Professional Documents
Culture Documents
Hermeneu & Quran
Hermeneu & Quran
الكريم
الطالبة ريمة عسكراتني
كلية أصول الدين جامعة األمير عبد القادر للعلوم اإلسالمية قسنطينة
الملخص:
يعرف هذا العرض املوجز باهلرمنيوطيقا كأحد أهم التيارات النّقديّة املتداولة على املستوى الغريب والعريب ،خمتربا بذلك
ّ
احملركة للتفكري
توجه التّأويل ،ومستكشفا اإلشكاليّة ّقدرة هذا املنهج على صياغة أسس جديدة ومفيدة حتكم عملية الفهم و ّ
كل هذه اخلطوات جاءت خدمة هلدف رئيسي تصبو إليه ال ّدراسة والذي يكمن يف رصد فرص اهلرمنيوطيقي بشىت أطيافهّ .
االستفادة املنهجية من عدمها داخل حقل تفسري القرآن الكرمي ،ومن مث جاءت اخلطة على النحو اآليت :مق ّدمة :تعرف
باملوضوع وحت ّدد إشكاليّته الرئيسيّة ،العرض وجاء فيه :تعريف اهلرمنيوطيقا (أصل الكلمة ومنبتها) ،اهلرمنيوطيقا الفلسفيّة
(إسهامات أكرب ّرواد املنهج اهلرمنيوطيقي) ،أساسيّات التأويل اهلرمنيوطيقي ،مبدأ التطابق وتع ّددية املعىن القرآين ،وخامتة
تتضمن أهم نتائج البحث وما خرج به من توصيات.
ّ
Abstract :
1
مقدمة:
تعمق الفتوحات الساحة الفكريّة العربيّة يف اآلونة األخرية حت ّديات عديدة يف فهم وتفسري القرآن الكرمي ،ومع ّ
شهدت ّ
العلميّة والفلسفيّة وال ّدراسات اللّسانيّة واللّغويّة يف الغرب ،تعالت أصوات بعض املف ّكرين والكتّاب وذوي االختصاص
باالستفادة من املنجزات الغربية يف شىت اجملاالت السابقة الذكر هبدف استنطاق النّصوص القرآنية وإحياء املدلوالت بأثواب
جديدة توائم متطلبّات العصر وجتيب عن أسئلة اليوم .ويف احلقيقة جاءت هذه ال ّدعوة إميانا بعامليّة املنهج وسالمة فكرة
فالركود الذي شهده تفسري القرآن الكرمي إىل بدايات القرن االستقطاب من جهة ،وحتقيقا للتّجديد املنهجي من جهة أخرى؛ ّ
للسؤال عن جناعة املناهج املطروحة يف فهم كتاب اهلل ،كما أ ّن تفاقم املشاكل يف البالد التاسع عشر ش ّكل دافعا قويّا ّ
نص مق ّدس مركزي يرت ّد إليه عند احلاجة زاد من مشروعيّة هذا ال ّسؤال ،وأضحى املنهج التّفسريي اإلسالميّة رغم وجود ّ
(سواء كان قدميا أو حديثا) مطالبا بصياغة إجابات وافية عن انشغاالت املسلم املتج ّددة وعن إشباع تطلّعاته املعرفيّة وحبثه
يتوصل إليه من معلومات .هكذا كلّما حت ّقق هذا املطلب اتّسم املنهجال ّدؤوب عن احلقيقة تي ّقنا من وجود انسجام كلّي فيما ّ
الصالحيّة باإلضافة إىل إمكانيّة االستفادة املتواصلة من أدواته اإلجرائيّة على املدى الطّويل ،وبنفس القدر من باملقبوليّة و ّ
جيف القلم عن العطاء تبدأ بوادر الراهنة؛ فعندما ّفعالة لألزمات ّ
املتكرر عن إنتاج حلول ّ
القبول يكون الرفض حليف العجز ّ
السقوط ،ويكون املنهج أمام خيارين :إما أن يع ّدل يف حمتواه أو يتنازل عن مكانه آلخر يكون أكثر جناعة منه.ّ
املنزل
للمفسر فهم مراد اهلل من كالمه ّّ وتبقى النّقطة البؤريّة أو احملرقيّة يف سؤال املنهج هي قضيّة التّطابق ،فمىت ثبت
بصورة ال يشوهبا لبس مت ّكنّا من القول بتطابق املعىن مع النّص ،ويف هذه احلالة ما على البشريّة إالّ االتّباع واالنصياع نصرة
طور يقول سبحانه وتعاىل :ﭽ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﭼ حممد .٧ :ولوال قداسة لدين اهلل وأمال يف التّق ّدم والتّ ّ
القرآن ما كان ملبدأ التّطابق أمهيّة؛ ففهم القصد اإلهلي شرط الب ّد منه حلصول التّكليف لإلنسان مث جمازاته بالثّواب أو
علوا كبريا بدليل قوله سبحانه ﭽالشرط يغدو التّكليف الغيا واحلساب ظلما وتعاىل اهلل عن ذلك ّ العقاب ،ودون حت ّقق هذا ّ
ﯮ ﯮ ﯮ ﯮ ﯮ ﯮ ﯮ ﯮ ﯮ ﯮ ﯮﯮ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﯮ ﯮ ﯮ ﯮ ﭼ ﯮ ﯮ
القصص ،٥٩ :وقوله :ﭽ ﯮ ﯮ ﯮ ﯮﯮ ﯮ ﯮ ﯮﯮ ﯮ ﯮ ﯮ ﯮ ﯮ ﭼ فصلت .٤٦ :ويف هذا
متت للقصد اإلهلي بصلة.
السياق ،يكون املنهج بال قيمة كلما حاد عن إشكاليّة التّطابق وانشغل بتحقيق أهداف أخرى ال ّ ّ
الصاحل عن اخلوض يف تفسري كتاب اهلل خوفا من االحنراف باملعىن إىل غري مراده السلف ّ حترج ّ
وإذا كان التّاريخ يثبت ّ
تعاىل ،فإ ّن البعد عن زمن النّزول وتب ّدل األعراف والفهوم يزيد الوضع تأزما ،وال جيد الباحث يف جمال التفسري انفالتا من
بقوة ،أو منهج يطرح سؤاله بإحلاح شديد ،يشهد بذلك انتقال االستخدام العريب الواسع ملناهج النّقد واقع يفرض نفسه ّ
حمل ال ّدراسة -من دائرة املف ّكرين الكبار
السيميائيّة واهلرمنيوطيقا ّ
الغريب –كالفينومينولوجيا (علم الظّواهر) على سبيل املثال ،و ّ
إىل صغار ال ّدارسني مبختلف اجلامعات الوطنيّة والعربيّة ال ّدوليّة ،وهنا يغدو ال ّدارس يف العلوم الدينية اإلسالمية جمربا بني أمرين
وإما أن يسلك طريق احلوار حل جذري للقضيّة املنهجيّةّ ، اثنني :أن خيتار جتاهل األمر ّمّا قد يفيد يف تسكني األ م وليس يف ّ
حل مشكلة املنهج ،فهو يساهم يف وضع لبنة يف ميدان البحث والتّنقيب .وعند هذا الطرح واملناقشة ،فإن م يفض ذلك إىل ّ
تجسر المسافة بين الماضي والحاضر،
تؤسس الهرمنيوطيقا لطريقة جديدة للفهم بحيث ّ
السؤال اآليت :هل ّ
تزداد أمهية ّ
2
الراهنة؟ هل تعنى هذه الفلسفة بإشكاليّة التّطابق في محاولة لجمع المعنى والقصد
وتعرض حلوال ناجعة للمشكالت ّ
على بساط تأويلي واحد أم أنّها على العكس من ذلك ،فلسفة تدعو إلى فوضى معرفيّة عن طريق االهتمام بإشكاليّة
مغايرة؟
ليس من نافلة القول أ ّن اهلرمنيوطيقا انتشرت بشكل هستريي ملفت يف السنوات األخرية حىت صار احلديث عنها موضة
كل من جيهل هذا املصطلح يف خانة سلبيّة عنواهنا االنطواء على النّفس وعدم االلتفات إىل منجزات الغري العصر ،وصنّف ّ
األول
وترددت على املسامع حىت صارت قناعات ومسلّمات ،كقوهلم ' :م يرتك ّ تكررت ّ جتربا/تصديقا مبقوالت ّ تكرباّ /
عجزاّ /
وتقبل
الصريح' ،إخل ..يف وقت يعترب التيار اهلرمنيوطيقي نفسه قادرا على مجع املتناقضات ّلآلخر شيئا'' ،ال اجتهاد مع النّص ّ
كل احملاوالت اليت ترمي إىل فهم اخلطاب القرآين على بساط واحد يتساوى فيه السلف االختالفات يف الفهم بل ومجع ّ
بكل أنواعها؛ ذلك أل ّن التّأويل يعىن بالنّص ذاته وفق عمليّة
واخللف ،وتذوب عليه الفوارق املذهبيّة واالنتماءات واملسميّات ّ
تنفك عن البناء
بالسؤال املتج ّدد وطبيعة الوجود اليت ال ّسريّة عجيبة تطلق العنان للحوار والتّفاهم وااللتقاء مع النّقيض إميانا ّ
والتّشييد .وقبل اخلوض يف مدى صالحيّة هذا املنهج يف فهم وتفسري القرآن الكرمي الب ّد من بيان معىن اهلرمنيوطيقا ،كيف
نشأ وتطور هذا املصطلح وما هي سياقات استعماله؟
تعريف الهرمنيوطيقا:
املفكر فيه إىل منطوق أو مكتوب ال يش ّكلوكل هذه املعاين تشتمل يف احلقيقة على عمليّة تأويليّة حبتة؛ أل ّن حتويل َّ
ّ
الشرح ال ميكن أن يدافع عن نفسه جمرد انعكاس بسيط للفكرة كما سيأيت بيانه وكذلك شرح قضيّة ما ،ذلك أ ّن موضوع ّ ّ
وتتدخل يف تنقية األلفا أو اإلشارات يف إعادة
ّ الشرح،
تسري عمليّة التبسيط و ّ بذاته بل الب ّد من شخص له خربات وجتارب ّ
الرتمجة فهي
الطّرح ،هذا ما يعين بشكل مباشر أ ّن الكالم ال ينقل كما هو بل حيدث عليه تغيري وهذا هو عني التّأويلّ .أما ّ
األقرب إىل اهلرمنيوطيقا من غريها؛ أل ّن الوضع الذي ينقل فيه املرتجم لفظ من لغة إىل أخرى حيتاج إىل مراعاة سياق الكالم
منو األلفا وتبلور معانيها ،وتب ّدل استعماالهتا من عصر آلخر ،وأهم شيء أن يتم ّكن املرتجم يف اللغتني ،مبا يف ذلك طبيعة ّ
كل
الشخصية وبني ما يفصح عنه النّص؛ فوضعيّة املرتجم وخصوصيّة ّ لعمل شخص آخر من وضع حاجز يفصل بني آرائه ّ
لغة جعلت الرتمجة يف الطرح اهلرمنيوطيقي عبارة عن عمليّة تأويليّة بامتياز.
3
4
تتحرك فيه
ّ الذي اجملال فهم على تساعد تدل على ّمارسة فكرية دليلها اآللية أو الفن،
أما الالّحقة » « iqueاليت ّ
بفن الفهم ،ويف احلقيقة اهلرمنيوطيقا جتمعهما معا حىت وإن
تعرف تارة بعلم الفهم وتارة أخرى ّ
اهلرمنيوطيقا بداية؛ ذلك ّأهنا ّ
السؤال الذي يشغلها متاشيا مع هذا التّعريف ميكن
وفن الفهم يف ذات الوقت ،و ّ بدى ّأهنما متناقضان ،اهلرمنيوطيقا هي علم ّ
صياغته بشكل واضح ج ّدا :كيف تتم عمليّة الفهم؟ ما المقصود بعمليّة الفهم في ِّ
حد ذاتها؟
هذا وقد نسبت اهلرمنيوطيقا إيتيمولوجيا إىل "هرمس" Hermes 5الذي تباينت اآلراء حول طبيعته؛ فقيل هو رسول
مهمته األوىل نقل الكالم من زيوس كبري اآلهلة إىل غريه ،أما الثانية أن يلعب دور الوسيط،آهلة األوملب اإلثنا عشر ،كانت ّ
يرتجم للبشر كالم اآلهلة حسب قدراهتم وإمكاناته يف الفهم واالستيعاب 6،وقيل هو رمز احلكمة ،إله اخلطباء ودليل األرواح
امليّتة إىل العا م السفلي ،نسب إليه إجياد مجيع العلوم الصاحلة للمجتمع اإلنساين حىت السحر والكيمياء السحريّة 7،وقيل هو
السالم الذي وضع أمساء الربوج والكواكب السيارة 8،كما قيل أيضا غري ذلك... النيب إدريس عليه ّ من األنبياء الكبار ،وهو ّ
الصغرى ،اآلهلة والبشر ،األحياء
الربط ذاته؛ أل ّن دور الوسيط بني خمتلف العوا م :اآلهلة الكربى و ّ
ويكمن مربط الفرس يف هذا ّ
واألموات ،الغيب واحلاضر يوازيه يف األصل دور اهلرمنيوطيقا يف عبور فجوة الزمان بني املاضي واحلاضر وعبور البون الفاصل
لفن التّأويل.
بني القدمي واجلديد تأسيسا ّ
مرت اهلرمنيوطيقا مبراحل منهجيّة عديدة سواء على املستوى ال ّديين أو الفلسفي ،وما يهمنا يف هذا البحث هو على العموم ّ
أهم املراحل الفلسفيّة اليت رّكزت على صياغة رؤية واضحة لإلشكالية اليت حترك التأويل اهلرمنيوطيقي وفيما يلي أهم هذه
املراحل.
الهرمنيوطيقا الفلسفيّة:
تنوع
من هنا التغت فكرة القداسة ،و م يعد للنّص اإلجنيلي خصوصيّة تفصله عن باقي النّصوص األخرى على ّ
جماالهتا ،وكان على القارئ أن يتبع منهجني أساسيني من أجل الوصول إىل املعىن :املنهج الوضعي اللّغوي واملنهج النّفسي؛
11
الصعيد املوضوعي املؤول ال يغوص على مراد النّص إالّ مبلكة لغويّة ثريّة وقدرة على استبطان النّفوس البشريّة ،وعلى ّ
أل ّن ّ
فك شفرة املعىن نظرا خلضوعها لقانون التّواضع واملمارسة ،أ ّما ِ
املخاطب واملخاطَب من أجل ّ فعال بني
تعمل اللّغة كوسيط ّ
الصعيد ال ّذايت يأخذ القارئ مكان املؤلّف يف حماولة لفهم العصر الذي عاش فيه هذا األخري وما هي دوافع الكتابة على ّ
4
الشاغل الوحيد للهرمنيوطيقا هو الظّفر باملعىن األصلي
الصلة املباشرة بشخص الكاتب .وهنا كان ّ واملؤثّرات اخلارجيّة ذات ّ
حترك التّأويل إذن هي إشكاليّة تطابق.
كما أراده منتجه فعال ،فاإلشكاليّة اليت ّ
تواصل هذه الفلسفة طريقها إىل نقطة أبعد مع وليام دلثي 1833( Wilhelm Diltheyم1911-م) بعد أن
املادة
خاصا بالعلوم اإلنسانيّة يف مقابل مناهج العلوم الطّبيعيّة ،فإذا كان اإلنسان يتميّز عن ّ جعل من اهلرمنيوطيقا منهجا ّ
السبل
الشعور واإلرادةّ ..ما ال يقبل التّكميم واحلصر املنهجي ،فإ ّن اخلربة والتّعبري والفهم هي أفضل ّ اجلامدة باملعرفة و ّ
الزمنيّة بني املاضي
الشخص احلياة –يف منظور دلثي -فقط عندما يلغي احلواجز ّ للوصول إىل فهم هذا املخلوق املميّز؛ وخيرب ّ
كل واحد 12،فاحلاضر ال يش ّكل حلظة ّمت ّدة ولكنه
واحلاضر واملستقبل ،وحيث تغدو التجربة انصهارا فريدا لل ّذاكرة والتّوقّع يف ّ
13
جزء صغري من تدفّق منظّم على وجه تغتين فيه دائما اخلربة احلاضرة (الفوريّة) من الوعي باملاضي ،ومن توقّعات املستقبل.
جمرد إخراج لواقعمثّ يأيت التّعبري يف صيغة دلثي الثّالثيّة كإخراج لواقع اجتماعي تارخيي يكشف عن نفسه يف اخلربة وليس ّ
حي منتعش ،وهذا ال حيصل فردي وشخصي حمض ،فالنّصوص عوا م تنتقل من عصر لعصر ،ومن زمن غرب وانتهى إىل زمن ّ
15 14
كل أنا اكتشاف نفسها يف اآلخر.
ّ وتعيد إالّ بالفهم (العنصر الثالث يف صيغة دلثي) أين تفهم احلياة احلياة،
تعمقا –كفكرة مناقضة ملبدأ التطابق -مع غادامري عندما حي ّدد عالقة القارئ وتزداد فكرة استقالل النّص يف ذاته ّ
تعرب يف الواقع عن جتريد
بالكاتب على النّحو اآليت" :يقع الفهم وعدم الفهم بني "األنا" و"األنت" .صيغة "أنا" و"أنت" ّ
هائل ،اليوجد مثل هذا على اإلطالق ،ال جيود "أنا" وال "أنت" ،هناك فقط "أنا" الذي يقول "أنت" ..ويقول "أنا" أمام
ومستقر".18
ّ "أنت" ،لكن يتعلّق األمر هنا بوضعيّات يسبقها دوما االتّفاق أو التّفاهم ..يستند هذا االتّفاق على أمر ثابت
5
ّأما التّفاهم فال يشرتط فيه التّطابق أبدا أل ّن الوصول إىل القصد الفعلي للمؤلّف أمر شبه مستحيل مع وجود العنصر التّارخيي
مستمر ،فالقول بأ ّن املعىن "س" هو عني ما أراده صاحبهّ الذي يفصل بشكل حاسم بني عصر انقضى وعصر حاضر
املستقر فهو النّص حبروفه
صحته وسالمته الفعليّة .و ّأما األمر الوحيد الثابت و ّجمرد ّادعاء ال ميكن التّأ ّكد من ّاألصلي يبقى ّ
حيس املتلقي باالنتماء الفعلي
املاديّة والذي حيمل موضوعا يقبل التّأويل باستمرار ،ومن أجل احلصول على املعىن الب ّد أن ّ
وإمنا من أجل صياغة فهومناالسابقة ّ
للرتاث وأن مي ّد جسر التّواصل مع األجيال املاضية ،ليس من أجل إعادة/اجرتار املعاين ّ
الراهنة وجتيب عن انشغاالتنا احلالية .وعلى هذا املنوال يكون للواقع احلايل أمهيّة أكرب بكثري من
اخلاصة اليت ختدم مشاكلنا ّ
ّ
املاضي الغابر ،ويتجلى التّأويل اهلرمنيوطيقي يف أهبى صوره عندما ينصهر أفق القارئ يف أفق النّص وتلتحم العوا م تشييدا
كل إحداثيّة زمانيّة ومكانيّة.
للمعىن عند ّ
جمرد رموز وإشاراتمفر منه؛ فالنّص ّ ومن منظور بول ريكور ،يع ّد اإلفصاح عن موت املؤلّف ووالدة القارئ أمر ال ّ
ميّتة ،القارئ وحده من ميلك القدرة على إحيائها وبعثها للوجود من جديد ،يف حني ترتبط وظيفة املؤلّف بالكتابة وإخراج
لكل بنية
النّص إىل عا م التّلقي ،وحيث تكون هناك رموز يكون هناك تأويل مضاعف يقول ريكور" :أُعطي اسم "رمز" ّ
األويل واحلريف فضال ع ن نفسه إىل معىن آخر غري مباشر ،وثانوي وجمازي ،وال ميكن أن يفهم دالّة ،يشري فيها املعىن املباشر و ّ
األول .وتش ّكل هذه الظّاهرة من التّعبريات ذات املعىن املضاعف احلقل التّأويلي باملعىن ال ّدقيق"19؛ حييل
إالّ من خالل املعىن ّ
حريف/مادي ،اجتماعي متداول وسائد إالّ وكان هناك باملقابل معاين
ّ األمر هنا إىل انفجار هائل للّغة ،فما أن يكون مثّة معىن
تنفك عن الظّهور وال تتوقّف عن التّوالد .وعلى أرضيّة هذا الفكر املنفتح متوت القصديّة وحتيا جمازيّة روحيّة ووجوديّة ال ّ
تردد.
تأويالت القارئ الالّمنتهية بغري ّ
السابق يتص ّدى إيريك دونالد هريش 1928( Eric Donald Hirschم) ويف مواجهة شرسة ألفكار الثّالثي ّ
ملقولة ضياع املعىن األصلي بالتّأكيد من جديد على مبدأ القصديّة؛ فالنّص -بالنسبة له -يعين عني ما عناه املؤلّف على
يؤدي إىل سيادة ال ّذاتيّة والنّسبيّة ،ويف أساس أنّه اعتقاد معقول ميكن فهمه ،كما أ ّن استبعاد الكاتب من العمليّة التأويلية ّ
20
الرتكيز على املؤلّف كورقة يرتدد هريش هنائيّا يف ّ
صحة التّأويل ،من هنا ال ّ هذه احلالة يتع ّذر وجود مبدأ كاف للحكم على ّ
الصريح:
الص ّحة بدل التّعمية والفوضى وااللتباس ،يشهد بذلك قوله ّ راحبة بيد القارئ تساعده يف استجالء املعىن والقرب من ّ
الصحة" .21وهبذه "إزالة املؤلّف كمح ّدد للمعىن هو رفض للمبدأ املعياري ال ّدامغ الوحيد الذي ميكنه قيادة تأويل ما إىل ّ
لكل قارئ كفئ استعادته مىت شاء .ورغم إميان هذا الفيلسوف بقدرة املتلقي على الصفة يبقى املعىن ثابتا عرب العصور ،ميكن ّ
ّ
يقرر هريش أ ّن
ص م تغفل عن ناظره ،لذلك ّ املتغري والنّ ّ
اسرتجاع املعىن الذي أراده املنتج األصلي فإ ّن نقطة التّماس بني الواقع ّ
فتختص مبا يعنيه النّص بالنّسبة حلاضرنا ،وهبذا ّ فاألول يعود على مراد املؤلّف ّأما ال ّداللة
هناك فرقا بني املعىن وال ّداللة؛ ّ
22
بالش ّق األول من إعادة اسرتداد املعىن ،وينفرد النّقد األديب باستكشاف ال ّداللة.
تنشغل اهلرمنيوطيقا ّ
6
أساسيّات التأويل الهرمنيوطيقي:
وحنو وثبة أبعد يف احلديث عن أساسيّات الفهم داخل هذه الفلسفة ،تع ّد العالقات اآلتية على قدر عال من األمهيّة
يف حبك خيوط التأويل اهلرمنيوطيقي:
ملخصا يف عالقة الفهم بالتّفسري :تتمتّع هذه الثّنائية جبدليّة حثيثة يف اهلرمنيوطيقا ،وأبرز طرح يعرضه ريكور ّ -1
التّواضع على أ ّن التّفسري عبارة عن إسقاط حايل راهين ملعىن النّص بينما يأخذ الفهم اجملال األوسع 23،فهو
تنفك عن الظّهور إالّ مع وجود إمكانات أخرى ومعان منضوية داخل ومستمر وحماولة ال ّ
ّ شك دائمعبارة عن ّ
السقف الذي الهناية له ،يغطّي التفسري وال حي ّده أبدا.النّص الواحد ،إنّه مبثابة ّ
ص والقارئ :هذه الثّالثية موجودة عند أغلب الفالسفة وهي تش ّكل معادلة الفهم اليت ال ميكن عالقة الواقع بالنّ ّ -2
االستغناء عنها؛ فالفهم ناتج التّأثري املزدوج للواقع على النّص من جهة وعلى القارئ من اجلهة الثانية.
عالقة األحكام املسبقة باستخراج املعىن :يلعب احلكم املسبق دورا حموريّا يف اهلرمنيوطيقا الغادامرييّة باخلصوص؛ -3
فكل فعل وقد يكون هذا احلكم إجيايب حيمل يف طيّاته توقّعات وتنبّؤات ّأولية حول ما يتح ّدث عنه النّصّ ،
قرائي مستحيل التّح ّقق دون وجود مثل هذا التّنبّؤ وإالّ أفضى بنا احلال إىل القول بالتّخمني والتّنجيم .وقد
24
ويتحول املعىن إىل جتسيد ّ ص،
يعرب عن ميوالت القارئ وليس عن مقوالت النّ ّ يكون هذا احلكم أيضا سلبيّا ّ
ص من الرئيسي هلذه الفلسفة :كيف ميكننا أن حنمي النّ ّ الشاغل ّلفكر أيديولوجي دكتاتوري صارم؛ ويبقى ّ
سيطرة ميوالتنا ال ّذاتيّة وحنافظ أكثر على حوارنا مع املوضوع املطروح أمامنا.
لكن فكرة تغري احلديث عن ال ّدور التّأويلي من مرحلة فلسفيّة إىل أخرى ّ ال ّدائرة اهلرمنيوطيقيّة والتّأويل الالّهنائيّ : -4
ال هنائيّة املعىن ظلّت حاضرة باستمرار ،وميكن أن جنمل تعريف ال ّدائرة اهلرمنيوطيقيّة على النّحو اآليت:
الكل أي
ّ الكل :حيث ميثّل اجلزء اجلملة كوحدة صغرى ال ميكن أن تفهم إال بإرجاعها إىل -عالقة بني اجلزء و ّ
الكل الذي الرجوع إىل ّ ص كوحدة كربى .ومن زاوية أخرى قد ميثّل اجلزء النّص الذي يتع ّذر تأويله دون ّ النّ ّ
يقصد به املنتوج الفكري للمؤلّف والسياق التارخيي الذي عاش فيه.
الراهن مع املاضي بأفقه السابق على أرض تأويليّة -عالقة بني املاضي واحلاضر :حيث يلتقي احلاضر بأفقه ّ
واحدة منها ينبت املعىن ،ونظرا حملدوديّة الفكر البشري وارتباطه الوثيق بالظروف التّارخيية ّأوال ،ونظرا للطّبيعة
يضل املعىن دائما يف حالة عدم استقرار ،والعالقة خلف (املاضي) أمام املتغرية اليت يتميّز هبا احلاضر ثانياّ ، ّ
(احلاضر واملستقبل) ترسم دور غري منتهي للتّأويل.
ومن املالحظ أ ّن احلالة األوىل تتح ّدث عن عالقة بني القارئ واملؤلّف على حنو يسقط فيه املعىن على قصد
معني مثلما هو احلال عند شاليرماخر ودلثي وهريش ،عكس احلالة الثّانية اليت تصف عالقة بني القارئ ّ
وموضوع النّص يف وضعيّة تستبعد خطاب القصديّة وتفسح اجملال للقول مبوت املؤلّف وال هنائيّة املعىن لصاحل
املستمرة ،وهذا ما ورد يف فلسفة هيدجر ،غادامري وبول ريكور.ّ إبداعيّة املتل ّقي وإنتاجيّته
7
مؤسسوا اهلرمنيوطيقا على وجود فارق كبري بني كالم منطوق/مسموع وكالم يصر ّ
عالقة اللّغة باخلطابّ : -5
مكتوب/مادي/مقروء؛ ففي حالة حمادثة سؤال-جواب يأخذ الفعل اخلطايب عند ريكور ثالث مستويات: ّ
مستوى الفعل التّعبريي أو االفرتاضي :فعل القول Niveau de l’acte locutionaire: ou
.acte de dire propositionnelمستوى الفعل (أو ّقوته) الالّتعبرييّة :ما نفعله قوالNiveau de .
l’ acte (ou de la force ) illocutoire: ce que nous faisons en disant.مستوى
الفعل التّأثريي :ما نفعله بكوننا نتكلّمNireau de l’acte perlocutionaire: ce que .
nous faisons par le fait que nous parlons.25
املادي
أما يف حالة الكتابة ميكن نقل الفعل التّعبريي عن طريق رسم احلروف والكلمات يف شكلها ّ
احملسوس ،لكن باملقابل يصعب -من وجهة نظر بول ريكور -نقل املستوى الالّتعبريي ،ويتع ّذر نقل املستوى
الصورة
السمعيّة إىل ّالصورة ّ
تحول من ّ التّأثريي متاما ،وهلذا تفقد الكتابة بعض العناصر األساسيّة عندما ت ّ
القرائيّة ،وخيتفي املعىن وراء احلروف وتغيب املدلوالت بني اجلمل ،ووظيفة القارئ هنا تكمن يف استكناه
احملذوف واستنطاق النّص ليخرج من صمته الكثري.
وإذا كان التفسري يصدق عليه وصف من قال أنّه علم من العلوم اليت ال نضجت وال احرتقت تعبريا عن قلة وضوح
الغاية من التأليف وإمكان انفصاله عن علوم أخرى من جهة املنهجيّة والع ّدة املعرفية"27؛ فإنّه باملقابل أيضا من غري املعقول
أن نتحدث عن وجود تراث تفسريي متعدد األطياف سبّاق إىل استيعاب اخلطاب القرآين على مدى قرون من الزمن دون
وجود منهجية حم ّددة يقع االشتغال عليها" ،صحيح ال يقع التصريح هبا ،لكنّها تظل قائمة بشكل واع يف أذهان املفسرين
القدامى" .28وبناء عليه ووفق عملية استقرائية للمنتوج التفسريي يلحظ القارئ أ ّن تأويل املفسر للنص القرآين ال يبعد شاغله
يلخص يف مبدأ التطابق بأنواعه الثّالثة:
عن حتقيق هدف رئيسي ّ
8
-تطابق املعىن مع اخلطوط العريضة للنص :أي املقاصد العامة للقرآن.
ورغم جت ّذر هذا املبدأ يف وعي املفسر م مينع ذلك من إدراك تع ّددية املعىن القرآين بل كان هناك انسجام كلي بني فكرة
املطابقة وقضيّة االنفتاح ال ّداليل؛ ذلك أ ّن اللغة العربية ذاهتا تفرض نفسها بقوة ضمن هذه الرؤيا وتنأى بنفسها عن اإلطار
الصوري اجلامد إىل حركة املدلول وجت ّدد املعىن؛ ولذلك يقول الشاطيب يف معرض احلديث عن نزول القرآن على معهود
ّ
"أهنا فيما فطرت عليه من لساهنا ،ختاطب بالعام يراد به ظاهره ،وبالعام يراد به العام يف وجه واخلاص يف وجه،
العربّ :
عرف من أول الكالم أو وسطه أو آخره ،وتتكلّم بالكالم
وبالعام يَُراد به اخلاص ،والظاهر يراد به غري الظاهر ،وكل ذلك يُ َ
سمي الشيء الواحد بأمساء عرف باإلشارة ،وتُ ِّ
ينبئ أوله عن آخره ،أو آخره عن أوله ،وتتكلّم بالشيء يُعرف باملعىن كما يُ َ
كثرية واألشياء الكثرية باسم واحد ،وكل هذا معروف عندها ،ال ترتاب يف شيء منه هي وال من تعلّق بعلم كالمها ،فإذا
كان كذلك فالقرآن يف معانيه وأساليبه على هذا الرتتيب."29
كل
الرمز على عاتقه استيعاب ّ
وإذا كان بول ريكور قد انتهى بعد هذا التحليل إىل القول برمزيّة اللغة ،حيث يأخذ ّ
حل ف ّكر فيه عثمان رضي اهلل عنه،
ما هو مضمر وخمتفي يف الكلمات احملسوسة املرئيّة ،فإ ّن الرسم العثماين كان أذكى ّ
10
مستوعبا بفضله العديد من القراءات داخل اآلية الواحدةّ ،أما باقي القراءات على األحرف الستّة األخرى عدا احلرف الذي
وصلنا ،فإهنا تبقى هي األخرى مضمرة داخل رسم املصحف العثماين ،حىت وإن كانت صامتة فإ ّن التّأويل وحده القادر على
استنطاقها؛ يؤيّد هذه الفكرة االستشهاد بالقراءات ما فوق السبع املتواترة يف التفسري وتطويعها خلدمة املعىن داخل اآلية
الواحدة ،بل يف مواضع تأخذ هذه القراءات دور ختصيص اآلية ،تقييدها أو تفصيل ما جاء جممال فيها.
السبعة منها :ما اختلف لفظه واتفق معناه حنو :العهن والصوف ،ذقية هذا ويشري ابن اجلزري إىل أ ّن األحرف ّ
34
كل هذهرب ،خيادعون وخيدعون ،..وبالتايل فإ ّن ّ رب وقل ّ وصيحة ،..ومنها ما اختلف لفظه ومعناه حنو :قال ّ
لكن غياهبا قراءة ال
تتفرق مراعاة ملصلحة اجلميع ،و ّ االختالفات اختصرت يف صورة مصحف واحد حىت جتتمع األمة وال ّ
يعين أبدا غياب معناها ،وما كان مق ّدرا أن تؤديه من مدلوالت يبقى مضمرا يف رسم املصحف يستحضره التّأويل .وعلى هذا
النّحو يتّفق علم التّفسري مع اهلرمنيوطيقا على قضيّة تع ّدديّة املعىن واالنفتاح ال ّداليل إىل أبعد ح ّد ،وتفاديا لفوضويّة التّفسري
وضياع املدلول حتت تأثري التّأويالت الفاسدة/املفرطة ،جاءت جهود األصوليني متتالية يف ضبط عمليّة الفهم وتوجيه دفّة
املعىن حنو مبدأ التّطابق ،وقد جاء ذلك عرب مراحل نذكر أمهّها:
الشاطيب لتحقيق ذلك شرطني الصحيح :من أجل سالمة التّأويل من اخلطأ يضع ّ تعيين معايير التّأويل ّ -1
أساسيّني :أن يكون التّأويل قد أحال اللّفظ على معىن صحيح يف االعتبار ،متفق عليه يف اجلملة بني
املختلفني .وأن يكون وضع اللفظ قابال للتأويل لغة بوجه من وجوه ال ّداللة حقيقة أو جمازا أو كناية ،جاريا يف
35
ذلك على أسس اللغة العربيّة.
الشرطني سيلحظ أ ّن هذه اخلطوة من قبل األصوليّني سامهت جبزء قليل يف تضييق دائرة املعىن حم ّققة
املتفحص هلذين ّ
و ّ
املؤولون مجلة وإنفكل ما اتفق عليه ّ
بذلك ّأول نوع من أنواع التّطابق املذكورة آنفا ،وهو ضرورة احتمال النّص للمعىنّ ،
اختلفوا تفصيال ،وكان جاريا على معهود العرب فهو من املعاين اليت حيتملها النّص قطعا .لكن إذا كان االتفاق ال يقع بني
أهل التّأويل إالّ بوجود دليل يصرف اللفظ إىل غري مدلوله الظّاهر؛ فإ ّن توظيف األدلّة الشرعية يف فهم مراد اهلل م يكن
السابقة ،بل كان ال ّدليل أيديولوجيّا لدرجة
موضوعيا بالوجه الذي مي ّكن من االكتفاء هبذا القدر من توجيه املعىن وفق الشروط ّ
انعكست فيها املسألة يف الرتاث التفسريي فبدل االشتغال على استنطاق النّص القرآين وتسديد الفكر بناء على ذلك،
للمفسر .واحلاصل أ ّن املعىن على هذا الوضع مت
ّ ومت استغالل ال ّدليل خلدمة املذهب الفقهي أو العقديانعكست املسألة ّ
ظل تائها دون مسكن يؤويه ،ومن هنا م يكتف األصوليون هبذه املرحلة وجاء ما يعرف تضييق جماله جزئيا ولكنّه رغم ذلك ّ
السابق.
ب طرق الكشف عن ال ّداللة استكماال للمسار ّ
36
نلخصها
ّ طرق الكشف عن ال ّداللة :يذكر احلنفيّة يف طرق داللة النّص على احلكم الشرعي أربعة أنواع، -2
على النحو اآليت:
11
أوال :عبارة النص وهي داللة الكالم على املعىن املقصود منه أي املعىن املتبادر فهمه منه ،سواء أكان مقصودا
أصالة أم تبعا.
ثانيا :إشارة النّص وهي داللة الكالم على معىن غري مقصود من ّ
السياق وليس مرادا به مباشرة ،وإمنا هو معىن
التزامي الزم للحكم األصلي املفهوم ألول وهلة من النّص.
ثالثا :داللة النّص :وهي داللة اللفظ من طريق مناط احلكم أو علته ،ال من طريق العبارة أو اإلشارة .كأن
تشرتك واقعتان يف علة احلكم أو يكون املسكوت عنه أوىل من املنطوق ،ويفهم ذلك من طريق اللغة من غري
حاجة إىل االجتهاد أو القياس.
رابعا :اقتضاء النّص وهو ما ّ
يدل عليه النّص من طريق املعىن الذي ال يستقيم الكالم إالّ بتقديره.
وهذه الدالالت األربع هي داللة المنطوق عند الجمهور ،أي منطوق النّص وهي تقابل داللة مفهوم
المخالفة عندهم؛ وهذا األخري يطلق عندما ّ
يدل اللفظ على ثبوت نقيض حكم املنطوق للمسكوت عنه ،أي
37
أن يكون املسكوت عنه خمالفا للمنطوق به يف احلكم.
الشك أنّه ساهم بشكل ملفت يف رسم صورة واضحة للتأويل ،عكس ما تراه اهلرمنيوطيقا ّ ومهما يكن هذا التقسيم،
من أ ّن النّص كلّه ملغّز ،ويبقى دائما يف حالة هروب من فكرة احلسم النّهائي للمعىن؛ فهذه الطرق تنتهي بال ّداللة إىل القطع
واليقني يف انعدام وجود صارف هلا إىل الظّن .كما أ ّن هذه الطرق دفعت إىل تقسيم النّص ذاته إىل مراتب؛ فمنه ما هو
38
املفسر ،واحملكم ،ومنه ما هو غري واضح ال ّداللة وهو اخلفي ،املشكل ،اجململ واملتشابه.
واضح ال ّداللة وهو الظاهر ،النّصّ ،
القوي يف باقي املراتب جعل هذااملفسر واحملكم (على خالف كبري يف تعيني احملكم) وحضوره ّ إالّ أ ّن خروج التّأويل من ّ
ظل
التسقيف لتع ّدديّة املعىن ضمن ما تعود به الطرق السابقة غري كاف ،إذ م يش ّكل ذلك رادعا قويا للتأويل الفاسد بل ّ
املعىن يتأرجح بني الظاهر تارة –كما هو احلال عند أهل الظاهر الذين ال يعتدون إال بسطح النص -والباطن تارة أخرى –
كما هو احلال عند الباطنيّة ّمن غرقت تفسرياهتم يف عمق النص-؛ وهلذا كان من الضروري وضع ضابط ثالث لعملية فهم
القرآن حىت حيتل التأويل مكانا متزنا يوفّق فيه بني السطح والعمق.
مقاصد ضرورية :يقصد هبا املصاحل اليت تتوقف عليها حياة الناس وقيام اجملتمع واستقراره ،حبيث إن فاتت اختل نظام
احلياة وساد الناس هرج ومرج ،وحلقهم الشقاء يف الدنيا والعذاب يف اآلخرة؛ وهي مخسة :حفظ الدين ،النفس ،العقل،
39
النسل واملال.
12
مقاصد حاجيّة :وهي األمور اليت حيتاج إليها النّاس لرفع احلرج واملشقة عنهم ،وإذا فاتت يلحق الناس مشقة وعنت
40
وضيق.
مقاصد حتسينيّة :وهي اليت جتعل أحوال الناس جتري على مقتضى اآلداب العالية واخللق القومي ،وإذا فاتت تصري حياهتم على
41
لكل هذه املصاحل البشريّة وكان
خالف ما تقتضيه املروءة ومكارم األخالق والفطر السليمة .وقد جاء القرآن الكرمي مراعيا ّ
كل تشريعاته وأحكامه.
داعما هلا يف ّ
على الصعيد ذاته ينظر بعض العلماء اآلخرين إىل مقاصد الشريعة من زاوية أعم ،لذلك فضلوا تقسيمها على شكل
آخر؛ ونأخذ كمثال تلخيص ابن عاشور هلذه املقاصد يف مثانية :إصالح االعتقاد ،هتذيب األخالق ،التشريع ،سياسة األمة،
القصص وأخبار األمم السالفة للتأسي بصاحل أحواهلم ،التعليم ،الوعظ واإلنذار والتحذير والتبشري ،وأخريا اإلعجاز .هذا
النبوة ،احلشر
ويرى بديع الزمان النورسي تقليص العدد إىل أربعة ذات عمق وسعة ،وهي على التوايل :إثبات الصانع الواحدّ ،
اجلسماين والعدل .وكيفما كانت زاوية النظر إىل هذه اخلطوط العامة للنص القرآين فإ ّن احلاصل واحد ،هو وقوعها يف دائرة
االتفاق املبدئي بني مجيع العقول فال ظلم تتصف به الذات اإلهلية باتفاق ،وال معىن للرسالة دون توحيد اهلل قطعا ،وغري
ذلك كثري ّما ال خيتلف فيه اثنان .وما يهمنا هنا هو ما أفرزه خطاب املقصديّة من نتائج تتصل بفهم القرآن ،وفيه قضيّتني:
فال فائدة ترجتى إذن من إنتاج دالالت لذات األلفا يف منأى عن قصد الشارع ،إذ العربة والقول البن القيم بإرادة
املتكلّم ال بلفظه 44،وحشد املعاين بعيدا عن غرض الواضع ال طائل من ورائه ،وإن صلح احلديث عنه يف النّصوص البشريّة،
وتقول على اهلل مبا م يقل .وعليه خيرج التأويل املطروح هنا عن الصورة الرباغماتية
فهو ظاهر الفساد يف نص مقدس إهليّ ،
اليت فرضتها لغة هيدجر الوجوديّة ،ورمزية ريكور الالّهنائية ،لريتضي لغة القرآن الطبيعيّة اليت تتميّز بقدرة هائلة يف استيعاب
املعىن املتج ّدد دون تن ّكر ملقاصد الشارع ومراده .فالقصد اإلهلي واحد وإن تع ّدد الفهم وجت ّددت الداللة وارحتل التأويل .وعند
هذا احل ّد يظهر مدى تركيز املنهج التفسريي على حتقيق التطابق بني املعىن املسقط على النّص واخلطوط العريضة للقرآن ،فإن
لكن الواقع متج ّدد غري ثابت ،وهذاقيل :كيف يتع ّدد املعىن والقصد واحد؟ قلنا إ ّن الكتاب واحد واإلنسان هو اإلنسان و ّ
هو مربط الفرس وفحوى القضيّة الثانية.
13
القوي له
احملرك وال ّدافع ّ
جمرد ضابط للتأويل بل هي أكثر من ذلك؛ ّإهنا ّ
العامة يف احلقيقة ليست ّ
القضيّة الثانية :هذه املقاصد ّ
أيضا ،فاجملتهد عند علماء األصول ال تتح ّقق فيه القدرة على إسقاط النّص على الواقع بصورة سليمة إالّ بإدراك أسرار
كل حكم إىل مقاصده األصليّة ،وإذا حاولنا أن نتساءل :ما هو مقدار تأثري القصد على قوي يف إرجاع ّ
التّنزيل ،وحت ّكم ّ
فكل شيء قابل للتغيري والتّجديد وفق جدليّة حثيثة تربط بني حاجات القارئ
تفسري النّص؟ سنقول أنّه تأثري بال حدودّ ،
ومتغريات الواقع.
وقصديّة النّص ّ
الزعم كثرية ،نذكر منها تأكيد األصوليني على أ ّن األحكام الواردة بنصوص قطعيّة ال ّداللة والثّبوت هي واألدلّة على هذا ّ
الشخصيّة؛ إالّ أهنم باملقابل يؤّكدون يف مسالك
ّما ال اجتهاد فيه ،أي ّأهنا تثبت رغم تب ّدل الظرف الزماين واملكاين واألحوال ّ
غري وفق ما متليه الظروف واملصلحة؛ وحتقيق املناط هو "النظر يف العلّة على مبدأ حتقيق املناط ّما يسمح للحكم بالتب ّدل والتّ ّ
معرفة وجود العلة يف آحاد الصور الفرعية اليت يراد قياسها على األصل ،سواء أكانت علة األصل منصوصة أم مستنبطة،
كالنظر يف حتقيق اإلسكار الذي هو علة حترمي اخلمر يف أي نبيذ آخرمصنوع من متر أو شعري ،والتّح ّقق من أ ّن النّباش
45
بالضبط ميكننا أن
(سارق أكفان املوتى) يع ّد سارقا إلقامة احل ّد عليه ."...ويف هذا السياق تأيت اجتهادات عمر؛ فهنا ّ
لضرر نستطيع أن نستوعب أيضا نستوعب سبب إسقاطه حل ّد السرقة عام اجملاعة ،وانطالقا من مبدأ جلب املنفعة ودفع ا ّ
تأكيد الطويف على ضرورة رعاية مصلحة املكلّف بل توسيعه امللفت لدور املصلحة يف فهم النّصوص الشرعية حىت وصل إىل
درجة تقدميها على النص واإلمجاع يف جمال املعامالت وتفعيلها يف نطاق واسع عكس سابقيه .كلّه من أجل تنزيل سليم
للنّص على أرض الواقع ،واخلروج باملتلقي من حالة اإلميان التقليدي املوروث إىل حالة اإلميان التحقيقي املشهود.
ومن هذه الزاوية نتفق بقوة مع فلسفة غادامري الرباغماتيّة فهو يرى أننا ننتمي بشكل ما إىل الرتاث ،وهذا الشعور
باالنتماء وحده كفيل بأن يستخرج فهوم جديدة ،وعرب منطق السؤال واجلواب الذي ال ينقطع يصاغ املعىن عندما تتشابك
خيوط الزمن احلايل مع الزمن املاضي ،فيما يصطلح على تسميته غادامري بالتحام العوا م أو انصهار اآلفاق ،أفق النص من
جهة وأفق القارئ املتج ّدد من جهة أخرى .ويف جمال تفسري القرآن يدخل املقصد كعنصر وسيط بني أسباب النزول وسياق
اآليات حىت ال يرمتي التأويل يف سجن املاضي وال يرحتل أبعد من موطنه األصلي ،بل يأخذ املنطقة الوسط اليت تراعي واقع
التنزيل والواقع احلايل ،وتراعي املستوى الظاهري للنص واملستوى الباطين ،وهذا هو املوقف الذي حنصل فيه على تأويل
تعني أ ّن العدل يف الوسط فما مأخذ الوسط رمبا كان جمهوال ،واإلحالة على جمهول ال
معتدل كما يقول الشاطيب" :فإنّه إذا ّ
يعول عليه يف مأخذ الفهم ،والقول يف ذلك واهلل املستعان أن املساقات ختتلف باختالف فائدة فيه ،فالب ّد من ضابط ّ
األوقات واألحوال والنّوازل ..فالذي يكون على بال من املستمع املتفهم االلتفات إىل أول الكالم وآخره حبسب القضية وما
اقتضاه احلال فيها ،ال ينظر يف أوهلا دون آخرها ،وال يف آخرها دون ّأوهلا ،فإ ّن القضيّة وإن اشتملت على مجل فبعضها
46
متعلق ببعض ،ألهنا قضية واحدة نازلة يف شيء واحد."..
وكذلك هو حال القرآن ،ينسجم بعضه مع بعض ،املكي مع املدين واآليات مع السور لدرجة يصبح فيها الكالم وكأنه
نزل دفعة واحدة ،وال سبيل حينئذ لفهم القرآن إال بإدراك تشابك العالقات بني أجزائه ،وال جمال أيضا لتحقيق مقصود
الشارع إال باستيعاب دواعي نزوله ،ومن هنا يواصل الشاطيب" :وإذ ذاك حيصل مقصود الشارع يف املكلف ،فإن فرق النظر
14
يف أجزائه فال يتوصل به إىل مراده فال يصح االقتصار يف النظر على بعض أجزاء الكالم دون بعض إالّ يف موطن واحد ،وهو
النظر يف فهم الظاهر حبسب اللسان العريب وما يقتضيه ،ال حبسب مقصود املتكلم ،فإذا صح له الظاهر على العربية رجع إىل
نفس الكالم ،فعما قريب يبدو له منه املعىن املراد ،فعليه بالتعبد به ،وقد يعينه على هذا املقصد النّظر يف أسباب التنزيل،
تبني كثريا من املواضع اليت خيتلف مغزاها على الناظر".47
فإهنا ّ
يتنزل النّص القرآين على الواقع بشكل صحيح، هكذا ننتهي إىل القول بأن آخر عنصر من عناصر التطابق يتحقق عندما ّ
املفسر على إدراك أسرار التنزيل ،ووعيه العميق بضرورة إخراج النّص من دائرة الفهم املروث إىل
وهذا املطلب ال ينال إال بقوة ّ
دائرة املمارسة العصريّة ،ومن موقف االختزال للدالالت إىل موقف التفعيل هلا مبا خيدم مراد اهلل ومصلحة اإلنسان .ويف هذا
الطرح متضي تع ّدديّة املعىن القرآين يف طريقها جنبا إىل جنب مع مبدأ التطابق ،فال تنافر بينهما ولكن العالقة اليت تربطهما
هي عالقة تكامل وانسجام.
خاتمة:
أهم ما ميكن بيانه من خالل ما سبق يكمن يف أ ّن اهلرمنيوطيقا يف بداياهتا األوىل انطلقت من فرضيّة الوصول إىل إ ّن ّ
كل البعد عن الفرضيّة
توصلت إليها هذه الفلسفة بعيدة ّ لكن النّتائج اليت ّ
العصمة من سوء الفهم وتفادي الوقوع يف اخلطأّ ،
األوىل اليت وضعت بداية ،إذ انتقل احلديث من إمكانيّة الظّفر باملعىن األصلي وحتصيل مراد املؤلّف إىل اللّهث وراء سراب،
الرئيسيّة
حتولت اإلشكاليّة ّ
فال ّداللة ليس هلا حجام يكبحها مع فكرة موت املؤلّف ووالدة القارئ بدال منه ،وعلى هذا ال ّدرب ّ
يهمها اإلنتاج املتج ّدد أكثر من استعادة املعىن الذيللهرمنيوطيقا من البحث عن التطابق إىل إشكاليّة براغماتيّة/نفعيّةّ ،
ص .ومثل هذا الطّرح ال غبار عليه عندما يتعلّق األمر بنصوص بشريّة؛ فمعادلة إنتاج بشري قبالة تلقي/نقد ينطوي عليه النّ ّ
مستمر دون قيود ،وعلى العكس من ذلك عندما يتعلّق الوضع بوحي مق ّدس/مساوي به أوامر ّ بالضرورة إبداع
بشري تعطينا ّ
املفسر باآليات
ونواهي الب ّد من فهمها حىت حيصل التّكليف مثّ الثّواب والعقاب األخروي ،وكذا العمليّة التّأويليّة اليت تربط ّ
ظل انعدام القصديّة وعدم حت ّقق التّطابق ،أل ّن مثل هذه املقوالت تفضي إىل ضياع القرآنيّة ال حتتمل االنفتاح الالّحمدود يف ّ
أدق حنن أمام إعالء
الشا ّذة الالّهنجيّة ،وبعبارة ّ
للرسالة اإلهليّة مقابل القراءة املهيمنة والتّفاسري ّ
الشرعيّة وتغييب ّ األحكام ّ
واضح جلانب الفهم البشري على جانب التّوجيه اإلهلي.
ورغم أ ّن بعض اآلراء الفلسفيّة فيما ّمت بيانه تنأى بنفسها عن إشكاليّة التّطابق حنو اإلشكاليّة الرباغماتيّة فإ ّن هذا ال
ينقص أبدا من أمهيّة الطّرح التّأويلي الذي جاءت به يف بعض اجلزئيّات؛ فمسائل الوعي التّارخيي ،القبليّات املعرفيّة ،جدليّة
الواقع والنّص والقارئ ،ال ّدائرة اهلرمنيوطيقيّة تع ّد فتحا منهجيّا فعليّا قد يثري العديد من األسئلة على مستوى فهم القرآن
بالرأي من حيث ال ّدرجة يف الكرمي ،من ذلك على سبيل املثال ال احلصر :كيف ميكن أن نغاير بني تفسري باملأثور وتفسري ّ
وجود فكرة ذاتيّة القارئ؟ ما هي نسبة احملكم من املتشابه يف فهم النّصوص القرآنيّة؟ كيف نوفق بني الشكل الثابت للنص
ظل انعدام مقولة النسخ؟ القرآين والواقع املتج ّدد يف ّ
15
املتغري على فهم النّص ،خبالف القضيّة اجلوهريّة
ومن الواضح أيضا أ ّن القضيّة األهم اليت تشغل اهلرمنيوطيقا هي تأثري الواقع ّ
الشاغل دعوة قويّة
اليت شغلت الفكر اإلسالمي لعقود طويلة وهي عالقة العقل بالنّقل وأسبقيّة أحدمها على اآلخر ،ففي هذا ّ
بالرتاث وكيف ميكن أن حن ّقق انسجاما بني تطلّعاتنا املستقبليّة ومشاكلنا احلاليّة وكنوز املاضي وأسراره اليت
ملراجعة عالقتنا ّ
تضيء طريقنا وهتدينا سبل الفالح.
على صعيد آخر ،يطرح االستخدام العريب للهرميوطيقا على مستوى النّقد املنهجي والتّطويع اإلجرائي يف جمال فهم
القرآن الكرمي وتفسري آياته العديد من التّساؤالت؛ ملاذا يعترب مثال املصري نصر حامد أبو زيد القرآن "منتجا ثقافيّا" 48عندما
يوظّف العنصر التّارخيي يف الفهم؟ يف وقت متثل فيه اآليات اليت نزلت لسبب معني جزء ضئيال جدا من القرآن مقارنة
حتركها هي
باآليات اليت نزلت ابتداء من غري سبب .وملاذا حيكم حيىي حممد على اهلرمنيوطيقا حكما هنائيّا بأ ّن اإلشكاليّة اليت ّ
49
القوي عن قصديّة
إشكالية براغماتيّة نفعيّة؟ يف وقت يغفل فيه متاما الطرح املوضوعي لشاليرماخر ودلثي ودفاع هريش ّ
ملقومات التّأويل اهلرمنيوطيقي يف سبعة :انتفاء الريسوين ّ
نفسر حصر قطب ّ املؤلّف وإمكانيّة اسرتداد املعىن .وكيف ميكن أن ّ
الرباءة يف القراءة ،موت املؤلّف وتأليه القارئ ،وهم القصديّة ،ال هنائيّة املعىن وصراع التّأويالت ،التّناص ،الفجوات البيضاء،
50
املقومات ذاهتا،
ّ هذه حول اءراآل بة
ر متضا بأكملها ومدارس ختالفات اال من طويل يخرتا بذلك متجاهال الرمزيّة املطلقة،
وّ
فأتباع هريش مثال ينتصرون للقصديّة خمالفني أتباع هيدجر وغادامري وبول الريكور الذين يؤسسون ملوت املؤلّف ،ومن أمثلة
الفالسفة املشتغلني على النّقد أيضا هابرماس ،وإمييليو بييت....
ولعلّه من باب اإلنصاف أن نشيد برأي الباحث أمحد بوعود يف املسألة؛ إذ يرى أنّه من املمكن تطبيق اهلرمنيوطيقا
هبدف احلصول على قراءة جديدة للقرآن الكرمي وفق شروط معيّنة يوجزها يف :التزود بفنون اللغة ،إدراك مقاصد القرآن
وأسباب نزوله ،فقه الواقع الذي ينتمي إليه القارئ ،ويدخل هنا مجيع مكونات هذا الواقع بكل علومه وخمرتعاته 51 .ويف
هذا لفتة يف غاية ال ّدقة إىل ضرورة مجع التّأويل العريب بالتّأويل اهلرمنيوطيقي الستحالة استقامة هذا األخري منفردا ،وذلك
ببساطة أل ّن التّأويل يف النّسق العريب اإلسالمي يتم وفق عمليّة ارتداديّة حنو املرجع املؤطّر :الديين ،والعقدي ،واللغوي،
نص استقصاء وتكوينا والنّحوي ،والبالغي ،والتارخيي واالجتماعي ،وعمليّة امتداديّة تعتمد على االجتهاد فيما م يرد فيه ّ
للمعىن 52،باملقابل يشتغل التّأويل اهلرمنيوطيقي ضمن ال ّدائرة االمتداديّة فحسب فهو عبارة عن عالقة مباشرة للذات مع
أي مركزيّة ارتداديّة أخرى.
املوضوع ،تتكئ على اخلربة واحلدس يف غياب ّ
هتتم بالواقع بشكل ملفت ّما
والنّتيجة احملوريّة اليت خيرج هبا هذا التّحليل هي أ ّن اهلرمنيوطيقا منهج حيمل أسسا معرفيّة ّ
حتسر على ماضي األمة ال ّذهيب وغلق األسوار على الراهنة بدل العيش يف حالة ّ حل املشاكل ّ
يساهم يف تسليط الضوء على ّ
حترك التّأويل يف الفلسفة اهلرمنيوطيقيّة انتقلت من وضعيّة
السلف واالنطواء على ال ّذات .ورغم أ ّن اإلشكاليّة اليت ّ
معاين ّ
التّطابق إىل وضعيّة براغماتيّة فإ ّن هذا ال ينفي وجود إمكانيّة لالستفادة املنهجيّة من بعض اآلراء املطروحة ضمن دوائر
االتفاق بني الفكر العريب اإلسالمي والفكر الغريب .ومن باب التّحري يبقى احلكم النّهائي على مدى صالحيّة املنهج من
عدمه يف جمال تفسري القرآن الكرمي منوط بتتبّع دقيق لتفاصيل هذا املنهج ومراجعة متأنيّة للخلفيّات الفكريّة الباعثة على
متخصصة جتمع بني
ّ يستحق دراسة
ّ الرديء وفرزا ملا ميكن تطبيقه من املستحيل تطويعه ،وهذاإنتاجه ،متحيصا للجيّد من ّ
16
عامة واهلرمنيوطيقا
النّظري والتّطبيقي؛ لذلك أوصي املهتمني وذوي االختصاص بالتّص ّدي للمناهج النّقديّة الغربيّة بصفة ّ
خاصة بالتّحليل والنّقد الذي يعود بفائدتني:
بصفة ّ
ّأوال :اختبار صمود هذه املناهج أمام القرآن الكرمي.
ثانيا :معرفة مدى صالحيّة هذه املناهج يف إحداث جتديد فعلي يف تفسري القرآن الكرمي وإنتاج فهوم ختدم فعال الواقع وتس ّد
احلاجة املعرفيّة ملسلم اليوم.
1
Richard E-palmer : Hermeneutics, publisher : North westen university press (USA), edition: 1969,
p :12.
2أندريه الالند :موسوعة الالند الفلسفية ،ترمجة :خليل أمحد خليل ،إشراف :أمحد عويدات ،الناشر :عويدات (بريوت/باريس) ،ط :الثانية (2001م) ،ج،1 :
ص.555 :
3
Richard E-palmer, p :12-14.
4هانس جيورج غادامري :فلسفة التأويل (األصول املبادئ واألهداف) ،ترمجة :حممد شوقي الزين ،الناشر :الدار العربية للعلوم (لبنان) واملركز الثقايف العريب
(املغرب/لبنان) ومنشورات االختالف (اجلزائر) ،ط :الثانية (1427ه 2006/م) ،ص.61 :
5انظر ،املصدر نفسه ،ص.61 :
6انظر ،عادل مصطفى :فهم الفهم مدخل إىل اهلرمنيوطيقا نظرية التأويل من أفالطون إىل غادامري ،الناشر :رؤية للنشر والتوزيع (مصر-القاهرة) ،ط :األوىل
(2007م) ،ص.26-24 :
7مراد وهبة :املعجم الفلسفي ،الناشر :دار قباء احلديثة (مصر-القاهرة) ،ط :اخلامسة (2007م) ،ص .664 :مجيل صليبا :املعجم الفلسفي ،الناشر :دار الكتاب
اللبناين ومكتبة املدرسة (لبنان -بريوت) ،ط1982( :م) ،ج ،2 :ص .519 :يقول الشهرستاين يف امللل والنحل" :نسبت إليه ع ّدة كتب ورسائل مشكوك يف
جوا من التلفيق والتوفيق بني املذاهب الفلسفيّة مصادرها وتعود إىل القرنني الثاين والثالث بعد امليالد .واملظنون أهنا ألّفت يف مدينة اإلسكندريّة .وتعكس يف جمموعها ّ
الشرقيّة املختلفة .وهي عناصر جملموعة أخرى من الكتابات تسمى 'الوحي الكلداين' وبينهما عناصر كونيّة مشرتكة عديدة ،".حممد بن عبد الكرمي وال ّدينيّة ،اليونانيّة و ّ
الشهرستاين :امللل والنحل ،حتقيق :أمري علي مهنا وعلي حسن فاعود ،الناشر :دار املعرفة (لبنان-بريوت) ،ط :الثالثة (1414ه1993/م) ،ج،2 :
ص.308/307:
8املرجع نفسه ،ج ،2 :ص.353/308 :
9
Richard E.Palmer, p : 84.
10
See, Kurt Mueller-Volmer : The hermeneutics reader (text of the German tradition from the
enlightement to the present) , publisher: Burns and Oates imprint (London), edition: June 1988, p :
73/74.
11قطب الريسوين :النص القرآين من هتافت القراءة إىل أفق التدبّر ،الناشر :وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية (املغرب) ،ط :األوىل (1431ه2010/م) ،ص:
.258
12غادامري :احلقيقة واملنهج ،ترمجة :حسن ناظم وعلي حاكم صاحل ،مراجعة :جورج كتوره ،الناشر :دار أويا (املغرب) ،ط :األوىل (2007م) ،ص.315 :
13
See, H.P.Rickman : Dilthey selected writings, publisher: Syndics of the Cambridge university press
(London), first edition: 1976, p : 17.
14
Richard E.Palmer, p : 114/115.
15
See, H.P.Rickman, p : 15/208.
17
« Dasein » 16كلمة أملانية مؤلّفة من قسمني « Sein » :مبعىن "الوجود" ،والالّحقة » « Daاليت تأخذ معاين ع ّدة يف اللّغة األملانيّة ،فال هي "هنا" ،وال
كل ترمجة لالّحقة » « Da هي "هناك" ،وال هي "هنا-هناك" ،بل تأخذ معىن الكشف الذي معه يصبح "هنا"" ،هناك" وما بينهما ّمكنا ،وعلى وجه أكثر دقّة؛ ّ
حتل حملّهاSee, Martin Hidegger : The basic problem of Phenomenology, . تدخل ضمن منابع وأصول الكلمة لكنّها ال ّ
translation/introdaction and lexicon by : Albert Hofstadter, publisher: Indiana university press (USA),
first edition: 1988, p :335/336.
17
الفين ،ترمجة :أبو العيد دودو ،الناشر :منشورات اجلمل (اجلزائر) ،ط :األوىل (2003م) ،ص.95/94 : مارتن هيدجر :أصل العمل ّ
18
التاويل (األصول ،املبادئ واألهداف) ،ص.105 : هانس جيورج غادامري :املصدر السابق ،فلسفة ّ
19بول ريكور :صراع التّاويالت دراسات هرمنيوطيقيّة ،ترمجة :منذر عيّاشي ،مراجعة :جورج زينايت ،الناشر :دار الكتب اجلديدة (لبنان-بريوت) ،ط :األوىل
(2005م) ،ص.44 :
20
Eric Donald Hirsch.JR : Validity in interpretation, publisher: Yule university press (USA), edition:
1967, p : 1/3.
21
Eric Donald Hirsch.JR, p : 5.
22انظر ،عادل مصطفى :املصدر السابق ،ص.386 :
23
See, Jean Grondin : Que sais-je L’hermeneutique, éditeur : presses universitaires de France (France-
Paris), troisième édition : 2006, p : 84.
24انظر ،هانس جيورج غادامري :املصدر السابق ،احلقيقة واملنهج ،ص ،372-371 :مطاع صفدي :نقد العقل الغريب احلداثة ما بعد احلداثة ،الناشر :مركز اإلمناء
القومي (لبنان-بريوت) ،ط1990( :م) ،ص.233/232 :
25
حممد برادة وحسان بورقيّة ،الناشر :عني للدراسا ت والبحوث اإلنسانية واالجتماعية (مصر) ،ط :األوىل
انظر ،بول ريكور :من النّص إىل الفعل ،ترمجةّ :
(2001م) ،ص.81 :
26بدر الدين حممد الزركشي :الربهان يف علوم القرآن ،حتقيق :أمحد علي الدمياطي ،الناشر :دار احلديث (مصر) ،ط1427 :ه2006/م) ،ص.22 :
27النيفر :اإلنسان والقرآن وجها لوجه ،الناشر :دار الفكر املعاصر (لبنان-بريوت) ودار الفكر (سوريا-دمشق) ،ط :األوىل (1421ه2000/م) ،ص.15 :
28املرجع نفسه.
29أبو إسحاق الشاطيب :املوافقات يف أصول الشريعة ،حتقيق :عبد اهلل دراز وحممد عبد اهلل دراز وعبد السالم عبد الشايف حممد ،الناشر :دار الكتب العلمية (لبنان-
بريوت) ،ط :األوىل (1425ه2004/م) ،ص.256 :
30منقور عبد اجلليل :النّص والتّأويل دراسة داللية يف الفكر املعريف الرتاثي ،الناشر :ديوان املطبوعات اجلامعية (اجلزائر) ،د.ط ،ص.25/22 :
31مجال الدين اجلوزي :زاد املسري يف علم التفسري ،الناشر :املكتب اإلسالمي (بريوت/دمشق) ،ط :الثالثة (1404ه1984/م) ،ج ،1 :ص.491 :
32
حممد بن يوسف أبو حيان األندلسي :البحر احمليط ،حتقيق :عادل أمحد عبد املوجود وآخرون ،دار :الكتب العلمية (لبنان-بريوت) ،ط :األوىل
33انظر ،حممد بازمول :القراءات وأثرها يف التفسري واألحكام ،أطروحة :دكتوراه يف الشريعة اإلسالمية ،إشراف :عبد الستار فتح اهلل سعيد ،كلية :أصول الدين،
قسم :الكتاب والسنة ،جامعة :أم القرى (السعودية) ،نوقشت بتاريخ1413/12/29( :ه) ،ط :األوىل (1417ه1996/م) ،ج ،1 :ص.587-324 :
34حممد ابن اجلزري :النشر يف القراءات العشر ،تصحيح ومراجعة :علي حممد الضباع ،الناشر :دار الكتب العلمية (لبنان-بريوت) ،د.ط ،ج ،1 :ص.30/29 :
35أبو إسحاق الشاطيب :املصدر السابق ،ص.526 :
36وهبة الزحيلي :الوجيز يف أصول الفقه ،الناشر :دار الفكر املعاصر (لبنان-بريوت) ودار الفكر (سوريا-دمشق) ،ط :األوىل (1419ه1999/م) ،ص-164 :
.169
37عبد الكرمي زيدان :الوجيز يف أصول الفقه ،الناشر :مؤسسة قرطبة (العراق-بغداد) ،ط :السادسة (1396ه1976/م) ،ص.366/365 :
38انظر ،املصدر نفسه ،ص.353- 338 :
39املصدر نفسه ،ص.379 :
40املصدر نفسه ،ص.380 :
41املصدر نفسه ،ص.381 :
18
42ابن عاشور :التحرير والتنوير ،الناشر :الدار التونسية للنشر (تونس) ،ط1984 :م ،ص.41 :
43سيد قطب :معا م يف الطريق ،الناشر :دار الشروق (بريوت/القاهرة) ،ط :السادسة (1399ه1979/م) ،ص.18 :
44ابن القيم اجلوزية :إعالم املوقعني ،حتقيق :حميي الدين عبد احلميد ،الناشر :املكتبة التجارية (مصر-القاهرة) ،ط :األوىل (1955م) ،ج ،1 :ص.21 :
45وهبة الزحيلي :املصدر السابق ،ص.83/82 :
46أبو إسحاق الشاطيب :املصدر السابق ،ص.716 :
47املصدر نفسه ،ص.717 :
48نصر حامد أبو زيد :مفهوم النص دراسة يف علوم القرآن ،الناشر :املركز الثقايف العريب (لبنان-بريوت) ،ط :السابعة (2008م) ،ص.24 :
49انظر ،موقع حيىي حممد على الشبكة العنكبوتية.www.fahmaldin.com ،
50انظر ،قطب الريسوين :املرجع السابق ،ص.268-264 :
51انظر ،أمحد بوعود :اهلرمنيوطيقا وعبور الفجوة التارخيية يف فهم النص القرآين ،الناشر :مؤسسة مؤمنون بال حدود ،قسم :الدراسات الدينية ،نشر بتاريخ:
2014/10/31م ،موقع.www.mominoun.com :
52حممد بازي :التأويلية العربية حنو منوذج تساندي يف فهم النصوص واخلطابات ،الناشر :الدار العربية للعلوم (لبنان-بريوت) ومنشورات االختالف (اجلزائر) ،ط:
األوىل (1431ه 2010/م) ،ص.21 :
19