You are on page 1of 106

‫المملكة العربية السعودية‬

‫وزارة التعليم‬
‫جامعة اإلمام محمد بن سعود اإلسالمية‬
‫معهد العلوم اإلسالمية والعربية بجاكرتا‬

‫مقرر احلديث‬
‫لطالب المستوى الرابع‬
‫الفصل الدراسي األول‬

‫للعام الجامعي‪1442 /1441‬هـ‬


‫كتاب الزكاة ‪ -‬مقدمة كتاب الزكاة‬
‫بسم هللا الرمحن الرحيم احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على أشرف املرسلني‪ ،‬سيد‬
‫األولني واآلخرين سيدان حممد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وعلى آله وصحبه أمجعني‪.‬‬
‫لقد فرض هللا سبحانه وتعاىل الزكاة‪ ،‬وأظهر احلكمة من ذلك ألجل أن يدفعها العباد طلباً‬
‫لطاعة هللا‪ ،‬وعن طيب نفس‪ ،‬ولذلك كان النيب صلى هللا عليه وسلم يعرض على القبائل‬
‫اإلسالم مبتدائً ابلشهادتني‪ ،‬مث الصالة‪ ،‬مث الزكاة‪ ،‬مث بقية التشريعات‪.‬‬
‫فضل الزكاة يف اإلسالم‬
‫ابسم هللا‪ ،‬احلمد هلل‪ ،‬والصالة والسالم على رسول هللا‪ ،‬وبعد‪ :‬فيقول املصنف رمحه هللا‪ :‬عن‬
‫ابن عباس رضي هللا عنهما‪( :‬أن النيب صلى هللا عليه وسلم بعث معاذاً إىل اليمن ‪-‬فذكر‬
‫احلديث‪ -‬وفيه‪ :‬إن هللا قد افرتض عليهم صدقة يف أمواهلم‪ ،‬تؤخذ من أغنيائهم‪ ،‬فرتد يف فقرائهم)‬
‫متفق عليه واللفظ للبخاري ‪.‬‬
‫الزكاة تطهري للمزكي واآلخذ‬
‫إن مبحث الزكاة ونظامه بكل جوانبه هلو من أهم مباحث األموال يف اإلسالم‪ ،‬واملتأمل لنصوص‬
‫الشرع يف هذا العمل جيد الشمول والرتتيب يف أدق ما يكون‪ ،‬والزكاة ركن من أركان اإلسالم‪،‬‬
‫وكما قال الصديق رضي هللا تعاىل عنه‪( :‬الصالة حق هللا‪ ،‬وعبادة البدن‪ ،‬والزكاة حق املال‪،‬‬
‫وبني صلوات هللا وسالمه‬ ‫وعبادة األموال) وقد نبني النيب صلى هللا عليه وسلم األموال الزكوية‪ ،‬ن‬
‫عليه األنصبة فيها وما خيرج منها وإىل من تؤدى‪.‬‬
‫والبحث يف الزكاة يكون يف‪ :‬مشروعيتها‪ ،‬وحكمتها‪ ،‬وأنواع األموال اليت تزكى‪ ،‬واملقادير اليت‬
‫خترج منها‪ ،‬واجلهات اليت تعطاها‪ ،‬وحكم من امتنع عنها‪.‬‬
‫وهللا سبحانه وتعاىل فرض الزكاة‪ ،‬وأشار القرآن الكرمي إىل نوع من احلكمة اجلامعة يف فرضيتها‪،‬‬
‫ص َدقَةً تُطَ ِنهُرُه ْم َوتَُزنكِي ِه ْم‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫{خ ْذ م ْن أ َْم َواهل ْم َ‬
‫فقال سبحانه خماطباً لرسوله صلى هللا عليه وسلم‪ُ :‬‬
‫ص ِنل َعلَْي ِه ْم} [التوبة‪ ]103:‬فجعل املوىل سبحانه إخراج الزكاة مصلحة للطرفني‪ :‬للدافع‬ ‫ِ‬
‫ِبَا َو َ‬
‫ولآلخذ‪ ،‬وفيها احلكمة املزدوجة‪ :‬تطهري وتزكية‪.‬‬
‫أما (تطهرهم) فيقول العلماء‪ :‬تطهر الفقراء من أمراض النفس الداخلية كاحلقد واحلسد؛ ألن‬
‫املسكني إذا وجد املال يف يد الغين يستكثر به عليه‪ ،‬وال يصيب منه شيئاً‪ ،‬فإنه يشتد غيظه‬

‫‪2‬‬
‫عليه‪ ،‬وحسده له على ما بني يديه‪ ،‬فإذا أعطي من هذا املال حصته اليت أشار إليها قوله‬
‫لسائِ ِل َوالْ َم ْح ُر ِوم} [املعارج‪ ]25-24:‬ذهب عنه‬ ‫وم * لِ َّ‬ ‫ِِ‬
‫ين ِيف أ َْم َواهل ْم َح ٌّق َم ْعلُ ٌ‬
‫سبحانه‪ِ َّ :‬‬
‫{والذ َ‬ ‫َ‬
‫ذاك احلقد وذاك احلسد‪.‬‬
‫وكذلك الغين عندما خيرج من ماله زكاته ينبغي أن يعلم أبن الزكاة ال تنقص املال ولكن تزكيه‪،‬‬
‫والزكاة مبعىن‪ :‬النماء والزايدة‪.‬‬
‫{وَما آتَ ْي تُ ْم ِم ْن ِرًاب لَِ ْريبُ َو ِيف أ َْم َو ِال‬
‫(ما نقص مال من صدقة) ‪ ،‬بل الصدقة تنمي املال وتزكيه‪َ :‬‬
‫ضعِ ُفو َن} [الروم‪]39:‬‬ ‫يدو َن وجه َِّ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫َّاس فَال ي ربوا ِعْن َد َِّ‬
‫ك ُه ُم الْ ُم ْ‬ ‫اَّلل فَأ ُْولَئِ َ‬ ‫اَّلل َوَما آتَ ْي تُ ْم م ْن َزَكاة تُِر ُ َ ْ َ‬ ‫الن ِ َْ ُ‬
‫أي‪ :‬تتضاعف أمواهلم وتتزايد بسبب الصدقة‪.‬‬
‫وقد نبني املوىل سبحانه إىل أي حد تتضاعف الصدقات‪ ،‬وأجرها إىل سبعمائة ضعف وزايدة‪،‬‬
‫ت َسْب َع َسنَابِ َل ِيف ُك ِنل‬ ‫ٍ‬ ‫قال تعاىل‪{ :‬مثل الَّ ِذين ي ِنف ُقو َن أَموا َهلم ِيف سبِ ِيل َِّ‬
‫اَّلل َك َمثَ ِل َحبَّة أَنْبَتَ ْ‬ ‫ْ َ ُْ َ‬ ‫ََ ُ َ ُ‬
‫ف لِ َم ْن يَ َشاءُ}‬ ‫اَّلل ي َ ِ‬
‫ضاع ُ‬ ‫{و َُّ ُ‬ ‫ُسْن بُلَة مائَةُ َحبَّة} [البقرة‪ ]261:‬ومعلوم‪ :‬أن (‪َ )700= 100×7‬‬
‫ٍ‬ ‫ٍِ‬
‫[البقرة‪. ]261:‬‬
‫وبني صلى هللا عليه وسلم موجب تلك املضاعفة عندما قال صلوات هللا وسالمه عليه‪( :‬سبق‬
‫درهم مائة ألف درهم‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬اي رسول هللا! وكيف يكون هذا؟ فقال صلى هللا عليه وسلم‪ :‬رجل عنده درمهان فتصدق‬
‫أبحدمها‪ ،‬ورجل عنده مال كثري فأخذ من عرض ماله مائة ألف وتصدق ِبا) ‪ ،‬وهذا يف ميزان‬
‫احلساب والعقل أن صاحب الدرمهني تصدق بنصف ما ميلك‪ ،‬وصاحب املال الكثري تصدق‬
‫بطرف مما ميلك‪ ،‬مث الذي تصدق مبائة ألف بقي يف يده الشيء الكثري‪ ،‬والذي تصدق بدرهم‬
‫مل يبق معه إال درهم‪ ،‬وهذا فرق بعيد‪.‬‬
‫الصدقة برهان اإلميان‬
‫وهناك قواعد عديدة يف نظام املعاوضة؛ ألن اإلنسان ال خيرج درمهاً من جيبه إال من عوض‬
‫أيخذ به سلعة‪ ،‬أو يستأجر به عامالً‪ ،‬يشرتي منفعة أو طاقة‪ ،‬واملتصدق خيرج من ماله وال‬
‫ينتظر شيئاً‪ ،‬وليس ذلك ضياعاً للصدقة؛ ألهنا بدون عوض‪ ،‬بل عوضها عظيم ومضمون‪ ،‬وهو‬
‫ما للمتصدق عند هللا من أجر؛ وهلذا جتد املؤمن املوقن ابلوعد ‪-‬أي‪ :‬وعد هللا‪ -‬يتصدق ويزكي‬
‫بطيب نفس؛ ألنه موقن أبنه سيجد عوض ذلك يوم ال ينفع مال وال بنون‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫وعلى هذا كانت الصدقة برهاانً على صدق اإلميان كما جاء يف احلديث‪( :‬الطهور شطر‬
‫اإلميان‪ ،‬وسبحان هللا متأل امليزان‪ ،‬وسبحان هللا واحلمد هلل متآلن ‪-‬أو متأل‪ -‬ما بني السماء‬
‫واألرض‪ ،‬والصالة نور‪ ،‬والصدقة برهان‪ ،‬والصرب ضياء) والربهان‪ :‬الدليل‪ ،‬وهو يف أصل اللغة‪:‬‬
‫الدائرة البيضاء اليت تكون حول قرص الشمس بعد املطر ‪-‬وليس قوس قزح املعروف‪ -‬تظهر‬
‫بينة‪ ،‬والربهان‪ :‬الدليل واحلجة الذي يقيمه اإلنسان على دعواه اليت يناكر فيها‪.‬‬
‫فالصدقة برهان على صدق املتصدق؛ ألنه يوقن أبن عوضها عند هللا؛ وهلذا كان املؤمنون‬
‫يتصدقون بطيب أمواهلم‪ ،‬أما املنافقون فكانوا يعمدون إىل ما ال يقبلونه وال يرتضونه إال أن‬
‫يغمضوا فيه‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬الزكاة عنصر حيوي يف اإلسالم‪ ،‬وتنظيمها وبيان مصرفها هلل سبحانه‪ ،‬كما جاء عن رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم‪( :‬أن شاابً جلداً قوايً وقف على رسول هللا وسأله الصدقة‪ ،‬فقال‪ :‬اي‬
‫ابن أخي! إن هللا مل يدع قسم املال ألحد‪ ،‬ال لنيب مرسل وال مللك مقرب‪ ،‬وتوىل قسمتها بنفسه‬
‫ات} [التوبة‪ ]60:‬إىل آخره‪ ،‬فإن كنت من أهلها أعطيتك‪.‬‬ ‫{إََِّّنَا َّ‬
‫الص َدقَ ُ‬
‫فذهب الرجل‪ ،‬مث جاء آخر وقال‪ :‬ليس عندي شيء‪.‬‬
‫قال‪ :‬ماذا عندك؟ قال‪ :‬أان وعجوز يف البيت‪ ،‬عندان حلس نفرتش نصفه ونلتحف بنصفه‪،‬‬
‫وقعب نشرب وأنكل فيه‪.‬‬
‫قال‪ :‬علي ِبما‪.‬‬
‫فباعهما صلى هللا عليه وسلم بدرمهني‪ ،‬وقال‪ :‬اذهب فاشرت أبحدمها طعاماً ألهلك‪ ،‬واشرت‬
‫ابآلخر فأساً وحبالً واتين ِبما‪ ،‬مث وضع عوداً يف الفأس وقال‪ :‬انطلق فاحتطب وبع‪ ،‬وال أرينك‬
‫مخسة عشر يوماً‪.‬‬
‫فذهب واحتطب وابع‪ ،‬مث وقف على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يف ثياب نظيفة‪ ،‬وحرك‬
‫ثوبه فإذا الدراهم يف جيبه تتحدث‪ ،‬فتبسم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وقال‪ :‬ألن أيخذ‬
‫أحدكم حبالً وفأساً فيحتطب فيبيع‪ ،‬فيستغين؛ خري من أن يذهب يتكفف الناس أعطوه أو‬
‫منعوه‪ ،‬ومن يتصرب يصربه هللا‪ ،‬وما أعطي أحد عطاء خرياً وأجزل من الصرب) ‪.‬‬
‫وهكذا ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬املال يف اإلسالم له حيز كبري‪ ،‬سواء كان يف الزكاة أو يف صدقة التطوع‪،‬‬
‫أو يف الغنائم‪ ،‬أو يف األنفال‪ ،‬أو يف املرياث أو غري ذلك‪ ،‬وهنا يعقد املؤلف رمحه هللا كتاب‬

‫‪4‬‬
‫الزكاة‪ ،‬أي‪ :‬أحكامها وما جاء فيها من حكمها‪ ،‬وأمواهلا‪ ،‬ومن أنصبتها‪ ،‬واجلهات اليت تصرف‬
‫فيها‪.‬‬
‫حكم الزكاة ومشروعيتها‬
‫أما حكم الزكاة‪ :‬فهو معروف من الدين ابلضرورة ألنه اثبت ابلكتاب وابلسنة وابإلمجاع‪ ،‬وال‬
‫يعذر أحد جبهله أن الزكاة ركن يف اإلسالم‪.‬‬
‫وأما مباحثها فسيأيت املؤلف رمحه هللا على مجيع هذه اجلوانب مبا يورده يف هذا الباب من‬
‫األحاديث‪ ،‬وهي حنو العشرين حديثاً‪ ،‬وسنجد ما أورده رمحه هللا‪.‬‬
‫بدأ املؤلف رمحه هللا تعاىل كتاب الزكاة حبديث معاذ‪ ،‬وحديث معاذ من أمجع األحاديث ‪-‬يف‬
‫اجلملة‪ -‬يف مشروعية الزكاة وتوابعها‪ ،‬أما األنصبة فلها نصوص أخرى‪.‬‬
‫وقد فرضت الزكاة يف السنة الثانية من اهلجرة‪ ،‬وفيها أيضاً فرض الصوم‪ ،‬واخلالف يف أيهما‬
‫كان األسبق‪ :‬هل الزكاة فرضت قبل الصوم‪ ،‬أو الصوم قبل الزكاة؟ املهم أهنما فرضا يف السنة‬
‫الثانية من اهلجرة؛ ألن بعد هجرة النيب صلى هللا عليه وسلم بدأ تشريع أركان اإلسالم‪ ،‬ففي‬
‫مدة وجوده يف مكة مل يشرع ركن إال الصالة عندما فرضت ليلة اإلسراء واملعراج‪ ،‬وكانت مدة‬
‫مكة كلها إَّنا هي يف إرساء العقيدة يف توحيد هللا سبحانه وحده‪ ،‬ويف اإلميان بيوم القيامة أي‪:‬‬
‫ابلبعث‪ ،‬فلما جاء إىل املدينة فرضت أركان اإلسالم األخرى من زكاة وصيام وحج‪ ،‬وغريها من‬
‫التشريعات وأحكام البيوع واجلناايت وما يتعلق بذلك كله‪.‬‬
‫وكان مبعث معاذ إىل اليمن سنة مثان يف فتح مكة‪ ،‬وقيل‪ :‬سنة تسع بعد تبوك‪ ،‬وقيل‪ :‬سنة‬
‫عشر بعد احلج‪ ،‬والذي يرتجح ‪-‬وهللا تعاىل أعلم‪ -‬أنه بعد سنة مثان؛ ألن معاذاً رضي هللا‬
‫تعاىل عنه قد خصه هللا بفضيلة وختصص علمي كما قال صلى هللا عليه وسلم‪( :‬أعلمكم‬
‫ابحلالل واحلرام معاذ بن جبل) ‪ ،‬وكما خص أاب عبيدة أبنه أمني هذه األمة‪ ،‬وكذلك بعض من‬
‫خصهم رسول هللا كقوله‪( :‬أفرضكم زيد) ‪ ،‬ف زيد أعلمهم ابلفرائض‪ ،‬ومعاذ أعلمهم ابحلالل‬
‫واحلرام‪ ،‬وابن عباس أعلمهم بتأويل القرآن الكرمي وهكذا‪.‬‬
‫والذي جاء يف ترمجة معاذ رضي هللا تعاىل عنه أن النيب صلى هللا عليه وسلم عام فتح مكة‬
‫خلفه يف مكة يعلمهم أركان اإلسالم‪ ،‬وأمور الدين‪ ،‬إذاً‪ :‬القول أنه بعثه سنة مثان يف فتح مكة‬
‫يعارضه ختلفه يف مكة لتعليمهم‪ ،‬أما بعد ذلك فممكن‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫ومعاذ رضي هللا تعاىل عنه ‪-‬يف نظري‪ -‬يعترب بعثة تعليمية متنقلة؛ ألن النيب صلى هللا عليه‬
‫وسلم أقره يف مكة بعد فتحها يعلمهم‪ ،‬وأرسله كذلك إىل اليمن وحضرموت‪ ،‬وكما أرسل أاب‬
‫موسى األشعري مع ستة نفر إىل اليمن‪ ،‬وكان مردهم ومرجعهم يف كل األحكام معاذ‪ ،‬وكان‬
‫كل له بلد يفيت فيه ويعلم‪ ،‬وجيمع الزكاة ويوزعها‪ ،‬ومعاذاً يطوف عليهم مجيعاً‪.‬‬
‫ويف خالفة عمر أرسل عامل الشام ل عمر رسوالً‪ :‬إن أهل الشام حيتاجون إىل من يعلمهم‬
‫الدين‪ ،‬فبعث إليهم معاذاً‪ ،‬ومكث هناك حىت تويف ابلشام رضي هللا تعاىل عنه‪.‬‬
‫جوانب احلكمة يف الدعوة والتعامل من حديث معاذ‬
‫وها هو رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يبعثه‪ ،‬وجاء يف سبب بعثه مع اجلانب العلمي قضية‬
‫عجيبة! وهي أن معاذاًكان شاابًكرمياً جداً‪ ،‬وقد حلقته الديون بسبب كرمه‪ ،‬وكان يستدين من‬
‫اليهود حىت تراكم الدين عليه‪ ،‬وأصبحت أمالكه ال تفي بديونه‪ ،‬فجاءوا إىل النيب صلى هللا‬
‫عليه وسلم وقالوا‪ :‬مر معاذاً فليوفنا بديوننا‪.‬‬
‫فصار معاذ يتخفى منهم‪ ،‬فأرسل إليه صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬اي رسول هللا! مايل يف ديوين‪.‬‬
‫فقال هلم‪ :‬خذوا ماله يف ديونكم من النخيل أو البساتني أو غري ذلك‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ال تفي بشيء‪.‬‬
‫قال‪ :‬ضعوا عنه‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ال نضع شيئاً‪ ،‬حىت قال الراوي‪ :‬لو أن أحداً كان يضع ألحد لوضع دائنو معاذ عنه من‬
‫أجل النيب صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬قال‪ :‬خذوا ما وجدمت وليس لكم إال ذلك‪.‬‬
‫إجازة النيب صلى هللا عليه وسلم ملعاذ أبخذ اهلدية‬
‫مث قال صلى هللا عليه وسلم ل معاذ‪ :‬أبعثك إىل اليمن لعلك تصيب شيئاً‪.‬‬
‫أي‪ :‬بصفته عامالً يصيب شيئاً يرد عليه بدل أمواله اليت خرجت من يده‪.‬‬
‫والعجيب هنا‪ :‬أن النيب صلى هللا عليه وسلم أابح له أخذ اهلدية‪ ،‬مع أن النيب صلى هللا عليه‬
‫وسلم يقول‪( :‬هدااي العمال غلول) ؛ ألنه ال يهدي للعامل إال خمافةً منه أو طمعاً فيه‪ ،‬وكذلك‬
‫العمال يهدون إليهم ليخففوا عنهم فيما جيب عليهم من عمال الزكاة‪ ،‬وملا فتح هللا على‬
‫املسلمني خيرب طلبوا من رسول هللا أن يبقيهم فيها‪ ،‬قالوا‪ :‬حنن أعلم أبمور النخيل‪ ،‬دعها يف‬
‫أيدينا خندمك فيها‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫قال‪ :‬ندعكم إىل ما شاء هللا‪.‬‬
‫وكان االتفاق أن يعملوا فيها ابلنصف‪ :‬نصف الثمرة لليهود‪ ،‬والنصف اآلخر للمسلمني‪،‬‬
‫والعادة يف مثل ذلك ابلنسبة للزكاة أنه خيرج العامل ليخرص إذا بدأ نضج الثمرة وأمنت العاهة‪،‬‬
‫أي‪ :‬امحرت واصفرت الثمرة‪ ،‬فيأيت العامل فيطوف يف النخيل فيقدر‪ :‬هذه فيها وسق‪ ،‬وهذه‬
‫فيها وسقني‪ ،‬وهذه فيها ثالثة‪ ،‬وهذه فيها نصف‪.‬‬
‫حىت حيصي ما يف البستان من مظنة الثمرة اليت أتيت من جمموع هذا النخل‪ ،‬فإذا وجد ‪-‬مثالً‪-‬‬
‫أن جمموع ما يف هذا البستان ألف وسق‪ ،‬فقد كان يوصيهم صلى هللا عليه وسلم أن يسقطوا‬
‫الثلث أو الربع‪ ،‬ملا يرد من ضيف‪ ،‬وملا أتكل الطري‪ ،‬وملا تسقط الريح‪ ،‬وهذا كله ال يكلف‬
‫صاحب املال أبن خيرج زكاته وهو قد أتلف بعضه‪.‬‬
‫فبعث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عبد هللا بن رواحة ليخرص على أهل خيرب‪ ،‬ليلتزموا يف‬
‫النهاية بعد جتفيف التمر مبا وجب عليهم‪ ،‬ويقدمونه لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فلما‬
‫جاءهم ماذا فعلوا؟ مجع اليهود من حلي نسائهم جمموعة‪ ،‬وقدموها ل عبد هللا وقالوا‪ :‬خفف‬
‫عنا ‪-‬يعين‪ :‬إن كان عندان مخسة آالف اجعلها ثالثة آالف‪ -‬فقال هلم كلمته املشهورة‪( :‬اي‬
‫إخوة اخلنازير! وهللا لقد جئتكم من عند أحب خلق هللا إيل‪ ،‬وألنتم أبغض الناس عندي‪ ،‬ووهللا‬
‫ما حيب لرسول هللا وال بغضي لكم حباملي على أن أجحف عليكم‪ ،‬وهذا املال رشوة وسحت‪،‬‬
‫وهو حمرم) ‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬اي عبد هللا! ِبذا قامت السماوات واألرض‪.‬‬
‫أي‪ :‬ابألمانة ورفض الرشوة‪ ،‬وأقسم أال حييف عليهم بسبب البغض‪ ،‬وال أن حيايب رسول هللا‬
‫بسبب احملبة‪ ،‬وقال‪ :‬إين خارص وأنتم ابخليام‪ ،‬إما أن تلتزموا ما وجب عليكم‪ ،‬وإما أن ترفعوا‬
‫أيديكم وأان ملتزم لكم مبا هو لكم من هذا اخلرص‪ ،‬فقبلوا وخرص والتزموا‪.‬‬
‫الذي يهمنا‪ :‬أن هدااي العمال رشوة وسحت‪ ،‬والرسول أابح ل معاذ أن يقبل اهلدية‪ ،‬وخص‬
‫معاذاً ألنه صلى هللا عليه وسلم علم من معاذ أن نفسه ودينه وأمانته فوق مستوى احملاابة‬
‫والرشوة والسحت‪ ،‬فإذا ما جاءته هدية مل يقبلها يف مقابل حق يتنازل عنه أو يف مقابل حماابة‬
‫يف دين هللا‪ ،‬فأابحها له وكان بينه وبني أيب بكر وعمر مقاالت يف هذا املوضوع‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫خماطبة كل قوم حسب ثقافتهم العلمية‬
‫وهنا التوجيه النبوي الكرمي‪ ،‬الذي ميكن يف العرف احلاضر أن نسميه (التوجيه الدبلوماسي)‬
‫مبعىن سياسة الناس وخماطبتهم مبا يف نفوسهم‪ ،‬وتنوع األساليب مع أانس دون أانس‪ ،‬فقال له‪:‬‬
‫(اي معاذ! إنك ستأيت قوماً أهل كتاب) أهل الكتاب ليسوا هم وأهل البادية األمية سواء‪.‬‬
‫فالبادية األمية ال تعرف شيئاً من أحكام السماء‪ ،‬وليس عندهم سوابق علم‪ ،‬أما أهل الكتاب‬
‫فعندهم من العلم ما جاءهم يف كتاِبم‪ ،‬وعندهم من التوحيد‪.‬‬
‫ومن أخبار البعث الشيء الكثري الذي أنزله هللا يف كتبه املتقدمة من التوراة واإلجنيل‪ ،‬وكان يف‬
‫اليمن يهود ونصارى‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬خذ أهبتك يف مقابلة هؤالء الناس لتتعامل معهم على مستوى علمي‪ ،‬والذي يتعامل مع‬
‫أشخاص أهل علم جيب أن يكون على مستوى علمي أكثر ممن يتعامل مع ابدية أمية ال تعرف‬
‫شيئاً‪ ،‬فيقودها حيث شاء‪ ،‬أما أهل الكتاب فلن ينقادوا يف كل شيء؛ ألن لديهم أصول‬
‫يتمسكون ِبا‪ ،‬بصرف النظر عن كوهنا حرفت أو بدلت‪.‬‬
‫التدرج يف الدعوة إىل هللا تعاىل‬
‫(إنك أتيت قوماً أهل كتاب‪ ،‬فليكن أول ما تدعوهم إليه ‪-‬ويف رواية البخاري رمحه هللا وغريه‪:‬‬
‫أن يعبدوا هللا وحده ال شريك له‪ -‬عبادة هللا وحده‪ ،‬فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أبن هللا‬
‫قد افرتض عليهم مخس صلوات يف اليوم والليلة‪ ،‬فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أبن هللا قد‬
‫افرتض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتعطى إىل فقرائهم) ‪.‬‬
‫إىل هنا يقف طالب العلم والداعية إىل هللا لريى األسلوب يف الدعوة إىل هللا مع قوم أهل كتاب‪،‬‬
‫وذوي عقل وفكر‪ ،‬فتكون الدعوة معهم ابلتدرج‪ ،‬فأول شيء يدعوهم إليه هو ما ال نزاع فيه؛‬
‫وهو عبادة هللا وحده‪.‬‬
‫فالوثنيون قد يعارضون يف ذلك أشد من أهل الكتاب؛ ألن أهل الكتاب عندهم مبدأ يف‬
‫التوحيد‪ ،‬والشرك طارئ عليهم‪ ،‬فيدخل يف التدرج بعبادة هللا وحده‪ ،‬مث ينتقل إىل العبادة البدنية‬
‫اليت ليس فيها درهم وال دينار‪ ،‬وهي‪ :‬الصلوات اخلمس يف اليوم والليلة‪ ،‬فإن هم استجابوا‬
‫لذلك فمعناه أهنم على طريق السمع والطاعة‪ ،‬فينتقل ِبم إىل عنصر املادة‪( :‬أعلمهم أبن هللا‬
‫قد افرتض عليهم صدقة ‪-‬ومسى الزكاة املفروضة صدقة‪ -‬تؤخذ من أغنيائهم فرتد على فقرائهم)‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫وهنا أيضاً من حسن التنبيه‪ ،‬ومن إعجاز التشريع‪ ،‬أنه افرتض عليهم صدقة ال يدفعوهنا لغريهم‬
‫من املسلمني‪ ،‬وإَّنا خترج منهم وتوزع فيهم‪ ،‬فتؤخذ من أغنيائهم وترد عليهم‪ ،‬أي‪ :‬تؤخذ ابليمني‬
‫وتعطى ابلشمال ولكن مع اختالف اجلهة‪ ،‬فتؤخذ من أغنيائهم الذين أفاض هللا عليهم من‬
‫آَت ُك ْم} [النور‪ ]33:‬وترد على فقرائهم‪،‬‬ ‫اَّللِ الَّ ِذي َ‬
‫وه ْم ِم ْن َم ِال َّ‬
‫{وآتُ ُ‬
‫ماله‪ ،‬واملال مال هللا‪َ :‬‬
‫وأيتامهم‪ ،‬ومساكينهم‪ ،‬من آابئهم‪ ،‬وإخواهنم‪ ،‬وجرياهنم‪ ،‬فهي لن خترج من أيديهم‪.‬‬
‫فعندما يعلم أغنياء اليمن أن الزكاة اليت فرضها اإلسالم ليست ضريبة جتىب منهم إىل غريهم‪ ،‬بل‬
‫تؤخذ منهم وترد عليهم؛ حينئذ يسهل أمر دفع املال؛ ألن املال صنو النفس‪ ،‬والنفس شحيحة‬
‫عليه‪ ،‬وحريصة على حتصيله‪ ،‬وشحيحة يف إنفاقه‪.‬‬
‫وهكذا كان بعث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم معاذاً إىل اليمن‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنه كان جابياً للزكاة‬
‫واجلزية‪ ،‬وكان أمرياً‪ ،‬ومعلماً ومفتياً وقاضياً‪ ،‬فكان يؤدي كل هذه املهام‪ ،‬وليس جمرد جامع‬
‫للزكاة‪.‬‬
‫النيب صلى هللا عليه وسلم يغرس الوازع الديين يف قلب معاذ‬
‫واحلديث قد قطعه البخاري فيما ال يقل عن مخسة أو ستة أبواب‪.‬‬
‫فالرسول صلى هللا عليه وسلم ملا قال له‪( :‬تؤخذ من أغنيائهم فرتد على فقرائهم) أي‪ :‬يف اجلملة‪،‬‬
‫وقال له‪( :‬وإايك وكرائم أمواهلم!) أي‪ :‬إذا أعطوا الزكاة فال تعمد إىل أكرمها وأتخذها؛ ألن‬
‫صاحبها متعلق ِبا‪ ،‬وهذا ظلم‪ ،‬كما أنك ال أتخذ العجفاء وال املريضة؛ ألن هذا ظلم‬
‫للمساكني‪ ،‬وإَّنا يكون الوسط‪( :‬وإايك ‪-‬حتذير‪ -‬وكرائم أمواهلم!) أي‪ :‬احذر أن تعمد إىل‬
‫أكرمها فتأخذه‪.‬‬
‫وقد مرت غنم الصدقة على عمر رضي هللا تعاىل عنه فوجد فيها شاة حافلة ‪-‬ضرعها كبري‪-‬‬
‫فقال‪( :‬ما أظن أن أهل هذه دفعوها عن طيب نفس!) أتسفاً ألخذها‪ ،‬وال يستطيع أن يردها؛‬
‫ألهنا جاءت من بعيد‪ ،‬وهنا تنبيه من النيب صلى هللا عليه وسلم على ما جيب على العمال من‬
‫الرفق ابلناس‪ ،‬وعدم اإلضرار بصاحب املال وال مبستحقيه؛ وهلذا يقول العلماء‪ :‬الزكاة فرضت‬
‫على الرفق ابلطرفني‪ :‬رفقاً ابألغنياء أبن أخذ منهم (‪ ، )%2.5‬ومل يقاسم املالك يف ماله على‬
‫الثلث أو الثلثني‪ ،‬فأربعون شاة من الغنم أيخذ منها شاة إىل مائة وعشرين‪ ،‬فهذه ليس فيها‬

‫‪9‬‬
‫غرامة عليه‪ ،‬وال فيها ثقل عليه‪ ،‬بل فيها رفق به‪ ،‬وكذلك إرفاق ابملساكني أن ينتفعوا مبا أيتيهم‬
‫من أموال األغنياء‪.‬‬
‫وهنا ينبه صلى هللا عليه وسلم مجيع عمال الزكاة إىل أن يرث هللا األرض ومن عليها‪ ،‬أن يكونوا‬
‫رمحاء‪ ،‬وأال جيحفوا بصاحب املال فيأخذوا كرائم األموال‪ ،‬وأال جيحفوا ابملساكني فيأخذوا هلم‬
‫العجاف واملرضى‪.‬‬
‫وعمر يقول لعامله‪( :‬اعتد عليهم ابلسخلة أييت ِبا الراعي بني ذراعيه ‪-‬يعين‪ :‬حيملها على‬
‫صدره‪ -‬وال أتخذها منهم) أي‪ :‬عند عد الرؤوس عدها‪ ،‬ولكن يف األخذ يف زكاة الغنم ال‬
‫أتخذها؛ ألنه ليس منها فائدة‪ ،‬وإَّنا أيخذ الوسط‪.‬‬
‫(وإايك وكرائم أمواهلم) ‪.‬‬
‫يقيم صلى هللا عليه وسلم الوازع الذي ينتزع قلب كل إنسان إذا خالف‪( :‬واتق دعوة املظلوم؛‬
‫فإنه ليس بينها وبني هللا حجاب) نعم ذهب يدعو إىل هللا‪ ،‬لكنه سيأخذ الزكاة‪ ،‬والزكاة مال‪،‬‬
‫وحذره من كرائم األموال‪ ،‬فإذا أخذ كرمية مال إنسان يكون قد ظلمه‪ ،‬واملظلوم لن يبيت غافالً‪،‬‬
‫وسيدعو على الظامل‪ ،‬فيجب أن تتقي دعوة املظلوم؛ ألنه ليس بينها وبني هللا حجاب‪ ،‬والرسول‬
‫صلى هللا عليه وسلم يقول‪( :‬إن هللا يقول‪ :‬إين ألنصر املظلوم ولو كان كافراً) يقول العلماء‪:‬‬
‫ألن هذا الكافر عندما أحس ابلظلم مل جيد من ينصفه‪ ،‬وال بينة عنده‪ ،‬أو أنه مضطهد ال‬
‫يستطيع أن أيخذ حقه‪ ،‬ولن جيد من ينصره وينصفه ممن ظلمه إال هللا‪ ،‬فتوجه إىل هللا‪ ،‬فهو يف‬
‫تلك اللحظة مؤمن ابهلل‪ ،‬وإن مل يقر له ابلتوحيد‪ ،‬لكنه مقر بوجود هللا وبقدرته على نصرته‪،‬‬
‫وهنا ال خييبه هللا‪.‬‬
‫ويقولون يف خرب موسى مع قارون‪ :‬ملا أدرك قارون اخلسف أخذ ينادي‪ :‬اي موسى! اي موسى!‬
‫وموسى مل يلتفت إليه‪ ،‬مث بعد أن انتهى عاتب هللا موسى‪ :‬اي موسى! يناديك قارون عدة مرات‬
‫فلم تلتفت إليه‪ ،‬لو انداين مرة واحدة ألجبته‪.‬‬
‫إذاً (اتق) أي‪ :‬احذر‪ ،‬واجعل لك وقاية بينك وبني دعوة املظلوم‪ ،‬أال وهي عدم ظلمه‪( ،‬فإنه‬
‫ليس بينها وبني هللا حجاب) ‪ ،‬فال حتجبها السماوات السبع‪ ،‬وال املأل األعلى‪ ،‬وتصعد إىل هللا‬
‫سبحانه‪ ،‬فيتلقاها وينصف املظلوم ولو كان كافراً‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫ويقول اإلمام ابن تيمية رمحه هللا‪ :‬إن امللك ليدوم مع العدل ولو لكافر‪ ،‬وال يدوم مع الظلم ولو‬
‫ملسلم‪.‬‬
‫(والظلم ظلمات يوم القيامة) ‪.‬‬
‫وهكذا جند يف بعث معاذ رضي هللا تعاىل عنه إىل اليمن‪ ،‬فإن هذه التعليمات أسس قومية فيما‬
‫يكون عليه العمال‪ ،‬وفيما ينبغي أن يالحظوه يف حق الرعية‪.‬‬
‫كتاب الزكاة ‪ -‬مقدمة كتاب الزكاة‬
‫من رمحة هللا بعباده أنه ما أمجل شيئاً يف كتابه إال وبيَّنه يف سنة نبيه حممد صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫فالزكاة أمر واجب وركن من أركان اإلسالم فصلت وبينت فرائضها وأنصبتها يف سنة نبينا حممد‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ومن ذلك زكاة اإلبل والغنم كما يف كتاب أيب بكر الصديق رضي هللا عنه‪.‬‬
‫حديث أيب بكر يف زكاة األنعام اليت فرضها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫يقول املصنف رمحه هللا‪[ :‬وعن أنس‪ :‬أن أاب بكر الصديق رضي هللا عنه كتب له‪( :‬هذه فريضة‬
‫الصدقة اليت فرضها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على املسلمني‪ ،‬واليت أمر هللا ِبا رسوله‪ :‬يف‬
‫كل أربع وعشرين من اإلبل فما دوهنا الغنم‪ ،‬يف كل مخس شاة‪ ،‬فإذا بلغت مخساً وعشرين إىل‬
‫مخس وثالثني ففيها بنت خماض أنثى‪ ،‬فإن مل تكن فابن لبون ذكر‪ ،‬فإذا بلغت ستاً وثالثني إىل‬
‫مخس وأربعني ففيها بنت لبون أنثى‪ ،‬فإذا بلغت ست وأربعني إىل ستني ففيها حقة طروقة‬
‫اجلمل‪ ،‬فإذا بلغت واحدة وستني إىل مخس وسبعني ففيها جذعة‪ ،‬فإذا بلغت ستاً وسبعني إىل‬
‫تسعني ففيها بنتا لبون‪ ،‬فإذا بلغت إحدى وتسعني إىل عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا‬
‫اجلمل‪ ،‬فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعني بنت لبون‪ ،‬ويف كل مخسني حقة‪ ،‬ومن‬
‫مل يكن معه إال أربع من اإلبل فليس فيها صدقة إال أن يشاء رِبا‪.‬‬
‫ويف صدقة الغنم يف سائمتها إذا كانت أربعني إىل عشرين ومائة شاةٍ شاةٌ‪ ،‬فإذا زادت على‬
‫عشرين ومائة إىل مائتني ففيها شاَتن‪ ،‬فإذا زادت على مائتني إىل ثالمثائة ففيها ثالث شياه‪،‬‬
‫فإذا زادت على ثالمثائة ففي كل مائة شاة‪ ،‬فإذا كانت سائمة الرجل انقصة من أربعني شاةً‬
‫شاةٌ واحدةٌ فليس فيها صدقة إال أن يشاء رِبا‪ ،‬وال جيمع بني متفرق‪ ،‬وال يفرق بني جمتمع‬
‫خشية الصدقة‪ ،‬وما كان من خليطني فإهنما يرتاجعان بينهما ابلسوية‪ ،‬وال خيرج يف الصدقة‬
‫هرمة‪ ،‬وال ذات عوار‪ ،‬وال تيس إال أن يشاء املصدق‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫ويف الرقة يف مائيت درهم ربع العشر‪ ،‬فإن مل تكن إال تسعني ومائة فليس فيها صدقة إال أن‬
‫يشاء رِبا‪.‬‬
‫ومن بلغت عنده من اإلبل صدقة اجلذعة‪ ،‬وليست عنده جذعة وعنده حقة فإهنا تقبل منه‪،‬‬
‫وجيعل معها شاتني إن استيسرَت له أو عشرين درمهاً‪ ،‬ومن بلغت عنده صدقة احلقة وليست‬
‫عنده احلقة‪ ،‬وعنده اجلذعة‪ ،‬فإهنا تقبل منه اجلذعة‪ ،‬ويعطيه املصدق عشرين درمهاً أو شاتني)‬
‫رواه البخاري] ‪.‬‬
‫األموال الزكوية املتفق على أصوهلا‬
‫بعدما قدم املؤلف حديث معاذ رضي هللا تعاىل عنه يف بيان وجوب الزكاة‪( :‬مث أعلمهم أبن هللا‬
‫قد افرتض عليهم صدقة يف أمواهلم تؤخذ من أغنيائهم‪ ،‬فرتد على فقرائهم) وانتهى الكالم يف‬
‫ثبوت وجوب الزكاة ومعرفة ذلك من الدين اإلسالمي ابلضرورة‪ ،‬فهو ركن من أركان اإلسالم‬
‫اثبت ابلكتاب والسنة واإلمجاع؛ جاءان حبديث أيب بكر رضي هللا تعاىل عنه يف تفصيل وبيان‬
‫الزكاة يف ِبيمة األنعام‪ ،‬وذكر يف هذا الكتاب أنصبة اإلبل والغنم‪.‬‬
‫ويف اجلملة يوجد من أموال الزكاة ما هو متفق على أصول فيها‪ ،‬كبهيمة األنعام‪ :‬اإلبل والبقر‬
‫والغنم‪ ،‬ومن الزروع‪ :‬التمر والزبيب واحلبوب‪ ،‬وكل قوت مكيل مدخر أحلق ابلتمر والزبيب‪،‬‬
‫وكذلك النقدان‪ :‬الذهب والفضة‪ ،‬ويلحق ابلنقدين عروض التجارة؛ ألهنا َتبعة هلا‪ ،‬وتدار‬
‫وتقوم ِبما‪.‬‬
‫ابلذهب والفضة ن‬
‫زكاة األموال الزكوية الظاهرة لإلمام والباطنة يقسمها املالك‬
‫األموال الزكوية قسمت إىل قسمني‪ :‬قسم ظاهر يتوىل اإلمام أمره‪ ،‬وهي‪ِ :‬بيمة األنعام‪ ،‬والتمور‬
‫والزبيب‪.‬‬
‫وقسم خفي وهو‪ :‬الذهب والفضة وعروض التجارة‪ ،‬وهذا اخلفي وكِل وأسند أمره إىل صاحبه‪،‬‬
‫فهو يتعامل بينه وبني هللا يف إخراج الزكاة‪.‬‬
‫فهنا أنخذ خطاب أيب بكر رضي هللا تعاىل عنه‪ ،‬ومعلوم أن الكتابة مل تكن معهودة‪ ،‬ولكن‬
‫جاءت يف بعض التعليمات العامة‪ ،‬منها ما أماله الرسول صلى هللا عليه وسلم كما نبه أبو‬
‫بكر رضي هللا تعاىل عنه يف بيان أنصبة الزكاة اليت فرضها هللا ورسوله‪ ،‬ومنها الكتب اليت كتبت‬
‫فيما يتعلق ابجلناايت‪ ،‬كالدية‪ ،‬وأرش اجلروح‪ ،‬كما جاء عن علي رضي هللا تعاىل عنه‪ ،‬أنه سئل‪:‬‬

‫‪12‬‬
‫(هل خصكم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بشيء من العلم مل خيص به أحد غريكم؟ فقال‪:‬‬
‫ال وهللا‪ ،‬إال فهم أوتيه أحد يف كتاب هللا‪ ،‬وما يف هذه الصحيفة ‪-‬وكانت صحيفة يضعها علي‬
‫رضي هللا تعاىل عنه معه يف قراب سيفه‪ -‬قالوا‪ :‬وما يف الصحيفة؟ قال‪ :‬العقل ‪-‬أي‪ :‬عقل‬
‫اجلراح‪ -‬والدايت‪ ،‬وفكاك األسري) وبعضها كخطاب ابن حزم يف أنصبة الزكاة يكتب ِبا إىل‬
‫العمال يسريون عليها‪.‬‬
‫ولعل هذا العمل ‪-‬وهو الكتابة يف أمور جزئية‪ -‬هو مبدأ تدوين وتنظيم النظم احلكومية‪ ،‬فمنها‬
‫ما يتعلق ابجلناايت‪ ،‬ومنها ما يتعلق ابألموال‪ ،‬وهذا من أمهها‪ ،‬ويتفق العلماء على أن تلك‬
‫الكتب ال زالت يعمل ِبا يف عهد الصحابة رضي هللا تعاىل عنهم‪ ،‬وكان مجيع العمال أيخذون‬
‫مبا فيها ويطبقوهنا كل يف مكانه‪.‬‬
‫بيان حديث أيب بكر جململ القرآن‪( :‬وآتوا الزكاة)‬
‫فهذا خطاب أيب بكر رضي هللا تعاىل عنه يقول فيه‪( :‬وعن أنس‪ :‬أن أاب بكر الصديق رضي‬
‫هللا عنه كتب له‪ :‬هذه فريضة الصدقة) ‪.‬‬
‫هذه الكتابة كتبها أبو بكر من عنده أو مما مسعه من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم؟ ال ميكن‬
‫ل أيب بكر أن ينظم هذا التنظيم من عنده؛ ألنه يتعلق أبموال الناس‪ ،‬وأموال الناس حمرتمة‪ ،‬ال‬
‫ميكن إلنسان أن يتسلط عليها وأيخذ منها‪ ،‬وهي عبادة تتعلق بركن مايل‪ ،‬والعبادة ال ميكن‬
‫ألحد أن يتحكم فيها‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬أبو بكر رضي هللا تعاىل عنه ملا كتب ل أنس كتب له ما حفظ عن رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬ولذا صرح بذلك فقال‪(:‬اليت فرضها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على املسلمني)‪.‬‬
‫وهنا يقف العلماء يف مسألة أصولية وهي‪ :‬أن الرسول صلى هللا عليه وسلم له حق يف الفرضية‪،‬‬
‫ولكن هل ذلك له يف بيان ما أمجل من كتاب هللا أم له أن يستقل به؟ فمما له صلة بكتاب‬
‫الصالةَ َوآتُوا َّ‬
‫الزَكاةَ} [البقرة‪]43:‬‬ ‫يموا َّ‬ ‫هللا أن هللا سبحانه وتعاىل فرض الزكاة إمجاالً فقال‪ِ :‬‬
‫{وأَق ُ‬‫َ‬
‫َّ ِ‬
‫الزَكاةَ} [احلج‪ ]41:‬ما هي الزكاة‬ ‫الصالةَ َوآتَ ُوا َّ‬
‫ض أَقَ ُاموا َّ‬ ‫ين إِ ْن َم َّكن ُ‬
‫َّاه ْم ِيف األ َْر ِ‬ ‫‪ ،‬وقال‪{ :‬الذ َ‬
‫اليت آتوها؟ ما هي أنواع األموال الزكوية؟ ما مقادير أنصبائها‪ ،‬ما مقدار ما يؤخذ منها؟ وهلذا‬
‫يقول األصوليون‪ :‬السنة قاضية على الكتاب‪ ،‬مبعىن‪ :‬أهنا مبينة ملا أمجل فيه‪ ،‬ويتعني على كل‬
‫مسلم أن أيخذ مبا جاء به رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ابتداءً أو بياانً‪ ،‬وقد بني املوىل وجوب‬

‫‪13‬‬
‫{وَما يَْن ِط ُق َع ِن‬‫ول فَ ُخ ُذوهُ} [احلشر‪ ]7:‬وعصمه هللا من اخلطأ فقال‪َ :‬‬ ‫الر ُس ُ‬
‫آَت ُك ُم َّ‬
‫{وَما َ‬ ‫ذلك‪َ :‬‬
‫وحى} [النجم‪ ]4-3:‬كما قال السيوطي رمحه هللا‪ :‬الوحي وحيان‪:‬‬ ‫ا ْهلََوى * إِ ْن ُه َو إَِّال َو ْح ٌي يُ َ‬
‫وحي أمران بكتابته‪ ،‬وتعبدان بتالوته احلرف بعشر حسنات‪ ،‬ووحي مل نؤمر بكتابته‪ ،‬ومل نتعبد‬
‫بتالوته‪ ،‬وهو السنة‪.‬‬
‫{ما فَ َّرطْنَا ِيف‬ ‫وملا جاء شخص إىل بعض السلف وقال‪ :‬ما حاجتنا يف السنة وهللا يقول‪َ :‬‬
‫اب ِم ْن َش ْي ٍء} [األنعام‪ ]38:‬؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬ما جاء به النيب صلى هللا عليه وسلم فهو مما‬ ‫الْ ِكتَ ِ‬
‫جاء يف كتاب هللا‪.‬‬
‫وكان والدان الشيخ األمني رمحة هللا تعاىل علينا وعليه يقول‪ :‬السنة كاملة كقطرة من حبر كتاب‬
‫ول فَ ُخ ُذوهُ َوَما َهنَا ُك ْم‬
‫الر ُس ُ‬
‫آَت ُك ُم َّ‬
‫{وَما َ‬
‫هللا؛ ألن هللا قال لنا يف حق رسوله صلى هللا عليه وسلم‪َ :‬‬
‫َعْنهُ فَانْتَ ُهوا} [احلشر‪ ]7:‬فهذا متعلق ابلسنة جبميع ما فيها‪.‬‬
‫وجاء عنه صلى هللا عليه وسلم أنه قال‪( :‬ال ألفني أحدكم متكئاً على أريكته يقول‪ :‬عندان‬
‫كتاب هللا‪ ،‬ما وجدان يف كتاب هللا أخذان به‪ ،‬وما مل جند ال حاجة لنا فيه! أال وإنين أوتيت‬
‫الكتاب ومثلَه معه) والذي أوتيه صلى هللا عليه وسلم مع الكتاب هو السنة‪.‬‬
‫وهنا ملا قال هذا الرجل هذا الكالم لبعض السلف‪ ،‬قال‪ :‬اي ابن أخي! تعال‪ ،‬ال غىن لك عن‬
‫الصالةَ} [البقرة‪ ]43:‬أن الصبح ركعتان‬ ‫يموا َّ‬ ‫السنة‪ ،‬هل وجدت يف كتاب هللا عند قوله‪ِ :‬‬
‫{وأَق ُ‬
‫َ‬
‫والظهر أربع واملغرب ثالث؟ قال له‪ :‬ال‪.‬‬
‫قال‪ :‬من أين أخذهتا؟ قال‪ :‬من سنة رسول هللا‪.‬‬
‫قال‪ :‬إذاً‪ :‬حنن ملزمون ابلسنة‪.‬‬
‫وكذلك أرأيت أنصباء الزكاة هل وجدت يف الذهب (‪.2‬‬
‫‪ )%5‬مذكوراً يف القرآن؟ هل وجدت يف القرآن أن الغنم يف كل أربعني شاةً شاةٌ؟ وهل وجدت‬
‫يف القرآن عن اإلبل يف كل مخس إبل شاة؟ وهل وجدت يف احلبوب والثمار يف كل مخسة‬
‫أوسق صدقة؟ اجلواب‪ :‬ال‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬من أين وجدت ذلك؟ اجلواب‪ :‬من السنة‪.‬‬
‫وعلى هذا جاءت السنة بتفصيل ما أمجل يف كتاب هللا‪ ،‬وجاءت السنة بتشريع مستقل لكنه‬
‫َتبع ملا جاء يف كتاب هللا‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫وهنا يقول أبو بكر رضي هللا تعاىل عنه‪( :‬هذه فريضة الزكاة اليت افرتضها رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم) ‪.‬‬
‫قوله‪( :‬واليت أمر هللا ِبا رسوله) ‪.‬‬
‫{وآتُوا َّ‬
‫الزَكاةَ} [البقرة‪ ]43:‬أو أنه أمره أمراً غري ما يف القرآن‪ ،‬وقد يكون‬ ‫أي‪ :‬يف عموم قوله‪َ :‬‬
‫هناك وحي سوى القرآن‪.‬‬
‫أنصبة اإلبل‬
‫األنصبة املفروضة يف سائمة الغنم‬
‫يف كل أربعني إىل مائة وعشرين شاة‬
‫قوله‪( :‬ويف صدقة الغنم يف سائمتها إذا كانت أربعني إىل عشرين ومائة شاةٍ شاةٌ) ‪.‬‬
‫انتهينا من أنصبة اإلبل على نزاع فيها ‪-‬ميكن أن يتعرض له املؤلف أو يرتكه‪ -‬بني اإلمام أيب‬
‫حنيفة رمحه هللا هل تنتهي الفريضة عند مائة وعشرين أو متشي إىل أكثر من ذلك‪ ،‬مث تعود مرة‬
‫أخرى بنسب اثبتة؟ مث دخل يف نصاب الغنم‪ ،‬ففي كل أربعني شاةً شاةٌ‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬اإلبل بدأت من مخس‪ ،‬والغنم بدأت من أربعني‪ ،‬بنت املخاض مشت يف اإلبل من مخس‬
‫وعشرين إىل مخس وثالثني‪ ،‬والشاة يف األربعني متشي معها إىل مائة وعشرين‪ ،‬فمائة وعشرون‬
‫فيها شاة‪ ،‬وأربعون فيها شاة‪ ،‬وكذلك ما بينهما‪ ،‬فهذه ثالث أربعينات أيضاً فيها شاة‪ ،‬فلينتبه‬
‫هلذا‪ ،‬فإننا حنتاج أن نرجع إليه فيما بعد‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬يف أول أنصباء الغنم أربعون شاة‪ ،‬بصرف النظر عن الشروط اليت ستأيت من كوهنا سائمة‬
‫وغريها‪ ،‬وهذا شرط عام يف اإلبل والغنم والبقر‪ ،‬وأن املعلوفة ال زكاة فيها؛ ألنه يتكلف هلا‪،‬‬
‫ويهمنا اآلن يف بيان أنصباء الغنم أن أول نصاب للغنم أربعون شاة‪ ،‬واألربعون فيها واحدة‪،‬‬
‫والواحدة متضي مع األربعني إىل املائة والعشرين‪ ،‬فإن زادت عن املائة والعشرين شاة واحدة‪،‬‬
‫كأن ولدت تلك الليلة‪ ،‬وجاء العامل ووجد عنده مائة وعشرين شاة‪ ،‬ومعها زايدة عليها تلك‬
‫السخلة اليت ولدت ابألمس‪ ،‬فزادت عن العشرين واملائة واحدة ففيها شاَتن‪.‬‬
‫إذا زادت على مائة وعشرين إىل مائتني ففيها شاَتن‬
‫قوله‪( :‬فإذا زادت على عشرين ومائة إىل مائتني ففيها شاَتن) ‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫أي‪ :‬إذا زادت الغنم عن العشرين واملائة شاة واحدة كان فيها شاَتن‪ ،‬والشاَتن متشي من مائة‬
‫وع شرين‪ ،‬وثالثني‪ ،‬إىل مائة ومخسني مائة وستني إىل مائة وتسعني فيكون فيها الشاَتن‪ ،‬وإذا‬
‫كملت مائتني ففيها الشاَتن‪ ،‬فإذا زادت الغنم عن املائتني شاة واحدة فتكون قد دخلت يف‬
‫املائة الثالثة‪ ،‬فإذاً فيها ثالث شياه‪.‬‬
‫اذا زادت على مائتني إىل ثالمثائة ففيها ثالث شياه‬
‫قوله‪( :‬فإذا زادت على مائتني إىل ثالمثائة ففيها ثالث شياه) ‪.‬‬
‫أي‪ :‬حىت تصل إىل الثالمثائة ففيها ثالث شياه‪ ،‬مث تستقر الفريضة يف كل مائة شاةٍ شاةٌ‪.‬‬
‫وحنن جنمل اجلميع لنرى أن تلك األنصباء يف األموال ليست عفوية‪ ،‬وإَّنا وضعت بدقة وحكمة‪،‬‬
‫وإذا عرضت على شخص يعترب من كبار احملاسبني فهنا تتضح احلكمة والرمحة‪ :‬فالشاة فرضت‬
‫أوالً يف أربعني‪ ،‬فلما كثرت األغنام فوق الثالمثائة وصارت أربعمائة أو مخسمائة فالشاة اليت‬
‫كانت تفرض يف أربعني جتزئ عن مائة‪ ،‬إذاً‪ :‬نسبة الزكاة يف الغنم تنزل وال تتصاعد؛ ألن اليت‬
‫كانت جتزئ يف األربعني أصبحت جتزئ يف املائة‪.‬‬
‫وقد يتساءل اإلنسان هنا‪ :‬ملاذا هذا التنازل؟ مع أننا أشران يف السابق أن نظام الضرائب‬
‫يتصاعد‪ ،‬فاملائة األوىل مرتوكة لصاحبها ألهنا قليل‪ ،‬املائة الثانية مثالً عليها (‪ ، )%5‬ويف املائة‬
‫الثالثة (‪ ، )%10‬وهكذا حىت تصل نسبة الضريبة إىل (‪ )%100‬من الربح‪ ،‬أي‪ :‬أهنا تتصاعد‪،‬‬
‫فكلما زاد الربح زادت الضريبة‪ ،‬وهنا كلما زادت الغنم نقصت نسبة ما يؤخذ منها‪ ،‬وهذا إرفاق‬
‫من الشارع بصاحب املال‪.‬‬
‫هنا قد يقول اإلنسان‪ :‬ما موجب هذا التنازل؟ واجلواب‪ :‬ألن صاحب األربعني شاة حياجي‬
‫عليها وحيافظ بقدر املستطاع‪ ،‬لكن صاحب املائتني والثالمثائة أصبح يف احلي رفيع العماد‪،‬‬
‫وطويل النجاد‪ ،‬وأصبح سيد احلي‪ ،‬وسيد احلي مطروق‪ ،‬وكلما طرقه طارق ذبح له شاة إذاً‪:‬‬
‫صارت عليه تبعات أكثر من صاحب األربعني‪ ،‬فكلما زاد املال كثرت التبعات عليه‪ ،‬فخفف‬
‫من جانب الزكاة‪ ،‬وهذا ال يوجد يف نظام الضرائب‪.‬‬
‫كتاب الزكاة ‪ -‬مقدمة كتاب الزكاة‬
‫أنزل هللا القرآن على نبيه صاحلاً لكل زمان ومكان‪ ،‬وجاءت السنة مكملة له‪ ،‬ومبينة وموضحة‬
‫جململه‪ ،‬فكان مما بينته تفاصيل الزكاة ومنها األنعام‪ ،‬حيث بني النيب صلى هللا عليه وسلم أنصبة‬

‫‪16‬‬
‫اإلبل ومىت جتب الزكاة فيها‪ ،‬وبني أنصبة الغنم ومىت جتب الزكاة فيها‪ ،‬فهذه معايري وقياسات‬
‫ال تتغري وال تتبدل مدى الزمان‪.‬‬
‫كما بني أحكام اخللطة‪ ،‬واختالف أسنان املخرج من اإلبل عن املطلوب‪ ،‬وكذلك زكاة الفضة‪،‬‬
‫وكل ذلك رمحة ابملزكي واملسكني‪.‬‬
‫كم اخللطة يف األنعام الزكوية‬
‫يقول أبو بكر‪-‬رضي هللا عنه‪( :-‬وال جيمع بني متفرق وال يفرق بني جمتمع خشية الصدقة‪،‬‬
‫وما كان من خليطني فإهنما يرتاجعان بينهما ابلسوية‪ ،‬وال خيرج يف الصدقة هرمة‪ ،‬وال ذات‬
‫املصدق‪ ،‬ويف الرقة يف مائيت درهم ربع العشر‪ ،‬فإن مل تكن إال‬ ‫عوار‪ ،‬وال تيس إال أن يشاء َّ‬
‫تسعني ومائة فليس فيها صدقة إال ن يشاء رِبا) ‪.‬‬
‫ف الصديق رضي هللا تعاىل عنه يف هذا اخلطاب‪ ،‬بعدما بني أنصباء اإلبل وما يدخل فيها‪،‬‬
‫وأنصباء الغنم وما يؤخذ فيها‪ ،‬بقي من ِبيمة األنعام البقر‪ ،‬واجلاموس يف بعض البالد‪ ،‬أما البقر‬
‫فجاء فيه النص يف غري هذا اخلطاب‪ ،‬وهو‪ :‬يف كل ثالثني تبيع أو تبيعة‪ ،‬ويف كل أربعني مسن‬
‫أو مسنة‪ ،‬والبقر قليل يف بالد العرب‪ ،‬وكانوا يتهاجون ابقتنائها‪ ،‬والذي يكثر هو اإلبل والغنم‪.‬‬
‫والفقهاء قاسوا اجلاموس على البقر‪ ،‬وأحلقوه به يف هذا الباب‪ ،‬وملا نبني الصديق رضي هللا تعاىل‬
‫عنه أنصباء اإلبل والغنم جاء ابلتنصيص على مسألة يكثر وقوعها بني أصحاب ِبيمة األنعام‪،‬‬
‫وهي‪ :‬اخللطة‪ ،‬وتعريفها‪ :‬هو أن أييت صاحب قطيع من اإلبل أو قطيع من الغنم إىل شخص‬
‫آخر له قطيع من اإلبل أو من الغنم فيجمعاهنما معاً‪ ،‬فهذه خلطة‪.‬‬
‫شروط الشاة املأخوذة يف الزكاة‬
‫مث بدأ يبني ماذا أيخذ العامل‪ ،‬قال‪( :‬وال تؤخذ يف الصدقة اهلرمة) ‪ ،‬اهلرمة مبعىن‪ :‬العجوزة؛‬
‫ألهنا غالباً تكون عجفاء ليس فيها شيء‪ ،‬وهي على وشك املوت‪.‬‬
‫(وال ذات عوار) من عور العينني‪( ،‬أو معيبة) ألن العيب عوار يف السلعة‪ ،‬فأي شاة ِبا عيب‬
‫فإهنا ال تؤخذ يف الصدقة؛ ألنه نقص على املساكني‪ ،‬والعوار مبعىن العيب فهو يتفاوت‪ ،‬وبعضهم‬
‫يقول‪ :‬العوراء هي الفاقدة إحدى عينيها‪.‬‬
‫وهذه عند األصوليني فيها نزاع‪ ،‬فعندما يقال يف األضحية‪ :‬جيب أن تكون األضحية سليمة‬
‫من العور فمن األصوليني من يقول‪ :‬هذه معيبة ال تصلح أضحية‪ ،‬وكذلك ال تؤخذ يف الزكاة‪،‬‬

‫‪17‬‬
‫ومنهم من يقول‪ :‬العوراء هي اليت ال تسرح مع الغنم‪ ،‬ولكن تبقى يف البيت‪ ،‬وإذا انفردت يف‬
‫البيت عين ِبا‪ ،‬وجيء هلا بعلف يكفيها وزايدة؛ ألهنا أصبحت حمل عناية من مالكيها‪ ،‬فلرمبا‬
‫تكون أمسن من ذات العينني اليت تسرح مع بقية الغنم‪ ،‬ولكن اجلمهور على أن العور عيب فال‬
‫تؤخذ صاحبة العوار يف زكاة الغنم‪.‬‬
‫ويقاس على ذات العور وعلى اهلرمة أي عيب يف الشاة ينقص من قيمتها‪ ،‬سواء كان يف‬
‫هيكلها أو يف حلمها‪ ،‬فإذا كانت مريضة فال ينبغي أن أيخذها‪ ،‬وإذا كانت مكسورة ال أيخذها‪،‬‬
‫وعلى هذا فكل شاة معيبة يف الغنم ال تصح‪.‬‬
‫وكيف أيخذ؟ قد تقدم لنا ذلك يف حديث معاذ‪( :‬وإايك وكرائم أمواهلم) ‪ ،‬فالعامل ال جيوز له‬
‫أن يصطفي كرائم الغنم وأيخذها‪ ،‬وال أن يقبل من صاحب الغنم أهوهنا‪ ،‬إَّنا يقولون‪ :‬تقسم‬
‫الغنم ثالثة أقسام‪ :‬خيار‪ ،‬وعوار‪ ،‬ووسط‪ ،‬فيأخذ من الوسط‪ ،‬والعامل مؤمتن فال جيوز له أن‬
‫يظلم صاحب الغنم أبخذ خيارها‪ ،‬وال جيوز أن يغش املساكني فيأخذ الضعيف فيها‪ ،‬إَّنا أيخذ‬
‫الوسط‪.‬‬
‫قوله‪( :‬وال تيس إال أن يشاء املصدق) ‪.‬‬
‫التيس يف الغنم هو الذي يعلوها ويطرقها؛ ألن الغنم يف حاجة إليه‪ ،‬فيأيت املصدق وأيخذ التيس‬
‫ويرتك الغنم بال تيس وهذه مضرة‪ ،‬وال جيوز إخراج التيس يف الصدقة إال أن يشاء املص نِدق‪،‬‬
‫أي‪ :‬صاحب الغنم؛ ألنه قد يكون معه غريه‪ ،‬أو املصدق هو العامل الذي أيخذ الصدقة؛ ألن‬
‫التيس ‪-‬أحياانً‪ -‬ال يساوي الشاة‪ ،‬والعنز خري منه ألهنا تنتج‪ ،‬إال إذا جاء العامل ومجع غنماً‬
‫كثرياً وسيسوقها وحيتاج إىل تيوس فيها‪ ،‬فيأخذه منه من أجل مصلحة ما بيده من املاعز‪.‬‬
‫ال زكاة يف اخليل والرباذين وحنوها‬
‫األموال الزكوية قلنا‪ :‬إن املتفق عليها من ِبيمة األنعام‪ :‬اإلبل والبقر والغنم‪ ،‬ومن املختلف فيه‪:‬‬
‫اخليل وما تبعها‪ ،‬فريجح اجلمهور على أن اخليل ال زكاة فيها‪ ،‬وعند اإلمام أيب حنيفة رمحه هللا‬
‫أن اخليل إذا أفردت للنماء والزايدة ففيها الزكاة‪ ،‬أما إذا كانت لغري ذلك‪ ،‬وال يتأتى َّناؤها‪،‬‬
‫وكما يقول األحناف‪ :‬لو كانت كلها ذكوراً‪ ،‬فالذكور وحدها ال تنتج‪ ،‬ولو كانت كلها إانث‬
‫فاإلانث وحدها ال تنتج‪ ،‬فعنصر النماء مفقود فال زكاة فيها‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫ولو كان عنده خيل ذكور وإانث يؤجرها أو يستعملها يف جر العرابت أو يف احلرث فهذه‬
‫ليست للنماء فال زكاة فيها‪.‬‬
‫وعلى رأي اإلمام أيب حنيفة رمحه هللا أن يف اخليل زكاة‪ ،‬فما نصاِبا وما يؤخذ منها؟ مل أيت يف‬
‫أي كتاب من كتب الصدقة بيان أنصباء اخليل وال بيان ما يؤخذ فيها‪ ،‬ومن هنا أخذ اجلمهور‬
‫أن اخليل خارجة عن حدود الزكاة‪ ،‬واستدلوا أيضاً حبديث‪( :‬ليس على املسلم يف فرسه وال يف‬
‫عبده صدقة) فقوله‪( :‬فرسه) وإن كان مفرداً‪ ،‬لكنه نكرة مضاف فيشمل اجلنس‪ ،‬فأخذ اجلمهور‬
‫أبن الفرس أو اخليل ال زكاة فيه‪.‬‬
‫أبو حنيفة رمحه هللا يقول‪ :‬الزكاة مبناها على النماء‪ ،‬فإذا كانت ثالثني فصارت مخسني‪ ،‬فهي‬
‫انمية‪ ،‬فتشرتك مع اإلبل والغنم يف عموم النماء‪ ،‬ففيها زكاة‪.‬‬
‫كم نصاِبا؟ قال‪ :‬يف كل فرس دينار‪.‬‬
‫حنن ال نعهد زكاة مال من غري جنسه إال عروض التجارة وأوائل اإلبل‪ ،‬يف اخلمس منها شاة‪،‬‬
‫فأخذ غري جنسها يف حد معني‪ ،‬مث من مخس وعشرين انتقلت إىل جنسها‪ ،‬وكذلك عروض‬
‫التجارة؛ ألن العروض هي عبارة عن دكان فيه سكر وشاي وصابون ونعناع أو حىت خضار‪،‬‬
‫فماذا سنعطي املسكني من هذا؟ فيقدر اجلميع‪ ،‬وتعطى الزكاة من جمموع القيمة؛ ألهنا مصلحة‬
‫للطرفني‪.‬‬
‫فإذا قلتم‪ :‬اخليل فيها زكاة فبينوا نصاِبا منها‪ ،‬وما يؤخذ منها فيها‪.‬‬
‫وقال قوم‪ :‬ليس فيها زكاة‪ ،‬واستدلوا أبن عمر رضي هللا تعاىل عنه أَته قوم من أهل الشام‪،‬‬
‫وقالوا‪ :‬إان أصبنا خيالً نريد أن أتخذ زكاهتا طهرة هلا‪.‬‬
‫فقال‪ :‬مل أيخذها صاحباي من قبلي ‪-‬يعين رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأاب بكر رضي هللا‬
‫تعاىل عنه‪ -‬فكيف آخذها؟ فاستشار من عنده‪ ،‬فقالوا‪ :‬خذ منهم ما دام عن طيب نفس‪،‬‬
‫فسأل علياً رضي هللا تعاىل عنه‪ ،‬فقال علي‪ :‬ال أبس إال أن تصبح فيما بعد ضريبة الزمة عليهم‪،‬‬
‫أي‪ :‬هم اآلن جاءوا طواعية ودفعوا‪ ،‬فإذا ذهب هذا اجليل الذي يدفع طواعية‪ ،‬فسيأيت بعدهم‬
‫أانس معهم خيل‪ ،‬فيقول من كان بعدك‪ :‬عمر أخذ على اخليل فيأخذ عليهم‪ ،‬وتكون ضريبة‬
‫الزمة بغري إلزام‪.‬‬
‫ف علي قال‪ :‬ال أبس إذا أخذت ما مل تصبح ضريبة الزمة عليهم‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫فقال عمر‪ :‬أنخذها منهم ونردها على عبيدهم‪ ،‬مبعىن انه أخذ زكاة اخليل وفرض لكل فرس‬
‫ديناراً‪ ،‬وأعطى عبيدهم من بيت مال املسلمني‪ ،‬فالعبيد ليس هلم شيء؛ ألن بيت مال املسلمني‬
‫لألحرار‪ ،‬ورزق بيت املال لألحرار‪ ،‬والعبيد تبع لألحرار‪ ،‬ف عمر فرض لعبيد هؤالء الناس من‬
‫بيت املال كأنه عوض عما أيخذ منهم يف اخليل‪.‬‬
‫واجلمهور استدلوا حبديث صحيح‪ ،‬وهو قوله صلى هللا عليه وسلم‪( :‬ما من صاحب إبل ال‬
‫يؤدي زكاهتا إال إذا كان يوم القيامة بطح هلا يف قاع قرقر‪ ،‬مث يؤتى ِبا وافية فتطؤه خبفافها‪،‬‬
‫وتعضه أبنياِبا حىت يقضى بني اخلالئق‪ ،‬فريى مصريه إما إىل جنة‪ ،‬وإما إىل انر‪ ،‬وما من‬
‫صاحب غنم ال يؤدي زكاهتا إال جاءت تطؤه أبظالفها وتنطحه بقروهنا‪ ،‬وما من صاحب ذهب‬
‫أو فضة مل يؤد زكاهتا إال إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من انر‪ ،‬وكوي ِبا جبينه‬
‫وجنبه وظهره إىل أن يقضى بني اخلالئق ‪-‬فذكر صلى هللا عليه وسلم هنا اإلبل والبقر والغنم‬
‫والذهب والفضة‪ -‬فقالوا‪ :‬اي رسول هللا! واخليل ما شأن صاحبها؟ قال‪ :‬اخليل ثالثة‪ :‬هي لرجل‬
‫أجر‪ ،‬وعلى رجل وزر‪ ،‬ولرجل سرت؛ أما اليت هي له أجر‪ :‬فخيل ارتبطها صاحبها يف سبيل هللا‪،‬‬
‫وأما اليت هي وزر فخيل اقتناها صاحبها بطراً ورايءً)‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬مسي اخليل خيالً ألن ِبا خيالء‪ ،‬فانظر إىل الفرس عندما تشبع فإهنا متشي على أطراف‬
‫حوافرها وتتبخرت‪ ،‬وأجود احليواانت يف الرقص والرايضيات واللعب اخليل‪ ،‬وهي أشدها طرابً‪،‬‬
‫فصاحبها كذلك‪.‬‬
‫(واليت هي له سرت رجل اقتناها تغنياً) يعين‪ :‬للنماء فيبيع ويستغين بنسلها وبيعها عن الناس‪.‬‬
‫فما ذكر فيها صدقة‪.‬‬
‫قال‪( :‬وال ينسى حق هللا فيها! قالوا‪ :‬وما حق هللا فيها؟ قال‪ :‬أال مينع فحلها عن إانث غريه‪،‬‬
‫أال مينع منقطعاً أن يركبه إىل مكانه) ‪ ،‬ومل يبني فيها صلى هللا عليه وسلم نصاابً وال ما يؤخذ‬
‫منها‪ ،‬فقال اجلمهور‪ :‬هذا دليل على أن اخليل ال زكاة فيها‪.‬‬
‫(قالوا‪ :‬واحلمر اي رسول هللا! قال‪ :‬مل ينزل علي فيها شيء‪ ،‬إال هذه اآلية اجلامعة الفاذة‪{ :‬فَ َم ْن‬
‫ال َذ َّرةٍ َخ ْ ًريا يََره * َوَم ْن يَ ْع َم ْل ِمثْ َق َ‬
‫ال َذ َّرةٍ َشًّرا يََره} [الزلزلة‪ ) ]8-7:‬إذاً‪ :‬رد ذلك‬ ‫يَ ْع َم ْل ِمثْ َق َ‬
‫إىل صاحبها‪ ،‬إن فعل فيها خرياً فله‪ ،‬وإن كان عكس ذلك فالعكس‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫إذاً‪ :‬الصديق رضي هللا تعاىل عنه ذكر أنصباء اإلبل‪ ،‬وذكر أنصباء الغنم‪ ،‬وجاءت أنصباء البقر‬
‫يف غري هذا الكتاب‪ ،‬ومل أيت للخيل وال للربذون وال للحمار ذكر يف أنصاب الزكاة‪ ،‬وعلى‬
‫هذا فجمهور العلماء على أن الزكاة يف ِبيمة األنعام مقصورة على تلك األصناف الثالثة‪ ،‬وأن‬
‫األصناف الثالثة األخرى ال زكاة فيها‪ :‬اخليل والرباذين واحلمار‪.‬‬
‫زكاة النقدين‬
‫مث انتقل الكتاب إىل صنف آخر من أصناف األموال الزكوية‪ ،‬وهي الرقة‪ ،‬أي‪ :‬الفضة قال‬
‫َح َد ُك ْم بَِوِرقِ ُك ْم} [الكهف‪ ]19:‬فالورق مبعىن الفضة والذهب‪.‬‬
‫تعاىل‪{ :‬فَابْ َعثُوا أ َ‬
‫قوله‪( :‬ويف الرقة يف مائيت درهم ربع العشر‪ ،‬فإن مل تكن إال تسعني ومائة فليس فيها صدقة إال‬
‫أن يشاء رِبا) ‪.‬‬
‫هذا جزء من مبحث زكاة الذهب والفضة اقتصر فيه على الفضة‪ ،‬وهي كجملة معرتضة بني‬
‫أحكام اإلبل؛ ألنه بقي من أحكام زكاة اإلبل ما لو مل توجد العني املطلوبة يف عدد اإلبل عند‬
‫صاحبها‪ ،‬فإنه يتقاص هو والعامل على ما سيأيت إن شاء هللا‪.‬‬
‫وهنا يقول‪ :‬يف كل مائيت درهم ربع العشر‪ ،‬فإذا كانت مائة وتسعني‪ ،‬فال زكاة فيها‪ ،‬ألهنا تنقص‬
‫عن النصاب عشرة‪ ،‬وإذا كانت تنقص واحداً أو اثنني ف مالك يقول‪ :‬هذا شيء قليل فال يؤثر‪،‬‬
‫وفيها زكاة‪.‬‬
‫واجلمهور يقولون‪ :‬احلد مائتان‪ ،‬فإن لغة األرقام ليس فيها تقريب‪ ،‬ومفهوم املخالفة أن ما دون‬
‫املائتني ولو بواحد ال زكاة فيه‪.‬‬
‫وابملناسبة هنا‪ :‬فالفضة توزن ابلدرهم وتصك عملة ابلدرهم‪ ،‬فالدرهم يف الفضة وحدة وزن‬
‫ووحدة عد‪ ،‬فتقول‪ :‬ميلك مائة درهم‪.‬‬
‫يعين‪ :‬نقوداً‪ ،‬أو ميلك مائة درهم‪.‬‬
‫يعين‪ :‬سبيكة تزن مائيت درهم‪.‬‬
‫والذهب وحدة وزنه املثقال‪ ،‬واملثقال أيضاً وحدة وزن ووحدة عد؛ فالدينار‪ :‬اسم للنقد‪،‬‬
‫واملثقال‪ :‬اسم للوزن‪ ،‬والدينار واملثقال شيء واحد‪.‬‬
‫واملائتا درهم قد تكون دراهم على حدة‪ ،‬وقد تكون دراهم جتمع يف القطعة الواحدة‪ ،‬فمثالً‪:‬‬
‫الرايل السعودي‪ :‬كان ثالثة دراهم وثالثة أرابع‪ ،‬الرايل الفرنسي كان برايلني سعودي‪ ،‬وقد‬

‫‪21‬‬
‫توجد القطعة النقدية من الرايل والروبية غري هذا على حسب اصطالحات البالد كم يف هذه‬
‫القطعة من درهم شرعي‪ ،‬فإذا اجتمع عندهم من الرايالت ما يعادل املائيت درهم من الفضة‪،‬‬
‫وهو ابلرايل السعودي ستة ومخسون رايالً فيكون قد وجد عنده نصاب‪ ،‬فتجب عليه فيه زكاهتا‪،‬‬
‫أي‪ :‬زكاة الفضة يف هذا النصاب‪ ،‬فإذا حال عليه احلول أخرج ربع العشر‪ ،‬أي‪. )%2.5( :‬‬
‫التقايض بني املالك واملصدق إذا مل يوجد السن املطلوب إخراجه‬
‫قال‪( :‬ومن بلغت عنده من اإلبل صدقة اجلذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإهنا تقبل‬
‫منه‪ ،‬وجيعل معها شاتني إن استيسرَت له‪ ،‬أو عشرين درمهاً‪ ،‬ومن بلغت عنده صدقة احلقة‬
‫وليست عنده احلقة وعنده اجلذعة‪ ،‬فإهنا تقبل منه اجلذعة‪ ،‬ويعطي املصدق عشرين درمهاً أو‬
‫شاتني) ‪.‬‬
‫بني هنا أوضاع اإلبل وظروف املالك فيما إذا مل تتح الفرصة لوجود ما جيب عليه من الزكاة‪،‬‬
‫فإذا كان عنده من عدد اإلبل ما جتب فيه احلقة‪ ،‬ومل توجد عنده هذه احلقة وكانت عنده‬
‫جذعة‪ ،‬واجلذعة‪ :‬أكرب منها بسنة‪ ،‬فهي أكثر قيمة‪ ،‬وتؤخذ يف العدد األكثر‪.‬‬
‫فإذا وجدت عند من وجبت عليه احلقة جذعةٌ فإهنا تؤخذ منه‪ ،‬ويعوض عن الزائد يف احلقة‬
‫شاتني أو عشرين درمهاً يدفعها إليه املصدق‪ ،‬أي‪ :‬العامل الذي جاء ليأخذ الصدقة‪.‬‬
‫وكذلك العكس‪ :‬إذا وجبت عليه يف إبله جذعة‪ ،‬ومل توجد هذه اجلذعة ‪-‬واجلذعة‪ :‬هي اليت‬
‫جذعت سنَّيها األماميني‪ -‬ووجدت عنده حقة‪ ،‬احلقة أقل قيمة من اجلذعة‪ ،‬فيدفعها صاحب‬
‫اإلبل‪ ،‬ويدفع معها جرباً للنقصان عن اجلذعة شاتني أو عشرين درمهاً‪.‬‬
‫وهكذا يف مجيع ما يؤخذ يف زكاة اإلبل كما بوب البخاري رمحه هللا‪ :‬من وجبت عليه بنت‬
‫خماض ووجدت عنده بنت لبون فإنه يدفع بنت اللبون‪ ،‬وأيخذ فرقاً عن بنت اللبون وبنت‬
‫املخاض شاتني أو عشرين درمهاً من العامل‪ ،‬أو ابلعكس‪ :‬أبن وجدت عنده من اإلبل ما فيها‬
‫بنت لبون‪ ،‬لكنه ال يوجد يف إبله بنت لبون‪ ،‬وفيها بنت خماض‪ ،‬فإنه يدفع بنت املخاض‪،‬‬
‫ويدفع معها جرباانً للنقص عن بنت اللبون شاتني أو عشرين درمهاً‪.‬‬
‫هكذا يقول اجلمهور بناء على منطوق هذا احلديث يف هذا الكتاب‪.‬‬
‫وبعض العلماء من غري األئمة األربعة يقول‪ :‬ليس هناك تقييد ابلشاتني والدراهم‪ ،‬ولكن ينظر‬
‫حبسب كل وقت كم فرق ما بني بنت املخاض وبنت اللبون؟ فيقدر ويدفع يف الفرق بدالً من‬

‫‪22‬‬
‫الشاتني وبدالً من العشرين درمهاً؛ ألن قيمة الشياه وتقدير الدراهم ختتلف ابختالف الزمان‬
‫واملكان‪.‬‬
‫كتاب الزكاة ‪ -‬مقدمة كتاب الزكاة‬
‫زكاة البقر اثبتة يف السنة ابلنصوص الصحيحة‪ ،‬وهي من األنعام اليت خترج منها الزكاة‪ ،‬ومن‬
‫مساحة الشارع أنه أمر العامل أال أيخذ الزكاة إال يف األنعام على مياهها‪ ،‬واختلف العلماء يف‬
‫زكاة اخليل‪ ،‬وقد ذكر الشيخ خالفهم وبني أدلتهم‪.‬‬
‫حديث معاذ بن جبل يف زكاة البقر‬
‫يقول املصنف رمحه هللا‪[ :‬وعن معاذ بن جبل رضي هللا عنه‪( :‬أن النيب صلى هللا عليه وسلم‬
‫بعثه إىل اليمن‪ ،‬فأمره أن أيخذ من كل ثالثني بقرة تبيعاً أو تبيعة‪ ،‬ومن كل أربعني مسنة‪ ،‬ومن‬
‫كل حامل ديناراً أو عدله معافرايً) رواه اخلمسة‪ ،‬واللفظ ل أمحد‪ ،‬وحسنه الرتمذي وأشار إىل‬
‫اختالف يف وصله‪ ،‬وصححه ابن حبان واحلاكم] ‪.‬‬
‫انتقل املؤلف رمحه هللا تعاىل بعد بيان أنصباء اإلبل والغنم والفضة إىل زكاة البقر‪ ،‬وهذا احلديث‬
‫الذي انقش املؤلف سنده يف وصله ويف انقطاعه ذكره البخاري رمحه هللا تعاىل تعليقاً بصيغة‬
‫اجلزم‪ ،‬وذكر البخاري إايه يغين عن مناقشة السند‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬احلديث يف زكاة البقر اثبت؛ ألن بعض املتأخرين إَّنا يطعن يف زكاة البقر‪ ،‬وقد جاء يف‬
‫احلديث الصحيح الذي ال مطعن فيه‪( :‬ما من صاحب إبل وال بقر وال غنم ال يؤدي زكاهتا‬
‫إال إذا كان يوم القيامة بطح هلا بقاع قرقر‪ ،‬وجيء ِبا أوفر ما تكون وأمسن‪ ،‬فتطؤه أبظالفها‬
‫وتنطحه بقروهنا‪ ،‬كلما مر عليه أخراها أعيد عليه أوالها حىت يقضى بني الناس‪ ،‬فريى مصريه‬
‫إما إىل جنة وإما إىل انر) وهذا احلديث يرويه البخاري يف صحيحه‪.‬‬
‫إذاً زكاة البقر ثبتت ابلنصوص‪ ،‬سواء هذا النص الذي معنا عن معاذ رضي هللا تعاىل عنه‪ ،‬أو‬
‫النصوص األخرى اليت ساقها البخاري رمحه هللا‪.‬‬
‫أما يف نصاِبا وما يؤخذ منها فلم يقع يف ذلك اختالف إال ما روي عن بعض األحناف‪،‬‬
‫حيث جعلوها كاإلبل يف كل مخس شاة‪ ،‬ولكن اجلمهور على هذا احلديث وأن من امتلك‬
‫البقر ففي كل ثالثني تبيع أو تبيعة‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫والتبيع‪ :‬الذي يتبع أمه‪ ،‬والتبيعة كذلك يف سنه‪ ،‬أي‪ :‬ذكراً كان أو أنثى يف هذه السنة‪ ،‬فهو‬
‫جيزئ يف الثالثني رأساً من البقر‪.‬‬
‫ويف كل أربعني مسنة‪ ،‬وإىل هذا ينتهي نصاب البقر‪.‬‬
‫بني األربعني واخلمسني من البقر عشرة رءوس‪ ،‬فهل فيها زكاة؟ واجلواب‪ :‬أن هذا وقص‪ ،‬كما‬
‫بني اخلمس واخلمس من اإلبل‪ ،‬فاخلمس من اإلبل فيها شاة واحدة‪ ،‬وهي للخمس األوىل‪،‬‬
‫فإذا كملت عشر من اإلبل ففيها شاَتن‪ ،‬إىل اثين عشر وأربعة عشر من اإلبل وليس فيها إال‬
‫الشاَتن‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬ما بني النصاب والنصاب يف اإلبل والغنم والبقر وقص ال حصة للزكاة فيه‪.‬‬
‫مقدار اجلزية اليت تؤخذ من أهل الكتاب‬
‫قال‪( :‬ومن كل حامل ديناراً أو عدله معافرايً) ‪.‬‬
‫مما أوصى به النيب صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وكلف معاذاً أن حيصله‪( :‬على كل حامل دينار ‪-‬يف‬
‫السنة‪ -‬أو عدل ذلك معافرايً) ‪ ،‬واملعافري‪ :‬ثياب تنسب إىل بلدة معافر‪ ،‬وهي معروفة يف‬
‫اليمن‪ ،‬كانت مشهورة ببعض الثياب يف اجلودة‪.‬‬
‫واحلامل‪ :‬هو الذي بلغ سن احللم‪ ،‬سواء احتلم أو مل حيتلم‪ ،‬كما جاء عنه صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫(ال يقبل هللا صالة حائض بغري مخار) فاحلائض‪ :‬الفتاة اليت بلغت سن احليض سواء أَتها‬
‫احليض أو أتخر عنها‪ ،‬أي‪ :‬من بلغ سن التكليف‪ ،‬إذاً‪ :‬ما دون ذلك من األطفال والصبيان‬
‫ال شيء عليه‪ ،‬وكذلك النساء‪.‬‬
‫فقوله‪( :‬على كل حامل) أي‪ :‬حمتلم بلغ سن التكليف يف اإلسالم ومل يكن أسلم‪ ،‬فعليه يف اجلزية‬
‫سنوايً دينار أو عدل ذلك الدينار ثياب من هذا النوع املعروف املشهور ابملعافري‪.‬‬
‫وهنا نفهم من هذا احلديث أن معاذاً رضي هللا تعاىل عنه ملا أتى إىل اليمن ‪-‬وهم أهل كتاب‪-‬‬
‫أن البعض استجاب له فأسلم وصلى وصام وزكى‪ ،‬والبعض بقي على ما كان عليه يف اليهودية‪،‬‬
‫{ح َّىت يُ ْعطُوا‬
‫ومن بقي على دينه فإن اإلسالم يقره على ذلك مع دفع اجلزية سنوايً‪ ،‬قال تعاىل‪َ :‬‬
‫اغ ُرو َن} [التوبة‪. ]29:‬‬‫اجلِزيةَ عن ي ٍد وهم ص ِ‬
‫ْ َْ َ ْ َ َ ُ ْ َ‬

‫‪24‬‬
‫قالوا‪(( :‬عن يد)) ‪ :‬إن كل إنسان لزمته اجلزية يذهب ِبا بشخصه ولو كان أمري قومه‪ ،‬ويدفعها‬
‫للعامل يداً بيد‪ ،‬ال أن يبعث ِبا خادمه أو جاره أو ولده فالبد أن يرى تلك الصورة‪ ،‬لعله فيما‬
‫بعد يشمئز منها‪ ،‬أو يتثاقل منها ويرى أن اإلسالم عزة له فريجع إىل اإلسالم‪.‬‬
‫ف معاذ رضي هللا تعاىل عنه كان أمرياً وقاضياً‪ ،‬وكان مزكياً وجابياً للجزية‪ ،‬ويف هذا احلديث جمال‬
‫للعلماء يف أخذ العروض يف الزكاة‪ ،‬ولفظ هذا احلديث قد اختلف فيه‪ ،‬ملا قيل ل معاذ‪( :‬خذ‬
‫من كل حامل ديناراً ‪-‬أي‪ :‬جزية‪ -‬أو عدل ذلك ثياابً) عروض‪ ،‬فتوسع بعض العلماء وقال‪:‬‬
‫ميكن أن يؤخذ يف اجلزية أي قيمة للدينار‪ ،‬فاحلد الرمسي دينار‪ ،‬فإذا رأى اجلايب املصلحة يف‬
‫غري الدراهم ختفيفاً على أهل اجلزية‪ ،‬أو مصلحة للمسلمني الذين ستوزع عليهم تلك األموال‪،‬‬
‫فال مانع‪.‬‬
‫أخذ العروض يف الزكاة بدالً عن الواجب‬
‫وجاء عن معاذ رضي هللا تعاىل عنه‪( :‬ائتوين من الثياب اللبيس واخلميص ‪-‬أو اخلميس‪ -‬فإنه‬
‫أرفق بكم‪ ،‬وأنفع ألصحاب حممد صلى هللا عليه وسلم) ‪.‬‬
‫فبعض العلماء حيمل هذا على الصدقة‪ ،‬وبعضهم حيمله على اجلزية‪ ،‬فمن محله على الصدقة‬
‫قال‪ :‬جيوز أخذ العروض عن الصدقة بدل املال؛ ألن هذه معاوضة بلباس بدل ما وجب يف‬
‫الصدقة‪.‬‬
‫وجييب الذين مينعون أخذ العروض يف الصدقة أبن األصل أن يقبض الزكاة‪ ،‬فإذا قبض الزكاة‬
‫من اإلبل أو من البقر أو من الغنم‪ ،‬ورأى أن سوقها من اليمن إىل املدينة كلفة ومشقة‪ ،‬وخاف‬
‫عليها أخطار الطريق من عطش وتكسر وموت‪ ،‬ورأى أن يستبدل بدالً منها ثياابً‪ ،‬فال مانع‬
‫من ذلك؛ ألنه يكون قد استلم الواجب الشرعي من اإلبل أو من البقر أو من الغنم‪ ،‬وبصفته‬
‫مفوض‪ ،‬وهو أمني موكل إليه أن يعمل ملصلحة الفقراء واملساكني؛ فله أن يستبدهلا بعدما‬
‫حصلها من أصحاِبا على الوجه املشروع‪.‬‬
‫فعلى رواية‪( :‬يف الصدقة) يكون قد أخذ الصدقة من أعياهنا وأجناسها‪ ،‬مث استبدهلا بعد ذلك‬
‫من جديد بعد أن دخلت يف عهدته‪.‬‬
‫أما رواية‪( :‬يف اجلزية) فال عالقة هلا ابلزكاة‪ ،‬وال دخل هلا يف موضوع أخذ العروض أو القيمة‬
‫فيما وجب من الزكاة‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫املكان الذي تؤخذ فيه زكاة األنعام‬
‫[وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي هللا عنهما قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪( :‬تؤخذ صدقات املسلمني على مياههم) رواه أمحد‪.‬‬
‫ول أيب داود أيضاً‪( :‬ال تؤخذ صدقاهتم إال يف دورهم) ] ‪.‬‬
‫يبني املؤلف رمحه هللا بعدما انتهى من أنصباء زكاة ِبيمة األنعام ‪-‬اإلبل والبقر والغنم‪ -‬كيف‬
‫أنخذها؟ وكيف يؤدوهنا؟ فقال‪( :‬تؤخذ صدقات املسلمني على مياههم يف دورهم) ‪ ،‬فمثالً‪:‬‬
‫العاصمة هي املدينة‪ ،‬وهناك منطقة سورابيااي‪ ،‬وابيل‪ ،‬وسومطره‪ ،‬وهناك مناطق يف أطراف البالد‪،‬‬
‫فهل جيب على أصحاب األموال يف أي مكان أن يسوقوا زكاة أمواهلم إىل املدينة ويسلموها‬
‫للمسئول عنها‪ ،‬أم أن ويل األمر يف املدينة يبعث إىل تلك األقطار النائية واألماكن البعيدة من‬
‫يستلم منهم وأييت ِبا إىل املدينة؟ أعتقد أنه لو كلف املسلمون يف أماكنهم أن أيتوا بزكاة أمواهلم‬
‫إىل املدينة لكانت مشقة عظيمة‪ ،‬فمن كان عنده مخس من اإلبل فيحتاج أن أييت بشاة من‬
‫جيزان إىل املدينة! وهذه مشقة كبرية‪ ،‬ولكن تؤخذ زكاهتم على مياههم‪ ،‬أيخذها العامل‪.‬‬
‫وهلذا كان صلى هللا عليه وسلم يبعث العمال إىل أماكن تواجد ِبيمة األنعام‪ ،‬فيقف عند املياه؛‬
‫ألن أصحاب ِبيمة األنعام سيوردوهنا املاء‪ ،‬ليس الزماً أن يتتبعهم يف خيامهم ومبيتهم‪ ،‬فمثالً‬
‫إذا جاء إىل منطقة‪ ،‬ولنقدر ‪-‬مثالً‪ -‬منطقة العوايل مبكة‪ ،‬أو منطقة قباء ابملدينة‪ ،‬أو غريها‪،‬‬
‫وهناك اآلابر أو الغدران أو العيون اليت هي موارد اإلبل والبقر والغنم للسقي‪ ،‬فيأيت إىل ماء بين‬
‫فالن‪ ،‬وهناك ينتظر‪ :‬فإذا جاء الراعي إببل فيعدها‪ ،‬مث أيخذ الواجب فيها‪.‬‬
‫وعامل الزكاة ال أييت منفرداً‪ ،‬بل معه من يساعده‪ ،‬وهم الذين يسوقون األنعام اليت جتمع‪ ،‬ومعه‬
‫الكتاب الذين حيصون ويعدون‪ ،‬ومعه من خيدمه‪.‬‬
‫فإذا أخذ من هذا بنت خماض‪ ،‬وأخذ من ذاك بنت لبون‪ ،‬أصبح عنده مراح من اإلبل ابسم‬
‫الصدقة‪ ،‬ويتوىل سوقها ورعايتها من معه من األعوان‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬أخذ زكاة األموال تكون من أصحاِبا على مياهها‪ ،‬ومل يكلفهم الذهاب واجمليء ِبا إىل‬
‫املدينة؛ رفقاً أبصحاب األموال‪.‬‬
‫وهنا يذكر العلماء حق هذا العامل‪ ،‬وواجب أصحاب األموال يف التعامل معه‪ ،‬فنجد التعليم‬
‫اإلسالمي يتناول العامل وصاحب املال‪ ،‬وكل منهما يوقفه عند الواجب الذي عليه‪ ،‬فتقدم لنا‬

‫‪26‬‬
‫يف قضية معاذ‪( :‬وإايك وكرائم أمواهلم!) فيوصي العامل أبن يكون عادالً رفيقاً‪ ،‬وال يظلم‬
‫أصحاب األموال أبن أيخذ كرائم أمواهلم‪ ،‬وال أيخذ التيس إال أن يرضى صاحبه‪ ،‬وكان فيه‬
‫مصلحة‪ ،‬وال أيخذه رغماً عن صاحب الغنم؛ ألنه قد ال يكون يف الغنم إال هذا التيس فيعطلها‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬الشارع احلكيم أوصى العامل ابإلرفاق أبصحاب األموال‪ ،‬ومن جانب آخر أوصى‬
‫أصحاب األموال كما جاء يف بعض الرواايت‪( :‬إنه قد أيتيكم من تكرهوهنم) وهم العمال الذين‬
‫أيخذون األموال‪ ،‬فالناس ال يريدوهنم أن أيتوا ولكن أيتوهنم غصباً عنهم‪ ،‬إال املؤمن فهو يدفع‬
‫ذلك طواعية لوجه هللا‪ ،‬فقال‪( :‬أيتيكم من تكرهوهنم فأرضوهم) أي‪ :‬ال يذهبون عنكم إال وهم‬
‫راضون‪ ،‬ومىت ترضوهنم؟ إذا كنتم معهم أمناء يف العدد‪ ،‬فال ختفون شيئاً من الغنم وراء احلجر‬
‫أو وراء الشجر‪ ،‬وال تدعون اخللطة بغري اخللطة‪ ،‬وال تدعون الفرقة بغري فرقة خشية الصدقة ‪-‬‬
‫كما تقدم‪ -‬فأوصى أصحاب األموال أن حيسنوا معاملة العمال وأن يكسبوا رضاهم‪.‬‬
‫جاء بعض األشخاص إىل الرسول صلى هللا عليه وسلم وقالوا‪( :‬اي رسول هللا! أيتينا عمال‬
‫فيظلموننا‪ ،‬قال‪ :‬أرضوهم‪ ،‬وما حتمل فإمثه عليه‪ ،‬لكم أجركم وعليهم وزرهم) وهنا يقال‪ :‬إذا‬
‫علمت أن العامل ظامل‪ ،‬فاألمر بني حالتني‪ :‬إما أن يقع اجتهاد من العامل يف أداء األمانة‪،‬‬
‫فهو مصدق ومقدم‪.‬‬
‫وإما أن يكون معتدايً اعتداء صرحياً‪ ،‬كأن جاء إىل كرائم األموال وأخذها‪ ،‬أو جاء وعدها‬
‫فوجدها مخساً وعشرين‪ ،‬فقال‪ :‬هذه ثالثون‪ ،‬هذه مخسة وثالثون‪.‬‬
‫فزاد على صاحب املال فيما يتعلق مبا جيب عليه‪ ،‬وهذا قل أن يكون‪.‬‬
‫وتقدمت لنا قصة الرجل الذي وجد العامل عنده مخساً وعشرين من اإلبل‪ ،‬وقال له‪ :‬زكاة‬
‫مالك بنت خماض‪.‬‬
‫فقال الرجل‪ :‬بنت خماض ال ظهر فريكب وال ضرع فيحلب‪ ،‬ولكن هذه انقة كوماء فخذها‪.‬‬
‫فأراد صاحب املال أن يدفع أكثر مما عليه‪ ،‬فقال العامل‪ :‬ال أستطيع أن آخذها؛ ألهنا مل جتب‪،‬‬
‫وأان ممنوع من الظلم ومن التعدي‪ ،‬فإن كنت ال حمالة فاعالً فدونك رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم ابملدينة‪ ،‬فخذ ِبا إليه‪.‬‬
‫فيأيت الرجل ويعرض على الرسول صلى هللا عليه وسلم فيسأله‪( :‬أتعطيها عن طيب نفس؟‬
‫قال‪ :‬بلى اي رسول هللا‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫فقال للعامل‪ :‬خذها‪ ،‬وقال له‪ :‬ابرك هللا لك يف إبلك) فعاش إىل زمن معاوية رضي هللا تعاىل‬
‫عنه‪ ،‬وكان خيرج العشرات من اإلبل يف زكاة إبله‪.‬‬
‫فهنا‪ :‬العامل ميتنع أن أيخذ أكثر مما وجب عليه‪ ،‬وهذا هو املظنون يف األمناء الذين يبعثهم‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وكما وقع أيضاً ل ابن رواحة مع أهل خيرب ملا ذهب ليخرص‬
‫عليهم خنيلهم‪ ،‬فجمعوا له من حلي النساء رشوة‪ ،‬فسبهم وقال‪ :‬إن هذا سحت‪ ،‬وهللا لقد‬
‫جئت من عند أحب الناس إيل‪ ،‬وألنتم أبغض الناس عندي‪ ،‬وما حب رسول هللا وال بغضكم‬
‫حباملي على أن أحيف عليكم‪ ،‬إين قاسم‪ ،‬فإن شئتم فخذوا‪ ،‬وإن شئتم فدعوا‪.‬‬
‫يعين‪ :‬إن شئتم أخذمت النخيل وسلمتم ما وجب عليكم فيما أقسمه‪ ،‬وإن شئتم رفعتم أيديكم‬
‫وأان أعطيكم ما قسمت‪ ،‬قالوا‪ِ :‬بذا قامت السماوات واألرض‪.‬‬
‫الذي يهمنا أن الصدقة يف ِبيمة األنعام تؤخذ على مياهها‪ ،‬أي‪ :‬موردها من املاء‪ ،‬ويف مواطنها‪،‬‬
‫وال يكلفون اجمليء ِبا إىل املدينة أو إىل عاصمة الدولة اليت تقوم جبمع الزكاة؛ ألن يف هذا‬
‫مشقة عليهم‪.‬‬
‫زكاة اخليل والرد على من أوجبها‬
‫[وعن أيب هريرة رضي هللا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪( :‬ليس على املسلم يف‬
‫عبده وال فرسه صدقة) رواه البخاري‪ ،‬ول مسلم‪( :‬ليس للعبد صدقة إال صدقة الفطر) ] ‪.‬‬
‫انتقل املؤلف رمحه هللا إىل نوع وقع اخلالف فيه‪ ،‬وهو‪ :‬العبد والفرس‪ ،‬وهنا احلديث يقول‪:‬‬
‫(ليس على املسلم يف عبده وال فرسه صدقة) ‪.‬‬
‫فرس‪ :‬نكرة أضيف إىل الضمري‪ ،‬وبعض العلماء يقول‪ :‬إذا أضيفت النكرة إىل معرفة فهي عامة‪،‬‬
‫اَّللِ} [إبراهيم‪ ]34:‬ف (نعمة) نكرة‬
‫{وإِ ْن تَعُ ُّدوا نِ ْع َمةَ َّ‬
‫وتدل على اجلمع‪ ،‬كما يف قوله سبحانه‪َ :‬‬
‫أضيفت إىل املعرفة (هللا) ‪ ،‬فلو كانت مفردة ما احتاجت إىل إحصاء‪ ،‬ولكن دلت على العموم‬
‫والشمول ملا أضيفت إىل املعرفة‪.‬‬
‫فقالوا‪( :‬فرسه) يعم جنس الفرس وليس رأساً واحداً‪ ،‬إذاً‪ :‬ليس على املسلم يف جنس اخليل‬
‫صدقة‪ ،‬وال يف جنس العبيد صدقة‪.‬‬
‫وهنا موضع خالف يورده العلماء‪ ،‬واحلديث أورده البخاري‪ ،‬ويف بعض الرواايت‪( :‬وال يف‬
‫غالمه) وجيمعون على أن فرس اخلدمة وعبد اخلدمة ال زكاة فيهما‪ ،‬إال زكاة الفطر يف العبد؛‬

‫‪28‬‬
‫ألن زكاة الفطر على الكبري والصغري واحلر والعبد‪ ،‬وكل من تلزمك نفقته‪ ،‬وحنن اآلن يف الكالم‬
‫على زكاة املال‪.‬‬
‫فبعض العلماء يقول‪ :‬ال زكاة يف اخليل مطلقاً حىت لو كانت للتجارة كما يقوله ابن حزم‪،‬‬
‫واجلمهور يقولون‪ :‬إذا كانت اخليل للنسل والنماء فال زكاة فيها‪ ،‬وإن كانت لعروض التجارة‬
‫كإنسان يتاجر يف اخليل‪ ،‬فيبيع ويشرتي فيها؛ فالزكاة يف قيمتها مثل عروض التجارة‪ ،‬وكذلك‬
‫الرقيق‪ ،‬لو كان يتاجر يف الرقيق فعليه زكاة جتارهتا‪ ،‬أي‪ :‬تقدر فيمتها ويدفع زكاهتا من قيمتها‪،‬‬
‫أما أن تتخذ للقنية أو للتناسل فال زكاة فيها‪.‬‬
‫واإلمام أبو حنيفة رمحه هللا اعترب اخليل من الدواب اليت تزكى‪ ،‬وجاء يف بعض اآلاثر ‪-‬ويتفق‬
‫العلماء على ضعفها‪ -‬أن على الفرس ديناراً أو عشرة دراهم‪.‬‬
‫ويقول اجلمهور‪ :‬كتاب أيب بكر رضي هللا تعاىل عنه والكتب األخرى اليت جاءت يف أنصباء‬
‫الزكاة ال يوجد منها كتاب واحد ذكر اخليل‪.‬‬
‫ويذكرون أيضاً يف هذا الباب أنه ملا ذكر النيب صلى هللا عليه وسلم‪( :‬ما من صاحب إبل وال‬
‫بقر وال غنم ال يؤدي زكاهتا إال إذا كان يوم القيامة بطح هلا ‪ ) ...‬إخل ‪-‬كما تقدم‪ -‬فلم يذكر‬
‫اخليل‪ ،‬فسألوا النيب صلى هللا عليه وسلم‪( :‬واخليل اي رسول هللا؟ فقال‪ :‬اخليل ثالث‪ :‬خيل‬
‫لصاحبها سرت‪ ،‬وخيل لصاحبها وزر‪ ،‬وخيل لصاحبها أجر ‪ ) ...‬فقالوا‪ :‬هذا رد على من سأل‬
‫عن سبب عدم ذكر اخليل مع اإلبل والبقر والغنم‪.‬‬
‫وجاء يف موضوعها يف زمن عمر رضي هللا تعاىل عنه أن قوماً أصابوا خيالً‪ ،‬فجاءوا إليه وقالوا‪:‬‬
‫أصبنا خيالً وعبيداً‪ ،‬نريد أن أتخذ زكاهتا طهرةً‪.‬‬
‫فقال‪( :‬كيف آخذ منها زكاة وصاحباي قبل مل أيخذوها؟) يعين‪ :‬رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم وأاب بكر‪.‬‬
‫مث شاور من عنده حىت سأل علياً فقال‪( :‬خذ منهم مادام أهنم أتوا ِبا طواعية) وقال‪( :‬ال مانع‬
‫ما مل تصبح عليهم ضريبة أو جزية تكون الزمة عليهم من بعدك) أي‪ :‬أن أييت من بعده‪ :‬عمر‬
‫أخذ منهم‪ ،‬فيلزمهم بدفعها‪ ،‬واملبدأ كان اختياراً‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫إذاً‪ :‬عمر امتنع أوالً ومل يكن ميتنع إال على ما هو ممنوع زكاته‪ ،‬مث شاور أصحابه وشاور علياً‪،‬‬
‫وأفاد علي ِبذا اجلواب‪ ،‬إذاً‪ :‬فال زكاة يف اخليل‪ ،‬اللهم إال إذا أصبحت عروض جتارة للبيع‬
‫والربح والنماء فال مانع‪.‬‬
‫وعند اإلمام أيب حنيفة رمحه هللا‪ :‬أنه ال زكاة يف اخليل إال إذا كانت للتناسل والتكاثر‪ ،‬أما إذا‬
‫امتلك جمموعة من اخليل كلها ذكور‪ ،‬أو جمموعة من اخليل كلها إانث؛ فال زكاة فيها عنده؛‬
‫ألن الذكور وحدها ال تنمو وال تزيد‪ ،‬واإلانث وحدها ال تنمو وال تزيد‪ ،‬أما إذا كانت ذكوراً‬
‫وإاناثً وتنتج وتنمو وتزيد‪ ،‬فقال‪ :‬الزكاة تبع للنماء‪ ،‬فتزكي‪.‬‬
‫كتاب الزكاة ‪ -‬مقدمة كتاب الزكاة‬
‫جتب الزكاة يف النقدين الذهب والفضة إذا بلغا النصاب وحال عليهما احلول‪ ،‬ومن منع الزكاة‬
‫فقد مسح الشارع لويل أمر املسلمني أن أيخذها منه قهراً وزايدة أتديباً على االمتناع‪ ،‬وإن كانوا‬
‫كثريين وذوو منعة قاتلهم اإلمام‪.‬‬
‫شرح حديث ِبز بن حكيم يف عقوبة مانع الزكاة‬
‫يقول املصنف رمحه هللا‪[ :‬وعن ِبز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي هللا عنهم قال‪ :‬قال‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪( :‬يف كل سائمة إبل يف أربعني بنت لبون‪ ،‬ال تفرق إبل عن‬
‫حساِبا‪ ،‬من أعطاها مؤجتراً ِبا فله أجرها‪ ،‬ومن منعها فإان آخذوها وشطر ماله‪ ،‬عزمة من‬
‫عزمات ربنا‪ ،‬ال حيل آلل حممد منها شيء) رواه أمحد وأبو داود والنسائي‪ ،‬وصححه احلاكم‪،‬‬
‫وعلق الشافعي القول به على ثبوته] ‪.‬‬
‫زكاة الذهب والفضة‬
‫قال املؤلف رمحه هللا‪[ :‬وعن علي رضي هللا تعاىل عنه قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫(إذا كانت لك مائتا درهم‪ ،‬وحال عليها احلول‪ ،‬ففيها مخسة دراهم‪ ،‬وليس عليك شيء حىت‬
‫يكون لك عشرون ديناراً وحال عليها احلول‪ ،‬ففيها نصف دينار‪ ،‬فما زاد فبحساب ذلك‪،‬‬
‫وليس يف مال زكاة حىت حيول عليه احلول) رواه أبو داود‪ ،‬وهو حسن‪ ،‬وقد اختلف يف رفعه] ‪.‬‬
‫انتهى املؤلف رمحه هللا من مجيع ما يتعلق ببهيمة األنعام‪ ،‬وجاء إىل النقدين‪ :‬الذهب والفضة‪،‬‬
‫فذكر هذا األثر عن علي رضي هللا تعاىل عنه‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫مث النقاش يف هذا األثر برمته أهو موقوف على علي من كالمه‪ ،‬أم هو مرفوع إىل النيب صلى‬
‫هللا عليه وسلم وعلي ينقله عن رسول هللا؟ على كال احلالتني علماء احلديث يقولون‪ :‬سواء كان‬
‫موقوفاً على علي أو كان مرفوعاً إىل النيب صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فإن فله حكم الرفع‪ ،‬فهو مرفوع‬
‫ابلفعل أو له حكم الرفع‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ألن فيه الكالم على تشريع يف ركن أساسي‪ ،‬وبيان أنصباء األموال وما جيب فيها‪ ،‬وليس‬
‫هذا حمل اجتهاد‪ ،‬فال يتأتى ل علي وال لغريه أن يتكلم يف هذا اجملال من عنده‪ ،‬واحلق يف ذلك‬
‫ين‬ ‫الزَكاةَ} [البقرة‪ ]43:‬وقال تعاىل‪ِ َّ :‬‬ ‫الصالةَ َوآتُوا َّ‬ ‫أنه بيان جململ يف كتاب هللا‪ِ :‬‬
‫{والذ َ‬
‫َ‬ ‫يموا َّ‬
‫{وأَق ُ‬
‫َ‬
‫اب أَلِي ٍم} [التوبة‪ ، ]34:‬فمن‬
‫اَّللِ فَب ِنشرُهم بِع َذ ٍ‬
‫وهنَا ِيف َسبِ ِيل َّ َ ْ ْ َ‬ ‫ضةَ َوال يُ ِنف ُق َ‬
‫ب َوالْ ِف َّ‬ ‫يَكْنُِزو َن َّ‬
‫الذ َه َ‬
‫الذي يبني هلم الزكاة حىت ال تكون كنزاً‪ ،‬ويسلمون من أن تكوى ِبا جباههم وظهورهم؟ ال‬
‫يكون ذلك إال لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬ال حاجة إىل البحث يف سند احلديث مادام أنه صح عن علي رضي هللا تعاىل عنه‪ ،‬فهو‬
‫إن كان موقوفاً عليه فله حكم الرفع‪ ،‬وإن كان قد رفعه إىل الرسول صلى هللا عليه وسلم فهو‬
‫املطلوب‪.‬‬
‫البقر العوامل ال زكاة فيها‬
‫قال املؤلف‪[ :‬وعن علي رضي هللا تعاىل عنه قال‪( :‬ليس يف البقر العوامل صدقة) رواه أبو داود‬
‫والدارقطين‪ ،‬والراجح وقفه أيضاً] ‪.‬‬
‫تقدم الكالم على أنصباء البقر وأنه يف كل ثالثني تبيع‪ ،‬ويف كل أربعني مسنة‪ ،‬وهذا مطلق يف‬
‫عموم البقر‪ ،‬فجاء املؤلف أبثر علي رضي هللا تعاىل عنه ليقيد ذاك العموم وهو قوله‪( :‬ليس يف‬
‫البقر العوامل صدقة) ‪ ،‬أي‪ :‬يف كل أربعني تبيع إذا مل تكن عوامل‪.‬‬
‫والبقر العوامل جاء األثر أهنا اليت تثري األرض‪ ،‬أي‪ :‬تستخدم يف احلرث للزراعة‪ ،‬وقد تستخدم‬
‫يف جر العرابت أو يف السواين ‪-‬أي‪ :‬يف نضح املاء‪ -‬إىل غري ذلك‪ ،‬وذلك أن عمل البقر فيما‬
‫يتعلق ابلزراعة سيرتتب عليه مثرة‪ ،‬وهي إما مثرة الشجر كنخل وعنب وزيتون‪ ،‬وإما حب ذرة‬
‫وشعري وغريه على ما سيأيت تفصيله إن شاء هللا‪.‬‬
‫وإذا كان ما تعمله البقر ستؤخذ زكاته يوم حصاده فال يتأتى أن تؤخذ زكاة احلبوب أو الثمار‬
‫الناشئ عن عمل البقر‪ ،‬مث تؤخذ الزكاة من البقر الذي نشأ عن عمله تلك الثمار أو الزروع‪،‬‬

‫‪31‬‬
‫وهو ما يسمى يعرب عنه بعض املعاصرين بقوهلم‪( :‬ال ثنية يف الزكاة) يعين‪ :‬ال تؤخذ الزكاة من‬
‫مال مرتني‪.‬‬
‫وكونه يقول‪( :‬موقوف على علي) ‪.‬‬
‫تقدم التنبيه على مثل ذلك املوقوف أنه تشريع‪ ،‬والتشريع ال يكون ابالجتهاد وال ابلرأي‪ ،‬فله‬
‫حكم الرفع‪ ،‬وعليه يكون علياً رضي هللا تعاىل عنه قد مسع ذلك من الرسول صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وذكر ما مسعه دون أن يسند إىل النيب صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وتقدم هذا يف عدة أحاديث‬
‫يف ابب الزكاة‪.‬‬
‫ونذكر اإلخوة أبن علياً رضي هللا تعاىل عنه كانت عنده صحيفة‪ ،‬فلما سئل‪( :‬هل خصكم‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم آل البيت بشيء من العلم دون الناس؟ ‪-‬هل أعطاكم علماً مل‬
‫يعطه ألحد غريكم؟ قال‪ :‬ال؛ إال فهم أوتيه رجل يف كتاب هللا‪ ،‬وما يف هذه الصحيفة‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وما فيها؟ قال‪ :‬أنصباء الزكاة‪ ،‬والعقل‪ ،‬وفكاك األسري) ‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬علي رضي هللا تعاىل عنه كانت عنده صحيفة كما كتب أبو بكر رضي هللا تعاىل عنه ل‬
‫أنس الكتاب الذي َّبني فيه أنصباء الزكاة‪ ،‬وما كانت كتابة أيب بكر عن رأيه هو‪ ،‬ولكنه عن‬
‫مساع مسعه من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم؛ ألن إجياب الزكاة فريضة‪ ،‬وإسقاطها يكون‬
‫إسقاطاً للحق‪.‬‬
‫فكون علي رضي هللا تعاىل عنه يقول‪( :‬ليس يف البقر العوامل زكاة) فيه إسقاط حق الفقراء يف‬
‫{وِيف أ َْم َواهلِِ ْم َح ٌّق‬
‫هذه األبقار‪ ،‬وعلي ال ميلك أن يسقط حقاً أوجبه هللا يف قوله سبحانه‪َ :‬‬
‫لسائِ ِل َوالْ َم ْح ُر ِوم} [الذارايت‪ ]19:‬إذاً‪ :‬علي لن يقول مثل ذلك إال إذا كان عن مساع من‬ ‫لِ َّ‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫وهذا احلديث وإن كان يف البقر فإنه يرد قول املالكية أبن يف اإلبل العوامل زكاة‪ ،‬ووجهة نظر‬
‫مالك رمحه هللا أن اإلبل من حيث هي مال ينمو ابلتناسل‪ ،‬فإذا ملك منه النصاب فعليه الزكاة‪،‬‬
‫وما كان منها من العمل ف مالك يقول‪ :‬هذا العمل من هذه اإلبل زايدة منفعة لصاحبها‪ ،‬فاليت‬
‫ال تعمل وال يستفيد منها إال زايدة النماء والنسل فيها زكاة‪ ،‬فمن ابب أوىل إذا كان فيها النماء‬
‫والنسل ومع ذلك تعمل‪ ،‬فعملها زايدة فائدة‪ ،‬ففيها الزكاة‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫ولكن اجلمهور ‪-‬كما أشران‪ -‬مل أيخذوا من اإلبل وال من البقر العوامل زكاة؛ ألن عملها‬
‫سيرتتب عليه فائدة فتؤخذ الزكاة من تلك الفائدة‪ ،‬فال نعود عليها أبن أنخذ زكاهتا مرة أخرى‪،‬‬
‫اللهم إال أن تكون عروض جتارة‪ ،‬كأن يتاجر يف اإلبل ويشغلها‪ ،‬ويتاجر يف البقر ويُعملها‪،‬‬
‫فخرجت عن زكاة ِبيمة األنعام أبنصبائها‪ :‬ثالثني وأربعني وغريها‪ ،‬وخرجت عما خيرج فيها من‬
‫تبيع ومسنة‪ ،‬وعن بنت خماض وبنت لبون‪ ،‬ودخلت يف عروض التجارة‪ ،‬فتقدر قيمتها‪ ،‬وخيرج‬
‫من جمموع القيمة قدر (‪.2‬‬
‫‪ ، )%5‬وليس فيها وقص كما يف أصل ِبيمة األنعام‪ ،‬بل تعامل معاملة عروض التجارة‪.‬‬
‫كتاب الزكاة ‪ -‬مقدمة كتاب الزكاة‬
‫لقد أرشد النيب صلى هللا عليه وسلم إىل الرفق ابليتيم واإلحسان إليه حىت يف ماله‪ ،‬أبن يتاجر‬
‫له فيه حىت ال أتكل ماله الزكاة‪ ،‬وللعلماء خالف يف مسألة إخراج الزكاة من ماله قبل البلوغ‪.‬‬
‫كما جاء اخلالف يف صحة إخراج الزكاة قبل حلول احلول فيها‪ ،‬وهو ما فعله النيب صلى هللا‬
‫عليه وسلم مع عمه العباس‪.‬‬
‫وجوب الزكاة يف مال اليتيم وما يتعلق بذلك‬
‫بسم هللا الرمحن الرحيم احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على سيدان حممد وعلى آله‬
‫وصحبه أمجعني‪.‬‬
‫وبعد‪ :‬فيقول املصنف رمحه هللا‪[ :‬وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد هللا بن‬
‫عمرو رضي هللا عنهما‪ :‬أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪( :‬من ويل يتيماً له مال فليتجر‬
‫له‪ ،‬وال يرتكه حىت أتكله الصدقة) ] ‪.‬‬
‫هذه القضية وقع اخلالف فيها بني اإلمام أيب حنيفة رمحه هللا وبني األئمة الثالثة‪ :‬مالك‬
‫والشافعي وأمحد‪.‬‬
‫فإذا كان املال إلنسان كبري ابلغ رشيد مكلف فإن من أركان اإلسالم أن يؤدي زكاة ماله‪ ،‬أما‬
‫إذا كان املال ليتيم‪ ،‬أي‪ :‬لصيب قاصر عن سن احلُلُم‪ ،‬واليتيم‪ :‬هو من تويف أبوه قبل بلوغه‪،‬‬
‫واليتيم يف احليواانت‪ :‬من توفيت أمه‪ ،‬واليتيم يف الطيور‪ :‬من تويف أبوه وأمه‪.‬‬
‫وإذا كان الطفل يتيماً فال بد أن يقام عليه ويل يرعى شئونه‪ ،‬ويدبر حاله من تعليمه‪ ،‬واحلرص‬
‫على ماله إن كان له مال‪ ،‬وتنميته ومراعاته حىت ال يضيع‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫فيتيم ورث عن أبيه ماالً‪ ،‬هذا املال فيه زكاة‪ ،‬واملال الزكوي على قسمني‪ :‬مال خفي‪ :‬وهو ما‬
‫يتعلق ابلنقد من الذهب والفضة‪ ،‬واألوراق النقدية يف الوقت احلاضر‪.‬‬
‫ومال ظاهر‪ :‬وهو ِبيمة األنعام والزروع‪.‬‬
‫فاملال اخلفي يقول اجلمهور‪ :‬فيه زكاة‪.‬‬
‫واإلمام أبو حنيفة رمحه هللا يقول‪ :‬ال زكاة عليه حال يتمه‪ ،‬ولكنه إذا بلغ ورشد واستلم ماله‬
‫من الوصي زكاه‪.‬‬
‫الصالة على خمرجي الزكاة والدعاء هلم‬
‫قال املؤلف‪[ :‬وعن عبد هللا بن أيب أوىف قال‪( :‬كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إذا أَته‬
‫قوم بصدقتهم قال‪ :‬اللهم صل عليهم) متفق عليه] ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫هذه القضية‪ ،‬وهي الصالة على غري األنبياء‪ ،‬جاء يف النص القرآين الكرمي‪{ :‬إِ َّن َّ‬
‫اَّللَ َوَمالئ َكتَهُ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫يما} [األحزاب‪. ]56:‬‬ ‫صلُّوا َعلَْيه َو َسلن ُموا تَ ْسل ً‬‫ين َآمنُوا َ‬
‫َّيب َاي أَيُّ َها الذ َ‬ ‫صلو َن َعلَى النِ ِن‬
‫يُ َ ُّ‬
‫وهنا أنه صلى هللا عليه وسلم كان عندما أيتيه قوم بزكاهتم‪ ،‬سواء كانوا من أهل املدينة أو من‬
‫خارجها يصلي عليهم؛ ألننا عرفنا القاعدة‪ :‬أن ِبيمة األنعام تؤخذ زكاهتا على مياههم هناك‪،‬‬
‫فإذا كانت زكاة مال أو زكاة حبوب وجاءوا ِبا إىل رسول هللا‪ ،‬ودفعها إىل املسئول لتوزيعها‬
‫أخذها منهم وصلى عليهم‪ ،‬اللهم صل على آل فالن‪ ،‬أو اللهم صل على فالن‪ ،‬أو يقول‪:‬‬
‫صلى هللا عليك‪.‬‬
‫{خ ْذ ِم ْن‬
‫وكونه صلى هللا عليه وسلم يصلي على من أتى بزكاته إليه هو امتثال منه ألمر هللا‪ُ :‬‬
‫ص ِنل َعلَْي ِه ْم} [التوبة‪ ]103:‬فهذا أمر من هللا لرسوله صلى‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ص َدقَةً تُطَ ِنه ُرُه ْم َوتَُزنكي ِه ْم ِبَا َو َ‬
‫أ َْم َواهل ْم َ‬
‫هللا عليه وسلم أن يصلي عليهم عندما أيخذ منهم الزكاة‪.‬‬
‫صلُّوا َعلَْي ِه َو َسلِن ُموا تَ ْسلِيماً}‬
‫ين َآمنُوا َ‬
‫َّ ِ‬ ‫اَّللَ َوَمالئِ َكتَهُ يُ َ ُّ‬
‫صلو َن َعلَى النِ ِن‬
‫َّيب َاي أَيُّ َها الذ َ‬ ‫وهنا‪{ :‬إِ َّن َّ‬
‫[األحزاب‪. ]56:‬‬
‫حكم تقدمي الزكاة قبل حلول احلول‬
‫قال املؤلف‪[ :‬وعن علي‪( :‬أن العباس سأل النيب صلى هللا عليه وسلم يف تعجيل صدقته قبل‬
‫أن حتل‪ ،‬فرخص له يف ذلك) رواه الرتمذي واحلاكم] ‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫هذه املسألة‪ :‬أن العباس رضي هللا تعاىل عنه قدم إىل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم زكاة العام‬
‫احلايل ومعها زكاة العام الذي مل أيت‪ ،‬فيكون قد قدم زكاة عام قبل حلول وقتها‪.‬‬
‫وقد تقدم معنا كالم علي رضي هللا تعاىل عنه‪( :‬ليس يف مال زكاة حىت حيول عليه احلول) ‪،‬‬
‫فالعام األول حال عليه احلول فنأخذها‪ ،‬لكن العام الثاين مل يدخل بعد‪ ،‬وال حال احلول على‬
‫املال‪ ،‬فكيف أنخذ زكاة سنتني؟ وهل جيوز تقدمي الزكاة قبل كمال حوهلا‪ ،‬مع أن احلول شرط‬
‫يف وجوِبا؟ فالبعض مينع مطلقاً‪ ،‬ويقول‪ :‬متام وجوب الزكاة بتمام احلول‪ ،‬فتقدمي الزكاة قبل‬
‫احلول كتقدمي الصالة قبل وقتها‪ ،‬والصالة قبل وقتها ال تصادف حمالً‪ ،‬فكذلك الزكاة قبل حوهلا‬
‫ال تصادف حمالً‪.‬‬
‫واآلخرون قالوا‪ :‬هذا اجتهاد وقياس‪ ،‬وال اجتهاد وال قياس مع النص‪ ،‬فإن هذا فعل رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ولكن اختلفوا‪ :‬هل العباس رضي هللا تعاىل عنه هو الذي تقدم وجاء‬
‫لرسول هللا بزكاة عامني يف وقت واحد‪ ،‬أو أن النيب صلى هللا عليه وسلم هو الذي طلب من‬
‫العباس أن يقدم زكاة سنة مل أتت بعد‪ ،‬أبن يدفع زكاة سنتني يف سنة حاضرة؟ اجلمهور على‬
‫أن النيب صلى هللا عليه وسلم هو الذي طلب من العباس‪ ،‬وجاءت الرواية‪( :‬قد احتجنا فطلبنا‬
‫‪-‬أو فاستسلفنا‪ -‬من العباس زكاة عامني) ‪.‬‬
‫وهنا يقول بعض العلماء‪ :‬املتوسط يف القول أنه إن وجدت حاجة عند اإلمام للمال‪ ،‬وزكاة‬
‫العام ال تكفي‪ ،‬فله أن يستسلف من أرابب األموال زكاة سنة متأخرة؛ ليسد ِبا احلاجة‬
‫احلاضرة‪ ،‬أما يف غري وجود حاجة فليس هناك داع لتقدمي زكاة مل أيت شرطها بعد‪.‬‬
‫وعلى هذا فخرب العباس رضي هللا تعاىل عنه أبنه قدم زكاة سنة متأخرة‪ ،‬ال شك فيه‪ ،‬ولكن‬
‫البحث يف‪ :‬هل العباس تقدم به لرسول هللا‪ ،‬أو أن رسول هللا هو الذي استسلف وطلب من‬
‫العباس‪ ،‬حلاجة حاضرة احتاج فيه زايدة مال؟ هذا هو األوىل واألصح‪.‬‬
‫بقينا هنا يف مسألة ميكن أن يكون لالجتهاد فيها جمال‪ ،‬وهي مسألة واقعة بني الناس‪ :‬وهي‬
‫أنه إذا كان هناك شخص عنده زكاة النقدين‪ ،‬واعترب احلول يف رمضان‪ ،‬وكل سنة من رمضان‬
‫خيرج زكاة ماله‪ ،‬فجاء يف شعبان أو يف رجب ووجد بعض إخوانه يف مسيس احلاجة إىل املال‪،‬‬
‫وهو ال يريد أن يعطي من رأس املال شيئاً‪ ،‬وهو عنده الزكاة‪ ،‬ويعلم أبنه عند جميء احلول‬
‫سيخرج عشرة آالف رايل أو مائة ألف رايل‪ ،‬فقال‪ :‬هؤالء اإلخوان أو اجلريان أو األرحام يف‬

‫‪35‬‬
‫أمس احلاجة إىل الرايل‪ ،‬فهل ندعهم ميوتون جوعاً حىت أييت رمضان‪ ،‬أم أنه يقدم من زكاة ماله‬
‫الذي جيب يف رمضان للح اجة املوجودة اليت أدركها يف هؤالء الناس؟ اجلواب‪ :‬يقدم من ماله‬
‫ويعطيهم‪.‬‬
‫املهم أنه صلى هللا عليه وسلم أخذ زكاة سنة مقدمة حلاجة‪ ،‬فماذا مينعنا أن نقدم جزءاً من زكاة‬
‫مالنا عن وقته من أجل حاجة حاصلة؟ وهؤالء يف تلك احلالة االضطرارية ال شك أهنم أشد‬
‫ما يكونون حمتاجني لذلك‪ ،‬وهذا مال ينتظر أوانه‪ ،‬فبدالً من أن تنتظر أوانه فقد جاءت حاجته‪،‬‬
‫وأنت ما أعددته إال للفقراء واملساكني تسد به حاجتهم‪ ،‬وهذه حاجة حاضرة‪ ،‬فإذاً‪ :‬ال أبس‬
‫يف مثل ذلك‪.‬‬
‫ويقولون عن مالك‪ :‬إنه كان جييز تقدمي زكاة املال عن حوهلا إىل نصف شهر‪.‬‬
‫وعندهم يف زكاة الفطر أهنا خترج يوم العيد ما بني صالة الفجر إىل صالة العيد‪ ،‬وهناك من‬
‫يقول‪ :‬تقدم اليوم واليومني والثالثة‪.‬‬
‫والشافعي يقول‪ :‬إذا انتصف رمضان فلك أن خترج زكاة الفطر‪ ،‬فأجاز تقدميها على أكثر من‬
‫أواهنا‪.‬‬
‫على كل املسألة اجتهادية‪ ،‬وأرى ‪-‬وهللا تعاىل أعلم‪ -‬أنه جيوز له تقدميها عن موعد حوهلا لسد‬
‫احلاجة املوجودة‪.‬‬
‫ب الزكاة ‪ -‬مقدمة كتاب الزكاة [‪]7‬‬
‫من رمحة هللا بعباده أنه مل يوجب عليهم الزكاة إال فيما بلغ النصاب الذي هو مقياس الغىن‪،‬‬
‫وكان قد حال عليه احلول‪ ،‬وقد جاء الشرع بتقدير نصاب الفضة مبائيت درهم‪ ،‬لكن الكثري من‬
‫الناس جيهل مقدار ذلك خاصة بعد ترك التعامل ابلدراهم الفضية‪ ،‬وشيوع العمالت الورقية‪،‬‬
‫فجاء البيان هنا للطريقة اليت يعرف ِبا نصاب الفضة ابلعمالت احلديثة املتداولة اليوم‪.‬‬
‫حديث جابر يف أنصبة الزكوايت‬
‫يقول املصنف رمحه هللا‪[ :‬وعن جابر عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪( :‬ليس فيما دون‬
‫مخس أواق من الورق صدقة‪ ،‬وليس فيما دون مخس ذود من اإلبل صدقة‪ ،‬وليس فيما دون‬
‫مخس أوسق من التمر صدقة) رواه مسلم] ‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫أتى املصنف رمحه هللا تعاىل إىل هذه املسألة‪ ،‬وقد أمجعوا على أن األموال املتفق على زكاهتا‬
‫أربعة وهي‪ِ :‬بيمة األنعام‪ ،‬والذهب والفضة‪ ،‬والزروع والثمار‪ ،‬وعروض التجارة‪.‬‬
‫فهذه األجناس من حيث هي زكوية‪ ،‬وخيتلف التفصيل فيها حسب نوعها وطريقة احلصول‬
‫عليها‪.‬‬
‫ويف هذا احلديث يبني لنا النيب صلى هللا عليه وسلم أن األموال الزكوية هلا أنصباء‪ ،‬خبالف من‬
‫شذ وقال‪ :‬كل مال يزكى وال عربة بنصاب وال حبوالن احلول! وهذا يف الواقع فيه إجحاف على‬
‫املالك؛ ألنه حيمله الزكاة على كل ما ميلكه ولو كانت له فيه حاجة‪.‬‬
‫فاشرتاط بلوغ املال الزكوي نصاابً فألنه يدل على وفرته يف يد صاحبه‪ ،‬وكذلك اشرتاط احلول‬
‫يدل على استغنائه عنه حوالً كامالً‪ ،‬ومن كان يف يده مال مستغن عنه ملدة سنة فال شك أنه‬
‫غين‪ ،‬أما الفقري فهو إما أنه ال ميلك شيئاً‪ ،‬أو إذا ملك شيئاً فإنه ال يستمر يف يده إىل حول‬
‫كامل‪.‬‬
‫ومن هنا قالوا‪ :‬مشروعية الزكاة بنيت على اإلرفاق والتعاون‪ ،‬فهي إرفاق ابملالك فال يكلف‬
‫الزكاة إال يف حالة غىن‪ ،‬وحالة الغىن أن ميلك نصاابً من املال الزكوي يستغين عنه سنة كاملة‪،‬‬
‫وحالة اإلرفاق ابلفقري أن أيخذ جزءاً من مال الغين يستعني به‪ ،‬ومن اإلرفاق ابلغين أيضاً قلة‬
‫ما يؤخذ منه يف النصاب الذي ميلكه‪.‬‬
‫نصاب الفضة‬
‫وهنا يف حديث جابر أن النيب صلى هللا عليه وسلم يقول‪( :‬ليس فيما دون مخس أواق من‬
‫الورق صدقة) ‪ ،‬إذاً اخلمس األواقي هي النصاب‪ ،‬وما كان أقل منها فال زكاة فيه؛ ألهنا قليلة‪،‬‬
‫َح َد ُك ْم بَِوِرقِ ُك ْم َه ِذهِ} [الكهف‪.]19:‬‬
‫والورق إَّنا هو الفضة كما جاء يف قوله سبحانه‪{:‬فَابْ َعثُوا أ َ‬
‫واخلمس األواقي‪ :‬مائتا درهم‪ ،‬وقد جاء النص صرحياً يف مائيت درهم‪ ،‬وجاء عن أم املؤمنني‬
‫عائشة رضي هللا تعاىل عنها فيما يتعلق ابلصداق يف الزواج أبن األوقية أربعون درمهاً‪ ،‬ومخس‬
‫أواق يف أربعني مبائتني‪.‬‬
‫وعلى هذا يتقرر عندان أن الفضة من األموال الزكوية‪ ،‬وهي من النقدين‪ ،‬وأن هلا نصاابً وهو‬
‫مخس أواق‪ ،‬مث اخلمس األواقي أو النصاب ال زكاة فيها حىت حيول عليها احلول‪ ،‬وسيأيت النص‬

‫‪37‬‬
‫على أنه خيرج منها ربع العشر‪ ،‬وربع العشر مطرد يف الذهب والفضة‪ ،‬والذي يهمنا األنواع‬
‫املنصوص عليها يف هذا احلديث‪.‬‬
‫شروط زكاة الفضة‬
‫إذاً‪ :‬املبدأ األساسي يف التشريع‪ :‬أنه ال زكاة يف الفضة على من ميلكها إال بشرطني‪.‬‬
‫الشرط األول‪ :‬بلوغ النصاب‪ ،‬وهو مخس أواق‪ ،‬وليس عندان اليوم أواق‪ ،‬ولكن حنن نقول‪ :‬هذا‬
‫املبدأ التشريعي‪ ،‬واخلمس األواقي مائتا درهم؛ هذا الشرط األول‪.‬‬
‫الشرط الثاين‪ :‬حوالن احلول على هذا النصاب‪.‬‬
‫ومعىن حوالن احلول‪ :‬أن يستمر املبلغ نصاابً ال ينقص‪ ،‬وإذا زاد فبحسابه‪.‬‬
‫ويف ابتداء احلول ننظر يف اخلمس األواقي مثالً‪ ،‬فإن كان اكتسبها مرة واحدة فيبدأ حساب‬
‫احلول من يوم اكتسبها‪ ،‬وإذا كان يكتسبها على دفعات كل شهر أوقية‪ ،‬كأن يوفر من راتبه‪،‬‬
‫أو أيتيه دخل ما فيوفر أوقية‪ ،‬فيتوفر عنده النصاب على مخسة أشهر‪ ،‬فمن يوم أن اكتمل‬
‫عنده مخس أواق يبدأ احلول‪ ،‬وإذا كان يف ازدايد‪ ،‬وبعد اخلمسة األشهر جاءت مخس أواق‬
‫اثنية‪ ،‬فأصبح عنده عشر أواق‪ ،‬وبعد شهرين جاءت أوقيتان‪ ،‬فمن أول ما بدأ احلول إىل هنايته‬
‫صار عنده اثنتا عشرة أوقية‪ ،‬فيزكي اجلميع آخر احلول‪.‬‬
‫اشرتاط بقاء النصاب طوال احلول دون نقص‬
‫إذا اجتمع عنده مخس أواق يف شهر مخسة مثالً‪ ،‬وبدأ احلول من شهر مخسة‪ ،‬فإذا جاء شهر‬
‫مخسة من السنة الثانية يكون قد اكتمل احلول فيزكي‪ ،‬لكنه يف شهر عشرة نقصت عليه أوقية‪،‬‬
‫فهل النصاب ابق أم نقص؟ نقص‪.‬‬
‫ويف شهر أحد عشر جاءته أوقية‪ ،‬فعاد النصاب واكتمل‪ ،‬فهل نزكي هذه اخلمس اجلديدة على‬
‫حول اخلمس األوىل‪ ،‬أم نبدأ حوالً جديداً من يوم أن اكتملت بعد النقص؟ اجلواب‪ :‬إذا نقص‬
‫النصاب يف أثناء احلول نستأنف احلول من يوم أن يكتمل؛ ألنه إذا استمر على هذا النقص‬
‫وحال احلول مل أنمره ابلزكاة‪ ،‬ألنه مل ميلك نصاابً حال عليه احلول‪ ،‬نعم‪.‬‬
‫كان قد امتلك نصاابً ولكن احتاج فنقص منه‪ ،‬وهلذا جعل احلول ألنه مقياس االستغناء‪.‬‬
‫فإذا مرة عليك سنة وما احتجت منه شيئاً تبني أنك مستغ ٍن وأنه زايدة‪ ،‬لكن إذا كان ينقص‬
‫ويزيد! وينقص ويزيد! فعند هناية احلول ننظر اخلمسة موجودة‪ ،‬ولكن النقص الذي طرأ عليها‪،‬‬

‫‪38‬‬
‫والزايدة اليت اكتملت ِبا مخس أواق كانت يف الشهر املاضي مثالً‪ ،‬فيكون الشهر املاضي هو‬
‫بداية احلول‪.‬‬
‫هذا ما يتعلق بزكاة الفضة؛ ألهنا يشرتط هلا شرطان‪ :‬ملك النصاب‪ ،‬وأن يستمر هذا امللك َتماً‬
‫حىت حيول عليه احلول‪.‬‬
‫فإن طرأت عليه زايدة تلحق ابألصل‪ ،‬فاألصل أن تضم‪ ،‬ولكن الفقهاء هلم يف هذا حبث‬
‫وتفريع‪ :‬فإن كانت الزايدة من جنس األصل املوجود عنده فإهنا تلحق ابألصل وتزكى معه عند‬
‫متام حوله‪ ،‬وذلك مثل عروض التجارة‪ ،‬فهو كل يوم يربح أوقية نصف أوقية ربع أوقية‪ ،‬فعندما‬
‫اكتمل عنده مخس أواق استمر يف الربح إىل هناية السنة‪ ،‬فصار عنده عشرون أوقية‪ ،‬فإذا حصل‬
‫من العشرين أوقية على واحدة يف األسبوع املاضي فهل جنعل هلا حوالً مستقالً أم هي َتبعة يف‬
‫َّناء التجارة عنده؟ َتبعة‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬هذا هو املبدأ عندان فيما يتعلق بزايدة النصاب وما يتعلق بنقصان النصاب‪.‬‬
‫نصاب اإلبل‬
‫قوله‪( :‬وليس فيما دون مخس ذود من اإلبل صدقة) ‪ :‬الذود‪ :‬العدد اإلبل‪.‬‬
‫واملعىن أن الذي عنده أربع أو ثالث من اإلبل أنه ال زكاة فيها‪.‬‬
‫وتقدم لنا يف أنصباء اإلبل أن يف كل مخس شاة إىل عشرين‪ ،‬فإذا بلغت مخساً وعشرين ففيها‬
‫بنت خماض‪ ،‬فإذا بلغت ستاً وثالثني ففيها بنت لبون‪ ،‬إىل آخر اجلدول املعروف الذي تقدم‬
‫معنا‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬هذا احلديث يبني لنا أنصباء األموال الزكوية‪ :‬فنصاب الفضة مخس أواق‪ ،‬ونصاب اإلبل‬
‫يبدأ خبمس من اإلبل‪ ،‬وما كان أقل من ذلك فال زكاة فيه‪.‬‬
‫أمهية معرفة املعايري واملوازين وتوحيدها بني املسلمني‬
‫قوله‪( :‬وليس فيما دون مخسة أوسق من التمر صدقة) ‪.‬‬
‫تقدم معنا أن الفضة هلا نصاب‪ ،‬ونصاِبا مخس أواق‪ ،‬واألواقي قدرها مائتا درهم‪ ،‬وليس‬
‫املقصود الدرهم املغريب‪ ،‬فتلك عملة خاصة ابملغرب‪ ،‬كم تكون املائتا درهم؟ ما أحد سأل وال‬
‫تغريت كثري من اعتبارات الشرع عندان‪،‬‬ ‫أحد فتش! حنن ‪-‬اي إخوان‪ -‬يف هذه اآلونة األخرية ن‬
‫وخاصة املكاييل واملوازين‪ ،‬وكل أمة هلا معايريها اخلاصة‪ ،‬وأذكر أن مسمى الرطل كان يف مصر‬

‫‪39‬‬
‫يبلغ اثنيت عشرة أوقية‪ ،‬وكذلك يف إسطنبول‪ ،‬والرطل يف القدس أقتان‪ ،‬مع أن األقة الواحدة‬
‫تساوي اثنني كيلوا‪ ،‬والرطل يف بغداد قريب من الرطل يف مصر‪ ،‬فتختلف املوازين على حسب‬
‫اصطالح األمة؛ ألن لكل أمة أن أتخذ لنفسها وتضع لنفسها معايريها اخلاصة‪ ،‬حنن نسمع‬
‫اآلن‪( :‬مرت‪ ،‬وايردة‪ ،‬وإنش‪ ،‬وقدم‪ ،‬وفوت) ‪.‬‬
‫فاملقاييس الرمسية املتعامل ِبا اليوم هي املرت والياردة واإلنش‪ ،‬فهذه مقاييس‪ ،‬وعند املساحات‬
‫(فدان وهكتار‪ ،‬وقرياط) وكذلك املكاييل‪( :‬مد‪ ،‬وصاع‪ ،‬وكيلو‪ ،‬وربع‪ ،‬وملوا‪ ،‬وقدح) ‪ ،‬فهذه‬
‫مكاييل وموازين ومقاييس قد تصطلح كل أمة على ما يصلح عندها‪.‬‬
‫وقد قال العز بن عبد السالم‪ :‬على األمة أن تطيع ويل أمرها يف أربعة‪ :‬أوالً‪ :‬نوع املكيال‪ ،‬ونوع‬
‫امليزان الذي أيمر ابلتعامل به‪ ،‬فإذا قال‪ :‬تعاملوا ابألقة‪ ،‬أو قال‪ :‬تعاملوا ابلرطل‪ ،‬أو قال‪ :‬تعاملوا‬
‫ِبذه الصنجة اليت سأصنعها مث صنع صنجة ومساها‪ ،‬فيجب أن يكون الوزن ِبا وأبجزائها‪ ،‬وال‬
‫حيق إلنسان أن يصنع صنجةً أخرى يزن ِبا للناس‪.‬‬
‫ووحدة املكاييل واملوازين ضرورية يف العامل؛ لئال أيكل الناس أموال بعضهم بعضاً‪ ،‬فيأيت من‬
‫يقول لك‪ :‬هذا وزن‪ ،‬وأييت آخر يقول لك‪ :‬هذه أوزن هذه أنقص وأان ال أدري؟ ال‪.‬‬
‫ولذا الرسول صلى هللا عليه وسلم أشار إىل أنه من السنة وحدة املكيال وامليزان؛ ألنه صلى هللا‬
‫عليه وسلم قال‪( :‬املكيال مكيال املدينة) وقال‪( :‬اللهم ابرك هلم يف صاعهم ومدهم) ‪ ،‬والصاع‬
‫واملد مكيال‪ ،‬وجعل مكة وحدة املوازين فقال‪( :‬امليزان ميزان مكة) ‪.‬‬
‫فالعامل اإلسالمي عليه حبسب هذا احلديث أن يوحد مكاييله على مكاييل املدينة‪ ،‬وموازينه‬
‫على موازين مكة‪ ،‬مثل وحدة النقد‪ ،‬فهل ميكن أن يكون يف بلد واحد نقدان خمتلفان لدولة‬
‫واحدة؟ ال؛ بل لكل دولة نقد مستقل‪ ،‬فكذلك لكل دولة مكيال وميزان مستقل‪.‬‬
‫مث قال العز بن عبد السالم‪ :‬يف إعالن احلرب على عدو حمارب‪ ،‬وعقد اهلدنة مع مقاتل‪ ،‬فإذا‬
‫أعلن ويل أمر املسلمني حرابً على عدوه وجب على األمة أن تقوم معه‪ ،‬وإذا أعلن هدنة مع‬
‫أمة وجب على املسلمني أن يلتزموا ِبذه اهلدنة‪.‬‬
‫فاملكيال وامليزان من األمور االجتماعية اليت جيب توحيدها‪.‬‬
‫وكان الدرهم أوالً ليس إسالمياً بل كان رومياً‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫وكذلك املثقال ما كان موجوداً على عهده صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ولكن املثقال مل خيتلف وزنه‬
‫يف جاهلية وال إسالم‪ ،‬أما الدرهم فكان يتفاوت‪ ،‬وجاء يف صدر اإلسالم التعامل ابلدراهم‬
‫األجنبية‪ ،‬ويف الدولة األموية كان الدرهم الصغري والدرهم الكبري‪ ،‬فجمع بعض والة بين أمية‬
‫درمهاً صغرياً واآلخر كبرياً‪ ،‬مث قسمهما نصفني‪ ،‬واعترب الدرهم نصف الكبري ونصف الصغري‪،‬‬
‫وتوحد الدرهم‪ ،‬وصارت عشرة دراهم تزن سبعة مثاقيل‪.‬‬ ‫ن‬
‫والدرهم وحدة ميزان ووحدة نقد‪ ،‬تقول‪ :‬األوقية كذا لرية‪ ،‬وحنن نقول‪ :‬األوقية أربعون درمهاً‪،‬‬
‫والدينار يصرف بعشرة دراهم‪ ،‬وكان صرفه يف زمن عمر ما بني مثانية إىل اثين عشر درمهاً‪،‬‬
‫واستقر األمر على أن الدينار يصرف بعشرة دراهم‪ ،‬وعشرون ديناراً هي نصاب الذهب‪ ،‬ومائتا‬
‫درهم هي نصاب الفضة‪.‬‬
‫يبقى أن الدينار يعادل من الدراهم عشرة؛ ألن عشرين ديناراً تعادل مائيت درهم‪ ،‬إذاً‪ :‬الدينار‬
‫وحدة وزن ووحدة نقد‪ ،‬وهلذا رمبا جند يف بعض كتب الفقه من يقول‪ :‬كذا درمهاً وزانً‪ ،‬كذا‬
‫درمهاً ع نداً‪ ،‬فإذا قال لك‪ :‬وزانً‪ ،‬فاملعىن أنه موزون وزنه كذا‪ ،‬وإذا قال لك‪ :‬عداً‪ ،‬فاملعىن أنه‬
‫وحدة نقدية يعد كذا درمهاً‪.‬‬
‫تقدير نصاب الفضة ابلعمالت احلديثة‬
‫فكما قلنا‪ :‬إن لكل أمة أن توجد لنفسها من املكاييل واملوازين ما ترتضيه‪ ،‬فمع طول الزمن‬
‫تتغري الدرهم وتتنوع املكاييل‪ ،‬أنت عندك املد يف السوق ليس هو املد النبوي‪ ،‬فقد تغري‪ ،‬واملد‬
‫الذي يف السوق يعادل ثالثة أمداد‪ ،‬والصاع الذي يف السوق يعادل ثالثة صيعان من صاع‬
‫النيب صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬بينما املد النبوي يكون ربع الصاع النبوي‪ ،‬واملد التجاري اثنا عشر‬
‫مداً نبوايً‪ ،‬إذاً‪ :‬اختلفت املكاييل يف املدينة‪.‬‬
‫كان رايل الفضة السعودي موجوداً وكان وحدة نقد‪ ،‬اآلن انتهى عن كونه نقداً وأصبح حلياً‬
‫وحتفاً وهدااي‪ ،‬ومل يعد يتداول كعملة سائرة بني الناس بوحدة الرايل‪ ،‬ووزنه ابلدراهم املعروفة‬
‫عندان ثالثة دراهم وثالثة أرابع الدرهم‪ ،‬بتحرير العلماء أبن املائيت درهم الواردة يف نصاب‬
‫الفضة تعادل ستة ومخسني رايالً سعودايً‪ ،‬الذي يزن الرايل الواحد منها أربعة دراهم إال ربع‪،‬‬
‫وحنن أنخذ هذا كمعيار موجود عملياً‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫يبقى نصاب الفضة ابلنسبة للرايل السعودي الذي كان يتداول‪ ،‬وهو موجود اآلن يصاغ‬
‫ويستعمل على هيئته ووزنه‪ ،‬لكن ال يتداول بني الناس‪ ،‬ألنه ملا جاءت هذه األوراق أصبحت‬
‫الفضة تعادل اآلن عشرين رايالً ورقاً‪ ،‬إذاً‪ :‬ال عربة ِبذا؛ لكن كيف حندد نصاب الفضة اليت‬
‫َّنتلكها على املائيت درهم اليت جاء الشرع ِبا؟ نقول‪ :‬إن العملة هي وسيلة الشراء‪ ،‬وهي الوسيط‬
‫يف التعامل‪ ،‬فننظر إىل الفضة السعودي اليت كانت متداولة واليت تعادل املائيت درهم‪ ،‬فنأيت‬
‫ابلستة واخلمسني رايالً السعودي فننظر كم قيمتها الشرائية يف األسواق؟ فهي أبعدت عن‬
‫السوق وبقيت سلعة تباع وتشرتى‪ ،‬فإذا كان نصاب املائيت درهم يعادل وزانً الستة ومخسني‬
‫رايالً سعودايً‪ ،‬والرايل السعودي أربعة دراهم إال ربع وقد عمل حساب الرصاص أو النحاس‬
‫املوجود مع الفضة ليشدها حىت تصلح يف سبكها وصياغتها رايالت قابلة وصاحلة للتداول دون‬
‫أن يسري منها شيء‪.‬‬
‫فنأيت للعامل كله يف أي بقعة فنسأل‪ :‬كم قيمة الشراء ملائيت درهم فضة عندكم؟ فإذا قالوا لنا‪:‬‬
‫قيمتها مخسمائة رايل‪ ،‬مائتا روبية‪ ،‬عشرون دوالراً‪ ،‬أو أربعون جنيهاً اسرتلينياً‪ ،‬أو أي عملة يف‬
‫العامل تتداول كنقد‪ ،‬فالقيمة الشرائية هلذه العملة يف بلدها ننظر كم منها يعادل املائيت درهم‬
‫مثناً! فما يعادل املائيت درهم األساسية من الفضة ابلقيمة الشرائية يكون هو النصاب‪ ،‬إذا جئت‬
‫يف مصر ففيها اجلنيه املصري‪ ،‬فتنظر بكم جنيهاً نشرتي املائيت درهم؟ إذا جئنا إىل اهلند‬
‫وابكستان نظران كم روبية نشرتي ِبا املائيت درهم‪ ،‬وإذا جئنا إىل أمريكا نظران كم دوالراً نشرتي‬
‫به املائيت درهم‪ ،‬إذا جئنا إىل بريطانيا وإسكندانفيا نظران كم جنيهاً اسرتلينياً نشرتي به املائيت‬
‫درهم‪ ،‬وهكذا يف دول العامل‪.‬‬
‫وهنا يف السعودية نقدر كم رايالً سعودايً ورقياً يشرتى به املائتا الدرهم؛ فيكون النصاب عن‬
‫الفضة ابلعملة الورقية اليت هي بديل ما يساوي يف القيمة الشرائية مائيت درهم بغري هذا ال ميكن‬
‫أن تصل إىل تقدير نصاب الزكاة‪ ,‬ولذا ملا كثر فيه األخذ والعطاء يف السابق‪ ،‬جاء عن ابن‬
‫تيمية رمحه هللا أنه قال‪ :‬كل بلد درامهها حبسبها‪.‬‬
‫لكن حنن ال نرتك املسألة إىل هذا احلد‪ ،‬وينبغي أن تكون هناك قاعدة عامة شاملة‪ ،‬وهي أن‬
‫ننظر يف كل عملة تصدر يف العامل‪ :‬كم قيمتها الشرائية للفضة مبقدار وزن مائيت درهم؟ فما بلغ‬
‫قيمته الشرائية مائيت درهم للفضة نقول‪ :‬هذا هو بداية النصاب‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫مقدار زكاة ما خيرج من األرض‬
‫قال املؤلف رمحه هللا‪ :‬وعن سامل بن عبد هللا عن أبيه رضي هللا عنهما عن النيب صلى هللا عليه‬
‫وسلم قال‪( :‬فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرايً العشر‪ ،‬وفيما سقي ابلنضح نصف‬
‫العشر) ‪ ،‬رواه البخاري‪ ،‬ولـ أيب داود‪( :‬إذا كان بعالً العشر‪ ،‬وفيما سقي ابلسواين أو النضح‬
‫نصف العشر) ‪.‬‬
‫هذا تفصيل ملا تقدم‪ ،‬فقد عرفنا أبن ما تنبته األرض وبلغ مخسة أوسق ففيه صدقة‪ ،‬وبصفة‬
‫عامة‪( :‬ليس فيما دون مخسة أوسق صدقة) وكلمة (صدقة) تشمل صدقة التطوع والزكاة‬
‫ص َدقَةً} [التوبة‪ ، ]103:‬فسمى الفريضة اليت‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫{خ ْذ م ْن أ َْم َواِل ْم َ‬
‫املفروضة وقد قال هللا تعاىل‪ُ :‬‬
‫أيخذها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم صدقة‪.‬‬
‫وعلى هذا‪ :‬جاءان التفصيل كم أنخذ مما سقت السماء‪ ،‬أو كم أنخذ مما تنبته األرض؛ فبني‬
‫لنا أن ما خفَّت كلفته زادت نسبة صدقته‪ ،‬وما كثرت كلفته نقصت نسبة صدقته‪ ،‬وهذا من‬
‫اإلرفاق‪ ،‬فما سقته السماء أو سقي ابلعيون اليت تفيض من األرض ومتشي يف السواقي‬
‫فتسقي األرض‪ ،‬فزكاته العشر‪.‬‬
‫فإذاً‪ :‬النبات إما أن يسقى بدون كلفة ابملطر أو مباء من العيون يسيل‪ ،‬أو سيول أتيت وتسقي‬
‫األرض‪ ،‬وإما أن يتكلف لسقي الزرع مئونة ابلنضح‪ ،‬والنواضح هي اإلبل تنضح املاء فتسحبه‬
‫من البئر أو الدوالب‪ ،‬وكذلك السواين‪ ،‬فكل ذلك ابآللة أو كما يقال‪ :‬ابلدوالب‪ ،‬واآلن‬
‫أصبحت هناك آالت حديثة وِلا كلفة‪ ،‬حيث حتتاج إىل حمروقات وقطع غيار‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬ما كان سقيه بدون كلفة أبن جاء املطر من السماء أو جاء املاء من العيون أو كان‬
‫عثرايً‪ ،‬ولفظة (العثري) إىل اآلن مستعملة‪ ،‬تسمعوهنا من ابعة احلبحب الذين يقولون‪:‬‬
‫حبحب عثري‪ ،‬والعثري‪ :‬هو أحسن أنواع احلبحب؛ ألن األصل فيه أن تكون الرتبة خصبة‪،‬‬
‫ف يأيت السيل أو النهر فيغمرها‪ ،‬وميكث فيها مدة مث ينحسر عنها‪ ،‬ويتسرب املاء إىل ثقوب‬
‫بعيدة‪ ،‬فإىل وقت معني أيتون إىل تلك الرتبة املشبعة ابملاء ويضعون فيها احلبوب سواء كانت‬
‫ذرة أو من هذا احلبحب أو اخلضروات؛ فهذا عثري‪.‬‬
‫فالعثري‪ :‬األرض اليت يغمرها املاء من هنر أو سيل أو حنو ذلك‪ ،‬مث يفيض عنها وقد تشبعت‬
‫ابملاء‪ ،‬فيزرع احلب وال حتتاج إىل سقي بعد ذلك حىت حتصد‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫إذاً‪ :‬هذا هو أيضاً مما سقته السماء أو العيون أي‪ :‬بدون كلفة‪.‬‬
‫{وآتُوا‬
‫إذاً‪ :‬ما خترجه األرض يشرتط فيه أن يكون نصاابً وال يشرتط فيه احلول قال تعاىل‪َ :‬‬
‫ص ِادهِ} [األنعام‪. ]141:‬‬
‫َحقَّهُ يـَ ْوَم َح َ‬
‫ولكن احلصة اليت تؤخذ يف الذهب والفضة وعروض التجارة متحدة‪ ،‬وهي ربع العشر‪ ،‬لكن‬
‫هنا إما العشر كامالً وإما نصف العشر حبسب كلفة السقي‪ ،‬أما مئونة احلرث والزرع فهذه‬
‫أمر ضروري ال بد منه‪ ،‬وال ينظر إىل الكلفة إال بعد عملية الزرع ابلذات‪ ،‬فإن كان عثرايً أو‬
‫سقته السماء أو العيون أو السيول‪ ،‬ومل يتكلف صاحبه يف سقيه شيئاً ففيه العشر من مخسة‬
‫أوسق فما فوقها‪ ،‬وما دون اخلمسة أوسق ليس فيها زكاة‪.‬‬
‫كتاب الزكاة ‪ -‬مقدمة كتاب الزكاة‬
‫اتفق األئمة األربعة على وجوب الزكاة يف الشعري‪ ،‬واحلنطة‪ ،‬والزبيب‪ ،‬والتمر‪ ،‬واختلفوا فيما‬
‫عدا ذلك كاخلضروات والفواكه‪ ،‬وبعضهم قاس على األصناف األربعة ما شاركها يف العلة‬
‫واألوصاف كاألرز وحنوه‪ ،‬وقد فصل الشيخ سبب اخلالف وذكر األدلة‪ ،‬كما تطرق إىل‬
‫عملية اخلرص وما فيها من حكم وفوائد للمالك واملسكني‪.‬‬
‫يزكى مما تنبت األرض‬
‫يقول املصنف رمحه هللا ‪ :‬عن أيب موسى األشعري ومعاذ رضي هللا عنهما أن النيب صلى هللا‬
‫عليه وسلم قال ِلما‪( :‬ال أتخذا يف الصدقة إال من هذه األصناف األربعة‪ :‬الشعري‪ ،‬واحلنطة‪،‬‬
‫والزبيب‪ ،‬والتمر) رواه الطرباين واحلاكم ‪.‬‬
‫إن مباحث األموال الزكوية تتسع فروعها وجزئياهتا يف كتب الفقه ما ال تتسع يف كتب‬
‫احلديث‪.‬‬
‫ونذكر مبا تقدم يف أوائل هذا الباب املبارك‪ :‬أن املسلمني أمجعوا على أجناس أربعة هي حمل‬
‫الزكاة‪ :‬هبيمة األنعام‪ ،‬والنقدان‪ :‬الذهب والفضة‪ ،‬وعروض التجارة‪ ،‬وما تنبته األرض‪ ،‬فهذه‬
‫األجناس األربعة هي حمل الزكاة‪ ،‬مث اختلفوا يف تلك األصول األربعة يف بعض أفرادها‪ ،‬فمثالً‪:‬‬
‫هبيمة األنعام اختلفوا منها يف زكاة اخليل‪ ،‬فقال به اإلمام أبو حنيفة رمحه هللا‪ ،‬ومل يقل به‬
‫اجلمهور‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫ويف الذهب والفضة اختلفوا يف احللي‪ ،‬أي‪ :‬املصنوع واملستعمل‪ ،‬فأوجبه فيه أبو حنيفة رمحه‬
‫هللا ومل يوجبه غريه على خالف عند الشافعي وأمحد‪ ،‬ومل يوجبها مالك قوالً واحداً‪.‬‬
‫وعروض التجارة من قال هبا قال ابلعموم‪ ،‬ومن مل يقل هبا فال كالم معه‪.‬‬
‫خرص الزروع والثمار عند بدو الصالح‬
‫قال املؤلف‪ :‬وعن سهل بن أيب حثمة رضي هللا تعاىل عنه قال‪( :‬أمران رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ :‬إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث‪ ،‬فإن مل تدعوا الثلث فدعوا الربع) ‪ ،‬رواه اخلمسة‬
‫إال ابن ماجة وصححه ابن حبان واحلاكم ‪.‬‬
‫انتقل املؤلف رمحه هللا إىل جزئية اتبعة ومتممة لتشريع الصدقة يف احلبوب والثمار‪.‬‬
‫فقوله‪( :‬إذا خرصتم) ‪ ،‬يفيد أن هناك خرصاً قبل إخراج الزكاة‪ ،‬فيكون سبقه تشريع للخرص‬
‫مث جاء ينبه ِلم عن منهج اخلرص كيف يكون‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬اخلرص مشروع‪ ،‬وأقوى دليل يف ذلك قضية خيرب‪ ،‬ملا أرسل الرسول صلى هللا عليه وسلم‬
‫ابن رواحة ليخرص عليهم النخيل‪.‬‬
‫اصو َن} [الذارايت‪ ، ]10:‬لكن قال‬ ‫واخلرص يف اللغة‪ :‬التخمني‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬قُتِ َل ْ‬
‫اخلََّر ُ‬
‫اإلمام أبو حنيفة وداود بن علي‪ :‬ال خرص ألن اخلرص ظن‪ ،‬والظن كما يقولون أصل‬
‫الكذب‪ ،‬فقالوا‪ :‬ال خرص‪ ،‬ولكن على صاحب النخل والعنب إذا يبس وأصبح عنده التمر‬
‫أو الزبيب أن يكيل الذي حصل عنده‪ ،‬مث يزكيه‪.‬‬
‫كتاب الزكاة ‪ -‬مقدمة كتاب الزكاة‬
‫اختلف العلماء يف زكاة احللي الذي تتخذه املرأة للزينة‪ ،‬ويكاد اخلالف أن يكون متكافئاً‬
‫لتكافؤ األدلة‪ ،‬وقد بني الشيخ أدلة الطرفني‪ ،‬وأجوبة كل فريق على اآلخر‪ ،‬مث بني األفضل‬
‫للمرء يف ذلك‪.‬‬
‫أمر النيب صلى هللا عليه وسلم أن خيرص العنب كما خيرص التمر‬
‫يقول املصنف رمحه هللا‪ :‬وعن عتاب بن أسيد رضي هللا عنه قال‪( :‬أمر رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم أن خيرص العنب كما خيرص النخل‪ ،‬وتؤخذ زكاته زبيباً) رواه اخلمسة وفيه انقطاع‬
‫‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫هذا األثر وإن كان فيه انقطاع إال أنه عليه العمل‪ ،‬فيخرص العنب وتؤدى زكاته زبيباً‪ ،‬كما‬
‫خيرص الرطب وتؤدى زكاته متراً‪ ،‬لكن يهمنا يف هذا األثر أن العنب خيرص كما خيرص‬
‫النخل‪.‬‬
‫فمن كان ي عارض يف خرص العنب يقول‪ :‬ال يتأتى انضباط خرص العنب كانضباط خرص‬
‫النخل‪ ،‬يقول‪ :‬ألن النخلة مكشوفة أمام اخلارص وأمام اجلميع‪ ،‬أما العنب فقد يكون خمتفياً‬
‫بني األوراق وقد خيفى على النظر‪ ،‬فال يتمكن اخلارص من رؤيته كما يتمكن يف النخلة‪.‬‬
‫ولكن كما جاء يف هذا األثر‪ ،‬وإن كان منقطعاً فقد يكفينا رأي من رواه‪ ،‬فالذين رووه على‬
‫انقطاعه يقولون به؛ فيكفينا هذا فقهاً‪ ،‬وأهنا الطريقة اليت ميكن أن يساوى فيها العنب‬
‫ابلرطب‪.‬‬
‫فهذا النص يف العنب‪ :‬أنه خيرص كما خيرص النخل وتؤخذ زكاته زبيباً‪ ،‬وملاذا ال تؤخذ عنباً؟‬
‫ألنه ال يدخر‪ ،‬فلو أعطينا للفقري مخسة صناديق عنباً‪ ،‬هل سيأكلها كلها؟ فلو أكثر من‬
‫أكلها فإنه سيؤذيه‪ ،‬وهل إذا أكل صندوق عنب يغنيه عن لقمة عيش؟ فرمبا ال يغنيه‪،‬‬
‫فالعنب ليس قواتً وال يدخر‪.‬‬
‫وهذه الفكرة بتنفيذ مذهب أيب حنيفة رمحه هللا يف اخلضروات‪ ،‬ولنسأل‪ :‬ماذا سيصنع‬
‫املسكني إذا أخذ قليالً من الطماطم‪ ،‬أو قليالً من الباميا‪ ،‬أو قليالً من الفلفل‪ ،‬أو قليالً من‬
‫النعناع إخل؟ فإذا قلنا‪ :‬يضعها يف الثالجة‪ ،‬فالفقري ليس عنده ثالجة‪ ،‬ولو وضعها يف الثالجة‬
‫فإىل مىت؟ فسيأخذ منها كل يوم‪ ،‬فهل ستكون قواتً أم فاكهة؟ طبعاً ستكون فاكهة‪،‬‬
‫واخلضروات مهما كان فلها أجل‪ ،‬سواءً كانت داخل الثالجة أو خارجها‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬ال ينتفع هبا بقدر ما ميكن أن يبيعها صاحبها‪ ،‬وجيمع القيمة وأييت بصدقة القيمة‬
‫للمسكني فيتصرف فيها مبا ينفعه‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬انتهينا من موضوع زكاة ما خترج األرض‪ ،‬وكيفية زكاهتا وهو اخلرص‪.‬‬
‫وحنن قلنا ابلزكاة يف الشعري والرب‪ ،‬فهل خيرص وهو يف سنبله عندما يشتد احلب‪ ،‬أو يرتك‬
‫لصاحبه حىت حيصد ويصفى ويكال؟ هناك من يقول خبرص احلب أيضاً‪ ،‬ولكن ملاذا خنرصه؟‬
‫هل الريح تطيح به يف األرض؟ ليس هناك شيء يضيع منه أبداً‪.‬‬
‫وهل يبيعه قبل أن حيصده؟ ال‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫خبالف العنب والرطب‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬اخلرص حمصور على النخل والعنب‪ ،‬واحلب الذي هو متفق عليه من الشعري والرب وما‬
‫أحلقناه به ال دخل للخرص فيه‪ ،‬وإمنا يرتك لصاحبه حىت حيصده ويصفيه ويكيله‪ ،‬فهناك‬
‫جيب عليه أن يزكي ما حصل عنده إن وصل مخسة أوسق فما فوق‪.‬‬
‫وهللا أعلم‪.‬‬
‫زكاة احللي من الذهب والفضة‬
‫قال املصنف رمحه هللا‪ :‬وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي هللا عنهما‪( :‬أن امرأةً‬
‫أتت النيب صلى هللا عليه وسلم ومعها ابنة ِلا‪ ،‬ويف يد ابنتها مسكتان من ذهب‪ ،‬فقال ِلا‪:‬‬
‫أتعطني زكاة هذا؟ قالت‪ :‬ال‪.‬‬
‫قال‪ :‬أيسرك أن يسورك هللا هبما يوم القيامة سوارين من انر؟ فألقتهما) رواه الثالثة وإسناده‬
‫قوي‪ ،‬وصححه احلاكم من حديث عائشة ‪.‬‬
‫ملا أهنى املصنف رمحه هللا الكالم على زكاة هبيمة األنعام‪ ،‬مث ما خيرج من األرض‪ ،‬جاء إىل‬
‫زكاة احللي‪ ،‬وتقدم أيضاً زكاة النقدين‪ :‬الذهب والفضة‪ ،‬وأنه ليس فيما دون مخس أو ٍاق من‬
‫َوِرٍق صدقة‪.‬‬
‫وتقدم البحث يف هذه األصناف‪ ،‬ويف أنواع هبيمة األنعام ما اتفق عليه وما اختلف فيه‪ ،‬مث‬
‫أنواع الزروع والثمار‪ ،‬وما اتفق عليه أيضاً وما اختلف فيه‪ ،‬مث زكاة النقدين‪ :‬الذهب والفضة‪،‬‬
‫وبقي معنا عروض التجارة‪ ،‬وسيأيت يف سياق هذا احلديث‪.‬‬
‫فلما كان الذهب والفضة جممعاً على زكاهتما نقداً؛ ألن كلمة (أواق) مجع (أوقية) ‪ ،‬واألوقية‬
‫وحدة وزنية‪ ،‬ووحدة نقدية أيضاً‪ ،‬فهذا يتعلق ابلفضة‪ ،‬والدرهم وحدة وزنية‪ ،‬ووحدة عددية؛‬
‫فكان احللي من جنس الذهب والفضة‪ ،‬ولكنه اختلف فيه كما اختلف يف بعض أفراد‬
‫األجناس املتقدمة‪.‬‬
‫فصل أو يسوق ما عنده من أدلة أو من أقوال العلماء فيما يتعلق ابلذهب‬ ‫فشرع املصنف ي ِ‬
‫ُ‬
‫والفضة إن كان مصوغاً حلياً تلبسه النساء‪ ،‬فأتى ابحلديث‪ :‬أن امرأةً ميانية أتت إىل رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم ويف يد ابنتها مسكتان ‪-‬واملسكة هي ما يسمى اآلن بـ (األسور) أو‬

‫‪47‬‬
‫بـ (ابخللخال) يف ال ِرِجل من ذهب‪ -‬فلما رآها النيب صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬سأِلا‪ :‬أتؤدين زكاة‬
‫هذا؟‪ ،‬فـ (هذا) اسم إشارة راجع ملا فيه احلديث وهو املسكتان‪.‬‬
‫ويف بعض الرواايت‪( :‬غليظتان من ذهب‪ ،‬فقال ِلا‪ :‬أتؤدين زكاة هذا الذهب الذي يف يد‬
‫ابنتك؟ قالت‪ :‬ال‪.‬‬
‫فقال‪ :‬أيسرك أن يسورك هللا هبما يوم القيام بسوارين من انر؟) ‪.‬‬
‫أعتقد أن هذا أسلوب إاثرة‪ ،‬أي‪ :‬أحتبني أن تلبسي سوارين من انر يوم القيامة؟! ومن حيب‬
‫هذا؟! ومن يسر هبذا؟! ففيه اإلاثرة إىل معرفة الواقع وبراءة الذمة حاالً‪ ،‬وِلذا كان اجلواب‬
‫أهنا خلعتهما من يد ابنتها وألقت هبما‪ ،‬ويف تتمة الرواية‪( :‬قالت‪ :‬مها هلل ورسوله) ‪.‬‬
‫هذا احلديث كما ساق املصنف تصحيحه هو األصل يف مبحث زكاة احللي‪ ،‬وهو األصل‬
‫لالستدالل على أن احللي املستعمل ابلفعل فيه الزكاة؛ ألنه ملبوس يف يد البنت‪.‬‬
‫(اختذت‬
‫ُ‬ ‫مث ساق له املصنف شاهداً من حديث عائشة رضي هللا تعاىل عنها أهنا قالت‪:‬‬
‫فتخات من َوِرق ‪-‬الفتخات مجع فتخة وهي ما يسمى اآلن ابخلامت‪ -‬فنظر إليهما صلى هللا‬
‫عليه وسلم وقال‪ :‬ما هذا اي عائشة؟! قالت‪ :‬صنعتهما أتزين لك هبما) ؛ ألنه إذا كانت هذه‬
‫الفتخات يف الصندوق أو مرفوعة للحاجة مل تكن زينة‪ ،‬إمنا رأى بعينه وسأل وأجابت‪( :‬أتزين‬
‫لك هبما‪ ،‬فقال‪ :‬أتؤدين زكاهتما؟ قالت‪ :‬ال‪.‬‬
‫قال‪ :‬مها حسب ِ‬
‫ك من النار) ‪.‬‬ ‫َ ُ‬
‫وسيأيت لـ أم سلمة رضي هللا تعاىل عنها أهنا‪( :‬اختذت أوضاحاً من ذهب) ‪ ،‬األوضاح من‬
‫وضوح‬
‫ٌ‬ ‫الوضاحة والظهور‪ ،‬والذهب له بريق ووضوح‪ ،‬ولو كان حىت من الفضة فلها أيضاً‬
‫وبريق‪ ،‬واألوضاح كانت يف شعرها‪.‬‬
‫فوجدت يف وجهه األثر) أي‪ :‬أنه ليس‬
‫ُ‬ ‫تقول‪( :‬فنظر إليها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫اض؛ فهي صنعتهما من أجله صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬لكن مل يستقبل ذلك اببتسامة أو‬ ‫بر ٍ‬
‫(أكنز هو اي رسول هللا؟!) (هو)‬
‫بشاشة‪ ،‬وإمنا وجدت يف وجهه الكراهية‪ ،‬ففطنت فقالت‪ٌ :‬‬
‫ضمري راجع إىل األوضاح اليت يف شعرها‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫فلم يقل ِلا صلى هللا عليه وسلم ال‪ ،‬أو نعم‪ ،‬وإمنا قال‪( :‬إذا أديت زكاته فليس بكنز) يعين‪:‬‬
‫وما مل تؤد زكاته فإنه كنز‪ ،‬واحلكم على أنه كنز أو ليس بكنز إمنا هو ملدلول اآلية الكرمية‪:‬‬
‫اَّللِ فَـبَ ِش ْرُه ْم} [التوبة‪]34:‬‬ ‫ضةَ َوال يُ ِنف ُق َ‬
‫وهنَا ِيف َسبِ ِيل َّ‬ ‫ب َوالْ ِف َّ‬ ‫ين يَكْنُِزو َن َّ‬
‫الذ َه َ‬
‫َّ ِ‬
‫{والذ َ‬ ‫َ‬
‫إذاً‪ :‬فلما رأت الكراهية يف وجهه صلى هللا عليه وسلم فطنت فسألت‪ :‬وِملَ الكراهية وإمنا هي‬
‫زينة تتحلى هبا لزوجها‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬هذا القدر ليس فيه كراهية‪ ،‬ولكن اخلوف من كونه دخل يف معىن الكنز‪ ،‬ويكون هناك‬
‫الوعيد‪.‬‬
‫كنت تؤدين زكاهتا فليس بكنز) ‪.‬‬ ‫فلما سألت أجاهبا‪( :‬إن ِ‬
‫هذه النصوص الثالثة اليت ساقها امل صنف رمحه هللا هي عمدة من يقول بوجوب الزكاة يف‬
‫الذهب والفضة حلياً كان أو غري حلي‪ ،‬ويضاف إىل هذا أيضاً ما تقدم يف أول الباب من‬
‫احلث على الصدقات والزكاة يف مجيع األموال‪.‬‬
‫وتقدم لنا ذكر احلديث الطويل‪( :‬ما من صاحب ٍ‬
‫إبل ال يؤدي زكاهتا إال إذا كان يوم القيامة‬
‫بقاع قرق ٍر‪ ،‬تطؤه خبفافها وتعضه أبنياهبا‪ ،‬فإذا انتهى أخراها أعيد عليه أوالها حىت‬‫بطح ِلا ٍ‬
‫يقضى بني اخلالئق‪ ،‬فريى مصريه إما إىل اجلنة وإما إىل النار) ‪ ،‬وكذلك ذكر صاحب البقر‪،‬‬
‫مث صاحب الغنم‪ ،‬مث صاحب الذهب فقال‪( :‬وما من صاحب ذهب ‪-‬أتى ابسم اجلنس‪ ،‬ومل‬
‫يفصل بني مصنوع حلي أو آنية مستعمل أو غري مستعمل ال يؤدي زكاته إال إذا كان يوم‬ ‫ِ‬
‫ص ِفح له صفائح من انر‪ ،‬فيكوى هبا جبينه وجنبه وظهره حىت يفصل بني اخلالئق‪،‬‬ ‫القيامة ُ‬
‫ويرى مصريه إما إىل جنة وإما إىل انر) ‪ ،‬فأخذ البعض من هذا احلديث أن زكاة الذهب‬
‫حلي مستعمل‪.‬‬‫واجبة مطلقاً‪ ،‬مع النصوص األخرى اجملمع عليها يف غري ما هو ٌ‬
‫والتفصيل يف هذه املسألة يطول‪ ،‬وقد كتب الشيخ األمني رمحة هللا تعاىل علينا وعليه عند‬
‫ين يَكْنُِزو َن) فأطال البحث فيها يف أضواء البيان‪ ،‬فذكر أقوال‬ ‫َّ ِ‬
‫هذه اآلية الكرمية‪( :‬والذ َ‬
‫املوجبني للزكاة‪ ،‬وأقوال املانعني من الزكاة‪ ،‬وأخرياً قال‪( :‬واألوىل الذي به براءة الذمة أن يزكى)‬
‫ومل يقل‪ :‬جيب أو ال جيب‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫وصنيع ابن رشد يف بداية اجملتهد ما تناول هذه املسألة إال يف سبعة أسطر ‪-‬أي‪ :‬نصف‬
‫الصفحة فقط‪ -‬وذكر مذهب أيب حنيفة ومالك والشافعي رمحهم هللا‪ ،‬ومل يذكر مذهب أمحد‬
‫ال بقليل وال بكثري‪.‬‬
‫كتاب الزكاة ‪ -‬مقدمة كتاب الزكاة‬
‫لقد كثرت أنواع التجارات يف عصران احلاصر‪ ،‬وتنوعت طرقها وأساليبها‪ ،‬وتداخلت‬
‫معامالهتا‪ ،‬فيحتاج املرء إىل فقه صحيح حىت يعرف ما جتب فيه الزكاة وما ال جتب‪ ،‬وكذلك‬
‫استحدثت املصانع االستثمارية واالستهالكية‪ ،‬واليت حتتاج إل بيان ضوابط الزكاة فيها‪.‬‬
‫كتاب الزكاة ‪ -‬مقدمة كتاب الزكاة‬
‫قد أودع هللا يف األرض من الكنوز واملعادن شيئاً كثرياً ميكن االستفادة منه‪ ،‬واإلنسان قد جيد‬
‫ذلك كنزاً جاهزاً‪ ،‬وقد حيتاج يف استخراجه وتصفيته إىل عمل‪ ،‬وما حصل من ذلك فللزكاة‬
‫منه نصيب بشرطه على ما بينه الشيخ هنا‪.‬‬
‫حديث زكاة الركاز‬
‫قال املصنف رمحه هللا‪ :‬وعن أيب هريرة رضي هللا تعاىل عنه أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫قال‪( :‬ويف الركاز اخلمس) متفق عليه ‪.‬‬
‫حديث أيب هريرة رضي هللا تعاىل عنه الذي ساقه املؤلف هنا جزء من حديث يشتمل على‬
‫زايدة‪ ،‬وإن كان موضوعها غري موضوع الزكاة؛ ألن احلديث فيه‪( :‬العجماء جبار‪ ،‬والبئر‬
‫جبار‪ ،‬ويف الركاز اخلمس) ‪.‬‬
‫جرح العجماء جبار‬
‫(والعجماء ُجبار) يف بعض رواايته كما يسوقه صاحب املنتقى‪( :‬جرح العجماء جبار)‬
‫واجلبار‪ :‬هو اجملبور الذي ال دية وال قيمة‪.‬‬
‫والعجماء‪ :‬هي الدابة لكوهنا ال تعرب عما يف نفسها‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن كون العجماء جباراً فيه‬
‫تفصيل؛ ألهنا إما أن تكون مروضة كما يقال‪ :‬مؤدبة‪ ،‬أو ال زالت مل تدرب‪ ،‬وكذلك إما أن‬
‫جتين مبقدمها أو مبؤخرها‪ ،‬وإما أن جتين وعليها قائدها أو صاحبها‪ ،‬أو جتين وليس عليها أو‬
‫معها أحد‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫وكذلك قد تكون جنايتها ابلليل أو ابلنهار‪ ،‬وكل هذا مما تتطلبه احلياة‪ ،‬وخاصة عندما كانت‬
‫العجماء وسيلة النقل واحلمل دون غريها‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬إذا كان إنسان يركب دابة أو يقودها فجنت مبقدمها فإن راكبها أو قائدها مسئول‬
‫عن جنايتها؛ ألن بيده مقودها‪ ،‬أما إذا جنت مبؤخرها وهو ال يدري‪ ،‬فجرحها جبار‪ ،‬مبعىن‪:‬‬
‫إذا رحمت إنساانً فجرحته فليس على صاحبها شيء‪.‬‬
‫وقالوا‪ :‬إذا كانت مؤدبة وربطها يف طريق عام والطريق واسع‪ ،‬فجاء إنسان وخنزها فرحمته فهي‬
‫جبار‪ ،‬وإذا كانت غري مؤدبة وربطها يف طريق عام ومر إنسان ومل ينخزها ومل يؤذها فرحمته فهو‬
‫مسئول؛ ألنه يعلم منها أهنا ليست مروضة وال أتلف الناس‪ ،‬وتؤذي من مير هبا‪ ،‬فيكون قد‬
‫عرض الناس إليذائها فهو مسئول‪.‬‬
‫وهكذا إذا جنت ليالً أو جنت هناراً وليس عليها أحد أو ال يقودها أحد‪ ،‬فإن جنت ليالً‬
‫فعلى صاحبها جنايتها‪ ،‬وإن جنت هناراً فليس يف جنياهتا هناراً شيء‪ ،‬كما يف انقة الرباء بن‬
‫عازب رضي هللا تعاىل عنه‪ ،‬أكلت حرث قوم فحكم صلى هللا عليه وسلم أن على صاحب‬
‫الناقة حفظها ليالً‪ ،‬وعلى صاحب الزرع محايته هناراً‪.‬‬
‫وهكذا يذكرون ما يتعلق جبناية الدابة مروضة أو غري مروضة‪ ،‬معها إنسان أو ليس معها‬
‫إنسان‪ ،‬وكذلك إذا كان يعلم منها أهنا غري مروضة ومر هبا داخل األسواق واألسواق مزدمحة‬
‫فآذت أحداً فهو ضامن‪ ،‬أما إذا كانت مروضة ومتعودة دخول األسواق فال تؤذي أحداً‪،‬‬
‫ودخل هبا سوقاً فآذت إنساانً‪ ،‬فإن كان مبقدمها فهو ضامن‪ ،‬وإن كان مبؤخرها فليس‬
‫بضامن‪.‬‬
‫هذا ما يذكره العلماء رمحهم هللا يف قوله صلى هللا عليه وسلم‪( :‬العجماء جبار) ‪.‬‬
‫ومن هنا ننظر إىل مدى مشول السنة النبوية فيما يتعلق ابلتعامل بني الناس‪ ،‬سواء كان مباشراً‬
‫أو عن طريق هبائمهم العجماوات‪.‬‬
‫البئر جبار‬
‫(والبئر جبار) أي‪ :‬إذا استأجر إنساانً ليحفر له بئراً أو ليصلح له خراابً يف بئر‪ ،‬فإن كان هذا‬
‫األجري عاقالً مكلفاً مميزاً فأصابه شيء من عمله يف البئر‪ ،‬أبن سقط منه عليه حجر أو اهنار‬
‫البئر عليه‪ ،‬فهذا جبار وال دية له‪ ،‬أما إذا استعمل جمنوانً أو صغرياً أو معتوهاً أو من ال‬

‫‪51‬‬
‫يتحمل املسئولية‪ ،‬فهو مسئول عنه؛ ألن ذاك ‪-‬كما يقولون‪ -‬عدمي األهلية أو انقص‬
‫األهلية‪ ،‬كما لو كلف الصغري أو اجملنون أن يطلع شجرة ليجين له منها مثراً فسقط‪ ،‬فهو‬
‫مسئول عنه‪ ،‬أما إذا كلف عاقالً ابلغاً مميزاً رشيداً فطلع كالعادة فسقط‪ ،‬فليس عليه يف ذلك‬
‫شيء‪.‬‬
‫تعريف الركاز يف الشرع‬
‫قوله‪( :‬ويف الركاز اخلمس) هذا حمل الشاهد والعالقة بباب الزكاة‪ ،‬واخلمس‪ :‬هو احلصة اليت‬
‫{و ْاعلَ ُموا أََّمنَا َغنِ ْمتُ ْم ِم ْن َش ْي ٍء فَأ َّ‬
‫َن‬ ‫تؤخذ مما ال عناء يف حتصيله‪ ،‬وهو اتبع للغنيمة؛ ألن قوله‪َ :‬‬
‫ََِّّللِ ُمخُ َسهُ} [األنفال‪ ]41:‬اخلمس يف األموال اليت تؤخذ بدون عناء‪ ،‬والركاز‪ :‬مأخوذ من‬
‫ركزت الرمح إذا غرزته يف األرض‪ ،‬وتوجد مسميات‪ :‬الكنز‪ ،‬والركاز‪ ،‬واملعدن‪ ،‬هذه املسميات‬
‫الثالث قد يتداخل بعضها مع بعض‪ ،‬وخاصة الركاز‪ ،‬فالركاز أعمها‪ ،‬يطلق على املعدن؛ ألنه‬
‫مركوز يف األرض‪ ،‬وقد يتميز املعدن جبنسه عن الركاز‪.‬‬
‫والفرق عند احملققني‪ :‬أن الركاز ما كان من فعل اآلدمي فركزه يف األرض‪ ،‬واملعدن ما كان من‬
‫فعل هللا سبحانه وتعاىل‪ ،‬وهو ما خلقه يف األرض يوم خلقها من أنواع املعادن أو األجناس‬
‫املغايرة للرتبة‪.‬‬
‫فهنا الركاز والكنز واملعدن‪ ،‬فالركاز‪ :‬هو ما وجده اإلنسان مركوزاً يف األرض‪ ،‬وشبيه به الكنز‪،‬‬
‫وقد يتعاوران ويطلق بعضهما على اآلخر‪ ،‬والركاز أعم‪.‬‬
‫األصل أن الركاز ملن وجده واستخرجه‬
‫إذا جاء إنسان وكان يعمل يف أرض فوجد فيها ماالً مركوزاً‪ ،‬أي‪ :‬مدفوانً‪ ،‬سواء كان هذا‬
‫املال ذهباً أو فضة‪ ،‬أو كان جوهراً‪ ،‬أو شيئاً له قيمة‪ ،‬فيقولون ابتفاق‪ :‬إن وجده يف ملكه فال‬
‫نزاع يف شيء‪ ،‬فإنه يؤخذ منه اخلمس ويرتك له األربعة األمخاس ملكاً له‪.‬‬
‫وإذا كان يعمل يف أرض بيضاء ليست ملكاً له وال لغريه فوجده فكذلك؛ ألن األرض اليت‬
‫وجد فيها هذا الركاز ليست مملوكة ألحد‪.‬‬
‫أما إذا عمل يف أرض مملوكة للغري فوجد فيها هذا الركاز‪ ،‬فهل اي ترى هذا الركاز للعامل‬
‫الذي وجده أو لصاحب األرض؟ فاألكثرون على أنه للذي وجده‪ ،‬وصاحب األرض ال يعلم‬
‫عنه شيئاً‪ ،‬فإذا وجد إنسان ركازاً يف أي نوع من أنواع األراضي‪ ،‬فبعضهم يقول‪ :‬هو لواجده‪،‬‬

‫‪52‬‬
‫حىت قالوا‪ :‬لو أن إنساانً استأجر أجرياً حيفر له بئراً يف أرضه فعثر األجري على ركاز‪ ،‬فإن هذا‬
‫الركاز لألجري؛ ألنه هو الذي وجده‪.‬‬
‫واآلخرون يقولون‪ :‬هو لصاحب األرض؛ ألنه ميلك األرض وما فيها‪.‬‬
‫وبعضهم يقول‪ :‬إن استأجره حلفر بئر فوجد ركازاً فهو لألجري‪ ،‬وإن استأجره للبحث عن ركاز‬
‫فوجد الركاز فهو لصاحب األرض بال خالف؛ ألنه يكون قد استأجره لعمل مباح له كما لو‬
‫استأجره يف أن حيتطب‪ ،‬فإنه يكون احلطب أو املاء ملن استأجره‪ ،‬وليس لألجري إال أجرة‬
‫يده‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬الركاز مأخوذ من ركزت الرمح إذا غرزته يف األرض وهو يكون من املعدن وال حيتاج إىل‬
‫عمل يستخرجه منه كما سيأيت يف موضوع املعادن‪.‬‬
‫فإذا وجد إنسان معدانً ذهباً أو فضة أو ما له قيمة كجواهر ويواقيت مدفونة‪ ،‬فتسمى‪:‬‬
‫مركوزة‪ ،‬فما حكم هذا الذي وجده اإلنسان؟ إن كان وجده يف ملكه فال نزاع يف ذلك‪،‬‬
‫وعليه أن يؤدي اخلمس‪ ،‬وإن كان وجده يف مكان ليس ملكاً ألحد فهو كذلك؛ ألنه ليس‬
‫هناك من يدعيه ملكاً له يف أرضه‪ ،‬فهو لواجده‪ ،‬فعلى هذا‪ :‬يعطيه اإلمام اخلمس ويرد عليه‬
‫األربعة األمخاس‪ ،‬وجاء يف ذلك آاثر عن علي رضي هللا تعاىل عنه‪ :‬عن رجل وجد ألف‬
‫دينار فأخذ منها مائيت دينار وأعطاه الباقي‪ ،‬وعن عمر أيضاً رضي هللا تعاىل عنه أنه أخذ‬
‫اخلمس ورد إليه الباقي‪.‬‬
‫وعلى هذا يتفق اجلميع على أن الركاز فيه اخلمس‪.‬‬
‫واختلفوا فيمن وجد هذا الركاز إذا كان ذمياً‪ ،‬هل ميلكه أم ال؟ فقالوا‪ :‬إنه ميتلكه‪.‬‬
‫وكذلك العبد إذا وجد الركاز هل ميتلكه أو يكون لسيده (العبد وما ملكت يده لسيده) ‪.‬‬
‫وعلى هذا فحكم الركاز الذي جيده اإلنسان مدفوانً يف األرض من جواهر ومعادن نفيسة‬
‫كالذهب والفضة‪ ،‬فإن هذا لواجده ما مل يكن أجرياً للحفر عن ركاز‪.‬‬
‫ومما فيه خالف‪ :‬من وجده يف أرض الغري‪ ،‬واحتفر فيها حفراً مباحاً فوجد ذلك الكنز‪ ،‬فإنه‬
‫أيضاً ميلكه على خالف فيما إذا كان ميلكه هذا الواجد؟ أو يعود ملكاً لصاحب األرض‪.‬‬
‫وكذلك يذكرون فيما لو استأجر إنسان داراً مث أخذ يصلح فيها فوجد ركازاً‪ ،‬هل يكون هذا‬
‫الركاز الذي وجده املستأجر للمستأجر الواجد أو يكون لصاحب الدار؟ يذكرون عن أمحد‬

‫‪53‬‬
‫روايتني‪ ،‬وكذلك عن الشافعي‪ ،‬وخيتلفون ألن صاحب الدار ال يعلم عنه‪ ،‬وليس هو الذي‬
‫ركزه‪.‬‬
‫الفرق بني حكم ركاز اجلاهلية وركاز اإلسالم‬
‫وخيتلفون أيضاً يف موضوع الكنز ‪-‬النقد‪ -‬الذي وجده إنسان‪ ،‬إن كان من ركاز اجلاهلية أو‬
‫من ركاز اإلسالم‪ ،‬ويعلم ذلك ابألمارات اليت توجد على القطع النقدية‪ ،‬أبن كان عليه‬
‫عالمات اجلاهلية من صور األصنام‪ ،‬ومن عبارات أمساء ملوكهم؛ فإن ذلك له فيه اخلمس‪،‬‬
‫فيعطي اخلمس ويتملك الباقي‪ ،‬وإذا وجد عليه عالمات إسالمية أبن كان عليه (ال إله إال‬
‫هللا حممد رسول هللا) أو كان عليه نقش آية من كتاب هللا‪ ،‬أو ما يدل على أنه ملسلم؛ فإنه‬
‫يكون مبنزلة اللقطة‪ ،‬يعرفها سنة وبعد ذلك هو وشأنه هبا‪.‬‬
‫إذا وجد الركاز يف قرية مسكونة أو خربة‬
‫قال املؤلف‪ :‬وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي هللا عنهما‪ :‬أن رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم قال يف كنز وجده رجل يف خربة‪( :‬إن وجدته يف قرية مسكونة فعرفه‪ ،‬وإن‬
‫وجدته يف قرية غري مسكونة‪ ،‬ففيه ويف الركاز اخلمس) أخرجه ابن ماجة إبسناد حسن ‪.‬‬
‫هنا يفرق النيب صلى هللا عليه وسلم ابملكان الذي وجد فيه الكنز‪ ،‬أهو يف قرية مسكونة؟‬
‫فهذا مظنة أن يكون أهلها هم الذين دفنوه وركزوه‪ ،‬أو يف قرية مهجورة خربة قدمية ال ندري‬
‫مىت عمرت ومىت خربت؟ فإنه يكون كدفن اجلاهلية ففيه اخلمس‪.‬‬
‫وإذا عرفه السنة فإن وجد من تعرف عليه وأتى أبماراته كما جاء يف اللقطة‪( :‬احفظ عفاصها‬
‫ووعاءها مث عرفها سنة) ‪ ،‬فإذا وجد لقطة يف كيس عرف الكيس أهو من صوف أو قطن أو‬
‫جلد‪ ،‬والرابط أهو من حرير أو من خيوط أو من جلد‪ ،‬فإذا جاء إنسان وذكر األوصاف‬
‫املطابقة ِلذه اللقطة فهي له‪ ،‬وإذا مل أيته أحد أو جاء بوصف مغاير للحقيقة‪ ،‬فإهنا تبقى‬
‫عنده إىل متام احلول‪.‬‬
‫وبعد متام السنة مع تعريفها كما يقولون‪ :‬يف األسبوع األول كل يوم‪ ،‬ويف الشهر األول يوماً‬
‫كل أسبوع‪ ،‬مث بعد ذلك يف كل شهر يوماً حىت ينقضي احلول‪ ،‬فإذا مل جيد من يتعرف عليها‬
‫فهي ملكه‪ ،‬ولكن كما يقولون‪ :‬هو ملك غري اتم‪ ،‬أبن يتصدق هبا‪ ،‬وإن شاء متلكها ديناً يف‬
‫ذمته‪ ،‬فلو جاء إنسان يطلبها وصدق يف تعريفها وجب أن يردها إليه‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫أو إذا كان بعد هذه املدة ال يريد أن يتحملها يف ذمته‪ ،‬وإذا جاء صاحبها رمبا ال جيد ردها‪،‬‬
‫تصدق هبا على ذمة صاحبها‪ ،‬فإذا جاء صاحبها أخربه‪ ،‬أنه قد عرفها ملدة سنة فلم أيت‬
‫أحد‪ ،‬فتصدقت هبا على ذمة صاحبها‪ ،‬إن قبلت الصدقة على ذمتك فهي ماضية لك‪ ،‬وإن‬
‫مل تقبلها فتكون الصدقة على ذميت وأان أدفع لك بدِلا‪.‬‬
‫وهكذا إذا وجد يف قرية مسكونة أو طريق مطروق‪ ،‬أو وجد يف قرية خربة غري مسكونة‪ ،‬أو‬
‫طريق مهجور ال يسلكه أحد‪ ،‬وكذلك األرض إن كانت حمياة ألحد أو ميتة ال ميلكها أحد‪.‬‬
‫املعادن وحكم زكاهتا يف الشرع‬
‫وعن بالل بن احلارث رضي هللا عنه‪( :‬أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أخذ من املعادن‬
‫القبلية الصدقة) رواه أبو داود ‪.‬‬
‫صاحب هذا احل ديث بالل بن احلارث ويف بعض الرواايت هالل بن احلارث‪ :‬أن النيب صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ :‬أقطعه معدن القبلية‪ ،‬والقبلية‪ :‬مكان معني يف جنوب املدينة من أعمال وادي‬
‫الفرع‪ ،‬وبينه وبني املدينة كذا ميل‪ ،‬فيقولون‪ :‬هذا لعله املهد املوجود اآلن‪ ،‬وفيه املعدن‪ ،‬ويف‬
‫هذا احلديث مبحث أو مباحث من عدة جهات‪ :‬أوالً‪ :‬ما هو املعدن؟ مث‪ :‬ما يؤخذ من‬
‫املعدن؟ وما هو حكمه من حيث املكان؟ ومن هو مصرف ما يؤخذ منه؟‬
‫املفهوم الشرعي للمعدن‬
‫وع َد َن مبعىن‪ :‬أقام‪ ،‬ومنه كما يقولون‪( :‬جنة عدن) مبعىن‪ :‬دار اإلقامة‪،‬‬
‫املعدن من مادة َع َدن‪َ ،‬‬
‫وهذه املعادن مقيمة يف األرض من يوم أن خلقها هللا حىت يكتشفها اإلنسان‪.‬‬
‫ولويل األمر أن يقطع من شاء ما شاء ما مل تتعلق به منفعة اجلماعة‪.‬‬
‫فإذا كان هناك ماء يسقي عدة مزارع‪ ،‬فليس لويل األمر أن يقطع هذا املاء لشخص وحده؛‬
‫ألنه يفوت املنفعة على اآلخرين‪ ،‬وفيه مضرة‪ ،‬فكذلك املعدن الذي فيه منفعة عامة‪ ،‬كما‬
‫جاء عنه صلى هللا عليه وسلم‪ :‬أنه أقطع فالانً ملحاً‪ ،‬أي‪ :‬معدن ملح‪ ،‬مث قيل له‪ :‬اي رسول‬
‫هللا! أتدري ما أقطعت فالانً؟ قال‪ :‬أرضاً‪ ،‬كان يعتقد صلى هللا عليه وسلم أنه أقطعه األرض‬
‫ليزرعها ويستثمرها‪ ،‬قالوا‪ :‬إنك أقطعته املاء العدة‪ ،‬والعد أي‪ :‬الذي يستخلف‪ ،‬وكلما ذهب‬
‫شيء جاء شيء آخر كالبئر الذي أتخذ املاء ويستخلف غريه‪ ،‬فاسرتجعه صلى هللا عليه‬

‫‪55‬‬
‫وسلم ممن أقطعه إايه؛ لكونه يستفيد منه اجلميع فال حيصره على فرد؛ ألن الذي يستفيد منه‬
‫اجلميع هو ملك للجميع‪.‬‬
‫وِلذا قالوا‪ :‬إن اإلمام يقطع من املواد ما ال يتعلق به مصلحة لفرد أو جلماعة‪ ،‬فإذا كان‬
‫املعدن يستفيد منه اجلماعة كاملاء وامللح أو الكربيت أو الشيء يرجع على أهل احلي أو أهل‬
‫املنطقة‪ ،‬فال ينبغي أن يقطعه اإلمام لشخص معني‪ ،‬وإذا أقطعه وهو ال يدري عن حقيقته‬
‫اسرتجعه وتركه عاماً جلميع املسلمني‪ ،‬وهنا معدن القبلية‪.‬‬
‫واملعدن ما حكمه وما هو؟ يقول اإلمام الشافعي رمحه هللا‪ :‬املعدن خاص ابلذهب والفضة‪،‬‬
‫وما عداه ال يعترب معدانً وال يطالب صاحبه بشيء‪.‬‬
‫وعند احلنابلة أن املعدن كل ما كان يف األرض من غري جنسها وله قيمة‪ ،‬كما يقول ابن‬
‫قدامة يف املغين‪ ،‬فهو عندهم كل ما كان يف األرض من غري جنسها‪ ،‬أي‪ :‬من غري الرتاب‪.‬‬
‫ويوجد فيها من غري جنسها‪ :‬الذهب‪ ،‬الفضة‪ ،‬النحاس‪ ،‬الكربيت‪ ،‬الزئبق‪ ،‬القصدير‪،‬‬
‫الكحل‪ ،‬وعدد أشياء كثرية حىت من اجلواهر األملاز يكون أيضاً من األرض‪ ،‬واألحجار‬
‫الكرمية إذا كانت يف ابطن األرض‪ ،‬حىت األمور السائلة ومثَّل ابلقار وابلنفط والكربيت إذا‬
‫كانت سائلة يف بطن األرض‪ ،‬فكل ذلك يسمى عند احلنابلة معدانً؛ ألنه عدن يف األرض‬
‫وهو من غري جنسها وله قيمة‪.‬‬
‫وعند األحناف أن املعدن‪ :‬ما كان صاحلاً للذوابن والطبع‪ ،‬كأن يطبع سبائك أو قوالب‪،‬‬
‫فيخرج عن ذلك الكربيت والزئبق والقار والنفط‪ ،‬وخيرج عن هذا ما ليس مبعادن؛ ألهنا غري‬
‫قابلة لإلذابة ابلنار وطبعها سبائك أو قوالب‪ ،‬ويصدق هذا على الذهب والفضة والرصاص‬
‫والنحاس والقصدير‪ ،‬فهذه كلها تذاب وتصب يف قوالب وتكون سبائك أو أحجاماً‪.‬‬
‫خالف العلماء فيمن يتملك املعدن‬
‫املعادن اليت توجد يف األرض ملن تكون؟ فهناك من يقول‪ :‬هي كالركاز‪ ،‬والفرق بني الركاز‬
‫واملعدن‪ :‬أن الركاز وجده على حالته دون عمل‪ ،‬أما املعادن‪ :‬فهي عروق يف األرض ال حيصل‬
‫عليها إال بتصنيع وعمل جيمعها ويصهرها يف النار‪ ،‬فيحرتق الرتاب ويذوب املعدن‪ ،‬وجتتمع‬
‫فلزاته بعضها إىل بعض حىت خيرج منها كتلة‪ ،‬وهذه الطريقة معروفة يف اجلاهلية ومعروفة يف‬
‫اإلسالم‪ ،‬ومعروفة يف البادية ويف احلضر‪ ،‬ففي بعض بوادي أفريقيا تعرف بعض املعادن خاصة‬

‫‪56‬‬
‫احلديد يف بعض األماكن‪ ،‬فتجمع الرتبة وتوقد عليها انر قوية‪ ،‬فتجتمع فلزات احلديد بعضها‬
‫إىل بعض‪ ،‬وخيرجون بكتلة يصنعون منها اآلالت اليت ينتفع هبا اإلنسان‪.‬‬
‫وعلى هذا‪ :‬فاملعدن من حيث هو هل يقطعه اإلمام ألحد؟ اجلمهور ما عدا مالك يقولون‪:‬‬
‫كل معدن وجده اإلنسان على ذاك التعريف‪ ،‬سواء قصرانه على مذهب الشافعي أو وسعناه‬
‫على مذهب األحناف‪ ،‬أو عممنا كل ما تتضمنه األرض حىت الكحل والكربيت أو امللح‪،‬‬
‫فاجلمهور يقولون‪ :‬إن هذا لواجده‪.‬‬
‫وإن كان على وجه ا ألرض مثل امللح قالوا‪ :‬كذلك هذا لصاحبه الذي حصل عليه‪ ،‬وخاصة‬
‫إذا كان يف أرض موات‪ ،‬واآلن جمرايت امللح‪ ،‬ما اجتمع يف أرض سبخة فتجففه فيخرج منه‬
‫امللح الصاحل للطعام‪ ،‬وهناك مواطن أو مياه يستخرجون منها ملح البواتسيوم كالبحر امليت‪،‬‬
‫فإنه يستخرج منه أمالح البواتسيوم‪ ،‬وتنوع إىل أنواع‪ ،‬وهناك حبريات صغريه جتمع فيها املياه‬
‫وترتك للشمس لتبخرها‪ ،‬ويتجمع امللح املوجود فيؤخذ‪ ،‬ويصنع منه عدة أنواع من األمالح‬
‫املعدنية‪ ،‬فهذه يقولون‪ :‬هي لواجدها ما دامت على وجه األرض‪.‬‬
‫أما املعادن اليت حتتاج إىل كلفة وعمل فبعض العلماء يقفل الباب‪ ،‬ويقول‪ :‬هي ملن وجدها‪.‬‬
‫حكم زكاة املعادن‬
‫من وجد املعادن وعثر عليها فإنه يستطيع أن يصنعها ويستفيد منها‪ ،‬قالوا‪ :‬إن استطاع فله‬
‫ذلك‪ ،‬وكيف يزكي ما حيصل عليه؟ قالوا‪ :‬الركاز فيه اخلمس قليله أو كثريه‪ ،‬ويف املعادن كذلك‬
‫اخلمس‪ ،‬وبعضهم يقول‪ :‬فيه العشر‪ ،‬مبعىن أنه يعامل معاملة الغنائم ومعاملة الركاز فيؤخذ منه‬
‫اخلمس‪.‬‬
‫وهناك من يقول‪ :‬ربع العشر‪.‬‬
‫أما اخلمس فقياساً على الركاز مع وجود الفارق؛ ألن هذا حيتاج إىل عمل‪ ،‬ومن يقول‪ :‬العشر‬
‫فقياساً على ما تنبته األرض من احلبوب والنبات والثمار‪ :‬فإن فيه العشر‪ ،‬ومن قال‪ :‬فيه ربع‬
‫العشر قياساً على زكاة الذهب والفضة‪ ،‬فإن كان ذهباً وفضةً وأخذ منه ما يؤخذ من الذهب‬
‫والفضة فيكون ماالً زكوايً‪ ،‬واجلمهور على أنه مال زكوي‪.‬‬
‫ويقولون‪ :‬ال يشرتط للحصول عليه وتزكيته حوالن احلول وال بلوغ النصاب‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫واآلخرون كاحلنابلة ومن وافقهم واملالكية يقولون‪ :‬يشرتط فيه النصاب‪ ،‬وليس املراد ابلنصاب‬
‫يف كل دفعة حيصل عليها‪ ،‬كأن يكون اكتشفه اليوم وبدأ يعمل ويصفي فوجد ربع نصاب‪،‬‬
‫فاحتفظ به‪ ،‬مث عمل غداً وأخذ ربع نصاب‪ ،‬مث بعد شهرين أو ثالثة اكتمل عنده النصاب‪،‬‬
‫فحينئذ يزكي يف احلال وال ينتظر احلول‪.‬‬
‫مث بعد اكتمال النصاب يزكي كل ما حصل عليه يومياً‪ ،‬وال ينتظر نصاابً للجديد الذي جاء‬
‫بعد اكتمال النصاب األول‪ ،‬فإن استمر العمل فعلى هذا احلال‪ ،‬وإن انقطع العمل أو انقطع‬
‫النيل منه‪ :‬فإن كان االنقطاع لعذر ممن وجده كمرض أو سفر أو عجز عن النفقة‪ ،‬وطال‬
‫انقطاع العمل فإنه يستأنف من جديد‪ ،‬وإن تركه وجاء غريه فإنه يبتدئ ويستأنف من‬
‫جديد‪ ،‬وإن كان االنقطاع لعدم وجود املعدن لكونه ليس متصالً كبحرية أو جبل‪ ،‬وإمنا هو‬
‫أجزاء يف أماكن خمتلفة‪ ،‬فإذا انقطع نيل املعدن لعدم وجوده يف منطقة العمل واستمر يفتش‬
‫وكان انقطاعه قريباً‪ ،‬فإن هذا االنقطاع ال يقطع حكم الزكاة على ما كان سابقاً‪ ،‬وإن طال‬
‫االنقطاع وأصبح كأنه وجد معدانً من جديد بعد زمن طويل وعمل طويل‪ ،‬فحينئذ يستأنف‬
‫النصاب ويبدأ حيسب من جديد كما لو كان قد وجده اآلن‪.‬‬
‫اإلمام مالك رمحه هللا يقول‪ :‬األمور العامة اليت ترجع إىل األمة ال ميلكها واجدها وميثل‬
‫ابلنفط وابلقار ويقول‪ :‬إن استخراجها حيتاج إىل نفقات كبرية‪ ،‬وإن عائداهتا لرتجع لألمة‬
‫أبمجعها‪ ،‬ولألمة فيها نصيب‪ ،‬وهنا يقول‪ :‬إن ويل األمر يضع يده عليها‪ ،‬وهو الذي‬
‫يستخرجها‪ ،‬ومصرفها هي املصارف العامة للدولة‪ ،‬كمصرف الفيء الذي يغاير الغنيمة يف‬
‫ول َولِ ِذي الْ ُق ْرََب}‬
‫اَّلل َعلَى رسولِِه ِمن أ َْه ِل الْ ُقرى فَلِلَّ ِه ولِ َّلرس ِ‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َُ‬ ‫{ما أَفَاءَ َُّ‬
‫مصرفه‪ ،‬فالفيء‪َ :‬‬
‫[احلشر‪ ، ] 7:‬فهنا يكون مصرف هذا املعدن العام الذي تتعلق به مصاحل األمة لويل األمر‬
‫ينفقه يف املصاحل العامة‪.‬‬
‫واملصاحل العامة يف الدولة هي اليت توضع ِلا امليزانيات‪ ،‬فهناك من املصاحل العامة‪ :‬التعليم‪،‬‬
‫ومتوين اجليش‪ ،‬والصحة‪ ،‬والطرق‪ ،‬والربيد وكل ما تلتزم الدولة إبقامته ملصلحة العامة مجيعاً‪،‬‬
‫وال يؤخذ عليه زكاة؛ ألن ويل األمر أو املسئولني جيمعون املال من األفراد كزكوات أو ضرائب‪،‬‬
‫يفرضوهنا يف حالة احلاجة أو غري ذلك‪ ،‬وتتكدس عندهم هذه األموال‪ ،‬فال يؤخذ عليهم فيها‬
‫زكاة؛ ألهنم امتلكوها للمصاحل العامة‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫إذاً‪ :‬ال أنخذ منهم لنرد عليهم‪ ،‬فهذه الفكرة العامة عما يتعلق أبمور املعادن‪.‬‬
‫املعدن الذي تتعلق به الزكاة‬
‫ما هو املعدن الذي تتعلق به الزكاة؟ الشافعي رمحه هللا قصره على الذهب والفضة‪.‬‬
‫وأبو حنيفة رمحه هللا جعله كل ما يذاب ويطبع ويكون سبائك‪ ،‬وكذلك املالكية واحلنابلة‬
‫عمموا كل معدن يف األرض من غري جنسها وله قيمة‪ ،‬وأدخلوا يف ذلك كل املعادن حىت‬
‫الكحل‪ ،‬والكربيت‪ ،‬واملضرة‪ ،‬واملضرة‪ :‬تربة محراء تكون يف بعض األماكن تؤخذ ويصبغ هبا‬
‫الثياب‪ ،‬وشاهدانها إىل عهد قريب ابملدينة يطلى هبا اخلشب يف السقوف حىت ال أتتيها‬
‫دودة األرض اليت تسمى األرضة؛ ألن طعمها مر فال تعيش فيها الدودة اليت تفسد‬
‫األخشاب‪ ،‬وعمر رضي هللا تعاىل عنه ملا رأى على عبد الرمحن بن عوف رضي هللا عنه ثوابً‬
‫أمحر‪ ،‬قال‪ :‬أتصبغ ابلزعفران؟ قال‪ :‬اي أمري املؤمنني هذا ليس بورس وال زعفران إنه املضرة‪،‬‬
‫قال‪ :‬إنكم رهط يقتدى بكم‪ ،‬أي‪ :‬فرياه جاهل فيقول ابن عوف يصبغ ابلزعفران؛ ألنه ال‬
‫يفرق بني الزعفران وبني املضرة‪.‬‬
‫ومن هنا نعلم أن على السادة أو موضع القيادة واالقتداء أن يراعوا ما يقلدهم فيه العامة‪،‬‬
‫فيتحرزون مما فيه شبهة؛ خمافة أن يقع العامة فيما هو حمرم بناءً على ما يتقلده هؤالء الناس‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬يهمنا نوعية ما يسمى معدانً عند األئمة األربعة رمحهم هللا‪ :‬وهذا جممل ما ميكن أن‬
‫يقال يف موضوع املعادن وما يزكى منها وما ال يزكى‪.‬‬
‫زكاة مزارع الدواجن وشركات األمساك وحنوها‬
‫وحنب أن ننبه على بعض األشياء وهي‪ :‬يف خصوص عروض التجارة‪ ،‬أنه قد جتدون يف‬
‫بعض املؤلفات احلديثة‪ :‬أهنا مل تكن موجودة من قبل ال يف العصر النبوي الشريف وال يف‬
‫عصر اخللفاء وال فيما بعدهم‪ ،‬وإمنا استجدت يف العصور املتأخرة‪.‬‬
‫وأقول قبل أن نناقش أقواِلم‪ :‬إن كل ما يستجد أو كل ما استجد اليوم يف عصر احلضارة‬
‫واملدنية وما استجد من أنواع االستثمار ليس جبديد على اإلسالم‪ ،‬بل يوجد له أصل ونظري‪،‬‬
‫واملتحفظ من املتأخرين ال خيرج عما كان قدميا ويرد املستحداثت إىل نظائرها اليت كانت من‬
‫قبل‪ ،‬والبعض الذي يريد أن يربز رمبا أغفل ذلك‪ ،‬وحاول أن جيتهد فيلحقها ابلزكاة‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫ومن ذلك جند من يقول‪ :‬إن هنالك أموراً استثمارية مل تكن على عهد النيب صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وهي تغل على أصحاهبا النماء والغلة الوفرية‪ ،‬فيجب أن جنعل فيها زكاة‪ ،‬وميثلون مثالً‬
‫مبزارع الدواجن‪ ،‬يقولون‪ :‬إهنا تغل على أصحاهبا من البيض ومن حلوم الدجاج والسماد ومن‬
‫الشيء الكثري‪ ،‬وكذلك شركات صيد األمساك‪ ،‬ألهنا تستثمر فتحصل الشيء الكثري ابآلالف‬
‫واملاليني‪ ،‬خاصةً اآلالت املستحدثة كالبواخر أو السفن‪.‬‬
‫وهناك أيضاً‪ :‬ما يتعلق مبعادن البحر أو غري ذلك‪ ،‬وهناك العمارات الشاهقة كناطحات‬
‫السحاب تستثمر ابملاليني‪ ،‬ويقولون‪ :‬جيب أن جنعل يف أعياهنا الزكاة‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬إن من يقول بذلك يفوته األصل األساسي إذا قال‪ :‬إننا نزكي البيض والدجاج‬
‫والسمك‪ ،‬وهل هناك نصاب للبيض ابلعدد أو ابلكيل؟ هل هناك نصاب للدجاج ابلوزن أم‬
‫ابحلبة؟ وكذلك السمك‪.‬‬
‫وإذا قلنا على قوِلم بزكاهتا فهل نعطي املسكني طبق بيض أو طبقني؟ ماذا يصنع هبا؟! إن‬
‫ادخرها فسدت‪ ،‬وإن سلقها مل يقدر على أن أيكلها! فسيضيع حقه فيها‪ ،‬وكذلك اللحوم‬
‫واألمساك‪.‬‬
‫فهذه األنواع من األموال املستحدثة ِلا نظائرها يف اخلضروات‪ ،‬وكذلك فاألمساك موجودة يف‬
‫زمن النيب صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وكذلك اللؤلؤ يستخرج من البحر‪ ،‬والعنرب يستخرج من‬
‫البحر‪ ،‬كل ذلك كان معلوماً وما سن فيه رسول هللا زكاة‪.‬‬
‫وإذا أرجعناه إىل القواعد األساسية وقلنا‪ :‬هذا الذي استخرج اللؤلؤ واصطاد السمك وجاء‬
‫ابلعنرب وأقام مزرعة الدواجن‪ ،‬إنه يبيع ويدخل عليه من مثنها‪ ،‬فيكون ذلك (من طيبات ما‬
‫كسبتم) ‪ ،‬فأمثان هذه املنتجات احلديثة على رأيه سيكون كسباً ومناءً يدخل يف ملكه ويف‬
‫خزينته‪ ،‬فإذا حال عليه احلول زكاه‪ ،‬كما أنه ال تزكى اخلضروات ولكن تزكى قيمتها إذا حال‬
‫عليها احلول‪ ،‬فنقول‪ :‬كذلك‪ ،‬صاحب البيض والدجاج وصاحب السمك وصاحب العنرب‬
‫وصاحب اللؤلؤ‪ ،‬إذا اجتمع عنده بعد نفقته نصاب وحال عليه احلول زكى‪ ،‬فيزكي قيمة ما‬
‫حصل عليه من تلك األشياء اليت ال أصل للزكاة يف أعياهنا‪.‬‬
‫أما قيمتها فكما تقدم لنا‪ :‬لو أنه استثمر الرتاب لكان عليه من قيمته الزكاة‪ ،‬وابهلل تعاىل‬
‫التوفيق‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫كتاب الزكاة ‪ -‬ابب صدقة الفطر‬
‫فرض هللا زكاة الفطر طهرة للصائم وطعمة للمساكني‪ ،‬وقد حدد الشرع مقدارها وحمل‬
‫وجوهبا‪ ،‬وأشار إىل ما ميثله أداؤها من صور التكافل االجتماعي اليت ندب إليها الشرع وحض‬
‫عليها‪.‬‬
‫أمهية صدقة الفطر‬
‫يقول املؤلف‪ :‬عن ابن عمر رضي هللا عنهما قال‪( :‬فرض رسول هللا صلى هللا عليه وسلم زكاة‬
‫الفطر صاعاً من متر أو صاعاً من شعري على العبد واحلر والذكر واألنثى والصغري والكبري من‬
‫املسلمني‪ ،‬وأمر هبا أن تؤدى قبل خروج الناس إىل الصالة) متفق عليه‪.‬‬
‫ولـ ابن عدي والدارقطين إبسناد ضعيف‪( :‬أغنوهم عن الطواف يف هذا اليوم) ‪.‬‬
‫زكاة الفطر طهرة للصائم‬
‫بعدما أهنى املؤلف رمحه هللا تعاىل بيان زكاة األموال أبجناسها املتفق عليه واملختلف فيه جاء‬
‫إىل هذا الباب العام الشامل‪ ،‬وهو‪ :‬زكاة الفطرة‪ ،‬ويقال ِلا أيضاً‪ :‬زكاة الفطرة‪ ،‬فعلى أهنا زكاة‬
‫الفطر ‪-‬أي‪ :‬الفطر من رمضان‪ -‬حينما يفطر الصائمون خيرجون هذه الزكاة كما بني صلى‬
‫هللا عليه وسلم الغرض منها من جانبني‪ :‬طهرة للصائم‪ ،‬وكما يقول بعض العلماء‪ :‬زكاة الفطر‬
‫ابلنسبة إىل الصوم كسجديت السهو‪ ،‬فسجدات السهو جترب ما كان من نقص أو خلل يف‬
‫الصالة ابلزايدة أو النقص‪ ،‬وصدقة الفطر جترب أيضاً ما كان من الصائم من خلل يف صومه‪،‬‬
‫فهناك بعض األمور اليت يغفل عنها الصائم‪ :‬كلمة بلسانه‪ ،‬أو نظرة بعينه‪ ،‬أو حركة بيده أو‬
‫حنو ذلك‪.‬‬
‫يقول جابر رضي هللا تعاىل عنه‪( :‬ال يتم صوم الصائم حىت تصوم جوارحه) ‪ ،‬وكذلك احلديث‬
‫اآلخر‪( :‬من مل يدع قول الزور والعمل به‪ ،‬فليس هلل حاجة يف أن يدع طعامه وشرابه) ‪.‬‬
‫كذلك جاء يف احلديث‪( :‬الصوم جنة ما مل خيرقها‪ ،‬قالوا‪ :‬مب خيرقها اي رسول هللا؟ قال‪:‬‬
‫بكذب أو بسباب) أو كما قال صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬والصائم أو املسلم ليس معصوماً‪ ،‬فقد‬
‫يقع منه بعض تلك األشياء اليت ال تبطل الصوم‪ ،‬ليست أبكل وال شرب وال وطء‪ ،‬فصومه‬
‫صحيح‪ ،‬ولكنه جمروح‪ ،‬فتأيت زكاة الفطر وتعاجل تلك اجلراح اليت وقعت على صومه يف هنار‬
‫رمضان‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫صدقة الفطر طعمة للمساكني‬
‫واجلانب الثاين‪ :‬طعمة للمساكني يف يوم العيد كما سيأيت (أغنوهم عن الطواف يف هذا‬
‫اليوم)‪.‬‬
‫هذا معىن زكاة الفطر‪ :‬أي الفطر من رمضان‪.‬‬
‫ض} [فاطر‪ ]1:‬أي‪:‬‬ ‫السمو ِ‬
‫ات َواأل َْر ِ‬ ‫ومسيت زكاة الفطرة‪ ،‬والفطرة‪ :‬اخللقة ْ ِ ِ ِ ِ‬
‫{احلَ ْم ُد ََّّلل فَاطر َّ َ َ‬
‫خالقها‪ ،‬وقال تعاىل‪{ :‬فِطْرةَ َِّ َّ‬
‫اَّلل ال ِيت فَطََر الن َ‬
‫َّاس َعلَْيـ َها} [الروم‪ ]30:‬أي‪ :‬خلقهم جبلة‬ ‫َ‬
‫عليها‪ ،‬وفطرة اإلنسان مبعىن‪ :‬صدقة عن بدنه وخلقته يف جسمه‪ ،‬ويؤيد هذا أيضاً احلديث‬
‫اآلخر‪( :‬على كل سالمى كل يوم تطلع فيه الشمس صدقة‪ ،‬وأمر مبعروف صدقة‪ ،‬وهني عن‬
‫منكر صدقة‪ ،‬وتعني الرجل على دابته صدقة‪ ،‬وأن تلقى أخاك بوجه طلق صدقة‪ ،‬وجيزئ عن‬
‫هذا كله ركعتان من الضحى) ‪.‬‬
‫فالرسول صلى هللا عليه وسلم جعل على اإلنسان يف أعضائه وحركاته صدقة لكل عضو‬
‫يتحرك‪ ،‬ولعل هذا يف مفهوم العصر احلاضر من عوامل الصيانة‪ ،‬فهذا اجلسم فيه ثالمثائة‬
‫وستون مفصالً‪ ،‬من فقار الظهر إىل أانمل اليد إىل حركة الفك إىل األسنان‪.‬‬
‫إىل غري ذلك‪ ،‬وكل عضو يتحرك حيتاج إىل صيانة‪ ،‬فتكون الصدقة هي عوامل الصيانة جلسم‬
‫اإلنسان‪ ،‬وهي شكر هلل سبحانه وتعاىل على سالمى من بدنه بعد أداء فريضة الصوم‪.‬‬
‫وسواء مسيت صدقة الفطر أو مسيت صدقة الفطرة‪ ،‬إال أن بعض العلماء علق تسميتها صدقة‬
‫الفطر حكماً يف وقت وجوهبا‪ ،‬ألن معىن صدقة الفطر‪ ،‬أي‪ :‬الفطر من رمضان يف آخر يوم‬
‫يفطر فيه اإلنسان‪ ،‬وذلك عند غروب الشمس‪ ،‬فقال‪ :‬جتب بغروب الشمس من ليلة العيد‪.‬‬
‫واآلخرون يقولون‪ :‬جتب بطلوع فجر يوم العيد‪ ،‬أي‪ :‬فاخلالف يف مدة الليل فقط من غروب‬
‫الشمس إىل طلوع الفجر‪ ،‬هذا حمل اخلالف‪ ،‬ويرتتب على هذا اخلالف أمر بسيط‪ ،‬وهو‪ :‬أن‬
‫من قال بغروب الشمس لو ولد مولود بعد الغروب‪ ،‬أو مات ميت بعد الغروب فمن قال‬
‫بغروب الشمس قال‪ :‬إهنا وجبت عليه‪ ،‬ومن قال بطلوع الفجر قال‪ :‬ال جتب عليه؛ ألنه مل‬
‫يدرك الفجر حياً‪.‬‬
‫املهم أن نتيجة اخلالف نتيجة بسيطة وخفيفة وعلى القول أبن زكاة الفطر تكون متعلقة‬
‫بصوم رمضان‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫وجاءت بعض اآلاثر تفيد أن الصوم معلق بني السماء واألرض بزكاة الفطر‪ ،‬وعلى أهنا زكاة‬
‫الفطرة تكون شكراً هلل على سالمة البدن‪.‬‬
‫فرضية صدقة الفطر‬
‫وبدأ املؤلف رمحه هللا حبديث عبد هللا بن عمر رضي هللا عنهما بقوله‪ :‬فرض رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً وذكر األشياء الثالثة‪ :‬التمر والزبيب والشعري‪.‬‬
‫احلبل احلجر مبعىن‪ :‬حز فيه‬
‫عند قوله‪( :‬فرض رسول هللا) الفرض‪ :‬مبعىن القطع‪ ،‬تقول‪ :‬فرض ُ‬
‫ومل يفصله‪ ،‬ومنه الفرائض‪ :‬القطعة من الواجبات‪ ،‬وتقول فرض‪ ،‬مبعىن ألزم‪ ،‬أي‪ :‬أوجب‪ ،‬فهنا‬
‫اجلمهور يقولون‪ :‬فرض مبعىن أوجب وألزم‪ ،‬كما تقول‪ :‬فريضة الصالة‪ ،‬فريضة الصيام‪ ،‬فريضة‬
‫احلج؛ مبعىن الوجوب‪ ،‬فمعناه‪ :‬أوجب صدقة الفطر صاعاً‪ ،‬ويكون يف هذا احلديث احلكمان‪:‬‬
‫وجوب زكاة الفطر ومقدارها‪.‬‬
‫وبعضهم يقول‪ :‬فرض مبعىن‪ :‬قدر‪ ،‬ومنه الفرائض‪ :‬أي بيان قدر استحقاق الورثة‪ ،‬كل حبسبه‬
‫وبفرضه‪ ،‬ولكن اجلمهور على أن فرض مبعىن أوجب وألزم‪ ،‬والفرق بني القولني‪ :‬هو احلكم‬
‫على زكاة الفطر‪ ،‬أهي فريضة واجبة كزكاة املال والصلوات اخلمس أم هي ليست واجبة؟ فمن‬
‫محل كلمة (فرض) على ظاهرها‪ ،‬وقال‪ :‬معناها أوجب‪ ،‬تكون فريضة‪ ،‬واألئمة الثالثة مالك‬
‫والشافعي وأمحد ِلم أقوال يف هذه الناحية‪ ،‬والقول املشهور‪ :‬أن زكاة الفطر واجبة‪ ،‬وواجبة‬
‫على رأي اجلمهور مع اختالفهم يف اصطالح الوجوب‪ ،‬فاألئمة الثالثة‪ :‬مالك والشافعي‬
‫وأمحد أن الفرض والواجب والركن سواء إال يف احلج‪ ،‬فالفرض فيه شيء والواجب شيء آخر‪،‬‬
‫فالواجب فيه جيرب بدم أو حنوه‪ ،‬والفرض أو الركن ال جيرب ببديل عنه‪ ،‬بل البد من اإلتيان به‪.‬‬
‫واألحناف عندهم فرق عام بني الفرض وبني الواجب يف الصالة ويف الزكاة ويف الصيام ويف‬
‫احلج‪ ،‬يقولون‪ :‬هذا فرض‪ ،‬ويقولون‪ :‬هذا واجب‪.‬‬
‫يف كل التكاليف‪ ،‬وهذا اصطالح خاص ابألحناف‪ ،‬وعندهم أن الفرض‪ :‬ما ثبت بدليل‬
‫قطعي الثبوت‪ ،‬فالثابت خبرب قطعي وهو نص القرآن الكرمي أو السنة املتواترة يعترب فرضاً‪ ،‬وما‬
‫ثبت أبحاديث اآلحاد فهذا واجب‪ ،‬أي أنه دون الفرض بشيء‪.‬‬
‫فاألحناف يقولون‪ :‬صدقة الفطر واجبة‪ ،‬أي‪ :‬ليست فريضة‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫واملالكية ِلم أقوال وتفصيالت يف ذلك‪ ،‬وأما احلنابلة فالثابت عندهم أهنا فرض مبعىن‬
‫الوجوب واللزوم‪ ،‬وكذلك املالكية املشهور عنهم هذا‪.‬‬
‫وبعضهم يورد بعض النصوص فيقول‪ :‬زكاة الفطر وجبت أوالً‪ ،‬مث جاءت زكاة األموال اثنياً‪،‬‬
‫فبعضهم قال‪ :‬زكاة األموال نسخت وجوب زكاة الفطر‪ ،‬ولكن حديث ابن عمر رضي هللا‬
‫تعاىل عنهما يف هذا الباب‪ :‬حممول على اإلجياب ومل يرد له انسخ‪ ،‬وعلى هذا ميكن أن نقول‬
‫بعد مضي هذا الزمان‪ ،‬وبعد طول الوقت وعمل املسلمني‪ :‬الكل يتفق على أهنا واجبة‪ ،‬سواء‬
‫قلنا‪ :‬وجوب األحناف‪ ،‬أو قلنا‪ :‬وجوب اجلمهور‪ ،‬فهي واجبة ومن مل يؤدها فهو آمث‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬حديث ابن عمر رضي هللا تعاىل عنهما هو األصل يف هذا الباب‪ ،‬ويبحث يف ابب زكاة‬
‫الفطر‪ :‬فرضيتها ‪-‬وقد تقدم شيء من ذلك‪ -‬ومقدارها‪ ،‬وعلى من جتب‪ ،‬وعمن جتب‪ ،‬وملن‬
‫جتب‪ ،‬ومىت وجوهبا‪ ،‬ومما جتب أيضاً‪ ،‬هذه النقاط الرئيسية ‪-‬سبع نقاط يف هذا الباب‪-‬‬
‫يتناوِلا الفقهاء‪ ،‬ويبينون ما جاء فيها على اتفاق أو على اختالف‪.‬‬
‫فقول ابن عمر رضي هللا تعاىل عنه‪( :‬فرض رسول هللا) أسند الفرض هنا ‪-‬وهو اإلجياب‬
‫واإللزام‪ -‬لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬إذاً‪ :‬يف ظاهر هذا اللفظ أن الفرضية والتشريع‬
‫واإلجياب من رسول هللا‪ ،‬وإذا شرع أو فرض رسول هللا يكون هذا من عند رسول هللا‪ ،‬وهو‬
‫بلغ عن هللا‪ ،‬ألنه ال شك أنه ال ينطق عن اِلوى‪ ،‬ولكن هل له حق الفرض والتشريع والندب‬
‫أم ليس له حق؟ له حق يف ذلك‪ ،‬وهللا سبحانه وتعاىل أمر بطاعته صلوات هللا وسالمه عليه‬
‫اَّللَ} [النساء‪. ]80:‬‬
‫اع َّ‬
‫ول فَـ َق ْد أَطَ َ‬ ‫{م ْن يُ ِط ِع َّ‬
‫الر ُس َ‬ ‫فقال‪َ :‬‬
‫وقد جاءت نصوص فيها تشاريع منها عن هللا‪ ،‬ومنها عن رسول هللا متممة ملا جاء عن هللا‪،‬‬
‫فمثالً‪ :‬جاء عن هللا سبحانه وتعاىل يف احملرمات من النساء األمهات والبنات واألخوات‪.‬‬
‫ني} [النساء‪ ] 23:‬بصرف النظر عن النقاش يف األختني ابلعقد أو‬ ‫ُختَ ْ ِ‬
‫ني األ ْ‬
‫{وأَ ْن َْجت َمعُوا بَْ َ‬
‫َ‬
‫األ ختني مبلك اليمني‪ ،‬فاجلمع بني األختني حمرم بكتاب هللا‪ ،‬مث جاء عنه صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪( :‬هنى أن تنكح املرأة مع خالتها‪ ،‬أو مع عمتها) ‪ ،‬فالقرآن جاء ابلنهي عن اجلمع بني‬
‫األختني‪ ،‬وهنا السنة زادت‪ :‬اجلمع بني املرأة وخالتها‪ ،‬واملرأة وعمتها‪ ،‬إذاً‪ :‬هذه احملرمات يف‬
‫السنة زائدة عما جاء يف القرآن‪ ،‬إذاً‪ :‬له صلى هللا عليه وسلم أن يفرض وأن يوجب وأن‬

‫‪64‬‬
‫يندب إىل الفعل؛ ألن له حق التشريع؛ وألنه ال ينطق عن اِلوى؛ وألنه إمنا هو وحي {إِ ْن‬
‫وحى} [النجم‪. ]4:‬‬ ‫ُه َو إَِّال َو ْح ٌي يُ َ‬
‫وعلى هذا سواء قلنا‪ :‬إن األصل يف الفرض كان من هللا أو من الرسول صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫الصالةَ َوآتُوا َّ‬
‫الزَكاةَ} [البقرة‪ ]43:‬مث يف بعث معاذ إىل اليمن صرح‬ ‫يموا َّ‬ ‫وهناك العموم‪ِ :‬‬
‫{وأَق ُ‬
‫َ‬
‫الرسول صلى هللا عليه وسلم أن هللا الذي فرض الزكاة‪ ،‬واملقصود هنا يف بعث معاذ زكاة‬
‫األموال‪( :‬إنك ستأيت قوماً أهل كتاب‪ ،‬فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن ال إله إال هللا‬
‫وأن حممداً رسول هللا‪ ،‬فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن هللا قد افرتض عليهم صدقة يف‬
‫أمواِلم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) ‪ ،‬قد يقول قائل‪ :‬هذا يف زكاة األموال‪ ،‬وهذا‬
‫الذي قام به معاذ وأبو موسى األشعري يف اليمن‪ ،‬لكن يقال‪ :‬عموم الزكاة يف أمواِلم تشمل‬
‫زكاة الفطر أيضاً ألهنا زكاة‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬املشروعية أساساً كانت من هللا سبحانه وتعاىل‪ ،‬والرسول مبلغ عن هللا‪ ،‬سواء ذكر لنا‬
‫املصدر من هللا أو منه صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فهو ال ينطق عن اِلوى‪ ،‬إن هو إال وحي‬
‫يوحى‪.‬‬
‫مث جاء ابملقدار وابألصناف اليت خترج منها زكاة الفطر‪ ،‬وإذا أراد إنسان أن يتكلم يف النواحي‬
‫اجلانبية أو االجتماعية أو األخوية جيد أن هذا التشريع الكرمي قوى عوامل ارتباط املسلم‬
‫أبخيه؛ ألنه العامل الذي جيمع بني طبقات اجملتمع على اختالف أنواعها‪ ،‬فنجد التعميم‬
‫والشمول‪ :‬الذكر واألنثى واحلر والعبد والصغري‪ ،‬الكبري‪ ،‬فهي أمشل من زكاة املال يف من جتب‬
‫عليه‪ ،‬فكل مسلم عليه زكاة الفطر‪ ،‬ولو كان رقيقاً ال ميلك شيئاً‪ ،‬فسيده يدفع عنه‪ ،‬والصغري‬
‫ال ميلك شيئاً فوليه يدفع عنه‪.‬‬
‫وقد يقول بعض القائلني‪ :‬هي طهرة للصائم‪ ،‬والصغري ليس عليه صيام‪ ،‬فلماذا خنرج الزكاة‬
‫عنه؟! وقد نقل عن بعض السلف أنه ال زكاة عليه‪ ،‬ولكن نقول‪ :‬ليست املهمة طهرة للصائم‬
‫الفعلي فقط‪ ،‬بل إهنا لعامة أفراد األمة املسلمة‪ :‬الذكر‪ ،‬األنثى‪ ،‬احلر‪ ،‬العبد‪ ،‬الصغري‪ ،‬الكبري؛‬
‫لشمول العطاء‪.‬‬
‫وإذا نظران إىل اجملتمع الفقري والغين‪ ،‬األغنياء فيهم كبار وفيهم أطفال صغار‪ ،‬والفقراء فيهم‬
‫كبار وفيهم أطفال صغار‪ ،‬فتكون زكاة الصغار من األغنياء تقابل الصغار من الفقراء‪،‬‬

‫‪65‬‬
‫ويكون الشمول عاماً‪ ،‬وسيأيت احلديث عنه إن شاء هللا عند قوله‪( :‬أغنوهم عن الطواف يف‬
‫هذا اليوم) ‪.‬‬
‫الصاع النبوي واملسائل املتعلقة به‬
‫أما قوله صلى هللا عليه وسلم‪( :‬صاعاً) فالصاع وحدة مكيال‪ ،‬وهو املأثور عن النيب صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وكان يف زمن النيب صلوات هللا وسالمه عليه املد‪ ،‬وهو ربع الصاع‪ ،‬والصاع هو‬
‫املكيال العام‪ ،‬وما كان يوجد أنواع من املكاييل يف زمن النيب صلى هللا عليه وسلم إال هذين‬
‫النوعني‪ :‬الصاع واملد النبويني‪.‬‬
‫والصاع كان معروفاً ومتداوالً‪ ،‬وال حاجة إىل بيان الرسول لكميته أو مقداره‪ ،‬وكما يقول‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪( :‬ما بني بييت ومنربي روضة من رايض اجلنة) ‪ ،‬فال حاجة إىل التعريف‬
‫أبن يقول‪ :‬بييت يقع يف الشرق‪ ،‬املنرب يقع يف الغرب‪ ،‬طوله كذا وعرضه كذا ال حاجة ِلذا؛‬
‫ألهنا معروف ة ابلتواجد واملشاهدة واحلس‪ ،‬فكذلك الصاع‪ ،‬ولكننا مع طول الزمن وتغري‬
‫األحوال أصبحنا اآلن قد ال جند الصاع‪ ،‬وقد ال يعرفه إنسان‪ ،‬فكيف نعرف هذا؟ واجب‬
‫على كل مسلم‪ ،‬أو كل حارة‪ ،‬أو كل بيت كبري أن يوجد الصاع لديهم؛ ألنه على هذا الصاع‬
‫تتوقف أحكام كثرية‪ :‬اإلطعام يف الكفارة‪ ،‬الفطر يف رمضان‪ ،‬أنصبة الزكاة‪ ،‬مخسة أوسق‪،‬‬
‫والوسق ستون صاعاً‪ ،‬فإذا فقد الصاع كيف نعرف أنصبة احلبوب والتمور؟ وكيف نعرف‬
‫مقدار صدقة الفطر؟ وكيف نعرف اإلطعام يف الكفارات على من كفارته اإلطعام؟ فهذه أمور‬
‫شرعية يكلف هبا اإلنسان ويضطر إليها‪ ،‬فالبد أن يكون عند كل شخص صاع‪ ،‬وخاصة يف‬
‫املدينة؛ ألهنا األصل الذي يرجع إليها عامة بالد املسلمني‪ ،‬الذي يف األندلس‪ ،‬والذي يف‬
‫أورواب أو يف أي جهة كانت‪ ،‬وأراد أن يطبق الشريعة اإلسالمية فيما جيب عليه من انحية‬
‫املقدار ابملكيال‪ ،‬فإنه سيأيت ويسأل أهل املدينة‪ :‬ما هو الصاع عندكم اي أهل املدينة؟ وِلذا‬
‫ملا اختلف أبو يوسف مع مالك رمحهما هللا‪ ،‬وذلك حني جاء أبو يوسف من العراق إىل‬
‫املدينة وسأل عن الصاع؛ ألن املدينة هي األصل يف ذلك‪ ،‬فاملكيال مكيال املدينة‪ ،‬والوزن‬
‫وزن مكة‪ ،‬وِلذا ذكران سابقاً ضرورة توحيد املكيال وامليزان يف الدولة‪ ،‬سواء اتفقوا على الصاع‬
‫أو على الرطل أو على األوقية ‪-‬أي‪ :‬الكيلو‪ -‬جيب أن تكون املوازين واملكاييل موحدة يف‬
‫الدولة‪ ،‬حىت ال خيتلف الناس‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫وملا جاء أبو يوسف إىل املدينة وكان مع هارون الرشيد سأل مالكاً‪ :‬كم الصاع عندكم؟ قال‪:‬‬
‫مخسة أرطال وثلث‪ ،‬أي‪ :‬ابلرطل العراقي‪.‬‬
‫قال‪ :‬لكنه عندان مثانية أرطال‪.‬‬
‫يعين‪ :‬هناك فرق زائد‪ ،‬وهو رطالن وثلثان زايدة‪ ،‬فبماذا أجابه مالك؟ طلب من احلاضرين أن‬
‫من كان عنده صاع يف بيته خيرج عليه زكاة الفطر فليأتنا به غداً‪ ،‬ومن الغد أييت اآليت وخيرج‬
‫من حتت ردائه مكياالً ويقول‪ :‬حدثين أيب عن جدي أهنم كانوا خيرجون الزكاة به على عهد‬
‫رسول هللا‪ ،‬واجتمع عند مالك يف احللقة حنو مخسون صاعاً‪ ،‬وأبو يوسف حاضر وشاهد‪،‬‬
‫وما هناك اتفاق وال تواطؤ على أن نصنع صياعاً ونقدمها‪ ،‬فهي موجودة قبل الطلب‪ ،‬وهذا‬
‫أييت من ميني وهذا أييت من يسار‪ ،‬وهذا يروي عن أبيه عن جده عن جدته‪ ،‬فوجد أبو‬
‫يوسف األمر قطعياً‪ ،‬وهذا هو مدلول التواتر‪.‬‬
‫فيقول أبو يوسف‪ :‬فنظرت يف تلك الصيعان فوجدهتا متحدة‪.‬‬
‫يعين‪ :‬يف مقاس واحد‪ ،‬فأخذت واحدة منها ‪-‬ألن الواحد يغين عن اجلميع‪ -‬فذهبت إىل‬
‫السوق فعايرته بعدس املاش فإذا وزنه مخسة أرطال وثلث‪.‬‬
‫وملا رجع إىل العراق قال ِلم‪ :‬أتيتكم بعلم جديد‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وما هو؟! قال‪ :‬وجدت الصاع مخسة أرطال وثلث‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬خالفت شيخ القوم! يعين‪ :‬خالفت اإلمام أاب حنيفة رمحه هللا‪ ،‬فقال‪ :‬رأيت أمراً مل أجد‬
‫له مدفعاً‪.‬‬
‫وهذا هو العلم الضروري الذي يقول عنه علماء احلديث‪ :‬إن التواتر يفيد العلم خبالف‬
‫اآلحاد فإنه يفيد غلبة الظن‪ ،‬وغلبة الظن ميكن أن تنفيها‪ ،‬وميكن أن تشكك فيها‪ ،‬لكن علم‬
‫اليقني ال ميكن أن تدفعه عن نفسك‪ ،‬ألنه علم ضروري‪.‬‬
‫ومعىن (ضروري) ‪ :‬لو أردت أن تدفعه عن خميلتك مل تستطع‪ ،‬هذا رجل وتلك امرأة‪ ،‬ال‬
‫تستطيع أن تدفع عن ذاكرتك الفارق بني الرجل واملرأة؛ ألهنا حقيقة واقعية‪.‬‬
‫وهنا‪ :‬الصاع كان معلوماً زمن النيب صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وِلذا ذكره دون أن يتعرض إىل‬
‫مقداره‪ ،‬وظل الصاع موجوداً دائماً إىل عهد بين أمية فجعلوا صاعاً للسوق‪ ،‬يسع ثالثة آصع‬

‫‪67‬‬
‫من صاع النيب صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬والصاع النبوي أربعة أمداد‪ ،‬وهؤالء جاءوا مبد يعادل‬
‫ثالثة صيعان‪ ،‬يعين‪ :‬اثين عشر مداً ابملد النبوي‪ ،‬فاختلفت املكاييل‪.‬‬
‫مث ال زال الناس يتوارثون الصاع يف املدينة إىل عهد قريب ال يزيد عن عشر سنوات‪ ،‬وكان هو‬
‫وحدة املكيال يف السوق يف البيع والشراء‪ ،‬إىل أن دخل تالعب يف التمور يف األسواق مع‬
‫احلجاج‪ ،‬فجاء األمر إببدال الكيل إىل الوزن‪ ،‬وأصبح الوزن بوحدة الكيلوجرام هي املقدار‬
‫الذي يتبايع عليه الناس‪ ،‬سواء كان املبيع األصل فيه الكيل كجميع احلبوب والتمور‪ ،‬أو كان‬
‫األصل فيه إمنا هو الوزن فهو على طريقه‪.‬‬
‫وجاء عن العز بن عبد السالم رمحه هللا أنه قال‪ :‬جيب على األمة اتباع ويل أمرها يف أربعة‬
‫أمور‪ :‬وحدة الكيل‪ ،‬ووحدة الوزن‪ ،‬ونوعية النقد‪ ،‬وأمر احلرب إعالانً أو هدنة‪ :‬فإذا اختار ويل‬
‫أمر أمة نوعاً من املكيال سواء الصاع النبوي‪ ،‬أو مكياالً يسع صاعني أو ثالثة‪ ،‬أو غري‬
‫ذلك‪ ،‬وجب اتباعه‪ ،‬وكذلك وحدة الوزن من أوقية أو رطل أو كيلو فعلى األمة أن متتثل‬
‫بذلك لتحقيق وحدة الوزن يف الدولة‪ ،‬وهكذا أصبحت كل دولة ِلا وحدة مكيال تتعامل به‬
‫يف األسواق‪ ،‬وهذا ال غبار عليه‪ ،‬يبيع الناس كيف شاءوا‪ ،‬إذا قيل‪ :‬مقدار هذا الوعاء يسع‬
‫مخسة آصع بعشرة رايل‪ ،‬وجيء بنصفه وبربعه واعتربت هذه وحدة مكاييل جتزأ ابألنصبة‬
‫نصف وثلث وربع‪.‬‬
‫إخل فال مانع م ن ذلك؛ ألهنا معاوضة سلعة مبال‪ ،‬ولكن إذا جئنا إىل احلكم الشرعي فالبد‬
‫من تعيني املقدار الذي عينه الشارع‪ ،‬والشارع عني ابلصاع‪.‬‬
‫وِلذا حنث اإلخوة على أن يكون الصاع موجوداً يف بيوهتم‪ ،‬بل إن أهل املدينة إىل العهد‬
‫القريب ‪-‬كما قلنا‪ -‬كانوا جيعلون الصاع يف بيوهتم‪ ،‬وعلى موضع الدقيق أو الرب أو األرز‬
‫يغرفون به التماساً لربكة دعوة النيب صلى هللا عليه وسلم‪( :‬اللهم ابرك لنا يف صاعنا ويف مدان)‬
‫فكان بدالً من أن أييت إبانء يغرف به أو يغرف بيده‪ ،‬أييت ابملد ويغرف به من الدقيق إىل‬
‫الوعاء الذي يريد أن يصنع فيه الطعام‪ ،‬ويقول‪ :‬اللهم ابرك لنا يف مدان‪ ،‬فاغرتافه ابملد يلتمس‬
‫بركة دعوة رسول هللا‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫وملا أوقف التعامل ابلصاع واملد تغافل الناس عن ذلك‪ ،‬وأصبحوا يتعاملون ابلوزن على وحدة‬
‫الكيل كوحدة مئوية ‪-‬يعين‪ :‬ألف جرام‪ -‬وأصبحت وحدة عاملية يتعامل هبا العامل كله أو‬
‫يعرفها العامل كله‪.‬‬
‫والوقت احلاضر ابلبحث عن أجرام الصيعان اليت كانت موجودة‪ ،‬ووجود بعض النوادر عن‬
‫بعض من حيتفظ هبا‪ ،‬قد يقع بعض االختالف‪ ،‬وهناك جلنة املواصفات يف الرايض عملت‬
‫مسحاً جلميع أطراف اململكة‪ ،‬وأخذت مناذج مما يوجد من الصيعان‪ ،‬فتقاربت؛ ألن أصل‬
‫التقدير التقارب‪.‬‬
‫فالصاع أربعة أمداد‪ ،‬واملد ملء كفني متوسطتني إلنسان متوسط‪ ،‬وطبعاً ال ميكن أن تتعادل‬
‫مجيع احلفنات ابجلرام‪ ،‬أنت بنفسك لو حفنت مرة وجعلتها يف كفة‪ ،‬مث حفنت مرة أخرى يف‬
‫كفة اثنية ستختلف‪ ،‬إذاً‪ :‬املسألة تقريبية‪ ،‬والصيعان اليت وجدوها يف مناطق اململكة متقاربة‪،‬‬
‫ختتلف يف مائة جرام يف مخسني يف مائة ومخسني يف مائتني جرام‪ ،‬يعين‪ :‬حفنة يد ال أقل وال‬
‫أكثر‪.‬‬
‫فمما وجدانه ابلتجارب أن مكيلة الصاع نوعان‪ :‬مكيلة متأل إىل احلافة وتزيد فيها التسنيم‬
‫الذي فوق حافة الصاع‪ ،‬كالشكل اِلرمي الذي يكون على حافة الصاع من فوق‪ ،‬فتبدأ‬
‫قاعدته بسعة فتحة الصاع وينتهي إىل أعلى على شكل اِلرم‪ ،‬هذه اليت فوق فتحة الصاع‬
‫على شكل اِلرم ختتلف ابختالف فتحات الصيعان‪ ،‬فهناك صاع يكون طويالً وفتحته قطرها‬
‫(‪ 5‬سم) ‪ ،‬فطبعاً قاعدة هرمها ستكون صغرية‪ ،‬ومساحة املثلث ‪-‬كما يقولون‪ -‬نصف‬
‫القاعدة يف االرتفاع‪ ،‬فإذا كانت فتحة الصاع كبرية سيكون التسنيم فوق الفتحة كبرياً بال‬
‫شك‪ ،‬إذاً‪ :‬العربة هنا يف التعبري أو يف التعيري أو يف املعايرة تكون على فتحة الصاع بدون تلك‬
‫الزايدة‪ ،‬وبتجربة ذلك‪ :‬أنواع احلبوب خيتلف وزهنا‪ ،‬كما يقول الفقهاء‪ :‬فيوجد فرق بني التمر‬
‫وبني احلمص‪ ،‬فليس احلمص يف رزانة وثقل التمر‪ ،‬ألن التمر أثقل‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬هناك أمور تقديرية؛ ألن بعض احلبوب أرزن وأثقل من بعض‪ ،‬وكذلك بعض احلبوب‬
‫يكون مرصوفاً‪ ،‬وبعض احلبوب يكون متجافياً ‪-‬فيه فجوات وفراغ‪ -‬فعندما تكيل صاعاً من‬
‫الشعري وتكيل صاعاً من األرز‪ ،‬هل فجوات األرز بعضها مع بعض تكون مثل فجوات‬

‫‪69‬‬
‫حبات الشعري‪ ،‬أم أن حبات الشعري فيها فراغ أكثر؟ فيها فراغ أكثر‪ ،‬إذاً‪ :‬يرجع إىل الرزانة‬
‫وإىل تالصق احلبات اليت تكيلها‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬املسألة تقريبية‪ ،‬ولكن لو كان التعيري ابملاء‪ ،‬فاملاء وحدة تتفق يف املقياس ويف الوزن‪ ،‬أي‪:‬‬
‫املقياس التعكييب وهو اجلرم‪ ،‬والوزن ابجلرام‪ ،‬فبالتجارب وجدان أن الصاع الذي يتفق مع غلبة‬
‫الظن ابلصاع النبوي الذي كان يتعامل به يف املدينة املنورة‪ ،‬وكان امللك عبد العزيز رمحه هللا‬
‫إذا صنع الصاع من اخلشب‪ ،‬ختم عليه إذا عوير ابلصاع املعرتف به عند العلماء‪ ،‬ولذلك‬
‫كانوا يقولون‪ :‬الصاع املختوم‪.‬‬
‫يعين‪ :‬الذي ختم خبتم الدولة أبنه مطابق للصاع الشرعي‪.‬‬
‫اآلن وجدت صيعان من احلديد‪ ،‬ومن الزنك‪ ،‬ومن النحاس‪ ،‬فبتعيري تلك الصيعان اليت‬
‫صنعت جديداً على الصيعان اليت وجدت قدمياً خمتومة‪ ،‬وجدان سعة الصاع ابملاء ثالمثائة‬
‫وثالثة آالف جرام‪ ،‬فإذا كنا وجدان أي مكيال‪( :‬جلن) ‪ ،‬أو علبة حليب‪ ،‬أو علبة مسن‪،‬‬
‫وكان سعتها ابملاء ثالثة كيلو فهذا أول وزن الصاع‪ ،‬فثالثة كيلو أحياانً يكون فيها زايدة مائة‬
‫جرام أو مخسني جراماً على ما أظن‪ ،‬وهذا أمر تقرييب‪ ،‬ومساحتها ابلعدس اثنني كيلو‬
‫وستمائة جرام‪ ،‬فإذا وجدان أي ظرف‪ ،‬أو أي وعاء حيمل من املاء ثالثة كيلو ومائة جرام على‬
‫التحديد فهذا هو الصاع‪ ،‬ثالثة كيلو ومخسني جراماً‪ ،‬ثالثة كيلو تنقص شيئاً بسيطاً‪ ،‬فال‬
‫يضر‪ ،‬واحلق املعتدل‪ :‬ثالثة كيلو من املاء‪ ،‬وإذا كان حيمل من العدس خاصة ‪-‬ألهنم يقولون‬
‫العدس اجملروش يتالصق وال‬
‫األصناف اليت ُخترج منها زكاة الفطر‬
‫وعلى هذا إذا عرفنا مقدار الصاع فإن مكيلة الصاع من األصناف اليت مسيت يف احلديث هو‬
‫خمرج زكاة الفطر‪ ،‬واحلديث جاء فيه متر‪ ،‬وجاء فيه زبيب‪ ،‬وجاء فيه طعام‪ ،‬وجاء فيه شعري‪،‬‬
‫وجاء فيه أقط‪ ،‬وجاء فيه دقيق‪ ،‬وجاء سويق‪ ،‬كل هذه املسميات خيرج منها زكاة الفطر‪.‬‬
‫مث جند بعض الناس يتكلم على الدقيق أو األقط‪ ،‬ومنهم من يقول‪ :‬إن إخراج األقط يكون‬
‫إذا كانت الزكاة يف البادية؛ ألن أهل البادية هم الذين يستفيدون منه دون أهل احلاضرة‪،‬‬
‫ويالحظ عند الدقيق أن يكون الكيل زائداً عن احلب؛ ألن احلب إذا طُحن يزيد يف مكياله‪،‬‬

‫‪70‬‬
‫وإن كان ال يزيد يف وزنه‪ ،‬لكن يف املكيال قد خيتلف‪ ،‬فإذ كان سيكيل دقيقاً فإنه يزيد يف‬
‫املكيال ما يعوض الفرق بني احلب املضغوط وبني الدقيق املنفوش‪.‬‬
‫وهللا تعاىل أعلم‪.‬‬
‫إخراج الزكاة من غالب قوت البلد‬
‫وهنا مسألة‪ :‬هذا احلديث نص على أعيان بذاهتا‪ ،‬إذا مل توجد هذه األصناف أو وجد غريها‬
‫معها‪ ،‬فهل يتعني إخراج زكاة الفطر من املسميات‪ :‬متر‪ ،‬زبيب‪ ،‬شعري‪ ،‬قمح‪ ،‬أقط‪ ،‬دقيق‪،‬‬
‫سويق‪ ،‬أو جيوز إخراجها مما أيكل منه الناس؟ جند الفقهاء يقولون‪ :‬جتب من غالب قوت‬
‫البلد‪ ،‬فإذا وجد صنف جديد مل يكن موجوداً من قبل‪ ،‬فمثالً‪ :‬اآلن وجد األرز والذرة‬
‫والدخن‪ ،‬وكل هذه مطعومات‪ ،‬فإذا مل توجد تلك األصناف املسماة يف احلديث فهل جتزئ‬
‫من هذه األصناف اجلديدة أم ال؟ اجلمهور على إجزائها؛ ألهنا تتفق مع األصناف األخرى‬
‫يف أهنا قوت املواطنني‪ ،‬وعلى هذا جيوز إخراج األرز‪ ،‬بل هو اآلن أكثر وأغلب أنواع األقوات‬
‫املوجودة‪ ،‬وجيوز إخراج الذرة إذا كانت تستعمل يف اخلبز‪ ،‬وكذلك الدخن‪ ،‬وكل ما استجد‬
‫من حبوب تكون قواتً للناس ومن غالب قوت البلد‪.‬‬
‫إخراج الزكاة من غالب قوت املزكي‬
‫وبعضهم يقول‪ :‬من غالب قوت املزكي‪ ،‬فإذا كان املزكي أيكل ُدخناً‪ ،‬ويوجد الرب والشعري‬
‫والذرة والتمر‪ ،‬فهل يتعني أن خيرج مما أيكل منه؟ قالوا‪ :‬إن كان أيكل من األدىن وترك األعلى‬
‫شحاً وخبالً مل جيزئه إال األعلى‪ ،‬وإن كان أيكل ذلك لنزوله يف البلد فهو كسائر الناس‪ ،‬فإنه‬
‫جيزئ ذلك‪.‬‬
‫وابن عمر رضي هللا تعاىل عنه كان يتحرى إخراجها من التمر؛ ألنه عنده أفضل من غريه‪،‬‬
‫وهو يف الواقع طعام جاهز ال حيتاج إىل طحن كالرب‪ ،‬وال إىل عجن وخبز كاحلبوب‪ ،‬وكما‬
‫قيل‪( :‬هو طعام املسا فر‪ ،‬وفاكهة املقيم‪ ،‬أو‪ :‬طعام الفقري وفاكهة الغين) فالتمر طعام جاهز‪،‬‬
‫وِلذا كان ابن عمر رضي هللا تعاىل عنهما يزكي كل سنة ابلتمر إال سنة واحدة أعوز فيها‬
‫التمر فأخرج الرب‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫حديث أيب سعيد اخلدري يف زكاة الفطر‬
‫قال املؤلف‪ :‬وعن أيب سعيد اخلدري رضي هللا عنه قال‪( :‬كنا نعطيها يف زمن النيب صلى هللا‬
‫عليه وسلم صاعاً من طعام أو صاعاً من متر أو صاعاً من شعري أو صاعاً من زبيب) ‪.‬‬
‫قول أيب سعيد رضي هللا عنه‪( :‬كنا نعطيها يف زمن النيب صلى هللا عليه وسلم) ‪ ،‬أي‪ :‬وهذا‬
‫هو زمن التشريع؛ ألنه إبشراف وتوجيه من النيب صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وال يصلح آخر األمة‬
‫إال مبا صلح عليه أوِلا‪ ،‬وهذا من ميزة املدينة وسكاهنا زمن النيب صلى هللا عليه وسلم ومن‬
‫بعده؛ ألهنم أيخذون مباشرة عن رسول هللا‪ ،‬أو يعملون ويقرهم على عملهم رسول هللا‪ ،‬مث‬
‫بعد ذلك خلفاؤه الراشدون‪ ،‬مث بعد ذلك التابعون ِلم إبحسان‪ ،‬وهلم جرا‪.‬‬
‫فهنا يذكر الشعري مع احلنطة (الطعام) ‪ ،‬وأنه خيرج منها صاع‪ ،‬إذاً‪ :‬هذا العمل خيالف ما رآه‬
‫معاوية‪ ،‬ولكن ال ينبغي أن نكثر القول على معاوية؛ ألنه مل يقل‪( :‬مسعت رسول هللا)‬
‫فيتعارض مع قول أيب سعيد أو مع قول غريه‪ ،‬وإمنا قال‪( :‬أرى) ‪ ،‬وما دامت القضية قضية‬
‫رأي‪ ،‬والرأي متبادل إما قبلتموه أو رفضتموه‪ ،‬فإذا وجدمت غريه أفضل فأنتم ترفضونه‪ ،‬وقد‬
‫وجدان هذا األثر عن أيب سعيد‪ ،‬وأثبت أنه كان يعطي زمن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫صاعاً من الرب الذي يرى معاوية أن نصف الصاع منه جيزئ‪ ،‬وهذا كاف يف رد الرأي الذي‬
‫رآه معاوية مبا ذكره غريه مرفوعاً إىل النيب صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫قال املؤلف‪ :‬ويف رواية‪( :‬أو صاعاً من أقط) قال أبو سعيد‪ :‬أما أان فال أزال أخرجه كما كنت‬
‫أخرجه يف زمن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫ولـ أيب داود‪ :‬ال أخرجه أبداً إال صاعاً ‪.‬‬
‫هذا األسلوب له داللته البالغية‪ ،‬يقول‪( :‬أما أان) ‪ ،‬أي‪ :‬أان أحتدث عن نفسي‪ ،‬إذاً‪ :‬هناك‬
‫من يتحدث عن غريه‪.‬‬
‫أما قوله‪( :‬أما أان) فهو رد على رأي معاوية ألنه يقول‪ :‬أان أرى أن نصف صاع من الرب‬
‫يكفي‪ ،‬أي‪ :‬فأنت ترى نصف صاع من الرب يكفي (أما أان فال أزال أخرجها كما كنت‬
‫أخرجها زمن النيب صاعاً) ‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫إذاً‪ :‬نعلم من هذا األسلوب (أما أان) أبن هناك رأايً مقابل رأي‪ ،‬وهذا املقابل مغاير‪ ،‬إذاً‪:‬‬
‫تقابل رأي برأي‪ ،‬وأحد الرأيني جمرد رأي واجتهاد‪ ،‬والرأي الثاين مبين على العمل الذي كان‬
‫يف عهد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫فإذاً‪ :‬ال شك أننا أنخذ برأي أيب سعيد اخلدري‪ ،‬وهذا مل يعد رأايً‪ ،‬بل أصبح قوالً ينقله وخرباً‬
‫يسوقه إلينا‪ ،‬كأنه يقول‪ :‬ال أتخذوا برأي معاوية؛ ألننا كنا زمن النيب صلى هللا عليه وسلم‬
‫خنرج صاعاً‪ ،‬لكن أتدابً مع ويل األمر معاوية فال ينبغي أن جيابه هبذه الصيغة وال هبذا‬
‫األسلوب‪ ،‬ومن أساليب األمر ابملعروف والنهي عن املنكر أن يكون ابحلكمة واملوعظة‬
‫احلسنة‪.‬‬
‫فكأنه قال‪ :‬اي معاوية! لك رأيك‪ ،‬واي من أخذمت برأيه لكم آراؤكم‪ ،‬ولكن أان يف خاصة‬
‫نفسي‪ ،‬وال أملك إلزاماً عليكم‪ ،‬وال أطاوعكم فيما أعتقد خالفه‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬هذا املنهج يعطينا طريقة املغايرة‪ ،‬وطريقة اإلنكار أبدب وحبكمة دون جتريح أو جماهبة‪،‬‬
‫فقال‪ :‬أما أان‪ ،‬أي‪ :‬يف حد نفسي‪ ،‬والذي يريد أن أيخذ بكالمي فهو حر‪ ،‬والذي يريد أن‬
‫أيخذ برأي معاوية فهو حر‪.‬‬
‫حديث ابن عباس يف زكاة الفطر‬
‫قال املؤلف‪ :‬وعن ابن عباس رضي هللا عنهما قال‪( :‬فرض رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكني‪ ،‬فمن أداها قبل الصالة فهي‬
‫زكاة مقبولة‪ ،‬ومن أداها بعد الصالة فهي صدقة من الصدقات) رواه أبو داود وابن ماجة‪،‬‬
‫وصححه احلاكم ‪.‬‬
‫زكاة الفطر جترب الصوم الناقص‬
‫حديث ابن عباس هذا رضي هللا تعاىل عنه قال‪( :‬فرض رسول هللا صلى هللا عليه وسلم زكاة‬
‫الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث‪ ،‬وطعمة للمساكني) ‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬صدقة الفطر ِلا مهمة مزدوجة‪ ،‬مهمة للمعطي ومهمة لآلخذ‪ ،‬فمهمتها مع من يعطيها‬
‫سالمة صومه‪ ،‬وجرب ما عساه قد طرأ عليه من نقص‪ ،‬وقد جاء عنه صلى هللا عليه وسلم أنه‬
‫قال‪( :‬الصوم جنة ما مل خيرقه‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬مباذا اي رسول هللا؟ قال‪ :‬بسباب أو فسوق أو شتام أو حنو ذلك) ‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫إذاً‪ :‬الصوم قد يكون درعاً سابغاً سليماً وافراً‪ ،‬وقد يكون خمرقاً حيتاج إىل ترقيع وتلحيم‪ ،‬فتأيت‬
‫زكاة الفطر وتلحم هذه الثقوب أو تصلح هذا الفساد الذي طرأ على الصوم من لغو أو‬
‫رفث‪.‬‬
‫فالزكاة من حيث هي عبادة جترب النقص‪ ،‬وتكفر املعصية؛ ألن ما خرق جنة الصوم إال‬
‫بعصيان‪ ،‬والعصيان حيتاج إىل تكفري‪ ،‬فكانت زكاة الفطر تكفر أخطاء الصائم‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬
‫ات} [هود‪. ]114:‬‬ ‫السيِئَ ِ‬
‫ْب َّ‬ ‫{إِ َّن ْ ِ ِ‬
‫احلَ َسنَات يُ ْذه ْ َ‬
‫وهكذا كما جاء عنه صلى هللا عليه وسلم فيما يتعلق بربط انفلة الصالة مع فريضتها‪،‬‬
‫وكذلك انفلة الصوم مع فريضتها‪ ،‬وأييت هذا العامل اجلديد وهو زكاة الفطر مع الصوم وهي‬
‫من غري نوع الصيام‪ ،‬فنافلة الصالة كما جاء عنه صلى هللا عليه وسلم أنه حينما حياسب‬
‫العبد على الفريضة يف الصالة ويوجد فيها نقص أو خلل‪ ،‬يقول املوىل سبحانه للمالئكة‪:‬‬
‫(انظروا هل لعبدي من نوافل؟ فيقولون‪ :‬بلى اي رب‪.‬‬
‫فيقول‪ :‬اجربوا فريضته من نوافله) ‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬هذه النافلة جربت نقص الفريضة من نوعها‪ ،‬وجاء خرب عن ابن عباس رضي هللا تعاىل‬
‫عنهما فيه‪( :‬وكذلك الصيام) ‪ ،‬يعين أنه ينظر يف فريضة الصيام‪ ،‬فإذا كان فيها نقص سأل‬
‫املوىل سبحانه املالئكة ‪-‬وهو أعلم بذلك‪ :-‬هل له من انفلة يف الصوم؟ فيقولون‪ :‬بلى‪.‬‬
‫فيقول‪ :‬اجربوا فريضته من نوافله‪.‬‬
‫وسيأيت يف انفلة الصدقة املقارنة بينها وبني الفريضة‪ ،‬ويف احلديث‪( :‬ما تقرب إيل عبدي‬
‫بشيء أحب إيل مما افرتضته عليه‪ ،‬وال يزال عبدي يتقرب إيل ابلنوافل حىت أحبه) وسيأيت‬
‫التنبيه عليه يف ابب صدقة التطوع‪.‬‬
‫كيف تكون الفطرة طهرة للصغري وليس عليه صوم؟‬
‫قوله‪( :‬طهرة للصائم) يفيد أن زكاة الفطر تعمل ملعطيها أعظم نعمة عليه‪ ،‬وهي‪ :‬أهنا جترب‬
‫صومه مما يكون قد أمل به‪.‬‬
‫وهنا يقول بعض العلماء‪ :‬صدقة الفطر طهرة للصائم‪ ،‬وأول حديث مسعناه يف هذا الباب‪:‬‬
‫(فرض رسول هللا صلى هللا عليه وسلم زكاة الفطر على الصغري والكبري‪ ،‬والذكر واألنثى)‬
‫فالصغري ليس عليه صيام؛ ويف احلديث اآلخر‪( :‬طهرة للصائم) فماذا تفعل زكاة الصغري؟‬

‫‪74‬‬
‫وملاذا نزكي عن الصغري زكاة الفطر؟ فأجابوا عن ذلك أبنه كما يوجد صغري غين مل يصم‪،‬‬
‫هناك صغري فقري مل يصم حيتاج إىل أن يطعم‪ ،‬وجعل هللا سبحانه وتعاىل على ويل هذا الصغري‬
‫القادر وطعمة للصغري احملتاج الذي يعوزه الطعام‪ ،‬وحنن قلنا‪ :‬تسمى زكاة الفطر الذي هو‬
‫ضد الصوم‪ ،‬وتسمى زكاة الفطرة اليت هي اخللقة‪ ،‬فعلى تسميتها زكاة الفطرة فالصغري مفطور‬
‫وخملوق‪ ،‬عليه شكر النعمة يف سالمته‪ ،‬ويف وجوده‪ ،‬والذي يؤدي على الصغري وليه‪ ،‬إذاً‪ :‬ال‬
‫اعرتاض على ذلك‪ ،‬وتعميم التشريع يكون على الصغري والكبري‪ ،‬وهو له حظ أيضاً يف قوله‪:‬‬
‫(طهرة للصائم) ‪.‬‬
‫فإذا زكى ويل الصغري عن صغريه‪ ،‬وصغريه ليس يصوم وال حيتاج إىل طهرة صومه‪ ،‬فيعود أثر‬
‫هذه الفطرة وهذه الزكاة على ويل الصغري‪ ،‬وهللا تعاىل أعلم‪.‬‬
‫عالقة الزكاة بتطهري الغين والفقري‬
‫قال‪( :‬طهرة للصائم وطعمة للمساكني) أي‪ :‬مقابل ما حيصل عليه املتصدق حيصل عليه‬
‫اآلخذ املتصدق عليه‪ ،‬فتكون الفائدة مشرتكة بينهما‪ ،‬وطعمة املسكني يف ذلك اليوم هي ما‬
‫جاء بقوله‪( :‬اغنوهم) ‪.‬‬
‫وإذا نظران إىل القرآن الكرمي جند هذه االزدواجية يف مهمة الزكاة العامة وهي زكاة األموال؛‬
‫{خ ْذ ِم ْن أ َْم َواِلِِ ْم‬
‫ألن املوىل سبحانه وتعاىل يقول لرسوله الكرمي صلوات هللا وسالمه عليه‪ُ :‬‬
‫ص َدقَةً} [التوبة‪ ] 103:‬فاسم الصدقة مشل زكاة املال‪ ،‬ومشل صدقة الفطر‪ ،‬فماذا تصنع هذه‬ ‫َ‬
‫الزكاة؟ قال‪{ :‬تُطَ ِه ُرُه ْم َوتـَُزكِي ِه ْم} [التوبة‪ ]103:‬قالوا‪(( :‬تطهرهم وتزكيهم)) البعض يقول‪:‬‬
‫تطهر األغنياء يف نفوسهم‪ ،‬وتزكي أمواِلم‪ ،‬واآلخرون يقولون‪ :‬لكل واحدة من هاتني‬
‫الكلمتني جهة‪ ،‬فعندما ينظر الفقري إىل مال الغين‪ ،‬ويذهب الغين وجيين ماله‪ ،‬وليكن مثالً مما‬
‫تنبت األرض‪ ،‬وذهب صاحب البستان وجذ خنله‪ ،‬وأخذ التمر إىل خمازنه‪ ،‬واملسكني يتطلع‬
‫إليه ومل جيد مترة واحدة منه‪ ،‬فالذي حيدث يف نفس املسكني بغريزته وطبيعته أنه حيسده وحيقد‬
‫عليه؛ ألنه يرى بعينه ما يتمتع به هذا الغين مما أعطاه هللا‪ ،‬وهو وهللا ما أنبت النخلة حينما‬
‫غرسها‪ ،‬وال أ طلع طلعها حينما أطلعت‪ ،‬وال أنضج مثرهتا حينما طابت‪ ،‬وال أتى بثمارها‬
‫ومترها‪ ،‬بل هللا الذي صنع له كل ذلك وهو انئم يف بيته‪ ،‬انئم يف ظل النخلة وهي تعمل كل‬
‫ذلك إبرادة هللا‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫فهذا الفقري الذي جبانبك هو عبد هلل مثلك‪ ،‬صلته ابهلل كصلتك‪ ،‬وهو خملوق مثلك متاماً‬
‫فلماذا ال تفيض عليه مما أفاض هللا عليك؟! فإمساك الغين ملاله وعدم إخراج زكاته‪ ،‬والفقري‬
‫يرى بعينه‪ ،‬جيعله حيقد عليه وحيسده؛ وِلذا جاءت املبادئ اإلسالمية تلزم الغين أن يشرك‬
‫الفقري يف ماله بقدر معلوم وهو الزكاة‪.‬‬
‫فهنا الفقري إذا تعطلت فريضة الزكاة حقد على الغين‪ ،‬وتدنس الغين حبق الفقري الذي يف‬
‫ذمته‪ ،‬وأصبحت اجلرمية يف اجلانبني‪ ،‬فتأيت الزكاة وتصلح هذا الفقري وتطهره من حقده‬
‫وحسده ونظرته وعداوته إىل الغين؛ ألنه أخذ حقه وافياً‪ ،‬فيقف ويقول‪ :‬اللهم ابرك له فيما‬
‫أعطيته‪ ،‬اللهم ابرك له يف مثره ويف ماله‪.‬‬
‫((وتزكيهم)) أي‪ :‬وتنمي أموال هؤالء‪ ،‬ولقد علمنا ‪-‬اي إخوان‪ -‬وجاءتنا األخبار الصادقة من‬
‫كتاب هللا ومن سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يف الصدقة بعينها‪ ،‬بل جند القرآن الكرمي‬
‫يذكر قصة أصحاب اجلنة‪{ :‬إِ َّان بـلَو َانهم َكما بـلَو َان أَصحاب ْ ِ‬
‫َّها‬ ‫اجلَنَّة إِ ْذ أَقْ َس ُموا لَيَ ْ‬
‫ص ِرُمنـ َ‬ ‫َ ْ ُْ َ َ ْ ْ َ َ‬
‫ف ِم ْن‬ ‫اف َعلَْيـ َها طَائِ ٌ‬
‫ني * َوال يَ ْستَـثْـنُو َن} [القلم‪ ]18-17:‬ماذا كانت النتيجة؟ {فَطَ َ‬ ‫صبِح َ‬
‫م ِ‬
‫ُ ْ‬
‫ني * أ َِن ا ْغ ُدوا َعلَى َح ْرثِ ُك ْم إِ ْن ُكنتُ ْم‬ ‫الص ِرِمي * فَـتَـنَادوا م ِ‬
‫صبِح َ‬ ‫َ ُْ‬ ‫ت َك َّ‬‫َصبَ َح ْ‬ ‫ِ‬
‫ك َو ُه ْم َانئ ُمو َن * فَأ ْ‬ ‫َربِ َ‬
‫ني}‬ ‫َّها الْيَـ ْوَم َعلَْي ُك ْم ِم ْسكِ ٌ‬ ‫ني * فَانطَلَ ُقوا َو ُه ْم يـَتَ َخافَـتُو َن * أَ ْن ال يَ ْد ُخلَنـ َ‬
‫ِ‬
‫صا ِرم َ‬ ‫َ‬
‫ف ِم ْن‬ ‫اف َعلَْيـ َها طَائِ ٌ‬ ‫[القلم‪ ]24-19:‬فهؤالء منعوا الصدقة‪ ،‬فماذا كانت النتيجة؟ {فَطَ َ‬
‫ضالُّو َن * بَ ْل َْحن ُن‬ ‫ك َو ُه ْم َانئِ ُمو َن} [القلم‪ ، ]19:‬إىل أن قال‪{ :‬فَـلَ َّما َرأ َْوَها قَالُوا إِ َّان لَ َ‬ ‫َربِ َ‬
‫ال أ َْو َسطُ ُه ْم أََملْ أَقُ ْل لَ ُك ْم لَ ْوال تُ َسبِ ُحو َن} [القلم‪. ]28-26:‬‬
‫ومو َن * قَ َ‬ ‫َْحم ُر ُ‬
‫وهناك يف السنة النبوية‪ :‬قصة الرجل الذي كان ميشي يف فالة من األرض فيسمع صواتً يف‬
‫السحاب‪( :‬اذهيب فأمطري يف مزرعة فالن) ‪ ،‬فتطلع إىل أن يرى من هو فالن الذي يسوق‬
‫هللا السحاب إىل مزرعته لتسقيها‪ ،‬وألي شيء؟ فيسري يف ظل السحابة‪ ،‬فإذا هبا أتيت إىل حرة‬
‫وإىل مكان متسع فتمطر‪ ،‬واملاء يتجمع ويتحول وميشي يف طريقه ويصب يف مزرعة فالن‪،‬‬
‫وفالن قائم حيول املاء مبسحاته يف األحواض‪ ،‬فقال له‪ :‬السالم عليك اي فالن‪.‬‬
‫نظر إليه فالن هذا فلم يعرفه‪ ،‬قال‪ :‬وكيف عرفت امسي وأان مل أعرفك؟! قال‪ :‬أخربين أوالً‬
‫ماذا تفعل يف مزرعتك هذه؟ قال‪ :‬وملاذا تسأل؟ قال‪ :‬مسعت صواتً يف السحاب‪.‬‬
‫وأخربه ابخلرب‪ ،‬قال‪ :‬فجئت حىت وصلت إليك وعرفت امسك من صوت السحاب‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫قال‪ :‬إن كان األمر كذلك فإين عندما أحصد أقسم الغلة ثالثة أقسام‪ ،‬قسم أحتفظ به ألرده‬
‫فيها‪ ،‬وقسم أدخره لنفسي وأهلي سنة‪ ،‬والقسم الثالث أتصدق به‪.‬‬
‫قال‪ :‬هبذا سقيت‪.‬‬
‫فهنا املسكني إذا مل أيخذ شيئاً فنار حقده يف قلبه حترق هذا املال؛ ألن فيه حقاً له‪ ،‬وإذا‬
‫أخذ حقه ابت ليله حيرس مال جاره؛ ألنه اطمأن أنه سيأتيه منه الرزق‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬هي طهرة للصائم وطعمة للمساكني‪ ،‬ومها متقابالن‪ ،‬وكذلك هناك‪{ :‬تُطَ ِه ُرُه ْم َوتـَُزكِي ِه ْم‬
‫ِهبَا} [التوبة‪. ]103:‬‬
‫وقت وجوب زكاة الفطر‬
‫قال‪( :‬فمن أداها قبل الصالة فهي زكاة مقبولة‪ ،‬ومن أداها بعد الصالة فهي صدقة من‬
‫الصدقات) ‪.‬‬
‫رواه أبو داود وابن ماجة وصححه احلاكم‪.‬‬
‫هذا القسم من احلديث أشكل على كثري من الناس‪ ،‬هي طعمة وهي طهرة‪ ،‬ومع ذلك قال‪:‬‬
‫(فمن أداها قبل صالة العيد فهي زكاة‪ ،‬ومن أداها بعد صالة العيد فهي صدقة من‬
‫الصدقات) فهذه صدقة واألخرى صدقة! لكن قال‪ :‬صدقة من الصدقات‪ ،‬يعين‪ :‬كمن‬
‫تصدق يف أي وقت كان وأبي شيء كان قليالً أو كثرياً‪ ،‬فإهنا خرجت عن خصوص فريضة‬
‫الزكاة إىل مطلق الصدقة‪ ،‬فكأن صاحبها متطوع هبا‪ ،‬ومعلوم أن هناك فرقاً بني صدقة الفرض‬
‫كما تقدمت اإلشارة إليه‪( :‬ما تقرب إيل عبدي بشيء أحب مما افرتضته عليه) وإذا كانت‬
‫خرجت عن حدود الفرض دخلت يف النوافل‪ ،‬وهي صدقة من الصدقات‪.‬‬
‫وهل تربأ ذمته من فرضية زكاة الفطر أم ال؟ البعض يقول‪ :‬نعم‪ ،‬ألنه أداها‪ ،‬ولكن أجرها ال‬
‫حيتسب له كغريه الذي أداها يف فرتة الفرضية‪ ،‬إمنا حتسب له صدقة من الصدقات اليت‬
‫حتسب احلسنة فيها بعشر أمثاِلا‪ ،‬أما كوهنا فريضة فال يعلم أجرها إال هللا‪.‬‬
‫وهل تسقط الفريضة أم ال؟ األكثرون على أهنا تسقط فريضة زكاة الفطر‪.‬‬
‫وبعض العلماء تباعد وقال‪ :‬زكاة الفطر مل تؤد وهي ابقية يف ذمته؛ ألن وقتها خرج‪ ،‬وال جيزئ‬
‫عنها صدقة من الصدقات‪ ،‬إذاً‪ :‬يرتك إخراجها؛ ألهنا صدقة من الصدقات إن شاء تصدق‬
‫وإن شاء أمسك! لكن األكثرين على أنه خيرجها‪ ،‬ولو أتخر يف إخراجها إىل ما بعد العيد‬

‫‪77‬‬
‫فهي دين يف ذمته وعليه أن خيرجها‪ ،‬مع أنه لن حيصل على األجر كما لو أداها قبل صالة‬
‫العيد يف وقتها وهللا تعاىل أعلم‪.‬‬
‫كتاب الزكاة ‪ -‬ابب صدقة التطوع‬
‫حديث‪( :‬سبعة يظلهم هللا يف ظله يوم ال ظل إال ظله) من أعظم املواعظ اليت حتث على‬
‫اخلري‪ ،‬وقد مشل هذا احلديث األمة من القاعدة األساسية إىل القمة العالية‪ ،‬فشمل جمموع‬
‫طبقات األمة‪ ،‬وقد بسطه العلماء ابلشرح‪ ،‬وبينوا فوائده وآاثره يف صالح األمة والفرد‪.‬‬

‫مقدمة ابب صدقة التطوع‬


‫يقول املؤلف رمحه هللا‪ :‬ابب صدقة التطوع ‪.‬‬
‫هذا الباب اجلديد يف صدقة التطوع‪ ،‬والذي قبله صدقة اإللزام‪ ،‬أي‪ :‬ليس فيها تطوع وال‬
‫اختيار‪ ،‬لكن هنا يتطوع هبا‪.‬‬
‫وقبل الكالم على هذا الباب ننظر يف معىن ومغزى هذا العنوان‪ :‬فاإلنسان من حيث هو‬
‫اث أَ ْك ًال لَ ًّما َوُِحتبُّو َن الْ َم َ‬
‫ال ُحبًّا َمجًّا}‬ ‫{و َأتْ ُكلُو َن َُّ‬
‫الرت َ‬ ‫يرغب يف املال‪ ،‬وحيرص على مجعه‪َ :‬‬
‫[الفجر‪ ] 20-19:‬فاإلنسان حريص شديد احلرص على الدأب يف مجع املال‪ ،‬فإن كان‬
‫خياف هللا حترى احلالل‪ ،‬وإال فال يبايل من أين أتى‪ ،‬فعلى أنه يتحرى احلالل وجيمع املال (لو‬
‫كان البن آدم وادايً من ذهب البتغى إليهما اثلثاً) ‪ ،‬فإذا ما حصل على املال وتوفر عنده‬
‫يكون شحيحاً به‪ ،‬يضن إبخراجه‪ ،‬فجاءت الفريضة يف زكاة املال وصدقة الفطر‪ ،‬وألزمته‬
‫رغماً عن شحه‪ ،‬فإذا أدى الواجب عليه برئت ذمته وطهر ماله‪ ،‬ولكن هل اإلنسان يقف‬
‫عند أدىن احلد؟ الواجب هو أدىن احلد يف بذل املال‪ ،‬لكن اإلنسان يسمو ويتعاطف مع‬
‫ِ‬
‫ضا َح َسنًا} [البقرة‪ ]245:‬؛ فهنا‬ ‫اَّللَ قَـ ْر ً‬
‫ض َّ‬ ‫أوامر املوىل سبحانه وتعاىل‪َ { :‬م ْن ذَا الَّذي يـُ ْق ِر ُ‬
‫أتيت صدقة التطوع ألهنا من دافع اإلنسان نفسه‪ ،‬أي‪ :‬من دافع إميانه ورغبته يف اخلري‪ ،‬وإيثاره‬
‫اآلخرة على الدنيا؛ ألنه يدفع هذه الصدقة متطوعاً‪.‬‬
‫فاألوىل أخرجها فريضة عليه‪( :‬فإن أداها طيبة هبا نفسه فبها ونعمت! وإال أخذانها وشطر‬
‫ماله‪ ،‬عزمة من عزمات ربنا) يعين‪ :‬خيرجها غصباً عنه‪ ،‬لكن يف صدقة التطوع ليس هناك جرب‬
‫عليه وال غصب له! هل هناك عقوبة على تركها وعدم فعلها؟ ال‪ ،‬لكن هناك الرغبة يف‬
‫األجر‪ ،‬وإيثار اآلخرة على الدنيا‪ ،‬والتعامل مع هللا سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫‪78‬‬
‫وقدمنا مراراً أبن قانون احلياة ميشي على مبدأ املعاوضة‪ :‬خذ وهات‪ ،‬مثن وسلعة‪ ،‬فتتبادل مع‬
‫غريك وتتعاون معه‪ ،‬أما الصدقة إذا أخرجتها فأين العوض عنها؟ قد يبلغ األمر ابإلنسان‬
‫السوي املؤمن ابهلل أنه خيفي صدقته على املسكني‪ ،‬بل خيفيها على نفسه كما سيأيت يف‬
‫حديث‪( :‬سبعة يظلهم هللا يف ظله يوم ال ظل إال ظله‪ :‬وذكر منهم‪ :‬رجل تصدق بصدقة‬
‫ات فَنِعِ َّما ِه َي َوإِ ْن‬
‫الص َدقَ ِ‬
‫فأخفاها حىت ال تعلم ميينه ما تنفق مشاله) وهناك اآلية‪{ :‬إِ ْن تُـْب ُدوا َّ‬
‫وها الْ ُف َقَراءَ فَـ ُه َو َخ ْريٌ لَ ُك ْم} [البقرة‪. ]271:‬‬
‫وها َوتـُ ْؤتُ َ‬
‫ُختْ ُف َ‬
‫صدقة التطوع دليل على صدق اإلميان‬
‫إذاً‪ :‬صدقة التطوع عنوان على أن املتصدق موقن ابألجر من هللا‪ ،‬وموقن ابلعوض عند هللا‪،‬‬
‫وعلى قانون املعاوضة املادية كذلك؛ ألنه يدفع التمر أو يدفع األرز وحيتسب األجر عند هللا‪:‬‬
‫ب َسلِي ٍم} [الشعراء‪ ]89-88:‬فإنه أيخذ‬ ‫اَّللَ بَِقلْ ٍ‬
‫ال َوال بـَنُو َن * إَِّال َم ْن أَتَى َّ‬
‫{يـَ ْوَم ال يـَنْـ َف ُع َم ٌ‬
‫العوض هناك‪ ،‬فهو رصيد مضمون ينفعه يوم يفر املرء من أخيه‪ ،‬وأمه أبيه‪ ،‬فيجده عند املوىل‬
‫سبحانه مضاعفاً كما قال صلى هللا عليه وسلم‪( :‬إن أحدكم ليتصدق ابلصدقة فتقع يف كف‬
‫الرمحن فينميها له كما ينمي أحدكم فلوه ‪-‬أي‪ :‬ولد الفرس‪ -‬حىت تكون مثل جبل أحد) ‪.‬‬
‫والصدقة والصدق مادهتما اللغوية واحدة‪( :‬صدقة‪ ،‬تصدق) ‪ ،‬واتء االفتعال هذه زائدة‪،‬‬
‫فالصدقة يف التطوع دليل صدق املسلم يف إميانه ابهلل؛ ألنه يدفع الثمن اآلن ويرتقب العوض‬
‫فيما بعد‪ ،‬وال ينتظر ممن أعطاه معاوضة‪ ،‬وال ينتظر من أحد جزاءً وال شكوراً‪{ :‬إَِّمنَا نُطْعِ ُم ُك ْم‬
‫شكورا} [اإلنسان‪ ]9:‬أي‪ :‬ولو جازيتموان فإىل أي حد‬ ‫ً‬ ‫اَّللِ ال نُِري ُد ِمنْ ُك ْم َجَزاءً وال‬
‫لَِو ْج ِه َّ‬
‫يكون اجلزاء منكم؟ عبد الرمحن بن عوف ملا جاءت جتارته ودقت طبوِلا‪ ،‬فجاء التجار‬
‫وقالوا‪ :‬نعطيك (‪ )%10‬زايدة يف الربح‪ ،‬فرفض! (‪ )%50‬فرفض‪ )%100( ،‬فرفض وقال‪:‬‬
‫أعطيت أكثر!! قالوا‪ :‬نعطيك الضعف ضعفني‪ ،‬قال‪ :‬أعطيت أكثر!! قالوا‪ :‬حنن جتار‬
‫املدينة‪ ،‬وليس يف املدينة من يعطيك أكثر من ذلك‪ ،‬فمن الذي أعطاك أكثر من ذلك؟ قال‪:‬‬
‫هللا أعطاين احلسنة بعشر أمثاِلا‪ ،‬أعطاين عشرة أمثال قيمتها‪ ،‬فالعري وما حتمل يف سبيل هللا!!‬
‫يد ِمْن ُك ْم َجَزاءً َوال ُش ُك ًورا} [اإلنسان‪ ]9:‬ألنكم ال تستطيعون أن جتازوان كما‬ ‫إذاً {ال نُِر ُ‬
‫جيازي هللا سبحانه‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫شرح حديث‪( :‬سبعة يظلهم هللا يف ظله)‬
‫قال املؤلف رمحه هللا‪ :‬عن أيب هريرة رضي هللا عنه عن النيب صلى هللا عليه وسلم قال‪( :‬سبعة‬
‫يظلهم هللا يف ظله يوم ال ظل إال ظله ‪-‬فذكر احلديث وفيه‪ :-‬ورجل تصدق بصدقة فأخفاها‬
‫حىت ال تعلم مشاله ما تنفق ميينه) متفق عليه‪.‬‬
‫تقدم التنبيه على منزلة الصدقة والتطوع هبا‪ ،‬وأن ذلك من منطلق اإلميان واليقني مبا عند هللا‪،‬‬
‫وأن املتصدق ينتظر العوض من هللا سبحانه‪ ،‬وال يرجو ممن يتصدق عليه جزاءً وال شكوراً‪،‬‬
‫يد ِمْن ُك ْم َجَزاءً َوال ُش ُكوراً}‬ ‫اَّللِ ال نُِر ُ‬
‫كما نوه بذلك سبحانه بقوله‪{ :‬إَِّمنَا نُطْعِ ُم ُك ْم لَِو ْج ِه َّ‬
‫ضاعِ َفهُ لَهُ}‬ ‫ِ‬
‫اَّللَ قَـ ْرضاً َح َسناً فَـيُ َ‬
‫ض َّ‬ ‫{م ْن َذا الَّذي يـُ ْق ِر ُ‬ ‫[اإلنسان‪ ]9:‬؛ ألنه تصدق لوجه هللا‪َ :‬‬
‫[البقرة‪ ، ] 245:‬وجاءت األحاديث متعددة يف أن الصدقة تعود على املتصدق أبشياء‬
‫عديدة‪ :‬منها ما تقدم يف زكاة الفطر أهنا‪( :‬طهرة للصائم) ‪ ،‬وكذلك ما جاء يف األحاديث‬
‫األخرى أن (صدقة السر تطفئ غضب الرب) ‪.‬‬
‫وجاءت أيضاً أحاديث أخرى حتث على الصدقة منها‪( :‬املرء يف ظل صدقته يوم القيامة) ‪،‬‬
‫واآلاثر يف هذا الباب كثرية‪.‬‬
‫منزلة هذا احلديث عند العلماء‬
‫وهذا احلديث الذي بدأ به املصنف يف هذا الباب يعترب من جوامع الكلم‪ ،‬ومن أمهات‬
‫األحاديث النبوية الشريفة‪ ،‬قال عنه ابن عبد الرب‪ :‬إنه أعظم حديث جاء يف احلث على عمل‬
‫اخلري‪ ،‬واملتأمل ِلذا احلديث يف أسلوبه‪ ،‬ويف موضوعه جيد أسلوبه مرتباً ترتيب النتائج على‬
‫أسباهبا‪ ،‬ومن نظر يف موضوعه جيده قد مشل األمة من القاعدة األساسية إىل القمة العالية‪،‬‬
‫فشمل جمموع طبقات األمة‪.‬‬
‫ف فيه‪ ،‬وقد‬ ‫ِ‬
‫(سبعة يظلهم هللا) ‪ :‬هذا اللفظ املتفق عليه‪ ،‬أما ابلنسبة إىل العدد فإنه مما قد أُل َ‬
‫ش ملن‬‫كتب فيه السخاوي والسيوطي رمحهما هللا‪ ،‬واطلعنا على رسالة بعنوان‪ُ :‬منِْي ُل البَ ِ‬
‫يظلهم هللا يف ظل العرش‪ ،‬للشيخ مائل عينني وهو متأخر‪.‬‬
‫ويقولون‪ :‬إن السبعة هي هناية العدد‪ ،‬وما بعدها مكرر ِلا أو ألجزائها‪ ،‬وعين شراح هذا‬
‫نص أبنه ممن يظلهم هللا حتت ظله‪ ،‬حىت أوصلوها إىل سبعني‬ ‫احلديث بكل من جاء فيه ٌ‬

‫‪80‬‬
‫صنفاً‪ ،‬ولكن قال املناوي‪ :‬الزائد عن السبعة املتفق عليها إما داخلة حتت هذه األصناف‬
‫السبعة‪ ،‬وإما أن أسانيدها ال تنهض لالحتجاج هبا‪.‬‬
‫هذا احلديث شامل لطبقات اجملتمع من الشاب وبقية األفراد إىل اإلمام العادل‪ ،‬كما أشران‪:‬‬
‫من القاعدة إىل القمة‪ ،‬وأحاديث املصطفى صلى هللا عليه وسلم جندها قسمني‪ :‬فقسم خمتص‬
‫مبادة وموضوع‪ ،‬وهذا غالباً يف أحاديث التشريع يف احلالل واحلرام‪ ،‬ويف الواجب واملندوب‪.‬‬
‫معىن واحد فبالتأمل جند أن‬
‫وقسم يشمل عدة أصناف‪ ،‬وإذا وجدان حديثاً يشمل أكثر من ً‬
‫هناك روابط بني تلك املوضوعات الذي انتظمت يف سلك ذلك احلديث! فمن أحاديث‬
‫األحكام ما تقدم يف الزكاة‪( :‬ليس فيما دون مخسة أوسق صدقة) ‪ ،‬فهذا حديث مستقل‬
‫مبوضوع واحد‪ ،‬وهو تقدير النصاب يف احلبوب‪ ،‬وحديث‪( :‬يف كل أربعني شاة شاة) ‪.‬‬
‫ولكن األحاديث اليت تشمل العديد من املواضيع غالباً ما تكون للتوجيه واملوعظة واإلرشاد‪،‬‬
‫ومن أمهها هذا احلديث‪.‬‬
‫وهذا احلديث يشتمل على املباحث اآلتية‪ :‬أوالً‪ :‬لفظه‪.‬‬
‫اثنياً‪ :‬أسانيده‪.‬‬
‫اثلثاً‪ :‬ترتيبه‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬معاين أصنافه‪.‬‬
‫أما سنده‪ :‬فقد رواه الشيخان وأصحاب السنن‪ ،‬وذكر املؤلف هنا أنه متفق عليه‪ ،‬واكتفى‬
‫موجود أيضاً يف موطأ مالك وعند أيب داود والنسائي وابن ماجة‪ ،‬وكل هذه‬ ‫ٌ‬ ‫بذلك‪ ،‬وهو‬
‫الصحاح قد أوردت هذا احلديث‪.‬‬
‫وابملقارنة بني ألفاظه يف هذه املراجع جند مغايرات يسرية‪ ،‬وكذلك يف ترتيبه تقدمي أو أتخري‪،‬‬
‫واللفظ الذي ساقه املؤلف هنا‪ :‬هو لفظ البخاري رمحه هللا‪ ،‬ولفظ مسلم يتفق معه إال أن‬
‫مسلماً ذكر فيه الرجل الذي تصدق بيمينه فأخفاها بلفظ‪( :‬حىت ال تعلم ميينه ما تنفق‬
‫مشاله) ؛ ويف رواية أخرى‪( :‬رجل تصدق بشماله ‪-‬أو رجل تصدق بصدقة‪ -‬فأخفاها حىت ال‬
‫تعلم ميينه ما تنفق مشاله) وأسند اإلنفاق للشمال بدالً من اليمني‪ ،‬وأعتقد أن هذا يكون‬
‫أدعى وأبلغ يف معىن اإلخفاء‪ ،‬وقد نبهنا عليه مراراً‪.‬‬
‫من يظلهم هللا يف ظله غري السبعة املذكورين يف احلديث‬

‫‪81‬‬
‫وموضوع احلديث هؤالء السبعة‪ ،‬وقد نظمهم أبو شامة يف بيت واحد يف قوله مشرياً إىل‬
‫ص ِد ٌق‬ ‫ب ع ِفي ٌ ِ‬
‫ف َانْش ٌئ ُمتَ َ‬
‫ِ ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫صطََف ْى إِ َّن َسْبـ َعةً يُظلُّ ُه ُم املَْوَ ْىل ال َك ِرْميُ بِظله ُحم ٌّ َ ْ‬ ‫احلديث‪ :‬قَاْ َل النِ ُّ‬
‫َّيب املُ ْ‬
‫ص ٍل َوا ِإل َماْ ُم بِ َع ْدلِِه هذه السبعة األصناف اليت اشتمل عليها هذا احلديث النبوي‬ ‫ٍ‬
‫َوَابْك ُم َ‬
‫الشريف‪.‬‬
‫وإذا جئنا إىل اللفظ األول‪( :‬سبعة) ‪ :‬يقولون‪ :‬إن العدد ال مفهوم له‪ ،‬وِلذا حبث العلماء‬
‫فيمن يشملهم هذا املعىن ويظلهم هللا يف ظله يوم ال ظل إال ظله‪ ،‬وذكروا منهم‪ :‬رجالً حلق‬
‫القوم‪ ،‬وأدركهم العدو‪ ،‬وكان يف مؤخرهتم؛ فدافع عنهم‪ ،‬وذكروا امرأة أتميت على أيتامها حىت‬
‫كربوا واعتمدوا على أنفسهم‪ ،‬وذكروا أشياء عديدة‪ ،‬حىت أوصلوا السبعة إىل السبعني‪ ،‬وأقرب‬
‫مرج ٍع ِلذا العدد ما نقله الزرقاين عمن تقدم نظماً ونثراً يف شرحه على املوطأ عند هذا‬
‫احلديث‪.‬‬
‫فإذا كان العدد ليس له مفهوم فهناك سبعات عديدة أوصلها العلماء إىل السبعني‪ ،‬وإن كان‬
‫له مفهوم فيكون مقصوراً على هؤالء السبعة‪ ،‬وسواء كان له مفهوم أو ليس له مفهوم فيهمنا‬
‫اآلن هؤالء السبعة‪ ،‬إذ إن هذا احلديث مجع مجيع طبقات اجملتمع‪ ،‬وما ذكر فكما قال‬
‫النووي واملناوي‪ :‬قد تكون مندرجة حتت صنف من هذه األصناف السبعة‪.‬‬
‫معىن (يظلهم هللا يف ظله)‬
‫خرج هذا احلديث رواه هبذا اللفظ‪.‬‬‫(يظلهم هللا) هذا اللفظ متفق عليه‪ ،‬وكل من َّ‬
‫(يف ظله) أو (يف ظل عرشه) ‪ :‬ختتلف الرواايت‪ ،‬فتارة أتيت‪( :‬يف ظله) ‪ ،‬واترة أتيت‪( :‬يف ظل‬
‫عرشه) ‪.‬‬
‫(يوم ال ظل إال ظله) أو (يوم ال ظل إال ظل عرشه) على حسب الروايتني املتقدمتني‪ ،‬وليس‬
‫هناك إشكال أن العرش جرم حمسوس يتصور أن يكون له ظل‪ ،‬ولكن اإلشكال الذي مل أجد‬
‫له جواابً‪ ،‬هو أن الظل انتج عن الشمس‪ ،‬ويوم القيامة تكور الشمس‪ ،‬وتبدل األرض غري‬
‫األرض والسموات‪ ،‬ومثة حديث آخر‪ ،‬وهو عن املقداد بن األسود قال‪ :‬مسعت رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم يقول‪( :‬تدنو الشمس يوم القيامة من اخللق حىت تكون منهم كمقدار‬
‫ميل ‪-‬قال سليم بن عامر‪ :‬فوهللا! ما أدري ما يعين ابمليل‪ :‬أمسافة األرض‪ ،‬أم امليل الذي‬
‫تكتحل به العني؟! قال‪ -:‬فيكون الناس على قدر أعماِلم يف العرق‪ ،‬فمنهم من يكون إىل‬

‫‪82‬‬
‫كعبيه‪ ،‬ومنهم من يكون إىل ركبتيه‪ ،‬ومنهم من يكون إىل حقويه‪ ،‬ومنهم من يلجمه العرق‬
‫إجلاماً‪ ،‬قال‪ :‬وأشار رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بيده إىل فيه) رواه مسلم‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬كيف أتيت تلك الشمس؟ وأي نوع هي؟ هذا الذي يقف عنده اإلنسان مستسلماً‬
‫مصدقاً مبا قال صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ومل أجد من تكلم على ذلك مبا فيه الكفاية‪.‬‬
‫وإذا كان هللا يظلهم يف ظله‪ ،‬فهناك كالم كثري للعلماء‪ ،‬لكنه يدور بني احلقيقة واجملاز‪ ،‬ومعىن‬
‫احلقيقة‪ :‬يف ظله سبحانه‪ ،‬وهللا أعلم بكيفية تظليلهم يف ظله‪ ،‬وال نستطيع أن نتصور للموىل‬
‫جرماً وظالً ‪-‬حاشا هلل‪ -‬ولكن يقولون‪ :‬يف ظله‪ ،‬أي‪ :‬يف عنايته‪ ،‬ورعايته‪ ،‬ورمحته‪ ،‬كما‬
‫يقولون‪ :‬فالن يعيش يف ظل فالن ويف كنفه‪ ،‬ومحلوا ذلك على اجملاز بعداً عن التشبيه أو‬
‫الوقوع يف حمظور ابلنسبة للموىل سبحانه‪.‬‬
‫وحنن إذا أخذان اللفظ على وضعه نستشعر عاطفياً وعقلياً وعلمياً أن هؤالء السبعة خيصهم‬
‫هللا سبحانه وتعاىل بتلك الفضيلة‪ ،‬ويف بعض الزايدات‪( :‬يف ظله حىت يقضى بني اخلالئق) ‪،‬‬
‫ويف احلديث‪( :‬إن العبد يف ظل صدقته يوم القيامة) ‪ ،‬وميكن أن نقول‪ :‬الصدقة جتسمت‪ ،‬أو‬
‫جتسم ثواهبا وحتول إىل مظلة تظل صاحبها حىت يقضى بني اخلالئق‪ ،‬وال يناله ما ينال عامة‬
‫الناس من حرارة الشمس اليت تدنو منهم فيعرقون‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬األوىل لنا أن نرتك تعمق البحث يف مدلول قوله‪( :‬يف ظله) ‪ ،‬ونفوض ذلك إىل ما يعلمه‬
‫املوىل سبحانه‪ ،‬ويكفينا أن نقول‪ :‬إن هذا أعظم موعظة وأعظم مرغب؛ ألنه حياول اإلنسان‬
‫أن يكون واحداً من هؤالء السبعة إن مل جيمع أكثر من صنف‪.‬‬
‫هل ميكن أن جتتمع هذه السبع اخلصال يف رجل واحد؟‬
‫وهل ميكن لإلنسان أن جيمعها؟ ال مانع من ذلك؛ ألن النيب صلى هللا عليه وسلم ذكر‬
‫أبواب اجلنة الثمانية فقال‪( :‬من أنفق زوجني من شيء من األشياء يف سبيل هللا دعي من‬
‫أبواب‪ :‬اي عبد هللا! هذا خري‪ ،‬فمن كان من أهل الصالة دعي من ابب الصالة‪ ،‬ومن كان‬
‫من أهل اجلهاد دعي من ابب اجلهاد‪ ،‬ومن كان من أهل الصدقة دعي من ابب الصدقة‪،‬‬
‫ومن كان من أهل الصيام دعي من ابب الصيام ‪-‬وهو ابب الراين‪ -‬فقال أبو بكر‪ :‬ما على‬
‫الذي يدعى من تلك األبواب من ضرورة‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫فهل يدعى أحد منها كلها اي رسول هللا؟! قال‪ :‬نعم‪ ،‬وأرجو أن تكون منهم اي أاب بكر!)‬
‫واحلديث متفق عليه عن أيب هريرة‪.‬‬
‫وهناك حديث آخر‪( :‬إذا توضأ املسلم فأسبغ الوضوء‪ ،‬مث تشهد فتحت له أبواب اجلنة‬
‫الثمانية يدخل من أيها شاء) ‪.‬‬
‫ويف احلديث املتقدم جند الصديق يسأل‪ :‬هل ميكن أن جتتمع يف فرد واحد موجبات عدة؟‬
‫قال‪( :‬نعم‪ ،‬وأرجو أن تكون منهم اي أاب بكر!) ‪ ،‬وال شك أنه أوىل الناس وأوِلم سبقاً ََ إىل‬
‫اجلنة بعد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫وهذه األصناف السبعة املذكورة يف احلديث اجتمعت يف نيب هللا يوسف عليه وعلى نبينا‬
‫الصالة والسالم؛ ألنه ذكر عنه أنه يف شبابه نشأ يف طاعة هللا‪ ،‬وذكر هللا عنه أنه دعته امرأة‬
‫ت‬ ‫ت َهْي َ‬‫اب َوقَالَ ْ‬
‫ت األَبْـ َو َ‬ ‫{وَر َاو َدتْهُ الَِّيت ُه َو ِيف بـَْيتِ َها َع ْن نـَ ْف ِس ِه َوغَلَّ َق ْ‬
‫ذات منصب ومجال‪َ :‬‬
‫اي إِنَّهُ ال يـُ ْفلِ ُح الظَّالِ ُمو َن} [يوسف‪ ، ]23:‬وذكر عنه‬ ‫َح َس َن َمثْـ َو َ‬
‫ال معا َذ َِّ‬
‫اَّلل إِنَّهُ َرِيب أ ْ‬ ‫ك قَ َ َ َ‬
‫لَ َ‬
‫أنه كان يتصدق‪ ،‬حىت قال بعض املفسرين يف قوله تعاىل‪{ :‬قَالُوا إِ ْن يَ ْس ِر ْق فَـ َق ْد َسَر َق أ ٌ‬
‫َخ لَهُ‬
‫ِم ْن قَـْب ُل} [يوسف‪ : ]77:‬كذبوا وهللا‪ ،‬بل كان أيخذ الطعام ويتصدق به سراً‪ ،‬وكان إماماً‬
‫عادالً‪ ،‬وكان حمباً للخلق‪ ،‬مالزماً للمساجد‪ ،‬ذاكراً هلل‪ ،‬قالوا‪ :‬اجتمعت هذه يف نيب هللا‬
‫يوسف عليه وعلى نبينا الصالة السالم‪ ،‬ومل يذكروا غريه‪ ،‬مع أنه ليس من أويل العزم من‬
‫الرسل‪.‬‬
‫ومل يذكر لنا اترخيياً أن أحداً من األنبياء الكرام امتحن مبا امتحن به يوسف يف قضية امرأة‬
‫العزيز‪ ،‬فلما اختص هبذه القضية كان أدعى ألن يصفوه أبنه هو الذي اجتمعت فيه اخلصال‬
‫الواردة يف هذا احلديث‪ ،‬وال حرج فهذا فضل هللا‪ ،‬وال نستبعد أن هللا سبحانه يكرم بعض‬
‫الشباب الذين أودعهم هللا هذا السر‪ ،‬فينشأ يف عبادة هللا مع إخوانه أو مع أهل بيته‪ ،‬مث‬
‫يكون أيضاً عفيفاً‪ ،‬ويبادر أهله بزواجه مبكراً‪ ،‬ويكون حمباً للمساكني يتصدق وخيفي صدقته‪،‬‬
‫ويكون قلبه معلقاً ابملساجد‪ ،‬مث إذا ويل أمراً كان عادالً فيه‪ ،‬ال حرج فهذا فضل هللا‪.‬‬
‫اهتمام اإلسالم ابلشباب‬
‫أشران إىل أن هذا احلديث املبارك قد مشل طبقات اجملتمع‪ ،‬فبدأ بـ (شاب نشأ يف عبادة هللا) ؛‬
‫ألن الشاب غداً يصري رجالً‪ ،‬ويصري متعلق القلب ابملساجد‪ ،‬وقد يكون إماماً‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫إذاً‪ :‬البداية من الشباب‪ ،‬ولذا وجب االهتمام والعناية بشباب األمة‪ ،‬واملتأمل يف نصوص‬
‫القرآن الكرمي والسنة النبوية جيد العناية بشباب األمة عجيباً جداً‪ ،‬وسبق أن قدمنا حماضرة يف‬
‫ذلك‪ ،‬وقلنا‪ :‬إن اإلسالم قد عين ابلشباب قبل وجودهم إىل الدنيا؛ فمهد لوجودهم ابلعناية‬
‫الكاملة‪.‬‬
‫و (الشباب) ‪ :‬هو النشيط من كل كائن حي‪ ،‬سواء كان من احليواانت‪ ،‬أو اإلنسان‪ ،‬أو‬
‫الطيور‪ ،‬ومنه قوِلم‪ :‬شبت النار‪ ،‬إذا ارتفعت وعلت بعد الضعف‪.‬‬
‫ومن عناية اإلسالم ابلشباب أنه بدأ ابحلث على اختيار الزوجة اليت تنجبه‪ ،‬ففي األثر‪:‬‬
‫دساس) ‪ ،‬مث وضع اإلسالم منهج بناء األسرة اإلسالمية يف قوله‬‫(ختريوا لنطفكم؛ فإن العرق َّ‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪( :‬إذا أاتكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه) ‪ ،‬فبناها على أساس من‬
‫الدين والتقى والصالح‪.‬‬
‫وقال‪( :‬تنكح املرأة ألربع‪ :‬ملاِلا‪ ،‬وحلسبها‪ ،‬وجلماِلا‪ ،‬ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت‬
‫يداك) متفق عليه عن أيب هريرة‪ ،‬فذكر من املرغبات حسب اجلبلة‪ :‬حسب‪ ،‬نسب‪ ،‬مجال‪،‬‬
‫دين‪ ،‬مث قال‪( :‬فاظفر بذات الدين تربت يداك) ‪ ،‬والقرآن الكرمي حث كذلك على اشرتاط‬
‫ات َح َّىت يـُ ْؤِم َّن َوأل ََمةٌ ُم ْؤِمنَةٌ َخ ْريٌ ِم ْن ُم ْش ِرَك ٍة َولَْو أ َْع َجبَـْت ُك ْم َوال‬ ‫اإلميان‪{ :‬وال تَنكِحوا الْم ْش ِرَك ِ‬
‫ُ ُ‬ ‫َ‬
‫ك يَ ْدعُو َن إِ َىل‬ ‫ني َح َّىت يـُ ْؤِمنُوا َولَ َعْب ٌد ُم ْؤِم ٌن َخ ْريٌ ِم ْن ُم ْش ِرٍك َولَْو أ َْع َجبَ ُك ْم أ ُْولَئِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تُنك ُحوا الْ ُم ْش ِرك َ‬
‫َّاس لَ َعلَّ ُه ْم يـَتَ َذ َّك ُرو َن} [البقرة‪، ]221:‬‬ ‫آايتِِه لِلن ِ‬‫ني َ‬
‫ِ ِِ‬ ‫اَّلل ي ْدعو إِ َىل ْ ِ‬
‫اجلَنَّة َوالْ َم ْغفَرةِ إبِِ ْذنه َويـُبَِ ُ‬ ‫النَّا ِر َو َُّ َ ُ‬
‫إذاً‪ :‬عين اإلسالم ابلشاب قبل جميئه حبسن بناء األسرة‪ ،‬والتقاء األبوين على مبدأ اإلميان‪.‬‬
‫لقاء بني األبوين أبن يبدأ بذكر هللا‪ ،‬فيضع الرجل يده على انصيتها ويقول‪:‬‬ ‫مث راعى أول ٍ‬
‫(اللهم! إين أسألك خريها وخري ما جبلتها عليه‪ ،‬وأعوذ بك من شرها وشر ماجبلتها عليه) ‪،‬‬
‫ومع املباشرة يقول‪( :‬اللهم جنبنا الشيطان‪ ،‬وجنب الشيطان ما رزقتنا) ‪ ،‬فإذا ظهر احلمل؛‬
‫أعفيت من كثري من التكاليف حفظاً ِلذا احلمل‪ ،‬فسمح الشرع ِلا أن تفطر إن كان الصيام‬
‫ِ ِ‬
‫ُخَر} [البقرة‪. ]184:‬‬ ‫يضر هبا أو جبنينها‪{ :‬فَع َّدةٌ م ْن أ ََّايٍم أ َ‬
‫وأول والدته يقابل بذكر هللا‪ :‬األذان يف اليمىن‪ ،‬واإلقامة يف اليسرى‪ ،‬مث يعق عنه يوم سابع‬
‫الدورة األوىل من حياته؛ ألن الدورة الزمنية للطفل عند األطباء أسبوع‪ ،‬وِلذا يقدرون احلمل‬
‫بكذا أسبوع ال ابلشهر‪ ،‬فإذا أكمل الدورة الزمنية األوىل وهي أسبوع كان له شأن آخر‪ :‬عق‬

‫‪85‬‬
‫عنه‪ ،‬وأزيل عنه األذى‪ ،‬واختري له االسم الطيب‪ ،‬مث بعد ذلك يكون موضع العناية والرعاية‬
‫حىت إكمال إرضاعه؛ سواء اتفق األبوان أو اختلفا‪ ،‬فلزم األب ابإلنفاق عليه فيما حيتاج إىل‬
‫الفطام‪ ،‬وال يعجل عليه حىت يتم حولني كاملني‪.‬‬
‫مث ينشأ إىل حد التمييز فيعلم اإلسالم‪ ،‬فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‪ :‬قال‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ( {مروا أوالدكم ابلصالة وهم أبناء سبع سنني‪ ،‬واضربوهم‬
‫عليها وهم أبناء عشر سنني‪ ،‬وفرقوا بينهم يف املضاجع) رواه أمحد وأبو داود‪.‬‬
‫والشاب الذي نشأ يف عبادة هللا قطعاً ال يكون على رأس جبل‪ ،‬وال يف وسط أمة كافرة‪ ،‬وال‬
‫يف وسط أمة مهملة‪ ،‬بل البد أن تكون نشأته يف موطن إسالمي‪ ،‬وكما قال صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪( :‬كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ميجسانه أو ينصرانه) ‪ ،‬ومن هنا إذا‬
‫نشأ الشاب يف جمموعة من الشباب اخلريين فالبد أن يؤثر عليه حميطه‪ ،‬ومن هنا يتحتم على‬
‫األبوين تعليمه صغرياً؛ ألن الرسول صلى هللا عليه وسلم راعى ذلك‪ ،‬فـ عمرو بن أيب سلمة ملا‬
‫جلس أيكل مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وجعلت يده تطيش يف الصحفة قال له‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪( :‬اي غالم! سم هللا‪ ،‬وكل بيمينك‪ ،‬وكل مما يليك) ‪ ،‬ومل خترج‬
‫آداب املائدة عن هذه الكلمات‪( :‬سم هللا) ‪ ،‬أي‪ :‬اشكر هللا على النعمة‪ ،‬وقل ابسم هللا‬
‫تنفعك ويبارك لك فيها‪ ،‬وتؤدي شكر املنعم عليك هبذه النعمة‪.‬‬
‫(وكل بيمينك) وكما يقولون‪ :‬اليمىن للمكرمات‪ ،‬واألخرى لبقية احلاجات‪.‬‬
‫(وكل مما يليك) ‪ :‬ليس من هنا ومن هنا‪ ،‬إذ هي إساءة أدب‪.‬‬
‫ينشئا صغريمها على تعاليم اإلسالم‪ ،‬وال يكون إال إذا كان األبوان‬ ‫فتعني على األبوين أن ِ‬
‫مسلمني متعلمني عاملني حبق هذا الطفل الذي هو ضيف عليهما‪ ،‬أما إذا كاان مها يف حاجة‬
‫إىل من يعلمهما؛ ففاقد الشيء ال يعطيه‪ ،‬ومن هنا كانت العناية ابلتعليم بصفة عامة هي‬
‫سيما اإلسالم‪ ،‬فاإلسالم دين العلم والتعليم‪ ،‬ويكفي أن أول الوحي على النيب األمي قوله‬
‫ك األَ ْكَرُم * الَّ ِذي‬
‫نسا َن ِم ْن َعلَ ٍق * اقْـَرأْ َوَربُّ َ‬ ‫ِ‬ ‫سبحانه‪{ :‬اقْـرأْ ِابس ِم ربِ َّ ِ‬
‫ك الذي َخلَ َق * َخلَ َق اإل َ‬‫َ ْ َ َ‬
‫نسا َن َما َملْ يـَ ْعلَ ْم} [العلق‪ ، ]5-1:‬نيب أمي ال يكتب وال يقرأ املكتوب‪،‬‬ ‫َّ ِ ِ َّ ِ‬
‫َعل َم ابلْ َقلَم * َعل َم اإل َ‬
‫وخوطب أول ما خوطب ابلوحي ابلعلم والتعلم! إذاً‪ :‬هذه الرسالة رسالة علم قبل كل شيء‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫(شاب نشأ يف عبادة هللا) ‪ :‬فاألبوان عليهما املسئولية األوىل‪ ،‬وهذا الشاب الذي نشأ يف‬
‫عبادة هللا إمنا كان أبثر األبوين أوالً‪ ،‬مث اجملتمع‪.‬‬
‫نرجع إىل لفظ احلديث؛ ألن ترتيب أصناف احلديث ‪-‬فعالً‪ -‬ترتيب مبين على ارتباط النتائج‬
‫أبسباهبا‪.‬‬
‫أمهية اإلمام العادل لألمة‬
‫عدل) ‪ ،‬ويف رواايت أخرى‪:‬‬ ‫أول هؤالء السبعة‪ :‬اإلمام العادل‪ ،‬ويف بعض الرواايت‪( :‬إمام ٌ‬
‫(إمام عادل) ‪.‬‬
‫العادل‪ :‬هو الذي يسوي بني املتفقني‪ :‬كالزوجني‪ ،‬واخلصمني‪ ،‬والشريكني‪ ،‬والصنفني‪ ،‬يف‬
‫القسمة ابلوزن والكيل؛ هذا عادل‪ ،‬وهذا الوصف من العدل أو من العدالة يتفق فيه املسلم‬
‫والكافر؛ ألننا جند والة من غري املسلمني حيكمون ابلعدالة يف شعوهبم‪ ،‬وجند معامالت‬
‫عديدة من غري املسلمني تتصف ابلعدالة‪ ،‬وقال صلى هللا عليه وسلم حينما وجه أصحابه إىل‬
‫احلبشة‪( :‬لو خرجتم إىل احلبشة؛ فإن هبا ملكاً ال يظلم عنده أحد‪ ،‬وهي أرض صدق‪ ،‬حىت‬
‫جيعل هللا لكم فرجاً) ‪ ،‬وكان النجاشي على دين النصارى‪ ،‬لكنه عادل ذو مروءة‪ ،‬إذاً‪ :‬تلك‬
‫األخالق يتفق فيها اجلميع‪.‬‬
‫على رواية‪( :‬إمام عدل) ‪ ،‬فالعدل‪ :‬هو من اكتملت فيه أمهات األخالق الفاضلة فهو‬
‫متصف ابلصدق‪ ،‬ابألمانة‪ ،‬ابلورع‪ ،‬مبخافة هللا‪ ،‬بفعل اخلري‪ ،‬ال حيايب أحداً على اآلخر‪ ،‬فهو‬
‫{وأَ ْش ِه ُدوا ذَ َوى َع ْد ٍل ِمنْ ُك ْم} [الطالق‪ ، ]2:‬أي‪ :‬ذوي‬
‫عدل يف ذاته‪ ،‬قال هللا عز وجل‪َ :‬‬
‫صدق وأمانة ووفاء‪.‬‬
‫وهذا اإلمام العدل‪ :‬أتظنون أن يكون عادالً أم غري عادل؟ أيكون عادالً يف حكمه أو يكون‬
‫جائراً؟ البد أن يكون عادالً‪ ،‬ولكن العادل يف حكمه‪ ،‬هل يكون عدالً يف ذاته أم ال؟ ال‬
‫يلزم ذلك؛ فقد يكون كافراً أو فاسقاً‪ ،‬ولكن يضطر إىل العدالة يف احلكم ليبقى ملكه‪ ،‬قال‬
‫اإلمام ابن تيمية رمحه هللا‪ :‬امللك يدوم مع العدل ولو لكافر‪ ،‬وال يدوم مع الظلم ولو ملسلم‪،‬‬
‫والظلم ظلمات يوم القيامة‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬هذا اللفظ مجع الصنفني‪( :‬إمام عادل) أي‪ :‬يف حكمه‪( ،‬إمام عدل) أي‪ :‬يف شخصه‪،‬‬
‫وابلتايل سيكون عادالً يف حكمه‪ ،‬وإذا كان اإلمام عدالً تقياً زاهداً فيما أبيدي الناس‪ ،‬ورعاً‬

‫‪87‬‬
‫حاجا بيت هللا‪ ،‬خياف هللا يف كل تصرفاته‪،‬‬‫خيشى هللا‪ ،‬تقياً يف أعماله‪ ،‬مصلياً صائماً مزكياً ًّ‬
‫هل سيقر ظلماً يف ملكه؟ هل يقر فسقاً أو أية أعمال خملة ابلدين؟ اجلواب‪ :‬ال‪ ،‬بل سيعمل‬
‫على أن تكون الرعية مثاليةً يف حياهتا‪ ،‬ويف أعماِلا‪ ،‬ولن يقبل من أحد أن خيرج عن قانون‬
‫العدل‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬سيعمل على إصالح اجلميع‪ ،‬وسيقيم شعرية األمر ابملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬وستكون‬
‫األمة يف ظله أمة مثالية‪ ،‬وحنن وجدان مصداق ذلك يف صدر اإلسالم بعد املصطفى صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬وذلك فيما كان عليه الناس يف خالفة أيب بكر وخالفة عمر استدعى أبو‬
‫بكر رضي هللا تعاىل عنه عمر فقال‪ :‬اي أخي! أعين يف بعض املهام‪ ،‬قال‪ :‬وما تريد؟ قال‪:‬‬
‫تتوىل القضاء بني الناس؛ ألن القضاء من مهمة اإلمام‪ ،‬ألن الرسول صلى هللا عليه وسلم كان‬
‫قاضياً‪ ،‬وقال لبعض الصحابة‪( :‬اكفين مئونة بيت املال) ‪ ،‬فقام عمر وتوىل القضاء‪ ،‬ومكث‬
‫أتعبت؟ قال‪ :‬ما‬ ‫ِ‬
‫سنة كاملة أو أكثر‪ ،‬مث جاء إىل أيب بكر‪ ،‬وقال‪ :‬خذ عملك‪ ،‬قال‪ :‬وملَ َ‬
‫تعبت‪ ،‬ولكن من يوم أن وليتين القضاء ما جاءين أحد! أمة عرف كل واحد فيها ما له‬
‫فأخذه‪ ،‬وما عليه فأداه‪.‬‬
‫فرد عمر القضاء على أيب بكر لعدم وجود متخاصمني‪ ،‬فكانت األمة هبذه املثابة؛ ألهنا‬
‫خترجت من مدرسة املصطفى صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وتوالها أبو بكر رضي هللا عنه من بعده‪،‬‬
‫وسارت على املنهج األول‪.‬‬
‫فإذا كان اإلمام عدالً عادالً فإن األمة كلها على خري‪ ،‬وكما يقال‪ :‬الناس على دين ملوكهم‪،‬‬
‫وهذا من نتائج عدالة اإلمام يف ذاته‪ ،‬وعدله يف رعيته‪ ،‬وإقراره للحق وإبطاله للباطل‪ ،‬ونشره‬
‫للفضيلة‪ ،‬وقضائه على الرذيلة‪.‬‬
‫قال أحد الناس‪ :‬كنا منشي بعد العشاء مبسافة قليلة عن ابب املسجد‪ ،‬ومثة أشخاص‬
‫جالسون ممن انقطعوا لذكر هللا‪ ،‬فقال يل أحد رفاقي‪ :‬اي فالن! تعرف أهل اجلنة؟ قلت‪ :‬ما‬
‫رأيتهم حىت اآلن! قال‪ :‬هؤالء ما بينهم وبني اجلنة إال املوت؛ ال يظلمون أحداً‪ ،‬وال يسرقون‬
‫أحداً‪ ،‬وال يعتدون على أحد‪ ،‬مكتفني بذكر هللا‪ ،‬وما يسر هللا ِلم من لقمة العيش‪ ،‬وهم كبار‬
‫يف السن‪ ،‬فقد كان الناس يف السابق بعيدين عن املشاكل وعن اقرتاف املظامل‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫ففي ظل اإلمام العادل العدل البد أن ينشأ الصغري على عبادة هللا‪ ،‬وكذلك يكون الكبري‬
‫على الطاعة واالمتثال وعبادة هللا‪.‬‬
‫مشول األمانة لكل عمل وتكليف‬
‫وقد َّبني املوىل سبحانه والرسول الكرمي صلوات هللا وسالمه عليه أن هذا اإلمام العادل جتب‬
‫طاعته‪ ،‬فإذا خرج عن العدالة‪ ،‬وخرج عن منهج القرآن والسنة النبوية؛ فال طاعة له‪ ،‬كما قال‬
‫الصديق‪( :‬أطيعوين ما أطعت هللا فيكم‪ ،‬فإن عصيته فال طاعة يل عليكم) ‪.‬‬
‫ت‬‫اان ِ‬ ‫ومن مبادئ املنهج اإلِلي يف الدولة اإلسالمية قوله تعاىل‪{ :‬إِ َّن َّ‬
‫اَّللَ َأيْ ُمُرُك ْم أَ ْن تُـ َؤ ُّدوا ْاأل ََم َ‬
‫َّاس أَ ْن َْحت ُك ُموا ِابلْ َع ْد ِل} [النساء‪ ، ]58:‬األماانت‪ :‬مجع أمانة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ني الن ِ‬ ‫إِ َىل أ َْهل َها َوإِ َذا َح َك ْمتُ ْم بَْ َ‬
‫وليست مقصورة على الوديعة اليت تودعها أمانة لدى جارك أو صديقك أو أي إنسان‬
‫ترتضيه‪ ،‬بل كل التكاليف أمانة‪ ،‬فمن األمانة العبادة بينك وبني هللا‪ ،‬كما قال بعض املفسرين‬
‫الص ُدوِر} [العادايت‪ ، ]10:‬قال‪ :‬ما ائتمنوا عليه غيباً‬ ‫ص َل َما ِيف ُّ‬ ‫يف قوله سبحانه‪{ :‬وح ِ‬
‫َُ‬
‫كصحة الوضوء من احلدث‪ ،‬والغسل من اجلنابة‪ ،‬فهي أمانة يف عنق كل إنسان بينه وبني‬
‫هللا‪.‬‬
‫واإلمام مالك‪ :‬يف مسألة أكثر الطهر وأكثر احليض وأقله قال‪ :‬إن هللا قد وكل أمر النساء‬
‫اَّللُ ِيف أ َْر َح ِام ِه َّن} [البقرة‪ ]228:‬؛‬ ‫{وال َِحي ُّل َِلُ َّن أَ ْن يَكْتُ ْم َن َما َخلَ َق َّ‬‫إليهن‪ ،‬يشري إىل قوله‪َ :‬‬
‫ألن هذه أمانة بينها وبني هللا‪.‬‬
‫واإلنسان يف بيته مسئول كغريه‪( :‬كلكم ر ٍاع‪ ،‬وكلكم مسئول عن رعيته) ؛ ألن الرعية أمانة‪،‬‬
‫فاهلل أيمركم أن تؤدوا األماانت‪ ،‬وهي عامة‪ ،‬وأهم أمانة‪( :‬احلكم) ؛ ألن احلاكم يف اإلسالم‬
‫ليس فوقه إال هللا‪ ،‬وليس ألحد يف دولة مسلمة سلطان على القاضي املسلم إال سلطة املوىل‬
‫سبحانه‪ ،‬كما يسمى حاليًّا (حرية واستغالل القضاء) ‪.‬‬
‫َّاس أَ ْن َحتْ ُك ُموا ِابلْ َع ْد ِل} [النساء‪ ، ]58:‬أي‪ :‬سواء بني اثنني أو‬ ‫ني الن ِ‬ ‫{وإِذَا َح َك ْمتُ ْم بَْ َ‬
‫وقوله‪َ :‬‬
‫حكم يف أمة‪.‬‬
‫وجوب طاعة اإلمام ابملعروف‬
‫ُويل ْاأل َْم ِر ِمنْ ُك ْم} [النساء‪، ]59:‬‬ ‫ول َوأ ِ‬
‫الر ُس َ‬
‫َطيعُوا َّ‬ ‫اَّلل وأ ِ‬ ‫ِ‬
‫مث قال هللا سبحانه وتعاىل‪{ :‬أَطيعُوا ََّ َ‬
‫فيأمر هللا احلكام واملسئول ني أبداء األمانة واحلكم ابلعدل‪ ،‬وأيمر الرعية ابلسمع والطاعة‪:‬‬

‫‪89‬‬
‫ُويل ْاأل َْم ِر) ‪ ،‬وهنا جاء فعل األمر ابلطاعة مكرراً‪( :‬أطيعوا هللا‬ ‫ول َوأ ِ‬
‫الر ُس َ‬ ‫اَّلل وأ ِ‬
‫َطيعُوا َّ‬ ‫ِ‬
‫(أَطيعُوا ََّ َ‬
‫وأطيعوا الرسول) فأبرز فعل الطاعة مع لفظ اجلاللة ولفظ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬أما‬
‫أولو األمر فلم يقل‪( :‬وأطيعوا أويل األمر) بل قال‪( :‬وأويل األمر) ؟ ويف هذا إشارة إىل أن‬
‫الطاعة أساساً هلل ولرسوله‪ ،‬أما أولو األمر فطاعتهم تبع لذلك‪ ،‬أي‪ :‬فإن أطاعوا هللا وأطاعوا‬
‫الرسول فأطيعوهم‪ ،‬وإن مل يطيعوا هللا ومل يطيعوا الرسول فال طاعة ِلم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫اَّلل أيْمرُكم أَ ْن تـُؤ ُّدوا ْاألَم َ ِ‬
‫ني الن ِ‬
‫َّاس أَ ْن‬ ‫اانت إِ َىل أ َْهل َها َوإِذَا َح َك ْمتُ ْم بَْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫إذاً‪ :‬قوله تعاىل‪{ :‬إ َّن ََّ َ ُ ُ ْ‬
‫ول‬
‫الر ُس َ‬ ‫اَّلل وأ ِ‬
‫َطيعُوا َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َْحت ُك ُموا ابلْ َع ْدل} [النساء‪ ]58:‬موجهٌ للحكام‪ ،‬وقوله تعاىل‪{ :‬أَطيعُوا ََّ َ‬
‫ُويل ْاأل َْم ِر ِمْن ُك ْم} [النساء‪ ]59:‬موجه لألمة لتوثيق ارتباطها ابحلكام‪ ،‬فاإلمام العادل له‬ ‫َوأ ِ‬
‫حق السمع والطاعة‪ ،‬وغري العادل الذي خالف الكتاب وخالف السنة ليس له ذلك احلق‪،‬‬
‫لكن بشرط أن تكون املخالفة كما بينها صلى هللا عليه وسلم‪( :‬إال أن تروا كفراً بواحاً عندكم‬
‫من هللا فيه برهان) ‪.‬‬
‫فلو كان اإلمام عدالً ونقص عن العدالة شيئاً ما‪ ،‬كارتكاب بعض الصغائر والتقصري يف بعض‬
‫الواجبات اليت ال تبلغ به حد الكفر فطاعته واجبة‪.‬‬
‫أما إذا ارتكب ما يعترب ردة عن اإلسالم؛ فال طاعة له‪ ،‬وال كرامة! كأن يشرع ما خيالف‬
‫اإلسالم‪ ،‬وكذلك إذا عطل حكماً يف اإلسالم‪ ،‬فهذا ال طاعة له‪( :‬ال طاعة ملخلوق يف‬
‫ت عليكم ولست أبفضلكم‪،‬‬ ‫معصية اخلالق) ‪ ،‬وقد أشران أن الصديق رضي هللا عنه قال‪ِ :‬‬
‫(ولْي ُ‬
‫ُ‬
‫فأطيعوين ما أطعت هللا فيكم‪ ،‬فإن عصيت هللا فال طاعة يل عليكم) ؛ ألن طاعته فرع عن‬
‫طاعة هللا ورسوله صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫فإذا وجد اإلمام العادل يف األمة فاألمة كلها خبري؛ ألن عدله وعدالته ستأخذ األمة إىل‬
‫الصراط السوي‪ ،‬ومتنع من جينح مييناً أو يساراً‪ ،‬وال يسمح ألحد بتجاوز حدود هللا‪ ،‬وال‬
‫يعطل حداً من حدود هللا‪ ،‬وال حيكم بشيء خيالف أوامر هللا؛ ولذلك قالوا‪ :‬اإلمام العادل‬
‫حد من حدود هللا يف‬ ‫ظل هللا يف أرضه‪ ،‬وقالوا‪ :‬عدل ساعة خري من عبادة ستني سنة‪ ،‬وإقامة ٍ‬
‫األرض خريٌ ألهلها من أن ميطروا أربعني يوماً‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬إذا وجد اإلمام العادل كان هناك اخلري كل اخلري‪ ،‬وقد جاء عن اإلمام أمحد رمحه هللا أنه‬
‫قال‪ :‬لو علمت أن يل دعوة جمابة عند هللا جلعلتها للسلطان؛ ألن يف صالحه صالح األمة‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫ويف سري امللوك واألمراء ووالة األمر جند القيام ابلعدل وابلعدالة وإن مل يكن عادالً يف ذاته؛‬
‫عادل يقيم شرع هللا‪ ،‬وال يسمح مبا خيالف كتاب هللا‪،‬‬
‫كأن يكون فيه جرح وتقصري‪ ،‬لكنه ٌ‬
‫فهذا فيه الربكة‪.‬‬
‫إذاً‪( :‬إمام عادل) ‪ :‬هو املبدأ‪ ،‬ويف مظلة عدالته ستنتشر الفضائل‪ ،‬وختتفي الرذائل‪ ،‬ويف هذا‬
‫اجملال ستنشأ الناشئة على عبادة هللا‪.‬‬
‫وكلمة‪( :‬عبادة هللا) ‪ ،‬ليس معناها جمرد املساجد‪ ،‬وال جمرد الصالة‪ ،‬وال جمرد الصيام‪ ،‬وإمنا‬
‫مذلل مسهل‪ ،‬فالعابد‬
‫العبادة‪ :‬اسم جامع لكل ما حيبه هللا ويرضاه‪ ،‬يقال‪ :‬طريق معبد‪ ،‬أي‪ٌ :‬‬
‫هو املطيع امللتزم‪ ،‬والشاب الذي نشأ يف عبادة هللا‪ ،‬ونشأ على السمع والطاعة وعلى مكارم‬
‫األخالقخ؛ إمنا هو أثر من آاثر عدالة اإلمام‪.‬‬
‫منوذج للعدالة اإلسالمية‬
‫يف الواقع أن احلديث عن جوانب عدالة اإلمام واألمثلة على ذلك مما نقرؤه يف التاريخ من‬
‫بعد اخللفاء الراشدين رضوان هللا تعاىل عليهم‪ ،‬يضيق املقام عن أن نسرده يف جلسة أو يف‬
‫انحية‪ ،‬وقد أشران إىل ذلك بقدر ما توصلنا إليه يف تلك الرسالة اليت مجعناها بعنوان‪ :‬من‬
‫يظلهم الرمحن يف ظل العرش‪.‬‬
‫والعدالة اليت قرأان عنها يف زمن الصحابة ‪-‬خاصة يف ابب القضاء‪ -‬فيها مناذج عجيبة‪ ،‬ومما‬
‫يذكر وكيع يف أخبار القضاة‪ :‬أن شرحياً وكان قاضياً ابلكوفة يف خالفة علي رضي هللا تعاىل‬
‫عنه؛ دخل عليه علي وهو اخلليفة‪ ،‬ومعه يهودي خياصمه يف درعه‪ ،‬فقال القاضي‪ :‬ما تقول‬
‫اي يهودي؟! قال‪ :‬هو درعي‪ ،‬ويف يدي‪ ،‬فقال شريح لـ علي‪ :‬ما بينتك على أن هذا الدرع‬
‫لك؟ قال‪ :‬احلسن بن علي وقنرب‪ ،‬قال‪ :‬أما قنرب فنعم؛ ألنه مواله‪ ،‬وأما احلسن فال نقبل‬
‫شهادته لك‪ ،‬قال‪ :‬وحيك اي شريح! أما مسعت أن الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم قال‪:‬‬
‫(سيدا شباب أهل اجلنة احلسن واحلسني) ؟ كيف ترفض شهادة سيد شباب أهل اجلنة؟‬
‫قال‪ :‬ال أرفضها؛ لكنها تُرفض إذا كانت لك أنت؛ ألنه ولدك! انظروا إىل هذه املواجهة! مث‬
‫قال‪ :‬هل لك شاه ٌد آخر؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬إذاً‪ :‬اذهب ‪-‬اي يهودي‪ -‬بدرعك‪ ،‬فخرج علي‬
‫وحينما وصل إىل الباب استوقفه اليهودي‪ ،‬وقال‪ :‬قف اي علي! وهللا إن الدرع لدرعك‪ ،‬كان‬
‫على راحلتك فسقط فأخذته‪ ،‬وأان أنكرتك فيه لتذهب يب إىل القاضي؛ ألنظر كيف يفعل‬

‫‪91‬‬
‫قاضي املسلمني مع يهودي‪ ،‬أما واحلال كذلك فخذ درعك‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال هللا‪ ،‬وأن‬
‫حممداً رسول هللا‪ ،‬ففرح بذلك علي؛ ألن دعواه كانت غري اثبتة‪ ،‬أما اآلن فصدقه يف دعواه‪،‬‬
‫فقال‪ :‬الدرع لك ومعه مائتا درهم! فأية عدالة بعد هذا؟! يوجد مناذج كثرية ويكفي ماذكر‪.‬‬
‫كتاب الزكاة ‪ -‬ابب صدقة التطوع‬
‫اإلسالم دين رمحة ورأفة‪ ،‬وقد حث األغنياء على مواساة الفقراء واحملتاجني ابلصدقة‪ ،‬وجعل‬
‫الصدقة عامة يف كل ما يسد احلاجة‪ ،‬ورتب على ذلك عظيم األجر‪ ،‬بل رمبا كانت صدقة‬
‫التطوع يف بعض األحوال خرياً من صدقة الفرض‪.‬‬
‫املسلم يف ظل صدقته يوم القيامة‬
‫يقول املصنف رمحه هللا‪ :‬وعن عقبة بن عامر رضي هللا تعاىل عنه قال‪ :‬مسعت رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم يقول‪( :‬كل امر ٍئ يف ظل صدقته حىت يفصل بني الناس) رواه ابن حبان‬
‫واحلاكم ‪.‬‬
‫هذا احلديث ضمن معىن احلديث األول؛ ألن احلديث األول‪( :‬سبعة يظلهم) وهنا‪( :‬املرء يف‬
‫ظل صدقته) ‪ ،‬فاحلديثان متفقان يف املعىن يف هذه اجلزئية‪.‬‬
‫ويف بعض رواايت هذا احلديث‪( :‬املرء يف ظل صدقته يوم القيامة حىت يقضى بني اخلالئق) ‪،‬‬
‫ف َسنَ ٍة} [املعارج‪، ]4:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وقدر ذلك كما بينه هللا يف قوله‪ٍ ِ :‬‬
‫ني أَلْ َ‬
‫{يف يـَ ْوم َكا َن م ْق َد ُارهُ مخَْس َ‬
‫كل يقول‪:‬‬ ‫ويبني مكانة هذين احلديثني التأمل يف حالة ذلك اليوم‪ ،‬يوم الفرار‪ ،‬يوم اِلروب‪ٌ ،‬‬
‫(نفسي نفسي) حىت األنبياء والرسل حينما يطلب منهم الشفاعة إىل هللا؛ ليأيتَ لفصل‬
‫فكل يعتذر ويقول‪( :‬نفسي نفسي؛ إن ريب قد غضب اليوم غضباً مل يغضب قبله‬ ‫القضاء‪ٌ ،‬‬
‫مثله) ‪ ،‬ويعتذر مبا كان منه يف دنياه‪ ،‬وهم رسل معصومون‪ ،‬ولكن املوقف فوق املستوى‬
‫العادي‪ ،‬فكل حييل إىل اآلخر‪ ،‬حىت يصلوا إىل النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬فتكون‬
‫الشفاعة العظمى اليت يشفع فيها ألهل املوقف مجيعاً مبا فيهم األنبياء والرسل‪.‬‬
‫وهذا اليوم وصفه هللا بقوله‪{ :‬يـوم تَـروَهنَا تَ ْذهل ُك ُّل مر ِضع ٍة ع َّما أَرضعت وتَضع ُك ُّل َذ ِ‬
‫ات‬ ‫ُْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ُ‬ ‫َُ‬ ‫َْ َ َْ‬
‫اَّللِ َش ِدي ٌد} [احلج‪، ]2:‬‬
‫اب َّ‬ ‫ِ‬
‫َّاس ُس َك َارى َوَما ُه ْم بِ ُس َك َارى َولَك َّن َع َذ َ‬
‫محَْ ٍل محَْلَ َها َوتَـَرى الن َ‬
‫فتأيت الصدقة اليت أراد هبا صاحبها وجه هللا‪ ،‬فأخفاها عن املتصدق عليه‪ ،‬بل أخفاها عن‬
‫نفس ه هو‪ ،‬حىت ال تعلم ميينه ما تنفق مشاله؛ أتتيه يف ذلك اليوم وتظله‪ ،‬وهو يوم لو كانت‬

‫‪92‬‬
‫الدنيا بكاملها حتت يديه كما كانت حتت يد ذي القرنني؛ لفادى نفسه بعشرات أمثاِلا يف‬
‫ذلك اليوم‪ ،‬ولكن ال ينفع ذلك‪ ،‬والدنيا مزرعة اآلخرة‪.‬‬
‫حتصل‬
‫وِلذا مر احلسن على رجل يعظ الناس ابلتزهيد يف الدنيا‪ ،‬فقال‪ :‬على رسلك‪ ،‬وهل َّ‬
‫املتصدق إال من الدنيا؟! وهل ينفق يف سبيل هللا إال من‬ ‫ُ‬ ‫اجلنة إال ابلدنيا؟! وهل يتصدق‬
‫الدنيا؟! عليك أن تزهد يف احلرام منها‪ ،‬أما احلالل فكلنا يعلم أن عثمان بن عفان رضي هللا‬
‫تعاىل عنه مون جيشاً بكامله‪ ،‬وابن عوف تصدق بقافلة من اإلبل وما حتمل‪ ،‬والرسول صلى‬
‫لفعلت!) ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫هللا عليه وآله سلم يقول‪( :‬لو أردت أن تسري خلفي اجلبال ذهباً‬
‫إذاً‪ :‬يتحرى اإلنسان احلالل‪ ،‬ويتحرى من يتصدق عليه من كرام الناس ذوي احلاجة؛ من‬
‫الذين تعرفهم بسيماهم ال يسألون الناس إحلافاً كما قال تعاىل‪{ :‬لِل ُف َقر ِاء الَّ ِذين أُح ِ‬
‫ص ُروا ِيف‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ض َحيسبـهم ْ ِ‬
‫اهل أَ ْغنِياء ِمن التـ ِ‬ ‫سبِ ِيل َِّ‬
‫اه ْم‬
‫يم ُ‬ ‫ِ‬
‫َّعفُّف تَـ ْع ِرفـُ ُه ْم بس َ‬
‫اجلَ ُ َ َ ْ َ‬ ‫اَّلل ال يَ ْستَ ِطيعُو َن َ‬
‫ض ْرابً ِيف األ َْر ِ ْ َ ُ ُ ْ‬ ‫َ‬
‫يم} [البقرة‪ ، ]273:‬والكالم يف‬ ‫ال يسأَلُو َن النَّاس إِ ْحلافاً وما تُ ِنف ُقوا ِمن خ ٍري فَِإ َّن َّ ِ ِ ِ‬
‫اَّللَ به َعل ٌ‬ ‫ْ َْ‬ ‫َ َ ََ‬ ‫َْ‬
‫هذا الصنف طويل‪ ،‬ويكفينا هذا القدر‪ ،‬وابهلل تعاىل التوفيق‪.‬‬
‫اجلزاء من جنس العمل‬
‫قال املؤلف رمحه هللا ‪ :‬وعن أيب سعيد اخلدري رضي هللا تعاىل عنه عن النيب صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم قال‪( :‬أميا مسلم كسا مسلماً ثوابً على عر ٍي كساه هللا من خضر اجلنة‪ ،‬وأميا مسلم‬
‫جوع أطعمه هللا من مثار اجلنة‪ ،‬وأميا مسلم سقى مسلماً على ظمأٍ سقاه‬ ‫أطعم مسلماً على ٍ‬
‫هللا من الرحيق املختوم) رواه أبو داود‪ ،‬ويف إسناده لني ‪.‬‬
‫يف إسناده لني أو ضعف!! احلديث عليه رونق النبوة‪ ،‬وله حالوة يف السماع‪ ،‬ويراتح القلب‬
‫إليه‪ ،‬وهو واقع طبيعي‪( :‬من كسا مسلماً على عر ٍي كساه هللا من خضر اجلنة) ‪ ،‬فاجلنة‬
‫كبرية‪ ،‬وخضر اجلنة ليست قميصاً وال ثوابً‪ ،‬بل هي حلل مقابل أن تكسو مسلماً على‬
‫حاجة‪.‬‬
‫ودرهم قد يسبق مائة ألف درهم من الناس‪ ،‬ألنه ليس عنده إال درمهان فتصدق بواحد‪ ،‬وهذا‬
‫كسا إنساانً على عر ٍي‪ ،‬وليس معناه أنه مكشوف العورة ميشي بني الناس عارايً‪ ،‬وإمنا‪ :‬ليس‬
‫عنده من الثياب ما يكفيه‪ ،‬كالرجل الصحايب الذي زوجه الرسول عليه الصالة والسالم ابملرأة‬
‫اليت وهبت نفسها للنيب صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬زوجنيها إن مل يكن لك هبا حاجة‪،‬‬

‫‪93‬‬
‫جلست وال رداء لك‪،‬‬
‫َ‬ ‫قال‪( :‬فماذا تصدقها؟ قال‪ :‬أصدقها ردائي‪ ،‬قال‪ :‬فإن أعطيتها رداءك‬
‫اذهب والتمس شيئاً‪ ،‬فذهب فلم جيد شيئاً‪ ،‬فقال‪ :‬التمس ولو خامتاً من حديد) ‪ ،‬فهذا‬
‫عنده رداء فقط‪ ،‬فهل يعترب عارايً؟ نعم يعترب عارايً‪ ،‬وأعتقد أنه ال أحد من هؤالء املوجودين‬
‫إال وعنده أكثر من مخسة أثواب‪ ،‬فضالً عن بعض املالبس الداخلية والسراويل وغريها‪.‬‬
‫فقوله‪( :‬كسا مسلماً على عري) ‪ :‬يعين أنه يسرت عورته بصعوبة‪ ،‬فيأتيه بثوب‪ ،‬وهذا بيان‬
‫لتنوع الصدقة‪ ،‬وأهنا ال تتوقف على ما يطعم الفم‪ ،‬وإمنا هي حبسب حاجة اإلنسان‪ ،‬فكل‬
‫من له حاجةٌ لشيء تتصدق عليه به‪ ،‬لو كان عندك بيوت كثرية وتصدقت على عائلة أبن‬
‫تُسكنها يف دارك فذلك أعظم من أن تكسو واحداً من األسرة بثياب‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬التنبيه ابألدىن على األعلى‪ ،‬فلو أن واحداً يكد على عياله‪ ،‬وحيتاج إىل مواصالت‪،‬‬
‫وعندك عدة سيارات أو دراجات‪ ،‬وقلت‪ :‬هذه السيارة أو الدراجة تساعدك على عملك‪،‬‬
‫ألن عملك بعيد‪ ،‬فخذ هذه السيارة أو الدراجة؛ فهذه صدقة عظيمة‪ ،‬وهكذا كل ما ميكن‬
‫أن تقدمه إلنسان‪ :‬سواء كان يف امللبس أو يف املطعم‪.‬‬
‫فرح الفقري ابلصدقة‬
‫جوع أو سقاه على ظمأ) ‪ :‬كل هذا يقدمه إليه؛ ألن‬ ‫قوله‪( :‬وأميا مسلم أطعم مسلماً على ٍ‬
‫العاري حينما أيتيه ثوب يفرح به فرحاً عظيماً‪ ،‬ولو كان هذا الثوب ال يعادل عند األغنياء‬
‫املال الكثري‪ ،‬والغين لو جاءته حلة ‪-‬بدلة‪ ،-‬أو حىت مخسة أثواب أو عشرة مل يفرح‪ ،‬وال‬
‫يكون ِلا الوقع واحلالوة واللذة مثل هذا الثوب الذي يهدى ِلذا العاري؛ ألنه يف أمس‬
‫احلاجة له‪.‬‬
‫وكذلك اجلائع إذا اشتد به اجلوع ختتلف حاله عن حال شخص منعم يف قصره‪ ،‬ولديه مجيع‬
‫األطعمة‪ ،‬ولو قدمت إليه مائدة مكتملة بكل أنواع األطعمة والفواكه‪ ،‬فما قيمة هذا عند‬
‫صاحب (العمارة) اليت فيها كل ما تشتهي النفس؟ لذا جتد بعض األغنياء أييت إىل موائد‬
‫األفراح‪ ،‬وفيها ما لذ وطاب‪ ،‬والبعض منهم خيرج وهو يقول‪ :‬وهللا! لو كان فيها كذا أو كذا‪،‬‬
‫كالكاره لتلك املائدة؛ ألن عنده يف البيت مثل هذا‪ ،‬لكن املسكني لو حصل على صحن‬
‫بيض من هذه املائدة‪ ،‬وأشبع جوعته؛ فإن فرحه يساوي الفرح ابلعرس كله! ولذا جاء يف‬
‫حديث املوائد‪( :‬شر الطعام طعام الوليمة؛ يدعى إليه من أيابه‪ ،‬ومينعها من أيتيها) ‪ ،‬فاجلوع‬

‫‪94‬‬
‫يدفعه فيأيت إليها طمعاً يف أن يشبع جوعه‪ ،‬فيقال له‪ :‬تنح عن الناس‪ ،‬تنح عن الطريق!! اي‬
‫سبحان هللا!‬
‫استحباب البحث عن املساكني إلعطائهم الزكاة‬
‫إن حبثك وتفتيشك عن احملتاجني حقاً‪ ،‬والتعايش والتعاطف معهم؛ ألنك بعيد عنهم‪ ،‬أما‬
‫إذا خالطت وفتشت فسيظهر لك الشيء الكثري‪ ،‬وستجد املتعة الروحية يف أنك تقدم‬
‫ملستحق ال يعلم أحد عنه‪.‬‬
‫وهذا احلديث يدعو إىل حتري احملتاج‪ ،‬سواء كان عارايً فتكسوه‪ ،‬أو جائعاً فتطعمه‪ ،‬أو ظمآن‬
‫فتسقيه‪.‬‬
‫وما هناك أعظم أجراً من سقي املاء‪ ،‬كما يف قصة سعد بن عبادة ملا توفيت أمه‪ ،‬وهو غائب‬
‫يف غزوة مع النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬فلما جاء سأل الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫فقال‪( :‬اي رسول هللا! إن أمي ماتت‪ ،‬أفأتصدق عنها؟! قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فأي الصدقة أفضل؟‬
‫قال‪ :‬سقي املاء‪.‬‬
‫قال‪ :‬فتلك سقاية أم سعد ابملدينة) ‪.‬‬
‫وجاء أنه قيل ِلا‪ :‬تصدقي أوصي‪ ،‬قالت‪ :‬املال لـ سعد‪ ،‬وماذا أوصي؟ وأن سعداً قال‪( :‬اي‬
‫رسول هللا! أينفعها إن تصدقت عنها؟! قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬وما خري الصدقة؟ قال‪ :‬سقي املاء)‬
‫‪ ،‬فكانت سقاية أم سعد معروفة يف املدينة‪ ،‬وكانت إىل عهد التابعني‪.‬‬
‫حكم الصدقة على احليواانت والكافر غري احلريب‬
‫وسقي املاء للحيوان فيه أجر‪ ،‬فيه أجر‪ ،‬فامرأة دخلت النار يف هرة حبستها ومل تطعمها‪،‬‬
‫وامرأة بغي دخلت اجلنة يف كلب سقته‪ ،‬كانت متشي يف الطريق واشتد عليها الظمأ فوجدت‬
‫بئراً‪ ،‬فنزلت فشربت‪ ،‬فخرجت فإذا كلب يلهث أيكل الثرى من شدة العطش‪ ،‬فقالت‪ :‬اي‬
‫ويلتاه! لقد بلغ به اجلهد من العطش مثلما بلغ يب‪ ،‬فخلعت خفها‪ ،‬ونزلت البئر ومألته‬
‫وأمسكته بفمها حىت صعدت‪ ،‬وسقته الكلب‪ ،‬فشكر هللاَ فشكر هللاُ ِلا‪ ،‬أي‪ :‬الكلب شكر‬
‫هللاَ على أنه شرب‪ ،‬أو أن هللا شكر ِلا صنيعها فغفر ِلا‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫أجر) ‪،‬‬
‫ويف احلديث‪ :‬قالوا‪( :‬ألنا يف البهائم أجر اي رسول هللا؟! قال‪ :‬يف كل ذي كبد رطب ٌ‬
‫حىت الكافر‪ ،‬إذا كان معك زايدة ماء‪ ،‬ووجدت كافراً ميوت عطشاً وليس حربياً‪ ،‬فاسقه‪ ،‬فإذا‬
‫كنا نؤجر يف احليوان أالَ نؤجر يف اإلنسان؟! ‪.‬‬
‫واملتأمل حلالة املتطوع ابلصدقة لرمبا وجده أفضل من فاعل الواجب للزكاة؛ وإن كان الواجب‬
‫أفضل من النافلة‪ ،‬إال أن خمرج الزكاة إمنا خيرجها عن غىن‪ ،‬ألنه امتلك نصاابً‪ ،‬وبقي عنده‬
‫النصاب عاماً كامالً مل حيتج إىل شيء منه‪ ،‬مث إنه خيرج الزكاة ووراءه من يطالبه هبا‪ ،‬ويف‬
‫احلديث‪( :‬من أداها طيبة هبا نفسه فبها ونعمت‪ ،‬ومن منعها أخذانها وشطر ماله) ‪.‬‬
‫أما املتطوع فليس هناك من يلزمه‪ ،‬وقد ال يكون مالكاً نصاابً وال نصف نصاب‪ ،‬فقد يتربع‬
‫أو يتطوع مبا يف يده‪ ،‬فصدقة التطوع يفعلها طاعة هلل ابتداءً من نفسه‪ ،‬وإن كانت أيضاً‬
‫الزكاة املفروضة إمنا خيرجها طاعة هلل‪ ،‬لكن الزكاة فيها إلزام‪ ،‬وأما التطوع فال إلزام فيه‪ ،‬إمنا هو‬
‫من دوافع نفسه ويقينه ابهلل أبنه سيعوضه عن ذلك‪ ،‬وتقدم يف احلديث األول‪( :‬سبعة يظلهم‬
‫هللا ‪-‬وفيه‪ -:‬ورجل تصدق بصدق فأخفاها حىت ال تعلم مشاله ما تنفق ميينه) ‪ ،‬وهذا بيان‬
‫لفضل الصدقة وأهنا تكون مدعاة أو مستوجبة ألن جتعل صاحبها يف ذلك املوقف العظيم‬
‫ويف تلك النعمة؛ حينما يلجم الناس العرق‪ ،‬وتدنو الشمس من الرءوس‪ ،‬فيكون املتصدق يف‬
‫ظل عرش الرمحن بسبب الصدقة اخلفية‪ ،‬ويف احلديث الذي بعده‪( :‬املرء يف ظل صدقته يوم‬
‫القيامة) ‪.‬‬
‫فم ْخ ِفي الصدقة يظلل بعرش الرمحن‪ ،‬ومن آداب الصدقة يف كتاب هللا إخفاؤها والتلطف هبا‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وإبداء املعروف معها‪ ،‬وحفظ كرامة املسكني‪ ،‬فيكون املتصدق لطيفاً عفيفاً كرمياً يراعي حرمة‬
‫ص َدقَاتِ ُك ْم ِابلْ َم ِن‬ ‫ِ‬
‫اإلنسان الذي أعوز املال‪ ،‬وقد بني سبحانه ذلك فقال‪{ :‬ال تُـْبطلُوا َ‬
‫َذى}‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫و ْاألَذَى} [البقرة‪ ، ]264:‬وقال‪{ :‬قَـوٌل معر ٌ ِ‬
‫ص َدقَة يـَْتـبَـعُ َها أ ً‬
‫وف َوَم ْغفَرةٌ َخ ْريٌ م ْن َ‬‫ْ َ ُْ‬ ‫َ‬
‫[البقرة‪ ، ]263:‬وكان بعض السلف يرى للمسكني الذي يقبل صدقته فضالً عليه؛ ألنه‬
‫يكون سبباً يف حصوله على مرضاة هللا‪ ،‬وعلى مضاعفة ماله والزايدة فيه‪ ،‬فينبغي على‬
‫اإلنسان أن يتحرى‪ ،‬وأن يبحث‪ ،‬وأن يتعرف على مستحقي الصدقة أوالً‪.‬‬
‫وقوله‪( :‬أميا مسلم كسا إنساانً على عر ٍي) أعتقد أنه ال يوجد إنسان ميشي يف الطريق عراين؛‬
‫ثوب واحد فإنه إذا احتاج إىل‬ ‫ألن هذا ممنوع وحمرم‪ ،‬وكان بعض السلف إذا مل يكن عنده إال ٌ‬

‫‪96‬‬
‫نظافته‪ ،‬يغسله ويبقى يف البيت إىل أن جيف الثوب فيلبسه‪ ،‬وقدذكرت قصةً يف بلد ما وهي‪:‬‬
‫أن طالبني كاان يف مدرسة واحدة‪ ،‬ويف فصل واحد‪ ،‬ومها توأمان‪ ،‬حيضر أحدمها يوماً‪ ،‬ويغيب‬
‫اآلخر‪ ،‬مث حيضر من غاب‪ ،‬ويغيب من حضر وهكذا‪ ،‬فعنفهم املدير‪ ،‬وضرهبم‪ ،‬وهم‬
‫يعتذرون‪ :‬سنأيت لن نغيب‪ ،‬ويتعللون‪ ،‬وملا كثر عليهما اإليذاء والكالم صارحا املدير‪ ،‬وقاال‪:‬‬
‫حنن نصارحك فيما بيننا وبينك فقط‪ ،‬حنن أخوان ال منلك إال ثوابً واحداً‪ ،‬أييت به أحدان‪،‬‬
‫وجيلس اآلخر عراين يف البيت‪ ،‬فإذا كان الغد تبادلنا الثوب‪.‬‬
‫فإذا كان الناس هبذه املثابة‪ ،‬ويثابرون على طلب العلم والدارسة‪ ،‬فهذه صورة من كسا مسلماً‬
‫على عري‪ ،‬فال خيرج املرء إىل الطريق عارايً‪ ،‬وال يفعل ذلك إال اجملانني‪ ،‬ولكن تصدق على‬
‫من كان ذا قلة‪ ،‬وهو من أحوجته الثياب وأحوجته الكسوة‪ ،‬بعض الناس يف احلالة العادية رمبا‬
‫عنده اخلمسة والستة والسبعة األثواب‪ ،‬وأتباعها مما حتت الثياب‪ ،‬وقد يكون الشخص ذا‬
‫ٍ‬
‫ثوب واحد‪.‬‬
‫وقد قرأان يف اتريخ عمر رضي هللا تعاىل عنه‪ :‬أنه كان يرقع قميصه‪ ،‬بل أتيت الرقعة فوق‬
‫الرقعة‪ ،‬ويف قصة ذهابه إىل بيت املقدس ليستلم مفاتيح املدينة أهنم قالوا‪ :‬إننا وجدان يف كتبنا‬
‫أن نسلمها إىل رجل صفاته كذا وكذا‪ ،‬فكتب إليه القواد بذلك‪ ،‬وذهب ومعه خادمه‪ ،‬وكاان‬
‫يتعاقبان يف الركوب‪ ،‬يركب أحدمها وميشي اآلخر‪ ،‬مث ميشي من ركب منهما ويركب اآلخر‪،‬‬
‫فلما دان من بيت املقدس لقيه األمراء‪ ،‬وقالوا‪ :‬اي أمري املؤمنني! إنك تلبس هذا القميص‬
‫املرقع‪ ،‬وتقدم على غري العرب‪ ،‬وهم يفخرون ابلثياب‪ ،‬وخيدعون ابملناظر‪ ،‬دعنا نكسوك‬
‫علي قميصي‪ ،‬قالوا‪ :‬فامسح‬‫قميصاً‪ ،‬فقدموا له قميصاً من الكتان‪ ،‬فلما لبسه نزعه وقال‪ :‬ردوا َّ‬
‫لنا أن نغسله لك؟ قال‪ :‬ال أبس‪ ،‬فغسلوا له قميصه املرقع‪ ،‬وكانوا ال يريدون أن يقدم على‬
‫غ ري املسلمني بذلك اللباس‪ ،‬وجاءت نوبته يف املشي فقال له اخلادم‪ :‬اركب أنت! لقد وصلنا‬
‫إىل القوم‪ ،‬وال ينبغي أن نقدم عليهم وأان راكب‪ ،‬وأنت تقود البعري‪ ،‬فاركب أنت ألنك أمري‬
‫املؤمنني‪ ،‬قال‪ :‬ال‪ ،‬هذا حقك‪ ،‬والبد أن تستوفيه‪ ،‬وكان من فائدة ذلك أنه حينما قدم عليهم‬
‫قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬هذا الوصف الذي رأيناه عندان‪ :‬قميصه مرقع‪ ،‬وخيدم خادمه! أيها اإلخوة‪ :‬رمبا‬
‫يكون اإلنسان يف حاجة ماسة وال يعلم حاله إال هللا‪ ،‬وأقول‪ :‬إن الذي يعرف حقيقة صدقة‬
‫التطوع هو الفقري؛ ألنه حيس حباجة أخيه الفقري‪ ،‬أما األغنياء فهم يف حال حسنة‪ ،‬ورمبا ال‬

‫‪97‬‬
‫يشعرون بغريهم‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إن السر يف صوم نيب هللا داود يوماً وإفطاره يوماً أنه سئل عنه‬
‫فقال‪ :‬أما اليوم الذي أصوم فيه فأجوع وأتذكر املساكني‪ ،‬وأما اليوم الذي أفطر فيه فأشبع‬
‫علي‪ ،‬وهكذا هنا‪( :‬أميا مسلم كسا مسلماً على عري) يعين‪ :‬أنه فتش‪،‬‬ ‫فأشكر نعمة هللا َّ‬
‫وحترى‪ ،‬ووجد من يستحق‪.‬‬
‫إذا كان بيدك قميص تريد أن تتصدق به‪ ،‬فهل تعطيه ملن جير ثوبه خيالء‪ ،‬أو ملن يلبس‬
‫احلرير والكتان؟! أو ملن تكاثرت لديه املالبس‪ ،‬أو على إنسان يف برد الشتاء يتأثر ابلربد‪،‬‬
‫وحيتاج إىل هذا الثوب؟ ال شك أنك تبحث عن صاحب احلاجة وتقدمه إليه‪ ،‬وكما قيل‪ :‬إن‬
‫الصنيعة ال تعد صنيعةً حىت يراد هبا طريق املصن ِع يعين أن توضع يف حملها‪ ،‬ومن هنا بني‬
‫الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم ما يعامل به هذا النوع من الناس‪ :‬كساه هللا من حلل اجلنة‪،‬‬
‫أو من خضر اجلنة‪ ،‬واجلزاء من جنس العمل‪.‬‬
‫جوع أطعمه هللا من مثار اجلنة‪ ،‬وأميا مسلم سقى مسلماً على‬
‫(وأميا مسلم أطعم مسلماً على ٍ‬
‫ظمأٍ سقاه هللا من الرحيق املختوم) ‪ :‬الرحيق هو أفضل أنواع الشراب‪ ،‬وقيل‪ :‬العرب تسمي‬
‫أعلى أنواع اخلمر رحيقاً‪.‬‬
‫واملختوم أي‪ :‬احملفوظ املعظم املكرم خبالف األشياء العادية اليت ال ختتم‪ ،‬فتوضع يف إانء وال‬
‫يعبأ هبا؛ ألهنا غري كرمية أو غري ذات قيمة‪ ،‬أما الشيء النفيس الكرمي فيحافظ عليه‪ ،‬وخيتم‬
‫عليه زايدة يف العناية واحلفظ‪.‬‬
‫وهكذا يبني لنا صلى هللا عليه وآله وسلم أنك ما دمت متصدقاً وأخرجت الصدقة من‬
‫ملكك‪ ،‬وجادت هبا نفسك‪ ،‬فانظر أين تضعها؟!‬ ‫َ‬
‫الصدقة تعم كل ما يسد حاجة اإلنسان‬
‫ويف هذا احلديث‪ :‬بيان أن صدقة التطوع ال تتوقف على الدرهم والدينار‪ ،‬بل تعم كل ما‬
‫يسد حاجة لإلنسان‪ ،‬فعراين حيتاج إىل قميص‪ ،‬وجائع حيتاج إىل طعام‪ ،‬وظامئ حيتاج إىل‬
‫شراب‪.‬‬
‫شربة املاء صدقة‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إن أفضل التطوع وأفضل الصدقات سقي املاء‪.‬‬
‫فضل التصدق ابملاء‬

‫‪98‬‬
‫كان سعد بن عبادة رضي هللا تعاىل عنه يف غزاة مع رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪،‬‬
‫وتوفيت أمه يف غيبته‪ ،‬فلما جاء سأل رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪( :‬إن تصدقت‬
‫عنها هل ينفعها؟ وقيل‪ :‬إهنا كانت تكلمت يف مرض وفاهتا‪ ،‬لو متلك شيئاً لتصدقت به‪ ،‬أو‬
‫ِ‬
‫تصدقت؟ فقالت‪ :‬املال مال سعد‪ ،‬وليس يل مال أتصدق به‪ ،‬فعلم ولدها أهنا‬ ‫سألوها‪ :‬لو‬
‫كانت ترغب يف الصدقة‪ ،‬فسأل رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ :‬أينفعها إن تصدقت‬
‫عنها؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬أشهدك أن مال كذا ‪-‬بستان له يف املدينة‪ -‬صدقة يف سبيل هللا‪،‬‬
‫قال‪ :‬يف أي شيء أضعه؟! قال‪( :‬يف سقي املاء) ‪ ،‬فكانت ِلا سقيا يف املدينة‪ ،‬تسمى سقيا‬
‫أم سعد‪.‬‬
‫ومن حكم العوام‪ :‬اسق املاء وأنت على املاء‪ ،‬أي‪ :‬وأنت واقف على سبيل أو جالس عند‬
‫ماء زمزم‪ ،‬فجاء إنسان وسقيته‪ ،‬فهذه صدقة منك عليه‪ ،‬ولك فيها أجر‪ ،‬وكذا لو كنت على‬
‫هنر وإنسان ميشي فطلب أن تسقيه‪ ،‬فناولته من النهر وأعطيته؛ فهذه صدقة أيضاَ ًَ‪ ،‬وروي‬
‫أن جربيل عليه السالم قال‪( :‬اي رسول هللا! إن املالئكة لتعجب من ثواب عملني من أهل‬
‫األرض‪ ،‬متنت لو أهنا عملت مثل ذلك‪ ،‬قال‪ :‬وما مها؟ قال‪ :‬سقي املاء‪ ،‬وإصالح ذات‬
‫البني) ‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬إذا رأيت أمرين فأكثر يف حديث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فانظر ما هي املناسبة؟‬
‫وما هو العامل املشرتك الذي مجع بني هذه األمور يف حديث واحد؟ فلو نظرت هنا‪ :‬سقي‬
‫املاء وإصالح ذات البني‪ ،‬فإنك جتد الرابطة بينهما قوية؛ ألن سقي املاء به حياة النفس‪،‬‬
‫وإصالح ذات البني به حياة اجملتمع؛ ألنه إذا ترك وقع الفراق أو النزاع أو اخلصومة بني‬
‫الناس؛ وكانت احلالقة‪ ،‬وصارت فتنة أكلت األخضر واليابس‪ ،‬فكان فيها اِلالك‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬هذا احلديث يعطينا املنهج الذي ينبغي على املتصدق‪ ،‬وفاعل اخلري أن يسري عليه‪.‬‬
‫الصدقة بغري املال‬
‫من جانب آخر صدقة التطوع ليست قاصرة على ذوي األموال واليسار‪ ،‬ففي احلديث‪( :‬أن‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حث الناس على الصدقة‪ ،‬فجاء رجل بداننري‪ ،‬وجاء رجل‬
‫بدراهم‪ ،‬وجاء رجل بثياب‪ ،‬وجاء رجل بتمر‪ ،‬وجاء رجل بقبضة دقيق‪ ،‬وجاء رجل وقال‪ :‬اي‬
‫رسول هللا! ليس عندي ما أتصدق به‪ ،‬ولكين تصدقت بعرضي على كل من اغتابين أو‬

‫‪99‬‬
‫سبين‪ ،‬فلما جاء قومه إىل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪ :‬وهللا! لقد تصدق رجل منكم‬
‫بصدقة عمت مجيع الناس!) ‪ ،‬ليس عنده مال‪ ،‬لكن تصدق أبن سامح وعفا وصفح عن كل‬
‫من اغتابه؛ ألنه أصبح له حق يستوفيه يوم القيامة‪ ،‬فهو تصدق هبذا احلق على صاحبه‪ ،‬من‬
‫ني َع ِن النَّا ِس} [آل عمران‪. ]134:‬‬ ‫اظ ِمني الْغَي َ ِ‬ ‫ِ‬
‫ظ َوالْ َعاف َ‬ ‫{والْ َك َ ْ‬ ‫ابب قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫إذاً‪ :‬الصدقة ال يتقاصر عنها إنسان‪ ،‬فتصدق بكل شيء أمكنك أن تفعله ولو شربة ماء‪،‬‬
‫حممود وليس معىن الفقر هنا‪:‬‬
‫قال الناظم‪ :‬بث اجلميل وال متنعك قلته فكل ما سد فقراً فهو ُ‬
‫فقري املسكني الذي ليس عنده شيء‪ ،‬وإمنا الفقر االحتياج‪ ،‬فأنت ‪-‬مثالً‪ -‬تفتقر إىل خيط‬
‫ختيط به خرقاً يف ثوبك‪ ،‬أو تفتقر إىل إبرة ليست عندك‪ ،‬وجيبك مملوء نقوداً‪ ،‬لكن عندك‬
‫مفتقر إىل إبرته‪.‬‬
‫الثوب مشقوق‪ ،‬والفلوس ال ختيط خميطة للثوب‪ ،‬وصاحبك عنده إبرة‪ ،‬وأنت ٌ‬
‫حممود‪ ،‬حيمدك‬
‫ُ‬ ‫ط هبا ثوابً‪ ،‬ولو خيطاً تربط به شيئاً فهو‬ ‫إذاً‪ :‬فكل ما سد فقراً‪ ،‬ولو إبرة ختي ُ‬
‫صاحب اخلرق على أنك أعطيته اإلبرة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫ويقول املصطفى صلى هللا عليه وسلم‪( :‬ال حتقرن جارة جلارهتا‪ ،‬ولو فرسن شاة) ‪ ،‬وكان صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم يقول‪( :‬إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها‪ ،‬وتعاهد جريانك) ‪.‬‬
‫وقوله‪( :‬فرسن شاة) ‪ ،‬هي ما دون الرسغ من يدها‪ ،‬وقيل‪ :‬هو عظم قليل اللحم‪ ،‬واملقصود‬
‫وخص النساء ابخلطاب ألنه يغلب عليهن‬ ‫َّ‬ ‫املبالغة يف احلث على اإلهداء ولو ابلشيء اليسري‪،‬‬
‫استصغار الشيء اليسري‪ ،‬والتباهي ابلكثرة عائشة رضي هللا تعاىل عنها جاءهتا املسكينة وهي‬
‫أتكل عنباً‪ ،‬فأخذت حبة وأعطتها إايها‪ ،‬فأخذت املسكينة تقلبها مستقلة إايها‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫ال َذ َّرةٍ َخ ْرياً يـََرهُ} [الزلزلة‪. ]7:‬‬‫انظري كم فيها من ذرة! وهللا يقول‪{ :‬فَ َم ْن يـَ ْع َم ْل ِمثْـ َق َ‬
‫إذاً‪ :‬ابب املعروف واسع‪ ،‬وليس له ح ٌد‪ ،‬ويف استطاعة كل مسلم أن يتصدق يومياً‪ ،‬وقد جاء‬
‫حديث أعم من هذا‪( :‬كل سالمى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس قال‪:‬‬
‫تعدل بني اثنني صدقة‪ ،‬وتعني الرجل يف دابته فتحمله عليها‪ ،‬أو ترفع له عليها متاعه صدقة‪،‬‬
‫والكلمة الطيبة صدقة‪ ،‬وكل خطوة متشيها إىل الصالة صدقة‪ ،‬ومتيط األذى عن الطريق‬
‫بوجه طلق؛ صدقة‪ ،‬هل هناك أحد يعجز عن‬ ‫صدقة) ‪ ،‬فحىت البشاشة يف وجه أخيك تلقاه ٍ‬
‫أ ن يبش يف وجه أخيه؟ وهل هناك أحد يعجز عن أن يقول كلمة طيبة‪ ،‬أو يلقي السالم؟‬
‫فكل هذا من ابب صدقة التطوع‬

‫‪100‬‬
‫كتاب الزكاة ‪ -‬ابب صدقة التطوع [‪]3‬‬
‫الشريعة اإلسالمية حتث على الكسب احلالل‪ ،‬وتكره البطالة‪ ،‬ولذا فضلت اليد العليا على‬
‫اليد السفلى‪ ،‬ويشرع للمنفق آداب وأحكام بينتها الشريعة‪ ،‬ومن ذلك أن يبدأ بنفسه مث‬
‫ابألقرب فاألقرب ممن تلزمه نفقتهم‪.‬‬
‫اليد العليا خري من اليد السفلى‬
‫يقول املصنف رمحه هللا‪ :‬وعن حكيم بن حزام رضي هللا تعاىل عنه عن النيب صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم قال‪( :‬اليد العليا خري من اليد السفلى‪ ،‬وابدأ مبن تعول‪ ،‬وخري الصدقة ما كان عن‬
‫ظهر غىن‪ ،‬ومن يستعفف يعفه هللا‪ ،‬ومن يستغ ِن يغنه هللا) متفق عليه‪ ،‬واللفظ للبخاري ‪.‬‬
‫معىن اليد العليا واليد السفلى‬
‫حديث حكيم بن حزام رضي هللا تعاىل عنه يرتبط مع احلديث الذي بعده بعني املوضوع‪،‬‬
‫وللعلماء فيه كالم‪ ،‬يقول رضي هللا تعاىل عنه أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم قال‪( :‬اليد‬
‫العليا خريٌ من اليد السفلى) ‪.‬‬
‫يقولون‪ :‬اليد العليا عليا يف اِليئة ويف الواقع؛ ألن السائل يقول‪ :‬أعطين‪ ،‬والثاين يقول‪ :‬خذ‪،‬‬
‫فاليد العليا هي املعطية‪ ،‬والسفلى هي اآلخذة‪ ،‬وهذا يطابق الواقع عملياً‪ ،‬ومن انحية املعىن‪:‬‬
‫ال شك أن اليد ذات الغىن أعلى من اليد ذات الفاقة‪ ،‬فذات الفاقة متدنية‪ ،‬وذات الغىن‬
‫مستعلية‪.‬‬
‫وبعضهم يقول‪ :‬اليد العليا هي املستعلية على األغنياء بعفتها‪ ،‬فهو فقري‪ ،‬لكنه متعفف‪،‬‬
‫{حيسبـهم ْ ِ ِ‬
‫اجلَاه ُل أَ ْغنيَاءَ‬ ‫فصارت يده عليا مستعلية على من يعطيها بعفتها‪ ،‬كما قال هللا‪ُ ُ ُ َ َْ :‬‬
‫ِِ‬ ‫ِمن التـ ِ‬
‫اه ْم} [البقرة‪ ، ]273:‬ولكن املعىن العام على ظاهر احلديث هو‬ ‫َّعفُّف تَـ ْع ِرفُـ ُه ْم بس َ‬
‫يم ُ‬ ‫َ َ‬
‫األول‪ ،‬وهو الواقع احلسي املتداول املعروف‪ ،‬وهل هذا فيه مذمة لليد السفلى أو تفسري واقع‬
‫حث للفقري‬ ‫وحث للفقراء واملساكني أبن يستعفوا‪ ،‬ويرفعوا أيديهم عن منزلة السفلى؟ هذا ٌ‬ ‫ٌ‬
‫وحث للمسكني أبن يستعف‪ ،‬وأن يعمل حىت يرفع يده عن منزلة السفلى‪ ،‬وقد جاء عنه‬ ‫ٌ‬
‫قوي جل ٌد يسأل الصدقة‪،‬‬ ‫شاب ٌ‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم تفسري ذلك عملياً حينما جاءه ٌ‬
‫فنظر إليه صلى هللا عليه وآله وسلم وقال له‪( :‬إن الصدقة ال حتل لقو ٍي ذي مرة‪ ،‬قال‪ :‬ماذا‬
‫وقعب أنكل ونشرب فيه) ‪.‬‬ ‫حلس نفرتش نصفه‪ ،‬ونلتحف بنصفه‪ٌ ،‬‬ ‫عندك؟ قال‪ٌ :‬‬

‫‪101‬‬
‫هذا هو أساس بيته‪ ،‬فليس له غرفة نوم‪ ،‬وال غرفة ضيوف‪ ،‬وال صالة‪ ،‬أاثثه كله حمصور يف‬
‫بطانية أو حنبل يفرش نصفه ويتغطى بنصف‪ ،‬والقعب‪ ،‬هذا هو أدوات املطبخ‪.‬‬
‫فقال‪( :‬علي هبما) ‪ ،‬فأخذمها صلى هللا عليه وآله وسلم وقال‪ :‬من يشرتي مين هذا؟ فقال‬
‫رجل‪ :‬بدرهم ‪-‬ولعلها ال تبلغ قيمة الدرهم‪ -‬فقال‪ :‬من يزيد؟ ‪-‬حىت ال يكون هناك مماكسة‬
‫يف حقه‪ -‬فقال رجل‪ :‬بدرمهني ‪-‬وأعتقد أن الذي يزيد (‪ )%100‬إمنا هو جماملة مع الرسول‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم‪ -‬فقال‪ :‬خذ‪ ،‬ويعطي الشاب الدرمهني‪ ،‬ويقول‪ :‬اش ِرت بدره ٍم طعاماً‬
‫وضعه عند أهلك‪ ،‬واش ِرت بدره ٍم فأساً وحبالً‪.‬‬
‫فإذا كان فأس بدرهم فمعناه أن الدرهم كانت له قيمة؛ ألن القيمة الشرائية للنقد حينما‬
‫يكون النقد عزيزاً‪ ،‬أما إذا كان النقد هابطاً فال قيمة له‪ ،‬فبعض اجلهات عملتها ال تساوي‬
‫شيئاً‪ ،‬وحنن شاهدان ارتفاع واخنفاض العمالت يف األسواق‪.‬‬
‫املهم أنه ذهب واشرتى الفأس واحلبل‪ ،‬وجاء فأخذ الفأس‪ ،‬ووضع عوداً فيه‪ ،‬وقال‪ :‬اذهب‬
‫فاحتطب‪ ،‬وبع واستغ ِن‪ ،‬وال أرينك مخسة عشر يوماً‪ ،‬فيذهب‪ ،‬مث أييت‪ ،‬ويقف على رسول‬
‫هللا والدراهم يف جيبه‪ ،‬فيتبسم صلى هللا عليه وآله وسلم ويقول‪( :‬ألن أيخذ أحدكم حبالً‬
‫وفأساً‪ ،‬فيذهب فيحتطب فيبيع فيستغين‪ ،‬خري له من أن يتكفف الناس أعطوه أو منعوه) ‪.‬‬
‫وقوله عليه الصالة والسالم‪( :‬ومن يستغ ِن يغنه هللا‪ ،‬ومن يتعفف يعفه هللا) ‪ ،‬أي‪ :‬من يستغ ِن‬
‫ابهلل يغنه‪ ،‬ومن يستعفف يف جانب هللا يعفه‪ ،‬ويرزقه القناعة والصرب‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫دخول كل معروف يف اليد العليا‬
‫قوله عليه الصالة والسالم‪( :‬اليد العليا خريٌ من اليد السفلى) ‪ ،‬أعتقد أن هذا ليس قاصراً‬
‫إلنسان حاجة‪ ،‬فلو كانت‬‫ٍ‬ ‫على الصدقة ابملال‪ ،‬والغين والفقري‪ ،‬بل يؤجر كل من أسدى‬
‫لشخص حاجة يف جهة من اجلهات‪ ،‬أو عند إنسان من الناس‪ ،‬فذهبت وقضيت له حاجته‪،‬‬
‫فممكن أن يدخل ذلك يف قوله‪( :‬اليد العليا خري من اليد السفلى) ‪ ،‬ويكون يف ذلك أجر‬
‫وفضل ملن أسدى ألخيه معروفاً‪ ،‬وأصبح له ي ٌد عنده‪.‬‬
‫كما يف قصة املغرية بن شعبة وهم حتت الشجرة يف احلديبية الرضوان عندما كتبت الصحيفة‪،‬‬
‫وملا جاء أحد املشركني يفاوض‪ ،‬أخذ بيده حلية رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وكان‬

‫‪102‬‬
‫املغرية بن شعبة واقفاً على رأس رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬كف يدك عن حلية‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قبل أالَّ ترجع إليك! وكان السيف يف يده‪.‬‬
‫فقال‪ :‬من هذا اي حممد؟! قال‪ :‬هذا فالن‪.‬‬
‫قال‪ :‬اي غدر! ما غسلت غدرتك إال ابألمس‪ ،‬مث قال الرجل‪ :‬اي حممد! ما أظن أن هؤالء‬
‫يثبتون معك‪ ،‬ما أظنهم إال ينفضون عنك‪ ،‬فقال له أبو بكر‪ :‬امصص بظر الالت! أحنن‬
‫ننفض عن رسول هللا؟ قال‪ :‬من هذا اي حممد؟! فقال‪ :‬هذا أبو بكر قال‪ :‬لوال يد لك‬ ‫ُّ‬
‫عندي‪ ،‬لرددهتا عليك‪ ،‬ولكن هذه بتلك‪ ،‬يعين‪ :‬أن أاب بكر سبق أن عمل له معروفاً‪ ،‬حىت‬
‫صارت له يد عليه‪ ،‬أي‪ :‬منة ونعمة‪.‬‬
‫وهكذا اليد العليا يف كل شيء حيتاجه اإلنسان‪ ،‬ويتقدم إليه اآلخر بقضائها‪ ،‬سواء منه‬
‫شخصياً أو عن طريقه‪ ،‬فهي ي ٌد عليا على من أنعم عليه بذلك املعروف‪.‬‬
‫البداءة يف الصدقة ابألقربني‬
‫وقوله‪( :‬وابدأ مبن تعول) قرينة تدل على أن اليد العليا هي املعطية‪.‬‬
‫والعيال هم من يلزم اإلنفاق عليه‪ ،‬وساقها املؤلف يف ابب الصدقة للمناسبة‪ ،‬فتكون لك ي ٌد‬
‫عُليا على الغَري‪ ،‬مبعىن أنك تتصدق من مالك‪ ،‬وكيف تفعل ذلك؟ علمنا رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم يف احلديث السابق أن نبحث عن ذوي احلاجات‪ ،‬فنضع املعروف يف حمله‪،‬‬
‫نضع الكساء للعراين‪ ،‬ونعطي الطعام للجائع‪ ،‬ونعطي املاء للعطشان‪ ،‬وهكذا نعطي الدلو‬
‫ملن ليس عنده دلو‪ ،‬ونعطي احلبل ملن ال حبل له‪ ،‬ونعطي البعري ملن حيتاج إىل ركوبه‪ ،‬ونعطي‬
‫القلم ملن ال قلم عنده‪ ،‬فنضع الشيء يف موضعه‪.‬‬
‫ك َما َذا‬
‫وهنا يعلمنا صلى هللا عليه وآله وسلم الرتتيب واألولوية‪ ،‬كما قال هللا‪{ :‬يَ ْسأَلونَ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني} [البقرة‪ ]215:‬فقال‪( :‬وابدأ مبن تعول) ‪،‬‬ ‫يـُْنف ُقو َن قُ ْل َما أَنْـ َف ْقتُ ْم م ْن َخ ٍْري فَللْ َوال َديْ ِن َو ْاألَقْـَربِ َ‬
‫وأوىل ما يكون لإلنسان نفسه‪ ،‬فأوالً‪ :‬تكفي نفسك‪ ،‬فلو كان عندك ثوب وأنت عراين‪ ،‬هل‬
‫تعطيه لغريك؟ ال‪ ،‬ومن أمثلة العوام‪ :‬مطابق وأخوه عراين؛ واملطابق هو الذي أيخذ ثوبني‬
‫وأخوه عراين‪ ،‬فهنا يعطي كل واحد منهما ثوابً‪.‬‬
‫وأما من له األولوية يف اإلنفاق‪ ،‬بعد النفس‪ ،‬فبعض العلماء يقول‪ :‬الزوجة‪ ،‬ولكن القرآن‬
‫يقول‪{ :‬فَلِْل َوالِ َديْ ِن} [البقرة‪ ، ]215:‬ونفقة الوالدين هل تكون إجبارايً‪ ،‬أو تطوعاً؟ إذا كان‬

‫‪103‬‬
‫الوالدان مستغنيني فليس ِلما حق النفقة على الولد‪ ،‬وكذا الولد‪ ،‬لكن الزوجة مهما كان‬
‫غناها‪ ،‬فنفقتها واجبة على زوجها على كل حال‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬نفقة الزوجة يف الدرجة األوىل بعد النفس؛ ألهنا واجبة يف حال غناها وفقرها‪ ،‬لكن‬
‫األبوين واألوالد‪ ،‬ال جتب النفقة عليهم إال عند احلاجة‪ ،‬إذاً‪ :‬من كانت النفقة واجبة له على‬
‫كل حال؛ فهو أوىل ممن كانت واجبة له يف بعض األحوال‪ ،‬فالنفقة على زوجك أوىل‪.‬‬
‫جاء أبو طلحة إىل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وقال‪( :‬اي رسول هللا! مسعت ما أنزل هللا‬
‫سبحانه وتعاىل يف قوله‪{ :‬لَ ْن تَـنَالُوا الِْ َّرب َح َّىت تُـْن ِف ُقوا ِممَّا ُِحتبُّو َن} [آل عمران‪ ، ]92:‬وإن‬
‫أحب مايل إيل بريحاء) ‪ ،‬والعامة تقول‪ :‬بري حاء‪ ،‬وكان هنا عند ابب اجمليدي‪ ،‬ودخل يف‬
‫توسعة املسجد‪ ،‬وكان فيه ماء يستعذب‪ ،‬وكان جبوار املسجد‪ ،‬وكان أحسن أو أعز أو أحب‬
‫ماله إليه‪ ،‬فقال‪ :‬اي رسول هللا! هو صدقة؛ ضعه حيث شئت‪ ،‬فقال‪( :‬اجعله يف أهلك) ‪.‬‬
‫حمل الشاهد قوله‪( :‬اجعله يف أهلك) ‪ ،‬وهكذا يكون اإلنسان صاحب خري؛ سواء كان فقرياً‬
‫أو غنياً‪ ،‬فيسد من حوائج الناس‪ ،‬واألقربون أوىل مبعروفه‪ ،‬مث بعد ذلك األدىن فاألدىن‪.‬‬
‫خري الصدقة ما كان عن ظهر غىن‬
‫الحظوا اي إخوان‪( :‬ابدأ اليد العليا) ‪ ،‬فاليد العليا تبدأ مبن تعول‪ ،‬فهناك عطاء‪ ،‬وهناك‬
‫صدقة‪ ،‬مث أييت يف الدرجة الثالثة التوجيه‪( :‬وخري الصدقة) أي‪ :‬الناشئة عن اليد العليا‪ ،‬اليت‬
‫تتوجه لألدىن فاألدىن من األقربني (ما كان عن ظهر غىن) ‪.‬‬
‫فقوله‪( :‬ما كان عن ظهر غىن) كناية عن املال الزائد املستغىن عنه‪ ،‬فهذا يشعران أبنه يبدأ‬
‫بنفسه هو؛ ألن خري الصدقة ما كان عن ظهر غىن‪ ،‬وأول من يستغين املتصدق؛ فإذا كان‬
‫عندك ما يغنيك‪ ،‬فالزائد عن احلاجة تكون منه الصدقة‪ ،‬وهذا حفاظ على حياة املتصدق‬
‫وعلى نفسيته‪.‬‬
‫(شر) ؛ وأصلها‬‫و (خري) من صيغ التفضيل حذفت منه اِلمزة‪ ،‬وأصلها (أخري) ‪ ،‬ونظريها‪ٌ :‬‬
‫(أشر) ‪ ،‬لكن حذفت اِلمزة ختفيفاً لكثرة االستعمال‪.‬‬
‫إذاً‪ :‬خري الصدقة ما كان حينما يتصدق هبا املتصدق عن ظهر غىن‪ ،‬أي‪ :‬وهو مستغ ٍن يف‬
‫نفسه‪ ،‬كما أن الزكاة ال جتب إال عن ظهر غىن؛ ألنه ال جتب إال على من ميلك النصاب‪،‬‬
‫وهو مستغ ٍن عنه طيلة العام‪ ،‬فهكذا تكون الزكاة‪ ،‬وكذلك صدقة التطوع‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫الغىن غىن النفس‬
‫وقوله عليه الصالة والسالم‪( :‬ومن يستعفف يعفه هللا‪ ،‬ومن يستغ ِن يغنه هللا) ‪ ،‬هذا موجهٌ‬
‫معط وآخذ‪ ،‬ويدان‪ :‬ي ٌد عليا وي ٌد سفلى‪ ،‬فكان‬‫لصاحب اليد السفلى‪ ،‬وحنن عندان طرفان‪ٍ :‬‬
‫صدر احلديث مع (اليد العليا) ‪ ،‬وذلك يف قوله‪( :‬ابدأ مبن تعول) ‪ ،‬وهكذا (خري الصدقة ما‬
‫كان عن ظهر غىن) موجه للمتصدق صاحب اليد العليا‪.‬‬
‫وأييت احلديث للجانب الثاين (ومن يستعفف يعفه هللا) ‪ ،‬هل قال‪( :‬يستعفف) أو قال‪:‬‬
‫(ومن يتعفف) ؟ هذه احلروف الزائدة حروف استفعال‪ ،‬وكما يقول الزخمشري‪ :‬زايدة املبىن‬
‫تدل على زايدة املعىن‪ ،‬وهذه قاعدة يف فقه اللغة‪.‬‬
‫فقوله‪( :‬يستعفف) أبلغ من (يتعفف) فاملعىن‪ :‬أنه يتكلف العفة ولو مل يكن يف شخصه‬
‫عفيفاً‪ ،‬فهو يتصنع ذلك‪ ،‬ويفتعل ذلك‪ ،‬وحيمل نفسه على العفة ولو كان حمتاجاً‪ ،‬وهو‬
‫متطلِع إىل الصدقة وينتظرها ولكنه ال يطاوع نفسه ويسري وراءها‪.‬‬
‫فهنا (يستعف) على وزن (يستفعل) أي‪ :‬أن الفعل ليس موجوداً لكنه يستجلبه‪ ،‬فهو‬
‫يستجلب العفة لنفسه‪ ،‬وليحمل نفسه عن منزلة (سفلى) ‪ ،‬لتساوي يده األخرى يف علوها‪،‬‬
‫(ومن يستعفف يعفه هللا) ‪.‬‬
‫قوله‪( :‬ومن يستغ ِن يغنه هللا) ‪ ،‬وهذا كما يف احلديث‪( :‬ليس الغىن بكثرة العرض ولكن الغىن‬
‫غىن النفس) ‪ ،‬وكما يقول القائل‪ :‬علل النفس ابلقناعة وإال طلبت منك فوق ما يكفيها‬
‫فالغىن والفقر يف نفس اإلنسان‪( ،‬فعلل النفس ابلغىن) أي‪ :‬امحلها على الغىن‪( ،‬وإالَّ) إن مل‬
‫حتملها على الغىن (طلبت منك فوق ما يكفيها) ‪ ،‬قال عليه الصالة والسالم‪( :‬لو أن البن‬
‫آدم وادايً من ذهب لتمىن اثنياً‪ ،‬ولو أن له واديني من ذهب لتمىن اثلثاً‪ ،‬وال ميأل جوف ابن‬
‫آدم إال الرتاب) ‪.‬‬
‫{وُِحتبُّو َن الْ َم َ‬
‫ال ُحباً َمجاً}‬ ‫إذاً‪ :‬النفس من طبيعتها التطلع‪ ،‬ومن جبلتها اجلمع واحلرص‪َ ،‬‬
‫ات} [آل عمران‪ ]14:‬فهذه أمور جبلت عليها‬ ‫ب الشَّهو ِ‬ ‫{زيِ َن لِلن ِ‬
‫َّاس ُح ُّ َ َ‬ ‫[الفجر‪ُ ، ]20:‬‬
‫النفس‪.‬‬
‫(ومن يستغ ِن) أي‪ :‬يستجلب الغىن لنفسه (يغنه هللا) ‪ ،‬قال والدان الشيخ األمني رمحة هللا‬
‫علينا وعليه يف جلسة خاصة ‪-‬جزاه هللا عين أحسن اجلزاء‪ -‬قال‪ :‬اي فالن! إين متخوف‬

‫‪105‬‬
‫عالم؟ وكنا يف الرايض‪ ،‬وكان امللك عبد العزيز ‪-‬هللا يغفر له ويرمحه‪-‬‬‫خوفاً شديداً‪ ،‬قلت‪َ :‬‬
‫جيتمع العلماء عنده كل ليلة مخيس كما هو اآلن‪ ،‬وهذه كانت عادة من زمن امللك عبد‬
‫العزيز‪ ،‬أنه يف ليلة من األسبوع يستقبل املشايخ‪ ،‬وكذلك كانت أتيت مناسبات ويبعث إليهم‬
‫هبدااي‪ ،‬فكان ‪-‬هللا يغفر له ويرمحه‪ -‬إ ذا جاءه شيء ما مير عليه أربع وعشرون ساعة‪ ،‬ويقول‬
‫يل‪ :‬تعال اي فالن! اكتب وحيوِلا إىل بعض (العوائل) يف مكة واملدينة‪.‬‬
‫ومرة كنت عنده أكتب أمساء العوائل‪ ،‬فقال‪ :‬وهللا اي فالن! أان خائف خوفاً شديداً‪ ،‬قلت‬
‫له‪ :‬حصل خري‪ ،‬أنت يف أمن‪ ،‬واحلمد هلل حنن يف راحة وأمان‪ ،‬قال‪ :‬عندي شيء كبري جداً‪،‬‬
‫علي‪ ،‬قلت‪ :‬عندك العلم؛ وأنت تبذل منه ويزيد‪ ،‬وما عندك مال ختاف‬ ‫أخاف أن يذهب َّ‬
‫عليه‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال ال‪ ،‬غري هذا‪ ،‬قلت‪ :‬أيش هو؟ قال‪ :‬أان جئت من البالد بكن ٍز كبري جداً‪ ،‬قلت‪ :‬اي‬
‫شيخ! أعرف أمورك قبل أن جتيء إىل الرايض‪ ،‬فأين الكنز؟! قال‪ :‬القناعة‪ ،‬كنا قانعني مبا كنا‬
‫فيه‪ ،‬ومطمئنني‪ ،‬والدنيا ال تساوي شيئاً‪ ،‬وبدأت األموال جتري يف أيدينا‪ ،‬فأخاف أن متتد‬
‫اليد‪ ،‬وتنقبض عليها‪ ،‬وحنرص عليها‪ ،‬وتذهب عنا القناعة اليت كنا نعتز هبا‪ ،‬فقلت له‪ :‬مثلك‬
‫ال خياف عليه‪ ،‬مادام كلما جاءك شيء‪ ،‬قلت‪ :‬تعال اي عطية! اكتب‪ ،‬وحول‪ ،‬وال ترتك‬
‫عندك شيئاً‪ ،‬فاطمئن وال ختف من شيء‪.‬‬
‫وهللا تعاىل أعلم‪.‬‬
‫وصلى هللا وسلم وابرك على سيدان ونبينا حممد صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫‪106‬‬

You might also like