Professional Documents
Culture Documents
المعجم الزائد
-5-
-6-
أحداث عادية
هناك شيء ما شرير يحاك في الظالم ..تحت سقف هذا المنزل ..وبالذات
صحيحا ..فلماذا ترتجف
ً بداخل هذه الغرفة المغلقة ..فلو لم يكن توقعي
أطرافي بهذه الطريقة ولماذا يدق قلبي بهذا العنف ؟!!.
-7-
-أصوات ليلية -
"ابتعد عن أصدقاء السوء".
كانت هذه هي نصيحة أمي لي قبل أن تلقى مصرعها مع أبي في حادث
سيارة شنيع ،ظل حديث الصحف لعدة أيام من فرط بشاعته ،حيث سقطت
السيارة من فوق الكوبري لتسحق سيارة ثانية أسفلها ،لتحترق السيارتان
ويتفحم من بداخلهما.
وبشاعة الحادث أتت من معرفة طبيعة ركاب السيارة الثانية ،والتي كانت
تحتوي على خمسة أطفال ووالدهم ووالدتهم.
كثيرا هذه الليلة ،وحملت أنا ذنب الحادث بداخل قلبي
لقد مرح الموت ً
إلى األبد .خاصة وأنه وقع في ليلة خاصة ج ًدا ،ويتكرر االحتفال بها كل
عام ،وهي الليلة التي تسبق عيد الفطر مباشرة ،أي اليوم األخير في شهر
رمضان المعظم.
العالم كله يستعد في هذه الليلة لبهجة العيد التي فاح عبيرها في األفق،
وتدفق ضياؤها في حيوية على العالمين ،وأنا أجتر ذكرياتي الحزينة ،وحي ًدا..
تعيسا.
ً
أحيا إلى األبد بال عيد.
-8-
يقولون إن الموتى يشعرون بدنو أجلهم ،وهناك من يدعي بأن المقبل على
الموت ،يكون قد توفاه اهلل في حقيقة األمر قبل أربعين ليلة من صعود روحه
إلى السماء ،والدليل على ذلك هو التغيرات الكثيرة التي تصيب شخصيته،
يصاحبها ذلك التبدل في نشاطاته اليومية والتي ال يلحظها إال المقربون منه.
من يرى المقبل على الموت يؤمن بأنه هائم في عالم آخر ،عالم يختلف عن
مقاييسنا وتوقعاتنا ،إنه معنا وليس معنا ،إن جسده هنا لكن روحه هناك وراء
الغيم.
وهذا االعتقاد سائد في معظم الثقافات البشرية ،ويختلف األمر فقط في
يوما
المدة التي ساد االعتقاد بوفاتهم قبلها ،والتي تتراوح ما بين أربعين ً
ونصف يوم كما يعتقد النوبيون ،مما يجعلنا نتساءل عن حقيقة هذا
االعتقاد ..وفي النهاية كلها تخمينات قد تصيب وقد تخطئ ،فالروح من أمر
اهلل عز وجل.
ما ال أستطيع تفسيره هنا هو إصرار أبي الشديد على بقائي في ذلك اليوم
األسود بصحبة جيراننا وعدم اصطحابه لي معه ،إن لفعلته الغريبة هذه مغزى
دليال ال يدحض على كونه شعر بالسوء القادم ،فلم
وداللة دون شك ،بل ً
يجازف بحملي معه هذه المرة كما اعتاد طوال السنوات السابقة ،فاألمر
يخصني أكثر مما يخصهم ،فما سيبتاعونه من المدينة هي مالبسي ال
مالبسهم.
-9-
ربما هي شفافية المحتضرين!!..
أو قلوب اآلباء التي تمثل أجهزة إنذار مبكر ضد األخطار التي قد تصيب
فلذات أكبادهم،أو أن أجلي لم يحن بعد ،وكلها أسباب تضافرت كي أبقى
على قيد الحياة ،بعد أن فقدت شمس وقمر حياتي -أبي وأمي -ألعيش
بدونهم في ليل الحياة المدلهم.
المخيف في األمر أن األحداث في هذه الليلة دارت بوتيرة سريعة ج ًدا،
وكأن أبي كان يعلم بأنه على موعد حار مع الموت ،فقرر أن يتعجل كي
يلحق بموعده وال يخلفه.
وما يحز في قلبي حقيقة هو حماسته المفرطة لألمر ،ولهفته المضاعفة
إلسعادي ،إن األطفال يشعرون جي ًدا بالحنان واالهتمام ،بوصلة قلوبهم
تفرق بين الحب الحقيقي والزائف.
وكان اهتمام أبي وحبه لي حقيقيين ،لقد أدركت هذا حينها وأفتقده اآلن.
كم كان يثقل كاهله ذنب غيابه المستمر في العمل وقلة رعايته المباشرة لي،
وبطريقة ما فإنه اعتبر هذا الغياب إهماالً ،لذا فهو مصر طوال الوقت على
تعويضي وهذا ما دفعه وهو القادم من عمله المرهق في منجم السكري ،إلى
الخروج من المنزل مرة أخرى فور وصوله من السفر وقبل حتى أن يستحم
ليزيل غبار وعرق هذا السفر الطويل المجهد ،لشراء مالبس العيد لطفله
- 01 -
الوحيد المدلل ،الذي هو أنا .والذي ينتظر في لهفة وشغف تلك اللحظات
األسطورية التي يتم فيها ابتياع مالبس العيد.
إن مرحلة شراء المالبس الجديدة هي نصف بهجة العيد ،والباقي يتوزع بين
مصروف العيد وكعك العيد والتنزه ،وتلك الطقوس أو التفاصيل هي ما
ومميزا عن العيد في كل بقاع العالم..
ً تجعل العيد على أرض مصر مختل ًفا
إن العيد في مصر كائن حي ..طفل شقي ..ال يعرف إال رسم البسمة على
الوجوه التي أرهقها السعي طوال العام ..طفل جميل يحافظ على مواعيد
تعاطي البهجة ..ويالمس بشقاوته القلوب.
نادرا ما يهتمون بمثل هذه التفاصيل البسيطة ،ويلقون بها على
معظم اآلباء ً
عاتق األم ،خاصة مع ظروف العمل والسفر المستمر .إال أن أبي كان يعتبره
مقدسا وال بديل عن أن يؤدي مراسمه بنفسه ،حتى إنه كان يداعب أمي
أمرا ً
ً
عندما يرى نظرتها المشفقة قائال:
-إن كل التعب واإلرهاق ،يزوالن عندما أرى مالمح السعادة على وجه
(أمجد)..
وأمجد هو اسمي بالطبع كما توقعتم فال يوجد طفل آخر في القصة حتى
هذه اللحظة.
- 00 -
إنه تجسيد رائع لمعنى األبوة ،خاصة وأن اآلباء ال يظهرون الحنان ألبنائهم
وحازما ،وقاسيًا في أغلب
ً عبوسا
ً بسهولة ،فالعرف أقر بأن يكون األب
األوقات..
وكعادة كل شيء جميل ،انتهى هذا الفصل المميز من حياتي ،بحادث عابر
وكخبر غير مشوق في صفحة الحوادث ،حادث يتكرر دوريًا أسرع من
طباعة األعداد الجديدة من الصحف ،حادث ينساه الصغار ،ومعه ينسون
آباءهم وربما تلك الفترة الزمنية بالكامل ،لتصبح كحلم باهت ،ال تفسير له.
ولكني لم أنس ..فوقتها كنت في العاشرة ،وهو سن كبير إلى حد ما؛ تكون
الذاكرة تعمل فيه بكامل طاقتها ،لذلك ظل الحادث يجثم على صدري،
يؤرقني طويال ويثير الشجن في قلبي.
لقد اعتبرت نفسي مسؤالً عما حدث لسبب أو آلخر ..وبرغم نضجي
وعلمي بأن الحادث وقع ألن أجلهم قد حان إال أني لم أسامح نفسي قط،
متوترا قصير الفتيل ،أتشاجر ألتفه األسباب ،وال أكف عن
وهذا ما جعلني ً
إيذاء نفسي ومن حولي.
عاما .وهي فترة
واآلن مر على هذا الحادث األليم ما يقرب من خمسة عشر ً
طويلة ج ًدا ،وكفيلة حتى لشخص قوي الذاكرة مثلي ،لينسى األمر كله أو
على األقل ليتجاهله ويمضي في حياته..
- 01 -
ولكن األمور لم تكن بهذه البساطة أب ًدا .لقد كان وقع األمر على روحي
كاسحا ،خاصة مع انتقالي للسكن مع جدي الكهل في منزله البعيد.
ً
جدي الذي لم أعرف بوجوده على قيد الحياة إال بعد مصرع والدي ،لغز
جديد ومخيف يضاف إلى سجالت عمري البيضاء ،وينافي تلك الصورة
المالئكية التي تمأل روحي عن اآلباء ..ال يمكن ألب أن يهجر ابنه إال في
كارثة كونية أو عندما يختطفه طائر الموت ..فلماذا هجر جدي ولده أم ترى
هل حدث العكس ؟!.
لم أجد وقتها إجابة ..فتركت األمر لأليام ..فاأليام وحدها كفيلة بإزالة
الحجب عن هذا السر.
فقدان األصدقاء أصابني بتوتر نفسي شديد اختلط بإحباط واكتئاب
شديدين ..إن كل هذه التغيرات ال يمكن أن يستوعبها عقل طفل بهذه
واضحا بروحي .واألكثر وطأة ما تحتويه
ً شرخا
البساطة ،لقد صنع االنتقال ً
حياة جدي الشيخ ياسين من أسرار وغموض .جدي الذي لم أستطع أن
دائما الشيخ ياسين.
أناديه جدي بقلب مستريح ،وظل ً
****
في الليلة األولى التي قضيتها في منزل الشيخ ياسين لم أر النوم لحظة
واحدة .رائحة الفراش المكتومة والمختلطة برائحة عرق من سبقني كانت ال
تطاق ،فكرة أن هناك من سبقني للفراش كانت مروعة ..خاصة وأني طفل
- 01 -
وحيد ألب وأم ميسوري الحال جعال طفلهما هو قبلة أحالمهما فمنحاه
خصوصية ومميزات وقواعد صارمة عن استخدام أشياء اآلخرين ،أو
استخدام اآلخرين ألشيائه.
لم تكن الشراشف التي حال لونها تحمل تلك الرائحة العطرية التي تميز
شراشف أمي وال نعومتها المعتادة ،لم تكن طرية وودود مثلها ،بل يابسة
ومتجلدة وتبعث على االشمئزاز.
مكتوما وكأنه هرم
ً كانت بداية غير مشوقة أب ًدا ..الهواء نفسه كان ثقيال
ومرض مع الشيخ ياسين ،فضاق صدري منه ومن كل شيء ..حتى إني
فكرت في الهرب ..ولكني لم أعرف إلى أين!! لو تجاهلت صدمة اللقاء
األولى مع الشيخ ياسين ..فلن أستطع أن أتجاهل تلك األصوات أو أنكر
سماعها.
أصوات مخيفة صاخبة غير واضحة أو مفهومة ظلت تصدر طوال الليل من
غرفة الشيخ ياسين التي تقع في آخر الرواق ،لتبعث مزي ًدا من القشعريرة في
جسدي وأطرافي ،والتي كان صداها ينتقل إلى أذني في تعبيرات مبهمة
متألمة ،مختلطة بصوت أشبه بثغاء الجديان ،مع حديث مبهم بلغة غير
مفهومة.
يومها فسرت األمر عن غير اقتناع ودموعي تغرق وجهي ،بكون الشيخ
قديما على شاشة التلفزيون ،على الرغم من أني
فيلما أجنبيًا ً
ياسين يشاهد ً
- 01 -
في وقت الحق لم أعثر على هذا التلفزيون المزعوم في أي مكان من
المنزل.
حاولت أكثر من مرة أن أقترب من غرفة الشيخ ياسين ألتقصى األمر،
فالغرف المغلقة كفيلة بإشعال فضول ألف قط ،و ظلت الغرفة تطاردني في
أحالمي وتثير حفيظتي حتى تحولت لقط فضولي أخر .
فهل قتل الفضول القط ؟!
وبشرا أكثر.
نعم لقد قتل قططًا كثيرة ً
الشيء العجيب الذي لم أنتبه إليه وقتها هو أنني كلما اقتربت من الرواق
شبه المظلم والذي تقع الغرفة في نهايته ،كنت أفقد اهتمامي بشكل غريب
دائما سبب قدومي إلى هذا
ويشغلني طارئ ما عن مواصلة فضولي ،وأنسى ً
المكان من األساس .وكأن هناك قوة ما تحرص على عدم اقترابي من الغرفة
بأي حال من األحوال.
وطوال فترة وجودي بالمنزل لم أستطع دخول غرفة الشيخ ياسين ألتأكد من
وجود جهاز تلفزيون بالداخل ،فهي تظل مغلقة طوال الوقت ،سواء أكان
داخلها الشيخ ياسين أو خارجها.
و هذا األمر نبهني إلى كارثة أخرى ،وهي عدم وجود تلفزيون آخر في المنزل،
هذا لو كان هو بالفعل مصدر تلك األصوات المرعبة التي ال تنقطع طوال الليل.
- 05 -
األمر أكثر من مفزع ..فلو ظل التلفزيون في الغرفة المغلقة ،سيتحول المنزل
بالنسبة لي إلى سجن حقيقي ،وسيصبح المكان جزيرة معزولة ،وأنا قد أجن
ببساطة.
إن التلفزيون لصبي في مثل عمري ،يعني أكثر بكثير من مجرد صندوق ذي شاشة
فضية يعرض الصور ،إنه نافذتي على العالم ،أبطالي الكرتونيون هناك ،أحالمي
تعرض مرتين في اليوم ،ال يوجد قضبان على نافذة روحي ،فأنا اآلن في الفضاء
وبعض لحظات في أعماق األرض ،وربما أقضي الليلة بصحبة بطل إسفنجي -
فخور بمالبسه الداخلية – في قاع البحر.
إنه المنفى الحقيقي.
حنقي من عدم وجود التلفزيون ،شغلني عن أمر هذه األصوات الغامضة المخيفة
تماما،
تلقائيا قرب الفجر حتى تالشت ً
ً في هذه الليلة السوداء ،والتي خفتت
ولكني لم أطمئن لها أب ًدا ،هناك شيء ما شرير يحاك في الظالم ..تحت سقف
صحيحا..
ً هذا المنزل ..وبالذات بداخل هذه الغرفة المغلقة..فلو لم يكن توقعي
فلماذا ترتجف أطرافي بهذه الطريقة ولماذا يدق قلبي بهذا العنف؟.
كما أخبرتكم تالشت األصوات قرب الفجر ،ولكنها تركت في فضاء الغرفة ضي ًفا
ثقيل الظل ..وهو الخوف.
الح ًقا لم تعد هذه األصوات تثير قلقي أو إزعاجي ..إنه االعتياد الذي يقتل رهبة
األشياء ،أو هو شعور ما تسلل إلى روحي بطريقة غامضة وترسخ هناك فلم تعد
األصوات مخيفة.
- 06 -
هل تشعرون مثلي بأن األمر مريب ؟!
الخالصة أنها كانت ليلة سوداء لم يزرني فيها النوم قط ،ولم أشعر فيها باألمان
مضاء طوال الليل ،وهذا أثار حنق الشيخ
ً لحظة واحدة .لذلك تركت المصباح
ياسين ضدي في الصباح ،ويومها لم أفهم لماذا ؟!
وهذا جعلني أنظر لأليام القادمة على أنها ستكون أسود أيام في حياتي ،ولم يخب
كثيرا.
ظني ً
هل بكيت ؟!
دون شك ،إنني وحيد في بيت األشباح هذا ،وأنظر للمستقبل بمنظار أسود
لعين.
إنني وحيد إلى األبد ،ال أب وال أم ،وال إخوة ،واألصدقاء تركتهم خلفي ،وجدي
مخيف ج ًدا.
- 07 -
-عايدة-
رحيما ورئي ًفا بسني وضعفي ،فلم يستمر جحيم الشيخ ياسين إال
كان القدر ً
فترة قصيرة ،وإن كانت مرت علي كالقرون ،ما بين االحتجاز في المنزل
المغلق ،وتلك األصوات المريعة التي تثير القشعريرة في جسدي كلما
اخترقت سمعي ،والطعام السيئ ،ولكنها رغم كل مساوئها انتهت كما ينتهي
الطغاة والوباء وثورة الطبيعة ،فلم أعد وحي ًدا بصحبة الشيخ ياسين في هذا
قليال ،خاصة عندما أقبلت
المنزل المخيف .فبعد عدة أيام تغير األمر ً
(عايدة) بردائها األسود ووجهها الصبوح إلى المنزل.
وعايدة سيدة ريفية في العقد الرابع من عمرها ،تشع النظافة من كل ملمح
من مالمحها ،وقد استقدمها جدي خصيصاً لتعنى بي وبشئون المنزل التي
تضاعفت بوجودي.
وجودها نفسه أحيا المكان وبعث فيه الروح من قلب الرماد .وبعد لمستها
السحرية ومجهود مضني ،أصبحت غرفتي أكثر قابلية للسكن ،بعد أن
كانت أقرب إلى المخزن منها إلى غرفة .وخاصة بعد أن أخرجت منها أطنان
الغبار التي تراكمت عبر األعوام ،وبيوت العنكبوت التي كانت تشبه الستائر
من كثافتها ،وغمرت األرضيات بذلك السائل النفاذ الرائحة المسمى
(الفنيك).
- 08 -
حقيقة أن رائحة الغرفة أصبحت كرائحة المستشفيات ،ولكنها لم تعد تجثم
على روحي.
طعام عايدة لم يكن بجودة طعام أمي رحمها اهلل ولكنه مقبول إلى حد كبير،
خاصة مع هذا البيض المقلي الهالمي الذي قدمه لي جدي على العشاء
أمس ،والذي لم تقبله معدتي أب ًدا ،فأخذت تعاقبني عليه بآالم شديدة
وإسهال مضن.
ال أعتقد أن هناك دجاجة في الكون من الممكن أن تبيض بيضة بمثل هذا
ضلعا في مؤامرة كونية تحاك ضدي ..العيب إذن في
السوء ،إال لو كانت ً
طهو الشيخ يا سين.
ضا أنني لم أر الشيخ ياسين يدخل المطبخ قط ناهيك عن طهو
والجميل أي ً
الطعام وكأنه يعد كل شيء في غرفته ،أو يعدها له شخص ما ال أعرف
بوجوده في المنزل.
الخالصة أن قدوم عايدة إلى المنزل كان رحمة من رحمات اهلل التي خصني
بها ،خاصة وأنها دمثة األخالق حلوة المعشر ،وحبها لي ال ادعاء فيه.
عامة لقد استطعت في فترة وجيزة التأقلم جي ًدا على حياتي الجديدة ،وإن
بقت بعض المنغصات التي أثارت ضيقي -وليس خوفي -لفترة طويلة،
منها هذه األصوات التي ال تنقطع طوال الليل والتي تخرج من غرفة جدي
المغلقة ،والتي زادت في الفترة األخيرة إلى حد مثير لألعصاب واختلطت
- 09 -
بأصوات أخرى مروعة هي مزيج من خوار وأنين وصرخات متألمة ،وكأن
بداخل غرفة جدي قبو للتعذيب.
عايدة كانت تتعمد عدم الحديث عن الغرفة وكأنها غير موجودة بالمنزل،
آخر حدود لها كانت عتبتها عندما تضع الطعام للشيخ ياسين ثم تنصرف،
الشيخ ياسين الذي لم يعد يحرص على تناول طعامه منذ عدة أيام.
شيء آخر كان يثير ضيقي إلى أقصى مدى ،وهو حرص الشيخ ياسين
حرصا أب ًدا ،إنه البخل الخام،
الشديد في اإلنفاق والذي اكتشفت أنه ليس ً
تجهما.والمطلوب مني أنا الفتى
ً عم دهب آخر ولكن أكبر سنًا وأكثر
المدلل أن أخضع لقواعده ،وأبتلعها في صمت.
ولم يكن هذا ديدني ..الفتى المدلل الذي اصطحبته معي إلى المنزل تالشى
من الوجود ..اآلن هناك أمجد الذي ال يرضى بسياسة األمر الواقع .وتلك
المعركة التي خضتها من أجل الحصول على التلفزيون ،خير دليل على
ذلك .إن رأسي كالصخر وعزيمتي ال تلين بسهولة .لقد أرهقني اإللحاح كما
أرهق الشيخ ياسين ،وفي النهاية ربحت المعركة وحصلت على التلفزيون،
ولكن روحي تشبعت بضيق ال نهاية له .ومثل هذه األمور تمثل تحديًا لمن
هم في مثل عمري ،وتنشط تلك البؤرة الشريرة في أعماقهم.
لذلك صار تهشم األطباق واألكواب حدثًا يوميًا ال ينقطع ،وفساد األطعمة
خارج الثالجة بعد نسيانها في أماكن غير متوقعة نشاطًا دوريًا ،هذا غير
- 11 -
المالعق والسكاكين المفقودة ،وفرد الجوارب التي ال تظهر أب ًدا ،وأجزاء
الكتب التي كان يحرص عليها جدي بشدة من المكتبة الموجودة في غرفة
االستقبال .وهذه األنشطة تزداد كثافة في تلك األيام التي تغادرنا فيها عايدة
لزيارة أمها المريضة في البلدة المجاورة ،أو تذهب فيها لعميلها اآلخر،
فعايدة غير منقطعة لنا بالعمل ،إنها تحتاج للمال لسبب ملح ال أعرفه،
وبالتالي فهي تعمل طوال الوقت كماكينة أبدية ال تتوقف.
كنت أعامل الشيخ ياسين كشيطان مريد ،وصورة فريد شوقي في دور
(عوض) في مسلسل (البخيل وأنا) تطاردني بإصرار ،والسؤال الكوني يدور
في رأسي :ترى أين يخفي الشيخ ياسين صندوق النقود المكتظ ،تلك التي
جمعها عبر سنوات عمره السبعين ؟!
حاول الشيخ ياسين أن يردعني بنصائحه دون فائدة ،وعندما كان يفشل،
كان يثور علي ،ويعنفني ،وربما ذات ليلة يتركني دون عشاء ،ولكن األمر
المؤكد أن حدة العقاب لم يرتفع سقفها ألكثر من هذا ،فلم تمتد يده لي
باألذى ولو مرة واحدة .فقد كنت أذكره بولده الراحل عندما كنت في مثل
سنه ،وألنه ال يريد أن يكون السبب في فقدي ،كما كان السبب في فقد
ولده الراحل كما كان يردد ،وهو شيء لم أستطع تفسيره وقتها.
لقد مات والدي في حادث سيارة ،فكيف يكون لديه يد في ذلك ؟!
- 10 -
وهم ..التي يرددها طوال الوقت ،تؤكد بأن أمراض الخرف والشيخوخة قد
بدأت تنال منه.
فهم ..الذين قتلوا والدي ،ال يسكنون إال في رأسه فقط.
والتفسير البسيط ،هو شعوره بالذنب ألنه هجر والدي منذ فترة طويلة ،أو
أي سبب آخر.
حقيقة كنت أشفق عليه لكبر سنه بعد كل مقلب كنت أقوم به ضده ،ولكني
لم أتوقف عن أفعالي لحظة واحدة ،فشيطان األطفال ضعيف الذاكرة كما
تعلمون ،والدليل على ذلك أن ضحكاتي كانت ترتفع أكثر وأكثر مع
المقلب التالي .إن تلك البذرة المسماة الضمير لم تكن قد كشفت بعد عن
براعم في أرض روحي الخصبة ،لذلك صار األمر كله لعبة مسلية ،خاصة
وأن العقاب هين على الدوام.
فثورة جدي باردة ،والثورات الباردة ال تحقق أهدافها أب ًدا.
الحياة مع جدي صارت محتملة إلى حد ما خاصة بعد ظهور عايدة في
حياتنا على الرغم من كونها ال تقضي معنا في المنزل أكثر من يومين أو
ثالثة أسبوعيًا .إن وجودها صار يعني الحياة ذاتها .ولكن هل تبقى الحياة
على وتيرتها الحالية ؟!.
- 11 -
احتاجت إجابة هذا السؤال عدة أسابيع كي تتضح ،وكانت اإلجابة بالنفي
بالطبع فلن تمضي الحياة دون منغصات ،هذا ليس ديدنها ،ولم تج ِر األمور
كما تمنيت ،وكما توقعتم.
فما أثار حنقي وغضبي ونغص علي ليالي في األيام التالية ،هو ابتعاد أبناء
الجيران الذين هم في مثل سني أو أكبر قليالً عن صحبتي ،وتجنبهم اللعب
معي لسبب غير مفهوم ،والكارثة أني عرفت أن األمر بتحريض ذويهم.
وكأني حامل لوباء ما أو أجلب خلفي الطاعون.
وما أكد لي شكوكي ،هي تلك الحادثة التي سأقصها عليكم اآلن.
فذات يوم ربيعي يغمره النسيم ،نسى أحد األطفال تعليمات أبويه الصارمة،
معا بلعب (السيجا) والتي رسم مربعاتها شخص ما في يوم سابق.
واندمجنا ً
وما أن مس بقدمه خط أحد المربعات عن طريق السهو عندما كان يحجل
معا
مهشما إحدى قوانين اللعبة ،حتى ثرت عليه واشتبكنا ً
ً على قدم واحدة
باأليدي ،ألنه كان ينكر األمر ويكذبني.
وألنه كان أقوى مني فقد أصابتني قبضته القوية في أنفي ،فسالت بعض
قطرات الدم ،وبسرعة البرق وشىت به أخته الصغيرة ألبيه ،فما كان من
األب الذي ظهر فجأة وكأنما انشقت األرض عنه ،أن قام بعقاب فوري
كال وسبًا وهو يردد دون كلل :
صفعا ور ً
البنه ،فانهال عليه ً
- 11 -
-ألم أحذرك من اللعب معه ،هل تريد أن يؤذي الشيخ ياسين أبويك أو
أخوتك .إياك أن تلعب مع سليل الشياطين هذا وحتى يحتويك القبر.
وليؤكد على جدية األمر ظل يصفعه حتى غاب عن بصري.
حائرا طوال اليوم ،وفي النهاية قررت أن أخبر
يومها أسقط في يدي .وظللت ً
الشيخ ياسين بما دار ليكشف لي حقيقة ما يحدث.
الغريب أنني عندما أخبرته صمت ولم يرد ،وإن ظهر ضيق كاسح في عينيه،
وعندما مست يده رأسي فقدت كل اهتمامي بالحادث ،كأن لم يكن.
ولحظتها شعرت براحة هائلة ،وزالت كل المشاعر السيئة من داخلي ،وال
أعرف حقيقة كيف أن الشيخ ياسين لم يعد مخي ًفا كالسابق ؟!.
مضت األيام في طريقها المعتاد ،وعشش طائر الملل فوق أغصانها ،وبدا
وك أنها ستظل على رتابتها إلى األبد ،حتى بدأ العام الدراسي ومعه بزغت
شمس جديدة ،وقدم لي جدي أوراق اعتمادي في المدرسة الجديدة ،وجاء
اليوم الذي سأذهب فيه إلى المدرسة ،وكانت نصيحته األثيرة " :ابتعد عن
أصدقاء السوء".
إنها ليست المرة األولى التي أستمع فيها لهذه النصيحة ،ولكن ال بأس
ألذهب أوالً إلى المدرسة ،وبعدها لنناقش أمر هذا الوباء المسمى أصدقاء
السوء.
- 11 -
حريص ا على أن تكون المدرسة قريبة من المنزل ،حتى ال يضطر
ً كان جدي
إلى إنفاق نقوده على االنتقال إليها ذهابًا وإيابًا ،لذا فإنه اضطر لالستعانة
بأحد أصدقائه القدامى كما ادعى ،والذي تصادف كونه زوج مديرة المدرسة،
ليلحقني بها.
ال أعرف كيف أقنعه بهذه البساطة على إتمام التحاقي بالمدرسة،ولكني
لمحت ذلك الشخص يرتجف وهو يتراجع بظهره أمام الشيخ ياسين وكل
باردا لهذه الدرجة.
ذعر الدنيا يطل من عينيه ..العجيب أن الجو لم يكن ً
- 15 -
-سحر أسود-
وبرغم أن المدرسة لم تكن تبعد عن المنزل إال مسافة كيلو واحد إال أني
جعلت األمر بالنسبة لجدي كالجحيم ،فلم أتوقف لحظة عن الشكوى،
فالشمس حارقة ..المجاري الطافحة ..الغبار يجثم على صدري ..ساقاي
تؤلماني ألن المسافة طويلة على من هم في مثل سني.
ولكن جدي كان قد ا حتاط لكل هذه المنغصات فلم أستطع هزيمته في
جنيها واح ًدا إلبطال حجتي هذه ،فقط
هذه النقطة ،فاألمر كله لم يكلفه إال ً
عندما قام بمأل إطارات دراجته القديمة بالهواء ،ليقوم بتوصيلي بها يوميًا إلى
المدرسة.
ال يخفى عليكم بالطبع تلك الحوادث العرضية التي ظلت تقع للدراجة،
كثقب اإلطارات ،أو خلوها المفاجئ من الهواء ،أو اختفائها كليًا ،ولكنه
دوما مستع ًدا ،لذا باءت كل جهودي للتخلف عن المدرسة بالفشل كان ً
الذريع ،وإن نجحت إلى حد ما في إثارة غيظه.
في النهاية انتظمت في المدرسة ،بل وأصبحت أقطع الطريق وحدي إليها
دون معاونة جدي ،فقد انقلب السحر على الساحر ،فبدالً من أن أثير
ضيقه ،أصبح هو يحد من حريتي ،لذلك قررت أن أتخلى عن هذا الجزء من
اللعبة ،لتدور الدائرة ،وتمضي األيام.
- 16 -
الغريب في الحادثة السابقة ،أن جدي كان يقود الدراجة بنفسه ،وكأنه ال
تأثير للزمن على مفاصله وعظامه ،وكأنه شاب في العشرين من عمره ،لم
يتعب ولم يلهث ولم يظهر ضي ًقا وكأن زحف السنوات يختلف معه عن غيره.
إنه يمتلك قوة غريبة ..والمثير للغيظ أن هذا لم يثر ريبتي وقتها.
****
مرت سبع سنوات كاملة ،شاب فيها ما تبقى من شعر جدي األسود ،ربما
وقورا أكثر ،ولكنه أظهر على وجهه آثار زحف الزمن الذي
مظهرا ً
هذا منحه ً
ال يرحم ووطأته ،وكأن قوته السابقة كانت مؤقتة وتالشت مع الوقت .بل
تحكما في أعصابه ،وصار يثور ألتفه األسباب ويعنف
ً وصار خاللها أقل
عايدة طوال الوقت وبال سبب حقيقي.
كما زادت تلك الفترات التي كانت تلك األصوات تخرج خاللها من غرفته
مما حطم أعصابي لفترة طويلة ،وكانت مقدمة لتبدل مخيف في شخصيتي
ضا أكثر عن ًفا ونزقًا .وكأني أخرج انفعالي في ممارساتي العنيفة
فصرت أنا أي ً
مع الغرباء.
ما عرفته عن الشيخ ياسين فيما بعد ،أطار النوم من عيني.
فأنا الذي كنت أظن أن الناس ينادونه بالشيخ (ياسين ) لكبر سنه وتدينه،
اتضح لي خطأ تفكيري وحماقتي.
- 17 -
فغرفته المغلقة لم تكن تحتوي على صندوق النقود كما اعتقدت ،بل
تحتوي على كتبه وأدواته التي كان يمارس بها عمله الملعون ،والذي منحه
لقب الشيخ.
فجدي كان أحد هؤالء المشعوذين الملعونين الذين كانوا يقومون بممارسة
أعمال السحر ،واألحجبة ،وكل هذه األعمال المخيفة الغامضة التي تقوم
على إيذاء الناس باالستعانة بالجن والشياطين.
إنه يمارس باختصار السحر األسود.
لذلك لم يكن يسمح لي باالطالع على ما يقوم به ،وأخفى كل شيء عني.
وخوف الناس منه جعلني في معزل عن معرفة الحقيقة لفترة طويلة ولكن
ليس إلى األبد.
كنت فقط في حاجة إلى طرف الخيط ،ومنحه لي صديقي نجيب في أحد
ضا أن له شري ًكا آخر هو
حوارتنا ،وبعدها تكشف لي المجهول ،فعرفت أي ً
الشيخ (تهامي الحو) ،وهو عجوز قد تخطى العقد الثامن من العمر ويقترب
من التاسع بخطوات حثيثة ،و يعتبره الشيخ ياسين معلمه وأستاذه وربما هو
الشخص الوحيد الذي يثير اسمه الرجفة في قلب الشيخ ياسين.
وفي منزل الشيخ (تهامي الحو) يقومان بكل النشاطات المريعة التي يقوم
بها كل مشعوذ يحترم نفسه وعمله ،من زار واستحضار أرواح ،وفك السحر،
- 18 -
وربط األزواج ،والطالسم المختلفة واالتصال بالجن والشياطين وكل هذه
األشياء التي جعلت رب العالمين يلعنهم في كل كتاب.
إنهم من أحط أنواع السحرة وأكثرهم حقارة.
يوما على فعل واحد من كل
ولو علمت ما علمته هذا من البداية لما جرؤت ً
ما كنت أقوم به مع الشيخ ياسين.
الغريب في األمر أنه كان يعامل الناس بطريقة ويعاملني أنا بطريقة مختلفة،
ضا ،لم أعهدهإن عينيه تحمالن لي من الشفقة الكثير وربما من الحب أي ً
قاسي القلب ،بل كان حنونًا ولم تمتد يده بالسوء لي في يوم من األيام،
وكنت أبرر تصرفاته مع عايدة باعتبارات السن ال أكثر.
حقيقة ال أعرف كيف يحتوي صدره على قلب مماثل ،وهو ال يكف عن
إيذاء الناس مقابل حفنة من المال.
مفزوعا إثر حلم سيء أو كابوس،
ً ضا أنه عندما كنت أقوم من نومي
أذكر أي ً
متأخرا فإنه يصر على
ً كان يحضر لغرفتي على الفور ،ومهما كان الوقت
إطالق البخور نفاذ الرائحة في الغرفة ،برغم أن الدخان الناتج عن حرق هذا
البخور كان يثير ضيقي ،إال أنه كان يستمر فيما بدأه .ومع البخور يظل يردد
كلمات وهمهمات غير مفهومة ،ويخبرني أني غير محصن ،وأن الشر
يسكن في كل شيء ،واألذى متوقع ،لذا فالبخور يطرد كل ما هو شرير من
الغرفة ،فليست كل األحالم طبيعية.
- 19 -
كنت أعتقد أنها خرافات عجائز ،ولكنها لم تكن كذلك ..لألسف.
وألني لم أكن أفهم المغزى من حديثه طوال الوقت ،فلم أكن أبالي .وفي
واقعا تحت تأثير
هذا التوقيت بالذات الذي هاجمتني فيه الكوابيس ،كنت ً
طرا ،بل وكنت
نوع آخر من السحر ،بل هو أقوى أنواع السحر وأشدها ً
بكياني كله أسكن في عالم آخر ،في كون تتالقى فيه الطيور الدرية على
شواطئ تلك البحيرات السابحة في العطر ،المفعمة باأللوان ،لتتبادل كؤوس
العشق.
لقد وقعت في الحب .لقد سحرتني سماح .ولم يعد يشغلني شيء في
الوجود عنها.
و سماح كانت زميلتي في الدراسة ،إنها أكثر الفتيات الالئي رأيتهن في
وسحرا وأنوثة .إنها األنثى الكاملة ،تلك التي تمنحك نظرة
ً حياتي جاذبية
من عينيها االكتفاء ،وتشعر بالرضى لمجرد وجودها بجوارك ،إنها الكمال
الذي لم يخلق لبشر ،والحلم الذي ال يستطيع الكون احتواءه ،إنها هي..
سماح.
كنت أذهب للم درسة من أجلها ،وأتمنى في كل لحظة لو صرت تلك
الحقيبة الصغيرة التي تضمها دوما لصدرها .ولكن األحالم ال تتحقق
بسهولة .فبرغم كون المدرسة مشتركة ،لم يجمعنا فصل واحد ،فاإلناث كانوا
- 11 -
في فصول منفصلة ،واللقاءات بيننا كانت تتم على حياء ،وعلى الدرج،
ودون حديث.
جادا
حوارا ً
كانت متحفظة ج ًدا ،والمرة األولى التي حاولت أن أفتح معها ً
بعد أن هزمت خوفي ورهبتي ،تركتني وانصرفت ،وكأني كائن شفاف ال وجود
له ،أو أن حديثي يتم بذبذبة صوتية ال تصل إلى أذنيها.
كثيرا ،ولكنها كانت تواجهني بنفس ردة الفعل ،ال انفعال من
حاولت معها ً
أي نوع ،ال ضيق ال نفور ،ال إعجاب ،لدرجة أن عينيها كان تتجاوزني،
وكأنها ال تراني ،وهذا حطم أعصابي وكاد يصيبني بالجنون.
اهتماما ورد فعل أكثر حيوية مما يحدث معي
ً إن الصرصور سيأخذ منها
اآلن ،إن هذه الطريقة تسحقني.
إنها حولي في كل مكان .وهذا يمزقني !!
لقد فكرت ذات مرة أنها تتعمد اعتراض طريقي ،ولكن كيف يصدق هذا مع
ردود أفعالها التي تثير الجنون ؟!
وعندما صارحت زياد صديقي ،كان رده عجيبًا :
عمال ؟! من يكون جده الشيخ ياسين ال يقف هكذا
-لماذا ال تصنع لها ً
ببالهة أمام فتاة ،ثم من هي سماح هذه لماذا لم أرها من قبل ؟!
- 10 -
هذه هي النقطة التي كانت تقودني صوب الجنون بجدارة ،فصديقي المقرب
زياد والذي لم يترك فتاة طلعت عليها الشمس إال وتحرش بها ،ال يعرف من
هي سماح !!
وعندما وصفتها له ،ال هو وال أي من أفراد شلتي الكبيرة يذكر أنه رآها أو
اصطدم بها.
ال أحد رآها سواي ،وكأنها ال تظهر إال لي وحدي ،أو تنبثق من العدم وتعود
إليه .يومها قبض على ذراعي ،وهو ينظر نحوي في غموض وقال :
-إما أنك واهم ،أو أن قدرات أخيك زياد تضعف ،وأن زحف العمر عليه
قد أصاب عينيه بالعطب.
خاصا
ً ولدرء تلك االتهامات والنقائص عن نفسه ،قرر أن يجري بحثًا
وبطريقته ،وكنت آمل أن يعود بالمزيد من المعلومات عنها ،ولكنه في مساء
اليوم التالي ،عاد كاسف البال ،حتى خف ي حنين لم يحضرهما معه ،وبنفس
النظرة السابقة رمقني وقال :
-إما أنك واهم ،أو أن قربك من جدك أصابك بلوثة حقيقية.
لم أنصت لكالمه ،بل انشغل عقلي بجملة قديمة ،قالها زياد في حوار سابق
:
- 11 -
عمال ؟! من يكون جده الشيخ ياسين ال يقف هكذا
-لماذا ال تصنع لها ً
ببالهة أمام فتاة !!.
فكرة العمل نفسها ،لم ترق لي ..كانت أكبر من تخيلي واستيعابي ،ولم
تكن تحظى بقبول قوي لدي ،ولكن ما المانع لو أنها ستجدي ؟!!.
المشكلة اآلن كيف أطلب من جدي شيئًا مماثالً ؟! إن إقناعه بإنفاق
النقود برغم بخله الشديد ،أسهل من هذا الطلب.
أنا أعرف بالتأكيد أنه قادر عليه.
معا ،يستطيع أن يجمع عاشقين
إن من يفرق بين زوجين خاضا غمار الدنيا ً
تداعب قلبيهما نسائم العشق.
دفعني خوفي من مواجهة الشيخ ياسين ،إلى البحث في اإلنترنت.
وشبكة اإلنترنت هي المشعوذ الرقمي الحديث ،والذي ستجد لديه كل ما
ترغب ؛ فقط لتمتطي حصان جوجول أو غيره من محركات البحث التي
فاقت البلورة السحرية في سرعة جلب المعلومات.
وفي إحدى المنتديات اإللكترونية المتخصصة في علوم السحر والخوارق
وجدت بغيتي .إن النسخة اإللكترونية من كتاب شمس المعارف الكبرى
تحتوي على طريقة جهنمية ومجربة ،لعقد رباط المحبة كما يطلقون عليه،
حيث يتم فيها استخدام بيضة دجاجة مطلسمة لتحقيق األمر ،بعد القيام
- 11 -
بالطقوس المناسبة وكتابة تعاويذ وأرقام معينة على قشرتها الخارجية الصلبة..
ويكفي فقط أن يمس من يحمل هذه البيضة المطلسمة ،الضحية
المقصودة ،ليحملها على أن تسقط في غرامه وتتبعه في كل مكان كالزومبي،
أو كالمنوم مغناطيسيًا.
هو درب أسود ومعقد من سحر األرقام ،ونوع معترف به من السحر ،وأنا
قادر على القيام به ،ولكن هل أجرؤ ح ًقا ؟!.
- 11 -
-سماح-
وقبل أن أغادر هذا الكون الرقمي ،حامالً نسختي اإللكترونية من كتاب
شمس المعارف الرهيب ،قررت أن أتصفح بعض الموضوعات المتعلقة بهذا
الدرب من السحر ..سحر األلفة والمحبة.
وفي النهاية أصبت باإلحباط.
الحوار الدائر في المنتدى أثبت أن معظم هذه التعاويذ هراء ،أو أن من
يقومون بها على جهل مدقع بحقيقة هذه الفنون السوداء ،أو كما كتب
شخص ما في أحد التعليقات ،هي تحتاج لمن عقد معاهدة مع الشيطان.
تماما أن الشيخ ياسين البد وأنه قد عقد مثل هذه المعاهدة على
أنا واثق ً
األقل مع كبيرهم وربما منذ زمن طويل ،وإال لماذا يخشاه الناس إلى هذا
الحد ،ولماذا قاطعه ا بنه الراحل من قبل ،ولماذا تستمر هذه األصوات
المخيفة وهذا الثغاء المبحوح في الخروج من غرفته في معظم الليالي
القمرية ؟!
إن مفاتحة جدي في أمر مماثل ،تحتاج إلى شجاعة أسطورية ،ال أظن أن
هناك حفيد حي يمتلكها في هذه الدنيا بعد ،ثم أي صفاقة ألطلب من
جدي الشيخ الكبير ،وأنا الطالب الذي لم يتجاوز بعد الثامنة عشرة من
العمر ،بأن يساعدني بنسج شبكة جهنمية سحرية كي تسقط عن طريقها
إحدى الفتيات في غرامي.
- 15 -
العشق جنون كما يقولون.
أعتقد أن الصفع سيكون رد فعل منطقي من جدي لمجرد مفاتحته في
األمر.
لن أجازف بالطبع بمواجهة جدي ،كما أن الشعور الرافض بداخل صدري
تعاظم ليسيطر على كياني ،فليست هذه هي الطريقة التي أريد أن تبدأ بها
قصتي مع سماح.
ال إكراه في العشق الحقيقي.
فما نفعي من دمية أحركها لتتفاعل معي كيف أشاء ،دون إرادتها الحرة ؟!
أي مشاعر يمكن أن أتبادلها مع تمثال جامد المشاعر مبرمج على السمع
والطاعة ،ال حياة فيه.
أنا لن أقاتل ألحصل في النهاية على نسخة باهتة من عشق لم يمر بقلبها،
ولم يجلسها لتتأمل النجوم وتناجي القمر.
خالصا ،فال رجاء منه.
ً إن العشق دفء متبادل ،ولو لم يكن صادقًا،
ما أريده هو التفاعل التلقائي النابع من فيضان أحاسيسها الهادرة نحوي .ما
أريده هو عشقها المتدفق من قلبها دون إجبار ؟!
السؤال هنا ماذا لو ظلت على تجاهلها لي ،ولمشاعري ؟!
- 16 -
اإلجابة هنا لم تكن معروفة لي في نفس توقيت طرح هذا السؤال ،لصغر
سني واندفاعي ،ولتلك الظروف التي تحيط بي ،وتلك الحرية الكبيرة التي
أحظى بها مع خفوت دور جدي في حياتي ،بعد أن ألقى بعبئي كله على
كاهل عايدة ،إال أن هناك حقيقة ال يمكن أن تغيب على كل عين مبصرة،
وهي أن مشاعر الحب في فترة المراهقة متطرفة.
ولكن المتطرف أكثر هو الشعور بالفشل ،عندما يصدك من تظن أن
سعادتك أصبحت بيديه ،هذا سيحبطك ،سيحزنك ،وفي النهاية سيغضبك،
ونزق الشباب سيجبرك دون تردد على التهور ،واجتياز خطوط حمراء كثيرة،
وقد يجبرك على سلوك الطريق المظلم ،ألنه الطريق الوحيد المتاح أمامك.
وهذا ما حدث في وقت تال.
كثيرا في األمر ،حتى أنهكت عقلي وأعيتني الحيل ،وفي
أعملت فكري ً
النهاية قررت أن أمنح نفسي فرصة أخيرة قبل أن أقوم بأي عمل متهور.
دروسا خصوصية
لذا وفي مساء اليوم التالي انتظرتها ،كنت أعرف أنها تتلقى ً
في أحد المراكز في قلب المدينة .لقد تبعتها ذات يوم ورأيتها تلج هناك
قبل أن تختفي بالداخل.
وعلى ناصية الشارع الذي يوجد به المركز وقفت أنتظر عودتها ،وقد ارتديت
مؤخرا من متعلقات أبي
أفضل ثيابي ،وتعطرت بأفضل العطور والتي أخرجتها ً
الراحل.
- 17 -
كاسحا على النساء ،وخاصة الحمراء منها ،ولكن
ً تأثيرا
يقولون إن للزهور ً
لألسف لم ِ
يجد األمر معها ،لم تر الوردة الحمراء التي أحملها في يدي،
ولم ترني.
لم تتوتر كعادة كل الفتيات في مثل هذه المواقف ،ولم ترتبك ،أو يبدو أن
وجودي قد ال مس وجودها ولو للحظة واحدة.
إنني بالنسبة لها مجرد خواء.
فقط عبرت بجواري بنعومة وسرعة سهم حاد يخترق الهواء .بال أدنى انفعال
أو اهتمام .وبنفس خطواتها السريعة األقرب إلى العدو ،وبردائها األسود
وبشعرها الناعم الذي يذوب مع لون الرداء نفسه.
زوجا متأل ًقا منها،
إن أندر العيون هي العيون السوداء ،وهي كانت تمتلك ً
ولم تتالق أعيننا قط.
تجاوزتني وكأني لم أكن ،وال أشغل هذا الحيز الكبير من الفراغ ،فقط ما
نلته من مغامرتي الفاشلة ،هو تنسمي لرائحة عطرها الفواح ،الذي أصبح في
أنفي يمثل رائحة الفشل ،ولحظتها فقط شعرت بأنه ال أمل هناك ،إنها
مخلوقة من حجر صلد ،ولن يحرك فيضان مشاعري ،ولو خلجة من
خلجتها.
- 18 -
الطعنة في قلبي هذه المرة كانت نافذة ،وعلى مقدار األلم يأتي الغضب ،لذا
ثارت مشاعري ،وغلى الدم في عروقي ،وكما قلت :
إن كل المشاعر لدى المراهقين متعاظمة ومتطرفة ،لذا فإنني قررت أن
أجبرها على عشقي ،وبرغبتها أو بدون ستأتي لي صاغرة تستجدي رضاي.
وفي هذا األمر ،لن أوفر جه ًدا أو أعدم حيلة ،حتى ولو اضطررت القتحام
غرفة جدي ،وقمت بالتعويذة الموجودة في كتاب شمس المعارف بنفسي.
فأن تكون معي بغير إرادتها خير من أال تكون معي أب ًدا ،وهذا هو القول
الفصل.
****
عندما عدت ليلتها إلى المنزل ،كانت عايدة قد عادت من سفرها بعد أيام
من االنقطاع قضتها في تلقي عزاء والدتها.
عادت كئيبة داكنة البشرة ،وفقد وجهها نضارته وازدادت نحوالً..لم ِ
أبال
بها وال بطعامها ،إن قلبي حزين ..حزين ،وال رغبة لدي في الطعام وال
مواساة أحد.
إنني أحتاج من يواسيني.
الصمت يغلف المنزل ،وجدي يغلق عليه غرفته كعادته ،واألدخنة الناجمة
عن حرق البخور تخرج من أسفل باب الغرفة ،مختلطة برائحة عضوية
- 19 -
غريبة ،تعبق المكان ،وكأنه يتخلص من جثة ما عن طريق الحرق ،مع
همهمات غليظة ال تتوقف.
فليحترق العالم كله ،فلم أعد أبالي.
وبمجرد دخولي غرفتي ،انفصل وعيي عن كل شيء ،وانفجر بداخلي بركان
من الحمم والدموع ،وأصبح كل شيء له عالقة بحالتي المتردية.
فالبد أن رائحة الشواء النفاذة هذه ،هي رائحة أعصابي المحترقة ،وسحب
الكآبة التي تحيط بالمنزل ،ناجمة عن حزني الكبير.
إنني ضائع ،وحيد ،مكسور.
إنني ال شيء بدونها.
عدم يحيا في العدم ،ويتالشى في العدم.
لماذا يا سماح لماذا ؟!.
كانت حالتي تسوء بشكل واضح ،ودون وجود من يهون على قلبي آالمه،
فأنا أتجه صوب كارثة.
إن أفراد شلتي ،والتي جمعتها من خارج المنطقة وممن لم ينفروا من مهنة
دائما لنجدتي ،إن أعمارهم المتفاوتة تسمح بالكثير
جدي ،كبيرة ،متواجدون ً
والكثير من وسائل الترفيه ،فأصغرهم نجيب وهو في مثل سني وأكبرهم
- 11 -
رشاد وهو شاب ثري في الخامسة والثالثين ،ولكن أيًا منهم ليس قريبًا مني
في هذه اللحظة ألفضي إليه.
إنني وحيد ..تعيس ..حزين.
ناقوس يدق في عوالم النسيان.
األفكار في عقلي جميعها خيالية وجامحة ،فحتى لو اختطفتها فوق الحصان
األبيض ،كيف أعبر بها الحدود دون جواز سفر ،وكيف أصل بها إلى جزيرة
مهجورة في قلب البحر .لم تعد هناك جزر مهجورة في هذا الكوكب
المسمى األرض ،إن جوجول إيرث لديه خرائط تفصيلية عن كل شبر في
العالم.
إن العالم كله ضدي ،لذا سأكتب لها ما يجيش في صدري في قصيدة :
(أحالمي صغيرة
طموحاتي صغيرة
أن أكون أنا البحر
ِ
وأنت بداخلي جزيرة).
...
جزيرة ال يعرفها جوجل إيرث.
- 10 -
بداخلي ..بداخلي ..بداخلي..
الكلمة تتردد في عقلي كموسيقى حالمة ..ما أروع االحتواء ..إن األحالم ال
حدود لها.
كثيرا ..ال أريدها بداخلي ..وال بالقرب مني ..فقط أريد منها لمحة من
لن أطمع ً
االهتمام ،نظرة دافئة ،كلمة ولو كانت سبابًا ،أن تشعرني بأني موجود في هذا
العالم.
نظرت نحو الكلمات التي خطتها يدي منذ لحظات ،ثم مزقت الورقة.
شعرت بضعف.
بوهن.
بضياع.
دخلت الفراش ،ألنتحب ،ودون أن أشعر غفوت ،وبقلب عالم األحالم ،وجدتها
هناك.
تنتظرني ..تبتسم وتمد يديها لي ..تخبرني باسمها.
- 11 -
إنني أهفو لصحبتها ..ولكن ال..
نيران حارقة.
ال ال ال ال ال ال ..لن أذهب ِ
معك.
لست سماحِ ..
أنت شيطانة ..شيطانة. أنت ِ
ِ
وعندما استيقظت ،وبمجرد أن فتحت عيني ،وجد ت جدي يقف عند رأس
الفراش ،وعلى وجهه عالمات تفكير عميقة ،ممزوجة بقلق.
ولكن جدي ظل على وقفته هذه لم يتحرك ،لدقائق كادت روحي أن تزهق فيها،
وفي النهاية غادر الغرفة ،وبعد وقت ليس بالقليل عاد ومعه قنينة بالستيكية ،وأخذ
يسكب ما فيها من سائل في أركان الغرفة ،وهو ال ينفك عن ترديد تلك الكلمات
المبهمة غير المفهومة ،ما استطاعت أذني أن تلقطه منه بضع كلمات ال معنى لها
كلمات غير مفهومة ولكنها أثارت رعبي وجعلتني أؤجل مشروعي الكبير
ألجل غير مسمى.
ألن بداخلي تعاظم شعور مضني بأني في خطر مروع.
- 11 -
-الخطة -
رأسا على عقب ،لم
لم تظهر سماح في األيام التالية ،قلبت عليها الدنيا ً
أترك حجر إال وبحثت تحته ،ولم تأتني فكرة مهما كانت مجنونة إال
وجربتها ،حتى أني اقتحمت غرفة شئون الطالب وبحثت في الكشوف التي
تحتوي على أسماء الطلبة – في مغامرة ستقضي على مستقبلي لو كشف
األمر – ولكني برغم التهور والجهد المبذول لم أعثر لها على أثر ،هناك
اثنان سماح غيرها بالمدرسة ولكني أعرف عنهما كل شيء.
انتظرتها بالساعات في كل األماكن التي أتوقع وجودها فيها ،وأثناء بحثي
المضني اكتشفت أنني أجهل أهم معلومة عنها.
أين يقع منزلها ؟!
كيف وصل بي ا لغباء بأال أتبعها ولو مرة واحدة ألعرف مكان منزلها ،إن
هذه هي أبسط القواعد وكل عاشق أحمق يعرفها.
كيف سيؤثر روميو على جولييت لو لم يتبعها إلى منزلها ويلقي على مسمعها
أغاني العشق ويسمع السباب من والديها.
وفي النهاية.
ال أحد يعرف شيئًا !! وال أحد رأى شيئًا !!
إن األمر مريب ح ًقا !!
- 11 -
ضاع كل مجهودي ومجهود أصدقائي في تتبعها أو العثور لها على أثر،
بعض الفتيات ممن كانوا على عالقة ببعض أفراد شلتي ،أنكروا وجودها من
األساس في المدرسة ومركز الدروس الخصوصية ،مما جعلني أشك في أن
ِ
تختف في الليلة التالية ،لقيامه بسكب يكون لجدي يد في اختفائها ،ألم
تلك السوائل كريهة الرائحة في غرفتي وترديده لتلك التعاويذ الغامضة.
لو رأيتم نظرته في تلك الليلة التي زارتني فيها سماح في منامي ،ألدركتم أنه
أحاط بأمري كله ،سواء بقدراته أو باالستعانة بملوك الجن.
إن جدي هو المتهم األول في نظري ،وربما لو فتشت في أوراقه لوصلت
لطرف خيط.
أعرف حقيقة أن ما يدور في عقلي جنون ،ولكن من وقع في العشق ،لن
يرى مبالغات في حديثي ،إنني أتبع قلبي فقط .ثم من قال إن السحرة
يحتفظون بسجالت يدونون فيها أسماء ضحاياهم.
المعضلة الكبرى هنا أنني لو أردت أن أتأكد من شكوكي ،فالبد لي من
لماما.
دوما ،والتي ال يغادرها إال ً
دخول غرفة جدي المغلقة ً
والبد من سبب وجيه يدفعه للخروج وفي نفس الوقت ينفي تهمة االقتحام
عني ..إن الحصول على األوراق /الكتب ستمثل فرصة جيدة لمعرفة حقيقة
ما فعله مع سماح ،أو هذا ما أتمناه !!.
- 15 -
أعرف أن العقاب سيكون أسطوريًا لو سقطت بين يديه ،ولكن ما باليد
حيلة ،البد وأن أنفي عنه التهمة أو أثبتها عليه ألعرف طبيعة الخطوة التالية
التي سأخطوها.
ثم إن هناك صوتًا بداخلي ،يخبرني أنني على الطريق الصحيح ،وهذه
األحاسيس مؤشرات ال يجب تجاهلها ،ألنها رسائل من عالم آخر أكثر
شفافية وصدقًا .والسؤال هنا :
من أين أبدأ ،وبمن سأستعين ؟!
ومن سيكون غير أفراد شلتي بالطبع !!
هل أخبرتكم بأن سماح زارتني ليلة أمس في الحلم ،وأخبرتني أن جدي هو
من يمنع تواصلنا ؟! ..أعرف أن االعتماد على دليل واه كهذا درب من
دوما في عود واه من القش ،فما بالكم لو كان
الحماقة ،ولكن الغريق يتعلق ً
فرع شجرة قديم كالشيخ ياسين .والشيخ ياسين تحيط به من الشكوك ما
يجعل نصف حوادث المنطقة الشنيعة تنسب إليه.
فإن كان هناك متهم يسكن معك تحت سقف واحد ،فأي مصيبة ستقع
لك البد وأن له يد فيها.
وسماح أخبرتني في الحلم بذلك !
****
- 16 -
اليوم عرفت من عايدة أن جدي سيغادر إلى منزل الشيخ ( تهامي الحو )
ألن لديه عمل سيأخذ منه ساعات النهار كلها ،ولذلك فهي ستقوم بتنظيف
أرضيات المنزل والجدران ،وستعني بالسقيفة ،وأنها ستغادر لمدة ساعة
واحدة ستقوم فيها بشراء الكميات المطلوبة من المنظفات ومتطلبات
المنزل ،لتنهي بها مهمتها العاجلة.
من يرى عايدة اآلن ،البد وأن يعرف أن للحزن آلته الزمنية الخاصة ،والتي
يلتهم بها نضارة وشباب من يقع تحت مخالبه الحادة التي ال ترحم.
روحا ،وتحول كيانها
حزنها على وفاة أمها ،جعلها تبدو أكبر سنًا ،وأوهن ً
الغض ووجها الصبوح ،إ لى كيان ووجه مومياء ،فغارت عيونها إلى داخل
جمجمتها ،وشحبت مالمحها فهي أقرب للموتى ،وفقدت حيويتها فظهرت
كسيدة على أعتاب األبدية تنتظر الموت ،ولكن الموت يأبى أن يسعفها
بقبلته القاتلة.
الدموع تكاد تحفر على وجنتها مجار واضحة ،والسواد الذي يظلل عينيها،
يبدو وكأنه ناجم عن حرق ،والنوم ال يبدو رفي ًقا جي ًدا معها .لقد أصبحت
بعد وفاة أمها ،مجرد حطام إنسان ،سحق ،وينتظر أن تذروه الرياح.
ما الحظته عليها من طول عشرتي لها ،أنها عندما تحزن فإنها تقتل نفسها
باألعمال المنزلية ،لذا أتوقع أن يصير المنزل بعد عنايتها به كالجديد.
- 17 -
اآلن اتركونا من عايدة مؤقتًا ،فلو ظللت أحكي عن حالتها المتردية لسودت
مجلدات ،أعرف أن بعضكم يروق له الحديث عن الحزن ،وأعدكم لو تبقى
لي وقت ،أن نبكي وننتحب ونغرق سويًا في بحر الحزن األزلي ،فاألحزان
في قصتي بحر ال قرار له.
فقط دعونا اآلن نلتفت لتلك الخدمة الجليلة ،التي قدمتها لي عايدة دون
أن تشعر ،فالمنزل سيصبح ملكي لمدة ساعة ،وهي فرصة ربما لن تتكرر
لعدة أشهر قادمة وربما سنوات ،فجدي يزداد ضع ًفا ونحوالً ،ومنذ فترة يالزم
غرفته باأليام ال يغادرها.
لقد سمعت أن الفنون السوداء ،تتغذى على روح اإلنسان وتضعف جسده.
والبد وأن جدي يقوم بعمل شنيع يستنزف روحه وحيويته هذه األيام .البد
وأنه يعاني ليبعد سماح عني.
خبرا ،المنزل ملكي للمرة األولى ،والبد وأن أستغل
المهم ،أنني لم أكذب ً
الفرصة ،فشوقي لسماح هادر ،واأللم الناجم عن الفقد ،ال يماثله ألم آخر.
تجمعت مع شلتي ،ولحسن الحظ كنا في فترة األجازة الصيفية ،ومن يعمل
منا قرر بأريحية مريبة أن يتخلف عن عمله ،وإن عارض بعضهم في البداية.
ستة من األصدقاء وأنا سابعهم قررنا أن نقوم بالمهمة ،يدفعنا إحساس
غامض هامس ،وكأن اقتحام الغرفة ،هو العمل األكثر أهمية وقداسة في هذا
العالم.
- 18 -
هل شككنا للحظة في شيء ؟!
بالطبع ال..
ولو شككنا لم تكن هناك قوة في الكون ستمنعنا عن إنهاء ما عزمنا عليه.
ما اعتقدته ح ًقا وقتها أنهم سيستمتعون بمغامرة غير مسبوقة تبدد رتابة األيام
الحاضرة ،وأنا سأصل لليقين الكامل وربما يرتاح قلبي من ناحية سماح
والشيخ ياسين ،فبرغم جفاء سماح ،ومهنة جدي الشنيعة ال أريد أن أفقد
أحدهما أو أحمل له بقلبي ضغينة ،لذا قررت أن نقوم بالمهمة على الفور
ووضعت خطتي المرتجلة.
البعض سيقوم بمهمة المراقبة ،لتحذيرنا في الوقت المناسب من أي خطر
قادم ،والبعض اآلخر سيساعدني في الدخول إلى الغرفة المغلقة.
وألن المهمة لم تكن بسيطة فقد أحضر كل منهم شيئًا مفي ًدا في الوقت
البسيط الذي يفصل اتصالي بهم عن قدومهم.
لذا فإن أمين أحضر معه عتلة من متعلقات والده ،وقام زياد بإحضار
ميدالية المفاتيح الضخمة التي يحتفظ بها والده في قبو المنزل ،والتي تغص
بمفاتيح من كافة األشكال واألحجام ،وأحضر رشاد مدية سويسرية أصلية،
كان قد أحضرها معه من رحلته األخيرة في أوروبا ،وشحتة عرض أن يحضر
- 19 -
سالحا ناريًا ولكني رفضت ..فلسنا ذاهبين القتحام بنك ،وحانت ساعة
ً
الصفر.
وألضعكم في الجو أكثر سأخبركم بالوضع اآلن.
زياد ،وخليل على ناصية الشارع لتحذيرنا عند قدوم عايدة أو الشيخ ياسين،
شحتة ورشاد ،أمام باب المنزل ألن التواصل سيكون بالصفير ،أنا وأمين
ونجيب ،دخلنا لنتعامل مع باب الغرفة ،وقبل أن أدخل نهرت نجيب
ليتوقف عن التهام الطعام فما نحن بصدده يحتاج إلى كل تركيزنا.
وبعدها تحركنا بهدوء وبدون ضجيج ،وعين نجيب تكاد تثب من محجريها
على الشطيرة التي أحتفظ بها شحتة معه.
كل من أصدقائي شغل موضعه المتفق عليه والمرسوم في الخطة بدقة ،وأنا
ومن معي دخلنا إلى المنزل بقلوب صاخبة وأعصاب مرتجفة من اإلثارة
والتوتر.
وبداخل المنزل كانت تنتظرنا مفاجأة مروعة.
يا للكارثة ..فغرفة الشيخ ياسين التي كانت على الدوام مغلقة ،وجدناها
مفتوحة لدى دخولنا ،وبابها مواربًا.
- 51 -
ضا ،إن هذا يجهض خطتي وهذا ليس شيئًا غريبًا فقط ،ولكنه مخيف أي ً
بالكامل ،ويجعل العقاب الذي كاد أن يفتر عزيمتي من قبل ،ال يفصله عني
إال عدة أمتار ،مما فجر في عقلي طوفان من األسئلة :
-هل عاد الشيخ ياسين إلى المنزل ،أثناء وجودي بالخارج أرتب القتحام
عرينه ليأخذ شيئًا نسيه ؟ أم عاد ليكمل عمله بغرفته ؟ أم أنه علم بقدراته
درسا قاسيًا ؟!!
الشيطانية بما نرتبه من أجله فحضر ليلقنا ً
-ماذا سيحدث لو اكتشف ما نحن بصدده أو ما نحن عازمون عليه ،كيف
سيكون عقابه لي وألصدقائي ؟!
جمدتني المفاجأة للحظات ،ولكني تغلبت عليها بسرعة ،فليس هذا وقت
تمثيل دور المصدوم ،وأشرت لرفاقي بأن يتواروا للحظات كي أتفقد
المكان ،ثم تقدمت صوب غرفة جدي بخطوات من هالم ،وقلبي يخفق
كجناحي طائر يقاوم الغرق ،وعندما أدخلت رأسي عبر فرجة باب الغرفة،
وبعد تردد ،وجدتها خالية من البشر ،ال أثر للشيخ ياسين بها ،فعدوت
بسرعة صوب دورة المياه ،فربما هو بداخلها يفرغ مثانته ،فلم أجد أح ًدا هناك.
تنفست الصعداء ،ثم ذهبت إلى حيث يختبئ صديقاي ،أمين ونجيب وطلبت
منهما أن يتبعاني ،وبدأ األمر.
هل سمعتم معي تلك الضحكة الشيطانية ؟!
...... -
البد وأني واهم إذن.
- 50 -
- 51 -
الشيطان
هناك رأس محنطة أحاول إقناع نفسي بأنها غير بشرية ..ولكني قرأت من
قبل عن هذه الرؤوس المجففة والتي تستخدم في طقوس السحر األسود.
مجموعة من الخطاطيف التي يستخدمها الجزار في تعليق الذبائح معلقة في
سقف الغرفة ،وتلك البقايا الملتصقة بها لن أجرؤ على تفحصها ،ولكن
رائحتها تشي بحقيقتها.
- 51 -
- 51 -
-الغرفة -
عندما تشعر بكونك تقترب من فخ محقق وال تتراجع ،فتأكد من شيء
واحد ..أنت أحمق كبير.
هذا هو ما شعرت به وما شعر به رفيقاي كذلك ،الرعب الكبير المرتسم
على وجهي أمين ونجيب ،يؤكد لي حقيقة شعوري .ولكني كصاحب الفكرة،
وكعاشق مكلوم ،لم أرغب في أن أظهر بمظهر الجبان أو الخائف أمام
رفاقي ،لذا فإنني بدأت الحماقة وقررت أن أستمر فيها إلى النهاية.
األمر لم يكن يحتاج لمزيد من التأكيد لنعرف أن ما نحن مقبلون عليه خطير
جميعا أكثر مما نعتقد .فشخص مثل الشيخ ياسين ومخيف ،وربما يكلفنا ً
لن يترك عرينه بال حماية ،وربما تصيبنا منه لعنة ،كتلك اللعنات التي كان
الفراعنة يحصنون بها مقابرهم.
إنه ساحر والسحرة يجيدون مثل هذه األشياء ،وإال من أين أتت سمعتهم
السيئة عبر التاريخ.
النقطة المثيرة لألعصاب هنا ،هو كيف لم ِ
تأت هذه الفكرة إلى عقلي من
قبل؟!
إن الحماقة أعيت من يداويها.
- 55 -
جميعا
ً ال مجال للتراجع أو التخاذل بأي حال ،إننا هنا اآلن ،لقد تورطنا
وانتهى األمر .فال بأس من أن نحصل على ما جئنا من أجله .وإن كنا ال
نعرف ما هو تحدي ًدا.
فلنلخص الفكرة في الكتب واألوراق والرقاقات الجلدية التي لمحت الشيخ
ياسين يحملها أكثر من مرة ليعبر بها صوب الغرفة.
الخوف يلقي بظالله على المكان ،حتى الهواء نفسه مختلف وثقيل وكأن له
قواما .الرواق أمام الغرفة يبدو وكأنه يسبح في ضباب رمادي كثيف .مع
ً
صوت فحيح غريب ،وصوت قرع جرس أقرب ألجراس الكنائس.
التقطت أذني صوت هامس ،يدعونا ألن نقترب !!.
تجمدت مكاني من الرعب للحظات ،ثم استدرت بجذعي ألتطلع خلفي.
-أال يرى هذا الغبيان اللذان يرافقاني أي شيء مريب ؟!
ولكني صدمت عندما رأيتهما ،ورأيت الذهول المرتسم على وجهيهما
وكأنهما ولدا به .مالهما متسمران هكذا كالتماثيل الشمعية ؟! إنني أشعر
بتوتر شديد ..إنني خائف ..والبد أن أعود ..ال يجب أن تستمر هذه
الحماقة أكثر من ذلك.
- 56 -
تيار من الهواء البارد يجتاح جسدي ،ويدفعني بعي ًدا عن الغرفة ،مع إحساس
مخيف بأن هناك أهدابًا أو ممصات تداعب األجزاء الغير مغطاة من
جسدي ،وكأن مئات من الفئران الصغيرة تتشمم جسدي.
شعور قاتل وأكاد أفرغ منه معدتي.
هل تشعرون معي بذلك الحضور الكثيف ؟!
شريرا يسكن هذه الغرفة دون شك ..شيئًا له حضور وتأثير ورائحة
إن شيئًا ً
وكيان .شيء ال يرغب في دخولنا الغرفة .شيئًا يختلف عن تلك الهمسات
التي تدفعنا لولوجها.
هذا المكان تفوح منه رائحة الموت بطريقة مزعجة ،كما أن طاقة مخيفة
تتماوج في المكان ،كأن هناك مجاالً من نوع ما يحيط بالغرفة.
هل هي كهرباء إستاتيكية ؟!
األمر يبدو وكأن الغرفة تحتوي على مولد كهرباء قوي ،وإال لماذا وقف شعر
ساعدي ورأسي ؟! التردد يزيد من الخوف والقلق بداخلي ،فاألفضل من
انتظار الخطر هو وقوعه ،ألن االنتظار سيتمثل فيه الموت بألف طريقة
سريعا ونغادر.
وطريقة .فلننتهي من األمر ً
لعنت قلبي الذي ينبض كمحرك قديم ،فمتى بسط القلب سلطانه على
العقل ،فالبد من حماقات كثيرة ترتكب باسم الحب.
- 57 -
تماما عن سبب قدومي إلى
الغريب أني أشعر اآلن أني بصدد مهمة تختلف ً
هنا.
لم تعد سماح هي الفكرة.
هناك فكرة أخرى تولد بداخلي وتتشعب وتتوغل وتستولي على كياني ،وهي
فكرة الخالص.
دائما ،بل شجرة كاملة الفروع واألغصان
إنها لم تبدأ بذرة كما يحدث ً
والثمار ،تضرب بجذورها في أعماقي.
اآلن أنا على يقين بأن سماح كانت الطعم ،الذي قادنا لهذا الفخ ،وربما
للموت كذلك.
كل هذه األحاسيس المخيفة والمشاهد المروعة ،ولم أكن أنا أو رفيقاي قد
تجاوزنا عتبة الغرفة الرخامية بعد ..أي هول تخفيه هذه الغرفة بداخلها،
لتحيط بها هذه الطاقة النفسية المروعة.
اآلن فقط أتذكر أنن ي لم أقترب ولو مرة واحدة من هذه الغرفة ،كان هناك
شيء ما يمنعني دون أن أعي من ولوجها ،وكنت أستجيب له.
لقد شغلني جدي عنها ببخله وطباعه ،وتلك المشاكسات التي ال تنتهي..
فهل كان يتعمد هذا ؟!
- 58 -
هل استمر طوال سنوات متعاقبة ال يكف عن إلهائي ؟! وهل هذا ما يحدث
اآلن ؟!
هززت رأسي في عنف ألوقف سيال األفكار المتدفقة ،ثم جذبت نجيب
وأمين من ذراعيهما ،وسحبتهما معي لداخل الغرفة ،وما أن عبرنا العتبة
الرخامية حتى توقفنا وتعالت شهقاتنا .فالغرفة لم تكن غرفة عادية بأي حال
من األحوال.
إنها إحدى بوابات الجحيم..
وصدقني الشيء سيفاجئك في حياتك مثل محتويات غرفة الشيخ ياسين
المغلقة ،والتي كشفت لي عن أسرارها ،دون مجهود مني أو من رفاقي ،أو
ربما هي تتمة الفخ.
اتساع الغرفة غير طبيعي أب ًدا ،ربما هو تأثير تلك المرايا العاكسة المتناثرة
في أرجائها ،والتي تحتل إحداها جدار كامل ،كما أن هناك ضوء ال نعرف
مصدره يشع من كل الموجدات ،ورائحة عضوية تذكرك بتلك الرائحة التي
كثيرا ما حاولت ريا وسكينة أن تطمساها بالبخور ،فرائحة الجثث المتعفنة
ً
تتشابه في كل مكان .الموت يعلن عن نفسه بقوة في هذه الغرفة.
رأس محنطة أحاول إقناع نفسي بأنها غير بشرية ..ولكني قرأت من قبل عن
هذه الرؤوس المجففة والتي تستخدم في طقوس السحر األسود.
- 59 -
مجموعة من الخطاطيف التي يستخدمها الجزار في تعليق الذبائح معلقة في
سقف الغرفة ،وتلك البقايا الملتصقة بها لن أجرؤ على تفحصها ،ولكن
رائحتها تشي بحقيقتها.
أصابتني حالة غريبة من الهذيان فصرت أكلم نفسي.
أهذه عظام طفل ؟!
هي بالتأكيد عظام طفل ،فهذه الجمجمة ال تخص أي حيوان أعرفه.
وهل هذا جرامافون.
ما دخل الموسيقى بالسحر ؟!
ربما الموسيقى هي لغة من نوع ما يخاطب بها الشيخ ياسين ،الشياطين في
بعدهم المتواري.
ثم ما هذا الصوت القادم من خلف الصوان الخشبي الكبير ؟!
إنه ثغاء دون شك ،ينتمي ألحد األنعام ،إنها عنزة أو تيس ،ماذا يفعل
الشيخ ياسين بحيوان مماثل ،ولماذا يحتفظ به بقلب الصوان ؟!.
حالة نجيب وأمين ال تختلف أب ًدا عن حالتي بل إنها أسوأ دون شك ،وكأننا
واقعين تحت تأثير مخدر ما.
- 61 -
ماذا رأى نجيب ليظهر الفزع على وجهه بهذا القدر ؟! ولماذا يتصلب
جسده بهذه الطريقة وكأنه التصق باألرض ؟! لماذا يقف مكانه هكذا دون
حراك ؟! إنه يرى شيئًا مخي ًفا ال أراه دون شك ؟!
ثم لماذا سقط أمين على األرض لينتحب ؟! هل بال أمين على نفسه ؟!
البد أن نغادر الغرفة على الفور ،ولتذهب سماح والمغامرة إلى الجحيم.
إنني في حالة ا نفصال تام عن جسدي ،وكأن هناك من حقنني بمخدر
نصفي ،أرى ما يحدث ،ولكني ال أستطع التصرف.
أهي تعويذة دفاعية من جدي ؟!
-نجيييييب . ..أمييييييييين ،ساعداني أيها الكسوالن ،لماذا ال تجيبا ؟!
أين أنتما ،ثم ما هذا الضباب األسود ؟!
وما الذي أتى بك هنا يا سماح ؟!
- 60 -
-شيطانة -
الجنون كان هو المتحكم والمسيطر علينا في هذه اللحظة ،إما أننا واقعون
تحت تأثير سحر ما ،أو أنه شيء مجهول في الهواء ،واستنشقناه نحن في
غباء فأثر على أعصابنا.
-إنها غرفة جدي على أية حال وليست مقبرة فرعونية تحميها لعنة مهلكة.
هذا هو ما حدثت به نفسي في محاولة بائسة كي ال يتوقف قلبي من الفزع.
الحيرة تعصف بعقلي والتساؤالت تتزاحم وتتقاتل بداخله.
ترى هل كانت سماح في غرفة جدي طوال الوقت ؟!
ظهورها كان مفاجأة غير سارة لي ،ألنها لم تكن سماح التي أعرفها أب ًدا،
فوجهها الذي طالما داعب أحالمي ..كان ملط ًخا بأصباغ سوداء وبيضاء
متقاطعة ،مع شحوب طاغ يجعلها أقرب إلى الموتى.
جسدها الذي صار أكثر نحوالً ،ملفوف بجلد غير مدبوغ لحيوان كثيف
الفراء ،ليس الدب دون شك ،وقدماها كانت عبارة عن حافرين ،كحوافر
الماعز المشقوقة .وعلى رأسها انتصب قرنان بشعا الشكل يشبها الزوائد
العظمية.
- 61 -
صدمت من منظرها ،وكذلك نجيب الذي وقف مفغور الفاه يسيل الزبد من
تماما ،فإما
شدقيه كمرضى الصرع ،وأمين الذي ارتخى جسده على األرض ً
أنه فقد الوعي ،أو ما هو أسوأ !
ثم بدأ األمر.
صوت سماح الذي لم أسمعه من قبل ،أخذ يدوي بداخل رأسي مغريًا،
يدفعني لفتح الصوان الخشبي ،وأنا دون إرادة أطيع.
الصوت لديه القدرة على التأثير على أطرافي ،وبرغم ذلك ال يصل إلى
أذني ،أهذا سحر أم تليباثي.
الصوت له قوة السالح وقوة الكون ذاته.
أحاول أن أفتح الصوان ،ولكنه أقوى من كل محاوالتي ،ثم إن صوت الثغاء،
والحوافر الراكضة بداخله ،تهون من حماستي ؟!
أين أنتم يا أصدقائي ؟! لماذا تركتموني وحدي ؟!
أضرب الصوان بيدي وقدمي ،حتى تدمي ،وفي النهاية أجثو على ركبتي
باكيًا.
أضحك في هستريا..
هاهاهاها..لن أستطيع يا سماح أن أفتح الصوان. ..
- 61 -
هاهاهاها ..إنه مغلق بوسيلة جهنمية..
هاهاهاها..مغلق يا سماح برغم عدم وجود أقفال على بابه ؟!
الضحكات تنقلب لنحيب ،ووجه سماح الغاضب ينذرني بالويل.
لن أستطيع أن أفتح الباب ..ثم إني خائف ..ال أريد أن أفتح هذا الباب.
أصرخ من أعماقي..
عدوا وهميًا..
أقاتل ً
أنذر وأهدد وأتوعد..
الالالالالالالال..ال يا سماح كفاك دفعي نحو الجحيم..
إن دموعك هذه. ..
ال يا سماح ال أستطيع أن أفقدك مرة أخرى ..ولكن هذا ليس بابًا عاديًا..
إنه باب يطل على الجحيم.
-الدم..
أي دم يا سماح ؟! وكيف يكون دمي هو المفتاح ؟!!!.
أرجوك يا سماح.
ال ال لن أستطع تحمل شعور الفقد مرة أخرى ،سأفتح الباب ؟!
- 61 -
ها هو النصل الحاد ،وها هي دمائي تسيل لتغرق باب الصوان..
ال يا سمااااااااااااااااح..
الباب لم ينفتح!! ..
لماذا خدعتِني ..لماذا خدعتِني يا سماح.
الباب ..يا إلهي ..ماذا فعلت بنفسي ؟!
أنا آسف يا سماح ..الباب ال يستجيب ،البد وأن دمائي. ..
صوت صرير مزعج..
الباب ينفتح بالفعل ولكن ببطء شديد.
ما هذا الحر الشديد ،إن وجهي يلتهب ،أي جحيم كان الباب يحصره
بداخل الصوان !!.
ما هذا الدخان الكثيف ؟!
إنني أختنق يا سماح.
أح ًقا ما تقولين ؟!
هل سأموت ؟!
ال يا سماح لقد فعلت ما طلبتِه مني.
- 65 -
ِ
أنت لست سماح..
اسما آخر. ِ
نعم أنت لست سماح ..ولكني ال أعرف لك ً
ِ
أنت شيطانة من شياطين الشيخ ياسين.
اتركيني أرحل يا سماح ..اتركيني ..ال تكبليني بسحرك.
نافورة من الدماء تغرق كل شيء ،الهول قادم ،إن الشيطان سيخرج !
ال يمكن أن أسمح له.
تيسا طبيعيًا،
وهذا التيس ذو القرون واللحية ،والعين الدموية المشتعلة ،ليس ً
إنه يطلق ثغاء مثله ،لكن أقسم لك إنه ليس طبيعيًا.
إنه الشيطان ،أو هو تجسد مادي له.
ال يمكن أن أسمح له بالخروج.
ال تخبريني بأنك معي في هذا األمر ..أنا وحدي من أواجهه ..أنا وحدي
أحترق بنيرانه..
ليكن ..ليكن ..ولكن كفي عن اإللحاح ..أخبريني يا من ِ
لست سماح..
كيف أقضي على الشيطان ..إنني لم أدخل معه معركة من قبل إال وهزمني..
-الدم.
ولكن كيف ؟!
- 66 -
-دماء سبعة من الذكور على نصل مطلسم ،تقضي على الشيطان.
إذن ليست صدفة أنني وأصدقائي سبعة.
بالفعل يا سماح ال يمكن أن يجتمع سبعة من األصدقاء بهذه األعمار
المختلفة ،وهذا االختالف في الطباع والطبقات االجتماعية ،ثم يحدث
بينهم انسجام إال لو كان في األمر شيء مريب يجمعهم ،شيء شيطاني.
-ال يوجد شيء في الكون يخضع للصدفة..
حسنًا حسنًاِ ..
أنت على حق ..كم أنا أحمق..
إذا هل ستسمحين أن أخرج ألجلب باقي األصدقاء ؟! لماذا تضحكين ؟!
وكيف هم معي منذ البداية ؟!
الدخان ينقشع ،سماح تتالشى ،ولكني أشعر بوجودها بداخلي ،وبأنها
أحكمت سيطرتها على روحي.
إنها تستحوذ على جسدي بعد أن استحوذت على روحي من قبل.
الخنجر المطلسم في يدي ،له ملمس غريب وكأنه يموج بالحياة.
من أين أتى ؟!
ال يهم ،هاهم أصدقائي يتقدمون مني ،الرعب على وجوههم محفور وكأنهم
ولدوا به ،عيونهم زائغة زجاجية وكأنهم دخنوا الحشيش منذ لحظات قليلة.
- 67 -
كل منهم يتقدم نحوي باسطًا كفه ،ألجرحه بنصل الخنجر فيسيل دمه في
إناء خزفي ظهر هو اآلخر من العدم ،األول ..الثاني ..الثالث ..الرابع..
الخامس ..السادس. ..وأنا السابع.
هل عرفتم اآلن من هو صاحب السوء ؟!
أمزج الدماء مع بعضها بنصل الخنجر..
صرخة هادرة مع ثغاء عال ،وكأنها صادرة عن تيس حقيقي .الدماء تتوهج
بضوء أحمر قان ..دخان أحمر كثيف له رائحة عطرية يتسلل إلى روحي.
سماح التي ليست سماح تمتزج بكياني ،حتى إني أشعر بقبضتها فوق
قبضتي على الخنجر.
أتقدم من الصوان بخطوات مترددة وعيني مسلطة على عين التيس الذي لم
تتوقف حوافره لحظة على جرح األرض من تحته ،وأعتقد أنه لوال السالسل
المعدنية القوية التي تقيده إللتهمني أنا وأصدقائي أحياء.
سماح تخبرني أال أنظر في عينيه ،وال تعرف هذه الشيطانة أن عينيه هي التي
تجتذبني ..إنه يحاول السيطرة علي!! ..
ماذا ..أقاوم ؟!
لن أستطيع أن أقاوم ؟! اتركي قلبي أيتها اللعينة إنك هكذا تقتلينني.
حسناً ..حسناً ..توقفي وسأطيعك.
- 68 -
سأقتله ولكن ساعديني ..جيد ..هكذا سننهي األمر.
-توقف أيها التعس.
أخيرا ؟!
هل هذا صوت جدي ؟! هل أتى الشيخ ياسين ً
حسنًا ..حسنًا ..سأتجاهله.
اآلن الخنجر في يدي ..مشرع نحو السماء ..إنه يتألق ..نعم يتألق..
-ال تقتل المخلوق أيها األحمق إنك بهذه الطريقة تقتلني.
صوت الشيخ ياسين من جديد ولكني أسمعه بصعوبة.
-ستقتلني أيها األحمق.
أتجاهل الصوت ،أتقدم إلى األمام ،حرارة الفحة تغمر كل شيء ،نافورة
الدماء تنبثق من جديد من قلب العدم.
إنني أفقد إرادتي ..كل شيء يدور من حولي.
كما تريدين يا من ِ
لست سماح ،سأقتل التيس ..اآلن.
****
ال أعرف ماذا أصابني في الدقائق السابقة ،هذيان كان أم حقيقية ،المهم أني
في النهاية ،أغمدت الخنجر في قلب التيس والذي أطلق ثغاء طويالً،
- 69 -
أرضا ،ليتحول إلى ما
وصوت حشرجة متألمة صفع كياني ،قبل أن يهوي ً
يشبه القطران ،أو الهالم األسود الحار.
قطرة واحدة من الهالم أصابت يدي ،قطرة واحدة وبدأ التآكل ،إصبعي
الصغير بدأ في التحلل والتساقط ،ولكني لم أنتظر برغم األلم الشنيع،
وبنفس الخنجر بترت اإلصبع من قاعدته ،لن أسمح بأن يمتد التآكل إلى
باقي جسدي.
األلم شنيع.!! ..
هل سأفقد الوعي اآلن ؟
ماذا يحدث لجدي الشيخ يا سين ،هل قتلته بالفعل ؟!
جسد الشيخ ياسين ينتفض في عنف أمام عيني ،وكأنما أصابته حالة صرعية،
وهاهو يرتعش والزبد يتساقط من بين شفتيه وكأنه يحتضر ،وقبل أن أفقد
الوعي رأيت الجسد يتصلب وكأنما فقد الحياة ،وحوله تناثر أصدقائي
فاقدي الوعي أو أموات ال أعرف ح ًقا.
فقدان الوعي لم يستمر معي سوى لدقيقة واحدة ،أو أنه كان سيستمر ،لوال
شعوري بالبرودة الشديدة مع إحساس عارم بالتحرر .إن الشيطانة تغادرني
اآلن لتتجسد في فضاء الغرفة كطيف جهنمي بعيون حمراء قانية متألقة
وعلى رأسها قرنين مخيفين.
- 71 -
لقد انتهى االستحواذ ،ولكن لم ينتهي األمر بعد.
أطلقت الشيطانة أو شبحها صرخة عالية كادت أن تصيبني بالصمم ومعها
بدأت النيران تشتعل في كل شيء ،نيران زرقاء جهنمية ال دخان لها ولكنها
تحيل ما تلمسه إلى تراب .إنها تمحوا كل اآلثار ،من سيأتي بعد فنائنا لن
يعرف أننا كنا هنا.
انتفضت برغم األلم الشنيع الذي شعرت به في مكان إصبعي المبتور،
وعيناي مسلطتان على أجساد أصدقائي المسجاة على األرض ،والنيران
التي تقترب في سرعة جهنمية منهم ،وبإرادة ال أعرف من أين نبعت،
سحبت أجسادهم خارج الغرفة ،جس ًدا خلف جسد،وأنا أكاد أفقد الوعي
مجددا من فرط المجهود واأللم.
ً
وعندما أخرجت آخر فرد منهم ،وغادرت الغرفة ،تحولت الغرفة آلتون
مشتعل من النيران وأتت على كل شيء حتى جثة جدي.
وفي نفس اللحظة سمعت صرخة عاتية ،صرخة آتية من أعماق الجحيم :
-الااااا ..اتركهم ..إنهم لي.
وعندما نظرت نحو مصدرها وقلبي يكاد يثب من صدري ،وجدت سماح
تتجسد في المكان وكأنها طيف هالمي شيطاني المالمح ،مع إحساس عارم
- 70 -
بأنها تجاهد لتحتفظ بتواجدها في عالمنا .بدت كصورة تلفزيونية مشوشة.
كانت تصرخ من الغضب وتصب علي رأسي كل أنواع اللعنات.
ثم فجأة أطلقت صرخة مدوية ،بدا األمر وكأنها تذبح أو أن هناك من ينتزع
أحشاءها في قسوة.
كانت تتألم ،تتعذب ،ثم بدأت تتالشى ويخبو تألق عينيها ،ثم وهي تتالشى
سمعتها تخبرني بما وددت لو أصبت بالصمم قبل أن أسمعه.
كانت تخبرني بأن حماقتي حرمتها من األضحيات السبع ،وأنني انتزعتهم
من بين أنياب الموت الحادة ،ومنعتها من العودة لعالمها.
لم أستطع أن أرد عليها أو أجيبها.
فقط سقطت على ركبتي ،وأنا أتطلع نحوها بإرهاق ممزوج بالغضب.
استمرت للحظات تصرخ وتتلوى وفي النهاية ألقت لعنتها :
سبعة هربوا من أنياب الموت ..سبعة سيعودون لعرين الموت ..سبعة
ستقتلهم شهواتهم الكبرى ..سبعة لن يروا القمر التالي.
- 71 -
-اللعنة-
عادت عايدة من الخارج ،وذهنها المكدود يحسب الوقت المتبقي لها
لتنظيف المنزل ،وفي نفس الوقت يقيس حجم المنزل الكبير ،وبحسبة
بسيطة وجدت أنها فقدت وقتًا ثمينًا بالفعل.
لقد أهدرت ساعة كاملة أو أكثر بالخارج ،فهي استغلت فرصة غياب الشيخ
ياسين لتعود صديقة قديمة لها في نفس البلدة ،وصل لها بالصدفة خبر
مرضها عن طريق صديقة مشتركة أخرى قابلتها في السوق هذا الصباح.
لذا تجدونها عائدة وعلى وجهها عالمات التفكير العميق والهم ،تقطع
الطريق بخطوات واسعة لتختصر الزمن ،كانت تريد أن تنتهي من تنظيف
المنزل في أسرع وقت ،وقبل عودة الشيخ ياسين ،فهي تحرص على عدم
إثارة سخطه ،خاصة وأن أحواله هذه األيام غير مستقرة ،وأعصابه ثائرة على
الدوام.
لم تكن تتوقع مفاجآت من أي نوع عند ولوجها للمنزل ،لذا فإنها عندما
عبرت الباب الخارجي ،ومشت صوب الصالة في الرواق القصير المفضي
لداخل المنزل ،أصابتها الصدمة بحالة وقتية من الذهول ،فتجمدت مكانها
كتمثال من الشمع ،وهي تشاهد بقلب خافق وأنفاس الهثة وعيون متسعة
من الهلع ،السيرك الجهنمي المنصوب في صالة المنزل.
- 71 -
فأمام عينيها الجاحظتين ،كان هناك سبعة من الشباب في أعمار مختلفة،
ممددين فوق األرض الصلبة الباردة ،في حالة أقل ما يقال عنها مزرية وفي
أوضاع غير مريحة ،ويبدو على وجوههم رعب عات ،وكأنهم قابلوا شياطين
الجحيم قبل لحظات من موتهم أو فقدانهم الوعي.
عايدة حتى هذه اللحظة لم تتأكد بعد ،ولن تجرؤ على التأكد من حقيقة
كونهم أحياء أم ال ،ألنها تؤمن بالفعل بكونهم أموات.
اليقين سيفقدها صوابها ،إن ميراثها القديم من القصص المخيفة عن الجن
والشياطين واألشباح ،والذي أججها عملها لدى الشيخ ياسين ،يحطم
جدران تعقلها وتماسكها.
إنها ال تصدق ما يحدث ،أقصى كوابيسها بشاعة أن يصيبها الشيخ ياسين
بلعنة عند غضبه أو يخرج لها شبح من خلف باب غرفته المغلقة ،لذلك
أمرا كي تتحاشى مثل هذه األشياء المخيفة.
كانت تطيعه وال تعصي له ً
إنها قادرة على التصدي لكل ما يمكن لمسه وقياسه ،حتى إنها تصدت
ذات يوم للص يفوقها قوة وجندلته بعزيمتها ولكن ما تراه اآلن من خارج
عالمها ،شيء ال يمكن التصدي له أو حتى مجابهته ،هذا لو استطاعت
تصديق وجوده من األساس.
الموقف اآلن يفوق كل حدود إدراكها ،لذا فإنها تقف بالقرب من غرفة
ا لشيخ ياسين والتي تشتعل النار بداخلها كالجحيم في ذهول ،قابضة على
- 71 -
تلك األكياس التي تحتوي على المنظفات ،وكأنها تستمد منها عونًا غير
موجود.
تشاهد ألسنة اللهب وتسمع فحيحها بعيون وآذان مكذبة .وحتى هذه
اللحظة لم تنتبه إلى أن النار المستعرة بال دخان ،وأن هذه النار الهائلة لم
تتجاوز حدود الغرفة ،حتى إ نها لم تلمحها عند قدومها من الخارج برغم
كثافة النيران.
جزءا من الحظ الحسن الذي لن يراه الفتيان بعد اليوم،
بالطبع كان هذا ً
فالنار لم تغادر الغرفة ،ولم يمتد تأثيرها إلى أي مكان آخر ،وإال ألتت على
المنزل بالكامل وجعلتهم جثثًا متفحمة .وهذا بالتأكيد يدل على كونها نيرانًا
تماما.
غير طبيعية ً
أنفها المتقلص يلتقط رائحة شنيعة ،وكأن هناك من يحرق جثة حيوان نافق
كثيف الشعر وهذا أثار تقززها.
أما ما جعلها تترك كل شيء لتفر مغادرة المنزل ،وصرخاتها ال تنقطع ،هو
تلك الشياطين التي كان تصطلي بداخل النيران.
يوما ،كان وجه زوجة أخيها المشوه بعد أن
إن أبشع ما رأته في حياتها ً
احترق بالكامل ،عندما انفجر فيه موقد الكيروسين ،هذا الوجه المشوه
والذي ذابت مالمحه وطمست ،ظل يطاردها في أحالمها لشهور طويلة،
- 75 -
هذا الوجه المشوه ،كان هو الجمال المجسد بجوار الهول الذي تراه
بداخل النيران.
الشر البكر.
والقبح البكر.
والرعب البكر.
لم يستطع جهازها العصبي أن يتحمل أكثر.
هل جنت ؟!
هل استحوذت عليها روح شريرة ؟!
هل قتلتها الشياطين ؟!
ال أحد يعرف أو يهتم ،هي فقط غادرت ،ولم تعد إلى األبد.
شباب الحي ،هم من أنقذوا المراهقين السبعة من بين أنياب الموت
المحقق ،خاصة وأن المنزل العتيق قد بدأت بعض جدرانه تتشقق وتتصدع،
وكأن هناك زلزال محدود يضرب المنزل فقط ،دون باقي المنطقة.
لحظات عصيبة مرت على الجميع ،وفي النهاية هدأ األمر ،وبداخل منزل
أحد أثرياء الحي ،وهو المعلم (عتمان) تاجر الخردة المعروف والمشهور،
تم عيادتهم وإفاقتهم.
- 76 -
الصمت كان إجابتهم على كل األسئلة ،الصدمة كانت تكتسحهم ،لقد مروا
بتجربة عمرهم ،ولن يعودوا لطبيعتهم قبل وقت طويل ،وربما لن يعودوا أبدا،
وهذا فتح باب التكهنات والتفسيرات واالجتهادات لدى الجميع في تلك
الجلسة الطارئة بمنزل المعلم (عتمان).
إن موت الشيخ ياسين حدث جلل وأصاب الجميع بالصدمة ،وبرغم رؤيتهم
جميعًا للغرفة المتفحمة ،مازالوا لم يصدقوا تلك الحقيقة المجردة ،أن من
هو مثله من الممكن أن يموت.
البعض ردد وهو يبسمل ويحوقل ،أن الجن قتله.
والبعض قال إنها الشياطين ،وفي النهاية قال شيخ المسجد إنها أعماله
الدنسة هي التي قادته للهالك.
الجزاء من جنس العمل ،فاهلل ال يترك فاس ًدا ولكنه يمهله بعض الوقت لعله
يتوب عن غيه ،والشيخ ياسين كان من هؤالء المدنسين الذين عقدوا مع
الشياطين معاهدة ،فجاءت نهايته في قلب نار الدنيا وغ ًدا يصطلي في نار
الجحيم.
وكانت هذه هي الفكرة الرئيسية التي دارت حولها أحاديثهم المطولة ،وال
أحد يستطيع أن ينكر أن لهجة الحديث جميعها ،كانت ممزوجة بالتشفي
وخاصة مع طريقة موت الشيخ ياسين البشعة واحتراق جثته.
- 77 -
ومجمل الحوار كان فكرة لم تقل صراحة مراعاة لمشاعري ،وكأني في هذه
مهتما ،و هي أن الشيخ ياسين قد نال ما يستحق،
اللحظات كنت مصغيًا أو ً
وهو ما دفع تاجر الخردة المعلم (عتمان) ليتحدث بأريحية أكثر وهو يعدل
من وضع الجلباب الذي يرتديه ،قبل أن يعبث في شاربه قائالً :
-إنها النهاية المتوقعة لكل دجال ومشعوذ.
ثم حكى بطريقة العالم ببواطن األمور ،قصة ذلك الدجال اآلخر الذي كان
يمارس فنون السحر السوداء في إحدى البالد البعيدة التي زارها في بداية
حياته ،قبل أن يصير ذلك الثري الذي يرونه اآلن ،والذي كان يفسد كل
عرس لم يقم أهله بطلب بركته ودفع اإلتاوة التي يحددها ،وذلك عن طريق
التفريق بين األزواج ،لدرجة أن إحدى الزوجات كانت ترى زوجها كلما
اقترب منها وح ًشا مخي ًفا شنيع الشكل ،وكيف أن نهايته جاءت تحت
عجالت سيارة نقل كبيرة ،سوته باألرض مزجت لحمه بعظامه عندما كان
خارجا من المقابر بعد أن قام بدفن أحد األعمال السفلية بها.
ً
وكيف أن دجاالً آخر ،كان مدمنًا على الكحول األحمر ،وكيف أنه ظل
يعاني من العذاب لثالثة أيام وحي ًدا في غرفته بعد أن سمم الكحول الملوث
دماءه ،حتى عثروا على جثته المتعفنة.
- 78 -
شنيعا ،ولكن المستمعين كانوا يتابعون بشغف ،وكالً منهم
كان ما يحكيه ً
يؤمن بأنه أقل مما يستحقون .وردد أحدهم أن أيام المجد القديمة قد ولت،
فهم في العصور السابقة كانوا يحرقون السحرة في بلدان عدة.
شجعت حميمية الحوار الجميع ،حتى إن أحدهم ،وهو شاب نحيل مجعد
الشر أدلى بدلوه هو اآلخر في الحديث وقال :
لقد قصت علي جدتي وأنا في الخامسة عشرة من العمر كيف أن أحد
هؤالء الدجالين ،استحضر جنًا لم يستطع أن يصرفه ،وظل هذا الجن
أسبوعا كامالً ،يهشم في عظامه الواحدة تلو األخرى ،دون أن تمتد يد
ً
لتساعده ،وفي النهاية مات في غرفته من الجوع والعطش واأللم.
كانت حكايات يشيب لها الولدان وتقشعر منها األبدان ،وكانت النهاية
لهذه الليلة الطويلة ،وعندما ذهب كل صبي إلى منزله ،كانت هناك عين
مشتعلة بالغضب تتابعه في قسوة.
- 79 -
-ماذا حدث ؟! -
يقولون إ ن النوم بروفة يومية للموت ،وهي حقيقة ساندتها بعض النصوص
الدينية ،وأنا شخصيًا أؤمن بها ،وبالتالي أؤمن أن كل يقظة حياة جديدة
يمنحها لنا الخالق ويجب أن نحمده عليها إلى آخر نفس.
ولكن ماذا عن االستيقاظ وأنت تعلم جي ًدا أن هناك من يسعى لالنتقام منك
ومحوك من سجالت األحياء ؟!
ماذا عن االستيقاظ وأنت تعلم أن الموت صار قاب قوسين أو أدنى من
عنقك حتى إنك تشم بأنفك المتقززة رائحته ،وتشعر بأهدابه الناعمة
تداعب روحك المهشمة ؟!
هل ستستسلم أم ستقاوم ؟!
أنت في السابعة عشرة من العمر ،ال تملك خبرة أو قوة أو أعوانًا ؟!
أنت فقط أمام الموت!! ..
فرا.
الموت الذي أفنى قبلك من هم أكثر قوة وشجاعة وأعز ن ً
لنفكر سويًا ،لو كان هذا الشخص بشريًا عاديًا ،فربما لتوصلت لوسيلة
الكتشاف نقطة ضعفه والقضاء عليه قبل أن يقضي هو عليك.
لكنه لألسف ليس بشريًا ح ًقا!! ..
- 81 -
فهل يقتله ما يقتل البشر ؟!
إنه مخلوق من عالم آخر..عالم مظلم ..عالم لم يعرف إال الشر.
صدقني ،أنت في هذه اللحظة ستستيقظ من موت ليستقبلك موت آخر
أشد قسوة.
ستستيقظ بال أمل ..ألنك تتوقع الموت في كل لحظة.
أنت فقط ستستيقظ لتعيش العذاب قبل الموت ،فاألفضل لو ظللت في
موتتك األولى الرحيمة ،ألن الشياطين حين تقرر االنتقام ،سيكون انتقامها
أسطوريًا.
وه ذه كانت حقيقة مشاعري عندما استيقظت في الصباح التالي كما
اعتقدت ،وبعد ستة أيام من الحادث كما أخبرني المعلم ( عتمان ) صاحب
المكان الذي يؤويني اآلن.
ظننت في البداية أن األمر كله مجرد كابوس آخر ،وسينتهي بمجرد أن
أفتح عيني ،وحاولت أن أستسلم لهذا التفسير المريح ،ولكني عندما فتحتها
وجدت نفسي في مكان غريب عني كليًا ،األثاث مختلف والصور مختلفة،
والضوء يعشش في كل مكان ،إنه النقيض الحقيقي لمنزل الشيخ ياسين
الذي ال تكفي ألف شمس لتمحو ظلمته.
- 80 -
الجميع هنا غرباء عني ،وهذا كله يؤكد لي حقيقة واحدة ،أنني في مأزق ال
فكاك منه.
انقبض قلبي عندما تذكرت األحداث األخيرة ،وطفت على السطح كلمات
تلك الشيطانة والتي أخذت تدوي بداخل رأسي ،لتحيل يومي لعذاب مقيم،
رعبا ال مثيل له.
وظلت سحنتها المخيفة التي بدا وكأنها التصقت بعيني تورثني ً
لوقت طويل لم أستطع السيطرة على جسدي وكأنني أصبت بشلل مؤقت،
تذكرت والدي ،وبكيت وأنا أستجدي مساعدتهما كطفل صغير ،إنها اللحظة
الفارقة التي أحتاج فيها إلى من يعانقني ويربت على كتفي ،ويخبرني أن
األمور ستكون على مايرام ،ولكنهما رغم كل شيء مرا على عقلي كطيفين
ولم يمنحاني السكينة التي أرجوها.
إنني في منزل غريب ،وهناك من يعودني و يعولني ويمنحني الطعام ويحرص
حتما وليست
على راحتي .إن األمور جيدة إلى حد ما ولكنها ليست الجنة ً
نهاية مشكالتي.
إلى متى سيتحملونني وإلى كم سأتمادى ؟! ..إنني خائف ،وخوفي هذا
يدفعني للهروب من التفكير في تلك اللعنة المخيفة التي تالحقني.
وبرغم أن هروبي من التفكير في األمر لن يغير من كارثيته شيئًا ولن يعني
عدم وجوده ،إال أني لست على استعداد اآلن لمواجهته ،وهذا هو المخيف
في األمر.
- 81 -
لن أستطع أن أهرب من المسئولية مدعيًا صغر سني فمن هم في مثل عمري
رزقوا بطفلهم األول ،وبعضهم ارتكب جريمته األولى والبعض اآلخر يواصل
مطارد ا ،لذا فاالستسالم لن يعني الفشل ولكنه سيعني الموت،
ً رحلة هروبه
على األقل فألثبت لنفسي أنني لست جبانًا أو أحمق ،إن أرواح أصدقائي
معلقة في عنقي بعد أن زججت بهم في هذه المغامرة القاتلة.
يجب أن أهدأ وأن أعقل األمر ،فلو نظرت لنص اللعنة لوجدت أن تلك
الشيطانة الجهنمية ،حددت طريقة هالكنا عن طريق استسالم كل منا
لشهوته الكبرى.
حقيقة ال أعرف ما هي شهوتي الكبرى ،وإن كان من في مثل سني قد
يمتلك ما يمكن أن يطلق عليه شهوة.
ندفاعا .ال أعتقد أن الشر الحق قد تمكن
ما أعرفه أنه قد يكون تعل ًقا أو ا ً
من أرواحنا بعد في هذه السن الصغيرة.
باإلضافة إلى أن كالً منا ينظر لنفسه على أنه اإلنسان الكامل ،واإلنسان
الكامل يتحكم في نفسه وال تسيطر عليه نزواته أو نقائصه ،هذا إن كان
يؤمن بوجود هذه النقائص.
لذا فتحديد تلك الشهوة التي ستجر كالً منا إلى الهالك وارتكاب إحدى
الخطايا الكبرى والتي سنعاقب عليها بالموت ،أمر صعب ج ًدا بل مستحيل
ضا .فنظرة المجتمع للفعل هي التي تحدد درجة سوئه ،فالمجتمع الذي
أي ً
- 81 -
يسمح بتجارة المخدرات والدعارة المرخصة وبيع السالح ،لن ينظر لهذه
األشياء باالزدراء الكافي لجعلها خطيئة .ثم كيف تفوق الخطيئة خطيئة
أخرى ؟! إن األمر مطاط ج ًدا.
الوحيد الذي أعرف أنه يمتلك ضع ًفا حقيقيًا ربما يصل لمرحلة الشهوة
والمرض هو نجيب ،إنه يعشق الطعام أكثر من الحياة ذاتها ،وربما هي
الشهوة الوحيدة التي ال يمكن إخفاؤها بسهولة .وهي شهوة قاتلة دون شك
على المدى البعيد ،ولكن كيف ستقتله قبل اعتالء القمر القادم قبة السماء ؟!
باقي أصدقائي متشابهين ويميلون لنفس طريقة التفكير ولنفس النزق .ربما
أعمارهم متفاوتة وظروفهم البيئية مختلفة ،ولكن خيط الجموح يجمعهم.
كل منا يجب أن يقاوم ضعفه
البد من الجلوس معهم في جلسة مصارحةٌ ،
وال يستسلم .هكذا نستطيع أن نهزم اللعنة.
قمر واحد فقط يمضي ،ونكون قد هزمنا تلك الملعونة.
األمر دون شك مخيف بل ومدمر لألعصاب ،ولكن االسستسالم اآلن لن
يعني إال الهالك ح ًقا ،فقط يجب أن أواجه نفسي دون أن أجن أو أقتل
نفسي ،فتحقق الموت أهون من انتظاره كما يقولون.
إنني أشعر بحيرة شديدة مختلطة بخوف مريع ،إن استيعاب األمر ليس هينًا،
وهضمه يحتاج إلى جالون كامل من المشروبات الغازية ،وربما لن أهضمه
في النهاية أو أستوعبه.
- 81 -
والسؤال هنا :كيف جرت األمور بهذه السرعة ؟!
هل كان األمر عشوائيًا ،أم أن األمر كله كان مرتبًا ح ًقا دون أن أدري ؟!
تماما ،أن الصدف في مثل هذه األوقات ،هي أفعال مع
ما أنا متأكد منه ً
سبق اإلصرار.
فأن نكون سبعة ،وأن يوافق الجميع على القيام بمغامرة غير محسوبة في
منزل الشيخ ياسين الذي يخشى أعتى الرجال االقتراب منه ،وأن يغادر
الشيخ ياسين نفسه المنزل وتتبعه مدبرة المنزل عايدة -إن صح أن أطلق
عليها هذه الصفة -إنها مؤامرة متكاملة األركان ..فقط أنا من كنت أحمق
ولم ألحظ في األمر شيئًا مريبًا.
ربما الحظت وربما الحظنا جميعًا ،وشعرنا بذلك الحضور الذي يدفعنا
للولوج إلى الغرفة ،ولكننا لم ِ
نبال ولم نفكر.
إن األمر كله خارج الحدود الطبيعية.
ثم من هذا األحمق الذي يقع في عشق شيطانة من الجن.
مازالت األمور مشوشة في عقلي وغير قابلة للتصديق والتساؤالت ال تنقطع.
- 86 -
مهتما للحظة واحدة بمثل هذه التفاهات من ميراث وخالفه ،إني
لم أكن ً
أواجه مصيبة كبرى ،مصيبة ال تعني أن في عمري وقت كاف للدخول في
صراع على شيء ال قيمة له كالميراث ،مصيبة ال تعني إال شيئًا واح ًدا ..أني
وحيد في مواجهة هذه القوة الغاشمة اآلتية من عالم آخر ..والتي فتح
بوابتها شيخ أحمق ظن أن قدراته السخيفة وعلمه السطحي بأمور السحر..
قادرة على التحكم في ذلك العالم المخيف وشياطينه ،إن الغرور البشري
بدءا من صراع قابيل وهابيل حتى حماقة الحرب
سبب كل المصائب ً
العالمية.
هناك من يظن نفسه أعلى مرتبة من كل البشر ،ومن هنا يبدأ في استخدام
كل الوسائل التي تجعل منحنى بشريته وإنسانيته ،يهبط إلى أدنى مستوياته.
وتتلخص مصيبتي في أن من قررت أن أستعين به في مواجهة هذه القوى
المخيفة ،خذلني ،وغادر هذه الدنيا ليتركني وحي ًدا.
لقد مات الشيخ (تهامي الحو).
مات محترقًا هو اآلخر وتفحمت غرفته ،تقريبًا في نفس اللحظة التي مات
فيها الشيخ ياسين ،ولم يخبرني أحد بهذه الحقيقة ربما ألنه ال يربطني به
صلة قرابة ،أو هي حالتي المتدهورة وقتها ،أو جو الشؤم العام الذي ظلل
الحي ،فلم أعرف إال اآلن.
- 87 -
وليتني ما علمت ،إن وجود األمل مهما كان مستحيالً ،يمنح طاقة هائلة من
القدرة على الصمود والمواجهة ،ولكن يبدوا أن هذه الشيطانة تعرفني جي ًدا
أو تعرف السبل التي سأسلكها ،لذا فهي ستظل متقدمة عني بخطوة ،وهذه
تماما في كل مراحل اللعبة.
الخطوة ستجعلها متحكمة ً
قط وفأر.
صياد وطريدة.
موت الشيخ (تهامي الحو) لم يكن هادئًا مثل موت جدي الشيخ ياسين،
أشياء تشيب لها الرؤوس.
من كانوا بالقرب من المنزل حكوا ً
البد أن شيئًا ما كان يربط بينه وبين الشيخ ياسين وبين هذه الشيطانة ،وبين
التيس الذي كان في الصوان الخشبي.
سحر المشاركة ..نعم هو سحر المشاركة دون شك.
جميعا ،بتعويذة واحدة ،لذا كان القضاء على أحدهم هو
أن ترتبط حياتهم ً
جميعا.
القضاء عليهم ً
كيف كان الشيخ ياسين بهذه الحماقة ؟!
ضررا خاصة
سوادا ،وأكثرها ً
إن سحر المشاركة أعقد أنواع السحر وأشدها ً
مع مرور الزمن.
- 88 -
فالشياطين لديهم دورة حياة تفوق دورة حياة البشر ،إنهم يصبرون حتى
يصاب البشري بالضعف ثم ينقضون عليه مثلما حدث مع الشيخ ياسين.
فالشيء األكيد أن التيس كان هو الوسيلة التي استخدمها الشيخ ياسين
للتحكم في هذه الشيطانة ،وهو ما كان يجبرها على طاعته ،ويجبرها على
التواجد في عالمنا طوال الوقت.
وعندما قررت الفرار واالنتقام ،كان البد لها من القضاء على الشيطان
ضا الشيخ ياسين وشريكه (تهامي الحو).
المتجسد في شكل التيس ،وأي ً
مريعا ،فالنساء الالئي شهدن هذا
ما حكاه جيران الشيخ (تهامي الحو) كان ً
الموقف شابت شعورهن واألطفال أصيبوا بالتبول الالإرادي.
ففي نفس اللحظة التي احترق فيها الشيخ ياسين ،شعروا بأن الجو اكفهر،
ورأوا الشمس وقد غابت خلف مجموعة من السحب السوداء التي انشق
العدم عنها ،وانقبضت قلوبهم عندما اجتاحت المنطقة رياح ساخنة جعلت
صدورهم تضيق ،وأنفاسهم تتالحق ،ووجوههم تلتهب من الحرارة ،قبل أن
تنطلق الصرخات.
صرخات عاتية مشؤومة ..أتت من قلب الجحيم.
- 89 -
صرخات لم تكن صافية ،ولكنها مختلطة بصوت الشيخ تهامي وهو يعوي
متألما كمن يشوى في سقر ،أو كأن هناك من يسكب الحمم الملتهبة في
ً
جوفه.
وكالعادة لم يجرؤ أحد على التدخل لنجدته ،وظل وحده يعاني لساعة كاملة
حتى فارقته الحياة.
حقيقة مؤكدة ومدعمة ،أن من يسلك هذا الطريق ،يلقى نهايته وحي ًدا على
الدوام وبأبشع طريقة ممكنة.
هذا ما ردده العجائز الذين حضروا موت الشيخ تهامي ولم يفارقوا الحياة
من الفزع.
أما المالحظة التي أثارت رعبي ووترت أعصابي ،هي تلك العبارة المشؤومة
التي وجدت على جدار البيت الخارجي مكتوبة بالدم :
-األول يتالشى في اليوم السابع.
وأسقط في يدي.
إن ها طريقة مشهورة لدى القتلة المتسلسلين في اقتناص الضحايا ،ربما
تنقص هذه الشيطانة روح االبتكار ،ولكن األمر ال يحتاج لتوابل إضافية
ليكون مخي ًفا ،إن التهديد بالقتل له تأثيره المفزع في كل وقت.
- 91 -
غادرت منزل الشيخ ياسين بصحبة شيخ المسجد وبعض شباب الحي؛
الذين تطوعوا لمصاحبتنا لحمايتنا من أي شر قد يكون متواج ًدا بداخل هذا
المنزل.
لقد تحول المنزل لمنزل أشباح آخر .وربما لن يقطنه أحد للقرن القادم.
لم يجرؤ أي منا على مجرد النظر نحو غرفة الشيخ ياسين التي تداعت
جدرانها ،إنها لم تعد غرفة عادية ،لقد اكتسبت شخصية مخيفة ،وأصبح لها
حضور يجثم على الصدور .شيخ المسجد نفسه والذي يحمل القرآن كامالً
في جوفه ،لم يتوقف جسده لحظة عن االرتجاف طوال فترة وجودنا
بالمنزل.
وبالفعل تمت المهمة ،وقبل أن أغادر المنزل لمحت بطرف عيني ذلك
الطيف يخترق إحدى جدران البيت .لقد كانت سماح تنتظرني هناك ،تنتظر
عودتي .وعلى وجهها المشوه لمحت ابتسامة مخيفة ،فغاص قلبي في
قدمي.
اليوم هو اليوم السابع.
وال وقت لالجتماع مع أحد ،خاصة وأني سأغادر على الفور إلى محافظة
أخرى ،إلى الفيوم فالسيارة تقف بانتظاري وتنفث العادم وكأنها ثور غاضب،
كدليل على حاجتها لـ(عمرة ) سريعة.
- 90 -
ركبت السيارة دون أن أودع أح ًدا ،حتى أصدقائي غادرتهم دون أن نجتمع
معا لنتباحث في أمر اللعنة التي ال يدرون عنها شيئًا.
ً
فلينجوا كل منا بنفسه لهذا اليوم ،وغ ًدا سأجد وسيلة ألتصل بهم وأحذرهم.
ترى من سيكون أول الملعونين ؟!
فليرأف القدر بمن سيتالشى اليوم.
- 91 -
-الجحيم -
انطلقت السيارة البيجو تنهب األرض ،غير عابئة بما يدور بداخل صدور
ركباها وقلوبهم الخافقة ،إنها فقط تريد أن تنتهي حتى يستريح موتورها
ويستعد للرحلة القادمة.
تماما ،وكأن هناك تواصل روحي بيننا ،أنا وهي جزء واحد من كل
أشعر بها ً
عظيم ،أنا وهي نعزف نفس النغمة ونردد نفس اللحن ،ونتناغم كمقطوعة
موسيقية حالمة.
الزمن هو هذه اللحظة الالنهائية ،والمكان هو االحتواء الكلي ،أنا أفهم
تماما ،أتفاعل معها ،كم هذا غريب .إن األمر يفوق كل شعور تملك
شعورها ً
روحي ذات يوم ،كيف أتواصل مع كومة من األسالك والمعدن تسير بوقود
عضوي فوق إطارات مطاطية.
أم هي اللعنة ؟! هل سأكون أنا األول ؟! هل سيكون رأسي أول رأس
يحصده الموت.
أنا من بدأت األمر فال عجب أن أكون أول المتالشين.
توترت أعصابي للحظات ثم عدت ألستغرق في التفكير أكثر.
هل يشعر الجماد ،وهل من الممكن أن يبادلنا المشاعر ؟!
لما ال!! ..
- 91 -
كل من يقود سيارة لوقت طويل يشعر بهذه الصلة ،من يعمل على ماكينة
لزمن ممتد يشعر بهذا التواصل ،حتى إنه لو جرب قيادة أو العمل على
واحدة أخرى من نفس النوع ،ال يجدها تتفاعل معه بنفس الطريقة وتمنحه
نفس األداء.
إن الجماد يسبح هلل طوال الوقت ،وهذا مذكور في نصوص القرآن ،فقط
نحن ال نفقه تسبيحه ،ولكن هل يتفاعل مع البشر ؟!
ومؤخرا كشف العلماء أنه يتألم ويفرز مادة
ً أنا أعتبر النبات كائنًا حيًا،
مسكنة ،بل ويحذر النباتات األخرى في ساعات الخطر بتلك المواد التي
يفرزها ،ولكن هذا ليس سؤالي.
إنني أصغي اآلن لمشاعر السيارة.
هل األمر حقيقي ؟! أم هو خلل حدث لعقلي من هول التجربة ؟!
هل امتلكت الموهبة أم هي طريقة فذة إلصابتي بالجنون ،إن من يستمع
للجماد قد يفقد عقله ببساطة من الصخب والضجيج الذي لن يتوقف،
ولكني أحمد اهلل أن األمر اقتصر مؤقتًا على السيارة.
هززت رأسي ونفضت أفكاري وقررت أن أتشاغل بموقفي الجديد ،إنها
المرة األولى منذ سنوات طويلة التي أغادر فيها القاهرة.
- 91 -
في الحادث األول غادرت من مدينة نصر إلى شبرا ،أما اآلن فأنا أقطع
الطريق الصحراوي نحو الفيوم .التي ال أعرف عنها إال أن أسفل مياه
بحيرتها يقبع كنز قارون والذي خسف به اهلل وبداره األرض ،وهو شيء غير
مبهج فالذي يصطفيه اهلل بعذاب خاص هو أشد أهل األرض تعاسة ،وبلدته
لن تكون أقل منه تعاسة.
الصحراء تمتد على مدى البصر ،والفكرة تداعب خاليا عقلي مرة أخرى،
ماذا لو لم يمنع اهلل عنا صوت التسبيح القادم من ترليونات ذرات الرمال.
يوما االقتراب من الصحراء .مع الصخب واألصوات هل كنا لنستطيع ً
الهادرة التي ستخرج من مخلوقات ال هم لها إال طاعة الخالق ومرضاته.
مخلوقات قررت أن تترك األمانة وتتفرغ لعبادة الخالق .مخلوقات لم تصب
بالغرور كبني البشر.
مرة أخرى سيطر علي األمر وشتت تفكيري ،ربما كان األمر بالنسبة لي
مجرد هالوس.
فالصلة التي نشأت للحظات بيني وبين السيارة انقطعت اآلن.
وبصعوبة عدت ببصري من خارج السيارة لداخلها ،كنت أجلس وحدي في
المقعد الخلفي الذي يتسع لفردين ،وأفراد عائلتي الذين ظهروا في محيط
معا في المقعد األمامي
حياتي من العدم كنبتات شيطانية ،محشورون ً
- 95 -
واألوسط ،إنهم يرسلون لي رسالتهم منذ اللحظة األولى ..أنت لست مرغوبًا
فيك ولكنها الظروف التي تجبر الجميع.
الجلي اآلن أنهم قد عزلوني عنهم ولم يقبلوني كفرد بينهم.
لم يتبادل أي منهم معي ولو حتى كلمة واحدة مجاملة أو مواساة ،إنهم
جاءوا للحصول على الميراث فقط ثم عادت معهم هذه المصيبة المتمثلة
في شخصي.
قررت أن أغمض عيني للحظات فالطريق طويل ،وهذا الصمت المخيم على
السيارة يطبق على صدري ،ومنظار الدنيا األسود عاد ليغطي وجهي ليشي
بطبيعة األيام القادمة.
النوم كان مستحيالً .ولكني فضلت أن أغمض عيني كي أمنحهم مساحة من
الحرية في الحديث .وفور أن شعروا بهدوء أنفاسي ،وأيقنوا بنومي بدأ
كل منهم لفوزه بجزء
الحديث وظهرت كمية الجشع والسعادة التي يشعر بها ٌ
من وليمة الميراث.
تماما !!
فالشيخ ياسين رجل ثري ..عكس ما أعرف ً
لديه حساب متضخم في البنك يتعدى األصفار الستة ،كما أنه يمتلك ثالث
عشرة قطعة أرض استولى على بعضها من الفالحين عن طريق أعماله
- 96 -
ضا ثالثة بيوت غير الذي مات فيه ،ولديه نصف الشيطانية ،ويمتلك أي ً
السوبر ماركت الموجود في شارع شبرا .غير ما ورثه عن ولده المتوفى.
شا رغي ًدا ،خاصة مع ارتفاع أسعار
ثروة هائلة تكفل لهم وألحفادهم عي ً
األرض الجنوني.
كل
بعد النشوة والفرح جاء همزهم ولمزهم على مصيبة تواجدي ،وحاول ٌ
عاما
منهم أن يلقي بعبء إيوائي على اآلخرين ،وفي النهاية قرروا أن أقضي ً
كامالً عند كل منهم على أن يبدأوا من األكبر لألصغر سنًا.
كسرني هذا الجفاء والجحود وقررت بداخلي أني لو عبرت هذه المحنة ،أن
أهرب حتى أبلغ سن الرشد ثم أعود مطالبًا بميراثي.
****
هبط الليل ،ومعه غاب الجميع عن الوعي ماعدا السائق بالطبع ،إن المسافة
طويلة ومع االزدحام المروري ال أمل في أن يصلوا قبل عدة ساعات ..يبدو
وجه السائق في المرآة الداخلية كئيبًا ،والظالم يغلف كل شيء كما لو كان
لوحة لفنان مجنون ال يملك إال اللون األسود.
الطريق خال.
ال صوت إال صوت المحرك فراديو السيارة ال يعمل.
- 97 -
السائق يتململ ثم يشعل سيجارة تشي رائحتها بكونها غير بريئة ،وكل عدة
دقائق تتجاوزنا سيارة مندفعة .ونحن مازلنا على سرعتنا التي لم تتجاوز
كيلومترا في الساعة.
ً التسعين
وفي لحظة ما قرر السائق أن يطلق العنان لسيارته .البد أن الحشيش لعب
في رأسه.
وكفهد سريع انطلقت السيارة تنهب الطريق وتخترق قلب الظالم.
متى ظهرت سماح ؟!
ال أستطيع أن أحدد تقريبًا ،ولكن بين حالة اليقظة والنوم التي انتابتني،
لمحت شبحها يظهر من قلب العدم في منتصف الطريق ،وعلى بعد عدة
أمتار من السيارة المندفعة ليطير النوم من عيني.
السائق فقد أعصابه من اللحظة األولى ،ومع السرعة العالية ،وفقدان
التحكم الكامل ،كان البد من وقوع الكارثة.
شبح سماح بعينيه الحمراوين المتألقتين يعترض السيارة ،السائق يصرخ في
رعب ليستيقظ الجميع.
المرأة الشمطاء التي ال أعرف اسمها تحتضن ذلك البدين الذي ال أعرف
ضا ،والذي يبدو أن قلبه لن يتحمل هذا الموقف العصيب واسمه أي ً
سيتوقف قبل االصطدام الوشيك.
- 98 -
الرجل ذو النظارة السميكة متصلب وكأنما استحال لتمثال من الشمع،
والسيدتان ذاتا الرداء األسود تصرخان دون توقف.
أما أنا فقد نظرت إلى عيني سماح التي انعكست في كل شيء ،المرآة
الداخلية والمرآة الخارجية ووجه القمر ،ثم نطقت الشهادتين وانتظرت
الموت.
اختلت عجلة القيادة في يد السائق ،فاندفعت السيارة كالصاروخ ،لتمزق
ذلك السلك المعدني الذي يفصل الطريق لحارتين ،لتقابلها سيارة نقل
ثقيلة ،تحمل على ظهرها أسياخ الحديد المشرعة كالرماح.
وما حدث في اللحظات التالية كان مخي ًفا.
فالسيارة بعد أن صدمتها سيارة النقل المسرعة ،طارت في الهواء وحلقت
للحظات كنسر مكسور الجناح ،قبل أن تصطدم باألرض في قوة ،ثم
أخذت تنقلب على جانبيها عدة مرات في عنف ،قبل أن تتوقف ويسود
الهدوء كل شيء.
****
- 99 -
ما سأحكيه اآلن يدخل في سياق الشطط والجنون ،بل آخر درجات
الجنون.
الشطط ألني أنا شخصيًا ال أصدق حتى هذه اللحظة أني مررت به،
والجنون ألنه شيء من وراء العقل ،خارج عن المألوف ،شيء مخيف.
إنها اليقظة المرعبة.
فضحية أي حادث سيارة عادي ،لديه عدة خيارات معروفة ،فإما أن يستيقظ
في مستشفى أو في عيادة محاطًا باألطباء والضمادات ،أو على الطريق
بعظام مهشمة غارقًا في دمائه ،أو ال يستيقظ أب ًدا.
الخيار الرابع غير موجود في الظروف الطبيعية .وأنا قد مررت بهذا الخيار
غير المألوف.
فاللحظة التي اصطدمت بها السيارة باألرض بعد أن قذفتها سيارة النقل إلى
جانب الطريق ،كانت هي آخر لحظات الوعي التي حظيت بها في هذه
الليلة.
الظالم أحاط بكل شيء كرداء قاتم ،ثم ساد الصمت للحظة واحدة ،وبعدها
استيقظت.
كل أجهزة جسدي تخبرني بأني استيقظت ،ولكن عقلي يأبى أن يؤرخ هذه
الحقيقة .فما يحيط بي ال يوحي باالستيقاظ أب ًدا.
عرفها دانتي :الحب الطبيعي لآلخرين يتحول إلى عاطفة آثمة ،يغلب فيها
حب البشر على حب اآللهة ..مرتبطة بأمير الجحيم أزمودياس
Asmodeusواللون األزرق...
من أنا؟
أنا يا سيدي ..أنا التي أحب بوصةً من اللحم ..أكثر من ذراع من السمك.
حاولت أن أقنع نفسي أن األمر كله مجرد وهم ،ال توجد امرأة بهذه المواصفات
الفائقة ،كل ما مر بي حلم جميل من تأثير المخدرات والفودكا وكنت أقتنع لفترة
قصيرة ..إال أن هذه الثقة سرعان ما كانت تتالشى عندما أعود لشقتي وأتنسم
العبق الساحر الذي غمرت به عالمي كله ..فال توجد قطعة من ثيابي ال تفوح
برائحتها وال توجد قطعة من األثاث لم تتشبع بأريجها ،الجدران نفسها تفوح
بالعبق .إنه العطر الذي يفوق كل عطر آخر صنع على يد البشر.
حتى ذلك العطر فائق الكمال الذي صنعه جان باتست جرنوي بطل رواية (العطر
:قصة قاتل) وجعل الجماهير تراه كمالك هبط على األرض فتمزقه وتلتهمه من
كثرة تعلقها به وتقديسها له وانبهارها برائحته ،لن يصل لعبقه قط.
إنه العبق.
****
أنا الكسل ..لقد ولدت على ضفة مشمسة ..حيث أستلقي منذ ذلك
كبيرا بإحضاري من هناك ..دعني أحمل إلى
أذى ًالوقت ..وأنت سببت لي ً
هناك ثانيةً بواسطة الشره والشهوة ..إنني لن أتفوه بكلمة أخرى ولو مقابل
فدية منك..
****
أنا الحسد ..ولدت من منظف مداخن وبائعة محار ..أنا ال أعرف القراءة..
لذلك أتمنى لو تحترق الكتب جميعها ..إن رؤية الناس يأكلون تصيبني
بالهزال ..آه لو تحل مجاعةً على العالم بأجمعه ..فيموت الناس كلهم
وأعيش وحدي ..عندها سوف ترى كيف أصبح بدينة ..لكن هل يجب أن
تجلس أنت وأنا أقف ؟ هيا لالنتقام..
في عالمنا من يرتفع درجة ال يجب أن ينزل عنها ،ألن نزوله لن يكون نزوالً
سهال.
ً
يوما.
انهيارا كامالً .لو أزاحك فلن تنال االحترام ً
بل سقوطًاً ..
ال أعرف اللحظة التي قررت فيها إزاحته من طريقي ،ربما عندما أهانني أمام
دفاعا عني.
صبياني ،ولم يتحرك المعلم حسونة ً
كيف يكره القلب ؟!
كيف يتحول في لحظة واحدة ويستحيل حاق ًدا وأسود.
ال أعرف.
كان من الممكن أن أتخلص منه وأقتله برصاصة أو بطعنة ليخلوا لي الجو
وأنول االحترام من جديد ،ولكني كنت أنوي أن أجعل منه عبرة كي ال يجرؤ
أحد على تكرارها ،وليشفى غليلي يجب عليه أن يتألم حتى يتمنى الموت
بنفسه.
المصادفات التي جمعت أمين الشرطة وسماحة كانت مريبة ،وتم رصدها عن
طريق عيون المعلم ،وجاءت الصفقة لتؤكد الشائعات ،هناك عصفورة تنقل
األخبار.
ليلتها عقد المعلم المحاكمة على المأل ،وحضرها كل رجاله وأنا أولهم بالطبع.
لم أكن قد رأيت تنفيذ هذا العقاب من قبل ،وربما معظم من حضر اليوم.
في البداية قام المعلم حسونة بشرح سبب التجمع ،والذي لم يكن يخفى على
أحد.
صرخ سماحة ،أنكر وأقسم ،وترجى ،وطلب الرحمة ،ولكن الغضب المستعر
بقلب المعلم حسونة كان يجب أن يلتهم بعض الضحايا.
لقد اعتقدت أن جريمتي الكاملة قد تمت ،وذاب كل أثر لها بقلب الجير الحي.
ولكن الخطايا ال تمحى كما يبدو وال تمر دون عقاب .وهاهو الذنب يطاردني،
ويطلب القصاص.
لم أكن أكره سماحة ألنه تفوق علي ،بل كنت أحسده ألنه يمتلك كل ما
ينقصني ،الحسد تحول إلى حقد ثم إلى جريمة بشعة.
أنا أستحق العقاب ،إن حبل المشنقة لن يثير في جسدي أكثر من الرجفة
التي تسببها رياح أمشير الباردة.
قادما من
تماما للعقاب ،ولكن فليعاقبني بشري مثلي ،ال مخلوقًا ً
أنا مستعد ً
أعماق الجحيم.
****
- 171 -
"الشيخ ريحان قتل".
ومن قتلته فتاة تحمل كل مواصفات سهيلة ،إن الشيطانة تصر على
استكمال اللعنة وإغالق كافة الطرق في وجهي مهما تكلف األمر .إنها لم
تعد تحفل بسرية األمر وال عقباته ،لذا لم يعد هناك إال الطريق اآلخر
المرسوم عبر الخريطة.
السؤال هنا :هل أذهب اآلن أم أنتظر للصباح ..إن الزيارة الليلية للمقابر
شيء غير مريح ..بل هو مخيف لو صدقتكم الرأي ..فقط هو الوقت الذي
يجبرني على المخاطرة.
اآلن أنا وحدي..
وربما أنا األخير..
سهيلة استحوذت عليها شيطانة ..وأصدقائي قد فارقوا الحياة أو في
طريقهم ..والموت متربص بي ..والحل يكمن بقلب مقبرة مجهولة ..ال
أعرف كيف سأحمل الجرأة على نبشها ،وصدري يؤلمني من أثر الحرق،
وأمي غاضبة مني..
أي أن الموت هو أجمل الخيارات المتاحة .
****
مواجها المدخل.
ً منتصبا
ً أقف
لم أستطع أن أشعر بسعادة مماثلة لسعادتهم ،ففي عقلي أخذ سؤال مخيف يتردد
دون انقطاع :
****
عندما استيقظت من غيبوبتي رأيت الشخص الغريب يجلس بجوار الفراش ونفس
متوقعا
ً متهيبا..
ً متفحصا
ً النظرة الباردة على وجهه ..مسحت المكان بعيني
األسوأ..
انتابتني بعض الحيرة والقلق ،وأنا أشاهد المكان الذي لم يتبدل به شيء منذ
غادرته مع المخلوق الغريب..
أثرا لكلمات التعويذة التي رأيتها محفورة
فحصت جسدي عدة مرات فلم أجد ً
على صدري..
دوى صوت الشخص الغريب في عقلي ليؤكد ظنوني ..وليتدفق إلى داخله سيل
سريع من المعلومات..
على األقل لم أصب بالجنون بعد ،وفقدان إصبع واحد أفضل الخبال ،ومن
فقداني لحياتي بالكامل..
وللمرة األولى منذ أسابيع ارتسمت على وجهي ابتسامة حقيقية ..وبكل ما يعتمل
بصدري سألته :
-نعم
للتواص مع الكاتب
A_elmenofy@yahoo.com
https://www.facebook.com/a.elmenofy?ref=tn_tnmn
Noon_publishing@yahoo.com
ت600-35553665 63-87306853-