You are on page 1of 15

‫لقاء يسوع مع ز ّكا (لو ‪)9 - 1 :19‬‬

‫إ ّن ز ّكا ـ ـ ـ وترمجة امسه الطاهر‪ ،‬أو صـايف‪ ،‬وامسا العلم هـذان متـداوالن‪ ،‬بني النـاس‪ ،‬يف العـائالت الشـرقيّة ـ ـ ـ‬
‫اإلجنيلي لوق ــا‪ ،‬ال ــذي ي ــأيت وح ــده على ذك ــر امسه‪ ،‬بني س ــائر البش ــائر‪ ،‬أح ـ ُـد أولئ ــك‬‫ّ‬ ‫إ ّن ز ّكــا‪ ،‬إذًا‪ ،‬ه ــو‪ ،‬حبس ــب‬
‫ورئيس دائرة من الدوائر‪ ،‬يف لغة العصـر‪،‬‬ ‫جباة العُ ْشر‪ 1‬من أبناء اليهود‪،2‬‬ ‫العشارين‪ِ ،‬‬‫الرؤساء‪ ،‬املقامني على زمرة ّ‬
‫ُ‬
‫املوكل إليها مجع الضرائب عن احملاصيل‪ .‬ال نعرف‪ ،‬بـالطبع‪ ،‬عمـره؛ ولكنّنـا نعتقـد أنّـه يـرتاوح‪ ،‬بني العقـد الرابـع‪،‬‬
‫والعق ــد اخلامس من عم ــره‪ ،‬مبا أنّ ــه اس ــتطاع أن يتسـ ـلّق مجّ ــيزة ـ ـ ـ ـ ول ــو أعان ــه أح ــدهم بقص ــده ـ ـ ـ ـ وأن يقب ــع‪ ،‬بني‬
‫مير يســوع‪ ،‬على الطريــق املالصــقة للشــجرة‪ .‬ال معرفــة لنــا هــل عنــده‬ ‫أغصــاهنا‪ ،‬وورقهــا‪ ،‬فــرتة من الــوقت‪ ،‬ريثمــا ّ‬
‫لكن قــول يســوع لــه‪" :‬اليوم‪ ،‬قد حصل الخالص لهذا البيت" (‪:19‬ـ ‪ ،)9‬مييــل باملف ّسـر إىل أن يفهم‬ ‫عائلــة‪ ،‬أم ال! ّ‬
‫جتاوزا!‬
‫بلفظ "البيت" س ّكانه؛ وإمّن ا‪ً ،‬‬
‫ـذري‪ ،‬يف‬ ‫مـ ــا يلفت االنتبـ ــاه‪ ،‬عنـ ــد قـ ــراءة أخبـ ــار‪ ،‬تتعلّـ ــق بأشـ ــخاص‪ ،‬التقـ ــوا بيسـ ــوع‪ ،‬مثّ حـ ــدث تب ـ ـ ّدل ج ـ ّ‬
‫بتحمـل عنـاء آخـر‪،‬‬ ‫جتشمهم الصـعوبة‪ ،‬حينًـا من الـزمن‪ ،‬وتضـحيتهم اإلضـافيّة ّ‬ ‫مسريهتم‪ ،‬أو يف سياق حياهتم‪ ،‬هو ّ‬
‫دما‪ ،‬منذ اثنيَت عشرة سنة‪ ،‬أو السامريّة‪ ،‬أو‬ ‫فوق ش ّدهتم‪ ،‬قبل التقائهم مع يسوع‪ .‬حسيب أن أذكر‪ ،‬مثالً‪ ،‬النازفة ً‬
‫الرجــل املقعــد‪ ،‬الــذي أهنضــه يســوع‪ ،‬يف كفرنــاحوم‪ ،3‬وغــريهم‪ .‬ليس ز ّـكـا بغــريب عن هــذا الوضــع‪ .‬فكمــا قاســى‬
‫ردحــا من ال ــزمن‪ ،‬ومل يكن عن ــدهم ـ ـ ـ ـ من ي ــدري؟ ‪ -‬وال بص ــيص أم ــل‪ ،‬يض ــيء هلم حلك ــة‬ ‫أولئ ــك من الض ــيق‪ً ،‬‬
‫اإلجنيلي لوقـ ــا‬
‫ّ‬ ‫عيشـ ــهم‪ ،‬مل ًقى هبم‪ ،‬بني بـ ــراثن األمل‪ ،‬وخمالب الوحـ ــدة القاتلـ ــة‪ ،‬كـ ــذلك ز ّـك ــا هـ ــذا‪ ،‬الـ ــذي يغفـ ــل‬
‫خيتص مبرارتــه‪ ،‬أو مبعاناتــه‪ .‬يرشــدنا إىل توقّعنــا هــذا‪ ،‬وأعــين إىل ظنّنــا بــأ ّن ز ّـكـا كــان يشــكو من‬ ‫التوضــيح‪ ،‬يف مــا ّ‬
‫صفحا عن ثرائــه‪ ،‬كرجــل‬ ‫وض ْربُه ً‬ ‫للعشارين‪َ ،‬‬ ‫إعراضه عن مركزه كرئيس ّ‬ ‫ُ‬ ‫ممض‪ ،‬ينهش منه حالوة العيش‪،‬‬ ‫توجع ّ‬ ‫ّ‬
‫‪4‬‬
‫صـره‪ ،‬كرجــل مســلوب القامــة‪ ،‬مقابــل "أن يرى َمن هو يسوع" (‪ :19‬ـ ‪3‬أ) ‪ .‬قــايض ز ّـكـا مبا‬ ‫ِ‬
‫ـين‪ ،‬وَت َف ُّوقُــه على ق َ‬
‫غـ ّ‬

‫ـدونات التــوراة‪ .‬ويــرتّب اإلتــاوات‪،‬‬ ‫املدونات األوغاريتيّــة‪ ،‬األقــدم عهـ ًـدا من مـ َّ‬
‫ص ـا‪ ،‬يف َّ‬ ‫الع ْش ـر إىل عــادة شــرقيّة قدمية‪ ،‬جند صــداها‪ ،‬خصو ً‬
‫يعــود نظــام ُ‬
‫‪1‬‬

‫غب العــودة من الســيب‪ ،‬وســيادة الدولــة الدينيّــة‪،‬ـ يف‬ ‫بنســبة ‪ ،1/10‬على مجيــع احملاصــيل‪ ،‬الزراعيّــة واحليوانيّــة‪ ،‬الــيت جيب على الس ـ ّكان دفعهــا للملــك‪.‬ـ ّ‬
‫حتول دفــع العُ ْش ـر إىل اهليكــل‪ ،‬واتّســع‪ ،‬ليشــمل البقــول (مىّت ‪ :13‬ـ ‪ .)23‬وبــات ســدنة اهليكــل (الالويّــون) هم املســتفيدين‪ّ ،‬أوالً‪،‬ـ من فريضــة‬ ‫إســرائيل‪ّ ،‬‬
‫ضـا‪ّ .‬أمـا اجلبايـة‪ ،‬فـأوكلوا هبا إىل أمنـاء‪ ،‬حيرصـون على جتميعهـا‪ ،‬جبوار اهليكـل‪،‬‬ ‫العشر‪ ،‬اليت كانوا يشركون الكهنة يف االنتفـاع منهـا‪ ،‬بنسـبة ‪ ،1/10‬أي ً‬
‫يف أهراءات فسيحة‪.‬‬
‫واحدا من األمم‪ ،‬مثّ اهتدى إىل اليهوديّة؛ أنظر ض ّد مرقيون‪ ،‬ك ‪ ،4‬ف ‪.37‬‬ ‫بيد أ ّن ترتليانس يعترب أنّه كان ً‬
‫‪2‬‬

‫عب األحـداث‪ ،‬الـيت يرووهنا‪ .‬ألع ّـل السـبب يعـود إىل أ ّن النقلـة‬ ‫دائما‪ ،‬ذكر أمساء األشخاص‪ ،‬الذين يوردون أخبارهم‪ ،‬يف ّ‬ ‫يغفل اإلجنيليّون‪ ،‬عادة‪ ،‬ال ً‬
‫‪3‬‬

‫وض ــعوا رواي ــاهتم‪ ،‬بع ــد م ــرور زمن على تل ــك األح ــداث‪ ،‬حبيث إنّ ــه ف ــاهتم أن يت ــذ ّكروا أمساء األش ــخاص املع ــنيّني؟ أم ت ــراه يكمن يف اهتم ــام البش ــائر‬
‫عب‬
‫مطروحـا على البـاحث‪ ،‬الـذي ينبغي عليـه أن يف ّسـر ذكـر البشـائر أمساء عـدد آخـر من األشـخاص‪ ،‬يف ّ‬ ‫ً‬ ‫باألحداث‪ ،‬دون األشـخاص؟ يبقى السـؤال‬
‫الروايات‪.‬‬
‫أيضا‪.‬‬
‫كذلك هريودس (لو ‪ .)8 :23‬حبسب يو ‪ ،21 :12‬كان لدى نفر من اليونانيّني التوق عينه‪ً ،‬‬
‫‪4‬‬

‫‪42‬‬
‫حيوزه من تقـدير‪ ،‬يف أعني النــاس‪ ،‬أمنيتــه بــأن يـرى يسـوع‪ .‬ال بـ ّد‪ ،‬إ ًذا‪ ،‬لــه من أن حيصــل على عــزاء‪ ،‬مل يتــوفّر لــه‪،‬‬
‫عزاء ينتزع منه طعم العذاب‪.‬‬ ‫رغم كل ما كان حيظى به من وفرة‪ٍ ،‬‬
‫ّ‬
‫ال جمال‪ ،‬هنــا‪ ،‬البتّــة‪ ،‬يف حالــة ز ّـكـا‪ ،‬للكالم على فضــول‪ .‬لقــد كــان هــريودس فضــوليًّا (‪ :23‬ـ ‪ ،)8‬حينمــا‬
‫حيرك هــريودس ســاكنًا‪ ،‬مقابــل أن يــراه‪ .‬ال‪ ،‬ليس احلال‪،‬‬ ‫أحضــر يســوع إىل أمامــه‪ ،‬للمحاكمــة‪ .‬من أجــل هــذا‪ ،‬مل ّ‬
‫علي يف قومه‪،‬ـ س ّكان أرحيا‪ ،‬جاء‬ ‫على مثل هذا النحو‪ ،‬مع ز ّكا‪ .‬هلذا‪ ،‬حنسب أ ّن حبثه عن مشاهدة يسوع‪ ،‬وهو ٌّ‬
‫عن حاجة‪ ،‬ال عن تط ّفل‪ ،‬جاء عن رغبة يف ملء فراغ‪ ،‬مل متأله الثروة‪ ،‬اليت حصل عليها‪ ،‬خالل حياتــه‪ .‬أراد أن‬
‫يتخلّص من َو َه ِق ثقل‪ ،‬مل َيعُ ْد يطيق احتماله‪.‬‬

‫مق ّدمة‬
‫يُشبه ز ّكـا‪ ،‬من حيث املنزلـة االجتماعيّـة‪ ،‬نيقـودميس‪ ،‬الـذي جـاء يسـوع ليالً‪ ،‬لكي حيظى بلقـاء معـه‪ ،‬على‬
‫وح َسـن املوقــع‪ ،‬وذو ثــروة ‪.5‬‬ ‫األول‪ ،‬ز ّـكـا‪ ،‬رئيس مقاطعــة أرحيا‪ ،‬جلبايــة العُ ْشـر‪ .‬هــو إنســان مرمــوق املنزلــة‪َ ،‬‬ ‫حــدة‪ّ .‬‬
‫ـين كب ــري‪ .‬ك ـ ّـل منهم ــا يتب ـ ّـوأ منص ــبًا رفي ــع‬
‫وفريس ـ ّـي‪ ،‬ذو اعتب ــار دي ـ ّ‬
‫والث ــاين‪ ،‬نيق ــودميس‪،‬ـ ه ــو أح ــد أعي ــان اليه ــود‪ّ ،‬‬
‫ض ـا أنّ ــه على ش ــيء من االقت ــدار‪ .‬وك ـ ّـل منهم ــا يس ــعى إىل رؤي ــة‬ ‫املس ــتوى‪ ،‬بالنس ــبة إىل بيئت ــه‪ ،‬وجمتمع ــه‪ ،‬ويب ــدو أي ً‬
‫ص ـة‪ ،‬ال ــيت ينتمي إليه ــا‪ .‬م ــا من عاه ــة يش ــكوان منه ــا‪ ،‬دفعتهم ــا إىل‬ ‫يس ــوع‪ ،‬انطالقً ــا من َو َس ـطه‪ ،‬ومن دائرت ــه اخلا ّ‬
‫مالقــاة يســوع‪ .‬ومــا من غايــة حم ّددة‪ ،‬سـرّي هتما إليــه‪ .‬خالصــا الطويّــة‪ ،‬وصــادقا املقصــد‪ ،‬وســليما املبتغى‪ .‬ومــع هــذا‪،‬‬
‫األول‪ ،‬ز ّـكـا‪ ،‬هــو‪ ،‬يف نظــر‬ ‫ـاعي‪ ،‬كمــا قلنــا‪ّ .‬‬‫يقــف الواحــد منهمــا مناوئًــا لآلخــر‪ ،‬على مــا مها عليــه من شــبه اجتمـ ّ‬
‫نيقودميس وأشباهه‪ ،‬خماتل‪ ،‬وفاسد‪ ،‬وخاطئ‪ .‬ونيقودميس‪ ،‬يف عييَن ز ّكـا‪ ،‬مصـدر ربح كبـري‪ ،‬جتب مالحقتـه‪ ،‬لئال‬
‫يغش‪ ،‬يف احتســاب العُ ْشـر‪ ،‬مـ ّد ٍع يف تديّنــه‪ ،‬صــلف‪ .‬لقــد انطلــق‪ ،‬كـ ّـل منهمــا‪ ،‬على حــدة‪ ،‬وعلى طريقتــه‪ ،‬صــوب‬ ‫ّ‬
‫‪6‬‬
‫يسوع‪ .‬فوجدا هلما‪ ،‬عنده‪ ،‬ملقى وترحيبًا ‪.‬‬
‫يف هذه املق ّدمة‪ ،‬أريد أن أتوقّف بكم‪ ،‬عند الصعوبات‪ ،‬اليت كانت حتول دون لقاء ز ّـكـا بيســوع‪ .‬قلنــا إنّــه‬
‫تقديرا‪ ،‬أو ماالً‪ ،‬أو أن ينــال منــه نعمــة‪ .‬ولكنّــه‪ ،‬مل يكن‬ ‫ال يشكو من عاهة‪ ،‬وليس يف نيّته أن يكسب من يسوع ً‬
‫الدنو منه‪ ،‬بل حىّت مشاهدته‪ .‬دعونا َنر‪ ،‬إ ًذا‪ ،‬ما الذي كان يقـف حـائالً‪ ،‬يف وجـه ز ّكـا‪ ،‬مـع مـا لديـه من‬ ‫يستطيع ّ‬
‫جاه‪ ،‬من أن يشاهد يسوع!‬ ‫ٍ‬

‫‪ 5‬أزاحت أعمال التنقيب‪ ،‬اليت أجريت على املوقـع‪ ،‬حنو منتصـف القـرن العشـرين‪ ،‬السـتار عن ثالث مراحـل‪ ،‬م ّـرت هبا مدينـة أرحيا‪ :‬العريقـة‪ ،‬والقدمية‪،‬‬
‫واحلديث ــة‪.‬ـ ترج ــع املرحل ــة األوىل‪ ،‬يف الق ــدم‪ ،‬إىل األل ــف الســابع ق‪.‬م‪ ،‬ومتت ـ ّد ن ــزوالً حىّت دخ ــول يش ــوع املنطق ــة‪ ،‬حــوايل الق ــرن الثــاين عش ــر ق‪.‬م‪ّ ..‬أمــا‬
‫امليالدي‬
‫ّ‬ ‫املرحلــة الثانيــة‪ ،‬فتــرتاوح‪ ،‬بني هــذه احلقبــة‪ ،‬وتــدمري أورشــليم‪،‬ـ العــام ‪ 70‬ب‪.‬م‪ .‬عــرفت أرحيا مرحلــة قصــرية ثالثــة‪ ،‬امت ـ ّدت‪ ،‬منــذ أواخــر القــرن‬
‫ـادي‪ ،‬نــاجم عن التحــديثـ العمــراينّ‪،‬‬ ‫األول‪ ،‬حىّت احلقبــة البيزنطيــة‪ ،‬يف القــرن الرابــع‪ .‬عنــدما مـ ّـر يســوع بأرحيا‪ ،‬كــانت املدينــة تشــهد على ازدهــار اقتصـ ّ‬ ‫ّ‬
‫ـباها هلا‪ ،‬لــدى‬
‫ً‬ ‫ـ‬‫ش‬‫أ‬ ‫جند‬ ‫ـيت‬‫ـ‬‫ل‬ ‫ا‬ ‫ت‪،‬‬‫ّ‬‫ال‬‫الفي‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬‫ل‬‫ت‬ ‫ـدى‬ ‫ـ‬‫ح‬ ‫إ‬ ‫ـوى‬‫ـ‬‫س‬ ‫ـره‪،‬‬
‫ـ‬ ‫ك‬‫ذ‬ ‫على‬ ‫ـة‬‫ـ‬‫ي‬‫الروا‬ ‫ـأيت‬‫ـ‬‫ت‬ ‫ـذي‬‫ـ‬‫ل‬‫ا‬ ‫ـا‪،‬‬
‫ك‬
‫ـ‬ ‫ّ‬ ‫ز‬ ‫"بيت"‬ ‫ـا‬
‫ـ‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ـه‪.‬‬‫ـ‬‫م‬‫حك‬ ‫ة‬ ‫د‬
‫ّ‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـري‪،‬‬‫ـ‬‫ب‬‫الك‬ ‫ـريودس‬ ‫ـ‬‫ه‬ ‫أجنزه‬ ‫ـذي‬ ‫الـ‬
‫النهضة العمرانيّة‪ ،‬ببلد‪.‬‬
‫اهتمامـا بـدعوة يسـوع‪،‬‬
‫ً‬ ‫الفريس ّـي الوحيـد‪ ،‬الـذي أبـدى‬ ‫ال ز ّكا ّأول ع ّشـار‪ ،‬ينض ّـم إىل حظـرية اخلراف‪ ،‬إذ سـبقه مىّت إىل اتّبـاع يسـوع؛ وال نيقـودميس ّ‬
‫‪6‬‬

‫ما دام مجلئيلـ (أع ‪ )33 :5‬صرف احملفل عن إحلاق األذى بالرسل‪.‬‬
‫‪43‬‬
‫ال غــرو أ ّن وظيفــة ز ّـكـا‪ ،‬كــرئيس على الع ّشـارين‪ ،‬يف مدينــة أرحيا‪ ،‬املزدهــرة جتاريًّا‪ ،‬منــذ أن أعــاد هــريودس‬
‫الكبــري تــرميم أبنيتهــا‪ ،‬وســورها‪ ،‬وشــيّد قصـ ًـرا لــه فيهــا‪ ،‬حــالت دون قدرتــه على مواكبــة يســوع‪ ،‬مــع أنــاس‪ ،‬من‬
‫يــدري كم ابـ ّـتزهم رجالــه‪ ،‬وكم أرهقــوا كــاهلهم‪ ،‬باحتســاب العُ ْشـر‪ .‬فــإ ّن وظيفتــه‪ ،‬من جهــة‪ ،‬ومنصــبه كــرئيس‪،‬‬
‫من جهة مقابلة‪ ،‬ش ّكال عائ ًقا رئيسيًّا‪ ،‬أمام طفــرة نفســه فيــه‪ ،‬ألن يــرى يســوع‪ ،‬عن كثب‪ .‬يف كثــري من األحيـان‪،‬‬
‫وعن ــد كث ــريين من األش ــخاص‪ ،‬ت ــرى ال ــذين حيتلّ ــون مواق ــع عالي ــة الرفع ــة‪ ،‬ومناص ــب‪ ،‬بعي ــدين عن االحتف ــاالت‬
‫مدعوين‪ ،‬وإاّل منتصبني‪ ،‬يف الصـفوف األماميّـة‪ .‬هم أتبـاع ليسـوع‪ ،‬حبسـب الظـرف‬ ‫ّ‬ ‫الشعبيّة‪ .‬إهّن م ال يرتادوهنا إاّل‬
‫واحلالة‪.‬‬
‫مانعا‪ ،‬أمــام رغبتـه يف بلـوغ يسـوع‪ .‬من جهـة‪ ،‬رفعـة‬ ‫ولكن قصر القامة عائق آخر‪ ،‬بالنسبة إىل ز ّكا‪ ،‬يقف ً‬ ‫ّ‬
‫خلقي‪ ،‬ال حــول لصــاحبه على تبديلــه‪ .‬وبــدل أن‬ ‫شــأن الوظيفــة‪ ،‬واقتــدار؛ ومن جهــة مقابلــة‪ ،‬قصــر قامــة‪ ،‬وعجــز ّ‬
‫الطبيعي‪ ،‬انكفـأ ز ّكـا مرتـدًّا‪ ،‬وخائبًـا‪ ،‬إىل الـوراء‪ ،‬من غـري أن تأتيـه منزلتـه مبنفعـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يشفع املركز واملنصب بالقصور‬
‫ومل جيد هذا الرئيس بُدًّا‪ ،‬حني ٍإذ‪ ،‬من تسلّق شجرة‪ ،‬لكي يغيث حدود الطبيعة‪ ،‬ويسعف إنعام املنصب‪.‬‬
‫ـدنو‬
‫ومَنعَه من الـ ّ‬‫حاجزا‪ ،‬أمــام ز ّـكـا‪َ ،‬‬
‫أخريا‪ ،‬أن خيفى علينا ازدحام الناس‪ ،‬كعائق ثالث‪ ،‬وقف ً‬ ‫وال ينبغي‪ً ،‬‬
‫إىل يسوع‪َ .‬من كان قصري القامة‪ ،‬ال ميكنـه أن ينخـرط‪ ،‬يف غمـرة الزحـام‪ ،‬وهـو يبغي أن يــرى أحـد األعيــان‪ .‬وال‬
‫تنفعه مرتبته‪ ،‬كذلك‪ ،‬بشيء‪ ،‬يف ذلك احلني‪ .‬عندما يكـثر الزحـام‪ ،‬الك ّـل سواسـية‪ّ .‬أمـا َمن يريـد املكـوث‪ ،‬بقـرب‬
‫يتوسط الزحام‪ ،‬فعليـه خبطّـة‪ ،‬يفـّـرغ نفســه مبوجبهــا من غطرسـتها‪ ،‬وجيد لــه مــرتقى‪ ،‬مي ّكنــه من أن يُط ّـل على‬ ‫الذي ّ‬
‫مير‪ ،‬وسط أناس كثريين‪ ،‬خيفرونه‪.‬ـ‬ ‫يسوع‪ ،‬وهو ّ‬

‫‪ .1‬اإلعاقات الثالث‬
‫حت ّدثنا‪ ،‬يف املق ّدم ــة‪ ،‬عن ثالث إعاق ــات‪ ،‬ص ــرفت ز ّكــا‪ ،‬فعالً‪ ،‬عن الوص ــول إىل يس ــوع‪ .‬فتم ّكن من ت ــدبّر‬
‫صـر القامـة‪ ،‬واالزدحـام‪ ،‬شـ ّكلوا‬ ‫ِ‬
‫أمره‪ ،‬من أجل مشاهدته‪ ،‬مستنبطًا طريقة لــه‪ ،‬لبلـوغ مأربــه‪ .‬قلنـا إ ّن املنصـب‪،‬ـ وق َ‬
‫ـاجزا دون ــه‪ ،‬أبع ــدوه عن يس ــوع‪ .7‬غ ــري أنّن ــا ن ــرى أ ّن ه ــذه اإلعاقــات الثالث‪ ،‬تشــتمل‪ ،‬يف ال ــوقت نفس ــه‪ ،‬على‬
‫حـ ً‬
‫كل إعاقة تصيب‬ ‫وخلُقه‪ ،‬حبيث إ ّن ّ‬‫ارتكاسات‪ ،‬حنو داخل اإلنسان‪ ،‬على ارتداد مباشر على مناقبه‪ ،‬واستعداده‪ُ ،‬‬
‫وتؤدي‪ ،‬بالفعل نفسه‪ ،‬إىل إحداث خلل جسيم‪ ،‬يف مواقف املرء‪.‬‬ ‫جانبًا نفسيًّا‪ ،‬بضرر‪ّ ،‬‬

‫أ‪ .‬أضرار المنصب على النفس‬


‫الطــوىب‪ ،‬حقًّا‪ ،‬لإلنســان‪ ،‬الــذي يصــون ســجيّته من تبعــات املناصــب‪ ،‬أو من خملّفاهتا‪ ،‬الــيت تطبعهــا فيهــا‪ .‬إ ّن‬
‫ـرتدد إليهــا‪ ،‬وتتفاعــل معــه‪،‬ـ‬
‫ســريرة اإلنســان منســوجة من صــفائح نفســيّة شــديدة اإلرهــاف‪ ،‬تتل ّقى‪ ،‬بســهولة‪ ،‬مــا يـ ّ‬

‫للتنصل من واجب‪ .‬تعمل اإلرادة‪ ،‬من خالل هذه املنافذ الثالثة‪ّ ،‬إما‬
‫حبجة‪،‬ـ ّ‬
‫والتذرع بعجز‪ ،‬والتمنّع ّ‬
‫ّ‬ ‫تدل هذه العوائق الثالثة على االغرتار مبنصب‪،‬‬
‫‪ّ 7‬‬
‫داخلي‪ ،‬ومطاوعة اجلسد‪ ،‬ومواءمة الظروف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وإما انصرافًا‪ ،‬فتستند إىل وازع‬
‫إقباالً‪ّ ،‬‬
‫‪44‬‬
‫ســواء أجاءهــا من األفكــار‪ ،‬واألحاســيس‪ ،‬أم من األلقــاب‪ ،‬واملراتب‪ ،‬والتبجيــل‪ .‬هــذه طبيعتهــا؛ إهّن ا طبيعــة ه ّشـة‪،‬‬
‫هتز كيـان اإلنسـان؛ ونظــرة‪ ،‬أحيانًــا‪ ،‬جتعلـه يثــور‪ّ ،‬إمــا للغضـب‪،‬‬ ‫وسـريعة التـأثّر‪ ،‬وميّالـة إىل االنبهـار‪ .‬كلمـة واحـدة ّ‬
‫وإمــا للحماس ــة‪َ .‬و ْع ـ ٌد‪ ،‬أو ُح ْل ٌم‪ ،‬وحىّت فك ــرة‪ ،‬وعالق ــة جدي ــدة‪ ،‬م ــا أن ت ــراوده‪ ،‬حىّت ال يق ــوى بع ـ ُـد على الن ــوم‪،‬‬
‫ّ‬
‫طوال الليل‪ ،‬وهو يعلّل النفس‪ .‬فما قولك مبنصب؟‬
‫ـطراب بركــاينّ‪ ،‬هــو‬ ‫ِ‬
‫ـيعا‪ ،‬يُصــيب َس ـجيَّتَه اضـ ٌ‬ ‫عنــدما يتبـ ّـوأ إنســا ٌن مــا منصــبًا‪ ،‬مهمــا كــان هــذا املنصــب وضـ ً‬
‫ويتأملون منه اإلجنازات‪ ،‬من جهة‪ ،‬وعن عدم‬ ‫حتركاته‪ّ ،‬‬ ‫يرتصدون سياسته‪ ،‬ويراقبون ّ‬ ‫كناية عن خوف من الذين ّ‬
‫ـرتج كيانــه‪،‬‬
‫مبهمتــه‪ ،‬من جهــة مقابلــة‪ .‬يـ ّ‬‫ثقــة بالــذات‪ ،‬لنقص يف الدرايــة‪ ،‬والدربــة‪ ،‬إذ خيشــى من اإلخالل الفــادح ّ‬
‫ـرب اإللــه إيفــاده‪،‬ـ مبعوثًــا إىل فرعــون‬
‫بســبب التــأرجح‪ ،‬بني الفشــل والنجــاح‪ ،‬كمــا حصــل ملوســى‪ ،‬عنــدما أراد الـ ّ‬
‫‪8‬‬
‫كل حال‪ ،‬إذ إ ّن يشوع بن نون‪ ،‬خادمه‪،‬ـ اختـرب‬ ‫ّ‬ ‫على‬ ‫وحده‪،‬‬ ‫ملوسى‬ ‫ال‬ ‫ولكن‪،‬‬ ‫؛‬ ‫(خر ‪:3‬ـ ‪11‬؛ـ ‪:4‬ـ ‪،10‬ـ ‪)13‬‬
‫أيضا (يش ‪:7‬ـ ‪ .)7-6‬وها هـوذا صــاحبنا‪ ،‬ز ّـكـا‪ ،‬يتبـ ّـوأ مرك ًـزا مرموقًــا‪ ،‬رئي ًسـا على الع ّشـارين‪ ،‬فيعـرتف‪،‬‬ ‫اخلوف ً‬
‫ـريد أضــعاف مــا ظلم بـه إنســانًا مــا‪ ،‬خالل فـرتة تسـلّمه املنصــب‪.‬‬ ‫على مســمع اجلميـع‪ ،‬بأنّـه على أهبـة االسـتعداد‪ ،‬ل ّ‬
‫بتعسف؟‬ ‫يتبوأ منصبًا‪ ،‬كجور غاشم؟ ماذا يطرأ عليه‪ ،‬حىّت إنّه يسلك ّ‬ ‫فما تُرى يفعله اإلنسان‪ ،‬الذي ّ‬
‫اإلجنيلي اجلواب عن هــذا الســؤال‪ ،‬يف املقطــع ‪:18‬ـ ‪ ،34-23‬إذ يتطـ ّـرق إىل تشــبيه‪ ،‬أعطــاه‬ ‫ّ‬ ‫يقـ ّدم لنــا مىّت‬
‫عبد َمدين بعشــرة آالف وزنـة لسـيّده‪ .‬فــإذ‬ ‫ربنا يسوع بطرس‪ ،‬خبصوص ملكوت السماوات‪ ،‬وروى له فيه قصة ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العبد سـيّ َده أالّ يبطش بـه‪ ،‬وبعائلتـه‪ ،‬لتقصـريه عن إيفـاء دينـه‪ ،‬رمحه سـيّده‪ ،‬وأمهلـه‪ ،‬فـرتة من الـوقت‪ .‬فخـرج‬ ‫رجا ُ‬
‫ـوجب‬ ‫ـؤدي لـه مـا يت ّ‬ ‫عبدا آخـر‪ ،‬رفي ًقــا لـه‪ .‬فأخــذ خبناقـه‪ ،‬لكي ي ّ‬‫يديه‪ ،‬ووجد ً‬ ‫العبد‪ ،‬الذي رئف به سيّده‪ ،‬من بني َ‬
‫زج بــه‪ ،‬يف‬
‫ـراخ زميلــه العبــد أذنًــا صــاغية‪ ،‬حىّت انتهى بــه األمــر بــأن ّ‬
‫عليــه‪ .‬وقــد ظـ ّـل على حالــه هــذه‪ ،‬ال يعــري صـ َ‬
‫السجن‪ ،‬من دون شفقة‪ .‬هذا ما حيدث‪ ،‬باحلقيقة‪ ،‬لذلك اإلنسان‪ ،‬الذي‪ ،‬إذا مـا تبـ ّـوأ منصــبًا رفيــع الشـأن‪ ،‬ينسـى‬
‫حالــه السـابقة‪ ،‬ويشـرع يسـتب ّد‪ ،‬بال رمحة‪ ،‬وال رأفـة‪ ،‬برقـاب النــاس‪ .‬يتجرّب ‪ ،‬ويق ّسـي قلبـه‪ ،‬ويص ّـم أذنَيـه‪ ،‬ويبطش‪،‬‬
‫مغل ًقا دونه باب الرمحة‪ ،‬ويستنزف األناس اآلخرين‪ ،‬حىّت آخر رمق هلم‪ ،‬غري آبه مبصائرهم‪ ،‬ومصائبهم‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫ـرت اإلنســان‪ ،‬مــا أن يتسـلّم منصــبًا مرموقًا ‪ .‬يغـ ّـره أمــران‪ :‬الســلطة‪ ،‬واملال‪ .‬حتتــاج الســلطة إىل املال‪ ،‬حىّت‬ ‫يغـ ّ‬
‫متارس النفوذ‪ ،‬وتبلغ إىل أهدافها‪ ،‬وتـدير دفّـة اإلدارة‪ ،‬حسـب تطلّعاهتا‪ .‬وحيتـاج املال‪ ،‬باملقابـل‪ ،‬إىل السـلطة‪ ،‬حىّت‬
‫أرباحـا طائلــة‪ ،‬ويو ّس ـع ميــادين اســتثماراته‪ ،‬وحيصــل على دعم نافــذ لــه‪ .‬تقيّض الســلطة للقــابض بزمامهــا أن‬ ‫جيين ًـ‬
‫يتس ـلّط على رقــاب النــاس‪ ،‬ويُطــاع‪ ،‬بفضــل املال‪ ،‬الــذي يك ّدســه‪ ،‬وأن ختشــاه اجلمــاهري‪ ،‬وتــوقّره‪ ،‬وتتحـ ّـزب لــه‪،‬‬
‫ومتوت‪ ،‬من أجلــه‪ ،‬وتص ـ ّفق لــه‪ ،‬كيفمــا اجّت ه‪ ،‬ومهمــا قــال‪ ،‬بــل أن تنــدفع كالســيل اجلارف‪ ،‬إلشــارة منــه‪ ،‬عنــدما‬
‫حبجة الرعونة‪ ،‬اليت سوف يلقاهـا‪ ،‬عنـد أبنـاء إسـرائيل ـ ـ ـ االهّت ام ـ ـ ـ (‬
‫يتذرع موسى‪ّ ،‬أول األمر‪ ،‬بالتظاهر جبهله مرسلَه ـ ـ ـ االغرتار ـ ـ ـ (خر ‪:3‬ـ ‪)13‬؛ مثّ‪ّ ،‬‬‫ّ‬
‫‪8‬‬

‫ـرب اإللـه‬‫املهمـة‪،‬ـ الـيت كـان ال ّ‬ ‫صـل من ّ‬ ‫اجلسدي ـ ـ ـ (‪:4‬ـ ‪ .)10‬هذا كلّه‪ ،‬لكي يتن ّ‬
‫ّ‬ ‫حبجة عجزه عن اخلطابة‪ ،‬أمام الناس ـ ـ ـ العجز‬‫‪:4‬ـ ‪)1‬؛ مثّ‪ ،‬بعد ذلك‪ّ ،‬‬
‫مزمعا أن يكلّفه هبا‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ 9‬خياطب ك ــاتب ســفر احلكمــة (‪ :6‬ـ ‪ )11-1‬امللــوك‪ ،‬ويســأهلمـ أن "يس معوا‪ ،‬ويفهم وا"‪ ،‬والقض ــاة أن "يتعلّم وا"‪ ،‬واملتس ـلّطني على رق ــاب الرعيّ ــة أن‬
‫كل اآلخرين‪.‬‬ ‫يتبوأ منصبًا يغفل‪ ،‬عادة‪ ،‬عن مالزمة مثل هذه األفعال‪ ،‬لش ّدة اغرتاره‪ ،‬فيما يلتمسها‪ ،‬عند ّ‬ ‫"يصغوا"‪ .‬ذلك أ ّن الذي ّ‬
‫‪45‬‬
‫يتع ـ ّـرض منص ــبه خلدش‪ ،‬أو انتق ــاد‪ .‬حيف ــل الت ــاريخ‪ ،‬الق ــدمي واحلديث‪ ،‬يف الش ــرق‪ ،‬ويف الغ ــرب‪ ،‬على ح ـ ٍّـد س ــواء‪،‬‬
‫ص ـا‪ ،‬ين ــدى اجلبني لس ــماعها‪ .‬فمن أج ــل احملافظ ــة على‬ ‫بأمثل ــة على ه ــذا الواق ــع‪ ،‬ال ــذي خلّ ــف‪ ،‬غالبً ــا‪ ،‬وراءه‪ ،‬قص ً‬
‫ودس الرشــوات‪ ،‬إىل غــري ذلــك الكثــري‬ ‫احملرمــات‪،‬ـ وحياكــة املؤامرات‪ ،‬وعقــد الصــفقات‪،‬ـ ّ‬ ‫املنصــب‪ ،‬جتري اســتباحة ّ‬
‫تشمئز النفس من ذكرها‪ ،‬واليت تع ّفــر اجلبني‪ ،‬يف الــرتاب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫من املكايد‪ ،‬والدسائس‪ ،‬ومن القبائح‪ ،‬واملن َكرات‪ ،‬اليت‬
‫لبشاعتها‪ ،‬حىّت إ ّن املرء ينذهل من معرفة ما يقف على حقيقته‪ ،‬ويتطارح السؤال هل هذا جيري‪ ،‬حقًّا‪ ،‬على يــد‬
‫اإلنسان‪ ،‬الذي خرج من بني َيدي اخلالق!‬
‫ـردا‪ ،‬ال يلفت االنتبــاه إليــه!‬
‫موقعا مرموقًا‪ ،‬يف اجملتمــع‪ ،‬ومشــى‪ ،‬بني النــاس‪ ،‬منفـ ً‬ ‫احتل ً‬‫شخصا‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫يندر أن جتد‬
‫بالتصرف مع اآلخرين‪ ،‬من خالل مالحمه الفاقدة النسمة‪ ،‬الــيت‬ ‫ّ‬ ‫وكأيّن باملنصب ينحت لإلنسان متثاالً‪ ،‬يأخذ هذا‬
‫وضعها الفنّان فيه‪ .‬يص ّدق صاحب املنصب الكذبة‪ ،‬الـيت رمسها لنفسـه‪ ،‬ويعمـل مبوجبهـا‪ ،‬على أهّن ا احلقيقـة‪ .‬كـان‬
‫اجلمـيزة‪ ،‬ملعاينــة يســوع‪ .‬وتنــازل عن‬‫ز ّـكـا ذا منصــب‪ ،‬وذا مــال وفــري‪ .‬لكنّــه أعــرض عن امتيــاز منصــبه‪ ،‬مل ـا تسـلّق ّـ‬
‫ّ‬
‫ـف‪ ،‬من خالل هــذا التجـ ّـرد املزدوج‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ـ‬‫ش‬ ‫نست‬ ‫أن‬ ‫ص ـة كبــرية من أموالــه‪ ،‬مل ـا أضــافه‪ ،‬عنــده‪ ،‬يف املنزل‪ .‬رمّب ا‪ ،‬علينــا‬
‫حّ‬
‫ّ‬
‫ضـة‪ .‬عـاد إىل نفسـه‪،‬‬ ‫استعادة ز ّكا مكانته‪" ،‬كـابن إلبـراهيم"‪ ،‬بعـد أن رمى صـورته املصـطنعة‪ ،‬وانعتـق من حمبّـة الف ّ‬
‫وانتهى من االحتيال على اخللق أمجعني‪ ،‬وعلى اهلل‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫صـن هــذا نف َسـه من تبعــات الرفعــة‪ .‬وقــد رأينــا كيــف صــار العبــد‬ ‫ـب صــورةَ اإلنســان ‪ ،‬إذا مل يَ ُ‬ ‫يشـ ّـوه املنصـ ُ‬
‫عبدا آخر‪.‬‬ ‫يدي سيّده‪ ،‬حبسب إجنيل مىّت ‪ ،‬عاتيًا‪ ،‬ومستبدًّا‪ ،‬عندما شرع يطالب مباله‪ ،‬الذي أقرضه ً‬ ‫املتذلّل‪ ،‬بني َ‬

‫طبيعي من الخير‬
‫ّ‬ ‫ب‪ .‬نفور‬
‫‪11‬‬
‫ب ز ّكــا‪ ،‬ك ــرئيس على‬ ‫ُ‬ ‫ـ‬ ‫ص‬
‫َ‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ـان‬‫ـ‬ ‫ك‬ ‫ـد‬‫ـ‬ ‫ق‬‫ل‬ ‫ـوع‪.‬‬‫ـ‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫عن‬ ‫ـان‬‫ـ‬ ‫س‬ ‫اإلن‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ع‬‫تب‬ ‫‪،‬‬ ‫يش ـ ّكل النف ــور من اخلري ثــاين إعاقة‬
‫الع ّشـارين‪ ،‬حيول دون قدرتــه على االختالط بــاجلمع احملتشــد‪ ،‬ومن مثّ‪ ،‬دون البلــوغ إىل يســوع‪ .‬كــان هــذا عجـ ًـزا‬
‫ولكن عقبة ثانية اعرتضت طريق ز ّكا‪ ،‬الراغب يف مشاهدة يســوع‪ ،‬إذ كـان ال حــول لــه‪ ،‬وال طــول‪ ،‬مهمــا‬ ‫ّأول‪ّ .‬‬
‫صُر قامته حائالً ثانيًــا لــه‪ ،‬عالوة‬ ‫ِ‬
‫شاء‪ ،‬ليدنو إىل مسافة قريبة‪ ،‬يعانق فيها ناظراه طيف يسوع‪ ،‬وهو يعرب‪ .‬ش ّكل ق َ‬
‫وامتشق قامتَه‪ ،‬لينتصب واق ًفا على أصابع قدميــه‪ ،‬لن‬ ‫َ‬ ‫ت عُُن ُقه‪،‬‬‫األول‪ .‬فهو‪ ،‬لقصر قامته‪ ،‬مهما اشرأبَّ ْ‬ ‫على العائق ّ‬
‫"طبيعي"‪ ،‬مالزم له باخللقـة‪ .‬وال يقـوى ز ّكـا على إحـداث تغيــري فيــه‪ .‬تنفـر‬ ‫ّ‬ ‫يستطيع أن يرشق يسوع بنظرة‪ .‬األمر‬

‫مر التـاريخ‪ ،‬واحلضـارات‪ ،‬مبنصـب‪ ،‬قائلـة‪:‬‬ ‫بشري‪ ،‬على ّ‬ ‫وحواء‪ ،‬أي صورة اإلنسان‪ ،‬اليت ُو ِج َد عليها ُّ‬
‫كل كائن‬ ‫الشر‪ ،‬آدم ّ‬‫وعدت احليّة‪ ،‬وهي رمز ّ‬
‫‪10‬‬
‫ّ‬
‫وحواء ـ ـ ـ تتــأرجح‪ ،‬بني أن تقيم يف‬
‫التعليم أ ّن اخلليقة ـ ـ آدم ّ‬
‫ُ‬ ‫"‪ ...‬وتصيران كآلهة‪( " ...‬تك ‪:3‬ـ ‪ .)5‬فص ّدق اإلنسان خداع احليّة‪ ،‬وانقاد له‪ .‬يعين هذا‬
‫الشر‪ ،‬هو منصب "أن تصري إهلًا"‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ت فيه‪ ،‬هو منصب "الصورة‪ ،‬والمثال" اإلهليَّني‪ ،‬وأن ترغب يف منصب خ ّداع‪ ،‬يعرضه عليها ّ‬ ‫منصب‪ُ ،‬جعلَ ْ‬
‫ـان‪ ،‬يرتكبــه اجلنس‬‫‪ 11‬بعــد اخلطيئــة األوىل‪ ،‬خطيئــة اجلنس البشــري‪ ،‬املتمثّلــة بابتغــاء املنصــب األمسى‪ ،‬بني اخلالئــق مجيعــا‪ ،‬يــأيت الكتــاب على ذكــر إمث ثـ ٍ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫يتصوره قلبه من أفكار‪،‬‬‫ّ‬ ‫ما‬ ‫كل‬
‫ّ‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫وأ‬ ‫األرض‪،‬‬ ‫على‬ ‫ر‬ ‫كث‬
‫ُ‬ ‫قد‬ ‫اإلنسان‬ ‫شر‬
‫ّ‬ ‫ن‬‫ّ‬ ‫أ‬ ‫الرب‬
‫ّ‬ ‫ورأى‬ ‫"‬ ‫ـول‪:‬‬ ‫ـ‬‫ق‬ ‫ي‬ ‫إذ‬ ‫)‪،‬‬ ‫‪5‬‬ ‫ـ‬ ‫‪:‬‬ ‫ـوح (تــك ‪6‬‬
‫ـرب نـ ٍ‬
‫معــا‪ ،‬عنــدما يــروي خـ َ‬
‫البشري ً‬
‫ّ‬
‫الفطري‪ ،‬الذي يف اإلنسان‪ ،‬من ابتغاء اخلري‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫النفور‬ ‫أي‬ ‫ا‪،‬‬‫ً‬‫ثاني‬ ‫الغوى‪،‬‬ ‫خطيئة‬ ‫مث‬ ‫ـ‬
‫‪،‬‬
‫ً ًّ ّ‬ ‫ال‬ ‫أو‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ذ‬ ‫إ‬ ‫االغرتار‪،‬‬ ‫خطيئة‬ ‫هناك‬ ‫"‪.‬‬ ‫يومه‬ ‫طوال‬ ‫‪،‬‬ ‫شر‬
‫إنّما هو ّ‬
‫‪46‬‬
‫ـك أ ّن إنس ــانًا آخ ــر غ ــريه ك ــان ع ــزف‬
‫ـورا من غايت ــه‪ ،‬الســتحالة اســتجابتها هلا‪ .‬ال ش ـ ّ‬ ‫نزعت ــه إىل معاين ــة يس ــوع نف ـ ً‬
‫عزوفًا عن مقصده‪.‬‬
‫ص ـر قامــة‬ ‫ِ‬
‫ـربر‪ ،‬أو مستســاغ‪ .‬ال يعــين‪ ،‬بتعــابري أخــرى‪،‬ـ أ ّن ق َ‬ ‫ـبيعي" من اخلري أنّــه نفــور مـ َّ‬
‫ال يعــين "النفــور الطـ ّ‬
‫ـبيعي" يتّصـل مبا هـو من شـأن‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ز ّكا عُ ْذر كـاف‪ ،‬حىّت َي ْعـدل هـذا عن غايتـه‪ ،‬وهي أن يـرى يسـوع‪ .‬فـإ ّن مـا هـو "ط ّ‬
‫وأم ٌـر آخــر‪ ،‬كلّيًّا‪ ،‬وخمتلــف‪ ،‬أن يكــون الشــيء َم ْرض ـيًّا عنــه‪.‬‬‫الطبيعــة‪ ،‬واجلبلــة‪ ،‬واملوروث؛ بيــد أ ّن هــذا كلّــه أمــر‪ْ ،‬ـ‬
‫ـبيعي"‪ ،‬يف اجلبل ــة البش ــريّة؛ ولكنّ ــه ليس‪ ،‬ألج ــل ه ــذا‪ ،‬يُْرض ــى عن ــه‪ .‬ومثل ــه االحتي ــال‪،‬‬ ‫ضـ ـا‪ ،‬عيب "ط ـ ّ‬ ‫الك ــذب‪ ،‬أي ً‬
‫ضـا‪ ،‬يف سـليقة اجلِْبلـة‪ ،‬غـري أنّـه ال أحــد يقبــل أن يقـع‬ ‫منحى بغي ً‬ ‫َد ً‬ ‫والغرور‪،‬ـ واملمانعة‪ ،‬واملخالفة‪ ،‬وغـري ذلـك ممّــا يُع ُّ‬
‫ضحيّة هلذه املساوئ‪.‬‬
‫ص ـر القامــة خيتلــف‪ ،‬بطبيعتــه‪ ،‬عن ســائر النقــائص‪ ،‬الــيت‬ ‫ِ‬
‫رمّب ا‪ ،‬يعــرتض أحــدهم على قولنــا هــذا‪ ،‬ويــزعم أ ّن ق َ‬
‫ـورا‬ ‫ِ‬
‫ـمي‪ ،‬ال ميكن اعتب ــاره نف ـ ً‬
‫صـ ـر ه ــو نقص جس ـ ّ‬ ‫صـ ـنَّف عيوبً ــا "طبيعيّ ــة" مناقبيّ ــة‪ ،‬بينم ــا الق َ‬
‫ذكره ــا‪ ،‬وال ــيت تُ َ‬
‫تَق ـ ّدم ُ‬
‫"طبيعيًّا"‪ ،‬طاملا ال يشــتمل على إرادة تقـ ّـرر‪ ،‬وال على إضــمار يتسـرّت ‪ .‬ال بــأس! علينــا أن نضــيف‪ ،‬إ ًذا‪ ،‬أنّــه كمــا ال‬
‫عامــة الن ــاس‪ ،‬وحتت ــاج إىل ب ــذل اإلنس ــان جه ـ ًـدا للتغلّب‬
‫حتس ــن رذائ ــل اإلرادة واإلض ــمار املبيَّت‪ ،‬يف العني‪ ،‬ل ــدى ّ‬
‫ـبيعي" هـذا‪ ،‬إذا أراد‬ ‫ِ‬
‫صـه "الط ّ‬ ‫ـتزود بطاقـة جهـد‪ ،‬ليتجـاوز نق َ‬ ‫ضـا‪ ،‬حيتـاج صـاحبه إىل ال ّ‬ ‫صر القامة‪ ،‬أي ً‬ ‫عليها‪ ،‬هكذا ق َ‬
‫نفورهــا‬ ‫ِ‬ ‫ـال"‪ .12‬إن مل ي ِ‬ ‫أن يبلــغ إىل غــرض "عـ ٍ‬
‫ـور الطبيعــة من يســوع‪ ،‬اخلري األمسى‪ ،‬ســواء أكــان ُ‬ ‫صـل ِح اإلنســا ُن نفـ َ‬ ‫ُْ‬
‫يؤديها‪.‬‬
‫ومعاندا للشهادة‪ ،‬اليت ينبغي عليه أن ّ‬ ‫ً‬ ‫عدوا لتعاليمه‪ ،‬ومتع ّديًا ملنهجه‪،‬‬ ‫هذا جسديًّا‪ ،‬أم أدبيًّا‪ ،‬انقلب ًّ‬
‫صـُر قامتــه دون اقرتابــه من يســوع‪ ،‬بســبب االزدحــام‪ .‬مل يتم ّكن من‬ ‫لقــد كــان ز ّـكـا قصــري القامــة‪ .‬وحـ َ ِ‬
‫ـال ق َ‬
‫ـبيعي‪ ،‬فيــه‪ ،‬مبقصــد‬‫االخنراط‪ ،‬يف وســط اجلمــوع‪ ،‬فوقــف يــرقب مــروره‪ ،‬عن بعــد‪ .‬لقــد تغلّب ز ّـكـا على مــا هــو طـ ّ‬
‫َد بنيّــة ســليمة‪ ،‬لرؤيــة يســوع‪ .‬فالطبيعــة مل تســعفه‪ ،‬إذًا‪ ،‬بــل الطويّــة؛ ال‬ ‫حســن‪ ،‬ومل يستســلم‪ ،‬ومل يتقــاعس‪ ،‬بــل ج َّ‬
‫اجلميز‪ .‬نذكر‬ ‫بل‪ ،‬كانت الطبيعة عائ ًقا‪ ،‬يف طريق بلوغه إىل يسوع‪ ،‬وأزال ز ّكا هذا العائق‪ ،‬عندما اعتلى شجرة ّ‬
‫كلّنا عقبة موسى "الطبيعيّة"‪ ،‬إذ إنّه كان " ثقيل الفم‪ ،‬وثقيل اللسان" (خر ‪)10 :4‬؛ ومع ذلك‪ ،‬اختاره اهلل‪ ،‬لكي‬
‫يكون رسوله‬
‫املصــطفى‪ .‬وأوفــده إىل فرعــون‪ ،‬وجعــل هــرون‪ ،‬أخــاه‪ ،‬حــال لســانه‪ ،‬مــزيالً بــذلك عقبــة الطبيعــة‪ ،‬ملا ملســه فيــه من‬
‫ـبيعي‪ ،‬لــدى ك ّـل‬ ‫دائمـا‪ ،‬نفــور ط ّ‬
‫حسن الطينة‪ .‬فاستطاع موسى أن خيلّص الشعب من العبوديّة للمصريّني‪ .‬هناك‪ً ،‬ـ‬
‫ـبيعي‪ .‬إذا مل‬‫خليقــة من اخلالئــق‪ ،‬جتاه اخلري‪ ،‬حىّت لكأنّنــا خنال أ ّن اخلليقــة جتايف اخلري‪ ،‬بســبب مــا فيهــا من نفــور طـ ّ‬
‫دمــا (‪:9‬ـ ‪ ،)22-20‬والكنعانيّــة‪،‬ـ الــيت جــاءت يســوع بابنتهــا‪ ،‬تطلب منــه أن يشــفيها ( ‪:15‬ـ ‪-21‬‬ ‫هكــذا األبــرص (مىّت ‪:8‬ـ ‪ ،)4-1‬واملرأة النازفــة ً‬
‫‪12‬‬

‫جيرون اخلطى‪ ،‬حتت ثقـل أعبـائهم‬ ‫‪ ،)28‬ورجل رجاه‪ ،‬من أجـل ابنـه‪ ،‬املصـاب بالصـرع (‪:17‬ـ ‪ ،)21-14‬وغـريهم آخـرون‪ ،‬محلـوا عاهـاهتم‪ ،‬ودنـوا‪ّ ،‬‬
‫خريا‪ ،‬يصـيبونه‪ .‬باملقابـل‪ ،‬هنـاك‪ ،‬يف اإلجنيـل‪،‬ـ خـرب أشـخاص آخـرين‪ ،‬معـرتين بـأمراض "طبيعيّـة"‪ ،‬أقعـدهتم‬ ‫املرهقة‪ ،‬يبتغون يسوع‪ ،‬علّهم جيدون‪ ،‬عنده‪ً ،‬‬
‫ـال ه ــذا‬
‫ص ـا‪ .‬محل رج ـ ٌ‬
‫عن رغبتهم بالوص ــول إىل يس ــوع‪ ،‬ن ــذكر منهم مقع ــد أورش ــليم (ي ــو ‪:5‬ـ ـ ‪ ،)9-1‬ومقع ــد كفرن ــاحوم (مىّت ‪ :9‬ـ ‪ ،)8-1‬خصو ً‬
‫األول قال ليسوع‪" :‬ليس لي ‪ ...‬من يلقيني‪ ،‬في البركة‪( "...‬يــو ‪:5‬ـ ‪ .)7‬حني ذاك‪ ،‬عــرض‬ ‫لكن ّ‬‫الطبيعي‪ ،‬بفضلهم‪.‬ـ ّ‬
‫ّ‬ ‫األخري‪ ،‬فأمكنه أن يتجاوز عجزه‬
‫َ‬
‫يسوع عليه الشفاء‪ ،‬وهو أمر فريد‪ ،‬بني معجزات الشفاء كلّها‪ ،‬اليت أجراها‪.‬‬
‫‪47‬‬
‫يكن اجلســد مبعث النفــور‪ ،‬كمــا هي احلال‪ ،‬مثالً‪ ،‬عنــد شــاول‪ ،‬الفــارع القامــة‪ّ ،‬أول ملــوك بــين إســرائيل‪ ،‬تنــربي‬
‫أيضا‪.13‬‬
‫اجلماعي‪ً ،‬‬
‫ّ‬ ‫الفردي فقط‪ ،‬بل على املستوى‬ ‫ّ‬ ‫للمهمة‪ ،‬فتمارس عنادها‪ ،‬ال على املستوى‬
‫السليقة ّ‬

‫ج‪ .‬اآلخرون‬
‫ّأمــا اإلعاقــة األخــرية‪ ،‬الــيت تعــرتض البلــوغ إىل يســوع‪ ،‬فتتــألّف من اآلخــرين‪ ،‬الـذين يتو ّسـطون الطريــق‪ ،‬بني‬
‫ز ّـكـا ويســوع‪ ،‬فيعيقــون‪ ،‬بطريقــة‪ ،‬أم بــأخرى‪ ،‬البلــوغ إليــه‪ .‬كثــريون هم‪ ،‬باحلقيقــة‪ ،‬الــذين يريــدون الســري‪ ،‬خلــف‬
‫ض ـا‪ ،‬الــذين يريــدون أن يقفــوا‬ ‫متحمســني‪ .‬وكثــريون هم‪ ،‬أي ً‬
‫يســوع‪ ،‬والــذين يتــدافعون حقًّا‪ ،‬وراءه‪ ،‬ويهتفــون لــه ّ‬
‫وتفان‪ .‬بيد أ ّن االخنراط يف صفوفهم‪ ،‬والسري معهم‪ ،‬وإبداء احلماسة‪ ،‬على‬ ‫حياهتم على خدمة تعاليمه‪ ،‬بإخالص ٍ‬
‫غــرارهم‪ ،‬ال خيلــو‪ ،‬بــالطبع‪ ،‬من تــدافع‪ .‬يتق ـ ّدم البعض على البعض‪ ،‬يف أثنــاء املواكبــة‪ ،‬عنــوة‪ .‬ويضــيّق البعض على‬
‫البعض‪ ،‬كــذلك‪ ،‬اخلطــو واملســعى‪ .14‬منهم من يريــد املواكبــة‪ ،‬وإمّن ا باهلتــاف‪ ،‬والتلــويح؛ ومنهم آخــرون‪ ،‬يريــدون‬
‫أيضا‪ ،‬وإمّن ا بوقار وإجالل؛ ومنهم يريدون التق ّدم‪ ،‬ولكنّهم يعرقلون غريهم‪.‬‬ ‫املواكبة ً‬
‫ومبوجز الكالم‪ ،‬يســري كثــريون‪ ،‬خلــف يســوع‪ ،‬كـ ّـل واحــد منهم‪ ،‬على منط‪،‬ـ وكـ ّـل واحــد منهم‪ ،‬مبوجب‬
‫ـاص‪ .‬وكث ــريون آخ ــرون غ ــريهم يلزم ــون ج ــوانب الطرق ــات‪ ،‬تغلي احلميّ ــة نفس ــها يف ع ــروقهم‪ ،‬ملرافق ــة‬ ‫داف ــع خ ـ ّ‬
‫ـود ل ــه‪ .‬مثّ آخ ــرون‬
‫ض ـا يقلع ــون عن املش ــي‪ ،‬يف وس ــط اجلماع ــة‪ ،‬وهم يكنّ ــون ال ـ ّ‬
‫يس ــوع‪ ،‬وه ــو يس ــري‪ .‬وآخ ــرون أي ً‬
‫مير فيهــا يســوع‪ ،‬بــالقرب منهم‪ ،‬علّهم يُـْـر ُوون فضــوهلم‪ .‬ال هــذا فقــط‪ ،‬بــل إ ّن‬
‫ينتظــرون‪ ،‬مثــل ز ّـكـا‪ ،‬اللحظــة‪ ،‬الــيت ّ‬
‫ضـا‪ ،‬بعــد أن جيتــازوا نصــيبًا من الــدرب‪ ،‬التقــاعس‪ ،‬واالرفضــاض عن‬ ‫ضـلون أي ً‬‫ضـا من الــذين يشــيّعون يســوع يف ّ‬ ‫بع ً‬
‫اجلمع‪ ،‬من جرى الغوغاء‪ ،‬اليت حيدثها فريق من احملت ّفني بيسوع‪.‬‬

‫‪ .2‬إزالة اإلعاقات‬
‫ومتنوعـة اإلنســان‪ ،‬فتمنعـه من اللحـاق بيســوع‪ ،‬على حنو مـا يشـتهي‪ ،‬وعن الســري‬ ‫تَف ِ‬
‫ـعوبات عديـدة ّ‬‫صـل صـ ٌ‬
‫معــه‪،‬ـ على الطريــق‪ ،‬واالســتمرار‪ ،‬يف مواكبته‪ .15‬خيتــار اإلنســان لــه مــا يريــد أن يكــون‪ ،‬يف هــذه الــدنيا؛ ولكنّــه‪ ،‬ال‬
‫ميكنه أن حي ّدد هو نفسه كيف يكون شكله‪ ،‬وطبعه‪ ،‬واستعداده‪ ،‬حىت إذا اختار ما يريــد‪ ،‬ينهض بــه‪ ،‬من غــري أن‬
‫ـلوك‬
‫ـراده‪ ،‬وهــو يف هــذه الــدنيا‪ .‬وال ميكنــه‪ ،‬كــذلك ـ ـ ـ ـ بــل كم بــاألحرى يعجــز عن ـ ـ ـ ـ أن حي ّدد سـ َ‬
‫تعانــد طبيعتُــه مـ َ‬
‫‪ 13‬أراد موســى‪ ،‬قــدميًا‪ ،‬أن خيلّص الشــعب من حكم فرعــون‪ ،‬فالقى مقاومــة شرســة لــه‪ ،‬عنــدما ســار بــه إىل ســيناء‪ .‬وغــار إيليّــا غــرية ليهــوه‪ ،‬فأضــحى‬
‫األمـة اليهوديّـة عليـه بالقتـل‪ .‬وحـاول بـولس كسـب اليهـود‪ ،‬مثّ األمم‪،‬‬ ‫ويكمـل اإلميان‪ ،‬فحكم رؤسـاء ّ‬ ‫ويقوم العبـادة‪ّ ،‬‬ ‫مالح ًقا‪ .‬أتى يسوع يصنع رمحة‪ّ ،‬‬ ‫َ‬
‫لكل من ينتصــب‪ ،‬من بني صــفوفها‪ ،‬مناديًـا بــاخلري‪ .‬ولكن‪ ،‬ال غـىن‬ ‫ً ّ‬ ‫ة‬ ‫معادي‬ ‫ٍ‬
‫كجنس‬ ‫ة‬‫البشري‬
‫ّ‬ ‫تبدو‬ ‫عليه‪.‬‬ ‫اجلماعات‬ ‫بانقالب‬ ‫فاصطدم‬ ‫اجلديد‪،‬‬ ‫اإلميان‬ ‫إىل‬
‫مناد به‪ ،‬وسط اجلماعة البشريّة‪ ،‬لئالّ يزعم الذي يلقى مقاومة أنّه على صواب‪ ،‬وأ ّن اجلماعة أعاقت سبيله‪.‬‬ ‫عن تفحص عالمات اخلري‪ ،‬لدى كل ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ـدس "دخالء‪ ،‬إخ وة‬‫وقص عليهمـ كيــف انـ ّ‬ ‫حســبُنا أن نــذ ّكر حبادثتَني‪ ،‬ذكرمها الق ـ ّديس بــولس‪ ،‬يف رســائله‪ :‬األوىل‪ ،‬حينمــا كتب إىل أهــل غالطيــة‪،‬ـ ّ‬
‫‪14‬‬

‫وجـه خطابًــا إىل أهــل فيليّب ‪ ،‬كتب هلم فيــه "أ ّن فئة منهم ]اإلخوة[ يكرزون بالمسيح‪ ،‬بروح الحسد‬ ‫كذبة ‪ ،...‬في ما بيننا" (‪:2‬ـ ‪)4‬؛ والثانيــة‪ ،‬حينمــا ّـ‬
‫يبشرون به‪.‬‬
‫علما أ ّن بولس وأولئك‪ ،‬الذين يأيت على ذكرهم‪ ،‬تبعوا املسيح‪ ،‬وانطلقوا ّ‬ ‫والخصام ‪ً ،)15 :1( "...‬‬
‫‪ 15‬را لو ‪62-57 :9‬؛ يو ‪ ،66 :6‬وما إىل ذلك‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫اآلخرين معه‪ ،‬لـدى هنوضـه مبا يق ّـرر أن يعملـه‪ .‬قـد نسـلّم‪ ،‬بطيبـة خـاطر‪ ،‬بـأن يكـون ز ّكـا قـد اختـار‪ ،‬مبلء إرادتـه‪،‬‬
‫صـر‬ ‫ِ‬
‫وظيفتَه‪ ،‬كــرئيس على الع ّشـارين‪ .‬غــري أنّنــا ال نسـلّم أبـ ًـدا بــأن يكــون قــد اختــار‪ ،‬مبحض إرادتــه‪ ،‬هــو نفســه‪ ،‬ق َ‬
‫قامتـ ــه‪ ،‬أو الطريـ ـ َـق‪ ،‬الـ ــيت سـ ــلكها يسـ ــوع‪ ،‬وال األشـ ــخاص‪ ،‬الـ ــذين خرجـ ــوا إىل الطريـ ــق‪ ،‬للـ ــرتحيب ب ــه‪ .‬كم من‬
‫االســتحالة يف أن نتصـ ّـور بأنّــه هــو الــذي نظّم مــوكب يســوع‪ ،‬املرافـ َـق لــه؟! هنــاك أمــور‪ ،‬ترتبــط ارتباطًــا مباشـ ًـرا‬
‫باخلليقــة‪ ،‬ألهّن ا تُعتَرَب جــزءًا رئيس ـيًّا من تصـ ّـرفها‪ ،‬يف كياهنا‪ ،‬ومرف ًقــا حياتيًّا‪ ،‬تتميّــز بــه كخليقــة بشــريّة‪ ،‬وواســطةً‪،‬‬
‫توفّر هلا صفة قدسيّة‪ ،‬من صفات األلوهة‪ ،‬هي صفة السيادة على املربوءات‪ ،‬وعلى الكون الفسيح‪ .‬تدير اخلليقــة‬
‫حد مـا‪ ،‬وتتكيّـف مـع الظــروف‪ ،‬من أجـل االسـتمرار‪ ،‬يف السـيادة عليهــا‪ ،‬كخليقـة‬ ‫هذه األمور‪ ،‬وتتح ّكم هبا‪ ،‬إىل ٍّ‬
‫ـورا أخـرى‪ ،‬باملقابـل‪ ،‬ال تتعلّـق باخلليقـة‪ ،‬وال‬ ‫ولكن هنـاك أمـ ً‬
‫نفسه‪ ،‬وسـط العــامل املربوء‪ّ .‬‬ ‫خليفة‪ ،‬قد استخلفها اهلل ُ‬
‫ـيب‪ ،‬وحتمـل إليهـا رسـالة‪ ،‬لكي‬ ‫ِ‬
‫تقرر فيها‪ .‬حت ّد هذه األمور حركة اخلليقـة‪ ،‬وتـذ ّكرها بـدورها النس ّ‬ ‫قبَل للخليقة أن ّ‬
‫تؤديها‪ ،‬على حسب ما ينبغي عليها‪.‬‬ ‫ّ‬
‫صـر فيـه‪ ،‬عنـد معاجلتنـا اإلعاقـات‪ ،‬الـيت حتول دون تق ّـرب اخلليقـة‪ ،‬من خالقهـا‪،‬‬ ‫هذا مـا سـوف حناول أن نتب ّ‬
‫واليت تعرقل قيامها بأداء الدور‪ ،‬املوكل به إليها‪.‬‬

‫أ‪ .‬الحكمة‬
‫ـريا من‬ ‫ق ــال أفالط ــون إ ّن احلكم ــة هي الفهم الص ــائب‪ .‬ليس احلكيم‪ ،‬برأي ــه‪ ،‬الش ــخص‪ ،‬ال ــذي يع ــرف كث ـ ً‬
‫وعملي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ـيب‪،‬‬
‫العلــوم؛ وإمّن ا هــو الــذي يــرى قـدرها املناســب‪ .‬هــذا يعــين أ ّن احلكمـة األفالطونيّـة تقــاس‪ ،‬على حنو نس ّ‬
‫كما ه ــائالً من املع ــارف‪ ،‬وإمّن ا هي ق ــدر مناس ــب من ه ــذه األخ ــرية‪ ،‬للوض ــع ال ــراهن‪ ،‬والظ ــرف‬ ‫ليس ــت احلكم ــة ًّ‬
‫الطارئ‪ .‬هي كناية عن فطنة اإلنسـان إىل مـا جيب العمـل مبوجبـه‪ ،‬ضـمن دائـرة معيّنـة من احليـاة‪ّ .‬أمـا كـاتب سـفر‬
‫األمثال (‪ ،)10 :9‬ومثله صاحب املزمور ‪ ،1 :111‬فنظرا إىل نشأهتا‪ ،‬وجعال منطلقها‪ ،‬يف خمافة اهلل‪.‬‬
‫إذا مـ ــا نظرنـ ــا إىل ز ّـك ــا‪ ،‬وجـ ــدنا فيـ ــه "حكمـ ــة أفالطونيّـ ــة"‪ ،‬معمـ ــوالً هبا‪ ،‬على أحسـ ــن وجـ ــه‪ ،‬ال "حكم ــة‬
‫صـر قامتـه‪ .‬اتّكـل على‬ ‫ِ‬
‫بعيدا‪ .‬عرف ز ّكا كيف يصل إىل أن حيت ّـل مرك ًـزا مهنيًّا مرموقًـا‪ ،‬رغم ق َ‬ ‫كتابيّة"‪ ،‬رمى هبا‪ً ،‬‬
‫ـودي‪،‬ـ كيمــا‬‫ـك‪ ،‬لــدى املتن ّفــذين‪ ،‬يف اجملتمــع اليهـ ّ‬
‫ـودد"‪،‬ـ كــذلك‪ ،‬بال شـ ّ‬ ‫"مهــارات"‪،‬ـ أكســبته املنصــب‪.‬ـ وجلأ إىل "تـ ّ‬
‫ينـتزع رضــاهم عنـه‪ ،‬ويفــوز بوظيفتـه‪ .‬انغمس‪ ،‬بكلّيّتــه‪ ،‬يف متطلّبــات العمـل‪ ،‬كمــا جيب على ك ّـل ذي رزق‪ ،‬على‬
‫أرباحــا طائل ــة‪ ،‬من دون أن يث ــري‬
‫ك ـ ّـل ح ــال‪ ،‬وجنح يف اس ــتدرار التأيي ــد الالزم ل ــه‪ ،‬حىّت يبقى‪ ،‬يف موقع ــه‪،‬ـ وجيين ً‬
‫يومــا‪ ،‬كم ــا يب ــدو‪ ،‬من تص ــرحيه‪ ،‬أم ــام يس ــوع‪ :‬فه ــو ك ـ ّدس أم ــواالً‬
‫ـل ز ّكــا على نفس ــه‪ً ،‬‬ ‫يبخـ ْ‬
‫حفيظ ــة الرؤس ــاء‪ .‬مل ُ‬
‫يؤرق ــه أن جيود بنص ــف ممتلكات ــه! ّأم ــا اعتب ــار اجملتم ــع إيّ ــاه رجالً "خاطئً ــا"‪ ،‬إذ إنّ ــه رئيس على زم ــرة‬
‫كث ــرية‪ .‬وال ّ‬
‫الع ّش ـارين‪ ،‬فه ــو مس ــألة "دينيّــة"‪ ،‬داخليّــة‪ .‬آث ــر ز ّكــا حكم ــة "الع ــامل" األفالطونيّ ــة‪ ،‬على حكم ــة "أبن ــاء امللك ــوت"‬
‫الكتابيّة‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫طي اإلمهال‪ ،‬بالنســبة إىل ز ّـكـا! مل حيتـ ّـل اهلل‬ ‫وبتعبــري آخــر‪ ،‬بقيت "احلكمــة الكتابيّــة"‪ ،‬املشــار إليهــا‪ ،‬أعاله‪ّ ،‬‬
‫خيش هــذا الرجــل اهلل‪ ،‬كمــا يعلّم الكتــاب‪ .‬مــا إن تنــامى إليــه خــرب يســوع‪ ،‬أنّــه مزمــع أن‬ ‫موقعــه‪ ،‬يف حيــاة ز ّـكـا‪ .‬مل َ‬
‫احلارة يف اللقــاء بـه؟‬‫مير‪ ،‬يف أرحيا‪ ،‬حىّت التهب محاسة‪ ،‬لرؤيته‪ .‬أتراهــا احلشــريّة‪ ،‬محلتـه على إمتام قصـده؟ أم رغبتـه ّ‬ ‫ّ‬
‫مهتما برس ــالة ه ــذا الداعي ــة املتج ـ ّـول الدينيّــة‪ ،‬يف عييَن حميط ــه؟ أو ه ــل أراد أن يتح ّقــق‪،‬‬ ‫ه ــل أض ــمر ز ّكــا أن يبــدو ًّ‬
‫ـحة مــا يُشــاع عن مــواهب يســوع اخلارقــة؟ كثــرية هي التســاؤالت‪ ،‬الــيت تطــرح نفســها‪ ،‬على ذهن‬ ‫بنفســه‪ ،‬من صـ ّ‬
‫القــارئ‪ ،‬يف موضــوع إقــدام رئيس للع ّش ـارين على ارتيــاد املكــان‪ ،‬الــذي كــان يســوع مصـ ّـم ًما على أن جيتــاز بــه‪.‬‬
‫ـتحب‪ ،‬يف داخلـه‪ ،‬هـو الـذي‬ ‫ولكن‪ ،‬مهالً! خلطوة ز ّكا‪ ،‬يف سائر األحــوال‪ ،‬مهمـا تكن االحتمــاالت‪ ،‬صـ ًـدى‪ ،‬مس ّ‬
‫عمـا‬
‫ضـى ّـ‬ ‫مكرهـا‪ ،‬إىل مالقــاة يســوع‪ .‬ال! ســار‪ ،‬ويف قــرارة نفســه ر ً‬ ‫قــذف بــه أل ْن يــركب غمارهــا؟ مل يَ ِسـ ْر ز ّـكـا ًـ‬
‫ـدم علي ــه موض ـ ًـعا‪ ،‬وس ــط مش ــاغله‪ ،‬وس ــائر اهتمامات ــه‪ ،‬مأنو ًس ـا‪ ،‬عن ــده‪،‬‬ ‫يفعل ــه‪ .‬س ــار‪ ،‬وه ــو م ــدرك‪ ،‬أ ّن ملا ه ــو مق ـ ٌ‬
‫ومرغوبًا‪.‬‬
‫حتركــه رغبــة يف مشــاهدة يســوع‪ .‬الرغبــة يف مشــاهدة يســوع ضــروريّة‪ ،‬بــل‬ ‫انــدفع ز ّـكـا‪ ،‬إ ًذا‪ ،‬إىل الطريــق‪ّ ،‬‬
‫وممهدة الطريق‪ ،‬حنو البلوغ إليه‪ .‬لوال رغبة ز ّكا‪ ،‬مــا التقى يســوع‪ .‬وهــذه الرغبـة مل تكن نـزوة‪ ،‬وال‬ ‫هي أساسيّة‪ّ ،‬‬
‫جمرد أمني ـ ــة س ـ ــطحيّة‪ ،‬يتخلّى عنه ـ ــا ص ـ ــاحبها‪ ،‬أم ـ ــام ّأول ص ـ ــعوبة‪ ،‬ت ـ ــربز‪ ،‬أمام ـ ــه‪ .‬ال‪ ،‬أب ـ ـ ًـدا‪ .‬ك ـ ــانت رغبـ ــة ز ّـك ــا‬
‫ّ‬
‫يبخ ْل بتكبيد نفســه مشـ ّقة التسـلّق على شـجرة‪ ،‬بغيـة حتقيقهـا‪ .‬ال‪ ،‬بـل من‬ ‫مستحكمة‪ ،‬يف نفسه‪ ،‬إىل درجة أنّه مل ُ‬
‫يضحي ز ّكا جبهد صغري‪ ،‬بعد أن عىّن نفسه مبغادرة منزله‪ ،‬من أجل أن ين ّفذ رغبته‪ .‬إ ّن أوىل درجات‬ ‫احلكمة أن ّ‬
‫احلكم ــة‪ ،‬من مثّ‪ ،‬هي أن يثبّت املرء‪ ،‬يف نفس ــه‪ ،‬رغبت ــه مبش ــاهدة يس ــوع‪ ،‬ع ــرب جه ــد‪ ،‬يبذل ــه‪ ،‬يف س ــبيل ذل ــك‪ .‬من‬
‫احلكم ــة‪ ،‬باحلقيق ــة‪ ،‬أن يق ـ ّـرر املرء ال ــراغب يف مش ــاهدة يس ــوع اجتن ــاب محاقة‪ ،16‬فيم ــا ه ــو يُعِـ ـ ّد نفس ــه‪ ،‬ملالق ــاة‬
‫يسوع‪ .‬وتُرتَ َكب احلماقة‪ ،‬عندما يتخلّى عن القيام جبهد‪ ،‬يثبّت به رغبته األوىل‪ ،‬يف مشاهدة يسوع‪.‬‬
‫بكل وضوح‪ ،‬من خالل التدبري احلكيم‪ ،‬الذي‬ ‫على صعيد آخر‪ ،‬يربز التواضع خطوة‪ ،‬أو عالمة‪ ،‬ظاهرة‪ّ ،‬‬
‫عمد ز ّكا إليه‪ ،‬لكي حي ّقق رغبته مبشاهدة يسوع‪ .‬نسي الرجـل النبيــل "مـا" هــو عليــه‪ ،‬لبعض الــوقت‪ .‬وتغافـل عن‬
‫متطلّبـات العمـل بــه‪ ،‬وســط احلشـد‪ ،‬الـذي يسـري‪ ،‬خلــف يســوع‪ ،‬ويزمحه‪ .‬وبسـلوكه هكــذا‪ ،‬أصـاب الــوطر‪ ،‬الـذي‬
‫صـا‪ ،‬مييلـون إىل‬ ‫عمومـا‪ ،‬واملتسـلّطني‪ ،‬بينهم‪ ،‬خصو ً‬ ‫جاء‪ ،‬من أجله‪ ،‬وفاز مبشاهدة يسوع‪ .‬ويف احلقيقـة أ ّن النـاس‪ً ،‬‬
‫"من" األشـخاص‪ ،‬الـذي هـو األسـاس‪،‬‬ ‫إعالء هذا الـ "مـا"‪،‬ـ الـذي يلتصـق باإلنسـان‪ ،‬وإىل متجيـده متجي ًـدا‪ ،‬حىّت إ ّن َ‬
‫يُـرمى بـه‪ ،‬يف اخلفـاء‪ .17‬يبـين النـاس "مـا" يُ ْعَرفـون بـه‪ ،‬ويستبسـلون‪ ،‬من أجـل احلفـاظ عليـه ناص ًـعا‪ ،‬بـل يسـتميتون‪،‬‬
‫ض ـا‪ ،‬من أج ــل أن يت ــألّق‪ ،‬أك ــثر ف ــأكثر؛ فه ــو ج ــواز س ــفر‪ ،‬يع ــربون ب ــه احلدود إىل اعتب ــار الب ــاقني‪ ،‬وإىل حظ ــوة‪،‬‬ ‫أي ً‬

‫ومعيارا ملنهجها‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ 16‬ارتباط احلكمة باجتناب احلماقة هو فلسفة تربويّة – نفسيّة‪ ،‬تتّخذ من األخالق اجملتمعيّة مبادئ توجيهاهتا‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫هش‪ ،‬مـا دام حيتـوي على قـوى مشـرذمة‪ ،‬هي النـوازع‪ .‬هـذا اجلوهر هـو الـذي متّ‬ ‫جوهرا‪ ،‬يُظهره "ما" الفـرد‪ ،‬وإمّن ا جـوهر ّ‬‫من الواضح أ ّن "من" الفرد تغدو هكذا ً‬
‫‪17‬‬

‫انتباهـا‪ ،‬يتح ّـول نظـر‬


‫ـاهد‪ ،‬وق ّـل أن يُعـار ً‬
‫فداؤه‪ ،‬مبوت املسـيح؛ وهـو عينـه‪ ،‬الـذي متّ تأليهـه‪ ،‬بتج ّسـده؛ وهـو هـو مـا جبلـه اهلل‪ ،‬ومـا نفث فيـه من روحـه‪ .‬وإذ إنّـه ال يش َ‬
‫البشر‪ ،‬واهتماماهتم‪ ،‬حنو "ما" الفرد‪ ،‬الذي هو "صورة" اجلوهر‪ ،‬أي ما يُرى منه‪ ،‬وفق أشكال عديدة‪ ،‬شديدة االختالف‪.‬‬
‫‪50‬‬
‫صـا‪ ،‬على حنو مـا جنده‪،‬‬ ‫ِ‬
‫يرجتوهنا‪ ،‬أو إنعام‪ ،‬يرتقّبون احلصول عليه‪" .‬ما" اإلنسان كنايةٌ عن منصب‪ ،‬وجاه‪ ،‬خصو ً‬
‫ـودد‪ ،‬وتسـلّط؛ ولكن‪ ،‬ال هــذا فقــط! ومن‬ ‫عنــد ز ّـكـا‪ .‬يرافقهمــا مظهــر متــأنّق‪ ،‬بطبيعــة احلال‪ ،‬وإكــرام‪ ،‬أو متلّــق‪ ،‬وتـ ّ‬
‫وجهـ ــة النظـ ــر هـ ــذه‪ ،‬يطـ ــأ "مـ ــا" اإلنسـ ــان‪ ،‬أي ظـ ــاهره‪ ،‬بتخاتلـ ــه‪ ،‬ضـ ــعة "من" اإلنسـ ــان‪ ،‬أي هويّتـ ــه‪ ،‬كمخلـ ــوق‬
‫بشري‪ ،18‬لألسف الشديد‪.‬‬ ‫ّ‬
‫عازما على أن حي ّقق منيته مبشاهدة‬ ‫مثّة‪ ،‬يف موقف ز ّكا‪ ،‬تدبري ثالث‪ ،‬تظهر احلكمة‪ ،‬من خالله‪ ،‬فيما كان ً‬
‫يســوع‪ .‬فقــد بــادر الرجــل‪ ،‬بفطنتــه‪ ،‬إىل تقـ ّدم احلشــد‪ ،‬الــذي كــان يرافــق يســوع‪ ،‬مســافة‪ ،‬كيمــا يتسـىّن لــه الــوقت‬
‫اجلمـيز‪ ،‬قبــل أن يصــل يســوع إىل املكــان‪ .‬مل ينخــرط‪ ،‬يف وســط احلشــد‪ .‬ومل يســأل لنفســه‬ ‫الكــايف‪ ،‬لتسـلّق شــجرة ّـ‬
‫عجـل‪ ،‬يف خطواتــه‪ ،‬الهثًــا‪ ،‬وممسـ ًكا بــأطراف ثيابــه‪ ،‬لئالّ يتعثّــر‪ .‬وأتى‬ ‫ـذمر؛ بــل‪ّ ،‬ـ‬
‫حظــوة معيّنــة‪ .‬ومل يعتكــف‪ ،‬أو يتـ ّ‬
‫صـ ـا اجلوار‪ ،‬وحم ّدثًا ذات ــه‪ ،‬حىّت يك ــون اختي ــاره ص ــائبًا‪ .‬االستش ــراف ه ــو أح ــد أب ــواب‬ ‫متفح ً‬
‫إىل املوق ــع املناس ــب‪ّ ،‬‬
‫احلكمــة‪ .‬بــه‪ ،‬ميكن الــذي يــوطّن النفس على بلــوغ أمــر أن ينــال مــا يتمنّــاه‪ .‬هــو صــفة نبويّــة‪ ،‬ومزيــة املستشــارين‪،‬‬
‫ال ــذين يفتّش عليهم امللـ ــوك‪ ،‬وعالمـ ــة رزانـ ــة‪ ،‬وبرهـ ــان على خـ ــوض املسـ ــائل الكـ ــربى‪ ،‬حبذق‪ ،‬ورويّ ــة‪ .‬ل ــذا‪ ،‬جند‬
‫الفقهاء‪ ،‬يف علوم الدين‪ ،‬يعتربونه‪ ،‬مبثابة منحة من عند اخلالق‪ ،‬وشركة يف علم املستور‪ ،‬وحظوة علويّة‪.19‬‬
‫إذا مت ّكن ز ّكــا من إزال ــة عقب ــة قامت ــه‪ ،‬بفض ــل جه ــد‪ ،‬ق ــام ب ــه‪ ،‬واس ــتطاع جتاوز "م ــا" ه ــو علي ــه‪ ،‬من ج ــاه‪،‬‬
‫ـادرا أن يـرى يســوع‪ .‬إ ّن‬ ‫رفيعــا‪ ،‬بفضــل استشـرافه‪ .‬لقــد أصـبح ق ً‬ ‫ومنصـب‪،‬ـ بفضـل تواضـعه‪،‬ـ فهــو قـد نـال لــه جـزاء ً‬
‫لــدينا‪ ،‬يف خــرب قائ ــد املئــة (مىّت ‪ :8‬ـ ‪9-5‬؛ ل ــو ‪ :7‬ـ ‪10-1‬؛ ي ــو ‪ :4‬ـ ‪ ،)54-46‬مثــاالً آخ ــر على احلكمــة‪ ،‬ال ــيت‬
‫الرب‪ ،‬ال "احلكمة األفالطونيّة"‪ ،‬بالطبع‪ ،‬بل "احلكمة" األخرى‪" ،‬احلكمة الكتابيّــة"‪،‬‬ ‫أكسبت من أخذ هبا معاينة ّ‬
‫كمـا أمسيناها‪ ،‬أعاله‪ .‬وهــذه "احلكمـة الكتابيّـة" نفســها‪ ،‬القائمـة على اجلهــد‪ ،‬والتواضــع‪ ،‬واالستشــراف‪ ،‬واملسـ ّـماة‬
‫حتول مركــز االهتمــام من اإلنســان إىل اهلل‪ .‬وجتيز ملن ينطــق هبا أن يــرى اهلل‪ .‬أخــذ هبا ز ّكــا‪ ،‬فوج ــد‬ ‫"خمافــة اهلل"‪ّ ،‬‬
‫ـورا‪ .20‬بيــد أ ّن غريمها‬‫نفســه يستضــيف يســوع‪ ،‬يف بيتــه‪ .‬وأخــذ هبا قائــد املئــة‪ ،‬فــأوى راضــيًا إىل منزلــه‪ ،‬ممتلئًــا حبـ ً‬
‫أخذ‪ ،‬كذلك‪ ،‬هبا‪ ،‬فالتقى يسوع!‬
‫عنــدما خيتم لوقــا اإلجنيلي إجنيــل الطفولــة (‪ :1‬ـ ‪ :2-1‬ـ ‪ ،)52‬يقــول‪ّ " :‬أم ا يس وع‪ ،‬فك ان ينم و في الحكم ة‪،‬‬
‫ّ‬
‫اإلجنيلي على الق ــارئ مش ــهد اللق ــاء‪ ،‬ال ــذي‬
‫ّ‬ ‫والقام ة‪ ،‬والنعم ة‪ ،‬أم ام اهلل والن اس" (‪:2‬ـ ـ ‪ ،)52‬بع ــد أن ع ــرض ه ــذا‬
‫جـرى‪ ،‬يف اهليكـل‪ ،‬بني يسـوع و"المعلّمين"‪ .‬أورد الكتــاب هــذه العبــارة‪ ،‬عنــدما تكلّم على صــموئيل‪ ،‬الـذي كـان‬
‫الرب" (‪1‬صم ‪:2‬ـ ‪18‬؛ـ ‪:3‬ـ ‪ ،)1‬ومل يكن هيكل أورشليم قد بُيِن ‪ .‬فقــد قــال الكتــاب‪ّ " :‬أما صموئيل‬ ‫"يخدم‪ ،‬أمام ّ‬

‫املادة األوىل من إعالن حقوق اإلنسان العامليّة‪.‬‬


‫راجع ّ‬
‫‪18‬‬

‫‪ 19‬راجع أم ‪ .22-21 :3‬وانظر امتداح امللك ُع ِزيّا‪ ،‬الذي تل ّفظ به‪ ،‬مغتبطًا بنجاح يهوديت‪ ،‬يف مسعاها (يه ‪.)20-18 :13‬‬
‫أكب ع ّشـاق‬ ‫ـين‪ّ ،‬‬ ‫ـرورا بأغسـطينس‪ ،‬مثّ تومـا األكوي ّ‬‫ـدادا على خمتلـف عصـور الفلسـفة‪ ،‬م ً‬ ‫ابتداء بفالسـفة اليونـان‪ ،‬سـقراط‪ ،‬وأفالطـون‪ ،‬وأرسـطو‪ ،‬وامت ً‬
‫‪20‬‬

‫لكن مــا‬
‫ـادة‪ ،‬لــرتويج البضــائع‪ّ .‬‬ ‫والوعــاظ‪ ،‬حىّت صـنّاع الــدعايات أدرجوهــا كمـ ّ‬
‫احلكمــة على معاجلة موضــوع الســعادة‪ .‬وحنا حنوهم األدبــاء‪ ،‬والشــعراء‪ّ ،‬‬
‫املتنوعــة‪ ،‬بني االنشــراح‪ ،‬الــذي هــو تعبــري آينّ عن حــادث طــارئ‪ ،‬والســرور‪ ،‬الــذي هــو انفعــال نفسـ ّـي‪ ،‬ميتـ ّد وقتًــا‬
‫يهمنــا حنن هــو اإلشــارة إىل الفروقــات ّ‬
‫ّ‬
‫أطول‪ ،‬يف الزمن‪ ،‬والغبطة‪ ،‬اليت هي حالة سكون ثابتة‪.‬‬
‫‪51‬‬
‫الصبي‪ ،‬فكان يتسامى‪ ،‬في القامة‪ ،‬والحظوة‪ ،‬عند اهلل والناس" (‪:2‬ـ ‪ ،)26‬من غــري أن يــذكر "الحكمة"‪ ،‬الـيت أوردهــا‬
‫ّ‬
‫ـموئيل‪ ،‬إ ًذا‪" ،‬أمام اهلل‪ ،‬والناس"‪ ،‬بفضــل حكمتــه‪ ،‬حســب‬
‫اإلجنيلي‪ ،‬خبصــوص الطفــل يســوع‪ .‬فــاق يســوعُ صـ َ‬
‫ّ‬ ‫لوقــا‬
‫اإلجنيلي‪" .‬أمام اهلل"‪ ،‬من خالل خدمتــه الكهنوتيّـة؛ و"أمام الناس"‪ ،‬من حيث كالم النبـ ّـوة‪ ،‬الــذي كــان خيرج‬
‫ّ‬ ‫لوقــا‬
‫من فمه (‪.)20 :3‬‬

‫ب‪ .‬الفضيلة‬
‫نوعا ما‪ ،‬شيئًا‬‫أريد‪ ،‬يف البداية‪ ،‬أن أوضح معىن اللفظة‪ ،‬ألنّه َتغَرَّي ‪ ،‬مع االستعمال والتواتر‪ ،‬إىل أن أمسى‪ً ،‬‬
‫ـين‪،‬‬ ‫آخــر‪ .‬فنحن‪ ،‬اليــوم‪ِ ،‬‬
‫تعودنــا أن نقـ ّدم الفضــيلة‪ ،‬وأن نفهمهــا‪ ،‬كقاعــدة أخالقيّــة للتصـّـرف‪ ،‬وكمبــدأ ديـ ّ‬ ‫وأمس‪ّ ،‬‬
‫حنث على تطبيقـه‪ ،‬يف احليـاة‪ .‬هي‪ ،‬إ ًذا‪ ،‬غايـةٌ‪ ،‬على اإلنسـان املؤمن أن جيتهـد يف البلـوغ إليهـا‪ ،‬حىّت إذا مـا متلّكت‬ ‫ّ‬
‫ـادرا‪ ،‬آ َن ٍإذ‪ ،‬تقـديس حياتـه‪ ،‬باتّباعـه تعـاليم الكنيسـة‪ .‬أضـف إىل هـذا أنّنـا بتنـا منيّـز فضـائل إهليّة‪ 21‬من‬ ‫فيـه‪ ،‬أصـبح ق ً‬
‫فضــائل رئيســيّة‪ .22‬ونفـ ّـرق بني هــذه وتلــك‪ ،‬من جهــة أوىل‪ ،‬والفضــائل اإلنســانيّة‪ ،23‬من جهــة ثانيــة‪ .‬األوىل‪ّ ،‬بوهبا‬
‫ـين (اخلالصــة الالهوتيّــة‪ :2 ،‬ـ ‪1‬؛ ـ ‪ ،62‬ـ ‪ .)1‬والثانيــة أفالطــون (اجلمهوريّــة‪ ،‬الكتــاب الرابــع‪،‬‬ ‫الق ـ ّديس تومــا األكويـ ّ‬
‫ضـ ِع علمــاء الرتبيـة والنفس‪ .‬هــذه هي اخلالصـة‪ ،‬الـيت تك ّـونت عنـدنا‪،‬‬ ‫‪ 427‬وما يلي)‪ّ .‬أمـا الثالثـة واألخـرية فَ ِمن َو ْ‬
‫اليوم‪ ،‬عن الفضيلة‪.‬‬
‫ولكن األمــر هــو‪ ،‬على عكس ذلــك‪ ،‬يف كتابــات األدبــاء اليونــان األقــدمني‪ ،‬يف مــا يتعلّــق بالفضــيلة‪ .‬تعــين‬ ‫ّ‬
‫ض ـا "امتي ــاز"‬
‫اللفظ ــة‪ ،‬عن ــدهم‪" ،‬هباء" األفع ــال‪ ،‬أي الق ــدرة‪ ،‬ال ــيت تظهره ــا‪ ،‬وال ــيت تف ــوق ك ـ ّـل توقّ ــع‪ .‬وق ــد تع ــين أي ً‬
‫‪24‬‬
‫مجيعـا‪ ،‬وحىّت اجلمـادات‪،‬‬ ‫ـؤدي وظيفة ‪ .‬اآلهلة واخلالئـق ً‬ ‫األدوات‪ ،‬والوسائط‪ ،‬اليت تتيح هلا أن تغدو نافعـة‪ ،‬وأن ت ّ‬
‫تتمتّ ــع هبذه الص ــفة‪ ،‬على ح ـ ّد س ــواء‪ .‬م ــا من موج ــود بال فض ــيلة‪ ،‬ميكن ــه أن يس ــتنجد هبا‪ ،‬لكي يش ـ ّـق طريق ــه إىل‬
‫احلث على احلصــول عليهــا‪ .‬إهّن ا طاقـة‪ ،‬ال على إجناز األفعــال‪ ،‬أو‬ ‫ط‪ ،‬إىل ّ‬ ‫الرضــى عن حياتـه‪ .‬فال حاجـة‪ ،‬من مثّ‪ ،‬قـ ّ‬
‫مكتسبة‪.‬‬
‫مدرجة‪ ،‬تلقائيًّا‪ ،‬يف الكائنات واألشياء‪ ،‬ال َ‬ ‫التحلّي بصفات‪ ،‬وإمّن ا على إحسان استخدامها‪ .‬وهي طاقة َ‬
‫‪25‬‬
‫وأهم مـ ــا ميكن اإلشـ ــارة إليـ ــه‪ ،‬يف‬
‫ّ‬ ‫‪،‬‬ ‫يف العصـ ــور احلديثـ ــة‪ ،‬تنـ ــاول الفالسـ ــفة موضـ ــوع الفضـ ــيلة باملناقشة‬
‫املتنوعة‪ :‬الفيزيائيّة‪ ،‬وامليتافيزيقيّة‪ ،‬والالهوتيّة‪ ،‬واألخالقيّة‪ ،‬والسياسيّة‪.‬‬ ‫معاجلاهتم مضموهنا‪ ،‬هو حتديد جماالهتا ّ‬

‫المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة‪.1813 § ،‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ 21‬اإلميان‪ ،‬والرجاء‪ ،‬واحملبّة؛ راجع التعليم‬
‫والقوة‪ ،‬والقناعة؛ المرجع نفسه‪.1809-1806 § ،‬‬ ‫الفطنة‪ ،‬والعدل‪ّ ،‬‬
‫‪22‬‬

‫المسيحي ‪ ،1804 § ،...‬من دون أن يع ّددها‪.‬‬


‫ّ‬ ‫‪ 23‬حي ّددها التعليم‬
‫‪ 24‬يق ــول أرس ــطو يف كت ــاب علم األخالق إلى نيقوم ا ُخس‪ ،‬ترمجه إىل الفرنس ــيّة ب ــارتلمي س ــانتهلري‪ ،‬ومنه ــا إىل العربيّ ــة أمحد لطفي الس ــيّد‪ ،‬دار الكتب‬
‫املصريّة‪ ،‬القاهرة‪ ،1924 ،‬اجلزء الثاين‪ ،‬الكتاب الثاين‪ ،‬الباب السادس‪ ،‬الفقرة ‪ ،2‬ص ‪:243‬ـ "‪ ..‬لفضيلة العين الفضل في أ ّن اإلنسان يحسن النظر‪.‬‬
‫كذلك األمر ‪ ...‬لفضيلة الحصان‪ ،‬فإنّها هي الفاعلة في أ ّن الحصان جواد‪ ،‬وفي أنّه سريع العدو ‪."...‬‬
‫‪ 25‬ديكــارت‪ ،‬مبادئ الفلسفة‪ ،‬الكتــاب الرابــع‪ ،‬الفقــرة ‪157‬؛ ســبينوزا‪ ،‬األخالق‪ ،‬الكتــاب الرابــع‪ ،‬التحديـدـ ‪8‬؛ مــالربانش‪ ،‬مقال ة في األخالق‪ ،‬الفصــل‬
‫الثاين‪ ،‬الفقرة ‪1‬؛ كانط‪ ،‬تأسيس ميتافيزيقيا األخالق‪ ،‬املق ّدمة؛ مونتسكيو‪ ،‬روح القوانين‪ ،‬الكتاب الثالث‪ ،‬الفصل اخلامس ‪ ...‬وغريهمـ كثريون‪.‬ـ‬
‫‪52‬‬
‫املتنوعـة والعديــدة‪ ،‬ضــمن مفهـومـ واحــد‪ ،‬أو عبـارة واحــدة‪.‬‬ ‫يف احلقيقة‪ ،‬من الصعب أن حنصر هذه امليادين ّ‬
‫كل إنسـان‪ ،‬من أجـل القيـام بكبـار األعمـال‪ .‬ولكنّهـا ليسـت جه ًـدا‪ ،‬فقـط‪ .‬إهّن ا‬ ‫شك‪ ،‬يقوم به ّ‬ ‫الفضيلة جهد‪ ،‬بال ّ‬
‫تنط ــوي‪ ،‬عالوة على ه ــذا‪ ،‬على وعي‪ ،‬ونيّ ــة‪ ،‬وتربي ــة‪ ،‬من جه ــة؛ وعلى ج ــرأة‪ ،‬وص ــرب‪ ،‬وتف ــان‪ ،‬ونف ــع‪ ،‬من جه ــة‬
‫التنوع‪ ،‬بني خصال طبيعيّة‪ ،‬وأخرى مكتسبة‪.‬‬ ‫أخرى‪.‬ـ ألجل هذا‪ ،‬ختتزن الفضيلة‪ ،‬فعالً‪ ،‬تآل ًفا شديد ّ‬
‫الرئيسي‪ ،‬الـذي بـدأناه‪ ،‬أعاله‪ ،‬خبصــوص اإلعاقـات‪ ،‬وإزالتهــا‪ُ .‬ق ْلنـا سـاب ًقا إ ّن احلكمـة‬ ‫لنرج ْع إىل موضوعنا‬ ‫ِ‬
‫ّ‬
‫مفيــدة لعالج الــداء‪ ،‬الــذي يص ــيب اإلنســان‪ ،‬من جــرى املنص ــب والوظيفــة‪ .‬وه ــا حنن نقــرتح الفضــيلة‪ ،‬كعالج‪،‬‬
‫للشـ ــفاء من إعاقـ ــات قسـ ــريّة‪ ،‬أو من إعاقـ ــات‪ ،‬تنجم‪ ،‬من جـ ــرى احملدوديّات‪ ،‬املالزمـ ــة لألشـ ــخاص والظـ ــروف‪.‬‬
‫ـدنو من يســوع‪ ،‬ودون البقـاء بثبـات‪ ،‬وراءه‪ ،‬ومعـه‪.‬ـ‬ ‫لنتذ ّكر أ ّن ما نس ّـميه‪ ،‬هنـا‪ ،‬إعاقـة‪ ،‬هـو صـعوبة‪ ،‬حتول دون الـ ّ‬
‫ـدنو من يسـوع‪ ،‬وعن‬ ‫ولكنّنا نعين به‪ ،‬كـذلك‪ ،‬ك ّـل شـكل حائ ٍـل‪ ،‬يتبنّـاه املرء‪ ،‬أو يسـري بـه‪ ،‬فيصـ ّد اآلخـرين عن ال ّ‬
‫الثبات على اتّباعه‪.26‬‬
‫التنعم بريــاش مقتــىن‪ ،‬من‬ ‫ال ريبـة‪ ،‬قـ ّ ِ‬
‫صـر القامــة حائـل‪ ،‬وأ ّن اإلثـراء غــري املشــروع حائــل آخـر‪ ،‬وأ ّن ّ‬ ‫ط‪ ،‬أ ّن ق َ‬
‫ماديّـة‪،‬‬
‫اجلم من احلوائـل يبقى ذا طينـة ّ‬ ‫ولكن هـذا ّ‬ ‫أيضا حائل‪ ،‬ردع ز ّكا من الوصـول إىل يســوع‪ّ .‬‬ ‫حق‪ ،‬هو ً‬ ‫دون ّ‬
‫وجهي اإلعاقـة‪ ،‬الـيت حاصـر ز ّكـا نفسـه هبا‪ .‬فوجـه هـذه اآلخـر ذو طينـة روحيّة‪ ،27‬ال‬ ‫ووجهـا مرئيًّا‪ ،‬من َ‬ ‫ً‬ ‫وأرضـيّة‪،‬‬
‫تُ ــرى إىل اخلارج‪ ،‬أل ّن طبيعتهـ ــا ذهنيّ ــة‪ ،‬تتسـ ـلّل إىل أبعـ ــد األفك ــار الظاملة‪ ،‬داخ ــل النفس‪ ،‬وتنف ــذ‪ ،‬حىّت األلف ــاظ‪،‬‬
‫وجهي اإلعاق ــة‪ ،‬ال ــيت‬
‫روحي من َ‬ ‫ّ‬ ‫الغش‪ ،‬مثالً‪ ،‬وج ــه‬
‫ومف ــارق النواي ــا‪ ،‬ال ــيت يض ــمرها اإلنس ــان‪ ،‬لرهاف ــة طبيعته ــا‪ّ .‬‬
‫روحي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫صرح به‪ ،‬هو نفسـه‪ ،‬لـدى اسـتقباله يسـوع‪ ،‬يف بيتــه‪ .‬التصـلّب‪ ،‬هـو اآلخــر‪ ،‬وجـه‬ ‫تشل ز ّكا‪ .‬وقد ّ‬ ‫كانت ّ‬
‫ويدل على انعدام الرأفة باملسكني‪ .‬وقد أخذ به ز ّكا‪ ،‬ليصنع له أمــواالً طائلـة‪ .‬هلذا السـبب‪ ،‬حتتـاج معاجلة اجلانب‬ ‫ّ‬
‫ي‪،‬ـ من طبيعته نفسها؛ وهذا الرتياق هو الفضيلة‪.‬‬ ‫ماد ّ‬
‫روحي‪ ،‬غري ّ‬ ‫ّ‬ ‫ي من اإلعاقة إىل ترياق‬ ‫املاد ّ‬
‫غري ّ‬
‫اإلعاقـة‪ ،‬إذًا‪ ،‬هي عقبـة‪ ،‬تباعـد‪ ،‬بني مَتَ ُّك ِن الشـخص من الـتزام العمـل‪ ،‬مبوجب إميانـه‪ ،‬من ناحيـة‪ ،‬والعيش‪،‬‬
‫ضـا‪ .‬إ ّن اإلعاقــة ال تنحصــر بــاألمور‬ ‫يف قلب مجاعــة من األفــراد‪ ،‬من ناحيــة أخــرى‪ .‬بــل مثّــة أكــثر من هــذا الوجــه أي ً‬
‫الدينيّة‪ ،‬دون الدنيويّة‪ .‬فقصر قامة ز ّكا ليس إعاقة روحيّة‪ .‬ومثله االزدحام احلاشد‪ ،‬حول يسوع‪ ،‬الذي ســنتكلّم‬
‫عن ــه‪ ،‬أسـ ــفله‪ .‬تغلّب ز ّـك ــا‪ّ ،‬أوالً‪ ،‬على إعاقتـ ــه الروحيّـ ــة‪ ،‬فاسـ ــتطاع‪ ،‬بعـ ــد ذلـ ــك‪ ،‬جتاوز إعاقـ ــة أخـ ــرى "دنيويّ ــة"‪.‬‬
‫ض ـون عن ه ــذا املنط ــق‪ .‬ومنهم فري ــق‪ ،‬ب ــل هم أنفس ــهم‪،‬‬ ‫كث ــريون‪ ،‬مبن فيهم إخ ــوة لن ــا‪ ،‬يف اإلميان واخلدم ــة‪ ،‬ال ير َ‬

‫‪ 26‬يُ ْعتَرَب عمالً منافيًا لألخالق التضييق على ممارسة الشعائر الدينيّة‪ ،‬ما دام حيجب عن اإلنسان جمال الفضـيلة‪.‬ـ وعلى غـرار ذلـك‪ ،‬سـرقة أمـوال الدولـة‪،‬‬
‫ـؤدي‪ ،‬يف هنايــة املطــاف‪ ،‬إىل‬
‫ـين شــامل‪ ،‬تـ ّ‬
‫أو االحتالل‪ ،‬أو قمــع احلريّــات املدنيّــة‪،‬ـ أو األحكــام العرفيّــة‪ ،‬ومــا ســوى ذلــك‪ .‬إ ّن هــذه املوانــع ذات أثــر وطـ ّ‬
‫األخالقي هــو فعــل مســيء على‬
‫ّ‬ ‫أخالقي‪ .‬والفعــل غــري‬
‫ّ‬ ‫شــيوع الرذيلــة‪ ،‬والــدفع‪ ،‬باجّت اه الفوضــى‪ .‬وعليــه‪،‬ـ مـا يصـ ّد عن الفضــيلة‪،‬ـ مهمــا كــان‪ ،‬هــو فعــل ال‬
‫مستويَني‪ ،‬مستوى الشيء‪ ،‬ومستوى نفعه‪.‬‬
‫ـتحق‪،‬ـ بعـد‬
‫العلي‪ ،‬يف بـين قومـه‪ ،‬أن يتسـلّق مجيّـزة؛ فاس ّ‬
‫أزال ز ّكـا‪ ،‬باحلكمـة والفضـيلة‪ ،‬إعاقتَه الروحيّـة‪ ،‬معاملتـه اآلخـرين بالعـدل‪ ،‬إذ مل يـأنف‪ ،‬وهـو ّ‬
‫‪27‬‬

‫ذلك‪ ،‬أن خُي تار‪ ،‬بني أعيان املدينة‪،‬ـ ليضيف يسوع‪ ،‬يف بيته‪ ،‬مع أ ّن إعاقته اجلسديّة‪ ،‬أي قِصر قامته‪ ،‬مل تُتِ ْح له أن حيظى بالسري‪ ،‬يف الصــفوف األماميّــة‪،‬‬
‫إىل جانب يسوع‪.‬‬
‫‪53‬‬
‫مثايل‪ ،‬ال قاعــدة لــه‪،‬‬
‫يَ َدعُونك وشأنَك‪ ،‬يف أمر ما تنادي به‪ ،‬لعدم اقتناعهم‪ .‬رمّب ا يدركون هذا التعليم كأنّه تعليم ّ‬
‫بني الناس‪.‬‬
‫اجلمـيزة‬
‫مير؟ إ ّن تسـلّق ز ّكـا شـجرة ّ‬ ‫ما الفضيلة‪ ،‬الـيت دفعت ز ّكـا إىل تسـلّق الشـجرة‪ ،‬بغيـة مشـاهدة يسـوع ّ‬
‫هــو‪ ،‬حب ّد ذاتــه‪ ،‬عمــل جبّــار‪ ،‬فيــه من الفضــيلة مــا خيرب عنــه القيــام بــه‪ .‬هــذا املعــىن‪ ،‬الــذي جيعــل الفضــيلة والفعــل‪ ،‬أو‬
‫الفضـيلة واإلنسـان‪ ،‬حقيقـة واحـدة‪ ،‬هـو املعـىن‪ ،‬الـذي وجـدناه‪ ،‬أعاله‪ ،‬عنـد قـدامى األدبـاء اليونـان‪ .‬الفضـيلة‪ ،‬الـيت‬
‫حتركت فيه‪ ،‬على حنو‪ ،‬أخضـع اجلس ُـد هلا طاقاتـه‪ ،‬حىّت‬ ‫عملت داخل ز ّكا‪ ،‬روحيًّا‪ ،‬ونفسيًّا‪ ،‬وأخالقيًّا‪ ،‬وإنسانيًّا‪ّ ،‬‬
‫اجلمـيزة‪ ،‬لــوال اســتقرارها‬
‫يتنـاغم مــع إحياءاهتا‪ .‬لــوال اســتقرار الفضــيلة‪ ،‬حىّت قبـل وصــوله إىل املكــان‪ ،‬حيث شـجرة ّـ‬
‫داخ ــل اإلنس ــان‪ ،‬ملا تس ـلّق الش ــجرة‪ ،‬حىّت ي ــرى يس ــوع‪ .‬إ ّن ز ّكــا رج ــل مفض ــال‪ .‬ولكن‪ ،‬م ــا هي فضــيلته‪ ،‬للم ـ ّـرة‬
‫الثانية؟‬
‫ـدرا‪ ،‬لألمــور‪ ،‬فال ينتقص من حجمهــا‪،‬‬ ‫الرصــانة! اإلنســان الرصــني هــو اإلنســان‪ ،‬الــذي يقيم اعتبـ ًـارا‪ ،‬أي قـ ً‬
‫أيضا الرزانة‪ .‬فهذه اللفظة تضيف على ما تق ّدم فكــرة ضــبط األفكــار‪ ،‬عنــدما خترج‪،‬‬ ‫وال يبالغ‪ ،‬يف وصفها‪ .‬وقيل ً‬
‫املهم‪ ،‬يف املوضـوع‪ ،‬أ ّن الوقـار هـو الفضـيلة‪ .‬والوقـار‪ ،‬هـو‬ ‫عرب الكالم‪ .‬مهمـا يكن من أمـر هـذه اللفظـة‪ ،‬أو تلـك‪ّ ،‬‬
‫اتّزان‪ ،‬سواء باحلديث‪ ،‬أم بعقل األمور‪ ،‬أم بالتعامل‪ .‬وفضيلة ز ّكا‪ ،‬اليت نتكلّم عليها‪ ،‬جتلّت‪ ،‬يف أنّه أبدى وقـ ًـارا‪،‬‬
‫ـبيعي‪ :‬إنّـه واحـد‪ ،‬كسـائر النـاس‪،‬‬ ‫ومهابـة‪ ،‬عنـد مـرور يسـوع‪ .‬شـ ّذب الرجـل حجم منزلتـه‪ ،‬إىل أن اخّت ذ موقعـه الط ّ‬
‫الذين كانوا يزمحون يسوع‪ .‬ومل تنفعه أمواله‪ ،‬الـيت راكمهـا‪ ،‬مـ ّدة سـنوات‪ ،‬فاتّكـل على قـواه‪ ،‬لكي ينتصــب على‬
‫ـخمة‪ ،‬وكـ ـ ّـل اعتـ ــداد‪ ،‬ومفخرتـ ــه بأنّـ ــه رئيس على‬
‫جـ ــذع شـ ــجرة‪ .‬أزال ز ّـك ــا‪ ،‬من أمـ ــام عينَيـ ــه كـ ـ ّـل صـ ــورة مضـ ـ ّ‬
‫الظل‪.‬‬
‫تصرفات متواضعة‪ ،‬وسلو ًكا خافت ّ‬ ‫العشارين‪ .‬فاستح ّقت له هذه الفضيلة ّ‬ ‫ّ‬
‫الغش‪ ،‬الـذي يتس ّـرب إىل‬ ‫يف موضوع رؤية يسوع‪ ،‬متسي الرصانة فضيلة روحيّة سـامية‪ ،‬إذ ال ترضـى عن ّ‬
‫متنوعــة‪ .‬تعيــد هــذه الفضــيلة إىل األشــياء احلجم املنســوب‬ ‫حيــاة املرء‪ ،‬وال تتّفــق والظلم‪ ،‬الــذي يرتكبــه‪ ،‬بأشــكال ّ‬
‫تكوهنا‪ ،‬وتســرف يف احملافظــة عليــه‪ ،‬كمــا ينبغي‪ .‬ومن وجهــة النظــر هــذه‪ ،‬تغــدو الرصــانة مــرآةـ روحيّــة‬ ‫إليهــا‪ ،‬عنــد ّ‬
‫للنفس‪ ،‬ترى‪ ،‬من خالهلا‪ ،‬ذنوهبا‪.‬‬
‫إذا ك ــان‪ ،‬مثّ ــة‪ ،‬فض ــيلة روحيّ ــة ثاني ــة‪ ،‬تظه ــر على تص ـ ّـرف ز ّكــا‪ ،‬فهي فض ــيلة النخ ــوة‪ .‬فه ــذه تع ــين ع ــدم‬
‫ضـ ـا‪ ،‬بالق ــدر عين ــه‪ ،‬ملء النفس ب ــالزخم الالزم‪ ،‬من أج ــل اإلق ــدام على إمتام م ــا جيب عليه ــا‪.‬‬ ‫ال ــرتاخي‪ .‬وتع ــين‪ ،‬أي ً‬
‫النخــوة‪ ،‬وســخاء النفس‪ ،‬فضــيلتان متالزمتــان‪ .‬وتكمنــان‪ ،‬خلــف كـ ّـل عمــل حســن‪ .‬إن كــان للتــواين تسـ ّـرب إىل‬
‫روحي‪ ،‬على مس ــتوى ه ــذه الفض ــيلة‪ .‬وكم ــا تق ــف فض ــيلة النخ ــوة‪ ،‬على ط ــرف‬ ‫ّ‬ ‫ـرده إىل فت ــور‬
‫حي ــاة األف ــراد‪ ،‬فم ـ ّ‬
‫نقيض‪ ،‬جتاه االجنراف إىل اإلمث‪ ،‬تقـ ــف الفضـ ــيلة األخـ ــرى‪ ،‬فضـ ــيلة الرصـ ــانة‪ ،‬على طـ ــرف نقيض‪ ،‬جتاه التعنّت يف‬
‫ارتكاب اإلمث‪.‬‬

‫الخاصة‬
‫ّ‬ ‫ج‪ .‬الموهبة‬

‫‪54‬‬
‫تامــة اخليــار‪ ،‬الــذي اصــطنعته املرأة النازفــة هلا‪ ،‬بغيــة الوصــول إىل يســوع‪.‬‬ ‫يتّخــذ ز ّـكـا موق ًفــا خيالف خمالفــة ّ‬
‫ينــأى عن احلشــد‪ ،‬فيمــا تنخــرط هي يف الصــفوف املتدافعــة‪ ،‬حــول يســوع‪ .‬موقفــان متناقضــان‪ ،‬كمــا تــرى‪ ،‬أيّهــا‬
‫القارئ‪ .‬إذا عزمنا على استخراج مبدإ من ه َذين املوق َفني‪ ،‬وأردنـا بـه إيضـاح السـبيل‪ ،‬الـيت جيب سـلوكها‪ ،‬إلزالـة‬
‫عقبــة من أمــام الــراغب يف الوصــول إىل يســوع‪ ،‬ميثّلهــا اآلخــرون‪ ،‬ملا اســتطعنا‪ .‬هــل نعلّم اجتنــاهبم‪ ،‬فعـ َـل ز ّـكـا‪ ،‬أم‬
‫ـردا‪ ،‬ومعـتزالً اآلخـرين؟ أم‬ ‫زج النفس‪ ،‬يف وسـطهم‪ ،‬شـأ َن النازفـة؟ أيصــل اإلنسـان إىل يسـوع‪ ،‬منفـ ً‬ ‫ترانا ندعو إىل ّ‬
‫َدب وصــوب‪،‬ـ‬ ‫ض ـا‪ ،‬أتُــرى اآلخــرون عقبــة؟ هــل يزمحون يســوع‪ ،‬من كـ ّـل ح َ‬ ‫يصــل إليــه‪ ،‬من خالهلم‪ ،‬ومعهم؟ وأي ً‬
‫ضـا؟ أم‪ ،‬هـل اآلخـرون عقبـة كـأفراد؟ مبعـىن أ ّن عقبـة اآلخـرين مـا هي سـوى عقبـة‬ ‫حبيث إهّن م يدوسون بعضـهم بع ً‬
‫بعض‬
‫اجتمعت إىل العقب ــة املخالف ــة‪ ،‬ال ــيت ميثّله ــا بعض ــهم اآلخ ــر؟ أليس‪ ،‬بني ه ــؤالء اآلخ ــرين‪ٌ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫بعض منهم‪ ،‬وق ــد‬
‫منطقي أن جُيْ ِمـل املرء اجلميـع‪ ،‬حتت‬ ‫ّ‬ ‫ط؟ بـل هم سـند‪ ،‬ومثـال‪ ،‬وحـافز؟ باحلقيقـة‪ ،‬بلى‪ ،‬إذ ليس بـأمر‬ ‫ليسوا عقبة ق ّ‬
‫مسمى عقبة!‬ ‫ّ‬
‫أفضى ز ّكا إىل يسوع‪ ،‬عرب ّبوابة االعتزال‪ ،‬اعتزال اجلمع‪ ،‬كما أفضت املرأة النازفة إىل يسوع‪ ،‬عرب ّبوابــة‬
‫اجلمع‪ .‬أتى نيقودميس يسوع‪ ،‬مبفرده‪،‬ـ ليسأله عن طريقته‪ .‬لقد اختار طريقـة ز ّكـا‪ .‬وأتت الكنعانيّـة يسـوع‪ ،‬متّبعـة‬
‫ـين بلق ــاء منف ــرد م ــع يس ــوع؛ ولكنّ ــه‪ ،‬مض ــى حزينً ــا‪ ،‬يف‬
‫ـاب الغ ـ ّ‬
‫خط ــاه‪ ،‬ومنتهج ــة طريق ــة النازف ــة ال ــدم‪ .‬حظي الش ـ ّ‬
‫تعليمـا‪ ،‬اعتــربوه قاســيًا‪ .‬من ناحيــة مقابلــة‪ ،‬وقفت‬ ‫النهايــة‪ .‬وتراجــع كثــريون عن اتّبــاع يســوع‪ ،‬بعــدما مسعوا منــه ًـ‬
‫الفريســيّني عقبــة‪ ،‬أمــام الرجــل األعمى‪ ،‬كيال يعــرتف بيســوع‪ ،‬على مســمع النــاس‪ .‬فــاآلخرون‪ ،‬إذًا‪ ،‬عقبــة‪.‬‬ ‫مجاعــة ّ‬
‫ورحب أه ــل الس ــامرة ب ــه‪ ،‬باملقاب ــل‪ ،‬يف إجني ــل يوحنّ ــا‪ ،‬بع ــد ال ــذي مسعوه من ــه‪ ،‬وع ــاينوه‪ .‬اآلخ ــرون‪ ،‬إذًا‪ ،‬يتقبّل ــون‬ ‫ّ‬
‫الكلمة‪.‬‬
‫اجلديل أ ّن ك ـ ّـل ش ــخص‪ ،‬يري ــد الوص ــول إىل يس ــوع‪ ،‬يض ــطلع ه ــو نفس ــه مبوهبت ــه‬ ‫ّ‬ ‫يتّض ــح من ه ــذا الع ــرض‬
‫اخلاصة‪ ،‬وجي ّد يف أثر يسوع‪ :‬حيمل صليبه‪ ،‬لو جاز لنا القول‪ ،‬ويتبع يسـوع‪ .‬األمـر‪ ،‬بالنسـبة إىل التلميـذ‪ ،‬منحصـر‬ ‫ّ‬
‫ـرب‪ ،‬واالخنراط معـه‬ ‫بـه‪ ،‬هـو نفسـه‪ ،‬التلميـذ‪ :‬اتّبـاع يسـوع‪ ،‬وإدراكـه‪ ،‬مها وجهـان لعملـة واحـدة‪ ،‬عملـة التتلمـذ لل ّ‬
‫يف الطريــق‪ّ .‬أمــا اآلخــرون‪ ،‬فلهم اختيــاراهتم‪ ،‬الــيت‪ ،‬مهمــا تنـ ّـوعت‪ ،‬وأثّــرت‪ ،‬ال ميكنهــا أن جتعــل من اتّبــاع يســوع‬
‫ـروعا مناطً ــا هبا‪ .‬ليس اآلخ ــرون هم أص ــحاب املش ــروع‪ ،‬إذا أراد أح ــدهم اقتف ــاء أث ــر يس ــوع‪ ،‬واالخنراط يف‬ ‫مش ـ ً‬
‫املعين‪ .‬كــذلك‪ ،‬ليس اآلخــرون هم احمل ّفــز‪ ،‬أو املن ّفــر‪ ،‬إذا أراد ذاك‬ ‫مدرسته‪ ،‬والسري‪ ،‬حبسب تعاليمه؛ بل الشخص ّ‬
‫األمر عينه‪ .‬ألجل هذا‪ ،‬إ ّن الذي يلقي على اآلخرين تبعات اخنراطـه‪ ،‬أو مغبّـات انسـحابه‪ ،‬يف أمـر اتّباعـه يسـوع‪،‬‬ ‫َ‬
‫ب غيظَه على أنــاس‪ ،‬يقفــون حجــر عـثرة على‬ ‫صـ ُّ‬
‫وإمــا يَ ُ‬
‫ف العقـ َـل عن الصــواب‪ ،‬بالنسـبة إىل هــذه املســألة‪ّ ،‬‬ ‫ّإمــا حَيْـ ِر ُ‬
‫دربه‪.‬‬

‫خاتمة‬

‫‪55‬‬
‫يضــعنا لقــاء يســوع وز ّـكـا‪ ،‬أمــام حقيقــة إنســانيّة كــربى‪ ،‬ميثّلهــا‪ ،‬بأوضــح التعبــري‪ ،‬القــول إ ّن معظم التق ـ ّدم‪،‬‬
‫وأوســع االزدهــار‪ ،‬يقومــان على جتاوز املرء مــا فيــه من عقبــات؛ وأمهّهــا‪ ،‬بــل أضـ ّـرها‪ ،‬على حنو مطلــق‪ ،‬االغــرتار‬
‫مبنص ــب‪ ،‬أو حماص ــرة ال ــذات بعيب‪ .‬االغ ــرتار باملنص ــب‪ ،‬واالنقب ــاض‪ ،‬أو االنكم ــاش على ال ــذات‪ ،‬بس ــبب نقص‪،‬‬
‫ـدوان حياربانــه من داخلــه‪ ،‬وعلى ســاحته‪ .‬ينهشــان بــه‪ ،‬عن درايــة منــه هبمــا‪ ،‬وإمّن ا ال‬ ‫ـدوان لإلنســان‪ ،‬وعـ ّ‬ ‫كالمها عـ ّ‬
‫حول له على أذيّتهما‪ ،‬بسـبب رضـاه عليهمــا‪ ،‬وال على التحـّـرر من سـطوهتما‪ .‬ال أهّن مـا حي ّدان فقـط من انطالقتــه‪،‬‬
‫ض ـا االنفتــاح على اهلل‪ ،‬ومالقاتــه‪ .‬لقــد كســر ز ّكــا طوقهمــا‪ ،‬متّكئًــا على احلكمــة‬ ‫أو أهّن مــا يقيّدانــه‪ ،‬بــل يُفقدانــه أي ً‬
‫الرب‪.‬‬
‫والفضيلة‪ .‬ففاز بنفسه‪ ،‬وبضيافة ّ‬
‫ـالرب‪ ،‬أم الــذين خي ّفــون وهم ُم ْع ِرضــون عنــه‪ ،‬املنشــغلون عنــه هبمــوم كثــرية‪،‬‬ ‫ّأمــا اآلخــرون‪ ،‬الــذين حي ّفــون بـ ّ‬
‫ضـ ـا حض ــوره‪ ،‬فليس ــوا العقب ــة‪ ،‬وليس ــوا الب ــديل‪ ،‬أم ــام التتلم ــذ ل ــه‪ .‬ذل ــك أ ّن االختي ــار‪ ،‬إذا مل يكن‬ ‫والرافض ــون رف ً‬
‫جتاوزا للــذات‪ ،‬وتغلّبًــا على‬‫مشبعا بالنضج‪ ،‬والوعي‪ ،‬واإلدراك‪ ،‬والتمييز‪ ،‬والصرب‪ ،‬والثبــات‪ ،‬وإذا مل يكن ً‬ ‫اختيارا ً‬ ‫ً‬
‫ـاهر‬
‫ضـا‪ ،‬يف النفس‪،‬ـ إىل االجنراف‪ ،‬وراء كـ ّـل فكــرة‪ ،‬هلا ظـ ُ‬ ‫عيوهبا‪ ،‬إمّن ا هو‪ ،‬وقت ذاك‪ ،‬نزعة عن هوى‪ ،‬أو ميـ ٌـل أي ً‬
‫الــربيق‪ .‬وهــذا األمــر حيدث‪ ،‬إذا خال اإلنســان بنفســه‪ ،‬لينظــر حقًّا مــا الــذي يســتهويها‪ ،‬ومــا الــذي ينفعهــا‪ .‬مــا يــأيت‬
‫هوى‪.‬‬ ‫كل صنف ً‬ ‫هوى خ ّداع‪ّ .‬أما الذي ينفعها‪ ،‬فهو ما ين ّقيها من ّ‬ ‫النفس عن ً‬ ‫َ‬

‫‪56‬‬

You might also like