You are on page 1of 13

JOURNAL AL-MUQADDIMAH: Journal of Postgraduate Studies In Islamic History and

Civilization (e-issn:2289 3954)


https://ejournal.um.edu.my/index.php/MUQADDIMAH Vol.5 (1), Jun 2017
Department of Islamic History and Civilization Page: 39 - 51
Academy of Islamic Studies, University of Malaya

The tribal fanaticism (Asabiyya) Individual Behavior or Social-Political


©
Phenomenon
‫العصبية القبلية سلوك فردي أم ظاهرة اجتماعية سياسية‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
Ali B R Elhrabi *
Faisal Ahmad Faisal Abdul Hamid * *
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ ويمكن ان يبعث أي‬،‫*طالب دكتوراه في قسم التاريخ والحضارة االسالمية أكاديمية الدراسات االسالمية بجامعة املاليا‬
Ali.elhrabi@yahoo.com ‫التساؤالت حول هذه املقالة الى عنوان اإليميل‬
.‫ أكاديمية الدراسات اإلسالمية جامعة ماليا‬،‫**أستاذ ومحاضر في قسم التاريخ والحضارة اإلسالمية‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
Abstract

The idea of tribal fanaticism (Asabiyya) revolves around the sense of belonging that an
individual perceives within the group with which he has a relationship with blood and descent, and
sometimes alliance or neighborliness. the Arab man practiced the tribal fanaticism before Islam,
both at the personal level and at the tribe level, When Islam came, the Muslim's view changed
about the tribal fanaticism, the negative side of tribal fanaticism is an indecent act, the Islam has
warned from it, but tribal fanaticism is sometimes a positive behavior to promote tribe affiliation.
By tracing history, we find that tribal fanaticism has shifted from personal behavior in the tribe to
a general orientation of this tribe, and then became a political program for access to power.

The study of tribal fanaticism is one of the studies that combine the sciences of religion, history
and politics in addition to sociology and economics. some of historical thinkers and researchers,
especially Ibn Khaldun, have examined the study of tribal fanaticism and discussed its various
concepts and the Islamic view of it.

Key words: tribal fanaticism (Asabiyya) - Ibn Khaldun - psychological tendency.

‫امللخص‬

،‫تتمحور فكرة العصبية القبلية حول الشعور باالنتماء الذي ينتاب الفرد داخل الجماعة التي تربطه بها عالقة الدم والنسب‬
ً
‫سواء على املستوى الشخص ي أو على‬ ، ‫ وقد مارس اإلنسان العربي قبل اإلسالم العصبية القبلية‬،‫وأحيانا األحالف أو الجوار‬
‫ حذر‬،‫ فلما جاء اإلسالم تغيرت نظرة اإلنسان املسلم لها أن العصبية القبلية في جانبها السلبي فعل مذموم‬، ‫مستوى القبيلة‬
‫ و قد تحولت من سلوك شخص ي في القبيلة إلى‬، ‫ ولكن في بعض األحيان سلوك إيجابي لتعزيز االنتماء للقبيلة‬، ‫منها اإلسالم‬
‫ ثم أصبحت بعد ذلك برنامجا سياسيا بغرض الوصول للسلطة‬، ‫توجه عام لهذه القبيلة‬

.‫© هذه المقالة كتبت بالمشاركة بين الطالب ومشرفه وهي مستله من رسالة الدكتوراه‬

1
‫إن دراسة العصبية القبلية من الدراسات التي تمزج بين علوم الدين والتاريخ والسياسة إضافة لعلوم االجتماع واالقتصاد‪،‬‬
‫وقد تطرق عدد من املفكرين والباحثين وخاصة ابن خلدون لدراسة العصبية القبلية‪ ،‬وتناولوا مفاهيمها املختلفة ونظرة‬
‫اإلسالم لها‪.‬‬

‫الكلمات املفتاحية‪ :‬العصبية القبلية‪ ،‬ابن خلدون‪ ،‬النزعة النفسية‪.‬‬

‫املقدمة‬
‫ُ‬ ‫نشأ اإلنسان العربي ُم ّ‬
‫شبعا بحب قبيلته وكره ما ِسواها ‪ ,‬وهذا التعلق واملشاعر كانت تدفع دائما نحو الشعور باألنفة‬
‫والتعالي ‪ ،‬مما يجعله أحيانا ال يميز بين الحق والباطل حين يختص األمر بعالقات قبيلته مع غيرها من القبائل ‪,‬ودافعه في ذلك‬
‫عالقة الدم والنسب التي ت ربطه بقبيلته ‪ ،‬وهذا ما نسميه بالعصبية القبلية ‪ ،‬فالقبائل العربية قبل اإلسالم ‪ ,‬لم يكن يربطها‬
‫وطن ‪ ،‬وال يوحدها دين ‪ ,‬وما يجمعها سوى العصبية واللغة ‪ ،‬لذلك اهتموا باألنساب ‪ ،‬وبرعوا في استخدام اللغة ‪ ,‬بيدا أن قوة‬
‫العصبية القبلية ال تكمن فقط في النسب بل تتحكم فيها الظروف املادية الصعبة التي تعيشها القبيلة بسبب قسوة الطبيعة‬
‫وضعف وسائل اإلنتاج ‪.1‬‬

‫ّ‬
‫لقد تحكمت البيئة الجغرافية والسلوك االجتماعي في ترسيخ مفهوم العصبية القبلية بين أفراد القبائل العربية قبل‬
‫اإلسالم‪ ،‬فاالنتماء عند الفرد العربي ال يتعدى القبيلة التي تضمه‪ ،‬فهو يرى فيها الوطن واملأوى والنسب‪ ،‬وبالتالي ظل متقوقعا‬
‫ومنعزال في قبيلته السيما أن العوامل الجغرافية واملناخية القاسية ساعدت في تعزيز هذا الوضع وأصبح بذلك حجم التواصل‬
‫بين القبائل محدودا‪ ،‬ويطغى عليه الجانب السلبي‪ ،‬لهذا كانت تقوم الحروب ألبسط األسباب‪.‬‬

‫مرت‬‫تعتبر العصبية القبلية وتأثيرها محورا مهما من تاريخ العرب السياس ي واالجتماعي ‪ ،‬سواء قبل اإلسالم أو بعده‪ ،‬فقد ّ‬
‫بفترات مختلفة ‪ ،‬حيث بدأت سلوكا فرديا ‪ ،‬ثم تطورت فيما بعد حتى أصبحت برنامجا سياسيا يهدف للوصول للسلطة ‪،‬‬
‫فاالنتماء عند الفرد العربي ال يتعدى القبيلة التي تضمه ‪ ،‬فهو يرى فيها الوطن واملأوى والنسب‪ ،‬وبالتالي ظل متقوقعا ومنعزال‬
‫في قبيلته ‪ ،‬فلما جاء اإلسالم أصبحت العقيدة اإلسالمية هي املرجعية التي اعتمدها في حياته بدال من القبيلة ‪ ،‬فاإلسالم رفض‬
‫العصبية القبلية املقيتة التي تدعو إلى االستعالء والتفاخر ‪ ،‬واستبدل القبيلة باألمة كمكون اجتماعي وسياس ي ‪ ،‬لكنه لم يعمل‬
‫على إلغائها ‪.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫مفهوم العصبية القبلية كتابة مقدمة عرف أهل املعاجم العصبية القبلية لغة واصطالحا بش يء من الوضوح ‪ ،‬فارجع‬
‫ًّ‬ ‫َّ‬ ‫الفراهيدي أصل كلمة العصبية في اللغة إلى لفظ َ‬
‫"الع ْ‬
‫صب" ومعناها الطي الشديد‪ ، 2‬واللي وضم ما تفرق من الشجر‪ ، 3‬وعند‬
‫وع َ‬
‫ص َب الرجل بيته أي أقام في بيته ال‬ ‫ص ُب القوم هم خيارهم‪َ ،5‬‬ ‫ص َب القوم بفالن أي استكفوا حوله "‪َ ،4‬‬
‫وع َ‬ ‫الجوهري ‪َ :‬‬
‫"ع َ‬

‫‪1‬الجابري‪ ،‬محمد عابد‪ :‬فكر ابن خلدون‪ .‬العصبية والدولة‪ ،‬معالم نظرية خلدونية في التاريخ اإلسالمي‪ ،‬بيروت‪ ،‬مركز دراسات‬
‫الوحدة العربية‪ ،‬ط‪1994 , 6‬م‪ ،‬ص‪177‬‬
‫ً‬
‫‪2‬الفراهيدي‪ ،‬الخليل بن أحمد‪ :‬كتاب العين‪ ،‬مرتبا على حروف املعجم‪ ،‬ترتيب وتحقيق عبد الحميد هنداوي‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الكتب‬
‫العلمية‪ ،‬ط‪2003 , 1‬م ‪1424 /‬ه‪ ،‬ج‪ , 3‬باب "عصب"‪ ،‬ص‪166‬‬
‫‪3‬الفيروز بادي‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬ج‪ , 1‬ص‪104‬‬
‫‪4‬الصحاح‪ ،‬تاج اللغة وصحاح العرب‪ ،‬مجلد‪ , 1‬ص‪.183‬‬

‫‪2‬‬
‫َ‬
‫يبرحه الزما له ‪ ، 6‬و يقول العرب عن الرجل العزيز الشديد الذي ال ُيقهر وال ٌيستذل ‪" :‬فالن ال ٌتعصب َسلماته"‪ُ ،7‬ويسمون‬
‫عصب بالتاج ‪ ,‬أو ُت َّ‬
‫عصب به أمور الناس ‪ ،‬أي ُت َر ُّد إليه ُوتدار به ‪َ ,‬‬
‫والع َمائم تيجان العرب" ‪،8‬‬ ‫عص ًبا ‪ ,‬ألنه ُي َّ‬
‫السيد املُطاع ٌ"م َّ‬
‫صبة هم ورثة الرجل عن كاللة ‪ ,‬أي الذي ليس له ولد وال والد‪ ، 9‬ويعتبرهم ابن منظور أنهم بنوه وأقاربه من جهة أبيه ‪ ,‬ألنه‬ ‫والع َ‬
‫َ‬
‫صابة فهم جماعة من الناس‪ ،‬وقيل إنهم ما بين العشرة‬ ‫صبة أو الع َ‬‫الع ْ‬
‫شتد بهم ‪ .10‬أما ُ‬‫صب بهم ‪ ،‬أي ُيحيطون به َوي ٌّ‬ ‫َ‬
‫يعت ّ‬
‫ِ‬
‫واألربعين‪ ،‬وقيل غير محدد بعدد‪ ،‬واعصوصب القوم معناه أنهم صاروا عصابة ‪.11‬‬

‫معان مختلفة ‪ّ ,‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬


‫لكننا نرى العكس عند‬ ‫كل ما تم عرضه من تعريفات لغوية لكلمة العصبية؛ يتبين أنها اشتقاقات دلت على ٍ‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تعريفها اصطالحا ‪ ,‬فقد أعطت مفاهيم أكثر وضوحا والتصاقا بالواقع ‪ ,‬حيث نجدها عند ابن منظور‪ 12‬وغيره‪ 13‬تعني " املحاماة‬
‫واملُدافعة " ‪ ،‬وفي موضع أخر يقول " العصبية ‪ :‬أن يدعو الرجل إلى ُنصرة َع َ‬
‫صبته والتألب معهم على من ُيناوئهم ‪ ,‬ظاملين كانوا أو‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫"التحمس للرأي واملدافعة عنه "‪ , 15‬ومن‬ ‫مظلومين " ‪ ،‬ونفس التعريف يقدمه أيضا األزهري‪ ،14‬وهناك من يرى أن العصبية هي‬
‫يراها على أنها فكرة مركزية في القبيلة ‪ ،‬وهي نتاج عملية االلتحام بين أفراد القبيلة من خالل النسب والقرابة ويرى فيها تجسيدا‬
‫عرف العصبية على أنها " النعرة على ذوي القربة ‪ ،‬وأهل األرحام أن ينالهم ضيم‬ ‫لقيم املناصرة والتضامن‪ ،16‬أما ابن خلدون فقد ّ‬
‫‪ ،‬أو تصيبهم هلكة "‪.17‬‬

‫فالعصبية القبلية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالقبيلة‪ ،‬معتمدة في ذلك على وحدة النسب‪ ،‬وبالتالي ال نبتعد كثيرا حين نقول إن‬
‫النسب يمثل عصب القبيلة‪ ،‬وأصل وجودها‪ ،‬واملؤثر في عالقات أفرادها ببعضهم البعض‪ ،‬إضافة إلى عالقاتها مع غيرها من‬
‫القبائل‪ ،‬فاإلنسان العربي ال يفهم سلطة ينضوي تحتها ويخضع ألعرافها ويلتزم بقوانينها سوى القبيلة‪ ،‬هذا االمتثال يرجع في‬
‫أساسه لرابطة الدم وقوة العصبية‪ ،‬وكالهما يمثالن هوية اإلنسان العربي ومصدر قوة قبيلته بين القبائل‪.‬‬

‫علم األنساب وعالقته بالعصبية القبلية اهتم العرب باألنساب ‪ ،‬واعتبروها مسائلة مفصلية في تكوين القبيلة الداخلي‬
‫وعالقاتها الخارجية ‪ ,‬وجعلوا لكل قبيلة نسابة مهمتهم تأكيد انتماء األفراد للقبيلة ‪ ،‬وقد برز الكثير من النسابة الذين ذاعت‬

‫‪5‬املصدر نفسه‪ ،‬الصفحة نفسها‬


‫‪6‬ابن منظور‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬ج‪ , 32‬ص‪2965‬‬
‫‪7‬األزهري‪ ،‬أبو منصور بن أحمد‪ :‬تهذيب اللغة‪ ،‬تحقيق محمد علي النجار‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار املصرية للتأليف والترجمة‪ ،‬ج‪ , 2‬ص‪48‬‬
‫‪8‬الزبيدي‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬ج‪ , 3‬ص‪.287‬‬
‫‪9‬الفراهيدي‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬ج‪ , 3‬ص‪.167‬‬
‫‪10‬لسان العرب‪ ،‬ج‪ , 32‬ص‪.2965‬‬
‫‪11‬الفراهيدي‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬ج‪ , 3‬ص‪166‬‬
‫‪12‬لسان العرب‪ ،‬ج‪ , 32‬ص‪.2966‬‬
‫‪13‬الزبيدي ‪|:‬املصدر السابق‪ ،‬ج‪ , 3‬ص‪.382‬‬
‫‪14‬تهذيب اللغة‪ ،‬ج‪ , 2‬ص‪.48‬‬
‫‪15‬ضيف‪ ،‬شوقي‪ :‬املعجم الوسيط‪" ،‬مجمع اللغة العربية "‪ ,‬وزارة التربية والتعليم‪ ،‬القاهرة ‪ , 1994 ,‬ص‪420‬‬
‫‪16‬صهيب‪ ،‬عبد الرحمن‪ :‬القبيلة والدولة الحديثة‪ .‬محاولة فك االرتباط‪ ،‬مجلة تكايا‪ ،‬عدد شهر أغسطس ‪ , 2015‬ص‪3‬‬
‫‪17‬املقدمة‪ ،‬ج‪ , 1‬ص‬

‫‪3‬‬
‫شهرتهم في األفاق ‪ ,‬ومن هؤالء دغفل بن حنظله الذي يضرب به املثل في النسب ‪ ، 18‬منهم االقرع بن حابس من بني تميم ومخرمة‬
‫بن نوفل وكالهما أدرك اإلسالم ‪ ,‬ويعد أبا بكر الصديق من أعرف قريش بالنسب ‪ ،‬وعلى الرغم من الجوانب اإليجابية في معرفة‬
‫األنساب عند العرب قبل اإلسالم ؛ فإنها ‪ -‬أحيانا ‪ -‬تجعل القبائل العربية تتكتل في تجمعات متنافسة ‪ ،‬فتقوى عندهم العصبية‬
‫القبلية ‪ ,‬ويتسبب ذلك في حدوث الكثير من املنافرات والحروب بين القبائل والبطون ‪ ، 19‬ولكن في الحقيقة تضل معرفة األنساب‬
‫وسيلة لتأكيد أصل الفرد العربي في القبيلة ‪ ،‬وتعزز انتمائه لها وهذا غاية ما يطمح إليه ‪ ،‬إذ أن أصله يمثل بالنسبة له الهوية التي‬
‫من خاللها يرسخ وجوده في القبيلة ‪ ،‬ومنها تتعزز مكانة القبيلة بين القبائل األخرى ‪ ،‬ومن هنا يتضح أن أساس نظام القبيلة‬
‫االجتماعي والسياس ي هو العصبية القبلية‪،‬‬

‫أراء العلماء والباحثين في العصبية القبلية‬

‫إن اعتماد الفرد العربي على العصبية في عالقاته بمحيطه‪ ،‬كان واضحا وجليا‪ ،‬فهي املحرك واملوجه لهذه‬
‫العالقات‪ ،‬حتى بتنا نرى تصنيف القبائل العربية ‪ -‬بين قبائل عظيمة القدر وأخرى ضعيفة ‪ -‬يخضع للعصبية على الرغم‬
‫من أن العصبية القبلية كانت جوهر حياة اإلنسان العربي قبل اإلسالم‪ ،‬وسمة ذلك العصر ومضرب فخاره ‪20‬؛ إال أنه لم‬
‫ً‬
‫ُيولي اهتماما بالحديث عن هذا املصطلح‪ ،‬وكشف مكنونه‪ ،‬ولم ُيخضعه للنقد أو التحليل‪.‬‬

‫بيدا أن مصطلح العصبية القبلية شاع استعماله بعد مجيء اإلسالم‪ ،‬للداللة على التحيز املبالغ فيه للقبيلة واالفتخار‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فع َّد من وجهة نظر اإلسالم أمرا مذموما ُيذكي نار الفتن والحروب‪ ،‬وحينما استحكم الدين في قلوب الناس؛‬ ‫باألنساب‪ُ ،‬‬
‫استطاعت العقيدة اإلسالمية نقل العصبية من التعصب للنسب الخاص إلى التعصب للنسب العام‪ ،21‬أي التعصب‬
‫للدين وبالتالي ألغت هذه العقيدة الحروب بين القبائل وحولتها إلى حروب من أجل نشر الدين والذود عنه‪ .‬وألن العصبية‬
‫القبلية تحمل في مضمونها الحالة التي عليها املجتمعات عبر التاريخ؛ بالتالي أصبحت الشغل الشاغل للمفكرين والعلماء‬
‫عامة‪ ،‬وأهل التاريخ واالجتماع على وجه الخصوص‪.‬‬

‫ّ‬
‫يعتبر فيليب حتى العصبية أنها " العامل األكبر في توحيد شعور األفراد في العشيرة "‪ ،‬وفيها يتمثل الوالء التام لكل أفراد‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫القبيلة‪ ،‬ويخلص إلى اعتبار أن هذا الوالء هو " روح الفردية في البدوي ُمك ّبرة " لتشمل كل أفراد العشيرة‪.22‬‬

‫أما َجواد علي ُفيرجع أساس النظام القبلي إلى العصبية‪ ،‬وأن حاجة القبائل لها ضروري لردع املعتدين ويؤكد – كغيره‬
‫من املؤرخين والباحثين – أن قوة العصبية تعتمد على رابطتي الدم والنسب‪ ،‬لكنه يضيف أيضا روابط أخرى كاألحالف‬

‫‪18‬القلقشندي‪ :‬نهاية األرب في معرفة أنساب العرب‪ ،‬تحقيق إبراهيم األبياري‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الكتاب العربي ‪1980,‬م‪ ،‬ط‪, 2‬ص‪9‬‬
‫‪19‬خريسات‪ ،‬محمد عبد القادر‪ :‬العصبية القبلية في صدر اإلسالم‪ ،‬األردن‪ ،‬مؤسسة حمادة للدراسات الجامعية للنشر والتوزيع ‪2005 ,‬م‪،‬‬
‫ص‪.35‬‬
‫‪20‬‬
‫‪Harabi. Ali Balqasim Rashid and Faisal Ahmad Faisal Abdul Hamid: tathir aleasabiat alqabliat ealaa aldawlat‬‬
‫‪al'umwiat khilal hakam almarwani JOURNAL AL-MUQADDIMAH Department of Islamic History and‬‬
‫‪Civilization Academy of Islamic Studies, University of Malaya Volume 3,2015, December 2015, pp184-200.‬‬

‫‪ 21‬الجابري‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪188‬‬


‫‪22‬حتى‪ ،‬فيليب‪ ،‬العرب‪ ،‬تاريخ موجز‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار العلم للماليين‪ ،‬ط‪ 1991 , 6‬م‪ ،‬ص‪24‬‬

‫‪4‬‬
‫والوالء والجوار إنما بدرجة أقل‪ .23‬والرأي نفسه يتبناه جورجي زيدان حين ينظر للعصبية على أنها الوسيلة التي يدافع من‬
‫ويع ّدها من ضروريات الحياة في املجتمع القبلي؛ ألن عقلية التصادم والصراع من‬ ‫خاللها أفراد القبيلة عن أنفسهم‪ُ ،‬‬
‫سمات الحياة لدى أهل البادية قبل اإلسالم ‪.24‬‬

‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬


‫بينما نجد محمد عابد الجابري ُيعطي العصبية ُبعدا نفسيا فيقول "هي الوعي العصبي الذي يشد أفراد‬
‫العصبة بعضهم إلى بعض‪ ،‬ويجعل منهم كائنا واحدا تفنى فيه ذوات األفراد"‪ 25‬ويضيف فيعتبرها "رابطة اجتماعية‬
‫ً‬
‫ربطا مستم ًرا‪ُ ،‬‬ ‫ً‬
‫يبرز بشدة عندما يكون‬ ‫سيكولوجية شعورية وال شعورية معا‪ ،‬تربط أفراد جماعة ما‪ ،‬قائمة على القرابة‪،‬‬
‫هناك خطر ُيهدد أولئك األفراد؛ كأفراد أو كجماعة "‪ .26‬وفي املقابل فإن الجابري يعتبر أن الوازع هو السلطة الكابحة‬
‫لجماح الفرد واملعطلة لغريزته العدوانية‪ُ ،‬وي ّ‬
‫قسمه إلى وازع ذاتي مرده إلى االقتناع النابع من تأثير التنشئة األسرية والتربية‬
‫الدينية‪ ،‬ووازع أجنبي بسبب السلطة القهرية املفروضة بالقهر‪ 27‬في حين يرى عمر فروخ أن العصبية القبلية شعور‬
‫ينتاب أفراد القبيلة بأنهم عصبة واحدة رغم أن أصلهم من أب واحد‪ ،‬أي أنها حالة نفسية تتولد عن رابطة الدم‪ ،‬فقوة‬
‫العصبية ‪ -‬في نظره‪ -‬تكمن في مشاعر التواصل وااللتحام بين أفراد القبيلة أكثر من حقيقة النسب الواحد ‪.28‬‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫أما أحمد إبراهيم الشريف‪ ،‬فإنه يضع تصورا عصريا ملفهوم العصبية‪ ،‬مبينا أنها تمثل القواعد التي ُب ِن َي عليها‬
‫القانون األساس ي للدستور العرفي الذي ينظم حياة القبيلة قبل اإلسالم‪ ، 29‬ويشبهها بالقومية والوطنية في العصر‬
‫الحديث‪ ،‬لكنه يراها أقوى في املجتمعات القبلية من املجتمعات الحضرية‪ ،‬ورغم أنه يعتبر املصلحة هي مصدر قوة‬
‫العصبية‪ ،‬إال أنه يستدرك ُفيرجع قوة العصبية إلى الشعور العاطفي واالنتماء الوطني‪.30‬‬
‫ُ‬
‫وأخير ُيرجع محمد عبد القادر خريسات قوة العصبية إلى قرب النسب بين أفراد القبيلة‪ ،‬ويضيف بأن اعتقاد هؤالء‬
‫أب واحد؛ هو ما يعزز وحدة القبيلة‪ ،‬مؤكدا – هو األخر‪ -‬أن وحدة الدم والنسب هما األساس‬‫األفراد أنهم يرجعون إلى ٍ‬
‫الذي تقوم عليه العصبية القبلية ‪31‬‬

‫القبلية في فكرابن خلدون العصبية‬

‫‪23‬املفصل في تاريخ العرب قبل اإلسالم‪ ،‬ج‪ , 4‬ص‪392‬‬


‫‪ 24‬تاريخ التمدن اإلسالمي‪ ،‬ج‪ , 4‬ص‪16‬‬
‫‪25‬فكر ابن خلدون‪ .‬العصبية والدولة‪ ،‬معالم نظرية خلدونية في التاريخ اإلسالمي‪ ،‬ص‪168‬‬
‫‪ 26‬نفس املرجع ونفس الصفحة‬
‫‪27‬الجابري‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪305‬‬
‫‪28‬فروخ‪ ،‬عمر‪ :‬العرب في حضارتهم وثقافتهم إلى أخر العصر األموي‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار العلم للماليين ‪1966,‬م ‪1386 /‬ه‪ ،‬ص‪66‬‬
‫‪ 29‬مكة واملدينة في الجاهلية‪ ،‬وعصر الرسول ص ‪49‬‬
‫‪ 30‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪50‬‬
‫‪ 31‬خريسات‪ ،‬محمد عبد القادر‪ :‬العصبية القبلية في صدر اإلسالم‪ ،‬إربد‪ ،‬مؤسسة حمادة للدراسات الجامعية والنشر والتوزيع‪،‬‬
‫‪ 2005‬م‪ ،‬ص‪.23‬‬

‫‪5‬‬
‫ّ‬ ‫لم ّ‬
‫يتحول مفهوم العصبية القبلية إلى نظرية تخضع للبحث والدراسة ؛ إال مع مجيء العالمة عبد الرحمن بن‬
‫حوله من ُمصطلح تاريخي وظاهرة اجتماعية إلى قوة للمواجهة واملطالبة ؛ هدفها الوصول إلى السلطة وبناء‬ ‫خلدون ‪ ,‬حيث ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً َ َ‬
‫الدولة‪ ،32‬إذ ليس ُهناك أحدا أولى اهتماما بالعصبية القبلية ‪ ،‬وذكرها بلفظها ‪ ،‬وأطنب في شرحها وإعطائها األبعاد‬
‫ُ‬
‫االجتماعية والسياسية مثله ‪ ،‬فقد أفرد لها مساحة مهمة من مقدمته الشهيرة ‪ ،‬وفي هذا يقول أحد الباحثين املهتمين‬
‫بفكر ابن خلدون " وهكذا فقد كانت كلمة (عصبية ) مغمورة ‪ ،‬ضمن بحر من املفردات اللغوية ؛ جمعت كلها في‬
‫ّ‬
‫حدود‬
‫ٍ‬ ‫القواميس ‪ ،‬واملعاجم ؛ انتظارا ملن يهتم بها من بين القلة من املختصين ‪ ،‬وبذلك فقد ظلت هذه الكلمة ُمستعملة في‬
‫ضيقة ال تتعدى‪ -‬بعيدا‪ -‬حدود الفرائض ‪ ،‬والنعرات املذهبية ‪ ،‬ذات املصدر الديني والعقائدي ‪ .‬فانتشلها ابن خلدون من‬
‫ً‬ ‫ذلك ُ‬
‫العباب وأخرجها من إهمال السنون‪ ،‬واأليام؛ ثم جعلها محورا لفلسفته االجتماعية"‪. 33‬‬

‫عرف ابن خلدون العصبية بقوله " النعرة على ذوي القربة‪ ،‬وأهل األرحام أن ينالهم ضيم‪ ،‬أو تصيبهم‬ ‫لقد ّ‬
‫"وفسر ذلك بأن " القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه‪ ،‬ويود لو يحول بينه وبين ما َيصله‬ ‫هلكة ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫من املعاطب واملهالك‪ 34" .‬فابن خلدون عايش واقعا اجتماعيا هيمنـت عليه القبيلة ‪ ,‬وحاول البحث في القوة الكامنة التي‬
‫مكنت القبيلة من فرض نفسها ُ‬ ‫ّ‬
‫كسلطة سياسية مؤثرة ؛ فوجد أن العصبية هي تلك القوة ‪ ,‬لكنه يرى في الوقت نفسه "‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أن امل ـلك هو غاية العصبية " ألن القبيلة إذا بلغت فيها العصبية أقص ى غاياتها تحولت إلى امل ـلك ‪ , 35‬وذلك ألن رئاسة‬
‫ّ‬
‫التغلب ُ‬
‫والحكم بالقهر"‪ , 36‬لذا نرى‬ ‫القبيلة هي "سؤدد وصاحبها متبوع ‪ ,‬ليس له عليهم قهر في أحكامه ‪ ,‬وأما امللك فهو‬
‫ّ‬ ‫صاحب العصبية ‪،‬إذا وصل مرتبة ما َ‬
‫واإلتباع ؛ فإن ذلك أدعى للتحول إلى‬ ‫طلب ما فوقها ‪ ،‬ألنه إذا تحققت له السيادة ِ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫مرتبة " التغلب والقهر" ‪ .37‬وهكذا فإن امل ـلك (الدولة) هو املحور الذي تدور عليه أفكار ابن خلدون‪ ،‬رغم عقليته البدوية‪،‬‬
‫فمن خالل اهتمامه بالعصبية؛ وجد أنها أساس فكرة التنظيم السياس ي األوسع‪ ،‬أي فكرة الدولة ‪. 38‬‬

‫ً‬
‫لقد وضع ابن خلدون قاعدة التنافس بين العصبيات املختلفة على الرئاسة داخل القبيلة معتبرا " أن كل حي أو بطن‬
‫من القبائل ‪ ،‬وإن كانوا عصابة واحدة لنسبهم العام‪ ،‬ففيهم أيضا عصبيات أخرى ألنساب خاصة هي أشد التحاما من‬
‫أب واحد ‪ ،‬ال مثل بني العم األقربين أو األبعدين ‪،‬‬
‫النسب العام لهم مثل عشير واحد أو أهل بيت واحد أو أخوة بني ٍ‬
‫ّ‬
‫فهؤالء أقعد بنسبهم املخصوص ‪ ،‬ويشاركون من سواهم من العصائب في النسب العام ‪ ،‬والنعرة تقع من أهل نسبهم‬
‫ُ‬
‫املخصوص ومن أهل النسب العام‪ ،‬إال أنها في النسب الخاص أشد لقرب اللحمة" ‪ ، 39‬ليخلص في النهاية بأن الفوز يكون‬
‫إن لم تحافظ على مقومات القوة التي‬ ‫لكنه يستدرك فيعتبر أن العصبية املنتصرة ْ‬
‫بعد هذا التنافس للعصبية األقوى ‪ّ ،‬‬

‫‪ 32‬الجابري‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪186‬‬


‫‪ 33‬الدراجي‪ ،‬بوزياني‪ :‬العصبية القبلية‪ ،‬ظاهرة اجتماعية وتاريخية‪" ،‬في ضوء الفكر الخلدوني"‪ ،‬الجزائر‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬ط‪,1‬‬
‫‪2003‬م‪ ،‬ص‪.23‬‬
‫‪34‬املقدمة‪ ،‬ج‪ , 1‬ص‬
‫‪ 35‬املقدمة‪ ،‬ج‪ ,1‬ص‪246‬‬
‫‪ 36‬املصدر نفسه‪ ،‬ج‪, 1‬ص‪244‬‬
‫‪ 37‬املصدر نفسه‪ ،‬نفس الجزء ونفس الصفحة‬
‫‪ 38‬هادي‪ ،‬رياض عزيز‪ :‬مفهوم الدولة ونشوءها عند ابن خلدون‪ ،‬مجلة لعلوم القانونية والسياسية‪ ،‬بغداد‪ ،‬العدد الثالث ‪, 1977 ,‬‬
‫ص‪89‬‬
‫‪39‬املقدمة‪ ،‬ج‪ , 1‬ص‪.230‬‬

‫‪6‬‬
‫ُ‬ ‫تكفل لها االستمرار ؛ َّ‬
‫فإن ظهور عصبيات أخرى أقوى سوف تزيحها عن السلطة وتتربع مكانها ‪ ،‬حيث يقول في ذلك ‪ " :‬وملا‬
‫كانت الرئاسة إنما تكون بالغلب‪ ،‬وجب أن تكون عصبة ذلك النصاب (أي أهل العصبية الخاصة) أقوى من سائر‬
‫تعين استمرار الرئاسة في‬‫العصبيات ليقع الغلب بها وتتم الرئاسة ألهلها‪ .‬فهذا هو سر اشتراط الغلب في العصبة‪ ،‬ومنه ّ‬
‫ّ‬
‫النصاب املخصوص "‪ ،40‬فالعصبية والتغلب متالزمتان إذ ال معنى للعصبية بدون قوة وغلبة ‪ ،41‬فاالستقرار السياس ي‬
‫ُ‬
‫يحتاج إلى سلطة قادرة على إدارة زمام القبيلة‪ ،‬هذه السلطة يسميها ابن خلدون بامل ـلك وهي مرحلة تالية ملرحلة الرياسة‬
‫وتفوقها في األهمية‪ ،‬فالرياسة في نظره " هي سؤدد وصاحبها متبوع وليس له عليهم قهر في أحكامه‪ ،‬أما امللك فهو التغلب‬
‫والحكم بالقهر "‪.42‬‬

‫فابن خلدون يرى أن العصبية القبلية – في طورها البدائي‪ -‬ليست سوى نزعة نفسية تتحكم فيها رابطة الدم والنسب‪،‬‬
‫وعلى أساسها يجتمع أفراد القبيلة‪ ،‬لكنها ما تلبث أن تتحول – مع مرور الوقت‪ -‬إلى منظومة متكاملة من العالقات‬
‫االجتماعية والسياسية‪ ،‬تهدف إلى تحقيق طموحات أكبر للقبيلة‪ ،‬تصل في نهاية املطاف بالقبيلة إلى قيام الدولة التي‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫يسميها‪ -‬كما أسلفنا ‪( -‬بامل ـلك)‪ ،‬إذن املحصلة النهائية أن الدولة هي غاية العصبية عند بن خلدون‪ ،‬ويظهر ذلك واضحا‬
‫وجليا في عهد الدولة األموية‪.‬‬

‫ُ‬
‫إن األسس التي اعتمد عليها ابن خلدون في بناء نظريته عن العصبية تنطلق من رؤيته للمجتمع الذي كان يعيش‬
‫ُ‬
‫فيه من حيث أحواله ونمط الحياة فيه ؛ لذلك نراه يخلص إلى أن ظاهرة البداوة التي كانت سائدة في املغرب اإلسالمي هي‬
‫ً‬
‫التي كانت متحكمة في مقدرات مجتمعه‪ ،43‬ولهذا نجده يعطي بعدا أكبر ملفهوم العصبية عند أهل البداوة ودورها في‬
‫حماية القبيلة ‪ ،‬فيقول " وأما أحياء البدو فيذع بعضهم عن بعض مشايخهم وكبراؤهم بما وقر في نفوس الكافة لهم من‬
‫الوقار وتجله وأما حللهم فإنما يذود عنها من خارج حامية الحي من أنجادهم وفتيانهم املعروفين بالشجاعة فيهم وال‬
‫يصدق دفاعهم وذيادهم إال إذا كانوا عصبية وأهل نسب واحد "‪44‬وفي هذا الخصوص أعطى سامح الحصري تفسير‬
‫لرؤية ابن خلدون هذه ‪ ،‬فاعتبر أن النسب يكون واضحا في البداوة ‪ ،‬والعصبية الناتجة عنه تكون قوية ‪ ,‬أما في الحضر‬
‫فإنه ‪ -‬بسبب االختالط ‪ -‬يفقد الوضوح وبالتالي يفقد القوة ‪ ،‬فالذي يعيش في البادية يعيش منعزال قليل االختالط‬
‫باألقوام األخرى فيكون نسبه خالصا ‪45‬‬

‫مفاهيم العصبية القبلية‬

‫من خالل ما تم عرضه من أراء ألهل االختصاص عن العصبية القبلية يتبين أنها في األساس نزعة نفسية فطرية‬
‫تنشأ مع اإلنسان بفعل عوامل الدم والنسب ‪ -‬وبدرجة أقل ‪ -‬املصاهرة والجوار والحلف واملواطنة‪ ،‬وقد ّ‬
‫عرف ابن منظور‬

‫‪40‬املقدمة‪ ،‬ج ‪ , 1‬ص‪231‬‬


‫‪41‬الدراجي‪ :‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.37‬‬
‫‪42‬املقدمة‪ ،‬ج‪ , 1‬ص‪.244‬‬
‫‪43‬الدراجي‪ ،‬املرجع السابق ص‪162‬‬
‫‪44‬املقدمة‪ ،‬ج‪.224 , 1‬‬
‫‪ 45‬الحصري‪ ،‬سامح‪ :‬دراسات عن مقدمة ابن خلدون‪ ،‬بيروت ‪1967 ,‬م‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬ط‪ , 3‬ص ‪377‬‬

‫‪7‬‬
‫ً‬
‫أيضا‪َ " :‬نز َع اإلنسان إلى أهله‪ّ ،‬‬
‫حن وأشتاق ‪ ...‬ونازعتني نفس ي إلى هواها‪ :‬غالبتني " ‪،46‬‬ ‫النزعة بأنها‪ ،‬ما يهواه اإلنسان‪ ،‬وقال‬
‫حنت إلى أوطانها ومرعاها‪ ،‬ويقول الشاعر‪ :‬ال يمنعك‬ ‫وفي تاج العروس " نزع أباه‪ ،‬ونزع إليه‪ :‬أشبهه ‪ ...‬وفي املجاز‪ ،‬ناقة نازع‪ّ ،‬‬
‫نفس إلى أهل وأوطان " ‪.47‬‬‫خفض عيش في دعة نزوع ٍ‬

‫إذن النزعة هي قوة التعلق واالنتماء التي تنتاب اإلنسان تجاه الكيان الذي يحتضنه أو ينتسب إليه ‪ ،‬واإلنسان‬
‫العربي قبل اإلسالم كان يرى في قبيلته أو عشيرته ذلك الكيان الذي يمثل بالنسبة له قيمة وجوده‪ ,‬ويزداد تعلق الفرد‬
‫حينئذ ‪-‬تكون في الذروة ‪ ,‬لكن هذا الشعور قد يتحول بدافع هذه‬ ‫ٍ‬ ‫بقبيلته حينما تتعرض للعدوان ‪ ,‬فمشاعر االنتماء ‪-‬‬
‫العاطفة إلى شعور بالتعالي والفوقية وازدراء لآلخرين ‪ ،‬وقد يترتب على ذلك أن تتعالى القبائل على بعضها البعض ‪،‬‬
‫فيحدث بسبب ذلك نزاعات بين هذه القبائل يأخذ منحى العنف ‪ ،‬والعصبية القبلية قد تعتمد الثأر منهجا للدفاع عن‬
‫القبيلة ‪ ,‬واملحافظة على كيانها وحماية أبنائها ولو أدى ذلك إلى خوض صراعات وحروب طويلة ‪ ،48‬وبالتالي كان البد من‬
‫وجود رادع لهذا السلوك ‪ ،‬يمنعه من التمادي ‪ ،‬حتى ال تتعرض القبيلة للتصدع في بنائها الداخلي بفعل التهور الذي يتولد‬
‫عن التصرفات غير املنضبطة من أفرادها ‪ ,‬وهذا الرادع يسمى بالوازع ‪.49‬‬

‫لقد ربط علماء النفس بين العصبية أو التعصب ‪ -‬حسب تعريفهم ‪ -‬واألفعال الوحشية التي يرتكبها الفرد أو‬
‫الجماعة البشرية معتبرين ذلك بأنه سلوك سلبي وغير أخالقي ‪ ، 50‬وهذا السلوك في حقيقته ليس سوى نزعة لهذا الفعل ‪،‬‬
‫فيصبح هوى اإلنسان تجاه قبيلته أو عشيرته قويا وفاعال في محيطه االجتماعي‪,‬‬ ‫ومن النزعة تتولد العصبية القبلية ‪ُ ،‬‬
‫لكن العصبية القبلية – رغم أنها نزعة نفسية فردية أو جماعية – فهي أيضا مصطلح يرتبط بمفهوم املصالح وتبادل‬
‫أن ثمة أدوار مهمة للعصبية‬ ‫الحماية واملنفعة ‪ ،51‬فقد كشف الواقع السياس ي واالجتماعي عند العرب قبل اإلسالم َّ‬
‫القبلية ‪ ،‬حيث انتقلت من مرحلة االنتماء الذي يتحكم فيه النسب الواحد للقبيلة ‪ ،‬وبدرجة أعلى الشعور باألمان في‬
‫كنفها ؛ إلى سلسلة من العالقات االجتماعية والسياسية واالقتصادية بين القبائل في شكل تحالفات ومعاهدات ‪ ،‬وهذا‬
‫بطبيعة الحال يتطلب التزاما من أفراد هذه القبائل املتحالفة بالذود عن بعضها البعض وخوض الحروب ضد أعدائها‬
‫ولو كانت حروب ظاملة ‪ ،‬و بمجيء اإلسالم خبت جذوة العصبية القبلية ‪ ،‬ثم عادت وكشفت عن نفسها مرة أخرى بعد‬
‫وفاة الرسول من خالل حروب الردة ‪ ،‬وبدا على أن هذه الحروب ليست سوى صراع بين اإلسالم وتعاليمه من جهة ‪ ،‬وبين‬
‫ّ‬
‫القبائل التي تنكرت لهذه التعاليم ولم تنصاع لها من جهة أخرى ‪ ,‬بيدا أنها –في الحقيقة ‪ -‬تمثل أيضا صراعا من نوع أخر‬

‫‪46‬لسان العرب‪ ،‬مج ‪ , 6‬ج ‪ , 49‬ص ‪.4395‬‬


‫‪47‬الزبيدي‪ :‬ج‪ , 22‬باب العين‪ ،‬ص‪.240-239‬‬
‫‪48‬دلو‪ ،‬برهان الدين‪ :‬جزيرة العرب قبل اإلسالمي‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الفارابي‪ ،‬ط‪ , 1989 , 1‬ص‪, 153‬‬
‫‪49‬معنى الوازع في معجم لسان العرب‪ " :‬الحابس للعسكر‪ ،‬املوكل بالصفوف‪ ،‬يتقدم الصف فيصلحه ُويقدم ُويؤخر " أنظر = ابن‬
‫منظور‪ ،‬مجلد ‪ , 6‬ج‪ , 49‬ص‪.4825‬‬
‫‪50‬مسعود‪ ،‬هناء‪ :‬التعصب (مقال)‪ ،‬مجلة دنيا الوطن‪ ،‬تاريخ النشر ‪ 2016‬م‪ ،‬ص‪.4‬‬
‫‪51‬عدة‪ ،‬الشيخ‪ :‬العصبية الدينية ودورها في قيام الدولة اإلسالمية‪ ،‬رسالة ماجستير ‪2011‬م‪2012/‬م‪ ،‬الجزائر‪ ،‬جامعة وهران‪ ،‬كلية‬
‫العلوم االجتماعية واإلنسانية‪ ،‬ص‪.17‬‬

‫‪8‬‬
‫ظهرت فيه العصبية في أوضح صورها وهو الصراع بين القبائل الحديثة العهد باإلسالم وبين قبيلة قريش ‪ ،‬إلى أن تطور‬
‫األمر في أواخ ر الخالفة الراشدة ومعظم عصر الدولة األموية إلى صراع سياس ي ‪ ،‬ولكن الدافع ضل عصبي ‪52‬‬

‫الوازع وحالة الصراع وعالقتهما بالعصبية القبلية‬

‫على الرغم من أن حالة الصراع كانت هي املهيمنة على الواقع السياس ي واالجتماعي في القبائل العربية قبل‬
‫اإلسالم ؛ إال أن هناك لدى كل قبيلة ‪ -‬في الغالب – قوة ضابطة ومتحكمة في سلوك أفراد القبيلة هذه القوة تسمى‬
‫بالوازع ‪ ،‬الذي يراه ابن خلدون حال ملعالجة جملة من التناقضات السلوكية التي تطرأ على املجتمعات ويكون لها تأثير‬
‫واضح عليها ‪ ,‬فمن جهة يرى أن اإلنسان ال يقوى على الحياة إال في ظل مجتمع يضم بني جنسه ‪ ,‬ويرى في الوقت نفسه أن‬
‫هذا اإلنسان قد يكون ذا طبع عدواني فال يتوانى عن التعدي على غيره بغية الحصول على ما في يديه‪ ،53‬هذا التناقض في‬
‫سلوك اإلنسان تجعل من الضروري وجود قوة قادرة على تنظيم األمور في القبيلة ومنع التعدي ‪ ،‬و يفسر ابن خلدون‬
‫هذه القوة بالسلطة املعنوية لشيوخ وكبراء القبيلة ‪ ,‬أو القوة املادية التي يمثلها الحاكم أو السلطان ‪,54‬وهي تلك القوة‬
‫الرادعة ‪ -‬املستمدة سواء كانت من عصبية ذاتية أو السطوة والهيبة ‪ -‬التي يحوزها صاحب السلطة في القبيلة ‪ ،‬وقد‬
‫َ َ‬ ‫ً‬
‫يكون الوازع ٌم ّس َتلهما من مجموعة من األعراف والتقاليد التي تواف َق عليها أفراد القبيلة وباتوا ُملزمين بإتباعها وعدم‬
‫الحيد عنها ‪ ,‬ويعتبره الجابري على أنه السلطة الكابحة لجماح الفرد واملعطلة لغريزته العدوانية ‪ُ ،‬وي ّ‬
‫قسمه إلى وازع ذاتي‬ ‫َ‬
‫مرده إلى االقتناع النابع من تأثير التنشئة األسرية والتربية الدينية ‪ ,‬ووازع أجنبي بسبب السلطة القهرية املفروضة‬
‫بالقهر‪ ، 55‬أما الحصري فيعتقد أن الوازع ليس إال تلك السلطة التي يمتلكها من كانت لديه الغلبة والسلطان على بني‬
‫جنسه ‪ ,‬يمنع بها عدوان الناس بعضهم على بعض‪ ،56‬ومن هنا ندرك أن القدرة على ضبط السلوك داخل القبيلة هو ما‬
‫يعزز قوتها الذاتية ‪ ،‬ويكفل لها االستقرار أيا كان نوع ومصدر هذا الضبط ‪.‬‬

‫إن الصراع داخل القبيلة هو الذي يدفع نحو قوة العصبية ‪ ,‬فالرياسة ‪ -‬كما يقول ابن خلدون – " إنما تكون‬
‫بالغلب "‪57‬وهذا الغلب يكون عند الفرع الذي يملك السطوة والقوة ‪ ,‬وتضل السلطة ( الرياسة ) فيهم ما دموا يملكون‬
‫مقومات القوة في القبيلة ‪ ,‬فالقبيلة الواحدة في األصل هي عبارة عن عصبيات متعددة ‪ ،‬استطاعت عصبية قوية من بين‬

‫هذه العصبيات التغلب على الجميع ‪ ,‬مما أدى إلى انضمام كل العصبيات إليها ّ‬
‫لتكون عصبية واحدة كبيرة‪ ،58‬واألمر ينجر‬
‫على عالقة القبيلة بغيرها من القبائل ‪ ,‬فإذا وجدت من مصلحتها االستحواذ على القبائل األخرى ‪ ،‬فإنها تخوض معها‬

‫‪ 52‬الحرابي‪ :‬املقال السابق‪ ،‬ص‪.3‬‬


‫‪53‬الجابري‪ ،‬ص‪.163‬‬
‫‪54‬الجابري‪ :‬فكر ابن خلدون ‪-‬العصبية والدولة‪ ،‬ص‪164‬‬
‫‪55‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪305‬‬
‫‪56‬دراسات عن مقدمة ابن خلدون‪ ،‬ص‪.282-281‬‬
‫‪57‬املقدمة‪ ،‬ج‪ , 1‬ص‪.231‬‬
‫‪58‬املقدمة‪ ،‬ج‪ , 1‬ص‪.245‬‬

‫‪9‬‬
‫ً‬
‫حروبا في سبيل ذلك ‪ ،‬إلى إن تصل إلى ذروة السطوة والقوة وهو (امللك ) الذي يعتبره ابن خلدون غاية العصبية‪ ، 59‬وهذا‬
‫الصراع يظل قائما مادامت مسببته قائمة ‪.‬‬

‫ً‬ ‫ُ‬
‫حالة الغبن وعدم الشعور بالحرية التي يعيشها الفرد في القبيلة بفعل السلطة املستبدة ‪ -‬أيا كان نوع االستبداد‬
‫ُ‬
‫‪ -‬من املعوقات التي تحول دون بلوغ العصبية مراتب السلطة القوية التي تصل إلى أقص ى غاياتها املمثلة في امل ـلك‪ ،‬لذلك‬
‫نرى أفراد القبائل الذين ال يملكون مقدراتهم‪ ،‬ويعيشون في ظروف غير مثالية حيث يسيطر عليهم الخوف ويشكون من‬
‫الذل‪ ،‬تكون العصبية عندهم في أقص ى درجات الضعف‪ ،‬فالعصبية ال تلعب دورها املطلوب؛ إال إذا كان الناس أحرارا‪ ،‬ال‬
‫ُ‬
‫تقيدهم سلطة‪ ،‬سواء كانت هذه السلطة مادية أم معنوية ‪.60‬‬

‫إن مجرد اعتداء أي فرد على قبيلته يكشف بجالء مدى انتفاء روح العصبية عند هذا الفرد وانقالبها للضد‪،‬‬
‫دافعه في ذلك شعوره بالدونية في قبيلته نتيجة موقفها منه‪ ،‬وهذا يؤكد أن أساس العصبية القبلية هو الفرد‪ ،‬ومتى ما‬
‫كان يعيش في كنف قبيلته كريما معززا فإن قوة االنتماء ‪ -‬أي العصبية ‪ -‬عنده تكون قوية‪ ،‬ومتى ما شعر بالغبن – حتى‬
‫وإن ارتكب جرما في قبيلته ‪ -‬فال نستغرب أن يتنكر لقبيلته ويكفر بالعصبية القبلية ويزدريها‪ ،‬فحياة الفرد الطبيعية‬
‫تتطلب االنضباط السليم والتفاعل والتواصل مع اآلخرين‪.‬‬

‫الوجه اإليجابي للعصبية القبلية في اإلسالم‬

‫عندما نذكر عالقة العصبية بالدين يتناهى إلى أذهاننا مفهوم التعصب الديني املذموم و السلوكيات التي تتنافى مع‬
‫تعاليم اإلسالم ‪ ,‬لكن الواقع يقول أن ثمة ارتباط إيجابي بين العصبية واإلسالم ‪ ,‬وهو ما يمكن أن نسميه بالرابطة‬
‫وحدتهم‬‫الدينية‪ 61‬التي جمعت تحت لوائها أفراد وجماعات من بطون وقبائل مختلفة ومراتب اجتماعية متفاوتة ‪ّ ،‬‬
‫وحددت وجهتهم نحو هدف عظيم وهو إحقاق الحق وإزهاق الباطل والذود عن الدين ونشره في كل‬ ‫العقيدة اإلسالمية ّ‬
‫مكان ‪ ,‬وهذه الرابطة ‪ -‬في األصل ‪ -‬هي سلوك يقوى ويتقد حينما يكون التعصب الشديد للدين‪ -‬أو بمعنى أوضح الغيرة‬
‫الشديدة على الدين ‪ -‬في ْأوجه ‪ ،‬ونرى ذلك واضحا في مواجهات املسلمين مع املشركين في عهد الرسول ‪ ,‬وكذلك في‬
‫حروب الردة والفتوحات اإلسالمية في عهد الخلفاء الراشدين ‪.‬‬

‫في ظل اإلسالم ذابت كل أشكال العصبيات األخرى كعصبيات النسب والجوار واألحالف في العصبية للدين الجديد‪،‬‬
‫فالذين دخلوا في اإلسالم وجاهدوا مع الرسول ؛ واجهوا املشركين الذين تربطهم بهم عصبية الدم والجوار والحلف‪،‬‬
‫فتلك العصبيات – رغم قوتها ‪ -‬لم تحل دون استماتتهم في الذود عن اإلسالم ومقارعتهم في سبيله أهلهم وحلفائهم‪.‬‬

‫‪59‬املقدمة‪ ،‬ج‪ , 1‬ص‪.246‬‬


‫‪60‬الجابري‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.184‬‬
‫‪ 61‬عدة‪ ،‬الشيخ‪ :‬العصبية الدينية ودورها في قيام الدولة اإلسالمية‪ ،‬رسالة ماجستير‪ ،‬كلية العلوم االجتماعية واإلنسانية‪ ،‬جامعة‬
‫وهران ‪2011 ,‬م‪2012 /‬م ص‬

‫‪10‬‬
‫لقد أصبحت األخوة في اإلسالم القاعدة األساسية التي بنيت عليها العالقات بين املسلمين‪ ،‬فلم تعد الفروق في النسب أو‬
‫اللون أو الوضع االقتصادي موجودة بين املسلمين إنما يكون التمايز في التقوى والعمل الصالح‪ ،‬وقد وردت آيات قرآنية تؤكد‬
‫ضرورة التمسك باألخوة اإلسالمية‪ ،62‬ولم يترك الرسول مناسبة إال وحث على التآخي بين املسلمين‪ ،‬ومن فرط اهتمامه بهذا‬
‫املؤاخاة أنه وضع لها قواعد واختار األفراد املتآخين بدقة‪ ،‬فكانت األخوة اإلسالمية بديال عن رابطة النسب والدم التي أعتاد عليها‬
‫الفرد العربي قبل اإلسالم‪.‬‬

‫اهتم الرسول بمسألة العصبية وفق إطار ديني أخالقي ‪ ،‬حيث أقر ما يتماش ى مع اإلسالم ‪ ،‬وألغى ما يتعارض معه ‪،‬‬
‫ّ‬
‫وهذب ما يمكن تهذيبه ‪ ،‬فحارب السلوكيات التي تؤدي إلى خلخلة ترابط املجتمع والحيد به عن املنهج الذي رسمه الدين‬
‫اإلسالمي ‪ ،‬واعتبر أن العصبية القبلية من مورثات فترة ما قبل اإلسالم ‪ ،‬لكنه لم ينتقد تلك الفترة برمتها ‪ ،‬فقد أثنى على حلف‬
‫الفضول ‪ ،‬وأقر بمكانة قريش بين العرب ‪ ،‬ولم ُينكر محبة الرجل لقبيلته ‪ ،‬فقد ُس ِئل ‪ِ " :‬أم َن العصبية أن يحب الرجل قومه ؟‬
‫ً‬
‫قال ‪ :‬ال ‪ ،‬ولكن من العصبية أن ُيعين الرجل قومه على الظلم " ‪ُ ،63‬وينسب إليه أنه قال أيضا ‪ " :‬خيركم املدافع عن عشيرته ما‬
‫لم يأثم "‪.64‬‬

‫فالحضارة اإلسالمية كان أساسها تعاليم اإلسالم ‪ ،‬وأدوات نشرها املسلمين‪ ,‬فال نتصور أن هؤالء الذين تحملوا أعباء‬
‫نشر الدين وإرساء قواعد الحضارة اإلسالمية العظيمة –كانوا يعيشون قبل اإلسالم بال أخالق وفي جهل مدقع و تخلف مقيت ‪،‬‬
‫َّ‬
‫وإال لكان األمر يحتاج إلى فترة طويلة حتى يهيئوا لحمل رسالة اإلسالم العظيمة وحضارته إلى أصقاع األرض ‪ ،‬إننا نقصد بتلك‬
‫العصبية تلك التي ال تقتل اإلبداع وتدفع نحو الرغبة في الوصول إلى أقص ى غايات املجد ‪ ،‬إذ أن مجد الحضارة اإلسالمية الذي‬
‫كان املسلمون هم من يغذونه عبر التاريخ كان واقعا ولم يكن أسطورة‪.65‬‬

‫سوق لنا‪ ، 66‬إذ من اإلجحاف أن نرسم صورة مشوهة في‬ ‫إن فترة ما قبل اإلسالم لم تكن فترة همجية وإفالس حضاري كما ُي ّ‬
‫أذهاننا عن تلك الحقبة التاريخية ونحن نملك بين أيدينا تراثا أدبيا من الشعر والخطابة واألمثال والحكم‪ ،‬وحتى أن القراءة‬
‫والكتابة كانت معروفة لديهم ‪.67‬‬

‫الخاتمة‬

‫َ ْ ٌ‬ ‫ّ ُ‬
‫‪62‬قال تعالي‪{ِ :‬إن َما امل ْؤ ِم ُنون ِإخ َوة{ سورة الحجرات‪ ،‬آية ‪10‬‬
‫ّ‬
‫‪63‬ابن ماجه‪ ،‬أبي الحسن الحنفي السندي‪ ،‬سنن ابن ماجه‪ ،‬حققه وخرج أحاديثه خليل مأمون شيحا‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار املعرفة ‪1416‬ه ‪/‬‬
‫‪ 1996‬م‪ ،‬ط‪ , 1‬باب الفتن‪ ،‬مجلد ‪ ،)3949( , 4‬ص‪.327‬‬
‫‪ 64‬أبو داود‪ ،‬سليمان بن األشعث‪ ،‬سنن أبي داود‪ ،‬حققه وضبط نصه وخرج أحاديثه‪ ،‬شعيب األرنؤوطي وأخران‪ ،‬دمشق‪ ،‬دار‬
‫الرسالة العاملية ‪1430‬ه ‪ 2009/‬م‪ ،‬ط‪ , 1‬كتاب األدب‪ ،‬ج‪ ،)5120( , 7‬ص‪.440‬‬
‫‪65 Mohdakmalsidik, Abdullah Yusof and Faisal Ahmad Faisal Abdul Hamid, Discovery of American‬‬

‫‪Continent According to Islamic Civilization Knowledge Inandalusia: An Alternative View on European‬‬


‫‪Navigation Asma’ Wardahsurtahman, Mohd yusair imohd yusof, Tarekladjal. P213.‬‬
‫‪66‬الدوري‪ :‬مقدمة في تاريخ صدر اإلسالم‪ ،‬ص ‪.44‬‬
‫‪ 67‬عمر فروخ‪ ،‬املرجع السابق ص‪50‬‬

‫‪11‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بدأت العصبية القبلية سلوكا فرديا وإحساس نفس ي ينتاب الشخص فيخرج للذود عن قبيلته‪ ،‬ثم أصبحت برنامجا‬
‫متكامال الهدف منه تحقيق أهداف سياسية‪ ،‬خاصة حينما اختمرت فكرة القبيلة الدولة في عقلية اإلنسان العربي‪.‬‬

‫بعض الباحثين تناولوا العصبية القبلية من بوابات شتى ‪ ,‬لكن الحقيقة –كما ذكرها ابن خلدون– ‪،‬أن‬
‫للعصبية القبلية أوجه سلبية و أوجه إيجابية ‪ ،‬ثبتت عبر تاريخ ما قبل اإلسالم وما بعده ‪ ،‬فالعصبية القبلية ارتبط‬
‫تاريخها بنشأة القبيلة ‪ ،‬وقد مرت عبر هذا التاريخ بمراحل مختلفة ‪ ،‬حيث بدأت سلوكا فرديا يعبر من خالله الفرد عن‬
‫مدى تعلقه بقبيلته التي يرتبط بها من خالل عالقة الدم ‪ ،‬ثم تحولت إلى تكتالت أكبر تحركها رابطة الدم واملصاهرة‬
‫واألحالف والجوار ‪ ،‬وأخير تطورت لتصبح برنامجا سياسيا لتحقيق مصالح مشتركة ‪ ،‬وهذه املراحل تحكمت في قوتها أو‬
‫ضعفها ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية ‪ ,‬لكنها ظلت محافظة على – إلى حد كبير – على نمطية التعامل بين‬
‫األفراد واملجتمعات لقد حاولنا تسليط الضوء على هذه الظاهرة االجتماعية ذات األبعاد السياسية من خالل أراء‬
‫املفكرين والباحثين‪ ،‬ومستعينين بما وقع في أيدينا من مصادر تاريخية قديمة وحديثة‪.‬‬

‫وأخير أتقدم بالشكر لكلية اآلداب بجامعة بنغازي في ليبيا‪ ،‬التي أتاحت لي الفرصة حتى أطرق باب العلم في‬
‫جامعة ماليا بماليزيا للحصول على الدكتوراه‪ .‬نسأل هللا التوفيق والسداد‬

‫املصادرواملراجع‬

‫القران الكريم‬
‫ابن أثير‪ ،‬أبو الحسن علي ابن أبي الكرم‪ :‬الكامل في التاريخ‪ ،‬تحقيق أبي الفداء عبد هللا القاض ي‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الكتب‬
‫العلمية‪.‬‬
‫ابن خلدون‪ ،‬عبد الرحمن بن محمد‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الكتاب العربي ‪ 1420 ,‬ه‪1999 /‬م‪.‬‬
‫ّ‬
‫ابن ماجه‪ ،‬أبي الحسن الحنفي السندي‪ ،‬سنن ابن ماجه‪ ،‬حققه وخرج أحاديثه خليل مأمون شيحا‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار املعرفة‬
‫‪1416‬ه ‪ 1996 /‬م‬
‫ابن منظور‪ ،‬أبو الفضل محمد بن مكرم‪ :‬لسان العرب‪ ،‬تحقيق عبد هللا علي الكبير‪ ،‬هاشم محمد الشاذلي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار‬
‫املعارف‪.‬‬
‫أبو داود‪ ،‬سليمان بن األشعث‪ ،‬سنن أبي داود‪ ،‬حققه وضبط نصه وخرج أحاديثه‪ ،‬شعيب األرنؤوطي وأخران‪ ،‬دمشق‪،‬‬
‫دار الرسالة العاملية ‪1430‬ه ‪ 2009/‬م‬
‫األزهري أبو منصور بن أحمد‪ :‬تهذيب اللغة‪ ،‬تحقيق محمد علي النجار‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار املصرية للتأليف والترجمة‪1384,‬ه ‪/‬‬
‫‪.1964‬‬
‫األلوس ي‪ ،‬محمود شاكر‪ :‬بلوغ األرب في معرفة أحوال العرب‪ ،‬عني بشرحه وتصحيحه وضبطه محمد بهجة األثري‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫دار الكتب العاملية‪.‬‬
‫البخاري‪ ،‬محمد بن إسماعيل‪ :‬صحيح البخاري‬
‫الجابري‪ ،‬محمد عابد‪ :‬فكر ابن خلدون‪ .‬العصبية والدولة‪ ،‬معالم نظرية خلدونية في التاريخ اإلسالمي‪ ،‬بيروت‪ ،‬مركز‬
‫دراسات الوحدة العربية‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫حتى‪ ،‬فيليب‪ :‬العرب‪ ،‬تاريخ موجز‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار العلم للماليين‪ ،‬ط‪ 1991 , 6‬م‬
‫الحصري‪ ،‬سامح‪ :‬دراسات عن مقدمة ابن خلدون‬
‫خريسات‪ ،‬محمد عبد القادر‪ :‬العصبية القبلية في صدر اإلسالم‪ ،‬األردن‪ ،‬مؤسسة حمادة للدراسات الجامعية للنشر‬
‫والتوزيع ‪2005 ,‬م‪.‬‬
‫خليف‪ ،‬يوسف‪ :‬الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار املعارف ‪ 1978 ,‬م‪ ،‬ط‪3‬‬
‫الدراجي‪ ،‬بوزياني‪ :‬العصبية القبلية‪ ،‬ظاهرة اجتماعية وتاريخية‪" ،‬في ضوء الفكر الخلدوني"‪ ،‬الجزائر‪ ،‬دار الكتاب العربي‪،‬‬
‫ط‪2003 ,1‬م‬
‫دلو‪ ،‬برهان الدين‪ :‬جزيرة العرب قبل اإلسالم ‪ ،1989 ,‬بيروت‪ ،‬دار الفارابي‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫الزبيدي‪ :‬تاج العروس محمد مرتض ى الحسيني‪ :‬تاج العروس‪ ،‬تحقيق عبد الستار أحمد فرج‪ ،‬الكويت‪ ،‬مطبعة حكومة‬
‫الكويت‪.‬‬
‫زيدان‪ ،‬جرجي‪ :‬تاريخ التمدن العربي‪ ،‬راجعه وعلق عليه حسين مؤنس‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الهالل‪،‬‬
‫الشريف‪ ،‬أحمد إبراهيم‪ :‬مكة واملدينة في الجاهلية وعهد الرسول ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الفكر العربي‪.‬‬
‫صهيب‪ ،‬عبد الرحمن‪ :‬القبيلة والدولة الحديثة‪ .‬محاولة فك االرتباط‪ ،‬مجلة تكايا‪ ،‬عدد شهر أغسطس‬
‫ضيف‪ ،‬شوقي‪ :‬املعجم الوسيط‪" ،‬مجمع اللغة العربية "‪ ,‬وزارة التربية والتعليم‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫عدة‪ ،‬الشيخ‪ :‬العصبية الدينية ودورها في قيام الدولة اإلسالمية‪ ،‬رسالة ماجستير ‪2011‬م‪2012/‬م‪ ،‬الجزائر‪ ،‬جامعة‬
‫وهران‪ ،‬كلية العلوم االجتماعية واإلنسانية‪.‬‬
‫علي‪ ،‬جواد‪ :‬املفصل في تاريخ العرب قبل اإلسالم‪ ،‬بغداد‪ ،‬جامعة بغداد‪ ،‬ط‪ 1993 , 2‬م‬
‫ً‬
‫الفراهيدي‪ ،‬الخليل بن أحمد‪ :‬كتاب العين‪ ،‬مرتبا على حروف املعجم‪ ،‬ترتيب وتحقيق عبد الحميد هنداوي‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار‬
‫الكتب العلمية‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫فروخ‪ ،‬عمر‪ :‬العرب في حضارتهم وثقافتهم إلى أخر العصر األموي‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار العلم للماليين ‪1966,‬م ‪1386 /‬ه‬
‫الفيروز بادي‪ ،‬مجد الدين محمد ابن يعقوب‪ :‬القاموس املحيط‪ ،‬القاهرة‪ ،‬املطبعة األميرية‪ ،‬ط‪.3‬‬
‫القلقشندي‪ :‬نهاية األرب في معرفة أنساب العرب‪ ،‬تحقيق إبراهيم األبياري‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الكتاب العربي ‪1980,‬م‪.‬‬
‫مسعود‪ ،‬هناء‪ :‬التعصب (مقال)‪ ،‬مجلة دنيا الوطن‪ ،‬تاريخ النشر ‪. 2016‬‬
‫هادي‪ ،‬رياض عزيز‪ :‬مفهوم الدولة ونشوءها عند ابن خلدون‪ ،‬مجلة لعلوم القانونية والسياسية‪ ،‬بغداد‪ ،‬العدد الثالث ‪,‬‬
‫‪1977‬‬
‫‪Harabi. Ali Balqasim Rashid and Faisal Ahmad Faisal Abdul Hamid: tathir aleasabiat‬‬
‫‪alqabliat ealaa aldawlat al'umwiat khilal hakam almarwani JOURNAL AL-MUQADDIMAH‬‬
‫‪Department of Islamic History and Civilization Academy of Islamic Studies, University of‬‬
‫‪Malaya Volume 3,2015, December 2015.‬‬
‫‪Mohdakmalsidik, Abdullah Yusof and Faisal Ahmad Faisal Abdul Hamid, Discovery of‬‬
‫‪American Continent According to Islamic Civilization Knowledge Inandalusia: An Alternative‬‬
‫‪View on European Navigation Asma’ Wardahsurtahman, Mohd yusairimohdyusof, Tarekladj‬‬

‫‪13‬‬

You might also like