل ويتغذى‬
‫ومدوخة للعقول ولألفكار يف‬ ‫ثانياً من العجز عن مالحقة ومتابعة انعطافات تارخيية عاملية غري منتظرة متالحقة ّ‬
‫مرحلة اتسمت بعاملية إمربيالية كاسحة (أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين)‪ .‬وبناءً عليه ميكن‬
‫إبداء عدد من االستنتاجات لتعميق معرفتنا بإشكاليات تلك املرحلة‪:‬‬
‫‪  -1‬إن دراسة ذاك االلتباس يساعد على فهم هذا التعبري يف املواقف واآلراء عند كل منهما‪ :‬فصيغة الدولة‬
‫يف الوعي التارخيي ملتبس‪ ،‬وكذلك نطاقها يف اجلغرافية – السياسية والبشرية للعامل اإلسالمي‪ .‬ويأيت مفهوم‬
‫الدولة القومية القادم مع أفكار العاملية الغربية ليزيد من درجة هذا االلتباس ويضاعفه‪ ،‬فينشأ لدى النخب نوع‬
‫من تصورات شىت وتربيرات مفتوحة لشرعنة نشوء عصبيات الدول احلديثة أو احملدثة يف التاريخ العريب املعاصر‬
‫سواء باسم اإلسالم أو باسم القومية‪ ،‬وسواء تأسيساً على مرجعية الفقيه (شأن رشيد رضا) أو على مرجعية‬
‫دارس التاريخ اإلسالمي واملتابع للعالقات الدولية (شأن شكيب أرسالن)‪.‬‬
‫‪  -2‬يالحظ أنه تربز يف كل مرحلة من مراحل العمل الفكري – السياسي عند كل من الرجلني اهتمامات‬
‫أو منظومات من األفكار تسود على حساب أخرى‪ ،‬وأحياناً تطردها من جمال االهتمام طرداً كلياً‪ ،‬فإذا أخذنا‬
‫منظومة األفكار اليت تتعلّق بالدستور واحلريات‪ ،‬وجمال السلطة املدنية‪ ،‬ومفهوم املواطنة وحقوقها‪ ،‬الحظنا‬
‫بالنسبة لرشيد رضا وهو منوذج دال‪ ،‬أن منظومة األفكار اليت طابعها العام ما مسيته "املنظومة الدستورية"‬
‫سادت يف فكره حىت سنوات احلرب األوىل‪ ،‬بل كانت سبباً ودافعاً هلجرته ملصر‪ ،‬وكانت جماالً مشرتكاً للقيام‬
‫بنشاط سياسي مطليب (دميقراطي) مع ليرباليني وعلمانيني وكان هذا بدءاً من تأسيس مجعية الشورى العثمانية‪،‬‬
‫إىل حزب الالمركزية اإلدارية‪ ،‬إىل االحتاد السوري‪ ..‬اخل‪...‬‬
‫ومعروف نصه الشهري الذي يقول فيه إننا مل نتنبّه حنن املسلمني إىل الشورى‪ ،‬إال عندما نبّهنا األوروبيون هلا‬
‫عرب دساتريهم وجمالسهم التمثيلية‪ ،‬كما هي معروفة مواقفه أيضاً من أجل االنتصار للمشروطة العثمانية‬
‫(الدستور)‪.‬‬
‫غري أنه‪ ،‬بعد احلرب األوىل‪ ،‬وبعد االحتالالت املباشرة‪ ،‬وانكشاف الوجه السياسي التوسعي ألوروبا‬
‫وللغرب عموماً‪ ،‬يُسكت عن هذه األفكار‪ ،‬بل تغيب من خطاب املنار‪ ،‬وحيل مكاهنا اهتمام صارخ بالدولة‪،‬‬
‫أي دولة تنطلق من دعوة دينية وتستقوي بعصبية غالبة‪ ،‬وكأن التاريخ يف هذا املنطق يعيد نفسه‪ ،‬يف تطبيق‬
‫دورات ابن خلدون املتصورة يف نشوء الدول وتعاقب أجياهلا وأسرها‪.‬‬
‫التحول يف أفكار رشيد رضا عن حالة تراجع يف استيعاب الفكر الدستوري‬ ‫فهل يعرّب هذا املنحى من ّ‬
‫وفكرة السلطة املدنية وثقافة املواطن‪ ،‬وهو استيعاب بدا جلياً مع اجليل األول والثاين من النهضويني العرب‬
‫واملسلمني‪ ،‬فانتهى هذا الرتاجع إىل حصر الثقافة السياسية لديه يف عصبية الدولة اإلسالمية ويف تأسيس احلزب‬
‫اإلسالمي املمهد للخالفة؟‬
‫نتذ ّكر اليوم‪ ،‬كم كانت خطرية بل مميتة‪ ،‬وحنن نكتب هذا الكالم‪ ،‬الضربة اليت مين هبا كتاب علي عبد‬
‫الرازق‪" ،‬اإلسالم وأصول احلكم" ال ألمهيته العلمية اليوم‪ ،‬بل ألمهيته املعرفية املنهجية آنذاك‪ ،‬فهي أول حماولة‬
‫يف التاريخ العريب املعاصر‪ ،‬تتص ّدى ملعاجلة إشكالية العالقة بني الدين والسياسة وبالتحديد بني اخلالفة والسلطة‬
‫معاجلة معرفية ال إيديولوجية‪ ،‬بل لعلها أو حماولة لدراسة بدائل الدولة العربية مبناهج علم السياسة واالجتماع‪،‬‬
‫ال بوسائل الفقه التقليدية‪..‬‬
‫أما بالنسبة لشكيب أرسالن‪ ،‬فيبدو أن املسألة الدستورية وما يرتبط هبا من قضايا احلريات املدنية والسياسية‬
‫وحقوق املواطنة يف الداخل‪ ،‬مل تشغله ومل تثر اهتمامه منذ البدء‪ ،‬على الرغم من انتسابه إىل املرجعية اإلسالمية‬
‫اإلصالحية احلديثة املتمثلة جبمال الدين األفغاين وحممد عبده‪ .‬لقد أخذ من هذه املرجعية‪ ،‬على ما يبدو يل‪،‬‬
‫فكرة اجلامعة والوحدة والتوحيد‪ ،‬واالستقالل وليس طبيعة هذه الدولة وعالقتها باجملتمع‪ .‬أما جمال تطبيق‬
‫(فكرة الوحدة)‪ ،‬فيبدأ بالتناقص وفقاً لتحوالت التاريخ السياسي يف العامل‪ ،‬وتقاطع املشاريع بني الداخل‬
‫واخلارج‪ ،‬بدءاً من جمال العامل اإلسالمي‪ ،‬إىل اجملال العثماين‪ ،‬إىل اجملال العريب‪ ،‬إىل اجملال اإلقليمي والقطري‪.‬‬
‫وأما شروط تطبيق الفكرة‪ ،‬فتتمثل يف وعيه السياسي منذ الفرتة احلميدية وحىت حتقيق االستقالالت العربية يف‬
‫مناهضة السياسات االستعمارية‪ .‬ويف ممارسة أسلوب النشر والدعاية لقضايا العرب باألجنبية‪ ،‬ولعله يف هذا‬
‫السياق‪ ،‬تأيت نشرته املعنونة بالفرنسية يف سويسرا ‪ ”lA NATION ARABE‬واقرتاحه إنشاء جملة‬
‫"مغرب" يف باريس للدفاع عن قضية املغرب يف أوروبا يف العام ‪ .1931‬هذا وعندما نتحدث عن حصرية‬
‫االهتمام مبنظومات من األفكار عند رجل كشكيب أرسالن‪ ،‬أو عن غلبتها على أخرى‪ ،‬فإمنا اهلدف هو إبراز‬
‫املسكوت عنه يف اخلطاب أو الالمف ّكر به‪ .‬فهو عندما حياول اإلجابة على سؤال‪ .‬ملاذا تأخر املسلمون؟ حيصر‬
‫اإلجابة بغياب "روح التضحية" عند املسلمني‪ .‬مث ال يلبث أن حيصر غياب التضحية يف جمال اإلعالم والنشر‪.‬‬
‫املوجهة إىل قارئ جيبويت "أن املسلمني حيبون الشورى‪ ،‬والفتح كثرياً‪ ،‬ولكن بشرط أن‬ ‫يقول يف إحدى رسائله ّ‬
‫ال يدفعوا شيئاً وبشرط أن أصحاب اجلرائد تلذذهم باألحباث اللطيفة جماناً (‪ .)...‬وما دام روح التضحية يف‬
‫املسلمني معدوماً فال ميكن هلذه األمة أن تتق ّدم "رسالتنا "ملاذا تأخر املسلمون" أكثرها يف هذا املعىن‪ _ .‬وردت‬
‫يف‪ ،‬جنيب البعيين‪ ،‬من أمري البيان شكيب أرسالن إىل كبار رجال العصر‪ "..‬دار املناهل‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص‪.179‬‬
‫ويف رسالة أخرى إىل مجيل بيهم‪ ،‬يشدد شكيب أرسالن على املوقف نفسه‪ ،‬والتوصيف نفسه‪ ،‬يقول يف‬
‫رسالته‪( :‬آب ‪" )1931‬فكأن أهم اجلهاد هي يف تصحيح أفكارهم (أفكار الغربيني) قبل أن تصري أفعاالً‪ ،‬وهذا‬
‫يتوقف على الدعاية‪ ،‬وهذه تتوقف على املال وبذل املال يف هذا السبيل يتوقف على العلم‪ ،‬وهذه أمور ال يزال‬
‫املسلمون _ إال النادر – غري فامهني قيمتها‪ .‬يعتبون على اهلل ملاذا خذهلم وجعل النصارى واليهود والوثنيني‬
‫أعلى منهم‪ ،‬وال ينظرون أنفسهم يف إمهاهلم لألوامر اإلهلية أن كانوا متدينني‪ ،‬ويف إمهاهلم للمصاحل الدنيوية إن‬
‫كانوا غري متدينني‪ ..‬يريدون كل شيء بال تعب وال تضحية‪( "..‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.)282‬‬
‫قد يكون صحيحاً توصيف شكيب أرسالن هلذه الظاهرة يف جماهلا املعني واليت قد تكون ممتدة حىت اليوم‪،‬‬
‫ولكن التساؤل ينبغي أن ينصب حول أحادية حصر األسباب‪ .‬فلماذا هذه احلصرية يف تعيني أسباب قد تكون‬
‫من باب النتائج ال من باب العلل؟ وإذا كان اإلحجام عن "التضحية" يف جمال اإلعالم وتشجيع العلم قائماً‪،‬‬
‫وال يزل فالتضحية يف جماالت أخرى‪ ،‬ويف طليعتها جمال االستشهاد أي التضحية بالنفس‪ ،‬كان وال يزال قائماً!‬
‫فلماذا إذن تأخر املسلمون؟ السؤال ال يزال قائماً ومفتوحاً؟‬
‫*********************‬

‫مفكر وأستاذ التاريخ احلديث باجلامعة اللبنانية )*‬

You might also like