Professional Documents
Culture Documents
السيـــرة النبوية-2021
السيـــرة النبوية-2021
إرويها ألوالدك
﴿ بسم هللا الرحمن الرحيم ﴾
.2كان العرب في شبه الجزيرة العربية قبل بعثة الرسول صلى هللا عليه وسلم يعبدون األصنام من
دون هللا ،ويقدمون لها القرابين ،ويسجدون لها ،ويتوسلون بها ،وهي أحجار ال تضر وال تنفع،
وكان حول الكعبة ثالثمائة وستون صن ًما.
ومن عجيب أمرهم أن أحدهم كان يشتري العجوة ،ويصنع منها صن ًما ،ثم يعبده ويسجد له،
كأسا من
ويسأله أن يحجب عنه الشر ويجلب له الخير ،فإذا شعر بالجوع أكل إلهه!! ثم يأخذ ً
الخمر ،يشربها حتى يفقد وعيه ،وفي ذلك الزمان كانت تحدث أشياء غريبة وعجيبة ،فالناس
يطوفون عرايا حول الكعبة ،وقد تجردوا من مالبسهم بال حياء ،يصفقون ويصفرون ويصيحون
بال نظام ،وقد وصف هللا عز وجل صالتهم فقال{ :وما كان صالتهم عند البيت إال مكاء وتصدية
فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} [األنفال.]53:
وكانت الحروب تقوم بينهم ألتفه األسباب ،وتستمر مشتعلة أعوا ًما طويلة فهذان رجالن يقتتالن،
فيجتمع الناس حولهما ،وتناصر كل قبيلة صاحبها ،لم يسألوا عن الظالم وال عن المظلوم ،وتقوم
الحرب في لمح البصر ،وال تنتهي حتى يموت الرجال ،وانتشرت بينهم العادات السيئة مثل :شرب
الخمر ،وقطع الطرق والزنا.
وكانت بعض القبائل تهين المرأة ،وينظرون إليها باحتقار ،فهي في إعتقادهم عار كبير عليهم أن
يتخلصوا منها ،فكان الرجل منهم إذا ولدت له أنثى؛ حزن حز ًنا شديدًا .قال تعالى{ :وإذا بشر
أحدهم باألنثى ظل وجهه مسودًا وهو كظيم يتواري من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه علي
هون أم يدسه في التراب أال ساء ما يحكمون} _[النحل ]35-32 :وقد يصل به األمر إلى أن
يدفنها وهي حية ،وهي العادة التي عرفت عندهم بوأد البنات.
فهذا رجل يحمل طفلته ويسير بها إلى الصحراء فوق الرمال المحرقة ،ويحفر حفرة ثم يضع إبنته
فيها وهي حية ،وال تستطيع الطفلة البريئة أن تدافع عن نفسها؛ بل تناديه :أبتاه ..أبتاه ..فال
رافعا رأسه كأنه
يرحم براءتها وال ضعفها ،وال يستجيب لندائها ..بل يهيل عليها الرمال ،ثم يمشي ً
لم يفعل شي ًئا!! قال تعالى{ :وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت} [التكوير ]2-7 :وليس هذا األمر
عا ًما بين العرب ،فقد كانت بعض القبائل تمنع وأد البنات.
وكان الظلم ينتشر في المجتمع؛ فالقوى ال يرحم الضعيف ،والغني ال يعطف على الفقير ،بل
دينارا؛ يرده دينارين،
ً ُيسخره لخدمته ،وإن أقرضه ماال؛ فإنه يقرضه بالربا ،فإذا اقترض الفقير
فقرا ،ويزداد الغني ثراء ،وكانت القبائل متفرقة ،لكل قبيلة رئيس ،وهم ال يخضعون لقانون فيزداد ً
منظم ،ومع كل هذا الجهل والظالم في ذلك العصر المسمى بالعصر الجاهلي ،كانت هناك بعض
الصفات الطيبة والنبيلة؛ كإكرام الضيف ،فإذا جاء ضيف على أحدهم بذل له كل ما عنده ،ولم
1
يبخل عليه بشيء ،فها هو ذا حاتم الطائي لم يجد ما يطعم به ضيوفه؛ فذبح فرسه وقد كانوا
يأكلون لحم الخيل وأطعمهم قبل أن يأكل هو.
وكانوا ينصرون المستغيث فإذا نادى إنسان ،وقال :إني مظلوم اجتمعوا حوله وردوا إليه حقه،
وقد حدث ذات مرة أن جاء رجل يستغيث ،وينادي بأعلى صوته في زعماء قريش أن ينصروه
على العاص بن وائل الذي اشترى منه بضاعته ،ورفض أن يعطيه ثمنها؛ فتجمع زعماء قريش
في دار عبدهللا بن جدعان وتحالفوا على أن ينصروا المظلوم ،ويأخذوا حقه من الظالم ،وسموا
ذلك االتفاق حلف الفضول ،وذهبوا إلى العاص بن وائل ،وأخذوا منه ثمن البضاعة ،وأعطوه
لصاحبه.
وفي هذا المجتمع ولد محمد صلى هللا عليه وسلم من أسرة كريمة المعدن ،نبيلة النسب ،جمعت ما
في العرب من فضائل ،قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن نفسه :إن هللا إصطفى كنانة من
شا من كنانة و إصطفى من قريش بني هاشم ،و إصطفاني من بني ولد إسماعيل ،و إصطفى قري ً
هاشم [مسلم].
هو محمد بن عبد هللا بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كالب بن مرة بن كعب بن لؤي
بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد
بن عدنان الذي يصل نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصالة والسالم..
جده هاشم وحكاية الثريد:
كان عمرو بن عبد مناف الجد األكبر للرسول صلى هللا عليه وسلم رجال كري ًما فقد حدث في عصره أن
جوعا ،وبدأ كل إنسان يفكر في نجاة نفسه فقط،ً نزل القحط بالناس ،فلم يجدوا ما يأكلون ،وكادوا يموتون
فالذي عنده طعام يحرص عليه ويحجبه عن الناس ،فذهب عمرو إلى بيته وأخرج ما عنده من الطعام،
وأخذ يهشم الثريد أي :يكسر الخبز في المرق لقومه ويطعمهم ،فسموه هاش ًما؛ ألنه كريم يهشم ثريده
يعا.
للناس جم ً
وعندما ضاق الرزق في مكة أراد هاشم أن يخفف عن أهلها ،فسافر إلى الشام صي ًفا ،وإلى اليمن شتاء؛
من أجل التجارة ،فكان أول من علَّم الناس هاتين الرحلتين ،وفي إحدى الرحالت ،وبينما هاشم في طريقه
للشام مر بيثرب ،فتزوج سلمى بنت عمرو إحدى نساء بني النجار ،وتركها وهي حامل بإبنه عبد المطلب
لتلد بين أهلها الذين اشترطوا عليه ذلك عند زواجه منها.
جده عبدالمطلب وحكاية الكنز:
كان عبد المطلب بن هاشم جد الرسول الكريم صلى هللا عليه وسلم يسقي الحجيج الذين يأتون للطواف
حول الكعبة ،ويقوم على رعاية بيت هللا الحرام فإلتف الناس حوله ،فكان زعيمهم وأشرفهم ،وكان
2
عبدالمطلب يتمنى لو عرف مكان بئر زمزم ليحفرها؛ ألنها كانت قد ردمت بمرور السنين ،ولم َي ُعد أحد
يعرف مكانها ،فرأى في منامه ذات ليلة مكان بئر زمزم ،فأخبر قومه بذلك ولكنهم لم يصدقوه ،فبدأ
عبدالمطلب في حفر البئر هو وإبنه الحارث ،والناس يسخرون منهما ،وبينما هما يحفران ،تفجر الماء من
تحت أقدامهما ،وإلتف الناس حول البئر مسرورين ،وظن عبدالمطلب أنهم سيشكرونه ،لكنه فوجئ بهم
ينازعونه إمتالك البئر ،فشعر بالظلم والضعف ألنه ليس له أبناء إال الحارث ،وهو ال يستطيع نصرته ،فإذا
به يرفع يديه إلى السماء ،ويدعو هللا أن يرزقه عشرة أبناء من الذكور ،ونذر أن يذبح أحدهم تقر ًبا هلل.
حكاية األبناء العشرة :
استجاب هللا دعوة عبد المطلب ،فرزقه عشرة أوالد ،وشعر عبدالمطلب بالفرحة فقد تحقق رجاؤه ،ورزق
بأوالد سيكونون له سندًا وعو ًنا ،لكن فرحته لم تستمر طويال؛ فقد تذكر النذر الذي قطعه على نفسه ،فعليه
أن يذبح واحدًا من أوالده ،فكر عبدالمطلب طويال ،ثم ترك االختيار هلل تعالى ،فأجرى قرعة بين أوالده،
فخرجت القرعة على عبدهللا أصغر أوالده وأحبهم إلى قلبه ،أصبح عبد المطلب في حيرة؛ أيذبح ولده؟
مرارا ،لكن القدر كان يختار عبدهللا في كل مرة،
ً استشار قومه ،فأشاروا عليه بأن يعيد القرعة ،فأعادها
فازداد قلق عبدالمطلب ،فأشارت عليه كاهنة بأن يفتدي ولده باإلبل ،فيجري القرعة بين عبدهللا وعشرة
من اإلبل ،ويظل يضاعف عددها ،حتى تستقر القرعة على اإلبل بدال من ولده ،فعمل عبدالمطلب بنصيحة
الكاهنة ،واستمر في مضاعفة عدد اإلبل حتى بلغت مآئة بعير ،وعندئذ وقعت القرعة عليها ،فذبحها فداء
لعبد هللا ،وفرحت مكة كلها بنجاة عبد هللا ،وذبح له والده مآئة ناقة فدا ًء له ،وازداد عبد المطلب ً
حبا
لولده ،وغمره بعطفه ورعايته.
أبوه عبدهللا وزواجه المبارك من السيدة آمنة:
منظرا ،وأراد والده عبد المطلب أن يزوجه ،فاختار لهً كان عبد هللا أكرم شباب قريش أخال ًقا ،وأجملهم
زوجة صالحة ،هي السيدة آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة أطهر نساء بني زهرة ،وسيدة نسائهم،
والسيدة آمنة تلتقي في نسبها مع عبدهللا والد النبي صلى هللا عليه وسلم في كالب بن مرة ،وتمر األيام،
ويخرج عبدهللا في تجارة إلى الشام ،بعد أن ترك زوجته آمنة حامال ولحكمة يعلمها هللا ،مات عبد هللا قبل
أن يرى وليده.
حكاية الفيل:
وذات يوم ،إستيقظ أهل مكة على خبر أصابهم بالفزع والرعب ،فقد جاء ملك اليمن أبرهة األشرم الحبشي
بجيش كبير ،يتقدمه فيل ضخم ،يريد هدم الكعبة حتى يتحول الحجيج إلى كنيسته التي بناها في اليمن،
وأنفق عليها أمواال كثيرة ،و إقترب الجيش من بيت هللا الحرام ،وظهر الخوف والهلع على وجوه أهل
مكة ،وإلتف الناس حول عبدالمطلب الذي قال ألبرهة بلسان الواثق من نصر هللا تعالى :للبيت رب يحميه.
وأصر على هدم الكعبة ،فوجه الفيل الضخم نحوها ،فلما إقترب منها أدار الفيل ظهره َّ فازداد أبرهة عنادًا،
طيورا من السماء تحمل حجارة صغيرة ،لكنها شديدة صلبة ،ألقت بها فوق ً ولم يتحرك ،،وأرسل هللا
رؤوس جنود أبرهة فقتلتهم وأهلكتهم .قال تعالى{ :ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل .ألم يجعل كيدهم
طيرا أبابيل .ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول} [الفيل] وفي في تضليل .وأرسل عليهم ً
هذا العام ولد الرسول صلى هللا عليه وسلم.
3
ميالد الرسول وطفولته
في يوم االثنين الثاني عشر من شهر ربيع األول الذي يوافق عام 372م ولدت السيدة آمنة بنت وهب
زوجة عبد هللا بن عبد المطلب غال ًما جميال ،مشرق الوجه ،وخرجت ثويبة األسلمية خادمة أبي لهب عم
النبي صلى هللا عليه وسلم تهرول إلى سيدها أبي لهب ،ووجهها ينطق بالسعادة ،وما كادت تصل إليه حتى
همست له بالبشرى ،فتهلل وجهه ،وقال لها من فرط سروره :اذهبي فأنت حرة! وأسرع عبد المطلب إلى
مسرورا كأنه يحمل على يديه كل َّ نعيم
ً بيت إبنه عبد هللا ثم خرج حامال الوليد الجديد ،ودخل به الكعبة
الدنيا ،وأخذ يضمه إلى صدره ويقبله في حنان بالغ ،ويشكر هللا ويدعوه ،وألهمه هللا أن يطلق على حفيده
إسم محمد.
حكاية مرضعة الرسول صلى هللا عليه وسلم:
ضع إلى البادية حتى ينشئوا هناك الر َّجاءت المرضعات من قبيلة بني سعد إلى مكة؛ ليأخذن األطفال ُّ
أقوياء فصحاء ،قادرين على مواجهة أعباء الحياة ،وكانت كل مرضعة تبحث عن رضيع من أسرة غنية
ووالده حي؛ ليعطيها ماالً كثي ًرا ،لذلك رفضت كل المرضعات أن يأخذن محمدًا صلى هللا عليه وسلم ألنه
يتيم ،وأخذته السيدة حليمة السعدية ألنها لم تجد رضي ًعا غيره ،وعاش محمد صلى هللا عليه وسلم في
اخضرت أرضهم بعد الجدب والجفاف ،وجرى َّ خيرا وبركة على حليمة وأهلها ،حيث قبيلة بني سعد ،فكان ً
اللبن في ضروع اإلبل.
حكاية شق الصدر:
وفي بادية بني سعد وقعت حادثة غريبة ،فقد خرج محمد صلى هللا عليه وسلم ذات يوم ليلعب مع أخيه من
الرضاعة إبن حليمة السعدية ،وفي أثناء لعبهما ظهر رجالن فجأة ،وإتجها نحو محمد صلى هللا عليه
وسلم فأمسكاه ،وأضجعاه على األرض ثم ش َّقا صدره ،وكان أخوه من الرضاعة يشاهد عن قرب ما يحدث
له ،فأسرع نحو أمه وهو يصرخ ،ويحكى لها ما حدث.
فأسرعت حليمة السعدية وهي مذعورة إلى حيث يوجد الغالم القرشي فهو أمانة عندها ،وتخشى عليه أن
يصاب بسوء ،لكنها على عكس ما تصورت ،وجدته واق ًفا وحده ،قد تأثر بما حدث ،فاصفر لونه ،فضمته
في حنان إلى صدرها ،وعادت به إلى البيت ،فسألته حليمة :ماذا حدث لك يا محمد؟ فأخذ يقص عليها ما
حدث.
لقد كان هذان الرجالن ملكين من السماء أرسلهما هللا تعالى؛ ليطهرا قلبه ويغساله ،حتى يتهيأ للرسالة
العظيمة التي سيكلفه هللا بها.
خافت حليمة على محمد ،فحملته إلى أمه في مكة ،وأخبرتها بما حدث إلبنها ،فقالت لها السيدة آمنة في
ت عليه الشيطان؟ فأجابتها حليمة :نعم ،فقالت السيدة آمنة :كال وهللا ما للشيطان عليه من ثقة :أتخوف ِ
سبيل ،وإن إلبني لشأ ًنا؛ لقد رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور ،أضاء لي به قصور الشام ،وكان
4
يسيرا ،فرجعت به حليمة إلى قومها بعد أن زال الخوف من قلبها ،وظل عندها حتى بلغ عمره خمس ً َح ْملُه
سنوات ،ثم عاد إلى أمه في مكة.
رحلة محمد صلى هللا عليه وسلم مع أمه إلى يثرب:
وذات يوم ،خرجت السيدة آمنة ومعها طفلها محمد وخادمتها أم أيمن من مكة متوجهة إلى يثرب؛ لزيارة
قبر زوجها عبد هللا ،وفاء له ،وليعرف ولدها قبر أبيه ،ويزور أخوال جده من بني النجار ،وكان الجو
شهرا في المدينة ،وأثناء
ً شديد الحر ،وتحملت أعباء هذه الرحلة الطويلة الشاقة ،وظلت السيدة آمنة
عودتها مرضت وماتت وهي في الطريق ،في مكان يسمى األبواء ،فدفنت فيه ،وعادت أم أيمن إلى مكة
بالطفل محمد يتي ًما وحيدًا ،فعاش مع جده عبدالمطلب ،وكان عمر محمد آنذاك ست سنوات.
محمد في شبابه
كان الشباب في مكة يلهون ويعبثون ،أما محمد صلى هللا عليه وسلم فكان يعمل وال يتكاسل؛ يرعى األغنام
طوال النهار ،ويتأمل الكون ويفكر في خلق هللا ،وقد ذكر النبي صلى هللا عليه وسلم بعد أن أوتي النبوة
ذلك العمل ،فقال :ما بعث هللا ً
نبيا إال رعى الغنم فقال أصحابه :وأنت؟ قال :نعمُ ،
كنت أرعاها على قراريط
5
ألهل مكة [البخاري] وكان هللا سبحانه يحرسه ويرعاه على الدوام؛ فذات يوم فكر أن يلهو كما يلهو
الشباب ،فطلب من صاحب له أن يحرس أغنامه ،حتى ينزل مكة ويشارك الشباب في لهوهم ،وعندما
وصل إليها وجد حفل زواج ،فوقف عنده ،فسلط هللا عليه النوم ،ولم يستيقظ إال في صباح اليوم التالي.
وعندما كانت قريش تجدد بناء الكعبة ،كان محمد صلى هللا عليه وسلم ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه
إزاره ،فقال له العباس عمه :اجعل إزارك على رقبتك يقيك الحجارة ،ففعل ،فخر إلى األرض ،وجعل ينظر
بعينيه إلى السماء ،ويقول :إزاري ..إزاري ،فشد عليه ،فما رؤى بعد ذلك عريا ًنا.
التاجر األمين:
ُ
وحين جاوز النبي صلى هللا عليه وسلم العشرين من عمره أتيحت له فرصة السفر مع قافلة التجارة إلى
الشام ،ففي مكة كان الناس يستعدون لرحلة الصيف التجارية إلى الشام ،وكل منهم يعد راحلته وبضاعته
وأمواله ،وكانت السيدة خديجة بنت خويلد وهي من أشرف نساء قريش ،وأكرمهن أخال ًقا ،وأكثرهن ماال
تبحث عن رجل أمين يتاجر لها في مالها ويخرج به مع القوم ،فسمعت عن محمد وأخالقه العظيمة،
ومكانته عند أهل مكة جمي ًعا ،واحترامهم له؛ ألنه صادق أمين ،فإتفقت معه أن يتاجر لها مقابل مبلغ من
المال ،فوافق محمد صلى هللا عليه وسلم وخرج مع غالم لها إسمه ميسرة إلى الشام.
تحركت القافلة في طريقها إلى الشام ،وبعد أن قطع القوم المسافات الطويلة نزلوا ليستريحوا بعض
الوقت ،وجلس محمد صلى هللا عليه وسلم تحت شجرة ،وعلى مقربة منه صومعة راهب ،وما إن رأى
الراهب محمدًا صلى هللا عليه وسلم حتى أخذ ينظر إليه ويطيل النظر ،ثم سأل ميسرة :من هذا الرجل الذي
نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال ميسرة :هذا رجل من قريش من أهل الحرم ،فقال الراهب :ما نزل تحت هذه
الشجرة إال نبي ،وباعت القافلة كل تجارتها ،وإشترت ما تريد من البضائع ،وكان ميسرة ينظر إلى محمد
ويتعجب من سماحته وأخالقه والربح الكبير الذي حققه في مال السيدة خديجة.
وفي طريق العودة حدث أمر عجيب ،فقد كانت هناك غمامة في السماء تظل محمدًا وتقيه الحر ،وكان
وأخيرا وصلت القافلة إلى
ً ميسرة ينظر إلى ذلك المشهد ،وقد بدت على وجهه عالمات الدهشة والتعجب،
مكة فخرج الناس إلستقبالها مشتاقين؛ كل منهم يريد االطمئنان على أمواله ،وما تحقق له من ربح،
وحكى ميسرة لسيدته خديجة ما رأى من أمر محمد ،فقد أخبرها بما قاله الراهب ،وبالغمامة التي كانت
تظلل محمدًا في الطريق؛ لتقيه من الحر دون سائر أفراد القافلة.
زواج محمد صلى هللا عليه وسلم من السيدة خديجة:
استمعت السيدة خديجة إلى ميسرة في دهشة ،وقد تأكدت من أمانة محمد صلى هللا عليه وسلم وحسن
أخالقه ،فتمنت أن تتزوجه ،فأرسلت السيدة خديجة صديقتها نفيسة بنت منبه؛ لتعرض على محمد الزواج،
فوافق محمد صلى هللا عليه وسلم على هذا الزواج ،وكلم أعمامه ،الذين رحبوا ووافقوا على هذا
الزواج ،وساروا إلى السيدة خديجة يريدون خطبتها؛ فلما إنتهوا إلى دار خويلد قام أبو طالب عم النبي
وكفيله يخ ُطب ُخطبة العرس ،فقال :الحمد هلل الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل ،وجعل لنا بي ًتا
س َّواس حرمه ،وجعلنا الحكام على الناس ،ثم إن إبن أخي هذا محجوجا وحر ًما آم ًنا ،وجعلنا أمناء بيته ،و ُ
ً
محمد بن عبد هللا ال يوزن به رجل شر ًفا ونبالً وفضالً ،وإن كان في المال فال ،فإن المال ظل زائل ،وقد
خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما عاجله وآجله من مال كذا وكذا ،وهو وهللا بعد هذا لهو
معا حياة طيبة موفقة، نبأ عظيم ،وخطب جليل وتزوج النبي صلى هللا عليه وسلم السيدة خديجة ،وعاشا ً
ورزقهما هللا تعالى البنين والبنات ،فأنجبت له ستة أوالد هم :زينب ،ورقية ،وأم كلثوم ،وفاطمة،وعبدهللا،
6
والقاسم ،وبه يكنى الرسول فيقال :أبو القاسم.
بناء الكعبة وقصة الحجر األسود:
اجتمعت قريش إلعادة بناء الكعبة ،وأثناء البناء إختلفوا فيمن ينال شرف وضع الحجر األسود في مكانه،
وإشتد الخالف بينهم ،وكاد أن يتحول إلى حرب بين قبائل قريش ،ولكنهم تداركوا أمرهم ،وإرتضوا أن
ُيح ِّكموا أول داخل عليهم وإنتظر القوم ،وكل واحد يسأل نفسه :ترى من سيأتي اآلن؟ ولمن سيحكم؟
وفجأة تهللت وجوههم بالفرحة والسرور عندما رأوا محمدًا يقبل عليهم ،فكل واح ٍد منهم يحبه ويثق في
عدله وأمانته ورجاحة عقله وسداد رأيه ،فهتفوا :هذا األمين قد رضيناه َح َكما ،وعرضوا عليه األمر
وطلبوا منه أن يحكم بينهم ،فخلع الرسول صلى هللا عليه وسلم رداءه ووضع الحجر عليه ،ثم أمر رؤساء
القبائل فرفعوا الثوب حتى أوصلوا الحجر إلى مكانه من الكعبة ،عندئذ حمله الرسول صلى هللا عليه وسلم
بيده الشريفة ووضعه مكانه ،وهكذا كفاهم هللا شر القتال.
الوحي
كان محمد صلى هللا عليه وسلم يكثر من الذهاب إلى غار حراء ،فيجلس وحده فيه أيا ًما بلياليها؛ يفكر في
خالق هذا الكون بعيدًا عن الناس وما يفعلونه من آثام ،ولقد كان يمشي تلك المسافة الطويلة ويصعد ذلك
الجبل العالي ،ثم يعود إلى مكة ليتزود بالطعام ويرجع إلى ذلك الغار ،وظل مدة ال يرى رؤيا إال وتحققت
كما رآها ،وبدأت تحدث له أشياء عجيبة ال تحدث ألي إنسان آخر ،فقد كان في مكة َح َجر يسلم عليه كلما
علي قبل أن أبعث ،إني ألعرفهَّ حجرا بمكة كان يسلم
ً مر به ،قال صلى هللا عليه وسلم :إني ألعرف
اآلن [مسلم].
وكان النبي صلى هللا عليه وسلم يجلس ذات يوم في الغار ،وإذا بجبريل عليه السالم ينزل عليه في صورة
رجل ويقول له :إقرأ .وكان النبي صلى هللا عليه وسلم ال يعرف القراءة وال الكتابة ،فخاف وإرتعد ،وقال
للرجل :ما أنا بقارئ .وإذا بجبريل عليه السالم يضم النبي صلى هللا عليه وسلم إليه بشدة ،ثم يتركه
ويقول له :إقرأ .فقال محمد :ما أنا بقارئ .وتكرر ذلك مرة ثالثة ،فقال جبريل{ :إقرأ بإسم ربك الذي خلق
.خلق اإلنسان من علق .إقرأ وربك األكرم} _[العلق .]5-2:فكانت هذه أولى آيات القرآن التي نزلت في
شهر رمضان على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وهو في السنة األربعين من عمره.
مسرعا ،ثم رقد وهو يرتعش ،وطلب من زوجته أن تغطيه قائال: ً رجع محمد صلى هللا عليه وسلم إلى بيته
زملونى ،زملونى وحكى لها ما رآه في الغار ،فطمأنته السيدة خديجة ،وقالت له :كال وهللا ال يخزيك هللا
أبدًا ،إنك لتصل الرحم وتحمل الكل َّ (الضعيف) و ُتكسب المعدوم ،و ُتقري الضيف ،وتعين على نوائب الحق،
فلما إستمع النبي صلى هللا عليه وسلم إلى كالم السيدة خديجة ،عادت إليه الطمأنينة ،وزال عنه الخوف
والرعب ،وبدأ يفكر فيما حدث.
حكاية ورقة بن نوفل:
وكان للسيدة خديجة إبن عم ،إسمه ورقة بن نوفل على علم بالديانة المسيحية فذهبت إليه ومعها زوجها؛
ليسأاله عما حدث ،فقالت خديجة لورقة :يإبن عم إسمع من إبن أخيك ،فقال ورقة :يإبن أخي ماذا ترى؟
7
فأخبره النبي صلى هللا عليه وسلم بالذي حدث في غار حراء ،فلما سمعه ورقة قال :هذا الناموس الذي
كان ينزل على موسى ،ثم أخبره ورقة أنه يتمنى أن يعيش حتى ينصره ،ويكون معه عندما يحاربه قومه،
خرجي هم؟
َّ و ُيخرجونه من مكة ،فلما سمع الرسول صلى هللا عليه وسلم ذلك تعجب وسأل ورقة قائال :أو ُم
ِي ،ومنذ ذلك اليوم والرسول صلى هللا عليه وسلم يزداد ت أحد بمثل ما جئت به إال ُعود َ فقال له :نعم ،لم يأ ِ
شو ًقا لوحي السماء الذي تأخر نزوله عليه بعد هذه المرة.
عودة الوحي:
وبعد فترة ،وبينما كان النبي صلى هللا عليه وسلم يمشي إذا به يسمع صو ًتا ،فرفع وجهه إلى السماء،
جالسا على كرسي بين السماء واألرض ،فإرتعد الرسول صلى هللا ً فرأى الملك الذي جاءه في غار حراء
عليه وسلم من هول المنظر ،وأسرع إلى المنزل ،وطلب من زوجته أن تغطيه ،قائال :دثرونى .دثرونى،
وإذا بجبريل ينزل إليه بهذه اآليات التي يوجهها هللا إليه{ :يا أيها المدثر .قم فأنذر .وربك فكبر .وثيابك
فطهر .والرجز فاهجر} _[المدثر ]3-2 :وفي هذه اآليات تكليف من هللا سبحانه لرسوله صلى هللا عليه
وسلم أن يدعو الناس.
سرا:
الدعوة إلى اإلسالم َّ
كان الناس في مكة يعبدون األصنام منذ زمن بعيد ،وقد ورثوا عبادتها عن آبائهم وأجدادهم؛ فبدأ الرسول
سرا ،وبدأ بأقرب الناس إليه ،فآمنت به زوجته خديجة إبنة صلى هللا عليه وسلم بالدعوة إلى اإلسالم َّ
أيضا إبن عمه علي بن أبي طالب ،وكان غال ًما في العاشرة من عمره ،وكان رسول هللا خويلد ،وآمن به ً
صلى هللا عليه وسلم هو الذي يقوم بتربيته ،وكان صديقه أبو بكر أول الذين آمنوا به من الرجال ،وكان ذا
مكانة عظيمة بين قومه ،يأتي الناس إليه ويجلسون معه ،فاستغل أبو بكر مكانته هذه وأخذ يدعو من يأتي
إليه ويثق فيه إلى اإلسالم ،فأسلم على يديه عبدالرحمن بن عوف ،وعثمان بن عفان ،والزبير بن العوام،
وطلحة بن عبيد هللا ..وغيرهم.
ولم تكن الصالة قد فرضت في ذلك الوقت بالكيفية التي نعرفها ،ولكن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم كان
سرا ركعتين قبل طلوع الشمس وركعتين قبل الغروب ،وذلك في مكان بعيد يصلي بأصحابه الذين أسلموا ً
عن أعين الكفار.
ب مكة ،إذ أقبل عليهم أبو ب من شِ َعا ِ
وذات يوم كان الرسول صلى هللا عليه وسلم يصلي بأصحابه في شِ ع ٍ
طالب عم النبي صلى هللا عليه وسلم والذي لم يؤمن برسالته ،فلما رأى الرسول صلى هللا عليه وسلم
وأصحابه يصلون ،سأله عن هذا الدين الجديد ،فأخبره الرسول صلى هللا عليه وسلم به ألنه يثق في عمه
ويأمل أن يدخل اإلسالم ،ولكن أبا طالب رفض أن يترك دين آبائه وأجداده وطمأن النبي صلى هللا عليه
عليا أن يلزم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،واستمر وسلم وتعهد بحمايته من أعدائه ،وأوصى إبنه ً
سرا ،وعدد المسلمين يزداد يو ًما بعد يوم ،ويقوى اإليمان في الرسول صلى هللا عليه وسلم يدعو قومه َّ
قلوبهم بما ينزله هللا عليهم من القرآن الكريم ،وظلوا هكذا ثالث سنوات.
8
أمر هللا سبحانه و تعالى رسوله صلى هللا عليه وسلم أن يجهر بالدعوة ويبدأ بعشيرته وأهله ،فقال تعالى:
شا ،وقال :يا بني {وأنذر عشيرتك األقربين} _[الشعراء ]822:فنادى الرسول صلى هللا عليه وسلم قري ً
كعب أنقذوا أنفسكم من النار ،يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار ،يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم
من النار ،يا بني هاشم وبني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ،يا فاطمة أنقذي نفسك من النار ،فإني
سأصِ لُها) _[مسلم].وهللا ال أملك لكم من هللا شي ًئا إال أن لكم رح ًما سأ َ ُبلُّ َها بِبِاللِ َها ( َ
ونزل هذا الكالم على قلوب الكفار نزول الصاعقة ،فقد أصبحت المواجهة واضحة بينهم وبين رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم ،إنه يطلب منهم أن يتركوا األصنام التي يعبدونها ،وأن يتركوا الفواحش ،فال
يتعاملون بالربا ،وال يزنون ،وال يقتلون أوالدهم ،وال يظلمون أحدًا ،لكنهم قابلوا تلك الدعوة بالرفض،
وبدءوا يسخرون من النبي صلى هللا عليه وسلم ،ومن دعوته ،فصبر صلى هللا عليه وسلم عليهم وعلى
تطاولهم.
وذات مرة ،كان النبي صلى هللا عليه وسلم يطوف بالبيت ،فتطاول عليه بعض الكفار بالكالم ،ولكنه صبر
مر بهم الثالثة، مر عليهم ثانية تطاولوا عليه بمثل ما فعلوا ،فصبر ولم يرد ،ثم َّ عليهم ومضى ،فلما َّ
أيضا ،فقال صلى هللا عليه وسلم لهم :أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي فتطاولوا عليه بمثل ما فعلوا ً
نفسي بيده ،لقد جئتكم بالذبح فخاف القوم حتى إن أكثرهم وقاحة أصبح يقول للرسول صلى هللا عليه
وسلم بكل أدب :انصرف يا أبا القاسم ،انصرف راشدًا ،فوهللا ما كنت جهوال.
وذات يوم ،أقبل رجل من بلد اسمها إراش إلى مكة ،فظلمه أبو جهل ،وأخذ منه إبله ،فذهب الرجل إلى
نادي قريش يسألهم عن رجل ينصره على أبي جهل ،وهنا وجد الكفار فرصة للتسلية والضحك والسخرية
من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فأمروا الرجل أن يذهب إلى الرسول صلى هللا عليه وسلم ليأخذ له
حقه ،فذهب الرجل إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،وأخذوا ينظرون إليه ليروا ما سيحدث ،فقام النبي
صلى هللا عليه وسلم مع الرجل ليعيد له حقه من أبي جهل ،فأرسلوا وراءه أحدهم؛ ليرى ما سوف يصنعه
أبوجهل مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فذهب الرسول صلى هللا عليه وسلم إلى بيت أبي جهل،
وطرق بابه ،فخرج أبو جهل من البيت خائ ًفا مرتعدًا ،وقد تغير لونه من شدة الخوف ،فقال له رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم :أعطِ هذا الرجل حقه فرد أبو جهل دون تردد :ال تبرح حتى أعطيه الذي له ،ودخل
مسرعا ،فأخرج مال الرجل ،فأخذه ،وانصرف. ً البيت
علي
َّ وعندما أقبل أبو جهل على قومه بادروه قائلين :ويلك! ما بك؟ فقال لهم :وهللا ما هو إال أن ضرب
رأيت مثلَه قط ،فوهللا ُ وسمعت صوته فملئت منه رع ًبا ،ثم خرجت إليه ،وإن فوق رأسه لفحال من اإلبل ما
لو أ َب ُ
يت ألكلني[ .البيهقي]
وبدأ كفار قريش مرحلة جديدة من المفاوضات ،فذهبوا إلى أبي طالب عم النبي صلى هللا عليه وسلم،
سب آلهتنا ،وعاب ديننا ،وسفه أحالمنا ،وضلل آباءنا ،فإما أن وقالوا له :يا أبا طالب ،إن إبن أخيك قد َّ
تكفه عنا ،وإما أن تخلى بيننا وبينه ،فردَّ عليهم أبو طالب ً
ردا رقي ًقا ،فانصرفوا عنه.
ولكن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم استمر في إظهار دين هللا ودعوة الناس إليه ،فجمع الكفار أنفسهم
سنا وشر ًفا ومنزلة فينا ،وإنا قدمرة أخرى وذهبوا إلى أبي طالب ،فقالوا له :يا أبا طالب ،إن لك ً
استنهيناك من إبن أخيك فلم تنهه عنا ،وإنا وهللا ال نصبر على هذا من شتم آبائنا ،وتسفيه أحالمنا ،وعيب
آلهتنا ،حتى تكفه عنا ،أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين.
9
وأرسل أبو طالب إلى النبي صلى هللا عليه وسلم ،فلما جاء قال له :يإبن أخي! إن قومك قد جاءوني،
على وعلى نفسك ،وال ُتحملني من األمر ما ال أطيق أنا وال أنت ،فإكفف عن قومك ما بق َّوقالوا كذا وكذا فأ َ ِ
يكرهون من قولك ،فقال النبي صلى هللا عليه وسلم لعمه :وهللا يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر
مض على أمرك وإفعل ما في يساري ،ما تركت هذا األمر حتى يظهره هللا أو أهلك فيه فقال أبو طالب :إ ِ
أحببت ،فوهللا! ال أسلمك لشيء أبدً ا.
لم يستطع المشركون أن يوقفوا مسيرة الدعوة لإلسالم ،ولم يستطيعوا إغراء الرسول صلى هللا عليه
وسلم بالمال أو بالجاه ،وقد خاب أملهم في عمه أبي طالب ،وها هو ذا موسم الحج يقبل ،والعرب سوف
يأتون من كل مكان ،وقد سمعوا بمحمد ودعوته ،وسوف يستمعون إليه وربما آمنوا به ونصروه ،فتسرب
الخوف إلى قلوب الكفار في مكة ،وفكروا في قول واحد يتفقون عليه ويقولونه عن محمد صلى هللا عليه
سنا؛ فقال أحدهم :نقول إن وسلم حتى يصرفوا العرب عنه ،فالتفوا حول الوليد بن المغيرة ،وكان أكبرهم ً
محمدًا كاهن ،فقال الوليد :وهللا ما هو بكاهن ،لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن وال سجعه ،فقالوا:
نقول إن محمدًا مجنون ،فقال لهم :ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه ،فقالوا :نقول إن محمدًا
شاعر ،فقال لهم :ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله فما هو بالشعر ،فقالوا :نقول ساحر ،فقال لهم :ما
هو بساحر ،لقد رأينا السحرة وسحرهم وما هو منهم.
فقالوا للوليد بن المغيرة :فما تقول يا أبا عبد شمس؟ فأقسم لهم أن كالم محمد هو أحلى الكالم وأطيبه،
وما هم بقائلين من هذا شي ًئا إال ُعرف أنه باطل ،وإن أقرب القول فيه أن تقولوا :إن محمدًا ساحر يفرق
بين المرء وأخيه وبين الرجل وزوجته والرجل وأبيه ،فوافق الكفار على رأيه وانتشروا في موسم الحج
يرددون هذه االفتراءات بين الناس ،حتى يصدوهم عن دعوة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فأنزل هللا
تعالى في الوليد بن المغيرة قوله{ :ذرني ومن خلقت وحيدًا .وجعلت له ماالً ممدودًا .وبنين شهودًا .
ومهدت له تمهيدًا .ثم يطمع أن أزيد .كال إنه كان آلياتنا عنيدًا .سأرهقه صعودًا .إنه فكر وقدر .فقتل
كيف قدر .ثم قتل كيف قدر .ثم نظر .ثم عبس وبسر .ثم أدبر واستكبر .فقال إن هذا إال سحر يؤثر .
إن هذا إال قول البشر .سأصليه سقر .وما أدراك ما سقر .ال تبقي وال تذر .لواحة للبشر .عليها تسعة
عشر} _[المدثر.]50-22:
إسالم عمر بن الخطاب:
دعا الرسول صلى هللا عليه وسلم هللا أن يعز اإلسالم بأحد العمرين :عمر بن الخطاب ،أو عمرو بن هشام،
وكان عمر بن الخطاب قبل أن يسلم شديد اإليذاء للمسلمين ،وذات يوم حمل عمر سيفه ،وانطلق يبحث
عن محمد ليقتله ،وفي الطريق قابله رجل ،وأخبره أن أخته فاطمة قد أسلمت هي وزوجها سعيد بن زيد،
ت رضي هللا عنه يعلِّم أخت فاتجه عمر غاض ًبا نحو دار أخته ،ودق الباب ،وكان الصحابي خباب بن األَ َر ِّ
عمر وزوجها القرآن الكريم ،فلما سمعوا صوت عمر امتألت قلوبهم بالرعب والخوف ،وأسرع خباب
فاختبأ في زاوية من البيت ،ودخل عمر فقال :لقد أُخبرت أنكما تبعتما محمدًا على دينه ،ثم ضرب زوج
أخته ،وضرب أخته على وجهها حتى سال الدم من وجهها ،ولكنها لم تخف ،وقالت له في ثبات وشجاعة:
نعم أسلمنا وآمنا باهلل ورسوله ،فاصنع ما شئت.
ندم عمر على ما صنع بأخته ،وطلب منها الصحيفة التي كانوا يقرءون منها ،فقالت له :يا أخي إنك نجس
وإنه ال يمسه إال المطهرون ،فقام عمر فاغتسل ،فأعطته الصحيفة ،فقرأ عمر :بسم هللا الرحمن الرحيم
{طه .ما أنزلنا عليكم القرآن لتشقى .إال تذكرة لمن يخشى .تنزيالً ممن خلق األرض والسموات العلى .
10
الرحمن على العرش استوى .له ما في السموات وما في األرض وما بينهما وما تحت الثرى .وإن تجهر
بالقول فإنه يعلم السر وأخفى .هللا ال إله إال هو له األسماء الحسنى} _[طه.]2-2:
نورا جذب عمر إلى اإلسالم وأضاء له طريق الحق ،فما إن قرأها حتى الن قلبه ،وهدأوكانت هذه اآليات ً
طبعه ،وذهب عنه الغضب ،وقال واإليمان يفيض في جوانحه :ما أحسن هذا الكالم وما أكرمه ،ثم ذهب
إلى النبي صلى هللا عليه وسلم وأعلن إسالمه ،وبعد قليل من إسالم عمر بن الخطاب رضي هللا عنه سار
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إلى الكعبة في وضح النهار بين عمر بن الخطاب وحمزة بن عبدالمطلب
رضي هللا عنهما وامتنع أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بهما ،وكان المسلمون ال يقدرون أن
صلُّوا عند الكعبة حتى أسلم عمر بن الخطاب ،فلما أسلم هو وحمزة بن عبدالمطلب صلى المسلمون عند ُي َ
الكعبة.
كبيرا يعذب فيه ضعفاء المسلمين ،فهذا أمية بن خلف ُيخرج عبده بالل بن رباح رضي أصبحت مكة سج ًنا ً
هللا عنه في حر الظهيرة ويطرحه على ظهره عريا ًنا فوق الرمال المحرقة ،ويضع على صدره صخرة
كبيرة ،كل هذا العذاب ألن بالال أسلم وسيده يريد منه أن يكفر بمحمد ويعبد األصنام ،لكن بالال كان قوي
اإليمان صلب العقيدة ،لم يلن ولم يستسلم ،وكان يردد قائال :أحد ..أحد .وتحمل كل هذا العذاب حتى َف َّر َج
هللا عنه.
ب المسلمون داخل بيوتهم؛ فهذا مصعب بن عمير قد حبسته أمه ،ومنعت عنه الطعام ،وجمعت أخواله و ُع ِّذ َ
حتى يعذبوه ليترك اإلسالم ،وهكذا أصبحت مكة مكا ًنا غير مأمون على المسلمين ،فتعذيب الكفار لهم يزداد
يو ًما بعد يوم ،ففكر النبي صلى هللا عليه وسلم في مكان يطمئن فيه على أصحابه ،فوقع اختياره على
الحبشة ،فأمر أصحابه ممن يطيقون الهجرة بالتوجه إليها ،ألن فيها مل ًكا ال ُيظلم عنده أحد ،وخرج بعض
سرا ،وكان من بينهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت النبي صلى هللا المسلمين المهاجرين إلى هناك ً
عليه وسلم ،وجعفر بن أبي طالب وزوجته أسماء بنت عميس ،وعبدهللا بن مسعود رضي هللا عنهم
وغيرهم.
ولما علم أهل قريش بذلك اشتد غيظهم ورفضوا أن يتركوا المسلمين المهاجرين إلى الحبشة وشأنهم ،بل
صمموا على إرجاعهم إلى مكة ،فاختاروا من بينهم رجلين معروفين بالذكاء ،وهما :عمرو بن العاص
وعبدهللا بن أبي بلتعة وأرسلوهما بهدايا إلى ملك الحبشة ،فدخل عمرو بن العاص على النجاشي ،وقال
ض َوى (جاء) إلى بلدك منا سفهاء ،فارقوا دين قومهم ،ولم يدخلوا في دينكم ،وجاءوا له :أيها الملك ،إنه َ
بدين مبتدع ،ال نعرفه نحن وال أنتم ،وقد بعثنا إلى الملك فيهم آباؤهم وأعمامهم وعشائرهم؛ لتردهم إليهم،
فهم أعلى بهم عي ًنا وأعلم بما عابوا عليهم ،فرفض النجاشي أن يسلِّم المسلمين لهم ،حتى يبعث إليهم
ويتأكد من صحة كالم عمرو وصاحبه.
فأرسل النجاشي في طلب المسلمين المهاجرين إلى بالده فجاءوا إليه ،وأنابوا جعفر بن أبي طالب رضي
هللا عنه حتى يتحدث بإسمهم ،فسأله النجاشي :ما هذا الدين الذي قد فارقتم به قومكم ،ولم تدخلوا في
11
ديني ،وال في دين أحد من هذه الملل؟ َف َردَّ عليه جعفر قائال :أيها الملك ،كنا قو ًما أهل جاهلية ،نعبد
األصنام ،ونأكل الميتة ،ونأتي الفواحش ،ونقطع األرحام ،ونسيء الجوار ،ويأكل القوي منا الضعيف ،فكنا
على ذلك حتى بعث هللا إلينا رسوال منا ،نعرف نسبه ،وصدقه ،وأمانته ،وعفافه ،فدعانا إلى هللا لنوحده
ونعبده ،ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة واألوثان ،وأمرنا بصدق الحديث ،وأداء
األمانة ،وصلة الرحم ،وحسن الجوار ،والكف عن المحارم والدماء ،ونهانا عن الفواحش ،وقول الزور،
وأكل مال اليتيم ،وقذف المحصنات.
وأمرنا أن نعبد هللا وحده وال نشرك به شي ًئا ،وأمرنا بالصالة والزكاة والصيام فصدَّ قناه وآمنا به ،واتبعناه
على ما جاء به من هللا ،فعبدنا هللا وحده فلم نشرك به شي ًئا ،وحرمنا ما حرم علينا ،وأحللنا ما أحل لنا،
فعدا علينا قو ُمنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ،ليردونا إلى عبادة األوثان عن عبادة هللا تعالى وأن نستحل ما
كنا نستحل من الخبائث ،فلما قهرونا وظلمونا وض َّيقوا علينا ،وحالوا بيننا وبين ديننا ،خرجنا إلى بالدك،
واخترناك على من سواك ،ورغبنا في جوارك ،ورجونا أن ال ُنظلَم عندك أيها الملك ،فقال له النجاشي :هل
علي.
َّ معك مما جاء به هللا من شيء؟ قال جعفر :نعم .فقال النجاشي :إقرأه
فقرأ عليه جعفر أول سورة مريم ،فبكى النجاشي ،ثم قال :إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة
واحدة ،ثم قال لعمرو وصاحبه :انطلقا ،فال وهللا ال أسلمهم إليكما ،وردَّ النجاشي الهدايا إلى عمرو ولم
يسلم المسلمين إليه ،وهكذا فشل المشركون في اإليقاع بين المسلمين وملك الحبشة.
المقاطعة
ازداد عدد المسلمين ،وانضم إليهم عدد من أصحاب القوة والسيطرة ،فأصبح من الصعب على المشركين
تعذيبهم ،ففكروا في تعذيب من نوع آخر ،يشمل كل المسلمين قويهم وضعيفهم ،بل يشمل كل من يحمي
النبي صلى هللا عليه وسلم والمسلمين حتى ولو لم يدخل في اإلسالم ،فقرر المشركون أن يقاطعوا بني
هاشم ومن معهم ،فال يزوجونهم وال يتزوجون منهم ،وال يبيعون لهم وال يشترون منهم ،وال يكلمونهم،
وال يدخلون بيوتهم ،وأن يستمروا هكذا حتى ُيسلِّموا إليهم محمدًا ليقتلوه أو يتركوا دينهم ،وأقسم
المشركون على هذا العهد ،وكتبوه في صحيفة وعلقوها داخل الكعبة.
وأحكم المشركون الحصار ،فاضطر الرسول صلى هللا عليه وسلم ومن معه إلى االحتباس في شعب بني
هاشم ،وكان رجال قريش ينتظرون التجار القادمين إلى مكة ليشتروا منهم الطعام ويمنعوا المسلمين من
شرائه ،فيظلوا على جوعهم ،فهذا أبو لهب يقول لتجار قريش عندما يرى مسل ًما يشترى طعا ًما ألوالده :يا
معشر التجار ،غالوا على أصحاب محمد؛ حتى ال يدركوا معكم شي ًئا ،فيزيدون عليهم في السلعة ،حتى
يرجع المسلم إلى أطفاله ،وهم يتألمون من الجوع ،وليس في يديه شيء يطعمهم به.
ويذهب التجار إلى أبي لهب فيربحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس ،حتى تعب المؤمنون ومن معهم من
الجوع والعري ،واستمر هذا الحصار على بني هاشم والمسلمين مدة ثالث سنوات ،ولكن المسلمون أثبتوا
أنهم أقوى من كل حيل المشركين ،فإيمانهم راسخ في قلوبهم ال يزحزحه جوع وال عطش ،حتى وإن
ضوا من حول نبيهم صلى هللا عليه وسلم. اضطروا إلى أكل أوراق الشجر ،فلم ييأسوا ،ولم ينف ُّ
12
وشعر بعض المشركين بسوء ما يفعلونه ،فقرروا إنهاء هذه المقاطعة الظالمة وأرسل هللا تعالى األرضة
دودة أو حشرة صغيرة تشبه النملة فأكلت صحيفتهم ،ولم ُت ْب ِق إال اسم هللا تعالى ،وأوحى هللا إلى نبيه
بذلك ،فأخبر النبي صلى هللا عليه وسلم عمه أبا طالب بما حدث للصحيفة ،فذهب أبو طالب إلى الكفار
وأخبرهم بما أخبره محمد صلى هللا عليه وسلم به ،فأسرعوا إلى الصحيفة ،فوجدوا ما قاله أبو طالب
صد ًقا ،وتقدم من المشركين هشام بن عمرو ،وزهير بن أبي أمية والمطعم بن عدى ،وأبو البختري إبن
هشام ،وزمعة بن األسود ،فتبرؤا من هذه المعاهدة ،وبذلك انتهت المقاطعة بعد ثالث سنوات من الصبر،
والتحمل والثبات.
عام الحزن
في العام العاشر من البعثة كانت األحزان على موعد مع الرسول صلى هللا عليه وسلم ،فقد مات عمه أبو
طالب الذي كان يحميه من أهل مكة ،ثم ماتت زوجته الوفية الصادقة السيدة خديجة رضي هللا عنها التي
كانت تخفف عنه ،وتؤيده في دعوته إلى هللا عز وجل وهي التي آمنت به وساعدته بمالها ،ورزقه هللا
منها األوالد ،فكان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يحبها ويقدرها ،وبشرها الرسول صلى هللا عليه وسلم
بالجنة قبل موتها فقد أتى جبريل عليه السالم النبي صلى هللا عليه وسلم فقال :يا رسول هللا ،هذه خديجة
شرها قد أتت معها إناء فيه إدام ،أو طعام ،أو شراب ،فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السالم من ربها ومني ،وب ِّ
ببيت في الجنة من قصب المراد به لؤلؤة مجوفة واسعة كالقصر الكبير ال صخب فيه وال نصب
_[البخاري].
فحزن الرسول صلى هللا عليه وسلم حز ًنا شديدًا على وفاة زوجته وعمه ،وازداد قلقه على الدعوة ،فقد
فقد نصيرين كبيرين ،وصدق ما توقعه الرسول صلى هللا عليه وسلم ،فقد اشتد تعذيب المشركين له
وألصحابه.
زواج الرسول صلى هللا عليه وسلم من السيدة سودة:
كانت السيدة سودة بنت زمعة رضي هللا عنها قد أسلمت في بداية اإلسالم وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها
السكران بن عمرو ،ثم عادت إلى مكة ،وقد مات زوجها ،فتزوجها الرسول صلى هللا عليه وسلم إكرا ًما
لها ،ورحمة بها.
رحلة الرسول صلى هللا عليه وسلم إلى الطائف:
لم ييأس الرسول صلى هللا عليه وسلم بعد أن أعرض أهل مكة عن قبول الدعوة ولكنه بحث عن مكان
جميعا من الظلمات إلى النور.
ً آخر لنشر الدين ،فأرض هللا واسعة ،وقد أرسله هللا تعالى ليخرج الناس
فسافر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ومعه خادمه زيد بن حارثة إلى الطائف وكان ذلك بعد مضي عشر
سنوات من بعثته ،وظل في الطائف عشرة أيام يدعو كبار القوم إلى اإلسالم ،ولكن الطائف لم تكن أحسن
سلَّطوا عليه صبيانهم وسفهاءهم حاال من مكة ،فقد رفض أهلها قبول دعوته ،ولم يكتفوا بذلك ،بل إنهم َ
13
فوقفوا صفين على طول طريق الرسول صلى هللا عليه وسلم يسبونه ،ويقذفونه بالحجارة هو وزيد إبن
حارثة الذي كان يدافع عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بنفسه ويصد الحجارة ،حتى جرح في رأسه،
وسال الدم من قدم الرسول صلى هللا عليه وسلم.
عندئذ توجه الرسول صلى هللا عليه وسلم إلى ربه ،ولجأ إليه ،ورفع يديه قائال :اللهم إليك أشكو ضعف
قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ،يا أرحم الراحمين ،أنت رب المستضعفين ،وأنت ربي ،إلى من
علي فال أبالي ،غير أن عافيتك َّ تكلني ،إلى بعيد يتجهمني ،أم إلى عدو ملكته أمري؟! إن لم يكن بك غضب
هي أوسع لي ،أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ،وصلح عليه أمر الدنيا واآلخرة أن يحل علي
غضبك ،أو أن ينزل بي سخطك ،لك العتبى (التوبة والرجوع واالستغفار) حتى ترضى ،وال حول وال قوة
إال بك [ابن إسحاق].
ووجد النبي صلى هللا عليه وسلم بستا ًنا لعتبة وشيبة إبني ربيعة فجلس فيه يريح جسده المتعب لبعض
الوقت ،ورأى عتبة وشيبة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على هذه الحال ،فرق قلبهما له مع أنهما
عداسا بعنقود من عنب ،ليقدمه إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فتناولهً مشركان ،فأرسال غالمهما
قائال :بسم هللا ،فتعجب عداس ،وقال :إن هذا الكالم ال يقوله أهل هذه البالد يعنى ال يقولون بسم هللا فسأله
الرسول صلى هللا عليه وسلم عن دينه وبلده ،فقال عداس :أنا نصراني من أهل نينوى ،فقال له رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم :من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ فقال عداس متعج ًبا :وما يدريك ما يونس
فانكب عداس على رسول هللا صلى هللاَّ بن متى؟! فقال صلى هللا عليه وسلم :ذلك أخي كان ً
نبيا وأنا نبي
عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه المجروحتين.
وفي طريق عودة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إلى مكة ،شاء هللا أن يخفف عنه ما عاناه في الطائف،
فعندما وقف يصلي الفجر مر به نفر من الجن ،فاستمعوا له ،فلما فرغ من صالته رجعوا إلى قومهم وقد
مخبرا عن هذا{ :قل أوحي إلي أنه استمع نفر منً آمنوا باهلل وبرسوله صلى هللا عليه وسلم ،قال تعالى
الجن فقالوا إنا سمعنا قرآ ًنا عج ًبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدًا} _ [الجن.]8-2 :
اإلسراء والمعراج
وهكذا أعرض أهل مكة عن اإلسالم ،وخذل أهل الطائف النبي صلى هللا عليه وسلم ،وازداد إيذاء الكافرين
له ولصحابته ،وخاصة بعد وفاة السيدة خديجة رضي هللا عنها وعمه أبي طالب ،وأراد هللا سبحانه و
تعالى أن يخفف عن نبيه ،فأكرمه برحلة اإلسراء والمعراج؛ فبينما كان الرسول صلى هللا عليه وسلم
نائ ًما بعد العشاء جاءه جبريل ،فأيقظه وخرج به حتى انتهيا إلى دابة اسمها البراق تشبه البغل ،ولها
جناحان ،فركب الرسول صلى هللا عليه وسلم البراق حتى وصل بيت المقدس في فلسطين ،وصلى باألنبياء
ركعتين.
وهذه الرحلة من مكة إلى بيت المقدس تسمى اإلسراء قال تعالى{ :سبحان الذي أسرى بعبده ليالً من
المسجد الحرام إلي المسجد األقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير}
_[اإلسراء.]2 :
14
ثم بدأت الرحلة السماوية من المسجد األقصى إلى السماوات العال وتسمى المعراج وإذا بأبواب السماء
تفتح للنبي صلى هللا عليه وسلم ،فسلم على المالئكة ،وظل يصعد من سماء إلى سماء يرافقه جبريل؛
فرأى الجنة والنار ،ورأى من مشاهد اآلخرة ما لم يره إنسان حتى وصل إلى سدرة المنتهى ،وهو موضع
لم يبلغه نبي أو ملك قبله وال بعده تكري ًما له ،قال تعالى{ :فكان قاب قوسين أو أدنى .فأوحى إلى عبده ما
أوحى} [النجم ]20-5 :وفي هذه الليلة ،فرض هللا الصلوات الخمس على المسلمين ،ثم نزل رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم إلى بيت المقدس ،وركب البراق عائدًا إلى مكة.
وفي الصباح ،حكى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لقومه ما حدث ،فكذبوه وسخروا من كالمه ،وأراد
الكفار أن يختبروا صدق الرسول صلى هللا عليه وسلم ،فطلبوا منه أن يصف بيت المقدس ولم يكن رآه
من قبل فأظهر هللا له صورة بيت المقدس ،فأخذ يصفه وهو يراه ،وهم ال يرونه ،وأخبرهم الرسول صلى
هللا عليه وسلم بأشياء رآها في الطريق ،وبقوم مر عليهم وهم في طريقهم إلى مكة ،فخرج الناس
ينتظرونهم ،فجاءوا في موعدهم الذي حدده النبي صلى هللا عليه وسلم فشهدوا بصدقه.
وأسرع بعضهم إلى أبي بكر يقول له في استنكار :أسمعت ما يقول محمد؟ وكان أبو بكر مؤم ًنا صادق
اإليمان ،فص َّدق الرسول صلى هللا عليه وسلم في كل ما قاله ،فسماه الرسول صلى هللا عليه وسلم الصديق
وهكذا كانت هذه الرحلة تسرية عن النبي صلى هللا عليه وسلم ،وتخفي ًفا لألحزان التي َّ
مر بها ،وتأكيدًا من
أيضا ابتالء للذين آمنوا حتى يميز هللا الطيب من الخبيث.هللا له على أنه قادر على نصرته ،وكانت ً
جاء موسم الحج في السنة العاشرة من البعثة ،فاجتمعت القبائل من كل مكان وبدأ الرسول صلى هللا عليه
وسلم يدعوهم قائال :يا أيها الناس ،قولوا ال إله إال هللا تفلحوا ،وتملكوا بها العرب ،وتذل لكم العجم ،وإذا
آمنتم كنتم ملو ًكا في الجنة _[الطبراني وابن سعد] ووجد الرسول صلى هللا عليه وسلم ستة رجال من
يثرب يتحدثون ،فاقترب منهم ،وقال لهم :من أنتم؟
قالوا :نفر من الخزرج.
قال :أَمِنْ موالى يهود أي من حلفائهم؟
قالوا :نعم.
قال :أفال تجلسون أكلمكم؟ .قالوا :بلى.
فجلس معهم وحدثهم عن اإلسالم ،وتال عليهم القرآن ،فانشرحت له صدورهم ،وظهرت عالمات القبول
على وجوههم ،وكانت بينهم وبين اليهود عداوة ،فكان اليهود يهددونهم بظهور نبي ،وسوف يؤيدونه
ويقاتلونهم معه ،فلما سمعوا كالم الرسول صلى هللا عليه وسلم نظر بعضهم لبعض وقالوا :تعلمون وهللا
إنه النبي الذي توعدكم به اليهود فال يسبقُ َّن ُكم إليه ..فأجابوا الرسول صلى هللا عليه وسلم فيما دعاهم
إليه ،ووعدوه بأن يقابلوه في العام المقبل ،ثم انصرفوا إلى قومهم وحدثوهم عن رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم ،فانتشرت أخباره في يثرب[_ .ابن إسحاق].
بـيعة العقبة األولى:
15
وفي شهر ذي الحجة سنة إحدى عشرة من البعثة ،قدم إلى مكة اثنا عشر رجال من أهل يثرب من بينهم
خمسة من الستة الذين كلموا الرسول صلى هللا عليه وسلم في العام الماضي ،واجتمع معهم رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم في مكان اسمه العقبة؛ فآمنوا به صلى هللا عليه وسلم ،وبايعوه على أال يشركوا باهلل
شي ًئا ،وال يسرقوا ،وال يرتكبوا الفواحش والمنكرات ،وال يقتلوا أوالدهم ،وال يعصوه صلى هللا عليه وسلم
في معروف يأمرهم به.
وكانت هذه هي بيعة العقبة األولى ،وعندما عادوا إلى يثرب أرسل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم معهم
مصعب بن عمير رضي هللا عنه ليعلمهم أمور الدين ويقرأ عليهم القرآن ،فأسلم على يديه كثير من أهل
يثرب.
بـيعة العقبة الثانية:
وفي شهر ذي الحجة من العام الثاني عشر من البعثة ،ذهب ثالثة وسبعون رجال وامرأتان من أهل يثرب
إلى الحج ،ليبايعوا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على اإلسالم ،وفي ليلة الحادي عشر من ذي الحجة
تسلل الرجال والمرأتان وذهبوا إلى العقبة ،وجاء إليهم الرسول صلى هللا عليه وسلم ومعه عمه العباس
إبن عبدالمطلب ،ولم يكن قد آمن وقتئذ ،ولكنه جاء ليطمئن على اتفاق إبن أخيه مع أهل يثرب ،وليبين
لهم أنه قادر على حمايته في مكة إن لم يكونوا قادرين على حمايته في المدينة.
وتمت بيعة العقبة الثانية ،وفيها عاهد األنصار النبي صلى هللا عليه وسلم على السمع والطاعة ،وقال لهم
:تبايعوني على السمع والطاعة ،في النشاط والكسل ،وعلى النفقة في العسر واليسر ،وعلى األمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ،وعلى أن تقولوا في هللا ال تأخذكم لومة الئم ،وعلى أن تنصروني إذا قدمت
عليكم ،وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة _[أحمد].
وأصبح لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم أتباع أقوياء مستعدون لنصرته ،والقتال من أجل اإلسالم ،حتى
إن أحدهم وهو العباس بن عبادة رضي هللا عنه قام وقال لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :وهللا الذي بعثك
بالحق ،إن شئت لنميلن على أهل منى غدًا بأسيافنا ،ولكن الرسول صلى هللا عليه وسلم ال يفعل إال ما
يأمره هللا به ،فقال له :لم نؤمر بذلك ،ولكن ارجعوا إلى رحالكم [ابن إسحاق] واختار رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم منهم اثني عشر رجال؛ ليكونوا أمراء عليهم حتى يهاجر إليهم.
وفي الصباح ،تسلل الخبر إلى كفار قريش ،فاكتشفوا أمر ذلك االجتماع الخطير ،وخرجت قريش تطلب
المسلمين من أهل يثرب فأدركوا سعد بن عبادة وأسروه وأخذوا يعذبونه و َي ُج ُّرونه حتى أدخلوه مكة،
وكان سعد يجير ويحمي تجارة اثنين من كبار مكة إذا مرا ببلده ،وهما جبير بن مطعم بن عدي والحارث
بن حرب بن أمية ،فنادى باسميهما فجاءا وخلصاه من أيدي المشركين ،وعاد سعد بن عبادة رضي هللا
عنه إلى يثرب.
أصبح كفار مكة في غيظ شديد ،بعدما صار لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم أنصار في يثرب ،وهم أهل
حرب يجيدون القتال ،وسوف ينصرون اإلسالم ،فشعر كفار مكة أن األمر سيخرج من أيديهم ،فانقضوا
16
على المسلمين بالتعذيب واألذى ،والتف المسلمون حول نبيهم الكريم صلى هللا عليه وسلم يطلبون منه
اإلذن في ترك مكة كلها ،ويهاجرون بدينهم ،حتى يستطيعوا أن يعبدوا هللا تعالى وهم آمنون ،فأذن لهم
سرا إلى المدينة ،تاركين الرسول صلى هللا عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة .فبدأ المسلمون يتسللون ً
ديارهم وأموالهم من أجل دينهم.
وجاء أبو بكر الصديق رضي هللا عنه إلى الرسول صلى هللا عليه وسلم يستأذنه في الهجرة ،فطلب منه
الرسول صلى هللا عليه وسلم أن ينتظر لعل هللا يجعل له صاح ًبا ،ففهم أبو بكر أنه سيظفر بالهجرة مع
فجهز ناقتين ليركبهما هو َّ مسرورا ،وأخذ ُي ِع ُّد للرحلة المباركة،
ً رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فانتظر
ورسول هللا صلى هللا عليه وسلم إلى المدينة.
المؤامرة:
اجتمع زعماء مكة في دار الندوة ذلك البيت الكبير الواسع الذي كان لقصي بن كالب وعلى وجوههم
الغضب؛ للتشاور في أمر الرسول صلى هللا عليه وسلم ،فقد شعروا أنه يعد نفسه للهجرة إلى المدينة ،وإذا
كبيرا يتجمع فيه المسلمون من كل مكان حول النبي صلى هللا عليه مركزا ًً تم له ذلك فسوف تصبح المدينة
خطرا على تجارة أهل مكة عندما تمر بالمدينة في طريقها إلى الشام ذها ًبا وإيا ًبا، ً وسلم ،وبذلك يشكلون
وبدأ النقاش ،فقال بعضهمُ :نخرج محمدًا من بالدنا فنستريح منه ،وقال آخرون :نحبسه حتى يموت.
قاطعا ،لينقضوا على محمد، ً قويا ،ونعطي كال منهم سي ًفا صار ًما شابا ً
وقال أبو جهل :نأخذ من كل قبيلة ً
ويضربوه ضربة قاتلة ،وهكذا ال يستطيع عبد مناف قوم محمد محاربة القبائل كلها ،فيقتنعون بأخذ ما
تعويضا عن قتل محمد ،وكان الشيطان اللعين يجلس بينهم في صورة شيخ نجدي وهم ال ً يريدون من مال
يعرفونه ،فلما سمع ذلك الرأي قال في حماس :القول ما قال الرجل ،وهذا الرأي ال رأى غيره ،فاتفقوا
جميعا عليه.
ً
وسجل القرآن الكريم ما دار في اجتماع المشركين ذلك ،فقال تعالى{ :إذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو
يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر هللا وهللا خير الماكرين} _[األنفال ]50 :وتدخلت عناية هللا؛ فجاء
جبريل إلى الرسول صلى هللا عليه وسلم يأمره أال يبيت هذه الليلة في فراشه وأن يستعد للهجرة ،قالت
عائشة رضي هللا عنها :فبينما نحن يو ًما جلوس في بيت أبي بكر في َح ِّر الظهيرة ،قال قائل ألبي بكر :هذا
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ولم يكن يأتينا في مثل هذه الساعة ،فقال أبو بكر رضي هللا عنه :فدا ًء له
أبي وأمي ،وهللا ما جاء به في هذه الساعة إال أمر.
فجاء رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فاستأذن ،فأذن له ،فدخل ،فقال النبي صلى هللا عليه وسلم ألبي
بكر :أخرج َمنْ عندك فقال أبو بكر :إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول هللا ،قال :فإني قد أذن لي في الخروج
فقال أبو بكر :الصحبة بأبي أنت يا رسول هللا ،قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :نعم.
أحداث الهجرة:
قادرا على أن يرسل مل ًكا من السماء يحمل رسوله إلى المدينة كما أسرى به ليال كان هللا سبحانه وتعالى ً
من مكة إلى المسجد األقصى وعرج به السماء ،ولكن جعل الهجرة فرصة كبيرة لنتعلم من رسول هللا
دروسا عظيمة في كيفية التفكير والتخطيط واألخذ باألسباب التي توصل إلى النجاح. ً صلى هللا عليه وسلم
ولنبدأ بأول هذه الدروس ،فكيف يخرج النبي صلى هللا عليه وسلم هو وصاحبه أبو بكر رضي هللا عنه من
بين هؤالء الكفار دون أن يلحقوا بهما؟ فلو خرجا من مكة سالمين فإن المسافة طويلة بين مكة والمدينة
وسوف يخرج وراءهما الكفار ويدركونهما ،البد إذن من االختباء في مكان ما؛ حتى ييأس الكفار من
17
البحث عنهما ،ومن هنا وضع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم خطة محكمة لتتم الهجرة بسالم.
فأمام بيت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وقف مجموعة من شباب قريش في الليل ،ينتظرون حتى يخرج
الرسول صلى هللا عليه وسلم ،فينقضوا عليه ويقتلوه ،وكان هؤالء الكفار يتطلعون بين الحين والحين إلى
علي بن أبي َّ فراش رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ليطمئنوا على وجوده ،فأمر النبي صلى هللا عليه وسلم
طالب رضي هللا عنه بالنوم في فراشه ،وأن يتغطى ببردته ،وطمأنه بأن المشركين لن يؤذوه بإذن هللا.
علي رضي هللا عنه بكل شجاعة وحماس ،ونفذ ما أمره الرسول صلى هللا عليه وسلم به ،وأراد ٌّ واستجاب
الرسول صلى هللا عليه وسلم من ذلك تضليل المشركين ،فإذا نظروا إليه من الباب ووجدوه في فراشه،
ظنوا أنه صلى هللا عليه وسلم ما زال نائ ًما ،وقد كانت عند الرسول صلى هللا عليه وسلم أمانات كثيرة
عليا أن ينتظر تركها المشركون عنده ،فأراد الرسول صلى هللا عليه وسلم أن يردها إلى أصحابها ،فأمر ً
في مكة ألداء هذه المهمة ،رغم أنهم أخرجوا المسلمين من ديارهم ،وآذوهم ،ونهبوا أموالهم ولكن
المسلم يجب أن يكون أمي ًنا.
وكان أبو جهل يقول ألصحابه متهك ًما برسول هللا صلى هللا عليه وسلم :إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه
أصبحتم ملوك العرب والعجم ،ثم بعثتم من بعد موتكم ،فدخلتم الجنة ،وإن لم تفعلوا ذبحكم ثم بعثتم من بعد
موتكم فتدخلون النار تحرقون فيها.
ونام علي رضي هللا عنه في فراش الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وتوجه النبي صلى هللا عليه وسلم إلى
الباب ،وخرج وفي قبضته حفنة من التراب فنثرها على رؤوس المشركين ،وهو يقرأ سورة يس إلى قوله
سدا فأغشيناهم فهم ال يبصرون} _[يس ]5 :وإذا برجل سدا ومن خلفهم ً تعالى{ :وجعلنا من بين أيديهم ً
يمر عليهم فرأى التراب على رؤوسهم ،فقال لهم :خيبكم هللا ،قد خرج عليكم محمد ،ثم ما ترك منكم رجال
إال وقد وضع على رأسه ترا ًبا ،أفما ترون ما بكم؟ فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه التراب.
فنظروا من الباب ،فوجدوا رجال نائ ًما في مكان الرسول صلى هللا عليه وسلم وعليه غطاؤه ،فقالوا :هذا
عليا في فراشه، محمد في فراشه ،وعليه بردة ،ثم اقتحموا دار النبي صلى هللا عليه وسلم ،فوجدوا ً
فخرجوا يبحثون عن الرسول صلى هللا عليه وسلم في كل مكان ،وكان الرسول صلى هللا عليه وسلم خالل
هذه الفترة قد وصل إلى بيت صاحبه أبي بكر رضي هللا عنه وعزما على الذهاب إلى غار ثور ليختبئا فيه.
وحمل أبو بكر الصديق رضي هللا عنه كل ماله ،وخرج مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من باب صغير
في نهاية المنزل حتى ال يراهما أحد ،وانطلقا حتى وصال الغار ،وهناك وقف رسول هللا صلى هللا عليه
خلو الغار من الح َّيات والعقارب ،ثم س َّد ما فيه من فتحات حتى الوسلم ودخل أبوبكر أوال؛ ليطمئن على ِّ
يخرج منها شيء ،وبعد ذلك دخل الرسول صلى هللا عليه وسلم.
وها هي ذي أسماء بنت أبي بكر يدخل عليها جدها أبو قحافة بعد أن علم بخروج ولده أبي بكر مع رسول
ِى ،يسألها عما تركه أبو بكر في بيته ويقول :وهللا إني كبيرا قد َعم َ
هللا صلى هللا عليه وسلم ،وكان رجال ً
أحجارا فوضعتها في ً كثيرا ،وأخذت
خيرا ً
ت! إنه قد ترك لنا ً ألراه فجعكم بماله مع نفسه ،قالت :كال يا أب ِ
المكان الذي كان أبوها يضع ماله فيه ،ثم وضعت عليها ثو ًبا ،ثم أخذت بيده وقالت :يا أبت ،ضع يدك على
هذا ،فوضع يده عليه فقال :ال بأس ،فإن كان ترك لكم هذا فقد أحسن ،وفي هذا بالغ لكم.
ً
أما كفار مكة فإنهم حيارى ،يبحثون عن الرسول صلى هللا عليه وسلم وصاحبه ويضربون كفا بكف من
الحيرة والعجب ،فالصحراء على اتساعها مكشوفة أمامهم ،ولكن ال أثر فيها ألحد وال خيال إلنسان،
فتتبعوا آثار األقدام ،فقادتهم إلى غار ثور ،فوقفوا أمام الغار ،وليس بينهم وبين الرسول صلى هللا عليه
18
وسلم وصاحبه سوى أمتار قليلة ،حتى إن أبا بكر رأى أرجلهم فقال لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يا
رسول هللا ،لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا ،فقال له الرسول صلى هللا عليه وسلم :يا أبا بكر ،ما ظنك
باثنين هللا ثالثهما [متفق عليه].
وصدق رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فقد انصرف القوم ،ولم يفكر أحدهم أن ينظر في الغار ،وسجل
القرآن هذا ،فقال تعالى{ :إال تنصروه فقد نصره هللا إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ
يقول لصاحبه ال تحزن إن هللا معنا فأنزل هللا سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا
السفلى وكلمة هللا هي العليا وهللا عزيز حكيم} [التوبة.]20 :
ومكث الرسول صلى هللا عليه وسلم وصاحبه في الغار ثالثة أيام ،وكان عبدهللا بن أبي بكر يذهب إليهما
بأخبار الكفار ليال ،وأخته أسماء تحمل لهما الطعام ،أما عامر بن فهيرة راعي غنم أبي بكر فقد كان يسير
أثرا يوصل إلى الغار ،وبعد انتهاء األيام الثالثة ،خف باألغنام فوق آثار أقدام عبدهللا وأسماء حتى ال يترك ً
طلب المشركين للرسول صلى هللا عليه وسلم وصاحبه ،فخرجا من الغار ،والتقيا بعبد هللا بن أريقط ،وقد
اتفقا معه على أن يكون دليلهما في هذه الرحلة مقابل أجر.
تحرك الركب بسالم ،وأبو بكر ال يكف عن االلتفات والدوران حول النبي صلى هللا عليه وسلم خو ًفا عليه،
ورسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقرأ القرآن ،وال يلتفت حوله فهو واثق من نصر هللا تعالى له ،وال
يخشى أحدًا ،وبينما أبو بكر يلتفت خلفه إذا بفارس يقبل نحوهما من بعيد ،كان الفارس هو سراقة إبن
شا لما يئست من العثور على الرسول صلى هللا عليه وسلم وصاحبه ،جعلوا مالك وقد دفعه إلى ذلك أن قري ً
مائة ناقة جائزة لمن يرده إليهم ً
حيا أو مي ًتا.
طمعا في الجائزة ،فغاصت أقدام فرسه في الرمال فانطلق سراقة بن مالك بفرسه وسالحه في الصحراء ً
مسرعا عن الفرس ،حتى نزعت أقدامها ً مرتين حين رأى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فنزل سراقة
من الرمال ،فأيقن سراقة أن هللا تعالى يحرس رسوله صلى هللا عليه وسلم ،ولن يستطيع إنسان مهما فعل
أن ينال منه ،فطلب من رسول هللا أن يعفو عنه ،وعرض عليه الزاد فقال له النبي صلى هللا عليه وسلم :ال
حاجة لنا ،ولكن ع ِّم عنا الخبر فوعده سراقة أال يخبر أحدًا ،وعاد إلى مكة ،وهكذا خرج سراقة يريد قتلهما
وعاد وهو يحرسهما ويبعد الناس عنهما ،فسار النبي صلى هللا عليه وسلم وصاحبه إلى المدينة تحرسهما
عناية هللا.
مرا بمنازل خزاعة ودخال خيمة أم معبد وأثناء رحلة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأبي بكر إلى المدينة َّ
مر بها ،فسأالها :عما إذا كان عندها شيء من طعام؟ الخزاعية ،وكانت سيدة كريمة ،تطعم وتسقي من َّ
فأخبرتهما أنها ال تملك شي ًئا في ذلك الوقت ،فقد كانت السنة شديدة القحط ،فنظر رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم إلى شاة في جانب الخيمة فقال :ما هذه الشاة يا أم معبد؟
فأخبرته أنها شاة منعها المرض عن الخروج إلى المراعي مع بقية الغنم ،فقال :هل بها من لبن؟ قالت:
هي أجهد من ذلك ،فقال :أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت :نعم إن رأيت بها حل ًبا فاحلبها.
فمسح رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بيده ضرعها ،وسمى هللا ودعا ،وطلب إناء فحلب فيه حتى علته
الرغوة ،فسقاها فشربت حتى شبعت ،وسقى رفيقيه أبا بكر وعبد هللا بن أريقط حتى شبعا ،ثم شرب،
وحلب فيه ثانية حتى مأل اإلناء ،ثم تركه صلى هللا عليه وسلم وانصرف.
الرسول صلى هللا عليه وسلم في قباء:
علم أهل المدينة بهجرة الرسول صلى هللا عليه وسلم إليهم ،فكانوا يخرجون كل يوم بعد صالة الصبح إلى
19
مشارف المدينة ،وعيونهم تتطلع إلى الطريق ،وتشتاق لمقدم الرسول صلى هللا عليه وسلم إليهم ،وال
يعودون إلى بيوتهم إال إذا اشتد حر الظهيرة ،ولم يجدوا ظال يقفون فيه.
وفي يوم االثنين الثاني عشر من ربيع األول انتظر أهل يثرب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم كعادتهم،
حتى اشتد الحر عليهم ،فانصرفوا لبيوتهم ،وبعد قليل أقبل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وصاحبه،
فأبصرهما رجل يهودي كان يقف على نخلة ،فصاح بأعلى صوته :يا بني قيلة ،هذا صاحبكم قد جاء،
فأسرع المسلمون الستقبال نبيهم وصاحبه أبي بكر الذي كان ُيظل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بردائه
من حر الشمس.
علي
ُّ ُ
وبينما الرسول صلى هللا عليه وسلم في ق َباء ،في بيت سعد بن خيثمة يستقبل الوافدين عليه ،أقبل
إبن أبي طالب من مكة بعد أن ظل فيها ثالثة أيام بعد خروج الرسول صلى هللا عليه وسلم؛ ليرد األمانات
إلى أهلها ،وقد ظل الرسول صلى هللا عليه وسلم في قباء أربعة أيام يستقبل أهل المدينة ،وعندما أقبل يوم
الجمعة ترك رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قباء متوج ًها للمدينة بعد أن أسس مسجد قباء ،وهو أول
مسجد بني في اإلسالم ،وقال هللا عز وجل عنه{ :لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه
فيه رجال يحبون أن يتطهروا وهللا يحب المطهرين} _[التوبة.]202 :
وكانت الهجرة حد ًثا فاصال بين عهدين ،فقد أعز هللا المسلمين بعد أن كانوا مضطهدين ،وصارت لهم دار
آمنة يقيمون فيها ،ومسجد يصلون فيه ،ويؤدون فيه شعائرهم ،ويتشاورون في أمورهم ،لهذا كله اتفق
الصحابة على جعل الهجرة بداية للتاريخ اإلسالمي ،فقد تحول المسلمون من الضعف والحصار
واالضطهاد إلى القوة واالنتشار ورد العدوان.
الرسول في المدينة
كانت يثرب قبل الهجرة تموج بالصراعات والحروب والدسائس ،فنار العداوة مشتعلة بين قبيلتي األوس
والخزرج ،والحرب بينهما سجال ،فإذا انتصر أحدهما عمل اآلخر بكل طاقته على إلحاق الهزيمة به ،حتى
فني الرجال ،وترملت النساء وتيتم األبناء ،وكان اليهود يقفون خلف الستار ،يزيدون النار اشتعاال،
فيمدون الطرفين بالسالح ،ويثيرون بينهما العداوات والفتن؛ آملين أن يقضي بعضهم على بعض ،حتى
تكون لليهود السيادة والكلمة األولى في المدينة.
واجتمع أهل يثرب على عبدهللا بن أبي بن سلول لتكون له الكلمة العليا في إدارة المدينة ،ولكن هللا أراد
السالمة للمدينة؛ وأراد لها أن تكون مركز الدولة اإلسالمية ،فأقبل موكب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم
على المدينة ،فاستقبله أهلها استقباال عظي ًما؛ وكان أمل كل واحد منهم أن يستضيف الرسول صلى هللا
عليه وسلم في بيته ،فكلما مرت الناقة التي تحمل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ببيت ،خرج أهل ذلك
البيت ،وتعلقوا بزمامها ،وهم يرجون أن ينزل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عندهم ،فكان يقول لهم:
دعوا الناقة فإنها مأمورة أي اتركوا الناقة فإنها ستقف وحدها حيث أمرها هللا تعالى.
وفي مكان يملكه يتيمان من بني النجار أمام دار أبي أيوب األنصاري بركت الناقة ،فقال صلى هللا عليه
وسلم :هذا إن شاء هللا المنزل فحمل أبو أيوب رحل النبي صلى هللا عليه وسلم إلى بيته[ .ابن إسحاق]
20
وإذا بفتيات صغيرات من بني النجار ،يخرجن فرحات بمقدم الرسول صلى هللا عليه وسلم وينشدن:
ـار وفي بيت أبي أيوب األنصاري المكون من طابقين، وار مِن بنـي النـَّ َّجـار يا ح َّب َـذا محمـ ٌد مـن جـَ ِ َن ْحنُ َج ٍ
نزل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في الطابق السفلي ،فقال له أبو أيوب :يا نبي هللا ،بأبي أنت وأمي،
وأعظم أن أكون فوقك ،وتكون تحتي ،فاظهر اصعد أنت فكن في األعلى ،وننزل نحن فنكون في ِّ إني ألكره
االسفل ،فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يا أبا أيوب ،إنه ألرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في أسفل
البيت _[أحمد].
وهكذا كان الرسول صلى هللا عليه وسلم ال يثقل على أهل البيت ،وكان الصحابي أبو أيوب األنصاري
كري ًما في ضيافته ،فإن صنع طعا ًما ال يأكل هو زوجته إال بعد أن يأكل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم منه
حبا فيه وطل ًبا لبركته. أوال ،ثم يأكالن من موضع أصابعه ً
بناء المسجد:
عاش المسلمون في المدينة حياة آمنة مطمئنة ،يغشاها الهدوء والسكينة ،ورسول هللا صلى هللا عليه
وسلم بينهم في وطنهم الجديد ،لقد أصبحت لهم دولة دينها اإلسالم ،وقائدها الرسول صلى هللا عليه وسلم،
وكان أول ما فكر فيه الرسول صلى هللا عليه وسلم هو بناء مسجد يجتمعون فيه ،فيؤدون فيه صالتهم،
ويقضون أمورهم ،ويتشاورون فيما يخصهم ،فاشترى صلى هللا عليه وسلم الموضع الذي بركت فيه
الناقة؛ ليبني فيه المسجد.
وتجمع المسلمون لبناء المسجد ،ورسول هللا صلى هللا عليه وسلم معهم ،ينظف المكان ،ويحمل معهم
الطوب ،ويشارك في البناء ،فهذا يقطع النخيل ،وهذا يحفر أماكن األعمدة ،وذاك يقيم الجدار ،وآخر يعد
الطين ،وهذا يحمل الطوب ،كلهم ينشدون:
لَئِنْ َق َـعـدنا والنبــي َيع َمــل لـَ َذاك منـَّا العمـل ُ ال َ
مضـلَّل ُ
أيضا:
وينشدون ً
ار والمها ِج َرة فارح ِم األ ْن َ
ص َ َ ِـرة اللَّ ُه َّم
عيـش اآلخ َ
ُ ش إال ال َع ْي َ
ومن المسجد بدأ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ينظم دولته ،وكان أهم شيء في هذه الدولة هم األفراد
الذين يعيشون فيها؛ ألنها تنهض بهم وتعتمد عليهم ،فكان المسلمون في المدينة عندئذ قسمين:
-المهاجرون ،وهم أهل مكة الذين هاجروا بدينهم إلى المدينة.
-األنصار ،وهم أهل المدينة األصليون ،الذين اعتنقوا اإلسالم ،واستضافوا المسلمين في بلدهم ،ونصروا
الرسول صلى هللا عليه وسلم.
وفي بداية الهجرة كان المهاجرون في المدينة يعانون من الوحشة واإلحساس بالغربة ،فحياة المدينة
وج ُّوها يختلفان عن مكة ،مما جعل أكثرهم يتعرض للمرض ،فتوجه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إلى َ
ربه ودعاه أن يحبب المدينة إلى قلوب المهاجرين ،وأن يزيل مرض الحمى عنهم ،فاستجاب هللا تعالى
ب إلى المهاجرين العيش في المدينة ،وصاروا يتحركون في شوارعها ،وسوقها بحماس ومرح لنبيه وح َّب َ
كأنهم ولدوا ونشئوا فيها.
الصلح بن األوس والخزرج:
وكان األنصار قبيلتين كبيرتين :األوس ،والخزرج ،وكانت الحروب ال تنقطع بينهما قبل أن يعتنقوا
اإلسالم ،فصالح الرسول صلى هللا عليه وسلم بينهما ،ونزع هللا من قلوبهم العداوة والكراهية ،وحل محلها
الحب والمودة والوئام.
21
المؤاخاة:
سويا فيصبحوا أخوة مسلمين ،فال ً واآلن بعد أن استقر المهاجرون ،وصلح حال األنصار ،بقي أن يندمجوا
أخا منفرق بين مهاجر وأنصاري ،لذلك آخى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بينهم فجعل لكل مهاجر ً
األنصار ،فأبو بكر الصديق أخ لخارجة بن زهير ،وعمر بن الخطاب أخ لعتبان بن مالك ،وعبد الرحمن إبن
عوف أخ لسعد بن الربيع ،ولم تكن األخوة مجرد كلمة تقال ،بل طبقها المسلمون تطبي ًقا ً
فعليا فهذا سعد
إبن الربيع األنصاري يأخذ أخاه عبد الرحمن بن عوف ،ويعرض عليه أن يعطيه نصف ما يملك ،ولكن عبد
الرحمن بن عوف يشكره ويقول له :بارك هللا لك في أهلك ومالك ،ولكن ُدلَّني على السوق ،وذهب
عبدالرحمن إليه فربح وأكل من عمل يده[_ .البخاري].
بعضا بنا ًء على
ً ولم يقتصر ذلك على سعد بن الربيع بل فعله كثير من الصحابة حتى إنه كان يرث بعضهم
هذه اإلخوة ،فيرث المهاجر أخاه األنصاري ،ويرث األنصاري أخاه المهاجر ،وظلوا على ذلك حتى جعل هللا
التوارث بين ذوي األرحام ،وقد أثنى هللا عز وجل على المهاجرين واألنصار ،فقال تعالى{ :للفقراء
والمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضالً من هللا ورضوا ًنا وينصرون هللا ورسوله
أولئك هم الصادقون .والذين تبوؤا الدار واإليمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم وال يجدون في
صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم
المفلحون} _[الحشر.]5-2 :
وجمعهم هللا سبحانه في آية واحدة ،فقال تعالى{ :والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل هللا والذين
حقا لهم مغفرة ورزق كريم} [األنفال ]72 :وفي هذا المجتمع اآلمن آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون ً
المستقر ،حيث يحب كل مسلم أخاه ،أخذ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يعلم أصحابه أمور دينهم
فيدعوهم إلى كل خير ،وينهاهم عن كل شر ،وهم ينفذون ذلك راضين سعداء بهداية هللا لهم ،ووجود
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بينهم ،وبدأ الناس يتوافدون إلى المدينة ،معلنين إسالمهم وانضمامهم
لهذه الدولة المنظمة.
اليهود في المدينة:
وكان يسكن مع المسلمين في المدينة اليهود وبعض المشركين الذين يحقدون على اإلسالم ،ويكرهون قيام
دولته ،لذلك وضع الرسول صلى هللا عليه وسلم معاهدة تنظم العالقة بين المسلمين وغيرهم حتى يأمن
مكر الكفار ،وهذه بعض المبادئ التي احتوتها المعاهدة:
-2المهاجرون واألنصار أمة من دون الناس يتعاونون فيما بينهم ،وهم يد واحدة على من عاداهم.
-8دماؤهم محفوظة ،فال يقتل مؤمن مؤم ًنا ،وال ينصر مؤمن ً
كافرا على أخيه المؤمن.
-5لليهود حريتهم الدينية فال ُيجبرون على اإلسالم.
-2اليهود الذين يسكنون المدينة يشاركون في الدفاع عنها ،وال يعينون أعداء اإلسالم ،وال ينصرونهم.
-3كل ظالم أو آثم أو متهاون خائن ال ينفذ ما في هذا العهد عليه اللعنة والغضب ،ويقوم اآلخرون بحربه.
-6إذا حدث خالف في أي أمر ،فإن الحكم هو كتاب هللا وسنة نبيه صلى هللا عليه وسلم.
وضح الرسول صلى هللا عليه وسلم حقوق كل طائفة في المدينة وواجباتها ،ورسم المنهج الذي وهكذا َّ
يتعاملون به بكل أمانة وعدل ،فلم يظلم اليهود بل حفظ لهم حقوقهم ،ورغم ذلك أظهر اليهود وجههم
القبيح ،وكراهيتهم للرسول صلى هللا عليه وسلم رغم علمهم أنه صادق ،واتضح ذلك في موقفهم من
22
عبدهللا بن سالم عندما أسلم.
فقد كان عبد هللا بن سالم من علماء اليهود ،ومن ساداتهم ،فلما أسلم كتم إسالمه ،ولم يخبر اليهود،
وطلب من النبي صلى هللا عليه وسلم أن يسألهم عنه أوالً ،فبعث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إليهم
فقال :أي رجل فيكم إبن سالم؟ قالوا :ذاك سيدنا وإبن سيدنا ،وأعلمنا وإبن أعلمنا ،فقال :أفرأيتم إن أسلم؟
فقالوا :حاشا هلل ،ما كان ليسلم ،فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يإبن سالم ،اخرج عليهم فخرج فقال
لهم :يا معشر يهود ،اتقوا هللا ،فوهللا الذي ال إله إال هو إنكم لتعلمون أنه رسول هللا ،وأنه جاء بالحق
فقالوا :كذبت[ .البخاري].
وهكذا كانت عداوة اليهود للنبي صلى هللا عليه وسلم وللمسلمين واضحة منذ أول يوم في المدينة رغم
حقا وصد ًقا ،وقد اشتدوا في تكذيب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،وإظهار أنهم يعرفون أنه رسول هللا ً
حقدهم عليه عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ،وظهرت سفاهة عقولهم واضحة حين
تشاوروا فيما بينهم ،واتفقوا أن يؤمنوا بدين هللا أول النهار ،ويكفروا في آخره حتى يسعى الناس إلى
تقليدهم ،والسير على خطاهم ،ولكن هللا فضحهم بكفرهم في كتابه الحكيم ،وأظهر حقدهم على المسلمين
بعد تآلف قلوب أهل المدينة من األوس والخزرج ،وسعيهم إلى الوقيعة فيما بينهم ،ولكنهم لم يفلحوا في
ذلك.
زواج الرسول صلى هللا عليه وسلم من السيدة عائشة:
وبعد ثمانية أشهر من الهجرة كان الرسول صلى هللا عليه وسلم قد أنهى بناء المسجد ،واستقر المسلمون
في المدينة ،فأتم الرسول صلى هللا عليه وسلم زواجه بالسيدة عائشة ودخل بها ،وكان قد عقد عليها قبل
الهجرة ،وكان الرسول صلى هللا عليه وسلم بعد زواجه منها يقدرها ،ويفضلها ،فعن عمرو بن العاص
قال :قلت يا رسول هللا ،أي الناس أحب إليك؟ قال :عائشة قلت :ومن الرجال؟ قال :أبوها _[الترمذي].
مرحلة الجهاد
لقد ترك المسلمون مكة كلها للكفار ،وهاجروا إلى المدينة ،ولكن الصراع بينهما لم ينته ،بل زاد عما كان
عليه في مكة ،واتخذ شكال جديدًا ،بعد أن نزل اإلذن من هللا بقتال المشركين ،قال تعالى{ :أذن للذين
يقاتلون بأنهم ظلموا وأن هللا على نصرهم لقدير .الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إال أن يقولوا ربنا
كثيرا
هللا ولوال دفع هللا الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم هللا ً
ولينصرن هللا من ينصره إن هللا لقوي عزيز .الذين إن مكناهم في األرض أقاموا الصالة وآتوا الزكاة
وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وهلل عاقبة األمور} [الحج.]22-55 :
وقد أصبح المسلمون في المدينة قوة كبيرة بانضمام األنصار إليهم ،فلماذا ال يستردون حقوقهم المسلوبة؟
وخاصة أن المدينة تقع على الطريق بين مكة والشام حيث تمر قوافل أهل مكة التجارية ،لذلك قرر رسول
شا ويستطلعون أخبارها ،ومن هذه هللا صلى هللا عليه وسلم إرسال سرايا من جيش المسلمين يزعجون قري ً
السرايا:
23
سرية سيف البحر:
في شهر رمضان من السنة األولى للهجرة خرج حمزة بن عبد المطلب ومعه ثالثون من المهاجرين
العتراض قافلة لقريش قادمة من الشام يقودها أبو جهل في ثالثمائة رجل ،ولكن رجال اسمه مجدي إبن
صالَ َح بين الفريقين ،ولم يحدث قتال ،وعرف الكفار منذ ذلك الوقت أن المسلمين مستعدون عمرو َ
لمواجهتهم.
سرية رابغ:
وفي شهر شوال من السنة نفسها خرج عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ومعه ستون رجال من
المهاجرين ،واعترضوا قافلة بقيادة أبي سفيان ،وكان بينهما رمي بالنبال ،ولكن لم يقع قتال.
سرية الخرار:
كانت في شهر ذي القعدة من السنة األولى ،وفيها خرج سعد بن أبي وقاص ومعه عشرون مسل ًما،
ولكنهم لم يعثروا على القافلة التي خرجوا من أجلها ،وهكذا تحول المسلمون من الضعف إلى القوة،
مصدرا لرعب الكفار.
ً وأصبحوا
غزوة األبواء ودان:
وفي العام الثاني من الهجرة واصل الرسول صلى هللا عليه وسلم إرسال السرايا لمعرفة أخبار أهل مكة،
وليدرب المسلمين على مواجهة قريش ،وكان صلى هللا عليه وسلم يشارك في بعض هذه األعمال
العسكرية ،ومن الغزوات التي شارك فيها غزوة األبواء ودان ،وفيها خرج رسول هللا صلى هللا عليه وسلم
يلتق بها فعقد معاهدة مع
ِ بنفسه مع سبعين من المهاجرين في شهر صفر العتراض قافلة لقريش ،لكنه لم
بني ضمرة أ َّم َن ُهم على أنفسهم ،ووعدوه أال يحاربوه وال يعينوا عليه أعداءه ،وأن يقفوا إلى جانبه إذا
ويقوي عالقتهاِّ دعاهم لذلك ،وهكذا كان صلى هللا عليه وسلم ال يترك صغيرة أو كبيرة يؤ ِّمن بها دولته،
بجيرانها إال فعلها.
غزوة بواط:
وفيها خرج النبي صلى هللا عليه وسلم في شهر ربيع األول من السنة الثانية ،ومعه مائتان من الصحابة؛
العتراض قافلة لقريش يقودها أمية بن خلف لكنه لم يلحق بها.
غزوة بدر األولى:
وسببها أن رجال اسمه كرز بن جابر الفهري اعتدى هو وبعض المشركين على مراعي المدينة
فر هار ًبا ،وقد وقعت هذه الغزوة ومواشيها ،فطارده الرسول صلى هللا عليه وسلم وبعض المسلمين ولكنه َّ
قري ًبا من بئر بدر ولذلك سميت بدر األولى.
شيرة:غزوة ال ُع َ
وقد حاول فيها الرسول صلى هللا عليه وسلم ومن معه اعتراض قافلة لقريش ذاهبة من مكة إلى الشام،
ولكنه لم يدركها ،فعقد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم معاهدة مع بني مدلج حلفاء بني ضمرة.
سرية نخلة:
خرج فيها عبد هللا بن جحش األسدي مع ثمانية مهاجرين ،وأمرهم الرسول صلى هللا عليه وسلم أن
يعسكروا بين مكة والطائف في مكان يسمى نخلة فمرت قافلة لقريش في آخر يوم من شهر هللا الحرام
24
رجب ،فهاجمها عبد هللا ومن معه ،فقتل من المشركين عمرو بن الحضرمي ،وأسروا عثمان بن عبدهللا
إبن المغيرة ،والحكم بن كيسان ،وفر نوفل بن عبد هللا.
وعادت السرية إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فأنكر عليهم القتال في شهر هللا الحرام ،واشتد غضب
المشركين ،وقالوا :إن محمدًا قد أحل القتال في األشهر الحرم ،فاشتد ذلك على المسلمين؛ فأنزل هللا عز
وجل قوله{ :يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل هللا وكفر به والمسجد
الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند هللا والفتنة أكبر من القتل} [_البقرة.]827 :
فهؤالء المشركون الذين ينكرون على المسلمين القتال في األشهر الحرم ،قد فعلوا أكبر من ذلك ،حين
أشركوا باهلل ،وأخرجوا المؤمنين من ديارهم ،وحرموهم من أموالهم وأوالدهم وهذا أكبر عند هللا عز وجل
في اإلثم والعقوبة.
تحويل القبلة
كان المسلمون بعد هجرتهم إلى المدينة ،يتوجهون في صالتهم نحو بيت المقدس في فلسطين ،وظلوا على
شهرا ،وكان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ينظر إلى السماء داع ًيا ً شهرا أو سبعة عشرً ذلك ستة عشر
آمرا
هللا -تعالى -أن تكون قبلة المسلمين تجاه الكعبة ،فاستجاب هللا دعاء نبيه ،وأنزل القرآن الكريم ً
المسلمين بالتوجه إلى المسجد الحرام بمكة في صالتهم ،قال تعالى{ :قد نرى تقلب وجهك في السماء
فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحينما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة:
]222وكان بعض المسلمين قد ماتوا قبل تحويل القبلة ،فقال رجال من المسلمين :وددنا لو علمنا من
مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة أي :المسجد الحرام وكيف بصالتنا نحو بيت المقدس؟ فأنزل هللا{ :وما
كان هللا ليضيع إيمانكم إن هللا بالناس لرءوف رحيم} [_البقرة.]225 :
وقد شنَّ اليهود حر ًبا من الجدل على المسلمين إثر تحويل القبلة ،إذ قالوا لرسول هللا صلى هللا عليه
وسلم :يا محمد ،ما والك عن قبلتك التي كنت عليها ،وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى
قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك ،فنزل قول هللا تعالى{ :سيقول السفهاء من الناس ما والهم عن
قبلتهم التي كانوا عليها قل هلل المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [البقرة.]228 :
وقال تعالى{ :وهلل المشرق والمغرب فأينما تولوا وجوهكم فثم وجه هللا إن هللا واسع عليم} [_البقرة:
.]223
وقال تعالى{ :ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن باهلل واليوم اآلخر
والمالئكة والكتاب والنبيين} [البقرة.]277 :
رجوعا إلى األصل الذيً جميعا ،ولقد كانت عودة المسلمين إلى الكعبة
ً فاهلل سبحانه رب األمكنة واألزمنة
بناه أبو األنبياء إبراهيم عليه السالم فتوجه المسلمون بعد ذلك إلى مكة كل يوم في صالتهم خمس مرات،
وكان تحويل القبلة في العام الثاني من الهجرة ،وفي ذلك العام فرض هللا الصوم والزكاة.
25
غزة بدر الكبرى
علم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن قافلة لقريش محملة بالبضائع بقيادة أبي سفيان قد خرجت من
الشام في طريقها إلى مكة ،فأرسل الرسول صلى هللا عليه وسلم اثنين من أصحابه لمراقبة عير قريش،
ً
اختياريا ،فخرج معه ثالثمائة ودعا الرسول صلى هللا عليه وسلم الناس للخروج إليها ،وجعل الخروج
وأربعة عشر مسل ًما ،ولم يكن معهم سوى سبعين جمال وفرسين ،فكان كل ثالثة من المسلمين يتناوبون
الركوب على جمل.
وكان الرسول صلى هللا عليه وسلم يمشي على رجليه ،ويتناوب الركوب مع أبي لبابة ،وعلي بن أبي
طالب على جمل واحد ،كل منهم يركبه فترة من الزمن فقاال له :نحن نمشي عنك ،فقال صلى هللا عليه
وسلم في تواضع عظيم :ما أنتما بأقوى مني ،وال أنا بأغنى عن األجر منكما _[أحمد] وكان أبو سفيان
ذكيا ،فأخذ يتحسس األخبار ،ويسأل من يلقاه عن المسلمين خو ًفا على القافلة ،فقابل أحد األعراب رجال ً
يسمى مجدي بن عمرو فسأله :هل أحسست أحدًا؟ فقال :إني رأيت راكبين وقفا عند البئر ،فرأونا ثم
انطلقا ،فذهب أبو سفيان إلى مكانهما ،وأمسك روثة من فضالت اإلبل ففركها في يده ،فوجد فيها نوى
التمر ،وكان أهل المدينة يعلفون إبلهم منه ،فقال أبو سفيان :هذه وهللا عالئف يثرب.
وفر
وعلم أن الرجلين من المدينة ،ورسول هللا صلى هللا عليه وسلم في طريقه إليهم ،فغير طريقه بسرعة َّ
هار ًبا بقافلته ،وأرسل إلى قريش يستنجد بهم؛ ليحموه من المسلمين ،ووصل رسول أبي سفيان إلى
قريش ،ووقف على بعيره ،وأخذ ينادي ويصيح :يا معشر قريش! أموالكم مع أبي سفيان ،قد عرض لها
محمد وأصحابه ،ال أرى أن تدركوها ..الغوث ،الغوث ..وظل الرجل ينادي حتى تجمع الناس ،وخرجوا
بأسلحتهم وعدتهم ليحموا أموالهم.
في الوقت نفسه كان أبو سفيان قد نجا بالقافلة ،وأرسل إلى قريش يخبرهم بذلك ،فرجع بعضهم ،وكاد
القوم يعودون كلهم؛ ألنهم ما خرجوا إال لحماية قافلتهم ،ولكن أبا جهل دفعه الكبر والطغيان إلى التصميم
على الحرب ،وعزم على أن يقيم هو والمشركون ثالثة أيام عند بئر بدر ،بعد أن يهزم المسلمين فيأكلون
الذبائح ،ويشربون الخمور ،وتغني لهم الجواري حتى تعلم قبائل العرب قوة قريش ،ويهابها الجميع،
وهكذا أراد هللا تعالى أن تنجو القافلة ،وأن تقع الحرب بين المسلمين والمشركين.
وأصبح المسلمون في موقف حرج؛ ألن عددهم أقل من عدد المشركين ،وبدأ الرسول صلى هللا عليه وسلم
يستشير كبار المهاجرين واألنصار في أمر القتال ،فتكلم المهاجرون كال ًما حس ًنا ،أيدوا فيه الرسول صلى
هللا عليه وسلم في قتال المشركين ،وقال المقداد بن عمرو :يا رسول هللا ،امض لما أمرك هللا فنحن معك
ولكن النبي صلى هللا عليه وسلم ظل ينظر إلى القوم ،وهو يقول :أشيروا علي أيها الناس.
ففهم سعد بن معاذ كبير األنصار أن الرسول صلى هللا عليه وسلم يريد رأي األنصار ،فقد تكلم
المهاجرون ،وأيدوا الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وبقيت كلمة األنصار ،فقال سعد بن معاذ :يا رسول هللا،
لقد آمنا بك ،وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ،وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على
السمع والطاعة ،فامض لما أردت فنحن معك ،فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته
س َّر النبي صلى هللا عليه وسلم التفاق المسلمين على مواجهة الكفار.لخضناه معك[_ .ابن إسحاق] َف ُ
وبدأ الفريقان يستعدان للمعركة ،وأول شيء يفكر فيه القادة هو معرفة أخبار العدو ،فأرسل رسول هللا
26
عليا وسعدًا والزبير إلى ماء بدر؛ ليعرفوا أخبار الكفار ،فوجدوا صلى هللا عليه وسلم جماعة من أصحابه؛ ً
غالمين لقريش ،فأخذوهما إلى النبي صلى هللا عليه وسلم فسألهما عن عدد قريش ،فقاال :ال ندري،
عشرا .وكان
ً تسعا ،ويو ًما
فسألهم النبي صلى هللا عليه وسلم :كم ينحرون كل يوم من اإلبل .فقاال :يو ًما ً
معرو ًفا عند العرب أن البعير الواحد يكفي مائة رجل ،فقال النبي صلى هللا عليه وسلم :القوم فيما بين
التسعمائة واأللف [ابن إسحاق].
وهكذا يضرب لنا الرسول صلى هللا عليه وسلم مثال في القيادة الحكيمة ،والتفكير السليم لمعرفة أخبار
العدو ،ثم قال للغالمين :فمن فيهم من أشراف قريش؟ فعدَّا له أشراف قريش ،وسادتها ،وكانوا على رأس
جيش المشركين ،فأقبل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على الناس ،فقال :هذه مكة قد ألقت إليكم أفالذ
أيضا ،وعلى الجانب اآلخر أكبادها وهكذا عرف الرسول صلى هللا عليه وسلم عدد أعدائه ،وأسماء كبارهم ً
أرسل الكفار رجالً منهم وهو عمير بن وهب ليعرف عدد المسلمين ،ثم عاد فقال :ثالثمائة رجل ،يزيدون
قليال أو ينقصون.
وصل المسلمون إلى مكان بئر بدر ،فأقاموا عليه ،وجعلوه خلفهم حتى يتمكنوا من الشرب دون الكفار،
شا مكا ًنا مظلال يشرف من خالله على وأشار سعد بن معاذ على النبي صلى هللا عليه وسلم أن يتخذ عري ً
المعركة ،ويقوم بإدارتها ،فقبل الرسول صلى هللا عليه وسلم ودعا له بالخير ،ونظم الرسول صلى هللا
عليه وسلم صفوف جيشه تنظي ًما دقي ًقا ،فجعله كتيبتين؛ واحدة للمهاجرين عليها علي بن أبي طالب،
واألخرى لألنصار ولواؤها مع سعد بن معاذ ،وجعل ميمنة الجيش مع الزبير بن العوام ،وجعل المقداد بن
األسود قائدًا لميسرة الجيش ،وجعل على قيادة مؤخرة الجيش قيس بن صعصعة.
أما القيادة العامة للجيش فكانت في يد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،أوصاهم صلى هللا عليه وسلم
بالحكمة في استعمال النبال ضد أعدائهم ،فال يضربونهم حتى يكونوا في مرمى السهام وفي متناول
أيديهم ،وال يستخدمون سيوفهم حتى يقتربوا منهم ،وتوجه الرسول صلى هللا عليه وسلم إلى ربه ورفع
يديه في خشوع وضراعة قائالً :اللهم أنجز لي ما وعدتني ،اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك وظل يدعو
حتى وقع رداؤه عن كتفه من كثرة الدعاء ،فأشفق عليه أبو بكر ،وقال له :أبشر يا رسول هللا ،فوالذي
نفسي بيده لينجزن هللا لك ما وعدك[_ .متفق عليه].
وخفق رسول هللا صلى هللا عليه وسلم خفقة ،ثم انتبه وقال :أبشر يا أبا بكر! أتاك نصر هللا ،هذا جبريل
آخذ بزمام فرسه عليه أداة حرب فقد أرسل هللا مالئكته تأييدًا للمسلمين ،فقال تعالى{ :فاستجاب لكم أني
ممدكم بألف من المالئكة مردفين} [_األنفال.]5 :
أحداث المعركة:
قبيل القتال وقف الرسول صلى هللا عليه وسلم يعظ المسلمين ،ويذكرهم بالصبر والثبات والقتال في سبيل
هللا ،ويبشرهم بجنة هللا ،وجاء األسود بن عبد األسد يهجم على حوض المسلمين ،وقد أقسم أن يشرب
منه ،فتصدى له حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى هللا عليه وسلم فضربه ضربة شديدة على رجله
واستمر الرجل يزحف ويعاند حتى يفي بقسمه ،فأسرع حمزة بضربه ضربة ثانية ،سقط بعدها قتيال إلى
جانب الحوض.
وبدأت المعركة صباح يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان ،العام الثاني للهجرة ،وتقدم ثالثة من
كبار المشركين وهم :عتبة بن ربيعة ،وأخوه شيبة ،وإبنه الوليد بن عتبة ،فنهض لهم ثالثة من األنصار،
لكن المشركين ردوهم ،وأرادوا مبارزة المهاجرين ،ثم نادى مناديهم قائال :يا محمد ،أخرج إلينا أكفاءنا
27
من قومنا ،فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :قم يا عبيدة بن الحارث ،وقم يا حمزة ،وقم يا علي ..
فوثبوا على أعدائهم كاألسود ،وفي لمح البصر قتل حمزة شيبة بن ربيعة ،وقتل علي الوليد بن عتبة ،أما
عبيدة فتبادل الضرب مع عتبة بن ربيعة ،وجرح كل منهما اآلخر ،فوثب حمزة وعلي على عتبة ،فقتاله
وحمال صاحبهما إلى المسلمين.
ويظهر تأييد هللا -عز وجل -ألوليائه في شهود المالئكة للمعركة ،قال تعالى{ :إذ يغشيكم النعاس أمنة منه
وينـزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به
األقدام .إذ يوحي ربك إلى المالئكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب
فاضربوا فوق األعناق واضربوا منهم كل بنان .ذلك بأنهم شاقوا هللا ورسوله ومن يشاقق هللا ورسوله
فإن هللا شديد العقاب .ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار} [األنفال.]22-22:
رأى المشركون ثالثة من كبارهم قد قتلوا ،فغضبوا ألنهم أكثر من المسلمين ،وظنوا أنهم يستطيعون
هزيمتهم بسهولة ،فدخلوا في معركة حامية مع المسلمين ،ولكن الكفار كانوا يتساقطون الواحد بعد اآلخر
أمام المسلمين حتى قُتل منهم سبعون ،وأُسر سبعون.
وفي هذه المعركة ،التقى اآلباء باألبناء ،واإلخوة باإلخوة ،ففصلت بينهم السيوف؛ فأبو بكر رضي هللا عنه
في صف اإليمان وإبنه عبد الرحمن يقاتل في صفوف المشركين ،وكذلك عتبة بن ربيعة الذي كان أول من
قاتل المسلمين من الكفار ،فكان ولده أبوحذيفة من خيار أصحاب النبي صلى هللا عليه وسلم ،فلما سحبت
جثة عتبة بعد المعركة لترمى في القليب ،نظر الرسول صلى هللا عليه وسلم إلى أبي حذيفة فإذا هو كئيب
قد تغير لونه!! فاستوضح منه سر حزنه ،وهل هو حزين لمقتل أبيه أم لشيء في نفسه؟ فأخبره أبو
حذيفة أنه ليس حزي ًنا لمقتل أبيه في صفوف المشركين ،ولكنه كان يتمني أن يرى أباه في صفوف
المسلمين لما يتمتع به من حلم وفضل[ .ابن إسحاق].
وحين مر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بالقليب على قتلى قريش ،ناداهم بأسمائهم وأسماء أبآئهم ،وقال
حقا ،فهل وجدتم ما وعد ربكم ً
حقا؟! أيسركم أنكم أطعتم هللا ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ر ُّبنا ً
ُّ لهم:
أرواح لها؟ فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :والذي َ فقال عمر :يا رسول هللا ،ما ُتكل ُم من أجساد ال
نفس محمد بيده ،ما أنتم بأسمع لما أقول منهم[_ .البخاري].
وعاد المسلمون إلى المدينة ،وقد نصرهم هللا تعالى على عدوهم في أولى المعارك التي خاضوها ،وهاهم
أسيرا من المشركين بعد أن قتلوا سبعين مثلهم ،وفي الطريق َق َتل َ رسول هللا ً أوالء يجرون معهم سبعين
صلى هللا عليه وسلم اثنين من أكابر المجرمين الموجودين في األسرى؛ وهما النضر بن الحارث ،وعقبة
إبن أبي معيط ألنهما طغيا وأذيا المسلمين إيذا ًء شديدًا ،أما باقي األسرى فتشاور الرسول
صلى هللا عليه وسلم مع الصحابة في أمرهم هل يقتلونهم أم يقبلون الفدية ويطلقونهم؟ فأشار عمر إبن
الخطاب رضي هللا عنه أن يقتلوهم ،وأشار أبو بكر رضي هللا عنه أن يطلقوا سراحهم مقابل فدية مبلغ من
المال تكون عو ًنا للمسلمين على قضاء حوائجهم ،وأخذ الرسول صلى هللا عليه وسلم برأي أبي بكر.
ولكن القرآن الكريم نزل يؤيد رأي عمر بن الخطاب رضي هللا عنه فقال هللا تعالى{ :ما كان لنبي أن يكون
له أسرى حتى يثخن في األرض تريدون عرض الدنيا وهللا يريد اآلخرة وهللا عزيز حكيم .لوال كتاب من
هللا سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} [األنفال.]62-67 :
مواقف إيمانية من غزوة بدر:
كان للصحابة مواقف إيمانية رائعة أثناء غزوة بدر؛ فقد اختفى عمير بن أبي وقاص خلف المقاتلين
28
المسلمين قبل المعركة حتى ال يراه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ويرده ألنه صغير ،وبينما رسول هللا
حريصا على
ً عميرا كان
ً صلى هللا عليه وسلم يستعرض جنوده رآه ،فإستصغره وأمره أن يرجع ،ولكن
االشتراك في المعركة؛ ألنه يحب الموت في سبيل هللا ،فبكى عمير ،فلما رآه الرسول صلى هللا عليه وسلم
يبكي تركه ،فمات شهيدًا ،وهو إبن ستة عشر عا ًما.
وجاء فتيان من األنصار يسأالن عبد الرحمن بن عوف عن مكان أبي جهل ،فقد علما أنه كان يسب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،فدلهما على مكانه وإذا بهما يسرعان إليه ،ويضربانه بالسيف حتى قتاله،
ومر مصعب بن عمير وهذان البطالن هما معاذ بن عمرو بن الجموح ،ومعاذ بن عفراء[_ .متفق عليه] َّ
بأخيه المشرك أبي عزيز بن عمير الذي وقع في أسر المسلمين ،وأحد األنصار يقيد يديه ،فقال
لألنصاري :شد يدك به ،فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك ،فقال أبو عزيز :أهذه وصاتك بأخيك؟ فقال
مصعب :إنه يقصد األنصاري أخي دونك.
وقد ضرب المسلمون أروع األمثلة في التضحية والفداء ،فعندما سمع عمير بن الحمام األنصاري قول
الرسول صلى هللا عليه وسلم :قوموا إلى جنة عرضها السماوات واألرض قال :يا رسول هللا ،جنة
عرضها السماوات واألرض؟ قال :نعم ..فقال :بخ ..بخ ،قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :وما يحملك
على قول بخ ..بخ؟ قال :ال وهللا يا رسول هللا ،إال رجاء أن أكون من أهلها ،قال :فإنك من أهلها فأخرج
تمرات ،وأخذ يأكلها ،ثم قال :لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه ،إنها لحياة طويلة ،فرمى ما كان معه من
التمر ،ثم قاتل المشركين حتى قتل[_ .مسلم].
وقاتل عكاشة بن محصن يوم بدر بسيفه حتى انكسر في يده من شدة القتال ،فأتى رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم فأعطاه عود حطب فقال :قاتل بهذا يا عكاشة فلما أخذه من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم
هزه ،فعاد سي ًفا في يده طويل القامة ،شديد المتن ،أبيض الحديدة ،فقاتل به حتى فتح هللا على المسلمين،
وهكذا كتب هللا تعالى للمسلمين النصر ،فحق لهم أن يسعدوا ويستبشروا ،وأوجب على المشركين
الهزيمة ،فحل بهم الخزي والعار.
وقد قويت دولة المسلمين بهذا النصر الذي حققوه بقوة اإليمان ،ثم بحسن التخطيط رغم أنهم كانوا أقل
من عدوهم في العدد والعدة ،قال تعالى{ :ولقد نصركم هللا ببدر وأنتم أذلة فاتقوا هللا لعلكم تشكرون} _[آل
عمران.]285 :
30
شديدًا ،فأسلم على يديه كثيرون[_ .ابن إسحاق].
غزوة بني سليم غزوة ال ُكدْ ر:
حشد بنو سليم جنودهم ،واستعدوا لغزو المدينة وحرب المسلمين بعدما رأوا هزيمة قريش في بدر ،فعلم
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بذلك ،فلم ينتظر حتى يأتوا المدينة بل قام بمهاجمتهم هجو ًما مفاج ًئا أدخل
الرعب في قلوبهم فهربوا من هول المفاجأة ،وتركوا خمسمائة بعير استولى عليها المسلمون ،وأقاموا في
ديار هذه القبائل ثالثة أيام ،ولم يكتفِ الرسول صلى هللا عليه وسلم بذلك ،ولكن بعد ما قدم المدينة أرسل
غالب بن عبد هللا في سرية إلى بني سليم وغطفان فقاتلوهم ،وانتصر المسلمون وغنموا مغانم كثيرة.
لم يحترم اليهود عهودهم مع النبي صلى هللا عليه وسلم فحاولوا إشعال الفتنة بين صفوف المسلمين،
فهذا شاس بن قيس اليهودي أرسل فتى من فتيان اليهود ُي َذ ِّك ُر األنصار بما كان بينهم في الجاهلية ،ففعل
الفتى حتى كادوا أن يتقاتلوا ،فخرج إليهم النبي صلى هللا عليه وسلم ،ونهاهم عن العودة إلى الجاهلية،
وذكرهم باإلسالم والحب الذي ربط هللا به قلوبهم ،فعادوا إلى رشدهم وصوابهم.
ولما نصر هللا رسولَه والمسلمين على المشركين في غزوة بدر حسدتهم اليهود على ما أنعم هللا تعالى به
شا ال تحسن القتال ،فلما بلغشا وقتلهم ،إن قري ً
عليهم ،فقال فنحاص اليهودي :ال يغرن محمدًا أن غلب قري ً
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ما قاله جمع اليهود في سوق بني قينقاع وحذرهم من الغدر ودعاهم إلى
اإلسالم ،وذكرهم بما عندهم من العلم برسالته ونبوته فقال لهم :احذروا من هللا مثل ما نزل بقريش من
النقمة ،وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد هللا إليكم فقالوا :يا محمد إنك
ترى أنا كقومك؟ ال يغرنك أنك لقيت قو ًما ال علم لهم بالحرب فأصبت فرصة ،أما وهللا لئن حاربتنا لتعلمن
أنا نحن الناس.
فأنزل هللا سبحانه على نبيه من القرآن ما يجيبهم به ويرد عليهم ما قالوا وما بغوا ،فقال تعالى{ :قل للذين
كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد .قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل هللا
وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين وهللا يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة ألولي األبصار} [آل
عمران.]25-28 :
إن كالم اليهود هذا تهديد واضح للرسول صلى هللا عليه وسلم بالحرب ،وتأكيد لنقضهم للمعاهدة التي
بينهم وبينه ،ومع ذلك فقد صبر عليهم الرسول صلى هللا عليه وسلم ولكنهم أصروا على نقضهم للعهد.
طرد يهود بني قينقاع من المدينة:
ذات يوم ذهبت امرأة مسلمة إلى سوق بني قينقاع لبيع ذهب معها ،فاحتال عليها اليهود لتكشف وجهها
فأبت ،فأخذ الصائغ طرف ثوبها ،وربطه إلى ظهرها وهي ال تعلم فلما قامت انكشفت عورتها ،وأخذوا
يضحكون منها ،فصاحت المرأة تستغيث بعد أن طعنت في كرامتها ،فوثب رجل مسلم على اليهودي الذي
أهان المرأة فقتله ،فقام اليهود بقتل ذلك المسلم ،فكان شهيدًا في سبيل هللا ،فقامت الحرب بين المسلمين
واليهود بسبب غدرهم ووقاحتهم وسوء أدبهم[_ .الواقدي].
31
فلما علم بنو قينقاع بقدوم المسلمين فروا إلى حصونهم واختبئوا فيها؛ فحاصرهم المسلمون وحبسوهم
في حصونهم ،واستمر هذا الحصار خمسة عشر يو ًما ،بعدها اضطر اليهود إلى أن يفتحوا الحصون
ويستسلموا رع ًبا وخو ًفا من المسلمين ،فجاء عبد هللا بن أُبي بن سلول ،وقال :يا محمد أحسن في موالي
حلفائي وظل إبن سلول يتشفع لهم عند الرسول حتى اكتفى النبي صلى هللا عليه وسلم بطردهم من
المدينة ،فخرجوا تاركين وراءهم أموالهم غنيمة للمسلمين ،وذهبوا إلى بلدة تسمي أذرعات في الشام،
وهناك سلط هللا عليهم وباء مات فيه أغلبهم.
قتل كعب بن األشرف اليهودي:
بقيت في المدينة طائفتان كبيرتان من اليهود :بنو النضير ،وبنو قريظة ،وما زالوا يعادون المسلمين رغم
العهد الذي قطعه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم معهم ،فهذا رجل من أغنيائهم اسمه كعب بن األشرف ،لم
وعزاهم ،وأخذ يرثي قتالهم بشِ عره ويشعل نار َّ ف بالحزن على قتلى الكفار في بدر ،بل ذهب إلى مكة يكت ِ
الثأر في قلوبهم كي يحاربوا المسلمين ،ولم يكتف بهذا ،فقد تطاول بإيذاء المسلمين مباشرة فأخذ يهجو
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم والصحابة رضي هللا عنهم ويقع في أعراضهم.
فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلمَ :منْ لكعب بن األشرف؛ فإنه قد آذى هللا ورسوله؟ فقام محمد إبن
مسلمة فقال :يا رسول هللا ،أتحب أن أقتله؟ قال :نعم قال :فأذن لي أن أقول شي ًئا أي يعيب الرسول صلى
هللا عليه وسلم والمسلمين حتى يطمئن إليه كعب قال صلى هللا عليه وسلم :قل فذهب محمد بن مسلمة إلى
كعب بن األشرف اليهودي ،فقال له :إن هذا الرجل قد سألنا صدقة أي ماال وإنه قد عنانا (أتعبنا) وإني قد
وأيضا وهللا لتملنه (يصيبكم الملل) من صحبة محمد قال
ً أتيتك أستسلفك أي أطلب منك ماال قال كعب:
محمد بن مسلمة :إنا قد اتبعناه ،فال نحب أن ندعه نتركه ننظر إلى أي شيء يصير شأنه ،وقد أردنا أن
تسلفنا وس ًقا أو وسقين الوسق :كيل معلوم فقال :نعم ارهنوني.
قالوا :أي شيء تريد؟ قال :ارهنوني نساءكم ،قالوا :كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ،قال:
فارهنوني أبناءكم؟ قالوا :كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال :رهن بوسق أو وسقين؟ هذا عار علينا،
ولكنا نرهنك الألمة (السالح) فواعده أن يأتيه ،فجاءه ليال ومعه أبو نائلة وهو أخو كعب من
الرضاعة فدعاهم إلى الحصن ،فنزل إليهم فقالت له امرأته :أين المخرج هذه الساعة؟ قال :إنما هو محمد
إبن مسلمة ورضيعي أبو نائلة ،فنزل إليهم وهو ينفح منه ريح الطيب ،فقال أبو نائلة :ما أريت كاليوم
ريحا أطيب ،أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال :نعم ،فلما استمكن منه قال :دونكم فاقتلوه ،فقتلوه ،ثم أتوا
ً
النبي صلى هللا عليه وسلم فأخبروه[ .الترمذي].
غزوة السويق
بينما كفار مكة يعيشون في حزن وغم لما أصابهم في غزوة بدر التي لم تترك لهم كرامة وال كبرياء بين
قبائل العرب ،قام أبو سفيان من بينهم وأقسم أن يغزو المدينة ،وخرج أبو سفيان ومعه مائتان من
ش َكم سيد يهود بني
الفرسان ،فدخلوا المدينة في الليل كاللصوص ،وذهب أبو سفيان إلى سالم بن ِم ْ
النضير ،فاستقبله أحسن استقبال ،وعرفه أخبار المسلمين ،فقام أبو سفيان ومن معه بحرق عدد من نخيل
32
األنصار ،وقتلوا رجلين من األنصار في أرضهما ،وفروا هاربين.
وعندما علم الرسول صلى هللا عليه وسلم بأمرهم أسرع لمطاردتهم ،ولكنهم فروا ،وأخذوا يرمون ما
السويق
معهم من طعام لتخف أحمالهم ،حتى ينجوا من أيدي المسلمين ،وسميت هذه الغزوة بـ غزوة َّ
نسبة لما كان يلقيه المشركون من الطعام.
غزوة أحد
فرق المسلمون شملهم ،وقتلوا أشرافهم، خرج مشركو قريش من غزوة بدر وقد وهنت قواهم؛ حيث َّ
وأضعفوا شوكتهم بين قبائل الجزيرة العربية ،فكان البد لهم من الثأر ،ورد الهزيمة على المسلمين ،وكسر
شوكتهم ،فجمع أبو سفيان ثالثة آالف مقاتل من قريش وكنانة واألحابيش حلفاء قريش وخرجت معهم
النساء ليشجعن الرجال على القتال ،ومن بينهن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان ،وكان قلبها يشتعل بنار
األلم لمقتل أبيها وأخيها في غزوة بدرَّ ،
ونظم الكفار جيشهم فجعلوا قيادة الجيش ألبي سفيان ،وقيادة
الفرسان لخالد بن الوليد ،ومعه عكرمة بن أبي جهل.
وتوجه الجيش إلى المدينة ،وعلم المسلمون بتحرك المشركين وقدومهم إليهم فحملوا أسلحتهم ،والتفوا
حول نبيهم ،وظلوا حارسين لمدينتهم ليل نهار ،وإذا بالرسول صلى هللا عليه وسلم يجمع أصحابه،
ويستشيرهم في األمر ،فرأى بعضهم أال يخرج المسلمون من المدينة ،وأن يتحصنوا فيها ،فإذا دخلها
المشركون قاتلهم المسلمون في الطرقات وحصدوهم حصدًا ،فهم أعلم بمسالك مدينتهم ورأى البعض
اآلخر وخاصة الذين لم يشهدوا القتال يوم بدر أن يخرجوا لمالقاة المشركين خارج المدينة.
وكان الرسول صلى هللا عليه وسلم من أصحاب الرأي األول ،ومع ذلك وافق على الرأي الثاني؛ ألن
أصحاب هذا الرأي ألحوا عليه ،ولم يكن الوحي قد نزل بأمر محدد في هذا الشأن ،ودخل الرسول صلى هللا
عليه وسلم بيته ولبس مالبس الحرب ،وخرج إلى الناس ،وشعر الصحابة الذين أشاروا على الرسول
صلى هللا عليه وسلم بالخروج بأنهم أكرهوه على ذلك ،فقالوا له :استكرهناك يا رسول هللا ،ولم يكن لنا
33
ذلك ،فإن شئت فاقعد أي :إن شئت عدم الخروج فال تخرج فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :ما ينبغي
لنبي إذا لبس ألمته أي درعه أن يضعها حتى يحكم هللا بينه وبين عدوه _[أحمد].
وخرج النبي صلى هللا عليه وسلم من المدينة في ألف من أصحابه ،في شوال سنة ثالث من الهجرة ،حتى
إذا كانوا بين المدينة وأ ُ ُحد ،رجع عبد هللا بن أُبي بن سلول بثلث الجيش ،وتبعهم عبد هللا بن حرام
يناشدهم هللا أن يرجعوا ،وال يخذلوا نبيهم ،وينصحهم بالثبات ،ويذكرهم بواجب الدفاع عن المدينة ضد
المغيرين ،ولكن اإليمان باهلل ورسوله واليوم اآلخر لم يكن ثاب ًتا في قلوبهم ،ولذلك لم يستجيبوا له ،وقال
إبن سلول :لو نعلم قتاال التبعناكم ،فنزل فيهم قوله تعالى{ :وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في
سبيل هللا أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتاال التبعناكم هم للكفر يومئذ اقرب منهم لإليمان} [آل عمران.]267 :
واختلف المسلمون في أمر هؤالء المنافقين ،ففرقة منهم تقول نقاتلهم ،وأخرى تقول دعوهم ،فنزل قوله
تعالى{ :فما لكم في المنافقين فئتين وهللا أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل هللا} [النساء:
]22وكان الرسول صلى هللا عليه وسلم قد أعطى اللواء مصعب بن عمير ،واستعرض النبي صلى هللا
عليه وسلم الجيش يومئذ ،فرد الصغار الذين ال يقدرون على القتال ،وكان منهم يومئذ :عبد هللا بن عمر،
وأسامة بن زيد ،والبراء بن عازب ،وزيد بن أرقم وعمرو بن حزم.
وهذا رافع بن خديج عمره خمس عشرة سنة يريد أن يشارك في المعركة ،فيلبس خفين في قدميه ليبدو
طويال ،فال يرده رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،وتوسط له عمه ظهير ،فذكر لرسول هللا صلى هللا عليه
رافعا
وسلم أنه يجيد الرماية ،فقبله وعندئذ قال سمرة بن جندب :أجاز الرسول صلى هللا عليه وسلم ً
رافعا وأغلبه ،فأمره الرسول صلى هللا عليه وسلم أن يصارعه ،فغلب سمرة وردني وأنا أقوى ،وأصرع ً
رافعا ،فقبله الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وهكذا كان الفتى المسلم الصغير يحرص على التضحية بروحه ً
من أجل دينه والدفاع عنه.
واقترح بعض الصحابة االستعانة باليهود ،فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :ال نستنصر بأهل الشرك
ب في جبل أ ُ ُحد ،وجعلوا الجبل خلف ظهورهم، على أهل الشرك _[ابن سعد] وعسكر المسلمون في شِ ْع ٍ
واختار الرسول صلى هللا عليه وسلم خمسين رجال يحسنون الرماية ،وجعل عبد هللا بن جبير قائدًا عليهم
وقال لهم :ال تبرحوا ال تتركوا مكانكم؛ إن رأيتمونا ظهرنا عليهم انتصرنا فال تبرحوا ،وإن رأيتموهم
ظهروا علينا فال تعينونا _[البخاري].
وهكذا أغلق الباب أمام التفاف األعداء حول جيشه ،وحمى يمينه بالجبال ،وفي صباح يوم السبت السابع
من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ،بدأت المعركة وانقض المسلمون على المشركين ،فقتلوا حملة
لواء المشركين ،فكانوا يسقطون واحدًا بعد اآلخر حتى سقط اللواء ولم يجد من يحمله ،وكان الفارس
الشجاع حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى هللا عليه وسلم ينقض بسيفه على المشركين ،فيطيح بهم،
وكان وحشي بن حرب ينظر إلى حمزة من بعيد ويتبعه حيث كان ،ذلك ألن سيده جبير بن مطعم بن عدي
الذي قتل عمه طعيمة بن عدي يوم بدر قال له :اخرج مع الناس ،فإن أنت قتلت حمزة عم محمد بع ِّمي،
فأنت عتيق حر.
حبشيا يقذف بالحربة بمهارة شديدة ،فقلما يخطئ بها شي ًئا ،فاقترب وحشي من حمزة، ً وكان وحشي عبدًا
ورماه بالحربة فأصابته ،لكن حمزة لم يستسلم ،بل توجه إلى وحشي ودمه ينزف بغزارة ،فلم يستطع
الوقوف على قدميه ،فوقع شهيدًا في سبيل هللا ،وسيطر المسلمون على المعركة ،وأكثروا القتل واألسر
في جنود المشركين ،وحاول المشركون الفرار ،فذهب المسلمون وراءهم ،فكان المشركون يتركون
34
متاعهم وسالحهم لينجوا من القتل.
وكان الرماة على الجبل يشاهدون المعركة ،فظنوا أنها قد انتهت بانتصار المسلمين؛ فتركوا أماكنهم،
ونزلوا من فوق الجبل ليشاركوا في جمع الغنائم فتركوا ظهر المسلمين مكشو ًفا لعدوهم ،فانتهز خالد إبن
الوليد قائد فرسان المشركين فرصة الخطأ الذي وقع فيه رماة المسلمين ،فاستدار وجاء من خلف الجيش،
وقتل من بقى من الرماة ،فاختل نظام المسلمين وارتبكوا ،ونجح المشركون في قتل كثيرين منهم.
كل هذا البالء ألن بعض الرماة خالفوا أمر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وتبدَّل الحال ،وركز المشركون
على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ليقتلوه ولكنه صلى هللا عليه وسلم ثبت لهم ،وأخذ يدافع عن نفسه،
وحوله بعض الصحابة مثل :طلحة بن عبيد هللا ،وسعد بن أبي وقاص رضي هللا عنهما.
وكانت المرأة األنصارية الشجاعة نسيبة بنت كعب تدافع عن النبي صلى هللا عليه وسلم كالرجال ،حتى
نجي هللا رسوله صلى هللا عليه وسلم من الموت ،ولكنه تعرض إلصابات كثيرة في ركبته ،ووجهه،
وأسنانه ،وسال الدم على وجهه الشريف ،فأخذ يمسح الدم وهو يقول :كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم
( َغ َّيروا لونه لالحمرار من كثرة الدم) وهو يدعوهم إلى ربهم _[أحمد].
وعندما فشل المشركون في قتل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أشاعوا أن محمدًا قتل ،لكي يؤثروا في
عزيمة المسلمين ،ويثيروا الذعر بينهم ،ولكن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم نادى أصحابه :هلم إلي
عباد هللا فاجتمع حوله عدد من أصحابه ،وارتفعت روحهم المعنوية ،وظل النبي صلى هللا عليه وسلم ومن
ثبت معه في أرض المعركة ،بل قاتلوا حتى اللحظة األخيرة ،إلى أن اكتفت قريش بما حققت وانصرفوا بعد
انتهاء المعركة.
ولما انقضت الحرب ،صعد أبو سفيان على مكان مرتفع ،ونادى في المسلمين :أفيكم محمد؟ فلم يرد عليه
أحد ،فقال :أفيكم أبو بكر؟ فلم يرد عليه أحد ،فقال :أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يرد عليه أحد ،فقال :أما
هؤالء فقد قتلوا ،فلم يتمالك عمر نفسه ،فرد عليه قائال :يا عدو هللا ،إن الذين ذكرتهم أحياء ،وقد أبقي هللا
لك ما يسؤك ،ثم قال أبو سفيان أُعل ُه َبل ،فقال النبي صلى هللا عليه وسلم :أال تجيبونه؟ قالوا :ما نقول؟
قال صلى هللا عيه وسلم :قولوا هللا أعلى وأجل ثم قال أبو سفيان :لنا العزى وال عزى لكم ،فقال صلى هللا
عليه وسلم :أال تجيبونه؟ فقالوا :ما نقول؟ قال صلى هللا عليه وسلم :قولوا هللا موالنا وال مولى لكم
_[البخاري].
وعاد المشركون إلى بلدهم ،وقد انتشرت في ساحة القتال جثث شهداء المسلمين وقتلى الكفار ،وقد
ارتوت الرمال بدماء الشهداء الطاهرة التي أريقت من أجل اإلسالم ،فيا له من مشهد حزين!! سبعون
شهيدًا من المسلمين ،واثنان وعشرون قتيال من المشركين ،وحزن المسلمون حز ًنا شديدًا على شهدائهم،
ووقف رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حزي ًنا ينظر إلى جثة عمه حمزة رضي هللا عنه وقد مثل به
األعداء ،فأقسم لَ ُي َم ِّثلَنَّ بسبعين من الكفار إن نصره هللا عليهم بعد ذلك ،فنزل قول هللا تعالى{ :وإن عاقبتم
فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} [النحل.]286:
صور بطولية من المعركة:
تجلت صور رائعة من البطولة والشجاعة واإليمان لرجال ونساء المسلمين في غزوة أحد ،وكذلك حدثت
بعض المعجزات ،لتكون عظة وذكرى وتبصرة للمؤمنين ،فهذا أبي بن خلف يقبل على النبي صلى هللا
عليه وسلم وكان قد حلف أن يقتله ،وأيقن أن الفرصة قد حانت ،فجاء يقول :يا كذاب ،أين تفر؟ وحمل
على الرسول صلى هللا عليه وسلم بسيفه ،فقال صلى هللا عليه وسلم :بل أنا قاتله إن شاء هللا وطعنه صلى
35
هللا عليه وسلم طعنة وقع منها ،فما لبث أن مات[ .البيهقي].
ويمسك رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بسيفه قبل بدء المعركة ويقول :من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فتأخر
القوم ،فقال أبو دجانة :وما حقه يا رسول هللا؟ فقال صلى هللا عليه وسلم :أن تضرب به في العدو حتى
شجاعا يختال عند
ً ينحني فقال أبو دجانة :أنا آخذه بحقه ،فأعطاه إياه[ .مسلم] وكان أبو دجانة رجال
الحرب ،وكانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها فإنه يقاتل حتى الموت ،فأخذ أبو دجانة السيف وهو
يقول:
بالسفـْ ِح لـَدي ال َّنخيــل
َّ أنـا الذي َعاهَـدني َخليلـي و َنحـنُ
والرسول
ِ ـرب بسيــف اللـ ِهأض ُ أال أقُـوم الدَّ َ
هـر في ال ُكيـول ْ
والكيول هي مؤخرة الصفوف ،فكأنه يقول :لن أكون أبدًا إال في المقدمة ما دمت أحمل هذا السيف.
وأخذ أبو دجانة يضرب المشركين بسيف رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،وأثناء المعركة رأى أبو دجانة
فر المسلمون ،فأسرع أبو دجانة أن الرسول صلى هللا عليه وسلم قد أصبح هد ًفا لنبال المشركين بعد أن َّ
واحتضن الرسول صلى هللا عليه وسلم ،فصار النبل يقع على ظهر أبي دجانة وهو منحن على جسم
الرسول صلى هللا عليه وسلم حتى انتهت المعركة[ .أحمد].
ومر أنس بن النضر رضي هللا عنه على بعض الصحابة فوجدهم ال يقاتلون ،وعندما سألهم عن سبب َّ
امتناعهم عن القتال ،قالوا :قتل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فقال أنس :ما تصنعون بالحياة بعده؟!
قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ثم توجه إلى هللا تعالى وقال :اللهم إني
أعتذر إليك مما صنع هؤالء المسلمون الفارون وأبرأ إليك مما صنع هؤالء أي المشركون المعتدون وظل
جرحا ما بين طعنة برمح أو ضربة بسيف أو رمية ً بضعا وثمانين ً أنس يقاتل حتى قتل ،فوجدوا في جسده
بسهم ،فما عرفه أحد إال أخته بعالمة كانت تعرفها في إصبعه.
وهذا غسيل المالئكة حنظلة بن أبي عامر الذي تزوج جميلة بنت عبد هللا بن أبي بن سلول ،وفي اليوم
التالي لزواجه يسمع نداء القتال ،فيخرج وهو جنب ملب ًيا النداء ،ويقاتل في سبيل هللا حتى ُيقتل ،فقال
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :إن صاحبكم تغسله المالئكة[_ .ابن إسحاق].
وهذا قتادة بن النعمان أصيبت عينه ،ووقعت على خده ،فأتى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فأخذ رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم عينه بيده ،وردها إلى موضعها ،وقال :اللهم أكسبه جماالً فكانت أحسن عينيه،
نظرا وكانت ال ترمد إذا رمدت األخرى[_ .الدارقطني والبيهقي]. وأحدَّ هما ً
وليست النساء أقل بطولة من الرجال ،فهذه صفية بنت عبد المطلب لما رأت المسلمين قد انهزموا ،وفر
رمحا تضرب به من فر من المسلمين ،وتحثه على العودة إلى القتال، ً بعضهم من ميدان المعركة ،أمسكت
ولما علمت بمقتل أخيها حمزة ذهبت لتنظر إليه ،فلقيها الزبير :فقال( :أي أمه) إن رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم يأمرك أن ترجعي ،قالت :ولِ َم؟ وقد بلغني أنه قد ُم ِّثل بأخي ،وذلك في هللا ،ألصبرن ،وأحتسبن
إن شاء هللا.
فلما جاء الزبير إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،أخبره بذلك ،قال :خلوا سبيلها فنظرت إليه ،فصلت
عليه ،واسترجعت واستغفرت له[ .ابن إسحاق] ومر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بإمرأة من بني دينار،
وقد أصيب زوجها وأخوها ،وأبوها مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فلما ذكروا لها ما حدث ألخيها
خيرا ،هو بحمد هللا كما تحبين،وألبيها ولزوجها قالت :فما فعل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم؟ قالواً :
قالت :أرونيه حتى أنظر إليه ،فأشاروا إليه ،حتى إذا رأته قالت :كل مصيبة بعدك جلل (صغيرة)!!
36
وهكذا يسمو حب المسلمين للرسول صلى هللا عليه وسلم فوق كل حب ،إنه حب يعلو فوق حب اآلباء
واألبناء واألزواج.
وفي اليوم التالي لغزوة أحد ،أمر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم الناس بالخروج لقتال الكفار وتتبعهم،
وقال :ال يخرج معنا إال من شهد القتال فأسرع المسلمون ،وأطاعوا رسولهم صلى هللا عليه وسلم ،رغم ما
بهم من آالم وجراح وخرجوا للقتال استجابة لنداء الرسول صلى هللا عليه وسلم ،فلقد تعلموا أن الخير كله
في طاعته ،فمدحهم هللا بهذه الطاعة فقال تعالى{ :الذين استجابوا هلل والرسول من بعد ما أصابهم القرح
للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم} [آل عمران.]278 :
وفي حمراء األسد على مسافة عدة أميال من المدينة وقف المسلمون ينتظرون جيش المشركين فمر بهم
رجل من قبيلة خزاعة التي كانت تحب الرسول صلى هللا عليه وسلم يسمى معبد بن أبي معبد ،وكان يومئذ
مشر ًكا ،فواسى الرسول صلى هللا عليه وسلم فيما حدث للمسلمين ،وكان المشركون قد نزلوا في مكان
يسمى الروحاء ،وبعد أن استراح الجيش بدءوا يفكرون في العودة إلى المدينة.
وأرسل أبو سفيان رسالة يهدد فيها المسلمين في حمراء األسد ليرعبهم ،يزعم فيها أنه قادم للقضاء
عليهم ،فما زاد ذلك المسلمين إال قوة وإيما ًنا ،فقال عنهم هللا تعالى{ :الذين قال لهم الناس إن الناس قد
جمعوا لكم فإخشوهم فزادهم إيما ًنا وقالوا حسبنا هللا ونعم الوكيل .فإنقلبوا بنعمة من هللا وفضل لم
يمسسهم سوء وإتبعوا رضوان هللا وهللا ذو فضل عظيم} [آل عمران.]272-275 :
ووصلت األخبار إلى أبي سفيان أن النبي صلى هللا عليه وسلم خرج من المدينة لمطاردة المشركين،
وتأكدت األخبار عندما وصل معبد وأكد ألبي سفيان أن النبي صلى هللا عليه وسلم خرج لمطاردتهم وقد
نزل بجيشه في حمراء األسد فخاف أبو سفيان وفضل االنسحاب إلى مكة ،وأقام المسلمون في حمراء
شا ،ثم عادوا إلى المدينة بعدما أطاعوا نبيهم ،وأرعبوا عدوهم واستعادوا األسد ثالثة أيام ينتظرون قري ً
الثقة بأنفسهم.
بعث الرجيع
جاء إلى النبي صلى هللا عليه وسلم أناس من المشركين من قبيلتي عضل والقارة وطلبوا منه أن يرسل
معهم من يعلمهم الدين ويقرئهم القرآن ،فاستجاب لهم النبي صلى هللا عليه وسلم ،وأرسل معهم عشرة
من أصحابه بقيادة عاصم بن ثابت رضي هللا عنه لعل هللا أن يهديهم ،وعندما اقترب عاصم وأصحابه من
قبيلة هذيل ،هجم عليهم هؤالء المشركون المخادعون ،فاستشهد سبعة من المسلمين ،ووقع ثالثة في
األسر ،وهم :خبيب بن عدي ،وزيد بن الدثنة وعبد هللا بن طارق رضي هللا عنهم وأخذهم نفر من قبيلة
37
هذيل ،ليبيعوهم في مكة ،فأفلت عبد هللا بن طارق من قيوده ،فلحق به الكفار وقتلوه ،وباعوا زيدًا
ثأرا ألبيه أمية بن خلف ،واجتمع كفار مكة ليشهدوا قتل زيد ،فاقترب أبو سفيان لصفوان بن أمية ليقتله ً
منه ،وقال له :أنشدك هللا يا زيد ،أتحب أن محمدًا اآلن عندنا مكانك نضرب عنقه ،وأنك في أهلك؟ فأجابه
زيد قائالً :وهللا ما أحب أن محمدًا صلى هللا عليه وسلم اآلن في مكانه الذي هو فيه ،تصيبه شوكة
رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محم ٍد ُ تؤذيه ،وأني جالس في أهلي ،فقال أبو سفيان :ما
محمدًا ،ثم قُتل زيد.
أما خبيب فقد اشتراه عقبة بن الحارث ليقتله؛ ألنه قتل أباه الحارث بن عامر يوم بدر ،وخرج به
المشركون في مكان واسع ،وصنعوا له صلي ًبا من خشب ليصلبوه عليه ،فقال لهم خبيب :إن رأيتم أن
تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا وبعد أن صلى آخر ركعتين في حياته قال لهم :أما وهللا لوال أن تظنوا
جزعا من القتل الستكثرت من الصالة ،فكان خبيب أول من سن ركعتين عند القتل ،وعندما ً أني إنما طولت
ربطوه في الخشبة توجه إلى هللا تعالى ،وقال :اللهم أحصهم عددًا ،واقتلهم بددًا ،وال تغادر منهم أحدًا.
وأما عاصم بن ثابت ،فقد رفض أن يستسلم للمشركين ،وقاتلهم حتى قتل فأرادوا أن يأخذوا رأسه
ليبيعوها لسالفة بنت سعد ،وكانت قد نذرت حين أصاب إبنيها يوم أحد لئن قدرت على رأس عاصم
لتشربن فيها الخمر ،لكن النحل تجمع حول جسد عاصم فلم يقدروا على قطع رأسه ،فقالوا :دعوه حتى
يمسي فيذهب عنه الدبر (النحل) فنأخذه ،فبعث هللا سيال في الوادي ،فاحتمل عاص ًما ،فذهب به ،وكان
عاصم قد أعطى هللا عهدًا أال يمسه مشرك وال يمس مشر ًكا أبدًا ،فحفظه هللا بعد موته ،ولم يسمح
للمشركين بمسه.
رغم ما حدث للعشرة الذين قتلوا في بعث الرجيع ،ما زال المسلمون يقدمون أرواحهم في سبيل نشر
الدين ،فقد باعوا أنفسهم هلل تعالى ،واشتروا بها الجنة ،فقد قدم عامر بن مالك على رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم المدينة ،فعرض عليه اإلسالم ،فلم يسلم ولم يرفض ،وقال للرسول صلى هللا عليه وسلم :لو
بعثت رجاال من أصحابك إلى أهل نجد ،فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك ،فقال صلى هللا عليه
وسلم :إني أخشى عليهم أهل نجد ،فقال عامر :أنا لهم جار أي :سوف أحميهم.
فبعث معه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم سبعين رجال من صحابته ليدعوا قبائل نجد إلى اإلسالم ،فسار
نهارا ويبيعونه حتى يكسبوا معاشهم ،وينامون بعض
ً الصحابة في الصحراء ،وكانوا يجمعون الحطب
الليل ،ثم يستيقظون لعبادة هللا بقية ليلهم ،وظلوا هكذا حتى وصلوا إلى بئر معونة ،وهناك أرسلوا أحدهم،
ويدعى حرام بن ملحان رضي هللا عنه برسالة من الرسول صلى هللا عليه وسلم يدعو فيها عامر بن
الطفيل إلى اإلسالم.
ولكن هذا المشرك طعن حرام بن ملحان بكل غدر وحمق وجهالة ،فصاح ذلك الصحابي والدم يسيل من
جسده الطاهر قائال :فزت ورب الكعبة ،ولم يكتفِ عامر بن الطفيل بما فعله ،وإنما جمع أعوانه من الكفار،
جميعا إال كعب بن زيد الذي عاش حتى قتل يوم الخندق
ً وأحاطوا بالمسلمين وهم في رحالهم ،وقتلوهم
38
شهيدًا ،وكان في سرح الدعاة اثنان لم يشهدا الموقعة الغادرة ،أحدهما عمرو بن أمية الضمري ولم يعرف
النبأ إال فيما بعد ،ورجل من األنصار ،فأقبال يدافعان عن إخوانهما ،فقتل األنصاري ،وأسر عمرو بن أمية،
ولكن عامر بن الطفيل أطلق سراحه ،فرجع إلى المدينة.
وفي الطريق لقى رجلين ظنهما من بني عامر فقتلهما ،ثم تبين لما وصل إلى رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم أنهما من بني كالب ،وأن النبي صلى هللا عليه وسلم قد أجارهما ،فالتزم الرسول صلى هللا عليه
وسلم بدفع ديتهما ،حزن الرسول صلى هللا عليه وسلم وصحابته حز ًنا شديدًا على هؤالء الصحابة ،وظل
شهرا يقنت في صالة الصبح ويدعو على قبائل سليم ،مؤجال الرد عليهم ً الرسول صلى هللا عليه وسلم
حتى يتخلص من أعداء المسلمين في المدينة؛ ألن خطرهم أشد ،أال وهم يهود بني النضير.
كان بين يهود بني النضير ورسول هللا صلى هللا عليه وسلم عهد وجوار ،فذهب إليهم الرسول صلى هللا
عليه وسلم؛ ليعينوه في دية الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية عند رجوعه من بئر معونة ،فقالوا له:
نعم يا أبا القاسم ،نعينك على ما أحببت.
ثم خال بعضهم إلى بعض ،فتشاوروا على الغدر برسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقد كان وجوده صلى هللا
عليه وسلم بينهم في ذلك الوقت فرصة قد ال تتكرر ،فاتفقوا أن يصعد عمرو بن جحاش فوق بيت من
بيوتهم ثم يلقي صخرة على الرسول صلى هللا عليه وسلم الذي كان يجلس إلى جدار بيت من بيوتهم ومعه
أبو بكر وعمر وعلى وطائفة من أصحابه ،ولكن هللا تعالى أخبر نبيه بما دبره اليهود.
مسرعا من جوار الجدار ويعود إلى المدينة ،والصحابة
ً وإذا برسول هللا صلى هللا عليه وسلم ينصرف
يتبعونه ،وهم متعجبون لما حدث ،وال يعرفون سبب عودته بهذه السرعة ،فأخبرهم الرسول صلى هللا
عليه وسلم أن اليهود أرادوا أن يغدروا به ،وأن هللا تعالى أخبره بذلك.
وهكذا نقض اليهود عهدهم ،وأظهروا ما في نفوسهم من غدر وخيانة ،فكان البد من طردهم من المدينة،
فأرسل الرسول صلى هللا عليه وسلم محمد بن مسلمة إليهم يأمرهم بالخروج من المدينة ،وحدد لهم
عشرة أيام يخرجون خاللها ،ومن وجد في المدينة منهم بعدها سوف يقتله المسلمون ،وبعد أن هم اليهود
أن يخرجوا أرسل إليهم المنافق عبد هللا بن أبي بن سلول يشجعهم على العصيان ،ويعدهم بانضمام ألفين
من جنوده إليهم ليدافعوا عنهم.
وإذا بهم يدخلون حصونهم ،ويقولون لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يا محمد افعل ما بدا لك ،فحاصرهم
ليال ،وأمر بحرق زروعهم ونخلهم حتى يرعبهم ،فقذف هللا في قلوبهم الرسول صلى هللا عليه وسلم ست ٍ
الرعب ،ولم يجدوا وفاء من المنافقين ،فإضطروا إلى االستسالم ،فصالحوا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم
على أن يخرجوا من المدينة ،ويأخذوا معهم ما حملته اإلبل ما عدا السالح.
وهدم اليهود بيوتهم بأيديهم ،وأخرجوا نساءهم وأبناءهم ،وحملوا ما قدروا على حمله من متاعهم فوق
اإلبل ،وهذا جزاء الخائن للعهد الذي يفكر في الغدر ،فخرج بعضهم إلى خيبر ،وبعضهم إلى الشام ،وأسلم
منهم يامين بن عمرو ،وأبو سعد بن وهب ،فترك الرسول صلى هللا عليه وسلم لهما أموالهما.
39
غزوة بدر الثانية
حزن المسلمون على قتالهم في غزوة أ ُ ُحد حز ًنا شديدًا ،وتمنوا أن يحدث بينهم وبين كفار قريش لقاء
قريب يثأرون فيه لشهدائهم ،وكان أبو سفيان قد واعد المسلمين على الحرب عند بدر في العام المقبل،
فاستعد المسلمون لهذا اللقاء استعدادًا جيدًا ،وخرج المسلمون مع الرسول صلى هللا عليه وسلم في
الموعد المحدد إلى ماء بدر ،بعد أن أدبوا اليهود واألعراب ،وأقاموا هناك ينتظرون جيش المشركين.
وخرج أبو سفيان يقود جيش المشركين ،ولكنه خاف من مواجهة المسلمين فعاد بجيشه إلى مكة بحجة
أن هذا العام ال مطر فيه ،وقد أجدبت األرض ،والوقت غير مناسب للحرب ،أما المسلمون فظلوا هناك
ثمانية أيام ،عادوا بعدها إلى المدينة وقد سمعت القبائل بما حدث من انسحاب المشركين.
غزوة دومة الجندل جاءت أخبار إلى الرسول صلى هللا عليه وسلم أن القبائل العربية التي تقيم حول دومة
الجندل تقطع طريق المارين عليها ،وتنهب أموالهم ،وأنهم قد احتشدوا لمهاجمة المدينة ،فخرج الرسول
صلى هللا عليه وسلم في ألف من المسلمين إلى دومة الجندل ،وكان يسير بالجيش ليال فقط حتى يفاجئ
أعداءه ،ووصل الرسول صلى هللا عليه وسلم إلى مكان األعداء فجأة ،ففرت الجيوش من أمامه ،وغنم
المسلمون كل ما تركه األعداء خلفهم ،وفر كذلك أهل دومة الجندل ،فأقام الرسول صلى هللا عليه وسلم
هناك أيا ًما يرسل السرايا في كل ناحية ،فلم يثبت أمام المسلمين أحد ،وبعدها عاد المسلمون إلى المدينة.
40
س ِّمن كلبك يأكلك ،أما وهللا لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن األعز منها األذل.
قال القائلَ :
يحرض الناس على وأراد إبن سلول طرد الرسول صلى هللا عليه وسلم والمسلمين من المدينة ،وأخذ ِّ
المهاجرين ،ويأمرهم بعدم التعاون معهم أو اإلحسان إليهم حتى يتركوا المدينة ويرحلوا عنها ،وسمع زيد
صغيرا ،فأسرع إلى الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وأخبره بما قاله ً إبن أرقم كالم عبد هللا ،وكان زيد غال ًما
عبدهللا بن أُبي ،فغضب عمر رضي هللا عنه وطلب من الرسول صلى هللا عليه وسلم أن يقتل هذا المنافق،
لكن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال :كيف يا عمر إذا تحدث الناس إن محمدًا يقتل أصحابه _[ابن
سعد].
وعندما علم أسيد بن حضير بما قاله عبد هللا بن أبي قال للنبي صلى هللا عليه وسلم :فأنت يا رسول هللا
تخرجه منها إن شئت ،هو وهللا الذليل وأنت العزيز ،ثم قال :يا رسول هللا ،ارفق به ،فوهللا لقد جاءنا هللا
فصوصا من الجواهر ليتوجوه ،فإنه يرى أنك قد سلبته ملكه. ً بك ،وإن قومه لينظمون (يعدون) له الخرز
وعلم عبد هللا بن أبي أن زيدًا أخبر الرسول صلى هللا عليه وسلم بما قاله ،فأسرع إلى رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم يحلف له كذ ًبا أنه ما قال شي ًئا ،ودافع بعض الحاضرين عنه ،فقالوا :عسى أن يكون الغالم
أوهم في حديثه ،ولم يحفظ ما قال الرجل ،وإذا بالقرآن ينزل فيفضح المنافق عبد هللا بن أُبي ويصدق زيد
إبن أرقم قال تعالى{ :هم الذين يقولون ال تنفقوا على من عند رسول هللا حتى ينفضوا وهلل خزائن
السموات واألرض ولكن المنافقين ال يفقهون .يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن األعز منها األذل
وهلل العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين ال يعلمون} [المنافقون.]2-7 :
أيضا ،فلما علم بذلك تبرأ منوكان للمنافق عبد هللا بن أبي إبن مؤمن مخلص في إيمانه اسمه عبد هللا ً
أبيه ،ووقف على أبواب المدينة يرفع سيفه ،ويمنع أباه من دخولها ،ويقول ألبيه :إن رسول هللا هو
العزيز وأنت الذليل ،ولن تدخل حتى يأذن في دخولك ،ولكن النبي صلى هللا عليه وسلم أذن له ورفض أن
يقتل عبد هللا والده ،وقال له النبي صلى هللا عليه وسلم :بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا.
حادثة اإلفك:
بعد غزوة بني المصطلق ،وفي طريق العودة ،استراح الجيش بعض الوقت ،وبعد فترة استعدوا للرحيل،
وبدأ الرجال يرحلون ،وذهب بعض المسلمين إلى هودج السيدة عائشة زوج الرسول صلى هللا عليه
وسلم ،وهو خباء يوضع على البعير فحملوه على بعيرها ،وهم يظنون أنها بداخله ،ولكنه كان خال ًيا ،فقد
ذهبت السيدة عائشة رضي هللا عنهما تبحث عن عقد فقدته ،فلما رجعت وجدت المكان خاليا وقد رحل
القوم ،فجلست وحدها تنتظر ،وكان في مؤخرة الجيش الصحابي صفوان بن المعطل رضي هللا عنه وكان
يتأخر ليجمع ما يقع من الجنود ،فلما مر بالمكان وجد السيدة عائشة جالسة فقال :إنا هلل وإنا إليه راجعون
..ثم أناخ الجمل ،وأدار ظهره حتى ركبت السيدة عائشة ،وانطلق يقود الجمل حتى لحق بالمسلمين.
ووجد المنافقون فرصتهم الكبيرة في التشنيع على أم المؤمنين والنيل من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،
روج المنافق فأشاعوا أن صفوان بن المعطل اعتدى على السيدة عائشة واتهموهما بالفاحشة ،وهكذا َّ
عبدهللا بن أُبي وآخرون معه هذا الكالم البذيء ،حتى صدقه بعض الناس ،وأراد هللا تعالى أن يختبر
عمليا في عدم تصديق الشائعات. ً سا
المؤمنين ،وأن يعلمهم در ً
شهرا كامال ،وظل خالله الرسول صلى هللا عليه وسلم حزي ًنا ،وأبو بكر ال ً فلم ينزل الوحي بهذا الشأن
يدري ما يصنع ،أما السيدة عائشة فقد عادت مريضة من الغزوة ،ولزمت الفراش ،ولم تعلم بما يقوله
الناس ،فلما علمت ظلت تبكي ليل نهار ،وعندما اشتد بها المرض استأذنت من الرسول صلى هللا عليه
41
وسلم وذهبت إلى بيت أبيها فجاءها الرسول صلى هللا عليه وسلم يطلب منها أن تستغفر هللا إن كانت فعلت
ذن ًبا ،وإن كانت بريئة فسوف يبرئها هللا ،فسكتت السيدة عائشة عن البكاء ،وقالت :لو قلت لكم إني مذنبة
صدقتموني ،وإن قلت لكم بريئة لم تصدقوا ،وهللا يعلم أني بريئة ،وال أقول سوى ما قال أبو يوسف:
{فصبر جميل وهللا المستعان على ما تصفون} [يوسف.]22 :
ونزل الوحي يبين أن السيدة عائشة رضي هللا عنها بريئة من هذه التهمة ،قال تعالى{ :إن الذين جاءوا
شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من اإلثم والذي تولى باإلفك عصبة منكم ال تحسبوه ً
خيرا وقالوا هذا إفك
كبره منهم له عذاب عظيم .لوال إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم ً
مبين .لوال جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند هللا هم الكاذبون .ولوال فضل هللا
عليكم ورحمته في الدنيا واآلخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم .إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون
بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هي ًنا وهو عند هللا عظيم .ولوال إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن
نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم .يعظكم هللا أن تعودوا لمثله أبدًا إن كنتم مؤمنين .ويبين هللا لكم
اآليات وهللا عليم حكيم .إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا
واآلخرة وهللا يعلم وأنتم ال تعلمون .ولوال فضل هللا عليكم ورحمته وإن هللا رءوف رحيم} [النور-22 :
.]80
جميعا ،وعاقب الرسول صلى هللا عليه وسلم ً وعادت الفرحة إلى الرسول صلى هللا عليه وسلم والمسلمين
الذين اتهموا السيدة عائشة بالفاحشة ،وكانوا يروجون هذا الكالم الكاذب ،فأقام عليهم حد القذف ثمانين
جلدة ،وكان منهم مسطح بن أثاثة إبن خالة أبي بكر ،وكان أبو بكر ينفق عليه لفقره وحاجته فأقسم أال
يعطيه دره ًما واحدًا بعد ما قاله في حق إبنته ،ولكن هللا تعالى أراد أن يستمر عطاء أبي بكر ،وإحسانه إلى
مسطح ،فك َّفر أبو بكر عن يمينه ،وأعطى إبن خالته ما كان يعطيه.
غزوة الخندق
لما أجلى الرسول صلى هللا عليه وسلم يهود بني النضير ،خرج بعض زعمائهم وذهبوا إلى مكة ،فدعوا
شا إلى حرب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقالوا :سنكون معكم حتى نستأصله ونقضي عليه ،وقالوا قري ً
لهم إن ما أنتم عليه خير من دين محمد ،وفيهم نزل قول هللا تعالى{ :ألم تر إلى الذين أوتوا نصي ًبا من
الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤالء أهدى من الذين آمنوا سبيالً .أولئك الذين
نصيرا} [النساء.]38-32 :ً لعنهم هللا ومن يلعن هللا فلن تجد له
شا إليه ،ولم يزالواثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاءوا قبيلة غطفان فدعوهم إلى مثل ما دعوا قري ً
مرة ،واستطاعت قريش واليهود أن يجمعوا جي ً
شا بهم حتى وافقوهم على ذلك ثم التقوا ببني فزارة ،وبني َّ
ضخ ًما يبلغ عشرة آالف مقاتل ،واتجهوا إلى المدينة ليقضوا على المسلمين.
ووصلت األخبار إلى النبي صلى هللا عليه وسلم ،فقد كان صلى هللا عليه وسلم يرسل بعض المسلمين
ليعرفوا أخبار الكفار ،فجمع النبي صلى هللا عليه وسلم المسلمين ليتشاوروا في األمر ،فأشار الصحابي
الجليل سلمان الفارسي على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بحفر خندق حول المدينة ليمنع دخول الكفار
42
إليها ،فقد كانوا يفعلون ذلك في بالد فارس ،وسيكون ذلك مفاجأة أمام كفار مكة وحلفائهم؛ ألنهم ال
يعرفون هذه الحيل الحربية.
نظر المسلمون إلى مدينتهم ،فوجدوها محاطة بالجبال والحصون والدور من كل جانب ما عدا الجانب
الشمالي فقط ،وهو الذي سيدخل منه الكفار ،فحددوا مكان الحفر في ذلك الجانب ،وبدأ المسلمون في حفر
الخندق ،وكان النبي صلى هللا عليه وسلم يشاركهم العمل ،وانتهى المسلمون من حفر الخندق قبل أن تصل
إليهم جيوش الكفار ،وكان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يدعو لهم ،متمثال ببيت من الشعر لعبد هللا إبن
رواحة يقول:
لألنـــصار والم َهاجـِــرة
ِ عيش اآلخرة فإغفر ُ العيش
َ اللهم إن
فيجيبه المسلمون بحماس منشدين:
نحن الذيـن بايعوا محمـدًا على الجهـاد مـا بقينا أبـــدا
وكان الرسول صلى هللا عليه وسلم ينقل التراب معهم من الخندق حتى أثر في بطنه ،فقال بعض أبيات من
شعر ابن رواحة رضي هللا عنه:
تص َّد ْقنا وال َ
صلَّينـــــا أنت ما اهْ َتدي َنـا وال َالله َّم لوال َ
ً
سكينة علينــا وث ِّبت األقدا َم إن القيـنــــا فــأنزلنْ
إن األلى قد َب َغوا علينا إذا أرادوا ً
فتنة أبينا
[متفق عليه].
وأثناء ذلك العمل الصعب نظر الصحابي الجليل جابر بن عبدهللا إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فرآه
يربط على بطنه حجرين ليخفف عنه ألم الجوع ويعمل ،ويحمل التراب ،فأسرع جابر إلى امرأته يسألها:
صغيرا
ً مقدارا
ً إن كان عندها طعام فذبحت شاة صغيرة عندها ،وطحنت كل ما عندها من الشعير ،فكان
يكفي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،وبعض أصحابه ،وجاء جابر إلى الرسول صلى هللا عليه وسلم،
سرا إلى بيته ،وإذا برسول هللا صلى هللا عليه وسلم يدعو معه المسلمين ،فيذهب ألف رجل إلى يدعوه ً
بيت جابر!! والطعام ال يكفي سوى عدد قليل ،فمن أين سيأكل كل هذا العدد؟! لقد وضع رسول هللا صلى
هللا عليه وسلم يده الشريفة في الطعام ،فبارك هللا فيه فأكل جميع المسلمين ،وبقي طعام كثير ألهل البيت.
_[البخاري] وهكذا كان المسلمون يتعبون ويصبرون ،وعناية هللا تعالى تؤيدهم وتحرسهم ،وبينما هم
يحفرون وجدوا صخرة شديدة لم يستطع أحد أن يحطمها ،فلجئوا إلى الرسول صلى هللا عليه وسلم،
أعطيت مفاتيح الشام ،وهللا إني أبصرُ فتناول المعول وضرب الصخرة ضربة فكسر ثلثها ،وقال :هللا أكبر
أعطيت مفاتيح فارس ،وهللا ُ قصورها الحمر الساعة ثم ضرب الثانية ،فكسر الثلث اآلخر ،فقال :هللا أكبر
ُ
أعطيت إني ألبصر قصر المدائن أبيض ثم ضرب الثالثة وقال :باسم هللا فقطع بقية الحجر فقال :هللا أكبر
مفاتيح اليمن ،وهللا إني ألبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة[_ .أحمد وابن جرير].
تراخ أو
ٍ وقد تحققت نبؤة الرسول صلى هللا عليه وسلم ،ودخل اإلسالم هذه البالد ،واستمر العمل دون
كسل حتى تحقق األمل ،وانتهى المسلمون من عملهم قبل أن يصل المشركون ،واقترب جيش المشركين
من المدينة ،ووقفوا أمام الخندق متعجبين ،وصدموا به ،فهذه أول مرة يستعمل فيها العرب مثل هذه الحيل
الحربية ،وشعروا بالخيبة ،فقد انقلبت حساباتهم ،وأصبحت أعدادهم الكبيرة ال قيمة لها ،وهي تقف أمام
الخندق عاجزة حائرة يكاد الغيظ يفتك بها ،وهم يقولون :إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها.
ومن مكان ضيق في الخندق حاول المشركون أن يقتحموه ،ولكن سهام المسلمين انهالت عليهم كالسيل،
43
فارتدوا خائبين ،وخرج عمرو بن عبد ود من صفوف المشركين وقال :من يبارز؟ وكان عمرو بن عبد ود
شجاعا ،ال يستطيع أحد أن يقف أمامه أو يبارزه؛ فلم يقف أحد لمبارزته سوى علي بن أبي ً فارسا قويا
ً
طالب الذي قام وقال :أنا أبارزه يا رسول هللا ،فأعطاه الرسول صلى هللا عليه وسلم سيفه ،وع َّم َمه ،ودعا
له ،ولما شاهده عمرو استصغر سنه ،وقال له :لِ َم يإبن أخي؟ فوهللا ما أحب أن أقتلك.
عليا ،وظال فرد علي عليه :لكني وهللا أحب أن أقتلك ،فغضب عمرو ونزل عن فرسه ،وقتل الفرس ،وبارز ً
يتبارزان ،وثار الغبار فلم ير أحد منهما ،وضربه علي فقتله ،وك َّبر ،فعلم المسلمون أن عليا قتله ،وظل
المسلمون والمشركون يتراشقون بالسهام والنبال ،فقتل عدد قليل من المشركين ،واستشهد بعض
المسلمين.
وحدث أمر خطير للمسلمين لم يضعوه في حسبانهم ،ففي جنوب المدينة اتفق يهود بني قريظة مع الكفار
أن يفتحوا لهم المدينة من ناحيتهم؛ كي يضربوا ظهور المسلمين ويأسروا نساءهم وأبناءهم ،وقد شعر
المسلمون بهذه الخيانة ،فأرسل الرسول صلى هللا عليه وسلم بعض المسلمين ليتأكدوا من الخبر ،ولما
تأكدوا من صحته أسرعوا في مجموعات لحماية المدينة من الداخل وحماية األطفال من غدر اليهود
وعدوانهم ،وحاولت قريش أن تقتحم الخندق؛ لتنفذ منه إلى قلب المدينة ،فوقف المسلمون لهم بالمرصاد.
وكانت السيدة عائشة تقف مع أم سعد رضي هللا عنهما فمر عليهما سعد بن معاذ وعليه درع ال تستر
ذراعيه كليهما ،وفي يده حربته ،فقالت له أمه :الحق يا بني فقد وهللا تأخرت ،فقالت السيدة عائشة لها :يا
أم سعد ،وهللا لوددت أن درع سعد كانت أسبغ أطول مما هي عليه ،و ُرمِي سعد بن معاذ بسهم قطع منه
األكحل عرق في وسط الذراع فدفعه إيمانه أن يدعو هللا قائال :اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شي ًئا
فأبقني لها ،فإنه ال قوم أحب إلى أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك ،وكذبوه ،وأخرجوه ،وإن كنت وضعت
الحرب بيننا وبينهم ،فاجعلها لي شهادة ،وال تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة _[متفق عليه].
لقد ارتبك المسلمون من خيانة بني قريظة التي قد تمكن الكفار منهم ،وأخذوا ينظرون إلى أنفسهم
وقلوبهم متعلقة باهلل تعالى وقد صور القرآن ذلك الموقف فقال تعالى{ :إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل
منكم وإذ زاغت األبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون باهلل الظنونا} [_األحزاب.]20 :
وقد أحاط المشركون بالمسلمين ،فحاصروهم قري ًبا من عشرين ليلة ،وأخذوا بكل ناحية ،ووجهوا نحو
منزل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم كتيبة غليظة ،فقاتلها المسلمون يو ًما إلى الليل ،فلما حانت صالة
العصر ،لم يقدر النبي صلى هللا عليه وسلم وال أحد من الصحابة أن يصلوا العصر فقال رسول هللا صلى
نارا كما شغلونا عن الصالة الوسطى حتى غابت الشمس هللا عليه وسلم :مأل هللا عليهم بيوتهم وقبورهم ً
_[مسلم].
ونظر الرسول صلى هللا عليه وسلم إلى المشركين ،فوجدهم كثيرين ،فأراد أن يخفف الحصار عن
المسلمين ،فعرض على المسلمين أن يتفق مع قبيلة غطفان على أن يأخذوا ثلث ثمار المدينة؛ وينسحبوا
من المعركة ،وبعد ذلك يتفرغ الرسول صلى هللا عليه وسلم لقتال قريش ،واستشار في ذلك األمر سعد بن
أمرا من هللا تعالى يجب تنفيذه ،فقال سعد بن معاذ :يا عبادة ،وسعد بن معاذ ،وأخبرهما أن ذلك ليس ً
رسول هللا ،قد كنا نحن وهؤالء القوم على الشرك باهلل ،وعبادة األوثان ال نعبد هللا وال نعرفه ،وهم ال
بيعا ،أفحين أكرمنا هللا باإلسالم وهدانا له ،وأعزنا بكيطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إال ق ًِرى ضيافة أو ً
وبه ،نعطيهم أموالنا؟! وهللا ما لنا بهذا من حاجة ،وال نعطيهم إال السيف حتى يحكم هللا بيننا وبينهم.
فوافق رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على ذلك ،بعدما وجد من أصحابه الرغبة في الصمود أمام أعدائه
44
مهما كانت قوتهم ،والثقة في نصر هللا تعالى ،وأثبت المسلمون وهم في هذا الموقف الصعب أنهم
يستحقون نصر هللا لهم ،لقد سلموا أمرهم إلى ربهم ،وفعلوا كل ما يقدرون عليه ،فاستحقوا نصر هللا لهم.
45
يطلع على أحوال المشركين وأخبارهم ،فالتفت إلى المسلمين وقال :من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم
ثم يرجع أسأل هللا تعالى أن يكون رفيقي في الجنة؟ فلم يقم أحد من المسلمين من شدة الخوف ،وشدة
الجوع ،وشدة البرد.
فلما لم يقم أحد دعا النبي صلى هللا عليه وسلم الصحابي حذيفة بن اليمان لهذه المهمة ،فقام حذيفة طاعة
ألمر هللا ورسوله حتى دخل معسكر المشركين ،وسمع أبا سفيان يدعوهم إلى الرحيل ،ويقول لهم :يا
معشر قريش ،لينظر كل امرئ َمنْ جليسه؟ فأخذ حذيفة بيد الرجل الذي كان إلى جانبه ،فقال له :من أنت؟
قال :فالن بن فالن ،ثم قال أبو سفيان :يا معشر قريش ،إنكم وهللا ما أصبحتم بدار مقام ،لقد هلك ال ُك َر ُ
اع
(الخيل) ،وأخلفتنا بنو قريظة ،وبلغنا عنهم الذي نكره ،ولقينا من شدة الريح ما ترون ،ما تطمئن لنا قدر
(آنية طعام) وال تقوم لنا نار ،وال يستمسك لنا بناء ،فارتحلوا فإني مرتحل ،وكان ذلك في شوال من السنة
الخامسة للهجرة.
ورجع حذيفة بن اليمان رضي هللا عنه إلى النبي صلى هللا عليه وسلم يقص عليه ما رأى ،وطلع النهار،
وارتحلت األحزاب ،وانفك الحصار ،وعاد األمن ونجح المسلمون في الخروج بسالم من هذه المحنة ،قال
خيرا وكفى هللا المؤمنين القتال وكان هللا قو ًيا ع ً
زيزا} تعالى{ :ورد هللا الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا ً
أعز جنده ،ونصر عبده، [_األحزاب ]83 :وهتف رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :ال إله إال هللا وحدهَّ ،
غلب األحزاب وحده ،فال شيء بعده _[البخاري] وقال النبي صلى هللا عليه وسلم بعد انصراف األحزاب:
اآلن نغزوهم وال يغزوننا [البخاري].
رحل الكفار بهزيمتهم ،وبقي بنو قريظة بخيانتهم للمسلمين ،وقبل أن يستريح المسلمون من غزوة
األحزاب ،وقبل أن يلتقطوا أنفاسهم ،جاء جبريل عليه السالم إلى الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقال له:
أو قد وضعت السالح يا رسول هللا؟ قال :نعم .فقال جبريل :فما وضعت المالئكة السالح بعد ..وإن هللا عز
وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة ،فإني عامد ذاهب إليهم فمزلزل بهم .فأمر الرسول صلى هللا
عليه وسلم مناد ًيا ينادي في الناس :ال يصلِّينَّ أح ٌد العصر إال في بني قريظة _[البخاري].
فأسرع ثالثة آالف مقاتل من المسلمين إلى يهود بني قريظة ،وحاصروهم في حصونهم ،فلم يجد اليهود
مفرا من المسلمين؛ ولم يجدوا ما يعتذرون به عن خيانتهم التي كادت تهلك المسلمين ،لوال توفيق هللا ً
لنعيم بن مسعود ،وحاصر المسلمون حصون بني قريظة ،فمأل الرعب قلوبهم ،وطلبوا أبا لبابة بن عبد
المنذر لما بينهم وبينه من صلة ،يستشيرونه أينزلون على حكم محمد؟! فقال لهم :نعم وأشار إلى حلقه،
سرا من أسرار المسلمين ،وأنه قد خان رسول هللا صلى هللا كأنه ينبههم إلى أنه الذبح ،ثم أدرك أنه أفشى ً
عليه وسلم ،فأسرع إلى مسجد المدينة ،وربط نفسه إلى عمود فيه ،وحلف أال يفك منها حتى يتوب هللا
عليه فقبل هللا توبته؛ وعفا الرسول صلى هللا عليه وسلم عنه.
خمسا وعشرين ليلة ،فلما رأى اليهود عزم المسلمين على اقتحام حصن بني قريظة، ً واستمر الحصار
قالوا :يا محمد ننزل على حكم سعد بن معاذ ،وكان سعد سيد األوس ،وهم حلفاء بني قريظة في الجاهلية،
46
أيضا أن زعيمهم سوف يتساهل مع حلفائهم وقد توقع اليهود أن هذه الصلة تنفعهم ،وتوقع األوس ً
السابقين.
وكان سعد مصا ًبا في غزوة الخندق ،فحملوه راك ًبا إلى بني قريظة ،وجاء إليه قومه يوصونه باإلحسان
إلى بني قريظة ،فقال قولته الشهيرة :لقد آن لسعد أال تأخذه في هللا لومة الئم ،فعلم قومه أنه سيأمر
بقتلهم ،فنظر سعد إلى اليهود وتذكر خيانتهم للعهد الذي بينهم وبين الرسول صلى هللا عليه وسلم ،فأعلن
حكمه عليهم ،بأن يقتل رجالهم ،وتسبي نساؤهم وأبناؤهم ،وتقسم أموالهم على المسلمين ،فقال له النبي
صلى هللا عليه وسلم :لقد حكمت فيهم يا سعد بحكم هللا من فوق سبع سماوات _[متفق عليه].
وهكذا كان حب سعد لدينه ونبيه أكبر مما كان بينه وبين اليهود من مودة في الجاهلية ،وهكذا انتهت
خيرا وكفى هللا المؤمنين غزوة بني قريظة ،ونزل قوله تعالى{ :ورد هللا الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا ً
عزيزا .وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم ً القتال وكان هللا قو ًيا
وأرضا لم تطؤوها وكان هللا ً الرعب فري ًقا تقتلون وتأسرون فري ًقا .وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم
قديرا} [األحزاب.]87-83 :ً على كل شيء
زواج النبي صلى هللا عليه وسلم بالسيدة زينب بنت جحش:
تبنى الرسول صلى هللا عليه وسلم زيد بن حارثة ،وزوجه إبنة عمته زينب بنت جحش ،وكان اإلبن
بالتبني له نفس حقوق اإلبن األصلي ،فله حق الميراث ،وزوجته تحرم على أبيه الذي تبناه ،فأراد هللا أن
يمنع تلك العادة ،وأن ينسب اإلبن إلى أبيه ،فشاء هللا سبحانه أال تستمر الحياة الزوجية بين زيد والسيدة
زينب رضي هللا عنهما فوقعت بينهما جفوة وشقاق ،وكلما هم زيد بتطليقها نهاه صلى هللا عليه وسلم،
وقال له :أمسك عليك زوجك.
ثم طلقها زيد ،ثم أمر هللا نبيه صلى هللا عليه وسلم أن يتزوج السيدة زينب رضي هللا عنها وبذلك بطلت
عادة التبني ،وما كان ينتج عنها من أمور تخالف الدين ،قال تعالى{ :إذ تقول للذي أنعم هللا عليه وأنعمت
عليه أمسك عليك زوجك وإتق هللا وتخفي في نفسك ما هللا مبديه وتخشى الناس وهللا أحق أن تخشاه فلما
وطرا زوجناكها لكي ال يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن ً قضى زيد منها
وطرا وكان أمر هللا مفعوالً .ما كان على النبي من حرج فيما فرض هللا له سنة هللا في الذين خلوا من قبل ً
مقدورا .الذين يبلغون رساالت ربهم ويخشونه وال يخشون أحدًا إال هللا وكفي باهلل ً قدرا
وكان أمر هللا ً
حسي ًبا .ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول هللا وخاتم النبيين وكان هللا بكل شيء عليما ً}
[األحزاب.]20-57 :
سرية نجد
في شهر المحرم من العام السادس الهجري خرجت سرية من المسلمين إلى بني بكر ،فهرب بنو بكر خو ًفا
من المسلمين ،وتركوا أنعامهم وإبلهم ،فأخذها المسلمون ،وبينما المسلمون عائدون وجدوا أمامهم ثمامة
إبن أثال ،ولم يكن قد أسلم بعد ،فقبض عليه المسلمون ،وعندما وصلوا المدينة ربطوه في أحد أعمدة
المسجد ،وعندما رأى ثمامة الرسول صلى هللا عليه وسلم طلب منه أن يطلقه مقابل ما يريد من المال،
47
وقال له :إن تقتل تقتل ذا دم أي :رجال له مكانة في قومه وسوف يثأرون له وإن تنعم تنعم على شاكر أي
رجل يعرف لك جميلك ويكافئك عليه.
فعفا عنه الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وأطلق سراحه ،فانصرف ثمامة ،ولكنه عاد إلى الرسول صلى هللا
عليه وسلم وأعلن إسالمه ،وقال :أشهد أن ال إله إال هللا ،وأشهد أن محمدًا رسول هللا ،يا محمد ،وهللا ما
كان على األرض وجه أبغض إلي من وجهك ،فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي ،وهللا ما كان من دين
أبغض إلي من دينك ،فأصبح دينك أحب الدين إلي ،وهللا ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك ،فأصبح بلدك
أحب البالد إلي ،وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة ،وذهب ثمامة إلى مكة ،فلما عرفوا أنه قد أسلم قالوا
له :صبوت أي :فارقت دينك؟ قال :ال وهللا ..ولكن أسلمت مع محمد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،وهللا
ال يأتيكم من اليمامة حبة حنطة قمح حتى يأذن فيها النبي صلى هللا عليه وسلم.
ومرت األيام ،وأحاط الجوع بقريش ،واحتاجت إلى القمح ،فأرسلوا إلى النبي صلى هللا عليه وسلم
شا حاصرت الرسول وقومه في شِ عب أبي يسألونه أن يأمر ثمامة بإرسال القمح إلى قريش ،ورغم أن قري ً
طالب ثالث سنوات ،وأذاقوهم عذاب الجوع ،إال أن الرسول صلى هللا عليه وسلم قابل اإلساءة باإلحسان
ورفض تعريض قريش للجوع ،وأمر ثمامة أن يبيع لهم القمح.
لكي ال يتجرأ الكفار على المسلمين خرج رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في شهر شعبان يريد بني لحيان،
وقد أظهر أنه متوجه إلى الشام؛ ليفاجئ القوم ولينتقم من الذين غدروا بأصحابه يوم الرجيع ،فلما سمعت
هذه القبائل الغادرة بمقدمه هربت إلى الجبال ،ومكث المسلمون يومين ،وأرسل رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم بعض فرسانه قري ًبا من مكة؛ لتسمع بهم قريش ،وليعلموا بما حدث فيزدادوا خو ًفا ورع ًبا من
المسلمين ،ثم عاد المسلمون إلى المدينة.
صلح الحديبية
في العام السادس من الهجرة ،وفي شهر ذي الحجة ،خرج رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من المدينة
متوج ًها إلى بيت هللا الحرام في مكة المكرمة ،وخرج معه المهاجرون واألنصار ومن لحق بهم من العرب،
وليس معهم من السالح إال السيوف ،وقد ساقوا معهم الهدي الذبائح؛ ليظهروا حسن نيتهم و ُي ْعلِموا أهل
مكة أنهم جاءوا حاجين إلى البيت وزائرين له ،ولم يأتوا لحرب أو قتال ،بل ألداء العمرة.
ووصل الخبر بمسير الرسول صلى هللا عليه وسلم إلى مكة ،فإذا بقريش تفور من الغضب والغيظ ،فكيف
يتجرأ المسلمون على المجيء إليهم ،ودخول مكة بهذه السهولة؟! فال بد من صدِّهم ومنعهم من دخولها،
وتعاهدوا على أال يدخلها النبي صلى هللا عليه وسلم والذين معه ،وخرجت خيلهم يقودها خالد بن الوليد؛
لمنع الرسول صلى هللا عليه وسلم وأصحابه من دخول مكة.
وتعجب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من وقوف قريش في وجه من قصد زيارة الكعبة ،فقال :أشيروا
48
علي أيها الناس فقال أبو بكر :يا رسول هللا خرجت عامدًا لهذا البيت ال تريد قتل أحد وال حرب أحد،
فتوجه له ،فمن صدنا عنه قاتلناه .فقال صلى هللا عليه وسلم :امضوا على اسم هللا وعقد العزم على
الجهاد ،ولكنه لم يرد الصدام مع قريش ،فقال صلى هللا عليه وسلم :من رجل يخرج بنا على طريق غير
طريقهم التي هم بها فقال رجل :أنا يا رسول هللا .فسلك بالمسلمين طري ًقا غير الذي خرجت إليه جيوش
المشركين[_.ابن إسحاق].
ب الرسول صلى هللا عليه وسلم وأصحابه يسير بأمر هللا تعالى بركت الناقة التي يركبها الرسول وبينما َر ْك ُ
صلى هللا عليه وسلم في مكان قريب من مكة يسمى الحديبية ،فقال الصحابة :خألت القصواء اسم ناقة
الرسول صلى هللا عليه وسلم خألت القصواء ..فقال صلى هللا عليه وسلم :ما خألت القصواء وما ذلك لها
بخلق ،لكن حبسها حابس الفيل _[البخاري] وعلم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن هللا تعالى ال يريد له
دخول مكة ،وال الصدام مع قريش في ذلك الوقت ،فقرر التفاوض مع قريش في شأن دخول المسلمين مكة
لزيارة البيت الحرام ،وقال :والذي نفسي بيده ال يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات هللا إال أعطيتهم
إياها _[ابن إسحاق].
وعند بئر الحديبية تجمع المسلمون حول النبي صلى هللا عليه وسلم وقد أصابهم العطش ،فماء البئر قليل
ال يكفيهم ،فشكوا للنبي صلى هللا عليه وسلم ،فجلس صلى هللا عليه وسلم على حافة البئر ،وتوضأ ،ثم
صب الماء في البئر ،فكثر الماء وظلوا يشربون وتشرب إبلهم حتى تركوا الحديبية ورحلوا[_ .البخاري]. َّ
أما قريش فقد أصابهم الفزع بعدما تأكدوا أن النبي صلى هللا عليه وسلم عازم على دخول مكة ،فأرسلوا
إليه رسال يستوضحون األمر ،وكان أول الرسل بديل بن ورقاء الخزاعي ،فقال له الرسول صلى هللا عليه
وسلم :إنا لم نجئ لقتال أحد ولكن جئنا معتمرين ..يا ويح قريش ،لقد أكلتهم الحرب ،ماذا عليهم لو خلوا
بيني وبين سائر العرب ،فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا ،وإن أظهرني هللا عليهم دخلوا في اإلسالم
وافرين ،وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ،فما تظن قريش ،فوهللا ال أزال أجاهد على الذي بعثني هللا به حتى
يظهره هللا أو تنفرد هذه السالفة يقصد :الموت _[ابن إسحاق].
مبهورا من طاعةً وكان آخر الرسل عروة بن مسعود الثقفي عم الصحابي المغيرة بن شعبة ،وإذا به يقف
المسلمين لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم وتماسكهم وقوة إيمانهم ،فعاد إلى قومه يقول لهم :أي قوم،
وهللا لقد وفدت على الملوك ،على كسرى وقيصر والنجاشي ،وإني وهللا ما رأيت مل ًكا يعظمه أصحابه ما
نخم بصق نخامة إال وقعت في كف رجل منهم فدلَّك بها وجهه يعظم أصحاب محمد محمدًا ،وهللا ما َت َّ
وجلده ،وإذا أمرهم ابتدروا أمره ،وما يحدُّون النظر إليه تعظي ًما له ،وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
وأرسل النبي صلى هللا عليه وسلم عثمان بن عفان رضي هللا عنه ليشرح لقريش ما يريده المسلمون،
وإذا بالمشركين يعرضون على عثمان أن يطوف وحده بالبيت ،ولكنه رفض أن يطوف وحده دون
المسلمين ،فاحتبسته قريش عندها ،فلما طالت غيبته ظن المسلمون أن الكفار قتلوه ،فاجتمعوا حول نبيهم
صلى هللا عليه وسلم وبايعوه على القتال حتى االستشهاد في سبيل هللا ،وفيهم نزل قوله تعالى{ :لقد رضي
فتحا قري ًبا}
هللا عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم ً
[الفتح]22 :
شروط الصلح:
وعلمت قريش بهذه النية ،فخافت وأطلقت عثمان على الفور ،وأرسلت سهيل بن عمرو ،وكان رجال
فصيحا عاقال يجيد التفاوض ،فلما رآه الرسول صلى هللا عليه وسلم قال :قد أراد القوم الصلح حين بعثوا ً
49
هذا الرجل ،فلما جاء سهيل إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم تكلما طويال ثم جري بينهما
الصلح ،فاتفق مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على:
-أن يرجع المسلمون هذا العام ويعودوا في العام القادم.
-وأن تتوقف الحرب بينهما لمدة عشر سنوات.
-وأن من أراد أن يتحالف مع المسلمين فله ذلك ،ومن أراد التحالف مع قريش فله ذلك.
-وأن يرد الرسول صلى هللا عليه وسلم من جاء إليه من قريش دون إذن وليه ،وال ترد قريش من يأتيها
من المسلمين.
وعند سماع عمر بهذه الشروط أتى أبا بكر فقال :يا أبا بكر أليس برسول هللا؟ قال :بلي .قال :أو لسنا
بالمسلمين؟ قال :بلى .قال :أو ليسوا بالمشركين؟ قال :بلي .قال :فعالم نعطي الدنية في ديننا؟ قال أبو
بكر :يا عمر الزم غرزه ،فإني أشهد أنه رسول هللا .قال عمر :وأنا أشهد أنه رسول هللا[_ .متفق عليه].
ثم دعا النبي صلى هللا عليه وسلم علي بن أبي طالب وقال له اكتب :بسم هللا الرحمن الرحيم .فقال سهيل:
ال أعرف هذا ،ولكن اكتب :باسمك اللهم .فقال الرسول صلى هللا عليه وسلم :إكتب بإسمك اللهم .فكتبها،
ثم قال :إكتب :هذا ما صالح عليه محمد رسول هللا سهيل بن عمرو .فقال سهيل :لو شهدت أنك رسول
هللا لم أقاتلك ،ولكن اكتب إسمك وإسم أبيك .فقال صلى هللا عليه وسلم :إكتب .هذا ما صالح عليه محم ُد
إبن عبدهللا ،سهيل َ بن عمرو .فرفض على أن يمحو كلمة رسول هللا بعد ما كتبها ،فمحاها الرسول صلى
هللا عليه وسلم بنفسه[_ .متفق عليه].
وبهذا الصلح دخلت قبيلة خزاعة في عهد المسلمين ودخلت قبيلة بني بكر في عهد المشركين ،وقبل أن
يوقع الرسول صلى هللا عليه وسلم على كتاب الصلح إذا بأبي جندل بن سهيل بن عمرو يأتي مسل ًما ،فلما
رآه أبوه سهيل؛ قام إليه فضرب وجهه ،وأخذ بثيابه ،ثم قال :يا محمد ،قد لجت القضية أي حسمت بيني
وبينك قبل أن يأتي هذا .قال :صدقت.
فأخذ سهيل يجر إبنه ليرده إلى قريش ،وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته :يا معشر المسلمين ،أأرد إلى
المشركين يفتنونني في ديني؟ فقال صلى هللا عليه وسلم :يا أبا جندل ،اصبر واحتسب ،فإن هللا جاعل لك
صلحا وأعطيناهم على ذلك، ً ومخرجا ،إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم
ً فرجا
ولمن معك من المستضعفين ً
وأعطونا عهد هللا ،وإنا ال نغدر بهم _[ابن إسحاق] وغضب المسلمون من هذا الصلح ،فقد َبدَت الشروط
في أعينهم ظالمة ،فقال لهم الرسول صلى هللا عليه وسلم :أنا عبد هللا ورسوله ،لن أخالف أمره ،ولن
ض ِّيعني [البخاري].
ُي َ
ولما فرغ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من كتابة المعاهدة ،قال للمسلمين :قوموا ،فانحروا وقالها ثال ًثا،
فلم يقم أحد ،فغضب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،ودخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس،
فقالت :يا رسول هللا أتحب ذلك؟ اخرج ،ثم ال تكلم أحدًا كلمة حتى تنحر ُبدْ َن َك ،وتدعو حالقك فيحلقك .فقام
الرسول صلى هللا عليه وسلم وخرج فلم يكلم أحدًا حتى نحر بدنه ،ودعا حالقه فحلقه ،فلما رأى الناس ذلك
قاموا فنحروا إبلهم ،وجعل بعضهم يحلق لبعض[ .أحمد].
ولكن هل التزم المسلمون والمشركون بشروط هذه المعاهدة؟ لقد ضاق المسلمون المعذبون في مكة
بمقامهم بعيدًا عن الرسول صلى هللا عليه وسلم والمسلمين في المدينة ،ففر منهم أبو بصير عبيد هللا إبن
أسيد ،وهاجر إلى المدينة يبغي المقام فيها مع المسلمين ،فأرسلت قريش وراءه اثنين من رجالها ،ليعودا
تنفيذا لشروط الصلح ،فقال الرسول صلى هللا عليه وسلم :يا أبا بصير ،إنا قد أعطينا هؤالء القوم ً به إليها
50
ومخرجا،
ً فرجا
ما قد علمت ،وال يصلح لنا في ديننا الغدر ،وإن هللا جاعل لك ولمن معك من المستضعفين ً
فانطلق إلى قومك _[ابن إسحاق].
وحزن أبو بصير وقال :يا رسول هللا أتردني إلى المشركين ليفتنوني في ديني؟ فلم يزد النبي صلى هللا
جميعا إلى مكة، ً عليه وسلم عن تكرار رجائه في الفرج القريب ،ثم أرسل أبا بصير مع القرشيين ليعودوا
مذعورا ،ورجع إلى المدينة ً فإحتال أبو بصير أثناء الطريق على سيف أحد الحارسين وقتله به ،ففر اآلخر
شاهرا السيف يقول :يا ً يخبر النبي صلى هللا عليه وسلم بما وقع من أبي بصير ،وإذا بأبي بصير يطلع
رسول هللا ،وفت ذمتك وأدى هللا عنك ،أسلمتني بيد القوم وامتنعت بديني أن أفتن أو يعبث بي ،فقال صلى
س ِّع ُر حرب أي مشعل حرب لو كان معه رجال _[أحمد]. هللا عليه وسلم( :ويل أمه كلمة مدح) ُم َ
وأدرك أبو بصير أنه ال مقام له في المدينة ،وال مأمن له في مكة ،فانطلق إلى ساحل البحر في ناحية
تدعي العيص وشرع يهدد قوافل قريش بطريق الساحل وسمع المسلمون بمكة عن مقامه ،فتالحقوا به
يق علىض َ شا َثائرا كان منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو ،وكونوا جي ً حتى اجتمع إليه نحو سبعين ً
قريش فال يظفر بأحد إال قتله ،وال تمر بهم قافلة إال اقتطعوها ،فأرسلت قريش إلى النبي صلى هللا عليه
وسلم تناشده أن يؤوي إليه هؤالء فال حاجة لها بهم.
وبذلك نزلت قريش عن الشرط الذي أملته تعن ًتا وقبله المسلمون كارهين ،وهذا هو أول الفتح على
المسلمين ،فقد تأكد لهم بعد ذلك أن المعاهدة كانت لصالحهم ،وأنها أتاحت لهم فرصة لنشر دينهم بعيدًا
عن االنشغال بالحرب مع قريش.
إسالم أبي العاص بن الربيع:
وعندما كان أبو جندل وأبو بصير وأصحابهما في المكان الذي اجتمعوا فيه عند ساحل البحر ،مرت بهم
قافلة تجارية لقريش بقيادة أبي العاص بن الربيع زوج السيدة زينب إبنة الرسول صلى هللا عليه وسلم،
وكانت قد فارقته؛ ألنه كان مشر ًكا ،وهاجرت وحدها إلى المدينة.
فهاجم أبو جندل ومن معه القافلة وأسروهم وأخذوا ما معهم من أموال ،ولم يقتلوا منهم أحدًا إكرا ًما ألبي
العاص ،وأخلوا سبيله ،فقدم أبوالعاص المدينة وإستجار بزينب ،فكلمت زينب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في ذلك.
فقام رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وخطب قائال :إنا صاهرنا أناسا ،وصاهرنا أبا العاص ،فنعم الصهر
وجدناه ،وإنه أقبل من الشام في أصحاب له من قريش ،فأخذهم أبو جندل وأبو بصير ،وأخذوا ما كان
معهم ،ولم يقتلوا منهم أحدًا ،وإن زينب إبنة رسول هللا سألتني أن أجيرهم ،فهل أنتم مجيرون أبا العاص
وأصحابه؟ فقال الناس :نعم .فلما بلغ أبا جندل وأصحابه قول الرسول صلى هللا عليه وسلم أطلقوا من كان
عندهم من أصحاب أبي العاص وردوا إليهم أموالهم.
ثم خرج أبو العاص حتى قدم مكة ،فأدى إلى الناس بضائعهم ،ثم أعلن إسالمه ،وعاد أبو العاص إلى
المدينة مسل ًما ،فرد إليه الرسول صلى هللا عليه وسلم زوجته زينب رضي هللا عنها.
غزوة خيبر
51
فكونوا جبهة معادية للمسلمين ،وإستمالوا قبيلة غطفان لم يهدأ يهود خيبر عن الكيد ضد اإلسالمَّ ،
واألعراب المجاورين لهم في شمال المدينة ،فخرج النبي على رأس جيش لتأديبهم والقضاء على
خطرهم .وكانت تلك الموقعة الرابعة بين المسلمين واليهود ،فاألولى كانت مع يهود بني قينقاع ،والثانية
مع بني النضير ،والثالثة مع بني قريظة.
وبينما كان المسلمون يسيرون في الطريق إلى خيبر ،أخذ عامر إبن األكوع ينشد ويقول:
الله َّم لوال هللا ما اهتدينا
وال تصدقنا وال صلينا
فداء لك ما اقتفينا ً فإغفر
ت األقدا َم إن القينا وث ِّب ِ
وألَقينْ سكينة علينا
إنا إذا صيح بنا أَتينا
وبالصباح َع َّولوا علينا
َّ
فقال رسول هللا " :من هذا السائق؟" قالوا :عامر بن األكوع .قال :يرحمه هللا[ .متفق عليه].
وأراد الرسول أن يقسم جبهة األعداء المؤلفة من اليهود وغطفان ،فأوهم غطفان أن الهجوم متجه إليها،
فرجعوا إلى ديارهم بعد أن خرجوا لينضموا إلى اليهود في خيبر .وهكذا نجحت خطة النبي في عزل
اليهود عن حلفائهم المشركين.
فلما أشرف رسول هللا على خيبر قال ألصحابه :قفوا .ثم تضرع إلى هللا بهذا الدعاء" :الله َّم رب
السماوات وما أظللن ،ورب األرضين وما أقللن ،ورب الشياطين وما أضللن ،ورب الرياح وما أذرين ،فإنا
نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ،ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها".
ووصل المسلمون إلى حدود خيبر ليالً ،فمنعهم إيمانهم من أن يهاجموا أعداءهم فجأة بليل فانتظروا حتى
الصباح ،وفي الصباح خرج اليهود إلى مزارعهم ،ففوجئوا بالمسلمين يحيطون ببلدهم ،فأسرعوا إلى
حصونهم وهم يصرخون :محمد وهللا ،محمد والخميس الجيش .فقال رسول هللا " :هللا أكبر خربت خيبر،
إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين" [متفق عليه].
قويا على حصون خيبر المشيدة ،فسقطت في أيديهم حص ًنا بعد حصن ،حتى لم وشنَّ المسلمون هجو ًما ً
يبق منها غير حصون قليلة قوية اعتصم بها اليهود ،وصعب فتحها على المسلمين ،فقال رسول هللا :
"ألعطين الراية غدًا رجالً يحب هللا ورسوله ويحبه هللا ورسوله".
فبات الناس يتساءلون :أ ُّيهم ُيعطاها؟ فلما أصبحوا تطلعوا إلى أخذها .فقال النبي " :أين علي بن أبي
طالب؟" فقيل :هو يا رسول هللا يشتكي عينيه .قال" :فأرسلوا إليه".
فأتي به ،فبصق رسول ُ هللا في عيني علي ودعا له ،فشفي حتى كأن لم يكن به وجع ،فأعطاه الراية ،فقال
" :انفذ إليهم حتى تنزل بساحتهم ،ثم ادعهم إلى اإلسالم ،وأخبرهم بما يجب عليهم من حق هللا تعالى،
علي فقاتل ،فكان الفتح ٌ خير لك من ُحمر النعم" [متفق عليه] .ثم خرج فوهللا ألن يهدي هللا بك رجالً واحدًا ٌ
على يديه ولم يبق إال حصنان ،ظل المسلمون يحاصرونهما ،حتى أيقن من فيهما بالهالك ،فطلبوا أن
يخرجوا ويتركوا األموال مقابل أن يتركهم المسلمون ،فوافقهم الرسول على ذلك.
ثم سألوا رسول هللا أن يبقى خيبر تحت أيديهم يعملون فيها ويزرعون؛ ألنهم أعرف بأراضيهم ولهم
52
نصف ما يخرج منها ،فصالحهم رسول هللا على ذلك ،وقال لهم" :على أنا إن شئنا أن نخرجكم
أخرجناكم" [متفق عليه].فأقروا بذلك.
وبعد أن صالحهم رسول هللا ،أهدت إليه امرأة منهم شاة مشوية وكانت قد سألت :أي عضو من الشاة
أحب إلى رسول هللا ؟ فقيل لها :الذراع .فأكثرت فيها من السم ،ثم سمت سائر الشاة وجاءت بها ،فلما
وضعتها بين يدي رسول هللا تناول الذراع ،فأوحى هللا عز وجل إليه بأنها مسمومة.
فجمع النبي اليهود فقال لهم" :إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه؟" فقالوا :نعم .قال لهم النبي
صادقي عن
َّ " :من أبوكم؟" .قالوا :فالن .فقال":كذبتم ،بل أبوكم فالن" .قالوا :صدقت .قال" :فهل أنتم
س ًما؟" قالوا :نعم .قال:
شيء إن سألت عنه؟" فقالوا :نعم يا أبا القاسم .قال" :هل جعلتم في هذه الشاة ُ
ض َّرك[ .البخاري]. "ما حملكم على ذلك"؟ قالوا :إن كنت كاذ ًبا تستريح ،وإن كنت ً
نبيا لم ي ُ
زواج الرسول من السيدة صفية بنت حيي:
وتزوج الرسول في هذه الغزوة السيدة صفية بنت حيى بن أخطب زعيم اليهود ،وكانت من األسرى
فأعتقها رسول هللا بعد أن أسلمت ،وتزوجها وجعل مهرها عتقها.
يهود فدك:
وبعد أن انتصر المسلمون على اليهود في خيبر ،بقي يهود فدك وتيماء ووادي القرى ،أما يهود فدك فقد
أرسل إليهم الرسول يدعوهم إلى اإلسالم ،وعندما علموا بهزائم إخوانهم في خيبر صالحوا الرسول على
ما صالحه عليه أهل خيبر.
يهود وادي القرى:
انطلق المسلمون إلى يهود وادي القرى ،فتتابعت عليهم السهام من حصون اليهود .فأصيب خادم الرسول
بسهم فقتله ،فقال المسلمون :هني ًئا له الجنة .فقال الرسول لهم" :بلى ،والذي نفسي بيده ،إن الشملة
نارا" [متفق عليه] .فقد سرق ذلك التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ً
الخادم قطعة قماش من مغانم خيبر ،وسوف ُي َّ
عذب بها في قبره.
وبدأ المسلمون يرتبون صفوفهم ويقفون أمام الحصون ،وإذا برجل من اليهود يخرج لمبارزة المسلمين،
فانطلق إليه الزبير بن العوام رضي هللا عنه فقتله فتتابع بعده اليهود وكلما خرج يهودي قتله مسلم
بتوفيق هللا ،ثم ما لبثوا أن استسلموا ،فصالحهم المسلمون على صلح مثل صلح خيبر.
يهود تيماء:
فزع يهود تيماء من هزائم اليهود المتتالية في فدك ،وخيبر ،ووادي القرى ،فعرضوا على المسلمين
الصلح دون أية مقاومة ،فصالحهم الرسول كصلح أهل خيبر ،وأخذ منهم الجزية وتركهم في أرضهم
وأموالهم .وبذلك أمن الرسول جانب اليهود وتفرغ لنشر دين ربه الذي أمره به.
عودة المهاجرين من الحبشة:
بعد خمسة عشر عا ًما من الغربة والفراق الطويل في بالد الحبشة ،والبعد عن رسول هللا ،قدم جعفر إبن
أبي طالب ومن كان معه في الحبشة إلى المدينة في العام السابع الهجري ،فإمتألت قلوبهم بالسعادة حينما
رأوا كثرة المسلمين ،ونصر الرسول على أعدائه ،وكانت سعادة النبي غامرة حين رآهم واطمأن عليهم،
وقيل :إن الرسول من فرط سروره قال" :وهللا ما أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر" [الحاكم
فرحا شديدًا بعودة المسلمين من الحبشة.والطبراني] .مما يدل على أنه فرح ً
وكان من ضمن المهاجرين القادمين من الحبشة األشعريون الذين ينتسب إليهم الصحابي الجليل أبو
53
موسى األشعري هو وبعض قومه يريدون الرسول في المدينة ،وركبوا سفينة من اليمن ،لكن الرياح
ألقت بهم نحو الحبشة ،وهناك التقوا بجعفر بن أبي طالب ومن معه من المسلمين ،وكأن هللا تعالى أرسل
سويا وانضموا إلى صفوف ً إليهم هؤالء الناس ليكونوا أ ُ ً
نسا لهم في غربتهم فأقاموا هناك ،حتى عادوا
المسلمين في المدينة.
خطرا عليهم ،فهذه قبائل غطفان تتجمع للهجوم على المدينة، ً ما زال الكفار يهددون المسلمين ،ويشكلون
فكان البد من الخروج إليهم وردعهم قبل أن يهاجموا المسلمين.
فخرج المسلمون في شهر ربيع األول من العام السابع من الهجرة ،وهم ال يبالون بالتعب ،يتبادل كل ستة
منهم ركوب بعير واحد ،ويسيرون في الجبال ،وفوق الصخور ،حتى أصيبت أقدامهم وسقطت أظافرهم،
أيضا
فأخذوا يلفون أرجلهم بالخرق والرقاع القماش القديم ،فسميت هذه الغزوة باسم ذات الرقاع ،وتسمى ً
بغزوة نجد.
فلما علمت قبائل غطفان بقدوم المسلمين هربت ،فلم يقع قتال ،وعاد المسلمون منتصرين .وفي طريق
العودة اشتد الحر عليهم ،وجاء وقت القيلولة فنزلوا في وادْ كثير األشجار ،وتفرق المسلمون يستظلون
فيه.
وقد نام الرسول تحت شجرة وعلق سيفه بها ،فإذا بأعرابي كافر يأتي فيأخذ السيف ،فشعر به الرسول،
واستيقظ من نومه ،فقال األعرابي :من يمنعك مني؟ فقال رسول هللا " :هللا" .وإذا باألعرابي يرتعد ويسقط
السيف من يده ،فأخذه النبي ثم عفا عن األعرابي وتركه[ .متفق عليه].
عمرة القضاء
في العام السابع الهجري ،أصبح للمسلمين الحق في دخول مكة للعمرة حسب اتفاقهم مع قريش في العام
السابق ،فخرج رسول هللا ومعه ألفان من المسلمين ودخلوا مكة حاملين سيوفهم ،وأخذوا يطوفون حول
عز وقوة ،حتى قال أهل مكة من الكفار ،وهم ينظرون في دهشة إلى المسلمين وقوتهم :هؤالء الكعبة في ٍّ
هم الذين قلتم :إن ُح َّمى المدينة أضعفتهم! [أحمد]
وقضى المسلمون عمرتهم ثم خرجوا من مكة بعد ثالثة أيام احترا ًما لالتفاق الذي عقدوه في صلح
الحديبية مع كفار قريش ،وسميت هذه العمرة بعمرة القضاء؛ ألن المشركين صدوا رسول هللا عام
الحديبية عن البيت الحرام ،فكان مجيئه في العام التالي لقضاء ما فاته.
وبينما الرسول وحوله أصحابه عائدون،إذا بفتاة تخرج من مكة ،تجري خلفهم وتنادي رسول هللا قائلة:
يا عم .يا عم.
54
إنها إبنة حمزة سيد الشهداء الذي استشهد في أحد ،فأخذها علي بن أبي طالب ،وسلمها إلى السيدة فاطمة
زوجته ،وإذا بزيد بن حارثة وجعفر يتنافسان على أيهما أحق بكفالتها.
فقال جعفر :إبنة عمي وخالتها زوجتي .وقال علي :أنا أخذتها وهي بنت عمي.
وقال زيد :إبنة أخي؛ ألن النبي قد آخى بين زيد وحمزة .فحكم النبي بأن تكون مع جعفر وزوجته .وقال:
"الخالة بمنزلة األم" [البخاري].
وفي هذه العمرة تزوج الرسول من السيدة ميمونة بنت الحارث الهاللية رضي هللا عنه.
إسالم عمرو بن العاص:
أمام انتصارات اإلسالم المتتالية ،وازدياد قوة المسلمين يو ًما بعد يوم ،وقف عمرو بن العاص مع نفسه،
فهداه تفكيره إلى أن يرحل إلى الحبشة ويراقب من هناك صراع اإلسالم مع المشركين من قريش ،فإذا
انتصر المسلمون كان آم ًنا ،وإذا انتصر الكفار عاد إليهم.
وبينما عمرو بن العاص يستعد للدخول إلى النجاشي ملك الحبشة إذا به يرى عمرو بن أمية الضمري
خارجا من عنده ،فلما دخل عمرو على النجاشي قال له :أيها الملك إن قد رأيت رجالً يخرج ً رضي هللا عنه
من عندك وهو رسول رجل عدو لنا فأعطنيه ألقتله فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.
فغضب النجاشي ،ولطم أنفه بضربة شديدة ،حتى ظن عمرو أن أنف النجاشي قد كسرت ،وارتعد عمرو
من الخوف ،لكنه تماسك وقال للنجاشي :أيها الملك! وهللا ،لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه .قال :أتسألني
أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس األكبر الذي كان يأتي موسى فتقتله؟ فقال عمرو :أيها الملك ،أكذاك
هو؟ فقال النجاشي :ويحك يا عمرو! أطعني واتبعه فإنه وهللا لعلى الحق ،وليظهرن على من خالفه كما
ظهر موسى بن عمران على فرعون وجنوده.
فقال عمرو :أفتبايعني له على اإلسالم؟ قال :نعم.
فبسط عمرو يده ،فبايعه على اإلسالم .فلما قدم عمرو المدينة ذهب إلى رسول هللا ليبايعه وقال لرسول
هللا :يا رسول هللا إني أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي وال أذكر ما تأخر .فقال رسول هللا " :يا
ب ما كان قبلها"[ابن إسحاق] فأسلم ب (يهدم) ما كان قبله ،وإن الهجرة َت ُج ُّعمرو بايع ،فإن اإلسالم ي ُج ُّ
عمرو ،وكان إسالمه في العام الثامن الهجري.
إسالم خالد بن الوليد:
حائرا ،فقد َفطن إلى أن النصر سيكون للمسلمين على قريش ،وبدأ ً وقف خالد بن الوليد بعد صلح الحديبية
يفكر في مكان يذهب إليه.
وعندما وصل المسلمون مكة في عمرة القضاء ،ومعهم الوليد بن الوليد أخو خالد ،ظل الوليد يبحث عن
أخيه خالد ،فلما لم يجده ترك له رسالة ،قال فيها :بسم هللا الرحمن الرحيم .أما بعد ،فإني لم أر أعجب من
ذهاب رأيك عن اإلسالم ،وعقلك عقلك! ومثل ُ اإلسالم جهله أحد؟! وقد سألني رسول هللا عنك فقال" :أين
خالد؟" فقلت :يأتي هللا به .فقال" :مثله جهل اإلسالم! ولو كان جعل نكايته وجدَّ ه مع المسلمين على
خيرا له ،ولقدَّ مناه على غيره" .فإستدرك يا أخي ما فاتك من مواطن صالحة .قرأ خالد المشركين ،لكان ً
هذه الكلمات الصادقة ،فإنشرح صدره لإلسالم وتوجه إلى رسول هللا .
معا إلى المدينة وقد جمع اإلسالم بينوفي الطريق ،التقى بعمرو بن العاص ،وعثمان بن طلحة فتوجهوا ً
قلوبهم ،فلما رآهم الرسول أشرق وجهه بإبتسامة عذبة ،وبايعهم على اإلسالم.
55
غزوة مؤتة
في العام الثامن الهجري ،أرسل رسول هللا الحارث بن عمير األزدي رضي هللا عنه إلى أمير ُبصرى؛
ليدعوه وقومه إلى اإلسالم ،فطغى أمير بصرى وأتباعه ،وقتلوا هذا الصحابي الجليل ،فغضب رسول هللا
شا من ثالثة آالف جندي؛ لتأديب هؤالء القوم ،وجعل والمسلمون من هذا الغدر وهذه الخيانة ،وجهز جي ً
رسول هللا زيد بن حارثة قائدًا على الجيش ،فإن قتل فجعفر بن أبي طالب ،فإن قتل فعبد هللا بن رواحة.
[البخاري]
و إنطلق الجيش حتى بلغ الشام ،وفوجئ المسلمون بأن جيش الروم يبلغ مائتي ألف مقاتل ،فكيف
يواجهونه بثالثة آالف مقاتل ال غير؟ وقف عبد هللا بن رواحة األسد ،يشجع الناس ويقول لهم :يا قوم وهللا
إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون ..الشهادة ،وما نقاتل الناس بعدد وال قوة وال كثرة ،وما نقاتلهم إال
بهذا الدين الذي أكرمنا هللا به .فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين :إما ظهور نصر وإما شهادة.
فقال الناس :قد وهللا صدق إبن رواحة .فمضى الناس ،وقد امتألت قلوبهم ثقة باهلل سبحانه.
ورغم هذا الفارق الكبير في العدد ،حيث إنَّ كل مسلم منهم يواجه وحده حوالي سبعين مشركاً ،فقد دخلوا
في معركة حامية وهم مشتاقون إلى الشهادة ،والموت في سبيل هللا.
والتقى الجيشان ،وقاد زيد بن حارثة جيش المسلمين ،وهو يحمل راية رسول هللا حتى استشهد رضي هللا
عنه ،فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب ،واشتدت المعركة ،فنزل جعفر عن فرسه وعقرها قطع أرجلها حتى
ال يأخذها أحد الكفار فيحارب عليها المسلمين ،وحمل جعفر الراية بيمينه فقطعت ،فأخذها بشماله فقطعت،
فاحتضنها بعضديه حتى استشهد رضي هللا عنه ،فحمل الراية عبد هللا بن رواحة ،ووجد في نفسه بعض
التردد ،فحث نفسه على الجهاد بقوله:
نفس لتنزلنه أو لتكرهنه إن أجلب الناس وشدوا الرنة (الصيحة) مالي أراك تكرهين الجنة ُ أقسمت يا
وقاتل حتى استشهد في سبيل هللا.
عندئذ كان البد من أن يبحث المسلمون عن قائد يدير المعركة بعد إستشهاد القادة الثالثة ،فإتفق الناس
على خالد بن الوليد.
كبيرا بين عدد
فقاد خالد رضي هللا عنه أولى تجاربه العسكرية التي يخوضها بعد إسالمه .فوجد الفرق ً
المشركين وعدد المسلمين ،والبد أمامه من الحيلة حتى ال يفنى المسلمون جميعهم ،ويحافظ على جيشه
سلي ًما ،فكان يقاتل األعداء كأسد جسور ،وكلَّما إنكسر في يده سيف أخذ سي ًفا آخر ،حتى إنكسرت في يده
تسعة أسياف.
وعندما جاء الليل وتوقف القتال ،أخذ خالد يعيد ترتيب جيش ،فجعل الميمنة ميسرة ،والميسرة ميمنة،
والمقدمة مؤخرة.
وفي الصباح نظر الروم إلى المسلمين ،فوجدوا الوجوه غير وجوه األمس ،فظنوا أن المسلمين قد جاءهم
وفروا خائفين رغم كثرتهم ،فلم يتبعهم المسلمون ،لكنهم عادوا إلى المدينة. مدد ،فخافوا وارتعدواُّ ،
فقابلهم الصبية وهم يرمون التراب في وجوههم؛ ألنهم تركوا الميدان ورجعوا ،وكان يعيرونهم قائلين :يا
فُ َّرار ،أفررتم في سبيل هللا؟ ولكن رسول هللا كان يعلم المأزق الذي كان فيه جيشه فقال لهم" :ليسوا
56
بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء هللا" [ابن سعد].
تقديرا لذكائه وحسن تصرفه الذي أنقذ به
ً وأطلق على خالد بن الوليد في هذه المعركة سيف هللا المسلول،
المسلمين من الهالك المحقق.
سرية ذات السالسل:
رأينا شجاعة خالد بن الوليد وعبقريته في غزوة مؤتة ،وها هو ذا عمرو بن العاص يخرج على رأس
جيش من المسلمين في جمادى اآلخرة من العام الثامن الهجري؛ لتأديب القبائل الموالية للروم قرب بالد
الشام ،وهناك بجوار ماء يسمى السالسل أقام المسلمون ينتظرون المدد من رسول هللا ،وإذا بجيش كبير
يقبل عليهم فيه أبو بكر وعمر ويقوده أبو عبيدة بن الجراح الذي أوصاه رسول هللا بعدم الخالف مع
عمرو بن العاص.
ولما جاء وقت الصالة أراد أبو عبيدة أن يؤم الناس فمنعه عمرو ،وقال :إنما قدمت على مددًا وأنا األمير.
فأطاع له أبو عبيدة حتى ال يكون سب ًبا في الفرقة بين المسلمين.
وانطلق المسلمون خلف قائدهم تحت راية اإلسالم ،يطاردون القبائل التي تشكل تهديدًا للمسلمين ،ففروا
منهزمين أمامهم .وقد أظهرت هذه المعارك كفاءة عمرو الحربية ،وأدخلت الرعب في نفوس األعداء.
فتح مكة
بعد أن تم عقد صلح الحديبية بين المسلمين والمشركين من قريش ،دخلت قبيلة خزاعة في حلف
المسلمين ،ودخل بنو بكر في حلف قريش ،وحدث أن اعتدى بنو بكر على خزاعة ،وإذا بقريش تساعدهم،
وترسل لهم السالح ،وبذلك خانت قريش عهدها مع رسول هللا .
وأقبل عمرو بن سالم الخزاعي يشكو لرسول هللا الغدر والخيانة ،فوعده الرسول باالنتصار لهم .وفي
مكة ندم الكفار على خيانتهم للعهد ،وشعروا بفداحة ُجرمهم ،وأدركوا أنهم أصبحوا مهددين ،فذهب أبو
سفيان إلى المدينة ليقابل رسول هللا ويعتذر ويؤكد المعاهدة بين قريش والمسلمين.
أخذ أبو سفيان يبحث عمن يتوسل به إلى رسول هللا ،فذهب إلى إبنته أم حبيبة ،زوجة رسول هللا ،لتشفع
له عند رسول هللا ،فلما ه َّم بالجلوس ،رفعت السيدة أم حبيبة الفراش من أمامه حتى ال يجلس عليه،
وقالت له :أنت رجل مشرك نجس ،وال أحب أن تجلس على فراش رسول هللا [ .ابن إسحاق]
ثم خرج أبو سفيان فكلَّم رسول هللا فلم يرد عليه ،وذهب إلى أبي بكر ليكلم له رسول هللا فرفض أبو بكر،
ً
غليظا ،فلجأ إلى علي بن أبي طالب ،فنصحه فذهب أبو سفيان إلى عمر بن الخطاب فرد عليه عمر ً
ردا
علي بأن يعود إلى مكة من حيث جاء ،فرجع أبو سفيان إلى مكة خائ ًبا ،وظل المشركون ينتظرون قدوم ٌّ
المسلمين إليهم في رعب وخوف وقلق.
وبدأ النبي يستعد للسير إلى مكة ،ولم ُيعلم الناس بمقصده ،وقال" :الله َّم خذ العيون واألخبار عن قريش
حتى نبغتها في بلدها" [ابن إسحاق].
وكان حاطب بن أبي بلتعة قد كتب إلى قريش يخبرهم بقدوم النبي ،وأعطى الكتاب المرأة لكي تبلغه إلى
قريش ،فجاء النبي خبر من السماء يعلمه بما فعل حاطب.
57
فأرسل الرسول علي بن أبي طالب والزبير بن العوام في طلب المرأة ،فلحقا بها ،وقاال لها :أخرجي
الكتاب .فقالت ما معي كتاب .فقاال لها :لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب .فأخرجته من شعرها ،فأتيا به
رسول هللا ،فقال" :يا حاطب ،ما حملك على هذا؟" فقال :يا رسول هللا ،أما وهللا إني لمؤمن باهلل ورسوله
امرءا ليس لي في القوم من أهل وال عشيرة ،وكان لي بين أظهرهم ولد ً بدلت ،ولكني ُ
كنت ُ ُ
غيرت وال ما
وأهل ،فصانعتهم عليهم ليكون لي جميل عندهم.
وأراد عمر بن الخطاب أن يقتل حاط ًبا ،فقال له رسول هللا " :وما يدريك يا عمر ،لعل هللا قد اطلع على
ُ
غفرت لكم" [متفق عليه]. أصحاب بدر يوم بدر ،فقال اعلموا ما شئتم ،فقد
ونزلت اآليات األولى من سورة الممتحنة في ذلك ،فقال هللا تعالى :يا أيها الذين آمنوا ال تتخذوا عدوي
وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا
باهلل ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم
وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل [الممتحنة].
وفي العاشر من رمضان في السنة الثامنة للهجرة ،خرج الرسول ومعه المسلمون يملؤون الصحراء ،في
عشرة آالف مقاتل متجهين إلى مكة.
ومن مكة ،خرج أبو سفيان ومعه بديل بن ورقاء وحكيم بن حزام؛ ليتجسسوا على المسلمين ،ولم يكونوا
على علم بقدوم الرسول إليهم .وفي جوف الليل ،رأوا النيران المشتعلة تمأل الصحراء ..يا للعجب! ما كل
هذه النيران؟ فقال أحدهم :هذه خزاعة .فقال أبو سفيان :خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها
وعسكرها.
وسمع العباس عم النبي وكان قد أسلم صوت أبي سفيان في جوف الليل ،فناداه وأخبره أنها نيران
شا ينظر إلى جنود المسلمين ويسأل نفسه :ما كل هذه الجنود؟ وكيف المسلمين ،ووقف أبو سفيان منده ً
تجمعوا حول محمد؟ كيف صار بهذه القوة بعد أن خرج من مكة ضعي ًفا ال حول له وال قوة؟! وفي انبهار
أخذ العباس وأبو سفيان يشاهدان قوة جيش المسلمين ،فقال أبو سفيان للعباس :ما ألحد بهؤالء قبل وال
طاقة.
وتوجه أبو سفيان مع العباس إلى رسول هللا ،فلما رآه الرسول قال" :ويحك يا أبا سفيان ،ألم يأن لك أن
ظننت أن لو كان معُ تعلم أنه ال إله إال هللا؟" .قال :بأبي أنت وأمي ،ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! وهللا لقد
هللا إله غيره لقد أغنى عني شي ًئا بعد.
فقال رسول هللا " :ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول هللا؟" قال :بأبي أنت وأمي ما أحلمك
وأكرمك وأوصلك ،أما هذه وهللا فإن في النفس منها حتى اآلن شي ًئا.
فقال العباس :ويحك ،أسلم وأشهد أن ال إله إال هللا ،وأن محمداً رسول هللا قبل أن تضرب عنقك .فشهد أبو
سفيان شهادة الحق وأسلم[ .ابن إسحاق].
وعندما دخل الرسول والمسلمون مكة أراد أن يكرم أبا سفيان ،فقد كان رجالً يحب الفخر ،فقال الرسول :
"من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ،ومن أغلق بابه فهو آمن ،ومن دخل المسجد فهو آمن".
وعفا الرسول عن أهل مكة الذي آذوه وطردوه هو أصحابه ،وبإسالمه سوف يسلم كثير من أهل مكة
دون قتال وإراقة دماء ،فانطلق أبو سفيان إلى قومه ونادى فيهم بأعلى صوته :يا معشر قريش ،هذا
محمد قد جاءكم فيما ال قبل لكم به ،فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ،ومن أغلق بابه فهو آمن ،ومن
دخل المسجد فهو آمن.
58
وأسرع الناس إلى بيوتهم يختبئون ،وامتألت شوارع مكة بالمسلمين دون قتال سوى اشتباك قليل بين
خالد بن الوليد وبعض الكفار في جنوب مكة.
وفي لحظة واحدة تغ َّير الحال ،فدخل الرسول الكعبة ،وطهرها من األصنام بعد أن كانت من قبل مليئة بها،
وهدَّ م الرسول والمسلمون ثالثمائة وستين صن ًما كانت حولها ،والرسول يقرأ قوله تعالى :وقل جاء الحق
وزهق الباطل إن الباطل كان زهو ًقا [اإلسراء ،]22 :وقل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد [سبأ.]25:
وانطلق صوت بالل بن رباح يدوي في اآلفاق ويؤذن للصالة فوق البيت العتيق ،فإطمأن الناس على
أنفسهم وبدأوا يخرجون من بيوتهم ،ويقبلون على رسول هللا ،فوقف على باب الكعبة ،وقال" :ال إله إال
هللا وحده ال شريك له ،صدق وعده ،ونصر عبده ،وهزم األحزاب وحده".
خيرا أخ كريم وابن أخ كريم .فنظر إليهم
ثم قال" :يا معشر قريش ،ما ترون أني فاعل بكم؟" قالواً :
الرسول نظرة كلها عفو ورحمة ،وقال" :ال أقول لكم إال كما قال يوسف إلخوته :ال تثريب عليكم اليوم
يغفر هللا لكم وهو أرحم الراحمين .اذهبوا فأنتم الطلقاء"[ .ابن إسحاق وابن سعد]
وأقام الرسول في مكة تسعة عشر يو ًما يعلِّم الناس أركان اإلسالم ،ويرسل القادة والفرسان لهدم أصنام
القبائل المجاورة.
غزوة حنين
تجمعت قبائل هوازن وثقيف التي تسكن قري ًبا من مكة في أعداد كثيرة؛ يريدون قتال المسلمين ،وكان
قائدهم مالك بن عوف قد أمرهم بحمل أموالهم وأبنائهم ونسائهم معهم كي ال يفروا ويتركوا ساحة
المعركة .وأمر مالك جيشه أن يختبئوا على مداخل وادي حنين ،فإذا ظهر المسلمون هجموا عليهم مرة
واحدة.
واغتر المسلمون بكثرتهم ،فظنوا أنهم لن ُيهزموا أبدًا ،فأراد هللا
َّ وأقبل النبي ومعه اثنا عشر ألف مسلم،
درسا عظي ًما ،وبين لهم أن الكثرة وحدها ال تحقق النصر ،فقد وقعوا في المكيدة التيً تعالى أن يعطيهم
وفروا ،وإذا بالنبي دبرها لهم مالك بن عوف ،وانهال عليهم المشركون بالسهام من كل ناحية ،فانهزمواَّ ،
إلي يا عباد هللا ،أنا محمد بن عبد هللا ،أنا النبي ال كذب ،أنا إبن عبد
يثبت أمام الكفار وينادي المسلمينَّ " :
المطلب" [متفق عليه].
وأخذ العباس عم النبي ينادي الناس ،فتجمع المسلمون حول النبي صائحين :لبيك .لبيك .وإنهالوا على
الكفار يقتلونهم ،فقال " :اآلن حمي الوطيس" [مسلم] .ثم أخذ بيده الشريفة حصيات من االرض ،فرمى
بهن وجوه الكفار ثم قال" :إنهزموا ورب الكعبة" [مسلم] .وقذف هللا في قلوب المشركين الرعب،
فإنهزموا ،وفر قائدهم مالك بن عوف تار ًكا أمواله وأهله ،وتوجه هو ورجاله إلى الطائف .وغنم
وكثيرا من الفضة.
ً المسلمون أربعة وعشرين ألفا من الغنم ،وستة آالف أسير،
وإنتظر الرسول هوازن بضعة عشر يو ًما ،ربما أتت إليه مسلمة معتذرة فيرد لهم أموالهم ،لكنهم لم
فر من هوازن، يأتوا ،فوزعها على المسلمين .ثم توجه المسلمون إلى الطائف ،للقضاء على ثقيف ومن َّ
وحاصروا حصونها خمس عشرة ليلة ،إكتشفوا خاللها أن المشركين يستطيعون الصمود خلف الحصون
59
عا ًما كامالً بما لديهم من غذاء ومؤنة ،فأمر المسلمين بالرحيل ،ودعا لثقيف قائالً" :الله َّم إهد ثقي ًفا وأت
بهم مسلمين" [الترمذي].
فاستجاب هللا لنبيه وجاء وفد ثقيف مسل ًما .وقدم وفد هوازن ممن أسلموا وسألوه أن يرد عليهم أموالهم
وسبيهم ،فقال " :اختاروا إحدى الطائفتين :إما السبي وإما المال" ،فقالوا :يا رسول هللا ،خيرتنا بين
أحسابنا وأموالنا ،فالحسب أحب إلينا ،فقال للمسلمين" :إن إخوانكم قد جاءوا تائبين ،وإني رأيت أن أراد
سبيهم ،فأذنوا في ذلك فأعيدوا إلى هوازن سبيها" [البخاري].
غزوة تبوك
خطرا على الروم ،فرأى الروم أن يجهزوا ً فتحت مكة ،وانتشر اإلسالم في جزيرة العرب ،وأصبح يشكل
شا لقتال المسلمين .فكان البد للمسلمين من الخروج إليهم ،ولكن الحر شديد ،والسفر إلى أرض الروم جي ً
طويل ،والناس في عسرة ،وثمار المدينة حان وقت حصادها ،وفي ظل هذه الظروف كلها ،كان القرار
الحاسم ،فقد أعلن الرسول على الناس الخروج لقتال الروم ،وهذه فرصة ليظهر المنافقون أمام المجتمع
المسلم ،ويثبت المسلمون الصادقون في إسالمهم.
وتسابق المسلمون في فعل الخير ،وتجهيز الجيش الذي سمي بجيش العسرة ،فجاء عمر بن الخطاب
رضي هللا عنه بنصف ماله ،فقال رسول هللا " :ما أبقيت ألهلك؟" .قال :مثله .وأتى أبو بكر بكل ما عنده.
فقال" :يا أبا بكر ،ما أبقيت ألهلك؟" .فقال" :أبقيت لهم هللا ورسوله[ .الترمذي] ،وجاء عثمان بن عفان
إلى النبي بألف دينار ،فوضعها في حجر النبي فجعل يقبلها بيده ،ويقول" :ما ضر عثمان ما عمل بعد
اليوم" [الترمذي].
يروجون
وقي الوقت نفسه كان المنافقون يختلقون األعذار حتى ال يشاركوا في هذه الغزوة ،وأخذوا ِّ
حرا لو كانواألفكارهم فيما بينهم ،ويقولون :ال تنفروا في الحر ،فأنزل هللا تعالى فيهم :قل نار جهنم أشد ً
يفقهون [التوبة .]22 :وتحرك جيش المسلمين في شهر رجب من العام التاسع الهجري رغم الحر و
التعب تاركين المدينة ،وما بها من ثمار وظالل؛ طاعة هلل ورسوله.
رافعا يديه ،فأرسل هللا سحابة أمطرت حتى وفي الصحراء ،اشتد الحر ونفد الماء ،فدعا النبي ربه ،وظل ً
إرتوى الناس ،واحتملوا حاجتهم من الماء .ووصل الجيش بسالم إلى تبوك ،فنزل الرعب بقلوب األعداء،
فتفرقوا وانسحبوا داخل بالدهم ،ولم يقدروا على محاربة المسلمين .فبعث الرسول خالد بن الوليد إلى
أكيدر بن عبد الملك صاحب حصن دومة ،وقال له" :إنك ستجده يصيد البقر".
وفي ليلة مقمرة ،وقفت بقرة جميلة تحك باب القصر فنزل إليها الملك ليصيدها ،وركب فرسه ،وأخذ
رمحه ،وخرج مع بعض من أهله ،فلما خرجوا كانت رسل النبي تنتظره ،فأخذته ،وقتلوا أخاه ،وقدم خالد
بن الوليد ومعه أكيدر أسيراً ،فصالحه الرسول على الجزية ،ثم تركه وخلى سبيله وعاد إلى قريته.
منتصرا بعد أن حقق أهداف غزوته دون قتال ،وبينما هم في طريقهم إلى ً مظفرا
ً وعاد الرسول بالجيش
مسيرا ،وال قطعتم واد ًيا إال كانوا معكم".
ً المدينة قال " :إن بالمدينة أقوا ًما ،ما سرتم
قالوا :يا رسول هللا ،وهم بالمدينة؟! قال" :وهم بالمدينة ،حبسهم العذر" [متفق عليه] .وخرج هؤالء
60
المسلمون الصادقون الذين حبستهم األعذار عن الخروج في الغزوة يستقبلون الرسول والجيش بالفرح
الشديد .أما المنافقون المتخلفون عن الجهاد ،فقد أخذوا يقدمون األعذار الكاذبة لرسول هللا ،فقبل منهم
عالنيتهم ،وترك سرائرهم هلل تعالى.
وكان من بين الذين تخلفوا عن الغزوة كعب بن مالك ،ومرارة بن الربيع ،وهالل بن أمية ،وهم من
المؤمنين الصادقين ،ولكنهم لم يخرجوا مع النبي لقتال الروم ،ولم يكن لهم عذر.
جاء كعب بن مالك وسلم على النبي فتبسم له النبي تبسم المغضب ،وقال" :تعال َ" قال كعب فجئت أمشي
جلست بين يديه ،فقال لي" :ما خلَّفك؟ ألم تكن قد ابتعت (اشتريت) ظهرك (دابتك)؟" فقلت :بلى ،إني ُ حتى
عطيت جدال ،ولكني ُ ُ لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ،ولقد أ ُ وهللا لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا،
وهللا لقد علمت إن حدث ُتك حديث كذب ترضى به عني ،ليوشكن هللا أن يسخط َك علي ،ولئن حدثتك حديث
علي فيه ،إني ألرجو فيه عفو هللا ،ال وهللا ما كان لي من عذر ،وهللا ما كنت قط أقوى وال أيسر َّ صدق تج ُد
مني حين تخلفت عنك .فقال رسول هللا " :أما هذا فقد صدق ،فقم حتى يقضي هللا فيك".
فقمت وثار رجال من بني سلمة ،فاتبعوني فقالوا لي" :وهللا ما علمناك كنت أذنبت ذن ًبا قبل هذا ،ولقد
عجزت أن ال تكون إعتذرت إلى رسول هللا بما إعتذر إليه المتخلفون ،قد كان كافيك ذنبك إستغفا ُر رسول
هللا لك.
ب نفسي ،ثم قلت لهم :هل لقي هذا معي أحد؟ قال :فوهللا ما زالوا ُيؤ ِّنبونني حتى أردت أن أرجع فأُك ِّذ َ
قالوا :نعم ،رجالن ،قاال مثل ما قلت ،فقيل لهما مثل ما قيل لك .فقلت :من هما؟ قالواُ :مرارةُ بن َّ
الربيع
أسوة.
بدرا ،فيهما ْ القمري ،وهالل بن أمية ،فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا ً
فمضيت حين ذكروهما لي ،ونهى رسول هللا المسلمين عن كالمنا من بين من تخلَّف عنه .فإجتنبنا
تنكرت في نفسي األرض ،فما هي التي أعرف ،فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، ْ الناس ،وتغيروا لنا ،حتى
أشب القوم وأجلدهم ،فكنت أخرج فأشهد َّ فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان ،وأما أنا فكنت
ُ
الصالة مع المسلمين ،وأطوف في األسواق ،وال يكلمني أحد ،وآتي رسول هللا فأسلِّم عليه ،وهو في
سارقُهمجلسه بعد الصالة ،فأقول في نفسي :هل حرك شفتيه برد السالم أم ال؟ ثم أصلي قري ًبا منه ،فأ ُ ِ
أقبلت على صالتي أقبل إلي ،وإذا إلتفت نحوه أعرض عني. ُ ال َّنظر ،فإذا
تسلقت جدارُ ت جدار حائط أبي قتادة أي: تسو ْر ُ
علي ذلك من جفوة الناس ،مشيت حتى َّ َّ حتى إذا طال
علي السالم ،فقلت :يا أبا قتادة، َّ بستانه ،وهو إبن عمي ،وأحب الناس إلي ،فسلمت عليه ،فوهللا ما ر َّد
فعدت له فنشدته فقال :هللا ُ أنشدك باهلل ،هل تعلمني أحب هللا ورسوله؟ فسكت ،فعدت له ،فنشدته فسكت،
ورسوله أعلم .ففاضت عيناي ،وتوليت حتى تسورت الجدار.
فبينما أنا أمشي بسوق المدينة ،إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول :من يدُّل
إلي كتا ًبا من ملك غسان ،فإذا فيه :أما على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له ،حتى إذا جاءني دفع َّ
بعدُ ،فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ،ولم يجعلك هللا بدار هوان وال مضيعة ،فالحق بنا نواسك .فقلت
أيضا من البالء ،فتيممت بها ال َّت ُّنور فسجرته بها (حرقته) .حتى إذا مضت أربعون ليلة لما قرأتها :وهذا ً
رسول هللا يأتيني فقال :إن رسول هللا يأمرك أن تعتزل إمرأتك .فقلت :أطلقها أم ِ من الخمسين ،إذا رسول ُ
ماذا أفعل؟ قال :ال .ولكن اعتزلها وال تقربها .وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك ،فقلت المرأتي :الحقي بأهلك،
فتكوني عندهم حتى يقضي هللا في هذا األمر.
فجاءت امرأة هالل بن أمية ،رسول هللا فقالت :يا رسول هللا! إن هالل بن أمية شيخ ضائع ،ليس له خادم
61
فهل تكره أن أخدمه؟ قال" :ال ،ولكن ال يقربك" .قالت :إنه وهللا ما به حركة إلى شيء ،وهللا مازال يبكي
منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا .فقال لي بعض أهلي :لو استأذنت رسول هللا في إمرأتك ،كما أذن
المرأة هالل بن أمية أن تخدمه .فقلت وهللا ال أستأذن فيها رسول هللا ،وما يدريني ما يقول رسول هللا إذا
استأذنته فيها ،وأنا رجل شاب .فلبث بعد ذلك عشر ليال ،حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول
هللا عن كالمنا.
فلما صليت صالة الفجر صبح خمسين ليلة ،وأنا على ظهر بيت من بيوتنا ،فبينما أنا جالس على الحال
علي األرض بما ر ُحبت ،سمعت صوت صارخ ينادي بأعلى َّ علي نفسي وضاقت
َّ التي ذكر هللا ،قد ضاقت
صوته :يا كعب بن مالك ،أبشر .فخررت ساجدًا وعرفت أن قد جاء الفرج.
فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني ،نزعت له ثوبي ،فكسوته إياهما ببشراه ،وهللا ما أملك غيرهما،
فوجا ،يهنئوني بالتوبة فوجا ً
يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما ،وانطلقت إلى رسول هللا ،فيلقاني الناس ً
إلي طلحة يقولون :ل َتهنك توبة هللا عليك .حتى دخلت المسجد ،فإذا رسول هللا جالس ،وحوله الناس ،فقام َّ
إلي رجل من المهاجرين غيره ،وال أنساها لطلحة. إبن عبيد هللا يهرول حتى صافحني وهنأني ،وهللا ما قام َّ
مر عليك منذ فلما سلمت على رسول هللا قال رسول هللا وهو يبرق وجهه من السرور" :أبشر بخير يوم َّ
ولدتك أمك" قلت :أمن عندك يا رسول هللا أم من عندك هللا؟ قال":ال ،بل من عند هللا" .وكان رسول هللا
إذا سر إستنار وجهه كأنه قطعة قمر ،وكنا نعرف ذلك منه.
فلما جلست بين يديه ،قلت :يا رسول هللا .إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى هللا وإلى رسوله،
قال" :أمسك عليك بعض مالك ،فهو خير لك" .قلت :فإني أمسك سهمي الذي بخيبر .فقلت يا رسول هللا إن
هللا إنما أنجاني بالصدق ،وإن من توبتي أن ال أحدث إال صد ًقا ما بقيت ،فوهللا ما أعلم أحداً من المسلمين
أباله هللا في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول هللا أحسن مما أبالني ،ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول
هللا إلى يومي هذا كذباً ،وإني ألرجو أن يحفظني هللا فيما بقيت.
وأنزل هللا على رسوله :لقد تاب هللا على النبي والمهاجرين واألنصار الذين إتبعوه في ساعة العسرة من
بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم .وعلى الثالثة الذين خلفوا حتى إذا
ضاقت عليهم األرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن ال ملجأ من هللا إال إليه ثم تاب عليهم
ليبوبوا إن هللا هو التواب الرحيم [التوبة.]222-227 :
فوهللا ما أنعم هللا علي من نعمة قط بعد أن هداني لإلسالم أعظم في نفسي من صدقي لرسول هللا أن ال
شر ما قال ألحد ،فقال أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا ،فإن هللا قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي َّ
تبارك وتعالى :سيحلفون باهلل لكم إذا إنقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم
جهنم جزاء بما كانوا يكسبون .يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن هللا ال يرضى عن القوم
الفاسقين [التوبة .]56-53 :وكنا تخلفنا أيها الثالثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول هللا حين حلفوا
له ،فبايعهم واستغفر لهم ،وأرجأ رسول هللا أمرنا حتى قضى هللا فيه ،وليس الذي ذكر هللا مما خلفنا عن
الغزو ،إنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له ،واعتذر إليه فقبل منه[ .البخاري].
هدم مسجد الضرار:
عاد المسلمون من تبوك ،وإذا بالنبي يأمرهم بحرق مسجد بناه المنافقون ليدبروا فيه المكائد ضد
المسلمين ،وأرادوا أن يصلي فيه النبي ،ولكن هللا تعالى نهاه عن ذلك ،فقال تعالى :والذين اتخذوا مسجدًا
62
وكفرا وتفري ًقا بين المؤمنين وإرصادًا لمن حارب هللا ورسوله من قبل ليحلفن إن أردنا إال الحسنى
ً ضرارا
ً
وهللا يشهد إنهم لكاذبون .ال تقم فيه أبدًا [التوبة.]202-207 :
بدأ رسول هللا يبعث برسائله إلى ملوك وحكام العالم يدعوهم فيها إلى اإلسالم ،فأرسل إلى النجاشي ملك
تواضعا
ً الحبشة عمرو بن أمية الضمري ،فوضع النجاشي الرسالة على عينيه ،ونزل عن سريره
واحترا ًما له وإعتنق اإلسالم وقال :لو كنت أستطيع أن آتيه ألتيته.
وأرسل إلى المقوقس حاكم مصر حاطب بن أبي بلتعة ،فأحسن المقوقس إستقباله ،وأعطاه هدايا كثيرة
للنبي وجاريتين ،وبغلة ،وطبي ًبا ،ولكنه لم يدخل اإلسالم خو ًفا على ملكه.
وأرسل دحية بن خليفة الكلبي إلى هرقل ملك الروم ،فسلمه دحية كتاب النبي الذي يقول فيه" :بسم هللا
الرحمن الرحيم ،من محمد بن عبد هللا ورسوله إلى هرقل عظيم الروم ،سالم على من اتبع ال ُهدَى .أما
بعد ،فإني أدعوك بدعاية اإلسالم ،أسلم تسلم ،أسلم يؤتك هللا أجرك مرتين ،فإن توليت فإن عليك إثم
األريسيين عامة الشعب ،قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أال نعبد إال هللا وال نشرك به
بعضا أربا ًبا من دون هللا فإن تولوا فقولوا إشهدوا بأنا مسلمون [آل عمران]62 : ً شي ًئا وال يتخذ بعضنا
[البخاري].
فجمع هرقل وزراءه وحاشيته وقال لهم :يا معشر الروم ،هل لكم في الفالح والرشد ،وأن يثبت مل ُك ُكم
فتبايعوا هذا النبي ؟ فثارت الحاشية ،ورفعوا الصليب وأعلنوا عصيانهم ،فلما رأى هرقل ذلك يئس من
إسالمهم ،وخاف على نفسه وملكه ،فقام بتهدئتهم ،ثم قال :إني قلت مقالتي آن ًفا ألختبر بها شدتكم على
دينكم ،فقد رأيت .فسجدوا له ،ورضوا عنه[ .البخاري].
أما كسرى ملك الفرس ،فقد بعث إليه النبي بكتاب مع عبد هللا بن حذافة ،وآمن باهلل وقد جاء فيه" :بسم
هللا الرحمن الرحيم .من محمد رسول هللا إلى كسرى عظيم فارس ،سالم على من اتبع الهدى ،وآمن باهلل
ورسوله ،وشهد أنه ال إله إال هللا وأن محمدًا عبده ورسوله ،وإني أدعوك بدعاء هللا ،وإني رسول هللا إلى
حيا ويحق القول على الكافرين ،فأسلم تسلم ،وإن توليت فإنما إثم المجوس الناس كافة ألنذر من كان ً
عليك" [ابن إسحاق].
فمزق كسرى الرسالة ،وأرسل لنائبه على اليمن يأمره بأن يرسل رجلين يأتيانه بمحمد ،ووصل الرجالن
لتنفيذ المهمة ،وإذا بالنبي يخبر الرجلين أن هللا مزق ملك كسرى كما مزق كتابه ،وعاد الرجالن إلى
اليمن فوجد أن كسرى قد قتله إبنه ،فدخال في اإلسالم.
63
في العام التاسع الهجري أقبلت وفود العرب من كل مكان إلى المدينة لتبايع رسول هللا على دخول
اإلسالم ،وعلى السمع والطاعة .وكان رسول هللا يرسل مع كل وفد من يعلمهم أمور الدين ،ويجمع منهم
الزكاة ويوزعها على فقرائهم.
وجاء وفد ثقيف الذين تركهم المسلمون في غزوة الطائف ،ودعا رسول هللا لهم بالهداية .جاءوا بأنفسهم
من غير قتال إلى المدينة ،بعد أن رأوا أنه ال طاقة لهم بحرب من حولهم من المسلمين فبايعوا كلهم
وأسلموا ،وأرسلوا وفدًا منهم يرأسهم كنانة بن عبد ياليل ،فلما قربوا من المدينة قابلهم المغيرة بن شعبة،
فاستقبلهم وعلمهم كيف ُيح ُّيون الرسول عند دخولهم عليه.
وأنزل رسول هللا وفد ثقيف في المسجد ،وبنى لهم خيا ًما لكي يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا،
ومكث الوفد أيا ًما يذهبون إلى رسول هللا ،ويذهب إليهم ليعلمهم مبادئ اإلسالم ،وكان يأتيهم كل ليلة بعد
العشاء فيقف عليهم يحدثهم ،وكان في هذا الوفد عثمان بن أبي العاص ،وكان أصغرهم ،فكانوا إذا ذهبوا
إلى مجلس رسول هللا تركوه على رحالهم.
فكان عثمان كلما رجع الوفد وناموا وقت الظهيرة ،ذهب إلى رسول هللا فسأله عن الدين ،واستقرأه
القرآن ،وذهب إليه عثمان على ذلك مرات كثيرة ،وكان إذا وجد رسول هللا نائ ًما ذهب إلى أبي بكر ،وكان
وأخيرا دخل اإلسالم أفئدتهم ،ولكن كنانة بن عبدً يكتم ذلك عن أصحابه ،فأعجب ذلك رسول هللا وأحبه.
ياليل قال لرسول هللا :أفرأيت الزنا فإنا قوم نغترب والبد لنا منه؟ .قال" :هو عليكم حرام ،فإن هللا يقول:
وال تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيالً [اإلسراء.]58 :
قالوا :أفرأيت الربا فإنه أموالنا كلها؟ قال" :لكم رؤوس أموالكم ،إن هللا تعالى يقول " :يا أيها الذين آمنوا
اتقوا هللا وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين [البقرة.]872:
قالوا :أفرأيت الخمر ،فإنه عصير أرضنا البد لنا منها؟ قال " :إن هللا حرمها ،قال تعالى :يا أيها الذين
آمنوا إنما الخمر والميسر واألنصاب واألزالم رجس من عمل الشيطان فإجتنبوه لعلكم تفلحون [المائدة:
أيضا أن يضع عنهم الصالة ،فقال رسول هللا لهم" :ال خير في دين بال صالة" .]50وسألوه ً
[ابن إسحاق].
وخال بعضهم إلى بعض يتشاورون في األمر ثم عادوا إلى رسول هللا ،وقد خضعوا لذلك كله ،ولكنهم
سألوه أن يترك لهم وثنهم الالت الذي كانوا يعبدونه ثالث سنين ال يهدمها ،فأبى رسول هللا ذلك ،فما
شهرا واحدًا بعد مقدمهم ،فأبى عليهم أن يدعها إلى ً زالوا يسألونه سنة سنة ،ويأبى عليهم ،حتى سألوه
أي أجل ،فقالوا للرسول :فتول أنت إذن هدمها ،فأما نحن فإنا ال نهدمها أبدًا.
فقال لهم":سأبعث لكم من يكفيكم ذلك" .ثم استأذنوا النبي ،فأذن لهم ،وأكرمهم وحياهم ،وأمر عليهم
سورا من القرآن قبل أن يخرج. ً عثمان بن أبي العاص لما رأى من حرصه على اإلسالم ،وكان قد تعلم
[ابن إسحاق].
وبعث رسول هللا إليهم وفدًا على أثرهم ،أ َّمر عليهم خالد بن الوليد ،وفيهم المغيرة بن شعبة وأبو سفيان
بن حرب ،فعمدوا إلى الالت فهدموها ،وخرجت نساء ثقيف مكشوفات الرأس ،يبكين عليها ويرثينها،
وكلما ضربها المغيرة بفأسه كان أبو سفيان يسخر من الصنم ويصانع حزن تلك النسوة الالتي يندبن
ويبكين عليه واهًا لك أهًا لك[ .ابن إسحاق].
أفواجا وجماعات ،قال هللا تعالى :إذا جاء نصر هللاً وقدمت وفود كثيرة المدينة ،ودخلت في دين هللا
64
أفواجا .فسبح بحمد ربك وإستغفره إنه كان توابا [النصر].
ً والفتح .ورأيت الناس يدخلون في دين هللا
إرسال الوالة واألمراء إلى قبائل العرب:
أخذ النبي يرسل أمراءه ووالته إلى قبائل العرب يدعونهم ،ويعلمونهم اإلسالم ،الذي انتشر في شبه
الجزيرة العربية .وكان ممن أرسلهم معاذ بن جبل رضي هللا عنه ،وهو أعلم الناس بالحالل والحرام ،بعثه
إلى اليمن ،وقال له" :يا معاذ ،لعلك ال تلقاني بعد عامي هذا"[ .أحمد] ،فبكى معاذ خشية فراق
النبي .
حج أبي بكر الصديق بالناس:
جاء موسم الحج من العام التاسع الهجري ،فأمر الرسول أبا بكر الصديق رضي هللا عنه أن يحج بالناس،
ونزلت اآليات األولى من سورة التوبة ،يعطي هللا فيها للمشركين مهلة أربعة أشهر ليتوبوا ويؤمنوا باهلل،
وإال قتلوا؛ لتتخلص مكة وما حولها من الشرك البغيض.
حافظا لعهده مع المسلمين ،يو َّفى له بمدة العهد ،وهكذا
ً وأما من كان له عهد أطول من هذه المدة ،وكان
حدا للوثنية في هذه األرض الطاهرة ،قال تعالى :براءة من هللا ورسوله إلى الذين عاهدتم وضع اإلسالم ً
من المشركين .فسيحوا في األرض أربعة أشهر وإعلموا أنكم غير معجزي هللا وأن هللا مخزي الكافرين
[التوبة .]8-2 :ونهى العرب عن الطواف بالبيت الحرام وهم عراة ،فقد كان بعضهم يفعل ذلك ،ولكن
الرسول أمر أن يكون هذا العام آخر عام يحج فيه المشركون مع المسلمين ،فقال" :أال ال يحج بعد العام
مشرك ،وال يطوف بالبيت عريان"[ .البخاري].
حجة الوداع
في العام العاشر الهجري حج الرسول مع أمته حجة الوداع؛ ليعلم الناس مناسك الحج في اإلسالم.
ووقف رسول هللا بين جموع المسلمين وهم حوالي مائة ألف مسلم يعظهم ويرشدهم .وهذا ربيعة بن أمية
إبن خلف ذو الصوت القوي العالي يبلِّغ عن رسول هللا حتى يسمع الجميع ،وكان مما قاله رسول هللا :
"أيها الناس ،اسمعوا قولي ،فإني ال أدري لعلي ال ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا ،أيها الناس ،إن
دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا ،في شهركم هذا ،في بلدكم هذا" [مسلم].
ونهاهم عن الربا ،وأكل أموال الناس بالباطل ،وأوصى الرجال بالنساء ،يكرمونهن ويحسنون إليهن .ثم
قال" :وأنتم ُت ْسأَلُون عني ،فما أنتم قائلون؟" قالوا :إنك قد بلغت وأديت ونصحت .فقال ثالث مرات:
"الله َّم فإشهد" [مسلم].
وبينما رسول هللا يتحدث إلى الناس ،كان هناك رجل يبكي بكاء شديدًا ،إنه أبو بكر الصديق حبيب رسول
هللا ،وأحب صحابته إلى قلبه ،فقد أحس بقرب أجل رسول هللا ،فقال :فداك أبي وأمي يا رسول هللا.
جيش أسامة:
كبير لتأديب الروم ،وأراد رسول هللا أن ُيعلِّم
شا ً وفي شهر صفر من العام الحادي عشر جهز الرسول جي ً
درسا عظي ًما في القيادة ،فولَّى على الجيش أسامة بن زيد بن حارثة رضي هللا عنه ،وهو لم
ً المسلمين
يبلغ العشرين من عمره؛ ليعطي الفرصة للشباب في تولي المهام الصعبة ،وتدريبهم على تحمل
المسئولية ،برغم أن جيش المسلمين كان به كبار الصحابة مثل :أبي بكر ،وعمر ،وأبي عبيدة بن الجراح،
وغيرهم الكثير رضي هللا عنهم أجمعين.
65
وضرب الجيش معسكره خارج المدينة ،ولكنه عاد بعد أن علم بمرض رسول هللا ،ثم بوفاته ،ثم سرعان
ما خرج الجيش في عهد أبي بكر الصديق -رضي هللا عنه -وهزم الروم.
أصابت الحمى الرسول ،وظل يعاني منها أيا ًما ،فأمر أبا بكر الصديق أن يصلي بالناس ،وكان إذا خرج
إلى المسجد إستند إلى الفضل بن العباس ،وعلي بن أبي طالب.
وفي بيت عائشة رضي هللا عنها إشتد به الوجع ،وكان قد شعر بقلق أصحابه وحزنهم عليه ،فأمرهم أن
يصبوا عليه من سبع قرب مليئة بالماء لم يكشف غطاؤها ،لعله يستطيع الخروج إلى الناس فقال:
علي من سبع قرب لم تحلل أوكي ُت ُهنَ لعلي أعهد إلى الناس" [متفق عليه]. "أهريقوا َّ
قالت عائشة رضي هللا عنها :فأجلسناه في مخضب الشيء الذي يغسل فيه الثياب ،ثم طفقنا نصب عليه
من تلك القرب حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن.
ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبه ،وكان عاص ًبا رأسه ،فجلس على المنبر ،ثم كان أول ما تكلم به أن
صلى على أصحاب أحد ،وإستغفر لهم .ثم قال" :عبد َخ َّي َر ُه بين أن يؤتيه زهرة الدنيا ،وبين ما عنده،
فإختار ما عنده".
فبكى أبو بكر رضي هللا عنه إذ علم ما يقصده النبي ،وناداه قائالً :فديناك بآبائنا وأمهاتنا ،فقال " :على
ً
متخذا خليال؛ علي في ماله وصحبته أبو بكر ،ولو كنت رسلك يا أبا بكر .أيها الناس ،إن أمن الناس َّ
التخذت أبا بكر خليالً ،ولكن أخوة اإلسالم ،وإني فرط لكم ،وأنا شهيد عليكم .وإني وهللا ما أخاف أن ُ
تشركوا من بعدي ،ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها" [متفق عليه].
وعاد رسول هللا إلى بيته ،واشتد به وجعه ،وثقل عليه مرضه ،وكان إلى جواره قدح به ماء ،يغمس فيه
يده ،ثم يمسح وجهه بالماء ويقول" :الله َّم أعني على سكرات الموت" [الترمذي والنسائي].
وكانت وصية رسول هللا حين حضره الموت" :الصالة وما ملكت أيمانكم" .حتى كان رسول هللا يغرغر
بها صدره ،وما يكاد يفيض بها لسانه[ .ابن ماجة وأحمد]
سارك
سرا فبكت ،ثم حدثها فضحكت ،فقالت عائشة لها :ما هذا الذي َّ ودعا رسول هللا فاطمة إبنته فحدثها ً
سارك فضحكت؟ قالت :سارني فأخبرني بموته فبكيت ،ثم سارني فأخبرني أني به رسول هللا فبكيت ،ثم َّ
أول من يتبعه من أهله ،فضحكت[ .متفق عليه].
وفي صالة صبح يوم االثنين الثاني عشر من شهر ربيع األول في العام الحادي عشر للهجرة ،رفع الحبيب
محمد الستر المضروب على منزل عائشة ،فنظر إلى أصحابه وهم يصلون ،فسره إجتماعهم و وحدة
كلمتهم ،ونظر إليه الناس ،فإطمأنوا عليه ،وظنوا أن صحته قد عادت إليه ،ولكنها كانت نظرة الوداع ،فما
إن حل الضحى حتى خرجت روحه الطاهرة إلى خالقها سبحانه وتعالى.
ربا دعاه .يا أبتاه! جنة الفردوس مأواه .يا أبتاه! إلى جبريل فقالت فاطمة رضي هللا عنها :يا أبتاه! أجاب ً
ننعاه[ .البخاري]
وتسرب النبأ األليم في المدينة ،فأظلمت جنباتها بعد أن أشرقت ،وسعدت بحياة رسول هللا على أرضها.
66
مفجعا ،فها هو ذا عمر بن الخطاب رضي هللا عنه لم يصدق الخبر عندما سمعه، ً لقد كان حاد ًثا مؤل ًما
فقال :إن رجاالً من المنافقين يزعمون أن رسول هللا توفي ،وإن رسول هللا ما مات ،ولكن ذهب إلى ربه
كما ذهب موسى بن عمران ،فغاب عن قومه أربعين ليلة .ثم رجع بعد أن قيل قد مات.
وهللا ليرجعن رسول هللا ،فليقطعن أيدي رجال وأرجلهن يزعمون أنه مات!.
وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر ،وعمر يكلم الناس ،فلم يلتفت إلى شيء دخل
على الرسول في بيت عائشة وهو مغطي في ناحية البيت ،فكشف وجهه فقبله ،ثم قال :بأبي أنت وأمي..
أما الموتة التي كتب هللا عليك فقد ذقتها ،ثم لن يصيبك بعدها موت أبدًا .ورد الثوب على وجهه ،ثم خرج
ثائرا ،فلما رآه أبو بكر كذلك،
وعمر يكلم الناس ،فقال :على رسلك يا عمر ..فأنصت .لكن عمر ما زال ً
أقبل على الناس ،وشرع يتكلم ،فلما سمعه الناس إنصرفوا عن عمر وأقبلوا عليه.
وحمد أبو بكر هللا وأثنى عليه ثم قال :أيها الناس ..من كان يعبد محمدًا ،فإن محمدًا قد مات ،ومن كان
يعبد هللا فإن هللا حي ال يموت ،ثم تال هذه اآلية :وما محمد إال رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو
قتل إنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر هللا شيئا وسيجزي هللا الشاكرين [آل عمران:
.]222
ضياء
ً لقد مات الرسول ولكن بقيت شريعة هللا ،وسنة رسوله بين المسلمين ،ما بقيت السماوات واألرض
وهدى لكل من استضاء واهتدى.
ولكن ماذا بعد موت رسول هللا ؟ هل يتفرق المسلمون؟ ويعود العرب إلى كفرهم وأوثانهم؟ ال ..لقد تسلم
راية اإلسالم رجال اإلسالم الذين تخرجوا في مدرسة الرسول ،وفي مسجده .وكان أول خليفة للمسلمين
أبو بكر الصديق رضي هللا عنه الذي تسلم الراية وبدأ مرحلة جديدة في تاريخ اإلسالم.
كان للنبي زوجات ،اختارهن هللا سبحانه ليكن أمهات المؤمنين ،وليحملن عبء الدعوة مع الرسول وهن:
خديجة بنت خويلد رضي هللا عنها ،وكانت أول زوجة للنبي ،ولم يتزوج غيرها ،حتى توفيت.
وسودة بنت زمعة رضي هللا عنها ،وقد تزوجها الرسول بعد خديجة .ثم تزوج عائشة بنت أبي بكر رضي
هللا عنها .ثم تزوج زينب بنت خزيمة رضي هللا عنها ،وتوفيت عنده .ثم تزوج أم سلمة هند بنت أبي
أمية ،وهي آخر نسائه مو ًتا.
ثم تزوج زينب بنت جحش إبنة عمته ،التي كانت زوجة لزيد بن حارثة مولى رسول هللا ،وكان هللا
سبحانه هو وليها الذي زوجها لرسول هللا ،وتوفيت في أول خالفة عمر .وتزوج جويرية بنت الحارث ،ثم
تزوج أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان ،وقد تزوجها الرسول وهي ببالد الحبشة ،وقد دفع النجاشي
صداقها ،وقدره أربعمائة دينار ،وماتت في أيام أخيها معاوية.
وتزوج صفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير ،ثم تزوج ميمونة بنت الحارث الهاللية ،وهي آخر من
تزوج بها.
سراريه :
67
وكان من سراريه مارية القبطية ،وريحانة ،وجارية وهبتها له زينب بنت جحش ،وجارية أخرى أصابها
في بعض السبي.
أوالده :
وكان له من األوالد القاسم ،وزينب ،وعبد هللا ،وإبراهيم ،ورقية ،وأم كلثوم ،وفاطمة ،وكل أوالده من
خديجة رضي هللا عنها إال إبراهيم ،فإنه كان من مارية القبطية.
صفة النبي :
كان رسول هللا فخ ًما مفخ ًما ،يتألأل وجهه تأللؤ القمر ليلة البدر ،ليس بالطويل وال بالقصير ،عظيم
الهامة ،شعره رجل بين الجعودة والسبوطة ،فيه تكسير قليل ،وافر يجاوز شحمه أذنيه .واسع الجبين ،له
نور يعلوه ،كثيف اللحية ،شديد سواد العين ،سهل الخدين ،ورقيق األسنان ،بين أسنانه فتحات ،عريض
الصدر ،بعيد ما بين المنكبين ،ضخم رؤوس العظام ،أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر ،رحب
الراحة ،أملس القدمين ليس فيهما تكسر وال شقاق ،سريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من منحدر ،وإذا
التفت التفت كله.
منطقه :
كان دائم الفكر ،ليست له راحة ،ال يتكلم في غير حاجة ،طويل السكوت ،يتكلم بجوامع الكلم ،يعظم النعمة
وإن كانت صغيرة ،ال يذم منها شي ًئا وال يمدحه ،ال يغضب لنفسه ،وال ينتصر لها ،إذا أشار أشار بكفه
كلها ،وإذا تعجب قلبها ،معظم ضحكه أن يبتسم.
دخوله :
وجزءا لنفسه،ثم جزء جزءه بينه
ً وجزءا ألهله،
ً جزءا هلل،
ً كان إذا دخل منزله قسم دخوله ثالثة أجزاء،
وبين الناس ،فرد ذلك على العامة والخاصة ،ال يدخل عنهم شي ًئا.
مجلسه :
ذاكرا هلل تعالى ،يجلس حيث انتهى به المجلس ،يعطي كل جلساته نصي ًبا ،ال كان ال يجلس وال يقوم إال ً
يرى في مجلسه أكرم منه ،ال ينصرف من كان معه ،من سأله حاجة ال يردَّه إال بها ،فإن لم يجد فبكلمة
طيبة ،كل الناس عنده في مجلسه سواء ،فمجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة ،ال ترفع فيه
األصوات ،وال تذكر فيه العيوب ،وكان في مجلسه دائم البشر ،سهل الخلق ،لين الجانب ليس بفظ وال
غليظ ،وال سخاب ،وال فحاش وال عياب ،وال كثير المزاح ،يتغافل عما ال يشتهي.
وكان في مجلسه يترك الناس من ثالث :أن ال يذم أحدًا وال يعيره ،وال يطلب عورته ،وال يتكلم إال فيما
يرجو ثوابه ،يضحك إذا ضحك الحاضرون ويتعجب مما يتعجبون ،ويصبر على الغريب على قسوته في
كالمه ومسألته ،وال يقطع على أحد حديثه.
سكوته :
كان سكوته على أربع :الحلم ،والحذر ،والتقدير ،والتفكير ،فأما تقديره ففي تسويته النظر واالستماع بين
الناس ،وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى ،و ُجمع له الحلم والصبر ،فكان ال يغضبه شيء إال إذا انتهكت
محارم هللا.
طعامه :
68
كان ال يرد من الطعام ما وجد ،وال يتكلف في طلب ما فقد ،فما قرب إليه أكله ،وإن عافته نفسه ال يعيبه
وتركه ،فكان يأكل ما تيسر ،فإن لم يجد ما يأكله صبر ،فكان يضع من الجوع على بطنه الحجر ،ويمر
الهالل بعد الهالل وال يوقد في بيته نار ،كانت األرض سفرته ،يضع عليها طعامه ،وكان يأكل بثالث أصابع
وهو أشرف ما يكون في األكل ،فإن المتكبر يأكل بأصبع واحدة ،والجشع يأكل بخمس.
وكان ال يأكل متك ًئا ،وكان يسمي هللا تعالى أول الطعام ،ويحمده آخره فيقول" :الحمد هلل حمدًا طيبا ً مبار ًكا
فيه غير مكفي وال مودع وال مستغنى عنه ربنا" [البخاري].
شربه :
كان يسمي هللا قبل الشرب ،ويحمده بعده ،وكان أكثر شربه قاعدًا ،بل نهى عن الشرب قائ ًما ،وشرب مرة
قائ ًما ،ليبين أنه يجوز لك إذا كان لحاجة أو عذر ،وكان إذا شرب ناول من على يمينه ،حتى لو كان من
على يساره أكبر منه ،ألنه يحب التيامن في كل شيء.
نومه :
كان ينام على الفراش تارة ،وعلى الحصير تارة ،وعلى األرض تارة ،وعلى السرير تارة ،فعن عباد إبن
واضعا إحدى رجليه على األخرى" [متفق ً تميم عن عمه قال :رأيت رسول هللا مستلق ًيا في المسجد
مصنوعا من جلد قد حشي لي ًفا ،وكان إذا أراد النوم جمع كفيه ثم ينفث فيهما ،ثم يقرأ ً عليه] ،وكان فراشه
فيهما قل هو هللا أحد و قل أعوذ برب الفلق و قل أعوذ برب الناس ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده،
يبدأ بهما على رأسه ،ووجهه ،وباقي جسده ،يفعل ذلك ثالث مرات[.أبو داود والترمذي].
وكان ينام على جنبه األيمن ،ويضع يده اليمنى تحت خده ،ثم يقول" :الله َّم قني عذابك يوم تبعث عبادك"
[أبو داود والترمذي] ،وكان يقول إذا أوى إلى فراشه" :الحمد هلل الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا ،فكم
ممن ال كافي له وال مؤوي" [مسلم والترمذي].
وكان ينام أول الليل ،ويقوم آخره ،وربما سهر أول الليل في مصالح المسلمين ،وكانت عينه تنام ،وال ينام
قلبه ،وكان إذا نام لم يوقظوه حتى يكون هو الذي يستيقظ ،وكان إذا نام بالليل ،اضطجع على جنبه
األيمن ،وإذا نام قبيل الصبح نصب ذراعه ،ووضع رأسه على كفه[.الترمذي].
ركوبه :
كان يركب الخيل واإلبل والبغال والحمير ،وكان يركب وحده ،وربما أردف غيره خلفه على البعير ،وكان
أكثر ما يركب الخيل واإلبل ،ولم يكن عنده إال بغلة واحدة ،أهديت له.
بيعه وشراؤه :
نادرا.
كان يبيع ويشتري ،وكان شراؤه أكثر من بيعه وخاصة بعد النبوة ،وال يحفظ له بعد الهجرة بيع إال ً
وآجر رسول هللا واستأجر ،وكان استئجاره أكثر من إيجاره ،وإنما يحفظ عنه أنه أجر نفسه قبل النبوة في
رعاية الغنم ،وأجر نفسه من خديجة في سفره بمال إلى الشام.
وشارك غيره في التجارة ،واستدان برهن وبغير رهن ،وإستعار من غيره أشياء ،واشترى حاالً ومؤجالً.
معاملته :
خيرا منه ،فقد جاءه رجل يتقاضاه بعيراً،كان أحسن الناس معاملة للناس ،فكان إذا تسلف شيئا قضى ً
سنا أفضل من س ِّنه ،فقال الرجل :أوفيتني أوفاك هللا ،فقال فقال رسول هللا " :أعطوه" .فقالوا :ال نجد إال ً
رسول هللا " :أعطوه ،فإن من خيار الناس أحسنهم قضاء" [متفق عليه] ،وكان إذا قضى ما استلفه دعا
لمن سلفه ،فقال":بارك هللا لك في أهلك ومالك ،إنما جزاء السلف الحمد واألداء" [أحمد والنسائي وابن
69
ماجة].
سمحا لمن تقاضاه ،فقد جاءه رجل يتقاضاه ،وأغلظ له القول ،فه َّم عمر بن الخطاب أن يضربه ،فقال
ً وكان
رسول هللا " :مه يا عمر كنت أحوج إلى أن تأمرني بالوفاء ،وكان أحوج إلى أن تأمره بالصبر" [الحاكم].
كان يعجبه التيامن في كل شيء في ترجله وطهوره وأخذه وعطائه ،وكان يجعل اليمين لطعامه وشرابه
وطهوره ،ويساره لخالئه ،وغير ذلك من إزالة األذى.
الحلق :وكان يحب أن يحلق الرأس كله ،أو يترك كله ،وكان يكره أن يحلق بعضه ،ويترك بعضه.
مفطرا وصائ ًما ،وكان يستعمل السواك في أحيان كثيرة ،فكان ً السواك :وكان يحب السواك ،وكان يستاك
يستاك عند النوم ،وعند الوضوء ،وعند الصالة ،وعند دخول المنزل ،وكان يستاك بعود األراك.
الطيب :وكان يحب الطيب ويكثر منه ،وكان ال ير ُّد الطيب ،فقد ورد عنه قوله " :من عرض عليه طيب
فال يرده" [مسلم].
وكان يكتحل ،وكان يختضب ،وقد سئل جابر بن سمرة رضي هللا عنه أكان في رأس النبي شيب؟ قال:
لم يكن في رأسه شيب إال شعرات في مفرق رأسه إذا ادهن واراهُنَّ الدهن ،وكان يسرح شعره ويزينه
أحيا ًنا ،وتزينه وتسرحه عائشة رضي هللا عنها أحيا ًنا أخرى.
قص الشارب :كان رسول هللا يقص شاربه ،فعن زيد بن أرقم قال :قال رسول هللا " :من لم يأخذ من
شاربه ،فليس م َّنا" [النسائي والترمذي].
وقد جعل الرسول وق ًتا ال يترك بعده قص الشارب ،فعن أنس قال :وقت لنا النبي في قص الشارب وتقليم
األظفار ،أال نترك أكثر من أربعين يو ًما وليلة"[ .مسلم والترمذي والنسائي]
ضحكه وبكاؤه :
كان ضحك النبي تبس ًما ال قهقهة ،وكان يضحك مما يضحك منه الناس ،ويضحك مما يتعجب من مثله،
ويستغرب وقوعه ،أو يكون شي ًئا ً
نادرا الوقوع.
وأما بكاؤه فكان حاله كحال الضحك ،ال يرفع فيه صو ًتا ،ولكن كانت عيناه تدمع ،ويسمع لصدره أزيز،
وكان بكاؤه تارة رحمة للميت ،وتارة خو ًفا من هللا ،وتارة خو ًفا وشفقة على أمته ،وكان يبكي عند سماع
القرآن ،وبكى عند وفاة إبنه إبراهيم ،فلما سئل عن ذلك ،قال " :تدمع العين ،ويحزن القلب ،وال نقول إال
ما يرضي ربنا ،وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون" [متفق عليه].
خطبته :
خطب الرسول على األرض ،وعلى المنبر ،وعلى البعير ،وعلى الناقة ،وكان له جذع نخلة يخطب عليه
حتى صنع له منبر ،وكان إذا خطب احمرت عيناه ،وعال صوته ،كأنه منذر جيش.
وكثيرا
ً وكان إذا صعد المنبر أقبل على الناس بوجهه وقال" :السالم عليكم" وكان يختم خطبته باإلستغفار،
ما كان يخطب بالقرآن ،فعن أم هشام بنت حارثة ،قالت ":ما أخذت ق والقرآن المجيد إال عن لسان رسول
هللا يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس" [مسلم والنسائي وأبو داود].
وكان يراعي حالة المخاطبين ومصلحتهم ،وكان يفتتح خطبته بالحمد والثناء ،ويتشهد فيها بالشهادة،
ويذكر فيها نفسه باسمه "محمد" ،وكان إذا قام يخطب أخذ عصا ،فتوكأ عليها وهو على المنبر وكان
70
منبره ثالث درجات فإذا استوى عليه ،واستقبل الناس ،أذن المؤذن ولم يقل شي ًئا قبله وال بعده ،وال يتكلم
أحد أثناء خطبته.
وكان إذا عرض له في خطبته شيء عارض ،إشتغل به ،ثم رجع إلى خطبته ،فقد كان يخطب ذات مرة في
الناس ،فجاء الحسن والحسين يعثران في قميصين أحمرين .فقطع كالمه ،فنزل ،فحملهما ،ثم عاد إلى
منبره.
وكان خطبته قد تطول أو تقصر بحسب حاجة الناس ،ومراعاة أحوالهم ،وكانت خطبته العارضة أطول من
خطبته الراتبة.
لبسه :
لم يتقيد الرسول بلبس نوع معين من الثياب ،فقد كان يلبس ما تيسر له من اللباس ،سواء أكان من
الصوف أو القطن أو الكتان ،وقد لبس الرسول البرود اليمانية ،والبرد األخضر ،ولبس الجبة ،والقباء،
والقميص ،والسراويل ،والرداء ،والخف ،وأرخى الذؤابة من خلفه تارة ،وتركها تارة.
وكان من هديه إذا لبس ثو ًبا جديدًا أن يقول" :الله َّم أنت كسوتني هذا القميص أو الرداء أو العمامة،
أسألك خيره وخير ما صنع له ،وأعوذ بك من شره ،وشر ما صنع له" [أبو داود والترمذي وأحمد].
مزاحه :
وكثيرا ما كان يمازح األطفال والصبيان،ً اشتهر عن الرسول أنه كان يمازح أزواجه ،ويمازح أصحابه،
فقد روى أنس أن رسول هللا أتى لرجل من أصحابه كان يبيع متاعه في السوق ،فاحتضنه رسول هللا ،
وال يبصره الرجل ،فقال الرجل :أرسلني ،من هذا؟ فإلتفت ،فعرف رسول هللا ،فجعل ال يألو ما ألصق
ظهره لصدر الرسول حين عرفه ،وجعل الرسول يقول" :من يشتري العبد؟" فقال :يا رسول هللا ،إذن
وهللا تجدني كاسدًا ،فقال ":ولكن عند هللا لست بكاسد ،أو قال :ولكن أنت عند هللا تعالى غالب" [أحمد].
وكثيراً ما كان الرسول يمازح الحسن والحسين رضي هللا عنهما ،ويحملهما على ظهره.
خلقه :
كان رسول هللا أحسن الناس خل ًقا ،فكان كما قال هللا له :وإنك لعلى خلق عظيم [القلم ،]2 :وقد سئلت
السيدة عائشة رضي هللا عنه عن خلق رسول هللا فقالت :كان أحسن الناس خل ًقا ،كان خلقه القرآن،
شا ،وال سخا ًبا في األسواق ،وال يجزئ بالسيئة شا وال متفح ً
يرضى لرضاه ،ويغضب لغضبه ،لم يكن فاح ً
السيئة ،ولكن يعفو ويصفح ،ثم قالت :إقرأ سورة المؤمنين ،إقرأ قد أفلح المؤمنون إلى العشر ،فقرأ
السائل قد أفلح المؤمنون ،فقالت :هكذا كان خلق رسول هللا [ .مسلم والترمذي] ،بل جعل رسول هللا غاية
الرسالة إتمام األخالق الحميدة :فعن أبي هريرة رضي هللا عنه قال :قال رسول هللا " :إنما جئت ألتمم
صالح األخالق" [أحمد].
ً
متباسطا ،فقد كانت األمة لتأخذ بيد رسول هللا ،فما ينزع يده وكان لين المعاملة حتى مع خدمه ،وكان
من يدها حتى تذهب حيث شاءت ،ويجيب إذا دعا[ .البخاري وأحمد]
وكان أحسن الناس تعلي ًما ،وأرفق الناس عند نصح أو تعليم الغير .وكان يخاطب الناس على قدر
عقولهم.
حلمه وعفوه :
كان أكثر الناس حل ًما ،وقد قال له ربه عز وجل :خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين
[األعراف.]255 :
71
ولما نزلت هذه اآلية ،سأل الرسول جبريل عنها ،فقال :ال أدري فصعد ثم نزل ،فقال :يا محمد ،إن هللا
تبارك وتعالى أمرك أن تعفو عمن ظلمك ،وتعطي من حرمك ،وتصل من قطعك" [ابن مردويه] .لذلك عفا
عن أهل مكة عندما فتحها ،على الرغم مما فعلوه معه .وحلم الرسول كان فيما يتعلق بحق نفسه ،أما إذا
كان الحق هلل ،فإنما كان يتعامل بالشدة؛ لقول هللا له :يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم
[التحريم.]5 :
حياؤه :
اشتهر رسول هللا بالحياء ،حتى كان الصحابة يعرفون ذلك في وجهه ،فعن أبي سعيد الخدري قال :كان
رسول هللا أشد حياء من العذراء في خدرها ،وكان إذا كره شي ًئا عرفناه في وجهه[ .متفق عليه] وكان
من حيائه أنه ال يسأل من شيء إال أعطى[ .عبد بن حميد].
رحمته وشفقته :
وصف هللا رسوله بالرحمة ،فقال تعالى :وما أرسلناك إال رحمة للعالمين [األنبياء ،]207 :ومن رحمته
أنه كان كثير الدعاء ألمته .وعرف عنه رحمته بالصغار ،وكان يخفف صالته بالناس إذا سمع بكاء طفل
رحمة بأمه.
خيرا.
وعرف عنه الرحمة والشفقة بالنساء ،وأوصى بهن ً
تواضعه :
أمر هللا تعالى رسوله بالتواضع ،فقال له :وإخفض جناحك لمن إتبعك من المؤمنين [الشعراء.]823 :
وقد اشتهر عنه التواضع ،فكان يركب الحمار ،ويلبس الصوف ،ويعقل الشاة ،ويجيب الضعيف
والمسكين إلى الطعام [الحاكم] .ومن تواضعه أنه كان ينقل التراب يوم األحزاب ،وقد وارى التراب بياض
إبطه[ .البخاري].
وكان إذا سار مع أصحابه ال يسير أمامهم ،بل يسير وسطهم أو خلفهم[ .أحمد] ،وكان ال يرد دعوة
إنسان ،بل كان يقول " :لو دعيت إلى كراع ألجبت" [الخطيب] .وكان ال تغلق دونه األبواب ،وال يقوم
دونه الحجاب ،فكان يقوم لكل من أراده ،ويقضي حاجة من يطلب منه المساعدة.
منتصرا ،دخلها وهو راكب
ً وكان من تواضعه أنه كان يمر على الصبيان ،فيسلم عليهم .ولما دخل مكة
متخشعا[ .الحاكم] .وكان رسول هللا إذا إستقبله الرجل وصافحه ،ال ينـزع يدهً دابته ،وذقنه على رحله
عن يده ،حتى يكون الرجل هو الذي ينـزع ،وال يصرف وجهه عن وجهه ،حتى يكون الرجل هو الذي
يصرفه ،ولم ير مقد ًما ركبتيه بين يدي جليس له.
[الترمذي وابن ماجة].
وكان من تواضعه أنه ال يحب الثناء الكثير عليه ،وال يحب أن يقوم إليه أحد.
شجاعته :
راجعا ،وقد سبقهم إلى
ً فزع أهل المدينة ذات ليلة ،فانطلق الناس نحو الصوت ،فتلقاهم رسول هللا
الصوت ،وهو على فرس ألبي طلحة عري(بغير سرج) ،في عنقه السيف ،وهو يقول ":لم تراعوا ،لم
تراعوا ،ما وجدت من شيء" [ابن سعد].
فر الناس ،وقد كان الصحابة يعرفون وكان الرسول أشجع ما يكون في الحرب والقتال ،فكان يثبت إذا َّ
شجاعة النبي ،بل كانوا يحتمون به وقت الشدة.
كرمه وجوده :
72
اشتهر رسول هللا بالجود والكرم ،وما سئل ،فقال ال[ .متفق عليه]
وقد امتدح الشاعر الفرزدق النبي في كرمه وجوده فقال:
ما قال ال ق ُّط إال في تش ُّهده لوال التشهد كانت الؤه نع ُم
وعن أنس رضي هللا عنه قال :ما سئل رسول هللا شي ًئا إال أعطاه ،ولقد جاءه رجل فأعطاه غن ًما بين
جبلين ،فرجع إلى أهله ،فقال :يا قوم ،أسلموا ،فإن محمدًا يعطي عطاء من ال يخشى الفاقة ،وإن كان
الرجل ليجئ إلى الرسول وما يريد بذلك إال الدنيا ،فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه من الدنيا وما فيها.
[مسلم].
خوفه وخشيته :
مستجمعا قط ضاح ًكا،
ً كان رسول هللا شديد الخشية هلل ،تقول عائشة رضي هللا عنها :ما رأيت رسول هللا
حتى ترى لهواته ،إنما كان يتبسم.
وعن أبي ذر رضي هللا عنه قال :قرأ رسول هللا سورة اإلنسان هل أتى حتى ختمها ،ثم قال" :إني أرى ما
وحق لها أن تئط ،ما فيها موضع أربع أصابع إال وملك َّ ال ترون ،وأسمع ما ال تسمعون ،أطت السماء،
واضع جبهته ساجدًا هلل ،لو تعلمون ما أعلم ،لضحكتم قليالً ،ولبكيتم ً
كثيرا ،وما تلذذتم ،بالنساء على
الفرش ،ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى هللا تعالى ،وهللا إني لوددت أني شجرة تعضد" [الحاكم].
شمائله :
كان لرسول هللا بعض المعجزات والبركات ،منها تكثير الماء بين يديه ،فقد أوتي بإناء فيه ماء ،فوضع
فيه يده ،وجاء الصحابة فتوضئوا منه ،وكانوا أكثر من ثالثمائة ،ومنها تكثير اللبن في اإلناء كما حدث مع
ص َّفة ،وكم من مرة وضع يده على شاة ال تحلب فحلبت ،وسيرته في أبي هريرة رضي هللا عنه وأهل ال ُ
تكثير الماء والطعام من أن تحصى ،بل كان الطعام والشراب يسبحان بين يديه ،وقد سمع الصحابة
التسبيح.
منبرا ،وترك جذع النخلة الذي كان يخطب عليه ،حنَّ الجذع إليه ،وصاح صياح الصبي ً ولما اتخذ الرسول
حتى تصدع وانشق ،فاحتضنه الرسول [ .أحمد والترمذي].
وقد سبح الحصى في يديه ،فسمع الصحابة له صوتا كصوت النحل ،ثم وضعه في كف أبي بكر فسبح ،ثم
في كف عمر ،ثم في كف عثمان ،فسبح[ .الطبراني والبيهقي].
وقد وقف الرسول ومعه العشرة المبشرون بالجنة على جبل حراء ،ففرح الجبل ،فأمره الرسول أن يثبت
ويهدأ[ .البخاري].
ولما دخل الرسول مكة عند فتحها ،وكان حول الكعبة ثالثمائة وستون صن ًما ،فأشار إلى كل صنم بعصا،
وقال :جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا [اإلسراء ،]22 :فكان كل صنم يسقط دون أن يلمسه
الرسول بالعصا[ .متفق عليه]
وكان للنبي معجزات مع الحيوانات ،فقد هاج جمل عند حائط من حوائط بني النجار ،ال يستطيع أحد أن
يمسكه ،فجاء النبي ،ونادى الجمل ،فأتى إلى الرسول وبرك بين يديه[ .مسلم]
وجاءه جمل ،قد جرح ،وذرفت عيناه ،فمسح رسول هللا من رأسه إلى سنامه ،فسكن الجمل ،ثم قال
لصاحبه" :أما تتقي هللا في هذه البهيمة التي ملكتها ،إنه شكا إلى أنك تجيعه وتدئبه" [أحمد ومسلم].
واشتكى علي بن أبي طالب إلى الرسول وجع عينيه ،وكان الرسول قد أراد أن يعطيه راية خيبر ،فبصق
رسول هللا في عينيه ،ودعا له ،فشفي حتى كأن لم يكن به مرض[ .متفق عليه]
73
خصائصه :
وقد اختص هللا رسوله بكثير من الخصائص ،أهمها :أن هللا قد أخذ الميثاق على النبيين أن يؤمنوا به
وينصروه ويبشروا به أممهم ،وقد جاء وصف الرسول في الكتب السابقة ،كما وصف أصحابه أيضا ،كما
أن المالئكة أظلته في سفره ،وأنه أرجح الناس عقالً ،وأنه رأى جبريل عليه السالم مرتين.
وخصه بأنه خاتم األنبياء ،وسيد الناس ،وأكرم الخلق ،وأنه بعث للناس كافة ،وأن الجن آمنت به وأنه
أرسل رحمة للعالمين ،وأن شرعه مؤبد غير منسوخ ،وأنه ناسخ لما قبله من الشرائع ،وأنه نصر بالرعب
مسيرة شهر ،وأنه من صلى عليه مرة ،صلى هللا عليه به عشرا ،وأن صالة أمته تبلغه هو في قبره ،وأنه
أوتي جوامع الكلم ،وجمع هللا له القبلتين ،وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ،وشرح له صدره ،ووضع
عنه وزره ،ورفع له ذكره.
وخصه هللا دون األنبياء بأشياء أهمها :إحالل الغنائم له ،واألرض كلها مسجد ،والتراب طهور ،وغير ذلك
من الخصائص التي ال تعد وال تحصى ،مما إختص هللا سبحانه وتعالى به نبيه .
وهلل الحمد
74