Professional Documents
Culture Documents
آدَابُ الفَتـْوَى والمُفـْتــِي المُسْـتـَـفـْـتــِي-النووي
آدَابُ الفَتـْوَى والمُفـْتــِي المُسْـتـَـفـْـتــِي-النووي
فتـ َ دا ُ
آ َ
سـتــفــتــي
م ْ
مفـتــي وال ُ
وال ُ
2
ن أفتى عن
م ْ
وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهمَ " :
ك ّ
ل ما يسأل فهو مجنون".
صــين -بفتــح الحــاء -التــابعيين ح ِ
وعن الشــعبي والحســن وأبــي َ
مر بــنت على ع ُ َ كم ليفتي في المسألة ولو وََرد َ ْ قالوا" :إن أحد َ َ
الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر".
ت أقواما ً يســأل أحــدهم
وعن عطاء بن السائب التابعي" :أدرك ُ
عن الشيء فيتكلم وهو يرعد".
وعن ابن عباس ومحمد بن عجلن" :إذا أغفل العالم )ل أدري(
صيبت مقاتله". ُ
أ ِ
وعن سفيان بن عيينــة وســحنون" :أجســر النــاس علــى الفتيــا
أقلهم علمًا".
وعن الشافعي -وقد سئل عن مســألةٍ فلــم يجــب ،-فقيــل لــه،
فقال" :حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب".
ت أحمد بن حنبل يكــثر أن يقــول) :ل أدري(،وعن الثرم :سمع ُ
وذلك فيما عرف القاويل فيه.
ت مالكا ً ســئل عــن ثمــان وأربعيــن
وعن الهيثم بن جميل :شهد ّ
مسألة فقال في اثنتين وثلثين منها) :ل أدري(.
وعن مالك أيضًا :أنه ربما كان ُيســأل عــن خمســين مســألة فل
يجيب في واحدة منها ،وكــان يقــول" :مــن أجــاب فــي مســألة
فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنــار وكيــف
خلصه ثم يجيب".
وسئل عن مسألة فقال) :ل أدري( ،فقيل :هــي مســألة خفيفــة
سهلة ،فغضب وقال) :ليس في العلم شيء خفيف(.
3
ت أحدا ً جمـع اللـه تعــالى فيـه مــن آلــة
وقال الشافعي) :ما رأي ُ
الفتيا ما جمع في ابن عيينة أسكت منه عن الفتيا(.
وقال أبو حنيفة) :لول الَفَرقُ من الله تعالى أن يضيع العلــم مــا
ت ،يكون لهم المهنأ وعلي الوزر(. أفتي ُ
وأقوالهم في هذا كثيرة معروفة.
ل من حــرص علــى الفتيــا ،وســابق قال الصيمري والخطيب :ق ّ
ل تــوفيُقه ،واضــطرب فــي أمــوره ،وإن إليها ،وثابر عليها ،إل ق ّ
كان كارها ً لذلك ،غير مــؤثر لــه مــا وجـد عنــه مندوحــة ،وأحـال
المر فيه على غيره ،كانت المعونة له من الله أكــثر ،والصــلح
في جوابه أغلب.
واست َد َل ّ بقوله صلى الله عليه وسلم في الحــديث الصــحيح) :ل
تسأل المارة فإنك إن أعطيتهــا عــن مســألة وكلــت إليهــا ،وإن
ت عليها(. أعطيتها عن غير مسألة أ ُ ِ
عن َ
فصل
]وظيفة إمام المسلمين تجاه المفتين[
ن
مـ ْ
قال الخطيب :ينبغي للمام أن يتصــفح أحــوال المفــتين ،ف َ
ح للفتيا أقّره ،ومن ل يصلح منعه ،ونهــاه أن يعــود ،وتوعــده
صل َ
َ
بالعقوبة إن عاد.
وطريق المام إلى معرفة من يصلح للفتــوى أن يســأل علمــاء
وقته ،ويعتمد أخبار الموثوق به.
4
ت حــتى
ثم روى بإسناده عن مالك -رحمه الله -قال" :مــا أفــتي ُ
شهد لي سبعون أني أهل لذلك" .وفي رواية" :ما أفــتيت حــتى
ت من هو أعلم مني :هل يراني موضعا لذلك" ؟ سأل ُ
قال مالك" :ول ينبغي لرجـل أن يـرى نفسـه أهل ً لشـيء حـتى
يسأل من هو أعلم منه".
فصل
قالوا :وينبغي أن يكون المفتي ظاهر الورع ،مشهورا ً بالديانة
الظاهرة ،والصيانة الباهرة.
وكان مالك -رحمه الله -يعمل بما ل يلزمه النــاس ،ويقــول: :ل
يكون عالما ً حتى يعمل في خا ّ
صـةِ نفســه بمــا ل يلزمــه النــاس
مما لو تركه لم يأثم".
وكان يحكي نحوه عن شيخه ربيعة.
فصل
ة مأمونا ً متنـّزها ً عن
شرط المفتي كونه مكلفا ً مسلمًا ،وثق ً
م الــذهن،ه النفــس ،ســلي َ أسباب الفسق وخوارم المروءة ،فقي َ
ن الِفكر ،صحيح التصرف والستنباط ،متيقظًا. رصي َ
سواٌء فيه الحّر والعبد والمرأة والعمى ،والخـرس إذا كتــب أو
فهمت إشارته.
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلح :وينبغي أن يكون كالراوي في
أنه ل يؤثر فيه قرابة وعداوة ،وجّر نفع ودفع ضــر ،لن المفــتي
في حكم مخبٌر عن الشرع بما ل اختصاص لــه بشــخص ،فكــان
كالراوي ل كالشاهد ،وفتــواه ل يرتبــط بهــا إلــزام بخلف حكــم
القاضي.
5
قال :وذكر صاحب الحاوي أن المفتي إذا نابذ في فتواه شخصا ً
معينا ً صار خصما ً حكما ً معاندًا ،فُترد ّ فتواه على من عــاداه كمــا
ترد شهادته عليه.
واتفقوا على أن الفاســق ل تصــح فتــواه ،ونقــل الخطيــب فيــه
إجماع المسلمين ،ويجب عليــه إذا وقعــت لــه واقعــة أن يعمــل
باجتهاد نفسه.
وأما المســتور وهــو الــذي ظــاهره العدالــة ولــم تختــبر عــدالته
باطنًا ،ففيه وجهان :أصحهما :جواز فتواه; ل ّ
ن العدالــة الباطنــة
يعسر معرفتها على غير القضاة.
والثاني :ل يجوز كالشهادة ،والخلف كالخلف في صحة النكــاح
بحضور المستورين.
قال الصـيمري :وتصـح فتـاوى أهـل الهـواء والخـوارج ومـن ل
نكفره ببدعته ول نفسقه ،ونقــل الخطيــب هــذا ثــم قــال :وأمــا
الشــرار والرافضــة الــذين يســبون الســلف الصــالح ففتــاويهم
مردودة وأقوالهم ساقطة.
والقاضي كغيره في جــواز الفتيــا بل كراهــة ،هــذا هــو الصــحيح
المشهور من مــذهبنا ،قــال الشــيخ :ورأيــت فــي بعــض تعــاليق
ن لــه الفتــوى فــي العبــادات ،ومــا ل يتعلــق
الشيخ أبي حامــد أ ّ
بالقضاء ،وفي القضاء وجهان لصــحابنا :أحــدهما :الجــواز; لنــه
أهل ،والثاني :ل; لنه موضع تهمة.
وقال ابن المنذر :تكره الفتوى فـي مسـائل الحكـام الشــرعية
وقال شريح :أنا أقضي ول أفتي.
فصل
عمرو :المفتون قســمان :مســتقل وغيــره ،فالمســتقل
قال أبو َ
شر ُ
طه مع ما ذكرناه:
6
-1أن يكون قيما ً بمعرفة أدلة الحكــام الشــرعية عــن الكتــاب
والسنة والجماع والقياس ،وما التحق بها على التفضــيل ،وقــد
صَلت في كتب الفقه فتيسرت ولله الحمد. فُ ّ
-2وأن يكون عالمـا ً بمــا يشــترط فــي الدلــة ،ووجــوه دللتهــا،
وبكيفية اقتباس الحكام منها ،وهذا يستفاد من أصول الفقه.
-3عارفا ً مــن علــوم القــرآن ،والحــديث ،والناســخ والمنســوخ،
والنحو واللغــة والتصــريف ،واختلف العلمــاء واتفــاقهم بالقــدر
الذي يتمكن معه من الوفاء بشروط الدلة والقتباس منها.
-4ذا دربة وارتياض في استعمال ذلك.
-5عالما ً بالفقه ضابطا ً لمهات مسائله وتفاريعه.
فمن جمع هذه الوصاف فهو المفتي المطلق المستقل ،الــذي
يتأدى به فرض الكفاية ،وهو المجتهد المطلق المســتقل ; لنــه
يستقل بالدلة بغير تقليد وتقيد بمذهب أحد.
قال أبو عمرو :ومــا شــرطناه مــن حفظــه لمســائل الفقــه لــم
يشترط في كثير من الكتب المشــهورة ; لكــونه ليــس شــرطا ً
لمنصب الجتهاد; لن الفقه ثمرته فيتأخر عنه ،وشرط الشــيء
طه الستاذ أبو إسحاق السفراييني وصــاحبه شَر َ
ل يتأخر عنه ،و َ
أبو منصور البغــدادي وغيرهمــا ،واشــتراطه فــي المفــتي الــذي
يتأدى به فرض الكفايــة هــو الصــحيح وإن لــم يكــن كــذلك فــي
المجتهد المستقل.
ثم ل يشترط أن يكــون جميــع الحكــام علــى ذهنــه ،بــل يكفيــه
كونه حافظا ً المعظم ،متمكنا ً من إدراك الباقي على قرب.
وهل يشترط أن يعرف مــن الحســاب مــا يصــحح بــه المســائل
الحسابية الفقهية ؟
7
حكى أبــو إســحاق وأبــو منصــور فيــه خلفـا ً لصــحابنا ،والصــح
اشتراطه.
ت مطلــق فــي مف ٍ ثم إنما نشترط اجتماع العلوم المذكورة في ُ
ت فــي بــاب خــاص كالمناســك مفـ ٍ
جميع أبــواب الشــرع ،فأمــا ُ
والفرائض فيكفيه معرفــة ذلــك البــاب ،كــذا قَط َـعَ بــه الغزالــي
وصاحبه ابن َبرهــان -بفتــح البــاء -وغيرهمــا ،ومنهــم مــن منعــه
ح جـوازهمطلقًا ،وأجازه ابن الصباغ في الفرائض خاصة ،والص ّ
مطلقًا.
القسم الثاني :المفتي الذي ليس بمســتقل ،ومــن دهــر طويــل
دم المفتي المستقل.عُ ِ
صارت الفتوى إلى المنتسبين إلــى أئمــة المــذاهب المتبوعــة،
و َ
وللمفتي المنتسب أربعة أحوال:
أحدهما :أن ل يكون مقلدا ً لمامه ،ل في المذهب ول في
دليلــه ،لتصــافه بصــفة المســتقل؛ وإنمــا ينســب إليــه لســلوكه
طريقه في الجتهاد.
حك َــى عــن
وادعى الستاذ أبو إسحاق هــذه الصــفة لصــحابنا ،ف َ
أصحاب مالك -رحمه اللــه -وأحمــد وداود وأكــثر الحنفيــة أنهــم
صاروا إلى مذاهب أئمتهم تقليدا ً لهم ،ثم قال :والصــحيح الــذي
ذهب إليه المحققون ما ذهب إليــه أصــحابنا :وهــو أنهــم صــاروا
إلى مذهب الشافعي ل تقليدا ً لــه ،بــل لمــا وجــدوا طرقــه فــي
الجتهاد والقياس أسد الطرق ولم يكــن لهــم بــد مــن الجتهــاد
سلكوا طريقه ،فطلبوا معرفة الحكام بطريق الشــافعي وذكــر
أبو علي السنجي -بكسر السين المهملة -نحو هذا فقال :اتبعنــا
الشافعي دون غيره ; ،لنا وجدنا قوله أرجح القوال وأعدلها ،ل
أنا قلدناه.
8
ت :هذا الذي ذكراه موافق لما أمرهم به الشافعي ثم قل ُ
المزني في أول مختصره وغيره بقوله :مــع إعلميــه نهيــه عــن
تقليده وتقليد غيره.
عمرو :دعوى انتفاء التقليد عنهم مطلقا ً ل يستقيم ،ول
قال أبو َ
كى بعض أصــحاب ح َ
يلئم المعلوم من حالهم أو حال أكثرهم ،و َ
مّنا أنه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد ٌ مستقل. الصول ِ
ثم فتوى المفتي في هذه الحالة كفتوى المســتقل فــي العمــل
بها ،والعتداد بها في الجماع والخلف.
دا مقي ّــدا ً فــي مــذهب إمــامه،
الحالــة الثانيــة :أن يكــون مجته ـ ً
مستقل ً بتقريــر أصــوله بالــدليل ،غيــر أنــه ل يتجــاوز فــي أدلتــه
أصول إمامه وقواعده ،وشرطه :كــونه عالمـا ً بــالفقه وأصــوله،
ل ،بصيرا ً بمســالك القيســة والمعــاني ،تــام وأدلة الحكام تفصي ً
الرتيــاض فــي التخريــج والســتنباط ،قيمــا ً بإلحــاق مــا ليــس
منصوصا ً عليه لمامه بأصوله ،ول يعرى عــن شــوب تقليــد لــه;
ل بالحــديث أو العربيــة، لخلله ببعض أدوات المستقل ،بأن ُيخ ـ ّ
وكثيرا ً ما أخــل بهمــا المقي ّــد ،ثــم يتخــذ نصــوص إمــامه أصــول ً
يستنبط منها كفعل المستقل بنصــوص .الشــرع ،وربمــا اكتفــى
في الحكم بدليل إمامه ،ول يبحث عن معارض كفعل المستقل
في النصوص ،وهذه صفة أصحابنا أصحاب الوجوه ،وعليها كان
أئمة أصحابنا أو أكثرهم.
والعامل بفتوى هذا مقل ّد ٌ لمامه ل له.
دى بــه فــرض
ن مــن هــذا حــاله ل يتــأ ّ
ثم ظاهر كلم الصحاب أ ّ
الكفاية.
قال أبو عمرو :ويظهر تأدي الفرض به في الفتوى ،إن لــم يتــأد
في إحياء العلوم التي منهــا اســتمداد الفتــوى; لن ّــه قــام مقــام
إمامه المستقل تفريعا ً على الصحيح ،وهو جواز تقليد الميت.
9
ثم قد يستقل المقيد في مسألة أو باب خاص كمــا تقــدم ،ولــه
ص فيه لمامه بما يخرجــه علــى أصــوله ،هــذا أن يفتي فيما ل ن ّ
م ـد َدٍ
هو الصحيح الذي عليه العمل ،وإليــه مفــزع المفــتين مــن ُ
طويلة ،ثم إذا أفتى بتخريجه فالمستفتي مقلد لمامه ل له.
هكذا قطع به إمام الحرمين في كتابه الغياثي ،وما أكثر
فوائده!! 1
ف حكــاه
قال الشيخ أبو عمرو :وينبغي أن يخرج هــذا علــى خل ٌ
الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وغيره ،أن ما يخرجه أصحابنا هــل
يجوز نسبته إلى الشافعي؟ والصح أنه ل ينسب إليه.
ثم تارة يخّرج من نص معين لمامه وتارة ل يجده ،فيخّرج على
أصوله بأن يجــد دليل ً علــى شــرط مــا يحتــج بــه إمــامه فيفــتي
ص إمامه على شيء ونــص فــي مســألة تشــبهها بموجبه ،فإن ن ّ
على خلفه ،فخرج من أحدهما إلى الخر ســمي قــول ً مخرج ـًا،
وشرط هذا التخريج أن ل يجد بين نصه فرقًا ،فإن وجده وجــب
تقريرهما على ظاهرهما ،ويختلفون كثيرا ً في القــول بالتخريــج
في مثل ذلك لختلفهم في إمكان الفرق.
ق ،وقد ذكروه.
ت :وأكثر ذلك يمكن فيه الفر ُ
قل ُ
الحالــة الثالثــة :أن ل يبلــغ رتبــة أصــحاب الوجــوه ،لكنــه فقيــه
النفس ،حافظ مــذهب إمــامه ،عــارف بــأدلته ،قــائم بتقريرهــا،
ور ،ويحّرر ،ويقّرر ،ويمهد ،ويزيف ،ويرجح ،لكن ّــه قصــر عــن يص ّ
أولئك لقصــوره عنهــم فــي حفــظ المــذهب ،أو الرتيــاض فــي
الستنباط ،أو معرفة الصول ونحوها من أدواتهم.
ة كــثيرٍ مــن المتــأخرين إلــى أواخــر المــائة الرابعــة
وهــذه صــف ُ
المصنفين الذين رتبوا المذهب وحرروه ،وصّنفوا فيــه تصــانيف
سماه" :غياث المم في التياث الظلم" ،مطبوع مشهور ،نفيس في 1
وإن أشكلت كثيٌر من مسائل العصر ،مما لم يكن في سابق العهد ،لكن قواعد 2
الصول وضوابط الفقه تلحق بها ،وما أتي معاصرونا إل من ضعفهم في علوم
الولين ،فيظنون أن أكثر المسائل ل وجود لنظائرها فيما سبق من علوم الئمة،
والله أعلم.
11
قال أبو عمرو :وأن يكتفي في حفظ المذهب في هــذه الحالــة
والتي قبلهــا بكــون المعظــم علــى ذهنــه ،ويتمكــن لــدربته مــن
الوقوف على الباقي على قرب.
12
فصل
]أصناف المفتين ومراتبهم[
ل صنف منها ُيشترط فيه ة ،وك ّ
هذه أصناف المفتين وهي خمس ٌ
حفظ المذهب وفقه النفس ،فمــن تصــدى للفتيــا وليــس بهــذه
الصفة فقد باء بأمر عظيم.
ولقد قطع إمام الحرمين وغيره بأن الصولي الماهر المتصرف
ل له الفتوى بمجرد ذلك ،ولو وقعــت لــه واقعــة في الفقه ل يح ّ
ظار البحاث ،مــن لزمه أن يسأل عنها ،ويلتحق به المتصرف الن ّ
أئمة الخلف وفحول المنــاظرين; لنــه ليــس أهل ً لدراك حكــم
الواقعــة اســتقل ً
ل ،لقصــور آلتــه ،ول مــن مــذهب إمــام ،لعــدم
حفظه له على الوجه المعتبر.
فإن قيل :من حفظ كتابا ً أو أكثر في المذهب وهــو قاصــر ،لــم
يتصف بصفة أحد ممن سبق ،ولم يجد العامي في بلــده غيــره،
هل له الرجوع إلى قوله ؟
ت يجــد الســبيل إليــه وجــب مف ٍفالجواب :إن كان في غير بلده ُ
التوصل إليه بحسب إمكانه ،فــإن تعــذر ذكــر مســألته للقاصــر،
فإن وجدها بعينها فــي كتــاب موثــوق بصــحته وهــو ممــن ُيقبــل
خبره نقل له حكمه بنصــه ،وكــان العــامي فيهــا مقل ّــدا ً صــاحب
المذهب.
قال أبو عمرو :وهذا وجدّته فــي ضــمن كلم بعضــهم ،والــدليل
يعضده ،وإن لم يجدها مسطورة بعينها لم يقسها على مسطور
عنده ،وإن اعتقده من قياس ل فارق ،فإنه قد يتوهم ذلــك فــي
غير موضعه.
فإن قيل :هل لمقل ّدٍ أن يفتي بما هو مقلد فيه ؟
13
حِليمــي وأبــو محمــد الجــويني وأبــو
قلنا :قطــع أبــو عبــد اللــه ال َ
المحاسن الّروياني وغيرهم بتحريمه ،وقــال القفــال المــروزي:
يجوز.
ل من منعه معناه ل يذكره علــى صــورة مــن قال أبو عمرو :قو ُ
يقوله من عند نفسه ،بل يضيفه إلى إمامه الــذي قل ّــده ،فعلــى
هذا من عددناه من المفــتين المقلــدين ليســوا مفــتين حقيقــة،
لكن لما قاموا مقامهم وأدوا عنهــم عــدوا معهــم ،وســبيلهم أن
ل :مذهب الشافعي كذا أو نحو هذا ،ومــن تــرك منهــم يقولوا مث ً
الضافة فهو اكتفاء بالمعلوم مــن الحــال عــن التصــريح بــه ،ول
بأس بذلك.
وذكر صاحب الحاوي في العامي إذا عرف حكم حادثة بناء
على دليلها ثلثة أوجه :أحدها :يجوز أن يفتي به ويجوز تقليده ;
لنه وصل إلى علمه .كوصول العالم.
والثاني :يجوز إن كـان دليلهـا كتابـا ً أو سـنة ،ول يجــوز إن كـان
غيرهما.
والثالث :ل يجوز مطلقًا ،وهو الصح والله أعلم.
فصل
في أحكام المفتين
فيه مسائل:
إحداها :الفتاء فرض كفاية ،فإذا استفتي وليــس فــي الناحيــة
غيره تعّين عليه الجواب ،فإن كان فيها غيره وحضرا فــالجواب
في حقهما فرض كفاية ،وإن لم يحضر غيره فوجهان أصــحهما:
ل يتعين لما سبق عــن ابــن أبــي ليلــى ،والثــاني :يتعيــن ،وهمــا
كالوجهين في مثله في الشهادة.
14
ما لم يقع لم يجب جوابه.
ولو سأل عامي ع ّ
الثانية :إذا أفتى بشــيء ثــم رجــع عنــه فــإن علــم المســتفتي
برجوعه ،ولم يكن عمل بالول لم يجز العمل به ،وكذا إن نكــح
بفتواه واستمر على نكاح بفتواه ثم رجع ،لزمــه مفارقتهــا كمــا
لو تغير اجتهاد من قّلده في القبلة فــي أثنــاء صــلته ،وإن كــان
عمل قبل رجوعه فإن خالف دليل ً قاطعا ً لزم المستفتي نقــض
عمله ذلك ،وإن كــان فـي محـل اجتهــاد لــم يلزمــه نقضــه; لن
الجتهاد ل ينقض بالجتهاد.
وهذا التفصيل ذكره الصيمري والخطيب وأبــو عمــرو ،واتفقــوا
عليه ،ول أعلم خلفه ،ومـا ذكـره الغزالـي والــرازي ليــس فيـه
تصريح بخلفه.
م ،فرجــع لكــونه
قال أبو عمرو :وإذا كان ُيفتي على مذهب إمــا ٍ
بان له قطعا ً مخالفة نص مذهب إمامه ،وجب نقضــه وإن كــان
ن نــص مــذهب إمــامه فــي حقــه كنــص فــي محــل الجتهــاد; ل ّ
الشارع في حق المجتهد المستقل.
أما إذا لم يعلم المستفتي برجوع المفتي فحال المستفتي فــي
علمه كما قبل الرجوع ،ويلزم المفتي إعلمه قبل العمل ،وكــذا
بعده حيث يجب النقض.
وإذا عمل بفتواه فــي إتلف فبــان خطــؤه وأنــه خــالف القــاطع
فعن الستاذ أبي إسحاق أنــه يضــمن إن كــان أهل ً للفتــوى ،ول
صر .كذا حكــاه الشــيخ ل; لن المستفتي ق َ يضمن إن لم يكن أه ً
ّ
ل وينبغي أن يخــرج الضــمان مشك ِ ٌ
أبو عمرو وسكت عليه ،وهو ُ
علــى قــولي الغــرور المعــروف فــي بــابي الغصــب والنكــاح
وغيرهما ،أو يقطع بعدم الضمان ; إذ ليــس فــي الفتــوى إلــزام
ول إلجاء.
15
الثالثة :يحــرم التســاهل فــي الفتــوى ،ومــن عــرف بــه حــرم
رع بــالفتوى قبــلاستفتاؤه ،فمن التســاهل :أن ل يتثبــت ،وُيسـ ِ
اســتيفاء حّقهــا مــن النظــر والفكــر ،فــإن تقــدمت معرفتــه
بالمسؤول عنه فل بأس بالمبادرة ،وعلــى هــذا يحمــل مــا نقــل
عن الماضين من مبادرة.
ومن التساهل أن تحمله الغــراض الفاســدة علــى تتبــع الحيــل
المحّرمة أو المكروهة ،والتمسك بالشبه طلب ـا ً للــترخيص لمــن
يروم نفعه ،أو التغليظ على من يريد ضره.
ح قصده فاحتسب فــي ط َل َـ ِ
ب حيلـةٍ ل شــبهة فيهــا، ص ّ
ن َ
م ْ
وأما َ
لتخليص من ورطة يمين ونحوهــا فــذلك حســن جميــل ،وعليــه
يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحــو هــذا ،كقــول ســفيان:
ما العلم عندنا الرخصة من ثقة ،فأما التشـديد فيحســنه كــل "إن ّ
أحد".
سريجية فــي
ومن الحيل التي فيها شبهة ويذم فاعلها :الحيلة ال ّ
سد ّ باب الطلق.
خُلقه ،وتشــغل قلبــه، الرابعة :ينبغي أن ل يفتي في حال تغّير ُ
ويمنعه التأمل ،كغضب ،وجوع ،وعطش ،وحزن ،وفــرح غــالب،
ونعــاس ،أو ملــل ،أو حــر مزعــج أو مــرض مــؤلم ،أو مدافعــة
دث ،وكل حال يشتغل فيه قلبه ويخرج عن حد العتدال ،فإن ح َ
َ
أفــتى فـي بعــض هــذه الحــوال وهــو ي َـَرى أنــه لــم يخــرج عــن
الصواب جاز وإن كان مخاطرا ً بها !!
دي للفتــوى أن يتــبرع َ بـذلك ،ويجــوز الخامسة :المختار للمتص ّ
أن يأخــذ عليــه رزقـا ً مــن بيــت المــال ،إل أن يتعي ّــن عليــه ولــه
كفاية ،فيحرم على الصحيح.
16
ثم إن كان له رزقٌ لم يجز أخــذ أجــرة أص ـ ً
ل ،وإن لــم يكــن لــه
ن يفــتيه علــى الصــحمـ ْ
رزق فليس له أخــذ أجــرة مــن أعيــان َ
كالحاكم.
واحتال الشيخ أبو حــاتم القزوينــي مــن أصــحابنا فقــال :لــه أن
يقــول :يلزمنــي أن أفتيــك قــو ً
ل ،وأمــا كتابــة الخــط فل ،فــإذا
استأجره على كتابة الخط جاز.
قال الصيمري والخطيب :لو اتفق أهل البلــد فجعلــوا لــه رزقـا ً
من أموالهم على أن يتفرغ لفتاويهم جاز.
سمعاني له قبولها ،بخلف الحــاكم
أما الهدية فقال أبو مظفر ال ّ
فإنه يلزم حكمه.
عمرو :ينبغي أن يحرم قبولها إن كانت رشوة علــى أنقال أبو َ
يفتيه بما يريد كما في الحاكم وسائر ما ل يقابل بعوض.
قــال الخطيــب :وعلــى المــام أن يفــرض لمــن نصــب نفســه
لتدريس الفقه والفتوى في الحكــام مــا يغنيــه عــن الحــتراف،
ويكــون ذلــك مــن بيــت المــال ،ثــم روى بإســناده أن عمــر بــن
ل ممن هذه صفته مــائة ل رج ٍالخطاب رضي الله عنه أعطى ك ّ
دينار في السنة.
السادسة :ل يجوز أن يفتي في اليمان والقرار ونحوهما مما
يتعلق باللفاظ إل أن يكــون مــن أهــل بلــد اللفــظ ،أو متَنـ ـّزل ً
منـزلتهم في الخبرة بمرادهم من ألفاظهم وعرفهم فيها.
السابعة :ل يجوز لمن كانت فتواه نقل ً لمذهب إمام إذا اعتمد
ق بصــحته ،وبــأنه مــذهب
الكتب أن يعتمد إل علــى كتــاب موثــو ٍ
ذلك المام ،فإن وثق بأن أصل التصنيف بهذه الصــفة لكــن لــم
تكن هذه النسخة معتمدة ،فليستظهر بنسخ منــه مّتفقــة ،وقــد
تحصل له الثقة من نسخة غير موثوق بها فــي بعــض المســائل
17
إذا رأى الكلم منتظما ً وهو خــبير فَط ِــن ل يخفــى عليــه لــدربته
موضع السقاط والتغيير.
فإن لم يجده إل في نسخة غيــر موثـوق بهــا فقــال أبــو عمــرو:
ينظر فإن وجده موافقا ً لصول المذهب ،وهو أهل لتخريج مثله
في المذهب لو لــم يجــده منقــول ً فلــه أن يفــتي بــه .فــإن أراد
حكــايته عــن قــائله فل يقــل :قــال الشــافعي مثل ً كــذا ،وليقــل:
ت عن الشافعي كذا ،أو بلغني عنه ،ونحو هذا. َوجد ّ
وإن لم يكن أهل ً لتخريج مثله لم يجز له ذلك ،فإن سبيله النقل
المحض ،ولم يحصل ما يجوز لــه ذلــك ،ولــه أن يــذكره ل علــى
صحا ً بحــاله ،فيقــول :وجــدته فــي نســخة مــن
مف ِ
سبيل الفتوى ُ
الكتاب الفلني ونحوه.
ت على مذهب الشافعي إذا اعتمد النقــل أن ت :ل يجوز لمف ٍقل ُ
ف ومصنفين ونحوهما من كتب المتقــدمين وأكــثر يكتفي بمصن ّ ٍ
المتأخرين لكثرة الختلف بينهم في الجزم والترجيــح; لن هــذا
المفتي المــذكور إنمــا ينقــل مــذهب الشــافعي ،ول يحصــل لــه
وثوق بأن ما فــي المصــنفين المــذكورين ونحوهمــا هــو مــذهب
الشافعي ،أو الراجح منه; لما فيهما من الختلف.
وهذا مما ل يتشكك فيه من لـه أدنـى أنـس بالمـذهب ،بـل قـد
يجزم نحو عشرة من المصنفين بشيء وهو شاذ ٌ بالنســبة إلــى
ف لما عليه الجمهور ،وربمــا خــالف
الراجح في المذهب ،ومخال ٌ
ص الشافعي أو نصوصا ً له ،وسترى في هــذا الشــرح إن شــاءن ّ
الله تعالى أمثلة ذلك ،وأرجو إن تم هذا الكتاب أنه يستغنى بــه
عن كل مصّنف ويعلم به مذهب الشافعي علما ً قطعيا ً إن شــاء
الله تعالى.
الثامنة :إذا أفتى في حادثة ثم حدثت مثلها ،فإن ذكر الفتــوى
الولى ودليلها بالنسبة إلــى أصــل الشــرع إن كــان مســتق ً
ل ،أو
18
إلى مذهبه إن كان منتسبًا ،أفتى بذلك بل نظر ،وإن ذكرها ولم
يذكر دليلها ول طرأ ما يوجب رجوعه ،فقيل :له أن يفتي بذلك،
والصح وجوب تجديد النظر.
ومثله القاضــي إذا حكــم بالجتهــاد ثــم وقعــت المســألة ،وكــذا
تجديــد الطلــب فــي الــتيمم ،والجتهــاد فــي القبلــة ،وفيهمــا
الوجهان.
قال القاضي أبــو الطيــب فــي تعليقــه فــي آخــر بــاب اســتقبال
القبلة :وكذا العامي إذا وقعت له مسألة فسأل عنها ثم وقعــت
له فليلزمه السؤال ثانيا ً يعنــي علــى الصــح قــال :إل أن تكــون
مسألة يكثر وقوعها ويشق عليه إعادة السؤال عنها ،فل يلزمه
ذلك ،ويكفيه السؤال الول للمشقة.
التاســعة :ينبغــي أن ل يقتصــر فــي فتــواه علــى قــوله :فــي
المسألة خلف ،أو قولن ،أو وجهان ،أو روايتان ،أو يرجــع إلــى
رأي القاضي ،ونحــو ذلــك ،فهذا ليــس بجــواب ،ومقصــود
المستفتي بيان ما يعمل به ،فينبغي أن يجزم له بمــا
قــف حــتى يظهــر ،أو هو الراجــح ،فــإن لــم يعرفــه تو ّ
يترك الفتاء كما كان جماعة من كبار أصحابنا يمتنعــون مــن
الفتاء في حنث الناسي.
19
فصل
في آداب الفتوى
فيه مسائل
إحداها :يلزم المفتي أن يبين الجواب بيانا ً يزيل الشكال ،ثم
له القتصار على الجواب شفاهًا .فإن لم يعرف لسان
ة،
المستفتي كفاه ترجمة ثقة واحد; لنه خبر ،وله الجواب كتاب ً
وإن كانت الكتابة على خطر.
وكان القاضي أبو حامد كثير الهرب من الفتوى في الّرقاع.
قال الصيمري :وليس من الدب كــون الســؤال بخــط المفــتي،
فأما بإملئه وتهذيبه فواسع ،وكان الشيخ أبو إسحاق الشيرازي
قد يكتب السؤال على ورق له ،ثم يكتب الجواب .وإذا كان في
الرقعة مسائل فالحسن ترتيب الجواب على ترتيــب الســؤال،
ولو ترك الترتيب فل بأس ،ويشبه معنى قول الله تعالى) :يــوم
تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الــذين اســودت( ،وإذا كــان فــي
المسألة تفصيل لم يطلق الجواب فإنه خطأ.
ثم له أن يستفصل السائل إن حضر ،ويقيد السؤال فــي رقعــة
أخرى ثم يجيب ،وهذا أولى وأسلم ،وله أن يقتصر على جــواب
أحد القسام إذا علم أنه الواقع للســائل ،ويقــول :هــذا إذا كــان
م كـ ّ
ل صل القسام في جوابه ،ويــذكر حك ـ َ المر كذا ،وله أن يف ّ
قسم.
لكن هذا كرهه أبو الحسن القابسي من أئمة المالكيــة وغيــره.
وقالوا :هذا تعليم الناس الفجور.
صل القسام واجتهد في بيانها
وإذا لم يجد المفتي من يسأله ف ّ
واستيفائها.
20
الثانية :ليس له أن يكتب الجواب على مــا علمــه مــن صــورة
الواقعة إذا لم يكن في الرقعة تعّرض له ،بل يكتــب جــواب مــا
في الرقعة ،فــإن أراد جــواب مــا ليــس فيهــا فليقــل :وإن كــان
المر كذا وكذا ،فجوابه كذا.
واستحب العلماء أن يزيد على ما في الرقعة ما لــه تعل ّــق بهــا.
مما يحتاج إليه السائل لحديث) :هو الطهور ماؤه الحل ميتته(.
الثالثة :إذا كان المستفتي بعيد الفهم فليرفقْ به ،ويصبر على
تفهم سؤاله ،وتفهيم جوابه ،فإن ثوابه جزيل.
الرابعة :ليتأمل الرقعة تأمل ً شافيًا ،وآخُرها آكد ،فإن الســؤال
في آخرها ،وقد يتقيد الجميع بكلمة في آخرها ويغفل عنها.
قال الصيمري :قال بعض العلماء :ينبغي أن يكــون تــوقفه فــي
المسألة الســهلة كالصــعبة ليعتــاده ،وكــان محمــد بــن الحســن
يفعله.
وإذا وجد كلمة مشتبهة سأل المستفتي عنها ونّقطهــا وشــكلها،
وكذا إن وجد لحنا ً فاحشـا ً أو خطـأ يحيـل المعنـى أصـلحه ،وإن
رأى بياضا ً في أثناء ســطر أو آخــره خــط عليــه أو شــغله; لن ّــه
ربما قَ َ
صد المفتى باليــذاء ،فكتــب فــي البيــاض بعــد فتــواه مــا
يفسدها ،كما بلي به القاضي أبو حامد المروروذي.
مــن هــو أهــل
الخامسة :يستحب أن يقرأهــا علــى حاضــريه م ّ
لـذلك ،ويشـاورهم ويبـاحثهم برفـق وإنصـاف ،وإن كـانوا دونـه
وتلمذته؛ للقتداء بالسلف ،ورجاء ظهور ما قد يخفى عليــه ،إل
أن يكون فيها ما يقبح إبداؤه ،أو يــؤثر الســائل كتمــانه ،أو فــي
إشاعته مفسدة.
ح وسط ،ل دقيــق خــاف، السادسة :ليكتب الجواب بخط واض ٍ
ول غليظ جاف ،ويتوسط في سطورها بين توسيعها وتضــييقها،
21
وتكــون عبــارة واضــحة صــحيحة تفهمهــا العامــة ول يزدريهــا
الخاصة.
واستحب بعضهم أن ل تختلف أقلمه وخطه ; خوفا ً من التزوير
; ولئل يشتبه خطه ،قال الصيمري :قل ما وجد التزوير على
س أمر الدين.
حَر َ
المفتي ; لن الله تعالى َ
وإذا كتب الجواب أعاد نظره فيه; خوفا ً من اختلل وقع فيه ،أو
إخلل ببعض المسؤول عنه.
السابعة:إذا كان هو المبتدي فالعادة قــديما ً وحــديثا ً أن يكتــب
في الناحية اليسرى من الورقة.
قال الصيمري وغيره :وإن كتب من وسط الرقعــة أو حاشــيتها
فل عتب عليه ،ول يكتب فوق البسملة بحال ،وينبغــي أن يــدعو
إذا أراد الفتاء.
وجاء عن مكحول ومالك -رحمهما الله -أنهما كانا ل يفتيان
حتى يقول :ل حول ول قوة إل بالله.
ويستحب الستعاذة من الشيطان ،ويسمي الله تعالى ويحمده،
ويصلي على النبي صلى الله عليه وســلم وليقــل) :رب اشــرح
لي صدري( الية ونحو ذلك.
قــال الصــيمري :وعــادة كــثيرين أن يبــدءوا فتــاويهم) :الجــواب
وبالله التوفيق( ،وحذف آخرون ذلك ،قال :ولو عمل ذلك فيمــا
طال من المسائل واشتمل علــى فصــول ،وحــذف فــي غيــره،
كان وجهًا.
ت :المختار قول ذلك مطلقًا ،وأحسنه البتداء بقول) :الحمــد قل ُ
ل أمر ذي بال ل يبدأ بالحمد للــه فهــو أجــذم(، لله( ،لحديث) :ك ُ ّ
وينبغي أن يقوله بلسانه ويكتبه ،قــال الصــيمري :ول يــدع ختــم
جوابه بقــوله) :وبــالله التوفيــق( ،أو) :واللــه أعلــم( ،أو) :واللــه
22
الموفــق( ،قــال :ول يقبــح قــوله) :الجــواب عنــدنا( ،أو) :الــذي
عندنا( ،أو) :الذي نقول به( ،أو) :نذهب إليــه( ،أو) :نــراه كــذا(،
لنه من أهل ذلك ،قال :وإذا أغفــل الســائل الــدعاء للمفــتي أو
الصلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الفتــوى
ألحق المفتي ذلك بخطه ،فإن العادة جارية به.
ت :وإذا ختم الجواب بقوله) :والله أعلم( ونحوه مما سبق قل ُ
فليكتب بعده :كتبه فلن ،أو :فلن بــن فلن الفلنــي ،فينتســب
إلــى مــا يعــرف بــه مــن قبيلــة أو بلــدة أو صــفة ،ثــم يقــول:
ل ،فإن كان مشــهورا ً بالســم أو غيــره الشافعي ،أو :الحنفي مث ً
فل بأس بالقتصار عليه.
قـال الصــيمري :ورأى بعضـهم أن يكتـب المفــتي بالمــداد دون
الحبر خوفا ً من الحك ،قال :والمستحب الحبر ل غير.
ت :ل يختص واحد منهما هنا بالستحباب ،بخلف كتب العلم، قل ُ
فالمستحب فيها الحبر; لنها تراد ُ للبقاء ،والحبر أبقى.
قال الصيمري :وينبغي إذا تعلقت الفتــوى بالســلطان أن يــدعو
له فيقول) :وعلى ولي المر أو السلطان أصلحه الله أو سدده
الله أو قوى الله عزمه أو أصلح الله به ،أو شد اللــه أزره( ،ول
يقل) :أطال الله بقاءه( ،فليست من ألفاظ السلف.
حاس وغيره اتفاق العلماء علــى كراهــة ت :نقل أبو جعفر الن ّ ّ
قل ُ
قول) :أطال الله بقاءك( ،وقــال بعضــهم :هــي تحيــة الزنادقــة،
وفي صحيح مسلم في حديث أم حبيبة رضي الله عنهــا إشــارة
إلى أن الولى ترك نحو هذا من الدعاء بطول البقاء وأشباهه.
الثامنة :ليختصر جوابه ويكون بحيث تفهمه العامة.
قال صاحب الحاوي :يقول :يجوز ،أو ل يجوز ،أو حق ،أو باطل.
23
وحكى شيخه الصيمري عن شيخه القاضي أبي حامد أنــه كــان
يختصر غاية ما يمكنه ،واستفتي في مسألة آخرهــا :يجــوز أم ل
؟ فكتب) :ل ،وبالله التوفيق(.
التاسعة :قال الصيمري والخطيب :إذا سئل عمــن قــال) :أنــا
أصدق من محمد بن عبد الله( ،أو )الصلة لعب( ،وشــبه ذلــك،
فل يبادر بقوله :هذا حلل الدم أو :عليــه القتــل ،بــل يقــول :إن
صح هذا بإقراره ،أو بالبينة ،استتابه السلطان ،فإن تــاب قبلــت
توبته ،وإن لم يتب فعل به كذا وكذا ،وبالغ في ذلك وأشبعه.
من تكلم بشيء ،يحتمل وجوها ً يكفــر ببعضــها قال :وإن سئل ع ّ
دون بعــض قــال :يســأل هــذا القــائل .فــإن قــال :أردت كــذا،
فالجواب كذا.
وإن ســئل عمــن قتــل أو قلــع عينــا ً أو غيرهــا احتــاط ،فــذكر
الشروط التي يجب بجميعها القصاص.
وإن سئل عمن فعل ما يوجب التعزير ،ذكر ما يعزر به فيقول:
يضــربه الســلطان كــذا وكــذا ،ول يــزاد علــى كــذا ،هــذا كلم
الصيمري والخطيب وغيرهما.
قال أبو عمرو :ولو كتب :عليه القصــاص ،أو التعزيــر بشــرطه،
فليس ذلك بــإطلق ،بــل تقييــده بشــرطه يحمــل الــوالي علــى
السؤال عن شرطه والبيان أولى.
العاشرة :ينبغي إذا ضاق موضع الجواب أن ل يكتبه في رقعة
أخرى خوفا ً من الحيلة ،ولهذا قالوا :يصــل جــوابه بــآخر ســطر،
ول يدع فرجة; لئل يزيد السائل شيئا ً يفسدها ،وإذا كـان موضـع
الجواب ورقة ملصــقة كتــب علــى اللصــاق ،ولــو ضــاق بــاطن
الرقعة وكتب الجواب في ظهرها كتبه في أعلهــا إل أن يبتــدئ
من أسفلها متصل ً بالستفتاء فيضيق الموضع فيتمه في أســفل
ظهرها ليتصل جوابه ،واختار بعضهم أن يكتــب علــى ظهرهــا ل
24
على حاشيتها ،والمختار عند الصيمري وغيره أن حاشيتها أولى
من ظهرها ،قال الصيمري وغيره :والمر في ذلك قريب.
الحادية عشرة :إذا ظهــر للمفــتي أن الجــواب خلف غــرض
المســتفتي وأنــه ل يرضــى بكتــابته فــي ورقتــه فليقتصــر علــى
مشافهته بالجواب ،وليحذر أن يميل في فتواه مع المستفتي أو
خصمه ،ووجوه الميل كثيرة ل تخفى ،منها أن يكتب في جــوابه
ما هو له ويترك ما عليه ،وليس له أن يبدأ فــي ســائل الــدعوى
والبينات بوجوه المخالص منها.
وإذا سأله أحدهم وقال :أي شيء تندفع دعــوى كــذا وكــذا ؟ أو
بينة كذا ؟ لم يجبه كي ل يتوصل بذلك إلى إبطال حق ،ولــه أن
يسأله عن حاله فيما ادعى عليه ،فإذا شرحه عرفه بما فيه من
دافع وغير دافع.
قال الصيمري :وينبغي للمفتي إذا رأى للسائل طريق ـا ً يرشــده
إليه ينبهه عليه ،يعني ما لم يضر غيره ضــررا ً بغيــر حــق ،قــال:
ف ينفق على زوجته شهرًا ،يقول :يعطيها من صــداقها حل َ َ
كمن َ
أو قرضا ً أو بيعا ً يبريها ،وكما حكي أن رجل ً قــال لبــي حنيفــة -
ت أني أطأ امرأتي في نهار رمضــان ول أكفــر رحمه الله :-حلف ُ
ول أعصي ،فقال :سافر بها.
الثانية عشرة :قال الصــيمري إذا رأى المفــتي المصــلحة أن
ظ وهو مما ل يعتقد ظــاهره ،ولــه فيــهيفتي لعامي بما فيه تغلي ٌ
تأويل ،جاز ذلك زجرا ً له ،كما روي عن ابن عبــاس رضــي اللــه
عنهما أنه سئل عن توبة قاتل فقال) :ل توبــة لــه( وســأله آخــر
فقال) :له توبــة( ثــم قــال" :أمــا الول فرأيــت فــي عينــه إرادة
ل فلم أقنطه ". القتل فمنعته ،وأما الثاني فجاء مستكينا ً قد ض ّ
ت عبدي عليقال الصيمري :وكذا إن سأله رجل فقال :إن قتل ُ
قصاص؟ فواسع أن يقول :إن قتلـت عبـدك قتلنـاك ،فقـد روي
25
عن النبي صلى الله عليه وسلم" :من قتل عبده قتلنــاه" ،ولن
القتل له معان :ولو سئل عن سب الصحابي هل يــوجب القتــل
؟ فواسع أن يقول :عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
مــن ســب أصــحابي فــاقتلوه" ،فيفعــل كــل هــذا; زجــرا ً
قالَ " :
ل دينه ومروءته.للعامة ،ومن قَ ّ
الثالثــة عشــرة :يجــب علــى المفــتي عنــد اجتمــاع الّرقــاع
بحضرته أن يقدم الســبق فالســبق ،كمــا يفعلــه القاضــي فــي
الخصوم ،وهذا فيمــا يجــب فيــه الفتــاء ،فــإن تســاووا أو جهــل
السابق قدم بالقرعة.
والصحيح أنه يجوز تقديم المــرأة والمســافر الــذي ش ـد ّ رحلــه،
وفـي تـأخيره ضــرر بتخلفــه عــن رفقتــه ونحــو ذلـك علــى مـن
سبقهما ،إل إذا كثر المسافرون والنساء ،بحيــث يلحــق غيرهــم
بتقديمهم ضرٌر كثير فيعود بالتقــديم بالســبق أو القرعــة .ثــم ل
يقدم أحدا ً إل في فتيا واحدة.
الرابعة عشرة :قــال الصــيمري وأبــو عمــرو :إذا ســئل عــن
ث فليست العادة أن يشترط في الورثة عدم الرق والكفر ميرا ٍ
والقتل ،وغيرها من موانع الميراث ،بل المطلق محمــول علــى
ذلك بخلف ما إذا أطلق الخوة والخوات والعمام وبنيهــم ،فل
بد أن يقول في الجــواب :مــن أب وأم ،أو مــن أب ،أو مــن أم،
وإذا سئل عن مسألة عول كالمنبرية ،وهي زوجة وأبوان وبنتان
فل يقل :للزوجة الثمــن ،ول التســع; لنــه لــم يطلقــه أحـد ٌ مــن
ل ،وهي ثلثة أسهم من ســبعة السلف ،بل يقول :لها الثمن عائ ً
وعشرين ،أو لها ثلثة أسهم من سبعة وعشرين ،أو يقــول :مــا
قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضــي اللــه عنــه :صــار
ثمنها تسعًا.
ن ل يرث أفصــح
م ْ
وإذا كان في المذكورين في رقعة الستفتاء َ
بسقوطه فقال :وسقط فلن ،وإن كان سقوطه في حــال دون
26
حال قــال :وســقط فلن فــي هــذه الصــورة أو نحــو ذلــك ; لئل
يتوهم أنه ل يرث بحال.
وإذا ســئل عــن إخــوة وأخــوات ،أو بنيــن وبنــات ،فل ينبغــي أن
يقول :للــذكر مثــل حــظ النــثيين ،فــإن ذلــك قــد يشــكل علــى
العامي ،بل يقول :يقتسمون التركة على كذا وكذا سهمًا ،لكــل
ذ َك َرٍ كذا وكذا سهمًا ،ولكل أنثى كذا وكذا سهمًا.
قال الصيمري :قال الشيخ :ونحن نجد فــي تعمــد العــدول عنــه
حزازة في النفس ،لكونه لفظ القرآن العزيز ،وأنه قّلما يخفــى
معناه على أحد.
وينبغي أن يكون في جواب مسائل المناسخات شديد التحرز
والتحفظ ،وليقل فيها لفلن كذا وكذا ميراثه من أبيــه ،ثــم مــن
أخيه.
قال الصيمري :وكان بعضهم يختــار أن يقــول :لفلن كــذا وكــذا
سهمًا ،ميراثه عــن أبيــه كــذا ،وعــن أمــه كــذا ،قــال :وكــل هــذا
قريب.
قال الصــيمري وغيــره :وحســن أن يقــول :تقســم التركــة بعــد
إخراج ما يجب تقديمه من دين أو وصية إن كانا.
الخامسة عشرة :إذا رأى المفتي رقعة الستفتاء وفيها خــط
طه فيها موافق لما عنده ،قــال ل للفتوى ،وخ ّ
غيره ،ممن هو أه ٌ
الخطيب وغيره :كتــب تحــت خطــه) :هــذا جــواب صــحيح ،وبــه
أقول( .أو كتب) :جوابي مثل هذا( .وإن شاء ذكر الحكم بعبارة
ألخص من عبارة الذي كتب.
وأما إذا رأى فيها خط من ليس أهل ً للفتوى ،فقــال الصــيمري:
رب علــى ذلــك
ض ِ ل يفتي معه; لن ذلك تقريرا ً منه لمنك ٍ
ر ،بل ي َ ْ
27
بأمر صاحب الرقعة ،ولو لم يستأذنه في هذا القــدر جــاز ،لكــن
ليس له احتباس الرقعة إل بإذن صاحبها.
قال :وله انتهار السائل وزجره ،وتعريفه قبح ما أتاه ،وأنه كــان
واجبا ً عليه البحث عن أهل للفتوى ،وطلب من هو أهل لذلك.
وإن رأى فيها اســم مــن ل يعرفــه ســأل عنــه ،فــإن لــم يعرفــه
فواسع أن يمتنع من الفتوى معه ،خوفا ً مما قلناه.
قال :وكان بعضهم في مثل هذا يكتب على ظهرها.
قال :والولى في هذا الموضع أن يشار علــى صــاحبها بإبــدالها،
فإن أبى ذلك أجابه شفاها.
ة مــن الضــرب علــى فتيــا العــادم قال أبو عمرو :وإذا خاف فتن ً
ل إلى المتناع مــن الفتيــا معــه ،فــإن للهلية ،لم تكن خطأ ،عد َ
غلبت فتاويه لتغلبه فــي منصــبها بجــاه أو تلــبيس أو غيــر ذلــك،
بحيث صار امتناع الهل من فتيا معه ضارا ً بالمستفتين ،فليفت
معه ،فإن ذلك أهون الضررين ،وليتلطف مــع ذلــك فــي إظهــار
قصوره لمن يجهله.
أمــا إذا وجــد فتيــا مــن هــو أهــل وهــي خطــأ مطلقـا ً
بمخالفتها القاطع ،أو خطــأ علــى مــذهب مــن يفــتي
ذلك خطئ على مــذهبه قطع ـا ً فل يجــوز لــه المتنــاع
من الفتاء ،تاركا ً للتنبيه في خطئها إذا لم يكفه ذلك
غيره ،بل عليه الضرب عليهــا عنــد تيســره ،أو إبــدال
وتقطيع الرقعة بــإذن صــاحبها ،أو نحــو ذلــك ومــا يقــوم
مقامه وكتب صواب جوابه عند ذلك الخطأ.
ثم إن كــان المخطــئ أهل ً للفتــوى فحســن أن تعــاد إليــه بــإذن
صاحبها ،أما إذا وجد فيها فتيا أهل للفتوى ،وهي على خلف ما
28
يراه هو ،غير أنه ل يقطع بخطئها ،فليقتصــر علــى كتــب جــواب
نفسه ،ل يتعرض لفتيا غيره بتخطئة ول اعتراض.
قال صاحب الحاوي :ل يســوغ إذا اســتفتي أن يتعــرض لجــواب
غيره برد ّ ول تخطئة ،ويجيب بما عنده موافقة أو مخالفة.
السادسة عشرة :إذا لــم يفهــم المفــتي الســؤال أص ـل ً ولــم
يحضر صاحب الواقعة فقال الصيمري يكتب) :يزاد في الشــرح
ليجيب عنه( ،أو )لم أفهم ما فيها فأجيب(.
قال :وقال بعضهم :ل يكتب شيئا ً أص ً
ل.
ت بعضــهم كتــب فـي هـذا :يحضــر الســائل لنخــاطبه
قـال :رأيـ ُ
شفاهًا.
وقــال الخطيــب :ينبغــي لــه إذا لــم يفهــم الجــواب أن يرشــد
ت آخـر إن كـان ،وإل فليمسـك حـتى يعلـم مفـ ٍالمستفتي إلـى ُ
الجواب.
قال الصيمري :وإذا كان في رقعة استفتاء مسائل فُهِ َ
م بعضــها
دون بعض ،أو فهمها كلها ولم يرد الجواب في بعضها ،أو احتاج
مــا أراد وســكت عــن
في بعضها إلى تأمل أو مطالعة ،أجــاب ع ّ
الباقي ،وقال) :لنا في الباقي نظر أو تأمل أو زيادة نظر(.
السابعة عشرة :ليــس بمنك َــر أن يــذكر المفــتي فــي فتــواه
الحجة إذا كانت نصا ً واضحا ً مختصرًا.
قال الصيمري :ل يذكر الحجة إن أفتى عاميًا ،ويذكرها إن أفتى
فقيهًا ،كمن يسأل عن النكاح بل ولــي فحســن أن يقــول :قــال
رسول الله صلى الله عليه وسـلم) :ل نكـاح إل بـولي( ،أو عـن
رجعة المطلقة بعد الدخول فيقول :له رجعتها قال الله تعــالى:
)وبعولتهن أحق بردهن(.
29
قال :ولم تجر العادة أن يذكر في فتواه طريق الجتهاد ،ووجــه
ض فيــومئ القياس والستدلل ،إل أن تتعلق الفتوى بقضــاء قــا ٍ
فيها إلى طريق الجتهاد ،ويلــوح بالنكتــة ،وكــذا إذا أفــتى غيــره
ط فيفعل ذلك لينبه على ما ذهب إليــه ،ولــو كــان فيمــا فيها بغل ٍ
ض فحسن أن يلوح بحجته. يفتي به ُ
غمو ٌ
وقال صاحب الحاوي :ل يذكر حجة ليفرق بين الفتيا والتصنيف.
ل لساغ إلى كثير ،ولصار المفتي
قال :ولو ساغ التجاوز إلى قلي ٍ
مدرسًا.
والتفصيل الذي ذكرناه أولى من إطلق صاحب الحاوي المنع.
وقــد يحتــاج المفــتي فــي بعــض الوقــائع إلــى أن يشــدد ويبــالغ
فيقول) :وهذا إجماع المسلمين( ،أو) :ل أعلم في هــذا خلفـًا(،
أو) :فمن خالف هذا فقد خالف الواجب وعدل عــن الصــواب(،
أو) :فقد أثم وفسق( ،أو) :وعلى ولـي المــر أن يأخــذ بهــذا ول
يهمل المر( ،وما أشبه هذه اللفــاظ علــى حســب مــا تقتضــيه
المصلحة وتوجيه الحال.
الثامنة عشرة :قال الشيخ أبو عمرو -رحمه اللــه :-ليــس لــه
إذا اســـتفتي فــي شــيء مـــن المســائل الكلميــة أن يفـــتي
بالتفصيل ،بل يمنع مســتفتيه وســائر العامــة مــن الخــوض فــي
ل ،ويــأمرهم بــأن يقتصــروا فيهــاذلك أو في شيء منــه وإن ق ـ ّ
على اليمان جملة من غير تفصيل ،ويقولوا فيهـا وفـي كـل مـا
ورد من آيات الصفات وأخبارها المتشابهة :إن الثابت فيها فــي
نفــس المــر مــا هــو اللئق فيهــا بجلل اللــه -تبــارك وتعــالى،-
وكماله وتقديسه المطلق ،فيقــول معتقــدنا فيهــا ،وليــس علينــا
تفصيله وتعيينه ،وليس البحـث عنـه مـن شـأننا ،بـل نكـل علـم
تفصيله إلى اللــه -تبــارك وتعــالى -ونصــرف عــن الخــوض فيــه
قلوبنا وألسنتنا ،فهذا ونحوه هو الصواب من أئمــة الفتــوى فــي
30
ذلك ،وهو سبيل سلف المة ،وأئمة المذاهب المعتــبرة ،وأكــابر
العلماء والصالحين وهو أصون وأسلم للعامة وأشباههم.
ل ،ففي هذا صرف لــه ومن كان منهم اعتقد اعتقادا ً باطل ً تفصي ً
عن ذلك العتقاد الباطل بما هو أهون وأيسر وأسلم ،وإذا عزر
ولي المر من حاد منهم عن هذه الطريقة ،فقد تأسى بعمر بن
الخطاب رضي الله عنه في تعزير صبيح -بفتح الصاد المهملــة-
الذي كان يسأل عن المتشابهات على ذلك.
قال :والمتكلمون من أصحابنا معترفون بصحة هــذه الطريقــة،
وبأنها أسلم لمن سلمت له ،وكان الغزالي منهم في آخر أمــره
شديد المبالغة في الــدعاء إليهــا والبرهنــة عليهــا ،وذكــر شــيخه
إمام الحرمين في كتــابه الغيــاثي أن المــام يحــرص مــا أمكنــه
على جمع الخلق على سلوك سبيل السلف في ذلك.
واستفتي الغزالي في كلم اللــه -تبــارك وتعــالى -فكــان مــن
جوابه :وأما الخوض في أن كلمه تعالى حرف وصوت أو ليــس
كذلك فهو بدعة ،وكل من يدعو العوام إلــى الخــوض فــي هــذا
فليس من أئمة الدين ،وإنما هو من المضلين ،ومثاله من يدعو
الصبيان الذين ل يحســنون الســباحة إلــى خــوض البحــر ،ومــن
من المقَعد إلى السفر في البراري من غير مركوب. يدعو الّز ِ
وفي رسالة له :الصواب للخلق كلهم إل الشاذ النــادر ،الــذي ل
تسمح العصار إل بواحد منهم أو اثنين ،سلوك مسـلك السـلف
في اليمان المرسل ،والتصديق المجمل ،بكــل مــا أنـــزله اللــه
تعالى ،وأخبر به رسول الله صــلى اللــه عليــه وســلم مــن غيــر
بحث وتفتيش ،والشتغال بالتقوى ففيه شغل شاغل.
وقال الصيمري في كتابه أدب المفتي والمستفتي :إن مما
أجمع عليه أهل الفتوى أن من كان موسوما ً بالفتوى في الفقه
31
لم ينبغ -وفي نسخة :لــم يجــز -لــه أن يضــع خطــه بفتــوى فــي
مسألة من علم الكلم.
قال :وكان بعضهم ل يستتم قراءة مثل هذه الرقعة.
قال :وكره بعضهم أن يكتب :ليس هذا من علمنا ،أو ما جلســنا
لهذا ،والسؤال عن غير هــذا أولــى ،بــل ل يتعــرض لشــيء مــن
ذلك.
وحكى المام الحافظ الفقيه أبو عمرو بن عبد البر المتناع من
الكلم في كل ذلك عن الفقهاء والعلماء قديما ً وحديثا ً من أهــل
الحديث والفتوى ،قال :وإنما خالف ذلك أهل البدع.
قال الشيخ :فإن كانت المسألة مما يؤمن فــي تفصــيل جوابهــا
ل ،وذلك بأن يكون من ضرر الخوض المذكور جاز الجواب تفصي ً
جوابها مختصرا ً مفهومًا ،ليس لها أطراف يتجاذبها المتنازعون،
والسؤال عنه صادر عن مسترشـد خـاص منقــاد ،أو مــن عامـة
قليلة التنازع والمماراة ،والمفتي ممــن ينقــادون لفتــواه ونحــو
هذا ،وعلى هذا ونحوه يحمــل مــا جــاء عــن بعــض الســلف مــن
بغض الفتوى في بعض المســائل الكلميــة ،وذلــك منهــم قليــل
نادر والله أعلم.
التاسعة عشرة :قـال الصــيمري والخطيــب -رحمهمــا اللــه:-
وإذا سأل فقيه عن مسألةٍ من تفسير القرآن العزيز فإذا كانت
تتعلق بالحكام أجاب عنها وكتب خطه بــذلك ،كمــن ســأل عــن
الصلة الوسطى ،والقرء ،ومن بيـده عقـدة النكـاح ،وإن كـانت
ليسـت مـن مســائل الحكـام ،كالســؤال :عـن الرقيـم والنقيــر
والقطميـر والغسـلين ،رده إلـى أهلــه ،ووكلـه إلـى مـن نصــب
نفسه له من أهل التفسير ،ولو أجابه شفاها لــم يســتقبح ،هــذا
كلم الصيمري والخطيب.
32
ولو قيل :إنه يحسن كتابته للفقيه العارف به ،لكان حســنًا ،وأي
فرق بينه وبين مسائل الحكام ؟ والله أعلم.
33
فصل
في آداب المستفتي وصفته وأحكامه
فيه مسائل:
إحداها في صفة المستفتي :كل مــن لــم يبلــغ درجــة المفــتي
ت مقل ّــد مــن
مســتف ٍ
فهو فيما يسأل عنه من الحكام الشــرعية ُ
يفتيه.
ل مــن يجــوز عليــه الصــرار
والمختار في التقليد أنه قبــول قــو ِ
جة على عين ما قبل قوله فيه ،ويجب عليــه على الخطأ بغير ح ّ
الستفتاء إذا نـزلت به حادثة ،يجب عليه علم حكمها ،فــإن لــم
يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرحيل إلى مــن يفــتيه ،وإن
بعدت داره ،وقد رحل خلئق من السلف في المسألة الواحــدة
الليالي واليام.
الثانية:يجب عليــه قطعـا ً البحــث الــذي يعــرف بــه أهليــة مــن
يستفتيه للفتاء إذا لم يكن عارفا ً بأهليته.
فل يجوز له استفتاء من انتسب إلى العلم ،وانتصــب للتــدريس
والقــراء وغيــر ذلــك مــن مناصــب العلمــاء ،بمجــرد انتســابه
وانتصابه لذلك.
ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهل ً للفتوى.
وقــال بعــض أصــحابنا المتــأخرين :إنمــا يعتمــد قــوله :أنــا أهــل
للفتوى ل شهرته بذلك ،ول يكتفي بالستفاضة ول بـالتواتر; لن
الستفاضة والشهرة بين العامة ل يوثق بها ،وقــد يكــون أصــلها
التلبيس ،وأما التواتر فل يفيد العلم إذا لــم يســتند إلــى معلــوم
محسوس.
34
والصحيح هو الول ; لن إقدامه عليها إخباٌر منه بأهليته ،فإن
الصورة مفروضة فيمن وثق بديانته ،ويجوز اســتفتاء مــن أخــبر
المشهور المذكور بأهليته.
قال الشيخ أبو إسحاق المصنف -رحمه الله -وغيره :يقبــل فــي
أهليته خبر العدل الواحد.
قال أبو عمرو :وينبغي أن نشترط في المخــبر أن يكــون عنــده
من العلم والبصر ما يميز به الملتبس من غيره ،ول يعتمد فــي
ذلك على خبر آحاد العامة ،لكثرة ما يتطرق إليهم من التلــبيس
في ذلك.
وإذا اجتمع اثنان فأكثر ممن يجوز استفتاؤهم فهـل يجــب عليـه
الجتهاد فــي أعلمهــم ؟ والبحــث عــن العلــم والورع والوثــق
ليقلده دون غيره فيه وجهان:
أحدهما :ل يجب ،بل له استفتاء مــن شــاء منهــم ; لن الجميــع
أهل ،وقد أسقطنا الجتهاد عن العامي ،وهذا الوجه هو الصحيح
عند أصحابنا العراقيين ،قالوا :وهو قول أكثر أصحابنا.
والثاني :يجب ذلك; لنه يمكنه هذا القدر من الجتهاد بالبحث
والسؤال ،وشواهد الحوال .وهذا الوجه قول أبــي العبــاس بــن
سريج ،واختيار القفــال المــروزي ،وهــو الصــحيح عنــد القاضــي
حسين ،والول أظهر ،وهو الظاهر من حال الولين.
قال أبــو عمــرو -رحمــه اللــه ،-لكــن مــتى اطلــع علــى الوثــق،
فالظهر أنه يلزمــه تقليــده ،كمــا يجــب تقــديم أرجــح الــدليلين،
وأوثق الروايتين ،فعلى هذا يلزمـه تقليــد الورع مـن العـالمين،
والعلم من الورعين ،فإن كان أحدهما أعلم ،والخر أورع ،قلد
العلم على الصح.
35
وفي جواز تقليد الميت وجهان :الصحيح :جوازه; لن المــذاهب
ل تموت بموت أصحابها ،ولهــذا يعتــد بهــا بعــدهم فــي الجمــاع
والخلف ،ولن مــوت الشــاهد قبــل الحكــم ل يمنــع الحكــم
بشـــهادته بخلف فســـقه .والثـــاني :ل يجـــوز لفـــوات أهليتـــه
كالفاسق ،وهذا ضعيف ل سيما في هذه العصار.
الثالثة :هل يجوز للعامي أن يتخير ويقلد أي مذهب شاء قــال
الشيخ :ينظر :إن كان منتسبا ً إلى مــذهب بنينــاه علــى وجهيــن
حكاهما القاضي حسين في أن العامي هــل لــه مــذهب أم ل ؟
أحدهما ل مذهب له; لن المذهب لعارف الدلة فعلــى هــذا لــه
أن يستفتي من شاء من حنفي وشافعي وغيرهما.
والثاني وهو الصح عند القّفال له مذهب فل يجوز له مخالفته.
وقد ذكرنا في المفتي المنتسب ما يجوز لــه أن يخــالف إمــامه
فيه ،وإن لم يكن منتسبا ً بني على وجهين حكاهمــا ابــن برهــان
في أن العامي :هل يلزمه أن يتمــذهب بمــذهب معيــن ؟ يأخــذ
برخصه وعزائمه ؟ أحدهما ل يلزمه كما لم يلزمــه فــي العصــر
الول أن يخــص بتقليــده عالم ـا ً بعينــه ،فعلــى هــذا هــل لــه أن
يستفتي من شاء ؟ أم يجب عليــه البحــث عــن أشــد المــذاهب
وأصحها أص ـل ً ليقلــد أهلــه ؟ فيــه وجهــان مــذكوران كــالوجهين
السابقين في البحث عن العلم والوثق من المفتين .والثــاني:
يلزمه وبه قطع أبو الحسن إلكيا ،وهو جارٍ في كل من لم يبلــغ
رتبة الجتهاد من الفقهاء وأصحاب سائر العلوم.
ووجهه أنه لو جاز اتباع أي مذهب شاء لفضــى إلــى أن يلتقــط
رخــص المــذاهب متبعـا ً هــواه ،ويتخيــر بيــن التحليــل والتحريــم
والوجــوب والجــواز ،وذلــك يــؤدي إلــى انحلل ربقــة التكليــف
بخلف العصر الول ،فــإنه لــم تكــن المــذاهب الوافيــة بأحكــام
ذبة وعرفت ،فعلى هذا يلزمه أن يجتهد في اختيــار الحوادث مه ّ
36
مذهب يقلده على التعيين ،ونحن نمهد لــه طريق ـا ً يســلكه فــي
اجتهاده سه ً
ل ،فنقول:
أول ً ليس له أن يتبع في ذلك مجــرد التشــهي ،والميــل إلــى مــا
وجد عليه آبــاءه ،وليــس لــه التمــذهب بمــذهب أحــد مــن أئمــة
الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم من الولين ،وإن كــانوا أعلــم
وأعلى درجــة ممــن بعــدهم; لنهــم لــم يتفرغــوا لتــدوين العلــم
وضبط أصوله وفروعه ،فليس لحد منهم مذهب مهذب محــرر
مقرر ،وإنما قــام بــذلك مــن جــاء بعــدهم مــن الئمــة النــاحلين
لمذاهب الصحابة والتابعين ،القائمين بتمهيد أحكام الوقائع قبل
وقوعها ،الناهضين بإيضاح أصولها وفروعها ،كمالك وأبي حنيفة
وغيرهما.
ولما كان الشافعي قد تأخر عن هؤلء الئمة في العصر ،ونظــر
في مــذاهبهم نحــو نظرهــم فــي مــذاهب مــن قبلهــم ،فســبرها
وخبرها وانتقدها .واختار أرجحها ،ووجد من قبله قد كفاه مؤنــة
التصـــوير والتأصـــيل ،فتفـــرغ للختيـــار والترجيـــح ،والتكميـــل
والتنقيح ،مع معرفته ،وبراعته في العلــوم .وترجحــه فــي ذلــك
على من سبقه ،ثم لم يوجد بعده من بلغ محله في ذلــك .كــان
مذهبه أولى المذاهب بالتباع والتقليــد ،وهــذا مــع مــا فيــه مــن
النصاف ،والسلمة من القدح في أحد الئمـة جلـي واضـح ،إذا
تأمله العامي قاده إلى اختيار مذهب الشافعي ،والتمذهب به.3
الشافعي رحمه الله تعالى ،بل الئمة المتبوعون أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد
بن حنبل على خير وهدى ،ومن قلد أحدهم في أحكام الدين ،فهو على خير وهدى
باتفاق المسلمين ،والله أعلم.
37
واختاره السمعاني الكبير ونص الشافعي رضي الله عنــه علــى
مثله في القبلة ،والرابع :يســأل مفتيـا ً آخــر فيأخــذ بفتــوى مــن
وافقه ،والخــامس :يتخيــر فيأخــذ بقــول أيهمــا شــاء ،وهــذا هــو
الصــح عنــد الشــيخ أبــي إســحاق الشــيرازي المصــنف ،وعنــد
الخطيب البغدادي ،ونقله المحاملي في أول المجموع عن أكثر
أصحابنا واختاره صاحب الشامل فيما إذا تساوى المفتيان فــي
نفسه.
وقال الشيخ أبو عمرو :المختار أن عليه أن يبحث عــن الرجــح
فيعمل به فإنه حكم التعارض فيبحث عن الوثــق مــن المفــتين
فيعمــل بفتــواه ،وإن لــم يترجــح عنــده أحــدهما اســتفتى آخــر،
وعمل بفتوى من وافقه ،فإن تعــذر ذلــك وكــان اختلفهمــا فــي
التحريم والباحة ،وقبل العمل ،اختار التحريم ،فإنه أحوط ،وإن
تساويا من كل وجه خيرناه بينهما ،وإن أبينا التخيير في غيــره ;
لنه ضرورة وفي صورة نادرة.
قال الشيخ :ثم إنما نخاطب بما ذكرناه المفتين ،وأما العامي
الذي وقع له فحكمه أن يسأل عن ذلك ذينك المفتيين أو مفتيا ً
آخر وقد أرشدنا المفتي إلى ما يجيبه به.
وهذا الذي اختاره الشيخ ليــس بقــوي بــل الظهــر أحــد الوجــه
الثلثة ،وهي :الثالث والرابع ،والخامس ،والظــاهر أن الخــامس
أظهرها; لنــه ليـس مـن أهــل الجتهــاد ،وإنمـا فرضـه أن يقلــد
عالما ً أهل ً لذلك ،وقد فعل ذلـك بأخـذه بقــول مـن شـاء منهمــا
والفرق بينه وبين ما نــص عليــه فــي القبلــة أن أمارتهــا حســية
فإدراك صوابها أقرب ،فيظهــر التفــاوت بيــن المجتهــدين فيهــا،
والفتاوى أمارتها معنوية فل يظهر كبير تفاوت بيــن المجتهــدين
والله أعلم.
الخامسة :قال الخطيب البغدادي :إذا لــم يكــن فــي الموضــع
ت واحد فأفتاه لزمه فتواه. الذي هو فيه إل مف ٍ
38
وقال أبو المظفر السمعاني -رحمه الله :-إذا ســمع المســتفتي
جواب المفتي لم يلزمه العمل به إل بالتزامه ،قــال :ويجــوز أن
يقال إنه يلزمه إذا أخذ في العمل به .وقيل :يلزمه إذا وقع فــي
نفسه صحته ،قال السمعاني :وهذا أولى الوجه.
قال الشيخ أبو عمرو :لم أجد هــذا لغيــره ،وقــد حكــى هــو بعــد
ذلك عن بعض الصوليين أنه إذا أفتاه بما هو مختلف فيه خيره
بين أن يقبل منه أو من غيره ،ثم اختار هو أنــه يلزمــه الجتهــاد
في أعيان المفتين ويلزمه الخذ بفتيا من اختاره باجتهاده.
قال الشيخ :والذي تقتضيه القواعد أن نفصل فنقول :إذا أفتــاه
المفتي نظر فإن لم يوجــد مفــت آخــر لزمــه الخــذ بفتيــاه ،ول
يتوقف ذلك على التزامه ل بالخذ في العمل بــه ول بغيــره ،ول
يتوقف أيضا على سكون نفسه إلى صحته.
وإن وجد مفــت آخــر فــإن اســتبان أن الــذي أفتــاه هــو العلــم
الوثق لزمه ما أفتاه به ،بناء على الصح في تعينه كمــا ســبق،
وإن لم يستبن ذلك لم يلزمه ما أفتاه بمجرد إفتائه إذ يجوز لــه
استفتاء غيره وتقليده ،ول يعلم اتفاقهما في الفتوى ،فإن وجــد
التفاق أو حكم به عليه حاكم لزمه حينئذ.
السادسة :إذا استفتي فأفتى ثم حدثت تلك الواقعة لــه مــرةً
أخــرى ،فهــل يلزمــه تجديــد الســؤال ؟ فيــه وجهــان :أحــدهما:
يلزمــه; لحتمــال تغيــر رأي المفــتي ،والثــاني :ل يلزمــه وهــو
الصح; لنه قد عرف الحكــم الول ،والصــل اســتمرار المفــتى
عليه.
وخصص صاحب الشامل الخلف بما إذا قلد حيا ً وقطع فيما إذا
كان ذلك خبرا عن ميت ،بأنه ل يلزمه ،والصحيح أنـه ل يختـص،
فإن المفتي على مذهب الميت قد يتغير جوابه على مذهبه.
39
ة يعتمـد خـبره السابعة :أن يستفتي بنفسه ،وله أن يبعـث ثقـ ً
ق
ليستفتي له ،وله العتماد على خط المفتي إذا أخبره مــن ي َث ِـ ُ
بقوله أنه خطه ،أو كان يعرف خطه ولم يتشكك في كون ذلــك
الجواب بخطه.
الثامنة :ينبغي للمستفتي أن يتــأدب مــع المفــتي ويبجلــه فــي
خطابه وجوابه ونحو ذلك.
ول يومئ بيده في وجهه ،ول يقل له ما تحفظ في كذا ؟ أو مــا
مذهب إمامك أو الشافعي في كذا ؟
ت أنـا ،أو كـذا وقــع لــي ،ول يقـل:
ول يقل إذا أجـابه :هكــذا قلـ ُ
أفتاني فلن أو غيــرك بكــذا ،ول يقــل :إن كــان جوابــك موافقـا ً
لمن كتب فاكتب وإل فل تكتب.
ول يسأله وهو قائم أو مستوفز أو علــى حالــة ضــجر أو هــم أو
غير ذلك مما يشغل القلب.
وينبغي أن يبدأ بالسن العلم مــن المفــتين ،وبــالولى فــالولى
إن أراد جمع الجوبة فــي رقعــة ،فــإن أراد إفــراد الجوبــة فــي
رقاع بدأ بمن شــاء ،وتكــون رقعــة الســتفتاء واســعة ،ليتمكــن
المفــتي مــن اســتيفاء الجــواب واضــحًا ،ل مختصــرا ً مضــرا ً
بالمستفتي.
ول يدع الدعاء في رقعة لمن يستفتيه.
قال الصيمري :فإن اقتصــر علــى فتــوى واحــد قـال :مــا تقــول
رحمك الله ؟ أو رضي الله عنك أو وفقك الله ،وسددك ورضي
عن والديك ؟ ،ول يحسن أن يقول :رحمنا الله وإياك.
وإن أراد جواب جماعة قال :ما تقولون رضـي اللــه عنكــم ؟ أو
ما تقول الفقهاء سددهم الله تعالى ؟
40
ويــدفع الرقعــة إلــى المفــتي منشــورة ،ويأخــذها منشــورة فل
يحوجه إلى نشرها ول إلى طيها.
التاسعة :ينبغي أن يكون كاتب الرقعة ممن يحسـن الســؤال،
ويضعه على الغرض مــع إبانــة الخــط واللفــظ وصــيانتهما عمــا
يتعرض للتصحيف.
قال الصيمري :يحرص أن يكون كاتبها مــن أهــل العلــم ،وكــان
بعض الفقهاء ممن له رياسة ل يفتي إل في رقعــة كتبهــا رجــل
بعينه من أهل العلم ببلده.
ت
وينبغي للعامي أن ل يطالب المفتي بالدليل ،ول يقل :لم قلــ َ
ب أن تسكن نفسه لسماع الحجة طلبها في مجلس ؟ فإن أح ّ
آخر ،أو في ذلك المجلس بعد قبول الفتوى مجردة.
وقال السمعاني :ل يمنع من طلب الدليل ،وأنــه يلــزم المفــتي
أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعا ً به ،ول يلزمــه إن لــم يكــن
مقطوع ـا ً بــه لفتقــاره إلــى اجتهــاد يقصــر فهــم العــامي عنــه،
والصواب الول.
العاشرة :إذا لم يجد صاحب الواقعة مفتيا ً ول أحــدا ً ينقــل لــه
ة َفترة
حكم واقعته ل في بلده ول غيره قال الشيخ :هذه مسأل ُ
ة ،4وحكمهــا حكــم مــا قبــل ورود الشــرع، الشــريعة الصــولي ُ
والصحيح في كل ذلك القول بانتفاء التكليف عن العبد ،وأنــه ل
يثبت في حقه حكم ل إيجاب ول تحريم ول غير ذلك ،فل يؤاخــذ
إذن صاحب الواقعة بأي شيء صنعه فيها ،والله أعلم.
***************************
أي المسألة المعروفة في أصول الفقه :هل تندرس الشريعة السلمية ،يعني :هل 4
يأتي على الناس زمان ل يكون فيه مفت للمة ،ول عالم ؟
41
تم ما في شرح المهذب من كلم عن الفتوى وشروطها ،وبقية
الكلم في هذا الباب خاص بمذهب المام الشافعي ،فلينظره
طلب العلم الشافعية.
والله تعالى الموفق لكل خير.
والحمد لله رب العالمين.
42