You are on page 1of 410

‫صفحة‬

‫في يدي كتاب‬


https://www.facebook.com
/pages/%D9%81%D9%8A-
%D9%8A%D8%AF%D9%8A-
%D9%83%D8%AA%D8%A7%
D8%A8/260474877401206
‫العزيف‪ :‬هو صوت الجن‪.‬‬

‫المعجم الزائد‬

‫‪-5-‬‬
-6-
‫أحداث عادية‬
‫هناك شيء ما شرير يحاك في الظالم‪ ..‬تحت سقف هذا المنزل‪ ..‬وبالذات‬
‫صحيحا‪ ..‬فلماذا ترتجف‬
‫ً‬ ‫بداخل هذه الغرفة المغلقة‪ ..‬فلو لم يكن توقعي‬
‫أطرافي بهذه الطريقة ولماذا يدق قلبي بهذا العنف ؟!!‪.‬‬

‫‪-7-‬‬
‫‪ -‬أصوات ليلية ‪-‬‬
‫"ابتعد عن أصدقاء السوء"‪.‬‬
‫كانت هذه هي نصيحة أمي لي قبل أن تلقى مصرعها مع أبي في حادث‬
‫سيارة شنيع‪ ،‬ظل حديث الصحف لعدة أيام من فرط بشاعته‪ ،‬حيث سقطت‬
‫السيارة من فوق الكوبري لتسحق سيارة ثانية أسفلها‪ ،‬لتحترق السيارتان‬
‫ويتفحم من بداخلهما‪.‬‬
‫وبشاعة الحادث أتت من معرفة طبيعة ركاب السيارة الثانية‪ ،‬والتي كانت‬
‫تحتوي على خمسة أطفال ووالدهم ووالدتهم‪.‬‬
‫كثيرا هذه الليلة‪ ،‬وحملت أنا ذنب الحادث بداخل قلبي‬
‫لقد مرح الموت ً‬
‫إلى األبد‪ .‬خاصة وأنه وقع في ليلة خاصة ج ًدا‪ ،‬ويتكرر االحتفال بها كل‬
‫عام‪ ،‬وهي الليلة التي تسبق عيد الفطر مباشرة‪ ،‬أي اليوم األخير في شهر‬
‫رمضان المعظم‪.‬‬
‫العالم كله يستعد في هذه الليلة لبهجة العيد التي فاح عبيرها في األفق‪،‬‬
‫وتدفق ضياؤها في حيوية على العالمين‪ ،‬وأنا أجتر ذكرياتي الحزينة‪ ،‬وحي ًدا‪..‬‬
‫تعيسا‪.‬‬
‫ً‬
‫أحيا إلى األبد بال عيد‪.‬‬

‫‪-8-‬‬
‫يقولون إن الموتى يشعرون بدنو أجلهم‪ ،‬وهناك من يدعي بأن المقبل على‬
‫الموت‪ ،‬يكون قد توفاه اهلل في حقيقة األمر قبل أربعين ليلة من صعود روحه‬
‫إلى السماء‪ ،‬والدليل على ذلك هو التغيرات الكثيرة التي تصيب شخصيته‪،‬‬
‫يصاحبها ذلك التبدل في نشاطاته اليومية والتي ال يلحظها إال المقربون منه‪.‬‬
‫من يرى المقبل على الموت يؤمن بأنه هائم في عالم آخر‪ ،‬عالم يختلف عن‬
‫مقاييسنا وتوقعاتنا‪ ،‬إنه معنا وليس معنا‪ ،‬إن جسده هنا لكن روحه هناك وراء‬
‫الغيم‪.‬‬
‫وهذا االعتقاد سائد في معظم الثقافات البشرية‪ ،‬ويختلف األمر فقط في‬
‫يوما‬
‫المدة التي ساد االعتقاد بوفاتهم قبلها‪ ،‬والتي تتراوح ما بين أربعين ً‬
‫ونصف يوم كما يعتقد النوبيون‪ ،‬مما يجعلنا نتساءل عن حقيقة هذا‬
‫االعتقاد‪ ..‬وفي النهاية كلها تخمينات قد تصيب وقد تخطئ‪ ،‬فالروح من أمر‬
‫اهلل عز وجل‪.‬‬
‫ما ال أستطيع تفسيره هنا هو إصرار أبي الشديد على بقائي في ذلك اليوم‬
‫األسود بصحبة جيراننا وعدم اصطحابه لي معه‪ ،‬إن لفعلته الغريبة هذه مغزى‬
‫دليال ال يدحض على كونه شعر بالسوء القادم‪ ،‬فلم‬
‫وداللة دون شك‪ ،‬بل ً‬
‫يجازف بحملي معه هذه المرة كما اعتاد طوال السنوات السابقة‪ ،‬فاألمر‬
‫يخصني أكثر مما يخصهم‪ ،‬فما سيبتاعونه من المدينة هي مالبسي ال‬
‫مالبسهم‪.‬‬

‫‪-9-‬‬
‫ربما هي شفافية المحتضرين‪!!..‬‬
‫أو قلوب اآلباء التي تمثل أجهزة إنذار مبكر ضد األخطار التي قد تصيب‬
‫فلذات أكبادهم‪،‬أو أن أجلي لم يحن بعد‪ ،‬وكلها أسباب تضافرت كي أبقى‬
‫على قيد الحياة‪ ،‬بعد أن فقدت شمس وقمر حياتي ‪ -‬أبي وأمي ‪ -‬ألعيش‬
‫بدونهم في ليل الحياة المدلهم‪.‬‬
‫المخيف في األمر أن األحداث في هذه الليلة دارت بوتيرة سريعة ج ًدا‪،‬‬
‫وكأن أبي كان يعلم بأنه على موعد حار مع الموت‪ ،‬فقرر أن يتعجل كي‬
‫يلحق بموعده وال يخلفه‪.‬‬
‫وما يحز في قلبي حقيقة هو حماسته المفرطة لألمر‪ ،‬ولهفته المضاعفة‬
‫إلسعادي‪ ،‬إن األطفال يشعرون جي ًدا بالحنان واالهتمام‪ ،‬بوصلة قلوبهم‬
‫تفرق بين الحب الحقيقي والزائف‪.‬‬
‫وكان اهتمام أبي وحبه لي حقيقيين‪ ،‬لقد أدركت هذا حينها وأفتقده اآلن‪.‬‬
‫كم كان يثقل كاهله ذنب غيابه المستمر في العمل وقلة رعايته المباشرة لي‪،‬‬
‫وبطريقة ما فإنه اعتبر هذا الغياب إهماالً‪ ،‬لذا فهو مصر طوال الوقت على‬
‫تعويضي وهذا ما دفعه وهو القادم من عمله المرهق في منجم السكري‪ ،‬إلى‬
‫الخروج من المنزل مرة أخرى فور وصوله من السفر وقبل حتى أن يستحم‬
‫ليزيل غبار وعرق هذا السفر الطويل المجهد‪ ،‬لشراء مالبس العيد لطفله‬

‫‪- 01 -‬‬
‫الوحيد المدلل‪ ،‬الذي هو أنا‪ .‬والذي ينتظر في لهفة وشغف تلك اللحظات‬
‫األسطورية التي يتم فيها ابتياع مالبس العيد‪.‬‬
‫إن مرحلة شراء المالبس الجديدة هي نصف بهجة العيد‪ ،‬والباقي يتوزع بين‬
‫مصروف العيد وكعك العيد والتنزه‪ ،‬وتلك الطقوس أو التفاصيل هي ما‬
‫ومميزا عن العيد في كل بقاع العالم‪..‬‬
‫ً‬ ‫تجعل العيد على أرض مصر مختل ًفا‬
‫إن العيد في مصر كائن حي‪ ..‬طفل شقي‪ ..‬ال يعرف إال رسم البسمة على‬
‫الوجوه التي أرهقها السعي طوال العام‪ ..‬طفل جميل يحافظ على مواعيد‬
‫تعاطي البهجة‪ ..‬ويالمس بشقاوته القلوب‪.‬‬
‫نادرا ما يهتمون بمثل هذه التفاصيل البسيطة‪ ،‬ويلقون بها على‬
‫معظم اآلباء ً‬
‫عاتق األم‪ ،‬خاصة مع ظروف العمل والسفر المستمر‪ .‬إال أن أبي كان يعتبره‬
‫مقدسا وال بديل عن أن يؤدي مراسمه بنفسه‪ ،‬حتى إنه كان يداعب أمي‬
‫أمرا ً‬
‫ً‬
‫عندما يرى نظرتها المشفقة قائال‪:‬‬
‫‪ -‬إن كل التعب واإلرهاق‪ ،‬يزوالن عندما أرى مالمح السعادة على وجه‬
‫(أمجد)‪..‬‬
‫وأمجد هو اسمي بالطبع كما توقعتم فال يوجد طفل آخر في القصة حتى‬
‫هذه اللحظة‪.‬‬

‫‪- 00 -‬‬
‫إنه تجسيد رائع لمعنى األبوة‪ ،‬خاصة وأن اآلباء ال يظهرون الحنان ألبنائهم‬
‫وحازما‪ ،‬وقاسيًا في أغلب‬
‫ً‬ ‫عبوسا‬
‫ً‬ ‫بسهولة‪ ،‬فالعرف أقر بأن يكون األب‬
‫األوقات‪..‬‬
‫وكعادة كل شيء جميل‪ ،‬انتهى هذا الفصل المميز من حياتي‪ ،‬بحادث عابر‬
‫وكخبر غير مشوق في صفحة الحوادث‪ ،‬حادث يتكرر دوريًا أسرع من‬
‫طباعة األعداد الجديدة من الصحف‪ ،‬حادث ينساه الصغار‪ ،‬ومعه ينسون‬
‫آباءهم وربما تلك الفترة الزمنية بالكامل‪ ،‬لتصبح كحلم باهت‪ ،‬ال تفسير له‪.‬‬
‫ولكني لم أنس‪ ..‬فوقتها كنت في العاشرة‪ ،‬وهو سن كبير إلى حد ما؛ تكون‬
‫الذاكرة تعمل فيه بكامل طاقتها‪ ،‬لذلك ظل الحادث يجثم على صدري‪،‬‬
‫يؤرقني طويال ويثير الشجن في قلبي‪.‬‬
‫لقد اعتبرت نفسي مسؤالً عما حدث لسبب أو آلخر‪ ..‬وبرغم نضجي‬
‫وعلمي بأن الحادث وقع ألن أجلهم قد حان إال أني لم أسامح نفسي قط‪،‬‬
‫متوترا قصير الفتيل‪ ،‬أتشاجر ألتفه األسباب‪ ،‬وال أكف عن‬
‫وهذا ما جعلني ً‬
‫إيذاء نفسي ومن حولي‪.‬‬
‫عاما‪ .‬وهي فترة‬
‫واآلن مر على هذا الحادث األليم ما يقرب من خمسة عشر ً‬
‫طويلة ج ًدا‪ ،‬وكفيلة حتى لشخص قوي الذاكرة مثلي‪ ،‬لينسى األمر كله أو‬
‫على األقل ليتجاهله ويمضي في حياته‪..‬‬

‫‪- 01 -‬‬
‫ولكن األمور لم تكن بهذه البساطة أب ًدا‪ .‬لقد كان وقع األمر على روحي‬
‫كاسحا‪ ،‬خاصة مع انتقالي للسكن مع جدي الكهل في منزله البعيد‪.‬‬
‫ً‬
‫جدي الذي لم أعرف بوجوده على قيد الحياة إال بعد مصرع والدي‪ ،‬لغز‬
‫جديد ومخيف يضاف إلى سجالت عمري البيضاء‪ ،‬وينافي تلك الصورة‬
‫المالئكية التي تمأل روحي عن اآلباء‪ ..‬ال يمكن ألب أن يهجر ابنه إال في‬
‫كارثة كونية أو عندما يختطفه طائر الموت ‪..‬فلماذا هجر جدي ولده أم ترى‬
‫هل حدث العكس ؟!‪.‬‬
‫لم أجد وقتها إجابة‪ ..‬فتركت األمر لأليام‪ ..‬فاأليام وحدها كفيلة بإزالة‬
‫الحجب عن هذا السر‪.‬‬
‫فقدان األصدقاء أصابني بتوتر نفسي شديد اختلط بإحباط واكتئاب‬
‫شديدين‪ ..‬إن كل هذه التغيرات ال يمكن أن يستوعبها عقل طفل بهذه‬
‫واضحا بروحي‪ .‬واألكثر وطأة ما تحتويه‬
‫ً‬ ‫شرخا‬
‫البساطة‪ ،‬لقد صنع االنتقال ً‬
‫حياة جدي الشيخ ياسين من أسرار وغموض‪ .‬جدي الذي لم أستطع أن‬
‫دائما الشيخ ياسين‪.‬‬
‫أناديه جدي بقلب مستريح‪ ،‬وظل ً‬
‫****‬
‫في الليلة األولى التي قضيتها في منزل الشيخ ياسين لم أر النوم لحظة‬
‫واحدة‪ .‬رائحة الفراش المكتومة والمختلطة برائحة عرق من سبقني كانت ال‬
‫تطاق‪ ،‬فكرة أن هناك من سبقني للفراش كانت مروعة‪ ..‬خاصة وأني طفل‬
‫‪- 01 -‬‬
‫وحيد ألب وأم ميسوري الحال جعال طفلهما هو قبلة أحالمهما فمنحاه‬
‫خصوصية ومميزات وقواعد صارمة عن استخدام أشياء اآلخرين‪ ،‬أو‬
‫استخدام اآلخرين ألشيائه‪.‬‬
‫لم تكن الشراشف التي حال لونها تحمل تلك الرائحة العطرية التي تميز‬
‫شراشف أمي وال نعومتها المعتادة‪ ،‬لم تكن طرية وودود مثلها‪ ،‬بل يابسة‬
‫ومتجلدة وتبعث على االشمئزاز‪.‬‬
‫مكتوما وكأنه هرم‬
‫ً‬ ‫كانت بداية غير مشوقة أب ًدا‪ ..‬الهواء نفسه كان ثقيال‬
‫ومرض مع الشيخ ياسين‪ ،‬فضاق صدري منه ومن كل شيء‪ ..‬حتى إني‬
‫فكرت في الهرب‪ ..‬ولكني لم أعرف إلى أين!! لو تجاهلت صدمة اللقاء‬
‫األولى مع الشيخ ياسين‪ ..‬فلن أستطع أن أتجاهل تلك األصوات أو أنكر‬
‫سماعها‪.‬‬
‫أصوات مخيفة صاخبة غير واضحة أو مفهومة ظلت تصدر طوال الليل من‬
‫غرفة الشيخ ياسين التي تقع في آخر الرواق‪ ،‬لتبعث مزي ًدا من القشعريرة في‬
‫جسدي وأطرافي‪ ،‬والتي كان صداها ينتقل إلى أذني في تعبيرات مبهمة‬
‫متألمة‪ ،‬مختلطة بصوت أشبه بثغاء الجديان‪ ،‬مع حديث مبهم بلغة غير‬
‫مفهومة‪.‬‬
‫يومها فسرت األمر عن غير اقتناع ودموعي تغرق وجهي‪ ،‬بكون الشيخ‬
‫قديما على شاشة التلفزيون‪ ،‬على الرغم من أني‬
‫فيلما أجنبيًا ً‬
‫ياسين يشاهد ً‬
‫‪- 01 -‬‬
‫في وقت الحق لم أعثر على هذا التلفزيون المزعوم في أي مكان من‬
‫المنزل‪.‬‬
‫حاولت أكثر من مرة أن أقترب من غرفة الشيخ ياسين ألتقصى األمر‪،‬‬
‫فالغرف المغلقة كفيلة بإشعال فضول ألف قط‪ ،‬و ظلت الغرفة تطاردني في‬
‫أحالمي وتثير حفيظتي حتى تحولت لقط فضولي أخر ‪.‬‬
‫فهل قتل الفضول القط ؟!‬
‫وبشرا أكثر‪.‬‬
‫نعم لقد قتل قططًا كثيرة ً‬
‫الشيء العجيب الذي لم أنتبه إليه وقتها هو أنني كلما اقتربت من الرواق‬
‫شبه المظلم والذي تقع الغرفة في نهايته‪ ،‬كنت أفقد اهتمامي بشكل غريب‬
‫دائما سبب قدومي إلى هذا‬
‫ويشغلني طارئ ما عن مواصلة فضولي‪ ،‬وأنسى ً‬
‫المكان من األساس‪ .‬وكأن هناك قوة ما تحرص على عدم اقترابي من الغرفة‬
‫بأي حال من األحوال‪.‬‬
‫وطوال فترة وجودي بالمنزل لم أستطع دخول غرفة الشيخ ياسين ألتأكد من‬
‫وجود جهاز تلفزيون بالداخل‪ ،‬فهي تظل مغلقة طوال الوقت‪ ،‬سواء أكان‬
‫داخلها الشيخ ياسين أو خارجها‪.‬‬
‫و هذا األمر نبهني إلى كارثة أخرى ‪ ،‬وهي عدم وجود تلفزيون آخر في المنزل‪،‬‬
‫هذا لو كان هو بالفعل مصدر تلك األصوات المرعبة التي ال تنقطع طوال الليل‪.‬‬

‫‪- 05 -‬‬
‫األمر أكثر من مفزع‪ ..‬فلو ظل التلفزيون في الغرفة المغلقة‪ ،‬سيتحول المنزل‬
‫بالنسبة لي إلى سجن حقيقي‪ ،‬وسيصبح المكان جزيرة معزولة‪ ،‬وأنا قد أجن‬
‫ببساطة‪.‬‬

‫إن التلفزيون لصبي في مثل عمري‪ ،‬يعني أكثر بكثير من مجرد صندوق ذي شاشة‬
‫فضية يعرض الصور‪ ،‬إنه نافذتي على العالم‪ ،‬أبطالي الكرتونيون هناك‪ ،‬أحالمي‬
‫تعرض مرتين في اليوم‪ ،‬ال يوجد قضبان على نافذة روحي‪ ،‬فأنا اآلن في الفضاء‬
‫وبعض لحظات في أعماق األرض‪ ،‬وربما أقضي الليلة بصحبة بطل إسفنجي ‪-‬‬
‫فخور بمالبسه الداخلية – في قاع البحر‪.‬‬
‫إنه المنفى الحقيقي‪.‬‬

‫حنقي من عدم وجود التلفزيون‪ ،‬شغلني عن أمر هذه األصوات الغامضة المخيفة‬
‫تماما‪،‬‬
‫تلقائيا قرب الفجر حتى تالشت ً‬
‫ً‬ ‫في هذه الليلة السوداء‪ ،‬والتي خفتت‬
‫ولكني لم أطمئن لها أب ًدا‪ ،‬هناك شيء ما شرير يحاك في الظالم‪ ..‬تحت سقف‬
‫صحيحا‪..‬‬
‫ً‬ ‫هذا المنزل‪ ..‬وبالذات بداخل هذه الغرفة المغلقة‪..‬فلو لم يكن توقعي‬
‫فلماذا ترتجف أطرافي بهذه الطريقة ولماذا يدق قلبي بهذا العنف؟‪.‬‬

‫كما أخبرتكم تالشت األصوات قرب الفجر‪ ،‬ولكنها تركت في فضاء الغرفة ضي ًفا‬
‫ثقيل الظل‪ ..‬وهو الخوف‪.‬‬

‫الح ًقا لم تعد هذه األصوات تثير قلقي أو إزعاجي‪ ..‬إنه االعتياد الذي يقتل رهبة‬
‫األشياء‪ ،‬أو هو شعور ما تسلل إلى روحي بطريقة غامضة وترسخ هناك فلم تعد‬
‫األصوات مخيفة‪.‬‬

‫‪- 06 -‬‬
‫هل تشعرون مثلي بأن األمر مريب ؟!‬

‫الخالصة أنها كانت ليلة سوداء لم يزرني فيها النوم قط‪ ،‬ولم أشعر فيها باألمان‬
‫مضاء طوال الليل‪ ،‬وهذا أثار حنق الشيخ‬
‫ً‬ ‫لحظة واحدة‪ .‬لذلك تركت المصباح‬
‫ياسين ضدي في الصباح‪ ،‬ويومها لم أفهم لماذا ؟!‬

‫وهذا جعلني أنظر لأليام القادمة على أنها ستكون أسود أيام في حياتي‪ ،‬ولم يخب‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫ظني ً‬
‫هل بكيت ؟!‬

‫دون شك‪ ،‬إنني وحيد في بيت األشباح هذا‪ ،‬وأنظر للمستقبل بمنظار أسود‬
‫لعين‪.‬‬

‫إنني وحيد إلى األبد‪ ،‬ال أب وال أم‪ ،‬وال إخوة‪ ،‬واألصدقاء تركتهم خلفي‪ ،‬وجدي‬
‫مخيف ج ًدا‪.‬‬

‫فهل ستشرق الشمس على روحي من جديد ؟!‬

‫من يدري ؟!!‪.‬‬

‫كانت تلك هي الليلة األولى الذي أستيقظ فيها وثيابي مبللة‪.‬‬


‫ماذا يطلقون عليه ؟!‬

‫نعم‪ ..‬تبول ال إرادي‪.‬‬

‫‪- 07 -‬‬
‫‪ -‬عايدة‪-‬‬
‫رحيما ورئي ًفا بسني وضعفي‪ ،‬فلم يستمر جحيم الشيخ ياسين إال‬
‫كان القدر ً‬
‫فترة قصيرة‪ ،‬وإن كانت مرت علي كالقرون‪ ،‬ما بين االحتجاز في المنزل‬
‫المغلق‪ ،‬وتلك األصوات المريعة التي تثير القشعريرة في جسدي كلما‬
‫اخترقت سمعي‪ ،‬والطعام السيئ‪ ،‬ولكنها رغم كل مساوئها انتهت كما ينتهي‬
‫الطغاة والوباء وثورة الطبيعة‪ ،‬فلم أعد وحي ًدا بصحبة الشيخ ياسين في هذا‬
‫قليال‪ ،‬خاصة عندما أقبلت‬
‫المنزل المخيف‪ .‬فبعد عدة أيام تغير األمر ً‬
‫(عايدة) بردائها األسود ووجهها الصبوح إلى المنزل‪.‬‬
‫وعايدة سيدة ريفية في العقد الرابع من عمرها‪ ،‬تشع النظافة من كل ملمح‬
‫من مالمحها‪ ،‬وقد استقدمها جدي خصيصاً لتعنى بي وبشئون المنزل التي‬
‫تضاعفت بوجودي‪.‬‬
‫وجودها نفسه أحيا المكان وبعث فيه الروح من قلب الرماد‪ .‬وبعد لمستها‬
‫السحرية ومجهود مضني‪ ،‬أصبحت غرفتي أكثر قابلية للسكن‪ ،‬بعد أن‬
‫كانت أقرب إلى المخزن منها إلى غرفة‪ .‬وخاصة بعد أن أخرجت منها أطنان‬
‫الغبار التي تراكمت عبر األعوام‪ ،‬وبيوت العنكبوت التي كانت تشبه الستائر‬
‫من كثافتها‪ ،‬وغمرت األرضيات بذلك السائل النفاذ الرائحة المسمى‬
‫(الفنيك)‪.‬‬

‫‪- 08 -‬‬
‫حقيقة أن رائحة الغرفة أصبحت كرائحة المستشفيات‪ ،‬ولكنها لم تعد تجثم‬
‫على روحي‪.‬‬
‫طعام عايدة لم يكن بجودة طعام أمي رحمها اهلل ولكنه مقبول إلى حد كبير‪،‬‬
‫خاصة مع هذا البيض المقلي الهالمي الذي قدمه لي جدي على العشاء‬
‫أمس‪ ،‬والذي لم تقبله معدتي أب ًدا‪ ،‬فأخذت تعاقبني عليه بآالم شديدة‬
‫وإسهال مضن‪.‬‬
‫ال أعتقد أن هناك دجاجة في الكون من الممكن أن تبيض بيضة بمثل هذا‬
‫ضلعا في مؤامرة كونية تحاك ضدي‪ ..‬العيب إذن في‬
‫السوء‪ ،‬إال لو كانت ً‬
‫طهو الشيخ يا سين‪.‬‬
‫ضا أنني لم أر الشيخ ياسين يدخل المطبخ قط ناهيك عن طهو‬
‫والجميل أي ً‬
‫الطعام وكأنه يعد كل شيء في غرفته‪ ،‬أو يعدها له شخص ما ال أعرف‬
‫بوجوده في المنزل‪.‬‬
‫الخالصة أن قدوم عايدة إلى المنزل كان رحمة من رحمات اهلل التي خصني‬
‫بها‪ ،‬خاصة وأنها دمثة األخالق حلوة المعشر‪ ،‬وحبها لي ال ادعاء فيه‪.‬‬
‫عامة لقد استطعت في فترة وجيزة التأقلم جي ًدا على حياتي الجديدة‪ ،‬وإن‬
‫بقت بعض المنغصات التي أثارت ضيقي ‪ -‬وليس خوفي ‪ -‬لفترة طويلة‪،‬‬
‫منها هذه األصوات التي ال تنقطع طوال الليل والتي تخرج من غرفة جدي‬
‫المغلقة‪ ،‬والتي زادت في الفترة األخيرة إلى حد مثير لألعصاب واختلطت‬
‫‪- 09 -‬‬
‫بأصوات أخرى مروعة هي مزيج من خوار وأنين وصرخات متألمة‪ ،‬وكأن‬
‫بداخل غرفة جدي قبو للتعذيب‪.‬‬
‫عايدة كانت تتعمد عدم الحديث عن الغرفة وكأنها غير موجودة بالمنزل‪،‬‬
‫آخر حدود لها كانت عتبتها عندما تضع الطعام للشيخ ياسين ثم تنصرف‪،‬‬
‫الشيخ ياسين الذي لم يعد يحرص على تناول طعامه منذ عدة أيام‪.‬‬
‫شيء آخر كان يثير ضيقي إلى أقصى مدى‪ ،‬وهو حرص الشيخ ياسين‬
‫حرصا أب ًدا‪ ،‬إنه البخل الخام‪،‬‬
‫الشديد في اإلنفاق والذي اكتشفت أنه ليس ً‬
‫تجهما‪.‬والمطلوب مني أنا الفتى‬
‫ً‬ ‫عم دهب آخر ولكن أكبر سنًا وأكثر‬
‫المدلل أن أخضع لقواعده‪ ،‬وأبتلعها في صمت‪.‬‬
‫ولم يكن هذا ديدني‪ ..‬الفتى المدلل الذي اصطحبته معي إلى المنزل تالشى‬
‫من الوجود‪ ..‬اآلن هناك أمجد الذي ال يرضى بسياسة األمر الواقع‪ .‬وتلك‬
‫المعركة التي خضتها من أجل الحصول على التلفزيون‪ ،‬خير دليل على‬
‫ذلك‪ .‬إن رأسي كالصخر وعزيمتي ال تلين بسهولة‪ .‬لقد أرهقني اإللحاح كما‬
‫أرهق الشيخ ياسين‪ ،‬وفي النهاية ربحت المعركة وحصلت على التلفزيون‪،‬‬
‫ولكن روحي تشبعت بضيق ال نهاية له‪ .‬ومثل هذه األمور تمثل تحديًا لمن‬
‫هم في مثل عمري‪ ،‬وتنشط تلك البؤرة الشريرة في أعماقهم‪.‬‬
‫لذلك صار تهشم األطباق واألكواب حدثًا يوميًا ال ينقطع‪ ،‬وفساد األطعمة‬
‫خارج الثالجة بعد نسيانها في أماكن غير متوقعة نشاطًا دوريًا‪ ،‬هذا غير‬

‫‪- 11 -‬‬
‫المالعق والسكاكين المفقودة‪ ،‬وفرد الجوارب التي ال تظهر أب ًدا‪ ،‬وأجزاء‬
‫الكتب التي كان يحرص عليها جدي بشدة من المكتبة الموجودة في غرفة‬
‫االستقبال‪ .‬وهذه األنشطة تزداد كثافة في تلك األيام التي تغادرنا فيها عايدة‬
‫لزيارة أمها المريضة في البلدة المجاورة‪ ،‬أو تذهب فيها لعميلها اآلخر‪،‬‬
‫فعايدة غير منقطعة لنا بالعمل‪ ،‬إنها تحتاج للمال لسبب ملح ال أعرفه‪،‬‬
‫وبالتالي فهي تعمل طوال الوقت كماكينة أبدية ال تتوقف‪.‬‬
‫كنت أعامل الشيخ ياسين كشيطان مريد‪ ،‬وصورة فريد شوقي في دور‬
‫(عوض) في مسلسل (البخيل وأنا) تطاردني بإصرار‪ ،‬والسؤال الكوني يدور‬
‫في رأسي ‪ :‬ترى أين يخفي الشيخ ياسين صندوق النقود المكتظ‪ ،‬تلك التي‬
‫جمعها عبر سنوات عمره السبعين ؟!‬
‫حاول الشيخ ياسين أن يردعني بنصائحه دون فائدة‪ ،‬وعندما كان يفشل‪،‬‬
‫كان يثور علي‪ ،‬ويعنفني‪ ،‬وربما ذات ليلة يتركني دون عشاء‪ ،‬ولكن األمر‬
‫المؤكد أن حدة العقاب لم يرتفع سقفها ألكثر من هذا‪ ،‬فلم تمتد يده لي‬
‫باألذى ولو مرة واحدة‪ .‬فقد كنت أذكره بولده الراحل عندما كنت في مثل‬
‫سنه‪ ،‬وألنه ال يريد أن يكون السبب في فقدي‪ ،‬كما كان السبب في فقد‬
‫ولده الراحل كما كان يردد‪ ،‬وهو شيء لم أستطع تفسيره وقتها‪.‬‬
‫لقد مات والدي في حادث سيارة‪ ،‬فكيف يكون لديه يد في ذلك ؟!‬

‫‪- 10 -‬‬
‫وهم‪ ..‬التي يرددها طوال الوقت‪ ،‬تؤكد بأن أمراض الخرف والشيخوخة قد‬
‫بدأت تنال منه‪.‬‬
‫فهم‪ ..‬الذين قتلوا والدي‪ ،‬ال يسكنون إال في رأسه فقط‪.‬‬
‫والتفسير البسيط‪ ،‬هو شعوره بالذنب ألنه هجر والدي منذ فترة طويلة‪ ،‬أو‬
‫أي سبب آخر‪.‬‬
‫حقيقة كنت أشفق عليه لكبر سنه بعد كل مقلب كنت أقوم به ضده‪ ،‬ولكني‬
‫لم أتوقف عن أفعالي لحظة واحدة‪ ،‬فشيطان األطفال ضعيف الذاكرة كما‬
‫تعلمون‪ ،‬والدليل على ذلك أن ضحكاتي كانت ترتفع أكثر وأكثر مع‬
‫المقلب التالي‪ .‬إن تلك البذرة المسماة الضمير لم تكن قد كشفت بعد عن‬
‫براعم في أرض روحي الخصبة‪ ،‬لذلك صار األمر كله لعبة مسلية‪ ،‬خاصة‬
‫وأن العقاب هين على الدوام‪.‬‬
‫فثورة جدي باردة‪ ،‬والثورات الباردة ال تحقق أهدافها أب ًدا‪.‬‬
‫الحياة مع جدي صارت محتملة إلى حد ما خاصة بعد ظهور عايدة في‬
‫حياتنا على الرغم من كونها ال تقضي معنا في المنزل أكثر من يومين أو‬
‫ثالثة أسبوعيًا‪ .‬إن وجودها صار يعني الحياة ذاتها‪ .‬ولكن هل تبقى الحياة‬
‫على وتيرتها الحالية ؟!‪.‬‬

‫‪- 11 -‬‬
‫احتاجت إجابة هذا السؤال عدة أسابيع كي تتضح‪ ،‬وكانت اإلجابة بالنفي‬
‫بالطبع فلن تمضي الحياة دون منغصات‪ ،‬هذا ليس ديدنها‪ ،‬ولم تج ِر األمور‬
‫كما تمنيت‪ ،‬وكما توقعتم‪.‬‬
‫فما أثار حنقي وغضبي ونغص علي ليالي في األيام التالية‪ ،‬هو ابتعاد أبناء‬
‫الجيران الذين هم في مثل سني أو أكبر قليالً عن صحبتي‪ ،‬وتجنبهم اللعب‬
‫معي لسبب غير مفهوم‪ ،‬والكارثة أني عرفت أن األمر بتحريض ذويهم‪.‬‬
‫وكأني حامل لوباء ما أو أجلب خلفي الطاعون‪.‬‬
‫وما أكد لي شكوكي‪ ،‬هي تلك الحادثة التي سأقصها عليكم اآلن‪.‬‬
‫فذات يوم ربيعي يغمره النسيم‪ ،‬نسى أحد األطفال تعليمات أبويه الصارمة‪،‬‬
‫معا بلعب (السيجا) والتي رسم مربعاتها شخص ما في يوم سابق‪.‬‬
‫واندمجنا ً‬
‫وما أن مس بقدمه خط أحد المربعات عن طريق السهو عندما كان يحجل‬
‫معا‬
‫مهشما إحدى قوانين اللعبة‪ ،‬حتى ثرت عليه واشتبكنا ً‬
‫ً‬ ‫على قدم واحدة‬
‫باأليدي‪ ،‬ألنه كان ينكر األمر ويكذبني‪.‬‬
‫وألنه كان أقوى مني فقد أصابتني قبضته القوية في أنفي‪ ،‬فسالت بعض‬
‫قطرات الدم‪ ،‬وبسرعة البرق وشىت به أخته الصغيرة ألبيه‪ ،‬فما كان من‬
‫األب الذي ظهر فجأة وكأنما انشقت األرض عنه ‪ ،‬أن قام بعقاب فوري‬
‫كال وسبًا وهو يردد دون كلل ‪:‬‬
‫صفعا ور ً‬
‫البنه‪ ،‬فانهال عليه ً‬

‫‪- 11 -‬‬
‫‪ -‬ألم أحذرك من اللعب معه‪ ،‬هل تريد أن يؤذي الشيخ ياسين أبويك أو‬
‫أخوتك‪ .‬إياك أن تلعب مع سليل الشياطين هذا وحتى يحتويك القبر‪.‬‬
‫وليؤكد على جدية األمر ظل يصفعه حتى غاب عن بصري‪.‬‬
‫حائرا طوال اليوم‪ ،‬وفي النهاية قررت أن أخبر‬
‫يومها أسقط في يدي‪ .‬وظللت ً‬
‫الشيخ ياسين بما دار ليكشف لي حقيقة ما يحدث‪.‬‬
‫الغريب أنني عندما أخبرته صمت ولم يرد‪ ،‬وإن ظهر ضيق كاسح في عينيه‪،‬‬
‫وعندما مست يده رأسي فقدت كل اهتمامي بالحادث‪ ،‬كأن لم يكن‪.‬‬
‫ولحظتها شعرت براحة هائلة‪ ،‬وزالت كل المشاعر السيئة من داخلي‪ ،‬وال‬
‫أعرف حقيقة كيف أن الشيخ ياسين لم يعد مخي ًفا كالسابق ؟!‪.‬‬
‫مضت األيام في طريقها المعتاد‪ ،‬وعشش طائر الملل فوق أغصانها‪ ،‬وبدا‬
‫وك أنها ستظل على رتابتها إلى األبد‪ ،‬حتى بدأ العام الدراسي ومعه بزغت‬
‫شمس جديدة‪ ،‬وقدم لي جدي أوراق اعتمادي في المدرسة الجديدة‪ ،‬وجاء‬
‫اليوم الذي سأذهب فيه إلى المدرسة‪ ،‬وكانت نصيحته األثيرة ‪" :‬ابتعد عن‬
‫أصدقاء السوء"‪.‬‬
‫إنها ليست المرة األولى التي أستمع فيها لهذه النصيحة‪ ،‬ولكن ال بأس‬
‫ألذهب أوالً إلى المدرسة‪ ،‬وبعدها لنناقش أمر هذا الوباء المسمى أصدقاء‬
‫السوء‪.‬‬

‫‪- 11 -‬‬
‫حريص ا على أن تكون المدرسة قريبة من المنزل‪ ،‬حتى ال يضطر‬
‫ً‬ ‫كان جدي‬
‫إلى إنفاق نقوده على االنتقال إليها ذهابًا وإيابًا‪ ،‬لذا فإنه اضطر لالستعانة‬
‫بأحد أصدقائه القدامى كما ادعى‪ ،‬والذي تصادف كونه زوج مديرة المدرسة‪،‬‬
‫ليلحقني بها‪.‬‬
‫ال أعرف كيف أقنعه بهذه البساطة على إتمام التحاقي بالمدرسة‪،‬ولكني‬
‫لمحت ذلك الشخص يرتجف وهو يتراجع بظهره أمام الشيخ ياسين وكل‬
‫باردا لهذه الدرجة‪.‬‬
‫ذعر الدنيا يطل من عينيه‪ ..‬العجيب أن الجو لم يكن ً‬

‫‪- 15 -‬‬
‫‪ -‬سحر أسود‪-‬‬
‫وبرغم أن المدرسة لم تكن تبعد عن المنزل إال مسافة كيلو واحد إال أني‬
‫جعلت األمر بالنسبة لجدي كالجحيم‪ ،‬فلم أتوقف لحظة عن الشكوى‪،‬‬
‫فالشمس حارقة‪ ..‬المجاري الطافحة‪ ..‬الغبار يجثم على صدري‪ ..‬ساقاي‬
‫تؤلماني ألن المسافة طويلة على من هم في مثل سني‪.‬‬
‫ولكن جدي كان قد ا حتاط لكل هذه المنغصات فلم أستطع هزيمته في‬
‫جنيها واح ًدا إلبطال حجتي هذه‪ ،‬فقط‬
‫هذه النقطة‪ ،‬فاألمر كله لم يكلفه إال ً‬
‫عندما قام بمأل إطارات دراجته القديمة بالهواء‪ ،‬ليقوم بتوصيلي بها يوميًا إلى‬
‫المدرسة‪.‬‬
‫ال يخفى عليكم بالطبع تلك الحوادث العرضية التي ظلت تقع للدراجة‪،‬‬
‫كثقب اإلطارات‪ ،‬أو خلوها المفاجئ من الهواء‪ ،‬أو اختفائها كليًا‪ ،‬ولكنه‬
‫دوما مستع ًدا‪ ،‬لذا باءت كل جهودي للتخلف عن المدرسة بالفشل‬ ‫كان ً‬
‫الذريع‪ ،‬وإن نجحت إلى حد ما في إثارة غيظه‪.‬‬
‫في النهاية انتظمت في المدرسة‪ ،‬بل وأصبحت أقطع الطريق وحدي إليها‬
‫دون معاونة جدي‪ ،‬فقد انقلب السحر على الساحر‪ ،‬فبدالً من أن أثير‬
‫ضيقه‪ ،‬أصبح هو يحد من حريتي‪ ،‬لذلك قررت أن أتخلى عن هذا الجزء من‬
‫اللعبة‪ ،‬لتدور الدائرة‪ ،‬وتمضي األيام‪.‬‬

‫‪- 16 -‬‬
‫الغريب في الحادثة السابقة‪ ،‬أن جدي كان يقود الدراجة بنفسه‪ ،‬وكأنه ال‬
‫تأثير للزمن على مفاصله وعظامه‪ ،‬وكأنه شاب في العشرين من عمره‪ ،‬لم‬
‫يتعب ولم يلهث ولم يظهر ضي ًقا وكأن زحف السنوات يختلف معه عن غيره‪.‬‬

‫إنه يمتلك قوة غريبة‪ ..‬والمثير للغيظ أن هذا لم يثر ريبتي وقتها‪.‬‬
‫****‬
‫مرت سبع سنوات كاملة‪ ،‬شاب فيها ما تبقى من شعر جدي األسود‪ ،‬ربما‬
‫وقورا أكثر‪ ،‬ولكنه أظهر على وجهه آثار زحف الزمن الذي‬
‫مظهرا ً‬
‫هذا منحه ً‬
‫ال يرحم ووطأته‪ ،‬وكأن قوته السابقة كانت مؤقتة وتالشت مع الوقت‪ .‬بل‬
‫تحكما في أعصابه‪ ،‬وصار يثور ألتفه األسباب ويعنف‬
‫ً‬ ‫وصار خاللها أقل‬
‫عايدة طوال الوقت وبال سبب حقيقي‪.‬‬
‫كما زادت تلك الفترات التي كانت تلك األصوات تخرج خاللها من غرفته‬
‫مما حطم أعصابي لفترة طويلة‪ ،‬وكانت مقدمة لتبدل مخيف في شخصيتي‬
‫ضا أكثر عن ًفا ونزقًا‪ .‬وكأني أخرج انفعالي في ممارساتي العنيفة‬
‫فصرت أنا أي ً‬
‫مع الغرباء‪.‬‬
‫ما عرفته عن الشيخ ياسين فيما بعد‪ ،‬أطار النوم من عيني‪.‬‬
‫فأنا الذي كنت أظن أن الناس ينادونه بالشيخ (ياسين ) لكبر سنه وتدينه‪،‬‬
‫اتضح لي خطأ تفكيري وحماقتي‪.‬‬

‫‪- 17 -‬‬
‫فغرفته المغلقة لم تكن تحتوي على صندوق النقود كما اعتقدت‪ ،‬بل‬
‫تحتوي على كتبه وأدواته التي كان يمارس بها عمله الملعون‪ ،‬والذي منحه‬
‫لقب الشيخ‪.‬‬
‫فجدي كان أحد هؤالء المشعوذين الملعونين الذين كانوا يقومون بممارسة‬
‫أعمال السحر‪ ،‬واألحجبة‪ ،‬وكل هذه األعمال المخيفة الغامضة التي تقوم‬
‫على إيذاء الناس باالستعانة بالجن والشياطين‪.‬‬
‫إنه يمارس باختصار السحر األسود‪.‬‬
‫لذلك لم يكن يسمح لي باالطالع على ما يقوم به‪ ،‬وأخفى كل شيء عني‪.‬‬
‫وخوف الناس منه جعلني في معزل عن معرفة الحقيقة لفترة طويلة ولكن‬
‫ليس إلى األبد‪.‬‬
‫كنت فقط في حاجة إلى طرف الخيط‪ ،‬ومنحه لي صديقي نجيب في أحد‬
‫ضا أن له شري ًكا آخر هو‬
‫حوارتنا‪ ،‬وبعدها تكشف لي المجهول‪ ،‬فعرفت أي ً‬
‫الشيخ (تهامي الحو)‪ ،‬وهو عجوز قد تخطى العقد الثامن من العمر ويقترب‬
‫من التاسع بخطوات حثيثة‪ ،‬و يعتبره الشيخ ياسين معلمه وأستاذه وربما هو‬
‫الشخص الوحيد الذي يثير اسمه الرجفة في قلب الشيخ ياسين‪.‬‬
‫وفي منزل الشيخ (تهامي الحو) يقومان بكل النشاطات المريعة التي يقوم‬
‫بها كل مشعوذ يحترم نفسه وعمله‪ ،‬من زار واستحضار أرواح‪ ،‬وفك السحر‪،‬‬

‫‪- 18 -‬‬
‫وربط األزواج‪ ،‬والطالسم المختلفة واالتصال بالجن والشياطين وكل هذه‬
‫األشياء التي جعلت رب العالمين يلعنهم في كل كتاب‪.‬‬
‫إنهم من أحط أنواع السحرة وأكثرهم حقارة‪.‬‬
‫يوما على فعل واحد من كل‬
‫ولو علمت ما علمته هذا من البداية لما جرؤت ً‬
‫ما كنت أقوم به مع الشيخ ياسين‪.‬‬
‫الغريب في األمر أنه كان يعامل الناس بطريقة ويعاملني أنا بطريقة مختلفة‪،‬‬
‫ضا‪ ،‬لم أعهده‬‫إن عينيه تحمالن لي من الشفقة الكثير وربما من الحب أي ً‬
‫قاسي القلب‪ ،‬بل كان حنونًا ولم تمتد يده بالسوء لي في يوم من األيام‪،‬‬
‫وكنت أبرر تصرفاته مع عايدة باعتبارات السن ال أكثر‪.‬‬
‫حقيقة ال أعرف كيف يحتوي صدره على قلب مماثل‪ ،‬وهو ال يكف عن‬
‫إيذاء الناس مقابل حفنة من المال‪.‬‬
‫مفزوعا إثر حلم سيء أو كابوس‪،‬‬
‫ً‬ ‫ضا أنه عندما كنت أقوم من نومي‬
‫أذكر أي ً‬
‫متأخرا فإنه يصر على‬
‫ً‬ ‫كان يحضر لغرفتي على الفور‪ ،‬ومهما كان الوقت‬
‫إطالق البخور نفاذ الرائحة في الغرفة‪ ،‬برغم أن الدخان الناتج عن حرق هذا‬
‫البخور كان يثير ضيقي‪ ،‬إال أنه كان يستمر فيما بدأه‪ .‬ومع البخور يظل يردد‬
‫كلمات وهمهمات غير مفهومة‪ ،‬ويخبرني أني غير محصن‪ ،‬وأن الشر‬
‫يسكن في كل شيء‪ ،‬واألذى متوقع‪ ،‬لذا فالبخور يطرد كل ما هو شرير من‬
‫الغرفة‪ ،‬فليست كل األحالم طبيعية‪.‬‬
‫‪- 19 -‬‬
‫كنت أعتقد أنها خرافات عجائز‪ ،‬ولكنها لم تكن كذلك‪ ..‬لألسف‪.‬‬
‫وألني لم أكن أفهم المغزى من حديثه طوال الوقت‪ ،‬فلم أكن أبالي‪ .‬وفي‬
‫واقعا تحت تأثير‬
‫هذا التوقيت بالذات الذي هاجمتني فيه الكوابيس‪ ،‬كنت ً‬
‫طرا‪ ،‬بل وكنت‬
‫نوع آخر من السحر‪ ،‬بل هو أقوى أنواع السحر وأشدها ً‬
‫بكياني كله أسكن في عالم آخر‪ ،‬في كون تتالقى فيه الطيور الدرية على‬
‫شواطئ تلك البحيرات السابحة في العطر‪ ،‬المفعمة باأللوان‪ ،‬لتتبادل كؤوس‬
‫العشق‪.‬‬
‫لقد وقعت في الحب‪ .‬لقد سحرتني سماح‪ .‬ولم يعد يشغلني شيء في‬
‫الوجود عنها‪.‬‬
‫و سماح كانت زميلتي في الدراسة‪ ،‬إنها أكثر الفتيات الالئي رأيتهن في‬
‫وسحرا وأنوثة‪ .‬إنها األنثى الكاملة‪ ،‬تلك التي تمنحك نظرة‬
‫ً‬ ‫حياتي جاذبية‬
‫من عينيها االكتفاء‪ ،‬وتشعر بالرضى لمجرد وجودها بجوارك‪ ،‬إنها الكمال‬
‫الذي لم يخلق لبشر ‪ ،‬والحلم الذي ال يستطيع الكون احتواءه‪ ،‬إنها هي‪..‬‬
‫سماح‪.‬‬
‫كنت أذهب للم درسة من أجلها‪ ،‬وأتمنى في كل لحظة لو صرت تلك‬
‫الحقيبة الصغيرة التي تضمها دوما لصدرها‪ .‬ولكن األحالم ال تتحقق‬
‫بسهولة‪ .‬فبرغم كون المدرسة مشتركة‪ ،‬لم يجمعنا فصل واحد‪ ،‬فاإلناث كانوا‬

‫‪- 11 -‬‬
‫في فصول منفصلة‪ ،‬واللقاءات بيننا كانت تتم على حياء‪ ،‬وعلى الدرج‪،‬‬
‫ودون حديث‪.‬‬
‫جادا‬
‫حوارا ً‬
‫كانت متحفظة ج ًدا‪ ،‬والمرة األولى التي حاولت أن أفتح معها ً‬
‫بعد أن هزمت خوفي ورهبتي‪ ،‬تركتني وانصرفت‪ ،‬وكأني كائن شفاف ال وجود‬
‫له‪ ،‬أو أن حديثي يتم بذبذبة صوتية ال تصل إلى أذنيها‪.‬‬
‫كثيرا ‪ ،‬ولكنها كانت تواجهني بنفس ردة الفعل‪ ،‬ال انفعال من‬
‫حاولت معها ً‬
‫أي نوع‪ ،‬ال ضيق ال نفور‪ ،‬ال إعجاب‪ ،‬لدرجة أن عينيها كان تتجاوزني‪،‬‬
‫وكأنها ال تراني‪ ،‬وهذا حطم أعصابي وكاد يصيبني بالجنون‪.‬‬
‫اهتماما ورد فعل أكثر حيوية مما يحدث معي‬
‫ً‬ ‫إن الصرصور سيأخذ منها‬
‫اآلن‪ ،‬إن هذه الطريقة تسحقني‪.‬‬
‫إنها حولي في كل مكان‪ .‬وهذا يمزقني !!‬
‫لقد فكرت ذات مرة أنها تتعمد اعتراض طريقي‪ ،‬ولكن كيف يصدق هذا مع‬
‫ردود أفعالها التي تثير الجنون ؟!‬
‫وعندما صارحت زياد صديقي‪ ،‬كان رده عجيبًا ‪:‬‬
‫عمال ؟! من يكون جده الشيخ ياسين ال يقف هكذا‬
‫‪ -‬لماذا ال تصنع لها ً‬
‫ببالهة أمام فتاة ‪ ،‬ثم من هي سماح هذه لماذا لم أرها من قبل ؟!‬

‫‪- 10 -‬‬
‫هذه هي النقطة التي كانت تقودني صوب الجنون بجدارة‪ ،‬فصديقي المقرب‬
‫زياد والذي لم يترك فتاة طلعت عليها الشمس إال وتحرش بها‪ ،‬ال يعرف من‬
‫هي سماح !!‬
‫وعندما وصفتها له‪ ،‬ال هو وال أي من أفراد شلتي الكبيرة يذكر أنه رآها أو‬
‫اصطدم بها‪.‬‬
‫ال أحد رآها سواي‪ ،‬وكأنها ال تظهر إال لي وحدي‪ ،‬أو تنبثق من العدم وتعود‬
‫إليه‪ .‬يومها قبض على ذراعي‪ ،‬وهو ينظر نحوي في غموض وقال ‪:‬‬
‫‪ -‬إما أنك واهم‪ ،‬أو أن قدرات أخيك زياد تضعف‪ ،‬وأن زحف العمر عليه‬
‫قد أصاب عينيه بالعطب‪.‬‬
‫خاصا‬
‫ً‬ ‫ولدرء تلك االتهامات والنقائص عن نفسه‪ ،‬قرر أن يجري بحثًا‬
‫وبطريقته‪ ،‬وكنت آمل أن يعود بالمزيد من المعلومات عنها‪ ،‬ولكنه في مساء‬
‫اليوم التالي‪ ،‬عاد كاسف البال‪ ،‬حتى خف ي حنين لم يحضرهما معه‪ ،‬وبنفس‬
‫النظرة السابقة رمقني وقال ‪:‬‬
‫‪ -‬إما أنك واهم‪ ،‬أو أن قربك من جدك أصابك بلوثة حقيقية‪.‬‬
‫لم أنصت لكالمه‪ ،‬بل انشغل عقلي بجملة قديمة‪ ،‬قالها زياد في حوار سابق‬
‫‪:‬‬

‫‪- 11 -‬‬
‫عمال ؟! من يكون جده الشيخ ياسين ال يقف هكذا‬
‫‪ -‬لماذا ال تصنع لها ً‬
‫ببالهة أمام فتاة !!‪.‬‬
‫فكرة العمل نفسها‪ ،‬لم ترق لي‪ ..‬كانت أكبر من تخيلي واستيعابي‪ ،‬ولم‬
‫تكن تحظى بقبول قوي لدي‪ ،‬ولكن ما المانع لو أنها ستجدي ؟!!‪.‬‬
‫المشكلة اآلن كيف أطلب من جدي شيئًا مماثالً ؟! إن إقناعه بإنفاق‬
‫النقود برغم بخله الشديد‪ ،‬أسهل من هذا الطلب‪.‬‬
‫أنا أعرف بالتأكيد أنه قادر عليه‪.‬‬
‫معا‪ ،‬يستطيع أن يجمع عاشقين‬
‫إن من يفرق بين زوجين خاضا غمار الدنيا ً‬
‫تداعب قلبيهما نسائم العشق‪.‬‬
‫دفعني خوفي من مواجهة الشيخ ياسين‪ ،‬إلى البحث في اإلنترنت‪.‬‬
‫وشبكة اإلنترنت هي المشعوذ الرقمي الحديث ‪ ،‬والذي ستجد لديه كل ما‬
‫ترغب ؛ فقط لتمتطي حصان جوجول أو غيره من محركات البحث التي‬
‫فاقت البلورة السحرية في سرعة جلب المعلومات‪.‬‬
‫وفي إحدى المنتديات اإللكترونية المتخصصة في علوم السحر والخوارق‬
‫وجدت بغيتي‪ .‬إن النسخة اإللكترونية من كتاب شمس المعارف الكبرى‬
‫تحتوي على طريقة جهنمية ومجربة‪ ،‬لعقد رباط المحبة كما يطلقون عليه‪،‬‬
‫حيث يتم فيها استخدام بيضة دجاجة مطلسمة لتحقيق األمر‪ ،‬بعد القيام‬

‫‪- 11 -‬‬
‫بالطقوس المناسبة وكتابة تعاويذ وأرقام معينة على قشرتها الخارجية الصلبة‪..‬‬
‫ويكفي فقط أن يمس من يحمل هذه البيضة المطلسمة‪ ،‬الضحية‬
‫المقصودة‪ ،‬ليحملها على أن تسقط في غرامه وتتبعه في كل مكان كالزومبي‪،‬‬
‫أو كالمنوم مغناطيسيًا‪.‬‬
‫هو درب أسود ومعقد من سحر األرقام‪ ،‬ونوع معترف به من السحر‪ ،‬وأنا‬
‫قادر على القيام به‪ ،‬ولكن هل أجرؤ ح ًقا ؟!‪.‬‬

‫‪- 11 -‬‬
‫‪ -‬سماح‪-‬‬
‫وقبل أن أغادر هذا الكون الرقمي‪ ،‬حامالً نسختي اإللكترونية من كتاب‬
‫شمس المعارف الرهيب‪ ،‬قررت أن أتصفح بعض الموضوعات المتعلقة بهذا‬
‫الدرب من السحر‪ ..‬سحر األلفة والمحبة‪.‬‬
‫وفي النهاية أصبت باإلحباط‪.‬‬
‫الحوار الدائر في المنتدى أثبت أن معظم هذه التعاويذ هراء‪ ،‬أو أن من‬
‫يقومون بها على جهل مدقع بحقيقة هذه الفنون السوداء‪ ،‬أو كما كتب‬
‫شخص ما في أحد التعليقات‪ ،‬هي تحتاج لمن عقد معاهدة مع الشيطان‪.‬‬
‫تماما أن الشيخ ياسين البد وأنه قد عقد مثل هذه المعاهدة على‬
‫أنا واثق ً‬
‫األقل مع كبيرهم وربما منذ زمن طويل‪ ،‬وإال لماذا يخشاه الناس إلى هذا‬
‫الحد‪ ،‬ولماذا قاطعه ا بنه الراحل من قبل‪ ،‬ولماذا تستمر هذه األصوات‬
‫المخيفة وهذا الثغاء المبحوح في الخروج من غرفته في معظم الليالي‬
‫القمرية ؟!‬
‫إن مفاتحة جدي في أمر مماثل‪ ،‬تحتاج إلى شجاعة أسطورية‪ ،‬ال أظن أن‬
‫هناك حفيد حي يمتلكها في هذه الدنيا بعد‪ ،‬ثم أي صفاقة ألطلب من‬
‫جدي الشيخ الكبير‪ ،‬وأنا الطالب الذي لم يتجاوز بعد الثامنة عشرة من‬
‫العمر‪ ،‬بأن يساعدني بنسج شبكة جهنمية سحرية كي تسقط عن طريقها‬
‫إحدى الفتيات في غرامي‪.‬‬
‫‪- 15 -‬‬
‫العشق جنون كما يقولون‪.‬‬
‫أعتقد أن الصفع سيكون رد فعل منطقي من جدي لمجرد مفاتحته في‬
‫األمر‪.‬‬
‫لن أجازف بالطبع بمواجهة جدي‪ ،‬كما أن الشعور الرافض بداخل صدري‬
‫تعاظم ليسيطر على كياني‪ ،‬فليست هذه هي الطريقة التي أريد أن تبدأ بها‬
‫قصتي مع سماح‪.‬‬
‫ال إكراه في العشق الحقيقي‪.‬‬
‫فما نفعي من دمية أحركها لتتفاعل معي كيف أشاء‪ ،‬دون إرادتها الحرة ؟!‬
‫أي مشاعر يمكن أن أتبادلها مع تمثال جامد المشاعر مبرمج على السمع‬
‫والطاعة‪ ،‬ال حياة فيه‪.‬‬
‫أنا لن أقاتل ألحصل في النهاية على نسخة باهتة من عشق لم يمر بقلبها‪،‬‬
‫ولم يجلسها لتتأمل النجوم وتناجي القمر‪.‬‬
‫خالصا‪ ،‬فال رجاء منه‪.‬‬
‫ً‬ ‫إن العشق دفء متبادل‪ ،‬ولو لم يكن صادقًا‪،‬‬
‫ما أريده هو التفاعل التلقائي النابع من فيضان أحاسيسها الهادرة نحوي‪ .‬ما‬
‫أريده هو عشقها المتدفق من قلبها دون إجبار ؟!‬
‫السؤال هنا ماذا لو ظلت على تجاهلها لي‪ ،‬ولمشاعري ؟!‬

‫‪- 16 -‬‬
‫اإلجابة هنا لم تكن معروفة لي في نفس توقيت طرح هذا السؤال‪ ،‬لصغر‬
‫سني واندفاعي‪ ،‬ولتلك الظروف التي تحيط بي‪ ،‬وتلك الحرية الكبيرة التي‬
‫أحظى بها مع خفوت دور جدي في حياتي‪ ،‬بعد أن ألقى بعبئي كله على‬
‫كاهل عايدة‪ ،‬إال أن هناك حقيقة ال يمكن أن تغيب على كل عين مبصرة‪،‬‬
‫وهي أن مشاعر الحب في فترة المراهقة متطرفة‪.‬‬
‫ولكن المتطرف أكثر هو الشعور بالفشل‪ ،‬عندما يصدك من تظن أن‬
‫سعادتك أصبحت بيديه‪ ،‬هذا سيحبطك‪ ،‬سيحزنك‪ ،‬وفي النهاية سيغضبك‪،‬‬
‫ونزق الشباب سيجبرك دون تردد على التهور‪ ،‬واجتياز خطوط حمراء كثيرة‪،‬‬
‫وقد يجبرك على سلوك الطريق المظلم‪ ،‬ألنه الطريق الوحيد المتاح أمامك‪.‬‬
‫وهذا ما حدث في وقت تال‪.‬‬
‫كثيرا في األمر‪ ،‬حتى أنهكت عقلي وأعيتني الحيل‪ ،‬وفي‬
‫أعملت فكري ً‬
‫النهاية قررت أن أمنح نفسي فرصة أخيرة قبل أن أقوم بأي عمل متهور‪.‬‬
‫دروسا خصوصية‬
‫لذا وفي مساء اليوم التالي انتظرتها‪ ،‬كنت أعرف أنها تتلقى ً‬
‫في أحد المراكز في قلب المدينة‪ .‬لقد تبعتها ذات يوم ورأيتها تلج هناك‬
‫قبل أن تختفي بالداخل‪.‬‬
‫وعلى ناصية الشارع الذي يوجد به المركز وقفت أنتظر عودتها‪ ،‬وقد ارتديت‬
‫مؤخرا من متعلقات أبي‬
‫أفضل ثيابي‪ ،‬وتعطرت بأفضل العطور والتي أخرجتها ً‬
‫الراحل‪.‬‬
‫‪- 17 -‬‬
‫كاسحا على النساء‪ ،‬وخاصة الحمراء منها‪ ،‬ولكن‬
‫ً‬ ‫تأثيرا‬
‫يقولون إن للزهور ً‬
‫لألسف لم ِ‬
‫يجد األمر معها‪ ،‬لم تر الوردة الحمراء التي أحملها في يدي‪،‬‬
‫ولم ترني‪.‬‬
‫لم تتوتر كعادة كل الفتيات في مثل هذه المواقف‪ ،‬ولم ترتبك‪ ،‬أو يبدو أن‬
‫وجودي قد ال مس وجودها ولو للحظة واحدة‪.‬‬
‫إنني بالنسبة لها مجرد خواء‪.‬‬
‫فقط عبرت بجواري بنعومة وسرعة سهم حاد يخترق الهواء‪ .‬بال أدنى انفعال‬
‫أو اهتمام‪ .‬وبنفس خطواتها السريعة األقرب إلى العدو‪ ،‬وبردائها األسود‬
‫وبشعرها الناعم الذي يذوب مع لون الرداء نفسه‪.‬‬
‫زوجا متأل ًقا منها‪،‬‬
‫إن أندر العيون هي العيون السوداء‪ ،‬وهي كانت تمتلك ً‬
‫ولم تتالق أعيننا قط‪.‬‬
‫تجاوزتني وكأني لم أكن‪ ،‬وال أشغل هذا الحيز الكبير من الفراغ‪ ،‬فقط ما‬
‫نلته من مغامرتي الفاشلة‪ ،‬هو تنسمي لرائحة عطرها الفواح‪ ،‬الذي أصبح في‬
‫أنفي يمثل رائحة الفشل‪ ،‬ولحظتها فقط شعرت بأنه ال أمل هناك‪ ،‬إنها‬
‫مخلوقة من حجر صلد‪ ،‬ولن يحرك فيضان مشاعري‪ ،‬ولو خلجة من‬
‫خلجتها‪.‬‬

‫‪- 18 -‬‬
‫الطعنة في قلبي هذه المرة كانت نافذة‪ ،‬وعلى مقدار األلم يأتي الغضب‪ ،‬لذا‬
‫ثارت مشاعري‪ ،‬وغلى الدم في عروقي‪ ،‬وكما قلت ‪:‬‬
‫إن كل المشاعر لدى المراهقين متعاظمة ومتطرفة‪ ،‬لذا فإنني قررت أن‬
‫أجبرها على عشقي‪ ،‬وبرغبتها أو بدون ستأتي لي صاغرة تستجدي رضاي‪.‬‬
‫وفي هذا األمر‪ ،‬لن أوفر جه ًدا أو أعدم حيلة‪ ،‬حتى ولو اضطررت القتحام‬
‫غرفة جدي‪ ،‬وقمت بالتعويذة الموجودة في كتاب شمس المعارف بنفسي‪.‬‬
‫فأن تكون معي بغير إرادتها خير من أال تكون معي أب ًدا‪ ،‬وهذا هو القول‬
‫الفصل‪.‬‬
‫****‬
‫عندما عدت ليلتها إلى المنزل‪ ،‬كانت عايدة قد عادت من سفرها بعد أيام‬
‫من االنقطاع قضتها في تلقي عزاء والدتها‪.‬‬
‫عادت كئيبة داكنة البشرة‪ ،‬وفقد وجهها نضارته وازدادت نحوالً‪..‬لم ِ‬
‫أبال‬
‫بها وال بطعامها‪ ،‬إن قلبي حزين‪ ..‬حزين‪ ،‬وال رغبة لدي في الطعام وال‬
‫مواساة أحد‪.‬‬
‫إنني أحتاج من يواسيني‪.‬‬
‫الصمت يغلف المنزل‪ ،‬وجدي يغلق عليه غرفته كعادته‪ ،‬واألدخنة الناجمة‬
‫عن حرق البخور تخرج من أسفل باب الغرفة‪ ،‬مختلطة برائحة عضوية‬

‫‪- 19 -‬‬
‫غريبة‪ ،‬تعبق المكان‪ ،‬وكأنه يتخلص من جثة ما عن طريق الحرق‪ ،‬مع‬
‫همهمات غليظة ال تتوقف‪.‬‬
‫فليحترق العالم كله‪ ،‬فلم أعد أبالي‪.‬‬
‫وبمجرد دخولي غرفتي‪ ،‬انفصل وعيي عن كل شيء‪ ،‬وانفجر بداخلي بركان‬
‫من الحمم والدموع‪ ،‬وأصبح كل شيء له عالقة بحالتي المتردية‪.‬‬
‫فالبد أن رائحة الشواء النفاذة هذه‪ ،‬هي رائحة أعصابي المحترقة‪ ،‬وسحب‬
‫الكآبة التي تحيط بالمنزل‪ ،‬ناجمة عن حزني الكبير‪.‬‬
‫إنني ضائع‪ ،‬وحيد‪ ،‬مكسور‪.‬‬
‫إنني ال شيء بدونها‪.‬‬
‫عدم يحيا في العدم‪ ،‬ويتالشى في العدم‪.‬‬
‫لماذا يا سماح لماذا ؟!‪.‬‬
‫كانت حالتي تسوء بشكل واضح‪ ،‬ودون وجود من يهون على قلبي آالمه‪،‬‬
‫فأنا أتجه صوب كارثة‪.‬‬
‫إن أفراد شلتي‪ ،‬والتي جمعتها من خارج المنطقة وممن لم ينفروا من مهنة‬
‫دائما لنجدتي‪ ،‬إن أعمارهم المتفاوتة تسمح بالكثير‬
‫جدي‪ ،‬كبيرة‪ ،‬متواجدون ً‬
‫والكثير من وسائل الترفيه‪ ،‬فأصغرهم نجيب وهو في مثل سني وأكبرهم‬

‫‪- 11 -‬‬
‫رشاد وهو شاب ثري في الخامسة والثالثين‪ ،‬ولكن أيًا منهم ليس قريبًا مني‬
‫في هذه اللحظة ألفضي إليه‪.‬‬
‫إنني وحيد‪ ..‬تعيس‪ ..‬حزين‪.‬‬
‫ناقوس يدق في عوالم النسيان‪.‬‬
‫األفكار في عقلي جميعها خيالية وجامحة‪ ،‬فحتى لو اختطفتها فوق الحصان‬
‫األبيض‪ ،‬كيف أعبر بها الحدود دون جواز سفر‪ ،‬وكيف أصل بها إلى جزيرة‬
‫مهجورة في قلب البحر‪ .‬لم تعد هناك جزر مهجورة في هذا الكوكب‬
‫المسمى األرض‪ ،‬إن جوجول إيرث لديه خرائط تفصيلية عن كل شبر في‬
‫العالم‪.‬‬
‫إن العالم كله ضدي‪ ،‬لذا سأكتب لها ما يجيش في صدري في قصيدة ‪:‬‬
‫(أحالمي صغيرة‬
‫طموحاتي صغيرة‬
‫أن أكون أنا البحر‬
‫ِ‬
‫وأنت بداخلي جزيرة)‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫جزيرة ال يعرفها جوجل إيرث‪.‬‬

‫‪- 10 -‬‬
‫بداخلي‪ ..‬بداخلي‪ ..‬بداخلي‪..‬‬

‫الكلمة تتردد في عقلي كموسيقى حالمة‪ ..‬ما أروع االحتواء‪ ..‬إن األحالم ال‬
‫حدود لها‪.‬‬

‫كثيرا‪ ..‬ال أريدها بداخلي‪ ..‬وال بالقرب مني‪ ..‬فقط أريد منها لمحة من‬
‫لن أطمع ً‬
‫االهتمام‪ ،‬نظرة دافئة‪ ،‬كلمة ولو كانت سبابًا‪ ،‬أن تشعرني بأني موجود في هذا‬
‫العالم‪.‬‬

‫نظرت نحو الكلمات التي خطتها يدي منذ لحظات‪ ،‬ثم مزقت الورقة‪.‬‬

‫هينا على نفسيتي أب ًدا‪ ،‬خاصة وأنها‬


‫إنني يائس بشكل مخيف‪ ،‬األمر لم يكن ً‬
‫كانت تشبه أمي الراحلة في لون عينيها‪.‬‬

‫شعرت بضعف‪.‬‬

‫بوهن‪.‬‬

‫بضياع‪.‬‬

‫دخلت الفراش‪ ،‬ألنتحب‪ ،‬ودون أن أشعر غفوت‪ ،‬وبقلب عالم األحالم‪ ،‬وجدتها‬
‫هناك‪.‬‬
‫تنتظرني‪ ..‬تبتسم وتمد يديها لي‪ ..‬تخبرني باسمها‪.‬‬

‫كانت تريد أن تصحبني معها‪ ،‬لذلك الوادي المتألق في البعد‪.‬‬


‫سأذهب معها ألي مكان‪.‬‬

‫‪- 11 -‬‬
‫إنني أهفو لصحبتها‪ ..‬ولكن ال‪..‬‬

‫إن هذا ليس بضياء‪ ،‬إنه نيران‪.‬‬

‫نيران حارقة‪.‬‬
‫ال ال ال ال ال ال‪ ..‬لن أذهب ِ‬
‫معك‪.‬‬
‫لست سماح‪ِ ..‬‬
‫أنت شيطانة‪ ..‬شيطانة‪.‬‬ ‫أنت ِ‬
‫ِ‬

‫وعندما استيقظت‪ ،‬وبمجرد أن فتحت عيني‪ ،‬وجد ت جدي يقف عند رأس‬
‫الفراش‪ ،‬وعلى وجهه عالمات تفكير عميقة‪ ،‬ممزوجة بقلق‪.‬‬

‫انكمشت في مكاني مرتج ًفا وأنا أفكر‪.‬‬

‫هل يستطيع قراءة أفكاري ؟!‬

‫ولكن جدي ظل على وقفته هذه لم يتحرك‪ ،‬لدقائق كادت روحي أن تزهق فيها‪،‬‬
‫وفي النهاية غادر الغرفة‪ ،‬وبعد وقت ليس بالقليل عاد ومعه قنينة بالستيكية‪ ،‬وأخذ‬
‫يسكب ما فيها من سائل في أركان الغرفة‪ ،‬وهو ال ينفك عن ترديد تلك الكلمات‬
‫المبهمة غير المفهومة‪ ،‬ما استطاعت أذني أن تلقطه منه بضع كلمات ال معنى لها‬

‫‪ -‬الوحي الوحي‪ ..‬العجل العجل‪ ..‬الساعة الساعة‪..‬‬

‫كلمات غير مفهومة ولكنها أثارت رعبي وجعلتني أؤجل مشروعي الكبير‬
‫ألجل غير مسمى‪.‬‬
‫ألن بداخلي تعاظم شعور مضني بأني في خطر مروع‪.‬‬

‫‪- 11 -‬‬
‫‪ -‬الخطة ‪-‬‬
‫رأسا على عقب‪ ،‬لم‬
‫لم تظهر سماح في األيام التالية‪ ،‬قلبت عليها الدنيا ً‬
‫أترك حجر إال وبحثت تحته‪ ،‬ولم تأتني فكرة مهما كانت مجنونة إال‬
‫وجربتها‪ ،‬حتى أني اقتحمت غرفة شئون الطالب وبحثت في الكشوف التي‬
‫تحتوي على أسماء الطلبة – في مغامرة ستقضي على مستقبلي لو كشف‬
‫األمر – ولكني برغم التهور والجهد المبذول لم أعثر لها على أثر‪ ،‬هناك‬
‫اثنان سماح غيرها بالمدرسة ولكني أعرف عنهما كل شيء‪.‬‬
‫انتظرتها بالساعات في كل األماكن التي أتوقع وجودها فيها‪ ،‬وأثناء بحثي‬
‫المضني اكتشفت أنني أجهل أهم معلومة عنها‪.‬‬
‫أين يقع منزلها ؟!‬
‫كيف وصل بي ا لغباء بأال أتبعها ولو مرة واحدة ألعرف مكان منزلها‪ ،‬إن‬
‫هذه هي أبسط القواعد وكل عاشق أحمق يعرفها‪.‬‬
‫كيف سيؤثر روميو على جولييت لو لم يتبعها إلى منزلها ويلقي على مسمعها‬
‫أغاني العشق ويسمع السباب من والديها‪.‬‬
‫وفي النهاية‪.‬‬
‫ال أحد يعرف شيئًا !! وال أحد رأى شيئًا !!‬
‫إن األمر مريب ح ًقا !!‬

‫‪- 11 -‬‬
‫ضاع كل مجهودي ومجهود أصدقائي في تتبعها أو العثور لها على أثر‪،‬‬
‫بعض الفتيات ممن كانوا على عالقة ببعض أفراد شلتي‪ ،‬أنكروا وجودها من‬
‫األساس في المدرسة ومركز الدروس الخصوصية‪ ،‬مما جعلني أشك في أن‬
‫ِ‬
‫تختف في الليلة التالية‪ ،‬لقيامه بسكب‬ ‫يكون لجدي يد في اختفائها‪ ،‬ألم‬
‫تلك السوائل كريهة الرائحة في غرفتي وترديده لتلك التعاويذ الغامضة‪.‬‬
‫لو رأيتم نظرته في تلك الليلة التي زارتني فيها سماح في منامي‪ ،‬ألدركتم أنه‬
‫أحاط بأمري كله‪ ،‬سواء بقدراته أو باالستعانة بملوك الجن‪.‬‬
‫إن جدي هو المتهم األول في نظري‪ ،‬وربما لو فتشت في أوراقه لوصلت‬
‫لطرف خيط‪.‬‬
‫أعرف حقيقة أن ما يدور في عقلي جنون‪ ،‬ولكن من وقع في العشق‪ ،‬لن‬
‫يرى مبالغات في حديثي‪ ،‬إنني أتبع قلبي فقط‪ .‬ثم من قال إن السحرة‬
‫يحتفظون بسجالت يدونون فيها أسماء ضحاياهم‪.‬‬
‫المعضلة الكبرى هنا أنني لو أردت أن أتأكد من شكوكي‪ ،‬فالبد لي من‬
‫لماما‪.‬‬
‫دوما‪ ،‬والتي ال يغادرها إال ً‬
‫دخول غرفة جدي المغلقة ً‬
‫والبد من سبب وجيه يدفعه للخروج وفي نفس الوقت ينفي تهمة االقتحام‬
‫عني‪ ..‬إن الحصول على األوراق ‪ /‬الكتب ستمثل فرصة جيدة لمعرفة حقيقة‬
‫ما فعله مع سماح‪ ،‬أو هذا ما أتمناه !!‪.‬‬

‫‪- 15 -‬‬
‫أعرف أن العقاب سيكون أسطوريًا لو سقطت بين يديه‪ ،‬ولكن ما باليد‬
‫حيلة‪ ،‬البد وأن أنفي عنه التهمة أو أثبتها عليه ألعرف طبيعة الخطوة التالية‬
‫التي سأخطوها‪.‬‬
‫ثم إن هناك صوتًا بداخلي‪ ،‬يخبرني أنني على الطريق الصحيح‪ ،‬وهذه‬
‫األحاسيس مؤشرات ال يجب تجاهلها‪ ،‬ألنها رسائل من عالم آخر أكثر‬
‫شفافية وصدقًا‪ .‬والسؤال هنا ‪:‬‬
‫من أين أبدأ‪ ،‬وبمن سأستعين ؟!‬
‫ومن سيكون غير أفراد شلتي بالطبع !!‬
‫هل أخبرتكم بأن سماح زارتني ليلة أمس في الحلم‪ ،‬وأخبرتني أن جدي هو‬
‫من يمنع تواصلنا ؟!‪ ..‬أعرف أن االعتماد على دليل واه كهذا درب من‬
‫دوما في عود واه من القش‪ ،‬فما بالكم لو كان‬
‫الحماقة‪ ،‬ولكن الغريق يتعلق ً‬
‫فرع شجرة قديم كالشيخ ياسين‪ .‬والشيخ ياسين تحيط به من الشكوك ما‬
‫يجعل نصف حوادث المنطقة الشنيعة تنسب إليه‪.‬‬
‫فإن كان هناك متهم يسكن معك تحت سقف واحد ‪ ،‬فأي مصيبة ستقع‬
‫لك البد وأن له يد فيها‪.‬‬
‫وسماح أخبرتني في الحلم بذلك !‬
‫****‬

‫‪- 16 -‬‬
‫اليوم عرفت من عايدة أن جدي سيغادر إلى منزل الشيخ ( تهامي الحو )‬
‫ألن لديه عمل سيأخذ منه ساعات النهار كلها‪ ،‬ولذلك فهي ستقوم بتنظيف‬
‫أرضيات المنزل والجدران‪ ،‬وستعني بالسقيفة‪ ،‬وأنها ستغادر لمدة ساعة‬
‫واحدة ستقوم فيها بشراء الكميات المطلوبة من المنظفات ومتطلبات‬
‫المنزل‪ ،‬لتنهي بها مهمتها العاجلة‪.‬‬
‫من يرى عايدة اآلن‪ ،‬البد وأن يعرف أن للحزن آلته الزمنية الخاصة‪ ،‬والتي‬
‫يلتهم بها نضارة وشباب من يقع تحت مخالبه الحادة التي ال ترحم‪.‬‬
‫روحا‪ ،‬وتحول كيانها‬
‫حزنها على وفاة أمها‪ ،‬جعلها تبدو أكبر سنًا‪ ،‬وأوهن ً‬
‫الغض ووجها الصبوح‪ ،‬إ لى كيان ووجه مومياء‪ ،‬فغارت عيونها إلى داخل‬
‫جمجمتها‪ ،‬وشحبت مالمحها فهي أقرب للموتى‪ ،‬وفقدت حيويتها فظهرت‬
‫كسيدة على أعتاب األبدية تنتظر الموت‪ ،‬ولكن الموت يأبى أن يسعفها‬
‫بقبلته القاتلة‪.‬‬
‫الدموع تكاد تحفر على وجنتها مجار واضحة‪ ،‬والسواد الذي يظلل عينيها‪،‬‬
‫يبدو وكأنه ناجم عن حرق‪ ،‬والنوم ال يبدو رفي ًقا جي ًدا معها‪ .‬لقد أصبحت‬
‫بعد وفاة أمها‪ ،‬مجرد حطام إنسان‪ ،‬سحق‪ ،‬وينتظر أن تذروه الرياح‪.‬‬
‫ما الحظته عليها من طول عشرتي لها‪ ،‬أنها عندما تحزن فإنها تقتل نفسها‬
‫باألعمال المنزلية‪ ،‬لذا أتوقع أن يصير المنزل بعد عنايتها به كالجديد‪.‬‬

‫‪- 17 -‬‬
‫اآلن اتركونا من عايدة مؤقتًا‪ ،‬فلو ظللت أحكي عن حالتها المتردية لسودت‬
‫مجلدات‪ ،‬أعرف أن بعضكم يروق له الحديث عن الحزن‪ ،‬وأعدكم لو تبقى‬
‫لي وقت‪ ،‬أن نبكي وننتحب ونغرق سويًا في بحر الحزن األزلي‪ ،‬فاألحزان‬
‫في قصتي بحر ال قرار له‪.‬‬
‫فقط دعونا اآلن نلتفت لتلك الخدمة الجليلة‪ ،‬التي قدمتها لي عايدة دون‬
‫أن تشعر‪ ،‬فالمنزل سيصبح ملكي لمدة ساعة‪ ،‬وهي فرصة ربما لن تتكرر‬
‫لعدة أشهر قادمة وربما سنوات‪ ،‬فجدي يزداد ضع ًفا ونحوالً‪ ،‬ومنذ فترة يالزم‬
‫غرفته باأليام ال يغادرها‪.‬‬
‫لقد سمعت أن الفنون السوداء‪ ،‬تتغذى على روح اإلنسان وتضعف جسده‪.‬‬
‫والبد وأن جدي يقوم بعمل شنيع يستنزف روحه وحيويته هذه األيام‪ .‬البد‬
‫وأنه يعاني ليبعد سماح عني‪.‬‬
‫خبرا‪ ،‬المنزل ملكي للمرة األولى‪ ،‬والبد وأن أستغل‬
‫المهم‪ ،‬أنني لم أكذب ً‬
‫الفرصة‪ ،‬فشوقي لسماح هادر‪ ،‬واأللم الناجم عن الفقد‪ ،‬ال يماثله ألم آخر‪.‬‬
‫تجمعت مع شلتي‪ ،‬ولحسن الحظ كنا في فترة األجازة الصيفية‪ ،‬ومن يعمل‬
‫منا قرر بأريحية مريبة أن يتخلف عن عمله‪ ،‬وإن عارض بعضهم في البداية‪.‬‬
‫ستة من األصدقاء وأنا سابعهم قررنا أن نقوم بالمهمة‪ ،‬يدفعنا إحساس‬
‫غامض هامس‪ ،‬وكأن اقتحام الغرفة‪ ،‬هو العمل األكثر أهمية وقداسة في هذا‬
‫العالم‪.‬‬
‫‪- 18 -‬‬
‫هل شككنا للحظة في شيء ؟!‬
‫بالطبع ال‪..‬‬
‫ولو شككنا لم تكن هناك قوة في الكون ستمنعنا عن إنهاء ما عزمنا عليه‪.‬‬
‫ما اعتقدته ح ًقا وقتها أنهم سيستمتعون بمغامرة غير مسبوقة تبدد رتابة األيام‬
‫الحاضرة‪ ،‬وأنا سأصل لليقين الكامل وربما يرتاح قلبي من ناحية سماح‬
‫والشيخ ياسين ‪ ،‬فبرغم جفاء سماح‪ ،‬ومهنة جدي الشنيعة ال أريد أن أفقد‬
‫أحدهما أو أحمل له بقلبي ضغينة‪ ،‬لذا قررت أن نقوم بالمهمة على الفور‬
‫ووضعت خطتي المرتجلة‪.‬‬
‫البعض سيقوم بمهمة المراقبة‪ ،‬لتحذيرنا في الوقت المناسب من أي خطر‬
‫قادم‪ ،‬والبعض اآلخر سيساعدني في الدخول إلى الغرفة المغلقة‪.‬‬
‫وألن المهمة لم تكن بسيطة فقد أحضر كل منهم شيئًا مفي ًدا في الوقت‬
‫البسيط الذي يفصل اتصالي بهم عن قدومهم‪.‬‬
‫لذا فإن أمين أحضر معه عتلة من متعلقات والده‪ ،‬وقام زياد بإحضار‬
‫ميدالية المفاتيح الضخمة التي يحتفظ بها والده في قبو المنزل‪ ،‬والتي تغص‬
‫بمفاتيح من كافة األشكال واألحجام‪ ،‬وأحضر رشاد مدية سويسرية أصلية‪،‬‬
‫كان قد أحضرها معه من رحلته األخيرة في أوروبا‪ ،‬وشحتة عرض أن يحضر‬

‫‪- 19 -‬‬
‫سالحا ناريًا ولكني رفضت‪ ..‬فلسنا ذاهبين القتحام بنك‪ ،‬وحانت ساعة‬
‫ً‬
‫الصفر‪.‬‬
‫وألضعكم في الجو أكثر سأخبركم بالوضع اآلن‪.‬‬
‫زياد‪ ،‬وخليل على ناصية الشارع لتحذيرنا عند قدوم عايدة أو الشيخ ياسين‪،‬‬
‫شحتة ورشاد‪ ،‬أمام باب المنزل ألن التواصل سيكون بالصفير‪ ،‬أنا وأمين‬
‫ونجيب‪ ،‬دخلنا لنتعامل مع باب الغرفة‪ ،‬وقبل أن أدخل نهرت نجيب‬
‫ليتوقف عن التهام الطعام فما نحن بصدده يحتاج إلى كل تركيزنا‪.‬‬
‫وبعدها تحركنا بهدوء وبدون ضجيج‪ ،‬وعين نجيب تكاد تثب من محجريها‬
‫على الشطيرة التي أحتفظ بها شحتة معه‪.‬‬
‫كل من أصدقائي شغل موضعه المتفق عليه والمرسوم في الخطة بدقة‪ ،‬وأنا‬
‫ومن معي دخلنا إلى المنزل بقلوب صاخبة وأعصاب مرتجفة من اإلثارة‬
‫والتوتر‪.‬‬
‫وبداخل المنزل كانت تنتظرنا مفاجأة مروعة‪.‬‬
‫يا للكارثة‪ ..‬فغرفة الشيخ ياسين التي كانت على الدوام مغلقة‪ ،‬وجدناها‬
‫مفتوحة لدى دخولنا‪ ،‬وبابها مواربًا‪.‬‬

‫‪- 51 -‬‬
‫ضا‪ ،‬إن هذا يجهض خطتي‬ ‫وهذا ليس شيئًا غريبًا فقط‪ ،‬ولكنه مخيف أي ً‬
‫بالكامل‪ ،‬ويجعل العقاب الذي كاد أن يفتر عزيمتي من قبل‪ ،‬ال يفصله عني‬
‫إال عدة أمتار‪ ،‬مما فجر في عقلي طوفان من األسئلة ‪:‬‬
‫‪ -‬هل عاد الشيخ ياسين إلى المنزل‪ ،‬أثناء وجودي بالخارج أرتب القتحام‬
‫عرينه ليأخذ شيئًا نسيه ؟ أم عاد ليكمل عمله بغرفته ؟ أم أنه علم بقدراته‬
‫درسا قاسيًا ؟!!‬
‫الشيطانية بما نرتبه من أجله فحضر ليلقنا ً‬
‫‪ -‬ماذا سيحدث لو اكتشف ما نحن بصدده أو ما نحن عازمون عليه‪ ،‬كيف‬
‫سيكون عقابه لي وألصدقائي ؟!‬
‫جمدتني المفاجأة للحظات‪ ،‬ولكني تغلبت عليها بسرعة‪ ،‬فليس هذا وقت‬
‫تمثيل دور المصدوم‪ ،‬وأشرت لرفاقي بأن يتواروا للحظات كي أتفقد‬
‫المكان ‪ ،‬ثم تقدمت صوب غرفة جدي بخطوات من هالم‪ ،‬وقلبي يخفق‬
‫كجناحي طائر يقاوم الغرق‪ ،‬وعندما أدخلت رأسي عبر فرجة باب الغرفة‪،‬‬
‫وبعد تردد‪ ،‬وجدتها خالية من البشر‪ ،‬ال أثر للشيخ ياسين بها‪ ،‬فعدوت‬
‫بسرعة صوب دورة المياه‪ ،‬فربما هو بداخلها يفرغ مثانته‪ ،‬فلم أجد أح ًدا هناك‪.‬‬
‫تنفست الصعداء‪ ،‬ثم ذهبت إلى حيث يختبئ صديقاي‪ ،‬أمين ونجيب وطلبت‬
‫منهما أن يتبعاني‪ ،‬وبدأ األمر‪.‬‬
‫هل سمعتم معي تلك الضحكة الشيطانية ؟!‬
‫‪...... -‬‬
‫البد وأني واهم إذن‪.‬‬

‫‪- 50 -‬‬
- 51 -
‫الشيطان‬
‫هناك رأس محنطة أحاول إقناع نفسي بأنها غير بشرية‪ ..‬ولكني قرأت من‬
‫قبل عن هذه الرؤوس المجففة والتي تستخدم في طقوس السحر األسود‪.‬‬
‫مجموعة من الخطاطيف التي يستخدمها الجزار في تعليق الذبائح معلقة في‬
‫سقف الغرفة‪ ،‬وتلك البقايا الملتصقة بها لن أجرؤ على تفحصها‪ ،‬ولكن‬
‫رائحتها تشي بحقيقتها‪.‬‬

‫‪- 51 -‬‬
- 51 -
‫‪ -‬الغرفة ‪-‬‬
‫عندما تشعر بكونك تقترب من فخ محقق وال تتراجع‪ ،‬فتأكد من شيء‬
‫واحد‪ ..‬أنت أحمق كبير‪.‬‬
‫هذا هو ما شعرت به وما شعر به رفيقاي كذلك‪ ،‬الرعب الكبير المرتسم‬
‫على وجهي أمين ونجيب‪ ،‬يؤكد لي حقيقة شعوري‪ .‬ولكني كصاحب الفكرة‪،‬‬
‫وكعاشق مكلوم‪ ،‬لم أرغب في أن أظهر بمظهر الجبان أو الخائف أمام‬
‫رفاقي‪ ،‬لذا فإنني بدأت الحماقة وقررت أن أستمر فيها إلى النهاية‪.‬‬
‫األمر لم يكن يحتاج لمزيد من التأكيد لنعرف أن ما نحن مقبلون عليه خطير‬
‫جميعا أكثر مما نعتقد‪ .‬فشخص مثل الشيخ ياسين‬ ‫ومخيف‪ ،‬وربما يكلفنا ً‬
‫لن يترك عرينه بال حماية‪ ،‬وربما تصيبنا منه لعنة‪ ،‬كتلك اللعنات التي كان‬
‫الفراعنة يحصنون بها مقابرهم‪.‬‬
‫إنه ساحر والسحرة يجيدون مثل هذه األشياء‪ ،‬وإال من أين أتت سمعتهم‬
‫السيئة عبر التاريخ‪.‬‬
‫النقطة المثيرة لألعصاب هنا‪ ،‬هو كيف لم ِ‬
‫تأت هذه الفكرة إلى عقلي من‬
‫قبل؟!‬
‫إن الحماقة أعيت من يداويها‪.‬‬

‫‪- 55 -‬‬
‫جميعا‬
‫ً‬ ‫ال مجال للتراجع أو التخاذل بأي حال‪ ،‬إننا هنا اآلن‪ ،‬لقد تورطنا‬
‫وانتهى األمر‪ .‬فال بأس من أن نحصل على ما جئنا من أجله‪ .‬وإن كنا ال‬
‫نعرف ما هو تحدي ًدا‪.‬‬
‫فلنلخص الفكرة في الكتب واألوراق والرقاقات الجلدية التي لمحت الشيخ‬
‫ياسين يحملها أكثر من مرة ليعبر بها صوب الغرفة‪.‬‬
‫الخوف يلقي بظالله على المكان‪ ،‬حتى الهواء نفسه مختلف وثقيل وكأن له‬
‫قواما‪ .‬الرواق أمام الغرفة يبدو وكأنه يسبح في ضباب رمادي كثيف‪ .‬مع‬
‫ً‬
‫صوت فحيح غريب‪ ،‬وصوت قرع جرس أقرب ألجراس الكنائس‪.‬‬
‫التقطت أذني صوت هامس ‪ ،‬يدعونا ألن نقترب !!‪.‬‬
‫تجمدت مكاني من الرعب للحظات‪ ،‬ثم استدرت بجذعي ألتطلع خلفي‪.‬‬
‫‪ -‬أال يرى هذا الغبيان اللذان يرافقاني أي شيء مريب ؟!‬
‫ولكني صدمت عندما رأيتهما‪ ،‬ورأيت الذهول المرتسم على وجهيهما‬
‫وكأنهما ولدا به‪ .‬مالهما متسمران هكذا كالتماثيل الشمعية ؟! إنني أشعر‬
‫بتوتر شديد‪ ..‬إنني خائف‪ ..‬والبد أن أعود‪ ..‬ال يجب أن تستمر هذه‬
‫الحماقة أكثر من ذلك‪.‬‬

‫‪- 56 -‬‬
‫تيار من الهواء البارد يجتاح جسدي‪ ،‬ويدفعني بعي ًدا عن الغرفة‪ ،‬مع إحساس‬
‫مخيف بأن هناك أهدابًا أو ممصات تداعب األجزاء الغير مغطاة من‬
‫جسدي‪ ،‬وكأن مئات من الفئران الصغيرة تتشمم جسدي‪.‬‬
‫شعور قاتل وأكاد أفرغ منه معدتي‪.‬‬
‫هل تشعرون معي بذلك الحضور الكثيف ؟!‬
‫شريرا يسكن هذه الغرفة دون شك‪ ..‬شيئًا له حضور وتأثير ورائحة‬
‫إن شيئًا ً‬
‫وكيان‪ .‬شيء ال يرغب في دخولنا الغرفة‪ .‬شيئًا يختلف عن تلك الهمسات‬
‫التي تدفعنا لولوجها‪.‬‬
‫هذا المكان تفوح منه رائحة الموت بطريقة مزعجة‪ ،‬كما أن طاقة مخيفة‬
‫تتماوج في المكان‪ ،‬كأن هناك مجاالً من نوع ما يحيط بالغرفة‪.‬‬
‫هل هي كهرباء إستاتيكية ؟!‬
‫األمر يبدو وكأن الغرفة تحتوي على مولد كهرباء قوي‪ ،‬وإال لماذا وقف شعر‬
‫ساعدي ورأسي ؟! التردد يزيد من الخوف والقلق بداخلي‪ ،‬فاألفضل من‬
‫انتظار الخطر هو وقوعه‪ ،‬ألن االنتظار سيتمثل فيه الموت بألف طريقة‬
‫سريعا ونغادر‪.‬‬
‫وطريقة‪ .‬فلننتهي من األمر ً‬
‫لعنت قلبي الذي ينبض كمحرك قديم‪ ،‬فمتى بسط القلب سلطانه على‬
‫العقل‪ ،‬فالبد من حماقات كثيرة ترتكب باسم الحب‪.‬‬

‫‪- 57 -‬‬
‫تماما عن سبب قدومي إلى‬
‫الغريب أني أشعر اآلن أني بصدد مهمة تختلف ً‬
‫هنا‪.‬‬
‫لم تعد سماح هي الفكرة‪.‬‬
‫هناك فكرة أخرى تولد بداخلي وتتشعب وتتوغل وتستولي على كياني‪ ،‬وهي‬
‫فكرة الخالص‪.‬‬
‫دائما‪ ،‬بل شجرة كاملة الفروع واألغصان‬
‫إنها لم تبدأ بذرة كما يحدث ً‬
‫والثمار‪ ،‬تضرب بجذورها في أعماقي‪.‬‬
‫اآلن أنا على يقين بأن سماح كانت الطعم‪ ،‬الذي قادنا لهذا الفخ‪ ،‬وربما‬
‫للموت كذلك‪.‬‬
‫كل هذه األحاسيس المخيفة والمشاهد المروعة‪ ،‬ولم أكن أنا أو رفيقاي قد‬
‫تجاوزنا عتبة الغرفة الرخامية بعد‪ ..‬أي هول تخفيه هذه الغرفة بداخلها‪،‬‬
‫لتحيط بها هذه الطاقة النفسية المروعة‪.‬‬
‫اآلن فقط أتذكر أنن ي لم أقترب ولو مرة واحدة من هذه الغرفة‪ ،‬كان هناك‬
‫شيء ما يمنعني دون أن أعي من ولوجها‪ ،‬وكنت أستجيب له‪.‬‬
‫لقد شغلني جدي عنها ببخله وطباعه‪ ،‬وتلك المشاكسات التي ال تنتهي‪..‬‬
‫فهل كان يتعمد هذا ؟!‬

‫‪- 58 -‬‬
‫هل استمر طوال سنوات متعاقبة ال يكف عن إلهائي ؟! وهل هذا ما يحدث‬
‫اآلن ؟!‬
‫هززت رأسي في عنف ألوقف سيال األفكار المتدفقة‪ ،‬ثم جذبت نجيب‬
‫وأمين من ذراعيهما‪ ،‬وسحبتهما معي لداخل الغرفة‪ ،‬وما أن عبرنا العتبة‬
‫الرخامية حتى توقفنا وتعالت شهقاتنا‪ .‬فالغرفة لم تكن غرفة عادية بأي حال‬
‫من األحوال‪.‬‬
‫إنها إحدى بوابات الجحيم‪..‬‬
‫وصدقني الشيء سيفاجئك في حياتك مثل محتويات غرفة الشيخ ياسين‬
‫المغلقة‪ ،‬والتي كشفت لي عن أسرارها‪ ،‬دون مجهود مني أو من رفاقي‪ ،‬أو‬
‫ربما هي تتمة الفخ‪.‬‬
‫اتساع الغرفة غير طبيعي أب ًدا‪ ،‬ربما هو تأثير تلك المرايا العاكسة المتناثرة‬
‫في أرجائها ‪ ،‬والتي تحتل إحداها جدار كامل‪ ،‬كما أن هناك ضوء ال نعرف‬
‫مصدره يشع من كل الموجدات‪ ،‬ورائحة عضوية تذكرك بتلك الرائحة التي‬
‫كثيرا ما حاولت ريا وسكينة أن تطمساها بالبخور‪ ،‬فرائحة الجثث المتعفنة‬
‫ً‬
‫تتشابه في كل مكان‪ .‬الموت يعلن عن نفسه بقوة في هذه الغرفة‪.‬‬
‫رأس محنطة أحاول إقناع نفسي بأنها غير بشرية‪ ..‬ولكني قرأت من قبل عن‬
‫هذه الرؤوس المجففة والتي تستخدم في طقوس السحر األسود‪.‬‬

‫‪- 59 -‬‬
‫مجموعة من الخطاطيف التي يستخدمها الجزار في تعليق الذبائح معلقة في‬
‫سقف الغرفة‪ ،‬وتلك البقايا الملتصقة بها لن أجرؤ على تفحصها‪ ،‬ولكن‬
‫رائحتها تشي بحقيقتها‪.‬‬
‫أصابتني حالة غريبة من الهذيان فصرت أكلم نفسي‪.‬‬
‫أهذه عظام طفل ؟!‬
‫هي بالتأكيد عظام طفل‪ ،‬فهذه الجمجمة ال تخص أي حيوان أعرفه‪.‬‬
‫وهل هذا جرامافون‪.‬‬
‫ما دخل الموسيقى بالسحر ؟!‬
‫ربما الموسيقى هي لغة من نوع ما يخاطب بها الشيخ ياسين‪ ،‬الشياطين في‬
‫بعدهم المتواري‪.‬‬
‫ثم ما هذا الصوت القادم من خلف الصوان الخشبي الكبير ؟!‬
‫إنه ثغاء دون شك‪ ،‬ينتمي ألحد األنعام‪ ،‬إنها عنزة أو تيس‪ ،‬ماذا يفعل‬
‫الشيخ ياسين بحيوان مماثل‪ ،‬ولماذا يحتفظ به بقلب الصوان ؟!‪.‬‬
‫حالة نجيب وأمين ال تختلف أب ًدا عن حالتي بل إنها أسوأ دون شك‪ ،‬وكأننا‬
‫واقعين تحت تأثير مخدر ما‪.‬‬

‫‪- 61 -‬‬
‫ماذا رأى نجيب ليظهر الفزع على وجهه بهذا القدر ؟! ولماذا يتصلب‬
‫جسده بهذه الطريقة وكأنه التصق باألرض ؟! لماذا يقف مكانه هكذا دون‬
‫حراك ؟! إنه يرى شيئًا مخي ًفا ال أراه دون شك ؟!‬
‫ثم لماذا سقط أمين على األرض لينتحب ؟! هل بال أمين على نفسه ؟!‬
‫البد أن نغادر الغرفة على الفور‪ ،‬ولتذهب سماح والمغامرة إلى الجحيم‪.‬‬
‫إنني في حالة ا نفصال تام عن جسدي‪ ،‬وكأن هناك من حقنني بمخدر‬
‫نصفي‪ ،‬أرى ما يحدث‪ ،‬ولكني ال أستطع التصرف‪.‬‬
‫أهي تعويذة دفاعية من جدي ؟!‬
‫‪ -‬نجيييييب‪ . ..‬أمييييييييين‪ ،‬ساعداني أيها الكسوالن‪ ،‬لماذا ال تجيبا ؟!‬
‫أين أنتما‪ ،‬ثم ما هذا الضباب األسود ؟!‬
‫وما الذي أتى بك هنا يا سماح ؟!‬

‫‪- 60 -‬‬
‫‪ -‬شيطانة ‪-‬‬
‫الجنون كان هو المتحكم والمسيطر علينا في هذه اللحظة‪ ،‬إما أننا واقعون‬
‫تحت تأثير سحر ما‪ ،‬أو أنه شيء مجهول في الهواء‪ ،‬واستنشقناه نحن في‬
‫غباء فأثر على أعصابنا‪.‬‬
‫‪ -‬إنها غرفة جدي على أية حال وليست مقبرة فرعونية تحميها لعنة مهلكة‪.‬‬
‫هذا هو ما حدثت به نفسي في محاولة بائسة كي ال يتوقف قلبي من الفزع‪.‬‬
‫الحيرة تعصف بعقلي والتساؤالت تتزاحم وتتقاتل بداخله‪.‬‬
‫ترى هل كانت سماح في غرفة جدي طوال الوقت ؟!‬
‫ظهورها كان مفاجأة غير سارة لي‪ ،‬ألنها لم تكن سماح التي أعرفها أب ًدا‪،‬‬
‫فوجهها الذي طالما داعب أحالمي‪ ..‬كان ملط ًخا بأصباغ سوداء وبيضاء‬
‫متقاطعة‪ ،‬مع شحوب طاغ يجعلها أقرب إلى الموتى‪.‬‬
‫جسدها الذي صار أكثر نحوالً‪ ،‬ملفوف بجلد غير مدبوغ لحيوان كثيف‬
‫الفراء‪ ،‬ليس الدب دون شك‪ ،‬وقدماها كانت عبارة عن حافرين‪ ،‬كحوافر‬
‫الماعز المشقوقة‪ .‬وعلى رأسها انتصب قرنان بشعا الشكل يشبها الزوائد‬
‫العظمية‪.‬‬

‫‪- 61 -‬‬
‫صدمت من منظرها‪ ،‬وكذلك نجيب الذي وقف مفغور الفاه يسيل الزبد من‬
‫تماما‪ ،‬فإما‬
‫شدقيه كمرضى الصرع‪ ،‬وأمين الذي ارتخى جسده على األرض ً‬
‫أنه فقد الوعي‪ ،‬أو ما هو أسوأ !‬
‫ثم بدأ األمر‪.‬‬
‫صوت سماح الذي لم أسمعه من قبل‪ ،‬أخذ يدوي بداخل رأسي مغريًا‪،‬‬
‫يدفعني لفتح الصوان الخشبي‪ ،‬وأنا دون إرادة أطيع‪.‬‬
‫الصوت لديه القدرة على التأثير على أطرافي‪ ،‬وبرغم ذلك ال يصل إلى‬
‫أذني‪ ،‬أهذا سحر أم تليباثي‪.‬‬
‫الصوت له قوة السالح وقوة الكون ذاته‪.‬‬
‫أحاول أن أفتح الصوان‪ ،‬ولكنه أقوى من كل محاوالتي‪ ،‬ثم إن صوت الثغاء‪،‬‬
‫والحوافر الراكضة بداخله‪ ،‬تهون من حماستي ؟!‬
‫أين أنتم يا أصدقائي ؟! لماذا تركتموني وحدي ؟!‬
‫أضرب الصوان بيدي وقدمي‪ ،‬حتى تدمي‪ ،‬وفي النهاية أجثو على ركبتي‬
‫باكيًا‪.‬‬
‫أضحك في هستريا‪..‬‬
‫هاهاهاها‪..‬لن أستطيع يا سماح أن أفتح الصوان‪. ..‬‬

‫‪- 61 -‬‬
‫هاهاهاها‪ ..‬إنه مغلق بوسيلة جهنمية‪..‬‬
‫هاهاهاها‪..‬مغلق يا سماح برغم عدم وجود أقفال على بابه ؟!‬
‫الضحكات تنقلب لنحيب‪ ،‬ووجه سماح الغاضب ينذرني بالويل‪.‬‬
‫لن أستطيع أن أفتح الباب‪ ..‬ثم إني خائف‪ ..‬ال أريد أن أفتح هذا الباب‪.‬‬
‫أصرخ من أعماقي‪..‬‬
‫عدوا وهميًا‪..‬‬
‫أقاتل ً‬
‫أنذر وأهدد وأتوعد‪..‬‬
‫الالالالالالالال‪..‬ال يا سماح كفاك دفعي نحو الجحيم‪..‬‬
‫إن دموعك هذه‪. ..‬‬
‫ال يا سماح ال أستطيع أن أفقدك مرة أخرى‪ ..‬ولكن هذا ليس بابًا عاديًا‪..‬‬
‫إنه باب يطل على الجحيم‪.‬‬
‫‪ -‬الدم‪..‬‬
‫أي دم يا سماح ؟! وكيف يكون دمي هو المفتاح ؟!!!‪.‬‬
‫أرجوك يا سماح‪.‬‬
‫ال ال لن أستطع تحمل شعور الفقد مرة أخرى‪ ،‬سأفتح الباب ؟!‬

‫‪- 61 -‬‬
‫ها هو النصل الحاد‪ ،‬وها هي دمائي تسيل لتغرق باب الصوان‪..‬‬
‫ال يا سمااااااااااااااااح‪..‬‬
‫الباب لم ينفتح‪!! ..‬‬
‫لماذا خدعتِني‪ ..‬لماذا خدعتِني يا سماح‪.‬‬
‫الباب‪ ..‬يا إلهي‪ ..‬ماذا فعلت بنفسي ؟!‬
‫أنا آسف يا سماح‪ ..‬الباب ال يستجيب‪ ،‬البد وأن دمائي‪. ..‬‬
‫صوت صرير مزعج‪..‬‬
‫الباب ينفتح بالفعل ولكن ببطء شديد‪.‬‬
‫ما هذا الحر الشديد‪ ،‬إن وجهي يلتهب‪ ،‬أي جحيم كان الباب يحصره‬
‫بداخل الصوان !!‪.‬‬
‫ما هذا الدخان الكثيف ؟!‬
‫إنني أختنق يا سماح‪.‬‬
‫أح ًقا ما تقولين ؟!‬
‫هل سأموت ؟!‬
‫ال يا سماح لقد فعلت ما طلبتِه مني‪.‬‬

‫‪- 65 -‬‬
‫ِ‬
‫أنت لست سماح‪..‬‬
‫اسما آخر‪.‬‬ ‫ِ‬
‫نعم أنت لست سماح‪ ..‬ولكني ال أعرف لك ً‬
‫ِ‬
‫أنت شيطانة من شياطين الشيخ ياسين‪.‬‬
‫اتركيني أرحل يا سماح‪ ..‬اتركيني‪ ..‬ال تكبليني بسحرك‪.‬‬
‫نافورة من الدماء تغرق كل شيء‪ ،‬الهول قادم‪ ،‬إن الشيطان سيخرج !‬
‫ال يمكن أن أسمح له‪.‬‬
‫تيسا طبيعيًا‪،‬‬
‫وهذا التيس ذو القرون واللحية‪ ،‬والعين الدموية المشتعلة‪ ،‬ليس ً‬
‫إنه يطلق ثغاء مثله‪ ،‬لكن أقسم لك إنه ليس طبيعيًا‪.‬‬
‫إنه الشيطان‪ ،‬أو هو تجسد مادي له‪.‬‬
‫ال يمكن أن أسمح له بالخروج‪.‬‬
‫ال تخبريني بأنك معي في هذا األمر‪ ..‬أنا وحدي من أواجهه‪ ..‬أنا وحدي‬
‫أحترق بنيرانه‪..‬‬
‫ليكن‪ ..‬ليكن‪ ..‬ولكن كفي عن اإللحاح‪ ..‬أخبريني يا من ِ‬
‫لست سماح‪..‬‬
‫كيف أقضي على الشيطان‪ ..‬إنني لم أدخل معه معركة من قبل إال وهزمني‪..‬‬
‫‪ -‬الدم‪.‬‬
‫ولكن كيف ؟!‬
‫‪- 66 -‬‬
‫‪ -‬دماء سبعة من الذكور على نصل مطلسم‪ ،‬تقضي على الشيطان‪.‬‬
‫إذن ليست صدفة أنني وأصدقائي سبعة‪.‬‬
‫بالفعل يا سماح ال يمكن أن يجتمع سبعة من األصدقاء بهذه األعمار‬
‫المختلفة‪ ،‬وهذا االختالف في الطباع والطبقات االجتماعية‪ ،‬ثم يحدث‬
‫بينهم انسجام إال لو كان في األمر شيء مريب يجمعهم‪ ،‬شيء شيطاني‪.‬‬
‫‪ -‬ال يوجد شيء في الكون يخضع للصدفة‪..‬‬
‫حسنًا حسنًا‪ِ ..‬‬
‫أنت على حق‪ ..‬كم أنا أحمق‪..‬‬
‫إذا هل ستسمحين أن أخرج ألجلب باقي األصدقاء ؟! لماذا تضحكين ؟!‬
‫وكيف هم معي منذ البداية ؟!‬
‫الدخان ينقشع‪ ،‬سماح تتالشى‪ ،‬ولكني أشعر بوجودها بداخلي‪ ،‬وبأنها‬
‫أحكمت سيطرتها على روحي‪.‬‬
‫إنها تستحوذ على جسدي بعد أن استحوذت على روحي من قبل‪.‬‬
‫الخنجر المطلسم في يدي‪ ،‬له ملمس غريب وكأنه يموج بالحياة‪.‬‬
‫من أين أتى ؟!‬
‫ال يهم‪ ،‬هاهم أصدقائي يتقدمون مني‪ ،‬الرعب على وجوههم محفور وكأنهم‬
‫ولدوا به‪ ،‬عيونهم زائغة زجاجية وكأنهم دخنوا الحشيش منذ لحظات قليلة‪.‬‬

‫‪- 67 -‬‬
‫كل منهم يتقدم نحوي باسطًا كفه‪ ،‬ألجرحه بنصل الخنجر فيسيل دمه في‬
‫إناء خزفي ظهر هو اآلخر من العدم‪ ،‬األول‪ ..‬الثاني‪ ..‬الثالث‪ ..‬الرابع‪..‬‬
‫الخامس‪ ..‬السادس‪. ..‬وأنا السابع‪.‬‬
‫هل عرفتم اآلن من هو صاحب السوء ؟!‬
‫أمزج الدماء مع بعضها بنصل الخنجر‪..‬‬
‫صرخة هادرة مع ثغاء عال‪ ،‬وكأنها صادرة عن تيس حقيقي‪ .‬الدماء تتوهج‬
‫بضوء أحمر قان‪ ..‬دخان أحمر كثيف له رائحة عطرية يتسلل إلى روحي‪.‬‬
‫سماح التي ليست سماح تمتزج بكياني‪ ،‬حتى إني أشعر بقبضتها فوق‬
‫قبضتي على الخنجر‪.‬‬
‫أتقدم من الصوان بخطوات مترددة وعيني مسلطة على عين التيس الذي لم‬
‫تتوقف حوافره لحظة على جرح األرض من تحته‪ ،‬وأعتقد أنه لوال السالسل‬
‫المعدنية القوية التي تقيده إللتهمني أنا وأصدقائي أحياء‪.‬‬
‫سماح تخبرني أال أنظر في عينيه‪ ،‬وال تعرف هذه الشيطانة أن عينيه هي التي‬
‫تجتذبني‪ ..‬إنه يحاول السيطرة علي‪!! ..‬‬
‫ماذا‪ ..‬أقاوم ؟!‬
‫لن أستطيع أن أقاوم ؟! اتركي قلبي أيتها اللعينة إنك هكذا تقتلينني‪.‬‬
‫حسناً ‪..‬حسناً ‪..‬توقفي وسأطيعك‪.‬‬
‫‪- 68 -‬‬
‫سأقتله ولكن ساعديني‪ ..‬جيد‪ ..‬هكذا سننهي األمر‪.‬‬
‫‪ -‬توقف أيها التعس‪.‬‬
‫أخيرا ؟!‬
‫هل هذا صوت جدي ؟! هل أتى الشيخ ياسين ً‬
‫حسنًا‪ ..‬حسنًا‪ ..‬سأتجاهله‪.‬‬
‫اآلن الخنجر في يدي‪ ..‬مشرع نحو السماء‪ ..‬إنه يتألق‪ ..‬نعم يتألق‪..‬‬
‫‪ -‬ال تقتل المخلوق أيها األحمق إنك بهذه الطريقة تقتلني‪.‬‬
‫صوت الشيخ ياسين من جديد ولكني أسمعه بصعوبة‪.‬‬
‫‪ -‬ستقتلني أيها األحمق‪.‬‬
‫أتجاهل الصوت‪ ،‬أتقدم إلى األمام‪ ،‬حرارة الفحة تغمر كل شيء‪ ،‬نافورة‬
‫الدماء تنبثق من جديد من قلب العدم‪.‬‬
‫إنني أفقد إرادتي‪ ..‬كل شيء يدور من حولي‪.‬‬
‫كما تريدين يا من ِ‬
‫لست سماح‪ ،‬سأقتل التيس‪ ..‬اآلن‪.‬‬
‫****‬
‫ال أعرف ماذا أصابني في الدقائق السابقة‪ ،‬هذيان كان أم حقيقية‪ ،‬المهم أني‬
‫في النهاية‪ ،‬أغمدت الخنجر في قلب التيس والذي أطلق ثغاء طويالً‪،‬‬

‫‪- 69 -‬‬
‫أرضا‪ ،‬ليتحول إلى ما‬
‫وصوت حشرجة متألمة صفع كياني‪ ،‬قبل أن يهوي ً‬
‫يشبه القطران‪ ،‬أو الهالم األسود الحار‪.‬‬
‫قطرة واحدة من الهالم أصابت يدي‪ ،‬قطرة واحدة وبدأ التآكل‪ ،‬إصبعي‬
‫الصغير بدأ في التحلل والتساقط‪ ،‬ولكني لم أنتظر برغم األلم الشنيع‪،‬‬
‫وبنفس الخنجر بترت اإلصبع من قاعدته‪ ،‬لن أسمح بأن يمتد التآكل إلى‬
‫باقي جسدي‪.‬‬
‫األلم شنيع‪.!! ..‬‬
‫هل سأفقد الوعي اآلن ؟‬
‫ماذا يحدث لجدي الشيخ يا سين‪ ،‬هل قتلته بالفعل ؟!‬
‫جسد الشيخ ياسين ينتفض في عنف أمام عيني‪ ،‬وكأنما أصابته حالة صرعية‪،‬‬
‫وهاهو يرتعش والزبد يتساقط من بين شفتيه وكأنه يحتضر‪ ،‬وقبل أن أفقد‬
‫الوعي رأيت الجسد يتصلب وكأنما فقد الحياة‪ ،‬وحوله تناثر أصدقائي‬
‫فاقدي الوعي أو أموات ال أعرف ح ًقا‪.‬‬
‫فقدان الوعي لم يستمر معي سوى لدقيقة واحدة‪ ،‬أو أنه كان سيستمر‪ ،‬لوال‬
‫شعوري بالبرودة الشديدة مع إحساس عارم بالتحرر‪ .‬إن الشيطانة تغادرني‬
‫اآلن لتتجسد في فضاء الغرفة كطيف جهنمي بعيون حمراء قانية متألقة‬
‫وعلى رأسها قرنين مخيفين‪.‬‬

‫‪- 71 -‬‬
‫لقد انتهى االستحواذ‪ ،‬ولكن لم ينتهي األمر بعد‪.‬‬
‫أطلقت الشيطانة أو شبحها صرخة عالية كادت أن تصيبني بالصمم ومعها‬
‫بدأت النيران تشتعل في كل شيء‪ ،‬نيران زرقاء جهنمية ال دخان لها ولكنها‬
‫تحيل ما تلمسه إلى تراب‪ .‬إنها تمحوا كل اآلثار‪ ،‬من سيأتي بعد فنائنا لن‬
‫يعرف أننا كنا هنا‪.‬‬
‫انتفضت برغم األلم الشنيع الذي شعرت به في مكان إصبعي المبتور‪،‬‬
‫وعيناي مسلطتان على أجساد أصدقائي المسجاة على األرض‪ ،‬والنيران‬
‫التي تقترب في سرعة جهنمية منهم‪ ،‬وبإرادة ال أعرف من أين نبعت‪،‬‬
‫سحبت أجسادهم خارج الغرفة‪ ،‬جس ًدا خلف جسد‪،‬وأنا أكاد أفقد الوعي‬
‫مجددا من فرط المجهود واأللم‪.‬‬
‫ً‬
‫وعندما أخرجت آخر فرد منهم‪ ،‬وغادرت الغرفة‪ ،‬تحولت الغرفة آلتون‬
‫مشتعل من النيران وأتت على كل شيء حتى جثة جدي‪.‬‬
‫وفي نفس اللحظة سمعت صرخة عاتية‪ ،‬صرخة آتية من أعماق الجحيم ‪:‬‬
‫‪ -‬الااااا‪ ..‬اتركهم‪ ..‬إنهم لي‪.‬‬
‫وعندما نظرت نحو مصدرها وقلبي يكاد يثب من صدري‪ ،‬وجدت سماح‬
‫تتجسد في المكان وكأنها طيف هالمي شيطاني المالمح‪ ،‬مع إحساس عارم‬

‫‪- 70 -‬‬
‫بأنها تجاهد لتحتفظ بتواجدها في عالمنا‪ .‬بدت كصورة تلفزيونية مشوشة‪.‬‬
‫كانت تصرخ من الغضب وتصب علي رأسي كل أنواع اللعنات‪.‬‬
‫ثم فجأة أطلقت صرخة مدوية‪ ،‬بدا األمر وكأنها تذبح أو أن هناك من ينتزع‬
‫أحشاءها في قسوة‪.‬‬
‫كانت تتألم‪ ،‬تتعذب‪ ،‬ثم بدأت تتالشى ويخبو تألق عينيها‪ ،‬ثم وهي تتالشى‬
‫سمعتها تخبرني بما وددت لو أصبت بالصمم قبل أن أسمعه‪.‬‬
‫كانت تخبرني بأن حماقتي حرمتها من األضحيات السبع‪ ،‬وأنني انتزعتهم‬
‫من بين أنياب الموت الحادة‪ ،‬ومنعتها من العودة لعالمها‪.‬‬
‫لم أستطع أن أرد عليها أو أجيبها‪.‬‬
‫فقط سقطت على ركبتي‪ ،‬وأنا أتطلع نحوها بإرهاق ممزوج بالغضب‪.‬‬
‫استمرت للحظات تصرخ وتتلوى وفي النهاية ألقت لعنتها ‪:‬‬
‫سبعة هربوا من أنياب الموت‪ ..‬سبعة سيعودون لعرين الموت‪ ..‬سبعة‬
‫ستقتلهم شهواتهم الكبرى‪ ..‬سبعة لن يروا القمر التالي‪.‬‬

‫‪- 71 -‬‬
‫‪-‬اللعنة‪-‬‬
‫عادت عايدة من الخارج‪ ،‬وذهنها المكدود يحسب الوقت المتبقي لها‬
‫لتنظيف المنزل‪ ،‬وفي نفس الوقت يقيس حجم المنزل الكبير‪ ،‬وبحسبة‬
‫بسيطة وجدت أنها فقدت وقتًا ثمينًا بالفعل‪.‬‬
‫لقد أهدرت ساعة كاملة أو أكثر بالخارج‪ ،‬فهي استغلت فرصة غياب الشيخ‬
‫ياسين لتعود صديقة قديمة لها في نفس البلدة‪ ،‬وصل لها بالصدفة خبر‬
‫مرضها عن طريق صديقة مشتركة أخرى قابلتها في السوق هذا الصباح‪.‬‬
‫لذا تجدونها عائدة وعلى وجهها عالمات التفكير العميق والهم‪ ،‬تقطع‬
‫الطريق بخطوات واسعة لتختصر الزمن‪ ،‬كانت تريد أن تنتهي من تنظيف‬
‫المنزل في أسرع وقت‪ ،‬وقبل عودة الشيخ ياسين‪ ،‬فهي تحرص على عدم‬
‫إثارة سخطه‪ ،‬خاصة وأن أحواله هذه األيام غير مستقرة‪ ،‬وأعصابه ثائرة على‬
‫الدوام‪.‬‬
‫لم تكن تتوقع مفاجآت من أي نوع عند ولوجها للمنزل‪ ،‬لذا فإنها عندما‬
‫عبرت الباب الخارجي‪ ،‬ومشت صوب الصالة في الرواق القصير المفضي‬
‫لداخل المنزل‪ ،‬أصابتها الصدمة بحالة وقتية من الذهول‪ ،‬فتجمدت مكانها‬
‫كتمثال من الشمع‪ ،‬وهي تشاهد بقلب خافق وأنفاس الهثة وعيون متسعة‬
‫من الهلع‪ ،‬السيرك الجهنمي المنصوب في صالة المنزل‪.‬‬

‫‪- 71 -‬‬
‫فأمام عينيها الجاحظتين‪ ،‬كان هناك سبعة من الشباب في أعمار مختلفة‪،‬‬
‫ممددين فوق األرض الصلبة الباردة‪ ،‬في حالة أقل ما يقال عنها مزرية وفي‬
‫أوضاع غير مريحة‪ ،‬ويبدو على وجوههم رعب عات‪ ،‬وكأنهم قابلوا شياطين‬
‫الجحيم قبل لحظات من موتهم أو فقدانهم الوعي‪.‬‬
‫عايدة حتى هذه اللحظة لم تتأكد بعد‪ ،‬ولن تجرؤ على التأكد من حقيقة‬
‫كونهم أحياء أم ال‪ ،‬ألنها تؤمن بالفعل بكونهم أموات‪.‬‬
‫اليقين سيفقدها صوابها‪ ،‬إن ميراثها القديم من القصص المخيفة عن الجن‬
‫والشياطين واألشباح‪ ،‬والذي أججها عملها لدى الشيخ ياسين‪ ،‬يحطم‬
‫جدران تعقلها وتماسكها‪.‬‬
‫إنها ال تصدق ما يحدث‪ ،‬أقصى كوابيسها بشاعة أن يصيبها الشيخ ياسين‬
‫بلعنة عند غضبه أو يخرج لها شبح من خلف باب غرفته المغلقة‪ ،‬لذلك‬
‫أمرا كي تتحاشى مثل هذه األشياء المخيفة‪.‬‬
‫كانت تطيعه وال تعصي له ً‬
‫إنها قادرة على التصدي لكل ما يمكن لمسه وقياسه‪ ،‬حتى إنها تصدت‬
‫ذات يوم للص يفوقها قوة وجندلته بعزيمتها ولكن ما تراه اآلن من خارج‬
‫عالمها‪ ،‬شيء ال يمكن التصدي له أو حتى مجابهته‪ ،‬هذا لو استطاعت‬
‫تصديق وجوده من األساس‪.‬‬
‫الموقف اآلن يفوق كل حدود إدراكها‪ ،‬لذا فإنها تقف بالقرب من غرفة‬
‫ا لشيخ ياسين والتي تشتعل النار بداخلها كالجحيم في ذهول‪ ،‬قابضة على‬
‫‪- 71 -‬‬
‫تلك األكياس التي تحتوي على المنظفات‪ ،‬وكأنها تستمد منها عونًا غير‬
‫موجود‪.‬‬
‫تشاهد ألسنة اللهب وتسمع فحيحها بعيون وآذان مكذبة‪ .‬وحتى هذه‬
‫اللحظة لم تنتبه إلى أن النار المستعرة بال دخان‪ ،‬وأن هذه النار الهائلة لم‬
‫تتجاوز حدود الغرفة‪ ،‬حتى إ نها لم تلمحها عند قدومها من الخارج برغم‬
‫كثافة النيران‪.‬‬
‫جزءا من الحظ الحسن الذي لن يراه الفتيان بعد اليوم‪،‬‬
‫بالطبع كان هذا ً‬
‫فالنار لم تغادر الغرفة‪ ،‬ولم يمتد تأثيرها إلى أي مكان آخر‪ ،‬وإال ألتت على‬
‫المنزل بالكامل وجعلتهم جثثًا متفحمة‪ .‬وهذا بالتأكيد يدل على كونها نيرانًا‬
‫تماما‪.‬‬
‫غير طبيعية ً‬
‫أنفها المتقلص يلتقط رائحة شنيعة‪ ،‬وكأن هناك من يحرق جثة حيوان نافق‬
‫كثيف الشعر وهذا أثار تقززها‪.‬‬
‫أما ما جعلها تترك كل شيء لتفر مغادرة المنزل‪ ،‬وصرخاتها ال تنقطع‪ ،‬هو‬
‫تلك الشياطين التي كان تصطلي بداخل النيران‪.‬‬
‫يوما‪ ،‬كان وجه زوجة أخيها المشوه بعد أن‬
‫إن أبشع ما رأته في حياتها ً‬
‫احترق بالكامل‪ ،‬عندما انفجر فيه موقد الكيروسين‪ ،‬هذا الوجه المشوه‬
‫والذي ذابت مالمحه وطمست ‪ ،‬ظل يطاردها في أحالمها لشهور طويلة‪،‬‬

‫‪- 75 -‬‬
‫هذا الوجه المشوه ‪ ،‬كان هو الجمال المجسد بجوار الهول الذي تراه‬
‫بداخل النيران‪.‬‬
‫الشر البكر‪.‬‬
‫والقبح البكر‪.‬‬
‫والرعب البكر‪.‬‬
‫لم يستطع جهازها العصبي أن يتحمل أكثر‪.‬‬
‫هل جنت ؟!‬
‫هل استحوذت عليها روح شريرة ؟!‬
‫هل قتلتها الشياطين ؟!‬
‫ال أحد يعرف أو يهتم‪ ،‬هي فقط غادرت‪ ،‬ولم تعد إلى األبد‪.‬‬
‫شباب الحي‪ ،‬هم من أنقذوا المراهقين السبعة من بين أنياب الموت‬
‫المحقق‪ ،‬خاصة وأن المنزل العتيق قد بدأت بعض جدرانه تتشقق وتتصدع‪،‬‬
‫وكأن هناك زلزال محدود يضرب المنزل فقط‪ ،‬دون باقي المنطقة‪.‬‬
‫لحظات عصيبة مرت على الجميع‪ ،‬وفي النهاية هدأ األمر‪ ،‬وبداخل منزل‬
‫أحد أثرياء الحي‪ ،‬وهو المعلم (عتمان) تاجر الخردة المعروف والمشهور‪،‬‬
‫تم عيادتهم وإفاقتهم‪.‬‬

‫‪- 76 -‬‬
‫الصمت كان إجابتهم على كل األسئلة‪ ،‬الصدمة كانت تكتسحهم‪ ،‬لقد مروا‬
‫بتجربة عمرهم‪ ،‬ولن يعودوا لطبيعتهم قبل وقت طويل‪ ،‬وربما لن يعودوا أبدا‪،‬‬
‫وهذا فتح باب التكهنات والتفسيرات واالجتهادات لدى الجميع في تلك‬
‫الجلسة الطارئة بمنزل المعلم (عتمان)‪.‬‬
‫إن موت الشيخ ياسين حدث جلل وأصاب الجميع بالصدمة‪ ،‬وبرغم رؤيتهم‬
‫جميعًا للغرفة المتفحمة‪ ،‬مازالوا لم يصدقوا تلك الحقيقة المجردة‪ ،‬أن من‬
‫هو مثله من الممكن أن يموت‪.‬‬
‫البعض ردد وهو يبسمل ويحوقل‪ ،‬أن الجن قتله‪.‬‬
‫والبعض قال إنها الشياطين‪ ،‬وفي النهاية قال شيخ المسجد إنها أعماله‬
‫الدنسة هي التي قادته للهالك‪.‬‬
‫الجزاء من جنس العمل‪ ،‬فاهلل ال يترك فاس ًدا ولكنه يمهله بعض الوقت لعله‬
‫يتوب عن غيه‪ ،‬والشيخ ياسين كان من هؤالء المدنسين الذين عقدوا مع‬
‫الشياطين معاهدة‪ ،‬فجاءت نهايته في قلب نار الدنيا وغ ًدا يصطلي في نار‬
‫الجحيم‪.‬‬
‫وكانت هذه هي الفكرة الرئيسية التي دارت حولها أحاديثهم المطولة‪ ،‬وال‬
‫أحد يستطيع أن ينكر أن لهجة الحديث جميعها‪ ،‬كانت ممزوجة بالتشفي‬
‫وخاصة مع طريقة موت الشيخ ياسين البشعة واحتراق جثته‪.‬‬

‫‪- 77 -‬‬
‫ومجمل الحوار كان فكرة لم تقل صراحة مراعاة لمشاعري‪ ،‬وكأني في هذه‬
‫مهتما‪ ،‬و هي أن الشيخ ياسين قد نال ما يستحق‪،‬‬
‫اللحظات كنت مصغيًا أو ً‬
‫وهو ما دفع تاجر الخردة المعلم (عتمان) ليتحدث بأريحية أكثر وهو يعدل‬
‫من وضع الجلباب الذي يرتديه‪ ،‬قبل أن يعبث في شاربه قائالً ‪:‬‬
‫‪ -‬إنها النهاية المتوقعة لكل دجال ومشعوذ‪.‬‬
‫ثم حكى بطريقة العالم ببواطن األمور‪ ،‬قصة ذلك الدجال اآلخر الذي كان‬
‫يمارس فنون السحر السوداء في إحدى البالد البعيدة التي زارها في بداية‬
‫حياته‪ ،‬قبل أن يصير ذلك الثري الذي يرونه اآلن‪ ،‬والذي كان يفسد كل‬
‫عرس لم يقم أهله بطلب بركته ودفع اإلتاوة التي يحددها‪ ،‬وذلك عن طريق‬
‫التفريق بين األزواج‪ ،‬لدرجة أن إحدى الزوجات كانت ترى زوجها كلما‬
‫اقترب منها وح ًشا مخي ًفا شنيع الشكل‪ ،‬وكيف أن نهايته جاءت تحت‬
‫عجالت سيارة نقل كبيرة‪ ،‬سوته باألرض مزجت لحمه بعظامه عندما كان‬
‫خارجا من المقابر بعد أن قام بدفن أحد األعمال السفلية بها‪.‬‬
‫ً‬
‫وكيف أن دجاالً آخر‪ ،‬كان مدمنًا على الكحول األحمر‪ ،‬وكيف أنه ظل‬
‫يعاني من العذاب لثالثة أيام وحي ًدا في غرفته بعد أن سمم الكحول الملوث‬
‫دماءه‪ ،‬حتى عثروا على جثته المتعفنة‪.‬‬

‫‪- 78 -‬‬
‫شنيعا‪ ،‬ولكن المستمعين كانوا يتابعون بشغف‪ ،‬وكالً منهم‬
‫كان ما يحكيه ً‬
‫يؤمن بأنه أقل مما يستحقون‪ .‬وردد أحدهم أن أيام المجد القديمة قد ولت‪،‬‬
‫فهم في العصور السابقة كانوا يحرقون السحرة في بلدان عدة‪.‬‬
‫شجعت حميمية الحوار الجميع‪ ،‬حتى إن أحدهم‪ ،‬وهو شاب نحيل مجعد‬
‫الشر أدلى بدلوه هو اآلخر في الحديث وقال ‪:‬‬
‫لقد قصت علي جدتي وأنا في الخامسة عشرة من العمر كيف أن أحد‬
‫هؤالء الدجالين‪ ،‬استحضر جنًا لم يستطع أن يصرفه‪ ،‬وظل هذا الجن‬
‫أسبوعا كامالً‪ ،‬يهشم في عظامه الواحدة تلو األخرى‪ ،‬دون أن تمتد يد‬
‫ً‬
‫لتساعده‪ ،‬وفي النهاية مات في غرفته من الجوع والعطش واأللم‪.‬‬
‫كانت حكايات يشيب لها الولدان وتقشعر منها األبدان‪ ،‬وكانت النهاية‬
‫لهذه الليلة الطويلة‪ ،‬وعندما ذهب كل صبي إلى منزله‪ ،‬كانت هناك عين‬
‫مشتعلة بالغضب تتابعه في قسوة‪.‬‬

‫‪- 79 -‬‬
‫‪ -‬ماذا حدث ؟! ‪-‬‬
‫يقولون إ ن النوم بروفة يومية للموت‪ ،‬وهي حقيقة ساندتها بعض النصوص‬
‫الدينية‪ ،‬وأنا شخصيًا أؤمن بها‪ ،‬وبالتالي أؤمن أن كل يقظة حياة جديدة‬
‫يمنحها لنا الخالق ويجب أن نحمده عليها إلى آخر نفس‪.‬‬
‫ولكن ماذا عن االستيقاظ وأنت تعلم جي ًدا أن هناك من يسعى لالنتقام منك‬
‫ومحوك من سجالت األحياء ؟!‬
‫ماذا عن االستيقاظ وأنت تعلم أن الموت صار قاب قوسين أو أدنى من‬
‫عنقك حتى إنك تشم بأنفك المتقززة رائحته‪ ،‬وتشعر بأهدابه الناعمة‬
‫تداعب روحك المهشمة ؟!‬
‫هل ستستسلم أم ستقاوم ؟!‬
‫أنت في السابعة عشرة من العمر‪ ،‬ال تملك خبرة أو قوة أو أعوانًا ؟!‬
‫أنت فقط أمام الموت‪!! ..‬‬
‫فرا‪.‬‬
‫الموت الذي أفنى قبلك من هم أكثر قوة وشجاعة وأعز ن ً‬
‫لنفكر سويًا‪ ،‬لو كان هذا الشخص بشريًا عاديًا‪ ،‬فربما لتوصلت لوسيلة‬
‫الكتشاف نقطة ضعفه والقضاء عليه قبل أن يقضي هو عليك‪.‬‬
‫لكنه لألسف ليس بشريًا ح ًقا‪!! ..‬‬

‫‪- 81 -‬‬
‫فهل يقتله ما يقتل البشر ؟!‬
‫إنه مخلوق من عالم آخر‪..‬عالم مظلم‪ ..‬عالم لم يعرف إال الشر‪.‬‬
‫صدقني‪ ،‬أنت في هذه اللحظة ستستيقظ من موت ليستقبلك موت آخر‬
‫أشد قسوة‪.‬‬
‫ستستيقظ بال أمل‪ ..‬ألنك تتوقع الموت في كل لحظة‪.‬‬
‫أنت فقط ستستيقظ لتعيش العذاب قبل الموت‪ ،‬فاألفضل لو ظللت في‬
‫موتتك األولى الرحيمة‪ ،‬ألن الشياطين حين تقرر االنتقام‪ ،‬سيكون انتقامها‬
‫أسطوريًا‪.‬‬
‫وه ذه كانت حقيقة مشاعري عندما استيقظت في الصباح التالي كما‬
‫اعتقدت‪ ،‬وبعد ستة أيام من الحادث كما أخبرني المعلم ( عتمان ) صاحب‬
‫المكان الذي يؤويني اآلن‪.‬‬
‫ظننت في البداية أن األمر كله مجرد كابوس آخر‪ ،‬وسينتهي بمجرد أن‬
‫أفتح عيني‪ ،‬وحاولت أن أستسلم لهذا التفسير المريح‪ ،‬ولكني عندما فتحتها‬
‫وجدت نفسي في مكان غريب عني كليًا‪ ،‬األثاث مختلف والصور مختلفة‪،‬‬
‫والضوء يعشش في كل مكان‪ ،‬إنه النقيض الحقيقي لمنزل الشيخ ياسين‬
‫الذي ال تكفي ألف شمس لتمحو ظلمته‪.‬‬

‫‪- 80 -‬‬
‫الجميع هنا غرباء عني‪ ،‬وهذا كله يؤكد لي حقيقة واحدة‪ ،‬أنني في مأزق ال‬
‫فكاك منه‪.‬‬
‫انقبض قلبي عندما تذكرت األحداث األخيرة‪ ،‬وطفت على السطح كلمات‬
‫تلك الشيطانة والتي أخذت تدوي بداخل رأسي‪ ،‬لتحيل يومي لعذاب مقيم‪،‬‬
‫رعبا ال مثيل له‪.‬‬
‫وظلت سحنتها المخيفة التي بدا وكأنها التصقت بعيني تورثني ً‬
‫لوقت طويل لم أستطع السيطرة على جسدي وكأنني أصبت بشلل مؤقت‪،‬‬
‫تذكرت والدي‪ ،‬وبكيت وأنا أستجدي مساعدتهما كطفل صغير‪ ،‬إنها اللحظة‬
‫الفارقة التي أحتاج فيها إلى من يعانقني ويربت على كتفي‪ ،‬ويخبرني أن‬
‫األمور ستكون على مايرام‪ ،‬ولكنهما رغم كل شيء مرا على عقلي كطيفين‬
‫ولم يمنحاني السكينة التي أرجوها‪.‬‬
‫إنني في منزل غريب‪ ،‬وهناك من يعودني و يعولني ويمنحني الطعام ويحرص‬
‫حتما وليست‬
‫على راحتي‪ .‬إن األمور جيدة إلى حد ما ولكنها ليست الجنة ً‬
‫نهاية مشكالتي‪.‬‬
‫إلى متى سيتحملونني وإلى كم سأتمادى ؟!‪ ..‬إنني خائف‪ ،‬وخوفي هذا‬
‫يدفعني للهروب من التفكير في تلك اللعنة المخيفة التي تالحقني‪.‬‬
‫وبرغم أن هروبي من التفكير في األمر لن يغير من كارثيته شيئًا ولن يعني‬
‫عدم وجوده‪ ،‬إال أني لست على استعداد اآلن لمواجهته‪ ،‬وهذا هو المخيف‬
‫في األمر‪.‬‬
‫‪- 81 -‬‬
‫لن أستطع أن أهرب من المسئولية مدعيًا صغر سني فمن هم في مثل عمري‬
‫رزقوا بطفلهم األول‪ ،‬وبعضهم ارتكب جريمته األولى والبعض اآلخر يواصل‬
‫مطارد ا‪ ،‬لذا فاالستسالم لن يعني الفشل ولكنه سيعني الموت‪،‬‬
‫ً‬ ‫رحلة هروبه‬
‫على األقل فألثبت لنفسي أنني لست جبانًا أو أحمق‪ ،‬إن أرواح أصدقائي‬
‫معلقة في عنقي بعد أن زججت بهم في هذه المغامرة القاتلة‪.‬‬
‫يجب أن أهدأ وأن أعقل األمر‪ ،‬فلو نظرت لنص اللعنة لوجدت أن تلك‬
‫الشيطانة الجهنمية‪ ،‬حددت طريقة هالكنا عن طريق استسالم كل منا‬
‫لشهوته الكبرى‪.‬‬
‫حقيقة ال أعرف ما هي شهوتي الكبرى‪ ،‬وإن كان من في مثل سني قد‬
‫يمتلك ما يمكن أن يطلق عليه شهوة‪.‬‬
‫ندفاعا‪ .‬ال أعتقد أن الشر الحق قد تمكن‬
‫ما أعرفه أنه قد يكون تعل ًقا أو ا ً‬
‫من أرواحنا بعد في هذه السن الصغيرة‪.‬‬
‫باإلضافة إلى أن كالً منا ينظر لنفسه على أنه اإلنسان الكامل‪ ،‬واإلنسان‬
‫الكامل يتحكم في نفسه وال تسيطر عليه نزواته أو نقائصه‪ ،‬هذا إن كان‬
‫يؤمن بوجود هذه النقائص‪.‬‬
‫لذا فتحديد تلك الشهوة التي ستجر كالً منا إلى الهالك وارتكاب إحدى‬
‫الخطايا الكبرى والتي سنعاقب عليها بالموت‪ ،‬أمر صعب ج ًدا بل مستحيل‬
‫ضا‪ .‬فنظرة المجتمع للفعل هي التي تحدد درجة سوئه‪ ،‬فالمجتمع الذي‬
‫أي ً‬
‫‪- 81 -‬‬
‫يسمح بتجارة المخدرات والدعارة المرخصة وبيع السالح‪ ،‬لن ينظر لهذه‬
‫األشياء باالزدراء الكافي لجعلها خطيئة‪ .‬ثم كيف تفوق الخطيئة خطيئة‬
‫أخرى ؟! إن األمر مطاط ج ًدا‪.‬‬
‫الوحيد الذي أعرف أنه يمتلك ضع ًفا حقيقيًا ربما يصل لمرحلة الشهوة‬
‫والمرض هو نجيب‪ ،‬إنه يعشق الطعام أكثر من الحياة ذاتها‪ ،‬وربما هي‬
‫الشهوة الوحيدة التي ال يمكن إخفاؤها بسهولة‪ .‬وهي شهوة قاتلة دون شك‬
‫على المدى البعيد‪ ،‬ولكن كيف ستقتله قبل اعتالء القمر القادم قبة السماء ؟!‬

‫باقي أصدقائي متشابهين ويميلون لنفس طريقة التفكير ولنفس النزق‪ .‬ربما‬
‫أعمارهم متفاوتة وظروفهم البيئية مختلفة‪ ،‬ولكن خيط الجموح يجمعهم‪.‬‬
‫كل منا يجب أن يقاوم ضعفه‬
‫البد من الجلوس معهم في جلسة مصارحة‪ٌ ،‬‬
‫وال يستسلم‪ .‬هكذا نستطيع أن نهزم اللعنة‪.‬‬
‫قمر واحد فقط يمضي‪ ،‬ونكون قد هزمنا تلك الملعونة‪.‬‬
‫األمر دون شك مخيف بل ومدمر لألعصاب‪ ،‬ولكن االسستسالم اآلن لن‬
‫يعني إال الهالك ح ًقا‪ ،‬فقط يجب أن أواجه نفسي دون أن أجن أو أقتل‬
‫نفسي‪ ،‬فتحقق الموت أهون من انتظاره كما يقولون‪.‬‬
‫إنني أشعر بحيرة شديدة مختلطة بخوف مريع‪ ،‬إن استيعاب األمر ليس هينًا‪،‬‬
‫وهضمه يحتاج إلى جالون كامل من المشروبات الغازية‪ ،‬وربما لن أهضمه‬
‫في النهاية أو أستوعبه‪.‬‬
‫‪- 81 -‬‬
‫والسؤال هنا ‪ :‬كيف جرت األمور بهذه السرعة ؟!‬
‫هل كان األمر عشوائيًا‪ ،‬أم أن األمر كله كان مرتبًا ح ًقا دون أن أدري ؟!‬
‫تماما‪ ،‬أن الصدف في مثل هذه األوقات‪ ،‬هي أفعال مع‬
‫ما أنا متأكد منه ً‬
‫سبق اإلصرار‪.‬‬
‫فأن نكون سبعة‪ ،‬وأن يوافق الجميع على القيام بمغامرة غير محسوبة في‬
‫منزل الشيخ ياسين الذي يخشى أعتى الرجال االقتراب منه‪ ،‬وأن يغادر‬
‫الشيخ ياسين نفسه المنزل وتتبعه مدبرة المنزل عايدة ‪ -‬إن صح أن أطلق‬
‫عليها هذه الصفة ‪ -‬إنها مؤامرة متكاملة األركان‪ ..‬فقط أنا من كنت أحمق‬
‫ولم ألحظ في األمر شيئًا مريبًا‪.‬‬
‫ربما الحظت وربما الحظنا جميعًا‪ ،‬وشعرنا بذلك الحضور الذي يدفعنا‬
‫للولوج إلى الغرفة‪ ،‬ولكننا لم ِ‬
‫نبال ولم نفكر‪.‬‬
‫إن األمر كله خارج الحدود الطبيعية‪.‬‬
‫ثم من هذا األحمق الذي يقع في عشق شيطانة من الجن‪.‬‬
‫مازالت األمور مشوشة في عقلي وغير قابلة للتصديق والتساؤالت ال تنقطع‪.‬‬

‫ماذا حدث ح ًقا بغرفة جدي ؟!‬


‫وهل ما مررت به كان حقيقيًا وأن جدي لم يعد على قيد الحياة‪ ،‬أم إنه‬
‫سيثبت للجميع أنه أقوى من الموت وسيعود ؟!!‬
‫‪- 85 -‬‬
‫ما حقيقة هذه الشيطانة‪ ،‬وما حقيقة اللعنة التي ألقتها علي أنا وأصدقائي‪،‬‬
‫وكيف لن يمر علينا القمر التالي‪ ،‬إن األمر مخيف إلى أقصى مدى‪ ،‬والبد‬
‫من أن أستعين بشخص ملم بمثل هذه األمور المخيفة‪ ،‬شخص يفهم فيها‬
‫وقادر على التصدي لها وإنهائها‪.‬‬
‫وفي حالتي هذه ال يوجد إال الشيخ (تهامي الحو) شريك جدي في أعماله‬
‫ورذائله‪.‬‬
‫لن يفل الحديد إال الحديد‪.‬‬
‫****‬
‫في اليوم التالي غادرت منزل المعلم (عتمان) بأطراف مرتجفة وقلب منقبض‬
‫وأعصاب هشة‪ ،‬لم أتصور نفسي عائ ًدا بإرادتي الحرة إلى منزل الشيخ‬
‫ياسين‪ ،‬بعد كل األهوال التي مررت بها ولو للحظة واحدة‪ ،‬ولكن ما جعلني‬
‫أوافق‪ ،‬أني عرفت أنها زيارة خاطفة‪ ،‬فقط ألحضر مالبسي كي أنتقل لبيت‬
‫أحد أقربائي المجهولين والذين ظهروا فجأة من العدم ليطالبوا بالميراث‪.‬‬
‫ولك أن تتأكد من شيء واحد فقط‪ ،‬أنك عندما ترث دجاالً بخيالً‪ ،‬فلك أن‬
‫تتوقع ميراث قارون على أقل تقدير‪.‬‬
‫مزعجا مثلي‬
‫ً‬ ‫وهذا الميراث سيجعلك تتحمل سخافة أن تستضيف مراه ًقا‬
‫في منزلك‪.‬‬

‫‪- 86 -‬‬
‫مهتما للحظة واحدة بمثل هذه التفاهات من ميراث وخالفه‪ ،‬إني‬
‫لم أكن ً‬
‫أواجه مصيبة كبرى‪ ،‬مصيبة ال تعني أن في عمري وقت كاف للدخول في‬
‫صراع على شيء ال قيمة له كالميراث‪ ،‬مصيبة ال تعني إال شيئًا واح ًدا‪ ..‬أني‬
‫وحيد في مواجهة هذه القوة الغاشمة اآلتية من عالم آخر‪ ..‬والتي فتح‬
‫بوابتها شيخ أحمق ظن أن قدراته السخيفة وعلمه السطحي بأمور السحر‪..‬‬
‫قادرة على التحكم في ذلك العالم المخيف وشياطينه‪ ،‬إن الغرور البشري‬
‫بدءا من صراع قابيل وهابيل حتى حماقة الحرب‬
‫سبب كل المصائب ً‬
‫العالمية‪.‬‬
‫هناك من يظن نفسه أعلى مرتبة من كل البشر‪ ،‬ومن هنا يبدأ في استخدام‬
‫كل الوسائل التي تجعل منحنى بشريته وإنسانيته‪ ،‬يهبط إلى أدنى مستوياته‪.‬‬
‫وتتلخص مصيبتي في أن من قررت أن أستعين به في مواجهة هذه القوى‬
‫المخيفة‪ ،‬خذلني‪ ،‬وغادر هذه الدنيا ليتركني وحي ًدا‪.‬‬
‫لقد مات الشيخ (تهامي الحو)‪.‬‬
‫مات محترقًا هو اآلخر وتفحمت غرفته‪ ،‬تقريبًا في نفس اللحظة التي مات‬
‫فيها الشيخ ياسين‪ ،‬ولم يخبرني أحد بهذه الحقيقة ربما ألنه ال يربطني به‬
‫صلة قرابة‪ ،‬أو هي حالتي المتدهورة وقتها‪ ،‬أو جو الشؤم العام الذي ظلل‬
‫الحي‪ ،‬فلم أعرف إال اآلن‪.‬‬

‫‪- 87 -‬‬
‫وليتني ما علمت‪ ،‬إن وجود األمل مهما كان مستحيالً‪ ،‬يمنح طاقة هائلة من‬
‫القدرة على الصمود والمواجهة‪ ،‬ولكن يبدوا أن هذه الشيطانة تعرفني جي ًدا‬
‫أو تعرف السبل التي سأسلكها‪ ،‬لذا فهي ستظل متقدمة عني بخطوة‪ ،‬وهذه‬
‫تماما في كل مراحل اللعبة‪.‬‬
‫الخطوة ستجعلها متحكمة ً‬
‫قط وفأر‪.‬‬
‫صياد وطريدة‪.‬‬
‫موت الشيخ (تهامي الحو) لم يكن هادئًا مثل موت جدي الشيخ ياسين‪،‬‬
‫أشياء تشيب لها الرؤوس‪.‬‬
‫من كانوا بالقرب من المنزل حكوا ً‬
‫البد أن شيئًا ما كان يربط بينه وبين الشيخ ياسين وبين هذه الشيطانة‪ ،‬وبين‬
‫التيس الذي كان في الصوان الخشبي‪.‬‬
‫سحر المشاركة‪ ..‬نعم هو سحر المشاركة دون شك‪.‬‬
‫جميعا‪ ،‬بتعويذة واحدة‪ ،‬لذا كان القضاء على أحدهم هو‬
‫أن ترتبط حياتهم ً‬
‫جميعا‪.‬‬
‫القضاء عليهم ً‬
‫كيف كان الشيخ ياسين بهذه الحماقة ؟!‬
‫ضررا خاصة‬
‫سوادا‪ ،‬وأكثرها ً‬
‫إن سحر المشاركة أعقد أنواع السحر وأشدها ً‬
‫مع مرور الزمن‪.‬‬

‫‪- 88 -‬‬
‫فالشياطين لديهم دورة حياة تفوق دورة حياة البشر‪ ،‬إنهم يصبرون حتى‬
‫يصاب البشري بالضعف ثم ينقضون عليه مثلما حدث مع الشيخ ياسين‪.‬‬
‫فالشيء األكيد أن التيس كان هو الوسيلة التي استخدمها الشيخ ياسين‬
‫للتحكم في هذه الشيطانة‪ ،‬وهو ما كان يجبرها على طاعته‪ ،‬ويجبرها على‬
‫التواجد في عالمنا طوال الوقت‪.‬‬
‫وعندما قررت الفرار واالنتقام‪ ،‬كان البد لها من القضاء على الشيطان‬
‫ضا الشيخ ياسين وشريكه (تهامي الحو)‪.‬‬
‫المتجسد في شكل التيس‪ ،‬وأي ً‬
‫مريعا‪ ،‬فالنساء الالئي شهدن هذا‬
‫ما حكاه جيران الشيخ (تهامي الحو) كان ً‬
‫الموقف شابت شعورهن واألطفال أصيبوا بالتبول الالإرادي‪.‬‬
‫ففي نفس اللحظة التي احترق فيها الشيخ ياسين‪ ،‬شعروا بأن الجو اكفهر‪،‬‬
‫ورأوا الشمس وقد غابت خلف مجموعة من السحب السوداء التي انشق‬
‫العدم عنها‪ ،‬وانقبضت قلوبهم عندما اجتاحت المنطقة رياح ساخنة جعلت‬
‫صدورهم تضيق‪ ،‬وأنفاسهم تتالحق‪ ،‬ووجوههم تلتهب من الحرارة‪ ،‬قبل أن‬
‫تنطلق الصرخات‪.‬‬
‫صرخات عاتية مشؤومة‪ ..‬أتت من قلب الجحيم‪.‬‬

‫‪- 89 -‬‬
‫صرخات لم تكن صافية‪ ،‬ولكنها مختلطة بصوت الشيخ تهامي وهو يعوي‬
‫متألما كمن يشوى في سقر‪ ،‬أو كأن هناك من يسكب الحمم الملتهبة في‬
‫ً‬
‫جوفه‪.‬‬
‫وكالعادة لم يجرؤ أحد على التدخل لنجدته‪ ،‬وظل وحده يعاني لساعة كاملة‬
‫حتى فارقته الحياة‪.‬‬
‫حقيقة مؤكدة ومدعمة‪ ،‬أن من يسلك هذا الطريق‪ ،‬يلقى نهايته وحي ًدا على‬
‫الدوام وبأبشع طريقة ممكنة‪.‬‬
‫هذا ما ردده العجائز الذين حضروا موت الشيخ تهامي ولم يفارقوا الحياة‬
‫من الفزع‪.‬‬
‫أما المالحظة التي أثارت رعبي ووترت أعصابي‪ ،‬هي تلك العبارة المشؤومة‬
‫التي وجدت على جدار البيت الخارجي مكتوبة بالدم ‪:‬‬
‫‪ -‬األول يتالشى في اليوم السابع‪.‬‬
‫وأسقط في يدي‪.‬‬
‫إن ها طريقة مشهورة لدى القتلة المتسلسلين في اقتناص الضحايا‪ ،‬ربما‬
‫تنقص هذه الشيطانة روح االبتكار‪ ،‬ولكن األمر ال يحتاج لتوابل إضافية‬
‫ليكون مخي ًفا‪ ،‬إن التهديد بالقتل له تأثيره المفزع في كل وقت‪.‬‬

‫‪- 91 -‬‬
‫غادرت منزل الشيخ ياسين بصحبة شيخ المسجد وبعض شباب الحي؛‬
‫الذين تطوعوا لمصاحبتنا لحمايتنا من أي شر قد يكون متواج ًدا بداخل هذا‬
‫المنزل‪.‬‬
‫لقد تحول المنزل لمنزل أشباح آخر‪ .‬وربما لن يقطنه أحد للقرن القادم‪.‬‬
‫لم يجرؤ أي منا على مجرد النظر نحو غرفة الشيخ ياسين التي تداعت‬
‫جدرانها‪ ،‬إنها لم تعد غرفة عادية‪ ،‬لقد اكتسبت شخصية مخيفة‪ ،‬وأصبح لها‬
‫حضور يجثم على الصدور‪ .‬شيخ المسجد نفسه والذي يحمل القرآن كامالً‬
‫في جوفه‪ ،‬لم يتوقف جسده لحظة عن االرتجاف طوال فترة وجودنا‬
‫بالمنزل‪.‬‬
‫وبالفعل تمت المهمة‪ ،‬وقبل أن أغادر المنزل لمحت بطرف عيني ذلك‬
‫الطيف يخترق إحدى جدران البيت‪ .‬لقد كانت سماح تنتظرني هناك‪ ،‬تنتظر‬
‫عودتي‪ .‬وعلى وجهها المشوه لمحت ابتسامة مخيفة‪ ،‬فغاص قلبي في‬
‫قدمي‪.‬‬
‫اليوم هو اليوم السابع‪.‬‬
‫وال وقت لالجتماع مع أحد‪ ،‬خاصة وأني سأغادر على الفور إلى محافظة‬
‫أخرى‪ ،‬إلى الفيوم فالسيارة تقف بانتظاري وتنفث العادم وكأنها ثور غاضب‪،‬‬
‫كدليل على حاجتها لـ(عمرة ) سريعة‪.‬‬

‫‪- 90 -‬‬
‫ركبت السيارة دون أن أودع أح ًدا‪ ،‬حتى أصدقائي غادرتهم دون أن نجتمع‬
‫معا لنتباحث في أمر اللعنة التي ال يدرون عنها شيئًا‪.‬‬
‫ً‬
‫فلينجوا كل منا بنفسه لهذا اليوم‪ ،‬وغ ًدا سأجد وسيلة ألتصل بهم وأحذرهم‪.‬‬
‫ترى من سيكون أول الملعونين ؟!‬
‫فليرأف القدر بمن سيتالشى اليوم‪.‬‬

‫‪- 91 -‬‬
‫‪ -‬الجحيم ‪-‬‬
‫انطلقت السيارة البيجو تنهب األرض‪ ،‬غير عابئة بما يدور بداخل صدور‬
‫ركباها وقلوبهم الخافقة‪ ،‬إنها فقط تريد أن تنتهي حتى يستريح موتورها‬
‫ويستعد للرحلة القادمة‪.‬‬
‫تماما‪ ،‬وكأن هناك تواصل روحي بيننا‪ ،‬أنا وهي جزء واحد من كل‬
‫أشعر بها ً‬
‫عظيم‪ ،‬أنا وهي نعزف نفس النغمة ونردد نفس اللحن‪ ،‬ونتناغم كمقطوعة‬
‫موسيقية حالمة‪.‬‬
‫الزمن هو هذه اللحظة الالنهائية‪ ،‬والمكان هو االحتواء الكلي‪ ،‬أنا أفهم‬
‫تماما‪ ،‬أتفاعل معها‪ ،‬كم هذا غريب‪ .‬إن األمر يفوق كل شعور تملك‬
‫شعورها ً‬
‫روحي ذات يوم‪ ،‬كيف أتواصل مع كومة من األسالك والمعدن تسير بوقود‬
‫عضوي فوق إطارات مطاطية‪.‬‬
‫أم هي اللعنة ؟! هل سأكون أنا األول ؟! هل سيكون رأسي أول رأس‬
‫يحصده الموت‪.‬‬
‫أنا من بدأت األمر فال عجب أن أكون أول المتالشين‪.‬‬
‫توترت أعصابي للحظات ثم عدت ألستغرق في التفكير أكثر‪.‬‬
‫هل يشعر الجماد‪ ،‬وهل من الممكن أن يبادلنا المشاعر ؟!‬
‫لما ال‪!! ..‬‬

‫‪- 91 -‬‬
‫كل من يقود سيارة لوقت طويل يشعر بهذه الصلة‪ ،‬من يعمل على ماكينة‬
‫لزمن ممتد يشعر بهذا التواصل‪ ،‬حتى إنه لو جرب قيادة أو العمل على‬
‫واحدة أخرى من نفس النوع‪ ،‬ال يجدها تتفاعل معه بنفس الطريقة وتمنحه‬
‫نفس األداء‪.‬‬
‫إن الجماد يسبح هلل طوال الوقت‪ ،‬وهذا مذكور في نصوص القرآن‪ ،‬فقط‬
‫نحن ال نفقه تسبيحه‪ ،‬ولكن هل يتفاعل مع البشر ؟!‬
‫ومؤخرا كشف العلماء أنه يتألم ويفرز مادة‬
‫ً‬ ‫أنا أعتبر النبات كائنًا حيًا‪،‬‬
‫مسكنة‪ ،‬بل ويحذر النباتات األخرى في ساعات الخطر بتلك المواد التي‬
‫يفرزها‪ ،‬ولكن هذا ليس سؤالي‪.‬‬
‫إنني أصغي اآلن لمشاعر السيارة‪.‬‬
‫هل األمر حقيقي ؟! أم هو خلل حدث لعقلي من هول التجربة ؟!‬
‫هل امتلكت الموهبة أم هي طريقة فذة إلصابتي بالجنون‪ ،‬إن من يستمع‬
‫للجماد قد يفقد عقله ببساطة من الصخب والضجيج الذي لن يتوقف‪،‬‬
‫ولكني أحمد اهلل أن األمر اقتصر مؤقتًا على السيارة‪.‬‬
‫هززت رأسي ونفضت أفكاري وقررت أن أتشاغل بموقفي الجديد‪ ،‬إنها‬
‫المرة األولى منذ سنوات طويلة التي أغادر فيها القاهرة‪.‬‬

‫‪- 91 -‬‬
‫في الحادث األول غادرت من مدينة نصر إلى شبرا‪ ،‬أما اآلن فأنا أقطع‬
‫الطريق الصحراوي نحو الفيوم‪ .‬التي ال أعرف عنها إال أن أسفل مياه‬
‫بحيرتها يقبع كنز قارون والذي خسف به اهلل وبداره األرض‪ ،‬وهو شيء غير‬
‫مبهج فالذي يصطفيه اهلل بعذاب خاص هو أشد أهل األرض تعاسة‪ ،‬وبلدته‬
‫لن تكون أقل منه تعاسة‪.‬‬
‫الصحراء تمتد على مدى البصر‪ ،‬والفكرة تداعب خاليا عقلي مرة أخرى‪،‬‬
‫ماذا لو لم يمنع اهلل عنا صوت التسبيح القادم من ترليونات ذرات الرمال‪.‬‬
‫يوما االقتراب من الصحراء‪ .‬مع الصخب واألصوات‬ ‫هل كنا لنستطيع ً‬
‫الهادرة التي ستخرج من مخلوقات ال هم لها إال طاعة الخالق ومرضاته‪.‬‬
‫مخلوقات قررت أن تترك األمانة وتتفرغ لعبادة الخالق‪ .‬مخلوقات لم تصب‬
‫بالغرور كبني البشر‪.‬‬
‫مرة أخرى سيطر علي األمر وشتت تفكيري‪ ،‬ربما كان األمر بالنسبة لي‬
‫مجرد هالوس‪.‬‬
‫فالصلة التي نشأت للحظات بيني وبين السيارة انقطعت اآلن‪.‬‬
‫وبصعوبة عدت ببصري من خارج السيارة لداخلها‪ ،‬كنت أجلس وحدي في‬
‫المقعد الخلفي الذي يتسع لفردين‪ ،‬وأفراد عائلتي الذين ظهروا في محيط‬
‫معا في المقعد األمامي‬
‫حياتي من العدم كنبتات شيطانية‪ ،‬محشورون ً‬

‫‪- 95 -‬‬
‫واألوسط‪ ،‬إنهم يرسلون لي رسالتهم منذ اللحظة األولى‪ ..‬أنت لست مرغوبًا‬
‫فيك ولكنها الظروف التي تجبر الجميع‪.‬‬
‫الجلي اآلن أنهم قد عزلوني عنهم ولم يقبلوني كفرد بينهم‪.‬‬
‫لم يتبادل أي منهم معي ولو حتى كلمة واحدة مجاملة أو مواساة‪ ،‬إنهم‬
‫جاءوا للحصول على الميراث فقط ثم عادت معهم هذه المصيبة المتمثلة‬
‫في شخصي‪.‬‬
‫قررت أن أغمض عيني للحظات فالطريق طويل‪ ،‬وهذا الصمت المخيم على‬
‫السيارة يطبق على صدري‪ ،‬ومنظار الدنيا األسود عاد ليغطي وجهي ليشي‬
‫بطبيعة األيام القادمة‪.‬‬
‫النوم كان مستحيالً‪ .‬ولكني فضلت أن أغمض عيني كي أمنحهم مساحة من‬
‫الحرية في الحديث‪ .‬وفور أن شعروا بهدوء أنفاسي‪ ،‬وأيقنوا بنومي بدأ‬
‫كل منهم لفوزه بجزء‬
‫الحديث وظهرت كمية الجشع والسعادة التي يشعر بها ٌ‬
‫من وليمة الميراث‪.‬‬
‫تماما !!‬
‫فالشيخ ياسين رجل ثري‪ ..‬عكس ما أعرف ً‬
‫لديه حساب متضخم في البنك يتعدى األصفار الستة‪ ،‬كما أنه يمتلك ثالث‬
‫عشرة قطعة أرض استولى على بعضها من الفالحين عن طريق أعماله‬

‫‪- 96 -‬‬
‫ضا ثالثة بيوت غير الذي مات فيه‪ ،‬ولديه نصف‬ ‫الشيطانية‪ ،‬ويمتلك أي ً‬
‫السوبر ماركت الموجود في شارع شبرا‪ .‬غير ما ورثه عن ولده المتوفى‪.‬‬
‫شا رغي ًدا‪ ،‬خاصة مع ارتفاع أسعار‬
‫ثروة هائلة تكفل لهم وألحفادهم عي ً‬
‫األرض الجنوني‪.‬‬
‫كل‬
‫بعد النشوة والفرح جاء همزهم ولمزهم على مصيبة تواجدي‪ ،‬وحاول ٌ‬
‫عاما‬
‫منهم أن يلقي بعبء إيوائي على اآلخرين‪ ،‬وفي النهاية قرروا أن أقضي ً‬
‫كامالً عند كل منهم على أن يبدأوا من األكبر لألصغر سنًا‪.‬‬
‫كسرني هذا الجفاء والجحود وقررت بداخلي أني لو عبرت هذه المحنة‪ ،‬أن‬
‫أهرب حتى أبلغ سن الرشد ثم أعود مطالبًا بميراثي‪.‬‬
‫****‬
‫هبط الليل‪ ،‬ومعه غاب الجميع عن الوعي ماعدا السائق بالطبع‪ ،‬إن المسافة‬
‫طويلة ومع االزدحام المروري ال أمل في أن يصلوا قبل عدة ساعات‪ ..‬يبدو‬
‫وجه السائق في المرآة الداخلية كئيبًا‪ ،‬والظالم يغلف كل شيء كما لو كان‬
‫لوحة لفنان مجنون ال يملك إال اللون األسود‪.‬‬
‫الطريق خال‪.‬‬
‫ال صوت إال صوت المحرك فراديو السيارة ال يعمل‪.‬‬

‫‪- 97 -‬‬
‫السائق يتململ ثم يشعل سيجارة تشي رائحتها بكونها غير بريئة‪ ،‬وكل عدة‬
‫دقائق تتجاوزنا سيارة مندفعة‪ .‬ونحن مازلنا على سرعتنا التي لم تتجاوز‬
‫كيلومترا في الساعة‪.‬‬
‫ً‬ ‫التسعين‬
‫وفي لحظة ما قرر السائق أن يطلق العنان لسيارته‪ .‬البد أن الحشيش لعب‬
‫في رأسه‪.‬‬
‫وكفهد سريع انطلقت السيارة تنهب الطريق وتخترق قلب الظالم‪.‬‬
‫متى ظهرت سماح ؟!‬
‫ال أستطيع أن أحدد تقريبًا‪ ،‬ولكن بين حالة اليقظة والنوم التي انتابتني‪،‬‬
‫لمحت شبحها يظهر من قلب العدم في منتصف الطريق‪ ،‬وعلى بعد عدة‬
‫أمتار من السيارة المندفعة ليطير النوم من عيني‪.‬‬
‫السائق فقد أعصابه من اللحظة األولى‪ ،‬ومع السرعة العالية‪ ،‬وفقدان‬
‫التحكم الكامل‪ ،‬كان البد من وقوع الكارثة‪.‬‬
‫شبح سماح بعينيه الحمراوين المتألقتين يعترض السيارة‪ ،‬السائق يصرخ في‬
‫رعب ليستيقظ الجميع‪.‬‬
‫المرأة الشمطاء التي ال أعرف اسمها تحتضن ذلك البدين الذي ال أعرف‬
‫ضا‪ ،‬والذي يبدو أن قلبه لن يتحمل هذا الموقف العصيب و‬‫اسمه أي ً‬
‫سيتوقف قبل االصطدام الوشيك‪.‬‬

‫‪- 98 -‬‬
‫الرجل ذو النظارة السميكة متصلب وكأنما استحال لتمثال من الشمع‪،‬‬
‫والسيدتان ذاتا الرداء األسود تصرخان دون توقف‪.‬‬
‫أما أنا فقد نظرت إلى عيني سماح التي انعكست في كل شيء‪ ،‬المرآة‬
‫الداخلية والمرآة الخارجية ووجه القمر‪ ،‬ثم نطقت الشهادتين وانتظرت‬
‫الموت‪.‬‬
‫اختلت عجلة القيادة في يد السائق‪ ،‬فاندفعت السيارة كالصاروخ‪ ،‬لتمزق‬
‫ذلك السلك المعدني الذي يفصل الطريق لحارتين‪ ،‬لتقابلها سيارة نقل‬
‫ثقيلة‪ ،‬تحمل على ظهرها أسياخ الحديد المشرعة كالرماح‪.‬‬
‫وما حدث في اللحظات التالية كان مخي ًفا‪.‬‬
‫فالسيارة بعد أن صدمتها سيارة النقل المسرعة‪ ،‬طارت في الهواء وحلقت‬
‫للحظات كنسر مكسور الجناح‪ ،‬قبل أن تصطدم باألرض في قوة‪ ،‬ثم‬
‫أخذت تنقلب على جانبيها عدة مرات في عنف‪ ،‬قبل أن تتوقف ويسود‬
‫الهدوء كل شيء‪.‬‬
‫****‬

‫‪- 99 -‬‬
‫ما سأحكيه اآلن يدخل في سياق الشطط والجنون‪ ،‬بل آخر درجات‬
‫الجنون‪.‬‬
‫الشطط ألني أنا شخصيًا ال أصدق حتى هذه اللحظة أني مررت به‪،‬‬
‫والجنون ألنه شيء من وراء العقل‪ ،‬خارج عن المألوف‪ ،‬شيء مخيف‪.‬‬
‫إنها اليقظة المرعبة‪.‬‬
‫فضحية أي حادث سيارة عادي‪ ،‬لديه عدة خيارات معروفة‪ ،‬فإما أن يستيقظ‬
‫في مستشفى أو في عيادة محاطًا باألطباء والضمادات‪ ،‬أو على الطريق‬
‫بعظام مهشمة غارقًا في دمائه‪ ،‬أو ال يستيقظ أب ًدا‪.‬‬
‫الخيار الرابع غير موجود في الظروف الطبيعية‪ .‬وأنا قد مررت بهذا الخيار‬
‫غير المألوف‪.‬‬
‫فاللحظة التي اصطدمت بها السيارة باألرض بعد أن قذفتها سيارة النقل إلى‬
‫جانب الطريق‪ ،‬كانت هي آخر لحظات الوعي التي حظيت بها في هذه‬
‫الليلة‪.‬‬
‫الظالم أحاط بكل شيء كرداء قاتم‪ ،‬ثم ساد الصمت للحظة واحدة‪ ،‬وبعدها‬
‫استيقظت‪.‬‬
‫كل أجهزة جسدي تخبرني بأني استيقظت‪ ،‬ولكن عقلي يأبى أن يؤرخ هذه‬
‫الحقيقة‪ .‬فما يحيط بي ال يوحي باالستيقاظ أب ًدا‪.‬‬

‫‪- 011 -‬‬


‫المكان من حولي غريب‪ ،‬وكأني استيقظت في قلب العدم‪ ،‬جسدي سليم‬
‫غير مصاب وهذا شيء مستحيل ألن الزجاج الذي تهشم البد وأنه شوه‬
‫وجهي‪ ،‬وبرغم ذلك بشرتي ناعمة كبشرة طفل حديث الميالد‪ .‬الظالم كثيف‬
‫وثقيل‪ ،‬ورغم ذلك الرؤية ممكنة بل وواضحة‪.‬‬
‫إنه الجنون الحق‪.‬‬
‫كل شيء يوحي بأ ن األمور تسير بخير‪ ،‬وبرغم ذلك كل األشياء تنفيها‪ ،‬ثم‬
‫كيف عاد إصبعي المبتور‪ ،‬إن مثل هذه األشياء ال تنمو ببساطة‪ ،‬وإال لجلس‬
‫األطباء في بيوتهم‪ ،‬فاألجزاء التي تتلف أو تقطع من جسدي لن تعود للنمو‪،‬‬
‫أنا لست أميبا وحيدة الخلية ألعيد إنتاج أطرافي‪.‬‬
‫عادت لي ذاكرة الحادث فنظرت حولي بحثًا عن مصابين أو قتلى ولكن ال‬
‫شيء‪.‬‬
‫ظالم متدرج ممتد إلى ماال نهاية‪.‬‬
‫إنني وحيد بقلب العدم‪.‬‬
‫ال سماء‪ ..‬ال شمس‪ ..‬ال قمر‪ ..‬ال طريق‪ ..‬ال بشر‪.‬‬
‫فقط كتلة هائلة من السواد تحيط بي‪ ،‬مع فراغ ال نهائي‪ ،‬أسير فوق أرضية‬
‫ناعمة ال تحدث احتكا ًكا مع قدمي‪ .‬بقلب الالمكان‪.‬‬

‫‪- 010 -‬‬


‫تفسيرا‬
‫ً‬ ‫دقائق عصيبة مرت علي وأنا أحاول اكتشاف ما يحدث‪ .‬أو أضع له‬
‫معقوالً‪.‬‬
‫ولكن كل األفكار كانت قاصرة‪.‬‬
‫هل فقدت بصري ؟! أم أنا اآلن في القبر ؟! هل هذا السواد هو البرزخ‬
‫الذي يقود نحو الموت‪ .‬أم أنني أهذي ؟!‬
‫إنه تفسير مريح‪ ،‬ولكن ما هو الدليل على صحته ؟!‬
‫تاهت األفكار من عقلي مع عجزي التام عن تفسير األمر أو سبر أغواره‪،‬‬
‫وعندما فقدت كل أمل في الفهم وتحول األمر معي إلى هستريا وصراخ‪،‬‬
‫بدأت التغير يحدث وفي البداية سمعت األصوات‪.‬‬
‫البد وأنني جننت وما أعيشه اآلن هو هالوس سمعية وبصرية‪.‬‬
‫بدأ األمر بصوت أجراس عالية‪ ،‬وكأن هناك من يقرع مئات من اآلنية‬
‫النحاسية بقضبان معدنية‪ ،‬األصوات ليست عشوائية ولكنها عالية ج ًدا حتى‬
‫تكاد تخرق طبلتي أذني‪.‬‬
‫إنها أصوات متناغمة كترانيم متوحشة تدعو للقتل‪.‬‬
‫إنها تبدأ من نقطة الصفر ثم تعود لتتصاعد فتجرح روحي وتمزق كياني‪ ،‬إنها‬
‫هراوات موسيقية مدمرة‪.‬‬

‫‪- 011 -‬‬


‫الدماء تخرج من كل فتحات جسدي‪ ،‬األلم مفرط في حدته‪ ،‬العذاب أبدي‬
‫ومستمر‪.‬‬
‫لحظات ثم صمتت الموسيقى وبدأت الصرخات المزلزلة‪ ،‬لقد وصف دانتي‬
‫صرخات المعذبين عندما وصف الجحيم في الكوميديا اإللهية‪.‬‬
‫لما عند‬
‫إنها صرخات مشابهة‪ ،‬تحس معها أن قلب الكون ذاته ينفطر أ ً‬
‫سماعها‪.‬‬
‫إنها األرض البكر لأللم والعذاب‪.‬‬
‫أشعر بروحي ترتج داخل جسدي وكأنها على وشك االنفصال‪.‬‬
‫الموت هو مطلبي الوحيد‪.‬‬
‫الموت هو الراحة التي أصبوا إليها‪.‬‬
‫إن جلدي يتشقق‪ ،‬أطرافي تتساقط‪ ،‬إنني أتألم كألف روح تمزق‪.‬‬
‫إن هذا العذاب ال يوجد إال في الجحيم‪.‬‬
‫إنني أندمج في دوامة األلم الكبرى‪.‬‬
‫ال أذكر من الحياة إال األلم أو ما فوق األلم‪.‬‬
‫أتهيأ للموت برغم معرفتي بأنني قد عبرت هذه المرحلة‪.‬‬
‫إنني في الجحيم حيث كل شيء أبدي‪.‬‬
‫‪- 011 -‬‬
‫األلم أبدي‪.‬‬
‫العذاب أبدي‪.‬‬
‫الحياة أبدية‪.‬‬
‫إنني هنا سألقى العذاب الذي ال راحة بعده‪.‬‬
‫الرحمة يا رب األكوان‪.‬‬
‫****‬
‫فجأة هدأ كل شيء‪ ،‬وتالشت األصوات وتوقف األلم‪ ،‬ولكن ذكراه ظلت‬
‫جاثمة في المكان لتشوه روحي‪.‬‬
‫سليما كأنما خلقت به منذ لحظات‪ ،‬بصري عاد ليصطدم‬ ‫جسدي عاد ً‬
‫قادرا على الرؤية في وضع جهنمي مستحيل‪.‬‬
‫بالظالم وهو مازال ً‬
‫قلبي البد وأنه توقف عدة مرات قبل أن يعود ليخفق من جديد‪.‬‬
‫أين أنا ؟!‬
‫هل أنا في الجحيم ح ًقا ؟! ولكن ليس هذا هو وصف الجحيم كما أتى في‬
‫الكتب السماوية‪ ،‬ولكن من أدراني‪.‬‬
‫ربما هو جحيم آخر‪.‬‬
‫هل لتلك الشيطانة يد فيما يحدث لي‪.‬‬
‫‪- 011 -‬‬
‫تلفت حولي في رعب‪.‬‬
‫إنني لن أتحمل العذاب مرة أخرى‪ ،‬بإمكاني أن أصمد لو أن الموت هو‬
‫النهاية‪ ،‬ولكن األبد شيء ال أفهمه وال أستوعبه‪.‬‬
‫لحظات ثم بدأ الصرير‪ ،‬وفجأة انشق العدم بضوء ساطع‪ ،‬عن كائن قبيح‬
‫مخيف ال مالمح محددة له‪ ،‬يحمل في يده سوطًا يتلوى وكأنه يموج‬
‫بالحياة‪.‬‬
‫هل ما يتلوى في مقدمة السوط هي أفاعي ذات أنياب أم أني أهلوس ؟!‬
‫تلك الضحكة الماجنة الشيطانية سمعتها من قبل ؟! ولكن أين ؟!‬
‫نعم تذكرت‪ .‬قبل أن ألج لغرفة الشيخ ياسين‪ ،‬ليتني مت قبلها أو لم تلدني‬
‫أمي من األساس‪.‬‬
‫إنها سماح‪ ..‬الشيطانة‪ ..‬إنني في جحيمها الخاص‪ ..‬البد وأنها تسيطر على‬
‫عقلي كما سيطرت عليه من قبل وجعلتني أقتل الشيطان‪.‬‬
‫المخلوق المقزز يقترب مني وعيناه السائلتان تتألقان ببريق وحشي‪ ،‬وأنا‬
‫أتراجع في خوف‪ ،‬إلى الالمكان‪.‬‬
‫المسافة بيننا تتقلص بسرعة‪ ،‬وخلف ذلك المخلوق المشوه رأيت أبشع‬
‫مشهد يمكن أن يسقط عليه بصري في حياتي‪ ،‬ففي تلك النقطة حيث‬
‫انشق العدم وظهر المخلوق الجهنمي‪ ،‬تألقت محيطات هائلة من النيران‬

‫‪- 015 -‬‬


‫تقذف موجات عالية كالجبال من النيران المستعرة والحمم‪ ،‬ووسطها ما بدا‬
‫وكأنهم بشر يحترقون‪ ،‬مئات اآلالف من البشر‪.‬‬
‫جلود تحترق‪.‬‬
‫شعور تتوهج‪.‬‬
‫أطرف تتساقط‪.‬‬
‫عظام تشتعل‪.‬‬
‫عيون تنفجر‪.‬‬
‫شياطين من لهب يعتصرون بقبضاتهم النارية الرؤوس والقلوب‪ ،‬وكأن هذا‬
‫الشق‪ ،‬نافذة على الجحيم‪.‬‬
‫هذا المشهد جعلني أنسى كل شيء حتى المخلوق المخيف الذي أكاد‬
‫أشعر بأنفاسه الملتهبة تضرب وجهي‪.‬‬
‫هذا هو الجحيم الحقيقي الذي وعد به القتلة والسفاكين والزناة والمنافقين‬
‫والمرتشين‪.‬‬
‫الجحيم األبدي‪.‬‬
‫تماما‪ ،‬وعندما هبط السوط الملتهب على وجهي ليشق‬
‫امتصني المشهد ً‬
‫لحمي عرفت أن لأللم درجات لم أتخيل الوصول لها !‬

‫‪- 016 -‬‬


‫ثم دوى صوت سماح الشيطاني ‪:‬‬
‫‪ -‬ستظل في الجحيم حتى يحين موعدك‪ ،‬وساعتها ستتمنى لو أنك بقيت‬
‫في الجحيم على أن تلقاني‪ ،‬ألن موتتك ستكون أقسى من الجحيم ألف‬
‫مرة‪ ،‬وأشد عذابًا من عذاب كل الخطاة مجتمعين‪.‬‬
‫صرخت في عنف‪.‬‬
‫لعنتها‪..‬‬
‫نعتها بأقذع األلفاظ‪.‬‬
‫وعندما عاد السوط ليمزق لحم ذراعي ويبتر كفي‪ ،‬عرفت أنه ال يوجد‬
‫مخلوق في الكون سيستطيع مساعدتي‪ .‬وربما كان القدر أرأف بأصدقائي‬
‫مني‪.‬‬
‫إن الخطايا السبع قاتلة‪ ،‬كما قال دانتي في الكوميديا اإللهية‪ .‬وألننا كنا‬
‫سبعة فالبد وأن نخوض الجحيم حتى أطرافه‪ .‬وليسعد من سيحتضنه الموت‬
‫اليوم فقد نجا من العذاب‪.‬‬
‫هل عرفتم لماذا لم أستطع أن أحذر أيًا من أصدقائي ؟‬
‫آه‪ ..‬أرجوووك‪ ..‬توقف إن األلم ساحق‪.‬‬
‫ال تستخدم السوط من جديد‪.‬‬

‫‪- 017 -‬‬


- 018 -
‫‪10‬‬
‫اللعنة األولى ‪ -‬الشراهة‬

‫عرفها دانتي على أنها ‪ :‬هي النهم والجشع في المأكوالت والمشروبات‪،‬‬


‫مرتبطة بإله الظالم ‪ Beelzebub‬ملك الذباب‪ ،‬واللون البرتقالي‪.‬‬
‫أنا الشراهة‪ ..‬والداي ماتا كالهما‪ ..‬ولم يتركا لي شيئًا‪..‬إال معا ًشا ضئيالً ‪..‬‬
‫وهو يشتري لي ثالثين وجبة في اليوم‪ ..‬وعشر كؤوس من الشراب ‪..‬وهذا‬
‫قدر ضئيل ليسد الرمق‪ ..‬لقد ولدت من ساللة ملكية‪ ..‬فوالدي كانا فخذ‬
‫عجل مقدد‪ ..‬ووالدتي كانت برميالً من النبيذ األرجواني‪..‬‬
‫كثيرا في كل مدينة‪ ..‬كان اسمها السيدة‬
‫لقد كانت سيدة مرحة‪ ..‬ومحبوبة ً‬
‫مارغري البيرة‪ ..‬واآلن يا أنت‪ ..‬لقد سمعت كل شيء عن أسالفي‪ ..‬أال‬
‫تدعوني للعشاء‪!! ..‬‬

‫‪- 019 -‬‬


- 001 -
‫‪ -‬رشاد ‪-‬‬
‫قبل أسبوع ‪:‬‬
‫يقول نجيب ‪:‬‬
‫تماما عن اآلخرين‪ ،‬وربما ال أشبههم في شيء إال في الحماقة‪.‬‬
‫إنني مختلف ً‬
‫دائما أن عقلي ثخين وال يستوعب األمور بسهولة‪ ،‬ولوال‬
‫والدي يخبرني ً‬
‫شخصية والدتي الكاسحة لكنت خارج المدرسة منذ زمن طويل‪ ،‬أعمل في‬
‫ورشة الحدادة الخاصة به‪ ،‬وسط النيران والحديد المنصهر والقلوب‬
‫الغليظة‪ ،‬أتلقى الصفعات من والدي طوال الوقت ‪ ،‬وأرى خيبة األمل في‬
‫عينيه‪.‬‬
‫في كل صباح وعلى مائدة اإلفطار ينظر لي أبي في اشمئزاز‪ ،‬وهو يجيل‬
‫عينيه في جسدي البدين‪ ،‬ثم يشيح بوجهه قائالً ‪:‬‬
‫‪ -‬فقط النيران‪ ..‬هي التي تستطيع أن تذيب هذه الكتل المتراكمة من‬
‫الدهون والشحوم‪ ..‬الورشة هي الحل الوحيد لمعضلتك‪.‬‬
‫كانت أمي تتصدى له وتطيب خاطري وكأني أبالي‪ ..‬لقد اعتدت حديثه‬
‫القاسي هذا‪ ،‬حتى إنه لم يعد يثير بداخلي أي نوع من المشاعر‪.‬‬
‫إنني عنيد ج ًدا‪ ،‬ولو كان األمر بيدي لما غيرته لألفضل‪..‬‬

‫‪- 000 -‬‬


‫إن العناد يولد الكفر ذاته‪ ..‬العناد هو ما جعل الشيطان ال يراجع موقفه‬
‫عندما سجدت المالئكة آلدم‪ .‬برغم أنه كان في حضرة رب العالمين‪.‬‬
‫أنا أعرف أن المشكلة ليست في الطعام نفسه‪ ،‬فلي صديق آخر يلتهم مثل‬
‫ما ألتهم وربما أكثر‪ ،‬وال يتأثر جسده بما يتناوله أب ًدا‪ ،‬بل هو مستمر على‬
‫نحافته كإصبع الموز النحيل‪ ،‬وكأن معدته موقد عمالق يحرق كل ما يلقى‬
‫بداخلها أوالً بأول‪.‬‬
‫إن جيناتي هي السبب‪ ،‬وإن كنت فعليًا أعشق تناول الطعام‪ ،‬وهذا ما جعل‬
‫والدي ‪ -‬كتلة العضالت المتحركة ‪ -‬يتمنى لو أنه أنجب ابنة بدالً عني‪،‬‬
‫فلم يكن ساعتها ليأبه بحجمها أو بعضالتها الضامرة المختفية تحت كتل‬
‫الدهون‪ .‬ألنها في النهاية ستذهب إلى رجل آخر‪ ،‬والرجال الذين يقدرون‬
‫األنثى بوضعها في ا لميزان يزدحم بهم العالم‪.‬‬
‫دائما‪ ،‬والدتي تخبرني‬
‫يوما طريقة معاملة والدي لي‪ ..‬إنه يقسو علي ً‬
‫لم أتقبل ً‬
‫أنه يريد صالحي‪ ،‬فشقيق والدي مات بسبب السمنة من قبل‪ ،‬كما أن كل‬
‫أب يتمنى أن يجد ا بنه في ظهره‪ ،‬يستند على ساعده عندما تقسا عليه‬
‫ظروف الحياة‪ .‬ولكني غير مقنع بكل هذا‪ ،‬وغير مبال كذلك‪.‬‬
‫لقد رفع أبي بيني وبينه س ًدا عمالقًا‪ ،‬لن تكفي كل الكلمات الناعمة من أمي‬
‫لهدمه‪ ،‬كما أنني ذو رأس صلب‪ ،‬وكلما ساءت األمور بيني وبين أبي‪ ،‬كنت‬
‫أسلك طريق العناد وأدفن ضيقي وحزني في الطعام‪ ،‬إنه رفيقي الوحيد الذي‬

‫‪- 001 -‬‬


‫لم يخذلني مرة واحدة‪ ،‬إنه اللمسة السحرية في اليوم كله‪ ،‬إنه الشيء الوحيد‬
‫الذي يمنحني النشوة‪.‬‬
‫تلك النشوة التي ال يقدر حتى الحشيش على إيصالي لها‪.‬‬
‫الطعام‪..‬‬
‫من ال يعشق تلك الكلمة السحرية‪.‬‬
‫أحب الطعام في كل مراحل إعداده‪ ،‬وكنت ألتهم أصابع المحشو نيئًا قبل‬
‫طهوه‪ ،‬وعندما تنهرني والدتي وتخبرني أن الطعام النيء سيؤذي معدتي‪،‬‬
‫كانت جدتي تلومها‪ ،‬وتقول لها المقولة الشهيرة ‪:‬‬
‫‪ -‬النيء في معدة الشباب ينضج‪ ..‬كم ِ‬
‫أنت عظيمة يا جدتي !!‬
‫لذلك فعند عودتي من تلك المغامر الشنيعة في منزل الشيخ ياسين‪ ،‬كنت‬
‫محطم األعصاب‪ ،‬أبكي كفتاة واجهت منذ لحظات ذلك السفاح الذي‬
‫تهرب منه كل الفتيات األخريات‪ ،‬وألني ال أملك إال نهمي في مواجهة‬
‫التوترات‪ ،‬قضيت على نصف الطعام الموجود في الثالجة‪ ،‬قبل أن أخلد‬
‫لنوم عميق بال منغصات‪.‬‬
‫البد وأن الدهون تسد قنوات البث الخاصة باألحالم‪.‬‬
‫****‬

‫‪- 001 -‬‬


‫وفي الظهيرة كنت قد استجمعت شتات نفسي‪ ،‬وقررت أن التأثير السلبي‬
‫لتلك التجربة المخيفة لن يبرح روحي إال ببعض الحديث‪ ،‬شخص ما يستمع‬
‫ضا‪ ،‬وقدمي مازالت‬
‫ويستمع وأفرغ على يديه توتري‪ ،‬إن قلبي مازال منقب ً‬
‫ترتجف من هول ما واجهته في منزل الشيخ ياسين‪.‬‬
‫هل ما حدث حدث فعالً ؟!‬
‫إن للخوف تأثيره الكاسح‪ ،‬على العقل‪ ،‬إنه يجبر العقل على استخدام كافة‬
‫دفاعاته ‪ ،‬وعقلي بالذات يميل إلى إنكار المشكلة عندما ال يستوعبها‪ .‬لم‬
‫يكن عندي خيارات كثيرة ألفاضل بينها‪ ،‬وعلى الفور استقللت سيارة أجرة‪،‬‬
‫وتوجهت إلى منزل رشاد‪.‬‬
‫ال مدرسة اليوم‪ ،‬ال يوجد بداخل رأسي عقل صالح لتلقي أي معلومة‪ ،‬كما‬
‫أن موقع تنزانيا سيبقى كما هو‪ ،‬ولن يغير فيثاغورث في القوانين الرياضية‪،‬‬
‫ولن يحذف أبو األسود الدؤلي النقاط من فوق الحروف‪ ،‬لمجرد أنني لم‬
‫أذهب إلى المدرسة ليوم واحد‪ .‬البد من شخص يحتويني ويخبرني بأن‬
‫األمور ستصبح أفضل حتى ولو كان خداعًا‪.‬‬
‫رشاد هو أكبر أفراد الشلة‪ ،‬سيبلغ الخامسة والثالثين بعد عدة أيام‪ ،‬وهذه‬
‫المعلومة قد صدعنا بها ألنه ينوي القيام باحتفال أسطوري في عيد ميالده‬
‫القادم‪ .‬ألنه يوم خاص ج ًدا في حياته ويستبشر به كما يدعي‪ ،‬ففيه حدثت‬
‫فخرا‪ ،‬أنه اليوم الذي كللها فيه بالغار‬
‫له كل األمور الجيدة‪ ،‬ويكفي البشرية ً‬
‫‪- 001 -‬‬
‫تماما‪ ،‬إن يوم الميالد يوم كأي يوم آخر‪،‬‬
‫عند مولده‪ .‬وهو شيء ال أستوعبه ً‬
‫فقط من يستفيد منه‪ ،‬الذين يحصون عمرك لتصل لسن المعاش كي تغادر‬
‫لتترك موقعك لمن يليك‪.‬‬
‫ورشاد غريب األطوار إلى حد ما‪ ،‬ورث عن جده رجل األعمال الثري الذي‬
‫ضخما من المال ‪ ،‬هذا غير قطعة األرض الشاسعة في‬
‫ً‬ ‫كان يهيم به حبًا مبلغًا‬
‫الساحل الشمالي والعقارات‪ ،‬وألن والديه غارقان في دوامة جمع المال‪ ،‬لم‬
‫يباليا بما يفعل‪ ،‬طالما ال يعترض مجرى المال المتدفق‪.‬‬
‫تزوج مرة واحدة ومنحهما طفلين جميلين ثم أخذت الرياح كل وعود الزواج‬
‫الجميلة‪ ،‬وبوجود الطفلين معهما لم يعد مدينًا لهما بشيء‪.‬‬
‫ال أعرف كيف انضم لشلتنا الغريبة‪ ،‬ولكنه في وقت قياسي صار األب‬
‫الروحي للشلة وحائط المبكى الذي نشد الرحال إليه كلما ضاقت بنا الحياة‬
‫والسبل‪ ،‬إنه مستمع جيد كما أن شقته ال تخلو من الطعام والمشروبات‬
‫وبعض األشياء األخرى المثيرة‪.‬‬
‫قصدته بعد صالة الظهر بساعة‪ ،‬ووجدت بالفعل أن حالته مزرية هو اآلخر‪..‬‬
‫التجربة فاقت كل تحملنا دون شك‪ ،‬لست وحدي الواهن إذن‪ ،‬جميعنا‬
‫نعاني من تبعات األمر‪ ،‬وإن كانت حالتي أنا – ويا للعجب ‪ -‬تبدو أفضل‪.‬‬
‫النوم‪..‬‬

‫‪- 005 -‬‬


‫واضحا على عينيه الحمراوين‪،‬‬
‫ً‬ ‫إنه لم ينم‪ ،‬ولو لحظة واحدة هذا يبدو‬
‫وأجفانه المنتفخة والسواد الذي غزى أسفل عينيه‪ ،‬وعلى المنضدة المجاورة‬
‫توجد منفضة سجائر قد فاضت باألعقاب‪ ،‬لتحدد حجم المأساة‬
‫الحقيقي‪.‬لقد أخطأنا جميعنا عندما أنصتنا ألمجد‪.‬‬
‫ال يبدو أن رشاد سيمثل حائط مبكى جي ًدا اليوم‪ ،‬كما أن مزاجه غير رائق‬
‫أب ًدا هذا واضح من عصبيته‪ ،‬إن القلق محفور على وجهه بأزميل غير حاد‪.‬‬
‫إن التجربة التي خضناها كانت مروعة‪ ..‬من يصدق ما حدث !!‬
‫أشعل سيجارة جديدة برغم أن األولى مازالت مشتعلة في المنفضة‪ ،‬وأخبرني‬
‫أنه قضى أسوأ ليلة في حياته‪ ،‬الكوابيس ظلت تطارده طوال الليل‪،‬‬
‫والشياطين تحاول النيل منه دون هوادة‪ ،‬كما أن زوجته السابقة لم تتوقف‬
‫صدى‬
‫ً‬ ‫عن االتصال به على هاتفه المحمول‪ ،‬وكلما أجاب ال يسمع إال‬
‫وفحيحا مخي ًفا‪.‬‬
‫ً‬
‫الحيرة كانت مرتسمة على مالمحه‪ ،‬ولسان حاله يقول ‪:‬‬
‫ما عالقة كل هذا ببعضه ؟! إن عقله يكاد أن يذوب من حدة التفكير‪.‬‬
‫تماما بوجد الجن والشياطين ألنه تم ذكرهم في القرآن الكريم‪،‬‬
‫إنه مؤمن ً‬
‫واقتصار األمر على وجودهم هناك‪ ،‬كنصوص بداخل الكتب المقدسة‪،‬‬

‫‪- 006 -‬‬


‫جعلهم بعيدين ج ًدا عن حدود عالمه‪ ،‬وجعله ال يضعهم أب ًدا في حساباته‬
‫كأذى مستقبلي محتمل‪.‬‬
‫ً‬
‫ولكنهم اآلن ملء العين والبصر‪ ،‬وهو خائف ج ًدا‪.‬‬
‫خائف من المجهول‪.‬‬
‫خائف من أشياء ال حدود لها‪ ،‬أشياء ال تلتزم إال بقوانينها الخاصة‪.‬‬
‫كيف كان الشيخ ياسين يتعايش مع كل هذا الهول ؟!‬
‫البد وأن قلبه قد مات منذ زمن بعيد !!‬
‫أخبرته أن األمر كله قد ال يكون بالسوء المتوقع‪ ،‬بل هو ناتج عن تلك‬
‫تماما‪ ،‬لقد واجه‬
‫التجربة المريعة التي قمنا بها‪ ،‬وبدا عليه أنه غير مقتنع ً‬
‫كثيرا حتى كاد يحترق‪ ،‬ولكن ما كان يشغله أكثر هو‬
‫الرعب والموت‪ ،‬اقترب ً‬
‫مكالمات الهاتف الغامضة‪.‬‬
‫إن زوجته خارج البالد‪ ،‬فكيف يأتي االتصال من رقمها المحلي‪.‬‬
‫هل تركته مع أحد ليعابثه‪ ،‬ولكن لماذا تتذكره اآلن ؟! لقد مر أكثر من عام‬
‫على آخر لقاء تم بينهما !!‬
‫ولماذا في هذه الليلة بالذات ؟!‬
‫إنها أذكى وأعقل من ذلك‪ ،‬البد أن في األمر خطأً ما‪.‬‬

‫‪- 007 -‬‬


‫أخبرته أن المصائب ال تأتي فرادى‪.‬‬
‫ولكنه لم يقتنع‪.‬‬
‫إن المصيبة التي تعرف رقم هاتفه‪ ،‬ال عالقة لها بالمصائب األخرى‪.‬‬
‫****‬
‫اندمجنا في الحديث‪ ،‬وطرحنا النظريات ولم يقطع نقاشنا إال صوت جرس‬
‫الباب‪ ،‬وكان القادم أفضل عامل في مصر‪ ،‬عامل توصيل الطلبات للمنازل‪..‬‬
‫خاصا في قائمة طعامي‪ ،‬ربما تلي المحشو مباشرة‪ .‬لذلك‬‫وضعا ً‬
‫إن للبيتزا ً‬
‫كانت بهجتي ال توصف‪ ..‬فأن يكون صديقك مطل ًقا وثريًا فلك أن تتوقع ما‬
‫لذ وطاب من تلك الوجبات السريعة المبهرة‪ .‬ال توجد زوجة متسلطة تعد‬
‫طعاما ال يؤكل‪ ،‬وال أطفال مزعجون ينغصون عليك جلستك‪ .‬أنت وصديقك‬
‫ً‬
‫فقط وعلبة البيتزا العمالقة‪ ،‬إنه المشهد األكثر إثارة في اليوم كله‪.‬‬
‫توجهت صوب الحمام ألغسل يدي‪ ،‬وأمام المرأة قررت أن أهيل الماء على‬
‫رأسي عل الماء يلطف من حرارته‪ .‬وعندما رفعت رأسي رأيت الوجه‬
‫المخيف والعيون المشتعلة في انعكاس المرآة‪ ،‬ولمحت تلك األصابع‬
‫المخلبية تشير لي‪ ،‬بتلك اإلشارة التي تمثل الذبح والتي ال تعني إال التهديد‬
‫بالموت‪.‬‬

‫‪- 008 -‬‬


‫هززت رأسي بعنف أل نفض تلك الرؤى المخيفة‪ ،‬وعندما عدت ببصري إلى‬
‫المرآة‪ ،‬كان سطحها المصقول ال يعكس إال وجهي الممتلئ والذي غاضت‬
‫منه الدماء‪ ،‬وعندما هممت بتجفيف وجهي بالمنشفة شعرت بألم حارق في‬
‫ألما عني ًفا لم أختبره من قبل بهذه الحدة‪ ،‬إنها‬
‫معدتي‪ ،‬وكدت أتقيأ‪..‬كان ً‬
‫قرصة الجوع أعرفها جي ًدا‪ ،‬ولكنها لم تكن من قبل بهذه الطريقة العنيفة‪.‬‬
‫خرجت من الحمام مسرعًا‪ ،‬والدموع تكاد تهطل من عيني‪ ،‬والبيتزا تحتل‬
‫كامل كياني‪ ..‬نظرت إلى علبة البيتزا في نهم حيوان متوحش شم رائحة‬
‫الدماء بعد طول حرمان‪ ،‬وكدت أخطفها من يد رشاد‪ ،‬لوال أن تماسكت‬
‫بصعوبة‪.‬‬
‫الجوع المفاجئ صدمني‪.‬‬
‫إنها المرة األولى التي أرى فيها الطعام فتتقلص معدتي بهذا الشكل‪.‬‬
‫البد وأن أقوم بعمل بعض التحاليل‪ ،‬إن جارنا كان يعاني من الديدان في‬
‫مؤخرا‪ ،‬لم يكن علي أن ألتهم تلك الكبدة غريبة‬
‫معدته فربما أصبت بها ً‬
‫الشكل من فوق تلك العربة مجهولة المصدر أثناء قدومي‪.‬‬
‫لقد شكك أمين ذات يوم في نوع هذه الكبدة‪ ،‬فضخامة الشطيرة ال‬
‫تتناسب أب ًدا مع سعرها الزهيد وال سعر الكبدة في السوق‪ ،‬وها هي النتيجة‪.‬‬

‫‪- 009 -‬‬


‫شعرت للحظة بألم فائق في بطني‪ ،‬وكأن هناك من يسكب الحمض في‬
‫معدتي‪ ،‬فكدت أصرخ لوال أن تمالكت نفسي وانقضضت على علبة البيتزا‬
‫وكياني كله مركز على تناول الطعام‪ ،‬الذي وجدته األسلوب الوحيد والفعال‬
‫إلسكات األلم‪.‬‬
‫انهمكت في التهام الطعام وأنا أشعر أنه مع كل قضمة يضاف لون جديد‬
‫للحياة‪ ،‬وتتراجع موجات األلم‪ ،‬في حين انشغل رشاد في احتساء زجاجة‬
‫باردة من البيرة ومراقبتي‪ ،‬لقد عافت نفسه الطعام الذي طلبه لسبب ما‪ ،‬كما‬
‫أنه بادي االضطراب‪ ،‬البد وأنه يخفي عني شيئاً ما‪ .‬وعندما بدأت في تناول‬
‫المياه الغازية‪ ،‬لم أتوقف إال بعد أن أنهيت اللترين بالكامل وعلى مرة‬
‫واحدة‪.‬‬
‫معدتي تتقلص ولكن األلم يجبرني على المتابعة وتناول الطعام‪ ،‬وعيون رشاد‬
‫المتسعة تخبرني أن ما أقوم به مخيف‪ .‬ورغم ذلك لم أتوقف لحظة واحدة‪،‬‬
‫ولم يعلق رشاد‪ ..‬البد أن الذهول ألجم لسانه‪.‬‬
‫وعندما شارفت على االنتهاء من البيتزا ذات الحجم العائلي‪ ،‬تركني ليذهب‬
‫إلى الحمام‪ ،‬وأخذت أنا أعب من زجاجة البيرة األخرى حتى أنهيتها دفعة‬
‫واحدة‪ ،‬شعرت بامتالء مريع‪ ..‬ولكن التوقف كان دربًا من الخيال‪.‬‬
‫األلم قلت حدته للحظات ثم عاد كموج هادر‪ .‬هناك شيء ما أريده وال‬
‫أعرفه‪ .‬هل أنا جائع ح ًقا ؟!‪.‬‬

‫‪- 011 -‬‬


‫لحظات ثم تعالى صوت رنين هاتف رشاد المحمول‪ ،‬فأتى صوته غير‬
‫الواضح من الحمام يخبرني بأن أجيب على الهاتف أو خيل إلي ذلك‪.‬‬
‫وعندما ضغطت زر إتمام االتصال‪ ،‬ووضعت الهاتف المحمول على أذني‬
‫سمعت صوت الفحيح المخيف‪ ،‬فانقبض قلبي ‪ ،‬وشعرت بغصة في حلقي‪.‬‬
‫مبهما كما ظن رشاد‪ ..‬إنه صوت أنثوي يتوعد‪ ،‬ولكنه كان‬
‫فحيحا ً‬
‫ً‬ ‫لم يكن‬
‫مشو ًشا‪ ،‬وإن استطعت بصعوبة التقاط بعض الكلمات ‪:‬‬
‫‪ -‬إنه دورك‪ ..‬أنت األول‪ ..‬أبواب الجحيم تهلل بانتظارك‪.‬‬

‫‪- 010 -‬‬


‫‪ -‬الجوع ‪-‬‬
‫صدمتني الكلمات وهبطت على أذني كالصفعة‪ ،‬حتى إنه فلتت من بين‬
‫شفتي صرخة مكتومة تعبر عن هلعي وفزعي‪ ،‬ودون إرادة ألقيت الهاتف‬
‫المحمول من يدي فسقط فوق الموكيت والفحيح مازال يصدر عنه‪.‬‬
‫تراجعت ملتص ًقا بالمقعد وكل خلية في جسدي ترتجف من الرعب‪ ،‬ما هذا‬
‫الصوت الشيطاني‪ ،‬وكيف استطاعت زوجة رشاد أن تقوم بهذه الحيلة‬
‫المخيفة‪ ،‬إن هذا الفحيح يحطم األعصاب‪.‬‬
‫شعرت باأللم يتصاعد في معدتي والعصارة تحرق جدرانها وتكاد روحي أن‬
‫تزهق‪ ..‬سيطر الرعب على أحاسيسي‪ ،‬وعندما حدث التجسد‪ ،‬كنت خارج‬
‫الشقة بل العمارة كلها‪ ،‬أعدو بال هدف في الشوارع‪ ،‬وقد شاب شعري‪.‬‬
‫فعندما نظرت لشاشة الهاتف المحمول‪ ،‬كان اسم لبنى زوجة رشاد السابقة‬
‫يتذبذب‪ ،‬لحظات وخرج بخار متراقص أسود اللون وأخذ يتشكل في هيئة‬
‫مخيفة شيطانية أفزعتني وجمدت الدماء في عروقي‪ ،‬مصحوباً بصرخات‬
‫مدوية وكأن هناك من يمزق وهو على قيد الحياة‪ ،‬ثم أصبح المكان شديد‬
‫الحرارة‪ ،‬وأخذ الهواء يتالشى من المكان‪.‬‬
‫صرخت من الرعب وبصوت البد وأنه أفزع كل سكان العمارة وقررت‬
‫قديما‬
‫مصباحا ً‬
‫ً‬ ‫الفرار‪ .‬أي شيطان هذا الذي سيخرج من الهاتف‪ ،‬لو كان‬
‫لتوقعت خروج جني ما‪ ،‬ولكن قلبي المنفطر يخبرني أن ملك الموت هو من‬
‫‪- 011 -‬‬
‫سيخرج عبر الهاتف‪ ،‬لسنا في ألف ليلة وليلة على كل حال‪ .‬ولست أنا‬
‫عالء الدين‪ ،‬ثم إن ألف ليلة وليلة لم يكن فيها هواتف محمولة‪.‬‬
‫لم أنتظر ألعرف ما سيحدث عند انتهاء التجسد‪ ،‬يكفي الفحيح الذي عم‬
‫المكان والرائحة الكبريتية الكريهة التي آذت أنفي‪.‬‬
‫ال أعرف كيف عدوت بمثل هذه السرعة الفائقة‪ ،‬لقد قطعت عدة‬
‫كيلومترات في دقائق معدودة‪ ،‬قبل أن أتوقف بأنفاس الهثة متالحقة والطعام‬
‫يكاد يثب عبر حلقي وجسدي البدين يترجرج و ال يتوقف عن االرتجاف‪،‬‬
‫وعندما سكن جسدي سقطت على ركبتي باكيًا فوق عشب تلك الجزيرة‬
‫الخضراء الموجود عبر الطريق وسؤال قاتل يدور في رأسي ‪:‬‬
‫إننا بالنهار‪ ،‬فكيف تخرج الشياطين بالنهار ؟!!‬
‫تعاظمت اآلالم بمعدتي‪ ..‬صرخت كمن بتروا له ساقه وهو مستيقظ‪.‬‬
‫لحظات كاسحة من األلم‪ ..‬ثم فقدت الوعي‪.‬‬
‫****‬
‫ال أعرف كم بقيت فاق ًدا لوعي‪ ،‬ولكني عندما استيقظت كانت النجوم في‬
‫السماء واأللم في معدتي ال يقاوم‪.‬‬
‫ما هذا الجوع العنيف ؟! وكأن هناك من يحرق أغشية معدتي باللهب‪ ،‬أو‬
‫لعلي أصبت بقرحة معدية ال يهدئها إال الطعام‪.‬‬

‫‪- 011 -‬‬


‫لقد أنساني األلم العنيف الهول الذي رأيته منذ لحظات بشقة رشاد‪ ،‬وتكفل‬
‫حتما‪ ،‬أسراب هائلة من الذباب‬
‫الذباب بما تبقى من تعقلي‪ ..‬إنني سأجن ً‬
‫تهاجمني في شراسة‪ ،‬وتكاد تصيبني بالعمى‪.‬‬
‫إنني أستحم كل يوم فما الذي يجذب الذباب لي‪ ،‬ولماذا هو بهذه الكثافة‬
‫وهذه الضراوة ؟!‬
‫ماذا يحدث لي ح ًقا‪ ،‬أي لعنة تطاردني ؟!‬
‫تكالبت أسراب الذباب علي ففررت منها‪ ،‬وطنينها يكاد يفقدني صوابي‪،‬‬
‫وتلك الذبابة التي ابتلعتها جعلتني أتمنى لو أنزع حلقي‪.‬‬
‫يا إلهي‪ ..‬أي جحيم هذا‪ ..‬إن الذباب يطاردني‪ ..‬ومعدتي تتمزق‪.‬‬
‫لن أستطيع التحمل أكثر‪.‬‬
‫أعتقد أن الموت سيكون أكثر رأفة‪.‬‬
‫شيطانة‪ ..‬وذباب‪ ..‬وجوع قاتل‪ ..‬إنها حياة ال تستحق دون شك‪.‬‬
‫تلك السيارات المسرعة في الطريق ربما تكون الحل‪.‬‬
‫بل هي الحل‪.‬‬
‫المصباحان يعميان عيني ولكني أغمضهما من الذباب‪ ،‬صوت احتكاك‬
‫إطارات‪.‬‬

‫‪- 011 -‬‬


‫صوت ال أميزه يصرخ طالبًا مني أن أحترس‪.‬‬
‫توقف الزمن للحظة‪ ،‬ثم شعرت باالرتطام‪ .‬يا إلهي كم مرة سأفقد الوعي‬
‫اليوم‪.‬‬
‫ربما ليس الوعي هذه المرة‪!! ..‬‬
‫****‬
‫عندما استيقظت‪ ،‬التقط أنفي رائحة المطهرات‪ ،‬ثم سمعت كلمات ساخطة‪،‬‬
‫وتال األمر صوت هسيس مرتفع‪ ،‬ليتسلل إلى أنفي رائحة مبيد الحشرات‬
‫القاتل‪ ،‬ثم التقطت أذني الطنين المزعج‪ .‬وسمعت السبة‪..‬‬
‫حاولت أن أحرك جسدي ولكني لم أستطع‪ ،‬أشعر بثقل هائل يكبل صدري‬
‫وقدمي‪...‬أين أنا ؟!‬
‫شعرت بتشوش لفترة من الزمن‪ ،‬قبل أن يقوم مخي بتشغيل برنامج النوافذ‬
‫الخاص برأسي‪ .‬ثم تذكرت كل شيء‪ ،‬وكلكمة مؤلمة عاد لي إحساسي‬
‫بجسدي‪ ،‬وفي اللحظة التالية كنت أصرخ من األلم في معدتي‪..‬‬
‫جوعا‪ .‬أحضروا لي كل ما لديكم من طعام‪،‬‬
‫‪ -‬إنني جوعان‪ ..‬بل أكاد أقضي ً‬
‫الرحمة‪ ..‬الرحمة‪.‬‬
‫األلم غير محتمل ‪..‬هناك آالم مختلفة في جسدي ولكن آالم المعدة‬
‫تمحوها كلها‪.‬‬

‫‪- 015 -‬‬


‫الرؤية منعدمة تماما ‪،‬وكأن هناك شخص ما قد غطى عيني بضمادة من‬
‫القطن‪ ،‬أو أن كلتيهما أصيبتا في الحادث‪.‬‬
‫جسدي يرتجف من هول ما أقدمت عليه ‪ ،‬هل جننت كي أقتل نفسي‪ ،‬أي‬
‫شيطان تلبسني في هذه اللحظة ألقدم على هذه الفعلة الشنعاء ؟‪.‬‬
‫وعلى ذكر الشياطين دارت في رأسي مشاهد مختلفة‪ ،‬من تلك األحداث‬
‫التي مرت بي في غرفة الشيخ ياسين‪ ،‬ثم المشهد المذهل لتلك الشيطانة‬
‫التي خرجت من قلب الهاتف المحمول‪ ،‬ثم شعرت باللسعة‪ ،‬وبدأ وعيي‬
‫يغيب‪ .‬ويسحبني بعي ًدا عن شواطئ األلم‪.‬‬
‫البد أن صراخي أجبرهم على إعطائي حقنة مخدرة‪ .‬وقبل أن يغيب الوعي‬
‫تماما سمعت صوتًا أنثويًا يقول ‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ما كومة المخلفات هذه التي يجبرونني على عالجها‪ ،‬إن الذباب يقاتل‬
‫للوصول إليه‪.‬‬
‫شعرت باأللم في معدتي‪ ،‬ثم رددت دون وعي ‪:‬‬
‫‪ -‬عن أي ذباب تتحدث‪.‬‬
‫ثم فقدت الوعي‪.‬‬
‫****‬

‫‪- 016 -‬‬


‫ال يمكن أن أصف لكم الساعات التالية‪ .‬ولكن رشاد يستطيع‪ ،‬الملخص‬
‫لحالتي أنني كنت على حافة الموت من شدة األلم‪ ،‬أتمناه وال أجده‪ ..‬أسعى‬
‫إليه وال تطاله يدي‪ .‬إنني ممدد داخل مستشفى خاص وفي غرفة صممت‬
‫خصيصاً من أجلي‪ .‬قابع وسط رداء كامل من الجبس يقيد حركتي‪ ،‬لم يكن‬
‫الحادث هينًا إذن ‪ ،‬لقد انتشلوني من على حافة الموت وليتهم ما فعلوا‪.‬‬
‫نقود رشاد المتدفقة هي التي أخرت الكارثة‪ ،‬بل الكوارث المتعددة التي‬
‫اجتاحت عالمي في هذه الفترة القصيرة ‪،‬فهناك الذباب السمج الذي يقاتل‬
‫ليعبر إلي في مكمني ‪ ،‬واأللم الساحق الذي عجزت كل األدوية المهدئة عن‬
‫إيقافه‪ ،‬والجوع الوحشي الذي يكاد يطيح بعقلي ‪ ،‬والذي برغم عنفه لم‬
‫يسمح لي األطباء بالكمية المناسبة من الطعام التي توقف ثورته‪ .‬بل غمروا‬
‫جسدي بالمحاليل والمهدئات التي ال تسمن وال تغني من جوع ‪.‬‬
‫ربما لو نجوت من هذه المحنة‪ ،‬سأظل مدمنًا على المورفين لما تبقي لي من‬
‫العمر‪.‬‬
‫اآلن أترككم مع رشاد ألن كل األمور مختلطة بداخل عقلي‪.‬‬

‫‪- 017 -‬‬


‫‪ -‬الحادث ‪-‬‬
‫يقول رشاد ‪:‬‬
‫أعتقد حقيقة أنني مختل‪ ،‬أو أن هذه الكيماويات التي ال أتوقف عن صبها‬
‫في دمائي قد أثرت على توازني العصبي‪ ،‬ألن ما سأقصه عليكم اآلن ال‬
‫يمكن أن يقبله عقل متزن‪.‬‬
‫إنني أقف على تلك الحافة الفاصلة بين العقل والجنون‪ ،‬والبد من شخص‬
‫يشاركني هذا الجنون‪ ،‬وإال لصرت مجذوبًا آخر فقد عقله‪ ،‬وينتظره القميص‬
‫مغلق األكمام‪.‬‬
‫قميصا برتقاليًا‬
‫ً‬ ‫بدأت األمور المخيفة بقدوم نجيب إلى شقتي‪ ،‬كان يرتدي‬
‫غريب اللون‪ ،‬مع سروال رمادي حال لونه‪ ،‬وذلك الصندل الذي يحتاج‬
‫لجورب أبيض متسخ لتكتمل الصورة الشاذة‪.‬‬
‫فردا في‬
‫حقيقة ال أعرف كيف انخرطت في هذا األمر وال كيف أصبحت ً‬
‫هذه الشلة العجيبة‪ ،‬كل شيء كان مريبًا في البداية ولكني لم أكن ألقف في‬
‫هذه المرحلة من حياتي عند أي شيء غريب‪.‬‬
‫إنني أمارس كل فنون الغرابة دون هوادة‪ ،‬إنني كائن متقلب‪ ،‬غريب األطوار‬
‫كما نعتني أمجد من قبل عند نقاشنا حول السبب الحقيقي لطالقي‪.‬‬

‫‪- 018 -‬‬


‫عندما أتى نجيب في هذه الظهيرة المشؤومة إلى شقتي‪ ،‬كنت قد طلبت‬
‫بعض األطعمة السريعة كعادتي منذ انفصلت عن زوجتي‪ ،‬برغم أني عزوف‬
‫عن الطعام منذ فترة‪.‬‬
‫جائعا‪ ،‬ولكني طلبت الطعام بال سبب معين‪ ،‬ربما هو قدوم موعد‬
‫لم أكن ً‬
‫الغداء الذي تعودت تناول الطعام فيه أو الفراغ‪.‬‬
‫وفي اللحظة التي فتحت فيها باب شقتي ألستقبل نجيب‪ ،‬لن أخفي عليكم‬
‫األمر‪ ،‬فقد انقبض قلبي وشعرت بسوء قادم‪ ،‬ال أعرف لماذا ربما هي حاسة‬
‫رسخها عدم تقبلي لالنضمام لهذه الشلة العجيبة‪ ،‬وتوقعي السوء من هذه‬
‫العالقة العجيبة‪.‬‬
‫نجيب كائن بدين طيب القلب‪ ،‬ربما هو أكثر فرد في هذه الشلة استفادة‬
‫من انضمامه لجماعتنا‪ ،‬ألن من هم مثله ببدانته واستيعابه الضعيف ال شعبية‬
‫لهم وال يجدون أصدقاء بسهولة‪ ،‬خاصة في تلك الفترة العمرية التي يسعى‬
‫فيها المراهقين إلثبات رجولة لم يحن موعدها بعد‪ ،‬فقط كنت أحب‬
‫ابتسامته الفطرية‪ ،‬التي تبشر بكون بكر يخلو من التعقيد‪ ،‬وجميع البدناء‬
‫لديهم مثل هذه االبتسامة الطفولية العذبة‪.‬‬
‫المهم أنني كنت غارقًا في أفكاري الخاصة بعد تلك الليلة السوداء التي‬
‫قضيناها في منزل الشيخ ياسين‪ ،‬ال أعرف حقيقة كيف قبلت بخوض مغامرة‬
‫مماثلة‪ ،‬ولكني لم أستطيع ولو للحظة واحدة أن أعارض أو أخالف أمجد‬

‫‪- 019 -‬‬


‫في أي شيء قرر أن يشركني به‪ ،‬وكأن ما يربطنا شيء أقوى من الصداقة‪،‬‬
‫شيء من خارج هذا العالم الملموس‪ .‬شيء ال اسم له ولكنه أقوى من‬
‫الحياة نفسها‪.‬‬
‫إنه أحد هذه األشياء الكثيرة‪ ،‬العصية عن الفهم‪ ،‬والتي عند فهمها تصبح‬
‫عصية على التصديق‪.‬‬
‫و برغم صغر سن أمجد بالنسبة لسني‪ ،‬إال أنني كنت أهابه لسبب مجهول‬
‫بل وأشعر بقشعريرة باردة تزحف على روحي كلما نظرت لعينيه‪.‬‬
‫عندما بدأ نجيب في التهام الطعام‪ ،‬لم أحب طريقته المحرومة في تناول‬
‫الطعام‪ ،‬وكأنه ذلك الجائع األبدي الذي دخل المدينة المصنوع كل شيء‬
‫فيها من الحلوى والطعام‪.‬‬
‫كانت تتساقط من فمه فتاتات الخبز وبعض قطع الخضروات الموجودة في‬
‫قطع البيتزا‪ ،‬مما أصابني باالشمئزاز وأصبحت أكثر عزوفًا عن تناول الطعام‪.‬‬
‫ضايقني ج ًدا أنه لم يستأذن قبل أن يشرع في تناول الطعام‪ ،‬لقد انقض على‬
‫علبة البيتزا فور خروجه من الحمام‪ ،‬وكأنه استباح المكان والطعام‪ ،‬وعندما‬
‫زايلني ضيقي بعد لحظات‪ ،‬شرعت أتابع ذلك السيرك المنصوب في صالة‬
‫شقتي‪ ،‬الذي لم يكن فيه إال مهرج واحد يتناول الطعام بأغرب طريقة في‬
‫العالم‪ ،‬وأنا على مقعد المتفرج أحتسي زجاجة بيرة باردة‪.‬‬

‫‪- 011 -‬‬


‫كانت تبدو على وجهه معاناة مريعة‪ .‬وألم غريب‪ ،‬إن االستمتاع المعتاد‬
‫غائب‪ ،‬وهذا ال ينفي أن شهيته تفوق شهية األفيال‪ ،‬إن علبة البيتزا التي‬
‫شارفت على االنتهاء‪ ،‬تكفي ألربعة أشخاص وربما خمسة مع االقتصاد‪.‬‬
‫فكيف استطاع بهذه السرعة أن يلتهمها ؟!‬
‫وزجاجة المياه الغازية التي جرعها على مرة واحدة‪ ،‬لو استمر األمر على هذا‬
‫المنوال ستنفجر أحشاؤه‪ .‬ال أعتقد أنه يمضغ ‪ ،‬إنه يبتلع القطع ربما دون أن‬
‫تلمسها أسنانه‪.‬‬
‫ال أعرف ما الذي ألجم لساني وكيف لم أجبره على التوقف كي ال يؤذي‬
‫نفسه‪ ،‬ربما عدم معقولية األمر برغم حدوثه أمامي‪.‬‬
‫لحظات وبدأ مفعول البيرة المدر للبول‪ ،‬فقمت من فوري أللبي نداء‬
‫الطبيعة‪ ،‬تارًكا نجيب في ملحمته األسطورية‪ ،‬وتوجهت صوب الحمام‪.‬‬
‫لحظات ورن هاتفي المحمول‪ ..‬أخبرته بأال يرد على الهاتف‪ ،‬فال أحب أن‬
‫تكون العالقة بيننا حميمية إلى هذه الدرجة‪.‬‬
‫إن الهاتف كالخزانة ال يصح ألحد أن يقتحمها دون إذن صاحبه‪.‬‬
‫مفتوحا وعلى‬
‫ً‬ ‫وعندما عدت من الحمام‪ ،‬دهشت ألقصى مدى‪ ،‬فهاتفي كان‬
‫شاشته المتذبذبة رقم لبنى والفحيح المخيف ال يتوقف‪.‬‬
‫لماذا أجاب هذا المتطفل على الهاتف‪ ،‬لقد أخبرته أال يجيب ؟!!‬

‫‪- 010 -‬‬


‫حاولت أن أغلق الهاتف ألقطع الفحيح دون فائدة‪.‬‬
‫مجسما ومحيطيًا‪،‬‬
‫ً‬ ‫الفحيح يتصاعد بوتيرة سريعة‪ ،‬والغريب أن الصوت أصبح‬
‫ويخرج من كل الموجودات من حولي‪ ،‬إن الصوت ينبع من داخل الهاتف‬
‫ومن كل قطعة أثاث في المنزل‪ ،‬حتى الجدران نفسها تردده‪.‬‬
‫سحقني الخوف‪ ،‬لم أستطع أن أستدعي ربة الالمباالة التي أواجه بها األمر‬
‫كلما حدث‪ ،‬وشعرت بأن الشقة تضيق على روحي‪ ،‬وبأنني سأجن لو بقيت‬
‫لدقيقة واحدة زائدة‪ ..‬غادرت الشقة‪ ،‬والبناية كلها‪ ،‬ثم استقليت سيارتي‪..‬‬
‫ذهني شارد‪ ..‬عقلي مشتعل من التفكير‪ .‬أجاهد ألحضر بعض الفهم‪ ،‬من‬
‫داخل أتون الغموض‪ ،‬دون فائدة‪.‬‬
‫فتحت علبة بيرة معدنية من التي أحتفظ بها بداخل مبرد السيارة‪ ،‬ثم رفعتها‬
‫على فمي عندما شعرت بالقشعريرة تزحف على جسدي‪ ،‬فقد سمعت‬
‫مجددا‪.‬‬
‫ً‬ ‫الفحيح‬
‫عجلة ال قيادة تختل في يدي‪ ،‬السيارة تميل نحو الجانب األيسر‪ ،‬وتكاد أن‬
‫تخرج عن مسارها‪ ،‬لتسحقها ديناصورات النقل الثقيل التي ترتع على طول‬
‫الطريق‪ ،‬ولكني تداركت نفسي بسرعة‪ ،‬وقمت بإدارة عجلة القيادة إلى‬
‫االتجاه العكسي وحافظت على توازنها‪ ،‬وفي أول مكان صالح‪ ،‬قمت‬
‫تماما وأشعلت أضواء االنتظار‪.‬‬
‫بركنها‪ ،‬ألن أعصابي تلفت ً‬

‫‪- 011 -‬‬


‫البد أن أهدأ‪ ،‬إن هذه الطريقة في معالجة األمور قد تكلفني ما هو أكثر من‬
‫سيارة مهشمة‪ ،‬قد تكلفني حياتي‪.‬‬
‫شعرت فجأة بخمول شديد‪ ،‬ورغبة عارمة في النوم‪ .‬لقد أوقفت السيارة في‬
‫تماما‪ ،‬لن أحاول أن أقاوم النوم‪ ،‬إنني في حاجة ماسه إليه‬
‫الوقت المناسب ً‬
‫بالفعل‪ ،‬فهذا يومي الثاني على التوالي دون نوم‪.‬‬
‫سأحظى ببضع ساعات من الراحة‪ ،‬وبعدها ليكن ما يكون‪ ..‬وقبل أن‬
‫تماما لقبضة النوم الحريرية‪ ،‬لمحت تلك العيون المخيفة في مرآة‬
‫أستسلم ً‬
‫السيارة الداخلية‪.‬‬
‫تماما عن االستجابة ألي مؤثرات‪ ،‬وبحيرة‬
‫ولكن عقلي كان قد توقف ً‬
‫تماما‪ .‬وفقد جسدي‬
‫األدرينالين الموجودة داخل جسدي كانت قد جفت ً‬
‫تماسكه‪.‬‬
‫إن النوم يحكم قبضته على روحي‪ ،‬اآلن أنا هناك في مملكته الغامضة‪.‬‬
‫****‬
‫فجأة استيقظت وكأن هناك من صفعني على وجهي‪ ،‬ألخرج من ذلك الحلم‬
‫العجيب الذي رأيت فيه أمجد غارقًا في دمائه والحياة تنسحب من‬
‫جسده‪ ..‬والنيران تحيط به من كل جانب‪ ..‬وبرغم هذا يجاهد ليخبرني أن‬
‫أستيقظ ألخف إلى نجدة نجيب‪ ،‬ألنه بحاجة ماسة إلى مساعدتي‪.‬‬

‫‪- 011 -‬‬


‫ضا الحلم الغريب‪ ،‬ثم قدت السيارة عبر الطريق بدون وجهة‬
‫هززت رأسي ناف ً‬
‫هائما على وجهي وبداخلي حنين لبيت أمي وألطفالي‪.‬‬
‫أو اتجاه محدد‪ً ..‬‬
‫قررت أن أذهب إليهم ألتفقدهم وأتمتع ولو قليالً بجو األسرة البعيد عن‬
‫كل هذا التعقيد‪ ،‬ومن ثم غيرت اتجاهي كليًا‪ .‬وسلكت طري ًقا آخر‪.‬‬
‫الطريق كان خاليًا على غير العادة‪ ،‬فالشمس قد غابت ومعها غاب الزحام‬
‫والضوء‪.‬‬
‫تركت العنان لسيارتي‪ ،‬وعيني على الطريق‪ .‬صداع متزايد يلتهم مخي‪ ..‬البد‬
‫من قدح من القهوة‪ ..‬انشغلت بعبارة شعبية مكتوبة على سيارة وحيدة‬
‫خرجت من شارع جانبي لتسير أمامي‪ ،‬عندما رن جرس الهاتف‪.‬‬

‫(نمشي على كف القدر وال ندري ما المكتوب)‪.‬‬


‫نظرت إلى الشاشة المتذبذبة ثم ارتجفت‪.‬‬
‫إنها لبنى من جديد‪.‬‬
‫ماذا تريد لبنى مني ؟!‬
‫هل تحاول االنتقام ألني هجرتها‪ ،‬ولكنه كان طلبها‪ ،‬هي من قررت أن تنهي‬
‫هذه المرحلة من حياتنا‪ .‬هي من أخذت المبادرة‪ .‬صحيح أنني أسوأ زوج في‬
‫العالم‪ ،‬ولكني لم أسئ لها بما يبرر هذه األفعال الحمقاء‪.‬‬

‫‪- 011 -‬‬


‫أنا أعرف طريقة االتصال المزعج أثناء القيادة‪ ،‬إنه األداة المثلى للجريمة‬
‫الكاملة‪.‬‬
‫لن أجيب‪.‬‬
‫لن أكون ضحية أخرى‪ ،‬لخبر كاذب يشتت ذهني أثناء القيادة‪.‬‬
‫ثم كيف أتى الهاتف هنا ؟! لقد تركته في المنزل عندما عجزت عن إغالقه‪.‬‬
‫ارتفع صوت الهاتف بالفحيح مجد ًدا‪ ،‬لتشمل جسدي رعدة شاملة‪ ،‬ونظرت‬
‫صوب المقعد المجاور حيث يقبع الهاتف المخيف ودقات قلبي تتصاعد‪،‬‬
‫لم يكن الرنين بهذه القوة من قبل‪.‬‬
‫إنه اآلن يتعالى‪.‬‬
‫إنه يدوي بقوة كجرس معدني‪ ،‬ثم كبوق سيارة نقل ثقيلة‪ ،‬ثم كدوي المدافع‪.‬‬
‫تركت عجلة القيادة لحظة واحدة ألحمي أذني‪ ،‬عندما شعرت باالرتطام‪.‬‬
‫ضغطت دواسة الفرامل بكل قوة ولكن الكارثة كانت قد وقعت‪ ،‬القميص‬
‫البرتقالي يلمع أمام عيني قبل لحظة من انفجار الوسائد الهوائية في وجهي‬
‫ألرتد إلى الخلف مصابًا بكدمة في عيني‪.‬‬
‫صوت صرخة نسائية‪.‬‬
‫القميص البرتقالي ليس بغريب عني‪.‬‬
‫يا إلهي هل صدمت نجيب ؟!‬

‫‪- 015 -‬‬


‫‪ -‬الغرفة الزرقاء ‪-‬‬
‫دقيقة واحدة كانت هي الفيصل بين الحياة والموت‪ ،‬لو تأخرتها ألي سبب‪،‬‬
‫أو لو هداني تفكيري للذهاب به إلى المستشفى الحكومي القريب بما فطر‬
‫عليه من بيروقراطية وروتين‪ ،‬لربما لم تطلع شمس اليوم التالي على نجيب ‪،‬‬
‫ولكنت أنا خلف القضبان أحاكم بتهمة القتل غير المتعمد‪.‬‬
‫رد فعلي كان مباغتًا لي أنا شخصيًا‪ ،‬فلم أظل في مكاني لحظة واحدة بعد‬
‫االرتطام‪ ،‬ولم تشلني المفاجأة‪ ،‬بل دفعت باب السيارة التي ذابت إطاراتها‬
‫من االحتكاك المباغت‪ ،‬وكنت أول من وصل إلى جسد نجيب الممدد دون‬
‫حراك بجانب الرصيف‪.‬‬
‫لم أنتظر أن يتجمهر المارة وأن تحدث المشادات المعتادة‪ ،‬وخالفت كل‬
‫التحذيرات الطبية المعروفة‪ ،‬وقواعد اإلسعافات األولية بعدم تحريك‬
‫المصابين في حوادث السيارات‪ ،‬وانتظار المساعدة الطبية‪ ،‬وحملت جسد‬
‫نجيب الغارق في الدماء والفاقد لتماسكه كدمية مهشمة بسرعة إلى داخل‬
‫سيارتي‪ ،‬وانطلقت بها أنهب الطريق صوب عيادة الدكتور (راغب مهران)‬
‫صديقي وطبيب العائلة وأنا أدعو اهلل أال أزيد من سوء إصابته‪.‬‬
‫منزعجا بشدة‪ ،‬ولكن هذا لم يؤثر على حكمتي وتقديري لألمور‪.‬‬
‫ً‬ ‫كنت‬
‫وحصرا للمضاعفات‪ ،‬كما أنها ستمنع أي‬
‫ً‬ ‫سريعا‪،‬‬
‫فالسرعة تعني إنقا ًذا ً‬
‫شخص من إبالغ الشرطة ألدخل في تحقيقات ال أول لها وال آخر‪.‬‬
‫‪- 016 -‬‬
‫مبتهجا بحضور الشرطة‪ ،‬حتى نجيب الراقد في‬
‫ً‬ ‫صدقوني لن يكون أحد‬
‫المقعد الخلفي بين الحياة والموت سيؤمن على قراري‪ .‬أنا مؤمن أن ما‬
‫حدث قضاء وقدر‪ ،‬وأنا لم أكن متعم ًدا لدهس نجيب‪ ،‬كما أن الدكتور‬
‫راغب جراح ماهر ج ًدا ويدين لي بعدة خدمات‪.‬‬
‫يا إلهي ‪..‬لقد دهست نجيب‪!! ..‬‬
‫بالطبع لم أنتبه للذباب إال بعد أن وضعت نجيب في المقعد الخلفي‪ ،‬لم‬
‫أستوعب األمر في البداية‪ ،‬كان شيئًا عجيبًا ومخي ًفا في نفس الوقت‪ ،‬ولكن‬
‫ال محالة من معالجة أمر الذباب قبل أن أشرع في القيادة‪.‬‬
‫إن الذبابة بذاكرتها التي ال تتعدى الثواني الخمس تعد أكثر الكائنات‬
‫إزعاجا في الكون‪ .‬القيادة مع هذه المعاناة قد تتسبب في الحادث الذي لن‬
‫ً‬
‫يجدي معه أطباء‪.‬‬
‫مسكين نجيب ال أعرف ماذا حدث له في تلك الساعات التي تلت‬
‫مغادرته لشقتي‪ ،‬وما سر تكاثر الذباب من حوله‪ ،‬أعتقد أن كل ذباب مصر‬
‫قد قرر أن يحج إلى جسد نجيب المهشم ليحصل على نصيبه من دمائه‬
‫المتخثرة‪.‬‬
‫مغناطيسا بشريًا ال يجتذب إال الذباب ؟‬
‫ً‬ ‫هل أصبح‬

‫‪- 017 -‬‬


‫أثار الذباب جنوني‪ ،‬فهو يعوق الرؤية وطنينه ال ينقطع‪ ،‬لذلك وجدت أسلم‬
‫حل أن أفصل مقعدي عن المقعد الخلفي بالحاجز الزجاجي‪ ،‬والذي كنت‬
‫أستخدمه في الفترة التي استعنت فيها بسائق خاص عندما جاءتني فوبيا‬
‫القيادة‪ ،‬وكي ال يتلصص على ما أقوم به مع فتياتي في تلك الفترة المظلمة‬
‫من حياتي التي تلت انفصالي عن زوجتي‪ ،‬وليرحم اهلل نجيب حتى نصل‪.‬‬
‫متلمسا الهواء المتدفق والذي يعمل كمروحة عمالقة كحل‬
‫ً‬ ‫فتحت الشباك‬
‫هزيل لمواجهة الذباب‪ ،‬وتكفل الهواء المندفع مع السرعة العالية‪ ،‬بطرد‬
‫معظم جحافل الذباب المهاجمة‪ ،‬ولكني لم أتحمل حتى النهاية‪.‬‬
‫وفي منتصف الطريق كانت روحي قد بلغت الحلقوم‪ ،‬لم أستطع الصمود‬
‫أكثر أمام مضايقات العدد المتزايد من الذباب الذي لم يستطع الهواء‬
‫طرده‪ ،‬واضطررت للتوقف على جانب الطريق للحظات واستخدام نظارة‬
‫السباحة‪ ،‬والتي أخرجتها من حقيبتي الرياضية‪ .‬وشغلت فمي بسيجارة‬
‫مشتعلة أخذت أنفس دخانه في غضب‪.‬‬
‫قطعت المسافة الفاصلة عن عيادة الدكتور (راغب مهران) في وقت قياسي‬
‫وعن طريق الهاتف المحمول‪ ،‬أخبرت الطبيب بما حدث فشرع في إعداد‬
‫غرفة العمليات‪ ،‬كما أخبرته بمشكلة الذباب‪ ،‬ورغم تعجبه وتهيبه إال أنه‬
‫تجاوز عن األمر بصعوبة غير مصدق‪ ،‬وقال أنه سيعد العدة‪.‬‬
‫لم يتوقع الدكتور مهران مقدار اإلصابة وال حجم الذباب‪.‬‬

‫‪- 018 -‬‬


‫ولكنه قام بعمل أسطوري في تلك األجواء العجيبة‪ ،‬إنها الجراحة األولى‬
‫تماما‪ ،‬وفي‬
‫التي يقوم بها وسط مبيدات الحشرات‪ ،‬وفي أجواء غير معقمة ً‬
‫النهاية أنقذ نجيب الذي تحطمت نصف عظامه‪ ،‬وفقد بصره جراء ارتطام‬
‫وجهه بشبكة السيارة األمامية‪.‬‬
‫اعتصرني تأنيب الضمير‪ ،‬ولم أقو على منع دموعي من الهطول وأنا أتذكر‬
‫بسمته الطفولية وحكايته التي ال تنقطع عن أبيه وقسوته‪..‬‬
‫واسيت نفسي بأنه على األقل مازال حيًا‪ ،‬وهو دون شك سيحتاج لوقت‬
‫طويل ليستوعب الصدمة‪ ،‬ولكني أعرف أنه سيتجاوزها‪.‬‬
‫المصيبة الكبرى في كيف سنخبر والديه بما حدث‪ ،‬وأشار علي دكتور‬
‫راغب بأن أؤجل األمر قليالً حتى يتسنى نقله من العيادة ليبعد عن نفسه أي‬
‫مشكلة‪ ،‬كما أنه اآلن في حالة خطرة لن تسمح بنقله‪.‬‬
‫وافقته على هذا الحل ألنه كان قريبًا مما كنت أفكر فيه‪ ،‬ثم أسداني دكتور‬
‫راغب خدمته األخيرة‪ ،‬حيث قام بعزل نجيب في غرفة خاصة تم تخصيصها‬
‫له في طرف فيلته التي يستخدمها كعيادة‪ ،‬والتي كانت تستعمل كمخزن‬
‫ألدوات الحديقة وبعض األشياء األخرى‪.‬‬
‫تكلفت هذه الغرفة المجهزة مبلغًا فلكيًا‪ ،‬ولم أتوان في دفعه فآخر شيء‬
‫أفكر فيه اآلن هو النقود‪ .‬وخالل اثنتين وسبعين ساعة كان قد تم نقل‬
‫نجيب إليها والذي بدأ يعود إليه وعيه‪.‬‬
‫‪- 019 -‬‬
‫لم تكن غرفة عادية‪ ،‬وبالتالي تجهيزاتها‪ ،‬فقد طليت بطالء أزرق وهو أكثر‬
‫لون يكرهه الذباب بعد أن خلط بمادة كيماوية عديمة الرائحة ذات تأثير‬
‫طارد للحشرات‪ ،‬وتم تزويدها من الخارج بجهاز ذبذبات مخصوص أرسله‬
‫أحد زمالء دكتور راغب من ألمانيا بالبريد السريع يطلق ذبذبة تؤذي‬
‫وأخيرا األبواب والشبابيك العازلة والتي تشبه أبواب الثالجات‪.‬‬
‫الذباب‪ً ،‬‬
‫من يفكر أن خمسة أيام فقط هي التي مضت على وقوع الحادث وإنشاء‬
‫الغرفة‪ ،‬سيعرف دون شك أن النقود تصنع المعجزات‪ .‬إنها عصا ساحر‬
‫العصر الحديث‪.‬‬
‫وفي اليوم السادس طلب دكتور نجيب استشارة بعض زمالئه من علماء‬
‫الحشرات في ألمانيا وقرر بعضهم القدوم لمشاهدة الحالة وإسداء النصيحة‬
‫مع ملك الذباب هذا‪ ،‬واقترح عليه أحدهم استخدام بعض النباتات آكلة‬
‫الحشرات حول الغرفة لتقلل من تكاثفها‪ .‬وتم األمر بالفعل‪ ،‬ولكن أيًا من‬
‫هذه الحلول لم ِ‬
‫يأت بالنتيجة المرجوة ‪.‬‬
‫الذباب كان يصنع ستارة كثيفة حول الغرفة وكأنها خلية نحل وليست مجرد‬
‫غرفة‪ ،‬واضطرت الممرضة المكلفة بمباشرة حالته‪ ،‬الرتداء زي أشبه بزي‬
‫المتعاملين مع النحل‪ ،‬وكانت تدخل لممر فاصل معزول يقودها صوب‬
‫الغرفة‪ ،‬وما يصحبها من ذباب تقضي عليه مباشرة بالمبيد قبل أن تدخل‬

‫‪- 011 -‬‬


‫لتمنح نجيب الدواء والغذاء الموضوع في علب بالستيكية خاصة محكمة‬
‫الغلق‪.‬‬
‫لم تكن الممرضة تخفي ضيقها وتبرمها من ذلك المريض الجاذب للذباب‪،‬‬
‫برغم الراتب اإلضافي الذي كانت تحصل عليه مني‪ .‬وإن لم يستمر األمر‬
‫على منواله للنهاية‪.‬‬
‫وفي اليوم السابع كانت المفاجأة‪.‬‬
‫فعندما أقبلت إلى عيادة الدكتور راغب‪ ،‬حامالً معي البيتزا التي يعشقها‬
‫نجيب والتي قمت بوضعها بداخل حقيبة مخصصة تحفظها ساخنة ومعزولة‪،‬‬
‫وقمت بقطع الممر الفاصل المؤدي إلى غرفة نجيب لم أسمع الطنين‬
‫المميز ألسراب الذباب‪ ،‬والذي ال ينقطع ليل نهار وعندما ظهرت الغرفة‬
‫لناظري‪ ،‬اتسعت عيناي من المفاجأة‪.‬‬
‫لقد ذهب الذباب !!‬
‫ذهب بغير رجعة‪ ،‬تلك الستارة الكثيفة التي كانت تحيط بالغرفة إحاطة‬
‫السوار بالمعصم‪ ..‬تالشت نهائيًا‪.‬‬
‫لم أستطع أن أسيطر على نفسي من السعادة‪ ،‬وأطلقت صيحة فرح‪ ،‬وكدت‬
‫أن أقفز ألعلى من الفرح‪ ،‬قبل أن أندفع كالصاروخ نحو غرفة نجيب‬
‫المغلقة‪ .‬وهناك كانت تنتظرني مفاجأة أكثر وطأة وقسوة‪.‬‬

‫‪- 010 -‬‬


‫ففراش نجيب كان خاليًا ووسائده ممزقة وأحشاؤها متناثرة في كل مكان‪،‬‬
‫وكأن هناك من مزقها متعم ًدا‪ .‬والشراشف غارقة في كمية هائلة من الدماء‪،‬‬
‫وأثار الدماء توحي بأن هناك‪ ،‬معركة نشبت فوق الفراش‪ ،‬وأن هناك من انتزع‬
‫انتزاعا من فوق الفراش‪ ..‬قبل أن يجره صوب الجدار المقابل لتنتهي‬
‫نجيب ً‬
‫اآلثار والدماء هناك‪ ،‬وكأنه طار إلى السماء أو ذاب في العدم أو ابتلعه‬
‫خاليا‪ ،‬ملتص ًقا‬
‫الحائط‪ ..‬وعلى الجدار المقابل كان القميص البرتقالي ً‬
‫بالحائط ومحترقًا من الوسط‪ ،‬وآثار االحتراق على هيئة وجه مخيف له قرون‬
‫وأنياب حادة‪.‬‬
‫لم أستطع التحكم في معدتي فتقيأت ما بها من طعام‪.‬‬
‫وعندما انتهيت‪ ،‬ومن وسط عيني الغارقتين في الدموع‪ ،‬لمحت على الجانب‬
‫البعيد من الفراش‪ ،‬الممرضة (سهى) ملقاة على األرض في وضع غير مريح‬
‫وفاقدة للوعي ‪.‬‬
‫ثم رأيت ما أثار ذعري‪.‬‬
‫فعلى الحائط القائم خلفها‪ ،‬وبالدماء الحمراء التي تخص نجيب دون شك‪،‬‬
‫والتي تحولت للون قاتم فوق الطالء األزرق كانت العبارة المخيفة التالية‬
‫مكتوبة ‪:‬‬
‫‪ -‬الثاني يتالشى في اليوم السادس‪.‬‬

‫‪- 011 -‬‬


‫‪20‬‬

‫اللعنة الثانية ‪ -‬الرغبة‬

‫عرفها دانتي ‪ :‬الحب الطبيعي لآلخرين يتحول إلى عاطفة آثمة‪ ،‬يغلب فيها‬
‫حب البشر على حب اآللهة‪ ..‬مرتبطة بأمير الجحيم أزمودياس‬
‫‪ Asmodeus‬واللون األزرق‪...‬‬

‫من أنا؟‬

‫أنا يا سيدي‪ ..‬أنا التي أحب بوصةً من اللحم‪ ..‬أكثر من ذراع من السمك‪.‬‬

‫‪- 011 -‬‬


- 011 -
‫‪ -‬التي رأت الشيطان ‪-‬‬
‫" لتعلو مملكة الهالوس والجنون"‪.‬‬
‫هذا هو ما حدثت به نفسي عندما سمعت ما رددته الممرضة (سهى ) بعد‬
‫أن استفاقت من غيبوبتها‪ ،‬وقد استحالت خصلة ال بأس بها من شعرها‬
‫الفاحم إلى اللون األبيض‪ ،‬وتشوه جانب وجهها األيسر بحروق مخيفة من‬
‫الدرجة الثانية‪ ،‬يصحبها إصابات غائرة مزقت لحم الوجه بعنف‪ ،‬و تبدو‬
‫واإلصابة وكأنها حدثت بأداة معدنية مسننة ذات أطراف حادة‪ ،‬مما يشي‬
‫بأن أي مجهود سيصرف على عمليات التجميل‪ ،‬هو جهد ضائع‪ ،‬لقد تشوه‬
‫وجهها بطريقة مريعة‪ ،‬والشيء المؤكد أن عقلها بات على حافة الهاوية‬
‫والخبال‪.‬‬
‫تقول سهى ‪:‬‬
‫ال أعرف لماذا غزت الشفقة قلبي تجاه هذا الصبي المعزول في غرفة‬
‫الحديقة‪ ،‬والذي ال يكف الذباب عن محاولة الوصول إليه ليل نهار‪ .‬وكأنه‬
‫قطعة الحلوى التي ستهب للذباب الخلود‪.‬‬
‫لم أستوعب الموقف في البداية‪ ،‬فما يحدث حولي هو شيء ينتمي لعالم‬
‫آخر ال أجيد قراءة مفرداته‪ ..‬فال يوجد مرض في الدنيا من الممكن أن‬
‫يجذب هذه األسراب الهائلة من الذباب‪ ،‬حتى الجروح المصابة بالتعفن‬

‫‪- 015 -‬‬


‫والغرغرينا ال تجذب هذه الكمية الهائلة من الذباب‪ ،‬والتي تكفي إلقالق‬
‫راحة مدينة بأسرها‪.‬‬
‫بكاء نجيب المتواصل هو السبب الرئيسي في اهتمامي به‪ .‬فالبكاء هو نقطة‬
‫ضعفي الكبرى‪ ،‬فقلبي الضعيف جعلني ال أتحمل أن أرى طفالً يبكي‪،‬‬
‫تماما‪ .‬نحيبه المتألم كان يمزق‬
‫وحالته المتدهورة هذه جعلته يشبه األطفال ً‬
‫نياط قلبي وإلحاحه المستمر في طلب الطعام كان يفتت كبدي‪ ،‬فكنت‬
‫أخالف أوامر الدكتور راغب وأمرر له بعض الطعام من حين آلخر‪ .‬لقد رأيت‬
‫فيه أخي الذي اختفى منذ اندالع الثورة ولم يظهر من حينها برغم وجود‬
‫تأكيدات على اعتقاله في أحد السجون الحربية‪ ،‬أعتقد أن كل البدناء‬
‫متشابهون ولكن نظرة عينيه الشبيهة بنظرة أخي ال يمكن أن أخطأها‪.‬‬
‫عندما منحته الدواء المسكن أخبرني صوته الباكي بما يريد‪ ،‬ونازعتني أمومتي‬
‫وقسم مهنتي‪ ،‬وفي النهاية تغلبت مشاعر األمومة بداخلي على كل شيء‬
‫آخر‪..‬‬
‫إنه مجرد طفل جائع !!‬
‫طفل يحتاجني وأنا لن أخذل من يحتاجني أب ًدا‪.‬‬
‫عندما كلفني الدكتور راغب باالنقطاع للعناية بنجيب‪ ،‬لم أشعر بأنه تكليف‬
‫قدر ما هو عقاب‪ ،‬ربما لم ينس دكتور راغب موضوع زجاجات المورفين‬

‫‪- 016 -‬‬


‫التي اختفت من عهدتي بعد‪ .‬وها أنا ذا وخالل مدة قصيرة‪ ،‬أرتكب الخطأ‬
‫الثاني بعصيان تعليماته‪.‬‬
‫المهم أنني تسللت إلى مطبخ العيادة الضخم المتخم بالطعام والشراب‬
‫وأحضرت له عدة أرغفة من الخبز الطازج‪ ،‬وثمرتي برتقال‪ ،‬ونصف دجاجة‬
‫مسلوقة‪ ،‬وشرعت في إطعامها له‪ ..‬وبعيون تكاد تقفز من محجريهما‪،‬‬
‫جلست أتابعه وهو يلتهم الطعام‪.‬‬
‫نهما مماثالً‪ ،‬وال معدة من الممكن أن تتقبل مثل هذه‬
‫لم أر في حياتي ً‬
‫الكمية من الطعام‪ .‬فقبل أن ينتهي يطلب المزيد‪ ،‬وقبل أن يبتلع القطعة‬
‫الحالية يريد القطعة التالية‪ ،‬إن هذا شيء مخيف بال شك‪ ،‬ولوال وجوده‬
‫بداخل السترة الجبسية لربما ظل يأكل حتى انفجرت معدته وأمعاءه‪.‬‬
‫المشكلة كانت في اإلخراج‪ ،‬فمع كل كمية الطعام هذه ال يبدو أن جهازه‬
‫اإلخراجي يعمل بكفاءة‪ .‬وهذا كان يمثل عبئًا إضافيًا علي‪ ،‬ولكني تقبلته‬
‫مقززا‪.‬‬
‫على مضض‪ ،‬فمن يبدأ فعل الخير عليه أن يتمه‪ ،‬مهما كان ً‬
‫الخالصة أني اعتبرت نجيب مسؤوليتي‪ ،‬وقررت أال أتخلى عنه أب ًدا‪ ،‬فربما‬
‫الخير الذي أقدمه هنا ينعكس على أخي هناك‪ ،‬فيرأف به سجانه ويمنحه‬
‫بعض الراحة وسط وصالت التعذيب التي ال تتوقف في المعتقل الحربي‬
‫المظلم‪.‬‬

‫‪- 017 -‬‬


‫في اليوم التالي‪ ،‬أحضرت له بعض الطعام المنزلي‪ ،‬فالسطو اليومي على‬
‫مطبخ العيادة سيسهل اكتشافه وربما يتسبب في طردي فالنظام هنا صارم‬
‫ج ًدا ودقيق‪ ،‬ولوال ثقة الدكتور راغب في لما مرت مشكلة المورفين على‬
‫خير‪.‬‬
‫المكان هنا لم يكن عيادة عادية كما يتأتى لتفكيركم عند ذكر لفظ عيادة‪،‬‬
‫بل إنه نوع خاص ج ًدا من المستشفيات والتي ال يرتادها إال شخصيات عامة‬
‫شديدة الخصوصية وبعض األثرياء الذين يفضلون الحجز في ذلك المشفى‬
‫الخاص‪ ،‬عن الذهاب ألي مستشفى شهير‪ ،‬فالدكتور راغب حول هذه الفيال‬
‫بالفعل إلى منتجع طبي متكامل‪ ،‬وال يقبل فيه إال حاالت محدودة‪ ،‬فهي‬
‫مستشفى خاصة لألثرياء والشخصيات المهمة‪ ،‬مكان يضمن السرية واألمان‬
‫وعدم تسرب األخبار التي قد تهز البورصة أو المطبخ السياسي‪.‬‬
‫وبرغم ذلك يصر دكتور راغب على إطالق اسم العيادة عليه‪ ،‬وبالطبع هو‬
‫يتقاضى مبالغ فلكية من قاطنيه‪ ،‬بل ويقبل بالعديد من الحاالت التي‬
‫يحرصون فيها على عدم تدخل الشرطة ولكن هذا الكالم ليس للنشر‪.‬‬
‫المهم أنني في ذلك اليوم وعندما انتهيت من اإلجراءات اليومية المقززة كي‬
‫أعبر لداخل غرفة الحديقة‪ ،‬والتي تحولت األرض حولها إلى سجادة بشعة‬
‫من الذباب الكثيف المحترق سيء الرائحة‪ ،‬بعد أن قام فهيم البستاني‬
‫باستخدام‪ ،‬اللهب في حرق كميات كبيرة منها ليتيح لي وسيلة آمنة للدخول‬

‫‪- 018 -‬‬


‫بعد أن تضاعفت أعداد الذباب باضطراد حول الغرفة‪ ،‬وسدت المدخل‬
‫تماما في مشهد مهيب‪.‬‬
‫ً‬
‫وفي اللحظة التي هممت فيها بعبور الممر المعزول محملة بالطعام وبضيقي‬
‫الشديد‪ ،‬فاجأتني الصرخة الهادرة‪ ،‬فهرعت مسرعة إلى داخل الغرفة وخلفي‬
‫تماما في القضاء عليه من لهفتي الستجالء‬
‫بعض الذباب الذي لم أنجح ً‬
‫األمر‪ ،‬إنها صرخة نجيب دون شك‪.‬‬
‫وعندما المست قدماي أرض الغرفة دارت الدنيا برأسي على الفور وطفقت‬
‫أفرك في عيني غير مصدقة‪ ،‬البد أنها تلفت أو أنني أحلم‪ ،‬أو شيء ما‬
‫أصاب العصب البصري فتوقف عن بث الصور الحقيقة إلى مخي‪،‬‬
‫واستبدلها بتلك المشاهد المروعة‪ ،‬فالغرفة نفسها لم تكن على هيئتها‬
‫الطبيعية أب ًدا‪.‬‬
‫تماما وحلت محلها أشجار سوداء هائلة‬
‫فالجدران زرقاء اللون تالشت ً‬
‫الحجم متفحمة الجذور يتصاعد منها الدخان دون توقف‪ .‬وفي الخلفية‬
‫سماء حمراء داكنة ال يتوقف البرق عن جرحها‪ .‬األرض نفسها كانت ترابية‬
‫ضا‪.‬‬
‫والتراب يتماوج طوال الوقت على شكل أعاصير صغيرة تطارد بعضها بع ً‬
‫أما المشهد الذي لن يفارق مخيلتي في يوم من األيام هو مشهد المذبح‪،‬‬
‫ففوق مذبح حجري أملس ملطخ بالسواد تمدد نجيب بال أي ضمادات أو‬
‫دعامات جبسية‪ ،‬عاري الجسد كيوم ولدته أمه‪ .‬منتصبًا أمامه وبارتفاع ثالثة‬

‫‪- 019 -‬‬


‫أمتار وقف الشيطان بقرنيه العظميين وذيله المشقوق الذي يتلوى كالثعبان‪،‬‬
‫حوارا عني ًفا يدور بينهما‪.‬‬
‫وفي يده شوكته الشهيرة‪ ،‬ويبدو أن هناك ً‬
‫لم أتحرك من مكاني قيد أنملة‪ ،‬حتى عندما رأيت العقارب الهائلة تخرج من‬
‫باطن األرض وتنفض التراب عن جسدها المخيف لتتجه نحوي بقيت في‬
‫مكاني‪.‬‬
‫ما يحدث أمامي أفقدني صوابي‪ ،‬ولم يترك لي هلعي أي رد فعل‪ ،‬فقط في‬
‫اللحظة التي هم الشيطان فيها بطعن نجيب بشوكته التي اشتعلت النيران في‬
‫مقدمتها‪ ،‬انتزعت من داخلي صرخة واهنة ألجبره على التوقف‪ ،‬وكان هذا‬
‫هو رد فعلي األخير‪.‬‬
‫فقد شقت الشوكة المتألقة الهواء في سرعة‪ ،‬لتلطم بحرابها المشتعلة جانب‬
‫وجهي األيسر‪ ،‬ألشعر بعدها بآالم ال تطاق‪ ،‬وكأن هناك من سكب الحمض‬
‫على وجهي‪.‬‬
‫لم أتحمل األلم المريع ألكثر من لحظة واحدة‪ ،‬ألفقد الوعي بعدها‪.‬‬
‫وألستيقظ اآلن‪ ،‬وهذا هو ما حدث بالتفصيل ودون زيادة أو نقصان‪.‬‬
‫ساد الصمت للحظات‪ ،‬حتى بدى كضيف ثقيل ينازعنا الغرفة‪ ،‬وأنا أحاول‬
‫مع الدكتور راغب استيعاب هذا الكم المذهل من األحداث الغريبة التي‬
‫قصتها سهى على أسماعنا‪ ،‬والتي ال تتفق مع شخصيتها وال ثقافتها‪ .‬كان‬
‫من الطبيعي أن أصدق ما قصته علينا بعد تلك التجربة المريعة التي مررت‬
‫‪- 051 -‬‬
‫بها في غرفة الشيخ ياسين‪ ،‬ولكن عقلي أبى أن يصدق ما سمعته منذ‬
‫لحظات‪ ،‬فكيف تقرر الشياطين فجأة أن تتجسد وتخرج من بعدها المظلم‬
‫لتواجه بعض البشر الواهنين‪ ،‬حقيقة تجسد الشيطان في العصور الغابرة ال‬
‫مراء فيها‪ ،‬ولكن اآلن‪ ..‬األمر صعب ج ًدا ال يتناسب مع روح العصر أو‬
‫التكنولوجيا‪.‬‬
‫ضا‪ .‬بل ويوحي بكارثة قادمة‪.‬‬
‫إن األمر غير قابل للتصديق ومخيف أي ً‬
‫كيف تبدلت حياتي على هذا النحو ؟! بل كيف سمحت باألمر من‬
‫األساس؟!‬
‫فبعد أن كنت أحظى خالل األشهر الماضية بليال حمراء وخضراء وبكافة‬
‫ألوان قوس قزح‪ ،‬وأقطف من ثمار الحياة ما يصيبني بالتخمة‪ ،‬ها أنا ذا في‬
‫رأسا من قدم‪ .‬أشياء لو حدثني عنها‬
‫خضم أحداث مشؤومة ال أعرف لها ً‬
‫شخص آخر‪ ،‬لطلبت منه على الفور صنف الحشيش الفاخر الذي يتعاطاه‪.‬‬
‫ماذا فعلت يا شيخ ياسين‪ ،‬وأي بوابات الجحيم قمت بفتحها ولماذا ؟!‬
‫الخيط الوحيد الموجود أمامي اآلن هو سهى‪ ،‬لذا فإنني سأتجاوز عن سوء‬
‫حالتها وأحاول أن أعرف أكثر‪ .‬هو تصرف غير إنساني ولكن ال مفر منه‪.‬‬
‫أي معلومة قد تفيد في هذا الوضع الملتبس‪ ،‬فربما ما أخبرتني به هو مجرد‬
‫هالوس ناتجة عن الصدمة‪ ،‬وهناك في تالفيف عقلها تكمن القصة‬
‫الحقيقية‪.‬‬
‫‪- 050 -‬‬
‫النقطة التي تحيرني هنا‪ ،‬إذا كان ما قصته هو مجرد اختالق وخيال جامح‪،‬‬
‫فأين ذهب نجيب ؟! وما هي طبيعة هذا الشيء الذي هاجمه‪ ،‬ولماذا ؟!‬
‫نفضت األفكار عن عقلي‪ ،‬وقررت أن أجرح الصمت الذي غلف الغرفة بعد‬
‫أن انتهت سهى من سرد قصتها‪ ،‬وهو الصمت الذي احترمه الدكتور راغب‪.‬‬
‫وقبل أن أشرع في نقاش سهى‪ ،‬فاجأتني هي‪ ،‬فقد زاغ بصرها وانقلبت‬
‫سحنتها وتحشرج صوتها وصرخت متضرعة ‪:‬‬
‫‪ -‬احرقوا الغرفة‪ ..‬احرقوها‪ ..‬إنها الثغرة التي تقود إلى حيث تسكن‬
‫الشياطين‪.‬‬
‫صدمتنا العبارة‪ ..‬ال‪ ..‬بل روعتنا وخلخلت قلوبنا من موضعها‪ ،‬فعدنا أنا‬
‫ودكتور راغب نتبادل النظرات الحيرى‪.‬‬
‫المشكلة أن الصدق جلي وواضح في كلمات سهى‪ ،‬فإما أن ما تقوله‬
‫حقيقي‪ ،‬أو أنها تؤمن بكونه حقيقي‪ ،‬في تلك الحالتين لم تكشف شيئًا من‬
‫الغموض المحيط باألمر‪ .‬إن كل الطرق تقود نحو المجهول‪.‬‬
‫ندت عن سهى آهة متألمة‪ ،‬فالتفتنا نحوها‪ ،‬قبل أن تكسر الصمت مرة‬
‫أخرى‪ ،‬وهي تنظر صوب الدكتور راغب‪ ،‬بلوعة ويأس متضخمين وبصوت‬
‫مذعور تساءلت وهى تتحسس الضمادة المحيطة بوجهها ‪:‬‬
‫مشوها إلى األبد ؟!‬
‫ً‬ ‫‪ -‬هل سيظل وجهي‬
‫وبكت قلوبنا حسرة‪ ،‬دون أن ننبس بكلمة‪.‬‬

‫‪- 051 -‬‬


‫‪ -‬العبق ‪-‬‬
‫أمجد اختفى‪!! ..‬‬
‫ال أحد يعرف عنه أي شيء‪ ،‬جيرانه يقولون إن أقاربه حملوه معهم إلى‬
‫بلدتهم الفيوم‪ ،‬ولم يتركوا خلفهم عنوانًا وال رقم هاتف يرشد إليهم‪ .‬لذا‬
‫فالبحث عنه اآلن سيكون بال طائل‪ .‬خاصة وأن الفيوم ليست مدينة صغيرة‪،‬‬
‫ومن السهل أن يذوب فيها أمجد للقرن القادم‪ .‬وهذه مصيبة جديدة‪ .‬لقد‬
‫يوما‪.‬‬
‫وضعنا أمجد في هذه المحنة ثم تالشى من حياتنا وكأنه لم يكن ً‬
‫المرة الوحيدة التي أذكر فيها وجود أمجد خالل األيام الماضية‪ ،‬عندما‬
‫زارني في ذلك الحلم الذي مررت به أثناء غفوتي بالسيارة ووجهني إلنقاذ‬
‫نجيب من خطر قريب‪.‬‬
‫هل التقيته فعال أم هو مجرد هذيان ؟!‬
‫العجيب أنني لم أكن وسيلة اإلنقاذ المنشودة‪ ،‬بل كنت األداة التي كادت‬
‫أن تودي بحياة نجيب لوال ستر اهلل ومهارة دكتور راغب وقتها‪.‬‬
‫أنا المخطئ‪ ..‬نعم أنا المخطئ‪ ..‬إنني سهل االنقياد ال تغرنكم تلك الثقة‬
‫المفرطة المرسومة على وجهي‪ ،‬إنها شبكة الصياد إليقاع ضحاياه من‬
‫النساء‪ .‬لو لم أكن سهل االنقياد لما سمحت لزيجتي األولى أن تفشل‪،‬‬
‫على يد بعض العاهرات‪.‬‬

‫‪- 051 -‬‬


‫من قال إن كل النساء تتشابه في النهاية كان عبقريًا فعالً‪ ..‬فكل المغامرات‬
‫التي خضتها أنبأتني بحماقتي‪ ،‬فلم تمنحني امرأة مهما همت بها أو تعلقت‪،‬‬
‫أكثر مما منحته لي زوجتي‪.‬‬
‫رب ما هي الرتابة أو الملل أو التوق لمغامرات زمن ولى وانقضى‪ ،‬إن الرجل‬
‫ضا بكونه مرغوبًا وأنه لم يصل لنهاية الطريق بهذه السرعة‪.‬‬
‫يريد أن يشعر أي ً‬
‫إن التعلق بامرأة واحدة كالتعلق بسيارة من السبعينات‪ ،‬ربما هي تتوافق مع‬
‫حالتك المزاجية والنفسية ولكنها أصبحت أقل كفاءة وتقبالً في الواقع‬
‫المنطلق بسرعة الصاروخ‪.‬‬
‫إنني أفتقد للشعور بالرضى‪ ،‬وهذا هو ضعفي الكبير‪ ..‬وذلك الضعف في‬
‫شخصيتي هو ما جعلني ال أفكر قبل أن أقدم على حماقات كثيرة‪.‬‬
‫سواء في إنهاء زواجي‬
‫الخالصة أنه لم يكن علي أن أطيع ذلك الهاجس‪ً ،‬‬
‫أوفي اتباع نصيحة أمجد‪.‬‬
‫الشيء الغريب فعالً‪ ،‬هو كيف آمنت لحظتها بكون األمر رؤيا حقيقية‪،‬‬
‫وليس مجرد حلم عابر ينفس به عقلي الباطن عن الضغط العاتي الذي‬
‫تعرضت له طوال األيام السابقة‪.‬‬
‫ثم كيف عرفت الطريق بهذه الدقة‪ ،‬وكيف يتزامن وصولي مع قطع نجيب‬
‫للطريق ؟!‬

‫‪- 051 -‬‬


‫طابعا‬
‫مدبرا من قبل قوى عليا‪ ،‬أم هو سوء الحظ عندما يتخذ ً‬
‫هل كان األمر ً‬
‫خارقًا ؟!‬
‫اللعنة‪ ..‬كل سؤال يقود آلخر في هذه الدائرة الجهنمية‪.‬‬
‫بناء على بوصلتي الداخلية الحمقاء وهذا يكفي اآلن !!‬
‫لقد تصرفت ً‬
‫األمر كله سوء حظ‪ ،‬فقط تجمعت قطع البازل في توقيت سيء‪ ،‬والدليل‬
‫على هذا أنني لو عدت بذاكرتي لتفاصيل هذا الحلم لتأكدت من كونه‬
‫كابوسا وليس رؤيا‪ ،‬فأمجد نفسه كان يقف على سفح بركان مشتعل والدماء‬
‫ً‬
‫تغلي في عروقه‪ ،‬وتغرق جسده‪ ،‬والنيران تلتهم أطرافه‪.‬‬
‫ال أحد يقطن الجحيم‪ ،‬وينثر الزهور‪.‬‬
‫حقيقة ال أعرف ماذا أفعل اآلن‪ ،‬ما هو التصرف المنطقي الذي يعيد حياتي‬
‫لمجراها الطبيعي‪ ،‬كيف أنسى تلك التجربة المروعة بمنزل الشيخ ياسين‪،‬‬
‫وكيف أنسى اختفاء أمجد‪ ،‬وكيف أتجاهل ذلك الفحيح الشيطاني الذي‬
‫أحال حياتي لجحيم‪.‬‬
‫تحتاج ذاكرتي دون شك لحمض كاو كي يطمس كل هذه الذكريات‬
‫الشنيعة‪ .‬فكل شيء حولي غامض‪ ،‬ويقودني نحو عالم ال أستوعبه نهائيًا ‪-‬‬
‫الجن والشياطين ‪ -‬لقد أصبح عالمي يغص بهم هذه األيام‪ ،‬وكأن الهواء‬
‫نفسه قد تعبق بوجودهم‪.‬‬

‫‪- 055 -‬‬


‫المرة الوحيدة التي خضت فيها في دروب هذه العوالم المشؤومة‪ ،‬كانت‬
‫عابرة‪ ،‬وعلى سب يل الدعابة‪ ،‬مجرد قراءة كف‪ ،‬وقام بها ساحر أفريقي أسود‬
‫البشرة كالباذنجان يدعى ريحان وكانت هذه المرة في فيال صافيناز شاكر‪،‬‬
‫سيدة المجتمع الشهيرة والمعروفة بحفالتها شديدة الفخامة والبذخ والغرابة‪.‬‬
‫أعتقد أن صيحات الحفالت المختلفة التي يقوم بها األثرياء في مصر هذه‬
‫األيام‪ ،‬تنبع أوالً من فيلتها لتصير صيحة يتناقلها األثرياء‪ ،‬إنها هي من بدأت‬
‫موضة تصوير الحفالت وبثها على الهواء مباشرة على بعض تلك القنوات‬
‫الفضائية التي ال تعرف هدف فتحها من األساس‪.‬‬
‫تعشق صافيناز شاكر كل ماهو غريب وجديد ومبتكر‪ .‬إنه الملل الذي يتبع‬
‫الثراء الفاحش‪ .‬فوجود تالل من النقود تتزايد في كل لحظة‪ ،‬تجعلك ال‬
‫تشغل بالك إال بالبحث عن تلك األفكار الجديدة والمثيرة التي تمنحك‬
‫تلك الهالة المخيفة التي تسمح لك بالسيطرة على من حولك‪ ،‬وأي فكرة‬
‫مهما كانت مجنونة فهي قابلة للتنفيذ على الفور‪ ..‬فالنقود تصنع المعجزات‬
‫في هذه األيام‪.‬‬
‫وصافيناز شاكر من أصول تركية‪ ،‬لذا فإن لديها ذلك الرأس الصلب واإلرادة‬
‫التي ال توهن والعزم الذي ال يلين‪.‬‬
‫هي من أصرت على أن يقوم ريحان بقراءة كفي لمعرفة طالعي‪ ،‬وقد أخبرتها‬
‫وقتها أن طالعي سيء وال يحتاج لمنجم ليخبرني به‪ .‬فقد كنت قد انفصلت‬

‫‪- 056 -‬‬


‫عن زوجتي منذ أيام معدودة‪ ،‬ولكنها كانت مصرة كعلقة من النوع مصاص‬
‫الدماء‪ ،‬إن العرق التركي بداخلها جعلني أوقن أن الخالص منها لن يكون إال‬
‫بالموت‪ ،‬فوافقت على مضض‪ ،‬وروحي متشبعة بضيق بال حدود‪ .‬ثم جاء‬
‫ريحان ليزيد الطين بلة‪.‬‬
‫ال أعرف لماذا كرهته من النظرة األولى‪ ،‬هناك لزوجة عجيبة تحيط بأرواح‬
‫هؤالء المشتغلين في حقل السحر سواء أكانوا صادقين أو دجالين‪.‬‬
‫لزوجة جعلتني أنفر منه ومن ملمس يديه الشبيه بجلد الثعبان‪ .‬شعرت بأن‬
‫مجرد لمسته لي انتهاك لخصوصيتي وقدسية جسدي‪ ،‬ولكني قررت التحمل‬
‫أك ثر فأنا أدين لصافيناز بالكثير‪ ،‬وطالما جعلتني مهرج الحفل لهذه الليلة‬
‫فعلي أن أطيع‪.‬‬
‫لذا فإنني تركت كفي لريحان ليمارس شعوذته‪ ،‬مع شعور عارم بالنفور يتزايد‬
‫في كل لحظة‪ ،‬وعندما قبضت يد ريحان األبنوسية على يدي ونظر بعينيه‬
‫الضيقتين كثقب اإلبرة إلى خطوط كفي حدث شيء غريب‪.‬‬
‫لقد ارتجف‪ ..‬نعم ارتجف وبدا عليه الذعر‪ ،‬وطلت من عينيه نظرة سوداء‬
‫مخيفة‪ ،‬ورفض أن يكمل قراءة كفي‪ .‬ونالته مني نظرة ساخرة محرقة من نوع‪:‬‬
‫‪ -‬هل تعتقدني غر ساذج أيها الدجال القادم من مجاهل أفريقيا ؟! لقد‬
‫كشفت أسلوبه من اللحظة األولى‪.‬‬

‫‪- 057 -‬‬


‫إنه يمارس تلك األالعيب المفضوحة التي نسيها عالم الدجل منذ قرون‪.‬‬
‫التردد واإلحجام ثم النبوءة‪ ..‬هلم أيها الدجال ال نريد منك إال جملة‬
‫مسجوعة لينفض السيرك‪.‬‬
‫هل كذبت وصدقت كذبتك‪ ،‬وستبالغ في رفضك‪ ..‬هيا ال تكن ثقيل الظل‪.‬‬
‫حقيقة أنا ال أؤمن بمعظم دروب السحر وفنونه‪ ،‬وخاصة تلك التي تتبخر‬
‫فور انصراف الساحر‪ .‬وأؤمن أنها مجرد خدع متقنة وخفة يد ال أكثر‪،‬‬
‫ناهيك عن أن معظمهم نصابين‪ ،‬يكفيك فقط أن تفتح صفحة الحوادث‬
‫لتتسع عينيك دهشة من أعدادهم التي تفوق أعداد الجراد‪.‬‬
‫الساحر الحقيقي لن يحضر الحفالت المماثلة ليقرأ الكف مقابل حفنة من‬
‫األوراق المالية‪ ،‬ولن يظهر على شاشة التلفزيون ليقوم ببعض الحيل‬
‫مجهودا في أن يصير زعيم‬
‫ً‬ ‫الساذجة‪ ..‬الساحر الحق هو الذي لن يجد‬
‫العالم ويمتلك خزائن كنوز األرض‪ ،‬ويصل لنبع الشباب والخلود‪.‬‬
‫أما هؤالء المتسولون فال يحظون مني بأي احترام‪ ،‬لقد جاريتهم فقط إلضفاء‬
‫بعض المرح على جو الحفل الرسمي‪ .‬فرشاد الدنجوان الشهير البد وأن‬
‫يمارس كل الحماقات التي تغري الفتيات بالتعلق به وفي نفس الوقت يرضي‬
‫هفوات صافيناز شاكر‪ .‬إنها قواعد هذه الحفالت‪ .‬وأنا أتيت بكامل إرادتي‬
‫الحرة‪.‬‬

‫‪- 058 -‬‬


‫برغم كل ما قصصته عليكم وصدعت به رؤوسكم‪ ،‬وإيماني الشديد بكون‬
‫ريحان نصاب آخر‪ ،‬لكني لن أخفي شعوري لحظتها‪ ،‬فاألمر لم يكن‬
‫بالبساطة المتوقعة‪ ،‬فريحان ساحر ومشعوذ وله مريدوه‪ ،‬وتأثيره الذي جعله‬
‫‪ -‬وهو األقرب للشحاذين ‪ -‬يحظى بمكانة رفيعة في حفل صافيناز شاكر‬
‫ال ينكره إال أعمى‪ ،‬كما أنه قد أتى من مجاهل أفريقيا السمراء حيث السحر‬
‫األسود مازلت ن بتته تتمسك باألرض مقترنة بسحر الكاباال اليهودي‪ ،‬وحيث‬
‫إرضاء آللهة السحر الوثنية‪ ،‬كما أن‬
‫ً‬ ‫مازالوا يقتلون األطفال على المذبح‬
‫إيمان من حولي به والنظرة الخرساء على وجوههم‪ ،‬فور إحجامه عن قراءة‬
‫كفي جعلت شيئًا من الذعر يتسلل بداخلي وإن أخفيت األمر على من‬
‫حولي بقناع من السخرية والبرود‪.‬‬
‫إن التوافق الجمعي مسيطر وموح‪ .‬لذا فإنني تجاهلت الجميع ورسمت على‬
‫وجهي ابتسامة ساخرة‪ ،‬وأشحت بيدي في المباالة‪ ،‬وكأن ما توقعته يحدث‪،‬‬
‫وإن تمنيت بأعماقي أال يستجيب المشعوذ لضغط صافيناز‪ ،‬كي تبقى هالة‬
‫الغموض التي صنعتها كلمات ريحان من حولي‪ .‬تلك الهالة التي قد تجذب‬
‫فراشات منبهرات حتى غرفة نومي‪.‬‬
‫كاد األمر أن ينجح ويمر مرور الكرام‪ ،‬لوال ذلك العرق التركي اللعين‪،‬‬
‫الموجود في حمض صافيناز النووي‪.‬‬

‫‪- 059 -‬‬


‫فقد أصرت صافيناز على أن يقوم ريحان بقراءة كفي‪ ،‬ورفض هو عدة‬
‫مرات‪ ،‬ولكنها قست عليه‪ ،‬حتى شعرت ببعض الشفقة نحوه‪ ،‬إن الحيوان‬
‫الذي سقط بين فكي التمساح الهائلين البد وأنه شعر بشعور مماثل وهو‬
‫يحتضر‪ ،‬وعلى مضض أعاد ريحان النظر في كفي وعلى وجهه ارتسمت آثار‬
‫المعاناة‪ ،‬وكمن ينتزع روحه من جسده قال ‪:‬‬
‫‪ -‬طالعك نحس‪ ..‬وروحك أسيرة الظالم‪ ..‬لو كان األمر بيدي الخترت لك‬
‫الموت‪ ..‬لكن الموت راحة‪ ..‬ومثلك سيشقى إلى األبد‪.‬‬
‫شعرت لحظتها برعب عات ارتسم على وجهي للحظة‪ ،‬مما أثار شهية‬
‫صافيناز شاكر للضحك‪ ،‬فأطلقت لحظتها ضحكة ماجنة ماكرة‪ ،‬ثم جرت‬
‫ريحان من يديه وهي تردد ‪:‬‬
‫‪ -‬أيها الشقي‪ ..‬لقد أثرت ذعره‪.‬‬
‫ال أعرف لماذا تذكرت هذه الحادثة اآلن‪ .‬هل بدأت أؤمن بتلك األشياء ؟!‬
‫حقيقة‪ ،‬إن االقتناع بالخرافات ال يحتاج ألكثر من الوقت المناسب‪.‬‬
‫****‬

‫‪- 061 -‬‬


‫‪ -‬طق‪ ..‬طق‪ ..‬طق‪.‬‬
‫في المساء وعندما سمعت طرقات الباب‪ ،‬كان عقلي مازال مشغوالً باختفاء‬
‫نجيب وأمجد‪ .‬وبنبوءة ريحان‪ ،‬وبتلك العبارة التي وجدتها منقوشة على‬
‫الحائط في غرفة الحديقة بالدم‪.‬‬
‫‪ -‬الثاني يتالشى في اليوم السادس‪.‬‬
‫إنها تيمة شهيرة استخدمت في العديد من األفالم والروايات التي تدور حول‬
‫القتلة المتسلسلين‪ ..‬ما عالقتي أنا بأي قاتل متسلسل‪ ،‬وهل هناك في‬
‫العوالم الشيطانية‪ ،‬قتلة متسلسلون لديهم هوس نفسي ؟!‬
‫سواء أكان‬
‫ثم ما أهميتي أنا وهذه الشلة المخبولة‪ ،‬ليتبعنا قاتل متسلسل ً‬
‫بشريًا أو شيطانًا‪ ،‬ثم من قال إن نجيب قتل من األساس‪ .‬الدماء ال تعني أب ًدا‬
‫أنه قتل‪ ،‬ربما هو مصاب في مكان ما‪.‬‬
‫ماذا حدث بالفعل في غرفة الشيخ ياسين ؟!‬
‫هل أصبنا بلعنة ما ؟!‬
‫هل سأتالشى مثلما حدث مع نجيب‪ ،‬وهل اختفاء أمجد مبرر ؟!‬
‫ضبطت نفسي أناقش هذه الخواطر المريضة مع نفسي وأتعمق في تفاصيلها‬
‫أكثر وأكثر‪ ،‬فعرفت أن عقلي يئن بالفعل من اإلرهاق‪ ،‬لقد اختلط كل شيء‬

‫‪- 060 -‬‬


‫ببعضه بداخله‪ .‬وربما احترقت بداخله خاليا كثيرة لم تستطع أن تفك تلك‬
‫الطالسم التي تحيط بي‪.‬‬
‫القتلة مع الشياطين مع اإلرهاق وقلة النوم‪ ،‬توليفة مميزة تقود بخطى حثيثة‬
‫نحو االكتئاب والذي سيسحبني بدوره لدروب االنتحار المعبدة‪.‬‬
‫‪ -‬طق‪ ..‬طق‪ ..‬طق‪..‬‬
‫الطرقات من جديد‪ ،‬هل هناك من يحاول هدم أعمدة عقلي ؟!‬
‫‪ -‬طق‪ ..‬طق‪ ..‬طق‪..‬‬
‫هذه الطرقات‪..‬‬
‫أخيرا إلى أن هذه الطرقات ال تنبع من داخلي‪ ،‬ولكن تأتي عبر باب‬
‫تنبهت ً‬
‫الشقة‪ .‬فقمت بروح منقبضة ألفتح‪.‬‬
‫صباحا‪ .‬من الذي سيأتي لزيارتي في مثل‬
‫ً‬ ‫الساعة في الصالة تشير إلى الثالثة‬
‫هذا الوقت ؟!‬
‫عندما فتحت الباب‪ ،‬هبت علي نسائم الجنة‪ ،‬واجتاحني العبق‪ ..‬عطر ساحر‬
‫قطفت أزهاره من بساتين الجنة‪ .‬أدار رأسي للحظات فوصلت بنشوتي‬
‫للذروة دون نساء ودون مداعبة‪ .‬ثم تنبهت لتلك الحورية المذهلة ذات‬
‫الجسد الممشوق المستندة إلى حافة الباب‪ .‬ففغرت فاهي ووقفت‬
‫كالمشدوه أتطلع في عينيها إلى كل أسرار الدنيا‪.‬‬

‫‪- 061 -‬‬


‫ما هذا الجمال ؟!‬
‫ما هذه الفتنة ؟!‬
‫هل يتحمل كوكب األرض هذا الدالل كله‪ ،‬فال تنصهر نواته الحديدية‪.‬‬
‫األنوثة مقطرة‪ ..‬الفتنة مجسدة‪ ..‬إنها المرأة التي يخشى وجودها كل‬
‫العشاق‪ ..‬فبهبوطها على األرض ستنهار قصص الحب‪ ،‬وسيلهث خلفها‬
‫الرجال‪ ،‬وستلعنها النساء وهن يحتضن الوسائد وحيدات باكيات‪.‬‬
‫معيارا‪ ،‬وهي تخطت كل المعايير‪.‬‬
‫إن لألنوثة ً‬
‫هل دار بيننا حوار ؟!‬
‫هل عرفت سبب قدومها في مثل هذا الوقت المتأخر ؟!‬
‫هل جالستها حتى الصباح ؟!‬
‫هل تمرغت بين ذراعيها على سطح القمر ؟! هل تناولنا نجمتين بطعم‬
‫الكروم المثلج ؟! هل رسمنا األمنيات على أجسادنا العارية ؟! هل سبحنا‬
‫في بحيرات العطر‪ ،‬وامتزجنا حتى انصهر الكون من حولنا ؟!‬
‫ربما‪..‬‬
‫إذن أين ذهبت ؟!‬
‫لقد ظهرت كقمر وتالشت كحلم رائع‪.‬‬

‫‪- 061 -‬‬


‫عبقها فقط هو الباقي‪ ،‬كقلب زهرة فواحة‪.‬‬
‫عبقها فقط هو المهيمن‪ ،‬وهو الذي احتل صدري وأنفاسي‪.‬‬
‫عبقها فقط هو الذي يفوح من شقتي ومالبسي‪ ،‬وعالمي بالكامل‪.‬‬
‫لقد سحرتني ثم ذهبت‪.‬‬
‫فكيف لم تذهب روحي خلفها ؟!‬

‫‪- 061 -‬‬


‫‪ -‬الحبة الزرقاء ‪-‬‬
‫اللون األزرق هو آخر األلوان زواالً من قوس قزح‪.‬‬
‫اللون األزرق هو لون طالء شفتيها‪ .‬ولون ردائها الحريري ولون عينيها‪ .‬ولون‬
‫سيارتها‪ ،‬ولون عالمها كله‪ .‬إن البحر هناك والسماء كذلك‪.‬‬
‫اللون األزرق هو لون الحياة ولون الرغبة‪.‬‬
‫وهي كانت تهيم باللون األزرق‪.‬‬
‫فيروز‪ ..‬كان اسمها‪ ،‬وفي معجم األسماء هو حجر كريم أزرق يميل‬
‫للخضرة‪..‬‬
‫قابلتها ذات مساء بالقرب من مقهى (ستار بكس) المهندسين‪ ،‬الوقت كان‬
‫متأخرا وسيارتي الجديدة تعطلت وأصبحت كتلة معدنية صماء‪ ،‬والشوارع‬
‫ً‬
‫منذرا بليلة‬
‫خلت فجأة من سيارات األجرة‪ ،‬ثم سطع البرق وتاله الرعد ً‬
‫سوداء أخرى‪ .‬وتصادف أن تشابهت وجهتينا‪ ،‬وفي الطريق تشابكت رغباتنا‪،‬‬
‫وفي النهاية استضفتها لقضاء الليلة بمنزلي‪.‬‬
‫ووسط العبق الذي فاق كل أنواع المخدرات من نباتات وكيمياء‪ .‬دارت‬
‫معركة أسطورية‪ ،‬ارتشف كل منا من رحيق اآلخر‪ ،‬حتى أضاءت روحه‬
‫وتبدلت شخصيته فطلب األبدية‪.‬‬
‫إن العبق ال يمنح فقط‪.‬‬

‫‪- 065 -‬‬


‫ضا في الثمن‪.‬‬
‫إن العبق يرغب أي ً‬
‫لم تكن فيروز هي األولى لهذه الليلة بل كانت الخامسة‪ .‬وربما العشرين‬
‫خالل األيام القليلة الماضية‪.‬‬
‫العبق يطلب‪.‬‬
‫العبق يوجه‪.‬‬
‫العبق يخفي رائحة األجساد المتراصة في الغرفة الشرقية‪.‬‬
‫العبق يأمر‪ .‬وأنا أطيع‪.‬‬
‫كانت قد مرت خمسة أيام على اختفاء نجيب‪ ،‬وثالثة أيام على ظهور تلك‬
‫الفاتنة في حياتي‪ .‬والتي جعلتني رؤيتها أهيم في عالم مظلم من البحث‬
‫والتقصي‪ .‬إنه ذلك اإلحساس الكامل باالحتواء‪.‬‬
‫أتمنى لو أقضي معها ليلة أخرى‪ ..‬ليلة وحيدة تمنحني فيها النشوة واالكتفاء‬
‫ثم أموت‪.‬‬
‫كل النساء الالئي قابلتهن طوال األيام السابقة‪ ،‬لم يعوضنني عنها ولم يصلوا‬
‫بي للنشوة المنشودة‪.‬‬
‫إنه االحتياج الذي يفوق كل أنواع اإلدمان األخرى‪.‬‬
‫هل كانت هنا ح ًقا ؟!‬

‫‪- 066 -‬‬


‫إن حياتي تتبدد من دونها‪.‬‬
‫ال توجد أنثى ترويني وال تشبعني سواها ؟!‬
‫ال يوجد طب قادر على منحي الدواء‪.‬‬
‫إنها لعنتي األبدية‪.‬‬

‫حاولت أن أقنع نفسي أن األمر كله مجرد وهم‪ ،‬ال توجد امرأة بهذه المواصفات‬
‫الفائقة‪ ،‬كل ما مر بي حلم جميل من تأثير المخدرات والفودكا وكنت أقتنع لفترة‬
‫قصيرة‪ ..‬إال أن هذه الثقة سرعان ما كانت تتالشى عندما أعود لشقتي وأتنسم‬
‫العبق الساحر الذي غمرت به عالمي كله‪ ..‬فال توجد قطعة من ثيابي ال تفوح‬
‫برائحتها وال توجد قطعة من األثاث لم تتشبع بأريجها‪ ،‬الجدران نفسها تفوح‬
‫بالعبق‪ .‬إنه العطر الذي يفوق كل عطر آخر صنع على يد البشر‪.‬‬

‫حتى ذلك العطر فائق الكمال الذي صنعه جان باتست جرنوي بطل رواية (العطر‬
‫‪ :‬قصة قاتل) وجعل الجماهير تراه كمالك هبط على األرض فتمزقه وتلتهمه من‬
‫كثرة تعلقها به وتقديسها له وانبهارها برائحته‪ ،‬لن يصل لعبقه قط‪.‬‬

‫إنه خالصة الزهور والنجوم ورائحة النساء المقطرة‪.‬‬

‫إنه العبق الذي يثير الشهوة ويدعو للنشوة والمتع المحرمة‪.‬‬

‫إنه السحر الذي هبط على الملكين ببابل هاروت وماروت‪.‬‬

‫إنه العبق‪.‬‬

‫****‬

‫‪- 067 -‬‬


‫عندما رأيت فيروز عارية أمامي‪ ،‬بعد أن نزعت تلك الغاللة الزرقاء التي‬
‫أرضا من االنبهار‪.‬‬
‫كانت تخفي ما تبقى من جسدها‪ ،‬كدت أسقط ً‬
‫بعض النساء ال تتخيل أب ًدا أنهن يغادرن قلب المحارة‪ ،‬أو يسيرن بين‬
‫البشر‪ ،‬أو يأكلن ويشربن‪ ..‬هن فقط خلقن ليعلمننا معنى السحر واألنوثة‬
‫واالنصهار‪ ..‬وهي‪ ..‬كانت ملكتهم‪.‬‬
‫عندما رأيتها شعرت بالضعف‪ ،‬ال يمكن لرجل طبيعي أن يرضي هذا النهر‬
‫المتدفق من األنوثة‪ ..‬ال يوجد بشري عادي من الممكن أن يروض هذه‬
‫الفتنة المتوحشة‪ ..‬إن لم يكن من نسل عاد الجبابرة ونسل عماليق‬
‫الحكايات‪ ،‬فعليه أن يتسلح بالحبة الزرقاء‪.‬‬
‫لن أكتفي بنصف حبة فقط‪ .‬إن العلبة تحتوي على أربع حبات‪.‬‬
‫حبة كاملة زرقاء‪ ..‬لملكة اللون األزرق‪.‬‬
‫فلتكن ليلة زرقاء‪.‬‬
‫البد أن النجوم التي تولدت عن لقائنا فاقت االنفجار األعظم‪ ..‬إني أسبح‬
‫وسط بحار النشوة وحدائق الشبق والمتعة حتى أني أتخيل نفسي هرقل‪،‬‬
‫أقف في قلب الفضاء ألمنع األرض والقمر من اللقاء‪.‬‬
‫‪ -‬حبة زرقاء أخرى‪.‬‬
‫العبق يتسلل لمسامات جسدي وجسدها‪.‬‬

‫‪- 068 -‬‬


‫العبق يسيطر عليها‪.‬‬
‫بل هو يفوح منها‪.‬‬
‫البد وأن النشوة المنشودة لن أصل إليها إال مع روحها‪.‬‬
‫‪ -‬حبة زرقاء أخرى‪.‬‬
‫إنني أقبض على عنقها العاجي بقوة‪.‬‬
‫أكبل جسدها بجسدي‪.‬‬
‫أعتصر شفتيها‪.‬‬
‫إن عينيها تتسع شب ًقا ونشوة‪.‬‬
‫دموعها تسقط من اإلثارة‪.‬‬
‫البد وأنها مارست الجنس من قبل والكيس البالستيكي فوق عنقها‪.‬‬
‫إنها تمور كالقطط‪.‬‬
‫‪ -‬حبة زرقاء أخرى‪.‬‬
‫تحاول أن تخدش وجهي بأصابعها كالحيوانات الضارية‪.‬‬
‫إنني أمنحها آخر لحظة متعة‪.‬‬
‫مع آخر قطرة حياة‪.‬‬

‫‪- 069 -‬‬


‫خمد العبق‪ ..‬فخمدت األنفاس‪ ..‬وسكن الجسد‪..‬‬
‫ومعها وصلت لذرة النشوة‪.‬‬
‫ثم اجتاحت جسدي نيران مستعرة وشعرت بأن قلبي سيتوقف من عنف‬
‫الضربات‪..‬‬
‫يا إلهي‪ ..‬هل تناولت الحبات األربع‪.‬‬
‫إنني أموووووووووووووت‪ ..‬أموت‪.‬‬
‫****‬
‫الجريدة المسائية الطبعة الثانية‪.‬‬

‫سفاح نساء جديد يظهر‪.‬‬


‫فبعد بالغ من الجيران عن سماعهم لصراخ امرأة تتألم‪ ..‬أمممم وبعد أن‬
‫تكررت البالغات‪ ..‬أممممم داهمت قوة‪ ..‬أمممم منزل رشاد البيومي‪..‬‬
‫أممم ثري‪. ..‬وتم العثور على ثالث وعشرين جثة‪. ..‬أمممم ولم يعثر له على‬
‫أثر‪ .‬وعلى الجدار الملطخ بالدماء كتبت عبارة غامضة ‪:‬‬
‫‪ -‬الثالث يتالشى في اليوم الخامس‪.‬‬
‫أممم ال أحد يعرف ماذا تعني‪ ..‬وقد‪... ..‬‬

‫‪- 071 -‬‬


‫‪11‬‬
‫اللعنة الثالثة ‪ -‬الجشع‬
‫عرفها دانتي ‪ :‬الحب الطبيعي للمتع الدنيوية تحول إلى رغبة جشعة في‬
‫تملك المحسوس وإهمال الروحاني‪ ..‬مرتبط بالشيطان مامون‬
‫‪Mammon‬واللون األصفر‪..‬‬

‫أنا الجشع‪ ..‬ولدت من فالح فظ في حقيبة جلدية‪ ..‬ولو استطعت أن أحقق‬


‫رغبتي لتحول هذا البيت وأنت والجميع إلى ذهب‪ ..‬بحيث يمكنني أن‬
‫أقفل عليكم في صندوقي‪ ..‬آه يا ذهبي الحبيب‪..‬‬

‫‪- 070 -‬‬


- 071 -
‫‪ -‬وساطة ‪-‬‬
‫يقول خليل ‪:‬‬
‫عندما أخبرتني سهيلة أن لها القدرة على الوساطة‪ ،‬تعجبت من هذه الكلمة‪،‬‬
‫وداعبتها متسائالً ‪:‬‬
‫‪ -‬واألخت تعرف شمهورش !!‪.‬‬
‫لكنها نظرت نحوي باستخفاف‪ ،‬ثم تحدثت بجدية وأسهبت‪ ،‬وأنا في عالم‬
‫آخر أتابع عبر زجاج الكوفي شوب ذلك الطفل الصغير الذي انهمك في‬
‫تفحص صندوق القمامة‪ ،‬ليخرج منه علب المشروبات المعدنية المنتهية‬
‫ليضعها في كيس بالستيكي كبير ممتلئ حتى منتصفه بتلك الكنوز المعدنية‪.‬‬
‫ودارت الفكرة في رأسي عن مقدار المكسب الذي يحصل عليه طفل مماثل‬
‫من جمعه لهذه األشياء‪ ،‬وقبل أن أقوم بحسبتي المعهودة سمعت صوت‬
‫سهيلة الرفيع يقول ‪:‬‬
‫‪ -‬ولكنها ليست الوساطة الروحية‪ ،‬إنها وساطة من نوع آخر ومختلف‬
‫ولكنها تحتاج نفس الشفافية‪.‬‬
‫متابعا لكل ما تقوله‪ ،‬وأنني أكاد‬
‫عندما صمتت‪ ،‬قررت أن أشعرها بكوني ً‬
‫أسقط من االنبهار‪ ،‬فقلت تلك الكلمة المعتادة ‪:‬‬
‫‪ -‬كيف ؟!‬

‫‪- 071 -‬‬


‫وتالها الرد الصادم الذي أعادني إلى عالم الواقع وأوقف تلك الحاسبة‬
‫الجهنمية الموجودة في رأسي‪ ،‬والتي تصر على معرفة مكسب طفل القمامة‬
‫من تجارة هذه المخلفات‪.‬‬
‫‪ -‬مخلوقات ال كواكب األخرى‪ ،‬سكان األبعاد الموازية‪ ،‬ذلك التدفق العقلي‬
‫الهائل القادم من مجرة ماجالن والذي ال أستطيع تحديد كنه طبيعته‪.‬‬
‫‪ -‬حالوتك‪..‬‬
‫سهيلة تدعي كونها على اتصال بمخلوقات العوالم األخرى التي تعيش عبر‬
‫األبعاد السبع‪ ،‬ونحن نعاني من االتصال في المناطق المتطرفة مع شبكات‬
‫االتصال الهزيلة‪.‬‬
‫كان يجب أن أعرف أنه مقلب مدبر من زياد‪ .‬ففتاة كسهيلة لن تقبل‬
‫ببساطة أن تخرج معي‪ ،‬لتلعب دور السنيدة لصديقتها رجاء التي تجلس في‬
‫المنضدة المجاورة لنا‪ ،‬وعلى وجهها نظرة حالمة تجعلها شبيهة بالبورص‪ ،‬إال‬
‫لو كانت بها علة‪ ..‬وهذه العلة لم تستمر طويالً خلف الحجب‪ ،‬لقد ظهرت‬
‫وأعلنت عن نفسها بوضوح‪.‬‬
‫ليست كل الجميالت متزنات‪ ،‬ولكن من قال أن سهيلة جميلة‪ ،‬من أخدع‬
‫بالضبط ؟!‬

‫‪- 071 -‬‬


‫الصداقة تقضي بأن أمنح لصديقي خدمة مصاحبة هذه المهووسة حتى يفرغ‬
‫مرارا‪ ،‬ولم يعترض ولو مرة واحدة‪،‬‬
‫من رجاء‪ ،‬هذا الدور لعبه معي من قبل ً‬
‫وفي المرة األخيرة‪ ،‬كانت صديقة صديقتي بدينة وال يتوقف أنفها لحظة عن‬
‫إعالن اعتراضه بإفرازات ال تنتهي‪ ،‬وبرغم ذلك تحمل حتى مر اليوم‪.‬‬
‫إن له ح ًقا علي والبد أن أرده‪ ،‬كما أن سهيلة تبدو مسلية وليست قبيحة إلى‬
‫هذه الدرجة‪.‬‬
‫‪ -‬لماذا أنت صامت يا خليل‪ ،‬أال تصدقني ؟!‪.‬‬
‫أشحت بيدي بقوة ألنفي عن نفسي التهمة وقلت‪:‬‬
‫‪ -‬ال ال‪ ..‬ولكن منظر هذا الصبي شغلني للحظة‪.‬‬
‫رمقت سهيلة الصبي المنهمك في تقليب القمامة عبر الزجاج للحظات ثم‬
‫دمعت عيناها‪ ،‬وقالت بصوت متهدج ‪:‬‬
‫‪ -‬لم أعرف من قبل أن لك مثل هذا القلب الرقيق‪.‬‬
‫لمح زياد دموع سهيلة فأشار لي إشارة خفية بما معناه‪ ،‬ال تفسد الليلة وإال‬
‫سينالك مني عقاب أسطوري‪.‬‬
‫أشرت له أن األمور بخير‪ ،‬هي فقط ال تتحمل وسامتي‪ ،‬فرمقني بنظرة‬
‫مجددا في الحديث‪.‬‬
‫ً‬ ‫متوعدة ثم عاد ليسبل عينيه لرجاء و ينهمك‬

‫‪- 075 -‬‬


‫دار هذا الحوار الخفي وسهيلة لم تتوقف عن الكالم لحظة‪ ،‬ولكني كالعادة‬
‫استطعت أن ألتقط الكلمات األخيرة‪.‬‬
‫‪ -‬المجتمع مدين لهؤالء‪ ،‬فهو من تركهم على جهلهم في بيئة غير صحية‪،‬‬
‫ثم جعل مطاردتهم هدفًا له‪ ،‬بدال من أن يهيئ لهم المناخ الصحي واإلنساني‬
‫الذي يستحقونه‪ ،‬ثم يتعجبون من انتشار الجريمة‪ ..‬المجتمعات المفككة‬
‫كمجتمعنا‪ ،‬ال تبحث عن حلول بل عن شماعة تعلق عليها األخطاء‪ ،‬وكبش‬
‫فداء‪ ..‬و‪..‬‬
‫منحنى لم أحبه فقاطعتها وقلت ‪:‬‬
‫ً‬ ‫أخذ الحديث‬
‫‪ -‬وهذه الوساطة التي أخبرتني عنها كيف تتم ؟!‬
‫ظهر الضيق على وجهها من مقاطعتي لها ولكنها لم تعلق وخاضت في‬
‫الموضوع الجديد‪ ،‬فقالت بصوت عميق وكأنها تستدعي الذكريات من‬
‫تالفيف مخها ‪:‬‬
‫‪ -‬بعد حادث المحول الكهربي بدأ األمر‪ ،‬وخاصة عندما بدأت تنتابني تلك‬
‫الحالة من الهالوس واالنفصال عن العالم و‪..‬‬
‫موضوعا مسليًا فعالً‪،‬‬
‫ً‬ ‫مجددا‪ ،‬إن موضوع المحول والهالوس يبدو‬
‫ً‬ ‫قاطعتها‬
‫فال يجب أن يمر مرور الكرام ‪:‬‬
‫‪ -‬واحدة‪ ..‬واحدة‪ ..‬ماه و موضوع المحول الكهربي‪.‬‬

‫‪- 076 -‬‬


‫عندما همت بالحديث كان عامل المقهى قد أحضر حجر التفاح المعتاد‪،‬‬
‫وعندما انصرف‪ ،‬رمقتني سهيلة بنظرة تأنيب وقالت ‪:‬‬
‫‪ -‬إن هذه األشياء تقتل‪.‬‬
‫وكأني ال أعرف‪ ،‬هززت رأسي بمعنى أنها أضافت لحياتي بع ًدا جدي ًدا بهذه‬
‫المعلومة‪ ،‬فلم تتماد أكثر وعادت لموضوعها القديم وقالت بإعزاز ‪:‬‬
‫‪ -‬تجتمع كل فروع عائلتنا في األعياد في المنزل الكبير‪ ،‬حيث يقطن جدي‬
‫وجدتي وهو طقس مقدس ال يجرؤ أحد من العائلة على التخلف عنه‪ ،‬وفي‬
‫إحدى هذه المرات خرجت مع ابنة عمي غيداء بعي ًدا عن الصخب‬
‫والتجمعات الكبيرة التي ال تتوقف عن الغيبة والتهام الطعام وقررنا أن‬
‫نتمشى قليالً على شاطئ المصرف القريب من شريط القطار المعدني‪ ،‬ابتعنا‬
‫بعض المثلجات من البقال القريب وجلسنا بجوار المحول الكهربي الذي‬
‫يتوسط المسافة بين المصرف وشريط القطار لنلتهم المثلجات في استمتاع‪.‬‬
‫وفي اللحظة التي هممت فيها باالنصراف وقع الحادث‪.‬‬
‫جذبني األمر فأنصت أكثر‪.‬‬
‫‪ -‬انفجر المحول الكهربي بدوي مرتفع‪ ،‬لتفقد غيداء الوعي وتسقط على‬
‫أرضا ولتصدم رأسي‬‫األرض في حين قفزت أنا ألعلى ألتعثر وألسقط ً‬
‫بالقاعدة الخراسانية للمحول الكهربي قبل أن أشعر بسريان التيار الكهربي‬
‫القوي في جسدي‪.‬‬
‫‪- 077 -‬‬
‫سحبت شهي ًقا عني ًفا وهي تشيح بيدها لتبعد أدخنة الشيشة التي عبقت‬
‫المكان في رسالة واضحة لي بالتوقف ولكني لم ِ‬
‫أبال‪ ،‬واستمررت في‬
‫إطالق األدخنة المعطرة في وجهها‪ ،‬فعادت بحنق لتكمل ‪:‬‬
‫‪ -‬سقطت بعدها في غيبوبة لثالثة أيام ثم بدأ األمر‪ .‬ومنذ ذلك الوقت‬
‫تلقيت خمسة اتصاالت واضحة وأكثر من عشرين اتصاالً مشو ًشا‪ ،‬ولكن‬
‫أوضحها ما تم باألمس من صديقك أمجد‪.‬‬
‫انتفضت عند ذكر اسم أمجد‪ ،‬الذي ذهب إلى أقاربه بال عودة‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫‪ -‬هل تسخرين مني ؟! إن أمجد في الفيوم‪ ..‬والفيوم كما أعرف ال توجد في‬
‫كوكب آخر‪ .‬إنها في كوكب األرض الشقيق‪ .‬يبدو أنني أخطأت عندما‬
‫قررت القدوم اليوم لمجالستك‪.‬‬
‫‪ -‬ولكني من طلبت قدومك‪ ..‬إن رجاء هنا من أجلي وليس العكس‪.‬‬

‫‪- 078 -‬‬


‫‪ -‬وجوه صفراء ‪-‬‬
‫كل شيء أستطيع تحمله في الوجود إال خسارة نقودي‪ ،‬وأن يعاملني أي‬
‫كائن حي على وجه البسيطة على أني غر ساذج وأحمق‪.‬‬
‫صحيح أني لم أبلغ التاسعة عشرة من العمر بعد ولكن حسابي المكتظ في‬
‫البوسطة هو خير دليل على عدم اتصافي بهذه الصفة‪ ،‬لذا فبعد عبارة سهيلة‬
‫األخيرة‪ ،‬قررت أن األمر قد فاق الحد والبد من إنهائه‪ ،‬ثم إن المقابالت‬
‫المبتورة تترك في قلوب النساء ردود أفعال جيدة ألنها تفتح دروب الخيال‪.‬‬
‫ماذا لو بقينا أكثر‪ ..‬هل كان سيطلبني للزواج‪ ،‬هل كان المصعد سيخلو من‬
‫العامل ألحصل على قبلتي األولى‪ ،‬هل وهل‪ ..‬كثير من هل اللذيذة هذه‬
‫كانت ستحيل ليلة القمر لليلة طويلة من اللوعة واألحالم‪.‬‬
‫المهم أنني أعلنت نيتي على االنصراف ولكن رد فعل سهيلة كان مذهالً‪.‬‬
‫‪ -‬اجلس أيها األحمق‪ ..‬أنا لم أنتهي بعد‪ ..‬وال أحاول أن أنسج شباكي‬
‫حولك‪ ..‬إنك في خطر عظيم‪.‬‬
‫هبطت صخرة تعقلي من فوق المنحدر لتدفع أمامها كل المشاعر الجيدة‪،‬‬
‫وكدت أن أنفجر في وجهها‪ ،‬وأن أنقض على عنق زياد أللتهمها‪ ،‬ولكن نظرة‬
‫عينيها جعلتني أؤجل ثورتي‪ ،‬ثم أجلس وأنا أتطلع إلى عينيها في قلق‪ ..‬إن‬
‫هذه العيون ال تكذب‪ ..‬إنها غاضبة ولكنها صادقة‪ ..‬والبد أن أكف عن‬

‫‪- 079 -‬‬


‫حماقتي وأنصت قليال‪ ،‬إن روح التاجر بداخلي تجبرني على أن أشتري ال أن‬
‫أبيع‪.‬‬
‫عبثت سهيلة قليالً بالملعقة المعدنية‪ ،‬مديرة السائل الساخن بقلب المج‬
‫الخزفي‪ ،‬قبل أن تنظر لعيني بثبات وتقول ‪:‬‬
‫‪ -‬هل تحلم بأشياء مخيفة هذه األيام يا خليل ؟!‪.‬‬
‫صعقتني العبارة فقلت بال تردد ‪:‬‬
‫‪ -‬وكيف تعرفين بهذا األمر ؟ هل أخبرك زياد ؟ ذلك األحمق لسوف‪..‬‬
‫قاطعتني بصرامة‪ ،‬البد أنها شعرت بأنها أحكمت سيطرتها علي‪ ،‬وقالت ‪:‬‬
‫‪ -‬صه أيها األحمق‪ ..‬أنا لم أرك أو زياد إال منذ نصف ساعة‪ ..‬أخبرني دون‬
‫نقاش وفي النهاية سأوضح لك كل شيء‪.‬‬
‫بالفعل لقد سيطرت علي سهيلة بل إنها بدأت تخيفني‪.‬‬
‫‪ -‬نعم هناك كابوس واحد يتكرر بال انقطاع منذ فترة‪.‬‬
‫‪ -‬وما هو هذا الكابوس‪ ..‬قص علي أحداثه‪.‬‬
‫ابتلعت ريقي وعدت بذاكرتي لذلك الكابوس المخيف وقلبي يخفق بشدة‪.‬‬
‫ماذا دهاني ؟! كيف أستجيب لحمقاء العوالم األخرى بهذه السهولة ؟!‬

‫‪- 081 -‬‬


‫‪ -‬إنني أرى نفسي واق ًفا فوق سطح زجاجي شفاف‪ ،‬وباألسفل وعلى عمق‬
‫كبير يغلي قدر عمالق ويفور‪ ،‬وأسفل منه نهر من النيران المتدفقة الكثيفة‪..‬‬
‫لست وحي ًدا في ذلك المكان‪ ،‬هناك آخرون ولكن المالمح غير واضحة‪.‬‬
‫في البداية كان هناك ستة أشخاص آخرون يعطون ظهرهم لي‪ ،‬ثم سقط اثنان‬
‫تباعا‪ ..‬ومساء أمس أضيفت بعض التفاصيل‪ ،‬وحلمت‬
‫منهم في القدر ً‬
‫بالعشرات من أطفال الشوارع يحيطون بي وكل منهم يتدلى من ذراعه‬
‫خرطوم مطاطي يصفي جسده من الدماء‪ ،‬في حين يقومون من حولي بتهشيم‬
‫اللوح الزجاجي في رغبة صادقة في إسقاطي‪ ،‬وكلما أوشكت على السقوط‬
‫استيقظت من النوم‪.‬‬
‫ظهر القلق على وجهها وعادت لتسألني ‪:‬‬
‫‪ -‬هل تعرف هؤالء األطفال ؟!‬
‫‪ -‬نعم‪.‬‬
‫‪ -‬من هم ؟!‬
‫‪ -‬ال يمكن أن أخبرك‪ ..‬دعيني أنصرف ؟!‬
‫‪ -‬سؤال أخير‪ ..‬ألم يخبرك أمجد بأي شيء مخيف منذ غادرت منزل‬
‫الشيخ ياسين‪.‬‬
‫‪ -‬توقفي توقفي‪ ..‬من أين لك بهذه المعلومات ؟!‬

‫‪- 080 -‬‬


‫‪ -‬إذن لتنصت‪ ..‬ألن ما سأخبرك به تتوقف عليه حياتك‪ .‬وربما حياة‬
‫ضا‪.‬‬
‫أصدقائك أي ً‬
‫‪ -‬إني منصت‪! ..‬‬
‫زياد يرمقني وعلى وجهه ابتسامة خبيثة‪ ،‬أتمنى أن أهشم وجهه لتزول‪.‬‬
‫إنني أكاد أفقد عقلي‪.‬‬
‫‪ -‬لقد أخبرني أمجد بما تجهلونه و‪..‬‬
‫‪ -‬إن أمجد في الفيوم‪ ،‬فهل حدثك في الهاتف‪ ،‬أم ماذا ؟!‬
‫‪ -‬ال تكن عجوالً وأنصت‪ ..‬فأمجد ليس في الفيوم‪ ..‬إنه في القصر العيني‬
‫الفرنساوي‪ ،‬أصيب في حادث وسقط في الغيبوبة‪ ،‬روحه هي التي فارقت‬
‫عالمنا إلى بعد آخر‪.‬‬
‫‪ -‬هل مات ؟!‬
‫‪ -‬ال لم يمت ولكن الموت ليس عنه ببعيد‪ ..‬ال تقاطعني ووفر أسألتك‬
‫للنهاية‪.‬‬
‫****‬

‫‪- 081 -‬‬


‫تماما‪ ،‬لقد أرجعني حديثها‬
‫انطلقت سهيلة تتحدث وأنا غير منصت لها ً‬
‫لتلك الليلة المروعة‪ ،‬عندما نجونا من االحتراق في منزل الشيخ ياسين‪،‬‬
‫وقتها ظننت أن كل األمور انتهت وأن ما حدث كان مجرد تحذير من‬
‫السماء ألتوقف عن تجارتي المشؤومة‪ ،‬وأسلك طري ًقا مختل ًفا لجلب الرزق‪.‬‬
‫انقطعت إلى الصالة عدة أيام‪ ،‬ثم انحسر المد مع مرور الوقت‪ ،‬وكأن روحي‬
‫القديمة عادت وسكنتني‪ ،‬وتدريجيًا عدت لسيرتي األولى‪ ،‬ذلك الوغد الذي‬
‫ال يتورع عن فعل أي شيء مقابل المال‪ .‬أهيم في الطرقات ألستقطب‬
‫أطفال الشوارع من أجل استنزاف دمائهم مقابل حفنة هزيلة من المال‪ ..‬إنها‬
‫تجارة حقيرة ولكنها تدر أموالً طائلة إن كنتم ال تعلمون‪.‬‬
‫سبوعيا‪ .‬من أجل‬
‫الطفل من هؤالء ال يتورع عن استنزاف دمائه مرة أو مرتين أ ً‬
‫فدائما‬
‫ً‬ ‫جنيها ونحن ال نرى غضاضة في ذلك‪،‬‬‫مبلغ ال يتعدى الخمسين ً‬
‫ذلك الكيس البالستيكي ذو اإلبرة الغليظة جاهز الستنزاف المزيد من‬
‫الدماء‪ ،‬ومنحنا المزيد من األموال‪.‬‬
‫سمسارا من سماسرة هذه‬
‫ً‬ ‫وال أخفي عنكم أن هدفي األكبر أن أكون‬
‫التجارة دون الحاجة للمرور إلى دروبها المعقدة عبر وسيط يستنزف الجزء‬
‫األكبر من الربح‪ .‬ولكن الوقت لم يفت بعد‪.‬‬

‫‪- 081 -‬‬


‫وهناك شق آخر لهذه التجارة والتي تحتاج لسمسار بارع‪ ،‬وهو الجزء األكثر‬
‫خطورة وقسوة في عملنا والذي ال يسمح بالعمل فيه إال للمميزين وأصحاب‬
‫الصالت‪.‬‬
‫إن مجموعة (حمادة عكوش) هي األشهر‪ .‬أعرف اآلن أني وغد في نظركم‪،‬‬
‫ولكنها مهنة موجودة منذ أكثر من ثالثة عقود‪ ،‬أنا لم أختلقها أو أبتكرها‪،‬‬
‫ولو لم أقم بدوري لقام به العشرات من غيري‪.‬‬
‫أخبرني (حمادة عكوش) أننا كائنات أقل شأنًا‪ ،‬ال مستقبل لنا وال فائدة‪،‬‬
‫لذلك من حق األغنياء أن يعتبرونا مجرد قطع غيار حية‪ ،‬ثم لك أن تسعد‬
‫جزءا منك سيحظى ولو لفترة من الزمن بالتقدير الالئق في جسد آخر‬
‫ألن ً‬
‫يفوح بالعطور ويتغذى على تلك الوجبات التي تحتاج كتالوج لمعرفة كنهها‪.‬‬
‫الحاجة والشعور بالدونية هي التي تجعل هذه التجارة رائجة‪ ،‬هناك كثيرون‪،‬‬
‫بل يفوقون التخيل‪ ،‬من يرون أن مبلغ األلف جنيه فادح ليبيعوا أعضاءهم‬
‫مقابله‪ ،‬إن الكلى وفصوص الكبد األعلى ثمنًا ولكن سوق القرنيات رائج‪.‬‬
‫الحياة البشرية هانت‪ ،‬فهانت معها األعضاء البشرية‪.‬‬
‫نساء عجائز في السجون‪ ،‬ألنهم لم يستطيعوا أن‬
‫هل تعلمون أن هناك ً‬
‫يدفعوا قيمة إيصال أمانة بقيمة خمسمائة جنيه‪.‬‬
‫كما أنكم لم تروا العشوائيات التي تنخر في جسد مصر‪.‬‬

‫‪- 081 -‬‬


‫لست وحدي من أمتهن هذه التجارة‪ ،‬وال مبرر جيد لدي بأكثر مما أخبرتكم‬
‫به‪ ،‬ولكني لم أدخل إلى هذه التجارة عبر المنحنى الصعب‪ ،‬هناك من‬
‫يخطفون ويقتلون ويرتكبون كل الموبقات من أجل جنيه زائد‪ ،‬وربما لذلك‬
‫أتت لي اإلشارة في منزل الشيخ ياسين كي ال أتمادى‪.‬‬
‫ال يعرف أحد ع ني هذه الحقيقة إال زياد‪ ،‬وبرغم أنه يمقتها إال أن المال‬
‫دائما عبري له تأثير السحر‪ .‬فقط ما ينغص علي تلك الوظيفة هو‬
‫المتوفر ً‬
‫تلك الكوابيس التي تغص بالوجوه الصفراء الشاحبة‪ ،‬تلك الوجوه التي‬
‫سحبت منها الدماء‪ ،‬والتي تعاني من أنيميا حادة وإهمال المجتمع‪.‬‬
‫عالمي كله يغص بالوجوه الصفراء الشاحبة‪ ،‬والوجوه اإلجرامية المخيفة‪ ،‬لقد‬
‫اعتدت على وجوه سماسرة الموت‪ ،‬ولكني لم أعتد بعد على تلك الوجوه‬
‫الصفراء غائرة األعين والتي يحلق الموت فوق رؤوسها‪ ،‬والتي تريد االنتقام‬
‫مني‪.‬‬
‫أنا وهؤالء السماسرة نستنزف حياتهم قطرة وراء قطرة‪ ،‬وكلما كان الربح‬
‫أكبر كلما ازددنا جشعًا‪.‬‬
‫دائما مفرو ًشا بالنوايا الحسنة‪ ،‬بل النوايا السيئة هي‬
‫الطريق إلى الجحيم ليس ً‬
‫الطريق المباشر إليه‪.‬‬
‫والمال هذه األيام‪ ،‬ال تصنعه إال النوايا السيئة‪.‬‬

‫‪- 085 -‬‬


‫‪ -‬سهيلة ‪-‬‬
‫تقول سهيلة ‪:‬‬
‫إن الوساطة شيء مخيف‪ ،‬فهي تجارب خارقة ال دليل على حدوثها‪ ،‬إال ما‬
‫ثمنا في هذه‬
‫تقصه على اآلخرين‪ ،‬لذلك تكون الثقة هي العملة األعلى ً‬
‫التجارب‪.‬‬
‫فكيف يصدق أي بشري أن ذلك الكيان الفائق في مجرة ماجالن يشعر‬
‫بالوحدة‪ ،‬وأن ذلك الجزء من الجنس البشري الذي غادر األرض في عصر‬
‫الديناصورات وقبل العصر الجليدي يحن للعودة إلى كوكبه األم‪ .‬وأن هناك‬
‫كائنات فضائية تتوالد بأعداد مهولة‪ ،‬لتتغذى على صغارها في كوكبهم‬
‫القاحل‪.‬‬
‫إن الوساطة ليست نعمة في كل األحوال‪ .‬خاصة حينما يكون االتهام الموجه‬
‫إليك هو الجنون‪ ..‬فالفتاة المجنونة لن تجد من يصادقها ولن تجد من يهتم‬
‫يوما وال أوالد‪..‬‬
‫بها‪ ،‬ولن يكون لها بيت ً‬
‫إن الرجال يخشون النساء بالفطرة‪ ،‬فما بالكم بمن تمتلك قدرة متفوقة‪ ..‬إن‬
‫المعرف ة مخيفة في حد ذاتها‪ ،‬فما بالكم عندما تختص بها امرأة دون الرجال‬
‫؟!‬
‫مؤخرا أصبحت‬
‫ً‬ ‫كنت سعيدة لفترة طويلة بقدرتي المتفوقة هذه‪ ،‬ولكني‬
‫أخشاها وأمقتها‪ .‬فكل االتصاالت السابقة كانت مريحة‪ ،‬وكانت تدغدغ‬
‫‪- 086 -‬‬
‫عقلي‪ ،‬كنسيم معطر فواح يداعب أطراف الخاليا العصبية مباشرة‪ ،‬إحساس‬
‫م تفوق بالسمو فوق كل شيء‪ ،‬إحساس بالتمدد حتى احتواء الكون كله‪.‬‬
‫كل االتصاالت كانت تشعرني باألمل‪ ،‬بالتفاؤل بالحياة‪ .‬ولكن االتصال‬
‫تماما‪.‬‬
‫األخير كان مختلفا ً‬
‫إنه تواصل مقبض‪ ،‬يفوح برائحة األلم والمرض والموت‪ ..‬إنه التواصل الذي‬
‫جعلني أتمنى لو أن اهلل لم يختصني بتلك الهبة الرائعة‪.‬‬
‫ففي تلك الليلة والتي اشتد فيها البرق والرعد وتشبع الهواء بشحنات كهربية‬
‫عالية‪ ،‬لجأت إلى فراشي ونمت‪ ،‬وروحي نفسها تكاد تتجمد من البرد‪،‬‬
‫وعندما تمكن النوم مني وبدأت أنفاسي تنتظم‪ ،‬شعرت بالصدمة‪ ..‬هناك من‬
‫يقاتل ليتم االتصال‪ ،‬ولكن اإلحساس المصاحب مخيف‪.‬‬
‫هناك درجة مرعبة من الشر تفوح في األجواء‪.‬‬
‫أعرف أن الكون يغص بالكائنات من اتصاالتي السابقة‪ ،‬فال مانع أب ًدا أن‬
‫شريرا‪ ،‬وهذا ما كان‪.‬‬
‫يكون هذا االتصال ً‬
‫األفكار كانت تسكب في رأسي كمعدن مصهور‪ ،‬ثم تتحول إلى حشرات‬
‫تلتهم خاليا عقلي دون هوادة‪.‬‬
‫روحي منقبضة وتنفسي عسير‪ ..‬حاولت أن أقطع هذا االتصال دون فائدة‪..‬‬
‫إنه اتصال مشؤوم‪.‬‬

‫‪- 087 -‬‬


‫روحي تسحق ومشاعري تتزلزل‪.‬‬
‫األلم يجتاحني‪ ،‬مع كتلة هائلة من المشاعر السلبية‪.‬‬
‫ال فائدة من محاولة الهرب ألن التواصل قد بدأ بالفعل‪ ،‬وهاهي الصور‬
‫المفجعة تتسلل إلى عقلي‪.‬‬
‫في النهاية تم االتصال‪ ،‬وانفطر قلبي‪.‬‬
‫هل هذا هو الجحيم ؟!‬
‫هل هذه هي النهاية التي أعدها الخالق للخاطئين والعصاة‪.‬‬
‫مدمرا ألعصابي وكياني‪ ،‬ثالثة من الخطاة‬
‫الرحمة يا اهلل‪ ..‬كان ما رأيته ً‬
‫يعذبون بقلب جحيم مشتعل ودون توقف‪ ،‬وأحدهم هو الذي يتواصل معي‪.‬‬
‫إنه يخبرني أن هذا ليس الجحيم كما أتخيل‪ ،‬إنه سجن من نوع خاص أنشأه‬
‫كيان حاقد من الجن‪ ،‬وأنه وأصدقاءه سقطوا فريسة إلحدى لعناته وأنه هنا‬
‫بروحه ولكن أصدقاءه خطفوا لبرزخ خاص ثم تم أسر أرواحهم والقيام‬
‫بتعذيبها‪.‬‬
‫شريرا ملعونًا‬
‫إنه يخبرني بأن جده (الشيخ ياسين) سخر في شبابه كيانًا ً‬
‫ليعاونه في أعماله السفلية وسحره األسود‪ .‬هذا الكيان هو الذي ينتقم منهم‬
‫اآلن بعد أن نجح بمعاونة أمجد نفسه في القضاء على ذلك الكائن‬

‫‪- 088 -‬‬


‫الشيطاني الذي استحضره الشيخ ياسين ليمنع الكيان من العودة لعالمه‬
‫وطاعته إلى األبد‪.‬‬
‫الطالسم كانت تكبل الكيان والعالقة القوية بين الشيخ ياسين والكائن‬
‫الشيطاني كانت حائطًا صخريًا أمام طموح الكيان في التحرر‪ ،‬ولكن مرور‬
‫الزمن جعل الشيخ ياسين يضعف ومعه تضعف الصلة‪ ،‬القوة كانت الرابط‪،‬‬
‫فلما وهن الشيخ ياسين وهن الكائن الشيطاني‪ ،‬واستطاع الكيان أن يتخلص‬
‫متوقعا من‬
‫ً‬ ‫منهما سويًا وبمساعدة أمجد‪ ،‬ولكن األمر لم يتم كما كان‬
‫الكيان‪ ،‬ألن الشباب السبعة احتفظوا بحيواتهم مما أفسد الخطوة األخيرة‪.‬‬
‫أمجد هو من أفسد األمر‪ ،‬لذلك قرر هذا الكيان الحاقد أن ينتقم من‬
‫ضا فقد وصمهم باللعنة‪ .‬كل منهم‬
‫الجميع قبل أن يهرق دماءهم‪ .‬ولذلك أي ً‬
‫سيرتكب خطيئة ستجعله يستحق العذاب ثم الموت‪ .‬إنها عدالة ذلك‬
‫الكيان الممسوخة‪.‬‬
‫أمجد يطلب مني أن أحذر أصدقاءه وأن أساعده‪.‬‬
‫أمجد يرشدني‪.‬‬
‫أمجد ال يعرف أني مجرد وسيطة ال تملك من أمرها شيئًا‪.‬‬
‫****‬
‫لم يكن لقائي بخليل هو اللقاء السعيد المرتقب‪ ،‬إنه الموسوم الثالث‪ ،‬هكذا‬
‫أخبرني أمجد‪ ،‬فالكي ان فتح له نافذة يرى عبرها ما يحدث كوسيلة إضافية‬
‫لتعذيبه‪ ..‬نقطة الضعف الكبرى في خطة الكيان هي وجودي‪ ،‬وتلك القدرة‬

‫‪- 089 -‬‬


‫المتفوقة التي أملكها‪ ،‬فبوجود أمجد في العالمين صنع جسر تواصل بيننا ال‬
‫يدري عنه الكيان أي شيء‪ ،‬وهذا الجسر مكنني من معرفة كل المعلومات‬
‫كبيرا بتحذير الجميع ومحاولة إنقاذهم‪.‬‬
‫السابقة‪ ،‬ووضع على كاهلي حمالً ً‬
‫أنا اآلن الوسيلة التي تربط العالمين ببعضهما عبر أمجد‪ .‬فهل لهذا فائدة ؟‬
‫شخصا كخليل لن يصلح بعقليته المتخلفة هذه في‬
‫ً‬ ‫المشكلة الكبرى أن‬
‫مواجهة هذه القوى الشريرة‪ ،‬خاصة وأنا ال أعرف ما هي شهوته الكبرى‪ ،‬أو‬
‫خطيئته التي ستقوده للهالك‪.‬‬
‫العقبة األولى أنه يعتبرني مجنونة‪ ،‬فهو ال يصدق ما أقصه عليه‪ ،‬هذا جلي‬
‫في عينيه‪ ،‬ثم إن موضوع اللعنة والمخلوقات الكونية والسحر وخالفة ليست‬
‫من مفردات عالمه‪ ..‬فهو يقيس العالم بميزان الربح والخسارة فقط‪..‬‬
‫ولذلك دخلت له عبر هذا الباب‪.‬‬
‫‪ -‬إن حياتك في خطر وستفقد كل شيء‪ ،‬البد أن تساعدني أنت ومن بقي‬
‫من شلتك لنبحث عن وسيلة إليقاف هذه اللعنة‪.‬‬
‫ولكنه كان كاألحمق‪ ،‬وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة من يشاهد عرض‬
‫المهرج السمج في السيرك‪.‬‬
‫منحته رقم هاتفي المحمول ليتصل بي إذا واجهته مشكلة‪ ،‬وطلبت منه أن‬
‫جميعا بالغد‪ ،‬فقد قررت أن أجمع األصدقاء‬
‫حذرا وحتى نلتقي ً‬
‫يكون أكثر ً‬
‫لنعقد اجتماع حرب‪.‬‬

‫‪- 091 -‬‬


‫‪ -‬أربعة من األصدقاء ‪-‬‬
‫عندما ا جتمعت مع األصدقاء األربعة‪ ،‬شعرت بدهشة كبيرة‪ ،‬كيف اجتمع‬
‫هؤالء الشباب مع بعضهم البعض‪ .‬فاألعمار متباينة والصفات مختلفة‬
‫ضا والمستوى االجتماعي‪.‬‬
‫والثقافات أي ً‬
‫يبدو أن سوء الحظ هو من جمعهم معًا !!‬
‫مظهرهم مجتمعين ذكرني بمطلع قصيدة األصدقاء‪ .‬للشاعر الفلسطيني‬
‫المولد سوري المنشأ أحمد دحبور‪.‬‬
‫(كنا هنا ‪ :‬أربعةً‪ ،‬خمسةً‪ ،‬أو ستةً‪،‬‬
‫ولم أكن بيننا‬
‫أولنا أخرج منشاره‬
‫واحتز أعناقنا)‬ ‫من ِ‬
‫روحه‪َّ ،‬‬
‫جميعا إلى‬
‫هذا المنطق ينطبق تماما على الحال القائم هنا‪..‬فأمجد من جرهم ً‬
‫هذا الجحيم المستعر‪ ..‬وها هو الموت قاب قوسين أو أدنى منهم‪ ،‬يتهيأ‬
‫لحز أعناقهم‪.‬‬
‫سأصفهم لكم‪.‬‬

‫‪- 090 -‬‬


‫خليل نحيل طويل إلى حد ما‪ ،‬لم يتجاوز العشرين من العمر‪ ،‬وفي عينيه‬
‫نظرة نهمة إلى الدنيا‪ ،‬عيناه قلقتان كتاجر أو سفاح‪.‬‬
‫زياد في الخامسة والعشرين وربما أكثر قليالً‪ ،‬له تلك النظرة الزجاجية‬
‫الناعسة ويتمتع بالكثير من السماجة ‪،‬وال يتوقف لحظة عن تمليس شعره‬
‫الناعم الذي يطال كتفيه‪ .‬من اللحظة األولى تعرف أنه زير نساء‪.‬‬
‫شحتة تستطيع أن تصفه بالبلطجي أو الفتوة‪ ،‬يقترب من سن زياد أو هو‬
‫أكبر قليالً‪ ،‬لديه جسد منتفخ بالعضالت وأسنان متشابكة تحتاج في أقرب‬
‫فرصة لتقويم‪ ،‬وال تشعر معه بالراحة‪.‬‬
‫أمين فنان‪ ،‬هذا الوجه وتلك األصابع لفنان‪ ..‬تلك النظرة الحالمة التي‬
‫تتجاوز كل شيء وتعبر إلى عالم آخر تشي بكونه فنانًا‪ ..‬إنه أكثرهم رقة‬
‫ووداعة‪.‬‬
‫كيف اجتمعوا ؟! ال مجال للبحث اآلن‪ .‬المهم أن يتم اللقاء على خير‪.‬‬
‫قمرا واح ًدا يمر بدون أن يسقط أحدهم في الخطيئة‪،‬‬ ‫أمجد أخبرني أن ً‬
‫ويقهر شهوته ينهي اللعنة‪ ..‬كل منهم البد وأن يعرف أخطاءه وزالته‪ ،‬أقل من‬
‫جميعا‪.‬‬
‫أسبوعين وينجون ً‬
‫تماما !!‬
‫ترى ما هي خطيئة أمين‪ ،‬إنه يبدو رقي ًقا ً‬
‫****‬

‫‪- 091 -‬‬


‫تماما‪ ،‬بعض العقول‬
‫ال يمكن أن أقول إن هذا االجتماع نجح أو فشل ً‬
‫تفهمت والبعض اآلخر سخر والبعض تحفظ‪.‬‬
‫جميعا‪ ،‬وبدأ بعض االقتناع يغزو‬
‫فقط عندما ذكر موضوع الكوابيس اهتموا ً‬
‫الوجوه‪.‬‬
‫وفي النهاية وافق الجميع على المحاولة‪ ،‬وإن أنكر كل منهم أنه يمارس‬
‫الخطيئة التي يمكن أن يجازى عليها بالموت‪.‬‬
‫وانفض االجتماع‪.‬‬

‫‪- 091 -‬‬


‫‪ -‬حمادة ع ّكوش ‪-‬‬
‫يقول خليل ‪:‬‬
‫أصبحت أخشى تلك المخبولة المسماة سهيلة بشدة‪ ،‬وأعتبرها نذير شؤم‪،‬‬
‫عقلي ال يستوعب كل هذا الكالم المعقد عن اللعنات والجن والشياطين‬
‫واألعمال‪ ،‬البد وأن هذه المخبولة قد تلف عقلها من مشاهدة القنوات‬
‫الفضائية التي ال تعرض إال هذه السخافات‪.‬‬
‫وجودها نفسه أصبح يجثم على روحي‪.‬‬
‫حمدت اهلل على أنها انصرفت بعد أن كررت على مسامعي وعلى باقي‬
‫أصدقائي ذلك الجنون الخاص بالجحيم وأمجد والكيان والكائن الشيطاني‪،‬‬
‫وبعد انصرافها جلسنا نتناقش حول ما أخبرتنا به‪ ،‬الجميع كان منشغالً‬
‫بالمشكلة وأمين منشغل بسهيلة‪.‬‬
‫السخف ال ينقطع عن هذا العالم‪.‬‬
‫في النهاية قررنا أن نكون على اتصال ببعضنا إذا جد جديد‪ ،‬وخاصة أن‬
‫موعدي بعد غد مع اللعنة‪ ..‬ال أعرف لماذا بعد انصرافهم شعرت أن األمر‬
‫مبتذل‪ ،‬وقررت أال أستسلم لهذه الخرافات‪ .‬وإن تبدل هذا األمر مع مرور‬
‫الوقت عندما شعرت بمدى ضعفي وضآلتي أمام الخطر المحدق بي‪.‬‬
‫إنني مستهدف من قبل قوة شيطانية‪.‬‬

‫‪- 091 -‬‬


‫ال أصدق نفسي وأنا أردد هذه الكلمات‪ ..‬األمر يبدو كالجنون‪ ..‬أما الجنون‬
‫الحقيقي‪ ،‬فهو أن رشاد ونجيب اختفيا وقبلهما أمجد‪ .‬إن لم يكن األمر‬
‫صادقًا بالكامل فهناك جزء من الحقيقة‪ ،‬ثم من يصدق أن رشاد يتحول إلى‬
‫سفاح ويفتك بثالث وعشرين امرأة في أقل من أسبوع‪.‬‬
‫ال يمكن اتهام الجنون بهذه التهمة‪ ..‬البد أن هناك شيئًا ما أقوى دفع رشاد‬
‫إلى هذا التحول المخيف‪ .‬شيء ما شيطاني‪.‬‬
‫هل أصابه مس ؟!‬
‫البد وأن ذلك ما حدث بالفعل‪.‬‬
‫لقد أخطأنا بزج أنوفنا‪ ،‬في أمور الشيخ ياسين‪ .‬وها هي النتيجة‪ ،‬اللعنة على‬
‫اليوم الذي قابلت فيه أي من أفراد شلتي‪ .‬اللعنة على أمجد وسماح ألف‬
‫مرة‪.‬‬
‫****‬
‫في المساء ذهبت إلى زياد‪ ..‬ال أعرف لماذا أشعر بالقلق إلى هذه الدرجة‪..‬‬
‫تلك المخبولة المسماة سهيلة سممت حياتي بالفعل‪ .‬أصبحت أخشى أي‬
‫تجمع ألطفال الشوارع‪ ،‬أشعر أنهم في أي لحظة سيفتكون بي‪.‬‬
‫تلك السيارات المندفعة‪ ..‬البد وأنها كانت تقصد دهسي‪.‬‬
‫ال ال يمكن أن أطيع سارة صديقتي‪ ..‬إنها تحاول اإليقاع بي بالتأكيد‪.‬‬

‫‪- 095 -‬‬


‫ال إن الوضع يتطور ويسير من سيء ألسوأ‪..‬‬
‫لعنك اهلل يا سهيلة‪.‬‬
‫أخبرت زياد أثناء تبادلنا أنفاس السيجارة المحشوة التي قررت أن تكون‬
‫األخيرة‪ ،‬أن ني سأتوقف عن أي نشاط كنت أمارسه حتى تمر هذه الغمة‪،‬‬
‫حتى الطعام والشراب لن أسرف في تناولهما‪ ،‬سأشتري نفسي‪ ..‬صحيح أن‬
‫هذا سيصنع لي مشاكل جمة‪ ،‬ولكن الحياة أثمن من أي نقود‪ ،‬والخسارة‬
‫قادما‪.‬‬
‫ربح ً‬‫القريبة قد تعني ً‬
‫حاول زياد أن يهون من فداحة األمر‪ ،‬ولكن الموضوع لم يكن بالبساطة‬
‫المنشودة‪ ..‬فبعد غد أعرف يقينًا أن الموت سيتربص بي‪ ،‬وأنني إلى الجحيم‬
‫ذاهب‪ ..‬يحتاج األمر ألعصاب غير عادية ألتجاهل األمر‪.‬‬
‫ثم لماذا ستقلق يا زياد‪ ،‬ربما ستكسر اللعنة قبل أن يحين موعدك‪ ..‬أما أنا‬
‫فقد صدر ضدي حكم اإلعدام دون استئناف‪.‬‬
‫****‬
‫أصبح هاتفي المحمول كالسنترال‪.‬‬
‫القلق أصبح كالوباء‪ ..‬واألحداث غير الطبيعية تنهال على رؤوس الجميع‪.‬‬
‫ليس أقلها الدماء التي تلطخ الجدران في منزل زياد ولم تنجح أي مساحيق‬
‫أو منظفات إلزالتها‪ ،‬أو تلك الفتاة التي تطارد أمين وتتالشى كلما اقترب‬

‫‪- 096 -‬‬


‫منها‪ ،‬والكلب الذي يتبع شحتة في كل مكان‪ ،‬دون أن تلمس قدماه‬
‫األرض‪.‬‬
‫إذن الجحيم قرر أن أن يرسل بمبعوثيه للجميع‪ ،‬دون أن يختصني وحدي‪،‬‬
‫وهذا شيء مريح إلى حد ما‪.‬‬
‫ليس معنى هذا أني أتمنى السوء لهم‪ ،‬فقط أريد أال أشعر بكوني وحي ًدا في‬
‫مواجهة الموت‪.‬‬
‫****‬
‫سريعا كحصان بال لجام‪.‬‬
‫الوقت يمضى ً‬
‫الليل مضى والنهار تاله‪ ،‬وها هو فجر اليوم الموعود يقترب والنوم يجافيني‪.‬‬
‫طرقات على النافذة‪.‬‬
‫هلعا وأقبض على سكين المطبخ‪ ،‬لن تتمكن مني الشياطين دون‬ ‫أنتفض ً‬
‫مقاومة‪ ،‬إن لحمي مر‪ ..‬لقد قاتلت من أجل بعض األوراق المالية من قبل‬
‫وهشم أنفي‪ ،‬فلن أستسلم لهم حتى يبتروا أطرافي‪.‬‬
‫الطرقات على النافذة من جديد‪ ..‬ثم صوت (عدوي) اليد اليمنى لحمادة‬
‫عكوش‪ ..‬البد أن الشياطين تنظر نحوي بشماتة‪.‬إن حمادة عكوش يريدني‬
‫اآلن‪ .‬ومن يريده حمادة عكوش‪ ،‬فهو في حكم الميت‪.‬‬

‫‪- 097 -‬‬


‫لقد أخلفت عدة مواعيد له‪ ،‬وهو ال يسمح بمثل هذه التسيب واإلهمال‪ ،‬لو‬
‫اقتلع عيني اليمنى اليوم فقد رأف بي‪.‬‬
‫هذا الموقف أنساني كل شيء‪ ،‬فلو قرر (عدوي) أن يقوم بالموكب المعتاد‬
‫بالمغضوب عليهم (الزفة) فمعناها أني هالك‪.‬‬
‫الصدمة جعلت قرار الهروب يتأخر‪ ،‬فقد انتقلت الطرقات من الشباك إلى‬
‫الباب‪.‬‬
‫هل أفتح ؟!‬
‫إن جلوسي بعد طالء جسدي بالقار على ظهر الحمار سيدمرني‪ ،‬ال يمكن‬
‫أن أستسلم لهم‪.‬‬
‫إن اإلهانة ستكسرني أكثر من ضياع كل نقودي‪ .‬إن حمادة عكوش يذل من‬
‫يكسر أوامره‪ ،‬وأنا لن أسمح بهذا‪..‬‬
‫أرى ابتسامة الموت على طرف السكين الذي أحمله‪ ،‬واللعنة بعيدة اآلن‪..‬‬
‫إنني في هذه اللحظة أخشى حمادة عكوش أكثر من الموت نفسه‪ ،‬فحمادة‬
‫عكوش لن يتورع عن تمزيقي وبيع أعضائي بعد إذاللي‪ ،‬إن سعري وأنا ميت‬
‫أعلى بكثير من وجودي على قيد الحياة‪ ،‬البد أنه سيعوض المبلغ الكبير‬
‫الذي فقده بتهاوني في عملي‪.‬‬

‫‪- 098 -‬‬


‫لقد نسيت أو تناسيت مهمتي األخيرة‪ ،‬كل ما كان علي أن أقوم به هو أن‬
‫أستدرج تلك الفتاة التي حددها الطبيب في المستشفى‪ ،‬والتي عرف أنها‬
‫المناسبة للطلبية الحالية بعد أن خدعها بحقيقة مرضها وأجرى لها اختبارات‬
‫األنسجة‪.‬‬
‫نعم لقد كذبت عليكم في البداية‪ ،‬فأنا أقوم بذلك العمل البغيض‪ ،‬أستدرج‬
‫الفتيات إلى مناطق نائية‪ ،‬ويتكفل حمادة عكوش ومن معه بالفتك‬
‫بأعضائها‪ ..‬ال أحد منكم آمن فسماسرة الموت في كل مكان‪.‬‬
‫عندما تهشم رتاج باب شقتي لم أنتظر أن يبادرني القادمين بالهجوم‪ ،‬ألقيت‬
‫نفسي بين أيديهم‪.‬‬
‫وتناثرت األشالء‪.‬‬
‫تقول سهيلة ‪:‬‬
‫واحد آخر يلتهم أصابعه‪..‬‬
‫بشعا‪ ،‬ال يمكن تصوره‪ ..‬ال يمكن أن أتخيل أن‬
‫ما قصه زياد على أذني كان ً‬
‫يكون خليل هو من قام بهذه المذبحة البشعة التي يخبرني زياد بوقوعها‪ .‬إن‬
‫األجواء كلها غريبة‪ ..‬ثم إن هناك آثار دماء ومخالب‪ ،‬ومادة صفراء عجيبة‬
‫تحيط بكل شيء‪.‬‬

‫‪- 099 -‬‬


‫لقد أخبرني زياد‪ ،‬أن رجال المعمل الجنائي استعانوا بالجاروف لتجميع‬
‫األشالء التي غمرت كل شيء‪ .‬كما أن خليل لم يعثر له على أثر‪ ،‬وتقرير‬
‫المعمل الجنائي يقول إن هناك فصيلة دم تختلف عن كل الفصائل‬
‫األخرى‪ ..‬وربما تعود إلى خليل لو ثبت تواجده وقت الحادث‪..‬‬
‫ما يحيرهم هنا هو العبارة التي خطت على الجدار بالدماء ‪:‬‬
‫‪ -‬الرابع يتالشى في اليوم الرابع‪.‬‬
‫ويقولون إن هناك رابطًا بينها وبين جريمة سابقة‪ ..‬إن القاتل واحد وربما هما‬
‫اثنان يكونان فريق عمل أو أكثر‪.‬‬
‫أما أنا فقد كانت عندي اإلجابة‪ ،‬فخليل تالشى وذهب إلى البرزخ وروحه‬
‫تعذب اآلن‪.‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫‪11‬‬
‫اللعنة الرابعة ‪ -‬الكسل‬

‫عرفها دانتي ‪ :‬إضاعة الهبات والمواهب اإللهية الممنوحة للفرد‪ ..‬مرتبطة‬


‫بالشيطان بيلفيجور ‪ Belphegor‬شيطان الخداع والكذب‪ ،‬يزيد نشاطه‬
‫في إبريل‪ ..‬مرتبط باللون السماوي‪..‬‬

‫أنا الكسل‪ ..‬لقد ولدت على ضفة مشمسة‪ ..‬حيث أستلقي منذ ذلك‬
‫كبيرا بإحضاري من هناك‪ ..‬دعني أحمل إلى‬
‫أذى ً‬‫الوقت‪ ..‬وأنت سببت لي ً‬
‫هناك ثانيةً بواسطة الشره والشهوة‪ ..‬إنني لن أتفوه بكلمة أخرى ولو مقابل‬
‫فدية منك‪..‬‬

‫‪- 110 -‬‬


- 111 -
‫‪ -‬خطيئتي ‪-‬‬
‫قال الراغب األصفهاني في كتابه (الذريعة) في ذم الكسل‪:‬‬
‫"من تعطل وتبطل انسلخ من اإلنسانية‪ ،‬بل من الحيوانية‪ ،‬وصار من جنس‬
‫الموتى"‪.‬‬
‫أن تكون بال عمل‪ ،‬هذا هو الجحيم الحقيقي‪ .‬ساعتها ال يهم مضي الوقت‪،‬‬
‫وال يهم النهار وال يهم الليل‪ .‬وال تهم الحياة ذاتها‪..‬أنت ملك الظروف‬
‫ورياح الحظ‪.‬‬
‫أنت في مهب كل األعراض الجانبية للبطالة‪ ،‬أنت تمارس كل األفعال التي‬
‫من شأنها أن تدمر حياتك‪ ..‬كأن تترك كل شيء وتقتحم منزل مشعوذ‬
‫يمارس فنون السحر األسود‪ ..‬تنقطع عن الحياة وتوهم نفسك أنك منهمك‬
‫في عمل أسطوري يغنيك عن كل شيء‪ ،‬وهو مالحقة الفتيات‪.‬‬
‫أنت قد سئمت من العبارة المقيتة (ال توجد وظائف خالية) لقد بدأ األمر‬
‫معك بحماس طوال الشهور األولى‪ ،‬أنت أنهيت السنة النهائية من كلية‬
‫التجارة‪ ،‬أنت اآلن تحلم بالعمل والزواج والسيارة‪.‬‬
‫أنت اآلن تبدأ الرحلة التي سبقك إليها اآلالف‪.‬‬
‫رحلة البحث عن العمل‪.‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫حماس الشباب والتفاؤل يجعلك تعتقد أن حظك سيختلف عنهم بالتأكيد‪.‬‬
‫إنه أنت‪.‬‬
‫وفي النهاية تستيقظ وكل أحالمك مهشمة‪ ،‬ونفسيتك محطمة‪ ،‬فتفتر همتك‬
‫ويقل حماسك وتتعامل مع كل شيء بالمباالة‪.‬‬
‫حماسا لكل شيء‪ .‬ليبقى بداخلك‬
‫ً‬ ‫شيء ما تغير بداخلك‪ ،‬أصبحت أقل‬
‫إحساس مقبض دائم وتساؤل ال ينتهي ‪:‬‬
‫هل هناك ما يستحق الحماسة في هذا العالم ؟!‪.‬‬
‫يقول زياد ‪:‬‬
‫ال شيء يجب القيام به في لحظتها‪ ،‬إن الوقت ممتد أمامي‪ ،‬وما لم أقم به‬
‫اآلن‪ ،‬فلينتظر للغد أو ليقم به غيري‪.‬‬
‫لست رئيس دولة فتكون قراراتي ذات تأثير قاتل على المواطنين‪ ،‬وال أعمل‬
‫حتى ليتسبب فتوري وكسلي في تعطيل عجلة اإلنتاج التي ال ترحم وال تشبع‬
‫من العرق والدموع‪ ،‬ولست أحمق كخليل الذي ورطه جشعه مع عصابة‬
‫كعصابة حمادة عكوش ألهرع ألتم العمل خوفًا من العقاب‪.‬‬
‫جميعا أنني أكثر أفراد شلتي كسالً‪ ،‬حتى الماء أنتظر أختي أو‬
‫أعترف لكم ً‬
‫أمي لتناولني إياه‪ ،‬وإال هو العطش‪.‬‬
‫جائعا بدون طعام لمجرد أال أحضره من المطبخ‪.‬‬
‫وفي معظم األحيان أنام ً‬
‫‪- 111 -‬‬
‫هذا كسل حميد ألن تأثيره ينصب على رأسي فقط‪ ،‬ولكن الشق اآلخر من‬
‫األمر هو المخيف‪.‬‬
‫الكسل قاتل‪ ..‬لألحالم ولآلخرين‪.‬‬
‫الكسل هو لعنتي من قبل أن تطأ قدمي منزل الشيخ ياسين‪ ،‬والكسل هو‬
‫لعنتي الحالية‪..‬‬
‫أعرف أن هذه هي لعنتي المختارة‪ ،‬وأعرف أنني القادم‪ ،‬لقد أخبرني أمجد‬
‫عن طريق سهيلة بهذا الخبر المثير‪ ..‬قضي األمر إذن‪.‬‬
‫إن نهايتي قريبة‪ ،‬فاليوم الرابع ليس ببعيد‪ ..‬ولكن كيف سيتسبب الكسل في‬
‫موتي ؟!‬
‫هل أنا خائف ؟!‬
‫بالطبع ال‪ ..‬فالخوف مرحلة أولى‪ ..‬وأنا تجاوزت هذه المرحلة منذ زمن‪ ،‬إنني‬
‫أنتظر الموت‪ ..‬ترى ما هي مشاعر من ينتظر الموت وال تفصله عنه إال أيام‬
‫معدودة ال تتجاوز أصابع اليد الواحدة ؟!‬
‫كل شيء حولي مكتسي بالسواد‪ ،‬فأنا الوحيد الذي يعرف خطيئته ويعرف‬
‫أنه مستحق للعقاب بجدارة‪ ،‬فكسلي تسبب في مصائب كثيرة‪ ،‬بل في‬
‫مآسي‪ ..‬أقربها يقطن في الغرفة السفلية في منزلنا العتيق المكون من طابقين‬
‫متصلين على النظام القديم‪ ..‬وهو أخي‪.‬‬

‫‪- 115 -‬‬


‫إن أخي الصغير هو ضحيتي األولى والذنب الماثل أمام عيني إلى األبد‪.‬‬
‫حدث األمر في تلك الليلة الصيفية الكئيبة‪ ،‬كنت كالعادة مستلقيًا في‬
‫فراشي منهم ًكا في الالشيء وغارقًا في عوالم العدم المتشابكة‪ ،‬عندما‬
‫ضا لم أكلف نفسي عناء‬
‫سمعت صراخ أخي الصغير ونحيبه‪ ،‬وكالعادة أي ً‬
‫استكشاف األمر‪ ،‬برغم صوت االرتطام المدوي الذي سبق الصراخ‪.‬‬
‫ملقى أسفل الدرج‪ ،‬وقد تهشمت إحدى الفقرات بعموده‬ ‫أخي الصغير ً‬
‫منتظرا النجدة من أخيه األكبر‪.‬‬
‫ً‬ ‫الفقري‪ ،‬يتألم ويبكي لنصف ساعة كاملة‬
‫المنهمك في تدخين سيجارته اللف‪ .‬والمتجاهل ألنين أخيه في ال مباالة‬
‫قاتله‪.‬‬
‫لم يتصور أخي (وحيد) أثناء امتطائه للدرج الداخلي‪ ،‬أن ينتهي األمر إلى‬
‫مأساة‪ ..‬هرمونات الطفولة القلقة لم ترحمه‪ ،‬الجميع مشغولون عنه بمشاهدة‬
‫لماما بصحبة خليل‪.‬‬
‫المباراة ‪ ،‬وأخوه الكبير في غرفته التي ال يغادرها إال ً‬
‫إنه يريد أن يلعب‪.‬‬
‫عقله الصغير يبحث عن وسيلة‪ ،‬يتأمل المكان في حماسة‪ ،‬ثم يلمح الدرج‪،‬‬
‫لعبة الكبار األثيرة التي تنهره أمه عنها طوال الوقت‪.‬‬
‫يتلفت وحيد حوله في حذر‪ ،‬ال يجد أح ًدا‪ ،‬الكل منشغل عنه‪..‬إنها فرصته‬
‫ليمارس لعبة جديدة‪ ..‬يتسلق الدرابزين الخشبي‪ ،‬يقبض عليه بيديه وقدميه‪،‬‬

‫‪- 116 -‬‬


‫وينتظر تلك اللحظة المثيرة التي سيترك يديه فيها لينزلق فوق العارضة‬
‫الخشبية للدرابزين‪.‬‬
‫األمر ليس بالسهولة المتوقعة‪ ،‬المفروض أن يترك يديه ويتشبث بقدميه‪،‬‬
‫ولكنه لم يستوعب هذه النقطة بعد‪ ،‬يباعد بين يديه وقدميه‪ .‬يختل توازنه‪،‬‬
‫يحاول أن يتشبث بيديه فوق الدرابزين الخشبي‪ ،‬ولكنه يفشل‪.‬‬
‫متدحرجا فوق حواف الدرج القاسية‪ ،‬إنها ليست المرة األولى‬
‫ً‬ ‫يسقط وحيد‬
‫التي يسقط فيها من فوق الدرج‪ ،‬ولكنها السقطة الحاسمة‪.‬‬
‫حافة الدرج لم ترأف بعموده الفقري األخضر‪ .‬سحقت له فقرة وحيدة‪،‬‬
‫كانت كفيلة بكل شيء‪.‬‬
‫لم يسمعه أي من أفراد أسرته المنشغلين جميعًا بنهائي أفريقيا‪ ،‬بين مصر‬
‫وفريق ال أذكره‪.‬‬
‫صوت التلفاز المرتفع‪ ،‬وضجيج االنفعال‪ ،‬غطى على صوت الصراخ‬
‫الضعيف واألنين فلم يسمعه غيري‪.‬‬
‫وأنا استسلمت لخمولي وقنوطي‪ ،‬وتركت أخي الصغير يعاني وتتسرب من‬
‫ملقى كدمية مهشمة أسفل الدرج‪،‬‬
‫جسده العافية والحيوية‪ ،‬وحي ًدا كاسمه ً‬
‫حتى أتت أمي المفجوعة من الخارج لتشاهد الكارثة‪.‬‬
‫الكذب والخداع كانا وسيلتي للنجاة‪.‬‬

‫‪- 117 -‬‬


‫مالمح الحزن واألسى على وجهي‪ ،‬الصدمة محفورة في مالمحي‪ ،‬أقف‬
‫بينهم أمام أمي كحمل وديع‪ ،‬لو تنبه لهرع لنجدة أخيه‪.‬‬
‫عذرا مقبوالً عند أمي التي فقدت أحالمها الخاصة بطفلها‬
‫النوم كان ً‬
‫المفضل آخر العنقود‪.‬‬
‫سامحتني ولكنها لم تسامح أبي وإخوتي الذين تركوا وحيدا المصاب‬
‫ليشاهدوا مباراة كرة قدم لعينة‪.‬‬
‫وبعدها تغيرت أمي هي األخرى‪ ،‬وظلت ترتدي ثوب الحداد إلى األبد‪.‬‬

‫كثيرا من األمور‪ ،‬وتوفر أمواالً‬


‫لحظة اهتمام مني كانت من الممكن أن تبدل ً‬
‫طائلة احترقت بين أيدي األطباء‪.‬‬
‫أنا السبب في معاناة أسرتي‪.‬‬
‫وفي أن يظل أخي يعاني ما بقي له من العمر فوق مقعد متحرك‪ .‬يحرك‬
‫ذراعيه بصعوبة ويعجز عن تحريك ساقيه ويحتاج لمن يعينه حتى في ذهابه‬
‫لقضاء حاجته‪.‬‬
‫وهل اتعظت من الحادثة‪ ،‬هل زايلني الكسل‪ ،‬هل انتهجت الطريق السليم‪،‬‬
‫هل تبدل في روحي المنكسرة أي شيء ؟!‬
‫بالطبع ال‪ ..‬إن همتي الفاترة ال تغيرها أحزان العالم وال آالمه بل تعمقها‪.‬‬
‫ولألسف لم تكن هذه هي الحادثة الوحيدة وال األخيرة‪.‬‬
‫‪- 118 -‬‬
‫الحريق كان فاجعتي الكبرى‪.‬‬
‫هل تذكرون حريق أغسطس منذ عام كامل ؟! لقد كتبت عنه الصحف لعدة‬
‫أيام ‪.‬هل تذكرون ضحاياه ؟! هل تذكرون عقب السيجارة المشتعل الذي بدأ‬
‫األمر ؟! هل تذكرون من ألقاه ثم لم يبادر بمساعدة جيرانه الواقعين في‬
‫جحيما واشتعلت بسببه ثالثة منازل‪.‬‬
‫ً‬ ‫محنة‪ ،‬عندما صار األمر‬
‫هذه هي صورته المعلقة على الحائط‪.‬‬
‫إنه ال يشبهني فقط بل هو أنا ومنذ عام كامل‪.‬‬
‫إنه أنا‪ .‬أنا !!‬
‫إن سميرة تلعنني طوال الوقت دون أن تعرفني‪ ..‬أال تعرفون سميرة ؟ بالطبع‬
‫ال تعرفونها‪ ،‬إنها جارتي‪ ..‬ولن تجسروا اآلن على معرفتها‪.‬‬
‫هي أصالً لم تعد تختلط بأحد منذ تشوهت‪ ..‬نعم تشوهت‪ ..‬فالحريق الذي‬
‫ضا بقاطنيها‪.‬‬
‫يلتهم ثالثة منازل لن يكون رئي ًفا أي ً‬
‫أعرف أنها تلعنني في كل صباح ومساء وربما في كوابيسها التي لم تنقطع‬
‫لحظة واحدة‪.‬‬
‫سميرة التي كانت تشبه الفاكهة الناضجة‪ ،‬والتي كان القمر يغازلها في كل‬
‫مساء‪ ،‬البد أنها تموت ألف مرة‪ ،‬وتتمنى لو أنها تفحمت مع من تفحم من‬
‫إخوتها اآلخرين‪ .‬خاصة عندما تطالع وجهها وجسدها المشوه في المرآة‪.‬‬

‫‪- 119 -‬‬


‫لقد انتهت حياتها وذوى جمالها‪ ،‬وسط الزهرة البرتقالية القاسية‪ .‬ذاب‬
‫جمالها مع جسدها مع حقها في أن يكون لها حياة طبيعية‪.‬‬
‫ذاب بسبب وغد حقير لم يكلف نفسه عناء إطفاء عقب سيجارته ألنه‬
‫سعيد بتمثيل دور الضحية‪.‬‬
‫هل عرفتم خطيئتي ؟!‬
‫أنا عرفتها منذ زمن‪ ،‬وحان وقت الحساب‪.‬‬

‫‪- 101 -‬‬


‫‪ -‬الدماء على الحائط ‪-‬‬
‫ليل اليوم األول يمضي ومعه ساعات ثمينة كان من الممكن أن أمضيها في‬
‫هباء‬
‫التعبد ودعاء اهلل القادر على نجدتي وغفران ذنوبي‪ ،‬ولكني أضعتها ً‬
‫كعادتي وكأنني خلقت من صخر مصمت والدماء التي تجري في عروقي من‬
‫هالم‪ ..‬فمازلت أمارس دور الضحية وأستمتع به‪.‬‬
‫ثالثة أيام‪ ..‬اثنان وسبعون ساعة‪ ..‬وقت ال يكفي ألي شيء نافع من وجهة‬
‫نظري‪ ،‬ولكنه يكفي لمزيد من الخمول واالستسالم‪.‬‬
‫ماذا تفعل في أيامك األخيرة‪ ،‬وأنت تعرف يقينًا أن الخيط الذي يربطك‬
‫بالحياة على وشك التمزق‪ ،‬وأن شمعة عمرك التي كانت ساطعة‪ ،‬تحتضر‬
‫وتذوي‪ ،‬وأن الموت يتربص بك‪.‬‬
‫أولوياتك ستختلف بالتأكيد‪ .‬ستضع مئات الخطط‪ ،‬ستطلب الصفح من‬
‫كل من أسأت لهم ومن ظننت أنك أسأت لهم‪ ..‬ستنفض عنك غبار‬
‫الكسل وتقرر أن تكون خاتمتك مشرفة‪.‬‬
‫هذا بالفعل ما يقوم به كل من يملك فطرة سليمة‪ ،‬أنت ستفعل ذلك‪ .‬لن‬
‫تستسلم لهمتك الواهية‪ ،‬الدماء التي في عروقك ستتحول إلى أدرينالين‬
‫يجبرك على التغير‪ ،‬إن نهايتك قريبة ولو لم يحركك هذا السبب‪ ،‬فأنت‬
‫مشوها من‬
‫ً‬ ‫نسخة بشرية مشوهة‪ .‬بل أنت ميت منذ زمن طويل‪ ،‬وأنا كنت‬
‫الداخل‪ ،‬سناج اليأس يعبق روحي‪ ،‬وربما أكثر من سميرة نفسها‪.‬‬
‫‪- 100 -‬‬
‫الدماء التي تجري في عروقي أصبحت كالحبر‪ ،‬وأكثر ثقالً وقتامه من تلك‬
‫الدماء التي تسيل على الحائط أمامي والتي توقفت عن محاولة إزالتها منذ‬
‫زمن‪ ..‬يا للسخرية‪ ،‬حتى شياطين الشيخ ياسين تقوم بعملها بكل ضمير‬
‫ومستمرة في إثارة ذعري‪.‬‬
‫إن شياطين الشيخ ياسين ال تمزح‪ ،‬فقلبي يكاد يتوقف من الرعب بالفعل‪،‬‬
‫فالحائط ذو الطالء الباهت‪ ،‬يبدو كجرح مفتوح يلطخ من حولي كل شيء‬
‫بالدماء‪ ،‬مصحوبًا بتلك الخربشات الحادة التي تأتي من خلف الجدران‪ ،‬وال‬
‫شيء ينجح في إزالة هذه الدماء أو يمحو آثارها‪.‬‬
‫شعر جسدي يقف من الرعب‪ ،‬ما هذه األصوات المخيفة‪ ،‬إنني أكره الفئران‬
‫وصوتها الباعث على القشعريرة‪.‬‬
‫ألهذه األصوات عالقة بالفئران ح ًقا‪ ،‬أم هي صوت مخالب الجني المكلف‬
‫بعقابي ؟!‬
‫إنها أصوات مزعجة‪ ،‬وتثير جنوني‪ ..‬ولكن الوقت مازال أمامي‪.‬‬
‫ال شيء سيحدث قبل ثالثة أيام‪.‬‬
‫فلتصرخ الفئران ولتغمر الدماء العالم كله‪ .‬مازال أمامي ثالثة أيام كاملة‪.‬‬

‫‪- 101 -‬‬


‫الصراخ يرتفع‪ ،‬والخمشات تتزايد‪ ،‬والدماء تتلوى كثعابين مفترسة‪ ،‬وبعد‬
‫لحظات كانت روحي قد بلغت حلقي عندما بدأت الدماء تمارس لعبتها‬
‫األثيرة‪ ،‬وتتحول لكلمات‪.‬‬
‫‪ -‬أنت القادم‪.‬‬
‫الدماء تشكل الجملة على الحائط فتتجمد الدماء في عروقي‪.‬‬
‫‪ -‬أنت القادم‪.‬‬
‫أعرف أعرف‪.‬‬
‫ال داع لتذكيري في كل لحظة‪.‬‬
‫‪ -‬أنت القادم‪.‬‬
‫األصوات المزعجة خلف الجدران ال تتوقف‪..‬‬
‫أستخدم جهاز التحكم عن بعد ألشعل التلفزيون الملون ذو األربعة عشر‬
‫بوصة‪ ،‬الصوت الصادر منه سيمنحني بعض الونس وسيشوش على تلك‬
‫األصوات المزعجة التي تؤذي أذني عبر الحائط‪.‬‬
‫لماذا ال أغادر الغرفة ؟!‬
‫الجواب معروف مسب ًقا‪ ،‬ألني مهما غادرتها عائد إليها ولمصيري‪ ،‬وال فائدة‬
‫من نقل اللعنة لمكان آخر‪.‬‬

‫‪- 101 -‬‬


‫قناة اإلم بي سي‪ ،‬تعرض أفالم رعب مخيفة‪ .‬إنه االثنين‪ .‬ليلة الرعب كما‬
‫يطلقون عليها‪ ..‬األفالم تبدو تافهة ج ًدا أمام الواقع األسود الذي أحياه‬
‫اآلن‪..‬‬
‫إن القاتل ذو المنشار يمزق الضحية‪ ،‬هل تكون هذه نهايتي ؟!‬
‫المنشار المسنن يخترق أحشا ء الضحية عبر مقعد السيارة من الخلف‪،‬‬
‫ممزقًا في طريقه عمودها الفقري‪.‬‬
‫ثم ينتهي الفيلم‪.‬‬
‫إذن الشر ينتصر في النهاية !!‬
‫****‬
‫اليوم الثاني‪.‬‬
‫ال نية لي للقيام بشيء‪ ..‬إن روحي نفسها مجمدة‪ ..‬وأعصابي لم تعد‬
‫تستجيب لشيء‪ ..‬أالعيب الدماء على الحائط أصبحت سخيفة حتى إني‬
‫التقطت لها عدة صور بهاتفي المحمول‪.‬‬
‫باردا‪ ،‬ولكني‬
‫لو أردتم مطالعتها‪ ،‬يمكنكم طلبها من أخي بعد موتي‪ ..‬لست ً‬
‫اعتبرت نفسي ميتًا منذ عجزت عن تحقيق حلم واحد من أحالمي‪.‬‬

‫‪- 101 -‬‬


‫شاب في مثل عمري مازال يأخذ مصروفه من أمه‪ ..‬الحياء يمنعني من طلب‬
‫النقود من أبي‪ ،‬يكفيه ما يقاسيه طوال اليوم من أجل توفير لقمة العيش‬
‫والدواء لي وألخوتي‪.‬‬
‫غرفتي أصبحت معبقة برائحة التبغ المحترق‪ ،‬البد أن رئتاي قد اكتسيتا‬
‫باللون األسود‪ ،‬إن خمس علب في اليوم انتقام وليست تدخينًا‪ .‬بعد موتي‬
‫ستفاجأ أمي بكل علب السجائر التي طلبتها من البقال على الحساب‪ .‬إنه‬
‫الدين األخير‪ ..‬وتسديده لن يمثل لي مشكلة وقتها‪.‬‬
‫سهيلة تواصل رجمي باألخبار السيئة والنصائح‪ ،‬وأنا معتكف في غرفتي ال‬
‫أقوم بأي رد فعل يوحي بوجود كائن حي بالداخل‪ .‬ربما لو ظهر حل ما‬
‫لنفضت الكسل عن جسدي وقاتلت‪ ..‬ربما‪ ..‬لقد رفضت أن أتواصل مع‬
‫الجميع‪ ،‬فقط تلك الحرباء سهيلة هي الوحيدة التي أجيب اتصاالتها لعلها‬
‫تخبرني في لحظة ما‪ ،‬أن كل شيء قد انتهى‪ .‬وأنني حر‪.‬‬
‫لم أعد أستجيب ألي اتصال يأتي من أي شخص من أفراد شلتي‪ ،‬فما‬
‫الفائدة من تبادل كؤوس اليأس والقنوط ؟‬
‫كل شيء ثابت منذ ساعات كلوحة في قبو مهجور‪ ،‬لوال أدخنة التبغ لتحول‬
‫المكان لقبر مغلق‪ .‬التغير الوحيد الذي يتم في الغرفة غير سحب الدخان‬
‫التي صارت كالضباب‪ ،‬هو حركة الدماء التي ال تتوقف‪ ،‬فها هي الدماء‬
‫تسيل طامسة لجملة أنت القادم‪ ،‬لتتجمع في بؤرة واحدة‪.‬‬

‫‪- 105 -‬‬


‫هناك شيء جديد سيحدث‪ .‬بل هو يحدث اآلن‪ ،‬فالكلمات تتشكل من‬
‫جديد‪ .‬ليست الجملة المعتادة المبتذلة‪ ،‬إنها جملة جديدة ومفهومة‪ ،‬جملة‬
‫تشكل طوق النجاة‪ .‬الحل يأتي إلي عبر الدماء‪.‬‬
‫هناك قوة ما تؤازرني‪ ،‬وتطالبني بالتحرك السريع‪ .‬إنها اللحظة الموعودة‪.‬‬
‫والمهلة ثالث ساعات‪.‬‬
‫هل استجاب اهلل لدعائي ؟! أم هي ألعاب الشياطين التي ال تنتهي‪.‬‬
‫ارتديت مالبسي على عجل‪ ،‬ووضعت بجيبي المطواة الحادة التي لم تعد‬
‫تفارقني بعد أحداث االنفالت األمني الكبير‪ .‬نظرة أخيرة للحائط كي أتأكد‬
‫واهما‪ .‬أردد العبارة بصوت عال لتلتصق بذاكرتي‪ ،‬إنها عقدي‬
‫من عدم كوني ً‬
‫الجديد مع الشيطان‪.‬‬
‫" اقتل الوسيطة تنجو"‪.‬‬
‫ال يوجد أبسط من هذا‪!! ..‬‬

‫‪- 106 -‬‬


‫‪ -‬جريمة قتل ‪-‬‬
‫كي تقتل البد أن تكون بارد األعصاب‪ ..‬تضع خطة جيدة‪ ..‬تختار الوقت‬
‫المناسب والسالح المناسب‪ .‬ثم تترك توترك خلفك وكل معتقداتك‪.‬‬
‫إنك ستقوم بالجريمة التي يهون أمامها هدم الكعبة‪ ،‬ولكنك منذ زمن لم تعد‬
‫تتعلق بهذه المبادئ والمعتقدات‪.‬‬
‫أنت شخص نكرة‪ ،‬حجر من تلك األحجار التي يدهسها حذاء الوقت‪ ،‬فلو‬
‫تم محوك من المجرى الزمني لن تتسبب في تغير يذكر‪ .‬وبرغم كل مساوئك‬
‫وتفاهتك‪ ،‬فأنت تتمسك بهذه الحياة‪ ،‬وتنتظر مارد المصباح الذي سيحقق‬
‫لك كل أمنياتك‪.‬‬
‫اليوم ظهر لك مارد المصباح في هيئة دماء تنبثق من قلب الحائط‪ ،‬ومنحك‬
‫الحل السحري‪ ،‬ولكنه يطلب منك أن تقوم بالفعل اإلنساني الوحيد الذي‬
‫تمقته‪ ..‬أن تعمل‪.‬‬
‫وهذه المرة ستنفض الكسل‪ ،‬ستستعيد حماس المغامرات العاطفية‪ ،‬الشيء‬
‫الوحيد الذي يجبرك على ترك رداء كسلك في منزلك‪.‬‬
‫تنتهي من ارتداء مالبسك الداكنة‪ ،‬حتى تستطيع االختفاء واالمتزاج بالظالم‪.‬‬
‫فجرائم القتل ال تتم إال في الظالم‪.‬‬

‫‪- 107 -‬‬


‫كل القتلة يعرفون هذه القاعدة البسيطة وأنا لن أختلف عنهم‪ ..‬والشمس قد‬
‫ماتت منذ ساعات‪.‬‬
‫هل أقوم بحالقة ذقني ؟!‬
‫ال داعي للمبالغة وال إلضاعة الوقت‪.‬‬
‫تبقى المشكلة األخيرة‪.‬‬
‫السالح‪.‬‬
‫المطواة التي معي برغم كفاءتها وإجادتي الستخدامها‪ ،‬إال أنها أداة غير‬
‫عملية فهي تحتاج اللتحام مباشر مع الهدف‪ ،‬والهستريا قد تجعلني ال أتم‬
‫مهمتي‪ ،‬وقد أتركها في مسرح الجريمة‪ ،‬فتقودهم إلي‪.‬‬
‫لذا فإن المسدس هو السالح المناسب للمهمة‪.‬‬
‫التدريب‪.‬‬
‫ال داعي للقلق من ناحيته ألن فترة التجنيد كانت كفيلة بإجادتي لألمر‪.‬‬
‫إذا فالحل عند شحتة‪.‬‬
‫****‬
‫ال يوجد شيء في هذا العالم يمكن أخذه كشيء مسلم به‪.‬‬

‫‪- 108 -‬‬


‫وهذه المقولة تنطبق على شحتة وبشدة‪ .‬فشحتة هو الشخص الوحيد الذي‬
‫يجب تواجده في كل شلة‪ ..‬كتلة العضالت المتحركة التي تثير الرعب‬
‫وتجلب االحترام‪ .‬وألن الظواهر تخدع‪ ،‬فدعوني أحدثكم قليالً عن شحتة‪.‬‬
‫شحتة طيب القلب‪ ،‬ال يغرنكم هيئته المخيفة‪ ،‬ربما هو سريع االنفعال وهذا‬
‫شريرا‪ ،‬كما أن مالمحه الغليظة تستجلب النفور له‪ .‬ولكنه‬
‫مايجعله يبدوا ً‬
‫تماما‪.‬‬
‫برغم كل شيء يتمتع بقلب رقيق يختلف عن هيئته ً‬
‫لقد تجاهلت اتصاالته طوال اليومين الماضيين‪ ،‬ولكني أعرف أن مجرد‬
‫ذهابي له سيمحوا كل جفوة‪..‬‬
‫يؤمن شحتة بكل الخرافات الموجودة في الدنيا‪ ،‬وإن كان ال يخشى أي‬
‫كائن حي له وجود وكيان مادي‪.‬‬
‫يخشى أشباح األماكن المهجورة‪ ،‬وينفر من الكالب والقطط السوداء‪،‬‬
‫اتقاء للحسد‪ ،‬وال بأس من إطالق‬
‫يرتدي خرزة زرقاء وكف ذهبي على صدره ً‬
‫والدته للبخور في المنزل‪ .‬صباح كل جمعة مع حرق عروس ورقية تأخذ معها‬
‫شر العيون‪.‬‬
‫شحتة هو أحد أعمدة الشلة فهو من يوفر لنا المزاج‪ ،‬ورشاد من كان يدفع‬
‫معظم الوقت ونحن كنا نساهم على فترات بعيدة‪ .‬إن شحتة هو هدفي اآلن‪.‬‬
‫شحتة هو من سيوفر لي السالح الذي أحتاجه‪.‬‬
‫****‬
‫‪- 109 -‬‬
‫‪ -‬اليوم الثالثاء‪ .‬وأنا ال أعمل يوم الثالثاء‪ ..‬إنه يوم نحس‪.‬‬
‫كانت هذه هي إجابة شحتة على طلبي‪ ،‬ولكني ألحيت عليه وذكرته بالخطر‬
‫الذي ي حيط بي وبه‪ ،‬وكيف أن هذا السالح مجرد حماية‪ ،‬وخدمة من أخ‬
‫ألخيه‪.‬‬
‫‪ -‬الثالثاء شؤم‪ ..‬وأنصحك أال تقوم فيه بأي عمل كي ال ينقلب إلى‬
‫العكس‪ ،‬ثم ال أحد يقاتل الجن والعفاريت بالسالح‪.‬‬
‫قالها ثم تلفت حوله بحثًا عن خطر وهمي‪.‬‬
‫ساعة وعشر دقائق أهدرت منذ خطت الدماء جملتها األخيرة‪ ،‬الوقت لن‬
‫يكفي لهذه المهاترات‪ ..‬خبطت بقوة فوق المنضدة التي تفصل بيننا في‬
‫ذلك المقهى الذي جمعنا‪ ..‬لتسقط األكواب مهشمة ساكبة كل سوائلها‬
‫الملتهبة فوق أحذيتنا‪ ،‬ثم نعته بالنذالة والجبن‪ ،‬وكان هذا يفوق تحمله‪.‬‬
‫لكمة هائلة كادت تفتك بفكي‪ .‬ألم أخبركم من قبل بعصبيته الشديدة ؟‬
‫ساعة ونصف تبخرت‪ ،‬حتى انتهت المشادة وتصافينا‪ ،‬وإمعانًا في التصافي‬
‫ذهب معي إلى صديق آخر قام بالمهمة ومنحني السالح على سبيل اإلعارة‪.‬‬
‫فمن أين لي بثمنه ؟!‬

‫‪- 111 -‬‬


‫وقبل أن أغادر نصحني أال أتهور وأثق في السالح‪ ،‬ألن هذه األشياء ال تؤثر‬
‫بها ما يؤثر في البشر‪ .‬وأنه كان يتمنى خدمتي‪ ،‬ولكن الجن ال يتأثر‬
‫باللكمات‪.‬‬
‫غادرته ثم انطلقت بعدها ألقابل سهيلة التي حدثتها من تليفون عمومي‪،‬‬
‫وحددت معها الموعد‪ .‬فأنا لست بهذا القدر من الغباء الذي يجعلني أكون‬
‫آخر رقم يتصل بها قبل مقتلها‪.‬‬
‫آخر مبلغ معي من المال أنفقته على سيارة األجرة‪ .‬التي أقلتني إلى المقطم‪،‬‬
‫وجلست بعدها ألحصي الدقائق المتبقية على حضور سهيلة‪ .‬إن المقطم هو‬
‫تماما‪.‬‬
‫المكان المناسب لما أرغب في فعله‪ ،‬إنني جاهز ً‬
‫النية انعقدت‪ ،‬والمسدس المصنوع يدويا ممتلئ بالطلقات‪ ،‬وهذه المنطقة‬
‫التي اخترتها مهجورة إلى حد ما‪.‬‬
‫كنت أتمنى الحصول على سالح بكاتم للصوت ال ضجيج له‪ ،‬ولكن من ال‬
‫يملك النقود‪ ،‬ال يعتد بأمنياته‪.‬‬
‫دقائق ثم ظهر الكشافان الساطعان‪ ..‬ثم توقفت السيارة األجرة على مقربة‬
‫من المكان‪ ،‬وترجلت منها سهيلة وعلى وجهها تبدو مالمح القلق‪ ،‬ألتوارى‬
‫أنا خلف تل كبير من القمامة كريه الرائحة والتي ينبعث منه الدخان األسود‬
‫الناتج عن االحتراق‪..‬‬

‫‪- 110 -‬‬


‫السيارة األجرة لم تنصرف‪ ..‬تلك الخبيثة‪..‬‬
‫أصوب المسدس إلى صدرها بإحكام‪ ..‬البد أن تصيب الرصاصة األولى‬
‫الهدف‪ ،‬فقد ال يكون هناك مجال لرصاصة أخرى‪ ،‬بعدها سأعدو من هذا‬
‫الطريق المختصر الذي يقود صوب الطريق الرئيسي وبعدها ليكن ما يكون‪.‬‬
‫المسدس يهتز في يدي‪ ..‬قلبي ال يطاوعني‪ ..‬ما ذنب سهيلة حتى تستحق‬
‫هذا المصير ؟‬
‫إنها تقترب وهي تتلفت حولها‪.‬‬
‫المكان الخالي من البشر يثير ريبتها‪ ،‬ولكنها تتقدم صوبي رغم ذلك‪.‬‬
‫أصابعي متجمدة على الزناد‪.‬‬
‫الدخان الناتج من أسوأ طريقة للتخلص من القمامة يتراقص أمام عيني‪،‬‬
‫ويتحول إلى عد تنازلي يبدأ من الرقم مائة‪..‬‬
‫تسعة وتسعون‪.‬‬
‫ثمانية وتسعون‪.‬‬
‫‪....‬‬
‫سبعون‪..‬‬
‫سهيلة تقترب أكثر‪ ،‬لو خطت سهيلة خطوة أخرى لرأتني‪..‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫دموعي تهطل من الضغط العصبي والنفسي‪.‬‬
‫سهيلة رأتني ورأت المسدس المشرع في يدي والموجه لجسدها‪.‬‬
‫تالقت أعيننا للحظات‪..‬كهرباء الرعب تسري في جسدها‪.‬‬
‫عينا سهيلة تتسع في ذهول ويبدو على وجهها آثار الصدمة‪.‬‬
‫سهيلة فهمت ما هي مقبلة عليه‪..‬‬
‫إنها تتقهقر في خطوات مرتبكة‪ .‬تهز رأسها غير مصدقة‪.‬‬
‫الوقت يمر وفرصتي تتضاءل‪ .‬العد التنازلي وصل للرقم خمسة‪.‬‬
‫خمسة‪..‬‬
‫أربعة‪..‬‬
‫ثالثة‪..‬‬
‫اثنان‪..‬‬
‫أدير المسدس لرأسي‪..‬‬
‫صرخة عاتية من سهيلة‪.‬‬
‫تل القمامة يشتعل‪..‬‬
‫ال‪....................‬‬

‫****‬

‫‪- 111 -‬‬


‫سهيلة تندفع نحو سيارة األجرة‪ ،‬والتي ال يبدو أن سائقها قد سمع الصرخة‬
‫أو رأى ما حدث مع كاسيت السيارة المرتفع‪.‬‬
‫تدخل إلى المقعد الخلفي‪ ..‬تضع وجهها بين كفيها لتنهمك في وصلة بكاء‬
‫حار‪ ،‬والسائق ينظر نحوها عبر مرآة السيارة في تعجب‪ ،‬فلم ير ذلك الوجه‬
‫حتما‪.‬‬
‫المخيف الذي صنعه الدخان فوق تل القمامة‪ ..‬إن بلفيجور ال يمزح ً‬
‫وبسالسة عجيبة خط الدخان جملة سرعان ما تالشت في الهواء بعد‬
‫انصراف السائق ‪:‬‬
‫‪ -‬الخامس يتالشى في اليوم الثالث‪.‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫‪15‬‬
‫اللعنة الخامسة ‪ -‬الحسد‬
‫عرفها دانتي ‪ :‬حب الشخص الطبيعي لنفسه تحول لعاطفة آثمة تتمنى زوال‬
‫الخير عن اآلخرين‪ ..‬مرتبطة بالشيطان ليفياثان ‪ Leviathan‬شيطان‬
‫البحار‪ ..‬واللون األخضر‪..‬‬

‫أنا الحسد‪ ..‬ولدت من منظف مداخن وبائعة محار‪ ..‬أنا ال أعرف القراءة‪..‬‬
‫لذلك أتمنى لو تحترق الكتب جميعها‪ ..‬إن رؤية الناس يأكلون تصيبني‬
‫بالهزال‪ ..‬آه لو تحل مجاعةً على العالم بأجمعه‪ ..‬فيموت الناس كلهم‬
‫وأعيش وحدي‪ ..‬عندها سوف ترى كيف أصبح بدينة‪ ..‬لكن هل يجب أن‬
‫تجلس أنت وأنا أقف ؟ هيا لالنتقام‪..‬‬

‫‪- 115 -‬‬


- 116 -
‫‪ -‬العين الشريرة ‪-‬‬
‫يقول شحتة ‪:‬‬
‫كنت أتمنى لو أن هناك وسيلة مادية‪ ،‬لمقاومة الحسد والعيون الحارة‪ ،‬والتي‬
‫تكفي نظرة واحدة منها إللحاق األذى والضرر لمن يقع في نطاق مداها‬
‫القاتل‪.‬‬
‫جدتي تخبرني أن اليهود في وقت اإلحصاء السكاني كانوا يدفعون شيكل‬
‫عن كل فرد من أفراد األسرة‪ ،‬بديالً عن كتابة أسمائهم كي ال يصاب أحدهم‬
‫كبيرا‪ ،‬لقد أخبرتها صديقة جورجيت‬
‫بالحسد خاصة لو كان تعداد األسرة ً‬
‫وهي عجوز كانت تقطن حارة اليهود وغادرتها قبل سنوات بعيدة عندما‬
‫كانت جدتي في شرخ الشباب‪ ،‬وكان اليهود أصحاب ديانة فقط ولم‬
‫يتحولوا لذلك اإلخطبوط المتعصب المسمى الصهيونية ‪.‬‬
‫ضا أنه من الشائع أن يبصق اليونانيون باتجاه شخص‬
‫صديقتها أخبرتها أي ً‬
‫يطري عليهم خوفًا من الحسد‪.‬‬
‫وأحيانًا يتكرر البصق عدد مرات بشكل مقزز ! وهي وسيلة ال يمكن أن‬
‫تنجح في مصر ذات الدماء الحارة‪ ،‬فالبصق قد يمنع الحسد‪ ،‬ولكنه لن‬
‫يمنع من تبصق عليه من تهشيم وجهك وتحويله إلى عجة‪.‬‬
‫ضا أن ارتباط الحسد بالجفاف معروف منذ زمن األجداد‪ .‬فالعين‬
‫وتخبرني أي ً‬
‫الشريرة تصيب الضحية بالجفاف‪ ،‬الذي يتبعه كل شيء سيء من مرض‬
‫‪- 117 -‬‬
‫وموت وخالفه‪ ،‬والحسد ال يقتصر على البشر فقط‪ ،‬بل يمتد للحيوانات‬
‫والنباتات‪.‬‬
‫األسماك فقط هي المحصنة ألن الماء يغمرها‪.‬‬
‫وكانت تخبر النساء الالئي على وشك الوضع أن يرتدين التمائم الزرقاء‬
‫و(الخمسة وخميسة) وهي قالدة على شكل كف بها عين كبيرة في‬
‫ضا (الماشاء اهلل) وهي قالدة‬
‫المنتصف وهي عين اإلله حورس الفرعوني‪ ،‬وأي ً‬
‫من ذهب أو فضة كتب عليها بالعربية ما شاء اهلل لتخطف بصر الحاسد فيتم‬
‫اتقاء شره‪.‬‬
‫هذا غير إطالق البخور الجاوي‪ ،‬وصنع العروسة الورقية‪ ،‬وثقبها بإبرة حادة‬
‫كل ثقب يمثل اسم لحادث متوقع‪.‬‬
‫كانت جدتي رحمها اهلل تنهرني بشدة لو اكتشفت أني ال أرتدي ثيابي‬
‫الداخلية بالمقلوب‪ ،‬أو أن الحجاب المعلق في صدري غير موجود‪ ،‬إنني‬
‫منذ صغري وأنا معرض للحسد‪ ،‬فقد ولدت ووزني أربعة ونصف كيلو جرام‪،‬‬
‫مسارا‬
‫وعيناي الخضراوان التي حصلت عليها من خالي عبر الجينات كانتا ً‬
‫آخر للحسد‪.‬‬
‫مبكرا ج ًدا كان سبيالً آخر‬
‫نهمي للرضاعة والذي أجبر أمي على إطعامي ً‬
‫للحسد‪ .‬كما كانت جدتي تحرص على عدم ارتدائي ألي مالبس جديدة أو‬
‫ملفتة وهي من أطلقت علي اسم شحتة‪ ،‬كي تقيني من العين‪.‬‬
‫‪- 118 -‬‬
‫أخشى العيون‪ ..‬وخاصة العيون الزرقاء‪ ،‬ألنها عيون غير أصيلة‪ ،‬أتت عبر‬
‫البحار‪ ،‬ومن نسل األجانب‪ ،‬وهذه العيون شرها مستطير وال يمكن مقاومته‪.‬‬
‫في السابق كنت أزور الشيخ ياسين مع جدتي‪ ،‬طلبًا للبركة‪ ،‬وألن جدتي‬
‫كانت تشعر في بعض األوقات بأن روح جدي قلقلة وغير مستريحة‪،‬‬
‫فكانت تأتي للشيخ ياسين لتطلب منه النصح واإلرشاد‪.‬‬
‫وذات مرة طلبت تحضير روحه‪ ،‬ولكن الشيخ ياسين نهرها‪ ،‬وأخبرها أن‬
‫روحا نجسة تسكن‬
‫الروح القلقة ال يجب إزعاجها أكثر‪ ،‬وقال لها إن هناك ً‬
‫القبر الذي دفن فيه جدي‪ ،‬إما أن تنقل عظام الجد لمدفن آخر أو تنقل‬
‫الجثة النجسة من هذا القبر‪.‬‬
‫لم يكن األمر بالسهولة المتوقعة‪ ،‬وهذه لعنة المقابر المشتركة‪ ،‬أنت ال‬
‫تنتهك مقبرة عائلتك فقط‪ ،‬بل مقبرة عائلة أخرى‪ ،‬وهذه األمور ال تفاهم‬
‫فيها‪ ،‬فعائلتنا لم تواري أح ًدا التراب منذ زمن‪ ،‬فالجثة المقصودة تخص‬
‫العائلة األخرى‪ ،‬وبالتالي ال يمكنك أن تمس جثة ال تخصك‪ ،‬ناهيك عن‬
‫حرمة الميت والقبر‪.‬‬
‫ال أعرف ماذا فعلت جدتي في هذه المعضلة تفصيالً ! فكل تحركاتها‬
‫اتسمت بالسرية والغموض‪ ،‬ولكنها عادت ذات مساء ووجها مبتسم‪،‬‬
‫أخيرا‪.‬‬
‫وساطع من الفرحة وأخبرتني أن روح جدي البد وأنها استراحت ً‬

‫‪- 119 -‬‬


‫ال أعرف التفاصيل الكاملة لنبش القبر وال أي الجثتين نقلتا خارج القبر وال‬
‫مصير الجثة المنقولة‪ .‬والعجيب أن ما فعلته جدتي‪ ،‬جعل الكوابيس تنقطع‬
‫هدوءا‪ ،‬وإن لم‬
‫عنها وتوقف جدي عن إزعاجها في المنام‪ ،‬وصار نومها أكثر ً‬
‫تماما‪.‬‬
‫تتوقف عن زيارة الشيخ ياسين ً‬
‫هذه الزيارات المتكررة للشيخ ياسين‪ ،‬كانت سببًا ألعرف الشيخ ياسين‬
‫وكراماته‪ ،‬وأصبح من مريديه طلبًا للبركة وعدم زوال القوة‪ ،‬خاصة وأن‬
‫جسدي الضخم‪ ،‬مسار لحسد الجميع‪.‬‬
‫****‬
‫عندما أصيب أخي الصغير بالمس‪ ،‬وأصبح يصاب بحاالت صرعية عنيفة‪،‬‬
‫ال يتوقف فيها جسده عن االرتجاف وفمه عن إفراغ الزبد‪ ،‬ومع الصراخ‬
‫واأللم الشنيع الذي كان يجعل وجهه يتقلص وكأنه في النزع األخير‪ ،‬لم أجد‬
‫فادحا ألن الجن‬
‫يومها إال الشيخ ياسين لينجدني‪ ،‬صحيح أنه طلب مبلغًا ً‬
‫الذي مس أخي من قبيلة الجن األزرق‪ ،‬وسيحتاج لمجهود مضاعف وأنواع‬
‫معينة من البخور والزيوت والعقاقير‪ ،‬إال أني لم أفكر مرتين‪ ،‬فالجن الذي‬
‫ضا‪.‬‬
‫ضا على مسي‪ ،‬وهذا ما لن أقبله أو أتحمله أي ً‬
‫مس أخي قادر أي ً‬
‫جلسات العالج امتدت لخمس جلسات كاملة‪ ،‬حضرت األولى ولكني لم‬
‫أتحمل أن أحضر التاليات‪.‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫إن مشهد انقالب عين أخي وتحولها للون األحمر‪ ،‬وتساقط الزبد من بين‬
‫شفتيه‪ ،‬مع ذلك الصوت الغليظ القادم من أعماق الجحيم الذي كان يجيب‬
‫به على تساؤالت الشيخ ياسين‪ ،‬وسط البخور الكثيف‪ ،‬ومع حركة‬
‫الموجودات من حولي‪ ،‬كاد أن يوقف قلبي‪ ،‬إن هذا ليس مضماري‪ ،‬العالم‬
‫الذي تفصله عنا الطالسم والتعاويذ هو عالم ال يمكن أن أطرق أبوابه‪ ،‬أنا ال‬
‫أخشى الموت ولكني أخشاهم‪ ،‬أخشى سكان هذا العالم الذين يتعايشون‬
‫على عظام الموتى وروث الحيوانات‪.‬‬
‫بعد شفاء أخي التام‪ ،‬ذهبت للشيخ ياسين ألشكره وألمنحه الدفعة األخيرة‬
‫من المبلغ‪ ،‬وفي هذا اليوم قابلت أمجد‪.‬‬
‫شيء ما كان يدفعني للتقرب منه برغم سنه الصغير‪ ،‬إنه مغرور‪ ،‬ومشاكس‬
‫وعنيف وال يأبه بكبر أو صغر من أمامه‪ ،‬لهذا راق لي‪ ،‬أو هكذا خيل لي‬
‫وقتها‪ ،‬فلحظات التعارف والتقارب بيننا مشوشة في ذاكرتي‪.‬‬
‫تعرفت على أمجد وعلى نجيب في لقاء واحد‪ ،‬ثم عرفنا نجيب على خليل‬
‫وخليل على رشاد وأمجد عرفنا على أمين‪ ،‬وأمين على زياد‪.‬‬
‫شلة غريبة متباينة‪ ،‬ال تعرف ما الذي يجمعهم ح ًقا للوهلة األولى‪ ،‬لو كنا‬
‫أقارب لغ فر لنا فارق السن وتباين الثقافات‪ ،‬ولكن يبدو أن الموت هو من‬
‫جمعنا‪ ،‬خطايانا هي التي لضمتنا في خيط واحد‪.‬‬

‫‪- 110 -‬‬


‫ربما جمعتنا في وقت الحق جلسات المزاج وتدخين الحشيش‪ .‬ولكن‬
‫البداية كانت مريبة‪ ،‬لقد كانت هناك قوى جهنمية تعدنا لنصبح مخلب القط‬
‫الذي سيقضي على الشيخ ياسين‪ ،‬ثم تستعملنا في وقت الحق كقرابين‬
‫جميعا‪ ،‬وال أعرف كيف تحول أمجد‬
‫بشرية‪ ،‬لذلك وفي وقت قياسي ارتبطنا ً‬
‫الصغير لقائد للشلة‪ ،‬يحركنا كما يريد‪.‬‬
‫لم تكن عيون أمجد زرقاء ولكنها كانت مخيفة ككل شيء يخصه‪ ،‬شيء ما‬
‫بداخلها كان يجبرك على عدم إطالة النظر إليها وطاعتها‪.‬‬
‫عندما قرر أمجد اقتحام غرفة الشيخ ياسين‪ ،‬كنت من أشد المعارضين له‪،‬‬
‫وحاولت التملص بأكثر من طريقة‪ ،‬ولكنه استعمل س حره‪ ،‬فقط طلب لقائي‬
‫وعندما نظرت لعينيه لم أستطع المقاومة‪.‬‬
‫إن عينيه شريرتان‪.‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫‪ -‬قلب حاقد ‪-‬‬
‫شيء ما شرير يسكن عين أمجد ويجبرني على طاعته‪ ،‬أنا الذي أقدس‬
‫الشيخ ياسين أكثر من أبي‪ ،‬أنا الذي أعتبر منزله منطقه محرمة‪ ،‬أنا الذي‬
‫إتقاء للحسد والعين‪ ،‬مطلوب مني اقتحام عرين‬
‫أرتدي ثيابي الداخلية مقلوبة ً‬
‫الشيخ ياسين‪.‬‬
‫الشيخ ياسين الذي استحضر الجن أمامي‪ ،‬وحاوره‪ ،‬ثم هزمه وأخرجه من‬
‫جسد أخي‪.‬‬
‫فلتحترق سماح وليحترق أمجد ولتحترق الصداقة‪.‬‬
‫حزما وصرامة‪ ،‬وأنا أواجه أمجد الذي يماثل أخي الصغير‬
‫لو أنني كنت أكثر ً‬
‫في العمر‪ ،‬لما تورطت في هذا المستنقع الشائك‪.‬‬
‫ال أعرف كيف اقترفت هذه الجريمة الشنعاء‪ ،‬ال أعرف كيف طاوعت أمجد‬
‫لحظتها‪ ،‬فقط كان هناك شعور طاغ يبث حولنا ويسيطر على عقولنا بأن ما‬
‫نوعا من السحر‪ ،‬بل هو السحر ذاته‪ .‬لم يكن‬ ‫نقوم به مقدس‪ ،‬ربما كان ً‬
‫ممسوسا‪ ،‬لقد استغلته تلك الشيطانة التي تجسدت‬
‫ً‬ ‫ساحرا ولكنه كان‬
‫أمجد ً‬
‫قادرا على‬
‫له في شكل سماح‪ ،‬والتي أحمد اهلل أنه هو الوحيد الذي كان ً‬
‫رؤيتها‪.‬‬
‫في النهاية وقعت الكارثة‪ ،‬واحترق منزل الشيخ ياسين‪ ،‬والشيخ ياسين نفسه‬
‫كما علمت في وقت الحق‪ ،‬ثم بدأ االنتقام‪.‬‬
‫‪- 111 -‬‬
‫الجميع يختفون‪ ..‬يتالشون‪ ..‬وسهيلة تلك المخبولة التي اقتحمت حياتنا‬
‫دون استئذان‪ ،‬تخبرني أنهم في مكان ما أحياء ولكنهم يعذبون‪.‬‬
‫سهيلة هذه نذير شؤم هي األخرى‪.‬‬
‫ال أعرف كيف ظهرت في حياتنا فجأة هكذا‪ ،‬إنها مريبة بما يكفي ألبتعد‬
‫عنها‪ ،‬ال يمكن لفتاة عادية أن تقوم بما تقوم به سهيلة بهذه األريحية‪ .‬زياد‬
‫نفسه قبل أن يختفي حاول أن يقتلها‪ ،‬هي أخبرتني بذلك وهي تصرخ ألنها‬
‫تعتبرني شري ًكا معه في الجريمة ألني منحته السالح الذي حاول قتلها به‪.‬‬
‫تقول إن أمجد يرى كل شيء‪ ،‬وهو من أخبرها عن زياد وعن السالح‪ ،‬وهو‬
‫من أخبرها بالمصيبة التالية‪.‬‬
‫أنا القادم ‪:‬‬
‫‪ -‬فالخامس يتالشى في اليوم الثالث‪.‬‬
‫هكذا أخبرتني وهي تتمنى لي كل شر‪ ،‬إنها شؤم شؤم‪.‬‬
‫لو كانت جدتي حية للجأت إليها‪ ،‬إن لديها الخبرة ولديها المعرفة‪ ،‬ولو لم‬
‫تكن تعرف الحل لكانت ستعرف من يعرف الحل‪ ،‬ولكني اآلن وحيد‪ ،‬لو‬
‫أخبرت أح ًدا من معارفي أو من يتعاملون معي لسخروا من ذلك الثور الذي‬
‫له عقل العصافير‪.‬‬
‫كل الناس تخشى ما أخشاه بدرجات متفاوتة‪ ،‬ولكنهم ينكرون‪.‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫لم يتبق أمامي إال أمين وسهيلة‪ ،‬رسام خجول وفتاة شؤم‪ ،‬أين يمكن أن أعثر‬
‫على من يساعدني‪.‬‬
‫هل ألجأ لشيخ المسجد ليحصنني من العيون ؟! هل أسافر إلى بلد بها بحر‬
‫وأقضي األيام الثالثة على ظهر مركب ؟!‬
‫ال أعرف ح ًقا كيف ستأتي النهاية‪ ،‬هل يجب أن أعترف أنا اآلخر‬
‫بخطيئتي؟! هل يفيد االعتراف بعد أن صدر الحكم‪ .‬بالطبع ال شيء‬
‫سيتغير‪ ،‬وسيمضي نهر الحياة جارفًا ما تبقى لي من ساعات معه‪.‬‬
‫إن خطيئتي هي الحسد‪.‬‬
‫لماذا هذا الذهول‪ .‬نعم الحسد ماذا توقعتم إذن ؟!‬
‫ربما أنا ال أملك تلك العين الحارة التي تصيب من تراه باألذى‪ ،‬ولكني‬
‫أملك القلب الذي يكره ويحقد ويحسد‪.‬‬
‫لن أخفي عليكم تفاصيل القصة‪ ،‬فإخفاء األمر لم يعد يجدي‪ ،‬إنني قاتل‬
‫ويداي غارقتان في الدماء‪ ،‬ال تتعجبوا وتتسع عيونكم‪ ،‬أال تعلمون أن‬
‫الحسد قاتل‪.‬‬
‫هذا ما يعرفه كل من يحيطون بي أو يتعاملون معي‪ ،‬وال يفصحون عنه‪ ،‬إنها‬
‫قواعد العالم الذي نعمل به‪ ،‬ال أحد في عالم تجارة المخدرات يشي‬
‫باآلخر‪ ،‬كما أن القتل يجلب المزيد من االحترام‪.‬‬

‫‪- 115 -‬‬


‫أنا لست أحد أباطرة هذا العالم‪ ،‬أو معلميه ولكني أدير الدوالب الرئيسي‬
‫للمعلم (حسونة العترة)‪ ،‬وأعتبر أحد أياديه اليمنى‪ ،‬فاليد اليمنى للمقربين‬
‫وموزعي الصنف‪ ،‬أما اليسرى فهي اليد الباطشة‪ ،‬اليد المختصة بالعقاب‪،‬‬
‫إنها اليد التي تحمل الموت‪ ،‬وأنا لم أكن أنوي أن أنتمي لجماعة اليد‬
‫اليسرى‪ ،‬فأنا أوزع المخدرات وال أقوم بعمليات القتل ولكن الحقد يعمي‬
‫والحسد يفتح هويس الدماء‪.‬‬
‫من يدير الدوالب يعرف أسرار العمل بالكامل وبالتالي سيصير في يوم ما‬
‫معلما يشار له بالبيان‪ ،‬وله صبيانه وأتباعه‪ ،‬وكي تحافظ على مكانتك في‬‫ً‬
‫هذا العالم‪ ،‬يجب أن تكون قاسيًا‪ ،‬وغليظًا‪ ،‬أكثر من كونك قويًا‪ ،‬ولكن قلبي‬
‫لم يكن بالصالبة المطلوبة مما جعل نجم (سماحة الدوجري) يعلوا ويظهر‬
‫عند المعلم (حسونة العترة)‪.‬‬
‫وسيما‪ ،‬غليظ القلب‪ ،‬يعامل الجميع‬ ‫ً‬ ‫وسماحة الدوجري كان صعيديًا‪،‬‬
‫انتقاما على مغادرته بلدته هاربًا من‬
‫بصلف وتجبر وكأنه يثأر من الدنيا كلها‪ً ،‬‬
‫الثأر‪.‬‬
‫كنت أكره مالمحه الوسيمة‪ ،‬وعوده الصلب المتوتر‪ ،‬ونشاطه الزائد‪ ،‬لقد‬
‫معلما وأن يسحق كل من يقف في‬
‫حضر إلى هذا المكان وفي نيته أن يصير ً‬
‫طريقه‪.‬‬
‫إن لديه نظرة‪ ،‬تجبر الجميع على احترامه والخوف منه‪.‬‬

‫‪- 116 -‬‬


‫إنه يملك ما ال أملك وما يؤهله ألن يستولي على إدارة الدوالب في وقت‬
‫قياسي‪ ،‬وهذا ما كاد يتم بالفعل‪ .‬فخالل شهر واحد من التحاقه بخدمة‬
‫المعلم حسونة أزاحني من فوق عرشي‪ ،‬وروي ًدا روي ًدا أصبحت األعمال التي‬
‫كان يكلفني بها المعلم تنتقل إليه‪ ،‬إنه أكثر قسوة وغلظة كما أنه ال يتشاءم‬
‫من العمل يوم الثالثاء‪.‬‬

‫في عالمنا من يرتفع درجة ال يجب أن ينزل عنها‪ ،‬ألن نزوله لن يكون نزوالً‬
‫سهال‪.‬‬
‫ً‬
‫يوما‪.‬‬
‫انهيارا كامالً‪ .‬لو أزاحك فلن تنال االحترام ً‬
‫بل سقوطًا‪ً ..‬‬
‫ال أعرف اللحظة التي قررت فيها إزاحته من طريقي‪ ،‬ربما عندما أهانني أمام‬
‫دفاعا عني‪.‬‬
‫صبياني‪ ،‬ولم يتحرك المعلم حسونة ً‬
‫كيف يكره القلب ؟!‬
‫كيف يتحول في لحظة واحدة ويستحيل حاق ًدا وأسود‪.‬‬
‫ال أعرف‪.‬‬
‫كان من الممكن أن أتخلص منه وأقتله برصاصة أو بطعنة ليخلوا لي الجو‬
‫وأنول االحترام من جديد‪ ،‬ولكني كنت أنوي أن أجعل منه عبرة كي ال يجرؤ‬
‫أحد على تكرارها‪ ،‬وليشفى غليلي يجب عليه أن يتألم حتى يتمنى الموت‬
‫بنفسه‪.‬‬

‫‪- 117 -‬‬


‫يجب أن ينال عقاب الخائن‪.‬‬
‫المعلم حسونة ال يرحم من يخونه‪ ،‬وال يتردد مرتين في الفتك به‪ ،‬ولديه‬
‫طريقة طريفة لمعاقبة الخائن‪.‬‬
‫الجير الحي‪.‬‬
‫طريقة بشعة للموت خاصة عندما يسكب الماء على الجسد العاري‪ ،‬ثم‬
‫يرش بمسحوق الجير الحي‪.‬‬
‫آالم بشعة تفوق آالم االحتراق‪ ..‬عذاب مخيف لم يقم به إال النازيون‪.‬‬
‫إنه عقاب أسطوري رهيب‪ ،‬لذا ال يجرؤ أحد على خيانة المعلم حسونة‪.‬‬
‫لقد كان (سماحة الدوجري) أقسى مني وأمهر مني في كل ما أسند إليه‪ ،‬كان‬
‫التلميذ النابغة‪ ،‬الذي فاق جميع التالميذ اآلخرين‪.‬‬
‫لقد أشعل بداخلي شعلة الحقد المقدس‪ ،‬وحول الحسد قلبي لمضغة سوداء‬
‫تفوح بالعطن‪.‬‬
‫إنه يختلف عني في كل شيء‪ ،‬وسيم‪ ،‬ذكي‪ ،‬له سرعة الغزال وخبث‬
‫الثعلب‪ ..‬إنه الحظ السيء حين يقابلك‪ ..‬إنه ما تمنيت أن تكونه ولم‬
‫تستطع‪.‬‬
‫ساعدني أمين شرطة فاسد في أحباك خطتي‪ ،‬وفي إحدى العمليات الكبرى‪،‬‬
‫هجم رجال الشرطة وقبضوا على نصف رجال المعلم حسونة وأصيب المعلم‬
‫‪- 118 -‬‬
‫ثائرا على وشك االنفجار وإحراق‬
‫حسونة نفسه برصاصة في كتفه‪ ،‬مما جعله بركانًا ً‬
‫كل شيء‪.‬‬

‫المصادفات التي جمعت أمين الشرطة وسماحة كانت مريبة‪ ،‬وتم رصدها عن‬
‫طريق عيون المعلم‪ ،‬وجاءت الصفقة لتؤكد الشائعات‪ ،‬هناك عصفورة تنقل‬
‫األخبار‪.‬‬
‫ليلتها عقد المعلم المحاكمة على المأل‪ ،‬وحضرها كل رجاله وأنا أولهم بالطبع‪.‬‬

‫لم أكن قد رأيت تنفيذ هذا العقاب من قبل‪ ،‬وربما معظم من حضر اليوم‪.‬‬

‫جميعا نسمع به‪ ..‬نخشاه‪ ..‬نتقي شره‪.‬‬


‫كنا ً‬
‫ولكن اليوم كان اليوم الموعود‪.‬‬

‫في البداية قام المعلم حسونة بشرح سبب التجمع‪ ،‬والذي لم يكن يخفى على‬
‫أحد‪.‬‬

‫صرخ سماحة‪ ،‬أنكر وأقسم‪ ،‬وترجى‪ ،‬وطلب الرحمة‪ ،‬ولكن الغضب المستعر‬
‫بقلب المعلم حسونة كان يجب أن يلتهم بعض الضحايا‪.‬‬

‫ثم أصدر حكمه‪.‬‬


‫تماما‪.‬‬
‫لقد نجحت خطتي ً‬
‫فتم تجريد سماحه من ثيابه‪ ،‬إن هذا الوغد يمتلك جس ًدا متناس ًقا مكتمل‬
‫حبا‪ .‬ثم تم تقييده من يديه وقدميه وإلقاء الجير‬
‫العضالت‪ ،‬البد أن النساء تهيم به ً‬
‫الحي فوق جسده العاري‪ ،‬ثم سكب عطوة مساعدي سطالً من الماء فوق الجسد‬
‫‪- 119 -‬‬
‫والجير الحي‪ .‬وارتفعت سحابه هائلة من الغبار األبيض القاتل‪ ،‬غمرت كل شيء‬
‫ثم سمعنا الصراخ‪.‬‬

‫أي جزء من جسده ذاب أوالً‪.‬‬

‫هل ظل يصرخ أللف عام‪.‬‬

‫هل كان يستحق العقاب ؟!‬


‫ال أعرف‪ ..‬المهم أنني في النهاية لم أشعر بالراحة المرجوة‪ ،‬وظل شبحه يطاردني‬
‫في المنام‪ ،‬ليل نهار‪ ،‬حتى أنقذني منه الحجاب الذي منحه لي الشيخ ياسين‪.‬‬

‫لقد اعتقدت أن جريمتي الكاملة قد تمت‪ ،‬وذاب كل أثر لها بقلب الجير الحي‪.‬‬

‫ولكن الخطايا ال تمحى كما يبدو وال تمر دون عقاب‪ .‬وهاهو الذنب يطاردني‪،‬‬
‫ويطلب القصاص‪.‬‬
‫لم أكن أكره سماحة ألنه تفوق علي‪ ،‬بل كنت أحسده ألنه يمتلك كل ما‬
‫ينقصني‪ ،‬الحسد تحول إلى حقد ثم إلى جريمة بشعة‪.‬‬
‫أنا أستحق العقاب‪ ،‬إن حبل المشنقة لن يثير في جسدي أكثر من الرجفة‬
‫التي تسببها رياح أمشير الباردة‪.‬‬
‫قادما من‬
‫تماما للعقاب‪ ،‬ولكن فليعاقبني بشري مثلي‪ ،‬ال مخلوقًا ً‬
‫أنا مستعد ً‬
‫أعماق الجحيم‪.‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫‪ -‬كلب أسود ‪-‬‬
‫يبدو أن األيام الثالثة المتبقية لي في هذه الحياة لن تمر على خير‪ ،‬فتلك‬
‫الشياطين التي أغضبناها بمقتل الشيخ ياسين ال تبدو أنها ستتركني ألموت‬
‫في صمت ودون عذاب كاف‪ .‬والدليل على هذا‪ ،‬هو ذلك الكلب األسود‬
‫المخيف الذي يتبعني في كل مكان‪.‬‬
‫ال باب يصده وال حائط يمنعه ‪ ،‬أنا ال أحب الكالب‪ ،‬وخاصة السوداء منها‪،‬‬
‫دائما ما تكون شياطين متجسدة في هيئة كالب كما أخبرتني جدتي‪.‬‬
‫ألنها ً‬
‫والكلب الذي ال تالمس قوائمه األرض والذي يتالشى الزبد المتساقط من‬
‫شدقيه في العدم هو كلب غير طبيعي‪ .‬بل هو شيطان‪..‬جن متحول‪ ،‬إن‬
‫أعصابي على وشك االنهيار‪ ،‬فهذه األجواء تدمر روحي‪.‬‬
‫إن هذا الكلب المخيف‪ ،‬يظهر لي في كل مكان‪ ،‬ال أحد غيري يراه‪ ،‬ولكن‬
‫الكالب األخرى تشعر بوجوده‪ ،‬فتضع ذيلها بين فخذيها وتنطلق مبتعدة‬
‫وهي تعوي‪.‬‬
‫وأنا ال يمكن أن أالزم غرفتي كما فعل زياد‪ ،‬إنني لست ملك نفسي مثله‪ ،‬إن‬
‫ورائي مسئولية كبيرة ودوالبًا أشرف عليه‪ ،‬ومع سفر المعلم حسونة ألداء‬
‫العمرة البد أن أتابع كل دواليب العمل األخرى‪ ،‬وأحصل اإليراد وأسلمه له‬
‫عند عودته‪.‬‬

‫‪- 110 -‬‬


‫كم أنت مسكين يا شحتة حتى والموت متربص بك‪ ،‬ال تستطيع الهرب من‬
‫مسئولياتك تجاه المعلم حسونة‪ .‬فالجير الحي لن يرأف بمأساتك‪ ،‬والتهاون‬
‫في العمل يفوق الخيانة عند المعلم حسونة‪.‬‬
‫****‬
‫قبل الفجر انتهيت من آخر أعمالي وانتهى معي يوم كامل‪ ،‬سالحي ال‬
‫يفارقني‪ ،‬ورجالي حولي‪ ،‬وانطلقت أخترق الشوارع القريبة من المنزل‪ ،‬وأنا‬
‫أحمد اهلل أن ذلك الكلب لم يظهر بعد‪.‬‬
‫الموكب يتحرك ببطء شديد‪ ،‬مع ضيق الشارع وأعمال الحفر التي جعلته‬
‫أشبه بالفخاخ‪.‬‬
‫أصرخ في عطوة مساعدي ‪:‬‬
‫‪ -‬لتعرف في الصباح من المسئول عن هذه األعمال وتجبره على إنهائها‪.‬‬
‫إنني متوتر وأحتاج إلفراغ توتري‪ ..‬الكل يتوقع أنني سأقوم بانقالب على‬
‫المعلم حسونة‪ ،‬فمنذ متى وأنا أتحرك بهذا الموكب‪.‬‬
‫وأنا ال أجرؤ أن أخبرهم بحقيقة ذلك الكلب الجهنمي‪ .‬وال بحقيقة خوفي‪..‬‬
‫فالمعلم ال يجب أن يخاف وإال فقد احترام الجميع‪.‬‬
‫اخترقنا الشارع المظلم‪ ،‬ومن بعدنا كل األبواب والنوافذ تغلق‪ .‬ال أحد يجرؤ‬
‫متربصا في كل ركن‪.‬‬
‫ً‬ ‫على تتبع الموكب‪ ،‬فالكل يتوقع الشر‪ .‬والشر كان‬

‫‪- 111 -‬‬


‫كل شيء كان يسير جي ًدا حتى ظهرت الكالب‪.‬‬
‫قطيعا آخر من الكالب‬ ‫ِ‬
‫هذه المرة لم يأت الكلب وحده‪ ،‬لقد أحضر معه ً‬
‫تماما‪.‬‬
‫التي تشبهه ً‬
‫يبدو أنها الليلة الموعودة‪.‬‬
‫الكالب تقطع الطريق بشكل هرمي‪ ،‬كلب يليه كلبان يليه ثالثة وهكذا‪ .‬حتى‬
‫نهاية الشارع والضياء‪.‬‬
‫العيون مشتعلة وتضوي بقلب الظالم‪.‬‬
‫أنظر لمن حولي فال أشاهد إال الظالم‪ ،‬أين ذهب رجالي ؟!‬
‫أصرخ وحي ًدا بقلب الظالم والكالب تتقدم وأنيابها الحادة تستولي على‬
‫كياني‪ ،‬ونظراتها الخرساء تجمدني في مكاني‪.‬‬
‫وفي لحظة واحدة هجمت الكالب‪.‬‬
‫أغمضت عيني في قوة‪ ،‬لقد طفح الكيل‪ ،‬لن أستطيع التحمل أكثر‪ ،‬وبجسد‬
‫مرتجف وأ قدام مرتعشة انتظرت شعوري بالمخالب وهي تنغرس في لحمي‬
‫واألنياب وهي تمزقه‪.‬‬
‫الكالب تقترب بسرعة مخيفة‪ ..‬أقدامها ال تالمس األرض‪ ..‬عيونها تشتعل‬
‫كالجحيم‪ ،‬تقترب مني فتسحب معها كل لمحة من الضياء‪ ،‬الظالم يطبق‬
‫على روحي ونباح الكالب يصير مدويًا كاألجراس‪.‬‬
‫‪- 111 -‬‬
‫الظالم اكتسح كل شيء في طريقه‪ .‬األنياب تخترق جسدي‪ ،‬فتمزق لحم‬
‫ذراعي‪ .‬وصدري‪ .‬المخالب تقترب من قلبي‪.‬‬
‫وفي اللحظة التالية أحسست بصدمة قوية‪ ،‬وكأن هناك من صعقني بتيار ال‬
‫يقل عن ألف فولت‪ .‬تجمد كل شيء للحظة‪ .‬ألم حاد يعتصرني‪ ،‬هناك شيء‬
‫ما يطبق على صدري‪ ،‬ألم تنتهي الكالب مني بعد‪ .‬ثم شعرت بقبضة قوية‬
‫تثبت رأسي إلى األرض‪ ،‬وبثقل يجثم على أنفاسي‪ ،‬ثم سمعت صوت عطوة‬
‫الغليظ ‪:‬‬
‫‪ -‬احملوه ال يجب أن يراه أحد في هذه الحالة !!‬
‫صرخت بقوة ‪:‬‬
‫‪ -‬أي حالة لماذا تحملونني كالشاه المذبوحة ؟‬
‫ولكن صوتي لم يغادر حلقي‪.‬‬
‫كل شيء حولي مشوش وغريب‪.‬‬
‫وقبل أن أغيب عن الوعي سمعت صوت أحد رجالي ‪:‬‬
‫‪ -‬لقد أصيب بالصرع‪ ..‬يجب أن نحضر له طبيبًا‪.‬‬
‫وأظلم كل شيء‪.‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫‪ -‬هالوس ‪-‬‬
‫يوم آخر قد ذهب‪.‬‬
‫يوما كامالً‪ ،‬وقربتني من الموت ليوم آخر‪ ،‬وما تبقى لي هو‬
‫الغيبوبة التهمت ً‬
‫يوم واحد فقط‪ .‬يوم يفصلني عن األبدية‪ ،‬وعن السر األعظم‪ ،‬وعن المكان‬
‫الذي يذهب إليه اآلالف كل يوم‪ ،‬وال يعودون ليقصوا علينا ماذا وجدوا‬
‫هناك‪.‬‬
‫أهو يوم موتي ح ًقا !!‬
‫حاسما أم بطيئًا وممت ًدا ؟!‬
‫ً‬ ‫سريعا‬
‫وإذا كان‪ ..‬هل سيكون ً‬
‫شاعرا بنوع ما من االنكسار‪ ،‬ال يجب على القادة أن يظهروا‬
‫أغادر غرفتي ً‬
‫ضعفهم أمام رجالهم‪ ،‬القادة يجب أن يكونوا في منزلة أعلى من البشر‪،‬‬
‫القائد الذي يشعر بالمرض ويصاب بالصرع أمام رجاله‪ ،‬لن ينال أي احترام‬
‫منهم فيما بعد‪ ،‬خاصة وأن الصرع مرتبط في األذهان بالجنون‪ ،‬فهو الطريق‬
‫المعبد الذي يقود إليه‪.‬‬
‫ولكن لماذا أهتم ؟!‬
‫عندما تشرق شمس الغد‪ ،‬سأكون مشغوالً بقضايا أعمق وأخطر‪.‬‬
‫أتحرك بصعوبة‪ .‬ماذا حدث لجسدي‪ ،‬أشعر وكأن شاحنة مرت فوق عظامي‬
‫فهرستني‪ .‬أم هي أولى مراحل المس‪.‬‬

‫‪- 115 -‬‬


‫عطوة صرف جميع الرجال وبقي معي وحده‪ ،‬إن مصيره من مصيري‪،‬‬
‫وانتهائي يعني انتهاءه‪ ،‬فالصبي يتبع معلمه كما تتبع الحكومة الرئيس‬
‫المنتهية واليته‪.‬‬
‫لم أشعر برغبة في الكالم‪ ،‬فشكرته وصرفته‪ ،‬وكلفته بكل األعمال التي كنت‬
‫أقوم بها‪ ،‬فعندما سيعود المعلم حسونة يجب أن يجد كل شيء على ما يرام‪،‬‬
‫فالسيرة الحسنة تبقى بعد الموت‪ ،‬وبعد موتي لن يذكر أحد نوبة الصرع‪،‬‬
‫فقط سيذكرون أنه الموت‪.‬‬
‫كم أحسد هؤالء األصحاء الذين‪...‬‬
‫ال‪..‬‬
‫لن أرتكب الخطأ مرة أخرى‪ ..‬ال حسد بعد اليوم‪.‬‬
‫فتحت كل النوافذ‪ ،‬ثم أخذت أتطلع للمارة المتجمعين عند عربة الفول‪.‬‬
‫الحياة تسير برغم كل شيء‪.‬‬
‫كل شيء طبيعي ماعدا ذلك القرد العمالق الذي يشير لي من نافذة‬
‫الجيران بإشارة الذبح‪.‬‬
‫البد وأني أهذي‪.‬‬
‫فبجوار القرد ظهرت (حياة) فاتنة المنطقة الشابة وزوجة المعلم (رضا)‬
‫والسبب الوحيد في عدم زواجي حتى اآلن‪ .‬كم أحسد ذلك العجوز عليها‪،‬‬
‫‪- 116 -‬‬
‫إنني أنتظر موته منذ عدة سنوات ألحظى بها‪ ،‬ولكن ذلك الوغد مازال‬
‫متشبثًا بخيوط الحياة‪.‬‬
‫دائما أن أراها به‪ .‬ولكن ماذا‬
‫إنها ترتدي قميص النوم األحمر الذي تمنيت ً‬
‫تفعل تلك المجنونة مع القرد ؟!‬
‫لماذا تمسح على رأسه بهذا الحنان ؟!‬
‫يا إلهي‪..‬‬
‫ماذا يحدث ؟!‬
‫إنها تميل عليه وتقبله في شفاهه الغليظة‪ .‬أي جنون هذا ؟!!‬
‫إنني أهذي‪ ،‬أهذي‪ .‬وبرغم هذا أحسد القرد‪ ..‬الذي اقتطف من أشجار‬
‫الجنة قبلة‪.‬‬
‫قدماي ترتجفان‪ ،‬الرؤية تغيم‪.‬‬
‫إنني أسقط في الماء‪.‬‬
‫ولكن من أين أتى هذا الماء‪ ..‬إنه شالل‪.‬‬
‫الماء يجرفني وجسدي يصطدم بالصخور‪ ،‬أشعر بآالم عاتية‪.‬‬
‫القرد يلتهم رأس (حياة)‪.‬‬
‫القرد يقفز إلى الماء ويطاردني‪ ..‬أحاول أن أسبح‪.‬‬
‫‪- 117 -‬‬
‫القرد ينقض علي‪ ،‬يحاول التهام رأسي كما التهم رأس (حياة)‪ ،‬ال بل هو‬
‫يحاول أن يقتلع عيني‪.‬‬
‫الرحمة‪ ،‬لن أنظر إلى (حياة) مرة أخرى‪.‬‬
‫القرد يلطمني بيده‪.‬‬
‫سأسقط عبر النافذة‪.‬‬
‫ولكن نافذتي ال تطل على الشالل‪.‬‬
‫الالالالالالالالالالالالالالال‪.‬‬
‫ال أريد أن أموت‪ .‬ال‪..........‬‬
‫****‬
‫استيقظت من غفوتي غارقًا في بحر من العرق والقيء‪ ..‬الظالم عبر النافذة‬
‫حالك والقمر يسطع في حياء‪.‬‬
‫حقيقيا‪ ،‬يوقف اللعنة‪..‬‬
‫ً‬ ‫تغييرا‬
‫لقد انتهى اليوم‪ .‬وانتهت فرصتي في أن أصنع ً‬
‫ال فائدة من أي شيء‪.‬‬
‫ثم من هذا الذي يقف في الظالم ويشير لي أن أتبعه‪.‬‬
‫ال لن آتى معك‪.‬‬
‫لن‪..‬‬
‫‪- 118 -‬‬
‫مبتسما‪.‬‬
‫ً‬ ‫النار تشتعل في كل شيء حولي‪ ،‬وذلك الشيطان يقف أمامي‬
‫‪ -‬إنك لي‪ ..‬لي‪..‬‬
‫‪ -‬الالالالالالالالالالالالالالالالال‪.‬‬
‫وعلى الحائط لمحت الجملة المخيفة ‪:‬‬
‫السادس يتالشى في اليوم الثاني‪.‬‬
‫ولم أعد أشعر بشيء‪.‬‬

‫‪- 119 -‬‬


- 151 -
‫‪16‬‬
‫اللعنة السادسة ‪ -‬الغضب‬
‫عرفها دانتي ‪ :‬حب الشخص الطبيعي للعدالة تحول إلى عاطفة آثمة حاقدة‬
‫وساعية لالنتقام األعمى‪ ..‬مرتبطة بالشيطان أمون ‪ Amon‬وهو مالك‬
‫ضال قائد أحد ألوية شياطين إبليس‪ ..‬الغضب مرتبط باللون األحمر‪.‬‬
‫أنا الغضب‪ ..‬لم يكن لي أب أو أم‪ ..‬قفزت من فم سبع عندما كان عمري‬
‫ال يكاد يتجاوز ساعة واحدة‪..‬‬
‫ومنذ ذلك الوقت وأنا أجري حول العالم بزوج السيوف هذه‪ ،‬وأطعن نفسي‬
‫عندما ال أجد من أقتله‪..‬‬
‫لقد ولدت في الجحيم‪ ..‬وال أزال أراقبه‪ ..‬ألن أحدكم سيكون أبي‪..‬‬

‫‪- 150 -‬‬


- 151 -
‫‪ -‬الموسوم ‪-‬‬
‫يقول أمين ‪:‬‬
‫استيقظت اليوم على ألم شنيع يجتاح صدري‪ ،‬ألم مفاجئ عنيف‪ ،‬لم يكن‬
‫يشبه أي ألم آخر شعرت به من قبل‪ .‬حتى في ذروة أزمة الربو لم يكن األلم‬
‫بهذه القسوة والحدة‪.‬‬
‫أضغط على أسناني حتى أكاد أهشمها‪ ..‬ثيابي نفسها أشعر بها تشتعل وال‬
‫أطيق مالمستها لجلدي‪ .‬األلم الشنيع يعتصر صدري‪ ،‬وكأن هناك من يخترق‬
‫الجلد والعظام بمثقاب ملتهب‪ .‬والمفزع أن هناك رائحة شواء تزكم أنفي‪.‬‬
‫هل جلدي يحترق بالفعل ؟! هل أمارس تلك العادة المخيفة ؟!‪ ..‬هل‬
‫أحترق ذاتيًا ؟!!!‬
‫صفعني األلم فنزعت المنامة في سرعة‪ ،‬وألقيت بها بطول ذراعي‪ ،‬ومعها‬
‫جزءا من جلدي أو أن‬
‫شعرت بألم إضافي عنيف‪ ،‬وكأنني نزعت مع المنامة ً‬
‫هذا ما حدث بالفعل‪ ،‬فهناك قطع من جلدي المحترق ملتصقة باألجزاء‬
‫المحترقة من المنامة‪.‬‬
‫إن جلدي يحترق بالفعل‪ ،‬أي مخبول جرؤ على إتيان تلك الفعلة معي ؟!‬
‫من يكرهني إلى هذه الدرجة ؟! وأين هو ؟!وكيف لم أشعر به؟‬
‫إن الجرح طازج‪ ،‬فمن قام به البد وأنه قريب‪.‬‬

‫‪- 151 -‬‬


‫مسحت المكان ببصري ولكن الشيء‪ ..‬غرفتي كما هي ال إضافات فيها وال‬
‫نقصان‪.‬‬
‫كهرباء األلم تفتك بعقلي‪ ،‬فانتفضت ووقفت أمام المرآة الكبيرة المعلقة‬
‫على الجدار بجوار الباب‪ ،‬وحدة األلم في تصاعد‪ ..‬ثم وقع بصري على‬
‫موضع األلم‪ ،‬واتسعت عيناي في ذهول‪ ،‬فعلى صدري ندبة ضخمة قبيحة‬
‫الشكل‪ ،‬على شكل دائرة من الجلد المحترق بل المتفحم‪ ،‬وبقلبها نقش‬
‫أسود بارز خط بحروف عربية كبيرة وواضحة ‪:‬‬
‫‪ -‬أنت التالي‪! ..‬‬
‫وعندما رددت هذه العبارة بصوت عال وبطريقة ال إرادية‪،‬كسا كل شيء‬
‫حولي ضوء أحمر متألق‪ ،‬سطع كضوء برق لحظي‪ ،‬قبل أن ينحسر من فضاء‬
‫تماما‪ .‬ليجتاحني بعدها‬
‫الغرفة‪،‬ويتركز حول حواف المرآة قبل أن يتالشى ً‬
‫رعب عات‪ .‬مما جعل طوفان من األسئلة يتفجر بداخل عقلي‪.‬‬
‫يا إلهي‪ ..‬هل حان الوقت‪ ..‬هل اقتنصوا شحتة‪ ..‬؟! هل سأموت ح ًقا؟!‬
‫نظرت لصدري غير مصدق‪ ،‬وعيناي تكادان أن تغادرا محجريهما‪ ..‬لقد‬
‫وسمت بخاتم الموت‪.‬‬
‫األمر حقيقي إذًا!‪.‬‬

‫‪- 151 -‬‬


‫وحسب المتتالية الشيطانية‪ ،‬أمامي اليوم وغ ًدا على أقصى تقدير قبل أن‬
‫تنتزع مخالب الموت روحي وألغادر قائمة األحياء‪.‬‬
‫حاولت أن ألمس موضع الحرق بيدي‪ ،‬فسرت في جسدي صاعقة حادة من‬
‫األلم‪ .‬جعلت جسدي ينتفض في عنف‪ ..‬مع دوار حاد ورغبة عارمة في‬
‫القيء‪.‬‬
‫البد وأن أرى طبيبًا حاالً‪ ..‬ولكن أي طبيب سيقبلني في هذه الحالة‪ ،‬دون‬
‫أن يطرح األسئلة ويستدعي الشرطة‪ .‬وأنا لن أضيع وقتي الثمين في‬
‫تحقيقات الشرطة وسخافتهم‪ ،‬البد إذن من حل فأنا أكاد أفقد الوعي من‬
‫شدة األلم‪.‬‬
‫فتحت درج (الكومود) المجاور للفراش‪ ،‬وأخرجت منه علبة دواء مسكن‬
‫كان الطبيب قد كتبه لي عندما شعرت بآالم في أسناني الشهر الماضي‪،‬‬
‫حبتان مرتا المذاق‪ ،‬مع حبتين أخرتان من المضاد الحيوي‪.‬‬
‫ستمر دقائق ثمينة قبل أن يبدأ مفعول هذه األدوية‪.‬‬
‫سوءا‪ ،‬فاأللم عنيف ومكان الحرق مشوه للغاية‪ ،‬وعقلي يكاد‬
‫األمور تزداد ً‬
‫ينفجر من التفكير‪.‬‬
‫إن كانت هذه هي البداية‪ ،‬فماذا سيحدث لي الح ًقا ؟!‬
‫****‬

‫‪- 155 -‬‬


‫مرت ساعة كاملة وأنا في غرفتي‪ ،‬أقطعها ذهابًا وإيابًا كليث جريح‪ ،‬عقلي‬
‫يشتعل من التفكير وقلبي منقبض من هول ما سيحدث‪ .‬والمسكنات التي‬
‫تناولت منها أربع حبات تكافح كي تسيطر على موجات األلم‪.‬‬
‫إن األمر بأكمله مخيف‪ ..‬فأنا ال أعرف المصير الحقيقي الذي تخبئه لي‬
‫الشياطين‪ ،‬وأملي أال يطول عمري حتى هذا الوقت‪ .‬وبرغم كوننا سبعة‬
‫حادا في المعلومات‬
‫نقصا ً‬
‫أشخاص يتعرضون لنفس المشكلة‪ ،‬إال أن هناك ً‬
‫بيننا‪ ،‬لماذا جبن كل منا على االعتراف بخطيئته‪ ،‬لماذا لم نتحد ونصبح ي ًدا‬
‫واحدة أمام هذا الخطر الجهنمي ؟! لماذا تركنا تلك اللعنة تنفرد بنا واح ًدا‬
‫بعد اآلخر ؟!‬
‫تماما لتلك النقلة العنيفة في مجريات اليوم‪،‬‬
‫حقيقة أن عقلي غير مستوعب ً‬
‫ولكن ما يحدث يبين وبشدة أن الشياطين موجودة ولديها قدرة هائلة على‬
‫اإليذاء‪.‬‬
‫إن الندبة الغائرة في صدري خير دليل على ذلك‪ ،‬هذا لو تجاوزنا عن‬
‫حاالت االختفاء التي طالت جميع أصدقائي‪.‬‬
‫طوق النجاة الوحيد يكمن في قدرتي على مقاومة شهوتي الكبرى‪ ،‬ولكن ما‬
‫هي ؟!‬
‫ما هي شهوة مدرس رسم في مدرسة ابتدائية ؟! ال أعتقد أن الرسم شهوة‬
‫يعاقب عليها بالموت‪ .‬هل هو التدخين ؟! ماذا عن اإلهمال ؟!‬
‫‪- 156 -‬‬
‫ما هو الشيء الجديد الذي اقتحم حياتي ؟! ربما هو العشق‪.‬‬
‫مبررا جي ًدا لموتي ؟!‬
‫هل ستكون سهيلة ً‬
‫ال أحد يقنعني بموضوع البرزخ أو الجحيم‪ ،‬فالجحيم لن يوجد إال يوم‬
‫القيامة بعد أن يحاسب الخطاة والزناة والطغاة‪.‬‬
‫إنه الموت ؟!‬
‫هذا هو المصير الذي ينتظرني‪.‬‬
‫ولكن ما يسبق الموت هو ما يقض مضجعي‪ ،‬كم مرة سيقومون بوسمي‬
‫وبحرق جسدي بالنار‪.‬‬
‫هل ستنتهي حياتي تحت إطارات حافلة‪ ..‬أم سيكون انفجار غاز أم سقوط‬
‫من عل أم‪....‬‬
‫إن العقل البشري مخيف عندما يستسلم للخياالت‪.‬‬
‫اجتاحتني مشاعر مقبضه فقبضت على كوب ماء فارغ بجوار الفراش وألقيته‬
‫إلى الحائط ليتحول إلى شظايا‪.‬‬
‫إنني غاضب‪ ..‬الموت ليس مخي ًفا لهذه الدرجة‪ ..‬طريقة الموت هي‬
‫المخيفة‪ ..‬وأنا لن أستسلم‪ ..‬فماذا هناك بعد الحياة ليقاتل المرء من أجلها!‬
‫البد من حل‪.‬‬

‫‪- 157 -‬‬


‫ال يمكن أن أقاوم وحدي‪ .‬ال يمكن أن أرتكب الخطأ مرتين‪.‬‬
‫لقد سمعت عن ذلك الساحر األفريقي من رشاد‪ ،‬ورغم أنه كان يسخر من‬
‫نبوءاته‪ ،‬إال أن األمور توحي بأنه لم يكن هذا النصاب الذي أوحى إلينا به‬
‫رشاد وأن لديه بعض العلم‪.‬‬
‫إن عنوانه على اإلنترنت‪ ،‬وهم يقولون عنه أنه بارع‪ ،‬فهو ال يستخدم السحر‬
‫ضا‪ ،‬إنه بارع‪ ...‬كما يقولون‪.‬‬
‫فقط‪ ،‬بل يستخدم النصوص المقدسة أي ً‬
‫وسأستعين به دون شك‪.‬‬
‫طق طق طااااااااق‪.‬‬
‫طق طق طاااااااق‪.‬‬
‫طرقات عنيفة لفحت أذني ووترتني‪ ،‬البد وأنه أخي السخيف‪ .‬أال يمكن أن‬
‫يتركوني لحظة دون إزعاج‪ ..‬لو كان هو سأحطم عنقه وليكن القتل هو‬
‫خطيئتي‪.‬‬
‫أتوجه نحو الباب ثم أسند ظهري إليه‪ .‬أحاول الحديث بصوت طبيعي لكن‬
‫األلم المتصاعد من صدري كاسح‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تريد أيها السخيف ؟!‬
‫الصوت الدافئ يشع عبر مسام الباب ليداعب مشاعري‪ ،‬فأشعر به يحيط‬
‫بكامل الغرفة ‪:‬‬

‫‪- 158 -‬‬


‫‪ -‬أنا سهيلة اسمح لي بالدخول‪ ..‬أرجوك‪ ..‬أنا بحاجة للحديث معك‪.‬‬
‫‪ -‬سهيلة‪!! ..‬‬
‫قلتها في لهفة فخفق قلبي في قوة‪ ،‬وتغلب شوقي على كل إحساس باأللم‪..‬‬
‫األلم الذي أخذ في التراجع بالفعل‪ ..‬وكأن ذكر اسمها كان هو الدواء‬
‫والبلسم الشافي‪..‬‬
‫وفي تلك اللحظة التي فصلتني عن فتح الباب‪ ..‬حلمت بمستقبل كامل‬
‫معها‪ ..‬عرس في أحد الفنادق‪ ..‬شهر عسل نقضيه على شاطئ البحر‪..‬‬
‫سيارة حديثة أتنقل بها عبر شركاتي وهي بجواري‪ ..‬سبحت في عالم األحالم‬
‫الساحر وكدت أن أنجرف معه‪ ..‬قبل أن يعود لي تفكيري السليم‪ .‬وتحتل‬
‫صورة أمي عقلي بالكامل‪.‬‬
‫كيف سمحت لها أمي بالدخول ؟!‬
‫البد وأنها ستسلخ ما تبقى من جلدي بعد انصرافها‪ ..‬إن سهيلة ال توحي‬
‫بالكثير‪ ..‬ولكنها فتاة‪ ..‬وهذا يكفي لبناء قصة مخيفة عن سلسلة‬
‫االنحرافات التالية‪.‬‬
‫الفتاة التي تأتي لمنزلك دون أن تكون زوجتك‪ ،‬لن تكون فتاة جيدة بأي‬
‫حال من األحوال‪ ،‬ولن تكون األم صالحة لو أنها لم تفكر بنفس الطريقة‪.‬‬

‫‪- 159 -‬‬


‫واسعا لن يتسبب في أي احتكاك‬
‫قميصا حريريًا ً‬
‫ً‬ ‫استجمعت قوتي‪ ،‬وانتقيت‬
‫متوقعا أن أراها ألشعر‬
‫مع جلدي المحترق وارتديته بسرعة‪ ،‬ثم فتحت الباب ً‬
‫بأني لست الوحيد في هذا الكون‪.‬‬
‫ولم أجد أح ًدا‪..‬‬
‫المكان أمام الباب كان خاليًا‪ ..‬والدتي في الصالة غير منتبهة لي تعد مائدة‬
‫واهما ؟!‬
‫اإلفطار‪ ،‬هل كنت ً‬
‫صفعة من األلم تجبرني على غلق الباب من جديد‪..‬‬
‫متوجها صوب الدوالب‪ ،‬أحتاج لجوارب نظيف‬
‫ً‬ ‫صفقت الباب ثم استدرت‬
‫كي أغادر‪..‬‬
‫الساحر األفريقي هو الحل‪ ..‬أو يعرف ما هو الحل للنجاة من هذا الفخ‬
‫الشيطاني‪.‬‬
‫ماذا كان اسمه ؟!‬
‫(ريحان)‪.‬‬
‫نعم هو (ريحان)‪.‬‬
‫أحضرت الجوارب وعندما هممت بارتدائها‪ ،‬خيل إلي أني لمحت بطرف‬
‫وجها يطل عبر المرآة‪.‬‬
‫عيني ً‬

‫‪- 161 -‬‬


‫استدرت بجذعي في نصف دورة‪ ،‬وحدقت في المرآة بذهول‪ ،‬وهالني ما‬
‫رأيت‪.‬‬
‫كانت سهيلة هناك‪ ..‬تنظر لي عبر المرآة‪ ..‬وعلى وجهها إمارات خوف‬
‫مروع‪.‬‬
‫لم يستوعب عقلي األمر ألول وهلة فالتفت إلى الجهة المقابلة للمرآة‬
‫متوقعا وجودها‪ ..‬دون أن أعرف كيف دخلت إلى الغرفة وكيف لم أشعر بها‪،‬‬
‫ً‬
‫انعكاسا لجسد‬
‫ً‬ ‫ولكن الشيء‪ ..‬المكان خال‪ .‬والصورة عبر المرآة ليست‬
‫حقيقي بداخل الغرفة‪.‬‬
‫إنها هناك‪.‬‬
‫خلف المرآة‪ ..‬بل هي بداخل المرآة‪.‬‬
‫أي جنون هذا‪!! ..‬‬

‫‪- 160 -‬‬


‫تجمدت أمام المرآة للحظات‪ ..‬ال يمكن أن يكون ما أراه حقيقيًا‪ ..‬إنها‬
‫سهيلة دون شك‪ ..‬ولكن كيف عبرت إلى هناك‪ ..‬هل يوجد بالفعل عالم‬
‫آخر خلف المرآة ؟‪.‬‬
‫المشهد يفوق كل تخيالتي‪ ،‬وينافي كل منطق‪ ،‬ورغم ذلك أبصره‪ ،‬وأوقن من‬
‫وجوده‪ .‬إنها سهيلة بكل تأكيد ‪ -‬إذا لم تتلف شبكيتي أو أصاب‬
‫بالهالوس‪ -‬تقبع هناك عبر المرآة كسمكة باهتة بداخل حوض زجاجي‬
‫يخلو من الماء‪.‬‬
‫المشهد كله يدير الرؤوس‪ .‬لذلك ال يمكن أن يكون حقيقيًا‪ .‬أما األمر الذي‬
‫أثار ذهولي أكثر من وجود سهيلة أو وجود طيفها بداخل المرآة‪ ،‬هو ما‬
‫يوجد وراءها‪ ،‬ذلك العالم المخيف الذي يمتد إلى ماال نهاية عبر طبقات‬
‫متتالية من الظالم‪.‬‬
‫متدرجا إلى ما النهاية‪،‬‬
‫ً‬ ‫ال أعرف كيف أصف األمر‪ ،‬ولكن الظالم خلفها كان‬
‫مع وجود وجوه ضبابية معذبة تتماوج عبر الظالم‪ ،‬ووجوه مخيفة لزبانية‬
‫تنهمك في تعذيب أصحاب هذه الوجوه المتألمة‪ ..‬والمشهد كله يظهر‬
‫كلقطات متتابعة من فيلم رعب قديم‪ ،‬تم التقاطها بكاميرا عتيقة تستخدم‬
‫تقنية اللونين األبيض واألسود‪.‬‬
‫صورة سلبية للجحيم ولكنها برغم كل شيء مخيفة‪ ..‬جحيم خالص من‬
‫اللونين األبيض واألسود‪.‬‬

‫‪- 161 -‬‬


‫إنها تحدي جديد لفنان مثلي‪ ،‬ربما لو جاءتني هذه األفكار أو الهالوس في‬
‫وقت مختلف‪ ،‬ألصبحت (جويا) العربي‪ ،‬ولفقد جمهوري رغبته في النوم‬
‫لمجرد أن طالع أعمالي‪.‬‬
‫مروعا لدرجة غير معقولة‪ ،‬ورسخ بداخلي ذلك الرأي الذي‬
‫المشهد كله كان ً‬
‫إفزاعا من الملونة‪.‬‬
‫تبنيته والذي يقول أن أفالم الرعب األبيض واألسود أكثر ً‬
‫ندت مني صرخة ال تخرج من فم مراهقة اكتشفت أن اليد التي تداعب‬
‫قدميها أثناء نومها هي أهداب فأر‪.‬‬
‫ارتجفت‪..‬‬
‫احتبست أنفاسي للحظات‪ ..‬ثم تراجعت مبتع ًدا عن المرآة‪ ..‬إنها المرة‬
‫األولى التي أتمنى فيها لو لم أر وجه سهيلة في حياتي قط‪.‬‬
‫وجه سهيلة الذي لم يغادر أحالمي منذ رأيتها للمرة األولى‪ .‬وجه سهيلة‬
‫الذي يطالعني عبر المرآة وهو يحمل أعنف المشاعر وأكثرها حدة‪..‬‬
‫الرعب‪.‬‬
‫كيف يسقط المرء منا في الحب ؟!‬
‫سؤال يحتاج لعشر مجلدات على األقل ؟! خاصة وأن الحب الحقيقي ال‬
‫يأتي إال في الوقت غير المناسب‪ ،‬وربما أيضا للشخص غير المناسب‪ ،‬إنه‬

‫‪- 161 -‬‬


‫المعضلة الكبرى التي تمنح الحياة نكهتها أو تحرمها منها‪ ..‬وديدنه أن‬
‫يختار أصعب األوقات وأكثرها تعاسة ليظهر‪.‬‬
‫أعترف أن سهيلة ليست فاتنة وال تمتلك ذلك الجمال الملفت الذي يجعل‬
‫وروحا متمردة‬
‫مريحا ورائحة عذبة‪ً ،‬‬
‫وجها ً‬
‫الرجال يتقاطرون عليها‪ ،‬ولكن لها ً‬
‫تستفزني‪ ..‬في عينيها ذلك الشعور بالقلق الذي يشعل مشاعري‪ .‬إنها اللوحة‬
‫يوما على تقليدها بفراشاتي‪.‬‬
‫الحية التي لن أجرؤ ً‬
‫سهيل ة اآلن محتجزة في عالم غريب‪ ،‬عالم مخيف‪ ،‬عالم يتمتع بفيزياء‬
‫خاصة وقواعد فوق الطبيعية‪.‬‬
‫محتجزة وتعاني‪.‬‬
‫محتجزة وتطلب مني أن أسمح لها بالدخول إلى غرفتي‪.‬‬
‫ضا ليست داخلها‪ ،‬فهل ح ًقا سأخالف‬ ‫تقنيًا هي بداخل الغرفة ولكنها أي ً‬
‫حدسي وأسمح لها‪ .‬إن عبارة بكامل إرادتي الحرة‪ ،‬تتخذ بع ًدا مخي ًفا‬
‫ومقل ًقا‪ .‬قد ال تكون هذه سهيلة بالفعل‪ ،‬وقد تكون مخلب قط الجتذابي‬
‫نحو طريق الهالك‪.‬‬
‫كم من أحمق خالف حدسه وفتح للموت بابه‪..‬‬
‫إن كتب التاريخ تعج بقصص الحمقى‪ ..‬حتى لتعتقد أن التاريخ البشري قصة‬
‫ممتدة للحماقة التي ال عالج لها‪.‬‬

‫‪- 161 -‬‬


‫ولكني لم أكن أحمق لهذه الدرجة‪ .‬ففي اللحظة التي قررت فيها دعوة‬
‫سهيلة لدخول غرفتي عبر المرآة‪ ،‬قمت بأغرب تصرف قد يقوم به عاشق‬
‫على مر التاريخ يرى حبيبته في محنة وتستنجد به‪.‬‬
‫لقد سحبت أحد الكراسي‪ ،‬وأدرت ظهره للمرآة ثم جلست عليه وأشعلت‬
‫لفافة تبغ‪ ،‬وأخذت أغني وأدمدم‪.‬‬
‫سلوك غير مبرر وال مفهوم‪ ،‬ولكنه بدى لي وقتها منطقيًا إلى أقصى حد‪.‬‬
‫لماذا ؟!‬
‫بال سبب‪.‬‬
‫إنني على وشك الموت‪ ،‬فأي شيء آخر سأخسره‪ .‬ثم إن سهيلة لم تكن من‬
‫السبعة المبشرين بالموت‪.‬‬
‫لذا فوجودها في هذا المكان المخيف مريب‪.‬‬
‫إن أكثر صفة تمتاز بها الشياطين هي التقمص واتخاذ هيئة البشر‬
‫والحيوانات‪ ،‬فلماذا يكون األمر مختل ًفا ؟‬
‫عشر لفافات تبغ استهلكتها‪ ،‬مئات من األغاني واأللحان رددتها‪ ،‬وضعت‬
‫سدادات األذن الشمعية‪ ،‬أشعلت جهاز اإلستريو بصوت مرتفع‪ ،‬وكل ذلك‬
‫كي ال أسمع صوتها‪.‬‬
‫السؤال هنا لماذا لم أترك لها الغرفة وأغادر ؟!‬
‫‪- 165 -‬‬
‫والجواب بسيط أن باب الغرفة اختفى‪ ،‬الغرفة نفسها تالشت ولم يبق إال‬
‫المقعد الذي أجلس فوقه وسط ستار كثيف من اللون األحمر‪.‬‬
‫خاطر سخيف يطارد عقلي‪ ،‬وكأنني أجلس بقلب بطيخة‪ ..‬هذه الكثافة من‬
‫اللون األحمر مفزعة‪.‬‬
‫وبرغم كل هذا تمالكت أعصابي وأعملت عقلي في األمر‪..‬فال داع ألن‬
‫أتهور أو أنجرف‪ .‬فأنا ذلك األحمق الذي يحذرون الجميع منه‪ ،‬ويطالبونهم‬
‫بأال يثيروا غضبه ألن ردود فعله قد تفوق بكثير ما هو متوقع مما يجعل كل‬
‫خطوة يخطوها تتسبب في كارثة‪.‬‬
‫اتق شر الحليم إذا غضب‪ ..‬ألن غضبه عات‪ ..‬غضب غير مروض‪ ..‬غضب‬
‫مستعر ال قيد عليه‪.‬‬
‫الغشيم يكون أكثر خطورة في المشاجرات من الشخص المحترف‪ ..‬ألنه ال‬
‫يعرف نهاية لغضبه أو اندفاعه‪.‬‬
‫وأنا ال أريد أن أغضب أو أتهور‪ ..‬ألن الوضع سيكون مؤذيًا‪ ..‬لي بالطبع‪..‬‬
‫إن آخر مرة فقدت فيها أعصابي تسببت في تحطيم ذراع ذلك الطفل الذي‬
‫لم يتجاوز التاسعة والذي نسي علبة األلوان ثم لم يتوقف عن مضايقة‬
‫زمالئه‪.‬‬

‫‪- 166 -‬‬


‫بعض األطفال يستحقون القتل‪ ..‬ولكن لم يكن هذا رأي مديرة المدرسة‬
‫التي استفزها األمر‪ ،‬وخافت أن يصل إلى الوزارة‪ ،‬دون أن تكون قد منحتني‬
‫عقابًا كافيًا‪.‬‬
‫إيقاف عن العمل‪.‬‬
‫شهر خصم من الراتب وآخر ٌ‬
‫ٌ‬
‫أعرف جي ًدا أن غضبي يومها لم يكن من أجل علبة األلوان وال من أجل‬
‫شقاوته ومضايقته لزمالئه‪ ..‬بل هذا األمر هو القشة التي أضيفت لما فوق‬
‫ظهر البعير فقصمته‪.‬‬
‫إن مهنتي‪ ..‬مهنة غير حقيقة‪ ..‬ال يعترف بها اآلباء‪ ..‬وال التقييم‪ ..‬ال تضيف‬
‫درجات إلى المجموع الكلي وال تنقصه‪ ..‬وال يأتي لها المريدون ليتلقوا‬
‫الدروس الخصوصية‪ ..‬إنها مجرد وقت ضائع في اليوم الدراسي‪ ..‬مهنة ال‬
‫قيمة لها وال تدر أي نقود‪ ..‬لن يضاف لهذا كله استهزاء الطلبة بها‪ ..‬لذا‬
‫كان العقاب أسطوريًا وهشمت ذراع ذلك السخيف‪..‬‬
‫من حق مدرس الرسم أن يكون قاسيًا كأي مدرس آخر‪ ..‬فلنتوقف هنا‪ ..‬إن‬
‫تذكر هذا الموضوع يصيبني بالغثيان‪ .‬كما أن هذا ليس موضوعنا اآلن‪.‬‬
‫المهم أنني أخذت أشغل عقلي بآالف الموضوعات‪ ،‬محاوالً التغلب على‬
‫صوتها المستحوذ العذب‪.‬‬
‫‪.............‬‬

‫‪- 167 -‬‬


‫توسالتها ال تنقطع‪.‬‬
‫نحيبها ال يتوقف‪.‬‬
‫أنينها يتعالى ليمزق نياط قلبي‪.‬‬
‫ولكني أواصل دندنتي وغنائي وأردد دون توقف وبكافة النغمات ‪:‬‬
‫‪ -‬األمر سينتهي اآلن‪ ..‬سينتهي‪.‬‬
‫ساعة كاملة ظللت فيها أقاوم تلك السيطرة العقلية المخيفة‪ ،‬حتى كادت‬
‫روحي أن تزهق‪ ،‬وفي اللحظة التي كدت أن أستسلم فيها‪ .‬دوت الطرقات‬
‫من جديد‪.‬‬
‫‪ -‬طق طق طااااااق‪.‬‬
‫ليظهر الباب من قلب العدم‪ ،‬وتتجسد الغرفة من حولي ويتالشى الضوء‬
‫األحمر الثقيل‪ ،‬وكأن الطرقات أعادت للباب خصائصه الطبيعية ومحت‬
‫ذلك السحر الذي سيطر على كل شيء حولي‪ ،‬فاندفعت كالغريق ألفتح‬
‫الباب‪.‬‬
‫مدمرا كل توقعاتي بعصيانه‪ ..‬وعلى عتبة الباب كانت‬
‫انفتح الباب بسالسة ً‬
‫تقف سهيلة بعيون منتفخة وهيئة زرية‪ ،‬وخلفها والدتي تحدجني بنظرات من‬
‫نار‪ ..‬إنها ال تسمح بمثل هذه األشياء أب ًدا‪ ..‬فكيف أقنعتها سهيلة‪.‬‬

‫‪- 168 -‬‬


‫نقلت بصري بين سهيلة وبين أمي‪ ،‬وبحركة تلقائية جذبت سهيلة من ذراعها‬
‫وأغلقت الباب في وجه أمي‪ ،‬وفي عقلي تخيل ت صورة أمي‪ ،‬والدخان يخرج‬
‫من أذنيها‪ ،‬ولكن في هذه اللحظة كان غضبها آخر شيء أفكر فيه‪.‬‬
‫ألن بداخل الغرفة أصبح هناك اثنان سهيلة‪.‬‬
‫سهيلة بشحمها ولحمها وقلقها‪ ..‬وسهيلة أخرى تتعذب خلف المرآة‪.‬‬
‫فياله من وضع مقيت‪.‬‬

‫‪- 169 -‬‬


‫‪ -‬الذي حضر ‪-‬‬
‫الوضع المخيف لم يتغير قط‪ ،‬فقط أصبح هناك لغز حقيقي أجج الصراع‬
‫بداخل عقلي‪.‬‬
‫من هي سهيلة الحقيقية ومن هي الزائفة ؟!‬
‫أهي التي تقبع خلف المرآة تتوسل‪ ،‬أم تلك الزهرة التي فقدت كل عبيرها‬
‫ونضارتها والتي تشاركني غرفة نومي‪.‬‬
‫االثنتان تحمالن نفس المالمح‪ ،‬ونفس القلق ونفس اإلجهاد وال يبدو أن أيًا‬
‫منهما تستمتع بوقتها هذه األيام‪.‬‬
‫تماما‪ ،‬األبواب اآلن شفافة وما‬
‫إن لعبة األبواب المغلقة تغيرت قواعدها ً‬
‫خلفها معلوم إلى حد ما‪ ..‬فقط علي أن أختار‪ .‬بين موت وموت‪.‬‬
‫البد أن البعض منكم اآلن متعجب‪ ،‬ويتساءل كيف أواجه كل هذا الضغط‬
‫العصبي واألحداث فوق الطبيعية‪ ،‬بهذا الكم المريب من البرود‪ .‬ولهم أقول‪:‬‬
‫‪ -‬ال تتعجبوا إنها طبيعتي‪ ..‬فبرودي وهدوء أعصابي‪ ..‬هو ميزة اكتسبتها‬
‫عبر الجينات‪ ..‬ورسختها سنوات من الروتين والملل والقهر‪ ..‬وهاهي الميزة‬
‫تبرز قدرة هائلة مني على التكيف‪ ،‬ومواجهة أصعب المواقف‪.‬‬
‫بعض األصدقاء وفي محيط العائلة يطلقون علي لوح الثلج‪ ،‬ألن انفعالي‬
‫دائما يكون بعد فوات األوان أو ال يكون أب ًدا‪.‬‬
‫ً‬
‫‪- 171 -‬‬
‫معظمنا تعرض لحادث سيارة أو أكثر في حياته ولكن كم منكم من خرج‬
‫من السيارة المهشمة ليوقف سيارة أخرى دون النظر لباقي الضحايا أو‬
‫متوجها صوب عمله وكأن شيئًا لم يكن‪.‬‬
‫ً‬ ‫لطبيعة ما حدث‪.‬‬
‫الصدمة عندي تأتي متأخرة ج ًدا‪.‬‬
‫لذا فعند غضبي‪ ..‬ال أنصح أيًا منكم أن يعترض طريقي‪ .‬ألنني ال أكون أنا‪..‬‬
‫بل شيطانًا فقد كل ما يمت للبشرية بصلة‪.‬‬
‫أجلست سهيلة على المقعد الوحيد الموجود في الغرفة‪ ،‬ثم أخذنا نتبادل‬
‫النظرات‪ .‬قبل أن تنهمر دموعها وينطلق لسانها في الحديث دون توقف‪.‬‬
‫سهيلة رأت الموت بعينيها‪ ..‬الموت القريب‪ ..‬القريب ج ًدا والذي كان يطل‬
‫من فوهة المسدس الباردة التي حملها زياد‪.‬‬
‫سهيلة لم تعد مستمتعة بما يحدث وال بكونها وسيطة‪..‬‬
‫سهيلة خائفة وتبغي الحماية‪..‬‬
‫سهيلة تموت من منظر سهيلة األخرى التي تحاول اقتناصها عبر المرآة‪.‬‬
‫سهلية تمنحني خريطة ساذجة يبدو أنها رسمتها بنفسها‪ .‬تقود نحو مقبرة‬
‫جزءا من حل اللغز‪ .‬وأن أمجد من ساعدها‬
‫ما‪ ..‬وتخبرني أن هناك يكمن ً‬
‫في رسمها في إحدى رؤاها المشئومة‪.‬‬

‫‪- 170 -‬‬


‫وأثناء انشغالي بتفحص الخريطة البدائية‪ ،‬قامت سهيلة بأكبر حماقة ممكن‬
‫أن تقوم بها من في مثل موقفها‪ .‬لقد لمست سطح المرآة بطرف أناملها‪..‬‬
‫وفي لحظة واحدة وقعت الكارثة الكبرى‪.‬‬
‫أصابتها تشنجات عنيفة‪ ،‬وكأنها لمست سلك كهرباء عالي الفولت‪ .‬مع كمية‬
‫هائلة من الزبد أخذت تتساقط من فمها‪ ،‬صاحبتها كمية هائلة من الصرخات‬
‫جعلت كل جيراننا بقلب شقتنا في لمح البصر‪.‬‬
‫وقبل أن أستوعب ما يحدث‪ ..‬انتصبت سهيلة على قدميها واقفة وانقلبت‬
‫عيناها بشكل مخيف‪ ..‬وتحشرج صوتها في قوة‪ ..‬وقبل أن تقفز من النافذة‬
‫قالت كلمتها المخيفة ‪:‬‬
‫‪ -‬أنت التالي‪.‬‬
‫جمدتني الصدمة في مكاني للحظات‪ ،‬بعد أن رأيت كيف استولت شياطين المرآة‬
‫على جسد سهيلة‪ ،‬وكيف تحول شكلها‪ ،‬وانقلبت عيناها‪ ،‬فصارت حمراء‬
‫متوقعا أن أرى جسدها النحيل متوس ًدا‬
‫ً‬ ‫متوهجة‪ ..‬قبل أن أندفع صوب النافذة‬
‫مهشما غارقًا في الدماء‪ ..‬ولكن ما رأيته كان مخي ًفا أكثر‪.‬‬
‫ً‬ ‫األرض‬
‫خاليا من أي جثث‪ ،‬وال أثر لسهيلة‪ ..‬لقد مست واستحوذت عليها‬
‫فالشارع كان ً‬
‫الشياطين‪ .‬وفي لحظة غضب عاتية‪ ..‬حملت المقعد وهشمت المرآة‪ ..‬غير عالم‬
‫فادحا‪ ..‬ألنني قطعت الصلة التي تربط الشيطانة بعالمها‪.‬‬
‫أن ما قمت به كان خطأً ً‬
‫أو الكيان كما تحب أن تطلق عليه سهيلة‪.‬‬
‫سهيلة أصبحت هي الكيان‪.‬‬

‫****‬
‫‪- 171 -‬‬
‫"الشيخ ريحان قتل"‪.‬‬
‫ومن قتلته فتاة تحمل كل مواصفات سهيلة‪ ،‬إن الشيطانة تصر على‬
‫استكمال اللعنة وإغالق كافة الطرق في وجهي مهما تكلف األمر‪ .‬إنها لم‬
‫تعد تحفل بسرية األمر وال عقباته‪ ،‬لذا لم يعد هناك إال الطريق اآلخر‬
‫المرسوم عبر الخريطة‪.‬‬
‫السؤال هنا ‪ :‬هل أذهب اآلن أم أنتظر للصباح‪ ..‬إن الزيارة الليلية للمقابر‬
‫شيء غير مريح‪ ..‬بل هو مخيف لو صدقتكم الرأي‪ ..‬فقط هو الوقت الذي‬
‫يجبرني على المخاطرة‪.‬‬
‫اآلن أنا وحدي‪..‬‬
‫وربما أنا األخير‪..‬‬
‫سهيلة استحوذت عليها شيطانة‪ ..‬وأصدقائي قد فارقوا الحياة أو في‬
‫طريقهم‪ ..‬والموت متربص بي‪ ..‬والحل يكمن بقلب مقبرة مجهولة‪ ..‬ال‬
‫أعرف كيف سأحمل الجرأة على نبشها‪ ،‬وصدري يؤلمني من أثر الحرق‪،‬‬
‫وأمي غاضبة مني‪..‬‬
‫أي أن الموت هو أجمل الخيارات المتاحة ‪.‬‬
‫****‬

‫‪- 171 -‬‬


‫قبل خروجي من المنزل‪ ،‬عرجت على المطبخ وحصلت منه على سكين‬
‫حادة واريتها بين طيات ثيابي باإلضافة لكشاف يتم شحنه يدويًا‪ ..‬وبعض‬
‫الشموع ونسخة مصغرة من القرآن الكريم‪ .‬وطوال الطريق لم أتوقف لحظة‬
‫عن ترديد األدعية‪.‬‬
‫وعلى مشارف تلك المقابر توقفت‪.‬‬
‫لم تكن تلك المقابر من نوع المقابر الخالية من البشر‪ ،‬بل هي ذلك النوع‬
‫الحديث الذي تحول إلى سك ن يقطنه عشرات األسر‪ ،‬ال يمكن أن أخترق‬
‫هذه الحشود دون أن يالحظوني أو يستوقفوني‪.‬‬
‫راجعت الخريطة عدة مرات وأنا أجلس متواريًا خلف شاهد قبر متهدم‪،‬‬
‫وأصوات لهو األطفال يصل إلى أذني ويشعرني ببعض الونس‪.‬‬
‫هناك طريق خلفي يمكن أن أسلكه لكي أصل للمقبرة المنشودة‪ ،‬ولكن ما‬
‫العمل لو وجدتها مسكونة بالبشر هي األخرى‪ ..‬ماذا سأفعل وقتها ؟‬
‫عبرت من خلف سور المقابر إلى حيث الظالم وأكوام القمامة المتخلفة عن‬
‫قاطنيها‪ ،‬الرائحة قاتلة‪ ..‬ولكني استخدمت منديلي وبخطوات سريعة عبرت‬
‫المنطقة المحتوية على القمامة‪ ،‬ثم سلكت طري ًقا بين بعض األطالل‬
‫المتهدمة وفي النهاية دخلت إلى المقابر من الجهة الخلفية‪ ،‬وفي مساحة‬
‫تماما وجدت المقبرة‪ ،‬وال يوجد أثر لكائن حي بالقرب منها‪.‬‬
‫خالية ً‬

‫‪- 171 -‬‬


‫يبدو أنهم عانوا عندما حاولوا سكناها‪ ،‬وفي النهاية تركوها‪.‬‬
‫اآلن أقترب من باب المقبرة‪ ،‬والذي يبدو أنه فتح منذ وقت قريب‪ ..‬لن‬
‫أعاني إذن في فتحه‪ ،‬آثار األتربة من حوله توضح ذلك‪.‬‬
‫أرفع القطعة الرخام التي تسد المدخل وأنظر نحو الظالم ودرجات السلم‬
‫الهابطة المتآكلة‪ ،‬قدماي ال تطاوعاني على الهبوط‪ ،‬ولكني أضغط على‬
‫نفسي وأهبط‪..‬‬
‫فكرة الكشاف ذاتي الشحن سخيفة ألني سأستمر في الضغط المستمر‬
‫مضاء‪.‬‬
‫ً‬ ‫عليه ليظل‬
‫أهبط الدرجات المتآكلة في تردد ورائحة الموت تصفع أنفي‪ ..‬الظالم‬
‫دامس والتوتر يجعل جسدي يرتجف كذيل عقرب تم قطعه‪ ..‬أغمض عيني‬
‫ثم أترك المصباح ألشعل لفافة تبغ‪ ..‬أعيد الضغط على المصباح ثم أواصل‬
‫الهبوط‪.‬‬
‫رائحة التبغ تطرد من أنفي رائحة الموت والجثث المتحللة إلى حد ما‪.‬‬
‫أتجاهل تلك األجساد الملفوفة في أكفانها والمرصوصة بجوار الجدران‪،‬‬
‫وأتوجه صوب الجدار الذي توضحه الخريطة‪.‬‬
‫حمدت اهلل على كون المكان خال‪ ،‬فلن أضطر لتحريك رفات أي جثة من‬
‫موضعها‪ ..‬أشعلت بعض الشموع بعد أن يئست من المصباح ذاتي‬

‫‪- 175 -‬‬


‫الشحن‪ ..‬ثم أخذت في الحفر بالسكين الذي أحضرته معي في نفس النقطة‬
‫المحددة على الخريطة بخطين متقاطعين‪.‬‬
‫دقات قلبي تتعالى وذلك الشريان النابض في رأسي ال يوحي بأن األمور‬
‫ستمر على خير‪.‬‬
‫الحفرة تتسع والوقت يمضي وأنفاسي تتالحق‪.‬‬
‫من يصدق ما أفعله اآلن !!‬
‫السكين يصطدم بجسم معدني‪ ،‬مما شجعني على الحفر بسرعة أكبر‪..‬‬
‫لحظات ثم ظهر الصندوق‪ ..‬لم يكن صندوقًا بالمعنى المتعارف عليه‪ ،‬بل‬
‫هي علبة معدنية من ذلك النوع الذي تأتي فيه الشيكوالته في المناسبات‬
‫أصابها بعض الصدأ‪.‬‬
‫أحرر العلبة المعدنية من بين تراب المقابر الذي لوث يدي ووجهي وأبصق‬
‫ما كدت أبتلعه منه‪ ..‬وما إن قبضت على الصندوق‪ ،‬حتى دوت الصرخة‬
‫وانطفأت كل الشموع‪.‬‬
‫احتضنت العلبة المعدنية بيد وباليد األخرى قبضت على السكين وأخذت‬
‫أتلفت في الظالم‪.‬‬
‫الذعر تملك مني وقلبي يوشك على التوقف‪.‬‬
‫أبحث عن الكشاف فال أجده‪.‬‬

‫‪- 176 -‬‬


‫أشعلت قداحتى بصعوبة‪ ،‬وعلى هدى الضوء المتسرب منها بدأت في‬
‫صعود الدرج عندما شعرت بالقبضة المخلبية تنغرس في ظهري‪.‬‬
‫لقد استيقظ الموتى‪.‬‬
‫دفعت القبضة بيدي دون أن أعرف نوع العدو الذي يواجهني ثم عدوت‬
‫خارج المقبرة‪..‬‬
‫جلست على األرضية المتربة ألهث ويداي ميتتان على العلبة المعدنية التي‬
‫ال أعرف محتوياتها‪ .‬ثم زحفت على األرض بصعوبة حتى جعلت ظهري‬
‫لشاهد قبر‪ ،‬ثم ‪ -‬وبمجهود مضاعف ‪ -‬فتحت العلبة المغلقة‪ ،‬وكدت أتقيأ‬
‫من محتوياتها‪.‬‬
‫جثة فأر محنطة‪ ..‬ورحم أنثى مختلط بدماء طمس‪ ،‬عظمة ضلع طفل‪..‬‬
‫بعض األوراق المكتوبة بسائل أحمر غير الدم‪ ،‬وخنجر يدوي الصنع له يد‬
‫خشبية ونصله غارق في الدماء‪.‬‬
‫نظرت لكل هذه األشياء بحيرة‪ ..‬ما هي الخطوة التالية ؟!‬
‫لم أعرف ماذا أفعل غير حرق هذه األشياء‪.‬‬
‫وضعت العلبة أمامي ثم رفعت ضغط الغاز بداخل القداحة‪ ،‬ثم أشعلتها‬
‫فانطلق عمود من اللهب المركز ما أن المس األوراق‪ ..‬حتى سرت النار في‬
‫كل محتويات العلبة بسرعة رهيبة وأتت عليها في لحظات ليبدأ الهول‪.‬‬

‫‪- 177 -‬‬


‫ففي نفس اللحظة التي خبت فيها النيران‪ ..‬لمحت ذلك الشيطان الذي‬
‫انتصب أمامي كالمصيبة‪ ،‬مجس ًدا أعقد كوابيسي وأكثرها بشاعة ‪.‬‬
‫ال يمكن أن يكون هناك شيء مرعب أكثر‪.‬‬
‫العيون المشتعلة‪ ..‬الجسد الحرشفي‪ ..‬المخالب واألنياب‪ ..‬القدم المشقوقة‬
‫كقدم الماعز‪ ،‬وتلك األدخنة التي تظهر من حوله مع رائحة الكبريت التي‬
‫عبقت الجو‪.‬‬
‫الشيطان كما ينبغي له أن يكون ومن خلفه ظهرت سهيلة وقد لطخت‬
‫مالبسها الدماء‪ ..‬وشحب وجهها فصار كوجه الموتى‪.‬‬
‫توقف عقلي للحظات وكدت أفقد الوعي‪ ..‬ثم أخذت أصرخ‪.‬‬
‫هذا ليس عدالً ليس عدالً‪. ..‬مازال أمامي يوم آخر‪ ..‬لن يسلبني أحد يومي‬
‫األخير حتى ولو كان الشيطان‪.‬‬
‫هل حدثتكم عن الحماقة ؟!‬
‫هل حدثتكم عن الغضب ؟!‬
‫هل حدثتكم عن ذلك الغر الساذج التي يدخل معركة‪ ،‬يعرف دون شك أنه‬
‫سيخسرها ؟!‬
‫إذن علمتم من أنا‪.‬‬

‫‪- 178 -‬‬


‫السكين في يدي‪ ،‬وبكل غضب الدنيا هاجمت سهيلة‪ ..‬لم أستطع برغم كل‬
‫شيء أن أهاجم الشيطان‪ .‬ولم تمنعني سهيلة‪.‬‬
‫السكين في يدي‪ ..‬أندفع كالمجنون صوب سهيلة ثم أطعنها في قلبها بكل‬
‫ما في جسدي من قوة‪ ..‬الدماء تتفجر من موضع اإلصابة لتغمر كل شيء‪،‬‬
‫وأنا أقف مذهوالً أتطلع إلى يدي وإلى السكين الذي غرس في صدر‬
‫سهيلة‪.‬‬
‫يا إلهي‪ ..‬ماذا فعلت ؟!‬
‫صرخة أخيرة من سهيلة تهتف باسمي بعد أن انتهى االستحواذ عليها‬
‫بالموت‪ ،‬قبل أن يسقط جسدها ليفترش األرض‪ ،‬في مشهد حطم قلبي‬
‫وأشعل غضبي‪..‬‬
‫ضا صرخ في غضب‪ ..‬عيونه تشتعل ومن فمه تصاعد بخار‬‫الشيطان أي ً‬
‫ملتهب لفح وجهي‪ ..‬قبل أن تمزق مخالبه لحم صدري في نفس موقع‬
‫الحرق ليمنحني ألم مريع ‪.‬‬
‫لم ألتفت لأللم وإلصابتي الفادحة‪ ..‬وال للشيطان الذي يستعد النقضاضه‬
‫جديدة‪ ..‬فقط وقفت أموج بغضب هادر‪ ،‬وأنا أتطلع لجسد سهيلة المكوم‬
‫على األرض‪ ..‬كنت أستمد منها طاقة غاضبة لو لمست قلب األرض‬
‫لصهرته ولو المست مياه البحار لبخرتها‪ ..‬ال يوجد ألم مثل ألم القلب‪..‬‬
‫صدقوني‪ ..‬ال يوجد ألم أقسى من أن تفقد من تحب‪.‬‬
‫‪- 179 -‬‬
‫وفي لحظة تحولت لليث غاضب‪ ..‬وانقضضت بسكيني على قلب‬
‫حجما وقوًة وغضبًا‪..‬‬
‫الشيطان‪ ..‬الذي يفوقني ً‬
‫وكانت هذه هي حركتي األخيرة‪ ،‬ففي اللحظة التالية لم أشعر إال بالنيران‬
‫التي اشتعلت حولي في كل شيء‪ ،‬ثم شعرت بألم هائل في كل خلية من‬
‫خاليا جسدي‪ .‬وأظلمت الدنيا للحظات‪ ،‬وعندما عاد الضوء‪ ..‬وجدت‬
‫أصدقائي جميعًا أمامي‪ ،‬ورأيت الشياطين التي تعكف على تعذيبهم‪.‬‬
‫والجحيم المستعر الذي يلتهم كل شيء‪.‬‬
‫لم يكن الموت إذن‪.‬‬
‫وأمام عيني تجسد ذلك الشيطان الغاضب من قلب العدم وهو ينفث من‬
‫منخاريه ذلك البخار الملتهب‪ ..‬ومن عينيه الغاضبتين عرفت أنه حضر من‬
‫أجلي‪.‬‬
‫من أجلي فقط‪.‬‬

‫‪- 181 -‬‬


‫‪17‬‬
‫اللعنة السابعة ‪ -‬الغرور‬
‫عرفها دانتي ‪ :‬الحب النرجسي للشخص والذي يخالطه كره اآلخرين‬
‫واحتقارهم‪.. ..‬كبرى الخطايا السبع وأعظمها‪ ،‬مرتبطة بلوسيفر ‪Lucifer‬‬
‫وهو النسخة المسيحية من إبليس عندما كان مال ًكا‪ ..‬مرتبطة باللون‬
‫البنفسجي‪..‬‬
‫أنا الغرور‪ ..‬إنني أزدري أن يكون لي أبوان‪ ..‬فأنا أشبه ببرغوث أوفيد‬
‫ويمكنني أن أزحف داخل أي ناحية من جسم الفتاة‪ ..‬أحيانًا‪ ..‬بصورة شعر‬
‫مستعار ‪..‬أتربع فوق جبينها‪ ..‬ثم بشكل قالدة‪ ..‬أتدلى حول عنقها‪..‬‬
‫وأخيرا أتحول إلى دخان‬
‫ً‬ ‫وبعدها كالمروحة من الريش‪ ..‬ألثم شفتيها‪..‬‬
‫مشكل فأفعل ما أشاء‪ ..‬ولكن‪ ..‬أف‪ ..‬ما هذه الرائحة هنا !! لن أضيف‬
‫كلمةً أخرى ما لم تعطر األرض وتكسى بأقمشة مزركشة‪..‬‬

‫‪- 180 -‬‬


- 181 -
‫‪ -‬يقظة ‪-‬‬
‫"لقد استيقظ المريض أمجد"‪.‬‬
‫كان هذا هو صوت الممرضة البارد‪ ،‬والذي صفع سمعي بجفائه‪ ،‬ووشى‬
‫بطبيعة الممرضة الملول غير المبالية‪ ،‬خاصة عندما بدأت أفيق وأشعر‬
‫بالعالم الحقيقي يتجسد من حولي من جديد‪ .‬وبدا وكأنني أعود من نوم‬
‫عميق ال يفوقه عم ًقا إال نوم أصحاب الكهف‪.‬‬
‫لم تكن العودة هينة بأي حال من األحوال‪ ،‬وظهر األمر وكأن روحي التي‬
‫مجددا‪ .‬فقط هناك‬
‫ً‬ ‫غادرت جسدي قد ضاقت به‪ ،‬وال ترغب في العودة إليه‬
‫حشرا في جسدي دون جدوى‪.‬‬
‫من يحاول حشرها ً‬
‫وقعا على أعصابي من صدمة‬ ‫رؤية العالم الواقعي كانت صادمة‪ ،‬بل أشد ً‬
‫استيقاظي في ذلك الجحيم الجهنمي‪ ،‬الذي قضيت فيه األسابيع األخيرة‬
‫المنصرمة أعاني وأتعذب وأرى أصدقائي يتساقطون في قبضة الشياطين‬
‫واح ًدا تلو اآلخر‪.‬‬
‫الفرحة قاتلة كما يقولون‪.‬‬
‫قطارا بكامل عرباته مر فوقه عدة مرات‪ ..‬عقلي‬
‫جسدي يؤلمني وكأن ً‬
‫يترجرج وكأن بداخله كرة دوارة ال تتوقف عن هرسه طوال الوقت‪ ،‬عيناي‬
‫جاحظتان منهمكت ان في التهام كل التفاصيل المعتادة من حولي بنهم أعمى‬
‫يرى الدنيا للمرة األولى‪..‬‬
‫‪- 181 -‬‬
‫الدهشة تفوقت على األلم وبجدارة فاحتواني الذهول بالكامل‪ ،‬وإن ظل‬
‫األلم ينشب مخالبه الحادة في روحي وجسدي كليث تمكن من فريسته التي‬
‫فقدت كل مقاومة حتى ظننت أن الزمن قد تجمد إلى األبد‪ .‬فعودتي لعالم‬
‫األحياء كانت مفاجأة لي لم أتوقعها تحدث أب ًدا‪.‬‬
‫فاستمرارية التعذيب والمعاناة واأللم‪،‬جعلت األمل بداخلي يذوب ويتبخر‪،‬‬
‫بل ويتالشى من عالمي كله‪ .‬خاصة بعد أن عاصرت تلك المشاهد المروعة‬
‫التي دارت أمام عيني بداخل ذلك الجحيم الصناعي الجهنمي‪ ،‬والذي‬
‫أنشأ ته تلك الشيطانة الملعونة إلرضاء سادتها من الشياطين لدعمها في‬
‫صراعها مع ذلك المخلوق الشيطاني الذي استحضره الشيخ ياسين‪ ،‬والذي‬
‫ال يمت للشياطين التي نعرفها بصلة‪.‬‬
‫هل تفاجأتم ؟!‬
‫بالتأكيد‪ ..‬فأنا نفسي تفاجأت‪ ..‬بل صدمت بهذه المعلومة الرهيبة‪ ..‬والتي‬
‫لم ترد من قبل في أي كتاب تاريخ أو خوراق‪ ،‬وكأن هناك من حرص وبشدة‬
‫على إخفاء كل أثر لهم‪ ،‬لهدف ما في نفسه‪ ،‬وحتى يذوبوا في عوالم‬
‫النسيان‪.‬‬
‫هناك مخلوقات شيطانية‪ ،‬في ما وراء هذا الكون ال نعرف عنها شيئًا‪ .‬وهي‬
‫تتربص بنا‪ .‬ولوال أن للكون قواعد صارمة في العبور واالنتقال‪ ،‬لما كان هناك‬
‫بشري في مأمن منها‪ .‬لذا فإنني أكررها‪ ..‬ألني نفسي أصدقها بصعوبة‪ ..‬إنها‬

‫‪- 181 -‬‬


‫نوع من الشياطين ال تمت لجنس الشياطين التي نعرفها بصلة‪ ..‬وال تخضع‬
‫لقواعده‪.‬‬
‫إنها أشد وحشية وقوة‪ ،‬من أي شياطين سمعت عنها من قبل‪ ،‬ألن لديها‬
‫القدرة على إخضاع الشياطين أنفسها‪ ،‬واحتالل أجسادها النارية‪ ..‬بل إن‬
‫هناك نوع بدائي منها‪ ..‬يستمتع بالتهام الجن والشياطين‪.‬‬
‫وعن طريق السيطرة على هذه المخلوقات الوحشية‪ ،‬يستطيع الساحر أن‬
‫يخضع أي جن إلرادته‪..‬‬
‫التعامل مع هذه الكائنات الجهنمية ليس سهالً أو هينًا كما يبدو‪ ،‬فهو‬
‫يحتاج لتضحية عظيمة ولطقوس تصل لحد الكفر‪ ..‬بل هي الكفر ذاته‪،‬‬
‫وإلى دماء كثيرة تراق‪ ،‬وإلى تنازالت ال مثيل لها تخرج الساحر بجدارة من‬
‫عباءة اإلنسانية‪ ..‬والمخيف أن هناك من ال يتورعون عن قضاء ثالثة عشر‬
‫يوما في هذا الجحيم الطقسي من أجل أن يصلوا لمأربهم‪..‬‬
‫ً‬
‫يوما‪ ،‬كفيلة بأن تهشم روح الساحر وتصيبه بالجنون لو لم يكن‬
‫ثالثة عشر ً‬
‫بالكفاءة المطلوبة‪.‬‬
‫إن هذه المخلوقات لعنة أبدية‪ ،‬ولوال أنها تقطن في البعد السابع لألرض‪،‬‬
‫وال تملك القدرة على العبور لعالم البشر دون وسيط‪ ،‬وعن طريق طقوس‬
‫وكلمات خاصة‪ ،‬عبر درب رهيب من دروب السحر األسود‪ ،‬الستعبدت‬
‫البشر منذ زمن سحيق‪.‬‬
‫‪- 185 -‬‬
‫إن الشياطين التي نعرفها‪ ،‬تبدو بجوارها كالحمالن الوديعة‪ ..‬ألم أخبركم أنها‬
‫المخلوقات التي يخشاها الجن والشياطين‪! ..‬‬
‫إن الجهل بهذه العوالم‪ ،‬جعلنا نضع كل ما هو مجهول في سلة واحدة‪ ،‬فال‬
‫نفرق بين الشر والشر الفائق المطلق‪.‬‬
‫الشيخ ياسين‪ ،‬سلك هذا الدرب المشئوم للمرة الثانية‪ ،‬والفترة األخيرة التي‬
‫انشغل فيها ولم يعد يغادر غرفته‪ ،‬كان يجهز فيها الستعباد مخلوق آخر من‬
‫تلك المخلوقات الجهنمية‪ ،‬سيستدعيه لمساعدته من أشد مناطق الكون‬
‫ظلمة ووحشة‪ ،‬من البعد السابع لألرض‪.‬‬
‫خاصا من سحر الظالم قادر‬
‫ألنه علم عن طريق بردية قديمة‪ ،‬أن هناك دربًا ً‬
‫ضا‪ ..‬إن جسده يتداعى وال‬
‫على إعادة شبابه إليه وربما منحه الخلود أي ً‬
‫سبيل آخر إليقاف زحف الزمن عليه‪..‬‬
‫خاض الشيخ ياسين في األمر‪ ،‬دون أن يضع أي اعتبارات لقدراته التي‬
‫وهنت مع زحف الشيب والتجاعيد على وجهه‪ ..‬خاض في األمر ألنه يثق‬
‫أنه قادر على كل شيء وأي شيء‪ ..‬إنه الغرور البشري الذي ال سقف له‪،‬‬
‫والذي قادنا من البداية لنخوض في هذه الدروب المظلمة‪..‬‬
‫سلك الشيخ يا سين دربه المظلم‪ ،‬وأراق دم ذلك الرضيع‪ ،‬الذي نتج عن‬
‫يوما‪ ،‬ولكنه مات قبل أن‬
‫عالقة آثمة كطفل سفاح‪ ،‬وأنهى الثالثة عشر ً‬

‫‪- 186 -‬‬


‫يكمل تعويذته‪ ،‬ويؤدي الطقس األخير‪ ،‬بعد أن أهدى األرض هدية ملعونة‬
‫قد تتسبب خالل مدى قصير في خراب ال أول له وال آخر‪.‬‬
‫وهذا األمر لم يتوقف تأثيره عند الشيخ ياسين‪ ،‬بل امتد إلى مدى أوسع‬
‫وأخطر‪ ،‬فقد أضعف قدرة (سماح) تلك الشيطانة التي استعبدها جدي والتي‬
‫حاولت اإليقاع بي في وقت سابق‪ ،‬وجعلها ال تستطيع أن تكمل ما خططت‬
‫له عبر السنوات‪ ،‬فلم تستطع أن تتم تعويذتها لتتحرر وتعود لعالمها‪..‬‬
‫وفشلت في أن تكمل تضحيتها وتزهق األرواح السبعة‪.‬‬
‫لم يكن لي فضل في إنقاذ أصدقائي إذن‪ ،‬المخلوق الشيطاني كان هو‬
‫المسئول ولكني كنت يده التي نفذت األمر‪..‬‬
‫المخيف فيما حدث أن الشيخ ياسين استحضر المخلوق الشيطاني إلى‬
‫العالم ومات دون أن يحكم سيطرته عليه ودون أن ينقل العهد لساحر آخر‬
‫قادر على إكمال األمر‪ ،‬مما أفسد خطط تلك الشيطانة‪ ،‬ومنح للكائن‬
‫فرصة نادرة لالنتقام‪ ..‬وها هو الكائن الشيطاني يعبث بتلك الشيطانة ويفسد‬
‫لها كل تخطيط تحاول به العودة إلى عالمها الذي منعت عنه‪..‬‬
‫إنها تجازف في كل مرة تحاول فيها‪ ،‬أن تستولي على جسد أحد الضحايا‬
‫من أجل إتمام تعويذة العودة‪ ،‬يعاونها بعض شياطين الجن لتحقيق مأربها‪،‬‬
‫دون أن تجرؤ ولو مرة واحدة على إخبارهم بحقيقة هذا المخلوق‪.‬‬

‫‪- 187 -‬‬


‫أعرف أن األمر جنوني ولكنه حقيقي‪ ..‬فأثناء غيبوبتي‪ ،‬وبطريقة ما‪ ،‬عبرت‬
‫روحي البرزخ الفاصل بين األبعاد وعرفت كل هذا‪ ،‬هناك صلة ما نشأت بيني‬
‫وبين تلك الشيطانة دعمها الحب الذي كنت أكنه لها في قلبي‪ ،‬إن‬
‫سالحا ال مثيل له‪،‬‬
‫ً‬ ‫للمشاعر الصادقة قوة خاصة‪ ،‬من يملك علمها يملك‬
‫وهي كانت تملك هذا العلم‪.‬‬
‫إن قدرات البشر غير المستخدمة تؤهلهم ليكونوا الجنس األقوى في هذا‬
‫الكون ولكن لألسف الغرور والجهل يعمي عيونهم‪.‬‬
‫سمحت لي هذه الصلة بأن أحيط بكثير من هذه األمور التي كنت أجهلها‪،‬‬
‫علما أن ما‬
‫والتي تمنيت لو ظللت على جهلي الكبير بها‪ ،‬وال أخفيكم ً‬
‫لمسته بداخلها تجاه ذلك المخلوق‪ ،‬أورثني خوفًا يكفي كل سكان األرض‬
‫ليجعلهم يغادروا هذا الكوكب البائس في أسرع وقت‪.‬‬
‫فقوة هذ ه المخلوقات ووحشيتها ال مثيل لها‪ ،‬خاصة وأن الشمس المباشرة‬
‫تضاعف قوتهم‪ ،‬فيصير المخلوق منهم بقوة مئات الشياطين أو أكثر‪..‬‬
‫علما‪ ،‬لوال‬
‫لقد عبث الشيخ ياسين‪ ،‬في أسرار ما كان لبشري أن يحيط بها ً‬
‫مساعدة الملعون اآلخر صديقه الشيخ تهامي الحو‪ ،‬والذي بمساعدته عبرا‬
‫أختاما قديمة قدم الزمن‪ ،‬ما كان لهم أن يقربوها‪ .‬وها‬
‫كل الحواجز‪ ،‬وكسرا ً‬
‫هي ذي النتيجة‪!! ..‬‬

‫‪- 188 -‬‬


‫‪ -‬انتقال ‪-‬‬
‫يوما أن مجرد رؤية غرفة عادية كئيبة الطالء‪ ،‬وبشر عاديين‬
‫لم أكن أتخيل ً‬
‫يمارسون عملهم في روتين وال مباالة‪ ،‬قد يمنحني ذلك الشعور المذهل‬
‫بالراحة‪ ،‬كل تفصيلة صغيرة كانت تعيد تضميد جزء من روحي التي تمزقت‪،‬‬
‫حتى أن طعم الدواء المر في حلقي كانت له نكهة الحياة‪.‬‬

‫الدهشة لم تكن نابعة من وجودي بداخل مستشفى القصر العيني متصالً‬


‫بكل تلك األجهزة المخيفة التي ال تكف عن الهدير‪ ،‬والتي تعتبر الدليل‬
‫الوحيد على وجودي على قيد الحياة‪ ،‬ولكن بسبب وجود ذلك الشخص‬
‫الغريب الذي يجلس في أريحية على ذلك المقعد المجاور للفراش‪ ،‬وكأنه‬
‫امتلك المكان‪ ،‬وعيناه المخيفتان مسلطتان على وجهي ككشافان ساطعان‪،‬‬
‫تحصي علي أنفاسي‪.‬‬
‫كان أغرب شخص من الممكن أن تلتقي به في حياتك‪ ..‬فهو يمتلك‬
‫جس ًدا ممشوقًا قويًا تشعر فيه بصالبة المعدن‪ ،‬ال تلك الصالبة التي تموج‬
‫بالحياة في عضالت البشر العاديين‪ ..‬رأس أصلع المع وكأنه تم دهانه‬
‫بملمع ثابت‪..‬عينان يتغير لونهما طوال الوقت ما بين الزيتوني واألرجواني‬
‫واألزرق ثم تتوقف للحظات عند اللون البنفسجي‪ ..‬عينان باردتان خاليتان‬
‫من أي دفء أو أحاسيس آدمية‪ ،‬و تصيب من يركز فيهما بالدوار‪..‬‬

‫‪- 189 -‬‬


‫بشرة مشدودة كسطح طبل أملس مع لمسة غير طبيعية ال تعكس أي‬
‫رداء من قطعة‬
‫مشاعر أو انفعال‪ ،‬تجعله يبدو كتمثال شمعي بارد‪ ..‬يرتدي ً‬
‫واحدة تتصل مباشرة بالحذاء في انسيابية عجيبة‪ ،‬ويغلف كل هذا غموض‬
‫بال حدود‪.‬‬
‫إن المعرفة مؤلمة‪ ،‬وكذلك الجهل‪ ،‬ولو تساويا في األلم فإن الجهل يتفوق‬
‫بكونه غير مريح ويبعث على القلق‪.‬‬
‫كصدى مستمر‪ ..‬من هذا‬
‫ً‬ ‫لذا كان السؤال الذي ظلل يتردد بداخلي‬
‫الشخص المريب ؟!‬
‫دقائق قليلة مرت علي قبل أن ألم بكل ما فاتني‪ ،‬وأجمع قطع البازل التي‬
‫تماما أنني ال أعرف هذا الشخص العجيب‪،‬‬‫تتكون منها ذاكراتي‪ ،‬ألوقن ً‬
‫طبيعيا أب ًدا‪ ،‬فال يوجد بشر طبيعيون‬
‫ضا أن وجوده بجواري ليس ً‬ ‫وأوقن أي ً‬
‫يمتلكون هذه الهيئة الباردة وكأن وجهه وجه جثة لشخص مات منذ زمن‪.‬‬
‫تبادلت معه النظرات للحظات قصار فشعرت بغصة في حلقي‪ ،‬وشعرت‬
‫بعدم راحة‪ ..‬وتمنيت لو يغادر‪.‬‬
‫إن األرواح جنود مجندة‪ ،‬ورؤية هذا الشخص آذت روحي بعنف‪.‬‬
‫الشيء الذي جعلني أرتجف‪ ،‬وأتمنى لو تبتلعني األرض أو يسقط علي‬
‫شهاب من السماء ليبخرني‪ ،‬هو تلك اللحظة التي عبرت الممرضة من‬

‫‪- 191 -‬‬


‫خالله لتقيس لي حرارتي‪ ..‬نعم العبارة صحيحة‪ ..‬لقد عبرت من خالله‪ ،‬كأنه‬
‫طيف غير موجود أو صورة هولجرافية شفافة‪.‬‬
‫إذن فعيناي ال تخدعانني‪ ..‬لقد حاولت أن أقنع نفسي منذ أول لحظة سقط‬
‫واهما‪ ..‬كنت‬
‫عليه بصري‪ ..‬أنها لعبة المخدر والظالل‪ .‬ولكني لم أكن ً‬
‫فقط مخطئًا في ظني‪.‬‬
‫عبرته الممرضة دون أن تشعر بوجوده ودون أن تراه‪ ،‬وعندما هممت‬
‫بالتحدث إليها‪ ،‬دوى صوته الحازم في عقلي مقتضبًا ثقيالً دون أن يصل إلى‬
‫أذني ‪:‬‬
‫‪ -‬ال تلفت االنتباه‪.‬‬
‫سرى في جسدي تيار كهربي من الرعب‪ ،‬جعل كل جسدي يرتجف‪ ،‬حتى‬
‫أن الممرضة تساءلت متعجبة وهي تقرأ مؤشر ميزان الحرارة‪ ،‬الذي يخبرها‬
‫بكون حرارتي في المعدل الطبيعي ‪:‬‬
‫‪ -‬هل أحضر لك بطانية إضافية ؟!‬
‫شكرتها بصوت خافت واهن ال أعرف إن كانت سمعته أم ال‪ ،‬وعيوني مثبتة‬
‫على وجه ذلك الشخص المخيف الذي ال يراه سواي‪ ،‬فجمعت أشياءها‬
‫ورحلت عن الغرفة وأغلقت الباب خلفها‪.‬‬

‫‪- 190 -‬‬


‫وما أن غادرت الغرفة حتى انتفضت من رقدتي وكأنما لسعني عقرب سام‪،‬‬
‫وأخذت بيدي أستكشف كل أجزاء جسدي ألتأكد من حقيقة استيقاظي‪،‬‬
‫وأن األمر ال يعدو مجرد حلم آخر‪ ،‬أو طريقة جديدة للتعذيب في ذلك‬
‫الجحيم الجهنمي‪.‬‬
‫قرصت نفسي عدة مرات فشعرت باأللم‪..‬‬
‫إنني يقظ بالفعل‪ ..‬يقظ إلى درجة أني أرى مخلوقًا شفافًا بارد المالمح ال‬
‫يراه غيري‪ ..‬بل وأسمع صوته يتردد بداخل عقلي‪.‬‬
‫يقظ لدرجة استيعابي أن وجوده لن يعني إال المزيد والمزيد من األلم‪.‬‬
‫وكأنما قرأ ذلك الشخص ما يدور في عقلي فقال بنفس الصوت العقلي‬
‫الكئيب الذي حفز روحي كي تغادر جسدي ‪:‬‬
‫‪ -‬لن يراني أحد غيرك‪ ..‬تمالك نفسك فبيننا حديث طويل‪ ..‬والبد أن تكون‬
‫بكامل تركيزك لتسمعه‪.‬‬
‫ثم أدار كامل وجهه في المكان وعيناه المتقلبتان ثابتتان كماستين معلقتين‬
‫في تجويف وجهه واستطرد بصوته العقلي الكئيب‪ ،‬والذي لم يصل ألذني ‪:‬‬
‫‪ -‬وهذا المكان لن يصلح إلتمام الحوار‪.‬‬
‫ثم نهض كتمثال معدني ينفض عن عاتقيه غبار القرون‪ ،‬وتحرك نحو‬
‫الحائط‪ ..‬فبدا وكأن الحائط هو من يقترب منه‪ ،‬وقال كلمة واحدة جمدت‬
‫الدماء في عروقي ‪:‬‬
‫‪ -‬اتبعني‪.‬‬

‫‪- 191 -‬‬


‫وكأنما جسدي يمتلك إرادة ذاتية خاصة به‪ ،‬وجدت نفسي أزيح الغطاء‬
‫وأخلع كل اإلبر والخراطيم التي تصب سوائل الحياة في جسدي‪ ،‬ثم أتبعه‬
‫بخطوات واهنة ثابتة نحو الحائط الذي اخترقه ببساطة وتبعه جسدي وأنا‬
‫أتابع ما يحدث معي بذهول وكأنه يحدث لشخص آخر‪.‬‬
‫****‬
‫ومريحا‪ ،‬فقط أغشى الضياء عيني للحظات قليلة‪،‬‬‫ً‬ ‫سلسا‬
‫كان االنتقال ً‬
‫شا‪ ..‬لم يصطدم جسدي بالجدار‬ ‫وعندما صفت الرؤيا كان ما رأيته مده ً‬
‫الصلب‪ ،‬ولم أعبر خالله إلى الممر المجاور للغرفة كما توقعت‪ ،‬بل عبرت‬
‫من خالله إلى عالم مذهل من الضياء والكائنات‪ ،‬وكأن الجدار صورة وهمية‬
‫لبوابة تقود عبر األبعاد‪.‬‬
‫المكان كله عبارة عن فضاء هائل زجاجي تتماوج فيه كائنات نورانية شفافة‬
‫تتحرك في انسيابية عجيبة‪ ،‬منهمكة في أداء أشياء ال أدري كنهها بنفس‬
‫حماس النحل الشغال في الخلية‪.‬‬
‫لم يستوعب عقلي ما يراه للمرة األولى‪ ،‬وتقلصت حدقتاي من تدفقات‬
‫الضياء التي توحي بعمل عظيم ينجز ال أحيط به وال أدركه‪ ،‬األمر كله‬
‫عجيب كأنني بقلب عالم رقمي ثالثي األبعاد مخلوقاته من مادة جيالتينية‬
‫حية ومتألقة تسبح في فضائها الخاص‪ ..‬ومن خالل هذا العالم أشاهد العالم‬

‫‪- 191 -‬‬


‫الطبيعي الذي غادرته منذ لحظات‪ ،‬وكأنه صورة منعكسة على سطح بحيرة‪،‬‬
‫وكأني بداخل فقاعة زجاجية بقلب الماء‪.‬‬
‫عقلي المنهك لم يستوعب ما يحدث ولكنه لم يتوقف عنده‪ ،‬فقط عيناي‬
‫الفضوليتان كانتا تتطلعان لما يدور حولهما بذهول وانبهار‪.‬‬
‫‪ -‬ألين يأخذني هذا الغريب ؟!‬
‫تقدمني ذلك الشخص المخيف والذي تبدلت هيئته على الفور ليصبح‬
‫جيالتنيًا مثل باقي المخلوقات المتواجدة في فضاء المكان‪ ،‬وتبعته وأنا أتابع‬
‫بفضول تلك الهالة البنفسجية المتألقة التي أحاطت بجسدي كشمس‬
‫متألقة‪ ،‬والتي ذكرتني بهاالت كيرليان التي تحيط باألجساد ويمكن رصدها‬
‫بسهولة عن طريق أجهزة خاصة‪ ،‬وعن طريقها يمكن تحديد حالة الشخص‬
‫النفسية حسب شكلها ولونها‪ .‬وإن كنت أعتقد أن هذه الهالة تختلف وأنها‬
‫نوع ما من وسائل الحماية‪ ،‬رداء من نوع خاص‪ ،‬يمكنني من الولوج لهذا‬
‫العالم الغريب دون أن أصاب باألذى‪.‬‬
‫نوع ما من أردية الفضاء‪ ..‬يحمي جسدي من التغيرات الكثيرة التي تحيط به‬
‫في ذلك العالم الجديد‪.‬‬
‫أخترق ذلك الشخص الغريب المكان دون أن يلتفت لي‪ ،‬و بخطوات طائر‬
‫صغير يتعلم أولى حركات الطيران عبرت فضاء المكان‪.‬‬
‫ثم حدث العبور الحقيقي‪.‬‬

‫‪- 191 -‬‬


‫‪ -‬الذين ال اسم لهم ‪-‬‬
‫طرا‪ ،‬هو ملك الجن الذي يسكن أرض المغرب‪،‬‬
‫يقولون إن أشد ملوك الجن ً‬
‫هو وقبيله ال حد لقوتهم أو جبروتهم‪ ..‬لذلك ينتشر هناك السحرة كملح‬
‫األرض‪ ،‬ويمارسون كل فنون السحر دون مواربة‪ ..‬فمنهم من يمارس السحر‬
‫األسود والكاباال‪ ،‬ومنهم من يمارس السحر األبيض‪ ،‬ومنهم من يمارس‬
‫الفنون المحرمة واآلالف يعملون في مهن مختلفة تخدم هذا الحقل‪.‬‬
‫إن المغرب هي أرض السحر في عصرنا هذا‪ ،‬والمغاربة أنفسهم يؤمنون‬
‫بالجن لدرجة الهلع‪ ،‬فيطلقون عليهم لقب (هدوك) أي الذين ال اسم لهم‪.‬‬
‫وبالنسبة لهم‪ ،‬فالجن كائنات تستوطن عوالم الخفاء الممتدة في كل مكان‬
‫من حولنا‪..‬و هم غير مرئيين بعيون البشر في األ حوال العادية لكن مع ذلك‬
‫يمكن رؤيتهم ‪ -‬حسب المعتقد العامي ‪ -‬ليالً خالل الفترة المتراوحة بين‬
‫صباح ا عدا ليلة الجمعة التي هي‬
‫ً‬ ‫الساعة الحادية عشرة ليالً والواحدة‬
‫لحظات ابتهاج عام يستغلها الجن للتسكع في عالمنا حتى صباح السبت‪.‬‬
‫ومن أجل حلولهم في عالمنا المرئي يضطر الجان إلى تقمص أشكال‬
‫الحيوانات والحشرات فيتجسدون على شكل حمار‪ ،‬كلب‪ ،‬قط‪ ،‬صرصور‪،‬‬
‫فأر ولذلك يحاذر المغاربة أن يقتلوا أو يلحقوا األذى ليالً بأي حيوان أو‬
‫خصوصا إذا كان كلبًا أو قطًا أسود‪.‬‬
‫ً‬ ‫حشرة‬

‫‪- 195 -‬‬


‫فللجن هناك مكانة عظمى‪ ،‬والتعامل معهم حدث شائع وهناك مئات‬
‫التحقيقات الصحفية عنهم وعن العاملين معهم على الشبكة العنكبوتية لمن‬
‫يريد مطالعتها‪ ،‬ومنها بعض المعلومات المذكورة هنا‪.‬‬
‫تعتبر عشيرة الفقها في المغرب هم أباطرة هذا العالم‪ ،‬فهم يصرفون ملوك‬
‫الجان لخدمتهم‪ ،‬ويأسرون القلوب ويسكنون األجساد ويعلنون حروبًا‬
‫مفتوحة جنودها "خدام الخواتيم"‪.‬‬
‫منهم فقها يطيرون‪ ،‬وفقها يختفون في رمش العين‪ ،‬وتتنوع جنسياتهم‪ ،‬فمنهم‬
‫حاخامات يهود‪ ،‬إسبان ويونانيون‪ ،‬أفارقة وخليجيون‪ ،‬وهم يسيطرون على‬
‫العوالم السفلية‪ ،‬في البيضاء والرباط ومراكش والصويرة‪..‬‬
‫الفرق بينهم وبين "الشوافات" و"الفقها" العاديين‪ ،‬أن هؤالء يملكون‬
‫مفاتيح أخطر باب يفصل بين مملكتي اإلنس والجان ‪:‬‬
‫السحر األسود‪.‬‬
‫أعمالهم تتجاوز قراءة الطالع واستطالع الفال‪ ،‬إلى القيام بأعمال خارقة ال‬
‫يصدقها عقل‪.‬‬
‫أعمال السحر التي يقوم بها هؤالء "الفقها" تبدأ من "المحبة" وهي‬
‫رغما عنه‪ ،‬وهذا النوع‬
‫"الخدمة" التي يرجى من ورائها جلب الحبيب وإثارته ً‬
‫من السحر األسود يشمل كذلك حل المشاكل العاطفية بين األزواج من‬

‫‪- 196 -‬‬


‫خالل ما يعرف بـ"التهييج" وهو عمل يقوم على أساس تقريب المسافة بين‬
‫الزوجين‪ ،‬لدرجة يستحيل معها أن ينظر أحدهما إلى غير اآلخر‪.‬‬
‫ضا‬
‫قائمة "الخدمة" التي يشملها هذا النوع من السحر األسود تشمل أي ً‬
‫معالجة األمراض الجنسية والعقم إلى جانب طرد الجن المتلبس بأجساد‬
‫الضحايا من الرجال والنساء كما يمكن لـ"الفقيه" أن يصرف قدراته الخاصة‬
‫من أجل إنزال عقاب بشخص أو أسرة‪ ،‬وهو ما يتم عن طريق "التقاف"‬
‫الذي يستهدف التعجيز الجنسي‪ ،‬أو "التراجيم"‪ ،‬وهو حينما يسخر الساحر‬
‫الجني الذي يكون "خديما" عنده لرجم بيت بالحجارة المتقدة والنيران‪.‬‬
‫ضا‪ ،‬يعتمد سحرة "الفودو" على الدمى‬
‫ولسحر الفودو نصيب كبير هناك أي ً‬
‫العتقادهم بقدرتها على التأثير في الشخص الذي يرغب الزبون في سحره‬
‫عن طريقها‪ .‬يبدأ األمر بإحداث المقصود بعمل السحر كما يعتقدون‪ ،‬ثم‬
‫يبدأ الساحر في وخز مكان القلب بإبرة حادة ما يؤدي إلى إحداث آالم‬
‫فظيعة للشخص المسحور على الفور‪.‬‬
‫وفي المغرب تقام أغرب محاكمة في التاريخ‪ ،‬أبطالها ملوك الجن وخاصة‬
‫ملك الجن شمهورش‪ ،‬حيث يعتقد البعض بجدوى االحتكام إلى الجن لحل‬
‫ما يعانون منه من مشكالت‪ ،‬وفي المغرب يوجد في عمق جبال أطلس مقام‬
‫لملك من ملوك الجن يتوافد عليه من ينشدون سماع حكمه‪ ..‬وهو ضريح‬
‫"سيدي شمهروش"‪ ،‬ويقول الحاج أحمد‪ ،‬أحد القيمين على الضريح في‬

‫‪- 197 -‬‬


‫أحد تصريحاته إلحدى الصحف ‪ :‬نحن نتبرك بهذا المقام ألنه مقدس‪ ،‬وهنا‬
‫توجد أكبر محكمة للجن"‪.‬‬
‫أناس كثر يتحلقون حول المكان‪ ،‬جلهم نساء‪ ،‬منهم من افترش األرض‬
‫ومنهم من جلس إلى طاوالت مهترئة بالمقهى الوحيد بالمكان‪ ،‬وبين الفينة‬
‫واألخرى تطلق الغربان التي تحوم بالمكان أصواتًا تنقبض لها األوصال‪.‬‬
‫وكأن األمر ينقصها هي األخرى‪.‬‬
‫يعتقد زائرو المقام أن "سيدي شمهروش" وهو ملك ملوك الجن بحسب‬
‫الموروث الشعبي المغربي‪ ،‬يقوم بنفسه بالبت في القضايا العالقة بين اإلنس‬
‫والجن‪ .‬ويضيف الحاج أحمد‪" :‬سيدي شمهروش جن حي وليس بالميت‪،‬‬
‫وكما أن هناك محكمة لإلنس‪ ،‬فهناك محكمة للجن"‪.‬‬
‫أرى عيونكم تستنكر هذا اإلقحام للمغرب وجنها وشياطينها في األحداث‪،‬‬
‫ولكني أعرف أنكم ستشكرونني في وقت الحق على هذه المقدمة الطويلة‬
‫نسبيًا‪ ،‬ألن هذا المكان الذي أخبرتكم قصته هو المكان الذي وجدت‬
‫نفسي فيه في وقت الحق‪ ..‬بعد أن عبرت خلف ذلك الشخص الغريب‬
‫الذي لم أعرف بعد قصته‪.‬‬
‫القمر غائب والظالم دامس والضريح يبدو كنذير سوء‪ ،‬وأمامي عاد ذلك‬
‫الشخص الغريب إلى هيئته األولى الباردة الشفافة‪.‬‬
‫نعيب الغربان ال ينقطع‪ ،‬والغربان في القصص المماثلة تجسيد للشياطين‪.‬‬
‫‪- 198 -‬‬
‫السؤال هنا ‪ :‬لماذا هذا المكان ؟!‬
‫من يهتم بتاريخ الجن والسحر سيجد المغاربة غارقين في ذلك العالم‬
‫المخيف حتى األذنين‪ ،‬الدولة تحارب األمر والشرطة ال يمر يوم دون أن‬
‫تقوم بالقبض على العديد من السحرة النصابين‪ ،‬هؤالء السحرة هم اإلفراز‬
‫الطبيعي لسيطرة تلك الخرافات على عقول الناس هناك‪ ،‬لن نقول البسطاء‪،‬‬
‫ضا‪ ،‬فقط النصابين والمبتدئين‬
‫ألن المتعلمين والصفوة يلجئون إليهم أي ً‬
‫يسقطون في يد الشرطة‪ ،‬أما الكبار فهم بمعزل عن كل هذا العبث‪ ،‬لهم‬
‫مكانتهم وسطوتهم‪.‬‬
‫قديما‬
‫سرا ً‬ ‫والصفوة من الكبار الملمين بتاريخ المكان يعرفون أن هناك ً‬
‫سرا لم يعد هناك من يتحدث عنه‪.‬‬
‫رهيبًا‪ ،‬يختبئ في عمق جبال أطلس‪ً ،‬‬
‫من يعلمون عن هذا السر ال يتعدون أصابع اليد الواحدة‪ ..‬والمعرفة ال‬
‫تتعدى الصدور‪ ..‬ولن تتعداها‪.‬‬
‫تجسدنا نفسه لم يكن طبيعيًا‪ ،‬لقد تجسدت أنا وذلك الغريب في مستوى‬
‫غير أرضي‪ ..‬يمكن أن نسميه بعد آخر ومن الممكن أن نطلق عليه لفظ‬
‫الممر‪.‬‬
‫لحظات من عدم الفهم الحقتني‪ ،‬وفي لحظة ما لم أكن أدري أي شيء عن‬
‫المكان‪ ،‬وفي اللحظة التالية أصبحت أعرف كل شيء‪ ،‬ليس كل شيء ولكن‬
‫التاريخ الذي يعرفه العامة والدارسين‪.‬‬
‫‪- 199 -‬‬
‫نحن اآلن بأعماق سلسلة جبال أطلس الهائلة‪ ،‬التي تمتد من المغرب إلى‬
‫الجزائر ثم إلى تونس وتنتهي منحدرة نحو المحيط األطلسي‪.‬‬
‫ي عزي البعض تسميتها أطلس كما في الميثولوجيا اإلغريقية إلى أحد اآللهة‬
‫الوثنية أطلس والذي يحمل قبة السماء على عاتقيه كعقاب أبدي من سادة‬
‫ضا أحد الباحثين‬
‫األوليمب‪ .‬ولكن بعي ًدا عن هذا الجو الوثني يشير أي ً‬
‫المهتمين بالميثولوجيا األمازيغية "حفيظ خضيري" أن كلمة أطلس كلمة‬
‫محضة ذات عالقة مع الظواهر الطبيعية وهي كلمة مركبة بالنطق‬
‫وقديما كان البشر يعبدون‬
‫ً‬ ‫األمازيغي "‪ "antel+as‬أي مقبرة الشمس‪،‬‬
‫الشمس ويعتقدون أنها تعود إلى المغرب كموطن يدعى مملكة الموت أو‬
‫أرض اهلل‪.‬‬
‫ويذهب الدكتور "أحمد الهاشمي" أستاذ الطوبونيميا بجامعة ابن زهر‬
‫بالمغرب إلى احتمال أن يكون أطلس أصله "أدالس" الذي يجمع في صورة‬
‫"تيدالس" التي تنجز في صورة "تيالس" أي الظلمات‪ ،‬وذلك بالمماثلة‬
‫الصوتية بين الدال والالم وإدغامهما؛ فيكون معنى صيغة "أدالس" المظلم‪،‬‬
‫وهذا ما يفسر تسمية الجغرافيين العرب القدماء المحيط األطلسي ببحر‬
‫الظلمات‪.‬‬
‫"توقف عن صب المعلومات في رأسي توقف‪ ،‬من أنت وماذا تريد مني؟"‪.‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫خرجت هذه العبارة من بين شفتي بصعوبة‪ ،‬بعد أن شعرت أن عقلي‬
‫سينصهر‪ ،‬إن ما يحدث لي كثير ج ًدا‪ ،‬ال يمكن أن أخرج من جحيم إلى‬
‫آخر دون أن أعترض‪ ،‬ثم ما شأني أنا بجبال أطلس وجنها وشياطينها وسرها‬
‫المظلم‪.‬‬
‫تردد الصوت المقبض في عقلي ‪:‬‬
‫‪ -‬إن المعرفة حمل ثقيل والبد من تهيئتك قبل أن تخوض في بحارها‬
‫المتالطمة‪ ،‬من يعرف ليس كمن عرف‪.‬‬
‫قاطعته صار ًخا ‪:‬‬
‫‪ -‬اقتلني إذن كان هذا غرضك في النهاية‪ ..‬اقتلني ودعني أستريح‪ ..‬ال أريد‬
‫أن أعرف أي شيء‪ ..‬ال أريد‪.‬‬
‫تجهما ليصدم حواسي ‪:‬‬
‫عاد الصوت أكثر ً‬
‫‪ -‬كل شيء بدأ من هنا‪ ..‬وكل شيء يجب أن ينتهي هنا‪.‬‬
‫هطلت دموعي على وجهي كالمطر وقلت ‪:‬‬
‫‪ -‬اقتلني إذن‪ ..‬عجل بنهايتي‪ ..‬أو أطلق سراحي وامنحني الحياة‪.‬‬
‫الصوت الكئيب يجلد روحي ‪:‬‬

‫‪- 110 -‬‬


‫‪ -‬من قال أننا من سنمنحك الحياة‪ ..‬أنت المختار‪ ..‬أنت من سيمنح‬
‫الحياة للجميع‪ ..‬أنت من سيعيد التوازن‪ ..‬لقد اختارتك األقدار‪ ..‬لتمنع‬
‫الظالم من أن يبعث من جديد‪.‬‬
‫اآلن أصبح عقلي كالهالم‪ ،‬كل حديث الغريب ال يصفوا على معلومة واحدة‬
‫مفهومه‪ ،‬كالمه يبدو كنبوءات العرافين‪ ،‬يحاول أن يمنحني مكانة ليست لي‪،‬‬
‫يحاول أن يقنعني بكوني المنقذ ال الضحية‪ ،‬الغيوم كثيفة‪ ،‬وعقلي يذوب‬
‫والشخص الغريب ال تعبر مالمحه الباردة عن شيء‪.‬‬
‫أعتقد أن قلبي سيتوقف‪.‬‬
‫وسينتهي كل شيء اآلن‪.‬‬
‫سأنهيه بيدي‪.‬‬
‫ولكن فقط فليحط الظالم بي ألمتزج بليله المدلهم‪.‬‬
‫****‬
‫‪ -‬توقف أيها األحمق‪ ..‬توقف‪..‬‬
‫الصوت يصفع عقلي‪ ..‬صاعقة مؤلمة تجتاح جسدي‪ ..‬وجه الشخص‬
‫الغريب يتبدل إلى وجه كائن نوراني شديد البهاء ولكن قسماته تعبر عن‬
‫غضب عات‪.‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫‪ -‬توقف أيها األحمق توقف‪ ..‬أنت هنا في عرين ملك الجن‪ ..‬وهنا تتحقق‬
‫األمنيات السيئة‪ ..‬اطلب الحياة‪ ..‬ال تطلب الموت‪.‬‬
‫عقلي كصندوق مغلق‪ ،‬ال أفهم ما يحدث من حولي ولكني أنصت لصوت‬
‫الغريب‪ ،‬ال أعرف ما أريد‪ ..‬فأستجيب لما يريد‪.‬‬
‫‪ -‬الحياة‪ ..‬الحياة‪ ..‬الحياة‪..‬‬
‫صاعقة مؤلمة أخرى‪ ..‬ثم عاد لي وعيي‪ ..‬وشعرت بفزع ثم بغضب عات من‬
‫نفسي‪ ..‬كيف استسلمت لذلك الجانب المظلم من روحي‪ ..‬كيف‬
‫استسلمت لنداء الموت‪ ..‬كيف توحدت مع الظالم‪.‬‬
‫الصوت المقبض من جديد ‪:‬‬
‫‪ -‬اآلن أنصت جي ًدا لتعرف ما يدور حولك‪ ،‬اآلن أنصت جي ًدا‪ ..‬فالمعرفة‬
‫نصف النصر‪ ..‬سآخذك معي في رحلة عبر التاريخ والزمن‪ ،‬والشيء الوحيد‬
‫الذي أطلبه منك أال تقاطع‪.‬‬
‫قاطعته هذه المرة وأنا أنوي أن تكون األخيرة‪ ،‬لذلك لم يغضب ‪:‬‬
‫‪ -‬ما هذا المكان ؟!‬
‫دوى صوته الثقيل في عقلي ‪:‬‬
‫‪ -‬هذا المكان هو كهف األمنيات‪ ،‬أنصت جي ًدا‪ ،‬ولن أبخل عليك‬
‫بالمعرفة‪ ..‬ففي قلب هذا الكهف ولد الظالم والشر‪..‬‬
‫‪- 111 -‬‬
‫‪ -‬كهف األمنيات ‪-‬‬
‫وضع الشخص الغريب يده على رأسي فشعرت بملمسها البارد للحظات‪،‬‬
‫قبل أن ترتفع درجة حرارتها لدرجة غير محتملة فهززت رأسي‪ ،‬عندما لم‬
‫أشعر براحة‪ ،‬فدوى صوت الغريب في رأسي دون أن يمر بأذني كالعادة ‪:‬‬
‫‪ -‬ال تقاوم ودعني أريك كل شيء‪.‬‬
‫لم أكن أنوي المقاومة‪ ،‬أو القيام بأي رد فعل‪ ،‬وكدليل على استسالمي‪،‬‬
‫أغمضت عيني‪ ،‬وتركت جسدي ليسترخي‪ ،‬فانخفضت درجة حرارة قبضته‪،‬‬
‫وفي اللحظة التالية كنت هناك‪ ..‬في اللحظات األولى لميالد الظالم‪.‬‬
‫اآلن أنا والغريب طيفان يسبحان في فضاء الكون المدلهم الخالي من‬
‫النجوم‪..‬‬
‫ألم تولد النجوم بعد ؟ أم أنها تخجل من اإلعالن عن نفسها كي ال تبدد‬
‫جالل المشهد ؟!‬
‫نقترب حثيثًا من تلك الكرة الزرقاء المتألقة المسماة األرض‪ ،‬والمعلقة في‬
‫قلب الفضاء السرمدي‪.‬كماسة هائلة تحتضن القمر‪.‬‬
‫أشعر بدرجة هائلة من التحرر‪ ،‬الكون كله يضمني بذراعيه‪ .‬بل أنا الكون‬
‫الذي يحتضن كل األشياء‪.‬‬
‫أين الطريق إلى السماء ؟!‬

‫‪- 111 -‬‬


‫عيناي تمسحان كل شيء كرادار هائل‪ ،‬ولكنهما تظالن معلقتان بتلك الكرة‬
‫الساحرة التي تزداد في الحجم والتألق في كل لحظة‪.‬‬
‫من هذا المكان لن تعرف اتجاه السماء األولى التي تفصلنا عنها مسيرة‬
‫خمسمائة عام كما ذكر في الكتب الدينية‪..‬‬
‫فهنا لن تعرف االتجاهات الصحيحة‪ ..‬لن تعرف أين يوجد األعلى وأين‬
‫يوجد األسفل‪ ،‬فالظالم دامس ال يجرحه إال بريق كرتنا األرضية‪.‬‬
‫المشهد مبهر‪ ،‬وكلما اقتربنا من األرض أكثر كلما تبدل المشهد وأصبحت‬
‫وضوحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫األحزمة الضوئية أكثر‬
‫عيناي منبهرتان وكأننا نتحدث عن زحل بحلقاته المتألقة‪.‬‬
‫كوكب األرض يظهر أمام عيني في صورة لم أعهده عليها من قبل حتى في‬
‫وضوحا‪ ،‬وكأنه منشور زجاجي يقسم الضوء من حوله إلى‬
‫ً‬ ‫أشد صور ناسا‬
‫سبعة ألوان‪.‬‬
‫كل لون يعبر عن عالم كامل بكافة ما به من مخلوقاته وكائنات‪.‬‬
‫هذا سر جديد يفصح لي الكون عنه‪ ..‬يهمس به في أذني‪ ..‬يداعب به‬
‫معتقداتي وأحالمي‪.‬‬
‫ال يوجد سبعة كواكب كاألرض‪ ..‬ولكن توجد سبعة أراضي‪ ،‬تحتل نفس‬
‫الموقع والمكان ولكن في أبعاد ذات ذبذبات مختلفة‪.‬‬

‫‪- 115 -‬‬


‫صوت علوي يهمس‪.‬‬
‫لست وحدك أيها الكائن المغرور من يقطن هذا الكون‪ ،‬هناك مخلوقات‬
‫أخرى تحيا بجوارك‪ ،‬لصيقة بك‪ ،‬ولكن رحمة الخالق هي ما تجعل بينها‬
‫وبينك حجاب‪ ،‬ألنك أقل قوة مما يصوره لك غرورك‪.‬‬
‫السموات سبع واألرض مثلهن‪ ..‬األساطير تحدثت عن األراضي السبع‪،‬‬
‫والكتب السماوية ذكرتهن صراحة‪ ،‬حكايات الشعوب واألساطير لم تخلو‬
‫منهن‪ .‬وأنا اآلن أراهم وأوقن بوجودهم‪..‬‬
‫دائما ما يبحث اإلنسان في اتجاه خاطئ‪.‬‬
‫جزءا من السر‪ً ..‬‬
‫لقد عرفت ً‬
‫صوت الشخص الغريب يتردد هذه المرة بداخل عقلي ولكن دون أن أشعر‬
‫تماما هذه المرة ‪:‬‬
‫بأي مشاعر مقبضه‪ ..‬إنه حيادي ً‬
‫صمت للحظات ثم عاد واستطرد ‪:‬‬
‫‪ -‬في هذا الزمن الذي لم ترصده كتب التاريخ‪ ،‬وفي تلك الفترة التي سبقت‬
‫ظهور البشر أغرقت الدماء األرض‪ ،‬كل الدالئل تشير إلى حرب رهيبة سفك‬
‫فيها من الدماء ما يكفي لصنع محيط آخر بجانب المحيط العمالق‪ ،‬الذي‬
‫تسبح بداخله القارة الوحيدة التي تشكل اليابسة على كوكب األرض‪.‬‬
‫قبائل الجن المقاتلة منهمكة في حربها الضروس‪ ،‬من أجل إثبات قوتها‪،‬‬
‫وفرض سيطرتها على عالم الجن بالكامل‪ ..‬حرب رهيبة يستخدمون فيها كل‬

‫‪- 116 -‬‬


‫أنواع األسلحة من سيوف ورماح ومنجنيق كأسلحة عادية‪ ،‬واألسلحة التي‬
‫تعتمد على السحر من تسخيرهم للرعد والبرق والرياح‪ ،‬وسيطرتهم على‬
‫الحشرات والحيوانات والطيور‪ ،‬حرب جهنمية ال رحمة فيها وال هوادة‪.‬‬
‫اشتركت في الحرب كل قبائل الجن‪ ،‬سواء من يعيش على البر أو في البحر‬
‫أو من يطيرون‪.‬‬
‫استمرت الحرب لفترة طويلة من الزمن‪ ،‬غرقت فيها األرض بالدماء‪ ،‬ومع‬
‫منحى‬
‫ً‬ ‫الوقت مالت كفة أحد الملوك على اآلخر‪ ،‬وهنا بدأ األمر يأخذ‬
‫مخي ًفا‪.‬‬
‫أحد المردة وهو في نفس الوقت ملك جيش الجن األحمر المتفسخ‪ ،‬شعر‬
‫ببوادر الهزيمة بعد مقتل قائد جيوشه وفناء ميمنته‪ ،‬فقرر أن يكسر العهد‪،‬‬
‫وأن ينتزع النصر من بين فكي الهزيمة‪ ،‬فال عهد في الحروب‪.‬‬
‫اجتمع هو وكهنته وسحرة مملكته وقرروا إما النصر أو يهدموا المعبد على‬
‫رؤوس الجميع‪ ..‬واتخذوا القرار الرهيب‪ ..‬وقرروا فتح الفجوة التي‬
‫ستمنحهم السالح الخارق الذي سيستطيعون عبره‪ ..‬إنهاء الحرب وإعالن‬
‫نصرهم‪..‬‬
‫الدماء بالخارج تصبغ كل شيء‪ ،‬حتى أن النهر القريب تحولت مياهه للون‬
‫األحمر القاني‪ ..‬وبالداخل يقوم الجنود بذبح ألف أسير إلتمام التعويذة‪..‬‬
‫و‪..‬‬
‫‪- 117 -‬‬
‫لم أستطع المقاومة فقاطعت تدفق األفكار متسائالً ‪:‬‬
‫‪ -‬ينزفون‪ ..‬الجن ينزفون‪ ..‬أليسوا مخلوقات نارية‪.‬‬
‫الغريب مستاء بقطع حديثه ولكنه يجيب عليها ‪:‬‬
‫‪ -‬نعم ينزفون‪ ..‬أنت خلقت من الطين‪ ..‬وتنزف‪ ..‬ليست العبرة في المادة‬
‫األولية‪ ..‬العبرة بالشكل النهائي‪ ..‬الجن يأكلون ويشربون ويخرجون‪ ،‬ربما‬
‫يختلف طعامهم عن طعامكم ولكنهم يأكلون مثلكم‪ ،‬و تسري الدماء في‬
‫عروقهم وأجسادهم األكثر مرونة وشفافية‪ ،‬أنت فقط تنكر ألنك لم تحط‬
‫علما‪ .‬كل المهتمين بهذه األمور في عالمك يدركون هذه الحقائق‪..‬‬
‫باألمر ً‬
‫أنصت وال تقاطعني حتى أنتهي وسأجيب عن أسألتك دفعة واحدة ‪.‬‬
‫حاولت أن أستوعب هذه المعلومة الجديدة‪ ،‬واستعدت من ذاكرتي صورة‬
‫جني المصباح وجني الخاتم وجني الزجاجة وجني القمقم‪ ،‬ال يمكن أن‬
‫يكون لهؤالء المردة عروقًا تسيل فيها الدماء‪.‬‬
‫نفضت الفكرة عن رأسي ثم تابعت‪.‬‬
‫‪ -‬يدرك ملك الجن األحمر أن هزيمته أمام غريمه لن تعني مجرد االستسالم‬
‫والعيش في الذل كعبد بعد أن كان مل ًكا‪ ،‬إن للملوك معاملة خاصة الموت‬
‫بجوارها نعيم دائم‪.‬‬
‫وهو ال يمكن أن يسمح بأن يسجن في كهف األمنيات‪.‬‬

‫‪- 118 -‬‬


‫الزمن ال يتحرك هناك‪.‬‬
‫عذاب أبدي غير محتمل‪.‬‬
‫كما أن نفسه ال تصور له الهزيمة‪ ..‬ربما كان جنوده ضعفاء‪ ..‬ولكنه ليس‬
‫كذلك‪ ..‬إنه الملك‪..‬‬
‫الغرور الممتزج بالخوف أقنعه أنه يستطيع أن يسيطر على هذه المخلوقات‬
‫القاتلة بعلومه وسحره‪ ،‬ولكن بعض الكهنة شككوا في األمر‪ ..‬إن قصة‬
‫مدينة الجن التي فنت في يوم وليلة على يد هذه المخلوقات المتوحشة‬
‫الزالت ماثلة أمام أعينهم‪..‬‬
‫ولكنه لم يكن ليسمح بفتح باب النقاش في مثل هذا الوقت الحرج‪..‬‬
‫لقد اعتبر نقاش الكهنة خيانة عظمى‪ ..‬وها هو رمادهم الملتهب يدل على‬
‫أنهم نالوا ما يستحقون‪.‬‬
‫وها هو يقف كجبل عمالق في قلب المعبد‪ ..‬عيناه الحمراوتان تتألقان‬
‫ببريق مخيف‪ ..‬والدماء الغاضبة تغلي في عروقه‪ ..‬فبرغم الهزيمة التي تلوح‬
‫في األفق‪ ..‬إال أنه قادر على هزيمة الجميع‪..‬‬
‫تطلع الملك حوله في جذل‪ .‬إن كل األمور تسير كما هو مخطط لها‪ ،‬إنه‬
‫قادر على فعلها‪ ،‬ومن عينيه انتقل شعور مخيف إلى أجساد الكهنة‬

‫‪- 119 -‬‬


‫والسحرة‪ ..‬فأخذوا يرتجفون وهم يتابعون‪ ،‬مئات الجنود وهم منهمكون في‬
‫سفك دماء األسرى من الجن األزرق‪.‬‬
‫الدماء المتدفقة أخذت تسير عبر مجار خاصة صنعها كبير السحرة بأن‬
‫المس بطن األرض بطرف عصاه حتى انتهت إلى المذبح‪ ،‬لتصب بقلب إناء‬
‫صخري هائل الحجم‪.‬‬
‫وعندما انتهوا من تصفية دماء آخر األسرى‪ ،‬بدؤوا المرحلة الثانية‪.‬‬
‫فالتعويذة تحتاج لوقت محدد كي تستطع الكلمات أن تأتي بمفعولها‪ ،‬ولكن‬
‫الوقت ليس ملكهم‪ ،‬فالبد لهم من هزيمته‪..‬‬
‫وما ال يصلح بالسحر‪ ،‬يصلح بالعلم‪ ..‬العلم سيختصر الزمن‪ ..‬والوسيلة‬
‫متوفرة ولكنها خطرة‪.‬‬
‫وبرغم أن استخدام تلك الوسيلة مجازفة وقد تتسبب في مقتل الجميع‪ ،‬إال‬
‫أن سيوف الجنود المسلطة على أعناق الكهنة‪ ،‬جعلتهم يبدءون على الفور‪.‬‬
‫ساعة الوقت الرملية تلتهم الدقائق والساعات واأليام‪ .‬وتلتهم من أعمارهم‬
‫سنوات ثمينة‪.‬‬
‫شمس ا ولدت ثم ماتت في دقائق معدودة‪ ،‬وعشر سنوات كاملة‬
‫ثالثة عشر ً‬
‫فقدها كل من حضر التجربة‪ ..‬ولكن الملك مازال شابًا ولن يهتم بهذه‬
‫الفترة البسيطة التي سيفقدها من عمره‪ ..‬المهم أن يتحقق له النصر‪.‬‬

‫‪- 101 -‬‬


‫مقتنعا أنه قادر على فعلها‪ ..‬أو هكذا هيأ له غروره‪.‬‬
‫إنه مازال ً‬
‫‪..‬وفي النهاية تحقق األمر‪.‬‬
‫وخرجت تلك المخلوقات المتوحشة من عالمها المغلق‪ ،‬وزادتها الشمس‬
‫المباشرة قوة وشراسة‪.‬‬
‫وحدثت المجزرة‪..‬‬
‫وبادت اآلالف من قبائل الجن والنباتات والحيوانات‪ ،‬ومخلوقات الماء‬
‫والبر والجو‪.‬‬
‫الجحيم فتح إحدى بواباته على األرض‪..‬‬
‫وكان أول من التهمه هو الملك وجنوده وكهنته وسحرته‪.‬‬
‫وتوقفت الحرب‪..‬‬
‫وكنا نحن من بعدنا المتطرف نتابع ما يحدث‪..‬‬
‫الجن سيهزم ال محالة‪ ..‬لقد فتحوا بوابة الجحيم وعبر عبرها ألف مخلوق‪،‬‬
‫قضى منهم في الحروب مائة وتبقى منهم السواد األعظم‪ ،‬ثم بدءوا في‬
‫السيطرة على ملوك الجن بأن احتلوا أجسادهم‪.‬‬
‫جميعا إال ملك األرض الوسطى‪ ،‬أقواهم والذي استطاع أن‬
‫ً‬ ‫سيطروا عليهم‬
‫يوقف زحفهم‪ ،‬وإن لم يهزمهم‪.‬‬

‫‪- 100 -‬‬


‫وقررنا نحن مساعدته‪.‬‬
‫ولكي يهزم تلك المخلوقات الشيطانية التي أثارت الفزع في قلوب الجن‪..‬‬
‫كان البد من الخديعة‪ ،‬والبد من جرهم إلى كهف األمنيات‪ ،‬تلك اللعنة‬
‫التي تركها خلفه ملك الظالم كما كانوا يطلقون عليه‪ ،‬وهو أحد أقوى الملوك‬
‫في تاريخ الجن والذي بلغ من القوة شأنًا رهيبًا جعل كل القبائل تنظر له‬
‫على كونه نصف إله‪ ..‬بل إن بعضهم توجهوا له بالعبادة بالفعل‪..‬‬
‫هذا الملك لم يهزمه أي شيء على وجه الكون‪ ،‬ولم يردعه مكان أو مسافة‪،‬‬
‫ولكن هزمه الزمن‪.‬‬
‫وقبل أن يموت قرر أن يصنع جحيمه الخاص على سطح األرض‪ ،‬فصنع‬
‫كهف األمنيات‪ ،‬وعن طريق السحر األسود استطاع أن يرغم الجميع على‬
‫دخوله‪ ،‬وهناك يختار كل منهم وسيلة لموته وساعة محددة يحققها الكهف‪.‬‬
‫لقد قرر أنه عندما يموت‪ ..‬سيموت معه نسل الجن بالكامل من كافة أنواعه‬
‫وقبائله‪..‬‬
‫ولكن قبل أن يموت يجب أن يعاقبهم ألنهم خذلوه ولم يمنحوه الخلود‬
‫واألبدية‪..‬‬
‫ما لم يعرفه الساحر أن التعويذة تكسر بموته‪..‬‬
‫لذلك مات اآلالف قبل أن تكسر اللعنة‪ ،‬ومن نجوا من هذا الفخ‬
‫الشيطاني‪ ،‬قرروا أن يصبح هذا الكهف وسيلة جهنمية للعقاب‪.‬‬

‫‪- 101 -‬‬


‫فأنت بداخله تتعذب حتى تختار ساعة موتك‪ ،‬وتظل تتابع الدقائق التي‬
‫تتسرب من بين يديك ثم تموت بوسيلة بشعة يختارها لك الكهف‪.‬‬
‫اآلن أصبح الكهف هو األمل‪.‬‬
‫كهف األمنيات التي ال تتحقق‪.‬‬
‫****‬
‫بعلومنا استطعنا أن نعاون الجن على اإليقاع بهذه المخلوقات الشيطانية‪،‬‬
‫واستطعنا أن نسجنهم في أعماق الكهف‪ ..‬ولكن ألسباب ال نعرفها ظلوا‬
‫جميعا هناك‪ ..‬في حالة عجيبة لم يعرفها الكهف من قبل‪.‬‬
‫ً‬
‫أحياء‪.‬‬
‫ال أمواتًا وال ً‬
‫حتى الزمن توقف بالنسبة لهم‪..‬‬
‫فقط هم هناك ينتظرون اللحظة التي يتحررون منها‪ ..‬لينتقموا‪.‬‬
‫ما تلى ذلك هو سر كوني عظيم ال أستطيع أن أخبرك به‪ ،‬ولكن بقت نقطة‬
‫أخيرة يجب أن تعرفها لتكتمل عندك الصورة‪ .‬وهي إجابة السؤال الذي‬
‫يحيرك منذ البداية‪ ..‬ما عالقتك بكل هذه األمور ؟!‬
‫‪ -‬إن نسل جدك يعود آلالف السنين‪ ..‬يعود لنسل ساحر عظيم الشأن‬
‫عظيما استطاعوا‬
‫ً‬ ‫علما‬
‫اختفى دون أثر في عصره بعد أن هيأ لمن بعده ً‬
‫بواسطته أن يكملوا مسيرته‪..‬‬

‫‪- 101 -‬‬


‫فكل سبعة أجيال يظهر في نسلكم ساحر‪ ،‬وجدك كان السابع ألب فقد‬
‫ستة من أبنائه‪ ،‬لذلك نال ذلك الشرف‪ ،‬ولكن لألسف استطاع أن يصل‬
‫بعلمه إلى تلك التعويذة التي تمكنه من استعباد الجن وذلك عن طريق تلك‬
‫المخلوقات الشيطانية التي كادت تفني الجن في العصور الغابرة‪.‬‬
‫فالمعتاد أن الجن يقيم معاهدة مع الساحر‪ ،‬هذه المعاهدة تضمن للساحر‬
‫أن يطيعه الجني أو الشيطان الذي سيطر عليه في بعض األمور دون‬
‫األخرى‪ ،‬ألن طبيعة الجن واألرواح الشريرة هي الكذب وهذا النوع من‬
‫السيطرة لم يكن ليشبع رغبات جدك‪.‬‬
‫وعندما استعان بصديقه الشيخ تهامي وقاموا باستحضار أحد أشر مردة‬
‫الجن‪ ،‬كانا يريدان السيطرة الكاملة‪ ،‬فعاقبا الجني بالكي بالحديد والنار‬
‫والرصاص المصهور‪ ،‬فأضمر لهم هذا الجني الشر‪ ،‬وألنه كان يريد االنتقام‬
‫منهما ومن جنسهما‪ ،‬فباح لهما بسر هذه المخلوقات وطريقة االستحضار‪،‬‬
‫متوقعا أن يجن الشيخ ياسين وصديقه أو يموتا كما حدث مع المئات من‬
‫ً‬
‫قبل فيتحرر من قبضتهما‪ ،‬ولكنهما لألسف نجحا في استحضار المخلوق‬
‫الشيطاني‪ ،‬وقاما باستعباد تلك الشيطانة‪ ،‬التي منحتهما القوة والقدرة على‬
‫االنتقال فجاب الشيخ ياسين العالم كله‪ ،‬وترك في كل مكان زاره عالمة ال‬
‫تخطئها العين‪ ،‬ضريح يعتقد زائروه أن جسده بداخله‪ ،‬يؤمه المئات الذي‬
‫آمنوا بقدراته طلبًا للبركة‪.‬‬

‫‪- 101 -‬‬


‫شيء واحد فقط كان يقض مضجع جدك وهو العدو الذي لم يهزم أب ًدا‪،‬‬
‫الزمن‪.‬‬
‫جاب جدك العالم ثالث مرات‪ ،‬مسح قاع البحار والمحيطات‪ ،‬استكشف‬
‫آالف الكهوف‪ ،‬استخرج من باطن األرض مئات من الكنوز‪ ،‬قتل كهنةً‬
‫نساء ورجاالً وأطفاالً‪ ،‬حتى وصل للتعويذة التي ستمنحه‬
‫ورجال دين وعذب ً‬
‫متأخرا ج ًدا‪.‬‬
‫الخلود‪ ،‬ولكنه حصل عليها ً‬
‫بعد أن هدم الزمن من صروح قوته الكثير‪ ،‬ولكن غروره هيأ له أنه سيستطيع‬
‫أن ينهي األمر‪ ،‬وبالفعل وبمساعدة صديقه استطاع أن يتم األمر واستحضر‬
‫مخلوقًا آخر‪.‬‬
‫قديما‪..‬‬
‫مخلوقًا ً‬
‫مخلوقًا يعرف أنه ليس وحي ًدا في هذا العالم‪ ،‬وأن هناك من جنسه المئات‬
‫ينتظرون أن يفك أسرهم من قبضة كهف األمنيات‪.‬‬
‫فسادا‪.‬‬
‫ومات جدك وترك هذا المخلوق خلفه ليعيث في األرض ً‬
‫ورأي حكمائنا أننا ال يجب أن نترك األمر ليتفاقم ويجب أن ينتهي قبل أن‬
‫يبدأ ألن األرض اآلن تغص بالبشر والضحايا هذه المرة سيكونون‬
‫بالمليارات‪ ،‬خاصة لو قررت هذه المخلوقات احتالل أجساد قادة الدول‬
‫وقرروا أن يشعلوا حربًا نووية‪ ،‬ستحرق الكوكب وتفنيه في أبعاده السبعة‪.‬‬

‫‪- 105 -‬‬


‫لذا يجب القضاء على هذا المخلوق الشيطاني قبل أن يتفاقم األمر‪،‬‬
‫تماما‪ ..‬هناك شيء ما‬
‫حرا ً‬‫والجدير بالذكر أن هذا المخلوق اآلن ليس ً‬
‫يكبله‪ ..‬هناك خيط يربطه بك وبهذه الشيطانة التي استعبدها جدك من قبل‬
‫والتي تريد التحرر‪ ..‬أنتم أطراف المعادلة‪ ..‬لو قضى عليكم‪ ،‬المتلك حريته‬
‫وألطلق أقرانه الذين يحملون بداخلهم حقد القرون‪ ..‬وساعتها لن تكون‬
‫هناك قوة كافية في الكون لردعهم‪.‬‬
‫انصهر عقلي عدة مرات ومرات‪ ،‬وأعيد تشكيله ألف مرة مع هذا القدر‬
‫المفزع من المعلومات‪ ،‬وبداخلي تسلل يأس قاتل‪ ..‬وعرفت أن النهاية قريبة‬
‫ج ًدا‪ ..‬وأن ما رأيته في جحيم تلك الشيطانة‪ ..‬كان نزهة مقابل ما سأراه في‬
‫األيام المقبلة‪.‬‬

‫‪- 106 -‬‬


‫‪ -‬لقاء فوق العادة ‪-‬‬
‫انتهي الشخص الغريب من قصته‪ ،‬فسحب يده من فوق جبهتي‪ ،‬ومعها‬
‫شعرت بأن روحي تسحب وتسحق للحظات قبل أن أستعيد توازني‬
‫وإحساسي بكل شيء‪ ،‬مع شعور عارم بعدم الراحة يغتال كل لحظة ثقة‬
‫شعرت بها في حياتي‪.‬‬
‫ضا‪ ..‬فكل المعلومات التي منحها‬
‫المعرفة نصف النصر ونصف الهزيمة أي ً‬
‫لي الشخص الغريب أشعرتني بشيء واحد فقط‪.‬‬
‫الضياع‪.‬‬
‫ال يمكن أن تتحول مغامرة بعض المراهقين لكل هذا الهول‪ .‬ما ذنبي أنا أن‬
‫جدي ساحر زنيم يعقد معاهدات مع الشياطين ؟ال يمكن أن أكون قد‬
‫اقترفت ذنبًا بهذه البشاعة ليكون كل ما يحدث هو عقابه !‬
‫‪ -‬ال تستسلم لوهنك‪ ..‬فأنت أقوى مما تعتقد في نفسك‪.‬‬
‫دوى صوت ذلك الغريب بداخل عقلي ولكني تجاهلته‪ ..‬كنت أتمنى لو‬
‫أني أملك من القوة ما يكفي لكي أكسر عنقه ليصمت إلى األبد‪ ،‬ثم أبدأ‬
‫الركض حتى أصل لنهاية العالم وأختبئ هناك‪.‬‬
‫‪ -‬ال أحد يهرب من قدره‪.‬‬
‫صرخت في غضب ‪:‬‬

‫‪- 107 -‬‬


‫‪ -‬ولماذا أنا ؟!‬
‫اإلجابة المستفزة ‪:‬‬
‫‪ -‬ألنك أنت‪ ..‬هذا قدرك‪.‬‬
‫غلبتني الدموع فانطلقت أبكي‪ ،‬حتى جفت كل منابع الدمع في جسدي‪،‬‬
‫وإلى أن هدأ روعي‪.‬‬
‫صمت ذلك الشخص الغريب جعلني أتأمل كل شيء من جديد‪ ..‬ح ًقا‬
‫الدموع نعمة أخرى ال نقدرها حقها‪ ..‬إن تأثيرها كالسحر وربما لو لم تخلق‬
‫الدموع النهار البشر من الضغوط ‪ ،‬التي ال وسيلة مثالية للتنفيس عنها إال‬
‫البكاء‪.‬‬
‫جففت وجهي من أثر الدموع ثم تطلعت حولي‪ ،‬مازلنا في الحالة الطيفية أو‬
‫الشبحية بقلب جبال أطلس في المغرب‪ ،‬حيث يقبع كهف األمنيات والذي‬
‫يحتوي بداخله على قرابة ألف من الكائنات الشيطانية الحاقدة‪ ،‬التي يخشى‬
‫السحرة مجرد ذكر وجودهم‪ ،‬وفي خلفية المشهد هناك شيطانة من الجن‬
‫تطاردني‪ ،‬ويطاردنا جميعًا مخلوق شيطاني جهنمي‪ ،‬جبلت فطرته على الدمار‬
‫واإليذاء‪ ،‬وبجواري مخلوق عجيب من بعد آخر ال أعرف إن كان صادقًا في‬
‫مساعدته لي‪ ،‬أم هو جزء من تلك المؤامرة الكونية التي تحاك من أجل فناء‬
‫البشر‪.‬‬

‫‪- 108 -‬‬


‫الشيء الوحيد والمؤكد‪ ..‬أنني خائف‪ ..‬خائف إلى أقصى درجة‪.‬‬
‫ساد الصمت بيننا لدقائق معدودة قبل أن أقطعه متسائالً ‪:‬‬
‫‪ -‬إذن ما هي الخطوة التالية ؟!‬
‫‪ -‬االنتظار‪.‬‬
‫‪ -‬االنتظار‪ ..‬انتظار ماذا ؟!‬
‫‪ -‬سماح‪ ..‬أو من تعتقد أن اسمها كذلك‪.‬‬
‫‪ -‬هل جننت‪ ..‬إنها أحرص مخلوق في الكون على هالكي !‬
‫‪ -‬النوايا تتبدل من لحظة ألخرى !‬
‫‪ -‬هل قررتم التضحية بي ؟!‬
‫‪ -‬كف عن حماقاتك‪ ..‬إنها قادمة وستخبرك بكل شيء‪.‬‬
‫شخصيا‪ ،‬فما أن انتهى من جملته‬
‫ً‬ ‫مفاجئا حتى لي أنا‬
‫ً‬ ‫رد الفعل التالي كان‬
‫حتى انتفضت كليث غاضب وهاجمته في عنف‪.‬‬
‫المفاجأة التالية كانت لي‪.‬‬
‫فعندما هاجمت الشخص الغريب توقعت أن تنال منه قبضتي‪ ،‬إن جسده‬
‫يبدو أقوى وأوفر صحة‪ ،‬ولكني على األقل كنت سأصيبه ببعض األذى‪.‬‬

‫‪- 109 -‬‬


‫ال مفاجأة التي تحدثت عنها‪ ،‬هي أن قبضتي قد طاشت ألنها لم تجد ما‬
‫تصطدم به‪ .‬ليس ألنه تحرك ولكن ألن قبضتي عبرت من خالل جسده‪.‬‬
‫إنه ليس هنا‪.‬‬
‫إنه صورة خادعة‪.‬‬
‫إنه‪..‬‬
‫‪ -‬توقف عن حماقاتك‪ ..‬إنك تفكر بعقل محدود‪ ..‬ليست كل قوانين‬
‫عالمك تنطبق على العوالم األخرى‪ ..‬دع عنك ضيق األفق والغضب‬
‫والهمجية‪ ..‬فالساعات القادمة حاسمة‪.‬‬
‫لم تهدئ كلماته من ثورتي وغضبي ولم تمنحني السلوى‪ ..‬إنني أشعر بكوني‬
‫وحي ًدا في مقابل كل شرور العالم‪ ،‬حتى إني ال أستطيع أن أمنح أي شخص‬
‫األمان‪.‬‬
‫إن األمر يتجاوز كل قدراتي‪.‬‬
‫‪ -‬البد أن تبدأ في بناء جسور الثقة بيننا‪ ..‬لو أردت إيذاءك لكان من‬
‫اللحظة األولى وأنت واقع بين براثن الغيبوبة‪..‬‬
‫قالها ثم اقترب مني بهدوء لتالمس كفه رأسي قبل أن يستطرد ‪:‬‬
‫‪ -‬الخوف ليس شيئًا تخجل منه‪ ..‬فلكل منا مخاوفه‪ ..‬يجب أن تؤمن‬
‫جميعا يلزمنا بأن‬
‫ً‬ ‫بنفسك أوالً‪ ..‬كي تؤمن باآلخرين‪ ..‬الخطر المحدق بنا‬
‫‪- 111 -‬‬
‫نحكم العقل‪ ..‬إنني هنا لمساعدتك‪ ..‬هيئتي هذه هيئة مصطنعة ألنك لن‬
‫تتحمل أن ترى هيئتي الحقيقية‪ ،‬كما أن وجودنا هنا في هذه المنطقة من‬
‫جبال أطلس ليس بشكل عشوائي‪ ،‬إننا في نقطة كونية محايدة‪ ،‬هذه النقطة‬
‫تسمح لي ولك ولسماح باللقاء دون وجود أخطار‪ ..‬كل منا يحتل بع ًدا‬
‫ضا لست هنا بجسدك‪..‬‬
‫خاصا‪ ..‬كل منا ال يستطيع إيذاء اآلخرين‪ ..‬أنت أي ً‬
‫ً‬
‫ولكن عقلك المحدود ال يمكن أن يستوعب األمر‪.‬‬
‫جميعا هنا ولسنا هنا ولكن العلم هو من يحكم المسألة وليس السحر‪..‬‬
‫إننا ً‬
‫فدع عنك انفعاالتك‪ ..‬وتقبل األمر‪ ..‬نحن نريد مساعدتك‪ ..‬ألننا بهذه‬
‫الطريقة سنساعد أنفسنا‪.‬‬
‫ال أعتقد أن حديثه هو ما ألقى السكينة في روحي‪ ..‬إنها لمسته‪..‬‬
‫ولكن كيف أشعر بلمستك وأنت غير موجود ؟!‬
‫‪ -‬أنا أخاطب عقلك بعلم متقدم عندي‪ ..‬فدع عنك قناعاتك واستعد‪..‬‬
‫فسماح ستصل بين لحظة وأخرى‪.‬‬
‫أعرف جي ًدا هذا األسلوب‪ ،‬لقد قرأت كتبًا كثيرة وروايات أكثر‪ ،‬إنه يستخدم‬
‫اسم سماح ليجعل األمر أكثر تقبالً وحميمية‪ ..‬إنه واهم‪.‬‬
‫هدوءا‪ ..‬فهذه الملعونة هي من بدأت األمر‬
‫إن اسم سماح لن يجعلني أكثر ً‬
‫وهي من جعلتني أفقد أحد أصابعي‪.‬‬

‫‪- 110 -‬‬


‫نظرت ليدي فوجدت أصابعي مكتملة‪ ..‬يبدو بالفعل أن كالم الشخص‬
‫الغريب حقيقي و‪..‬‬
‫قطع استغراقي ذلك الصوت الذي كرهته والذي ال يختلف عن نعيب البوم‬
‫والغربان ‪:‬‬
‫‪ -‬هل كنت تبحث عن هذا ؟!‬
‫وفي اللحظة التالية وجدت إصبعي المبتور في يدي فصرخت في غضب‬
‫وعندما هممت باالنقضاض عليها دوى صوت الشخص الغريب في حسم ‪:‬‬
‫‪ -‬توقفا عن العبث‪.‬‬
‫وفي الدقائق التالية دار أغرب حديث في الكون‪.‬‬
‫****‬
‫فجأة‪ ،‬غمرت السكينة روحي‪ ،‬وتالشت وحشتي‪ ،‬وشعرت بتغير هائل في‬
‫كياني‪ ،‬لم يعد هناك غضب‪ ،‬لم يعد هناك نزق‪ ..‬هناك قناة اتصال فائقة‬
‫تنشأ بيننا‪ ،‬هناك دفقات من الدفء تالمس أرواحنا‪ ..‬لقد توحدنا‪.‬‬
‫ال أعرف كيف أفسر األمر ح ًقا‪ ،‬ولكن كل الضغائن اختفت بمجرد أن بدأ‬
‫االتصال‪ ،‬وكأن عقولنا توحدت وخاليانا اندمجت فصرنا كيانًا واح ًدا‪.‬‬
‫مسيطرا علي لفترة رهيبة‪.‬‬
‫ً‬ ‫شعور واحد فقط ظل‬

‫‪- 111 -‬‬


‫االنبهار‪.‬‬
‫ما أروع هذا االتصال‪.‬‬
‫شا‪ ،‬فتخيل معي الموقف‬
‫الحقيقة أن ما دار خالل الساعة التالية كان مده ً‬
‫بالكامل‪.‬‬
‫ثالثة مخلوقات من عوالم مختلفة يجتمعون بالقرب من فخ كوني رهيب‬
‫يتباحثون في الوسيلة التي عن طريقها سينقذون العالم وأنفسهم‪.‬‬
‫الشيطانة لم تكن كتلة من الشر الخالص‪ ..‬بل هي كائن حي‪ ..‬يحيا ويتنفس‬
‫ويتبادل المشاعر‪.‬‬
‫اللعنة على ثقافة االختالف‪ ..‬كل من ليس يشبهنا سيء وشرير‪.‬‬
‫حديثي معها بدل هذه الصورة المخيفة‪.‬‬
‫الجان مخلوقات اجتماعية كأي مخلوقات أخرى‪ ..‬تشعر وتتألم وتثور‬
‫وتغضب وتحب وتكره‪ ..‬ليس ذنبها أن هيئتها التي تراها هي كاملة ينفر منها‬
‫العقل البشري‪.‬‬
‫الشيطانة تحولت بعد لحظات لجنية وسماح تحولت إلى نائلة بنت ملك‬
‫الجن األحمر‪ ..‬أو إحدى بناته التي ال يعرف عنها شيئًا كعادة الملوك‬
‫متعددي العالقات‪..‬‬
‫الجن مجتمع فيه الصالح والفساد وال أحد بداخله معصوم‪.‬‬
‫‪- 111 -‬‬
‫نائلة‪ ..‬تتحدث بمشاعر هائلة متوهجة كاسحة‪ ،‬إنها ضحية وليست‬
‫عاما من االستعباد‪ ..‬خمسون عا ًما بعيدة عن وطنها‪..‬‬ ‫الجالد‪ ..‬خمسون ً‬
‫عاما بعيدة عن طفلها ال تعرف عنه شيئًا وال يعرف عنها شيئًا‪ ..‬إنها‬
‫خمسون ً‬
‫شيطانة من عالم الجن ولكنها أنثى رغم كل هذا‪.‬‬
‫عاما‬
‫لقد اختطفت من عالمها وظلت تحت التهديد والعقاب لخمسين ً‬
‫كاملة‪ ..‬تحلم في كل يوم بالتحرر واللحظة التي ستغادر فيها عالم البشر‬
‫بكل شروره‪.‬‬
‫إنها تقسم أن الشر الذي عاصرته في قلوب البشر يفوق أي شر آخر‪ .‬وأنها‬
‫كانت مجبرة على اإليذاء‪ .‬وأن خوفها من المخلوق الشيطاني هو ما جعلها‬
‫تلجأ إلى سادة الظالم في عالمها‪.‬‬
‫إنها مخلوقة ضعيفة برغم كل شيء‪.‬‬
‫حمدت اهلل أنها لم تتجسد بهيئتها الحقيقية وإال لما صدقتها لحظة‪.‬‬
‫الغريب لم يفصح عن شيء‪ ..‬هو فقط مخلوق من بعد آخر يريد إنقاذ‬
‫عالمه من دمار محتمل‪.‬‬
‫خالصة اللقاء أن هناك وسيلة للقضاء على المخلوق‪ ..‬وهذه الوسيلة‬
‫موجودة بقلب كهف األمنيات‪ ..‬إنها نفس التعويذة التي استخدمت للسيطرة‬

‫‪- 111 -‬‬


‫على المخلوقات الشيطانية منذ آالف السنين‪ ،‬وهي مدونة على رق من‬
‫جلد البشر‪ ،‬وهو محفوظ بداخل الكهف‪.‬‬
‫الجميل هنا أن الوحيد القادر على الدخول إلى الكهف‪ ..‬هو أنا‪..‬‬
‫لماذا ؟!‬
‫ألن هذا قدري‪..‬‬
‫أو ألنني أحمق بما يكفي‪.‬‬

‫‪- 115 -‬‬


‫‪ -‬الرق ‪-‬‬
‫الجبال على مدى البصر‪ ،‬سيف من الصخر يخترق المدى‪ ،‬وينتهي عند‬
‫ساحل المحيط األطلسي‪ ،‬وأنا بينهم كنملة صغيرة تعتقد أنها قادرة على فعل‬
‫المستحيل‪.‬‬
‫توبيقال‪ ..‬أعلى قمم جبال أطلس‪..‬‬
‫توبيقال‪ ..‬حيث ينتظر الظالم اللحظة المناسبة ليسود‪..‬‬
‫تويبقال‪ ..‬حيث البرد والصقيع يغمران كل شيء‪..‬‬
‫تويبقال‪ ..‬حيث قدر لي أن أكون‪.‬‬
‫الثلوج فوق قمة الجبل تمنح المشهد رهبة إضافية‪ ..‬كتل المالبس الثقيلة‬
‫التي أحيط بها جسدي تجاهد كي تبقيه دافئًا‪ ،‬والرياح ال ترأف بضعفي‪..‬‬
‫وتكاد تجمد الدماء في عروقي‪.‬‬
‫متوقعا‬
‫أتحرك بصعوبة عبر الممر الصخري المهشم‪ ،‬وجسدي يئن من البرد ً‬
‫انهيارا جلي ًدا يدفنني في مكاني في أي لحظة‪ .‬ال أعرف كيف وافقت على‬
‫ً‬
‫الخوض في األمر‪ .‬أين ذهب خوفي وروعي ؟! أين ذهب غضبي ؟!‬
‫هل سيطروا على إرادتي بسحر ما‪ ،‬أم أنهم حفزوا غروري ونزقي‪.‬‬
‫إن الغرور هو الفاجعة الكبرى التي بدأت كل هذا الهول‪.‬‬

‫‪- 116 -‬‬


‫الغرور هو كلمة السر اآلثمة التي توشك على إحراق العالم‪.‬‬
‫غائما في عقلي‪ ..‬ولكن الشعور‬
‫جزءا ً‬
‫ال أعرف حقيقة ما حدث ألن هناك ً‬
‫الذي تملكني بعد انتهاء اللقاء‪ ،‬أنني أستطيع‪..‬‬
‫ال شيء يمكن أن يهزمني أو يقهرني‪ ..‬والجميل في األمر أن الخطر المباشر‬
‫انتهى‪ ..‬فاللعنة توقفت بتحالفي مع نائلة‪ ..‬نائلة بنت ملك الجن األحمر‪..‬‬
‫حفيدة ملك الجن المهزوم‪.‬‬
‫هل لهذا معنى ؟!‬
‫اآلن علي أن أحضر الرق‪.‬‬
‫وأتم التعويذة بمساعدتهم‪ ..‬فأنا من تربطني صلة الدم بالشيخ ياسين‪ ..‬وأنا‬
‫من أستطيع القضاء على المخلوق الشيطاني‪..‬‬
‫مستوى خارق وبعلوم ذلك الكائن‪ ..‬وهو اتصال عقلي أكثر‬
‫ً‬ ‫اللقاء تم على‬
‫حقيقيا‪.‬‬
‫ً‬ ‫لقاء‬
‫منه ً‬
‫لذا تجدونني أقوم بأعجب األشياء بل وأشدها غرابة‪ ،‬أستخرج جواز سفر‪،‬‬
‫نعم‪ ،‬فالسفر إلى المغرب يتطلب ذلك‪.‬‬
‫اإلجراءات تتم بسالسة مخيفة‪ ..‬أحصل على التأشيرة بسهولة تامة‪ ..‬أقطع‬
‫الطريق نحو جبال أطلس والعشرات يساعدوني بأريحية‪ ..‬ال يمكن أن‬

‫‪- 117 -‬‬


‫يحظى ملك متوج بمقدار ما حصلت عليه من دعم ونفوذ واستقبال جيد في‬
‫طريق رحلتي‪.‬‬
‫بلدة إملشيل بلدة األساطير‪ ،‬بلدة الحب الضائع‪ ..‬لقد وصلت في لحظة‬
‫مميزة‪ ،‬وهي تلك اللحظة التي اختتم فيها موسم الخطوبة السنوي في‬
‫إملشيل‪ ،‬القرية الواقعة في جنوب شرق المغرب‪ ،‬حيث يتم إقامة عرس‬
‫تقليدي جماعي لثالثين من العرسان والعرائس الذين ينحدرون من مختلف‬
‫قبائل المنطقة‪.‬‬
‫إملشيل التي ال يمل سكانها تذكير ضيوفهم المغاربة واألجانب المتقاطرين‬
‫من القارات الخمس‪ ،‬بأسطورة الحب الضائع التي تؤطر احتفاالتهم‬
‫المتواصلة حتى اليوم‪.‬‬
‫فتى من قبيلة "آيت إبراهيم" ارتبط في زمن غابر بقصة‬ ‫وهي تتحدث أن ً‬
‫حب جارفة مع فتاة من قبيلة "آيت عزة"‪ .‬العداوة المستحكمة بين القبيلتين‬
‫تحرم الحبيبين من االجتماع تحت سقف بيت واحد‪ ،‬فيفران الى جبل‬
‫مجاور‪ ،‬ويذرفان دموع اليأس التي تفجرت بها بحيرتان شهيرتان في المنطقة‬
‫تحمالن اسم العريس (أيسلي) والعروس (تسليت)‪ .‬ومنذ ذاك الوقت تحرص‬
‫تكفيرا عن تجنيها على الحبيبين‬
‫ً‬ ‫هذه القبائل على االحتفال بزيجاتها‬
‫الخائبين‪.‬‬
‫االستقبال أسطوري‪.‬‬

‫‪- 118 -‬‬


‫الجميع يخبروني أنهم ينتظرونني منذ قرون‪.‬‬
‫أنا المنتظر‪.‬‬
‫األدالء رافقوني حتى موقع معين في الجبل المختار ثم تركوني‪ ..‬ألني‬
‫الوحيد المسموح له بالعبور إلى هذا المكان‪..‬‬
‫وحيد ولكني غير خائف‪ ،‬وهي ميزة مذهلة‪.‬‬
‫خريطة المكان زرعت في تالفيف عقلي‪ ،‬ولكن إمكانياتي الجسدية هي‬
‫العائق الوحيد‪..‬‬
‫أعبر الممر إلى ساحة متسعة معبدة ومستوية ال ثلوج فيها‪.‬‬
‫وعند النقطة المحددة أتوقف‪ ،‬أنزع حقيبة الظهر الثقيلة وأخرج منها‬
‫الهدهد‪.‬‬
‫ال أعرف لماذا تم اختيار هذا الطائر بالذات‪ ..‬ولكني أنفذ التعليمات‪ ..‬إن‬
‫للهدد مكانة مميزة من عصر سليمان الحكيم‪.‬‬
‫الطائر يتملص من يدي ثم يطير باتجاه الساحة الممهدة‪ ..‬وفي نقطة محددة‬
‫يهبط ويبدأ بمنقاره الطويل في الحفر‪.‬‬
‫أعرف من قراءتي أن الهدهد يستخدم كأضحية للتقرب للشيطان‪ ..‬فهل هذا‬
‫ما نقوم به بالفعل ؟‪.‬‬

‫‪- 119 -‬‬


‫الهدهد مستمر في عمله وال يبدو أنه يشعر بذلك البرد القارص الذي‬
‫يعصف بجسدي‪.‬‬
‫صوت النقر يوترني ولكني مستمر في المتابعة‪.‬‬
‫نقرة أخيرة ثم صوت فوران‪.‬‬
‫نافورة دماء تتفجر من موقع النقر‪ ..‬ومعها لسان من اللهب يصعد للسماء‬
‫قبل أن يتالشى‪.‬‬
‫الهدهد يسقط ميتًا وتغمر الدماء جثته وتجرفها إلى الظالم‪.‬‬
‫الدماء تغمر كل شيء ثم تسير في مسارات محددة أخفتها القرون ولكنها‬
‫مازالت صالحة لتتم مهمتها‪.‬‬
‫نجمة خماسية مقلوبة تتشكل في الفراغ‪.‬‬
‫أرضا متشبثًا في‬
‫صوت عال كأنه قصف الرعد يدوي فيهتز الجبل ألسقط ً‬
‫نتوء بارز‪ .‬وكأنما أصابه زلزال‪.‬‬
‫النجمة الخماسية تتحرك وتتحول لصخرة عمالقة تخرج من قلب األرض‪..‬‬
‫تهتز الصخرة في عنف قبل أن تمور وتتفتت ليظهر المدخل‪.‬‬
‫صوت ما في عقلي يحثني على التقدم فأستجيب‪..‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫البرودة تتالشى من حولي بمجرد عبوري إلى الساحة مع دفء محبب يغزو‬
‫أطرافي‪ ،‬األرض الصخرية تتشرب الدماء في جشع‪..‬المدخل يتألق بضياء‬
‫باهر‪.‬‬
‫اآلن أنا أتوقف أمام المدخل‪.‬‬
‫أنزع الثياب الثقيلة التي تكبل حركتي‪ ،‬أخرج من حقيبتي الخنجر المطلسم‪..‬‬
‫نفس الخنجر الذي قتلت به التيس من قبل‪ ..‬نعم أنا قادر على فعلها‪ ..‬أنا قادر‬
‫على قهر العالم كله لو أردت‪..‬‬

‫مواجها المدخل‪.‬‬
‫ً‬ ‫منتصبا‬
‫ً‬ ‫أقف‬

‫أصرخ بكلمات قديمة ال أعرف من أين أتيت بها‪.‬‬

‫‪ -‬إيموك‪ ..‬بلزاموك‪ ..‬تريهام‪ ..‬سوجاش‪.‬‬


‫لسان هائل من البرق يشق السماء‪.‬‬

‫‪ -‬إيموك‪ ..‬بلزاموك‪ ..‬تريهام‪ ..‬سوجاش‪.‬‬


‫لسان آخر من البرق يضيء السماء‪.‬‬

‫‪ -‬إيموك‪ ..‬بلزاموك‪ ..‬تريهام‪ ..‬سوجاش‪.‬‬


‫الخنجر يتألق في يدي بضوء أحمر باهر والضوء يخرج منه ليعانق البرق‪.‬‬
‫أصرخ بصوت وحشي بدائي ‪:‬‬
‫‪ -‬لقد أتيت‪ ..‬لقد لبيت النداء‪.‬‬

‫‪- 110 -‬‬


‫وبحزم وقوة‪ ..‬أدرت الخنجر المطلسم ليواجه صدري‪ ..‬ثم أغمدته في عنف‪..‬‬
‫األلم مريع‪..‬‬
‫أنفاسي تتقطع‪..‬‬
‫أشعر بالقبضة القوية‪..‬‬
‫لقد نجح األمر‪..‬‬
‫‪ -‬إيموك‪ ..‬بلزاموك‪ ..‬تريهام‪ ..‬سوجاش‪.‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫نهاية ما‪..‬‬
‫‪ -‬يا حارس الكهف‪ ..‬أنصت لي‪ ..‬لقد لبيت النداء‪ ..‬فأتم عهدك‪..‬‬
‫‪ -‬يا حارس الكهف أنصت لي لقد قدمت نفسي كأضحية‪ ..‬فمتى تتالشى‬
‫الحجب‪ ..‬لقد لبيت النداء‪ ..‬فأتم عهدك‪..‬‬
‫‪ -‬يا حارس الكهف أنصت لي أنا الفرع الممتد للجذور‪ ..‬أنا الدماء‬
‫المتصلة عبر اآلباد‪ ..‬يا حارس الكهف عاد الخطر من جديد‪ ..‬عاد‪ ..‬فأوفي‬
‫بعهدك‪.‬‬

‫‪- 111 -‬‬


- 111 -
‫‪ -‬مخلوقات من دم ولحم ‪-‬‬
‫فجأة اختفى من حوله كل شيء يعرفه‪ ،‬وكأنما أصابه شهاب حارق فتبخر أو‬
‫تالشى في العدم فلم يعد له أثر‪ ..‬حتى الفريسة التي أغرقت دماؤها الزرقاء‬
‫صدره لم يعد لها وجود‪ ..‬وكأنها لم تكن هي األخرى‪.‬‬
‫لم يكن ليهتم لو اختفت الفريسة فقط‪ ..‬فاألشياء تختفي من عالمه طوال‬
‫الوقت دون أن يثير ذلك بداخله أي قلق‪ ،‬وعلى كل فقد كان مذاقها سيئًا‬
‫وبالطبع ليس أسوأ مما يحدث له اآلن‪..‬‬
‫انطلق من بين شفتيه الغليظتين عواء حاد مختلط بعويل وعدم فهم‪ ،‬فأن‬
‫يختفي كل شيء من حوله بهذه الطريقة المباغتة أوقعه في حيرة لحظية‪.‬‬
‫تحرك ذيله الحرشفي الشفاف في عصبية بقلب ذلك الظالم الدامس الذي‬
‫يحيط به‪ ،‬وعقله يحاول استيعاب ما يحدث لجسده من تغيرات مروعة وكأن‬
‫هناك من يسحق خالياه خلية خلية‪.‬‬
‫شعر ببرودة شديدة تجتاح كيانه وبريح عاتية تضرب وجهه فتساءل في قلق‪:‬‬
‫‪ -‬لماذا صار الطقس من حوله بهذه البرودة ؟ ومن أين تأتي هذه الرياح ؟!‬
‫بخارا كبريتيًا ملتهبًا تالشى في العدم‪ ،‬ثم شعر بأن‬
‫نفث من بين منخاريه ً‬
‫الكون من حوله يرتج‪ ،‬وبألف صاعقة تضرب أعماقه بقوة‪ ..‬حاول أن‬
‫يتشبث بأي شيء عندما بدأت الرياح العاتية تسحبه نحو المجهول‪.‬‬

‫‪- 115 -‬‬


‫شعر بألم مروع يجتاح خالياه ويكاد يزهق روحه‪..‬دون أن يشعر بدعم بني‬
‫جنسه عن طريق صلتهم الروحية‪..‬‬
‫هاج وماج وصرخ وحاول أن يتماسك دون أدنى فائدة‪ ..‬إن تلك القبضة‬
‫قادرا على الحركة‪ ..‬أو اتخاذ أي ردود أفعال‬
‫المروعة تكبله‪ ..‬إنه لم يعد ً‬
‫إرادية‪ ..‬إن جسده يؤلمه وهو شعور غير معتاد بالنسبة له‪..‬‬
‫حاول أن يستخدم قدرته المتفوقة على اإلفالت ولكنه شعر بعجز ال‬
‫يوصف‪ ..‬إن جسده ال يطيعه‪ ..‬جسده الذي كان طوع بنانه منذ لحظات‪.‬‬
‫ماذا يحدث له ومن من يطلب العون ؟!‬
‫صرخ في قوة‪..‬‬
‫طلب العون من خليلته‪..‬‬
‫نادى الشيطان األكبر‪..‬‬
‫أرسل استغاثة عقلية واسعة المدى لعل أحد بني جنسه يكون بالقرب‬
‫فيستجيب الستغاثته‪..‬‬
‫ولكن ال فائدة‪ ..‬االتصال انقطع بينه وبين الجميع‪ ..‬وظل السؤال يتردد في‬
‫عقله دون هوادة ‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا يحدث ح ًقا ؟!‬

‫‪- 116 -‬‬


‫البد وأنه لعن‪ ..‬أو أن هذه الفريسة كانت مسمومة‪!! ..‬‬
‫غضب عات يجتاح كيانه‪ ..‬عقله يكاد يحترق من التفكير‪ ..‬يزوم بوحشية‪.‬‬
‫ومن أعمق أعماق عقله أخذت ذكرى قديمة تلح في رأسه‪ ..‬إنها قصة‬
‫قديمة سمعها ذات مرة‪ ..‬ثم واراها بداخل عقله‪..‬‬
‫بل هي أسطورة مخيفة‪..‬‬
‫هل ح ًقا أصابته اللعنة ؟!‬
‫ال يمكن أن يكون هو من دون باقي جنسه‪..‬‬
‫ال يمكن أن يسقط في يد تلك المخلوقات كثيفة المادة المخلوقة من لحم‬
‫ودم‪.‬‬
‫لقد سمع عنهم‪ ..‬عن قسوتهم‪ ..‬عن حقارتهم‪..‬‬
‫إنهم جنس متوحش‪ ..‬يستخدم الفنون المحظورة الختطافهم واستعبادهم‪.‬‬
‫لقد سمع كل القصص عمن يذهبون‪..‬‬
‫ولكن لم يعد أحد منهم ليقص ما حدث له هناك‪.‬‬
‫األلم عات‪ ..‬ولكنه لم يمنعه من التفكير‪.‬‬
‫سيحاول بقدراته المتعددة أن يفلت من هذه القبضة الشريرة‪ ..‬إنه لم يعتد‬
‫االستسالم قط‪.‬‬

‫‪- 117 -‬‬


‫طوال عمره الذي يمتد لقرون طويلة لم يستسلم أو يتوهن قط‪ .‬ولكن ما‬
‫يحدث له مخيف لو كان ما يفكر فيه حقيقة‪..‬‬
‫هل توجد ح ًقا مخلوقات بهذا الشر تعيش في مكان آخر من الكون ؟!‬
‫األبخرة تتصاعد من فمه‪ ،‬بشرته الرقيقة تؤلمه‪ ،‬ولكن األلم في قرنيه هو‬
‫األصعب‪.‬‬
‫الظالم من حوله كثيف‪ ،‬ولكنه ال يأبه‪ ،‬فقط ما يريده هو الفرار من مخالب‬
‫انتزاعا من عالمه‪.‬‬
‫هذه القبضة المؤلمة‪ ..‬التي تحاول انتزاعه ً‬
‫ال يمكن أن تنتهي حياته على هذا النحو‪.‬‬
‫خوارا مخي ًفا وردد كلمات قديمة ال يعرفها عالمنا‪.‬‬
‫أصدر ً‬
‫كلمات محظورة‪..‬‬
‫مجددا‪..‬‬
‫ً‬ ‫استغاث بالشيطان األكبر‬
‫مجددا‪.‬‬
‫ً‬ ‫حاول أن يتواصل مرة أخيرة مع عالمه وخليلته‪ ،‬ثم فشل‬
‫لقد انقطعت تلك الصلة الروحية التي تربطه مع بني جنسه‪.‬‬
‫للحظات ساد صمت ثقيل و هدأت حدة األلم ثم سمع الصوت المفزع‪.‬‬
‫صوت غليظ كريه يتحدث بلغة مخيفة‪.‬‬
‫صوت له رائحة الموت والضياع‪.‬‬
‫‪- 118 -‬‬
‫ال لم يكن صوتًا واح ًدا بل صوتين مختلفين‪ ..‬المفاجأة جعلته ال يميز من‬
‫اللحظة األولى ولكنه اآلن يميز جي ًدا‪.‬‬
‫صوت أسود مقبض يخاطب آلهتهم الوثنية ويستجدي الشيطان األكبر‪.‬‬
‫وصوت بارد قاس يردد الكلمات القديمة‪.‬‬
‫رغما عنه‬
‫حاول أن يصم أذنيه ولكن الصوت المخيف كان يخترق أذنيه ً‬
‫ويزلزل كيانه ويطالبه بالطاعة‪.‬‬
‫الكلمات تتردد عبر اآلباد فتجرح روحه بمخالبها وتنتزع من جسده قوته‪.‬‬
‫الكلمات تسيطر عليه‪.‬‬
‫سمع الثغاء ففتح عينيه وكل خلية في جسده ترتجف‪.‬‬
‫أي هول هذا الذي يراه‪.‬‬
‫الكائنان المخيفان ذوا شعر الوجه الكثيف يرددان الكلمات دون توقف‪،‬‬
‫وكأن حياتهما تتوقف على هذه الكلمات‪ .‬وأمامهما كائن آخر صغير ذو‬
‫قرون وحوافر يكاد يمزق األرض بحوافره من الغضب‪.‬‬
‫أسماء‪ ..‬ففي عالمه ال توجد أسماء‪ .‬ولو‬
‫ً‬ ‫هو ال يعرف أن لهذه الكائنات‬
‫علم لما استفاد شيئًا‪ .‬ولكننا نعرف من هما‪.‬‬

‫‪- 119 -‬‬


‫فها هما الشيخ ياسين والشيخ تهامي يجلسان بقلب نجمة خماسية مرسومة‬
‫بالطباشير على أرض الغرفة بالكامل‪ ،‬ومليئة بالطالسم المكتوبة بسائل أحمر‬
‫ال أستبعد أن يكون الدم‪ ..‬بل هو الدم فأيديهما ملطخة بالمزيد منه‪،‬‬
‫ملقى دون اهتمام جسد رضيع مثخن بالجراح فارقته الحياة‪،‬‬
‫وبجوارهما ً‬
‫وعلى وجهه المصبوغ باللون األحمر نظرة ألم مروعة‪ .‬وبالقرب منهم تيس‬
‫أسود اللون مخيف الشكل ضخم الحجم له أربعة قرون‪ ،‬ال يكف عن ركل‬
‫األرض بحوافره في عصبية شديدة‪..‬‬
‫الكائن واقع في حيرة شديدة‪ ،‬عقله ال يستوعب ما يراه‪ ،‬لذلك كان وقع‬
‫المفاجأة مخي ًفا‪ ،‬ولكن عندما وقعت عيناه المحتقنتان على الشيخ ياسين‬
‫والشيخ تهامي وعيونهما البيضاء الممسوحة ارتجف في رعب‪.‬‬
‫مرارا من‬
‫لم يكن يتصور أن المخلوقات كثيفة المادة التي سمع حكايتهم ً‬
‫القدماء يمكن أن يكونوا بهذه الشناعة‪ ..‬إن روحه تكاد تزهق من فرط‬
‫بشاعتهم‪ ،‬لو كانت إرادته حرة لفقأ عينيه لينهي هذه المأساة‪.‬‬
‫تماما‪ ،‬وال يعرف كيف‬
‫كلمات جديدة تتردد لتصفع أذنيه بلغة يجهلها ً‬
‫يفهمها‪..‬‬
‫إنها السريانية القديمة‪ ..‬لغة آدم عليه السالم‪.‬‬
‫كلمات مخيفة تهبط على روحه كالسياط‪.‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫صدمة عقلية عاتية تجتاح رأسه حتى يكاد يشعر بقرنيه يذوبان‪ ،‬وعندما يردد‬
‫الصوت اآلخر الكلمات بلغته يستوعب األمر فيرتجف أكثر‪..‬‬
‫الكلمات تطالبه باإلذعان والدخول في جسد ذلك الكائن المكبل‬
‫بالسالسل‪.‬‬
‫إنه يعرف اآلن فقط أنه قادر على احتالل جسد هذا الكائن ذي الحوافر‬
‫والسيطرة عليه‪ ،‬ولكن لماذا سيسجن نفسه في هذا السجن كثيف المادة‪،‬‬
‫لماذا سيطيع ؟‬
‫جميعا‪ ..‬وهو ذلك األلم المروع الذي تصيبه به الكلمات‬
‫ً‬ ‫واإلجابة نعرفها‬
‫المحظورة‪.‬‬
‫الكائن ذو الحوافر يزوم ويخور‪. ..‬إنه خائف هو اآلخر‪ ،‬ال يبدو وكأنه ينتمي‬
‫لجنس هذه المخلوقات الوحشية على الرغم من كونه كثيف المادة مثلهم‪.‬‬
‫الصوت المخيف يتردد من جديد‪ ،‬وكأنه ينبع من كل مكان حوله‪ ،‬فيعصف‬
‫به‪ ..‬يتمنى لو يستعيد قدرته على التحكم في أعضائه فيفترس هذين‬
‫الوحشين المخيفين ذوي شعر الوجه الكثيف‪ ،‬ولكن كل أفكاره تتالشى‬
‫عندما تعود األصوات لتردد الكلمات المحظورة‪ ..‬الكلمات التي بات‬
‫يفهمها دون جهد‪ ..‬الكلمات التي تمنحه عذابًا يفوق عذاب لحظات‬
‫االحتضار التي يتشارك فيها بنو جنسه عندما يعاني منها أحدهم‪ ..‬الكلمات‬
‫السوداء‪.‬‬
‫‪- 110 -‬‬
‫الكلمات تتردد دون هوادة‪..‬‬
‫الكلمات تتردد في إصرار‪..‬‬
‫ادخل إلى مستقرك األبدي‪ ..‬ارضخ لسطوة اللحم والدم‪.‬‬
‫ألم عات يصعقه‪.‬‬
‫ادخل إلى مستقرك األبدي‪ ..‬ارضخ لسطوة اللحم والدم‪.‬‬
‫إنه يحاول المقاومة‪..‬‬
‫ادخل إلى مستقرك األبدي‪ ..‬ارضخ لسطوة اللحم والدم‪.‬‬
‫إرادته تخور‪..‬‬
‫عزيمته تفتر‪..‬‬
‫إنه اآلن بداخل جسد المخلوق ذي الحوافر‪..‬‬
‫بداخل سجنه األبدي المكون من لحم ودم‪..‬‬
‫ولكنه لن يستسلم‪..‬‬
‫لن يستسلم أب ًدا‪.‬‬
‫ادخل إلى مستقرك األبدي‪ ..‬ارضخ لسطوة اللحم والدم‪.‬‬
‫األلم عنيف ال يستطيع أن يقاومه‪..‬‬
‫ارضخ لسطوة اللحم والدم‪.‬‬
‫وفي النهاية يستجيب‪ ..‬ويستسلم‪.‬‬
‫ويرضخ لسلطة اللحم والدم‪.‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫‪ -‬عزيف ‪-‬‬
‫اخترق الخنجر المطلسم صدري فشعرت بألم عنيف وحاد في مكان‬
‫الطعنة‪ ،‬وعاد لي وعيي المنسحب وإحساسي بما حولي‪ ،‬واجتاحت جسدي‬
‫رجفة عظيمة وكأنني بمركز أحد الزالزل المروعة والتي أعادت تشكيل‬
‫اليابسة‪.‬‬
‫وبسرعة البرق انتقلت الرجفة إلى الجبل الغافي منذ مئات القرون لتتوتر‬
‫انفجارا هائالً كقصف الرعد‬
‫ً‬ ‫صخوره وينفض عنه كسله وجليده‪ ،‬ليحدث‬
‫أطاح بالصخور والثلوج في كل مكان‪ ،‬ومن خلفي تألق المدخل بضوء أحمر‬
‫دموي أعطى المكان رهبةً وهيبة‪.‬‬
‫جحيم هائل من الصخور والجليد يتفجر من حولي‪ ،‬لم تجرؤ ذرة رماد منه‬
‫على لمسي‪ ،‬فظهر المشهد وكأني نواة مركزية للجحيم القائم‪.‬‬
‫لحظات ثم شعرت بالدوار خاصة مع كمية الدماء التي أفقدها طوال الوقت‬
‫وأحاول بقوتي الواهنة أن أوقفها‪ ..‬ولكني لم أستسلم‪ ،‬زحفت بكل ما أوتيت‬
‫من قوة كي أعبر إلى داخل الكهف‪.‬‬
‫رائ حة الكراهية والحقد المطمور منذ قرون تكاد تطيح بأنفي من بشاعتها‪،‬‬
‫بل وتزهق روحي‪ ..‬صوت هادئ كالنسيم يتردد في عقلي ويخبرني بخطوتي‬
‫التالية‪ ،‬فأنزع حقيبتي الثقيلة من فوق ظهري وأنفاسي تتقطع وأتناول بصعوبة‬
‫اللفافة التي تحتوي على العقار أزرق اللون الموجود في داخل القنينة التي ال‬
‫‪- 111 -‬‬
‫أعرف متى حصلت عليها‪ ،‬هي وكل محتويات الحقيبة وال لماذا أجهد‬
‫نفسي وأعوق حركتي بحملها‪ ،‬ولكني أطيع الصوت دون تردد فهو يريد‬
‫صالحي دون شك‪..‬‬
‫أجرع محتويات القنينة ذات الرائحة العطرية المميزة مرة واحدة ألشعر على‬
‫الفور بنشاط مضاعف ونشوة عالية‪ ..‬وبعيون متسعة من الدهشة شاهدت‬
‫مجددا‪.‬‬
‫ً‬ ‫الدم وهو يتوقف عن التدفق‪ ،‬والجرح وهو يبرأ وقوتي وهي تعود لي‬
‫حماس عات اجتاحني فأعدت الخنجر الملوث بدمائي إلى غمده وواريته‬
‫مجددا‪ ،‬فشعرت بها في خفة طائر‬
‫ً‬ ‫في الحقيبة ثم عدت أحملها على ظهري‬
‫وكأن القنينة الصغيرة من كانت تثقلها‪.‬‬
‫تقدمت إلى داخل الكهف أكثر‪ ،‬وكل خلية في جسدي تنتشي من دفء‬
‫المكان‪ ،‬و كالمجاذيب وقفت بداخل الكهف‪ ،‬وأخذت أردد الكلمات من‬
‫جديد ‪:‬‬
‫‪ -‬إيموك‪ ..‬بلزاموك‪ ..‬تريهام‪ ..‬سوجاش‪.‬‬
‫‪ -‬إيموك‪ ..‬بلزاموك‪ ..‬تريهام‪ ..‬سوجاش‪.‬‬
‫‪ -‬إيموك‪ ..‬بلزاموك‪ ..‬تريهام‪ ..‬سوجاش‪.‬‬
‫ثم وبصوت متضرع أحادث العدم ‪:‬‬
‫‪ -‬يا حارس الكهف‪.‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫‪ -‬يا حارس الكهف‪ ..‬أنصت لي‪ ..‬لقد لبيت النداء‪ ..‬فأتم عهدك‪..‬‬
‫‪ -‬يا حارس الكهف أنصت لي لقد قدمت نفسي كأضحية‪ ..‬فمتى تتالشى‬
‫الحجب‪ ..‬لقد لبيت النداء‪ ..‬فأتم عهدك‪..‬‬
‫‪ -‬ياحارس الكهف أنصت لي أنا الفرع الممتد للجذور‪ ..‬أنا الدماء المتصلة‬
‫عبر اآلباد‪ ..‬يا حارس الكهف عاد الخطر من جديد‪ ..‬عاد‪ ..‬فأوفي بعهدك‪.‬‬
‫صوت صرير هائل يصم اآلذان‪ ،‬وكأن هناك بابًا عمالقًا مغل ًقا منذ قرون يفتح‬
‫اآلن‪.‬‬
‫الضياء األحمر الدموي يخفت تدريجيًا ويتبدل لونه‪ ..‬وأنا في هذه اللحظات‬
‫كالمغيب أو الممسوس‪ ..‬ال أشعر بكينونتي وال أملك أي إرادة‪ ..‬فقط أنا‬
‫أطيع الصوت المتردد في عقلي‪..‬‬
‫الجبل يهتز من جديد‪ ..‬فألتصق بالجدار المجاور لي في خوف‪..‬‬
‫قلب األرض ينشق ثم يخرج التابوت من باطنها‪ ..‬أي سحر هذا ؟!‬
‫الصوت يتردد في عقلي مرش ًدا ‪:‬‬
‫‪ -‬إن األمر يتم عن طريق رافعة ميكانيكية ال صوت لها مخفاة بمهارة بقلب‬
‫األرض‪ ،‬العلم هنا هو السيد ال مجال للسحر فيما يحدث‪.‬‬

‫‪- 115 -‬‬


‫وفي هذه اللحظة أدركت أن الصوت هو صوت الشخص الغريب‪ ،‬ثم‬
‫تذكرت جملة أخبرني بها في حوار سابق‪ ،‬بالعلم والسحر استطعنا السيطرة‬
‫على هذه المخلوقات الشيطانية‪.‬‬
‫إذن فهذه المرحلة هي مرحلة العلم و‪..‬‬
‫قطع أفكاري مشهد التابوت وهو يتألق ثم ينزاح الغطاء عنه ببطء‪ ،‬تقدمت‬
‫تماما ولكنه نظيف‬
‫من التابوت واتسعت عيناي من الدهشة‪ ..‬التابوت خال ً‬
‫ولم يتأثر معدنه المتألق بمرور الزمن‪..‬‬
‫التابوت خال وال يوجد الرق بداخله‪ ..‬فهل فشلت مهمتي ؟!‬
‫الصوت المتردد بتالبيب عقلي يطالبني بالرقود بداخل التابوت‪ ..‬فهل أطيع؟‬
‫هل سمع الغرباء قصة إيزيس وأوزوريس ؟!‬
‫شرا‪ ،‬فهل يقوم‬
‫هل ستكون نهايتي بداخل الصندوق‪ ،‬إن عدونا يفوق (ست) ً‬
‫بما قام به (ست) ؟‬
‫أتقدم من التابوت في خوف‪ ..‬أطيع وجسدي كله يرتجف‪ ..‬ال أعرف كيف‬
‫سيفيد وجودي في قلب التابوت في العثور على الرق ؟!‬
‫أتمدد بداخل التابوت في رعب و معدنه البارد يمنحني رعشة جديدة‪..‬‬
‫أتحرك بعصبية بقلب التابوت محاوالً أن أجعل الحقيبة في وضع مريح‪..‬‬

‫‪- 116 -‬‬


‫وبمجرد أن سكنت‪ ،‬تحرك غطاء التابوت ببطء وهدوء لينغلق ويعود لسيرته‬
‫األولى‪ ،‬ألقبع أنا بداخل ظالم دامس ال يفوقه إال ظالم القبر‪.‬‬
‫أحكم إغالق الغطاء فصرت سجينًا بالداخل‪،‬ثم اهتز الصندوق للحظة‬
‫واحدة‪ ..‬وتحرك التابوت صوب المجهول‪.‬‬
‫لحظات بقلب الظالم الدامس مرت على روحي كالقرون‪ ،‬ثم صمت أذني‬
‫األصوات المروعة المستجدية المتألمة‪ ..‬مما جعلني أتساءل ‪:‬‬
‫مجددا ؟!‬
‫ً‬ ‫هل عدت للجحيم‬
‫وعندما سال دمعي من التأثر والخوف وكاد قلبي أن يتوقف‪ ،‬عاد الصوت‬
‫الداخلي يطمئنني‪ ،‬ال تخف إنها أصوات ال خطر منها‪ ..‬إنها أصوات الجن‬
‫المعذبين‪..‬‬
‫عزيف‪ ..‬هذا هو اسم أصوات الجن‪..‬‬
‫ولكني لم أتخيل أن يكون الصوت بهذه البشاعة‪..‬‬
‫الصوت يتابع بلهجة تقريرية ‪:‬‬
‫‪ -‬بعض الجن فضل العذاب على الموت‪ ..‬بعضهم لم يستسلم للكهف‬
‫رغم مرور القرون‪.‬‬
‫توحدت مع األصوات برغم عدم فهمي لها‪..‬‬

‫‪- 117 -‬‬


‫شعرت بمعاناة أصحابها‪ ،‬وتألمت كما يتألمون‪ ..‬وبكيت كما يبكون‪..‬‬
‫وصرخت كما يصرخون‪ ..‬ثم بعد ذلك هدأت‪.‬‬
‫صوت صرير معدني خافت‪ ..‬ثم صمت‪.‬‬
‫تماما‪.‬‬
‫اهتزازا اآلن‪ ..‬بل هو ساكن ً‬
‫ً‬ ‫التابوت أصبح أقل‬
‫دقائق من صمت قاتل‪ ..‬ثم بدأ الغطاء يتحرك ببطء شديد‪..‬‬
‫متوقعا الخالص‪ ..‬فصدم عيناي ظالم دامس ثقيل فأغلقتهما‬
‫ً‬ ‫فتحت عيني‬
‫على الفور‪ ..‬هواء بارد لفح جسدي فشعرت بندم شديد ألني تركت‬
‫المالبس الثقيلة بالخارج‪..‬‬
‫جس دي يئن والحقيبة عادت ثقيلة كسيرتها األولى‪ .‬ولكنه ليس وقت التبرم‬
‫أو الغضب‪.‬‬
‫أنهض بصعوبة معتم ًدا على حواف التابوت المعدنية‪ ،‬وعزيف الجن في‬
‫الخلفية كموسيقى تصويرية مروعة‪ ،‬وإن كنت أسمعه بالكاد وكأنه على بعد‬
‫آالف األميال‪ .‬البد وأنني ابتعدت عنه مسافة كبيرة‪ ،‬فيبدو وأن الكهف‬
‫الحقيقي مازال هناك بأعماق الجبل‪ ،‬وهذا ما جعله أسطورة باقية حتى وقتنا‬
‫هذا‪.‬‬

‫‪- 118 -‬‬


‫أتلمس طريقي في الظالم‪ ..‬جدران صخرية ملساء وأرضية صلبة‪ ..‬المكان‬
‫ضيق وال يمنح خيارات‪ ..‬فقط أشعر بدرجات سلم هابطة‪ ،‬فأتمسح في‬
‫الجدران هبوطًا‪..‬‬
‫واحد‪..‬‬
‫اثنان‪..‬‬
‫ثالثة‪..‬‬
‫‪.....‬‬
‫اثنتا عشرة درجة ثم ال شيء‪.‬‬
‫الجدران ملساء من حولي بدون نتوءات‪ ..‬وكأن هناك من قام بصقلها‪ ،‬بل‬
‫هناك بالفعل من قام بصقلها‪.‬‬
‫الهواء ساكن وشحيح إلى حد ما‪ ..‬مما ال يوحي بخالص‪.‬‬
‫مجددا‪ ..‬أبحث عن دليل‪ ..‬عن شيء يقودني للنقطة‬
‫ً‬ ‫أتحسس الجدران‬
‫التالية وسط هذه العتمة التامة‪ ..‬أنتظر الصوت الذي صاحبني حتى اآلن‬
‫ليرشدني‪ ..‬ولكن األمر واضح وجلي‪ ..‬من هذه النقطة أنا وحيد‪ .‬وحيد‬
‫تماما‪.‬‬
‫ً‬
‫مجددا‪ ..‬أشعر بضعف‬‫ً‬ ‫أطنان من الحيرة تغمر عقلي‪ ..‬الخوف يعاودني‬
‫عات‪ ..‬الظالم مخيف بحق‪ ..‬أعصر عقلي محاوالً استنتاج الخطوة التالية‪.‬‬
‫‪- 119 -‬‬
‫التابوت ثم الدرج قاداني إلى هذا المكان‪ ..‬الخيارات محدودة‪ ..‬إذن ال‬
‫حل آخر‪.‬‬
‫الكلمات‪!! ..‬‬
‫‪ -‬إيموك‪ ..‬بلزاموك‪ ..‬تريهام‪ ..‬سوجاش‪.‬‬
‫وبالفعل نجح األمر ونجحت الكلمات‪ ..‬وبدأ الظالم يتراجع‪..‬‬
‫صفير حاد صفع أذني ثم بدد عتمة الظالم ضوء أزرق هادئ‪ ،‬غمر المكان‬
‫في حياء‪ ..‬ليظهر أمام عيني ممر قصير يقود إلى قاعة صخرية هائلة الحجم‬
‫لم أر لها مثيالً في حياتي‪..‬‬
‫مظهرا‬
‫جدرانها العمالقة مكسوة بغالف زجاجي متألق ال خدش فيه منحها ً‬
‫خالبًا‪ .‬وفي منتصف القاعة ربض صندوق متوسط الحجم متألق بلون‬
‫فيروزي‪ ،‬وعندما خطوت إلى الداخل‪ ،‬بدأ أمام عيني أغرب عرض في‬
‫التاريخ‪.‬‬

‫‪- 151 -‬‬


‫‪ -‬المخلوق الشيطاني ‪-‬‬
‫فجأة شعر المخلوق الشيطاني بالتحرر لفترة قصيرة للغاية‪..‬والجدير بالذكر‬
‫أنها كانت مجرد لحظات قليلة ولكنها كانت كافية له ليحيط بالكثير مما‬
‫يجهله في هذا العالم الجديد‪.‬‬
‫هو ال يعرف كم مر عليه في هذا العالم المخيف من وقت‪..‬فقد تجمد‬
‫الزمن بالنسبة إليه منذ تناوب هذان المخلوقان المتوحشان على إخضاعه‬
‫وتعذيبه‪ ،‬إنهما ضعيفان ليسا بالقوة التي توقعها‪ ،‬وهو يملك خبرة السنين‬
‫وصالبتها لذا لن يستطيعا إجباره على طاعتهما ببساطة كما نجحا مع‬
‫المخلوق األول‪..‬‬
‫هو يعرف اآلن أن هناك مخلوقًا أول سقط في يد تلك الكائنات‪ ،‬هو ليس‬
‫األول من نوعه في هذا العالم‪ ،‬ففي لحظة التحرر هذه حدث التواصل بينه‬
‫وبين المخلوق اآلخر الذي بدأت به قصتنا‪ ..‬والذي سعت نائلة‪/‬سماح‬
‫للتخلص منه عن طريقي لتنال حريتها وتعود لعالمها‪..‬‬
‫إنه يعرف هذه البصمة الروحية جي ًدا‪..‬‬
‫كما أخبرتكم عالمه ال يحتوي على أسماء وال يعترف بها فقط لكل كائن‬
‫منهم بصمة روحية تميزه عن غيره‪ ،‬وعن طريقها يتم التواصل‪.‬‬

‫‪- 150 -‬‬


‫إن هذه البصمة الروحية بالذات دارت حولها القصص الكثيرة أثناء التواصل‬
‫العقلي العظيم‪ ..‬ال يوجد أحد في عالمه ال يعرفها أو ينكرها‪ ..‬فاختفاؤها‬
‫أحيا األسطورة القديمة‪..‬‬
‫أسطورة الكائنات الشريرة كثيفة المادة‪..‬‬
‫جميعهم يعرفون الموت‪ ،‬ويشعرون به عندما يجذب أحدهم إلى مملكته‪..‬‬
‫إن الرابطة التي تربطهم تجعلهم يعرفون مصير كل كائن منهم‪ ..‬ولحظات‬
‫االحتضار لديهم هي أشد اللحظات هيبة ورهبة‪.‬‬
‫جميعا تلك اللحظة‪ ..‬ولكن اختفاء هذه البصمة الروحية كان‬
‫ً‬ ‫يتعايشون‬
‫تماما‪..‬‬
‫مختل ًفا ً‬
‫إنه اختطاف وليس موتًا‪.‬‬
‫إنها اللعنة من جديد‪ ..‬والعجيب أنه برغم تواصلهم ال يستطيعون أن يقدموا‬
‫العون لتلك الروح المختطفة‪ ..‬إنهم عاجزون أمام العلوم المحظورة‪ .‬عاجزون‬
‫تماما‪.‬‬
‫ً‬
‫لقد توقع المخلوق عندما حدث ذلك االتصال‪ ..‬أن يجد السلوى في‬
‫التواصل ولكنه صدم عندما وصلت له مشاعر الكائن اآلخر‪..‬‬

‫‪- 151 -‬‬


‫فالكائن الشيطاني اآلخر في خطر عظيم‪ ..‬هناك من يسعى لهالكه‪ ..‬إن هذا‬
‫المكان مخيف‪ ..‬مخيف ج ًدا‪ ..‬تلك المخلوقات المسماة البشر‪ ..‬ال قلب‬
‫لها‪..‬‬
‫المعلوم ات تنتقل بينهما بسالسة وتثير غضب المخلوق الجديد وفي نفس‬
‫الوقت هلعه‪..‬لقد عانى المخلوق األول األمرين من هذه الكائنات طوال‬
‫خمسة عقود‪ ..‬لقد عوقب بالحديد المحمي والنيران والرصاص المصهور‪..‬‬
‫ترك بال طعام لفترات طويلة‪ ..‬لقد عذبته هذه المخلوقات البشرية بطريقة‬
‫وحشية ليطيعها‪..‬‬
‫داهما‪ .‬ليس خطر المخلوقات البشرية فقط‪ ..‬هناك‬
‫خطرا ً‬‫واآلن هو يواجه ً‬
‫تلك العفريتة التي تريد الخالص منه لتتحرر بعد أن سلط عليها الستعبادها‬
‫طوال العقود السابقة‪..‬‬
‫إن الخطر مزدوج اآلن‪.‬‬
‫اآلن يعرف المخلوق الشيطاني كل ما كان يعرفه المخلوق األول‪ ..‬يعلم أنه‬
‫قادر على االنتقام لو فقط استطاع التحرر‪..‬‬
‫عليه أوالً أن يساعد المخلوق اآلخر‪ ،‬قبل أن تنتهي الطقوس في الليلة‬
‫الثالثة عشرة ويصبح عب ًدا لتلك المخلوقات المتوحشة إلى األبد‪.‬‬

‫‪- 151 -‬‬


‫حاول بكل ما تعلمه عبر القرون أن يقوي رابطة التواصل‪ ..‬أن يمزج‬
‫معا‪ ..‬أن يغيث المخلوق األول ولكن الوقت كان قد فات‪.‬‬
‫روحيهما ً‬
‫لقد سيطرت نائلة‪/‬سماح على عقلي وعن طريق تعويذتها قمت بقتل‬
‫المخلوق الشيطاني األول الذي تمثل في شكل تيس‪.‬‬
‫قمت بقتله والمخلوق الجديد يشاهد ويتابع‪..‬‬
‫قمت بقتله فمات الشيخ ياسين ومات من بعده الشيخ تهامي على يد نائلة‪.‬‬
‫جزءا من حريته وإن لم ينلها كلها‪ ..‬وأفسد‬
‫ونال المخلوق الشيطاني الجديد ً‬
‫تعويذة نائلة‪.‬‬
‫المخلوق اآلن حر إلى حد ما ولكنه ال يمتلك بعد تلك القوى المروعة التي‬
‫جعلت الجن يرتجفون من جنسهم ذات يوم منذ مئات القرون‪..‬‬
‫الشيخ ياسين مات قبل إنهاء الطقس األخير وختم التعويذة‪..‬مات فانتقل‬
‫العهد إلى من يحمل دماءه‪ ..‬مات وفي نفس الوقت مازالت دماؤه تسري‬
‫في عروق حفيده‪..‬‬
‫الدماء هي السر األعظم الذي يربط هذا العالم ببعضه‪..‬‬
‫إنه اآلن يحاول أن يتعلم‪ ..‬ولكنه سجين هذا الجسد كثيف المادة‪ ..‬البد أن‬
‫يتخلص منه ولكنه ال يدري كيف بعد‪..‬‬
‫****‬

‫‪- 151 -‬‬


‫وذات مساء وعندما حدث الكسوف الكبير للشمس‪ ..‬سمع الصرخة العاتية‬
‫التي قطعت المسافات والزمن‪..‬‬
‫ولحظتها عرف أنه ليس وحي ًدا‪..‬‬
‫متفردا في هذا العالم‪..‬‬
‫ليس سجينًا ً‬
‫ضا أن انتقامه لن يبقي وال يذر‪..‬‬
‫وعرف الطريقة المثلى للتحرر‪ ،‬وعرف أي ً‬
‫****‬
‫عبرت إلى القاعة المتسعة التي تبدو وكأنها محفورة بقلب الجبل كله من‬
‫شدة اتساعها فشعرت بنشاط عجيب وحيوية غير معهودة‪ ،‬وكأن خاليا‬
‫جسدي تجددت أو استيقظت من سبات طويل مما منحني راحة فائقة‪.‬‬
‫ضغطت قدمي األرض الصخرية فشعرت بليونتها المحببة‪ ،‬وكأنها سطح‬
‫إسفنجي هش وإن كان ال يخلو من صالبة‪..‬‬
‫كل شيء في القاعة صمم بتكنولوجيا عظيمة وعلوم فائقة استطاعت أن‬
‫تشق الجبل وتلين الصخر‪..‬‬
‫تقدمت عدت خطوات إلى األمام‪ ،‬وكأن دخولي كان كلمة السر فتحول‬
‫الزجاج الذي يكسو القاعة إلى ما يشبه شاشة عرض ثابتة وظهرت الرسوم‬
‫على الجدران تحكي مشاهد مختارة من قصة عجيبة‪.‬‬

‫‪- 155 -‬‬


‫حكرا على البشر والجن‬
‫خالصة مجموعة الرسومات األولى‪ ،‬أن الكون ليس ً‬
‫فقط‪ ،‬الكون يحوي مخلوقات عاقلة أخرى ال تقل عنهم أهمية وخطورة‬
‫والعلم فقط هو ما يحكم الكون الذي لم يخلقه الخالق القدير عبثًا‪.‬‬
‫المجموعة الثانية من الرسم تظهر قصة المخلوق‪ ..‬إن المخلوق الغريب من‬
‫جنس متطور‪ ،‬بل فائق التطور‪ ،‬جنس سما باإليمان واألخالق والعلم إلى‬
‫مرحلة لم يصل إليها جنس آخر في سلم التطور والحضارة‪ ،‬جنس دأب‬
‫على رصد العوالم األخرى ومخلوقات الكون المتعددة‪ ،‬التي تحيط بالجنس‬
‫األشد خطورة عبر الكون‪ ..‬البشر‪.‬‬
‫يرصد ويقيم ويتدخل في لحظات بعينها ليمنع هذه المخلوقات من تدمير‬
‫نفسها والكون‪..‬‬
‫الرسوم تخبرنا أن هذا المكان يحتوي على أكثر األسرار خطورة عبر التاريخ‪،‬‬
‫فبقلب هذا الكهف تسكن تلك المخلوقات الشيطانية المفزعة التي تضمر‬
‫بداخلها حق ًدا وكراهيةً ال مثيل لها لكل األجناس األخرى‪ ،‬خاصة الجن‬
‫والبشر‪ ..‬مخلوقات تختلف عن بني جنسها الذين يقبعون في بعدهم‬
‫المخيف بأنها تعلم قوتها وقدرتها‪ ،‬وتعلم ضعف األجناس األخرى‪.‬‬
‫الرسوم تحكي قصة الكون وقصة الحروب القديمة وقصة السر الكوني‬
‫الهائل الذي أنا في حل من ذكره لكم‪ ..‬وتحكي قصة الكهف ومخلوقاته‪،‬‬
‫بل وهناك رسم يصف هذه اللحظة التي ألج فيها للكهف من أجل الحصول‬

‫‪- 156 -‬‬


‫على الرق‪ .‬وكأن هذه الرسوم قصت من كتاب القدر لترسم فوق الجدار‬
‫علوما ال حصر لها‬
‫الزجاجي أو رسمها مخلوق كوني مستقبلي منحه اهلل ً‬
‫مكنته من رؤية الغيب‪.‬‬
‫الرسوم تقص تواريخ مجهولة لنا‪ ،‬وتصف لحظات معينة ظهروا فيها من أجل‬
‫تعديل مسار زمني ما أو إنهاء كارثة محققة ورصد البشر لهم‪ ،‬وكيف وصفهم‬
‫البشر القدماء في قصصهم القديمة على أنهم المالئكة‪.‬‬
‫إن مركباتهم التي تغص بها الحكايات القديمة جابت األرض في كل حقب‬
‫التاريخ‪.‬‬
‫وعندما تطورت علومهم وتخلوا عن جسدهم المادي وتحولوا هم أنفسهم‬
‫لهذه المركبات‪ ،‬أج جوا خرافات البشر أكثر وأكثر بظهورهم المختلف‬
‫لذلك آثروا االبتعاد واالختفاء‪ ،‬بعد أن تركوا هذه الرسومات لتخبر من يعثر‬
‫عليها بالقصة وتحذرهم من مغبة إطالق سراح هذه الكائنات‪..‬‬
‫كانوا ليظلوا في بعدهم متوارين لوال أن أجبرهم الشيخ ياسين ورفيقه على‬
‫الظهور‪ ..‬بحماقتهما الكبرى وسعيهما نحو الخلود‪.‬‬
‫اآلن بعد أن امتألت رأسي بهذا الكم من المعلومات‪ ..‬وجب علي أن أنهي‬
‫مهمتي ألحصل على تعويذة السيطرة‪..‬‬
‫الرق يقبع على بعد خطوات مني في قلب الصندوق الفيروزي‪.‬‬

‫‪- 157 -‬‬


‫الرق محاط بعلم فائق ويحتاج لحل األحجية التي تغلقه‪.‬‬
‫الرق يرقد هناك وبداخلة طوق النجاة‪ ..‬فهل أجسر على المزيد من العلم‬
‫والمخاطرة‪ ،‬بعد أن فقدت كل دعم ؟!‬
‫****‬
‫بعد أن تحرر المخلوق الشيطاني جزئيًا بموت الشيخين‪ ،‬وبعد أن تم‬
‫التواصل بينه وبين المخلوق اآلخر‪ ،‬كان عليه أن يتم االتصال بمخلوقات‬
‫كهف األمنيات‪ ..‬ولكن األمر لم يكن بهذه البساطة‪ ..‬فالبد أن يحررهم من‬
‫ذلك الفخ الجهنمي أوالً قبل أن يتحدوا ليقضوا على خصومهم‪ ..‬وهذا لن‬
‫يتم إال بتدمير الرق الذي يحوي التعويذة ثم بعمل التضحية الكبرى‪ ،‬وقبل‬
‫كل هذا كان على المخلوق الشيطاني أن يقطع مسافات هائلة عبر الصحراء‬
‫كي يصل إلى حيث يقبع كهف األمنيات في عمق جبال أطلس‪.‬‬
‫لذا فمهمته العاجلة أن يمنع ذلك البشري الذي قطع نصف الطريق نحو‬
‫الرق الجلدي من الوصول إليه بأي ثمن‪ ،‬فهو الوسيلة الوحيدة والتي صكها‬
‫القدماء للسيطرة على جنسه‪.‬‬
‫حرا لكان هناك في لمح البصر‪ ،‬ولكن ذلك الجسم كثيف المادة‬
‫لو كان ً‬
‫يكبله إلى حد كبير‪ ..‬وذلك الجسم المضيء البارد المتصدر قبة السماء‬
‫والذي يطلق عليه البشر لفظ القمر يحد من حركته‪..‬‬

‫‪- 158 -‬‬


‫عليه فقط أن يتحمل كل الصعاب لعدة ساعات‪ ..‬وبعدها سيأتي النهار‪،‬‬
‫ومعه يأتي ضوء الشمس والقوة‪.‬‬
‫فقط في هذه اللحظة سيتخلص من ذلك الجسد كثيف المادة الذي‬
‫يكبله‪ ..‬ثم سينطلق ليحرر رفاقه المحتجزين في ذلك السجن الجهنمي‬
‫الذي يمنعهم من االنتقام‪ ..‬فهذا الجسد المحدود ذو الحوافر يجعله يشعر‬
‫بكل المؤثرات الخارجية‪ ،‬فالبرد يؤلمه والحصى يضايقه‪ ،‬والعوائق الصخرية‬
‫تحد من حركته وتجبره على الدوران حولها‪..‬‬
‫إنه يحتاج للراحة كل عدة دقائق‪ ،‬وهذا المخلوق يحتاج لطعام‪.‬‬
‫الصحراء ممتدة أمام عينيه‪ ..‬وبداخله شعور مخيف بكونه مراقب‪.‬‬
‫يتسلل عبر الحدود واألسالك الشائكة ويتفادى رصاصة من جندي اعتقده‬
‫مصدر تهديد أو ذئب‪.‬‬
‫الرمال المتحركة تحد من حركته ولكنه يستخدم قدراته المحدودة ليعبر‬
‫مساحة هائلة منها‪.‬‬
‫وعندما توقف ليستريح‪ ..‬رأى بعينيه الهول القادم‪..‬‬

‫‪- 159 -‬‬


‫‪ -‬مواجهة ‪-‬‬
‫أتقدم بصعوبة من الصندوق الفيروزي المتألق المتوسد منتصف المكان‪،‬‬
‫والذي يتسلط عليه شعاع من الضوء بشكل مسرحي عابث‪ .‬مع ظالم متدرج‬
‫ينتهي إلى المكان‪.‬‬
‫الصمت صاخب إلى درجة مخيفة‪ ..‬أشعر بمئات العيون تحرق مؤخرة‬
‫رأسي‪ ..‬وكأن هناك من يتربص بي خلف الظالل‪.‬‬
‫الصندوق يبدو من هذه المسافة بريئًا بل ويوحي بكنز ما‪ ..‬ولكني لست‬
‫شنيعا‬
‫بهذه السذاجة ألنخدع‪ ..‬فالصندوق كما أخبرني الغريب يمثل ف ًخا ً‬
‫مظلما ال فكاك منه لمن يخطئ في التعامل‬
‫لمن ال يملك سره‪ ..‬وشرًكا كونيًا ً‬
‫معه‪ .‬لذا البد من الحذر الشديد للتعامل معه‪.‬‬
‫الحذر ثم الحذر‪.‬‬
‫مصدرا‪ ،‬أتنفس بعمق ثم أخطو‬
‫ً‬ ‫نسيم خفيف يداعب وجهي ال أعرف له‬
‫خطوة أخرى لألمام‪..‬‬
‫المكان كله مقبض‪ ..‬ال أعرف حقيقة لماذا قبلت على الخوض في األمر‪.‬‬
‫أتقدم أكثر بداخل المكان بخطوات بطيئة خجولة‪ ،‬وكأني ال أريد لهذه‬
‫المسافة التي تفصلني عن الصندوق أن تنتهي‪..‬‬

‫‪- 161 -‬‬


‫تماما صوت حركة عقارب‬
‫صوت تكتكات منتظمة يأتي من كل مكان يشبه ً‬
‫الساعة القديمة الموجودة في شقة أبي رحمه اهلل‪.‬‬
‫قدماي تغوصان في قلب األرضية الهشة‪ ..‬شيء ما داخلي يخبرني أال أجزع‪..‬‬
‫ال ليس الصوت الذي صاحبني في البداية‪ ..‬هو مجرد شعور ولكنه يتعاظم مع‬
‫الوقت‪..‬‬
‫ظالم مباغت كسا كل شيء فلم أعد أرى كفي‪ ..‬ولكني أتقدم بثقة‪ ..‬أشعر بأني‬
‫أغوص أكثر في قلب األرضية الهشة ولكني ال أشعر بقلق أو خطر‪.‬‬
‫يظهر أمام عيني ممر كامل أمامي من مربعات ضوئية متوهجة يكسر عتمة الظالم‪..‬‬
‫تماما من الفخ‪ ..‬يجب أن أعبر‬
‫مفكرا‪ ..‬أنا أعرف هذا الجزء ً‬
‫أقف أمام الممر ً‬
‫هذه المربعات بخطوات محددة‪ ..‬ال يجب أن أضغط على أي مربع خاطئ وإال‬
‫انهار أو انفجر أو اشتعل كل شيء‪ ..‬وأنا ال أفتقر للخيال كي ال أعرف النهاية‪.‬‬
‫وبداخل عقلي تدوي أغنية أطفال قديمة‪..‬‬
‫(واحد اتنين تالته كارونيه كارونيتا‪ ..‬استخبى إنت وإنت فار وأنا‬
‫قطة‪ ..‬حلوة اللعبة ديا إنت فار وأنا قطة‪ ..‬هيه هيه‪ ..‬إنت فار وأنا‬
‫قطة)‪.‬‬
‫خريطة بداخل عقلي تتشكل ممتزجة مع لحن األغنية‪..‬‬
‫(واحد اتنين تالته كارونيه كارونيتا‪ ..‬استخبى إنت وإنت فار وأنا‬
‫قطة‪ ..‬حلوة اللعبة ديا إنت فار وأنا قطة‪ ..‬هيه هيه‪ ..‬إنت فار وأنا‬
‫قطة)‪.‬‬

‫‪- 160 -‬‬


‫أضغط بقدمي هذا المربع‪ ..‬ثم الذي يليه‪ ..‬أقفز للمربع الذي على اليسار‪..‬‬
‫ثم أعود للذي يسبقه‪..‬‬
‫المربع األيمن فخ حقيقي‪..‬‬
‫أتقهقر عدة مربعات في تتابع مدروس‪..‬‬
‫معا‪..‬‬
‫أضغط على آخر مربعين ً‬
‫وفي النهاية أتجاوز الممر لتسطع اإلضاءة وأنا مازلت أردد لحن األغنية‪.‬‬
‫محددا لها تشع من الجدران الزجاجية التي تالشت من‬
‫ً‬ ‫مصدرا‬
‫ً‬ ‫إضاءة ال‬
‫فوقها الرسوم‪ .‬لقد عبرت الفخ األول ببساطة‪. ..‬البد وأنهم زرعوا كل شيء‬
‫بداخل عقلي‪..‬‬
‫الصندوق اآلن في متناول يدي‪ ..‬ولكني ال أجرؤ على لمسه‪ .‬وبرغم‬
‫اإلحساس المطمئن المتصاعد من داخلي‪ ..‬إال أن كل خلية في جسدي‬
‫ترتجف‪ .‬إن لهذا الصندوق هيبة ورهبة‪.‬‬
‫لم يكن صندوقًا مصمتًا بل هو مليء بالنقوش وبالرسوم غير المفهومة‪.‬‬
‫أشعر بتوتر هائل وكأنني في حضرة الشيطان نفسه‪.‬‬
‫هناك خطوات يجب أن أقوم بها ألفتح الصندوق وألحصل على الرق‪.‬‬
‫الحذر ثم الحذر‪.‬‬

‫‪- 161 -‬‬


‫في البدء يجب أن أغمره بالدماء فهي المفتاح الذي سيوقف لعنته‪ ..‬ولكنها‬
‫ليست أي دماء‪ ..‬لذا فإنني أخرج من حقيبتي التي لم تفارقني لحظة واحدة‬
‫مجددا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ذلك الطائر الصغير‬
‫هدهد آخر‪ ..‬ضحية أخرى بريئة ال ذنب لها‪ ،‬ثم الخنجر المطلسم الذي‬
‫صنع في عصور غابرة على أيدي كهنة غالظ القلوب ليبث عقيدة الموت‬
‫عبر العصور‪.‬‬
‫طعنة في قلب الهدهد الذي يحاول التملص وأن يقتنصني بمنقاره الحاد‪.‬‬
‫الدم يسيل فوق الصندوق الذي يخبو شعاعه ويتحول في غمضة عين إلى‬
‫صندوق معدني من معدن المع خفيف‪.‬‬
‫أجلس على األرض الصخرية والصندوق أمامي‪ ،‬أخرج من الحقيبة تلك‬
‫الرسمة التي نقشت فوق قطعة قماشية من أحد قمصاني‪ ..‬أبدأ في عمل‬
‫تباديل وتوافيق لقفل الصندوق حتى تكشف النقوش عن فتحة صغيرة‪،‬‬
‫أخرج من حقيبتي قضيبًا معدنيًا ما أن أدخله فيها حتى ينفتح الصندوق‬
‫ليظهر الرق‪..‬‬
‫وألفرغ أنا معدتي بالكامل‪..‬‬
‫شنيعا ألقصى حد‪.‬‬
‫شنيعا‪ً ..‬‬
‫فما رأيته كان ً‬
‫****‬

‫‪- 161 -‬‬


‫نائلة كانت هناك بمالمحها الوحشية وغضبها العاتي‪..‬‬
‫وجهها المصبوغ باللونين األبيض واألسود وعيناها المحتقنة بالدماء وقرناها‬
‫منظرا مخي ًفا‪ ..‬فحيحها كان يشق‬
‫المشرعان كحراب نحو السماء منحاها ً‬
‫الفضاء حتى لترتجف منه رمال الصحراء نفسها‪.‬‬
‫إن مشاعرها تغلي من الغضب‪ ،‬وروحها تهفو لالنتقام‪.‬‬
‫كانت تقف في قلب الصحراء كوحش أسطوري تتصاعد األبخرة الملتهبة‬
‫من فمها‪ ..‬وبجوارها اصطفت مجموعة من مردة الجن يقطعون عليه الطريق‬
‫وفي يد كل منهم سالح قاتل‪ .‬وخلفها امتدت الصحراء إلى ماال نهاية ال‬
‫يضيء ظلمتها إال القمر المندهش مما يدور تحت ناظريه‪.‬‬
‫مشهد مفزع يصلح ألفالم الرعب الدموية‪ ..‬ولكنه لم يكن ليقلق المخلوق‬
‫الشيطاني ولو لحظة واحدة‪.‬‬
‫مبكرا‪ ..‬لن تنتظر حصولهم‬
‫صبرا‪ ..‬فقررت أن تبدأ معركتها ً‬
‫نائلة لم تستطع ً‬
‫على الرق ولن تنتظر شروق الشمس فيتحرر الكائن الشيطاني ويمتلك قوة‬
‫ال قبل لهم بها‪.‬‬
‫إنها تعرف أن الكائن الشيطاني ليس بالضعف الظاهر عليه‪ ..‬مجرد وجوده‬
‫في هذا البعد سيمنحه قدرات هائلة ستخرج وقت الحاجة‪ ،‬حتى لو كان هو‬
‫يجهلها‪ ..‬وبرغم هذا فهي ستقاتل كي تعود لعالمها وصغيرها‪ ..‬وتحصل على‬

‫‪- 161 -‬‬


‫حريتها‪ ..‬ولحسن حظها أن هناك من يعاونها وال بديل عن انتصارها في هذه‬
‫المعركة‪..‬‬
‫المخلوق الشيطاني كان يقف في مواجهتهم بتحفز وعيناه المشتعلتان‬
‫تمسحان كل شيء‪ ،‬عبر عيني التيس الذي تعاظم وأصبح بحجم جمل كبير‬
‫وعيناه وترصدان تلك السحابة التي غزت نصف القمر‪.‬‬
‫غضب مستعر يجتاح كيانه وأذنه الخارقة تمسح كل المكان من حولهم في‬
‫قطر كيلو متر كامل‪.‬‬
‫إنه ليس خائ ًفا برغم أن عدد األعداء يفوقه بكثير‪ ..‬إنه ليس المخلوق‬
‫تماما ويشعره بطاقة وحيوية لم يشعر بها‬
‫القديم‪ ..‬فجو هذا العالم يناسبه ً‬
‫تماما‪..‬‬
‫حتى وهو في شرخ شبابه‪ ..‬كما أنه ليس وحده ً‬
‫إنه على اتصال ببني جنسه عبر تواصل عقلي فائق‪ ..‬إنه يغوص في‬
‫ذاكرتهم‪ ..‬يتعلم منهم‪ ..‬ينهل من معارف القرون‪..‬‬
‫إن لديه قدرات هائلة وسطوة على مخلوقات كثيرة في هذا العالم‪..‬‬
‫إنه جاهز للمواجهة‪.‬‬
‫سمعه المتفوق يصل لمسافة بعيدة ويرصد وجودهم‪ ..‬عقله يبدأ في إنشاء‬
‫الرابطة العقلية‪..‬‬

‫‪- 165 -‬‬


‫إنهم يقاومون قليالً‪ ..‬ولكن ها هو القمر يتالشى خلف السحابة بالكامل‪..‬‬
‫إنه اآلن قادر على قيادتهم‪.‬‬
‫إنه اآلن جاهز لصد العدوان‪.‬‬
‫نائلة وخلفها خمسة من مردة الجن يتحفزون‪ ..‬إنهم األعداء الحقيقيون‪..‬‬
‫هو يعرف ذلك‪..‬‬
‫تماما‪ ..‬مردة الجن يتحول كل منهم لشكل مخيف‪ ..‬أو ربما‬
‫القمر يتالشى ً‬
‫هو يظهر بهيئته الحقيقية‪..‬‬
‫نائلة تصرخ فترتج الصحراء لصرخاتها‪..‬‬
‫الكائن الشيطاني يتحفز‪..‬‬
‫ثم يحدث االلتحام‪..‬‬
‫****‬
‫مروعا ولم تحتمله معدتي فأطلقت عصارتها ألفرغ روحي على‬
‫المشهد كان ً‬
‫األرضية التي لم تطأها قدم منذ قرون‪.‬‬
‫كنت أعرف أن الرق كتب فوق جلد بشري ولكني لم أتوقع هذا المشهد‬
‫الرهيب الذي رأيته‪..‬‬
‫فلم تكن التعويذة منقوشة على ظهر جلد يابس أو حتى حي‪ ..‬بل كانت‪..‬‬

‫‪- 166 -‬‬


‫يا إلهي إنه مشهد شنيع‪.‬‬
‫إن الرق يبدو كجزء جلدي مسلوخ حديثًا‪ ،‬على ظهره المليء بالخاليا الحية‬
‫التي لم يصبها التعفن عبر القرون‪ ،‬تمرح ما يشبه ديدان أسطوانية الشكل‬
‫تشكل الكلمات في مشهد مقزز‪..‬‬
‫إنها حيلة دفاعية أخرى لم أستعد لها‪.‬‬
‫اللحظة التالية كانت فارقة بل ومفزعة‪ ..‬فالفكرة التي تترد في عقلي كانت‬
‫شنيعة ألقصى حد‪ ..‬ولو كان لي إرادة لرفضتها وعدوت هاربًا‪.‬‬
‫الفكرة الملحة كانت أن ألتهم الرق‪.‬‬
‫شعور قاهر يحثني على فعل األمر‪.‬‬
‫طعم العصارة المعدية في فمي يثير اشمئزازي‪ ،‬والفكرة التي في رأسي تكاد‬
‫تقتلني‪..‬‬
‫لن آكل هذا الشيء‪..‬‬
‫ناهيك عن أنه جلد بشري‪ ،‬فهذه الديدان البيضاء المقرفة‪ ..‬الال‪ ..‬ال‬
‫أستطيع‪..‬‬
‫الفكرة تتعاظم بداخل عقلي‪..‬‬
‫الفكرة تستولي على كامل إرادتي وتفكيري‪..‬‬

‫‪- 167 -‬‬


‫روحي تكاد تزهق‪..‬‬
‫ولكن يداي تقبضان على الرق ذي الملمس الكريه‪..‬‬
‫هل يدفعني الغريب الذي يدعي الحضارة على إتيان هذا األمر الهمجي‬
‫المخالف لكل فطرة سليمة ؟!‬
‫دموعي تهطل و يداي ترتجفان‪ ..‬و‪..‬‬
‫أسناني تمزق الرق‪...‬‬
‫الجلد البشري الحي المختلط بالديدان يأبي أن ينزل من حلقي‪..‬‬
‫إن روحي تكاد تفارق جسدي من القرف واالشمئزاز‪.‬‬
‫ولكن كيف يكون الرق مصنوعًا من جلد بشري وقد صنع قبل ظهور البشر‬
‫الحاليين على األرض ؟‬
‫هل كان هناك بشر سابقين لجنسنا كما تقول بعض الروايات المتواترة‪ .‬هل‬
‫كان هناك بشر قبل آدم عليه السالم ؟!‬
‫هل هبط آدم عليه السالم بالفعل على حضارة سابقة ؟!‬
‫بالطبع لم تكن لحظات مناسبة للبحث في أسرار الكون الغامضة فأمامي‬
‫سواء أكان‬
‫مهمة مقززة يجب أن أنهيها‪ ،‬ولن يختلف وقع األمر على روحي ً‬

‫‪- 168 -‬‬


‫مصنوعا من جلد بشر حاليين أو سابقين أو من جلد الديناصورات‬
‫ً‬ ‫الرق‬
‫ذاتها‪.‬‬
‫ليكن ما يكون‪.‬‬
‫يداي تدفعان الرق نحو فمي‪..‬‬
‫هناك قوى كاسحة تسيطر على أطرافي وعلى جسدي‪..‬‬
‫أنفاسي تضيق‪..‬‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫الطعم في فمي مقرف‪ ..‬البد أن طعم الفئران الحية ال يختلف ً‬
‫أسناني تتحرك بإرادة خاصة وتمزق قطعة جديدة في وحشية‪..‬‬
‫قطعة خلف قطعة تنزل إلى أحشائي‪ ..‬وروحي تكاد تزهق‪.‬‬
‫الرق يقل في الحجم مع مرور الوقت‪..‬‬
‫معتادا‪.‬‬
‫األمر يصبح ً‬
‫قطعة خلف قطعة‪.‬‬
‫ال داعي للتمييز بين ملمس الجلد وملمس الديدان في فمي‪.‬‬
‫األمر فقد شناعته‪.‬‬
‫أنفاسي عادت لتنتظم‪.‬‬

‫‪- 169 -‬‬


‫شعور عارم بالسكينة يغمرني‪.‬‬
‫تماما‪ ..‬فقد بدأت أتقبله‪ ..‬بل وأستمتع‪..‬‬
‫مقززا ً‬
‫األمر لم يعد ً‬
‫اللحظة التي شعرت فيها بالتبدل‪ ،‬كانت هي اللحظة األكثر متعة في‬
‫حياتي‪..‬‬
‫لقد صرت أنا الرق‪.‬‬
‫أنا التعويذة‪..‬‬
‫أنا القوة الوحيدة في الكون القادرة على التحكم في تلك الكائنات‪..‬‬
‫أنا ملك هذا العالم‪..‬‬
‫فكرة تقفز إلى عقلي‪..‬‬
‫احترس من الغرور‪ ..‬لقد كان لعنتك‪..‬‬
‫ولكني ال أبالي‪.‬‬
‫أطرد كل األفكار من عقلي‪ ..‬لتسيطر علي فكرة جديدة‪..‬‬
‫من ذلك األحمق الذي يمكن أن يضحي بقوة مماثلة‪..‬‬
‫تماما‪..‬‬
‫ثيابي تحدني فأنزعها ً‬
‫أنظر لصدري فأرى النقوش هناك‪...‬‬
‫مجددا فعليه أن يقتلني‪..‬‬
‫ً‬ ‫من يريد الرق‬
‫أنا الملك‪..‬‬
‫****‬

‫‪- 171 -‬‬


‫‪ -‬قبل شروق الشمس ‪-‬‬
‫لم تكن معركة عادية بأي حال من األحوال‪.‬‬
‫إن معارك الجن مروعة ويقال في األثر عندما أغرق الجن الدنيا بالدماء‬
‫وأفسدوا فيها أرسل اهلل لهم جن ًدا من مالئكته فالحقوهم عبر اليابسة إلى‬
‫جزائر البحور وأطراف الجبال‪ ،‬فوحشيتهم ال مثيل لها‪ .‬ولنشاهد المعركة‬
‫الحالية يجب أن نأخذ نظرة عين الطائر كي ال يفوتنا من األحداث أي جزء‪.‬‬
‫نائلة ومساعدوها من مردة الجن يقفون في مواجهة الكائن الشيطاني‪ ،‬وكل‬
‫منهم يحمل شوكة ثالثية مشتعلة ومن عينيه ينطلق الشرر ومن أنفه يتصاعد‬
‫البخار‪ ،‬والمخلوق الشيطاني الذي يتجسد أمامهم في هيئة التيس العمالق‬
‫يقف وحوافره تثير الرمال من حوله‪.‬‬
‫تماما‪،‬‬
‫عندما بدأ الهجوم وانطلقت نائلة بصحبة المردة‪ ،‬كان الغضب يعميها ً‬
‫فاندفعت لتهاجم المخلوق الشيطاني بمخالبها الحادة في عنف شديد‪،‬‬
‫وقابلها المخلوق بركلة عاتية من حوافر التيس التي تضخمت ألقتها عدة‬
‫أمتار للخلف وجعلتها تئن وتتوجع وتطلق في النهاية صرخة غاضبة‪.‬‬
‫ما حدث في اللحظات التالية كان شيئًا مروعًا لم تتخيله نائلة في أسوأ‬
‫كوابيسها‪..‬‬
‫انطلق المخلوق الشيطاني كالبرق نحو المردة الخمسة المهاجمين ليعكس‬
‫تماما‪ ،‬فتلتهم أسنانه الحادة عنق أولهم سالبة إياه حياته الممتدة‪،‬‬
‫الصورة ً‬
‫‪- 170 -‬‬
‫وليطيح بذراع الثاني بضربة هائلة من حافريه األماميين‪ ،‬ويحطم صدر الثالث‬
‫بقرونه‪ ..‬قبل أن تخترق جانبه الكثيف الشعر تلك الحربة المطلسمة‬
‫المشتعلة المشرعة في يد رابعهم‪ ،‬لتوقف هجومه الكاسح ولتجعل غضبه‬
‫يتفاقم أكثر‪..‬‬
‫الحربة المطلسمة أصابته بصاعقة مفاجئة من األلم كادت أن تفقده توازنه‪،‬‬
‫قهقرا للخلف‪ ،‬واأللم يعصف به ليعيد‬
‫مفعولها القوي جعلته ينهب الرمال مت ً‬
‫تقييم الموقف‪.‬‬
‫وعندما رأت نائلة تراجعه لمعت عيناها في جذل وقررت أال تمنحه فرصة‬
‫ليلتقط أنفاسه‪.‬‬
‫وبكل ما بداخلها من حقد صرخت‪ ،‬وهي تلتصق باألرض لتستمد منها قوة‬
‫جديدة‪.‬‬
‫لقد قررت أن تستغل آخر ما في جعبتها من حيل سحرية‪..‬‬
‫التصقت قدماها المشعرة بالرمال وكأنها التحمت بها‪..‬‬
‫رددت كلمات سحرية ذات وقع عنيف‪..‬‬
‫ارتجفت الرمال التي أمامها‪ ..‬وكأنها ال تريد أن تستسلم لتلك القوة‬
‫الجديدة‪ ..‬وفي النهاية تحركت‪ ..‬لتتحول لعاصفة رملية مركزة‪..‬‬

‫‪- 171 -‬‬


‫انطلقت العاصفة الرملية قمعية الشكل كاإلعصار لتهاجم المخلوق‬
‫الشيطاني‪ ،‬وتصيبه في جسده المثخن بالجراح‪ ،‬بمئات القذائف الدقيقة‬
‫المؤلمة‪ ..‬وتكاد تطيح بعينيه‪..‬‬
‫في نفس اللحظة التي هاجم فيها مردة الجن الثالثة الموجودون على قيد‬
‫الحياة المخلوق الشيطاني‪ ..‬بكل ما يعتمل في صدورهم من غضب‪..‬‬
‫ولكن المخلوق الشيطاني لم يكن صي ًدا سهالً أو هينًا‪.‬‬
‫ففي اللحظة التي حاصره الجميع فيها‪ ..‬قفز قفزة هائلة تجاوزت العشرة‬
‫متجاوزا العاصفة الرملية القاتلة التي صنعتها نائلة‪ ،‬وعندما المست‬
‫ً‬ ‫أمتار‬
‫مجددا قفز قفزة أخرى مماثلة مبتع ًدا عن حراب مردة الجن‬
‫ً‬ ‫قدماه الرمال‬
‫اآلخرين‪ ..‬ثم استدار متأهبًا ليواجهه م في نفس اللحظة التي لمح فيها‬
‫بطرف عينيه حافة القمر وهي تبدأ في الظهور من خلف السحب ليجتاح‬
‫جسده المثخن بالجراح رعدة عنيفة‪..‬‬
‫اللعنة على ذلك القرص المضيء‪ ..‬إن الوقت يتسلل من بين يديه‪ ..‬لو‬
‫ضا‪ ..‬فال بديل أمامه عن‬
‫اكتمل ظهور القمر لفقد معظم قوته وربما حياته أي ً‬
‫القتال حتى يصل الدعم‪.‬‬
‫تراجع لمسافة كبيرة بطريقة مفاجئة في محاولة لكسب بعض الوقت وخلفه‬
‫نائلة والمردة الثالثة الغاضبون‪ ..‬في مطاردة مخيفة ارتجفت لها قلوب‬
‫مخلوقات الصحراء‪.‬‬
‫‪- 171 -‬‬
‫وعلى حين غرة استدار المخلوق الشيطاني وبدأ هجومه الكاسح من جديد‪.‬‬
‫فاستطاع بحركة مفاجئة أن يلتهم رأس مارد جديد منهيًا حياته وخطورته‪ ،‬وهم‬
‫بمهاجمة نائلة في نفس اللحظة التي ظهر فيها جزء جديد من القمر من‬
‫خلف السحب ليصاب بضعف مفاجئ جعله ال يكمل الهجوم‪ ..‬فاستغلت‬
‫نائلة الفرصة وانقضت على قائميه الخلفيين تنشب فيهما أنيابها الحادة‪،‬‬
‫وليطعنه الماردان الباقيان بالحراب التي اشتعلت بنيران هائلة متوهجة‪.‬‬
‫صرخ الكائن الشيطاني وحاول أن يتقهقر‪ ..‬ولكن نائلة كانت ملتصقة‬
‫بقائمتيه في قوة‪ ..‬وكأنها متمسكة بآخر نسائم الحياة‪..‬‬
‫الماردان اآلخران انهمكا في تمزيق جسده بالحراب في غل حقيقي‪..‬‬
‫القمر يظهر كامالً من خلف السحب‪ ..‬ليسلبه ما تبقى من قواه‪ ..‬فيشعر‬
‫بقوته تفتر‪ ..‬ونهايته تقترب‪..‬‬
‫إن األلم شنيع‪..‬‬
‫حاول أن يقتنص عنق أحد المردة‪ ،‬ولكن الحراب المشتعلة منعته‪..‬‬
‫المخلوقات األخرى التي في كهف األمنيات غاضبة هائجة تطالبه بالصمود‪،‬‬
‫والتركيز فهو أملهم األخير‪.‬‬
‫قائماه الخلفيان يتحطمان‪..‬‬
‫متألما‪..‬‬
‫خوارا ً‬
‫يطلق ً‬
‫‪- 171 -‬‬
‫عاما من األلم للمخلوق‪.‬‬
‫إن نائلة تقاتل في عنف‪ ..‬وترد كراهية خمسين ً‬
‫المارد الذي بتر ذراعه يحاول أن يحطم القائمين اآلخرين‪ ،‬والمارد األخير‬
‫يهاجم عينيه‪.‬‬
‫دعما عقليًا‪.‬‬
‫مخلوقات الكهف تتواصل معه‪ ..‬تمنحه ً‬
‫إنه لم ِ‬
‫ينته‪ ..‬ولن يستسلم‪.‬‬
‫يستجمع قوته المنهارة‪ ..‬يركل نائلة في قوة وعنف بقائميه المحطمان‬
‫ليجتاحه ألم عنيف ولكنه يتحرر‪..‬‬
‫تندفع نائلة إلى الخلف لمسافة قصيرة ثم تسقط على ظهرها من المفاجأة‪،‬‬
‫ثم تهب نافضة الرمال عن جسدها والغضب يأكل في روحها‪ ،‬فتنقض على‬
‫المخلوق الشيطاني وهي تردد تعويذة جديدة بكلمات ذات وقع رهيب‪..‬‬
‫حالتها لم تكن تختلف عن حالة المخلوق الشيطاني‪ ..‬فجسدها مثخن‬
‫بالجراح من آثار ضربات حوافر المخلوق الشيطاني‪ ..‬وجروحها تنزف سائالً‬
‫خفيف القوام يميل للون األزرق الداكن‪.‬‬
‫قبضتا نائلة مشتعلتان بالنيران‪..‬‬
‫إنها تشعر بضعفه‪..‬‬

‫‪- 175 -‬‬


‫وربما كانت هذه هي فرصتها األخيرة‪ ..‬اآلن ستتمكن من إحراقه والتحرر‪..‬‬
‫وعندما همت بإطالق كرتي النيران من يديها‪ ..‬سمعت العواء‪ ..‬فارتجفت‬
‫يداها لتصيب الكرتان الناريتان الرمال بين قدمي المخلوق‪..‬‬
‫كثيرا‪ ..‬واستطاع المخلوق الشيطاني استخدام إحدى قدراته‬
‫لقد تأخرت ً‬
‫المتفوقة‪.‬‬
‫فعن طريق قدرة ذلك المخلوق الشيطاني على السيطرة على حيوانات‬
‫مفترسا من الذئاب‪..‬‬
‫ً‬ ‫قطيعا‬
‫عالمنا‪ ..‬استدعى من على بعد كيلومتر كامل ً‬
‫أكثر المخلوقات إثارة لرعب الجن على وجه هذا الكوكب‪.‬‬
‫فالذئاب يرونهم وال يمنعهم مانع عنهم‪ ،‬كما أنهم يلتهمونهم في كل‬
‫سواء أكان الجن في هيئته الطبيعية أو متجس ًدا في شكل حيوان‬
‫حاالتهم‪ً ،‬‬
‫أو بشر‪ ،‬فللذئب خاصيتان رهيبتان ‪:‬‬
‫األولى‪ :‬أنه إذا وقعت عينه على جني فإن الذئب ال يحول عنه بصره بل‬
‫يثبت نظره عليه بشكل تام‪ ،‬حتى ولو فصل بينهما واد أو شجرة أو عازل‪،‬‬
‫فالذئب يدور من حوله فال يجعل هذا الجني الذي رصده يغيب عن بصره‬
‫لحظة واحدة‪.‬‬
‫والسر في ذلك أن األرواح الجنية يقيدها النظر‪ ..‬فال تستطيع االنصراف ما‬
‫دام النظر متعل ًقا بها‪ ..‬ويعرف ذلك من اشتغل بالسحر والتحضير وتجسد‬

‫‪- 176 -‬‬


‫له الجن‪ ،‬والجن الخبيث كي يهرب من هذا الشرك يهيئ للساحر صورة‬
‫وهمية بأنه يتحرك من مكانه إلى جهة من الغرفة‪ ..‬فإذا تبع الصورة بنظره‬
‫اختفى وانصرف‪ ..‬والساحر القدير بمجرد اكتشافه للخدعة يثبت نظره على‬
‫المكان الذي خرج منه الجني وسرعان ما تتالشى الصورة الوهمية ويظهر‬
‫من جديد في نفس المحل‪ . ..‬فالنظر يقيدهم‪..‬‬
‫ثانيًا ‪ :‬بالنسبة للجن واألرواح المماثلة هناك خاصية في موطئ قدمها على‬
‫األرض‪ ..‬هذه الخاصية تمثل وسيلة محكمة إليقافهم‪ ،‬فوضع القدم مكان‬
‫موضع قدمه على أثر خطوته‪ ..‬يجعل الجني يتسمر في مكانه وال يتحرك‪..‬‬
‫والذئب يدرك ذلك جي ًدا ويستغله ضد الجني‪ ..‬فيسمره في مكانه بإحدى‬
‫هاتين الطريقتين‪..‬ثم ينقض عليه ليلتهمه‪.‬‬
‫والذئاب التي استدعاها المخلوق الشيطاني لم تكن تختلف عن باقي‬
‫الذئاب في المعرفة‪ ..‬بل كانت تتفوق أن هناك من يسيطر عليها ويبثها كل‬
‫حقده وكراهيته ووحشيته‪ ..‬فلم تنتظر الذئاب لحظة واحدة‪..‬ولم تقم‬
‫بطقوسها المعتادة لقياس قدرة عدوها قبل الهجوم‪ ..‬فعلى الفور هجم قطيع‬
‫الذئاب بكل وحشية على نائلة والماردين اآلخرين اللذين حاوال الهرب‬
‫كعاصفة هوجاء لم ِ‬
‫تبق ولم تذر‪.‬‬
‫وفي لحظات قليلة شق الظالم صوت عزيف الجن المتألم والذئاب تمزق‬
‫أعضاءه وتلتهمه‪.‬‬

‫‪- 177 -‬‬


‫القطيع انطلق كإعصار وحشي عات ليؤد آمال نائلة ومساعديها‪ ،‬بل والتهم‬
‫بقايا الجثث األخرى المتناثرة على الرمال‪ ..‬والمتخلفة عن معركتهم مع‬
‫المخلوق الشيطاني‪..‬‬
‫وبصعوبة فائقة وقف المخلوق الشيطاني على قوائمه المحطمة وهو يذرف‬
‫من عينيه سائالً داكنًا يشبه الدموع إلى حد كبير‪ ،‬واستخدم كل ما في‬
‫جسده من قوة ليكمل رحلته‪ ..‬وخلفه قطيع كامل من الذئاب المتأهبة‬
‫وعيونهم تشتعل بالغضب والوحشية‪.‬‬
‫****‬
‫اآلن أنا خارج الكهف‪..‬‬
‫أقف وسط البرد والظالم‪ ،‬وال أشعر إال بتلك القوة األسطورية التي تسري‬
‫في عروقي وتموج بكياني‪..‬‬
‫التاريخ كله لم يرصد حالة مماثلة لحالتي‪ ..‬إنني التعويذة الوحيدة الحية عبر‬
‫القرون‪..‬‬
‫أنا من أملك القوة التي حلم بها كل البشر عبر التاريخ‪..‬‬
‫أعرف اآلن جي ًدا‪ ..‬أن الصوت الذي حدثني بأعماق الكهف لم يكن صوت‬
‫المخلوق الغريب‪ ،‬ولم تكن لنائلة يد فيه‪..‬‬

‫‪- 178 -‬‬


‫لقد كان اتصاالً فائ ًقا مع تلك المخلوقات الشيطانية الموجودة بأعماق‬
‫الكهف‪ ..‬اتصاالً عقليًا بذلت فيه تلك المخلوقات الشيطانية جه ًدا ال مثيل‬
‫له حتى أتموه‪..‬‬
‫لقد قرءوا عقلي‪..‬‬
‫عرفوا نقطة ضعفي‪..‬‬
‫إنني بشري وقد جبلت على الغرور‪..‬‬
‫بشري يحلم بأن يمتلك كل شيء‪ ..‬وأنا لم أنكر هذا‪..‬‬
‫أنا أريد كل شيء‪..‬‬
‫لقد وعدوني أن أكون الملك‪ ..‬السيد على كل البشر‪ ..‬بل سأكون‬
‫سيدهم‪..‬‬
‫وعدوني بأن يمنحوني سر الخلود وكل كنوز األرض‪.‬‬
‫وفي لحظة واحدة انتقلت إلى المعسكر اآلخر‪..‬‬
‫المعسكر األقوى‪..‬‬
‫اآلن أنا أمتلك قوة رهيبة وأعرف كيف أحررهم‪ ..‬وكيف أسيطر عليهم‬
‫ليكونوا أول الخدم في العالم الجديد الذي سأصير ملكه‪.‬‬
‫‪ -‬أحمق‪.‬‬

‫‪- 179 -‬‬


‫دوى الصوت في عقلي كسوط الهب‪.‬‬
‫استدرت ألواجه صاحب الصوت ألفنيه ولكني لم أجد إال الفراغ‪..‬‬
‫صرخت بصوت غاضب الهث ‪:‬‬
‫‪ -‬من أنت أيها الحقير لتدعوني باألحمق‪.‬‬
‫الصوت يدوي في عقلي من جديد‬
‫‪ -‬أنا الغريب‪ ..‬أنا من وثق فيك وخذلته‪.‬‬
‫أصرخ بعنف ‪:‬‬
‫‪ -‬أغرب عني‪ ..‬إن دورك سيأتي قريبًا‪..‬‬
‫ترد الصوت بعنف بداخل عقلي ‪:‬‬
‫‪ -‬أفق أيها المجنون‪ ..‬أفق ال تجعل غرور القوة يعمي عينيك‪ ..‬إنك تضحي‬
‫بعالمك بالكامل من أجل رغبة دونية‪ ..‬استيقظ‪ ..‬استيقظ‪.‬‬
‫لم ألتفت له‪ ..‬كنت أنتظر قدوم مساعدي األول وأنتظر شروق الشمس‬
‫كثيرا‪..‬‬
‫الذي اقترب ً‬
‫لقد انتهت نائلة‪ ..‬أعرف هذا اآلن‪..‬‬
‫لم يتبق إال هذا الغريب وتصبح األرض ملكي‪..‬‬
‫فقط علي االنتظار‪.‬‬
‫*****‬

‫‪- 181 -‬‬


‫كان عليهم اآلن خرق القانون األعظم‪ ..‬إن البشر جنس ال يعتمد عليه حتى‬
‫إلنقاذ نفسه‪ ..‬لقد فشلت محاولتهم األولى وعليهم اآلن العبور‪..‬‬
‫هم يعرفون جي ًد ا أن وكالة ناسا ستستطيع بأجهزتها المتطورة رصد عبورهم‬
‫فالطاقة الناجمة عنه ستصيب أجهزة رصدهم بالجنون‪ ..‬ولكن ال وقت اآلن‬
‫للحذر أو إلخفاء آثارهم‪ .‬كل شيء يمكن معالجته وتداركه بعد إنهاء هذه‬
‫األزمة‪.‬‬
‫اآلن يجتمعون في قلب الساحة العظمى بعالمهم مكونين حلقة هائلة تضم‬
‫اآلالف منهم بأجسادهم النورانية المتألقة‪ ..‬وبمنتصف الحلقة وقف عشرة‬
‫منهم بأجسادهم الضوئية التي اكتست بضوء بنفسجي مريح‪.‬‬
‫جميعا االتحاد وتركيز طاقتهم لنقل هؤالء العشرة إلى النقطة‬
‫ً‬ ‫اآلن عليهم‬
‫المحايدة التي منها سيسلكون طريقها باالنطالق صوب بالد المغرب‪..‬‬
‫الجمع تتالمس أطرافه المتألقة‪..‬‬
‫ضوء هائل ينجم عن االتصال العقلي الفائق‪.‬‬
‫ترنيمة واهنة تبدأ من مكان ما‪ ..‬ثم تشتد‪..‬‬
‫الدائرة الهائلة التي تمتد لكيلومترين كاملين تتحول لقوس ضوئي هائل يدور‬
‫في قوة حتى يتركز فوق رؤوس المخلوقات العشرة المحاطة بالضوء‬
‫البنفسجي‪..‬‬

‫‪- 180 -‬‬


‫الترنيمة تصبح لحنًا سماويًا عذبًا‪.‬‬
‫فجوة متألقة تفتح أمامهم‪ ..‬عمود من نور ينطلق عبرها ليسحب المخلوقات‬
‫العشرة في تتابع دقيق‪..‬‬
‫االنتقال يتم بهدوء شديد‪..‬‬
‫انتقال كان يتم قبل عشرات السنين باألجهزة المتطورة ومركبات األبعاد‪.‬‬
‫اآلن هم في ذلك المكان الذي تسبح فيه المخلوقات الجيالتينية والتي‬
‫تعمل على حفظ توازن االنتقال‪..‬‬
‫إن هذه المخلوقات آالت أخرى من نوع خاص‪ ..‬صنعوها من أجل أن‬
‫تساعدهم في تحديد األماكن المختارة بدقة‪ ..‬وليرصدوا أي متغيرات في‬
‫مدارات االنتقال‪.‬‬
‫اآلن هم ينتقلون بسهولة عبر فضاء المكان‪ ..‬يشكلون حلقة واحدة يصيرون‬
‫خيط متوهج من الضياء‪ ..‬ينطلقون في قوة‪ ..‬يصلون للنقطة المختارة‪..‬‬
‫وغرورا‪.‬‬
‫ً‬ ‫أخيرا إلى دنيا البشر‪ ..‬أشد مخلوقات الكون حماقة‬
‫لقد عبروا ً‬
‫اآلن عليهم أن يتصدوا للمخلوق الحر أوالً‪ ..‬فلم يتبق على الشروق إال‬
‫دقائق معدودة‪ ..‬ثم يهتمون بمخلوقات الكهف‪.‬‬
‫إنهم يقطعون الصحراء كشهب بيضاء متألقة ويصنعون خلفهم عاصفة رملية‬
‫هائلة‪..‬‬
‫‪- 181 -‬‬
‫يقابلون في منتصف المسافة كتيبة كاملة من مردة الجن والتي تستعد‬
‫لخوض المعركة ضد المخلوقات الشيطانية والمتحول البشري‪.‬‬
‫الجميع يتهيأ لدرء الخطر عن عالمه ولكن الوقت عامل مهم ج ًدا‪..‬‬
‫يجب أن يتم كل شيء قبل الشروق‪..‬‬

‫‪- 181 -‬‬


‫‪ -‬معركة ‪-‬‬
‫عندما رصدت أجهزة ناسا ذلك التدفق الهائل للطاقة لم يستطيعوا تفسير‬
‫األمر‪ ..‬عجزت عقول علمائهم وعقولهم اإللكترونية عن سبر حقيقة ما تم‬
‫رصده‪..‬‬
‫أما في روسيا وفي قسم خاص تابع للمخابرات رصدت مجموعة من ثالث‬
‫فتيات توائم اختراقات على مستوى عقلي فائق‪ ..‬فتيات مدربات يعرفن‬
‫جي ًدا حقيقة ما يحدث‪ ..‬ولكنهن لسبب ما لم يخبرن ضابط االتصال بما‬
‫توصلن إليه‪ ..‬وال الخطر الذي يواجهه كوكب األرض‪.‬‬
‫فقط في التبت رصد الرهبان تلك التغيرات الهائلة على المستويين المادي‬
‫والعقلي وأدركوا طبيعة الخطر وقروا أن الوقت قد حان ليتحركوا‪.‬‬
‫الفكرة التي كانت تدور في عقول كثيرة على مستوى العالم‪ ،‬أن كوكب‬
‫األرض يواجه محنة هائلة لم يتعرض لها منذ طوفان نوح عليه السالم‪ ..‬إن‬
‫البشر خطر كاف على الكوكب‪ ..‬فما بالكم عندما يأتي الخطر عبر األبعاد‬
‫مهددا مملكتي الجن واإلنس وممالك األبعاد األخرى‪ ..‬إنها اللحظة التي‬
‫ً‬
‫يجب أن يتحرك فيها الجميع لدرء الخطر‪ ..‬ولكن هل يكفي الوقت ؟!‬
‫لم يتبق على شروق الشمس إال دقائق معدودة والمخلوق الشيطاني يقطع‬
‫الطريق الساحلي اآلن في رحلته صوب جبال المغرب‪ ،‬وحيث تقع قمة جبل‬
‫توبيقال وكهف األمنيات المظلمة‪.‬‬
‫‪- 181 -‬‬
‫في نفس التوقيت الذي انطلقت فيه المخلوقات الغريبة لتحاصر قمة الجبل‬
‫درعا ضوئيًا هائالً متأل ًقا‪ ..‬تم رصده عن طريق األقمار‬
‫صانعة ما يشبه ً‬
‫الصناعية مما حث قوات الشرطة المغربية على التحرك بعد أن جاءها أمر‬
‫صارم من أعلى المستويات‪.‬‬
‫معا‬
‫سحرة المغرب الحقيقيين الذين ال يتعدون أصابع اليد الواحدة اجتمعوا ً‬
‫علما بما يدور في‬
‫في سابقة هي األولى من نوعها‪ ..‬خاصة بعد أن أحاطوا ً‬
‫كواليس عالمهم المظلم‪ ..‬وعلى الفور قرروا أن الوقت قد حان لتدخلهم‬
‫حفاظًا على مكتسباتهم من هذا العالم‪.‬‬
‫ساحرا‪..‬‬
‫أما أنا فقد كنت أمارس نشاطًا آخر ً‬
‫التعويذة التي امتزجت بلحمي ودمي منحتني قدرات خاصة مذهلة‪ ،‬كان‬
‫أروعها هي القدرة على قهر الجاذبية‪ ..‬صحيح أنني ال أستطيع الطيران‬
‫رائعا‪ ..‬فألقطع الوقت المتبقي في‬
‫ألكثر من عدة أمتار لكن الشعور كان ً‬
‫ممارسة هذه الرياضة المذهلة‪ ..‬إنني أطير ح ًقا بال أجنحة‪..‬‬
‫حاولت أن أغادر قمة الجبل ولكني شعرت بحاجز خفي يمنعني من مغادرة‬
‫تماما وعدت‬
‫المكان‪ ..‬وألني كنت في قمة نشوتي فإنني تجاهلت األمر ً‬
‫أسبح في فضاء المكان كطائر خرافي‪ ،‬وبداخل رأسي كان هناك تواصل فائق‬
‫يتم‪..‬‬

‫‪- 185 -‬‬


‫منهارا فأحثه‬
‫المخلوق الشيطاني مصاب بشدة‪ ،‬يتألم ويعاني ويكاد يسقط ً‬
‫على مواصلة رحلته‪..‬‬
‫إنه يطالبني أن أتحرك‪ ،‬أن أستخدم قدراتي الهائلة في كسر الحاجز الذي‬
‫سيمنعه من الوصول لقمة الجبل عند وصوله‪.‬‬
‫أنا أرغب في مساعدته ولكني ال أعرف كيف‪ .‬إن الحاجز منيع ج ًدا‪..‬‬
‫وبداخلي تتقاتل آالف المشاعر‪..‬‬
‫صراع مخيف يدور بداخل عقلي وكأن هناك قوتين تحاوالن االستحواذ‬
‫عليه‪.‬‬
‫المخلوقات الشيطانية تطالبني بالعودة إلى الكهف ألحررها كي يمنحوني سر‬
‫الخلود‪ ..‬ولكني ال أرغب ح ًقا‪..‬‬
‫خوف مريع يتسرب إلى داخل كياني‪ ..‬ظالم هائل يطوق روحي‪ ..‬ال لن‬
‫أطيعهم‪..‬‬
‫أنا من يحتاج للمساعدة‪.‬‬
‫سأنتظر فلم يتبق على شروق الشمس إال لحظات‪.‬‬
‫****‬

‫‪- 186 -‬‬


‫أخيرا وصل المخلوق الشيطاني إلى المغرب‪ ..‬لم يعد متبقيًا إال مسافة قليلة‬
‫ً‬
‫ليقطعها‪..‬‬
‫خيط النهار األبيض األول يمزق عتمة الليل‪ ..‬مرسالً شعاع الشمس‬
‫الخجول ليخترق جسد التيس المصاب‪ ،‬والذي يمنع المخلوق الشيطاني‬
‫من االنطالق واستخدام كامل قوته‪..‬‬
‫شعاع الشمس يخترق جلد التيس بطريقة عجيبة ومدهشة وعندما يالمس‬
‫خاليا المخلوق‪ ..‬يحدث تفاعل هائل‪ ..‬مؤلم‪ ..‬فكل طاقة الشعاع تتسرب‬
‫إلى خاليا المخلوق الشيطاني المحاصرة في غالف الدم واللحم لتمنحها‬
‫قوة ال مثيل لها‪..‬‬
‫المخلوق الشيطاني يشعر بقوة هائلة لم يختبرها من قبل‪..‬‬
‫وقبل أن يتمكن من استيعابها‪..‬‬
‫يضرب شعاع الشمس التالي خالياه في قوة‪..‬‬
‫يصرخ بقوة‪ ..‬خواره يخترق أجواز الفضاء ليمنح لمخلوقات الكهف األمل‬
‫الذي طال انتظارهم له‪..‬‬
‫نشوة هائلة تغمره‪..‬‬
‫قرص الشمس يسطع بكامل قوته‪..‬‬
‫إنه اآلن يتحرر‪..‬‬
‫‪- 187 -‬‬
‫يغادر جسد التيس الذي تيبس جلده وفقد الحياة وتحول لكومه هشة من‬
‫التراب بعثرتها الرياح‪.‬‬
‫الشمس تواصل عطاءها للمخلوق‪ ..‬فتشفي جراحه وتضاعف قواه عشرات‬
‫المرات‪..‬‬
‫إنه اآلن يمتلك القوة‪ ،‬وقادر على كل شيء‪ ..‬لذا فإنه انطلق كشهاب حارق‬
‫ليقطع مئات الكيلومترات في لحظات قليلة‪ ..‬وعندما وصل إلى سفح‬
‫الجبل توقف للحظات‪ ..‬فقد تضاعفت قدرات حواسه‪ .‬فأنفه تشم رائحة‬
‫الخطر القريب‪.‬‬
‫دار حول نفسه في سرعة ليرصد مك امن الخطر‪ ،‬وبسمعه الخارق سمع‬
‫األصوات الهامسة‪ ..‬وعرف اللغة على الفور‪ ..‬وحدد عدوه‪.‬‬
‫المئات من قبائل الجن المختلفة التي تغص بها التالل الصخرية احتشدوا‬
‫لقتاله‪..‬‬
‫خطرا أكبر‪.‬‬
‫كان يتوقع ً‬
‫تواصل مع قطيع الذئاب الذي صاحبه في رحلته‪. ..‬وبقوة لم يكن يدرك أنه‬
‫يملكها‪ ..‬استحضر القطيع بالكامل إلى حيث يقف‪.‬‬
‫نظر للعيون الوحشية الالمعة التي ال يضيع بريقها حتى بعد موت الذئب‬
‫خوارا مزلزالً تردد صداه في األجواء‪.‬‬
‫وأطلق ً‬

‫‪- 188 -‬‬


‫إنه منتشي بالقوة‪ ..‬ال يوجد شيء يمكن أن يخيفه‪ ..‬والشمس في كبد‬
‫السماء ساطعة تمنحه المزيد والمزيد من القوة والقدرات‪.‬‬
‫عدوا آخر ولكنه أقل قوة‪ ..‬فتجاهل األمر وسلط‬
‫تشمم الهواء فرصد ً‬
‫تفكيره على قبائل الجن‪ ..‬إنه بكامل عنفوانه سيخوض هذه الحرب‬
‫المتكافئة قبل أن يتفرغ لتحرير رفاقه‪..‬‬
‫****‬
‫المنطقة حول قمة توبيقال استحالت خانقة‪ ..‬مزدحمة‪ ..‬تغص بالقلوب‬
‫النابضة‪ ..‬والعقول الواجفة‪ ..‬واألصوات المخيفة‪ ..‬فاآلالف من المخلوقات‬
‫الغاضبة يغص بهم كل شبر من األرض‪ ..‬الجميع يدافع عن كوكب األرض‬
‫ليحمي أرضه الخاصة وبعده الخاص‪..‬‬
‫فنهاية أرض البشر تعني فناء باقي األبعاد‪..‬‬
‫الجنس الدموي الذي يمتاز بالحماقة والغرور‪ ،‬هو الذي يتحكم من عالمه‬
‫في مصائر عوالمهم‪ ..‬فلديه السالح القاهر الذي نتج عن شطر الذرة‪،‬‬
‫والعوالم السبعة لن تصمد أمام سالح كهذا سيحدث اختالالً هائالً في‬
‫ذبذباتها وستفنيها بمخلوقاتها‪..‬‬
‫الكل اجتمع على قلب رجل واحد لدرء الخطر‪.‬‬
‫كتائب من قبائل الجن تحتشد وتتحد للمرة األولى عبر مئات القرون‪.‬‬

‫‪- 189 -‬‬


‫الشخص الغريب ومخلوقات عالمه بدلوا خطتهم وقرروا أن يحموا الكهف‬
‫نفسه‪ ،‬لن يخترق أحد الجبل إال بعد فنائهم‪..‬‬
‫دورا رهيبًا ال يستوعب أبعاده بعقلية طفولية‬
‫أما أنا فكنت كطفل غرير يمارس ً‬
‫بحته‪..‬‬
‫إنني قوي‪ ..‬وعلى الجميع أن يخضع لي‪..‬‬
‫إنني خائف ولن أخضع ألي طرف‪..‬‬
‫األمور كانت متوترة وكنت أنا مغرقًا في ذاتيتي‪ ،‬البد وأن لعنة نائلة‪/‬سماح لم‬
‫ِ‬
‫تنته‪..‬‬
‫إنني أمارس حماقتي بإصرار سيزيفي مخيف‪..‬‬
‫لم تعد الثلوج تحيط بقمة الجبل لقد انصهرت وتبخرت المياه المتخلفة‬
‫عنها لسبب مجهول‪ ..‬الحيوانات ومخلوقات الجبل غادرت المنطقة بغير‬
‫رجعة‪ ..‬حاستها الفطرية أنبأتها بخطورة الموقف‪.‬‬
‫وفي لحظة ما شعرت بأن الصراع الهائل الدائر بداخلي بين تلك القوتين قد‬
‫انتهى‪ ..‬وشعرت بكم هائل من المشاعر السلبية تجتاح كياني‪ ،‬ففقدت‬
‫اهتمامي بكل شيء حتى الطيران وشعرت بعقلي يعود مل ًكا لي‪.‬‬

‫‪- 191 -‬‬


‫واقعا تحت سيطرة استحواذ شيطاني هائل أفقدني رشدي ومنطقي‬
‫لقد كنت ً‬
‫وحكمتي‪ ..‬البد أن المخلوق الغريب قد حررني بوسيلة ما من سيطرتهم‪..‬‬
‫والبد أنه هو من وضع الحاجز غير المرئي‪..‬‬
‫اآلن أنا أرى بعيني مقدار الهول المحيط بي والكارثة التي أصابتني‪..‬‬
‫معلومات هائلة تتدفق بداخل عقلي‪..‬‬
‫إنني على اتصال بكل الكائنات المتواجدة في محيط الجبل‪..‬‬
‫الجميع يطلب مني أن أبثهم األمل‪..‬‬
‫ولكني أشعر بالضياع‪ ..‬أنا من أحتاج للمساعدة‪..‬‬
‫وعندما تجسد الشخص الغريب أمامي‪ ،‬عرفت أن المعركة قد بدأت وأن‬
‫النهاية قريبة‪..‬‬
‫وعندما امتزج عقالنا ارتجف جسدي عشرات المرات‪..‬‬
‫إن األمر خطير ح ًقا‪.‬‬
‫****‬
‫تمدد المخلوق الشيطاني حتى غطى مساحه هائلة من األرض وكإعصار‬
‫عات بدأ في اجتياح قبائل الجن المجتمعة‪..‬‬
‫لم ِ‬
‫يبال بحرابهم أو أعاصيرهم أو لعناتهم التي صبوها على رأسه‪..‬‬

‫‪- 190 -‬‬


‫اقتحم جمعهم وعاث فيهم قتالً وتمزي ًقا‪..‬‬
‫ومع كل جني يسقط كان يشعر بالمزيد من النشوة والزهو‪.‬‬
‫إنه يفوق الجميع قوة‪..‬‬
‫وخالل دقائق كان قد قام بمذبحة هائلة‪..‬‬
‫ما يفوق األلف من مردة الجن قد تمزقوا وفقدوا حياتهم‪..‬‬
‫لقد تحول إلى شيطان حقيقي‪..‬‬
‫إنه يحارب في جميع المستويات والذبذبات‪..‬‬
‫قدرته تقهر الجن في عالمهم‪ ،‬أو في تجسداتهم التي ال تنتهي‪..‬‬
‫قبائل الجن تقاتل ويبدو أن أعدادهم ال نهائية‪ ..‬لقد قرروا إنهاء الخطر مهما‬
‫كان الثمن‪..‬‬
‫الدمار هائل والصخور تتناثر في كل مكان‪..‬‬
‫رجال الشرطة المدعومين من الجيش سحقهم انهيار صخري هائل فور‬
‫اقترابهم من أرض المعركة‪ .‬ومن فر منهم التهمه قطيع الذئاب في وحشية‬
‫غير مسبوقة‪..‬‬

‫‪- 191 -‬‬


‫ولم يتوقف األمر عند هذا الحد فالسحرة الذين اجتمعوا للدفاع عن‬
‫مملكتهم السحرية‪ ،‬احترقوا بنيران زرقاء مخيفة فحمت جثثهم‪ ..‬قبل أن‬
‫تحولهم لرماد تناثر في سماء المعركة‪..‬‬
‫إنها حرب إبادة وحشية تتم على كافة المستويات‪ ..‬فقط رهبان التبت هم‬
‫من صمدوا أمام الهجوم العقلي الكاسح للمخلوق‪ ..‬صمدوا ولكن ليس‬
‫لوقت طويل‪.‬‬
‫قلق رهيب أصاب المخلوقات الغريبة من نتائج المعركة‪ ..‬المخلوق‬
‫كبيرا في قدراته‬
‫تطورا ً‬
‫الشيطاني يزداد قوة مع مرور الوقت ويبدو أن هناك ً‬
‫يحدث‪ ..‬إن مفعول الشمس عليه يختلف وبشدة عن تأثيرها القديم‪ .‬هناك‬
‫تطورا كونيًا قد حدث في مكان لم‬
‫طفرة حدثت للمخلوق‪ ..‬البد وأن هناك ً‬
‫يتم رصده منح للمخلوق صفات جديدة وقدرات غير مسبوقة‪ ..‬والمخيف‬
‫أن هذا التأثير البد وأنه سيشمل مخلوقات الكهف الغاضبة‪.‬‬
‫تواصل الشخص الغريب مع رفاقه وتدارسوا األمر في عجالة‪ ..‬وفي وقت‬
‫وجيز وضعوا خطتهم‪.‬‬
‫تقاربوا‪..‬‬
‫تالمسوا‪..‬‬
‫تهامسوا‪..‬‬

‫‪- 191 -‬‬


‫امتزج كيانهم فصاروا ككائن واحد‪..‬‬
‫ثم أطلقوا استغاثة عقلية هائلة‪ ،‬اجتاحت كوكب األرض من أقصاه إلى‬
‫أقصاه‪ ،‬ووصلت لكل من يمتلك قوى خارقة على كوكب األرض‪..‬‬
‫إنهم في حاجة إلى المساعدة‪ ..‬وهناك بين البشر مجموعة مميزة سمت‬
‫بروحها فوق قيود الجسد والنفس وامتلكت قوى مختلفة‪ ..‬إنهم اآلن‬
‫يعملون على التواصل مع الجميع من أجل إيقاف هذا الشر القادم من بعد‬
‫الظالم المخيف‪ ..‬ونتائج المعركة ال توحي بخير‪..‬‬
‫فقبائل الجن تندحر طوال الوقت والمخلوق يزداد قوة في كل لحظة‪..‬‬
‫والمخلوقات الغريبة تقاتل سيطرته العقلية المخيفة‪..‬‬
‫وعندما أوشكت القلوب على اليأس بدأ التغير يحدث‪ ،‬وعبر أقطار األرض‬
‫بدأ اتحاد عقلي هائل‪ ..‬قاده رهبان التبت‪..‬‬
‫مئات من البؤر العقلية تتشكل‪ ..‬عبر الجبال والوديان‪..‬‬
‫كل مجموعة تقوم بتكوين خلية عقلية منفصلة لتشتيت الخصم‪..‬‬
‫إنهم يحاولون إنهاكه قبل االنقضاض عليه‪ ..‬فهم يعلمون أن القضاء على‬
‫فادحا‪ ..‬خاصة وهو‬
‫المخلوق لن يتم ببساطة أو بسهولة وأن الثمن سيكون ً‬
‫يستمد تلك القوة المروعة من الشمس طوال الوقت‪..‬‬
‫تواصلت العقول‪ ..‬نبضت‪ ..‬بثت أفكارها‪ ..‬ثم توحدوا‪.‬‬

‫‪- 191 -‬‬


‫البد في البداية من حرمان المخلوق من مصدر قوته قبل اإلجهاز عليه عن‬
‫طريقي‪ ..‬فبعد تحولي صرت أنا السالح‪ ..‬أنا التعويذة الحية‪..‬‬
‫إنهم سيقلبون السحر على الساحر‪..‬‬
‫لن تصدق المخلوقات ما ارتكبته في حق نفسها‪ ،‬بتنفيذ فكرة تحويلي‬
‫الحمقاء‪ ..‬فبدالً من أن أكون طوق النجاة‪ ..‬صرت الخطر األكبر‪.‬‬
‫وعلى الفور بدأت مئات اآلالف من العقول في التفكير محاولة منهم‬
‫للوصول لطريقة سريعة للتنفيذ‪..‬‬
‫وعلى الفور تبلورت الفكرة‪..‬‬
‫قام الجن بقدراتهم الخارقة بإشعال نا ر هائلة مخيفة أطلقت أدخنة وعوادم‬
‫تكفي لتعتيم نصف العالم‪..‬‬
‫وعن طريق المخلوقات الغريبة تم إذكاؤها وجعلها تشكل مجموعة هائلة من‬
‫السحب أخذت في تغطية السماء وإعتامها‪ ..‬لتصير كمظلة هائلة سوداء‬
‫عملت على حجب الشمس وتأثيرها‪.‬‬
‫إنهم يتقدمون بخطوات ملموسة‪..‬‬
‫متوقعا أن يفسد‬
‫شعر المخلوق بما يحدث فكثف هجومه على مردة الجن ً‬
‫تعويذتهم ولكن األمر لم يكن بالبساطة المتوقعة‪..‬‬

‫‪- 195 -‬‬


‫تماما فقد الجزء األعظم من قوته‪ ..‬وفقد تركيزه‬
‫فعندما حجبت الشمس ً‬
‫للحظات‪..‬‬
‫وفي اللحظة التالية شعر بقبضة عقلية هائلة تكبله‪ ..‬إن رهبان التبت ال‬
‫يمزحون‪ ..‬ويعرفون ح ًقا ما يفعلون‪..‬‬
‫تساقط العشرات منهم صرعى‪ ..‬ولكنهم قادوا الهجوم في بسالة غير‬
‫معهودة‪..‬‬
‫قديما دفن في قلب‬
‫سالحا ً‬
‫ً‬ ‫ومن قلب الجبل استخرجت المخلوقات الغريبة‬
‫الجبل وقاموا بتذخيره‪..‬‬
‫إنهم لن يسمحوا للمخلوق ومخلوقات الكهف باالنتصار‪ ..‬حتى ولو فني‬
‫معهم نصف البشر ‪.‬‬
‫كاسحا‪ ،‬والمخلوقات الغريبة تكافح كي تصد‬
‫ً‬ ‫هجوما‬
‫ً‬ ‫رهبان التبت يقودون‬
‫الهجوم اليائس الذي يقوم به المخلوق‪ ..‬بعد أن فقد السواد األعظم من‬
‫قوته وقطيع الذئاب‪..‬‬
‫معركة كونية مروعة‪ ..‬لو لم أكن بقلبها لما صدقت حدوثها‪..‬‬
‫تواصلت مع المخلوق الغريب أستحثه على طلب المساعدة من مخلوقات‬
‫صادما‪..‬‬
‫ً‬ ‫باقي األبعاد‪ ..‬وكان رده الغاضب‬

‫‪- 196 -‬‬


‫ضا عبر األبعاد وأن البشر يوزعون‬
‫لم أكن أعرف أن شرور البشر تنتقل أي ً‬
‫كراهيتهم على مخلوقات الكون دون أن يدرون‪ ،‬وأن مخلوقات األبعاد‬
‫األخرى تتمنى فناءنا‪ ..‬وأن مخلوقات باقي األبعاد‪ ..‬تبدو هذه المخلوقات‬
‫الوحشية بجوارها كالنسائم أمام غضب العاصفة‪..‬‬
‫المعركة كانت على أشدها‪..‬‬
‫الصرخات ال تنقطع واألشالء في كل مكان‪ ..‬والمخلوق الشيطاني برغم‬
‫احتجاب الشمس يقاتل بشراسة وعنف‪..‬‬
‫اتصال عقلي فائق من مخلوقات الكهف في محاولة للسيطرة علي‪ ..‬ال‪..‬‬
‫مجددا‪ ..‬أنا لست بالضعف الذي تتوهموه‪..‬‬
‫ً‬ ‫ال‪ ،‬لن تستطيعوا السيطرة علي‬
‫أتريدونني في الكهف‪ ..‬حسنًا إنني قادم‪..‬‬
‫متوجها إلى أعماق الكهف‪ ،‬وخلفي تدور رحى معركة تبدو وكأنها‬
‫ً‬ ‫استدرت‬
‫ستستمر إلى األبد‪..‬فقد تكالبت قبائل الجن على المخلوق الشيطاني‬
‫وتخلت المخلوقات الغريبة عن قمة الجبل وألقوا بأنفسهم في‬
‫أتونها‪ ..‬المخلوق الشيطاني مصاب إصابات فادحة ولكن ال يبدو أنها‬
‫ستوقفه أو ستمنعه من إتمام مايريد‪..‬‬
‫آالف األضواء تسطع في عتمة الليل‪ ،‬وانفجارات هائلة أخذت تهز الجبل‬
‫في عنف وكأنه يتم رجمه بقنابل شديدة التدمير‪..‬‬

‫‪- 197 -‬‬


‫المخلوق يتقدم برغم عنف المعركة واحتجاب الشمس‪..‬‬
‫عبرت إلى الكهف وبداخل عقلي فكرة واحدة‪..‬‬
‫الموت‪..‬‬

‫‪- 198 -‬‬


‫الخاتمة ‪-‬‬
‫عندما عبرت إلى الكهف قررت أن أفعل التعويذة‪ ،‬التعويذة الممتزجة بلحمي‬
‫ودمي‪..‬‬
‫لم أكن أعرف كيف‪ ،‬ولكني كنت متأك ًدا من قدرتي على تفعيلها‪..‬‬
‫اخترقت الكهف هابطًا في خفة فراشة‪ ..‬قدرتي على الطيران ساعدتني على‬
‫قطع المسافة في وقت قياسي‪..‬‬
‫عبرت صوب الغرفة ذات الجدران الزجاجية وهناك عثرت على بغيتي‪..‬‬
‫الخنجر المطلسم‪..‬‬
‫طعنت ذراعي بالخنجر فسال دمي حتى أغرق النصل‪.‬‬
‫****‬
‫الدم هو الذي يربط هذه العوالم ببعضها ‪.‬‬
‫***‬
‫ثم تقدمت ألعماق الكهف أكثر‪ ..‬األعماق التي لم أرها من قبل‪..‬‬
‫****‬
‫إن دماء الشيخ ياسين تسري في عروقك‪ ..‬لقد انتقل العهد إليك‬
‫****‬
‫‪- 199 -‬‬
‫مجددا ‪.‬‬
‫ً‬ ‫فتحة هائلة في ظالم الكهف عبرتها فشاهدت الجحيم‬
‫****‬
‫من قتل المخلوق األول قادر على قتل المزيد‪.‬‬
‫****‬
‫المخلوقات المروعة تقبع بداخل الفتحة يكبلها سائل مضيء تتماوج بداخله‬
‫مخلوقات جيالتينية مشابهة للتي رأيتها أثناء العبور‬
‫****‬
‫لقد استطاعوا بالعلم والسحر قهر هذه المخلوقات وسجنها‬
‫****‬
‫أتقدم أكثر‪..‬‬
‫أقف بقلب القاعة الهائلة التي تحتوي على المخلوقات الشيطانية‪..‬‬
‫مجرد النظر إليهم يجعل المرء يتمنى لو يفقد بصره‪..‬‬
‫أتقدم من كبيرهم المكبل وصراع عقلي عات يجتاح رأسي‪..‬‬
‫إنهم يحاولون السيطرة علي ودفعي للموت‪..‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫تلك المخلوقات الشيطانية قامت بتحويل التعويذة إلى كائن حي‪ ..‬موته‬
‫يعني انتهاءها ولكني لم أكن أنوي الموت على طريقتهم‪ ..‬لن أموت إال‬
‫حينما يحين أجلي‪..‬‬
‫كبيرهم ينظر إلي والنار تستعر في عينيه ولكني أعرف كم هو عاجز‪ ..‬إن‬
‫السائل المضيء يكبله‪.‬‬
‫أتقدم منه ونظرات عيني مسلطة عليه وجذعي العاري يتألق بكلمات‬
‫التعويذة‪..‬‬
‫إنني منيع ضدهم‪..‬‬
‫أنا الخطر ال هم‪..‬‬
‫وبكل قوة رفعت الخنجر ثم أغمدته في قلب كبيرهم‪..‬‬
‫ثم تفاديت السائل الملتهب بقفزة واسعة‪..‬‬
‫إصبعا آخر‪.‬‬
‫لقد استوعبت الدرس جي ًدا هذه المرة‪ ..‬لن أفقد ً‬
‫وبهستريا مخيفة شرعت في إتمام مهمتي‪.‬‬
‫كم ساعة مضت حتى أجهزت عليهم جميعًا‪ ..‬ال أعرف ح ًقا‪ ..‬ولكن قلب‬
‫الجبل أخذ في االنصهار‪..‬‬
‫والذوبان‪..‬‬

‫‪- 110 -‬‬


‫توقعت أن ينهار الجبل فوق رأسي ليدفنني بداخله‪ ..‬ولكن المخلوقات‬
‫الجيالتينية كانت قد قامت بعملها في حفظ التوازن فقامت بصنع غشاء‬
‫مجددا كان المخلوق‬
‫ً‬ ‫هائل احتوى السائل بداخله‪ ..‬وعندما غادرت الكهف‬
‫قد وصل إلى هناك وهو يعاني من إصابات ال تحصى‪ ..‬بعد أن كبد‬
‫المهاجمين خسائر فادحة‪.‬‬
‫توقفت أمامه وجسدي متوتر وعيناي مشتعلتان بالغضب‪..‬‬
‫وعندما هاجمني كانت هذه هي حركته األخيرة‪ ..‬ألن خنجري طار ليشق‬
‫الهواء ولينغرس بين عينيه‪..‬‬
‫لينكمش جسده في سرعة رهيبة‪ ..‬وليطلق صرخات البد وأنها كانت‬
‫ستصيبني بالصمم لو كنت في ظروف أخرى‪..‬‬
‫ثم أخذ الجسد في االنكماشأكبر‪ ..‬قبل أن ينفجر في قوة‪.‬‬
‫وقبل أن يصيبني الرذاذ الحارق‪ ،‬وجدت المخلوق الغريب يحيطني بهالة‬
‫بنفسجية حمتني من االنصهار والموت‪.‬‬
‫سقطت على ركبتي من اإلرهاق وقلبي ينبض بقوة‪ ..‬والتعويذة التي على‬
‫آالما هائلة‪..‬‬
‫صدري تمنحني ً‬
‫وقبل أن أفقد الوعي‪ ..‬سمعت صرخة انتصار هائلة جابت جنبات‬
‫الكوكب‪ ..‬لقد انتصر الخير على الشر وزال الخطر‪..‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫وبطرف عيني لمحت المخلوقات الغريبة تعيد السالح القديم إلى مرقده بعد أن‬
‫انتهى التهديد وتوقف عده التنازلي‪.‬‬

‫لم أستطع أن أشعر بسعادة مماثلة لسعادتهم‪ ،‬ففي عقلي أخذ سؤال مخيف يتردد‬
‫دون انقطاع ‪:‬‬

‫ترى ما هو مصيري اآلن مع تلك اللعنة التي تحولت إليها ؟!‬


‫وما هو مصير أصدقائي ؟!‬

‫بالطبع لم أعرف اإلجابة وقتها ألنني فقدت الوعي‪.‬‬

‫****‬

‫عندما استيقظت من غيبوبتي رأيت الشخص الغريب يجلس بجوار الفراش ونفس‬
‫متوقعا‬
‫ً‬ ‫متهيبا‪..‬‬
‫ً‬ ‫متفحصا‬
‫ً‬ ‫النظرة الباردة على وجهه‪ ..‬مسحت المكان بعيني‬
‫األسوأ‪..‬‬

‫القصر العيني من جديد‪..‬‬

‫انتابتني بعض الحيرة والقلق‪ ،‬وأنا أشاهد المكان الذي لم يتبدل به شيء منذ‬
‫غادرته مع المخلوق الغريب‪..‬‬
‫أثرا لكلمات التعويذة التي رأيتها محفورة‬
‫فحصت جسدي عدة مرات فلم أجد ً‬
‫على صدري‪..‬‬

‫ودار السؤال في رأسي عاص ًفا‪..‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫هل ح ًقا غادرته من قبل ؟!‬

‫هل ما حدث حدث بالفعل ؟!‬

‫دوى صوت الشخص الغريب في عقلي ليؤكد ظنوني‪ ..‬وليتدفق إلى داخله سيل‬
‫سريع من المعلومات‪..‬‬

‫على األقل لم أصب بالجنون بعد‪ ،‬وفقدان إصبع واحد أفضل الخبال‪ ،‬ومن‬
‫فقداني لحياتي بالكامل‪..‬‬

‫وللمرة األولى منذ أسابيع ارتسمت على وجهي ابتسامة حقيقية‪ ..‬وبكل ما يعتمل‬
‫بصدري سألته ‪:‬‬

‫‪ -‬هل انتهى الخطر ؟!‬

‫تردد صوته العقلي بداخل رأسي ‪:‬‬

‫‪ -‬نعم‬

‫‪ -‬وما مصيري ؟!‬

‫مجددا‪ ..‬علومنا المتقدمة استطاعت أن تعيد‬


‫ً‬ ‫‪ -‬ستعود لتمارس حياتك الطبيعية‬
‫مجددا‪.‬‬
‫ً‬ ‫جسدك لسيرته األولى‪ ..‬لقد زالت اللعنة‪ ..‬ولم تعد التعويذة الحية‬
‫صمت قليالً ثم استطرد ‪:‬‬

‫أصدقاء في أبعاد أخرى‪.‬‬


‫ً‬ ‫‪ -‬ولكنك لن تنسى بالطبع أن لك‬
‫هززت رأسي بامتنان‪ ،‬ثم دوت فكرة في عقلي فحولتها لتساؤل سريع ‪:‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫‪ -‬وأصدقائي‪..‬‬
‫‪ -‬لم ينج أحد‪ ..‬ولكن األرض نجت‪ ..‬لقد فتك بهم المخلوق مع بداية المعركة‬
‫بعد أن قضى على نائلة ومردتها‪ ..‬لقد تتبع الصلة التي ربطتهم بنائلة‪ ..‬وأجهز‬
‫عليهم‪ ..‬العزاء الوحيد أنهم لم يشعروا باأللم‪.‬‬
‫هطلت من عيني دمعة حارة ترثيهم‪ ،‬وصور أصدقائي تدور في عقلي وهم بقلب‬
‫الجحيم‪ ..‬ثم وأنا أتخيلهم موتى‪..‬‬
‫أخيرا ‪:‬‬
‫وبصوت يقطر حزنًا سألته سؤاالً ً‬
‫‪ -‬هل مازال هناك تهديد ؟!‬
‫صارما ال يخلو من إيمان ‪:‬‬
‫دوى صوته بعقلي واث ًقا ً‬
‫‪ -‬ال يعلم الغيب إال الخالق‪.‬‬
‫مؤمنا على كالمه ودرت بعيني صوب النافذة ألشاهد شروق‬
‫صمت للحظات ً‬
‫الشمس‪ ..‬الشمس التي تمنح الموت والحياة‪..‬‬
‫قائما‪..‬‬
‫وبداخلي تصاعد شعور طاغ بأن الخالق لن ينسانا أب ًدا‪ ،‬وطالما ظل الخطر ً‬
‫فسيكون هناك من يتصدى له‪.‬‬
‫وعندما عدت ببصري إلى حيث يجلس المخلوق لم أجده هناك‪ ..‬تالشى كأنه لم‬
‫يكن‪..‬‬
‫ولكني أعرف جي ًدا‪..‬‬
‫أنه برغم حماقة البشر إال أن هناك‪ ..‬من سيمنعونهم من التمادي وإيذاء أنفسهم‪.‬‬

‫تمت بحمد اهلل‬

‫‪- 115 -‬‬


‫مصادر الرواية‬

‫‪-‬ويكبيديا الموسوعة الحرة‪.‬‬


‫‪-‬الكوميديا اإللهية لدانتي‪.‬‬
‫‪-‬بعض مقاالت الصحف‪.‬‬
‫‪ -‬الخطايا السبع المميتة على موقع الفيس بوك وبعض المواقع األخرى‪.‬‬

‫‪- 116 -‬‬


‫صدر للمؤلف‬

‫‪ ‬وبدأ الظالم – رواية‬


‫‪ ‬حديث الموتى – مجموعة قصصية‬
‫‪ ‬فى مملكة الغيالن – رواية‬
‫‪ ‬الملعون – رواية‬
‫‪ ‬نصف حياة – رواية‬
‫‪ ‬الشفق األسود – رواية‬

‫للتواص مع الكاتب‬
‫‪A_elmenofy@yahoo.com‬‬
‫‪https://www.facebook.com/a.elmenofy?ref=tn_tnmn‬‬

‫‪- 117 -‬‬


‫جميع حقوق الطبع والتوزيع محفوظة للناشر‬

‫‪Noon_publishing@yahoo.com‬‬
‫ت‪600-35553665 63-87306853-‬‬

‫‪- 118 -‬‬


‫صفحة‬
‫في يدي كتاب‬
https://www.facebook.com
/pages/%D9%81%D9%8A-
%D9%8A%D8%AF%D9%8A-
%D9%83%D8%AA%D8%A7%
D8%A8/260474877401206

You might also like