You are on page 1of 217

‫حين اشتعلنا أمطرت‬

‫حين اشتعلنا أمطرت‬


‫رواية‬

‫حذيفة العرجي‬
‫حذيفة العرجي‬
‫حين اشتعلنا أمطرت‬
‫رواية‬

‫الطبعة األولى‪ :‬نوفمبر ‪2017‬م – صفر ‪1439‬هـ‬

‫الفسح‪1439 / 1390 :‬‬


‫ردمك‪978-603-90896-7-4 :‬‬

‫دار ميالد للنشر والتوزيع‬


‫‪ 6565‬طريق األمير محمد بن سعد بن عبدالعزيز‬
‫الرياض – المملكة العربية السعودية‬
‫الموقع اإللكتروني‪www.DarMelad.com :‬‬
‫تويتر‪Dar_Melad :‬‬
‫انستغرام‪Dar_Melad :‬‬

‫للتواصل مع المؤلف‪:‬‬
‫تويتر‪al_arje :‬‬
‫انستغرام‪al_arje :‬‬

‫سعر الكتاب‪:‬‬
‫‪ 35‬ريال سعودي‬
‫‪ 9‬دوالر أمريكي‬

‫ي جزء منه‪،‬‬ ‫جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة لدار ميالد‪ ،‬وال يسمح بإعادة إصدار هذا الكتاب أو أ ّ‬
‫ي شكل من األشكال‪ ،‬دون إذن خطي من الدار‬ ‫أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات أو نقله بأ ّ‬
‫اإلهداء‬

‫إىل اليت حفرت حرف امسي على يدها ابلسكني‬


‫وملّا سألتها مندهشاً غاضباً ‪ :‬مل ِ‬
‫فعلت هذا؟‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫يستقر يف نفسك أنين جمنونة‬
‫ّ‬ ‫حّت‬
‫أجابت‪ّ :‬‬
‫أطعن قليب بنفس السكني‬
‫وأنين ُمستعدة ألن َ‬
‫إذا فكرت أن ترتكين وتبتعد‪.‬‬
‫أبّيم‪..‬‬
‫وبعدها ّ‬
‫هي وابتعدت!‬
‫تركتين َ‬
‫الفصل األوّل‬
‫"الفراق هو احلب"‬

‫ابرك ِعشقنا‬‫شيء َ‬‫رحلنا إذ ْن‪ ..‬ال َ‬


‫البقاء ُمعلَّقا‬
‫ضلنا َ‬ ‫حنن ف ّ‬
‫وال ُ‬

‫حنن قاتلنا ِ‬
‫ألجل وصالنا‬ ‫وال ُ‬
‫حنن ساعدان هواان ليُشرقا‬
‫وال ُ‬

‫حذيفة‪ /‬ديوان ُمضاف إليك‬

‫‪7‬‬
8
‫أول ِ‬
‫لسعة فقر‬ ‫ميلك أصدقاء بعدد شعر رأسه‪ ،‬عن َد ِ‬‫كالغين الذي ُ‬
‫ً‬ ‫ِّ‬
‫أصلع!‪ ،‬هذهِ كانت إجابتهُ لباسم صحفي جملة "أصدقاء‬
‫ْ‬ ‫يكتشف أنّهُ‬
‫ُ‬
‫كنت يف احلُب؟‬
‫كيف َ‬‫الشعر" عندما سألهُ‪َ :‬‬
‫تعرف خالص َة ما عاشهُ إنسا ٌن فانظر إىل آخر‬
‫أردت أن َ‬
‫يُتابع‪ :‬إذا َ‬
‫ِ‬
‫العشاق‬ ‫معاشر‬ ‫ينطبق علينا‬ ‫املثل التايلندي‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫كلماته يف الدنيا‪ ،‬هذا ُ‬
‫حّت تقرأ‬
‫بني قيس وليلى مثالً َّ‬
‫تعرف حقيقةَ ما جرى َ‬
‫فأنت لن َ‬
‫أيضاً‪َ ،‬‬
‫حياته وآخر ما قالته ليلى‪ ،‬وعلى ذلك قِس‪.‬‬
‫آخر ما كتب قيس يف ِ‬
‫َ ٌ‬

‫ِ‬
‫كالشمس أشعتُهُ‬ ‫شاكر عريب‪ُ ،‬بع ِ‬
‫مق البحر لكنَّهُ مل يكن غامضاً‪ ،‬بل كان‬
‫كل انفذة‪ ،‬هو صاحب املقولة الشهرية أيضاً‪:‬‬ ‫كل بيت وخترت ُق ّ‬‫تطول ِّ‬
‫ُ‬
‫وسرهُ يف قلبه‪ ،‬الغريب من يفضح سرهُ بيديه‬
‫الرجل ُّ‬‫ُ‬ ‫ميوت‬
‫ليس غريباً أن َ‬ ‫َ‬
‫أليس أوىل بنا أن نُسميها فضيحة بدل‬
‫فيكتبهُ على شكل قصيدة‪َ ،‬‬
‫قصيدة؟‪.‬‬
‫أنت اآلن يف مدينة محص‪ ،‬الساعة اخلامسةُ والنصف صباحاً‪ ،‬مل ترتفع‬
‫َ‬
‫الشمس بعد‪ ،‬إهنا بدايةُ التلوي ِن يف السماء‪ ،‬هذا الشارع يسمى يف‬
‫ُ‬
‫سميه أهل محص "شارع‬ ‫سجالت احلكومة شارع خالد بن الوليد وي ِ‬
‫ُ‬
‫فل‬ ‫اخلراب!" مع أنه عامر ابخلُضرة لكنه الشاه ُد األكرب على ِ ِ‬
‫كل زهرة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ٌ‬
‫نسمة صبح شردها ليل فراق وكل ِ‬ ‫كل ِ‬
‫نفحة حب‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ذُحبت بسكني بُع ْد و ِّ‬
‫يظنان أهنما يعمر ِ‬
‫ان‬ ‫ني كاان ِ‬
‫هتدم فوق عاشق ِ‬ ‫ِ‬
‫وكل وعكة هجر وكل حلم َ‬
‫ميينه ويسارهِ أرصفةٌ عريضة‬
‫حقيقة‪ ،‬هو شارعٌ طويل ذو قسمني وعلى ِ‬
‫‪9‬‬
‫الشمس من ورائها‬
‫ُ‬ ‫ستخرج‬
‫ُ‬ ‫سحب دخانيةٌ بيضاء‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫تنتهي ببساتني تلفها‬
‫بعد قليل‪ ،‬سرتى الكثري من كبار السن والشباب والصباّي أيضاً‬
‫ميارسو َن رّيضةَ املشي على هذهِ األرصفة يف هذا الوقت الباكر وستج ُد‬
‫أيضاً بعض الكراسي املنتشرة على امتداد هذا الشارع الذي يبلغ طولهُ‬
‫الليل وجاء يف‬
‫سهر َ‬
‫شباب َ‬‫جيلس على بعضها ٌ‬ ‫قرابة ‪ ٣‬كلم مين ًة ويسرة ُ‬
‫لشمس يوم جديد‪ ،‬بدايةُ هذا‬ ‫ِ‬ ‫ليحضر والد َة السماء‬
‫َ‬ ‫هذا الوقت‬
‫ابلنسبة آلخرهِ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫تفع‬
‫اسم الشارع أيضاً وهو مر ٌ‬
‫ملعب كبري حيمل َ‬ ‫الشارع ٌ‬
‫إىل األمام قليالً ستج ُد ابئع قهوة ُم َّـرة ومشروابت ساخنة يقف بسيار ِته‬
‫السوزوكي الصغرية معلقاً ماكينة القهوة عليها‪ ،‬كبري يف السن ال تبان‬
‫طاعن يف احلزن‬ ‫ِ‬
‫على وجهه آاث ُر التعب مع أن من يعرفه يعرف متاماً أنهُ ٌ‬
‫يعرف‬
‫لعل ابتسامتهُ ذات التجاعيد املُتفائلة ختفي ما حيملهُ قلبه‪ ،‬إنه ُ‬ ‫َّ‬
‫رواد هذا الشارع فرداً فرداً ويعرفونه كذلك‪ ،‬إنهُ كما يقول شاكر عنه‬
‫تقطع هذا البائع مشياً فابدأ ابلعد‬
‫كبريان الذي علمنا الصرب‪ ،‬مبجرد أن َ‬
‫ثالث كراسي على اليمني هذا هو كرسي شاكر عريب الذي بدأت منهُ‬
‫قصةُ ِ‬
‫حبه وما انتهت عندهُ‪ ،‬بل انتهى هو!‪.‬‬
‫تسمح‬ ‫أن السماوات‬ ‫ِ‬
‫ابلنسبة لهُ‪ ،‬فكما َّ‬ ‫وقت احلُ ِ‬
‫لم‬ ‫الصباح هو ُ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫لألحالم أن‬ ‫تسمح‬ ‫الشمس‬ ‫كل صباح أن تصع َدها‪ِ ،‬‬
‫كانت‬ ‫ِ‬
‫للشمس َّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫شكل أشعة ذهبية‪ ،‬كان ذلك اليوم يوم اللقاء‬‫غرفته على ِ‬‫شباك ِ‬‫خترت َق َ‬
‫َ‬
‫حّت التاسعة‪،‬‬
‫األول بعد التعارف‪ ،‬انتظرتهُ يومها من السادسة صباحاً ّ‬
‫ِ‬
‫الليمون والنارنج‬ ‫قاسم فنجا َن القهوةِ وأغصا َن‬ ‫ِ‬
‫وهو على بلكونه يُ ُ‬
‫‪10‬‬
‫اد لهُ أن يكون‪-‬‬ ‫ِ‬
‫لصامت ‪-‬كما أر َ‬ ‫ينظر إىل هاتفه ا‬
‫إشراقةَ ُحلُم جديد‪ُ ،‬‬
‫أغمض عينيه خوفاً‬‫َ‬ ‫هاتفه الذي كلما أضاءت شاشتهُ مبكاملة جديدة‬
‫اعتذر هلا بعد ست عشرة مكاملة فائتة وأربع‬
‫َ‬ ‫من خطوة تودي بقلبه‪،‬‬
‫غدر ِبه‪ ،‬فلم يشعر ابلوقت‪ ،‬ملاذا انتظرتهُ‬
‫النوم أخذهُ‪ ،‬واملنبه َ‬
‫أن َ‬ ‫رسائل؛ َّ‬
‫لعل ما اعتربته‬
‫الشمس ثالث ساعات كاملة!؟ هي نفسها ال تعلم‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫يف‬
‫الفحم!‬ ‫ب تذو ِ‬
‫قه على‬
‫ْ‬ ‫زرع فيها ُح َّ ّ‬
‫ابدئ األمر َ‬ ‫جتاهالً يف َ‬
‫تظن وامهةً أهنا إن‬
‫قلبه إىل فضاء ُّ‬ ‫كفاً بكف‪ ..‬واآلهُ تتدحرج من ِ‬ ‫ضرب َّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫كل مساء‬‫وحشي َّ‬ ‫ألف‬
‫تبعث َ‬‫تلك اليت ُ‬ ‫أي حبيبَة َ‬ ‫وصلت ِ‬
‫إليه سرتاتح‪ُّ ،‬‬
‫ّ‬
‫برمح األسئلة؟ إنَّهُ اآلن كالذي جعل عمرهُ بني يدي ِ‬
‫أمه‬ ‫ليقتُلهُ غدراً ِ‬
‫َ‬
‫خالته وهو ال حيبها بل قد يكون يكرهها‪،‬‬ ‫خاله أو ِ‬‫فتزوج من أجلها اببنة ِ‬
‫َ‬
‫كفكرة السعادة؟ أو كيف َسيُصد ُق أن هناك من‬ ‫ِ‬ ‫يتقبل هذا فكرًة‬
‫كيف ُ‬
‫كل عام!؟‬
‫حيتفلو َن بعيد زواجهم َّ‬
‫احلرب" طاملا شعر‬
‫ْ‬ ‫صرخ هو "إهنا‬
‫صرخ أمل دنقل " ال تُصاحل " َ‬ ‫كلَّما َ‬
‫أن دنقل كان‬ ‫ابجلنون ألقسم َّ‬ ‫ِ‬ ‫اس‬
‫أنهُ "كليب" ولوال أن يتهمهُ النَ ُ‬
‫فكر ابلعودةِ ما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يتحدث بلسانه هو يف قصيدته "ال تُصاحل"‪ ،‬لو كا َن يُ ُ‬ ‫ُ‬
‫سيطر على‬
‫االسم املُ ُ‬‫ُ‬ ‫يعود إىل فتاة امسها "غرور"‬‫جر أصالً‪ ،‬كيف ُ‬ ‫َه َ‬
‫كل النساء فكلُّ َّ‬ ‫ِ‬
‫هن‬ ‫كل جانب‪ ،‬شخصيتها اليت تُشبهُ َّ‬ ‫شخصيَّتها من ِّ‬
‫وعكة حب‪ ،‬إذن‪ ..‬ال‬ ‫ِ‬ ‫مغرورات‪ ،‬استنتاجهُ األخري هذا جاء بع َد ِ‬
‫ألف‬ ‫َ‬
‫أحبها‪،‬‬
‫وبني من َ‬
‫اليوم ما بني هند ودعد ودعاء وّيمسني ومىن َ‬
‫فر َق عندهُ َ‬
‫بكل النساء‪ ،‬يشعر أحياانً َّ‬
‫أن ما‬ ‫خلقن هي‪ ،‬وهي خلقت ِّ‬ ‫َّ‬
‫كأن النساء َ‬
‫‪11‬‬
‫جيعلهُ يفكر هبذهِ العقلية املُعقدة هو شعور االنتقام الذي ما أن َّ‬
‫حيط يف‬
‫مؤمن جداً ابلنظرية اليت تقول‪ :‬مهما‬ ‫ِ‬
‫قلبه إال ويطري‪ ،‬ألنه يف املقابل ٌ‬
‫االنتقام ثغرًة إىل‬ ‫إليه أمور احلب فإنك إن بدأتَهُ صادقاً لن جي َد‬ ‫آلت ِ‬
‫ُ‬
‫اق‪.‬‬
‫قلبك بع َد الفر ْ‬
‫َ‬
‫إن يف كل رجل ألف أنثى وأنثى‪ ،‬أليست‬ ‫قال لهُ وجعهُ وهو حياورهُ‪َّ :‬‬
‫اجتمعن على‬
‫َ‬ ‫العاطفة أنثى؟ والدمعة واللهفةُ واآلهُ والذكرى؟‪ ،‬وكلُّ ُه َّن‬
‫أمسك ورقتهُ بعد أّيم قضاها بعيداً‬ ‫َ‬ ‫الرجل الوحيد الذي يُدعى قلب؟‪،‬‬
‫عن الشعر وكتب‪:‬‬

‫ضاع من ُع ُمري‬‫واحسراتهُ على ما َ‬


‫ِ‬
‫إطاللة القم ِر!‬ ‫وما َّ‬
‫هتش َم من‬

‫عليه قلبه‪ ،‬هذا‬ ‫حاول أن ينفض ما تبقى من رمادها على الورق فأىب ِ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫االبتسامة خرااب!‬ ‫فصار يرى يف‬
‫الدمع َ‬‫َ‬ ‫ألف‬
‫القلب الذي َ‬ ‫ُ‬
‫السابع والتسعو َن بع َد الصمت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الصباح‬
‫ُ‬ ‫إهنا السادسةُ صباحاً‪ ،‬هذا هو‬
‫تسمع صوتهُ‬ ‫َ‬ ‫تد ُق ِبه السادسةُ صباحاً دون أن‬
‫السابع والتسعو َن الذي ُّ‬
‫ُ‬
‫فنجانه لريى وجههُ أسوداً‬ ‫ِ‬ ‫ينظر شاكر يف‬ ‫ِ‬
‫لتبدأ به يومها كما كانت تزعم‪ُ ،‬‬
‫كالُب متعرجاً كاألّيم‪ ،‬تغري وجهه كثرياً يف ِ‬
‫الفرتة األخرية‪ ،‬الوجهُ َّأو ُل ما‬ ‫ُ‬ ‫ُّ ُ‬
‫يشيخ بع َد الفراق‪.‬‬
‫ُ‬

‫‪12‬‬
‫غاب لثوان عن الواقع‪ ،‬أتكون هي؟ ماذا‬
‫رقم غريب‪َ ،‬‬ ‫َّ‬
‫رن هاتفهُ فجأة‪ٌ ،‬‬
‫ليست هي‪ ،‬ماهذا الوهم الذي يسيطر‬
‫َ‬ ‫مين بعد الذي جرى؟ الال‬‫تُري ُد ّ‬
‫وفتح اخلط‬ ‫ِ‬
‫علي‪ ،‬أأرد؟ ال لن أرد‪ ،‬لن أرد‪ ،‬غافلهُ اهبامهُ بلمحة شوق َ‬
‫ّ‬
‫رغماً عنه وعن قلبه!‬
‫فريوز تُغين‪:‬‬
‫ُ‬

‫جبن‬
‫رجعت ْ‬‫ْ‬ ‫إذا‬
‫وان تركتك بشقى‬
‫ـل‬ ‫ِ‬
‫ال قدرانة ف ْ‬
‫وال قدر ِ‬
‫انة إبقى‪..‬‬

‫ِ‬
‫أكرهك‬ ‫ِ‬
‫أكرهك‬ ‫ِ‬
‫أكرهك‬ ‫صرخ بصوت عال‬
‫أجابهُ أبو غالب ابلعامية املصرية ضاحكاً‪ :‬ومالو؟‪ ،‬دان مبوت فيك‬
‫ّيحبييب‪!!.‬‬
‫ِ‬
‫ورفع رأسهُ عائداً به إىل اجلدا ِر ُمغمضاً عينَاه ُ‬
‫يفكر فيما‬ ‫ط َ‬
‫أغلق اخل ّ‬
‫أربك‬
‫تنه َد بصوت َ‬ ‫يؤمن أنَّهُ من ساب ِع املُستحيالت أن يتحقق‪ ،‬لقد َّ‬
‫ُ‬
‫تستطيع حتقي َقهُ يف الواقع‬ ‫ِ‬
‫ابآلهات مثله‪َّ ،‬إَّنا ال‬ ‫ففاح‬
‫ُ‬ ‫اليَامسني من حوله َ‬
‫تضحك على نفسك قليالً؟‬ ‫َ‬ ‫درك شيئاً منهُ ابخليال‪ ،‬ما املانع يف أن‬
‫تُ ُ‬
‫بناء األمل ِ‬
‫اآليل إىل اإلهنيار يف قلبه‪ ،‬ماذا‬ ‫استنتاجهُ هذا هو الذي يرمم َ‬
‫هي فاعلةٌ اآلن؟ سيجيبهُ عن ِ‬
‫سؤاله هذا خيالهُ يف أحس ِن األحوال‬ ‫َ‬
‫‪13‬‬
‫راح يقرأُ رسائلها يف جواله هارابً من شبح هذا السؤال‪ ،‬قالت لهُ يف‬
‫ملكت ألف ابتسامة لفتاة أخرى لن‬
‫َ‬ ‫ذات ُمشكلة‪ :‬إنك وإن‬‫إحداهن َ‬
‫ّ‬
‫وابتسمت لك جماملةً‪.‬‬
‫ُ‬ ‫نظرت يل‬
‫َ‬ ‫نسيك يوم‬
‫تُ َ‬
‫ابتسم ُجماملةً‪.‬‬
‫َ‬ ‫قاتلَها احلب!‪ ،‬هي اليت نظرت وأان الذي‬
‫القرب‬
‫َ‬ ‫عذاب متاماً كالبُعد الفر ُق بينَـ ُهما أن‬
‫ٌ‬ ‫القرب‬
‫ُ‬ ‫وقالت لهُ يف أخرى‪:‬‬
‫مينحك األمان فلن ختاف من‬ ‫َ‬ ‫خال من أدىن ِ‬
‫حلظة أمان بينما البُع ُد‬
‫اهلج ِر يوماً‪ ،‬هل كانت ُمتهد هلذهِ األّيم؟‬
‫ع كاملذعوِر إىل رسائلها‪،‬‬ ‫مل يعرتف هلا يوماً أنَّهُ كلما اشتا َق إليها َ‬
‫هر َ‬
‫النوم إال أن تتفق َد حروفَهُ‬
‫تسطيع َ‬‫ُ‬ ‫على عكسها متاماً كانت ختربهُ أهنا ال‬
‫حرفاً حرفاً‪ ،‬كانت ُختربهُ مبا تشي هلا رسائله ومبا تقرأ يف الكتب‪ ،‬قالت‬
‫ومي زّيدة كنت‬ ‫لهُ مرًة‪ :‬وأان أقرأُ رسائل احلب َ‬
‫بني جربان خليل جربان َ‬
‫النقاء من احلروف والوفاء من النقط؛‬
‫أتنفس َ‬
‫ُ‬ ‫كنت‬
‫أمشي على الورق ُ‬
‫أيعقل أن يستمرا لعشرين عاماً ِ‬
‫بدون لقاء‪ ،‬أهذا ما يُسمى اإلصرار؟ ال‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫رسائلك يل‬
‫َ‬ ‫منك أكثر فهي تُشبهُ‬
‫أخاف َ‬
‫أنكر أ ّن هذه الرسائل جعلتين ُ‬ ‫ُ‬
‫فيك جربا ْن‬
‫منك ألنين مل َأر َ‬
‫أخاف َ‬
‫حيث ال أدري وتدري!‪ ،‬جعلتين ُ‬ ‫من ُ‬
‫ولن أكو َن يوماً َمـي!‪.‬‬
‫أراد أن ُُيربها أهنا ُُمقة فسكت ومل جيب على رسالتها تلك‪ ،‬بني الرسائل‬
‫كذلك وقعت على عينه رسالةٌ قدمية كان أرسلها لهُ أمري يف ِ‬
‫بداية اهلاوية‬
‫أهم خطة تستعملها األنثى للسيطرة‬
‫ينصحه وحيذره قال له فيها‪ :‬إن َّ‬
‫على حبيبها هي املقارنة املشبّعة ابملبالغة‪ ،‬يف اجلمال مثالً ستحكي لك‬
‫‪14‬‬
‫عن ِ‬
‫غرية صديقاهتا منها وعن ألف عريس يف الساعة يتقدم هلا أو‬
‫يؤمن أ ّن تكرار‬
‫يزيدون!‪ ،‬احذر فلن يكون احلديث مرة ال فالنساء َّ‬
‫احلديث عن فكرة ما ولو كانت ومهاً جيعلها واقعاً يف قلب من يستمع‪،‬‬
‫يشتهني طبخها ويف صناعة‬
‫َ‬ ‫يف الطبخ هي األفضل وكل صديقاهتا‬
‫احللوى كذلك ‪ ،‬ستقول لك‪ :‬أكلنا عند فالنة حلوى ما أكلنا أسوأ من‬
‫قلن هلا على سبيل املزاح حّت ال تزعل‬
‫طعمها قط حّت أن البنات َ‬
‫ِ‬
‫يطلقك" ستدخل‬ ‫"إّيك أن تفكري بصناعة احللوى يوماً لزوجك حّت ال‬
‫بعدها يف املقارنة فوراً ستقول لك"‪ ،‬كل البنات يعشقن الكاتو من‬
‫يدي‪ ،‬فالنة تقول يل‪ :‬أدفع عمري على أن أستطيع صناعة حلوى مثل‬
‫هبذه املبالغات وافتح هلا قلبك وأومهها أنك‬ ‫أنت ِ‬ ‫رحب َ‬ ‫ِ ِ‬
‫حلواك‪ّ ،‬‬
‫ُمصدق‪ ،‬ولكن كن حذراً فأنت لو استسلمت ملقارانهتا اليومية بعد فرتة‬
‫ليست ببعيدة سيرتسخ يف قلبك دون أن تشعر أن ليس على وجه‬
‫األرض أنيقة غريها وال طاهية طعام تشبهها وأن الكعب ال يلق إال هبا‬
‫وأن شعرها تتمناه كل نساء األرض حّت أهنا قصته خوفاً من العني‪،‬‬
‫وأهنا هي مصدر املرح والسعادة لصديقاهتا فهن ال يذهُب مكاانً إال‬
‫وجيب أن تكون هي موجودة وإال صار جحيماً‪ ،‬وأهنا الوحيدة يف األرض‬
‫من بني النساء ليس يف جسمها شعرة هكذا فضل من هللا‪ ،‬أما‬
‫األخرّيت فيزلن الشعر ابلليزر‪ ،‬وأن كل صديقات أمها وأقرابء العائلة‬
‫أرادوها ألوالدهم واختارتك أنت‪ ،‬وأهنا األنثى الوحيدة اليت ال تتحدث‬
‫كلهن يتحدثن عن أزواجهن ومن حيبُب‪َّ ،‬‬
‫وأن َّأم‬ ‫عنك يف ظهرك و َّ‬
‫‪15‬‬
‫صديقتها قالت البنتها تكحلي كفالنة "أي حبيبتك" وإال فال تتكحلي‬
‫وأن وأن وأن‪ ،‬صدقين حّت إذا تزوجت منك وحضرت حفل زفاف ما‪،‬‬
‫وكان هلا منك أكثر من ولد فإهنا ستخربك عن نساء رأينها يف حفل‬
‫منهن وأخربهتن أهنا متزوجة وهلا‬
‫الزفاف وطلبلنها للزواج وأهنا خجلت َ‬
‫وظنن أهنا تتهرب منهن بقوهلا أان متزوجة‪.‬‬
‫يصدقن َ‬
‫َ‬ ‫فذهلن ومل‬
‫َ‬ ‫أبناء‬
‫استمع ّي صديقي هلا هبدوء استمع وأسعدها ولو ابلوهم‪ ،‬أسعدها فإن‬
‫ادعني غري ذلك‪ ،‬واعلم أن لكل أنثى مملكة‬
‫َ‬ ‫بُب الكذب ولو‬
‫النساء ُحي َ‬
‫من اجلمال ليست لغريها وال تتفوق احداهن على أخرى إال بصدق‬
‫العاطفة‪ ،‬وأن الدنيا مليئة ابللوايت يتنظرن نصف ابتسامة منك بينما‬
‫أنت ُختلص هلا فقط‪ ،‬والدنيا ّي صديقي‪ ،‬الدنيا لديها فائض كبري من‬
‫ِ‬
‫املكلومات حباً اللوايت ينتظر َن فرصةً جديدة‪ ،‬فلذلك أرجوك إذا‬
‫غدرتك يوماً وهجرت تذكر أن يف املستقبل نساء كثريات ينتظرنك‪،‬‬
‫يفوت املرأة ولكنه ينتظر الرجل‪ ،‬ال تسألين كيف ذلك هذا‬
‫قطار احلب ُ‬
‫ما يكون دائماً وليس له تفسري‪ ،‬ستكون هي جمرد ذكرى‪ ..‬وما أصعب‬
‫أن تصبح حياتك‪ ،‬كل حياتك جمرد ذكرى‪ ،‬لكنه كأس ستشربه كما‬
‫شربه اجلميع من قبلك وسيشربه اجلميع بعدك‪.‬‬

‫•••••‬

‫‪16‬‬
‫الصحفي ‪ :‬واآلن‪ ،‬وبع َد هذا الفراق العلقم‪ ..‬على ِ‬
‫فرض أهنا تقرأ‬ ‫ُّ‬ ‫سألهُ‬
‫اللقاء الصحفي وأان أعلم أهنا ال بد أن تقرأهُ ولو بعد حني‪ ،‬ماذا‬
‫َ‬ ‫هذا‬
‫تقول هلا؟‪.‬‬
‫ُ‬
‫إحداهن وهو انس‬
‫َّ‬ ‫زعزع األطراف كالذي اتصلت به‬
‫وج َد نفسهُ حائراً ُم َ‬
‫وهي ُحتزرهُ "احزر َمن أان؟ احزر"‪ ،‬وهو‬
‫من فرط عالقاته من تكون‪َ ،‬‬
‫يسأل نفسهُ هل أرسلتها إحداهن الستدراجي!؟‬
‫أنك ستسألين‬
‫أعلم َ‬
‫كنت ُ‬
‫الصحفي السؤال فتدارك األمر وأجاب‪ُ :‬‬
‫ّ‬ ‫كرر‬
‫أسابيع من‬
‫َ‬ ‫قبل‬
‫وسبقك َ‬
‫َ‬ ‫الشعر سب َقين‬
‫َ‬ ‫ولكنك ال تعلم أن‬
‫َ‬ ‫هذا السؤال‬
‫وأجاب عنه‪.‬‬
‫َ‬ ‫سؤالك هذا‬
‫َ‬
‫هناك قصيدةٌ مل تُنشر بعد‬
‫‪-‬مجيل مجيل شاعران إذاً َ‬
‫‪-‬هو كذلك‪..‬‬
‫حاالت اللهفة هلا ّي شاعران‪ ،‬ستكو ُن كوكب ِ‬
‫اجمللة هذا‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬يف أقصى‬
‫َ‬
‫األسبوع بال منازع‬
‫َ‬
‫‪-‬أقول هلا‪:‬‬

‫تفعلني اآل َن ّي غيدائي؟‬


‫َ‬ ‫ما‬
‫كل ِ‬
‫مساء‬ ‫يعود َّ‬ ‫ِ‬
‫السؤال ُ‬ ‫نفس‬
‫ُ‬

‫وتعود ذكرى وار َتعاشةُ قُبلة‬


‫ُ‬
‫ِ‬
‫استحياء‬ ‫اء أغوتنا على‬
‫محر َ‬
‫‪17‬‬
‫عني ُم َفتَّحةٌ وأخرى مل تزل‬
‫ٌ‬
‫ِ‬
‫الظلماء‬ ‫ضةً على‬
‫غم َ‬
‫حتتال ُم َ‬
‫ُ‬

‫ليس يل‬
‫ات َ‬ ‫الت ساحر ٌ‬
‫وختيُّ ٌ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫اإلغفاء‬ ‫من‬ ‫ِ‬
‫منها سوى حظّي َ‬

‫أسأل من جديد ّي تُرى‬


‫فأقوم ُ‬
‫ُ‬
‫تفعلني اآل َن ّي غيدائي؟‬
‫َ‬ ‫ما‬

‫لكن شاكر مل يشعر به‪،‬‬


‫الصحفي بعدما أكمل شاكر قصيدته‪ّ ،‬‬‫ُّ‬ ‫غادر‬
‫َ‬
‫األرض إىل كو ِ‬
‫كب احلنني‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫كب‬
‫جعلتهُ اآلهُ وهو يلقي قصيدتهُ يغادر كو َ‬
‫وبني أن تسمع‬ ‫ِ‬
‫تسمع عن احلزن َ‬
‫َ‬ ‫بني أن‬
‫كبري َ‬
‫إىل َملكوت اجلراح‪ ،‬فر ٌق ٌ‬
‫صار يُفتنت أبي ذكرى‬
‫وهرم حنيناً َ‬
‫منه‪ ،‬قلبهُ الصغري الذي شاخ شوقاً َ‬
‫ّيت االنتقام فكا َن ميشي‬
‫كر ُ‬
‫مجيلةً كانت أو قبيحة حّت قامت عليه ّ‬
‫ب!‪.‬‬‫قلب عجوٌز أصابته دعوةُ ُح ْ‬
‫بينها ويردد‪ٌ :‬‬

‫‪18‬‬
‫أطهر سحابة يف مساء احلُب"‪ ،‬عبارةٌ كتبتها يوماً يف أحد مواقع‬ ‫"الزواج ُ‬
‫التواصل االجتماعي‪ ،‬مل يُعلِّق شيئاً‪ ..‬تركها تتقلب على النا ِر ثالثةَ َّأّيم‬
‫أيخذها ٌ‬
‫سؤال وأتيت هبا أسئلة‪ ..‬التقيا بعدها يف املقهى مل يكن يف قلبها‬
‫وجتاهل‪.‬‬
‫أهم من معرفة ر ّدة فعله مبا كتبت َ‬
‫شيءٌ َّ‬
‫العرب يف احلب‬ ‫ِ‬
‫أصدق ما قالته‬ ‫قالت له‪ -‬حدثين عن‬
‫ُ‬
‫وينظر يف عينيها مث قال‪ :‬قول نزار‬
‫يضع فنجان القهوة ُ‬ ‫تبَّسم وهو ُ‬

‫ـس رواي ـةً شرقي ـةً‬


‫احلب ليـ َ‬
‫ُّ‬
‫ـال‬
‫ـزوج األبطـ ُ‬
‫خبتامهــا يتـ ُ‬

‫‪ّ-‬ي لهُ من وغـد!‬


‫ج بلقيس‬
‫تزو َ‬
‫رغم هذا ّ‬
‫ابغتتهُ مسرعة‪ -‬ولكنَّهُ َ‬
‫هم الشعراء ّي عزيزيت يقولو َن‬
‫صحن فنجانه‪ -‬هكذا ُ‬
‫َ‬ ‫ينقر إبصبعه‬
‫وهو ُ‬‫َ‬
‫ماال يفعلو ْن!‬
‫كانت غيداء أو غرور كما حيلو لهُ أن يُناديها كلَّما استقبلت يوماً‬
‫جديداً من أّيم الفراق فتحت دفرتها وقرأت شيئاً مما كان يكتبهُ هلا‬
‫ِ‬
‫لقلبك إن‬ ‫مأوى‬ ‫خبط يده من عبارات صغرية‪ ،‬قال هلا‪ :‬ستجدين‬
‫ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أكتب لك يف ِّ‬
‫كل لقاء‬ ‫ستجدين مع هذه الكلمات اليت ُ‬
‫َ‬ ‫سافرت يوماً‪،‬‬
‫ُ‬
‫بيننا أقراصاً من صرب ومرمهاً من أمل‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫سفرهُ األخري كا َن روحياً‪َّ ،‬‬
‫صدقتهُ غيداء لكنَّها ما وجدت يف دفرتها مما‬
‫بني سطور هذا الدفرت‬
‫تبئ َ‬
‫قال شيئاً‪ ،‬بل فاجئها سرطا ٌن من الذكرّيت ُُم ٌ‬
‫َ‬
‫تسبب يف تساقط قلبها عدة مرات مما جعلها تتعاطى جرعات ُمكثفة‬
‫اح مساء‪ ،‬كان ِشعرهُ هو املأوى احلقيقي هلا‬ ‫من كيماوي القصائد صبَ َ‬
‫خلص بني كل هداّيه‪ ،‬هو املفزعُ يف‬
‫الرفيق املُ ُ‬
‫ُ‬ ‫والبقيةُ الباقيةُ منهُ‪ ،‬هو‬
‫ِ‬
‫البكاء وهو الفرح‪ ،‬وهل مثَّةَ ما يُدعى فرحاً بعد الفراق؟‪.‬‬
‫بني‬
‫املوت َ‬
‫ب َ‬ ‫القاتل ببطء فظيع وتنسيق رهيب ولكننا ُحن ُّ‬
‫ُ‬ ‫الشعر هو‬
‫تقول هلا‪ :‬مل‬ ‫ِ‬
‫يديه‪ ،‬دائماً ما تردد هذا أمام صديقاهتا وألمينة خاصة‪ُ ،‬‬
‫ذات قرب فتلك البد‬ ‫يكن الشعر كزجاجة العطر اليت أهداها يل َ‬
‫وتنتهي ومل يكن الشعر خامتاً من ذهب وال عصفور كناري يُزقز ُق يوماً‬
‫ويسكت أّيماً‪.‬‬
‫ُ‬
‫حتدث ِبه‬
‫احلديث واستدرجتها اآلهات فباحت ألمينة مبا مل تكن ُ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫شدها‬
‫غري نفسها‪ ،‬صارحتها مبا مل تُصارح ِبه صديقةً غريها فأكملت‪ :‬سرقهُ‬
‫العني النظرة‪ ،‬كا َن شاعراً مغموراً ال يعرفهُ‬ ‫حب الظهوِر ِّ‬
‫مين كما تسر ُق ُ‬ ‫ُّ‬
‫بنات اجلامعات عرب مواقع التواصل االجتماعي‬ ‫جمموعات قليلة من ِ‬
‫ٌ‬ ‫إال‬
‫كنت أمه بكل‬
‫والبعض من أصدقائه‪ ،‬بدأ يكربُ شعرهُ شيئاً فشيئاً و ُ‬
‫أسف‪ ،‬أرضعتهُ اإلهلام قطرًة قطرة وضممته إىل صدري يوم مقته الناس‬
‫وآويته بقليب يوم طردوه يف بداّيته‪ ،‬اآلن وقد شيّ َد صرحهُ الشعري‬
‫رت‬
‫نسي أنين أمهُ امللهمة نسي كم سه ُ‬
‫وصارت قصائدهُ كالسحاب َ‬
‫حفرت حبه‬
‫ُ‬ ‫نسي ّي أمينة أنين‬
‫أترقب والد َة قصيدة جديدة‪ ،‬لقد َ‬
‫ُ‬ ‫ليل ًة‬
‫‪20‬‬
‫الدمع جمراهُ يف خدو ِد أرملة‪ ،‬لقد‬
‫ُ‬ ‫نقشت قصائدهُ يف قليب كما حيفر‬
‫و ُ‬
‫نسي أو تناسى ال يهمين هذا العاق‪ ،‬ما يهمين أنين موقنةٌ ِ‬
‫هبالك من‬ ‫َ‬
‫ترك الشعر معي ومل أيخذه معه‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫يعق أمه وأنهُ َ‬
‫وليس الشاعر!‪.‬‬ ‫ِ‬
‫تنهدت‪ :‬الشعر ّي صديقيت هو حيب على ما يبدو َ‬

‫ترك هلا يف جوارير اهلداّي وال يف غريها‪ ،‬الفر ُق‬


‫ال يشبهُ الشعر شيئاً مما َ‬
‫ترك اهلداّي هلا أما ِ‬
‫الشعر فرتكهُ هبا‪.‬‬ ‫بني الشعر واهلداّي أنهُ َ‬
‫َ‬
‫اخليال هذا امللجأ الكبري الذي يُتيح لنا رسم ما نشاء كيف نشاء ومّت‬
‫وأين نشاء بال أشياء‪ ،‬هذا امللجأ الذي يؤوي عواطفنا عن نريان‬
‫نشاء َ‬
‫األرض وواقعها املرير‪،‬‬
‫َ‬ ‫ظ‬ ‫ِ‬
‫وقذائف احلقيقة اليت نعيشها ويضمنا حني نلف ُ‬
‫هو الوحيد الذي يسمح لنا بعيش ما نريد كما حنن نُريد‪ ،‬هو الذي ال‬
‫تعرقل حركته طقوس اجلو‪ ،‬فاقت سرعته سرعة‬‫ُ‬ ‫تعجزه املسافات وال‬
‫الضوء والصوت‪ ،‬أيخذك من أقصى الدنيا إىل أقصاها اآلخر جبزء من‬
‫فأنت من يضع البداية‬
‫يرتك لك أنت كتابة سيناريو رحلتك به َ‬
‫الثانية‪ُ ،‬‬
‫وأنت من يضع النهاية‪ ،‬هذا اخليال الذي صنع منه بعد هللا شاعراً‬
‫األقرب إىل قلبيهما قبل الفراق وبعده‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وصنع منها كذلك رسامة هو‬
‫َ‬
‫املخدر آلالم احلنني والرفيق الذي ال ُيون‪.‬‬
‫ُ‬ ‫هو البنج‬
‫فأستمتع به أكثر مما استمتع به يف‬
‫ُ‬ ‫قالت ألمينة‪ :‬اخليَال أيخذين إليه‬
‫احلقيقة‪.‬‬
‫حيكم احلقيقة يوماً لكنه يظل خياالً!‬
‫ليت اخليال ُ‬
‫تنهدت أمينة‪َ -‬‬
‫‪21‬‬
‫"صـدى‬ ‫ِ‬
‫ستهلك ملقال قرأتهُ غيداء يف جملة َ‬ ‫ٌ‬ ‫ب كذبة"‪ ،‬عنوا ٌن ُم‬ ‫"احلُ ُّ‬
‫والقائم عليها أوالً‬
‫ُ‬ ‫أن شاكر عريب هو مؤسسها‬ ‫تعرف َّ‬
‫الشعر" اليت ال ُ‬
‫استطاع من ِ‬
‫خالل إخفائها‬ ‫بعض األموِر اليت‬ ‫إخفاء ِ‬‫أبول‪ ،‬كا َن ذكياً يف ِ‬
‫َ‬
‫جاء يف هذا املقال‪:‬‬ ‫ِ‬
‫إيصال ما يريد هلا بعد الفراق كهذه اجمللة مثالً‪ ،‬مما َ‬
‫اءتك هـذهِ الكلمات‬
‫ظة قر ِ‬ ‫ك حّت حل ِ‬ ‫وأعرف أنَّ ِ‬
‫ُ‬ ‫أعرف أنَّ ِ‬
‫ك تقرئني مقايل‬ ‫ُ‬
‫مغرم حّت بعد شهور‬
‫أعرف أنين ٌ‬ ‫تذوبني يب‪ ،‬ولكن صدقيين احلب كذبة‪ُ ،‬‬
‫ِ‬
‫شفتيك‪ ،‬ومع ذلك‬ ‫بني‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وذائب كقطعة سكر َ‬ ‫ٌ‬ ‫عينيك‬ ‫بكحل‬ ‫من الغياب‬
‫انقطاع ِ‬
‫هواء‬ ‫ِ‬ ‫أعرف أننا رغم‬
‫ُ‬ ‫ب كذبة‪،‬‬ ‫لك َّ‬
‫إن احلُ َّ‬ ‫يؤسفين أن أقول ِ‬
‫احلب ابلذكرّيت من‬‫نتنفس ّ‬
‫ُ‬ ‫ورغم أننا صران‬ ‫احلب عن فضائنا الكبري َ‬
‫بعض أمل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ثقوب املقاعد اليت كنا نقع ُد عليها يف احلدائق مازال فينا ُ‬
‫ثبت لنا أنّهُ كذبة‬
‫احلب حقيقة بل يُ ُ‬ ‫ولكن هذا األمل ال ُّ‬
‫يدل على أن َّ‬ ‫َّ‬
‫فلو كا َن حقيقةً ملا وصلنا إىل ما وصلنا إليه صدقيين صدقيين صدقيين‬
‫احلب كذبة!‪.‬‬
‫ابلثالثة‪ُّ ،‬‬
‫ِ‬
‫ابلكتابة جيداً ولكن‬ ‫تعرف أسلوبَهُ‬
‫بني السطور‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬
‫تشم رائحةَ حروفه َ‬
‫إهنا ُّ‬
‫كل تنوين‬‫كل حرف ُّ‬‫تصرخ إنَّه هو‪ُّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫كل كلمة‬
‫ثبت أنه هو ‪ُّ ،‬‬‫ما الذي يُ ُ‬
‫ثبت هلا ذلك؟ مع أنَّهُ يف كثري من املقاالت كان يُ ُ‬
‫صرح‬ ‫كل نقطة فمن يُ ُ‬
‫ُّ‬
‫ليس هو وكان‬‫يقول هلا َ‬‫ولكن شيئاً ما "لعلهُ اليأس" ُ‬
‫"متَعمداً" َّ‬ ‫ابمسها ُ‬
‫ِ‬
‫األصوات اليت قالت هلا إنهُ‬ ‫صوت هذا الشيء يف قلبها أعلى من ِّ‬
‫كل‬ ‫ُ‬
‫اد‬ ‫هو‪ ،‬ال تنتهي مقاالتهُ اب ِ‬
‫مسه إَّنا كا َن ُيتمها برمز " ن‪.‬غ " الذي ز َ‬
‫حريهتا وما الذي جاء ِ‬
‫أبول حرف من امسها هلذا الرمز!‪ ،‬ملاذا "غ" وما‬
‫‪22‬‬
‫الرمز مبحض الصدفة‪ ،‬لقد‬ ‫ِ‬
‫قصده حبرف "ن" قبله !؟؟ ‪ ،‬مل أيت هذا ُ‬
‫اختصار لسلسلة بدأ كتابتها امسُها‬
‫ٌ‬ ‫درسهُ بعناية فائقة قبل نشره هو‬
‫ولذلك‬
‫َ‬ ‫ينال من اآلخ ِر كالشك‬ ‫حّت الفراق نفسهُ ال ُ‬
‫"هناية غرور" َّ‬
‫ِّ‬
‫الشك ليست قاتلة َّإَّنا ُمعطبة وكلَّما‬ ‫َّ‬
‫تقصد أن يرميها بسهام من‬
‫شك رماها آبخر‪.‬‬
‫عوفيت من ّ‬

‫•••••‬

‫‪23‬‬
‫كنت مرًة يف أحد احملالت التجارية الكبرية أنتظر دوري لدف ِع ِ‬
‫قيمة ما‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫يقف إىل يساري شاب أمسر طويل رّيضي القامة يرتدي‬
‫اشرتيت‪ ،‬وكان ُ‬
‫قميصاً أزرقاً‪ ،‬وضع أغراضهُ مبا فيها جوالهُ أمامه على طاولة احملل‬
‫نظرت‬
‫ُ‬ ‫جوالهُ " غيداء تتصل بك"‬
‫رن ّ‬‫ليخرج النقود استعداداً لدوره‪َّ ،‬‬
‫كنت ألنظر هبا لو كنت بكامل قواي‬ ‫شاشة ِ‬
‫جواله بطريقة محقاء ما ُ‬ ‫إىل ِ‬

‫القلبية ونفسي تقول يل‪ :‬غيداء غيداء يف ِّ‬


‫كل مكان غيدا‪ّ ..‬ي هللا!‬
‫سألين و َشرار الغريةِ يقدح من ِ‬
‫عينيه‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫إملا تنظر؟‬
‫فأجبته ِ‬
‫بدون تفكري‪ -‬ماتت‬
‫‪ -‬من هي!؟‬
‫‪ -‬غيداء‪ ..‬غيداء ماتت‬
‫بزفري طويل قال يف آخرهِ‪ :‬هللا يشفيك!‬
‫ظن أنَّين جمنون‪ ،‬أسف هو تيقن أنين جمنون مل يكن َّ‬
‫جمرد ظن‪ ،‬ومن‬ ‫نعم َّ‬
‫يفعل ما فعلت؟‪.‬‬ ‫ِ‬
‫غريُ اجملانني ُ‬
‫تلك كانت الصفحة ‪ ١٣‬من دفرت "يوميات ما بعد الفراق" اليت بدأ‬ ‫َ‬
‫بكل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رمشة‬ ‫كتابتها من أول يوم فراق بينهما واليت حوت دقائقهُ وثوانيه ِّ‬
‫ِ‬
‫األسئلة اليت ما كلّت وال ملت‬ ‫انهيك عن‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫ونبسة شفة‪،‬‬ ‫عني ِ‬
‫ودقة قلب‬
‫تنهش عقله وأتكل أفكارهُ كأنَّه من خشب وكأهنا منشار‪ ،‬يكتب ِ‬
‫هذه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫اليوميات ِ‬
‫بدون قيود وال خطوط وال تورية فهو مل ُُيرب أحداً عنها وإن‬
‫علم هبا أح ٌد فلن يسمح له بقراءةِ ما فيها‪ ،‬ستقع ِ‬
‫هذه اليوميات يف‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫‪24‬‬
‫يدها يوماً‪ ،‬األمر الذي مل ُيطر على ِ‬
‫ابله بتااتً عندما بدأ كتابتها‪ ،‬كذلك‬ ‫ُ‬
‫خط على لوحة بيضاء كبرية عبارًة ما كا َن ليكتبها أو ليؤمن‬ ‫سبق لهُ أن َّ‬‫َ‬
‫لغريق حبِك تؤمله ابلنجاةِ‬
‫ُ‬ ‫متد يداً قصريًة ِ ُ ّ‬ ‫عليك أن َّ‬
‫هبا ما قبل الفراق‪َ :‬‬
‫وال تُنقذهُ من الغرق‪.‬‬
‫أول عهدهِ اب ِ‬ ‫أمام سريرهِ لتكو َن َ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫حلقيقة‬ ‫خط هذه العبارَة وعلَّقها يف غرفته َ‬
‫احللم طيلةَ الليل‪ ،‬علقها لتشاركهُ سهرهُ طعنةً طعنة‪ ،‬وبدأ ميارسها‬ ‫بعد ِ‬
‫ف ِبه مشوّيً‬ ‫عملياً أيضاً فهو مؤمن أهنا الدواء الوحيد المرأة مل تكتَ ِ‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫على الفحم بل َّإهنا أكلتهُ بعظمه!‪.‬‬
‫متر‬ ‫ساعات ِ‬
‫الليل اليت كانت ُّ‬ ‫ُ‬ ‫عليك بعد الفراق‪،‬‬
‫َ‬ ‫يتآمر‬
‫كل شيء ُ‬ ‫ُّ‬
‫ستصري الدقيقةُ منها سن ًة ضوئي ًة‬ ‫ِ‬
‫تتحداثن على اهلاتف‬ ‫كالثواين وأنتما‬
‫ُ‬
‫قلبك إىل العا ِمل ِ‬
‫كله‪ ،‬لن يُشر َق‬ ‫الصباح الذي كا َن يُشر ُق من َ‬ ‫حباهلا‪،‬‬
‫ُ‬
‫قلبك وال من قلب غريك‪ ،‬االبتسامةُ اليت كانت منحوتةً‬ ‫اآل َن ال من َ‬
‫الدمع لهُ ألف جمرى مكاهنا‪ ،‬اهلداّي‪ ،‬األماكن‪،‬‬
‫ُ‬ ‫سيحفر‬
‫ُ‬ ‫وجهك‬
‫َ‬ ‫فو َق‬
‫صبح خنجراً بثياب ذكرى‬ ‫كل شيء صغرياً كا َن أو كبرياً سيُ ُ‬
‫الورود‪ُّ ،‬‬
‫جنوت منهُ‬
‫قلبك دون تردد مع أنك تعي أنهُ سيقتلك وإن َ‬
‫وستفتح له َ‬
‫ُ‬
‫ط أن تسأهلا‬ ‫ستموت برص ِ‬
‫اصات األسئلة اليت ُختط ُ‬ ‫ُ‬ ‫فإنك حتما‬
‫مبعجزة ما َ‬
‫ثقتك الكاملة أنهُ لن يعود‪.‬‬
‫عاد يوماً مع َ‬
‫حبيبك إن َ‬
‫َ‬
‫تسأل نفسها اليوم هل‬ ‫وعشرين ربيعاً من عمرها ُ‬
‫َ‬ ‫غيداءُ اليت َّ‬
‫أمتت ثالاثً‬
‫مر الباقي خريفاً كلّه؟ أم أنَّهُ سيُعي ُد‬
‫علي فيصريُ العُ ُ‬
‫الفصول َّ‬
‫ُ‬ ‫ستتوح ُد‬
‫بيع إىل سنيين؟‪.‬‬ ‫ِ‬
‫بعودته الر َ‬
‫‪25‬‬
‫أتلفت حويل فال أج ُد إال بقاّي من لقاءات ُمعلقة فو َق حيطان األمل‬
‫ُ‬
‫يت‬ ‫تسع لقاءات مل تتغري‪ ،‬ملاذا َّ‬
‫حتد ُ‬ ‫وعقارابً متوقف ًة منذ زمن والساعةُ ُ‬
‫ُيتلف عن أي‬
‫ُ‬ ‫الشاعر ال‬
‫َ‬ ‫أسطيع إيقاعهُ يف شباكي َّ‬
‫وأن‬ ‫ُ‬ ‫رفيقايت أنين‬
‫أسر نبضة واحدة من قليب‬
‫استطاع َ‬
‫َ‬ ‫الغيم ما‬
‫طاول َ‬‫رجل آخر؟‪ ،‬وأنهُ لو َ‬
‫وقعت‬
‫ُ‬ ‫ليأسرهُ من بعد ذلك كلّه!‪ ،‬وماذا؟ دو َن أدىن مقاومة تُذكر مين‬
‫يرسم يف ِّ‬
‫كل‬ ‫استطاع أن َ‬‫َ‬ ‫كيف‬
‫حيث يدري وال أدري‪َ ،‬‬ ‫يف حبِّ ِه من ُ‬
‫وجهي اجلائع؟ كيف‬ ‫عشر ابتسامات يف‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ابتسامة من وجهه الشهي َ‬
‫ني بني ِ‬ ‫ِ‬
‫كيف يشاء‪،‬‬‫يديه يُقلبين َ‬ ‫بنصف نظرة أن جيعلين كالعج ِ َ‬ ‫استطاع‬
‫َ‬
‫لعمري إنهُ ساحر أخذين إىل البح ِر وأرجعين عطشى بع َد أن أومهين َّ‬
‫أن‬
‫البحر غدار ألكتفي ِ‬
‫مباء روحه‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وذات الشمال مث تبكي وتبكي وتبكي‬ ‫ني َ‬ ‫ذات اليم ِ‬
‫تقوم إىل دفرته تُقلبهُ َ‬
‫ُ‬
‫الدموع منعتها رؤيته ومن خلفها‬ ‫لكن‬ ‫ِ‬
‫بذارعه هلا َّ‬ ‫يلوح‬
‫َ‬ ‫ومن أمامها أملٌّ ُ‬
‫أكوامٌ من الفجائع هكذا تُسمي الذكرّيت فجائع‪ ،‬نعم هي فجائع بع َد‬
‫اق بال شك‪.‬‬‫الفر ِ‬
‫ِ‬
‫صفحات دفرتها قول الشاعر‪:‬‬ ‫كتب يف إحدى‬
‫َ‬

‫وإين ألهوى النوم يف غري ِ‬


‫حينه‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫لقاء يف ِ‬
‫املنام يَ ُكو ُن!‬ ‫لعل ً‬
‫َّ‬

‫‪26‬‬
‫كيف وأان مذ افرتقنا مل تذق‬ ‫تقرأُ وتُتمتم‪ :‬ال أؤمن هبذا ِ‬
‫البيت إطالقاً َ‬ ‫ُ‬
‫ظل قليب يقظاً كأنهُ يف ِ‬
‫نوبة حرس‪،‬‬ ‫النوم أصالً وإذا أغمضتُها لربهة َّ‬
‫عيين َ‬
‫رسائله هذهِ املرة إَّنا حلذف ِ‬
‫رقمه‬ ‫ِ‬ ‫قامت مسرعةً إىل جواهلا ليس لقراءةِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫من قائمة احلب‪ ،‬صحيح أنهُ مضى ثالثةُ أشهر على فراقهما وزّيدة‬
‫حذف ِ‬
‫رقمه من قبل أما اليوم فهي أقوى بكثري‬ ‫ولكنَّها مل تكن جترأ على ِ‬
‫مما مضى هي ال تعلم أن قوهتا هذهِ ستتالشى ِ‬
‫مبجرد حذفها الرقم‪ ،‬لقد‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ذات‬
‫ترتك لقلبها فرصة غدر َ‬
‫حّت ال َ‬‫حذفتهُ أخرياً‪ ..‬حذفت رقمهُ َّ‬
‫شوق‪ ..‬ولكن هيهات إنهُ حيفظُهُ عن ظه ِر ُحب‪.‬‬
‫تبحث‬
‫ُ‬ ‫حبَست األشوا َق يف قلبها ال هي أطعمتها لقاءهُ والهي تركتها‬
‫ِ‬
‫بسياط الال ُمباالة‪ ،‬لكنها نسيت َّ‬
‫أن‬ ‫عنه‪ ،‬وكلَّما اث َر عليها شو ٌق ضربتهُ‬
‫للشوق جيشاً من احلنني ال يُشبه جيوش العرب وال حكومات العرب‬ ‫ِ‬
‫ألجل شوق واحد‬ ‫حير ُك أسطوالً أبكمله ِ‬‫فهو ال حيتفظ حبق الرد‪ ،‬بل ّ‬
‫ِ‬
‫ابألشواق كلها؟‪ ،‬حتما سيبي ُد كربّيءها‪،‬‬ ‫فكيف‬
‫َ‬ ‫إذا تطلب األمر‪،‬‬
‫عاجالً أو آجالً‪.‬‬
‫قبيل الفجر تقرأ‪:‬‬
‫شاردةٌ على سريرها َ‬

‫ِ‬
‫وانسيه كما ينسى الرجال"‬ ‫" ِ‬
‫أحبيه كما مل حتبه امرأة‬

‫حّت َّ‬
‫جف ريقي ومل أستطع نسيانه‪،‬‬ ‫آه ّي أحالم‪ ،‬قر ُ ِ‬
‫أت هذه العبارة ّ‬
‫ِ‬
‫أت كتابك "نسيان كم" كامالً ما يقارب العشر مرات ويف ِّ‬
‫كل مرة‬ ‫قر ُ‬
‫‪27‬‬
‫ِ‬
‫الصفحة األخرية‬ ‫أنتهي هبا وأريد أن أغلق الكتاب حيضرين وجههُ على‬
‫ليقول يل ُمتهكماً‪:‬‬

‫ليس أمراً هيِّناً‬


‫نسيا ُن مثلي َ‬
‫أحالم ّي مواليت‬ ‫ِ‬
‫فدعيك من‬
‫َ‬

‫سيتِين‬ ‫ِ‬
‫حّت وإن مهَّشتين ونَ َ‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫والكلمات!‬ ‫ابق بشعري ِ‬
‫فيك‬

‫اشتقت ِ‬
‫إليه‬ ‫ُ‬ ‫صرت كلما‬
‫ُ‬ ‫املصيبة ليست هنا ّي أحالم‪ ،‬املصيبة أنين‬
‫أت ِ‬
‫كتابك من جديد طمعاً برؤيته مرًة أخرى!‪.‬‬ ‫قر ُ‬
‫يوم قرأت لهُ نفس‬ ‫ِ‬
‫تصحو من سكرة احلديث مع نفسها لتتذكر كالمهُ َ‬
‫ضحك وقتها فاحتاً عيناه مندهشاً مث هدأ‬
‫َ‬ ‫العبارة ألحالم ذات لقاء‪،‬‬
‫توقعت أن تعثري‬
‫ُ‬ ‫قبلك ولكن ما‬‫قال‪ :‬قرأهتا ِ‬‫وسكت سكتةً خفيفة مث َ‬
‫أنك إن ِ‬
‫مررت هبا ستقفني عليها ومن مثَ‬ ‫كنت أعلم ِ‬
‫عليها‪ ،‬مع ذلك ُ ُ‬
‫ستقرأينها علي‬
‫‪-‬وما أدراك؟‬
‫ختشني الفراق‬
‫َ‬ ‫‪-‬ألنكن معاشر النساء‬
‫َّنوت من الفراق مبجرد التفكري به‪،‬‬
‫حنن ال خنشى الفراق حنن ُ‬
‫بكآبة‪ُ -‬‬
‫إنهُ ال يرتك لنا جماالً ألن خنشاه أصالً!‬
‫‪28‬‬
‫جام غضبها علينا حنن‬ ‫ِ‬
‫‪ّ-‬ي حبيبيت لقد صبّت أحالم يف عبارهتا هذه َ‬
‫الرجال دون حق‪ ،‬كا َن األوىل هبا أن تقول لصديقتها‪ :‬أحبيه كما مل حتبه‬
‫امرأة وضحي ألجله كما يُضحي الرجال‪.‬‬
‫أخاف أن تنساين يوماً؟‬
‫تقف بعينيها استعداداً للهطول‪ُ -‬‬
‫غيداء والدمعة ُ‬
‫ِ‬
‫عقلك‬ ‫‪-‬كربي‬
‫غري احلديث بدأ صدري يضيق‬
‫أرجوك ّ‬
‫‪َ -‬‬
‫رفع رأسها الذي هوت به على صدرها بيدهِ وقال ُمغرياً جمرى احلديث‬
‫َ‬
‫اببتسامة‪-‬‬
‫‪-‬حبيبيت‪ِ ..‬‬
‫أنت اثبتةٌ يف قليب ثبات األرقام يف الرّيضيات‪.‬‬
‫بصوت خافت وابتسامة خجولة‪ -‬من أين أتيت هبذا الكالم ّي جمنون؟‬
‫ِ‬
‫عينيك!‪.‬‬ ‫بنظرة قاتلة‪ -‬من‬

‫طلب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫قاطعتها وهي شاردةٌ فيه دموع احلنني إىل كذبه اجلميل‪ ،‬تتذكر يوم َ‬
‫ترتك لهُ شيئاً منها فقالت له‪ :‬خذ هذا‬
‫منها قبل سفرها إىل دمشق أن َ‬
‫املنديل إنه رفيقي ما تركته منذ سنني‬
‫حر َك رأسهُ رافضاً‬
‫ّ‬
‫اببتسامة‪ -‬ماذا تُريد؟؟‬
‫‪-‬أري ُد رائحتك‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫أول ما يفقدهُ املُحب هي رائحةُ أنثاه‪ ،‬رائحةُ جسدها الروحية‪َّ ،‬‬
‫ألن‬ ‫إن َ‬‫َّ‬
‫كذلك‬
‫كل رجل‪َ ،‬‬ ‫ليس عرقاً إنهُ هرويني يدمنهُ ّ‬
‫أجسام النساء َ‬
‫ُ‬ ‫ما تُفرزهُ‬
‫تتعطر ألجله‬
‫تعترب النساء رائحة الرجل احلبيب‪ ،‬كان شاكر يرفض أن َ‬
‫بل كا َن يُبالغ فيظهر الغضب إن فعلت‪ ،‬كم مرة قال هلا اقرتيب مين‬
‫يقتصر على رائحة‬
‫ُ‬ ‫وحتدثي يف وجهي واتركيين ألنفاسك‪َّ ،‬‬
‫إن األمر ال‬
‫اجلسد وإدماهنا بني الطرفني فاألنفاس عامل آخر ال تستطيعهُ الكلمات‪.‬‬
‫لرسائله كالعادة‪ ،‬قرأت منها ِ‬
‫هذه املرة‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫فتحت جواهلا وعادت‬
‫كل ِ‬
‫الناس بدو َن أن‬ ‫أمام ِّ‬
‫وضح النهار ّي حبيبيت َ‬
‫تعرضت لسرقة يف ِ‬
‫لقد َ‬
‫رك أح ٌد ساكناً وبدون أدىن مقاومة مين أان املسروق قليب وماذا؟ من‬
‫ُحي َ‬
‫كيف لسارق أن يكو َن سارقاً‬
‫سارقة سرقتين وهي نفسها ال تدري!‪َ ،‬‬
‫وهو ال يدري إن هذا لشيءٌ عُجاب‪ ،‬سأدفع الفدية اليت تريدين ولكن‬
‫إيل قليب‪.‬‬
‫أعيدي َّ‬
‫لتحجب عنها الرؤية‪،‬‬ ‫ِ‬
‫شاشة اجلوال دمعةً دمعة‬ ‫ط َد َمعاهتا فوق‬
‫تتساق ُ‬
‫َ‬
‫إهنّا ُحتب كذبه أكثر من صدقه‪ ،‬جنونه أكثر من صوابه‪ُ ،‬حتب أخطاءه‬
‫وطباعه كما هي بدون أن يغري شيئاً منها‪ ،‬هذا هو احلب أن تقبل‬
‫وجبَره كما يقولون‪ ،‬لقد كان‬
‫قبل إجيابيّـاته بعُ َجره ُ‬
‫الطرف االخر بسلبياته َ‬
‫لصوص مثله‪..‬‬
‫ٌ‬ ‫كل الناس‬
‫يظن أن ّ‬
‫اختصاصهُ سرقة القلوب وألن اللص ُّ‬
‫ِ‬
‫بسرقة قلبه‪.‬‬ ‫اهتمها‬

‫‪30‬‬
‫قبح الدنيا‬
‫تدرس فيها غيداء ستُنقذها من ِ‬ ‫ِ‬
‫ال كليةُ الفنون اجلميلة اليت ُ‬
‫ِ‬
‫جالفة البعد‪ ،‬إنهُ الفراق‬ ‫بعد الفراق وال قصائده الرقيقة ستنقذهُ من‬
‫حنيل‬
‫مسني الدم ِع ُ‬
‫ثقيل النهار‪ُ ،‬‬ ‫كئيب ِ‬
‫الليل ُ‬ ‫قاحل األجوبة ُ‬‫غزير األسئلة ُ‬
‫االبتسامة‪ ،‬إنه الفراق بدايةُ احلب‪ ،‬فجميع ما كان قبله من حكاّيت‬
‫وتفاصيل إَّنا هو متهي ٌد للحب احلقيقي الذي أييت بعد الفراق‪.‬‬
‫بني احلب والتعلق شعرة يغفل‬
‫ما قبل الفراق يكو ُن التعلق‪ ،‬والفر ُق َ‬
‫عنها الكثري من العشاق‪ ،‬وتسمية ما قبل الفراق ابحلب ما هو إال وهم‬
‫وهم مث يُصدقونه عسى‬
‫يصنعه العشاق من التعلق ابآلخر‪ ،‬ويعلمو َن أنه ٌ‬
‫أن جتعلهُ األماين حباً مث إذا عجزت عنهُ األماين وبدأ احلب احلقيقي بعد‬
‫الفراق تندموا وصارت تلك احلكاّيت تقصفهم بقنابل الذكرى وترميهم‬
‫ِّ‬
‫بكل ما أوتيت من قذائف التفاصيل!‬

‫‪31‬‬
32
‫الفصل الثاني‬
‫"حملةٌ أوىل"‬

‫تنام قطة يقتُلها الفضول‬


‫يف كل امرأة‪ُ ،‬‬
‫‪ -‬أحالم مستغاَّني‬

‫‪33‬‬
34
‫تستمع عرب جواهلا لفريوز "سألتك حبييب" للذهاب‬
‫ُ‬ ‫تستعد صباحاً وهي‬
‫إىل الكلية‪ ،‬قلبها يقول هلا‪ :‬احبثي عنه أوالً مثَّ اسأليه ما ِ‬
‫شئت!‪.‬‬
‫صوت خوفها‪ :‬ال أريد أن أقع يف فخ احلب كما‬‫ُ‬ ‫صوت قلبها‬
‫َ‬ ‫يطرد‬
‫ُ‬
‫وبني‬
‫وت عقلها‪ :‬ي ٌد مبفردها ال تُصفق‪َ ،‬‬
‫وقعن نساءٌ كثريات‪ ،‬يُدامهها ص ُ‬
‫عقارب الساعة يف يدها وتتأخر كالعادة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫كض‬
‫هذا القول وذاك تر ُ‬
‫وصلت إىل الكلية وكانت أمينة يف انتظارها أيضاً كالعادة حتت املظلة‬
‫رقم "‪ "١٥‬أمام مقهى الكلية‪.‬‬

‫ِ‬
‫أنتظرك هبا ّي غيداء‪.‬‬ ‫أتخرت كثرياً‪ِ ،‬‬
‫هذه هي املرة األخرية اليت‬ ‫ِ‬ ‫أمينة‪-‬‬
‫‪ -‬أعتذر ّي أمونة وهللا أعتذر‪ ،‬تعرفني زمحة الطرق صباحاً‬
‫ِ‬
‫أنتظرك أمام البيت صباحاً‬ ‫كل يوم‬ ‫ِ‬
‫تنفجر أمينة‪ -‬هذا وبيتك فوق بييت و ّ‬
‫ُ‬
‫أتتني مشياً مثلما آيت أان‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حّت ينقطع أملي مث آيت فأنتظرك هنا‪ ،‬وأنت َ‬ ‫ّ‬
‫فأي زمحة تلك؟ أما ختجلني من الكذب!؟‬
‫‪-‬تضحك بسعادة وخجل‪ -‬كفى كفى ّي جمنونة‪.‬‬

‫مير هذا اليوم كما مير غريه‪ ،‬ال جديد غري أن كلية الفنون اجلميلة ستعلن‬
‫ُ‬
‫يف هذا اليوم عن أمسية شعرية لشاعر شاب ليس معروفاً لدى الكثري‬
‫من الطلبة‪ ،‬وستكون األمسية يف العاشر من الشهر القادم وهو اليوم‬
‫الذي تليه إجازة مدهتا ‪ ١٥‬يوماً لطالب الكلية‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫هز شاكر ِّ‬
‫بكل ما أويتَ من بيان ألمسيته يف كلية الفنون اجلميلة‪،‬‬ ‫ُجي ُ‬
‫الفرق بينه وبني غريه من الشعراء أن الشعراء يكتبو َن الشعر أما‬
‫الشعر املتنفس الوحيد يف ِ‬
‫هذه املقربة‬ ‫هو فالشعر يكتبهُ‪ ،‬إنهُ يعترب ِ‬
‫ويهش ِبه على‬
‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫ضيقه‬ ‫يستعني ِبه على‬
‫ُ‬ ‫الكبرية اليت تُسمى "األرض"‪،‬‬
‫ِ‬
‫ملله ولهُ فيه منافع أخرى‪َّ ،‬‬
‫وألن الشعر موسيقى الروح فإنه تعلم عزف‬
‫العود وطاملا حلن ما يكتب‪ ،‬مع أنه بني أصدقائه يكرر دائماً نفس‬
‫العبارة " كتبت الشعر ليقرأهُ الناس شعراً ال ليُغىن "ولكنه إذا خال بنفسه‬
‫العود مرتمجاً ابرعاً لرموز شعره‪.‬‬
‫كان يستسلم للعود‪ ،‬كان ُ‬
‫أمتَّ قصائده اليت سيلقيها يف أمسيته األوىل يف حياته واليت كانت السابعة‬
‫يف احلقيقة ففي كل أمسية جديدة يعتربها هو األوىل ُُمفزاً بذلك نفسهُ‬
‫يكرتث ابلشهرة ألنه‬
‫ُ‬ ‫على أن أول أمسية هي فاحتة ملا بعدها‪ ،‬إنه ال‬
‫يؤمن أن الذين يركضو َن خلف الشهرةِ يرسبو َن غالباً يف اإلبداع‪ ،‬إ ّن‬
‫ُ‬
‫ويستطيع اخرتاق القلوب‬
‫ُ‬ ‫يطري هبا‬
‫اإلبداع مفتاح الوصول‪ ،‬له أجنحةٌ ُ‬
‫و استيطاهنا‪ ،‬لذلك كان حبثهُ عن اإلبداع وكتابة ما مل يسبقهُ إليه غريه‪،‬‬
‫حجمـه ومل يسمح‬ ‫غايته األمسى‪ ،‬كا َن يف ِ‬
‫قلبه شيءٌ للشهرة طبعاً ولكنَّه َّ‬
‫دواوينه وقصائدهِ‬
‫ِ‬ ‫له ابلتفشي أبداً وهذا ما ساعدهُ فيما بعد على انتشار‬
‫حجمت شهوة كسبت رفعة‪ ،‬اآلن وقد بقي على‬
‫بني الناس فأنت كلما َّ‬
‫حياول حفظ القصائد وال يستطيع‪ ،‬يقولون‪ :‬إن أعظم‬
‫األمسية ثالثة أّيم ُ‬
‫شعراء العامل ال حيفظون قصائدهم‪ ،‬ال يدعي أنه من أعظم الشعراء يف‬
‫العامل إَّنا هو فعالً ال يستطيع حفظ قصائده وحسب‪.‬‬
‫‪36‬‬
‫ختاف من هذا و حتدثها نفسها دائماً‪:‬‬
‫لذلك كانت غيداء بعد احلب ُ‬
‫كيف لشاعر ال حيفظ قصائدهُ أن حيفظ عهوده!؟‪.‬‬
‫مل جتد إجابةً هلذا السؤال‪ ،‬لكنها وجدت نصف إجابة عند صديقتها‬
‫كل الرجال ال حيفظو َن عهودهم!‪.‬‬
‫أمينة اليت قالت هلا‪ُّ :‬‬

‫•••••‬

‫بُشرى تتصل‪..‬‬
‫غيداء‪ -‬أهالً‬
‫‪ -‬أهالً حبيبيت‪ ،‬كيف حالك؟‬
‫‪ -‬مشتاقة لك‬
‫‪ -‬وأان أكثر‪ ،‬ها هل ستحضرين أمسية الغد يف الكلية؟‬
‫‪ -‬ابلطبع أان وأمينة‬
‫‪ -‬مجيل إذاً سأتصل بسارة وأخربها‬
‫‪ -‬جيد‪ ،‬وما رأيك أن نذهب اليوم إىل السوق لنتحضر هلا؟‬
‫مساء إن شاء هللا‬ ‫ِ‬
‫‪ -‬إذن سأكون عندك يف متام الثامنة ً‬
‫‪ -‬إن شاء هللا‪ ،‬وأحضري ِ‬
‫معك سارة‪ ،‬مع السالمة‬
‫‪-‬مع السالمة‬

‫‪37‬‬
‫مساء‪ ،‬وصلت بشرى وسارة‪ ،‬وبعدها بدقائق‬
‫الساعة السابعة والنصف ً‬
‫نزلت غيداء مسرعة وخرجت أمينة من بيتها الكائن أسفل بيت غيداء‪،‬‬
‫وذهُب إىل السوق‪ ،‬يف الوقت نفسه كان شاكر على‬ ‫َ‬ ‫وأوقفن تكسي‬
‫َ‬
‫موعد بصديقه أمري الذي كان يرافقه عاد ًة يف شراء مالبسه حبكم خربته‬
‫وعمله يف األلبسة الرجالية‪ ،‬اشرتى شاكر طقماً رمسياً أسوداً وربطة عنق‬
‫األسود تعبرياً عن خلو قلبه من احلب‬
‫َ‬ ‫وردية لقميص أبيض‪ ،‬كان اختياره‬
‫حبب قادم ال ُمالة‪،‬‬
‫واختياره اللون الوردي لربطة العنق تعبرياً عن تفاؤله ّ‬
‫أما األبيض فالشوق هلذا احلب الذي مل ِ‬
‫أيت بعد‪.‬‬
‫أهنت غيداء وصديقاهتا شراء مالبسهن يف الوقت الذي انتهى هو وأمري‬
‫ِ‬
‫بفنجان‬ ‫كذلك‪ ،‬وكان الوقت ال يزال مبكراً‪ ،‬قال له أمري‪ :‬ما رأيك‬
‫قهوة ُم ّرة؟‬
‫‪-‬مجيل‬
‫‪ -‬نذهب إىل احلمرا إذن؟‬
‫‪ -‬توكلنا على هللا‬
‫احلمرا هو احلي الذي يزورهُ أغلب أهل ِمحص يومياً لوجود أشهر مقاهي‬
‫محص فيه‪ ،‬كانت لغيداء وصديقاهتا ثالث زّيرات على األقل يف‬
‫األسبوع الواحد هلذهِ املقاهي‪ ،‬خرج شاكر من السوق هو وأمري يف‬
‫الوقت الذي وصلت ِبه غيداءُ وصديقاهتا إىل احلمرا وجلسن يف مقهى‬
‫"ميكازا"‪ ،‬هناك يف اخلارج على الكراسي اليت يضعها املقهى على‬
‫رصيفه‪.‬‬
‫‪38‬‬
‫ولكن املقاهي الثالث كانت ُممتلئة وال مكان إلبرة فيها‪ ،‬مل‬
‫وصال أخرياً َّ‬
‫يكدرمها األمر كثرياً فقد اعتادا عليه‪ ،‬وكالعادة ذهبا إىل املسبح البلدي‬
‫الذي يقع خلف املقاهي مباشرًة وجلسا على كراسي الطاولة احملجوزة‬
‫سواء حضرا أم مل حيضرا‪ ،‬اجلديد يف األمر أن هذا اليوم كان‬
‫يومياً هلما ً‬
‫حافالً مبباراة فريقي "الكرامة والوثبة" وكانت الناس مجيعاً تتجه‬
‫بطاوالهتا وأنظارها إىل الشاشة الكبرية يف أول املسبح‪ ،‬وأصوات‬
‫اجلماهري كانت عاليةً جداً خصوصاً أن املسبح كان اتبعاً للملعب‬
‫"ملعب خالد بن الوليد" فمن جيلس يف املسبح يشعر وكأنه يف امللعب‬
‫ألصوات اجلماهري القريبة جداً وإضاءة امللعب الكاشفة واليت تصل‬
‫للمسبح كذلك‪ ،‬يف الوقت نفسه تتصل أم غيداء هبا لتخربها أهنا‬
‫وأخواهتا ‪-‬خاالت غيداء‪ -‬يف املسبح‪ ،‬لتضطر غيداء إىل ترك املقهى‬
‫هي وصديقاهتا والذهاب إىل املسبح فوراً‪.‬‬
‫هذه الضجة وهو الذي يكره كرة القدم بطبعه‪ ،‬ولكي‬‫انزعج شاكر من ِ‬
‫ال يفسد على أمري متعة متابعة املباراة اليت ما كان يعلم أهنا اليوم‪ ،‬قرر‬
‫تبحث عن طاولة أهلها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أن يتحمل‪ ،‬يف هذا الوقت دخلت غيداء‬
‫تلتفت‬
‫ُ‬ ‫هاتفها على أذهنا وأمها تدهلا وهي ابلكاد تسمع يف ِ‬
‫هذه الضجة‪،‬‬
‫مين ًة ويسرة حبثاً عن طاولة العائلة‪ ،‬وجدهتا أخرياً‪ ،‬كا َن من الالفت هلا‬
‫منظر شاكر‪ ،‬لقد أدار ظهره للشاشة اليت أدار هلا اجلميع‬
‫ولغريها ُ‬
‫وجوههم!‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫متييز مالُمه‪ ،‬الفكرة اليت خطرت‬ ‫تنظر ِ‬
‫ويصعب عليها ُ‬ ‫ُ‬ ‫إليه من بعيد‬ ‫ُ‬
‫ستخطر ببال كل من يراه هكذا هي أنهُ ال ُحيب‬ ‫ُ‬ ‫بباهلا كالفكرة اليت‬
‫فعل ذلك جذابً ألنظار‬‫خطر بباهلا أن يكو َن َ‬
‫الكرة‪ ،‬وزّيد ًة على ذلك َ‬
‫ضعيف لديها خاصةً أنهُ كا َن ممسكاً‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫احتمال‬ ‫البنات من حوله وهذا‬
‫جيلس وحيداً يف غرفة‪ ،‬قالت ألمينة‪ :‬انظري هلذا الشاب‬ ‫ِ‬
‫جبواله وكأنهُ ُ‬
‫ب كرةَ القدم‬
‫نظرت أمينة‪ -‬يبدو أنهُ ال ُحي ُّ‬
‫‪-‬ما الذي ُجيربهُ على اجللوس هنا إذن؟‬
‫صحبة صديقه على ما يبدو‬
‫هتز أمينة رأسها‪ُ -‬‬
‫أظن ذلك‬
‫‪-‬ال ُّ‬
‫مالك وماله ِ‬
‫أنت؟؟ دعيين أاتبع املباراة!‬ ‫‪-‬أووه ِ‬

‫أيمرها فضوهلا فجأ ًة أن تنسحب هبدوء صوب دورات املياه‪ ،‬األمر‬


‫الذي سيُمكنها من رؤيته عن قرب ذهاابً وإّيابً‪ ،.‬مشت فعال ومل ترتدد‪،‬‬
‫كلما اقرتبت منه خطوة زادت دقاهتا دقة‪ ،‬ملاذا؟ هي نفسها ال تعرف‬
‫وبني طاولته خطوات يسرية‪،‬‬‫حّت صار بينها َ‬‫بل إهنا مل تشعر بذلك ّ‬
‫قرب دورات‬ ‫ِ‬
‫مرت بقربه ومل يرفع رأسه عن شاشة جواله‪ ،‬وقَـ َفت قليالً َ‬
‫املياه مثَّ عادت‪ ،‬وملّا اقرتبت منه حدقت به أكثر‪ ،‬رفع رأسهُ ملا اقرتب‬
‫سوادها منه فوقعت عيناه يف عينيها‪ ،‬عجلّت اخلطى وأرجع رأسه‪ ،‬حّت‬
‫وصلت طاولتها مرًة أخرى‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫اقرتبت من أذن أمينة وقالت هلا‪ :‬جيذبين هذا النوع من الرجال‪.‬‬
‫أي نوع؟‬
‫أمينة واببتسامة مكر‪ُّ -‬‬
‫‪-‬ال تتغايب‬
‫ِ‬
‫جيذبك له؟‬ ‫‪-‬وما‬
‫شدين‬ ‫‪-‬ال أعرف‪ ،‬شيء ِ‬
‫إليه ي ُ‬ ‫ٌ‬
‫‪-‬أعرفه جيداً‬
‫‪-‬ما هو ؟‬
‫‪-‬إمهالهُ لكل البنات على الطاوالت من حوله‬
‫‪-‬ال ليس هذا‬
‫‪-‬ماذاً إذاً‬
‫‪-‬إذا عرفت سأخربك!‪.‬‬

‫قضت أغلب ليلها وهي تُفكر به‪ ،‬ما الذي جذهبا إليه؟ الكثري من‬
‫الشباب يلهثو َن وراء نظرة واحدة منها؟ هذا مجال ابن جرياهنا تقدم هلا‬
‫أكثر من ثالث مرات ورفضته مع أنهُ خريج "جتارة واقتصاد" ويعمل يف‬
‫االمارات ومادّيته جيدة جداً‪ ،‬وهذا نضال ابن خالتها "طبيب جراح"‬
‫تقدم هلا كذلك ورفضته وهو من هو‪ ،‬وفالن وفالن وعالن‪ ،‬متر أمامها‬
‫حديث قلبها‪،‬‬
‫َ‬ ‫األمساء وقلبها يقول هلا هذا هو‪ ،‬هي ال تريد أن تصدق‬
‫فهي ال تعرف من هذا الشاب أصالً‪ ،‬مثَ ما الفائدة وهو الذي مل ِ‬
‫يلق‬
‫هلا اهتماماً أبداً‪ ،‬مع أهنا يوم قامت وعائلتها لتغادر املسبح وافق ذلك‬
‫‪41‬‬
‫مغادرته أيضاً‪ ،‬ومشى خلفهم والتفتت إليه أكثر من مرة يف ُماولة منها‬
‫ِ‬
‫صديقه وكأنهُ مل‬ ‫للفت انتباهه‪ ،‬ولكنه كان منهمكاً يف احلديث مع‬
‫شيء يقتل املرأة كالتجاهل! يف احلقيقة مل‬
‫يتحدث إليه منذ سنة‪ ،‬ال َ‬
‫يصف ألمري خوفهُ من ليلة الغد وأنهُ يشعر‬
‫يكن جتاهالً‪ ،‬فقد كا َن شاكر ُ‬
‫جيب أن‬
‫سيقف على املسرح ألول مرة وأن الشعر أمانةٌ يف عنقهُ ُ‬
‫ُ‬ ‫وكأنهُ‬
‫إيل ما الفائدة وأان‬
‫يؤديها على أمتّ وجه‪ ،‬تقول يف نفسها‪ :‬حّت لو انتبه ّ‬
‫تنتظر منه نظرًة فقط‪ ،‬نظرةً تضم ُن‬
‫ال أعرفه وال أعرف له عنوان؟‪ ،‬كانت ُ‬
‫تتأمل القمر الذي‬ ‫هلا النوم ِ‬
‫اك غرفتها وأخذت ُ‬ ‫هذه الليلة! فتحت ُشبّ َ‬
‫تغطى من برده ابلغيوم‪ ،‬حتاول اهلروب من هذا الوسواس الذي ركبها‬
‫حّت الصباح‪.‬‬ ‫ِ‬
‫فإذا به مي ّد بساطهُ يف خياهلا ويرتبع يف أفكارها ّ‬

‫كأنك‬
‫ألق شعرك و َ‬ ‫ُحتدثُهُ نفسهُ وهو أمام املرآةِ يتجهز للخروج لألمسية‪ِ :‬‬
‫ِ‬
‫البداية انظر‬ ‫جتلس يف غرفة وحدك‪ ،‬إيَّـاك أن ترتعش من احلضور‪ ،‬يف‬
‫اح عنك‬
‫إىل أعلى رؤوسهم وسيظنو َن أنك تنظر إىل أعينهم ريثما تنز ُ‬
‫بني احلضور تكون لك! ِ‬
‫ألق‬ ‫عل فتاةً َ‬
‫الرهبة‪ ،‬ابتسم أوالً‪ ،‬وما يدريك ل َّ‬
‫بكل جوارحك‪ ،‬دع كل عضو يف بدنك يُلقي القصيدة كما حيلو له‬ ‫ِّ‬
‫ساحةُ الشعر شبه فارغة وأنت هلا ولو كانت ممتلئة‪ ،‬يوماً ستذكر ِ‬
‫هذه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كربت‪.‬‬
‫األّيم وتضحك كم كنت صغرياً‪ ..‬وكم ُ‬
‫فتح له شاكر الباب فرآهُ فرحاً ُمبتسماً مما‬
‫يف هذه األثناء وصل أمري‪َ ،‬‬
‫خفف حدة التوتر عنده‪.‬‬
‫‪42‬‬
‫ط لهُ ربطة عنقه وشاكر يبتسم‪ ،‬سألهُ أمري‪ :‬على‬‫بدأ أمري يعطّره ويرب ُ‬
‫غري عادتك يف األمسيات الست املاضية أراك ُمبتسماً؟‬
‫أخرج فيها إىل أمسية وهي بعيدة حفظها‬ ‫ِ‬
‫تذكرت أمي‪ ،‬هذه أول مرة ُ‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫هللا ورعاها‬
‫‪ -‬بقي لك أّيم وتُسافر عندها‪ ،‬املهم أن تعترب أن أمك بني احلضور‬
‫وأنك ستبذل كل جهدك لتسعدها بك‬
‫‪-‬هو كذلك ّي صديقي‪ ..‬هو كذلك‬
‫الوقت ِ‬
‫نفسه كانت غيداء وأمينة ينتظرن سارة وبشرى يف بيت أمينة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫يف‬
‫وأوقفن تكسي وإىل الكلية‬
‫َ‬ ‫إليهن‬
‫وصلن أخرياً وخرجت غيداء وأمينة ّ‬
‫َ‬
‫وهن‬
‫فوراً‪ ،‬بقي على األمسية عشر دقائق‪ ،‬وصل شاكر وصعد املسرح َّ‬
‫طالب يف كلية اهلندسة املدنية‪،‬‬
‫ما زلن يف الطريق‪ ،‬قدمهُ للجمهور بسام ٌ‬
‫يرحب فيهما ابحلضور‪:‬‬
‫ُ‬ ‫صعد املنرب ُمبتسماً وبدأ ببيت ِ‬
‫ني‬
‫أندر األفراحا‬
‫ـرح أنَـا‪ ،‬ما َ‬
‫فَ ٌ‬
‫صار صباحا‬ ‫ِ‬
‫بك ُـم‪ ..‬وليلي ف َّـي َ‬

‫َّنورمتُ روحي وكانت عُتمةً‬


‫وشفيتُ ُم قليب وكا َن جراحا‬

‫يُصفق له اجلمهور ُمتفائالً بشاعر بدأ ببيت ِ‬


‫ني مجيلني‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫أي دعوةِ أم يف ِ‬
‫ليلة قدر‬ ‫انل شاعراً حبضوركم‪ُّ ..‬‬
‫حظ َ‬‫أي ّ‬
‫يُتابع نثراً ‪ُّ :‬‬
‫صفق اجلمهور حبرارة أكرب‪.‬‬
‫أصابته؟‪ ،‬يُ ُ‬
‫هنا وصلت غيداء وصديقاهتا ونزلن عند مدخل الكلية‪ ،‬كان بني‬
‫نزوهلن من التكسي ُّ‬
‫يرن‬ ‫َّ‬ ‫املدخل واملسرح قرابة أربعمائة مرت‪ ,‬ومبجرد‬
‫تتأخر‬
‫هاتف غيداء‪ ،‬إهنا أختها زهراء‪ ،‬ماذا تريد؟؟‪ّ ،‬ي ساتر ّي رب‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫عن البنات قليالً وتقول هلن اسبقنَين وسأحلق بكن‪ ،‬تفتح اخلط‬
‫‪-‬ألو‬
‫زهراء بصوت ابك‪ -‬غيداء‪ِ ..‬‬
‫أمك ّي غيداء زلقت يف املطبخ وهي‬
‫صوت زهراء‪ ،‬وتنهار أعصاب‬ ‫يقطع البكاء‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُحتضر ألبيك القهوة‪ ،‬مث ُ‬
‫ِ‬
‫كاجملنونة يف الشارع وتؤشر للسيارات من أجل تكسي‪،‬‬ ‫غيداء‪ ،‬تركض‬
‫تقف هلا سيارة تكسي أخرياً وإىل البيت‪.‬‬

‫•••••‬

‫‪44‬‬
‫ئ على هذه األرض أن يستشعر مدى األمل الذي جعل‬
‫لن يستطيع قار ٌ‬
‫شاعراً يكتب ما يقرأهُ هو وغريه إال أن يكو َن شاعراً مثله‪ ،‬كذلك املُحب‬
‫لن يستشعر حبَّه من مل يذق احلب حّت ُحيب وهلذا شواهد كثرية يف‬
‫األدب العريب أعذهبا قول أيب الطيب املتنيب‪:‬‬

‫حّت ذقتهُ‬
‫وعذلت أهل العشق َّ‬
‫ُ‬
‫يعشق!‬
‫ُ‬ ‫وت من ال‬
‫كيف مي ُ‬
‫فعجبت َ‬
‫ُ‬

‫لكن شاكر استطاع أن ُيرق هذه القاعدة فكتب عن الفراق وعن‬ ‫َّ‬
‫اهلجر واللوعة عن الشوق واحلنني وهو مل يعش شيئاً من هذا كله وذلك‬
‫مر به أصدقاؤهُ وخاصةً أمري الذي كان ُحيب تغريد حباً جنونياً‬
‫بتأثره مبا َّ‬
‫أي حب‪ ،‬كانت هنايته الفراق‪ ،‬كان أن أمري يقول‬ ‫كانت هنايته كنهاية ّ‬
‫يبتسم‬
‫ُ‬ ‫تكتب مويت بيديك ّي شاكر‪ ،‬كان‬
‫ُ‬ ‫أنت‬
‫كل قصيدة‪َ :‬‬ ‫له بعد ّ‬
‫ِ‬
‫ابملوت أتتيك احلياة‪.‬‬ ‫وجييب‪:‬إَّنا‬
‫ُ‬
‫عما كابدهُ أمري شيء أمام ما‬
‫مع ذلك لن يكون إبداعهُ يف الكتابة َّ‬
‫سيكتب موتهُ بيديه لكنها لن توهب له احلياة‬
‫ُ‬ ‫سيكتبهُ عن نفسه يوماً‪،‬‬
‫ألن احلب مّت وقع يف قلبك لن ُيرج منه ما حييت‬ ‫كما كان يعتقد‪َّ ،‬‬
‫وعند املوت سيموت معك‪ ،‬إال إن كنت شاعراً فستموت أنت وُيلد‬
‫هو‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫تغريد اليت أحبها أمري وأحبته قالت لهُ يوماً‪ :‬تعال واخطبين ولو خبامت‬
‫هي األنثى تتنازل عن أغلى ما متلك ألجل احلب‪،‬‬
‫من خشب‪ ،‬هكذا َ‬
‫ِ‬
‫مشاعره وزواجه منها‬ ‫كيف ال وهي اليت هتدي حبيبها مكافأ ًة لصدق‬
‫عُذريتها‪ ،‬إذا كان هناك شيءٌ يف هذهِ الدنيا ال يُقدر بثمن فهو عذرية‬
‫األنثى‪ ،‬ومع ذلك أيخذها الزوج حباً‪ ،‬لقد كان أمري ُُمباً صادقاً‪ ،‬استمر‬
‫لتسعة أشهر كاملة يستيقظ صباحاً ويلبس ويتعطر وُيرج ليقف هلا يف‬ ‫ِ‬
‫طريقها إىل اجلامعة عسى أن يرق قلبها وتنظر له‪ ،‬كانت مولعةً به طوال‬
‫هذهِ املدة لكنها كانت كاليامسينة بيضاء القلب نقية الروح ختاف أن‬
‫تقع يف شباك احلب‪ ،‬ختاف أن حتب شاابً هي ال تعرفه إال من خالل‬
‫وقوفه هلا يف طريقها ذهاابً وإّيابً ليسمعها كلمات من غزل يبان صدقها‬
‫يف مالمح وجهه‪ ،‬إهنا ال تثق بشاب أهداها غزالً من ِ‬
‫خالل الطريق‪،‬‬
‫غازل غريها هكذا كان فكرها يف البداية ولكنه تغري مع‬
‫فكما غازهلا سيُ ُ‬
‫إصراره ملدة تسعة أشهر ما قطع فيها يوماً‪ ،‬وهي اليت ما ابتسمت له‬
‫تغيب‬
‫وال نصف ابتسامة‪ ،‬يف احلر يف الربد يف املطر يف الصحو يف الثلج ُ‬
‫هي وهو ال يغيب‪ ،‬أينما التفتت رأته أمامها‪ُ ،‬حتب األنثى بطبعها هذا‬
‫اجلنون إنه يُشعرها ابألمان‪.‬‬
‫كل ُماوالته يف أن يصل هلا قال له شاكر‪ :‬أستطيع أن‬
‫بعد أن فشلت ُّ‬
‫آتيك برقمها‬
‫أمري ينتفض‪ -‬كيف!؟‪.‬‬
‫سر املهنة‪.‬‬
‫يغمزهُ ُمبتسماً‪ -‬ال تسألين‪ُّ ..‬‬
‫‪46‬‬
‫أمري غاضباً‪ -‬قل يل كيف وإال‪..‬‬
‫‪ -‬وإال ماذا؟‬
‫بدأت أغتاظ منك قل يل كيف‪.‬‬
‫‪ُ -‬‬
‫‪ -‬وما شأنك أنت؟ أان أحضره لك‬
‫بغيظ‪ -‬ال أريده‬
‫يضحك‪ -‬رأيتها برفقة هدى ابنة خاليت قبل أّيم يبدو أهنن يدرسن يف‬
‫نفس الكلية‪.‬‬
‫‪ -‬رائع جداً‪ ،‬ممتاز‪ ،‬وماذا ستفعل‬
‫‪-‬هذهِ مهميت أان ال عليك‬

‫استطاع شاكر أن حيضر لهُ رقمها‪ ،‬ولكن ال تكمن املشكلة يف العثور‬


‫على رقمها بقدر ما تكمن يف اتصاله هبا ِّ‬
‫وأبي ُحجـة سيتصل وماذا‬
‫حرصت‬ ‫سيقول ومن أين عثر على رقمها إن سألته‪ ،‬خصوصاً أن هدى َّ‬
‫على شاكر أن ال تعلم تغريد أهنا هي من أعطتهُ الرقم‪ ،‬سيتصل هبا بال‬
‫شك‪ ،‬ألن هلفته لسماع صوهتا أكرب من خوفه‪ ،‬وشوقه ألن تقول له‬
‫"ألو" أقوى من تردده‪ ،‬وفضولهُ الجتياح عاملها أعظم من صربه‪.‬‬

‫اتصل أخرياً‪..‬‬

‫‪47‬‬
‫تغريد‪ -‬ألو‬
‫يبقى صامتاً‬
‫‪-‬ألو‬
‫ستمراً بصمته‬
‫يغمض عينيه ُم ّ‬
‫‪-‬ألو ألو‬
‫غلق السماعة‪ ..‬ويبتسم‪.‬‬
‫تُ ُ‬

‫تُشبه مكاملته األوىل ِ‬


‫هذه مكاملتهُ "بعد األخرية" يوم اتصل هبا بعد ما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ومر على فراقهما قرابة السنة فقط ليسمع‬
‫انتهى كل شيء بينهما َّ‬
‫صوهتا‪.‬‬
‫قالت للرقم الغريب الذي اتصل هبا وهي تعلم أنه هو‪" :‬ألو"‬
‫وكررهتا مراراً وال جميب‪..‬‬
‫أغلقت السماعة‪ ..‬وبكى!‪.‬‬

‫•••••‬

‫‪48‬‬
‫تتخل عن أكثر مبادئك ‪-‬إن مل يكن كلها‪ ،-‬إذا مل تشتعل‬ ‫َّ‬ ‫إذا مل‬
‫كالسيجارة شوقاً كل اثنية‪ ،‬إذا مل يُعاديك أهلك وأصحابك‪ ،‬إذا مل‬
‫تقدم على أشياء ما كنت لتفعلها من قبل ولو أُعطيت جبالً من ذهب‪،‬‬
‫شك جديد عن ألف عذر غري مقنع وتعرف أنه‬
‫إذا مل تبحث يف كل ّ‬
‫غري مقنع ومع ذلك تقتنع‪ ،‬إذا استطعت أن تنام يف الليل لساعات‬
‫متواصلة‪ ،‬إذا استغنيت خلمس دقائق عن هاتفك احملمول‪ ،‬إذا كنت ال‬
‫ألفي مرة‪ ،‬إذا مل‬
‫تقرأ رسائل احلب ألف مرة يف اليوم وتراجع ُماداثته ّ‬
‫صوت‬
‫ُ‬ ‫تغلب‬
‫يرتسم طيف احلبيب أمامك كل ما رمشت عينك‪ ،‬إذا َ‬
‫عقلك على صوت قلبك‪ ،‬إذا مل تنتقل بلمحة حب من كائن حيمل يف‬ ‫َ‬
‫كرّيت حنني وبكاء‪ ،‬إذا‬ ‫ِ‬
‫داخله كرّيت دم محراء وبيضاء إىل كائن حيمل ّ‬
‫وأنت على قيد احلياة‪ ..‬فراجع‬ ‫ِ‬
‫ابلصداقة بعد احلب‪ ،‬إذا مل متت َ‬ ‫آمنت‬
‫َ‬
‫حبك‪.‬‬
‫ال تكن يف احلب كالذين يص ّفو َن أحرفهم بشكل ُمرتب يف صفحات‬
‫أنيقة ويطلقو َن عليها اسم كتاب فقط ليكتبوا على ملفهم الشخصي‬
‫يف مواقع التواصل االجتماعي مؤلف كتاب كذا ومؤلفة كتاب كذا‪،‬‬
‫وهذه الكتب مل يسمع هبا أحد وقد تكون ممسحةً لزجاج احملالت يوماً‬
‫ما كاجلرائد‪ ،‬ال تكن كذلك كدور النشر اليت تساعدهم على تقدمي ِ‬
‫هذه‬
‫قراء‪.‬‬
‫النفاّيت األدبية اليت أحرقت علينا ما تبقى ّ‬

‫‪49‬‬
‫عليك أن‬
‫أطلق لروحك العنان دعها تطري‪ ،‬كن ُمتلفاً يف حبك‪ ،‬ليس َ‬
‫حب‪ ،‬احلب ال حتتاج معه ملدارس وال جامعات وال‬
‫تكون أكادميياً لتُ َّ‬
‫دورس خصوصية‪ ،‬كمال احلب يف أن يكو َن أُميَّا‪.‬‬
‫روحك إذن‪ ،‬دعها متارس اجلنون الذي ال تسقيم بغريه عالقة وال‬‫َ‬ ‫أطلق‬
‫ختليت عنه‬
‫َ‬ ‫يدوم دونهُ و ّد‪ ،‬نعم اجلنون‪ ،‬ال تستغرب هو روح احلب إذا‬
‫روح فيه ال مغامرة‪ ،‬جسد ضاجعه‬
‫فأنت تعيش احلب جبسد ميت ال َ‬
‫أنت‬
‫ب حبوهم‪ ،‬ضاجع َ‬ ‫ِ‬
‫فأجنب هلم الفراق‪ ،‬ال َحتْ ُ‬
‫َ‬ ‫العشاق قبلك‬ ‫ماليني‬
‫ُ‬
‫لك البقاء‪ ..‬من يدري؟‬‫الروح لعلَّها تُنجب َ‬

‫•••••‬

‫رض خفيف يف رجل والدهتا‪ ،‬ولكنها عادة النساء‬


‫كان األمر جمرد ّ‬
‫جيعلن من ِ‬
‫احلبة قُـبّة‪ ،‬اطمأنت على والدهتا ووخبت أختها زهراء على‬ ‫َ‬
‫هتويلها األمر مث دخلت غرفتها يف ُماولة منها الستعادة أعصاهبا‪،‬‬
‫تذكرت هاتفها وأهنا ال تعرف عنه شيئاً منذ ركبت التكسي قبل ساعة‬
‫وعشرين‬
‫َ‬ ‫تقريباً‪ ،‬حبثت عنه يف شنطة اليد لتجده وجتد أكثر من ثالث‬
‫مكامل ًة من أمينة وبشرى وسارة ورسائل منهن أيضاً‪.‬‬
‫"أين ِ‬
‫أنت"‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫"غيداء ماذا جرى لك"‬
‫بك "‬ ‫ِ‬
‫أرجوك ماذا ِ‬ ‫أخاف ِ‬
‫عليك‬ ‫ُ‬ ‫"بدأت‬
‫ُ‬
‫‪50‬‬
‫كان بقي على انتهاء األمسية قرابة الربع ساعة‪ ،‬أرسلت لكل واحدة‬
‫أتصل ِ‬
‫بك غداً إن شاء هللا‪.‬‬ ‫منهن نفس الرسالة‪ :‬اطمئين أان خبري ِ‬
‫ألقت جبسدها على سريرها فاحتةً ذراعيها مغمضةً عينيها حتمد هللا على‬
‫مرت على فراقهما‪ ،‬ثالثةُ‬ ‫جناةِ أمها‪ ،‬ابغتها ُ‬
‫طيف وسام‪ ،‬ثالثةُ أعوام َّ‬
‫تزوج فيها وأجنب‪ ،‬تزوج فيها ونسي َّ‬
‫كأن حباً مل يكن‪ ،‬ثالثة‬ ‫أعوام َ‬
‫َ‬
‫يبق يف قلبها له إال الذكرى التعيسة‪ ،‬هذا الذي أحبتهُ وهي‬
‫أعوام‪ ..‬مل َ‬
‫واستمرا لعامني‪ ،‬كا َن حبها األول وكانت‬
‫ّ‬ ‫يف الثامنة عشر من عمرها‬
‫ُحبه الثالث أو الرابع هللا أعلم! كل الذي تعرفه هو أهنا أحبته بكل ما‬
‫يف الطفولة من براءة‪ِّ ،‬‬
‫بكل ما يف املراهقة من محاقة بكل ما يف األنثى‬
‫من رقة‪ ،‬وأنه ملّا قضى منها شهو َة أن حتبهُ فتاةٌ جبماهلا النادر وأتك َد أنهُ‬
‫تستطيع احلب‪..‬‬
‫َ‬ ‫حفر حبهُ يف قلبها وأهنا ولو عشقها ألف رجل بعده لن‬
‫السماء وقت الغروب‪ ،‬غادرها‬
‫َ‬ ‫الشمس‬
‫ُ‬ ‫تغادر‬
‫غادرها‪ ،‬هكذا هبدوء كما ُ‬
‫وتظن هنا من اليقني ال الشك‪-‬‬
‫ّف وراءهُ ليالً طويالً كانت تظن‪ُّ - ،‬‬
‫وخل َ‬
‫ِ‬
‫بشمس‬ ‫أن القدر ميشي‬‫أن هذا الليل ال مشس بعده‪ ،‬مل تكن تعلم حينها َّ‬
‫َ‬
‫حب جديد لن يكو َن حباً صبيانياً كما تُسمي حبها لوسام اليوم‪ ،‬بل‬
‫ّ‬
‫إنه احلب الذي ال جمال إلضافة أي صفة إليه إنه حب هكذا حبرفني ال‬
‫ُيتال طيف وسام من جديد أمامها‪ ،‬تُبادرهُ‪:‬‬
‫زّيدة فيهما وال نقصان‪ُ ،‬‬
‫تنتظر مين؟‬
‫تضحك ساخرًة منه‪ :‬أيها األمحق ماذا ُ‬
‫ُ‬ ‫ماذا تريد؟‪ ،‬يبتسم‪،‬‬
‫عرفت أنك وهم؟‪ ،‬هل تريدين‬‫ُ‬ ‫هل تنتظر أن أصدقك من جديد وقد‬
‫يبتسم هلا وال يزيد على أن‬
‫ُ‬ ‫تقر عينك؟‬
‫أن أعيد املأسا َة من جديد حّت َّ‬
‫‪51‬‬
‫يومهك أنهُ أرفق‬
‫َ‬ ‫يبتسم‪ ،‬هكذا هو طيف احلبيب يشبهُ فصل الشتاء‬
‫يفتك بك‪ ،‬قطعت هذهِ املناورات‬ ‫بك من الصيف ولكنّهُ سرعا َن ما ُ‬ ‫َ‬
‫ني منكمشت ِ‬
‫ني‬ ‫بينها وبني طيف وسام أمينة‪ ،‬تنظر يف شاشة اجلوال بعين ِ‬
‫ُ‬
‫أمام ضوئها الشديد يف عتمة الغرفة وتفتح اخلط‪:‬‬
‫‪-‬أهالً‬
‫بعصبية ‪-‬غيداء‬
‫بضحكة خفيفة ‪-‬ال هتاين‬
‫‪-‬وتضحكني!؟ أين ِ‬
‫أنت اآلن؟‬
‫‪-‬اهدئي ّي حبيبيت أان يف البيت‬
‫‪ -‬أان يف الطريق ِ‬
‫إليك‪.‬‬

‫أغلقت أمينة اخلط ومل تعط غيداء فرصةً لتعتذر عن استقباهلا‪ ،‬كانت‬
‫ُُمملةً مبفاجأة ال يستطيعها الصربُ‪ ،‬وخائفة ابملقابل من أن يكو َن وقع‬
‫لصديقتها أي مكروه‪ ،‬و ّدعت الصباّي‪ ،‬ركبت سيارة األجرة وإىل غيداء‪،‬‬
‫األحاديث أمينةَ من نفسها‪ ،‬إنّـهُ نفس الشاب الذي‬
‫ُ‬ ‫ختطف‬
‫ُ‬ ‫يف الطريق‬
‫كان يف املسبح البارحة‪ّ ،‬ي هلا من مفاجأة‪ ،‬لن تصدقين غيداء‪ ،‬البد‬
‫كل الندم ألهنا عادت إىل البيت‪ ،‬ما الذي أرجعها للبيت‬
‫أهنا ستندم ّ‬
‫هذهِ اجملنونة؟‬
‫ِ‬
‫سدل الستار على العرض األخري‬
‫ص من حوهلا تُ ُ‬ ‫ِ‬
‫تسري السيارةُ ببطء ومح ُ‬
‫ليوم شاق‪.‬‬
‫‪52‬‬
‫يف هذا الوقت خرج شاكر عريب وصديقه أمري من األمسية وقررا‬
‫الذهاب إىل شارع اخلراب مشياً‪ ،‬املسافة ال تزيد على نصف ساعة‬
‫سرياً على األقدام‪.‬‬

‫شاكر‪ -‬حلفتك ابهلل اصدقين ّي أمري‪ ،‬ما رأيك؟‬


‫‪ -‬رائع‪ِ ،‬‬
‫وهللا رائع ّي صديقي‪ ،‬أما رأيت تفاعل الطالب معك؟ بل‬
‫واألساتذة الذين حضروا من كلية اآلداب ألجلك‪.‬‬
‫وهو يشعل سيجارة‪ّ -‬ي أمري ّي أمري ال يهمين أن تتفاعل معي اآلن‬
‫وتنساين يف الغد‪.‬‬
‫‪ -‬ومن قال لك أهنم سينسونك يف الغد؟ الشعر الذي يطرق أبواب‬
‫القلوب ويدخلها ال يُنسى ّي شاكر‬
‫‪ -‬وهل جتد شعري كذلك؟؟ أم تقول هذا ألنك صديقي‬
‫‪ّ -‬ي مريض كم مرة سأقول لك أان ال أُجامل على حساب األدب؟‬
‫صدقين لو كان هذا احلضور لشاعر غريك ملا انم من شدة الفرح و‬
‫لرأيت أنفه يصل السماء يف اليوم التايل‬
‫‪ -‬أعوذ ابهلل من ِ‬
‫الكرب‬
‫‪ -‬لقد حضر امسيتك أكثر من ثالمثائة طالب وطالبة ّي رجل!‪ ،‬خوفك‬
‫هذا ال مربر له‬
‫‪ -‬أمري أنت لست غبياً لتصدق أهنم حضروا مجيعاً ألجلي‪ ،‬منهم من‬
‫جاء لريى من هذا الذي اختارته كلية الفنون على من سواه وكلية‬
‫‪53‬‬
‫اآلداب مليئة بشعراء معروفني على مستوى اجلامعة‪ ،‬ومنهم "وهم‬
‫فوت ملن‬
‫األكثرية طبعاً" جاؤوا حبثاً عن التعارف فاألمسية موعد ال يُ ّ‬
‫يبحث عن حبيب‪/‬ة‬
‫‪ -‬ولو ّي صديقي‪ ،‬املهم أهنم مسعوا لك شيئاً وصفقوا لك‪ ،‬ال تستهن‬
‫هبم أبداً‬
‫‪ -‬احلمد هلل‪ ،‬ذلك من فضل ريب ليبلوين أأشكر أم أكفر ومن شكر‬
‫ِ‬
‫لنفسه ومن كفر فعليها‬ ‫فإَّنا يشكر‬
‫‪ -‬إذاً فلتشكر هللا بصدق‪ ،‬فكالمك قبل قليل ليس من الشكر يف‬
‫شيء‬
‫‪ -‬احلمد هلل احلمد هلل‬

‫•••••‬

‫‪54‬‬
‫ليس أصعب من أن تولد شاعراً يف زمان ال يعرف من الشعراء إال‬
‫أراذ َهلُم ومن ِشعرهم إال مدح امللوك واألمراء‪ ،‬ليس أصعب من زمان‬
‫أيد املوهب َة‬
‫حولك أميّون يف الشعر‪ ،‬زما ٌن ُ‬
‫َ‬ ‫ومجيع من‬
‫ُ‬ ‫تول ُد فيه شاعراً‬
‫ايب شاتهُ‪ ،‬إنّـهُ‬
‫يذبح األعر ُّ‬
‫ويذبح الكلمةَ كما ُ‬
‫ُ‬ ‫اجلاهلي ابنته‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أيد‬
‫كما ُ‬
‫عصر "الربيستيج" الذي أثّـر حّت على القراءة‪،‬‬
‫احلديث إذن‪ُ ،‬‬
‫ُ‬ ‫العصر‬
‫ُ‬
‫القراء‪ّ ،‬أما اآلن فهم ُكثر ولكنهم قراء‬
‫ففيما مضى كنّا نشتكي قلةَ ّ‬
‫بريستيج‪ ،‬يقرأ أحدهم فصالً أو فصلني من رواية ما أو قصيد ًة أو‬
‫قصيدتني لشاعر ما فقط ليكتب يف مواقع التواصل االجتماعي قرأت‬
‫كتاب كذا‪ ،‬وأعجبين ديوان كذا‪ ،‬ايهاماً منه ملن يتابعه أنه مثقف‪ ،‬من‬
‫الذي أقنع هؤالء أن أحدهم إن حفظ أمساء عشر رواّيت وقرأ مقدمة‬
‫ديوان شعر صار ُمثقفاً؟ ليس أبشع من أن تولد شاعراً يف زمان ال‬
‫يعرف الشاعر إال بعد موته‪ ،‬ما ذنب الذين يولدو َن ويف فمهم ملعقةٌ‬
‫ثقايف‬ ‫ِ‬
‫الناس ويف فمهم ملعقةٌ من فقر؟‪ ،‬فقر ّ‬
‫من شعر يف جمتمع يول ُد فيه ُ‬
‫ُمرعب‪ ،‬على حساب األدب وعلى حساب اللغة وعلى حساب الثقافة‬
‫والرسم والفنون ستج ُد أن املُه ِّر َ‬
‫ج هو رجل اجملتمع األول‪ ،‬وصدقين ال‬
‫النار ثالثة أّيم‬
‫تدفن الشعراء وتُشعل َ‬ ‫أابلغ حني أقول َّ‬
‫إن القبائل اليوم ُ‬
‫مبهرج!‪.‬‬
‫يف مضارهبا إذا بُشرت ّ‬
‫قال شاكر ألمري هذهِ الكلمات ُمتحسراً ومها جيلسان لشرب القهوة‬
‫اجلمال ال‬
‫ُ‬ ‫يف اخلراب بعد األمسية‪ ،‬صمت أمري قليالً متأمالً مث قال‪:‬‬
‫ُُيبّ ُئ نفسهُ ّي شاكر‪ ،‬أنت عليك أن تكتب‪ ،‬والكتابة وحدها كذلك ال‬
‫‪55‬‬
‫تفي ابلغرض‪ ،‬أنت عليك أن تُبدع‪ ،‬أن تبتكر لغةً شعريةً خاصةً بك‪،‬‬
‫أنك إن استسلمت هلذا الواقع فإنك لن تصل‪ ،‬أنت‬‫ثق ّي صديقي َ‬
‫رتجم لغةَ الصدور من مشاعر وأحاسيس إىل كلمات‪،‬‬
‫شاعر والشاعر يُ ُ‬
‫لست أرى عمالً من أعمال الدنيا أمسى وأجل من هذا‪ ،‬إذا بقيت‬
‫و ُ‬
‫ُُمبطاً فلن تصل أبداً‪ ،‬مث مالك ومال الوصول؟ الوصول للناس ّي شاكر‬
‫يقول الشاعر‪:‬‬
‫ليس بيدك هو توفيق خالص من هللا‪ ،‬وكما ُ‬

‫إذا مل يكن عو ٌن من ِ‬
‫هللا للفّت‬
‫فأول ما جيين ِ‬
‫عليه اجتهادهُ!‬ ‫ُ‬

‫أكتب ألتنفس‪،‬‬
‫لست حزيناً على نفسي ّي أمري فأان أكتب يل أان أوالً‪ُ ،‬‬
‫‪ُ -‬‬
‫ألعيش‪ ،‬فالكتابةُ طريقي الوحيد إىل احلياة بطمأنينة‪ ،‬لكنه يؤملين ما‬
‫وصل إليه حال الناس مع العربية‪.‬‬
‫ويهز رأسهُ ُمتحسراً ‪-‬صدقت وهللا‪.‬‬
‫شعل أمري سيجارتهُ ّ‬
‫يُ ُ‬

‫هنا و ّدعت غيداءُ أمينةَ وأغلقت ابب البيت وراءها عائدةً إىل غرفتها‪،‬‬
‫شاعر إذ ْن!؟ وامسه شاكر عريب وله ديوا ٌن يف املكتبات‪.‬‬
‫إنهُ ٌ‬
‫هي اآلن وسيكون هذا الديوان آخر األفكار قبل النوم وشراؤهُ‬
‫ستنام َ‬
‫ُ‬
‫ّأول شيء يف جدول الغد‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫‪-‬صباح اخلري‪ ،‬بكم هذا الديوان؟‬
‫البائع‪ -‬صباح النور‪ ،‬مبئيت لرية‬
‫‪ -‬ملَ‪ ،‬سعرهُ غال‬
‫‪ -‬منذ مّت مل تشرتي كتاابً؟‬
‫عم‬
‫‪-‬ال أذكر ّي ّ‬
‫تغريت ّي ابنيت‬
‫‪ -‬األسعار ّ‬
‫‪-‬الأبس أريده‬
‫‪ -‬تفضلي‬

‫ركبت تكسي وإىل أمينة‪..‬‬

‫وأكثرها‬ ‫ِ‬
‫أكثر الشهور حرارًة ُ‬
‫الثامن يف السنة امليالدية‪ُ ،‬‬
‫ُ‬ ‫إنهُ آب الشهر‬
‫راحةً وأقلُّها استمتاعاً مع أنهُ غالباً يتوافق مع اإلجازة السنوية لطالب‬
‫يصعب عليك فيه أن تتنزه أو أن‬
‫ُ‬ ‫حار‬
‫شهر ّ‬ ‫املدارس واجلامعات لكنهُ ٌ‬
‫ِ‬
‫ُمافظات سورّي ُمافظةً ابردة‬ ‫متشي هناراً يف شوارع محص اليت تُعترب بني‬
‫أصالً فما ابلك يف غريها ُُمافظة؟ يستعد شاكر بعد أّيم للسفر إىل‬
‫دام‬
‫حيث تعيش عائلتُه ليقضي معهم شهراً كامالً بعد فراق َ‬
‫اإلمارات ُ‬
‫قرابة الستة أشهر‪ ،‬ولكنه اآلن وقد بقي على سفره أسبوع أراد أن‬
‫ـب" املنطقة السياحية الشهرية اليت تقع على احلدود‬
‫ـس ْ‬
‫يقضيه يف " َك َ‬
‫يقول شاكر وهي كذلك‬
‫السورية الرتكية‪ ،‬إهنا جنّةُ هللا يف األرض هكذا ُ‬
‫‪57‬‬
‫فعالً‪ ،‬سكاهنا من األرمن وهم هادؤون ُمساملون‪ ،‬لقد اعتادوا على أن‬
‫وبيت ملن ال بيت له‪،‬‬
‫مدينتهم ليست ملكهم‪ ،‬بل هي أمٌّ ملن ال أم له ٌ‬
‫أشهر العسل‬
‫روح له‪ ،‬إهنا مسقط قلوب العشاق ومدينة ُ‬
‫روح ملن ال َ‬
‫و ٌ‬
‫للعرسان‪ ،‬كان شاكر يذهب إىل كسب ألنهُ كان مؤمناً أنهُ كلّما اتسعت‬
‫مساحة الطبيعة اتسعت مساحةُ اإلبداع‪ ،‬إ ّن الطبيعة أنثى واألنثى هي‬
‫يتوجب عليه أن يبحث عنها وأن يبقى بقرهبا ما‬
‫ُ‬ ‫ُملهمتُه ولذا كان‬
‫حّت يُغذي جتربتهُ الشعرية‪َّ ،‬‬
‫وألن األسد كما يقول الكاتب‬ ‫استطاع ّ‬
‫أدهم شرقاوي يفتقد مهارة القتال داخل املاء‪ ،‬والقرش ال يستطيع‬
‫مهامجة قطة خارج املاء‪ ،‬كان عليه أن يعمل بوصية الكاتب "اكتشف‬
‫نقاط قوتك مث اخرت البيئة الداعمة هلا" إنهُ يعرف نقاط ِ‬
‫قوته الشعرية‬
‫ب وأحسن‬
‫جيداً وعليه أن ُيتار البيئة الداعمةَ هلا‪ ،‬لذلك اختار َك َس ْ‬
‫االختيار‪.‬‬
‫بينما كان هو يف طر ِ‬
‫يقه صباحاً إىل كسب كانت هي تطرق ابب أمينة‬
‫أمينة‪ -‬من؟‬
‫‪ -‬افتحي‬
‫أتفتح الباب ضاحكةً‪ -‬أسفة قالت يل ماما ال تفتحي للغرابء‪.‬‬
‫‪ -‬ما أمجل املاما وبنات املاما‪.‬‬
‫‪ -‬اسبقيين إىل اجلُنينة ريثما أُع ّد القهوة‪ ،‬وبينما ذهبت أمينة تُع ّد القهوة‪،‬‬
‫ّم على شجرة الليمون يف اجلُنينة‪.‬‬
‫ذهبت غيداء تُسل ُ‬

‫‪58‬‬
‫بني هذهِ الشجرة وبينها عالقةٌ روحية تُشبهُ عالقة البنت أبمها‪ ،‬إهنا‬
‫تشتا ُق هلا كمان تشتاق ألمينة‪ ،‬وكلما زارت أمينة كانت حتتضن أغصان‬
‫ِ‬ ‫وتشمها قبل أن جتلس‪َّ ،‬‬
‫إن لليمون رائحةُ اجلنّة‪ ،‬قالت غيداءُ‬ ‫الليمون ّ‬
‫حتمل صينية القهوة‪.‬‬
‫ألمينة وهي قادمةٌ حنوها ُ‬
‫أمينة وهي تضع الصينية على الطاولة‪ -‬جعلنا هللا من أهلها‬
‫تصب القهوة وأخرجت الديوان من حقيبتها‬
‫جلست غيداء وأمينة ُّ‬
‫أمينة‪ -‬ما هذا الكتاب؟‬
‫‪-‬ديوان شعر‬
‫أمينة بدهشة جعلت القهوة ترتج يف يدها ‪-‬اشرت ِ‬
‫يته!‬ ‫ّ‬
‫هتز برأسها مبتسمة‪ -‬نعم‬
‫ّ‬
‫‪ّ -‬ي ِ‬
‫لك من فتاة‬
‫‪-‬ال تُلغّزي ابلكالم‪ ،‬ماذا تقصدين؟‬
‫اببتسامة‪ -‬تُفكرين ابلوصول إليه وإيقاعهُ ِ‬
‫بك‪.‬‬ ‫َ‬
‫ابنفعال‪ -‬غبية! كيف أصل إليه وأان ال أعرف عنه شيئاً!؟‬
‫تضحك أمينة بصوت مرتفع قليالً‪ -‬على هامان ّي فرعون‪.‬‬
‫تغضب منها غيداء وتُدير وجهها عنها وتفتح الديوان‬
‫سمع أمينة‪:‬‬
‫وتقرأ بصوت يُ ُ‬
‫اإلهداء‬
‫أي‬ ‫أعرف امسها وال رمسها‪ ،‬فو َق أي أرض ُك ِ‬
‫وحتت ّ‬
‫نت َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫"إىل اليت ال‬
‫مساء‪ ..‬أحبُّ ِ‬
‫ك!"‪.‬‬
‫‪59‬‬
‫شاعر يُهدي ديوانهُ األول المرأة ال يعرفها!‪ ،‬أيعقل يف هذا الزمان أن‬
‫ٌ‬
‫تسأل غيداء عائد ًة‬
‫أي شاعر هذا‪ُ ،‬‬ ‫شاعر المرأة مل ِ‬
‫يلتق هبا؟ ُّ‬ ‫يكتب ٌ‬‫َ‬
‫بوجهها إىل أمينة‪.‬‬
‫صدقني هذا ِ‬
‫أنت؟‬ ‫َ‬ ‫‪ -‬وهل تُ‬
‫ِ‬
‫لكتابة هكذا إهداء؟‬ ‫‪-‬ما الذي يدفعهُ إذن‬
‫شاعر ص ْنعتهُ الكتابة فم َّم تعجبني؟‬
‫‪ -‬إنهُ شاعر ّي عزيزيت‪ٌ ،‬‬
‫تعود برأسها للديوان غري مقتنعة مبا قالته أمينة‪.‬‬
‫تقلب الصفحة وتقرأ بعينيها‪:‬‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫انتظارك‪"..‬‬ ‫أمل‬
‫شئت فأان ال ُّ‬ ‫ِ‬
‫أخربك‪ ..‬أتخري ما ِ‬ ‫"نسيت أن‬
‫ُ‬
‫تقلب الصفحة لتجد قصيد ًة جاء يف هنايتها‪:‬‬
‫ُ‬

‫حر ِ‬
‫قت أحالمي وبع ُد مقاومٌ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫انتظارك ساهرة‬ ‫ألف عني يف‬
‫يل ُ‬

‫احلنني يؤزُّين‬
‫إن َ‬ ‫ال تعجيب‪َّ ..‬‬
‫ك قادرة‬‫اض حبِّ ِ‬
‫وعلى دمي‪ ،‬أمر ُ ُ‬

‫يب شو ُق لو َّ ِ‬
‫غشاك منهُ أقلُّـهُ‬
‫حّت القاهرْة!‬ ‫بريوت ّ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫ملشيت من‬
‫‪60‬‬
‫ما هذا التناقض‪ -‬قالت ألمينة‪.‬‬
‫أي تناقض؟‬
‫‪ّ -‬‬
‫‪-‬هذا الشاعر يُهدي ديوانهُ المرأة ال يعرفها و يبدأه بقصيدة المرأة‬
‫هجرته!‬
‫جيب أن ال تستغريب مع الشعراء شيئاً ّي غيداء‪.‬‬
‫‪ُ -‬‬
‫ألف فتاة يف حياته!؟‪.‬‬
‫الشاعر َ‬
‫ُ‬ ‫يعشق‬
‫ُ‬ ‫وملَ؟ هل‬
‫‪ -‬ال طبعاً‪ ،‬أظنهُ أراد من هذه البداية أن ُُيرب القارئ أنهُ إىل اليوم مل‬
‫مررت‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫وابلقصيدة أراد أن ُيربهُ أنين‬ ‫ِ‬
‫يلتق الفتاة اليت تستحق حبّهُ‪،‬‬
‫بتجربة لكنين ال أعتربها ُحبّاً‪.‬‬
‫بتعجب‪ -‬أووه أمينة‪ ،‬ال يعتربها حبّاً وهو يقول هلا‬

‫يب شو ُق لو َّ ِ‬
‫غشاك منهُ أقلُّـهُ‬
‫حّت القاهرة‬ ‫بريوت ّ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫ملشيت من‬

‫‪ -‬الشعراء ّي صديقيت ُمبالغون دائماً‪ ،‬ال تُصدقي كل ما يقولون‪ ،‬إهنم‬


‫يقولون ما ال يفعلون وأحياانً ماال يشعرون!‪.‬‬
‫‪ -‬حدثي العاقل مبا يُعقل ّي أمينة‬

‫‪61‬‬
‫‪ -‬مل أخرج عن إطار العقل ّي غيداء‪ ،‬صدقيين هذه هي احلقيقة‪ ،‬أمل‬
‫يقل املتنيب يوماً‪:‬‬

‫جل‬ ‫ِ‬
‫َك َفى جب ْسمي ُحنُوالً أنّين َر ٌ‬
‫لَ ْوال ُُماطَبَيت ّإّي َك ملْ تَـ َرين!‬

‫أمل يقل أبو نواس‪:‬‬

‫ِ‬
‫حّت أنّهُ‬
‫أهل الشرك ّ‬‫وأخفت َ‬
‫َ‬
‫لق!‬‫طف اليت مل ُخت ِ‬
‫ك النُ ُ‬
‫لتخافُ َ‬
‫يقول يف مطلعها‪:‬‬
‫ـثري َع ّـزة اليت ُ‬
‫أمل ندرس يف املدرسة قصيدة ُك ّ‬

‫عزَة فاعقال‬
‫بع ّ‬
‫خليلي هذا ر ُ‬
‫َّ‬
‫حيث حل ِ‬
‫ّت‬ ‫قَلوصيكما‪ ،‬مثّ ابكيا ُ‬

‫مس جلدها‬
‫سا تُراابً كان قد َّ‬
‫وم ّ‬
‫ُ‬
‫حيث ابتت وظل ِ‬
‫ّت‬ ‫وظال ُ‬‫وبيتا ّ‬

‫وال تيأسا أن ميحو هللا عنكما‬


‫حيث صل ِ‬
‫ّت!‬ ‫ذُنوابً إذا صليتُما ُ‬
‫‪62‬‬
‫ك ما قر ِ‬
‫أت‬ ‫املبالغة طبع الشعراء ّي غيداء‪ ،‬فال يغرنّ ِ‬
‫‪ِ -‬‬
‫هذه مشكلة‬
‫‪ -‬أين املشكلة؟‬
‫تستطيع العيش مع‬
‫ُ‬ ‫أظن أن امرأ ًة‬
‫‪-‬حبسب قولك هذا ّي أمينة فأان ال ّ‬
‫ِ‬
‫ذكرت صي َغ ُمبالغة‪ ،‬أان أراها كذابً‬ ‫شاعر‪ ،‬أان ال أرى هذهِ األبيات اليت‬
‫صرحياً‬
‫أعذب الشعر ّي غيداء‪..‬‬
‫ُ‬ ‫اببتسامة‪:‬‬
‫ابمتعاض‪ -‬أك َذبُه!‪.‬‬

‫•••••‬

‫‪63‬‬
‫ّي عزيزي ّي عزيزي يقول كارل ساندبرغ‪ :‬أن تطلب من أحد كتابة‬
‫قصيدة‪ ،‬كأنك تطلب من سيدة حامل أن تلد مولوداً ذا َشعر أمحر!‪.‬‬
‫سب بعد‬ ‫ِ‬
‫هكذا أجاب شاكر أحد الذين اتصلوا به وهو يف طريقه ل َك َ‬
‫نقاش طويل‪ ،‬وكا َن املتصل أحد احلضور الذين حضروا آخر أمسية له‪،‬‬
‫طلب منهُ قصيد ًة يُهديها حلبيبته يف اتريخ تعارفهما على أنه من كتبها‪.‬‬
‫املتصل‪ -‬ولكنك كما قال يل أحد أصدقائك كتبت عنه وعن حبه أكثر‬
‫من مرة‪.‬‬
‫كتبت لبعض أصدقائي نعم‪ ،‬ولكن هنا ُيتلف األمر‪،‬‬
‫‪ّ -‬ي حبييب أان ُ‬
‫عايشت قصته حلظةً بلحظة وأتثرت‬
‫ُ‬ ‫كتبت عن صديق‬
‫فأان إن كتبت‪ُ ،‬‬
‫هبا‪ ،‬مث إنين ال أتنازل عن قصيدة لصديق حّت ينسبها لنفسه‪ ،‬إهنا ابنيت‪،‬‬
‫أتنازل عن بنت من بنايت!؟‪.‬‬
‫كيف ُ‬
‫إنين أستطيع اآلن أن أكتب لك‪ ،‬لكن لن يكون شعراً صدقين إنه جمرد‬
‫نظم‪.‬‬
‫عر عن َد غريك‪.‬‬ ‫ِ‬
‫فالنظم عندك ش ٌ‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬ال مانع عندي‪،‬‬
‫تعجب من دهاء املُتصل‪ -‬ال مانع‪ ،‬مّت تُريدها؟‬
‫بعد سكتة ُّ‬
‫‪ -‬اخلميس إن أمكن فتاريخ تعارفنا يوافق يوم السبت وأريد أن أتدرب‬
‫على إلقائها‬
‫شاكر‪ -‬أبشر‬
‫املتصل بسرور‪ -‬كل الشكر لك ولن أنسى هذا املعروف منك‪.‬‬
‫شاكر‪-‬أهالً أهالً‪ ،‬أهالً وسهالً‬
‫‪64‬‬
‫يُغلق اخلط مث يبحث عن اسم أمري يف املكاملات الصادرة ويتصل‪:‬‬
‫أمري‪ -‬أهالً‬
‫‪-‬أهالً بك ّي صديقي‬
‫‪ -‬أخربين هل وصلت‬
‫‪-‬احلمد هلل وصلت‬
‫‪ -‬كيف األجواء؟‬
‫أستطيع أن أصف لك هذا اجلمال‪ ،‬هذا الشعور‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬إهنا كسب‪ ..‬ال‬
‫الذي يعرتيين ّي أمري‪.‬‬
‫تب أموري وأحلق بك يف أقرب وقت إن شاء هللا‬
‫‪ -‬سأر ُ‬
‫وصفت لك شعوري فلن أكون ُمنصفاً‪ ،‬إنهُ يُشبهُ إىل‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬تعال فمهما‬
‫تنام وحدك وتستيقظ يف حضن امرأة!‪ ،‬ويضحك‪..‬‬ ‫ح ّـد ما أن َ‬
‫ِ‬
‫للنساء ّي شاكر‬ ‫ك‬
‫أمري يضحك‪ّ -‬ي َحلُبّ َ‬
‫هن‬
‫‪ -‬ومن ال ُحيبُّ ّ‬
‫‪ -‬أان‬
‫ب‬
‫أنت ُحت ُّ‬
‫هن‪َ ،‬‬
‫أنت ال ُحتبُّ ّ‬
‫يضحك شاكر بصوت مرتفع‪ -‬صحيح َ‬
‫الكذب‪.‬‬
‫بقي على أذان العص ِر نصف ساعة تقريباً‪ -،‬ما أمجل أن تنام نصف‬
‫ساعة يف اجلنة‪ ،‬هكذا ح ّدث نفسهُ وهو يستلقي على كنبة "البلكون"‬
‫اخلارجي للشقة اليت استأجرها ومن أمامه واد فيه من اخلضرةِ ما يف‬
‫الزرقة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫السماء من ُ‬
‫‪65‬‬
‫سينام اآلن لكنه لن يستيقظ بعد نصف ساعة كما كان ينوي‪ ،‬هذا‬
‫النقي الذي يستنشقهُ اآلن‪ ،‬البعيد عن تلوث املدن ال ُكربى‬
‫اهلواء ُّ‬
‫مساء‪.‬‬
‫حّت العاشرة ً‬
‫ينام ّ‬
‫سيجعله ُ‬
‫ِ‬
‫صديقه إنه ال ُجييب‬ ‫وصل أمري يف التاسعة والنصف‪ ،‬أيكلهُ قلقه على‬
‫على اهلاتف منذ ثالث ساعات وأكثر‪ ،‬توجه ُمباشرة إىل الشقة اليت‬
‫ظل يطر ُق الباب وال ُجميب‪.‬‬
‫يستأجرها شاكر دائما‪ّ ،‬‬

‫إدوارد صاحب الشقة شاه َد أمري فعرفه‬


‫‪-‬أمري‬
‫‪-‬أهالً إدوارد‬
‫‪ -‬أهالً بك‬
‫‪ -‬إنين أطرق الباب منذ أكثر من ربع ساعة وال يفتح‬
‫‪ -‬لعلهُ غار ٌق يف النوم‪ ،‬ال عليك سأحضر النسخة الثانية من مفتاح‬
‫الشقة وأفتح لك‬
‫‪ -‬شكراً لك‪ ،‬ابنتظارك‪.‬‬

‫يدخل أمري وبعصبية‪ -‬قم ال ابرك هللا يف نوم كهذا‬


‫يفتح عينيه ويغمضها‪ -‬أراك هنا ّي أمري‪ ،‬هل أذن العصر؟‪ ،‬ويتقلّب‬
‫‪ -‬العصر!‪ ،‬القليل من الوقت ّي حبييب ويؤذن الفجر‪ ،‬أال ترى الظالم‬
‫من حولك؟‬
‫‪66‬‬
‫ُف! كم الساعة!؟‬
‫ينتفض من مكانه‪ -‬أ ّ‬
‫‪-‬العاشرة‬
‫‪-‬متزح!؟‬
‫‪-‬ال أمزح‬
‫َّنت هكذا!؟‬
‫‪-‬الحول وال قوة إال ابهلل كيف ُ‬
‫نومك من النوم اخلفيف‪،‬‬
‫يظن أن َ‬
‫‪ -‬تبارك هللا‪ ،‬الذي يسمع قولك هذا ّ‬
‫هذه عادتك ُمذ عرفتك ال جديد‪.‬‬
‫يرتكه ويذهب ليقضي حاجته ويتوضأ‬

‫•••••‬

‫‪67‬‬
‫كأنين وردةٌ انمت ملكةً يف بستاهنا الوطن واستيقظت َسبيةً خلف زجاج‬
‫تنتظر هنايتها كهدية ملريض يف مستشفى‪ ،‬أو إذا رزقت حسن‬
‫ُمل ُ‬
‫اخلامتة فهدية من عاشق ملعشوقته!‪.‬‬

‫هل أرسلها؟ قالت غيداء ألمينة‬


‫‪ -‬ال ترسيلها هكذا‬
‫‪-‬ماذا إذن؟‬
‫‪ -‬أرسليها وكأنّ ِ‬
‫ك تستشريينه هبا‪ ،‬قويل له مثالً‪ :‬صباح اخلري أستاذ‬
‫شاكر أحببت أن آخذ رأيك يف هذه اخلاطرة ويُشرفين نقدك إخل‪..‬‬
‫‪ -‬وبعد ذلك ّي أمينة؟‬
‫يستفزه الفضول ويسألك من ِ‬
‫أنت وكيف عثرت على رقم‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬البد وأن‬
‫جواله‪.‬‬
‫‪-‬وماذا بعد؟‬
‫‪ -‬غيداء!‪ ،‬ماذا جرى ِ‬
‫لك؟؟ هذه مهمتك ال مهميت‪ ،‬حنن نعمل على‬
‫مهمتك‪ّ ،‬إّي ِك أن‬ ‫ِ‬
‫جره لفتح حديث‪ ،‬إذا فُتح احلديث بينكما فهذه ّ‬
‫حّت‬
‫تقفي‪ ،‬وحاويل من خالل احلديث األول العمل على حديث آخر ّ‬
‫تصلي ملا تريدين‪.‬‬
‫‪ -‬أشعر ابالرتباك ّي أمينة‪.‬‬
‫‪ -‬أف!‪ ،‬أسبوعٌ ِ‬
‫وأنت تركضني وراء ملى لتطلب من توفيق رقم شاكر‬
‫لك بعد أن رأيتهما معاً صدفةً يف شارع الدبالن‪ ،‬وجاءت ملى على‬ ‫ِ‬
‫‪68‬‬
‫قلبها من أجلك‪ ،‬وهي اليت منذ أشهر منقطعة عن توفيق‪ ،‬ومع هذا‬
‫طلبت منه رقم شاكر بذريعة أن اجلامعة طلبت من كل طالبة َّنوذج‬
‫شعري حديث لشاعر معاصر من نفس مدينة الطالبة‪.‬‬
‫‪-‬أعرف ّي أمينة وهللا أعرف ولكنين مرتبكة‪ِ ،‬‬
‫أنت تعرفينين جيداً‪،‬‬
‫حتديت البنات أبنين سأوقعه وبدأن يضحكن‪ ،‬فزاد حيب القتحام عامله‬
‫وأستطيع ذلك بسهولة‪ ،‬لكن ملاذا أان مرتبكة ال أعلم‪ ،‬صدقيين ال‬
‫أعلم‪.‬‬
‫‪ -‬امسحي الرسالة وارجعي عن غبائك‪ ،‬ما الفائدة إذا كان قلبك كما‬
‫تقولني مل يتحرك له‪.‬‬
‫وقعت‬
‫ُ‬ ‫دث نفسها‪ -‬يبدو أنين وقعت ّي أمينة‪،‬‬ ‫وحت ُ‬
‫تشرد غيداء بعيداً ُ‬
‫مرات يف ثالث أّيم!‪،‬‬
‫هبذا الشاعر صاحب الديوان الذي قرأته سبع ّ‬
‫عادي وأنين قرأته مرة واحدة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وقلت لك أنه ّ‬
‫ِ‬
‫شردت؟؟‬ ‫‪ -‬غيداء غيداء أين‬
‫ال شيء ال شيء ّي أمينة كل ما يف األمر أنين أحب اكتشاف الرجل‬
‫الغامض‪ ،‬هو أو غريه‪.‬‬
‫‪ -‬انزعي هذا التفكري من رأسك ودعي الرجل‪.‬‬
‫‪-‬الال سأرسل الرسالة‬
‫‪ -‬أال ختافني أن يكون قرأ هذه اخلاطرة من قبل؟ وأن يكتشف أهنا‬
‫ليست ِ‬
‫لك؟‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫فكرت يف هذا وال أظنه قرأها‪ ،‬إهنا لكاتبة مغمورة حبسب ما قرأت‬
‫‪ُ -‬‬
‫يف النت‪.‬‬
‫‪ -‬ال أشك ِ‬
‫أنك جمنونة‬
‫أضافت قبل اخلاطرة ما نصحتها ِبه أمينة‪ :‬صباح اخلري أستاذ شاكر‬
‫أحببت أن آخذ رأيك يف هذه اخلاطرة ويُشرفين نقدك‪.‬‬
‫وأرسلت الرسالة‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫"حملةٌ اثنية"‬

‫ميكن للمرأة أن تكون ذكية ج ًدا‬


‫بكل ما يدور حول العامل‬
‫ّإال مع الرجل الذي حتب!‬

‫‪ -‬أغااث كريسيت‬

‫‪71‬‬
72
‫كانت ملى عائدة إىل بيتها برفقة غيداء ملّا خرج أحدهم فجأةً أمامها‬
‫يقطع الطريق لتصدمه بسيارهتا‪ ،‬كل الذعر الذي أكل قلبها حلظة‬
‫ذرة أمام ما جرى هلا ملّا نزلت مسرعة لرتى‬
‫صدمها الرجل ال يُساوي ّ‬
‫يسبح يف دمائه!‪.‬‬
‫حبيبها توفيق ُ‬
‫حّت‬
‫غيداء رقيقة القلب‪ ،‬اجلديدة على القيادة‪ ،‬من أين هلا قوة القلب ّ‬
‫حتمل الرجل وتضعه يف السيارة؟‪ ،‬من َمثّ حتمل ملى املُغمى عليها كذلك‪،‬‬
‫األمر لكثري‬
‫وتضعها إىل جانبها وتقود السيارة إىل املستشفى‪ ،‬ال حيتاج ُ‬
‫صانع املُعجزات‪.‬‬
‫تفكري‪ ،‬إنّـه اخلوف‪ ،‬اخلوف ُ‬
‫ملى واليت وصلت السنة الثالثة يف علم االجتماع بوالية تكساس أبمريكا‬
‫قالت لتوفيق يف آخر لقاء قبل الغروب ودموعها تُغطّي مالمح وجهها‪:‬‬
‫بت من أجلك‬ ‫أنك أنت من اختار ِ‬
‫هذه النهاية وأنين حار ُ‬ ‫تذكر دائماً َ‬
‫ضم املعارك ما‬ ‫ِ‬
‫ستنسحب وأان يف خ ّ‬
‫ُ‬ ‫أعرف أنك‬
‫كل األرض ولو كنت ُ‬
‫ّ‬
‫بت من أجلك بعوضة!‪.‬‬
‫حار ُ‬
‫مر على حادثة صدمها ّإّيه سنة‬
‫كتب هلا توفيق وهي يف أمريكا وكا َن ّ‬
‫وهي اليت أحبّته قبلها بستة أشهر وتركته بعدها بسبعة أشهر رسالة‬
‫ليس إال بقاّي‬ ‫ِ‬ ‫يقول فيها‪ :‬أكتُب ِ‬
‫حيث ال أنت وال أان‪َ ،‬‬
‫لك من هنا‪ُ ،‬‬
‫وأمر من هنا‪ ،‬األوىل أن تسأليين‬
‫أعود ُّ‬
‫من لقاءاتنا‪ ،‬ال تسأليين ملاذا ُ‬
‫نفض ُدخا َن‬
‫وأشرب القهوة وأ ُ‬
‫ُ‬ ‫أجلس عليها‬
‫ُ‬ ‫ملاذا تُالحقين مقاعدان؟‪،‬‬
‫لست معي؟ ولن تصرخي يف وجهي ال‬ ‫أألنك ِ‬
‫احة يدي‪ِ ،‬‬‫سجائري يف ر ِ‬
‫أخاف على يديك؟؟‬
‫ُ‬ ‫تفعل هذا‬
‫‪73‬‬
‫هطل املطر ّي حبيبيت‪..‬‬
‫َ‬
‫ين حتت‬ ‫من سأخبئ يف معطفي ِ‬
‫ات أمامي اآلن جير َ‬
‫هذه املرة؟ نساءٌ كثري ٌ‬
‫ِ‬
‫املقاعد وحدهم مثلي ال جيدون ما‬ ‫ٌ‬
‫ورجال كثريو َن جيلسو َن على‬ ‫املطر‪،‬‬
‫ُُيبؤونهُ يف معاطفهم‪ ،‬أان الذي ِ‬
‫كنت إذا نزل املطر تنتفضني كالعصفوِر‬
‫أسك حتت معطفي مطوقةً بذر ِ‬
‫اعيك‬ ‫ئني ر ِ‬‫وختبّ َ‬
‫وهتربني إىل صدري ُ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫أنفاسك يف داخلي‪،‬‬ ‫صوت‬
‫َ‬ ‫لت أمسع‬‫نت و ما ز ُ‬‫ُُميطي‪ ،‬أان الذي ك ُ‬
‫يقول للمطر ال‬
‫هطل املطر ّي حبيبيت‪ ،‬إن كل شيء يف أعماقي اآلن ُ‬
‫تتوقف‪.‬‬

‫وضع قلمه بعد انتهائه من الكتابة ذلك اليوم مث شبك أصابعهُ خلف‬
‫مير وجهها‬
‫أين هي اآلن؟ ُّ‬
‫وأغمض عينيه عائداً برأسه إىل اجلدار‪َ ،‬‬
‫َ‬ ‫رأسه‬
‫فتسبق دمعتهُ ابتسامته‪ ،‬ينزع‬
‫ُ‬ ‫ضاحكاً أمامهُ يف ذكرى أول لقاء بينهما‬
‫يفتح عينيه‪ ،‬وهللا ما‬
‫يده اليمىن من خلف رأسه وميسح الدمع دون أن َ‬
‫يصرخ‬
‫حب‪ ،‬من أين جاءت ال أعلم ال أعلم ال أعلم! ُ‬ ‫أحبث عن ّ‬
‫كنت ُ‬
‫ُ‬
‫بصوت عال تطغى عليه حبةُ البكاء وهو ينزع أصابعه من خلف رأسه‬
‫ويهوي مبرفقيه على ركبتيه‪ ،‬تسمعهُ أمهُ فتهرع إليه وتفتح الباب خائفةً‬
‫دون استئذان‪ :‬ماما توفيق ما الذي جرى لك؟ أخربين ّي حبييب‬
‫والدمع يقف بعينيه‪ :‬ال شيء حبيبيت ال ختايف‬
‫ُ‬ ‫يضحك بصوت مرتفع‬
‫تصرخ وتبكي ماذا بك ّي بُين!؟‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬كيف ال أخاف!؟‪ ،‬أنت‬

‫‪74‬‬
‫‪ -‬ال شيء ّي حبيبيت كنت أتدرب على مشهد سأمثلهُ قريباً على مسرح‬
‫اجلامعة‪.‬‬
‫ُجتيبه حبدة يف الصوت‪ -‬توفيق أان أعرفك عندما ُمتثل‪ ،‬قل احلقيقة ماذا‬
‫بك‬
‫‪ -‬اووه ماما ماما قلت ِ‬
‫لك جمرد مشهد متثيلي أتدرب عليه‪.‬‬
‫تصمت األم هنيهةً‪ ،‬مل تصدق ابنها الذي سيتخرج من معهد التمثيل‬
‫ُ‬
‫العايل بدمشق بعد أربعة أشهر‪.‬‬
‫تسطيع التمثيل على كل‬
‫ُ‬ ‫قالت لهُ وهي تغلق الباب خارجةً من غرفته‪:‬‬
‫علي فال‪.‬‬
‫خلق هللا ّأما َّ‬

‫تقف ابنتظا ِر‬


‫كان تعارفهما ُمضحكاً‪ ،‬كان يف طريقه إىل السوق ملّـا رآها ُ‬
‫ينتظر تكسي هو اآلخر‪ ،‬فلما‬
‫تكسي عائد ًة لبيتها‪ ،‬اقرتب منها كأنه ُ‬
‫دان منها وصار مبحاذاهتا قال دون أن ينظر إليها‪ :‬ممكن سؤال ّي آنسة؟‬
‫التفتت إليه وهو ينظر للطريق‪ -‬تفضل‬
‫غري فيها نظرته عن الطريق‪ -‬آسف نسيت‪.‬‬
‫اببتسامة مل يُ ّ‬
‫دمك يف هذ احلر؟‬
‫‪ -‬أختفف َ‬
‫أحببت مساع صوتك للتأكد من معلومة قدمية‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬ال‪ ،‬فقط‬
‫تلتفت عنه وبغيظ‪ -‬آه‪ ،‬وأتكدت؟‬
‫ُ‬
‫بدون أن مييل نظره إليها‪ -‬يبدو أهنا خرافة‬
‫‪ -‬وما تقول تلك املعلومة؟‬
‫‪75‬‬
‫مستمراً بنظره للطريق‪ :‬تقول أنهُ من العيب أن نقف هنا كالغرابء و‬
‫املقهى يبع ُد عنّا عشرات األمتار‪.‬‬
‫اببتسامة دهشة‪ -‬كالغرابء!‪ ،‬وتضحك‪.‬‬
‫مستمراً بنظره للطريق يبتسم‪ -‬نعم فنحن اآلن مل نعُد غرابء وقد صار‬
‫وح ّـر‪ ..‬ومعلومة!‪.‬‬
‫بيننا خفة دم َ‬
‫‪ -‬املعلومة أهم شيء‪.‬‬
‫ِ‬
‫أمامك‪ ..‬حسنة؟‬ ‫يلتفت إليها‪ -‬هل هلذا البائس الفقري‬
‫دير وجهها للطريق وهي تبتسم‪ -‬ماذا تُريد؟‬
‫تُ ُ‬
‫‪ -‬فنجان قهوة بعيداً عن هذه الشمس برفقة القمر‪.‬‬
‫أيكلها اخلجل وهي اليت مل تعتد هذهِ املواقف وهذه اجلرأة من قبل‪.‬‬
‫يُتابع‪ -‬يقولون السكوت عالمة الرضا‬
‫تلتفت إليه‪ -‬أين يكون مقهاك هذا؟‪.‬‬

‫الساعات الثالث هبذهِ السرعة ال أحد يعلم‪ ،‬ملاذا‬


‫ُ‬ ‫مرت عليهما‬ ‫كيف ّ‬
‫اختار هذهِ الطريقة يف التعارف التقليدية و الالتقليدية يف آن معاً‪ ،‬هل‬
‫عليك أبواب‬
‫يفتح َ‬
‫كان يعرفها من قبل؟ هل سبق ورآها؟ ّي للحب‪ُ ،‬‬
‫األسئلة بعد أن يبتلع مفاتيح األجوبة‪.‬‬
‫تذكرت ومها ُيرجان من املقهى فأخذت تضحك‪.‬‬
‫ْ‬
‫يسأهلا‪ :‬ملَ تضحكني؟‬
‫لك من رجل‬
‫أبداً‪ ،‬ثالث ساعات نتكلم ومل تقل يل ماهي املعلومة‪ّ ،‬ي َ‬
‫‪76‬‬
‫يضحك‪ -‬وهللا نسيت‬
‫‪-‬أخربين هيّا‬
‫ِ‬
‫كجمالك عاد ًة تكون‬ ‫‪-‬تقول املعلومة ّي ملى‪ :‬أن ذوات اجلمال النادر‬
‫أصواهتن بشعة وقريبة من أصوات الرجال‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬تبتسم‬
‫أتكدت أهنا خرافة‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬اليوم‬
‫تصمت خبجل‪.‬‬
‫ُ‬

‫أخت لغيداء من الرضاع‪ ،‬ملا أهنت الثانوية العامة قررت أن‬


‫تكون ملى ٌ‬
‫وحيبّها حبّاً مجّاً‬
‫تسافر إىل أمريكا لتدرس اجلامعة‪ ،‬فوالدها ميسور احلال ُ‬
‫وهي ابنته الوحيدة اليت مل يستطع اإلجناب بعدها أل ّن األطبّاء استأصلوا‬
‫رحم أمها عقب والدهتا‪ ،‬وكثرياً ما طلبت ُّأمها من أبيها أن يتزوج وهو‬
‫يف ثالثينيات عمره ولكنه كلّما طلبت منه الزواج بغريها كان يقول هلا‪:‬‬
‫كل النساء؟‪ ،‬كانت تبكي عندما يقول هلا‬
‫كيف يتزوج اثنيةً من يراك ّ‬
‫هذا فيضمها ويقول هلا ق ّدر هللا وما شاء فعل وأان راض بقسميت‪ ،‬وإ ّن‬
‫ملى عندي أببناء األرض‪ ،‬لذا كانت طلبات ملى أوامر وكانت ضحكتها‬
‫كن‬
‫تساوي الذهب عند أمها وأبيها‪ ،‬الكثريات من صديقات ملى ّ‬
‫كيف حاربت هذهِ املدللة‬
‫حيسدهنا على ماهي فيه من الدالل واملال‪َ ،‬‬
‫ُ‬
‫األرض من أجل توفيق وهي اليت ال تُرد هلا كلمة عند والديها؟‬

‫‪77‬‬
‫يقول العقل يف ِ‬
‫هذه احلاالت أن هكذا فتاة مبجرد أن تقول ألبيها أريد‬
‫لكن املفاجئ يف حالة ملى أن والدها رفض توفيق‬
‫فالانً فلن يردها‪ّ ،‬‬
‫بدون نقاش وبدون أن يسمع منها أو حّت يسمح هلا أن تكمل احلديث‬
‫قوت يومه؟ أألنه يدرس التمثيل وخاف على‬
‫عنه‪ ،‬أألن توفيق ال ميلك َ‬
‫ابنته أن تُكون ُخدعت بتمثيلة حب يقوم توفيق بدور البطولة فيها؟‬
‫ترد على ابهلا يف بداية األمر‪،‬‬ ‫كانت ِ‬
‫هذه األسئلة هي أكثر األسئلة اليت ُ‬
‫هنا بدأت هي احلرب دفاعاً عن ُحبّها لتكتشف فيما بعد أ ّن والدها مل‬
‫ِ‬
‫وحيدته وبُعدها عنهُ‬ ‫يرفض توفيق لعلة فيه إ َّّنـا هو يرفض فكرة زواج‬
‫أصرا على أن‬‫مجلةً وتفصيال!‪ ،‬وعليه فإهنا عرفت ملاذا هو ووالدهتا ّ‬
‫يُقيما معها يف أمريكا حّت اآلن‪.‬‬
‫مرة مع زميلته يف معهد التمثيل‬
‫اعتربت ملى رؤيتها توفيق أكثر من ّ‬
‫"رؤى" ومها يضحكان اترة ويفطران يف مطعم املعهد اترة ويوصلها إىل‬
‫منزهلا اترة أخرى وغريها من املشاهد‪ ،‬اعتربته ملى انسحاابً من حياهتا‬
‫وأنه ال ُحيبّها بصدق مع كامل إمياهنا أنه ال شيء بينه وبني رؤى‪ ،‬لكنه‬
‫يعرف كم يزعجها هذا ويستفز غريهتا وهي اليت ال متلك إال أّيماً بسيطة‬
‫يف محص وتنتهي إجازهتا اجلامعية وتعود ألمريكا‪ ،‬كان عليه أن جيعل‬
‫حّت ملّا هددته‬
‫كل دقيقة يف هذه األّيم هلا هي فقط‪ ،‬إنه مل يُر ِاع شعورها ّ‬
‫أبهنا ستنهي كل شيء كان رده ُمستفزاً ابلنسبة هلا‪.‬‬
‫قال‪ّ :‬ي حبيبيت‪ّ ،‬ي نور عيوين وأحلى شيء يف حيايت أان أعرف أنك‬
‫مؤمنة أبال شيء بيين وبني رؤى ولكنها الغرية‪ ،‬إنين أسعى بعدم تنفيذ‬
‫‪78‬‬
‫ما تريدين إىل ختليصك من غريتك وإىل أن تصلي ملرحلة يُصبح فيها‬
‫هذا األمر طبيعي جداً ِ‬
‫ألنك حينها ستكونني موقنةً كل اليقني أن كل‬
‫نساء األرض يف عيين ِ‬
‫أنت‪.‬‬ ‫ّ‬
‫كانت هذه شرارةُ القطيعة بينهما‪.‬‬
‫قالت هلا غيداء‪ :‬لو كنت مكانك ما بقيت معه حلظة هذا التافه!‪ ،‬الذي‬
‫ال يقيم ِ‬
‫لك وزانً ال تُقيمي له وزانً‪.‬‬ ‫ُ‬
‫هبّت ملى يف وجه غيداء بغضب ال شعوري‪ :‬ال تصفيه هبذه الصفات‪،‬‬
‫يظل حبييب‪.‬‬
‫مهما جرى ُّ‬
‫غيداء بتهكم‪" -‬مرحباً حبييب"‪.‬‬
‫ألومك ِ‬
‫أنت‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪ -‬أان الغبية اليت حكت ِ‬
‫لك‪ ،‬ألوم نفسي ال‬
‫ِ‬
‫احتجت هتديده ابلبُعد أوالً‪ ،‬وما‬ ‫عليك لو كان ِ‬
‫حيبك أصالً ملا‬ ‫‪ -‬هوين ِ‬
‫ّ‬
‫كان ليفعل ما فعل اثنياً‪.‬‬

‫تسكت ملى وتنطق الدموع‪ ،‬أتخذها غيداءُ على صدرها حّت هتدأ‬
‫ُ‬

‫•••••‬

‫‪79‬‬
‫حاول توفيق أن يستغل هذه الفرصة واعتربها األخرية‪ ،‬قال هلا‪ :‬ملى‬
‫َ‬
‫أعطيك روحي‪ ،‬أ ِ‬
‫ُعطيك كل‬ ‫ِ‬ ‫حبيبيت أعطيك عشر أرقام لعشر شعراء‬
‫ِ‬
‫أرجوك ال تكوين قاسية هلذا احلد‪.‬‬ ‫ما تريدين لكن‬
‫غالب دمعتها‪ -‬لو مسحت توفيق إذا كنت متلك رقم هذا الشاعر‬
‫تُ ُ‬
‫أعطين رقمه وإال فسأغلق السماعة‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا شاكر دوانً عن غريه‪ ،‬أعرف الكثري من الشعراء‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬إنين أريد شاكر بعينه‪ ،‬قرأت له بعض القصائد يف النت وأحببت‬
‫شعره‬
‫‪ -‬أما أان فما أحببت إال ِ‬
‫أنت‪.‬‬
‫تسقط دمعتها األوىل بعد سكتة خفيفة‪ -‬توفيق‪ ،‬واآله ختنق صوهتا‬
‫‪ّ-‬ي حياة توفيق‬
‫تبكي حبرقة وتُغلق اخلط‪.‬‬
‫يُعاود االتصال هبا مرتني وثالث وال ُجتيب‪.‬‬
‫يف اليوم التايل اتصلت به‪ -‬مرحبا توفيق‬
‫‪ -‬ملاذا أتصل ِ‬
‫بك البارحة وال ُجتيبني؟‪.‬‬
‫‪ -‬أرسل يل رقم شاكر وأعدك أبنين سأتصل بك قريباً ونتحدث مبا‬
‫تريد‪.‬‬
‫ِ‬
‫صدره فأطفأت انراً ال تطفؤها غيوم الكون مجيعاً‪،‬‬ ‫كأ َّّنا هطلت غيمةٌ يف‬
‫طار قلبه فرحاً‪ -‬دقيقة واحدة ويكون الرقم عندك‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫ثالثة أشهر مل تسمع صوته‪- ،‬ماذا ِ‬
‫فعلت يب ّي غيداء‪ -‬تقول لنفسها‬
‫بك قريباً‪ ،‬كانت تتوقع‬
‫بعدما أغلقت اخلط مع توفيق‪ ،‬قالت له سأتصل َ‬
‫أن قريباً هذه يف أحسن األحوال بعد يومني أو ثالث‪ ،‬مل تكن تعلم أن‬
‫مساء من نفس اليوم‪.‬‬
‫صربها سينفد قبل العاشرة ً‬
‫تتصل به‪..‬‬
‫حلظك التعيس ّي توفيق‪ -‬يقول لنفسه بعد أن شاهد مكاملة مل يرد‬
‫َ‬ ‫ّي‬
‫عليها قبل نصف ساعة عندما دخل يستحم‪ ،‬تكلفة االتصال أبمريكا‬
‫عادل عشر‬
‫ليست ابلسهلة خاصة مع شاب ال ميلك يف جيبه إال ما يُ ُ‬
‫جواله ما يعادل أربع دوالرات‪ ،‬يتصل دون أن يُفكر‬‫دوالرات‪ ،‬ويف ّ‬
‫هبذا فرتفض اتصاله وتُعيد هي االتصال‪ ،‬وبصوت خافت يُغطيه احلنني‪:‬‬
‫أهالً توفيق‬
‫ِ‬
‫لصوتك‪..‬‬ ‫ش‬ ‫أرجوك أعيديها َ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪..‬عط ٌ‬ ‫أرجوك‪..‬‬ ‫‪ -‬أعيديها‬
‫‪ -‬اتصلت بك كي أيف بوعدي‬
‫وفاء بعهدي‪.‬‬
‫‪ -‬افهم ّي توفيق أان مل أشتق لك أبداً واتصلت فقط ً‬
‫تضحك‪ -‬ما زلت ملّاحاً‬
‫األم تقسو على طفلها كما ِ‬
‫فعلت‪.‬‬ ‫‪ -‬ما كنت أص ّدق أ ّن ّ‬
‫‪ -‬العقوق تلو العقوق تلو العقوق واألم تسامح وتغفر ماذا تتوقع يف‬
‫النهاية؟ هل تعيش كل العمر وهي تسامح طفلها العاق؟‬

‫‪81‬‬
‫‪ -‬يُفرتض أن تكون األم هكذا وإال ملا كانت اجلنة حتت أقدامها‪ ،‬مث‬
‫إ ّن كالمك يُشعرين أن ّأم هذا الطفل ُم ّنزهةُ عن اخلطأ‪ ،‬وأن هذا الطفل‬
‫مل يغفر هلا أخطاء كثرية!‪.‬‬
‫ألف دهر ما وفّاها ح ّقها‪.‬‬
‫وبر هبا َ‬ ‫‪ -‬لو غفر الطفل ِ‬
‫ألف سنة ّ‬ ‫ألمه َ‬ ‫ُ‬
‫بيح هلا قتله‬
‫‪ -‬صحيح لكن هذا ال يُ ُ‬
‫وتزعم أنين قتلتك!؟‬
‫ُ‬ ‫بدهشة‪ -‬تقتلين‬
‫‪ -‬رمتين بدائها وانسلّت‪.‬‬
‫‪" -‬ضربين وبكى سبقين واشتكى!"‬
‫‪ -‬يضحك‬
‫‪ -‬تصمت‬
‫كل شيء‬ ‫ِ‬
‫‪ -‬أحبك ولننس ّ‬
‫نعود ّي توفيق وحنن نعرف أنهُ ال أمل من ارتباطنا؟‬
‫‪ -‬ملاذا ُ‬
‫لنمت يف ساحة الوصل ال يف فراش القطيعة‪.‬‬ ‫‪ُ -‬‬

‫•••••‬

‫‪82‬‬
‫ِ‬
‫ينظر‬
‫ألي ح ّـد من حدود الصفاقة وصلنا؟‪ ،‬يُقول شاكر يف نفسه وهو ُ‬ ‫ِّ‬
‫إحداهن يوماً وهي أتيت إليه على شكل‬ ‫خلاطرته اليت كتبها على ِ‬
‫لسان‬
‫ّ‬
‫بكل وقاحة عن رأيهُ هبا‬
‫رسالة من رقم جمهول لفتاة جمهولة‪ ،‬تسألهُ ّ‬
‫وتدعي أهنا هي من كتبتها!‪.‬‬
‫ينتظر أمري ملا وصلته الرسالة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫كان يف شارع اخلراب جالساً على كرسيه ُ‬
‫يتأم ُل الرقم وحي ّدث نفسه‪ :‬هل أتصل‬
‫وضع كأس البابونج جانباً وأخذ ّ‬
‫أهزؤها هذي الكاذبة؟ ما الذي دفعها لفعل هذا؟ أتصل‪ ،‬ال‬ ‫هبا و ّ‬
‫قرر أن ال يتصل ألنه توقع أن تكون املرسلة‬
‫أتصل‪ ،‬أتصل؟‪ ،‬ال أتصل‪ّ ،‬‬
‫حّت يتصل هبا‪ ،‬قرر أال يتصل استفزازاً هلا وقال يف‬
‫فعلت هذا تقصداً ّ‬
‫نفسه‪ ،‬لننتظر أتكتفي هبذا أم ترسل شيئاً آخراً‪.‬‬

‫أرسلت الرسالة وأان أنتظر ّي أمينة‪ -‬قالت‬


‫ُ‬ ‫مخس ساعات مضت ُمذ‬
‫ُ‬
‫غيداء‬
‫‪ -‬لعلّه انئم‬
‫‪-‬ال ليس انئماً‪ ،‬آخر ظهور له يف "واتساب" قبل نصف ساعة‬
‫‪ -‬وتراقبني اتصاله عرب الواتساب‪.‬‬
‫‪ -‬طبعاً ّي غبية‬
‫‪ -‬وماذا يضع يف احلالة؟‬
‫صممت لبيتني حتتُهما امسه‪.‬‬
‫‪-‬يضع صورًة ُ‬
‫‪ -‬أمسعينا‬
‫‪83‬‬
‫إهلي إ ّن يل قلباً هزيالً‬
‫يذوب‬
‫ُ‬ ‫إذا مرت ِبه ذكرى‬

‫فكيف ِ‬
‫عليه أُبقي ّي إهلي‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫وعن ذك ِر األحبة ال ُ‬
‫يتوب‬

‫‪ -‬هللا هللا‪ ،‬مذهل‬


‫‪ -‬وكتب يف احلالة‪ :‬اطمئين‪ ..‬أان الذي لن تكتيب عنهُ يوماً ليتهُ يقرأ‬
‫ين يف الوقت بدل الضائع ّي غيداء‪.‬‬ ‫ِ‬
‫‪ -‬يبدو أنك تُغامر َ‬
‫جمر ُد‬
‫‪-‬جمنونة!‪ ،‬تُكلمينين وكأنين أحبه وال أستطيع العيش بدونه‪ ،‬هو ّ‬
‫شاعر أغاظتين سارة بعدما حتدثت عنه ساعةً كاملة‪ ،‬وأنهُ ثقيل وال‬
‫استفزين‬
‫يلتفت كثرياً للعالقات النسائية‪ ،‬حسب قول أخيها هلا‪ ،‬هذا ما ّ‬
‫ّي أمينة وشدين القتحام عامله‪ ،‬ك ّفي عن ُماطبيت وكأنين غرقى به‪.‬‬
‫‪ -‬فهمت‪ ،‬فهمت‪ ،‬لكن من ِ‬
‫هذه احلالة اليت كتبها أظن أنه على عالقة‬
‫بفتاة‪ ،‬وأظنّها كاتبة أو ما شابه ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬وليكن‪ ،‬مايل وماله أان؟‬
‫أمينة تبتسم مبكر ‪ -‬ال شيء‪ ،‬عموماً هو جمرد ظن‪.‬‬
‫‪ -‬لكن ملاذا ال جييب على رساليت ملاذا‪.‬‬
‫‪ -‬إذا ِ‬
‫ظللت تفكرين فلن جييب أبداً‪ ،‬ك ّفي عن التفكري وسيجيبك‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫•••••‬

‫عر حييط بنا يف كل مكان‪ ،‬لكن لألسف وضعه على الورق ليس‬ ‫ِّ‬
‫الش ُ‬
‫يقول الرسام اهلولندي فينسنت فان غوخ‪،‬‬
‫بسهولة النظر إليه‪ .‬هكذا ُ‬
‫وقدمياً قالت العرب "صناعة الشعر" ّي أمري‪ ،‬إذن فالشعر ليس ابألمر‬
‫أعرف الكثري من األشخاص الذين‬
‫السهل إنه صنعة ال يتقنها إال قلّة‪ُ ،‬‬
‫أحبروا يف مراكب الشعر مث عادوا خائبني‪ ،‬يعت ّذر أكثرهم أبهنّم ال شيء‬
‫أمام عمالقة الشعر‪ ،‬لن أذهب بك بعيداً‪ ،‬أان مثالً كم مرة قلت لك‬
‫إنين كلما قرأت للمتنيب أخاف وأشعر أن الطريق مسدودة أمامي؟‪،‬‬
‫وكم مرة قلت لك ما ترك لنا نزار شيئاً نكتبه‪ ،‬وكم قلت لك أن‬
‫اجلواهري أتعب قرانً كامالً سيأيت من بعده‪ ،‬كثرياً أليس كذلك؟‪ ،‬إذن‬
‫فإما أن يتغلبوا عليه أو‬
‫فهذا اهلاجس أييت للشعراء الصغار يف بداّيهتم ّ‬
‫يقتلهم‪ ،‬وتصديقاً لكالمي انظر ديوان حذيفة العرجي األول الذي‬
‫ِ‬
‫قاتلك احلب جتد أنه يهدي ديوانه هلذا اهلاجس فيقول‪:‬‬ ‫عنونه بـ‬
‫أت لعمالقة األدب شعراً‬‫يعيش يف أعماقي وكلّما قر ُ‬
‫"إىل هذا الذي ُ‬
‫أين أنت منهم ومن تكون؟؟‪ ...‬هذا أنـا"‪.‬‬
‫أين أنت؟ َ‬
‫ونثراً قال يل َ‬
‫أعرف أن األمر ليس ابلسهل لكنين‬‫ُ‬ ‫كا َن الب ّد وأن أثبت نفسي‪،‬‬
‫غامرت‪ ،‬ومن أجل هذا بدأت كتابة ديوان بعنوان "مامل يقله شاعر"‬
‫فإما أن تكو َن‬ ‫ِ‬
‫ُعارض فيه كبار الشعراء‪ ،‬وبه بدأت مغامريت مع الشعر ّ‬
‫أ ُ‬
‫وإما القرب‪.‬‬
‫يل القمة ّ‬
‫‪85‬‬
‫بدأت الشعر إذا سرت يف طريق ّإّيك أن ترجع‬
‫أمري‪ -‬قلت لك منذ َ‬
‫لت أؤمن أنك ستصل يوماً‬
‫كنت و ما ز ُ‬
‫عنهُ مامل يكن معصيةً لربك‪ ،‬و ُ‬
‫ما‪ ،‬ليس ألنك صديقي ال‪ ،‬بل ألنين أعرف متاماً أنك ال تسمح للكذب‬
‫أن يُدنس عاطفتك‪ ،‬ولذلك بدأ الناس يعرفون شعر شاكر أل ّن عاطفته‬
‫ابق على ما أنت‬
‫صادقة قريبة من القلب ليس فيها ابتذال وال تصنع‪َ ،‬‬
‫صرت مشهوراً أن تنساان‪ ،‬مثّ يضحك‪.‬‬
‫عليه لكن ّإّي َك إن َ‬
‫‪ -‬اغتنم الفرصة وتصور معي اآلن‪ ،‬فلن أنظر لك إذا اشتهرت‪.‬‬
‫أمري ُمتذكراً‪ -‬صحيح مل ختربن بشيء‪ ،‬قلت يل صباحاً عرب اهلاتف أن‬
‫رسالةً وصلتك وستحدثين بشأهنا إذا التقينا‬
‫الس ّراق‪.‬‬
‫شاكر يهز رأسه‪ -‬نعم ّي سيدي نعم‪ ،‬سارقةٌ ال تُشبهُ ُّ‬
‫‪ -‬سارقةُ ماذا؟‬
‫‪ -‬سارقةُ أدب‪ ،‬فتاةٌ أرسلت يل صباحاً الرسالة التالية‬
‫أعطى شاكر اهلاتف ألمري يقرأ الرسالة‬
‫أمري بدهشة‪ -‬أهلذه الدرجة وصلت الوقاحة ببعضهن‪ ،‬أليست هذه‬
‫اخلاطرة ممّا كتبت على لسان جوليا؟‬
‫شاكر يهز رأسه‪ -‬صحيح‪ ،‬هذه إحدى اخلواطر اليت كنت أكتبها على‬
‫لسان جوليا بعدما قالت يل هناك كالم كثري يف داخلي ال أعرف كيف‬
‫أخربك به‪ ،‬وقلت هلا أان سأُخربين به!‪ ،‬وكل ليلة كنت أرسل هلا خاطرة‪،‬‬
‫مين القتحام عاملها‪.‬‬
‫ُماولةً ّ‬
‫‪ -‬أعرف هذا‪ ،‬لكن هل كنت تنشرها يف النت؟‬
‫‪86‬‬
‫نعم كنت أنشرها حتت عنوان "قالت لهُ" وكنت أفكر يف مجع هذه‬
‫عدلت عن الفكرة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫اخلواطر يف كتاب مث‬
‫‪ -‬وما الذي يدفع هذه الفتاة لفعل هذا معك؟ مثّ من أين جاءت‬
‫برقمك؟‬
‫‪ -‬ليتها عثرت على رقمي العام‬
‫‪ -‬ماذا إذن‬
‫‪ -‬وصلتين رسالتها على هاتفي اخلاص‪ ،‬ومن الصباح ّي أمري وأان أفكر‬
‫من الذي أعطاها رقمي اخلاص ومل أصل حّت اآلن لنتيجة‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا رددت عليها؟‬
‫‪ -‬ال شيء‬
‫‪ -‬هل سترتكها هكذا بال رد‪.‬‬
‫كنت جاهالً‬
‫األّيم ما َ‬
‫لك ُ‬ ‫‪ُ -‬ستبدي َ‬
‫‪ -‬جيد لنرى‪.‬‬

‫أصدقاءٌ جيِّدون و ٌ‬
‫كتب جيدة‪ ،‬وضمريٌ انئم‪ ،‬تلك هي احلياة املثالية!‪.‬‬
‫غري حالتهُ يف "الواتساب" اآلن ووضع هذه‬
‫‪ -‬قالت غيداء ألمينة‪ّ -‬‬
‫العبارة لـ مارك توين‪.‬‬
‫أمينة‪ -‬انتقاؤه مذهل‬
‫‪ -‬هذا ما يهمك ِ‬
‫أنت!‪.‬‬
‫مالك ِ‬
‫أنت!؟‬ ‫‪ -‬أوف‪ ،‬غيداء ِ‬
‫‪87‬‬
‫‪-‬ال أدري ّي أمينة ذهب الصباح وعاد املساء ومل يقل شيئاً عن اخلاطرة‪،‬‬
‫كيف يفكر هذا؟‪ ،‬إنين أفكر أن أرسل له شيئاً آخراً‪.‬‬
‫‪-‬ال تفقدي صوابك وتتصريف جبنون‪ ،‬يف هذه احلاالت الصمت هو‬
‫الالعب األكرب بينكما‪.‬‬
‫‪ -‬وكيف يكون ذلك؟‬
‫‪ -‬ملاذا تظنني أنه تقصد ذلك؟ قد يكون قرأ الرسالة وقال لنفسه أجيبها‬
‫مساء‪ ،‬غداً‪ ،‬أي شيء‪ ،‬ملاذا تفرتضني األسوأ؟‪ ،‬ليكن الصمت لعبتك‪،‬‬
‫ً‬
‫وكما يقول املثل "ّي خرب اليوم بفلوس بكرى ببالش"‬
‫‪ -‬سأصرب ّي أمينة وما عساي أفعل غري الصرب‬
‫اك ِ‬
‫وقعت به‪.‬‬ ‫‪ -‬وهللا إين أر ِ‬
‫‪ّ -‬ي جمنونة كم مرة سأعيد كالمي‪ ،‬جمرد فضول ِ‬
‫وأنت تعرفني فضويل‬
‫كم هو طاغ وفتّاك‪.‬‬
‫وأعرف غيداء جيداً‪ ،‬ولكن انتبهي أن يغلبك قلبك‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬نعم نعم أعرفه‬
‫وترسلي له دون معرفيت‪.‬‬

‫•••••‬

‫‪88‬‬
‫ر ّن اجلرس وانتهت غيداء من حصص املعهد اخلصوصي للّغات‪ ،‬كانت‬
‫تدرس اإلجنليزية عن طريق هذا املعهد‪ ،‬مل حتضر أمينة هذا اليوم لذلك‬
‫ملّت غيداء سريعاً‪ ،‬خرجت من ابب املعهد وهي تتساءل أين أذهب؟‪،‬‬
‫ال أمينة يف منزهلا ولست أريد الذهاب ملنزيل‪ ،‬أريد أن أمشي قليالً يف‬
‫بكل ما‬
‫الشوارع‪ ،‬إىل شارع الدبالن إذن‪ ،.‬هذا الشارع الذي يُعىن ّ‬
‫وبني معهدها ثالثة شوارع أي ما‬
‫حتتاجه النساء من ملبس وزينة‪ ،‬بينهُ َ‬
‫يعادل سبع دقائق مشياً على األقدام‪ ،‬كان شاكر يف زّيرة لصديقه مهّام‬
‫يف الدبالن حينها‪ ،‬وهناك مجعتهُ الصدفة بتوفيق املنقطع عنه منذ ما‬
‫يزيد على أربعة أشهر‪ ،‬جلس الثالثة يف ُم ّل مهّام لبيع األلبسة النسائية‪.‬‬
‫وهللا زمان ّي توفيق‪ -‬قال شاكر اببتسامة‬
‫توفيق‪ -‬أسعدك هللا ّي شاكر ِ‬
‫وهللا ال أدري ما أقول لكنّها الدنيا تسرقنا‬
‫منّا ومن أحبابنا‬
‫‪ -‬صدقت وهللا‬
‫‪ -‬وأنت ّي شاكر أخربين عنك‪ ،‬صحيح أننا انقطعنا عن اجللوس معاً‬
‫لكنين أقرأ ِش َ‬
‫عرك يومياً أيها العاشق‪ ،‬ويبتسم‬
‫‪ -‬أنت تعرفين جيداً ّي توفيق من شارع اخلراب للبيت ومن البيت‬
‫للخراب وبينهما أكون يف اخلراب‪ ،‬ويضحك‬
‫‪ -‬إذن ما زلت على عادتك‪ ،‬يف شارع اخلراب مع الشعر‬
‫يهز رأسه‪ -‬وأظنها لن تتغري‬
‫ّ‬
‫يقاطعهما مهّـام بعدما انتهى من بيع زبونته‪ -‬شاي أو قهوة؟‬
‫‪89‬‬
‫جييبانه معاً‪-‬كما حتب‪.‬‬
‫عندك ّي شاكر‪.‬‬ ‫وضع مهّام القهوة وجلس وقال‪ِ :‬‬
‫هات ما َ‬
‫شاكر يضحك‪ -‬ما عندي إال الشعر وقصص من األدب‬
‫ذلك ما كنّا نبغ‪ِ ،‬‬
‫هات آخر ما كتبت‬ ‫مهّام‪َ -‬‬
‫توفيق‪ -‬هات ّي شاكر‬
‫ُيرج شاكر ورقة من جيبه ويقرأ‪:‬‬

‫احللم لوال أنَّهُ ْ‬


‫وه ُـم‬ ‫أمجل َ‬‫ما َ‬
‫وأعذب الشو َق لوال أنَّهُ ْ‬
‫سه ُم‬ ‫َ‬

‫ب اثني ًة‬
‫مست احلُ َّ‬
‫ور ُ‬
‫َرمستُـنَا َ‬
‫لو كان‪..‬‬

‫اجلوال‪ ،‬يصمت شاكر‪.‬‬


‫هنا دخلت غيداء احملل وهي تتحدث هباتفها ّ‬
‫يقول له مهّام‪ -‬أكمل ما بك؟‬
‫ترتبك غيداء‪ ،‬لقد عرفته!‪ ،‬إنه هو‪ ،‬وبدون تردد تغلق السماعة يف وجه‬
‫أمينة وتقول‪ -‬أكمل أستاذ أان أحب الشعر‬
‫مالمح شاكر‬
‫َ‬ ‫اخلجل‬
‫ُ‬ ‫مسح‬
‫توفيق تفاجئ‪ -‬غيداء!‬
‫غيداء تلتفت‪ -‬أهالً توفيق كيف حالك‬
‫‪90‬‬
‫توفيق‪ -‬احلمد هلل ِ‬
‫وأنت‬
‫مهّام يقول لشاكر بصوت منخفض‪ -‬إنه يعرفها‬
‫هلمام‪ -‬انه ملن احملظوظني‬
‫شاكر هبمس وابتسامة ّ‬
‫غيداء‪-‬احلمد هلل أان خبري‬
‫مهّام‪ -‬دعوان نكمل القصيدة ّي مجاعة‬
‫غيداء نعم أان متلهفة وقد قرأت لألستاذ ديوانه األول‬
‫توفيق‪ -‬تعرفينه ّي غيداء؟‬
‫غيداء‪ -‬طبعاً‬
‫مأل اخلجل وجه شاكر فليس هو ابلعلم املعروف حّت تقرأ له فتاة هبذا‬
‫اجلمال النادر‬
‫مهّام‪ِ -‬‬
‫أعـد من األول ّي شاكر‬
‫شاكر واخلجل يستدير على خديه‪ -‬طبعاً ِ‬
‫هذه القصيدة كتبتها البارحة‬ ‫ُ‬
‫وهي ال تتجاوز مخسة أبيات‪ ،‬ويقرأ‪:‬‬

‫احللم لوال أنَّهُ ْ‬


‫وه ُـم‬ ‫أمجل َ‬‫ما َ‬
‫وأعذب الشو َق لوال أنَّهُ ْ‬
‫سه ُم‬ ‫َ‬

‫ب اثني ًة‬‫مست احلُ َّ‬‫ور ُ‬ ‫َرمستُـنَا َ‬


‫الرسم‬
‫ُ‬ ‫لو كا َن يُرجعُنا َّأّي َمنا‬
‫‪91‬‬
‫كل مساء يف ُُميِّليت‬
‫أتتني َّ‬
‫َ‬
‫سم‬ ‫ِ‬
‫طيفاً مجيالً ‪ُ ،‬ماالً مالهُ ج ُ‬

‫رميتِين للظى ليلي ووحشته‬ ‫َ‬


‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫وَّنت أنت ‪ ..‬وملَّا أيتين ن ُ‬
‫ـوم‬

‫ب تشريعاً وُمكمةً‬‫أن يف احلُ ِّ‬


‫لو َّ‬
‫ِ‬
‫الرجم!‬
‫حدهُ ُ‬ ‫لكا َن بُعدك ِّ‬
‫عين ُّ‬

‫يصفق اجلميع‪ :‬هللا هللا‪..‬‬


‫مذهل يف اخلواتيم‪ -‬يقول مهّام‬
‫ٌ‬ ‫أنت‬
‫َ‬
‫‪-‬ال عدمتك ّي مهّام‪ ،‬أهتم ابخلواتيم ألهنا آخر ما يعلق يف ذهن القارئ‬
‫توفيق‪ -‬ال حرمنا هللا من هذا اجلمال‬
‫ينظر شاكر إىل غيداء‪ -‬آميييني‬
‫تكتفي غيداء ابلتصفيق واالبتسامة الكبرية مث االستئذان ابلذهاب‬
‫ِ‬
‫انتباهه‪ ،‬وتنسى‬ ‫بدون أي كلمة ثناء على القصيدة ُماول ًة منها ِ‬
‫للفت‬
‫أهنا دخلت لتشرتي‪ ،‬وخترج‪.‬‬
‫‪92‬‬
‫ُيرج توفيق ُمسرعاً خلفها‪ -‬غيداء غيداء‬
‫تلتفت وراءها‪ -‬توفيق؟‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫مسحت‬ ‫‪-‬غيداء أر ِ‬
‫يدك يف موضوع لو‬
‫‪ -‬تفضل‬
‫‪-‬ال ليس هنا‪ ،‬املوضوع حيتاج أن جنلس‪.‬‬
‫‪ -‬أعتذر ّي توفيق ال أستطيع اجللوس معك أنت تعرف‪.‬‬
‫‪-‬أعرف أعرف‪ ،‬هل أستطيع من خالل اهلاتف؟‬
‫‪-‬ال مانع‬
‫ويعود إىل رفاقه‪.‬‬
‫أيخذ رقمها ُ‬

‫هلمام‪ -‬من هذه؟ هل هي حبيبته؟‬


‫يف غيابه قال شاكر ّ‬
‫‪ -‬ال هي أخت حبيبته من الرضاع‬
‫‪ -‬سبحان من وهبها هذا اجلمال‬
‫ُمبتسماً‪ -‬إذن سنسمع قصيدة عن اجلمال قريباً‬
‫يضحك ‪ -‬ال ليس هلذه الدرجة‬
‫يدخل توفيق وينتهي احلديث‪.‬‬

‫ظ على توازنه أمام‬


‫يعرف كيف حياف ُ‬ ‫ِ‬
‫لقاءاته ابجلميالت‪ ،‬كان ُ‬ ‫مع قلّة‬
‫امرأة مجيلة‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫القليل من الرجال أولئك الذي يستطيعون احلفاظ على توازهنم أمام‬
‫جيعل الكرة يف‬
‫معهن وكيف ُ‬
‫يتعامل ّ‬
‫ُ‬ ‫امرأة مجيلة‪ ،‬إنه يعرف جيداً كيف‬
‫ملعبهن‪ ،‬يف ذلك املساء خطرت على ابله كثرياً‪ ،‬عفواً‬
‫ّ‬ ‫ملعبه هو‪ ،‬ال‬
‫هي مل تغب عن ابله لكنه ككل لقاء اندر جبميلة ما‪ ،‬قال لنفسه قبل‬
‫أن يذهب للنوم‪ -‬ال ب ّد ولسوء حظي أن تكون على عالقة حب‬
‫فاجلميالت ال ينتظرن‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أبحدهم‪،‬‬
‫ّأما هي فبعدما تركها توفيق اتصلت أبمينة مباشرة‪:‬‬
‫أمينة‪ -‬نعم‬
‫‪ -‬رأيته اليوم ّي أمينة رأيته‬
‫ط وحنن نتكلم ملاذا!؟؟‬
‫بنربة غضب‪ -‬ملاذا أغلقت اخل ّ‬
‫دعيك من هذا ّي أمينة أقول ِ‬
‫لك رأيته‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬أوف‬
‫‪ -‬من هو من؟‬
‫‪-‬شاكر ّي أمينة‪ ،‬الشاعر شاكر‬
‫‪ -‬أين ّي جمنونة؟‬
‫أخربك عندما أر ِ‬
‫اك‪ ،‬هل ِ‬
‫عدت إىل بيتك؟؟‬ ‫‪ِ -‬‬
‫‪ -‬دقيقتني وأصل البيت‬
‫‪-‬نلتقي ِ‬
‫عندك إذن‪.‬‬

‫••••‬

‫‪94‬‬
‫وقعت يف قليب ّي أمري‬
‫قال ألمري وهو يُشعل سيجارته‪َ -‬‬
‫أمري ُمندهشاً‪ -‬من هي؟‬
‫‪ِ -‬‬
‫هذه السيجارة‪ ،‬أحبها‬
‫‪ -‬هات ما عندك إنين أمسع‬
‫شاكر يضحك‪ -‬قلت لك هذهِ السيجارة‬
‫أعلي أان!؟ هات‪ ..‬قل هيا‪.‬‬
‫‪ -‬على من ّي حبييب‪َّ ،‬‬
‫شاكر وهو يضع فنجان القهوة على الطاولة يف املسبح البلدي‪ -‬فتاة‬
‫رأيتُها اليوم عندما زرت مهّام‪ ،‬وينفخ دخان سيجارته‬
‫أمري يبع ُد الدخان عن وجهه بكفه‪ -‬وماذا بعد؟‬
‫‪ -‬ال شيء‪ِ ،‬مسعت يل قصيدة‬
‫أمري مبتسماً ‪ّ -‬ي عني ّي ليل‬
‫‪ -‬وذهبت‬
‫‪ -‬أين ذهبت؟ وكيف أمسعتها شعراً؟؟‬
‫‪ -‬جمرد زبونة عند مهّام‪ ،‬ومن حسن حظي دخلت وأان أُلقي قصيديت‬
‫مين أن أكمل وأخربتين أهنا قرأت ديواين وتعرفين‬
‫وقفت طلبت ّ‬
‫ُ‬ ‫وملا‬
‫‪ّ -‬ي سالم ممتاز‬
‫شاكر وهو يُطفئ سيجارته‪ -‬نسيت أن أخربك‪ ،‬التقيت كذلك عند‬
‫مهّام "توفيق سرحان"‬
‫زمن مل أره‬
‫‪ -‬أووه م ّـر ٌ‬
‫‪ -‬تفاجئت البنت ملّا رأت توفيق‪ ،‬وملّا خرجت تبعها‪.‬‬
‫‪95‬‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫أخت ملى ابلرضاع‪ ،‬ملى حبيبة توفيق‪.‬‬
‫‪ -‬قال يل مهّام أهنا ُ‬
‫أمري وهو حيرك الفحم على رأس شيشته‪ -‬وأنت‬
‫‪ -‬وهللا ال أدري لكنها ذات مجال أ ّخاذ‬
‫احداهن إال‬
‫ّ‬ ‫هب ودب‪ ،‬ما أن تبتسم لك‬
‫كل من ّ‬
‫أنت حتب ّ‬
‫عم َ‬‫‪ّ -‬ي ّ‬
‫حب من هذه االبتسامة‪ ،‬مث كالعادة تكون الفتاة على عالقة‬
‫وتعمر ألف ّ‬
‫ّ‬
‫حب بغريك‪ ،‬اجلميلة ّي شاكر ال تنتظرين وتنتظرك‪ ،‬يبدو أ ّن قدران أان‬
‫وأنت مع القبيحات!‪.‬‬
‫يقاطعهُ شاكر‪ -‬ال ال ّي أمري أان أرفض هذهِ الكلمة‪ ،‬ال يوجد على وجه‬
‫األرض قبيحة‪ ،‬القبيحة يف نظرك ساحرة اجلمال يف نظر غريك‪ ،‬هذا‬
‫املوضوع نسيب ّي أمري‬
‫والقبيحات يف أعيننا أان وأنت يقعن‬
‫ُ‬ ‫اجلميالت ال ينتظرننا‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬كما تريد‪،‬‬
‫بنا‪ ،‬هل هذهِ الصياغة لكالمي تعجبك؟‬
‫يبتسم ويهز رأسه‪ -‬تعجبين‪.‬‬
‫‪-‬قاتل هللا الفلسفة‬
‫يضحك شاكر من قلبه‪ -‬ليست فلسفة‪ ،‬إنه الواقع‬
‫‪-‬واقع واقع‪ ،‬كما تريد‪ ،‬قم لنمشي فأان أتخرت‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫يف صباح اليوم التايل‪..‬‬
‫يعب سيجارتهُ ببطء‬ ‫ِ‬
‫فنجان قهوته‪ُّ ،‬‬ ‫النقي متعرجاً يف‬
‫أطل وجهها ُّ‬‫َّ‬
‫الُب من عينيها يتأملُها ببطء وهي تتعرج على سطح القهوة‪،‬‬
‫ويرتشف ُ َّ‬
‫ُ‬
‫الشعر فيكتب‪:‬‬
‫ُ‬ ‫نج اترة‪ ،‬يُباغتهُ‬
‫يفوح الليمون اترًة حولهُ ويُغين النار ُ‬
‫ُ‬

‫ِ‬
‫لسحره‬ ‫ضفاف‬ ‫حبر ال‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫عينَاك ٌ‬
‫كب!‬ ‫وأان الغر ُ ِ ِ‬
‫يق وأنت أنت املَر ُ‬

‫ِ‬
‫كأحالمه‪ ،‬وحيداً‬ ‫اد هلذا البيت أن يكو َن يتيماً‬
‫وضع قلمهُ ومل يكمل‪ ،‬أر َ‬
‫يستطيع‬
‫ُ‬ ‫عر َك ال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إن يف داخله صواتً يُنادي عليه "ال حتاول فش ُ‬ ‫كس ِّرهِ‪َّ ،‬‬
‫ِ‬
‫هي‬ ‫ِ‬
‫يطول هذا النداء طويالً سيحرقهُ شعراً ويكويه غزالً‪َ ،‬‬ ‫مجاهلا" لن َ‬
‫تشرب قهوهتا كذلك وإن كا َن هو رفيق النارنج والليمون فهي‬ ‫ُ‬ ‫اآلن‬
‫توأم اليامسني يُشاركها اشتياقها للحب‪ ،‬قهوهتا‪ ،‬صحوها‪ ،‬ونومها‪،‬‬ ‫ُ‬
‫يُشاركها حّت ابتسامتها ودمعتها‪َّ ،‬إهنا جتد يف اليامسني الوفاء الذي مل‬
‫يفوح برائحتها وكالمها يرتدي‬
‫جتدهُ يف البشر‪ ،‬هي تسقيه قبالهتا وهو ُ‬
‫األبيض‪.‬‬

‫•••••‬

‫‪97‬‬
‫حّت اآلن ّي أمينة‪ -‬قالت غيداء‪.‬‬
‫مل ُجيب ّ‬
‫أمينة وهي تضع الطعام لقطتها‪ -‬ما زلت تفكرين‬
‫‪ -‬طبعاً سأظل أفكر‪ ،‬هناك سبب البد وأن هناك سبب‬
‫‪ -‬فعالً أتخره يوماً كامالً البد وأن له سبب‬
‫‪ -‬ما رأيك اآلن؟‬
‫‪ -‬تريدين إرسال رسالة أخرى؟‬
‫‪ -‬ال أعرف وهللا ُمتارة‬
‫‪ -‬ماذا سنكتب له مثالً؟‬
‫‪ -‬وهللا عقلي مغلق اآلن‪ ،‬النعس أيكلين ولن أستطيع النوم دون فعل‬
‫شيء‪ ،‬فكري ِ‬
‫أنت‪.‬‬
‫‪ -‬أقرتح أن تنامي اآلن فأان نعست كذلك والساعة اآلن السابعة‬
‫صباحاً‬
‫‪ -‬املهم أن تفكري قبل النوم ماذا سنكتب له‪ -‬وتنهض عن كرسيها‬
‫للصعود إىل بيتها‪.‬‬
‫‪ -‬أفكر؟‪ ،‬أان شبه انئمة اآلن‪ ،‬والتفكري هو اجملهود األعظم ملن دامهه‬
‫النعس‪.‬‬
‫‪-‬عندما تستيقظني ّي ذكية!‪.‬‬
‫‪-‬سأفعل‪ ،‬اذهيب اآلن واتركيين ألانم‪.‬‬
‫بيتها يف الطابق األول فوق بيت أمينة وله "بلكون" يطل على ِ‬
‫جنينة‬ ‫ّ‬
‫دار أمينة‪ ،‬لذلك كانت تقضي أغلب يومها يف بيت أمينة‪.‬‬
‫‪98‬‬
‫قلع طائرتهُ يف متام الثالثة‬ ‫ِ‬
‫ُيرج شاكر من بيته يف متام الثامنة والنصف‪ ،‬تُ ُ‬
‫ُ‬
‫اشتقت ِ‬ ‫عصراً إىل أبو ظيب‪ِ ،‬‬
‫إليك‪ ،‬يقول وهو يضع حقائبهُ‬ ‫ُ‬ ‫آه ّي ّأمي كم‬
‫يف التاكسي‪.‬‬

‫غين كلمات نزار‪-‬‬


‫فريوز تُ ّ‬
‫ُ‬

‫اسم حبييب‬
‫ال تسألوين ما ُ‬
‫ِ‬
‫الطيوب‬ ‫أخاف عليكم ضوعة‬
‫ُ‬

‫يركب التاكسي‪ -‬هللا هللا ّي فريوز‪ ،‬هللا ّي نزار على هذا اجلمال‪ ،‬ويبتسم‬
‫سائق التاكسي‪.‬‬
‫ينتظرهُ أمري يف بيته الكائن يف حي "ابب هود" لريافقه إىل املطار‪.‬‬
‫ِ‬
‫حلمص سبعة أبواب ألحياء سبعة‪ ،‬وهذه األبواب مشهورة اترُيياً ِّ‬
‫ولكل‬
‫تسأل محصياً عن أمساء ِ‬
‫هذه‬ ‫ابب قصةُ تسمية‪ ،‬ومن العجب أنك ال ُ‬
‫ّ‬
‫لك ستّة أبواب وينسى السابع‪.‬‬
‫ويذكر َ‬
‫ُ‬ ‫األبواب إال‬
‫نزل أمري وركب مع شاكر وإىل مطار دمشق‪..‬‬
‫تدخل مطاراً يف العامل أوضع وأحقر من مطار دمشق‪ -‬يقول‬
‫َ‬ ‫ال ميكن أن‬
‫الشحاذ‪-‬‬
‫ّ‬ ‫شاكر املنزعج من عسكري األمن الذي قال لهُ اببتسامة‬
‫"وين هدية قبل السفر؟"‬
‫أمري‪ -‬اخفض صوتك ّي رجل‬
‫‪99‬‬
‫شاكر يقف بعربة احلقائب ويلتفت إىل أمري‪ -‬ابهلل عليك إىل مّت وحنن‬
‫نسري خلف هؤالء البقر!؟‪.‬‬
‫‪ّ-‬ي أخي اخفض صوتك وسافر بسالم‪ ،‬ماذا جرى لك!؟‬
‫نظر إليه‪ -‬ويشري‬
‫‪-‬املطارات هي أوجهُ البلدان‪ ،‬ابهلل عليك أهذا وجهٌ يُ ُ‬
‫بيده إىل املطار‬
‫‪-‬وكأنك تزوره للمرة األوىل‪.‬‬
‫‪-‬آه ّي أمري آه‪ ،‬يف القلب آهات ال يعلمها إال هللا‬
‫أمري‪ -‬سافر ّي حبييب اآلن ويفرجها ربك‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫"اللقاء األول ذاكرةُ احلب"‬

‫مثة بركة يف أعماق كل امرأة‬


‫كنت أعرف كيف أُحركها‬

‫‪ -‬الطيب صاحل‪ /‬موسم اهلجرة إىل الشمال‬

‫‪101‬‬
102
‫أهالً ابحلبيب‪ ،‬أهالً بشاعران اجلميل‪ -‬ير ّد توفيق على اتصال شاكر‬
‫‪ -‬أهالً توفيق أهال حبييب‪ ،‬كيف حالك‬
‫‪ -‬خبري حال واحلمد هلل‪ ،‬ال ين ُقصين إال رؤيتك‬
‫‪ -‬يل الشرف وهللا ومن أجل هذا اتصلت بك‪ ،‬اشتقنا لك ّي رجل‬
‫‪ -‬وحنن ابألكثر وهللا‪ ،‬مّت ُحتب أن نلتقي؟‬
‫‪ -‬ما رأيك الليلة؟‬
‫‪ -‬متام‪ ،‬أين؟‬
‫‪ -‬يف املسبح‬
‫‪ -‬وهو كذلك‬
‫‪ -‬حلظة توفيق‬
‫‪ُ -‬مرين‬
‫‪ -‬أرجو أن أتيت وحدك فأان أريدك بشأن خاص‬
‫‪ -‬شأن خاص!‪ ،‬أبشر أبشر من عيوين‬
‫‪ -‬يف انتظارك الساعة الثامنة‬
‫‪ -‬إن شاء هللا‬

‫اد أن يعرف من توفيق ولو شيئاً بسيطاً عنها‪ ،‬لكنّه مل ُيرج منه بفائدة‬
‫أر َ‬
‫عما يعرفهُ شاكر‪ ،‬يف متام العاشرة‬
‫تُذكر‪ ،‬الذي يعرفه توفيق عنها ال يزيد ّ‬
‫وبعد أن جلس مع توفيق قرابة الساعتني اتصل أبمري ودعاه ليسهر‬
‫ٌ‬
‫مشغول ابتصال البارحة‪.‬‬ ‫لكن قلبهُ‬
‫معهما‪ ،‬إنه جيلس معهما ّ‬
‫‪103‬‬
‫يظن أهنا لن تتصل به قبل ثالثة أّيم على‬ ‫اتصلت ِ‬
‫عليه البارحة وكان ُّ‬
‫اجلميالت ّي صديقي ال‬
‫ُ‬ ‫األقل وقال ذلك ألمري بعدما ذهبت‪ ،‬قال لهُ‪:‬‬
‫ّبك على النا ِر قليالً‪ ،‬ليُفاجئ‬
‫أخذهن الرقم‪ ،‬الب ّد وأن تُقل َ‬
‫ّ‬ ‫يتصلن فور‬
‫ابتصاهلا بعد أخذها الرقم بقرابة الساعة والنصف‪ ،‬وهي اليت حتتفظ‬
‫برقمه من قبل‪ ،‬فتح اخلط للرقم الغريب وقال‪ -‬نعم‬
‫غيداء‪ -‬مرحبا‬
‫‪-‬مرحبا‪ ،‬من؟‬
‫‪-‬من؟ يبدو أ ّن الكثريات أخذن رقمك هذا املساء‪.‬‬
‫‪-‬أنت هي؟‬
‫‪-‬نعم أان هي‬
‫‪-‬أهالً وسهالً‬
‫‪-‬أهالً بك‪ ،‬هذا رقم أمي سأتصل بك من رقمي غداً‬
‫شاكر‪ -‬ال مانع‬
‫‪-‬مع السالمة‬
‫‪-‬مع السالمة‬

‫التفت إىل أمري بعد اتصاهلا ُمبتسماً‪ -‬هي ّي أمري‬


‫َ‬
‫أمري‪ -‬قلت لك أهنا لن تصرب‪ ،‬وما اقتنعت‬
‫‪ -‬تقول أن هذا الرقم ألمها وأهنا ستُعاود االتصال يب‬
‫ّهن يقلن هذا يف أول اتصال‪ ،‬فإذا اراتحت لك قالت هو رقمي‪.‬‬
‫‪ -‬كل ّ‬
‫‪104‬‬
‫غادر شارع اخلراب ومل يكن يتوقع أهنا ستتصل بعد هذا االتصال‪ ،‬إهنا‬
‫َ‬
‫قالت له‪ :‬سأتصل بك غداً‪ ،‬دخل ليلتها املنزل يف الواحدة صباحاً‪،‬‬
‫لس على البلكون وأشعل سيجارتهُ بعدما لبس بيجامته وبدأ يرتشف‬
‫ج َ‬
‫القهوة‪.‬‬
‫هللا ما أمجل القمر‪ -‬قال وهو يبحث عن أغنية ألم كلثوم يف هاتفه‪،‬‬
‫غين رائعة جورج جرداق‪:‬‬
‫كان القمر بدراً‪ ،‬بدأت أم كلثوم تُ ّ‬

‫وحلم حيايت‬ ‫ِ‬


‫هذه ليليت ُ‬
‫ِ‬
‫الزمان وآيت‬ ‫بني ماض من‬
‫َ‬

‫أنت كلّهُ واألماين‬


‫اهلوى َ‬
‫فامأل الكأس ابلغر ِام ِ‬
‫وهات‬ ‫َ‬

‫ٌ‬
‫اتصال من‬ ‫حّت قطع صوت ّأم كلثوم‬ ‫بدأ الكتابة‪ ،‬وماهي إال دقائق ّ‬
‫ِ‬
‫إلهلامه‬ ‫ِ‬
‫أصدقائه فلم ُجيب‪ ،‬ال يريد‬ ‫ظن أنه أح ُد‬
‫رقم غريب ال يعرفه‪ّ ،‬‬
‫عاود‬
‫يهطل فو َق الورق‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫أن ينقطع‪ ،‬يريد ملا يف داخله من شعور أن‬
‫الرقم االتصال للمرة الثانية فأغلق يف وجهه‪ ،‬فعاد للمرة الثالثة‪ ،‬ما هذهِ‬
‫ط‪-‬‬
‫البشر‪ -‬قال لنفسه ُمنفعالً وفتح اخل ّ‬
‫نعم!؟‬
‫غيداء‪ -‬مرحبا‬
‫‪105‬‬
‫هدأ فجأةً‪ -‬أهالً أهالً‬
‫‪ -‬أسفة اتصلت بك يف هذا الوقت املتأخر‬
‫‪-‬الال كنت أكتب وذهب اإلهلام اآلن‪ ،‬ال ِ‬
‫عليك‪.‬‬
‫‪ -‬عرفتين؟‬
‫حّت اآلن‬ ‫‪-‬نعم كيف ال‪ ،‬ولكن ال أعرف ِ‬
‫امسك ّ‬
‫‪ -‬امسي روان‬
‫ميد قدميه إىل أعلى ويضعهما على الطاولة‪ِ :‬‬
‫امسك احلركي أم احلقيقي؟‪-‬‬ ‫ُّ‬
‫ويضحك‪.‬‬
‫ت أنهُ مسع امسها من توفيق ذلك اليوم‪.‬‬
‫لقد نسيَ ْ‬
‫كل من يكذب‬
‫رجاء ال تقل مثل هذا‪ ،‬أان ال أكذب وأكره ّ‬
‫‪ً -‬‬
‫‪ -‬مجيل‪ ،‬لكن هل هناك أح ٌد ال يكذب؟‬
‫‪ -‬طبعاً يوجد وبكثرة‪ ،‬كم أكره الرجل الذي يكذب‬
‫‪ -‬وهللا ّي عزيزيت إن قلت ِ‬
‫لك أنين ال أكذب فأان أكذب ‪ -‬ويضحك‬
‫جيلسن معها‪.‬‬
‫َ‬ ‫يُفاجئ أبصوات ضحك ألكثر من فتاة يبدو ّأهن ّن‬
‫هل معك أحد؟‪ -‬يسأهلا‬
‫وتؤشر لصديقاهتا أن اهدئن‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬الال أان يف البيت‪-‬‬
‫ِ‬
‫كذبتان يف أقل من دقيقة!‪ -‬قال لنفسه‬
‫أين أنت اآلن؟‬
‫لتتدارك املوقف تسأله فوراً‪َ -‬‬
‫‪ -‬أان أجلس يف البلكون‬

‫‪106‬‬
‫فيم تتأمل‪ ،‬أعرفكم أنتم الشعراء ُحتبّو َن التأمل فيما حولكم من‬
‫‪-‬و َ‬
‫تفاصيل‪.‬‬
‫مكتمل هذا‬
‫ٌ‬ ‫أأتمل ضياءهُ‪ ،‬إنه‬
‫وهو ينفض رماد سيجارته‪ -‬يف القمر‪ّ ..‬‬
‫املساء‬
‫‪-‬البد وأنك رأيتين فيه‪ -‬وتضحك‬
‫‪-‬ال‪ ،‬ليس إال القمر‬
‫بدهشة‪ -‬جاملين على األقل‪.‬‬
‫بني الكذب‪.‬‬ ‫‪ِ -‬‬
‫أنت ال ُحت َ‬
‫‪ّ -‬أما يف هذه احلاالت فأان أموت فيه‪.‬‬
‫يضحك‪.‬‬
‫نسي أ ّهنا قارئة‪ ..‬نسيت‬
‫اتفقا ليلتها على لقاء صباحي يف اليوم التايل‪َ ،‬‬
‫ِ‬
‫اتصلت القلوب انقطعت العقول‪.‬‬ ‫أنّه شاعر‪ ..‬إذا‬

‫انتبه فجأ ًة أنهُ سرح بعيداً عن توفيق وأمري‪ ،‬التفت إىل النادل وقال‪-‬‬
‫احلساب لو مسحت‪.‬‬
‫يضحك أمري‪ -‬يبدو أنك لست هنا ّي شاكر‪ ،‬سـلنا على األقل إن كنا‬
‫وطلبت احلساب مباشرةً‬
‫َ‬ ‫أخذت القرار‬
‫َ‬ ‫سنبقى أو سنذهب‪،‬‬
‫يبتسم توفيق‪ -‬ال عليك ّي شاكر‪ ،‬إنين من الثامنة صباحاً على قدم‬
‫وساق وكنت أنوي االستئذان واملغادرة‪.‬‬
‫خرج الثالثة سويةً‪ ،‬مث ودعهما توفيق ومشى‪.‬‬
‫‪107‬‬
‫مل ُخت ِ‬
‫ربن مبا جرى معك يف اتصال البارحة‪ -‬قال أمري لشاكر ومها يركبان‬
‫السيارة‬
‫‪ -‬غداً أخربك إن شاء هللا‪ ،‬إنين مرهق‬
‫‪ّ -‬ي لك من وغد‪ ،‬تقذفين للغد‪ ،‬قل اآلن ولو رؤوس أقالم‬
‫وهو يتثاءب‪ -‬أان نعسان‪ ،‬أوصلك اآلن واصرب للغد‬
‫‪ -‬كما تريد‪.‬‬

‫•••••‬

‫‪108‬‬
‫فتحت ابب السيارة وم ّدت يدها أمام املكيف قبل أن تصعد‪.‬‬
‫قال هلا مبتسماً‪ -‬اصعدي إنهُ يعمل‬
‫كالدم‪ ،‬أغلقت الباب ومشى‪..‬‬
‫ركبت وخدودها ّ‬
‫صباح اخلري‪ -‬قال هلا مبتسماً‬
‫أي خري؟‪ ،‬ثالث ساعات وأان أنتظرك يف الشمس ّي ظامل‪.‬‬ ‫ابمتعاض‪ُّ -‬‬
‫تسكت سكتة خفيفة مث بغنج ووجه يشي ابلزعل‪ -‬ساح املكياج عن‬
‫وجهي‬
‫علي‬ ‫ِ‬
‫يبتسم‪ -‬حقك ّ‬
‫تلتفت عنه ابجتاه النافذة‪ -‬إذا كان هذا اللقاء األول بيننا وتركتين يف‬
‫الشمس ثالث ساعات‪ ،‬كيف ستفعل يف اللقاءات القادمة؟‬
‫يضحك وهو يُشعل سيجارتهُ‪ -‬ال تفكري كثرياً يف املستقبل‪ ،‬صحيح‬
‫أخربيين ما ِ‬
‫امسك؟‬
‫تفتح املرآة يف الشمسية أمامها وبنصف ابتسامة‪ -‬ارفع تربيد املكيف‬
‫يبتسم‪ -‬مجيلة ال داعي ألن تنظري يف املرآةِ كثرياً‬
‫وهي حتدق يف وجهها ابملرآة‪ -‬أعرف هذا‪ ،‬لكن أحاول إصالح ما‬
‫أفسده انتظارك‬
‫ينفخ دخانهُ خارج النافذة ويضحك‪ -‬ما ِ‬
‫امسك؟‬
‫‪ -‬ال أحبّه‬
‫‪ -‬الكثريون ال حيبو َن أمساءهم‬
‫أليس كذلك‬
‫اسم قبيح َ‬
‫‪ -‬غيداء‪ ،‬امسي غيداء‪ٌ ،‬‬
‫‪109‬‬
‫بني الكذب‬ ‫‪ -‬هذا ِ‬
‫وأنت ال ُحت َ‬
‫أحب اسم روان أكثر‬
‫‪ّ -‬‬
‫أنك ِ‬
‫محلته ليكون مجيالً‬ ‫يقبل عليها جبسده ملتفتا‪ -‬يكفي ِ‬
‫تضحك خبجل‪ -‬شكراً لك‬
‫‪ -‬أين تودين أن نذهب؟‬
‫‪ -‬ال أحب الذهاب ألي مكان أُفضل أن نبقى يف السيارة أينما سارت‬
‫بنا‬
‫‪ -‬كما ُحتبّني‬

‫وحّت‬ ‫ِ‬
‫من التاسعة والنصف صباحاً حلظة وصوله إليها يف حي الغوطة ّ‬
‫الرابعة عصراً‪ّ ،‬ي لهُ من لقاء! يُقال‪" :‬عند اللقاء األول‪ ..‬ال تستمع‬
‫ب املكا َن كثرياً‪ ،‬وال تسأل‬
‫وإّي َك أن ُحت َّ‬
‫أي عطر‪ّ ،‬‬
‫ألي أغنية‪ ،‬ال تضع ّ‬
‫ّ‬
‫عن السبب!"‪.‬‬
‫وحنن اللحن والكلمات؟‪ ،‬كيف ال‬ ‫نستمع ألغنية يف اللقاء ُ‬
‫ُ‬ ‫كيف ال‬
‫ب املكا َن وهو‬
‫احلب تضوع من قلبينا‪ ،‬كيف ال ُحن ّ‬
‫نضع عطراً ورائحةُ ّ‬
‫ُ‬
‫الذي ولدان فيه‪ ،‬اللقاء األول ذاكرةُ احلب‪ ،‬منهُ يبدأ الوجع وإليه يعود‪،‬‬
‫تعرف أهنا‬
‫حّت السيارة وكأهنا كانت ُ‬ ‫يرقص يف عينيهما‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫كل شيء كان‬ ‫ُّ‬
‫حب مل يبدأ بعد‪ ،‬فمكيفها املريض الذي‬ ‫ِ‬
‫على موعد هذا الصباح بلقاء ّ‬
‫حتو َل ملكيّف سليم ُمعاىف كأنهُ خرج‬
‫عاىن منه شاكر أسبوعاً قبل اللقاء ّ‬
‫لتوهِ من الوكالة!‪.‬‬
‫‪110‬‬
‫ملّا قال هلا‪ -‬سأضع املؤشر على راديو "صوت احلب" واألغنية اليت‬
‫قرر الراديو أن تكون األغنية‪ -‬قويل‬‫تكون فيه هي إهداء مين لك‪ّ ،‬‬
‫أحبّك! الطفل الذي يقف عند اإلشارة يطلب الصدقة والذي طلبت‬
‫ِ‬
‫سجيته وهو‬ ‫غيداء من شاكر أن يقرتب منه لتعطيه شيئاً هلل‪ ،‬قال على‬
‫يعرف أ ّن‬
‫أيخذ املال منها‪" -‬هللا جيوزكن!"‪ ،‬كأ ّن كل ما حوهلما كان ُ‬
‫احلب مهما توارينا به‪،‬‬ ‫هناك حباً جديداً يولد يف ِ‬
‫هذه السيارة‪ ،‬يفضحنا ُّ‬ ‫َ‬
‫احلب مهما ق ّدمنا لهُ من تنازالت‪ ،‬يومهنا أنهُ مينحنا عمراً جديداً‬
‫أيكلنا ّ‬
‫حّت نستأنس ِبه‪،‬‬
‫يضحك لنَا ّ‬
‫ُ‬ ‫بينما هو يسر ُق منّا أعماراً يف احلقيقة‪،‬‬
‫نطمئن له‪ ،‬فإذا اطمئننا‬
‫َّ‬ ‫يتودد إلينا حّت‬
‫حّت ال نُطيق فراقه‪ُ ،‬‬
‫ب منّا ّ‬
‫يتقر ُ‬
‫ّ‬
‫لهُ وابيعناهُ على السم ِع والطاعة‪ ..‬أمر بقتلنا!‪.‬‬

‫قالت لهُ وهي تفتح ابب السيارة‪ -‬سعيدة بلقائك‬


‫ضرب جبينه بكفه‪ّ -‬ي هلل! نسيت أن أضيّ ِ‬
‫فك شيئاً‬
‫ابتسمت ‪ -‬أمل تكن قهوتك معك ملّا أتيت؟‬
‫‪ -‬بلى‬
‫‪ -‬ألست تشرب منها طوال الوقت‬
‫‪ -‬بلى‬
‫بت أنت فأان شربت‬
‫‪ -‬إذا شر َ‬
‫يبتسم‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫تلتفت عنه مث تُعيد نظرها إليه‪ -‬مل تُسمعن شيئاً من أشعارك يف هذا‬
‫اللقاء‪.‬‬
‫يتذكر شيئاً؟؟ ‪ ،‬وهل تُلقى القصائد يف حضرة قصيدة‬ ‫ِ‬
‫‪ -‬وهل من يراك ُ‬
‫مثلك؟ ويضحك‬
‫وتلوح بك ّفها‪ -‬وداعـاً‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُمبتسمةً تُغلق الباب وراءها‪،‬‬
‫ما أصغر الدنيا‪ ،‬يقول لنفسه بعدما نزلت‪ ،‬من كان يعرف أن غيداء‬
‫ُمل مالبس نسائية قبل ثالثة أشهر ستكون إىل‬
‫اليت رأيتها صدفةً يف ّ‬
‫جانيب يف السيارة اليوم؟‬
‫حّت ِ‬
‫هذه اللحظة وبعدما التقاها ال يعرف أن غيداء هي صاحبة اخلاطرة‬
‫املسروقة منه‪ ،‬وأهنا هي اليت أرسلت له رسالةً أخرى عرب "الوتساب"‬
‫كتبت فيها‪ :‬أستاذ شاكر آسفة على إزعاجك‪ ،‬أهلذهِ الدرجة خاطريت‬
‫قررت أال تُبدي رأيك هبا!؟‪.‬‬
‫سيئة حّت ّ‬
‫استفزته‪ ،‬أجاهبا بعد أكثر من يوم على رسالتها‬
‫ما كان ينوي الرد لكنّها ّ‬
‫كنت نسيتها‪ ،‬ما‬
‫بعثت يل خباطرة من خواطري ُ‬ ‫ك ِ‬‫الثانية‪ :‬شكراً ألنّ ِ‬
‫محلك على هذا؟ اعلمي أن السرقة األدبية أعظم من السرقة‬ ‫ِ‬ ‫الذي‬
‫ِ‬
‫بفعلك هذا تسرقني إنساانً كامالً‪ ،‬يف احلقيقة أان ال‬ ‫املادية بكثري‪ِ ،‬‬
‫أنت‬
‫أج ُد تفسرياً ملا ِ‬
‫فعلت؟ تسرقني خاطريت مث تنسبينها لك مث تبعثني هبا‬
‫املرات القادمة قبل أن تسرقي شيئاً حاويل أن تعريف من هو‬
‫إيل‪ ،‬يف ّ‬
‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حّت ال تقعي مبا وقعت به معي‪.‬‬
‫صاحبه ّ‬

‫‪112‬‬
‫ِ‬
‫جتلسان يف اجلنينة‪ ،‬بدأت تقرأ‬ ‫وصلتها الرسالة يومها وهي عند أمينة‬
‫حّت رمت اجلوال أرضاً‬
‫وما أن وصلت قوله "تسرقني إنساانً كامالً" ّ‬
‫وغطّت وجهها بكفيّها ‪ّ -‬ي لغبائي ّي لغبائي‬
‫تنهض أمينة فزعة‪ -‬ما الذي جرى ِ‬
‫لك ّي جمنونة‬
‫‪-‬اقرأي ماذا ر ّد علي‬
‫أتخذ أمينة اجلوال من األرض ومتسح شاشته بيدها وتقرأ‪.‬‬
‫أيت‪ ،‬قلت ِ‬
‫لك انتبهي من مثل هذا‬ ‫أتكلها الدهشة فتقول‪ّ -‬يااه‪ ،‬أر ِ‬
‫قلت ِ‬
‫لك‬
‫فصار كفصل اخلريف‪ -‬ماذا‬
‫‪ -‬تبعد كفيها عن وجهها الذي تغري لونه َ‬
‫نفعل اآلن‪ ،‬جيب أن نتدارك املوقف بسرعة‪.‬‬
‫أمينة تكتب بسرعة وترسل له‪:‬‬
‫لك أنين ال أعرف أ ّن هذهِ اخلاطرة لك‪ ،‬أستاذ شاكر أان ُ‬
‫فعلت‬ ‫من قال َ‬
‫لك رسالةً‬
‫هذا لغاية نبيلة وكنت أتوقع ر ّدك هذا‪ ،‬أحببت أن أوصل َ‬
‫غري ُمباشرة تقول‪ :‬انتبه إلبداعك انتبه هلذا اجلمال الذي يستطيع‬
‫السطو عليه أي لص‪ ،‬أردت أن أقول لك احفظ هذا اإلبداع يف كتاب‬
‫وال ترتكه مشاعاً‪ ،‬ال نريد هلذا اجلمال أن يُنسب لغريك أرجوك‪.‬‬
‫حّت يُصدق هذا‪ ،‬لكنه يعرف أن الذكاء يف مثل هذا احلاالت‬
‫ليس غبياً ّ‬
‫يكمن يف التغايب‪ ،‬بعث هلا‪-‬‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أحسنت النيّة وأسأت الطريقة‪ ،‬ال عليك إبذن هللا مبجرد عوديت لسورّي‬
‫سأمجع هذهِ اخلواطر فوراً‪.‬‬
‫‪113‬‬
‫كم من طامة وقعت هبا غيداء وأنقذهتا أمينة‪ -‬تقول غيداء وتضحك‬
‫ّ‬
‫أمينة‬
‫تتابع‪ -‬كيف خطرت لك هذه الكذبة ّي جمنونة‬
‫‪ -‬ال أعرف وتضحك‬
‫‪ -‬هو خارج سورّي إذن‬
‫‪ -‬نعم‬
‫‪ -‬احلمد هلل أ ّهنا ع ّدت على خري‬
‫أمينة‪ -‬احلمد هلل‬
‫قررت فيما بعد كسر هذه الشرحية‪ ،‬وأن تنتظر القادم من األّيم‪.‬‬
‫عاد وقلبه عند ّأمه‪.‬‬
‫عاد بعد أسبوعني إىل سورّي‪َ ،‬‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫جيلسان يف اخلراب أول يوم بعد‬ ‫احلياةُ ّأم كما يقولون‪ -‬قال ألمري ومها‬
‫عودته‬
‫أمري‪ -‬صدقت‪ ،‬أخربين ماذا كتبت يف األمارات‬
‫‪ -‬ال شيء‬
‫‪ -‬ملَ؟‬
‫شاكر وهو يضع كأس البابونج أمامه‪ -‬ما أصعب أن تبدأ الكتابة يف‬
‫العمر الذي يكون فيه اآلخرون قد انتهوا من قول كل شيء‪ ،‬هل تتفق‬
‫مع أحالم مستغاَّني يف هذا؟‬
‫‪ -‬إي وريب أتفق‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫ِ‬
‫عائداتن من مقهى ميكازا‬ ‫كانت أمينة وغيداء تسري ِ‬
‫ان يومها إىل البيت‬
‫يقف على ب ِ‬
‫عد أمتار‬ ‫يف احلمرا الواقع خلف شارع اخلراب‪ ،‬كان اللقاء ُ‬
‫ُ‬
‫منهما‪ ،‬الكثري من الكراسي والطاوالت على رصيف اخلراب‪ ،‬الكثري‬
‫شاب‬
‫من العوائل ومن الشباب‪ ،‬تتبادالن األحاديث والضحكات‪ ،‬هنا ٌ‬
‫يُغازل أمينة‪ ،‬هنا آخر يضحك لغيداء‪ ،‬هنا صديقة قدمية تُسلم‪،‬‬
‫وهكذا‪..‬‬
‫أمامهن على بعد ثالثة أمتار‪ ،‬أمينة أمينة قفي‬
‫ّ‬ ‫إنّـهُ جيلس على الطاولة‬
‫حلظة‪ -‬تقول غيداء‬
‫أمينة‪ -‬ما بك؟‬
‫هتمس يف أذهنا‪ -‬دون أن ينتبه ِ‬
‫لك أحد‪ ،‬وكأنك تتحدثني معي انظري‬
‫لألمام اآلن‪ ،‬أليس ذلك الذي يلبس األسود شاكر؟‬
‫أمينة تسرتق النظر‪ -‬صحيح هو بعينه‬
‫غيداء‪ -‬اعكسي اجتاه سريك‪ ،‬نرجع ابجتاه ميكازا‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫‪ -‬حتركي اآلن أخربك بعد قليل‬
‫‪ -‬هيا‪.‬‬
‫عادات إىل الوراء قرابة املئيت مرت‪ ،‬غيداء مسرعة اخلطى وأمينة ورائها‬
‫تقول‪ -‬أووه ما ِ‬
‫بك ّي جمنونة ملاذا تستعجلني هكذا‬
‫‪ -‬دعينا نتوارى قليالً لنتفق‬
‫‪ -‬أكرهك وأكره خططك الفاشلة‬
‫‪115‬‬
‫غيداء تضحك‬
‫كرسي فارغ لنجلس هنا‪ -‬قالت أمينة‬
‫أخرياً ّ‬
‫‪ -‬نعم لنجلس‬
‫تسكتان بره ًة ريثما تلتقطان األنفاس‪ ،‬مث تقول غيداء‪ :‬ها ماذا برأيك‬
‫نفعل؟ ال أريد تفويت هكذا فرصة‬
‫أمينة ابنفعال‪ -‬وماذا ميكننا أن نفعل والشارع مزدحم ابخللق‪ ،‬بني‬
‫ِ‬
‫أنسيت هذا‬ ‫الرجل والرجل مخسة رجال‪ ،‬مث إ ّن ِ‬
‫أمك وأمي يف اخلراب‬
‫‪ -‬ال تكوين جبانةً ّي أمينة‪ ،‬دعينا نفعل شيئاً‪ ،‬فكري بشيء ال يلفت‬
‫النظر‬
‫تسكت أمينة وتدير وجهها للطريق‪ ،‬كذلك غيداء‪..‬‬
‫الصمت لدقائق مث تلتفت أمينة لغيداء‪ -‬هو ِ‬
‫رآك قبل هذا أليس‬ ‫ُ‬ ‫يسود‬
‫ُ‬
‫كذلك‬
‫‪ -‬رآين‬
‫ِ‬
‫سيعرفك‪ ،‬أو على األقل لن ينكرك إن مل يتذكرك‬ ‫‪ -‬إذن‬
‫‪ -‬صحيح‬
‫‪ -‬قبل أن أقول ِ‬
‫لك ما أفكر به‪ ،‬إذا جنحت اخلطة كم ستدفعني؟‬
‫وتضحك‬
‫تضرهبا غيداء على كتفها‪ -‬أهذا وقت ختفيف الدم‪ ،‬سيذهب الرجل‬
‫ِ‬
‫وأنت تستظرفني‪ ،‬الساعة اآلن احلادية عشرة ّي غبية‪.‬‬
‫أمينة على ضحكتها‪ -‬اهدئي اهدئي سأخربك‬
‫‪116‬‬
‫غيداء تضع مرفقيها على ركبتيها ووجهها يف كفيّها وتستمع‬
‫وأنت اآلن جبانبه هو وصديقه‪ ،‬سأتظاهر أبنين تعثرت‬‫‪ -‬سنمر أان ِ‬
‫ّ‬
‫هرع أحدمها‪.‬‬
‫وسقطت‪ ،‬سيُ ُ‬
‫أأقتل نفسي!‬ ‫ِ‬
‫تُقاطعها غيداء‪ّ -‬ي للغباء املُستفحل بك ّي أمينة ُ‬
‫‪ -‬مالك ّي جمنونة‬
‫ولظل الشارع‬
‫بعصبية‪ -‬لو فعلت هذا الجتمع علينا شارع اخلراب كلّه ّ‬
‫يتحدث ابلفتاة اليت سقطت شهراً كامالً‪ ،‬جمنونة ِ‬
‫أنت‪ ،‬نريد ماال يلفت‬
‫النظر ّي ذكية‬
‫كر ِ‬
‫أيته‬ ‫‪ -‬نعم نعم‪ ،‬امسعي إذن‪َّ ،‬ن ُّـر من ِ‬
‫أمامه هو وصاحبه‪ ،‬مثّ وكأنّ ِ‬
‫عينه ال تنزعي عينك مث ابتسمي وقفي‬ ‫عينك يف ِ‬
‫صدفة فإذا وقعت ِ‬
‫إيل بصوت يسمعهُ وقويل‪ :‬أمينة أمينة وتظاهري ابلفرح‪ ،‬مث‬ ‫والتفيت ّ‬
‫اتبعي‪ ،‬هذا هو الشاعر الذي اشرتينا ديوانه معاً‬
‫‪ -‬وبعد ذلك‬
‫‪ -‬طبعاً ال أدري‪ ،‬بعدها جيب أن تتصريف حبسب املوقف‪.‬‬
‫‪ -‬أخاف إذا وصلنا قربهُ أن أتخذي ابلضحك كعادتك وأن تفشل‬
‫التمثيلية‬
‫‪ -‬ال ال‪ ،‬ثقي يب هذه املرة‪.‬‬

‫•••••‬

‫‪117‬‬
‫ليت‬
‫دخلت غيداء بيتها‪ ،‬كم هو رائع‪ ،‬كم هو رقيق‪ ،‬كم هو ساحر‪َ ،‬‬
‫هذا اللقاء مل ينقطع‪ -‬تقول يف نفسها وهي تدخل غرفتها‬
‫تب ّد ُل مالبسها على عجل لتنزل إىل أمينة‬
‫تضرب اجلرس‪ -‬أمونة أين ِ‬
‫أنت‬ ‫ُ‬
‫أحر من اجلمر لتعرف نتائج اللقاء‪ ،‬تفتح‬
‫أمينة اليت تنتظر غيداء على ّ‬
‫الباب‪ -‬هللا يسمعنا األخبار الطيبة‬
‫تتفاجئ غيداء أب ّن سارة وبُشرى عند أمينة‪ ،‬تقرتب لتُقبل أمينة فتهمس‬
‫أمامهن‬
‫ّ‬ ‫يف أُذهنا‪ -‬ال تفتحي املوضوع‬
‫و بصوت مرتفع حّت ال يسمعن مهس غيداء تقول أمينة‪ -‬أهالً أهالً‬
‫غيداء‬
‫غيداء‪ّ -‬ي سالم بشرى وسارة هنا‬
‫حّت املساء‪.‬‬ ‫ِ‬
‫عليهن وجيلسن يف اجلنينة ّ‬
‫ّ‬ ‫تُسلم‬

‫أخربهن‬
‫ّ‬ ‫غادرت بشرى وسارة أخرياً‪ ،‬قالت غيداء ألمينة‪-‬ال أريد أن‬
‫أنين رأيت شاكر اليوم‪ ،‬يكفي أنين كسبت التحدي وحدثته على اهلاتف‬
‫أمامهن البارحة‪ ،‬ال داعي ألن يعرفن أكثر‪.‬‬
‫ّ‬
‫أمينة‪ -‬إذا بدأت الفتاةُ ابلكتمان فإهنا يف الطريق إىل اهلاوية‬
‫‪-‬ال تتفلسفي كثرياً‪ ،‬قومي وأحضري لنا شيئاً نشربه‪ ،‬ألحكي ِ‬
‫لك عن‬
‫لقائي به اليوم‪.‬‬
‫فإّي ِك أن تستنجدي يب فلن أُساعدك‬ ‫ِ‬
‫‪ -‬أان أتفلسف!؟‪ ،‬إذا وقعت ّ‬
‫‪118‬‬
‫‪ -‬أأهو ُن ِ‬
‫عليك؟‬ ‫ْ‬
‫‪ -‬نذلة‪ ،‬ستبقني طوال حياتك نذلة وتبتسم‪ ،‬مث تذهب لتحضر شيئاً‬
‫يُشرب‪.‬‬
‫تسأل غيداء نفسها‪ -‬ماذا يفعل اآلن؟‬
‫ُ‬
‫تتمثل عيناه أمامها لتنسيها سؤاهلا‪ ،‬فتقول يف نفسها‪ -‬ما أمجل عينيه‬
‫ُ‬
‫ورمشيه يستحيل أن تكوان جمرد عينني‪ ،‬سحر وهللا سحر‪.‬‬
‫جواهلا وتدخل قائمة االتصال وتنظر يف امسه‪ ،‬أتصل؟ ال‬ ‫تفتح قفل ّ‬
‫أتصل‪ ،‬سأتصل قبل أن تعود أمينة‪.‬‬
‫كا َن يف بيته يقف أمام املرآةِ ُميشط شعره استعداداً للخروج إىل اخلراب‬
‫أو املسبح البلدي مل تكن خطرت له بعد فكرة أن يتصل بتوفيق‪ ،‬مسع‬
‫اجلوال‪ -‬مرحبا‬
‫اجلوال على السرير وضع املشط وأخذ ّ‬
‫صوت ّ‬
‫غيداء‪ -‬أهالً أهالً‬
‫بك ويضحك‬ ‫‪-‬أهالً ِ‬
‫‪ -‬وتضحك بعد فعلتك؟ ّيلك من‪ ،...‬وتسكت‬
‫ميوت ميّـتُك؟‬
‫يضحك أكثر‪ -‬أال ُ‬
‫‪ -‬كيف سيموت كيف إهنا ثالث ساعات يف الشمس ّي ظامل تقفها فتاةٌ‬
‫ينظر إليها القاصي والداين‪ ،‬هذا يسمعها غزالً وهذا يضحك هلا و هذا‬
‫حياول أن يعرض خدماته بتوصيلها حيث تريد‪ ،‬وحده الذي كانت‬
‫تنتظره مل أي ِ‬
‫ت!‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫‪ -‬ال تقويل هذا‪ ،‬قلت ِ‬
‫لك ظريف‪ ،‬لقد أخذين النوم وغدر يب املنبه ملاذا‬
‫ال تُصدقينين؟‪.‬‬
‫‪ -‬وأين أنت اآلن؟‬
‫‪ -‬يف البيت أستعد للخروج‬
‫‪ -‬إىل أين؟‬
‫‪ -‬إىل اخلراب أو املسبح البلدي‪ ،‬مل أحدد بعد‬
‫‪ -‬أيهما اخرتت ال فرق‪ ،‬فالنساء كثريات يف املسبح واخلراب كذلك‬
‫‪ -‬أف!‪ ،‬ما عالقيت أان بذلك‬
‫‪ -‬ال أعرف أنت مسكني وال هتتم للنساء أبداً‪ -‬وتضحك‬
‫يضحك‪ -‬صدقيين آخر ما أُفكر به‬
‫تضحك‪ -‬صدقتك‬
‫‪ -‬ساُمك هللا‬
‫هنا تدخل أمينة وبيديها صينية فواكه وكأسني من عصري الليمون البارد‪،‬‬
‫صدر صواتً وهي ُجتيبه‪ -‬ساُمنا هللا مجيعاً‬
‫تُشري هلا غيداء بيدها أال تُ َ‬
‫‪ -‬آمني‪-‬‬
‫‪ -‬ها قل يل ماذا فعلت بعدما أوصلتين البيت‬
‫‪ -‬ال شيء‪ ،‬تغديت وزرت بيت جدي مث عدت لبييت وَّنت ساعتني‬
‫واستيقظت ألستعد للخروج‬
‫بضحكة‪ -‬يعين استيقظت‬
‫الت انئماً‪ ،‬ويضحك‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬ماز ُ‬
‫‪120‬‬
‫‪ -‬ال أطيل عليك‪ ،‬انتبه لنفسك‬
‫‪ -‬سأفعل‪ِ ،‬‬
‫وأنت كذلك‬
‫‪ -‬إذا رجعت اتصل يب ألطمئن عليك‬
‫‪ -‬كوين مطمئنة‪ ،‬سأفعل‬

‫حّت ولو بسؤال هل‬‫تنتهي املكاملة وتلتفت ألمينة‪ -‬مل يكلّف خاطره ّ‬
‫فعلت بعدما تر ِ‬
‫كتك‪ ،‬أي سؤال أي سؤال‪ ،‬فضالً عن أنه‬ ‫تغديت‪ ،‬ماذا ِ‬ ‫ِ‬
‫كان من املفروض بعد اللقاء أن يتصل هو يب ال أان‪.‬‬
‫لك اتصلي ِبه؟‬ ‫أنت وقال ِ‬
‫أمينة‪ -‬ومن ضربك على يدك ِ‬
‫وهي تضع الليمون أمامها‪ -‬ال أحد‪ ،‬فقط أحببت أن أعرف أين هو‬
‫اآلن‪ ،‬فضول!‪ ،‬ليس إال‪.‬‬
‫‪ -‬سرتُك ّي رب من هذا الفضول الذي يطاردان منذ البداية‬
‫فور عودتك ألطمئن عليك‬ ‫‪ -‬مث ملاذا ضحك عندما قلت له اتصل يب َ‬
‫ِ‬
‫طلبك هذا تصريح ُمبطّن ابالهتمام‪،‬‬ ‫غيب مثلك‪ ،‬يف‬ ‫ِ‬
‫‪ -‬أل ّن طلبك ٌّ‬
‫واالهتمام حب‪.‬‬
‫ال يعجبها كالم أمينة‪ ،‬صحيح أهنّا بدأت تشتاق للحديث معه لكنها‬
‫فعالً تريد أن تطمئن عليه‪.‬‬

‫عود بذاكرهتا إىل الوراء قليالً‪..‬‬


‫يسود الصمت‪ ،‬وت ُ‬
‫ُ‬

‫‪121‬‬
‫مرت هي وأمينة من ِ‬
‫أمامه هو وأمري‪ ،‬ومثّلت الدور الذي اتفقت مع‬ ‫ّ‬
‫أمينة عليه برباعة قل نظريها‪ ،‬عرفها فوراً من ِ‬
‫أول نظرة‪ ،‬ماذا يقول؟ مأل‬ ‫ّ‬
‫اخلجل وجهه وبدا واضحاً عليه‪ ،‬تداركت أمينة املوقف‪ -‬هللا ما أمجل‬
‫ُ‬
‫ديوانك أستاذ شاكر‬
‫الوجود مجيال كما يقول أيب ماضي‬
‫َ‬ ‫شاكر بذات اخلجل‪ -‬اجلميل يرى‬
‫مرة أعدان قراءة الديوان أان وصديقيت‪ ،‬ممتع جداً‬
‫أمينة‪ -‬لو تعرف كم ّ‬
‫يبتسم أمري‪ -‬كم قلت له هذا ولكنه ال يُصدق‬
‫كل ذي حق حقه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫لكن لنعط ّ‬
‫غيداء‪ -‬التواضع ضرورة أستاذ شاكر ّ‬
‫أنت مبدع يف زمن الالإبداع‬
‫شاكر خبجل واضح‪ -‬أشكركم مجيعاً‪ ،‬وسعيد بكم جداً‬
‫عندك أستاذ‬
‫طلب َ‬‫غيداء‪ -‬ال نريد أن نقف كثرياً هكذا أمام الناس‪ ،‬لنا ٌ‬
‫شاكر‬
‫رحباً‪ -‬طلبك جماب تفضلي‬
‫شاكر ُم ّ‬
‫‪ -‬هائمةٌ أان يف عامل الكتابة‪ ،‬هل أستطيع التواصل معك عرب اهلاتف‬
‫وأخذ رأيك من حني إىل حني فيما أكتب‪ ،‬صحيح أين جديدة على‬
‫ولكن رأيك يعين يل الكثري‪ ،‬وأرجوك ال‬
‫الكتابة وال أرقى لك أبداً ّ‬
‫مين‪ ،‬إن كنت ال تسطيع قل ال أستطيع‪.‬‬
‫تستحي ّ‬
‫هنا تدوس أمينة بقدمها قدم غيداء اعرتاضاً على آخر كالمها‬
‫‪ -‬ال مانع‪ ،‬يُسعدين‪ ،‬تفضلي الرقم‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫عرف أهنا تريد رقمه ألجله ال ألجل‬
‫كا َن ملّاحاً‪ ،‬قرأ يف عينيها ما تُريد‪َ ،‬‬
‫ِ‬
‫والتقت األرواح‪ -‬قال يف نفسه‬ ‫ِ‬
‫آتلفت القلوب‬ ‫شيء آخر‪،‬يبدو أهنا‬
‫وهي أتخذ الرقم وتذهب‪.‬‬

‫ِ‬
‫سرحت؟ اشريب‬ ‫أمينة تلوح بكفها أمام وجه غيداء‪ -‬غيداء غيداء أين‬
‫الليمون‬
‫غيداء تنتبه‪ -‬ال ال مل أسرح‪ ،‬فقط كنت أفكر ماذا سنفعل يف الغد‬
‫أمينة تُصفق وتُصفر بتهكم‪ -‬نعم نعم صدقتك‪ ،‬وتضحك‬
‫حّت ال تضحكي اثنية‪.‬‬ ‫ِ‬
‫تلسعها غيداء يف كتفها بغيظ‪ -‬هذه اللسعة ّ‬
‫تنفجر أمينة ابلضحك أكثر‪.‬‬
‫حيدث نفسه‪ -‬هل أتصل هبا حبجة أنين أفعل ما طلبت‬
‫دخل منزله وهو ُ‬
‫"لتطمئن أنين عدت خبري"‪ ،‬ال الوقت متأخر اآلن‪ ،‬ال ال ليس متأخراً‬
‫هي ملا اتصلت البارحة اتصلت بعد الواحدة‪.‬‬
‫يدخل احلمام ليستحم‪ ،‬وبعدها يلبس بيجامته مث يصلي الوتر ويستلقي‬
‫على سريره‪.‬‬
‫ماذا جرى للنوم؟ يسأل نفسه بعد نصف ساعة وهو يتقلب يف فراشه‬
‫حاول لساعة كاملة لكنه مل يستطع‪ ،‬هكذا‬
‫ولقاء اليوم ال يفارق رأسه‪َ ،‬‬
‫حنن للنوم‪.‬‬
‫نذهب ُ‬
‫ُ‬ ‫ظ عندما‬
‫هو األرق يستيق ُ‬
‫حّت أيتيه شيءٌ من نعاسه الذي طار ما أن استلقى على‬
‫قرر أن يقوم ّ‬
‫صنع قهو ًة وخرج إىل البلكون‪ ،‬عادت لهُ فكرةُ االتصال هبا‬
‫فراشه‪َ ،‬‬
‫‪123‬‬
‫لكن الوقت أتخر جداً‪ ،‬قال له قلبه اتصل هبا وبعد أول رنّة اقطع اخلط‬
‫ّ‬
‫فإن كانت مستيقظة تُعاود االتصال بك‪ ،‬مل يعجبه رأي قلبه‪ ،‬خشي إذا‬
‫أخذ هبذا الرأي أن تظُ ّن أنه ال ميلك رصيداً كافياً‪.‬‬
‫احلب دائماً أيتيك بغتة‪ ..‬أاتهُ اتصاهلا الذي مل يتوقع‪ ،‬ارتبك‬
‫وكما هو ّ‬
‫عور مل يعرفه من قبل ابلرغم من مروره‬
‫ملا رأى امسها على شاشته‪ ،‬إنه ش ٌ‬
‫لكن ارتباكه هذا‬
‫ابلكثري من العالقات العمليّة والدراسيّة مع فتيات‪ّ ،‬‬
‫كا َن ُمفوفاً بسرور ال يعرف مصدره‪ ،‬فتح اخلط وهبمس‪ -‬أهالً‬
‫طمئين عليك؟‬
‫حاولت النوم لكنين مل أستطع‪ ،‬ملاذا مل تُ ّ‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫وخشيت أن تكوين انئمة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫عدت ُمتأخراً‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬كنت سأفعل لكنين‬
‫واستحييت من االتصال يف وقت متأخر‬
‫‪ -‬يف املرات القادمة اتصل يف أي وقت ال ختجل‪ ،‬أان أريد هذا‪ ،‬اتصل‬
‫يف أي وقت ويف أي ظرف ال ترتدد‬
‫‪ -‬ملاذا مل تستطيعي النوم‬
‫بقيت يف فراشي أكثر من ساعة وما زلت ومل أستطع‬
‫‪ -‬ال أعرف‪ُ ،‬‬
‫النوم‪.‬‬
‫حّت خرجت إىل البلكون وصنعت قهوة وجلست‬
‫‪ -‬مثلي متاماً‪ّ ،‬‬
‫‪ -‬أحس ُد القهوة‬
‫يتغاىب وهو يبتسم‪ -‬مل حتسدينها؟‬
‫‪ -‬ال دخل لك‪ ،‬هذا بيين وبينها‬
‫‪ -‬وأان أحسدها كذلك‬
‫‪124‬‬
‫‪-‬مل حتسدها؟‬
‫‪-‬ال دخل لك‪ ،‬هذا بيين وبينها‬
‫بغيظ‪-‬شاكر‪ ،‬ال تقلدين‬
‫هبمس‪-‬هل لشاكر بطلب على أن ال يُرد؟‬
‫بدالل‪-‬على حسب الطلب‬
‫ِ‬
‫وافقت أطلبه وإال فال‬ ‫‪-‬ال‪ ،‬إذا‬
‫‪-‬طبعاً أوافق‬
‫‪-‬أعيدي نُطق امسي مرة اثنية‬
‫بدالل‪ -‬هذا هو الطلب‬
‫مرة يف حيايت أمسع امسي‬
‫‪-‬صدقيين وكأنين ألول ّ‬
‫بغنج‪ -‬ال تبالغ شاكر‬
‫‪-‬هللا هللا ما أعذبه من فمك‬
‫أيكلها اخلجل‪ -‬شكراً‬
‫أموت يف شكراً!‪.‬‬
‫‪ُ -‬‬
‫‪-‬ما أحلى كالم الشعراء‬
‫‪-‬ليس كل الشعراء‬
‫كل الشعراء!‬
‫‪-‬أنت عندي ّ‬
‫مل يتوقع هذهِ اإلجابة بعد أقل من ‪ 24‬ساعة على لقاء أول‪ ،‬سكت‬
‫قليالً مث قال هلا‪ -‬شكراً‬
‫‪-‬ألن تُسمعين شيئاً من شعرك؟‬
‫‪125‬‬
‫صوتك ال حي ّق لصوت أن ينبس ِ‬
‫ببنت شفة‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬أمام‬
‫‪-‬ال ال‪ ،‬أريد أن أمسع شيئاً هيا‪.‬‬
‫‪-‬ال تستعجلي رزقك‪ ،‬قد تسمعني شيئاً ُكتب لك ِ‬
‫أنت‬
‫تنهض من فراشها‪ -‬هل أنت جاد!؟‬
‫يكتب إال المرأة‬
‫ُ‬ ‫يكتب المرأة عابرة‪ ،‬ال‬
‫ُ‬ ‫الشاعر ال‬
‫َ‬ ‫تؤمن أ ّن‬
‫كانت ُ‬
‫طرقت ابب قلبه على أقل تقدير‪ ،‬أو دمرت النخاع الشوكي لعاطفته‬
‫كما يقول نزار قباين‪ ،‬وهلذا انتفضت ملا قال هلا" قد تسمعني شيئاً ُكتب‬
‫لك ِ‬
‫أنت" فرحتها أبن يكتب هلا شعراً مل تُل ِغ غريهتا اليت اشتعلت ملّا‬
‫سر وتغار يف آن معاً؟‪ ،‬فقوله "‬
‫أمامك تُ ّ‬
‫َ‬ ‫جتعل امرأةً‬
‫قال هلا هذا‪ ،‬كيف ُ‬
‫تدرك أنه‬
‫أنت" يعين أنه كتب لغريها‪ ،‬هي ُ‬ ‫قد تسمعني شيئاً ُكتب لك ِ‬
‫كتب لغريها وقد يكون كتب ألكثر من فتاة ومل يقتصر على واحدة‪،‬‬
‫هن واثرت‪.‬‬‫لكن غريهتا اشتعلت ض ّد ّ‬
‫ّ‬
‫أجاهبا‪-‬نعم أان جاد‪ ،‬مل ِ‬
‫أنت ُمستغربة؟‬ ‫َ‬
‫‪-‬ليس استغراابً بقدر ما هو سعادة‬
‫‪-‬ال أعدك‪ ،‬لكنين أظن أن قليب سيكتب ِ‬
‫لك‬ ‫ّ‬
‫كتب لكثريات قبلي‬
‫تنتهز الفرصة‪ -‬يبدو أن قلبك َ‬
‫مر حيايت مل أعش جتربة عاطفية حقيقة‬
‫‪-‬تتحدثني وكأنين زير نساء‪ ،‬على ّ‬
‫‪-‬نعم والدليل قصائد ديوانك‬
‫يضحك فقط‬
‫‪ -‬عموماً هذا أمر ال يعنيين يف شيء‬
‫‪126‬‬
‫وغين يل‪ ..‬أو ّد استماع‬
‫فهم شاكر ما ترمي إليه فقال‪ -‬دعينا منه إذن‪ّ ،‬‬
‫َ‬
‫شيء من صوتك اجلميل‬
‫‪ -‬ال شاكر‪ ،‬إال الغناء‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫‪ -‬صويت ُمفزع‪ ،‬وتضحك‬
‫حّت غنّت له بعد‬ ‫ِ‬
‫صوتك كيفما ما كان‪ ،‬ومازال هبا ّ‬ ‫أحب‬
‫‪ -‬ال ال أان ّ‬
‫تسحب كلمة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أن اشرتطت عليه أن يغين قبلها‪ ،‬وهكذا‪ ..‬كلمةٌ‬
‫حّت‬
‫تلحق أبغنية ّ‬
‫تبعث ضحكة‪ ،‬وأغنيةٌ ُ‬‫جير حديثاً وضحكةٌ ُ‬
‫وحديث ّ‬
‫ٌ‬
‫قال هلا‪ -‬سأغلق اآلن‬ ‫ِ‬
‫األسود من الفجر‪َ ،‬‬ ‫ط األبيض من ِ‬
‫اخليط‬ ‫بدا اخلي ُ‬
‫ُ‬
‫ألصلي الفجر‪.‬‬
‫‪ -‬وأان كذلك‪ ،‬اتصل يب إذا فرغت وذهبت إىل فراشك‪.‬‬
‫وغسل ركوة القهوة‬
‫َ‬ ‫وقام إىل "البلكون" فرتبهُ‬
‫الفجر وصلّت َ‬
‫َ‬ ‫صلّى‬
‫النعس يهامجهُ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وفنجانه وذهب إىل فراشه‪ ،‬بدأ‬
‫اتصل هبا فلم ُجتب‪..‬‬
‫عادت هي واتصلت ِبه وهو على وشك النوم‬
‫‪ -‬أهالً غيداء‬
‫‪ -‬أهالً بك‬
‫‪ -‬ها ماذا ستفعلني اآلن‬
‫‪ -‬سأنتظرك‬
‫ُمستغرابً‪ -‬ماذا تقصدين‬
‫‪127‬‬
‫تضحك‪ -‬أال تود رؤييت؟‬
‫‪ -‬اآلن!!‬
‫‪ -‬نعم اآلن‪ ،‬سأقف على البلكون وتعال أنت بسيارتك وقف أسفل‬
‫البناية‪ ،‬اجلميع انئمون هنا‪ ،‬والشوارع فارغة‪.‬‬
‫يبدأ نعسه ابلتالشي‪ -‬لكن سآيت ابلبيجامة ويضحك‬
‫‪ -‬وأان ابلبيجامة أيضاً‪ ،‬تعال‬
‫تقف‬
‫حّت استقر حتت بيتها‪ ،‬رآها ُ‬ ‫ماهي إال دقائق ال تتجاوز العشر‪ّ ،‬‬
‫الشمس أشرقت‬
‫ُ‬ ‫وتلوح له بك ّفها‪ ،‬مل تكن‬
‫ببيجامتها ذات اللون الزهري ّ‬
‫بعد‪ ،‬إَّنا تفتّح لون السماء ُمعلناً شروقها القادم‪ ،‬بدأ حيدثها على اجلوال‬
‫الشمس قبل موعدها هذا الصباح‬ ‫ِ‬
‫أشرقت‬ ‫وهي أمامه على البلكون‪:‬‬
‫ُ‬
‫وابتسم‪.‬‬
‫‪ -‬ما أشطرك يف الغزل‬
‫نصف هذا اجلمال‬
‫‪ -‬آه لو أ ّن الغزل يُ ُ‬
‫تسكت خجالً مث تقول‪ -‬أحقاً أُعجبُك‬
‫ِ‬
‫أمسعت أبحد ال يعجبهُ القمر‬ ‫‪ -‬ما هذا السؤال؟‬
‫تضحك‪ -‬شكراً‬
‫‪ -‬أمتىن أال تكون جماملة‬
‫ِ‬
‫جاملتك يف االتصال األول بيننا لو كنت أجامل‬ ‫كنت‬
‫‪ُ -‬‬
‫‪-‬صحيح‪ ،‬قطفت لك قبل أن تصل ّيمسينة‪ ،‬انزل من السيارة ستجد‬
‫ابب البناية مفتوح‪ ،‬ادخل وأغلقه خلفك وسأنزل لك‪.‬‬
‫‪128‬‬
‫•••••‬

‫تقف أمام‬ ‫ِ‬


‫تنظر وراء النجوم قليالً وأن َ‬
‫عليك أن َ‬
‫قبل أن تبدأ احلب‪َ ..‬‬
‫َ‬
‫قبل‬
‫أسك وانظر يف الداخل َ‬ ‫أطل بر َ‬
‫اببه هنيهة مث إذا فتُح لك الباب ّ‬
‫ترى‬
‫الذين َ‬
‫َ‬ ‫انظر إىل القتلى أمامك‪ ،‬هؤالء‬
‫ختطو اخلطو َة األوىل‪َ ،‬‬
‫أن َ‬
‫تسيل من اشتياقاهتم‪ ،‬تستطي ُع‬
‫ُ‬ ‫تسيل من قلوهبم‪ ،‬ودماؤهم‬
‫ُ‬ ‫دموعهم‬
‫النظر أكثر فال تستعجل خطوتك‪ ،‬قبل أن تبدأ احلب فكر وسل‬ ‫َ‬
‫أي موت ُحتب؟؟ رمياً ابلفراق؟ خنقاً ابحلنني؟ أم دهساً‬ ‫نفسك َ‬
‫َ‬
‫أعرف متاماً ماذا تريد‪،‬‬
‫بوعكة شوق؟ ُ‬‫ِ‬ ‫املوت‬
‫فضل َ‬ ‫ك تُ ُ‬‫ابلذكرى؟‪ ،‬أم أنّ َ‬
‫وجدهم‬
‫ُ‬ ‫املوت على صد ِر من حيبّون‬
‫َ‬ ‫الذين متنّوا‬
‫أفق ّي مسكني كل َ‬
‫الناس صرعى إما على حافّ ِة لقاء‪ ،‬أو على سرير البعد وقد ماتوا ِ‬
‫بداء‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫فاعل‬
‫قبل أن تبدأ احلب‪ ..‬انظر ملن اختارهُ قلبك‪ ،‬ماذا هو ٌ‬ ‫املسافة‪َ ،‬‬
‫النفس البشريةُ تتو ُق ملا ال متلك وتزه ُد فيما متلك‪،‬‬
‫ُ‬ ‫احلب؟‪،‬‬
‫بك بعد ّ‬ ‫َ‬
‫كل ابتسامة للحب طعنة‪ ،‬انتبه ال‬‫اء ِّ‬ ‫تبسم احلب لك َّ‬
‫فإن ور َ‬ ‫نك ُ‬ ‫يغر َ‬
‫ال ّ‬
‫ك غدرا فتُلقى من أعالهُ ألسفله‪ ،‬أنصحك اآلن فلن جتد أحداً‬ ‫أيخذنّ َ‬
‫عليك أوالً أن‬
‫حّت تبدأ احلب َ‬
‫القاتل ابالبتسامة‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫أيخ ُذ لك بثأرك‪ ،‬إنهُ‬
‫قلبك لتفوز به‪.‬‬
‫ختسر َ‬ ‫ُّ‬
‫يستحق أن َ‬ ‫تتعلم الصرب‪ ..‬ال أحد يف هذا العامل‬

‫ِ‬
‫أصدقائه‪.‬‬ ‫قرأ شاكر هذا الكالم يف منشور "فيس بوك" ألحد‬
‫ما هذا التشاؤم‪ -‬قال يف نفسه‪ ،‬مث كتب يرد‪:‬‬
‫‪129‬‬
‫يتغلغل فيك‬
‫ُ‬ ‫يستأذنك احلب‪ ،‬ال مينحك فرص َة التفكري‪ ،‬عندما‬
‫َ‬ ‫ال‬
‫عليك بنظرة!‪ ،‬جييءُ فجأ ًة كسكتة قلبية‪ ،‬ومع‬
‫يسرقك منك‪ ،‬يقضي َ‬ ‫َ‬
‫نطلب من احلُ ِّ‬
‫ب أن يكو َن مجيالً‬ ‫ُ‬ ‫كيف‬
‫هذا فإننا املالمو َن ال احلب‪َ ،‬‬
‫ِ‬
‫وحنن‬
‫يستمر إىل النهاية ُ‬
‫ّ‬ ‫نطلب من ِّ‬
‫احلب أن‬ ‫ُ‬ ‫كيف‬
‫وحنن نُقط ُّر قُبحاً؟ َ‬
‫ُ‬
‫نطلب من احلب أن مينحنا‬
‫ُ‬ ‫من يضع احلواجز أمامهُ ومن يعتقله؟ كيف‬
‫ب ابلرحيل؟ كيف نطلب من احلب‬ ‫ُدد من ُحن ّ‬
‫وحنن يف كل حلظة هن ُ‬
‫البقاء ُ‬
‫وحنن‬
‫نطلب من احلب أن يكو َن أميناً ُ‬‫ُ‬ ‫وحنن نتجاهله؟ كيف‬‫يهتم بنا ُ‬‫أن ّ‬
‫احلب إذا أحرقنا بشوق أو كواان حبنني‪،‬‬
‫الم ّ‬ ‫خنونه صباح مساء؟ ال يُ ُ‬
‫الذئب‬ ‫الم‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫فنحن ُحنرقهُ جتاهالً ونكويه إمهاال‪ ،‬وكما يقول أبو ريشة " ال يُ ُ‬
‫ُ‬
‫يستحق احملاسبة ال‬ ‫حنن من‬ ‫عدو ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫الغنم" ُ‬ ‫يك الراعي ّ‬ ‫عدوانه‪ ..‬إن ُ‬ ‫يف‬
‫احلب‪ ،‬أيّها األحبة قبل أن تلوموا احلب لوموا أنفسكم‪.‬‬

‫تقرأ غيداء ألمينة هذا املنشور بعد أن أخربها فيس بوك "علّق شاكر‬
‫عريب عند فالن" وتقرأ هلا ر ّد شاكر‪ ،‬وتلتفت إليها‪ -‬ما ر ِ‬
‫أيك ّي أمينة؟‬
‫‪ -‬احلب‪ ..‬آه من احلب‪ ،‬وآه منّا حنن‪ ،‬كالمها ُُم ّق ّي غيداء‪ ،‬كالمها‬
‫ُُم ّق‪.‬‬

‫•••••‬

‫‪130‬‬
‫إنين مؤمن ّي صديقي أ ّن اجلميالت هلذا احل ّد متعبات ِ‬
‫ألبعد حد‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫ِ‬
‫حديثه عن مجاهلا‬ ‫‪-‬قاهلا شاكر ألمري يف هناية‬
‫التعب مع امرأة مجيلة خريٌ من أن‬
‫ُ‬ ‫ابتسم أمري وقال‪ -‬أن يستعبدين‬
‫تؤمرين الراحة مع امرأة قبيحة‪.‬‬
‫ّ‬
‫كأس امللّيسة على الطاولة‪ -‬كم مرة سأقول لك اجلمال أمر نسيب‬
‫يضع َ‬
‫ُ‬
‫وأنهُ ال يوج ُد امرأةٌ قبيحة ّي أمري؟‬
‫القبيحات ُكثر‪ ،‬وليس القبح مقتصراً على اخللقة‬
‫ُ‬ ‫‪-‬بل‬
‫‪-‬دعنا من هذا اآلن‪ ،‬اهتمامها ّي أمري‪ ،‬اهتمامها يب بدأ أيخذ مساراً‬
‫من نوع آخر‪ ،‬ماذا تُفسر هذا؟‬
‫‪-‬االهتمام هو احلب‬
‫‪-‬أصغر طفل يف العامل يعرف هذا‪ ،‬املشكلة أنين ال أريد احلب‬
‫‪-‬واضح‪ ،‬وهلذا منذ ثالثة أّيم وذكرها ال يفارق لسانك‬
‫‪ّ-‬ي أمري ّي أمري أنت تعرفين جيداً‪ ،‬ليست أول فتاة يف حيايت متر‪ ،‬ملاذا‬
‫يريدها احلب هي وليس غريها مثالً؟‬
‫يطفئ سيجارته‪ -‬ال يستشريان احلب ّي شاكر‪ ،‬لقاؤك ومعرفتك‬
‫ابلكثريات ال شيء‪ ،‬احلب حالة خارجة عن إرادتنا حنن‪ ،‬إهنا القلوب‬
‫فنحن‬
‫سريون‪ ،‬على عكس احلياة ُ‬ ‫حنن ُم ّ‬
‫احلب ُ‬
‫تفرض علينا احلبيب‪ ..‬يف ّ‬ ‫ُ‬
‫ُمريو َن معاً‪.‬‬
‫مسريو َن ّ‬
‫ّ‬
‫أخذت اليامسينةَ منها نظرت يف عينيها‪ ..‬ال أابلغ ّي أمري‬
‫ُ‬ ‫يتنهد‪ -‬ملّا‬
‫أمجل من اليامسينة بكثري‬
‫وهللا ال أابلغ هي ُ‬
‫‪131‬‬
‫يضحك أمري‪.‬‬
‫يغتاظ شاكر‪ -‬أندم كلما قلت لك شيئاً‬
‫ولك أيها اجملنون‬
‫بك َ‬ ‫أمري على ضحكته‪ -‬وهللا إنين سعي ٌد َ‬

‫•••••‬

‫متزقوا حرقةً‪ ،‬تقطّعوا غريةً‪ ،‬ال‬


‫الذين ال يؤمنو َن ابحلب‪ ..‬موتوا بغيظكم‪ّ ،‬‬
‫َ‬
‫وابحلب‬
‫ّ‬ ‫ابحلب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫حنن أثبتنا للعامل كله‬
‫زلتم تؤمنون أن ‪ 2=١+١‬بينما ُ‬
‫قلبان بنبض واحد‪ِ ،‬‬
‫قلمان‬ ‫فقط أ ّن ‪ ،١=١+١‬روحان يف جسد واحد‪ِ ،‬‬
‫ِ‬
‫دمعتان حلزن واحد‪ ،‬كيف يصري‬ ‫ِ‬
‫ضحكتان لفم واحد‪،‬‬ ‫ِ‬
‫لشعر واحد‪،‬‬
‫شاق‪ ،‬فهذهِ املعادالت ال يستوعبها علماء‬
‫االثنان واحداً؟‪ ،‬سلوا الع ّ‬
‫الرّيضيات‪.‬‬
‫كيف تبكي حلزن ليس حزنك؟ كيف تفرح لفرح ال ُيصك؟ سلوا‬
‫َ‬
‫كيف تستمر‬
‫ساعات اللقاء كجزء من اللحظة!؟‪َ ،‬‬
‫ُ‬ ‫كيف متر‬
‫العشاق‪َ ،‬‬
‫شاق‪ّ ،‬ي أيّها‬
‫مكاملة هاتفية ساعات بغري انقطاع وال ملل!؟‪ ،‬سلوا الع ّ‬
‫شاق نعذركم وال نلومكم‪ ،‬أيُالم أعمى‬ ‫حنن الع ّ‬
‫الذين ال يؤمنو َن ابحلب ُ‬
‫صلوا أنتم‬ ‫على شيء مل يره؟‪ ،‬موتوا بغيظكم ودعوان نعيش ابحلب‪ِ ،‬‬
‫ُ‬
‫ألهدافكم وطموحاتكم ودعوان نضيع يف احلب دو َن وصول‪ ،‬متادوا يف‬
‫‪132‬‬
‫حنن العشاق مؤمنو َن‬
‫الكره ما شئتم ودعوان نُسرف يف احلب ما شئنا‪ُ ،‬‬
‫حب يومية على األقل‬
‫حيتاج جلرعة ّ‬
‫يضج ابلدماء ُ‬
‫أن هذا العاملَ الذي ّ‬ ‫َّ‬
‫مل منه املوت‪ ،‬هذا العامل‬
‫ليستمر على قيد احلياة‪ ،‬هذا العامل الذي ّ‬
‫الغار ُق يف الكرهِ‬
‫تقف ُمهمل ًة على مينائه‪.‬‬ ‫وقوارب ِّ‬
‫احلب ُ‬ ‫ُ‬
‫جربوا أن‬ ‫ِ‬
‫النوم ليلةً يف أحضان القمر‪ّ ،‬‬
‫جربوا َ‬‫الذين ال يؤمنو َن ابحلب‪ّ ..‬‬
‫َ‬
‫جربوا الطريان بغ ِري أجنحة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫تستيقظوا صباحاً على ضفاف الشمس‪ّ ،‬‬
‫ليس أمراً هيّناً يف كوكب طاعن‬
‫احلب َ‬
‫نعرف جيداً أ ّن َّ‬
‫حنن العشا ُق ُ‬ ‫ُ‬
‫أردت‬
‫اإلحبار بسفينة ُمهرتئة على اليابسة‪ ،‬لكن إذا َ‬
‫َ‬ ‫ابلكره‪ ،‬وأنهُ يُشبهُ‬
‫أسخف‬
‫َ‬ ‫عليه ابلتحدي‪ ،‬ما‬‫عليك أن حتصل ِ‬
‫َ‬ ‫أن تشعر ِ‬
‫بقيمة الشيء‬ ‫َ‬
‫جربوا أن تكتبوا قصيدة‪،‬‬
‫الذين ال يؤمنو َن ابحلب ّ‬
‫احلب السهل‪ّ ،‬ي أيُّها َ‬
‫َّ‬
‫أن تقرأوا قصيدة‪ ،‬فقراءةُ قصيدة حب واحدة تكفي لتطهري آالف‬
‫الذين ال يؤمنو َن ابحلب ويف صدورهم ُمضغةٌ‬
‫القلوب من الكره‪ّ ،‬ي أيُّها َ‬
‫ي ّدعو َن أهنا قلب‪ ..‬موتوا بكرهكم!‪.‬‬

‫ينشر عساكرهُ يف قلبيهما‬


‫واحلب ُ‬
‫ُّ‬ ‫ولقاءات ثالث‪..‬‬
‫ٌ‬ ‫سبعة عشر يوماً‬
‫قاب قوسني أو أدىن من‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫القتحام روحيهما ومها يعلمان أهنمـا َ‬ ‫ط‬
‫وُيط ُ‬
‫ُ‬
‫سقوطهما عاشقني‪ ،‬ال‪ ،‬فاحلقيقة هي ّأهنما سقطا عاشقني من اللقاء‬
‫ِ‬
‫إلعالن سقوطهما أسرى يف يديه أمام‬ ‫احلب كان ُيطط‬
‫ولكن ّ‬
‫األول‪ّ ،‬‬
‫العامل‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫حي الوعر‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وقف بسيارته يف ّ‬
‫كانت الساعة الرابعة والنصف عصراً ملّا َ‬
‫الباب وصعدت ُمبتسمةً‪ -‬مرحبا‬
‫فتَحت َ‬
‫ُمبتسماً‪ -‬أهالً وسهالً‬
‫أمجل املقال‬
‫تُغلق الباب وتلتفت حنوه‪ -‬ما َ‬
‫ظ ِ‬
‫املقال وكاتبه‬ ‫تتضاعف ابتسامته‪ّ -‬ي حل ّ‬
‫ُ‬
‫ابحلب‪..‬‬
‫ّ‬ ‫الذين ال يؤمنو َن‬
‫‪َ -‬‬
‫‪-‬موتوا بكرهكم‬
‫لك هذا النثر ّي شاكر من أين؟‬
‫تبتسم‪ -‬هللا‪ ..‬من أين َ‬
‫عينيك‪ ،‬ويضحك‬‫ِ‬ ‫وهو ُيرج سيجارًة‪ -‬من‬
‫تلسعه بغيظ على كتفه‪ -‬ال هتزئ ال هتزئ‬
‫يصرخ آه‪ -‬آملتين ّي جمنونة‪ ،‬وهللا مل أهزئ لكن ضحكت ألنك لن‬
‫تصدقي هذا‬
‫يف شيئاً ولو بسيطاً من‬
‫تلتفت عنه إىل انفذهتا‪ -‬لو كنت صادقاً كتبت ّ‬
‫وحنن أصدقاء والتقينا أكثر‬
‫عشرات القصائد اليت كتبتها لغريي‪ ،‬لنا مدة ُ‬
‫من مرة ووعدتين يف اتصال ومل ِ‬
‫تف بوعدك‪.‬‬
‫يضحك‪ -‬أان مل أعدك‪ ،‬لكن قلت رمبا‬
‫عيين كما تزعم‬
‫جئت مبقالك من ّ‬
‫أنك َ‬‫‪-‬كيف تريد أن أص ّدق إذن َ‬
‫‪-‬وهل جيب علي أن أكتب ِ‬
‫فيك قصيدة حّت تصدقي؟‬
‫صرت مصدراً إلهلامك‬
‫ُ‬ ‫أوقن أنين‬
‫‪-‬طبعاً‪ ..‬هنا ُ‬
‫ِ‬
‫عينيك إذن‬ ‫‪-‬أغمضي‬
‫‪134‬‬
‫ُمستغربةً‪ -‬ملَ؟‬
‫‪-‬أغمضيها وال تسأيل‪ ،‬فقط استمعي‬
‫غمض عينيها ويبدأ‪:‬‬
‫تُ ُ‬

‫ِ‬
‫اتصلت وغنّينا معاً طراب‬ ‫ُمن ُذ‬
‫أحاول من شوقي ِ‬
‫لك اهلراب‬ ‫ُ‬ ‫إين‬
‫ّ‬

‫أيخ ُذين‬
‫صار ُ‬ ‫ِ‬
‫يب َ‬
‫شيءٌ إليك غر ٌ‬
‫وكلما بعُدت أميالُنا ‪ ..‬اقرتاب‬

‫ينزل يب‬
‫الشعور قدمياً كا َن ُ‬
‫ُ‬ ‫هذا‬
‫ّأّي َم كان اهلوى مثل املدى َرِحبا‬

‫شهيّةٌ ِ‬
‫أنت كاحللوى وفاتنةٌ‬
‫الطفل إن غَ ِ‬
‫ضبا‬ ‫ني ‪ ،‬ومثل ِ‬ ‫كاليامس ِ‬
‫َ‬

‫الشيء غالييت‬
‫َ‬ ‫ني هذا‬
‫سم َ‬
‫ماذا تُ ّ‬
‫الس ُحبا‬ ‫ِ‬
‫ُمن ُذ اتصلت ويب ما يُشببهُ ُ‬

‫‪135‬‬
‫وأمطار تُباغتُين‬
‫ٌ‬ ‫بر ٌق ورع ٌد‬
‫تقولني والصحرا غدت ِعنبا!‬
‫َ‬ ‫ماذا‬

‫بفخ ِّ‬
‫احلب اثنيةً!‬ ‫وقعت ِّ‬
‫ُ‬ ‫يبدو‬
‫عاش اهلوى كتبا‬
‫كتبت ‪ ..‬ومن َ‬
‫لقد ُ‬

‫يقول هلا وهو يطوي القصيدة بعدما أنتهى ُمبتسماً‪ّ -‬إّي ِك أن تُصدقي‬
‫كل ما يقوله الشعراء‪.‬‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫ابلبكاء ووجها‬ ‫تفتح عينيها لينهمر‪ ،‬بدأت‬
‫الدمع كا َن منتظراً أن َ‬
‫َ‬ ‫وكأ ّن‬
‫خاف شاكر واقرتب منها‪ -‬ملاذا تبكني؟‪.‬‬
‫يضحك‪َ ،‬‬
‫تلتفت عنهُ إىل انفذهتا‪ -‬ال شيء ال شيء ومتسح بكفيها دموعها‬
‫ُ‬
‫‪-‬كيف ال شيء!؟ ملاذا تبكني أريد أن أعرف اآلن‬
‫تلتفت إليه‪ -‬فرحاً‪ ،‬أنت ال تعرف ماذا فعلت يب اآلن‪ ..‬أريد أن أطري‬
‫وتضحك بينما الدموع تسيل‪.‬‬
‫عليك‪ :‬ال تصدقي كل ما يقول الشعراء‬ ‫ِ‬
‫أرجوك‪ ..‬وأُعي ُد ِ‬ ‫‪-‬ال تطريي‬
‫أنت بيين وبينها‬
‫‪-‬ملاذا تريد أن تفسد فرحيت ابلقصيدة‪ ،‬ال دخل لك َ‬
‫أصدقها أو أكذهبا أن حرة‬
‫يضحك‪ -‬كما تريدين‪..‬‬

‫‪136‬‬
‫الفصل الخامس‬
‫"ما بعد الفراق"‬
‫بقلم شاكر عريب‬

‫فيك من كرم‬
‫جرت على ما َ‬
‫وإن ُه َ‬
‫فالناس تتخ ُذ القرآ َن مهجورا‬
‫ُ‬

‫‪ -‬زاهد ال ُقرشي‬

‫‪137‬‬
138
‫ولست‬
‫ُ‬ ‫فاحلرف رئيت‬
‫ُ‬ ‫ال أستطيع أن أختيل يوماً يذهب عين فيه ِ‬
‫الشعر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫كيف يتنفس الذين ال يكتبون‪ ،‬ال تُقارين الشعر ِ‬
‫فيك‪ ،‬إنين ُمستع ٌد‬ ‫أدري َ‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫الطبيعي جداً أال تتشابه‬
‫ّ‬ ‫عين ِ‬
‫ألجل الشعر‪ ،‬القصائ ُد بنايت‪ ،‬ومن‬ ‫للتخلي ّ‬
‫بنات الرجل‪ ،‬هذهِ مجيلة‪ ،‬تلك عادية‪ ،‬هذه قصرية‪ ،‬تلك طويلة‪ ،‬هذه‬ ‫ُ‬
‫ابرةٌ أببيها وتلك عاقّة‪ّ ،‬أما يف عني األب‬ ‫ِ‬
‫حنيفة‪ ،‬تلك مسينة‪ ،‬هذه ّ‬
‫واألمهات كذلك‪ ،‬كل‬
‫فيتساوين مجيعاً‪ ،‬فطرةُ هللا اليت فطر اآلابء عليها ّ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫اهتمامك‪ ،‬وأال‬ ‫فيك هي ابنتُنا معاً‪ِ ،‬‬
‫عليك أن ترضعيها‬ ‫قصيدة كتبتها ِ‬
‫أكثر من أبيها فقط ألهنا منه‪.‬‬
‫تغاري منها‪ ،‬وأن ُحتبيها َ‬
‫لك‬‫هذه الكلمات يوم قلتها ِ‬ ‫أجلس اآل َن وحيداً يف اخلراب‪ ،‬أتذكر ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كل ما حويل يُنكرين‬ ‫ِ‬
‫أجلس اآل َن يف اخلراب و ّ‬
‫ُ‬ ‫وحنن أمام بيتك صباحاً‪،‬‬
‫ُ‬
‫ط فوقي‪ ،‬ابئع القهوةِ‬
‫الثلج ال يتساق ُ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫يهرب من أمامي‪ُ ،‬‬ ‫بَع َدك‪ ،‬اهلواءُ ُ‬
‫أشعر ابحل ِّر ُ‬
‫والربد‬ ‫ِ‬
‫أعطاك عمرهُ ورحل‪ ،‬الشتاءُ مل يُ ِ‬
‫بق أحداً يف الشوارع‪ُ ،‬‬
‫كل صباح من بعيد‬ ‫أنت اآلن؟ أمر ِ‬ ‫ُيرت ُق عظامي! أين ِ‬
‫وأقف ّ‬
‫ببيتك ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ابع بعد الفراق‪،‬‬
‫الشهر الر ُ‬
‫ُ‬ ‫أنظر إىل بلكون غرفتك وال جديد‪ ،‬هذا هو‬
‫ُ‬
‫كم شهراً أحتاج ليتخلّص قليب ِ‬
‫منك؟ كم سنةً؟‪ ،‬كم دهراً أحتاج‪ ،‬وأان‬ ‫ُ‬
‫القلب ال يزول‪ ،‬ليس للشعر ِاء حظّ‪ ،‬احفظي‬
‫وشم يف ِ‬ ‫ِِ‬
‫أعرف جيداً أنّك ٌ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫حفظته عين؟‬ ‫قلت ِ‬
‫لك هذا؟‪ ،‬هل‬ ‫يوم ُ‬
‫هذا عين‪ ،‬هل تذكرين َ‬
‫أنس‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أظنك نسيت‪ ،‬لكنين مل َ‬

‫‪139‬‬
‫ظ نفسه‪ ،‬أال‬ ‫ِ‬
‫قلت يل يومها‪ -‬الشعراء هم أهل احلظ إن مل يكونوا احل ّ‬
‫ماليني الناس‬
‫ُ‬ ‫يكفي أهنم يستطيعو َن ترمج َة عواطفهم إىل حروف‪ ،‬بينما‬
‫ميوتو َن صمتاً؟‬
‫ضبّة‬
‫تل بسبب ُ‬ ‫ُ ِ‬
‫قلت لك ُمبتسماً‪ -‬لو كا َن للمتنيب َشعرة من حظ ما قُ َ‬
‫قتل بشيء أعظم‪ ،‬أو كا َن انل الضيعة‬ ‫ِ‬
‫وأمه الطرططبة!‪ ،‬على األقل كا َن َ‬ ‫ّ‬
‫خللعت له‬
‫ُ‬ ‫اليت طلبها من كافور وق ّدم مقابلها قصيدةً لو قاهلا يب‬
‫مات‬
‫وضحكت مثّ اتبعت‪ :‬لو كا َن لناجي حظ ّي حبيبيت ما َ‬
‫ُ‬ ‫مالبسي!‪،‬‬
‫وهو يشحذ اللقمة‪ ،‬فعلى أقل تقدير كا َن عرفه الناس قبل موته‪.‬‬
‫وملّا عرفه الناس بعد موته عرفوه فقط أل ّن أم كلثوم غنّت لهُ "األطالل"‪،‬‬
‫وّي ليتها غنّتها كما هي‪ ،‬بل أضافت هلا من قصائدهِ ما أعجبها وحذفت‬
‫مامل يعجبها‪" ،‬سطو غري ُمسلّح يعين"‪.‬‬
‫ألست ُمظوظاً؟‬
‫َ‬ ‫وأنت ّي شاعري أان‪..‬‬
‫وقلت ‪َ -‬‬ ‫وضحكت فقاطعتِين ِ‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫ابتسمت وقلت‪ :‬فقط ألنين عرفتك‪.‬‬
‫ُ‬
‫عني أنّ ِ‬
‫ك من صنَعين‬ ‫لت تغارين من قارائيت؟ هل ما ز ِ‬
‫لت ت ّد َ‬ ‫ترى هل ما ز ِ‬
‫َ‬
‫هي‬
‫عني أن ُشهريت الشعرية َ‬ ‫وجعل مين شاعراً؟ تُرى هل إىل اآلن ت ّد َ‬
‫َ‬
‫السبب الرئيس بني أسباب كثرية أخرى يف فراقنا؟ ال أعرف هل هي‬ ‫ُ‬
‫الصدفة اليت جعلتين أكتب هذه الكلمات اآلن وأان أستمع ألغنية‬
‫كل ذكرى تسألين اآلن‪ :‬هل فاتنا قطار‬
‫"فات املعاد"‪ ،‬أم ال‪ ،‬إ ّن ّ‬
‫العودة؟‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫مؤمن أنّه ال أمل‪ ،‬لكنين يف‬
‫هناك أمل وأان ٌ‬ ‫هناك أمل‪ ،‬قليب يقول يل َ‬ ‫َ‬
‫احلب أُص ّد ُق قليب وهذا ما أوصلين ملا أان عليه اآلن من اخليبة‪ِ ،‬‬
‫آه ّي‬
‫حبيبيت "كم بنينا من خيال حولنا"‪ ،‬آه "كم مشينا يف طريق ُمقمر"‬
‫كي دمي"‬
‫كانت هنايتهُ الفراق‪ ،‬فلماذا؟‪ ،‬أخربيين ملاذا "جحدت عيناك ز َّ‬
‫كنت‬ ‫كنت "أغار من قليب إذا هام لِلُ ِ‬
‫قياك"‪ ،‬أان الذي ُ‬ ‫ملاذا وأان الذي ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫"أحبك حباً لو يفيض يسريهُ‪ ..‬على اخللق مات اخللق من ِشدة احلب"‬
‫بكل جارحة من جوارحي "وأنت الذي‬ ‫ملاذا؟ وأان الذي أحببتك ّ‬
‫ِ‬
‫يلوم"‪ ،‬أسألك اآل َن ِّ‬
‫بكل‬ ‫اخلفتين ما وعدتين‪ ..‬وأمشت يب من كان فيك ُ‬
‫ام"‪ ،‬هل‬ ‫جواب مسأليت حر ُ‬
‫َ‬ ‫"كأن‬ ‫ِ‬
‫القلب من حنني‪ ،‬وال جتيبينين َّ‬ ‫ما يف‬
‫"سوف تلهو بنا‬ ‫لك فيها‬‫قلت ِ‬
‫مرة ُ‬
‫َ‬ ‫ين كم ّ‬
‫تذكرين ّي حبيبيت؟‪ ،‬هل تذكر َ‬
‫احلياةُ وتسخر"‪ ،‬ها قد صد َق حدسي‪ ،‬وسخرت منّا احلياة ُسخريةً ما‬
‫َس ِخرهتا من عاشق ِ‬
‫ني قبلنا‪.‬‬
‫ِ‬
‫اختذت هذا‬ ‫لقد ِ‬
‫قررت أننا جيب أن نتوقف عن احلب‪ ،‬وال أعلم كيف‬
‫ِ‬
‫القرار الذي ال نستطيع ال أان وال أنت تتفيذه‪ ،‬هل كانت بدايةُ ِّ‬
‫احلب‬
‫جنلس‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أبيدينا حّت تكو َن هنايته كذلك؟ كنّا قبل قرارك املشؤوم أبسبوعني ُ‬
‫وأظهران للكون‪ ،‬مل نكن نعلم أننا بعد أّيم‬ ‫ِ‬
‫لوجهك‬ ‫يف املقهى‪ ،‬وجهي‬
‫ُ‬
‫سننتهي‪ ،‬كنّا وقتها على ّأمت استعداد ملواجهة الدنيا مبا فيها حببنا الكبري‪،‬‬
‫تتقنني‬
‫َ‬ ‫ت‬‫كيف كن ِ‬‫تبتسمني ابتسامةً كلّها ج ّدية‪ ،‬ال أعرف َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫كنت‬
‫كنت حينها مسرتسالً ابحلديث عن مثقفينا‪ ،‬آه‬
‫ابتسامةَ اجلديّة تلك‪ُ ،‬‬

‫‪141‬‬
‫كنت أقول ِ‬
‫لك‬ ‫من مثقفينا ّي غيداء‪ ،‬كم حدثتك عنهم‪ ،‬وأذكر أنين ُ‬
‫حينها‪:‬‬
‫ثقف ال‬
‫اب وغريهم ممن يظنو َن أ ّن املُ َ‬
‫اء وُكتّ َ‬
‫مبثقفني من ُشعر َ‬
‫َ‬ ‫لقد ابتُلينا‬
‫جترأ على الذات اإلهلية‪ ،‬وفتواهم جاهزة طبعاً‪ ،‬فهم‬
‫يكو ُن ُمثقفاً إال إذا ّ‬
‫استخدم مفردة "‬
‫َ‬ ‫ذلك بظه ِر "اجملاز" ويظن أحدهم أنه كلما‬
‫يُلصقو َن َ‬
‫صار ُمثقفاً وأبو املثقفني أيضاً‪ ،‬والدنيا‬ ‫ِ‬
‫إله" أو "آهلة" أبيّة صيغة كانت‪َ ،‬‬
‫كلها تعرف جيداً أن ُمفردة "إله" ال حتتمل إال معىن واحد وهو "املعبود‬
‫وليس هناك معبو ٌد حبق إال احلق سبحانه‪ ،‬ال أكاد أقرأ رواية إال‬
‫حبق"‪َ ،‬‬
‫تعج ابلتعرضات للذات اإلهلية بذريعة األدب‪ ،‬حوارات مفتوحة مع‬
‫و ّ‬
‫الرب سبحانه‪ ،‬حياور فيها الكاتب ربّهُ ويعرتض عليه‪ ،‬ويغضب منه وكأنه‬
‫علواً كبريا‪ ،‬إهنم يفعلو َن هذا‬
‫عما يقولو َن ّ‬
‫زميله يف املدرسة!‪ ،‬تعاىل هللا ّ‬
‫"مثقف" و‬
‫ليقال عنهم "مثقفون"‪ ،‬تُرى ما فائدة أن تكو َن عند الناس ُ‬
‫َ‬
‫ميدحك الناس ويلعنك هللا‪.‬‬
‫َ‬ ‫عند هللا ُمتخلّف؟؟‪ ،‬ما فائدة أن‬
‫كذلك ّي عزيزيت على من يريد أن يكو َن ُمثقفاً يف زماننا أن يستشهد‬
‫دائماً أبقوال فرويد ونيتشة وزوراب‪ ،‬كأ ّن األرض مل تعرف غريهم‪ ،‬ويف‬
‫كرر فيها أقوال‬
‫احلقيقة ّي عزيزيت جيب أن تعلمي أن كل رواية حديثة ُم ٌ‬
‫هؤالء الثالثة هي رواية فارغة غالباً‪ ،‬جيب أن ال تُضيّعي ِ‬
‫وقتك يف‬
‫الذين يستشهدون‬ ‫ِ‬
‫قراءهتا‪ ،‬وعليك أيضاً أال تثقي كثرياً ب ُكتّابنا الشباب َ‬
‫بغري هؤالء الثالثة من ُكتّاب األوربيني‪ ،‬حنن اآلن يف عصر القص‬
‫واللصق‪ ،‬يدخل ‪-‬الروائي العظيم‪ -‬إىل جوجل وُيتار مقولة تُناسب‬
‫‪142‬‬
‫صحفي ما‪ ،‬يوماً ما‪ ،‬عن هذا الكاتب‬
‫ٌّ‬ ‫سرده ويُلصقها وانتهينا‪ ،‬فلو سأله‬
‫ويتنصل من‬
‫ّ‬ ‫وماذا قرأ له‪ ،‬سيواجه السؤال بسؤال على طريقة اجلبناء‬
‫اإلجابة‪.‬‬
‫قاطعنا النادل وهو يضع القهوة ويبتسم‪ ،‬كم كا َن ق َد ُر هذا النادل مجيالً‬
‫ِ‬
‫وجهك يوماً؟‬ ‫فرأى‬
‫من‬ ‫ِ‬
‫احلقيقي َ‬
‫َّ‬ ‫يكشف‬
‫ُ‬ ‫قلت‪ :‬أوالً وأخرياً ال يصح إال الصحيح‪ ،‬والتاريخ‬
‫املزيّف‪.‬‬
‫وعدت بظهري للوراء‬
‫ُ‬ ‫وأخرجت سيجارةً‬
‫ُ‬ ‫أخذت رشفة قهوة من فنجاين‬
‫ُ‬
‫وجه الثقافة أبداً‪ ،‬وال يف ِ‬
‫وجه أهلها‪ ،‬إذا ختلّى‬ ‫يقف يف ِ‬ ‫الدين ال ُ‬
‫وقلت‪ُ :‬‬
‫دينه على الورق فعلينا أن ال نسأل بعد ذلك عن ِ‬
‫ختليه عن‬ ‫ف عن ِ‬ ‫املُث ّق ُ‬
‫قيم لشيء وزان‪.‬‬ ‫ِ‬
‫قيم لدينه وزانً‪ ،‬ال يُ ُ‬
‫املبادئ والقيم‪ ،‬الذي ال يُ ُ‬
‫احلب‪ ،‬مضحكاً جداً‪ ،‬ومؤملاً جداً‪ ،‬لقد كنّا‬ ‫ِ‬
‫كا َن قرارك ابلتوقف عن ّ‬
‫طوال األشهر اخلمس من حبنا مسَْناً على عسل كما يقول املَثل‪ ،‬فمن‬ ‫َ‬
‫السمن على النار؟ حنن؟ نعم حنن‪،‬‬
‫َ‬ ‫وصب‬
‫َّ‬ ‫العسل على األرض‪،‬‬‫َ‬ ‫كب‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫مبعرفة أسراران‪ ،‬تراكمت‬ ‫أخطاؤان‪ُ ،‬مكابرتنا‪ ،‬السماح لكل الناس‬
‫تلو شهر‪ ،‬وكانت العالقة ال تزال يف‬
‫األخطاءُ يوماً بع َد يوم‪ ،‬وشهراً َ‬
‫خرجت قاصداً ِ‬
‫بيتك صبيحةَ‬ ‫حّت‬
‫حمل‪ ،‬ويف جمال التدارك‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫جمال التَ ّ‬
‫عرفت‬
‫ُ‬ ‫ذلك اليوم الذي ال أنساهُ يف حيايت‪ ،‬ألنه اليوم الذي‬
‫ذلك اليوم‪َ ،‬‬‫َ‬
‫واخرتت‬ ‫كماشة‪ ،‬حيناً من الوقت‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫بني ف ّكي ّ‬
‫رجل َ‬
‫يعيش ٌ‬
‫فيه ما معىن أن َ‬
‫مفرد َة كماشة هنا ِعوضاً عن "خائنة" أل ّن ُجمرد رؤية ِ‬
‫هذه املُفردة يُشعرين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫‪143‬‬
‫ابلقرف‪ ،‬إن كل شيء يف هذه الدنيا قذر‪ُ ،‬ميكن أن يكون يف قمة‬
‫قررت أن آيت إىل‬ ‫ِ‬
‫صبيحة ذلك اليوم‪ُ ،‬‬ ‫الطهارة إذا قارنته ابخليانة‪ ،‬يف‬
‫كنت أر ِ‬
‫اك واقفةً على البلكون دائماً‬ ‫اك كما ُ‬ ‫بيتك عسى أن أر ِ‬ ‫ِ‬
‫متنيت لو كا َن‬
‫ذلك اليوم‪ ،‬رأيتُكما معاً بعيين اليت ُ‬ ‫ِ‬
‫صبيحة َ‬ ‫ونتحدث‪ ،‬يف‬
‫خرجت ُمبتسماً ألج ِل‬
‫ُ‬ ‫قبل أن تراكما معاً‪ ،‬ما أسخفين!‬
‫أكلها الدود َ‬
‫ِ‬
‫السيارة تضحكني‪،‬‬ ‫دت مضرجاً ابخليبة‪ِ ،‬‬
‫كنت إىل جانبه يف‬ ‫صلح‪ ،‬وعُ ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫تتصلني فيه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫موعدك اليومي الذي‬ ‫كانت السابعة والنصف صباحاً‪،‬‬
‫َ‬
‫حّت‬ ‫كنت قاصداً ِ‬ ‫كنّا على قطيعة قبل أن أر ِ‬
‫بيتك ّ‬ ‫اك معه بثالثة أّيم‪ ،‬و ُ‬
‫علي منذ ثالثة أّيم‪ ،‬مل تكن طعنةً يف الظهر‬ ‫أُراضيك‪ِ ،‬‬
‫يبني ّ‬
‫فأنت ال ُجت َ‬
‫مررت‬
‫أعرف متاماً ما الذي جرى يل‪ُ ،‬‬ ‫أبداً‪ ،‬كانت طعنات يف القلب‪ ،‬ال ُ‬
‫نظرت وك ّذبت عيين‪ ،‬اقرتبت بسياريت من سيار ِته أكثر‪ ،‬إنكما‬
‫ُ‬ ‫جبانبكما‬
‫ضغطت برجلي على دو ِ‬
‫اسة البنزين‬ ‫ّ‬ ‫علي‪،‬‬
‫يسيطر َّ‬ ‫تضحكان! بدأ اجلنو ُن‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫وكأهنّا هي من خانين‪ ،‬شيء جعلين أختيلها ِ‬
‫أنت‪ ،‬إ ّن أقل عقوبة ميكن‬ ‫ٌ‬
‫أقود بسرعة جنونية‪ ،‬ولكن‬‫وأخذت ُ‬
‫ُ‬ ‫املوت دعساً!‬
‫أن يناهلا خائن هي ُ‬
‫وبدأت أصرخ يف السيّارة بصوت عال كاجملانني‪:‬‬
‫ُ‬ ‫إىل أين؟‪ ،‬ال أعرف‪..‬‬
‫ال تكذيب‪..‬‬
‫إين رأيتُكما معا‬
‫ّ‬
‫كرهت األدمعا‬
‫ُ‬ ‫البكاء‪ ..‬لقد‬
‫َ‬ ‫فدعي‬
‫اجلسور إذا جرى‬
‫َ‬ ‫الدمع‬
‫َ‬ ‫ما أهو َن‬
‫فأنكر وا ّدعى‬ ‫ِ‬
‫من عني كاذبة‪َ ..‬‬
‫‪144‬‬
‫ذلك‬
‫كا َن حضور "كامل الشناوي" وقصيدته تلك طاغياً صبيحةَ َ‬
‫اليوم‪ ،‬وصبيحة كل األّيم اليت تلت ذلك اليوم‪ ،‬صحيح أنين مل أتطرق‬
‫لكن هذا ال يعين أبداً أنين نسيت‪ ،‬الصحيح‬
‫يف شعري خليانتك أبداً‪ّ ،‬‬
‫كتبت هلا غزالً ما كتبه‬
‫تناسيت قاصداً‪ ،‬فأان ال أري ُد للحبيبة اليت ُ‬
‫ُ‬ ‫أنين‬
‫أنت تعرفني جيداً مدى‬ ‫شاعر حلبيبة قبلي‪ ،‬أن أختم ديواهنا خبيانة‪ِ ،‬‬
‫ٌ‬
‫هبم النهاية يف الديوان‪ ،‬ليعلم‬
‫اخرتت أن اُ َ‬
‫ُ‬ ‫امشئزازي من اخليانة‪ ،‬فلذلك‬
‫ذهب ذلك اليوم‬
‫الناس أننا افرتقنا‪ ،‬أما ملاذا افرتقنا فال دخل ألحد‪َ ،‬‬
‫َح ُّـد من الس ّكني‪،‬‬
‫كل شيء‪ ،‬مل يدع يل سوى حزين وذكرى أ َ‬
‫وأخ َذ معهُ ّ‬
‫وجلست فيها شهراً كامالً‪،‬‬
‫ُ‬ ‫واخرتت مدينةَ بورصة‬
‫ُ‬ ‫بت إىل تُركيا‪،‬‬
‫هر ُ‬
‫اكتشفت أنّه على العكس متاماً‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أظن أن السفر يُنسي‪ ،‬لكنين‬ ‫كنت ُّ‬
‫ُ‬
‫بت من األماك ِن اليت كنّا نلتقي هبا ألقع فيها‪ ،‬مل أكن أعلم أ ّهنا‬‫لقدر هر ُ‬
‫يوم‬
‫واهلرب منها سيكو ُن إليها‪ ،‬كم كا َن نزار صادقاً َ‬
‫ُ‬ ‫ُمفورة يف القلب‬
‫قال‪:‬‬

‫ومهوم ال ِّ‬
‫رب تسكنُهُ‬ ‫ُ‬ ‫كم ُمبحر‬
‫ب‪ ،‬ما هراب‬ ‫ِ‬
‫وهارب من قضاء احلُ ّ‬

‫أيت‬
‫وصلت ر ُ‬
‫ُ‬ ‫سافرت ألبتع َد ِ‬
‫عنك وملا‬ ‫ُ‬ ‫نعم ّي حبيبيت نعم‪،‬أان الذي‬
‫أهرب‬ ‫ِ‬
‫طيفك ابنتظاري يف املطار‪ ،‬يف احلقيقة ال أعلم ما الذي جعلين ُ‬
‫حيث عائليت مثالً؟‪ ،‬يبدو أنين‬
‫لرتكيا ابلذات‪ ،‬ملَ ملْ أسافر لإلمارات ُ‬
‫‪145‬‬
‫سوف‬
‫َ‬ ‫ظننت أنين وهلول صدميت ِ‬
‫بك‬ ‫ُ‬ ‫أهرب حّت من نفسي‪،‬‬ ‫كنت‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫جرحك هذا‬ ‫ِ‬
‫أنساك بسرعة تفو ُق سرع َة الضوء‪ ،‬مل أكن أعلم أ ّن‬
‫مر عليه أربعة أشهر‪ ،‬تُصدقني؟‬‫سيستمر انزفاً يف قليب حّت اليوم‪ ،‬وقد ّ‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫أنتظر دوري لدف ِع قيمة ما‬
‫كنت مرًة يف أحد احملالت التجارية الكبرية ُ‬ ‫ُ‬
‫يقف إىل يساري شاب أمسر طويل رّيضي القامة يرتدي‬ ‫اشرتيت وكان ُ‬
‫اجلوال أمامه على طاولة احملل‬
‫قميصاً أزرقاً وضع أغراضهُ مبا فيها هاتفهُ ّ‬
‫نظرت‬
‫ُ‬ ‫جوالهُ " غيداء تتصل بك"‬ ‫ليخرج النقود استعداداً لدوره ‪َّ ،‬‬
‫رن ّ‬
‫كنت ألنظر هبا لو كنت بكامل قواي‬ ‫شاشة ِ‬
‫جواله بطريقة محقاء ما ُ‬ ‫إىل ِ‬

‫القلبية ونفسي تقول يل " غيداء غيداء يف ِّ‬


‫كل مكان غيداء ‪ّ ..‬ي هللا!"‬
‫سألين و َشرار الغضب يقدح من ِ‬
‫عينيه‪-‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫إىل ما تنظر؟‬
‫فأجبتُهُ ِ‬
‫بدون تفكري‪ -‬ماتت‬
‫قال‪ -‬من هي؟‬
‫قلت‪ -‬غيداء‪ ..‬غيداء ماتت‬
‫بزفري طويل قال يف آخرهِ‪ -‬هللا يشفيك‪..‬‬
‫ظن أنَّين جمنون‪ ،‬أسف هو تيقن أنين جمنون مل يكن َّ‬
‫جمرد ظن‪ ،‬ومن‬ ‫نعم َّ‬
‫يفعل ما فعلت؟‪.‬‬ ‫ِ‬
‫غريُ اجملانني ُ‬
‫قررت أن أقنع نفسي ِ‬
‫مبوتك فهذه هي الطريقة الوحيدة اليت تساعدين‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫وحاولت وفشلت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وفشلت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫على نسيانك‪،‬‬

‫‪146‬‬
‫جتاوزت‬
‫ُ‬ ‫اتصلت يب صبيحةَ ذلك اليوم؟‪ ،‬هل ر ِ‬
‫أيت سياريت بعدما‬ ‫ِ‬ ‫ملاذا‬
‫يدين تربير‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫السيارة اليت تُقلّك أنت وحبيب القلب؟‪ ،‬هل كنت تر َ‬
‫يدين اغاظيت؟‪ ،‬ال يهم كثرياً‪ ،‬كان ذلك اليوم قبل‬ ‫ِ‬
‫فعلَتك؟‪ ،‬أم كنت تر َ‬
‫أربعة أشهر وستة أّيم و تسع ساعات من اآلن‪.‬‬
‫صباح كل يوم إىل‬ ‫أخرج‬ ‫جلست يف ِ‬
‫َ‬ ‫كنت ُ‬‫مدينة بورصة شهراً وزّيدة‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬
‫كنت أخرج بغرض املشي ال أكثر‪ ،‬وأمشي وأتيه يف املدينة‬
‫ماال أعرف‪ُ ،‬‬
‫أمجل ما يف املدن اليت نزورها وحنن ال نعرفها‬
‫اليت ال أعرفها من قبل‪ ،‬إ ّن َ‬
‫نضيع فيها‪ ،‬ولذلك أفسدت كثرةُ الالئحات اإلرشادية يف ابريس‬
‫هو أن َ‬
‫تضيع فيها كما قالت‪ ،‬هذا املشي كا َن‬
‫َ‬ ‫على غادة السمان ُمتعة أن‬
‫بث الطاقة‬
‫ميص الطاقة السلبية يف جسدي‪ ،‬كان له قدرة هائلة على ّ‬
‫اإلجيابية يف دمي‪ ،‬يوماً بعد يوم وصباحاً بعد صباح‪ ،‬حفظين أهل‬
‫أعرف عنهم‬
‫أين ال ُ‬
‫وتعرفت عليهم‪ ،‬أحببتهم مع ّ‬
‫ُ‬ ‫علي‬
‫املنطقة‪ ،‬وتعرفوا ّ‬
‫بدأت‬
‫األسبوع الثاين ُ‬
‫ِ‬ ‫شيئاً غري مصافحة وجوههم صباح كل يوم‪ ،‬يف‬
‫صباح كل يوم من بيتها إىل الساحة العامة‪ ،‬مل تكن‬
‫َ‬ ‫أنتبه لفتاة متشي‬
‫سيطر فيه الكسل‬
‫أستغرب نشاطها يف زمن َ‬
‫ُ‬ ‫كنت‬
‫مالُمها تركيّةً أبداً‪ُ ،‬‬
‫تدخل أحد‬
‫ُ‬ ‫على أغلب البشر‪ ،‬كانت إذا وصلت الساحة العامة‬
‫املقاهي املوجودة‪ ،‬وتشرب كأساً من الشاي‪ ،‬وأحياانً ثالث كؤوس‪،‬‬
‫أعرف ما الذي دهاين ذلك الصباح فتبعتها‬
‫ُ‬ ‫مالُمها خليجية‪ ،‬ال‬
‫وجلست إىل طاولة قريبة منها‪ ،‬كانت وجوهنا‬
‫ُ‬ ‫ودخلت نفس املقهى‬
‫ُ‬
‫وبدأت‬
‫ُ‬ ‫يتصبب من وجهها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫حّت والعرق‬
‫محراء من املشي‪ ،‬كانت مجيل ًة ّ‬
‫‪147‬‬
‫مرة رأيتها‬
‫أأتملها‪ ،‬لوحة فنّية قلّما يرى األنسا ُن جبماهلا‪ ،‬ذكرتين أول ّ‬
‫ببيت اجلواهري ملا حتدث عن ابئعة السمك يف براغ فقال‪:‬‬ ‫ِ‬

‫خري من ل ّق َن املُلحدين‬
‫وّي َ‬
‫دليالً على قدرةِ القاد ِر‬

‫ِ‬
‫كالسيف ولهُ بريق‪ ،‬كانت‬ ‫دوراً كالقمر‪ ،‬كا َن ح ّداً‬
‫مل يكن وجهها ُم ّ‬
‫أت فجأةً وأان‬‫جتر ُ‬
‫إيل‪ّ ،‬‬‫ابجلوال بينما تسرت ُق النظر ّ‬
‫تتظاهر ابنشغاهلا ّ‬
‫وقلت هلا ببالهة غريبة‪ ،‬وبدون‬
‫ُ‬ ‫تشف أخر رشفة من فنجان القهوة‬ ‫أر ُ‬
‫وابتسمت‪.‬‬
‫ْ‬ ‫مقدمات‪ :‬من أين ِ‬
‫أنت؟‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫إيل وقالت‪ :‬تسألُين أان؟‬
‫حني نظرت ّ‬ ‫كا َن واضحاً أ ّهنا ارتبكت َ‬
‫أنت‪ ،‬وهل يوجد غريان هنا يف هذا الصباح الباكر؟‪،‬‬ ‫هززت رأسي‪ :‬نعم ِ‬
‫ُ‬
‫مرةً أخرى‪.‬‬
‫وابتسمت ّ‬
‫ُ‬
‫مين‪ ،‬قامت وحاسبت وانسحبت‪.‬‬
‫كأ ّهنا مل تسمع شيئاً ّ‬
‫وبدأت أكتب‪ ،‬وأمسح‬
‫ُ‬ ‫طلبت فنجاانً اثنياً‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ّي للغباء ماذا فعلت؟‪،‬‬
‫تلك الفتاة وجه خري على شعري‪،‬‬
‫وأكتب‪ ،‬وأكتب وأمسح‪ ..‬كا َن وجهُ َ‬
‫استطعت أن أكتب أخرياً‪ ،‬كأ ّن جباالً كانت على‬
‫ُ‬ ‫فبعد أربعة عشر يوماً‬
‫لت أحبّها‬
‫كتبت يومها قصيد ًة ماز ُ‬
‫خرت فجأ ًة بشخطة قلم‪ُ ،‬‬ ‫صدري ّ‬
‫حّت اآلن‪ ،‬أان الذي ما أن تولد يل قصيدة حّت أنسى اليت قبلها نسياانً‬
‫أبدّيً‪ ،‬ملاذا ال أدري‪ ،‬أما هذه القصيدة فهي الوحيدة اليت ما نسيتها‬
‫‪148‬‬
‫ِ‬
‫وصلتك أم مل تصل‪ ،‬وال‬ ‫أظن أنين سوف أنساها‪ ،‬ال أعرف هل‬‫وال ّ‬
‫كل الذي يهمين أنين كتبت‪ ،‬تُتعبين‬ ‫ِ‬
‫احلقيقة هذا كثرياً‪ُّ ،‬‬ ‫يهمين يف‬
‫العناوين كما تعرفني‪ ،‬إال يف هذهِ القصيدة اليت ال أعرف سرها‪ ،‬كا َن‬
‫ُ‬
‫عنواهنا جاهزاً قبل كتابتها‪ ،‬يُطالبنا ابالعرتاف فوراً‪" ،‬لنعرتف" هي‬
‫القصيدة اليت جاء يف مطلعها‪:‬‬
‫ليس ُحباً‪..‬‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫حنن كنَّـا وامهَ ْ‬
‫ـني‬ ‫ُ‬
‫ف‪..‬‬ ‫لنعرت ْ‬
‫َ‬
‫ف‪..‬‬ ‫لنعرت ْ‬
‫َ‬
‫ـني‬
‫حنن كنّـا كاذبَ ْ‬
‫ُ‬
‫وهواان ‪..‬‬
‫امللل!‬ ‫ِ‬
‫كا َن تضييعاً ألوقات ْ‬
‫كيف أمسيناهُ ُحبّـا؟؟‬
‫َ‬
‫كا َن ضرابً من خيال‬
‫كا َن هلواً‪..‬‬
‫كا َن ومهاً‪..‬‬
‫تمل!‬
‫كذبةٌ ال ُحت ْ‬
‫وبروداً‪..‬‬
‫وغباء‪..‬‬
‫ً‬
‫حصل!‬
‫ْ‬ ‫ما‬
‫‪149‬‬
‫أعظم يف نظري من خيانتك‪،‬‬ ‫كنت خائناً مثلك‪ ،‬وخيانيت كانت ُ‬ ‫لقد ُ‬
‫أسكنتك فيه‪ ،‬وعندما صحوت‬ ‫ِ‬ ‫نت قليب ملّا‬ ‫أنت ُخ ِ‬
‫نت رجالً‪ّ ،‬أما أان ف ُخ ُ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫ُخرجك منهُ فخانين كما ُخنتهُ وأىب‪.‬‬ ‫حاولت أن أ‬
‫ُ‬ ‫من غفليت‬
‫كامل وهاتفي ُمغلق‪،‬‬ ‫ِ‬
‫شهر ٌ‬ ‫مر ٌ‬ ‫رجعت بعد شهر تقريباً إىل محص‪ ،‬لقد ّ‬ ‫ُ‬
‫شهر كامل هل‬ ‫أحتدث مع أهلي عرب هاتفي اآلخر الذي ال تعرفني‪ٌ ،‬‬ ‫ُ‬
‫علي عشرات‬ ‫ِ‬
‫اهلاتف فاهنالت ّ‬ ‫َ‬ ‫فتحت‬
‫ُ‬ ‫اتصلت خالله؟‪ ،‬ال أعلم‪،‬‬
‫أنت! يف احلقيقة قبل أن أفتح‬ ‫الرسائل من كل األرقام‪ ،‬إال رقمك ِ‬
‫ّ‬
‫كنت أظن أنين سأجد الكثري من الرسائل واالتصاالت ِ‬
‫منك‪،‬‬ ‫اهلاتف ُ ّ‬
‫أيتك صبيحة ذلك اليوم‬ ‫اتصالك يب بعدما ر ِ‬‫ِ‬ ‫لكنين مل أجد شيئاً‪ ،‬كا َن‬
‫قررت االنتحار‬ ‫هو آخر اتصال‪ ،‬صحيح هل ُ ِ‬
‫قلت لك إ ّن شاش َة هاتفي ّ‬
‫بعدما هجرها رقمك؟‪ ،‬نعم وفجأ ًة قررت أال تعمل أبداً‪ ،‬كانت‬
‫املوت فلم ُمتهل ِن ألكمل قراءة ما وصلين من رسائل‪،‬‬ ‫مستعجل ًة على ِ‬
‫ُ‬
‫فيك شعرة‪.‬‬‫هز ِ‬ ‫ّل حيايت كلها‪ ،‬ما ّ‬ ‫ِ‬
‫ليس ضرورّيً‪ ،‬فتعط ُ‬ ‫مل أقُل لك؟‪َ ،‬‬
‫أعود من تركيّا‪ ،‬وبعدما أهدتين تلك الفتاة قصيدةً دو َن أن‬ ‫قبل أن َ‬ ‫َ‬
‫وخرجت كعاديت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ليوم التايل‬
‫انتظرت ا َ‬
‫ُ‬ ‫قررت أن أشكرها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تشعر‪،‬‬
‫فجلست‪،‬‬
‫ُ‬ ‫جلست يف املقهى‬
‫ْ‬ ‫غت‪،‬‬
‫وفر ُ‬
‫غت من املشي َ‬
‫فر ْ‬
‫وتبعتها بعدما َ‬
‫الشاي‬
‫َ‬ ‫بت‬
‫فتظاهرت‪ ،‬شر ْ‬
‫ُ‬ ‫ابلالمباالة‪،‬‬
‫وطلبت‪ ،‬تظاهرت ُ‬
‫ُ‬ ‫طلبت مشروابً‬
‫ْ‬
‫خرجت من‬
‫ْ‬ ‫بت‪ ،‬ولكنين يف هذا الصباح مل أمتلك ُجرأة األمس‪،‬‬‫وشر ُ‬
‫ذهبت!‬
‫ُ‬ ‫أين‬
‫أذكر َ‬
‫ت ُ‬‫ذهبت‪ ،‬ولس ُ‬
‫ْ‬ ‫أين‬
‫أعرف َ‬
‫فخرجت‪ ،‬ال ُ‬
‫ُ‬ ‫املقهى‬

‫‪150‬‬
‫حاولت أكثر من مرة‪ ،‬يوماً بعد يوم أن أستعي َد من جرأة ذلك اليوم وما‬
‫ُ‬
‫يوم كا َن سفري يف اليوم الذي يليه‪ ،‬تبعتُها إىل‬
‫استطعت‪ ،‬إىل أن جاء ٌ‬
‫بت شيئاً فشيئاً من طاولتها‬
‫ظللت واقفاً‪ ،‬واقرت ُ‬
‫ُ‬ ‫ت‬
‫س ْ‬
‫املقهى‪ ،‬وملا جلَ َ‬
‫أقف على بُعد شرب واحد‬ ‫سمت‪ ،‬مل يعد بوسعها التجاهل‪ ،‬فأان ُ‬ ‫وابتَ َ‬
‫منها‪ ،‬قالت وهي تضع نظارهتا الشمسية على الطاولة بطريقة‬
‫وقلت‬
‫ُ‬ ‫قواي‬
‫استجمعت َ‬
‫ُ‬ ‫تبكت يف احلقيقة‪ ،‬لكنين‬
‫االستفهام‪ :‬نعم؟ ار ُ‬
‫ِ‬
‫أشكرك‪.‬‬ ‫أحببت أن‬
‫ُ‬ ‫تفضح ما يف داخلي من أمل‪:‬‬ ‫ُمصطنعاً ابتسامةً‬
‫ُ‬
‫أي شيء تش ُكرين؟‬
‫إيل‪ :‬على ّ‬‫ترفع نظرها ّ‬
‫قالت ُمستغربةً وهي ُ‬
‫عليك سبب ُشكري لك؟‬ ‫مبتسماً‪ :‬هل تسمحني أن أجلس وأقص ِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫بنصف ابتسامة ملؤها اجملاملة‪ :‬تفضل‪.‬‬
‫أخوض معرك ًة طاحنة‪ ،‬كان العر ُق‬
‫ُ‬ ‫كنت‬
‫شعرت ابالنتصار وكأنين ُ‬
‫ُ‬ ‫عندها‬
‫جلست‬
‫ُ‬ ‫قلت هلا بعدما‬
‫يتصبب من كلينا بعد مشي أكثر من ساعة‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫بلحظة‪ :‬معذرةً‪ ،‬أُريد أن أغسل وجهي وأعود‪.‬‬
‫‪-‬تفضل‪.‬‬
‫سرع‬
‫دت ُم َ‬ ‫وع ُ‬‫احلمام أيضاً‪ُ ،‬‬
‫َ‬ ‫ودخلت‬
‫ُ‬ ‫ذهبت ُمسرعاً‪ ،‬فغسلت وجهي‬ ‫ُ‬
‫ميض على ذهايب ثالثة دقائق؟‬‫ذهبت‪ ،‬مل ِ‬ ‫أين َ‬
‫اخلطى‪ ،‬فلم أجدها‪َ ،‬‬
‫ِ‬
‫للنادل أن أيتيين‬ ‫جلست على ذات الطاولة كأ ّن شيئاً مل يكن‪ ،‬قلت‬
‫ُ‬
‫وبدأت أفكر ملاذا فعلت هذا؟‪ ،‬ما الذي دفعها للموافقة‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫بفنجان قهوة‪،‬‬
‫تفع‬
‫ظ ير ُ‬‫على جلوسي مث االنسحاب هبذه الطريقة السافلة!‪ ،‬كا َن الغي ُ‬
‫جاء النادل ومعهُ فنجان قهويت‪ ،‬وضعه وبدأ‬ ‫دفع ًة واحد ًة يف صدري‪َ ،‬‬
‫‪151‬‬
‫رفعت رأسي ألشكرهُ فرأيتها‬
‫أنظر يف الفنجان‪ُ ،‬‬
‫يصب القهوة فيه وأان ُ‬
‫ّ‬
‫تدل‬
‫تقف جبانبه وتسحب كرسيّاً لتجلس‪ ،‬ابتسمت ال شعورّيً ابتسام ًة ّ‬
‫ُ‬
‫على هبوط اتم يف حاسة احلقد عندي‪ ،‬قالت وهي جتلس‪ :‬أعتذر منك‪،‬‬
‫من الكويت‪ ،‬فقمت ألحتدث يف اخلارج‪.‬‬
‫اتصل يب والدي َ‬
‫عليك أبداً‪ ،‬ال ِ‬
‫عليك‬ ‫اببتسامة أعرض من مرمى كرة القدم قلت هلا‪ -‬ال ِ‬
‫انديت النادل فوراً وقلت لهُ‪ :‬انظر طلب اآلنسة‪.‬‬
‫ُ‬
‫طلبت لنفسها شاي‪ ،‬وقالت ُمبتسمةً بعدما ذهب النادل‪ -‬يبدو‬
‫ب القهوة‪.‬‬
‫أنك ُحت ّ‬
‫َ‬
‫ولكن هللاَ َسرت‪.‬‬
‫للوهلة األوىل كنت سأجيب‪ :‬وأكرهُ اخليانة‪ّ ،‬‬
‫الذين يُشبهونَين‪.‬‬
‫ُحب َ‬ ‫قلت‪ :‬القهوةُ تُشبهين‪ ،‬وأان أ ّ‬
‫كأ ّهنا أُعجبَت مبا قلت‪ ،‬فابتسمت وقالت‪ّ :‬أما أان فيُشبهين الشاي‪.‬‬
‫ُشعل سيجاريت األوىل‪ -‬برغم مرارةِ القهوة إال أهنا األنثى‬
‫قلت وأان أ ُ‬
‫الوحيدة اليت ال ختون‪.‬‬
‫عمم حكمك‪.‬‬
‫جعلتك تُ ّ‬
‫َ‬ ‫مررت بتجربة سيئة‬
‫ك َ‬ ‫تبسمت وقالت‪ -‬يبدو أنّ َ‬
‫ّ‬
‫ت حلظة مث قالت‪ -‬هل أ ُّمك خائنة؟‬
‫َسكتَ ْ‬
‫انتبهت إىل‬
‫ُ‬ ‫شعرت أب ِمل ّ‬
‫الكف الذي صفعهُ سؤاهلا على خ ّدي‪ ،‬مثّ كأنين‬ ‫ُ‬
‫مررت بتجربة سيئة‪ ،‬ولكنّها أبداً ال‬
‫خطأي فقلت‪ -‬كالمك صحيح‪ُ ،‬‬
‫تُبيح يل وال لغريي التعميم‪.‬‬
‫يدك‬
‫هتز رأسها‪ -‬يُقال‪ :‬إ ّن الضربة اليت ال تودي بك‪ ،‬تز َ‬
‫قالت وهي ّ‬
‫قوة‪.‬‬
‫‪152‬‬
‫هززت رأسي وأان أقول صحيح‬
‫ُ‬
‫ابتسمت ‪ -‬قل يل اآلن ملاذا شكرتَين؟‪.‬‬
‫قلت بصوت خافت بعدما تنحنحت‪ -‬عفواً هل حيق يل معرفة امس ِ‬
‫ك‬
‫ِ‬
‫ألخاطبك به‪.‬‬ ‫أوالً‬
‫ليتم احلوار‪ ،‬لكن ال‬
‫ليس ضرورّيً ّ‬
‫قالت وهي تبتسم‪ -‬ولو أنين أظنه َ‬
‫وأنت ما امسُك؟‬
‫مانع‪ ،‬امسي َهنَـا‪َ .‬‬
‫قلت وأان أضع الفنجان على الطاولة‪ -‬مجيل‪ ،‬عاشت األسامي‪ ،‬أان‬
‫ُ‬
‫امسي شاكر عريب‪.‬‬
‫امسك مجيل‪.‬‬
‫‪َ -‬‬
‫‪ -‬شكراً ِ‬
‫لك‬
‫‪ -‬العفو‬
‫وابتسمت ابتسام ًة‬
‫ُ‬ ‫وبكل أسى وأسف شاعر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اتبعت‪ -‬إنين ّي سيديت‬
‫ِ‬
‫غضب‬ ‫شاردة مثّ اتبعت‪ -‬من ِ‬
‫مدينة محص‪ ،‬وبعد أربعة عشر يوماً من‬
‫وجهك صبيحة أول يوم ر ِ‬
‫أيتك فيه ُهنا‬ ‫ِ‬ ‫عين‪ ،‬كا َن‬ ‫ِ‬
‫علي وذهابه ّ‬
‫الشعر ّ‬
‫إيل‪ ،‬وهلذا‬ ‫ِ‬
‫عين وعاد ّ‬ ‫الشعر ّ‬
‫ُ‬ ‫صفح‬
‫َ‬ ‫فربؤيتك‬ ‫علي‪،‬‬
‫ّي َهنَا‪ ،‬وجه خري ّ‬
‫أحببت أن أشكرك‪.‬‬
‫ُ‬
‫ضحكت وهي تقول‪ -‬معقول‬
‫حصل فعالً‬
‫َ‬ ‫‪ -‬هذا الذي‬
‫عرك موزون؟‬
‫وش َ‬‫‪ِ -‬‬
‫‪ -‬وُمزون أيضاً!‬
‫‪153‬‬
‫‪ -‬ملَ هذا التشاؤم كله؟‪.‬‬
‫‪ -‬ألنه ليس مثّةَ ما يدعو إىل التفاؤل‪.‬‬
‫هناك ما يدعو إىل التفاؤل‪.‬‬
‫‪ -‬بل َ‬
‫‪ -‬وما هو؟‪.‬‬
‫‪ -‬أان‪ ،‬وابتَ َسمت‪.‬‬
‫بيل الفجر‪ ،‬انتهى لقاؤان هباتف أاتها‬ ‫ِ‬
‫كا َن َد ُمها خفيفاً كنسمة هواء قُ َ‬
‫ِ‬
‫عندك رقمي فأان‬ ‫سجلي‬
‫الرتكية‪ ،‬وقبل ذهاهبا قلت هلا ّ‬ ‫من والدهتا ُ‬
‫وسجلتهُ عندها‪ ،‬وودعتين‬‫ّ‬ ‫الرقم‬
‫َ‬ ‫أتشرف مبعرفتك جداً‪ ،‬أخذت‬
‫أخذت بثأري ِ‬
‫منك‪ ،‬مع أنه مل حيصل‬ ‫ُ‬ ‫شعرت بعد ذهاهبا أنين‬
‫ُ‬ ‫وذهبت‪،‬‬
‫شيء بيين وبني الفتاة‪ ،‬وكلّها جمرد ربع ساعة برفقة فتاة ال أعرفها‪،‬‬
‫مصدر تفاؤل حقيقي‪ ،‬ال على سبيل‬
‫َ‬ ‫لكنّها أورثتين طاقةً إجيابيةً‪ ،‬وكانت‬
‫املزاح كما قالت‪.‬‬
‫بيت الشاعر الرائع جمدي معروف‪:‬‬
‫ردد َ‬
‫محص ولسا ُن حايل يُ ُ‬
‫رجعت إىل َ‬
‫ُ‬

‫اك‬
‫ولست تر َ‬
‫َ‬ ‫إليك‪،‬‬
‫تعود َ‬‫ُ‬
‫بحر!‬
‫وأنت بال وجهة ُم ُ‬
‫َ‬

‫مساء إىل اخلراب‬ ‫لقد ْ ِ‬


‫خرجت ً‬
‫ُ‬ ‫عشر سنني‪،‬‬
‫ص يف شهر واحد َ‬‫كربت مح ُ‬
‫أين‬ ‫ِ‬
‫مبفردي‪ ،‬كا َن أمري ‪-‬الشخص الوحيد الذي اتصلت به وأخربته َ‬
‫أان‪ -‬مسافراً‪.‬‬
‫‪154‬‬
‫أخذت فنجان قهويت‬
‫ُ‬ ‫ويعود بعد شهر تقريباً‪،‬‬
‫ُ‬ ‫هو اآلن يف دمشق‪،‬‬
‫مين‪،‬‬ ‫وجلست وحيداً‪ ،‬أتخذين ذكرى وأتيت يب أخرى‪ ،‬ما أقرب ِ‬
‫بيتك ّ‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫نظر خلف البساتني‬
‫علي فعلهُ ألرى بلكون بيتك‪ ،‬هو أن أ َ‬
‫كل ما كا َن ّ‬‫ّ‬
‫سألت نفسي هذا السؤال الذي‬ ‫ِ‬
‫أين كنت وقتها؟‪،‬‬
‫ُ‬ ‫مين‪ ،‬تُرى َ‬
‫القريبة ّ‬
‫أسأهلا إّيه عشرات املرات يومياً‪ ،‬وكالعادة ال ُجتيب‪ ،‬وهكذا‪ ،..‬ومن‬
‫ِ‬
‫تنتصبان‬ ‫بقدمي إال ومها‬ ‫سؤال بال إجابة إىل سؤال مثله‪ ،‬مل أشعر‬
‫ّ‬
‫كل ما كان يف ذاكريت منك ذلك الوقت أّيمنا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وتسريان ابجتاه بيتك‪ّ ،‬‬
‫بدأت‬
‫أين ذهبت ذكرى اخليانة‪ ،‬ال أعرف ال أعرف‪ُ ،‬‬ ‫اجلميلة‪ ،‬ال أعرف َ‬
‫أسري وأان أُفكر بك ومبا ينتظرين إذا اقرتبت من بيتك‪ ،‬ترى هل تكونني‬
‫حّت‬
‫بدأت أستعجل اخلطى أكثر وأكثر‪ّ ،‬‬ ‫عند أمينة؟‪ ،‬ال أعرف أيضاً‪ُ ،‬‬
‫وجدتُين أقف ُمقابل بيتك على الطرف اآلخر من الطريق‪ ،‬ال أرى إال‬
‫والشبابيك ُمغلقة‪ ،‬الشيء يوحي حبياة‬
‫ُ‬ ‫الظالم‪ ،‬أنوار البيت ُمطفأة‪،‬‬
‫أدرت وجهي وعدت من حيث أتيت‪،‬‬ ‫أنت؟ ُ‬ ‫داخل هذا البيت‪ ،‬أين ِ‬
‫َ‬
‫وعدت خب ّف ْي وجعي‪ ،‬مخسة أشهر وثالثو َن‬
‫ُ‬ ‫ذهبت ِ‬
‫إليك حامالً شوقي‬ ‫ُ‬
‫َّنلك اليوم من ُحبّنا رمحةُ عليه!‬
‫كل ما ُ‬‫قصيدةً هي ُّ‬
‫حّت حلظة كتابيت‬
‫بقرب بيتك أتفق ُدين! ومل يتغري شيء ّ‬ ‫أمر يومياً ِ‬
‫بدأت ّ‬
‫ُ‬
‫شاعر‪:‬‬
‫هذه الكلمات‪ ،‬إ ّن أصدق ما قال ٌ‬

‫ب الدّي ِر َش َ‬
‫غفن قليب‬ ‫وما ُح ُّ‬
‫كن الدّيرا‬
‫ب من َس َ‬
‫ولكن ُح ّ‬
‫‪155‬‬
‫ِ‬
‫انتقلت للعيش‬ ‫ني من عوديت ِ‬
‫أنك‬ ‫عرفت بعد اسبوع ِ‬
‫ُ‬ ‫أمر مع أنين‬
‫ظللت ُّ‬
‫ُ‬
‫أظن‪ ،‬لكنين سأخربك‪.‬‬ ‫ِ‬
‫كيف عرفت؟‪ ،‬هل يُهمك هذا‪ ،‬ال ّ‬ ‫يف اإلمارات‪َ ،‬‬
‫ني من زّيريت اليومية لبيتك‪ ،‬أخربته طبعاً‬‫ذهبت إىل توفيق‪ ،‬بعد اسبوع ِ‬
‫ُ‬
‫أنين على عالقة صداقة بك‪ ،‬وأن جوالك ُمغلق منذ ُم ّدة‪ ،‬فقال يل أ ّن‬
‫ذهبت للعيش يف‬ ‫ِ‬ ‫ملى ‪-‬أختك من الرضاع‪ -‬وحبيبته‪ ،‬أخربتهُ ِ‬
‫أنك‬
‫شكرت‬
‫ُ‬ ‫األمارات مع عائلتك‪ ،‬بعدما وقَّع والدك عقد عمل هناك‪،‬‬
‫توفيق ومل أُظهر لهُ شيئاً ومشيت‪ ،‬هل تعرفني ما الذي خطر ببايل حلظة‬
‫تذكرت أن السيارة اليت ر ِ‬
‫أيتك تضحكني فيها مع‬ ‫ُ‬ ‫كت توفيق؟‪ ،‬لقد‬ ‫تر ُ‬
‫ِ‬
‫خطيبك‬ ‫ذلك الشاب كانت حتمل لوحات دولة اإلمارات‪ ،‬هل كا َن‬
‫وأان ال أعرف؟‪ ،‬هل تعرضنا أان وهو خليانة ُمشرتكة!؟‪ ،‬بدأت الدنيا‬
‫كبت سياريت‬
‫مساء‪ ،‬ر ُ‬
‫ً‬ ‫ُّ‬
‫تسود بوجهي تدرجيياً‪ ،‬كانت الساعة العاشرةُ‬
‫واجتهت‬
‫ُ‬ ‫وقمت بتشغيل قصيدة املستبدة بصوت شاعرها كرمي العراقي‪،‬‬‫ُ‬
‫جيلس‬ ‫ِ‬
‫كأس اببونج واقرتبت من كرسيّي وإذا برجل ُ‬ ‫إىل اخلراب‪ ،‬أخذت َ‬
‫مكاين‪ ،‬ما أبشع أن تعتاد اجللوس يف مكان ما‪ ،‬وأتيت يوماً فتجد غريك‬
‫وأشعلت‬
‫ُ‬ ‫جلست مبحاذاته من ابب النكد ال أكثر‪،‬‬
‫ُ‬ ‫سبقك إليه‪،‬‬
‫كنت أستمع‪:‬‬
‫بيت كرمي العراقي الذي ُ‬
‫ُردد يف داخلي َ‬
‫سيجاريت وأان أ ُ‬

‫شكراً جلرح ِ‬
‫فيه كانت صحويت‬
‫شكراً جلرح ِ‬
‫فيه كانت صحويت‬

‫‪156‬‬
‫عدت إىل محص رغماً عين‪ ،‬ما أروع السفر عندما يكون قرار‬ ‫ُ‬ ‫لقد‬
‫أي ارتباط ُجيربان على العودة‪ ،‬كنت أو ّد‬
‫الرجوع أبيدينا وال يوجد لدينا ّ‬
‫ِ‬
‫أنساك‪ ،‬ولكنين مل أستطع بكل أسف‪ ،‬لقد منعتين‬ ‫ِ‬ ‫حّت‬
‫الغياب أكثر ّ‬
‫األّيم ّي حبيبيت سريعةً كعادهتا مع الناس‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ارتباطايت الكثرية‪ ،‬وجرت‬
‫لكنّها قررت أن تكو َن سلحفا ًة معي‪ ،‬ال يهم كثرياً فالسلحفاة ولو كانت‬
‫مر على فراقنا ستة أشهر وها حنن‬
‫بطيئة لكنها يف احملصلة متشي‪ ،‬لقد ّ‬
‫ئلت‬
‫ندخل يف السابع اآلن‪ ،‬وللتو ّي حبيبيت خرجت من لقاء صحفي ُس ُ‬
‫ُ‬
‫كل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فيه ِ‬
‫حاولت نسيانك ذكرتين بك األشياءُ من حويل‪ ،‬يف ّ‬
‫ُ‬ ‫عنك‪ ،‬كلّما‬
‫ألف ذكرى‪ ،‬هنا وقفنا‪ ،‬هنا جلسنا‪ ،‬هنا ضحكنا‪،‬‬
‫تقع عليها عيين ُ‬
‫نظرة ُ‬
‫ِ‬
‫وجهك ضاحكاً‪،-‬‬ ‫أيت‬
‫التفت ر ُ‬
‫ُ‬ ‫حيث‬
‫هنا بكينا‪ ،‬هنا وهناك وهنا‪ُ - ،‬‬
‫تذكرت‬
‫ُ‬ ‫شعور االنتقام يف داخلي كلّما‬
‫ُ‬ ‫ال أعرف كيف يتالشى‬
‫يقول‬ ‫ابتسامتك‪ِ ،‬‬
‫آه لو تباعُ ابتسامتُك‪ ،‬ولكنها أشياءُ ال تُشرتى كما ُ‬
‫دنقل‪.‬‬
‫اتصلت اتصاالً واحداً بعدما ر ِ‬
‫أيتك‬ ‫ِ‬ ‫وانتهينا‪ ،‬الذي ُحيرقين حرقاً هو ِ‬
‫أنك‬
‫حس ِ‬
‫منك وال‬ ‫مرت وال ٌّ‬ ‫مع حبيب القلب‪ ،‬وها هي الشهور الست ّ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫اتصلت بعد‬ ‫أسألك للمرة األلف هل رأيتِين يومها ّ‬
‫حّت‬ ‫ِ‬ ‫خرب عنك‪،‬‬
‫ٌ‬
‫اتصال واحد؟ ما أحقر األسئلة اليت تنحتنا‬ ‫ساعة من رؤييت لكما؟ وملاذا‬
‫كتبت ِ‬
‫لك مقاالت ال تُع ّد وال ُحتصى يف جمليت‬ ‫نعرف هلا جواابً‪ُ ،‬‬
‫حنتاً وال ُ‬
‫امسك صراحةً عسى أن تشعري بشيء ي ِ‬
‫عيدك‬ ‫"صدى الشعر"‪ ،‬وذكرت ِ‬
‫ُ‬

‫‪157‬‬
‫سوف‬ ‫ِ‬
‫أعجبتك اإلمارات؟ هل‬ ‫ِ‬
‫املقاالت كانت عبث‪ ،‬هل‬ ‫كل‬
‫َ‬ ‫يل‪ ،‬و ّ‬
‫مرة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ألف ّ‬
‫مرة ُيو ُن َ‬
‫ختونينَها كما ُخنتين؟‪ ،‬ال أستبعد‪ ،‬الذي ُيو ُن ّ‬
‫قبل يومني عن احلفل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كل شيء‪ ،‬أخربين توفيق َ‬ ‫تزوجت اآل َن ونسيت ّ‬
‫كل‬ ‫العظيم الذي أقامه ِ‬
‫عريس الغفلة‪ ،‬ولكن هل حي ّق حلبيب قدمي أ َ‬
‫ُ‬ ‫لك‬
‫ِ‬
‫يسأل سؤاالً؟ ال مانع حّت لو مل يكن‬
‫ومتضمض أن َ‬
‫َ‬ ‫اهلجر و َش ِر َ‬
‫ب‬ ‫عليه ُ‬
‫جواب أصالً‪ ،‬ما هو الشيء الذي‬
‫ٌ‬ ‫ليس ثَ َّـمة‬
‫يل احلق فسأسأل ألنه َ‬
‫يف أان؟ عبارة "أدفع ُعمري" ُمستهلكة جداً‬ ‫وجد ِته يف عر ِ‬
‫يسك ومل يكن َّ‬
‫أتذكر‬
‫أدفع عمري على أن أعرف‪ ،‬أمتىن بصدق لو أنين ُ‬ ‫لكنين وهللا ُ‬
‫وجهه يوم رأيتكما‪ ،‬كانت صدميت بك أح ّد من نَظري يومها‪ ،‬وهلذا فأان‬
‫حّت ال‬ ‫ِ‬
‫تقصدت أال أسأل توفيق عن امسه ّ‬
‫ُ‬ ‫أعرف عنهُ شيئاً‪ ،‬كذلك‬
‫ال ُ‬
‫ذنب له‪ ،‬أان غري قادر على ُكرهِ َّنلة‪ ..‬ولكنين كرهتك!‬
‫أكره امساً ال َ‬
‫َ‬
‫أستعد اآلن وبعد ستة أشهر على هنايتنا للسفر إىل اإلمارات‪ ،‬هل‬ ‫ُّ‬
‫ُهلوس أحياانً وأختيّ ُل أحدااثً من‬
‫ستكونني ابنتظاري يف املطار؟ ساُميين أ ُ‬
‫َ‬
‫احلب‬
‫نعرف جيّداً أن ّ‬
‫جربوا احلب ُ‬ ‫والذين ّ‬
‫َ‬ ‫املستحيل أن حتدث‪ ،‬وإنين‬
‫سأقف يف مطار دمشق ابنتظا ِر أن تُ َ‬
‫فتح أبواب‬ ‫ُ‬ ‫كل التوقعات‪،‬‬ ‫الف ّ‬
‫ُُي ُ‬
‫كل اإلميان أن توقّعايت ستخيب‪،‬‬
‫ومؤمن َّ‬
‫ٌ‬ ‫الطائرة اليت ستأخذين إليك‪،‬‬
‫وأنين لن أج َد ِك يف املطار‪.‬‬
‫سافرت إىل اإلمارت فعالً وعدت منها بعد شهر‪ ،‬ال شيء جديد‪،‬‬ ‫ُ‬
‫كعاديت هناك مع العائلة يومياً‪ ،‬وهذا ال يعين أنين مل أحبث ِ‬
‫عنك‪ ،‬ابلطبع‬

‫‪158‬‬
‫حاولت وابلطبع فشلت‪ ،‬لن أقول كما يقول اجلميع حبثت عن إبرة يف‬
‫ِ‬
‫كومة قش ال‪ ،‬بل كنت أحبث يف الالشيء عن كل شيء‪.‬‬
‫لغز كل من حاول َحلّهُ فُِقـد‪ ،‬اطمئين‪ ..‬أان الذي لن تكتيب عنهُ‬ ‫احلب ٌ‬
‫ّ‬
‫اك ولو على الورق‪ ،‬يف‬ ‫يوماً "ليته يقرأ" فاكتيب‪ ،..‬إنّين أُري ُد أن أر ِ‬
‫ُ‬
‫غ ِمحص يف قليب‪ ،‬محص‬ ‫كل شيء مجيل إال أهنا ال تس ّد فرا َ‬ ‫اإلمارات ّ‬
‫فأين‬
‫فكر أهلها ابلسفر خارجها بغرض السياحة‪َ ،‬‬ ‫املدينة اليت ال يُ ُ‬
‫يذهبون؟‪ ،‬إذا كان أبو البقاء الرندي يف مرثية األندلس مسّى اشبيليةَ‬
‫بيت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُردد َ‬‫املرء أوطا ُن؟ أ ُ‬
‫تغر َ‬ ‫ص ُّ‬ ‫محص نسبةً إىل مجاهلا فقال‪ :‬أبع َد مح َ‬
‫أنت وطين الضائع‪،‬‬ ‫تغر املرء نسوا ُن؟ ِ‬
‫أيب البقاء دائماً فأقول‪ :‬أبع َد غَيدا ُّ َ‬
‫حاولت‬
‫ُ‬ ‫رجل آخر واستوطنه‪ ،‬لقد‬ ‫املفقود الذي مل أجده ووجدهُ ٌ‬
‫ُ‬ ‫وطين‬
‫استطعت إال‬
‫ُ‬ ‫أكتب شيئاً قبل أن أُسافر من اإلمارات عائداً فما‬ ‫َ‬ ‫أن‬
‫أهم عندي من قصيدة‪ ،‬كتبتهما وأان يف‬ ‫كتابة بيتني اثنني‪ ،‬لكنهما ّ‬
‫الطائرة‪:‬‬

‫سواد ِ‬
‫الليل ذَكرين حبييب‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫املغيب‬ ‫قبل‬
‫وذكرين اهلوى َ‬

‫سيعود يوماً‬
‫ُ‬ ‫فات هل‬
‫زما ٌن َ‬
‫ِ‬
‫ابلنصيب؟‬ ‫يرجع‬
‫عاد ُ‬‫وهل إن َ‬

‫‪159‬‬
‫ِ‬
‫ابلكلمات‬ ‫النفس‬ ‫طبعاً لن يرجع ال ابلنصيب وال بغريه‪ ،‬لكنين‪ :‬أُعزي‬
‫َ‬
‫تعرفت يف اإلمارات على شاب‬‫ُ‬ ‫أكتبها‪ ،‬صحيح نسيت أن أ ِ‬
‫ُخربك‪،‬‬ ‫ُ‬
‫يعيش يف اإلمارات منذ‬ ‫ِ‬
‫لطيف امسهُ وسام‪ ،‬من محص أيضاً‪ ،‬أخربين أنهُ ُ‬
‫يعمل يف وزارة الثقافة مسؤوالً عن‬
‫عشر سنني‪ ،‬وأنهُ –ّي للصدفة‪ُ -‬‬
‫تنظيم األمسيات الثقافية هناك‪ ،‬حتدثنا كثرياً عن األدب العريب وال ُكتّاب‬
‫اجلُدد‪ ،‬واملُنعطفات اخلطرية اليت تواجهُ الشعر العريب بشكل خاص‬
‫متنيت أن ال تنتهي‪.‬‬
‫واألدب العريب بشكل عام‪ ،‬كانت جلسةً ممتعةً جداً ُ‬
‫أحبث عن كتاب ملّا رأيتهُ وعرفين فوراً‬
‫كنت يف املكتبة يف أحد املوالت‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫سلمت‬
‫ُ‬ ‫وابدرين السالم قائالً اببتسامة عريضة‪ :‬شاعران اجلميل شاكر‪،‬‬
‫ِ‬
‫عليه ُمبسماً وحتدثنا خلمس دقائق عن الكتب مثّ دعوتهُ لفنجان قهوة‪،‬‬
‫أعرف أن هذا ال يهمك يف شيء‪،‬‬ ‫وجلسنا لساعة نتحدث مثَّ افرتقنا‪ُ ،‬‬
‫ِ‬
‫يصلك يوماً ولن تعريف‬ ‫لكنين أ ِ‬
‫ُخربك مبا يدور معي على الورق الذي لن‬
‫بدأت‬
‫أشعر بوحديت ليس أكثر‪ ،‬اطمئين ّي حبيبيت‪ُ ،‬‬ ‫ما فيه‪ ،‬حّت ال َ‬
‫وحنن ندخل الشهر الثامن بعد الفراق‪ ،‬المين أمري‬ ‫ِ‬
‫أشعر ابلشفاء منك ُ‬
‫ُ‬
‫الصديق احلقيقي هو الذي يكون جسراً نعربُ من‬
‫ُ‬ ‫كثرياً‪ ،‬وواساين كثرياً‪،‬‬
‫خالله إلينا‪ ،‬الشهر الذي قضيتهُ بعد عوديت من تركيا كا َن أصعب‬ ‫ِ‬
‫الشهور أل ّن أمري كا َن ُمسافراً‪ ،‬كانت عودته إىل ِمحص عودةً يل أان‪،‬‬
‫خرجت معهُ يف‬
‫ُ‬ ‫كنت سعيداً بعودته‪،‬‬
‫علي ُ‬
‫رغم سيول اللوم اليت ألقاها ّ‬
‫مساء‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أول يوم عاد فيه إىل اخلراب وجلسنا كعادتنا من الساعة العاشرة ً‬

‫‪160‬‬
‫أشعل سيجارتهُ وهو جيلس وقال‪ :‬احلب كذبةٌ يُصدقها‬
‫َ‬ ‫حّت الصباح‪،‬‬‫ّ‬
‫اجلميع إبرادهتم‪.‬‬
‫اختبار ال جيتازهُ إال‬
‫ٌ‬ ‫ظلم للحب‪ ،‬احلب ّي صديقي‬
‫ابتسمت له‪ -‬هذا ٌ‬
‫ُ‬
‫الصادقون‪.‬‬
‫التاسع بعد الفراق دخل علينا‪ ،‬وصلتين‬ ‫والشهر‬ ‫األّيم دورهتا‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫دارت ُ‬
‫دعوةٌ من وسام إلحياء أُمسية شعرية يف أبو ظيب بعد شهر من اآلن‪،‬‬
‫هل ستحضرينها؟‪ ،‬ال أتوقع طبعاً ويكفيين أن تسمعي هبا‪.‬‬
‫حّت أوثّق كل ما حيصل هناك‪،‬‬
‫سيكو ُن هذا الدفرت معي يف اإلمارات‪ّ ،‬‬
‫وأستطيع من اآلن أن أُمخّن ما سيحصل‪ ،‬سوف أكو ُن سعيداً جداً‬
‫ِ‬
‫السعادة‬ ‫شعور‬ ‫وحزيناً جداً‪ ،‬ال تستغريب أبداً سأشرح ِ‬
‫يتجمع ُ‬‫ُ‬ ‫كيف‬
‫لك َ‬ ‫ُ‬
‫ألنك ِ‬
‫لست‬ ‫بك وحزيناً ِ‬
‫واحلزن يف قلب واحد‪ ،‬سأكو ُن سعيداً ألنين بقر ِ‬
‫ِ‬
‫وأكرهك‪.‬‬ ‫شئت‪ ،‬أُحبّ ِ‬
‫ك‬ ‫بقريب‪ ،‬فسري هذه الفلسفة كما ِ‬

‫‪161‬‬
162
‫الفصل السادس‬
‫"مذكرات غيداء"‬

‫ني ي ٌد‬‫وليس لنا يف احلن ِ‬


‫ويف الب ِ‬
‫عد كا َن لنا ألف يَـ ْد‬‫ُ‬
‫سالم عليك‪ ..‬افتقدتُك جداً‬ ‫ٌ‬
‫السالم‪ ،‬فما أُفتَـ َقـ ْد‬
‫ُ‬ ‫علي‬
‫َّ‬

‫‪ -‬ساري العتييب‬

‫‪163‬‬
164
‫لست ابرعةً يف الكتابة‬ ‫فرغت اآل َن من قراءةِ َ‬
‫دفرتك ّي شاكر‪ ،‬ومبا أنين ُ‬ ‫ُ‬
‫يتسع صدرك لبساطة لغيت‪ ،‬فإنين أخشى أن يكون‬ ‫مثلك‪ ،‬أرجو أن َ‬
‫ِ‬
‫الكربُ أخ َذ مأخ َذهُ منك‪ ،‬وأنك أكرب بكثري من أن تقرأ حلبيبة قدمية من‬
‫ُخفيك أنين‬
‫حبيباتك الكثريات اللوايت ال ُجيد َن الكتابة األدبية‪ ،‬ال أ َ‬
‫وأعرف أنّين احلبيبةُ الوحيدة اليت استولت على‬
‫ُ‬ ‫ك حّت اللحظة‪،‬‬
‫أُحبّ َ‬
‫أعلم‬
‫بكيت كثرياً وأان أقرأ دفرتك‪ ،‬ال ُ‬
‫ُ‬ ‫ُخفيك أنين‬
‫عرش قلبك‪ ،‬وال أ َ‬
‫أتيت إىل‬
‫علي وعليك؟ َ‬‫ملاذا‪ ،‬هل كا َن شوقاً إليك أم كا َن ُحزانً َّ‬
‫اعتليت‬
‫َ‬ ‫يوم‬
‫اإلمارات بدعوة من زوجي وسام‪ ،‬ال أنسى أبداً وجهك َ‬
‫ثمر‬
‫س َي على احلضور‪ُ :‬هنا يُ ُ‬
‫قبل أن ُمت ّ‬
‫وقلت ُمبتسماً َ‬‫املسرح ُمرتبكاً َ‬
‫أمامك‬ ‫كنت جالسةً‬
‫أنت عليهم‪ُ ،‬‬ ‫يت َ‬ ‫ومس َ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫لك اجلميع‪ّ ،‬‬ ‫الشعر‪ ،‬ص ّف َق َ‬
‫الظالم‬
‫ُ‬ ‫املسرح كانت نصيبك وحدك و كان‬‫ِ‬ ‫ولكن اإلضاء َة يف‬
‫ُمباشرًة َّ‬
‫تقول للجميع‪ :‬كلّكم‬
‫أسك ُ‬ ‫ِ‬
‫الضوء فو َق ر َ‬ ‫نصيب احلضور‪ ،‬كانت بقعةُ‬‫َ‬
‫يفضح املرءُ نفسهُ؟‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تساءلت وقتها وهل‬
‫ُ‬ ‫فضح نفسه!‬
‫مستور إال من َ‬
‫ٌ‬
‫اليوم ستسمعو َن إىل‬
‫قبل أن تبدأ إبلقاء القصائد وقلت‪َ :‬‬
‫أنت َ‬
‫أجبت َ‬
‫َ‬
‫ضحك بعض احلضور‪ ،‬وكا َن‬
‫َ‬ ‫كت‪،‬‬ ‫فضائحي!‪ ،‬عفواً قصائدي‪ِ ،‬‬
‫وضح ْ‬
‫تباكك واضحاً‪.‬‬
‫ار َ‬
‫معاشر الشعراء فإننا‬ ‫حنن‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫وسرهُ يف قلبه إال ُ‬
‫ميوت ّ‬
‫َاتبعت‪ :‬إ ّن اإلنسا َن ُ‬
‫نفضح أسراران أبيدينا إذ نكتُبها على شكل قصيدة‪.‬‬
‫ُ‬
‫قصيدتك األوىل يل أان‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُيطر على قليب كل شيء‪ ،‬إال أن تكو َن‬ ‫قد ُ‬
‫وأن يكو َن امسي هبا دليالً على ملكييت هلا‪.‬‬
‫‪165‬‬
‫بدأت‬
‫قصيدتك مكياجي الذي َسفكتهُ الدموع ما إن َ‬‫َ‬ ‫علي صد ُق‬
‫أفس َد َّ‬
‫ب‪،‬‬
‫عز علينا لُقيا من ُحن ّ‬
‫مت للقصيدة بقولك‪ :‬عندما يَ ُّ‬‫اإللقاء‪ ،‬وق ّد َ‬
‫تُنقذان قصيدة‪ ،‬مثَّ بدأت بقصيدة كان مطلعها‪:‬‬
‫رأيتُ ِ‬
‫ك يف املنَ ِام وكان عنـدي‬
‫شعور ابلتالقي بع َد ب ِ‬
‫عد‬ ‫َ ُ‬ ‫ٌ‬

‫كثري‬
‫وقفنا بينَنا خل ٌق ٌ‬
‫كس ِّـد‬
‫بني أعيُننا َ‬
‫وقوفاً َ‬

‫فرح وشوق‬
‫كنت من َ‬
‫وأرجف ُ‬
‫ُ‬
‫كحقل ِ‬
‫ورد‬ ‫ِ‬ ‫سمني ِ‬
‫كنت‬ ‫وتبتَ َ‬

‫مثل طفل‬
‫أرقص َ‬
‫اس ُ‬ ‫أمام النَ ِ‬
‫َ‬
‫كل ِ‬
‫الناس وحـدي!‬ ‫رغم ِّ‬
‫كأين َ‬

‫أ ِ‬
‫ُانديك‪ ..‬ارجعي‪ ،‬طمعاً َبر ّد‬
‫فتني لكن دو َن ِّ‬
‫رد‬ ‫وتلتَ َ‬

‫فرتجتف األماين يف فؤادي‬


‫ُ‬
‫وأصرخ عالياً‪ ..‬غيـداءُ ُر ّدي!‬
‫ُ‬
‫‪166‬‬
‫احلمد هلل َّ‬
‫أن وسام كا َن مسؤوالً عن األمسية ومل يكن جالساً إىل جانيب‪،‬‬
‫فعلت ّي شاكر؟‪ ،‬لقد‬
‫وجف دمعي‪ ،‬ماذا َ‬
‫ـل جفين‪ّ ،‬‬
‫حّت َك َّ‬
‫يت ّ‬
‫لقد بك ُ‬
‫ُصلح شيئاً مما أفس َد‬
‫املسرح مسرعةً بعد القصيدة‪ ،‬حّت أ َ‬
‫ِ‬ ‫من‬
‫خرجت َ‬
‫ُ‬
‫أنظر إىل وجهي الذي‬ ‫ِ‬
‫مغاسل دورات املياة ُ‬ ‫وقفت يف‬
‫ُ‬ ‫الدمع يف وجهي‪،‬‬
‫ُ‬
‫ذهبت بعيداً‬
‫ُ‬ ‫غبت عن الوجود حلظات‪ ،‬جاءتين محص‪،‬‬ ‫غمرهُ ال ُكحل‪ُ ،‬‬
‫ّي شاكر‪ ،‬تذكرتُنا‪ ..‬تذكرتُنا حّت أصابتين نوبة بكاء أُخرى أش ّد من‬
‫أنت تُلقي وأان‬
‫وسرحت‪َ ،‬‬
‫رجعت بعدها إىل مقعدي يف املسرح َ‬
‫ُ‬ ‫األوىل‪،‬‬
‫كل تفصيل‬
‫سارحةٌ يف عينيك‪ ،‬يف جفنيك‪ ،‬يف خ ّديك‪ ،‬يف ك ّفيك‪ ،‬يف ّ‬
‫مللمت‬
‫ُ‬ ‫شارفت على االنتهاء‪،‬‬
‫َ‬ ‫صغري من مالُمك املُتعبة‪ ،‬وعندما‬
‫قبل أن تنتهي من قصائدك‬
‫اخلروج َ‬
‫َ‬ ‫تعمدت‬
‫ُ‬ ‫دموعي وبقاّي قليب وقمت‪،‬‬
‫وهن‬
‫قبل أرى الصباّي ّ‬
‫اخلروج َ‬
‫َ‬ ‫تعمدت‬
‫ُ‬ ‫لك مجهورك‪،‬‬
‫وتكشف اإلضاءةُ َ‬
‫َ‬
‫خرجت‬
‫ُ‬ ‫يلتقطن معك الصور التذكارية‪ ،‬خبطوات أسرع من دقّات قليب‬
‫من املسرح‪ ،‬كا َن وسام الذي تفقدين مرتني خالل األمسية وأخفت عنهُ‬
‫َ‬
‫عُتمةُ املَسرح حز َن وجهي‪ ،‬يتصل يب وأان خارجة‪.‬‬
‫أتيت إىل مقعدك فلم أجدك؟‬
‫أنت‪ُ ،‬‬ ‫‪ -‬أين ِ‬
‫َ‬
‫املمر ابلناس‬
‫قبل أن يزدحم ّ‬
‫خرجت للتو َ‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬انتظري ّي جمنونة‪ ،‬أال تُريدين أن أ ِ‬
‫ُعرفك على الشاعر ولكي يوقّع‬ ‫َ‬
‫لك ديواانً من دواوينه؟‬
‫أهتم كثرياً لتوقيعه‪.‬‬
‫قلت لوسام ال أريد‪ ،‬تكفيين رؤيته وال ّ‬
‫ُ‬

‫‪167‬‬
‫وبصمتك يف حيايت ال‬
‫َ‬ ‫توقيعك احلقيقي كان على قليب ّي شاكر‪،‬‬
‫َ‬ ‫إ ّن‬
‫حّت اللحظة‪ ،‬وحّت آخر حلظة‪ ،‬هذا ماال يعرفهُ وسام وال غريه‪.‬‬
‫تزال ّ‬

‫يعود أعدتهُ‬
‫ك لو يوماً ُ‬‫وحبُّ ِ‬
‫ُ‬
‫يتكرر‬
‫وكررتُهُ‪ ..‬لو أنّهُ ُ‬

‫ُصدقك يف هذا البيت اجلميل جداً والكاذب جداً‪،‬‬


‫َ‬ ‫كنت ال أ‬
‫ساُمين إذا ُ‬
‫ض ُل الغياب الطويل على اللقاءت‬‫ك تُف ّ‬
‫أعرف أنّ َ‬
‫ُ‬ ‫أعرفك جيداً‪،‬‬
‫َ‬ ‫فأان‬
‫لك اآلن؟ تسعة أشهر على‬ ‫لست َ‬‫ستقبل يب وأان ُ‬
‫ُ‬ ‫القصرية‪ ،‬فكيف‬
‫لقاء‬ ‫ِ‬
‫القدر ُُيبّ ُئ يل ً‬
‫فراقنا وستةٌ على زواجي من وسام‪ ،‬مل أكن أعلم أ ّن َ‬
‫اك وال تراين‪ ،‬تقرأُ َ‬
‫أنت‬ ‫معك‪ ،‬ومل أكن أعلم أن اللقاء سيكو ُن مبتوراً فأر َ‬
‫عاد‬
‫لتمسح الدمع‪َ ،‬‬‫َ‬ ‫يدك إىل خ ّدي‬‫تصل َ‬‫عرك وأان أبكي أمامك وال ُ‬ ‫ِش َ‬
‫وسام ُمتأخراً ليجدين بعد الواحدة ُمستيقظةً أشرب القهوة وأستمع ألم‬
‫بكل ما يف الكون من رقّـة‪:‬‬
‫غين ّ‬
‫كلثوم وهي تُ ّ‬

‫اك ّي حبييب"‬ ‫ِ‬


‫اجلنوب‪ ..‬على ُُميّ َ‬ ‫"أغار من نس ِ‬
‫مة‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬

‫اشتقت ِ‬
‫لك‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وجلس أمامي‪-‬‬ ‫قبّلين من رأسي‬
‫َ‬
‫‪-‬وأان ّي قليب اشتقت لك‪ ،‬أخربين ماذا فعلت؟‬

‫‪168‬‬
‫حّت انتهى من احلديث مع معجبيه‬
‫وقفت مع شاكر ّ‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬الشيء‪،‬‬
‫ومعجباته مثّ أوصلته للفندق وجئتك‬
‫أي فندق حجزمت له؟‬
‫‪-‬يف ّ‬
‫‪ -‬يف اهليلتون‬
‫‪-‬مجيل‪ ،‬يستحق كل تكرمي‪ ،‬شعرهُ رائع‬
‫ب غيداء‪ ،‬لقد‬
‫اسم حبيبيت‪ ،‬كالان ُحي ّ‬
‫حتمل َ‬
‫ُمبتسماً‪ّ -‬يللصدفة‪ ،‬حبيبته ُ‬
‫تغزل هبا طوال األمسية‬
‫وقمت‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ارتبكت قليالً مثّ تنحنحت‪ -‬صدفة مجيلة‪،‬‬
‫حّت الصباح‪،‬‬
‫وسام وأان أتقلب‪ ،‬أتخذين ذكرى وتعود َيب دمعة ّ‬
‫انم ُ‬‫َ‬
‫استيقظت بعد الظهر وكا َن وسام يستحم كعادته الصباحية‪ ،‬قمت إىل‬
‫ُ‬
‫املطبخ وصنعت قهو ًة يل وله‪ ،‬مث ذهبت إىل غرفة اجللوس أنتظره‪ ،‬قال‬
‫نشف شعرهُ وميشي ابجتاهي‪ :‬نسيت أن أُخربك‪ ،‬لقد‬
‫ملّا خرج وهو يُ ُ‬
‫دعوت شاكر على الغداء الساعة اخلامسة عصراً يف مطعم مكسيمو‪،‬‬
‫ُ‬
‫حّت أستوعب‪ ،‬شاكر‪ ،‬غداء‪ ،‬جيب أن أحضر‪ ،‬اخل‪...‬‬ ‫ُّ‬
‫سكت قليالً ّ‬
‫قلت‪ -‬أان ال أستطيع الذهاب معك‬
‫ُ‬
‫ُمستغرابً‪ -‬ملَ؟‬
‫‪-‬مل َأَن طوال الليل‪ ،‬وأشعر ابلتعب‬
‫تفوتني فرص ًة كهذه‪ ،‬إنهُ شاكر عريب‪ ،‬لو ر ِ‬
‫أيت البارحة‬ ‫َ‬ ‫‪ -‬ا جمنونة كيف‬
‫لعرفت ِ‬
‫أنك جمنونة‬ ‫ِ‬ ‫كيف الناس من حوله وكيف ُمبتهم له‬

‫‪169‬‬
‫أضع فنجاين‪ -‬ساعة من النوم يف هذا التعب تساوي عندي الدنيا‬
‫وأان ُ‬
‫وما فيها‪.‬‬

‫هل تعرف ّي شاكر أنين ما عرفت بدعوة اهليئة الثقافية لك إال قبل‬
‫أعرف عن‬
‫ُ‬ ‫غامض يف عمله‪ ،‬ال‬
‫ٌ‬ ‫رجل‬
‫حضورك بيومني؟ وسام ّي شاكر ٌ‬
‫عمله إال أنه يعمل يف اهليئة الثقافية فقط‪ ،‬أما طبيعة عمله فال أعرف‬
‫عنها شيئاً‪ ،‬هو مل يسبق أن أخربين وأان مل يسبق أن سألته‪ ،‬حّت عندما‬
‫عرفت قبل حضورك بيومني‪ ،‬كانت معرفيت عن طريق الصدفة‪ ،‬عندما‬
‫أيت ملف وورد على سطح‬
‫فتحت جهاز "الالبتوب" اخلاص بوسام ور ُ‬
‫ُجن‪ ،‬ما الذي جاء ابمسك إىل‬
‫كدت أن أ ّ‬
‫املكتب عنوانه‪ :‬شاكر عريب‪ُ ،‬‬
‫عرفت‬
‫ُ‬ ‫هدأت عندما‬
‫ُ‬ ‫هنا!؟‪ ،‬وفتحت امللف وأان أرجف ولكن سرعان ما‬
‫مدعو إلحياء أُمسية هنا يف أبو ظيب‪ ،‬مل يدم هذا اهلدوء كثرياً‪ ،‬بدأ‬
‫أنك ٌّ‬
‫اك حقاً؟‪ ،‬هل سرتاين؟‪ ،‬هل سنتحدث؟‪ ،‬هل ما‬ ‫القلق أيكلين‪ ،‬هل سأر َ‬
‫ُ‬
‫زلت ُحتبين؟‪ ،‬هل هل هل‪ ،‬مثانية وأربعني ساعةً قبل قدومك وأان ُمزعزعة‬
‫العواطف‪.‬‬
‫خرجت إىل اهليلتون‪ ،‬وأان أُفكر طوال الوقت هل سيخربك وسام أن‬
‫ُ‬
‫زوجته امسها غيداء؟‪ ،‬ال أُري ُد هذا‪ ،‬ويف نفس الوقت ال أستطيع أن‬
‫أقول لوسام ال تقل أمام شاكر أن امسي غيداء‪ ،‬فهذا مدعاةٌ للشك‪،‬‬
‫خارج‬
‫قلت لوسام وهو ٌ‬
‫أيضاً سأحاول أن ال أتصل به وهو برفقتك‪ُ ،‬‬
‫برفقتك إىل املطعم‪ :‬أان سأخرج نصف ساعة‬
‫َ‬ ‫ليذهب إليك ومن ثَ َّـم‬
‫‪170‬‬
‫خرجت وراءهُ مباشرة بعدما‬
‫ُ‬ ‫وأعود‪ ،‬وكالعادة مل ميانع ومل يسأل إىل أين‪،‬‬
‫ولبست مالبس حجاب مل يسبق لوسام أن رآين هبا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫لت مالبسي‬
‫ب ّد ُ‬
‫أُري ُد أن أراك من بعيد وأُري ُد أن تلمحين‪ ،‬أُري ُد أن أصنع الصدفة بيننا‪،‬‬
‫قد تكون الصدفة اليت نصنعها على أعيننا أحياانً أمجل بكثري من تلك‬
‫كبت سياريت الفارهة‪ ،‬صحيح نسيت أن أُخربك‪،‬‬ ‫اليت أتتينا فجأة‪ ،‬ر ُ‬
‫فيك جداً‪،‬‬
‫اشرتى يل وسام سيارة ابهظة الثمن‪ ،‬أُحبها جداً وتُذكرين َ‬
‫ملاذا تُذكرين فيك؟‪ ،‬ألنين مؤمنة أن كل شيء مجيل يف هذه الدنيا ال‬
‫وصلت يف الوقت املناسب‪ ،‬لكن ماذا عن‬
‫ُ‬ ‫يليق إال بك‪ ،‬احلمد هلل أنين‬
‫أوقفت سياريت بعيداً ونزلت‪ ،‬كانت سيارة‬
‫ُ‬ ‫وسام؟‪ ،‬ال أُريدهُ أن يراين‪،‬‬
‫مررت جبانبها ومل ينتبه يل‪ ،‬كان يتحدث‬
‫وسام تقف أمام الباب مباشرة‪ُ ،‬‬
‫كنت‬
‫ابجلوال‪ ،‬صار ظهري إىل السيارة وأان أدخل إىل هبو الفندق عندما َ‬
‫ّ‬
‫مشيت‬
‫ُ‬ ‫أنت واقفاً عند االستقبال يف الفندق تسأهلم عن شيء ما‪،‬‬ ‫َ‬
‫ت تنوي اخلروج‪ ،‬وقعت عيين بعينك!‪.‬‬ ‫ابجتاهك‪ ،‬التف َ‬
‫علي‬
‫عاد وسام إىل املنزل بعد الثانية صباحاً‪ّ ،‬سلم ّ‬
‫كا َن يوماً حافالً‪َ ،‬‬
‫ورمى جبسدهِ على التخت هكذا كما هو‪ ،‬مل يكن ميلك من القوة ما‬
‫يُعينُه على تبديل مالبسه‪ ،‬قمت من سريري إىل املطبخ‪ ،‬شربت كأساً‬
‫من املاء وأعددت كأساً من الشاي األخضر وجلست أحبث يف‬
‫حّت وقعت عيين على أغنية‬
‫اليوتيوب عن أغنية أمسعها يف هذا اهلدوء ّ‬
‫ضناك جفاهُ مرقدهُ"‪ ،‬أشعلتُها وسرحت‪..‬‬
‫"م َ‬ ‫عبدالوهاب ُ‬

‫‪171‬‬
‫وقعت عيين بعينك يف الفندق‪ ،‬عرفتين فوراً‪ ،‬بدت على وجهك‬
‫وبدأت اسرع اخلطى أكثر‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وامحر لوين‬
‫اصفر لونك ّ‬
‫عالمات الدهشة‪ّ ،‬‬
‫شعرت بك ّي شاكر‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ومشيت ابجتاه املصعد الذي جبانب اإلستقبال‪،‬‬
‫ُ‬
‫واختفيت‬
‫ُ‬ ‫حرمتك الدهشةُ من الرتكيز‪ ،‬بدا عليك االرتباك واضحاً‪،‬‬
‫َ‬ ‫لقد‬
‫أعرف ما الذي دفعين لفعل هذا معك‪ ،‬ولكنين أعرف أنين‬ ‫أان فوراً‪ ،‬ال ُ‬
‫خفت فجأةً ّي‬
‫ُ‬ ‫حّت ال تبادرين احلديث‪،‬‬
‫دت أن أختفي مباشرًة ّ‬ ‫تعم ُ‬
‫ّ‬
‫شاكر وارتبكت‪ ،‬ملاذا؟ وهللا ال أعلم‪.‬‬
‫أخذت رقمك‬
‫ُ‬ ‫أشرب الشاي األخضر خطرت يل فكرة‪ ،‬ماذا لو‬
‫ُ‬ ‫و أان‬
‫من جوال وسام؟‪ ،‬ترددت قليالً مثّ فعلت‪ ،‬لكن ما الفائدة؟‪ ،‬ماذا‬
‫قلت يف نفسي يكفي أن أرى حالتك يف الواتساب يومياً‪.‬‬
‫سأفعل به؟‪ُ ،‬‬
‫كان عبدالوهاب يف هذه اللحظة يقول‪:‬‬

‫موالي وروحي يف ِ‬
‫يده‬ ‫َ‬
‫قد ضيّعها‪َ ،‬سلمت يَ ُدهُ!‬

‫إنه أمجل بيت يف القصيدة‪ ،‬ال أعرف ما الذي تعاطاه أمحد شوقي من‬
‫يوم كتب هذه القصيدة وهذا البيت ابلذات‪.‬‬
‫احلب َ‬
‫كنت تضع صورًة سوداء‪،‬‬
‫أضفت الرقم عندي وفتحت الواتساب‪َ ،‬‬
‫وكانت احلالة مجيلة جداً ال أنساها‪:‬‬
‫موتك ساملاً‪.‬‬
‫لتصل إىل َ‬
‫َ‬ ‫تقاتل احلياة‪،‬‬
‫وأنت ُ‬‫ولدت َ‬
‫َ‬ ‫منذ‬
‫‪172‬‬
‫عادتك أبداً أن تكون الكلمات يف حالة الواتساب‬
‫َ‬ ‫استغربت‪ ،‬فليست‬
‫عرفت الحقاً أهنا حملمد الرتكي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ألحد غريك‪،‬‬
‫لك شيئاً يف الواتساب‪ ،‬لكنين متاسكت ومل‬
‫ُرسل َ‬
‫وسولت يل نفسي أن أ َ‬
‫ّ‬
‫قمت من النوم صبيحة اليوم التايل ووسام مل يرمش له جفن‪،‬‬
‫أفعل‪ُ ،‬‬
‫قمت إىل‬
‫كل قلبه‪ ،‬وهو بطبيعته من أصحاب النوم الثقيل‪ُ ،‬‬ ‫انئم من ّ‬
‫ٌ‬
‫وعدت لوسام‪ ،‬أيقظتهُ وذهبت ألع ّد القهوة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وغسلت وجهي‬
‫احلمام ّ‬
‫ِ‬
‫القلب‬ ‫مزعزع‬
‫َ‬ ‫كنت‬
‫كيف َ‬
‫كنت عليها‪ ،‬و َ‬
‫يل وسام عن احلال اليت َ‬
‫حكى َ‬
‫يسألك‪ :‬خري؟‬
‫َ‬ ‫كنت سارحاً طوال الوقت وهو‬
‫كيف َ‬
‫ضطرب النفس‪ ،‬و َ‬
‫َ‬ ‫ُم‬
‫وأنت تبتسم ابتسامةً‬
‫لست شاكر الذي أعرف‪َ ،‬‬‫بك اليوم ّي شاكر؟‪َ ،‬‬‫ما َ‬
‫تفضحها اجملاملة‪ -‬الشيء ّي صديقي ال شيء‪ ،‬مثّ تعود لشرودك‪ ،‬يف‬
‫صعدت إليها‬
‫ُ‬ ‫الفندق سألتهم عن رقم غرفتك‪ ،‬كا َن مميزاً "‪،"١١١‬‬
‫متنيت لو أنين أستطيع الدخول إليها‪ ،‬أُري ُد أن أرى‬
‫ووقفت على ابهبا‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫أشياءك‪ُ ،‬كتبك‪ ،‬سجائرك‪ ،‬مالبسك‪ ،‬عطرك‪ ،‬أُريد أن أستنشق‬
‫رائحتك‪ ،‬وقفت أمام ابهبا لثوان مثّ مضيت‪ ،‬تعمدت أن أأتخر ابخلروج‬
‫خرجت وأان أُفكر‬
‫ُ‬ ‫من الفندق بعض الشيء حّت أأتكد من ذهابكما‪،‬‬
‫أهلك هنا؟‪ ،‬شيءٌ غريب وغري مفهوم‬
‫وبيت َ‬
‫لت يف الفندق ُ‬ ‫ملاذا نز َ‬
‫ابلنسبة يل لكنهُ مل يستحوذ على فكري كثرياً‪ ،‬قال يل وسام‪ :‬شيءٌ‬
‫حصل لشاكر ّي غيداء‪ ،‬ليس هو الذي استقبلته يف املطار ورافقته يف‬
‫َ‬
‫أي‬
‫حصل يف تفكريه فجعله هيكالً أمامي فارغاً من ّ‬
‫َ‬ ‫األمسية‪ ،‬شيءٌ ما‬
‫مجيل هذا الشعور‪..‬‬
‫شعرت وقتها مبكانيت عندك ّي شاكر‪ٌ ،‬‬
‫ُ‬ ‫روح‪،‬‬
‫‪173‬‬
‫قلت لوسام‪ -‬مّت سيُسافر؟‬ ‫ُ‬
‫تفاجأت جداً ّي غيداء ملا أخربين أن أهلهُ يعيشون هنا يف اإلمارات‪،‬‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫وأخربين أهنم يعيشو َن هنا منذ زمن بعيد‪.‬‬
‫‪-‬وملَ مل ينزل يف بيت أهله إذن؟‬
‫‪-‬ال أعرف ومل أسأله‪ ،‬لكنه قال يل أنه سيبقى هنا ثالثة أسابيع‪ ،‬عموماً‬
‫ينتهي حجزهُ يف الفندق بعد ثالثة أّيم‪.‬‬
‫ابتسمت هنا ابتسامةً استغرب منها وسام وسألين‪ -‬ملَ تبتسمني؟‬
‫ُ‬
‫وقمت فوراً‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وأان أُخفي ارتباكي‪ -‬تذكرت شيئاً قالته ّأمي يل البارحة‪،‬‬

‫ثالثة أسابيع‪ ،‬كان ال ب ّد من استغالهلا أبي طريقة‪ ،‬وثالثةُ أّيم بقيت‬


‫أهلك‬
‫منك الحقاً أ ّن َ‬‫علمت َ‬
‫ُ‬ ‫لك يف الفندق ال ب ّد أيضاً من استغالهلا‪،‬‬
‫دعاك للنزول‬
‫انتقلوا من العيش يف أبو ظيب إىل رأس اخليمة‪ ،‬وأ ّن هذا ما َ‬
‫يف هيلتون أبو ظيب ال يف بيتكم‪ ،‬وزالت دهشيت من عدم حضور أحدهم‬
‫أُمسيتك عندما عرفت أهنم اآلن يف محص مجيعاً منذ بدأت اإلجازة‬
‫أين أبدأ؟‪ ،‬ماذا سأفعل أوالً؟‪ّ ،‬ي‬
‫فكرت كثرياً من َ‬
‫ُ‬ ‫الصيفية قبل أسابيع‪،‬‬
‫حّت خطرت تلك‬ ‫وعادت‪ ،‬وعادت وراحت ّ‬
‫ْ‬ ‫هللا؟ راحت َيب األفكار‬
‫لك رسال ًة‬
‫سوف أبعث َ‬ ‫الفكرة الرائعة‪ ،‬نعم سأتصل بك! ال لن أفعل‪َ ،‬‬
‫فتحت‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫شردت كثرياً‪ ،‬مثّ‬ ‫عرب الواتساب اآلن‪ ،‬لكن ماذا سأكتب لك؟‬
‫ُُمادثتك يف الواتساب اليت يظهر هبا أنّك ُمتصل اآلن وكتبت‪:‬‬
‫ملاذا اعتربتين خائنة؟‬
‫‪174‬‬
‫حيمل‬
‫أعرفك جيداً ّي رجالً ُ‬
‫َ‬ ‫مسحتها فوراً‪ ،‬خفت من ردة فعلك‪ ،‬فأان‬
‫حيمل من احلنان‪ ،‬نعم مسحتها وكتبت‪:‬‬
‫أضعاف ما ُ‬
‫َ‬ ‫من القسوةِ يف قلبه‬
‫تندمت كثرياً‪ )..‬وأرسلتُها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫(‬
‫أنك قرأت‪ ،‬فور ارسايل‬ ‫وتنتظرين‪ ،‬فقد ظهر يل َ‬
‫ُ‬ ‫تعلم يب‬
‫كنت ُ‬ ‫ك َ‬ ‫وكأنّ َ‬
‫غري لوين‪ ،‬إننا ال نستطيع‬‫خرجت من احملادثة مباشرًة‪ ،‬ارتبكت‪ ،‬ت ّ‬
‫ُ‬ ‫لك‪،‬‬
‫تندمت كثرياً ولكن هذه املرة‬
‫ُ‬ ‫مام َّنلة عندما حتكمنا عواطفنا!‬
‫الصمود أ َ‬
‫ات سيجعلنك‬
‫املعجبات الكثري ُ‬
‫ُ‬ ‫أرسلت لك‪ ،‬هل ستعرفين؟‪ ،‬أم‬
‫ُ‬ ‫ألنين‬
‫أضحك اآل َن كثرياً عندما ما أتذكر هذه الرسالة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫يف حرية من أمرك؟‬
‫أخطأت يف رقمك ووصلت هلاتف فتاة ال أعرفها‪ ،‬وتبني يل بعد‬
‫ُ‬ ‫كيف‬
‫َ‬
‫أخذت رقمك من‬
‫ُ‬ ‫واستشعرت مدى ضياعي ملّا‬
‫ُ‬ ‫احلديث معها محقي‪،‬‬
‫جوال زوجي وأنين طوال الفرتة السابقة أُاتبع حالة الواتساب لرقم ال‬
‫ميت لك بصلة‪ ،‬يف الساعة الثامنة والنصف صباحاً من اليوم التايل‬
‫أعرفك جيداً‪ ،‬حّت‬
‫َ‬ ‫كبت سياريت وإىل اهليلتون‪ ،‬كان وسام انئماً‪ ،‬وأان‬
‫ر ُ‬
‫فخمنت أنه ال بد وأنك ستكون يف مطعم‬
‫ُ‬ ‫تقوم ُمبكراً‪،‬‬
‫يف اإلجازات ُ‬
‫أحببت أن أبدأ يومي بك‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ولذلك‬
‫َ‬ ‫الفندق يف هذا الوقت كي تفطر‪،‬‬
‫ودخلت املطعم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وصلت فعالً‬
‫ُ‬ ‫أحببت أن تتفاجأ يب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وبصورة أد ّق‬
‫الحس وال خرب‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫وأنت‬
‫حّت قبي َل الظهرية َ‬
‫وجلست على انر طويالً ّ‬
‫ُ‬
‫رجعت ُُمبطةً إىل البيت‪ ،‬فقد بدا يل أ ّن اليوم األول من األّيم الثالثة‬
‫ُ‬
‫املتبقية لك يف الفندق أُفلت من يدي‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫التخت ُحيرضين وأان أب ّدل ثيايب على نوم ساعة أو ساعتني‪ ،‬وفعالً‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫قمت فَ ِزعةً‪،‬‬
‫قلت يل يف املنام‪ :‬ستندمني! ُ‬
‫متددت على التخت وَّنت‪َ ،‬‬
‫نظرت يف الساعة وإذا هبا السابعة‪ ،‬ال‬
‫ُ‬ ‫أين أان!‪،‬‬
‫ظالم شديد‪ّ ،‬ي هللا َ‬
‫ٌ‬
‫أعرف هل أان يف الصبح أم يف املساء‪ ،‬أوه ّي رب‪ ،‬لقد مرت مخس‬
‫هنضت سريعاً وفتحت ابب الغرفة أريد اخلروج‬ ‫ُ‬ ‫ساعات وأان انئمة‪،‬‬
‫حّت أأتكد أنين‬
‫وقفت بباب الغرفة ُهنيهةً ّ‬
‫ُ‬ ‫فسمعت صوتك! ّي هللا!‪،‬‬
‫ُ‬
‫يستحيل أن‬ ‫لست على ِ‬
‫قيد ُحلم ما‪ّ ،‬ي هللا ّي هللا‪ ،‬إنه صوتك أنت‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫قبل‬
‫احلب َ‬‫حباسة ّ‬‫ُخطيء بصوتك ألنه الصوت الوحيد الذي أعرفهُ ّ‬ ‫َ‬ ‫أ‬
‫أتصفح مواقع‬
‫ُ‬ ‫وأخذت‬
‫ُ‬ ‫رجعت إىل ختيت واستلقيت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫حاسة السمع‪،‬‬ ‫ّ‬
‫علي الباب وقال‬
‫التواصل يف ُماولة لطرد ارتباكي إىل أن فتح وسام ّ‬
‫صح النوم‬
‫ُمبتسماً‪ّ -‬‬
‫فبقيت هنا‬
‫ُ‬ ‫مسعت صواتً مع صوتك‬
‫ابتسمت‪ -‬صح بدنك‪ُ ،‬‬
‫اتصلت به ملّا استيقظت وجئنا إىل هنا نشرب القهوة‬
‫ُ‬ ‫‪-‬هذا شاكر‪،‬‬
‫وسنخرج اآلن‪.‬‬
‫اكتئبت من الداخل وقلت‪ -‬إىل أين؟‬
‫جلس على طرف التخت وقال‪ -‬إىل الكورنيش‪ ،‬قال شاكر أنّه بشوق‬
‫َ‬
‫إىل البحر‪.‬‬
‫‪ -‬ومّت تعود؟‬
‫‪-‬ال أعلم‪ ،‬لكن أحاول أن ال أأتخر‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫لك يف الفندق‬
‫أدع هذا اليوم يُفلت من يدي فالغد هو اليوم اآلخري َ‬
‫لن َ‬
‫أتساءل وأان يف طريقي إىل الفندق‬
‫ُ‬ ‫كنت‬
‫أين ستذهب بعدها‪ُ ،‬‬
‫وال أعرف َ‬
‫اخرتعت صدف ًة أُر َ‬
‫يك فيها‬ ‫ُ‬ ‫صباحاً‪ ،‬ما الذي أُريدهُ من لقائك؟‪ ،‬وملاذا‬
‫نفسي من قبل؟‪ ،‬وعن ماذا سوف حنكي إذا التقينا؟‪ ،‬وما هو التربير‬
‫املنطقي الذي سأقوله لك عن رحيلي فجأ ًة من حياتك وزواجي من‬
‫كل شيء يف الوقت‬
‫قدم يل ّ‬
‫أنت معي ليُ َ‬
‫وجاء و َ‬
‫وسام الذي كا َن قبلك َ‬
‫ودخلت املطعم‬
‫ُ‬ ‫وصلت إىل الفندق‬
‫ُ‬ ‫أنت فيه بشيء‪،‬‬ ‫الذي مل ِ‬
‫تعدن َ‬
‫وحّت احلادية عشرة‬
‫ك من الساعة التاسعة صباحاً ّ‬ ‫وأفطرت وانتظرتُ َ‬
‫الرجل أوالً‬
‫ُ‬ ‫كل اللقاءات اليت يصل فيها‬ ‫قبيل الظهر‪ ،‬وعلى عكس ّ‬
‫خرجت من‬
‫ُ‬ ‫كنت دائماً ضحي ًة لالنتظار يف عالقيت بك‪،‬‬
‫لينتظر حبيبته‪ُ ،‬‬
‫وجلست يف سياريت القريبة من مدخل الفندق‬
‫ُ‬ ‫مطعم الفندق قبيل الظهر‬
‫ألتقيك هنا‪ ،‬تذكرت أ ّن وسام قد أييت إىل هنا يف‬
‫َ‬ ‫أنتظرك‪ ،‬ال أُريد أن‬
‫حّت ولو أنه قال يل أن ليس بينكما لقاء يف هذا اليوم فاحلذر‬
‫أي حلظة ّ‬
‫ّ‬
‫تنتظرك سيارةُ‬
‫َ‬ ‫أيتك خترج من ابب الفندق‪،‬‬ ‫واجب‪ ،‬يف ِ‬
‫متام الثانية ظهراً ر َ‬
‫تتحدث ابجلوال‬
‫ُ‬ ‫وأنت‬
‫َ‬ ‫وقفت أمامها قليالً والباب مفتوح‬
‫َ‬ ‫أُجرة‪،‬‬
‫إليك اآلن‪ ،‬وبعد‬
‫سوف أييت َ‬
‫نت أ ّن أحداً ما َ‬ ‫وتلتفت مينةً ويسرة‪ ،‬مخّ ُ‬
‫اءك من بعيد‪،‬‬
‫مشيت ور َ‬
‫ُ‬ ‫كبت سيارةَ األجرةِ ومشيت‪،‬‬
‫أقل من دقيقتني ر َ‬
‫ال أُ ريد أن تشعر يب أبداً‪ ،‬بدا يل أنين ُ‬
‫لست حباجة ألن تراين أبداً فأان‬
‫حّت أهنكها‬‫ات قليب ّ‬ ‫خلف دقّ ِ‬
‫كض َ‬‫مرتبكةٌ جداً جداً‪ ،‬وارتباكي الذي ير ُ‬
‫أخافين من لقاءك جداً‪.‬‬
‫‪177‬‬
‫متع‬
‫ُشعرك َيب هذا اليوم وأن أست َ‬
‫خلفك أال أ َ‬
‫َ‬ ‫قررت وأان أسريُ بسياريت‬
‫ُ‬
‫وصلت إىل مطعم ُمطّل على البح ِر‬
‫َ‬ ‫فقط بقريب منك‪ ،‬قريب البعيد‪،‬‬
‫ك لن خترج‬‫أوقفت سياريت وانتظرت قرابة ربع ساعة ألأتكد أنّ َ‬
‫ونزلت‪ ،‬ف ُ‬
‫ورفعت حجايب من ِ‬
‫أسفل ذقين إىل قبل‬ ‫ُ‬ ‫أطفأت السيارة‬
‫ُ‬ ‫ألي داع‪،‬‬
‫االن ّ‬
‫ووضعت نضارًة مشسي ًة‬
‫ُ‬ ‫غطي شيئاً من جبهيت‪،‬‬
‫الفم وأنزلته من األعلى ليُ َ‬
‫حّت ال تعرفين ودخلت املطعم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ذات حجم كبري يغطي أغلب الوجه ّ‬
‫طلبت وجبةً يل وكأساً‬
‫ُ‬ ‫جلست بيين وبينك ماال يزيد عن مخسني مرت‪،‬‬‫ُ‬
‫أسك عن‬
‫طلبت فنجان قهوة‪ ،‬مل ترفع ر َ‬
‫َ‬ ‫وأنت‬
‫من عصري الربتقال‪َ ،‬‬
‫ُمسك‬ ‫كنت تكتُب‪ ،‬وطوال ِ‬
‫الوقت كنت أ ُ‬ ‫ك َ‬ ‫نت أنّ َ‬
‫جوالك إال قليالً‪ ،‬مخّ ُ‬
‫َ‬
‫خاص ًة وأ ّن الزاوية اليت جلسنا‬
‫لك صوراً دو َن أن تشعُر‪ّ ،‬‬
‫ط َ‬‫جوايل وألتق ُ‬
‫هبا مل تكن مليئة ابلناس‪ ،‬خطرت يل فكرةُ التقاط الصور ِ‬
‫هذه ّأول ما‬
‫الصور لهُ عرب‬
‫َ‬ ‫صوريه وأرسلي‬ ‫جلست‪ ،‬قالت يل نفسي اليت ُحتبك‪ّ ،‬‬
‫رجوعك إىل البيت وفاجئيه‪ ،‬عندها سوف يطلب لقاءك‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الوتساب بعد‬
‫بيدك‬
‫أشرت َ‬‫َ‬ ‫بقينا يف املطعم إىل الساعة السابعة‪،‬بداية املساء‪ ،‬مثَّ‬
‫دفعت وقمت مباشرةً‪،‬‬
‫َ‬ ‫لك احلساب‪ ،‬وفعالً‬ ‫ضر َ‬ ‫للمسؤول أن ُحي َ‬
‫وأشرت بيدي للمسؤول أن‬
‫ُ‬ ‫يت عن أنظاري‬
‫حّت توار َ‬
‫انتظرت دقيقتني ّ‬
‫ُ‬
‫ضر يل احلساب وأن يستعجل‪ ،‬الصاعقة كانت يف أنهُ مل يذهب‬ ‫ُحي َ‬
‫ك مدفوعٌ سيديت‪،‬‬ ‫ليحضر احلساب‪ ،‬جاءين مبتسماً وقال يل‪ :‬حساب ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬
‫قبل دقيقتني ‪ ،‬وأشار بيده إىل‬
‫لقد دفعه االستاذ الذي خرج من هنا َ‬
‫طاولتك!‬
‫‪178‬‬
‫ُمسرعةً‬
‫جت‬
‫ُفاجئك يب ففاجأتين بك‪ ،‬خر ُ‬
‫َ‬ ‫ردت أن أ‬
‫ّي هللا‪ّ ،‬ي هللا! أ ُ‬
‫عضواً‪،‬‬
‫أرجف عضواً‬
‫ُ‬ ‫رجعت لطاوليت وأان‬
‫ُ‬ ‫وراءك ألج َد َك ذهبت‪،‬‬
‫تبق‬
‫أخذت حقيبة اليد اليت نسيتها من هول املوقف وخرجت‪ ،‬مل َ‬‫ُ‬
‫كبت‬
‫قصائدك اليت كتبت يب إال وصفعتين على قليب‪ ،‬ر ُ‬
‫َ‬ ‫قصيدةٌ من‬
‫سياريت‪..‬‬

‫كاظم يُغين‪:‬‬

‫لو أننا مل نفرتق‪..‬‬


‫لو أنّنـا‪..‬‬
‫لو!‬

‫وأان أبكي‪ ،‬ما الذي جرى لقليب؟ ما هذه الفوضى اليت تتحكم أبعصايب‬
‫ما الذي جاء بك إىل هنا؟ أخربين حبق هللا‪ ،‬وهللا لو اتفقنا على لقاء‬
‫مشابه هلذا ملا استطعنا‪.‬‬
‫األمر إىل‬
‫يتطور ُ‬
‫أخاف أن َ‬
‫ُ‬ ‫وبدأت‬
‫ُ‬ ‫لست أان‪،‬‬
‫أحس وسام مؤخراً أبنين ُ‬
‫ّ‬
‫ط عاطفيت اليت كادت أن تودي يب ولكنين‬
‫حاولت كثرياً أن أضب َ‬
‫ُ‬ ‫الشك‪،‬‬
‫وصرت مشتتة التفكري طوال‬
‫ُ‬ ‫حاسة الرتكيز متاماً‬
‫فقدت ّ‬
‫ُ‬ ‫فشلت‪ ،‬فقد‬
‫أهز رأسي فقط‪ ،‬مثّ يعود لنقطة كان يتحدث عنها‬
‫الوقت‪ُ ،‬حيدثين وأان ّ‬
‫ألشاركه برأيي فال يسمع مين إال ها ها!‬
‫‪179‬‬
‫واتصلت بك‪..‬‬
‫ُ‬ ‫غامرت فيها‬
‫ُ‬ ‫مضى على لقائنا يف املطعم سبعة أّيم‪،‬‬
‫أجبت بعد الرنة الثالثة‪ -‬ألو‬
‫ُّ‬
‫سكت أان‪..‬‬
‫وأنت تُعيد‪ -‬ألو ألو‬
‫َ‬
‫مل أستطع قول شيء‬
‫أنفاس أعرفها‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫أنت هنيهةً مث قلت يل‪ -‬هذه ٌ‬
‫سكت َ‬
‫أغلقت اخلط‪.‬‬
‫ُ‬
‫كا َن هذا االتصال حتديداً يف اليوم الثاين بعد لقاء املطعم‪ ،‬واستمرينا‬
‫وحنن نتحدث فقط عن طريق تغيري احلالة يف الواتساب‪،‬‬
‫قرابة األسبوع ُ‬
‫أنت ختطو خطو ًة واحد ًة تُساعدين‬
‫ال أان أجرؤ على أكثر من هذا وال َ‬
‫شعرت‬
‫ُ‬ ‫وضعت حالةً يف الواتساب‬
‫َ‬ ‫أي حديث معك‪ ،‬حّت‬ ‫هبا على فتح ّ‬
‫لت أذكرها‪:‬‬ ‫بيديك إليك‪ ،‬ما ز ُ‬
‫َ‬ ‫ك تريد منها أن تدفعين‬
‫أنّ َ‬

‫أمل‬
‫إيل عيوين كلّها ٌ‬
‫عودي َّ‬
‫أبن تر ِ‬
‫اك حواليها‪ ..‬وأنظاري‬

‫وأنت ُمتصل بعد الثانية صباحاً‪-‬‬


‫كتبت لك وأان يف ختيت ووسام انئم‪َ ،‬‬
‫ُ‬
‫أُري ُد أن نلتقي غداً‬
‫حّت كتبت‪ -‬أين؟‬
‫أخدت وقتا ّ‬
‫َ‬ ‫رغم قراءتك الفورية‬

‫‪180‬‬
‫طارت عيوين ملّا رأيت ردك وقمت من ختيت وخرجت من غرفة النوم‬
‫توقعت أن ال ترد‪.‬‬
‫ُ‬ ‫فوراً‪،‬‬
‫أجبتك فوراً‪ -‬اخرت مكاانً ُحتبه‬
‫َ‬
‫أين ُحتبّني؟‬
‫مرات كسنتني‪ ،‬كتبت‪ -‬ال فرق‪َ ،‬‬ ‫و بعد دقيقت ِ‬
‫ني ّ‬
‫أجبت مباشرًة‪ -‬ما رأيك مبطعم إيالنتو؟‬
‫ُ‬
‫أنت وزوجك‪ ،‬لكنّهُ كبريٌ على ذوي الدخل‬‫يناسبك ِ‬
‫ِ‬ ‫مطعم‬ ‫‪ -‬هذا‬
‫ٌ‬
‫احملدود مثلي‪.‬‬
‫كيف عرفت أنين متزوجة!‪ ،‬هل‬
‫نزلت كلماتك على رأسي كالصاعقة‪َ ،‬‬
‫أخربتك أمينة؟ وهل تعرف أ ّن زوجي هو وسام؟‪.‬‬
‫ت أسري يف البيت وأرجع خبطوات سريعةٍ وأان مرتبكة ومرتبكة جداً‬
‫بدأ ُ‬
‫وأنت تنتظر رداً‪.‬‬
‫لك إ ّهنا عزميةٌ مين‪ ،‬فأنت أكرب بكثري من أن‬
‫كتبت لك‪ -‬لن أقول َ‬
‫ُ‬
‫كنت تعزمها سابقاً‪.‬‬
‫تعزمك امرأةٌ َ‬
‫َ‬
‫لكن دعنا نلتقي على الكورنيش ما رأيك؟‬
‫ألي نقطة يف الكورنيش‬
‫بعثت تقول‪ -‬ال مانع‪ ،‬غداً بعد العشاء اذهيب ّ‬
‫َ‬
‫وأرسلي يل موقعك عرب الواتساب‪.‬‬
‫مّت سيأيت الغد؟‬

‫•••••‬

‫‪181‬‬
‫حيايت مع وسام وبكل صدق حياة مثالية‪ ،‬قد ال جتد مثلها إال يف‬
‫احلب الذي‬
‫احلب األول‪ّ ،‬‬ ‫الرواّيت والعربية منها ابلذات‪ ،‬وسام هو ُّ‬
‫ني اثنني‪ ،‬احلب الذي تركته قبل أن‬‫استمر عام ِ‬
‫ّ‬ ‫احلب الذي‬
‫كا َن قبلك‪ّ ،‬‬
‫فيت منه متاماً‪ ،‬كانت عالقيت ِبه‬
‫أعرفك بثالث سنوات وظننت أنين ُش ُ‬
‫تعلقت‬
‫ُ‬ ‫كأكثر العالقات العاطفية‪ ،‬بستا ٌن يف بدايتها‪ ،‬مشنقةٌ يف هنايتها‪،‬‬
‫فيه كثرياً‪ ،‬فهو أول رجل أوقد مشعةً يف قليب‪ ،‬وهو أول رجل قال‬ ‫ِ‬
‫يوم حتقيقها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫فإين ُمباه بك األحالم َ‬ ‫ألحالمي تكاثري ّ‬
‫املوت كثرياً‪،‬‬
‫ُحب احلياةَ كثرياً وأكرهُ َ‬
‫كنت يف الثامنة عشر من عمري‪ ،‬أ ّ‬ ‫ُ‬
‫وأؤمن ابألحالم وحبكاّي جديت‪ ،‬تُضحكين نكتة وتُبكيين كلمة‪ ،‬إنين‬ ‫ُ‬
‫من هللا‪،‬‬
‫كنت وما زلت قليلة األمل إال ابهلل وكثرية اليأس إال َ‬ ‫امرأةٌ ُ‬
‫افرتقت ووسام كما يفرتق األحبة عاد ًة‪ ..‬أعداء‪ ،‬إ ّن للفر ِ‬
‫اقات وإن‬ ‫ُ‬
‫ّ‬
‫حتمل وجوهاً ِعدة‪،‬‬
‫كثُرت وجهاً واحداً على عكس اللقاءات‪ ،‬فهي ُ‬
‫وهذهِ هي احلالة الوحيدة اليت ُحتم ُد فيها الوجوهُ الكثرية على الوجه‬
‫الواحد‪ ،‬قد تُفاجأ بكالمي هذا ألنين مل يسبق يل أن أخربتك خالل‬
‫عالقتنا عن عالقة سابقة يل أبحدهم‪ ،‬ال أعرف السبب يف احلقيقة هل‬
‫كان حينها دفناً ملاض ال أُري ُد له العودة أو ألنك مل تكن كأكثر الشباب‬
‫فضولياً وتتدخل بكل شيء‪ ،‬مل يسبق لك أن سألتين إن كان يل عالقة‬
‫فضلت السكوت لشيء يف قليب ال أستطيع حتديده‬
‫ُ‬ ‫أبحدهم قبلك‪ ،‬وأان‬
‫ذلك اليوم برفقة وسام‪ ،‬قبلهُ بثالثة‬
‫قبل أن تراين صبيح َة َ‬
‫بشكل واضح‪َ ،‬‬
‫حنن نشرب القهوة‬
‫كنت كالعادة مع أمينة يف بيتها‪ ،‬وبينما ُ‬
‫أشهر ُ‬
‫‪182‬‬
‫حر َك قليب ألعود لوسام‪،‬‬
‫وصلتين رسالة‪ ،‬شيءٌ ما ّي شاكر‪ ،‬شيءٌ ما ّ‬
‫ال أعرف السبب احلقيقي وراء جتاويب السريع معه‪ ،‬إال أنين أذكر جيداً‬
‫لت قويةً بعده ومل ُأمت بدونه كما‬
‫ُثبت له أنين ما ز ُ‬
‫أنين كنت أود أن أ َ‬
‫وتزوج وأجنب‪ ،‬كانت رسالتهُ طويلة نوعاً ما‪ ،‬مل‬
‫حني ابتعد ّ‬ ‫يظن َ‬
‫كان ّ‬
‫يتطرق من خالهلا لتربير بعده عين وزواجه أبداً‪ ،‬بل كا َن يتحدث فيها‬
‫فقط عن حبه‪ ،‬وأنّه تندم ملا جرى كثرياً‪ ،‬مل أُجب على أول رسالة‬
‫أعرف ملاذا‪ ،‬لكنين‬
‫ُ‬ ‫أجبت على الثانية‪ ،‬أيضاً ال‬
‫ُ‬ ‫وصلتين منه ولكنين‬
‫تلك الفرتة كانت مليئة ابالضطراابت‬
‫أذكر جيداً أن َ‬
‫فعلت‪ ،‬مثّ التقينا‪ُ ،‬‬
‫العاطفية بيننا أان وأنت‪ ،‬مليئة ابملشكالت‪ ،‬وبرغم أهنا كانت فرتًة‬
‫عصيبةً علينا‪ ،‬لكنّها ال متنحين ح ّق العودة حلبيب قدمي‪ ،‬وال متنحين‬
‫حّت جمرد الرد على رسالة له‪ ،‬ولكنين فعلت‪.‬‬‫ّ‬
‫قبل خطوبيت منه أنّهُ‬
‫أخربين وسام يف لقاءاتنا خالل األشهر الثالث َ‬
‫وزوجته رميا ليسا على توافق‪ ،‬وأنّه طلّقها ثالاثً‪ ،‬وأنه وبعد اجتماع ذوي‬
‫ريب‬
‫تعيش رميا يف بيت يستأجرهُ هلا وسام وأن تُ َ‬ ‫الطرفني اتفقا على أن َ‬
‫طفلتهُ إىل أن تُقرر الزواج وعندها أيخذ الطفلة منها‪ ،‬حتدثنا كثرياً وعاتبتهُ‬
‫كثرياً‪ ،‬لكنين كنت أقرأ يف ِ‬
‫عينيه نَدمه الكبري‪ ،‬أخربين أيضاً أنّه مسّى ابنته‬
‫أمر أشعرين بعظيم حبه يل رغم ما فعل‪ ،‬وقال يل أنين‬ ‫غيداء‪ ،‬وهذا ٌ‬
‫أيت‬
‫سأعيش ملك ًة يف بيته‪ ،‬وأنه سيقدم يل كل شيء‪ ..‬كل شيء‪ ،‬وكما ر َ‬
‫ُ‬
‫بعينك احلياة اليت أعيشها يف اإلمارات‪ ،‬والرفاهية العالية اليت كانت‬
‫بكل ما قال وما وعد‪.‬‬
‫مبلكي‪ ،‬لقد صد َق ّ‬
‫‪183‬‬
‫هنا لن يقرأ أح ٌد ما أكتب وهلذا سأعرتف اعرتافاً جريئاً جداً‪ ،‬نعم أغرتين‬
‫حالة وسام املادية بعض الشيء حّت أعود له‪ ،‬وأنت مل تكن تُلمح حّت‬
‫تلميح عن ارتباط قريب‪ ،‬وهذا كا َن من األسباب أيضاً‪ ،‬حّت خطبين‬
‫وسام وحصل ما حصل‪.‬‬

‫•••••‬

‫مل أعد أضع ِعطراً ‪-‬خارج املنزل‪ -‬كما ُ‬


‫كنت يف السابق‪ ،‬مع أ ّن هذا‬
‫حني‬
‫خفت كثرياً َ‬ ‫ُ‬ ‫أصبحت منهم‪ ،‬لكنين‬
‫ُ‬ ‫ُمناف حلياة األثرّيء الذين‬
‫أن عالقيت‬ ‫أعرف َّ‬
‫ُ‬ ‫خترج من بيتها وهي ُمتعطرة‪ ،‬زانية‪،‬‬ ‫أن من ُ‬ ‫علمت َّ‬
‫ُ‬
‫يقل ذنباً عن خروجي ُمتعطرة لكنين لن أتعطر‪،‬‬ ‫بك اآلن وهذا اللقاء ال ُّ‬ ‫َ‬
‫قصر فيه‪ ،‬أان كذلك‬ ‫ب ديين بقدر ما أان ُم ٌ‬ ‫كنت تقويل يل‪ :‬أُح ُّ‬
‫ومثلما َ‬
‫مقصرةٌ فيه‪.‬‬
‫ُحب ديين بقدر ما أان ّ‬ ‫أ ّ‬
‫سيذهب لزّيرةِ أ ُّمه ومن‬
‫ُ‬ ‫خرج وسام قبلي بنصف ساعة تقريباً‪ ،‬قال إنه‬ ‫َ‬
‫ث َّـم إىل بيت صديقه مهند‪ ،‬وقال أنه قد يتأخر‪ ،‬بكل مايف هذا ِ‬
‫اللقاء‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كنت أقول يف نفسي وأان أُغلق ابب‬ ‫من هلفة إليك‪ ..‬أُحبك‪ ،‬هكذا ُ‬
‫ك هذا‬
‫املنزل ذاهب ًة إليك‪ ،‬لتكن أُغنية "أان بعشقك" رفيقةُ دريب إلي َ‬
‫كل‬
‫املساء‪ ،‬وليكن ليلُنا طويالً طويال‪ ،‬كما يقول جرداق‪ ،‬فأان مؤمنةٌ ّ‬
‫بعثت لك موقعي‬ ‫اإلميان أ ّن كثري ِ‬
‫وصلت أخرياً‪ ،‬و ُ‬
‫ُ‬ ‫اللقاء سيكو ُن قليال‪،‬‬ ‫َ‬
‫حّت تتمكن عيين‬
‫حاولت أن أبعد عن أعني الناس ّ‬
‫ُ‬ ‫يف آخر الكورنيش‪،‬‬
‫‪184‬‬
‫رؤيتك بكل راحة‪ ،‬وطمأنينة‪ ،‬كانت دقائق االنتظار اليت تلت ارسايل‬
‫من َ‬
‫لك ابملوقع أطول دقائق يف حيايت‪ ،‬على العكس متاماً من الدقائق اليت‬
‫اتصلت يب‪ :‬أين ِ‬
‫أنت؟‬ ‫َ‬ ‫تلت وصولك‪ ،‬كانت أسرع دقائق يف حيايت‪،‬‬
‫َ‬
‫أمامك مباشرة‪ ،‬هل ترى سيارًة بيضاء من نوع مرسيدس؟‬
‫َ‬ ‫‪-‬انظر‬
‫‪-‬نعم أراها جيداً‬
‫‪-‬اقرتب‪ ،‬أان يف الداخل‬
‫تفتح ابابً يف قليب أُغلق‬
‫كنت يف احلقيقة ُ‬
‫ابب السيارة َ‬
‫فتحت َ‬
‫َ‬ ‫وعندما‬
‫منذ زمن‪.‬‬
‫وبدون أن تنظر إيل‪-‬ما رأيك لو متشينا ابلسيارة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ّمت وجلست‪،‬‬‫سل َ‬
‫امتثلت لرغبتك مباشرًة ومشيت‪ ،‬ال‬ ‫ُ‬ ‫أفضل من وقوفنا هنا؟ مل أُجب‪،‬‬
‫ّب‬
‫سؤالك الذي يتطل ُ‬
‫َ‬ ‫تلك الليلة ما حييت‪ ،‬توقعت أن تسألين‬ ‫أنسى َ‬
‫فعلت يب ما ِ‬
‫فعلت؟‬ ‫سؤالك القاتل‪ -‬مل ِ‬ ‫َ‬ ‫جرأ ًة ال أملك اإلجابة معها‪،‬‬
‫َ‬
‫مين؟‬
‫يدين ّ‬
‫ك وكعادتك فاجأتين بسؤالك الذي مل أتوقع‪ :‬ماذا تُر َ‬ ‫لكنّ َ‬
‫كان اجلواب احلقيقي يف قليب يُنادي‪ :‬أان ال أُري ُد منك شيئاً‪ ..‬أان أُريدك‪.‬‬
‫ولكنين ال أستطيع أن أظهره لك‪ ،‬ألنّك ابلطبع لن تصدقين وال ألومك‬
‫التفت‬
‫أبداً‪ ،‬كان البد من جواب ديبلوماسي‪ ،‬جواب ال تفهم منه شيئاً‪ُ ،‬‬
‫إليك لثانيتني مث أرجعت رأسي ابجتاه الطريق وقلت‪ -‬أُري ُد من هذا‬
‫َ‬
‫اللقاء أن يكو َن مجيالً ال أكثر‪.‬‬
‫شعل سيجارة وقلت‪ -‬أنزيل القليل من زجاج انفذيت‪.‬‬
‫ابتسمت وأنت تُ ُ‬
‫َ‬

‫‪185‬‬
‫صوت أم كلثوم يف‬
‫ُ‬ ‫لك زجاج انفذتك وأنظر للطريق كان‬‫افتح َ‬
‫وأان ُ‬
‫انت عمري اللي ابتدا بنورك صباحو‪.‬‬
‫املذّيع يقول‪َ :‬‬
‫قلت لك‪ -‬أُحبك‪.‬‬
‫ُ‬
‫تصمت كما حيدث عاد ًة يف املسلسالت لكنّك مل تفعل‬
‫َ‬ ‫توقعت أن‬
‫ُ‬
‫إيل وقلت ُمبتسماً‪ -‬كذبك حلو‪.‬‬ ‫َّ‬
‫التفت َّ‬
‫هذه الكلمة وابتسامتك أذهبتا عين ارتباكي مما دفعين ألوقف السيارة‬
‫فوراً على ميني الطريق‪.‬‬
‫التفت إليك‪ -‬ح ّقك الطبيعي أن تُكذبين ولكن ليس هبذه السرعة‪،‬‬
‫ّ‬
‫كل شيء‪.‬‬
‫ليس قبل أن تسمع مين ّ‬
‫أي شيء عن املاضي‪ ،‬حنن أبناء اليوم‪ ،‬ما‬‫‪ -‬ال فائدة أبداً من مساع ّ‬
‫الذي تُريدينه مين ِ‬
‫وأنت اآلن متزوجة؟‪.‬‬
‫التهرب مرًة أخرى من هذا السؤال‪ ،‬لكن كيف؟‪.‬‬
‫الب ّد من ّ‬
‫ولكن شيئاً ما جعلين‬
‫تنحنحت يف ُماولة سريعة للتفكري برد مناسب‪َّ ،‬‬
‫أُجيب بنفس إجابيت األوىل‪ -‬أُري ُد من هذا اللقاء أن يكو َن مجيالً ال‬
‫وأرجعت‬
‫ُ‬ ‫ت املوضوع فوراً‪ -‬هيّا أمسعين آخر قصيدة لك‪،‬‬ ‫وغري ُ‬
‫أكثر‪ّ ،‬‬
‫ووجهت وجهي إليك‪ ،‬وابتسمت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫كرسيي إىل الوراء قليل‬

‫جاء فيها‪:‬‬
‫علي قصيد ًة َ‬
‫مل ترتدد‪ ،‬وفتحت جوالك لتقرأ ّ‬

‫‪186‬‬
‫لديك مميـ ٌز كي ِ‬
‫أرجعا؟‬ ‫ماذا ِ ّ‬
‫ِ‬
‫النساء وأفظعا‬ ‫مثل‬
‫نَكديّةٌ َ‬

‫ِ‬
‫ابحلب ستّـ َة أشهر‬ ‫أخضعتين ِّ‬
‫واآل َن دوري كي أ ُِذ َّل وأُ ْخ ِ‬
‫ضعا‬

‫لم كا َن ِ‬
‫هواك هنراً صافياً‬ ‫يف احلُ ِ‬
‫أفقت وجدتهُ ُمستنقعا‬
‫ملّا ُ‬

‫بقولك‪ِ :‬‬
‫هذه آخر قصيدة كتبتُها‪.‬‬ ‫َ‬ ‫الصمت بيننا حلظات خرقتها‬
‫ُ‬ ‫ساد‬
‫َ‬
‫توصل يل رسالة غري مباشرة أبهنا مل تُكتب يل‪ ،‬ولكن‬
‫َ‬ ‫أردت بذلك أن‬
‫َ‬
‫كنت ألقيتها يل يف أول لقاء لنا بعد فراق‬
‫ما الفائدة من تربيرك هذا إذا َ‬
‫طويل‪ ،‬لقد ألقيتها لتقول يل بطريقة غري مباشرة‪ :‬هذهِ القصيدة ِ‬
‫لك ولو‬
‫أهنا ُكتبت يف امرأة غريك‪.‬‬
‫كنت وعدتين‬
‫قلت لك اببتسامة عريضة‪َ -‬‬
‫يف ُماولة لكسر اجلمود ُ‬
‫بديوان كامل ّي نذل‬
‫كنت وعدتِين بك!‬
‫ضحكت وقلت‪ِ -‬‬‫َ‬
‫مين وأويف بوعدك‬
‫أحسن ّ‬
‫َ‬ ‫‪ -‬كن‬
‫‪ -‬سأفعل‬

‫‪187‬‬
‫الغزل واألشوا َق أبعيننا كثرياً دو َن‬
‫حتدثنا كثرياً‪ ،‬وضحكنا كثرياً وتبادلنا َ‬
‫قبلت‬
‫ك ُحتبين أبخطائي‪ُ ،‬حتبين وأان خائنة‪ ،‬وإال ملا َ‬ ‫أعرف أنّ َ‬
‫ُ‬ ‫تصريح‪،‬‬
‫أوقفت‬
‫ُ‬ ‫قلت يل‪ -‬لنعُد إىل الكورنيش‪ ..‬فعدان‪ ،‬عندما‬
‫لقائي أصالً‪َ ،‬‬
‫قلت يل‪ -‬تستطيعني الذهاب‬
‫أخذتك منه َ‬
‫َ‬ ‫السيارَة يف املكان الذي‬
‫اآلن‪ ،‬أان سأبقى هنا‬
‫قلت‪ -‬هل نستطيع املشي سويةً لبضع دقائق؟‬
‫تكاد أصابعُنا تقفز من‬
‫أشرت بعينيك أال مانع‪ ،‬ومشينا أمام البحر ُ‬ ‫َ‬
‫ت يدي‬‫ني أو ثالث جعل ُ‬ ‫وحنن نقبضها إلينا بقوة‪ ،‬ملرت ِ‬ ‫أيدينا لتتعانق ُ‬
‫شارفت‬ ‫حّت‬ ‫يدك كأنين مل أنتبه‪ ،‬مل تُ ِ‬
‫ُ‬ ‫أي ردة فعل لذلك‪ّ ،‬‬ ‫أنت ّ‬
‫بد َ‬ ‫تلمس َ‬
‫على الذهاب‪ ،‬وقفنا صامتني قرابة أربع أو مخس دقائق‪ ،‬وجوهنا للبحر‬
‫منعكس على املاء‪ ،‬شيءٌ من طب ِع البحر‬
‫ٌ‬ ‫والقمر مكتم ٌل يف السماء و‬
‫ُ‬
‫تسلل إىل أيدينا‬
‫ب إلينا‪ ،‬شيءٌ من السحر الذي حيملهُ املكا ُن هنا َ‬
‫تسر َ‬
‫ّ‬
‫فلم تُقاوم أصابعنا اقرتاهبا كما كانت قلوبنا تقاوم‪ ،‬تسللت يدي إىل‬
‫أحسست عندها ّي حبييب أ ّن دمي كلّه‬
‫ُ‬ ‫يدك واشتبكت األصابع‪،‬‬
‫استقر يف يدي‪ ،‬دقيقتني اثنتني والتفتنا عائدي ِن إىل السيارة وأصابعنا‬
‫أتذكر كم خطوة مشينا عندما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مستمرةٌ ابلعناق على أعني اخللق‪ ،‬ال ُ‬
‫ويضع‬
‫ُ‬ ‫رأينا وسام جيلس على أحد الكراسي املمتدة على الكورنيش‬
‫يدهُ بطريقة تشي حبب على كتف امرأة ال أعرفها‪ ،‬ورآان َّنشي وأصابعنا‬
‫ُمشتبكةٌ بعضها ببعض مشية عاش َق ِ‬
‫ني قدميني!‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫•••••‬

‫قلت يل مرًة من املرات وحنن جنلس يف اخلراب قبيل ِ‬


‫شروق الشمس‪:‬‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ّ‬
‫كنت سعيداً‬
‫تيح لقاءان لكفته‪َ ،‬‬
‫الشارع حسنةً إال أنّه يُ ُ‬
‫ِ‬ ‫لو مل يكن هلذا‬
‫حيب الكبري‪ ،‬وأقرأُ َ‬
‫شعرك أيضاً‪.‬‬ ‫عينيك ّ‬
‫َ‬ ‫كنت أقرأُ يف‬
‫يب جداً‪ ،‬و ُ‬
‫بعض غرورها‪،‬‬
‫فيك ُ‬‫يتجزء من ِمحص‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬
‫اتبعت‪ -‬أنت ّي غيداءُ جزءٌ ال ّ ُ‬
‫ص اهلدوء‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كل من يعربها‪ ،‬لقد أخذت من مح َ‬ ‫وفيك رائحتها اليت حتتّ ُّل ّ‬
‫وطن من التناقضات‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والصخب‪ ،‬القسوة واحلنان‪ ،‬الرقّة والغلظة‪ ،‬أنت ٌ‬
‫شعراء‪.‬‬ ‫اليت متألُ ِ‬
‫الشعر وال ُ‬
‫ابتسمت وقلت لك‪ -‬مثّ ماذا؟‬ ‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫ك ِ‬
‫لست يل‪.‬‬ ‫أشعلت سيجارًة وقلت‪ -‬مثّ إنّ ِ‬‫َ‬
‫كنت ماهراً جداً يف تعكري صفو اللقاءات بيننا وال يكلفك ذلك أكثر‬
‫َ‬
‫مين على استيائي مما قلت‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫سكت يف اشارة ّ‬ ‫من كلمة!‬
‫أخذت رشفةً من قهوتك وأخرى من سيجارتك وقلت‪ -‬قليب يقول يل‬ ‫َ‬
‫هذا‪ ،‬قليب يقول يل ِ‬
‫أنك لن تكوين يل‪ ،‬حاسبيه هو ال أان‪.‬‬
‫القلب يُص ّدق‪.‬‬
‫ُ‬ ‫كل ما يقوله‬
‫‪ّ -‬ي شاكر ّي حبييب‪ ،‬ما ّ‬
‫تقع يف االمهال كثرياً ومع ذلك ما قلت‬
‫أنت ُ‬
‫ملَ هذي االفرتاضات؟‪َ ،‬‬
‫لك يوماً مثل قولك هذا‪.‬‬
‫دعينا من هذا‪ -‬قلتها وأنت تنفث دخانك يف اهلواء‪.‬‬
‫جوايل أبغني َة فريوز‪ :‬حبيتك تنسيت النوم‪.‬‬
‫فتحت ّ‬
‫ُ‬
‫‪189‬‬
‫أين يل بقلب يصد ُق‬ ‫قلبك صادقاً يف أحاسيسه معك‪ ،‬من َ‬
‫لطاملا كان َ‬
‫ك‬‫لت يل ملّا سألتُ َ‬
‫عمن سواهم؟ قُ َ‬
‫قلوب الشعراء ّ‬
‫ُ‬ ‫ختتلف‬
‫ُ‬ ‫معي؟‪ ،‬هل‬
‫قلوب البشر من حلم ودم ّأما الشعراء فقلوهبم‬
‫هذا السؤال ذات مساء‪ُ :‬‬
‫من مطر‪ ،‬صدقت‪ ،‬فليس يف الكون شيءٌ أر ّق وأعذب وأصفى وأنقى‬
‫ِ‬
‫الصدق‬ ‫كل‬
‫يسكن السماء‪ ،‬والصد ُق ّ‬
‫ُ‬ ‫يكذب ألنّهُ‬
‫ُ‬ ‫من املطر‪ ،‬واملطر ال‬
‫ك أنت‪ ،‬كم قلتها لك وكم كانت‬ ‫ك جداً فقط ألنّ َ‬ ‫يف السماء‪ ،‬أُحبّ َ‬
‫سافرت من اإلمارات على عجل‬
‫َ‬ ‫ك أان‪ ،‬ها قد‬ ‫ك ألنّ ِ‬ ‫اجابتك‪ -‬أُحبّ ِ‬
‫معك قليب وفكري‬‫اءك ما ال يُرتك‪ ،‬ما ال يُنسى‪ ،‬وأخذت َ‬ ‫كت ور َ‬
‫وتر َ‬
‫ألقيت يل بعضاً‬
‫َ‬ ‫ك‬
‫قاءك‪ ،‬وشكراً ألنّ َ‬
‫أحتت يل ل َ‬
‫ك َ‬ ‫وروحي‪ ،‬فشكراً ألنّ َ‬
‫فيك من‬
‫كنت أظنّهُ َ‬
‫ك أنت مل تتغري‪ ،‬برغم ما ُ‬ ‫من ِشعرك‪ ،‬وشكراً ألنّ َ‬
‫رج ُل املاء وأان امرأةٌ عطشى فال تبخل‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أنت ُ‬‫الكرب بدايةَ ُشهرتك‪َ ،‬‬
‫تلك الليلة اليت التقينا هبا واليت كادت تودي يب إىل هاوية‬ ‫أتذكر؟ أتذكر َ‬
‫يس من عادته‬ ‫ك أوالً وآخراً مثّ احلظ الذي ل َ‬‫ال هناية هلا‪ ،‬ولكن سرتُ ربّ َ‬
‫أن يُكمل معروفه مع أصحابه‪ ،‬أكملهُ معي هذه املرة! كم كان ذلك‬
‫الرجل يُشبهُ وسام‪ ،‬ألول مرة حبيايت أجد شخصاً يُشبهُ شخصاً هبذا‬
‫كدت‬
‫ُ‬ ‫أخذت ُهت ّدؤين بعدما أتكدان أنه مل يكن زوجي وبعدما‬
‫َ‬ ‫القدر‪،‬‬
‫علي‬
‫بك ّ‬‫اطمئن قل َ‬
‫ّ‬ ‫حّت‬
‫أسقط من اخلوف‪ ،‬ركبت معي يف السيارة ّ‬
‫وأنت تُغادرين بدهشة عظيمة وقد‬
‫قلت يل َ‬
‫وسكنت جوارحي املُرجتفة‪َ ،‬‬
‫علمت أ ّن وسام هو زوجي‪ :‬أخلصي لزوجك وال تتذكري هذا اللقاء‬
‫أغلقت ابب السيارة ومضيت‪.‬‬
‫َ‬ ‫أو تفكري به أو إبعادته مرًة أخرى‪ ،‬مث‬
‫‪190‬‬
‫الفصل السابع‬
‫حني اشتعلنا‪ ..‬أمطرت"‬
‫" َ‬

‫هل كا َن يُدرك وهو يبكي على حافة القرب‬


‫أي مثن ابهظ يدفعهُ اإلنسان‬
‫ّ‬
‫حّت تتضح لهُ حقيقة نفسه وحقيقة األشياء؟‬

‫‪ -‬الطيب صاحل‪ /‬مريود‬

‫‪191‬‬
192
‫أعزائي املسافرين النداء األخري لرحلة رقم ‪ ١2١٥‬واملتجهة من مطار‬
‫أبو ظيب الدويل إىل مطار دمشق الدويل‪ ،‬يرجى من السادة املسافرين‬
‫سرعة التوجه إىل البوابة رقم ‪.2٣‬‬
‫جبواله‪،‬‬
‫يقف شاكر يف الصف البشري اهلائل أمام البوابة ‪ 2٣‬وهو يلهو ّ‬
‫أف هلذا املرض‪ ،‬قال يف نفسه وهو يعرب‬
‫طائرةٌ كبرية ومقاع ُد ضيّقة‪ّ ،‬‬
‫املمر داخل الطائرة إىل مقعده‪.‬‬
‫عني إال هامت هبا‪،‬‬
‫‪ F27‬هو مقعده الذي يلتصق مبقعد فتاة ال تراها ٌ‬
‫تقن كثرياً دور االنسان اهلادئ الرزين‪.‬‬
‫ابتسم قلبه ومل تتحرك مالُمه‪ ،‬يُ ُ‬
‫َ‬
‫مرحباً‪ -‬قاهلا وهو جيلس إىل جانبها دون أن ينظر إليها‪.‬‬
‫أهالً‪ -‬وهي تنظر إليه نظرًة ال تتجاوز ُمـ ّدة ردها‪.‬‬

‫كل حرف َز َّل عن مر َشفها‬


‫ُّ‬
‫الطيب مييناً ومشاال!‬
‫َ‬ ‫نَـثَر‬

‫مسع ر ّدها املُقتضب‪ ،‬وهذا البيت أيضاً قالهُ‬‫بيت أيب ريشة هذا ملّا َ‬
‫ابغتهُ ُ‬
‫جانبه يف الطائرة‪ ،‬هذهِ اجلميلة البد وأ ّهنا‬
‫أبو ريشة المرأة جلست إىل ِ‬
‫ُّ‬
‫أحق هبذا البيت من تلك‪ .‬قال يف نفسه‪.‬‬
‫يلتفت إليها اببتسامة خجول‪ :‬امسي شاكر عريب‪.‬‬
‫ُ‬
‫ولكن مالُمهُ املألوفة جعلتها تر ّد‪ :‬تشرفنا‪.‬‬
‫تتحدث مع الغرابء‪َّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫ال‬

‫‪193‬‬
‫‪-‬ز ِ‬
‫ادك هللا شرفاً‪ ،‬ما ِ‬
‫امسك؟‬ ‫ُ‬
‫ابتسمت ومل ُجتب‪.‬‬
‫شعر أنّه وقع يف دور األبله بعض الشيء‪ ،‬لكنّه جتاهل املوقف وأرجع‬
‫َ‬
‫رأسه للوراء وأغمض عينيه استعداداً لإلقالع‪.‬‬
‫ما املانع إذا أخربته ابمسي؟‪ ،‬قالت يف نفسها قبل أن تلفت إليه وهو‬
‫حّت اجملاملة‬
‫ابتسم ومل يفتح عينيه ومل يقل شيئاً‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫مغمض العينني‪ :‬مرام‪،‬‬
‫الشهرية‪:‬عاشت األسامي مل يقلها‪.‬‬
‫حّت التفت‬
‫أقلعت الطائرة‪ ،‬وما ان ارتفعت عن املدرج وشعر ابلطريان ّ‬
‫التجاهل وإهناء هذا احلوار‬
‫َ‬ ‫عادي لفتاة ليست عادية‪ ،‬تُري ُد‬
‫ّ‬ ‫اسم‬
‫إليها‪ٌ :‬‬
‫لكن عليها أن ُجتيب‪.‬‬
‫أمساؤان ُيتارها أابؤان وأ ُّمهاتنا فمنها اجلميل ومنها القبيح‪ّ ،‬أما صوران‬
‫كل شيء من هللا مجيل‪.‬‬ ‫فاهلل ُيلقها‪ ،‬و ّ‬
‫ِ‬
‫صدقت‪..‬‬ ‫‪-‬صحيح‪،‬‬
‫تعرفني قصيدة عمر أبوريشة "يف الطائرة"؟ وهو يبتسم‪.‬‬
‫َ‬ ‫مثّ يتنحنح‪ :‬هل‬
‫دو َن أن تلفت إليه‪ :‬أحفظُها‪.‬‬
‫‪ُ -‬حتبني ِ‬
‫الشعر؟‬ ‫َ‬
‫ب الشعر؟‪.‬‬
‫‪-‬ومن ال ُحي ُّ‬
‫‪-‬أان‪.‬‬
‫تتسع عيناها دهشةً‪.‬‬
‫ُ‬
‫ُمبتسماً‪ -‬أان أعشقهُ وأكتبه‪.‬‬
‫‪194‬‬
‫‪-‬وتكتُبه؟‪.‬‬
‫‪-‬وأكتبه نعم‪ ،‬ويل ديوان مطبوع وآخر حتت الطباعة‪.‬‬
‫‪-‬مجيل‪ ،‬موفّق‪.‬‬
‫‪-‬هل أ ِ‬
‫ُمسعك شيئاً من شعري؟‪.‬‬
‫هتز رأسها‪.‬‬
‫‪-‬ال‪ :‬وهي ّ‬

‫تضرب رأسهُ‪ ،‬أكملت ُمبتسمةً‪ :‬ترتدد‪.‬‬


‫ُ‬ ‫بينما كانت صاعقةٌ‬
‫أتخر ابلبحث عن قصيدة ما يف جواله يف ُماولة منه الستعادة أعصابه‪،‬‬
‫مثّ بدأ‪:‬‬

‫ِ‬
‫أحرقت املكاتيبا‬ ‫عت‪..‬‬
‫كما توقّ ُ‬
‫ك أشعاري أكاذيبا‬‫وكا َن حبّ ِ‬

‫ظين لكن ُك ِ‬
‫نت كاذبةً‬ ‫أحسنت َِّ‬
‫ُ‬
‫يف ويف قليب األعاجيبا‬ ‫ِ‬
‫فعلت َّ‬

‫ليس يرتُكين‬ ‫ِ‬


‫استفدت؟‪ٌ ،‬‬
‫سؤال َ‬ ‫ماذا‬
‫احلكاّيت هل كانت أالعيبا؟‬
‫ُ‬ ‫تلك‬
‫َ‬

‫‪195‬‬
‫ض ِج ٌر‬
‫ب َ‬ ‫ملّا َش ِ‬
‫أبين ُم َتع ٌ‬
‫عرت ّ‬
‫غري ِ‬ ‫من ِ‬
‫ت األساليبا‬ ‫احلب‪ّ ..‬‬ ‫قصة ِّ‬ ‫ّ‬

‫وفجأ ًة ِ‬
‫صرت بع َد الطه ِر ساقط ًة‬
‫ِ‬
‫العفاف إذا ألقى اجلالبيبا‬ ‫مثل‬

‫كذب‬
‫وهم‪ ..‬كله ٌ‬ ‫احلب يف ِّ‬
‫النت ٌ‬ ‫ّ‬
‫مّت مللناهُ‪ ..‬أغلقنا احلواسيبا‬

‫كل مكاتييب بال أمل‬


‫كتبت َّ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫أحرقت املكاتيبا‬ ‫عت‪..‬‬
‫كما توقّ ُ‬

‫تتغري من بيت إىل آخر تعبرياً عن إعجاهبا مبا تسمع‪،‬‬


‫كانت مالُمها ُ‬
‫هللا ما أمجلها‪ ،‬وهي تبتسم‪.‬‬
‫‪ -‬شكراً شكراً‪ ،‬شكراً جزيالً‪.‬‬

‫حتتاج هذه اجلميلة لنظر ِ‬


‫ات أتمل طويلة‪ ،‬والرحلة قصرية أكثر مما ينبغي!‬ ‫ُ‬
‫تنسج احلبال ُُماولةً إيقاعهم يف الف ّخ‬
‫ُ‬ ‫والقلوب‬
‫ُ‬ ‫يتحداثن طوال الرحلة‬
‫الذي ال ينجو منه بشر‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫االستعداد للهبوط‪ ،‬لن يدعها تُفلت منه‪ ،‬وهي أيضاً ستتفاعل مع أي‬
‫شيء منه‪ ،‬لقد د ّق قلبها دقّةً لشاعر ال تعرفه‪ ،‬وقفت الطائرة‪ ،‬سارا‬
‫حّت نزال منها‪ ،‬وقبل أن يفرتقا قال هلا‪ :‬هذا كريت الشخصي‪ ،‬وفيه‬
‫معاً ّ‬
‫حساابيت الشعرية االلكرتونية ورقمي اخلاص‪ ،‬أسعد جداً ابلتواصل‬
‫معك‪.‬‬
‫‪-‬ابتسمت‪ :‬سأفعل‪ ،‬وافرتقا‪.‬‬

‫ما أطيب اللُقيا بال ِ‬


‫ميعاد!‬ ‫َ‬
‫تنصرف عنه‪ ،‬مثّ مضى‪.‬‬
‫ُ‬ ‫قاهلا يف نفسه وهي‬

‫ينتظرهُ أمري‪ ،‬ولكن ما ِ‬


‫هذه املفاجأة!‪ ،‬كانت أمينة برفقته‪ ،‬ما الذي مجع‬
‫أمري أبمينة!؟ عانقهُ ُمندهشاً‪ ،‬وسلّم على أمينة اببتسامة ملؤها العجب‪،‬‬
‫وخرجوا‪.‬‬

‫•••••‬

‫‪197‬‬
‫وأشياء مما مل يتوقع‪ ،‬إهنا اآلن زوجة‬
‫َ‬ ‫حصل يف سفره شيءٌ مما توقع‬
‫َ‬
‫لوسام‪ ،‬الرجل الذي استضافه ببيته وأكرمه‪ ،‬اخللوق الطيّب‪ ،‬ما هذا‬
‫ِ‬
‫ابستطاعته اخرتاق حياة رجل آخر واحلديث مع زوجته‬ ‫احلظّ؟ مثّ هل‬
‫لو مل يكن وسام؟‪ ،‬هو ال يستطيع هذا أبداً كائناً زوجها من كان‪،‬‬
‫استمر ابحلديث معها من خالل الواتساب‬
‫ّ‬ ‫صحيح أنّه بعد لقائه فيها‬
‫حّت سافر‪،‬‬
‫وبعض االتصاالت القليلة‪ ،‬وكانت معه كذلك خطوةً خبطوة ّ‬
‫هيهات هيهات‪ ،‬ال‬
‫قرر االبتعاد هنائياً‪ .‬و َ‬
‫مبجرد وصوله إىل محص ّ‬
‫لكنّه ّ‬
‫هو الذي أعانه قلبهُ ليبتعد وال هي تركته يتنفس بعيداً عنها‪ ،‬صار‬
‫اهتمامها فيه مضاعفاً‪ ،‬وصارت خترتع القصص واملناسبات كلّما شعرت‬
‫حّت تبقيه معها‪.‬‬
‫أبنه يريد االبتعاد ّ‬
‫وضع فنجا َن القهوةِ بعد منتصف الليل وجلس قالت له نفسه وهو‬ ‫َ‬
‫عليك أن‬
‫أنصاف احللول‪َ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫احلب ال ُجتدي معهُ‬
‫يصب القهوة‪ :‬إ ّن هذا ّ‬ ‫ّ‬
‫الرجل‬
‫َ‬ ‫ك ختون‬
‫أكلت فيه‪ ،‬إنّ َ‬
‫تبصق يف الصحن الذي َ‬ ‫ك ُ‬ ‫تتوقف فوراً‪ ،‬إنّ َ‬
‫مر على عودته‬
‫واعتربك أخاً له‪ ،‬كان قد ّ‬
‫َ‬ ‫اك واحتفى فيك‬ ‫الذي دع َ‬
‫كل يوم من هذا الشهر‬
‫شهر كامل‪ ،‬ومازال يتحداثن يومياً‪ ،‬ولكنّه يف ّ‬
‫ٌ‬
‫وضع أم كلثوم‬
‫يصب قهوته قبل قليل‪َ ،‬‬
‫حدثته نفسهُ مبا حدثته به وهو ّ‬
‫كلثوم أبعلى صوهتا‪:‬‬
‫تشف قهوته وسرح‪ ،‬أم ُ‬
‫رب جواله وأخذ ير ُ‬
‫عَ‬

‫القلب يوماً‬
‫َ‬ ‫سألت‬
‫ُ‬ ‫كنت إذا‬
‫و ُ‬
‫الدمع عن قليب اجلوااب‬
‫ُ‬ ‫توىل‬
‫‪198‬‬
‫أي امرأة ِ‬
‫أنت؟‪،‬‬ ‫وجيفف أخرى مل تسقط بعد‪ُّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ميسح دمع ًة سقطت‬‫ُ‬
‫إيل املاء والنار معاً‪ ،‬تُشعلين‪ ،‬تُطفؤين‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وملاذا ُعدت اآل َن ّي امرأ ًة أهدت ّ‬
‫ني كاهلالل‪ ،‬آه ّي نزار آه!‬‫تكسرين نصف ِ‬
‫أين زوجها؟ فتح‬
‫جاء اتصاهلُا الذي مل يتوقع‪ ،‬يف متام الواحدة صباحاً‪َ ،‬‬
‫َ‬
‫اخلط‪ :‬أهالً غيداء‬
‫‪-‬أهالً حبييب‬
‫أين وسام؟‬ ‫ِ‬
‫يب اتصالك‪َ ،‬‬
‫‪-‬غر ٌ‬
‫‪-‬انئم‪ ،‬ولكنين اشتقت إليك فاتصلت‬
‫‪-‬أغلقي فوراً ال أُريده أن يشعر بك‬
‫‪-‬ال عليك‪ ،‬نومه عميق‬

‫حتداث قرابة النصف ساعة‪ ،‬كا َن جريئاً عندما أخربها أنه لن يستطيع‬
‫االستمرار‪ ،‬وأهنا جيب أن ُختلص لزوجها‪ ،‬وأ ّن ضمريهُ يُع ّذبه‪ ،‬وأنه أل ّد‬
‫يقع هبا ويعيشها؟ شعرت هي بشيء من اخلوف‪،‬‬
‫فكيف ُ‬
‫َ‬ ‫أعداء اخليانة‬
‫فأسرهتا يف نفسها ومل تُبدها له‪ ،‬وقالت‪ :‬ما املانع من‬
‫بشيء احلسرة َّ‬
‫أي خطأ؟‬
‫حديثنا إذ ليس مثّة ّ‬
‫كان ر ّده قاسياً جداً عندما أجاهبا‪ :‬ال دينُـنَا وال أعرافنا وال قلوبنا تقبل‬
‫هو‪ ،‬وأان سوف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫هذا‪ ،‬كا َن ابستطاعتك أن تكوين يل‪ ،‬لكنّك اخرتته َ‬

‫‪199‬‬
‫أضع ح ّداً هلذه املهزلة‪ ،‬ه ّدأته قليالً وقالت ال عليك سنتحدث هبذا‬
‫الحقاً ولن حيصل إال ما تريده أنت وما تراهُ ُمناسباً‪.‬‬
‫ِ‬
‫برغم هذا كا َن يشعر ابلغرية من وسام‪ ،‬إنّه حيبّها جداً‪ ،‬ويضعف كثرياً‬
‫ط متلّكه هاجس نومها قرب وسام‬
‫احلب‪ ،‬بعدما أغلقت اخل ّ‬
‫أمام هذا ّ‬
‫أمسك ورقتهُ‬
‫َ‬ ‫يف سرير واحد‪ ،‬وهنا كا َن الب ّد للشعر أن يتدخل فوراً‪،‬‬
‫وكتب‪:‬‬
‫حني ِ‬
‫أنت لهُ‬ ‫ك َ‬ ‫أُحبُّ ِ‬
‫ويل َسهري وأشواقي‬
‫وحيداً‪..‬‬
‫الدمعات‬
‫ُ‬ ‫ط‬
‫تسق ُ‬
‫من قليب وأحداقي‬
‫كيف ِ‬
‫أنت اآل َن‬ ‫أُف ّك ُر َ‬
‫انئمةٌ على صدرْه؟‬
‫ِ‬
‫تنتقالن‬ ‫كيف ِ‬
‫يداك‬ ‫و َ‬
‫من خصري إىل خصرْه!‬
‫تبتسمني‬
‫َ‬ ‫كيف‬
‫ُفكر َ‬ ‫أ ُ‬
‫تعتَربينَهُ الدنيـا‬
‫وترجتفني من ِعطرْه‬
‫َ‬
‫ب‬ ‫ك ما س ِ‬
‫قيت احلُ َّ‬ ‫كأنّ ِ‬
‫ُ‬
‫قبل ِ‬
‫اليوم من غَريْه!‬ ‫َ‬
‫‪200‬‬
‫يف صبيحة اليوم التايل‪ ،‬التقى أبمري يف اخلراب‪ ،‬جلسا تتوسطهما‬
‫كالم قلب شاكر على شاكر‪،‬‬
‫القهوة‪ ،‬كا َن أمري ودون أن يشعر يُعي ُد َ‬
‫قال له‪ :‬دعها ّي صديقي‪ ،‬ففي احلب ال ُجتدي أنصاف احللول‪.‬‬
‫أجاب شاكر وهو ينفخ دخا َن سيجارته‪ :‬أُحبّها وأكرهُ االستمر َار‬ ‫َ‬
‫ابحلديث معها وخيانة زوجها‪ ،‬مثّ إ ّهنا خانتنا معاً‪.‬‬
‫رحلت‬
‫َ‬ ‫ابتسم أمري‪ :‬فلتُ ِنه هذه املهزلة أبسرع وقت‪ ،‬ال ترتدد أبداً وإذا‬
‫اءك أثراً‪.‬‬
‫فال تدع ور َ‬
‫يهز رأسهُ سأفعل‪..‬‬
‫ّ‬
‫ذلك االتصال الصريح وما زاال معاً‪ ،‬يتحداثن‬
‫عقب َ‬
‫مرت عشرة ّأّيم َ‬
‫ّ‬
‫جواله وكتب هلا‬
‫حّت فتح ّ‬
‫يومياً‪ ،‬وضمريُ شاكر يزي ُد هليبهُ يوماً بعد يوم‪ّ ،‬‬
‫عرب الواتساب‪:‬‬

‫نفرتق!‬
‫صار بوسعنا أن ْ‬
‫اآل َن َ‬
‫كل شيء‪..‬‬
‫فلقد خسران َّ‬
‫كل شيء‪..‬‬
‫َّ‬
‫وانتهى عه ُد الر ِ‬
‫اتبة‬‫َ‬
‫والغر ِام املُتس ْق‬

‫‪201‬‬
‫غصة‪ ،‬لكنها أجابته قائلةً‪:‬‬
‫• قرأت رسالتهُ ويف قلبها ّ‬

‫الكالم‬
‫ْ‬ ‫ال ّي حبييب ال تَـ ُقل هذا‬
‫ال‪..‬‬
‫علي‬
‫صف أوجاعي ّ‬ ‫ال تقف يف ِّ‬
‫مع األسى‬ ‫ِ‬
‫احلروب َ‬ ‫رغم‬
‫َ‬
‫السالم‬
‫ْ‬ ‫سينتصر‬
‫ُ‬ ‫يوماً‬

‫• قرأ ر ّدها أكثر من مرة‪ ،‬مثّ ر ّد عليها‪:‬‬

‫احلروف‬
‫ْ‬ ‫ط على‬ ‫ضع النِقا َ‬
‫الب ّد أن نَ َ‬
‫الصفوف‪..‬‬
‫ْ‬ ‫تيب‬
‫ونُعي َد تر َ‬
‫طاق‬
‫ليست تُ ْ‬ ‫نعيش عشوائيةً‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫فأان وأنت ُ‬
‫الوقوف‬
‫ْ‬ ‫وعلى الذي ُيشى املرور أمام َخ ِ‬
‫يبته‪..‬‬ ‫َ َ‬
‫صار بوسعنا أن َّنأل الدنيا فِر ْ‬
‫اق!‬ ‫اآل َن َ‬
‫الظروف!‬
‫ْ‬ ‫الكبري إىل‬
‫َ‬ ‫ب‬
‫ّم احلُ َّ‬
‫ونُسل َ‬

‫‪202‬‬
‫•ر ّدت ودمعتها يف عينها‪:‬‬

‫يح؟‬ ‫ِ‬ ‫أتظن َّ‬


‫أن البُع َد فيه سنَسرت ْ‬ ‫ُّ‬
‫عتقل كبريٌ‪..‬‬
‫البُع ُد ُم ٌ‬
‫فيه سوى القتيل أو اجلري ْح‬‫ليس ِ‬
‫َ‬
‫صام‬ ‫ِ‬
‫أنت نـ ّداً للخ ْ‬
‫كن َ‬
‫استسلمت‬ ‫ِ‬
‫للظروف‬ ‫هي‬
‫ْ‬ ‫النفس إ ْن َ‬
‫ُ‬
‫ُّ‬
‫تستحق اإلحرت ْام!‬ ‫ال‬

‫• سقطت دمعةٌ من عينه‪ ..‬قال بعدها‪:‬‬

‫إين أُحبّ ِ‬
‫ك‪ ،‬أغلقي املوضوعا‬ ‫ّ‬
‫إحساسي املوجوعا‬
‫َ‬ ‫واستوعيب‬
‫رت‪..‬‬
‫ضائع وتَس ّك ْ‬
‫أان ٌ‬
‫رت‬
‫هي غَ َّر ْ‬
‫وجهي الدنيا وكم َ‬
‫َ‬ ‫يف‬
‫ت‬‫وأنكر ْ‬
‫الكبري َ‬
‫َ‬ ‫ب‬
‫أعطتين احلُ َّ‬
‫َ‬
‫من لُ ِ‬
‫ؤمها‪..‬‬
‫رت!‬
‫حني اشتعلنا‪..‬أمطَ ْ‬
‫َ‬

‫‪203‬‬
‫يف شارع اخلراب‪ ،‬ويف ذلك اليوم الذي التقت فيه غيداء بشاكر‬
‫األعني يف‬
‫ُ‬ ‫عني أمينة بعني أمري‪ ،‬وعندما تقع‬
‫وقعت ُ‬‫ْ‬ ‫وأخذت رقمه‪،‬‬
‫القلوب يف احلب‪ ،‬محص صغرية كما يقول أهلها مع‬
‫ُ‬ ‫ط‬
‫النَظرات تسق ُ‬
‫أ ّهنا ُمصنفة كأكرب ُمافظة يف سورّي مع ريفها‪ّ ،‬أما املدينة فهي صغرية‬
‫فعالً‪ ،‬ولذلك كانت فرصة أن يلتقي أمري أبمينة أكثر من مرة بفرتات‬
‫قريبة وأن يتبادال عبارات السالم فرصة سهلة جداً‪ ،‬بعد أكثر من‬
‫جترأ يوماً عندما التقاها صدفةً أيضاً عند ابئع العصريات‬
‫صدفة بينهما ّ‬
‫ُ‬
‫يف الغوطة وقال هلا‪ :‬يسرين لو ِ‬
‫قبلت دعويت على العشاء‪.‬‬ ‫ّ‬
‫اببتسامة ملؤها احلياء‪ -‬أعتذر‪ ،‬ال أستطيع‪.‬‬
‫آخ َذ األسهل‪.‬‬
‫حّت ُ‬
‫طلبت األصعب ّ‬
‫ُ‬ ‫‪-‬أعلم ولكنين‬
‫ابستغراب‪-‬ما هو األسهل؟‬
‫يتنحنح وبتلفت مين ًة ويسرة‪ -‬رقمك!‪ ،‬أرغب يف احلديث معك‪،‬‬
‫ويبتسم‪.‬‬
‫أسابيع فقط تق ّدم خالهلا‬
‫ٌ‬ ‫يوم سفر شاكر األخري لألمارات‪،‬‬
‫كا َن هذا َ‬
‫أمري وطلبها للزواج وعُق َد قراهنُما‪.‬‬
‫لك من نذل!‪ ،‬أأكو ُن آخر من يعلم‪ -‬قاهلا شاكر ألمري بعدما أنزال‬
‫ّي َ‬
‫أمينة يف بيتها وقد أحضروه من املطار‪.‬‬
‫أمري ُمبتسماً‪ -‬وهللا صارت األمور خالفاً للمتوقع‪ ،‬صدقين أان نفسي‬
‫حّت اللحظة أشعر أنّهُ ُحلم‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪204‬‬
‫فرح شاكر أبمري وأمينة فرحاً ال يعدلهُ فرح آخر‪ ،‬إ ّن سعادةَ أمري‬
‫لقد َ‬
‫ينظر إىل القصة من األعلى يعلم‬
‫سرح بعيداً‪ ،‬فمن ُ‬
‫من سعادته‪ ،‬لكنّهُ َ‬
‫كل شيء يشي ابرتباط شاكر بغيداء‪ ،‬لكنّها عادة القدر مبخالفة‬ ‫أ ّن ّ‬
‫توقعاتنا‪ ،‬افرتق شاكر وغيداء‪،،‬وارتبط أمري أبمينة!‬

‫•••••‬

‫‪205‬‬
‫عريهُ ِ‬
‫بعلمه كلّما خالف رأيها أو‬ ‫كما تَنبُ ُذ العائلةُ اجلاهلة ابنها املُتعلّم وتُ ّ‬
‫أعلم جيداً أ ّن اهلالك ينتظرين‬
‫عاداهتا وتقاليدها‪ ،‬نبذتين عاطفيت! إنّين ُ‬
‫قررت الرحيل‪ ،‬فلماذا تنبذين عاطفيت‬
‫ُ‬ ‫يف هناية هذا الطريق‪ ،‬ولذلك‬
‫ِ‬
‫العقيمة هذه‪.‬‬ ‫ستؤول إليه قصةُ ِّ‬
‫احلب‬ ‫ُ‬ ‫اجلاهلة مبا‬
‫جهز استعاداً للخروج إىل‬ ‫قال شاكر هذه الكلمات يف ِ‬
‫نفسه وهو يت ّ‬ ‫َ‬
‫يب على اتصاالهتا ورسائها‪ّ ،‬أو ُل‬
‫كامل وهو ال ُجي ُ‬
‫مر أسبوعٌ ٌ‬
‫اخلراب‪َّ ،‬‬
‫وقاوم عواطفه أسبوعاً‬ ‫الص ِرب أصعبُه‪ ،‬وها هو َ‬
‫جتاوز م ّدة اخلطر أخرياً َ‬
‫اءهُ أسبوع وآخر‪،‬‬
‫كامالً مما سيعينه على االستمرار ابلقطيعة‪ ،‬أسبوعٌ ور َ‬
‫تصرف منها‬
‫أي ّ‬‫والسهر ُيه ُّد قواه‪ ،‬مل يكن ابنتظار ّ‬
‫ُ‬ ‫أيكل قلبه‪،‬‬
‫والشو ُق ُ‬
‫سوى االتصال أو ارسال الرسائل‪.‬‬
‫التفت‬ ‫شعر جبسد ما جيلس جانبه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫سارح على كرسيّه يف اخلراب َ‬
‫وهو ٌ‬
‫تفضح وجهه‪ :‬غيداء؟‬
‫ُ‬ ‫لريى ابتسامتها الصامتة!‪ ،‬بدهشة‬
‫طلبت‬
‫هتز رأسها ُمبتسمةً‪ ،‬مثّ تنصرف بوجهها إىل الطريق أمامها وتقول‪ُ :‬‬
‫ُّ‬
‫الطالق‪.‬‬
‫‪-‬ماذا!!‪ ،‬قاهلا كالذي فقد عقله‪.‬‬
‫ضر ِ‬
‫بتان على الرأس يف أقل من دقيقة‪ ،‬مفاجأةُ قدومها إىل محص وطلبها‬
‫الطالق من وسام‪.‬‬
‫أنت ال أح ٌد سواكا‪ ،‬مثّ‬ ‫وبكل هدوء‪ :‬أُر َ‬
‫يدك َ‬ ‫ّ‬ ‫تُتابع النظر إىل الطريق‬
‫فقرب هذهِ الدنيا ِسواكا‪.‬‬
‫تلتفت إليه‪ٌ :‬‬

‫‪206‬‬
‫كيف‬
‫أنت؟‪َ ،‬‬ ‫ّي هللا‪ّ ،‬ي هللا‪ ،‬والدهشة والغضب ِ‬
‫متآلن وجهه‪ :‬أغبيّةٌ ِ‬
‫سأتزوجك إذا ِ‬
‫فعلت؟‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫بكل سهولة؟‪ ،‬أتظنني أنين‬
‫تطلبني الطالق ّ‬
‫ال أريدك أن تتزوجين‪ ،‬قالتها والدمعةُ يف عينها‪.‬‬
‫أي بالء هذا الذي وقعنا به‪ ،‬مثّ يلتفت‬
‫ّي هللا اغفر يل‪ّ ،‬ي هللا اغفر يل‪ّ ،‬‬
‫إليها‪ :‬وهل طلقك؟‬
‫كي‬
‫مين أن أنزل إىل محص ّ‬
‫وطلب ّ‬
‫َ‬ ‫واستغرب طليب جداً‬
‫َ‬ ‫رفض طبعاً‬
‫َ‬
‫تتحسن نفسيّيت اليت تغريت كثرياً يف الفرتة األخرية حبسب قوله‪.‬‬
‫جنونك هذا ما آخره؟‬‫ِ‬ ‫تنه َد تنهيد ًة طويلة‪:‬‬
‫ّ‬
‫تصرخ أبعلى صوهتا‪-‬ال ترتكين ال ترتكين‪ ،‬أان أُر َ‬
‫يدك أنت‪ ،‬وتبدأ ابلبكاء‪.‬‬
‫تنظر إليهما‪ ،‬يُلملم املوقف ويركبان‬
‫والناس ُ‬
‫ُ‬ ‫ط املشاعر يف قلبه‪،‬‬
‫ختتل ُ‬
‫السيارة‪.‬‬

‫املسافات وجهاً من أوجه الرمحة‬


‫ُ‬ ‫بكل ما فيها من لؤم وقسوة‪ ،‬تكو ُن‬
‫ّ‬
‫أحياانً‪ ،‬ولذلك كا َن انسحابهُ من العالقة وهي بعيدة عنه سهل‪ ،‬فماذا‬
‫يفعل اآلن وهي بقربه‪ ،‬ويستطيع لقاءها يومياً‪ ،‬اليزال وسام يتواصل‬
‫معه بشكل شبه يومي‪ ،‬كم رسالة واتساب وصلته منه وغيداء جتلس‬
‫يعرف لؤمهُ إال من ت ّذوقه‪ ،‬لقد تركتهُ‬
‫خنجر يف القلب ال ُ‬
‫ٌ‬ ‫إىل جانبه‪ ،‬إنّه‬
‫من أجل وسام ذات يوم‪ ،‬وها هي ترتك وسام من أجله هو‪ ،‬ماذا تُري ُد‬
‫وأسرها يف نفسه عدة مرات‪.‬‬‫تلعب بقلبينا معاً‪ ،‬قاهلا ّ‬
‫هذه املرأة وملاذا ُ‬

‫‪207‬‬
‫نشر‬
‫مطلع ملقال جديد سيُ ُ‬ ‫عندما جتد نفسك اثينَ اثنني يف ِّ‬
‫احلب‪ ،‬ابتعد‪ٌ :‬‬
‫كل التربيرات اليت تُقدمها‬
‫غداً يف جملة "صدى الشعر" جاء يف آخره ‪ّ :‬‬
‫جربوا‬
‫حتتاج لتربيرات‪ ،‬والذين ّ‬
‫ات ُ‬‫امرأةٌ ختون زوجها لعشيقها هي تربير ٌ‬
‫هذا النوع من العالقات مع نساء متزوجات هم يف احلقيقة ال يعيشون‬
‫عالقات حب إَّنا عالقات من اخليانة املسترتة ابسم احلب‪ ،‬فال شيء‬
‫يف هذه األرض يقبل أن ختون امرأةٌ زوجها حتت أي سبب أو أي ظرف‪،‬‬
‫أنت ال تعرفه‪،‬‬
‫إ ّن اليت خانت زوجها ألجلك ستخونك ألجل رجل آخر َ‬
‫مرة‬
‫وإ ّن امرأةً خانت زوجها ابحلديث مع رجل آخر مرة ستخونه ألف ّ‬
‫درب ال خالص منه إال ما شاء ربّك‪ ،‬إ ّن عالقة‬
‫أبلف حديث‪ ،‬فهذا ٌ‬
‫الرجل ابمرأة متزوجة أو عالقة امرأة برجل متزوج عالقة معاقة‪ ،‬ال‬
‫أعود ملا‬
‫مستقبل يستحق املغامرة وال ماضي يستحق الذكرى لذلك ُ‬
‫بدأت به‪ :‬عندما جتد نفسك اثينَ اثنني يف ِّ‬
‫احلب‪ ،‬ابتعد‪.‬‬ ‫ُ‬

‫مبا أ ّهنا عادت إىل ِمحص فال ب ّد أن يغادرها هو‪ ،‬لكن إىل أين؟‪ ،‬ال ّيهم‬
‫املكان كثرياً‪ ،‬املهم أن يكو َن مكاانً خالياً منها‪ ،‬ركب سيارته بعد صالة‬
‫الصبح وانطلق إىل شاطئ النورس يف طرطوس‪ ،‬إىل الشاليه الذي متلكه‬
‫عائلة أمري ليقضي ِ‬
‫فيه وقتاً جمهوالً‪ ،‬بعيداً عن أعينها وضجيج املدينة‪،‬‬
‫حيصل دائماً‪ ،‬أخرب أمري بعد أسبوع تقريباً‬
‫ُ‬ ‫البحر وجهته‪ ،‬وكما‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫خطيبته أمينة مبكان شاكر وهي بدورها أخلفت وعدها خلطيبها بعدم‬
‫اخبار غيداء مبكانه وأخربهتا‪.‬‬
‫‪208‬‬
‫إهنا فرصةٌ من ذهب‪ ،‬قالت غيداء ألمينة اليت ُحتلفها ابهلل أن ال خترب‬
‫شاكر أبن هلا يد يف معرفة مكانه‪.‬‬
‫بيل الفجر‪ ،‬وبعدهُ ُمباشرًة كان السائق ابنتظار غيداء اليت‬
‫أخربهتا قُ َ‬
‫أع ّدت نفسها لغياب أسبوع على األقل برفقة شاكر‪ ،‬وانطلقت‪.‬‬

‫القدر ال يسمح؟‪ ،‬قالتها يف‬


‫ُ‬ ‫القلب يريد‪ ،‬ولكن ما الفائدة إذا كان‬
‫ُ‬
‫تقطع األنثى أملها من‬
‫نفسها وهي يف طريقها إليه‪ ،‬لكنّها أُنثى وقلّما ُ‬
‫ب‪ ،‬وإذا قطعته فاعلم أنهُ مل يكن ُحبّاً‪.‬‬
‫احلُ ّ‬
‫ومزق‪،‬‬
‫يف هذا كا َن شاكر مسافراً يف خياله إىل التاريخ‪ ،‬بعدما كتب ّ‬
‫ومزق‪ ،‬كانت قصيدته الصغرية "مهد احلضارات" خالصة أسبوع‬ ‫كتب ّ‬
‫و َ‬
‫من الوجود والشتات واحلضور والغياب‪ ،‬والكثري الكثري من العزلة‪.‬‬

‫حضارةٌ بع َدها أُخرى‪ ..‬وما اندثرا‬


‫فمن يلوم ِ‬
‫بك اجمل َد الذي افتَ َخرا؟‬ ‫ُ‬

‫نان ِ‬
‫هللا‪ ..‬أنزهلَا‬ ‫ّي جنّـةً من ِج ِ‬
‫ِ‬
‫جنبيك ما عربا؟‬ ‫دين على‬
‫ظل ٌ‬‫هل َّ‬

‫يوم و ّدعها‬
‫هرقل عليها َ‬
‫بكى ُ‬
‫ومات خال ُد فيها بعدما انتصرا‬
‫َ‬
‫‪209‬‬
‫وآخرها‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫األرض أوطاانً‬ ‫ّي ّأو َل‬
‫شعرا‬ ‫ِ‬
‫واآلداب وال ُ‬ ‫ّي ربةَ ِ‬
‫العلم‬ ‫ّ‬

‫ِ‬
‫الخوته‬ ‫بساماً‬
‫ف ّ‬ ‫يوس َ‬
‫ّي وجهَ ُ‬
‫برغم َّأهنُ ُم ابعوهُ ْ‬
‫وه َو َيرى‬

‫من ِ‬
‫عهد آدم كم ِ‬
‫آويت من أُمم‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫أكتافك البشرا‬ ‫وكم ِ‬
‫محلت على‬

‫أيخذان‬
‫يخ ُ‬‫يق إىل التار ِ‬
‫إ ّن الطر َ‬
‫صرا‬ ‫ِ ِ‬
‫طال أو قَ ُ‬
‫سواء َ‬
‫إليك أنت‪ً ..‬‬

‫اجلهل كم َهطلَت‬ ‫ِ‬


‫الثقافات فو َق ِ‬ ‫أ ُُّم‬
‫يم واملطرا‬
‫ضر تُغري الغَ َ‬
‫أغصاهنُا اخلُ ُ‬

‫حني اشتا َق َجنَّتهُ‬


‫آدم‪َ ..‬‬ ‫َّ‬
‫كأن َ‬
‫الشام‪ ..‬تعويضاً ملا خسرا‬
‫قد أويتَ َ‬

‫كتب هلا وعنها الكثريون‪ ،‬البُ ّد وأ ّهنا ستخل ّد هذا السحر‪،‬‬


‫الشام اليت َ‬
‫ُ‬
‫لكل األبيات اجلميلة‬ ‫ِ‬
‫وستجعل من البيت األخري هلذه القصيدة قبلةً ّ‬
‫‪210‬‬
‫اليت ُكتبت وستُكتب عن الشام‪ ،‬الكتابة عن الشام ال تشبه الكتابة عن‬
‫تاج منك‬
‫أي بقعة يف األرض‪ ،‬ألهنا قطعة من اجلنة والكتابة عن اجلنة حت ُ‬
‫الذين أنقذوا عواطفهم من شوائب‬‫عاطفةً مساويّة‪ ،‬وقليلو َن جداً ُهم َ‬
‫األرض وحلّقوا هبا يف السماء‪ ،‬ورغم صعوبة الكتابة يف مزاج سيء‪ ،‬إال‬
‫أنّهُ أهنى كذلك كتابة مقاله بعنوان "احلقيقة واخليال يف الشعر" ليُنشر‬
‫يف احدى الصحف اليت يكتب هبا‪ ،‬وجاء يف هناية هذا املقال‪:‬‬
‫آل احلداثة‪-‬‬
‫خياله ‪-‬كما يفعل ‪ُ -‬‬ ‫ِ‬ ‫"أن يكتب الشاعر معتمداً على‬
‫غالباً‪ ،‬سينجب لهُ خيالهُ نَظماً خالياً من ِ‬
‫الشعر‪ ،‬أو يف أحسن األحوال‬ ‫ُ‬
‫أيت هذا يف أغلب احلداثيّني‪ ،‬والذين يتحدث‬
‫قصيدةً معاقة‪ ،‬ولقد ر ُ‬
‫أحدهم يف قصيدته عن غروب مشس متوز يف "هايد ابرك" وهو مل يسبق‬
‫غادر خيمتة يف الصحراء إال إىل بيته الكائن يف صحراء أخرى‬ ‫أن َ‬
‫تُسمى زوراً "مدينة"‪ ،‬أو عن "مقهى الفوكيت يف ابريس" وهو ملَ يزر إال‬
‫نجب القصيدة‪ ،‬وما عدا ذلك فإنّه‬
‫زواج الواقع ابخليال يُ ُ‬
‫مقهى حارته‪ُ ،‬‬
‫القراء‬
‫مضيعةٌ للوقت مضجرةٌ للقلب ومفسدةٌ للشعر‪ ،‬وحرق لقلوب ّ‬
‫وأذواقهم‪ ،‬إن انفصال الشاعر عن واقعه واسفافه ابخليال أو العكس‬
‫هلو أحد أهم العوامل اليت سامهت يف تراجع شعبية الشعر ونزوله عن‬
‫كتبت الشعر‬
‫عرش األدب العريب لتصعد الرواية‪ ،‬ولكن مبا إنين ُ‬
‫واختارين واخرتته فال ختافوا ّي قوم‪ ،‬أهنا هلا‪ ،‬وسأعي ُد عرش الشعر للشعر‬
‫وإّيكم وشتمي يف ظهر‬
‫عما قريب إبذن هللا‪ ،‬وستذكرو َن ما أقول لكم‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫الغيب على تصرحيي هذا فإين لن أساُمكم‪ ،‬هذا ما عندي والسالم‪".‬‬
‫‪211‬‬
‫املقال فن ُمتلف كثرياً عن الشعر‪ ،‬والنثر يف احلقيقة هو فضيحة الشاعر‬
‫الكربى‪ ،‬فليس للشاعر يف النثر السلطة اليت يف الشعر واجلوازات اليت‬
‫ال جتوز لغريه‪ ،‬وكما َّ‬
‫أن إتقان اإلجياز يف الشعر هو اإلبداع‪ ،‬فإ ّن إتقان‬
‫السرد يف النثر هو اإلبداع‪ ،‬ولكن اإلجياز أصعب من السرد بكثري‪،‬‬
‫لذلك ينجح بعض الشعراء يف النثر ألهنم يبحثون عن احلريّة والنَـ َفس‬
‫الطويل يف الكتابة بعدما ُحبسوا يف اإلجياز‪ ،‬ويفشل الكثري من الروائيني‬
‫حريةَ السرد ال يستطيع البقاء يف سجن‬
‫يف كتابة الشعر أل ّن الذي تنفس ّ‬
‫وخائف منه يف آن معاً‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫فن املقال وهو مؤمن هبذا‬
‫اإلجياز‪ ،‬خاض شاكر َّ‬
‫النثر يف حياته عن موعدة وعد نفسهُ ّإّيها‪ ،‬إ َّّنا كان يف البداية‬
‫وما كا َن ُ‬
‫حتقيقاً لرغبة أحد أصدقائه ويعمل رئيس حترير إلحدى اجملالت‪ ،‬حّت‬
‫تطور األمر فيما بعد وأنشأ شاكر جملة "أصدقاء الشعر"‪.‬‬

‫يقول روبن ويليامز‪ :‬كنت أظن أن أسوأ شيء يف احلياة هو أن تكون‬


‫وحي ًدا‪ ،‬لكن أسوأ شيء يف احلياة هو أن ينتهي بك األمر مع أشخاص‬
‫تشعر معهم ابلوحدة‪.‬‬
‫هي الرفيق لشاكر‪ ،‬شاكر الذي تغري كثرياً ومل يعد‬
‫ولذلك كانت العزلة َ‬
‫ُمستسلماً لقلبه كما كان دائماً‪ ،‬هو الشاعر الوحيد على وجه هذه‬
‫ّم العُ ّزلةَ ُدفّة احلياة‪.‬‬
‫ّم عقلهُ ُدفّة احلب وسل َ‬
‫األرض الذي سل َ‬

‫•••••‬
‫‪212‬‬
‫وهي يف الطريق تقرأ حالته على الواتساب‪:‬‬
‫َ‬

‫"حني خترج من العاصفة‪ ،‬لن تعود الشخص نفسه الذي دخلها‪ ،‬وهلذا‬
‫السبب وحدهُ كانت العاصفة‪".‬‬
‫موراكامي‬

‫هي تعلم أنّه يتفق ُد حالتها دائماً رغم أنّه أبدى هلا يف الكثري من‬
‫يهتم هبذه األمور‪ ،‬لذلك وضعت عرب حالتها‪:‬‬
‫اللقاءات السابقة أنّه ال ّ‬
‫ميكنك بلوغ أي قمة من قمم اجلبال طاملا أنك مستمر ابلتسلق‪.‬‬
‫هتتم كثرياً حبقوق ال ُكتّاب كما يفعل هو‪ ،‬تضع العبارات دائماً‬
‫هي ال ّ‬
‫بدون االشارة ألصحاهبا‪ ،‬قال هلا مرًة عن هذا‪ِ :‬‬
‫أنت تسرقني جتربةً كاملة‬ ‫ّ‬
‫حّت أتت عبارته اليت وضعتِها‪.‬‬
‫مر هبا الكاتب وعاىن ّ‬
‫ّ‬
‫مرت فرتة من الفرتات صارت تُشري فيها إىل صاحب املقولة من ابب‬ ‫ّ‬
‫التقليد حلبيبها ليس إال‪.‬‬

‫مشاعر ُمتلطة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫أصل إليك؟ تُرددها طوال الطريق‪ ،‬ويف داخلها‬
‫مّت ُ‬
‫وعتاب وحزن‪ ،‬حالةٌ عاطفية ال تفسري هلا‪ ،‬كأكثر احلاالت‬
‫ٌ‬ ‫شو ٌق وحنني‬
‫العاطفية‪ ،‬قبل أسبوع فقط قال هلا أحبّك‪ ،‬ويف اليوم الذي يليه أرسل‬
‫يقول‪:‬‬
‫‪213‬‬
‫ّل معاً‬
‫اول أن نظ َ‬‫ُحن ُ‬
‫برغم ظروفنا السودا‬ ‫ِ‬
‫ب قد أودى‬ ‫وما ابحلُ ِّ‬
‫نقدر؟‬
‫فهل ْ‬
‫قدر!‬ ‫ُّ‬
‫أشك أبننا نَ ْ‬
‫أصرب‬ ‫ِ‬
‫فال َيل أنت كي ْ‬
‫لك‬
‫وال سأكو ُن يوماً ْ‬
‫وكم قتَل اهلوى منّا بال ذنب‬
‫ك‬
‫وكم أَهلَ ْ‬
‫نقدر؟‬
‫فهل ْ‬
‫قدر‪..‬‬ ‫ُّ‬
‫أشك أبننا نَ ْ‬

‫كل كلمة "أُحبك" يقوهلا ‪،‬‬ ‫ِ‬


‫عاطفي رهيب‪ ،‬يعيشانه معاً‪ ،‬فبعد ّ‬
‫ٌّ‬ ‫ط‬
‫ختبّ ٌ‬
‫كل‬
‫أييت حديثه عن الفراق وضرورته‪ ،‬وعن ايقاف هذه املهزلة‪ ،‬وبع َد ّ‬
‫كل‬
‫كلمة "أُحبك" تقوهلا لهُ أييت حديثها عن البقاء وضرورته رغم ّ‬
‫الظروف‪.‬‬
‫يف البداّيت ‪-‬رغم مجاهلا‪ -‬شيءٌ من وجع النهاّيت‪ :‬هكذا قال هلا يف‬
‫بدايتهما‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫احلب لن‬
‫كان وإبحساس الشاعر منذ اللحظة األوىل يعلم أ ّن هذا ّ‬
‫كل ما قال هذا‬
‫يدوم‪ ،‬وقاهلا صراحةً يف أكثر من لقاء بينهما‪ ،‬وكانت ّ‬
‫غريت املوضوع ودعتهُ للتفاؤل‪.‬‬
‫هلا ّ‬

‫إيل أان‪ ،‬فال‬ ‫ٌ‬


‫وصول َّ‬ ‫إليك هو يف احلقيقة‬
‫الوصول َ‬
‫َ‬ ‫أصل إليك؟‪ ،‬إ ّن‬
‫مّت ُ‬
‫وزاليت‪ ،‬تقبّل حيايت‬
‫املرة‪ ،‬تقبّلين أبخطائي ّ‬
‫أج ُدين إال لديك‪ ،‬تقبّلين هذه ّ‬
‫ُقسم لك أن ال شيء يف هذه األرض يُبعدين‬ ‫اليت ال هتدأُ إال َ‬
‫بني يديك‪ ،‬أ ُ‬
‫كنت مع كل رجال األرض فإ ّن عيين ال‬
‫حّت ولو ُ‬‫عنك فال ُحتاول‪ّ ،‬‬
‫ميلؤها إال ابتسامتك أنت‪.‬‬

‫الوقت‬
‫ُ‬ ‫يبع ُد الشاليه عن محص قرابة الساعة والنصف‪ ،‬لكن ملاذا يبدو‬
‫أطول يف هذه الرحلة؟‪ ،‬إهنا تع ّد الثواين كي تصل إليه‪ ،‬ومل تصل بعد‪،‬‬
‫سوف حتضنه بقوة‪ ،‬سوف تقول لهُ أنّه أنفاسها فكيف حيرمها حقها يف‬
‫احلياة؟‪ ،‬ستعاتبه‪ ،‬سيمشيان معا على رمل الشاطئ ليالً ليخربها أ ّن مثّة‬
‫قمرين على وجه املاء‪ ،‬القمر ووجهها‪ ،‬ستسرقهُ من نفسه هذه املرة‪،‬‬
‫ستسمع منه‬
‫ُ‬ ‫ستأخذ منه عهداً أبن يبقى معها مهما كانت الظروف‪،‬‬
‫ُمساُمتها على ما كان‪ ،‬ستفعل كل شيء كل شيء بعد أن تصل‪..‬‬
‫تصل يوماً!‬
‫كل أسف مل تصل ولن َ‬ ‫لكنّها ب ِّ‬

‫‪215‬‬
‫املوت ينتظرها يف منتصف الطريق املؤدي إىل حبيبها على هيئة‬
‫كان ُ‬
‫مروع‪ ،‬وكان الكابوس الطويل الذي رآه شاكر انقضى‪.‬‬
‫حادث ّ‬
‫أيكل وجهه ليجد مكامل ًة فائتة من غيداء‪ ،‬الصبية‬
‫واخلوف ُ‬
‫ُ‬ ‫قام من نومه‬
‫َ‬
‫تعرف عليها قبل يومني!‪.‬‬
‫اليت ّ‬

‫متّت‬
‫كواالملبور‪ /‬نوفمرب ‪2٠١7‬‬

‫‪216‬‬
‫شكر وتقدير‬

‫لكل قصائدي اليت قبلت أن تكون يف عُهدةِ البطل ألجلي‪.‬‬


‫ّ‬
‫لكل الشخصيات اليت مل تدع يل فرص َة رمسها كما أُريد وفرضت ّ‬
‫علي‬ ‫ّ‬
‫رسم نفسها كما هي تُريد‪.‬‬
‫َ‬
‫لكل ذكرى تربّعت يف خاطري لتصبح ح َداثً يف هذه الرواية‪.‬‬
‫ّ‬
‫ألُخيت زهراء العرجي‪ ..‬ال لشيء‪ ،‬فقط ألهنا أمجل شيء يف حيايت‪.‬‬

‫‪217‬‬

You might also like