Professional Documents
Culture Documents
كتاب الزكاة
كتاب الزكاة
وزارة التعليم
جامعة اإلمام محمد بن سعود اإلسالمية
معهد العلوم اإلسالمية والعربية بجاكرتا
مقرر احلديث
لطالب المستوى الرابع
الفصل الدراسي األول
2
عليه ،وحسده له على ما بني يديه ،فإذا أعطي من هذا املال حصته اليت أشار إليها قوله
لسائِ ِل َوالْ َم ْح ُر ِوم} [املعارج ]25-24:ذهب عنه وم * لِ َّ ِِ
ين ِيف أ َْم َواهل ْم َح ٌّق َم ْعلُ ٌ
سبحانهِ َّ :
{والذ َ َ
ذاك احلقد وذاك احلسد.
وكذلك الغين عندما خيرج من ماله زكاته ينبغي أن يعلم أبن الزكاة ال تنقص املال ولكن تزكيه،
والزكاة مبعىن :النماء والزايدة.
{وَما آتَ ْي تُ ْم ِم ْن ِرًاب لَِ ْريبُ َو ِيف أ َْم َو ِال
(ما نقص مال من صدقة) ،بل الصدقة تنمي املال وتزكيهَ :
ضعِ ُفو َن} [الروم]39: يدو َن وجه َِّ ِ ٍ َّاس فَال ي ربوا ِعْن َد َِّ
ك ُه ُم الْ ُم ْ اَّلل فَأ ُْولَئِ َ اَّلل َوَما آتَ ْي تُ ْم م ْن َزَكاة تُِر ُ َ ْ َ الن ِ َْ ُ
أي :تتضاعف أمواهلم وتتزايد بسبب الصدقة.
وقد نبني املوىل سبحانه إىل أي حد تتضاعف الصدقات ،وأجرها إىل سبعمائة ضعف وزايدة،
ت َسْب َع َسنَابِ َل ِيف ُك ِنل ٍ قال تعاىل{ :مثل الَّ ِذين ي ِنف ُقو َن أَموا َهلم ِيف سبِ ِيل َِّ
اَّلل َك َمثَ ِل َحبَّة أَنْبَتَ ْ ْ َ ُْ َ ََ ُ َ ُ
ف لِ َم ْن يَ َشاءُ} اَّلل ي َ ِ
ضاع ُ {و َُّ ُ ُسْن بُلَة مائَةُ َحبَّة} [البقرة ]261:ومعلوم :أن (َ )700= 100×7
ٍ ٍِ
[البقرة. ]261:
وبني صلى هللا عليه وسلم موجب تلك املضاعفة عندما قال صلوات هللا وسالمه عليه( :سبق
درهم مائة ألف درهم.
قالوا :اي رسول هللا! وكيف يكون هذا؟ فقال صلى هللا عليه وسلم :رجل عنده درمهان فتصدق
أبحدمها ،ورجل عنده مال كثري فأخذ من عرض ماله مائة ألف وتصدق ِبا) ،وهذا يف ميزان
احلساب والعقل أن صاحب الدرمهني تصدق بنصف ما ميلك ،وصاحب املال الكثري تصدق
بطرف مما ميلك ،مث الذي تصدق مبائة ألف بقي يف يده الشيء الكثري ،والذي تصدق بدرهم
مل يبق معه إال درهم ،وهذا فرق بعيد.
الصدقة برهان اإلميان
وهناك قواعد عديدة يف نظام املعاوضة؛ ألن اإلنسان ال خيرج درمهاً من جيبه إال من عوض
أيخذ به سلعة ،أو يستأجر به عامالً ،يشرتي منفعة أو طاقة ،واملتصدق خيرج من ماله وال
ينتظر شيئاً ،وليس ذلك ضياعاً للصدقة؛ ألهنا بدون عوض ،بل عوضها عظيم ومضمون ،وهو
ما للمتصدق عند هللا من أجر؛ وهلذا جتد املؤمن املوقن ابلوعد -أي :وعد هللا -يتصدق ويزكي
بطيب نفس؛ ألنه موقن أبنه سيجد عوض ذلك يوم ال ينفع مال وال بنون.
3
وعلى هذا كانت الصدقة برهاانً على صدق اإلميان كما جاء يف احلديث( :الطهور شطر
اإلميان ،وسبحان هللا متأل امليزان ،وسبحان هللا واحلمد هلل متآلن -أو متأل -ما بني السماء
واألرض ،والصالة نور ،والصدقة برهان ،والصرب ضياء) والربهان :الدليل ،وهو يف أصل اللغة:
الدائرة البيضاء اليت تكون حول قرص الشمس بعد املطر -وليس قوس قزح املعروف -تظهر
بينة ،والربهان :الدليل واحلجة الذي يقيمه اإلنسان على دعواه اليت يناكر فيها.
فالصدقة برهان على صدق املتصدق؛ ألنه يوقن أبن عوضها عند هللا؛ وهلذا كان املؤمنون
يتصدقون بطيب أمواهلم ،أما املنافقون فكانوا يعمدون إىل ما ال يقبلونه وال يرتضونه إال أن
يغمضوا فيه.
إذاً :الزكاة عنصر حيوي يف اإلسالم ،وتنظيمها وبيان مصرفها هلل سبحانه ،كما جاء عن رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم( :أن شاابً جلداً قوايً وقف على رسول هللا وسأله الصدقة ،فقال :اي
ابن أخي! إن هللا مل يدع قسم املال ألحد ،ال لنيب مرسل وال مللك مقرب ،وتوىل قسمتها بنفسه
ات} [التوبة ]60:إىل آخره ،فإن كنت من أهلها أعطيتك. {إََِّّنَا َّ
الص َدقَ ُ
فذهب الرجل ،مث جاء آخر وقال :ليس عندي شيء.
قال :ماذا عندك؟ قال :أان وعجوز يف البيت ،عندان حلس نفرتش نصفه ونلتحف بنصفه،
وقعب نشرب وأنكل فيه.
قال :علي ِبما.
فباعهما صلى هللا عليه وسلم بدرمهني ،وقال :اذهب فاشرت أبحدمها طعاماً ألهلك ،واشرت
ابآلخر فأساً وحبالً واتين ِبما ،مث وضع عوداً يف الفأس وقال :انطلق فاحتطب وبع ،وال أرينك
مخسة عشر يوماً.
فذهب واحتطب وابع ،مث وقف على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يف ثياب نظيفة ،وحرك
ثوبه فإذا الدراهم يف جيبه تتحدث ،فتبسم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وقال :ألن أيخذ
أحدكم حبالً وفأساً فيحتطب فيبيع ،فيستغين؛ خري من أن يذهب يتكفف الناس أعطوه أو
منعوه ،ومن يتصرب يصربه هللا ،وما أعطي أحد عطاء خرياً وأجزل من الصرب) .
وهكذا -أيها اإلخوة -املال يف اإلسالم له حيز كبري ،سواء كان يف الزكاة أو يف صدقة التطوع،
أو يف الغنائم ،أو يف األنفال ،أو يف املرياث أو غري ذلك ،وهنا يعقد املؤلف رمحه هللا كتاب
4
الزكاة ،أي :أحكامها وما جاء فيها من حكمها ،وأمواهلا ،ومن أنصبتها ،واجلهات اليت تصرف
فيها.
حكم الزكاة ومشروعيتها
أما حكم الزكاة :فهو معروف من الدين ابلضرورة ألنه اثبت ابلكتاب وابلسنة وابإلمجاع ،وال
يعذر أحد جبهله أن الزكاة ركن يف اإلسالم.
وأما مباحثها فسيأيت املؤلف رمحه هللا على مجيع هذه اجلوانب مبا يورده يف هذا الباب من
األحاديث ،وهي حنو العشرين حديثاً ،وسنجد ما أورده رمحه هللا.
بدأ املؤلف رمحه هللا تعاىل كتاب الزكاة حبديث معاذ ،وحديث معاذ من أمجع األحاديث -يف
اجلملة -يف مشروعية الزكاة وتوابعها ،أما األنصبة فلها نصوص أخرى.
وقد فرضت الزكاة يف السنة الثانية من اهلجرة ،وفيها أيضاً فرض الصوم ،واخلالف يف أيهما
كان األسبق :هل الزكاة فرضت قبل الصوم ،أو الصوم قبل الزكاة؟ املهم أهنما فرضا يف السنة
الثانية من اهلجرة؛ ألن بعد هجرة النيب صلى هللا عليه وسلم بدأ تشريع أركان اإلسالم ،ففي
مدة وجوده يف مكة مل يشرع ركن إال الصالة عندما فرضت ليلة اإلسراء واملعراج ،وكانت مدة
مكة كلها إَّنا هي يف إرساء العقيدة يف توحيد هللا سبحانه وحده ،ويف اإلميان بيوم القيامة أي:
ابلبعث ،فلما جاء إىل املدينة فرضت أركان اإلسالم األخرى من زكاة وصيام وحج ،وغريها من
التشريعات وأحكام البيوع واجلناايت وما يتعلق بذلك كله.
وكان مبعث معاذ إىل اليمن سنة مثان يف فتح مكة ،وقيل :سنة تسع بعد تبوك ،وقيل :سنة
عشر بعد احلج ،والذي يرتجح -وهللا تعاىل أعلم -أنه بعد سنة مثان؛ ألن معاذاً رضي هللا
تعاىل عنه قد خصه هللا بفضيلة وختصص علمي كما قال صلى هللا عليه وسلم( :أعلمكم
ابحلالل واحلرام معاذ بن جبل) ،وكما خص أاب عبيدة أبنه أمني هذه األمة ،وكذلك بعض من
خصهم رسول هللا كقوله( :أفرضكم زيد) ،ف زيد أعلمهم ابلفرائض ،ومعاذ أعلمهم ابحلالل
واحلرام ،وابن عباس أعلمهم بتأويل القرآن الكرمي وهكذا.
والذي جاء يف ترمجة معاذ رضي هللا تعاىل عنه أن النيب صلى هللا عليه وسلم عام فتح مكة
خلفه يف مكة يعلمهم أركان اإلسالم ،وأمور الدين ،إذاً :القول أنه بعثه سنة مثان يف فتح مكة
يعارضه ختلفه يف مكة لتعليمهم ،أما بعد ذلك فممكن.
5
ومعاذ رضي هللا تعاىل عنه -يف نظري -يعترب بعثة تعليمية متنقلة؛ ألن النيب صلى هللا عليه
وسلم أقره يف مكة بعد فتحها يعلمهم ،وأرسله كذلك إىل اليمن وحضرموت ،وكما أرسل أاب
موسى األشعري مع ستة نفر إىل اليمن ،وكان مردهم ومرجعهم يف كل األحكام معاذ ،وكان
كل له بلد يفيت فيه ويعلم ،وجيمع الزكاة ويوزعها ،ومعاذاً يطوف عليهم مجيعاً.
ويف خالفة عمر أرسل عامل الشام ل عمر رسوالً :إن أهل الشام حيتاجون إىل من يعلمهم
الدين ،فبعث إليهم معاذاً ،ومكث هناك حىت تويف ابلشام رضي هللا تعاىل عنه.
جوانب احلكمة يف الدعوة والتعامل من حديث معاذ
وها هو رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يبعثه ،وجاء يف سبب بعثه مع اجلانب العلمي قضية
عجيبة! وهي أن معاذاًكان شاابًكرمياً جداً ،وقد حلقته الديون بسبب كرمه ،وكان يستدين من
اليهود حىت تراكم الدين عليه ،وأصبحت أمالكه ال تفي بديونه ،فجاءوا إىل النيب صلى هللا
عليه وسلم وقالوا :مر معاذاً فليوفنا بديوننا.
فصار معاذ يتخفى منهم ،فأرسل إليه صلى هللا عليه وسلم ،فقال :اي رسول هللا! مايل يف ديوين.
فقال هلم :خذوا ماله يف ديونكم من النخيل أو البساتني أو غري ذلك.
قالوا :ال تفي بشيء.
قال :ضعوا عنه.
قالوا :ال نضع شيئاً ،حىت قال الراوي :لو أن أحداً كان يضع ألحد لوضع دائنو معاذ عنه من
أجل النيب صلى هللا عليه وسلم ،قال :خذوا ما وجدمت وليس لكم إال ذلك.
إجازة النيب صلى هللا عليه وسلم ملعاذ أبخذ اهلدية
مث قال صلى هللا عليه وسلم ل معاذ :أبعثك إىل اليمن لعلك تصيب شيئاً.
أي :بصفته عامالً يصيب شيئاً يرد عليه بدل أمواله اليت خرجت من يده.
والعجيب هنا :أن النيب صلى هللا عليه وسلم أابح له أخذ اهلدية ،مع أن النيب صلى هللا عليه
وسلم يقول( :هدااي العمال غلول) ؛ ألنه ال يهدي للعامل إال خمافةً منه أو طمعاً فيه ،وكذلك
العمال يهدون إليهم ليخففوا عنهم فيما جيب عليهم من عمال الزكاة ،وملا فتح هللا على
املسلمني خيرب طلبوا من رسول هللا أن يبقيهم فيها ،قالوا :حنن أعلم أبمور النخيل ،دعها يف
أيدينا خندمك فيها.
6
قال :ندعكم إىل ما شاء هللا.
وكان االتفاق أن يعملوا فيها ابلنصف :نصف الثمرة لليهود ،والنصف اآلخر للمسلمني،
والعادة يف مثل ذلك ابلنسبة للزكاة أنه خيرج العامل ليخرص إذا بدأ نضج الثمرة وأمنت العاهة،
أي :امحرت واصفرت الثمرة ،فيأيت العامل فيطوف يف النخيل فيقدر :هذه فيها وسق ،وهذه
فيها وسقني ،وهذه فيها ثالثة ،وهذه فيها نصف.
حىت حيصي ما يف البستان من مظنة الثمرة اليت أتيت من جمموع هذا النخل ،فإذا وجد -مثالً-
أن جمموع ما يف هذا البستان ألف وسق ،فقد كان يوصيهم صلى هللا عليه وسلم أن يسقطوا
الثلث أو الربع ،ملا يرد من ضيف ،وملا أتكل الطري ،وملا تسقط الريح ،وهذا كله ال يكلف
صاحب املال أبن خيرج زكاته وهو قد أتلف بعضه.
فبعث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عبد هللا بن رواحة ليخرص على أهل خيرب ،ليلتزموا يف
النهاية بعد جتفيف التمر مبا وجب عليهم ،ويقدمونه لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فلما
جاءهم ماذا فعلوا؟ مجع اليهود من حلي نسائهم جمموعة ،وقدموها ل عبد هللا وقالوا :خفف
عنا -يعين :إن كان عندان مخسة آالف اجعلها ثالثة آالف -فقال هلم كلمته املشهورة( :اي
إخوة اخلنازير! وهللا لقد جئتكم من عند أحب خلق هللا إيل ،وألنتم أبغض الناس عندي ،ووهللا
ما حيب لرسول هللا وال بغضي لكم حباملي على أن أجحف عليكم ،وهذا املال رشوة وسحت،
وهو حمرم) .
فقالوا :اي عبد هللا! ِبذا قامت السماوات واألرض.
أي :ابألمانة ورفض الرشوة ،وأقسم أال حييف عليهم بسبب البغض ،وال أن حيايب رسول هللا
بسبب احملبة ،وقال :إين خارص وأنتم ابخليام ،إما أن تلتزموا ما وجب عليكم ،وإما أن ترفعوا
أيديكم وأان ملتزم لكم مبا هو لكم من هذا اخلرص ،فقبلوا وخرص والتزموا.
الذي يهمنا :أن هدااي العمال رشوة وسحت ،والرسول أابح ل معاذ أن يقبل اهلدية ،وخص
معاذاً ألنه صلى هللا عليه وسلم علم من معاذ أن نفسه ودينه وأمانته فوق مستوى احملاابة
والرشوة والسحت ،فإذا ما جاءته هدية مل يقبلها يف مقابل حق يتنازل عنه أو يف مقابل حماابة
يف دين هللا ،فأابحها له وكان بينه وبني أيب بكر وعمر مقاالت يف هذا املوضوع.
7
خماطبة كل قوم حسب ثقافتهم العلمية
وهنا التوجيه النبوي الكرمي ،الذي ميكن يف العرف احلاضر أن نسميه (التوجيه الدبلوماسي)
مبعىن سياسة الناس وخماطبتهم مبا يف نفوسهم ،وتنوع األساليب مع أانس دون أانس ،فقال له:
(اي معاذ! إنك ستأيت قوماً أهل كتاب) أهل الكتاب ليسوا هم وأهل البادية األمية سواء.
فالبادية األمية ال تعرف شيئاً من أحكام السماء ،وليس عندهم سوابق علم ،أما أهل الكتاب
فعندهم من العلم ما جاءهم يف كتاِبم ،وعندهم من التوحيد.
ومن أخبار البعث الشيء الكثري الذي أنزله هللا يف كتبه املتقدمة من التوراة واإلجنيل ،وكان يف
اليمن يهود ونصارى.
إذاً :خذ أهبتك يف مقابلة هؤالء الناس لتتعامل معهم على مستوى علمي ،والذي يتعامل مع
أشخاص أهل علم جيب أن يكون على مستوى علمي أكثر ممن يتعامل مع ابدية أمية ال تعرف
شيئاً ،فيقودها حيث شاء ،أما أهل الكتاب فلن ينقادوا يف كل شيء؛ ألن لديهم أصول
يتمسكون ِبا ،بصرف النظر عن كوهنا حرفت أو بدلت.
التدرج يف الدعوة إىل هللا تعاىل
(إنك أتيت قوماً أهل كتاب ،فليكن أول ما تدعوهم إليه -ويف رواية البخاري رمحه هللا وغريه:
أن يعبدوا هللا وحده ال شريك له -عبادة هللا وحده ،فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أبن هللا
قد افرتض عليهم مخس صلوات يف اليوم والليلة ،فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أبن هللا قد
افرتض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتعطى إىل فقرائهم) .
إىل هنا يقف طالب العلم والداعية إىل هللا لريى األسلوب يف الدعوة إىل هللا مع قوم أهل كتاب،
وذوي عقل وفكر ،فتكون الدعوة معهم ابلتدرج ،فأول شيء يدعوهم إليه هو ما ال نزاع فيه؛
وهو عبادة هللا وحده.
فالوثنيون قد يعارضون يف ذلك أشد من أهل الكتاب؛ ألن أهل الكتاب عندهم مبدأ يف
التوحيد ،والشرك طارئ عليهم ،فيدخل يف التدرج بعبادة هللا وحده ،مث ينتقل إىل العبادة البدنية
اليت ليس فيها درهم وال دينار ،وهي :الصلوات اخلمس يف اليوم والليلة ،فإن هم استجابوا
لذلك فمعناه أهنم على طريق السمع والطاعة ،فينتقل ِبم إىل عنصر املادة( :أعلمهم أبن هللا
قد افرتض عليهم صدقة -ومسى الزكاة املفروضة صدقة -تؤخذ من أغنيائهم فرتد على فقرائهم).
8
وهنا أيضاً من حسن التنبيه ،ومن إعجاز التشريع ،أنه افرتض عليهم صدقة ال يدفعوهنا لغريهم
من املسلمني ،وإَّنا خترج منهم وتوزع فيهم ،فتؤخذ من أغنيائهم وترد عليهم ،أي :تؤخذ ابليمني
وتعطى ابلشمال ولكن مع اختالف اجلهة ،فتؤخذ من أغنيائهم الذين أفاض هللا عليهم من
آَت ُك ْم} [النور ]33:وترد على فقرائهم، اَّللِ الَّ ِذي َ
وه ْم ِم ْن َم ِال َّ
{وآتُ ُ
ماله ،واملال مال هللاَ :
وأيتامهم ،ومساكينهم ،من آابئهم ،وإخواهنم ،وجرياهنم ،فهي لن خترج من أيديهم.
فعندما يعلم أغنياء اليمن أن الزكاة اليت فرضها اإلسالم ليست ضريبة جتىب منهم إىل غريهم ،بل
تؤخذ منهم وترد عليهم؛ حينئذ يسهل أمر دفع املال؛ ألن املال صنو النفس ،والنفس شحيحة
عليه ،وحريصة على حتصيله ،وشحيحة يف إنفاقه.
وهكذا كان بعث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم معاذاً إىل اليمن ،فقالوا :إنه كان جابياً للزكاة
واجلزية ،وكان أمرياً ،ومعلماً ومفتياً وقاضياً ،فكان يؤدي كل هذه املهام ،وليس جمرد جامع
للزكاة.
النيب صلى هللا عليه وسلم يغرس الوازع الديين يف قلب معاذ
واحلديث قد قطعه البخاري فيما ال يقل عن مخسة أو ستة أبواب.
فالرسول صلى هللا عليه وسلم ملا قال له( :تؤخذ من أغنيائهم فرتد على فقرائهم) أي :يف اجلملة،
وقال له( :وإايك وكرائم أمواهلم!) أي :إذا أعطوا الزكاة فال تعمد إىل أكرمها وأتخذها؛ ألن
صاحبها متعلق ِبا ،وهذا ظلم ،كما أنك ال أتخذ العجفاء وال املريضة؛ ألن هذا ظلم
للمساكني ،وإَّنا يكون الوسط( :وإايك -حتذير -وكرائم أمواهلم!) أي :احذر أن تعمد إىل
أكرمها فتأخذه.
وقد مرت غنم الصدقة على عمر رضي هللا تعاىل عنه فوجد فيها شاة حافلة -ضرعها كبري-
فقال( :ما أظن أن أهل هذه دفعوها عن طيب نفس!) أتسفاً ألخذها ،وال يستطيع أن يردها؛
ألهنا جاءت من بعيد ،وهنا تنبيه من النيب صلى هللا عليه وسلم على ما جيب على العمال من
الرفق ابلناس ،وعدم اإلضرار بصاحب املال وال مبستحقيه؛ وهلذا يقول العلماء :الزكاة فرضت
على الرفق ابلطرفني :رفقاً ابألغنياء أبن أخذ منهم ( ، )%2.5ومل يقاسم املالك يف ماله على
الثلث أو الثلثني ،فأربعون شاة من الغنم أيخذ منها شاة إىل مائة وعشرين ،فهذه ليس فيها
9
غرامة عليه ،وال فيها ثقل عليه ،بل فيها رفق به ،وكذلك إرفاق ابملساكني أن ينتفعوا مبا أيتيهم
من أموال األغنياء.
وهنا ينبه صلى هللا عليه وسلم مجيع عمال الزكاة إىل أن يرث هللا األرض ومن عليها ،أن يكونوا
رمحاء ،وأال جيحفوا بصاحب املال فيأخذوا كرائم األموال ،وأال جيحفوا ابملساكني فيأخذوا هلم
العجاف واملرضى.
وعمر يقول لعامله( :اعتد عليهم ابلسخلة أييت ِبا الراعي بني ذراعيه -يعين :حيملها على
صدره -وال أتخذها منهم) أي :عند عد الرؤوس عدها ،ولكن يف األخذ يف زكاة الغنم ال
أتخذها؛ ألنه ليس منها فائدة ،وإَّنا أيخذ الوسط.
(وإايك وكرائم أمواهلم) .
يقيم صلى هللا عليه وسلم الوازع الذي ينتزع قلب كل إنسان إذا خالف( :واتق دعوة املظلوم؛
فإنه ليس بينها وبني هللا حجاب) نعم ذهب يدعو إىل هللا ،لكنه سيأخذ الزكاة ،والزكاة مال،
وحذره من كرائم األموال ،فإذا أخذ كرمية مال إنسان يكون قد ظلمه ،واملظلوم لن يبيت غافالً،
وسيدعو على الظامل ،فيجب أن تتقي دعوة املظلوم؛ ألنه ليس بينها وبني هللا حجاب ،والرسول
صلى هللا عليه وسلم يقول( :إن هللا يقول :إين ألنصر املظلوم ولو كان كافراً) يقول العلماء:
ألن هذا الكافر عندما أحس ابلظلم مل جيد من ينصفه ،وال بينة عنده ،أو أنه مضطهد ال
يستطيع أن أيخذ حقه ،ولن جيد من ينصره وينصفه ممن ظلمه إال هللا ،فتوجه إىل هللا ،فهو يف
تلك اللحظة مؤمن ابهلل ،وإن مل يقر له ابلتوحيد ،لكنه مقر بوجود هللا وبقدرته على نصرته،
وهنا ال خييبه هللا.
ويقولون يف خرب موسى مع قارون :ملا أدرك قارون اخلسف أخذ ينادي :اي موسى! اي موسى!
وموسى مل يلتفت إليه ،مث بعد أن انتهى عاتب هللا موسى :اي موسى! يناديك قارون عدة مرات
فلم تلتفت إليه ،لو انداين مرة واحدة ألجبته.
إذاً (اتق) أي :احذر ،واجعل لك وقاية بينك وبني دعوة املظلوم ،أال وهي عدم ظلمه( ،فإنه
ليس بينها وبني هللا حجاب) ،فال حتجبها السماوات السبع ،وال املأل األعلى ،وتصعد إىل هللا
سبحانه ،فيتلقاها وينصف املظلوم ولو كان كافراً.
10
ويقول اإلمام ابن تيمية رمحه هللا :إن امللك ليدوم مع العدل ولو لكافر ،وال يدوم مع الظلم ولو
ملسلم.
(والظلم ظلمات يوم القيامة) .
وهكذا جند يف بعث معاذ رضي هللا تعاىل عنه إىل اليمن ،فإن هذه التعليمات أسس قومية فيما
يكون عليه العمال ،وفيما ينبغي أن يالحظوه يف حق الرعية.
كتاب الزكاة -مقدمة كتاب الزكاة
من رمحة هللا بعباده أنه ما أمجل شيئاً يف كتابه إال وبيَّنه يف سنة نبيه حممد صلى هللا عليه وسلم،
فالزكاة أمر واجب وركن من أركان اإلسالم فصلت وبينت فرائضها وأنصبتها يف سنة نبينا حممد
صلى هللا عليه وسلم ،ومن ذلك زكاة اإلبل والغنم كما يف كتاب أيب بكر الصديق رضي هللا عنه.
حديث أيب بكر يف زكاة األنعام اليت فرضها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم
يقول املصنف رمحه هللا[ :وعن أنس :أن أاب بكر الصديق رضي هللا عنه كتب له( :هذه فريضة
الصدقة اليت فرضها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على املسلمني ،واليت أمر هللا ِبا رسوله :يف
كل أربع وعشرين من اإلبل فما دوهنا الغنم ،يف كل مخس شاة ،فإذا بلغت مخساً وعشرين إىل
مخس وثالثني ففيها بنت خماض أنثى ،فإن مل تكن فابن لبون ذكر ،فإذا بلغت ستاً وثالثني إىل
مخس وأربعني ففيها بنت لبون أنثى ،فإذا بلغت ست وأربعني إىل ستني ففيها حقة طروقة
اجلمل ،فإذا بلغت واحدة وستني إىل مخس وسبعني ففيها جذعة ،فإذا بلغت ستاً وسبعني إىل
تسعني ففيها بنتا لبون ،فإذا بلغت إحدى وتسعني إىل عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا
اجلمل ،فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعني بنت لبون ،ويف كل مخسني حقة ،ومن
مل يكن معه إال أربع من اإلبل فليس فيها صدقة إال أن يشاء رِبا.
ويف صدقة الغنم يف سائمتها إذا كانت أربعني إىل عشرين ومائة شاةٍ شاةٌ ،فإذا زادت على
عشرين ومائة إىل مائتني ففيها شاَتن ،فإذا زادت على مائتني إىل ثالمثائة ففيها ثالث شياه،
فإذا زادت على ثالمثائة ففي كل مائة شاة ،فإذا كانت سائمة الرجل انقصة من أربعني شاةً
شاةٌ واحدةٌ فليس فيها صدقة إال أن يشاء رِبا ،وال جيمع بني متفرق ،وال يفرق بني جمتمع
خشية الصدقة ،وما كان من خليطني فإهنما يرتاجعان بينهما ابلسوية ،وال خيرج يف الصدقة
هرمة ،وال ذات عوار ،وال تيس إال أن يشاء املصدق.
11
ويف الرقة يف مائيت درهم ربع العشر ،فإن مل تكن إال تسعني ومائة فليس فيها صدقة إال أن
يشاء رِبا.
ومن بلغت عنده من اإلبل صدقة اجلذعة ،وليست عنده جذعة وعنده حقة فإهنا تقبل منه،
وجيعل معها شاتني إن استيسرَت له أو عشرين درمهاً ،ومن بلغت عنده صدقة احلقة وليست
عنده احلقة ،وعنده اجلذعة ،فإهنا تقبل منه اجلذعة ،ويعطيه املصدق عشرين درمهاً أو شاتني)
رواه البخاري] .
األموال الزكوية املتفق على أصوهلا
بعدما قدم املؤلف حديث معاذ رضي هللا تعاىل عنه يف بيان وجوب الزكاة( :مث أعلمهم أبن هللا
قد افرتض عليهم صدقة يف أمواهلم تؤخذ من أغنيائهم ،فرتد على فقرائهم) وانتهى الكالم يف
ثبوت وجوب الزكاة ومعرفة ذلك من الدين اإلسالمي ابلضرورة ،فهو ركن من أركان اإلسالم
اثبت ابلكتاب والسنة واإلمجاع؛ جاءان حبديث أيب بكر رضي هللا تعاىل عنه يف تفصيل وبيان
الزكاة يف ِبيمة األنعام ،وذكر يف هذا الكتاب أنصبة اإلبل والغنم.
ويف اجلملة يوجد من أموال الزكاة ما هو متفق على أصول فيها ،كبهيمة األنعام :اإلبل والبقر
والغنم ،ومن الزروع :التمر والزبيب واحلبوب ،وكل قوت مكيل مدخر أحلق ابلتمر والزبيب،
وكذلك النقدان :الذهب والفضة ،ويلحق ابلنقدين عروض التجارة؛ ألهنا َتبعة هلا ،وتدار
وتقوم ِبما.
ابلذهب والفضة ن
زكاة األموال الزكوية الظاهرة لإلمام والباطنة يقسمها املالك
األموال الزكوية قسمت إىل قسمني :قسم ظاهر يتوىل اإلمام أمره ،وهيِ :بيمة األنعام ،والتمور
والزبيب.
وقسم خفي وهو :الذهب والفضة وعروض التجارة ،وهذا اخلفي وكِل وأسند أمره إىل صاحبه،
فهو يتعامل بينه وبني هللا يف إخراج الزكاة.
فهنا أنخذ خطاب أيب بكر رضي هللا تعاىل عنه ،ومعلوم أن الكتابة مل تكن معهودة ،ولكن
جاءت يف بعض التعليمات العامة ،منها ما أماله الرسول صلى هللا عليه وسلم كما نبه أبو
بكر رضي هللا تعاىل عنه يف بيان أنصبة الزكاة اليت فرضها هللا ورسوله ،ومنها الكتب اليت كتبت
فيما يتعلق ابجلناايت ،كالدية ،وأرش اجلروح ،كما جاء عن علي رضي هللا تعاىل عنه ،أنه سئل:
12
(هل خصكم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بشيء من العلم مل خيص به أحد غريكم؟ فقال:
ال وهللا ،إال فهم أوتيه أحد يف كتاب هللا ،وما يف هذه الصحيفة -وكانت صحيفة يضعها علي
رضي هللا تعاىل عنه معه يف قراب سيفه -قالوا :وما يف الصحيفة؟ قال :العقل -أي :عقل
اجلراح -والدايت ،وفكاك األسري) وبعضها كخطاب ابن حزم يف أنصبة الزكاة يكتب ِبا إىل
العمال يسريون عليها.
ولعل هذا العمل -وهو الكتابة يف أمور جزئية -هو مبدأ تدوين وتنظيم النظم احلكومية ،فمنها
ما يتعلق ابجلناايت ،ومنها ما يتعلق ابألموال ،وهذا من أمهها ،ويتفق العلماء على أن تلك
الكتب ال زالت يعمل ِبا يف عهد الصحابة رضي هللا تعاىل عنهم ،وكان مجيع العمال أيخذون
مبا فيها ويطبقوهنا كل يف مكانه.
بيان حديث أيب بكر جململ القرآن( :وآتوا الزكاة)
فهذا خطاب أيب بكر رضي هللا تعاىل عنه يقول فيه( :وعن أنس :أن أاب بكر الصديق رضي
هللا عنه كتب له :هذه فريضة الصدقة) .
هذه الكتابة كتبها أبو بكر من عنده أو مما مسعه من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم؟ ال ميكن
ل أيب بكر أن ينظم هذا التنظيم من عنده؛ ألنه يتعلق أبموال الناس ،وأموال الناس حمرتمة ،ال
ميكن إلنسان أن يتسلط عليها وأيخذ منها ،وهي عبادة تتعلق بركن مايل ،والعبادة ال ميكن
ألحد أن يتحكم فيها.
إذاً :أبو بكر رضي هللا تعاىل عنه ملا كتب ل أنس كتب له ما حفظ عن رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم ،ولذا صرح بذلك فقال(:اليت فرضها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على املسلمني).
وهنا يقف العلماء يف مسألة أصولية وهي :أن الرسول صلى هللا عليه وسلم له حق يف الفرضية،
ولكن هل ذلك له يف بيان ما أمجل من كتاب هللا أم له أن يستقل به؟ فمما له صلة بكتاب
الصالةَ َوآتُوا َّ
الزَكاةَ} [البقرة]43: يموا َّ هللا أن هللا سبحانه وتعاىل فرض الزكاة إمجاالً فقالِ :
{وأَق َُ
َّ ِ
الزَكاةَ} [احلج ]41:ما هي الزكاة الصالةَ َوآتَ ُوا َّ
ض أَقَ ُاموا َّ ين إِ ْن َم َّكن ُ
َّاه ْم ِيف األ َْر ِ ،وقال{ :الذ َ
اليت آتوها؟ ما هي أنواع األموال الزكوية؟ ما مقادير أنصبائها ،ما مقدار ما يؤخذ منها؟ وهلذا
يقول األصوليون :السنة قاضية على الكتاب ،مبعىن :أهنا مبينة ملا أمجل فيه ،ويتعني على كل
مسلم أن أيخذ مبا جاء به رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ابتداءً أو بياانً ،وقد بني املوىل وجوب
13
{وَما يَْن ِط ُق َع ِنول فَ ُخ ُذوهُ} [احلشر ]7:وعصمه هللا من اخلطأ فقالَ : الر ُس ُ
آَت ُك ُم َّ
{وَما َ ذلكَ :
وحى} [النجم ]4-3:كما قال السيوطي رمحه هللا :الوحي وحيان: ا ْهلََوى * إِ ْن ُه َو إَِّال َو ْح ٌي يُ َ
وحي أمران بكتابته ،وتعبدان بتالوته احلرف بعشر حسنات ،ووحي مل نؤمر بكتابته ،ومل نتعبد
بتالوته ،وهو السنة.
{ما فَ َّرطْنَا ِيف وملا جاء شخص إىل بعض السلف وقال :ما حاجتنا يف السنة وهللا يقولَ :
اب ِم ْن َش ْي ٍء} [األنعام ]38:؟ قال :نعم ،ما جاء به النيب صلى هللا عليه وسلم فهو مما الْ ِكتَ ِ
جاء يف كتاب هللا.
وكان والدان الشيخ األمني رمحة هللا تعاىل علينا وعليه يقول :السنة كاملة كقطرة من حبر كتاب
ول فَ ُخ ُذوهُ َوَما َهنَا ُك ْم
الر ُس ُ
آَت ُك ُم َّ
{وَما َ
هللا؛ ألن هللا قال لنا يف حق رسوله صلى هللا عليه وسلمَ :
َعْنهُ فَانْتَ ُهوا} [احلشر ]7:فهذا متعلق ابلسنة جبميع ما فيها.
وجاء عنه صلى هللا عليه وسلم أنه قال( :ال ألفني أحدكم متكئاً على أريكته يقول :عندان
كتاب هللا ،ما وجدان يف كتاب هللا أخذان به ،وما مل جند ال حاجة لنا فيه! أال وإنين أوتيت
الكتاب ومثلَه معه) والذي أوتيه صلى هللا عليه وسلم مع الكتاب هو السنة.
وهنا ملا قال هذا الرجل هذا الكالم لبعض السلف ،قال :اي ابن أخي! تعال ،ال غىن لك عن
الصالةَ} [البقرة ]43:أن الصبح ركعتان يموا َّ السنة ،هل وجدت يف كتاب هللا عند قولهِ :
{وأَق ُ
َ
والظهر أربع واملغرب ثالث؟ قال له :ال.
قال :من أين أخذهتا؟ قال :من سنة رسول هللا.
قال :إذاً :حنن ملزمون ابلسنة.
وكذلك أرأيت أنصباء الزكاة هل وجدت يف الذهب (.2
)%5مذكوراً يف القرآن؟ هل وجدت يف القرآن أن الغنم يف كل أربعني شاةً شاةٌ؟ وهل وجدت
يف القرآن عن اإلبل يف كل مخس إبل شاة؟ وهل وجدت يف احلبوب والثمار يف كل مخسة
أوسق صدقة؟ اجلواب :ال.
إذاً :من أين وجدت ذلك؟ اجلواب :من السنة.
وعلى هذا جاءت السنة بتفصيل ما أمجل يف كتاب هللا ،وجاءت السنة بتشريع مستقل لكنه
َتبع ملا جاء يف كتاب هللا.
14
وهنا يقول أبو بكر رضي هللا تعاىل عنه( :هذه فريضة الزكاة اليت افرتضها رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم) .
قوله( :واليت أمر هللا ِبا رسوله) .
{وآتُوا َّ
الزَكاةَ} [البقرة ]43:أو أنه أمره أمراً غري ما يف القرآن ،وقد يكون أي :يف عموم قولهَ :
هناك وحي سوى القرآن.
أنصبة اإلبل
األنصبة املفروضة يف سائمة الغنم
يف كل أربعني إىل مائة وعشرين شاة
قوله( :ويف صدقة الغنم يف سائمتها إذا كانت أربعني إىل عشرين ومائة شاةٍ شاةٌ) .
انتهينا من أنصبة اإلبل على نزاع فيها -ميكن أن يتعرض له املؤلف أو يرتكه -بني اإلمام أيب
حنيفة رمحه هللا هل تنتهي الفريضة عند مائة وعشرين أو متشي إىل أكثر من ذلك ،مث تعود مرة
أخرى بنسب اثبتة؟ مث دخل يف نصاب الغنم ،ففي كل أربعني شاةً شاةٌ.
إذاً :اإلبل بدأت من مخس ،والغنم بدأت من أربعني ،بنت املخاض مشت يف اإلبل من مخس
وعشرين إىل مخس وثالثني ،والشاة يف األربعني متشي معها إىل مائة وعشرين ،فمائة وعشرون
فيها شاة ،وأربعون فيها شاة ،وكذلك ما بينهما ،فهذه ثالث أربعينات أيضاً فيها شاة ،فلينتبه
هلذا ،فإننا حنتاج أن نرجع إليه فيما بعد.
إذاً :يف أول أنصباء الغنم أربعون شاة ،بصرف النظر عن الشروط اليت ستأيت من كوهنا سائمة
وغريها ،وهذا شرط عام يف اإلبل والغنم والبقر ،وأن املعلوفة ال زكاة فيها؛ ألنه يتكلف هلا،
ويهمنا اآلن يف بيان أنصباء الغنم أن أول نصاب للغنم أربعون شاة ،واألربعون فيها واحدة،
والواحدة متضي مع األربعني إىل املائة والعشرين ،فإن زادت عن املائة والعشرين شاة واحدة،
كأن ولدت تلك الليلة ،وجاء العامل ووجد عنده مائة وعشرين شاة ،ومعها زايدة عليها تلك
السخلة اليت ولدت ابألمس ،فزادت عن العشرين واملائة واحدة ففيها شاَتن.
إذا زادت على مائة وعشرين إىل مائتني ففيها شاَتن
قوله( :فإذا زادت على عشرين ومائة إىل مائتني ففيها شاَتن) .
15
أي :إذا زادت الغنم عن العشرين واملائة شاة واحدة كان فيها شاَتن ،والشاَتن متشي من مائة
وع شرين ،وثالثني ،إىل مائة ومخسني مائة وستني إىل مائة وتسعني فيكون فيها الشاَتن ،وإذا
كملت مائتني ففيها الشاَتن ،فإذا زادت الغنم عن املائتني شاة واحدة فتكون قد دخلت يف
املائة الثالثة ،فإذاً فيها ثالث شياه.
اذا زادت على مائتني إىل ثالمثائة ففيها ثالث شياه
قوله( :فإذا زادت على مائتني إىل ثالمثائة ففيها ثالث شياه) .
أي :حىت تصل إىل الثالمثائة ففيها ثالث شياه ،مث تستقر الفريضة يف كل مائة شاةٍ شاةٌ.
وحنن جنمل اجلميع لنرى أن تلك األنصباء يف األموال ليست عفوية ،وإَّنا وضعت بدقة وحكمة،
وإذا عرضت على شخص يعترب من كبار احملاسبني فهنا تتضح احلكمة والرمحة :فالشاة فرضت
أوالً يف أربعني ،فلما كثرت األغنام فوق الثالمثائة وصارت أربعمائة أو مخسمائة فالشاة اليت
كانت تفرض يف أربعني جتزئ عن مائة ،إذاً :نسبة الزكاة يف الغنم تنزل وال تتصاعد؛ ألن اليت
كانت جتزئ يف األربعني أصبحت جتزئ يف املائة.
وقد يتساءل اإلنسان هنا :ملاذا هذا التنازل؟ مع أننا أشران يف السابق أن نظام الضرائب
يتصاعد ،فاملائة األوىل مرتوكة لصاحبها ألهنا قليل ،املائة الثانية مثالً عليها ( ، )%5ويف املائة
الثالثة ( ، )%10وهكذا حىت تصل نسبة الضريبة إىل ( )%100من الربح ،أي :أهنا تتصاعد،
فكلما زاد الربح زادت الضريبة ،وهنا كلما زادت الغنم نقصت نسبة ما يؤخذ منها ،وهذا إرفاق
من الشارع بصاحب املال.
هنا قد يقول اإلنسان :ما موجب هذا التنازل؟ واجلواب :ألن صاحب األربعني شاة حياجي
عليها وحيافظ بقدر املستطاع ،لكن صاحب املائتني والثالمثائة أصبح يف احلي رفيع العماد،
وطويل النجاد ،وأصبح سيد احلي ،وسيد احلي مطروق ،وكلما طرقه طارق ذبح له شاة إذاً:
صارت عليه تبعات أكثر من صاحب األربعني ،فكلما زاد املال كثرت التبعات عليه ،فخفف
من جانب الزكاة ،وهذا ال يوجد يف نظام الضرائب.
كتاب الزكاة -مقدمة كتاب الزكاة
أنزل هللا القرآن على نبيه صاحلاً لكل زمان ومكان ،وجاءت السنة مكملة له ،ومبينة وموضحة
جململه ،فكان مما بينته تفاصيل الزكاة ومنها األنعام ،حيث بني النيب صلى هللا عليه وسلم أنصبة
16
اإلبل ومىت جتب الزكاة فيها ،وبني أنصبة الغنم ومىت جتب الزكاة فيها ،فهذه معايري وقياسات
ال تتغري وال تتبدل مدى الزمان.
كما بني أحكام اخللطة ،واختالف أسنان املخرج من اإلبل عن املطلوب ،وكذلك زكاة الفضة،
وكل ذلك رمحة ابملزكي واملسكني.
كم اخللطة يف األنعام الزكوية
يقول أبو بكر-رضي هللا عنه( :-وال جيمع بني متفرق وال يفرق بني جمتمع خشية الصدقة،
وما كان من خليطني فإهنما يرتاجعان بينهما ابلسوية ،وال خيرج يف الصدقة هرمة ،وال ذات
املصدق ،ويف الرقة يف مائيت درهم ربع العشر ،فإن مل تكن إال عوار ،وال تيس إال أن يشاء َّ
تسعني ومائة فليس فيها صدقة إال ن يشاء رِبا) .
ف الصديق رضي هللا تعاىل عنه يف هذا اخلطاب ،بعدما بني أنصباء اإلبل وما يدخل فيها،
وأنصباء الغنم وما يؤخذ فيها ،بقي من ِبيمة األنعام البقر ،واجلاموس يف بعض البالد ،أما البقر
فجاء فيه النص يف غري هذا اخلطاب ،وهو :يف كل ثالثني تبيع أو تبيعة ،ويف كل أربعني مسن
أو مسنة ،والبقر قليل يف بالد العرب ،وكانوا يتهاجون ابقتنائها ،والذي يكثر هو اإلبل والغنم.
والفقهاء قاسوا اجلاموس على البقر ،وأحلقوه به يف هذا الباب ،وملا نبني الصديق رضي هللا تعاىل
عنه أنصباء اإلبل والغنم جاء ابلتنصيص على مسألة يكثر وقوعها بني أصحاب ِبيمة األنعام،
وهي :اخللطة ،وتعريفها :هو أن أييت صاحب قطيع من اإلبل أو قطيع من الغنم إىل شخص
آخر له قطيع من اإلبل أو من الغنم فيجمعاهنما معاً ،فهذه خلطة.
شروط الشاة املأخوذة يف الزكاة
مث بدأ يبني ماذا أيخذ العامل ،قال( :وال تؤخذ يف الصدقة اهلرمة) ،اهلرمة مبعىن :العجوزة؛
ألهنا غالباً تكون عجفاء ليس فيها شيء ،وهي على وشك املوت.
(وال ذات عوار) من عور العينني( ،أو معيبة) ألن العيب عوار يف السلعة ،فأي شاة ِبا عيب
فإهنا ال تؤخذ يف الصدقة؛ ألنه نقص على املساكني ،والعوار مبعىن العيب فهو يتفاوت ،وبعضهم
يقول :العوراء هي الفاقدة إحدى عينيها.
وهذه عند األصوليني فيها نزاع ،فعندما يقال يف األضحية :جيب أن تكون األضحية سليمة
من العور فمن األصوليني من يقول :هذه معيبة ال تصلح أضحية ،وكذلك ال تؤخذ يف الزكاة،
17
ومنهم من يقول :العوراء هي اليت ال تسرح مع الغنم ،ولكن تبقى يف البيت ،وإذا انفردت يف
البيت عين ِبا ،وجيء هلا بعلف يكفيها وزايدة؛ ألهنا أصبحت حمل عناية من مالكيها ،فلرمبا
تكون أمسن من ذات العينني اليت تسرح مع بقية الغنم ،ولكن اجلمهور على أن العور عيب فال
تؤخذ صاحبة العوار يف زكاة الغنم.
ويقاس على ذات العور وعلى اهلرمة أي عيب يف الشاة ينقص من قيمتها ،سواء كان يف
هيكلها أو يف حلمها ،فإذا كانت مريضة فال ينبغي أن أيخذها ،وإذا كانت مكسورة ال أيخذها،
وعلى هذا فكل شاة معيبة يف الغنم ال تصح.
وكيف أيخذ؟ قد تقدم لنا ذلك يف حديث معاذ( :وإايك وكرائم أمواهلم) ،فالعامل ال جيوز له
أن يصطفي كرائم الغنم وأيخذها ،وال أن يقبل من صاحب الغنم أهوهنا ،إَّنا يقولون :تقسم
الغنم ثالثة أقسام :خيار ،وعوار ،ووسط ،فيأخذ من الوسط ،والعامل مؤمتن فال جيوز له أن
يظلم صاحب الغنم أبخذ خيارها ،وال جيوز أن يغش املساكني فيأخذ الضعيف فيها ،إَّنا أيخذ
الوسط.
قوله( :وال تيس إال أن يشاء املصدق) .
التيس يف الغنم هو الذي يعلوها ويطرقها؛ ألن الغنم يف حاجة إليه ،فيأيت املصدق وأيخذ التيس
ويرتك الغنم بال تيس وهذه مضرة ،وال جيوز إخراج التيس يف الصدقة إال أن يشاء املص نِدق،
أي :صاحب الغنم؛ ألنه قد يكون معه غريه ،أو املصدق هو العامل الذي أيخذ الصدقة؛ ألن
التيس -أحياانً -ال يساوي الشاة ،والعنز خري منه ألهنا تنتج ،إال إذا جاء العامل ومجع غنماً
كثرياً وسيسوقها وحيتاج إىل تيوس فيها ،فيأخذه منه من أجل مصلحة ما بيده من املاعز.
ال زكاة يف اخليل والرباذين وحنوها
األموال الزكوية قلنا :إن املتفق عليها من ِبيمة األنعام :اإلبل والبقر والغنم ،ومن املختلف فيه:
اخليل وما تبعها ،فريجح اجلمهور على أن اخليل ال زكاة فيها ،وعند اإلمام أيب حنيفة رمحه هللا
أن اخليل إذا أفردت للنماء والزايدة ففيها الزكاة ،أما إذا كانت لغري ذلك ،وال يتأتى َّناؤها،
وكما يقول األحناف :لو كانت كلها ذكوراً ،فالذكور وحدها ال تنتج ،ولو كانت كلها إانث
فاإلانث وحدها ال تنتج ،فعنصر النماء مفقود فال زكاة فيها.
18
ولو كان عنده خيل ذكور وإانث يؤجرها أو يستعملها يف جر العرابت أو يف احلرث فهذه
ليست للنماء فال زكاة فيها.
وعلى رأي اإلمام أيب حنيفة رمحه هللا أن يف اخليل زكاة ،فما نصاِبا وما يؤخذ منها؟ مل أيت يف
أي كتاب من كتب الصدقة بيان أنصباء اخليل وال بيان ما يؤخذ فيها ،ومن هنا أخذ اجلمهور
أن اخليل خارجة عن حدود الزكاة ،واستدلوا أيضاً حبديث( :ليس على املسلم يف فرسه وال يف
عبده صدقة) فقوله( :فرسه) وإن كان مفرداً ،لكنه نكرة مضاف فيشمل اجلنس ،فأخذ اجلمهور
أبن الفرس أو اخليل ال زكاة فيه.
أبو حنيفة رمحه هللا يقول :الزكاة مبناها على النماء ،فإذا كانت ثالثني فصارت مخسني ،فهي
انمية ،فتشرتك مع اإلبل والغنم يف عموم النماء ،ففيها زكاة.
كم نصاِبا؟ قال :يف كل فرس دينار.
حنن ال نعهد زكاة مال من غري جنسه إال عروض التجارة وأوائل اإلبل ،يف اخلمس منها شاة،
فأخذ غري جنسها يف حد معني ،مث من مخس وعشرين انتقلت إىل جنسها ،وكذلك عروض
التجارة؛ ألن العروض هي عبارة عن دكان فيه سكر وشاي وصابون ونعناع أو حىت خضار،
فماذا سنعطي املسكني من هذا؟ فيقدر اجلميع ،وتعطى الزكاة من جمموع القيمة؛ ألهنا مصلحة
للطرفني.
فإذا قلتم :اخليل فيها زكاة فبينوا نصاِبا منها ،وما يؤخذ منها فيها.
وقال قوم :ليس فيها زكاة ،واستدلوا أبن عمر رضي هللا تعاىل عنه أَته قوم من أهل الشام،
وقالوا :إان أصبنا خيالً نريد أن أتخذ زكاهتا طهرة هلا.
فقال :مل أيخذها صاحباي من قبلي -يعين رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأاب بكر رضي هللا
تعاىل عنه -فكيف آخذها؟ فاستشار من عنده ،فقالوا :خذ منهم ما دام عن طيب نفس،
فسأل علياً رضي هللا تعاىل عنه ،فقال علي :ال أبس إال أن تصبح فيما بعد ضريبة الزمة عليهم،
أي :هم اآلن جاءوا طواعية ودفعوا ،فإذا ذهب هذا اجليل الذي يدفع طواعية ،فسيأيت بعدهم
أانس معهم خيل ،فيقول من كان بعدك :عمر أخذ على اخليل فيأخذ عليهم ،وتكون ضريبة
الزمة بغري إلزام.
ف علي قال :ال أبس إذا أخذت ما مل تصبح ضريبة الزمة عليهم.
19
فقال عمر :أنخذها منهم ونردها على عبيدهم ،مبعىن انه أخذ زكاة اخليل وفرض لكل فرس
ديناراً ،وأعطى عبيدهم من بيت مال املسلمني ،فالعبيد ليس هلم شيء؛ ألن بيت مال املسلمني
لألحرار ،ورزق بيت املال لألحرار ،والعبيد تبع لألحرار ،ف عمر فرض لعبيد هؤالء الناس من
بيت املال كأنه عوض عما أيخذ منهم يف اخليل.
واجلمهور استدلوا حبديث صحيح ،وهو قوله صلى هللا عليه وسلم( :ما من صاحب إبل ال
يؤدي زكاهتا إال إذا كان يوم القيامة بطح هلا يف قاع قرقر ،مث يؤتى ِبا وافية فتطؤه خبفافها،
وتعضه أبنياِبا حىت يقضى بني اخلالئق ،فريى مصريه إما إىل جنة ،وإما إىل انر ،وما من
صاحب غنم ال يؤدي زكاهتا إال جاءت تطؤه أبظالفها وتنطحه بقروهنا ،وما من صاحب ذهب
أو فضة مل يؤد زكاهتا إال إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من انر ،وكوي ِبا جبينه
وجنبه وظهره إىل أن يقضى بني اخلالئق -فذكر صلى هللا عليه وسلم هنا اإلبل والبقر والغنم
والذهب والفضة -فقالوا :اي رسول هللا! واخليل ما شأن صاحبها؟ قال :اخليل ثالثة :هي لرجل
أجر ،وعلى رجل وزر ،ولرجل سرت؛ أما اليت هي له أجر :فخيل ارتبطها صاحبها يف سبيل هللا،
وأما اليت هي وزر فخيل اقتناها صاحبها بطراً ورايءً).
وقيل :مسي اخليل خيالً ألن ِبا خيالء ،فانظر إىل الفرس عندما تشبع فإهنا متشي على أطراف
حوافرها وتتبخرت ،وأجود احليواانت يف الرقص والرايضيات واللعب اخليل ،وهي أشدها طرابً،
فصاحبها كذلك.
(واليت هي له سرت رجل اقتناها تغنياً) يعين :للنماء فيبيع ويستغين بنسلها وبيعها عن الناس.
فما ذكر فيها صدقة.
قال( :وال ينسى حق هللا فيها! قالوا :وما حق هللا فيها؟ قال :أال مينع فحلها عن إانث غريه،
أال مينع منقطعاً أن يركبه إىل مكانه) ،ومل يبني فيها صلى هللا عليه وسلم نصاابً وال ما يؤخذ
منها ،فقال اجلمهور :هذا دليل على أن اخليل ال زكاة فيها.
(قالوا :واحلمر اي رسول هللا! قال :مل ينزل علي فيها شيء ،إال هذه اآلية اجلامعة الفاذة{ :فَ َم ْن
ال َذ َّرةٍ َخ ْ ًريا يََره * َوَم ْن يَ ْع َم ْل ِمثْ َق َ
ال َذ َّرةٍ َشًّرا يََره} [الزلزلة ) ]8-7:إذاً :رد ذلك يَ ْع َم ْل ِمثْ َق َ
إىل صاحبها ،إن فعل فيها خرياً فله ،وإن كان عكس ذلك فالعكس.
20
إذاً :الصديق رضي هللا تعاىل عنه ذكر أنصباء اإلبل ،وذكر أنصباء الغنم ،وجاءت أنصباء البقر
يف غري هذا الكتاب ،ومل أيت للخيل وال للربذون وال للحمار ذكر يف أنصاب الزكاة ،وعلى
هذا فجمهور العلماء على أن الزكاة يف ِبيمة األنعام مقصورة على تلك األصناف الثالثة ،وأن
األصناف الثالثة األخرى ال زكاة فيها :اخليل والرباذين واحلمار.
زكاة النقدين
مث انتقل الكتاب إىل صنف آخر من أصناف األموال الزكوية ،وهي الرقة ،أي :الفضة قال
َح َد ُك ْم بَِوِرقِ ُك ْم} [الكهف ]19:فالورق مبعىن الفضة والذهب.
تعاىل{ :فَابْ َعثُوا أ َ
قوله( :ويف الرقة يف مائيت درهم ربع العشر ،فإن مل تكن إال تسعني ومائة فليس فيها صدقة إال
أن يشاء رِبا) .
هذا جزء من مبحث زكاة الذهب والفضة اقتصر فيه على الفضة ،وهي كجملة معرتضة بني
أحكام اإلبل؛ ألنه بقي من أحكام زكاة اإلبل ما لو مل توجد العني املطلوبة يف عدد اإلبل عند
صاحبها ،فإنه يتقاص هو والعامل على ما سيأيت إن شاء هللا.
وهنا يقول :يف كل مائيت درهم ربع العشر ،فإذا كانت مائة وتسعني ،فال زكاة فيها ،ألهنا تنقص
عن النصاب عشرة ،وإذا كانت تنقص واحداً أو اثنني ف مالك يقول :هذا شيء قليل فال يؤثر،
وفيها زكاة.
واجلمهور يقولون :احلد مائتان ،فإن لغة األرقام ليس فيها تقريب ،ومفهوم املخالفة أن ما دون
املائتني ولو بواحد ال زكاة فيه.
وابملناسبة هنا :فالفضة توزن ابلدرهم وتصك عملة ابلدرهم ،فالدرهم يف الفضة وحدة وزن
ووحدة عد ،فتقول :ميلك مائة درهم.
يعين :نقوداً ،أو ميلك مائة درهم.
يعين :سبيكة تزن مائيت درهم.
والذهب وحدة وزنه املثقال ،واملثقال أيضاً وحدة وزن ووحدة عد؛ فالدينار :اسم للنقد،
واملثقال :اسم للوزن ،والدينار واملثقال شيء واحد.
واملائتا درهم قد تكون دراهم على حدة ،وقد تكون دراهم جتمع يف القطعة الواحدة ،فمثالً:
الرايل السعودي :كان ثالثة دراهم وثالثة أرابع ،الرايل الفرنسي كان برايلني سعودي ،وقد
21
توجد القطعة النقدية من الرايل والروبية غري هذا على حسب اصطالحات البالد كم يف هذه
القطعة من درهم شرعي ،فإذا اجتمع عندهم من الرايالت ما يعادل املائيت درهم من الفضة،
وهو ابلرايل السعودي ستة ومخسون رايالً فيكون قد وجد عنده نصاب ،فتجب عليه فيه زكاهتا،
أي :زكاة الفضة يف هذا النصاب ،فإذا حال عليه احلول أخرج ربع العشر ،أي. )%2.5( :
التقايض بني املالك واملصدق إذا مل يوجد السن املطلوب إخراجه
قال( :ومن بلغت عنده من اإلبل صدقة اجلذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإهنا تقبل
منه ،وجيعل معها شاتني إن استيسرَت له ،أو عشرين درمهاً ،ومن بلغت عنده صدقة احلقة
وليست عنده احلقة وعنده اجلذعة ،فإهنا تقبل منه اجلذعة ،ويعطي املصدق عشرين درمهاً أو
شاتني) .
بني هنا أوضاع اإلبل وظروف املالك فيما إذا مل تتح الفرصة لوجود ما جيب عليه من الزكاة،
فإذا كان عنده من عدد اإلبل ما جتب فيه احلقة ،ومل توجد عنده هذه احلقة وكانت عنده
جذعة ،واجلذعة :أكرب منها بسنة ،فهي أكثر قيمة ،وتؤخذ يف العدد األكثر.
فإذا وجدت عند من وجبت عليه احلقة جذعةٌ فإهنا تؤخذ منه ،ويعوض عن الزائد يف احلقة
شاتني أو عشرين درمهاً يدفعها إليه املصدق ،أي :العامل الذي جاء ليأخذ الصدقة.
وكذلك العكس :إذا وجبت عليه يف إبله جذعة ،ومل توجد هذه اجلذعة -واجلذعة :هي اليت
جذعت سنَّيها األماميني -ووجدت عنده حقة ،احلقة أقل قيمة من اجلذعة ،فيدفعها صاحب
اإلبل ،ويدفع معها جرباً للنقصان عن اجلذعة شاتني أو عشرين درمهاً.
وهكذا يف مجيع ما يؤخذ يف زكاة اإلبل كما بوب البخاري رمحه هللا :من وجبت عليه بنت
خماض ووجدت عنده بنت لبون فإنه يدفع بنت اللبون ،وأيخذ فرقاً عن بنت اللبون وبنت
املخاض شاتني أو عشرين درمهاً من العامل ،أو ابلعكس :أبن وجدت عنده من اإلبل ما فيها
بنت لبون ،لكنه ال يوجد يف إبله بنت لبون ،وفيها بنت خماض ،فإنه يدفع بنت املخاض،
ويدفع معها جرباانً للنقص عن بنت اللبون شاتني أو عشرين درمهاً.
هكذا يقول اجلمهور بناء على منطوق هذا احلديث يف هذا الكتاب.
وبعض العلماء من غري األئمة األربعة يقول :ليس هناك تقييد ابلشاتني والدراهم ،ولكن ينظر
حبسب كل وقت كم فرق ما بني بنت املخاض وبنت اللبون؟ فيقدر ويدفع يف الفرق بدالً من
22
الشاتني وبدالً من العشرين درمهاً؛ ألن قيمة الشياه وتقدير الدراهم ختتلف ابختالف الزمان
واملكان.
كتاب الزكاة -مقدمة كتاب الزكاة
زكاة البقر اثبتة يف السنة ابلنصوص الصحيحة ،وهي من األنعام اليت خترج منها الزكاة ،ومن
مساحة الشارع أنه أمر العامل أال أيخذ الزكاة إال يف األنعام على مياهها ،واختلف العلماء يف
زكاة اخليل ،وقد ذكر الشيخ خالفهم وبني أدلتهم.
حديث معاذ بن جبل يف زكاة البقر
يقول املصنف رمحه هللا[ :وعن معاذ بن جبل رضي هللا عنه( :أن النيب صلى هللا عليه وسلم
بعثه إىل اليمن ،فأمره أن أيخذ من كل ثالثني بقرة تبيعاً أو تبيعة ،ومن كل أربعني مسنة ،ومن
كل حامل ديناراً أو عدله معافرايً) رواه اخلمسة ،واللفظ ل أمحد ،وحسنه الرتمذي وأشار إىل
اختالف يف وصله ،وصححه ابن حبان واحلاكم] .
انتقل املؤلف رمحه هللا تعاىل بعد بيان أنصباء اإلبل والغنم والفضة إىل زكاة البقر ،وهذا احلديث
الذي انقش املؤلف سنده يف وصله ويف انقطاعه ذكره البخاري رمحه هللا تعاىل تعليقاً بصيغة
اجلزم ،وذكر البخاري إايه يغين عن مناقشة السند.
إذاً :احلديث يف زكاة البقر اثبت؛ ألن بعض املتأخرين إَّنا يطعن يف زكاة البقر ،وقد جاء يف
احلديث الصحيح الذي ال مطعن فيه( :ما من صاحب إبل وال بقر وال غنم ال يؤدي زكاهتا
إال إذا كان يوم القيامة بطح هلا بقاع قرقر ،وجيء ِبا أوفر ما تكون وأمسن ،فتطؤه أبظالفها
وتنطحه بقروهنا ،كلما مر عليه أخراها أعيد عليه أوالها حىت يقضى بني الناس ،فريى مصريه
إما إىل جنة وإما إىل انر) وهذا احلديث يرويه البخاري يف صحيحه.
إذاً زكاة البقر ثبتت ابلنصوص ،سواء هذا النص الذي معنا عن معاذ رضي هللا تعاىل عنه ،أو
النصوص األخرى اليت ساقها البخاري رمحه هللا.
أما يف نصاِبا وما يؤخذ منها فلم يقع يف ذلك اختالف إال ما روي عن بعض األحناف،
حيث جعلوها كاإلبل يف كل مخس شاة ،ولكن اجلمهور على هذا احلديث وأن من امتلك
البقر ففي كل ثالثني تبيع أو تبيعة.
23
والتبيع :الذي يتبع أمه ،والتبيعة كذلك يف سنه ،أي :ذكراً كان أو أنثى يف هذه السنة ،فهو
جيزئ يف الثالثني رأساً من البقر.
ويف كل أربعني مسنة ،وإىل هذا ينتهي نصاب البقر.
بني األربعني واخلمسني من البقر عشرة رءوس ،فهل فيها زكاة؟ واجلواب :أن هذا وقص ،كما
بني اخلمس واخلمس من اإلبل ،فاخلمس من اإلبل فيها شاة واحدة ،وهي للخمس األوىل،
فإذا كملت عشر من اإلبل ففيها شاَتن ،إىل اثين عشر وأربعة عشر من اإلبل وليس فيها إال
الشاَتن.
إذاً :ما بني النصاب والنصاب يف اإلبل والغنم والبقر وقص ال حصة للزكاة فيه.
مقدار اجلزية اليت تؤخذ من أهل الكتاب
قال( :ومن كل حامل ديناراً أو عدله معافرايً) .
مما أوصى به النيب صلى هللا عليه وسلم ،وكلف معاذاً أن حيصله( :على كل حامل دينار -يف
السنة -أو عدل ذلك معافرايً) ،واملعافري :ثياب تنسب إىل بلدة معافر ،وهي معروفة يف
اليمن ،كانت مشهورة ببعض الثياب يف اجلودة.
واحلامل :هو الذي بلغ سن احللم ،سواء احتلم أو مل حيتلم ،كما جاء عنه صلى هللا عليه وسلم:
(ال يقبل هللا صالة حائض بغري مخار) فاحلائض :الفتاة اليت بلغت سن احليض سواء أَتها
احليض أو أتخر عنها ،أي :من بلغ سن التكليف ،إذاً :ما دون ذلك من األطفال والصبيان
ال شيء عليه ،وكذلك النساء.
فقوله( :على كل حامل) أي :حمتلم بلغ سن التكليف يف اإلسالم ومل يكن أسلم ،فعليه يف اجلزية
سنوايً دينار أو عدل ذلك الدينار ثياب من هذا النوع املعروف املشهور ابملعافري.
وهنا نفهم من هذا احلديث أن معاذاً رضي هللا تعاىل عنه ملا أتى إىل اليمن -وهم أهل كتاب-
أن البعض استجاب له فأسلم وصلى وصام وزكى ،والبعض بقي على ما كان عليه يف اليهودية،
{ح َّىت يُ ْعطُوا
ومن بقي على دينه فإن اإلسالم يقره على ذلك مع دفع اجلزية سنوايً ،قال تعاىلَ :
اغ ُرو َن} [التوبة. ]29:اجلِزيةَ عن ي ٍد وهم ص ِ
ْ َْ َ ْ َ َ ُ ْ َ
24
قالوا(( :عن يد)) :إن كل إنسان لزمته اجلزية يذهب ِبا بشخصه ولو كان أمري قومه ،ويدفعها
للعامل يداً بيد ،ال أن يبعث ِبا خادمه أو جاره أو ولده فالبد أن يرى تلك الصورة ،لعله فيما
بعد يشمئز منها ،أو يتثاقل منها ويرى أن اإلسالم عزة له فريجع إىل اإلسالم.
ف معاذ رضي هللا تعاىل عنه كان أمرياً وقاضياً ،وكان مزكياً وجابياً للجزية ،ويف هذا احلديث جمال
للعلماء يف أخذ العروض يف الزكاة ،ولفظ هذا احلديث قد اختلف فيه ،ملا قيل ل معاذ( :خذ
من كل حامل ديناراً -أي :جزية -أو عدل ذلك ثياابً) عروض ،فتوسع بعض العلماء وقال:
ميكن أن يؤخذ يف اجلزية أي قيمة للدينار ،فاحلد الرمسي دينار ،فإذا رأى اجلايب املصلحة يف
غري الدراهم ختفيفاً على أهل اجلزية ،أو مصلحة للمسلمني الذين ستوزع عليهم تلك األموال،
فال مانع.
أخذ العروض يف الزكاة بدالً عن الواجب
وجاء عن معاذ رضي هللا تعاىل عنه( :ائتوين من الثياب اللبيس واخلميص -أو اخلميس -فإنه
أرفق بكم ،وأنفع ألصحاب حممد صلى هللا عليه وسلم) .
فبعض العلماء حيمل هذا على الصدقة ،وبعضهم حيمله على اجلزية ،فمن محله على الصدقة
قال :جيوز أخذ العروض عن الصدقة بدل املال؛ ألن هذه معاوضة بلباس بدل ما وجب يف
الصدقة.
وجييب الذين مينعون أخذ العروض يف الصدقة أبن األصل أن يقبض الزكاة ،فإذا قبض الزكاة
من اإلبل أو من البقر أو من الغنم ،ورأى أن سوقها من اليمن إىل املدينة كلفة ومشقة ،وخاف
عليها أخطار الطريق من عطش وتكسر وموت ،ورأى أن يستبدل بدالً منها ثياابً ،فال مانع
من ذلك؛ ألنه يكون قد استلم الواجب الشرعي من اإلبل أو من البقر أو من الغنم ،وبصفته
مفوض ،وهو أمني موكل إليه أن يعمل ملصلحة الفقراء واملساكني؛ فله أن يستبدهلا بعدما
حصلها من أصحاِبا على الوجه املشروع.
فعلى رواية( :يف الصدقة) يكون قد أخذ الصدقة من أعياهنا وأجناسها ،مث استبدهلا بعد ذلك
من جديد بعد أن دخلت يف عهدته.
أما رواية( :يف اجلزية) فال عالقة هلا ابلزكاة ،وال دخل هلا يف موضوع أخذ العروض أو القيمة
فيما وجب من الزكاة.
25
املكان الذي تؤخذ فيه زكاة األنعام
[وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي هللا عنهما قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم( :تؤخذ صدقات املسلمني على مياههم) رواه أمحد.
ول أيب داود أيضاً( :ال تؤخذ صدقاهتم إال يف دورهم) ] .
يبني املؤلف رمحه هللا بعدما انتهى من أنصباء زكاة ِبيمة األنعام -اإلبل والبقر والغنم -كيف
أنخذها؟ وكيف يؤدوهنا؟ فقال( :تؤخذ صدقات املسلمني على مياههم يف دورهم) ،فمثالً:
العاصمة هي املدينة ،وهناك منطقة سورابيااي ،وابيل ،وسومطره ،وهناك مناطق يف أطراف البالد،
فهل جيب على أصحاب األموال يف أي مكان أن يسوقوا زكاة أمواهلم إىل املدينة ويسلموها
للمسئول عنها ،أم أن ويل األمر يف املدينة يبعث إىل تلك األقطار النائية واألماكن البعيدة من
يستلم منهم وأييت ِبا إىل املدينة؟ أعتقد أنه لو كلف املسلمون يف أماكنهم أن أيتوا بزكاة أمواهلم
إىل املدينة لكانت مشقة عظيمة ،فمن كان عنده مخس من اإلبل فيحتاج أن أييت بشاة من
جيزان إىل املدينة! وهذه مشقة كبرية ،ولكن تؤخذ زكاهتم على مياههم ،أيخذها العامل.
وهلذا كان صلى هللا عليه وسلم يبعث العمال إىل أماكن تواجد ِبيمة األنعام ،فيقف عند املياه؛
ألن أصحاب ِبيمة األنعام سيوردوهنا املاء ،ليس الزماً أن يتتبعهم يف خيامهم ومبيتهم ،فمثالً
إذا جاء إىل منطقة ،ولنقدر -مثالً -منطقة العوايل مبكة ،أو منطقة قباء ابملدينة ،أو غريها،
وهناك اآلابر أو الغدران أو العيون اليت هي موارد اإلبل والبقر والغنم للسقي ،فيأيت إىل ماء بين
فالن ،وهناك ينتظر :فإذا جاء الراعي إببل فيعدها ،مث أيخذ الواجب فيها.
وعامل الزكاة ال أييت منفرداً ،بل معه من يساعده ،وهم الذين يسوقون األنعام اليت جتمع ،ومعه
الكتاب الذين حيصون ويعدون ،ومعه من خيدمه.
فإذا أخذ من هذا بنت خماض ،وأخذ من ذاك بنت لبون ،أصبح عنده مراح من اإلبل ابسم
الصدقة ،ويتوىل سوقها ورعايتها من معه من األعوان.
إذاً :أخذ زكاة األموال تكون من أصحاِبا على مياهها ،ومل يكلفهم الذهاب واجمليء ِبا إىل
املدينة؛ رفقاً أبصحاب األموال.
وهنا يذكر العلماء حق هذا العامل ،وواجب أصحاب األموال يف التعامل معه ،فنجد التعليم
اإلسالمي يتناول العامل وصاحب املال ،وكل منهما يوقفه عند الواجب الذي عليه ،فتقدم لنا
26
يف قضية معاذ( :وإايك وكرائم أمواهلم!) فيوصي العامل أبن يكون عادالً رفيقاً ،وال يظلم
أصحاب األموال أبن أيخذ كرائم أمواهلم ،وال أيخذ التيس إال أن يرضى صاحبه ،وكان فيه
مصلحة ،وال أيخذه رغماً عن صاحب الغنم؛ ألنه قد ال يكون يف الغنم إال هذا التيس فيعطلها.
إذاً :الشارع احلكيم أوصى العامل ابإلرفاق أبصحاب األموال ،ومن جانب آخر أوصى
أصحاب األموال كما جاء يف بعض الرواايت( :إنه قد أيتيكم من تكرهوهنم) وهم العمال الذين
أيخذون األموال ،فالناس ال يريدوهنم أن أيتوا ولكن أيتوهنم غصباً عنهم ،إال املؤمن فهو يدفع
ذلك طواعية لوجه هللا ،فقال( :أيتيكم من تكرهوهنم فأرضوهم) أي :ال يذهبون عنكم إال وهم
راضون ،ومىت ترضوهنم؟ إذا كنتم معهم أمناء يف العدد ،فال ختفون شيئاً من الغنم وراء احلجر
أو وراء الشجر ،وال تدعون اخللطة بغري اخللطة ،وال تدعون الفرقة بغري فرقة خشية الصدقة -
كما تقدم -فأوصى أصحاب األموال أن حيسنوا معاملة العمال وأن يكسبوا رضاهم.
جاء بعض األشخاص إىل الرسول صلى هللا عليه وسلم وقالوا( :اي رسول هللا! أيتينا عمال
فيظلموننا ،قال :أرضوهم ،وما حتمل فإمثه عليه ،لكم أجركم وعليهم وزرهم) وهنا يقال :إذا
علمت أن العامل ظامل ،فاألمر بني حالتني :إما أن يقع اجتهاد من العامل يف أداء األمانة،
فهو مصدق ومقدم.
وإما أن يكون معتدايً اعتداء صرحياً ،كأن جاء إىل كرائم األموال وأخذها ،أو جاء وعدها
فوجدها مخساً وعشرين ،فقال :هذه ثالثون ،هذه مخسة وثالثون.
فزاد على صاحب املال فيما يتعلق مبا جيب عليه ،وهذا قل أن يكون.
وتقدمت لنا قصة الرجل الذي وجد العامل عنده مخساً وعشرين من اإلبل ،وقال له :زكاة
مالك بنت خماض.
فقال الرجل :بنت خماض ال ظهر فريكب وال ضرع فيحلب ،ولكن هذه انقة كوماء فخذها.
فأراد صاحب املال أن يدفع أكثر مما عليه ،فقال العامل :ال أستطيع أن آخذها؛ ألهنا مل جتب،
وأان ممنوع من الظلم ومن التعدي ،فإن كنت ال حمالة فاعالً فدونك رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم ابملدينة ،فخذ ِبا إليه.
فيأيت الرجل ويعرض على الرسول صلى هللا عليه وسلم فيسأله( :أتعطيها عن طيب نفس؟
قال :بلى اي رسول هللا.
27
فقال للعامل :خذها ،وقال له :ابرك هللا لك يف إبلك) فعاش إىل زمن معاوية رضي هللا تعاىل
عنه ،وكان خيرج العشرات من اإلبل يف زكاة إبله.
فهنا :العامل ميتنع أن أيخذ أكثر مما وجب عليه ،وهذا هو املظنون يف األمناء الذين يبعثهم
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،وكما وقع أيضاً ل ابن رواحة مع أهل خيرب ملا ذهب ليخرص
عليهم خنيلهم ،فجمعوا له من حلي النساء رشوة ،فسبهم وقال :إن هذا سحت ،وهللا لقد
جئت من عند أحب الناس إيل ،وألنتم أبغض الناس عندي ،وما حب رسول هللا وال بغضكم
حباملي على أن أحيف عليكم ،إين قاسم ،فإن شئتم فخذوا ،وإن شئتم فدعوا.
يعين :إن شئتم أخذمت النخيل وسلمتم ما وجب عليكم فيما أقسمه ،وإن شئتم رفعتم أيديكم
وأان أعطيكم ما قسمت ،قالواِ :بذا قامت السماوات واألرض.
الذي يهمنا أن الصدقة يف ِبيمة األنعام تؤخذ على مياهها ،أي :موردها من املاء ،ويف مواطنها،
وال يكلفون اجمليء ِبا إىل املدينة أو إىل عاصمة الدولة اليت تقوم جبمع الزكاة؛ ألن يف هذا
مشقة عليهم.
زكاة اخليل والرد على من أوجبها
[وعن أيب هريرة رضي هللا عنه قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم( :ليس على املسلم يف
عبده وال فرسه صدقة) رواه البخاري ،ول مسلم( :ليس للعبد صدقة إال صدقة الفطر) ] .
انتقل املؤلف رمحه هللا إىل نوع وقع اخلالف فيه ،وهو :العبد والفرس ،وهنا احلديث يقول:
(ليس على املسلم يف عبده وال فرسه صدقة) .
فرس :نكرة أضيف إىل الضمري ،وبعض العلماء يقول :إذا أضيفت النكرة إىل معرفة فهي عامة،
اَّللِ} [إبراهيم ]34:ف (نعمة) نكرة
{وإِ ْن تَعُ ُّدوا نِ ْع َمةَ َّ
وتدل على اجلمع ،كما يف قوله سبحانهَ :
أضيفت إىل املعرفة (هللا) ،فلو كانت مفردة ما احتاجت إىل إحصاء ،ولكن دلت على العموم
والشمول ملا أضيفت إىل املعرفة.
فقالوا( :فرسه) يعم جنس الفرس وليس رأساً واحداً ،إذاً :ليس على املسلم يف جنس اخليل
صدقة ،وال يف جنس العبيد صدقة.
وهنا موضع خالف يورده العلماء ،واحلديث أورده البخاري ،ويف بعض الرواايت( :وال يف
غالمه) وجيمعون على أن فرس اخلدمة وعبد اخلدمة ال زكاة فيهما ،إال زكاة الفطر يف العبد؛
28
ألن زكاة الفطر على الكبري والصغري واحلر والعبد ،وكل من تلزمك نفقته ،وحنن اآلن يف الكالم
على زكاة املال.
فبعض العلماء يقول :ال زكاة يف اخليل مطلقاً حىت لو كانت للتجارة كما يقوله ابن حزم،
واجلمهور يقولون :إذا كانت اخليل للنسل والنماء فال زكاة فيها ،وإن كانت لعروض التجارة
كإنسان يتاجر يف اخليل ،فيبيع ويشرتي فيها؛ فالزكاة يف قيمتها مثل عروض التجارة ،وكذلك
الرقيق ،لو كان يتاجر يف الرقيق فعليه زكاة جتارهتا ،أي :تقدر فيمتها ويدفع زكاهتا من قيمتها،
أما أن تتخذ للقنية أو للتناسل فال زكاة فيها.
واإلمام أبو حنيفة رمحه هللا اعترب اخليل من الدواب اليت تزكى ،وجاء يف بعض اآلاثر -ويتفق
العلماء على ضعفها -أن على الفرس ديناراً أو عشرة دراهم.
ويقول اجلمهور :كتاب أيب بكر رضي هللا تعاىل عنه والكتب األخرى اليت جاءت يف أنصباء
الزكاة ال يوجد منها كتاب واحد ذكر اخليل.
ويذكرون أيضاً يف هذا الباب أنه ملا ذكر النيب صلى هللا عليه وسلم( :ما من صاحب إبل وال
بقر وال غنم ال يؤدي زكاهتا إال إذا كان يوم القيامة بطح هلا ) ...إخل -كما تقدم -فلم يذكر
اخليل ،فسألوا النيب صلى هللا عليه وسلم( :واخليل اي رسول هللا؟ فقال :اخليل ثالث :خيل
لصاحبها سرت ،وخيل لصاحبها وزر ،وخيل لصاحبها أجر ) ...فقالوا :هذا رد على من سأل
عن سبب عدم ذكر اخليل مع اإلبل والبقر والغنم.
وجاء يف موضوعها يف زمن عمر رضي هللا تعاىل عنه أن قوماً أصابوا خيالً ،فجاءوا إليه وقالوا:
أصبنا خيالً وعبيداً ،نريد أن أتخذ زكاهتا طهرةً.
فقال( :كيف آخذ منها زكاة وصاحباي قبل مل أيخذوها؟) يعين :رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم وأاب بكر.
مث شاور من عنده حىت سأل علياً فقال( :خذ منهم مادام أهنم أتوا ِبا طواعية) وقال( :ال مانع
ما مل تصبح عليهم ضريبة أو جزية تكون الزمة عليهم من بعدك) أي :أن أييت من بعده :عمر
أخذ منهم ،فيلزمهم بدفعها ،واملبدأ كان اختياراً.
29
إذاً :عمر امتنع أوالً ومل يكن ميتنع إال على ما هو ممنوع زكاته ،مث شاور أصحابه وشاور علياً،
وأفاد علي ِبذا اجلواب ،إذاً :فال زكاة يف اخليل ،اللهم إال إذا أصبحت عروض جتارة للبيع
والربح والنماء فال مانع.
وعند اإلمام أيب حنيفة رمحه هللا :أنه ال زكاة يف اخليل إال إذا كانت للتناسل والتكاثر ،أما إذا
امتلك جمموعة من اخليل كلها ذكور ،أو جمموعة من اخليل كلها إانث؛ فال زكاة فيها عنده؛
ألن الذكور وحدها ال تنمو وال تزيد ،واإلانث وحدها ال تنمو وال تزيد ،أما إذا كانت ذكوراً
وإاناثً وتنتج وتنمو وتزيد ،فقال :الزكاة تبع للنماء ،فتزكي.
كتاب الزكاة -مقدمة كتاب الزكاة
جتب الزكاة يف النقدين الذهب والفضة إذا بلغا النصاب وحال عليهما احلول ،ومن منع الزكاة
فقد مسح الشارع لويل أمر املسلمني أن أيخذها منه قهراً وزايدة أتديباً على االمتناع ،وإن كانوا
كثريين وذوو منعة قاتلهم اإلمام.
شرح حديث ِبز بن حكيم يف عقوبة مانع الزكاة
يقول املصنف رمحه هللا[ :وعن ِبز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي هللا عنهم قال :قال
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم( :يف كل سائمة إبل يف أربعني بنت لبون ،ال تفرق إبل عن
حساِبا ،من أعطاها مؤجتراً ِبا فله أجرها ،ومن منعها فإان آخذوها وشطر ماله ،عزمة من
عزمات ربنا ،ال حيل آلل حممد منها شيء) رواه أمحد وأبو داود والنسائي ،وصححه احلاكم،
وعلق الشافعي القول به على ثبوته] .
زكاة الذهب والفضة
قال املؤلف رمحه هللا[ :وعن علي رضي هللا تعاىل عنه قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:
(إذا كانت لك مائتا درهم ،وحال عليها احلول ،ففيها مخسة دراهم ،وليس عليك شيء حىت
يكون لك عشرون ديناراً وحال عليها احلول ،ففيها نصف دينار ،فما زاد فبحساب ذلك،
وليس يف مال زكاة حىت حيول عليه احلول) رواه أبو داود ،وهو حسن ،وقد اختلف يف رفعه] .
انتهى املؤلف رمحه هللا من مجيع ما يتعلق ببهيمة األنعام ،وجاء إىل النقدين :الذهب والفضة،
فذكر هذا األثر عن علي رضي هللا تعاىل عنه.
30
مث النقاش يف هذا األثر برمته أهو موقوف على علي من كالمه ،أم هو مرفوع إىل النيب صلى
هللا عليه وسلم وعلي ينقله عن رسول هللا؟ على كال احلالتني علماء احلديث يقولون :سواء كان
موقوفاً على علي أو كان مرفوعاً إىل النيب صلى هللا عليه وسلم ،فإن فله حكم الرفع ،فهو مرفوع
ابلفعل أو له حكم الرفع.
قالوا :ألن فيه الكالم على تشريع يف ركن أساسي ،وبيان أنصباء األموال وما جيب فيها ،وليس
هذا حمل اجتهاد ،فال يتأتى ل علي وال لغريه أن يتكلم يف هذا اجملال من عنده ،واحلق يف ذلك
ين الزَكاةَ} [البقرة ]43:وقال تعاىلِ َّ : الصالةَ َوآتُوا َّ أنه بيان جململ يف كتاب هللاِ :
{والذ َ
َ يموا َّ
{وأَق ُ
َ
اب أَلِي ٍم} [التوبة ، ]34:فمن
اَّللِ فَب ِنشرُهم بِع َذ ٍ
وهنَا ِيف َسبِ ِيل َّ َ ْ ْ َ ضةَ َوال يُ ِنف ُق َ
ب َوالْ ِف َّ يَكْنُِزو َن َّ
الذ َه َ
الذي يبني هلم الزكاة حىت ال تكون كنزاً ،ويسلمون من أن تكوى ِبا جباههم وظهورهم؟ ال
يكون ذلك إال لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم.
إذاً :ال حاجة إىل البحث يف سند احلديث مادام أنه صح عن علي رضي هللا تعاىل عنه ،فهو
إن كان موقوفاً عليه فله حكم الرفع ،وإن كان قد رفعه إىل الرسول صلى هللا عليه وسلم فهو
املطلوب.
البقر العوامل ال زكاة فيها
قال املؤلف[ :وعن علي رضي هللا تعاىل عنه قال( :ليس يف البقر العوامل صدقة) رواه أبو داود
والدارقطين ،والراجح وقفه أيضاً] .
تقدم الكالم على أنصباء البقر وأنه يف كل ثالثني تبيع ،ويف كل أربعني مسنة ،وهذا مطلق يف
عموم البقر ،فجاء املؤلف أبثر علي رضي هللا تعاىل عنه ليقيد ذاك العموم وهو قوله( :ليس يف
البقر العوامل صدقة) ،أي :يف كل أربعني تبيع إذا مل تكن عوامل.
والبقر العوامل جاء األثر أهنا اليت تثري األرض ،أي :تستخدم يف احلرث للزراعة ،وقد تستخدم
يف جر العرابت أو يف السواين -أي :يف نضح املاء -إىل غري ذلك ،وذلك أن عمل البقر فيما
يتعلق ابلزراعة سيرتتب عليه مثرة ،وهي إما مثرة الشجر كنخل وعنب وزيتون ،وإما حب ذرة
وشعري وغريه على ما سيأيت تفصيله إن شاء هللا.
وإذا كان ما تعمله البقر ستؤخذ زكاته يوم حصاده فال يتأتى أن تؤخذ زكاة احلبوب أو الثمار
الناشئ عن عمل البقر ،مث تؤخذ الزكاة من البقر الذي نشأ عن عمله تلك الثمار أو الزروع،
31
وهو ما يسمى يعرب عنه بعض املعاصرين بقوهلم( :ال ثنية يف الزكاة) يعين :ال تؤخذ الزكاة من
مال مرتني.
وكونه يقول( :موقوف على علي) .
تقدم التنبيه على مثل ذلك املوقوف أنه تشريع ،والتشريع ال يكون ابالجتهاد وال ابلرأي ،فله
حكم الرفع ،وعليه يكون علياً رضي هللا تعاىل عنه قد مسع ذلك من الرسول صلى هللا عليه
وسلم ،وذكر ما مسعه دون أن يسند إىل النيب صلى هللا عليه وسلم ،وتقدم هذا يف عدة أحاديث
يف ابب الزكاة.
ونذكر اإلخوة أبن علياً رضي هللا تعاىل عنه كانت عنده صحيفة ،فلما سئل( :هل خصكم
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم آل البيت بشيء من العلم دون الناس؟ -هل أعطاكم علماً مل
يعطه ألحد غريكم؟ قال :ال؛ إال فهم أوتيه رجل يف كتاب هللا ،وما يف هذه الصحيفة.
قالوا :وما فيها؟ قال :أنصباء الزكاة ،والعقل ،وفكاك األسري) .
إذاً :علي رضي هللا تعاىل عنه كانت عنده صحيفة كما كتب أبو بكر رضي هللا تعاىل عنه ل
أنس الكتاب الذي َّبني فيه أنصباء الزكاة ،وما كانت كتابة أيب بكر عن رأيه هو ،ولكنه عن
مساع مسعه من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم؛ ألن إجياب الزكاة فريضة ،وإسقاطها يكون
إسقاطاً للحق.
فكون علي رضي هللا تعاىل عنه يقول( :ليس يف البقر العوامل زكاة) فيه إسقاط حق الفقراء يف
{وِيف أ َْم َواهلِِ ْم َح ٌّق
هذه األبقار ،وعلي ال ميلك أن يسقط حقاً أوجبه هللا يف قوله سبحانهَ :
لسائِ ِل َوالْ َم ْح ُر ِوم} [الذارايت ]19:إذاً :علي لن يقول مثل ذلك إال إذا كان عن مساع من لِ َّ
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم.
وهذا احلديث وإن كان يف البقر فإنه يرد قول املالكية أبن يف اإلبل العوامل زكاة ،ووجهة نظر
مالك رمحه هللا أن اإلبل من حيث هي مال ينمو ابلتناسل ،فإذا ملك منه النصاب فعليه الزكاة،
وما كان منها من العمل ف مالك يقول :هذا العمل من هذه اإلبل زايدة منفعة لصاحبها ،فاليت
ال تعمل وال يستفيد منها إال زايدة النماء والنسل فيها زكاة ،فمن ابب أوىل إذا كان فيها النماء
والنسل ومع ذلك تعمل ،فعملها زايدة فائدة ،ففيها الزكاة.
32
ولكن اجلمهور -كما أشران -مل أيخذوا من اإلبل وال من البقر العوامل زكاة؛ ألن عملها
سيرتتب عليه فائدة فتؤخذ الزكاة من تلك الفائدة ،فال نعود عليها أبن أنخذ زكاهتا مرة أخرى،
اللهم إال أن تكون عروض جتارة ،كأن يتاجر يف اإلبل ويشغلها ،ويتاجر يف البقر ويُعملها،
فخرجت عن زكاة ِبيمة األنعام أبنصبائها :ثالثني وأربعني وغريها ،وخرجت عما خيرج فيها من
تبيع ومسنة ،وعن بنت خماض وبنت لبون ،ودخلت يف عروض التجارة ،فتقدر قيمتها ،وخيرج
من جمموع القيمة قدر (.2
، )%5وليس فيها وقص كما يف أصل ِبيمة األنعام ،بل تعامل معاملة عروض التجارة.
كتاب الزكاة -مقدمة كتاب الزكاة
لقد أرشد النيب صلى هللا عليه وسلم إىل الرفق ابليتيم واإلحسان إليه حىت يف ماله ،أبن يتاجر
له فيه حىت ال أتكل ماله الزكاة ،وللعلماء خالف يف مسألة إخراج الزكاة من ماله قبل البلوغ.
كما جاء اخلالف يف صحة إخراج الزكاة قبل حلول احلول فيها ،وهو ما فعله النيب صلى هللا
عليه وسلم مع عمه العباس.
وجوب الزكاة يف مال اليتيم وما يتعلق بذلك
بسم هللا الرمحن الرحيم احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم على سيدان حممد وعلى آله
وصحبه أمجعني.
وبعد :فيقول املصنف رمحه هللا[ :وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد هللا بن
عمرو رضي هللا عنهما :أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال( :من ويل يتيماً له مال فليتجر
له ،وال يرتكه حىت أتكله الصدقة) ] .
هذه القضية وقع اخلالف فيها بني اإلمام أيب حنيفة رمحه هللا وبني األئمة الثالثة :مالك
والشافعي وأمحد.
فإذا كان املال إلنسان كبري ابلغ رشيد مكلف فإن من أركان اإلسالم أن يؤدي زكاة ماله ،أما
إذا كان املال ليتيم ،أي :لصيب قاصر عن سن احلُلُم ،واليتيم :هو من تويف أبوه قبل بلوغه،
واليتيم يف احليواانت :من توفيت أمه ،واليتيم يف الطيور :من تويف أبوه وأمه.
وإذا كان الطفل يتيماً فال بد أن يقام عليه ويل يرعى شئونه ،ويدبر حاله من تعليمه ،واحلرص
على ماله إن كان له مال ،وتنميته ومراعاته حىت ال يضيع.
33
فيتيم ورث عن أبيه ماالً ،هذا املال فيه زكاة ،واملال الزكوي على قسمني :مال خفي :وهو ما
يتعلق ابلنقد من الذهب والفضة ،واألوراق النقدية يف الوقت احلاضر.
ومال ظاهر :وهو ِبيمة األنعام والزروع.
فاملال اخلفي يقول اجلمهور :فيه زكاة.
واإلمام أبو حنيفة رمحه هللا يقول :ال زكاة عليه حال يتمه ،ولكنه إذا بلغ ورشد واستلم ماله
من الوصي زكاه.
الصالة على خمرجي الزكاة والدعاء هلم
قال املؤلف[ :وعن عبد هللا بن أيب أوىف قال( :كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إذا أَته
قوم بصدقتهم قال :اللهم صل عليهم) متفق عليه] .
ِ هذه القضية ،وهي الصالة على غري األنبياء ،جاء يف النص القرآين الكرمي{ :إِ َّن َّ
اَّللَ َوَمالئ َكتَهُ
ِ ِ ِ َّ ِ
يما} [األحزاب. ]56: صلُّوا َعلَْيه َو َسلن ُموا تَ ْسل ًين َآمنُوا َ
َّيب َاي أَيُّ َها الذ َ صلو َن َعلَى النِ ِن
يُ َ ُّ
وهنا أنه صلى هللا عليه وسلم كان عندما أيتيه قوم بزكاهتم ،سواء كانوا من أهل املدينة أو من
خارجها يصلي عليهم؛ ألننا عرفنا القاعدة :أن ِبيمة األنعام تؤخذ زكاهتا على مياههم هناك،
فإذا كانت زكاة مال أو زكاة حبوب وجاءوا ِبا إىل رسول هللا ،ودفعها إىل املسئول لتوزيعها
أخذها منهم وصلى عليهم ،اللهم صل على آل فالن ،أو اللهم صل على فالن ،أو يقول:
صلى هللا عليك.
{خ ْذ ِم ْن
وكونه صلى هللا عليه وسلم يصلي على من أتى بزكاته إليه هو امتثال منه ألمر هللاُ :
ص ِنل َعلَْي ِه ْم} [التوبة ]103:فهذا أمر من هللا لرسوله صلى ِ ِ ِِ
ص َدقَةً تُطَ ِنه ُرُه ْم َوتَُزنكي ِه ْم ِبَا َو َ
أ َْم َواهل ْم َ
هللا عليه وسلم أن يصلي عليهم عندما أيخذ منهم الزكاة.
صلُّوا َعلَْي ِه َو َسلِن ُموا تَ ْسلِيماً}
ين َآمنُوا َ
َّ ِ اَّللَ َوَمالئِ َكتَهُ يُ َ ُّ
صلو َن َعلَى النِ ِن
َّيب َاي أَيُّ َها الذ َ وهنا{ :إِ َّن َّ
[األحزاب. ]56:
حكم تقدمي الزكاة قبل حلول احلول
قال املؤلف[ :وعن علي( :أن العباس سأل النيب صلى هللا عليه وسلم يف تعجيل صدقته قبل
أن حتل ،فرخص له يف ذلك) رواه الرتمذي واحلاكم] .
34
هذه املسألة :أن العباس رضي هللا تعاىل عنه قدم إىل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم زكاة العام
احلايل ومعها زكاة العام الذي مل أيت ،فيكون قد قدم زكاة عام قبل حلول وقتها.
وقد تقدم معنا كالم علي رضي هللا تعاىل عنه( :ليس يف مال زكاة حىت حيول عليه احلول) ،
فالعام األول حال عليه احلول فنأخذها ،لكن العام الثاين مل يدخل بعد ،وال حال احلول على
املال ،فكيف أنخذ زكاة سنتني؟ وهل جيوز تقدمي الزكاة قبل كمال حوهلا ،مع أن احلول شرط
يف وجوِبا؟ فالبعض مينع مطلقاً ،ويقول :متام وجوب الزكاة بتمام احلول ،فتقدمي الزكاة قبل
احلول كتقدمي الصالة قبل وقتها ،والصالة قبل وقتها ال تصادف حمالً ،فكذلك الزكاة قبل حوهلا
ال تصادف حمالً.
واآلخرون قالوا :هذا اجتهاد وقياس ،وال اجتهاد وال قياس مع النص ،فإن هذا فعل رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم ،ولكن اختلفوا :هل العباس رضي هللا تعاىل عنه هو الذي تقدم وجاء
لرسول هللا بزكاة عامني يف وقت واحد ،أو أن النيب صلى هللا عليه وسلم هو الذي طلب من
العباس أن يقدم زكاة سنة مل أتت بعد ،أبن يدفع زكاة سنتني يف سنة حاضرة؟ اجلمهور على
أن النيب صلى هللا عليه وسلم هو الذي طلب من العباس ،وجاءت الرواية( :قد احتجنا فطلبنا
-أو فاستسلفنا -من العباس زكاة عامني) .
وهنا يقول بعض العلماء :املتوسط يف القول أنه إن وجدت حاجة عند اإلمام للمال ،وزكاة
العام ال تكفي ،فله أن يستسلف من أرابب األموال زكاة سنة متأخرة؛ ليسد ِبا احلاجة
احلاضرة ،أما يف غري وجود حاجة فليس هناك داع لتقدمي زكاة مل أيت شرطها بعد.
وعلى هذا فخرب العباس رضي هللا تعاىل عنه أبنه قدم زكاة سنة متأخرة ،ال شك فيه ،ولكن
البحث يف :هل العباس تقدم به لرسول هللا ،أو أن رسول هللا هو الذي استسلف وطلب من
العباس ،حلاجة حاضرة احتاج فيه زايدة مال؟ هذا هو األوىل واألصح.
بقينا هنا يف مسألة ميكن أن يكون لالجتهاد فيها جمال ،وهي مسألة واقعة بني الناس :وهي
أنه إذا كان هناك شخص عنده زكاة النقدين ،واعترب احلول يف رمضان ،وكل سنة من رمضان
خيرج زكاة ماله ،فجاء يف شعبان أو يف رجب ووجد بعض إخوانه يف مسيس احلاجة إىل املال،
وهو ال يريد أن يعطي من رأس املال شيئاً ،وهو عنده الزكاة ،ويعلم أبنه عند جميء احلول
سيخرج عشرة آالف رايل أو مائة ألف رايل ،فقال :هؤالء اإلخوان أو اجلريان أو األرحام يف
35
أمس احلاجة إىل الرايل ،فهل ندعهم ميوتون جوعاً حىت أييت رمضان ،أم أنه يقدم من زكاة ماله
الذي جيب يف رمضان للح اجة املوجودة اليت أدركها يف هؤالء الناس؟ اجلواب :يقدم من ماله
ويعطيهم.
املهم أنه صلى هللا عليه وسلم أخذ زكاة سنة مقدمة حلاجة ،فماذا مينعنا أن نقدم جزءاً من زكاة
مالنا عن وقته من أجل حاجة حاصلة؟ وهؤالء يف تلك احلالة االضطرارية ال شك أهنم أشد
ما يكونون حمتاجني لذلك ،وهذا مال ينتظر أوانه ،فبدالً من أن تنتظر أوانه فقد جاءت حاجته،
وأنت ما أعددته إال للفقراء واملساكني تسد به حاجتهم ،وهذه حاجة حاضرة ،فإذاً :ال أبس
يف مثل ذلك.
ويقولون عن مالك :إنه كان جييز تقدمي زكاة املال عن حوهلا إىل نصف شهر.
وعندهم يف زكاة الفطر أهنا خترج يوم العيد ما بني صالة الفجر إىل صالة العيد ،وهناك من
يقول :تقدم اليوم واليومني والثالثة.
والشافعي يقول :إذا انتصف رمضان فلك أن خترج زكاة الفطر ،فأجاز تقدميها على أكثر من
أواهنا.
على كل املسألة اجتهادية ،وأرى -وهللا تعاىل أعلم -أنه جيوز له تقدميها عن موعد حوهلا لسد
احلاجة املوجودة.
ب الزكاة -مقدمة كتاب الزكاة []7
من رمحة هللا بعباده أنه مل يوجب عليهم الزكاة إال فيما بلغ النصاب الذي هو مقياس الغىن،
وكان قد حال عليه احلول ،وقد جاء الشرع بتقدير نصاب الفضة مبائيت درهم ،لكن الكثري من
الناس جيهل مقدار ذلك خاصة بعد ترك التعامل ابلدراهم الفضية ،وشيوع العمالت الورقية،
فجاء البيان هنا للطريقة اليت يعرف ِبا نصاب الفضة ابلعمالت احلديثة املتداولة اليوم.
حديث جابر يف أنصبة الزكوايت
يقول املصنف رمحه هللا[ :وعن جابر عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال( :ليس فيما دون
مخس أواق من الورق صدقة ،وليس فيما دون مخس ذود من اإلبل صدقة ،وليس فيما دون
مخس أوسق من التمر صدقة) رواه مسلم] .
36
أتى املصنف رمحه هللا تعاىل إىل هذه املسألة ،وقد أمجعوا على أن األموال املتفق على زكاهتا
أربعة وهيِ :بيمة األنعام ،والذهب والفضة ،والزروع والثمار ،وعروض التجارة.
فهذه األجناس من حيث هي زكوية ،وخيتلف التفصيل فيها حسب نوعها وطريقة احلصول
عليها.
ويف هذا احلديث يبني لنا النيب صلى هللا عليه وسلم أن األموال الزكوية هلا أنصباء ،خبالف من
شذ وقال :كل مال يزكى وال عربة بنصاب وال حبوالن احلول! وهذا يف الواقع فيه إجحاف على
املالك؛ ألنه حيمله الزكاة على كل ما ميلكه ولو كانت له فيه حاجة.
فاشرتاط بلوغ املال الزكوي نصاابً فألنه يدل على وفرته يف يد صاحبه ،وكذلك اشرتاط احلول
يدل على استغنائه عنه حوالً كامالً ،ومن كان يف يده مال مستغن عنه ملدة سنة فال شك أنه
غين ،أما الفقري فهو إما أنه ال ميلك شيئاً ،أو إذا ملك شيئاً فإنه ال يستمر يف يده إىل حول
كامل.
ومن هنا قالوا :مشروعية الزكاة بنيت على اإلرفاق والتعاون ،فهي إرفاق ابملالك فال يكلف
الزكاة إال يف حالة غىن ،وحالة الغىن أن ميلك نصاابً من املال الزكوي يستغين عنه سنة كاملة،
وحالة اإلرفاق ابلفقري أن أيخذ جزءاً من مال الغين يستعني به ،ومن اإلرفاق ابلغين أيضاً قلة
ما يؤخذ منه يف النصاب الذي ميلكه.
نصاب الفضة
وهنا يف حديث جابر أن النيب صلى هللا عليه وسلم يقول( :ليس فيما دون مخس أواق من
الورق صدقة) ،إذاً اخلمس األواقي هي النصاب ،وما كان أقل منها فال زكاة فيه؛ ألهنا قليلة،
َح َد ُك ْم بَِوِرقِ ُك ْم َه ِذهِ} [الكهف.]19:
والورق إَّنا هو الفضة كما جاء يف قوله سبحانه{:فَابْ َعثُوا أ َ
واخلمس األواقي :مائتا درهم ،وقد جاء النص صرحياً يف مائيت درهم ،وجاء عن أم املؤمنني
عائشة رضي هللا تعاىل عنها فيما يتعلق ابلصداق يف الزواج أبن األوقية أربعون درمهاً ،ومخس
أواق يف أربعني مبائتني.
وعلى هذا يتقرر عندان أن الفضة من األموال الزكوية ،وهي من النقدين ،وأن هلا نصاابً وهو
مخس أواق ،مث اخلمس األواقي أو النصاب ال زكاة فيها حىت حيول عليها احلول ،وسيأيت النص
37
على أنه خيرج منها ربع العشر ،وربع العشر مطرد يف الذهب والفضة ،والذي يهمنا األنواع
املنصوص عليها يف هذا احلديث.
شروط زكاة الفضة
إذاً :املبدأ األساسي يف التشريع :أنه ال زكاة يف الفضة على من ميلكها إال بشرطني.
الشرط األول :بلوغ النصاب ،وهو مخس أواق ،وليس عندان اليوم أواق ،ولكن حنن نقول :هذا
املبدأ التشريعي ،واخلمس األواقي مائتا درهم؛ هذا الشرط األول.
الشرط الثاين :حوالن احلول على هذا النصاب.
ومعىن حوالن احلول :أن يستمر املبلغ نصاابً ال ينقص ،وإذا زاد فبحسابه.
ويف ابتداء احلول ننظر يف اخلمس األواقي مثالً ،فإن كان اكتسبها مرة واحدة فيبدأ حساب
احلول من يوم اكتسبها ،وإذا كان يكتسبها على دفعات كل شهر أوقية ،كأن يوفر من راتبه،
أو أيتيه دخل ما فيوفر أوقية ،فيتوفر عنده النصاب على مخسة أشهر ،فمن يوم أن اكتمل
عنده مخس أواق يبدأ احلول ،وإذا كان يف ازدايد ،وبعد اخلمسة األشهر جاءت مخس أواق
اثنية ،فأصبح عنده عشر أواق ،وبعد شهرين جاءت أوقيتان ،فمن أول ما بدأ احلول إىل هنايته
صار عنده اثنتا عشرة أوقية ،فيزكي اجلميع آخر احلول.
اشرتاط بقاء النصاب طوال احلول دون نقص
إذا اجتمع عنده مخس أواق يف شهر مخسة مثالً ،وبدأ احلول من شهر مخسة ،فإذا جاء شهر
مخسة من السنة الثانية يكون قد اكتمل احلول فيزكي ،لكنه يف شهر عشرة نقصت عليه أوقية،
فهل النصاب ابق أم نقص؟ نقص.
ويف شهر أحد عشر جاءته أوقية ،فعاد النصاب واكتمل ،فهل نزكي هذه اخلمس اجلديدة على
حول اخلمس األوىل ،أم نبدأ حوالً جديداً من يوم أن اكتملت بعد النقص؟ اجلواب :إذا نقص
النصاب يف أثناء احلول نستأنف احلول من يوم أن يكتمل؛ ألنه إذا استمر على هذا النقص
وحال احلول مل أنمره ابلزكاة ،ألنه مل ميلك نصاابً حال عليه احلول ،نعم.
كان قد امتلك نصاابً ولكن احتاج فنقص منه ،وهلذا جعل احلول ألنه مقياس االستغناء.
فإذا مرة عليك سنة وما احتجت منه شيئاً تبني أنك مستغ ٍن وأنه زايدة ،لكن إذا كان ينقص
ويزيد! وينقص ويزيد! فعند هناية احلول ننظر اخلمسة موجودة ،ولكن النقص الذي طرأ عليها،
38
والزايدة اليت اكتملت ِبا مخس أواق كانت يف الشهر املاضي مثالً ،فيكون الشهر املاضي هو
بداية احلول.
هذا ما يتعلق بزكاة الفضة؛ ألهنا يشرتط هلا شرطان :ملك النصاب ،وأن يستمر هذا امللك َتماً
حىت حيول عليه احلول.
فإن طرأت عليه زايدة تلحق ابألصل ،فاألصل أن تضم ،ولكن الفقهاء هلم يف هذا حبث
وتفريع :فإن كانت الزايدة من جنس األصل املوجود عنده فإهنا تلحق ابألصل وتزكى معه عند
متام حوله ،وذلك مثل عروض التجارة ،فهو كل يوم يربح أوقية نصف أوقية ربع أوقية ،فعندما
اكتمل عنده مخس أواق استمر يف الربح إىل هناية السنة ،فصار عنده عشرون أوقية ،فإذا حصل
من العشرين أوقية على واحدة يف األسبوع املاضي فهل جنعل هلا حوالً مستقالً أم هي َتبعة يف
َّناء التجارة عنده؟ َتبعة.
إذاً :هذا هو املبدأ عندان فيما يتعلق بزايدة النصاب وما يتعلق بنقصان النصاب.
نصاب اإلبل
قوله( :وليس فيما دون مخس ذود من اإلبل صدقة) :الذود :العدد اإلبل.
واملعىن أن الذي عنده أربع أو ثالث من اإلبل أنه ال زكاة فيها.
وتقدم لنا يف أنصباء اإلبل أن يف كل مخس شاة إىل عشرين ،فإذا بلغت مخساً وعشرين ففيها
بنت خماض ،فإذا بلغت ستاً وثالثني ففيها بنت لبون ،إىل آخر اجلدول املعروف الذي تقدم
معنا.
إذاً :هذا احلديث يبني لنا أنصباء األموال الزكوية :فنصاب الفضة مخس أواق ،ونصاب اإلبل
يبدأ خبمس من اإلبل ،وما كان أقل من ذلك فال زكاة فيه.
أمهية معرفة املعايري واملوازين وتوحيدها بني املسلمني
قوله( :وليس فيما دون مخسة أوسق من التمر صدقة) .
تقدم معنا أن الفضة هلا نصاب ،ونصاِبا مخس أواق ،واألواقي قدرها مائتا درهم ،وليس
املقصود الدرهم املغريب ،فتلك عملة خاصة ابملغرب ،كم تكون املائتا درهم؟ ما أحد سأل وال
تغريت كثري من اعتبارات الشرع عندان، أحد فتش! حنن -اي إخوان -يف هذه اآلونة األخرية ن
وخاصة املكاييل واملوازين ،وكل أمة هلا معايريها اخلاصة ،وأذكر أن مسمى الرطل كان يف مصر
39
يبلغ اثنيت عشرة أوقية ،وكذلك يف إسطنبول ،والرطل يف القدس أقتان ،مع أن األقة الواحدة
تساوي اثنني كيلوا ،والرطل يف بغداد قريب من الرطل يف مصر ،فتختلف املوازين على حسب
اصطالح األمة؛ ألن لكل أمة أن أتخذ لنفسها وتضع لنفسها معايريها اخلاصة ،حنن نسمع
اآلن( :مرت ،وايردة ،وإنش ،وقدم ،وفوت) .
فاملقاييس الرمسية املتعامل ِبا اليوم هي املرت والياردة واإلنش ،فهذه مقاييس ،وعند املساحات
(فدان وهكتار ،وقرياط) وكذلك املكاييل( :مد ،وصاع ،وكيلو ،وربع ،وملوا ،وقدح) ،فهذه
مكاييل وموازين ومقاييس قد تصطلح كل أمة على ما يصلح عندها.
وقد قال العز بن عبد السالم :على األمة أن تطيع ويل أمرها يف أربعة :أوالً :نوع املكيال ،ونوع
امليزان الذي أيمر ابلتعامل به ،فإذا قال :تعاملوا ابألقة ،أو قال :تعاملوا ابلرطل ،أو قال :تعاملوا
ِبذه الصنجة اليت سأصنعها مث صنع صنجة ومساها ،فيجب أن يكون الوزن ِبا وأبجزائها ،وال
حيق إلنسان أن يصنع صنجةً أخرى يزن ِبا للناس.
ووحدة املكاييل واملوازين ضرورية يف العامل؛ لئال أيكل الناس أموال بعضهم بعضاً ،فيأيت من
يقول لك :هذا وزن ،وأييت آخر يقول لك :هذه أوزن هذه أنقص وأان ال أدري؟ ال.
ولذا الرسول صلى هللا عليه وسلم أشار إىل أنه من السنة وحدة املكيال وامليزان؛ ألنه صلى هللا
عليه وسلم قال( :املكيال مكيال املدينة) وقال( :اللهم ابرك هلم يف صاعهم ومدهم) ،والصاع
واملد مكيال ،وجعل مكة وحدة املوازين فقال( :امليزان ميزان مكة) .
فالعامل اإلسالمي عليه حبسب هذا احلديث أن يوحد مكاييله على مكاييل املدينة ،وموازينه
على موازين مكة ،مثل وحدة النقد ،فهل ميكن أن يكون يف بلد واحد نقدان خمتلفان لدولة
واحدة؟ ال؛ بل لكل دولة نقد مستقل ،فكذلك لكل دولة مكيال وميزان مستقل.
مث قال العز بن عبد السالم :يف إعالن احلرب على عدو حمارب ،وعقد اهلدنة مع مقاتل ،فإذا
أعلن ويل أمر املسلمني حرابً على عدوه وجب على األمة أن تقوم معه ،وإذا أعلن هدنة مع
أمة وجب على املسلمني أن يلتزموا ِبذه اهلدنة.
فاملكيال وامليزان من األمور االجتماعية اليت جيب توحيدها.
وكان الدرهم أوالً ليس إسالمياً بل كان رومياً.
40
وكذلك املثقال ما كان موجوداً على عهده صلى هللا عليه وسلم ،ولكن املثقال مل خيتلف وزنه
يف جاهلية وال إسالم ،أما الدرهم فكان يتفاوت ،وجاء يف صدر اإلسالم التعامل ابلدراهم
األجنبية ،ويف الدولة األموية كان الدرهم الصغري والدرهم الكبري ،فجمع بعض والة بين أمية
درمهاً صغرياً واآلخر كبرياً ،مث قسمهما نصفني ،واعترب الدرهم نصف الكبري ونصف الصغري،
وتوحد الدرهم ،وصارت عشرة دراهم تزن سبعة مثاقيل. ن
والدرهم وحدة ميزان ووحدة نقد ،تقول :األوقية كذا لرية ،وحنن نقول :األوقية أربعون درمهاً،
والدينار يصرف بعشرة دراهم ،وكان صرفه يف زمن عمر ما بني مثانية إىل اثين عشر درمهاً،
واستقر األمر على أن الدينار يصرف بعشرة دراهم ،وعشرون ديناراً هي نصاب الذهب ،ومائتا
درهم هي نصاب الفضة.
يبقى أن الدينار يعادل من الدراهم عشرة؛ ألن عشرين ديناراً تعادل مائيت درهم ،إذاً :الدينار
وحدة وزن ووحدة نقد ،وهلذا رمبا جند يف بعض كتب الفقه من يقول :كذا درمهاً وزانً ،كذا
درمهاً ع نداً ،فإذا قال لك :وزانً ،فاملعىن أنه موزون وزنه كذا ،وإذا قال لك :عداً ،فاملعىن أنه
وحدة نقدية يعد كذا درمهاً.
تقدير نصاب الفضة ابلعمالت احلديثة
فكما قلنا :إن لكل أمة أن توجد لنفسها من املكاييل واملوازين ما ترتضيه ،فمع طول الزمن
تتغري الدرهم وتتنوع املكاييل ،أنت عندك املد يف السوق ليس هو املد النبوي ،فقد تغري ،واملد
الذي يف السوق يعادل ثالثة أمداد ،والصاع الذي يف السوق يعادل ثالثة صيعان من صاع
النيب صلى هللا عليه وسلم ،بينما املد النبوي يكون ربع الصاع النبوي ،واملد التجاري اثنا عشر
مداً نبوايً ،إذاً :اختلفت املكاييل يف املدينة.
كان رايل الفضة السعودي موجوداً وكان وحدة نقد ،اآلن انتهى عن كونه نقداً وأصبح حلياً
وحتفاً وهدااي ،ومل يعد يتداول كعملة سائرة بني الناس بوحدة الرايل ،ووزنه ابلدراهم املعروفة
عندان ثالثة دراهم وثالثة أرابع الدرهم ،بتحرير العلماء أبن املائيت درهم الواردة يف نصاب
الفضة تعادل ستة ومخسني رايالً سعودايً ،الذي يزن الرايل الواحد منها أربعة دراهم إال ربع،
وحنن أنخذ هذا كمعيار موجود عملياً.
41
يبقى نصاب الفضة ابلنسبة للرايل السعودي الذي كان يتداول ،وهو موجود اآلن يصاغ
ويستعمل على هيئته ووزنه ،لكن ال يتداول بني الناس ،ألنه ملا جاءت هذه األوراق أصبحت
الفضة تعادل اآلن عشرين رايالً ورقاً ،إذاً :ال عربة ِبذا؛ لكن كيف حندد نصاب الفضة اليت
َّنتلكها على املائيت درهم اليت جاء الشرع ِبا؟ نقول :إن العملة هي وسيلة الشراء ،وهي الوسيط
يف التعامل ،فننظر إىل الفضة السعودي اليت كانت متداولة واليت تعادل املائيت درهم ،فنأيت
ابلستة واخلمسني رايالً السعودي فننظر كم قيمتها الشرائية يف األسواق؟ فهي أبعدت عن
السوق وبقيت سلعة تباع وتشرتى ،فإذا كان نصاب املائيت درهم يعادل وزانً الستة ومخسني
رايالً سعودايً ،والرايل السعودي أربعة دراهم إال ربع وقد عمل حساب الرصاص أو النحاس
املوجود مع الفضة ليشدها حىت تصلح يف سبكها وصياغتها رايالت قابلة وصاحلة للتداول دون
أن يسري منها شيء.
فنأيت للعامل كله يف أي بقعة فنسأل :كم قيمة الشراء ملائيت درهم فضة عندكم؟ فإذا قالوا لنا:
قيمتها مخسمائة رايل ،مائتا روبية ،عشرون دوالراً ،أو أربعون جنيهاً اسرتلينياً ،أو أي عملة يف
العامل تتداول كنقد ،فالقيمة الشرائية هلذه العملة يف بلدها ننظر كم منها يعادل املائيت درهم
مثناً! فما يعادل املائيت درهم األساسية من الفضة ابلقيمة الشرائية يكون هو النصاب ،إذا جئت
يف مصر ففيها اجلنيه املصري ،فتنظر بكم جنيهاً نشرتي املائيت درهم؟ إذا جئنا إىل اهلند
وابكستان نظران كم روبية نشرتي ِبا املائيت درهم ،وإذا جئنا إىل أمريكا نظران كم دوالراً نشرتي
به املائيت درهم ،إذا جئنا إىل بريطانيا وإسكندانفيا نظران كم جنيهاً اسرتلينياً نشرتي به املائيت
درهم ،وهكذا يف دول العامل.
وهنا يف السعودية نقدر كم رايالً سعودايً ورقياً يشرتى به املائتا الدرهم؛ فيكون النصاب عن
الفضة ابلعملة الورقية اليت هي بديل ما يساوي يف القيمة الشرائية مائيت درهم بغري هذا ال ميكن
أن تصل إىل تقدير نصاب الزكاة ,ولذا ملا كثر فيه األخذ والعطاء يف السابق ،جاء عن ابن
تيمية رمحه هللا أنه قال :كل بلد درامهها حبسبها.
لكن حنن ال نرتك املسألة إىل هذا احلد ،وينبغي أن تكون هناك قاعدة عامة شاملة ،وهي أن
ننظر يف كل عملة تصدر يف العامل :كم قيمتها الشرائية للفضة مبقدار وزن مائيت درهم؟ فما بلغ
قيمته الشرائية مائيت درهم للفضة نقول :هذا هو بداية النصاب.
42
مقدار زكاة ما خيرج من األرض
قال املؤلف رمحه هللا :وعن سامل بن عبد هللا عن أبيه رضي هللا عنهما عن النيب صلى هللا عليه
وسلم قال( :فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرايً العشر ،وفيما سقي ابلنضح نصف
العشر) ،رواه البخاري ،ولـ أيب داود( :إذا كان بعالً العشر ،وفيما سقي ابلسواين أو النضح
نصف العشر) .
هذا تفصيل ملا تقدم ،فقد عرفنا أبن ما تنبته األرض وبلغ مخسة أوسق ففيه صدقة ،وبصفة
عامة( :ليس فيما دون مخسة أوسق صدقة) وكلمة (صدقة) تشمل صدقة التطوع والزكاة
ص َدقَةً} [التوبة ، ]103:فسمى الفريضة اليت ِِ ِ
{خ ْذ م ْن أ َْم َواِل ْم َ
املفروضة وقد قال هللا تعاىلُ :
أيخذها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم صدقة.
وعلى هذا :جاءان التفصيل كم أنخذ مما سقت السماء ،أو كم أنخذ مما تنبته األرض؛ فبني
لنا أن ما خفَّت كلفته زادت نسبة صدقته ،وما كثرت كلفته نقصت نسبة صدقته ،وهذا من
اإلرفاق ،فما سقته السماء أو سقي ابلعيون اليت تفيض من األرض ومتشي يف السواقي
فتسقي األرض ،فزكاته العشر.
فإذاً :النبات إما أن يسقى بدون كلفة ابملطر أو مباء من العيون يسيل ،أو سيول أتيت وتسقي
األرض ،وإما أن يتكلف لسقي الزرع مئونة ابلنضح ،والنواضح هي اإلبل تنضح املاء فتسحبه
من البئر أو الدوالب ،وكذلك السواين ،فكل ذلك ابآللة أو كما يقال :ابلدوالب ،واآلن
أصبحت هناك آالت حديثة وِلا كلفة ،حيث حتتاج إىل حمروقات وقطع غيار.
إذاً :ما كان سقيه بدون كلفة أبن جاء املطر من السماء أو جاء املاء من العيون أو كان
عثرايً ،ولفظة (العثري) إىل اآلن مستعملة ،تسمعوهنا من ابعة احلبحب الذين يقولون:
حبحب عثري ،والعثري :هو أحسن أنواع احلبحب؛ ألن األصل فيه أن تكون الرتبة خصبة،
ف يأيت السيل أو النهر فيغمرها ،وميكث فيها مدة مث ينحسر عنها ،ويتسرب املاء إىل ثقوب
بعيدة ،فإىل وقت معني أيتون إىل تلك الرتبة املشبعة ابملاء ويضعون فيها احلبوب سواء كانت
ذرة أو من هذا احلبحب أو اخلضروات؛ فهذا عثري.
فالعثري :األرض اليت يغمرها املاء من هنر أو سيل أو حنو ذلك ،مث يفيض عنها وقد تشبعت
ابملاء ،فيزرع احلب وال حتتاج إىل سقي بعد ذلك حىت حتصد.
43
إذاً :هذا هو أيضاً مما سقته السماء أو العيون أي :بدون كلفة.
{وآتُوا
إذاً :ما خترجه األرض يشرتط فيه أن يكون نصاابً وال يشرتط فيه احلول قال تعاىلَ :
ص ِادهِ} [األنعام. ]141:
َحقَّهُ يـَ ْوَم َح َ
ولكن احلصة اليت تؤخذ يف الذهب والفضة وعروض التجارة متحدة ،وهي ربع العشر ،لكن
هنا إما العشر كامالً وإما نصف العشر حبسب كلفة السقي ،أما مئونة احلرث والزرع فهذه
أمر ضروري ال بد منه ،وال ينظر إىل الكلفة إال بعد عملية الزرع ابلذات ،فإن كان عثرايً أو
سقته السماء أو العيون أو السيول ،ومل يتكلف صاحبه يف سقيه شيئاً ففيه العشر من مخسة
أوسق فما فوقها ،وما دون اخلمسة أوسق ليس فيها زكاة.
كتاب الزكاة -مقدمة كتاب الزكاة
اتفق األئمة األربعة على وجوب الزكاة يف الشعري ،واحلنطة ،والزبيب ،والتمر ،واختلفوا فيما
عدا ذلك كاخلضروات والفواكه ،وبعضهم قاس على األصناف األربعة ما شاركها يف العلة
واألوصاف كاألرز وحنوه ،وقد فصل الشيخ سبب اخلالف وذكر األدلة ،كما تطرق إىل
عملية اخلرص وما فيها من حكم وفوائد للمالك واملسكني.
يزكى مما تنبت األرض
يقول املصنف رمحه هللا :عن أيب موسى األشعري ومعاذ رضي هللا عنهما أن النيب صلى هللا
عليه وسلم قال ِلما( :ال أتخذا يف الصدقة إال من هذه األصناف األربعة :الشعري ،واحلنطة،
والزبيب ،والتمر) رواه الطرباين واحلاكم .
إن مباحث األموال الزكوية تتسع فروعها وجزئياهتا يف كتب الفقه ما ال تتسع يف كتب
احلديث.
ونذكر مبا تقدم يف أوائل هذا الباب املبارك :أن املسلمني أمجعوا على أجناس أربعة هي حمل
الزكاة :هبيمة األنعام ،والنقدان :الذهب والفضة ،وعروض التجارة ،وما تنبته األرض ،فهذه
األجناس األربعة هي حمل الزكاة ،مث اختلفوا يف تلك األصول األربعة يف بعض أفرادها ،فمثالً:
هبيمة األنعام اختلفوا منها يف زكاة اخليل ،فقال به اإلمام أبو حنيفة رمحه هللا ،ومل يقل به
اجلمهور.
44
ويف الذهب والفضة اختلفوا يف احللي ،أي :املصنوع واملستعمل ،فأوجبه فيه أبو حنيفة رمحه
هللا ومل يوجبه غريه على خالف عند الشافعي وأمحد ،ومل يوجبها مالك قوالً واحداً.
وعروض التجارة من قال هبا قال ابلعموم ،ومن مل يقل هبا فال كالم معه.
خرص الزروع والثمار عند بدو الصالح
قال املؤلف :وعن سهل بن أيب حثمة رضي هللا تعاىل عنه قال( :أمران رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم :إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث ،فإن مل تدعوا الثلث فدعوا الربع) ،رواه اخلمسة
إال ابن ماجة وصححه ابن حبان واحلاكم .
انتقل املؤلف رمحه هللا إىل جزئية اتبعة ومتممة لتشريع الصدقة يف احلبوب والثمار.
فقوله( :إذا خرصتم) ،يفيد أن هناك خرصاً قبل إخراج الزكاة ،فيكون سبقه تشريع للخرص
مث جاء ينبه ِلم عن منهج اخلرص كيف يكون.
إذاً :اخلرص مشروع ،وأقوى دليل يف ذلك قضية خيرب ،ملا أرسل الرسول صلى هللا عليه وسلم
ابن رواحة ليخرص عليهم النخيل.
اصو َن} [الذارايت ، ]10:لكن قال واخلرص يف اللغة :التخمني ،قال تعاىل{ :قُتِ َل ْ
اخلََّر ُ
اإلمام أبو حنيفة وداود بن علي :ال خرص ألن اخلرص ظن ،والظن كما يقولون أصل
الكذب ،فقالوا :ال خرص ،ولكن على صاحب النخل والعنب إذا يبس وأصبح عنده التمر
أو الزبيب أن يكيل الذي حصل عنده ،مث يزكيه.
كتاب الزكاة -مقدمة كتاب الزكاة
اختلف العلماء يف زكاة احللي الذي تتخذه املرأة للزينة ،ويكاد اخلالف أن يكون متكافئاً
لتكافؤ األدلة ،وقد بني الشيخ أدلة الطرفني ،وأجوبة كل فريق على اآلخر ،مث بني األفضل
للمرء يف ذلك.
أمر النيب صلى هللا عليه وسلم أن خيرص العنب كما خيرص التمر
يقول املصنف رمحه هللا :وعن عتاب بن أسيد رضي هللا عنه قال( :أمر رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم أن خيرص العنب كما خيرص النخل ،وتؤخذ زكاته زبيباً) رواه اخلمسة وفيه انقطاع
.
45
هذا األثر وإن كان فيه انقطاع إال أنه عليه العمل ،فيخرص العنب وتؤدى زكاته زبيباً ،كما
خيرص الرطب وتؤدى زكاته متراً ،لكن يهمنا يف هذا األثر أن العنب خيرص كما خيرص
النخل.
فمن كان ي عارض يف خرص العنب يقول :ال يتأتى انضباط خرص العنب كانضباط خرص
النخل ،يقول :ألن النخلة مكشوفة أمام اخلارص وأمام اجلميع ،أما العنب فقد يكون خمتفياً
بني األوراق وقد خيفى على النظر ،فال يتمكن اخلارص من رؤيته كما يتمكن يف النخلة.
ولكن كما جاء يف هذا األثر ،وإن كان منقطعاً فقد يكفينا رأي من رواه ،فالذين رووه على
انقطاعه يقولون به؛ فيكفينا هذا فقهاً ،وأهنا الطريقة اليت ميكن أن يساوى فيها العنب
ابلرطب.
فهذا النص يف العنب :أنه خيرص كما خيرص النخل وتؤخذ زكاته زبيباً ،وملاذا ال تؤخذ عنباً؟
ألنه ال يدخر ،فلو أعطينا للفقري مخسة صناديق عنباً ،هل سيأكلها كلها؟ فلو أكثر من
أكلها فإنه سيؤذيه ،وهل إذا أكل صندوق عنب يغنيه عن لقمة عيش؟ فرمبا ال يغنيه،
فالعنب ليس قواتً وال يدخر.
وهذه الفكرة بتنفيذ مذهب أيب حنيفة رمحه هللا يف اخلضروات ،ولنسأل :ماذا سيصنع
املسكني إذا أخذ قليالً من الطماطم ،أو قليالً من الباميا ،أو قليالً من الفلفل ،أو قليالً من
النعناع إخل؟ فإذا قلنا :يضعها يف الثالجة ،فالفقري ليس عنده ثالجة ،ولو وضعها يف الثالجة
فإىل مىت؟ فسيأخذ منها كل يوم ،فهل ستكون قواتً أم فاكهة؟ طبعاً ستكون فاكهة،
واخلضروات مهما كان فلها أجل ،سواءً كانت داخل الثالجة أو خارجها.
إذاً :ال ينتفع هبا بقدر ما ميكن أن يبيعها صاحبها ،وجيمع القيمة وأييت بصدقة القيمة
للمسكني فيتصرف فيها مبا ينفعه.
إذاً :انتهينا من موضوع زكاة ما خترج األرض ،وكيفية زكاهتا وهو اخلرص.
وحنن قلنا ابلزكاة يف الشعري والرب ،فهل خيرص وهو يف سنبله عندما يشتد احلب ،أو يرتك
لصاحبه حىت حيصد ويصفى ويكال؟ هناك من يقول خبرص احلب أيضاً ،ولكن ملاذا خنرصه؟
هل الريح تطيح به يف األرض؟ ليس هناك شيء يضيع منه أبداً.
وهل يبيعه قبل أن حيصده؟ ال.
46
خبالف العنب والرطب.
إذاً :اخلرص حمصور على النخل والعنب ،واحلب الذي هو متفق عليه من الشعري والرب وما
أحلقناه به ال دخل للخرص فيه ،وإمنا يرتك لصاحبه حىت حيصده ويصفيه ويكيله ،فهناك
جيب عليه أن يزكي ما حصل عنده إن وصل مخسة أوسق فما فوق.
وهللا أعلم.
زكاة احللي من الذهب والفضة
قال املصنف رمحه هللا :وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي هللا عنهما( :أن امرأةً
أتت النيب صلى هللا عليه وسلم ومعها ابنة ِلا ،ويف يد ابنتها مسكتان من ذهب ،فقال ِلا:
أتعطني زكاة هذا؟ قالت :ال.
قال :أيسرك أن يسورك هللا هبما يوم القيامة سوارين من انر؟ فألقتهما) رواه الثالثة وإسناده
قوي ،وصححه احلاكم من حديث عائشة .
ملا أهنى املصنف رمحه هللا الكالم على زكاة هبيمة األنعام ،مث ما خيرج من األرض ،جاء إىل
زكاة احللي ،وتقدم أيضاً زكاة النقدين :الذهب والفضة ،وأنه ليس فيما دون مخس أو ٍاق من
َوِرٍق صدقة.
وتقدم البحث يف هذه األصناف ،ويف أنواع هبيمة األنعام ما اتفق عليه وما اختلف فيه ،مث
أنواع الزروع والثمار ،وما اتفق عليه أيضاً وما اختلف فيه ،مث زكاة النقدين :الذهب والفضة،
وبقي معنا عروض التجارة ،وسيأيت يف سياق هذا احلديث.
فلما كان الذهب والفضة جممعاً على زكاهتما نقداً؛ ألن كلمة (أواق) مجع (أوقية) ،واألوقية
وحدة وزنية ،ووحدة نقدية أيضاً ،فهذا يتعلق ابلفضة ،والدرهم وحدة وزنية ،ووحدة عددية؛
فكان احللي من جنس الذهب والفضة ،ولكنه اختلف فيه كما اختلف يف بعض أفراد
األجناس املتقدمة.
فصل أو يسوق ما عنده من أدلة أو من أقوال العلماء فيما يتعلق ابلذهب فشرع املصنف ي ِ
ُ
والفضة إن كان مصوغاً حلياً تلبسه النساء ،فأتى ابحلديث :أن امرأةً ميانية أتت إىل رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ويف يد ابنتها مسكتان -واملسكة هي ما يسمى اآلن بـ (األسور) أو
47
بـ (ابخللخال) يف ال ِرِجل من ذهب -فلما رآها النيب صلى هللا عليه وسلم ،سأِلا :أتؤدين زكاة
هذا؟ ،فـ (هذا) اسم إشارة راجع ملا فيه احلديث وهو املسكتان.
ويف بعض الرواايت( :غليظتان من ذهب ،فقال ِلا :أتؤدين زكاة هذا الذهب الذي يف يد
ابنتك؟ قالت :ال.
فقال :أيسرك أن يسورك هللا هبما يوم القيام بسوارين من انر؟) .
أعتقد أن هذا أسلوب إاثرة ،أي :أحتبني أن تلبسي سوارين من انر يوم القيامة؟! ومن حيب
هذا؟! ومن يسر هبذا؟! ففيه اإلاثرة إىل معرفة الواقع وبراءة الذمة حاالً ،وِلذا كان اجلواب
أهنا خلعتهما من يد ابنتها وألقت هبما ،ويف تتمة الرواية( :قالت :مها هلل ورسوله) .
هذا احلديث كما ساق املصنف تصحيحه هو األصل يف مبحث زكاة احللي ،وهو األصل
لالستدالل على أن احللي املستعمل ابلفعل فيه الزكاة؛ ألنه ملبوس يف يد البنت.
(اختذت
ُ مث ساق له املصنف شاهداً من حديث عائشة رضي هللا تعاىل عنها أهنا قالت:
فتخات من َوِرق -الفتخات مجع فتخة وهي ما يسمى اآلن ابخلامت -فنظر إليهما صلى هللا
عليه وسلم وقال :ما هذا اي عائشة؟! قالت :صنعتهما أتزين لك هبما) ؛ ألنه إذا كانت هذه
الفتخات يف الصندوق أو مرفوعة للحاجة مل تكن زينة ،إمنا رأى بعينه وسأل وأجابت( :أتزين
لك هبما ،فقال :أتؤدين زكاهتما؟ قالت :ال.
قال :مها حسب ِ
ك من النار) . َ ُ
وسيأيت لـ أم سلمة رضي هللا تعاىل عنها أهنا( :اختذت أوضاحاً من ذهب) ،األوضاح من
وضوح
ٌ الوضاحة والظهور ،والذهب له بريق ووضوح ،ولو كان حىت من الفضة فلها أيضاً
وبريق ،واألوضاح كانت يف شعرها.
فوجدت يف وجهه األثر) أي :أنه ليس
ُ تقول( :فنظر إليها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،
اض؛ فهي صنعتهما من أجله صلى هللا عليه وسلم ،لكن مل يستقبل ذلك اببتسامة أو بر ٍ
(أكنز هو اي رسول هللا؟!) (هو)
بشاشة ،وإمنا وجدت يف وجهه الكراهية ،ففطنت فقالتٌ :
ضمري راجع إىل األوضاح اليت يف شعرها.
48
فلم يقل ِلا صلى هللا عليه وسلم ال ،أو نعم ،وإمنا قال( :إذا أديت زكاته فليس بكنز) يعين:
وما مل تؤد زكاته فإنه كنز ،واحلكم على أنه كنز أو ليس بكنز إمنا هو ملدلول اآلية الكرمية:
اَّللِ فَـبَ ِش ْرُه ْم} [التوبة]34: ضةَ َوال يُ ِنف ُق َ
وهنَا ِيف َسبِ ِيل َّ ب َوالْ ِف َّ ين يَكْنُِزو َن َّ
الذ َه َ
َّ ِ
{والذ َ َ
إذاً :فلما رأت الكراهية يف وجهه صلى هللا عليه وسلم فطنت فسألت :وِملَ الكراهية وإمنا هي
زينة تتحلى هبا لزوجها.
إذاً :هذا القدر ليس فيه كراهية ،ولكن اخلوف من كونه دخل يف معىن الكنز ،ويكون هناك
الوعيد.
كنت تؤدين زكاهتا فليس بكنز) . فلما سألت أجاهبا( :إن ِ
هذه النصوص الثالثة اليت ساقها امل صنف رمحه هللا هي عمدة من يقول بوجوب الزكاة يف
الذهب والفضة حلياً كان أو غري حلي ،ويضاف إىل هذا أيضاً ما تقدم يف أول الباب من
احلث على الصدقات والزكاة يف مجيع األموال.
وتقدم لنا ذكر احلديث الطويل( :ما من صاحب ٍ
إبل ال يؤدي زكاهتا إال إذا كان يوم القيامة
بقاع قرق ٍر ،تطؤه خبفافها وتعضه أبنياهبا ،فإذا انتهى أخراها أعيد عليه أوالها حىتبطح ِلا ٍ
يقضى بني اخلالئق ،فريى مصريه إما إىل اجلنة وإما إىل النار) ،وكذلك ذكر صاحب البقر،
مث صاحب الغنم ،مث صاحب الذهب فقال( :وما من صاحب ذهب -أتى ابسم اجلنس ،ومل
يفصل بني مصنوع حلي أو آنية مستعمل أو غري مستعمل ال يؤدي زكاته إال إذا كان يوم ِ
ص ِفح له صفائح من انر ،فيكوى هبا جبينه وجنبه وظهره حىت يفصل بني اخلالئق، القيامة ُ
ويرى مصريه إما إىل جنة وإما إىل انر) ،فأخذ البعض من هذا احلديث أن زكاة الذهب
حلي مستعمل.واجبة مطلقاً ،مع النصوص األخرى اجملمع عليها يف غري ما هو ٌ
والتفصيل يف هذه املسألة يطول ،وقد كتب الشيخ األمني رمحة هللا تعاىل علينا وعليه عند
ين يَكْنُِزو َن) فأطال البحث فيها يف أضواء البيان ،فذكر أقوال َّ ِ
هذه اآلية الكرمية( :والذ َ
املوجبني للزكاة ،وأقوال املانعني من الزكاة ،وأخرياً قال( :واألوىل الذي به براءة الذمة أن يزكى)
ومل يقل :جيب أو ال جيب.
49
وصنيع ابن رشد يف بداية اجملتهد ما تناول هذه املسألة إال يف سبعة أسطر -أي :نصف
الصفحة فقط -وذكر مذهب أيب حنيفة ومالك والشافعي رمحهم هللا ،ومل يذكر مذهب أمحد
ال بقليل وال بكثري.
كتاب الزكاة -مقدمة كتاب الزكاة
لقد كثرت أنواع التجارات يف عصران احلاصر ،وتنوعت طرقها وأساليبها ،وتداخلت
معامالهتا ،فيحتاج املرء إىل فقه صحيح حىت يعرف ما جتب فيه الزكاة وما ال جتب ،وكذلك
استحدثت املصانع االستثمارية واالستهالكية ،واليت حتتاج إل بيان ضوابط الزكاة فيها.
كتاب الزكاة -مقدمة كتاب الزكاة
قد أودع هللا يف األرض من الكنوز واملعادن شيئاً كثرياً ميكن االستفادة منه ،واإلنسان قد جيد
ذلك كنزاً جاهزاً ،وقد حيتاج يف استخراجه وتصفيته إىل عمل ،وما حصل من ذلك فللزكاة
منه نصيب بشرطه على ما بينه الشيخ هنا.
حديث زكاة الركاز
قال املصنف رمحه هللا :وعن أيب هريرة رضي هللا تعاىل عنه أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم
قال( :ويف الركاز اخلمس) متفق عليه .
حديث أيب هريرة رضي هللا تعاىل عنه الذي ساقه املؤلف هنا جزء من حديث يشتمل على
زايدة ،وإن كان موضوعها غري موضوع الزكاة؛ ألن احلديث فيه( :العجماء جبار ،والبئر
جبار ،ويف الركاز اخلمس) .
جرح العجماء جبار
(والعجماء ُجبار) يف بعض رواايته كما يسوقه صاحب املنتقى( :جرح العجماء جبار)
واجلبار :هو اجملبور الذي ال دية وال قيمة.
والعجماء :هي الدابة لكوهنا ال تعرب عما يف نفسها ،وقالوا :إن كون العجماء جباراً فيه
تفصيل؛ ألهنا إما أن تكون مروضة كما يقال :مؤدبة ،أو ال زالت مل تدرب ،وكذلك إما أن
جتين مبقدمها أو مبؤخرها ،وإما أن جتين وعليها قائدها أو صاحبها ،أو جتين وليس عليها أو
معها أحد.
50
وكذلك قد تكون جنايتها ابلليل أو ابلنهار ،وكل هذا مما تتطلبه احلياة ،وخاصة عندما كانت
العجماء وسيلة النقل واحلمل دون غريها.
فقالوا :إذا كان إنسان يركب دابة أو يقودها فجنت مبقدمها فإن راكبها أو قائدها مسئول
عن جنايتها؛ ألن بيده مقودها ،أما إذا جنت مبؤخرها وهو ال يدري ،فجرحها جبار ،مبعىن:
إذا رحمت إنساانً فجرحته فليس على صاحبها شيء.
وقالوا :إذا كانت مؤدبة وربطها يف طريق عام والطريق واسع ،فجاء إنسان وخنزها فرحمته فهي
جبار ،وإذا كانت غري مؤدبة وربطها يف طريق عام ومر إنسان ومل ينخزها ومل يؤذها فرحمته فهو
مسئول؛ ألنه يعلم منها أهنا ليست مروضة وال أتلف الناس ،وتؤذي من مير هبا ،فيكون قد
عرض الناس إليذائها فهو مسئول.
وهكذا إذا جنت ليالً أو جنت هناراً وليس عليها أحد أو ال يقودها أحد ،فإن جنت ليالً
فعلى صاحبها جنايتها ،وإن جنت هناراً فليس يف جنياهتا هناراً شيء ،كما يف انقة الرباء بن
عازب رضي هللا تعاىل عنه ،أكلت حرث قوم فحكم صلى هللا عليه وسلم أن على صاحب
الناقة حفظها ليالً ،وعلى صاحب الزرع محايته هناراً.
وهكذا يذكرون ما يتعلق جبناية الدابة مروضة أو غري مروضة ،معها إنسان أو ليس معها
إنسان ،وكذلك إذا كان يعلم منها أهنا غري مروضة ومر هبا داخل األسواق واألسواق مزدمحة
فآذت أحداً فهو ضامن ،أما إذا كانت مروضة ومتعودة دخول األسواق فال تؤذي أحداً،
ودخل هبا سوقاً فآذت إنساانً ،فإن كان مبقدمها فهو ضامن ،وإن كان مبؤخرها فليس
بضامن.
هذا ما يذكره العلماء رمحهم هللا يف قوله صلى هللا عليه وسلم( :العجماء جبار) .
ومن هنا ننظر إىل مدى مشول السنة النبوية فيما يتعلق ابلتعامل بني الناس ،سواء كان مباشراً
أو عن طريق هبائمهم العجماوات.
البئر جبار
(والبئر جبار) أي :إذا استأجر إنساانً ليحفر له بئراً أو ليصلح له خراابً يف بئر ،فإن كان هذا
األجري عاقالً مكلفاً مميزاً فأصابه شيء من عمله يف البئر ،أبن سقط منه عليه حجر أو اهنار
البئر عليه ،فهذا جبار وال دية له ،أما إذا استعمل جمنوانً أو صغرياً أو معتوهاً أو من ال
51
يتحمل املسئولية ،فهو مسئول عنه؛ ألن ذاك -كما يقولون -عدمي األهلية أو انقص
األهلية ،كما لو كلف الصغري أو اجملنون أن يطلع شجرة ليجين له منها مثراً فسقط ،فهو
مسئول عنه ،أما إذا كلف عاقالً ابلغاً مميزاً رشيداً فطلع كالعادة فسقط ،فليس عليه يف ذلك
شيء.
تعريف الركاز يف الشرع
قوله( :ويف الركاز اخلمس) هذا حمل الشاهد والعالقة بباب الزكاة ،واخلمس :هو احلصة اليت
{و ْاعلَ ُموا أََّمنَا َغنِ ْمتُ ْم ِم ْن َش ْي ٍء فَأ َّ
َن تؤخذ مما ال عناء يف حتصيله ،وهو اتبع للغنيمة؛ ألن قولهَ :
ََِّّللِ ُمخُ َسهُ} [األنفال ]41:اخلمس يف األموال اليت تؤخذ بدون عناء ،والركاز :مأخوذ من
ركزت الرمح إذا غرزته يف األرض ،وتوجد مسميات :الكنز ،والركاز ،واملعدن ،هذه املسميات
الثالث قد يتداخل بعضها مع بعض ،وخاصة الركاز ،فالركاز أعمها ،يطلق على املعدن؛ ألنه
مركوز يف األرض ،وقد يتميز املعدن جبنسه عن الركاز.
والفرق عند احملققني :أن الركاز ما كان من فعل اآلدمي فركزه يف األرض ،واملعدن ما كان من
فعل هللا سبحانه وتعاىل ،وهو ما خلقه يف األرض يوم خلقها من أنواع املعادن أو األجناس
املغايرة للرتبة.
فهنا الركاز والكنز واملعدن ،فالركاز :هو ما وجده اإلنسان مركوزاً يف األرض ،وشبيه به الكنز،
وقد يتعاوران ويطلق بعضهما على اآلخر ،والركاز أعم.
األصل أن الركاز ملن وجده واستخرجه
إذا جاء إنسان وكان يعمل يف أرض فوجد فيها ماالً مركوزاً ،أي :مدفوانً ،سواء كان هذا
املال ذهباً أو فضة ،أو كان جوهراً ،أو شيئاً له قيمة ،فيقولون ابتفاق :إن وجده يف ملكه فال
نزاع يف شيء ،فإنه يؤخذ منه اخلمس ويرتك له األربعة األمخاس ملكاً له.
وإذا كان يعمل يف أرض بيضاء ليست ملكاً له وال لغريه فوجده فكذلك؛ ألن األرض اليت
وجد فيها هذا الركاز ليست مملوكة ألحد.
أما إذا عمل يف أرض مملوكة للغري فوجد فيها هذا الركاز ،فهل اي ترى هذا الركاز للعامل
الذي وجده أو لصاحب األرض؟ فاألكثرون على أنه للذي وجده ،وصاحب األرض ال يعلم
عنه شيئاً ،فإذا وجد إنسان ركازاً يف أي نوع من أنواع األراضي ،فبعضهم يقول :هو لواجده،
52
حىت قالوا :لو أن إنساانً استأجر أجرياً حيفر له بئراً يف أرضه فعثر األجري على ركاز ،فإن هذا
الركاز لألجري؛ ألنه هو الذي وجده.
واآلخرون يقولون :هو لصاحب األرض؛ ألنه ميلك األرض وما فيها.
وبعضهم يقول :إن استأجره حلفر بئر فوجد ركازاً فهو لألجري ،وإن استأجره للبحث عن ركاز
فوجد الركاز فهو لصاحب األرض بال خالف؛ ألنه يكون قد استأجره لعمل مباح له كما لو
استأجره يف أن حيتطب ،فإنه يكون احلطب أو املاء ملن استأجره ،وليس لألجري إال أجرة
يده.
إذاً :الركاز مأخوذ من ركزت الرمح إذا غرزته يف األرض وهو يكون من املعدن وال حيتاج إىل
عمل يستخرجه منه كما سيأيت يف موضوع املعادن.
فإذا وجد إنسان معدانً ذهباً أو فضة أو ما له قيمة كجواهر ويواقيت مدفونة ،فتسمى:
مركوزة ،فما حكم هذا الذي وجده اإلنسان؟ إن كان وجده يف ملكه فال نزاع يف ذلك،
وعليه أن يؤدي اخلمس ،وإن كان وجده يف مكان ليس ملكاً ألحد فهو كذلك؛ ألنه ليس
هناك من يدعيه ملكاً له يف أرضه ،فهو لواجده ،فعلى هذا :يعطيه اإلمام اخلمس ويرد عليه
األربعة األمخاس ،وجاء يف ذلك آاثر عن علي رضي هللا تعاىل عنه :عن رجل وجد ألف
دينار فأخذ منها مائيت دينار وأعطاه الباقي ،وعن عمر أيضاً رضي هللا تعاىل عنه أنه أخذ
اخلمس ورد إليه الباقي.
وعلى هذا يتفق اجلميع على أن الركاز فيه اخلمس.
واختلفوا فيمن وجد هذا الركاز إذا كان ذمياً ،هل ميلكه أم ال؟ فقالوا :إنه ميتلكه.
وكذلك العبد إذا وجد الركاز هل ميتلكه أو يكون لسيده (العبد وما ملكت يده لسيده) .
وعلى هذا فحكم الركاز الذي جيده اإلنسان مدفوانً يف األرض من جواهر ومعادن نفيسة
كالذهب والفضة ،فإن هذا لواجده ما مل يكن أجرياً للحفر عن ركاز.
ومما فيه خالف :من وجده يف أرض الغري ،واحتفر فيها حفراً مباحاً فوجد ذلك الكنز ،فإنه
أيضاً ميلكه على خالف فيما إذا كان ميلكه هذا الواجد؟ أو يعود ملكاً لصاحب األرض.
وكذلك يذكرون فيما لو استأجر إنسان داراً مث أخذ يصلح فيها فوجد ركازاً ،هل يكون هذا
الركاز الذي وجده املستأجر للمستأجر الواجد أو يكون لصاحب الدار؟ يذكرون عن أمحد
53
روايتني ،وكذلك عن الشافعي ،وخيتلفون ألن صاحب الدار ال يعلم عنه ،وليس هو الذي
ركزه.
الفرق بني حكم ركاز اجلاهلية وركاز اإلسالم
وخيتلفون أيضاً يف موضوع الكنز -النقد -الذي وجده إنسان ،إن كان من ركاز اجلاهلية أو
من ركاز اإلسالم ،ويعلم ذلك ابألمارات اليت توجد على القطع النقدية ،أبن كان عليه
عالمات اجلاهلية من صور األصنام ،ومن عبارات أمساء ملوكهم؛ فإن ذلك له فيه اخلمس،
فيعطي اخلمس ويتملك الباقي ،وإذا وجد عليه عالمات إسالمية أبن كان عليه (ال إله إال
هللا حممد رسول هللا) أو كان عليه نقش آية من كتاب هللا ،أو ما يدل على أنه ملسلم؛ فإنه
يكون مبنزلة اللقطة ،يعرفها سنة وبعد ذلك هو وشأنه هبا.
إذا وجد الركاز يف قرية مسكونة أو خربة
قال املؤلف :وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي هللا عنهما :أن رسول هللا صلى
هللا عليه وسلم قال يف كنز وجده رجل يف خربة( :إن وجدته يف قرية مسكونة فعرفه ،وإن
وجدته يف قرية غري مسكونة ،ففيه ويف الركاز اخلمس) أخرجه ابن ماجة إبسناد حسن .
هنا يفرق النيب صلى هللا عليه وسلم ابملكان الذي وجد فيه الكنز ،أهو يف قرية مسكونة؟
فهذا مظنة أن يكون أهلها هم الذين دفنوه وركزوه ،أو يف قرية مهجورة خربة قدمية ال ندري
مىت عمرت ومىت خربت؟ فإنه يكون كدفن اجلاهلية ففيه اخلمس.
وإذا عرفه السنة فإن وجد من تعرف عليه وأتى أبماراته كما جاء يف اللقطة( :احفظ عفاصها
ووعاءها مث عرفها سنة) ،فإذا وجد لقطة يف كيس عرف الكيس أهو من صوف أو قطن أو
جلد ،والرابط أهو من حرير أو من خيوط أو من جلد ،فإذا جاء إنسان وذكر األوصاف
املطابقة ِلذه اللقطة فهي له ،وإذا مل أيته أحد أو جاء بوصف مغاير للحقيقة ،فإهنا تبقى
عنده إىل متام احلول.
وبعد متام السنة مع تعريفها كما يقولون :يف األسبوع األول كل يوم ،ويف الشهر األول يوماً
كل أسبوع ،مث بعد ذلك يف كل شهر يوماً حىت ينقضي احلول ،فإذا مل جيد من يتعرف عليها
فهي ملكه ،ولكن كما يقولون :هو ملك غري اتم ،أبن يتصدق هبا ،وإن شاء متلكها ديناً يف
ذمته ،فلو جاء إنسان يطلبها وصدق يف تعريفها وجب أن يردها إليه.
54
أو إذا كان بعد هذه املدة ال يريد أن يتحملها يف ذمته ،وإذا جاء صاحبها رمبا ال جيد ردها،
تصدق هبا على ذمة صاحبها ،فإذا جاء صاحبها أخربه ،أنه قد عرفها ملدة سنة فلم أيت
أحد ،فتصدقت هبا على ذمة صاحبها ،إن قبلت الصدقة على ذمتك فهي ماضية لك ،وإن
مل تقبلها فتكون الصدقة على ذميت وأان أدفع لك بدِلا.
وهكذا إذا وجد يف قرية مسكونة أو طريق مطروق ،أو وجد يف قرية خربة غري مسكونة ،أو
طريق مهجور ال يسلكه أحد ،وكذلك األرض إن كانت حمياة ألحد أو ميتة ال ميلكها أحد.
املعادن وحكم زكاهتا يف الشرع
وعن بالل بن احلارث رضي هللا عنه( :أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أخذ من املعادن
القبلية الصدقة) رواه أبو داود .
صاحب هذا احل ديث بالل بن احلارث ويف بعض الرواايت هالل بن احلارث :أن النيب صلى
هللا عليه وسلم :أقطعه معدن القبلية ،والقبلية :مكان معني يف جنوب املدينة من أعمال وادي
الفرع ،وبينه وبني املدينة كذا ميل ،فيقولون :هذا لعله املهد املوجود اآلن ،وفيه املعدن ،ويف
هذا احلديث مبحث أو مباحث من عدة جهات :أوالً :ما هو املعدن؟ مث :ما يؤخذ من
املعدن؟ وما هو حكمه من حيث املكان؟ ومن هو مصرف ما يؤخذ منه؟
املفهوم الشرعي للمعدن
وع َد َن مبعىن :أقام ،ومنه كما يقولون( :جنة عدن) مبعىن :دار اإلقامة،
املعدن من مادة َع َدنَ ،
وهذه املعادن مقيمة يف األرض من يوم أن خلقها هللا حىت يكتشفها اإلنسان.
ولويل األمر أن يقطع من شاء ما شاء ما مل تتعلق به منفعة اجلماعة.
فإذا كان هناك ماء يسقي عدة مزارع ،فليس لويل األمر أن يقطع هذا املاء لشخص وحده؛
ألنه يفوت املنفعة على اآلخرين ،وفيه مضرة ،فكذلك املعدن الذي فيه منفعة عامة ،كما
جاء عنه صلى هللا عليه وسلم :أنه أقطع فالانً ملحاً ،أي :معدن ملح ،مث قيل له :اي رسول
هللا! أتدري ما أقطعت فالانً؟ قال :أرضاً ،كان يعتقد صلى هللا عليه وسلم أنه أقطعه األرض
ليزرعها ويستثمرها ،قالوا :إنك أقطعته املاء العدة ،والعد أي :الذي يستخلف ،وكلما ذهب
شيء جاء شيء آخر كالبئر الذي أتخذ املاء ويستخلف غريه ،فاسرتجعه صلى هللا عليه
55
وسلم ممن أقطعه إايه؛ لكونه يستفيد منه اجلميع فال حيصره على فرد؛ ألن الذي يستفيد منه
اجلميع هو ملك للجميع.
وِلذا قالوا :إن اإلمام يقطع من املواد ما ال يتعلق به مصلحة لفرد أو جلماعة ،فإذا كان
املعدن يستفيد منه اجلماعة كاملاء وامللح أو الكربيت أو الشيء يرجع على أهل احلي أو أهل
املنطقة ،فال ينبغي أن يقطعه اإلمام لشخص معني ،وإذا أقطعه وهو ال يدري عن حقيقته
اسرتجعه وتركه عاماً جلميع املسلمني ،وهنا معدن القبلية.
واملعدن ما حكمه وما هو؟ يقول اإلمام الشافعي رمحه هللا :املعدن خاص ابلذهب والفضة،
وما عداه ال يعترب معدانً وال يطالب صاحبه بشيء.
وعند احلنابلة أن املعدن كل ما كان يف األرض من غري جنسها وله قيمة ،كما يقول ابن
قدامة يف املغين ،فهو عندهم كل ما كان يف األرض من غري جنسها ،أي :من غري الرتاب.
ويوجد فيها من غري جنسها :الذهب ،الفضة ،النحاس ،الكربيت ،الزئبق ،القصدير،
الكحل ،وعدد أشياء كثرية حىت من اجلواهر األملاز يكون أيضاً من األرض ،واألحجار
الكرمية إذا كانت يف ابطن األرض ،حىت األمور السائلة ومثَّل ابلقار وابلنفط والكربيت إذا
كانت سائلة يف بطن األرض ،فكل ذلك يسمى عند احلنابلة معدانً؛ ألنه عدن يف األرض
وهو من غري جنسها وله قيمة.
وعند األحناف أن املعدن :ما كان صاحلاً للذوابن والطبع ،كأن يطبع سبائك أو قوالب،
فيخرج عن ذلك الكربيت والزئبق والقار والنفط ،وخيرج عن هذا ما ليس مبعادن؛ ألهنا غري
قابلة لإلذابة ابلنار وطبعها سبائك أو قوالب ،ويصدق هذا على الذهب والفضة والرصاص
والنحاس والقصدير ،فهذه كلها تذاب وتصب يف قوالب وتكون سبائك أو أحجاماً.
خالف العلماء فيمن يتملك املعدن
املعادن اليت توجد يف األرض ملن تكون؟ فهناك من يقول :هي كالركاز ،والفرق بني الركاز
واملعدن :أن الركاز وجده على حالته دون عمل ،أما املعادن :فهي عروق يف األرض ال حيصل
عليها إال بتصنيع وعمل جيمعها ويصهرها يف النار ،فيحرتق الرتاب ويذوب املعدن ،وجتتمع
فلزاته بعضها إىل بعض حىت خيرج منها كتلة ،وهذه الطريقة معروفة يف اجلاهلية ومعروفة يف
اإلسالم ،ومعروفة يف البادية ويف احلضر ،ففي بعض بوادي أفريقيا تعرف بعض املعادن خاصة
56
احلديد يف بعض األماكن ،فتجمع الرتبة وتوقد عليها انر قوية ،فتجتمع فلزات احلديد بعضها
إىل بعض ،وخيرجون بكتلة يصنعون منها اآلالت اليت ينتفع هبا اإلنسان.
وعلى هذا :فاملعدن من حيث هو هل يقطعه اإلمام ألحد؟ اجلمهور ما عدا مالك يقولون:
كل معدن وجده اإلنسان على ذاك التعريف ،سواء قصرانه على مذهب الشافعي أو وسعناه
على مذهب األحناف ،أو عممنا كل ما تتضمنه األرض حىت الكحل والكربيت أو امللح،
فاجلمهور يقولون :إن هذا لواجده.
وإن كان على وجه ا ألرض مثل امللح قالوا :كذلك هذا لصاحبه الذي حصل عليه ،وخاصة
إذا كان يف أرض موات ،واآلن جمرايت امللح ،ما اجتمع يف أرض سبخة فتجففه فيخرج منه
امللح الصاحل للطعام ،وهناك مواطن أو مياه يستخرجون منها ملح البواتسيوم كالبحر امليت،
فإنه يستخرج منه أمالح البواتسيوم ،وتنوع إىل أنواع ،وهناك حبريات صغريه جتمع فيها املياه
وترتك للشمس لتبخرها ،ويتجمع امللح املوجود فيؤخذ ،ويصنع منه عدة أنواع من األمالح
املعدنية ،فهذه يقولون :هي لواجدها ما دامت على وجه األرض.
أما املعادن اليت حتتاج إىل كلفة وعمل فبعض العلماء يقفل الباب ،ويقول :هي ملن وجدها.
حكم زكاة املعادن
من وجد املعادن وعثر عليها فإنه يستطيع أن يصنعها ويستفيد منها ،قالوا :إن استطاع فله
ذلك ،وكيف يزكي ما حيصل عليه؟ قالوا :الركاز فيه اخلمس قليله أو كثريه ،ويف املعادن كذلك
اخلمس ،وبعضهم يقول :فيه العشر ،مبعىن أنه يعامل معاملة الغنائم ومعاملة الركاز فيؤخذ منه
اخلمس.
وهناك من يقول :ربع العشر.
أما اخلمس فقياساً على الركاز مع وجود الفارق؛ ألن هذا حيتاج إىل عمل ،ومن يقول :العشر
فقياساً على ما تنبته األرض من احلبوب والنبات والثمار :فإن فيه العشر ،ومن قال :فيه ربع
العشر قياساً على زكاة الذهب والفضة ،فإن كان ذهباً وفضةً وأخذ منه ما يؤخذ من الذهب
والفضة فيكون ماالً زكوايً ،واجلمهور على أنه مال زكوي.
ويقولون :ال يشرتط للحصول عليه وتزكيته حوالن احلول وال بلوغ النصاب.
57
واآلخرون كاحلنابلة ومن وافقهم واملالكية يقولون :يشرتط فيه النصاب ،وليس املراد ابلنصاب
يف كل دفعة حيصل عليها ،كأن يكون اكتشفه اليوم وبدأ يعمل ويصفي فوجد ربع نصاب،
فاحتفظ به ،مث عمل غداً وأخذ ربع نصاب ،مث بعد شهرين أو ثالثة اكتمل عنده النصاب،
فحينئذ يزكي يف احلال وال ينتظر احلول.
مث بعد اكتمال النصاب يزكي كل ما حصل عليه يومياً ،وال ينتظر نصاابً للجديد الذي جاء
بعد اكتمال النصاب األول ،فإن استمر العمل فعلى هذا احلال ،وإن انقطع العمل أو انقطع
النيل منه :فإن كان االنقطاع لعذر ممن وجده كمرض أو سفر أو عجز عن النفقة ،وطال
انقطاع العمل فإنه يستأنف من جديد ،وإن تركه وجاء غريه فإنه يبتدئ ويستأنف من
جديد ،وإن كان االنقطاع لعدم وجود املعدن لكونه ليس متصالً كبحرية أو جبل ،وإمنا هو
أجزاء يف أماكن خمتلفة ،فإذا انقطع نيل املعدن لعدم وجوده يف منطقة العمل واستمر يفتش
وكان انقطاعه قريباً ،فإن هذا االنقطاع ال يقطع حكم الزكاة على ما كان سابقاً ،وإن طال
االنقطاع وأصبح كأنه وجد معدانً من جديد بعد زمن طويل وعمل طويل ،فحينئذ يستأنف
النصاب ويبدأ حيسب من جديد كما لو كان قد وجده اآلن.
اإلمام مالك رمحه هللا يقول :األمور العامة اليت ترجع إىل األمة ال ميلكها واجدها وميثل
ابلنفط وابلقار ويقول :إن استخراجها حيتاج إىل نفقات كبرية ،وإن عائداهتا لرتجع لألمة
أبمجعها ،ولألمة فيها نصيب ،وهنا يقول :إن ويل األمر يضع يده عليها ،وهو الذي
يستخرجها ،ومصرفها هي املصارف العامة للدولة ،كمصرف الفيء الذي يغاير الغنيمة يف
ول َولِ ِذي الْ ُق ْرََب}
اَّلل َعلَى رسولِِه ِمن أ َْه ِل الْ ُقرى فَلِلَّ ِه ولِ َّلرس ِ
َ ُ َ ْ َُ {ما أَفَاءَ َُّ
مصرفه ،فالفيءَ :
[احلشر ، ] 7:فهنا يكون مصرف هذا املعدن العام الذي تتعلق به مصاحل األمة لويل األمر
ينفقه يف املصاحل العامة.
واملصاحل العامة يف الدولة هي اليت توضع ِلا امليزانيات ،فهناك من املصاحل العامة :التعليم،
ومتوين اجليش ،والصحة ،والطرق ،والربيد وكل ما تلتزم الدولة إبقامته ملصلحة العامة مجيعاً،
وال يؤخذ عليه زكاة؛ ألن ويل األمر أو املسئولني جيمعون املال من األفراد كزكوات أو ضرائب،
يفرضوهنا يف حالة احلاجة أو غري ذلك ،وتتكدس عندهم هذه األموال ،فال يؤخذ عليهم فيها
زكاة؛ ألهنم امتلكوها للمصاحل العامة.
58
إذاً :ال أنخذ منهم لنرد عليهم ،فهذه الفكرة العامة عما يتعلق أبمور املعادن.
املعدن الذي تتعلق به الزكاة
ما هو املعدن الذي تتعلق به الزكاة؟ الشافعي رمحه هللا قصره على الذهب والفضة.
وأبو حنيفة رمحه هللا جعله كل ما يذاب ويطبع ويكون سبائك ،وكذلك املالكية واحلنابلة
عمموا كل معدن يف األرض من غري جنسها وله قيمة ،وأدخلوا يف ذلك كل املعادن حىت
الكحل ،والكربيت ،واملضرة ،واملضرة :تربة محراء تكون يف بعض األماكن تؤخذ ويصبغ هبا
الثياب ،وشاهدانها إىل عهد قريب ابملدينة يطلى هبا اخلشب يف السقوف حىت ال أتتيها
دودة األرض اليت تسمى األرضة؛ ألن طعمها مر فال تعيش فيها الدودة اليت تفسد
األخشاب ،وعمر رضي هللا تعاىل عنه ملا رأى على عبد الرمحن بن عوف رضي هللا عنه ثوابً
أمحر ،قال :أتصبغ ابلزعفران؟ قال :اي أمري املؤمنني هذا ليس بورس وال زعفران إنه املضرة،
قال :إنكم رهط يقتدى بكم ،أي :فرياه جاهل فيقول ابن عوف يصبغ ابلزعفران؛ ألنه ال
يفرق بني الزعفران وبني املضرة.
ومن هنا نعلم أن على السادة أو موضع القيادة واالقتداء أن يراعوا ما يقلدهم فيه العامة،
فيتحرزون مما فيه شبهة؛ خمافة أن يقع العامة فيما هو حمرم بناءً على ما يتقلده هؤالء الناس.
إذاً :يهمنا نوعية ما يسمى معدانً عند األئمة األربعة رمحهم هللا :وهذا جممل ما ميكن أن
يقال يف موضوع املعادن وما يزكى منها وما ال يزكى.
زكاة مزارع الدواجن وشركات األمساك وحنوها
وحنب أن ننبه على بعض األشياء وهي :يف خصوص عروض التجارة ،أنه قد جتدون يف
بعض املؤلفات احلديثة :أهنا مل تكن موجودة من قبل ال يف العصر النبوي الشريف وال يف
عصر اخللفاء وال فيما بعدهم ،وإمنا استجدت يف العصور املتأخرة.
وأقول قبل أن نناقش أقواِلم :إن كل ما يستجد أو كل ما استجد اليوم يف عصر احلضارة
واملدنية وما استجد من أنواع االستثمار ليس جبديد على اإلسالم ،بل يوجد له أصل ونظري،
واملتحفظ من املتأخرين ال خيرج عما كان قدميا ويرد املستحداثت إىل نظائرها اليت كانت من
قبل ،والبعض الذي يريد أن يربز رمبا أغفل ذلك ،وحاول أن جيتهد فيلحقها ابلزكاة.
59
ومن ذلك جند من يقول :إن هنالك أموراً استثمارية مل تكن على عهد النيب صلى هللا عليه
وسلم ،وهي تغل على أصحاهبا النماء والغلة الوفرية ،فيجب أن جنعل فيها زكاة ،وميثلون مثالً
مبزارع الدواجن ،يقولون :إهنا تغل على أصحاهبا من البيض ومن حلوم الدجاج والسماد ومن
الشيء الكثري ،وكذلك شركات صيد األمساك ،ألهنا تستثمر فتحصل الشيء الكثري ابآلالف
واملاليني ،خاصةً اآلالت املستحدثة كالبواخر أو السفن.
وهناك أيضاً :ما يتعلق مبعادن البحر أو غري ذلك ،وهناك العمارات الشاهقة كناطحات
السحاب تستثمر ابملاليني ،ويقولون :جيب أن جنعل يف أعياهنا الزكاة.
ونقول :إن من يقول بذلك يفوته األصل األساسي إذا قال :إننا نزكي البيض والدجاج
والسمك ،وهل هناك نصاب للبيض ابلعدد أو ابلكيل؟ هل هناك نصاب للدجاج ابلوزن أم
ابحلبة؟ وكذلك السمك.
وإذا قلنا على قوِلم بزكاهتا فهل نعطي املسكني طبق بيض أو طبقني؟ ماذا يصنع هبا؟! إن
ادخرها فسدت ،وإن سلقها مل يقدر على أن أيكلها! فسيضيع حقه فيها ،وكذلك اللحوم
واألمساك.
فهذه األنواع من األموال املستحدثة ِلا نظائرها يف اخلضروات ،وكذلك فاألمساك موجودة يف
زمن النيب صلى هللا عليه وسلم ،وكذلك اللؤلؤ يستخرج من البحر ،والعنرب يستخرج من
البحر ،كل ذلك كان معلوماً وما سن فيه رسول هللا زكاة.
وإذا أرجعناه إىل القواعد األساسية وقلنا :هذا الذي استخرج اللؤلؤ واصطاد السمك وجاء
ابلعنرب وأقام مزرعة الدواجن ،إنه يبيع ويدخل عليه من مثنها ،فيكون ذلك (من طيبات ما
كسبتم) ،فأمثان هذه املنتجات احلديثة على رأيه سيكون كسباً ومناءً يدخل يف ملكه ويف
خزينته ،فإذا حال عليه احلول زكاه ،كما أنه ال تزكى اخلضروات ولكن تزكى قيمتها إذا حال
عليها احلول ،فنقول :كذلك ،صاحب البيض والدجاج وصاحب السمك وصاحب العنرب
وصاحب اللؤلؤ ،إذا اجتمع عنده بعد نفقته نصاب وحال عليه احلول زكى ،فيزكي قيمة ما
حصل عليه من تلك األشياء اليت ال أصل للزكاة يف أعياهنا.
أما قيمتها فكما تقدم لنا :لو أنه استثمر الرتاب لكان عليه من قيمته الزكاة ،وابهلل تعاىل
التوفيق.
60
كتاب الزكاة -ابب صدقة الفطر
فرض هللا زكاة الفطر طهرة للصائم وطعمة للمساكني ،وقد حدد الشرع مقدارها وحمل
وجوهبا ،وأشار إىل ما ميثله أداؤها من صور التكافل االجتماعي اليت ندب إليها الشرع وحض
عليها.
أمهية صدقة الفطر
يقول املؤلف :عن ابن عمر رضي هللا عنهما قال( :فرض رسول هللا صلى هللا عليه وسلم زكاة
الفطر صاعاً من متر أو صاعاً من شعري على العبد واحلر والذكر واألنثى والصغري والكبري من
املسلمني ،وأمر هبا أن تؤدى قبل خروج الناس إىل الصالة) متفق عليه.
ولـ ابن عدي والدارقطين إبسناد ضعيف( :أغنوهم عن الطواف يف هذا اليوم) .
زكاة الفطر طهرة للصائم
بعدما أهنى املؤلف رمحه هللا تعاىل بيان زكاة األموال أبجناسها املتفق عليه واملختلف فيه جاء
إىل هذا الباب العام الشامل ،وهو :زكاة الفطرة ،ويقال ِلا أيضاً :زكاة الفطرة ،فعلى أهنا زكاة
الفطر -أي :الفطر من رمضان -حينما يفطر الصائمون خيرجون هذه الزكاة كما بني صلى
هللا عليه وسلم الغرض منها من جانبني :طهرة للصائم ،وكما يقول بعض العلماء :زكاة الفطر
ابلنسبة إىل الصوم كسجديت السهو ،فسجدات السهو جترب ما كان من نقص أو خلل يف
الصالة ابلزايدة أو النقص ،وصدقة الفطر جترب أيضاً ما كان من الصائم من خلل يف صومه،
فهناك بعض األمور اليت يغفل عنها الصائم :كلمة بلسانه ،أو نظرة بعينه ،أو حركة بيده أو
حنو ذلك.
يقول جابر رضي هللا تعاىل عنه( :ال يتم صوم الصائم حىت تصوم جوارحه) ،وكذلك احلديث
اآلخر( :من مل يدع قول الزور والعمل به ،فليس هلل حاجة يف أن يدع طعامه وشرابه) .
كذلك جاء يف احلديث( :الصوم جنة ما مل خيرقها ،قالوا :مب خيرقها اي رسول هللا؟ قال:
بكذب أو بسباب) أو كما قال صلى هللا عليه وسلم ،والصائم أو املسلم ليس معصوماً ،فقد
يقع منه بعض تلك األشياء اليت ال تبطل الصوم ،ليست أبكل وال شرب وال وطء ،فصومه
صحيح ،ولكنه جمروح ،فتأيت زكاة الفطر وتعاجل تلك اجلراح اليت وقعت على صومه يف هنار
رمضان.
61
صدقة الفطر طعمة للمساكني
واجلانب الثاين :طعمة للمساكني يف يوم العيد كما سيأيت (أغنوهم عن الطواف يف هذا
اليوم).
هذا معىن زكاة الفطر :أي الفطر من رمضان.
ض} [فاطر ]1:أي: السمو ِ
ات َواأل َْر ِ ومسيت زكاة الفطرة ،والفطرة :اخللقة ْ ِ ِ ِ ِ
{احلَ ْم ُد ََّّلل فَاطر َّ َ َ
خالقها ،وقال تعاىل{ :فِطْرةَ َِّ َّ
اَّلل ال ِيت فَطََر الن َ
َّاس َعلَْيـ َها} [الروم ]30:أي :خلقهم جبلة َ
عليها ،وفطرة اإلنسان مبعىن :صدقة عن بدنه وخلقته يف جسمه ،ويؤيد هذا أيضاً احلديث
اآلخر( :على كل سالمى كل يوم تطلع فيه الشمس صدقة ،وأمر مبعروف صدقة ،وهني عن
منكر صدقة ،وتعني الرجل على دابته صدقة ،وأن تلقى أخاك بوجه طلق صدقة ،وجيزئ عن
هذا كله ركعتان من الضحى) .
فالرسول صلى هللا عليه وسلم جعل على اإلنسان يف أعضائه وحركاته صدقة لكل عضو
يتحرك ،ولعل هذا يف مفهوم العصر احلاضر من عوامل الصيانة ،فهذا اجلسم فيه ثالمثائة
وستون مفصالً ،من فقار الظهر إىل أانمل اليد إىل حركة الفك إىل األسنان.
إىل غري ذلك ،وكل عضو يتحرك حيتاج إىل صيانة ،فتكون الصدقة هي عوامل الصيانة جلسم
اإلنسان ،وهي شكر هلل سبحانه وتعاىل على سالمى من بدنه بعد أداء فريضة الصوم.
وسواء مسيت صدقة الفطر أو مسيت صدقة الفطرة ،إال أن بعض العلماء علق تسميتها صدقة
الفطر حكماً يف وقت وجوهبا ،ألن معىن صدقة الفطر ،أي :الفطر من رمضان يف آخر يوم
يفطر فيه اإلنسان ،وذلك عند غروب الشمس ،فقال :جتب بغروب الشمس من ليلة العيد.
واآلخرون يقولون :جتب بطلوع فجر يوم العيد ،أي :فاخلالف يف مدة الليل فقط من غروب
الشمس إىل طلوع الفجر ،هذا حمل اخلالف ،ويرتتب على هذا اخلالف أمر بسيط ،وهو :أن
من قال بغروب الشمس لو ولد مولود بعد الغروب ،أو مات ميت بعد الغروب فمن قال
بغروب الشمس قال :إهنا وجبت عليه ،ومن قال بطلوع الفجر قال :ال جتب عليه؛ ألنه مل
يدرك الفجر حياً.
املهم أن نتيجة اخلالف نتيجة بسيطة وخفيفة وعلى القول أبن زكاة الفطر تكون متعلقة
بصوم رمضان.
62
وجاءت بعض اآلاثر تفيد أن الصوم معلق بني السماء واألرض بزكاة الفطر ،وعلى أهنا زكاة
الفطرة تكون شكراً هلل على سالمة البدن.
فرضية صدقة الفطر
وبدأ املؤلف رمحه هللا حبديث عبد هللا بن عمر رضي هللا عنهما بقوله :فرض رسول هللا صلى
هللا عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً وذكر األشياء الثالثة :التمر والزبيب والشعري.
احلبل احلجر مبعىن :حز فيه
عند قوله( :فرض رسول هللا) الفرض :مبعىن القطع ،تقول :فرض ُ
ومل يفصله ،ومنه الفرائض :القطعة من الواجبات ،وتقول فرض ،مبعىن ألزم ،أي :أوجب ،فهنا
اجلمهور يقولون :فرض مبعىن أوجب وألزم ،كما تقول :فريضة الصالة ،فريضة الصيام ،فريضة
احلج؛ مبعىن الوجوب ،فمعناه :أوجب صدقة الفطر صاعاً ،ويكون يف هذا احلديث احلكمان:
وجوب زكاة الفطر ومقدارها.
وبعضهم يقول :فرض مبعىن :قدر ،ومنه الفرائض :أي بيان قدر استحقاق الورثة ،كل حبسبه
وبفرضه ،ولكن اجلمهور على أن فرض مبعىن أوجب وألزم ،والفرق بني القولني :هو احلكم
على زكاة الفطر ،أهي فريضة واجبة كزكاة املال والصلوات اخلمس أم هي ليست واجبة؟ فمن
محل كلمة (فرض) على ظاهرها ،وقال :معناها أوجب ،تكون فريضة ،واألئمة الثالثة مالك
والشافعي وأمحد ِلم أقوال يف هذه الناحية ،والقول املشهور :أن زكاة الفطر واجبة ،وواجبة
على رأي اجلمهور مع اختالفهم يف اصطالح الوجوب ،فاألئمة الثالثة :مالك والشافعي
وأمحد أن الفرض والواجب والركن سواء إال يف احلج ،فالفرض فيه شيء والواجب شيء آخر،
فالواجب فيه جيرب بدم أو حنوه ،والفرض أو الركن ال جيرب ببديل عنه ،بل البد من اإلتيان به.
واألحناف عندهم فرق عام بني الفرض وبني الواجب يف الصالة ويف الزكاة ويف الصيام ويف
احلج ،يقولون :هذا فرض ،ويقولون :هذا واجب.
يف كل التكاليف ،وهذا اصطالح خاص ابألحناف ،وعندهم أن الفرض :ما ثبت بدليل
قطعي الثبوت ،فالثابت خبرب قطعي وهو نص القرآن الكرمي أو السنة املتواترة يعترب فرضاً ،وما
ثبت أبحاديث اآلحاد فهذا واجب ،أي أنه دون الفرض بشيء.
فاألحناف يقولون :صدقة الفطر واجبة ،أي :ليست فريضة.
63
واملالكية ِلم أقوال وتفصيالت يف ذلك ،وأما احلنابلة فالثابت عندهم أهنا فرض مبعىن
الوجوب واللزوم ،وكذلك املالكية املشهور عنهم هذا.
وبعضهم يورد بعض النصوص فيقول :زكاة الفطر وجبت أوالً ،مث جاءت زكاة األموال اثنياً،
فبعضهم قال :زكاة األموال نسخت وجوب زكاة الفطر ،ولكن حديث ابن عمر رضي هللا
تعاىل عنهما يف هذا الباب :حممول على اإلجياب ومل يرد له انسخ ،وعلى هذا ميكن أن نقول
بعد مضي هذا الزمان ،وبعد طول الوقت وعمل املسلمني :الكل يتفق على أهنا واجبة ،سواء
قلنا :وجوب األحناف ،أو قلنا :وجوب اجلمهور ،فهي واجبة ومن مل يؤدها فهو آمث.
إذاً :حديث ابن عمر رضي هللا تعاىل عنهما هو األصل يف هذا الباب ،ويبحث يف ابب زكاة
الفطر :فرضيتها -وقد تقدم شيء من ذلك -ومقدارها ،وعلى من جتب ،وعمن جتب ،وملن
جتب ،ومىت وجوهبا ،ومما جتب أيضاً ،هذه النقاط الرئيسية -سبع نقاط يف هذا الباب-
يتناوِلا الفقهاء ،ويبينون ما جاء فيها على اتفاق أو على اختالف.
فقول ابن عمر رضي هللا تعاىل عنه( :فرض رسول هللا) أسند الفرض هنا -وهو اإلجياب
واإللزام -لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،إذاً :يف ظاهر هذا اللفظ أن الفرضية والتشريع
واإلجياب من رسول هللا ،وإذا شرع أو فرض رسول هللا يكون هذا من عند رسول هللا ،وهو
بلغ عن هللا ،ألنه ال شك أنه ال ينطق عن اِلوى ،ولكن هل له حق الفرض والتشريع والندب
أم ليس له حق؟ له حق يف ذلك ،وهللا سبحانه وتعاىل أمر بطاعته صلوات هللا وسالمه عليه
اَّللَ} [النساء. ]80:
اع َّ
ول فَـ َق ْد أَطَ َ {م ْن يُ ِط ِع َّ
الر ُس َ فقالَ :
وقد جاءت نصوص فيها تشاريع منها عن هللا ،ومنها عن رسول هللا متممة ملا جاء عن هللا،
فمثالً :جاء عن هللا سبحانه وتعاىل يف احملرمات من النساء األمهات والبنات واألخوات.
ني} [النساء ] 23:بصرف النظر عن النقاش يف األختني ابلعقد أو ُختَ ْ ِ
ني األ ْ
{وأَ ْن َْجت َمعُوا بَْ َ
َ
األ ختني مبلك اليمني ،فاجلمع بني األختني حمرم بكتاب هللا ،مث جاء عنه صلى هللا عليه
وسلم( :هنى أن تنكح املرأة مع خالتها ،أو مع عمتها) ،فالقرآن جاء ابلنهي عن اجلمع بني
األختني ،وهنا السنة زادت :اجلمع بني املرأة وخالتها ،واملرأة وعمتها ،إذاً :هذه احملرمات يف
السنة زائدة عما جاء يف القرآن ،إذاً :له صلى هللا عليه وسلم أن يفرض وأن يوجب وأن
64
يندب إىل الفعل؛ ألن له حق التشريع؛ وألنه ال ينطق عن اِلوى؛ وألنه إمنا هو وحي {إِ ْن
وحى} [النجم. ]4: ُه َو إَِّال َو ْح ٌي يُ َ
وعلى هذا سواء قلنا :إن األصل يف الفرض كان من هللا أو من الرسول صلى هللا عليه وسلم.
الصالةَ َوآتُوا َّ
الزَكاةَ} [البقرة ]43:مث يف بعث معاذ إىل اليمن صرح يموا َّ وهناك العمومِ :
{وأَق ُ
َ
الرسول صلى هللا عليه وسلم أن هللا الذي فرض الزكاة ،واملقصود هنا يف بعث معاذ زكاة
األموال( :إنك ستأيت قوماً أهل كتاب ،فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن ال إله إال هللا
وأن حممداً رسول هللا ،فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن هللا قد افرتض عليهم صدقة يف
أمواِلم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) ،قد يقول قائل :هذا يف زكاة األموال ،وهذا
الذي قام به معاذ وأبو موسى األشعري يف اليمن ،لكن يقال :عموم الزكاة يف أمواِلم تشمل
زكاة الفطر أيضاً ألهنا زكاة.
إذاً :املشروعية أساساً كانت من هللا سبحانه وتعاىل ،والرسول مبلغ عن هللا ،سواء ذكر لنا
املصدر من هللا أو منه صلى هللا عليه وسلم ،فهو ال ينطق عن اِلوى ،إن هو إال وحي
يوحى.
مث جاء ابملقدار وابألصناف اليت خترج منها زكاة الفطر ،وإذا أراد إنسان أن يتكلم يف النواحي
اجلانبية أو االجتماعية أو األخوية جيد أن هذا التشريع الكرمي قوى عوامل ارتباط املسلم
أبخيه؛ ألنه العامل الذي جيمع بني طبقات اجملتمع على اختالف أنواعها ،فنجد التعميم
والشمول :الذكر واألنثى واحلر والعبد والصغري ،الكبري ،فهي أمشل من زكاة املال يف من جتب
عليه ،فكل مسلم عليه زكاة الفطر ،ولو كان رقيقاً ال ميلك شيئاً ،فسيده يدفع عنه ،والصغري
ال ميلك شيئاً فوليه يدفع عنه.
وقد يقول بعض القائلني :هي طهرة للصائم ،والصغري ليس عليه صيام ،فلماذا خنرج الزكاة
عنه؟! وقد نقل عن بعض السلف أنه ال زكاة عليه ،ولكن نقول :ليست املهمة طهرة للصائم
الفعلي فقط ،بل إهنا لعامة أفراد األمة املسلمة :الذكر ،األنثى ،احلر ،العبد ،الصغري ،الكبري؛
لشمول العطاء.
وإذا نظران إىل اجملتمع الفقري والغين ،األغنياء فيهم كبار وفيهم أطفال صغار ،والفقراء فيهم
كبار وفيهم أطفال صغار ،فتكون زكاة الصغار من األغنياء تقابل الصغار من الفقراء،
65
ويكون الشمول عاماً ،وسيأيت احلديث عنه إن شاء هللا عند قوله( :أغنوهم عن الطواف يف
هذا اليوم) .
الصاع النبوي واملسائل املتعلقة به
أما قوله صلى هللا عليه وسلم( :صاعاً) فالصاع وحدة مكيال ،وهو املأثور عن النيب صلى هللا
عليه وسلم ،وكان يف زمن النيب صلوات هللا وسالمه عليه املد ،وهو ربع الصاع ،والصاع هو
املكيال العام ،وما كان يوجد أنواع من املكاييل يف زمن النيب صلى هللا عليه وسلم إال هذين
النوعني :الصاع واملد النبويني.
والصاع كان معروفاً ومتداوالً ،وال حاجة إىل بيان الرسول لكميته أو مقداره ،وكما يقول
صلى هللا عليه وسلم( :ما بني بييت ومنربي روضة من رايض اجلنة) ،فال حاجة إىل التعريف
أبن يقول :بييت يقع يف الشرق ،املنرب يقع يف الغرب ،طوله كذا وعرضه كذا ال حاجة ِلذا؛
ألهنا معروف ة ابلتواجد واملشاهدة واحلس ،فكذلك الصاع ،ولكننا مع طول الزمن وتغري
األحوال أصبحنا اآلن قد ال جند الصاع ،وقد ال يعرفه إنسان ،فكيف نعرف هذا؟ واجب
على كل مسلم ،أو كل حارة ،أو كل بيت كبري أن يوجد الصاع لديهم؛ ألنه على هذا الصاع
تتوقف أحكام كثرية :اإلطعام يف الكفارة ،الفطر يف رمضان ،أنصبة الزكاة ،مخسة أوسق،
والوسق ستون صاعاً ،فإذا فقد الصاع كيف نعرف أنصبة احلبوب والتمور؟ وكيف نعرف
مقدار صدقة الفطر؟ وكيف نعرف اإلطعام يف الكفارات على من كفارته اإلطعام؟ فهذه أمور
شرعية يكلف هبا اإلنسان ويضطر إليها ،فالبد أن يكون عند كل شخص صاع ،وخاصة يف
املدينة؛ ألهنا األصل الذي يرجع إليها عامة بالد املسلمني ،الذي يف األندلس ،والذي يف
أورواب أو يف أي جهة كانت ،وأراد أن يطبق الشريعة اإلسالمية فيما جيب عليه من انحية
املقدار ابملكيال ،فإنه سيأيت ويسأل أهل املدينة :ما هو الصاع عندكم اي أهل املدينة؟ وِلذا
ملا اختلف أبو يوسف مع مالك رمحهما هللا ،وذلك حني جاء أبو يوسف من العراق إىل
املدينة وسأل عن الصاع؛ ألن املدينة هي األصل يف ذلك ،فاملكيال مكيال املدينة ،والوزن
وزن مكة ،وِلذا ذكران سابقاً ضرورة توحيد املكيال وامليزان يف الدولة ،سواء اتفقوا على الصاع
أو على الرطل أو على األوقية -أي :الكيلو -جيب أن تكون املوازين واملكاييل موحدة يف
الدولة ،حىت ال خيتلف الناس.
66
وملا جاء أبو يوسف إىل املدينة وكان مع هارون الرشيد سأل مالكاً :كم الصاع عندكم؟ قال:
مخسة أرطال وثلث ،أي :ابلرطل العراقي.
قال :لكنه عندان مثانية أرطال.
يعين :هناك فرق زائد ،وهو رطالن وثلثان زايدة ،فبماذا أجابه مالك؟ طلب من احلاضرين أن
من كان عنده صاع يف بيته خيرج عليه زكاة الفطر فليأتنا به غداً ،ومن الغد أييت اآليت وخيرج
من حتت ردائه مكياالً ويقول :حدثين أيب عن جدي أهنم كانوا خيرجون الزكاة به على عهد
رسول هللا ،واجتمع عند مالك يف احللقة حنو مخسون صاعاً ،وأبو يوسف حاضر وشاهد،
وما هناك اتفاق وال تواطؤ على أن نصنع صياعاً ونقدمها ،فهي موجودة قبل الطلب ،وهذا
أييت من ميني وهذا أييت من يسار ،وهذا يروي عن أبيه عن جده عن جدته ،فوجد أبو
يوسف األمر قطعياً ،وهذا هو مدلول التواتر.
فيقول أبو يوسف :فنظرت يف تلك الصيعان فوجدهتا متحدة.
يعين :يف مقاس واحد ،فأخذت واحدة منها -ألن الواحد يغين عن اجلميع -فذهبت إىل
السوق فعايرته بعدس املاش فإذا وزنه مخسة أرطال وثلث.
وملا رجع إىل العراق قال ِلم :أتيتكم بعلم جديد.
قالوا :وما هو؟! قال :وجدت الصاع مخسة أرطال وثلث.
قالوا :خالفت شيخ القوم! يعين :خالفت اإلمام أاب حنيفة رمحه هللا ،فقال :رأيت أمراً مل أجد
له مدفعاً.
وهذا هو العلم الضروري الذي يقول عنه علماء احلديث :إن التواتر يفيد العلم خبالف
اآلحاد فإنه يفيد غلبة الظن ،وغلبة الظن ميكن أن تنفيها ،وميكن أن تشكك فيها ،لكن علم
اليقني ال ميكن أن تدفعه عن نفسك ،ألنه علم ضروري.
ومعىن (ضروري) :لو أردت أن تدفعه عن خميلتك مل تستطع ،هذا رجل وتلك امرأة ،ال
تستطيع أن تدفع عن ذاكرتك الفارق بني الرجل واملرأة؛ ألهنا حقيقة واقعية.
وهنا :الصاع كان معلوماً زمن النيب صلى هللا عليه وسلم ،وِلذا ذكره دون أن يتعرض إىل
مقداره ،وظل الصاع موجوداً دائماً إىل عهد بين أمية فجعلوا صاعاً للسوق ،يسع ثالثة آصع
67
من صاع النيب صلى هللا عليه وسلم ،والصاع النبوي أربعة أمداد ،وهؤالء جاءوا مبد يعادل
ثالثة صيعان ،يعين :اثين عشر مداً ابملد النبوي ،فاختلفت املكاييل.
مث ال زال الناس يتوارثون الصاع يف املدينة إىل عهد قريب ال يزيد عن عشر سنوات ،وكان هو
وحدة املكيال يف السوق يف البيع والشراء ،إىل أن دخل تالعب يف التمور يف األسواق مع
احلجاج ،فجاء األمر إببدال الكيل إىل الوزن ،وأصبح الوزن بوحدة الكيلوجرام هي املقدار
الذي يتبايع عليه الناس ،سواء كان املبيع األصل فيه الكيل كجميع احلبوب والتمور ،أو كان
األصل فيه إمنا هو الوزن فهو على طريقه.
وجاء عن العز بن عبد السالم رمحه هللا أنه قال :جيب على األمة اتباع ويل أمرها يف أربعة
أمور :وحدة الكيل ،ووحدة الوزن ،ونوعية النقد ،وأمر احلرب إعالانً أو هدنة :فإذا اختار ويل
أمر أمة نوعاً من املكيال سواء الصاع النبوي ،أو مكياالً يسع صاعني أو ثالثة ،أو غري
ذلك ،وجب اتباعه ،وكذلك وحدة الوزن من أوقية أو رطل أو كيلو فعلى األمة أن متتثل
بذلك لتحقيق وحدة الوزن يف الدولة ،وهكذا أصبحت كل دولة ِلا وحدة مكيال تتعامل به
يف األسواق ،وهذا ال غبار عليه ،يبيع الناس كيف شاءوا ،إذا قيل :مقدار هذا الوعاء يسع
مخسة آصع بعشرة رايل ،وجيء بنصفه وبربعه واعتربت هذه وحدة مكاييل جتزأ ابألنصبة
نصف وثلث وربع.
إخل فال مانع م ن ذلك؛ ألهنا معاوضة سلعة مبال ،ولكن إذا جئنا إىل احلكم الشرعي فالبد
من تعيني املقدار الذي عينه الشارع ،والشارع عني ابلصاع.
وِلذا حنث اإلخوة على أن يكون الصاع موجوداً يف بيوهتم ،بل إن أهل املدينة إىل العهد
القريب -كما قلنا -كانوا جيعلون الصاع يف بيوهتم ،وعلى موضع الدقيق أو الرب أو األرز
يغرفون به التماساً لربكة دعوة النيب صلى هللا عليه وسلم( :اللهم ابرك لنا يف صاعنا ويف مدان)
فكان بدالً من أن أييت إبانء يغرف به أو يغرف بيده ،أييت ابملد ويغرف به من الدقيق إىل
الوعاء الذي يريد أن يصنع فيه الطعام ،ويقول :اللهم ابرك لنا يف مدان ،فاغرتافه ابملد يلتمس
بركة دعوة رسول هللا.
68
وملا أوقف التعامل ابلصاع واملد تغافل الناس عن ذلك ،وأصبحوا يتعاملون ابلوزن على وحدة
الكيل كوحدة مئوية -يعين :ألف جرام -وأصبحت وحدة عاملية يتعامل هبا العامل كله أو
يعرفها العامل كله.
والوقت احلاضر ابلبحث عن أجرام الصيعان اليت كانت موجودة ،ووجود بعض النوادر عن
بعض من حيتفظ هبا ،قد يقع بعض االختالف ،وهناك جلنة املواصفات يف الرايض عملت
مسحاً جلميع أطراف اململكة ،وأخذت مناذج مما يوجد من الصيعان ،فتقاربت؛ ألن أصل
التقدير التقارب.
فالصاع أربعة أمداد ،واملد ملء كفني متوسطتني إلنسان متوسط ،وطبعاً ال ميكن أن تتعادل
مجيع احلفنات ابجلرام ،أنت بنفسك لو حفنت مرة وجعلتها يف كفة ،مث حفنت مرة أخرى يف
كفة اثنية ستختلف ،إذاً :املسألة تقريبية ،والصيعان اليت وجدوها يف مناطق اململكة متقاربة،
ختتلف يف مائة جرام يف مخسني يف مائة ومخسني يف مائتني جرام ،يعين :حفنة يد ال أقل وال
أكثر.
فمما وجدانه ابلتجارب أن مكيلة الصاع نوعان :مكيلة متأل إىل احلافة وتزيد فيها التسنيم
الذي فوق حافة الصاع ،كالشكل اِلرمي الذي يكون على حافة الصاع من فوق ،فتبدأ
قاعدته بسعة فتحة الصاع وينتهي إىل أعلى على شكل اِلرم ،هذه اليت فوق فتحة الصاع
على شكل اِلرم ختتلف ابختالف فتحات الصيعان ،فهناك صاع يكون طويالً وفتحته قطرها
( 5سم) ،فطبعاً قاعدة هرمها ستكون صغرية ،ومساحة املثلث -كما يقولون -نصف
القاعدة يف االرتفاع ،فإذا كانت فتحة الصاع كبرية سيكون التسنيم فوق الفتحة كبرياً بال
شك ،إذاً :العربة هنا يف التعبري أو يف التعيري أو يف املعايرة تكون على فتحة الصاع بدون تلك
الزايدة ،وبتجربة ذلك :أنواع احلبوب خيتلف وزهنا ،كما يقول الفقهاء :فيوجد فرق بني التمر
وبني احلمص ،فليس احلمص يف رزانة وثقل التمر ،ألن التمر أثقل.
فقالوا :هناك أمور تقديرية؛ ألن بعض احلبوب أرزن وأثقل من بعض ،وكذلك بعض احلبوب
يكون مرصوفاً ،وبعض احلبوب يكون متجافياً -فيه فجوات وفراغ -فعندما تكيل صاعاً من
الشعري وتكيل صاعاً من األرز ،هل فجوات األرز بعضها مع بعض تكون مثل فجوات
69
حبات الشعري ،أم أن حبات الشعري فيها فراغ أكثر؟ فيها فراغ أكثر ،إذاً :يرجع إىل الرزانة
وإىل تالصق احلبات اليت تكيلها.
إذاً :املسألة تقريبية ،ولكن لو كان التعيري ابملاء ،فاملاء وحدة تتفق يف املقياس ويف الوزن ،أي:
املقياس التعكييب وهو اجلرم ،والوزن ابجلرام ،فبالتجارب وجدان أن الصاع الذي يتفق مع غلبة
الظن ابلصاع النبوي الذي كان يتعامل به يف املدينة املنورة ،وكان امللك عبد العزيز رمحه هللا
إذا صنع الصاع من اخلشب ،ختم عليه إذا عوير ابلصاع املعرتف به عند العلماء ،ولذلك
كانوا يقولون :الصاع املختوم.
يعين :الذي ختم خبتم الدولة أبنه مطابق للصاع الشرعي.
اآلن وجدت صيعان من احلديد ،ومن الزنك ،ومن النحاس ،فبتعيري تلك الصيعان اليت
صنعت جديداً على الصيعان اليت وجدت قدمياً خمتومة ،وجدان سعة الصاع ابملاء ثالمثائة
وثالثة آالف جرام ،فإذا كنا وجدان أي مكيال( :جلن) ،أو علبة حليب ،أو علبة مسن،
وكان سعتها ابملاء ثالثة كيلو فهذا أول وزن الصاع ،فثالثة كيلو أحياانً يكون فيها زايدة مائة
جرام أو مخسني جراماً على ما أظن ،وهذا أمر تقرييب ،ومساحتها ابلعدس اثنني كيلو
وستمائة جرام ،فإذا وجدان أي ظرف ،أو أي وعاء حيمل من املاء ثالثة كيلو ومائة جرام على
التحديد فهذا هو الصاع ،ثالثة كيلو ومخسني جراماً ،ثالثة كيلو تنقص شيئاً بسيطاً ،فال
يضر ،واحلق املعتدل :ثالثة كيلو من املاء ،وإذا كان حيمل من العدس خاصة -ألهنم يقولون
العدس اجملروش يتالصق وال
األصناف اليت ُخترج منها زكاة الفطر
وعلى هذا إذا عرفنا مقدار الصاع فإن مكيلة الصاع من األصناف اليت مسيت يف احلديث هو
خمرج زكاة الفطر ،واحلديث جاء فيه متر ،وجاء فيه زبيب ،وجاء فيه طعام ،وجاء فيه شعري،
وجاء فيه أقط ،وجاء فيه دقيق ،وجاء سويق ،كل هذه املسميات خيرج منها زكاة الفطر.
مث جند بعض الناس يتكلم على الدقيق أو األقط ،ومنهم من يقول :إن إخراج األقط يكون
إذا كانت الزكاة يف البادية؛ ألن أهل البادية هم الذين يستفيدون منه دون أهل احلاضرة،
ويالحظ عند الدقيق أن يكون الكيل زائداً عن احلب؛ ألن احلب إذا طُحن يزيد يف مكياله،
70
وإن كان ال يزيد يف وزنه ،لكن يف املكيال قد خيتلف ،فإذ كان سيكيل دقيقاً فإنه يزيد يف
املكيال ما يعوض الفرق بني احلب املضغوط وبني الدقيق املنفوش.
وهللا تعاىل أعلم.
إخراج الزكاة من غالب قوت البلد
وهنا مسألة :هذا احلديث نص على أعيان بذاهتا ،إذا مل توجد هذه األصناف أو وجد غريها
معها ،فهل يتعني إخراج زكاة الفطر من املسميات :متر ،زبيب ،شعري ،قمح ،أقط ،دقيق،
سويق ،أو جيوز إخراجها مما أيكل منه الناس؟ جند الفقهاء يقولون :جتب من غالب قوت
البلد ،فإذا وجد صنف جديد مل يكن موجوداً من قبل ،فمثالً :اآلن وجد األرز والذرة
والدخن ،وكل هذه مطعومات ،فإذا مل توجد تلك األصناف املسماة يف احلديث فهل جتزئ
من هذه األصناف اجلديدة أم ال؟ اجلمهور على إجزائها؛ ألهنا تتفق مع األصناف األخرى
يف أهنا قوت املواطنني ،وعلى هذا جيوز إخراج األرز ،بل هو اآلن أكثر وأغلب أنواع األقوات
املوجودة ،وجيوز إخراج الذرة إذا كانت تستعمل يف اخلبز ،وكذلك الدخن ،وكل ما استجد
من حبوب تكون قواتً للناس ومن غالب قوت البلد.
إخراج الزكاة من غالب قوت املزكي
وبعضهم يقول :من غالب قوت املزكي ،فإذا كان املزكي أيكل ُدخناً ،ويوجد الرب والشعري
والذرة والتمر ،فهل يتعني أن خيرج مما أيكل منه؟ قالوا :إن كان أيكل من األدىن وترك األعلى
شحاً وخبالً مل جيزئه إال األعلى ،وإن كان أيكل ذلك لنزوله يف البلد فهو كسائر الناس ،فإنه
جيزئ ذلك.
وابن عمر رضي هللا تعاىل عنه كان يتحرى إخراجها من التمر؛ ألنه عنده أفضل من غريه،
وهو يف الواقع طعام جاهز ال حيتاج إىل طحن كالرب ،وال إىل عجن وخبز كاحلبوب ،وكما
قيل( :هو طعام املسا فر ،وفاكهة املقيم ،أو :طعام الفقري وفاكهة الغين) فالتمر طعام جاهز،
وِلذا كان ابن عمر رضي هللا تعاىل عنهما يزكي كل سنة ابلتمر إال سنة واحدة أعوز فيها
التمر فأخرج الرب.
71
حديث أيب سعيد اخلدري يف زكاة الفطر
قال املؤلف :وعن أيب سعيد اخلدري رضي هللا عنه قال( :كنا نعطيها يف زمن النيب صلى هللا
عليه وسلم صاعاً من طعام أو صاعاً من متر أو صاعاً من شعري أو صاعاً من زبيب) .
قول أيب سعيد رضي هللا عنه( :كنا نعطيها يف زمن النيب صلى هللا عليه وسلم) ،أي :وهذا
هو زمن التشريع؛ ألنه إبشراف وتوجيه من النيب صلى هللا عليه وسلم ،وال يصلح آخر األمة
إال مبا صلح عليه أوِلا ،وهذا من ميزة املدينة وسكاهنا زمن النيب صلى هللا عليه وسلم ومن
بعده؛ ألهنم أيخذون مباشرة عن رسول هللا ،أو يعملون ويقرهم على عملهم رسول هللا ،مث
بعد ذلك خلفاؤه الراشدون ،مث بعد ذلك التابعون ِلم إبحسان ،وهلم جرا.
فهنا يذكر الشعري مع احلنطة (الطعام) ،وأنه خيرج منها صاع ،إذاً :هذا العمل خيالف ما رآه
معاوية ،ولكن ال ينبغي أن نكثر القول على معاوية؛ ألنه مل يقل( :مسعت رسول هللا)
فيتعارض مع قول أيب سعيد أو مع قول غريه ،وإمنا قال( :أرى) ،وما دامت القضية قضية
رأي ،والرأي متبادل إما قبلتموه أو رفضتموه ،فإذا وجدمت غريه أفضل فأنتم ترفضونه ،وقد
وجدان هذا األثر عن أيب سعيد ،وأثبت أنه كان يعطي زمن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم
صاعاً من الرب الذي يرى معاوية أن نصف الصاع منه جيزئ ،وهذا كاف يف رد الرأي الذي
رآه معاوية مبا ذكره غريه مرفوعاً إىل النيب صلى هللا عليه وسلم.
قال املؤلف :ويف رواية( :أو صاعاً من أقط) قال أبو سعيد :أما أان فال أزال أخرجه كما كنت
أخرجه يف زمن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم.
ولـ أيب داود :ال أخرجه أبداً إال صاعاً .
هذا األسلوب له داللته البالغية ،يقول( :أما أان) ،أي :أان أحتدث عن نفسي ،إذاً :هناك
من يتحدث عن غريه.
أما قوله( :أما أان) فهو رد على رأي معاوية ألنه يقول :أان أرى أن نصف صاع من الرب
يكفي ،أي :فأنت ترى نصف صاع من الرب يكفي (أما أان فال أزال أخرجها كما كنت
أخرجها زمن النيب صاعاً) .
72
إذاً :نعلم من هذا األسلوب (أما أان) أبن هناك رأايً مقابل رأي ،وهذا املقابل مغاير ،إذاً:
تقابل رأي برأي ،وأحد الرأيني جمرد رأي واجتهاد ،والرأي الثاين مبين على العمل الذي كان
يف عهد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم.
فإذاً :ال شك أننا أنخذ برأي أيب سعيد اخلدري ،وهذا مل يعد رأايً ،بل أصبح قوالً ينقله وخرباً
يسوقه إلينا ،كأنه يقول :ال أتخذوا برأي معاوية؛ ألننا كنا زمن النيب صلى هللا عليه وسلم
خنرج صاعاً ،لكن أتدابً مع ويل األمر معاوية فال ينبغي أن جيابه هبذه الصيغة وال هبذا
األسلوب ،ومن أساليب األمر ابملعروف والنهي عن املنكر أن يكون ابحلكمة واملوعظة
احلسنة.
فكأنه قال :اي معاوية! لك رأيك ،واي من أخذمت برأيه لكم آراؤكم ،ولكن أان يف خاصة
نفسي ،وال أملك إلزاماً عليكم ،وال أطاوعكم فيما أعتقد خالفه.
إذاً :هذا املنهج يعطينا طريقة املغايرة ،وطريقة اإلنكار أبدب وحبكمة دون جتريح أو جماهبة،
فقال :أما أان ،أي :يف حد نفسي ،والذي يريد أن أيخذ بكالمي فهو حر ،والذي يريد أن
أيخذ برأي معاوية فهو حر.
حديث ابن عباس يف زكاة الفطر
قال املؤلف :وعن ابن عباس رضي هللا عنهما قال( :فرض رسول هللا صلى هللا عليه وسلم
زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكني ،فمن أداها قبل الصالة فهي
زكاة مقبولة ،ومن أداها بعد الصالة فهي صدقة من الصدقات) رواه أبو داود وابن ماجة،
وصححه احلاكم .
زكاة الفطر جترب الصوم الناقص
حديث ابن عباس هذا رضي هللا تعاىل عنه قال( :فرض رسول هللا صلى هللا عليه وسلم زكاة
الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث ،وطعمة للمساكني) .
إذاً :صدقة الفطر ِلا مهمة مزدوجة ،مهمة للمعطي ومهمة لآلخذ ،فمهمتها مع من يعطيها
سالمة صومه ،وجرب ما عساه قد طرأ عليه من نقص ،وقد جاء عنه صلى هللا عليه وسلم أنه
قال( :الصوم جنة ما مل خيرقه.
قالوا :مباذا اي رسول هللا؟ قال :بسباب أو فسوق أو شتام أو حنو ذلك) .
73
إذاً :الصوم قد يكون درعاً سابغاً سليماً وافراً ،وقد يكون خمرقاً حيتاج إىل ترقيع وتلحيم ،فتأيت
زكاة الفطر وتلحم هذه الثقوب أو تصلح هذا الفساد الذي طرأ على الصوم من لغو أو
رفث.
فالزكاة من حيث هي عبادة جترب النقص ،وتكفر املعصية؛ ألن ما خرق جنة الصوم إال
بعصيان ،والعصيان حيتاج إىل تكفري ،فكانت زكاة الفطر تكفر أخطاء الصائم ،قال تعاىل:
ات} [هود. ]114: السيِئَ ِ
ْب َّ {إِ َّن ْ ِ ِ
احلَ َسنَات يُ ْذه ْ َ
وهكذا كما جاء عنه صلى هللا عليه وسلم فيما يتعلق بربط انفلة الصالة مع فريضتها،
وكذلك انفلة الصوم مع فريضتها ،وأييت هذا العامل اجلديد وهو زكاة الفطر مع الصوم وهي
من غري نوع الصيام ،فنافلة الصالة كما جاء عنه صلى هللا عليه وسلم أنه حينما حياسب
العبد على الفريضة يف الصالة ويوجد فيها نقص أو خلل ،يقول املوىل سبحانه للمالئكة:
(انظروا هل لعبدي من نوافل؟ فيقولون :بلى اي رب.
فيقول :اجربوا فريضته من نوافله) .
إذاً :هذه النافلة جربت نقص الفريضة من نوعها ،وجاء خرب عن ابن عباس رضي هللا تعاىل
عنهما فيه( :وكذلك الصيام) ،يعين أنه ينظر يف فريضة الصيام ،فإذا كان فيها نقص سأل
املوىل سبحانه املالئكة -وهو أعلم بذلك :-هل له من انفلة يف الصوم؟ فيقولون :بلى.
فيقول :اجربوا فريضته من نوافله.
وسيأيت يف انفلة الصدقة املقارنة بينها وبني الفريضة ،ويف احلديث( :ما تقرب إيل عبدي
بشيء أحب إيل مما افرتضته عليه ،وال يزال عبدي يتقرب إيل ابلنوافل حىت أحبه) وسيأيت
التنبيه عليه يف ابب صدقة التطوع.
كيف تكون الفطرة طهرة للصغري وليس عليه صوم؟
قوله( :طهرة للصائم) يفيد أن زكاة الفطر تعمل ملعطيها أعظم نعمة عليه ،وهي :أهنا جترب
صومه مما يكون قد أمل به.
وهنا يقول بعض العلماء :صدقة الفطر طهرة للصائم ،وأول حديث مسعناه يف هذا الباب:
(فرض رسول هللا صلى هللا عليه وسلم زكاة الفطر على الصغري والكبري ،والذكر واألنثى)
فالصغري ليس عليه صيام؛ ويف احلديث اآلخر( :طهرة للصائم) فماذا تفعل زكاة الصغري؟
74
وملاذا نزكي عن الصغري زكاة الفطر؟ فأجابوا عن ذلك أبنه كما يوجد صغري غين مل يصم،
هناك صغري فقري مل يصم حيتاج إىل أن يطعم ،وجعل هللا سبحانه وتعاىل على ويل هذا الصغري
القادر وطعمة للصغري احملتاج الذي يعوزه الطعام ،وحنن قلنا :تسمى زكاة الفطر الذي هو
ضد الصوم ،وتسمى زكاة الفطرة اليت هي اخللقة ،فعلى تسميتها زكاة الفطرة فالصغري مفطور
وخملوق ،عليه شكر النعمة يف سالمته ،ويف وجوده ،والذي يؤدي على الصغري وليه ،إذاً :ال
اعرتاض على ذلك ،وتعميم التشريع يكون على الصغري والكبري ،وهو له حظ أيضاً يف قوله:
(طهرة للصائم) .
فإذا زكى ويل الصغري عن صغريه ،وصغريه ليس يصوم وال حيتاج إىل طهرة صومه ،فيعود أثر
هذه الفطرة وهذه الزكاة على ويل الصغري ،وهللا تعاىل أعلم.
عالقة الزكاة بتطهري الغين والفقري
قال( :طهرة للصائم وطعمة للمساكني) أي :مقابل ما حيصل عليه املتصدق حيصل عليه
اآلخذ املتصدق عليه ،فتكون الفائدة مشرتكة بينهما ،وطعمة املسكني يف ذلك اليوم هي ما
جاء بقوله( :اغنوهم) .
وإذا نظران إىل القرآن الكرمي جند هذه االزدواجية يف مهمة الزكاة العامة وهي زكاة األموال؛
{خ ْذ ِم ْن أ َْم َواِلِِ ْم
ألن املوىل سبحانه وتعاىل يقول لرسوله الكرمي صلوات هللا وسالمه عليهُ :
ص َدقَةً} [التوبة ] 103:فاسم الصدقة مشل زكاة املال ،ومشل صدقة الفطر ،فماذا تصنع هذه َ
الزكاة؟ قال{ :تُطَ ِه ُرُه ْم َوتـَُزكِي ِه ْم} [التوبة ]103:قالوا(( :تطهرهم وتزكيهم)) البعض يقول:
تطهر األغنياء يف نفوسهم ،وتزكي أمواِلم ،واآلخرون يقولون :لكل واحدة من هاتني
الكلمتني جهة ،فعندما ينظر الفقري إىل مال الغين ،ويذهب الغين وجيين ماله ،وليكن مثالً مما
تنبت األرض ،وذهب صاحب البستان وجذ خنله ،وأخذ التمر إىل خمازنه ،واملسكني يتطلع
إليه ومل جيد مترة واحدة منه ،فالذي حيدث يف نفس املسكني بغريزته وطبيعته أنه حيسده وحيقد
عليه؛ ألنه يرى بعينه ما يتمتع به هذا الغين مما أعطاه هللا ،وهو وهللا ما أنبت النخلة حينما
غرسها ،وال أ طلع طلعها حينما أطلعت ،وال أنضج مثرهتا حينما طابت ،وال أتى بثمارها
ومترها ،بل هللا الذي صنع له كل ذلك وهو انئم يف بيته ،انئم يف ظل النخلة وهي تعمل كل
ذلك إبرادة هللا.
75
فهذا الفقري الذي جبانبك هو عبد هلل مثلك ،صلته ابهلل كصلتك ،وهو خملوق مثلك متاماً
فلماذا ال تفيض عليه مما أفاض هللا عليك؟! فإمساك الغين ملاله وعدم إخراج زكاته ،والفقري
يرى بعينه ،جيعله حيقد عليه وحيسده؛ وِلذا جاءت املبادئ اإلسالمية تلزم الغين أن يشرك
الفقري يف ماله بقدر معلوم وهو الزكاة.
فهنا الفقري إذا تعطلت فريضة الزكاة حقد على الغين ،وتدنس الغين حبق الفقري الذي يف
ذمته ،وأصبحت اجلرمية يف اجلانبني ،فتأيت الزكاة وتصلح هذا الفقري وتطهره من حقده
وحسده ونظرته وعداوته إىل الغين؛ ألنه أخذ حقه وافياً ،فيقف ويقول :اللهم ابرك له فيما
أعطيته ،اللهم ابرك له يف مثره ويف ماله.
((وتزكيهم)) أي :وتنمي أموال هؤالء ،ولقد علمنا -اي إخوان -وجاءتنا األخبار الصادقة من
كتاب هللا ومن سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يف الصدقة بعينها ،بل جند القرآن الكرمي
يذكر قصة أصحاب اجلنة{ :إِ َّان بـلَو َانهم َكما بـلَو َان أَصحاب ْ ِ
َّها اجلَنَّة إِ ْذ أَقْ َس ُموا لَيَ ْ
ص ِرُمنـ َ َ ْ ُْ َ َ ْ ْ َ َ
ف ِم ْن اف َعلَْيـ َها طَائِ ٌ
ني * َوال يَ ْستَـثْـنُو َن} [القلم ]18-17:ماذا كانت النتيجة؟ {فَطَ َ صبِح َ
م ِ
ُ ْ
ني * أ َِن ا ْغ ُدوا َعلَى َح ْرثِ ُك ْم إِ ْن ُكنتُ ْم الص ِرِمي * فَـتَـنَادوا م ِ
صبِح َ َ ُْ ت َك ََّصبَ َح ْ ِ
ك َو ُه ْم َانئ ُمو َن * فَأ ْ َربِ َ
ني} َّها الْيَـ ْوَم َعلَْي ُك ْم ِم ْسكِ ٌ ني * فَانطَلَ ُقوا َو ُه ْم يـَتَ َخافَـتُو َن * أَ ْن ال يَ ْد ُخلَنـ َ
ِ
صا ِرم َ َ
ف ِم ْن اف َعلَْيـ َها طَائِ ٌ [القلم ]24-19:فهؤالء منعوا الصدقة ،فماذا كانت النتيجة؟ {فَطَ َ
ضالُّو َن * بَ ْل َْحن ُن ك َو ُه ْم َانئِ ُمو َن} [القلم ، ]19:إىل أن قال{ :فَـلَ َّما َرأ َْوَها قَالُوا إِ َّان لَ َ َربِ َ
ال أ َْو َسطُ ُه ْم أََملْ أَقُ ْل لَ ُك ْم لَ ْوال تُ َسبِ ُحو َن} [القلم. ]28-26:
ومو َن * قَ َ َْحم ُر ُ
وهناك يف السنة النبوية :قصة الرجل الذي كان ميشي يف فالة من األرض فيسمع صواتً يف
السحاب( :اذهيب فأمطري يف مزرعة فالن) ،فتطلع إىل أن يرى من هو فالن الذي يسوق
هللا السحاب إىل مزرعته لتسقيها ،وألي شيء؟ فيسري يف ظل السحابة ،فإذا هبا أتيت إىل حرة
وإىل مكان متسع فتمطر ،واملاء يتجمع ويتحول وميشي يف طريقه ويصب يف مزرعة فالن،
وفالن قائم حيول املاء مبسحاته يف األحواض ،فقال له :السالم عليك اي فالن.
نظر إليه فالن هذا فلم يعرفه ،قال :وكيف عرفت امسي وأان مل أعرفك؟! قال :أخربين أوالً
ماذا تفعل يف مزرعتك هذه؟ قال :وملاذا تسأل؟ قال :مسعت صواتً يف السحاب.
وأخربه ابخلرب ،قال :فجئت حىت وصلت إليك وعرفت امسك من صوت السحاب.
76
قال :إن كان األمر كذلك فإين عندما أحصد أقسم الغلة ثالثة أقسام ،قسم أحتفظ به ألرده
فيها ،وقسم أدخره لنفسي وأهلي سنة ،والقسم الثالث أتصدق به.
قال :هبذا سقيت.
فهنا املسكني إذا مل أيخذ شيئاً فنار حقده يف قلبه حترق هذا املال؛ ألن فيه حقاً له ،وإذا
أخذ حقه ابت ليله حيرس مال جاره؛ ألنه اطمأن أنه سيأتيه منه الرزق.
إذاً :هي طهرة للصائم وطعمة للمساكني ،ومها متقابالن ،وكذلك هناك{ :تُطَ ِه ُرُه ْم َوتـَُزكِي ِه ْم
ِهبَا} [التوبة. ]103:
وقت وجوب زكاة الفطر
قال( :فمن أداها قبل الصالة فهي زكاة مقبولة ،ومن أداها بعد الصالة فهي صدقة من
الصدقات) .
رواه أبو داود وابن ماجة وصححه احلاكم.
هذا القسم من احلديث أشكل على كثري من الناس ،هي طعمة وهي طهرة ،ومع ذلك قال:
(فمن أداها قبل صالة العيد فهي زكاة ،ومن أداها بعد صالة العيد فهي صدقة من
الصدقات) فهذه صدقة واألخرى صدقة! لكن قال :صدقة من الصدقات ،يعين :كمن
تصدق يف أي وقت كان وأبي شيء كان قليالً أو كثرياً ،فإهنا خرجت عن خصوص فريضة
الزكاة إىل مطلق الصدقة ،فكأن صاحبها متطوع هبا ،ومعلوم أن هناك فرقاً بني صدقة الفرض
كما تقدمت اإلشارة إليه( :ما تقرب إيل عبدي بشيء أحب مما افرتضته عليه) وإذا كانت
خرجت عن حدود الفرض دخلت يف النوافل ،وهي صدقة من الصدقات.
وهل تربأ ذمته من فرضية زكاة الفطر أم ال؟ البعض يقول :نعم ،ألنه أداها ،ولكن أجرها ال
حيتسب له كغريه الذي أداها يف فرتة الفرضية ،إمنا حتسب له صدقة من الصدقات اليت
حتسب احلسنة فيها بعشر أمثاِلا ،أما كوهنا فريضة فال يعلم أجرها إال هللا.
وهل تسقط الفريضة أم ال؟ األكثرون على أهنا تسقط فريضة زكاة الفطر.
وبعض العلماء تباعد وقال :زكاة الفطر مل تؤد وهي ابقية يف ذمته؛ ألن وقتها خرج ،وال جيزئ
عنها صدقة من الصدقات ،إذاً :يرتك إخراجها؛ ألهنا صدقة من الصدقات إن شاء تصدق
وإن شاء أمسك! لكن األكثرين على أنه خيرجها ،ولو أتخر يف إخراجها إىل ما بعد العيد
77
فهي دين يف ذمته وعليه أن خيرجها ،مع أنه لن حيصل على األجر كما لو أداها قبل صالة
العيد يف وقتها وهللا تعاىل أعلم.
كتاب الزكاة -ابب صدقة التطوع
حديث( :سبعة يظلهم هللا يف ظله يوم ال ظل إال ظله) من أعظم املواعظ اليت حتث على
اخلري ،وقد مشل هذا احلديث األمة من القاعدة األساسية إىل القمة العالية ،فشمل جمموع
طبقات األمة ،وقد بسطه العلماء ابلشرح ،وبينوا فوائده وآاثره يف صالح األمة والفرد.
79
شرح حديث( :سبعة يظلهم هللا يف ظله)
قال املؤلف رمحه هللا :عن أيب هريرة رضي هللا عنه عن النيب صلى هللا عليه وسلم قال( :سبعة
يظلهم هللا يف ظله يوم ال ظل إال ظله -فذكر احلديث وفيه :-ورجل تصدق بصدقة فأخفاها
حىت ال تعلم مشاله ما تنفق ميينه) متفق عليه.
تقدم التنبيه على منزلة الصدقة والتطوع هبا ،وأن ذلك من منطلق اإلميان واليقني مبا عند هللا،
وأن املتصدق ينتظر العوض من هللا سبحانه ،وال يرجو ممن يتصدق عليه جزاءً وال شكوراً،
يد ِمْن ُك ْم َجَزاءً َوال ُش ُكوراً} اَّللِ ال نُِر ُ
كما نوه بذلك سبحانه بقوله{ :إَِّمنَا نُطْعِ ُم ُك ْم لَِو ْج ِه َّ
ضاعِ َفهُ لَهُ} ِ
اَّللَ قَـ ْرضاً َح َسناً فَـيُ َ
ض َّ {م ْن َذا الَّذي يـُ ْق ِر ُ [اإلنسان ]9:؛ ألنه تصدق لوجه هللاَ :
[البقرة ، ] 245:وجاءت األحاديث متعددة يف أن الصدقة تعود على املتصدق أبشياء
عديدة :منها ما تقدم يف زكاة الفطر أهنا( :طهرة للصائم) ،وكذلك ما جاء يف األحاديث
األخرى أن (صدقة السر تطفئ غضب الرب) .
وجاءت أيضاً أحاديث أخرى حتث على الصدقة منها( :املرء يف ظل صدقته يوم القيامة) ،
واآلاثر يف هذا الباب كثرية.
منزلة هذا احلديث عند العلماء
وهذا احلديث الذي بدأ به املصنف يف هذا الباب يعترب من جوامع الكلم ،ومن أمهات
األحاديث النبوية الشريفة ،قال عنه ابن عبد الرب :إنه أعظم حديث جاء يف احلث على عمل
اخلري ،واملتأمل ِلذا احلديث يف أسلوبه ،ويف موضوعه جيد أسلوبه مرتباً ترتيب النتائج على
أسباهبا ،ومن نظر يف موضوعه جيده قد مشل األمة من القاعدة األساسية إىل القمة العالية،
فشمل جمموع طبقات األمة.
ف فيه ،وقد ِ
(سبعة يظلهم هللا) :هذا اللفظ املتفق عليه ،أما ابلنسبة إىل العدد فإنه مما قد أُل َ
ش ملنكتب فيه السخاوي والسيوطي رمحهما هللا ،واطلعنا على رسالة بعنوانُ :منِْي ُل البَ ِ
يظلهم هللا يف ظل العرش ،للشيخ مائل عينني وهو متأخر.
ويقولون :إن السبعة هي هناية العدد ،وما بعدها مكرر ِلا أو ألجزائها ،وعين شراح هذا
نص أبنه ممن يظلهم هللا حتت ظله ،حىت أوصلوها إىل سبعني احلديث بكل من جاء فيه ٌ
80
صنفاً ،ولكن قال املناوي :الزائد عن السبعة املتفق عليها إما داخلة حتت هذه األصناف
السبعة ،وإما أن أسانيدها ال تنهض لالحتجاج هبا.
هذا احلديث شامل لطبقات اجملتمع من الشاب وبقية األفراد إىل اإلمام العادل ،كما أشران:
من القاعدة إىل القمة ،وأحاديث املصطفى صلى هللا عليه وسلم جندها قسمني :فقسم خمتص
مبادة وموضوع ،وهذا غالباً يف أحاديث التشريع يف احلالل واحلرام ،ويف الواجب واملندوب.
معىن واحد فبالتأمل جند أن
وقسم يشمل عدة أصناف ،وإذا وجدان حديثاً يشمل أكثر من ً
هناك روابط بني تلك املوضوعات الذي انتظمت يف سلك ذلك احلديث! فمن أحاديث
األحكام ما تقدم يف الزكاة( :ليس فيما دون مخسة أوسق صدقة) ،فهذا حديث مستقل
مبوضوع واحد ،وهو تقدير النصاب يف احلبوب ،وحديث( :يف كل أربعني شاة شاة) .
ولكن األحاديث اليت تشمل العديد من املواضيع غالباً ما تكون للتوجيه واملوعظة واإلرشاد،
ومن أمهها هذا احلديث.
وهذا احلديث يشتمل على املباحث اآلتية :أوالً :لفظه.
اثنياً :أسانيده.
اثلثاً :ترتيبه.
رابعاً :معاين أصنافه.
أما سنده :فقد رواه الشيخان وأصحاب السنن ،وذكر املؤلف هنا أنه متفق عليه ،واكتفى
موجود أيضاً يف موطأ مالك وعند أيب داود والنسائي وابن ماجة ،وكل هذه ٌ بذلك ،وهو
الصحاح قد أوردت هذا احلديث.
وابملقارنة بني ألفاظه يف هذه املراجع جند مغايرات يسرية ،وكذلك يف ترتيبه تقدمي أو أتخري،
واللفظ الذي ساقه املؤلف هنا :هو لفظ البخاري رمحه هللا ،ولفظ مسلم يتفق معه إال أن
مسلماً ذكر فيه الرجل الذي تصدق بيمينه فأخفاها بلفظ( :حىت ال تعلم ميينه ما تنفق
مشاله) ؛ ويف رواية أخرى( :رجل تصدق بشماله -أو رجل تصدق بصدقة -فأخفاها حىت ال
تعلم ميينه ما تنفق مشاله) وأسند اإلنفاق للشمال بدالً من اليمني ،وأعتقد أن هذا يكون
أدعى وأبلغ يف معىن اإلخفاء ،وقد نبهنا عليه مراراً.
من يظلهم هللا يف ظله غري السبعة املذكورين يف احلديث
81
وموضوع احلديث هؤالء السبعة ،وقد نظمهم أبو شامة يف بيت واحد يف قوله مشرياً إىل
ص ِد ٌق ب ع ِفي ٌ ِ
ف َانْش ٌئ ُمتَ َ
ِ ِِ ِ ِ
صطََف ْى إِ َّن َسْبـ َعةً يُظلُّ ُه ُم املَْوَ ْىل ال َك ِرْميُ بِظله ُحم ٌّ َ ْ احلديث :قَاْ َل النِ ُّ
َّيب املُ ْ
ص ٍل َوا ِإل َماْ ُم بِ َع ْدلِِه هذه السبعة األصناف اليت اشتمل عليها هذا احلديث النبوي ٍ
َوَابْك ُم َ
الشريف.
وإذا جئنا إىل اللفظ األول( :سبعة) :يقولون :إن العدد ال مفهوم له ،وِلذا حبث العلماء
فيمن يشملهم هذا املعىن ويظلهم هللا يف ظله يوم ال ظل إال ظله ،وذكروا منهم :رجالً حلق
القوم ،وأدركهم العدو ،وكان يف مؤخرهتم؛ فدافع عنهم ،وذكروا امرأة أتميت على أيتامها حىت
كربوا واعتمدوا على أنفسهم ،وذكروا أشياء عديدة ،حىت أوصلوا السبعة إىل السبعني ،وأقرب
مرج ٍع ِلذا العدد ما نقله الزرقاين عمن تقدم نظماً ونثراً يف شرحه على املوطأ عند هذا
احلديث.
فإذا كان العدد ليس له مفهوم فهناك سبعات عديدة أوصلها العلماء إىل السبعني ،وإن كان
له مفهوم فيكون مقصوراً على هؤالء السبعة ،وسواء كان له مفهوم أو ليس له مفهوم فيهمنا
اآلن هؤالء السبعة ،إذ إن هذا احلديث مجع مجيع طبقات اجملتمع ،وما ذكر فكما قال
النووي واملناوي :قد تكون مندرجة حتت صنف من هذه األصناف السبعة.
معىن (يظلهم هللا يف ظله)
خرج هذا احلديث رواه هبذا اللفظ.(يظلهم هللا) هذا اللفظ متفق عليه ،وكل من َّ
(يف ظله) أو (يف ظل عرشه) :ختتلف الرواايت ،فتارة أتيت( :يف ظله) ،واترة أتيت( :يف ظل
عرشه) .
(يوم ال ظل إال ظله) أو (يوم ال ظل إال ظل عرشه) على حسب الروايتني املتقدمتني ،وليس
هناك إشكال أن العرش جرم حمسوس يتصور أن يكون له ظل ،ولكن اإلشكال الذي مل أجد
له جواابً ،هو أن الظل انتج عن الشمس ،ويوم القيامة تكور الشمس ،وتبدل األرض غري
األرض والسموات ،ومثة حديث آخر ،وهو عن املقداد بن األسود قال :مسعت رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم يقول( :تدنو الشمس يوم القيامة من اخللق حىت تكون منهم كمقدار
ميل -قال سليم بن عامر :فوهللا! ما أدري ما يعين ابمليل :أمسافة األرض ،أم امليل الذي
تكتحل به العني؟! قال -:فيكون الناس على قدر أعماِلم يف العرق ،فمنهم من يكون إىل
82
كعبيه ،ومنهم من يكون إىل ركبتيه ،ومنهم من يكون إىل حقويه ،ومنهم من يلجمه العرق
إجلاماً ،قال :وأشار رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بيده إىل فيه) رواه مسلم.
إذاً :كيف أتيت تلك الشمس؟ وأي نوع هي؟ هذا الذي يقف عنده اإلنسان مستسلماً
مصدقاً مبا قال صلى هللا عليه وسلم ،ومل أجد من تكلم على ذلك مبا فيه الكفاية.
وإذا كان هللا يظلهم يف ظله ،فهناك كالم كثري للعلماء ،لكنه يدور بني احلقيقة واجملاز ،ومعىن
احلقيقة :يف ظله سبحانه ،وهللا أعلم بكيفية تظليلهم يف ظله ،وال نستطيع أن نتصور للموىل
جرماً وظالً -حاشا هلل -ولكن يقولون :يف ظله ،أي :يف عنايته ،ورعايته ،ورمحته ،كما
يقولون :فالن يعيش يف ظل فالن ويف كنفه ،ومحلوا ذلك على اجملاز بعداً عن التشبيه أو
الوقوع يف حمظور ابلنسبة للموىل سبحانه.
وحنن إذا أخذان اللفظ على وضعه نستشعر عاطفياً وعقلياً وعلمياً أن هؤالء السبعة خيصهم
هللا سبحانه وتعاىل بتلك الفضيلة ،ويف بعض الزايدات( :يف ظله حىت يقضى بني اخلالئق) ،
ويف احلديث( :إن العبد يف ظل صدقته يوم القيامة) ،وميكن أن نقول :الصدقة جتسمت ،أو
جتسم ثواهبا وحتول إىل مظلة تظل صاحبها حىت يقضى بني اخلالئق ،وال يناله ما ينال عامة
الناس من حرارة الشمس اليت تدنو منهم فيعرقون.
إذاً :األوىل لنا أن نرتك تعمق البحث يف مدلول قوله( :يف ظله) ،ونفوض ذلك إىل ما يعلمه
املوىل سبحانه ،ويكفينا أن نقول :إن هذا أعظم موعظة وأعظم مرغب؛ ألنه حياول اإلنسان
أن يكون واحداً من هؤالء السبعة إن مل جيمع أكثر من صنف.
هل ميكن أن جتتمع هذه السبع اخلصال يف رجل واحد؟
وهل ميكن لإلنسان أن جيمعها؟ ال مانع من ذلك؛ ألن النيب صلى هللا عليه وسلم ذكر
أبواب اجلنة الثمانية فقال( :من أنفق زوجني من شيء من األشياء يف سبيل هللا دعي من
أبواب :اي عبد هللا! هذا خري ،فمن كان من أهل الصالة دعي من ابب الصالة ،ومن كان
من أهل اجلهاد دعي من ابب اجلهاد ،ومن كان من أهل الصدقة دعي من ابب الصدقة،
ومن كان من أهل الصيام دعي من ابب الصيام -وهو ابب الراين -فقال أبو بكر :ما على
الذي يدعى من تلك األبواب من ضرورة.
83
فهل يدعى أحد منها كلها اي رسول هللا؟! قال :نعم ،وأرجو أن تكون منهم اي أاب بكر!)
واحلديث متفق عليه عن أيب هريرة.
وهناك حديث آخر( :إذا توضأ املسلم فأسبغ الوضوء ،مث تشهد فتحت له أبواب اجلنة
الثمانية يدخل من أيها شاء) .
ويف احلديث املتقدم جند الصديق يسأل :هل ميكن أن جتتمع يف فرد واحد موجبات عدة؟
قال( :نعم ،وأرجو أن تكون منهم اي أاب بكر!) ،وال شك أنه أوىل الناس وأوِلم سبقاً ََ إىل
اجلنة بعد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم.
وهذه األصناف السبعة املذكورة يف احلديث اجتمعت يف نيب هللا يوسف عليه وعلى نبينا
الصالة والسالم؛ ألنه ذكر عنه أنه يف شبابه نشأ يف طاعة هللا ،وذكر هللا عنه أنه دعته امرأة
ت ت َهْي َاب َوقَالَ ْ
ت األَبْـ َو َ {وَر َاو َدتْهُ الَِّيت ُه َو ِيف بـَْيتِ َها َع ْن نـَ ْف ِس ِه َوغَلَّ َق ْ
ذات منصب ومجالَ :
اي إِنَّهُ ال يـُ ْفلِ ُح الظَّالِ ُمو َن} [يوسف ، ]23:وذكر عنه َح َس َن َمثْـ َو َ
ال معا َذ َِّ
اَّلل إِنَّهُ َرِيب أ ْ ك قَ َ َ َ
لَ َ
أنه كان يتصدق ،حىت قال بعض املفسرين يف قوله تعاىل{ :قَالُوا إِ ْن يَ ْس ِر ْق فَـ َق ْد َسَر َق أ ٌ
َخ لَهُ
ِم ْن قَـْب ُل} [يوسف : ]77:كذبوا وهللا ،بل كان أيخذ الطعام ويتصدق به سراً ،وكان إماماً
عادالً ،وكان حمباً للخلق ،مالزماً للمساجد ،ذاكراً هلل ،قالوا :اجتمعت هذه يف نيب هللا
يوسف عليه وعلى نبينا الصالة السالم ،ومل يذكروا غريه ،مع أنه ليس من أويل العزم من
الرسل.
ومل يذكر لنا اترخيياً أن أحداً من األنبياء الكرام امتحن مبا امتحن به يوسف يف قضية امرأة
العزيز ،فلما اختص هبذه القضية كان أدعى ألن يصفوه أبنه هو الذي اجتمعت فيه اخلصال
الواردة يف هذا احلديث ،وال حرج فهذا فضل هللا ،وال نستبعد أن هللا سبحانه يكرم بعض
الشباب الذين أودعهم هللا هذا السر ،فينشأ يف عبادة هللا مع إخوانه أو مع أهل بيته ،مث
يكون أيضاً عفيفاً ،ويبادر أهله بزواجه مبكراً ،ويكون حمباً للمساكني يتصدق وخيفي صدقته،
ويكون قلبه معلقاً ابملساجد ،مث إذا ويل أمراً كان عادالً فيه ،ال حرج فهذا فضل هللا.
اهتمام اإلسالم ابلشباب
أشران إىل أن هذا احلديث املبارك قد مشل طبقات اجملتمع ،فبدأ بـ (شاب نشأ يف عبادة هللا) ؛
ألن الشاب غداً يصري رجالً ،ويصري متعلق القلب ابملساجد ،وقد يكون إماماً.
84
إذاً :البداية من الشباب ،ولذا وجب االهتمام والعناية بشباب األمة ،واملتأمل يف نصوص
القرآن الكرمي والسنة النبوية جيد العناية بشباب األمة عجيباً جداً ،وسبق أن قدمنا حماضرة يف
ذلك ،وقلنا :إن اإلسالم قد عين ابلشباب قبل وجودهم إىل الدنيا؛ فمهد لوجودهم ابلعناية
الكاملة.
و (الشباب) :هو النشيط من كل كائن حي ،سواء كان من احليواانت ،أو اإلنسان ،أو
الطيور ،ومنه قوِلم :شبت النار ،إذا ارتفعت وعلت بعد الضعف.
ومن عناية اإلسالم ابلشباب أنه بدأ ابحلث على اختيار الزوجة اليت تنجبه ،ففي األثر:
دساس) ،مث وضع اإلسالم منهج بناء األسرة اإلسالمية يف قوله(ختريوا لنطفكم؛ فإن العرق َّ
صلى هللا عليه وسلم( :إذا أاتكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه) ،فبناها على أساس من
الدين والتقى والصالح.
وقال( :تنكح املرأة ألربع :ملاِلا ،وحلسبها ،وجلماِلا ،ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت
يداك) متفق عليه عن أيب هريرة ،فذكر من املرغبات حسب اجلبلة :حسب ،نسب ،مجال،
دين ،مث قال( :فاظفر بذات الدين تربت يداك) ،والقرآن الكرمي حث كذلك على اشرتاط
ات َح َّىت يـُ ْؤِم َّن َوأل ََمةٌ ُم ْؤِمنَةٌ َخ ْريٌ ِم ْن ُم ْش ِرَك ٍة َولَْو أ َْع َجبَـْت ُك ْم َوال اإلميان{ :وال تَنكِحوا الْم ْش ِرَك ِ
ُ ُ َ
ك يَ ْدعُو َن إِ َىل ني َح َّىت يـُ ْؤِمنُوا َولَ َعْب ٌد ُم ْؤِم ٌن َخ ْريٌ ِم ْن ُم ْش ِرٍك َولَْو أ َْع َجبَ ُك ْم أ ُْولَئِ َ ِ ِ
تُنك ُحوا الْ ُم ْش ِرك َ
َّاس لَ َعلَّ ُه ْم يـَتَ َذ َّك ُرو َن} [البقرة، ]221: آايتِِه لِلن ِني َ
ِ ِِ اَّلل ي ْدعو إِ َىل ْ ِ
اجلَنَّة َوالْ َم ْغفَرةِ إبِِ ْذنه َويـُبَِ ُ النَّا ِر َو َُّ َ ُ
إذاً :عين اإلسالم ابلشاب قبل جميئه حبسن بناء األسرة ،والتقاء األبوين على مبدأ اإلميان.
لقاء بني األبوين أبن يبدأ بذكر هللا ،فيضع الرجل يده على انصيتها ويقول: مث راعى أول ٍ
(اللهم! إين أسألك خريها وخري ما جبلتها عليه ،وأعوذ بك من شرها وشر ماجبلتها عليه) ،
ومع املباشرة يقول( :اللهم جنبنا الشيطان ،وجنب الشيطان ما رزقتنا) ،فإذا ظهر احلمل؛
أعفيت من كثري من التكاليف حفظاً ِلذا احلمل ،فسمح الشرع ِلا أن تفطر إن كان الصيام
ِ ِ
ُخَر} [البقرة. ]184: يضر هبا أو جبنينها{ :فَع َّدةٌ م ْن أ ََّايٍم أ َ
وأول والدته يقابل بذكر هللا :األذان يف اليمىن ،واإلقامة يف اليسرى ،مث يعق عنه يوم سابع
الدورة األوىل من حياته؛ ألن الدورة الزمنية للطفل عند األطباء أسبوع ،وِلذا يقدرون احلمل
بكذا أسبوع ال ابلشهر ،فإذا أكمل الدورة الزمنية األوىل وهي أسبوع كان له شأن آخر :عق
85
عنه ،وأزيل عنه األذى ،واختري له االسم الطيب ،مث بعد ذلك يكون موضع العناية والرعاية
حىت إكمال إرضاعه؛ سواء اتفق األبوان أو اختلفا ،فلزم األب ابإلنفاق عليه فيما حيتاج إىل
الفطام ،وال يعجل عليه حىت يتم حولني كاملني.
مث ينشأ إىل حد التمييز فيعلم اإلسالم ،فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال :قال
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ( {مروا أوالدكم ابلصالة وهم أبناء سبع سنني ،واضربوهم
عليها وهم أبناء عشر سنني ،وفرقوا بينهم يف املضاجع) رواه أمحد وأبو داود.
والشاب الذي نشأ يف عبادة هللا قطعاً ال يكون على رأس جبل ،وال يف وسط أمة كافرة ،وال
يف وسط أمة مهملة ،بل البد أن تكون نشأته يف موطن إسالمي ،وكما قال صلى هللا عليه
وسلم( :كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ميجسانه أو ينصرانه) ،ومن هنا إذا
نشأ الشاب يف جمموعة من الشباب اخلريين فالبد أن يؤثر عليه حميطه ،ومن هنا يتحتم على
األبوين تعليمه صغرياً؛ ألن الرسول صلى هللا عليه وسلم راعى ذلك ،فـ عمرو بن أيب سلمة ملا
جلس أيكل مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وجعلت يده تطيش يف الصحفة قال له
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم( :اي غالم! سم هللا ،وكل بيمينك ،وكل مما يليك) ،ومل خترج
آداب املائدة عن هذه الكلمات( :سم هللا) ،أي :اشكر هللا على النعمة ،وقل ابسم هللا
تنفعك ويبارك لك فيها ،وتؤدي شكر املنعم عليك هبذه النعمة.
(وكل بيمينك) وكما يقولون :اليمىن للمكرمات ،واألخرى لبقية احلاجات.
(وكل مما يليك) :ليس من هنا ومن هنا ،إذ هي إساءة أدب.
ينشئا صغريمها على تعاليم اإلسالم ،وال يكون إال إذا كان األبوان فتعني على األبوين أن ِ
مسلمني متعلمني عاملني حبق هذا الطفل الذي هو ضيف عليهما ،أما إذا كاان مها يف حاجة
إىل من يعلمهما؛ ففاقد الشيء ال يعطيه ،ومن هنا كانت العناية ابلتعليم بصفة عامة هي
سيما اإلسالم ،فاإلسالم دين العلم والتعليم ،ويكفي أن أول الوحي على النيب األمي قوله
ك األَ ْكَرُم * الَّ ِذي
نسا َن ِم ْن َعلَ ٍق * اقْـَرأْ َوَربُّ َ ِ سبحانه{ :اقْـرأْ ِابس ِم ربِ َّ ِ
ك الذي َخلَ َق * َخلَ َق اإل ََ ْ َ َ
نسا َن َما َملْ يـَ ْعلَ ْم} [العلق ، ]5-1:نيب أمي ال يكتب وال يقرأ املكتوب، َّ ِ ِ َّ ِ
َعل َم ابلْ َقلَم * َعل َم اإل َ
وخوطب أول ما خوطب ابلوحي ابلعلم والتعلم! إذاً :هذه الرسالة رسالة علم قبل كل شيء.
86
(شاب نشأ يف عبادة هللا) :فاألبوان عليهما املسئولية األوىل ،وهذا الشاب الذي نشأ يف
عبادة هللا إمنا كان أبثر األبوين أوالً ،مث اجملتمع.
نرجع إىل لفظ احلديث؛ ألن ترتيب أصناف احلديث -فعالً -ترتيب مبين على ارتباط النتائج
أبسباهبا.
أمهية اإلمام العادل لألمة
عدل) ،ويف رواايت أخرى: أول هؤالء السبعة :اإلمام العادل ،ويف بعض الرواايت( :إمام ٌ
(إمام عادل) .
العادل :هو الذي يسوي بني املتفقني :كالزوجني ،واخلصمني ،والشريكني ،والصنفني ،يف
القسمة ابلوزن والكيل؛ هذا عادل ،وهذا الوصف من العدل أو من العدالة يتفق فيه املسلم
والكافر؛ ألننا جند والة من غري املسلمني حيكمون ابلعدالة يف شعوهبم ،وجند معامالت
عديدة من غري املسلمني تتصف ابلعدالة ،وقال صلى هللا عليه وسلم حينما وجه أصحابه إىل
احلبشة( :لو خرجتم إىل احلبشة؛ فإن هبا ملكاً ال يظلم عنده أحد ،وهي أرض صدق ،حىت
جيعل هللا لكم فرجاً) ،وكان النجاشي على دين النصارى ،لكنه عادل ذو مروءة ،إذاً :تلك
األخالق يتفق فيها اجلميع.
على رواية( :إمام عدل) ،فالعدل :هو من اكتملت فيه أمهات األخالق الفاضلة فهو
متصف ابلصدق ،ابألمانة ،ابلورع ،مبخافة هللا ،بفعل اخلري ،ال حيايب أحداً على اآلخر ،فهو
{وأَ ْش ِه ُدوا ذَ َوى َع ْد ٍل ِمنْ ُك ْم} [الطالق ، ]2:أي :ذوي
عدل يف ذاته ،قال هللا عز وجلَ :
صدق وأمانة ووفاء.
وهذا اإلمام العدل :أتظنون أن يكون عادالً أم غري عادل؟ أيكون عادالً يف حكمه أو يكون
جائراً؟ البد أن يكون عادالً ،ولكن العادل يف حكمه ،هل يكون عدالً يف ذاته أم ال؟ ال
يلزم ذلك؛ فقد يكون كافراً أو فاسقاً ،ولكن يضطر إىل العدالة يف احلكم ليبقى ملكه ،قال
اإلمام ابن تيمية رمحه هللا :امللك يدوم مع العدل ولو لكافر ،وال يدوم مع الظلم ولو ملسلم،
والظلم ظلمات يوم القيامة.
إذاً :هذا اللفظ مجع الصنفني( :إمام عادل) أي :يف حكمه( ،إمام عدل) أي :يف شخصه،
وابلتايل سيكون عادالً يف حكمه ،وإذا كان اإلمام عدالً تقياً زاهداً فيما أبيدي الناس ،ورعاً
87
حاجا بيت هللا ،خياف هللا يف كل تصرفاته،خيشى هللا ،تقياً يف أعماله ،مصلياً صائماً مزكياً ًّ
هل سيقر ظلماً يف ملكه؟ هل يقر فسقاً أو أية أعمال خملة ابلدين؟ اجلواب :ال ،بل سيعمل
على أن تكون الرعية مثاليةً يف حياهتا ،ويف أعماِلا ،ولن يقبل من أحد أن خيرج عن قانون
العدل.
إذاً :سيعمل على إصالح اجلميع ،وسيقيم شعرية األمر ابملعروف والنهي عن املنكر ،وستكون
األمة يف ظله أمة مثالية ،وحنن وجدان مصداق ذلك يف صدر اإلسالم بعد املصطفى صلى
هللا عليه وسلم ،وذلك فيما كان عليه الناس يف خالفة أيب بكر وخالفة عمر استدعى أبو
بكر رضي هللا تعاىل عنه عمر فقال :اي أخي! أعين يف بعض املهام ،قال :وما تريد؟ قال:
تتوىل القضاء بني الناس؛ ألن القضاء من مهمة اإلمام ،ألن الرسول صلى هللا عليه وسلم كان
قاضياً ،وقال لبعض الصحابة( :اكفين مئونة بيت املال) ،فقام عمر وتوىل القضاء ،ومكث
أتعبت؟ قال :ما ِ
سنة كاملة أو أكثر ،مث جاء إىل أيب بكر ،وقال :خذ عملك ،قال :وملَ َ
تعبت ،ولكن من يوم أن وليتين القضاء ما جاءين أحد! أمة عرف كل واحد فيها ما له
فأخذه ،وما عليه فأداه.
فرد عمر القضاء على أيب بكر لعدم وجود متخاصمني ،فكانت األمة هبذه املثابة؛ ألهنا
خترجت من مدرسة املصطفى صلى هللا عليه وسلم ،وتوالها أبو بكر رضي هللا عنه من بعده،
وسارت على املنهج األول.
فإذا كان اإلمام عدالً عادالً فإن األمة كلها على خري ،وكما يقال :الناس على دين ملوكهم،
وهذا من نتائج عدالة اإلمام يف ذاته ،وعدله يف رعيته ،وإقراره للحق وإبطاله للباطل ،ونشره
للفضيلة ،وقضائه على الرذيلة.
قال أحد الناس :كنا منشي بعد العشاء مبسافة قليلة عن ابب املسجد ،ومثة أشخاص
جالسون ممن انقطعوا لذكر هللا ،فقال يل أحد رفاقي :اي فالن! تعرف أهل اجلنة؟ قلت :ما
رأيتهم حىت اآلن! قال :هؤالء ما بينهم وبني اجلنة إال املوت؛ ال يظلمون أحداً ،وال يسرقون
أحداً ،وال يعتدون على أحد ،مكتفني بذكر هللا ،وما يسر هللا ِلم من لقمة العيش ،وهم كبار
يف السن ،فقد كان الناس يف السابق بعيدين عن املشاكل وعن اقرتاف املظامل.
88
ففي ظل اإلمام العادل العدل البد أن ينشأ الصغري على عبادة هللا ،وكذلك يكون الكبري
على الطاعة واالمتثال وعبادة هللا.
مشول األمانة لكل عمل وتكليف
وقد َّبني املوىل سبحانه والرسول الكرمي صلوات هللا وسالمه عليه أن هذا اإلمام العادل جتب
طاعته ،فإذا خرج عن العدالة ،وخرج عن منهج القرآن والسنة النبوية؛ فال طاعة له ،كما قال
الصديق( :أطيعوين ما أطعت هللا فيكم ،فإن عصيته فال طاعة يل عليكم) .
تاان ِ ومن مبادئ املنهج اإلِلي يف الدولة اإلسالمية قوله تعاىل{ :إِ َّن َّ
اَّللَ َأيْ ُمُرُك ْم أَ ْن تُـ َؤ ُّدوا ْاأل ََم َ
َّاس أَ ْن َْحت ُك ُموا ِابلْ َع ْد ِل} [النساء ، ]58:األماانت :مجع أمانة، ِ
ني الن ِ إِ َىل أ َْهل َها َوإِ َذا َح َك ْمتُ ْم بَْ َ
وليست مقصورة على الوديعة اليت تودعها أمانة لدى جارك أو صديقك أو أي إنسان
ترتضيه ،بل كل التكاليف أمانة ،فمن األمانة العبادة بينك وبني هللا ،كما قال بعض املفسرين
الص ُدوِر} [العادايت ، ]10:قال :ما ائتمنوا عليه غيباً ص َل َما ِيف ُّ يف قوله سبحانه{ :وح ِ
َُ
كصحة الوضوء من احلدث ،والغسل من اجلنابة ،فهي أمانة يف عنق كل إنسان بينه وبني
هللا.
واإلمام مالك :يف مسألة أكثر الطهر وأكثر احليض وأقله قال :إن هللا قد وكل أمر النساء
اَّللُ ِيف أ َْر َح ِام ِه َّن} [البقرة ]228:؛ {وال َِحي ُّل َِلُ َّن أَ ْن يَكْتُ ْم َن َما َخلَ َق َّإليهن ،يشري إىل قولهَ :
ألن هذه أمانة بينها وبني هللا.
واإلنسان يف بيته مسئول كغريه( :كلكم ر ٍاع ،وكلكم مسئول عن رعيته) ؛ ألن الرعية أمانة،
فاهلل أيمركم أن تؤدوا األماانت ،وهي عامة ،وأهم أمانة( :احلكم) ؛ ألن احلاكم يف اإلسالم
ليس فوقه إال هللا ،وليس ألحد يف دولة مسلمة سلطان على القاضي املسلم إال سلطة املوىل
سبحانه ،كما يسمى حاليًّا (حرية واستغالل القضاء) .
َّاس أَ ْن َحتْ ُك ُموا ِابلْ َع ْد ِل} [النساء ، ]58:أي :سواء بني اثنني أو ني الن ِ {وإِذَا َح َك ْمتُ ْم بَْ َ
وقولهَ :
حكم يف أمة.
وجوب طاعة اإلمام ابملعروف
ُويل ْاأل َْم ِر ِمنْ ُك ْم} [النساء، ]59: ول َوأ ِ
الر ُس َ
َطيعُوا َّ اَّلل وأ ِ ِ
مث قال هللا سبحانه وتعاىل{ :أَطيعُوا ََّ َ
فيأمر هللا احلكام واملسئول ني أبداء األمانة واحلكم ابلعدل ،وأيمر الرعية ابلسمع والطاعة:
89
ُويل ْاأل َْم ِر) ،وهنا جاء فعل األمر ابلطاعة مكرراً( :أطيعوا هللا ول َوأ ِ
الر ُس َ اَّلل وأ ِ
َطيعُوا َّ ِ
(أَطيعُوا ََّ َ
وأطيعوا الرسول) فأبرز فعل الطاعة مع لفظ اجلاللة ولفظ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،أما
أولو األمر فلم يقل( :وأطيعوا أويل األمر) بل قال( :وأويل األمر) ؟ ويف هذا إشارة إىل أن
الطاعة أساساً هلل ولرسوله ،أما أولو األمر فطاعتهم تبع لذلك ،أي :فإن أطاعوا هللا وأطاعوا
الرسول فأطيعوهم ،وإن مل يطيعوا هللا ومل يطيعوا الرسول فال طاعة ِلم.
ِ اَّلل أيْمرُكم أَ ْن تـُؤ ُّدوا ْاألَم َ ِ
ني الن ِ
َّاس أَ ْن اانت إِ َىل أ َْهل َها َوإِذَا َح َك ْمتُ ْم بَْ َ َ َ ِ
إذاً :قوله تعاىل{ :إ َّن ََّ َ ُ ُ ْ
ول
الر ُس َ اَّلل وأ ِ
َطيعُوا َّ ِ ِ ِ
َْحت ُك ُموا ابلْ َع ْدل} [النساء ]58:موجهٌ للحكام ،وقوله تعاىل{ :أَطيعُوا ََّ َ
ُويل ْاأل َْم ِر ِمْن ُك ْم} [النساء ]59:موجه لألمة لتوثيق ارتباطها ابحلكام ،فاإلمام العادل له َوأ ِ
حق السمع والطاعة ،وغري العادل الذي خالف الكتاب وخالف السنة ليس له ذلك احلق،
لكن بشرط أن تكون املخالفة كما بينها صلى هللا عليه وسلم( :إال أن تروا كفراً بواحاً عندكم
من هللا فيه برهان) .
فلو كان اإلمام عدالً ونقص عن العدالة شيئاً ما ،كارتكاب بعض الصغائر والتقصري يف بعض
الواجبات اليت ال تبلغ به حد الكفر فطاعته واجبة.
أما إذا ارتكب ما يعترب ردة عن اإلسالم؛ فال طاعة له ،وال كرامة! كأن يشرع ما خيالف
اإلسالم ،وكذلك إذا عطل حكماً يف اإلسالم ،فهذا ال طاعة له( :ال طاعة ملخلوق يف
ت عليكم ولست أبفضلكم، معصية اخلالق) ،وقد أشران أن الصديق رضي هللا عنه قالِ :
(ولْي ُ
ُ
فأطيعوين ما أطعت هللا فيكم ،فإن عصيت هللا فال طاعة يل عليكم) ؛ ألن طاعته فرع عن
طاعة هللا ورسوله صلى هللا عليه وسلم.
فإذا وجد اإلمام العادل يف األمة فاألمة كلها خبري؛ ألن عدله وعدالته ستأخذ األمة إىل
الصراط السوي ،ومتنع من جينح مييناً أو يساراً ،وال يسمح ألحد بتجاوز حدود هللا ،وال
يعطل حداً من حدود هللا ،وال حيكم بشيء خيالف أوامر هللا؛ ولذلك قالوا :اإلمام العادل
حد من حدود هللا يف ظل هللا يف أرضه ،وقالوا :عدل ساعة خري من عبادة ستني سنة ،وإقامة ٍ
األرض خريٌ ألهلها من أن ميطروا أربعني يوماً.
إذاً :إذا وجد اإلمام العادل كان هناك اخلري كل اخلري ،وقد جاء عن اإلمام أمحد رمحه هللا أنه
قال :لو علمت أن يل دعوة جمابة عند هللا جلعلتها للسلطان؛ ألن يف صالحه صالح األمة.
90
ويف سري امللوك واألمراء ووالة األمر جند القيام ابلعدل وابلعدالة وإن مل يكن عادالً يف ذاته؛
عادل يقيم شرع هللا ،وال يسمح مبا خيالف كتاب هللا،
كأن يكون فيه جرح وتقصري ،لكنه ٌ
فهذا فيه الربكة.
إذاً( :إمام عادل) :هو املبدأ ،ويف مظلة عدالته ستنتشر الفضائل ،وختتفي الرذائل ،ويف هذا
اجملال ستنشأ الناشئة على عبادة هللا.
وكلمة( :عبادة هللا) ،ليس معناها جمرد املساجد ،وال جمرد الصالة ،وال جمرد الصيام ،وإمنا
مذلل مسهل ،فالعابد
العبادة :اسم جامع لكل ما حيبه هللا ويرضاه ،يقال :طريق معبد ،أيٌ :
هو املطيع امللتزم ،والشاب الذي نشأ يف عبادة هللا ،ونشأ على السمع والطاعة وعلى مكارم
األخالقخ؛ إمنا هو أثر من آاثر عدالة اإلمام.
منوذج للعدالة اإلسالمية
يف الواقع أن احلديث عن جوانب عدالة اإلمام واألمثلة على ذلك مما نقرؤه يف التاريخ من
بعد اخللفاء الراشدين رضوان هللا تعاىل عليهم ،يضيق املقام عن أن نسرده يف جلسة أو يف
انحية ،وقد أشران إىل ذلك بقدر ما توصلنا إليه يف تلك الرسالة اليت مجعناها بعنوان :من
يظلهم الرمحن يف ظل العرش.
والعدالة اليت قرأان عنها يف زمن الصحابة -خاصة يف ابب القضاء -فيها مناذج عجيبة ،ومما
يذكر وكيع يف أخبار القضاة :أن شرحياً وكان قاضياً ابلكوفة يف خالفة علي رضي هللا تعاىل
عنه؛ دخل عليه علي وهو اخلليفة ،ومعه يهودي خياصمه يف درعه ،فقال القاضي :ما تقول
اي يهودي؟! قال :هو درعي ،ويف يدي ،فقال شريح لـ علي :ما بينتك على أن هذا الدرع
لك؟ قال :احلسن بن علي وقنرب ،قال :أما قنرب فنعم؛ ألنه مواله ،وأما احلسن فال نقبل
شهادته لك ،قال :وحيك اي شريح! أما مسعت أن الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم قال:
(سيدا شباب أهل اجلنة احلسن واحلسني) ؟ كيف ترفض شهادة سيد شباب أهل اجلنة؟
قال :ال أرفضها؛ لكنها تُرفض إذا كانت لك أنت؛ ألنه ولدك! انظروا إىل هذه املواجهة! مث
قال :هل لك شاه ٌد آخر؟ قال :ال ،قال :إذاً :اذهب -اي يهودي -بدرعك ،فخرج علي
وحينما وصل إىل الباب استوقفه اليهودي ،وقال :قف اي علي! وهللا إن الدرع لدرعك ،كان
على راحلتك فسقط فأخذته ،وأان أنكرتك فيه لتذهب يب إىل القاضي؛ ألنظر كيف يفعل
91
قاضي املسلمني مع يهودي ،أما واحلال كذلك فخذ درعك ،وأشهد أن ال إله إال هللا ،وأن
حممداً رسول هللا ،ففرح بذلك علي؛ ألن دعواه كانت غري اثبتة ،أما اآلن فصدقه يف دعواه،
فقال :الدرع لك ومعه مائتا درهم! فأية عدالة بعد هذا؟! يوجد مناذج كثرية ويكفي ماذكر.
كتاب الزكاة -ابب صدقة التطوع
اإلسالم دين رمحة ورأفة ،وقد حث األغنياء على مواساة الفقراء واحملتاجني ابلصدقة ،وجعل
الصدقة عامة يف كل ما يسد احلاجة ،ورتب على ذلك عظيم األجر ،بل رمبا كانت صدقة
التطوع يف بعض األحوال خرياً من صدقة الفرض.
املسلم يف ظل صدقته يوم القيامة
يقول املصنف رمحه هللا :وعن عقبة بن عامر رضي هللا تعاىل عنه قال :مسعت رسول هللا صلى
هللا عليه وآله وسلم يقول( :كل امر ٍئ يف ظل صدقته حىت يفصل بني الناس) رواه ابن حبان
واحلاكم .
هذا احلديث ضمن معىن احلديث األول؛ ألن احلديث األول( :سبعة يظلهم) وهنا( :املرء يف
ظل صدقته) ،فاحلديثان متفقان يف املعىن يف هذه اجلزئية.
ويف بعض رواايت هذا احلديث( :املرء يف ظل صدقته يوم القيامة حىت يقضى بني اخلالئق) ،
ف َسنَ ٍة} [املعارج، ]4: ِ ِ وقدر ذلك كما بينه هللا يف قولهٍ ِ :
ني أَلْ َ
{يف يـَ ْوم َكا َن م ْق َد ُارهُ مخَْس َ
كل يقول: ويبني مكانة هذين احلديثني التأمل يف حالة ذلك اليوم ،يوم الفرار ،يوم اِلروبٌ ،
(نفسي نفسي) حىت األنبياء والرسل حينما يطلب منهم الشفاعة إىل هللا؛ ليأيتَ لفصل
فكل يعتذر ويقول( :نفسي نفسي؛ إن ريب قد غضب اليوم غضباً مل يغضب قبله القضاءٌ ،
مثله) ،ويعتذر مبا كان منه يف دنياه ،وهم رسل معصومون ،ولكن املوقف فوق املستوى
العادي ،فكل حييل إىل اآلخر ،حىت يصلوا إىل النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ،فتكون
الشفاعة العظمى اليت يشفع فيها ألهل املوقف مجيعاً مبا فيهم األنبياء والرسل.
وهذا اليوم وصفه هللا بقوله{ :يـوم تَـروَهنَا تَ ْذهل ُك ُّل مر ِضع ٍة ع َّما أَرضعت وتَضع ُك ُّل َذ ِ
ات ُْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ُ َُ َْ َ َْ
اَّللِ َش ِدي ٌد} [احلج، ]2:
اب َّ ِ
َّاس ُس َك َارى َوَما ُه ْم بِ ُس َك َارى َولَك َّن َع َذ َ
محَْ ٍل محَْلَ َها َوتَـَرى الن َ
فتأيت الصدقة اليت أراد هبا صاحبها وجه هللا ،فأخفاها عن املتصدق عليه ،بل أخفاها عن
نفس ه هو ،حىت ال تعلم ميينه ما تنفق مشاله؛ أتتيه يف ذلك اليوم وتظله ،وهو يوم لو كانت
92
الدنيا بكاملها حتت يديه كما كانت حتت يد ذي القرنني؛ لفادى نفسه بعشرات أمثاِلا يف
ذلك اليوم ،ولكن ال ينفع ذلك ،والدنيا مزرعة اآلخرة.
حتصل
وِلذا مر احلسن على رجل يعظ الناس ابلتزهيد يف الدنيا ،فقال :على رسلك ،وهل َّ
املتصدق إال من الدنيا؟! وهل ينفق يف سبيل هللا إال من ُ اجلنة إال ابلدنيا؟! وهل يتصدق
الدنيا؟! عليك أن تزهد يف احلرام منها ،أما احلالل فكلنا يعلم أن عثمان بن عفان رضي هللا
تعاىل عنه مون جيشاً بكامله ،وابن عوف تصدق بقافلة من اإلبل وما حتمل ،والرسول صلى
لفعلت!) .
ُ هللا عليه وآله سلم يقول( :لو أردت أن تسري خلفي اجلبال ذهباً
إذاً :يتحرى اإلنسان احلالل ،ويتحرى من يتصدق عليه من كرام الناس ذوي احلاجة؛ من
الذين تعرفهم بسيماهم ال يسألون الناس إحلافاً كما قال تعاىل{ :لِل ُف َقر ِاء الَّ ِذين أُح ِ
ص ُروا ِيف َ ْ َ
ِ ض َحيسبـهم ْ ِ
اهل أَ ْغنِياء ِمن التـ ِ سبِ ِيل َِّ
اه ْم
يم ُ ِ
َّعفُّف تَـ ْع ِرفـُ ُه ْم بس َ
اجلَ ُ َ َ ْ َ اَّلل ال يَ ْستَ ِطيعُو َن َ
ض ْرابً ِيف األ َْر ِ ْ َ ُ ُ ْ َ
يم} [البقرة ، ]273:والكالم يف ال يسأَلُو َن النَّاس إِ ْحلافاً وما تُ ِنف ُقوا ِمن خ ٍري فَِإ َّن َّ ِ ِ ِ
اَّللَ به َعل ٌ ْ َْ َ َ ََ َْ
هذا الصنف طويل ،ويكفينا هذا القدر ،وابهلل تعاىل التوفيق.
اجلزاء من جنس العمل
قال املؤلف رمحه هللا :وعن أيب سعيد اخلدري رضي هللا تعاىل عنه عن النيب صلى هللا عليه
وآله وسلم قال( :أميا مسلم كسا مسلماً ثوابً على عر ٍي كساه هللا من خضر اجلنة ،وأميا مسلم
جوع أطعمه هللا من مثار اجلنة ،وأميا مسلم سقى مسلماً على ظمأٍ سقاه أطعم مسلماً على ٍ
هللا من الرحيق املختوم) رواه أبو داود ،ويف إسناده لني .
يف إسناده لني أو ضعف!! احلديث عليه رونق النبوة ،وله حالوة يف السماع ،ويراتح القلب
إليه ،وهو واقع طبيعي( :من كسا مسلماً على عر ٍي كساه هللا من خضر اجلنة) ،فاجلنة
كبرية ،وخضر اجلنة ليست قميصاً وال ثوابً ،بل هي حلل مقابل أن تكسو مسلماً على
حاجة.
ودرهم قد يسبق مائة ألف درهم من الناس ،ألنه ليس عنده إال درمهان فتصدق بواحد ،وهذا
كسا إنساانً على عر ٍي ،وليس معناه أنه مكشوف العورة ميشي بني الناس عارايً ،وإمنا :ليس
عنده من الثياب ما يكفيه ،كالرجل الصحايب الذي زوجه الرسول عليه الصالة والسالم ابملرأة
اليت وهبت نفسها للنيب صلى هللا عليه وسلم ،فقال :زوجنيها إن مل يكن لك هبا حاجة،
93
جلست وال رداء لك،
َ قال( :فماذا تصدقها؟ قال :أصدقها ردائي ،قال :فإن أعطيتها رداءك
اذهب والتمس شيئاً ،فذهب فلم جيد شيئاً ،فقال :التمس ولو خامتاً من حديد) ،فهذا
عنده رداء فقط ،فهل يعترب عارايً؟ نعم يعترب عارايً ،وأعتقد أنه ال أحد من هؤالء املوجودين
إال وعنده أكثر من مخسة أثواب ،فضالً عن بعض املالبس الداخلية والسراويل وغريها.
فقوله( :كسا مسلماً على عري) :يعين أنه يسرت عورته بصعوبة ،فيأتيه بثوب ،وهذا بيان
لتنوع الصدقة ،وأهنا ال تتوقف على ما يطعم الفم ،وإمنا هي حبسب حاجة اإلنسان ،فكل
من له حاجةٌ لشيء تتصدق عليه به ،لو كان عندك بيوت كثرية وتصدقت على عائلة أبن
تُسكنها يف دارك فذلك أعظم من أن تكسو واحداً من األسرة بثياب.
إذاً :التنبيه ابألدىن على األعلى ،فلو أن واحداً يكد على عياله ،وحيتاج إىل مواصالت،
وعندك عدة سيارات أو دراجات ،وقلت :هذه السيارة أو الدراجة تساعدك على عملك،
ألن عملك بعيد ،فخذ هذه السيارة أو الدراجة؛ فهذه صدقة عظيمة ،وهكذا كل ما ميكن
أن تقدمه إلنسان :سواء كان يف امللبس أو يف املطعم.
فرح الفقري ابلصدقة
جوع أو سقاه على ظمأ) :كل هذا يقدمه إليه؛ ألن قوله( :وأميا مسلم أطعم مسلماً على ٍ
العاري حينما أيتيه ثوب يفرح به فرحاً عظيماً ،ولو كان هذا الثوب ال يعادل عند األغنياء
املال الكثري ،والغين لو جاءته حلة -بدلة ،-أو حىت مخسة أثواب أو عشرة مل يفرح ،وال
يكون ِلا الوقع واحلالوة واللذة مثل هذا الثوب الذي يهدى ِلذا العاري؛ ألنه يف أمس
احلاجة له.
وكذلك اجلائع إذا اشتد به اجلوع ختتلف حاله عن حال شخص منعم يف قصره ،ولديه مجيع
األطعمة ،ولو قدمت إليه مائدة مكتملة بكل أنواع األطعمة والفواكه ،فما قيمة هذا عند
صاحب (العمارة) اليت فيها كل ما تشتهي النفس؟ لذا جتد بعض األغنياء أييت إىل موائد
األفراح ،وفيها ما لذ وطاب ،والبعض منهم خيرج وهو يقول :وهللا! لو كان فيها كذا أو كذا،
كالكاره لتلك املائدة؛ ألن عنده يف البيت مثل هذا ،لكن املسكني لو حصل على صحن
بيض من هذه املائدة ،وأشبع جوعته؛ فإن فرحه يساوي الفرح ابلعرس كله! ولذا جاء يف
حديث املوائد( :شر الطعام طعام الوليمة؛ يدعى إليه من أيابه ،ومينعها من أيتيها) ،فاجلوع
94
يدفعه فيأيت إليها طمعاً يف أن يشبع جوعه ،فيقال له :تنح عن الناس ،تنح عن الطريق!! اي
سبحان هللا!
استحباب البحث عن املساكني إلعطائهم الزكاة
إن حبثك وتفتيشك عن احملتاجني حقاً ،والتعايش والتعاطف معهم؛ ألنك بعيد عنهم ،أما
إذا خالطت وفتشت فسيظهر لك الشيء الكثري ،وستجد املتعة الروحية يف أنك تقدم
ملستحق ال يعلم أحد عنه.
وهذا احلديث يدعو إىل حتري احملتاج ،سواء كان عارايً فتكسوه ،أو جائعاً فتطعمه ،أو ظمآن
فتسقيه.
وما هناك أعظم أجراً من سقي املاء ،كما يف قصة سعد بن عبادة ملا توفيت أمه ،وهو غائب
يف غزوة مع النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ،فلما جاء سأل الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم
فقال( :اي رسول هللا! إن أمي ماتت ،أفأتصدق عنها؟! قال :نعم ،قال :فأي الصدقة أفضل؟
قال :سقي املاء.
قال :فتلك سقاية أم سعد ابملدينة) .
وجاء أنه قيل ِلا :تصدقي أوصي ،قالت :املال لـ سعد ،وماذا أوصي؟ وأن سعداً قال( :اي
رسول هللا! أينفعها إن تصدقت عنها؟! قال :نعم ،قال :وما خري الصدقة؟ قال :سقي املاء)
،فكانت سقاية أم سعد معروفة يف املدينة ،وكانت إىل عهد التابعني.
حكم الصدقة على احليواانت والكافر غري احلريب
وسقي املاء للحيوان فيه أجر ،فيه أجر ،فامرأة دخلت النار يف هرة حبستها ومل تطعمها،
وامرأة بغي دخلت اجلنة يف كلب سقته ،كانت متشي يف الطريق واشتد عليها الظمأ فوجدت
بئراً ،فنزلت فشربت ،فخرجت فإذا كلب يلهث أيكل الثرى من شدة العطش ،فقالت :اي
ويلتاه! لقد بلغ به اجلهد من العطش مثلما بلغ يب ،فخلعت خفها ،ونزلت البئر ومألته
وأمسكته بفمها حىت صعدت ،وسقته الكلب ،فشكر هللاَ فشكر هللاُ ِلا ،أي :الكلب شكر
هللاَ على أنه شرب ،أو أن هللا شكر ِلا صنيعها فغفر ِلا.
95
أجر) ،
ويف احلديث :قالوا( :ألنا يف البهائم أجر اي رسول هللا؟! قال :يف كل ذي كبد رطب ٌ
حىت الكافر ،إذا كان معك زايدة ماء ،ووجدت كافراً ميوت عطشاً وليس حربياً ،فاسقه ،فإذا
كنا نؤجر يف احليوان أالَ نؤجر يف اإلنسان؟! .
واملتأمل حلالة املتطوع ابلصدقة لرمبا وجده أفضل من فاعل الواجب للزكاة؛ وإن كان الواجب
أفضل من النافلة ،إال أن خمرج الزكاة إمنا خيرجها عن غىن ،ألنه امتلك نصاابً ،وبقي عنده
النصاب عاماً كامالً مل حيتج إىل شيء منه ،مث إنه خيرج الزكاة ووراءه من يطالبه هبا ،ويف
احلديث( :من أداها طيبة هبا نفسه فبها ونعمت ،ومن منعها أخذانها وشطر ماله) .
أما املتطوع فليس هناك من يلزمه ،وقد ال يكون مالكاً نصاابً وال نصف نصاب ،فقد يتربع
أو يتطوع مبا يف يده ،فصدقة التطوع يفعلها طاعة هلل ابتداءً من نفسه ،وإن كانت أيضاً
الزكاة املفروضة إمنا خيرجها طاعة هلل ،لكن الزكاة فيها إلزام ،وأما التطوع فال إلزام فيه ،إمنا هو
من دوافع نفسه ويقينه ابهلل أبنه سيعوضه عن ذلك ،وتقدم يف احلديث األول( :سبعة يظلهم
هللا -وفيه -:ورجل تصدق بصدق فأخفاها حىت ال تعلم مشاله ما تنفق ميينه) ،وهذا بيان
لفضل الصدقة وأهنا تكون مدعاة أو مستوجبة ألن جتعل صاحبها يف ذلك املوقف العظيم
ويف تلك النعمة؛ حينما يلجم الناس العرق ،وتدنو الشمس من الرءوس ،فيكون املتصدق يف
ظل عرش الرمحن بسبب الصدقة اخلفية ،ويف احلديث الذي بعده( :املرء يف ظل صدقته يوم
القيامة) .
فم ْخ ِفي الصدقة يظلل بعرش الرمحن ،ومن آداب الصدقة يف كتاب هللا إخفاؤها والتلطف هبا، ُ
وإبداء املعروف معها ،وحفظ كرامة املسكني ،فيكون املتصدق لطيفاً عفيفاً كرمياً يراعي حرمة
ص َدقَاتِ ُك ْم ِابلْ َم ِن ِ
اإلنسان الذي أعوز املال ،وقد بني سبحانه ذلك فقال{ :ال تُـْبطلُوا َ
َذى} ٍ ِ و ْاألَذَى} [البقرة ، ]264:وقال{ :قَـوٌل معر ٌ ِ
ص َدقَة يـَْتـبَـعُ َها أ ً
وف َوَم ْغفَرةٌ َخ ْريٌ م ْن َْ َ ُْ َ
[البقرة ، ]263:وكان بعض السلف يرى للمسكني الذي يقبل صدقته فضالً عليه؛ ألنه
يكون سبباً يف حصوله على مرضاة هللا ،وعلى مضاعفة ماله والزايدة فيه ،فينبغي على
اإلنسان أن يتحرى ،وأن يبحث ،وأن يتعرف على مستحقي الصدقة أوالً.
وقوله( :أميا مسلم كسا إنساانً على عر ٍي) أعتقد أنه ال يوجد إنسان ميشي يف الطريق عراين؛
ثوب واحد فإنه إذا احتاج إىل ألن هذا ممنوع وحمرم ،وكان بعض السلف إذا مل يكن عنده إال ٌ
96
نظافته ،يغسله ويبقى يف البيت إىل أن جيف الثوب فيلبسه ،وقدذكرت قصةً يف بلد ما وهي:
أن طالبني كاان يف مدرسة واحدة ،ويف فصل واحد ،ومها توأمان ،حيضر أحدمها يوماً ،ويغيب
اآلخر ،مث حيضر من غاب ،ويغيب من حضر وهكذا ،فعنفهم املدير ،وضرهبم ،وهم
يعتذرون :سنأيت لن نغيب ،ويتعللون ،وملا كثر عليهما اإليذاء والكالم صارحا املدير ،وقاال:
حنن نصارحك فيما بيننا وبينك فقط ،حنن أخوان ال منلك إال ثوابً واحداً ،أييت به أحدان،
وجيلس اآلخر عراين يف البيت ،فإذا كان الغد تبادلنا الثوب.
فإذا كان الناس هبذه املثابة ،ويثابرون على طلب العلم والدارسة ،فهذه صورة من كسا مسلماً
على عري ،فال خيرج املرء إىل الطريق عارايً ،وال يفعل ذلك إال اجملانني ،ولكن تصدق على
من كان ذا قلة ،وهو من أحوجته الثياب وأحوجته الكسوة ،بعض الناس يف احلالة العادية رمبا
عنده اخلمسة والستة والسبعة األثواب ،وأتباعها مما حتت الثياب ،وقد يكون الشخص ذا
ٍ
ثوب واحد.
وقد قرأان يف اتريخ عمر رضي هللا تعاىل عنه :أنه كان يرقع قميصه ،بل أتيت الرقعة فوق
الرقعة ،ويف قصة ذهابه إىل بيت املقدس ليستلم مفاتيح املدينة أهنم قالوا :إننا وجدان يف كتبنا
أن نسلمها إىل رجل صفاته كذا وكذا ،فكتب إليه القواد بذلك ،وذهب ومعه خادمه ،وكاان
يتعاقبان يف الركوب ،يركب أحدمها وميشي اآلخر ،مث ميشي من ركب منهما ويركب اآلخر،
فلما دان من بيت املقدس لقيه األمراء ،وقالوا :اي أمري املؤمنني! إنك تلبس هذا القميص
املرقع ،وتقدم على غري العرب ،وهم يفخرون ابلثياب ،وخيدعون ابملناظر ،دعنا نكسوك
علي قميصي ،قالوا :فامسحقميصاً ،فقدموا له قميصاً من الكتان ،فلما لبسه نزعه وقال :ردوا َّ
لنا أن نغسله لك؟ قال :ال أبس ،فغسلوا له قميصه املرقع ،وكانوا ال يريدون أن يقدم على
غ ري املسلمني بذلك اللباس ،وجاءت نوبته يف املشي فقال له اخلادم :اركب أنت! لقد وصلنا
إىل القوم ،وال ينبغي أن نقدم عليهم وأان راكب ،وأنت تقود البعري ،فاركب أنت ألنك أمري
املؤمنني ،قال :ال ،هذا حقك ،والبد أن تستوفيه ،وكان من فائدة ذلك أنه حينما قدم عليهم
قالوا :نعم ،هذا الوصف الذي رأيناه عندان :قميصه مرقع ،وخيدم خادمه! أيها اإلخوة :رمبا
يكون اإلنسان يف حاجة ماسة وال يعلم حاله إال هللا ،وأقول :إن الذي يعرف حقيقة صدقة
التطوع هو الفقري؛ ألنه حيس حباجة أخيه الفقري ،أما األغنياء فهم يف حال حسنة ،ورمبا ال
97
يشعرون بغريهم ،وقد قيل :إن السر يف صوم نيب هللا داود يوماً وإفطاره يوماً أنه سئل عنه
فقال :أما اليوم الذي أصوم فيه فأجوع وأتذكر املساكني ،وأما اليوم الذي أفطر فيه فأشبع
علي ،وهكذا هنا( :أميا مسلم كسا مسلماً على عري) يعين :أنه فتش، فأشكر نعمة هللا َّ
وحترى ،ووجد من يستحق.
إذا كان بيدك قميص تريد أن تتصدق به ،فهل تعطيه ملن جير ثوبه خيالء ،أو ملن يلبس
احلرير والكتان؟! أو ملن تكاثرت لديه املالبس ،أو على إنسان يف برد الشتاء يتأثر ابلربد،
وحيتاج إىل هذا الثوب؟ ال شك أنك تبحث عن صاحب احلاجة وتقدمه إليه ،وكما قيل :إن
الصنيعة ال تعد صنيعةً حىت يراد هبا طريق املصن ِع يعين أن توضع يف حملها ،ومن هنا بني
الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم ما يعامل به هذا النوع من الناس :كساه هللا من حلل اجلنة،
أو من خضر اجلنة ،واجلزاء من جنس العمل.
جوع أطعمه هللا من مثار اجلنة ،وأميا مسلم سقى مسلماً على
(وأميا مسلم أطعم مسلماً على ٍ
ظمأٍ سقاه هللا من الرحيق املختوم) :الرحيق هو أفضل أنواع الشراب ،وقيل :العرب تسمي
أعلى أنواع اخلمر رحيقاً.
واملختوم أي :احملفوظ املعظم املكرم خبالف األشياء العادية اليت ال ختتم ،فتوضع يف إانء وال
يعبأ هبا؛ ألهنا غري كرمية أو غري ذات قيمة ،أما الشيء النفيس الكرمي فيحافظ عليه ،وخيتم
عليه زايدة يف العناية واحلفظ.
وهكذا يبني لنا صلى هللا عليه وآله وسلم أنك ما دمت متصدقاً وأخرجت الصدقة من
ملكك ،وجادت هبا نفسك ،فانظر أين تضعها؟! َ
الصدقة تعم كل ما يسد حاجة اإلنسان
ويف هذا احلديث :بيان أن صدقة التطوع ال تتوقف على الدرهم والدينار ،بل تعم كل ما
يسد حاجة لإلنسان ،فعراين حيتاج إىل قميص ،وجائع حيتاج إىل طعام ،وظامئ حيتاج إىل
شراب.
شربة املاء صدقة ،وقد قيل :إن أفضل التطوع وأفضل الصدقات سقي املاء.
فضل التصدق ابملاء
98
كان سعد بن عبادة رضي هللا تعاىل عنه يف غزاة مع رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم،
وتوفيت أمه يف غيبته ،فلما جاء سأل رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم( :إن تصدقت
عنها هل ينفعها؟ وقيل :إهنا كانت تكلمت يف مرض وفاهتا ،لو متلك شيئاً لتصدقت به ،أو
ِ
تصدقت؟ فقالت :املال مال سعد ،وليس يل مال أتصدق به ،فعلم ولدها أهنا سألوها :لو
كانت ترغب يف الصدقة ،فسأل رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم :أينفعها إن تصدقت
عنها؟ قال :نعم ،قال :أشهدك أن مال كذا -بستان له يف املدينة -صدقة يف سبيل هللا،
قال :يف أي شيء أضعه؟! قال( :يف سقي املاء) ،فكانت ِلا سقيا يف املدينة ،تسمى سقيا
أم سعد.
ومن حكم العوام :اسق املاء وأنت على املاء ،أي :وأنت واقف على سبيل أو جالس عند
ماء زمزم ،فجاء إنسان وسقيته ،فهذه صدقة منك عليه ،ولك فيها أجر ،وكذا لو كنت على
هنر وإنسان ميشي فطلب أن تسقيه ،فناولته من النهر وأعطيته؛ فهذه صدقة أيضاَ ًَ ،وروي
أن جربيل عليه السالم قال( :اي رسول هللا! إن املالئكة لتعجب من ثواب عملني من أهل
األرض ،متنت لو أهنا عملت مثل ذلك ،قال :وما مها؟ قال :سقي املاء ،وإصالح ذات
البني) .
إذاً :إذا رأيت أمرين فأكثر يف حديث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فانظر ما هي املناسبة؟
وما هو العامل املشرتك الذي مجع بني هذه األمور يف حديث واحد؟ فلو نظرت هنا :سقي
املاء وإصالح ذات البني ،فإنك جتد الرابطة بينهما قوية؛ ألن سقي املاء به حياة النفس،
وإصالح ذات البني به حياة اجملتمع؛ ألنه إذا ترك وقع الفراق أو النزاع أو اخلصومة بني
الناس؛ وكانت احلالقة ،وصارت فتنة أكلت األخضر واليابس ،فكان فيها اِلالك.
إذاً :هذا احلديث يعطينا املنهج الذي ينبغي على املتصدق ،وفاعل اخلري أن يسري عليه.
الصدقة بغري املال
من جانب آخر صدقة التطوع ليست قاصرة على ذوي األموال واليسار ،ففي احلديث( :أن
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حث الناس على الصدقة ،فجاء رجل بداننري ،وجاء رجل
بدراهم ،وجاء رجل بثياب ،وجاء رجل بتمر ،وجاء رجل بقبضة دقيق ،وجاء رجل وقال :اي
رسول هللا! ليس عندي ما أتصدق به ،ولكين تصدقت بعرضي على كل من اغتابين أو
99
سبين ،فلما جاء قومه إىل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال :وهللا! لقد تصدق رجل منكم
بصدقة عمت مجيع الناس!) ،ليس عنده مال ،لكن تصدق أبن سامح وعفا وصفح عن كل
من اغتابه؛ ألنه أصبح له حق يستوفيه يوم القيامة ،فهو تصدق هبذا احلق على صاحبه ،من
ني َع ِن النَّا ِس} [آل عمران. ]134: اظ ِمني الْغَي َ ِ ِ
ظ َوالْ َعاف َ {والْ َك َ ْ ابب قوله تعاىلَ :
إذاً :الصدقة ال يتقاصر عنها إنسان ،فتصدق بكل شيء أمكنك أن تفعله ولو شربة ماء،
حممود وليس معىن الفقر هنا:
قال الناظم :بث اجلميل وال متنعك قلته فكل ما سد فقراً فهو ُ
فقري املسكني الذي ليس عنده شيء ،وإمنا الفقر االحتياج ،فأنت -مثالً -تفتقر إىل خيط
ختيط به خرقاً يف ثوبك ،أو تفتقر إىل إبرة ليست عندك ،وجيبك مملوء نقوداً ،لكن عندك
مفتقر إىل إبرته.
الثوب مشقوق ،والفلوس ال ختيط خميطة للثوب ،وصاحبك عنده إبرة ،وأنت ٌ
حممود ،حيمدك
ُ ط هبا ثوابً ،ولو خيطاً تربط به شيئاً فهو إذاً :فكل ما سد فقراً ،ولو إبرة ختي ُ
صاحب اخلرق على أنك أعطيته اإلبرة ،وهكذا.
ويقول املصطفى صلى هللا عليه وسلم( :ال حتقرن جارة جلارهتا ،ولو فرسن شاة) ،وكان صلى
هللا عليه وآله وسلم يقول( :إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها ،وتعاهد جريانك) .
وقوله( :فرسن شاة) ،هي ما دون الرسغ من يدها ،وقيل :هو عظم قليل اللحم ،واملقصود
وخص النساء ابخلطاب ألنه يغلب عليهن َّ املبالغة يف احلث على اإلهداء ولو ابلشيء اليسري،
استصغار الشيء اليسري ،والتباهي ابلكثرة عائشة رضي هللا تعاىل عنها جاءهتا املسكينة وهي
أتكل عنباً ،فأخذت حبة وأعطتها إايها ،فأخذت املسكينة تقلبها مستقلة إايها ،فقالت:
ال َذ َّرةٍ َخ ْرياً يـََرهُ} [الزلزلة. ]7:انظري كم فيها من ذرة! وهللا يقول{ :فَ َم ْن يـَ ْع َم ْل ِمثْـ َق َ
إذاً :ابب املعروف واسع ،وليس له ح ٌد ،ويف استطاعة كل مسلم أن يتصدق يومياً ،وقد جاء
حديث أعم من هذا( :كل سالمى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس قال:
تعدل بني اثنني صدقة ،وتعني الرجل يف دابته فتحمله عليها ،أو ترفع له عليها متاعه صدقة،
والكلمة الطيبة صدقة ،وكل خطوة متشيها إىل الصالة صدقة ،ومتيط األذى عن الطريق
بوجه طلق؛ صدقة ،هل هناك أحد يعجز عن صدقة) ،فحىت البشاشة يف وجه أخيك تلقاه ٍ
أ ن يبش يف وجه أخيه؟ وهل هناك أحد يعجز عن أن يقول كلمة طيبة ،أو يلقي السالم؟
فكل هذا من ابب صدقة التطوع
100
كتاب الزكاة -ابب صدقة التطوع []3
الشريعة اإلسالمية حتث على الكسب احلالل ،وتكره البطالة ،ولذا فضلت اليد العليا على
اليد السفلى ،ويشرع للمنفق آداب وأحكام بينتها الشريعة ،ومن ذلك أن يبدأ بنفسه مث
ابألقرب فاألقرب ممن تلزمه نفقتهم.
اليد العليا خري من اليد السفلى
يقول املصنف رمحه هللا :وعن حكيم بن حزام رضي هللا تعاىل عنه عن النيب صلى هللا عليه
وآله وسلم قال( :اليد العليا خري من اليد السفلى ،وابدأ مبن تعول ،وخري الصدقة ما كان عن
ظهر غىن ،ومن يستعفف يعفه هللا ،ومن يستغ ِن يغنه هللا) متفق عليه ،واللفظ للبخاري .
معىن اليد العليا واليد السفلى
حديث حكيم بن حزام رضي هللا تعاىل عنه يرتبط مع احلديث الذي بعده بعني املوضوع،
وللعلماء فيه كالم ،يقول رضي هللا تعاىل عنه أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم قال( :اليد
العليا خريٌ من اليد السفلى) .
يقولون :اليد العليا عليا يف اِليئة ويف الواقع؛ ألن السائل يقول :أعطين ،والثاين يقول :خذ،
فاليد العليا هي املعطية ،والسفلى هي اآلخذة ،وهذا يطابق الواقع عملياً ،ومن انحية املعىن:
ال شك أن اليد ذات الغىن أعلى من اليد ذات الفاقة ،فذات الفاقة متدنية ،وذات الغىن
مستعلية.
وبعضهم يقول :اليد العليا هي املستعلية على األغنياء بعفتها ،فهو فقري ،لكنه متعفف،
{حيسبـهم ْ ِ ِ
اجلَاه ُل أَ ْغنيَاءَ فصارت يده عليا مستعلية على من يعطيها بعفتها ،كما قال هللاُ ُ ُ َ َْ :
ِِ ِمن التـ ِ
اه ْم} [البقرة ، ]273:ولكن املعىن العام على ظاهر احلديث هو َّعفُّف تَـ ْع ِرفُـ ُه ْم بس َ
يم ُ َ َ
األول ،وهو الواقع احلسي املتداول املعروف ،وهل هذا فيه مذمة لليد السفلى أو تفسري واقع
حث للفقري وحث للفقراء واملساكني أبن يستعفوا ،ويرفعوا أيديهم عن منزلة السفلى؟ هذا ٌ ٌ
وحث للمسكني أبن يستعف ،وأن يعمل حىت يرفع يده عن منزلة السفلى ،وقد جاء عنه ٌ
قوي جل ٌد يسأل الصدقة، شاب ٌ
صلى هللا عليه وآله وسلم تفسري ذلك عملياً حينما جاءه ٌ
فنظر إليه صلى هللا عليه وآله وسلم وقال له( :إن الصدقة ال حتل لقو ٍي ذي مرة ،قال :ماذا
وقعب أنكل ونشرب فيه) . حلس نفرتش نصفه ،ونلتحف بنصفهٌ ، عندك؟ قالٌ :
101
هذا هو أساس بيته ،فليس له غرفة نوم ،وال غرفة ضيوف ،وال صالة ،أاثثه كله حمصور يف
بطانية أو حنبل يفرش نصفه ويتغطى بنصف ،والقعب ،هذا هو أدوات املطبخ.
فقال( :علي هبما) ،فأخذمها صلى هللا عليه وآله وسلم وقال :من يشرتي مين هذا؟ فقال
رجل :بدرهم -ولعلها ال تبلغ قيمة الدرهم -فقال :من يزيد؟ -حىت ال يكون هناك مماكسة
يف حقه -فقال رجل :بدرمهني -وأعتقد أن الذي يزيد ( )%100إمنا هو جماملة مع الرسول
صلى هللا عليه وآله وسلم -فقال :خذ ،ويعطي الشاب الدرمهني ،ويقول :اش ِرت بدره ٍم طعاماً
وضعه عند أهلك ،واش ِرت بدره ٍم فأساً وحبالً.
فإذا كان فأس بدرهم فمعناه أن الدرهم كانت له قيمة؛ ألن القيمة الشرائية للنقد حينما
يكون النقد عزيزاً ،أما إذا كان النقد هابطاً فال قيمة له ،فبعض اجلهات عملتها ال تساوي
شيئاً ،وحنن شاهدان ارتفاع واخنفاض العمالت يف األسواق.
املهم أنه ذهب واشرتى الفأس واحلبل ،وجاء فأخذ الفأس ،ووضع عوداً فيه ،وقال :اذهب
فاحتطب ،وبع واستغ ِن ،وال أرينك مخسة عشر يوماً ،فيذهب ،مث أييت ،ويقف على رسول
هللا والدراهم يف جيبه ،فيتبسم صلى هللا عليه وآله وسلم ويقول( :ألن أيخذ أحدكم حبالً
وفأساً ،فيذهب فيحتطب فيبيع فيستغين ،خري له من أن يتكفف الناس أعطوه أو منعوه) .
وقوله عليه الصالة والسالم( :ومن يستغ ِن يغنه هللا ،ومن يتعفف يعفه هللا) ،أي :من يستغ ِن
ابهلل يغنه ،ومن يستعفف يف جانب هللا يعفه ،ويرزقه القناعة والصرب ،وهكذا.
دخول كل معروف يف اليد العليا
قوله عليه الصالة والسالم( :اليد العليا خريٌ من اليد السفلى) ،أعتقد أن هذا ليس قاصراً
إلنسان حاجة ،فلو كانتٍ على الصدقة ابملال ،والغين والفقري ،بل يؤجر كل من أسدى
لشخص حاجة يف جهة من اجلهات ،أو عند إنسان من الناس ،فذهبت وقضيت له حاجته،
فممكن أن يدخل ذلك يف قوله( :اليد العليا خري من اليد السفلى) ،ويكون يف ذلك أجر
وفضل ملن أسدى ألخيه معروفاً ،وأصبح له ي ٌد عنده.
كما يف قصة املغرية بن شعبة وهم حتت الشجرة يف احلديبية الرضوان عندما كتبت الصحيفة،
وملا جاء أحد املشركني يفاوض ،أخذ بيده حلية رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ،وكان
102
املغرية بن شعبة واقفاً على رأس رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فقال :كف يدك عن حلية
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قبل أالَّ ترجع إليك! وكان السيف يف يده.
فقال :من هذا اي حممد؟! قال :هذا فالن.
قال :اي غدر! ما غسلت غدرتك إال ابألمس ،مث قال الرجل :اي حممد! ما أظن أن هؤالء
يثبتون معك ،ما أظنهم إال ينفضون عنك ،فقال له أبو بكر :امصص بظر الالت! أحنن
ننفض عن رسول هللا؟ قال :من هذا اي حممد؟! فقال :هذا أبو بكر قال :لوال يد لك ُّ
عندي ،لرددهتا عليك ،ولكن هذه بتلك ،يعين :أن أاب بكر سبق أن عمل له معروفاً ،حىت
صارت له يد عليه ،أي :منة ونعمة.
وهكذا اليد العليا يف كل شيء حيتاجه اإلنسان ،ويتقدم إليه اآلخر بقضائها ،سواء منه
شخصياً أو عن طريقه ،فهي ي ٌد عليا على من أنعم عليه بذلك املعروف.
البداءة يف الصدقة ابألقربني
وقوله( :وابدأ مبن تعول) قرينة تدل على أن اليد العليا هي املعطية.
والعيال هم من يلزم اإلنفاق عليه ،وساقها املؤلف يف ابب الصدقة للمناسبة ،فتكون لك ي ٌد
عُليا على الغَري ،مبعىن أنك تتصدق من مالك ،وكيف تفعل ذلك؟ علمنا رسول هللا صلى هللا
عليه وآله وسلم يف احلديث السابق أن نبحث عن ذوي احلاجات ،فنضع املعروف يف حمله،
نضع الكساء للعراين ،ونعطي الطعام للجائع ،ونعطي املاء للعطشان ،وهكذا نعطي الدلو
ملن ليس عنده دلو ،ونعطي احلبل ملن ال حبل له ،ونعطي البعري ملن حيتاج إىل ركوبه ،ونعطي
القلم ملن ال قلم عنده ،فنضع الشيء يف موضعه.
ك َما َذا
وهنا يعلمنا صلى هللا عليه وآله وسلم الرتتيب واألولوية ،كما قال هللا{ :يَ ْسأَلونَ َ
ِ ِ ِ ِ
ني} [البقرة ]215:فقال( :وابدأ مبن تعول) ، يـُْنف ُقو َن قُ ْل َما أَنْـ َف ْقتُ ْم م ْن َخ ٍْري فَللْ َوال َديْ ِن َو ْاألَقْـَربِ َ
وأوىل ما يكون لإلنسان نفسه ،فأوالً :تكفي نفسك ،فلو كان عندك ثوب وأنت عراين ،هل
تعطيه لغريك؟ ال ،ومن أمثلة العوام :مطابق وأخوه عراين؛ واملطابق هو الذي أيخذ ثوبني
وأخوه عراين ،فهنا يعطي كل واحد منهما ثوابً.
وأما من له األولوية يف اإلنفاق ،بعد النفس ،فبعض العلماء يقول :الزوجة ،ولكن القرآن
يقول{ :فَلِْل َوالِ َديْ ِن} [البقرة ، ]215:ونفقة الوالدين هل تكون إجبارايً ،أو تطوعاً؟ إذا كان
103
الوالدان مستغنيني فليس ِلما حق النفقة على الولد ،وكذا الولد ،لكن الزوجة مهما كان
غناها ،فنفقتها واجبة على زوجها على كل حال.
إذاً :نفقة الزوجة يف الدرجة األوىل بعد النفس؛ ألهنا واجبة يف حال غناها وفقرها ،لكن
األبوين واألوالد ،ال جتب النفقة عليهم إال عند احلاجة ،إذاً :من كانت النفقة واجبة له على
كل حال؛ فهو أوىل ممن كانت واجبة له يف بعض األحوال ،فالنفقة على زوجك أوىل.
جاء أبو طلحة إىل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،وقال( :اي رسول هللا! مسعت ما أنزل هللا
سبحانه وتعاىل يف قوله{ :لَ ْن تَـنَالُوا الِْ َّرب َح َّىت تُـْن ِف ُقوا ِممَّا ُِحتبُّو َن} [آل عمران ، ]92:وإن
أحب مايل إيل بريحاء) ،والعامة تقول :بري حاء ،وكان هنا عند ابب اجمليدي ،ودخل يف
توسعة املسجد ،وكان فيه ماء يستعذب ،وكان جبوار املسجد ،وكان أحسن أو أعز أو أحب
ماله إليه ،فقال :اي رسول هللا! هو صدقة؛ ضعه حيث شئت ،فقال( :اجعله يف أهلك) .
حمل الشاهد قوله( :اجعله يف أهلك) ،وهكذا يكون اإلنسان صاحب خري؛ سواء كان فقرياً
أو غنياً ،فيسد من حوائج الناس ،واألقربون أوىل مبعروفه ،مث بعد ذلك األدىن فاألدىن.
خري الصدقة ما كان عن ظهر غىن
الحظوا اي إخوان( :ابدأ اليد العليا) ،فاليد العليا تبدأ مبن تعول ،فهناك عطاء ،وهناك
صدقة ،مث أييت يف الدرجة الثالثة التوجيه( :وخري الصدقة) أي :الناشئة عن اليد العليا ،اليت
تتوجه لألدىن فاألدىن من األقربني (ما كان عن ظهر غىن) .
فقوله( :ما كان عن ظهر غىن) كناية عن املال الزائد املستغىن عنه ،فهذا يشعران أبنه يبدأ
بنفسه هو؛ ألن خري الصدقة ما كان عن ظهر غىن ،وأول من يستغين املتصدق؛ فإذا كان
عندك ما يغنيك ،فالزائد عن احلاجة تكون منه الصدقة ،وهذا حفاظ على حياة املتصدق
وعلى نفسيته.
(شر) ؛ وأصلهاو (خري) من صيغ التفضيل حذفت منه اِلمزة ،وأصلها (أخري) ،ونظريهاٌ :
(أشر) ،لكن حذفت اِلمزة ختفيفاً لكثرة االستعمال.
إذاً :خري الصدقة ما كان حينما يتصدق هبا املتصدق عن ظهر غىن ،أي :وهو مستغ ٍن يف
نفسه ،كما أن الزكاة ال جتب إال عن ظهر غىن؛ ألنه ال جتب إال على من ميلك النصاب،
وهو مستغ ٍن عنه طيلة العام ،فهكذا تكون الزكاة ،وكذلك صدقة التطوع.
104
الغىن غىن النفس
وقوله عليه الصالة والسالم( :ومن يستعفف يعفه هللا ،ومن يستغ ِن يغنه هللا) ،هذا موجهٌ
معط وآخذ ،ويدان :ي ٌد عليا وي ٌد سفلى ،فكانلصاحب اليد السفلى ،وحنن عندان طرفانٍ :
صدر احلديث مع (اليد العليا) ،وذلك يف قوله( :ابدأ مبن تعول) ،وهكذا (خري الصدقة ما
كان عن ظهر غىن) موجه للمتصدق صاحب اليد العليا.
وأييت احلديث للجانب الثاين (ومن يستعفف يعفه هللا) ،هل قال( :يستعفف) أو قال:
(ومن يتعفف) ؟ هذه احلروف الزائدة حروف استفعال ،وكما يقول الزخمشري :زايدة املبىن
تدل على زايدة املعىن ،وهذه قاعدة يف فقه اللغة.
فقوله( :يستعفف) أبلغ من (يتعفف) فاملعىن :أنه يتكلف العفة ولو مل يكن يف شخصه
عفيفاً ،فهو يتصنع ذلك ،ويفتعل ذلك ،وحيمل نفسه على العفة ولو كان حمتاجاً ،وهو
متطلِع إىل الصدقة وينتظرها ولكنه ال يطاوع نفسه ويسري وراءها.
فهنا (يستعف) على وزن (يستفعل) أي :أن الفعل ليس موجوداً لكنه يستجلبه ،فهو
يستجلب العفة لنفسه ،وليحمل نفسه عن منزلة (سفلى) ،لتساوي يده األخرى يف علوها،
(ومن يستعفف يعفه هللا) .
قوله( :ومن يستغ ِن يغنه هللا) ،وهذا كما يف احلديث( :ليس الغىن بكثرة العرض ولكن الغىن
غىن النفس) ،وكما يقول القائل :علل النفس ابلقناعة وإال طلبت منك فوق ما يكفيها
فالغىن والفقر يف نفس اإلنسان( ،فعلل النفس ابلغىن) أي :امحلها على الغىن( ،وإالَّ) إن مل
حتملها على الغىن (طلبت منك فوق ما يكفيها) ،قال عليه الصالة والسالم( :لو أن البن
آدم وادايً من ذهب لتمىن اثنياً ،ولو أن له واديني من ذهب لتمىن اثلثاً ،وال ميأل جوف ابن
آدم إال الرتاب) .
{وُِحتبُّو َن الْ َم َ
ال ُحباً َمجاً} إذاً :النفس من طبيعتها التطلع ،ومن جبلتها اجلمع واحلرصَ ،
ات} [آل عمران ]14:فهذه أمور جبلت عليها ب الشَّهو ِ {زيِ َن لِلن ِ
َّاس ُح ُّ َ َ [الفجرُ ، ]20:
النفس.
(ومن يستغ ِن) أي :يستجلب الغىن لنفسه (يغنه هللا) ،قال والدان الشيخ األمني رمحة هللا
علينا وعليه يف جلسة خاصة -جزاه هللا عين أحسن اجلزاء -قال :اي فالن! إين متخوف
105
عالم؟ وكنا يف الرايض ،وكان امللك عبد العزيز -هللا يغفر له ويرمحه-خوفاً شديداً ،قلتَ :
جيتمع العلماء عنده كل ليلة مخيس كما هو اآلن ،وهذه كانت عادة من زمن امللك عبد
العزيز ،أنه يف ليلة من األسبوع يستقبل املشايخ ،وكذلك كانت أتيت مناسبات ويبعث إليهم
هبدااي ،فكان -هللا يغفر له ويرمحه -إ ذا جاءه شيء ما مير عليه أربع وعشرون ساعة ،ويقول
يل :تعال اي فالن! اكتب وحيوِلا إىل بعض (العوائل) يف مكة واملدينة.
ومرة كنت عنده أكتب أمساء العوائل ،فقال :وهللا اي فالن! أان خائف خوفاً شديداً ،قلت
له :حصل خري ،أنت يف أمن ،واحلمد هلل حنن يف راحة وأمان ،قال :عندي شيء كبري جداً،
علي ،قلت :عندك العلم؛ وأنت تبذل منه ويزيد ،وما عندك مال ختاف أخاف أن يذهب َّ
عليه.
قال :ال ال ،غري هذا ،قلت :أيش هو؟ قال :أان جئت من البالد بكن ٍز كبري جداً ،قلت :اي
شيخ! أعرف أمورك قبل أن جتيء إىل الرايض ،فأين الكنز؟! قال :القناعة ،كنا قانعني مبا كنا
فيه ،ومطمئنني ،والدنيا ال تساوي شيئاً ،وبدأت األموال جتري يف أيدينا ،فأخاف أن متتد
اليد ،وتنقبض عليها ،وحنرص عليها ،وتذهب عنا القناعة اليت كنا نعتز هبا ،فقلت له :مثلك
ال خياف عليه ،مادام كلما جاءك شيء ،قلت :تعال اي عطية! اكتب ،وحول ،وال ترتك
عندك شيئاً ،فاطمئن وال ختف من شيء.
وهللا تعاىل أعلم.
وصلى هللا وسلم وابرك على سيدان ونبينا حممد صلى هللا عليه وسلم.
106