You are on page 1of 240

‫البديل للنظام النيو لبرالي المعولم والمسلح‪،‬‬

‫اإلمبريالية اليوم وحملة الواليات المتحدة‬

‫للسيطرة على العالم‬

‫‪ ‬‬

‫*‬
‫بقلم سمير أمين‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪    ‬البديل‪ :‬التقدم االجتماعي‪ ،‬والديمقراطية‪ ،‬واالعتماد المتبادل المتفق عليه‬ ‫‪.1‬‬


‫‪ ‬‬

‫ما تحتاجه الشعوب اليوم‪ ،‬كما باألمس‪ ،‬وإ ن كان في إطار ظروف' بنيوية مختلفة (بسبب الثورة في‬
‫االتصاالت‪ ،‬وعلوم الحياة‪ ،‬والتحوالت في أشكال العمل‪ ،‬والعالقات االجتماعية التي ترتبت عليها)‪،‬‬
‫هو مشروعات مجتمعية (وطنية و‪/‬أو إقليمية)‪ ،‬مترابطة في إطار هياكل عولمة مقننة‪ ،‬ومنفق‬
‫عليها (بما يضمن تكامالً نسبياً فيما بينها)‪ ،‬تحقق تقدماً متزامناً‪ ،‬ومتوازياً في اتجاهات ثالث‪:‬‬

‫‌أ‪   .‬التقدم االجتماعي‪ :‬وهذا يقتضي أن تقدم االقتصاد' (التجديدات التقنية‪ ،‬وارتفاع‬
‫اإلنتاجية‪ ،‬والتوسع المرتقب لألسواق)‪ ،‬يواكبه بالضرورة تقدم اجتماعي يخدم‬
‫الجميع (بضمان الحق في العمل‪ ،‬واالندماج االجتماعي‪ ،‬والتقليل من التفاوت‪،‬‬
‫الخ‪.).‬‬

‫ب‪ .‬مقرطة المجتمع بجميع أبعاده‪ ،‬بوصفها عملية دائمة‪ ،‬وليس مجرد "وصفة" (أو‬
‫‌‬
‫"مخطط" جاهز) ثابتة ال تتغير (بحيث تجمد التطور على نسق األشكال الثابتة‬
‫"للديمقراطية" كما تمارس في البلدان الغربية المعاصرة)‪ .‬والديمقراطية تتطلب‬
‫التوسع في مجاالت تطبيقها لتشمل اإلدارة االقتصادية واالجتماعية‪ ،‬وأال تتوقف'‬
‫عند مجال اإلدارة السياسية للمجتمع‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫ج‪  .‬التأكيد على الطبيعة المتمركزة على الذات للمشروعات المجتمعية للتنمية‬
‫‌‬
‫االقتصادية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬بناء أشكال من العولمة تسمح بهذا‪ .‬ومن‬
‫المفهوم أن الطابع المتمركز' على الذات للتنمية ال يستبعد' ال االنفتاح (بشرط' بقائه‬
‫تحت السيطرة)‪ ،‬وال المشاركة في "العولمة" (أو "االعتماد المتبادل")‪ .‬ولكنه يفهم‬
‫هذه المشاركة في إطار يؤدي' إلى التقليل من التفاوت في الثروة والسلطة بين‬
‫األمم واألقاليم‪ ،‬ال زيادتها‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫عرفه بالتقدم في االتجاهات الثالثة‪ ،‬يقتضي السير بالتوازي‪ ،‬فتجارب التاريخ‬


‫"والبديل" الذي ُن ِّ‬
‫الحديث التي بنيت على أساس إعطاء أولوية مطلقة "لالستقالل الوطني" (والتي خصص‪  ‬التحديث‬
‫لخدمتها بالكامل)‪ ،‬سواء أكانت مصحوبة بتقدم اجتماعي‪ ،‬أو حتى مع التضحية بهذا التقدم‪ ،‬ولكن‬
‫دائماً دون ديمقراطية‪ ،‬قد ثبت فشلها في تخطي الحدود التاريخية القريبة‪ .‬وفي المقابل‪،‬‬
‫فالمشروعات الديمقراطية المعاصرة التي ارتضت التضحية بالتقدم االجتماعي‪ ،‬واالستقالل في‬
‫إطار االعتماد المتبادل المعولم‪ ،‬لم تنجح في تعزيز القدرة التحريرية للديمقراطية‪ ،‬وإ نما في‬
‫إفسادها‪ ،‬بل في تحطيم مصداقيتها‪ '،‬وفي' النهاية نزع الشرعية عنها‪ .‬وإ ذا كان‪ ،‬طبقاً لما يدعيه‬
‫الخطاب النيو لبرالي السائد‪ ،‬ال بديل للخضوع "للسوق"‪ ،‬وأنه فضالً عن ذلك‪ ،‬فإن هذا الخضوع‬
‫ذاته‪ ،‬سيحقق التقدم االجتماعي (وهو غير صحيح‪ ،‬ولكن الخطاب االقتصادوي' التقليدي يحاول‬
‫إثباته بعملية المزايدة الثقافية)‪ ،‬فما "جدوى التصويت" إذن؟ فهنا تصبح البرلمانات المنتخبة‪،‬‬
‫والحكومات' المسئولة‪ ،‬مجرد عناصر تجميلية ال فائدة منها‪ .‬ويحل "تداول السلطة" (أي تتالي‬
‫أشخاص مختلفين للقيام بنفس الشيء)‪ ،‬محل االختيارات البديلة طبقاً لتعريف الديمقراطية‪ .‬وإ عادة‬
‫تأكيد السياسة والثقافة المرتبطة بالمواطنة‪ ،‬هي التي تخلق إمكانية ظهور' بديل لتدهور' الديمقراطية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ولذلك فمن الضروري' التقدم على المستويات الثالثة للبديل‪ ،‬دون الفصل بين أي منها عن اآلخر‪.‬‬
‫ولعله من األنسب وضع استراتيجيات مرحلية تسمح بتعزيز التقدم‪ ،‬مهما كان صغيراً‪ ،‬وفي' أي‬
‫موقع‪ ،‬وفي التو‪ ،‬ثم التقدم خطوة أخرى للتقليل من مخاطر' الفشل‪ ،‬أو االنزالق‪ ،‬أو التراجع مرة‬
‫أخرى‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪2‬‬
‫ووضع' استراتيجيات ملموسة للمراحل يقتضي بال شك‪ ،‬األخذ في االعتبار بما حققه العلم‬
‫والتكنولوجيا' في الوقت الحالي من اإلسراع بدورات التقدم‪ ،‬في جميع أبعادها (الثروات الجديدة‪،‬‬
‫وقوى التدمير المحتملة لهذه الثورات‪ ،‬والتحوالت' في تنظيمات العمل‪ ،‬والهياكل االجتماعية‪،‬‬
‫والعالقات' مع تركيز رؤوس أموال القلة المحتكرة‪ ،‬وإ دارتها باألساليب المالية)‪ .‬ولكن لتحقيق ذلك‪،‬‬
‫ال يمكن الركون لألمل (الخادع) بأن تلك الثورات لديها القدرة (السحرية) على حل تحديات التقدم‬
‫االجتماعي‪ ،‬والديمقراطية من تلقاء ذاتها‪ .‬بل بالعكس‪ ،‬فإنه بإدماج "الجديد" في الدينامية االجتماعية‬
‫المسيطر' عليها‪ ،‬يمكن االستفادة من اإلمكانيات المحررة لهذا الجديد‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وإ ذا كنا نعتبر الخطوط' التي رسمناها' أعاله للمشروعات االجتماعية‪" ،‬بدائل"‪ ،‬فذلك بالضبط' ألن‬
‫السياسات التي تنفذها القوى المسيطرة على النظام اليوم‪ ،‬تسير في االتجاه المضاد لهذه‬
‫المقتضيات‪      .‬‬

‫‪ ‬‬

‫يقوم المشروع المجتمعي المسمى‪ ،‬زوراً‪" ،‬اللبرالي" (وكذلك الصورة األكثر تطرفاً‪" ،‬النيو لبرالية)‪،‬‬
‫على أساس التضحية بالتقدم االجتماعي في سبيل الربحية المالية (وحتى في المدى القريب وحسب)‬
‫للقطاعات المسيطرة من رأس المال (رأسمال ‪ ،500‬أو ‪ ،5000‬شركة كبرى متعدية الجنسية)‪.‬‬
‫ويحقق هذا الخضوع وحيد الجانب للعمال‪ ،‬أي للبشر‪ ،‬واألمم‪ ،‬للمنطق الوحيد "للسوق'" المزعوم‪،‬‬
‫"الجنة الدائمة" لرأس المال (والذي يقضي بخضوع' جميع جوانب الحياة االجتماعية لمقتضبات‬
‫"الربحية")‪ .‬وهي جنة ضيقة األفق بالكثير' من المقاييس‪ ،‬فال أسس علمية أو أخالقية لها‪ ،‬وفي‬
‫الواقع‪ ،‬يصبح التقدم االجتماعي‪ ،‬والديمقراطية‪ ،‬في ظل هذا الخضوع' بال أي مضمون‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وعلى مستوى' العالم‪ ،‬ال يؤدي هذا الخضوع إال إلى إعادة إنتاج‪ ،‬وتعميق التفاوت بين األمم‬
‫واألقاليم‪ ،‬متخذاً أشكاالً‪ ،‬وهياكل مسايرة لمتطلبات رأس المال الذي بلغ مرحلة جديدة كيفياً من‬
‫تطوره‪ .‬بمعنى أن "االحتكارات" (التي يطلق عليها أحياناً "المزايا النسبية") التي تتمتع بها القلة‬
‫ٍ‬
‫ماض‬ ‫المحتكرة في المراكز المسيطرة (الثالوث)‪ ،‬ال تقتصر على الصناعة‪ ،‬كما كان الحال في‬
‫انتهى‪ ،‬وإ نما في أشكال جديدة من السيطرة االقتصادية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬والسياسية (السيطرة على‬
‫التكنولوجيا بوساطة التشريعات' المتعلقة بالملكية الصناعية والفكرية‪ ،‬وحرية االستحواذ' على‬

‫‪3‬‬
‫الموارد' الطبيعية لكل الكوكب‪ ،‬والقدرة على التأثير في الرأي العام‪ ،‬بل تعديله‪ ،‬بالسيطرة على‬
‫وسائط' االتصال واإلعالم‪ ،‬والتركيز' المفرط لوسائل التدخل المالي‪ ،‬واالنفراد' بملكية أسلحة الدمار‬
‫الشامل‪ ،‬الخ‪.).‬‬

‫‪ ‬‬

‫ال يمكن التفريق اليوم‪ ،‬وال في ما مضى‪ ،‬بين االقتصاد' والسياسة‪ ،‬أو بين "السوق" وسلطة الدولة‪،‬‬
‫بما فيها العسكرية‪ ،‬وذلك بالرغم من الخطاب األيديولوجي السائد‪ ،‬الذي يحاول إنكار ذلك‪ .‬فكيف'‬
‫يمكن إذن‪ ،‬في مواجهة هذه الوحدة بين استراتيجيات القلة المحتكرة‪ ،‬متعدية الجنسية‪ ،‬والسلطات‬
‫السياسية التي تخدمها‪ ،‬إقامة استراتيجية مضادة لخدمة الشعوب‪ ،‬يمكنها باإلضافة "للمقاومة"‪ ،‬أن‬
‫تدفع لألمام البديل الذي وصفناه هنا؟ هذا هو التحدي الحقيقي‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪    .2‬الجمع بين الحركات االجتماعية‪ ،‬وإ عادة بناء سياسة المواطنة‬

‫‪ ‬‬

‫ال يوجد مجتمع متجمد في حالة سكون كاألموات‪ ،‬على األقل في عصرنا الحاضر'‪ .‬وبهذا الفهم‬
‫فليس جديداً وجود' "حركات اجتماعية"‪ ،‬ظاهرة أو أقل ظهوراً‪ ،‬منظمة بشكل علني أو تعمل تحت‬
‫األرض‪ ،‬متبلورة حول برامج وأهداف مصاغة بتعبيرات أيديولوجية وسياسية‪ ،‬أو تعبر عن مجرد‬
‫عدم الثقة في "الخطاب الفخيم"‪ ،‬أو حتى في "السياسيين المحترفين"‪ ،‬متجمعة بشكل منظم أو مفتتة‬
‫ألقصى' حد‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫إنما "الجديد" فعالً‪ ،‬والمميز للمرحلة الراهنة‪ ،‬هو أن "الحركات االجتماعية" (أو "المجتمع المدني"‪،‬‬
‫باستخدام' التعبيرات "الموضة")‪ ،‬مفتتة‪ ،‬وال تشعر بالثقة في السياسة‪ ،‬أو في الصياغة األيديولوجية‪.‬‬
‫وهذا هو‪ ،‬في الوقت ذاته‪ ،‬السبب وقبل ذلك النتيجة‪ ،‬لتآكل أشكال الصراع االجتماعي والسياسي‬
‫للمرحلة السابقة‪ ،‬والتي انتهت‪ ،‬من التاريخ المعاصر (مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية)‪ ،‬وما‬

‫‪4‬‬
‫تاله من انهيارها' وفقدان فاعليتها‪ ،‬وبالتالي' فقدان مصداقيتها' وشرعيتها'‪ .‬وأدى هذا التآكل إلى فقدان‬
‫جوهري' للتوازن‪ ،‬األمر الذي سمح لرأس المال المسيطر' باحتالل واجهة المسرح‪ ،‬وفرض المنطق‬
‫المنفرد لشروطه على الشعوب والمجتمعات'‪ .‬ومكنه كذلك‪ ،‬أن يعلن أبدية "سيطرته"‪ ،‬بل واالدعاء‬
‫بعقالنيتها وحتى تحقيقها للخير (نظرية "نهاية التاريخ" وما إليها)‪ ،‬مما يعني العودة (مؤقتاً'") لجنة‬
‫الرأسمالية األبدية‪ .‬ويجري' التعبير عن هذه األوضاع بشعارات غير منطقية من نوع "ال يوجد‬
‫بديل"‪ ،‬أو في تخيل "حركة اجتماعية" يمكنها تغيير العالم دون التعبير عن مشروعها' المجتمعي‪.‬‬

‫‪    ‬‬

‫و"الحركات االجتماعية" (في صيغة الجمع)‪ ،‬موجودة ويتقوى' وجودها' وتحركها في كل مكان من‬
‫عالمنا المعاصر‪ ،‬وال يحتاج األمر إلعطاء أدلة‪ .‬ويجري التعبير عنها بواسطة الطبقات والصراع'‬
‫بينها‪ ،‬وحركات' النضال من أجل الديمقراطية‪ ،‬ومن أجل حقوق المرأة‪ ،‬وحقوق' الفالحين‪ ،‬ومن‬
‫أجل احترام البيئة‪ ،‬الخ‪ .‬واالنضمام' بنشاط' لهذه الحركات‪ ،‬يعمل على بلورة البديل الذي سيغير'‬
‫العالم‪ ،‬ولكن هذا التغير يقتضي أن تتعلم هذه الحركات أن ترتفع تدريجياً من مرحلة الدفاع إلى‬
‫الهجوم‪ ،‬ومن حالة التفتت إلى التجمع في إطار التعددية‪ ،‬وأن تصبح الفاعل الحاسم في مشروعات‬
‫مجتمعية خالقة وفاعلة‪ ،‬من أجل بناء استراتيجيات سياسية لصالح المواطنين‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫واالعتراف' بأوجه الضعف في الحركات في حالتها الراهنة‪ ،‬ال يعني إنكار ضرورتها المطلقة‪ ،‬وال‬
‫ٍ‬
‫ماض ذهب‪ ،‬وإ نما التحرك لدعم إمكانياتها الخالقة والمحررة‪.‬‬ ‫التحسر على‬

‫والشعوب' لها عدو واضح‪ ،‬هو رأسمال القلة االحتكارية المعولم واإلمبريالي' المسيطر‪ ،‬وإ لى جانبه‬
‫مجموع القوى السياسية التي تقف في خدمته اليوم‪ .‬وهذا يعني حكومات الثالوث (طالما أن اليمين‬
‫واليسار' في القوى االنتخابية تتبنى "اللبرالية")‪ ،‬وخاصة حكومة الواليات المتحدة (حيث تتقاسم‬
‫الهيئة الحاكمة بجناحيها' الجمهوري والديمقراطي' ذات الرؤية لدورها المسيطر)‪ ،‬وحكومات‬
‫الطبقات الحاكمة الكومبرادورية والتابعة في بلدان الجنوب‪ .‬ويتحرك' هذا العدو في إطار‬
‫استراتيجية اقتصادية‪ ،‬سياسية‪ ،‬أيديولوجية‪ ،‬عسكرية مشتركة‪ ،‬ولديه مجموعة من الهيئات المجندة‬
‫لخدمته ـ المنظمة األوروبية للتعاون والتنمية‪ ،‬والبنك الدولي‪ ،‬وصندوق النقد الدولي‪ ،‬ومنظمة‬
‫التجارة العالمية‪ ،‬وحلف شمال األطلنطي‪ ،‬الخ‪ .‬ـ ولديه مراكز "الفكر"‪ ،‬وأماكن االلتقاء (خاصة‬
‫دافوس‪ ،‬و"النوادي" اللبرالية على طريقة فون هايك‪ ،‬والجامعات وخاصة أقسام االقتصاد' التقليدي)‪.‬‬
‫وهو يخترع "الموضات"‪ ،‬ويطرح الشعارات البراقة في الخطاب الذي يفرضه‪ ،‬مثل‪" :‬الديمقراطية"‪،‬‬

‫‪5‬‬
‫أو "حقوق اإلنسان" (بمدلوالتها' التي يجري التالعب بها)‪ ،‬و"محاربة الفقر"‪ ،‬و"تواري' األمم" وفي'‬
‫الوقت ذاته إبراز "الجماعات"‪ ،‬والحرب ضد "اإلرهاب"‪ ،‬الخ‪ .‬ويجب أن ننوه انه حتى اآلن‪ ،‬فإن‬
‫الغالبية العظمى من "الحركات"‪ ،‬والمناضلين' الذين ينشطون بها‪ ،‬يتخذون موقفاً ذيلياً‪ ،‬ويستجيبون'‬
‫بقدر من التأخير‪ ،‬وبكفاءة أكثر أو أقل‪ ،‬لهذه األجزاء من االستراتيجية أو الخطاب‪ .‬وعلينا أن‬
‫نتخلص من أوضاع رد الفعل الدفاعية هذه‪ ،‬وأن نرد بالتقدم بخطابنا' الخاص‪ ،‬واستراتيجيتنا‬
‫الخاصة‪ ،‬وأهدافنا‪ ،‬ولغتنا‪ ،‬ولكننا ما زلنا بعيدين عن ذلك‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ولكننا لن نتقدم في هذا االتجاه إال إذا استطعنا' تحليل استراتيجيات العدو بشكل منظم‪ ،‬سواء في‬
‫أبعادها العالمية‪ ،‬أو في تعبيراتها المحلية والجزئية‪ .‬مع مالحظة أن هذه االستراتيجيات أبعد ما‬
‫تكون عن أن تكون كتلة واحدة مترابطة‪ ،‬فتناقضاتها' الخاصة تخترقها من كل جانب‪ ،‬وعلينا أن‬
‫ندرس هذه التناقضات‪ ،‬ونحللها جيداً‪ ،‬وأن نحددها بدقة‪ .‬علينا أن نضع استراتيجيتنا المضادة التي‬
‫تعرف كيف تستفيد من هذه التناقضات‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وفي' مواجهة هذه الواجبات الملحة والعاجلة‪ ،‬تبدو الحركة‪ ،‬أو الحركات‪ ،‬حالياً ضعيفة جداً‪ .‬فدون‬
‫إعطاء هذه الفكرة ما تستحقه من اهتمام واستنتاج' ما يجب عمله‪ ،‬تبقى الحركة مفتتة‪ ،‬وفي' موقف'‬
‫الدفاع‪ ،‬وضعيفة في خطابها' وخططها (وهو ما يعرف العدو كيف يستفيد منه)‪ .‬علينا إذن‪ ،‬أن‬
‫نرتفع إلى المستوى' الذي يسمح ببلورة استراتيجيات القوى الشعبية‪ ،‬سواء على مستوى إدراك‬
‫عالمية االعتماد المتبادل بينها‪ ،‬أو على مستوى' التعبير الجزئي والمحلي‪ .‬وهنا فقط يمكن للمبادئ‬
‫العامة التي تحدد شكل البديل أن تتجسد في شكل برامج وتحركات' تكتسب قوتها' من تنوعها‪ ،‬وفي‬
‫الوقت ذاته تجمع آثارها على المجتمعات الحقيقية‪ .‬وهنا فقط‪ ،‬تصبح "الحركة" القوة المحركة‬
‫للتاريخ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫والعدو' يعمل دائماً على زيادة صعوبة تقدمنا‪ ،‬ال فقط بالتدخالت العنيفة عند الضرورة (العنف‬
‫البوليسي‪ ،‬والتراجع في الحريات الديمقراطية‪ ،‬وتدعيم التيارات "الفاشية" الجديدة‪ ،‬والحروب)‪،‬‬
‫وإ نما كذلك بتوجهاته لكسب ود "الحركة" بهدف بقائها في الحدود التي يريدها‪ ،‬أي "ال‪-‬سياسية"‬
‫و"لينة"‪ ،‬أو ذيلية‪ .‬وتساعد األيديولوجية "الحركية" على ذلك‪ ،‬بالضبط' برفض ما نقترحه‪ ،‬وهو‬

‫‪6‬‬
‫التجمع في ظل التعدد عن طريق إعادة بناء السياسة المواطنية‪ .‬وفي هذه الظروف‪ ،‬يجب أن ننظر‬
‫بعين فاحصة وناقدة "للحركات" واألشكال' التنظيمية المصاحبة لها (وبصفة خاصة المنظمات غير‬
‫الحكومية التي تضعها الموضة كالشكل الوحيد للتعبير عن المجتمع المدني)‪ .‬فهل تدخل في إطار‬
‫بناء البدائل مستقبالً؟ أو هل هي أحد وسائل النظام إلدارة األمور في اتجاهاته العامة‪ ،‬أو بعبارة‬
‫أخرى‪ ،‬هي أداة "ضد‪-‬البدائل"؟‬

‫‪ ‬‬

‫وإ عادة بناء سياسة مواطنية هو وحده السبيل إلعطاء "الحركة" الحجم والفاعلية الالزمين إلعادة‬
‫التوازن مع رأس المال‪ .‬وإ عادة البناء هذه‪ ،‬فقط‪ ،‬هي التي ستسمح بظهور توازنات اجتماعية‬
‫جديدة تفرض على رأس المال‪ ،‬أن يتكيف هو‪ ،‬مع مقتضيات ليست نابعة من منطقه الخاص‪.‬‬
‫وهنا‪ ،‬وهنا فقط‪ ،‬يمكن أن يحل مكان االتجاه السائد حالياً‪ ،‬وهو تكيف الشعوب مع متطلبات رأس‬
‫المال‪ ،‬االتجاه المضاد‪ ،‬وهو تكيف رأس المال مع متطلبات الشعوب‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ونوجه نداءنا للجميع ـ بمن فيهم أنفسنا ـ أي لجميع من يتحركون هنا أو هناك‪ ،‬ويلتقون في‬
‫تحركاتهم داخل‪ ،‬أو مع المنتدى االجتماعي العالمي (بورتو' أليجري)‪ ،‬أو المنتديات الوطنية أو‬
‫اإلقليمية‪ .‬والمنتدى العالمي للبدائل سيحاول' من جهته أن يلعب دور العامل الحافز‪ ،‬مثله مثل‬
‫آخرين‪ ،‬لعملية التأمل للمساهمة في تشكيل االستراتيجية المضادة‪ ،‬الشعبية‪ ،‬والفعالة‪ ،‬وذات‬
‫المصداقية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ونتقدم في الجزء التالي بمجرد اقتراحات‪ ،‬قد يعتبرها البعض خاطئة‪ ،‬وقد يعتبرها آخرون متطرفة‬
‫أو استفزازية‪ ،‬ولكنها تستحق‪ ،‬في رأيي‪ ،‬المناقشة‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪7‬‬
‫‪ ‬‬

‫اإلمبريالية الجماعية للث‪,, ,‬الوث‪ ،‬وحملة الوالي‪,, ,‬ات المتح‪,, ,‬دة لف‪,, ,‬رض الس‪,, ,‬يطرة‪ ،‬وعس‪,, ,‬كرة‬ ‫‪   ‬‬ ‫‪.3‬‬
‫العولمة‬

‫‪ ‬‬

‫الفرضية األولى‬

‫‪ ‬‬

‫إن النظام العالمي ال ينتمي "لما بعد اإلمبريالية"‪ ،‬بل هو نظام إمبريالي‪ .‬وهو في ذلك يحتفظ ببعض‬
‫الصفات األساسية والدائمة مع النظم اإلمبريالية من مراحل التوسع الرأسمالي السابقة‪ ،‬فهو ال يقدم‬
‫لشعوب التخوم (الجنوب بالتعبير السائد‪ ،‬أي ثالثة أرباع اإلنسانية)‪ ،‬أية فرصة "للحاق"‪ ،‬أو‬
‫االستفادة من "مزايا" االستهالك المرتفع‪ ،‬المقصور' على أغلبية شعوب المركز‪ .‬إنه ال ينتج‪ ،‬ويعيد'‬
‫إنتاج‪ ،‬إال تعميق الهوة بين الشمال والجنوب‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫نواح‪ ،‬فهي جديدة بالطبع‬


‫ومع ذلك‪ ،‬فاإلمبريالية دخلت مرحلة من مراحل توسعها' جديدة من عدة ٍ‬
‫من ناحية ارتباطها' الوثيق' بالتغيرات التي حدثت لرأس المال والرأسمالية‪ ،‬وهي‪ :‬الثورة‬
‫التكنولوجية‪ ،‬والتغير في أسلوب العمل‪ ،‬وتقسيمه على نطاق عالمي‪ ،‬وسيادة المالية المعولمة‪ ،‬الخ‪.‬‬
‫وهذه العالقات محل للكثير من البحوث الجادة‪ ،‬وتثير' الكثير من الجدل الحار‪ ،‬وإ ن كان أغلب هذا‬
‫الجدل يخضع للهوس االقتصادي' للبعض‪ ،‬والتساهل السياسي' للبعض اآلخر‪ .‬ويصل األمر‪ ،‬في‬
‫كثير من األحيان‪ ،‬إلى إظهار النظام كما لو كان يقدم "الفرص" لكل من يستطيع اقتناصها'‪ .‬وهذه‬
‫الخيرة" دليل على ضعف "الحركة"‪ ،‬وفي' الوقت ذاته‪ ،‬على كفاءة الخطاب السائد الذي‬
‫الصور' " ّ‬
‫يخترقها‪  .‬‬

‫‪       ‬‬

‫وأؤكد' من جانبي على بعد آخر لإلمبريالية الجديدة‪ .‬فقد كانت اإلمبريالية في الماضي تتميز‬
‫بالتعددية‪ ،‬بحيث كان الصراع الدائم والعنيف بين مراكزها' المختلفة‪ ،‬هو الغالب على الصورة‬

‫‪8‬‬
‫طوال التاريخ القريب‪ ،‬ولكنها اليوم اتخذت الطابع الفردي‪ ،‬وأصبحت اإلمبريالية الجماعية‬
‫"للثالوث" (الواليات المتحدة‪ ،‬وأوروبا‪ ،‬واليابان)‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وتظهر' الوقائع' بوضوح' هذه الطبيعة الجماعية للمرحلة الجديدة من اإلمبريالية‪ ،‬ففي داخل‬
‫مؤسسات' إدارة االقتصاد' العالمي‪ ،‬ال تنفرد أوروبا‪ ،‬أو اليابان أبداً بأية مواقف' تختلف عن تلك التي‬
‫تتخذها الواليات المتحدة‪ .‬وينطبق' هذا على جميع المؤسسات مثل البنك الدولي‪ ،‬أو صندوق النقد‬
‫الدولي‪ ،‬أو منظمة التجارة العالمية (ونذكر جميعاً‪ ،‬في اجتماع منظمة التجارة العالمية في الدوحة‬
‫عام ‪ ،2001‬كيف كانت االشتراطات التي طلبها المفوض األوروبي' باسكال المي من بلدان العالم‬
‫الثالث‪ ،‬أشد قسوة حتى من تلك التي طلبتها واشنطن!)‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫فما الذي يقف وراء هذه الرؤية الموحدة للثالوث؟ وألية درجة يمكن للتضامن الذي يبدونه حتى‬
‫اليوم‪ ،‬أن يعبر عن مرحلة مستقرة للعولمة اإلمبريالية؟ وأين تكمن إذن‪ ،‬التناقضات' المقبلة في‬
‫داخل الثالوث؟‬

‫‪ ‬‬

‫كان من المعتاد في السابق إرجاع هذا التضامن ألسباب سياسية‪ ،‬وهي الخوف المشترك' من‬
‫االتحاد السوفييتي‪ '،‬والشيوعية‪ .‬ولكن اختفاء هذا التهديد لم يضع نهاية للجبهة المشتركة للشمال مع‬
‫أن أوروبا واليابان لم تعودا في حالة تبعية اقتصادية‪ ،‬ومالية للواليات المتحدة‪ ،‬كما كان الحال في‬
‫أعقاب الحرب العالمية الثانية‪ .‬واآلن‪ ،‬وقد' أصبحوا' منافسين أقوياء‪ ،‬كان من المنتظر' أن تؤدي'‬
‫الصراعات فيما بينهم إلى انفجار الثالوث‪ ،‬ولكنهم' بانخراطهم جميعاً في نفس المشروع النيو لبرالي‬
‫وبناء عليه‪ ،‬هنالك إغراء كبير العتبار التفسير لهذا‬
‫ً‬ ‫المعولم‪ ،‬قد ساروا' في الطريق العكسي‪.‬‬
‫االختيار' هو الضرورات الجديدة ألشكال التراكم الرأسمالي' للقلة المحتكرة المسيطرة‪ ،‬وهذه القلة‪،‬‬
‫قد بلغت درجة من الضخامة لم تبلغها سابقاتها من قبل‪ .‬وتتطلب هذه الضخامة بدورها أن جميع‬
‫مكونات هذه القلة المحتكرة (وهي جميع الشركات الكبرى متعدية الجنسية‪ ،‬التي ترتكز إلى بلدان‬
‫الثالوث) تستفيد من سيطرتها' على سوق عالمي مفتوح‪ .‬ويرى' البعض أن هذا الواقع‪ ،‬يعلن عن‬

‫‪9‬‬
‫قيام رأسمال حقيقي‪  ‬متعدي الجنسية‪ ،‬وبرجوازية متعدية الجنسية (كالهما تحت التكوين)‪ ،‬وهو‬
‫أمر يستحق' بالتأكيد' بحثاً أكثر تدقيقاً‪ .‬ويرى' آخرون (وأنا منهم)‪ ،‬أنه حتى وإ ن كانت األمور' لم‬
‫تصل لهذا الحد‪ ،‬فإن المصالح المشتركة في إدارة السوق' العالمي‪ ،‬هي التي تفسر تضامن رأس‬
‫المال متعدي الجنسية الذي لمسناه‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫إذن فالتناقضات التي قد تضعف القوة الجماعية للثالوث‪ ،‬إن لم تستطع تفجيره‪ ،‬ال توجد على‬
‫أرضية مصالح األجزاء المسيطرة من رأس المال‪ ،‬وإ نما علينا أن نبحث عن جذورها' في مكان‬
‫آخر‪ .‬ألنه إن كان رأس المال والدول حقائق ورؤى ال يمكن الفصل بينها‪ ،‬إال أن الثالوث‪ ،‬وبالذات‬
‫جزأه األوروبي‪ '،‬يظل مكوناً من دول سياسية فردية‪ .‬والدولة ال يمكن حصرها في وظائفها' كخادم‬
‫لرأس المال المسيطر‪ ،‬ولكنها في ارتباطها بكل التناقضات التي تميز المجتمع ـ صراع الطبقات‪،‬‬
‫والتعبيرات' المختلفة للثقافة السياسية للشعوب المعنية‪ ،‬وتعدد' المصالح الوطنية "الجماعية"‪،‬‬
‫والتعبيرات' الجيو سياسية دفاعاً عنها ـ هي العب متميز عن رأس المال‪ .‬وفي' داخل هذه الدينامية‬
‫المعقدة‪ ،‬من الذي سينتصر؟ المصالح العاجلة والمقصورة على رأس المال المسيطر؟ أم مجموعة‬
‫أخرى من المصالح تربط بين المتطلبات الضرورية إلعادة تكوين رأس المال‪ ،‬ومتطلبات' أخرى‬
‫تعبر عن مجاالت أخرى؟‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬ففي حالة الفرض األول‪ ،‬ولغياب مؤسسة سياسية مشتركة وموحدة لدول الثالوث‪ ،‬سيكون على‬
‫الواليات المتحدة‪ ،‬بصفتها القائد‪ ،‬أن تلعب دور هذه الدولة "العالمية" الالزمة "لحسن اإلدارة" لرأس‬
‫المال المعولم‪ ،‬وعلى شركائها في الثالوث تقبل النتائج‪ .‬ولكنني' أصل‪ ،‬في هذه الحالة‪ ،‬إلى استنتاج‬
‫أن "المشروع' األوروبي" سيفقد أي معنى‪ ،‬ويتحول‪ ،‬في أفضل األحوال‪ ،‬إلى الجناح األوروبي‬
‫لإلمبريالية الجماعية‪ ،‬وفي أسوأها‪ ،‬للجناح األوروبي' لمشروع' سيطرة الواليات المتحدة‪ .‬وفي‬
‫الوقت الحالي‪ ،‬فإن القليل من التشققات التي نلحظها‪ ،‬تظهر فقط على المستوى السياسي‪ ،‬أو‬
‫العسكري‪ ،‬ال على المستوى االقتصادي' أو االجتماعي‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬تعبر بعض السلطات‬
‫األوروبية عن الرغبة في أن تكون القيادة السياسية للنظام العالمي‪ ،‬أكثر "جماعية"‪ ،‬في حين تقبل‬
‫سلطات أخرى السير وراء القيادة األمريكية بال تحفظ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪10‬‬
‫أما في حالة الفرض الثاني‪ ،‬أي إذا نجحت الشعوب األوروبية في أن تفرض على رأس المال‬
‫المسيطر‪ ،‬شروط حل وسط' تاريخي' جديد‪ ،‬يحدد طبيعة الدول األوروبية‪ ،‬واالتحاد' األوروبي‪،‬‬
‫فسيمكن حينئذ ألوروبا أن تتطلع للعب دور مستقل‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬فإن الخيار (والصراع') من‬
‫أجل "أوروبا' اجتماعية" (أي التي ال تكون مهمة سلطاتها محصورة في خدمة المصالح الضيقة‬
‫لرأس المال المسيطر')‪ ،‬ال ينفصل عن الخيار من أجل أوروبا' "غير أمريكية"‪ .‬وهذه األخيرة‪ ،‬لن‬
‫تكون كذلك إال إذا تباعدت بعض الشيء عن إدارة اإلمبريالية الجماعية التي تعبر عن مصالح‬
‫رأس المال المسيطر'‪ .‬وباختصار‪ ،‬فأوروبا' إما أن تكون "يسارية" (بمفهوم أن هذا يعني أخذ‬
‫المصالح االجتماعية للشعوب األوروبية في االعتبار‪ ،‬وفي الوقت ذاته‪ ،‬تجديد عالقات‬
‫الشمال‪/‬الجنوب بما يبدأ تطوراً' حقيقياً لما بعد اإلمبريالية)‪ ،‬أو ال تكون على اإلطالق‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫الفرضية الثانية‬

‫‪ ‬‬

‫تتمحور' استراتيجية الس'يطرة للوالي'ات المتح'دة ح'ول الطبيعة الجماعية لإلمبريالية الجدي'دة‪ ،‬وتس'تغل'‬
‫نقط القصور والضعف في الحركات االجتماعية والسياسية "ضد‪ -‬النيو لبرالية"‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وهذه االستراتيجية‪ ،‬التي لم يعترف بها المدافعون عنها من أصدقاء أمريكا‪ ،‬إال مؤخراً‪ ،‬تظهر في‬
‫الخطاب السائد على شكل فرضين "طيبين" غير حقيقيين‪ ،‬ولكن ممكنين من وجهة نظر العدو‪.‬‬
‫ويدعي األول أن هذه السيطرة تعود باألكثر' إلى قيادة "طيبة" ولذلك يطلق عليها "السيطرة الخيرة"‬
‫للقطاع الديمقراطي' من الطبقة الحاكمة األمريكية‪ .‬ويدعي هذا الخطاب بمزيج من السذاجة‬
‫المفتعلة‪ ،‬والنفاق الصريح‪ ،‬أن الواليات المتحدة إنما تعمل من أجل المصلحة المشتركة لشعوب‬
‫الثالوث‪ ،‬حيث تحركها نفس الدوافع' "الديمقراطية"‪ ،‬بل إنها تعمل من أجل مصلحة بقية شعوب‬
‫العالم التي تقدم لها العولمة فرصة "للتنمية" ال تحلم بها‪ ،‬باإلضافة لمنافع الديمقراطية التي تعمل‬
‫سلطات الواليات المتحدة على تعزيزها في كل مكان‪ ،‬كما يعلم الجميع‪ .‬أما الفرض الثاني فينادي‬
‫بأن هذه السيطرة هي النتيجة الطبيعية لتقدم الواليات المتحدة في جميع المجاالت‪ ،‬بدءاً من الكفاءة‬
‫االقتصادية والعلمية‪ ،‬وحتى المشروع' السياسي' والثقافي‪ ،‬مروراً بالتفوق العسكري‪ .‬وفي' الواقع‪،‬‬

‫‪11‬‬
‫فالسيطرة األمريكية تتبع منطقاً‪ ،‬وتستخدم' من األساليب ما ال عالقة له بالخطاب الذي تختبئ‬
‫بداخله‪ .‬‬

‫‪ ‬‬

‫وقد' جرى التعبير عن أهداف هذه السيطرة‪ ،‬واالعتراف' بها في كثير من كتابات قادة هذه البلدان‬
‫(ومع األسف قليالً ما قرأها ضحاياهم)‪ .‬فبعد انهيار االتحاد السوفييتي' (المنافس العسكري' المحتمل‬
‫الوحيد)‪ ،‬اعتبرت الدوائر' الحاكمة األمريكية أن أمامها فرصة مدتها عشرين عاماً لتثبت سيطرتها'‬
‫على العالم‪ ،‬وتلغي أية فرصة لظهور "منافسين" محتملين‪ ،‬وليس بالضرورة أن يكونوا مؤهلين‬
‫لملء دور سيطرة بديل‪ ،‬ولكن مجرد أن يكونوا قادرين على تأكيد استقالليتهم في نظام عالمي‪،‬‬
‫سيصبح عندئذ "بدون سيطرة"‪ ،‬أو نظام متعدد المراكز‪ ،‬كما أدعوه‪ .‬وهؤالء "المنافسون" هم أوروبا‬
‫بالطبع (ولم يعد أحد يتحدث حتى عن اليابان!)‪ ،‬وروسيا‪ ،‬ولكن على وجه أخص الصين‪ ،‬وهي‬
‫التي تعتبرها' الواليات المتحدة العدو الرئيسي' الذي عليها أن تدمره (عسكرياً) في يوم ما‪ ،‬إن هي‬
‫أصرت على السير في طريق' "التنمية"‪ ،‬والتمسك باالستقالل‪ .‬وهناك أعداء آخرون يشار إليهم‪،‬‬
‫وهم في الواقع‪ ،‬جميع بلدان الجنوب التي يمكن أن تبدي مقاومة لمتطلبات العولمة النيو‪-‬لبرالية‪،‬‬
‫مثل الهند‪ ،‬أو البرازيل‪ ،‬وإ يران‪ ،‬أو جنوب أفريقيا‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫فاألهداف' إذن‪ ،‬هي تحويل حلفاء الثالوث إلى أتباع‪ ،‬وحرمانهم من القدرة على أية مبادرة عالمية‬
‫فاعلة‪ ،‬وتدمير' البلدان "الكبيرة"‪ ،‬التي تعتبر أكبر من الالزم (فالواليات' المتحدة هي وحدها‬
‫المسموح لها بهذا الوصف)‪ .‬ويجري' هذا بتفكيك روسيا' بعد االتحاد السوفييتي‪ '،‬وتفكيك الصين‪،‬‬
‫والهند‪ ،‬بل حتى البرازيل؛ واستخدام' أوجه ضعف السلطات في هذه البلدان لهذا الغرض‪ ،‬عن‬
‫طريق' التالعب بالدول التي نتجت عن انفجار االتحاد السوفييتي‪ '،‬وتشجيع' القوى الطاردة في‬
‫روسيا‪ '،‬والمسلمين في شينجيانج‪ ،‬والرهبان في التبت‪ ،‬وتشجيع القوميات في الهند‪ ،‬وتغذية‬
‫الصراعات مع مسلمي شبه القارة الهندية‪ ،‬والتالعب بأمازونيا (خطة كولومبيا')‪ ،‬الخ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وفي' إطار هذه االستراتيجية‪ ،‬اختارت الواليات المتحدة توجيه الضربة األولى في المنطقة الممتدة‬
‫من البلقان وحتى آسيا الوسطى‪ '،‬مروراً' بالشرق األوسط والخليج‪ .‬فلماذا هذا االختيار ألول‬
‫الحروب األمريكية للقرن الواحد والعشرون؟ ليس بسبب احتمال وجود أعداء أقوياء‪ ،‬وإ نما بالعكس‬

‫‪12‬‬
‫ألن المنطقة تمثل البطن اللين للنظام العالمي‪ ،‬الذي يضم مجتمعات ال تستطيع‪ ،‬ألسباب مختلفة‪،‬‬
‫مقاومة العدوان بالحد األدنى من المقدرة‪ .‬واألسلوب هو ضرب الطرف' األضعف' لبدء سلسلة‬
‫طويلة من الحروب‪ ،‬وهو اختيار عسكري استراتيجي مفهوم ومبتذل‪ .‬وهذا يذكرنا بما فعله هتلر‪،‬‬
‫عندما بدأ بضرب تشيكوسلوفاكيا‪ ،‬مع أنه ينظر ألبعد من ذلك‪  :‬بريطانيا‪ ،‬وفرنسا‪ ،‬واالتحاد‬
‫السوفييتي‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫واالستيالء على المنطقة يحقق منافع أخرى‪ ،‬فالمنطقة غنية بالبترول' والغاز‪ ،‬وتحكم الواليات‬
‫المتحدة فيها بمفردها يضع أوروبا في حالة تبعية خطيرة‪ ،‬ويضعف بذلك قدرتها على المناورة‬
‫مستقبالً‪ .‬وفضالً عن ذلك‪ ،‬فإن إقامة قواعد أمريكية في قلب أوراسيا يسهل القيام بالحروب المقبلة‪:‬‬
‫ضد الصين‪ ،‬وروسيا‪ ،‬وغيرهما‪ .‬ويأتي التأييد المطلق للتوسع اإلسرائيلي' بشكل طبيعي' في هذا‬
‫اإلطار‪ ،‬حيث تقوم إسرائيل في الواقع‪ ،‬بدور القاعدة العسكرية الدائمة لخدمة الواليات المتحدة‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫واختيار' األسلوب العسكري إلدارة النظام العالمي‪ ،‬ال يرجع فقط إلدارة الرئيس بوش االبن‪ ،‬بل هو‬
‫االختيار' الذي تبنته الطبقة الحاكمة‪ ،‬في مجموعها‪ ،‬في الواليات المتحدة‪ ،‬منذ انهيار االتحاد‬
‫السوفييتي‪ ،‬فالديمقراطيون والجمهوريون ال يختلفون في هذا إال فيما يتعلق باللغة‪ .‬وعلى العكس‬
‫مما يحاولون إقناع الرأي العام الساذج به‪ ،‬فإن الهدف من هذا االختيار هو سد أوجه الضعف في‬
‫االقتصاد األمريكي الذي تعجز جميع مكوناته اإلنتاجية عن المنافسة‪ ،‬كما يشهد بذلك العجز‬
‫التجاري' المستمر' الذي يميزه‪ .‬وبدالً من أن تفرض الواليات المتحدة نفسها "كالقائد الطبيعي" بفضل‬
‫تقدمها االقتصادي‪ ،‬فإنها تتصرف' كدكتاتور عسكري يفرض على "حلفائه" األتباع (أوروبا'‬
‫واليابان)‪ ،‬وكذلك بقية بلدان العالم‪ ،‬أن تسدد العجز في حسابه‪ .‬لقد تحولت الواليات المتحدة إلى‬
‫مجتمع طفيلي ال يستطيع المحافظة على مستوى استهالكه‪ ،‬وتبديده للموارد إال بإفقار بقة العالم‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫الفرضية الثالثة‬

‫‪ ‬‬

‫‪13‬‬
‫وتتميز' اللحظة الراهنة بخطورة شديدة‪ ،‬بما يجعل المقارنة مع أوضاع' الثالثينيات أمراً وارداً‪.‬‬
‫وكما فعل هتلر‪ ،‬قرر رؤساء الواليات المتحدة إحالل القوة الغاشمة مكان القانون‪ ،‬وألغوا بذلك‪،‬‬
‫جميع المكاسب التي سمح بها انتصار الديمقراطية على الفاشية‪ ،‬وفرضوا على األمم المتحدة نفس‬
‫المصير' المؤسف' الذي لحق بعصبة األمم‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫والمقارنة تستمر‪ ،‬مع األسف‪ ،‬مثل اختيار األعداء الصغار‪ ،‬أو اختراعهم‪ ،‬لتمهيد األرض‬
‫للمواجهات الكبرى‪ ،‬والكذب بشكل منتظم‪ .‬ومن جهتهم‪ ،‬يتصرف' "الحلفاء" التابعون كما كان يفعل‬
‫تشمبرلين‪ ،‬وداالدييه‪ ،‬في مواجهة هتلر‪ ،‬فهم يتنازلون‪ ،‬بل كثيراً ما يساهمون في إكساب الحروب‬
‫األمريكية الشرعية في نظر الرأي العام في بلدانهم بطريق الغش‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ويجب أ ن تفهم "الحركة"‪ ،‬أنه في مواجهة هذه االستراتيجية اإلجرامية الثابتة‪ ،‬ال تكتسب أية‬
‫استراتيجية مضادة الفعالية إال إذا اتخذت من المعارك ضد الحروب األمريكية المحور' الرئيسي'‬
‫لتحركها'‪ .‬فما قيمة أي خطاب عن "الفقر"‪ ،‬أو "حقوق اإلنسان" اليوم‪ ،‬إذا كان الموجود' على جدول‬
‫األعمال يرتب للشعوب مستقبالً أسوأ‪ ،‬مفروضاً' بالقوة العسكرية؟ وهذه الحروب "الصغيرة" (رغم‬
‫التدمير البشري والمادي الفظيع الذي تحدثه لدى ضحاياها)‪ ،‬ال تمثل مجرد "مشكلة من ضمن‬
‫المشاكل"‪ ،‬بل هي تكشف االستراتيجية الحقيقية للعدو‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪    .4‬عناصر الستراتيجية شعبية مضادة‬

‫‪ ‬‬

‫ال ينتج من التأمالت السابقة‪ ،‬إذا كان لها من مغزى‪ ،‬إال نتيجة واحدة‪ ،‬وهي أن المحور' األساسي'‬
‫للتحرك في اللحظة الراهنة‪ ،‬ال يمكن إال أن يكون النضال ضد "الحروب األمريكية"‪ ،‬وبناء أكبر‬
‫جبهة من جميع القوى التي يمكن أن تقف ضدها‪ .‬وأتقدم‪ ،‬في هذا اإلطار بثالث اقتراحات‪:‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪14‬‬
‫االقتراح األول‪ :‬إعطاء األولوية في أوروبا' إلعادة بناء سياسة مواطنية‪ ،‬فهي الوحيدة القادرة على‬
‫تجميع مطالب الحركات المفتتة حتى اآلن بشكل خطير‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫تكونها‪ ،‬هي الشرط لنجاح حركات‬


‫إن بناء هذه القوة السياسية‪ ،‬وتجميع الموضوعات التي يمكن أن ّ‬
‫المطالب‪ ،‬واالحتجاج االجتماعية‪ ،‬أي القدرة على تجميع يسار حقيقي‪ ،‬يفرض على المشروع'‬
‫األوروبي تبني مطالبه‪ ،‬وبذلك يكتسب هذا المشروع' "بعداً اجتماعياً"‪ .‬وهذا هو الشرط كذلك‪ ،‬لكي‬
‫ينفصل اليسار عن اليمين المؤيد لإلمبريالية‪ ،‬سواء أكان هذا اليمين ينتظم' وراء االستراتيجيات‬
‫الخاصة بإمبريالية الواليات المتحدة‪ ،‬أو كان يعبر ـ بطريقة مترددة أكثر منها ثابتة ـ عن األمل في‬
‫"إدارة سياسية جماعية" لإلمبريالية الجماعية بدورها‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬ال يمكن أن توجد "أوروبا‬
‫اجتماعية" إال إذا تمسكت بالسير' في طريق "سياسة مختلفة" بالنسبة لبقية العالم‪ ،‬وبذلك تبدأ تحوالً‬
‫حقيقياً نحو عالم بعد‪-‬إمبريالي‪.‬‬

‫‪  ‬‬

‫تستطيع' الشعوب األوروبية‪ ،‬ومن واجبها‪ ،‬أن تُ ِ‬


‫شعر الواليات المتحدة بمدى هشاشة وضعها' في‬
‫النظام االقتصادي' الرأسمالي' المعولم‪ .‬فإذا استطاعت أن توقف فائض رؤوس األموال التي تدفعها'‬
‫اليوم لدعم التبديد األمريكي‪ ،‬وتحولها' لمشروعات التنمية االجتماعية األوروبية‪ ،‬فإنها ستفرض‬
‫بذلك‪ ،‬على الواليات المتحدة أن تتخلى عن مشروعاتها' الخارجة عن المعقول‪ .‬وهذا الهدف‬
‫االستراتيجي البعيد‪ ،‬ال يستبعد' بالطبع‪ ،‬التأييد الفوري للرجال والنساء الشجعان الذين يقفون في قلب‬
‫النظام ليقولوا "ال للحرب"‪ .‬وإ ن كنت أشك في فعالية المعارضة الداخلية في الواليات المتحدة طالما‬
‫أن االمتيازات التي يتمتع بها هذا المجتمع الطفيلي بقيت مضمونة‪ .‬فقد نجحت الطبقة الحاكمة‬
‫األمريكية في خلق رأي عام سائد‪ ،‬على درجة من السذاجة ال تعطي الفرصة الحتجاجات األقلية‬
‫الواعية إلفشال استراتيجية السيطرة للواليات المتحدة‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫االقتراح الثاني‪ :‬تشجيع التقارب بين الشركاء الكبار في العالم األورو'‪-‬آسيوي‪ ،‬وهم أوروبا‪،‬‬
‫وروسيا‪ ،‬والصين‪ ،‬والهند‪ ،‬بصفة أساسية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪15‬‬
‫وروسيا بصفتها من أكبر منتجي البترول والغاز‪ ،‬يمكنها أن تقدم ألوروبا السبيل الوحيد للنجاة‪  ‬من‬
‫الشروط' األمريكية في حالة نجاح واشنطن في مشروعها لفرض السيطرة المطلقة على الشرق‬
‫األوسط'‪ .‬وحيث إنه فضالً عن ذلك‪ ،‬فإن أغلب المبادالت الخارجية لروسيا‪ ،‬ورؤوس' األموال‬
‫األجنبية التي تجتذبها' تقربها من أوروبا أكثر من الواليات المتحدة‪ ،‬فإن هناك أرضية مناسبة‬
‫للتقارب بين أوروبا' وروسيا على الرغم من الصعوبات (الناتجة من اإلدارة "الكومبرادورية"‬
‫لالقتصاد' الروسي‪ '،‬التي تنخرط' فيها أجزاء كبيرة من الطبقة الحاكمة الجديدة لهذه البالد)‪ ،‬ومن‬
‫تالعب اإلمبريالية األمريكية التي تدعم القوى الطاردة التي تعمل في داخل روسيا‪ '،‬وبقية دول‬
‫االتحاد السوفييتي' السابق‪ .‬وهنا كذلك‪ ،‬كما في أوروبا‪ ،‬فإن التطور' في اتجاه الطبقات العاملة يعني‬
‫سياسة خارجية مختلفة‪ ،‬تبتعد عن التبعية لواشنطن‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫أما التقارب بين روسيا‪ ،‬والصين‪ ،‬والهند‪ ،‬فيجد أرضية ممهدة في الخطر الذي تتعرض له هذه‬
‫البلدان الكبيرة الثالث‪ ،‬إذا ما نجح تغلغل الواليات المتحدة في آسيا الوسطى‪ .‬ولكن الواليات‬
‫المتحدة تضع أكثر ما تستطيعه من عراقيل في طريق' هذا التقارب‪ ،‬باستخدام التناقضات بين‬
‫الرؤى' السياسية للبلدان الثالث‪ ،‬وبتأييد' األجزاء الكومبرادورية من طبقاتها الحاكمة‪ .‬فباإلضافة إلى‬
‫الصراعات الجيو سياسية بشأن الحدود بين الصين والهند‪ ،‬والمشاكل' المتعلقة بالتبت‪ ،‬وشينجيانج‪،‬‬
‫تتالعب واشنطن التي "تؤيد" الهند ضد الصين في مشاكل الحدود‪ ،‬وفي الوقت نفسه‪ ،‬تهيج‬
‫الباكستان‪ ،‬ونثير' الصراع بين المسلمين والهندوس'‪ .‬وفي مواجهة ذلك‪ ،‬على القوى الشعبية‪ ،‬أن‬
‫ترسم' استراتيجيتها ـ التي تتحدد في هذه المرحلة بالذات‪ ،‬بضرورات بناء الجبهة ضد‪-‬الكومبرادور‬
‫ـ بحيث تأخذ في االعتبار مرة أخرى‪ ،‬وكما في أماكن أخرى‪ ،‬العالقات الوثبقة التي تربط بين‬
‫اإلدارة الكومبرادورية (القائمة فعالً في روسيا والهند‪ ،‬والمحتملة في الصين)‪ ،‬وبين ما تفرضه‬
‫السياسات العالمية األمريكية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫االقتراح الثالث‪ :‬إعادة الحياة لتضامن الشعوب اآلفرو‪-‬آسيوية (روح باندونج)‪ ،‬أي إعادة الروح‬
‫لتضامن القارات الثالث‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪16‬‬
‫واليوم‪ ،‬يمر تضامن شعوب الجنوب هذا‪ ،‬عبر صراعها ضد السلطات الكومبرادورية‪ ،‬وهي الناتج‬
‫للعولمة النيو‪-‬لبرالية‪ ،‬وسندها' في الوقت ذاته‪ .‬وهنا تلعب الموضوعات' التي أثرناها أعاله‪ ،‬أي‬
‫التقدم االجتماعي‪ ،‬والديمقراطية‪ ،‬واالستقالل الوطني‪ ،‬دورها الكامل‪  .‬‬

‫‪ ‬‬

‫وال شك أن شرعية هذه السلطات الكومبرادورية تتعرض للطعن في الكثير من بلدان الجنوب‪.‬‬
‫ولكن استجابة الشعوب للتحديات المترتبة على انخراط الجنوب في النظام اإلمبريالي' الجديد ال‬
‫تؤدي' دائماً إلى ظهور' بدائل ذات طبيعة ديمقراطية‪ ،‬وتعبر عن التقدم االجتماعي‪ ،‬وبناء اعتماد‬
‫وبناء على أسباب كثيرة من بينها تآكل شعارات‬
‫ً‬ ‫متبادل عادل‪ ،‬ومتفق عليه‪ ،‬على النطاق العالمي‪.‬‬
‫الوطنية الشعبوية التي ميزت المرحلة السابقة التي تلت مرحلة فورة التحرير الوطني‪ ،‬وكذلك‬
‫الممارسات' األتوقراطية في اإلدارة السياسية (رغم الطنطنة "الديمقراطية") التي ما زالت سائدة في‬
‫الكثير من البلدان‪ ،‬تلجأ الطبقات الشعبية المرتبكة‪ ،‬إلى أوهام "األصولية" اإلثنية أو الدينية‪ .‬في حين‬
‫تتالعب السلطات الحاكمة الكومبرادورية المحلية‪ ،‬بهذه الحركات األصولية‪ ،‬يساعدها في ذلك‬
‫إمبريالية الواليات المتحدة بالذات‪ .‬وهذا يعني خطوات واضحة للوراء‪ ،‬يجب محاربتها بشجاعة‪،‬‬
‫وبعد نظر‪ ،‬حيث إنها تمثل عقبة رئيسية في طريق إعادة بناء تضامن الشعوب اآلسيوية األفريقية‬
‫(عندما تثير الصراعات اإلجرامية‪ ،‬في كثير من األحيان‪ ،‬بين المسلمين والهندوس هنا‪ ،‬والهوتو‬
‫والتوتسي هناك)‪ .‬وتصل األزمة المترتبة على هذه التراجعات بين الجماعات المختلفة إلى قمتها‬
‫عندما تتحول شخصيات مريبة مثل طالبان‪ ،‬وبن الدن‪ ،‬وصدام حسين‪ ،‬كانت تحصل على الدعم‬
‫السخي من السي آي إيه‪ ،‬إلى "أكبر أعداء" الواليات المتحدة‪ ،‬ويصل األمر إلى تصديق' جماهير‬
‫شعبية كثيرة لهذه األكذوبة‪  .‬‬

‫‪ ‬‬

‫وفي' المقابل‪ ،‬تظهر هنا وهناك‪ ،‬عودة لتحالفات وطنية شعبية ديمقراطية‪ ،‬مثل تلك التي نجحت في‬
‫هزيمة بعض الدكتاتوريات' (كما في مالي مثالً)‪ ،‬أو التي أنهت نظام األبارتهيد في جنوب أفريقيا‪،‬‬
‫أو ضمنت فوز' "لوال" في انتخابات البرازيل‪ .‬وهذه النجاحات ـ مهما بدت صغيرة في الظروف'‬
‫الحالية حيث العدوان اإلمبريالي' هو المسيطر' ـ هي المبشرة بإعادة إحياء جبهة شعوب الجنوب بعد‬
‫حين‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪17‬‬
‫وفي الختام ‪ :‬ال يمكن الفصل بين النضال من أجل العدالة االجتماعية‪ ،‬والديمقراطية‪ ،‬ونظام' دولي‬
‫متعدد المراكز‪ ،‬والسلطة الحاكمة في الواليات المتحدة تعرف ذلك‪ .‬وهي لهذا السبب‪ ،‬تحاول أن‬
‫تفرض نظامها الدولي المسيطر' بإحالل القوة العسكرية محل القانون‪ .‬وهي تعرف أن هذا هو‬
‫السبيل الوحيد لفرض النظام االجتماعي "النيو لبرالي" الجائر‪ ،‬وبالتالي' تقضي على الديمقراطية‬
‫حيثما وجدت‪ ،‬وتمنعها من الظهور' في أي مكان آخر‪ .‬وعلى حركات المقاومة‪ ،‬ونضاالت‬
‫الشعوب‪ ،‬أن تفهم ذلك هي األخرى‪ ....‬أن تفهم أن مشروعاتها' للتقدم االجتماعي‪ ،‬والديمقراطية‪،‬‬
‫لن يكون لها مستقبل إال بعد دحر مشروع' السيطرة العسكرية للواليات المتحدة‪.‬‬

‫فى البداية تكون النهاية‬

‫‪ ‬‬

‫د‪.‬سمير أمين‬

‫‪ ‬‬

‫ه''ذه هى الش''هادة ال''تى أدلى بها د‪.‬س''مير أمين لتح''الف المنظم''ات غ''ير الحكومية "الت''الير" فى س''ياق مب''ادرة التح''الف‬
‫إلنشاء محكمة دولية شعبية للنظر فى جرائم شارون‪.‬‬

‫اس''رائيل دولة فري''دة فى نوعها‪ .‬فلم توجد دولة أخ''رى أنش''ئت فى ظ''روف ش''بيهة‪ ،‬كما ال تماثلها دولة أخ''رى منتمية‬
‫للنظام الدولى فى التنكر الفظ للقواعد التى تحكمه‪.‬‬

‫بدءا من بريطانيا' وأخيراً' الواليات المتحدة‬


‫نشأت اسرائيل كصنيعة للقوى االمبريالية الغربية‪ً ،‬‬
‫األمريكية‪ .‬فهى لم تكن من خلق الصهيونية وحدها‪ ،‬وإ نما جاءت أساساً كأداة للمخططات‬
‫االمبريالية المتعاقبة‪ ،‬والهادفة إلى السيطرة على الشرق األوسط بسبب موقعه الجغرافى'‪-‬‬
‫السياسى‪" ،‬كطريق إلى الهند" أول األمر‪ ،‬ثم بوصفه الحد الجنوبى لالتحاد السوفيتى السابق‪ ،‬وأخيراً'‬
‫بوصفه المنطلق للسيطرة على روسيا والصين وإ يران والهند‪ ،‬فضالً عن الثروة النفطية‪ .‬وتحتل‬
‫فلسطين موقعاً شديد األهمية فى هذه المخططات لتفصل مصر عن آسيا العربية وبما يسمح‬
‫بالسيطرة على قناة السويس‪.‬‬

‫ولهذه األسباب –وليس لغيرها‪ -‬اختارت بريطانيا' خالل الحرب العالمية األولى التذرع‬
‫بالصهيونية كأداة وذلك من خالل إعالن بلفور عام ‪ .1917‬وليس لهذا اإلعالن أية مشروعية‪ ،‬فلم‬
‫يكن من حق الدول المستعمرة السلطة القانونية أو األخالقية فى مصادرة حقوق الشعوب األصلية‬

‫‪18‬‬
‫الموضوعة تحت الحماية ولصالح مستوطنين أجانب سمح لهم بالقدوم‪ .‬ودعمت السلطات‬
‫البريطانية بقوة بناء "دولة يهودية داخل فلسطين المستعمرة"‪ ،‬مستخدمة فى ذلك كل الوسائل‬
‫المتاحة لها من إرهاب سياسى' وبوليسى‪ -‬عسكرى لتحطيم حركة التحرر الفلسطينية‪.‬‬

‫وفى' مايو ‪ 1948‬اعترفت األمم المتحدة بإسرائيل كدولة مستقلة‪ ،‬وفى وقت لم يكن ممثالً فى‬
‫المنظومة الدولية سوى عدد قليل من البلدان األفريقية واآلسيوية‪ ،‬ومع هذا فقد صوت معظمها ضد‬
‫تقسيم فلسطين‪.‬‬

‫وكان العرب على صواب من الناحية األخالقية فى رفضهم' لمبدأ التقسيم‪ ،‬وكذا أولئك‬
‫الفلسطينيون الذين بدوا سابقين لعصرهم' وناضلوا من أجل دولة فلسطينية موحدة تشمل‬
‫المستوطنين الجدد وتحترم جميع الجماعات‪ .‬ولكن األمر ما زال بحاجة للنقاش عما إذا كان رفض‬
‫التقسيم الخيار األكثر فعالية من الناحية التكتيكية‪ .‬فمن المؤكد أن التقسيم قد ساعد المستوطنين‬
‫األجانب فى تصوير' حربهم' العدوانية التوسعية على أنها عمل "دفاعى"‪.‬‬

‫إن انضمام' اسرائيل لألمم المتحدة كان يجب أن يتسق والمعايير الدولية‪ ،‬وبخاصة أن يكون‬
‫للدول حدود معترف بها‪ .‬ومن ثم فإن عضوية اسرائيل مرهونة باعتراف من حكومتها' بهذه‬
‫الحدود‪ .‬ولكن هذا االعتراف لم يأت قط‪ .‬ولهذا فمن الواجب من الناحية القانونية طرد اسرائيل من‬
‫الجماعة الدولية‪.‬‬

‫رأسا على عقب‪ ،‬فهى التى ال‬‫ومع ذلك‪ ،‬فإن إسرائيل لم تطرد‪ ،‬بل سمح لها بأن تقلب األمور ً‬
‫تعترف' بشرعية قرارات األمم المتحدة‪ ،‬وهى الدولة الوحيدة التى سمح لها بهذا‪ .‬فقد دأبت إسرائيل‬
‫على رفض قرارات األمم المتحدة ألكثر من نصف قرن‪ ،‬ومع هذا لم تطبق عليها أية عقوبات‪ ،‬بما‬
‫فيها مثالً القصف الكثيف الذى استخدم ضد دول أخرى‪ ،‬وألسباب أقل أهمية فى أغلب األحوال‪.‬‬

‫وفيما' بعد أخذت اإلمبريالية األمريكية على عاتقها "حماية إسرائيل"‪ .‬وفى' عام ‪ 1965‬تم‬
‫التخطيط' فى واشنطون لحرب ‪ 1967‬بهدف تحطيم' الجهود الناصرية لتحقيق تنمية مستقلة‪ .‬ولم‬
‫تكتف إسرائيل بالرفض الثابت لالنسحاب من فلسطين المحتلة وتنفيذ قرارات األمم المتحدة‪ ،‬وإ نما‬
‫أنشأت بطريقة منهجية مستوطنات جديدة فى المناطق' المحتلة‪ .‬ورغم هذه السياسة التوسعية لم‬
‫تفرض على إسرائيل أية عقوبات دولية‪ ،‬كما لم تفكر قط أية دولة غربية فى خفض دعمها المالى‬
‫لهذه الدولة التى يصعب تصور قدرتها على الحياة ولو ألسابيع قليلة بدون هذا الدعم‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫هذا وقد' أقدمت حركة التحرر الوطنى' الفلسطينية –ممثلة فى منظمة التحرير' الفلسطينية‪ -‬على‬
‫تقديم تنازالت ضخمة من أجل الوصول إلى حل سلمى معقول‪ ،‬وذلك حينما اعترفت بوجود'‬
‫اسرائيل كأمر واقع‪.‬‬

‫لقد قبل الفلسطينيون بأن تتشكل دولة اسرائيل من معظم أراضيهم (وأجودها')‪ .‬ووقعوا' اتفاقاً‬
‫فى أوسلو عام ‪ 1993‬ينص على انسحاب اإلسرائيليين من األراضى' المحتلة وفقاً لجدول زمنى‬
‫محدد‪ .‬وهو االتفاق الذى لم تحترمه أى من الحكومات اإلسرائيلية الخمس التى تعاقبت على‬
‫السلطة منذ توقيع' هذا االتفاق‪.‬‬

‫ويقال إن باراك رئيس الوزراء االسرائيلى السابق قد قدم "عرضاً سخياً" للفلسطينيين أثناء‬
‫مفاوضات كامب ديفيد‪ .‬وليس فى هذا أى شىء من الحقيقة حيث يقسم عرض باراك الدولة‬
‫الفلسطينية إلى أربعة أقسام' صغيرة تفصل بينها كتل من المستوطنات' الجديدة‪ ،‬كما يبقى على‬
‫االحتالل العسكرى' االسرائيلى' بطول نهر األردن‪ ،‬ويضم إلى إسرائيل معظم أراضى القدس‬
‫الشرقية‪ ..‬وكان العرض تراجعاً مرفوضَاً'ًَ عن اتفاق أوسلو‪ ،‬وهو ال يزال مرفوضاً' حتى اآلن‪.‬‬

‫أما أرييل شارون فهو مجرم ثبتت تماماً مسئوليته عن المذبحة التى وقعت للفلسطينيين فى‬
‫صابرا' وشاتيال‪ .‬وطبقا للمبادىء الحاكمة للجماعة الدولية يجب إلقاء القبض عليه ومحاكمته أمام‬
‫محكمة جنائية دولية‪ .‬ولكن شارون يتقاسم مع جورج دبليو بوش وجهات النظر فى معظم األمور‪،‬‬
‫وهو فى وضع سمح له باالستفادة من التشوش الناجم عن أحداث ‪ 11‬سبتمبر ‪ 2001‬لقلب "عملية‬
‫السالم" التى بدأت فى مدريد' وأوسلو‪ ،‬من خالل إعادة احتالل المناطق' الفلسطينية ذات سلطة الحكم‬
‫الذاتى المحدود باسم ما تسمى "الحرب على اإلرهاب"‪ ،‬كما اضطلع شخصياً بالتخطيط' للمذابح التى‬
‫وقعت فى جنين ورام اهلل وبيت لحم وغيرها‪ ،‬مستهدفاً' تحقيق "الحل النهائى" الصهيونى‪ ،‬أال وهو‬
‫إخراج الفلسطينيين من فلسطين‪.‬‬

‫إن شارون هنا ال يقوم بأى عمل جديد‪ ،‬فكما الحظنا من قبل فإن باراك قد بدأ االنقالب على‬
‫"عملية السالم"‪ .‬بل إن إسرائيل قد تأسست وتوسعت' دائماً من خالل مصادرة حقوق الفلسطينيين‬
‫وانتزاع' أراضيهم' وطرد' مالكها األصليين‪ ،‬ويمثل التطهير' العرقى' لب السياسات اليومية لهذه‬
‫الدولة‪ ،‬وهو ما مارسته حكومات حزب العمل بنشاط' أكبر حتى من حكومات اليمين‪ .‬وقد بدأت‬
‫هذه السياسة مبكراً بمذابح دير ياسين (‪ )1948‬وغيرها‪ ،‬والتى تبعها الطرد الجماعى لعشرات‬
‫اآلالف من الفلسطينيين الذين تنكر عليهم اسرائيل حق العودة الذى كفله القانون الدولى‪ .‬وقعت هذه‬
‫األحداث بعد ثالثة أعوام فقط من انتهاء الحرب العالمية الثانية والتى وقع اليهود األوربيون خاللها‬

‫‪20‬‬
‫ضحية للبربرية النازية‪ .‬والنتيجة التى يمكن استخالصها من هذه المالحظة أنه ال يوجد مصل‬
‫يحول دون تحول الضحايا إلى سفاحين بدورهم‪ '،‬وحيث تواصلت المذابح من دير ياسين إلى جنين‪.‬‬

‫يتردد' كثيراً القول بأن إسرائيل "دولة ديمقراطية" ولكن ما معنى تلك الديمقراطية التى تقوم‬
‫على األبارتهيد والتمييز ضد المواطنين العرب فى إسرائيل ليس فقط بحكم األمر الواقع وإ نما بحكم‬
‫القانون أيضاً‪ ،‬فضالً عن تقديم تصور للسلطة الفلسطينية كشرطة معاونة إلجبار الفلسطينيين على‬
‫قبول وضعية البانتوستانات (انتظاراً' لطردهم فى أفضل األحوال)‪ .‬إن إسرائيل دولة عنصرية‪،‬‬
‫دولة أبارتهيد‪ ،‬وال يمكن تبرير' هذا على اإلطالق من زاوية دعم أغلبية السكان ذوى االمتيازات‬
‫لها‪ ،‬فكثيراً ما أيدت األغلبية العديد من النظم الكريهة فى ظل ظروف معنية‪.‬‬

‫إن المهمة الحقيقية الوحيدة اليوم هى ضمان انسحاب إسرائيل من األراضى' التى تحتلها‪،‬‬
‫واالعتراف' بحق العودة للفلسطينيين المطرودين من ديارهم‪.‬‬

‫لقد حفلت رطانة بوش وشارون بقلب األوضاع حينما ركزت على مسألة ما تسميه "العنف"‬
‫و"االرهاب"‪ .‬عنف وإ رهاب ضد من؟ فاالحتالل اإلسرائيلى' هو الذى يستند فى ممارساته اليومية‬
‫على العنف واإلرهاب‪ .‬أما العنف الذى يلجأ اليه الفلسطينيون فهو رد فعل عليه‪ ،‬ومن ثم فهو عنف‬
‫مشروع' تماماً‪ ،‬طالما ظل حق مقاومة القهر أحد الحقوق األساسية للشعوب‪ .‬وإ ذا كان جيش‬
‫االحتالل اإلسرائيلى' ينشط خارج حدوده فلماذا ال يعمل الفلسطينيون داخل إسرائيل؟ وإ ذا كانت‬
‫بعض صور الممارسات الفلسطينية يمكن أن تخضع للمناقشة‪ ،‬ومن زاوية فعاليتها بشكل خاص‪،‬‬
‫إال أنه ال يمكن بأى منطق المساوة بين عنف القاهرين وعنف المقهورين؟ وإ ذا طالبنا الطرفين‬
‫بإيقاف العنف دون المطالبة بأسبقية انسحاب الجيش اإلسرائيلى‪ '،‬فإن هذا يعنى وبكل بساطة‬
‫االنحياز' الستراتيجية بوش‪ -‬شارون‪.‬‬

‫إن الشعوب األفريقية واآلسيوية لتدرك بسهولة جوهر المشكلة فى فلسطين‪ .‬إذ إن االستعمار‬
‫والمستوطنين البيض والعنصرية واألبارتهيد كانت قاسماً مشتركاً' فى تاريخ هذه الشعوب‪ ،‬كما‬
‫كانت إسرائيل الصديق الصدوق لنظام األبارتهيد'‪ .‬لذا أيدت أفريقيا وآسيا نضال الفلسطينيين من‬
‫أجل التحرر الوطنى'‪ .‬وحينما أدانت مجموعة الـ (‪ )77‬ودول عدم االنحياز' (العالم الثالث)‬
‫الصهيونية فى الجمعية العامة لألمم المتحدة‪ ،‬بوصفها مساوية للعنصرية‪ ،‬فإنها بذلك كانت تعبر‬
‫عن تقييم صحيح لأليديولوجية الحاكمة لدولة "المستوطنين البيض" االستعمارية‪.‬‬

‫غير أن هذا لم يكن الحال بالنسبة ألوربا‪ ،‬ويبدو أن هناك سببين وراء هذا‪ .‬إذ تتقاسم مجموعة‬
‫الـ (‪ )7‬أو "الثالوث" (الواليات المتحدة وكند وأوربا' واليابان) رؤية "امبريالية جماعية" عامة فيما‬

‫‪21‬‬
‫يتعلق بعالقاتها بشعوب الجنوب‪ .‬وينطبق' هذا على كل من الحكومات "اليسارية" –بالمعنى‬
‫االنتخابى'‪ -‬أو اليمينية‪ .‬فكل منهما تؤيد ما تعتقد أنه من متطلبات العولمة النيوليبرالية (أى الدفاع‬
‫عن مصالح رأسمالية الشركات المسيطرة متعدية القوميات)‪ .‬وتشترك' جميع هذه الحكومات فى‬
‫االهتمام بمصالح استراتيجية واحدة‪ ،‬ومن بينها "السيطرة" على الشرق األوسط‪ ،‬كما قبلت بزعامة‬
‫الواليات المتحدة فى هذا الصدد‪ ،‬ومن ثم فقد اعتبرت إسرائيل حليفاً مفيداً فى هذا المشروع‪.‬‬

‫ويعتبر' هذا االتجاه السائد وسط' المؤسسات' الحاكمة فى بلدان مجموعة الـ (‪ )7‬ذا أهمية بالغة‬
‫فى تفسير موقف' هذه الحكومات من المسألة الفلسطينية‪ ،‬وهو عامل أكثر أهمية من الثقل الذى‬
‫يعزى دائماً للوبى اليهودى' (والذى يجب وصفه بالصهيونى' ألن العديد من اليهود ليسوا مساندين‬
‫للصهيونية)‪.‬‬

‫وإ ذا استطاعت مجموعة الـ (‪ )7‬أن تطور رؤية أخرى لعالقاتها' مع الجنوب فإن تأييدها‬
‫إلسرائيل سوف يختفى بين عشية وضحاها‪ ،‬مهما بلغ ثقل اللوبى الصهيونى‪ .‬أما السبب الثانى‬
‫للتشوش بشأن القضية الفلسطينية فتكمن جذوره فى التاريخ األوربى‪ '،‬وخاصة معاداة السامية التى‬
‫ادت إلى جرائم النازى‪ ،‬وهى ظاهرة أوربية أفرزت الصهيونية كرد فعل عليها‪ .‬وأياً كانت‬
‫االستجابة األوربية تجاه هذا التاريخ‪ ،‬فمما ال شك فيه أن المسئولية الكاملة عن هذا التاريخ يجب‬
‫أن تتحملها الشعوب األوربية وحدها‪ .‬وإ ذا كان من الضرورى خلق دولة اسرائيل كحل لهذه‬
‫المسألة‪ ،‬فقد كان من األولى أن تقوم فى مكان ما من أوربا‪ ،‬إذ إن الشعب الفلسطينى ال يجوز أن‬
‫يتحمل تبعات معادة السامية فى أوربا‪ .‬غير أن األوربيين يرون من المناسب أن يكفروا عن‬
‫أخطائهم' على حساب اآلخرين‪ ،‬بل واألدهى من ذلك استخدام' الصهيونية كأداة فى مخططاتهم'‬
‫اإلمبريالية‪ .‬وهو االتجاه‪  ‬الذى يجب على الديمقراطيين األوربيين (وفى' أمريكا الشمالية) أن‬
‫يدركوا' أنه لم يعد مقبوالً‪.‬‬

‫ولقد برهنت الدعاية الصهيونية على كفاءتها فى استغالل هذا الوعى المتردى لألوربيين‪،‬‬
‫وخاصة "صناعة الهولوكوست" التى حللها نورمان فنكلشتين وفضحها' تماماً‪.‬‬

‫وربما' يمكن للمرء أن يضيف إلى السببين السابقين ذلك التعاطف' الطبيعى' الذى يمكن أن يلقاه‬
‫االستعمار' الصهيونى من دولة مثل الواليات المتحدة والتى بنيت من خالل إبادة السكان األصليين‬
‫على أيدى المستوطنين البيض‪ .‬ومع ذلك فإن هذا التعاطف' الطبيعى' ما قدر له أن يكون مؤثراً ما‬
‫لم تكن المؤسسة الحاكمة فى الواليات المتحدة تجد مصلحة استراتيجية فى تحالفها مع إسرائيل‪.‬‬
‫فمن المؤكد أن هذه المؤسسة ال ترعوى عن اللجوء ألية حجة للدفاع عن مصالحها'‪ .‬يكفى فقط‬

‫‪22‬‬
‫التذكير بموقف' أيزنهاور عام ‪ 1956‬حينما وقف ضد إسرائيل بهدف اإلجهاز على النفوذين‬
‫البريطانى والفرنسى فى الشرق األوسط‪.‬‬

‫أخيراً‪ ...‬هل يمكن أن تتغير إسرائيل نفسها؟ هل ترتضى لنفسها دوراً تاريخياً' آخر غير أن‬
‫تكون رأس رمح لإلمبريالية الغربية؟‬

‫إن هذا يمكن أن يكون موضوعاً لجدل تاريخى' مهم‪ .‬أذكر أن اليهود الالجئين لمصر إبان‬
‫الحرب العالمية الثانية هرباً من اضطهاد النازى‪ ،‬كانوا يلقون الترحيب‪ ،‬انطالقا' من التعاطف مع‬
‫أناس لفظتهم ظلماً المجتمعات التى نشأوا بها ويرغبون فى القدوم للعيش فى الشرق‪ .‬لم ال وقد'‬
‫هناك مليون يهودى' آنذاك يعيشون فى فلسطين‪ .‬هكذا بدا األمر وقتها‪ .‬ولكنهم' لألسف بمجرد أن‬
‫وصلوا' فلسطين خضعوا لتنظيم وتحكم المؤسسة الصهيونية‪ ،‬حيث تم تعليمهم كيف يتصرفون‬
‫كمستوطنين بيض‪ ،‬وهذا بالضبط' ما قاموا' به‪.‬‬

‫واآلن‪ ،‬إذا كان الفلسطينيون قد قبلوا بوجود دولة اسرائيل فماذا لو قبل اإلسرائيليون بالمثل‬
‫قيام دولة فلسطينية؟ وحتى إذا تطلب هذا عمالً دولياً ما‪ ،‬فهل يمكن لهذا المنعطف' الجديد أن يخلق‬
‫إمكانية لمسار آخر فى العالقة بين الشعبين‪ .‬أعتقد ذلك‪.‬‬

‫لكن لن يحدث شىء من هذا بدون انسحاب إسرائيل أوالً من األراضى' الفلسطينية التى احتلتها‬
‫عام ‪ .1967‬وهذا هو الهدف الذى يجب أن تحتشد من أجله القوى الديمقراطية فى العالم وفى‬
‫اسرائيل نفسها‪ .‬‬

‫عن الصين‪:‬‬

‫‪ ‬‬

‫هل "اشتراكية السوق"‬

‫‪ ‬‬

‫مرحلة في التحول االشتراكي الطويل‪،‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪23‬‬
‫أم طريق مختصر نحو الرأسمالية؟‬

‫‪ ‬‬

‫بقلم د‪ .‬سمير أمين‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫ه ''ذا المق ''ال اس ''تمرار لمق ''ال س ''ابق ُكتب ع ''ام ‪ ،2000‬تحت العن ''وان‪" :‬النظرية والتط ''بيق' لمش ''روع'‬
‫الصين الشتراكية السوق"‪ .‬وي''دل التق''ارب بين عن''واني المق''الين على أن دواعي انش''غالي به''ذا الش''أن‬
‫لم تتغير‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وقد' تُرجم مقالي السابق إلى اللغة الصينية‪ ،‬األمر الذي أعطاني الفرصة‪ ،‬خالل زيارة جديدة‬
‫للصين عام ‪ ،2002‬لالطالع على تعليقات بعض المثقفين الصينيين‪ ،‬خاصة ممن يتمسكون بالتطلع‬
‫لمستقبل من االشتراكية لبالدهم‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪  .1‬ولم يتغير السؤال األساسي الذي طرحته منذ ‪ ،1980‬أي منذ بدأت الصين‪ ،‬تحت قيادة دنج‬
‫شياو بنج اختيارها' لنوع من "اقتصاد' السوق'"‪ ،‬والذي وصل بها إلى ما هي عليه اآلن‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فقد طرحت هذا التساؤل‪ ،‬استناداً إلى نقد "النموذج السوفييتي'" كما تحقق في‬
‫"االشتراكية القائمة بالفعل"‪ ،‬وذلك قبل انهيار االتحاد السوفييتي' بأكثر من عشر سنوات‬
‫(س‪ .‬أمين‪" ،‬ثالثون عاماً من نقد السوفييتية")‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وما زال هذا السؤال قائماً‪ ،‬وسيبقى كذلك لمدة طويلة‪ .‬ولكنه يجب أن يبقى ـ أو كان يجب أن يبقى ـ‬
‫في قلب اهتمام جميع أولئك الذين‪ ،‬نظراً لعدم إيمانهم بفضائل الرأسمالية‪ ،‬التي باتت تدعي تمثيل‬
‫عقل اإلنسانية عابر التاريخ‪ ،‬وبالتالي تمثل "نهاية التاريخ"‪ ،‬يستمرون في االنشغال بالتفكير في ما‬
‫بعد هذا النظام‪ ،‬وفي متطلبات‪ ،‬وإ مكانيات قيام بناء اجتماعي جديد‪ ،‬أرقى‪ ،‬نظام اشتراكي'‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫‪ ‬‬

‫وكثيراً' ما يستغرق التاريخ وقتاً أكثر مما نتوقع‪ ،‬أو نتمنى‪ ،‬فالموجة األولى من التجارب التي‬
‫حاولت بناء االشتراكية‪ ،‬على األقل في مراحلها األولى‪ ،‬والتي استغرقت' الجزء األكبر من القرن‬
‫الماضي‪ ،‬قد استنفذت طاقتها' الكامنة‪ ،‬وتآكلت‪ ،‬بل انهارت في بعض الحاالت‪ ،‬أو أثارت الشكوك‬
‫في مصداقيتها'‪ .‬وستتلوها' موجة ثانية بالتأكيد‪ ،‬ولكنها لن تكون "تكراراً" للسابقة‪ ،‬ال فقط ألنه من‬
‫الضروري االستفادة من التجارب السابقة الفاشلة ‪ ،‬وإ نما ألن العالم (الرأسمالي') قد تغير هو‬
‫اآلخر‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإذا دققنا النظر‪ ،‬سنجد أن الموجة األولى من التحوالت الرأسمالية‪ ،‬التي جرت‬
‫في المدن اإليطالية في عصر النهضة‪ ،‬قد أُجهضت‪ ،‬ولكن موجة تالية تبعتها‪ ،‬تركزت هذه المرة‪،‬‬
‫في الجزء الشمالي الغربي من أوروبا المتاخم لألطلنطي‪ ،‬وهي التي أفرخت الرأسمالية التاريخية‬
‫بأشكالها' األساسية الباقية حتى اليوم‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وهكذا يحتل الجدل حول مستقبل االشتراكية مكاناً مركزياً' وحياً‪ ،‬ويمكن أن يلم هذا الجدل بالزوايا‬
‫المتعددة للواقع االجتماعي المعقد‪ ،‬وما يتيحه من فرص للتحليل‪ ،‬والتحرك نحو التغيير وعليه أن‬
‫يفعل ذلك‪ .‬وسأقتصر' في هذا المقال‪ ،‬كما في مقالي السابق‪ ،‬على النظر في هذا السؤال المركزي‬
‫من منطلق ما يثيره تطور' الصين من تأمالت‪ .‬مع األخذ في االعتبار‪ ،‬أن هذا السؤال نفسه‪،‬‬
‫مطروح' على منابر أخرى‪ ،‬ومن زوايا' مختلفة‪ ،‬وعلى أساس النظر في تجارب أخرى‪ ،‬سواء‬
‫أكانت متعلقة بفيتنام وكوبا‪ ،‬أو بالعالم السوفييتي السابق‪ ،‬أو باالشتراكية الديمقراطية في البلدان‬
‫الرأسمالية المتقدمة‪ ،‬أو حتى باألنظمة الشعبوية الوطنية الراديكالية في بلدان العالم الثالث‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫والسؤال' المركزي' الذي أطرحه هنا هو‪ :‬هل تتطور' الصين نحو نظام ُمثبَّت من الرأسمالية‪ ،‬أو هل‬
‫ما زالت تسير نحو مستقبل ممكن من التحول إلى االشتراكية؟‬

‫‪ ‬‬

‫وال أنظر في هذه القضية من وجهة نظر االحتماالت "المتوقعة"‪ ،‬وإ نما أنظر إليها من وجهة نظر‬
‫مختلفة تماماً‪ ،‬وهي‪ :‬ما التناقضات والصراعات التي تجري في الصين المعاصرة؟ ما‪  ‬نقاط القوة‬
‫والضعف' في الطريق المتبع (وهو رأسمالي إلى حد كبير)؟ وما نقاط القوة في يد القوى المعادية‬

‫‪25‬‬
‫للرأسمالية (الساعية نحو االشتراكية‪ ،‬على األقل)؟ وما هي الشروط النتصار الطريق الرأسمالي‪،‬‬
‫وما أشكال الرأسمالية المثبتة بدرجة أو بأخرى التي يستطيع إقامتها؟ وما الظروف التي تسمح‬
‫للحظة الراهنة أن تنعطف' في اتجاه يسمح لها بأن تصبح مرحلة (طويلة) في االنتقال (األكثر‬
‫طوالً) تحو االشتراكية؟‬

‫‪ ‬‬

‫وال تستطيع' الروح النضالية‪ ،‬التي تضع قدراتها' التحليلية في خدمة نضالها من أجل التغيير أن‬
‫تتجنب تقدير التوقعات‪ ،‬على األقل لضرورة حساب فرص نجاح الخط الذي تعارضه في مقابل‬
‫الخط الذي تتبناه‪ .‬ولكنها‪ ،‬بنفس القدر‪ ،‬ال تستطيع االكتفاء "بتوقع' المستقبل" كما قد يفعل مراقب‬
‫محايد‪ .‬بل سينصب اهتمامها األساسي على كيفية التأثير على مجرى التاريخ‪ ،‬ويلزمها لذلك‪ ،‬عدم‬
‫االكتفاء بمجرد قراءة مسار التطور'‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪  .2‬لقد اختارت الطبقة الحاكمة الصينية الطريق' الرأسمالي‪ ،‬إن لم يكن منذ أيام دنج‪ ،‬فعلى األقل‬
‫بعده‪ ،‬ولكنها ال تعترف بذلك‪ .‬والسبب في ذلك أنها تستمد شرعيتها بالكامل من الثورة‪،‬‬
‫وهي ال تستطيع' التنكر لهذه الثورة‪ ،‬ألن هذا التنكر يعني االنتحار‪ .‬لقد كانت الثورة‬
‫الصينية‪ ،‬مثلها في ذلك مثل الثورة الفرنسية‪ ،‬الحدث األكبر‪ ،‬واالنقطاع الحاسم في تاريخ‬
‫الشعبين‪  .‬ويعود' الفضل في دخول كال الشعبين الحاسم والواعي من أبواب التاريخ إلى‬
‫هاتين الثورتين‪ ،‬مهما شابهما من قصور‪ ،‬بل من اإلحباط من بعض النواحي‪ .‬وهاتان‬
‫الثورتان "مقدستان"‪ ،‬مهما حاول بعض المثقفين الرجعيين النيل منهما‪ ،‬أو حتى إنكار‬
‫مداهما‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫بناء على األفعال ال األقوال‪.‬‬


‫ولكننا يجب أن نحكم على البشر ـ والقوى السياسية التي يمثلونها ـ ً‬
‫ولما كان ذلك كذلك‪ ،‬يصبح السؤال الواجب اإلجابة عنه متعلقاً بمستقبل هذا االختيار األساسي‬
‫القائم في الواقع‪ .‬إن المشروع الحقيقي للطبقة الحاكمة الصينية ذو طبيعة رأسمالية‪ ،‬وبذلك تكون‬
‫"اشتراكية السوق'" مجرد طريق مختصر لبناء الهياكل األساسية للرأسمالية ومؤسساتها‪ ،‬مع التقليل‬
‫بقدر اإلمكان من االحتكاكات واآلالم المصاحبة للتحول إلى الرأسمالية‪ .‬وهذا األسلوب يقف على‬
‫خط النقيض من األسلوب الذي اتبعته الطبقة الحاكمة الروسية التي اختارت التنكر للثورة‬

‫‪26‬‬
‫والتطورات الالحقة لها والتي سمحت لها بالتحول إلى طبقة جديدة مرشحة ألن تصبح برجوازية‪.‬‬
‫وتتبع الطريقة الروسية أسلوب "العالج بالصدمة"‪ ،‬وال يمكن الجزم بأن التاريخ سيسمح لهذه الطبقة‬
‫بتحقيق النجاح بهذه الطريقة‪ ،‬وبناء شكل مدعم من أشكال الرأسمالية يضمن لها االحتفاظ (لبعض‬
‫الوقت) بسلطتها' الطبقية‪ ،‬وهذا ليس موضع اهتمامي هنا‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫جزء كبيراً من هذه الطبقة‬


‫ً‬ ‫لقد اختارت الطبقة الحاكمة الصينية طريقاً جد مختلف‪ .‬وأعتقد أن‬
‫يعرف أن الخط الذي تحاول السير به لألمام يؤدي' إلى الرأسمالية‪ ،‬وهو يتمنى ذلك‪ ،‬حتى وإ ن كان‬
‫جزء آخر (في األقلية بالتأكيد')‪ ،‬ما زال أسيراً للحديث الرنان حول "االشتراكية بالطريقة الصينية"‪.‬‬
‫وتعرف' الطبقة الحاكمة الصينية كذلك ـ على األرجح ـ أن شعبها متمسك "بقيم االشتراكية"‬
‫(والمساواة على رأسها)‪ ،‬وبالمكتسبات الحقيقية التي ارتبطت بهذه القيم ( وخاصة حق جميع‬
‫الفالحين في الحصول على األرض)‪ .‬وهي تعرف‪ ،‬لذلك‪ ،‬أن عليها أن تتقدم نحو الرأسمالية بكل‬
‫الحيطة‪ ،‬والتأني المحسوب‪.‬‬

‫‪         ‬‬

‫وهنا يصبح السؤال هو معرفة ما إذا كانت ستتمكن من تحقيق أهدافها‪ ،‬وماذا ستكون عندئذ‪،‬‬
‫السمات (المتميزة أو غير ذلك) للرأسمالية الصينية في طريق البناء‪ ،‬وخاصة مدى ثباتها‪ .‬أما‬
‫القول بأن "الشعب الصيني لن يسمح بذلك"‪ ،‬فهي إجابة غير مقنِعة حتى وإ ن كان ذلك ـ بصفة عامة‬
‫ـ ليس أمراً مستحيالً‪ ،‬ويتمناه الكثيرون‪ ،‬بل يناضلون لتحقيقه‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وللسير' قدماً في المناقشة‪ ،‬يجب أن نتعمق في تحليل تناقضات الخط الرأسمالي‪ ،‬وفي' نقاط الضعف‬
‫والقوة لديه‪ ،‬وما يستطيع تقديمه في مجاالت النمو االقتصادي‪ ،‬والتنمية‪ ،‬وتحسين الظروف‬
‫االجتماعية‪ ،‬ومستوى' المعيشة‪ ،‬وما ال يستطيع تقديمه‪ .‬وهنا أيضا ال يجوز' االكتفاء بترديد القول‬
‫بأن النظام الرأسمالي' يقوم على أساس استغالل العمال‪ ،‬وإ دانته لهذا السبب‪ .‬وهذا القول حقيقي‪،‬‬
‫ولكنه ال يمنع من استمرار' النظام الرأسمالي‪ ،‬وتمتعه بالشرعية حتى في نظر الكثيرين ممن‬
‫يستغلهم'‪ .‬فالطريق' الرأسمالي' يحتفظ بقوته‪ ،‬وبالتالي بجزء كبير من شرعيته‪ ،‬وثبات هياكله‪ ،‬بفضل‬
‫قدرته على تحقيق نمو اقتصادي' توزع' مكاسبه المادية على الكثيرين وإ ن بكثير من التفاوت‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫‪ ‬‬

‫يتوقف بناء‪ ،‬وطبيعة‪ ،‬وشكل الهيكل الرأسمالي‪ ،‬ودرجة ثباته‪ ،‬على "التنازالت التاريخية المتبادلة"‬
‫بين التحالفات االجتماعية للكتل السائدة التي تتوالى على رأس النظام خالل تطوره‪ .‬لقد حددت‬
‫الظروف الخاصة لكل من هذه الطرق' التاريخية (اإلنجليزية‪ ،‬والفرنسية‪ ،‬واأللمانية‪،‬‬
‫واألمريكية‪ ،)...،‬السمات الخاصة بكل من هذه المجتمعات الرأسمالية المعنية‪ .‬والنجاح في تحقيق‬
‫هذه التطورات ـ المختلفة ـ هو الذي أدى إلى "تثبيت" الرأسمالية في بلدان المركز من النظام‬
‫الرأسمالي' العالمي (وهذا ال يعني أنها "أبدية"!)‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ما هي اإلمكانيات المتاحة أمام الطريق' الرأسمالي' في الصين اليوم؟ ليس من الصعب تصور' قيام‬
‫تحالفات بين سلطات الدولة‪ ،‬والطبقة الجديدة من "كبار الرأسماليين من القطاع الخاص" (وهم حتى‬
‫اليوم يتكونون أساساً من الصينيين من الخارج‪ ،‬مع عدم استبعاد' ظهور' طبقة مناظرة من صينيي‬
‫الداخل)‪ ،‬والفالحين في المناطق التي زاد ثراؤها بفضل أسواق الحضر‪ ،‬والطبقات المتوسطة‬
‫المزدهرة‪ ،‬فهذه التحالفات قائمة بالفعل‪ .‬ولكن هذه الكتلة السائدة ـ الممكنة أكثر من كونها قائمة‬
‫بالفعل ـ تستبعد' األغلبية العظمى من العمال والفالحين‪ .‬وعلى ذلك فالمقارنة مع التحالفات التاريخية‬
‫التي عقدتها بعض البرجوازيات مع الفالحين (ضد الطبقة العاملة)‪ ،‬وفيما بعد الحل الوسط'‬
‫التاريخي' بين البرجوازية والطبقة العاملة في ظل االشتراكية الديمقراطية‪ ،‬تبقى مفتعلة وهشة‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وهذا الضعف للكتلة السائدة الميالة للرأسمالية في الصين هو أساس الصعوبات' التي تواجه اإلدارة‬
‫السياسية للبالد‪ .‬وسأترك' هنا للمنظرين الدعاة األمريكان‪ ،‬أن يروجوا' لمقوالتهم' المبتذلة عن‬
‫المساواة بين الديمقراطية والسوق‪ ،‬فالرأسمالية تعمل أحياناً في مواكبة ممارسات سياسية ذات شكل‬
‫ديمقراطي' معين‪ ،‬طالما استطاعت أن تسيطر' على هذه الممارسات‪ ،‬وأن تمنع "االنحرافات'"‬
‫(المعادية للرأسمالية) التي تصاحب الديمقراطية بالضرورة‪ .‬فإذا لم تتمكن من ذلك‪ ،‬تخلت‬
‫الرأسمالية بكل بساطة عن الديمقراطية‪ ،‬ولم تجد أية غضاضة في ذلك‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪28‬‬
‫وتُعرض مشكلة الديمقراطية في الصين بعبارات أكثر تعقيداً‪ ،‬ويعود ذلك إلى ميراث الدولية الثالثة‬
‫(وتعاليم الماركسية اللينينية‪ ،‬والماوية)‪ ،‬ومفاهيمها' الخاصة عن "دكتاتورية البرولتاريا'"‪،‬‬
‫و"الديمقراطية االشتراكية" المزعومة‪ .‬وهذا ليس موضوعي هنا (وقد' عالجته في موضع آخر)‪.‬‬
‫ولكنه من الواضح أن من الصعب التوفيق بين هذه األشكال السياسية وبين االختيار' الرأسمالي'‬
‫الذي يتضح أكثر فأكثر‪ .‬وكيف' يحتفظ الحزب‪-‬الدولة باسمه (الحزب الشيوعي!)‪ ،‬وبانتمائه‬
‫لماركس وماو‪ ،‬مهما كان ذلك من باب الطنطنة اللفظية ليس إال!؟ وهل يمكن التخلي عن هذه‬
‫االنتماءات لصالح بعض أشكال "الديمقراطية الغربية" في ظروف' البالد؟ أشك في ذلك ال بسبب‬
‫االعتبارات التاريخية المتخطية للثقافة (من عينة‪" :‬أن الديمقراطية مفهوم غريب عن الثقافة‬
‫الصينية")‪ ،‬وإ نما بسبب أن الصراعات االجتماعية التي ينتظر أن تخوضها الطبقات الشعبية لن‬
‫تجعل ذلك ممكناً‪ .‬فعلى الصين أن تبتدع شكالً جديداً من الديمقراطية‪ ،‬يرتبط' باشتراكية السوق‬
‫بصفتها مرحلة من التحول طويل المدى نحو االشتراكية‪ ،‬وهو ما سأعود له الحقاً‪ .‬وإ ذا لم يحدث‬
‫ذلك‪ ،‬ال أجد مفراً من سلسلة ال تنتهي من أشكال الحكم األتوقراطي‪ ،‬تتخللها بعض مراحل‬
‫"الديمقراطية المحدودة" غير المستقرة‪ ،‬طبقاً للسائد في البلدان الرأسمالية من العالم الثالث‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وتتوقف' اإلمكانيات االقتصادية للطريق الرأسمالي في الصين‪ ،‬ومجموعة أشكال اإلدارة السياسية‬
‫المرتبطة بها ـ جزئياً على األقل ـ على ظروف اندماج هذه الرأسمالية في النظام الرأسمالي العالمي‬
‫القائم حاليُاً'ًُ ومستقبالً‪ ،‬وسأعود لهذا الموضوع' متعدد األبعاد الحقاً‪ .‬فاألمر' ال يتعلق باألبعاد'‬
‫االقتصادية لهذا االندماج فحسب‪ ،‬فاألبعاد الجيو سياسية لهذا االندماج ال تقل أهمية‪ .‬وكما هو‬
‫معروف‪ '،‬فقد صرحت الواليات المتحدة على لسان رؤسائها بوش األب‪ ،‬وكلينتون‪ ،‬وبوش االبن‪،‬‬
‫أنها لن تسمح بقيام قوة عظمى صينية‪ ،‬حتى لو كانت رأسمالية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ويزدهر الحديث الرنان عن تنوع أشكال الرأسمالية في أنحاء العالم اليوم‪ ،‬ويرتبط' هذا الحديث‬
‫كثيراً بإشارات أقرب إلى التعاويذ' إلى درجات مزعومة من الخصوصية‪ ،‬يستغلها البعض بدرجة‬
‫استثناء في هذا الشأن‪ ،‬ونادراً ما يجري التعبير‬
‫ً‬ ‫واضحة من االنتهازية السياسية‪ .‬والصين ليست‬
‫عن "الطريق الصيني" ـ وهو رأسمالي' دون اإلفصاح عن ذلك لدى البعض‪ ،‬واشتراكي' بالتأكيد' لدى‬
‫البعض اآلخر ـ بما يكفي من الدقة لمنع هذه االستخدامات االنتهازية‪ .‬‬

‫‪   ‬‬

‫‪29‬‬
‫التنوع من سمات الطبيعة‪ ،‬والقول بتنوع المجتمعات الرأسمالية يعتبر من نافلة القول‪ .‬وبالطبع'‬
‫تختلف الرأسمالية "الرينانية" (بدالً من القول الرأسماليتين الفرنسية واأللمانية ـلئال نغضب دعاة‬
‫التقارب الفرانكو‪-‬ألماني)‪ ،‬عن الرأسمالية "األنحلوسكسونية" (وحتى هنا نجد تفاوتاً بين الرأسمالية‬
‫اإلنجليزية وزميلتها' في الواليات المتحدة)‪ .‬ولهذا فضلت أن أنقل الجدل في الموضوع' من مستوى‬
‫وصف' الواقع إلى مستوى التحليل التاريخي للثقافات السياسية التي أنتجتها الصراعات االجتماعية‬
‫المصاحبة لنشأة الحداثة (انظر‪ :‬س‪ .‬أمين‪" ،‬ماركس والديمقراطية"؛ وس‪ .‬أمين‪" ،‬الرشاد")‪ .‬ودون‬
‫تكرار الحجج التي قدمتها' في تلك المناسبة‪ ،‬سأكتفي هنا بتلخيص مضمونها' بالتأكيد' على التباين‬
‫بين أيديولوجيتي أمريكا الشمالية وأوروبا'‪ .‬فاألولى ال تعترف' إال بقيمتين أساسيتين‪ ،‬وهما‪ :‬الملكية‬
‫الخاصة والحرية ( ونعني باألخيرة حرية استخدام' الملكية الخاصة بال قيود)‪ .‬أما الثانية فتعترف'‬
‫بقيمة للمساواة‪ ،‬يحتاج األمر إلى تنظيم' الصدام بينها وبين الحرية‪ ،‬بوضع بعض القيود على الملكية‬
‫(التي وضعت الثورة الفرنسية بدلها اإلخاء)‪ .‬بل لقد وضعت هذا التباين في قلب التناقض بين‬
‫أوروبا والواليات المتحدة‪ ،‬الذي ال أرجعه إلى تناقض بين مصالح رأس المال السائد‪ ،‬نظراً ألن‬
‫اإلمبريالية الجماعية للثالوث (الواليات المتحدة‪ ،‬وأوروبا‪ ،‬واليابان)‪ ،‬قد حلت محل اإلمبريالية‬
‫التاريخية (س‪ .‬أمين‪ ،‬ما بعد الرأسمالية الشائخة)‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وبنفس الدرجة من األهمية‪ ،‬إن لم يزد‪ ،‬يقوم التباين بين رأسماليات التخوم (وهي تختلف فيما بينها‬
‫في الزمان والمكان)‪ ،‬ورأسماليات' المركز‪ .‬وهو تباين تتغير أشكاله من مرحلة ألخرى من مراحل‬
‫ِ‬
‫المستقطب)‪ ،‬ولكنه تباين دائم التعمق‪ .‬وفي' هذا‬ ‫توسع رأس المال العالمي اإلمبريالي' دوماً (بمعنى‬
‫المجال‪ ،‬ال يختلف المستقبل عن الحاضر' أو الماضي‪ ،‬نظراً ألن االستقطاب من الطبائع األصيلة‬
‫للرأسمالية‪ .‬ولن أتوسع هنا في األشكال الجديدة من التباين بين المركز والتخوم التي تتشكل حول‬
‫االحتكارات الجديدة للمركز (التكنولوجيا‪ ،‬والحصول على الموارد' الطبيعية‪ ،‬واالتصال'‬
‫والمعلومات‪ ،‬والتحكم في النظام المالي العالمي‪ ،‬وأسلحة الدمار الشامل)‪ ،‬والتي تحل محل‬
‫االحتكارات الصناعية البسيطة للحقب الماضية‪ .‬وفي' هذا المجال‪ ،‬فإن الحديث عن "البلدان‬
‫البازغة" يعتبر من قبيل اللغو الفارغ‪ ،‬فاألمر يتعلق ببلدان هي أبعد ما تكون عن "اللحاق"‪ ،‬وإ نما‬
‫استثناء في هذا المجال‪.‬‬
‫ً‬ ‫هي تبني رأسمالية التخوم للغد‪ .‬والصين ليست‬

‫‪ ‬‬

‫‪30‬‬
‫والحديث عن البعد الثقافي‪ ،‬الحقيقي أو المزعوم‪ ،‬والتنوع الذي يفرضه على طرائق' الرأسمالية (أو‬
‫االشتراكية)‪ ،‬يتخذ شكالً طقسياً في التعبير‪ ،‬وانتهازياً في محاولة تبرير ما يدافع عنه‪ ،‬بقدر ما‬
‫يعتبر "الثقافة" ظاهرة ثابتة عابرة للتاريخ‪ ،‬وهو الفرض الضروري' لكل األصوليين (من بوش إلى‬
‫بن الدن)‪ .‬فلتجاهل هذه "الموضة" حتى نطرح السؤال الحقيقي‪ ،‬أال وهو التفاعل بين الحضارات‬
‫وتحولها' المستمر‪ ،‬وهما ظواهر' ال يعنى بها الخطاب السائد‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وبنفس الدرجة من االبتذال‪ ،‬التباين المزعوم بين "الرأسمالية العادية" (طبقاً للنموذج المثالي لفيبر)‪،‬‬
‫و "الرأسمالية الشعبية" التي يزعمون أن الملكية فيها موزعة‪ ،‬دون مساواة‪ ،‬ولكن على نطاق واسع‬
‫على األقل (حيث يكون المواطن عامالً ومالكاً ألسهم في الوقت نفسه‪ ،‬على طريقة نظرية "تراكم‬
‫الذمة المالية"‪ ،‬وغيره من أنواع الخطاب الرائجة هذه األيام)‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وعلى الرغم من جميع هذه التنويعات والمتغيرات‪ ،‬الماضي منها والمستقبل‪ ،‬المركزي منها‬
‫والهامشي‪ '،‬فإن الرأسمالية تفرض مجتمعاً (وليس مجرد اقتصاد') مؤسس على التغريب‬
‫(االستيالب) االقتصادي' والتجاري‪ ،‬وهو الناتج األصيل لخضوعها لمتطلبات التراكم‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪  .3‬واالشتراكية تعني قبل كل شيء تحرير' اإلنسانية‪ ،‬وبالتالي' بناء شكل من تنظيم المجتمع‬
‫متحرراً' من الخضوع' لمتطلبات التراكم الرأسمالي‪ ،‬وبذلك تكون االشتراكية والديمقراطية‬
‫غير قابلين لالنفصال‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ولن أكرر هنا ما كتبته في موضع آخر بشأن طبيعة نظامي العالم السوفييتي‪ '،‬والصين الماوية‪،‬‬
‫وأهدافهما األولية‪ ،‬ثم تطورهما (أو انحرافهما)‪ ،‬ومسئولية الظروف' في تحولهما تحت ضغط‬
‫ضرورة "اللحاق"‪ ،‬وكذلك بشأن أيديولوجيات الحركة العمالية واالشتراكية للدوليتين الثانية والثالثة‪.‬‬
‫أذكر فقط بأنني قد لفت النظر إلى عدم الوقوع في الخطأ التبسيطي بالخلط بين التخطيط‬ ‫ولكنني' ِّ‬
‫المركزي' الذي مورس كاستجابة ضرورية (وفعالة من وجهة نظري) للظروف اآلنية‪ ،‬وبين‬
‫"تحقيق االشتراكية"‪ ،‬كما ُز ِعم بعد ذلك (انظر المقال السابق)‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫‪ ‬‬

‫واالشتراكية "المتحققة"‪ ،‬إذا أمكن إطالق هذه التسمية على نظام اجتماعي معين‪ ،‬ال بد أن تكون‬
‫عالمية بأكثر من الرأسمالية (التي تنتج عالميتها الناقصة والمتحيزة‪ ،‬بالضرورة االستقطاب‬
‫المركز‪/‬التخوم األصيل في طبيعتها')‪ .‬وهذه االشتراكية ال يمكن وصفها مقدماً بتعبيرات ترسم‬
‫أشكاالً محددة من التنظيمات والمؤسسات المكتملة‪ ،‬وإ نما تعبر عنها المبادئ التي ُيفترض أن توجه‬
‫خيال الشعوب الخالق‪ ،‬وممارستها لسلطاتها التي تمنحها إياها ديمقراطية دائمة التعمق‪ ،‬وال نهاية‬
‫لها‪ .‬وعلى هذا المستوى‪ ،‬يقدم حلم اليوطوبيا الخالق الماركسي اإللهام (مع التسليم بأن كون المرء‬
‫ماركسياً' ال يعني التوقف' عند ماركس‪ ،‬وإ نما البدء به)‪ ،‬وكذلك الهوت التحرير‪ ،‬للتأمل‪ ،‬أكثر بكثير‬
‫مما تقدمه سوسيولوجيا' فقيرة تدعي أنها واقعية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وسيكون' الطريق' نحو هذه االشتراكية طويالً‪ ،‬وأكثر' طوالً (واختالفاً')‪ ،‬من الطرق التي تخيلتها‬
‫الدوليتان الثانية والثالثة (انظر س‪ .‬أمين‪" ،‬تحديات العولمة‪ ،‬الفصل األخير‪ :‬العودة لموضوع'‬
‫االنتقال") ومن هذا المنظور‪ '،‬يمكن أن تكون "اشتراكية السوق'" مرحلة أولى في هذا الطريق'‪ .‬ولكن‬
‫هناك شروط' لتحقيق ذلك‪ ،‬أجملها في االقتراحات' الثالثة التالية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫األول هو خلق أشكال من ِ‬


‫الملكية الجماعية والمحافظة عليها ودعمها طوال عملية التطور'‬
‫االجتماعي‪ .‬ويمكن لهذه األشكال‪ ،‬بل يجب‪ ،‬أن تكون متعددة‪ :‬وتعود' إلى الدولة‪ ،‬وكذلك إلى‬
‫الجماعيات اإلقليمية‪ ،‬أو جماعيات العمال أو المواطنين‪ .‬ولكن لكي تعمل هذه الوحدات بكل‬
‫المسئولية التي يقتضيها نظام التبادل التجاري‪ ،‬يجب أن تكون أشكاالً حقيقية من الملكية (حتى إن‬
‫لم تكن خاصة)‪ ،‬وليس كتعبير عن سلطة غير واضحة المعالم‪ .‬وال أقبل في هذا الشأن‪ ،‬التبسيط‬
‫الملكية ِ‬
‫والملكية الخاصة‪ .‬وهذا‬ ‫السائد ـ الذي ابتدعه فون ميزس‪ ،‬وفون هايك ـ بالتسوية بين ِ‬
‫التبسيط' المخل ينبع من الخلط بين التخطيط' المركزي' على النمط السوفييتي واالشتراكية‪ .‬وهنا نجد‬
‫النقيضين يقفان على أرضية واحدة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فسيادة الملكية الجماعية ال تستبعد تخصيص مكان‬
‫للملكية الخاصة‪ ،‬ال فقط "الملكية الصغيرة" المحلية (حرفيون‪ ،‬وشركات' صغيرة ومتوسطة‪ ،‬وتجارة‬
‫وخدمات صغيرة)‪ ،‬وإ نما كذلك‪" ،‬شركات كبيرة"‪ ،‬بل ربما اتفاقات مع رأس المال الكبير متعدي‬
‫الجنسية‪ ،‬وذلك بشرط' التحديد الدقيق لإلطار الذي ُيسمح فيه لها بالعمل‪   .‬‬

‫‪32‬‬
‫‪ ‬‬

‫وذلك ألنه من الضروري' تقنين األسلوب الذي يمارس به دور "المالك" (الدولة‪ ،‬أو الجماعيات‪ ،‬أو‬
‫الخاص)‪ .‬ونصوغ هذا االقتراح الثاني هنا بشكل غير محدد‪ ،‬حيث يحتاج تحديده أن نأخذ في‬
‫االعتبار الظروف الموضوعية الملموسة في المراحل المتتالية‪ ،‬وفي' الوقت نفسه‪ ،‬الرؤية األبعد‬
‫للهدف االشتراكي‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬يجب أن يعني التقنين الجمع بين عاملين متصارعين هما‪:‬‬
‫متطلبات التراكم ذي الطبيعة الرأسمالية (رغم الطبيعة الجماعية للملكية)‪ ،‬والتفعيل المتتالي لقيم‬
‫االشتراكية (وأولها' المساواة‪ ،‬واندماج الجميع في عملية التغير‪ ،‬والخدمة العامة بأرقى معاني‬
‫الكلمة)‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ويتعلق' اقتراحي' الثالث بالديمقراطية‪ ،‬التي ال يمكن الفصل بينها وبين مفهوم التحرر‪ .‬وهنا ال تبقى‬
‫الديمقراطية وصفة نهائية موضوعة‪ ،‬وكل ما يلزم هو "تطبيقها"‪ ،‬وإ نما عملية مستمرة وغير‬
‫منتهية‪ ،‬وهذا ما يجعلني أفضل تعبير "المقرطة"‪ .‬وهذه تعني الجمع‪ ،‬بأشكال تزداد تعقيداً وغنى‬
‫باستمرار‪ ،‬بين المتطلبات الحتمية للتعبير عنها على شكل "إجراءات" محددة (أي بعبارة مبسطة‪،‬‬
‫دولة القانون)‪ ،‬وبمضمون "جوهري"‪ .‬وأعني بذلك قدرة عملية المقرطة هذه‪ ،‬على دعم تأثير قيم‬
‫االشتراكية على عملية اتخاذ القرار على جميع المستويات‪ ،‬وفي كل المجاالت‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫هل كان باستطاعة االتحاد السوفييتي' أن يتطور' في هذا االتجاه‪ ،‬أي أن يحقق إصالحات تتيح له‬
‫تجاوز' حدود التخطيط المركزي بالطريقة التي سار بها‪ ،‬ودولة الحزب‪ ،‬الذى أعلن نفسه "طليعة‬
‫المجتمع"؟ وينصب هذه السؤال اليوم‪ ،‬على الماضي‪ ،‬الذي يشير على أية حال‪ ،‬إلى أنه عندما اتجه‬
‫إلى "اإلصالحات"‪ ،‬لم يسر في هذا االتجاه‪ ،‬وإ نما عملت اإلصالحات على استمرار النظام الذي‬
‫كان قد وصل إلى نهاية حدوده التاريخية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫أما الصين الحالية‪ ،‬فقد خرجت فعالً عن نطاق "اشتراكية السوق" كما نحددها هنا‪ ،‬إذ تقدمت على‬
‫طريق' الرأسمالية‪ ،‬بقبولها ـ من ناحية المبدأ ـ فكرة إحالل الملكية الخاصة محل سيادة الملكية‬
‫الجماعية‪ ،‬والعامة‪ .‬ويؤكد الكثير من المنتقدين‪ ،‬وخاصة الصينيين منهم‪ ،‬أن "الوقت قد فات"‪،‬‬

‫‪33‬‬
‫ولديهم' من الوقائع الملموسة ما يدعم وجهة نظرهم‪ .‬وال أوافق' تماماً على وجهة النظر هذه‪ ،‬فطالما'‬
‫استمر االعتراف بالمساواة في حق الوصول' إلى األرض‪ ،‬واستمر تطبيقه عملياً‪ ،‬فإني ال أعتقد أن‬
‫الوقت قد فات لكي يؤثر' النضال االجتماعي على تطور لم ُيحسم بعد‪ .‬وهذه وجهة نظر وليام‬
‫ِهنتون كذلك‪ ،‬وسأقدم الحجج على ذلك في القسم التالي‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪  .4‬كان تعداد شعب الصين عام ‪ ،2000‬ألف ومائتي' مليون نسمة‪ ،‬ثلثاهم من سكان الريف (‬
‫‪ 800‬مليون)‪ .‬وال ُيتوقع' على اإلطالق أن يعمل نمو الحضر على تخفيض هذا العدد‬
‫بحلول عام ‪ ،2020‬أي خالل عشرين عاماً‪ ،‬حتى إن كانت نسبتهم' إلى عدد السكان الكلي‬
‫ستقل بعض الشيء‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وإ ذا افترضنا' معدالً للنمو السكاني مقداره ‪ % 1,2‬سنوياً‪ ،‬لبلغ عدد السكان عام ‪ ،2020‬ألف‬
‫وخمسمائة وعشرون مليوناً‪ .‬ولنسلم' بأن الصين ستحافظ' على معدل نمو لصناعاتها وخدماتها'‬
‫الحديثة في الحضر بمعدل سنوي' ‪ ،% 5‬وال يمكن تحقيق ذلك بمجرد التوسع الكمي (أي "ذات‬
‫الصناعات والخدمات" الحالية ولكن أكثر عدداً)‪ ،‬وإ نما بأسلوب أكثر كثافة عن طريق' رفع إنتاجية‬
‫العمل (بمعدل حوالي ‪ % 2‬سنوياً)‪ .‬وفي هذه الحالة سيرتفع العرض لفرص العمل بالحضر بمعدل‬
‫حوالي ‪ % 3‬سنوياً‪ ،‬وهذا يسمح للمناطق' الحضرية باستيعاب حوالي ‪ 720‬مليون فرد‪ .‬ويشمل هذا‬
‫العدد الحالي ذاته من سكان الحضر العاطلين عن العمل‪ ،‬أو الذين يمارسون أعماالً هامشية‪ ،‬أو في‬
‫القطاع غير الرسمي (وهو عدد ليس بالقليل)‪ ،‬ولكن نسبتهم' ستكون أقل من الحالية بكثير‪ ،‬وهي‬
‫نتيجة جيدة لحد كبير‪    .‬‬

‫‪ ‬‬

‫وبعملية طرح بسيطة‪ ،‬نجد أن سكان الريف سيبقون كما هم اآلن ‪ 800‬مليون فرد‪ ،‬ولكن نسبتهم'‬
‫إلى العدد الكلي ستهبط' من ‪ ،% 67‬إلى ‪ .% 53‬وإ ذا اضطر' هؤالء إلى الهجرة إلى المدن ألنهم‬
‫ال يستحوذون على األرض‪ ،‬فإن السبيل الوحيد أمامهم سيكون االنضمام' إلى سكان العشوائيات' في‬
‫المدن كما هو الحال منذ زمن طويل في بلدان العالم الثالث الرأسمالي'‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪34‬‬
‫وأي امتداد أطول للتقديرات (ألربعين عاماً مثالً) سيؤكد هذه النتائج‪ ،‬فحتى في حالة أكثر التوقعات‬
‫تفاؤالً بافتراض عملية تحديث وتصنيع قوية‪ ،‬ومستمرة ال تعرقلها' أية أحداث أو هزات سياسية أو‬
‫اقتصادية‪ ،‬وطنية أو عالمية‪ ،‬حتى لو كانت عابرة‪ ،‬ال يمكن توقع انخفاض نسبة سكان الريف إال‬
‫ببطء شديد‪ ،‬على مدى قرن كامل مثالً‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وهذه المشكلة ال تخص الصين وحدها‪ ،‬بل هي مشكلة العالم الثالث بأسره‪ ،‬أي ما يقرب من ثالثة‬
‫أرباع سكان العالم‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫يعمل حالياً بالفالحة البسيطة حوالي ‪ 3‬مليار من البشر‪ ،‬أي نصف سكان العالم‪ .‬وتنقسم' هذه‬
‫الفالحة بين تلك التي انتفعت من الثورة الخضراء (األسمدة‪ ،‬والمبيدات الحشرية‪ ،‬والتقاوي‬
‫المنتقاة)‪ ،‬وإ ن كانت ال تتمتع بمستوى عال من الميكنة‪ ،‬وتتراوح إنتاجيتها بين ‪ ،100‬و‪ 500‬قنطار'‬
‫(القنطار المترى يساوي ‪ 100‬كيلوجراماً) للعامل الواحد‪ ،‬وتلك التي لم تلحقها الثورة الخضراء‪،‬‬
‫وتتراوح إنتاجية الفرد فيها حول ‪ 10‬قنطار' للعامل‪ .‬أما الزراعة الرأسمالية التي تخضع لمبدأ‬
‫ربحية رأس المال‪ ،‬والمتمركزة بالكامل تقريباً في أمريكا الشمالية‪ ،‬وأوروبا‪ ،‬والمخروط الجنوبي‬
‫من أمريكا الالتينية‪ ،‬وأستراليا‪ ،‬فال يعمل بها سوى بضع عشرات الماليين من المزارعين الذين لم‬
‫يعودوا' "فالحين" بحق‪ .‬ولكن إنتاجيتهم‪ ،‬بفضل الميكنة (التي يكادون يحتكرونها على المستوى'‬
‫العالمي)‪ ،‬والمساحة المتاحة لكل منهم‪ ،‬تتراوح بين ‪ 10‬إلى ‪ 20‬ألف قنطار' من الحبوب (أو ما‬
‫يعادله) للعامل الواحد في السنة‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وتستطيع ما يقرب من ‪ 20‬مليون مزرعة حديثة إضافية‪ ،‬إذا حصلت على المساحات الكافية (من‬
‫األراضي' المنتزعة من االقتصاد الفالحي‪ ،‬وباختيار أجود األراضي' طبعاً)‪ ،‬وإ ذا توفرت لها‬
‫رؤوس' األموال الالزمة لتجهيزها‪ ،‬أن تكفي لتغطية كل الطلب المدعوم بقوة شرائية في المدن‬
‫والذي يعتمد حالياً على اإلنتاج الفالحي‪ .‬ولكن ما الذي سيحدث لهذه المليارات من المنتجين من‬
‫الفالحين غير القادرين على المنافسة؟ ال شك أنهم سيستبعدون خالل بضع عشرات من السنوات‪،‬‬
‫وهي لحظة في حساب التاريخ‪ .‬ما الذي سيحدث لهذه المليارات من البشر‪ ،‬وأغلبهم في عداد‬
‫كاف‪ ،‬أو باألرجح غير ٍ‬
‫كاف (وثالثة أرباع‬ ‫الفقراء‪ ،‬ولكنهم' على أية حال يطعمون أنفسهم بقدر ٍ‬

‫‪35‬‬
‫الجوعى في العالم هم من سكان الريف)؟ ال ينتظر ألي مستوى من التنمية الصناعية‪ ،‬المنافسة‬
‫بدرجة أو بأخرى‪ ،‬خالل الخمسين عاماً القادمة‪ ،‬حتى لو تخيلنا معدالً مفرطاً في التفاؤل فدره سبعة‬
‫بالمائة سنوياً' لثالثة أرباع اإلنسانية‪ ،‬أن يستوعب حتى ثلث هذا الفائض‪ .‬وهذا يعني أن الرأسمالية‬
‫بطبيعتها' غير قادرة على حل المشكلة الفالحية‪ ،‬وأن كل المستقبل الذي تقترحه هو كوكب تحول‬
‫إلى مجموعة من المدن العشوائية‪ ،‬ومليارات من البشر "الزائدين عن الحاجة"‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫إن االستراتيجية التي يرغب رأس المال المسيطر في فرضها اليوم‪ ،‬ليست أقل من مثيلتها التى‬
‫فُرضت' فى انجلترا تحت اسم "تسييج المزازع" (‪ )enclosure‬يتم تعميمه اآلن على مستوى العالم‪.‬‬
‫فقد وصلنا' إلى النقطة التي عندها يحتاج األمر‪ ،‬من أجل فتح مجال جديد لتوسع رأس المال‬
‫(تحديث اإلنتاج الزراعي)‪ ،‬إلى تدمير مجتمعات بأسرها'‪ .‬عشرون مليوناً من المنتجين األكفاء‬
‫الجدد (خمسون مليوناً بإضافة عائالتهم)‪ ،‬في مقابل عدة مليارات من البشر المستبعدين‪ .‬والبعد‬
‫الخالق لهذه العملية‪ ،‬ال يتجاوز' نقطة في المحيط من التخريب الذي تستلزمه‪ .‬وأستنتج من ذلك أن‬
‫الرأسمالية قد دخلت مرحلة الشيخوخة الهابطة‪ ،‬حيث ال يستطيع' المنطق الذي يحكم هذا النظام‪ ،‬أن‬
‫يضمن مجرد البقاء لنصف سكان العالم‪ .‬لقد تحولت الرأسمالية إلى البربرية‪ ،‬وهي تدفع مباشرة‬
‫إلى اإلبادة الجماعية‪ ،‬وأصبح من الضروري أكثر من أي وقت مضى‪ ،‬أن يحل محلها منطق آخر‬
‫للتنمية‪ ،‬يتمتع بدرجة أفضل من الرشاد‪.‬‬

‫ويجادل المدافعون عن الرأسمالية بأن المشكلة الفالحية في أوروبا' قد وجدت حلها في الهجرة من‬
‫الريف‪ ،‬فلماذا ال تكرر بلدان الجنوب هذا النموذج متأخرة عن بلدان الشمال بقرن أو قرنين من‬
‫الزمان؟ وهم يتجاهلون هنا أن الصناعات والخدمات الحضرية في أوروبا' القرن التاسع عشر كانت‬
‫تحتاج إلى ٍ‬
‫أيد عاملة كثيرة‪ ،‬وأن ما زاد عن ذلك هاجر إلى األمريكتين بكثافة‪ .‬والعالم الثالث‬
‫اليوم‪ ،‬ال تتوفر' له هذه الظروف‪ ،‬وإ ذا حاول أن يكون منافساً‪ ،‬كما يؤمر' بذلك‪ ،‬فإن عليه أن‬
‫يستخدم' تكنولوجيات حديثة ال تحتاج إال أليدي عاملة قليلة‪ .‬فاالستقطاب' الناتج عن التوسع العالمي‬
‫لرأس المال ال يسمح للجنوب بتكرار نموذج الشمال بقدر من التأخير‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫إذن ما العمل؟‬

‫‪ ‬‬

‫‪36‬‬
‫ال مناص من القبول باستمرار الزراعة الفالحية طوال المستقبل المرتقب في القرن الواحد‬
‫والعشرين‪ ،‬وذلك ال بسبب الحنين الرومانسي للماضي‪ ،‬وإ نما ببساطة ألن حل المشكلة يقتضي‬
‫تجاوز' منطق الرأسمالية‪ ،‬حيث لن يتحقق إال في إطار التحول الطويل نحو االشتراكية في العالم‪.‬‬
‫ولذلك يجب استنباط' سياسات لتقنين العالقات بين "السوق'" وبين الزراعة الفالحية‪ .‬وعلى هذه‬
‫التقنينات‪ ،‬المتخذة بشكل فردي يتواءم مع الظروف' المحلية‪ ،‬أن تحمي اإلنتاج الوطني‪ ،‬وتضمن‬
‫بذلك األمن الغذائي لألمم‪ ،‬وتحميها' من آثار سالح التجويع الذي ال تتورع اإلمبريالية عن‬
‫استخدامه‪ ،‬أي بعبارة أخرى‪ ،‬فك االرتباط' بين األسعار الداخلية‪ ،‬وما يطلق عليه السوق' العالمي‪.‬‬
‫وعلي هذه التقنينات كذلك ـ عبر زيادة في إنتاجية الزراعة الفالحية‪ ،‬بطيئة وال شك‪ ،‬ولكن مستمرة‬
‫ـ أن تسمح بالتحكم في انتقال السكان من الريف إلى المدن‪ .‬ومن المفهوم طبعاً‪ ،‬أن االرتباط بين‬
‫جزء من الرؤية المستقبلية الخالقة لفكر‬
‫ً‬ ‫تنمية الزراعة الفالحية والتصنيع' الحديث‪ ،‬يجب أن يكون‬
‫اشتراكي' متحرر' من أسلوب التبذير السفيه‪ ،‬األصيل في أسلوب الرأسمالية المركزية‪ ،‬الذي ال‬
‫يمكن تصور أن ُيعمم على عشرة مليارات من البشر‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫إن "المشكلة الزراعية" أبعد ما تكون عن إيجاد الحل المالئم‪ ،‬بل ما زالت تشكل تحدياً رئيسياً'‬
‫لإلنسانية في القرن الواحد والعشرين‪ ،‬والحلول التي ستطرح لهذه المشكلة‪ ،‬ستشكل مجرى التاريخ‬
‫بشكل حاسم‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫والصين تملك في هذا المجال نقطة ثمينة ـ وهي ميراث الثورة ـ تسمح لها بإيجاد أحد "النماذج"‬
‫الممكنة لما يجب عمله‪ .‬إن الحصول على األرض‪ ،‬هو في واقع األمر‪ ،‬أحد الحقوق األساسية‬
‫لنصف البشرية‪ ،‬واالعتراف بهذا الحق‪ ،‬هو أحد شروط بقائها على قيد الحياة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬لم ترد‬
‫أية إشارة لهذا الحق في الشرعة الدولية لحقوق اإلنسان لألمم المتحدة! ولكنه ُمعترف' به حتى اليوم‬
‫في الصين (وفي' فيتنام')‪ .‬وسيكون وهماً كبيراً االعتقاد بأن التخلي عن هذا الحق‪ ،‬أي بتحويل‬
‫األرض إلى سلعة كما يقترح المدافعون عن الرأسمالية في الصين وغيرها‪" ،‬سيعجل بعملية‬
‫التحديث"‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪37‬‬
‫إن تحديث الزراعة هو بالفعل أحد التحديثات األربعة التي عبر عنها تشو إن الي‪ ،‬وكون هذا‬
‫التحديث أمراً ضرورياً ال يعني أن النمو الضروري لإلنتاج الزراعي يقتضي التخلي عن الحق في‬
‫األرض للجميع لمصلحة البعض‪ .‬فهذا االختيار سيعطي بالتأكيد زيادة كبيرة في إنتاج البعض‪،‬‬
‫ولكن على حساب الركود للكثيرين‪ ،‬واألغلب أن المتوسط' الذي ينتج عن هذه الزيادة بالنسبة‬
‫لمجموع سكان الريف الباقين في قراهم‪ ،‬أو الذين هاجروا إلى العشوائيات‪ ،‬سيبقى ضئيالً على‬
‫المدى الطويل‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وهذه الحقيقة ال تقلق المدافعين المتشددين عن الرأسمالية‪ ،‬فالتراكم وإ ثراء البعض هو القانون‬
‫الوحيد الذي يعترفون به‪ ،‬أما استبعاد "غير المفيدين" حتى إذا بلغوا المليارات فليس بالمشكلة التي‬
‫تخصهم'‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ويكشف' تاريخ الصين خالل تصف القرن المنصرم أن طريقاً آخر يعمل على جذب مجموع‬
‫الفالحين إلى عملية التحديث (وبالتالي' يحترم' حق الجميع في الحصول على األرض)‪ ،‬يمكن أن‬
‫يعطي نتائج متميزة عند مقارنتها بالطريق' الرأسمالي' (والمقارنة بين الصين والهند في هذا المجال‬
‫ذات مغزى)‪ .‬واختيار هذا الطريق ال يعني األخذ بالسهل بين األمور‪ ،‬فاالستراتيجيات‪ ،‬وآليات‬
‫التدخل‪ ،‬واألشكال المؤسسية الالزمة لمنحه الكفاءة القصوى المرغوبة ال يمكن رسمها بشكل نهائي‬
‫قاطع‪ ،‬وال تصلح في كل مكان (في مجموع المقاطعات الصينية مثالً)‪ ،‬وفي' جميع مراحل التطور'‪.‬‬
‫ويكمن خطأ نموذج الكلخوزات السوفييتية‪ ،‬وكذلك الكوميونات الصينية‪ ،‬مثلها مثل التخطيط'‬
‫المركزي‪ ،‬في أنها اعتُبِرت حلوالً نهائية‪ .‬وأنضم' هنا إلى اقتراحات' الكثير من منظمات الفالحين‬
‫الصينية‪ ،‬ووليام ِهنتون الذين يعملون حالياً على دعم حركة متنوعة من التعاونيات' االختيارية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وسواء رضينا أم أبينا‪ ،‬تبقى "المشكلة الزراعية" أحد المحاور الرئيسية لتحدي التحديث‪ .‬والتعارض‬
‫المركز‪/‬التخوم هو ذاته‪ ،‬لحد كبير‪ ،‬نتيجة متكررة الختيار' "الطريق' الرأسمالي'"‪ ،‬وآثاره على‬
‫مجتمعات التخوم كارثية بشكل مستمر'‪ .‬و "الطريق الفالحي" المرتبط ببقية مكونات تنظيم مرحلة‬
‫من "سوق اشتراكي"‪ ،‬هو الرد الوحيد‪ ،‬الكافي نظرياً‪ ،‬القادر على إخراج مجتمعات العالم الثالث من‬

‫‪38‬‬
‫حالة "التخلف"‪ ،‬والبؤس المتزايد الذي يصيب المليارات من البشر‪ ،‬ومن حالة تهميش سلطة‬
‫حكوماتها' في المجال الدولي‪  .‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪    .5‬إن إرث الثورة الصينية‪ ،‬يضغط بثِ َقل إيجابي كبير‪ ،‬وسيستمر' في ذلك‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫إن النجاحات التي تحققت خالل العشرين سنة الماضية ـ النمو االقتصادي المتوازن وغير العادي‪،‬‬
‫والنمو' الحضري' الضخم (انضمام' ‪ 200‬مليون نسمة لسكان الحضر)‪ ،‬والناجح بصفة عامة‪،‬‬
‫واستيعاب' التكنولوجيا بشكل فائق ـ توصف' بأنها "معجزة"‪ ،‬وهي ليست كذلك‪ ،‬فبدون الثورة التي‬
‫وفرت' الظروف الالزمة لما تحققت‪ .‬وقد أشرت في كتاباتي' السابقة عن الصين لوجهة النظر هذه‬
‫التي يشاركني فيها أغلب المثقفين الصينيين المحترمين‪ .‬وال يدعي الجهل بها إال الدعاة من‬
‫اإلمبرياليين األمريكان وأتباعهم من األوروبيين والصينيين'‪ .‬والنتائج االجتماعية لهذه الفترة ـ التى‬
‫تجسدت فى إنماء عدم المساواة االجتماعية‪ ،‬وبين األقاليم‪ ،‬والبطالة وتدفق الريفيين على المدن ـ‬
‫والتي تناقَش كثيراً (انظر مقالي السابق)‪ ،‬ال تقارن بالكوارث التي تُسجل في تجارب بقية العالم‬
‫الثالث الرأسمالي‪ ،‬بما فيها تلك الموصوفة "بالمعجزات" (ولكنها بال مستقبل)‪ .‬ويجهل الكثير من‬
‫الصينيين هذه الحقائق‪ ،‬ومن هذا المنطلق يقللون من قيمة نجاحهم‪ .‬ولكن أي شخص يعرف العالم‬
‫الثالث‪ ،‬ال يستطيع' تجاهل الفروق الضخمة بين الصين وبين بقية التخوم في النظام العالمي‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫"الصين بلد فقير ال نرى فيه سوى عدد قليل من الفقراء‪ ".‬والصين تطعم ‪ % 22‬من سكان العالم‬
‫مع أنها ال تمتلك سوى ‪ % 6‬من األراضي القابلة للزراعة في الكوكب‪ ،‬وهذه هي المعجزة‬
‫الحقيقية‪ .‬وليس السبب األساسي في ذلك هو عراقة الحضارة الصينية‪ ،‬ألنه إذا كان صحيحاً أن‬
‫الصين كانت تمتلك قبل عصر الثورة الصناعية‪ ،‬مستوى من التكنولوجيا أكثر تقدماً من بقية‬
‫مناطق' العالم‪ ،‬إال أنها قد تدهورت طوال قرن ونصف' من الزمان‪ ،‬وبلغت درجة من البؤس الواسع‬
‫النطاق‪ ،‬تقارن ببقية بلدان التخوم التي خربها التوسع االستعماري‪ ،‬كالهند وغيرها‪ .‬وقد' استعادت‬
‫الصين عافيتها بهذا المستوى الذي ال ينكر بفضل ثورتها‪ .‬وعلى الطرف' اآلخر من األوضاع' التي‬
‫خلقها التوسع الرأسمالي العالمي‪ ،‬نجد البرازيل‪ ،‬وهي "بلد غني ال نرى فيه سوى الفقراء"‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫‪ ‬‬

‫وال يوجد سوى عدد قليل من بلدان العالم الثالث تعاني من الفقر فيما يتعلق بالنسبة بين عدد السكان‬
‫ومساحة األراضي القابلة للزراعة كالصين‪ ،‬وال تقارن بها في هذا الشأن‪ ،‬فيما أعلم‪ ،‬إال فيتنام‪،‬‬
‫وبنجالديش‪ ،‬ومصر‪ .‬وقد' تشبهها بعض مناطق' من الهند‪ ،‬وجزيرة جاوا‪ ،‬ولكن ليس الهند أو‬
‫إندونيسيا في مجموعهما‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬نرى في الهند‪ ،‬ومصر‪ '،‬وبنجالديش‪ ،‬وأمريكا الالتينية بأكملها‬
‫تقريباً (باستثناء كوبا)‪ ،‬مناظر من البؤس تصدم' أي مراقب منصف‪ .‬وأي من جال في الصين‪،‬‬
‫وقطع' آالف الكيلومترات' بين مناطقها الغنية والفقيرة‪ ،‬وزار' الكثير من مدنها الكبيرة‪ ،‬يجب أن‬
‫يكون أميناً ويعترف بأنه لم ِ‬
‫ير بها أبداً تلك المناظر من البؤس التي ال بد أن يقابلها من يزور'‬
‫الريف‪ ،‬أو عشوائيات المدن في العالم الثالث‪ .‬وال شك أن السبب وراء هذا النجاح للصين‪ ،‬هو‬
‫ثورتها' الفالحية الجذرية‪ ،‬وضمانها' لحق الجميع في الحصول على األرض‪.‬‬

‫‪     ‬‬

‫لقد نقلت الثورة الصينية مجتمع هذه البالد إلى الحداثة‪ ،‬والمجتمع الصيني مجتمع حديث بحق‪،‬‬
‫ويتضح هذا من جميع مظاهر تصرف مواطنيه‪ .‬وأعني بالحداثة‪ ،‬ذلك االنقطاع التاريخي والثقافي‬
‫الذي يجعل البشر يشعرون بالمسئولية عن تاريخهم' (انظر س‪ .‬أمين‪" ،‬تحديات الحداثة ‪ ...‬الملحق؛‬
‫و "ما وراء الرأسمالية الشائخة")‪ .‬وهي حداثة غير مكتملة باستمرار‪ ،‬في الصين كما في غيرها‪،‬‬
‫وهي تهيمن على الفكر‪ ،‬واأليديولوجيات‪ ،‬والتصرفات‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وهذه الحداثة تفسر لماذا ال نرى في الصين التعبير عن أولئك المهووسين شبه المثقفين الذين تعج‬
‫بهم البلدان اإلسالمية‪ ،‬والهند الهندوسية‪ ،‬وبلدان أفريقيا جنوب الصحراء‪ .‬ويعيش الصينيون‬
‫معاد تشكيله‪ ،‬من التي تعبر‬
‫ماض أسطوري ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫حاضرهم‪ '،‬غير متأثرين بتلك األنواع من الحنين إلى‬
‫عن روح العصر في بلدان أخرى‪ ،‬وهم ال يعانون من مشاكل "الهوية"‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ومع أن الحداثة ال تؤدي' بشكل تلقائي للديمقراطية‪ ،‬إال أنها شرط ضروري لها‪ ،‬وال يمكن تحقيقها‬
‫بدونها‪ ،‬وليس هناك إال القليل من مجتمعات بلدان تخوم العالم الرأسمالي التي حققت هذه القفزة إلى‬
‫استثناء لهذه القاعدة ألسباب معقدة ليس‬
‫ً‬ ‫الحداثة (ولعل كوريا' وتايوان تكون‪ ،‬على هذا المستوى‪،‬‬

‫‪40‬‬
‫هنا مجال تفسيرها)‪ .‬وعلى العكس‪ ،‬فالمرحلة الراهنة تتميز بصفة عامة‪ ،‬على هذا المستوى‪،‬‬
‫بتراجعات مخيفة تعبر عن إفالس الرأسمالية‪ .‬وكما يقول جرامشي‪" :‬يموت العالم القديم‪ ،‬والجديد' لم‬
‫يولد بعد‪ ،‬وفي هذا الجو المضيء‪-‬المعتم‪ ،‬ترتع الوحوش‪".‬‬

‫‪ ‬‬

‫وفي' هذا المجال‪ ،‬ال يؤدي' الخطاب السائد حول اإلرث الثقافي الذي ُيزعم بأنه يالئم‪،‬أو ال يالئم‬
‫الديمقراطية‪ ،‬إال إلى المزيد من االرتباك‪ .‬فهذا الخطاب يتجاهل االنقطاع الذي تحدثه الحداثة‪،‬‬
‫ويمنح هذه "الثقافات" المزعومة‪ ،‬صفات ثابتة‪ ،‬عابرة للتاريخ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫والحداثة التي انغمست فيها الصين تمثل ورقة رابحة بالنسبة لمستقبلها‪ ،‬وال أستطيع الجزم بما إذا‬
‫كانت ستحقق بالسرعة الكافية أمل شعبها في الديمقراطية‪ ،‬وابتداع األشكال المحققة لها‪ .‬ولكن هذا‬
‫ليس من باب "المستحيل"‪ ،‬واألمر' يتوقف لحد كبير على االرتباط بين الصراعات االجتماعية‬
‫والديمقراطية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وقد' غيرت الثورة واالنغماس في الحداثة الشعب الصيني بأكثر من أي شعب آخر في العالم الثالث‬
‫المعاصر'‪ .‬والطبقات الشعبية الصينية لديها ثقة كبيرة بالنفس‪ ،‬وهي تعرف كيف تناضل‪ ،‬وتعرف‬
‫أن النضال يؤتي ثماره‪ ،‬وقد تخلصت لدرجة كبيرة من مواقف' الخضوع' التي يالحظ المراقب‬
‫المنصف' بكل أسف‪ ،‬تفشيها في كثير من البلدان األخرى‪ .‬لقد أصبحت المساواة قيمة مهمة من‬
‫األيديولوجية العامة كما هو الحال في فرنسا' (التي قامت هي األخرى بثورة عظمى)‪ ،‬والتي ال‬
‫نجدها في الواليات المتحدة (التي لم تقم بثورة)‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وتؤدي هذه التغيرات العميقة في مجموعها إلى روح نضالية عالية‪ ،‬وتحدث الصراعات‬
‫االجتماعية بشكل يومي‪ ،‬وتعد باآلالف‪ ،‬وكثيراً' ما تأخذ طابعاً عنيفاً‪ ،‬وال تفشل على الدوام‪.‬‬
‫وتعرف' السلطات ذلك‪ ،‬وهي تعمل جهدها على كبتها‪ ،‬أو تجنب تبلور جبهات نضال تتجاوز'‬
‫النطاق المحلي (بمنع التنظيم' المستقل للطبقات الشعبية)‪ ،‬أو تخفيف أخطارها' باستخدام' فنون‬
‫"الحوار"‪ ،‬والتالعب‪ .‬وال تُعجب هذه الصراعات‪ ،‬على ما يبدو‪ ،‬المدافعين الغربيين عن "حقوق‬

‫‪41‬‬
‫اإلنسان"‪ ،‬فالديمقراطية في خدمة الصراع الطبقي أمر ال يهمهم‪ ،‬بل لعلها تقلق البعض منهم‪ .‬وفي'‬
‫المقابل‪ ،‬فإن المطلب الديمقراطي الذي يدافعون عنه جميعاً بشدة‪ ،‬ويصدعون آذاننا به‪ ،‬هو قضية‬
‫"اللبراليين" الذين تحاول السلطة كذلك‪ ،‬التخفيف من ضراوة دفاعهم عن فضائل الرأسمالية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪  .6‬وتحتل القضية الوطنية كذلك‪ ،‬مكاناً مركزيُا'ًًُ في المجادالت الصينية‪ ،‬وفي' الصراعات‬
‫السياسية التي تثور' بين أنصار الخطوط المختلفة للتطور'‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫لقد تعرضت الصين للعدوان اإلمبريالي' المستمر' منذ عام ‪ ،1840‬وحتى ‪ ،1949‬مثلها مثل جميع‬
‫بلدان آسيا وأفريقيا‪ .‬وعرف المعتدون كيف يقيمون تحالفات مع الطبقات الرجعية السائدة المحلية‪،‬‬
‫من "إقطاعيين"‪ ،‬وكمبرادور (بل إن هذه التسمية كانت من صياغة الشيوعيين الصينيين)‪ ،‬ولوردات‬
‫الحرب‪ .‬وأعادت حرب التحرير التي قادها الحزب الشيوعي الصيني للصين كرامتها‪ ،‬ووحدة‬
‫أراضيها' (وال تبقى بال حل حتى اليوم سوى مشكلة تايوان)‪ .‬ويعرف' جميع الصينيين ذلك‪.‬‬

‫وعلى الرغم من الروح اإلقليمية التي تخلقها ضخامة البالد بالضرورة‪ ،‬فإن األمة الصينية (الهان)‬
‫حقيقة واقعة (وأرحب بذلك)‪ .‬والمشكلتان القوميتان الوحيدتان اللتان تداران بطريقة قد تسمح‬
‫بالنقاش‪ ،‬هم قضيتا التبت‪ ،‬واألويغور' (المسلمين)‪ .‬وإ ن كنت ال أوافق بالمرة على وجهة نظر‬
‫المدافعين المزعومين "عن الديمقراطية" الذين يمجدون ـ ويعملون في خدمة ـ "الالمات" "والماللي"‬
‫الذين‪ ،‬باإلضافة إلى ظالميتهم‪ ،‬قد استغلوا دائماً‪ ،‬بوحشية همجية‪ ،‬شعوبهم إلى أن حررتهم الثورة‬
‫الصينية منهم‪ .‬وتستغل' اإلمبريالية باستمرار' نقط ضعف النظام هذه‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وسأسير خطوة أخرى في التعبير عن توقعاتي‪ ،‬فقد أتيحت لي الفرصة لمناقشة مشاكل في غاية‬
‫التنوع مع بعض القادة من ذوي المستوى المتوسط (وليس أكثر)‪ ،‬ممن يشغلون مراكز ذات طبائع‬
‫مختلفة‪ .‬وتقديري' (ولعلني أعمم أكثر من الالزم؟) أن من يديرون الشئون االقتصادية يميلون أكثر‬
‫نحو اليمين‪ ،‬في حين أن من يمارسون السلطة السياسية لديهم وضوح' كامل بالنسبة لنقطة أعتبرها‬
‫أساسية‪ ،‬أال وهي‪ :‬أنهم بصفة عامة‪ ،‬يعتبرون التسلطية األمريكية العدو األول للصين (كأمة‬
‫ودولة‪ ،‬ال لمجرد أنها "اشتراكية")‪ .‬وهم يعلنون ذلك بصراحة‪ ،‬وكثيراً‪ .‬ويدهشني' كثيراً‪ ،‬على هذا‬

‫‪42‬‬
‫المستوى‪ ،‬الفرق بين أقوالهم‪ ،‬وبين ما كان يقوله (عن اقتناع على ما يبدو) القادة السياسيون‬
‫السوفييت‪( ،‬ومن باب أولى قادة الديمقراطيات' الشعبية)‪ .‬فقد بدا لي هؤالء دائما غير واعين‬
‫باألهداف الحقيقية لواشنطن وحلفائها الغربيين من ورائها'‪ .‬والخطاب من عينة ما أعلنه‬
‫جورباتشوف عام ‪ 1985‬في ريكيافيك' ـ بسذاجة ال تُصدق' ـ‪  ‬عن "نهاية" عداء الواليات المتحدة‬
‫لالتحاد السوفييتي‪ '،‬أمر ال يمكن حدوثه في الصين‪ .‬وقد' كنت بغد هذا الخطاب بالصدفة في بيجين‪،‬‬
‫وعبر جميع الصينيين عن اندهاشهم' من هذه الحماقة‪ ،‬وزادوا قائلين بال تردد‪ :‬إن الواليات المتحدة‬
‫هي عدونا‪ ،‬بل عدونا األساسي‪ ،‬وستبقى' كذلك‪ .‬‬

‫‪ ‬‬

‫ولدى الصينيين وعي قوي' بالمكانة التي حازتها' أمتهم عبر التاريخ‪ ،‬واسم بالدهم ‪ ،‬تشونج كو ـ ال‬
‫يشير إلى أية "إثنية" متميزة‪ ،‬بل يعني "إمبراطورية الوسط" (واسم جمهورية الصين الشعبية‪ُ ،‬يقرأ‬
‫بالصينية‪" :‬الجمهورية الشعبية إلمبراطورية الوسط"!) وهم لم يتحملوا أبداً تدهور أمتهم‪ .‬ولهذا‬
‫السبب اتجهت اإلنتلجنتسيا' الصينية دائماً بأنظارها' نحو "النماذج" الخارجية التي تصلح‪ ،‬في‬
‫نظرهم‪ ،‬الكتشاف ما يجب عليهم عمله ليعيدوا' الصين إلى المركز الالئق بها في العالم الحديث‪.‬‬
‫ومنذ الرابع من مايو ‪ ،1919‬كان هذا النموذج إما اليابان (في نظر الكومنتانج)‪ ،‬وإ ما روسيا‬
‫الثورية (التي انتصر' نموذجها' في النهاية ألنها ربطت بين النضال ضد اإلمبريالية‪ ،‬وبين تحول‬
‫اجتماعي ثوري' شارك فيه الشعب بأكمله)‪ .‬واليوم‪ ،‬واليابان في أزمة‪ ،‬وروسيا قد انهارت‪ ،‬وحتى‬
‫أوروبا تجتهد في محاكاة الواليات المتحدة‪ ،‬يلوح خطر أال ترى الصين الحداثة والتقدم إال عبر‬
‫"النموذج األمريكي'"‪ ،‬رغم أنه خصمهم' كما كانت اليابان باألمس‪ .‬فالصين كأمة عظمى‪ ،‬ال تقارن‬
‫نفسها إال بأقوى من في الساحة‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وال أقلل بالمرة من األخطار الجسيمة التي تنطوي عليها هذه النظرة‪ ،‬فهي تغذي في الجيل الجديد‬
‫وهم "الصداقة األمريكية"‪ .‬وهي تساهم في نسيان األهمية الحاسمة للتصدي لروح التسيد العدوانية‬
‫األمريكية التي تقف ضد إعادة بناء الحركة الدولية التضامنية للشعوب‪ .‬حيث تقف خلف الطبقات‬
‫الحاكمة األوروبية المتراصة خلف استراتيجية واشنطن للدفاع عن المصالح المشتركة لرأس المال‬
‫المسيطر' إلمبريالية الثالوث الجديدة‪ ،‬شعوب ال تنظر للحداثة بالمنظار' الذي تريد النيولبرالية‬
‫المعولمة‪ ،‬والمتأمركة‪ ،‬فرضه‪ .‬وخلف السلطات الكمبرادورية المتحفزة في بلدان العالم الثالث‪،‬‬
‫توجد شعوب نجحت من قبل في دفع إمبريالية عصرها للوراء بتفعيل تضامن الشعوب األفرو‪-‬‬

‫‪43‬‬
‫آسيوية عبر حركة عدم االنحياز'‪ .‬وكان لبناء الصين لخط سكة الحديد بين تانزانيا' وزامبيا'‬
‫(تانزام)‪ ،‬وهي المبادرة الوحيدة التي حررت بلدان الجنوب األفريقي' من التبعية لنظام حكم‬
‫األبارتهيد' لجنوب أفريقيا‪ ،‬و كذلك لدور األطباء الصينيين الذين تغلغلوا إلى القرى النائية في‬
‫أفريقيا‪ ،‬أثراً كبيراً في اكتساب الصين في تلك الفترة شعبية كبيرة في أفريقيا‪ .‬وإ عادة الحياة لروح‬
‫التضامن بين الشعوب اآلسيوية واألفريقية في وجه العدوان الوحشي' للتسلطية األمريكية في‬
‫الحاضر' والمستقبل‪ ،‬يمثل واجباً على أعلى درجة من األهمية لالستراتيجية المعادية لالستعمار‬
‫للصين ولآلخرين‪ .‬وهو الشرط لكي ال يتصدر المسرح في مجال مقاومة اإلمبريالية أمثال صدام‬
‫حسين‪ ،‬وبن الدن‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪  .7‬مدت جميع الثورات الكبرى ـ الفرنسية أو الروسية أو الصينية ـ بصرها إلى ما وراء‬
‫"المتطلبات المباشرة للحظة"‪ ،‬والتحوالت' الضرورية العاجلة لمجتمعاتها‪ .‬فجمهورية اإلخاء‬
‫الشعبية التي كانت ثورة ‪ 1793‬تريد بناءها "فوراً"‪ ،‬والشيوعية التي قام الروس‬
‫والصينيون بثورتهم تحت لوائها‪ ،‬كانت اليوطوبيات الخالقة المرتقبة في مستقبل بعيد‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وعليه يجب أال نندهش من أن جميع الثورات الكبرى‪ ،‬تلتها تراجعات‪ ،‬وحركات' "إعادة"‪ ،‬و"ثورات‬
‫مضادة"‪ .‬ولكن إذا كانت هذه التراجعات قد نجحت في إعادة البندول إلى الوراء‪ ،‬فإنها لم تنجح في‬
‫محو البذار الخصب للرؤى' الثورية الواسعة األفق‪ .‬والثورات الصغيرة وحدها ـ التي قد ال تستحق'‬
‫الوصف' بالثورة ـ مثل الثورة اإلنجليزية "المجيدة" لعام ‪( ،1688‬ويا له من مجد)‪ ،‬أو الثورة‬
‫األمريكية التي لم تغير شيئاً من النظام االجتماعي االستعماري‪ ،‬واكتفت بنقل السلطة السياسية من‬
‫الدولة األم إلى المستعمرين‪ ،‬هي وحدها التي تستطيع' أن تتفاخر بأنها "نجحت بنسبة ‪،"% 100‬‬
‫ألنها لم تفعل أكثر من تسجيل ما كان سيحدث تلقائياً في المجتمع‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ومع ذلك فالتراجع' شيء خطير على الدوام‪ ،‬فهو يهدد روسيا اليوم باالندثار' تقريباً كأمة‪ ،‬دون‬
‫ظهور' أية إشارات على التعافي'‪ .‬وهو يهدد الصين بالغرق في مستنقع طريق' رأسمالية التخوم التي‬
‫ال مستقبل لها‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫‪ ‬‬

‫وليس من الصعب وضع قائمة بالظواهر' السلبية التي تعبر عن الحقيقة القائمة فعالً‪ ،‬والتي تنذر‬
‫باألخطار'‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫والبرجوازية الصينية الجديدة ال تقل في أنانيتها وابتذالها عن البرجوازيات الكومبرادورية في بلدان‬


‫عدم‬
‫العالم الثالث المعاصرة‪ .‬وهي ال تحتل (حتى اآلن؟) واجهة المسرح السياسي‪ ،‬ولكنها ال تُ َ‬
‫الوسائل (باإلفساد ضمن وسائل أخرى) للتأثير على القرارات‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ويبدي' شباب الطبقة الوسطى المزدهرة مظاهر "األمركة" السطحية في تعبيراتها' المباشرة‪ ،‬ولكنها‬
‫تخفي تباعداً خطيراً عن السياسة‪ .‬وكان أبناء العمال يذهبون فيما مضى لالتحاد السوفييتي' لتعلم‬
‫صناعة محركات الطائرات‪ .‬أما أبناء الطبقة الوسطى الجديدة‪ ،‬فيذهبون للواليات المتحدة لتعلم‬
‫"إدارة" الفنادق!‪     ‬‬

‫‪ ‬‬

‫وفي' ظل هذه الظروف‪ ،‬يبقى مستقبل الصين محوطاً بالشك‪ ،‬فالنضال' من أجل االشتراكية لم يحقق‬
‫االنتصار‪ '،‬كما أنه لم ينته بالهزيمة (حتى اآلن؟)‪ .‬وفي' رأيي أنه لن ُيهزم إال إذا قرر النظام‬
‫الصيني يوما ما‪ ،‬التخلي عن ضمان الحق في األرض لجميع الفالحين‪ ،‬كما حاولت التدليل عليه‬
‫أعاله‪ .‬وحتى اآلن ما زالت الفرصة قائمة أمام الصراعات السياسية واالجتماعية للتأثير على‬
‫مجرى التطورات‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وتعمل الطبقة السياسية الحاكمة على السيطرة على هذه الصراعات بااللتجاء إلى دكتاتوريتها'‬
‫جزء من هذه الطبقة يعتقد كذلك أنه يستطيع باستخدام نفس الوسائل منع‬
‫ٌ‬ ‫البيروقراطية‪ .‬وهناك‬
‫ظهور' البرجوازية‪ .‬والبرجوازية والطبقات المتوسطة في مجموعها ليست مستعدة للنضال من أجل‬
‫نظرين‪ ،‬تقبل هذه الطبقات دون اعتراض‬ ‫الديمقراطية (على الطريقة األمريكية)‪ ،‬فباستثناء بعض الم ِّ‬
‫ُ‬
‫نموذج األتوقراطية "على الطريقة اآلسيوية"‪ ،‬بشرط' أن تسمح لها بإشباع شهيتها كمستهلكين‪ .‬أما‬

‫‪45‬‬
‫الطبقات الشعبية فتناضل' من أجل الدفاع عن حقوقها' االقتصادية واالجتماعية‪ ،‬فهل ستتمكن من‬
‫توحيد' معاركها‪ ،‬وابتداع أشكال ناجعة من التنظيم‪ ،‬ووضع' برنامج إيجابي بديل‪ ،‬وتحديد' مضمون‬
‫الديمقراطية التي يمكن أن تخدمها‪ ،‬ووسائلها؟' يبدو لي هذا جميعه ممكناً جداً على المدى الطويل‪،‬‬
‫أخذاً في االعتبار ما تحدثنا عنه آنفاً بالنسبة للشعوب التي مرت بثورة عظمى‪ ،‬أما على المدى‬
‫المتوسط‪ '،‬فال أستطيع التكهن‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ولهذا يبدو لي أن كالً من السيناريوهات األربعة التي رسمتها في ٍ‬


‫مقال سابق ممكن التحقيق‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وأفضل' هذه السيناريوهات' ينطوي' على االنعطاف في اتجاه بناء اشتراكية السوق' بوصفها' مرحلة‬
‫في التحول الطويل نحو االشتراكية العالمية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫أما األسوأ‪ ،‬الذي لم تتخ َل اإلمبريالية أبداً عن تحقيقه‪ ،‬فسينتهي بانفجار الصين‪ ،‬ألنها "قوة أكبر من‬
‫الالزم"‪ ،‬في نظر حكام واشنطن‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وبين هذين الخيارين‪ ،‬يظل اإلبقاء على "الحل الوسط'" أو اتجاهه نحو اليمين‪ ،‬مع الحفاظ على وحدة‬
‫البالد‪ ،‬ودون إجراء تنازالت نحو الديمقراطية‪ ،‬هو البديل األقرب إلى التحقق في المدى القصير‪.‬‬
‫ويبقى أن هذه الحلول الوسط' ال تستطيع أن تضمن‪ ،‬ال استقرار هذا الشكل الخاص من "الرأسمالية‬
‫على الطريقة الصينية" (حتى مع تسميتها' "اشتراكية على الطريقة الصينية")‪ ،‬وال حتى‪ ،‬في رأيي‪،‬‬
‫التحديث االقتصادي المتسارع‪  .‬‬

‫االلتقاء رغم االختالف‬

‫إرساء نقطة التقاء' بين مختلف الحركات والقوى االجتماعية‬


‫‪ ‬‬

‫‪46‬‬
‫سمير أمين‬

‫‪ ‬‬

‫‪ 9‬فبراير' ‪2002‬‬

‫إن عملية إيجاد نقطة التقاء بين مجموع الحركات والقوى االجتماعية التي يستخدمها'‬
‫ضحايا الرأسمالية الكلية الليبرالية الجديدة من أجل التعبير عن أنفسهم‪ ،‬تحتم بال شك ضرورة‬
‫احترام ما بينهم من اختالف‪.‬‬

‫بعيداً عن التباين الشديد في وسائل التعبير عن هذا االختالف‪ ،‬نقترح وضع تصنيف ما تبعاً‬
‫لمستوى' راديكالية تنظيمات الرأسمالية من جهة‪ ،‬والبعد المضاد لإلمبريالية من جهة أخرى‪ .‬إننا‬
‫هنا إزاء شكل دائري نجد في الربع األول منه الحركات التي تطالب فحسب بوجود' تنظيمات‬
‫محدودة‪ ،‬مثل تلك التي تتعلق بالحقوق النقابية (الحد األدنى للرواتب وإ جراءات تسريح العمال‬
‫وحق اإلضراب والتأمين ضد البطالة…الخ)‪ .‬ثم نجد في الربع الثاني من محيط‪  ‬هذه الدائرة‬
‫حركات أقل انقساماً وأكثر تسييساً ذات أفق يطرح رؤية ما للمجتمع "بعيداً عن الرأسمالية"‪ ،‬مثل‬
‫رؤية االشتراكية المستوحاة من الماركسية أو رؤية التنمية البيئية‪ .‬وسنجد في الربع الثالث مطالب‬
‫األقسام' الطرفية من الطبقات الحاكمة‪ ،‬وهي على الرغم من قبولها' مبدأ التواجد داخل إطار العولمة‬
‫الملقّبة بالليبرالية الجديدة‪ ،‬فإنها قد عزمت على التمسك بمناقشة حدود هذه اليبرالية‪ .‬وسنجمع في‬
‫ُ‬
‫الربع األخير القوى السياسية المتواجدة في إطار رؤية منفصلة (انظر نموذج التنمية) من أجل‬
‫تحقيق صالح التنمية القومية الشعبية الجديرة بحمل هذا المسمى‪.‬‬

‫انطالقاً' من هذا التصنيف' األولي‪ ،‬يمكننا أن نستخلص أن الجزء األيسر من هذا الشكل‬
‫البياني (الربع األول والثاني') يخص في األساس الحركات الخاصة بمركز' النظام‪ ،‬بينما يتعلق‬
‫الجزء األيمن بالجنوب (الربع الثالث والرابع)‪ .‬ففي حين يتواجد "المصلحون" في الجزء العلوي من‬
‫الشكل (الربع األول والثالث)‪ ،‬فإن الثوريين يتواجدون في الجزء السفلي منه (الربع الثاني‬
‫والرابع)‪ ،‬ويعد ذلك نتاج االنقسام الذي تتميز به األوضاع' الحالية‪ .‬إن العديد من الحركات‬
‫والمنظمات' المتزعمة لحركات الكفاح الجارية‪ ،‬ال تعتقد فحسب في "قبول" أفق الرأسمالية‪ ،‬بل تعتقد‬
‫أيضاً أن بعض األسباب الموضوعية تحتم وجود جرعة جيدة من الليبرالية (مثل الثورة‬
‫الصناعية)‪ .‬إن بعض هذه الحركات‪ ،‬والسيما' في المنظمات غير الحكومية ‪ ،ONG‬تشكل ما يمكن‬
‫أن نطلق عليه‪" :‬القطاع الخيري لليبرالية الجديدة" الذي يطرح ليبرالية ذات وجه إنساني‪ ،‬وهو ما‬
‫يسعى إلى تدعيمه حالياً وإ مداده باألدوات الالزمة مصلحو' اليمين الجديد من أمثال جيمس‬

‫‪47‬‬
‫ولفونسون ‪ James Wolfenson‬رئيس البنك الدولي أو جورج سوروس' ‪.Georges Soros‬‬
‫وعلى صعيد آخر‪ ،‬ضعف بوجه خاص الشعور' المضاد لإلمبريالية في الشمال‪ :‬إن إخفاق اتجاه‬
‫حركات التحرير القومي التي التف حولها شباب العالم الثالث‪ ،‬قد أسفر بالتالي عما أصابهم من‬
‫شعور' باإلحباط'‪ .‬وهناك نوعان من االنفصال الواضح‪ :‬ذلك الذي يفصل المصلحين غير‬
‫الراديكاليين عن الراديكاليين‪ ،‬وذلك الذي يفصل الشمال عن الجنوب‪.‬‬

‫لن تتمكن هذه الحركات من تكوين يسار بديل لليمين الجديد بدون التعايش مع بعضها البعض رغم‬
‫ما بينها من اختالف أو ما يشبه التباعد‪ ،‬ولن يكون هناك أي تقدم بدون وجود' مثل هذا التعايش‪.‬‬
‫لذا‪ ،‬فإنه من المحبذ أن تقود حركات الكفاح القوى المسيطرة المعاصرة نحو مركز هذا الشكل‬
‫البياني‪ .‬والبد من تجميع رؤى' المجتمع بحيث تذهب أبعد من الرأسمالية نحو القدرة على صياغة‬
‫أهداف فورية تفتح الطريق أمام هذا التطور‪ ،‬والبد كذلك من تجميع الجبهات المحلية (القومية) في‬
‫إطار رؤية شمولية كونية مضادة لإلمبريالية‪ .‬مازالت إلى اآلن القوى المجتمعة حول هذه النقطة‬
‫المركزية لاللتقاء مجرد قوى صغيرة‪ ،‬وتظهر في الشكل البياني على هيئة دائرة صغيرة‪ .‬إن‬
‫التعزيز' التدريجي' لهذا االلتقاء رغم االختالف سيتجلى من خالل زيادة حجم هذه الدائرة إلى أن‬
‫تتمكن من شغل جزء كبير من هذا الشكل‪ .‬وهكذا‪ ،‬سنربح المعركة وتتغير' موازيين القوى لصالح‬
‫الطبقات العمالية والطبقات الشعبية‪.‬‬

‫من الممكن أن تنتقل تدريجياً هذه الحركات من المواقع التي تشغلها حالياً‪ ،‬لتبلغ مركز‬
‫الجاذبية‪ .‬ويمكن أن يزداد هنا وهناك الوعي بالحركات المنفصلة الخاصة بالدفاع عن حقوق‬
‫العمال والمرأة والبيئة‪ ،‬في حال تضامن كفاحها حيث يستلزم نجاحها المزيد من‬
‫التماسك‪           ،‬مع وجود تعريف لبرنامج مشترك وفوري بشأن كل خطوة من خطوات‬
‫تنميتها‪ .‬ويمكنها' أن تبدأ من معارضتها' ألسس المنطق الرأسمالي‪ .‬وفي' ذات الوقت‪ ،‬يمكن‬
‫للجماعات الراديكالية الذهاب إلى أبعد من مجرد تأكيد والئها لرؤية اجتماعية طويلة المدى خاصة‬
‫بها (الحركة الشيوعية أو الفوضوية أو البيئية أو النسائية)‪ ،‬واالنضمام' إلى عملية تعريف' أهداف‬
‫مشتركة يمكن تحقيقها‪.‬‬

‫وفي' الجنوب‪ ،‬يمكن تجاوز مأزق رفض مذهب األنثروبولوجي اإلنساني الخاص بأمريكا'‬
‫الشمالية "‪ "culturalisme‬والذي يدير لعبة "صراع الحضارات" ويبعث التصور الوهمي الرجعي‬
‫الذي يعبر عنه هذا الصراع‪ ،‬من أجل وجود' حركة دولية "دوال نية" مجددة‪ ،‬والسيما إذا ما وجد‬
‫مجدداً الشعور' المضاد لإلمبريالية مكانه بين التقدميين في الشمال‪ .‬وبالمثل‪ ،‬لن تتمكن أقسام‬

‫‪48‬‬
‫الطبقات الحاكمة القومية من تأصيل عدائها إزاء الهيمنة األمريكية أو االنصياع لضغوط قطاعاتها‬
‫التي حولت مواطنيها لمجموعة من المستهلكين‪.‬‬

‫دائماً ما ستظهر' جماعات تتمرد على أي تطور بحيث تجد مالذها سواء في األمل الوهمي‬
‫في ليبرالية ذات وجه إنساني أو في تأكيد " مبادئ ثورية " أو في تجديد وضع المستهلك أو في‬
‫وهم المذهب اإلنساني األمريكي ‪ .‬جاء تمثيل هذه القطاعات على الشكل البياني من خالل األربعة‬
‫أركان المظللة ‪ .‬وعلى الصعيد السياسي‪ ،‬يمكن صياغة نقطة االلتقاء أي اتساع الدائرة المركزية‪،‬‬
‫بطرق' عديدة تكمل إحداها األخرى‪.‬‬

‫"من اجل جبهة موحدة لصالح العدالة االجتماعية والعدالة الدولية " بصورة تؤكد أن هاتين‬
‫االثنتين ال تنفصالن‪ ،‬وأنه البد أن يصاحب العدالة االجتماعية شعور' حازم ضد اإلمبريالية‪ ،‬وأنه‬
‫ال مستقبل للحركة المضادة لإلمبريالية في األجزاء الطرفية بدون مساندة الطبقات الشعبية التي‬
‫تفتقر إلى العدالة االجتماعية والديمقراطية‪.‬‬

‫وهذا ما يعد مطلب أية دولة الديمقراطية في ظل للتقاليد العظيمة الغريبة على الرأسمالية‬
‫المتوحشة‪ ،‬وهو كذلك مطلب الدولة التي ترغب في فرض نظام لمواطينها ومجتمعها‪ .‬ونقول أيضاً‬
‫إن " فرض االشتراكية من خالل ديمقراطية شعبية واجتماعية تتضمن االشتراكية مع استبعاد‬
‫اشتراكية السوق‪ .‬كما أنه "ال توجد إمكانيات متاحة لتلبية الحاجات االجتماعية بدون الديمقراطية‪،‬‬
‫وال توجد ديمقراطية بدون تلبية الحاجات االجتماعية‪".‬‬

‫هذه الكلمات هي نتاج التاريخ الحديث‪ .‬ففي الجنوب‪ ،‬قبلت الحكومات بإدراج رغبتها‪   ‬في‬
‫تطبيق' الديمقراطية‪  ‬في سياق ضغوط' الليبرالية الجديدة‪ ،‬مما أفقد الثقة في هذه الديمقراطية (لقد‬
‫رأينا المثال المأساوي على ذلك في األرجنتين)‪ ،‬وهو ما يسفر عن عودة تيار شعبي سلطوي أو‬
‫ديكتاتورية عنيفة تعمل في خدمة اإلمبريالية‪ .‬وفي الشمال‪ ،‬حل االتفاق بين اليمين واليسار' حول‬
‫الليبرالية االقتصادية محل الشكل األمريكي' الخاص بـ "ديمقراطية ذات قوة منخفضة"‪ ،‬وكذلك محل‬
‫الديمقراطية الشعبية واالجتماعية التابعة لليسار التاريخي‪ ،‬في حين تظل دوما عوامل انقسام‬
‫المقاومة ويختفي األمل في تنمية الشعور المضاد لإلمبريالية‪.‬‬

‫ال تستبعد عملية االلتقاء تلك‪ ،‬اتساع الدائرة المركزية في الشكل البياني‪ ،‬وجود' اختالف بل‬
‫تؤكده وتمنحه في ذات الوقت قوة كامنة‪ ،‬وستغطى هذه الدائرة مساحات كبيرة في كل واحد من‬
‫األجزاء األربعة وفقاً للشكل الذي وضعناه‪ .‬إن إرساء نقطة االلتقاء تلك هو التحدي بعينه‪ :‬ال يمكن‬
‫ألي من القوى التي تعبر عن مسلك ضحايا الرأسمالية المتوحشة واإلمبريالية الحديثة والهيمنة‬

‫‪49‬‬
‫األمريكية والحرب الشاملة التي تشنها الواليات المتحدة ضد الجنوب‪ ،‬أن تتجاهل حقيقة استحالة‬
‫تحقيق األهداف الفورية والمحددة بصورة منفردة‪ .‬البد من تضامن كل القطاعات وتكوين جبهة‬
‫عالمية من أجل تحقيق العدالة االجتماعية والعدالة الدولية‪.‬‬

‫عالم اقتصاد مصري‪،‬‬

‫‪ ‬رئيس منتدى العالم الثالث بدكار‪ ،‬السنغال‪.‬‬

‫فخ الثقافوية‬

‫(نقد كتاب رضا هالل المعنون "المسيح اليهودي ونهاية العالم")‬

‫‪ ‬‬

‫د‪ .‬سمير أمين‬


‫‪ ‬‬

‫‪ -1‬تتلخص أطروحة رضا هالل في كتابه المعنون بـ "المسيح اليهودي ونهاية العالم" في‬
‫مقولة بسيطة مفادها انحياز الواليات المتحدة لدولة إسرائيل ومساندتها مساندة شاملة بال قيد وال‬
‫شرط في مشروعها' التوسعي' الذي يسعى إلي تصفية الوجود' العربي في فلسطين علي األقل بل‬
‫وفي' المناطق' المجاورة "من النيل إلي الفرات" إذا سمحت الظروف' بذلك‪ ،‬ويرجع' ذلك إلي أسباب‬
‫ثقافية الطابع أكثر منها سياسية أي بتعبير' آخر إن هذا االنحياز' الهوتى المصدر وليس انحيازا‬
‫استراتيجيا ناتجا عن المشاركة في المصالح‪ .‬بل يزعم رضا هالل أكثر من ذلك ويدعي أن هناك‬
‫تناقضا' بين الخيار المذكور' ـ أي‪  ‬مساندة إسرائيل ـ وبين مصالح الواليات المتحدة (دون تحديد‬
‫مضمون ما يعنيه هو بالمصالح المعنية) ثم يستنتج رضا هالل‪  ‬من اكتشافه‪  ‬لهذا التناقض‬
‫المزعوم (والذي سوف نرى أنه قائم علي تجاهل واقع المجتمع األمريكي وممارسات' طبقته‬
‫الحاكمة)‪ ،‬إن الجمهور األمريكي ـ أي الرأي العام ـ هو الذي يفرض علي مؤسسة الحكم هذا الخيار‬
‫المنحاز للمشروع الصهيوني'‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫ثم تقوم األطروحة علي فضح "يمين مسيحي" له نظرة دينية تدعو إلي مساندة الصهيونية حيث‬
‫إن المسيحية طبقا لهذا الفهم قد أصبحت "يهو مسيحية"‪  ‬أي‪  ‬مسيحية "نصف يهودية"‪  ،‬ويبحث‬
‫المؤلف عن مصادر' هذا الفهم للمسيحية فيجدهما' في تاريخ الثورة البروتستانتية التي أعطت‬
‫األولوية لقراءه التوراة (العهد القديم) ولو علي حساب مقوالت اإلنجيل (العهد الجديد) كما أن رضا‬
‫هالل قد اختار من بين مختلف مقوالت اإلنجيل التركيز' علي ذلك الفصل المعنون بـ "الرؤيا"‬
‫‪ Apocalypse‬المنسوب إلي القديس يوحنا‪ ،‬وذكر'‪  ‬بهذه المناسبة أن القصة‪  ‬المذكورة تقوم علي‪ ‬‬
‫تنبؤ بعودة اليهود إلي فلسطين وإ حياء دولتهم' اليهودية ثم عودة المسيح فاهتداء شعب إسرائيل‬
‫للمسيحية ثم إنهاء العالم‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ ينطلق رضا هالل من وصف صحيح‪  ‬ودقيق لظاهرة اليمين المسيحي األمريكي المعاصر‬
‫وممارساته وأساليب عمله وخطوات صعوده لدي الرأي‪  ‬العام ومدى' اكتسابه نفوذاً داخل المؤسسة‬
‫الحاكمة وباألخص في صفوف الحزب الجمهوري‪.‬‬

‫وبما أن هذه الظواهر' ـ والتي أعتبر أنا وصفها في الكتاب المذكور' صحيحا تماما ـ قد‪  ‬ظلت‬
‫مجهولة إلي حد كبير في المجتمع العربي والمصري' فإن إفادة الكتاب بذكرها قد‪  ‬أكسب المؤلف‬
‫سمعة واسعة وقوة في إقناع القارئ بصحة وأهمية أطروحته‪.‬‬

‫ولنذكر' هنا باختصار تلك المقوالت الرئيسية التي يقدمها هذا التيار الديني المتطرف'‬
‫وممارساته وأساليب عمله ومدي مشاركته في المؤسسة الحاكمة‪.‬‬

‫ثمة فعال "يمين مسيحي" بشكل عام‪  ‬قد تجلي في صور'‪  ‬متتالية عبر التاريخ‪ ،‬فالديانات ـ شأن‬
‫المسيحية في ذلك شأن جميع الديانات ـ ظواهر' معقدة لها بالضرورة وجه اجتماعي‪ .‬أقصد أن‬
‫تعامل الديانة مع الواقع االجتماعي وتباين المصالح الفاعلة في إطاره البد أن يؤدي' إلي تعدد‬
‫"التفسيرات"‪ .‬فهناك دائما تفسير "محافظ'" (يميني) يتمشى مع المصالح الحاكمة والمهيمنة كما أن‬
‫هناك أيضا في بعض الظروف' تتبلور' تفسيرات أخري يطرحها المظلومون لدفع قضاياهم‪ ،‬وهي‬
‫إذن تفسيرات تقدمية (يسارية) إلي حد ما علي األقل‪.‬‬

‫هناك قاسم'‪  ‬مشترك للتفسيرات اليمنية ال يتغير‪  ‬في جميع الظروف أال وهو الدفاع عن‬
‫"أخالقية محافظة" تضفي أهمية حاسمة إلدانة "التغيير" االجتماعي بشكل عام وما يرافقه بدوره من‬
‫تحوالت في مجاالت الحياة االجتماعية المختلفة وخاصة في مجال تنظيم العائلة‪ .‬فاألخالقية‬
‫المحافظة تكره التغيير وتنظر' له دائما على أنه مجرد "تسيب"‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫واليوم' يركز اليمين المسيحي علي إدانة اإلجهاض والتسامح بالنسبة للممارسات' الجنسية‬
‫المثلية‪ .‬بل يلجأ في تعامله مع هذه الظواهر إلي استخدام وسائل العنف بما‪  ‬فيها الهجوم البدنى‬
‫علي األطباء والممرضات' في المستشفيات التي تمارس اإلجهاض‪.‬‬

‫يضاف' إلي ذلك أن اليمين المسيحي األمريكي' يدافع عن مفهوم للحرية يكاد ينحصر' في حرية‬
‫تحرك الفرد في إطار آليات وفعاليات' السوق'‪ .‬أي بمعني آخر دفاع عن "حرية المنشأة" في إطار‬
‫الرأسمالية ‪ free enterprise‬هكذا ليبدو أن اليمين المسيحي المذكور' إنما هو يمين "حديث "‬
‫بمعني أن مفاهيمه للحرية والعدالة ليست هي مفاهيم اليمين المسيحي للقرون الوسطي' علي سبيل‬
‫المثال‪ ،‬فهو إذن تفسير يتمشى تماما مع مقتضيات المعاصرة الرأسمالية‪ ،‬وهنا نرى أن اليمين‬
‫المسيحي المذكور يقع في فخ االستالب السلعي الخاص بالنمط الرأسمالي‪ .‬فهو يمين حقيقي إذ إنه‬
‫يعادي تماما مبادئ االشتراكية التي تقوم علي نقد هذا االستالب ـ من هنا كراهيته للشيوعية‬
‫وبالتالي' توظيفه من قبل المؤسسة الحاكمة‪ .‬بيد أن رضا هالل يتجاهل تماما هذا الوجه من‬
‫اإلشكالية‪ ،‬وذلك ألنه يتجاهل تماما مفاهيم النقد االشتراكي للرأسمالية ومنها نقد االستالب السلعي‬
‫فال يهتم رضا هالل بماهية الرأسمالية كما سنري فيما بعد‪.‬‬

‫ويفيد رضا هالل القارئ بمعلومات صحيحة وهامة حول مدي "تدين" المجتمع األمريكي' ـ‬
‫بالمقارنة مع شعوب أوروبا ـ ومدي' تغلغل فكر اليمين المسيحي في هذا اإلطار‪ .‬ويشير' إلي‬
‫ممارسات' وأساليب عمل استراتيجية وتكتيكية استخدمتها بعض الكنائس البروتستانتية والنحل‬
‫الحديثة النشأة قد أدت بالفعل إلي إكساب هذا التيار وزنا ثقيال في "الرأي العام"‪ ،‬ومن هذه األساليب‬
‫التغلغل في مؤسسات التعليم والقضاء واإلعالم‪ ،‬فاالنتقال إلي المجال السياسي من خالل التركيز‬
‫علي جمع األصوات االنتخابية لصالح مؤسسة الحزب الجمهوري'‪ .‬فالحركة ـ كما يقول رضا هالل‬
‫ـ التي كانت "ما قبل السياسة" بمعني أنها لم تسع إلي السلطة قد أصبحت اآلن حركة سياسية تسعي‬
‫إلي ممارسة السلطة‪.‬‬

‫كما أن رضا هالل قد ركز علي األساليب اإلعالمية التي يستخدمها اليمين المسيحي األمريكي‬
‫ومنها باألخص إلقاء خطب متكررة ومتبسطة في اإلذاعات وقنوات' التلفزة (الوعظ التلفزي)‪.‬‬

‫ال أختلف أنا مع رضا هالل في أقواله بهذا الصدد‪ ،‬بل أوافقه تماما في دقة وصحة وصفه‬
‫للظاهرة‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫علي أن رضا هالل قد‪  ‬أضاف إلي مقوالت اليمين المسيحي وممارسته الموصوفة أعاله‬
‫تركيزا' خاصا علي "نظرة" هذا التيار الديني الرجعي إلي عالقته بالمشروع الصهيوني‪ ،‬له أهميته‬
‫الخاصة‪ ،‬وسوف' نرجع إلي هذا الجانب من اإلشكالية فيما بعد‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ لن تفوت علي من قرأ وصف' رضا هالل ألفكار' وممارسات اليمين المسيحي‪ ،‬المشابهة‬
‫التي تفرض نفسها بين تجليات هذا التيار الديني المتطرف' وبين تجليات اإلسالم السياسي‪.‬‬

‫فالتياران يشتركان في سذاجة النظرة إلي "المشكلة األخالقية والثقافية" ووضعها' في مركز‬
‫االهتمام إن لم يكن من التحليل العلمي ـ الناقص تماما‪  ‬في كلتا الحالتين‪ .‬والتياران يشتركان في‬
‫نفس النظرة المحافظة بل الرجعية وكراهيتهما' للتغيير بشكل عام ولما قد يحدث من تطور في‬
‫العالقات العائلية بشكل‪  ‬خاص‪ .‬والتياران يركزان علي نفس‪  ‬الظواهر' ـ مثل اإلجهاض وتحديد‬
‫النسل ‪...‬إلخ‪ .‬وكالهما يلجآن إلي وسائل العنف من أجل‪"  ‬التخلص" مما يبدو لهما "تسيبا"‪.‬‬
‫والتياران يستخدمان نفس األساليب للتغلغل في مؤسسات' التعليم والقضاء بل يلجآن إلي نفس‬
‫األساليب في توظيف وسائل اإلعالم وخاصة التلفزة‪ .‬فمن سمع وعظا تلفزيا أمريكيا' ال يفوت عليه‬
‫التشابه الشامل بين أسلوبه وبين أسلوب الوعظ التلفري لإلسالم السياسي'‪.‬‬

‫وكذلك نجد تشابهاً واضحاً' تمام الوضوح' بين نجاح اليمين المسيحي األمريكي في المشاركة‬
‫فى الحكم وما يحدث في البالد العربية‪ .‬ففي كلتا الحالتين نواجه نفس ظواهر‪  :‬ردة الدولة‬
‫واتخاذها' مواقف' انتهازية في مواجهتها' للحركة المعنية وذلك سواء أكان ذلك بالنسبة إلي الدولة‬
‫األمريكية نصف العلمانية أم بالنسبة إلي الدول العربية غير العلمانية!‬

‫وكذلك فإن الحركتين تشتركان في امتناعهما عن نقد الرأسمالية‪ ،‬بل قبولهما مبادئ سيادة‬
‫عالقات السوق كما هي بال تحفظ‪ .‬فاإلسالم' السياسي' هو اآلخر يتجاهل مبادئ نقد االشتراكية‬
‫للرأسمالية ويقبل سيادة فعاليات السوق' دون تساؤل يذكر‪ .‬والحركتان أصبحتا حركتين سياسيتين‬
‫بنفس المعني أي حركتين تسعيان إلي السلطة في إطار الرأسمالية فهما جزء ال يتجزأ من اليمين‬
‫بشكل عام‪.‬‬

‫فالسؤال' الصحيح الذي يجب أن يطرح هنا‪  ‬هو اآلتي‪ :‬ما هي المصالح االجتماعية التي‬
‫تخدمها هاتان الحركتان؟ ولماذا تلجأن إلي نفس األسلوب‪"  ‬الديني" شكليا والمتخلف في حقيقة‬
‫األمر؟‬

‫‪53‬‬
‫لم يطرح رضا هالل هذه األسئلة بل لم يخطر بباله التشابه الذي رأيت من الضروري' توجيه‬
‫النظر إليه‪.‬‬

‫أما أنا فأنسب األسلوب الرجعي الديني الشكل الذي يشترك' فيه التياران من أجل التوصل إلي‬
‫السلطة إلي ظاهرة مشتركة أال وهي التخلف الثقافي والسياسي' للمجتمعات المعنية‪ .‬أقصد تخلف‬
‫المجتمع األمريكي' ـ بالمقارنة مع المجتمعات األوروبية التي تنتمي هي األخرى إلي مراكز‬
‫المنظومة العالمية ـ وكذلك تخلف المجتمعات العربية واإلسالمية في المرحلة الراهنة بالمقارنة بما‬
‫كان األمر عليه في مراحل سابقة من التاريخ القديم والحديث‪ .‬بحيث إن التناقض في الظاهر بين‬
‫المشروعين إنما هو تناقض وهمي فالصراع' بينهما ليس صراع حضارات كما يحلو لخطاب‬
‫هنتجتن المشهور' أن يقوله‪ ،‬بل أقرب إلي‪  ‬أن يكون صراعا بين بربريات' كما كتبه جلبير أشقر‪،‬‬
‫أي صراع بين بربرية االستعمار األمريكي السائدة من جانب‪ ،‬وبربرية رد الفعل من طرف بعض‬
‫ضحاياه المتخلفين من الجانب اآلخر‪.‬‬

‫كما أننا سوف' نري أيضا فيما بعد أن التشابه يتجاوز حدود المجال السياسي' واالجتماعي'‬
‫ليشمل قضايا' المنهج والتجاءه إلي قراءة ساذجة للنصوص الدينية في كلتا الحالتين واالعتماد علي‬
‫منهج مثالي يصل إلى أقصى' المثالية يتجاهل تماما إشكالية وطابع' التحديات االجتماعية الصحيحة‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ ولنتناول اآلن المفاهيم المطروحة في كتاب رضا هالل حول "اليهو مسيحية" ومقوماتها'‬
‫ومصادرها‪.‬‬

‫تنحصر' أطروحة اليمين المسيحي في هذا المجال ـ طبقا لرضا هالل ـ في قصة إحياء دولة‬
‫إسرائيل وإ عادة بناء معبد أورشليم' ثم عودة المسيح واهتداء شعب إسرائيل بالمسيحية فإنهاء العالم‪.‬‬

‫‪ ‬المالحظة األولي التي أود أن أطرحها بهذا الصدد هي أن األغلبية الساحقة من هؤالء الذين‬
‫يعتبرون أنفسهم مسيحيين متدينين ال يؤمنون علي اإلطالق بمثل هذه القصة علما بأن المتدينين‬
‫أنفسهم يكونون أقلية صغيرة فقط‪ -‬في فرنسا' (‪ -)%10‬وأن نسبتهم تتراوح‪  ‬حول الثلث في بلدان‬
‫أوروبية أخري‪  ،‬فال يمثلون أغلبية إال في الواليات المتحدة‪ .‬وعلما أيضا بأن األغلبية الساحقة في‬
‫صفوف اليمين المسيحي نفسه يكتفون بالمقوالت المحافظة المذكورة فيما سبق ويرضون بها دون‬
‫إضفاء أي‪  ‬اعتبار "للقصة"‪  ‬التي اهتم رضا هالل بذكرها‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫لئن آمن‪  ‬البعض‪ ،‬ومنهم "شخصيات أمريكية كبري" مثل الرئيسين ريجان وبوش‪ ،‬بمثل هذه‬
‫الخرافة‪ .‬لست أدري‪ ،‬ولكن أستطيع أن أتصور أن القدرة الذهنية المحدودة لمثل هذين الشخصين‬
‫تتيح مشاركتهما' في اإليمان بمثل هذه الخرافة‪.‬‬

‫علي أن اإليمان بالقصة يفترض درجة من السذاجة يستحيل أن نتصورها سائدة عند صناع‬
‫القرار السياسي' الذين تتكون منهم المؤسسة الحاكمة‪ ،‬فعلي سبيل المثال تقول القصة إن شعب‬
‫إسرائيل علي وشك االهتداء بالمسيحية! ورضا هالل يوحي بأن "اليمين المسيحي" يعتمد في صنع‪ ‬‬
‫قراراته السياسية علي القناعة بأن األمر علي هذا الوجه فال يميز رضا هالل بين "فكر" النحل‬
‫األمريكية المتخلفة المذكورة ـ وهو فكر ساذج بالفعل ناتج عن تخلف الثقافة األمريكية ـ وبين فكر‬
‫المؤسسة الحاكمة‪ ،‬وهو في رأيي وبالتأكيد' فكر عقالني منطقي غير ساذج وإ ن كان إجراميا وقادرا'‬
‫علي توظيف سذاجة وتخلف النحل المعنية‪.‬‬

‫وبالقطع ال تعتمد المؤسسة الحاكمة في صنع قراراتها علي مثل هذا "األمل"‪  ‬الغريب أال وهو‬
‫أن شعب إسرائيل علي وشك االهتداء بالمسيحية‬

‫فالمؤسسة الحاكمة األمريكية تعتمد في صنع قراراتها علي أسس أخري‪ .‬وتطور استراتيجيات‬
‫وتكتيكات' عقالنية تماما من أجل دفع مصالحها' االقتصادية والسياسية والجيو استراتيجية ال دخل‬
‫فيها لمقوالت الخرافة المذكورة‪.‬‬

‫وسوف نري أن التجاء رضا هالل إلي هذه الفرضية الغريبة أال وهي أن المؤسسة األمريكية‬
‫الحاكمة "تؤمن" بخرافة قصة اليمين المسيحي المتطرف' المذكورة ليحل عنده محل البحث عن‬
‫المصالح الحقيقية التي تمثلها هذه الطبقة الحاكمة إنما يلعب دورا أيديولوجيا معيناً فيؤدي' في نهاية‬
‫المطاف إلي عجز في رسم استراتيجية فعالة في مواجهة خطط العدو االستعماري الحقيقي‪.‬‬

‫مالحظاتي' التالية تخص نظرة رضا هالل لتاريخ المسيحية والهوتها‪ '،‬وهي نظرة ضعيفة‬
‫األساس تظهر أوجها عديدة من التجاهل الخطير في هذه المجاالت‪.‬‬

‫أوال‪ :‬يعلم الجميع أن التوراة كتبت في عصر‪  ‬نفى اليهود في بابل في القرن الخامس قبل‬
‫الميالد‪ ،‬وأن العودة المذكورة في الكتاب تشير إلي إنهاء هذا النفي ال غير؛ فال تمت بصلة للعودة‬
‫التي نادت بها الصهيونية الحديثة وعندما أقول "الجميع" أقصد األغلبية الساحقة في صفوف‬
‫المتدينين هنا وهناك وخاصة في أوروبا'‪ .‬أما الجماهير غير المتدينة فال تهتم أصال بتاريخ التوراة‬
‫ومقوالتها'‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫ثانيا‪ :‬ال يخلط المسيحي المتدين في أغلبيته الساحقة بين الشعب المسيحي وشعب إسرائيل‪.‬‬
‫فالمتداول عنده أن المسيحية ديانة أقيمت علي طموحات عالمية وبالتالي فإن مفهوم الكنيسة قد حل‬
‫محل شعب إسرائيل وذلك بشكل نهائي‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬ال يضفي المسيحي المتدين' ‪ ،‬في أغلبيته الساحقة‪ ،‬أهمية ما لقصة عودة المسيح وإ نهاء العالم‪ .‬فالتفسير الدارج‬
‫عن''ده عن فصل الرؤيا وع''ودة المس''يح وإ نه''اء الع''الم المنس''وب للق''ديس يوحنا إنما هو أن ه''ذه القصة تمثل تجليا آخر‬
‫لقصة إحي ''اء الم ''وتى الموج ''ودة لـدي ديـانات الكت ''اب الثالث بينما التفس ''ير ال ''ذى أص ''بح اآلن س ''ائداً عند المس ''يحيين‬
‫المحدثين فى البلدان المتقدمة ذات الثقافة العالية هو تفسير قائم على قراءة داللية للتراث الدينى‪.‬‬

‫لم يدرك رضا هالل أن ثمة اختالفا جوهريا بين ال'تراث التلم''ودي وك''ذلك الق''راءة النص''ية الموج'ودة عند البعض في‬
‫الش ''ريعة اإلس ''المية وبين الق ''راءة الحديثة ل ''تراث الاله ''وت المس ''يحي ال ''ذي لم يجد أمامه "نصا واح ''دا ك ''امال ونهائيا"‬
‫فتص''دي إلي نص''وص متع''ددة وغ''ير دقيق''ة‪ ،‬األمر ال''ذي ف''رض عليه االعتم''اد علي ق''راءة داللية للعهد الجدي''د‪ ،‬ح''تي‬
‫أص' ' ' ''بحت المس' ' ' ''يحية بالت' ' ' ''دريج عند أقس' ' ' ''ام مهمة ممن يعتنقونها – خاصة فى أمريكا الالتينية وأوربا ذات ال' ' ' ''تراث‬
‫الثورى كما يقال عنها "ديانة دون دوغما" هذه األقسام المهمة ال تمثل طليعة منعزلة عن شعوبها‪ ،‬لكن رسالتها‪ ،‬بكل‬
‫ما تنطوى عليه من سمو أخالقى وتوجه إنسانى شامل وترك''يز على آم''ال وحق''وق المستض''عفين فى األرض وتغليب‬
‫األمل فى المس''تقبل على عوامل الي''أس‪ ،‬تتمثل على المس''توى العقائ''دى في اإليم''ان ب''أن ثمة تالقيا س''وف يتبل''ور من‬
‫خالل تط''ور إنج''ازات اإلنس''انية الص''ادرة عن اإلله''ام ومش''روع ال''رب‪ .‬هك''ذا س''وف يتحقق بالت''دريج ج''وهر العقي''دة‬
‫القائلة بإن المخلوق قد خلق على صورة الخالق‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫لن أخوض هنا في مزيد من التفاصيل حول مختلف أوجه إشكالية مسيرة العقيدة الدينية‬
‫المعنية‪ ،‬مكتفيا باإلشارة إلي ما‪  ‬سبق أن كتبته (انظر العام والخاص فى الديانات الكبرى) وأقل ما‬
‫يمكن أن يقال عن منهج رضا هالل هو أنه قائم علي معرفة منقوصة للعقائد المذكورة وتجاهل‬
‫تطورها' والقضايا' التي تعارضت' علي أرضيتها مختلف تيارات الالهوت‪ ،‬علما بأن االستنتاج العام‬
‫الذي أشرنا إليه بشديد من اإليجاز يتعلق بجميع التيارات التقدمية (مثل الهوت التحرير') بل وأيضاً'‬
‫ببعض التيارات المحافظة التى ال تستطيع أن تنعزل تماما عن التقدم المفاهيمى العام الذى يسرى‬
‫منذ زمن فى مجتمعاتها' حتي أصبحت علي ضوئه أقوال النحل‪  ‬األمريكية تمثل "الشاذ" واالستثنائي'‬
‫ال العام والمقبول‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬تظهر تماما نواقص منهج رضا هالل في تناوله قضية "مصادر" األطروحة الشاذة التي‬
‫حال له أن يركز عليها‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫فلم تتجاوز نظرة الكاتب لحركة اإلصالح البروتستانتي حدود التعميمات الدارجة التي ال يقبلها‬
‫الدارس المثقف للتاريخ‪.‬‬

‫تنحصر' هذه النظرة في جملة واحدة (صفحة ‪ )166‬تقول إن "البروتستانتية أكدت الفرد وهو‬
‫الوصي' علي عقله والمسئول' عن نفسه بيد أنها جذرت التراث اليهو مسيحي"‪.‬‬

‫يعزي الجزء األول من الجملة إلي األطروحة التي قدمها' فيبر' في زعمه المشهور أن‬
‫البروتستانتية هي مصدر نشأة الرأسمالية‪ .‬وبالرغم من أن هذه األقوال قد اكتسبت شهرة في البالد‬
‫االنجلوسكسونية ـ ربما ألنها تمتدح دورها في إبداع الحداثة ـ إال أنها في واقع األمر ضعيفة‬
‫األساس‪ .‬فماركس ومن بعده العديد من علماء التاريخ قد طوروا' نظرة مختلفة تماما عن هذا‬
‫الفصل من التاريخ األوربي‪ '،‬فاعتبروا' البروتستانية شكال مبكراً وغير ناضج اكتفى بتكييف بعض‬
‫أوجه نظام المؤسسة الدينية لمقتضيات تنظيم' الحكم الجديد وهو بدوره ذو طابع تجميعي ضم معا‬
‫مصالح البورجوازية الناشئة ومصالح اإلقطاع' المهيمن سابقا‪  ،‬فأضفي طابعا وطنيا' للمؤسسة‬
‫الدينية البروتستانتية؛ كما‪  ‬أن ماركس قد أشار إلي الطابع الرجعي للحركة اللوثرية ـ وهو ناتج‬
‫تخلف ألمانيا ـ وتحالفها مع أمراء اإلقطاع ضد ثورة الفالحين‪ .‬أما المذهب الكلفيني الذي نشأ‬
‫وانتشر' في أقاليم متقدمة بالمقارنة مع أوضاع' ألمانيا فلم يمثل هو اآلخر حركة جذرية من أجل‬
‫تكريس سلطة البورجوازية وانعتاقها تماما عن قيود الماضي اإلقطاعي‪ .‬فلم تتحقق هذه الثورة في‬
‫شكلها الكامل إال بعد أن نضجت الظروف فأبدعت فلسفة التنوير' مفهوم العلمانية أي الفصل بين‬
‫الدين والدولة‪.‬‬

‫يبدو لي أن أهمية ما ذكرته هنا ـ ورضا هالل يتجاهل تماما مقومات هذا الفصل من تاريخ‬
‫الفكر األوروبي ـ هو أنه يفسر‪ ،‬جزئيا علي األقل‪ ،‬تخلف الفكر السياسي في أوروبا البروتستانتية‬
‫والسيما' في مجتمع ابنتها األمريكية الشمالية‪ ،‬وبالتالى' العقبات التي حالت دون قبول الفكر‬
‫الماركسي' في هذه المناطق'‪ .‬من هنا نستطيع' أن ندرك األسباب التي أدت إلي ظهور' الهوت‬
‫التحرير' التقدمي في األوساط الكاثوليكية بينما أصبحت بالفعل البروتستانتية أرضية خصبة إلنتاج‬
‫نحل رجعية متخلفة‪.‬‬

‫ويسير' الجزء الثاني من تعميم رضا هالل إلي إحياء قراءة التوراة في األوساط‬
‫البروتستانتية‪.‬المالحظة حقيقية وصحيحة في حد ذاتها إال أنها‪ ،‬ال تعني كثيراً وبالقطع ال تعني أن‬
‫المسيحية بشكل عام أصبحت بعد ذلك "يهو‪  ‬مسيحية" بصرف النظر عن االستخدام السياسى فى‬
‫أمريكا بوجه خاص لهذا االصطالح اللقيط الحديث‪ ،‬وعن مجاراة بعض مثقفى السلطة وأجهزة‬

‫‪57‬‬
‫اإلعالم المغرضة أو الجاهلة لمن ابتدعوا هذا المصطلح ألسباب مرتبطة فى نهاية األمر بالحرص‬
‫على إعطاء غطاء ثقافى أو دينى مقبول جماهيريا للتوافق بين مصالح اإلمبريالية األمريكية‬
‫فحصا' أعمق في أوجه التشابه‬
‫ً‬ ‫وأطماع' الصهيونية العالمية‪ .‬والحكم في هذه القضية يتطلب‪ ‬‬
‫والتباين بين ديانات الكتاب الثالث إذ إن كالً منها تعترف بالتوراة‪ .‬ويبدو أن رضا هالل غير‬
‫مؤهل في هذا المجال فأصبحت مالحظاته بهذا الصدد سطحية للغاية‪ .‬فعندما' يشير ـ علي سبيل‬
‫المثال ـ إلي "تأثير" الفيلسوف اليهودي بن ميمون على الفكر الغربي‪ ،‬ينسى تماما تأثير ابن رشد‬
‫األقوى' واألعمق‪ .‬ويرجع' نقص رضا هالل باألساس إلي تجاهله منهج الالهوت وتاريخ الفلسفة‬
‫األوربية وإ لي اكتفائه بأسلوب القراءة النصية وهي قراءه غريبة عن التراث الغربي المعني‪.‬‬

‫خالصة القول أن النظرية التي يقدمها رضا هالل تتسم بدرجة عالية من السطحية وهو يعمد‬
‫إلى تكرار العديد من األفكار المسبقة بل والخرافات التي نشرها حديثا اإلسالم السياسي' والتي‬
‫مصدرها' األساسى' خليجى في كثير من الحاالت‪.‬‬

‫وسوف نري اآلن أن نواقص رضا هالل في المجال السياسي المناسب لدراسة قضية التحالف‬
‫بين "الغرب" (أوروبا' والواليات' المتحدة) والصهيونية ثم دولة إسرائيل ال تقل خطورة عن نواقصه‬
‫فيما يستنتجه من قراءة العقائد الدينية المعنية هنا‪.‬‬

‫‪ -5‬يروج الخطاب السائد في المرحلة الراهنة مقولة "صراع الحضارات" والمقصود' من وراء‬
‫هذه المقولة هو القول بأن التناقضات' األساسية التي تحرك التاريخ المعاصر قد انتقلت من أرضية‪ ‬‬
‫الصراع الطبقي والمنافسة بين القوميات والدول إلي‪  ‬األرضية الثقافية وأن الثقافة المعنية هنا تتسم‬
‫بدورها' بطابع ثبات مقوماتها عبر التاريخ‪.‬‬

‫لن أناقش هنا هذه األطروحة التي تبدو لي اقرب إلي أن تكون برنامجا استراتيجيا' في خدمة‬
‫مصالح االستعمار' منها إلي نظرية قائمة علي أسس علمية صحيحة؛ فالمهم' بالنسبة إلي موضوعنا'‬
‫هنا هو أن نالحظ تطوير البعض لنظرية موازية في البالد العربية وهي نظرية تزعم أن "صراع‬
‫الحضارات" (وهو يتحول إلي صراع الديانات) ليس واقعا جديدا بل ظاهرة قديمة قدم العالقات بين‬
‫الغرب والشرق' كأن االنتماء الديني والعداء الدائم قد تحكما في العالقات بين "الغرب المسيحي"‬
‫والشرق' اإلسالمي" تحكما مطلقا حتي أصبحا المحرك األساسى' في رسم مسيرة التاريخ وفرضا‬
‫عليه خطا مستقيما وذلك منذ الحروب الصليبية إلي اليوم‪.‬‬

‫يبدو أن رضا هالل لم يتبن هذه النظرة فقط بل أضاف إليها؛ فتحول المسيحية إلي يهو مسيحية ‪ -‬هكذا‪ ،‬دون تحديد'‬
‫للمنطقة األمريكية التى نشأ وانتشر فيها هذا المصطلح أو بيان األسباب الحقيقية الختراعه فى هذا الوقت بال''ذات‪ -‬‬

‫‪58‬‬
‫قد أدي إلي وضع المس ' ''يحيين واليه ' ''ود في س ' ''لة واح ' ''دة في مواجهة المس ' ''لمين وبالت ' ''الي ف ' ''إن التح ' ''الف بين الغ ' ''رب‬
‫والص''هيونية ص''ار تحالفا ذا أص''ول‪  ‬دينية' تتج''اوز المص''الح السياس''ية واالقتص''ادية كما يج''رؤ رضا هالل أن يق''ول‪.‬‬
‫كأن االستيطان اإلسرائيلي في أرض فلسطين يمثل تكراراً للفتح الصليبي‪.‬‬

‫يكتظ كتاب رضا هالل بالتعليقات حول وقائع مختارة لكي توحي بأن تطور األمور قد خضع‬
‫بالفعل لهذا المحرك "الديني" الرئيسى بل والوحيد'‪ .‬ومن أجل تحقيق غرضه استبعد صاحب‬
‫األطروحة ألوف الوقائع' التي تشكك في صحة نظريته فليس هذا المنهج ناقصا من الزاوية العلمية‬
‫فقط بل أصبح تمرينا أيديولوجيا' ساذجا ومبتذال يحول دون فهم قضية الصهيونية وأسباب مساندة‬
‫االستعمار' لها فهما صحيحا‪.‬‬

‫علي سبيل المثال ينظر رضا هالل إلي الحروب الصليبية علي أنها حروب دينية وال غير‪ ،‬‬
‫متجاهال طابعها الرئيسي الحقيقي والثابت عند جميع المؤرخين أال وهو أنها تجليات للصراع‬
‫المتحكم في هذا الفصل من التاريخ من أجل السيطرة علي "طرق' الحرير"‪ .‬وفي هذا اإلطار سعي‬
‫كبار اإلقطاعيين غرب أوروبا' (اإلفرنج) إلي إنهاء احتكار الدولتين الشرقيتين على طرق التجارة‬
‫األساسية وهما دولة الخالفة اإلسالمية ودولة اإلمبراطورية الشرقية المسيحية‪.‬‬

‫هكذا نري أيضا أن النظرة األحادية الجانب لرضا هالل تحول دون فهمه للعديد من الوقائع‬
‫التي لعبت دورا‪  ‬حاسما في تطور‪  ‬تاريخ أوربا‪ ،‬مثل تحالف ملوك فرنسا مع السلطان العثماني‬
‫ضد إمبراطور' النمسا‪ ،‬األمر الذي ساعد علي فتح البلقان واقتراب' العثمانيين من فيينا‪.‬‬

‫هكذا ينقل رضا هالل تلك القصة التي روجت حديثا والمتعلقة بنداء بونابرت' لليهود عند‬
‫دخول جيوشه في فلسطين عام ‪ ،1798‬حتي صار األمر كأن بونابرت' قد اخترع الصهيونية قبل‬
‫تبلور' الظاهرة نفسها! كالم ساذج‪ ،‬يتجاهل طابع المشروع' األصلي وهو إقامة إمبراطورية شرقية‬
‫جديدة قادرة علي تهديد موقع اإلنجليز في الهند وإ ن بونابرت استخدم في هذا المنظور' جميع‬
‫وسائل "االنتهازية السياسية" ومنها‪ ،‬علي سبيل المثال‪ ،‬مشروع إسالم جيشه الذي أفشله شيخ‬
‫األزهر برفضه طلب بونابرت' لفتوى يستثنى بها الجنود من منع شرب الخمر!‪.‬‬

‫وفي' تناوله إلشكالية "المعاداة للسامية" لم يشر رضا هالل إال إلي ذلك التحول في موقف' لوثر‬
‫بعد أن رفض اليهود االهتداء بالمسيحية المطلوب منهم في دعوة زعيم اإلصالح‪ ،‬وال يذكر أياً من‬
‫الكتب العديدة التي‪  ‬درست المشكلة بأسلوب علمي حتي وضعت الجانب الديني في إطاره النسبي‬
‫وربطته بالجوانب االجتماعية األخرى (مثل كتاب إبراهام ليون مثال)‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫ليس رضا هالل مؤهال لفهم معقدات المشروع الصهيوني' وإ قامة دولة إسرائيل ومساندتها من‬
‫قبل القوي االستعمارية السائدة‪ .‬فالغرب المسيحي يبدو للقارىء المتعجل لكتاب رضا هالك كما لو‬
‫كان قد أصبح واحدا وبالتالي الحليف األصلي الطبيعي والدائم للمشروع الصهيوني؛ هكذا يتجاهل‬
‫فعل التناقضات' بين مختلف القوي االستعمارية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫علي سبيل المثال‪:‬‬

‫حقق المشروع' الصهيوني انتصاره األول من خالل تحالفه مع أهداف استراتيجية االستعمار‬
‫البريطاني الذي سعي إلي تكريس موقعه المهدد في مصر خالل الحرب العالمية األولي‪ .‬ولذلك‬
‫بالتحديد' امتنعت فرنسا' عن االعتراف بشرعية إعالن بلفور‪.‬‬

‫حدث التقارب بين فرنسا وإ سرائيل أثناء حرب الجزائر ومساندة النظام الناصري' للطرف'‬
‫الجزائري‪ ،‬ثم عندما تبلور‪ -‬في أعقاب تأميم القناة ـ التحالف الثالثي اإلسرائيلي الفرنسي‬
‫اإلنجليزي' اتخذت الواليات المتحدة موقفا معاد يا له‪ ،‬فاستغلت الظروف' من اجل تصفية مواقع‬
‫النفوذ األوربي' في الشرق األوسط' لصالح انفراد المصالح األمريكية‪ .‬ولم يشر رضا هالل إلي هذا‬
‫الفصل من التاريخ‪.‬‬

‫يرجع التح ''الف بين إس ''رائيل والوالي' ''ات المتح ''دة إلي فصل ح ''ديث من الت' ''اريخ المعاص ''ر‪ ،‬عن' ''دما أدركت واش'''نطن‬
‫اس ''تحالة اعتمادها علي النظم الوطنية الش ''عبوية (مصر وس ''وريا والع ''راق) وعن ''دما أثبتت إس ''رائيل من خالل ح ''رب‬
‫‪ 67‬ق''درتها العس''كرية المتفوقة علي ق''وي النظم العربية وقد أوضح الب''احث األم''ريكي (اليه''ودي) نورم''ان فنكلش''تان‬
‫‪  Nozman Finkelstein‬ذلك في كتابه الالمع حول (وضد) "صناعة الهولوكوست"‪.‬‬

‫من هنا يظهر التقاء مصالح إسرائيل والواليات المتحدة‪ .‬فإسرائيل فى حاجة إلى أن يظل العالم العربى ض''عيفاً ح''تى‬
‫تستمر فى مشروعها التوسعى‪ .‬وكذلك فإن مشروع الهيمنة األمريكية على صعيد ع''المى يقتضى هو اآلخر أن تظل‬
‫ال ' ''دول العربية فى موقع هش داخل المنظومة العالمية ح ' ''تى تض ' ''من واش ' ''نطن س ' ''يطرتها على ال ' ''ثروة النفطية وهى‬
‫بدورها شرط مهم من شروط تكريس قدرة أمريكا على التحكم فى أمور االقتصاد العالمى‪.‬‬

‫يقوم التحالف األمريكى' الصهيونى على االلتقاء فى هذه المصالح المهمة والمشتركة التى‬
‫يستحيل الفصل بينها بحيث إن االستراتيجية القائلة باالعتماد على واشنطن كوسيلة للضغط على‬
‫إسرائيل لن تغذى عدا أوهاما عقيمة‪ .‬كما أن المقوالت واألطروحات ذات الطابع األيديولوجى (بل‬
‫و"دينى" الشكل) ال تعدو كونها أدوات توظف فى خدمة المصالح السياسية المادية المذكورة وال‬
‫غير‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫وبناء على ذلك استبعدت أوروبا' من المسرح الشرق أوسطي األمر الذي يفسر بدوره وبقدر‬
‫كبير علي األقل موقف' الفاتيكان الذي لم يعترف بإسرائيل إال في أعقاب اتفاقية‪  ‬مدريد' عام‬
‫‪ ،1991‬أي بعد اعتراف الفلسطينيين والعرب أنفسهم‪ ،‬أين الجريمة هنا؟‬

‫وقد' وظف' العنصر' الديني بالفعل في كثير من التطورات التاريخية المعنية هنا‪ ،‬والسيما' من‬
‫خالل تعبئة صناعة الهولوكوست' المذكور' ولكن لم يكن يوما ما هذا العنصر' ال وحيدا في إضفاء‬
‫فعالية لالستراتيجيات وال حتي رئيسيا' في العديد من الحاالت‪.‬‬

‫لئن كانت االستراتيجية األمريكية تستغل أقوال (بل وخرافات) تيارات اليمين المسيحي‬
‫المتطرف' إال أنها تستغل أيضا تحالفها مع النظم اإلسالمية في الخليج وباكستان وغيرها‪  ‬وال تري‬
‫تناقضا' بل تكامال بين تحالفها مع الصهيونية من جانب وتكريس' عالقاتها باإلسالم السياسي من‬
‫الجانب اآلخر‪.‬‬

‫ثمة تعاطف حقيقى ـ في رأيي ـ بين الرأي العام األمريكي' والمشروع الصهيوني‪ ،‬وال شك‬
‫أيضا ـ في رأيي ـ فى أن أسلوب قراءه التوراة عند "البوريتان" اإلنجليز الذين شبهوا هروبهم' من‬
‫إنجلترا بهروب قدماء "العبرانيين" بحثا عن أرض الميعاد (حتي أصبحت أمريكا أورشليم' الجديدة)‬
‫قد لعب دوره في انتشار هذا التعاطف خارج األوساط األمريكية اليهودية‪.‬‬

‫‪ ‬علي أنني أطرح هنا أن ثمة عنصرا مشتركا آخر وأقوي' أال وهو أن الثقافتين األمريكية‬
‫واإلسرائيلية تقومان علي نفس مبدأ االستيطان وإ بادة السكان األصليين‪.‬‬

‫ليست العناصر' "الثقافية" هي محرك التاريخ األساسي‪ ،‬بالرغم من أهميتها والدور' الذي تقوم‬
‫به بفاعلية في مساندة االستراتيجيات' في بعض الحاالت‪.‬‬

‫‪ -6‬خالصة القول أن رضا هالل ينطلق من وصف' صحيح لمقوالت التيار المتطرف فى‬
‫اليمين المسيحى األمريكى' المعاصر‪ ،‬ثم يستنتج استنتاجات خاطئة تماماً‪ ،‬فهى‪  ‬استنتاجات ال عالقة‬
‫لها بالوصف المذكور‪ ،‬بل استنتاجات غريبة ومدهشة‪  ‬تتلخص فى جملة هى أن أطروحات اليمين‬
‫المسيحى ال تتمشى مع المصالح الحاكمة‪  ‬فى الواليات المتحدة! وبالتالى تصير المؤسسة األمريكية‬
‫الحاكمة بريئة بل هى‪  ‬ضحية تطرف رأى عام شعبى متخلف يفرض عليها مساندة المشروع‬
‫الصهيونى ألسباب "دينية" بحتة ناتجة عن قراءة معينة للتوارة والالهوت المسيحى!‬

‫‪61‬‬
‫ولم يذكر رضا هالل مرة ما يقصده بالمصالح األمريكية المعنية‪ .‬بل أزعم أن المنهج الذى‬
‫يستخدمه يجعل تحديد محتوى' هذه المصالح أمرا مستحيال‪  ‬حيث إنه منهج ال يهتم أصال بجوهر‬
‫مقومات المجتمع األمريكى' فيتجاهل طابعه الرأسمالى وهيمنة المال االحتكارى للشركات العمالقة‬
‫ذات النشاط العالمى وبالتالى كون االستراتيجيات' التى تطورها' المؤسسة الحاكمة (وهى فى خدمة‬
‫هذه المصالح)‪  ‬ذات طابع استعمارى' بالضرورة‪ .‬هى من ثم تعتمد على وسائل العنف المتزايد‬
‫(ومن هنا تحالفها مع الصهيونية فى منطقة الشرق األوسط') من أجل إخضاع‪  ‬العالم بأجمعه‬
‫والعالم الثالث بصفة خاصة لمقتضيات تحكم مصالح رأس المال األمريكى فى شئونها'‪ .‬وفى هذا‬
‫اإلطار تطور المؤسسة األمريكية الحاكمة وسائل عقالنية تماما فى خدمة األهداف التى تسعى إلى‬
‫تحقيقها‪ -‬والتحالف األمريكى‪ /‬الصهيونى جزء ال يتجزأ من هذه الوسائل العقالنية‪ -‬فاليمين‬
‫المسيحى هو فى خدمة هذه السياسة وليس داخال فى تناقض معها‪ .‬والمؤسسة الحاكمة هى التى‬
‫توظف' اليمين المسيحى وليس العكس‪.‬‬

‫يقوم منهج رضا هالل على انقالب عالقة السببية‪ -‬ولكى يتوصل' إلى هذا االنقالب كان البد‬
‫أن يفترض صاحب األطروحة من األصل أن العقائد الدينية ورؤياها للقضايا المطروحة هى التى‬
‫تحكم مسيرة التاريخ‪ .‬األمر الذى يفترض بدوره استبعاد' التساؤل حول كيفية تكوين‪  ‬الرؤى‬
‫"الثقافية" المعنية‪ .‬فال يهتم رضا هالل باكتشاف' األسباب التى تجعل مجتمعا ما (أو فئة معينة منه)‬
‫يميل إلى االهتداء بتفسير معين من بين العديد من التفسيرات التى تقبلها العقيدة والنص‪ .‬كما أنه ال‬
‫يهتم باكتشاف شبكة العالقات التى تربط مختلف الرؤى "الدينية" واألوجه األخرى للواقع‬
‫المجتمعى‪ .‬كأنك قدمت تفسيرا لسياسة دول الخليج من خالل قراءة نصوص مذهب الوهابية‬
‫وإ همال الطابع القبائلى للمجتمع المعنى والثروة النفطية!‬

‫ثمة قاسم مشترك يجمع منهج رضا هالل وخطاب اإلسالم السياسى' وخاصة الخليجى منه‬
‫وأطروحة هنتجتن المشهورة حول "صراع الحضارات" أال وهو االعتماد على الفرضية "الثقافوية"‬
‫القائمة على إهمال جميع جوانب الواقع االجتماعى عدا بعده "الثقافى"‪ .‬فالمنهج يخدم تماما‬
‫استراتيجية االستعمار األمريكى وطموحاته فى السيادة العالمية‪.‬‬

‫كما أن هناك تشابها عجيبا يستحق أن ُيذكر بين أطروحة رضا هالل والخطاب السياسى‬
‫لنظم الخليج‪ -‬فهى أيضا تزعم أن العيب ليس فى طابع الرأسمالية ومقتضيات' تحكمها بل فى‬
‫مقومات "الثقافة الغربية المسيحية"‪ .‬هكذا تصير ممارسات رأس المال المهيمن للشركات العمالقة‬
‫بريئة من المسئولية فيما يحدث من استخدام' وسائل العنف وعسكرة العولمة‪ -‬هكذا تصير المؤسسة‬

‫‪62‬‬
‫األمريكية الحاكمة بريئة مما يحدث فى فلسطين وهو ناتج الرؤية اليهومسيحية التى يفرضها‬
‫الشعب األمريكى' على قياداته‪ .‬أكان هذا التشابه من باب الصدفة؟‬

‫المؤتمر العالمي ضد العنصرية‬

‫(ديربان‪ ،‬سبتمبر ‪)2001‬‬

‫‪ ‬‬

‫بقلم د‪ .‬سمير أمين‬

‫‪ ‬‬

‫تع''ود أهمية الم''ؤتمر' الع''المي ضد العنص''رية ال''ذي انعقد في ديرب''ان في س''بتمبر ‪ ،2001‬إلى اآلف''اق'‬
‫التي فتح أبوابها‪ .‬لقد هبت في ديربان من جديد‪ ،‬رياح التضامن بين الشعوب اآلفروآس''يوية‪ ،‬وإ ع''ادة‬
‫بناء هذا التضامن هو أحد الشروط' الضرورية ـ بل لعله أهم ه'ذه الش'روط' ـ لبن''اء نظ'ام ع'المي أك''ثر‬
‫عدالة من ذلك النظ''ام ال''ذي يريد الس''بعة الكب''ار‪ ،‬بقي''ادة الوالي''ات المتح''دة‪ ،‬فرضه على بقية ش''عوب‬
‫العالم بجميع الوسائل‪ ،‬بما في ذلك أكثرها عنفاً‪.‬‬

‫لقد اتخ' ' ''ذت األمم المتح' ' ''دة خالل عقد التس' ' ''عينيات من الق' ' ''رن الماض' ' ''ي‪ ،‬المب' ' ''ادرة لعقد سلس' ' ''لة من‬
‫الم' ''ؤتمرات' العالمية ح' ''ول ع' ''دد من المش' ''اكل الك' ''برى ال' ''تي ب' ''رزت في عص' ''رنا ال' ''راهن (من بينها‬
‫مش ' ''اكل الفق ' ''ر‪ ،‬والس ' ''كان‪ ،‬والطفول ' ''ة‪ ،‬والم ' ''رأة‪ ،‬والبيئة)‪ ،‬واتبعت في تلك الم ' ''ؤتمرات أس ' ''لوب عقد‬
‫م''ؤتمر' رس''مي' للحكوم''ات‪ ،‬ومعه في ال''وقت نفس''ه‪ ،‬م''ؤتمر' لممثلي المجتمع "الم''دني"‪ .‬وبص''فة عام''ة‪،‬‬
‫نجحت القوى المسيطرة ح''تى اآلن ـ وهي الوالي''ات المتح''دة‪ ،‬يس''اعدها البنك ال''دولي (ال''ذي يتص''رف'‬
‫وكأنه وزارة الدعاية للسبعة الكبار)‪ ،‬وبيروقراطية األمم المتحدة ـ في التحكم في التعبير عن صوت‬
‫ه' ' ''ذا "المجتمع الم' ' ''دني" عن طريق' التموي' ' ''ل‪ ،‬والتالعب بأغلبية المنظم' ' ''ات غ' ' ''ير الحكومية‪ .‬وهك' ' ''ذا‬
‫س ' ''اهمت ه ' ''ذه المنظم ' ''ات بس ' ''ذاجة غريبة ـ ب ' ''افتراض حسن النوايا ـ في تمرير' اقتراح ' ''ات الق ' ''وى‬
‫المس''يطرة ال''تي تلغي في الواق''ع‪ ،‬مط''الب الش''عوب ال''تي يف''ترض أن ه''ذه المنظم''ات تتح''دث باس''مها‪،‬‬
‫واحتجاجاتها‪.‬‬

‫ولم يشذ م' ''ؤتمر' ديرب' ''ان عن ه' ''ذه القاع' ''دة‪ ،‬فقد ج' ''رت ص' ''ياغة الق' ''رارات ضد "العنص' ''رية" وجميع‬
‫دعي المش''اركون من الحكوم''ات والمنظم''ات غ''ير‬ ‫ٍ‬
‫أش''كال "التمي''يز" األخ''رى‪ ،‬بش''كل غ''ير م''ؤذ ‪:‬فقد َ‬

‫‪63‬‬
‫الحكومية إلى التعب''ير الجم''اعي عن الش''عور' بال''ذنب‪ ،‬واألسف' الس''تمرار' "بقايا" أش''كال التمي''يز ال''تي‬
‫تتعرض لها "الش'عوب األص'لية"‪ ،‬واألع'راق "غ'ير القوقازية" (باس'تخدام' التعب'يرات الرس'مية للوالي'ات‬
‫المتحدة)‪ ،‬والنساء‪ ،‬و"األقليات من الجنسين"‪ .‬وأُعدت توصيات غير مؤثرة في إط''ار أس''لوب التفك''ير‬
‫الق' ' ''انوني األم' ' ''ريكي ال' ' ''ذي يتص' ' ''ور' أن اتخ' ' ''اذ إج' ' ''راءات قانونية يكفي لحل المش' ' ''اكل‪ .‬أما الج' ' ''ذور'‬
‫األساس ''ية ألش ''كال التمي ''يز الرئيس ''ية والنابعة من انع ''دام المس ''اواة االجتماعية والدولية المترتبة على‬
‫األولي‪.‬‬
‫طبيعة الرأسمالية اللبرالية للعولمة‪ ،‬فقد جرى استبعادها من المشروع' ّ‬

‫ولكن هذه االستراتيجية التي رسمتها واش'نطن وش'ركاؤها' فش''لت بس'بب المش''اركة الكب''يرة للمنظم'ات‬
‫غ ' ' ' ''ير الحكومية من بل' ' ' ''دان أفريقيا وآس ' ' ' ''يا المص ' ' ' ''ممة على مواجهة القض ' ' ' ''ايا الحقيقية‪ .‬إن قض' ' ' ''ية‬
‫العنص''رية والتمي''يز العنص''ري‪ ،‬ليست محص''ورة في مجم''وع الممارس''ات المدانة ال''تي يتع''رض لها‬
‫الورثة البؤس ' ' ' ''اء للتح ' ' ' ''يزات "القديمة"‪ ،‬ال ' ' ' ''تي ما زالت‪ ،‬مع األس ' ' ' ''ف‪ ،‬كث ' ' ' ''يرة ومنتش ' ' ' ''رة بين جميع‬
‫المجتمعات في جميع أرجاء األرض‪ .‬إن العنصرية والتمييز' تخلقهما طبيعة النظ''ام الرأس''مالي الق''ائم‬
‫بالفعل وتوس''عه‪ ،‬وخاصة في ش''كله الل''برالي‪ ،‬وهي ال''تي تش''كلهما وتعيد تش''كيلهما‪ .‬وأش''كال العولمة‬
‫التي يفرضها رأس الم''ال المس''يطر وأتباعه (حكوم''ات الث''الوث‪ -‬الوالي''ات المتح''دة وأوروبا' والياب''ان‬
‫بالدرجة األولى)‪ ،‬ال بد أن تنتج "األبارتهيد" على المس' ''توى' الع' ''المي‪ .‬ه' ''ذا باختص' ''ار‪ ،‬هو مض' ''مون‬
‫الخط االس' ''تراتيجي' الع' ''ام ال' ''ذي تبنته المنظم' ''ات غ' ''ير الحكومية األفريقية واآلس' ''يوية المش' ''اركة في‬
‫مؤتمر' ديربان‪.‬‬

‫وحيث إن حكوم ''ات الس ''بعة الكب ''ار قد ت ''وقعت‪ ،‬من لهجة المناقش ''ات' الحامية ال ''تي ج ''رت في اللجنة‬
‫التحضيرية خطر هذه االستراتيجية‪ ،‬فقد قررت مقدماً مقاطعة المؤتمر‪ ،‬والحكم عليه "بالفشل"‪.‬‬

‫وقد' تمسك األفريقي ''ون' واآلس ''يويون بم ''وقفهم‪ ،‬وفي إط ''ار االس ''تراتيجية ال ''تي تبنوها فرض ''وا' مناقشة‬
‫نقطتين لم تكن الدبلوماسية الغربية تود االستماع إليهما‪.‬‬

‫ك ' ''انت النقطة األولى هي تلك المتعلقة بما ُس' ' ' ّمي "التعويض ' ''ات" المس ' ''تحقة في مقابل الخ ' ''راب ال ' ''ذي‬
‫ت'''رتب على تج'''ارة العبيد‪ .‬وقد اس'''تخدمت أق'''واس التنص'''يص إلب ''راز أن الموض ''وع ُع''رض بش'''كل‬
‫يكشف بوض' ' ' ''وح' عمق اله' ' ' ''وة ال' ' ' ''تي تفصل بين الط' ' ' ''رفين‪ .‬فقد ح' ' ' ''ول الدبلوماس' ' ' ''يون األمريك' ' ' ''ان‬
‫واألوروبي ' ''ون الموض' ''وع إلى الس' ''ؤال بلهجة التع ' ''الي واالحتق ' ''ار عن "المب ' ''الغ" ال' ''تي يطلبها ه' ''ؤالء‬
‫"الش ' ''حاذون المح ' ''ترفون" تعويض' ' 'اً عما لحق بهم من أض ' ''رار'‪ .‬لكن األفريق ' ''يين لم يكون ' ''وا ينظ ' ''رون'‬
‫لألمر به''ذا الش''كل‪ ،‬ف''األمر ليس مج''رد موض''وع' نق''ود تُ''دفع‪ ،‬ولكنهم' ك''انوا يط''البون ب''االعتراف ب''أن‬
‫االس' ' ' ''تعمار و اإلمبريالية ونظ' ' ' ''ام ال ' ' ' ''رق ال ' ' ' ''ذي ارتبط بهما هو المس ' ' ' ''ئول عن تخلف الق ' ' ' ''ارة وعن‬

‫‪64‬‬
‫'درا ال ي'ذكر مما‬
‫العنصرية بحيث أن ما يسمى اآلن المعونة ال'تي تمنح لل'دول األفريقية ال تمثل إال ق ً‬
‫تعويضا عن األضرار'‪ .‬وهذا الخطاب هو الذي أثار جنون ممثلي القوى الغربية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫كان يفترض دفعه‬

‫أما النقطة الثانية فهي المتعلقة بممارس'''ات' دولة إس'''رائيل‪ ،‬وهنا ك ''ان موقف' األفريق ''يين واآلس'''يويين‬
‫في غاية الدقة والوض ''وح'‪ .‬فاإلص ''رار' على إنش ''اء المس ''تعمرات اإلس ''رائيلية في األراضي المحتل ''ة‪،‬‬
‫وطرد' الفلسطينيين لمصلحة ه'ؤالء المس''تعمرين (وهو "تطه''ير ع'رقي" بكل وض'وح')‪ ،‬وخطة تحويل‬
‫فلس '''طين إلى بانتوس '''تانات' منعزلة (واس '''تراتيجية إس '''رائيل في ه' ''ذا الش' ''أن منقولة حرفي ' 'اً من نظ '''ام‬
‫األبارتهيد' ال' ' ' ''ذي قُضي غليه في جن' ' ' ''وب أفريقيا)‪ ،‬هي الفصل األخ' ' ' ''ير له' ' ' ''ذا الت' ' ' ''اريخ الطويل من‬
‫اإلمبريالية "العنصرية" بطبيعتها'‪.‬‬

‫وأعطى اإلش ' ' ''ارة لتخ ' ' ''ريب الم ' ' ''ؤتمر' الس ' ' ''يد األم ' ' ''ريكي بانس ' ' ''حابه هو وتابعه األمين إس ' ' ''رائيل‪ .‬أما‬
‫األوروبي'''ون‪ ،‬ال ''ذين ك ''انت تمثلهم أدنى المس'''تويات في ال'''ترتيب السياس ''ي‪ ،‬فقد ت ''ابعوا الحض'''ور في‬
‫الم ''ؤتمر‪ ،‬وب ''ذلوا أقصى ما يس ''تطيعون من الجه ''ود لح ''رف الممثلين األك ''ثر تعرض' 'اً للض ''غوط‪ '،‬مع‬
‫اس'''تخدام' أحط الوس'''ائل دون ت'''ردد (وقد أبلغ الكث'''ير من المن'''دوبين أن الس ''ؤال "ما المبلغ ال'''ذي تقبل‬
‫به؟" قد ُوجه إليهم صراحة)‪.‬‬

‫وقد' نجحت ه ''ذه الجه ''ود في الت ''أثير على الم ''ؤتمر الحك ''ومي للتخفيف من ق ''وة اقتراح ''ات' المن ''دوبين‬
‫األفريق'''يين واآلس'''يويين بالنس'''بة للتوص'''يات النهائية للم'''ؤتمر‪ .‬ومع ذلك ـ وفي ه ''ذا يكمن االنتص'''ار'‬
‫الحقيقي لمؤتمر ديربان ـ تأثرت الحكومات األفريقية واآلسيوية ذاتها بالرأي العام القوي في بلدانها‪،‬‬
‫كما استفزتها غطرسة الدبلوماسية الغربية‪.‬‬

‫وهك' ''ذا تهب ري' ''اح بان' ''دونج من جديد‪ .‬لقد افتتح م' ''ؤتمر بان' ''دونج (ع' ''ام ‪ ' ' )1955‬ال' ''ذي وضع أسس‬
‫التض '''امن اآلف' ''رو' آس '''يوي‪ ،‬وحركة ع' ''دم االنحي' ''از' (ال' ''تي تأخذ الي' ''وم ش' ''كل ع' ''دم االنحي' ''از للعولمة‬
‫اللبرالية)‪ ،‬ال''دورة األولى لحرك''ات التح''رر الوط''ني ال''تي غ''يرت ش''كل الع''الم‪ .‬وأي'اً ما ك''انت ن''واقص‬
‫األنظمة التي نشأت من هذه الدورة األولى لتح''رر الش''عوب من ن''ير اإلمبريالي''ة‪ ،‬ومهما ت''رتب عليها‬
‫من توقع ''ات' محبطة (وهو أمر ط ''بيعي في تط ''ور الت ''اريخ)‪ ،‬ف ''إن تآكل ه ''ذه األنظمة هو ال ''ذي س ''مح‬
‫بالهجمة المض''ادة من ج''انب رأس الم''ال المس''يطر لف''رض موجة العولمة اإلمبريالية الجدي''دة‪ .‬ولكن‬
‫الشروط' الضرورية لقيام موجة جديدة من حركات التحرر األبعد مدى تنضج أمام عيوننا‪ .‬وديرب''ان‬
‫دليل على ذل' ''ك‪ ،‬وغ' ''داً س' ''نرى مزي' ''داً من األدلة‪ :‬في اجتماع' ''ات منظمة التج' ''ارة العالمي' ''ة‪ ،‬وغيرها‬
‫بالتأكيد'‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫ونظ ''راً ألن م ''ؤتمر' ديرب ''ان ك ''ان انتص ''اراً للش ''عوب‪ ،‬فقد ب ''ذل الجه ''از ال ''دعائي للس ''بعة الكب ''ار جه ''داً‬
‫كب'''يراً لإلقالل من أهميت'''ه‪ ،‬ومن المؤسف أن وس'''ائل االتص'''ال الك ''برى لم تحض ''ره‪ ،‬بل اكتفت بنقل‬
‫الص ''ورة ال ''تي تح ''اول الوالي ''ات المتح ''دة وإ س ''رائيل إش ''اعتها عن ''ه‪ ،‬وهي‪ ،‬في أحسن الح ''االت‪ ،‬تنشر‬
‫مق ''االت ألن ''اس لم يحض''روا الم''ؤتمر' على اإلطالق‪ ،‬أو تنشر أك''اذيب ال أك''ثر وال أقل‪ .‬فالنص ''وص‬
‫المقترحة في ديرب''ان ال تع''بر عن "مع''اداة الس''امية" ب''المرة‪ ،‬وقد آن األوان ل''رفض الخض''وع لعملية‬
‫االبتزاز' المستمرة التي ترفض أية معارضة لسياسة دولة إسرائيل تحت هذه الحجة المبتذلة‪.‬‬

‫وتمثل ديرب ''ان‪ ،‬مثلها في ذلك مثل س ''ياتل‪ ،‬ونيس‪ ،‬وجوتب ''ورج‪ ،‬وجن ''وا‪ ،‬وبورتو' أليج ''ري‪ ،‬حلقة في‬
‫سلس' ' ''لة األح' ' ''داث اإليجابية الك' ' ''برى لعص' ' ''رنا' الحاضر'‪ .‬وقد آن األوان أن يفهم جميع أولئك ال' ' ''ذين‬
‫ي ' ''دينون‪ ،‬بح ' ''ق‪ ،‬االس ' ''تراتيجية اللبرالية الجدي ' ''دة للعولمة ال ' ''تي يفرض ' ''ها رأس الم ' ''ال المس ' ''يطر‪ ،‬أن‬
‫قضيتهم مشتركة‪ ،‬وأن معركة شعوب الجنوب ضد سياسة اإلمبريالية والهيمنة للواليات المتح''دة‪ ،‬ال‬
‫تقل أهمية عن تلك ال''تي يخوض''ها في البل''دان الرأس''مالية المتقدمة ذاته''ا‪ ،‬ض''حايا االس''تغالل وانع''دام‬
‫العدالة‪ .‬وبعد الهج ' ' ' ''وم اإلج ' ' ' ''رامي' على رمز الرأس ' ' ' ''مالية المتمثل في مركز التج ' ' ' ''ارة الع ' ' ' ''المي في‬
‫نيويورك ومبنى البنت''اجون‪ ،‬آن األوان ألن يفهم الجميع أنه ال يمكن قي''ام جبهة متح''دة ضد اإلره''اب‬
‫دون قيام جبهة متحدة ضد انعدام العدالة على المستويين الدولي واالجتماعي'‬

‫الفجوة بين الفقراء واألغنياء‬

‫(اإلشكاليات ‪ -‬اآلليات‪ -‬المستقبل)‬

‫‪ ‬‬

‫*‬
‫د‪ .‬سمير& أمين‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪-1‬أود أوالً أن أتطرق إلى بعض المالحظات المنهجية التى تحكم وجهة نظرى' فيما أسرده بعد‪.‬‬

‫فيما يتعلق بآليات إنتاج "الفقر" فال بد من تأكيد أن مفاهيم "الفقر" ‪" /‬الغنى" ‪" /‬التفاوت‬
‫االجتماعى" ‪" /‬العدالة االجتماعية" ليست مفاهيم علمية منضبطة‪ ،‬وإ نما وصفية فقط حيث تنطوى'‬

‫‪66‬‬
‫على مضمون أخالقى نسبى بالضرورة‪ ،‬إذ تختلف درجات التفاوت "المقبول" من ظرف آلخر‪،‬‬
‫مع علمنا بوجود' وسائل معروفة لقياس درجة التفاوت مثل "منحنى جينى"‪.‬‬

‫وال شك أن وجود' "الفقر"‪ ،‬ومن ثم الفجوة بينه وبين "الغنى"‪ ،‬يثير عدداً من األسئلة الصعبة‪،‬‬
‫غير أنى أكتفى هنا بتناول ما أعتقد أنهما السؤاالن الرئيسيان فى الموضوع'‪.‬‬

‫التساؤل العلمى األولى هو‪ :‬ما هى اآلليات التى تنتج شكالً معيناً من توزيع الدخل فى مجتمع‬
‫ما؟ أو بعبارة أخرى‪ :‬ترى ما هى آليات "إنتاج الفقر"؟‪  ‬فهل يمكن ‪-‬باألساس‪ -‬اعتبار ظاهرة‬
‫"الفقر" نتاج شروط' ظرفية‪ ،‬كأخطاء فى رسم السياسات االقتصادية يمكن إصالحها فى إطار‬
‫استمرار' نمط التشكيلية االجتماعية المعتبرة؟ أم هى نتاج عوامل من خارج مجال االقتصاد مثل‬
‫زيادة السكان أو الكثافة السكانية أو نقص فى الموارد الطبيعية… الخ؟ أم أن "الفقر " ظاهرة يجب‬
‫تتبع مصدرها' فى آليات إنتاج المجتمع‪ ،‬أى آليات محايثة (‪  )Immanent‬لنمط إنتاج معين؟‬

‫ويقودنا' التساؤل السابق إلى التساؤل الثانى الذى يتعلق بمستوى التحليل‪ ،‬أى ما هو المجتمع‬
‫الذى يجب اعتباره من أجل نقاش تلك اآلليات الخاصة بنمط اإلنتاج المعتبر الذى ينتج شكالً معيناً‬
‫من توزيع الدخل؟‬

‫·‪        ‬هل هو المجتمع المحلى (القطرى)؟‬

‫·‪        ‬أم هو المجتمع العالمى (باعتبار أن الرأسمالية نظام عالمى واطراد العولمة الرأسمالية)؟‬

‫‪   -1‬إن طرحى' األساسى' فى هذه المسألة ينطلق من بعدين‪-:‬‬

‫أوالً‪ :‬إن االستقطاب على صعيد عالمى هو ظاهرة محايثة للتراكم الرأسمالى على هذا‬
‫الصعيد‪ ،‬وليس نتاج ظروف' خاصة بالدول المكونة لهذه المنظومة‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬إن أشكال توزيع الدخل فى مختلف المجتمعات المكونة لهذه المنظومة العالمية ترتبط‬
‫‪-‬بدورها‪ -‬ارتباطاً' أساسياً بمنطق' التراكم على صعيد عالمى‪.‬‬

‫فالمنظومة العالمية ليست مجرد "جمع" منظومات' وطنية‪ ،‬وال تتحدد سمات تشكل النظام‬
‫العالمى وفق مجرد تفاعالت هذه المنظومات الوطنية‪ .‬وإ نما األمر على العكس من ذلك تماماً‪،‬‬
‫فالواقع' العالمى المحدد يتحكم ‪-‬إلى حد كبير‪ -‬فى مسارات النظم المحلية ويحدد' هامش قدرتها'‬
‫على "التكيف"‪ ،‬وبالتالى' تشكيل النظم االجتماعية القطرية‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫إن التوسع الرأسمالى على صعيد عالمى قد أنتج استقطاباً لم يسبق له مثيل منذ آالف السنين‪.‬‬
‫ففى أوائل القرن التاسع عشر لم يتجاوز مدى التفاوت األقصى' فى توزيع الثروة بين ‪ %80‬من‬
‫سكان الكوكب نسبة الواحد إلى اثنين‪ .‬وبعد قرنين من التوسع الرأسمالى' صارت هذه المعادلة‬
‫نسبة الواحد إلى ستين‪ ،‬بينما انكمشت نسبة سكان المراكز إلى ‪ %20‬فقط مكن سكان الكوكب‪.‬‬

‫‪-3‬ومن هنا يمكن أن نميز المرحلة األولى لالستقطاب وتشكيل' التفاوت االجتماعى على الصعيد‬
‫العالمى واألصعدة القطرية فى الفترة من عام ‪ 1800‬إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية‪ .‬أما عن‬
‫آليات االستقطاب المتحكمة فى هذه المرحلة‪ ،‬ومن ثم أنواع "الفقر" الناجمة عنها فنلحظ أوالً قيام‬
‫منطق التوسع الرأسمالى' على الصعيد العالمى على أساس "سوق' مبتورة"‪ ،‬أى الميل إلى تكوين‬
‫سوق' عالمية للمنتجات ورؤوس األموال دون أن يصاحبه ميل ِ‬
‫مواز إلى اندماج أسواق العمل‬
‫عالمياً‪.‬‬

‫وتجلى هذا المنطق فى إقامة تقسيم العمل الدولى على أسس غير متكافئة‪ ،‬أهمها انفراد قوى‬
‫الثالوث فى المركز (الواليات المتحدة‪ ،‬أوربا‪ ،‬واليابان) باإلنتاج الصناعى‪ ،‬وتخصيص دول‬
‫األطراف' إلنتاج الخامات (الزراعية والمعدنية) للتصدير'‪ .‬وقد صار هذا "التبادل غير المتكافىء"‬
‫اآللية الرئيسية الفاعلة فى إنتاج االستقطاب المعنى‪ ،‬أى امتصاص الفائض المنتج فى األطراف‬
‫لصالح المراكز‪.‬‬

‫وكان الشرط السياسى لضمان فعالية هذا التوسع هو التحالف بين رأسمالية المراكز من جانب‪،‬‬
‫ومن الجانب اآلخر الطبقات الحاكمة محلياً فى األطراف ‪-‬وهى طبقات ذات جذور' "اقطاعية"‬
‫سابقة ‪ -‬وتحويلها' إلى "برجوازيات كمبرادورية" أى تابعة‪.‬‬

‫وقد' ترتب على هذا التحالف تفاقم ظواهر الفقر فى ريف األطراف' (وهى الشكل الرئيسى' للفقر‬
‫"القديم") وما تجلى عن ذلك من تضخم حجم طبقة الفالحين المعزولين وتركز' الملكية العقارية‪..‬‬
‫الخ‪ .‬وهو األمر الذى أحدث تفاقماً ملحوظاً فى أشكال توزيع الدخل المحلى‪.‬‬

‫‪-4‬أما المرحلة الثانية لالستقطاب فهى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية‪ .‬وكانت مقدماتها‬
‫فى المرحلة السابقة حيث أنتج االستقطاب المترتب على التوسع الرأسمالى' فى تلك المرحلة‬
‫انتفاضات ضد النظام السائد تجلت فى ثورات اشتراكية فى روسيا والصين (وهى مناطق' طرفية‪،‬‬
‫ولم يكن هذا مجرد صدفة) وفى ثورات التحرر الوطنى فى آسيا وأفريقيا'‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫وقد' كان االنتصار المزدوج للقوى الشعبية والديمقراطية ضد الفاشية والكولونيالية القديمة‬
‫بمثابة فاتحة لمرحلة جديدة من التراكم الحثيث‪ ،‬فساد رواج (ارتفاع معدالت النمو) فى األقسام'‬
‫الثالثة للمنظومة‪ :‬الغرب والشرق والجنوب‪.‬‬

‫وتجلى هذا الرواج فى تبلور أشكال اجتماعية خاصة بكل قسم من هذه األقسام الثالثة؛ فكانت‬
‫دولة الرفاهية ‪  Welfare state‬فى الغرب‪ ،‬وبناء االشتراكية فى الشرق‪ ،‬وتجارب' إنجاز مشروع‬
‫تنمية وطنية مستقلة فى الجنوب‪.‬‬

‫وبالرغم من تباين خصوصيات هذه األشكال الثالثة‪ ،‬فقد كان بينها قاسم مشترك أال وهو قيامها‬
‫على توازنات اجتماعية عملت لصالح الطبقات الشعبية ‪ -‬ولو نسبياً على األقل‪ ،-‬أى أقيمت على‬
‫أساس ظروف اجتماعية مالئمة لتعجيل النمو‪.‬‬

‫إذن‪ ،‬كان الرواج نتاج تكيف التراكم لمقتضيات العالقات االجتماعية التى فرضتها' القوى‬
‫الديمقراطية والشعبية‪ ،‬وهو وضع معاكس تماماً "للتكيف" الذى يدعو إليه أصحاب النظام حالياً‪.‬‬

‫واتخذ تكيف التراكم لهذه المقتضيات االجتماعية ‪-‬فى المرحلة السابقة‪ -‬أشكاالً من "تقنين‬
‫األسواق'" ‪  Regulation‬خاصة بكل منطقة من المناطق' الثالث المذكورة‪ .‬فالرواج يأتى دائماً نتيجة‬
‫لتقنين األسواق‪ ،‬وليس نتيجة إطالق الحرية لها كما تدعى األيديولوجية الليبرالية السائدة حالياً‪.‬‬
‫فاألسواق ال تحقق "توازناً'" من تلقاء نفسها‪ ،‬إذ إن الطابع االنفجارى الذى تتسم به ال بد وأن ينتج‬
‫تصاعد التفاوت‪ ،‬ومن ثم أزمة تراكم‪ ،‬وهو ما نراه حالياً‪.‬‬

‫لقد نتج عن تقنين التراكم وتعجيل النمو المترتب عليه تحسن ملحوظ' فى أشكال توزيع الدخل‬
‫قطرياً' وعالمياً‪ ،‬ومن ثم تخفيف ظواهر' الفقر‪ .‬واتسمت هذه المرحلة بمعدالت مرتفعة فى العمالة‪،‬‬
‫كما ارتفعت مستويات' األجور' بموازاة معدالت نمو اإلنتاجية فى المراكز‪ ،‬فتقلصت البطالة‬
‫وأقيمت نظم ضمان اجتماعى فعالة فى المراكز‪.‬‬

‫أما فى الجنوب فقد قام الرواج على أساس تحقيق إصالحات على األصعدة الوطنية‪ ،‬من أهمها‬
‫اإلصالح الزراعى والتأميمات وإ صدار بعض القوانين لصالح العمل‪ .‬وبفضل هذه اإلصالحات‬
‫دخلت بلدان الجنوب فى مرحلة التصنيع والتحديث‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫ونضيف إلى ذلك أن ارتفاع معدالت النمو قد فتح الباب أمام تضخم الفئات الوسطى‪ '،‬وهى‬
‫الظاهرة المرتبطة بتقدم التعليم والتحضر والتصنيع‪ ،‬األمر الذى لعب دوراً أساسياً فى تخفيف‬
‫ظواهر' االستقطاب االجتماعى داخل المجتمعات المعنية‪.‬‬

‫‪-5‬ونأتى' إلى المرحلة الحالية‪ ،‬وهى مرحلة تفكك عالم ما بعد الحرب العالمية والعودة إلى‬
‫تصاعد ظواهر' االستقطاب والتفاوت االجتماعى والفقر‪.‬‬

‫فالتوازنات االجتماعية التى قام عليها التراكم الحثيث أخذت فى التآكل التدريجى‪ ،‬األمر الذى‬
‫أدى بدوره إلى سقوط النماذج الثالثة المذكورة‪ :‬دولة الرفاهية فى الغرب‪ ،‬وبناء االشتراكية فى‬
‫الشرق‪ ،‬ومشروع' الدولة الوطنية الشعبوية فى الجنوب‪.‬‬

‫وهو ما أدخل النظام فى أزمة هيكلية عنيفة منذ أوائل السبعينيات‪ .‬واتخذت هذه األزمة مظاهر‬
‫عدة من أهمها انخفاض معدالت النمو والتراكم والعودة إلى مستويات' مرتفعة من البطالة فى‬
‫الغرب‪ ،‬واتجاهات نحو الخلف (أى التكور') فى مناطق' عديدة من الشرق االشتراكى سابقاً ومن‬
‫الجنوب‪ .‬وتجلت هذه األزمة فى أن األرباح المستخرجة من االستغالل الرأسمالى أصبحت ال تجد‬
‫منافذ' كافية لالستثمارات' المربحة القادرة على إعادة توسيع القدرات اإلنتاجية‪.‬‬

‫وقد' حدثت خالل مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية تغيرات ملحوظة فى هرم ترتيب األمم‬
‫فى المنظومة العالمية‪ ،‬من بينها انقسام العالم الثالث السابق إلى مجموعتين من التشكيالت‬
‫الرأسمالية الطرفية‪ :‬إحداهما حققت بالفعل ‪-‬من خالل التصنيع‪ -‬قدرة على مواجهة المنافسة فى‬
‫األسواق' العالمية فى مجال تصدير' المنتجات الصناعية‪ ،‬أما المجموعة األخرى فلم تتحقق لها هذه‬
‫القدرة بعد‪.‬‬

‫ويرجع' مصدر' التباين بين المجموعتين إلى اختالف كيفى وليس كمياً فقط‪ .‬فالمجموعة األولى‬
‫قادرة على المساهمة فى تشكيل المنظومة العالمية بصفتها فاعلة‪ ،‬وعلى أن تطور استراتيجياتها‬
‫الخاصة التى تدخل فى تناقض وتفاعل مع خطط الثالوث المهيمن‪ ،‬ومن ثم تستحق' تسميتها'‬
‫"بالعالم الثالث"‪ .‬أما المجموعة الثانية فهى فى موقع المفعول به والعاجز' عن تطوير استراتيجيات‬
‫خاصة به‪ ،‬فالقوى' المهيمنة عالمياً هى التى تفرض على بلدان هذه المجموعة "تكيفاً" أحادى‬
‫الجوانب والخضوع الحتياجات التوسع االستعمارى‪ ،‬وهى بهذا المعنى منطقة مهمشة تماماً‪ ،‬ومن‬
‫ثم يمكن أن نطلق عليها "العالم الرابع"‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫وتتجلى' فى المرحلة الراهنة (مرحلة أزمة التراكم) ظواهر' متجددة من التفاوت االجتماعى‬
‫والفقر يمكن أن نسميها أشكاالً من "تحديث الفقر"‪ .‬فال تزال مجتمعات األطراف تعانى من حجم‬
‫كبير "لجيش احتياطى" من قوى' العمل يستحيل امتصاصها' فى إطار سيادة منطق التراكم‬
‫الرأسمالى‪ ،‬وخاصة فى إطار انفتاح التراكم المحلى على العولمة الليبرالية وإ طالق حرية األسواق‬
‫دون تقنين يذكر‪ .‬فالمنافسة فى هذه األسواق المفتوحة تفترض تركيز االستثمارات فى مشروعات‬
‫تمتص أمواالً هائلة نظراً الحتياجات التكنولوجيات الحديثة‪ ،‬وبالتالى' يتقلص االهتمام برفع‬
‫مستويات' اإلنتاجية فى القطاعات التى تعمل فيها أغلبية قوى العمل‪.‬‬

‫وإ ذا كانت ظواهر "تحديث الفقر" قد أخذت فى البروز' خالل المرحلة األخيرة للنظم االشتراكية‬
‫والنظم' الوطنية الشعبوية (أى مرحلة التآكل والتفكك)‪ ،‬إال أنها قد تفاقمت بحدة خالل العقدين‬
‫األخيرين مع دخول آليات التراكم أزمتها الراهنة‪.‬‬

‫ويمكن أن نعدد بعض األشكال المستحدثة من التفاوت والفقر فى الظواهر' اآلتية‪-:‬‬

‫·‪   ‬تفاقم التفاوت فى توزيع الدخل على األصعدة القطرية (فى جميع بلدان العالم) وعلى‬
‫الصعيد العالمى (بين الغرب من جانب والشرق والجنوب من الجانب اآلخر)‪.‬‬

‫·‪        ‬العودة إلى مستويات' مرتفعة من البطالة فى الغرب‪.‬‬

‫·‪   ‬انتقال ظواهر' الفقر فى الجنوب من الريف التقليدى إلى المدن والعواصم' الكبرى من خالل‬
‫هجرة المهمشين فى الريف (تكون مجتمع "ريفى" داخل المدن)‪.‬‬

‫·‪        ‬ظهور' أشكال جديدة من العمل فى أنشطة قليلة اإلنتاجية (القطاع "غير الرسمى")‪.‬‬

‫·‪   ‬توقف آليات توسع حجم الفئات الوسطى' ودخول' هذه الفئات فى مرحلة انخفاض حاد فى‬
‫دخولها' ("بلترة") الفئات الوسطى‪.‬‬

‫إن كل تلك التطورات السلبية تتجمع معاً لتشكل ظاهرة إجمالية أطلق عليها "التهميش"‪.‬‬

‫هذا من زاوية "قطب الفقر"‪ .‬أما من زاوية القطب اآلخر‪" ،‬قطب الغنى"‪ ،‬فقد أدت التطورات‬
‫ذاتها إلى صعود طبقة كمبرادورية جديدة تتركز الثروة فى أيديها‪.‬‬

‫إذن فإن اختالل التوازنات االجتماعية لصالح تحكم راس المال تحكماً أحادى الجوانب يمثل‬
‫السبب الرئيسى' فى إعادة إنتاج التفاوت االجتماعى والفقر‪ ،‬وإ ن بأشكال "مستحدثة"‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫وبالتالى' فإن مشروعات "التخلص من الفقر" (حسب لغة البنك الدولى) لن تكون فعالة‪ ،‬بل‬
‫ستظل حبراً على الورق‪ ،‬ما لم يتم التخلى عن اعتناق مبدأ سيادة السوق' الحرة‪ ،‬والعودة إلى مبدأ‬
‫تقنين األسواق‪ ،‬األمر الذى يفترض بدوره الشروط' اآلتية‪-:‬‬

‫أوالً‪ :‬على المستوى' القطرى‪ ،‬إقامة نظم حكم ديمقراطية جذرية ذات مضمون اجتماعى‬
‫حقيقى‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬على المستوى' العالمى‪ ،‬بناء عولمة بديلة متعددة األقطاب تتيح هامشاً لتحرك الطبقات‬
‫الشعبية فى مختلف المجتمعات المكونة للمنظومة العالمية بما يمكن من حلول هذه العولمة البديلة‬
‫محل نمط العولمة الليبرالية السائدة‪.‬‬

‫‪ -6‬أخيراً أتحدث عن تحديات المستقبل ممثلة فى االستقطاب الجديد اآلخذ فى التكوين‪ ،‬أال‬
‫وهو مشروع العولمة الليبرالية تحت هيمنة الواليات المتحدة األمريكية‪.‬‬

‫وفى' البدء البد من تسجيل أن التطورات التى طرأت على المنظومة العالمية مؤخراً' قد أدت‬
‫إلى تبلور' تدريجى' لوسائل جديدة لضمان السيطرة على صعيد عالمى لصالح الثالوث المركزى'‬
‫المهمين وهى ما أطلق عليها "االحتكارات الخمسة الجديدة"‪.‬‬

‫(أ)احتكار التكنولوجيات' الحديثة‪ ،‬وهو ما يؤدى' إلى تحول صناعات األطراف إلى نوع من‬
‫إنتاج الباطن حيث تتحكم احتكارات المركز فى مصير هذه الصناعات وتصادر النصيب األعظم‬
‫من أرباحها المحققة‪.‬‬

‫(ب)احتكار المؤسسات المالية ذات النشاط العالمى‪ ،‬وهو يكمل عمل االحتكار السابق فى تدعيم‬
‫هيمنة المركز على التصنيع من الباطن فى األطراف'‪.‬‬

‫(ج) احتكار القرار فى استخراج واستخدام الموارد الطبيعية على صعيد عالمى‪ ،‬والتحكم' فى‬
‫خطط تنميتها من خالل التالعب بأسعارها‪ '،‬بل وقد يصل األمر إلى االحتالل العسكرى' المباشر'‬
‫للمناطق' الغنية بهذه الموارد'‪.‬‬

‫(د) احتكار وسائل اإلعالم الحديثة على صعيد عالمى كوسيلة فعالة لصياغة والتأثير' فى‬
‫"الرأى العام" بما يدعم الهيمنة وخططها' عالمياً وقطرياً'‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫(هـ) احتكار أسلحة التدمير الشامل والوسائل' العسكرية المتطورة التى تتيح التدخل "من بعيد" أو‬
‫"من فوق'" دون خوض عمليات حربية طويلة ومكلفة بشرياً'‪.‬‬

‫إنها احتكارات خمس متضامنة ومتكاملة وتعمل معاً إلعطاء قانون القيمة المعولمة الجديد‬
‫مضمونه‪ .‬وليس هذا القانون تعبيراً ‪-‬بحال من األحوال‪ -‬عن ترشيدية اقتصادية "محضة" يمكن‬
‫فصلها' عن السياقات االجتماعية والسياسية التى يعمل فيها هذا القانون‪.‬‬

‫بل إن قانون القيمة هو تعبير "مكثف" عن هذه التكيفات االجتماعية والسياسية‪ .‬إذ إن التكيفات‬
‫المذكورة تعمل على إلغاء مغزى تصنيع األطراف من خالل تخفيض القيمة المضافة المنوطة‬
‫بهذه الصناعات‪ ،‬بينما ترفع فى المقابل نصيب القيمة المضافة فى األنشطة المرتبطة باالحتكارات‬
‫الخمسة إياها‪ .‬إذن فهى تكيفات تنتج تراتبية جديدة غير متكافئة تمثل جوهر الشكل الجديد‬
‫والمستقبلى' لالستقطاب على صعيد عالمى‪.‬‬

‫ذلكم هو منطق آليات الرأسمالية المعاصرة‪ .‬ولن يؤدى عمل قانون القيمة المعولمة إلى‬
‫"اللحاق"‪ ،‬حتى بالنسبة لذلك الفريق من بلدان األطراف (الذى أسميه "العالم الثالث") األكثر تقدماً‬
‫ونجاحاً' فى التصنيع ومواجهة المنافسة فى األسواق' العالمية‪ ،‬وإ نما سوف' يؤدى' على العكس تماماً‬
‫إلى مزيد من االستقطاب‪ ،‬أى تفاقم ظواهر الفقر "الجديدة"‪ ،‬وإ ن كان ذلك سيأخذ أبعاداً أكثر حدة‬
‫فى ما أسميه "العالم الرابع"‪.‬‬

‫وجدير' بالمالحظة أن نمط االستقطاب هذا آخذ فى التكون والتبلور' فى ظل تفاعالت وتداعيات‬
‫مشروع' يرمى إلى زيادة ضمان هيمنة الواليات المتحدة حتى على مشاركيها فى "الثالوث‬
‫المركزى'"‪ ،‬أى فرض عولمة ليبرالية تحت قيادتها' ليصبح القرن الحادى والعشرون هو "القرن‬
‫األمريكى'" بحق‪.‬‬

‫بيد أن البحث المدقق والمتعمق فى صميم هيكل المجتمع األمريكى وعالقاته بالمنظومة‬
‫العالمية يوضح أن طاقاته أقل من طموحاته‪ .‬فالواليات' المتحدة تعانى من عجز مزمن فى ميزانها'‬
‫التجارى‪ ،‬أى أنها ال توفر' لباقى العالم األموال الالزمة لدفع التوسع الرأسمالى قدماً وبما يضمن‬
‫شروط' إعادة إنتاج هيمنتها‪ .‬وهو وضع يختلف عن وضع بريطانيا' فى القرن التاسع عشر حيث‬
‫كانت األخيرة تصدر' أمواالً للعالم كله فى ظل وجود فائض هيكلى للميزان التجارى البريطانى‪،‬‬
‫ومن ثم توفرت' لها الشروط' المالئمة إلعادة إنتاج موقعها المهمين‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫أما الواليات المتحدة فهى أكبر مستورد' لألموال‪ ،‬ومن ثم أصبحت مجتمعاً طفيلياً يمتص‬
‫النصيب األعظم من الفائض المنتج خارجه‪ .‬وال شك أن استمرار' هذا الوضع الهش رهين‬
‫برضوخ' بقية بلدان العالم لتفاقم إفقارهم بال نهاية‪ .‬ونظراً إلدراك الواليات المتحدة التام لذلك فإنها‬
‫تسعى بدأب إلى تعويض ضعفها االقتصادى' باستغالل تفوقها العسكرى والنووى‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫إقناع شركائها فى "الثالوث المركزى'" بضرورة تسليم زمام إدارة العالم لحلف شمال األطلنطى‪،‬‬
‫حتى تتحقق عبارة كيسنجر الذائعة‪" :‬العولمة ليست إال مرادفاً للهيمنة األمريكية"‪.‬‬

‫من كل ما سبق تتجلى أمامنا حقيقة ساطعة ال ضير من تكرارها‪ ،‬أال وهى أن ردم الفجوة بين‬
‫األغنياء والفقراء ‪-‬عالمياً وقطرياً‪ -‬يتطلب عملية تحرر مزدوج من العولمة الليبرالية ومن الهيمنة‬
‫األمريكية‪ ،‬فهما وجهان لعملة واحدة يستحيل الفصل بينهما‪ .‬‬

‫‪        ‬‬

‫العولمة وقضية مستقبل مجتمعات الفالحين‬


‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫د‪ .‬سمير أمين‬

‫‪ ‬‬

‫لماذا هذا االختيار؟‬

‫‪              -1‬ألنها قضية تخص نصف البشرية ‪ 3‬مليار ‪1500-700-800‬‬

‫‪              -2‬ألن األفكار' و السياسات المطروحة فى هذا المجال (اقتصاد' الزراعة) تقوم على فرضيات‬
‫ال تمت للواقع بصلة‪.‬‬

‫أقصد' فرضية ضرورة اختفاء المجتمعات الفالحية على نمط ما حدث فى الغرب (على أساس‬
‫تعميم و توسيع مجال فعل مبادئ المنافسة فى أسواق غير مقننة)‬

‫‪              -3‬ألن دراسة هذا البعد من التحدى ناقصة فهى‪:‬‬

‫‪74‬‬
‫‪ -‬تركز على قضايا' ثانوية – مثل المساندات المالية التى تتمتع بها الزراعة فى أوروبا' و‬
‫أمريكا (موضع تبادل النظر فى الدوحة ‪)WTO‬‬

‫‪ -‬تجاهل المحور' األساسى' فى التحدى‪ :‬الطابع الهدام لفعل السوق' الحر فى هذا المجال‪.‬‬

‫الخالصة‪:‬‬

‫‪ -‬القضية المطروحة منى هى قضية محورية فى إشكالية العولمة ومواجهة تحدياتها‪.‬‬

‫‪ -‬اإلجابة على األسئلة المطروحة سوف' تحدد سمات المستقبل بشكل يكاد يكون مطلق‪.‬‬
‫وبالتالى' تكون بعداً أساسياً فى تحديد البدائل و بناء كشف تحالف القوى االجتماعية‬
‫والسياسية الالزمة من أجل تحقيق البديل األفضل‪.‬‬

‫تحليل الوضع الراهن و تحديد عناصر التحدى‪:‬‬

‫ينقسم قطاع إنتاج الزراعة إلى مجموعتين من األنماط ‪:‬‬

‫‪              -1‬النمط الرأسمالى المتقدم‪:‬‬

‫أ‪ -‬سماته‪ - :‬إنتاج للسوق ‪ ،‬االستهالك الذاتى أصبح نسبة ال تذكر‪.‬‬

‫‪ -           ‬اندماج شامل فى البنية الرأسمالية بمعنى االعتماد على أسواق' المال للحصول على‬
‫تمويل المعدات والمدخالت (باإلضافة إلى ذلك‪ :‬احتكار الزراعة الرأسمالية على وسائل الميكنة)‬

‫‪ -           ‬االعتماد على أسواق' االستهالك التى تسيطر عليها الصناعات الغذائية‪.‬‬

‫‪                  ‬الكل يكون قطاع فى حد ذاته ‪Agro-business‬‬

‫ب‪ -‬مدى انتشار هذا النمط ‪ :‬ينحصر' على شمال أمريكا و أوروبا و المخروط الجنوبى فى أمريكا‬
‫الالتينية و أستراليا' ويخص ‪ 20‬مليون مزارعين (ليسوا فالحين)‪ +‬شركات الـ ‪Agro-business‬‬

‫ج‪ -‬القدرة التنافسية هائلة و فى الصعود' المتواصل'‪ :‬إنتاج الفرد العامل ‪ 10000‬إلى ‪20000‬‬
‫قنطار' قمح أو ما يعادله (باإلضافة تتمتع بأفضل' األراضى' الزراعية و بمساحات مناسبة)‬

‫د‪ -‬أنماط المجتمعات الفالحية‪ 3 :‬مليار‬

‫‪75‬‬
‫سمة مشتركة ‪ :‬إنتاج للسوق' و لالستهالك الذاتى أى نمط مجتمعى (أوسع من مفهوم نمط‬
‫اقتصادى) مندمج جزئياً فى البنية الرأسمالية الحاكمة‪.‬‬

‫‪    ‬تتقاسم هذه األنماط إلى ‪:‬‬

‫‪ -   ‬نماذج انتفعت من الثورة الخضراء (أسمدة ‪-‬مبيدات‪-‬بذور' منتقاة) ‪ 1.5‬مليار ميكنة محدودة‬

‫‪      ‬حيازات مساحات صغيرة… إنتاج الفرد العامل ‪ 100‬إلى ‪ 500‬قنطار‬

‫‪ -   ‬نماذج لم تنتفع بعد من الثورة الخضراء‪ :‬إنتاج الفرد ‪ 10‬قنطار إلى ‪ 1.5‬مليار‬

‫‪ ‬‬

‫هل هناك قدرة تنافسية لزراعة المجتمعات الفالحية فى مواجهة الزراعة الرأسمالية؟‬

‫‪ -‬نسبة إنتاج الفئة ‪ /‬الفرد األكثر تقدماً إلى إنتاج الفئة ‪ /‬الفرد األكثر تخلفاً‬

‫قبل ‪   10     1940‬إلى ‪1‬‬

‫اآلن‪ 200            ‬إلى ‪1‬‬

‫‪ -‬أى أن التفاوت فى توزيع اإلنتاجية أعظم فى مجال الزراعة مما هو عليه فى مجاالت‬
‫اإلنتاج الصناعى‪.‬‬

‫إذا كانت بعض القطاعات الصناعية تستطيع أن تواجه تحدى السوق' المفتوح (باالعتماد على‬
‫رخص األيدى العاملة) فإن الزراعة للعالم الثالث ال تستطيع' أن تواجه منافسة زراعة العالم األول‬
‫مهما كانت الظروف بالنسبة إلى مقدار المساعدات التى تتمتع بها هذه األخيرة‪.‬‬

‫‪ -‬المسألة الزراعية الجديدة (تحدى رئيسى' للقرن ‪ )21‬ناتج التطور' غير المتكافئ المذكور‬

‫‪ -‬واآلن تتطلع الزراعة الرأسمالية إلى هجوم ضخم على اإلنتاج الفالحى‪.‬‬

‫التعبير عن هذا الهدف‪" :‬يجب اعتبار إنتاج الغذاء واإلنتاج الزراعى بشكل عام على أنه إنتاج‬
‫سلعى شأنه فى ذلك شأن القطاعات السلعية األخرى"‬

‫‪76‬‬
‫ويستدرج من هذا المبدأ‪ :‬اعتبار األرض الزراعية نفسها سلعة (تجاهل حق الفالح فى استخدام'‬
‫األرض) عملية مماثلة للعملية التى حدثت فى إنجلترا بإسم الـ ‪ enclosure‬على صعيد عالمى‪.‬‬

‫ماذا سيحدث فى فرضية تطبيق مبادئ فتح األسواق غير المقننة؟‬

‫‌أ‪                 -‬نتخيل‪ 30 :‬إلى ‪ 50‬مليون مزارعين جدد ينتجون ما ينتجه حالياً ‪ 3‬مليار فالح لألسواق'‬
‫المحلية و الدولية‪.‬‬

‫‪   ‬شروط إنجاح هذا البديل‪:‬‬

‫‪ -‬نقل ملكية قطاعات هامة من أفضل األراضى' إلى هؤالء (و حرمان الفالحين منها)‬

‫‪ -‬التوصل إلى أسواق' المال (لشراء المعدات) و أسواق' االستهالك‪.‬‬

‫ب‪            -‬ماذا سيحدث بالنسبة إلى ‪ 3‬مليار إنسان؟‬


‫‌‬

‫حالياً هؤالء يغذون أنفسهم بإنتاجهم – يتم ذلك بصعوبة شديدة حيث أن ‪ 3/4‬السكان الذين تحت‬
‫خط التغذية فى العالم هم ريفيون ‪ ،‬يصبحون إذاً "زائدى الحاجة" ‪" ،‬غير مطلوبين" – نظرة قريبة‬
‫من نظرة إبادة الناس و لكن الحجة المقدمة إلضفاء شرعية لمذهب المنافسة أن مثل هذا التطور‬
‫حدث بالفعل فى أوروبا و أنتج فى النهاية مجتمع حديث ثرى و حضرى ‪ /‬صناعى باإلضافة إلى‬
‫زراعة قادرة على تغذية المجتمع (على مستوى ثرى) بل على التصدير ( بـ أو بدون مساندات‬
‫مالية)‬

‫هل يمكن تكرار هذا النمط فى العالم الثالث المعاصر؟' (هذا هو تحديد التحدى بالذات)‬

‫‪ ‬‬

‫استحالة استيعاب مليارات الفالحين "الزائدين'" فى تنمية' القطاعات المحدثة الصناعية و الخدمية الحضرية‪:‬‬

‫‌أ‪                 -‬طورت نمطاً رياضيا بسيطاً (تم نقاشه فى الصين) يثبت ذلك‬

‫‪ ‬فرضية خيالية بالنسبة إلى معدالت نمو القطاعات المحدثة ‪ 5 :‬إلى ‪ % 7‬سنوياً' – متفائلة بالنسبة‬
‫إلى انخفاض معدل نمو السكان ‪ 1.6‬إلى ‪%1.2‬‬

‫‪ ‬النتيجة‪ :‬يظل "حجم االحتياطى الريفى" ثابتاً أو يكاد‬

‫‪77‬‬
‫إذن الخيار‪ :‬سياسات تقوم على مبدأ العمل حسب آليات المنافسة فى أسواق غير مقننة تؤدى إلى‪:‬‬

‫هجرة مئات الفالحين من الفالحين المستبعدين عن اإلنتاج الريفى إلى أحياء عشوائية ‪ ،‬مدن‬
‫الصفائح (كوكب مدن الصفائح) تحديث الفقر أو سياسات بديلة تسعى إلى إبقاء الفالحين فى الريف‬
‫وتحسين ظروفهم‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫أسباب استحالة تكرار نمط التطور الغربى باألساس هى‪:‬‬

‫‪              -1‬النموذج األوروبى تطور خالل قرن و نصف اتسمت الصناعة الصاعدة بأنها قامت على‬
‫عمالة كثيفة‪.‬‬

‫استحالة تكرار هذا التطور‪ :‬ألن المطلوب من الصناعة فى العالم الثالث هو أن تقوم على‬
‫تكنولوجيات حديثة (نسبياً) ذات اإلنتاجية المرتفعة كى تواجه احتياجات المنافسة فى األسواق'‬
‫الداخلة (التى تفترض أنها مفتوحة) و األسواق العالمية (و البنك الدولى يتعامى على هذا التناقض‬
‫الرئيسى' فى خطابه)‬

‫‪     -2‬أوروبا استفادت من الهجرة إلى أمريكا التى استوعبت "فائض سكانها" (هل أوروبا' و أمريكا‬
‫اآلن قابلين هجرة على نفس النطاق؟)‬

‫‪ ‬‬

‫الخالصة‪:‬‬

‫نمط العولمة المطروحة نمط إجرامى يفترض تفاقم الفقر ‪ ،‬بل إبادة فائض السكان "غير المطلوبين"‬

‫أصبحت الرأسمالية نظاماً "فات أوانه" ‪ ،‬دخلت مرحلة الترهل‬

‫‪ 50‬مليون حد أعلى من المستفيدين من "توسع األسواق"‬

‫‪ 3‬مليار يصبحون "غير مطلوبين"‬

‫‪ ‬‬

‫بعض األبعاد األخرى للقضية‪:‬‬

‫‪78‬‬
‫‪              -1‬ضمان األمن الغذائى‪:‬‬

‫و هو يمثل فى حد ذاته هدفاً هاماً من أهداف أى مشروع' تنموى' يستحق' هذه التسمية‪ .‬علماً بأن‬
‫تطبيق' مبادئ االنفتاح غير المقنن المطروح' من شأنه أن يلغى تماماً احتمال تحقيق الحد األدنى‬
‫المطلوب من األمن الغذائى‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪              -2‬ضمان استمرار التنوع البيولوجى‪:‬‬

‫و هو يمثل أيضاً فى حد ذاته هدفاً ضرورياً من أجل ضمان المستقبل و يتطلب احترام التنوع‬
‫المذكور' رفض ممارسات' الـ ‪ agro-business‬القائمة على تعظيم' الربح فى األجل القصير و لو‬
‫على حساب تضحية المستقبل األبعد و ال سيما أن الـ ‪ agro-business‬يسعى من وراء هذه‬
‫الممارسات' إلى تجريد المجتمعات الفالحية من الملكية بمعرفتهم الموروثة منذ أجيال و ذلك من‬
‫أجل تدعيم وسائل إخضاع الفالحين لمصالحها' هى‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫البديل‪:‬‬

‫‪     -1‬للبديل اسم هو "الطريق' الفالحى" ‪ peasant road‬و ليس المقصود هو " حبس الفالحين فى‬
‫حظائر' يسود' فيها الركود" (أى خلق "حدائق فلكلورية") كما يتصوره بعض مدافعى البيئة أو التقوقع‬
‫باسم الخصوصية الثقافية و القيم الموروثة‪.‬‬

‫البديل يفترض معادلة مركبة تتيح فى آن واحد ‪:‬‬

‫‪ -‬إنماء اإلنتاجية فى الزراعة الفالحية‪.‬‬

‫‪ -‬تحديث األنشطة الحضرية ذات إنتاجية مرتفعة ووضعها فى خدمة المذكور أعاله والربط بينهما‪.‬‬

‫‪              -2‬يتطلب العمل طبقاً لمبادئ المعادلة المطلوبة‬

‫‪ -‬إضفاء أولوية لحماية اإلنتاج الفالحى من المنافسة غير المتساوية للمزارعين‬


‫الرأسماليين فى الداخل و الخارج‪ .‬أى تقنين األسواق ‪ regulation‬على المستويات'‬

‫‪79‬‬
‫القطرية و على المستوى' العالى (و هذا النمط من التقنين المطلوب هنا يتجاوز‬
‫إشكالية الدعم)‬
‫‪ -‬وضع سياسات تهتم باألساس على توسيع السوق الداخلية‪.‬‬
‫‪ -‬تقنين العولمة بحيث أن تخدم األهداف السابقة الذكر (و ليس العكس) أى تكيف‬
‫الداخل على مقتضيات العولمة الرأسمالية‪.‬‬

‫‪ -3‬يختلف هذا النمط تماماً عن النمط المطروح حالياً و هو نمط يحبس مجتمعات العالم الثالث فى‬
‫حلقة مفرغة‬

‫‪     ‬عناصرها هى‪:‬‬

‫‪ -‬تهميش نسبة متصاعدة من الفالحين لصالح التركيز' على إثراء أقلية‬


‫‪ -‬انتقال الفقر من الريف إلى المدن‪ :‬أحياء عشوائية ‪ ،‬بطالة ‪ ،‬أعمال غير ثابتة‬
‫‪ -‬التركيز على تصنيع موجهة للتصدير يقوم على رخص األيدى العاملة‪.‬‬

‫‪ -4‬البديل مرهون إذن باعتراف حق الفالحين فى استخدام األرض و خلق اإلطار (قانونى' ‪،‬‬
‫سياسى' ‪ ،‬اقتصادى) يضمن تنفيذ المبدأ على أعلى قدر ممكن من المساواة‪ .‬هذا الحق من أهم‬
‫"حقوق اإلنسان" (يخص نصف البشرية!) و لو أن غير مذكور' إلى اآلن فى لوائح الحقوق‬
‫المعروفة (إشارة إلى تغلب الطابع المدنى فى شبكات المجتمع المدنى)‬

‫‪ -5      ‬اعتبر إذن طرح هذا البديل على أنه يمثل محور أساسياً فى إعادة بناء التضامن بين‬
‫شعوب آسيا و أفريقيا أى بمعنى آخر إنعاش روح باندونج و هو بدوره شرط (ربما أهم الشروط)‬
‫إعادة بناء عولمة بديلة هذه اإلشكالية تناقش فى الصين ‪ ،‬الهند و بعض بالد أمريكا الالتينية و لكن‬
‫ال تناقش فى الوطن العربى‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫السيطرة العسكرية على الكوكب‪:‬‬

‫طموح الواليات المتحدة الالمحدود و اإلجرامى‬

‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬

‫‪80‬‬
‫سمير‪ ,‬أمين‬

‫‪ ‬‬

‫‪ -1‬ساد خيار الهيمنة فى أوساط الطبقة الحاكمة بالواليات المتحدة‪ ،‬بجناحيها الديموقراطى' و‬
‫الجمهورى‪ ,‬منذ ثمانينات القرن الماضى‪ ,‬مع ظهور مالمح انهيار النظام السوفييتى‪ .‬وانحازت'‬
‫أمريكا‪ ,‬مأخوذة بنشوة قوتها' العسكرية‪ ,‬التى أصبحت منذ هذا الحين دون منافس قادر على تحجيم‬
‫نزواتها'‪ ,‬إلى تأكيد هيمنتها عبر استراتيجية عسكرية‪  ‬صارمة "للسيطرة على الكوكب"‪ .‬وبدأت‬
‫واشنطن مخططها لخوض حروب ال نهائية‪ ,‬تحمل عالمة "صنع فى الواليات المتحدة"‪ ,‬تقوم وحدها‬
‫بإقرارها و التخطيط لها‪ ،‬بسلسلة‪  ‬من التدخالت العسكرية منذ عام ‪ 1990‬فى كل من الخليج‪ ,‬و‬
‫يوجوسالفيا'‪ ,‬و آسيا الوسطى'‪ ,‬و فلسطين‪ ,‬والعراق‪ .‬‬

‫‪ ‬‬

‫في إطار هذا الهدف‪  ،‬توفر االستراتيجية السياسية األمريكية الذرائع المطلوبة للتدخل‬
‫العسكرى'‪ .‬وهي الذرائع التي تتراوح ما بين مواجهة اإلرهاب‪ ,‬والتصدى' لتجارة المخدرات‪,‬‬
‫وتوجيه االتهامات بإنتاج أسلحة الدمار الشامل‪ .‬و هى ذرائع ملفقة إذا ما أدركنا التواطؤات' التى‬
‫أتاحت للمخابرات المركزية األمريكية صنع عدو "إرهابى" على المقاس ( طالبان‪ ,‬وبن الدن‪ -‬لم‬
‫يلق الضوء بعد على سياقات أحداث الحادى عشر من سبتمبر‪، )...‬أو بوضع خطة كولومبيا' فى‬
‫مواجهة البرازيل‪ .‬أما االتهامات الموجهة ضد كل من العراق و كوريا الشمالية بإنتاج أسلحة دمار‬
‫شامل‪ ,‬والتى قد تطول أى دولة أخرى فى المستقبل‪ ,‬والتي تبدو هزيلة للغاية فى مواجهة استخدام'‬
‫أمريكا الفعلى لهذه األسلحة فى هيروشيما و نجازاكى‪ ,‬و استخدامها للسالح الكيمياوى فى فيتنام'‪,‬‬
‫إضافة إلى تهديداتها' المعلنة باستخدام األسلحة النووية فى الصراعات المقبلة‪ .)...‬إن هذه الذرائع‬
‫ال تتعدى كونها نوعاً من أنواع الدعاية ‪ ,‬بالمعنى الذى أعطاه جوبلز' للكلمة‪ ,‬و إن كانت هذه‬
‫الدعاية فعالة فى إقناع الرأى العام األمريكى الساذج‪ ،‬لكن مصداقيتها فى تراجع مستمر خارج‪ ‬‬
‫حدود الواليات المتحدة‪        .‬‬

‫‪ ‬‬

‫إن "الحرب الوقائية" التى تقدمها واشنطن على أنها "حق" مقتصر عليها تعد ضربة قاضية‬
‫للقانون الدولى‪ .‬حيث يحظر ميثاق األمم المتحدة اللجوء إلى استخدام' القوة إال فى حالة الدفاع‪ ‬‬
‫الشرعى عن النفس‪ ,‬كما يخضع أى تدخل عسكرى محتمل من جانب األمم المتحدة لشروط‬

‫‪81‬‬
‫صارمة‪ ,‬فالرد يجب أن يكون محدداً ومؤقتاً‪ .‬و يدرك جميع القانونيين أن الحروب التى انخرطت‬
‫فيها الواليات المتحدة منذ ‪ 1990‬غير شرعية وبالتالى' فإن المسئولين عنها هم من حيث المبدأ‬
‫مجرمو' حرب‪.‬في نفس الوقت الذي تتعامل فيه أمريكا مع األمم المتحدة بنفس األسلوب الذى‬
‫عاملت به األنظمة الفاشية عصبة‪  ‬األمم قبيل الحرب العالمية الثانية‪ ,‬لكن مع فارق وجود دول‬
‫أخرى متواطئة‪  ‬مع أمريكا اليوم‪  .‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪-2‬من ناحية أخرى‪ ،‬فإن إلغاء حقوق الشعوب‪ ,‬كما هو واقع بالفعل يستبدل مبدأ المساواة بين‬
‫الشعوب بمبدأ التمييز بين "الشعب اآلرى"‪ ( ,‬المتمثل حاليا فى الشعب األمريكى‪ ,‬وبالتبعية‬
‫اإلسرائيلى')‪ ,‬الذى لديه الحق فى غزو" المجال الحيوي" الذى تراه ضرورياً' لها‪ ,‬و بين اآلخرين‪,‬‬
‫الذين ال يقبل الشعب اآلري مجرد وجودهم' إال فى حال عدم "تهديد" هذا الوجود' مشروعات من‬
‫يطلق عليهم "أسياد العالم"‪ .‬‬

‫‪ ‬‬

‫ما هى إذا هذه المصالح "القومية" التى تستدعيها الطبقة الحاكمة األمريكية كما يحلو لها؟‬

‫‪ ‬‬

‫فى واقع األمر إن هذه الطبقة ال تعرف إال هدفا واحداً وهو"جمع المال"‪ .‬فالدولة األمريكية‬
‫أعطت بشكل صريح أولوية مطلقة لتلبية متطلبات القطاع المهيمن على‪  ‬رأس المال المتمثل فى‬
‫شركاتها' متعددة الجنسيات‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫لقد أصبحنا جميعا من وجهة نظر الواليات المتحدة مثل "الهنود الحمر"‪ ,‬أى شعوب دون حق‬
‫فى الوجود إال فى الحدود التى ال تعوق توسع رأس المال األمريكى' متعدد القوميات‪ .‬وتستخدم‬
‫الواليات المتحدة شتى السبل إلخضاع‪  ‬أى مقاومة‪ ,‬حتى لو وصل األمر إلى قيامها' بعمليات إبادة‬
‫جماعية‪ .‬فهى مستعدة للتضحية بثالثمائة مليون شخص دون تردد‪ ,‬مقابل خمسة عشر مليون دوالر'‬
‫تضاف' إلى أرباح الشركات األمريكية متعددة القوميات‪ .‬فى واقع الحال‪ ،‬حازت الواليات المتحدة‬
‫بتفوق على لقب الدولة "المارقة"‪ ,‬وفقا لتعبير رؤساء أمريكا أنفسهم؛ بوش األب‪ ,‬وكلينتون'‪ ,‬وبوش‬
‫االبن‪    .‬‬

‫‪82‬‬
‫‪ ‬‬

‫إن األمر يتعلق هنا‪  ‬بمخطط‪  ‬إمبريالى' بالمعنى‪  ‬األكثر فظاظة‪  ‬للكلمة‪ ,‬لكنه ليس إمبريالياً'‬
‫بالمعنى الذى يقصده "نجرى"‪ ,‬حيث إن األمر ال يتعلق بإدارة شتى المجتمعات بهدف دمجها فى‬
‫نظام رأسمالى متماسك‪ ،‬إنما يقتصر على نهب مواردها‪ .‬إن اختزال الفكر االجتماعى للمبادئ‬
‫األساسية لالقتصاد' المبتذل‪  ,‬والخاص باالهتمام أحادى الجانب الهادف‪  ‬لتعظيم' العائد قصير المدى‬
‫لرأس المال المهيمن‪ ,‬و الذى تدعمه اآللة العسكرية الموضوعة فى خدمة‪  ‬رأس المال‪ ,‬مسئول‬
‫بشكل أساسى عن هذا االنحراف' البربرى' الذى يحمله رأس المال فى داخله‪ ,‬منذ لحظة تخلصه من‬
‫القيم االنسانية التى يستبدلها' بمتطلبات الخضوع‪  ‬لقانون السوق المزعوم‪ .‬ونجد أن الرأسمالية‬
‫األمريكية تخضع ألسباب تعود إلى تاريخ نشأتها‪  ,‬لهذا االختزال بشكل يفوق خضوع المجتمعات‬
‫األوروبية له‪  .‬فقد تمت صياغة الدولة األمريكية ورؤيتها' السياسية‪  ‬لتكونا فى خدمة االقتصاد‬
‫وحده‪ ,‬منحية بذلك جانباً العالقة المتناقضة والجدلية بين السياسة واالقتصاد‪  .‬فقد أدت اإلبادة‬
‫الجماعية للهنود الحمر‪ ,‬واستعباد' الزنوج‪ ,‬باإلضافة إلى تتابع موجات من الهجرة التى استبدلت‬
‫تطور'‪  ‬الوعى الطبقى بمواجهات تحركها' الطبقة الحاكمة‪  ‬بين المجموعات التى تزعم امتالك هوية‬
‫مشتركة‪ ،‬إلى خلق إدارة سياسية لهذا المجتمع تقوم على حزب أوحد‪ ,‬هو حزب رأس المال‪ ,‬الذى‬
‫يتبنى جناحاه نفس الرؤى' االسترتيجية الشاملة‪ ,‬و يتشاركان فىالمهمة كل بخطابه الخاص الموجه‬
‫إلى "الناخبين"‪ ,‬الذين يشكلون‪  ‬الجزء الضئيل من المجتمع الذى يثق فى النظام إلى درجة تجعله‬
‫يتحمل مشقة الذهاب إلى صناديق االقتراع‪  .‬لقد حرم المجتمع األمريكى من ذلك التراث الذى‬
‫استطاعت من خالله‪  ‬األحزاب العمالية االشتراكية الديموقراطية و الشيوعية فى أوروبا' التأثير فى‬
‫تشكيل الثقافة السياسية األوروبية الحديثة‪ ,‬فهو ال يمتلك األدوات األيديولوجية التى تسمح له‬
‫بمقاومة الديكتاتورية‪  ،‬وال‪  ‬وزن مضاد لرأس المال‪ .‬بل على النقيض‪ ,‬يشكل رأس المال وحده‬
‫طريقة تفكير المجتمع األمريكى' بكل أبعاده‪ ,‬كما يعيد‪ ,‬بشكل خاص‪ ,‬إنتاج عنصريته المتأصلة فيه‪,‬‬
‫بل و يقويها مما يسمح له أن يرى نفسه "شعبا آرياً"‪" .‬كلينتون البالى بوى‪ ,‬بوش راعى البقر‪,‬‬
‫ينتهجان نفس السياسة"‪ ,‬هذا الشعار الذى ردده المتظاهرون فى الهند عن وجه حق يكشف طبيعة‬
‫الحزب األوحد الذى يدير الديموقراطية األمريكية المزعومة‪  .‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬بناء علي ما سبق‪  ‬فإن المخطط األمريكى ليس مخطط هيمنة عادياً‪  ‬يتمتع بميزة امتالك‬
‫رؤية شاملة للمعضالت تسمح له بتوفير إجابات متماسكة‪ ،‬تؤدى في النهاية إلى استقرار مبني على‬
‫االستغالل االقتصادى' وعدم المساواة السياسية كما كان حال مخططات أخرى تتابعت فى التاريخ‬

‫‪83‬‬
‫الحديث والقديم‪ .‬إن المخطط األمريكي أكثر فظاظة ووحشية بما ال يقاس بمفهومه األحادى البسيط‬
‫إلى أقصى' درجة‪ .‬إن هذا المخطط من هذه الزاوية يقترب من المشروع النازى القائم أيضا على‬
‫مبدأ التفوق اإلثنى اآلرى اإلقصائى'‪ .‬بالتالي فليس هناك أية عالقة بين هذا المخطط األمريكى' وبين‬
‫ما يدعيه بصدده أساتذة الجامعة األمريكيين الليبراليين‪ ,‬والذين يصفون‪  ‬الهيمنة األمريكية بـ "أنها‬
‫غير مؤلمة"‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬سيفرز هذا المخطط‪ ،‬إذا ما امتد العمل به لفترة أخرى مقبلة‪ ,‬فوضى' متفاقمة‪ ،‬تقود إلى إدارة‬
‫أكثر فأكثر شراسة ترد الضربة بأخرى' دون أن تمتلك رؤية استراتيجية طويلة المدى‪ .‬فى هذا‬
‫السياق‪ ,‬لن تسعى واشنطن إلى خلق حلفاء حقيقيين‪ ,‬يفرضون عليها إظهار بعض التساهل‪ .‬وستقوم'‬
‫حكومات صورية‪  ‬مثل حكومة حامد قرضاي‪  ‬فى أفغانستان بالمهمة بشكل أفضل مادام وهم‬
‫االعتقاد فى القوة العسكرية األمريكية التي "ال تقهر" سائداً‪ .‬ولعل هتلر لم يكن‪  ‬يفكر بشكل مختلف‬
‫عن ذلك‪ .‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ -3‬يتيح لنا تحليل العالقة بين هذا المخطط اإلجرامى' و بين وضعية الرأسمالية المهيمنة‬
‫المؤلفة من مجموع دول الثالوث (الواليات المتحدة‪ ,‬وأوروبا‪ ,‬و اليابان) قياس نقاط ضعفه وقوته‪ .‬‬

‫‪ ‬‬

‫يرى الرأى األكثرشيوعا‪ ,‬والذى تروج له وسائل اإلعالم التى ال تدعو إلى التفكير‪ ,‬أن قوة‬
‫الواليات المتحدة العسكرية ليست سوى قمة جبل الجليد‪ ,‬وأن لهذا البلد الغلبة فى جميع المجاالت‬
‫األخرى خاصة المجاالت االقتصادية‪ ,‬وحتى السياسية‪ ,‬والثقافية‪ .‬بالتالى فإنه ال مناص من‬
‫الخضوع' لهذه الهيمنة المزعومة‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ينفي تحليل الواقع االقتصادى' هذا الرأى‪ .‬فالمنظومة اإلنتاجية األمريكية بعيدة عن أن تكون "‬
‫األكثر فعالية فى العالم"‪ .‬بل على النقيض‪ ,‬فإنه ال يوثق' فى تفوق أى قطاع' من قطاعاتها تقريبا‬
‫على منافسيه فى سوق مفتوح حقيقي كما يتخيله االقتصاديون الليبراليون‪ .‬يشهد على ذلك‪ ,‬عجز‬
‫الميزان التجارى' األمريكى' اآلخذ فى التفاقم من عام آلخر‪ ,‬إذ قفز من ‪ 100‬مليار دوالر' فى عام‬

‫‪84‬‬
‫‪ 1989‬إلى ‪ 450‬مليار فى عام ‪ .2000‬عالوة على ذلك‪ ,‬فإن هذا العجز يطول فعلياً جميع‬
‫قطاعات المنظومة اإلنتاجية‪ .‬حتى الفائض الذى كانت تحققه أمريكا فى مجال‪  ‬المنتجات فائقة‬
‫التكنولوجيا‪ ,‬والذى وصل إلى ‪ 35‬مليار دوالر فى عام ‪ 1990‬تحول إلى عجز‪ .‬و تشهد المنافسة‬
‫المشتعلة بين آريان و ناسا‪ ,‬وإ يرباص و بوينج‪ ،‬على هشاشة التفوق األمريكى'‪ .‬وعلى األرجح‪ ,‬فإن‬
‫الواليات المتحدة لن تتمكن من التفوق على أوروبا و اليابان فى مجال المنتجات فائقة التكنولوجيا'‪,‬‬
‫و على كل من الصين و كوريا و بلدان آسيا و أمريكا الالتينية الصناعية األخرى فيما يتعلق‬
‫بالمنتجات الصناعية التقليدية‪ ,‬و على أوروبا و جنوب أمريكا الالتينية فى الزراعة إال عبر اللجوء‬
‫إلى وسائل "غيراقتصادية"‪ ,‬تمثل في ذاتها انتهاكا لمبادئ الليبرالية المفروضة على منافسيها'!‬

‫‪ ‬‬

‫فى الواقع‪ ,‬فإن أمريكا ال تمتلك ميزة نسبية حقيقية إال فى مجال التسليح‪ ,‬إذ إن هذا القطاع‬
‫بشكل خاص ال يخضع فعلياً لقواعد السوق‪ ،‬كما أنه يتمتع بدعم الدولة‪ .‬بال شك فان لهذه الميزة‬
‫عدداً من التأثيرات اإليجابية على المجاالت المدنية؛‪  ‬المثال األكثر بروزا‪  ‬التفوق األمريكى فى‬
‫مجال اإلنترنت‪ .‬في الوقت نفسه فإن هذه الميزة كانت‪  ‬مصدر توترات خطيرة أعاقت كثيراً من‬
‫القطاعات اإلنتاجية‪.‬‬

‫فالواليات' المتحدة تعيش بشكل طفيلى على حساب شركائها فى النظام العالمى" فهى تعتمد فى‬
‫‪ %10‬من‪  ‬استهالكها الصناعى على واردات ال تغطيها صادراتها'" (إيمانويل' تود‪ ,‬ما بعد‬
‫اإلمبراطورية‪ ,‬ص ‪.)80‬‬

‫‪ ‬‬

‫إن النمو الذى شهدته سنوات حكم كلينتون‪ ,‬و الذى يتباهون به بوصفه نتاج "الليبرالية" التى‬
‫كثيرا ما قاومتها' أوروبا مع األسف!! كان نموا زائفاً فى الواقع‪ .‬وعلى كل حال فهو غير قابل‬
‫للتعميم لكونه اعتمد على تحويل لرؤوس' األموال الناتج عن ركود شركائها‪ .‬حيث إن نمو جميع‬
‫قطاعات المنظومة اإلنتاجية الحقيقية فى أمريكا لم يكن أفضل من نظيره فى أوروبا'‪ .‬كما أن ما‬
‫يطلق عليه "المعجزة األمريكية" قائم‪  ‬فقط على نمو المصروفات‪  ‬الناتج عن تفاقم التفاوت‬
‫االجتماعى ( الخدمات المالية والشخصية‪ ،‬جحافل المحامين و الشرطة الخاصة‪ ،‬إلخ‪ .)...‬فى هذا‬
‫السياق‪ ,‬هيأت ليبرالية كلينتون الظروف' التى سمحت بالفورة الرجعية‪ ,‬وبفوز' بوش االبن الالحق‪.‬‬
‫فضال عن ذلك‪ " ,‬أصبحت المصداقية اإلحصائية للناتج الوطنى' اإلجمالى األمريكى‪ ,‬الذى تضخم‬
‫نتيجة الغش تحاكى ما كان يحدث فى االتحاد السوفييتى"!‪ ,‬كما يقول تود؛ (ص ‪.)84‬‬

‫‪85‬‬
‫‪ ‬‬

‫هكذا فإن العالم ينتج بينما تستهلك أمريكا ‪،‬إذ ال يساوى' ادخارها القومى شيئا‪ .‬فـ "الميزة" التى‬
‫تمتلكها أمريكا هى‪  ‬ميزة قناص‪ ,‬يغطى عجزه من مساهمات اآلخرين‪ ,‬برضاهم' أو باإلجبار'‪ .‬حيث‬
‫تلجأ واشنطن إلى وسائل شتى لتعويض النقص لديها‪ :‬مثل االنتهاكات المتكررة لمبادئ الليبرالية‪,‬‬
‫تصدير' السالح غالبا بفرضه على حلفاء تابعين لها‪ (,‬فضال عن كونهم' لن يستخدموا أبدا هذه‬
‫األسلحة مثل السعودية)‪  ‬حيث‪  ‬تستحوذ' واشنطن على ‪ %60‬من السوق' العالمى‪ .‬إن البحث عن‬
‫ريع إضافى' من النفط‪ ,‬يفترض وضع المنتجين تحت السيطرة‪ ,‬وهو الدافع الحقيقى وراء الحروب‬
‫فى آسيا الوسطى و العراق‪ .‬كما تقوم أمريكا بتغطية عجزها عبر جلب‪  ‬رؤوس' األموال من‬
‫أوروبا‪ ,‬و اليابان‪ ,‬وكذلك من الجنوب سواء من دول النفط الغنية أو من الطبقات الكومبرادورية‬
‫من كل دول العالم الثالث بما فيها الدول األكثر فقرا‪ .‬إضافة إلى االبتزاز' الذى تمارسه تحت‬
‫مسمى خدمة الديون المفروضة تقريبا على كل دول األطراف' فى النظام العالمى‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫إن األسباب التى تفسر استمرار' تدفق' رؤوس' األموال التى تغذى طفيلية االقتصاد' والمجتمع‬
‫األمريكى' و التى تسمح لهذه الدولة العظمى أن تعيش يوماً بيوم (بال تطلع إلى المستقبل) معقدة‬
‫بالتأكيد'‪ .‬لكنها ليست نتاج "قانون السوق'" ‪ ‬العقالني والذي ال مناص منه‪.‬‬

‫إن تضامن القطاعات المهيمنة للرأسمالية متعددة القوميات‪ ،‬الشركاء فى دول الثالوث حقيقة‬
‫واقعة‪ ,‬و هذا يتضح من خالل‪  ‬تبنيهم لليبرالية الجديدة المعولمة‪ .‬من هذا المنظور'‪ ,‬يتم اعتبار‬
‫الواليات المتحدة المدافع (العسكرى إذا لزم األمر) عن " المصالح المشتركة"‪ .‬لكن واشنطن ال‬
‫ترى أن عليها اقتسام' عوائد كونها القائد " بشكل عادل"‪ .‬بل على العكس‪ ,‬فهى تجتهد إلخضاع‬
‫حلفائها‪ .‬وغير مستعدة لتقديم أكثر من بعض التنازالت الصغرى لحلفائها التابعين من دول‬
‫الثالوث‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫هل من الممكن أن يؤدى هذا الصراع على المصالح بين رؤوس' األموال المهيمنة إلى تبادل‬
‫االتهام بالدرجة التى قد تؤدى' إلى انقسام فى التحالف األطلنطى؟ هذا ليس باألمر المستحيل لكنه‬
‫مستبعد'‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫‪ ‬‬

‫إن الصراع الواعد ممكن فى ميدان آخر هو ميدان الثقافة السياسية‪ .‬فال يزال البديل اليساري‬
‫قائما فى أوروبا‪ .‬و الذي سيفرض على أوروبا' القطيعة مع الليبرالية الجديدة‪( ،‬و بالتالى التخلى‬
‫عن األمل الذى ال طائل منه‪ ،‬الخاص بإخضاع أوروبا' الواليات المتحدة لمتطلباتها بما يسمح لرأس‬
‫المال األوروبى بالمنافسة فى الميدان االقتصادي غير الملغم كما يفرض فى نفس الوقت عدم‬
‫الدوران فى مدار اإلستراتيجية السياسية األمريكية)‪  .‬فى هذه الحال‪ ,‬ستستخدم أوروبا' فائض رأس‬
‫المال لديها‪ ,‬الذى تكتفى حاليا "بوضعه" فى أمريكا فى خلق انتعاش اقتصادى' و اجتماعى‪ ,‬لن‬
‫تستطيع' تحقيقه دون هذا الفائض‪ .‬وبالتالي' ستنهار' قوة االقتصاد األمريكى المصطنعة و ستواجه‬
‫الطبقة الحاكمة األمريكية بمشكالتها االجتماعية‪ ،‬فى تلك اللحظة التى ستختار' فيها أوروبا' إعطاء‬
‫األولوية لالزدهار االقتصادى' و االجتماعى‪ .‬هذا هو المعنى الذى أعطيه للخاتمة‪" ,‬إما أن تكون‬
‫أوروبا يسارية أو ال تكون"‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫و حتى تتمكن أوروبا من تحقيق ذلك‪ ,‬عليها التخلص من وهم أنه من الواجب و من الممكن‬
‫أن يلعب الجميع لعبة الليبرالية بـ "استقامة"‪ ,‬و أن األمور' ستسير' بشكل أفضل فى هذه‬
‫الحالة‪.‬فأمريكا' ال تستطيع العدول عن اختيارها الخاص بممارسة الليبرالية بشكل غير متناغم؛ ألن‬
‫هذه هى وسيلتها الوحيدة لتعويض قصورها الخاص‪ ،‬فثمن "ازدهار'" أمريكا هو ركود اآلخرين‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫لماذا يتوالى إذا تدفق رؤوس األموال لصالح الواليات المتحدة على الرغم من هذه البديهيات‬
‫؟ بال شك‪ ,‬إن حافز الكثرين هو كون أمريكا ببساطة "بلد األغنياء"‪ ,‬و الملجأ األكثر أمنا‪ .‬هذا‬
‫الوضع ينطبق على بورجوازية بلدان العالم الثالث الكومبرادورية‪ .‬لكن ماذا عن األوروبيين ؟ يبدو‬
‫أن فيروس' الليبرالية‪ ,‬و االعتقاد الساذج بأن أمريكا ستقبل ذات يوم "لعبة السوق'" لهما سلطة أكيدة‬
‫على الرأى العام الواسع‪  .‬من هذا المنطلق‪ ,‬قام‪  ‬صندوق' النقد الدولى بإضفاء‪  ‬نوع من القداسة‬
‫على مبدأ "حرية انتقال رأس المال"‪ ,‬و ذلك ببساطة للسماح ألمريكا بشكل خاص‪  ‬بتغطية عجزها‬
‫عن طريق ضخ الفائض المالى الناتج خارجها' عن تطبيق السياسات الليبرالية الجديدة‪ ,‬التى ال‬
‫تخضع لها أمريكا إال بشكل انتقائى للغاية! إال أنه بالنسبة إلى الجزء األكبر من رأس المال‬
‫المهيمن‪  ,‬تفوق إيجابيات هذا النظام مساوئه؛ المتمثلة فى اإلتاوة التى يجب دفعها لواشنطن حتى‬
‫تضمن استمراره‪ .‬‬

‫‪87‬‬
‫‪ ‬‬

‫إن الدول المعروفة "بالدول الفقيرة المدينة"‪ ,‬مضطرة للدفع‪ .‬لكن هناك "دول قوية مدينة"‪ ,‬لن‬
‫تقوم أبدا بسداد ديونها'‪ ,‬كما يجب أن نعلم‪ .‬بالتالي فإن هذه اإلتاوة الفعلية التى تفرضها واشنطن‬
‫عن طريق االبتزاز السياسى تصير هشة‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ -4‬يقع‪  ‬خيار أمريكا العسكرى الراهن ضمن هذا المنظور'‪ .‬فهو يعنى االعتراف بأنه ال‬
‫يوجد تحت تصرف' الواليات المتحدة‪  ‬وسائل أخرى تمكنها من فرض هيمنتها االقتصادية‪ .‬‬

‫‪ ‬‬

‫هناك أسباب معقدة وراء ضعف المنظومة االقتصادية األمريكية‪ .‬و هى ليست أسباب‬
‫ظرفية‪  ،‬من الممكن إصالحها عن طريق تبنى سعر صرف صحيح‪ ,‬أو صياغة عالقة أكثر‬
‫مالءمة‪   ‬بين األجور و اإلنتاجية على سبيل المثال‪ .‬بل هى أسباب هيكلية‪ ,‬فتردى نظم التربية و‬
‫التعليم العام‪ ,‬نتيجة حكم مسبق ثابت متحيز بشكل مطلق لكل ما هو "خاص"‪ ,‬على حساب الخدمات‬
‫العامة من األسباب الرئيسة لألزمة العميقة التى يمر بها المجتمع األمريكى‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫من المدهش أن األوروبيين بدال من أن يستخلصوا النتائج‪  ‬المنطقية التى تفرضها حالة‬
‫عجز‪   ‬الواليات المتحدة ‪ ,‬يجتهدون على النقيض لتقليدها‪ .‬ولعل انتقال فيروس' الليبرالية ال يكفى‬
‫لتفسير كل شئ‪ ,‬حتى و لو كان يؤدى بعض الوظائف' المفيدة للنظام القائم‪ ,‬عبر شله حركة اليسار‪.‬‬
‫فالخصخصة المفرطة‪ ,‬و تفكيك الخدمات العامة سيؤديان إلى الحد من الميزات النسبية التى تحظى‬
‫بها " أوروبا' القديمة"‪ ,‬كما يصفها بوش‪ .‬لكن أيا كانت األضرار' التى‪  ‬ستجلبها تلك اإلجراءات على‬
‫المدى البعيد‪ ,‬فإنها تمنح رأس المال المهيمن‪ ,‬على المدى القصير‪ ,‬الفرصة لتحقيق أرباح إضافية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫إن الخيار العسكرى األمريكى‪  ‬يهدد جميع الشعوب‪ .‬فهو ينبع من نفس المنطق الذى تبناه منذ‬
‫عهد قريب أدولف هتلر‪ ,‬والقائم علي استخدام العنف العسكرى' من أجل تعديل العالقات االقتصادية‬
‫و االجتماعية لصالح "الجنس اآلرى" الجديد‪ .‬يحدد هذا الخيار جميع الظروف السياسية بفرضه‬
‫نفسه على مقدمة المشهد‪ ,‬حيث إن استمرار هيمنة هذا المخطط‪  ‬سيضعف' إلى أقصى' حد جميع‬

‫‪88‬‬
‫المميزات التى قد تتمكن الشعوب من الحصول عليها عبر نضالها االجتماعى و الديموقراطى'‪.‬‬
‫وبالتالي' يصبح إفشال المخطط العسكرى' األمريكى' مهمة الجميع األولى‪ ,‬و مسئوليتنا الكبرى‪ .‬‬

‫‪ ‬‬

‫و يتخذ النضال من أجل إفشال المخطط األمريكى' أشكاالً متعددة بالتأكيد'‪ .‬فهو يحمل طابعاً‬
‫دبلوماسياً ‪ ,‬إذ يجب الدفاع عن القانون الدولى‪ .‬و طابعاً عسكرياً‪ ,‬حيث يتوجب إعادة تسليح جميع‬
‫البلدان حتى تتمكن من مواجهة االعتداءات التى تنتويها واشنطن‪ ,‬فعلينا أال ننسى أن أمريكا قد‬
‫استخدمت السالح النووى عندما كانت تحتكره‪  ‬بينما عدلت عن استخدامه بعد فقدانها هذه الميزة‪.‬‬
‫وثمة نضال سياسى خاصة فيما يتعلق بالبناء األوروبى' وإ عادة بناء جبهة عدم االنحياز‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫يعتمد نجاح هذا النضال على القدرة على التحرر من األوهام الليبرالية‪ ,‬ألنه لن يكون أبداً‬
‫هناك اقتصاد' معولم"ليبرالى حقيقى"‪ ,‬مع أننا ال زلنا و سنظل نحاول بكل السبل تصديق' هذه‬
‫األوهام‪ .‬إن خطاب البنك الدولى‪ ,‬الذى يقوم بدور' وزارة الدعاية األمريكية‪ ,‬حول "الديموقراطية"‪,‬‬
‫و"ترشيد' اإلدارة"‪ ,‬و"تقليل الفقر" ليس له أى دور مثل الضجة اإلعالمية التى صاحبت جوزيف'‬
‫ستيجليت‪ ,‬سوى ترديد' بعض الحقائق األساسية‪ ,‬و التى يرددها بسلطوية متغطرسة دون أن‬
‫يستخلص من ذلك أى نتائج تضع المسلمات األساسية لالقتصاد المبتذل موضع المساءلة‪  .‬إن إعادة‬
‫بناء جبهة من دول الجنوب‪ ,‬قادرة على تفعيل تضامن شعوب كل من آسيا‪ ,‬و أفريقيا‪ ,‬و‬
‫التريكونتيننتال'‪ ,‬وإ عطائها القدرة على الفعل على المستوى العالمى‪ ,‬ممكنة فقط فى حالة التحرر من‬
‫األوهام حول خلق نظام ليبرالى عالمى "متناغم " يسمح لشعوب العالم الثالث بتجاوز' "تخلفهم "‪.‬‬
‫أليس من السخف رؤية دول الجنوب و هى‪"  ‬تطالب بتطبيق' مبادئ الليبرالية دون تمييز"‪ ,‬وعندما‬
‫يفعلون ذلك يصفق لهم البنك الدولى؟! فمتى سبق و دافع البنك الدولى عن العالم الثالث فى مواجهة‬
‫الواليات المتحدة؟!‬

‫‪ ‬‬

‫إن النضال ضد إمبريالية الواليات المتحدة و مخططها' العسكرى' هو نضال كل الشعوب‪,‬‬


‫نضال أهم ضحاياه فى آسيا‪ ,‬و أفريقيا‪ ,‬و أمريكا الالتينية‪ ,‬و كذلك شعوب أوروبا'‪ ,‬واليابان‬
‫المحكوم' عليهم بالتبعية‪ ,‬بل و الشعب األمريكى نفسه‪ .‬هنا علينا أن نحيى شجاعة كل الذين رفضوا‬
‫الخضوع' لمن "عرين الوحش" كما رفض أسالفهم' الخضوع' لمكارثية الخمسينيات‪  ,‬وكذلك أولئك‬

‫‪89‬‬
‫الذين تجرأوا على مقاومة هتلر و فازوا' بجميع ألقاب النبل التى يمكن للتاريخ أن يمنحها لهم‪ .‬فهل‬
‫يمكن أن تتراجع الطبقة الحاكمة فى الواليات المتحدة عن مخططها اإلجرامى الذى تبنته؟‪  ‬سؤال‬
‫يصعب اإلجابة عليه‪ .‬القليل‪ ,‬بل ال شئ‪  ‬فى تكوين المجتمع األمريكى يشير إلى ذلك‪ .‬فلم‪  ‬يسبق‬
‫أن تخلى حزب رأس المال األوحد‪ ,‬الذى ال يمكن المجادلة حول سلطته فى أمريكا‪ ,‬عن هذه‬
‫المغامرة العسكرية‪ .‬فى هذا السياق‪ ,‬ال يمكن التقليل من مسئولية تلك الطبقة المتورطة فى‬
‫مجموعها‪ .‬فسلطة إدارة‪  ‬بوش االبن ليست سلطة "طغمة" رجال النفط وصناعة االتسليح‪ .‬فالسلطة‬
‫المهيمنة فى أمريكا طوال تاريخها الحديث هى سلطة ائتالف مصالح يجمع‪  ‬قطاعات من رأس‬
‫المال‪ ,‬توصف' خطأ بـ "جماعات الضغط"‪  .‬لم يكن لهذا التحالف أن يحكم دون قبول قطاعات رأس‬
‫المال األخرى بسلطته‪ .‬بالتأكيد'‪ ,‬قد تدفع بعض اإلخفاقات السياسية‪ ,‬أو الدبلوماسية‪ ,‬أو حتى‬
‫العسكرية‪ ,‬أقلية منخرطة فى المؤسسة األمريكية أن تقبل التخلى عن المغامرات العسكرية التى‬
‫انغمست فيها بالدهم‪ .‬و يبدو لى أن انتظار' ما هو أكثر هو على نفس الدرجة من سذاجة توقع أن‬
‫يتعقل هتلر!‬

‫‪ ‬‬

‫فلوكان األوروبيون قد انتفضوا فى ‪ 1935‬أو فى ‪ ,1937‬لكانوا استطاعوا وقف' الهذيان‬


‫النازى‪ ،‬لكنهم ظلوا مكتوفى' األيدى حتى عام ‪ 1939‬مما كبدهم عشرات الماليين من الضحايا‪،‬‬
‫لهذا فعلينا أن نتحرك حتى يجئ الرد على تحدى نازيي' واشنطن الجدد أسرع‪ .‬‬

‫‪      ‬مرحلة جديدة للرأسمالية أم دورة تجميل لرأسمالية مترهلة؟‬

‫‪ ‬‬

‫د‪ .‬سمير أمين‬

‫‪ ‬‬

‫(‪ )1‬إن الرأسمالية نظام ذو تحوالت مستمرة وسريعة نسبيا بالمقارنة مع األنظمة السابقة‬
‫التى كانت تبدو مستقرة‪ ،‬بالتالى فمن الضرورى' معاينة كل المستجدات على ساحتها بهدف تحليلها‬
‫والتصدى لها بفعالية‪ .‬لكن بالرغم من جدية هذه التحوالت إال أنها تظل حبيسة‪  ‬المنطق الخاص‬
‫بالرأسمالية‪ ،‬ويجب التذكير بهذه الحقيقة‪.‬‬

‫فالخطاب' اإليديولوجى' للرأسمالية الخيالية ‪ Le Capitalisme imaginaire‬يعزو'‬


‫لالختراعات التكنولوجية التقدم والرقى‪ ،‬ويكلف' تنافسات' رأس المال على مستوى األسواق بترجمة‬

‫‪90‬‬
‫ذلك على أرض الواقع‪ .‬فتستفيد' من هذا التقدم مختلف الطبقات االجتماعية مكرسة بذلك‬
‫الديمقراطية والسلم‪ ،‬كما أن تعميم ونشر هذا النظام يعود بالفائدة علي لكافة الشعوب التى ستتمتع‬
‫بالفوز النهائى للعقالنية ("نهاية التاريخ")‪ .‬ويضيف' الخطاب الرأسمالى' أنه ليس هناك من بديل‬
‫(معقول) ويجب إخضاع كل جوانب الحياة االجتماعية لمتطلبات المنطق األحادى لرأس المال‪.‬‬

‫لكن تاريخ الرأسمالية القائمة بالفعل ‪ Le Capitalisme reellement existant‬يكذب هذه‬


‫الصورة التى ال ترتكز' على أى أساس علمى‪ .‬إنه تاريخ صراع مستمر' بين منطق التراكم‬
‫الرأسمالى' ومنطق' المصالح االجتماعية والوطنية المتناقضة معه‪ .‬وفى' نفس الوقت فهو يبين لنا‬
‫الهدام لمنطق الرأسمالية األحادى بالبعد الخالق واإلبداعى للمنطق نفسه‪( .‬انظر‬
‫مدى ارتباط البعد ّ‬
‫األبعاد الهدامة للتراكم الرأسمالى)‪ .‬فالمجتمعات' الحقيقية تواجه باستمرار العديد من البدائل‬
‫ويفرض عليها الخيار فيما بينها‪ ،‬ويحدد توازن القوى فى كل مرحلة النمط الذى يجرى اختياره‪.‬‬
‫ُ‬

‫وهى اآلن بصدد مواجهة جديدة تتطلب منها إعادة النظر فى النظام القائم وتصور نظام آخر‬
‫قادر' على تحريرها من الدمار والخراب الذى يؤدى' إليه توسع الرأسمالية فى األوضاع الحالية‪،‬‬
‫فيجب وضع هذا الجديد الناتج من تطور' الحقبة المذكورة فى اإلطار التحليلى النقدى المناسب‪.‬‬

‫ابتداء من العام ‪-1500‬‬


‫ً‬ ‫(‪ )2‬لقد تكون العالم الحديث حول نظام جديد‪ ،‬حددته الرأسمالية‬
‫وخالل الفترة المركانتيلية التى دامت ثالثة قرون ‪ .1800-1500‬أخذت أوروبا' األطلنطية‪  ‬مبادرة‬
‫وضع نظام جديد َع ّوض التحكم فى الطرق' البرية (المعروفة بطرق الحرير) بإنشاء طرق' المالحة‬
‫وولّد هذا النظام ظاهرة‬
‫عبر المحيط‪ .‬هكذا تم تأسيس قاعدة النظام الرأسمالى' للقرن العشرين‪َ ،‬‬
‫جديدة لم يحدث للتاريخ أن عرفها من قبل أال وهى ظاهرة االستقطاب على المستوى' العالمى‪.‬‬
‫(انظر االستقطاب) وتصاعدت الفجوة اإلنمائية بين المراكز المصنعة والتخوم' غير المصنعة بقدر‬
‫لم يسبق له مثيل‪.‬‬

‫لقد تميز القرن العشرون بثورته ضد النظام االقتصادى' القائم‪ .‬فهاجمته هذه الثورة على‬
‫صعيدين‪ :‬األول متعلق بجوهرعالقات الرأسمالية التى يرتكز' عليها والتى ناهضتها' الثورات‬
‫االشتراكية‪ ،‬والثانى' متعلق باالستقطاب الناتج عنه والذى حاربته الحركات التحررية الوطنية فى‬
‫آسيا وأفريقيا'‪ .‬وتتالت خالل هذا العصر أنظمة رأسمالية مختلفة‪.‬‬

‫شهدت نهاية القرن التاسع عشر‪ .‬منذ ‪ 1880‬حتى ‪ 1945‬تكوين رأسمالية االحتكارات‪.‬‬
‫وبإمكاننا الحديث هنا عن "ليبرالية قومية لالحتكارات"‪ .‬ومفهوم' الليبرالية هنا يعنى إثباتاً مزدوجاً‬
‫للدور الهام الذى تلعبه األسواق' االحتكارية (األوليغوبوليستية ‪ marches oligopolistiques‬فى‬

‫‪91‬‬
‫إدارة وتنظيم' االقتصاد ضمن إطار سياسات الدولة من جهة وفى ممارسة الديمقراطية السياسية‬
‫البرجوازية من جهة ثانية‪.‬‬

‫إن القومية ‪ Le nationalisme‬تقوم بتعديالت فى النموذج الليبرالى وتمنح الشرعية‬


‫لسياسات الدولة التى تساند التنافس فى النظام العالمى‪ .‬وتتمفصل هذه األخيرة حول تكتالت محلية‬
‫مهيمنة تعزز قدرات احتكارات رؤوس األموال بإقامتها' تحالفات مع الطبقات الوسطى و‪ /‬أو‬
‫األرستقراطية عازلة بذلك الطبقة العاملة الصناعية‪( .‬ذات الميول "االشتراكية")‬

‫ومع انفجار الحرب العالمية األولى ‪ 1918 -1914‬ظهرت أول أزمة للنظام الليبرالى‬
‫القومى لالحتكارات‪ .‬مبرهنة على فشل هذا النظام فى خلق ظروف' "عولمة سلمية"‪.‬‬

‫ولكن بالرغم من ذلك تمكنت األنظمة الرأسمالية المهيمنة من فرض وصفاتها الليبرالية‪ .‬مما‬
‫أدى إلى االنحراف' الفاشى والتخلى عن الجانب السياسى' والديمقراطى للنظام‪ .‬لكنه لم يتخل عن‬
‫ّ‬
‫القومية (بل على العكس زاد من حدتها) وال عن التحالفات االجتماعية الداخلية التى تعزز من‬
‫قدرات االحتكارات‪ .‬فالنظام' الفاشى جزء ال يتجزأ من النظام المهيمن الوحيد الذى يميز هذه الحقبة‬
‫من تاريخ الرأسمالية‪ ،‬حتى وإ ن كان من أقبح وجوهها'‪.‬‬

‫ابتداء من ‪ , 1945‬وحتى ‪ 1980‬يظهر على الساحة العالمية نظام رأسمالى' جديد يعوض‬‫ً‬
‫الليبرالية القومية‪ ،‬فقد استطاعت الحرب العالمية الثانية وبفضل هزيمة الفاشية أن تغير من موازين‬
‫القوى لصالح الطبقات العمالية فى الغرب المتطور' (تمكنت هذه الطبقات من اكتساب شرعية‬
‫ووضعية اجتماعية لم تعرفها من قبل) وتحررت الشعوب من االستعمار وتجلت االشتراكية فى‬
‫االشتراكية القائمة بالفعل (أى النمط السوفيتى')‪ .‬كانت العالقات الجديدة هذه وراء األنماط الثالثة‬
‫التالية‪ :‬دولة الرفاهية‪ ،‬والدولة التنموية فى العالم الثالث‪ ،‬والدولة االشتراكية المخططة‪ .‬وتميز'‬
‫النظام االقتصادى' لتلك الفترة ‪ 1980-1945‬بالقومية واالجتماعية وبالسير' ضمن عولمة مقننة (‬
‫‪ )régulé‬هى االخرى‪.‬‬

‫وكانت السياسات المتخذة آنذاك اجتماعية وقومية متجاوبة مع أهداف الساعة‪ .‬وتُرجم'‬
‫التضامن باستقرار' ملحوظ' فى توزيع الدخل‪ ،‬وفى' التوظيف' الكامل‪ ،‬وفى زيادة النفقات االجتماعية‪.‬‬
‫وصممت هذه السياسة على المستوى القومى بتدخل مستمر' للدولة‪.‬‬
‫ُ‬

‫‪92‬‬
‫لم تكن هناك مبالغة فى وطنية النموذج إذ كان يندرج ضمن جو عام من األقلمة (بناء‬
‫التجمع األوروبى) وسياسة االنفتاح العالمية (خطة مارشال‪ ،‬انتشار الشركات المتعدية الجنسيات‪ ،‬الـ‬
‫األونكتاد‪ '،‬الـ جات ‪ ...‬إلخ) المقبول بها وفى' نفس الوقت المتحكم فيها‪.‬‬

‫فالتناظر فى األهداف األساسية بين دولة الرفاهية من جهة وأهداف التحديث فى بلدان العالم‬
‫الثالث بعد تحررها (مشروع' باندونغ' فى آسيا وأفريقيا بالتوازى' مع الـ ‪ . desarollismo‬بأمريكا'‬
‫الالتينية) من جهة أخرى يسمح لنا بوصف' هذا النظام بوصفه مهيمناً عالميا باستثناء المنطقة‬
‫السوفيتية‪ .‬وكان على بلدان العالم الثالث "اللحاق" بالركب بدخولها' بفعالية وانضباط' فى النظام‬
‫العالمى المنتشر‪.‬‬

‫أما النظام االقتصادى' والسياسى البديل الذى وضع عام ‪ 1917‬المعروف' باالشتراكية القائمة‬
‫بالفعل ‪ Le socialisme reellement existant‬فقد نصب لنفسه هدفين‪ :‬األول هو اللحاق وإ لغاء‬
‫التأخر‪ ،‬والثانى' "إنشاء البديل" بالتخطيط' المركزى' المنفصل عن النظام العالمى‪ .‬غير أنه انحرف‬
‫لكونه ابتعد عن التسيير' الديمقراطى' فى بناء االشتراكية مما أدى إلى انهياره (حالة أوروبا الشرقية‬
‫واالتحاد' السوفييتى سابقا وانزالق الصين نحو الرأسمالية)‪.‬‬

‫وأدى فشل النظام السوفييتى‪ '،‬وكذلك والشعبوية القومية فى العالم الثالث برأس المال السائد‬
‫إلى إعادة بناء نظام جديد سمى بالليبرالية المعولمة الجديدة‪.‬‬

‫لكن فى الواقع هناك تناقض صارخ بين الخيارات االجتماعية المعلنة فى الخطاب‬
‫النيوليبرالى المعولم والذى يطرح نفسه بوصفه نظاماً جديداً‪ ،‬وبين الممارسات' والتطبيقات على‬
‫أرض الواقع التى يمارسها' هذا النظام‪.‬‬

‫فالعولمة فى واقع أمرها ملتبسة‪ :‬إذ يخفى الخطاب السائد والمتستر خلف مزايا المنافسة التى‬
‫تتغنى بها‪ ،‬ممارساته الهادفة إلى الحفاظ على مصالح االحتكارات‪ .‬فى نفس الوقت فهو يرفع شعار‬
‫حماية البيئة بيد أنه يفضل األرباح القصيرة المدى عن السياسات االقتصادية طويلة المدى‪ .‬أخيرا‬
‫وبالرغم من إعالنها عن مبادئ مضادة لنهوض القوميات فغالبا ما تتصرف' القوى العظمى‬
‫وخاصة الواليات المتحدة مظهرة ومتباهية بعضالتها فى شتى الميادين العسكرية واالقتصادية‪.‬‬

‫إن جميع نماذج النظام الرأسمالى ارتكزت على نظرة إمبريالية للعالم بالتوافق مع انتشار'‬
‫الرأسمالية التى تحمل فى طياتها' عدم التكافؤ واالستقطاب على المستوى' العالمى‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫فى مرحلتها الليبرالية القومية لالحتكارات ‪ 1945-1880‬تميزت اإلمبريالية بالصراعات ما‬
‫بين مختلف القوى اإلمبريالية‪ ،‬أما المرحلة االجتماعية القومية لما بعد الحرب ‪ 1980 -1945‬فقد‬
‫تم خاللها تالؤم استراتيجيات اإلمبرياليات القومية تحت قيادة وهيمنة الواليات المتحدة من جهة‬
‫ومن جهة أخرى اضطرت اإلمبريالية إلى التراجع واالنسحاب من مناطق' االشتراكية (االتحاد‬
‫السوفييتى‪ ،‬وأوروبا الشرقية‪ ،‬والصين) كما أنها فاوضت علي وجودها' لدى حركات التحرر فى‬
‫آسيا وأفريقيا' وأمريكا' الالتينية‪.‬‬

‫لكن بانهيار االشتراكية "القائمة بالفعل"‪ ،‬والنظم' الشعبوية الراديكالية فى العالم الثالث‪،‬‬
‫استرجعت اإلمبريالية قواها وهجماتها من جديد‪ .‬فالعولمة التى ُيعبر عنها بكل وقاحة فى‬
‫اإليديولوجية الحالية ما هى إال الشكل الجديد للنظام الرأسمالى' الحالى‪.‬‬

‫من هذا المنظور بإمكاننا القول إن مصطلح العولمة مرادف' لمصطلح اإلمبريالية (انظر‬
‫العولمة واإلمبريالية)‪.‬‬

‫(‪ )3‬إن الجو الذى شهدته نهاية القرن العشرين يشبه كثيرا الجو الذى بدأ به‪" .‬والفترة‬
‫الجميلة" ‪ La belle epoque‬كانت بالفعل جميلة لرأس المال‪ .‬وبرجوازيات الثالوث (أوروبا‪،‬‬
‫الواليات المتحدة‪ ،‬اليابان) أصبحت تنعم بفوزها وانتصارها'‪ .‬ولم يعد ينظر إلى الطبقات العاملة فى‬
‫بلدان المركز وكأنها' الطبقات الخطيرة كما كانت عليه خالل القرن التاسع عشر‪ .‬وأما بقية شعوب‬
‫العالم فما عليها إال أن تنتظر "التحضير" الذى يأتى به الغربيون‪.‬‬

‫فوز' بلدان المراكز الرأسمالية المعولمة أدى إلى انفجار ديمغرافى' نقل نسبة السكان ذوى‬
‫األصل األوروبى من ‪ %23‬فى العام ‪ 1800‬إلى ‪ %36‬فى العام ‪ 1900‬من مجموع سكان‬
‫األرض‪.‬‬

‫إن تركز الثورة الصناعية فى بلدان الثالوث أنتج استقطابا فى الثروات وصل إلى مستويات‬
‫لم تعرفها' اإلنسانية طوال تاريخها‪.‬‬

‫فالعولمة األولى لم تؤد إلى تسارع فى التراكم بل عكس ذلك تماما فهى أدت إلى أزمة بنيوية‬
‫من ‪ 1873‬إلى ‪ 1896‬كالتى عرفناها بعد قرن من هذا التاريخ‪ .‬مع أن هذه األزمة اصطحبتها'‬
‫ثورة صناعية جديدة (الكهرباء والبترول والسيارة والطائرة) وكان متوقعاً' لها أن تحول الجنس‬
‫البشرى' كما يقال اليوم عن الثورة االلكترونية‪ .‬بالموازاة تشكلت األوليغوبولية ‪ oligopoles‬األولى‬
‫الصناعية والمالية (ما يعادل الشركات المتعدية الجنسية)‪ .‬وهكذا ترسخت العولمة المالية على‬

‫‪94‬‬
‫قاعدة الذهب ‪ -‬االسترليني‪ .‬وبدأ الحديث بحماس شديد عن تدويل التبادالت البورصية الجديدة كما‬
‫يدور' الحديث اليوم عن العولمة المالية‪.‬‬

‫كان الكاتب الشهير جول فيرن ‪ Jules Verne‬يجعل بطله (اإلنجليزى طبعا) يدور حول‬
‫العالم فى ثمانين يوماً‪ :‬وهكذا كانت بداية "القرية العالمية"‪.‬‬

‫ان انتصار' "الفترة الجميلة" لم يدم أكثر من عشريتين‪ .‬وقد' تنبأ لهذا االنهيار' بعض‬
‫الديناصورات مثل لينين (كان شابا آنذاك) ولكن لم ينصت إليهم أحد‪.‬‬

‫فالليبرالية لم تقلص من حدة التناقضات الخاصة بالنظام بل على العكس ضاعفت من شدتها‪.‬‬

‫وقد' شهدت ثالثة أرباع القرن العشرين مشاريع اللحاق وتحوالت' متفاوتة الجذرية فى بلدان‬
‫التخوم أصبحت ممكنة بسبب تفكك العولمة الليبرالية الطوباوية للفترة المعروفة "بالفترة الجميلة"‪.‬‬

‫وأخذ األمر ما ال يقل عن ثالثين عاما ‪ 1914-1945‬وحربين عالميتين وأزمة الثالثينات‬


‫وثورتين عظميين (روسيا' والصين) ونهوض كل من آسيا وأفريقيا من أجل تغيير موازين القوى‬
‫لصالح الطبقات العاملة والشعوب وذلك إثر انتصار' الديمقراطية على الفاشية والتحرر الوطنى من‬
‫االستعمار'‪.‬‬

‫يعنى ذلك أن موازين القوى الحالية والتى هى فى صالح رأس المال سوف لن تتغير‬
‫بسهولة‪ .‬فالتحديات التى تواجه الحركات االجتماعية الرافضة لهذه الوضعية كبيرة جداً ويجب‬
‫وضع ذلك فى الحسبان‪.‬‬

‫لقد تميز النصف األوسط من القرن العشرين بموازين قوى' اجتماعية ودولية أجبرت رأس‬
‫المال على التكيف مع منطق مصالح الطبقات العاملة والشعوب فرجحت الكفة لصالح هؤالء‪،‬‬
‫واألزمة التى تبعت (‪ )1975 – 1968‬كانت أزمة انجراف ثم انهيار األنظمة التأسيسية للتطور'‬
‫السابق‪ .‬والفترة التى لم ننته منها بعد ليست فترة إقامة نظام عالمى جديد كما يحلو للبعض القول‪،‬‬
‫بل هى فترة إقامة فوضى' من الصعب التحكم فيها‪ .‬والسياسات' الموضوعة فى هذه الظروف' ال‬
‫تشكل إجابة الستراتيجيات' توسع رأس المال بل تكتفى بتسيير' األزمة ال غير‪ .‬ولكنها لن تتوصل'‬
‫إلى ذلك ألن المشروع "العشوائى" الناجم عن السيطرة المباشرة لرأس المال‪ ،‬سيفشل ألنه مشروع‬
‫طوبوى‪ ،‬وطوباوية تسيير أمور الدنيا بقوانين السوق والمصالح المهيمنة لرأس المال لن تؤدى' إلى‬
‫أى نتيجة بغياب األطر التى تفرضها القوى االجتماعية الفاعلة والمنظمة‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫هكذا هو التاريخ الحديث‪ :‬تتلو مراحل إعادة اإلنتاج لألنظمة التراكمية فترات من الفوضى‪.‬‬

‫وفى' أولى هذه المراحل ‪ -‬ما بعد الحرب‪ -‬كان سير األحداث رتيبا ألن موازين القوى‬
‫االجتماعية والدولية كانت مستقرة‪.‬‬

‫ويتم إعادة إنتاج هذه العالقات بفضل الدينامية الخاصة بالنظام‪ ،‬ويبرز' خالل هذه المراحل‬
‫فاعلون تاريخيون معينون (طبقات اجتماعية فاعلة‪ ،‬دول‪ ،‬أحزاب سياسية‪ ،‬ومنظمات اجتماعية‬
‫قوية) ذوو ممارسات ثابتة وردود فعل متوقعة وأيديولوجيات' تتمتع بالشرعية الالزمة‪ .‬قد تتغير‬
‫الظروف فى هذه الفترات لكن البنى تبقى مستقرة‪ .‬وذلك يسهل من عملية االستشراف‪.‬‬

‫بنى دائمة إلى األبد ومعلنة "نهاية التاريخ"‪.‬‬


‫لكن الخطر يأتى عندما تمتد هذه التوقعات وكأنها ً‬

‫وعوضا' عن تحليل التناقضات التى تمس‪  ‬بنى النظام يعرض البعض نظرة خطية تقودها‬
‫"قوة األشياء" "وقوانين التاريخ" حيث وصفها‪ ،‬عن حق‪ ،‬مفكرو ما بعد الحداثة بـ "السرد األكبر" “‬
‫‪.Les grandes narrations‬‬

‫وهكذا يختفى فاعلوا التاريخ وراء المنطق البنيوى المزعوم للموضوعية‪.‬‬

‫لكن التناقضات هذه ال تعمل باطنيا والبد لها من االنفجار يوماً‪ ،‬ما فتنهار' فجأة البنى التى‬
‫كانت تبدو مستقرة ويدخل التاريخ فى مرحلة توصف باالنتقالية‪ .‬غير أن هذه المرحلة تعاش‬
‫وكأنها' اتجاه نحو المجهول‪ .‬وخاللها يتبلور فاعلون تاريخيون جدد يبحثون عن ممارسات جديدة‬
‫محاولين اضفاء صيغة أيديولوجية جديدة تكون غامضة فى البداية‪ .‬لكن األشياء تتبلور شيئا فشيئاً'‬
‫وتظهر' عالقات جديدة محددة‪.‬‬

‫(‪ )4‬فتطوى صفحة المشاريع' التنموية التى ميزت القرن العشرين‪ ،‬وتنهار النماذج الثالثة‬
‫للتراكم المقيد الذى عرفته فترة ما بعد الحرب والذى أدى إلى أزمة بنيوية للنظام من ‪ 1968‬إلى‬
‫‪ 1971‬تذكرنا بأزمة نهاية القرن التاسع عشر‪ .‬وتهبط' معدالت االستثمار' والنمو' إلى نصف ما‬
‫كانت عليه فترتفع البطالة وينتشر' الفقر والالمساواة على جميع األصعدة الوطنية والدولية‪.‬‬

‫وتفسر األزمة بكون األرباح التى يولدها االستغالل ال تجد منافذ كافية تستغل فى استثمارات‬
‫إنتاجية‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫ويحاول' إيجاد حلول إلدارة األزمة بخلق منافذ' جديدة للفائض من رؤوس' األموال العائمة‬
‫وتجنب إنقاصها المفاجئ‪ .‬أما الحل الجدى لألزمة فيكمن فى تغيير القواعد االجتماعية المتحكمة‬
‫فى توزيع الدخل واالستهالك واالستثمار' أو بعبارة أخرى إنشاء مشروع اجتماعى جديد منسجم‬
‫ومختلف' عن المشروع الحالى الذى يرتكز على قاعدة المردودية ال غير‪.‬‬

‫إن هذه الطريقة فى إدارة األزمة كانت سيئة بالنسبة للطبقات العاملة ولشعوب بلدان التخوم‪،‬‬
‫(وكذلك المركز) غير أنها كانت مجدية ومفيدة للغاية لطبقات رأس المال المهيمن‪ ،‬فالفوارق'‬
‫شاسعة فى توزيع الدخل بين طبقات المجتمع وإ ذا كانت قد خلّفت الفقر والهشاسة والتهميش‬
‫للبعض‪ ،‬فقد صنعت من ناحية أخرى أصحاب المليارات الذين يتباهون بدون حياء "بالعولمة‬
‫السعيدة"‪.‬‬

‫األزمة البنيوية هذه كالتى سبقتها عرفت ثورة تكنولوجية ثالثة أثرت بعنف فى األنماط‬
‫التنظيمية للعمل فأضعفت فعالية ثم شرعية األشكال النضالية السابقة للعمال والشعوب‪ ،‬وتشرذمت‬
‫الحركات االجتماعية ولم تستطع إلى اآلن اإلجابة بفعالية على التحديات التى تواجهها‪ .‬غير أنها قد‬
‫بدأت باقتحامات' فى ميادين واتجاهات عديدة‪ .‬فدخلت الحركات النسائية فى الحياة االجتماعية‬
‫وانتشر' الوعى بمدى الدمار الذى مس البيئة على مستوى القارة إذ أصبح يهدد المعمورة بأسرها'‪.‬‬
‫فى سنوات قليلة تعززت قوى' النضال االجتماعى وأصبحت تظاهرات سياتل وبورتو أليغرى‪ ‬‬
‫تخيف أقوياء الساعة‪.‬‬

‫كان هذا القلق وراء الهجمة األخيرة لبلدان مجموعة السبعة‪ .‬فبين عشية وضحاها' غ''يرت ه''ذه‬
‫البلدان من لهجتها مس'تعملة مص'طلح التق'نين ال'ذى ك'ان محظ'ورا س'ابقا‪ :‬ونس'مع اآلن وج'وب التق'نين‬
‫فى التحرك ''ات المالية الدولي ''ة‪ ،‬وع ''رض اقتص ''ادي البنك الع ''المى س ''تيغلينز' ‪  Stiglizl‬اق ''تراح ح ''وار‬
‫يح ''دد مع ''الم توافق' ما بعد واش ''نطن ‪ Post washington consensus‬الجدي ''دة وأما الداعية ‪Georges‬‬
‫‪ Soros‬فنشر' كتابا تحت عن ''وان "أزمة الرأس ''مالية العالمية‪ -‬أص ''ولية األس ''واق" ال ''ذى يعت ''بر محاولة‬
‫إلنق ''اذ الرأس ''مالية من النيوليبرالية‪ .‬لكن علينا أن ال نغفل أنها اس ''تراتيجية تص ''بو' إلى نفس األه ''داف‬
‫وهى الس''ماح ل''رأس م''ال الش''ركات المتعدية الجنس''يات ب''التحكم فى زم''ام األم''ور‪ ،‬فيجب علينا أن ال‬
‫الس ّذج وقعوا وسوف' يقعون فى المصيدة‪.‬‬
‫نقلل من أهمية ردة الفعل الجديدة‪ .‬والكثير' من ُ‬

‫لقد ب' ' ' ' ''دأ البنك الع' ' ' ' ''المى منذ س' ' ' ' ''نوات بتوظيف المنظم' ' ' ' ''ات غ' ' ' ' ''ير الحكومية فى خدمة خطابه‬
‫المعروف' بمكافحة الفقر‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫وفى ه ''ذا الظ ''رف الفوض ''وى' اس ''ترجعت الوالي ''ات المتح ''دة هجومها إلع ''ادة هيمنتها الش ''مولية‬
‫التى تمكنها من ترتيب النظام العالمى فى أبعاده السياسية االقتصادية والعسكرية‪.‬‬

‫(‪ )5‬إن المرحلة الحالية من انتش ' ' ''ار الرأس ' ' ''مالية تلح على ح ' ' ''دوث "شئ جديد" على س ' ' ''احتها‬
‫والمطل ''وب' اآلن من الحرك ''ات االجتماعية أن تضع نصب أعينها "الواقع الجديد"‪ ،‬وأن تق ''ترح ب ''دائل‬
‫مضادة لرأس المال السياسى' تتيح توظيف هذا "الجديد" لصالحها‪.‬‬

‫وفى خضم الواقع المعقد ال ' ''راهن ليس من الس ' ''هل ف ' ''رز' الجديد الخاضع لالتجاه ' ''ات العريضة‬
‫والطويلة الم' ''دى‪ ،‬من "الجديد الظ' ''رفى" المتعلق ب' ''إدارة األزمة الحالية‪ .‬ص' ''حيح أن لكل ظ' ''اهرة من‬
‫المجموع' ' ''تين واقعها الخ ' ''اص غ ' ''ير أن الظ ' ''اهرة الثانية خاصة باألزمة وإ دارتها الحالية بينما تتعلق‬
‫األولى "بتحوالت فى عمق النظام"‪.‬‬

‫إن أهمية الث ' ''ورة العلمية والتكنولوجية الحالية وانعكاس ' ''اتها' على تنظيم العمل وعلى العالق ' ''ات‬
‫االجتماعية وعلى ثقافة مجتمعات الغد تشكل النواة الصلبة "للجديد الصحيح"‪.‬‬

‫الث' ' ''ورة المعاص' ' ''رة وخاصة المعلوماتية تش' ' ''كل ق' ' ''وة كب' ' ''يرة فى إع' ' ''ادة هيكلة النسق اإلنتاجية‬
‫(بخاصة فى التش''تت الجغ''رافى' لألج''زاء المتحكم فيها عن بعد)‪ ،‬بالت''الى ف''إن س''يرورة العمل بص''دد‬
‫َوض نم'''اذج العمل التسلس' ''لى ‪( travail a la chaine‬التايلورية) بأش'''كال‬
‫عملية تغ' ''ير عميقة‪ .‬إذ تٌع َّ‬
‫جدي ''دة ت ''ؤثر' بعمق فى بنية الطبق ''ات االجتماعية وإ داراتها' بالمش ''اكل المتعلقة بتجزئة أس ''واق' العمل‪.‬‬
‫يتعلق األمر هنا بتغيير' على المدى البعيد‪.‬‬

‫قد ي' ''ؤدى التط' ''ور' فى ه' ''ذا المي' ''دان "إلى تالشى ق' ''انون القيمة" مما يع' ''نى أيضا أن الرأس' ''مالية‬
‫يجب تجاوزها‪ .‬وقد' يك''ون ذلك بطرائق' مختلفة‪ :‬بطريق' االش''تراكية‪ -‬ال''رد اإلنس''انى' الوحيد للتح''دى‬
‫المف''روض‪ -‬أو بوضع نظ''ام تفرقة معمم ال يرتكز من خالله التمي''يز االجتم''اعى على المش''اركة فى‬
‫خلق القيمة (حتى لو أدت هذه المشاركة إلى استغالل) بل على معايير أخرى شبه سياسية وثقافية‪.‬‬

‫على كل ح ''ال يصح الق ''ول ب ''أن كل ث ''ورة تكنولوجية تح ''ول الب ''نى التنظيمية للعمل‪ .‬وإ ذا ك ''ان‬
‫المجتمع طبقيا فلن ت'زول ه'ذه الطبق'ات بفعل التح'ول الم'ذكور' بل س'تغير' من ش'كلها إلى درجة ت'وهم‬
‫باختفائها كما هو الح ''ال عليه اآلن‪ ،‬بالت ''الى ف ''إن أش ''كال التنظيم' االجتم ''اعى واألش ''كال ال ''تى تتخ ''ذها‬
‫مختلف المشاريع شديدة التأثر بالثورة التكنولوجية‪ .‬هنالك تعايش لألحسن ولألسوأ‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫إن األدبيات السائدة المتعلقة بالتحوالت فى تنظيم العمل إض'افة إلى انتش'ار الث'ورة التكنولوجية‬
‫الحالية ت'''زعم أن هن'''اك نم'''وذج جديد للمجتمع يرتكز على تنظيم' ش ''بكى عوضا عن التنظيم الس'''لمى‬
‫وعلى تفاعل المش ''اريع عوضا عن الوح ''دة ال ''تى ك ''انت تمثلها المؤسسة‪ .‬كما أنها ت ''زعم أن المجتمع‬
‫الش '''بكى الجديد س '''يفتح آفاق'''اً أم '''ام االس '''تقاللية الخالقة واإلبداعية لألف' ''راد… إلخ … ويتك '''ون ه '''ذا‬
‫المجتمع تحت أعيننا‪.‬‬

‫فما هى يا ت ' ''رى النت ' ''ائج االجتماعية الحقيقية المترتبة علي ' ''ه؟ التزايد الس ' ''ريع واالس ' ''تثنائى فى‬
‫حصص عوائد رأس الم ''ال والملكية على حس ''اب عوائد العم ''ل‪ ،‬التهميش والفقر واإلقص ''اء ألج ''زاء‬
‫كب''يرة من الش''عوب‪ .‬إن ه''ذه الوق''ائع' تبطل ما يزعمه الخط''اب الس''ائد عن ك''ون الف''رد أص''بح ص''انعا‬
‫للت ''اريخ‪ ،‬وأن الطبق ''ات واألمم أص ''بحت مف ''اهيم بالية‪ .‬كما أن مثالية االتص ''ال ال ''ذى س ''يحل مش ''اكل‬
‫اإلنس''انية م''زيال الص''راعات تنتمى إلى نفس الخط''اب‪ .‬بينما يبقى الف''رد كائنا اجتماعيا ح''بيس القهر‬
‫واالستغالل' الذى يقوم عليه مجتمعنا المعاصر'‪.‬‬

‫من ناحية أخرى فإن تطور' القوى اإلنتاجية ال'تى هى فى نفس ال'وقت ق'وى م'دمرة‪ ،‬وصل إلى‬
‫درجة تحول نوعى يجعلنا نطرح على أنفسنا أسئلة جديدة‪.‬‬

‫إن ترس ''انة األس ''لحة النووية من ش ''أنها أن تضع ح ' ً'دا لكل حى على وجه المعم ''ورة‪ ،‬وبالت ''الى‬
‫تتطلب ه' ' ' ''ذه الظ' ' ' ''اهرة الجدي' ' ' ''دة فى الت' ' ' ''اريخ الع' ' ' ''دول عن اس' ' ' ''تعمالها' وتفكيكها' بأكملها‪ .‬أما الحلف‬
‫األطلسى' فقد اتخذ موقفا معاكسا تماما بحيث اس ' ' ''تعمل الح ' ' ''رب لحل النزاع ' ' ''ات السياس ' ' ''ية‪ .‬وهن ' ' ''اك‬
‫ميادين أخرى مثل ال''بيو وراثية ال''تى توص''لت فيها المعلوم''ات العلمية إلى درجة عالية ج''داً ولكن قد‬
‫تك''ون ض'ارة لإلنس''انية إذا لم يتم التحكم فيها وتس'ييرها اجتماعيا‪ .‬فى ه'ذا المي''دان تظل مراع''اة القيم‬
‫األخالقية والقواعد السبيل الوحيد لضمان سيرورة اإلنسانية‪.‬‬

‫غ''ير أن النظ''ام الق''ائم حاليا يتص''رف عكس ذلك تماما بلجوئه إلى الخصخصة‪ .‬وتط''ور الق''وى‬
‫اإلنتاجية فى ش '''كلها الح '''الى لن ي' ''ؤدى من اآلن فص '''اعدا إلى التط' ''ور' االجتم' ''اعى بل إلى ت '''دميره‪،‬‬
‫وبالتالى' يستوجب تجاوزها‪( .‬انظر البعد الهدام لدى الرأسمالية)‪.‬‬

‫وإ ن مس'''ألة البيئة هنا مطروحة بح'''دة حيث إن اإلنس'''انية تعيش ألول م ''رة فى تاريخها خط'''را‬
‫حقيقيا يهدد الحياة على وجه األرض‪ .‬فهل من الممكن إذن تص''ور' أى مش''روع للمجتمع ال يأخذ فى‬
‫الحسبان هذا الواقع‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫لقد تم إثب ''ات فشل الرأس ''مالية أي 'اً ك ''ان ش ''كلها فى إيج ''اد حل ''ول للتح ''ديات المطروحة‪ .‬ذلك ألن‬
‫الرأسمالية مبنية على الحسابات القصيرة المدى (بض'عة س'نوات على أقصى' حد) وت'برهن على ذلك‬
‫نظرتها' الس' ' ''لبية والناقصة للمس' ' ''تقبل‪ .‬بيد أننا نعلم أن المس' ' ''ألة المطروحة اآلن تتطلب وضع سياسة‬
‫عقالنية طويلة المدى (إلى األبد)‪ ،‬وظهور مشكلة البيئة دليل على كون الرأسمالية بوص'فها حض'ارة‬
‫أصبحت عاجزة عن التق''دم ومن الض''رورى تجاوزها لكن لألسف "الخضر فى غ''البيتهم ال يتفهم''ون‬
‫ذلك‪.‬‬

‫‪-‬إن قراءة جيدة للعديد من الظواهر' ال''تى تب'دو بديهية تس'مح لنا ب''التعرف على الش''كل الظ'رفى'‬
‫وغ' ''ير ال' ''دائم لها‪ .‬فى ه' ''ذا المج' ''ال بإمكاننا ذكر "تراجع الدولة" "‪ "effacement de L`Etat‬وأميلة "‬
‫‪ "financiarisation‬رأس المال‪( .‬أى تغلب البعد المالي علي األبعاد اإلنتاجية فى القرار االقتصادى')‬

‫والخطاب السائد هنا يزعم أن الش'ركة الكب''يرة حص'لت على اس'تقالليتها تج'اه الدولة وأص'بحت‬
‫الفاعل المهيمن والمنف ' ' ' ' ' ' ''رد فى المرحلة الجدي ' ' ' ' ' ' ''دة المس' ' ' ' ' ' ''تديمة للرأس' ' ' ' ' ' ''مالية‪ .‬ويأخذ' المنظ ' ' ' ' ' ' ''رون‬
‫اإليديولوجيون بالتباهى والتفاخر فى خطاباتهم المعلنة "ضد الدولة"‪.‬‬

‫لكن فى الواقع تظل الش''ركات المتعدية الجنس''يات الك''برى وطنية (خاصة بتملكها وتحكمها فى‬
‫رأس المال) وتتعدى أنشطتها ح'دود بل'دها األص''لى كما أن انتش''ارها فى حاجة إلى مس'اندة جدية من‬
‫الدولة‪ .‬لكنها فى نفس ال''وقت اكتس''بت من الق''وة ما يمكنها من تط''وير' وانتش''ار' اس''تراتيجيتها' خ''ارج‬
‫(وأحيانا ضد) سياسة دولتها‪ .‬فهى ت ' ' ' ''رغب فى إخض ' ' ' ''اع منطق ه ' ' ' ''ذه األخ ' ' ' ''يرة إلى اس ' ' ' ''تراتيجيتها‬
‫ومنطقها'‪ .‬والخط''اب النيولي''برالى يخفى أهدافه ه''ذه إلض''فاء الش''رعية لمنطقه الحص''رى' ال''ذى ي''دافع‬
‫عن المص' ' ' ''الح الخاصة بالش' ' ' ''ركات ه' ' ' ''ذه‪ .‬إن "الحرية" المن' ' ' ''ادى بها ليست للجميع بل تقتصر على‬
‫مص ' ''الح الش' ''ركات على حس ' ''اب اآلخ' ''رين‪ .‬به' ''ذا المع ' ''نى ُيعت ' ''بر الخط ' ''اب النيولي' ''برالى أي' ''ديولوجيا‬
‫ومخادعا فى الوقت نفسه‪ .‬ووضعية العالقة التى تربط رأس المال المحتكر (األوليغوب''ولى') الخ''اص‬
‫بالدولة عالقة مبهمة وغامضة‪ .‬لكن ال أحد يس ' ''تطيع' الج ' ''زم ب ' ''أن المتغلب فى ه ' ''ذه الس ' ''اعة س ' ''يظل‬
‫متغلبا ومكتسبا الدور األهم على المدى البعيد‪ .‬فالعابر' هنا قد يصبح مستديما بدون رجعة‪.‬‬

‫من ناحية أخ'''رى‪ ،‬فالح'''ديث عن رأس م'''ال متع'''دى الجنس ''يات (بالت ''الى عن برجوازية متعدية‬
‫الجنس''يات) يع''وض دور رؤوس األم''وال الوطنية ذات الم''دي الع''المى‪ ،‬يب''دو س''ابقا ألوانه اآلن‪ .‬إن‬
‫التضامن بين أعضاء الثالوث له جذور' أخرى‪.‬‬

‫إن االميلة ‪ financiarisation La‬ظ ' ''اهرة ظرفية ناتجة عن األزمة‪ .‬فالف ' ''ائض من الرس ' ''اميل‬
‫ال' ''ذى ال يجد توظيف ' 'اً فى انتش' ''ار' النظم اإلنتاجية يش' ''كل خط' ''را حقيقيا بإنق' ''اص فاألس' ''ئلة قيمة رأس‬

‫‪100‬‬
‫الم ''ال للطبق ''ات الحاكمة‪ .‬وتتطلب إدارة األزمة إيج ''اد أس ''واق مالية لتجنب الكارثة‪ .‬غ ''ير أن ذلك ال‬
‫يعد س '''وى ه '''روب إلى األم '''ام ال يس '''مح بخ '''روج فعلى من األزمة‪ .‬ب' ''العكس فاألميلة تحبس األزمة‬
‫داخل دوامة رك''ود ألنها تض''اعف من ع''دم التك''افؤ فى توزيع' ال''دخل وتج''بر' الش''ركات الك''برى على‬
‫لعب دور الممول‪.‬‬

‫نحن ال نع' ''رف أى ش' ''كل س ' ''تتخذه األزمة الك' ''برى "اآلتية" (انهي ' ''ار البورص ' ''ات؟)‪ .‬كما أننا ال‬
‫نع''رف ما هى ال''ردود السياس''ية ال''تى س''تأتى بها الحرك''ات االجتماعية للنت''ائج الفوض''وية الناجمة عن‬
‫األزمة‪ .‬هل س'تكون نيو ش'عبوية رجعية أم يس'ارية راديكالي'ة؟ إن ب'نى النظ'ام المس'تقبلى متوقفة على‬
‫األجوبة التى تأتى بها هذه الحركات‪.‬‬

‫لقد عملت حركة األميلة خالل العش' ''رين س' ''نة الماض' ''ية على ترك' ''يز' ق' ''وى' ل' ''رؤوس' األم' ''وال‬
‫بحيث تض''اعف س''بع م''رات حجم اإلدماج''ات وأص''بح مس''تحيال اآلن الرج''وع' إلى ال''وراء‪ .‬والتس''اؤل‬
‫المط' ' ''روح' حاليا عن م' ' ''دى ش' ' ''رعية ترك' ' ''يز الق' ' ''وى الخاصة‪ -‬بالت' ' ''الى الممارس' ' ''ات غ' ' ''ير الش' ' ''فافة‬
‫الالديمقراطية التى تميزها‪ -‬التى تأخذ مكان السلطات العامة الكفيلة وحدها بضمان الشفافية‪.‬‬

‫إن اإلدارة االقتص ' ' ''ادية لألزمة ته ' ' ''دف إلى "ع ' ' ''دم التق ' ' ''نين" والتقليص من المواقف' الص ' ' ''ارمة‬
‫"للنقاب'''ات وتفكيكها' إن أمكن ذلك وتحرير' األس'''عار واألج'''ور وخفض المص ''اريف' العمومية (خاصة‬
‫اإلعانات والخدمات االجتماعية) والخصخصة وفتح عالقات مع الخارج إلخ…‬

‫من ناحية أخرى فإن مصطلح "عدم التقنين" مصطلح مخادع أصال‪ .‬ألنه ال توجد أس''واق غ''ير‬
‫مقننة ما ع' ''دا فى ذهن االقتص' ''ادى "البحت"‪ .‬فكل األس' ''واق' مقننة وتعمل وفق' التق' ''نين‪ .‬والس' ''ؤال' هو‬
‫معرفة كيف ومن يقننها‪ .‬من خلف عب ''ارة ع ''دم يتس ''تر' واقع غ ''ير معلن عنه‪ :‬واقع التق ''نين األح ''ادى‬
‫المسير من طرف' رأس المال المهيمن‪.‬‬

‫ب ''الطبع‪ ،‬فى ال ''وقت ال ''ذى تس ''جن فيه الليبرالية االقتص ''اد' فى دوامة رك ''ود' من الص ''عب التحكم‬
‫فيها على المس''توى الع''المى‪ ،‬وتتزايد' الص''راعات ال''تى يص''عب حله''ا‪ ،‬يظل الخط''اب اللي''برالى ي''ردد‬
‫وعوده بتنمية "سليمة"‪.‬‬

‫إن العولمة الرأس''مالية تتطلب إدارة لألزمة على ه''ذا المس''توى إليج''اد حل للف''ائض الكب''ير من‬
‫الرس ' ''اميل العائمة‪ .capitaux flottants .‬فمن الض ' ''رورى التص ' ''دى للف ' ''ائض الهائل من الرس ' ''اميل‬
‫العائمة التى تخضع االقتصاد إلى معيار واحد ووحيد‪ :‬األرباح المالية‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫وفتح المج ''ال أم ''ام التنقالت الدولية ل ''رؤوس' األم ''وال والتعامل بمب ''دأ الص ''رف' الع ''ائم وأس ''عار‬
‫الفائ' ' ' ''دة المرتفعة والعجز فى ميزانية ال' ' ' ''دفع األمريكية وال' ' ' ''ديون الخارجية لبل' ' ' ''دان الع' ' ' ''الم الث' ' ' ''الث‬
‫وسياس'''ات الخصخصة كل ه'''ذه العناصر ‪ -‬تك'''ون وح'''دة سياس ''ية عقالنية تس ''مح ل ''رؤوس' األم'''وال‬
‫العائمة بمخ''رج‪ ،‬معتم''دة ب''ذلك على المض''اربة المالية لتجنب خطر اإلنق''اص الش''ديد ‪devalorisation‬‬
‫‪ massive‬من قيمة الفائض فى رؤوس األموال‪.‬‬

‫وقد س''ببت سياسة التحرك''ات غ''ير المس''تقرة ‪ flux instables‬خس''ائر كب''يرة ظه''رت إثر األزمة‬
‫اآلس''يوية ع''ام ‪ 1997‬إذ ك''انت المنطقة تع''رف حالة ادخ''ار ش''ديد ولم تكن بحاجة إلى رؤوس' أم''وال‬
‫خارجية عائمة‪ .‬وكان ه'ؤالء يعلم''ون جي'دا أنهم يمول''ون تض''خما اص''طناعيا للعق''ار واألوراق' المالية‬
‫جلب لهم أرباحا فورية عظيمة لكنهم ترك''وا' خلفهم ال''دمار االقتص''ادى' واالجتم''اعى‪ .‬فيما يخص ه''ذا‬
‫الموض''وع تم تق''ديم ع''دة اقتراح''ات بش''أن ف''رض ض''ريبة على التحرك''ات المض''اربة‪)taxe Tobin( .‬‬
‫واإلجراءات الواجب اتخاذها لمحاربة "الجنات الضرائبية" ‪.fiscaux Paradis‬‬

‫ليست األميلة من الص ' ' ''فات المس ' ' ''تديمة للرأس ' ' ''مالية الجدي ' ' ''دة كما يعتقد بعض المحللين ال ' ' ''ذين‬
‫يرونها' بوصفها' خصوص''ية للرأس'مالية "األنجلوساكس''ونية" بالمقارنة مع خصوص''ية رأس'مالية "ألمانيا‬
‫واليابان"‪ .‬وليس بإمكان الدوائر المالية أن تتنامى بمعزل عن االقتص''اد' الحقيقى‪ .‬أما الخط''اب الس''ائد‬
‫ح' ''ول األميلة فهو يلح على نوعية أخ' ''رى من المش' ''اكل المتعلقة بك' ''بر سن س' ''كان الث' ''الوث وانفج' ''ار‬
‫ص''ناديق المعاش''ات ‪ .Fonds de pension‬هن''اك بعض التحليالت تش''ير إلى وج''ود' كتلة من ال''دائنين‬
‫‪ creanciers‬تش''كل ق''وة اجتماعية واعية بمص''الحها'‪ .‬ويتعلق األمر بمجم''وع' المتقاع''دين ومن ورائهم‬
‫مجم' ''وع األج' ''راء "المس' ''تقرين" المتض' ''امنين مع مس' ''يرى' "األرص' ''دة التقاعدية" ‪Fonds de pension‬‬
‫بحيث يك ' ''ون همهم الوحيد إبع ' ''اد خطر التض ' ''خم ألنهم يس ' ''تفيدون من أس ' ''عار الفائ ' ''دة المرتفعة ومن‬
‫الرسملة المالية ألرصدتهم'‪.‬‬

‫المبع ' ' ''دين والع ' ' ''اطلين عن العمل والعم ' ' ''ال‪  ‬غ ' ' ''ير‬
‫وتتع ' ' ''ارض' ه ' ' ''ذه الكتلة فى رأيهم مع كتلة ُ‬
‫المس ' ' ' ' ''تقرين فالقطيعة االجتماعية لم تعد تظهر فى معارض ' ' ' ' ''ة‪  ‬رأس الم ' ' ' ' ''ال مع العمل بل فى كتلة‬
‫المبعدين‪.‬‬
‫الدائنين (التى تجمع رأس المال والعمل) مقابل ُ‬

‫إن المس''ألة تس''تحق' التفك''ير ألن الرس''ملة الخاصة باألرص''دة (الش''كل األم''ريكى) تتع''ارض مع‬
‫تقاليد بعض البل '''دان األوروبية والق '''وى اليس '''ارية عامة ال '''تى تفضل نظ' ''ام التوزيع'‪ .‬لكن فى الحقيقة‬
‫النظم األوروبية النم''وذج األم''ريكى'‪ .‬ليست ه''ذه االس''تراتيجية المتبن''اة به''دف خلق كتلة ال''دائنين غ''ير‬

‫‪102‬‬
‫الموج' ' ' ''ودة فى الواقع (إلى اآلن) كما أنها ليست ناتجا حتميا "للتط' ' ' ''ور'" بل هى تش' ' ' ''كل ورقة رابحة‬
‫للقوى الرأسمالية المهيمنة فى عمليتها المدمرة لجبهة العمل‪.‬‬

‫‪-‬فهل العولمة قفزة نوعية؟ سؤال يستدعى البحث والتفكير‪.‬‬

‫نالحظ اآلن اتجاها واض''حا يتلخص فى تع''ويض االقتص''اد' ال''دولى ال''ذى م''يز المراحل الس''ابقة‬
‫من الرأس ' ' ''مالية باقتص ' ' ''اد ع ' ' ''المى‪ .‬غ ' ' ''ير أن تفكك النظم اإلنتاجية المركزية الوطنية م ' ' ''ازال جزئيا‬
‫ونس ''بيا'‪ .‬إض ''افة إلى ذلك لم ي ''برز منطق نظ ''ام إنت ''اجى مع ''ولم يع ''وض النظ ''ام الس ''ابق كما أن غي ''اب‬
‫س' ''لطة سياس' ''ية ق' ''ادرة على إدارة النظ' ''ام المع' ''ولم ذى البن' ''اء الفوض' ''وى ومتمتعة بش' ''رعية تض' ''اهى‬
‫ش'''رعية الدولة القومي'''ة‪ ،‬يش'''كل تناقضا' ص'''ارخا' للف'''ترة ال'''تى نعيش ''ها‪ .‬ه ''ذا الغي ''اب ي ''ؤدى حاليا إلى‬
‫الخضوع' المؤقت لهيمنة الواليات المتحدة‪.‬‬

‫تب ' ' ''دو العولمة وكأنها أرخبيل داخل المحيط وكثافة توزيع' ج ' ' ''زر ه ' ' ''ذا األرخبيل متفاوتة‪ :‬فهى‬
‫قوية فى المن''اطق المركزية حيث ت''تركز الش''ركات المتعدية الجنس''يات ومتوس''طة فى المن''اطق' ذات‬
‫التصنيع المتوسط وضعيفة فى التخوم (العالم الرابع)‪.‬‬

‫ومن األكيد أن أنظمة ال' ' ' ''دول تتآكل من األعلى ومن األس' ' ' ''فل من ط' ' ' ''رف مجموع' ' ' ''ات محلية‬
‫تتص ' ' ' ''رف وكأنها مجموعة ف ' ' ' ''اعلين مس ' ' ' ''تقلين داخل العولمة‪ .‬يبقى أن ه' ' ' ''ذه المجموع' ' ' ''ات الفرعية‬
‫المعولمة غير منسجمة‪ ،‬من ناحية أخرى ف''إن ما خلفته المرحلة الس''ابقة أى مرحلة ما بعد الح''رب (‬
‫‪ )1990 -  1945‬أدى إلى تفجير العالم غير المصنع‪ )1950 - 1880( .‬إلى ثالثة طبقات متباينة‪:‬‬

‫‪-‬الطبقة األولى‪ :‬البل ''دان االش ''تراكية س ''ابقا‪ :‬الص ''ين‪ ،‬كوري ''ا‪ ،‬ومعها ت ''ايوان‪ ،‬الهن ''د‪ ،‬البرازي ''ل‪،‬‬
‫المكسيك‪ ،‬حيث تمكنت هذه البلدان من بناء نظم إنتاجية وطنية قادرة على المنافسة‪.‬‬

‫الطبقة الثانية‪ :‬البل ' ' ''دان ال ' ' ''تى دخلت فى التص ' ' ''نيع لكنها لم تس ' ' ''تطع انش ' ' ''اء نظم إنتاجية وطنية‪:‬‬
‫البل' ''دان العربي' ''ة‪ ،‬أفريقيا الجنوبي' ''ة‪ ،‬إي' ''ران‪ ،‬تركي' ''ا‪ ،‬أمريكا الالتيني' ''ة‪ ،‬جن' ''وب ش' ''رق آس' ''يا‪ .‬ونجد فى‬
‫بعض الح' ' ''االت منش' ' ''آت ص' ' ''ناعية "تنافس' ' ''ية" تت' ' ''وفر' فيها اليد العاملة الرخيصة ولكنها تفتقد اإلدارة‬
‫التنافسية‪.‬‬

‫الطبقة الثالثة‪ :‬البلدان التى لم ت'دخل فى التص'نيع (خاصة البل'دان األفريقية) فهى ليست تنافس'ية‬
‫فيما عدا المجاالت التى تتميز بها من حيث الموارد الطبيعية‪ ،‬المناجم‪ ،‬البترول والمواد' الزراعية‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫ليس بمق ' ''دور' العولمة أن تلحق بل ' ''دان الطبقة األولى ببل ' ''دان "المراكز الجدي ' ''دة" أى أن تص ' ''بح‬
‫بل ''داناً متط ''ورة ب ''المفهوم' الرأس ''مالى للكلمة‪ .‬فما بالك بالطبق ''ات األخ ''رى‪ .‬وح ''تى فى المن ''اطق' ال ''تى‬
‫ع' ''رفت تص' ''نيعاً' متط' ''وراً' تظل التخ' ''وم تش' ''كل "احتي' ''اطى'" تس' ''تعمل فيها ق' ''وة العمل فى أنش' ''طة ذات‬
‫إنتاجية ض''عيفة‪ .‬والس''بب يع''ود إلى ك''ون سياس''ات التح''ديث‪ .‬أى مح''اوالت "اللح''اق" تف''رض خي''ارات‬
‫تكنولوجية حديثة وباهظة الكلفة من حيث استغالل رؤوس األموال واليد العاملة الماهرة ويتفاقم' هذا‬
‫التوتر' كلما تزامنت الحداثة مع توزيع غير متكافىء' للدخل‪.‬‬

‫وض''من ه''ذه الظ''روف يس''تحيل لألنش''طة اإلنتاجية الحديثة أن تس''توعب االحتي''اطى' الهائل من‬
‫اليد العاملة ف' ' ' ''التخوم الديناميكي' ' ' ''ة‪ ،‬ب ' ' ' ''الرغم من ديناميكيتها تظل تخوم ' ' ' 'اً‪ .‬يع ' ' ' ''نى مجتمع ' ' ' ''ات تعيش‬
‫التناقض ''ات' الك ''برى الناتجة عن تم ''اس أج ''زاء تم تح ''ديثها (وإ ن ك ''ان تح ''ديثاً نس ''بياً) بمحيط ض ''عيف‬
‫الحداث''ة‪ ،‬من جهة أخ''رى تس''اهم ه''ذه التناقض''ات' فى إبقائها فى وض''عية متدنية خاض''عة لالحتك''ارات‬
‫الخمسة لبل' ' ' ''دان المراكز‪( .‬انظر االس' ' ' ''تقطاب)‪ .‬إن األطروحة القائلة باالش' ' ' ''تراكية هى الحل الوحيد‬
‫لمشاكل المجتمعات ما دمنا ال ننظر إليها بوصفها وصفة كاملة ونهائية بل بوص''فها' حركة تض''امنية‬
‫أسست بفضل اس' ' ''تراتيجيات ش' ' ''عبية ت' ' ''ؤمن النقل الت' ' ''دريجى والمنظم من االحتي' ' ''اطى' نحو األج' ' ''زاء‬
‫الحديثة بط' ' ' ''رق متحض ' ' ' ''رة‪ .‬ذلك يتطلب فك ارتب' ' ' ''اط أى إخض ' ' ' ''اع العالق ' ' ' ''ات الخارجية إلى منطق‬
‫المرحلة الوطنية الشعبية االنتقالية الطويلة‪.‬‬

‫فم' ' ''اذا عن المن' ' ''اطق المهمش' ' ''ة؟ هل األمر ظ' ' ''اهرة ب' ' ''دون س' ' ''ابقة تاريخية أم أنها ت' ' ''ترجم ميال‬
‫مس'''تمراً لالنتش'''ار الرأس'''مالى' ال'''ذى ميزته عالقة لم تكن س'''لبية تماما تج ''اه التخ ''وم فى ف ''ترة ما بعد‬
‫الحرب‪.‬‬

‫إن هذا الوضع االس''تثنائى ك'ان أس'اس "التض''امن" فى الع''الم الث'الث (فى نض'اله ضد االس'تعمار'‬
‫ومطالبه بخص' ' ''وص الم' ' ''واد األولية وإ رادته السياس' ' ''ية فى التح' ' ''ديث والتص' ' ''نيع ال' ' ''ذى طالما ح' ' ''اول‬
‫الغرب مقاومته)‪.‬‬

‫كل ذلك تم رغم االختالف' ' ''ات بين دول الع' ' ''الم الث' ' ''الث‪ .‬ولكن ك' ' ''ون النج' ' ''اح ال' ' ''ذى تحقق على‬
‫ٍ‬
‫متساو‪ ،‬قد أدى إلى فشل التناسق' والتضامن فى العالم الثالث‪.‬‬ ‫مختلف الجبهات كان غير‬

‫ُكتب الكث' ''ير عن المعج' ''زة اآلس' ''يوية – آس' ''يا‪ ،‬المحيط اله' ''ادىء مركز المس' ''تقبل – آس' ''يا ال' ''تى‬
‫تتص'''در' مكانة أمريكا وأوروبا' فى التحكم فى الع'''الم‪ ،‬الص'''ين‪ ،‬الق ''وة العظمى للمس ''تقبل كتب الكث'''ير‬
‫عن ذلك‪ .‬غ' ' ''ير أن بعض التحاليل والكتاب' ' ''ات ج' ' ''ديرة باالنتب' ' ''اه والنق' ' ''اش‪ .‬منها من رأى فى الحالة‬
‫اآلسيوية إعادة النظر فى نظرية االستقطاب الخاصة باالنتشار الرأسمالى الع''المى وإ ع''ادة النظر فى‬

‫‪104‬‬
‫ردا على تح' ''دى االس' ''تقطاب‪ .‬هك' ''ذا أص' ''بحت نظرية "اللح' ''اق"‬ ‫اس' ''تراتيجيات فك االرتب' ''اط' بوص' ''فه ً‬
‫ممكنة وخاصة مع ان' ' ''دماج فاعل فى حركة العولمة ب' ' ''دالً من فك ارتب' ' ''اط وهمى يك' ' ''ون مس' ' ''ؤالً فى‬
‫أعينهم عن الكارثة السوفيتية‪.‬‬

‫ويعود نجاح آسيا حسب البعض إلى عوامل داخلية من بينها العامل الثق''افى ال''ذى س'مح لبعض‬
‫وهمش‬
‫البل''دان اآلس''يوية بف''رض أنفس''ها وال'دخول' الفاعل فى مج'ال العولمة بينما فشل البعض اآلخر ُ‬
‫وأصبح "منفكاً" دون إرادته‪.‬‬

‫هذا هو تعريف فك االرتباط ال''ذى ينظر إليه بعض المحللين المتس''رعين فى تحليالتهم بوص''فه‬
‫اكتف ''اء ذاتي' 'اً ‪ autarcie‬لكن األزمة ال ''تى لحقت ببل ''دان جن ''وب ش ''رق آس ''يا قد خفضت من ح ''دة ه ''ذا‬
‫الخطاب‪ .‬ويبقى أن مسألة دخول الصين وكوريا فى االقتصاد المعولم مطروحة‪.‬‬

‫بص''فة عامة يتم''يز االقتص''اد المع''ولم الجديد بمع''دالت نمو متفاوتة الس''رعة‪ .‬ونحن نتس''اءل إن‬
‫كان ذلك جديداً؟‬

‫ألم تش ' ''كل طريقة النمو المتف ' ''اوت ه' ' ''ذه قاع' ' ''دة تاريخية للرأس ' ''مالية‪ .‬إن ف' ' ''ترة ما بعد الح ' ''رب‬
‫‪ 1980-1945‬مثلت فترة استثنائية فى تاريخ الرأسمالية بحيث س'محت العالق'ات االجتماعية آن'ذاك‬
‫بتدخالت الدولة (دولة الرفاهية)‪ ،‬الدولة السوفيتية‪ ،‬والدولة القومية فى باندونغ' والعالم الثالث‪ .‬وك''ان‬
‫ذلك استجابة لمتطلبات النمو وتحديث القوى اإلنتاجية بتنظيم التح''والت االقليمية والقطاعية المس''يرة‬
‫لها‪.‬‬

‫هن ''اك ج ''وانب عدي ''دة من األزمة ال ''تى يعيش ''ها الع ''الم المعاصر' ت ''دل على أننا نع ''انى من أزمة‬
‫حض'ارة‪ ،‬وأن الرأس'مالية أص'بحت نظام'اً بالي'اً غ'ير ق'ادر' على االس'تجابة لتح'ديات ومش'اكل' األنم'اء‪،‬‬
‫وبالتالى' يتوجب تجاوزه‪ ،‬فعلى الحركات االجتماعية أن تفكر فى ذلك‪.‬‬

‫واللبرالية المعولمة األميلة ال''تى تنتج عنها ما هى إال منش''طات تس''تعملها الرأس''مالية المترهلة‪.‬‬
‫إنها الفياجرا لهذا الجسم الهرم‪.‬‬

‫الحرب العالمية الثانية وإعادة تشكيل "النظام" العالمي‬


‫‪ ‬‬

‫سمير أمين‬

‫‪105‬‬
‫‪ ‬‬

‫ك''ان الع''الم ف''ترة الح''رب الثانية خارجا لت''وه من أزمة الثالثيني''ات الك''برى ال''تى م''رت بها الرأس''مالية‬
‫العالمية وال''تى ك''انت الفاش''ية أحد حلوله''ا‪ ،‬وك''ان الع''الم بص''دد التن''افس ح''ول تس''ريع عملية التح''ديث‬
‫للنظ''ام اإلنت''اجى‪ ،‬وخاصة بقي''ادة الوالي''ات المتح''دة‪ ،‬وض''اعف من "الفرصة األمريكية" ه''ذه ان''دحار‬
‫الياب' ' ' ''ان وألمانيا' وت' ' ' ''دهور أوروبا' ودخ' ' ' ''ول' أمريكا كمنقذ ن' ' ' ''ووى باس' ' ' ''تخدام ه' ' ' ''ذا الس' ' ' ''الح فعالً فى‬
‫هيروشيما ونكازاكى' ع''ام ‪ '.1945‬وقد' أعطى االنفج''ار الن''ووى للوالي'ات المتح'دة حق ص''ناعة ش''كل‬
‫الع''الم مبك''راً ممثالً فى األحالف العس''كرية وفى مق''دمتها األطلنطى' باإلض''افة لقي''ادة الح''رب الب''اردة‪.‬‬
‫وفى' ه' ' ' ''ذا الجو أمكن عقب الح' ' ' ''رب الثانية وضع التس' ' ' ''ويات بس' ' ' ''رعة فى ظل عملية "التح' ' ' ''ديث‪-‬‬
‫األمركة" والهيمنة األمريكية (مش' ''روع مارش' ''ال) ولم يكن الموقف' ش' ''بيها بما أعقب الح' ''رب األولى‬
‫من ارتباك فى المعسكر بسبب الثورة البلشيفية ‪.‬‬

‫ورغم وض ' ''وح' الخريطة أثن ' ''اء وعقب الح ' ''رب الثانية على ه ' ''ذا النح ' ''و‪ ،‬فقد ك ' ''ان ثمة مخ ' ''اوف' من‬
‫االتحاد السوفيتى'‪ -‬خاصة قبل تفج'ير هيروش''يما'‪ -‬أدى لتوقيع اتف'اق يالتا ال''ذى قبل فيه الغ''رب ب'دول‬
‫أوربا' الش' ''رقية تحت الحماية الس' ''وفيتية‪ ،‬وفى' نفس ال' ''وقت انطلق الغ' ''رب فى تنظيم' نفسه ضد الكتلة‬
‫الجدي''دة بإقامة حلف ش''مال األطلنطى' وتوجيه الح''رب الب''اردة وإ غ''راق الس''وفيت' فى س''باق التس''لح‪،‬‬
‫وهما العنص' ' ' ''ران الل' ' ' ''ذان ظال منذ الح' ' ' ''رب العالمية الثانية فى تفاعل ح' ' ' ''تى قض ' ' ' ''يا على االتح ' ' ' ''اد‬
‫السوفيتى‪ ،‬وضمن المعسكر األمريكى" عولمة متجددة خالل العقود التالية‪.‬‬

‫لكن ها هو الق' ''رن العش' ''رين ينتهى فى جو ي' ''ذكرنا تمام ' 'اً ب' ''الجو ال' ''ذى س' ''اد خالل عقد افتتاح' ''ه‪ ،‬بل‬
‫ونت' ' ''ائج الح' ' ''رب الثاني' ' ''ة؛ أى بعولمة ليبرالية رافقتها ث' ' ''ورة تكنولوجية (ثانية) وتبل' ' ''ور االحتك' ' ''ارات‬
‫(أس''الف الش''ركات المتعدية الجنس''ية) وان''دماج النظم المالية فى س''وق موح''دة مفتوحة‪ .‬بما يب''دو أن‬
‫الرأس' ' ''مالية قد حققت ثباتا نهائي ' ' 'اً خاصة مع تن' ' ''ازل األح' ' ''زاب العمالية عن مش' ' ''روعها االش' ' ''تراكى‬
‫األص''لى‪ ،‬كما أص''بحت ش''عوب آس''يا وأفريقيا ال ت''رى مس''تقبال لها خ''ارج ان''دماجها فى العولمة ال''تى‬
‫بدت لهم "دون بديل"‪.‬‬

‫لقد أنتجت الح ' ''رب العالمية الثاني ' ''ة؛ فالهزيمة المزدوجة للفاشس ' ''تية والكولونيالية الظ ' ''روف المالئمة‬
‫ال''تى ق''ام على أساس''ها رواج العق''ود التالية من ع''ام ‪ 1945‬إلى ع''ام ‪ '.1980‬فأت''اح ه''ذا التط''ور فى‬
‫الغ' ' ' ''رب تنفيذ مش' ' ' ''روع' الدولة االش' ' ' ''تراكية الديموقراطية (دولة الرفاهية)‪ .‬ثم فتح بابا لتنمية حقيقية‬
‫نسبياً فى الجنوب اعتمدت على استغالل المنافسة بين الغرب والشرق لصالح تدعيم استقالل "ال''دول‬
‫النامية"‪ .‬ف ''الرواج' ك ''ان إذن ن ''اتج تكيف رأس الم ''ال لمقتض ''يات العالق ''ات االجتماعية ال ''تى فرض ''تها‬

‫‪106‬‬
‫الق' ''وى الديموقراطية والش' ''عبية والوطنية‪ .‬وه' ''ذا الوضع هو تمام' ' 'اً عكس "التكيف" ال' ''ذى ي' ''دعو إليه‬
‫أصحاب النظام حالياً‪.‬‬

‫ويقوم' "النظام" اآلن على تآكل تدريجى للتوازنات االجتماعية التى سادت فى أعقاب الحرب العالمية‬
‫الثانية ح''تى انه''ارت النظم القائمة على أساس''ها من دولة الرفاهية فى الغ''رب واالش''تراكية الس''وفيتية‬
‫وأنم ''اط' الوطنية الش ''عبوية فى الجن ''وب‪ .‬فتجمعت خالل العق ''دين األخ ''يرين ش ''روط الع ''ودة إلى تحكم‬
‫رأس الم''ال تحكم 'اً أح''ادى الج''وانب‪ .‬وم''رة أخ''رى ف''إن االختالل فى ت''وازن الق''وى قد رافقة دخ''ول‬
‫الرأس''مالية فى أزمة هيكلية عميقة وتبل''ور' ث''ورة تكنولوجية ثالثة وس''يادة مقتض''يات العولمة المالي''ة‪،‬‬
‫وهى جميعاً سمات شبيهة بما كانت عليه فى أوائل القرن‪.‬‬

‫وفى' ه ''ذا اإلط ''ار أنمت الوالي ''ات المتح ''دة منذ الح ''رب العالمية الثانية اس ''تراتيجيات ش ''املة متماس ''كة‬
‫تس' ' ''عى إلى ض' ' ''مان هيمنتها المطلقة على مش' ' ''اركيها فى "الث' ' ''الوث" (المك' ' ''ون كما هو مع' ' ''روف' من‬
‫الواليات المتحدة وكندا‪ ،‬أوروبا‪ ،‬اليابان)‪ ،‬من أجل ف''رض عولمة ليبرالية تحت قيادتها' وجعل الق''رن‬
‫الواحد والعشرين "قرنا' أمريكيا'"‪.‬‬

‫ويق ''وم ه ''ذا المش ''روع على دفع الق ''وة العس ''كرية األمريكية الفائقة فى مق ''دم المس ''رح‪ ،‬كما ح ''دث من‬
‫تش' ''كيل األحالف العس' ''كرية بعد الح' ''رب الثانية اع' ''ترف ب' ''ذلك ه' ''نرى كيس' ''نجر فى قوله أن "ليست‬
‫العولمة إال كلمة أخ ''رى ت ''رادف هيمنة الوالي ''ات المتح ''دة"‪ .‬ولعبت ح ''روب الخليج ثم كوس ''وفو دوراً‬
‫حاس' ''ماً فى تق' ''ديم المش' ''روع من خالل تس' ''ليم ال' ''دول األوروبية للخطة األمريكية ال' ''تى ص' ''دق عليها‬
‫حلف "ن ''اتو" فى أواخر أبريل ‪ ''.1999‬فطبق' 'اً له ''ذه الخطة ‪-‬ال ''تى يطلق النظ ''ام األم ''ريكى' عليها اسم‬
‫"نظرية كلنت ''ون"‪ -‬أعطى حلف ن ''اتو لنفسه حق الت ''دخل فى آس ''يا وأفريقيا'‪ .‬هك ''ذا أص ''بح ن ''اتو تحالف' 'اً‬
‫هجومي' ' ' 'اً فى خدمة المش' ' ''روع األم' ' ''ريكى‪ .‬كما أن "ن' ' ''اتو" قد أعتق نفسه من االل' ' ''تزام بموافقة األمم‬
‫المتح''دة على مبادراته‪ .‬هك''ذا ص''ار ح''ديث اإلدارة األمريكية عن األمم المتح''دة يلجأ إلى تعب''يرات ال‬
‫تقل قس ''وة فى احتقارها للمنظمة الدولية وللق ''انون ال ''دولى عن خط ''اب ال ''دول الفاشس ''تية فى مواجهة‬
‫رابطة األمم قبل الحرب العالمية الثانية‪.‬‬

‫لن يك'''ون الق'''رن الق'''ادم أمريكي''اً‪ .‬فلن تقبل الش'''عوب ه'''ذه الموجة المتج ''ددة من التوسع االس'''تعمارى'‬
‫ال' ' ''ذى يتجلى بالض' ' ''رورة فى تحكم الش' ' ''ركات العمالقة المتعدية الجنس' ' ''ية وغ' ' ''زو م' ' ''وارد الك' ' ''وكب‬
‫واس' ''تغالل العمل المت' ''افقم وإ لغ' ''اء المط' ''الب الديموقراطية باسم "س' ''يادة آلي' ''ات الس' ''وق"‪ .‬بل سنش' ''اهد'‬
‫تص' ' ''اعداً فى الص' ' ''راعات االجتماعية والوطنية من أجل إع' ' ''ادة بن' ' ''اء عالمية متع' ' ''ددة القطبية ت' ' ''تيح‬
‫ه''وامش لتح''رك الش''عوب والطبق''ات الكادحة‪ .‬علم 'اً ب''أن رفض مش''روع العولمة الليبرالية األمريكية‬

‫‪107‬‬
‫يكون نقطة االنطالق فى سبيل تحقيق هذه األهداف اإلنسانية ويمكن الق'ول أن ب'ذور ه'ذا التح'رك قد‬
‫بدأت فعالً عقب الحرب الثانية‬

‫الدعم العام وحماية الزراعة المشاكل المزيفة‪ ،‬والتحديات الحقيقية‬


‫‪ ‬‬

‫وثيقة مقدمة للتحضير لمؤتمر منظمة التجارة العالمية‬

‫في كانكون‪ ،‬سبتمبر ‪2003‬‬

‫‪.‬‬

‫سمير أمين‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫أتوجه بهذه المذكرة الشاملة للمسئولين في المجتمع المدني الذين يتابعون المناقشات داخل منظمة‬
‫التجارة العالمية‪ ،‬وباألخص تلك المتعلقة بالزراعة‪ ،‬وكذلك لمندوبي' بلدان الجنوب الذين يقومون‬
‫بهذه المفاوضات‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وسنثبت اآلتي‪:‬‬

‫‪  )1‬أن دراسة التحديات الحقيقية التي تواجهها بلدان الجنوب ـ وهي مستقبل مجتمعاتها' الزراعية‬
‫التي تشمل ال أقل من نصف البشرية‪ ،‬أي ثالثة مليارات من البشر ـ مستبعدة تماماً من‬
‫اهتمامات منظمة التجارة العالمية؛‬

‫‪  )2‬وأنه في المقابل‪ ،‬فالقضايا الموضوعة على جدول أعمال المنظمة‪ ،‬قد جرى اختيارها‪،‬‬
‫وصياغتها‪ ،‬لتخدم هدف فتح أسواق' الجنوب أمام الصادرات الزراعية للشمال‪ ،‬والفائضة‬
‫عن حاجته؛‬

‫‪108‬‬
‫‪    )3‬وأنه فوق خلفية هذا الهدف المشترك' لبلدان الشمال‪ ،‬توجد خالفات بين الواليات المتحدة‬
‫واالتحاد' األوروبي؛‬

‫‪  )4‬وأن القضايا التي تركز عليها منظمة التجارة العالمية‪ ،‬وتبدو' ذات أهمية لهذه المجموعة أو‬
‫تلك من بلدان الجنوب‪ ،‬ال تمثل في الواقع‪ ،‬سوى قضايا ثانوية؛‬

‫‪  )5‬وأخيراً‪ ،‬أن الطريقة التي سمحت بهذا "االختيار" للقضايا‪ ،‬والتي ترتدي' مسوح "العلمية" ليس‬
‫لها في الواقع أي أساس منطقي‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وفي' المقابل‪ ،‬سنقدم المبادئ التي تقوم عليها استراتيجية بديلة‪ ،‬يتوجب على بلدان الجنوب تبنيها‬
‫سواء في أثناء "المفاوضات" داخل منظمة التجارة العالمية‪ ،‬أو خارجها‪ ،‬في مستوى' التحدي‬
‫الحقيقي‪ ،‬وتساهم بذلك‪ ،‬في بناء "عولمة مختلفة" تستجيب لتطلعات الشعوب‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪    .1‬الرهان الحقيقي‪ :‬مستقبل فالحي الجنوب‬

‫‪ ‬‬

‫أوالً يجب التذكير بما أدعوه "القضية الزراعية الجديدة" التي يواجهها عالمنا المعاصر‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫فالزراعة الرأسمالية التي تخضع لمبدأ ربحية رأس المال‪ ،‬والتي توجد بالكامل تقريباً‪ ،‬في أمريكا‬
‫الشمالية‪ ،‬وأوروبا‪ ،‬والمخروط الجنوبي ألمريكا الالتينية‪ ،‬وأستراليا‪ ،‬ال تستخدم سوى بضع‬
‫عشرات الماليين من الزارعين‪ ،‬الذين لم يعودوا "فالحين" تقريباً‪ .‬ولكن إنتاجيتهم‪ ،‬بفضل استخدام‬
‫اآلالت (وهم يكادون يحتكرونها على مستوى' العالم)‪ ،‬والمساحة الراجعة لكل منهم‪ ،‬تتراوح ما بين‬
‫‪ 10‬آالف‪ ،‬و‪ 20‬ألف قنطار' مكافئ' من الحبوب للفرد في العام‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وفي' المقابل‪ ،‬تشمل الزراعة الفالحية حوالي نصف اإلنسانية ـ ‪ 3‬مليارات من البشر‪ .‬وتنقسم هذه‬
‫الزراعات بدورها' بين تلك التي انتفعت بالثورة الخضراء (األسمدة‪ ،‬وقاتالت' اآلفات‪ ،‬والبذور‬

‫‪109‬‬
‫المنتقاة)‪ ،‬ولكنها ال تستخدم إال القليل من اآلالت‪ ،‬وتتراوح إنتاجيتها ما بين ‪    ،100‬و‪ 500‬قنطار‬
‫مكافئ' للفرد‪ ،‬وتلك التي لم تلحق بالثورة الخضراء‪ ،‬وتتراوح إنتاجية الفرد فيها حول ‪ 10‬قنطار'‬
‫فقط‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وقد' ارتفع الفرق بين الزراعة األكثر تجهيزاً‪ ،‬وتلك الراجعة لفقراء الفالحين‪ ،‬بشكل استثنائي‬
‫بالنسبة لما كانت عليه منذ نصف قرن‪ .‬أي بعبارة أخرى‪ ،‬تجاوز' معدل زيادة اإلنتاجية في‬
‫الزراعة بمراحل التقدم في المجاالت األخرى‪ ،‬مما أدى لخفض أسعارها' بنسبة ‪ 5‬إلى ‪.1‬‬

‫‪ ‬‬

‫وفي' هذه الظروف‪ ،‬ومع تطبيق ما فرضته منظمة التجارة العالمية في مؤتمر' الدوحة (نوفمبر'‬
‫‪ )2001‬من "إدخال الزراعة" في نطاق القواعد العامة "للمنافسة" باعتبار المنتجات الزراعية‬
‫والغذائية‪" ،‬سلعاً مثل غيرها"‪ ،‬ماذا ستكون النتائج األكيدة في ظل انعدام المساواة الهائل بين‬
‫الزراعة الرأسمالية المتقدمة وبين إنتاج الفالحين؟‬

‫‪ ‬‬

‫تستطيع' حوالي العشرين مليوناً من المزارع الحديثة اإلضافية‪ ،‬إذا ما حصلت على ما تحتاجه من‬
‫األراضي' اإلضافية (التي ستقتطع بالطبع من مزارع صغار' الفالحين‪ ،‬مع اختيار أجود األراضي)‪،‬‬
‫وإ ذا حصلت على رؤوس' األموال الالزمة لتزويدها' بالمعدات اآللية الحديثة‪ ،‬أن تنتج ما يكفي لسد‬
‫احتياجات جميع سكان المدن القادرين‪ ،‬والتي يحصلون عليها حالياً من إنتاج الريف‪ .‬فماذا إذن‬
‫سيكون مصير هذه المليارات من المنتجين الريفيين غير القادرين على المنافسة؟ ال شك أنهم‬
‫سيستبعدون خالل بضع عشرات من السنين‪ .‬فماذا إذن سيحدث لهذه المليارات من البشر‪ ،‬وهم‬
‫اليوم من أفقر الفقراء‪ ،‬ولكنهم' يطعمون أنفسهم كيفما اتفق‪ ،‬ويشكل سيئ لما يقرب من ثلثهم تقريباً‬
‫(ثالثة أرباع من يعانون من سوء التغذية في العالم ريفيون)؟ أية تنمية صناعية منافسة بدرجة أو‬
‫بأخرى‪ ،‬منتظرة خالل السنوات الخمسين القادمة‪ ،‬حتى مع افتراض معدل نمو خيالي مستمر' قدره‪،‬‬
‫‪ %7‬سنويا' لثالثة أرباع اإلنسانيةً‪ ،‬ال يمكن أن يستوعب حتى ثلث هذا االحتياطي‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫إذن ما العمل؟‬

‫‪110‬‬
‫‪ ‬‬

‫ال مناص من قبول استمرار الزراعة الفالحية طوال المستقبل المنظور في القرن الواحد‬
‫والعشرين‪ ،‬ال بسبب الحنين الرومانسي' للماضي‪ ،‬وإ نما ببساطة ألن حل المسألة يكمن في تجاوز'‬
‫منطق اللبرالية‪ .‬فيجب إذن‪ ،‬اكتشاف' سياسات لتقنين العالقات بين "السوق'" والزراعة الفالحية‪.‬‬
‫وهذه التقنينات المختلفة والمتوافقة مع الظروف' المحلية للبلدان أو األقاليم' المختلفة‪ ،‬يجب أن تحمي‬
‫اإلنتاج الوطني' لضمان األمن الغذائي الحيوي لألمم‪ ،‬ومقاومة السالح الغذائي لإلمبريالية‪ .‬أي‬
‫بعبارة أخرى‪ ،‬عزل األسعار المحلية عن "السوق" المسمى بالعالمي ـ كما هو الواجب ـ لحين ما‬
‫يسمح التقدم البطيء ولكن المستمر' إلنتاجية الزراعة الفالحية‪ ،‬بالتحكم في انتقال سكان الريف إلى‬
‫المدن‪ .‬وعلى مستوى' ما يسمى بالسوق العالمي‪ ،‬قد يكون التقنين المناسب هو إجراء اتفاقيات‬
‫إقليمية بين أوروبا' من جهة‪ ،‬وبين أفريقيا‪ ،‬والعالم العربي‪ ،‬والهند‪ ،‬والصين‪ ،‬من جهة أخرى‪،‬‬
‫ويذلك تستجيب لمتطلبات تنمية تجمع بدالً من أن تستبعد‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وهذه القضايا األساسية مستبعدة من المناقشة‪ ،‬وتحل محلها قضايا' دعم الزراعة‪ ،‬وتأثيره على‬
‫شروط' "المنافسة العادلة المزعومة"‪ ،‬على األسواق العالمية للمنتجات الزراعية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫والهدف' ـ الذي تؤكده منظمة التجارة العالمية ـ هو فتح أسواق الجنوب أمام الصادرات الزراعية‬
‫للشمال‪ .‬ولكن المزايا المطلقة التي تتمتع بها زراعة الشمال‪ ،‬الناتجة عن الفروق الهائلة في‬
‫اإلنتاجية‪ ،‬ودون أي دعم إضافي للصادرات‪ ،‬تؤدي' إلى أن فتح هذه األسواق لن يؤدي إال إلى‬
‫مضاعفة مشاكل هؤالء الفالحين بدالً حتى من البدء في حلها‪ .‬أما فتح أسواق' الشمال أمام‬
‫الصادرات الزراعية للجنوب‪ ،‬إذا حدث (وهو محل شك)‪ ،‬ففوائده ال تقارن بالمرة بالتدمير' الذي‬
‫يحدث من االنفتاح في االتجاه المضاد‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وتدعي منظمة التجارة العالمية‪ ،‬أن اختيارها ينصب على شروط' التجارة الدولية‪ ،‬بتركيز‬
‫المفاوضات على دعم الصادرات‪ ،‬مما يؤثر' على هذه الشروط‪ '،‬وهذا يتسق مع دورها الصريح‬
‫وهو االهتمام بالتجارة مع استبعاد' أي قضايا' أحرى مثل التنمية‪ ،‬وهذا االدعاء ال يقف على قدمين‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫واالنفتاح غير المشروط للتجارة الخارجية‪ ،‬يشكل األنظمة اإلنتاجية‪ ،‬وخاصة للشركاء الضعفاء‪،‬‬
‫ويلغي حقهم في التنمية وفي الحماية الضرورية لها‪ .‬وفضالً عن ذلك‪ ،‬تتبع منظمة التجارة العالمية‬
‫هنا سياسة الكيل بمكيالين‪ ،‬فهي تعترف بشرعية سياسات البلدان المتقدمة‪ ،‬بخلق تباينات مصطنعة‬
‫بين المكونات المختلفة لتلك السياسات‪ ،‬كما سنرى فيما بعد‪ ،‬ولكنها ترفض االعتراف بمثل هذه‬
‫الحقوق لآلخرين‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪    .2‬دعم الزراعة في العالم المعاصر القائم بالفعل‬

‫‪ ‬‬

‫تبدو إجراءات دعم اإلنتاج الزراعي‪ ،‬ودخول المزارعين‪ ،‬كمتاهة معقدة من النصوص المتداخلة‬
‫التي يمكن لغير المتخصصين' أن يضيعوا' بداخلها‪ .‬ومع ذلك فهذه المجموعة من اإلجراءات ـ‬
‫"الوطنية" في حالة الواليات المتحدة أو كندا أو اليابان)‪ ،‬و"الجماعية"‪( ،‬في حالة االتحاد األوروبي) ـ‬
‫تمثل سياسات متماسكة نسبياً (أي أنها وسائل فعالة لتحقيق األهداف المبتغاة)‪ ،‬فيما عدا بعض‬
‫االستثناءات هنا أو هناك‪ ،‬التي نتجت عن بعض الصدف التاريخية‪ ،‬والتي تلغي تماسكها' جزئياً‪.‬‬
‫وبالطبع' من الممكن الحكم على هذه السياسات (أو أهدافها) من وجهات نظر مختلفة‪ ،‬والدفاع عنها‬
‫أو انتقادها‪ ،‬ولكنها قائمة بالفعل‪ .‬ومن الممكن كذلك المجادلة بشأن فاعلية الوسائل المستخدمة‬
‫لتحقيق األهداف المبتغاة‪ ،‬ولكن هذا الجدل يجب أن ينصب‪ ،‬إن كان جاداً‪ ،‬على االقتصاد' الحقيقي‪،‬‬
‫وليس االقتصاد اللبرالي الخيالي‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫لقد بلغ مجموع الدعم الحكومي' "للزراعة" حسب تقديرات منظمة التجارة العالمية‪ ،‬في عام ‪،1995‬‬
‫‪ 286‬مليار دوالر'‪ .‬ومن المعروف أن ‪ %90‬على األقل من هذه االعتمادات قد أنفقته بلدان‬
‫الثالوث (الواليات المتحدة وكندا‪ ،‬واالتحاد األوروبي‪ '،‬واليابان)‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وبالنسبة للبلدان الغنية (مثل منظمة التعاون والتنمية االقتصادية) يبدو هذا المبلغ جسيماً‪ ،‬وهو‬
‫جسيم بالفعل إذا ما نظرنا' له من ناحية عدد المزارعين المنتفعين به (متوسط مقدار الدعم لكل‬
‫مزرعة)‪ ،‬او حتى بمقاييس أخرى (الدعم بالنسبة لكل هكتار منزرع‪ ،‬أو لكل طن من اللحم ُينتج)‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫وهو جسيم كذلك إذا نسبناه لقيمة إنتاج معين‪ ،‬أو حتى بالنسبة إلجمالي اإلنتاج الزراعي بأكمله‪ ،‬أو‬
‫بالنسبة لدخل المزارعين المستفيدين‪ ،‬أو للمزارعين ككل‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫و"ترتب" منظمة التجارة العالمية اإلنفاق العام في مجال الزراعة إلى أربعة أنواع‪ ،‬تطلق عليها‬
‫الصناديق'‪ :‬األحمر والبرتقالي' واألزرق واألخضر'‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫والمعيار' لهذا الترتيب هو أثر ذلك اإلنفاق على اإلنتاج‪ ،‬وباألخص على "أسعار" المنتجات‬
‫الزراعية (سعر اإلنتاج‪ ،‬وسعر' البيع في المزرعة‪ ،‬وسعر' البيع للمستهلك)‪ .‬وتضع المنظمة في‬
‫الصندوقين األحمر والبرتقالي اإلنفاق الذي تعتبر أنه يؤثر' على األسعار المعنية‪ ،‬وتضع في‬
‫الصندوقين األزرق' واألخضر‪ ،‬اإلنفاق الذي تعتبره غير مؤثر على األسعار'‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وهكذا نجد‪:‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ )1‬في الصندوقين األحمر والبرتقالي ‪ 124          ‬مليار دوالر‬

‫‪ )2‬في الصندوقين األزرق' واألخضر‪ 162           ‬مليار دوالر‬

‫‪ ‬‬

‫وهذا الترتيب يكتسب أهمية خاصة‪ ،‬ألن إجراءات "التحرير'" (اللبرالية) للزراعة‪ ،‬التي تهدف إلى‬
‫معاملة اإلنتاج الزراعي كأي إنتاج سلعي آخر‪ ،‬ال تمس سوى اإلنفاق من الصندوقين األولين‪،‬‬
‫والتي ينبغي تخفيضها بالتدريج‪ ،‬طبقاً لبرنامج معين ُيتفق عليه في إطار المفاوضات داخل منظمة‬
‫التجارة العالمية‪ .‬وهكذا تحتفظ الدول بحرية اإلبقاء على إنفاقها األزرق' أو األخضر‪ ،‬أو حتى‬
‫زيادته‪ ،‬وهو الواقع منذ ما يقرب من عشر سنوات‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪113‬‬
‫وتقسيم' اإلنفاق بين نوعي الصناديق المشار إليها‪ ،‬يضع الواليات المتحدة في مواجهة صريحة مع‬
‫االتحاد األوروبي‪ '،‬وكندا‪ ،‬واليابان من الجانب اآلخر‪ .‬إذ ال نجد في الصندوقين األحمر والبرتقالي'‬
‫إال ‪ %12‬من اإلنفاق العام للواليات المتحدة‪ ،‬في حين يندرج في هذين الصندوقين‪ %55 ،‬من‬
‫إنفاق االتحاد األوروبي‪ '،‬و‪ %48‬من إنفاق كندا‪ ،‬و‪ %54‬من إنفاق اليابان‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬سيكون‬
‫على أوروبا' وكندا واليابان أن تقوم بالجهد األكبر للتواؤم مع عملية التحرير' التي تتطلبها' منظمة‬
‫التجارة العالمية‪ ،‬وليس الواليات المتحدة‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫والتعريفات التي تم على أساسها تحديد الترتيب المشار إليه أعاله‪ ،‬قد جرى االتفاق عليها بعد‬
‫"مفاوضات" في اإلطار شيه السري لغرفة التجارة الدولية (نادي الشركات متعدية الجنسية)‪ ،‬وتبادل‬
‫اآلراء بين االتحاد األوروبي والواليات المتحدة‪ ،‬والتي لن تخرج عن إطار الدائرة الضيقة‬
‫للموظفين المشاركين فيها‪ .‬فإلى جانب السرية الكبيرة التي تطوق' المشكلة‪ ،‬يبقى السؤال‪ :‬لماذا‬
‫وافق' األوروبيون على "طريقة" تضعهم' في موقف أضعف تجاه منافسهم'‪/‬شريكهم' الرئيسي' وهو‬
‫الواليات المتحدة؟ ليس عندي شخصياً إجابة عن هذا السؤال سوى المتطلبات السياسية "لإلمبريالية‬
‫الجماعية للثالوث"‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وعلى أي حال‪ ،‬فهذا الصراع بين الواليات المتحدة واالتحاد األوروبي‪ '،‬والذي يحتل حيزاً رئيسياً‬
‫من المناقشات داخل منظمة التجارة العالمية‪ ،‬يجب أال يثير اهتمام الجنوب في الواقع‪ ،‬فإن انفتاح‬
‫أسواقه لمصلحة هذا الجانب أو ذاك من الفريقين المتنافسين‪ ،‬لن يقلل من األثر المدمر لهذا االنفتاح‬
‫على اقتصاد الفالحين في بلدانه‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫المعايير' التي يقوم عليها ترتيب منظمة التجارة العالمية‪ ،‬ال تقف على قدميها‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وفي' الواقع‪ ،‬وكما يقول جاك برتيلو (الزراعة‪ِ ،‬‬


‫عقب أخيل للعولمة)‪ ،‬فالصناديق األربعة ال تعدو‬
‫كونها صندوق' واحد يمكن تسميته بالصندوق "األسود"‪ .‬ففحص مجموع اإلنفاق المدرج بشكل‬
‫يم ِّكن من فهم منطق السياسة الزراعية‬
‫مصطنع' في أي من الصناديق' األربعة‪ ،‬هو وحده الذي َ‬

‫‪114‬‬
‫المتبعة‪ ،‬وأهدافها‪ ،‬والمصالح التي تخدمها‪ ،‬ووسائلها'‪ .‬أما تقسيمها إلى "أنواع" ُيزعم أنها مختلفة‪،‬‬
‫هو نتاج شبه التحليل ـ البيزنطي' ـ لالقتصاد المجرد للعالم الخيالي‪ .‬ومثل هذا التحليل ال يختلف‬
‫كثيراً عن الجدل حول "جنس المالئكة" أو "لون اللوغاريتم"‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وفي' الواقع‪ ،‬فإن جميع هذه النفقات لها أثرها الواضح على اإلنتاج‪ ،‬وحجمه‪ ،‬وكفاءته‪ ،‬وبالتالي‬
‫على سعره‪ .‬إن هدف هذه النفقات هو بالضبط هذا األثر‪ ،‬وهو ما تحققه فعالً‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وبعض أمثلة على أنواع اإلنفاق المسماة بالخضراء توضح هذه الحقيقة بكل جالء‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫المعونة الغذائية للفقراء‪ ،‬وهي كبيرة في الواليات المتحدة ـ أكثر من ‪ 20‬مليار دوالر' ـ وبدونها'‬
‫يتعرض ‪ %10‬من السكان للجوع‪ ،‬تخلق سوقاً إضافية للمنتجات الزراعية (فبدونها' يبقى طلب‬
‫هؤالء الفقراء غير مدعوم بقوة شرائية)‪ .‬فهذا اإلنتاج اإلضافي‪ ،‬والثمن الذي تدفعه الحكومة‬
‫للمزارعين‪ ،‬لهما أثر مباشر واضح على الزراعة‪ .‬ويمكن الدفاع عن هذه المعونة ـ أو توزيع'‬
‫الحليب مجاناً على تالميذ المدارس ـ بحجج تتعلق بالتضامن االجتماعي‪ ،‬بل بتحسن كفاءة العمال‬
‫بفضل التغذية الجيدة‪ .‬ولكن ال يمكن إنكار أن هذا اإلنفاق العام له تأثير على اإلنتاج واألسعار'‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وبعض أشكال الدعم األخرى ـ المعتبرة خضراء (أو زرقاء) ـ هدفها الصريح هو الحد من اإلنتاج‬
‫(لخفض اإلنتاج الزائد)‪ ،‬مثل التعويض عن ترك مساحات من األراضي بدون زراعة‪ .‬وهناك‬
‫أشكال مشابهة المتصاص اإلنتاج الزائد بتكوين مخزونات عامة أو خاصة‪ ،‬تُشترى' بأسعار' محددة‪.‬‬
‫وكالً من هذين النوعين له أثره على اإلنتاج واألسعار'‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫والمساعدات األقل ارتباطاً في الظاهر‪ ،‬باإلنتاج واألسعار‪ ،‬هل هي حقيقة كذلك؟ ونذكر من هذا‬
‫النوع الدعم للمزارعين بهدف رفع دخلهم لمساواته مثالً بدخل العاملين بالمدن (األجراء أو‬
‫الطبقات المتوسطة)‪ ،‬أو غير المباشرة (مثل خفض الضريبة على الدخل)‪ ،‬أو حتى مباشرة‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫ومعادالت' التوازن العام ـ التي يشير إليها االقتصاديون التقليديون باستمرار' ـ توضح المشاركة في‬
‫تحديد توزيع الدخل‪ ،‬واألسعار النسبية‪ ،‬ألن إعادة توزيع الدخل تغير تركيب هيكل الطلب‪ .‬وعلي‬
‫هذا فمنطق' االقتصاد التقليدي يؤدي بنا إلى االستنتاج بأن التدخالت لها فعالً تأثير على األسعار‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫مما سبق يتبين أن فكرة "االرتباط" أو "عدم االرتباط'" التي تميز بين األشكال المختلفة من اإلنفاق‬
‫العام من جهة‪ ،‬واألسعار' من الجهة األخرى‪ ،‬ال تقف على أي أساس سليم‪ .‬بل هي من نتاج‬
‫الخيمياء (كيمياء تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب) "لالقتصاد المجرد"‪ ،‬وتستخدم في الواقع كحجة‬
‫تخضع للظروف‪ ،‬ويمكن استخدامها في اتجاه أو في عكسه وفقاً للرغبة في تأييد هدف معين أو‬
‫عكسه من السياسات االقتصادية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪    .3‬طبيعة ومدى السياسات الزراعية لبلدان الشمال‬

‫‪ ‬‬

‫وتضع منظمة التجارة العالمية طبيعة ومدى' السياسات الزراعية لبلدان الشمال‪ ،‬وخاصة للواليات‬
‫المتحدة واالتحاد' األوروبي في اإلطار المحدد بتأثير' الدعم المتمثل في النفقات العامة المخصصة‬
‫للزراعة‪ ،‬على التجارة العالمية للمنتجات الزراعية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وفي' الواقع‪ ،‬فإن هذه السياسات لها بعد آخر‪ ،‬فهي الوسيلة التي بنى بها الشمال الميزات التي‬
‫يمتلكها في مجال الزراعة (وفي' غيرها من األنشطة االقتصادية) على منافسيه المحتملين من‬
‫الجنوب‪ .‬‬

‫‪ ‬‬

‫والميزات التي يتمتع بها الشمال في هذا المجال (وفي غيره كذلك) إذن‪ ،‬هيكلية‪ .‬وفضالً' عن ذلك‪،‬‬
‫فنجاح السياسات الزراعية ألوروبا' (السياسة الزراعية األوروبية) وللواليات المتحدة‪ ،‬أدت لزيادة‬
‫القدرة اإلنتاجية لهذه البلدان بما يتجاوز كثيراً قدرة أسواقها الداخلية على االستيعاب‪ ،‬وهي لذلك‬
‫تلعب دوراً عدوانياً من أجل تصدير' فائض إنتاجها الزراعي‪ .‬وعليه فالضغط "لفتح" أسواق الجنوب‬

‫‪116‬‬
‫أمام الصادرات الزراعية والغذائية لالتحاد األوروبي والواليات المتحدة‪ ،‬الذي تعمل منظمة التجارة‬
‫العالمية كأداة لتحقيقه هو االستجابة لهذا الهدف‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫ـ وعلى ذلك‪ ،‬يجب النظر في هذا اإلطار‪ ،‬إلى عملية "اإلغراق" التي تضاف' إلى المزايا البنيوية‬
‫لزراعة الشمال‪ .‬وهذه األساليب متنوعة‪ ،‬وبعضها واضحة‪ ،‬وبعضها أقل وضوحاً‪ ،‬ومنها‪:‬‬

‫‪    )1‬الواضحة‪ :‬الدعم المباشر' للصادرات؛‬

‫المكونة‪ ،‬في األسواق' العالمية المتصاص‬ ‫َّ‬ ‫‪  )2‬أقل وضوحاً‪ :‬تصفية المخزونات' الخاصة والعامة‬
‫فائض اإلنتاج‪ ،‬بأسعار هامشية‪ ،‬يمكن الطعن في مصداقيتها‪ '،‬ولكن ُي َّدعى بأنها "األسعار‬
‫الحقيقية" وفقاً "ألسعار' السوق' العالمي"‪.‬‬

‫‪  )3‬غير معترف بها‪ ،‬ولكن حقيقية‪" :‬المساعدات الغذائية" ـ وكثيراً ما يقال إنها عمليات "إنسانية"‬
‫ـ التي تضعف قدرة الزراعة المحلية على مواجهة العجز‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ويمكن الجدل حول الحكمة المشكوك فيها من االختيار الذي يطالب الواليات المتحدة‪ ،‬واالتحاد‬
‫األوروبي بعمل المراجعات الالزمة لسياساتهما' الزراعية‪ ،‬بحيث تتوقف' عن "اإلنتاج الفائض"‬
‫بشكل مستمر'‪ .‬وكثيرون في الشمال ذاته يوجهون هذا االنتقاد‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وعلى أي حال فبلدان الجنوب‪ ،‬من حقها أن تقوم بإجراءات للحماية حتى إن كانت قاسية (وقف'‬
‫حق االستيراد‪ ،‬أو حتى فرض الحصص)‪ ،‬وال يمكن إنكار حقها هذا في مواجهة عدوان ال يقل‬
‫قسوة‪ .‬ومثل القطن ذو مغزى كبير في هذا الصدد‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫فهل يمكن لهم االستفادة من سياسة اإلغراق لدول الشمال في بعض الحاالت (عندما يكون هناك‬
‫عجز بنيوي في الغذاء) لسد العجز بتكلفة منخفضة؟ الخطر هنا يكمن في أن "الفرصة" المتاحة‬

‫‪117‬‬
‫ستؤخر' الجهود الالزم اتخاذها لتحقيق اإلصالحات الضرورية في مجال السياسات الزراعية‬
‫القومية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ـ وتشمل السياسات الزراعية المتصارعة ـ سياسات الشمال كما هي عليه‪ ،‬والسياسات التي يمكن‬
‫للجنوب اتباعها (وهو ما ال تقوم به أغلب تلك البلدان) ـ جوانب كثيرة غبر تلك الواردة تحت‬
‫العناوين‪" :‬أسعار (ما يقال إنه السوق' العالمي)"‪ ،‬و"الرسوم' الجمركية"‪ ،‬و"الدعم المباشر للتصدير"‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫عنوان "األسعار العالمية"‪ :‬لقد كررنا كثيراً بما ال يترك مجاالً لالستزادة‪ ،‬أنها ال تمثل "األسعار'‬
‫الحقيقية"‪ ،‬بل هي باألساس أسعار هامشية‪ ،‬حيث إن تجارة المنتجات الزراعية والغذائية العالمية ال‬
‫تتعلق إال بجزء صغير' من اإلنتاج (حوالي ‪ ،)%10‬ومن هنا فإن مجموع السياسات الزراعية‬
‫تجعل هذه األسعار على الهامش وال تمثل التكلفة الحقيقية‪ ،‬فهي تعبر عن ظروف خاصة‪ .‬ومرة‬
‫أخرى نؤكد أن وصف' هذه األسعار بأنها "حقيقية" كما يدعي لبراليو' منظمة التجارة العالمية ال يقوم‬
‫على أي تحليل علمي‪ ،‬بل هو يفتح المجال لجميع التالعبات السياسية المرغوبة‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وهناك أوجه أخرى للسياسات العدوانية للشمال يجب أن تؤخذ في االعتبار‪ ،‬فأوضاع االحتكار التي‬
‫تعمل الرأسمالية الزراعية على تقويتها بحجة "حقوق الملكية الفكرية والصناعية"‪ ،‬بفرض البذور‬
‫المختارة التي تصنعها' شركات هذا القطاع‪ ،‬يجب أن‪  ‬ترفضها دول الجنوب‪ ،‬مع غيرها بشكل‬
‫حاسم‪ .‬وهذه القضية تمثل أحد أوجه مشكلة البيئة‪ ،‬حيث تمتد الممارسات التي يدافع عنها اللبراليون‬
‫في هذا المجال من النهب الصريح للمعارف التي اكتسبها الفالحون في بلدان الجنوب عبر مئات‬
‫السنين‪ ،‬إلى تدمير التنوع البيولوجي‪ ،‬وحتى تدعيم اختيارات قد تكون لها أخطار جسيمة في‬
‫المستقبل (مثل النباتات المعدلة جينياً)‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ـ ولنكن واضحين‪ ،‬فاألمريكان واألوروبيون (واآلخرون) لهم الحق المطلق في بناء السياسات‬
‫الوطنية‪ ،‬واالتحادية التي اختاروها‪ .‬ولهم الحق في حماية صناعاتهم وزراعاتهم؛ كما أن لهم الحق‬
‫في وضع أنظمة إعادة توزيع' الدخل التي يرون أنها تتوافق مع متطلبات التضامن االجتماعي‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫وبالتأكيد‪ ،‬هناك عدة أبنية سياسية ممكنة يمكن أن تكون محل جدل‪ ،‬وصراعات سياسية في داخل‬
‫مجتمعاتهم' بهذا الشأن‪ ،‬وهذا أبسط ما تقضي به الديمقراطية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫أما المطالبة بتفكيك هذه السياسات باسم اللبرالية الخيالية التي لم توجد أبداً في الواقع‪ ،‬ولن توجد‪،‬‬
‫فأمر' ال معنى له‪ ،‬فهل سنطالب بأن تخفض البلدان المتقدمة من مستواها في التعليم والتدريب‪،‬‬
‫وقدرات' البحث والتجديد لديها لتتمشى مع البلدان األقل تقدماً؟ وذلك بحجة أن المزايا التي يتمتعون‬
‫بها في تلك المجاالت تعطيهم ميزة في التجارة العالمية؟‬

‫‪ ‬‬

‫ومع األسف‪ ،‬فاالستراتيجية التي اختارتها دول الجنوب بصفة عامة‪ ،‬وهي أن يحافظ' الشمال على‬
‫"قواعد اللعبة اللبرالية"‪ ،‬ليس لها أي معنى‪ ،‬وهي مع ذلك التي "يوصينا'" البنك الدولي واآلخرون‬
‫بها‪ .‬وربما كان السبب في ذلك هو بالضبط لكونها غير فعالة‪ ،‬ولن تكون‪ ،‬فاللبرالية الحقيقية لم‬
‫توجد أبداً إال في الخيال‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪    .4‬الق' ''درة التنافس' ''ية للش' ''ركات أو الق' ''درة التنافس' ''ية لألمم؟ إع' ''ادة االعتب' ''ار للحق في الحماي' ''ة‪،‬‬
‫وللسياسات' الوطنية (أو اإلقليمية)‬

‫‪ ‬‬

‫ـ يهتم الحط' ''اب الل ' ''برالي بالق ' ''درة التنافس' ''ية على مس ' ''توى المش' ''روع' ليس إال‪ ،‬س ' ''واء أك' ''ان حي' ''ازة‬
‫زراعي' ''ة‪ ،‬أو ش' ''ركة ص'''ناعية أو تجاري'''ة‪ ،‬أو مش' ''روع خ'''دمي‪ ،‬وب' ''الكثير' بالق' ''درة التنافس ''ية للف'''روع‬
‫المختلفة لالقتص''اد (زراعة الحب''وب‪ ،‬أو ص''ناعة الس''يارات)‪ .‬ولكنه يتجاهل اإلدراك الحقيقي الوحيد‬
‫للق ''درة التنافس ''ية‪ ،‬أي الق ''ائم بين األمم (بين نظمها اإلنتاجية)‪ ،‬وهو ال ''ذي يح ''دد لدرجة كب ''يرة (ولكن‬
‫ليس بالكامل) الق' ' ' ''درة التنافس' ' ' ''ية لف' ' ' ''روع االقتص' ' ' ''اد أو الش' ' ' ''ركات‪ .‬وعلى ذلك فقبل الح' ' ' ''ديث عن‬
‫االختالف''ات بين الق''درة التنافس''ية بين الش''ركات‪ ،‬أو بين ه''ذا الف''رع أو ذاك من ف''روع' اإلنت''اج‪ ،‬ي''أتي‬

‫‪119‬‬
‫الح ' ''ديث عن الق ' ''درة التنافس ' ''ية بين األمم‪ .‬أما النظرية ال ' ''تي تتح ' ''دث عن المزايا النس ' ''بية في مج ' ''ال‬
‫التج''ارة الخارجي''ة‪ ،‬فنظ''راً' لتجمد أسس''ها النظري''ة‪ ،‬تتجاهل دينامية التح''والت ال''تي ت''ؤثر' على الق''درة‬
‫التنافسية بين األمم‪ ،‬وبالتالي' موقعها' عل سلم التراتب في النظام العالمي‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫والتباين في القدرة التنافسية بين األمم‪ ،‬ينتج بالضبط' من هذه "النفقات العامة" المختلفة األنواع‪ ،‬التي‬
‫تُشكل اإلطار الذي يعمل داخله المنتجون (البنية التحتية‪ ،‬ونوع' التعليم والتكوين المهني‪ ،‬والقدرة‬
‫على التطوير التقني‪ ،‬الخ‪ ،).‬وكذلك الذي يربط بين نظام اإلنتاج ونظم' توزيع' الدخل‪ ،‬وإ عادة‬
‫توزيعه‪ .‬مع العلم أن هذين البعدين للعالم القائم بالفعل ال يمكن فصلهما‪ ،‬كما ال يمكن فصل‬
‫االقتصاد عن السياسة (بمفهوم أن السياسة هي مجموع عالقات القوى بين الشركاء االجتماعيين‪،‬‬
‫والصراعات لتغيير هذه العالقات)‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫لقد درسنا أعاله حجم النفقات العامة المخصصة للزراعة في بلدان الشمال‪ ،‬ولكن من المفيد أن‬
‫ُن ِّ‬
‫ذكر أن مجموع هذه النفقات يبدو صغيراً' بالمقارنة بما ُينفق في مجاالت أخرى‪ .‬فالنفقات‬
‫العسكرية وحدها تزيد عن ضعف الدعم المخصص للزراعة‪ ،‬حيث فاقت حد الستمائة مليار من‬
‫الدوالرات (حوالي نصفها من الواليات المتحدة)‪ ،‬يضاف' إليها الدعم الهائل الذي تتمتع به‬
‫الصناعات الحربية المعنية‪ ،‬وبشكل غير مباشر‪ ،‬بعض الصناعات المدنية (مثل الطيران والفضاء‬
‫واالتصاالت')‪ .‬وحجم النفقات العامة على البنية التحتية التي تؤثر' على ظروف' وكفاءة اإلنتاج في‬
‫جميع قطاعاته‪ ،‬أكبر بكثير‪ .‬وكذلك الحال بالنسبة للنفقات االجتماعية (التعليم والتدريب‪ ،‬والبحوث‪،‬‬
‫والصحة‪ ،‬والضمان االجتماعي)‪ ،‬التي تحدد لمدى كبير "القدرة التنافسية لألمم"‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ومن المعروف' أن مجموع النفقات العامة تمثل نسبة كبيرة من الناتج المحلي اإلجمالي للبلدان‬
‫الرأسمالية المتقدمة‪ ،‬ال تقل عن ‪ .%40‬وهذه الحقيقة تلغي تماماً أية مصداقية للخطاب اللبرالي‬
‫المؤسس على اقتصاد' خيالي "بال دولة" أو ما يقرب من ذلك!‬

‫‪ ‬‬

‫‪120‬‬
‫وبهذا المعني‪ ،‬ال توجد "أسعار حقيقية" وأخرى' غير حقيقية‪ ،‬فجميع "األسعار" حقيقية‪ ،‬وتعبر' عن‬
‫واقع ال تنفصل بداخله إعادة اإلنتاج االقتصادية‪ ،‬وإ عادة اإلنتاج االجتماعية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وبدورها‪ ،‬تتحكم القدرة التنافسية غير المتساوية لألنظمة الوطنية (أو اإلقليمية عندما تصل هذه‬
‫األخيرة لمستويات' معقولة من التحقق) في العالقات الدولية‪ ،‬وفي' هياكل العولمة‪ .‬فجميع األمم‬
‫تشارك' في العولمة‪ ،‬وال يوجد في العصر الحديث‪ ،‬ومنذ مدة طويلة‪ ،‬بلد "خارج العولمة"‪ ،‬ولكن ال‬
‫يستفيد الجميع على قدم المساواة من هذا النظام‪ .‬وفي' هذا المقام‪ ،‬ينفتح البعض "بعدوانية"‪ ،‬في حين‬
‫يخضع البعض اآلخر " سلبياً لالنفتاح"‪ .‬ومن هذا المنطلق‪ ،‬يصبح من المستحيل عملياً التفريق في‬
‫مجموع الهياكل والسياسات الوطنية‪ ،‬بين تلك التي ال تؤثر "إال" على القدرة التنافسية لألنظمة‬
‫اإلنتاجية (وبالتالي على الفروع اإلنتاجية والمشروعات) دون التأثير على العالقات الدولية‪ ،‬وبين‬
‫تلك التي تؤثر' بالضبط' على تلك العالقات‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ـ وقد أدرك ليست في النصف األول من القرن التاسع عشر‪ ،‬طبيعة التحدي‪ ،‬ووجه االنتقاد "للمزايا‬
‫النسبية"‪ ،‬وفهم' أنها تُبنى تاريخياً‪ ،‬وليست " ُمعطاة" مرة ولألبد‪ .‬وتجاوزت مقترحاته "حماية‬
‫الصناعات الناشئة"‪ ،‬وكانت التعبير األول عما طورتُه وسميتُه "استراتيجية االنفصال"‪ ،‬ال بمعنى‬
‫"الخروج من العولمة باالكتفاء الذاتي"‪ ،‬وإ نما البدء ببناء سياسة وطنية (أو إقليمية) قادرة على‬
‫تحسين القدرة التنافسية لمجموع النظام اإلنتاجي‪ ،‬ولفروع مختارة منه‪ ،‬وفي نفس الوقت‪ ،‬بناء‬
‫الهياكل "الحامية" (بالمعنى الواسع وليس مجرد التعريفة الجمركية) لمواجهة الشركاء األقوياء‬
‫(وبالتالي العدوانيين) في النظام العالمي‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬فالنضال' من أجل االنفصال‪ ،‬هو نضال‬
‫من أجل "عولمة من نوع آخر" (تختلف عن تلك التي تقترحها اللبرالية وتفرضها‪ '،‬والتي ال تستطيع'‬
‫إال تدعيم وتعميق "مزايا" الطرف' األقوى'‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬فإن ما يجب علينا المطالبة به لمواجهة‬
‫التحدي الحقيقي‪ ،‬هو‪ :‬الحق في أن نفعل ما فعله اآلخرون‪(  ‬األقوياء)‪ ،‬ويفعلونه باستمرار ـ على‬
‫الرغم من الخطاب اللبرالي الذي يتجاهل هذه الحقيقة ـ أي الحق في بناء سياسات وطنية‬
‫وإ قليمية فعالة‪ ،‬وحمايتها‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪121‬‬
‫‪ ‬‬

‫‪ .5        ‬الخطاب شبه العلمي لمنظمة التجارة العالمية‬

‫‪ ‬‬
‫على ال''رغم من أس''طورة اللبرالي''ة‪ ،‬ت''دخلت ال''دول الرأس''مالية دوم''ا‪ ،‬وس''تتدخل' على ال''دوام في تق''نين‬
‫عملية إع''ادة اإلنت''اج الرأس''مالية‪ ،‬عن طريق' "النفق''ات العامة" ض''من وس''ائل أخ''رى‪ .‬وه''ذه الت''دخالت‬
‫ذات ت''أثير حاس''م‪ ،‬بمع''نى أن تص''ور "نظ''ام اقتص''ادي رأس''مالي'" (يس''مى اقتص''اد الس''وق') ُي''دعَّى أنه‬
‫مج ' ' ' ' ''رد أو نقي‪ ،‬ويوجد' قائم' ' ' ' ' 'اً بذاته "دون دولة"‪ ،‬هو من قبيل األس ' ' ' ' ''اطير' ال ' ' ' ' ''تي تس ' ' ' ' ''تبدل بتحليل‬
‫الرأسمالية القائمة بالفعل‪ ،‬تحليل نظام خيالي‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫والفكر الوحيد السائد اليوم ـ المسمى باللبرالية ـ يقوم على الفكرة غير المنطقية والغيبية‪ ،‬التي تقول‬
‫بأن "اقتصاد السوق المجرد" لديه القدرة على كشف "األثمان الحقيقية" (للمنتجات‪ ،‬وجميعها' سلع‬
‫بالضرورة‪ ،‬و"عناصر اإلنتاج" ـ األجور‪ ،‬وفائدة رأس المال‪ ،‬ومعدالت الربح ـ وأسعار' تبادل‬
‫العمالت)‪ ،‬أي بعبارة أخرى‪" ،‬األسعار'" التي تحقق "التوازن العام"‪ ،‬في سوق غير مقنن‪ ،‬ومعمم‪،‬‬
‫بدون تشوهات ناتجة عن تدخل السلطات العامة‪ ،‬وهو األمر المستحيل تحققه في الواقع‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وخلف هذا الخطاب شبه العلمي‪ ،‬يختفي هدف مغلف بالحديث األيديولوجي' إلكسابه الشرعية‪ ،‬وهو‬
‫إلغاء التقنين‪ ،‬أي منح رأس المال (الذي يمسك بأعنة السلطة في الحياة االقتصادية للمجتمعات‬
‫الرأسمالية) حق اتخاذ القرار دون شريك‪ .‬ورأس المال‪ ،‬بدالً من إبعاد الدولة عن المسرح‪ ،‬ومنع‬
‫تدخالتها‪ ،‬سيختار منها ما يناسبه ـ تلك التي تدعم سيطرته على المجتمع‪ ،‬وتعظيم المكاسب التي‬
‫يجنيها منه ـ ويمنع األخرى‪ ،‬أي تلك التي تضعف من سلطاته‪ ،‬وتسمح لالعبين اآلخرين في الحياة‬
‫االجتماعية‪ ،‬بإبراز مصالحهم الخاصة‪ ،‬جزئياً على األقل‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وتمثل أسطورة "األسعار' الحقيقية" األساس‪ ،‬ضمن أفكار' أخرى‪" ،‬للبرهنة" شبه العلمية على أن أية‬
‫"حماية" في مجال التجارة الدولية‪ ،‬تعطل "حصول المستهلكين على أقصى فائدة"‪ .‬وتصير' كلمة‬

‫‪122‬‬
‫الحماية في حد ذاتها ممنوعة‪ ،‬فهي المرادف إللغاء العقالنية‪ ،‬بل للغباء‪ .‬وتجري "البرهنة" عن‬
‫طريق' تحويل المجتمعات الوطنية والعالمية‪ ،‬إلى عالم من "األفراد" المتساوين‪ ،‬وإ لغاء الطبقات‬
‫االجتماعية‪ ،‬واألمم‪ .‬وكما يقال بأن جميع األفراد' الذين يكونون األمة متساوون (فال يوجد‬
‫رأسماليون أو عمال‪ ،‬بل مجرد "منتجون بائعون")‪ ،‬فكذلك جميع األمم متساوية‪ .‬وال يوجد إنكار‬
‫للواقع أكثر من هذا‪ ،‬مثل إنكار التباين في "التنمية" بين األمم‪ ،‬وإ نكار' حقيقة أن المجتمعات الغنية لم‬
‫تصبح كذلك إال ألنها حمت نفسها بفاعلية‪ ،‬وتستمر' في حماية نفسها‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪    .6‬إجابات بديلة ضرورية‬

‫‪ ‬‬

‫ـ وإ لى جانب ضرورة فحص المشاكل المثارة حالياً (وخاصة تلك الموضوعة على جدول أعمال‬
‫منظمة التجارة العالمية‪ ،‬ومؤتمر كانكون)‪ ،‬واحدة بعد األخرى‪ ،‬ال مندوحة عن وجود' رؤية عامة‬
‫بديلة للسياسات الزراعية ـ في الشمال والجنوب‪ ،‬وبالتالي' للمبادالت العالمية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وبالتأكيد ال تملك بلدان الجنوب الوسائل التي تمكنها من الرد على التحدي بأن تقلد في بلدانها‬
‫السياسات الزراعية التي طبقها الشمال‪ ،‬حتى إذا كان لذلك معنى في ظروفها' (وهو أمر محل‬
‫شك)‪ .‬فليس لديها الموارد' التي تسمح لها "بدعم" إنتاجها الزراعي‪ ،‬وقدرتها' على إعادة توزيع‬
‫الدخل‪ ،‬يحد منها انخفاض هذا الدخل‪ ،‬وكذلك الميزانية العامة‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وهذا ال يعني بالمرة أنها ال تحتاج لسياستها' الخاصة لتنمية زراعتها‪ ،‬التي تأخذ في االعتبار‬
‫متطلبات التعجيل بخطوات رفع إنتاجيتها‪ ،‬وفي' الوقت نفسه‪ ،‬التحكم في التحول االجتماعي (تجنب‬
‫تفريغ الريف وتعميم المدن العشوائية)‪ .‬كذلك على هذه السياسات أن تتضمن أهدافاً وطنية وفي'‬
‫مقدمتها ضمان االستقالل الغذائي (على مستوى' األمم والتكتالت اإلقليمية)‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪123‬‬
‫ومن المفهوم أن السياسات الوطنية و‪/‬أو اإلقليمية المقترحة‪ ،‬ووس'ائل' حمايته'ا‪ ،‬يجب أن تك'ون محالً‬
‫لمناقشات' انتقادية شفافة يقدر اإلمكان (أي توضح بجالء المص''الح ال'تي ت''دافع عنها وال تخفيها)‪ ،‬أي‬
‫أن تكون موضوع الجدل السياسي بالمعنى الجميل للكلمة‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وبهذا المفهوم‪ ،‬يمكن أن تكون الحماية إيجابية أو ضارة‪ ،‬فالحماية تكون ضارة عندما تهدف لحماية‬
‫أنشطة غير ذات كفاءة (أي ذات قدرة تنافسية متدنية) وتحافظ على عدم كفاءتها‪ .‬وتكون الحماية‬
‫إيجابية عندما تعمل على حماية عمليات تحول تسمح ألنشطة بتحسين كفاءتها (أو بالتقليل من عدم‬
‫فاعليتها)‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ـ إن اختيار استراتيجية‪ ،‬بانخراطها' في منطق الخطاب اللبرالي‪ ،‬تعمل على "تفكيك" األنظمة‬
‫الوطنية للبلدان المسيطرة بهدف تدعيم قدرتنا' التنافسية الظاهرية في المبادالت العالمية‪ ،‬مآلها‬
‫الفشل المؤكد والمطلق‪ ،‬وهي بالتأكيد' بال أساس شرعي‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وفي' المقابل‪ ،‬فالرد على التحدي الحقيقي الذي يواجه أمم الجنوب يعني ضمناً انتزاع الحق المشار‬
‫إليه أعاله‪ ،‬وهذا االنتزاع يجب أن تسبقه إرادة بناء سياسات وطنية فعالة‪ ،‬وحمايتها‪ .‬وهذه هي‬
‫االستراتيجية الوحيدة المجدية الممكنة‪.‬‬

‫وإ ذا ما قامت بلدان الجنوب بذلك‪ ،‬فإن من حقها‪ ،‬بل من واجبها‪ ،‬أن تحمي هذه السياسات بأنسب‬
‫الوسائل الفعالة التي تشمل إلى جانب التعرفات الجمركية المناسبة‪ ،‬إجراءات كمية (مثل تحديد‬
‫الحصص)‪ .‬وفضالً عن هذه الوسائل المباشرة‪ ،‬تفترض حماية االقتصاد' الوطني' بالتأكيد' سياسات‬
‫وطنية متماسكة في سلسلة من المجاالت‪ ،‬وفي مقدمتها إدارة العملة الوطنية‪ ،‬وسعر' الصرف'‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وقد' القت هذه األفكار ـ التي ُيبنى عليها المشروع' البديل (العولمة البديلة) ـ ترحيباً' لدى الرأي العام‪،‬‬
‫وانعكست في جلسات تبادل الرأي في المؤتمر' األخير لبلدان عدم االنحياز (في كواال لمبور' في‬
‫فبراير' ‪.)2003‬‬

‫‪124‬‬
‫‪ ‬‬

‫وفي' مجال اإلدارة االقتصادية للنظام العالمي‪ ،‬بدأت ترتسم كذلك‪ ،‬الخطوط التوجيهية لبديل‬
‫يمكن للجنوب الدفاع عنه بشكل جماعي‪ ،‬ألنه يمثل نقطة التقاء لمصالح جميع بلدانه‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ .1‬لقد عادت فكرة التحكم في التحركات الدولية لرؤوس' األموال إلى الظهور‪ .‬وفي'‬
‫الواقع‪ ،‬فإن حرية الحسابات الرأسمالية التي فرضها صندوق' النقد الدولي كعقيدة جديدة‬
‫"للبرالية" ليس لها إال هدف واحد‪ ،‬وهو تسهيل انتقال رؤوس' األموال بكثافة للواليات‬
‫المتحدة لتغطية العجز األمريكي المتزايد‪ ،‬والناتج عن نقاط الضعف في اقتصاد‬
‫الواليات المتحدة‪ ،‬إلى جانب استراتيجيتها للتحكم عسكرياً في العالم‪  .‬وال مصلحة‬
‫لبلدان الجنوب في أن تسهل بذلك نزيف رؤوس أموالها‪ ،‬وال التدمير الناشئ عن‬
‫المضاربات' المحتملة‪ .‬وعليه فال بد من مراجعة مخاطر' "حرية تحويل رءوس‬
‫األموال" الناتجة عن تطبيق منطق حرية الحسابات الرأسمالية‪ ،‬وبدالً منها يمكن النظر‪،‬‬
‫بين الدول غير المنحازة‪ ،‬ومجموعة السبعة والسبعين‪ ،‬في نظام للمؤسسات اإلقليمية‬
‫ون َذ ِّكر' بأن ماليزيا قد‬
‫التي يمكن أن تحقق قدراً من االستقرار النسبي لحرية التحويل‪ُ .‬‬
‫اتخذت المبادرة‪ ،‬إبان األزمة المالية اآلسيوية عام ‪ ،1997‬بفرض القيود على‬
‫التحويالت‪ ،‬وكسبت المعركة‪ ،‬حيث اعترف صندوق' النقد الدولي بحقها في ذلك‪.‬‬

‫‪  .2‬كذلك عادت فكرة تقنين االستثمارات' األجنبية‪ .‬وبالتأكيد' ال تفكر بلدان العالم الثالث‪،‬‬
‫أن تغلق أبوابها أمام جميع االستثمارات' األجنبية‪ ،‬كما كان البعض منها يعمل في‬
‫الماضي‪ ،‬وبالعكس‪ ،‬فهي تسعى وراء االستثمارات' األجنبية‪ ،‬ولكن شروط‬
‫استقبالها أصبحت من جديد‪ ،‬محل االنتقاد‪ ،‬وبعض األوساط' الحكومية في العالم‬
‫الثالث تشعر بوجاهة ذلك‪.‬‬

‫وفي' ارتباط' وثيق' مع هذا التقنين‪ ،‬يجري اآلن التشكيك في حقوق الملكية الفكرية‬
‫والصناعية‪ ،‬التي تعمل منظمة التجارة العالمية على فرضها‪ .‬فقد صار واضحاً أن‬
‫هذه الفكرة بدالً من تعزيز المنافسة "الشفافة" في أسواق حرة‪ ،‬تعمل بالعكس‪ ،‬على‬
‫تدعيم احتكارات الشركات متعدية الجنسية‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫‪ .3‬لم تعد الديون مجرد عبء ال يمكن احتماله‪ ،‬بل أصبحت شرعيتها ذاتها محل شك‪.‬‬
‫وهكذا بدأ تظهر المطالبة بإلغاء الديون الكريهة‪ ،‬وغير الشرعية‪ ،‬من جانب واحد‪،‬‬
‫وكذلك صياغة قانون دولي ـ جدير بهذا االسم ـ بشأن الديون‪ ،‬وهو أمر غير موجود‬
‫حالياً‪ .‬وإ جراء عملية مراجعة محاسبية للديون ستبين أن نسبة ذات مغزى من الديون‬
‫إما غير شرعية‪ ،‬أو كريهة‪ .‬وقد' وصلت الفوائد المدفوعة مبلغاً يجعل المطالبة ـ ذات‬
‫األساس القانوني ـ باعتبارها قد ُسددت‪ ،‬مشروعة تماماً‪ ،‬وتكشف' عملية النهب البدائي‬
‫التي تجري بهذا الشأن‪.‬‬

‫ولتحقيق ذلك‪ ،‬يجب القيام بحملة لوضع تشريع دولي يخضع الديون األجنبية للتقنين مثل الديون‬
‫الداخلية‪ ،‬وتتسق هذه الحملة مع هدف تدعيم شرعية القانون الدولي‪ .‬ومن المفهوم أن سكوت‬
‫القانون الدولي عن هذه القضية هو الذي يجعل موضوع' تسوية الديون يخضع لعالقات القوى‬
‫الوحشية‪ .‬وهذه العالقات هي التي تسبغ الشرعية على ديون دولية‪ ،‬كان من الممكن لو كانت‬
‫داخلية (أي أن كالً من الدائن والمدين ينتميان لجنسية واحدة)‪ ،‬لكانت تدخل تحت باب "االتفاق‬
‫الجنائي"‪.‬‬

‫‪.4‬تشعر الكثير من بلدان العالم الثالث من جديد‪ ،‬بأنها ال تستطيع' االستغناء عن سياسة‬
‫وطنية للتنمية الزراعية‪ ،‬تأخذ في االعتبار ضرورة حماية الفالحين من النتائج المدمرة‬
‫لتسارع' انهيارهم' أمام "المنافسة الجديدة" التي تعمل منظمة التجارة العالمية على‬
‫تعزيزها' في هذا المجال‪ ،‬وعلى ضمان األمن الغذائي الوطني' في الوقت نفسه‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وفي' الختام أود أن أؤكد أهمية إقامة إطار مؤسسي يسمح بإعادة تضامن الجنوب لسابق عهده‪،‬‬
‫وهذا يدعم كثيراً قدرته على خوض المعارك الضرورية في داخل منظمة التجارة العالمية (ما‬
‫دامت دول الجنوب قد اختارت االنضمام' إليها)‪ ،‬وكذلك داخل هيئات إدارة العولمة (خاصة‬
‫صندوق النقد الدولي)‪ .‬وذلك دون المبالغة في األوهام بشأن هذه المؤسسات التي كونتها القوى‬
‫المسيطرة على مقاسها بهدف تدعيم سيطرتها‪ ،‬ومنع أية فرص للتنمية التي لم تكن في يوم من‬
‫األيام فكرة تعترف بها األيديولوجية اللبرالية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬ترجمة‪ :‬سعد الطويل‬

‫‪126‬‬
‫‪ ‬الحرب العالمية الثانية وإعادة تشكيل "النظام" العالمي‬

‫‪ ‬‬

‫سمير أمين‬

‫‪ ‬‬

‫ك''ان الع''الم ف''ترة الح''رب الثانية خارجا لت''وه من أزمة الثالثيني''ات الك''برى ال''تى م''رت بها الرأس''مالية‬
‫العالمية وال''تى ك''انت الفاش''ية أحد حلوله''ا‪ ،‬وك''ان الع''الم بص''دد التن''افس ح''ول تس''ريع عملية التح''ديث‬
‫للنظ''ام اإلنت''اجى‪ ،‬وخاصة بقي''ادة الوالي''ات المتح''دة‪ ،‬وض''اعف من "الفرصة األمريكية" ه''ذه ان''دحار‬
‫الياب' ' ' ''ان وألمانيا' وت' ' ' ''دهور أوروبا' ودخ' ' ' ''ول' أمريكا كمنقذ ن' ' ' ''ووى باس' ' ' ''تخدام ه' ' ' ''ذا الس' ' ' ''الح فعالً فى‬
‫هيروشيما ونكازاكى' ع''ام ‪ '.1945‬وقد' أعطى االنفج''ار الن''ووى للوالي'ات المتح'دة حق ص''ناعة ش''كل‬
‫الع''الم مبك''راً ممثالً فى األحالف العس''كرية وفى مق''دمتها األطلنطى' باإلض''افة لقي''ادة الح''رب الب''اردة‪.‬‬
‫وفى' ه' ' ' ''ذا الجو أمكن عقب الح' ' ' ''رب الثانية وضع التس' ' ' ''ويات بس' ' ' ''رعة فى ظل عملية "التح' ' ' ''ديث‪-‬‬
‫األمركة" والهيمنة األمريكية (مش' ''روع مارش' ''ال) ولم يكن الموقف' ش' ''بيها بما أعقب الح' ''رب األولى‬
‫من ارتباك فى المعسكر بسبب الثورة البلشيفية ‪.‬‬

‫ورغم وض ' ''وح' الخريطة أثن ' ''اء وعقب الح ' ''رب الثانية على ه ' ''ذا النح ' ''و‪ ،‬فقد ك ' ''ان ثمة مخ ' ''اوف' من‬
‫االتحاد السوفيتى'‪ -‬خاصة قبل تفج'ير هيروش''يما'‪ -‬أدى لتوقيع اتف'اق يالتا ال''ذى قبل فيه الغ''رب ب'دول‬
‫أوربا' الش' ''رقية تحت الحماية الس' ''وفيتية‪ ،‬وفى' نفس ال' ''وقت انطلق الغ' ''رب فى تنظيم' نفسه ضد الكتلة‬
‫الجدي''دة بإقامة حلف ش''مال األطلنطى' وتوجيه الح''رب الب''اردة وإ غ''راق الس''وفيت' فى س''باق التس''لح‪،‬‬
‫وهما العنص' ' ' ''ران الل' ' ' ''ذان ظال منذ الح' ' ' ''رب العالمية الثانية فى تفاعل ح' ' ' ''تى قض ' ' ' ''يا على االتح ' ' ' ''اد‬
‫السوفيتى‪ ،‬وضمن المعسكر األمريكى" عولمة متجددة خالل العقود التالية‪.‬‬

‫لكن ها هو الق' ''رن العش' ''رين ينتهى فى جو ي' ''ذكرنا تمام ' 'اً ب' ''الجو ال' ''ذى س' ''اد خالل عقد افتتاح' ''ه‪ ،‬بل‬
‫ونت' ' ''ائج الح' ' ''رب الثاني' ' ''ة؛ أى بعولمة ليبرالية رافقتها ث' ' ''ورة تكنولوجية (ثانية) وتبل' ' ''ور االحتك' ' ''ارات‬
‫(أس''الف الش''ركات المتعدية الجنس''ية) وان''دماج النظم المالية فى س''وق موح''دة مفتوحة‪ .‬بما يب''دو أن‬
‫الرأس' ' ''مالية قد حققت ثباتا نهائي ' ' 'اً خاصة مع تن' ' ''ازل األح' ' ''زاب العمالية عن مش' ' ''روعها االش' ' ''تراكى‬
‫األص''لى‪ ،‬كما أص''بحت ش''عوب آس''يا وأفريقيا ال ت''رى مس''تقبال لها خ''ارج ان''دماجها فى العولمة ال''تى‬
‫بدت لهم "دون بديل"‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫لقد أنتجت الح ' ''رب العالمية الثاني ' ''ة؛ فالهزيمة المزدوجة للفاشس ' ''تية والكولونيالية الظ ' ''روف المالئمة‬
‫ال''تى ق''ام على أساس''ها رواج العق''ود التالية من ع''ام ‪ 1945‬إلى ع''ام ‪ '.1980‬فأت''اح ه''ذا التط''ور فى‬
‫الغ' ' ' ''رب تنفيذ مش' ' ' ''روع' الدولة االش' ' ' ''تراكية الديموقراطية (دولة الرفاهية)‪ .‬ثم فتح بابا لتنمية حقيقية‬
‫نسبياً فى الجنوب اعتمدت على استغالل المنافسة بين الغرب والشرق لصالح تدعيم استقالل "ال''دول‬
‫النامية"‪ .‬ف ''الرواج' ك ''ان إذن ن ''اتج تكيف رأس الم ''ال لمقتض ''يات العالق ''ات االجتماعية ال ''تى فرض ''تها‬
‫الق' ''وى الديموقراطية والش' ''عبية والوطنية‪ .‬وه' ''ذا الوضع هو تمام' ' 'اً عكس "التكيف" ال' ''ذى ي' ''دعو إليه‬
‫أصحاب النظام حالياً‪.‬‬

‫ويقوم' "النظام" اآلن على تآكل تدريجى للتوازنات االجتماعية التى سادت فى أعقاب الحرب العالمية‬
‫الثانية ح''تى انه''ارت النظم القائمة على أساس''ها من دولة الرفاهية فى الغ''رب واالش''تراكية الس''وفيتية‬
‫وأنم ''اط' الوطنية الش ''عبوية فى الجن ''وب‪ .‬فتجمعت خالل العق ''دين األخ ''يرين ش ''روط الع ''ودة إلى تحكم‬
‫رأس الم''ال تحكم 'اً أح''ادى الج''وانب‪ .‬وم''رة أخ''رى ف''إن االختالل فى ت''وازن الق''وى قد رافقة دخ''ول‬
‫الرأس''مالية فى أزمة هيكلية عميقة وتبل''ور' ث''ورة تكنولوجية ثالثة وس''يادة مقتض''يات العولمة المالي''ة‪،‬‬
‫وهى جميعاً سمات شبيهة بما كانت عليه فى أوائل القرن‪.‬‬

‫وفى' ه ''ذا اإلط ''ار أنمت الوالي ''ات المتح ''دة منذ الح ''رب العالمية الثانية اس ''تراتيجيات ش ''املة متماس ''كة‬
‫تس' ' ''عى إلى ض' ' ''مان هيمنتها المطلقة على مش' ' ''اركيها فى "الث' ' ''الوث" (المك' ' ''ون كما هو مع' ' ''روف' من‬
‫الواليات المتحدة وكندا‪ ،‬أوروبا‪ ،‬اليابان)‪ ،‬من أجل ف''رض عولمة ليبرالية تحت قيادتها' وجعل الق''رن‬
‫الواحد والعشرين "قرنا' أمريكيا'"‪.‬‬

‫ويق ''وم ه ''ذا المش ''روع على دفع الق ''وة العس ''كرية األمريكية الفائقة فى مق ''دم المس ''رح‪ ،‬كما ح ''دث من‬
‫تش' ''كيل األحالف العس' ''كرية بعد الح' ''رب الثانية اع' ''ترف ب' ''ذلك ه' ''نرى كيس' ''نجر فى قوله أن "ليست‬
‫العولمة إال كلمة أخ ''رى ت ''رادف هيمنة الوالي ''ات المتح ''دة"‪ .‬ولعبت ح ''روب الخليج ثم كوس ''وفو دوراً‬
‫حاس' ''ماً فى تق' ''ديم المش' ''روع من خالل تس' ''ليم ال' ''دول األوروبية للخطة األمريكية ال' ''تى ص' ''دق عليها‬
‫حلف "ن ''اتو" فى أواخر أبريل ‪ ''.1999‬فطبق' 'اً له ''ذه الخطة ‪-‬ال ''تى يطلق النظ ''ام األم ''ريكى' عليها اسم‬
‫"نظرية كلنت ''ون"‪ -‬أعطى حلف ن ''اتو لنفسه حق الت ''دخل فى آس ''يا وأفريقيا'‪ .‬هك ''ذا أص ''بح ن ''اتو تحالف' 'اً‬
‫هجومي' ' ' 'اً فى خدمة المش' ' ''روع األم' ' ''ريكى‪ .‬كما أن "ن' ' ''اتو" قد أعتق نفسه من االل' ' ''تزام بموافقة األمم‬
‫المتح''دة على مبادراته‪ .‬هك''ذا ص''ار ح''ديث اإلدارة األمريكية عن األمم المتح''دة يلجأ إلى تعب''يرات ال‬
‫تقل قس ''وة فى احتقارها للمنظمة الدولية وللق ''انون ال ''دولى عن خط ''اب ال ''دول الفاشس ''تية فى مواجهة‬
‫رابطة األمم قبل الحرب العالمية الثانية‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫لن يك'''ون الق'''رن الق'''ادم أمريكي''اً‪ .‬فلن تقبل الش'''عوب ه'''ذه الموجة المتج ''ددة من التوسع االس'''تعمارى'‬
‫ال' ' ''ذى يتجلى بالض' ' ''رورة فى تحكم الش' ' ''ركات العمالقة المتعدية الجنس' ' ''ية وغ' ' ''زو م' ' ''وارد الك' ' ''وكب‬
‫واس' ''تغالل العمل المت' ''افقم وإ لغ' ''اء المط' ''الب الديموقراطية باسم "س' ''يادة آلي' ''ات الس' ''وق"‪ .‬بل سنش' ''اهد'‬
‫تص' ' ''اعداً فى الص' ' ''راعات االجتماعية والوطنية من أجل إع' ' ''ادة بن' ' ''اء عالمية متع' ' ''ددة القطبية ت' ' ''تيح‬
‫ه''وامش لتح''رك الش''عوب والطبق''ات الكادحة‪ .‬علم 'اً ب''أن رفض مش''روع العولمة الليبرالية األمريكية‬
‫يكون نقطة االنطالق فى سبيل تحقيق هذه األهداف اإلنسانية ويمكن الق'ول أن ب'ذور ه'ذا التح'رك قد‬
‫بدأت فعالً عقب الحرب الثانية‬

‫الحرب العالمية وما بعدها‬


‫‪ ‬‬

‫سمير أمين‬

‫‪ ‬‬

‫ينتهي القرن العشرين في جو يذكرنا تماماً بالجو الذي ساد خالل عقد افتتاحه‪ ،‬وهو عقد عولمة‬
‫ليبرالية أولى رافقتها ث ' ' ''ورة تكنولوجية (الثانية) وتبل ' ' ''ور' االحتك ' ' ''ارات (أس' ' ''الف الش' ' ''ركات المتعدية‬
‫الجنس ''ية) وان ''دماج النظم المالية فى س ''وق' موح ''دة مفتوحة‪ .‬فك ''ان يب ''دو أن الرأس ''مالية قد حققت ثباتا‬
‫نهائي ' 'اً ح' ''تى تن' ''ازلت األح' ''زاب العمالية عن مش' ''روعها' االش' ''تراكى األص' ''لى‪ ،‬كما أن ش' ''عوب آس' ''يا‬
‫وأفريقيا' المستعمرة لم تر مستقبال لها خارج اندماجها فى العولمة التى بدت لهم "دون بديل"‪.‬‬

‫ولكن تلك الموجة األولى من العولمة لم ت ''دم‪ .‬فقد أدى تحكم رأس الم ''ال األح ''ادى الج ''وانب إلى‬
‫احت' ' ''دام المنافسة بين المراكز االس' ' ''تعمارية‪ ،‬وإ لى تص' ' ''اعد الص' ' ''راعات االجتماعي' ' ''ة‪ ،‬وإ لى انتفاضة‬
‫ش' ' ''عوب المس' ' ''تعمرات‪ .‬وتجلى ه ' ''ذا ال' ' ''رفض فى سلس' ' ''لة ح' ' ''روب (من الح' ' ''رب العالمية األولى إلى‬
‫الثانية) وث ''ورات (من الث ''ورة الروس ''ية فالص ''ينية إلى ث ''ورات التح ''رر الوط ''نى) احتلت ثالثة أرب ''اع‬
‫تاريخ القرن‪.‬‬

‫لقد أنتجت الح' ' ' ' ''رب العالمية الثاني' ' ' ' ''ة؛ فالهزيمة المزدوجة للفاشس' ' ' ' ''تية والكولونيالية الظ' ' ' ' ''روف‬
‫المالئمة ال ''تى ق ''ام على أساس ''ها رواج العق ''ود التالية من ع ''ام ‪ 1945‬إلى ع ''ام ‪ ' '.1980‬فأت ''اح ه ''ذا‬
‫التطور' فى الغرب تنفيذ مشروع الدولة االش''تراكية الديموقراطية (دولة الرفاهية)‪ .‬ثم فتح بابا لتنمية‬
‫حقيقية نسبياً فى الجنوب اعتمدت على استغالل المنافسة بين الغرب والشرق لصالح تدعيم اس''تقالل‬
‫"ال' ''دول النامية"‪ .‬ف' ''الرواج' ك' ''ان إذن ن' ''اتج تكيف رأس الم' ''ال لمقتض' ''يات العالق' ''ات االجتماعية ال' ''تى‬

‫‪129‬‬
‫فرضتها القوى الديموقراطية والشعبية والوطنية‪ .‬وهذا الوضع هو تماماً عكس "التكيف" ال''ذى ي''دعو‬
‫إليه أصحاب النظام حالياً‪.‬‬

‫وقد' أدى ه ''ذا التط ''ور' إلى تغ ''يرات ملحوظة فى ت ''رتيب ه ''رم األمم‪ ،‬وإ لى انقس ''ام الع ''الم الث ''الث‪.‬‬
‫فهن''اك مجتمع''ات اس''تطاعت أن تقيم منظوم''ات' إنتاجية متمرك''زة على ال''ذات‪ ،‬وأخ''رى' لم تحقق ه''ذا‬
‫اإلنج ' ''از ال ' ''ذى يق ' ''دم ش ' ''رطاً إلنم ' ''اء الحق للق ' ''درة على مواجهة المنافسة فى األس ' ''واق العالمية‪ .‬أن‬
‫مص ' ' ''در' التب ' ' ''اين بين ه ' ' ''اتين المجموع ' ' ''تين إنما هو اختالف من حيث الكيف‪ .‬ف ' ' ''األولى تس ' ' ''اهم فى‬
‫المنظومة العالمية بصفتها فاعلة‪ ،‬بمعنى أنها قادرة على إنماء استراتيجياتها' الخاصة ال''تى ت''دخل فى‬
‫تن''اقض مع خطط االس''تعمار‪ .‬على خالف المجموعة الثاني''ة‪ ،‬فهى فى موقع المفع''ول به الع''اجز عن‬
‫تط''وير اس''تراتيجيات خاصة به''ا‪ ،‬ورؤى مس''تقبلية فاعل''ة؛ ح''تى أخ''ذت مش''روعات وهمية س''لفية أو‬
‫إثنية تحل محلها‪.‬‬

‫ت ' ''آكلت بالت ' ''دريج التوازن ' ''ات' االجتماعية ال ' ''تى س ' ''ادت فى أعق ' ''اب الح ' ''رب العالمية الثانية ح ' ''تى‬
‫انه ' ''ارت النظم القائمة على أساس ' ''ها من دولة الرفاهية فى الغ ' ''رب واالش ' ''تراكية الس ' ''وفيتية وأنم ' ''اط'‬
‫الوطنية الش ' ''عبوية فى الجن ' ''وب‪ .‬فتجمعت خالل العق ' ''دين األخ ' ''يرين ش ' ''روط الع ' ''ودة إلى تحكم رأس‬
‫الم ' ''ال تحكم' ' 'اً أح ' ''ادى الج ' ''وانب‪ .‬وم ' ''رة أخ ' ''رى ف ' ''إن االختالل فى ت ' ''وازن الق ' ''وى قد رافقة دخ ' ''ول‬
‫الرأس''مالية فى أزمة هيكلية عميقة وتبل''ور' ث''ورة تكنولوجية ثالثة وس''يادة مقتض''يات العولمة المالي''ة‪،‬‬
‫وهى جميعاً سمات شبيهة بما كانت عليه فى أوائل القرن‪.‬‬

‫وفى' ه ' ' ''ذا اإلط ' ' ''ار أنمت الوالي ' ' ''ات المتح ' ' ''دة منذ الح ' ' ''رب العالمية الثانية اس ' ' ''تراتيجيات ش ' ' ''املة‬
‫متماس''كة تس''عى إلى ض''مان هيمنتها المطلقة على مش''اركيها فى "الث''الوث" (المك''ون كما هو مع''روف'‬
‫من الوالي ''ات المتح ''دة وكن ''دا‪ ،‬أوروب ''ا‪ ،‬الياب ''ان)‪ ،‬من أجل ف ''رض عولمة ليبرالية تحت قيادتها وجعل‬
‫القرن الواحد والعشرين "قرنا أمريكيا"‪.‬‬

‫ويقوم' هذا المشروع' على دفع القوة العسكرية األمريكية الفائقة فى مقدم المسرح‪ ،‬كما حدث من‬
‫تش'''كيل األحالف العس'''كرية بعد الح'''رب الثانية واع'''ترف ب'''ذلك ه ''نرى كيس ''نجر فى قوله أن "ليست‬
‫العولمة إال كلمة أخ ''رى ت ''رادف هيمنة الوالي ''ات المتح ''دة"‪ .‬ولعبت ح ''روب الخليج ثم كوس ''وفو دوراً‬
‫حاس' ''ماً فى تق' ''ديم المش' ''روع من خالل تس' ''ليم ال' ''دول األوروبية للخطة األمريكية ال' ''تى ص' ''دق عليها‬
‫حلف "ن ''اتو" فى أواخر أبريل ‪ ''.1999‬فطبق' 'اً له ''ذه الخطة ‪-‬ال ''تى يطلق النظ ''ام األم ''ريكى' عليها اسم‬
‫"نظرية كلنت ''ون"‪ -‬أعطى حلف ن ''اتو لنفسه حق الت ''دخل فى آس ''يا وأفريقيا'‪ .‬هك ''ذا أص ''بح ن ''اتو تحالف' 'اً‬
‫هجومي' ' ' 'اً فى خدمة المش' ' ''روع األم' ' ''ريكى‪ .‬كما أن "ن' ' ''اتو" قد أعتق نفسه من االل' ' ''تزام بموافقة األمم‬

‫‪130‬‬
‫المتح''دة على مبادراته‪ .‬هك''ذا ص''ار ح''ديث اإلدارة األمريكية عن األمم المتح''دة يلجأ إلى تعب''يرات ال‬
‫تقل قس ''وة فى احتقارها للمنظمة الدولية وللق ''انون ال ''دولى عن خط ''اب ال ''دول الفاشس ''تية فى مواجهة‬
‫رابطة األمم قبل الحرب العالمية الثانية‪.‬‬

‫لن يكون القرن القادم أمريكياً‪ .‬فلن تقبل الش''عوب ه''ذه الموجة المتج''ددة من التوسع االس''تعمارى'‬
‫ال' ' ''ذى يتجلى بالض' ' ''رورة فى تحكم الش' ' ''ركات العمالقة المتعدية الجنس' ' ''ية وغ' ' ''زو م' ' ''وارد الك' ' ''وكب‬
‫واس' ''تغالل العمل المتف' ''اقم وإ لغ' ''اء المط' ''الب الديموقراطية باسم "س' ''يادة آلي' ''ات الس' ''وق"‪ .‬بل سنش' ''اهد'‬
‫تص' ' ''اعداً فى الص' ' ''راعات االجتماعية والوطنية من أجل إع' ' ''ادة بن' ' ''اء عالمية متع' ' ''ددة القطبية ت' ' ''تيح‬
‫ه''وامش لتح''رك الش''عوب والطبق''ات الكادحة‪ .‬علم 'اً ب''أن رفض مش''روع العولمة الليبرالية األمريكية‬
‫يكون نقطة االنطالق فى سبيل تحقيق هذه األهداف اإلنسانية ويمكن الق'ول أن ب'ذور ه'ذا التح'رك قد‬
‫بدأت فعالً عقب الحرب الثانية‪   .‬‬

‫الصراع الصهيونى‪ /‬العربى على ضوء المشروع األمريكى للسيادة العالمية‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫د‪ .‬سمير أمين‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫تسعى هذه المداخلة إلى توضيح الوضع العالمى الذى أحاط وال يزال يحيط انتشار' المشروع'‬
‫الصهيونى وتطور' أشكال مقاومة الوطن العربى فى مواجهته‪ ،‬أمال فى أن يلقى هذا العرض‬
‫التكميلى للمنهج المعمول به فى التحاليل األكثر شيوعاً للصراع المذكور' بعض الضوء على أسباب‬
‫نجاح العدو وعدم فعالية المقاومة العربية حتى اليوم‪.‬‬

‫يقوم إذن المنهج الذى اقترحه هنا على قلب نظام التسلسل فى عرض األمور‪ .‬فالتحاليل' الدارجة‬
‫تنطلق بالنظر فى طبيعة المشروع' الصهيونى (وهو مشروع استيطانى' توسعى' دون حدود محدودة)‬
‫ودراسة االستراتيجيات' العربية فى مواجهته (سواء أكانت استراتيجيات عسكرية أم ساعية إلى‬
‫"حل سلمى")‪ .‬ثم ينظر إلى القوى الخارجية للمنطقة (الواليات المتحدة‪ ،‬أوروبا‪ ،‬االتحاد السوفياتى‬

‫‪131‬‬
‫سابقاً‪ ،‬كتلة عدم االنحياز‪ ،‬تركيا‪ ..‬الخ) باعتبارها حليفة أحد الطرفين أو محايدة طبقاً لما تراه‬
‫مصلحتها' الدائمة أو الظرفية‪ .‬وال شك أن هذا األسلوب قد ألهم عدداً من الدراسات القيمة التى أتت‬
‫بثمارها' حتى إننى لم أجد جديداً أستطيع أن أطرحه فى هذا اإلطار‪ .‬إال أن هذا األسلوب الطبيعى'‬
‫يوحى ‪ -‬ضمنا إن لم يكن صراحة‪ -‬بتقدير ناقص ناقصا لعوامل التفاعل بين العام‪ -‬أى الوضع‬
‫العالمى‪ -‬والخاص‪ -‬أى الصراع المعنى هنا‪ .‬لذلك رأيت من المفيد التركيز على ما يبدو لى‬
‫السمات الرئيسة للوضع العالمى الذى حكم تطور' جميع تجمعات الكون منذ عام ‪ 1945‬إلى اليوم‪،‬‬
‫ثم تموضع' إشكالية الصراع العربى‪/‬الصهيونى فى هذا اإلطار‪.‬‬

‫ويقوم' عرض األوضاع العالمية بدوره على محور' بدا لى أساسياً أال وهو مشروع السيادة العالمية‬
‫الذى اتصفت به سياسة الواليات المتحدة منذ عام ‪ .1945‬علماً بأن هذا المشروع' قد مر بمراحل‬
‫متتالية قبل وبعد سقوط االتحاد السوفيتى‪ ،‬وأنه يمثل محور' الصراعات الكبرى الراهنة‬
‫والمستقبلية‪ .‬وعلماً أيضاً أن لهذا المشروع أبعاداً عديدة متكاملة بعضها عسكرية (جيو استراتيجية)‬
‫وسياسية (جيو سياسة) واقتصادية (العولمة الرأسمالية الليبرالية)‪ .‬ولئن كنت قد اخترت التركيز'‬
‫على البعد السياسى‪ /‬العسكرى' فيرجع' ذلك إلى اقتناعى أن العولمة االقتصادية لن تكون دون سيادة‬
‫سياسية للواليات المتحدة على المنظومة العالمية‪ ،‬وهو ما سأحاول أن أبينه فيما يلى‪-:‬‬

‫وطالما' انحاز ميزان القوى عالمياً لصالح المشروع' األمريكى' كان األمل فى التوصل إلى "حل‬
‫مقبول" فى فلسطين والشرق' العربى ال أساس له‪ .‬فالبديل إذن هو النضال من أجل مشروع' عالمى‬
‫آخر‪ ،‬سوف أسميه مشروع' عولمة متعددة القطبية تتيح درجة من التنوع فى المجاالت االقتصادية‬
‫واالجتماعية وبالتالى' تفتح مساحة للتحرك السياسى تضمن بدورها تقدم دمقرطة المجتمعات‬
‫وتقدمها االجتماعى حتى تنتج شروطا' أفضل تتيح تخفيف حدة الصراعات فتخلق ظروفاً' أكثر‬
‫مالءمة للتوصل إلى حل مقبول فى القضية المعنية هنا‪.‬‬

‫باإليجاز' أقول إذن إن مشاركة القوى الديموقراطية والتقدمية العربية فى تغيير األوضاع' عالمياً هى‬
‫شرط قلب ميزان القوى فى الصراع الصهيونى'‪ /‬العربى‪.‬‬

‫وعلى أساس هذه المبادئ سوف' أتناول فيما يلى عرض مفهوم الهيمنة ثم خصوصيات' المشروع'‬
‫األمريكى' وتطوره منذ عام ‪ 1945‬والتناقضات' التى يتعرض لها فى المرحلة الراهنة‪ ،‬األمر الذى‬
‫سيتيح تقدير نقاط قوته وضعفه وبالتالى رسم خطوط' المواجهة المطلوبة من أجل التقدم نحو عالمية‬
‫جديدة بديلة ومتعددة القطبية و "حل" مشكلة فلسطين والشرق' العربى معا‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪132‬‬
‫مفهوم الهيمنة ووضعها فى مسرة التاريخ الحديث‬

‫لقد عرف العالم دون شك هيمنة قوى' أخرى قبل الهيمنة األمريكية‪ .‬كما أنه البد من تدقيق أكثر‬
‫لمفهوم الهيمنة نفسه وإ عطائه تحديداً أكثر صرامة مما يجرى فى العادة‪ .‬من جهتى‪ ،‬أعتقد أنه‬
‫يجب التمييز بين المراحل السابقة على الرأسمالية وبين مرحلة عالمنا الرأسمالى' المعاصر‪ ،‬ويجب‬
‫بالتالى تجنب التعميم ما فوق' التاريخى' الذى يقع بالضرورة‪ ،‬وبحكم تعريفه نفسه‪ ،‬على مستوى من‬
‫التجريد يرتفع حتى يخفى الخصوصيات' الجوهرية ويصبح بالتالى عاجزاً عن تفسير التطورات'‬
‫الواقعية‪ .‬ففى المراحل السابقة على الرأسمالية لم يكن هناك نظام اقتصادى' وال سياسى' وال ثقافى‬
‫عالمى‪ ،‬هذا بينما الرأسمالية كانت تجنح منذ نشأتها إلى اقتحام العالم‪ ،‬والسبب ببساطة هو أن‬
‫االنتقال من السيطرة السياسية األيديولوجية الخاصة بالنظام' الخراجى السابق إلى السيطرة‬
‫االقتصادية الخاصة بالرأسمالية يدشن تطوراً معدياً وسريعاً للقوى المنتجة (وبالتالى' للوسائل‬
‫العسكرية) ال سبيل إلى مقارنته مع التطور' الذى شهدته الحقب السابقة‪ .‬على أن الغزو الرأسمالى‬
‫للعالم ال يتم بين ليلة وضحاها'‪ .‬والتوحيد' الفعلى لكوكبنا' تحت راياته هو عملية حديثة اإلنجاز وما‬
‫زالت مهددة بصورة مباشرة‪ .‬وفى الواقع ال يمكن الحديث عن نظام رأسمالى' عالمى قبل النصف‬
‫الثانى من القرن التاسع عشر‪ .‬أى فى حدود تاريخ انفتاح الصين عن طريق' حرب األفيون (‬
‫‪ )1840‬وانفتاح اإلمبراطورية العثمانية فى نفس التاريخ تقريباً‪ ،‬والسيطرة على الهند بعد سحق‬
‫انتفاضة السيباى (‪ ،)1857‬وبعد ذلك غزو أفريقيا جنوب الصحراء (بعد مؤتمر' برلين ‪.)1885‬‬
‫فهذه كلها جعلت من الكرة األرضية حقالً لفعل قانون القيمة المعولمة‪ .‬وما كاد النظام الرأسمالى‬
‫العالمى يتشكل حتى أنفجر مع الثورة الروسية ‪ 1917‬التى أحدثت فك ارتباط' معه‪ .‬ورغم أن فك‬
‫االرتباط' هذا‪ ،‬الذى شمل أوروبا' الشرقية والصين بعد الحرب العالمية الثانية‪ ،‬هو اآلن فى طور'‬
‫الزوال إال أنه استمر ثمانين سنة‪ ،‬أى أكثر بكثير من مرحلة توحيد' السوق' العالمى الذى لم يعش‬
‫أكثر من ثالثين سنة عرف خاللها أزمات القوى اإلمبريالية على أنواعها (بريطانيا‪ ،‬ألمانيا‪ ،‬فرنسا‪،‬‬
‫الواليات المتحدة)‪.‬‬

‫وإ ذا كان سقوط االتحاد السوفياتى وتطور' الصين يعد بنظام' عالمى مندمج نسبياً فليس بالضرورة‬
‫أال يكون هذا النظام مهدداً من جديد بانفجار مباشر أو أال يكون مسرحاً' ألزمات المراكز‬
‫االقتصادية المتنافسة‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫خصوصية الهيمنة األمريكية الحديثة‬

‫‪133‬‬
‫فى مرحلة الرأسمالية الحديثة ذاتها تظل الهيمنة برأيى استثناء فى حين أن القاعدة هى التنافس بين‬
‫المراكز‪ .‬وتظل هذه األخيرة هشة وغير مكتملة تماما‪ ً،‬كما أن وحدة النظام االقتصادى' العالمى‬
‫تظل االستثناء فى حين أن انفجار النظام هو القاعدة‪ .‬وسبب ذلك هو الطبيعة االستقطابية التى‬
‫تحملها الرأسمالية فى رحمها وتبقى عاجزة عن تجاوزها‪ .‬هذه المقولة الجوهرية فى مقترحاتى'‬
‫النظرية المتعلقة بالرأسمالية تفسر االنفجار الذى عبر عن نفسه "بالثورات' االشتراكية"‪ -‬انطالقاً من‬
‫طرفة الخضوع' لمنطق التوسع الرأسمالى'‪ -‬والذى سيعبر' عن نفسه غداً من‬
‫رفض الشعوب الم ّ‬
‫جديد (فى الجنوب والشرق) إذا ما أعيد تشكيل النظام العالمى‪.‬‬

‫إن مسألة الهيمنة (الهيمنات) يجب أن يحدد موضعها' فى هذا اإلطار الذى يحدد مفاعيلها‪ .‬اقتصرت‬
‫الهيمنة اإلنكليزية األولى ‪-‬فى القرن الثامن عشر‪ -‬فى الواقع على السيطرة على العالقات مع‬
‫األطراف' فى تلك المرحلة (أمريكا والتجارة مع الشرق والهند)‪ .‬أما أوروبا فقد بقيت خارج حقل‬
‫هذه الهيمنة‪ .‬وحتى بعد هزيمة نابليون أعاد مؤتمر' فيينا التأكيد على أن النظام األوروبى يقوم على‬
‫توازن القوى القارية (فرنسا' وبروسيا' والنمسا' وروسيا)‪ .‬وكذلك حتى بعد تأكيد التفوق اإلنكليزى‬
‫الجديد صناعياً ومالياً‪ .‬وبعد أن تحولت إنجلترا إلى سيدة للبحار‪ ،‬مسيطرة كذلك على مجمل النظام‬
‫الذى بدأ يصبح عالمياً‪ ،‬يبقى أن هذه القوى ظلت محدودة على القارة األوروبية باستقاللية‬
‫الرأسماليات' القومية وقواها العسكرية‪ ،‬ومحدودة فيما وراء المحيط بتشكل إمبراطوريات' أو مناطق'‬
‫نفوذ أخرى‪ .‬وحتى السيطرة على البحر وضعت بسرعة موضع التهديد بعد أن تم بناء أساطيل‬
‫بحرية أخرى‪ .‬المرحلة الثانية من الهيمنة البريطانية التى تؤرخ عادة بين ‪ 1914-1815‬ليست‬
‫من ذات الطبيعة التى تنسب إليها‪ .‬ألنها ال تتجاوز' ما يسميها الخبراء العسكريون فى لغتهم‬
‫الدارجة "بالقوة البحرية" (أى السلطة على البحار) فإنجلترا' ال تمتلك جيشاً مؤهالً للتدخل فى القارة‬
‫األوروبية وهى ال تستطيع' أن تبسط "قوتها البحرية" إال فى المناطق الضعيفة ما وراء المحيط‬
‫(غير مركزية رأسمالية) حيث يكون الجسم العسكرى االستعمارى‪ ،‬المكون أساساً من الهنود‪ ،‬كافياً‬
‫ألداء المهمة (تقريباً كما هى اليوم وضعية قوات التدخل السريع)‪ .‬ومن نافل القول أن نضيف' إنه‬
‫بعد سنة ‪ 1880‬وفى مرحلة ما بين الحربيين العالميتين لم تعد إنكلترا تمارس أى هيمنة سياسية أو‬
‫عسكرية وأخذت تفقد تدريجياً تفوقها' الصناعى والمالى‪.‬‬

‫هل تختلف عن هذا الهيمنة األمريكية الجديدة منذ سنة ‪1945‬؟ علماً بأن الهيمنة األمريكية هى أول‬
‫طور طموحاً عالمياً شامالً وتضع بصورة منهجية األدوات الالزمة له‪.‬‬
‫محاولة فى التاريخ ت ّ‬

‫أسجل أوالً مالحظة أن هذه الهيمنة لم تطل حتى عام ‪ 1990‬الكوكب كله إذ كانت‪ ،‬بداية‪ ،‬تطويقاً‬
‫للكتلة األورواسيوية "الشيوعية" التى أعلنت نفسها بدورها نظاماً بديالً "اشتراكياً'"‪ .‬واآلن ‪-‬بعد عودة‬

‫‪134‬‬
‫االتحاد السوفيتى' السابق والصين إلى االندماج فى المنظومة الرأسمالية العالمية‪ -‬هل ستتمكن‬
‫الواليات المتحدة من ضمهما إلى فلكها؟ ال اعتقد أن المسألة محسومة‪ .‬بل األرجح أنها ستصطدم‬
‫مباشرة بموجة جديدة من القوى الدافعة خارج المركز (انتفاضات جديدة فى الجنوب والشرق')‬
‫وبمنافسة متزايدة االحتدام فيما بين المراكز‪ .‬مع ذلك يبقى أن الهيمنة األميركية‪ ،‬كانت وال تزال‬
‫أقوى' وجوداً' بما ال يقاس من سابقتها البريطانية الوحيدة‪.‬‬

‫هذا التفوق ال ينبع أساساً من االقتصاد‪ ،‬ففى سنة ‪ 1945‬كان التفوق األمريكى' ساحقاً بال جدال‪.‬‬
‫فالحرب نفسها التى دمرت أوروبا' واالتحاد' السوفيتى والصين واليابان‪ ،‬كانت فرصة مناسبة لتطور‬
‫تكنولوجى مذهل فى الواليات المتحدة‪ .‬ولكن خالل عقدين من الزمان استطاعت اليابان وأوروبا'‬
‫الغربية المتعافيتان' أن تصبحا من جديد منافسين اقتصاديين وماليين جديدين‪ .‬ولم يدم التفوق‬
‫األميركى' فى هذه المجاالت إال فترة أقصر من زمن التفوق اإلنكليزى' فى القرن التاسع عشر‪ .‬إال‬
‫أن العامل الجديد فعلياً فى ممارسة الهيمنة إنما يقع فى الميدان العسكرى‪ .‬فمنذ اكتشاف السالح‬
‫النووى' وتطور الطيران والصواريخ‪ ،‬لم يعد ممكناً مقارنة القدرة التدميرية ألى تدخل عسكرى‬
‫يقوم به طرف متفوق على عدوه فى هذه المجاالت بتلك القدرة المحدودة لألساطيل والمدافع التى‬
‫طبعت الحرب حتى ‪ .1945‬لم يعد هنالك مكان على األرض فى منأى عن هذه القوة التدميرية‪.‬‬
‫وفى' هذا الميدان لم يقف فى وجه الواليات المتحدة ‪-‬حتى سقوط االتحاد السوفياتى'‪ -‬إال منافس‬
‫واحد هو االتحاد السوفياتى نفسه‪ .‬وربما تكون الواليات المتحدة اآلن فى طور' أن تصبح القوة‬
‫العسكرية الوحيدة‪ .‬فبعض الدول األخرى يملك فى أحسن األحوال قوة تصد محدودة ال تصل إلى‬
‫مستوى' الردع‪ ،‬وعلى العكس من إنكلترا‪ ،‬تمتلك الواليات المتحدة قوات عسكرية بإمكانها' أن‬
‫تستكمل "التدخل من بعيد" باحتالل فعلى إذا لزم األمر‪ .‬ال شك أن هذه المالحظة بحاجة لبعض‬
‫التدقيق'‪ :‬فى الميدان األوروبى' تتعزز' فعالية هذه القوات‪ ،‬بنسبة كافية‪ ،‬بالجيوش األوروبية‬
‫(بريطانيا' العظمى‪ ،‬فرنسا‪ ،‬ألمانيا‪ ،‬وكذلك أسبانيا وإ يطاليا وغيرها) لدرجة يمكن معها ضمان‬
‫الدفاع عن نفسه إذا كان ذلك على جدول األعمال (ولكن األمر لم يكن كذلك فى أى يوم ولم يكن‬
‫لدى االتحاد السوفياتى' وال لدى روسيا' أى نية على اإلطالق لغزو أوروبا الغربية)‪ .‬فى الشرق‬
‫األقصى' من الممكن إعادة بناء الجيش اليابانى سريعاً إذا اقتضت ذلك أى مواجهة مع الصين‬
‫وفيتنام وكوريا'‪ .‬ولكن ماذا عن المناطق' األخرى؟ هل يمكن تصور أن الجيوش األمريكية بوسعها‬
‫أن تتورط' فى عملية احتالل طويلة فى العالم الثالث (خارج "القواعد" المقبولة من جانب السلطات‬
‫المحلية)؟‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫هنالك حدود للهيمنة األمريكية‪ ،‬حتى فى بعدها العسكرى'‪ .‬ال يمنع ذلك أن يكون لدى الواليات‬
‫المتحدة تصور' كوكبى' لهيمنتها الشاملة‪ ،‬االقتصادية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬والعسكرية‪ .‬فهى القوة الوحيدة‬
‫التى نظمت قيادتها' العسكرية على مستوى' الكرة األرضية (محاصرة كتلة االتحاد السوفياتى‬
‫السابق‪ -‬الصين) ولم يوجد مثل هذا الطموح فى االتحاد السوفياتى‪ ،‬ولم يكن له وجود فى أى يوم‪.‬‬
‫كل ما كان هنالك أنه أقام خططاً مضادة دفاعية اقتضت تطوير' مواقع محددة خارج مداه‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫مراحل تكوين وانتشار مشروع الهيمنة األمريكية‬

‫أود أوالً أن ألفت النظر إلى ما يبدو لى الجذور البعيدة للمشروع األمريكى الساعى إلى الهيمنة‬
‫العالمية‪.‬‬

‫فقد أقيمت الواليات المتحدة منذ نشأتها على مشروع استيطانى' توسعى' على صعيد القارة‪ ،‬صار‬
‫بالتدريج مشروعا يطال الكوكب بأجمعه ولعله من المفيد هنا ذكر‪ -‬باإليجاز'‪ -‬المراحل المتتالية‬
‫التى مر بها المشروع‪ '،‬قبل دخوله فى المرحلة الراهنة بعد سقوط االتحاد السوفيتى‪ ،‬وهى موضع‬
‫تساؤالتنا الرئيسة فيما سيلى‪.‬‬

‫فلم تكن ما تسمى بالثورة األمريكية ثورة اجتماعية بأى معنى من المعانى‪ ،‬إذ لم تقم على طلب‬
‫تغيير ‪ -‬ولو طفيف‪ -‬فى العالقات االجتماعية التى سادت فى ظل الحكم الكولونيالى البريطانى'‬
‫(بما فيه استغالل العبيد السود)‪ .‬بيد أن انتقال سلطة القرار السياسى' إلى طبقة حاكمة محلية قد‬
‫شجع طموحاتها التوسعية التى تمظهرت فى سلب فلوريدا' ونصف' المكسيك وفتح الغرب وإ بادة‬
‫السكان األصليين… الخ‪ .‬وبعد أن تحققت إقامة هذه الدولة‪ -‬القارة أخذت تفكر فى التوسع عبر‬
‫المحيط الهادى فاحتلت من أجله جزر هاواى والفيلبين ‪ -‬كما أعلن مبدأ مونرو'‪ -‬منذ تاريخ باكر‪،‬‬
‫عام ‪ -1823‬احتكار الواليات المتحدة مجال السيطرة على القارة األمريكية الجنوبية‪ .‬ثم دخل‬
‫المشروع' األمريكى' فى طوره العالمى انطالقا من الحرب العالمية األولى‪ ،‬إذ يجب اعتبار الثالثين‬
‫عاما التى تمتد من عام ‪ 1914‬إلى عام ‪ 1945‬على أنها باألساس مرحلة الصراع بين الواليات‬
‫المتحدة وألمانيا' من أجل الحلول محل الهيمنة البريطانية اآلفلة‪ .‬وانتهت المرحلة بانتصار' الواليات‬
‫المتحدة فإخضاع' ألمانيا (وكذلك اليابان) ومعها أوروبا' الغربية للخطة األمريكية‪ .‬على أن صمود'‬
‫"المعسكر االشتراكى" قد وضع حدوداً لفعالية الخطة خالل العقود األربعة التى تلت ‪ .1945‬إال أن‬
‫سقوط االتحاد السوفياتى قد فتح بالفعل مرحلة جديدة مما شجع واشنطن فى تنفيذ مشروعها‬
‫األصلى والدائم‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫وسوف أعرض فيما بعد سمات المرحلة الراهنة ساعياً إلى بيان تلك التناقضات' الجديدة التى‬
‫تنتجها "العولمة الجديدة" المعنية‪ ،‬وبالتالى' إبراز نقاط قوة وضعف الخطة األمريكية‪.‬‬

‫ولكن وقبل ذلك سنقوم بمناقشة طبيعة ووسائل المنظومة العسكرية التى أقامتها الواليات المتحدة‬
‫فى تلك المرحلة التى يطلق عليها عادة اسم مرحلة "الحرب الباردة" (‪ .)1945/1990‬فقد استغلت‬
‫واشنطن خوف البورجوازيات' األوروبية ‪ -‬واألخرى'‪ -‬من "الخطر الشيوعى" (وهو فى واقع األمر‬
‫خطر داخلى مصدره تحركات الطبقات الشعبية أكثر منه خطراً "خارجياً'") من أجل إقامة هذه‬
‫المنظومة‪ .‬على أن هذه البنية ظلت قائمة كما هى وذلك بالرغم من سقوط "العدو" الذى قيل إنها‬
‫أقيمت من أجل "مواجهته"‪ ،‬األمر الذى يقدم دليال واضحاً على أن الهدف الحقيقى لم يكن "الدفاع‬
‫عن العالم الحر" كما قيل فى الخطاب األيديولوجى' السائد لتلك األيام‪ ،‬بل كان بكل بساطة زرع‬
‫بذور' هيمنة عالمية‪ ،‬وليس أقل‪.‬‬

‫وسوف يرى القارئ من العرض التحليلى التالى أن الهدف الرئيسى لم يتغير فظل هو هو سواء فى‬
‫مرحلة الحرب الباردة أم فى المرحلة الالحقة‪ .‬فتسعى' الجيو ‪-‬سياسة األمريكية منذ عام ‪1945‬‬
‫إلى اآلن إلى تحقيق هدف مزدوج هو قمع (بالعنف إذا احتاج األمر ذلك) أى محاولة لتنمية مستقلة‬
‫(فى الجنوب والشرق' االشتراكى' السابق‪ ،‬بل فى مجتمعات الغرب المتقدم أيضا) من جانب‪ ،‬ومنع‬
‫تكوين منافس ("أوروبى'" بالطبع) قد يفرض على واشنطن "المشاركة" فى السيادة العالمية من‬
‫الجانب اآلخر‪ .‬وفى' هذا اإلطار تستخدم الواليات المتحدة حلف شمال األطلنطى' حتى تمنع التقارب‬
‫بين أوروبا' وروسيا‪ ،‬وهو أحد الشروط' التى ال مفر منها إلقامة عولمة بديلة متعددة القطبية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫بنية المنظومة العسكرية األمريكية‬


‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫أقامت الواليات المتحدة منظومة عسكرية‪ ،‬فى أعقاب الحرب العالمية الثانية‪ ،‬تطال الكوكب جميعاً‬
‫وال مثيل لها قبل ذلك فى التاريخ‪ .‬وتتمظهر هذه المنظومة فى سلسلة من "القيادات العسكرية"‬
‫اإلقليمية‪ ،‬علما بأن الجيو ‪-‬سياسة لدى القيادة العسكرية األمريكية هى جيو‪ -‬سياسة فعلية وليست‬
‫جيو‪ -‬استراتيجية وحسب‪ .‬وأود أن أعبر بذلك عن أن المهمات الملقاة على عاتق القيادات اإلقليمية‬

‫‪137‬‬
‫المختلفة تتحدد فى ضوء الفهم الخاص للطبيعة السياسية للتهديدات المختلفة بدورها بين منطقة‬
‫وأخرى'‪.‬‬

‫فالقيادة المحلية ‪(  Home- commandement‬الواليات المتحدة‪ -‬كندا‪ -‬المكسيك) وامتدادها باتجاه‬
‫الكارايب وأمريكا الوسطى يجب أن تكون قادرة على التدخل الكثيف إذا اقتضى األمر‪ ،‬ألن‬
‫المحيط القريب من الواليات المتحدة (المكسيك‪ ،‬أمريكا الوسطى'‪ -‬والكارايب) يجب أن يبقى فى‬
‫تبعية سياسية مطلقة تجاه واشنطن‪ .‬من هذه الزواية يبدو أن التسامح مع وجود كوبا هو تسامح‬
‫مؤقت بعد سقوط حاميها السوفيتى'‪ .‬والتدخالت فى غرانادا وبنما ونيكاراغوا' تثبت حقيقة المفهوم‬
‫األمريكى' "لألمن" فى هذه المنطقة‪ ،‬رغم أن الوسائل التى اقتضى' استخدامها' للتدخل فى هذه‬
‫الحاالت ظلت وسائل متواضعة‪ .‬ولكن ماذا سيحدث لو أن الشعب المكسيكى' نجح فى تهديد النظام‬
‫االجتماعى القائم فى بلده بصورة جذرية؟ هذا االحتمال هو خارج التصور‪ .‬فبالنسبة للمكسيك‪ ،‬كما‬
‫بالنسبة لمجمل أمريكا الجنوبية‪ ،‬ترتكز االستراتيجية األمريكية على فرضية ثبات واستمرارية‬
‫تحالفها مع الطبقات الحاكمة‪ ،‬وبالتالى' فإن أى "ثورة" هى خارج االحتماالت‪ .‬لهذا السبب تبدو‬
‫وسائل التدخل لدى القيادة الجنوبية ‪  South Command‬المسؤولة عن أمريكا الجنوبية ضئيلة‬
‫للغاية‪ .‬إال أن هذا ال يعنى أن الواليات المتحدة تستبعد' أى تدخل فى القارة التى تعتبرها‪ ،‬منذ‬
‫إعالن مبدأ مونرو (‪ ،)1823‬قارتها' الخاصة‪ .‬وعلى العكس يسمح األمريكيون ألنفسهم بالتدخل‬
‫الدائم فى السياسات المحلية‪ .‬وتبدو لهم الوسائل "السياسية"‪ -‬تنظيم' انقالبات عسكرية‪ ،‬واغتياالت‬
‫سياسية‪ -..‬وسائل كافية‪ .‬فحتى فى أيام حروب األنصار الغيفارية فى الستينات والسبعينات‬
‫(المستمرة فى البيرو حتى يومنا هذا) لم تكن الواليات المتحدة لتظهر قلقاً بالغاً‪ .‬أما بشأن شكل‬
‫السلطة األنسب لممارسة سيطرتها' فإنها ال تضع أى نسق قبلى صارم'‪ .‬فرغم الخطاب الراهن‬
‫(الظرفى فقط ربما) المؤاتى "للديمقراطية" لم تعبر الواليات المتحدة عن ندمها بسبب الدعم الذى‬
‫قدمته للديكتاتوريات العسكرية‪ ،‬تعطى األفضلية للديمقراطية أو للديكتاتورية حسب قاعدة أيهما‬
‫يخدم بصورة أفضل‪ ،‬فى الظرف القائم‪ ،‬مصالح توسع الرأسمال األمريكى' الشمالى إلى جنوب‬
‫الحدود األمريكية‪ -‬المكسيكية‪ .‬وتحتفظ الواليات المتحدة لنفسها فى حال الضرورة "بحق" التدخل‬
‫العسكرى'‪ .‬لكنها ال تواجه إال احتمال تدخل قصير (على طريقة بنما بواسطة قوات التدخل‬
‫السريع)‪ .‬والحجة المخترعة حديثاً من أجل إضفاء الشرعية على التدخالت المحتملة فى المستقبل‬
‫هى اليوم "النضال ضد تجارة المخدرات"‪ .‬كما لو أن هذه التجارة لم تكن تتغذى بالطلب الداخلى‬
‫األمريكى‪ ،‬وأن النضال ضد المخدرات يمكن أن يتم بفعالية بصورة أخرى عن طريق' معركة‬
‫داخلية ضد هذا المرض‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫إن القيادة األطلسية نفسها منقسمة بين الشمال األطلسى والجنوب األطلسى'‪ .‬المنطقة األولى هى‬
‫منطقة التمركز العسكرى األقصى للواليات المتحدة‪ ،‬والتى تغطى عملياً أوروبا الغربية وامتداداتها'‬
‫فى المغرب وفى منطقة تركيا ‪-‬إسرائيل‪ -‬وسوريا‪ /‬لبنان‪ .‬هنا واجهت الواليات المتحدة الوجود‬
‫السوفيتى الكثيف المعزز بحلف وارسو قبل أن يحل نفسه فى أبريل ‪ .1991‬واألداة األمريكية هنا‬
‫هى حلف شمال األطلسى' الذى يضع تحت القيادة األمريكية الموحدة مجموع الجيوش المتحالفة‪،‬‬
‫بما فى ذلك أسبانيا منذ‪  ‬دخولها إلى الحلف سنة ‪ .1982‬أما فرنسا التى خرجت شكلياً من هذه‬
‫القيادة أثناء حكم ديغول فتبقى فى الواقع فى وضعية قليلة االختالف عن اآلخرين‪ .‬خاصة أنه منذ‬
‫حرب الخليج (حيث وضعت القوات الفرنسية المشاركة تحت إمرة القيادة األمريكية) يطرح السؤال‬
‫حول عودة فرنسا إلى كل هيكليات الحلف األطلسى'‪ .‬ومن المعروف أن مشروعية التحالف‬
‫العسكرى' الذى يمثله حلف شمال األطلسى إنما استمدت من التهويل "بشبح" الشيوعية‪ .‬لهذا الهدف‬
‫جرت تعبئة االستراتيجية األيديولوجية للحرب الباردة‪ .‬ولكن يجدر التذكير هنا بأن الواليات‬
‫المتحدة هى التى أطلقت الحرب الباردة وليس ستالين كما حاولت الدعاية الغربية أن تقنع العالم به‬
‫خالل فترة طويلة (وما زالت تحاول)‪.‬‬

‫كيف تبدو األمور' اليوم؟ من الصعب أن تستمر' القناعة بأن روسيا' تمتلك نوايا عدوانية إزاء أوروبا'‬
‫الغربية‪ .‬إال أن مسألة حل حلف شمال األطلسى' ليست مطروحة على اإلطالق‪ .‬على العكس من‬
‫ذلك يجرى اإلعداد لمنحه "وظائف'" عسكرية وسياسية جديدة تمثلت فى ضم عدد من بلدان شرق‬
‫أوروبا (بولندا والمجر وتشيكيا) فى الحلف نفسه‪.‬‬

‫وسنرى فيما بعد األسباب التى تدفع الواليات المتحدة إلى هذا الخيار‪ ،‬واألسباب التى تدفع أوروبا‬
‫إلى االلتحاق به‪ .‬إن ضم المغرب والشرق األدنى المتوسط' (إسرائيل ولبنان) إلى المنطقة التابعة‬
‫لهذه القيادة تذكر بالمهمة األخرى لحلف شمال األطلسى‪ ،‬المهمة التى طغى عليها الصمت تحت‬
‫تبرير' مشروعية هذه المنظمة بفعل "التهديد" السوفيتى' وحده‪ .‬إذ يتعزز الوجود األمريكى فى إطار‬
‫الحلف بقواعد قارية مهمة سنعود' إلى الحديث عن مصيرها عندما سنناقش مسألة "المشاركة"‬
‫(تقاسم العبء)‪ ،‬وفى هذا اإلطار أيضاً يأخذ النقاش فى توسيع "القوة البحرية" وتعزيزها' بقوة‬
‫عسكرية قاربة كل أبعاده‪.‬‬

‫ال يوجد مثل هذا النقاش بشأن منطقة األطلسى' الجنوبية‪ ،‬العائدة إلى القيادة األطلسية ذات‬
‫اإلمكانيات المتعلقة فقط بتقنيات "القوة البحرية"‪ .‬وتشمل منطقة القيادة أفريقيا جنوبى الصحراء‪،‬‬
‫باستثناء القرن األفريقى'‪ .‬إن الواليات المتحدة لم تطور' قوة تدخل سريع لهذه المنطقة‪ ،‬نظراً لكونها‬
‫تعتبر أن ال "خطر" جدياً يتوقع منها‪ ،‬مثلها فى ذلك مثل أمريكا الجنوبية‪ .‬وقد' اعتمدت الواليات‬

‫‪139‬‬
‫المتحدة على حليفين اثنين للقيام بمهمات التصدى للخطر المحتمل‪ :‬فرنسا وجنوب أفريقيا فى ظل‬
‫نظام األبرتهيد‪ ،‬وتندرج' فى هذه الوظيفة تدخالت المظليين الفرنسيين لترتيب أوضاع بعض‬
‫الدكتاتوريات هنا أو هناك (موبوتو مثالً)‪ ،‬أو لصد "التوسعية العربية" (الليبية فى التشاد)‪ .‬وبدا فى‬
‫الظاهر خالل سنوات ‪ 1990-1975‬أن عملية تجذير أنظمة الحكم فى أنغوال وموزامبيق' (وفى‬
‫زمبابوى ومدغشقر‪ ،‬رغم أنها أكثر اعتداالً) والدعم السوفيتى والكوبى الذى قدم لها‪ ،‬كانت أكثر‬
‫خطورة‪ .‬ولكن فى ذلك الوقت اكتفت الواليات المتحدة بتدخل جنوب أفريقيا‪ .‬وأعطت عملية‬
‫الخلخلة ثمارها بهذه الوسيلة‪ ،‬بحيث أن التطور' المرتقب ألنظمة هذه البلدان لم يعد يثير القلق‪ ،‬بعد‬
‫اتفاق نكومانى' مع الموزمبيق' ورحيل القوات الكوبية من أنغوال الذى أنجز سنة ‪ .1991‬ولعل هذا‬
‫االنتصار' قد سمح للواليات المتحدة بإمكانية "التخلى" عن متطرفى العنصرية فى جنوب أفريقيا من‬
‫أجل دعم تسوية نيوكولونيالية قادرة على ضبط المنطقة بمجملها‪ .‬تغطى قيادة المحيط الهادئ أكبر‬
‫وأهم مدى جغرافى' وبشرى على اإلطالق‪ .‬فهى ال تشتمل على المحيطين الهادئ والهندى وحسب‪،‬‬
‫بل وما يحيط بهما من تجمعات بشرية وصناعية فى اليابان وكوريا' وتايوان وجنوب شرقى' آسيا‬
‫واستراليا وشبه الجزيرة الهندية‪ .‬ويعود' هنا الجدال ثانية بشأن التعزيز المحتمل "للقوة البحرية"‬
‫بقوى قارية‪ .‬وتستطيع' الواليات المتحدة أن تستند إلى استراليا' ونيوزيالندا‪( ،‬إنكلترا الطرف اآلخر‬
‫من الخارطة)‪ ،‬الملتحقتين بها دونما' شروط‪ '،‬مثل بلدها األم‪ ،‬على الرغم من أنها ال تواجه تحدياً‬
‫جدياً من أى طرف‪ .‬وتستطيع الواليات المتحدة أن تستند أيضاً هنا إلى إخالص اليابان (إلى متى؟)‬
‫وكوريا وتايوان (مع ما جره االعتراف ببكين من مشاكل) وحلف دول جنوب شرقى' آسيا (الفيلبين‬
‫وتايالند' ماليزيا' وأندونيسيا')‪ ،‬وكل هذا مدعم بالقواعد األمريكية القوية فى اوكيناوا والفيلبين وديبغو'‬
‫غارسيا‪  ،‬وهذا الدعم اللوجستى للتدخالت يمكن أن يتم إما عن طريق االنتشار السريع أو فى إطار‬
‫استراتيجية عسكرية أبعد مدى‪ .‬فى هذه الشروط' ال يشكل حياد الهند "ثغرة" مزعجة فى شبكة‬
‫وسائل العمل األميريكية‪ .‬بالطبع ال يقل الوضع الجيو‪ -‬سياسى لهذه المنطقة تعقيداً عن أوروبا‪،‬‬
‫وال يمكن اختزاله إلى رؤية وحيدة الجانب كما هو حال أمريكا الجنوبية أو أفريقيا السوداء‪.‬‬
‫فاليابان هى المنافس االقتصادى والمالى للواليات المتحدة‪ ،‬وهى قادرة فى لمحة بصر أن تعيد بناء‬
‫ذاتها كقوة عسكرية‪ .‬وهى أقامت لنفسها‪ ،‬فوق ذلك‪ ،‬منطقة نفوذها الخاصة فى جنوب شرقى آسيا‪.‬‬
‫إال أن االستراتيجية السياسية األمريكية تقوم على افتراض أن اليابان ال تمتلك خياراً بديالً عن‬
‫الخضوع' للتحالف األمريكى فى مواجهة كوريا' والصين‪ .‬وعلى الرغم من أن روسيا لم تعد تعتبر‬
‫مصدراً' لخطر حقيقى (فى هذا اإلطار تكتسب مسألة جزر كوريل أهمية أكيدة)‪ ،‬وأن كوريا' ال‬
‫تحظى بأى تعاطف يابانى‪ ،‬وتبقى فوق ذلك منافساً محتمالً ولو من الدرجة الثانية‪ ،‬وأن الصين‪،‬‬
‫القادرة دائماً على التقارب من موسكو‪ ،‬لن تقبل بهيمنة يابانية على المنطقة‪ ...‬فى هذه الشروط'‬
‫تعتقد الواليات المتحدة أنه باستطاعتها التدخل واالعتماد على الدعم اليابانى إذا طرأت "حاجة" لذلك‬

‫‪140‬‬
‫أى إذا ما تطورت' حالة ثورية فى جنوب شرقى آسيا‪ .‬إال أن نقطة ضعف االستراتيجية األمريكية‬
‫هنا‪ ،‬التى هى أبرز من أى مكان آخر‪ ،‬تكمن فى الكتلة البشرية الضخمة التى يمكن أن تجندها‬
‫الحركات الثورية‪ :‬ففى الفيلبين‪ ،‬حيث تعطى الواليات المتحدة لنفسها "الحق" الدائم بالتدخل اكتفت‬
‫حتى اآلن بدعم النظم المحلية المتتالية ولكن ماذا سيحصل فيما لو انتفضت مثالً شعوب إندونيسيا'‬
‫أو تايالند أو الهند ضد النظام؟‬

‫تغطى القيادة المركزية منطقة بالغة الحساسية‪ :‬الشرق األوسط‪ ،‬وصوالً' إلى الباكستان‪ ،‬ووداى'‬
‫النيل‪ ،‬والقرن األفريقى‪ .‬وال شك أن مفهوم هذه القيادة قد أنتج وفقاً لرؤيا بحرية (البحر األحمر‬
‫والخليج المغلقان بالسويس وعدن وهرمز')‪  ،‬كما أن تراكم المشاكل فى المنطقة يفرض تعاوناً' وثيقاً‬
‫مع القيادة األوروبية‪ ،‬وبالتالى مع حلف األطلسى‪ ،‬حيث تعود المرجعية اإلسرائيلية‪ .‬وقد أعلنت‬
‫هذه المنطقة ‪ -‬مثلها مثل أميركا الوسطى والكارايب وأوروبا نفسها‪ -‬منطقة "حيوية" للواليات‬
‫المتحدة‪ ،‬بسبب ثرواتها النفطية الحيوية‪ ،‬وعدم استقرار أنظمتها‪ ،‬والحدة الكامنة للمشاعر القومية‪،‬‬
‫العربية واإليرانية‪.‬‬

‫والحليف' غير المشروط' هنا هى إسرائيل التى ارتبطت مع الواليات المتحدة‪ ،‬منذ مطلع الثمانينات‪،‬‬
‫بتحالف اندماجى متعدد األبعاد‪ .‬وكل الحلفاء اآلخرين‪ ،‬حتى األكثر خضوعاً تقليدياً‪ ،‬كالعربية‬
‫السعودية‪ ،‬ليسوا أكثر من حلفاء ظرفيين' (وستظل ذكرى سقوط الشاه‪ ،‬الذى اعتبر على عرش ال‬
‫يتزعزع‪ ،‬محفورة فى الذاكرة طويالً فى واشنطن)‪ .‬وقد أثبتت حرب الخليج أن الواليات المتحدة‬
‫مستعدة الستخدام' وسائل ضخمة فى هذه المنطقة‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫تغليب‪ ,‬النظرة الكونية على االنعزالية األمريكية التقليدية‬

‫إن االستراتيجية العسكرية األمريكية هى بالطبع فى خدمة سياسة البد من تحديد طبيعة أهدافها‬
‫بدقة‪ .‬كما يجب رصد البعد الديناميكى لهذه األهداف‪ ،‬نظراً ألن العالم يتغير وتتغير' معه "المصالح‬
‫األمريكية"‪ .‬فوق ذلك فإن وعى هذه المصالح بذاته يختلف باختالف األوساط والتيارات الفكرية فى‬
‫قلب النخبة السياسية القائدة‪.‬‬

‫والواليات' المتحدة‪ ،‬كأى قوة هيمنة‪ ،‬تميل إلى الحفاظ على التوازن القائم‪ .‬وهنا أيضاً يجب تحديد‬
‫مضمون هذا التوازن وتكييفه رغم كل شىء للتحوالت العالمية‪ .‬والنخبة السياسية األمريكية منحازة‬
‫ِ‬
‫مؤات للمبادرة الحرة"‬ ‫بمجملها فى هذا المجال إلى فكرة أن جوهر التوازن يقوم على ضمان "مناخ‬

‫‪141‬‬
‫(المقصود طبعاً األجنبية)‪ .‬وكما كانت بريطانيا العظمى تحدد فى زمنها النظام "الطبيعى'" بحرية‬
‫التجارة‪ ،‬تحدده الواليات المتحدة اليوم بحرية المؤسسة‪ .‬هذه الحرية لم تكن توجد فى بلدان الشرق‪،‬‬
‫من هنا وصفها "بالشيطانية" ألنها كانت تخرق هذا النظام "الطبيعى'" بواسطة فك االرتباط الفعلى‪.‬‬

‫إن تباين اآلراء فى داخل النخبة السياسية األمريكية يقع فى المجال الذى تحدده قاعدة اإلجماع‬
‫المشترك' هذه‪ .‬وفى' األدبيات المبتذلة التى يروجها اإلعالم تجرى عادة وبسهولة معارضة التيار‬
‫"االنعزالى" فى الواليات المتحدة‪ ،‬المسمى تقليدياً‪ ،‬بذلك االدعاء الذى يتغذى من فكرة "الرسالة‬
‫الكونية"‪ ،‬شبه الدينية‪ ،‬لدور أمريكا‪ .‬األمر هنا ال يتعدى اللغو‪ ،‬فلم تعد الواليات المتحدة انعزالية‬
‫وليست مستعدة ألن تصبح كذلك‪ ،‬إنها‪ ،‬على العكس القوة الوحيدة التى ما برحت تعلن منذ سنة‬
‫‪ 1945‬أن لديها مصالح فى العالم أجمع‪ .‬والوعى الجديد للبعد البيئى الشامل لبعض المشاكل‬
‫يستخدم' من قبلها كتبرير' إضافى' لتأكيد رسالتها القاضية بأن تلعب دوراً بمستوى طاقاتها'‬
‫التكنولوجية والعسكرية (وهى فعالً ذات مدى عالمى)‪ .‬من هذا المنطلق ال تجد النخبة األمريكية‬
‫القائدة فى تطور' "الوعى األخضر'" عامالً معرقالً' فى المدى االستراتيجى'‪ .‬بالطبع ال يطرح لديها‬
‫السؤال حول اعتبار االستقطاب العالمى‪ ،‬أى البؤس المادى الذى تفرضه الرأسمالية بالضرورة‬
‫على ثالثة أرباع اإلنسانية مصدر المشكلة الرئيسية فى عصرنا‪ .‬وال يتصور كذلك بأن ثالثة أرباع‬
‫اإلنسانية هؤالء مسموح لهم أن يستهلكوا ما يستهلكه الربع المتفوق المكون من الغربيين‪ .‬إلى أين‬
‫نحن سائرون؟ إلى أين يسير هذا الكوكب األرضى؟'‬

‫الجدل األمريكى' إذن أكثر تواضعاً'‪ .‬فالجميع مؤيدون للتدخل على مستوى عالمى‪ ،‬بعضهم' يميل إلى‬
‫التفرد واآلخرون يميلون إلى االئتالف‪ ،‬هذا إذا استعرنا' اللغة الدارجة لخبراء السياسة األمريكيين‬
‫أنفسهم‪ .‬هؤالء وأولئك' يتقاسمون وجهة النظر نفسها وهى أن الخطر الوحيد والحقيقى الذى قد يهدد‬
‫الواليات المتحدة يرجع إلى كونها ليست بالضرورة فى مأمن من األسلحة النووية التى تحملها‬
‫صواريخ بعيدة المدى‪ .‬فأمام هذا "الخطر" ‪-‬االحتمالى فقط‪ -‬يعتقد األولون‪ ،‬بشىء من القحة ربما‪،‬‬
‫بأن الواليات المتحدة تستطيع' ويجب أن تواجه وحدها التحدى‪ ،‬وأن "حماية" األوروبيين واليابانيين‬
‫ليست هاجسهم‪ ،‬ال بل يمكن التضحية بوجود' أوروبا عند الحاجة من أجل تجنب دمار أمريكا‬
‫الشمالية‪ .‬واآلخرون يعتقدون أن المجابهة تفرض التعبئة اإليجابية ألوروبا' (واليابان كإضافة) إلى‬
‫جانبهم‪ .‬من هذه النقطة تبدأ األمور فى اتخاذ منحى ضبابى'‪ .‬ألنه إذا كان لدى األوروبيين ما‬
‫يقدمونه فى الدفاع عن الغرب‪ ،‬أفال يجب أن يقتسموا مع الواليات المتحدة الهيمنة المشتركة على‬
‫الكوكب‪ ،‬وتحديداً' على "متوحشى'" العالم الثالث؟ يستعيد الخطاب الشمولى األمريكى هنا مكانه‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫ولكن ما إن يبدأ اعتبار األطراف' األخرى فى بلدان الغرب المتقدم على أنهم شركاء ال حلفاء‬
‫تابعين‪ ،‬وما إن تعتبر مصالحهم الخاصة مصالحاً مشروعة‪ ،‬حتى ننتقل من رؤيا مانوية جامدة إلى‬
‫رؤيا' استراتيجية ديناميكية يجب تكييفها مع تطور العالم‪ .‬وإ ذا كان الحلفاء التابعون قد أصبحوا‬
‫راشدين ومؤهلين لمنافسة الواليات المتحدة فى مجال حرية المؤسسة نفسه‪ ،‬أفلم يحن الوقت بعد‬
‫إلعادة النظر بصيغ التحالف وأهداف التوازن القائم الذى يجرى الدفاع عنه؟ بموازاة هذا التطور'‬
‫الجارى منذ سنة ‪ ،1945‬والذى استطاعت أوروبا واليابان أن تصعد عبره المنحنى من جديد‪ ،‬اتخذ‬
‫التحدى العسكرى السوفيتى' مساراً مقلوباً صعوداً وهبوطاً‪ .‬فبعد أن كان سنة ‪ 1945‬دون مستوى'‬
‫الواليات المتحدة سرع االتحاد السوفيتى' إنتاجه النووى ودخل السباق العسكرى من أجل اللحاق‬
‫باألمريكيين‪ .‬ولحق بهم فى سنوات الخمسين والستين‪( ،‬وأقول بالتحديد اللحاق بأمريكا' ال تأكيد‬
‫التفوق عليها)‪ .‬وعقب صانع هذا اللحاق‪ ،‬ستالين‪ ،‬جاء خروشوف' المنتفخ باالكتفاء ليفتح الطريق‬
‫على الطموحات "اإلمبريالية االجتماعية" لدى بريجنيف قبل أن تأتى األحداث لتثبت أن االتحاد‬
‫السوفيتى سيسقط فى هذا السباق قبل الواليات المتحدة‪ .‬وها قد وصلنا اليوم إلى لحظة تنفجر‬
‫بالبداهة‪ .‬لماذا ال تستعيد' أزمة المصالح بين الواليات المتحدة من جهة‪ ،‬وأوروبا' واليابان التى‬
‫عززت وضعها' االقتصادى من جهة أخرى‪ ،‬وبعد أن ذهب التهديد العسكرى' السوفيتى أدراج‬
‫الرياح لماذا ال تستعيد أزمة المصالح تلك األهمية التى لم يكن من الممكن أن تحملها فى المرحلة‬
‫التى تلت الحرب العالمية الثانية؟‬

‫‪ ‬‬

‫الجيو استراتيجية فى خدمة الجيو سياسة‬

‫‪ ‬‬

‫تحدد استراتيجية الواليات المتحدة لنفسها هدفاً مركزياً أولياً هو منع الوحدة األورآسيوية‪ -‬ويعنى‬
‫ذلك اليوم بصورة ملموسة التقارب األوروبى الغربى الروسى' والصينى'‪ .‬ذلك هو الكابوس‪ .‬ولكن‬
‫كيف يمكن منعه؟‪ ‬‬

‫لقد ورثت الواليات المتحدة فى هذا المجال مفهوماً إنكليزياً' قديماً للجيوسياسة‪ .‬فانكلترا كانت تعتبر‬
‫وضعها' كجزيرة كافياً لحمايتها طالما أن توازن القوى األوروبى على القارة يعطل أية محاولة‬
‫للسيطرة‪ .‬والواليات' المتحدة تنقل هذا النموذج وتوسعه على مدى الكرة األرضية معتبرة أنه ال‬
‫يمكن الدفاع عن "الجزيرة" األمريكية إال إذا بقيت أورآسيا' منقسمة إلى أنظمة متنافسة‪ .‬وظل خطر‬
‫الكتلة األورآسيوية مزاحاً مع وجود' أنظمة اجتماعية فى أوروبا الغربية من جهة وفى االتحاد‬

‫‪143‬‬
‫السوفيتى والصين من جهة أخرى‪ ،‬تعتبر نفسها نقائض لبعض وتنفى بعضها بعضاً‪ .‬كما أن‬
‫القطيعة الصينية‪ -‬السوفيتية فى الستينات أبعدت هذا الخطر‪ .‬فى تلك المرحلة كانت االستراتيجية‬
‫السياسية (والعسكرية) للواليات المتحدة تقوم على هدف منع احتمال غزو أوروبا' الغربية من‬
‫جانب القوات السوفيتية‪ .‬رغم أنه من الصعوبة بمكان تصديق' أن الحكومات القائمة فى أمريكا‬
‫الشمالية وأوروبا' الغربية كانت تخشى فعالً من عدوان سوفيتى'‪ .‬وما يثبت عدم وجود مثل هذا‬
‫الخوف هو أن خيار الحرب الباردة كان قد تقرر فى واشنطن (حتى ولو أن فكرة هذه الحرب قد‬
‫خطرت أوالً لونستون تشرشل)‪ -‬وذلك بعد األشهر األولى التى أعقبت انهيار النازية وعانت‬
‫خاللها البرجوازيات المحلية‪ ،‬على األقل فى فرنسا وإ يطاليا‪ ،‬من حالة هلع فعلى‪ .‬من هنا فإن‬
‫أهداف هذه االستراتيجية لم يجر التعبير عنها بوضوح' إطالقاً‪ .‬هل الهدف هو "احتواء" االتحاد‬
‫السوفيتى فقط أم أن هناك استراتيجية هجومية (‪  )Roll Back‬تطمح إلى "تحرير'" القارة األوروبية‬
‫من الرقابة السوفيتية‪ ،‬أو‪  ‬حتى "إعادة" الرأسمالية إلى االتحاد السوفيتى؟ الخيار األول هو الذى‬
‫كان ينتصر دائماً فى كل مرة تهدد فيها حالة متأزمة ما سالم أوروبا‪ .‬ولم تفكر الواليات المتحدة‬
‫وال حلفاؤها بنجدة انتفاضات برلين وبولونيا والمجر فى الخمسينات وتشيكوسلوفاكيا' سنة ‪.1968‬‬

‫إن نجاح االستراتيجية األمريكية يعود إلى االلتباسات التى تنطوى عليها إذا ما نظر إليها من‬
‫الجانب األوروبى‪ .‬وال يستبعد' هنا أن نتصور أن األوروبيين يحنون‪ ،‬أكثر من األمريكيين‪ ،‬إلى‬
‫أوروبا األمم القديمة (حتى ولو متخاصمة) المندمجة بقوة عبر اقتصاد' مشترك' (رأسمالى)‪ ،‬وعبر‬
‫نظام الدول القائم منذ سنة ‪ 1648‬والذى جرى تجديده عامى ‪ 1815‬و‪( 1919  ‬بعد القبول‬
‫القسرى بخروج روسيا' من النظام)‪ .‬على أن القوى األوروبية القائدة كانت بحاجة للدعم األمريكى‬
‫من أجل إعادة بناء اقتصادها المدمر فى الحرب‪ .‬لذلك استقبل مشروع' مارشال بشكل إيجابى فى‬
‫كل أوروبا' فى تلك المرحلة‪ .‬ولنالحظ' أن واشنطن هى التى فرضت آنذاك "تقارباً" أوروبياً' خرجت‬
‫بنتيجته إلى النور السوق المشتركة للفوالذ والفحم ثم السوق األوروبية المشتركة‪ .‬وجرى التوقيع‬
‫على معاهدة روما سنة ‪ 1957‬قبل أن تنضج فكرتها' فى نفوس الجميع‪ .‬وكان يجب أن يسمح‬
‫االلتحاق باالستراتيجية األمريكية بإعادة بناء الجيوش األوروبية وعصرنتها'‪ .‬وهو هدف طبيعى'‬
‫لدول كانت حتى ذلك الحين قوى عالمية‪ .‬وامتد االلتباس أبعد من ذلك‪ .‬فالقوى االستعمارية الهرمة‬
‫(إنكلترا وفرنسا‪ ،‬وبدرجة أقل بلجيكا وهولندا والبرتغال) أرادت أن تستغل التحالف مع الواليات‬
‫المتحدة لتكسب‪ ،‬بالدرجة األولى‪ ،‬دعمها فى محاوالت استعادة إمبراطورياتها' اآلفلة‪ .‬لكن موقف‬
‫واشنطن ظل ملتبساً فى هذا المجال‪ ،‬ورفضت' أن تتبنى بالكامل الحروب االستعمارية التى اعتبرت‬
‫حروباً' خاسرة (فى إندونيسيا' والهند الصينية وماليزيا‪ ،‬وفيما بعد فى الجزائر والكونغو' البلجيكى‬
‫وأخيراً' فى المستعمرات' البرتغالية فى أفريقيا)‪ .‬والموقف الحازم الذى اتخذه أيزنهاور' سنة ‪1956‬‬

‫‪144‬‬
‫إزاء التحالف الثالثى الفرنسى ‪-‬اإلنكليزى‪ -‬اإلسرائيلى' خالل حرب السويس‪ ،‬والذى رضى' حتى‬
‫بمغامرة تسهيل الدخول السوفيتى' إلى الشرق األوسط (األمر الذى استغله خروشوف' بمهارة) يشهد‬
‫على حدود التضامن الغربى‪ .‬كانت الواليات المتحدة ترغب فى بناء عالم رأسمالى' مندمج‪ ،‬يضم‬
‫المستعمرات' األوروبية السابقة ولكنها كانت تريد أن تبسط هيمنتها بال حدود على هذا العالم‪ ،‬ال أن‬
‫يقاسمها إياها أوربيون ما زالوا يحتفظون ببعض وسائل هيمنتهم الخاصة هنا أو هناك‪.‬‬

‫وظل حلف شمالى األطلسى‪ ،‬الذى شكل قاطرة التحالف األمريكى ‪-‬األوروبى‪ ،‬مسرح أزمة داخلية‬
‫للمفاهيم األمريكية لم تحسم إطالقاً‪ .‬وفى' الواقع فإن إعادة بناء جيوش أوروبية قوية (بما فيها‬
‫ألمانيا) وحضور قوات أمريكية تشكل عقبة فى سبيل احتمال تكوين كتلة أوروبية من األطلسى'‬
‫حتى فالديفوستوك‪ ،‬ومن نافلة القول أن احتمال قيام هذه الكتلة‪ ،‬أياً كان شكلها‪ ،‬معناه ظهور مجمع‬
‫صناعى‪ ،‬مالى‪ ،‬عسكرى يتمتع بثروات طبيعية غزيرة‪ ،‬يصبح من المستحيل معه التفكير فى قدرة‬
‫الهيمنة األمريكية على االستمرار‪ .‬هذا الكابوس يسكن جميع األنفس فى واشنطن‪.‬‬

‫وأعتقد أن قرار' حرب الخليج قد اتخذ فى واشنطن بكل حرية بوصفه إحدى الوسائل المزمع‬
‫استخدامها' لمنع هذه "الكتلة األوروبية"‪ :‬وذلك عن طريق' إضعاف' أوروبا (عبر السيطرة األمريكية‬
‫المنفردة على النفط)‪ ،‬وإ براز هشاشة البناء األوروبى' السياسى' نفسه (عبر إبراز اختالف وجهات‬
‫النظر فيه)‪ ،‬وتحييد' موسكو' (التى أجبرت على االلتحاق بواشنطن بسبب ضعف أوروبا‪ ،‬فى حين‬
‫أنها كانت ستقف‪ -‬على األرجح وربما' بالتأكيد'‪ -‬إلى جانبها فيما لو اتخذت موقفاً مستقالً عن‬
‫واشنطن)‪ ،‬وأخيراً عن طريق استبدال الفزاعة القديمة المستهلكة‪ ،‬الخطر الشيوعى‪ ،‬بتهويل جديد‬
‫هو الخطر "القادم من الجنوب"‪.‬‬

‫وقد' شجعت حرب الخليج الواليات المتحدة على القيام بخطوة إضافية واسعة فى تنفيذ خطتها من‬
‫خالل استغالل المشاكل التى رتبها تفكك يوغسالفيا‪ .‬فسوف نرى فيما بعد كيف أن حروب البوسنة‬
‫ثم كوسوفو' قد أعطت لواشنطن فرصة ذهبية للتدخل المباشر فى شؤون القارة األوروبية قد يؤدى‬
‫بدوره إلى أفول المشروع' األوروبى نفسه وتكريس' التناقضات' داخله‪ ،‬فإفشاله وإ خضاعه للخطة‬
‫األمريكية‪.‬‬

‫على المدى القريب‪ ،‬أعطت الهجمة األمريكية المضادة النتائج التى كانت تتوخاها' واشنطن‪ .‬فقد‬
‫أزيح خطر كتلة أوروبية – روسية‪ ،‬وأوروبا' نفسها تعلن انقساماتها الداخلية أكثر من أى وقت‬
‫مضى‪ .‬إذ سمحت حرب الخليج لبريطانيا' العظمى أن تؤكد مجدداً على خيارها األساسى' والمبدئى'‬
‫الذى التزمته سنة ‪ ،1945‬أى أن تكون حليفاً مخلصاً وبال شروط' للواليات المتحدة فى كل‬

‫‪145‬‬
‫المناسبات‪ .‬وال يفاجئ أحداً قبول بريطانيا العظمى أن تكون الوالية الثالثة والخمسين فى الشمال‬
‫األمريكى'‪ .‬على أى حال‪ ،‬فإن الواليات المتحدة ال تعامل بريطانيا' فى هذا التحالف كما كان يمكن‬
‫لها أن تعامل أى بلد آخر‪ ،‬وإ نما تعاملها بوصفها الوطن األم األصلى للثقافة واللغة اإلنكليزيتين‪.‬‬
‫هذا البعد الثقافى‪ ،‬الذى كثيراً ما يجرى نسيانه فى التحليل السياسى‪ ،‬يجب أن يؤخذ فى االعتبار‬
‫جدياً‪ .‬من جهتى أعتقد أن قوة هذا البعد تنبع من وجود فعلى "لكتلة لغوية إنكليزية"‪ ،‬نواتها الصلبة‬
‫هى الواليات المتحدة طبعاً‪ ،‬ولكن مجرتها تشتمل على إنكلترا‪ ،‬وكندا (ناقصة كيبيك)‪ ،‬واستراليا‪،‬‬
‫ونيوزيلندا'‪ .‬وهى كتلة تنتهج منذ الحرب العالمية الثانية سلوكاً يعطى أكثر فأكثر' األولوية لاللتحاق‬
‫بواشنطن على كل ما عداه من اعتبارات‪ .‬أما المانيا‪ ،‬من جهتها‪ ،‬فقد أفاقت من الخدر السياسى‬
‫الذى حبسها فيه انهيار الحلم الهتلرى‪ .‬وهى تستعيد‪ ،‬منذ توحدها مجدداً سنة ‪ ،1989‬موقعها‬
‫وطموحها بوصفها "وسط أوروبا'"‪ .‬وصوتها المنخفض خالل أزمة الخليج لم يكن عالمة ضعف بل‬
‫عالمة قوة‪ .‬إنها تبدو ملتحقة بواشنطن‪ ،‬ولكنها ال تفعل ذلك إال من أجل أن يتسنى لها تركيز‬
‫توسعها' الخاص فى أوروبا الوسطى‪ ،‬بدءاً بهضم ألمانيا الديمقراطية سابقاً فيما عينها على بولونيا‬
‫وتشيكيا' والمجر' (النمسا أصبحت عملياً فى ظلها‪ ،‬ووراء النمسا تتراءى كرواتيا وسلوفينيا)‪ .‬هذا‬
‫الخيار يعنى أنها فقدت المصلحة القوية فى لعب "الورقة األوروبية"‪ .‬لن تعلن ذلك حتماً ولن تخرج‬
‫قطعاً' من السوق' األوروبية المشتركة مثالً‪ .‬لكنها تسخر من كل هذا‪ .‬فهى تمضى فى طريقها مع‬
‫"أوروبا'" أو من دونها‪ .‬فرنسا' تجد نفسها فجأة معزولة فى رغبتها فى "بناء أوروبا'" منفردة‪ .‬فبعد أن‬
‫تخلت عن المفهوم الديغولى "ألوروبا' من األطلسى حتى األورال" لتلتحق‪ ،‬خالل رئاسة جيسكار‬
‫ديستان وميتران‪ ،‬بالسياسة األطلسية الصرفة‪ ،‬لم تعد فرنسا تملك من الوسائل ما يجعلها "ثقالً" فى‬
‫االستراتيجية العالمية‪.‬‬

‫اورآسيا‪ ،‬التى اقترح غورباتشوف' تسميتها' فى هذا الظرف "بالبيت األوروبى' المشترك'"‪ ،‬ليست‬
‫على جدول األعمال‪ .‬وال يزال أمام الهيمنة األمريكية أيام عمر مشرقة‪ .‬خاصة وأن "الكتل"‬
‫اإلقليمية القادرة على تهديدها ليست على جدول األعمال هى األخرى‪ .‬على الورق يمكن تصور'‬
‫أى شىء واالستسالم لتمرينات عابثة فى السيناريوهات'‪ :‬كتلة روسية ‪ -‬صينية يعاد تشكيلها؟ وكتلة‬
‫يابانية – صينية ‪ -‬شرق آسيوية وجنوب شرق آسيوية يمكن أن تمتد حتى الهند؟ فى الواقع تقوم‬
‫أمام هذه الكتل صعوبات كبيرة لدرجة تجعل من تشكلها مسألة غير واقعية اآلن‪ .‬و"الجزيرة"‬
‫األمريكية ماضية فى التمتع بتوازن القوى فى الجزء الشرقى' من الكرة (أوروبا' المقسمة روسيا‬
‫الصين‪ ،‬اليابان‪ ،‬الهند)‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪146‬‬
‫مكانة العالم الثالث فى المشروع األمريكى‬

‫‪ ‬‬

‫تستوجب الهيمنة األمريكية بالضرورة أن تمارس الواليات المتحدة سيطرتها' على مجمل العالم‬
‫الثالث‪ .‬وال شك أن أزمة شرق ‪-‬غرب قد غطت جزئياً‪ ،‬خالل أربعين سنة تلك األزمة الجوهرية‬
‫التى تدفع شعوب العالم الثالث إلى االنتفاض باستمرار ضد عملية التطريف' التى تفرضها‬
‫الرأسمالية‪ ،‬وإ لى أن يدخل بالتالى فى أزمة مع المراكز وبالدرجة األولى مع القوة المهيمنة‪ .‬يبقى‬
‫أن االتحاد السوفيتى' كان يشكل التحدى العسكرى' الوحيد للواليات المتحدة‪ .‬وفوق' ذلك بدا أن‬
‫"االشتراكية القائمة فعلياً"‪ -‬أياً كان محتواها االجتماعى الفعلى والحدود التى أوصلتها إلى االنهيار‪-‬‬
‫قد قدمت بديالً حقيقياً لشعوب العالم الثالث‪ .‬فالدعم السياسى (وأحياناً' العسكرى) الذى قدمته موسكو'‬
‫لحركات التحرير الوطنى كان يعزز هذه القناعة‪ .‬فى حين أن كل المراكز الرأسمالية المتطورة‬
‫تشكل‪ ،‬بالنسبة لشعوب العالم الثالث‪ ،‬خصوماً' "طبيعيين"‪ .‬والتنافس' الذى تمارسه هذه المراكز فيما‬
‫بينها فى السوق' العالمية ال يلغى تحالفها المركزى' ضد كل انتفاضة "خطيرة" لشعوب األطراف‪،‬‬
‫ألن مثل هذه االنتفاضات تضع النظام الرأسمالى' فى موضع التساؤل‪ .‬وهنا ال بد من القول بأن‬
‫التناقض شرق ‪-‬غرب كان يجر الغرب األوروبى واليابان وراء الواليات المتحدة‪.‬‬

‫والعالم الثالث‪ ،‬بالنسبة للواليات المتحدة‪ ،‬هو فعالً "منطقة عواصف"‪ .‬وهى بالطبع ليست عواصف‬
‫دائمة‪ ،‬وإ نما انفجارات متالزمة مع الزمن‪ .‬لكنها تهدد بصورة دائمة هذا النظام الرأسمالى الذى‬
‫تعتبر الواليات المتحدة نفسها ضمانته وحاميته األعلى‪ .‬إن أوروبا' واليابان هما بالتأكيد حليفان‬
‫أساسيان يتشاطران الهاجس نفسه فى حماية النظام الرأسمالى‪ .‬وتناقضهما' مع الواليات المتحدة‬
‫يظل محصوراً فى الحدود الضيقة للمنافسة التجارية‪ .‬على العكس من ذلك ترتدى أزمات الشمال‬
‫‪-‬الجنوب دائماً بعداً سياسياً‪ ،‬عاصفاً فى أغلب األحيان‪ .‬لذلك من الصعب إحصاء تدخالت واشنطن‬
‫فى العالم الثالث‪ .‬ال توجد منطقة واحدة أو حتى بلد واحد فى أمريكا وأفريقيا وآسيا لم تتدخل فيه‬
‫الواليات المتحدة‪ ،‬بالزعزعة واالنقالب والضغوط' االقتصادية والمالية (التى تمارس عبر‬
‫المؤسسات' الدولية التى تقودها مثل‪ :‬البنك الدولى وصندوق النقد الدولى)‪ ،‬والتدخل العسكرى'‬
‫المباشر' وغير المباشر'‪ .‬ولم تتجرأ حتى اآلن أوروبا واليابان إلى درجة اتخاذ موقف واحد واضح‬
‫ضد هذه التدخالت بل كانتا‪ ،‬دائماً تقريباً‪ ،‬فى موقع الشريك ولم تستخدما أصواتهما فى البنك‬
‫الدولى وصندوق النقد الدولى وال مرة واحدة لالعتراض على إرادة واشنطن‪ .‬أكثر من ذلك تم‬
‫إلحاق سياسة السوق األوروبية المشتركة فى أفريقيا بسياسة هذه المؤسسات‪ .‬ويزعم‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬أن‬
‫العالم الثالث يهمش أكثر فأكثر' فى النظام العالمى‪ ،‬إن بوصفه مصدراً' للمواد األولية أو سوقاً'‬

‫‪147‬‬
‫لالستيراد' من المراكز ولتوظيف رساميلها‪ .‬ال شك أن تطور التقنيات‪ ،‬من جهة‪ ،‬وأهمية الموارد‬
‫المنجمية فى أمريكا الشمالية واستراليا‪ ،‬من جهة ثانية‪ ،‬قلصت مؤقتاً' دور منتجات العالم الثالث‪.‬‬
‫ولكن ال يمكن أن يستنتج من ذلك أن العالم الثالث قد أصبح "هامشياً"‪ .‬هذه المقولة الدارجة اليوم‬
‫هى‪ ،‬ببساطة‪ ،‬مقولة خاطئة‪ .‬أوالً ألن االنحسار' الجزئى لمساهمة العالم الثالث يعود إلى حالة‬
‫الركود' الظرفية‪ ،‬المستمرة منذ ‪ .1970‬ولكن يفترض أن تعود هذه المساهمة إلى احتالل موقع‬
‫حاسم فى فرضية التوسع الجديد وطويل األمد‪ .‬وإ ذا لم يكن هناك خوف من خطر عوز كبير فى‬
‫حال حصول أزمات محلية ‪ -‬بفضل االحتياطات' االستراتيجية الهائلة التى تختزنها الواليات‬
‫المتحدة من ضمن جملة أسباب أخرى ‪ -‬فال يمكن التأكيد بإمكانية اإلبقاء على هذا الوضع فى حال‬
‫انطالق عملية توسع جديد‪ .‬واألرجح هو أن التسابق على المواد األولية سيستعيد كل حدته‪ .‬خاصة‬
‫وأن هذه الموارد' تتناقص بشكل خطير‪ ،‬ال بسبب "السرطان" المتفشى لعملية التبذير والهدر‬
‫المالزمة لالستهالك الغربى وحسب‪ ،‬بل وكذلك بسبب تطور' التصنيع الجديد فى األطراف‪ .‬ما‬
‫زالت األزمات الناجمة عن التسابق للحصول على هذه الموارد' بعيدة جداً عن أن تفقد مبررات‬
‫وجودها'‪.‬‬

‫وعلى مستوى' السيطرة الشاملة على موارد األرض تتمتع الواليات المتحدة بأفضلية حاسمة على‬
‫أوروبا واليابان‪ .‬ليس فقط ألن الواليات المتحدة هى القوة العسكرية العالمية الوحيدة‪ ،‬كما رأينا‪،‬‬
‫وبالتالى' ال يمكن من دونها قيادة أى تدخل كثيف فى العالم الثالث‪ .‬وإ نما ألن أوروبا' (من دون‬
‫االتحاد السوفيتى' السابق) واليابان محرومتان من الموارد' الضرورية لبقاء اقتصادهما'‪ .‬فتبعيتهما‪،‬‬
‫مثالً‪ ،‬فى ميدان الطاقة‪ ،‬وبالتحديد' تبعيتهما' النفطية إزاء الخليج تظل مسألة مهمة‪ ،‬حتى ولو كانت‬
‫أهميتها تميل إلى التدنى نسبياً‪ .‬وقد أثبتت الواليات المتحدة عندما استولت عسكرياً على وسائل‬
‫التحكم بهذه المنطقة عن طريق' حرب الخليج‪ ،‬أنها مدركة تماماً لفائدة هذه الوسيلة من الضغط‬
‫المتوفرة لديها إزاء حلفائها‪ -‬منافسيها'‪ .‬والسلطة السوفيتية من جانبها‪ ،‬كانت تدرك هذا االنكشاف'‬
‫األوروبى واليابانى‪ ،‬ومن غير المستبعد' أن تكون بعض التدخالت السوفيتية فى العالم الثالث قد‬
‫استهدفت'‪ -‬كما أشرت فى كتابات سابقة‪ -‬تذكير أوروبا' واليابان بهشاشتهما‪  ،‬ودفعهما بالتالى إلى‬
‫المفاوضات حول مسائل أخرى‪ .‬بالطبع يمكن تغطية الحاجات التى تنقص أوروبا' واليابان من‬
‫ضمن فرضية التقارب الجدى بين أوروبا' وروسيا ("البيت المشترك'")‪ .‬وهذا هو السبب الذى يجعل‬
‫الواليات المتحدة تعيش خطر هذا المشروع' وكأنه كابوس‪.‬‬

‫إن الخيار االستراتيجى' األمريكى' الذى يركز‪ ،‬بعكس المقاالت الصحفية الدارجة‪ ،‬على األهمية‬
‫الحيوية للمحافظة على "مناخ سياسى' مالئم للمبادرة الحرة" فى العالم الثالث وتعزيزه‪ ،‬إنما يعكس‬

‫‪148‬‬
‫وعياً حاداً بكون العالم الثالث أبعد ما يكون عن الهامشية‪ .‬بل‪ ،‬على العكس‪ ،‬كلما تضاءلت حدة‬
‫األزمة بين الشرق والغرب (على األقل ببعدها العسكرى' ومخاطره)‪ ،‬وطالما' أن أزمة الغرب‬
‫الداخلية تدار بوسائط التنافس االقتصادى وحدها وال تهدد بالتمادى فى اتجاه اشتباكات سياسية‬
‫عنيفة (أو عسكرية‪ ،‬كما كان عليه الحال فى كل تاريخ الرأسمالية حتى سنة ‪ ،)1945‬فستظل'‬
‫األزمة بين الواليات المتحدة والعالم الثالث هى األزمة األولى‪ .‬والتحوالت' الحتمية فى هذا المجال‬
‫ستزيد' مخاطر' دوافع' المواجهة‪ ،‬ليس فقط بسبب تصنيع العالم الثالث‪ ،‬بل وكذلك بسبب أن بعض‬
‫القوى المتوسطة يمكن أن تصبح "خطيرة" من الناحية العسكرية‪ ،‬بمعنى أن تصبح قادرة على تهديد‬
‫طرق' االتصاالت البحرية والجوية التى تؤمن الهيمنة العالمية للواليات المتحدة‪ .‬ويبدو' أن العراق‬
‫كان فى هذه النقطة‪ .‬ويبدو كذلك أن هذه الحجة قد أقنعت البنتاغون‪ ،‬قبل غزو الكويت فى ‪2‬‬
‫أغسطس سنة ‪ ،1990‬بضرورة تدمير الطاقة العسكرية والصناعية لهذا البلد‪ .‬ماذا ستفعل الواليات‬
‫المتحدة فى المستقبل تجاه إيران مثالً أو تجاه بلدان عديدة أخرى من العالم الثالث تحتل موقعاً'‬
‫مشابهاً؟‪.‬‬

‫حتماً التهديد هنا ليس على المدى القصير‪ .‬وتحديداً' ألن الهيمنة األمريكية‪ ،‬ومن ورائها هيمنة‬
‫مجمل المراكز الرأسمالية‪ ،‬تفعل فعلها عن طريق' التحالفات االجتماعية والسياسية مع الطبقات‬
‫القائدة فى السلطة فى العالم الثالث‪ .‬هذه الكمبرادورية السياسية تبدو‪ ،‬فى الظرف الحالى‪ ،‬شبه‬
‫عامة‪ ،‬والبلدان التى تقاومها تعد على األصابع (كوبا‪ ،‬فيتنام…)‪.‬‬

‫فى إطار رؤيتها' الواسعة‪ ،‬تعتبر الواليات المتحدة أن أمريكا الالتينية باإلجمال لن تضع النظام‬
‫العالمى موضع التساؤل‪ ،‬ألن الطبقات البرجوازية المحلية القائدة تملك ما يكفى من القوة الحتواء‬
‫االنفجارات الشعبية المحتملة‪ ،‬وتملك أيضاً إحساساً حاداً بمصلحتها المشتركة مع الرأسمالية‬
‫المسيطرة عالمياً‪ .‬إن هشاشة هذه البرجوازية فى أمريكا الوسطى' (نيكاراغوا والسلفادور وبنما)‪،‬‬
‫وفى' الكارايب (جامايكا وترينيداد')‪ ،‬كما فى حالة كوبا‪ ،‬ليست إال استثناءات تؤكد القاعدة العامة‬
‫الصالحة على ما يبدو للبلدان الكبرى على األقل (المكسيك‪ ،‬البرازيل‪ ،‬األرجنتين‪ ،‬تشيلى)‪،‬‬
‫والصالحة ربما أيضاً لمناطق' االنديز على الرغم من عدم استقرارها' الظاهر (كولومبيا‪ ،‬بوليفيا‪،‬‬
‫وعلى األخص البيرو)‪ .‬ويجب أن يسجل فى هذا اإلطار أن عصابات األنصار' الغيفارية لم تغير‪،‬‬
‫فى ذلك الزمان‪ ،‬هذا الحكم والتقدير' االستراتيجى األمريكى‪.‬‬

‫كذلك تعتبر الواليات المتحدة أن دول أفريقيا جنوبى الصحراء هى من الضعف بحيث أنها تعجز‬
‫عن بلوغ مستوى' "القوى المتوسطة" الخطيرة‪ ،‬رغم عدم استقرار هذه الدول‪ .‬وال يبدو أن التقدير‬
‫األمريكى' بشأن جنوب أفريقيا بعد النظام العنصرى' قد غير رؤيتها' العامة للمنطقة‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫نقيضاً لذلك‪ ،‬تعتبر البلدان العربية وإ يران قوى خطيرة "إلزامياً"‪ ،‬بسبب حدة المشاعر الشعبية ‪-‬‬
‫رغم صداقتها للغرب‪ -‬األمر الذى يجبرها إما على خطاب قومى بالغى أو على تحوالت ذات‬
‫طبيعة ديماغوجية يصعب احتواؤها'‪ .‬وحدها األنظمة المتخلفة فى شبه الجزيرة العربية (السعودية‬
‫والكويت واإلمارات) تستثنى' من هذه القاعدة‪ .‬وأذكر بأن سقوط شاه إيران يظل درساً بليغاً محفوراً‬
‫فى الذاكرة السياسية األمريكية‪ ،‬وهذه القناعة األمريكية (والغربية) بشأن الدول العربية وإ يران‬
‫ليست نتاجاً مصطنعاً' ألنها تعكس حقيقة واقعية‪ .‬وال شك أن الصهيونية تستغل هذه الحالة فى‬
‫العمق لتحاول أن تخلق مناخاً من العداء الفعلى لدى الغرب تجاه العرب والمسلمين عموماً‪.‬‬

‫أما بالنسبة للشعوب "الشرقية" األخرى‪ ،‬فى الهند وجنوب شرقى آسيا‪ ،‬فإن الواليات المتحدة تبقى‬
‫"حذرة ومتشككة"‪ ،‬رغم أن البرجوازيات المحلية تبدو هنا متحكمة باألوضاع' على المدى المتوسط‪'،‬‬
‫رغم الفشل فى سيريالنكا' الذى أسلمها إلى الحرب األهلية‪ ،‬ورغم الحركات االستقاللية الصاعدة‬
‫فى الهند (قضية السيخ معبرة هنا)‪.‬‬

‫على أن انفجار األزمة المالية فى جنوب شرق آسيا عام ‪ 1997‬قد أضاف مصدراً إضافياً' إلى قلق‬
‫واشنطن‪ ،‬فهذه األزمة كشفت هشاشة النجاح االقتصادى' فى إطار الرأسمالية الطرفية حتى اهتزت‬
‫نظم الحكم التى أخذت تفقد مشروعيتها' القائمة سابقاً على هذا النجاح المحدود' والمزيف'‪.‬‬

‫إن أهمية العالم الثالث فى استراتيجية الهيمنة األمريكية هى منبع التفكير العسكرى' الدائم فى‬
‫"وسائل التدخل المناسبة"‪ .‬وتمتلك الواليات المتحدة اليوم تجربة طويلة عمرها ‪ 40‬سنة من‬
‫التدخالت المستمرة متعددة األشكال‪ .‬ونتائج هذه التدخالت مختلطة‪ .‬فكلما كان التدخل يرتدى'‬
‫صيغة انقالب أو عملية عسكرية سريعة ضد بلد صغير كانت النتيجة نجاحاً ال جدال حوله‪.‬‬
‫والئحة االنقالبات ال تحصى (منذ إعادة الشاه إلى إيران سنة ‪ 1952‬وقلب نظام أربنز فى‬
‫غواتيماال سنة ‪ )1954‬ويمكن التذكير بعملية غرانادا (‪ )1988‬وبنما (‪ )1989‬بين آخر التدخالت‬
‫العسكرية من النوع المشار إليه‪ .‬وكان نجاح االنقالبات العسكرية يزداد سهولة‪ ،‬إما بسبب كون‬
‫بعض ضحاياه من األنظمة يفتقر إلى دعم شعبى حقيقى‪ ،‬أو ألن النظام المخلوع قد استهلك نفسه‬
‫بعد أن استهلك الطاقة الشعبوية التى استند إليها (إندونيسيا ‪ ،1966‬غانا ‪ ،1966‬مصر ‪1970‬‬
‫الخ‪ )..‬وأثبتت حرب الخليج أنها مكلفة مالياً طالما أن األزمة تظل محصورة فى أطر الحرب‬
‫"الكالسيكية" (جيش ضد جيش من دون تعبئة شعبية فى المعركة)‪ .‬بعكس ذلك كانت نتائج‬
‫التدخالت تسفر عن مساواة عندما كانت األزمة تندرج فى إطار المجابهة بين الشرق والغرب‪ .‬هنا‬
‫تبدو الحرب الكورية نموذجية‪ .‬يبقى أن التدخل لم يكن يعطى الواليات المتحدة نتائج المعة كلما‬
‫كانت السلطة الضحية للعدوان األمريكى' (أو الغربى عموماً) تتمتع بمشروعية قومية وشعبية‪ .‬ذلك‬

‫‪150‬‬
‫هو بالطبع نموذج فيتنام' الذى دفع بعمق الوعى األمريكى' وشاع تحت اسم "العرض الفيتنامى "‬
‫‪" . "Syndrome du Vietnam‬لقد تخلصنا أخيراً من العقدة الفيتنامية"‪ ،‬هكذا أعلن بوش فى أول كالم‬
‫له بعد انتصاره ضد العراق‪ .‬وتلك أيضاً حالة كوبا (االنسحاب المزرى فى خليج الخنازير سنة‬
‫‪ ،)1961‬وعملية السفارة األمريكية فـى إيـران (‪ ،)1982‬وحال التدخل فى لبنان فى السنة ذاتها‪.‬‬
‫واألمر' كذلك‪ ،‬إلى حد ما‪ ،‬فى نيكاراغوا والسلفادور' وأنغوال وموزامبيق‪ ،‬رغم هزيمة الساندينيين‬
‫فى االنتخابات‪ ،‬وحالة التآكل فى الحركة الشعبية لتحرير' أنغوال وفريليمو فى موزمبيق‪ .‬ألن هؤالء‬
‫األعداء ‪ -‬كما تصفهم واشنطن‪ -‬لم يهزموا' نهائياً بعد‪ ،‬ولم يحصل خصومهم الرجعيون العاملون‬
‫لحساب الواليات المتحدة على حد أدنى من المشروعية‪.‬‬

‫ليست الواليات المتحدة قوة ال تهزم إذن‪ ،‬ومقاومة شعوب العالم الثالث لهيمنتها هى "عقب أخيلها"‪.‬‬

‫إن التفكير العسكرى' فى الواليات المتحدة ما زال منشغالً بمسألة ال حل لها فى الحقيقة بالنسبة‬
‫لإلمبريالية‪ ،‬وهى‪ :‬كيف يمكن النضال الفعال ضد انتفاضة شعوب األطراف' فى وجه نظام ال يمكن‬
‫لها أن تقلبه ويبدو' أن دروس الهزائم‪ ،‬بالدرجة األولى فى فيتنام' وفى' أماكن أخرى كذلك‪ ،‬قد أقنعت‬
‫االستراتيجيين السياسيين بأن الخيار األفضل هو خيار الضرب بسرعة قبل أن يتبلور بديل شعبى‪.‬‬
‫الظرف' السياسى' واأليديولوجى الراهن ليس مهدداً‪ .‬فحالة اإلنهاك التى يعيشها التيار الشعبوى‬
‫الجذرى الذى نما فى الستينات‪ ،‬وانهيار' "االشتراكية القائمة فعلياً" لم تخل المكان لبديل وطنى شعبى‬
‫جديد يستجيب لتحديات زماننا‪ ،‬بل على العكس فتحت الطريق' لحركات ماضوية (األصوليات‬
‫الدينية والعنصريات اإلثنية الخ…) تضعف طاقات شعوب العالم الثالث التى تشكل أكثرية البشر‪.‬‬
‫من هنا االنطباع "بهامشية" الدور التاريخى' لهذه الشعوب‪ ،‬الذى يفيض من األيديولوجيات المعادية‬
‫للعالم الثالث‪ .‬وذلك هو السبب الذى دفع البنتاغون إلى إشهار نظريته المسماة "األزمات ذات التوتر'‬
‫المنخفض"‪ .‬المطلوب إذن استمرار حالة الضعف الراهنة فى العالم الثالث عن طريق تشجيع‬
‫الحركات الماضوية المشار إليها وتغذية األزمات اإلقليمية التى قد تنجر إليها بلدانه فى سبيل "ترك‬
‫األوضاع' تتعفن" أطول مدة ممكنة‪ .‬من هنا يمكن فهم مناورات' العربية السعودية ‪-‬الحليف‬
‫المخلص لواشنطن‪ -‬فى تمويل الحركات اإلسالمية التى تقدمها وسائل اإلعالم الغربية بوصفها'‬
‫خصماً "أساسياً" للغرب‪ ،‬وتشجيع' الغرب الذى دعم حرب العراق ضد إيران يندرج هو أيضاً فى‬
‫هذه الزاوية‪ .‬وقد' وضعت استراتيجية إدارة األزمات ذات التوتر المنخفض من أجل زعزعة‬
‫األنظمة التقدمية ‪ -‬بدرجات مختلفة طبعاً‪ -‬فى نيكاراغوا وأنغوال وموزمبيق' وأثيوبيا‪ .‬الوسيلة هنا‬
‫تمثلت فى دعم خصوم' هذه األنظمة‪ ،‬الكونترا' واالونيتا والرينامو' واالنفصاليين االرتريين‬
‫والتيغرى‪ .‬ويجب االعتراف بأن هذه االستراتيجية قد أعطت نتائجها‪ .‬وهى قادرة على إعطاء‬

‫‪151‬‬
‫المزيد طالما ظلت القوى الوطنية الشعبية "معطوبة" بعدم دقة مشروعها الخاص وتشوهها‬
‫األيديولوجى'‪ .‬ولكن ما الذى سيحصل إذا ما جرى تجاوز لهذه الحدود‪ ،‬خاصة إذا حصل هذا فى‬
‫بلد كبير؟‪.‬‬

‫‪ ‬حتى اآلن البنتاغون لم يضع تصوراً' تقنياً الحتمال التدخل العسكرى' طويل األمد إال تجاه بلدين‪:‬‬
‫المكسيك والفيليبين‪ .‬خارجهما' يبدو أن شبح "الحرب القذرة"‪ ،‬غير المقبولة سياسياً يشل القرار‬
‫األمريكى'‪ .‬يبقى أن نشير إلى أن الحرب التقليدية ‪-‬كتلك فى الخليج‪ -‬لم تعد تعتبر "أزمة ذات توتر'‬
‫منخفض"‪ ،‬وتثبت أن باستطاعة الواليات المتحدة أن تخرج بسهولة من حدود التخطيط الذى يتجه‬
‫تفكيرها العسكرى فى وجهته‪ .‬هذا الخيار يهدد باالنزالق سريعاً نحو المجزرة‪ ،‬وكما أظهرت‬
‫حرب الخليج فإن هاجس تجنيب الجيوش األمريكية المواجهات األرضية يقود بصورة مستقيمة إلى‬
‫مفهوم للحرب يفترض التدمير الكامل للبلد الخصم ولشعبه حتى ولو كان هذا عاجزاً عن تهديد‬
‫األمن األمريكى‪ .‬يجرى االنتقال من توازن الرعب الذى أسسه الردع النووى نحوالتعبئة المنهجية‬
‫لالتوازن‪ .‬ويخطىء' من يقلل فى العالم الثالث من أهمية الخطر أو من يستبعد' خيار المجزرة‪.‬‬
‫فتاريخ الغرب قدم نماذج كثيرة منها‪ .‬وأضيف بأن هناك مجموعات "لوبى" قوية تنشط فى الواليات‬
‫المتحدة فى صالح خيار "الحروب التقليدية" وتدافع' من أجل التخلى عما تعتبره وهم إدارة حروب‬
‫"ذات توتر' منخفض"‪ .‬إن المصالح االقتصادية والمالية للمجمع العسكرى الصناعى بحاجة إلى أن‬
‫يعطى التسلح المعقد األولوية‪ ،‬فى حين أن الحرب الخفيضة التوتر تستوجب إعادة بناء قوى'‬
‫عسكرية بسيطة‪.‬‬

‫على كل حال‪ ،‬طالما أن األزمات فى العالم الثالث هى على ما هى عليه‪ ،‬تزعزع ولكن ال تهدد‬
‫فعلياً‪ ،‬فإن الهيمنة األمريكية ال تشعر من جانبها بخطر جذرى يتهددها‪ .‬وكما يقول خبراء السياسة‬
‫األمريكيون‪" :‬الالنظام مزعج ولكنه ال يشكل تهديداً"‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫فشل استراتيجية االتحاد السوفيتى السابق فى مواجهة المشروع األمريكى‬

‫‪ ‬‬

‫إن التلبك وعدم اليقين الذى يطبع الخيارات االستراتيجية‪ ،‬السياسية والعسكرية‪ ،‬للواليات المتحدة‬
‫تجاه العالم الثالث تعيدنا إلى الجدل الدائم فى قلب النخبة األمريكية القائدة بين مؤيدين للخيار‬
‫المسمى "بالبحرى" والخيار المسمى "باالئتالفى"‪ .‬وكما رأينا فإن هذا التمايز ال يفصل التيارين إلى‬

‫‪152‬‬
‫ما يسمى بتسرع "انعزاليين" و "كونيين"‪ .‬ألن كال الطرفين يقعان ضمن سياسة الهيمنة العالية‪ .‬لكن‬
‫التيار األول يظن بأن السيطرة على البحار واألجواء كافية لتأمين هذه الهيمنة وإ زالة خطر التمرد‬
‫عليها‪ ،‬إن عن طريق' انتفاض بلدان العالم الثالث أو عبر الخصم الكونى الوحيد (االتحاد السوفيتى'‬
‫فى تلك األيام)‪.‬‬

‫ومسألة دور الحلفاء فى التحالفات التى نسجتها الواليات المتحدة من أجل ضمان هيمنتها العالمية‬
‫تُطرح بصيغ مختلفة بشدة حسب ما إذا كانوا حلفاء غربيين "أوروبيين ويابانيين'" أو أنظمة من‬
‫العالم الثالث‪ .‬الحلفاء الغربيون أساسيون وثابتون‪ .‬والحق يقال‪ :‬لم يكن من الممكن أن تبسط الهيمنة‬
‫األمريكية دون موافقة هؤالء‪ .‬فالتهديد' السوفيتى المزعوم شكل مبرراً لهذا التحالف ‪-‬التحالف‬
‫األطلسى' (الحلف) والمعاهدة األمريكية اليابانية‪ .‬وفى الحقيقة فإن هذا التهديد لم يوجد فى أى يوم‬
‫من األيام فعلياً‪ ،‬ففى سنة ‪ 1945‬كان ستالين قد تخلى منذ زمن طويل عن محاوالت تصدير الثورة‬
‫خارج القطاع الدفاعى ‪ -‬وفق المفاهيم االستراتيجية لتلك المرحلة‪ -‬أى أوروبا الشرقية‪ .‬وبالمناسبة‬
‫فقد جرت مناقشة هذه المسألة وقبولها' من جانب الشركاء الغربيين فى مالطا‪ .‬ولم تخطر فى بال‬
‫االتحاد السوفيتى' وال مرة فكرة "غزو" أوروبا' الغربية أو اليابان‪ .‬وكما نعلم اليوم فإن واشنطن هى‬
‫التى وضعت استراتيجية الحرب الباردة‪.‬‬

‫االستراتيجية الستالينية السوفيتية ظلت دفاعية بدقة‪ ،‬وخليفته بريجينيف (بعد خروتشوف' االنتقالى)‬
‫تابع هذا الخط العام رغم أن االتحاد السوفيتى' كان قد أنجز اللحاق بالواليات المتحدة فى سباق‬
‫التسلح النووى والبالستيكى‪ ،‬فقط فى السبعينات وبثمن اختناق تطوره االقتصادى'‪ .‬وظل هذا الخيار‬
‫يطمح إلى نفس الهدف‪ ،‬أى فصل أوروبا عن السياسة األطلسية من أجل كسر الهيمنة األمريكية‪،‬‬
‫على الرغم من أن سياسة بريجنيف' قد لعبت فى مواجهة التحالف األطلسى‪ ،‬الذى لم يتزعزع رغم‬
‫كل شىء‪ ،‬ورقة "الضغط" على أوروبا' عن طريق بناء تحالفات عسكرية مع بعض بلدان العالم‬
‫الثالث‪ ،‬كتذكير األوروبيين "بانكشافهم'" طالما أن إمداداتهم من نفط الشرق األوسط يمكن أن تقطع‬
‫يوماً‪ .‬بعد فشل ابتسامات خروتشوف كان ال بد من االستمرار' فى هذا الطريق‪ .‬إال أن هذا الخيار‬
‫لم يقترح على اإلطالق أكثر من ذلك‪ ،‬ولم يقترح على األخص إلحاق أوروبا' الغربية بامبراطورية‬
‫الكرملين‪ .‬وال مفر من االعتراف بأن هذا الهدف لم يتم بلوغه‪ .‬والمحاولتان السوفيتيتان'‬
‫‪-‬باالبتسامة وبالعصا'‪ -‬فشلتا كالهما وظلت األطلسية األوروبية ثابتة ال تتزعزع‪ .‬يبقى أنه من‬
‫المفيد طرح السؤال حول معرفة أسباب استمرار' األطلسية رغم كل العواصف‪ ،‬وأسباب استمرارها'‬
‫اآلن على الرغم من سقوط االتحاد السوفيتى'‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫إن التحالف األمريكى األوروبى' اليابانى الذى يشكل القاعدة األساسية للهيمنة العالمية للواليات‬
‫المتحدة سيدوم' بقدر ما تدوم' الخلفيات المعادية لموسكو عند حلفاء واشنطن التابعين‪" .‬والكتلة‬
‫االوروآسيوية" (أوروبا' وروسيا والصين) هى فى الحقيقة الكابوس األمريكى الدائم‪ .‬وقد أدركت‬
‫الواليات المتحدة بذكاء أن تخلى روسيا عن البالغة "االشتراكية" ال بد أن يؤدى' إلى تآكل هذه‬
‫الخلفية طبيعياً' مع الزمن‪ .‬وبالتالى' فال بد من استبدالها بمشروعية أخرى للتحالف‪ ،‬وجدتها أمريكا‬
‫فى التهديد الذى يمثله العالم الثالث ومقوالت "الديمقراطية" و "حقوق األقليات" الخ‪ ..‬من ضمن‬
‫عملية التالعب بصيغها‪ ،‬وتؤدى' هذه الوظيفة بنجاح‪ ،‬حتى اآلن على االقل فيما يبدو‪ .‬التحالف‬
‫األساسى‪ ،‬األمريكى‪ ،‬األوروبى ‪-‬اليابانى‪ ،‬يستوجب استراتيجية "ائتالفية"‪ ،‬ويهمش النظريات‬
‫"البحرية"‪.‬‬

‫والخبراء يبررون هذا الخيار بالتذكير' بدروس' التاريخ‪ .‬فالهيمنة اإلنكليزية العالمية كانت‪،‬‬
‫بمفاهيمها األساسية‪ ،‬بحرية‪ ،‬وتشمئز من فكرة تدخل الجيش اإلنكليزى' فى القارة األوروبية‪ ،‬مكتفية‬
‫بإدارة هذه األخيرة بوسائل دبلوماسية ("التوازن األوروبى'")‪ .‬وقد أثبت التاريخ الحقاً أن هذه‬
‫االستراتيجية لم تعط النتائج المرجوة إال فى حال استتباب التوازن األوروبى'‪ .‬وما إن كان‬
‫باستطاعة جيش اإلمبراطورية األلمانية أن يهدد روسيا' وفرنسا حتى اختل التوازن وكان على‬
‫حرب ‪ 1918 -1914‬أن تثبت أن نظرية اإلنكليز البحرية‪" ،‬بريطانيا' تحكم البحار"‪ ،‬قد فقدت‬
‫أهليتها‪ .‬على أن هذه الحجج‪ -‬التى كانت مقبولة‪ -‬لم تكن حاسمة برأيى‪ .‬فجهد أوروبا' الغربية‪،‬‬
‫التى تحن إلى ماضيها‪ ،‬والتى تمسكت بإعادة بناء جيوش عصرية بعد سنة ‪ ،1945‬ساهم فى‬
‫فرض هذه االستراتيجية االئتالفية‪ .‬وتعاقب فى بذل هذا الجهد كل من فرنسا' وبريطانيا' العظمى‪ ،‬ثم‬
‫ألمانيا الغربية بعد أن تحررت "من عقدة هزيمتها'"‪.‬‬

‫االتحاد السوفيتى‪ ،‬من جهته‪" ،‬تكيف" بصورة ثابتة مع هذه التحوالت فى السياسة األطلسية‪ .‬واكتفى‬
‫فى مرحلة أولى ‪-‬فى زمان ستالين‪ -‬بحالة انكفاء‪ ،‬مركزاً جهده على تقديم جواب نووى‪ /‬جديد فى‬
‫فنه العسكرى‪ .‬وأعتقد‪ ،‬فى مرحلة الحقة‪ ،‬أن باستطاعته تحدى قوة الهيمنة األمريكية عن طريق'‬
‫انتشار' عسكرى شامل‪ ،‬معزز ببعض التحالفات الهشة هنا أو هناك‪ ،‬حيث سمحت األوضاع‪ ،‬فى‬
‫العالم الثالث‪ .‬وبدل إقناع أوروبا بعبثية نهجها األطلسى' سهل خيار العسكريين السوفيت' هذا تأييد‬
‫صورة الخطر لديها‪.‬‬

‫على المستوى الداخلى للتحالف اقتضى هذا الخيار االئتالفى' تقديم جواب لمسألة "المشاركة" حسب‬
‫التعبير الدارج‪ -‬أى "اقتسام' عبء" الدفاع‪ .‬وهو‪ ،‬ولو كان متخيالً‪ ،‬يستوجب مساهمة مالية من قبل‬
‫الحلفاء‪ .‬وقد' طلبت هذه المشاركة رسمياً' فى مناسبات عديدة‪ ،‬ولكن على مستوى' الخطاب فقط‪ .‬إال‬

‫‪154‬‬
‫أنها طلبت فعلياً‪ ،‬بمال حقيقى رنان‪ ،‬للمرة األولى بمناسبة حرب الخليج‪ .‬وتلك واقعة مهمة يستشف'‬
‫منها عالقة ضعف فى الموقف' األمريكى‪ ،‬ضحية األزمة العامة‪ .‬ولكن يمكن أن ُيرى فيها أيضاً‬
‫عالمة استغالل ذكى لألطلسية األوروبية المجتمعة مجدداً ضد خصم محتمل من العالم الثالث‪ ،‬وال‬
‫شك أن حروب يوغسالفيا ستؤدى بدورها إلى مزيد من التنازع حول توزيع' المسئوليات' المالية‬
‫لتغطية نفقاتها البالغة‪.‬‬

‫إن مشكلة االستراتيجية السياسية ‪-‬العسكرية لدعم الهيمنة األمريكية فى مواجهة بلدان العالم الثالث‬
‫تطرح بصورة مختلفة‪ .‬فالنهج األمريكى' هنا "بحرى" أكثر مما هو "ائتالفى'"‪ .‬وال شك أن‬
‫االمتدادات المقاربة للقوى العسكرية الحليفة للواليات المتحدة هى موجودة‪ ،‬وأحيانأً تكون مهمة‬
‫على مستوى رسمى‪ ،‬حيث إن حكومات العديد من هذه البلدان تشكل حلفاء مخلصين وتحصل‪،‬‬
‫بهذه الصفة‪ ،‬على مساعدات فى مجال التسلح‪ .‬إال أن هناك حدوداً تقلص آفاق ودور' هذه‬
‫االمتدادات‪ ،‬واالستثناءات' هنا هى إسرائيل وتركيا واستراليا' ونيوزيالندا'‪ .‬وهذه سنعود إليها الحقاً‪.‬‬
‫أول هذه الحدود تشكله هشاشة كل األنظمة فى العالم الثالث وعدم استقرارها'‪ .‬مرة أخرى أشير إلى‬
‫أن مثال انهيار نظام الشاه فى إيران‪ ،‬أحد أقوى القوى العسكرية فى الشرق األوسط‪ ،‬ال يزال‬
‫يسكن عقول استراتيجيى' البنتاغون‪ .‬الحد الثانى تشكله النزاعات اإلقليمية التى تميل الحكومات إلى‬
‫إعطائها األولوية ألسباب عديدة منها‪ :‬توقع خطر حقيقى قد يشكله أحد الجيران‪ ،‬أو إرث من‬
‫المطالب الحدودية غير المتفق عليها‪ ،‬أو ديماغوجية قومية بسيطة وصرفة تهدف إلى تعويض‬
‫الفشل فى التنمية على حساب التكيف لمقتضيات منطق المشروع األمريكى‪ ،‬واإلشكال' الهندى‬
‫‪-‬الباكستانى يقدم نموذجاً معبراً عن هذا النوع من الحاالت‪ .‬فالدعم األمريكى لألنظمة العسكرية‬
‫المتعاقبة على الباكستان لم يتضاءل مرة بل شكل عامالً مهماً من عوامل التدخل الغربى فى‬
‫أفغانستان'‪ .‬ولكنه لم يمنع الباكستان من رفض المشاركة فى الحصار المضروب على الصين‪ ،‬حتى‬
‫قبل زمن التقارب بين واشنطن وبكين ابتداء من السبعينات‪ .‬هنا كانت الباكستان تعطى األولوية‬
‫ألزمتها' مع الهند التى كانت بدورها خصماً للصين بسبب التيبت والحدود فى الهماليا‪ .‬والحد‬
‫الثالث واألساسى' هو أن الرأى فى العالم الثالث قد فرض على العموم "حياداً" نشيطاً' نسبياً وحقيقياً‬
‫فى األزمة بين الشرق والغرب‪ .‬ومنذ مؤتمر' باندونغ' سنة ‪ 1995‬اتخذت دول آسيا وأفريقيا فى هذا‬
‫المجال موقفاً مبدئياً لم يتغير تقريباً‪ .‬ومشاريع حصار االتحاد السوفيتى والصين عبر سلسلة من‬
‫المعاهدات واألحالف' العسكرية اإلقليمية كامتداد لألطلسى ‪-‬السانتو' فى الشرق األوسط' (بأشكاله‬
‫المتعددة من حلف بغداد إلى البيان الثالثى سنة ‪ 1950‬الخ…) وآسيان فى جنوب شرقى آسيا‪ -‬لم‬
‫تعط كل الثمار المرجوة التى انتظرتها' واشنطن‪ .‬بعضها جرى التخلى عنه ببساطة‪ ،‬وتحديداً'‬
‫المشاريع' المتعلقة بالشرق األوسط (على األقل لفترة معينة ألنها استعادت بعد حرب الخليج مكانتها‬

‫‪155‬‬
‫فى سياق مشاريع' االستراتيجية السياسية العسكرية األمريكية)‪ .‬كذلك اضطر األمريكيون إلى‬
‫القبول بالحياد الهندى‪ .‬البعض اآلخر ‪-‬آسيان مثالً‪ -‬لم يبلغ كامل األهداف التى أرادتها واشنطن‪.‬‬

‫االستراتيجية السياسية ‪-‬العسكرية للواليات المتحدة فى العالم الثالث تظل مبنية على وجودها‬
‫البحرى الكثيف والمتحرك‪ '،‬والمدعوم' بشبكة قواعد بعيدة عن المناطق' الكثيفة السكان‪ ،‬مثل قاعدة‬
‫دييغو' غارسبا‪ .‬وكما رأينا‪ ،‬فإن هذه االستراتيجية‪ ،‬الفعالة فى فرضية "التدخل السريع" (كما أثبتت‬
‫حرب الخليج)‪ ،‬لن تكون بالضرورة على مستوى' ما يتطلبه تدخل قد يطول كثيراً‪ .‬ومنذ حرب‬
‫الخليج يتحول البنتاغون فى هذا الميدان نحو مفهوم للمجزرة عن طريق القصف الكثيف من دون‬
‫تدخل على األرض‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫مكانة منطقة الشرق األوسط فى المشروع األمريكى‬

‫‪ ‬‬

‫يشكل الجنوب العربى‪ -‬اإليرانى' "المنطقة األولى" فى طرف النظام الرأسمالى'‪ .‬وهى "أولى" بمعنى‬
‫أنها المنطقة الوحيدة المتاخمة مباشرة للشمال فى الجزء الشرقى من الكرة األرضية‪( .‬المكسيك‬
‫وجزر' الكاريبى' وحدها لها موقع مماثل فى الجزء الغربى من الكرة بمحاذاة كتلة الواليات‬
‫المتحدة‪ -‬كندا)‪ .‬اليابان مثله مثل استراليا يقع‪ ،‬على عكس ذلك‪ ،‬فى منطقة يبدو معها وكأنه هو‬
‫المعزول‪ .‬منطقتنا تتاخم أوروبا على مسافة تقل عن عشرين كيلو متراً فى جبل طارق وأقل من‬
‫ساعة طيران من تونس‪ .‬وتتاخم روسيا عبر االمتداد الحدودى مع القوقاز' وآسيا الوسطى‪ .‬وهى‬
‫"أولى" أيضاً بمعنى أن نفطها حيوى ألوروبا واليابان‪.‬‬

‫إن هذا الموقع الجغرافى الخاص يفرض النظر فى مواقف أوروبا' والدول المكونة لها فى مواجهة‬
‫جنوبها' المتوسطى والعربى‪ .‬حتى سنة ‪ 1945‬كان للقوى األوروبية المختلفة سياساتها المتوسطية‬
‫الخاصة بها‪ .‬وغالباً ما كانت سياسات خالفية‪ .‬بعد الحرب العاليمة الثانية لم يعد لبلدان أوروبا‬
‫الغربية سياسة متوسطية خاصة بكل منها‪ ،‬وال مشتركة بينها‪ ،‬سوى تلك التى يفرضها االلتحاق أو‬
‫االنحياز' للواليات المتحدة‪ .‬يبقى‪ ،‬مع ذلك أن بريطانيا وفرنسا' اللتين تمتعتا بمواقع' استعمارية فى‬
‫المنطقة‪ ،‬قادتا' معارك خلفية من أجل الحفاظ على امتيازاتهما‪ .‬بريطانيا العظمى امتنعت منذ سنة‬
‫‪ 1954‬عن مثل هذه المعارك حول مصر والسودان‪ ،‬وبعد فشل مغامرة العدوان الثالثى سنة‬
‫‪ 1956‬تخلت عن نفوذها الخاص فى المنطقة بما فى ذلك بلدان الخليج الساحلية‪ .‬أما فرنسا' التى‬

‫‪156‬‬
‫خرجت من بالد الشام منذ ‪ 1945‬ورضيت' باستقالل الجزائر سنة ‪ 1962‬فما تزال تحتفظ بحنين‬
‫ما إلى نفوذها فى المغرب ولبنان‪ ،‬تشجعها على ذلك الطبقات القائدة على األقل فى المغرب‬
‫وتونس' ولبنان‪.‬‬

‫وبموازاة ذلك لم يحل البناء األوروبى سياسة مشتركة محل انسحاب القوى االستعمارية‪ .‬ونتذكر‬
‫أنه لدى إعادة تقويم أسعار النفط‪ ،‬بعد الحرب العربية ‪ -‬اإلسرائيلية سنة ‪ 1973‬اكتشفت أوروبا'‬
‫المجتمعة من جديد أن لها "مصالح" فى المنطقة‪ .‬إال أن هذا االستيقاظ لم يتمخض عن مبادرة مهمة‬
‫ما من جانبها‪ ،‬مثالً مبادرة بشأن المشكلة الفلسطينية‪ .‬لقد ظلت أوروبا‪ ،‬فى هذا المجال كما فى‬
‫مجاالت أخرى عديدة‪ ،‬مهذبة وضعيفة الثبات‪ .‬إال أنه قد تحققت مع ذلك بعض الخطوات إلى‬
‫األمام فى اتجاه استقاللية ما إزاء الواليات المتحدة‪ ،‬خالل السبعينات‪ ،‬توجت فى قمة البندقية سنة‬
‫‪ .1980‬إال أن هذه لم تتثبت ال بل أخذت فى التآكل خالل الثمانينات‪ ،‬وما لبثت أن زالت مع‬
‫سياسة االلتحاق بواشنطن التى اتبعت خالل أزمة الخليج‪ .‬كذلك فإن المفاهيم األوروبية المتعلقة‬
‫بمستقبل عالقات أوروبا' مع العالمين العربى واإليرانى يجب أن تدرس انطالقاً من تحليالت محددة‬
‫خاصة بكل دولة أوروبية‪.‬‬

‫لم يعد لبريطانيا العظمى سياسة متوسطية أو عربية خاصة بها فى هذا المجال‪ ،‬كما فى المجاالت‬
‫األخرى‪ .‬أخذ المجتمع اإلنجليزى' بكل تعبيراته السياسية (المحافظين والعمال) خيار االنحياز' غير‬
‫المشروط للواليات المتحدة‪ .‬والمسألة هنا تتعلق بخيار تاريخى رئيسى يتجاوز بعيداً الحاالت‬
‫الظرفية‪ .‬وهو يفترض فى النهاية تشكيل كتلة من الشعوب الناطقة باإلنكليزية (الواليات المتحدة‬
‫وكندا واستراليا' ونيوزيلندا') التى تتشاطر بال تحفظ االنتماء إلى قيم الرأسمالية والديمقراطية‬
‫البرجوازية المالزمة له‪ ،‬ويشعرون فوق ذلك بتضامن عميق فى مواجهة كل الثقافات البشرية‬
‫األخرى‪ .‬وكان ديغول السياسى األوروبى' الوحيد الذى فهم أن هذا الخيار الرئيسى ال يمكن أن‬
‫يالئم مشروعاً أوروبياً مستقالً‪ ،‬لذلك لم يعد يبحث عن انضمام' إنكلترا رسمياً إلى هذا المشروع'‪.‬‬
‫إال أن األمر لم يكن كذلك‪ ،‬وهو ما أظهرته حرب الخليج بامتياز‪ .‬اليوم تعزز مشاركة بريطانيا' فى‬
‫المؤسسات' األوروبية خضوع' أوروبا لمتطلبات االستراتيجية األمريكية‪.‬‬

‫أما ألمانيا فال تملك سياسة عربية ومتوسطية أفضل من سابقتها ألسباب مختلفة‪ .‬ولعلها ال تبحث‬
‫عن تطوير سياسة كهذه فى المستقبل المنظور‪ .‬فالضعف الذى كانت تستشعره نتيجة انقسامها‬
‫ووضعيتها' دفعها' لتكريس كل جهودها' من أجل التطور' االقتصادى‪ ،‬قابلة فى الوقت نفسه بموقع'‬
‫سياسى' منخفض وفى ظل ملتبس للواليات المتحدة والسوق األوروبية المشتركة فى آن معاً‪.‬‬
‫والوحدة األلمانية الحديثة واستعادتها' لسيادتها' الدولية الكاملة لن تؤديان إلى تعديل هذا السلوك‪ ،‬بل‬

‫‪157‬‬
‫على العكس إلى إظهار تعبيراته بصورة أكثر بروزاً‪ .‬والسبب هو أن االمتصاص االقتصادى'‬
‫واالجتماعى' أللمانيا الديمقراطية سابقاً سيظل الهدف األول للجهود األلمانية خالل السنوات القادمة‪.‬‬
‫وفوق ذلك فقد اختارت القوى السياسى' المهيمنة (المحافظون‪ ،‬الليبراليون واالشتراكية الديمقراطية)‬
‫أن تعطى األولوية لتوسع الرأسمالية األلمانية فى أوروبا' الوسطى' والشرقية‪ .‬وبالتالى فهى تقلص‬
‫األهمية النسبية ألية استراتيجية أوروبية مشتركة على المستوى السياسى كما على مستوى' االندماج‬
‫االقتصادى‪.‬‬

‫المواقف' الفرنسية أكثر تميزاً وأقل حسماً‪ .‬ففرنسا هى فى نفس الوقت بلد أطلسى ومتوسطى‪ ،‬وهى‬
‫وريث إلمبراطورية استعمارية وأحد المنتصرين فى الحرب العالمية الثانية‪ ،‬ولم تكف عن اعتبار‬
‫نفسها قوة كبيرة رغم أن الواقع االقتصادى' والمالى ال يؤمن لها فعلياً هذه الوضعية‪.‬‬

‫وقد' حاولت الحكومات الفرنسية المتعاقبة فى العقد األول بعد الحرب أن تحتفظ بالمواقع'‬
‫االستعمارية لبلدها وتحديداً' فى أفريقيا الشمالية وأفريقيا جنوبى الصحراء‪ ،‬وكذلك فى الهند‬
‫الصينية‪ ،‬عن طريق' مزايدة أطلسية معادية للشيوعية وللسوفيت‪ .‬إال أنها مع ذلك لم تحصل على‬
‫دعم صادق من واشنطن‪ ،‬كما أظهر ذلك الموقف األمريكى خالل العدوان الثالثى ضد مصر‬
‫‪ .1956‬كانت السياسة المتوسطية والعربية لفرنسا‪ ،‬بحكم الوقائع ذاتها سياسة تراجعية‪.‬‬

‫ديغول‪ ،‬من جهته تخلص من هذه األوهام االستعمارية واألمريكية التوجه فى آن معاً‪ ،‬وصاغ'‬
‫مشروعاً طموحاً‪ ،‬مثلث األبعاد‪ ،‬قوامه عصرنة االقتصاد الفرنسى‪،‬وقيادة نهج استبدال األشكال‬
‫القديمة المتخلفة لالستعمار' باستعمار جديد مرن‪ ،‬وأخيراً تغطية نقاط الضعف المالزمة ألى بلد‬
‫متوسط' مثل فرنسا' باالندماج األوروبى'‪ .‬وفى هذا الخيار األخير فهم ديغول أوروبا' بوصفها' قادرة‬
‫على تحقيق استقالليتها إزاء الواليات المتحدة ليس فقط على المستوى' االقتصادى والمالى‪ ،‬بل‬
‫وكذلك السياسى والعسكرى' فى نهاية المطاف‪ .‬كما أدرك إمكانية انضمام االتحاد السوفيتى إلى‬
‫البناء األوروبى (أوروبا من األطلسى' إلى األورال)‪ .‬وكان ديغول يستشف ‪ -‬ببعد نظر أكيد‪-‬‬
‫التليين التدريجى للنظام السوفيتى ‪" -‬التقاء النظامين"‪ -‬ولم يكن يبدو مقتنعاً بأن تصوير االتحاد‬
‫السوفيتى شيطاناً هو أمر شريف' وحسن النية‪ ،‬بل رأى فيه وسيلة تؤكد الواليات المتحدة من خاللها‬
‫هيمنتها وإ لحاق أوروبا' الغربية المرعوبة بها‪ ،‬هذا المفهوم الجيوستراتيجى' للبناء األور آسيوى فى‬
‫مواجهة القارة األمريكية الشمالية الذى لم يكن ليعجب واشنطن حتماً‪ ،‬كان يفرض اتباع سياسة‬
‫عربية من قبل فرنسا' متميزة عن المنطق العسكرى' البحت لدور منطقة المتوسط ‪-‬الخليج فى‬
‫استراتيجية حلف شمالى األطلسى‪ ،‬ومتمايزة تجاه إسرائيل‪ ،‬األداة األمريكية فى إطار هذه‬
‫االستراتيجية العسكرية‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫إال أن الديغولية لم تستمر' بعد مؤسسها' وعادت القوى السياسية الفرنسية‪ ،‬إن فى اليمين الكالسيكى‬
‫والتيارات' التى تدعى الديغولية‪ ،‬أو فى اليسار االشتراكى' وريث االنحياز لألطلسية والصهيونية‪،‬‬
‫تدريجياً' إلى المواقع السابقة على أزمة سنة ‪ 1958‬وضاقت' رؤيتهم للبناء األوروبى' إلى حدود‬
‫"السوق المشتركة"‪ ،‬والمواجهة الفرنسية األلمانية (لدرجة الشعور' بالمفاجأة والقلق فى باريس عندما‬
‫تحققت الوحدة األلمانية) وأخيراً الدعوة الملحة لبريطانيا لإلنضمام إلى السوق األوروبية المشتركة‬
‫(متناسين أن انكلترا ستكون حصان طراودة لألمريكيين فى أوروبا')‪.‬‬

‫ومن الطبيعى' أن يؤدى' هذا االنزالق' إلى تخلى فرنسا' عن أى سياسة عربية جديرة بهذا االسم أى‬
‫التخلى عن أية سياسة تتجاوز الدفاع البسيط عن المصالح االستعمارية الجديدة المباشرة فى أفريقيا‬
‫الشمالية وجنوبى الصحراء‪ ،‬حتى ولو غطيت بخطاب ثقافى عن "الفرنكوفونية"‪ .‬على المستوى'‬
‫السياسى' تتصرف' فرنسا' فى العالم العربى كما فى أفريقيا جنوب الصحراء وكأنها قوة مساندة‬
‫إضافية الستراتيجية الهيمنة األمريكية‪ .‬وفى' هذا اإلطار تحديداً يجب إعادة وضع الخطاب الفرنسى‬
‫المتوسطى الجديد الهادف إلى إلحاق دول المغرب بالقاطرة األوروبية (على طريقة إلحاق تركيا)‪،‬‬
‫بشكل يقطع الطريق' على التقارب الوحدوى' العربى‪ ،‬فى حين يترك المشرق' للتدخل اإلسرائيلى'‬
‫األمريكى'‪ .‬وال شك أن الطبقات المغربية القائدة مسؤولة عن التعاطف' الذى تبديه إزاء هذه‬
‫المشروع'‪ .‬إال أن أزمة الخليج قد وجهت ضربة جدية للمشروع' وأكدت الجماهير الشعبية فى‬
‫أفريقيا الشمالية قوة عروبتها وتضامنها مع المشرق‪ ،‬كما كان متوقعاً' منها‪.‬‬

‫ولن أتناول هنا دراسة مواقف' الدول األوروبية األخرى‪ ،‬مثل إيطاليا وأسبانيا' واليونان‪ ،‬التى قدمت‬
‫تحليالً لها فى مكان آخر ومن زاوية استراتيجية وسياسة المشروع' األمريكى' ليست المنطقة مرادفاً‬
‫للوطن العربى‪ ،‬بل تضم مجموع العالم العربى وبلدان الحوض األعلى للنيل والقرن األفريقى'‬
‫(أثيوبيا والصومال' وكينيا' وأوغندا)‪ ،‬وبلدان شواطىء الخليج وبحر' عمان (إيران‪ ،‬أفغانستان‪،‬‬
‫وباكستان')‪ .‬بوصفها مركز اإلنتاج النفطى الحيوى لبقاء الغرب والجناح الجنوبى ألوروبا' وروسيا‬
‫وقلب العالم اإلسالمى‪ ،‬وبؤرة الشعور القومى العربى‪ ،‬فإن هذه المنطقة تعتبر أساسية فى‬
‫استراتيجية الهيمنة األميريكية كما رأينا فى األقسام السابقة‪ .‬حتى اآلن كانت أوروبا تدعم مفهوم‬
‫الواليات المتحدة هذا وتنحاز إلى استراتيجيتها' وحتى إلى تكتيكها‪ ،‬وبعد حرب الخليج تعزز هذا‬
‫أكثر من أى يوم مضى‪ .‬وكانت القوى الغربية تصطدم' فى هذه المنطقة بالدعم الذى كان االتحاد‬
‫السوفيتى يقدمه للحركات القومية الجذرية حتى لحظة انهياره التى برزت جلية فى حرب الخليج‪.‬‬

‫ومن وجهة نظر الجنوب‪ ،‬فإن جيوستراتيجية الهيمنة األمريكية مرفوضة من قبل شعوب المنطقة‬
‫وحركاتها السياسية الجذرية التى تعبر عن التطلع إلى االستقالل والتطور'‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫إال أن دول العالم الثالث لم يكن لديها االتساق' االجتماعى واأليديولوجى' وال الثبات السياسى' الكافى‬
‫وال القدرة االقتصادية العسكرية التى تؤهلها لمواجهة هذه االستراتيجية باستراتيجية استقاللية‬
‫خاصة تمتلك رؤيتها' الخاصة بتنظيم' العالم‪ .‬والطبقات القائدة التى تحتكر السلطة فى معظم هذه‬
‫الدول تتخذ غالباً مواقف' كمبرادورية‪ ،‬بل وتمارس مشاركة فاعلة فى إلحاق شعوبها‪ .‬وقد' حاولت‬
‫األنظمة القومية الراديكالية التى وصلت إلى سدة المسؤولية فى السلطة هنا أو هناك أن تصد‬
‫الهيمنة األمريكية األوروبية‪ .‬وكانت أحياناً تنجح فى ذلك‪ .‬إال أن هذا النجاح كان يقع فى حدود ال‬
‫تكفى لجعل الغرب يقبل نهائياً باستقالل المنطقة‪ .‬ويبدو مع مرور' الوقت أن الدعم السوفيتى كان‬
‫يشكل العنصر' األساسى' فى هذه النجاحات المؤقتة‪.‬‬

‫وهذه المنطقة ليست متجانسة على أى صعيد وطنى أو اقتصادى' مع ذلك‪ ،‬وبالرغم من ماضيها'‬
‫الذى ال يختلف عن ماضى الشعوب األخرى‪ ،‬فإن العرب واألفارقة واإليرانيين ال يعتبرون بعضهم‬
‫أعداء تقليديين لبضعهم' اآلخر‪ .‬على العكس من ذلك فإن الثقافة السياسية التى نشرتها حركة‬
‫التحرر الوطنى بين هذه الشعوب كانت تركز دائماً على التضامن الذى يوحدها' ضد عدو مشترك‬
‫واحد‪ .‬وأكثر' هذه الثقافة ‪-‬التى تعززت خالل كل مرحلة باندونغ' (‪ -)1975 -1955‬لم يختف‪،‬‬
‫رغم أن المرحلة الراهنة تشهد بال ريب انحساراً' واضحاً للحركات القومية التقدمية‪.‬‬

‫إن النظريات السوسيولوجية المسيطرة فى الواليات المتحدة التى ال يتمايز' عنها ال محللو‬
‫الجيوسياسة وال الذين يمارسون السلطة‪ ،‬والتى تصنف العرب واألفارقة السود واإليرانيين على‬
‫أنهم "خصوم'" أبديون بعضهم' لبعض‪ ،‬واضعة فى األولوية الوعى اإلثنى الزائف قبل أى وعى‬
‫اجتماعى أو إيديولوجى آخر‪ ،‬هذه النظريات تظل على قدر كبير من السطحية بالرغم من أنها‬
‫تستعار' أحياناً من قبل الجامعيين المحليين المغتربين‪ ،‬وبالرغم من أنها تتأكد أحياناً بالممارسات‬
‫قصيرة النظر للسلطات القائمة فى أحيان أخرى‪.‬‬

‫مع ذلك ال بد من أن يؤخذ بعين االعتبار ‪ -‬حتى فى العالم العربى بمفرده ‪ -‬تنوع المواقف'‬
‫والمفاهيم وحتى المصالح‪ .‬والتعبيرات عن األزمات هى بدورها مختلفة وتتلقى بدرجات مختلفة‬
‫جداً فعل العوامل المختلفة‪ .‬فالخالفات' الكالمية مثالً أو عكسها التصريحات' الوحدوية الشمولية‬
‫وحتى إعالنات "الوحدة" التى يلجأ إليها حكام بعض البلدان العربية بصورة شبه يومية ال يجب أن‬
‫تعطى من األهمية أكثر مما تستحق' وال أن تمارس أى مفعول جدى على الشعوب العربية‪ .‬ولن‬
‫أعود هنا إلى مناقشة فى العمق لقضية "القومية العربية" التى عبرت عن رأيى بشأنها فى مجال‬
‫آخر‪ .‬أسجل فقط أنه ال بد من معرفة أن األمة العربية تمتد جذورها' فى ماض حى دائماً من جهة‬
‫وتستجيب' لتوجه موضوعى' مستقبلى من جهة أخرى‪ .‬إال أن هذه األمة ما زالت أمام ضرورة بناء‬

‫‪160‬‬
‫نفسها‪ ،‬ألن تنوع التطورات' فى الماضى ذاته‪ ،‬وخاصة تسارع تبلور تشكيالت اجتماعية جديدة‬
‫مختلفة شكلها االستعمار‪ '،‬قد أنتجا هذه الخارطة السياسية التى نعرفها' للعالم العربى الحديث‪.‬‬
‫وتمتلك الطبقات القائدة فى هذا مصالح موضوعية فى حين أن الشعوب تمتلك أقل بكثير وهى‬
‫بحاجة ماسة إلى كسر هذا القيد من أجل أن تحقق تقدماً حاسماً‪ .‬فى هذه الشروط' لن يكون النضال‬
‫من أجل الوحدة العربية فعاالً إال إذا ترافق مع االعتراف بالتنوع‪ .‬وقد' عبرت عن هذه الضرورة‬
‫عندما نعت األمة العربية بكونها' حقيقة تاريخية واجتماعية وأيديولوجية ذات مستويين يجد الوعى‬
‫انعكاسهما' فى التعبيرين العربيين "القطر" و "القوم"‪ .‬ما هى هذه التنوعات الرئيسية التى يجب أن‬
‫تؤخذ فى االعتبار وماذا يمكن أن تجر من خصومات؟'‬

‫‪ ‬‬

‫سأعدد هنا فقط بعضها مثل‪-:‬‬

‫أ‪-‬االختالفات فى منطقة المغرب وعالقاته الداخلية (الخصومة الجزائرية‪ -‬المغربية)‪.‬‬

‫ب‪-‬االختالفات المتعلقة بالروابط الصحراوية مع السودان‪.‬‬

‫ج‪ -‬االختالفات المتعلقة بمسألة مياه النيل‪.‬‬

‫د‪ -‬االختالفات المتعلقة بالسيطرة على البحر األحمر‪.‬‬

‫هـ‪ -‬االختالف''ات المتعلقة بقس''مة الهالل الخص''يب إلى دول خمس (س''وريا ولبن''ان وفلس''طين واألردن‬
‫والعراق')‪.‬‬

‫و‪ -‬االختالفات المتعلقة بالتناقض بين اليمن والعربية السعودية فى شبه الجزيرة‪.‬‬

‫ز‪ -‬االختالفات المتعلقة باإلشراف' على الخليج ("الخصومة" العربية "اإليرانية")‪.‬‬

‫بالطبع ال يمكن معالجة هذه المشاكل بذاتها فى معزل عن ارتباطها بسياسة القوى وتحديداً‬
‫بسياسة الهيمنة األمريكية‪ .‬من وجهة النظر هذه تفرض المشكلة اإلسرائيلية نفسها بوصفها المحور‬
‫المركزى' الفعلى لكل مسألة الشرق‪ ،‬العربى واألوسط‪.‬‬

‫ومن الواضح أن كل الصراعات واألزمات التى نحن بصددها' هنا سواء أكانت األزمات‬
‫االجتماعية والسياسية الداخلية الخاصة بكل بلد فى المنطقة أو حاالت الخصومة والتحالف' التى‬

‫‪161‬‬
‫تشكل هندسة جيو ستراتيجيتها'‪ -‬تطورت على خلفية شبكة ينسجها توسع الرأسمالية الطرفية‪ .‬أى‬
‫"الفشل" الذى أصاب تطورها' العاجز بطبيعته عن إشباع الحاجات األساسية للطبقات الشعبية‪،‬‬
‫والعاجز' عن إيصال دول وأمم المنطقة إلى مستوى' الشركاء الفعليين فى النظام العالمى الذى‬
‫تنخرط' فيه‪ .‬وفى' هذه الحال ستحدد اإلجابات السياسية واأليديولوجية لشعوب الجنوب مستقبل هذه‬
‫المنطقة وموقعها' فى العالم‪ ،‬تحديداً بعد أن استنفدت القومية الجذرية (الناصرية فى العالم‬
‫العربى)‪ ،‬واالشتراكية القائمة فعلياً فى االتحاد السوفيتى السابق‪ ،‬دورها' التاريخى'‪ .‬إن طبيعة‬
‫التحدى المعاصر ستكون إما وهماً إسالمياً أصولياً‪ ،‬أو تبلور مرحلة جديدة على مستوى' الوقائع'‬
‫الجديدة‪ ،‬وهى ما أسميها بالوطنية الشعبية‪.‬‬

‫وقد' شكلت حرب الخليج نموذجاً رهيباً لضعف إجابات العالم العربى وإ يران وبلدان القرن‬
‫األفريقى‪ ،‬وكذلك للعالم الثالث إجماالً‪ ،‬إزاء تحدى "حرب المئة سنة" الجديدة التى تستعد الرأسمالية‬
‫المركزية للغرب المتقدم ألن تخوضها' ضد شعوب األطراف' اآلسيوية واألفريقية واألمريكية‬
‫الالتينية‪ ،‬تحت رايات وقيادة الواليات المتحدة العسكرية‪.‬‬

‫وقد' سبق أن قدمت فى مكان آخر وبشىء من التفصيل تحليالت نقدية ‪ -‬شارحة فى بعض‬
‫الحاالت‪ -‬للمواقف التى اتخذتها الدول العربية والدول األخرى المعنية‪ -‬إيران ودول القرن‬
‫األفريقى' وبعض دول أفريقيا جنوب الصحراء‪ -‬فى شؤون عالقاتها' المتبادلة‪ .‬ولألسف وفى‬
‫العديد من الحاالت المذكورة توصلت إلى استنتاج مر‪ ،‬أال وهو هذه الممارسات' والمواقف‬
‫الشوفينية قصيرة النظر قد ساعدت انتشار' نفوذ االستعمار' فى المنطقة‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫التطورات األخيرة‪ :‬تجديد أم أزمة المشروع األمريكى؟ أفول المشروع األوروبى؟‬

‫‪ ‬‬

‫النضال المطلوب من أجل عولمة متعددة القطبية‬

‫‪ ‬‬

‫‪162‬‬
‫يزعم والرشتاين فى كتاباته األخيرة أن مرحلة الهيمنة األمريكية الحقيقية قد انتهت بسقوط‬
‫االتحاد السوفيتى' فدخلت فى مرحلة أزمتها األخيرة‪ .‬ويقدم والرشتاين تفسيراً لهذه المفارقة البينة‬
‫قد يستحق النقاش‪ .‬يقوم هذا التفسير على النقاط التالية‪-:‬‬

‫أوالً‪ :‬إن مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (‪ )1990-1945‬لم تتسم باألساس بالثنائية‬
‫الظاهرة بل اتسمت بهيمنة أمريكية كادت أن تكون شاملة بالرغم من أنها تركت مساحة استقالل‬
‫ذاتى لالتحاد السوفيتى على شرط أن ال يخرج هذا األخير عن منطقة النفوذ المسموح له‪  ،‬وأن‬
‫ديبلوماسية موسكو' قد أدركت تماماً حدود حريتها' فى التحرك فتحركت' فعالً فى سياق واشنطن‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬إن األسباب التى ضمنت للواليات المتحدة هذه الهيمنة قد تآكلت فى المجال االقتصادى‬
‫حتى لم يعد لها وجود'‪ .‬فأوروبا (وكذلك اليابان) أصبحت قوة اقتصادية كسبت قدرة تنافسية فى‬
‫مواجهة الواليات المتحدة وبالتالى صارت قادرة على السعى إلى تحقيق مصالحها ولو تعارضت'‬
‫فى هذا اإلطار مع خطط واشنطن‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬إن المرحلة القادمة سوف' تتصف' إذن باحتداد المنافسة بين قطبين (األمريكى'‬
‫واألوروبى') ‪ -‬أى بمعنى آخر سوف' تكون مرحلة ثنائية القطبية بالمعنى الصحيح‪ .‬بعبارة أخرى‬
‫سيكون النظام العالمى قد عاد إلى قاعدة غياب الهيمنة‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬أن جميع القوى األخرى (اليابان‪ ،‬الصين‪ ،‬روسيا‪ ،‬العالم الثالث) سوف تضطر إلى‬
‫الدخول تحت مظلة إحدى الكتلتين‪ ،‬وأن االحتمال الغالب ‪ -‬فى رأى والرشتاين‪ -‬هو أن تلحق‬
‫روسيا' بصفتها طرفاً من الصف األول بالقطار األوروبى‪ '،‬بينما سيتعزز التحالف األمريكى'‪-‬‬
‫اليابانى جاراً من ورائه الصين‪ ،‬وأن المناطق' األخرى للعالم الثالث ستهمش إلى حد كبير‪.‬‬

‫لى تحفظات عديدة بالنسبة لهذا التحليل هى باألساس‪-:‬‬

‫أوالً‪ :‬إن مغزى التناقضات' بين "االشتراكية القائمة بالفعل" والرأسمالية خالل العقود التى‬
‫سبقت انهيار السوفيتية والماوية قد تجاوز' مجال الثنائية العسكرية ليشمل مجاالت السياسة حتى‬
‫شجعت حركات اجتماعية احتلت مقدمة المسرح خالل الفترة المذكورة‪ ،‬وال سيما حركات التحرر‬
‫الوطنى' فى العالم الثالث‪ ،‬فأدت إلى تطورات عميقة فى بنية المنظومة العالمية نفسها‪ ،‬وهى‬
‫تغيرات تحول دون العودة إلى ما قبلها‪ .‬أقول إذن أن فرضية العودة إلى نموذج المنافسة بين قوى'‬
‫استعمارية كبرى تتجاهل ردود' الفعل من قبل الشعوب ضحايا العولمة المعنية‪ ..‬هى فرضية‬
‫ضعيفة‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫ثانياً‪ :‬إن الواليات المتحدة ‪ -‬ولو إنها فقدت بالفعل أسبقيتها االقتصادية المطلقة التى اتصفت‬
‫بها فى أعقاب الحرب العالمية الثانية ‪ -‬تحتفظ بموقع عسكرى ال مقابل له على الصعيد‬
‫األوروبى‪ .‬وإ ن ديبلوماسية واشنطن قد أدركت تماماً فعالية هذا السالح من أجل تحويل المنافسة‬
‫االقتصادية لصالحها كما سنرى فيما يلى‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬إن التوظيف الماهر لهذا السالح ‪ -‬من خالل التدخل المباشر' فى شؤون أوروبا‪ -‬قد أتى‬
‫بثماره‪ ،‬على األقل فى األجل القصير‪ ،‬إذ أدى إلى احتداد حدة التناقضات' داخل أوروبا وإ لى‬
‫تعميق الفجوة بين أوروبا' وروسيا‪ .‬وليس هناك ما يدل على أن هذه اإلنجازات للخطة األمريكية‬
‫ستكون مؤقتة فقط‪ .‬فإذا استمرت األوضاع على ما هى عليه حالياً لتبلور' بالتدريج نمط آخر من‬
‫العولمة ‪-‬يختلف بالجوهر' عن نمط الثنائية الذى يتصوره والرشتاين‪ -‬ومن التناقضات الرئيسية‬
‫المترتبة عليها‪ .‬أطرح إذن نمطاً آخر يتصف باحتداد التناقضات' بين المراكز الثالثة المتحالفة من‬
‫جانب وبين األطراف‪ ،‬وال سيما الصف األول منها الذى تنتمى إليه روسيا' والصين والهند من‬
‫الجانب اآلخر‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬إن دخول الصين فى سياق تحالف عظيم يضم اليابان وراء الواليات المتحدة يبدو لى‬
‫قليل االحتمال‪.‬‬

‫وأطرح إذن منهجاً آخر لتحليل الواقع الراهن واحتماالت المستقبل‪ .‬وذلك على ضوء‬
‫التطورات' األخيرة‪ ،‬اقصد الهجوم المعاكس الذى قامت به الواليات المتحدة من أجل تكريس‬
‫سيادتها' على أوروبا' نفسها‪.‬‬

‫أبدأ بلفت النظر إلى أن العولمة الليبرالية السائدة حالياً ليست "عولمة اقتصادية" بحتة‪ ،‬مستقلة‪،‬‬
‫عن إشكالية الهيمنة‪.‬‬

‫أذكر بهذا الصدد مقاالً بالغ األهمية كتبه توماس فريدمان‪ ،‬أحد مستشارى' السيدة مادلين‬
‫اولبرايت فى مجلة النيويورك' تايمز مجازين بتاريخ ‪ .28/3/1999‬فيكتب بالحرف ما يلى‪:‬‬

‫"لن تكون فعالية لليد الخفية للسوق دون جمع كف خفى هو اآلخر‪ .‬فلن يكون ماكدونالد مربحاً‬
‫دون ماكدونيل' دوجلس‪ ،‬صانع الـ ف‪(  15-‬الطائرة الحربية المعروفة)‪ .‬وإ ن الكف الخفى الذى‬
‫يجعل العالم آمنا لتكنولوجيات سيليكون فله اسم هو الجيش والطيران والبحرية والمارين كور‬
‫للواليات المتحدة"‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫العالمية! نرى أن‬
‫‍‬ ‫فلنتمتع بخيار المثل اللذيذ‪ ،‬أى اعتبار أرباح مكدونالد' معياراً لتقدم الحضارة‬
‫النخبة األمريكية الحاكمة تعلم تماماً أن الخطاب السائد الذى يزعم أن األسواق' تضبط' من تلقاء‬
‫نفسها وأن سيادتها المطلقة دون قيود' تنتج تلقائياً الديموقراطية والسالم‪ ،‬إنما هو خطاب‬
‫أيديولوجى مبتذل ال أساس علمياً له‪ .‬وما يجب أن يستنتج من هذا االعتراف العجيب إنما هو أن‬
‫الواليات المتحدة سوف توظف موقعها العسكرى االستثنائى من أجل إخضاع الجميع (أى أوروبا'‬
‫أيضاً) لمقتضيات ديمومة مشروعها للسيادة العالمية‪ .‬بمعنى آخر لن تكون هناك "عولمة"‬
‫(بالمضمون األمريكى) دون امبراطورية عسكرية أمريكية‪.‬‬

‫وتقوم' هذه االستراتيجية العسكرية‪ /‬السياسية على ثالثة مبادىء هى اآلتية‪-:‬‬

‫أوالً‪ :‬إحالل الناتو محل األمم المتحدة بصفتها مؤسسة مسئولة عن إدارة السياسة العالمية‬
‫وضمان السالم‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬تكريس التناقضات' فى داخل أوروبا' من أجل إخضاعها لمشروع واشنطن‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬خيار منهج عسكرى يكرس "الميزة" المقارنة التى تستفيد الواليات المتحدة منها وهو‬
‫القصف الجوى دون التعرض للحد األدنى من الخطر واالمتناع' عن إنزال قوات عسكرية برية‬
‫أمريكية‪ .‬وقد تقوم القوات األوروبية المرؤوسة بهذا الدور إن لزم األمر!‬

‫رابعاً‪ :‬توظيف قضايا "الديموقراطية" و "حقوق الشعوب" لصالح الخطة األمريكية وذلك طالما‬
‫أتاحت الظروف استغاللها فى خطاب موجه للرأى العام‪.‬‬

‫أقول إن لهذه الخيارات الواضحة نتائج بالغة الضرر'‪ .‬فهى أساليب تلغى كل مصداقية‬
‫للخطاب من أجل الديموقراطية وحقوق الشعوب بسبب اعتماده على قاعدة "الكيل بمكيلين"‪ .‬فهناك‬
‫نظم غير ديموقراطية يجب أن تحاكم إذا وقفت عقبة فى سبيل تنفيذ المشروع األمريكى‪ ،‬وهناك‬
‫نظم غير ديموقراطية هى األخرى لن تعاقب طالما أنها ال تهدد مصالح رأس المال المهيمن‬
‫للشركات متعدية الجنسية‪ .‬هناك شعوب يجب أن تحترم' حقوقها'‪ -‬مثل شعب كوسوفو اليوم وشعب‬
‫التيبت غداً ‪-‬وشعوب أخرى ال حق لها ‪ -‬مثل الشعب الفلسطينى أو أكراد تركيا… الخ‪.‬‬

‫ولألسف' الشديد فإن هذه الممارسات' تفرغ خطاب الديموقراطية من كل مصداقية‪ ،‬ويتم ذلك‬
‫طبعاً على حساب الدمقرطة المطلوبة‪ .‬أقول إذن إن النضال من أجل الديموقراطية يقتضى‬
‫بالضرورة محاربة الهيمنة األمريكية‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫وهى أيضاً أساليب تسعى إلى تفكيك المشروع' األوروبى‪ .‬وأطرح هنا السؤال اآلتى‪ :‬هل دخل‬
‫المشروع' األوروبى فى مرحلة األفول؟‬

‫سبق أن أشرت إلى غياب تبلور' مواقف' أوروبية سياسية موحدة حقيقية‪ ،‬أى غير متمشية مع‬
‫أهداف الخطة األمريكية‪ ،‬فقلت إن بريطانيا سوف تظل تقتفى أثر واشنطن دون تحفظ كأنها‬
‫بالنيابة! كما قلت أن ألمانيا أصبحت ال‬
‫‍‬ ‫تعوض اختفاء هيمنتها العالمية الماضية بتجديد معيشتها'‬
‫تعلق أهمية كبرى على المشروع' األوروبى‪ ،‬بل تعطى األولوية لسياسة توسعية نحو شرق‬
‫وجنوب شرق أوروبا‪ .‬وأن الواليات المتحدة ترحب بهذا الخيار فى مقابل أن تسير ألمانيا فى‬
‫سياق واشنطن على صعيد السياسة العالمية‪.‬‬

‫ما مغزى هذه الوقائع؟' أليست هى دالئل قاطعة على أن النظم األوروبية ال تعطى فى واقع‬
‫األمر األولوية للمشروع' األوروبى نفسه‪ ،‬أقصد كمشروع' سياسى' يسعى إلى تجاوز حدود‬
‫المشروع' كما هو عليه حالياً‪ ،‬وهو مشروع سوق اقتصادية مشتركة بحتة وال أكثر‪ .‬أليس معنى‬
‫ذلك أن الوعى السياسى' لدى شعوب أوروبا' لم يتح بعد تخطى مفهوم "أوروبا' القوميات" `‪L‬‬
‫‪ Eyrope de Natn‬كما يقال‪.‬‬

‫أعتقد أن هذه الحقائق التى يتمظهر' من خاللها ضعف المشروع' األوروبى ال تعمل فى‬
‫صالحنا‪ ،‬إذ تعمل لصالح المشروع األمريكى‪ .‬لذلك ال أشارك رؤية والرشتاين القائمة على‬
‫فرضية وجود حقيقى وفعال' للمشروع' األوروبى حتى يتخطى البعد المركنتيلى البحت للسوق'‬
‫المشتركة فيجعل من أوروبا' قوة سياسية موحدة فعالة‪.‬‬

‫بل أذهب إلى أبعد من ذلك وأزعم أن المشروع' األوروبى لن يكون إال إذا اكتسب مضموناً'‬
‫اجتماعياً تقدميا‪ ً،‬أى إال إذا تطور ميزان القوى نحو حلول يسارية حقيقية ليست هى الخيارات‬
‫التى اتخذتها قوى اليسار األوروبى كما هى حتى اآلن‪ .‬هذا هو الشرط الذى ال مفر منه لكى‬
‫يندرج المشروع األوروبى' فى تطلع يسعى إلى إعادة بناء عالم متعدد القطبية بالمعنى الصحيح‪.‬‬
‫فإذا توافر هذا الشرط الستطعنا' أن نتصور مواقف أخرى من قبل أوروبا' فى مواجهة روسيا‬
‫والصين والعالم الثالث بشكل عام والعالم العربى بشكل خاص‪ .‬أقصد' مواقف' تنبع من تفاهم ودى‬
‫فتحترم استقاللية البالد واألقاليم المذكورة‪ ،‬وتحل محل المواقف' العدوانية السائدة فى ظل‬
‫الخضوع' للمشروع' األمريكى'‪ .‬أتمنى ذلك ولكن أعتقد أن طريق الوصول إليه ال يزال طويالً‪،‬‬
‫بالرغم من أنه احتمال موجود بسبب وجود تراث تاريخى إنسانى واشتراكى فى أوروبا ال مثيل‬
‫له فى أمريكا الشمالية‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫لذلك تفكر الواليات المتحدة اليوم فى تعميم "منهج كوسوفو" واستخدام' وسائل متماثلة من أجل‬
‫فرض سيطرتها فى مناطق' أخرى "للشرق"‪ -‬ويكتب بهذا الصدد السيد هنتر‪ ،‬السفير السابق‬
‫للواليات المتحدة لدى ناتو من عام ‪ 1993‬إلى عام ‪ 1998‬فى مجلة واشنطن بوست بتاريخ ‪21‬‬
‫أبريل ‪ 1999‬ما يلى (بالحرف)‪:‬‬

‫"يمثل (كوسوفو') المدخل لمناطق أخرى ذات أهمية بالغة بالنسبة إلى المصالح الغربية ‪-‬‬
‫منطقة النزاع العربى‪ /‬اإلسرائيلى‪ '،‬العراق‪ ،‬إيران‪ ،‬أفغانستان‪ ،‬بحر القزوين ودول القوقاز'‪ .‬ويجب‬
‫اعتبار االستقرار' فى جنوب شرق أوروبا شرطاً ضرورياً من أجل حماية المصالح الغربية‪ ،‬ودرء‬
‫مخاطر' قادمة من أبعد نحو الشرق"‪.‬‬

‫مرة أخرى ال إشارة هنا إلى الديموقراطية‪ ،‬وال إلى حقوق أكراد تركيا أو عرب فلسطين على‬
‫سبيل المثال‪ .‬فاإلشارة الوحيدة تخص "المصالح" أى النفط واألنابيب وأرباح مكدونالد‍'!‬

‫أعتقد أن لهذا التصريح أيضاً خطورة بالغة بالنسبة إلى المشكلة التى نحن بصددها' هنا‪ ،‬أى‬
‫مستقبل فلسطين‪ .‬فما معنى هذه الكلمات؟ أتصور أن ال أحداً منا يفهم منها أن الواليات المتحدة‬
‫تتجه نحو قصف' إسرائيل بالقنابل حتى تقبل سلماً حقيقياً يضمن االعتراف بالدولة الفلسطينية‬
‫وعودة الالجئين العرب إلى وطنهم األصلى (وهى الحجة التى يقدمها ناتو لتبرير' تدخله فى‬
‫كوسوفو‍')‪ .‬فالتصريح يعنى إذن أن واشنطن ستسعى' إلى "التخلص" من تلك القوى العربية التى‬
‫تقف "عقبة" فى سبيل تحقيق السلم (اإلسرائيلى بالطبع)‪ .‬وما هى تلك القوى؟ حزب اهلل فى جنوب‬
‫لبنان‪ ،‬وسوريا' بالقطع‪ .‬فال بد أن ندرك تماماً أن واشنطن تتجه اآلن نحو ضرب هذه القوى‪ .‬وال‬
‫شك أن اإلدارة األمريكية ستوظف' بهذه المناسبة الحجج السهلة المعروفة مثل "تعصب" حزب اهلل‬
‫وغياب الديموقراطية فى سوريا'‪ .‬مرة أخرى نشاهد هنا العمل طبقاً لمبدأ "الكيل بمكيلين"‪ .‬إذ ال‬
‫ترى واشنطن مانعاً فى تسليم الحكم للحركات اإلسالمية (غير الديموقراطية) طالما أنها ال تهدد‬
‫تلك "المصالح الغربية" المذكورة‪ .‬فالحركات' اإلسالمية الوحيدة التى تحاربها' الواليات المتحدة هى‬
‫حماس فى فلسطين وحزب اهلل فى لبنان‪.‬‬

‫لعل قارىء هذه السطور سوف يتوصل إلى نتيجة بالغة التشاؤم فيذهب إلى أن الهيمنة‬
‫األمريكية لن تُقهر أبداً‪ .‬وفى مجال المشكلة التى نحن بصددها هنا‪ ،‬أى مستقبل فلسطين‪ ،‬لعله‬
‫سوف' يستنتج أن ال بديل لاللتجاء إلى الواليات المتحدة آمال أن تتوفر' لديه قدرة على إقناع‬
‫واشنطن "بالضغط على إسرائيل"‪ .‬وقد تمظهر هذا األسلوب فى الدعوة المعروفة إلى مصادقة‬
‫واشنطن ألن" ‪ %90‬من األوراق' فى أيديها" كما قيل‪ .‬لقد أثبتت التطورات' الالحقة أنه أسلوب‬

‫‪167‬‬
‫غير نافع‪ ،‬بل شجع الصهيونية على مزيد من التوسعية والعجرفة وتكريس التحالف اإلسرائيلى'‪/‬‬
‫األمريكى'‪.‬‬

‫ليس للهيمنة األمريكية تلك القوة المطلقة‪ ،‬بالرغم من الظاهر‪ .‬ولعل والرشتاين على صواب‬
‫عندما يزعم أنها تواجه صعوبات' متصاعدة وأن هجومها المعاكس الحالى يقوم دليالً على ضعف‬
‫موقفها' الحقيقى‪ ،‬فهو رد فعل على تطورات أدركت واشنطن أنها تهدد بالفعل ديمومتها‪.‬‬

‫إن نقاط الضعف فى االستراتيجية األمريكية واضحة تماما‪ .‬فهناك ذلك الموقف' الشاذ من‬
‫الجمهور' األمريكى' الذى يقبل الحرب طالما ال يتعرض "أوالده" لخطر القتل! هذا الموقف' يشل‬
‫فعالية استراتيجية واشنطن فيضعها' مشروطة بمشاركة قوى حليفة مرؤوسة يطلب منها القيام‬
‫"بالعمل القذر" أى إنزال قوات برية تتعرض للمخاطر' الطبيعية فى أية ممارسة لعمليات حربية‪.‬‬

‫ثم هناك الوضع المالى المزعزع لالقتصاد' األمريكى' الذى يتسم باالعتماد على التمويل‬
‫الخارجى' اعتماداً كامالً كى يعوض انعدام قدرته على توفير حد أدنى من االدخار‪ .‬فاالستهالك'‬
‫الخاص والعام (ويشمل النفقات الحربية) يمتص الدخل القومى بالكامل ‪ ،‬وهو وضع ال مثيل له‬
‫سوى فى عدد البالد التى تقع فى أسفل هرم المنظومة العالمية‪ .‬وفى' هذه الظروف' تضطر' اإلدارة‬
‫األمريكية التى تحميل حلفائها بأعباء الحروب المطلوبة من أجل ضمان ديمومة هيمنتها‪ ،‬ولئن‬
‫كان مثل هذا الطلب لم يصطدم بعقبة تذكر بالنسبة إلى حرب الخليج حيث أن الدول النفطية‬
‫غطت نفقاتها بالكامل‪ .‬إال أن األمر سوف يختلف بالتأكيد' بالنسبة إلى حروب أخرى فى يوغسالفيا‬
‫مثالً‪ .‬فإذا فرضت أوروبا' مشاركة الواليات المتحدة فى تمويل هذه الحروب ألدى ذلك بالضرورة‬
‫إلى احتداد حدة األزمة األمريكية‪ ،‬ومن ثم تهديد مكانة الواليات المتحدة فى االقتصاد العالمى‪.‬‬

‫أتصور' أن هذه العوامل معاً يمكن أن تجبر واشنطن على إعادة النظر فى مدى طموحاتها‪.‬‬
‫هنا يقع التباين بين المجتمع األمريكى' وطبقته الحاكمة وبين المجتمع األلمانى النازى‪ .‬فالقيادة‬
‫النازية لم تتردد' لحظة عند تحديد طموحاتها' الجنونية وغير المتمشية مع قدرتها الحقيقية‪ ،‬حتى‬
‫ذهبت فى حرب كان البد أن تخسرها‪ ،‬هذا بينما مرونة القيادة األمريكية تتيح لها مساحة للتراجع‬
‫أمام صعود' القوى المعارضة لمشروعها األقصى‪ .‬والعبرة التى أستنتجها من هذه المالحظة هى‬
‫أن الصمود' فى مواجهة المواقف العدائية األمريكية هى الوسيلة الصحيحة والفعالة للتغلب على‬
‫عجرفتها الطبيعية‪ ،‬بينما التنازل أمامها يشجعها ويدعو دائماً إلى مزيد من التنازل‪.‬‬

‫استنتج من هذا التحليل االستنتاجات الثالثة اآلتية‪-:‬‬

‫‪168‬‬
‫أوالً‪ :‬إن المطلوب هو إعادة بناء كتلة دولية ترفض الخضوع' لخطط الهيمنة األمريكية‪ .‬لعل‬
‫كتلة عدم االنحياز' وسكرتارية مجموعة الـ ‪ 15‬يمكن أن توفر اإلطار المناسب للبدء بإنجاز هذه‬
‫المهمة‪ .‬لذلك أعطى األولوية األولى للنضال من أجل إنعاش هذه الكتلة وصياغة برنامج عمل‬
‫على قدر التحديات الخاصة بالمرحلة التى يجتازها للعالم‪ .‬أطرح بهذا الصدد اقتراحاً يسعى إلى‬
‫إضفاء مفهوم جديد للجبهة المطلوبة حتى تصبح "كتلة عدم االنحياز فى مواجهة العولمة"‬
‫(األمريكية بالطبع)‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬إلى أن تتحقق بعض اإلنجازات فى االتجاه المرسوم' أعاله اعتقد أن االستراتيجية‬
‫الوحيدة الممكنة بالنسبة إلى قضية الصراع العربى ‪ /‬الصهيونى' هى استراتيجية قائمة على مبدأ‬
‫الصمود' ‪-‬علماً بأن الصمود' ال يعنى االمتناع عن العمل والنضال' بل يحدد أشكاالً وتكتيكات'‬
‫خاصة فى قيادة النضال‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬إن المجتمع العربى – بأوضاعه الراهنة ‪ -‬غير قادر على أن يستفيد من تراجع احتمالى‬
‫للمشروع' األمريكى‪ ،‬وهو الهدف الذى نسعى إليه من خالل النضال على الصعيد العالمى‬
‫المذكور'‪ .‬فهو مجتمع مريض منذ قرون لدرجة أنه غير قادر' حتى على إدراك مغزى التحدى‪ ،‬بله‬
‫مواجهته‪ .‬ومن هنا أعطى األولوية األولى إلى إنجاز اإلصالح الداخلى الضرورى'‪ .‬فاإلصالح‬
‫المقصود هنا يتطلب اإلبداع بشجاعة فى جميع مجاالت الحياة االجتماعية‪ ،‬ولن يكون هناك إبداع‬
‫دون دمقرطة وإ لغاء كل قيود اإلرث السلفى التى تقف عقبة فى سبيلها‪.‬‬

‫هذا ولن أتناول هنا مناقشة هذه االقتراحات' التى تمثل فى حد ذاتها موضوع حوارات عديدة‬
‫أخرى‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫المراجع‬

‫‪ ‬‬

‫‪   -1‬المفاهيم العسكرية والسياسية األمريكية‪.‬‬

‫‪169‬‬
.)‫ وثائق' رسمية (كونجرس ومجلس الشيوخ‬   -I

"National security strategy, Hearings before the Committee on Armed


services", US Senate, 100 th Congress, Washington DC 1987.

"Discriminate Deterrence, Report of the Commission on Integrated Long Term


strategy", Washington DC, Jannuary 1988.

"Sources of Change in the future security Environment, Integrated Long Term


Strategy", Washington DC, April 1988.

"Commitment to freedom security Assistance as a Us policy Instrument in the


Third World", Washington DC, May 1988.

:Supporting US strategy for Third world conflict", Washington DC, June 1988.

"US Sea control Mission", Us congressional Budget Office, Washington DC,


1977.

"Sha[ing the General purpose Navy of the Eighties", Congressional Budget


Office, Washington DC, 1980.

"US Department of Defense", Annual Report to the Congress.

‫دراسات عامة‬-‫ب‬

JOXE Alain, Le Cycle de la dissuasion 1945- 1980, La Decouverte, Paris,


1985.

JOXE Alain, pierre Metge et Alberto SANtOS, Eurostrategies Americans, 


CIRRES, Paris, 1987, Chairs d`Etudes strategiques.

METGE Pierre, La doctrine American d`intervention dans la cries des


representations, a partite.

SANTOS Alberto, "Quelques elements sur les implications de la strategy 


maritime American en Europe", Etudes Internationals, vol. XVIII, n  4, 1987.

‫ دراسات خاصة المجاالت المدروسة‬-‫ج‬

Revues analyses: foreign Affairs, Foreign policy, Military Review, the


Washington Quarterly, Adolph Papers, National Defense, Strategic Review,
NATO Review, Defense, Armed Forces.

Regalement: sipri Year book, Stockholm International Peace Research Institute,


Military Balance.. (annual), International Institute for Strategic Studies.

170
 

‫أهم الدراسات األمريكية‬

BRZEZINSKI Zbignew, "America`s New Geostrategy", foreign Affairs, Spring


1988.

Bull Medley :sea power and political Influence", Adelphi papers, n 122, 1976.

CALLEO David, "Beyond American Hegemony, the future of the Western


Alliance", NY Basic Books 1987.

COLTRELL Alvin and MOORER Thomas, "US overseas Bases", Beverly


Hills 1977.

DUFFY Gloria and LEE Jennifer, "The Soviet Debate on Reasonable


Sufficiency", Arms Control Today, October 1988.

DUNN K. A. and STANDEMAYER W.J., "Strategy for Survivable", F.A,. fall


1983.

DUNN K.A. and STANDEMAYER W.J., "Strategic Implications on the


Continental maritime Debate", The Washington papers n 107, 1984.

ENTWOVEN Alain, "US forces in Europe", F.A. April 1985.

FRIEDMAN N., "Us Maritime Strategy", International Defense Review, n 7,


1985.

GARTHOFF Raymond, "New Thinking in Soviet Military Doctrine", The


Washington Quarterly, summer 1988.

171
GRAY Colin, "The Geopolitics of Superpower", UP of Kentucky, 1988.

HASELKORN Avidgor, "the Evolution of Soviet Security Strategy", 1965-


1975, Crane Russak 1978.

HUTINGTON Samuel (ed), "The Strategic Imperative", Camb Mass, Ballinger


1982.

KENNEDY Floyd, "Naval Strategy for Next Decade", National Defense, April
1983.

KISSINGER Henry, "Cyrus Vance, Bipartisan Objectives for American


Foreign policy", F.A, Summer 1988.

KLARE Michael and KORNBLUH peter (eds), Low Intensity Warfare,


Pantheon Books 1988.

LANABEE Stephen, "Gorbatchev and the Soviet Military", F.A., Summer


1988.

LEHMAN John, "Rebirth of a US Naval Strategy", Strategic Review, 9,


Summer 1981.

MACDONALD Admiral Wesley, "The Growing Warsaw Pact Threat to Nato


Maritime Forces", NATO Review, vol. 32, June 1984.

NYE Joseph, "Understanding US Strength", Foreign policy, n 72, 1988.

OVE Kenneth and others, Eagle Resurgent? The Reagan Era in American
foreign policy, Boston, Brown and Cy, 1987.

RECORD j. and HANKS R., US Strategy at Gross- Roods, Camb. Inst. For
foreign policy Analysis, 1982.

ROGERS General B., "The Atlantic Alliance, Prescriptions for a Difficult


Decade", F.A., Summer 1982.

SARKESIAN Sam, "The Myth of US Capability in Unconventional Conflicts",


Military Review, September 1988.

STEINBURNER John D., restructuring American Foreign policy, The


Brooking Inst. Washington DC, 1988.

TILLSON John C.F., "The forward Defense of Europe", Military Review, n 5


May 1981.

172
TURNER Stenciled and THIBAULT George, "A next Military Strategy", F.A.,
1982.

VAN EVERA Stephen, "American Strategic interests", Camb Mass (mimeog.).

WEST Francis J., "Defense and Security Beyond Europe", Defense, May 1983.

WILLIAMS John, "US Navy Mission and force Structure, A critical


Reappraisal", Armed forces, July 1981.

.WROMWELL William, Europe and the Structure of peace, Orbis, 22-1-1978

‫ المفاهيم األوروبية‬  -2

‫ دراسات عامة‬   -I

AGUIRRE Mariano et MONTOYA Roberto, Espanay su projection en el


Mediterranean occidental, nov. 1990.

 PALIDDA Salvatore, "Les changements intervenes dans la defense Italian

a partir des annees 1970", Revue Defense National, Cirpes.

SANGUINETTI Amiral Antoine, L`interet strategique de la Mediterranee, doc.


Roneote, December 1979.

SANTOS Alberto, "La peninsula Iuso- iberique, Anjou strategique", Cashier n


18 FHEDN, 1981.

SANTOS Alberto, :Le basculement veers le Sud de la politique de defense de


L`Espagne", Etudes Internationals, n 3, September 1985.

‫دراسات خاصة‬-‫ب‬

ALONSO BAQUER Miguel, Estrategia para la defense, Inst. De Est.


Economics, Madrid 1988.

ALONSO ZALVIDAR Carlos, "politica espanola de paz y seguridad",


Cauldrons y debates, n 4, Centro de Estudios Constitutionals, Madrid 1987.

BUSQUETS Julio, Pronunciamentos y golpes de esado Espana, Ed. Planeta,


1982.

DIAZ D` ALEGRIA General, Ejercito y sociedade, Ed. Alianza 1972.

173
HEIBERG William, The 16 th Nation, Spain`s role in NATO, Nat. Def. Univ.
press, Washington 1983.

JORDAN GALDUF Joseph Maria,  Espana frente a los terceros paises


,mediterraneos, Valencia 1989.

LOPEZ DE LA TORRE Salvador, "factors politicos de equilibrio", Cauldrons


de estrategia, n 20, Madrid, Mayo 1990.

LOPEZ DE SEPULVEDA Francisco,  Statement, Seminar on Miliary Doctrine,


Inst. For Military Security policy, Vienna 1990.

MANWARING Max G. et SABROSKY Alan N., "Iberia`s role in NATO`s


future", parameters, vol XVI, n 1, 1986.

MORON M., "L`Espagne et I`Europe", politique etrangere, n 1, 1984.

NUNEZ Melchor, La neutralized de Canaries, Revolution, Madrid 1986.

RODRIGUEZ DE MINON Miguel Herrero, final Report of the Sub committee


on out of Area Security challenges to the Alliance, North Atlantic Assembly,
May 1989.

SAPATIELLO Luigi, "La structure de L`OTAN doit- elle etre rema- niee?",
Revue de L`OTAN, nos 3 et 4, 1984.

TORTOSA J.M., El Cambio y la Modernization, OTAN, CEE, Inst. Juan Gil-


Albert, Alicante 1985.

TREVERTON Gregory F., Spain: "Domestic politics and Security policy",


Adelphi papers, n 204, 1986.

‫ المفاهيم العربية‬  -3

.1992 ‫ دار الفارابى‬،‫ قضايا استراتيجية فى المتوسط‬،)‫ سمير أمين (تحت اشراف‬        -

:‫ويشمل‬

.‫ المسألة اللبنانية وخصوصيتها المحلية‬،‫ فهمية شرف الدين‬        -

.‫ مبادىء الجيو استراتيجيا المصرية‬،‫ حسن نافعة‬        -


.‫ مستقبل الصراع العربى الصهيونى‬،‫ محمد سيد أحمد‬        -
.‫ من أجل انشاء قوة رادعة فى خدمة شعوب العالم الثالث‬،‫ سمير أمين‬        -

174
.)‫ مجلة الفكر االستراتيجى' العربى (بيروت‬        -
.)1990( ‫ تطور التكنولوجيا' العسكرية فى العالم العربى‬،‫ محمود' عزمى‬        -

‫ المفاهيم اإلسرائيلية‬  -4

BEIT HALLAHMI Benjamin, Regional Strategic Stakes, Israel (mimeog,


1989).

Regalement du meme author:

The Israeli connection, NY pantheon 1987.

Original Sins: Reflections on the history of Zionism and Israel,pluto, London


1991.

CROSBIE E., the Tacit Alliance, princeton 1974. Egalement., the Tacit
Alliance, princeton 1974.

Egalement: Revue d`Etudes Palestinians.

‫ مصادر' أخرى‬  -5

ANALIS Dimitri T., Chypre, Operation A ttila, Anthropos, 1978.

BIKTACHE Fayez, Le conflit senegalo- mouritanien, en cours d`edition.

CHAPELLE Jean, Le peuple tchadien, L`Harmattan, 1986.

FRUIDEM- RESISTANCES, Organe Central du front de la Resistance pour


I`Unite I`ndependance et la Democratie en Mauritanie, n 1 (Oct. 1989) a 4
(juillet 1990).

RAVENEL Bernard, La Mediterranee, Le N ord contre le sud, L`Harmattan,


1990.

                    Samir Amin, L`Ethnie a lanout de nahins, L`theimation pains, chop (you
goshine ……….. (Ethiopie).

        Samir Amin, Democia ……………………., Cairo 29 …….. 1999).

        Samir Amin ……………………. Cairo May- 12 May 1999).

        Immanual wallerstein.

175
‫‪        ……………………..‬‬

‫‪        ……………………..‬‬

‫بالعربية‪:‬‬

‫·‪        ‬سمير أمين‪ ،‬تفكك يوغسالفيا‪ ،‬لمصلحة من؟ اليسار‪ -‬مايو ‪( 1994‬القاهرة)‪.‬‬

‫·‪        ‬سمير أمين‪ ،‬تفكك أثيوبيا‪ ،‬لمصلحة من؟ اليسار‪ -‬يونيو' ‪( 1994‬القاهرة‪.‬‬
‫·‪        ‬رشيد سيد وحلمى شعراوى' (تحت اشراف…)‪ .‬أزمة مياه النيل‪ -‬مركز البحوث‬
‫العربية‪ -‬القاهرة ‪.1988‬‬
‫·‪        ‬المنابر‪ ،‬يوليو ‪ ،1991‬بيروت المياه‪ ،‬سالح تركيا‪.‬‬
‫·‪   ‬أيضاً‪ :‬سمير أمين (تحت اشراف)‪ ،‬قضايا استراتيجية فى المتوسط فصل ‪( 4‬أوروبا' فى‬
‫مواجهة جنوبها' المتوسطى والعربى)‪.‬‬

‫هل تمثل آسيا الصاعدة تحديا للنظام اإلمبريالي؟‬

‫‪ ‬‬

‫يزعم الخط اب الس ائد أن م يراث التخل ف ال ذي أنتجت ه اإلمبريالي ة ه و في س بيله للتج اوز‬

‫بواسطة آسيا التي تستدرك تأخرها عبر إثبات نفس ها في قلب النظ ام الرأس مالي‪ ،‬وليس‬

‫بالقطيعة مع هذا النظام‪ .‬وتحفز المظاهر الراهنة على تبني هذه الرؤية المستقبلية بدرج ة‬

‫كبيرة‪ .‬وفي حقيقة األمر‪ ،‬وعلى مدار رب ع الق رن األخ ير‪ ،‬س جلت آس يا تل ك مع دالت للنم و‬

‫االقتصادي ملفتة للنظر‪ ،‬في الوقت الذي غرقت فيه بقية مناطق العالم بأكملها في الرك ود‪.‬‬

‫ومن ثم فإن تصورا خطيا يسمح باستنتاج أننا نتجه نحو تجديد للنظ ام الرأس مالي الع المي‬

‫ليص بح أك ثر توازن ا لص الح آس يا‪ ،‬فنك ون بص دد رأس مالية تفق د من ه ذا المنطل ق طابعه ا‬

‫اإلمبري الي‪ ،‬على االق ل فيم ا يختص بآس يا الش رقية والجنوبي ة دون بقي ة الع الم الث الث‪.‬‬

‫ونضيف إلى ذلك أيض ا أن ه ذه المنطق ة تتحكم من اآلن فص اعدا في ق درات عس كرية تع د‬

‫مهمة بالنسبة لها وهي في طريقها إلى التحديث‪ ،‬وأن الصين والهند هما قوتان نووتان‪ .‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪176‬‬
‫إن المستقبل "األكيد" الذي سيترجمه هذا التطور هو عالم متعدد القطبي ة‪ ،‬منظم ح ول م ا‬

‫ال يقل عن أربعة اقطاب متساوية اقتصاديا وعسكريا‪ ،‬على األقل بشكل كامن‪ ،‬هي الواليات‬

‫المتحدة وأوروبا واليابان والصين‪ .‬ويمكن أن نصبح كذلك بصدد ستة أقطاب إذا م ا اض فنا إلى‬

‫ما سبق كال من روسيا والهند‪ .‬ويضم مجم وع ه ذه األقط اب إلى ج انب البل دان والمن اطق‬

‫ال تي ترتب ط به ا بش كل مباش ر‪ ،‬وهي كن دا وأوروب ا الش رقية وجن وب ش رق آس يا وكوري ا‪،‬‬

‫الغالبي ة العظمى من ش عوب الك وكب‪ .‬وس يختلف ه ذا النظ ام متع دد القطبي ة من ه ذا‬

‫المنطلق عن األشكال المتعاقبة من اإلمبريالية متعددة القطبي ة بع د ‪ ،1945‬إلى اإلمبريالي ة‬

‫أحادية القطببية‪ ،‬مع تكون إمبريالية الثالثي الجماعي ة‪ ،‬حيث لم تكن أي من ه ذه األش كال‬

‫تضم سوى أقلية من شعوب العالم‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫يبدو التحليل الذي يستند إليه هذا المنطق قاصرا‪ .‬فهو في المقام األول ال يأخذ في االعتبار‬

‫السياسات التي تنوي واشنطن إتخاذها إلفشال المشروع الصيني‪ .‬وإضافة إلى ذلك‪ ،‬فنظرا‬

‫ألن اوروبا ال يمكنها ان تتصور انعزالها في األطلنطية التي تقع فيها في عباءة الواليات‬

‫المتحدة‪ ،‬ونظرا ألن اليابان تريد ـ نتيجة ألسباب شبيهة أو مختلفة ـ أن تبقى مذعنة للدولة‬

‫التي تحميها في الجانب اآلخر من الباسيفيك‪ ،‬تصبح أيام إمبريالية الثالثي أطول من أن‬

‫تحصى‪ .‬في المقام الثاني‪ ،‬فإن قياس النجاح بمعدالت النمو االقتصادي فقط يصبح خادعا‬

‫وتصبح صحة المضي في هذا التحليل إلى أبعد من ذلك وإسقاطه على عدد من السنوات‬

‫أمرا مشكوكا فيه‪ .‬إن النمو الفعلى القادم في آسيا يعتمد على عدد من العوامل الداخلية‬

‫والخارجية التي تتمفصل وفقا ألشكال مختلفة‪ ،‬تتوقف من ناحية على النماذج االستراتيجية‬

‫للتحديث االجتماعي التي تختارها الطبقات المهيمنة المحلية‪ ،‬ومن ناحية أخرى على ردود‬

‫أفعال الخارج‪ ،‬أي القوى اإلمبريالية التي تشكل الثالثي‪ .‬إن نموا مستديما‪ ،‬ذو نفس طويل‬

‫قادر على تحسين ملموس ومحسوس في مستويات المعيشة المنخفضة جدا للسكان‬

‫األسيويين‪ ،‬ويضمن الحفاظ على التضامن الوطني ـ كما في الميراث اإليجابي لكل من‬

‫الثورة الصينية وفيتنام ـ أو تستطيع بناء هذا التضامن في مناطق أخرى ـ في الهند وجنوب‬

‫‪177‬‬
‫شرق آسيا ـ يتطلب تخطيطا متماسكا للخيارات االقتصادية والوسائل السياسية‪ .‬إن ذلك ال‬

‫يمكن أن ينتج تلقائيا من النماذج المستخدمة في اللحظة الراهنة والمتأثرة بدرجة كبيرة‬

‫بالدوجمائية الرأسمالية والليبرالية‪ .‬إضافة إلى ذلك فأن النمو المأمول يتطلب نموا ذو شأن‬

‫في استهالك الطاقة وخاصة النفط‪ .‬وإضافة لما يمثله ذلك من تطور نوعي من وجهة نظر‬

‫التوازن البيئي‪ ،‬فإن هذا النمو يؤدي إلي تأجيج الصراع مع دول الثالثي اإلمبريالي التي‬

‫تستأثر وحدها إلى اآلن بموارد الكوكب‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ويعزي الخطاب السائد نجاح صين ما بعد ماو إلى فضائل السوق واالنفتاج على الخارج فقط‪.‬‬

‫لكن هذا الخطاب يبسط بشكل هائل تحليل حقيقة األوضاع في الصين الماوية كما أنه‬

‫يتجاهل المشاكل التي يطرحها الخيار الراسمالي‪     .‬‬

‫‪ ‬‬

‫خالل عقود الماوية الثالثة من ‪ ،1980-1950‬حققت الصين بالفعل نموا استثنائيا بمعدالت‬

‫تمثل ضعف تلك التي حققتها الهند أو أي منطقة كبيرة أخرى في العالم الثالث‪ .‬كما بدا أداء‬

‫العقدين األخيرين من القرن أكثر استثنائية أيضا‪ ،‬حيث لم تحقق أية منطقة كبرى في العالم‬

‫أداء أفضل على مر التاريخ‪ .‬لكننا يجب أن نتذكر بقوة هنا أن هذه اإلنجازات منقطعة النظير‬

‫ما كان من الممكن حدوثها في غياب أسس اقتصادية وسياسية واجتماعية تم إرساؤها‬

‫خالل الفترة السابقة‪ .‬كما أن تسارع عجلة التنمية كان مصحوبا بقفزة إلى األمام في‬

‫معدالت نمو االستهالك‪ .‬من ناحية أخرى نقول أنه بينما في الفترة الماوية أعطيت األولوية‬

‫لبناء قاعدة صلبة على المدى الطويل‪ ،‬فإن السياسية االقتصادية الجديدة شددت على‬

‫التحسين الفوري لمعدالت االستهالك‪ ،‬وهو ما أصبح ممكنا بفضل مجهودات العقود‬

‫السابقة‪ .‬ومن ثم فأنه ال يصبح عبثيا أن نفترض أن العقود الماوية تميزت باالنحراف لصالح‬

‫بناء أسس عل المدى الطويل‪ .‬لكن بخالف ذلك‪ ،‬فإن التركيز على الصناعات الخفيفة‬

‫والخدمات منذ عام ‪ 1980‬فصاعدا ال يمكن أن يستمر إلى ما ال نهاية‪ ،‬ألن الصين الزالت في‬

‫مرحلة توسع في الصناعات األساسية‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫‪ ‬‬

‫إن مسالة االنفتاح‪ ،‬بمعنى المساهمة في تقسيم العمل الدولي وفي كل الجوانب األخرى‬

‫لالقتصاد العالمي مثل االستعانة برأس المال األجنبي واستيراد التكنولوجيا واالنخراط في‬

‫مؤسسات إدارة االقتصاد العالمي وحتى االندماج من الناحية األيديولوجية والثقافية‪ ،‬ال يدار‬

‫وفقا لتعبيرات متطرفة مثيرة للجدل مثل تعبير انفتاح أم انغالق‪ ،‬والتي يستخدمها‬

‫المدافعون الدوجمائيون عن الليبرالية الجديدة المنتصرة ألغالق باب الجدل‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ويجب أن نعرف الكيفية التي يمكن بها إدارة االنفتاح حتى نكون قادرين على جذب األرباح‪.‬‬

‫ألنه لكي تتسارع عملية التنمية التي تتضمن درجة من اللحاق بركب التقدم‪ ،‬يجب أن‬

‫نستعير التكنولوجيا األكثر تقدما والمتمثلة في معدات يمكن استيرادها من الخارج‪ ،‬ويجب‬

‫أن ندفع ثمن هذه التكنولوجيا بواسطة الصادرات‪ .‬من المؤكد إن ما تستطيع دولة في هذا‬

‫الوضع أن تقدمه للسوق العالمي في هذه المرحلة هو‪  ‬منتجات تستفيد من الميزة‬

‫النسبية التي تتمتع بها‪ ،‬والمتعلقة بكثافة عنصر العمل‪ .‬لكن عليها أن تعرف أنه في ظل‬

‫تلك التجارة غير المتكافئة فإنها سوف يتم استغاللها‪ ،‬ومن ثم فإنها تقبل هذا الوضع ـ مؤقتا‬

‫ـ‪  ‬لعدم وجود بديل آخر‪ .‬لكن الخطر الظاهر هنا هو أن نجاح هذا الخيار يحفز على قلب نظام‬

‫األولويات الذي يحكم المنطق الخاص باستراتيجية للتنمية جديرة بهذا اإلسم‪ .‬وتتضمن مثل‬

‫هذه االستراتيجية إخضاع األهداف الكمية للتجارة الخارجية لمتطلبات إقامة مشروع تنموي‬

‫يؤكد قوة‪  ‬التضامن االجتماعي في الداخل‪ ،‬ومن ثم يكون قادرا على فرض نفسه في‬

‫الخارج بأكثر استقاللية ممكنة‪ .‬إن الدوجمائية الليبرالية تطرح عكس ذلك بالضبط‪ ،‬أي‬

‫االنخراط الكامل في التقسيم الدولي للعمل‪ ،‬المرتكز على اعطاء األولوية للتوسع في‬

‫األنشطة التي يستفيد من خاللها البلد بالميزة النسبية التي يتمتع بها‪ ،‬والخاصة بوفرة‬

‫األيدي العاملة‪ .‬وإذا كان على الصين أن تتوقف عند الخيار الذي تتبناه السلطة الموجودة‬

‫حاليا‪ ،‬فإن نسب النمو لديها ستتضاءل لكي تصل إلى تلك الخاصة بالهند‪ ،‬والواقعة في‬

‫مرتبة أعلى من المتوسط‪ .‬إن الخيار األول هو التكيف مع فك االرتباط‪ ،‬الذي يعني رفض‬

‫‪179‬‬
‫الخضوع للمنطق المسيطر للنظام الرأسمالي العالمي‪ ،‬دون أن يعني االكتفاء الذاتي‪ .‬أما‬

‫الخيار الثاني فهو التكيف مع المنطق السائد للنظام الرأسمالي والذي يكون دائما تكيفا‬

‫سلبيا في واقع األمر (ويمكن أن نصنفه أيضا بكونه انخراطا إيجابيا) مع متطلبات االندماج في‬

‫النظام الدولي‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫إذن فإن السؤال المحوري هو اآلتي‪ :‬هل تتطور الصين نحو شكل رأسمالي مستقر؟ أم أنه‬

‫يظل من المنظور امكانية انتقالها إلى االشتراكية؟ ما هي التناقضات والصراعات التي كانت‬

‫على مسرح األحداث في الصين المعاصرة؟ ما هي جوانب القوة والضعف في الطريق الذي‬

‫تبنته الصين (والذي يبقى بدرجة كبيرة رأسماليا)؟ ما هي مؤهالت القوى المضادة‬

‫للرأسمالية (أي االشتركية‪ ،‬على األقل بشكل كامن)؟ ما هي الشروط التي يستطيع‬

‫الطريق الرأسمالي أن ينتصر في ظلها‪ ،‬وما هو شكل الرأسمالية المستقرة إلى هذه‬

‫الدرجة او تلك التي يمكن ان ينتجها هذا الطريق)؟ تحت أي شروط يمكن أن تتحول اللحظة‬

‫الراهنة في اتجاه يمكن ان يصنع مرحلة طويلة في االنتقال إلى االشتراكية (الذي سيتخذ‬

‫وقتا أطول)‪ .‬‬

‫‪ ‬‬

‫إذن المسالة هي أن نعرف ما إذا كانت الطبقات الحاكمة يمكن لها باالختيار الذي تبنته أن‬

‫تحقق غاياتها وأن تكون هذه الغايات بمثابة سمات لرأسمالية صينية قيد التكوين‪ ،‬وما هي‬

‫درجة االستقرار الفعلي‪  ‬التي لدى هذه الرأسمالية؟ ما هي االمكانيات المطروحة بشأن‬

‫الطريق الراسمالي في الصين اليوم؟ إن الموجود على االرض بالفعل هو التحالفات داخل‬

‫سلطات الدولة‪ ،‬والطبقات الجديدة من "الرأسماليين الكبار المنتفعين" والفالحون في‬

‫المناطق التي اغتنت بسبب ما تقدمه من خدمات للسوق الحضرية‪ ،‬والطبقات الوسطى‬

‫التي تعيش حالة صعود كبير‪ .‬لكن يبقى أن هذه الكتلة المتجانسة ال تتضمن الغالبية‬

‫العظمي من العمال والفالحين‪ .‬إن كل الحاالت المثيلة بداية من التحالفات التاريخية التي‬

‫أقامتها البرجوازيات األورويبة مع الفالحين ضد طبقة العمال‪ ،‬ثم بعد ذلك التسوية‪  ‬التاريخية‬

‫‪180‬‬
‫بين العمل ورأس المال عبر االشتراكية الديمقراطية‪ ،‬تظل مع ذلك تحالفات مصطنعة‬

‫وهشة‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫في ضوء قيام إمبريالية الثالثي بنشر أشكال جديدة قيد التكوين من التناقض بين المركز‬

‫واألطراف ترتكز على االحتكارات الجديدة التي سبقت اإلشارة إليها أعاله‪ ،‬تصبح هذه‬

‫األشكال مطالبة بتعميق االستقطاب على الصعيد العالمي‪ ،‬وليس الحد منه‪ .‬بهذا المعني‪،‬‬

‫فإن تصنيف "الدول الصاعدة" يكشف هزال ايديولوجيا‪ ،‬حيث أن هناك دوال‪ ،‬بعيدة عن اللحاق‬

‫بركب التقدم‪ ،‬تمثل الرأسمالية الطرفية للمستقبل‪ .‬وال تعد الصين استثناء من ذلك‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫بالتناقض مع هذا النموذج الذي يوافق مرحلة جديدة من انتشار الرأسمالية في سياق هو‬

‫دائما إمبريالي‪ ،‬يصبح الطريق المؤدي إلى الخيار االشتراكي أطول كثيرا ومختلفا بدرجة‬

‫كبيرة عن ذلك الذي تخيلته األمميتان الثانية والثالثة‪ .‬وفي ظل هذا المنظور تشكل‬

‫"اشتراكية السوق" مرحلة أولية‪ .‬لكن هناك شروط لكي يصير األمر هكذا‪ ،‬أهمها المسألة‬

‫الزراعية التي أضعها في قلب هذا التحدي الذي تواجهه الصين المعاصرة‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫في عام ‪ ،2000‬ارتفع عدد سكان الصين إلى ‪ 1،2‬مليار نسمة‪ ،‬ثلثي هؤالء‪ ،‬أي ‪ 800‬مليون‪،‬‬

‫هم من سكان الريف‪ .‬إن تصورا خطيا لما سيكون عليه الحال عام ‪ 2020‬يشير إلى أن‬

‫االعتقاد بأن‪   ‬التحضر يمكن ببساطة أن يقلل بشكل ملموس من عدد الريفيين يعد أعتقادا‬

‫وهميا‪ ،‬بل وخطيرا‪ ،‬حتى لو كان من المتوقع ان يؤدي هذا التحضر إلى تخفيض نسبة‬

‫الريفيين إلى عدد سكان‪  ‬الصين‪ .‬إن نموا ديموجرافيا بمعدل ‪ %1،2‬في السنة يجعل عدد‬

‫سكان الصين في عام ‪ 2020‬مقداره ‪ 1،52‬مليار نسمة‪ .‬من ناحية أخرى فأننا نقر بأن الصين‬

‫تستطيع الحفاظ على نمو جيد‪ ،‬بنسبة ‪ %5‬سنويا‪ ،‬لصناعاتها وخدماتها الحديثة الواقعة في‬

‫المناطق الحضرية‪ .‬ومن المؤكد أنه ألجل الوصول إلى التحديث‪ ،‬وتلبية المتطلبات التي‬

‫تفرضها المنافسة‪ ،‬فأن هذا النمو ال يتحقق فقط بواسطة نمط موسع للتراكم‪ ،‬أي إنتاج‬

‫‪181‬‬
‫نفس صناعات وخدمات اللحظة الراهنة‪ ،‬لكن بكميات أكبر كثيرا‪ ،‬وإنما بتبني نمط للتراكم‬

‫كثيف جزئيا‪ ،‬مرتبط بتحسن قوي إنتاجية العمل بمعدل ‪ %2‬سنويا‪ .‬إن النمو في عرض‬

‫العمالة الحضرية سيكون ‪ %3‬سنويا‪ ،‬بما سيصل بعدد السكان المستوعبين في الحضر إلى‬

‫‪ 720‬مليون نسمة‪ .‬غير أن إجراء عملية طرح بسيطة يكشف أن ‪ 800‬مليون صيني سيظلون‬

‫ريفيين ـ وهو نفس‪  ‬العدد الحالي من الصينيين الريفيين ـ لكنه سيمثل آنذاك انخفاضا من‬

‫‪ %67‬إلى ‪ %53‬من إجمالي السكان‪ .‬إذا كان هؤالء الريفيين سيضطرون للهجرة إلى‬

‫المدينة‪ ،‬ألن ليس لديهم سبيل للحصول على األرض الزراعية‪ ،‬فلن يكون أمامهم سوى‬

‫النمو كسكان مهمشين في العشوائيات‪ ،‬كما كان الحال منذ زمن طويل في رأسماليات‬

‫العالم الثالث‪ .‬‬

‫‪ ‬‬

‫في ظل هذا الصراع العمالق بين الطريق الرأسمالي ـ الالنهائي ـ وبين بعث االشتراكية‪،‬‬

‫فإن الصين تمتلك مؤهال اساسيا وهو ميراث الثورة‪ .‬في واقع األمر‪ ،‬فأن الحق في األرض‬

‫بالنسبة لكل فالحي الصين وفيتنام هو حق معترف به‪ .‬إن هذا الحق الذي تتجاهله‬

‫الرأسمالية هو مع ذلك شرط الحياة بالنسبة لنصف البشرية‪ .‬ويصبح وهميا أن نظن أن‬

‫التخلي عن هذا الحق‪ ،‬بمعنى أن نعطي األرض وضعية السلعة‪ ،‬كما يقترح جميع دعاويي‬

‫الرأسمالية في الصين وغيرها‪ ،‬سوف يؤدي إلى اإلسراع في عملية التحديث‪ .‬‬

‫‪ ‬‬

‫في ظل هذه الظروف‪ ،‬يصبح مستقبل الصين غير محسوم‪ .‬فالمعركة من أجل االشتراكية‬

‫لم تنتصر‪ ،‬لكنها لم تنهزم أيضا‪ .‬وفي رأيي فأن هذه الهزيمة لن تحدث إال في اليوم الذي‬

‫يتخلي فيه النظام الصيني عن حق األرض لكل الفالحين‪ .‬وإلى ذلك الحين‪ ،‬فإن الصراع‬

‫االجتماعي والسياسي هو الذي سيحدد طريق التطور‪ .‬وتسيطر الطبقة السياسية‬

‫الحاكمة على الصراع بواسطة الطريقة الوحيدة التي لدى ديكتاتوريتها البيروقراطية‪ .‬كما أن‬

‫قطاعات من تلك الطبقة تفكر في المناورة بواسطة هذه الوسيلة نفسها ألجل عملية صعود‬

‫البرجوارية‪ .‬إن البرجوازية والطبقات الوسطى المرتبطة بها لم تقرر القتال ألجل الديمقراطية‪،‬‬

‫‪182‬‬
‫كما أنها تقبل بسهولة النموذج األوتوقراطي "للنمط األسيوي" شريطة أن يسمح هذا‬

‫النموذج بتلبية شهيتها للمستهلكين‪ .‬أما الطبقات الشعبية فهي تقاتل في الميدان للدفاع‬

‫عن حقوقها االقتصادية واالجتماعية‪ .‬ولكن هل ستستطيع هذه الطبقات أن توحد معاركها‬

‫وتبتكر أشكاال من التنظيم كافية لصياغة برنامج بديل ايجابي وتحدد مضمون ووسائل‬

‫الديمقراطية التي يمكن أن‪  ‬تخدم مصالحها؟‪  ‬‬

‫‪ ‬‬

‫نتيجة لهذا األسباب‪ ،‬يجب أن نرى ثالثة سيناريوهات للمستقبل الجاري بناءه‪ ،‬هي‪-1 :‬‬

‫مشروع إمبريالي لتقطيع أوصال الدولة وجعل مناطقها الساحلية كومبرادورية‪ -2 .‬مشروع‬

‫تنموي رأسمالي وطني‪ -3 .‬مشروع تنموي وطني وشعبي مرتبط بطريقة تكاملية وفي‬

‫الوقت نفسه صدامية مع منطق السوق الرأسمالي ومع المنطق االجتماعي المسجل من‬

‫منظور اشتراكي على المدى الطويل‪ ،‬حيث أن هذه المشروع يمثل مرحلة في الطريق‬

‫االشتراكي الذي ستنتهي إليه الحالة الراهنة‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫إن الخيار الذي يفضل السوق غير المنظمة وأقصى درجات االنفتاح ـ بمعنى مشروع‬

‫الليبراليين الصينيين واألجانب ـ‪  ‬يتفق مع االستراتيجية اإلمبريالية‪ ،‬التي تعظم من حافز‬

‫عدم التسيس وتعارض بال إحساس الطبقات الشعبية وتعزز ضعف األمة والدولة الصينية في‬

‫مواجهة الخارج‪ .‬وبالتأكيد ال يتحمل هذا الخيار أية درجة من الديمقراطية‪ ،‬عالوة على كونه‬

‫ال يخرج الصين من وضعية المشارك من موقع األطراف‪ ،‬الواقع تحت سيطرة منطق انتشار‬

‫إمبريالية الثالثي الجديدة‪ .‬‬

‫‪ ‬‬

‫يبدو من الصعب أن نحدد بدقة‪ ،‬من النظرة األولى‪ ،‬ما يميز النموذج الث الث عن الث اني‪ ،‬وه و‬

‫ما يتضمن وجود سيطرة مؤكدة على العالقات الخارجي ة‪ ،‬وأنم اط التوزي ع ال تي تحاف ظ على‬

‫مستوى مقبول من التضامن االجتماعي واإلقليمي‪ .‬لكن يبقى الخالف في الواقع خالفا في‬

‫‪183‬‬
‫طبيعة وليس في درجة قوة الوسائل الخاص ة بالسياس ة ال تي تنف ذها الدول ة‪ .‬وهن ا ي أتي‬

‫أصل الجدل الحقيقي‪ ،‬حيث إن الخي ار التق دمي ال يمكن ه أن يرتك ز إال على إعط اء األولوي ة‬

‫لتوسع السوق الداخلي‪ ،‬على قاع دة من العوائ د االجتماعي ة المنظم ة بطريق ة تقل ل إلى‬

‫أقصى حد عدم المساواة االجتماعية واإلقليمية‪ .‬وبناء على ذلك يتم إخضاع العائد الخ ارجي‬

‫لمتطلبات المنطق السائد هنا‪ .‬لكن الخيار العكس ي يض ع االنخ راط العمي ق‪ ،‬بالتوق ف‪ ،‬في‬

‫النظام الرأسمالي العالمي‪ ،‬بمثابة المحرك الرئيسي للتنمية االقتصادية‪ ،‬ومن ثم فهو يرتبط‬

‫بطريقة حتمي ة بتف اقم التف اوت اإلقليمي واالجتم اعي قطع ا‪ .‬وعن دما يتم التعب ير عن ه ذا‬

‫الخيار وفقا لهذه الشروط‪ ،‬فإنه ال ي ترك لن ا إال ه امش ض يق لنم وذج "الرأس مالية الوطني ة"‬

‫القادر على اللحاق بالعالم الرأسمالي المتقدم‪ ،‬وجعل الص ين ق وة ك برى جدي دة‪ ،‬ب ل وق وة‬

‫عظمي تجبر تلك القوة العظمى الموج ودة على التخلي عن هيمنته ا‪ .‬إن ه اليوج د احتم ال‬

‫كبير أن سلطة سياسية أيا ما كانت تستطيع أن تحتفظ لفترة طويلة بما فيه الكفاي ة بوج ود‬

‫هذا الهامش الضيق‪ ،‬ومن ثم فليس هناك احتم ال كب ير أن اس تراتيجية مس توحاة من ه ذا‬

‫الهدف المنظور يمكنها ان تتجنب السقوط إلى اليمين وتنتهي بالخضوع للخط ط اإلمبريالي ة‪،‬‬

‫أو إلى اليسار وتتطور نحوالنموذج الثالث المشار اليه‪ .‬‬

‫‪ ‬‬

‫خاتمة‪ :‬نحو إعادة بناء أوروبي آسيوي‬

‫كان "الت اريخ الع المي" من ذ وقت طوي ل تاريخ ا للتكام ل وللتص ادم بين المجتمع ات الكب يرة‬

‫المكونة للع الم الق ديم (آس يا وأوروب ا وأفريقي ا)‪ .‬وك انت أمريك ا م ا بع د الكولومبي ة مس رحا‬

‫للتوسع المنعزل للقوة األعظم التي كانت تتشكل هن اك‪ ،‬أي الوالي ات المتح دة‪ .‬ومن ذ ع ام‬

‫‪ ،1945‬أك دت الوالي ات المتح دة ق درتها الدولي ة مج برة في البداي ة على المش اركة (غ ير‬

‫المتساوية) مع المنافسة العسكرية واأليديولوجي ة الس وفيتية‪ ،‬وثم بع د ذل ك أك دت ق درتها‬

‫في ظل وجود درجة واضحة من عدم التكافؤ عقب انهيار االشتراكية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪184‬‬
‫في نفس الوقت‪ ،‬صعدت أوروبا إلى مصاف الق وة التجاري ة األولى في الع الم وانخ رطت في‬

‫عملية بناء سياسي يستبعد احتمال عودة الحرب الدائمة بين الدول المكونة لها‪ ،‬بينما تقوم‬

‫اليابان بتحديث نفسها في الوقت الذي تنخ رط آس يا في ه ذا الطري ق بس رعة اس تثنائية‪.‬‬

‫وتقدم الرأسمالية اإلطار المرجعي الملزم لهذا النظام العالمي الجديد متعدد األقط اب ال ذي‬

‫يجري تأسيسه‪ .‬وفي مواجهة التحدي األمريكي للتق ارب الج اد بين أقط اب الع الم الق ديم‪،‬‬

‫هل من الممكن فرض عوامل جديدة لالستقرار تتسم بالتوازن؟‬

‫‪ ‬‬

‫إن التحليالت التي طرحتها تستدعي الكث ير من التبص ر في‪  ‬ه ذا الش أن‪ .‬لق د أك دت على‬

‫هشاشة األبنية التي لدى اثنين من الشركاء األساسيين في النظام هم ا أوروب ا المتورط ة‬

‫في األطلنطية والصين‪ .‬إن هشاشة‪  ‬اليابان والهند والصين وروسيا ‪ ،‬ليست بأق ل من ذل ك‪،‬‬

‫نظرا ألسباب مختلفة التسمح المساحة الضيقة لهذه الورقة بعرضها‪ .‬‬

‫‪ ‬‬

‫غير أنني ال أخلص من ذل ك أن المش روع األم ريكي للقي ادة األحادي ة للع الم س وف يف رض‬

‫نفسه بالضرورة‪ .‬إن هيكل التحالفات السياسية بين الدول األوروبي ة الك برى وروس يا وآس يا‬

‫(وخاص ة الص ين والهن د) ه و على ج دول األعم ال اآلن‪ ،‬وإذا تم إنج ازه‪ ،‬فس وف ي ؤدي إلى‬

‫الهزيمة األكيدة لطموحات واشنطن الفائقة‪ .‬آنذاك فإن التعددية القطبية س وف تق دم اإلط ار‬

‫الالزم للتجاوز الممكن والضروري للرأسمالية‪ .‬إن العالم المتعدد األقط اب المس تقر واألص يل‬

‫سوف يكون في النهاية اشتراكيا‪ ،‬أو ال يكون‬

‫سـمير أميـن‬

‫األسباب الموضوعية لفشل الثورات االشتراكية األولى‬

‫‪ ‬‬

‫‪185‬‬
‫تتر َّكز‪ N‬مداخلتي‪ ،‬في النقاش الذي افتتحته المقابلة مع كريم مروّة‪ ،‬على األسباب الموضوعية التي‬
‫‪.‬تفسِّر فشل الثورات االشتراكية األولى‬

‫‪ ‬‬

‫‪ 1‬ـ مأساة الثورات الكبرى‬

‫تتميَّز "الثورات الكبرى" بواقع أنها تندفع بعيداً إلى األمام نحو المستقبل‪ ،‬خالفا ً "للثورات العادية"‪،‬‬
‫‪.‬التي تكتفي باالستجابة لمتطلبات التحوالت المطروحة على جدول أعمال اللحظة‬

‫في المرحلة الحديثة هناك ثالث ثورات كبرى فقط (الفرنسية‪ ،‬والروسية‪ ،‬والصينية)‪ .‬الثورة الفرنسية‬
‫لم تكن مجرد "ثورة برجوازية"‪ ،‬أحلَّت النظام الرأسمالي‪ N‬محل النظام القديم‪ ،‬وسلطة البرجوازية محل‬
‫سلطة األرستقراطية‪ .‬فهي أيضا ً ثورة شعبية (وفالحية تحديداً) طرحت مطالبها‪ N‬التساؤل حول النظام‪N‬‬
‫البرجوازي نفسه‪ .‬فالجمهورية الديمقراطية المدنية الجذرية‪ ،‬التي تستوحي مثالها من فكرة تعميم‬
‫الملكية الصغيرة على الجميع‪ ،‬ليست نتاج منطق تراكم الراسمال المباشر (القائم على الالمساواة)‪ ،‬بل‬
‫إنكار له (في إعالنها الواعي بأن الليبرالية االقتصادية عدو للديمقراطية)‪ .‬بهذا المعنى‪ ،‬كانت الثورة‬
‫الفرنسية تحتوي‪ ،‬مذ ذاك‪ ،‬بذور‪ N‬الثورات االشتراكية القادمة‪ ،‬التي لم تتوافر‪ N‬شروطها‪" N‬الموضوعية"‪،‬‬
‫طبعاً‪ ،‬في فرنسا آنذاك (تشهد على ذلك الحركة البابوفية)‪ .‬الثورتان‪ ،‬الروسية والصينية (ويمكن أن‬
‫نضيف‪ N‬لهما ثورتي‪ N‬فيتنام وكوبا‪ ،)N‬وضعت لنفسها الشيوعية هدفا ً‪ .‬وهذا متقدم جداً‪ ،‬بدوره‪ ،‬على‬
‫‪.‬الموجبات الموضوعية لحل المشكالت المباشرة في المجتمعات المعنيَّة‬

‫لهذا السبب‪ ،‬تتلقى كل الثورات الصدمة الناجمة عن استباقها‪ N‬زمنها‪ .‬فبعد لحظات تجذرها‪ N‬القصيرة‪ ‬‬
‫تتالحق التراجعات‪ ،‬والعودات إلى الماضي‪ .N‬تعاني هذه الثورات‪ ،‬إذاً‪ ،‬صعوبات كبيرة‪ ،‬دائماً‪ ،‬في‬
‫االستفرار‪( N‬استغرق‪ N‬استقرار الثورة الفرنسية قرنا ً كامالً)‪ .‬في المقابل‪ ،‬تدشن الثورات األخرى‬
‫(كاألميركية واإلنكليزية) عملية انتشار‪ N‬النظام بشكل ثابت وهادئ‪ ،‬مكتفية بتسجيل موجبات العالقات‬
‫االجتماعية والسياسية القائمة في نطاق الرأسمالية الوليدة‪ .‬لذلك‪ ،‬بالكاد تستحق هذه "الثورات" اسمها‪.‬‬
‫‪.‬فتسوياتها‪ N‬مع قوى الماضي‪ ،‬وغياب رؤياها للمستقبل‪ ،‬سمتان بالغتا الوضوح‬

‫رغم فشلها‪ ،‬تضع الثورات الكبرى التاريخ على مدى أبعد‪ .‬فمن خالل القيم الطليعية التي تحدد‪ ‬‬
‫مشروعها‪ ،‬تسمح للطوباويات الخالّقة بمتابعة غزوها للعقول‪ ،‬وتحقيق طموح الحداثة األسمى‪ ،‬أي‬
‫جعل الكائنات اإلنسانية صنَّاع تاريخهم‪ .‬وهذه القيم تتباين مع قيم النظام البرجوازي‪ ،‬النابعة من‬

‫‪186‬‬
‫مسلكيّات التكيُّف السلبي مع مقتضيات توسع الرأسمال‪ ،‬المس ّماة موضوعية‪ ،‬التي تم ُّد االستالب‬
‫‪.‬االقتصادي بكامل قوته‬

‫‪ ‬‬

‫‪ 2‬ـ وزن االمبريالية‪ ،‬المرحلة الدائمة في التوسع العالمي للرأسمالية‬

‫كان التوسع العالمي للرأسمالية استقطابياً‪ N‬دائماً‪ ،‬منذ أصوله‪ ،‬وفي كل مرحلة من تاريخه‪ .‬لم ت َْل َ‬
‫ق هذه‬
‫الميزة في الرأسمالية القائمة بالفعل‪ ،‬على أهميتها‪ ،‬االهتمام الضروري‪ ،‬وذلك بسبب النزعة المركزية‬
‫األوروبية التي تسيطر‪ N‬على الفكر الحديث‪ ،‬بما في ذلك الصياغات األيديولوجية الطليعية الخاصة‬
‫‪.‬بالثورات‪ N‬الكبرى‪ .‬ولم تن ُج الماركسية التاريخية لألمميات المتعاقبة إالَّ جزئيا ً من هذه القاعدة العامة‬

‫َّ‬
‫إن فهم البعد الهائل لهذا الواقع اإلمبريالي‪ N،‬واستخالص المسائل الستراتيجية المتعلقة بتغيير العالم‪،‬‬
‫تبعا ً لهذا الفهم‪ ،‬يشكل ضرورة ال حياد عنها لكل القوى االجتماعية والسياسية ضحايا توسع‬
‫الراسمالية‪ ،‬في مراكزها كما في أطرافها‪ .N‬ألن ما طرحته اإلمبريالية على جدول أعمال اليوم ليس‬
‫نضوج الشروط‪ N‬التي تسمح "بالثورات االشتراكية" في مراكز النظام‪ N‬العالمي (أو تسريع التحوالت‬
‫الذاهبة في هذا االتجاه)‪ ،‬بل التشكيك بهذا النظام‪ N‬انطالقا ً من تمرد أطرافه وانتفاضاتها‪ .N‬وليس صدفة‬
‫أن تكون روسيا‪" 1917 N‬الحلقة الضعيفة" في النظام‪ ،‬وال أن تنتقل الثورة باسم االشتراكية نحو الشرق‬
‫الحقا ً (الصين‪ ،‬مثالً)‪ ،‬في حين تخيب توقعات‪ N‬انهيار الغرب‪ ،‬الذي وضع لينين آماله فيه‪ .‬من هنا‪،‬‬
‫تواجه المجتمعات المث َّورة المعنية مهمة مزدوجة ومتناقضة في آن‪ ،‬هي "اللحاق" (وهذا يقتضي‬
‫اللجوء إلى وسائل ومناهج مماثلة لما في الرأسمالية)‪ ،‬و"صناعة شيء آخر" (بناء االشتراكية)‪ .‬كانت‬
‫المزاوجة بين هذه المهمات كما كانت عليه‪ ،‬هنا أو هناك‪ .‬كان يمكن لها أن تكون أفضل‪ ،‬ربما‪ ،‬بمعنى‬
‫أن تسمح بتقوية التطلعات الشيوعية بالتزامن مع إنجازات اللحاق‪ .‬ولكن يبقى أن هذا التناقض الفعلي‬
‫يقع في صلب تشكل الشروط‪ N‬الموضوعية للتطور التاريخي في المجتمعات ما بعد الثورية‪ .‬كانت‬
‫أشكال التنظيم والعمل السياسيين‪ ،‬التي ابتدعتها "األحزاب الثورية" (شيوعيو‪ N‬األممية الثالثة بالدرجة‬
‫األولى) أسيرة الفكرة القائلة بأن الثورة "قادمة حتما ً"‪ ،‬وأن شروطها الموضوعية قد اجتمعت‪ .‬وال‬
‫ينقص "الحزب" إالَّ بناء التنظيم المكلف بمهمة "فعل الثورة"‪ .‬وكان هذا يفترض في تلك الظروف‪ N‬أن‬
‫يتم التركيز على التجانس ("الوحدة الفوالذية"‪ ،‬فيما بعد)‪ ،‬وعلى النظام شبه العسكري‪ .N‬احتفظت‬
‫األحزاب المشار إليها بأشكال التنظيم‪ N‬هذه حتى بعد التخلي عن خيار االنقضاض الثوري المباشر‪ N‬منذ‬
‫سنوات ‪ .1920‬عندئ ٍذ وضعت في خدمة هدف ذي أولوية مختلفة‪ :‬حماية الدولة السوفياتية‪ ،‬من الداخل‬
‫‪.‬كما من الخارج‬

‫‪187‬‬
‫في أطراف‪ N‬الرأسمالية المعولمة ـ "منطقة العواصف" في النظام اإلمبريالي‪ N‬ـ ظل شكل آخر من‪ ‬‬
‫الثورة على جدول األعمال‪ .‬إالَّ أن هدفه ظ َّل ملتبسا ً ومشوشا ً‪ :‬هل هو تحرر وطني من اإلمبريالية‬
‫(واإلبقاء على الكثير‪ ،‬بل على األساس من العالقات االجتماعية الخاصة بالحداثة الرأسمالية)‪ ،‬أم أكثر‬
‫من ذلك؟ وظ َّل التحدي نفسه‪":‬اللحاق" و‪ /‬أو "صناعة شيء آخر"؟ أكان ذلك متعلقا ً بالثورات الجذرية‬
‫في الصين وفيتنام‪ N‬وكوبا‪ ،‬أو غير الجذرية في مناطق أخرى من آسيا وأفريقيا وأميركا‪ N‬الالتينية‪ .‬وكان‬
‫هذا التحدي يتمفصل بدوره مع مهمة أخرى اعتبرت أولوية كذلك هي الدفاع عن االتحاد السوفياتي‬
‫‪.‬المحاصر‪N‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ 3‬ـ الدفاع عن الدول ما بعد الثورية في صلب الخيارات االستراتيجية الطليعية‪.‬‬

‫وجد االتحاد السوفياتي‪ ،‬وبعده الصيني‪ ،‬نفسيهما في مواجهة استراتيجيات عزل منهجي من‬
‫جانب الرأسمالية المسيطرة والقوى الغربية‪ .‬هل يجدر بنا أن نذكر بأن الواليات المتحدة‪ ،‬على مدى‬
‫ثلث عمرها القصير‪ ،‬بنت استراتيجيتها‪ ،‬كقوة مهيمنة في النظام الرأسمالي‪ N،‬على هدف محدد هو‬
‫تدمير هذين الخصمين‪ ،‬إشتراكيين كانا أم غير اشتراكيين؟ وهل نذكر بأن واشنطن تمكنت من أن‬
‫تلحق بهذه االستراتيجية حلفاءها في مراكز‪ N‬الثالثية األخرى وفي األطراف‪ ،‬وأن تحل تدريجياً‪ N‬سلطة‬
‫طبقات كومبرادورية محل السلطات النابعة من حركة التحرر الوطني‪ N‬ذات التوجه الشعبي؟‬

‫يفهم عندئ ٍذ لماذا أعطيت األولوية عموما ً لحماية الدول ما بعد الثورية‪ ،‬طالما أن الثورة لم تعد‬
‫على جدول األعمال المباشر‪ .N‬كل االستراتيجيات‪ N‬السياسية التي وضعت ـ في االتحاد السوفياتي‪ N‬أيام‬
‫لينين وستالين وحلفائه‪ ،‬وفي‪ N‬الصين الماوية ثم بعد ماو والبلدان التي حكمتها أنظمة وطنية شعبوية‪،‬‬
‫والطالئع الشيوعية (أكانت تحت راية موسكو‪ ،‬أو بكين‪ ،‬أو مستقلة) ـ كل هذه االستراتيجيات‪ N‬تحددت‬
‫‪.‬بالقياس إلى المسألة المركزية أي حماية الدول ما بعد الثورية‬

‫لقد عرف االتحاد السوفياتي‪ N‬والصين في آن معا ً ترددات الثورات الكبرى وتواجها‪ N‬بنتائج التوسع‬
‫المتفاوت للرأسمالية العالمية‪ .‬وضحّى كل منهما‪ ،‬تدريجياً‪ ،‬بأهدافه الشيوعية األولى في سبيل‬
‫مقتضيات اللحاق االقتصادي‪ N‬المباشرة‪ .‬لقد حضر هذا االنزالق‪ ،‬في التخلي عن هدف الملكية‬
‫االجتماعية الذي يعرِّف شيوعية ماركس‪ ،‬وإبداله باإلدارة الدولتية المترافقة مع أفول الديمقراطية‬
‫الشعبية التي خنقتها الديكتاتورية الفظّة والدموية أحياناً‪،‬تسارع‪ N‬التحول نحو عودة الرأسمالية‪ .‬وهو‬
‫تحول مشترك‪ N‬في التجربتين كليهما على اختالف المسارات التي أدت إلى ذلك‪ .‬في الحالتين كانت‬

‫‪188‬‬
‫األولوية "للدفاع" عن الدولة ما بعد الثورية‪ ،‬وترافقت الوسائل الداخلية المستخدمة لهذا الغرض مع‬
‫استراتيجيات خارجية مناسبة لها‪ .‬عندئ ٍذ دُعيت األحزاب الشيوعية إلى االلتحاق بهذه الخيارات‪ ،‬ال في‬
‫االتجاه االستراتيجي العام وحسب‪ ،‬بل في التكيفات التكتيكية اليومية‪ .‬وما كان هذا لينتج إالَّ شحوباً‪N‬‬
‫سريعاً‪ N‬في فكر الثوريين النقدي‪ ،‬الذين ابتعد خطابهم‪  ‬المجرد بشأن "الثورة المرتقبة" عن تحليل‬
‫‪.‬التناقضات‪ N‬الفعلية في المجتمع‪ ،‬واستمرت لديهم أشكال التنظيم شبه العسكرية رغم كل المتغيرات‬

‫حتى الطالئع التي رفضت االلتحاق‪ ،‬وتجرأت أحيانا ً على النظر إلى واقع المجتمعات ما بعد‬
‫الثورية‪ ،‬لم تتخ َّل‪  ‬عن المقولة اللينينية األصلية (الثورة المرتقبة)‪ ،‬دونما اعتبار لكون الوقائع تكذب‬
‫هذه المقولة بشكل أكثر وضوحا ً من يوم إلى آخر‪ .‬ذلك كان حال التروتسكية وأحزاب األممية الرابعة‪،‬‬
‫وحال عدد كبير من المنظمات الثورية التي تستلهم الماوية أو الغيفارية‪ .‬واألمثلة على ذلك كثيرة‪ ،‬من‬
‫‪.‬الفلبين إلى الهند‪ ،‬ومن العالم العربي‪ N‬إلى أميركا الالتينية‬

‫‪ ‬‬

‫ّ‬
‫المجذرة‪ ‬‬ ‫‪ 4‬ـ بناء وطني و‪ /‬أو بناء اشتراكي في األطراف‬

‫اصطدمت حركات التحرر الوطني‪ N‬الكبرى في آسيا وأفريقيا‪ N،‬التي دخلت في نزاع مفتوح مع النظام‪ ‬‬
‫اإلمبريالي‪ N،‬مثلما اصطدمت الثورات التي قامت باسم االشتراكية‪ ،‬بمقتضيات "اللحاق" وتحويل‬
‫العالقات االجتماعية في صالح الطبقات الشعبية‪ .‬على المستوى‪ N‬الثاني هذا كانت األنظمة ما بعد‬
‫الثورية أقل جذرية من األنظمة الشيوعية‪ .‬ولهذا السبب أطلق على األنظمة األولى صفة "الوطنية ـ‬
‫الشعبوية"‪ .‬مع ذلك استوحت هذه األنظمة أشكاالً من التنظيم التي وضعتها تجارب "االشتراكية‬
‫القائمة فعليا ً" (الحزب األوحد ‪ ،‬ال ديمقراطية السلطة‪ ،‬إدارة دولتية لالقتصاد)‪ .‬إالَّ أنها أذابت فاعلية‬
‫هذه األشكال بخياراتها األيديولوجية المشوشة والتسويات التي ارتضتها مع الماضي‪  .‬في هذه‬
‫الشروط‪ N‬تحديداً دعيت هذه األنظمة القائمة‪ ،‬مثلما دعيت الطالئع النقدية (الشيوعية التاريخية في‬
‫البلدان المعنية) إلى دعم االتحاد السوفياتي‪ ،‬والصين بنسبة أقل‪ ،‬والحصول‪ N‬على مساعدتهما‪ .‬ال شك‬
‫أن بناء هذه الجبهة المشتركة ضد العدوان اإلمبريالي‪ N‬للواليات المتحدة وشركائها‪ N‬األوروبيين‬
‫واليابانيين‪ N‬كان مفيداً لشعوب آسيا وأفريقيا‪ .‬فقد أتاح هامشا ً من االستقاللية لمبادرات الطبقات الحاكمة‬
‫من تلك البلدان ولعمل طبقاتها الشعبية‪ ،‬في آن معا ً‪ .‬البرهان على ذلك يقدمه الواقع الذي أصبحت عليه‬
‫هذه البلدان بعد االنهيار السوفياتي‪ .‬وحتى قبل هذا االنهيار لم تحصل الطبقات القائدة ذات التوجه‬
‫"الغربي" على أية فائدة تذكر (المثال األبرز على ذلك يقدمه السادات الذي اعتبر أن الواليات المتحدة‬
‫تمتلك ‪ %90‬من أوراق‪ N‬القضية الفلسطينية‪ ،‬وأن الصداقة معها تسمح بقلب األوضاع‪ N‬لمصلحة القضية‬

‫‪189‬‬
‫العربية والفلسطينية)‪ .‬على العكس من ذلك شجع استسالم‪ N‬هذه األنظمة توسيع االستراتيجيات‬
‫‪.‬الهجومية لدى اإلمبريالية (وعزز بالمناسبة محور واشنطن ـ تل أبيب)‬

‫أما ما كان يمكن أن يثير الجدل فهي الشروط‪ N‬التي فرضها االتحاد السوفياتي على القوى السياسية‪ ‬‬
‫الملتزمة جانب الطبقات الشعبية في البلدان الحليفة (وتحديداً‪ N‬األحزاب الشيوعية)‪ .‬كان يمكن للمرء أن‬
‫يتصور أن هذه األحزاب ستحتفظ‪ ،‬في الجبهة المعادية لإلمبريالية‪ ،‬باستقاللية كاملة في حركتها‪،‬‬
‫كاعتراف باإلزدواجية اإلشكالية في المشاريع والمصالح االجتماعية للشركاء الملتزمين بهذه الجبهة‪.‬‬
‫ألن الطبقات القائدة كانت مستمرة في مشروع ذي طبيعة رأسمالية‪ ،‬رغم كونه "وطنياً‪ ،"N‬في حين أن‬
‫تلبية مصالح الطبقات الشعبية كانت تفترض تجاوز‪ N‬هذا األفق الذي كشف التاريخ حدوده الضيِّقة‪ .‬على‬
‫العكس من ذلك غ َّذت خيارات الدولة السوفياتية األوهام التي حملها المشروع الرأسمالي الوطني‪ N‬في‬
‫ذاته‪ ،‬وأضعفت بالتالي تعبيرات الطبقات الشعبية المستقلّة‪ .‬وكانت بدعة "الطريق الالّرأسمالي‪"N‬‬
‫‪.‬المزعوم تعبيراً عن هذا الخيار‬

‫ال شك أنه في تلك المرحلة ـ مرحلة باندونغ‪ 1955( N‬ـ‪ )1975‬كان من الصعب التمييز بين مصالح‪ ‬‬
‫األنظمة ومصالح شعوبها‪ .‬فالسلطات‪ N‬هذه كانت قد انبثقت لتوها من حركات تحرير‪ N‬ضخمة هزمت‬
‫اإلمبريالية في أشكالها القديمة (االستعمارية وشبه االستعمارية)‪ ،‬وترافقت أحيانا ً مع ثورات حقيقية‬
‫‪(.‬الصين وفيتنام وكوبا‪ .)N‬كانت هذه األنظمة ال تزال "قريبة" من شعوبها وتتمتع بمشروعية راسخة‬

‫قَبِ َل الشيوعيون العرب‪ ،‬في غالبيتهم‪ ،‬مقترحات القيادة السوفياتية‪ :‬إذ تحوّلوا‪ ،‬في أحسن األحوال‪ ،‬إلى‪ ‬‬
‫"جناح يساري" لألنظمة الوطنية الشعبوية المعادية لإلمبريالية‪ .‬وقدموا‪ N‬بالتالي دعما ً ال نقد فيه تقريباً‪،‬‬
‫وعمليا ً بال شروط‪ .N‬ولع َّل أبرز األمثلة على هذا حل الحزب الشيوعي المصري نفسه سنة ‪ 1965‬على‬
‫أمل وهمي أن يُس َمح له بإعادة تنشيط الحزب االشتراكي الناصري‪ .N‬وكذلك التحاق خالد بكداش في‬
‫ٍ‬
‫سوريا‪ N‬بمقولة أن ما هو قائم على جدول األعمال ال يمكن أن يكون أكثر من بناء وطني‪ ،‬وإخفاء‬
‫طبيعته الرأسمالية‪ .‬لقد عبَّرت عن رأيي في هذه المسألة المركزية في مكان آخر‪ ،‬وتحديداً في مناسبة‬
‫نشر مذكرات عدد من مناضلي تلك المرحلة في مصر‪ .‬وكانت خالصتي أن الشيوعية العربية‪،‬‬
‫بمجملها‪ ،‬لم تخرج من اإلطار األساسي للمشروع‪" N‬القومي الشعبوي"‪ ،‬متجاهلة أنه يندرج في خيار‬
‫راسمالي‪ N‬صرف في نهاية المطاف‪ .‬لم يكن هذا الخيار ظرفياً‪ ،‬وال "إنتهازيا ً"‪ ،‬بل كان من طبيعة‬
‫وتشوش اإليديولوجيات التي تحملها‪ ،‬وأخيراً‬
‫ُّ‬ ‫بنيوية يعكس النواقص األصلية لدى هذه الشيوعيات‪،‬‬
‫جهلها بالطبقات الشعبية التي كانت مدعوّة للدفاع‪ N‬عن مصالحها االجتماعية المباشرة والبعيدة المدى‪.‬‬
‫وكانت نتيجة هذا االختيار البائس أن فَقَ َد الشيوعيون مصداقيتهم ما إن بلغت األنظمة القومية الشعبوية‬

‫‪190‬‬
‫حدودها‪ N‬التاريخية‪ ،‬ودخلت مشروعيتها في مرحلة التآكل‪ .‬وبما أن اليسار الشيوعي لم يقترح بديالً‬
‫يتجاوز‪ N‬الشعبوية القومية فقد نشأ فراغ على المسرح السياسي فتح الطريق‪ N‬أمام انتشار‪ N‬اإلسالم‬
‫‪.‬السياسي‪N‬‬

‫ال شك أن بعض الشيوعيين العرب هنا وهناك رفضوا‪ N‬هذا االلتحاق الالمشروط‪ N‬بالدفاع عن سياسة‪ ‬‬
‫الدولة السوفياتية‪ .‬وأمثلة "القوميين" في اليمن الجنوبي‪ ،‬وبعض الكتل "الماوية" تقدِّم شواهد على‬
‫أن هؤالء أيضا ً لم يخرجوا‪ N‬من فرضية اللينينية األصلية القائلة "بأن الثورة أصبحت وشيكة"‪.‬‬
‫ذلك‪ .‬إالَّ َّ‬
‫وكانوا‪ N‬في هذا يشاطرون الغيفاريين في أميركا الالتينية والنكساليين في الهند الرؤيا نفسها‪ .‬ويُثبت‬
‫فشل الحركات الشجاعة التي استلهمت هؤالء أن المقولة اللينينية تنبع من تبسيطية مأساوية‪ ،‬وأنها‬
‫‪.‬خاطئة في النهاية‬

‫‪ ‬‬

‫ـ فتح النقاش حول االنتقال الطويل إلى االشتراكية العالمية ‪5‬‬

‫بعد االعتراف بخطأ لينين في تقديره للتحديات الواقعية ونضوج الشروط‪ N‬الثورية‪ ،‬علينا أن نذهب‪ ‬‬
‫أبعد من النقد الذاتي لتاريخ الشيوعية في القرن العشرين‪ ،‬لكي نفتح نقاشا ً مبدعا ً ومكشوفاً‪ N‬في شأن‬
‫‪.‬الستراتيجيات اإليجابية البديلة للقرن الواحد والعشرين‬

‫‪:‬لن أعود هنا إلى ما سبق أن اقترحته في مكان آخر‪ ،‬بل ِّ‬
‫ألخص الجوهري في النقاط اآلتية‪ ‬‬

‫علينا ان نتل َّمس ستراتيجيات تجيب على تحدي خيار "االنتقال‪I.                                                  ‬‬
‫‪.‬الطويل"من الرأسمالية العالمية إلى االشتراكية العالمية‬
‫‪     ‬‬ ‫ستتمازج‪ N‬خالل هذه المرحلة منظومات اجتماعية واقتصادية ‪II.                                                ‬‬
‫وسياسية ناتجة عن الصراعات االجتماعية لعناصر‪ N‬إعادة إنتاج المجتمع الرأسمالي‪،‬‬
‫وعناصر‪ N‬تُطلق وتط ِّور‪ N‬عالقات اجتماعية اشتراكية‪ .‬منطقتان متنازعتان في مزيج‬
‫‪.‬وتناقض‪ N‬دائمين‬
‫‪  ‬‬ ‫اإلنجازات على هذا الطريق‪ N‬ممكنة وضرورية في كل ‪III.                                                ‬‬
‫مناطق‪ N‬النظام الرأسمالي العالمي‪ ،‬في مراكزه اإلمبريالية كما في أطرافه التي ح ُِّولت‬
‫إلى كومبرادور‪ .‬بالطبع يجب أن تكون الستراتيجيات المرحلية لمثل هذه التحوالت‬

‫‪191‬‬
‫واقعية وخاصة بقوة األشياء نفسها‪ ،‬وتحديداً فيما يتعلق بالتناقضات بين المراكز‬
‫‪.‬واألطراف‬
‫هناك قوى اجتماعية وأيديولوجية وسياسية تعبِّر من خاللها ‪IV.                                                ‬‬
‫المصالح الشعبية عن نفسها‪ ،‬ولو في حالة من الغموض‪ ،‬بدأت تفعل في هذه‬
‫االتجاهات‪ .‬إالَّ أن هذه الحركات تقطر خيارات مختلفة‪ ،‬بعضها تقد ّمي‪ ،‬وأخرى حاملة‬
‫أوهام أو رجعية بوضوح‪( N‬مثل اإلجابات شبه الفاشية على التحديات)‪َّ .‬‬
‫إن تسييس‬
‫السجاالت بالمعنى اإليجابي والفعلي للكلمة يشكل شرطاً‪ N‬لبناء ما أس ّميه "التالقي في‬
‫‪.‬التنوع" بين القوى التقدمية‬
‫تش ِّكل ضحايا التوسع الرأسمالي الليبرالي أكثرية في كل مناطق ‪V.                                                ‬‬
‫العالم‪ .‬وعلى اإلشتراكية أن تكون قادرة على تجنيد هذه الفرصة التاريخية الجديدة‪.‬‬
‫وهي ال تستطيع‪ N‬ذلك إالَّ إذا أخذت في االعتبار التحوالت الناتجة عن الثورات‬
‫التكنولوجية التي غيَّرت في العمق هندسة البنى االجتماعية‪ .‬يجب أالَّ تظل الشيوعية‬
‫علم "الطبقة العاملة الصناعية" بالمعنى القديم للكلمة‪ ،‬فقط‪ .‬ألنها تستطيع‪ N‬أن تصبح‬
‫تنوع مراتبهم‪َّ .‬‬
‫إن‬ ‫راية المستقبل ألكثريات واسعة من العاملين‪ ،‬بصرف‪ N‬النظر عن ُّ‬
‫إعادة بناء وحدة العاملين‪َ ،‬من يتمتّع منهم بوضعية مستقرة في النظام‪ ،‬و َمن هم‬
‫مستبعدون منه‪ ،‬تش ِّكل اليوم تحديا ً رئيسيا ً للفكر اإلبداعي للتجديد الشيوعي‪ .‬في‬
‫األطراف‪ N‬يقتضي هذا البناء أيضا ً تنظيم حركات واسعة قادرة على فرض حق‬
‫الحصول على األرض لكل الفالحين‪ .‬وتزداد إلحاحية هذا التجديد عندما نعرف أننا‬
‫انتهينا بنسيان واقع أن الفالحين يش ّكلون نصف سكان األرض‪ ،‬وأن الرأسمالية في‬
‫‪.‬جميع أشكالها عاجزة عن ح ّل المشكلة الزراعية‬
‫إن استراتيجية عم ٍل فعّال ضمن هذا الخيار المطلوب يجب أن ‪VI.                                                ‬‬
‫تكون قادرة على إحداث اختراقات في اتجاهات ثالثة‪ :‬التق ُّدم االجتماعي‪،‬‬
‫والديمقراطية‪ ،‬وبناء نظام عالمي متعدد المراكز‪ .N‬إن الديمقراطية السياسية المقت َرحة‬
‫كرفيق‪ N‬طريق لخيار الرأسمالية الليبرالية االقتصادي هي على شفي إفقاد الديمقراطية‬
‫كل مصداقيتها‪ .‬وفي‪ N‬االتجاه المعاكس‪ ،‬لم يعد مقبوالً‪  ‬فرض تق ُّدم اجتماعي من فوق‪،‬‬
‫بديالً عن إبداع السلطة الديمقراطية للطبقات الشعبية لصيغ هذا التقدم وأشكال توسعه‪.‬‬
‫لن تكون هناك اشتراكية من دون الديمقراطية‪ ،‬ولكن ال منجزات ديمقراطية من دون‬
‫تق ُّدم اجتماعي‪ .‬أخيراً‪ ،‬ونظراً لواقع التنوع القومي (وتحديداً في الثقافات السياسية التي‬
‫التنوع)‪ ،‬والالمساواة الناتجة عن تاريخ توسع الرأسمالية العالمية‪ ،‬فإن فتح‬
‫ترسم‪ N‬هذا ُّ‬

‫‪192‬‬
‫اآلفاق‪ N‬التي تم ِّكن من تحقيق اختراقات اجتماعية وديمقراطية يفرض بناء نظام عالمي‬
‫متعدد المراكز‪ .‬والشرط‪ N‬األول لذلك‪ ،‬هو‪ ،‬بالطبع‪ ،‬إلحاق الهزيمة بمشروع واشنطن‬
‫‪.  ‬الرامي إلى السيطرة العسكرية على الكوكب‬

‫‪ ‬التقاط األنفاس في بورتو ألبجري‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫جوستاف ماسياه‬

‫‪ ‬‬

‫رئيس ‪CRID‬‬

‫نائب رئيس أتاك‬

‫‪ 26‬فبراير ‪2003‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫بلغ المندى االجتماعي العالمي لبورتو أليجري عامه الثالث‪ ،‬مثله مثل القرن‪ ،‬ويا له من تطور'‬
‫خالل أعوام ثالثة! وخالل هذه الفترة أصبح من الضروري أن تحدد حركة مقاومة العولمة جدول‬
‫أعمالها‪ ،‬واالنتقال من المقاومة إلى االقتراحات‪ ،‬من مقاومة العولمة إلى العولمة البديلة‪ .‬وخاللها‬
‫كذلك‪ ،‬قدمت الحركة االجتماعية البرازيلية‪ ،‬ومدينة بورتو' أليجري‪ ،‬ضيافتهما'‪ .‬وقد ورث المنتدى‬
‫االجتماعي العالمي أحداث سياتل‪ ،‬ومظاهرات' واشنطن‪ ،‬وبراغ‪ ،‬وجنوا؛ كما حرك سلسلة جديدة‬
‫من الحركات االجتماعية‪ ،‬وحركات المواطنين على نطاق العالم‪ ،‬سلسلة تمتلك حركيتها وإ يقاعها‬
‫الخاصين‪ .‬ويواجه المنتدى االجتماعي العالمي هذا العام بكل وضوح أربعة تحديات‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪193‬‬
‫األول هو تحدي الحرب‪ .‬ويقتضي' األمر التعبئة ضد الحرب‪ ،‬دون السماح للتهديد بالحرب أن‬
‫يستغل المنتدى‪ .‬صحيح أنه منذ البداية لم يتجاهل أحد العالقة بين الصراعات والحروب‪ ،‬وبين‬
‫التنمية‪ ،‬ولكن الحرب ضد العراق‪ ،‬بما لها من طابع إمبريالي' صريح‪ ،‬تستقطب كل االهتمام هذا‬
‫الحرب الحركة‪ ،‬حيث إن األخيرة هي أحد الدوافع لقيام هذه‬
‫ُ‬ ‫همش‬
‫العام‪ .‬والخطر هو أن تُ ِّ‬
‫الحروب‪ ،‬أو أن الجدل حول الحرب يهمش بقية الموضوعات'‪ .‬والطريقة التي تغلبت بها الحركة‬
‫في العام الماضي‪ ،‬على وضع مشابه‪ ،‬وهو المترتب على أحداث ‪ 11‬سبتمبر ‪ ،2001‬تبعث على‬
‫التشجيع‪ .‬وكانت التعبئة ضد الحرب على العراق كبيرة‪ ،‬خاصة مع حضور ‪ 3000‬أمريكي في‬
‫المنتدى‪ ،‬حيث كونوا' ثاني أكبر وفد'‪ .‬وحتى إذا لم تنجح هذه التعبئة في منع اإلدارة األمريكية في‬
‫سعيها الجنوني نحو السيطرة‪ ،‬من إثارة الحرب‪ ،‬فإنها ستساهم في عزلها وتحضر بذلك‪ ،‬للمستقبل‪،‬‬
‫في مواكبة ظهور وعي كوني‪ ،‬ورأي' عام عالمي‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫والتحدي الثاني هو التوسع‪ .‬وال يرجع األمر إلى مجرد الكم‪ ،‬بعد أن تجاوز عدد المشاركين المائة‬
‫ألف‪ ،‬رغم أن المشاكل التنظيمية‪ ،‬وخاصة الترجمة‪ ،‬تزداد صعوبة‪ ،‬بل يعود كذلك إلى صعوبة‬
‫الموازنة بين الوحدة والتنوع‪ ،‬أي على بناء الوحدة على أساس التنوع‪ .‬وهناك توسع جغرافي‬
‫حقيقي حتى إن لم يكن كامالً‪ ،‬وقد' ساعد عليه قيام المنتديات اإلقليمية في فلورنسا‪ '،‬وحيدر' أباد‪،‬‬
‫وأديس أبابا‪ ،‬ورام اهلل‪ ،‬والرباط‪ '،‬وأمازونيا‪ ،‬الخ‪ .‬ومع ذلك فاألقاليم اآلسيوية‪ ،‬واألفريقية‪،‬‬
‫والعربية‪ ،‬غير ممثلة بدرجة كافية‪ ،‬وهذا يبرز أهمية عقد الدورة القادمة للمنتدى االجتماعي‬
‫العالمي في الهند‪       .‬‬

‫‪ ‬‬

‫كذلك يقاس التوسع بتواتر' المنتديات والمبادرات ذات االرتباط' بالمنتدى‪ ،‬بما يشهد بالتقاء الحركات‬
‫االجتماعية والمواطنية‪ ،‬مثل اللقاءات والمنتديات' العالمية المتعلقة بشئون التعليم‪ ،‬والمرأة‪،‬‬
‫والنقابات‪ ،‬وحركات' الفالحين‪ ،‬ومن "بال صوت"‪ ،‬ومعسكرات الشباب‪ ،‬ومنتديات' أعضاء المجالس‬
‫المحلية المنتخبين‪ ،‬والبرلمانيين‪ ،‬والقضاة‪ ،‬واجتماعات الرابطة من أجل فرض ضريبة على‬
‫التعامالت المالية (أتاك)‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪194‬‬
‫كذلك فالتوسع' االجتماعي بعيد عن االكتمال‪ ،‬ال بمعنى أنه‪ ،‬كما يقول البعض أحياناً‪ ،‬فإن المنتدى‬
‫يقتصر على "الطبقات المتوسطة التقدمية"‪ ،‬مع أن المناقشات قد تبدي ميوالً ثقافية لها ارتباطات‬
‫اجتماعية‪ ،‬وأن المراتب االجتماعية السائدة ال تختفي بفعل عصا سحرية بمجرد االنتماء للمنتدى‪.‬‬
‫والكثير' من الروابط المشاركة في المنتدى منظمات شعبية‪ ،‬نقابية‪ ،‬أو فالحية أو سكانية‪ ،‬أو‬
‫شبابية‪ ...‬وفضالً' عن ذلك‪ ،‬فالمشاركة الجماهيرية للبرازيليين في المظاهرات المختلفة للمنتدى‬
‫تؤكد وجود الطبقات الشعبية‪ ،‬ومع ذلك فالحركة تواجه المغزى االجتماعي لمشروعها للتغيير‬
‫سواء فيما يتعلق باألهداف أو التحالفات‪ .‬فماذا سيكون وضع "الفئات األكثر احتياجاً" في العالم‬
‫البديل المقترح‪ ،‬وما مكانها في الحركة التي تناضل من أجل هذا العالم؟ وليس من السهل اإلجابة‬
‫عن هذا السؤال رغم مركزيته ألن المجتمعات تتطور‪ ،‬وألنه من الضروري النظر للقضية‬
‫االجتماعية على المستوى' العالمي‪ .‬وال بد من التفكير في قضية التمثيل على المستوى العملي‪ ،‬وفي‬
‫المواقف' المختلفة‪ ،‬فاألمر' له أهميته عند تحديد المشروعات والحديث عن الفقراء‪ ،‬والمستبعدين‪،‬‬
‫والممّيز ضدهم‪.‬‬
‫َ‬ ‫والمستغلين‪ ،‬والمضطهدين‪،‬‬
‫َ‬ ‫والـ"بدون"‪،‬‬

‫‪ ‬‬

‫والتوسع' يؤثر' كذلك على الدور المتزايد للثقافة في المظاهرات والمناقشات‪ ،‬فموضوع' اللغات‬
‫يفرض نفسه بجميع أبعاده‪ :‬في الرغبة في إقامة رؤية عالمية تحترم تنوع اللغات والثقافات‪ ،‬وفي'‬
‫حق كل فرد في المشاركة في المناقشات بلغته الخاصة‪ ،‬وفي تطوع المئات من المترجمين الذين‬
‫يملئون جنبات المنتديات االجتماعية العالمية‪ .‬والمنتدى' االجتماعي العالمي هو كذلك‪ ،‬مكان التقاء‬
‫للتيارات السياسية‪ ،‬واأليديولوجية‪ ،‬والدينية‪ ،‬والثقافية‪ ،‬التي تتعلم أن تتعرف إلى ذواتها انتظاراً‬
‫للتعرف إلى بعضها البعض‪  ‬بدرجة أكبر‪ ،‬وأن تفهم بعضها البعض في يوم قادم‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫والتحدي الثالث يتعلق بالتعمق‪ .‬فالحلقات الدراسية‪ ،‬وورش العمل التي بلغ عددها ‪ ،1300‬لم تكن‬
‫متساوية بالتأكيد‪ ،‬فبعضها' قد حقق تقدماً كبيراً في النقاش‪ .‬وقد تبلور اتجاه عام‪ ،‬بدأ في العام‬
‫الماضي‪ ،‬وأخذ يتغلغل في مجموع المنتدى االجتماعي‪ ،‬وهو أن تنظيم' االقتصاد والمجتمع يجب أن‬
‫ُيبنى على أساس الحصول على الحقوق المدنية والسياسية‪ ،‬وكذلك الحقوق االقتصادية‪،‬‬
‫واالجتماعية‪ ،‬والثقافية‪ ،‬وليس على أساس منطق األسواق' المالية‪ .‬كيف يمكن التعبير عن اقتراحات'‬
‫تساعد على دعم التعبئة‪ ،‬وتجسيد هذه الحقوق في سياسات؟‬

‫‪ ‬‬

‫‪195‬‬
‫ويظهر' التعمق في أوساط' الشبكات القائمة حالياً‪ ،‬ودون التواصل‪ ،‬ال يمكن تراكم المعارف‪ ،‬وال‬
‫تقدمها‪ .‬والمنتدى االجتماعي يوفر' لها المجال لتوسيع الشبكات وتدعيمها‪ ،‬بتجميع الشبكات التي‬
‫تعمل في نفس الموضوعات‪ ،‬أو موضوعات مترابطة‪ ،‬وإ غناء اإلشكاليات عن طريق' إعادة ترتيب‬
‫المشاكل المتماثلة في أوضاع' مختلفة‪ ،‬ومراجعة صحة الفروض‪ ،‬وإ قامة ثقافة عالمية على أساس‬
‫معرفة العالم والبدائل المتاحة‪ .‬وهكذا أمكن خالل ثالثة أعوام دراسة التقدم في الموضوعات‬
‫المختلفة‪ .‬ففي السنة األولى‪ ،‬تعلمت "األطراف المشاركة" أن تتعرف' على بعضها البعض‪ ،‬وتكونت‬
‫دوائر' قامت ببحث المشاكل المشتركة‪ .‬وفي السنة الثانية نوقشت التشخيصات المختلفة‪ ،‬وتبودلت‪،‬‬
‫وربط' فيما بين المشاكل‪ ،‬وبدأ تبلور االقتراحات على شكل إعالن للمبادئ واألهداف المشتركة‪.‬‬
‫ُ‬
‫وهذا العام‪ ،‬قُدمت اقتراحات' على شكل اختيارات استراتيجية‪ ،‬وتحركات تقوم بها الحركات‬
‫االجتماعية وحركات المواطنين‪ .‬وقد جرى تعميق سلسلة كاملة من الموضوعات‪ ،‬ومن بين تلك‬
‫التي تسنى لي متابعتها‪ ،‬نذكر موضوع' الحقوق االقتصادية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬والثقافية؛ والسالم‪،‬‬
‫والصراعات‪ ،‬والتنمية؛ والحق في المسكن؛ والحق في المدينة والديمقراطية بالمشاركة؛ والمياه؛‬
‫والخدمات العامة؛ وسنعطي' هنا مثالين‪:‬‬

‫‪ ‬‬

‫لقد حدث تعميق ملموس لقضية الماء‪ ،‬ففي السنة األولى أُخذ علم بحجم المشكلة‪ ،‬وانعدام' المساواة‬
‫ابتداء من حصول فقراء هايتي على ‪ 20‬لتراً من الماء للفرد في اليوم‪ ،‬إلى‬
‫ً‬ ‫وباألوضاع' المختلفة‪.‬‬
‫‪ 700‬لتراً يحصل عليها األمريكي في اليوم‪ ،‬تصل إلى ‪ 4000‬لتر لكل من سكان كاليفورنيا‪'،‬‬
‫ودعك من جفاف نهر كلورادو‪ ،‬وخطوط المواسير الضخمة لجلب الماء من المكسيك‪ .‬وكذلك‬
‫مشكلة تلوث الطبقات الحاملة للمياه الجوفية‪ ،‬وتغبر المناخ‪ ،‬واألوضاع المائية في الريف‪ ،‬والريع‬
‫الناتج من احتكار الماء‪ ،‬ودور' الشركات متعدية الجنسية لتوزيع الماء‪ .‬وفي السنة الثانية‪ ،‬يقرر‬
‫المجلس العالمي للمياه تحديد الحد األدنى للماء ومقداره ‪ 50‬لتراً للفرد يومياً‪ ،‬مع ربطه بنظام'‬
‫عالمي للتسعير'‪ .‬وهذا العام‪ ،‬أُقر برنامج من سبع نقاط (إبعاد الماء عن سلطة ‪ ،CSِAG‬وإ نشاء‬
‫مؤسسات' شرعية جديدة‪ ،‬تعريف' الحق في الماء‪ ،‬إدارة شئون الماء محلياً‪ ،‬شفافية عقود إدارة‬
‫المياه‪ ،‬الحد من تبديد الماء‪ ،‬والحد من التلوث)‪ .‬وحتى يمكن التدخل في المنتدى العالمي للمياه في‬
‫كيوتو‪ ،‬والذي سيمهد الطريق لعمليات الخصخصة‪ ،‬ستنظم منتديات بديلة للماء في األقاليم الكبرى‪،‬‬
‫والمخطط' لعقدها في البرازيل‪ ،‬والواليات' المتحدة‪ ،‬وغانا‪ ،‬واليابان‪ .‬وسيعقد المنتدى األوروبي' في‬
‫فلورنسا في مايو ‪ ،2003‬وسيحضر للمنتدى االجتماعي األوروبي' في باريس‪ ،‬سان ديني‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫وسيركز على التحالفات بين المستخدمين والمدافعين عن البيئة‪ ،‬والنقابيين‪ ،‬وعلى النضال ضد‬
‫عمليات الخصخصة‪ ،‬ودور البلديات‪ ،‬وكشف الدور الذي تلعبه الشركات الكبرى متعدية الجنسية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫كذلك حدث تعميق محسوس في موضوع' المدينة والحق في المسكن‪ .‬ففي العامين األولين‪ ،‬أكد‬
‫منتدى أعضاء المجالس المحلية المنتخبين‪ ،‬على الدور االستراتيجي' للبلديات‪ ،‬والتجمعات المحلية‪.‬‬
‫وهذا العام‪ ،‬ظهر توجه محدد‪ :‬إن ما يميز بلدية تقدمية هو من جهة‪ ،‬حصول الجميع على نفس‬
‫الحقوق‪ ،‬ومن جهة أخرى‪ ،‬الديمقراطية بالمشاركة‪ .‬ويركز' منتدى أعضاء المجالس المحلية‬
‫المنتخبين على أهمية العالقات الجديدة بين المؤسسات' المحلية‪ ،‬ومجموع' الالعبين المحليين‪،‬‬
‫وتنوعها'‪ .‬وبدأت مالمح برنامج للعمل نظهر في َخمس اتجاهات‪ :‬المساواة في الحصول على‬
‫الحقوق األساسية مع التركيز' على الخدمات العامة المحلية؛ النضال ضد أشكال التمييز‪ ،‬مع تحديد‬
‫خاص لسياسات التصرف' في األراضي والمواصالت؛ إنتاج الثروة محلياً مع التركيز' على فرص‬
‫العمل‪ ،‬والدخل الناتج عنه‪ ،‬بضمان التنوع في أشكال اإلنتاج‪ ،‬دون تجاهل أشكال اإلنتاج‬
‫االجتماعي والتكافلي؛ الحصول على المسكن بوصفه التعبير الملموس عن الحق في المدينة؛‬
‫الحصول على المجال العام مع التركيز على ضمان المسكن للمواطن‪ ،‬وأهمية الهيئات المنتخبة‬
‫ديمقراطياً‪ ،‬واألشكال الجديدة للديمقراطية بالمشاركة‪ .‬وهذا التوجه الجديد الذي سيجري' تأكيده في‬
‫منتدى أعضاء المجالس المحلية المنتخبين‪ ،‬في نوفمبر ‪ ،2003‬في سان ديني‪ ،‬قد يحمله أولئك‬
‫األعضاء المشاركين في المنتديات االجتماعية التي تعد لمؤتمر توحيد الحركة العالمية للبلديات‬
‫الذي سيعقد في باريس في مايو ‪ .2004‬وكان الجالسون على المنصة في جلسة الحق في المسكن‬
‫في المنتدى االجتماعي يعبرون بشكل مركز عن تطور' المنتدى‪ ،‬وكان نصف الجمهور' من‬
‫الحركات االجتماعية‪ ،‬وخاصة المنتمين لحركة "التحالف الدولي للسكان"‪ ،‬الممثلة على المنصة‪ ،‬في‬
‫حين كانت "حركة السكان البرازيلية" باالشتراك' مع حركة ‪ ،DAL‬الفرنسية‪ ،‬قد نظمت احتالالً‬
‫لألرض‪ .‬وكان ثلث الجمهور' المشارك' ـ نتيجة لخطأ في التنظيم' ـ مكون من خمسمائة من شباب‬
‫غني المعوق مارسيلو' يوكا‪ .‬كذلك كان‬‫الم ِّ‬
‫العشوائيات' البرازيلية‪ ،‬حضروا' لالستماع إلى شهادة من ُ‬
‫حاضراً' أوليفيو دوترا‪ ،‬الحاكم السابق لبورتو' أليجري‪ ،‬ووزير' البلديات في حكومة لوال‪ ،‬الذي‬
‫حضر مع فريقه الكامل‪ ،‬لعرض برنامجه‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪197‬‬
‫والتحدي الرابع هو االنتقال من االجتماع إلى السياسة‪ .‬وال يتعلق األمر بمناقشة العالقة بين‬
‫الحركة واألحزاب فحسب‪ ،‬وإ نما يفرض ُبعد المواطنة نفسه بشكل متزايد‪ ،‬ويتخذ' شكالً‪  ‬ملموساً‬
‫في المنتديات االجتماعية المحلية‪ .‬ويثير نجاح لوال في انتخابات البرازيل هذا العام‪ ،‬قضية‬
‫مزدوجة‪ ،‬وهي قضية العالقة مع حكومة يمكن أن تستلهم قيم الحركة ومقترحاتها' من جهة‪ ،‬وقضية‬
‫إعادة التوازن الجيوسياسي لمصلحة الجنوب‪ ،‬من الجهة األخرى‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وغني عن البيان‪ ،‬أن المنتدى االجتماعي العالمي‪ ،‬والحكومة البرازيلية الجديدة مستقالن كل عن‬
‫اآلخر‪ ،‬وال يمثل أحدهما اآلخر‪ ،‬ولكن تبني مقترحات المنتدى ضمن سياسات حكومية ليس باألمر‬
‫التافه‪ .‬فليس مما يمكن تجاهله مثالً‪ ،‬أن تتبنى الحكومة الهندية مبدأ فرض ضريبة عالمية من نوع‬
‫ضريبة "توبين"‪ ،‬وصحيح أن ذلك يفتح الباب لفرص جديدة‪ ،‬ولكنه يثير في الوقت نفسه مخاطر‬
‫التراجع‪ .‬وحكومة لوال في البرازيل تخلق وضعاً' جديداً في البالد بفضل حجم الحركة االجتماعية‬
‫البرازيلية التي حملتها إلى السلطة‪ ،‬ونفس هذه الجماهير من الرجال والنساء هي التي منحت‬
‫المنتدى االجتماعي العالمي قوته‪ .‬وسيكون' لمستقبل حكومة لوال‪ ،‬وما تحققه من نجاح أو فشل‪،‬‬
‫أثراً غير قليل على تطور' الحركة‪ ،‬كما أن أي تقدم للحركة سيوسع من هامش المناورة أمام تلك‬
‫الحكومة‪ .‬واالهتمام باستقالل كل منهما عن األخرى ال يعني بأي حال عدم االهتمام‪ ،‬وإ نما‬
‫ضرورة االنتباه الشديد‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وسيصبح' المشروع' الجديد لهذه الحكومة مرجعاً للعالم بقدر ما ينجح في حل المشاكل البرازيلية‪،‬‬
‫فعندما' تضع الحكومة في المقدمة هدفين لهما مغزاهما‪ ،‬وهما القضاء على الجوع في البرازيل‪،‬‬
‫وتقريب المسافة بين المناطق' الفقيرة والمناطق األخرى‪ ،‬فهي تعلن بذلك‪ ،‬أولويات مشروعها‬
‫االجتماعي‪ ،‬الديمقراطي‪ ،‬الوطني‪ .‬والتدابير' األولى التي اتخذتها تسير في هذا االتجاه‪ ،‬ولكن من‬
‫الواجب تدعيمها بإصالحات هيكلية في مجال األمن الغذائي‪ ،‬واإلصالح الزراعي‪ ،‬والحرب ضد‬
‫الفقر في المدن‪ ،‬وإ يجاد' فرص العمل‪ ،‬والصحة والتعليم‪ ،‬والمساكن الشعبية‪ ،‬واإلصالح الضريبي‪،‬‬
‫والضمان االجتماعي وقوانين العمل‪ ،‬وتحديث البنية التحتية‪ .‬أي أن األمر يتعلق ببرنامج واسع‬
‫المدى‪ ،‬ال يمكن توقع نتائجه الحاسمة في المدى القصير‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪198‬‬
‫ويواجه تطبيق هذه السياسات الكثير من العقبات‪ ،‬وأولها' الديون‪ ،‬وخاصة الديون قصيرة األجل‬
‫بفوائدها الباهظة‪ ،‬وضرورة زيادة الصادرات بمعدل ‪ %10‬سنوياً لضمان التسديد‪ .‬وهذا يفسر‬
‫النداء ضد سياسة الحماية التجارية‪ ،‬التي تواجهها البرازيل من جانب الواليات المتحدة وأوروبا'‪.‬‬
‫ومن الطبيعي' أن هذا النداء له ٍ‬
‫معان ملتبسة‪ ،‬إذ يمكن تفسيره على أنه اعتراف بدور إيجابي للسوق'‬
‫العالمي‪ ،‬ويمكن تفسيره‪ ،‬كما قال بعض المشاركين في منتدى دافوس‪ ،‬على أنه الرجوع اإلجباري‬
‫إلى الواقعية اللبرالية‪ .‬ودون محاولة لتقييد هامش المناورة أمام حكام البرازيل‪ ،‬على الحركة‬
‫االجتماعية أن تعيد تأكيد موقفها المتحدي للصادرات‪ ،‬واختيارها' االستراتيجي لألمن الغذائي‬
‫باالعتماد على زراعة الفالح الصغير في مقابل كبار المزارعين المصدرين‪ .‬وهذا هو األساس‬
‫الذي يمكن على أساسه بناء التحالف بين الفالحين البرازيليين واألوروبيين‪ .‬ومن المفهوم طبعاً أن‬
‫الفريق الجديد يحتاج إلى بعض الوقت للتحول من الزراعة الكبيرة إلى زراعة صغار' الفالحين‬
‫الموجهة نحو األمن الغذائي‪ ،‬وكذلك لتحويل الدين‪ .‬وعلى هذا األساس‪ ،‬فإن دعم مرحلة انتقالية ال‬
‫ُيفهَم إال في إطار نظرة مستقبلية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫والجدل حول المرحلة االنتقالية يأخذ مكاناً مركزياً‪ ،‬فحكومة لوال تعتقد أن الخطر األكبر يكمن في‬
‫فترة الستة عشر أو الثمانية عشر شهراً القادمة‪ ،‬وهي الفترة التي يجب أن يتحقق فيها النجاح في‬
‫التحويالت الالزمة‪ ،‬مع مقاومة جميع محاوالت زعزعة االستقرار' سواء من الداخل أو الخارج‪.‬‬
‫وفي' الظروف الحالية ال تستطيع البرازيل أن تلغي ديونها' من جانب واحد‪ ،‬وعليها أن تتجنب‬
‫المواجهة مع المؤسسات المالية الدولية‪ ،‬ومع المستثمرين‪  .‬ومع ذلك فالبرازيل ليست في موقف'‬
‫ضعيف' تماماً‪ ،‬فاألوضاع الهشة القتصادات أمريكا الالتينية‪ ،‬والخوف' من تأثير تتابع األزمات‬
‫االقتصادية كقطع الدومينو‪ ،‬تقلل من فرص االنقالبات المالية وتعطي هامشاً من الحرية في‬
‫المفاوضات النقدية‪ .‬وفي المقابل تتعرض البالد لضغط شديد من الواليات المتحدة في داخل منطقة‬
‫التجارة الحرة األمريكية‪ ،‬حيث تعاني البرازيل من العزلة‪ .‬وهي تحتاج لبعض الوقت لتعيد تجميع‬
‫قوى' أمريكا الالتينية لتحقق النجاح القتراح الوحدة السياسية في إطار "الميركوسور'" (الوحدة‬
‫االقتصادية للجنوب)‪ .‬ومفتاح الموقف‪ ،‬وهو الوحيد الذي يسمح بالوقوف أمام االضطرابات‪ ،‬هو‬
‫قوة التأييد الشعبي‪ ،‬والترابط المستمر واليقظ للحركة الشعبية البرازيلية‪ .‬وهنا أيضا تتوافر األسباب‬
‫لألمل‪ ،‬ال فقط بسبب ثقة الشعب البرازيلي' المتجددة في لوال‪ ،‬ولكن في خبرات الواليات والبلديات‬
‫التي أظهرت خالل السنوات العشر الماضية قدرة على التغلب على لحظات من التناقضات'‬

‫‪199‬‬
‫والمصاعب الخطيرة دون انقطاع كامل للثقة بين القوى الحاكمة تحت قيادة تحالفات حزب العمل‪،‬‬
‫وبين الحركة الشعبية والرأي' العام‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وكختام مؤقت‪ ،‬نؤكد أننا ندخل مرحلة جديدة للحركة االجتماعية وحركة المواطنين العالمية تسمى‬
‫مرحلة "العولمة البديلة"‪ ،‬وهي تعني تحركاً قوياً' على أساس األمل المتجدد‪ .‬وهي حركة هشة‬
‫ومحفوفة بالمخاطر والتناقضات‪ ،‬ولكنها حركة حية‪ .‬وليس للحركة نقطة نهاية محددة مقدماً‪،‬‬
‫والتحدي' الذي يواجهها' ليس توجيه العملية والسيطرة عليها‪ ،‬بقدر ما هو اختراع رؤى' جديدة خالل‬
‫التحرك‪ .‬ولعل هذه المرحلة لن تكون طويلة‪ ،‬ومهما كان طولها فإنها ستطبع بعمق المرحلة‬
‫القادمة‪ ،‬واألشكال' التي ستتخذها' حركات التحرر‪ .‬والسنة الحالية غنية باألحداث بما فيها‬
‫المظاهرات ضد اجتماع الثمانية الكبار في يونيو ‪ ،2003‬في إيفيان بفرنسا؛ والمظاهرات' ضد‬
‫منظمة التجارة العالمية في كانكون بالمكسيك في سبتمبر' ‪2003‬؛ واجتماعات المنتديات اإلقليمية‪،‬‬
‫وخاصة المنتدى االجتماعي األوروبي' في باريس وسان ديني بفرنسا‪ ،‬في نوفمبر ‪2003‬؛ واللقاء‬
‫العالمي في الهند خالل الربع األول من عام ‪.2004‬‬

‫‪                   ‬المنتدى االجتماعى العربى‬

‫عالم عربي أفضل‪ ....‬ممكن*‬


‫‪ ‬‬

‫فخرى لبيب‬
‫‪ ‬‬

‫بدأ الحوار حول المنتدى االجتماعى العربى بندوات دراسية حول "العولمة الراهنة" والحرك ات االجتماعية جمعت‬
‫ممثلي و نش طاء المجتمع الم دنى فى مصر لتب ادل اآلراء‪ ,‬والعمل على المش اركة الفعالة فى المحافل الدولية‪.‬‬
‫وخاصة المنتدى االجتماعى األفريقي‪ ,‬والمنتدى االجتماعى العالمى‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬كان ذلك فى أواخر عام ‪.2002‬‬

‫واختتمت هذه اللقاءات باجتماع لإلعداد للمشاركة فى المنتدى االجتماعى العالمى‪ ,‬الذى انعقد فى بورتو اليجرى فى‬
‫البرازيل من ‪ 28 -23‬يناير ‪.2003‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪200‬‬
‫انعقد هذا االجتماع التحضيري للمشاركة فى ‪ ,12/1/2003-11‬معلنا أن الدعوة اآلن ملحة إلقامة منتدى اجتماعى‬
‫عربي‪ ,‬يكون حلقة الوصل بين المنتدى االجتماعى العالمى والمنطقة العربية‪ ,‬يتابع تطور األوض اع االقتص ادية‬
‫العالمية‪ ,‬من ناحية‪ ,‬ويبلور من ناحية أخرى‪ ,‬برنامج عمل‪ ,‬وبدائل اقتصادية لما تطرحه المؤسس ات االقتص ادية‬
‫والتجارية والمالية العالمية ‪.‬بدائل وبرامج تعكس مصالح وهموم العالم الثالث‪ .‬وكان جدول أعمال هذا االجتماع‪:‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪-1‬عسكرة العولمة وتحديات التنمية فى البلدان العربية‪.‬‬

‫‪-2‬الديمقراطية وحقوق اإلنسان والحريات ومستقبل الحركات االجتماعية فى البلدان العربية‪.‬‬

‫‪-3‬تأثير العولمة على المرأة العربية ‪.‬‬

‫‪-4‬أجندة االجتماع الوزاري لمنظمة التجارة العالمية (كانكون) ‪.‬‬

‫‪-5‬إقامة منتدى اجتماعى عربي ‪.‬‬

‫وانتهى االجتماع إلى األهمية القصوى لتكوين المنتدى االجتماعى العربى ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫واتفق المجتمعون على توجيه نداء لكل أصحاب المص لحة من أجل تش كيل ه ذا المنت دى‪ .‬وتم تش كيل لجنة‬
‫تحضيرية ‪.‬‬

‫أو لجنة تنسيق إقليمية‪ .‬من ثمان منظمات كي تقوم بالدعوة واالتصال والتحضير الجتماع تأسيسي واسع ‪ .‬ثم عقد‬
‫هذا االجتماع فى ‪ , 8/4/2004‬حيث جرى فيه التأكيد على ضرورة عدم استبعاد أى جهة قطرية أو منظمات أو‬
‫أحزاب أ ونقابات‪ ,‬كما اعتبرت قضية مناهضة الغزو األمريكي للعراق قضية أساسية ‪ ,‬وأهمية أعداد بي ان ح ول‬
‫لماذا المنتدى العربى؟ و إرساله إلى أكبر عدد من المنظمات غير الحكومية واألحزاب و النقاب ات‪ .‬وتش كيل وفد‬
‫يلتقي بالهيئات العربية واإلقليمية لدعوتها لالنضمام للمنتدى‬

‫‪ ‬‬

‫ثم جاءت ورقة لماذا المنتدى االجتماعى العربى ؟ بمقدمة عن المنتدى االجتماعى الع المى‪ ,‬ودوره و فعالياته فى‬
‫مواجهة العولمة ‪.‬ثم تناول اللبرالية الجدي دة ووحش يتها‪ ,‬واحتكارها للمنج زات‪  ‬العلمية والتكنولوجية‪ ,‬ورؤوس‬
‫األموال ووسائل اإلعالم الحديثة وأسلحة التدمير الشامل‪ ,‬والقرارات فى المؤسسات المالية الدولية‪ ,‬ومنظمة التجارة‬
‫العالمية ‪ ,‬ووكاالت األمم المتحدة وشروطها الجائرة على الجنوب واالقتصاد‪  ,‬والتبعية والديون‪ ,‬وفقدان الس يطرة‬
‫على القرار الوطني‪ ,‬واالعتداء على الخصوصيات الثقافية والهوية القومية‪ ,‬ثم جاءت أح داث الح ادي عشر من‬
‫سبتمبر ‪ 2001‬والموقف األم ريكي‪ ,‬تهميش الش رعية الدولية ‪ ,‬وإع ادة تش كيل النظم اإلقليمية ‪  ,‬الع دوان‬
‫األنجلوأمريكى على العراق باعتباره ‪ ‬يمثل حقبة جديدة فى عس كرة العولمة ‪. .‬ثم التحرك ات الجماهيرية العالمية‬
‫ضد الحرب الخارجة عن الشرعية الدولية‪ ,‬وضد محاولة التهام ثروات العرب وإع ادة تش كيل الخارطة لص الح‬
‫الحليف الصهيوني ‪ :‬وأن يكون للمنتدى برنامج عمل وتوجهات خاصة بالمنطقة العربية باإلضافة إلى القضايا ذات‬
‫الطابع الدولي‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬وأهمية توحيد االحتياجات‪ ,‬واتساق الضغوط الشعبية‪  .‬وإعالن إن المنتدى االجتماعى العربى مفتوح أمام الجميع‪,‬‬
‫ويمكن أن يتسق أنشطته مع المنتدى االجتماعى اآلسيوي‪ ,‬والمنتدى االجتماعى األفريقي ‪ .‬تحت شعار ع الم آخر‬
‫ممكن وتحدد أن المنتدى االجتماعى العربى ليس فرعا للمنتدى االجتماعى العالمى‪ ,‬لكنه مشارك فى نشاطاته كواحد‬
‫من مكوناته ‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫‪ ‬وأن عضوية المنتدى مرتبطة باالتفاق مع نقاطه البرنامجية العريضة وهو يقوم على الندية الكاملة فى العالقة بين‬
‫المنظمات األعضاء‪ ,‬وليس هنالك وجود لما يسمى بالمركزية الديمقراطية ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ولذا يجب التوجه إلى أوسع دائرة من المنظمات غير الحكومية‪ ,‬والتنظيمات الشعبية‪ ,‬والجمعيات األهلية‪  ,‬والغرف‬
‫التجارية والصناعية ورجال األعمال المتضررين من العولمة‪ ,‬والمراكز البحثية‪  ‬وممثلي الحركات االجتماعية فى‬
‫مختلف األقطار العربية للمشاركة فى هذه العملية وأن هنالك بالفعل نمو ملح وظ للحرك ات االجتماعية المناهضة‬
‫للعولمة – اللبيرالية الجدي دة‪  ‬رغم أنها لم‪  ‬تنضج بالق در الك افي للمواجهة الفعالة‪ ,‬وعلينا أال نتجاهل ه ذه‬
‫الحركات ‪.‬المنتدى أطار يهدف إلى الحوار والتنسيق الطوعى لمواجهة العولمة والمشاركة فى بناء عولمة جديدة‬

‫‪ ‬وتم تشكيل لجنة متابعة‪  ,‬لما تم التوصل إليه من التحضير للقاءات‪  ‬فى مومباى‪ .‬وفى مومباى حدثت ثالثة لقاءات‬
‫للمنظمات غير الحكومية العربية‪:‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬اجتماع فى ‪ 17/1‬دعت إليه لجنة المتابعة وحضره حوالي ‪ 46‬مشاركا عربيا من مختلف البلدان وفيه تم عرض‬
‫كل المحاوالت والمجهودات السابقة‪ .‬واآلراء واألفكار المختلفة حول أهمية المنتدى االجتم اعى الع ربي تص ور‬
‫نظامه الداخلي الذى ال يقوم على الوحدة األيديولوجية كما فى الح زب الواحد‪  ,‬وال على ش كل الجبهة ال تى لها‬
‫ضوابط وقواعد‪.‬‬

‫‪ .‬والمنتدى يفترض القبول باالختالف منذ البداية إنه منصة لإلعالن عن الرأي والموقف ووحدة لقاء فى األهداف‬
‫المتقاربة‪ ,‬وحتى إذا اختلفت منطقاتها ومنابعها ‪..‬إنه يقبل التعددية والتنوع حول مواقف موحدة دفاعا عن اإلنس ان‬
‫ومن أجل عالم أفضل ‪ .‬وهو مفتوح دون فرز أو انتقاء‪ ,‬أو استثناء‪ ,‬أو تمييز‪ ,‬وليس ألحد حق الفيتو طالما االلتقاء‬
‫يدور حول برنامج وأهداف محددة‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ثم كان االجتماع الثاني فى ‪  1 /19‬وقد دعت إليه شبكة المنظمات الغير حكومية العربية للتنمية وكان استمرارًا‬
‫الجتماع ‪ 17/1‬وما جرى فيه من حوار‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ثم جاء اجتماع ‪ , 20/1‬والذى دعت إليه الجمعية الوطنية لحقوق اإلنسان والتنمية البشرية و دار فيه النقاش‪  ‬حول‬
‫مشروع كولين بول للشراكة الشرق األوسطية و الديمقراطية ‪.‬‬

‫‪ ‬ثم جرى حوار حول معايير اختيار أعضاء اللجنة التى ستتتابع أعمال التحضير للمنتدى الع ربى وقد تم االتف اق‬
‫على المعايير التالية‬

‫‪ ‬‬

‫‪ -1‬أ ن يكونوا ممثلين لشبكات تضم منظمات عدة ‪.‬‬

‫‪ -2‬أن يكونوا ممثلين لمنتديات مختلفة قطرية ثم تشكيلها‪.‬‬

‫‪ -3‬أن يكونوا ممثلين للجان تحضيرية لمنتديات قطرية تحت التأسيس‪.‬‬

‫وبناءً على ذلك تما اختيار‪ 13‬ممثال لشبكة أو منتدى فعلى‪  ‬أو تحت التأسيس ‪ .‬كما تم فى مومباى االتفاق على عقد‬
‫اجتماع بالقاهرة وأخر فى المغرب ‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫‪ ‬‬

‫وانعقد بالفعل اجتماع القاهرة يومي ‪ 28-27‬مايو‪ 2004‬وقد استهدف‪  ‬التوزيع الواسع للدعوة والمطبوع ات‪,‬‬
‫إشراك أوسع دائرة ممكنة من المنظمات بهدف التفاعل الصحي ‪ ,‬بغض النظر عن الحضور‪ ,‬بعد جهود جيدة للغاية‬
‫بذلتها اللجنة التحضيرية فى إرس ال كل أوراق مومب اى إلى المنظم ات العربية الغ ير حكومية المختلفة‪ .‬وأعد‬
‫لالجتماع الجديد بدعوة أكثر من ‪ 850‬منظمة غير حكومية عربية للتداول ح ول إش كاليات تأس يس المنت دى‬
‫االجتماعى وإدارة أوسع حوار حول هذه اإلشكاليات واألعداد للقاء موسع‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وقد حضر هذا االجتماع مندوبون من سوريا ولبنان وفلسطين واألردن والبحرين واليمن والعراق ومصر والسودان‬
‫و ليبيا والجزائر‪.‬‬

‫وقد أكد االجتماع أن النضال من أجل الديمقراطية ال ينفصل مطلقا عن النضال ضد قوى العولمة المتوحشة‪ ‬‬

‫إن المنتدى االجتماعى يهدف أساسا إلي توسيع أمكانية‪  ‬الحشد للحركات االجتماعية العربية‪.‬‬

‫أهمية العمل التأسيسي المتمهل والشروع فورا فى تنظيم فعاليات اجتماعية على المستويين القطري والعربي‪.‬‬

‫ال استبعاد آلي قوى على أساس أيديولوجي‪  ‬أو عرقي‪  ‬أوديني‬

‫ليس مقيدا اصطناع تناقضات رئيسية به الحركات االجتماعية التقليدية والحديثة ‪.‬‬

‫حدث خالف حول اشتراك األحزاب السياسية ‪ .‬رأى البعض أنها تسعى للسلطة و بالت الي فهي تنشط فى الفض اء‬
‫السياسي وليس فى الفضاء االجتماعى‪  ‬وأن أكثر هذه األحزاب يغير توجهاته عند وصوله إلي السلطة ‪.‬‬

‫والرأي األخر يرى أن المجتمع المدنى أصال ساحة للصراع والتنافس السياسي‪  .‬وأن األحزاب ج زء أص يل من‬
‫المجتمع المدنى وتملك القدرة على الحشد فضال عن صعوبة‪  ‬استبعاد أحزاب المعارضة فى البلدان التى ال تعرف‬
‫تداول السلطة ‪.‬‬

‫‪ ‬كما جرى نقاش حول اشتراك النقابات المهنية والعمالية ومسألة النفوذ الحكومي واالمنى والبيروقرطى بها‬

‫ووجد أن‪  ‬هاتين القضيتين تحتاجان إلى المزيد من الحوار‪ ,‬دون اتخاذ مواقف مسبقة‪ .‬وانفق أن االسم هو "المنتدى‬
‫االجتماعى العربى" والتأكيد على ضرورة إدراج كل القوميات واألعراق فى هذا المنتدى وأن يكون شعاره‬

‫"" عالم عربي أفضل ‪ 0000‬ممكن" وأن مهام المنتدى تتحدد فى مواجهة التحديات ال تى تواجه ش عوبنا مثل‬
‫الحرب‪,.‬واالحتالل‪ ,‬وعسكرة العولمة‪ ,‬والمشاريع األمريكية – الصهيونية‪ ,‬واإلفق ار‪ ,‬واالنقض اض على المكاسب‬
‫والحقوق االجتماعية ألوسع‪  ‬القطاعات الشعبية‪ ,‬والتفكيك‪ ,‬واإلمالء الثقافي‪ ,‬والنخب الحاكمة الفاسدة ال تى تم رر‬
‫مشروع العولمة باستخدام القهر‪.‬‬

‫توسيع اللجنة التحضيرية بضم ثمان منظمات من بلدان عربية مختلفة‪ .‬بحيث وصل عددها إلى ‪ 21‬عضوا‪,‬‬

‫ومن ثم تم تشكيل أمانة لها تتولى تنسيق الفعاليات‪ ,‬وتيسير الحوار‪ ,‬واالتصال‪,‬‬

‫‪ ‬إصدار بيان سياسي لنصرة الشعبين الفلسطينى والعراقي‪.‬‬

‫تحديد موعد فى سبتمبر الجتماع اللجنة التحضيرية واجتماع فى نوفمبر موسع للمنظم ات العربية الغ ير حكومية‬
‫وتدارس الموقف العربي فى بورتو اليجرى‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫واجتمعت اللجنة التحضيرية بعد توسيعها فى القاهرة يوم ‪ 28/5‬حيث ناقشت القضايا التنفيذية واختيار السكرتارية‬
‫الخاصة بها ‪.‬‬

‫وقد تم تشكيلها من‪  ‬المنظمات‪  ‬أعضاء اللجنة التحضيرية ومقر منظماتهم القاهرة باإلضافة إلى البحرين وس وريا‬
‫واليمن والجزائر واألردن ومنتدى ا لشباب‪  ‬باليمن‪.‬‬

‫وتوفير موقع على االنترنت لنشر األوراق الصادرة عن االجتماعات‪ .‬وكذلك مناقشة القضايا محل الخالف أو التى‬
‫تحتاج إلى وضوح‪  ‬وتحديد تمهيدا لالجتماعات القادمة ‪ .‬وقد بدأت اللجنة بالفعل تنفيذ الخط وات الالزمة فى ه ذا‬
‫العدد الحدود وبتغطية الجانب الفني للموقع ‪  ,‬وكذلك إعداد األوراق للنشر‪.‬‬

‫المنتدى االجتماعى المصري‪:‬‬

‫أثناء الحوارات ظهر خالف حول من له األولوية ‪ ,‬المنتدى المحلى‪ ,‬أم المنتدى االقليمى‪ .‬وكان هنالك رأى يرى أن‬
‫األولوية للمنتدى المحلى وأن هذه الخطوة ستسهل مستقبال تكوين المنتدى االقليمى‪.‬‬

‫وكان هنالك رأى أخر بأنه ال تعارض البتة بين العمليتين‪ .‬وأنهما يمكن أن يس يرا جنبا إلى جنب خاصة أن هنالك‬
‫بلدانا عربية يستحيل إقامة منتدى محلى بها ‪,‬ولذا فإن ربط المنتدى اإلقليمي باستيفاء التشكيالت المحلية قد ي ؤدى‬
‫إلى عدم تشكيل المنتدى االقليمى ‪ .‬كما أن تشكيل المنتدى االقليمى قد يعاون الذين لم يشكلوا منتديات محلية بتقديم‬
‫الدعم والخبرة وتوفير المشاركة على المستوى االقليمى‪ .‬وقد ظهرت فك رة أهمية تش كيل المنت دى االجتم اعى‬
‫المصري عند المصريين منذ اللحظة األولى الجتماعات المنتدى االجتماعى العربي ‪.‬وكانت نشأته بالفعل من داخل‬
‫اللجنة التحضيرية للمنتدى االجتماعى العربي ‪ ,‬إذ تشكلت لجنة تحضيرية للمنتدى االجتماعى المصري ودعت إلى‬
‫اجتماع واسع فى ‪ 9‬يناير ‪ 2004‬حيث جرت حوارات مستفيضة حول المنتدى المصري ودوره وضرورتة‪ .‬وقد‬
‫أعيد تشكيل اللجنة التحضيرية بصورة مفتوحة ودون حدود أو قيود ‪.‬‬

‫وبدأت منذ ذلك التاريخ تمارس دورها و طرح المنتدى المصري قضية عدم االقتصار‪  ‬على العواصم فى النش اط‬
‫ودعوة المنظمات غ ير الحكومية والجمعي ات وعقد بالفعل اجتماعا ناجحا للغاية فى المنيا وهى احد محافظ ات‬
‫الصعيد حيث تم اللقاء بالعديد من المنظمات المحلية النشطة والفاعلة‪ .‬و تعد اللجنة التحضيرية للقاءات أخرى‪.‬‬

‫كما لعبت‪  ‬اللجنة التحضيرية للمنتدى المصري دورا مساعدا وإيجابيا فى التحضير وال دعوة الجتم اع المنت دى‬
‫االجتماعى العربىفى‪ 28-27‬مايو ‪. 2004‬‬

‫إن األمر ليس سهال‪ .‬هنالك صعوبات حقيقية‬

‫أوالً لظروف المنظمات غير الحكومية والتى قد يكون بعضها غير حك ومي بحق‪ ,‬والبعض األخر حك ومي تحت‬
‫الفتة الغير حكومية‪  ‬ويرجع ذلك فى األساس إلى سيادة األنظمة الشمولية‪ ,‬وأنظمة التقبل ب اآلخر وال بالتعددية ‪.‬‬
‫ومن هنا فأن‪  ‬نضالنا من أجل الديمقراطية الحقة نضال‪  ‬أساسي من أجل الوصول إلي المناخ‪  ‬الض روري للحشد‬
‫الفاعل‪.‬‬

‫إن القوى االستعمارية‪ ,‬وعلى رأسها الواليات المتحدة األمريكية‪  ,‬ترى فى نقطة الضعف هذه ثغرة تحاول النف اذ‬
‫منها مرتدية ثوب الحزين على افتقاد الديمقراطية‪ ,‬والساعي إلى تحقيقها والحقيقة أننا نرفض وبشدة هذا الت دخل ‪,‬‬
‫فالنضال من أجل الديمقراطية فى بالدنا يمتد عشرات السنوات إلى الوراء قبل‪  ‬تحقيق االستقالل نض ال من أجل‬
‫الثورة الوطنية الديمقراطية ‪ .‬ثم بعد االستقالل لمواجهة انفراد البرجوازيات الحاكمة بمكاسب االس تقالل ومن هنا‬
‫فإننا‪  ‬نرفض التدخل االمريكى ونصر على مواصلة نض النا لتك ون الديمقراطية هي ما ن راه نحن ال ما ي راه‬
‫اإلمبرياليون والصهاينة ‪.‬‬

‫ونرى ذلك جزءً أصيال فى نضال المنتدى االجتماعى العربى‬

‫إننا ال نتعجل إعالن المنتدى‪ ,‬لكننا ال نتوقف عن الس عي إلى المزيد من األعض اء والمزيد من الفهم والوض وح‬
‫واالتفاق‬

‫‪204‬‬
‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫الفكر الليبرالي ومستقبل التحركات االجتماعية ذات المرجعية الدينية‬

‫‪ ‬‬

‫د‪.‬عماد صيام‬

‫‪ ‬يعانى المجتمع المصري من غياب حركة اجتماعية قادرة على ان تتبنى مشروعا بديال لبناء‬
‫نهضة وتقدم االمة المصرية ‪ ،‬رغم الحاجة الملحة لمثل هذا المشروع الذى قد يضع حدا ألزمات‬
‫التنمية والتحديث والديمقراطية المستحكمة(‪.)1‬‬

‫فالمتابع للواقع السياسى' يالحظ على صعيد الفكر السياسى غياب العقالنية والرشادة وتراجع'‬
‫الروح العلمية والعملية فى التعامل مع مشكالت وقضايا الوطن ‪ ،‬وسيادة خطاب سياسى'‬
‫ديماجوجى وتحريضي يستند لخلفيات قومية ودينية قد تتلبس أحيانا مسوحا ديمقراطية على غير‬
‫حقيقتها‪ ،‬خطاب يعتمد على دغدغة غرائز الجماهير وليس استثارة عقولها او تنظيم مبادراتها (‪.)2‬‬

‫وعلى صعيد الحركة السياسية‪  ‬نشهد انفضاضا' واضحا' عن كل األطر والتجمعات ذات الطابع‬
‫السياسى' او النقابي او األهلي والتى تشكل ركائز أي حركة اجتماعية ‪)3(.‬هنا تبدو العشرات من‬
‫األسئلة لعل أوضحها' وأكثرها' تحديدا ‪:‬‬

‫لماذا هذا الغياب لحركة اجتماعية ذات مرجعية فكرية ليبرالية تتبنى الثقافة الديمقراطية بكل‬
‫ما تحمله كلمة ديمقراطية من معنى للحريات وضمان للحقوق السياسة والمدنية واالجتماعية‬
‫واالقتصادية ؟‬

‫او بمعنى أخر لماذا فشلت الثقافة والفكر السياسى الديمقراطى فى ان يكون إطارا مرجعيا‬
‫لحركة اجتماعية قادرة على إحداث نقلة موضوعية فى حياتنا السياسة واالقتصادية واالجتماعية‪ ‬‬
‫نحو مجتمع اكثر مساواة وعدل وتسامح وحرية ؟‬

‫هذا الغياب او الفشل يدفعنا' إللقاء مزيد من الضوء على قضيتي الحركات االجتماعية والفكر‬
‫الليبرالي فى مصر والعالقة بينهما ‪:‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪205‬‬
‫الحركات االجتماعية فى مصر‪..‬مالحظات حول المسار المجهض‬

‫يعد مفهوم الحركات االجتماعية من المفاهيم األساسية‪  ‬فى مجال العلوم االجتماعية ويعرف‬
‫هيربرت بلومر الحركات االجتماعية بأنها" ذلك النشاط االجتماعي الذى يأخذ غالبا شكل‬
‫التصورات' والمشاعر غير المنظمة ‪،‬ثم يصبح تدريجيا معبر عن اشكال جديدة من االعتقاد و‬
‫السلوك الجمعي التى ال تجد منافذ للتعبير عن مطالبها‪  ‬من خاللها‪ ،‬فتتحول الى حركة منظمة‪ ‬‬
‫تهدم األنماط االجتماعية السائدة وتستبدلها' بأخرى' تتفق ومصالحها الفعلية " (‪  )4‬بهذا المعنى‬
‫فالحركات' االجتماعية تمثل نوعا من الفعل االجتماعي الذى يستمر' فترة طويلة نسبيا ويتسم بقدر‬
‫من التكامل‪  ‬او التماسك‪  ‬يتجاوز' تحركات الغوغاء‪  ‬او الجمهرة‪ ،  ‬كما أنها ليست منظمة مثل‬
‫األندية السياسية‪  ‬او الجمعيات االخرى (‪ )5‬وان كانت قد تحتوى' بداخلها على هذه االطر‬
‫اوالمؤسسات ‪،‬وللحركات االجتماعية سمات مميزة هي‪:‬‬

‫‪                   .1                     ‬فعل جماعي يتميز باالستمرارية كمحاولة لتعضيد ومساندة التغيير فى المجتمع‬

‫‪                   .2                     ‬وجود' اطار قيمي عام مشترك بين المنخرطين‪  ‬او الداعمين لهذه الحركة‪.‬‬

‫‪                   .3                     ‬وجود' شعور' لدى األفراد' المنخرطين بها بالعضوية واالنتماء او المشاركة‪.‬‬

‫‪                   .4                     ‬وجود'‪  ‬درجة من بنية تقسيم العمل ‪ ،‬بمعنى وجود قادة وأعضاء‪)6(.‬‬

‫‪ ‬ويتطلب بروز ونمو الحركات االجتماعية‪   ‬وجود سياق اجتماعي وسياسى واقتصادي (‬
‫وثقافي' ايضا ) يتسم بدرجة كبيرة من الظلم والتفاوت ‪ ،‬الذى يخلق اإلحساس بعدم الرضا‪ ،‬وتوفر'‬
‫الشعور' بالتوتر' والسخط' العام على االوضاع القائمة ‪ ،‬وتوفر درجة من الوعي بضرورة تغييرها' ‪،‬‬
‫نتيجة تنامي "اإلحساس بالحرمان" بمعنى وجود‪  ‬فجوة بين توقعات األفراد عن نوعية وشروط'‬
‫حياتهم التى يعتقدون انهم يستحقونها ‪،‬وما يحصلون عليه فعليا ‪،‬وكلما اتسعت الفجوة بين ما‬
‫يتوقعونه وما يحصلون عليه تزداد إحباطا تهم وشعورهم' بالظلم ‪ ،‬هذا الشعور بالظلم الذى يجسده‬
‫قدرة هؤالء المقهورين على مقارنة أوضاعهم‪  ‬بأوضاع' غيرهم فى المجتمع‪ ،  ‬ومع تزايد اإلحباط‬
‫والقهر يزداد انخراط الناس فى األشكال السياسية غير تلك القائمة‪ ،‬والتى تمثل الحركات‬
‫االجتماعية أحد تجلياتها(‪.)7‬‬

‫‪206‬‬
‫بهذا الفهم وهذه السياقات قد يصبح السؤال البديهي‪   ‬لماذا لم يبرز هذا النوع من الحركات‬
‫االجتماعية فى مصر‪  ‬؟ رغم ان واقع المجتمع المصري' االقتصادى والسياسي' واالجتماعي' يبدوا‬
‫مثاليا ‪:‬‬

‫‪      ·         ‬فالتدهور' االجتماعي طال الغالبية من السكان والمؤشرات' تضع اكثر من نصف سكان‬
‫المجتمع المصري' تحت خط الفقر‪ ،‬ناهيك عن تدنى مؤشرات الصحة والتعليم' والبطالة‬
‫والخدمات االجتماعية‪،  ‬بجانب أتساع نطاق الفساد الذى طال تقريبا كل مؤسسات' الدولة‪.‬‬

‫‪       ·        ‬تنامي القلق االجتماعي ‪ ،‬ومتابعة أتساع نطاق العنف والجريمة وتزايد حدتهما على‬
‫صفحات الجرائد‪ ،‬و التدهور' القيمى المصاحب لحاالت البؤس االجتماعي والذى وصل لحد‬
‫قيام بعض األفراد' ببيع أطفالهم ‪ ،‬أو ببيع أجزاء من أجسامهم' فى تجارة األعضاء غير الرسمية‬
‫‪ ،‬او االضطرار لالنتحار يأسا من عدم القدرة على الحصول على فرصة عمل‪ ،‬او توفير الحد‬
‫األدنى لمتطلبات األسرة ‪.‬‬

‫‪       ·        ‬الفوضى الثقافية والتى‪  ‬ابرز مظاهرها احتدام الخالف حول هوية المجتمع المصري ‪ ،‬أو‬
‫العودة لمناقشة قضايا كان يعتقد أنها حسمت من عقود‪  ‬مثل عمل المرأة او حرية الفكر او‬
‫حقوق المواطنة ‪،‬والصراع'‪  ‬بين العلمانيين وأنصار الدولة الدينية ‪،‬عشرات الصراعات‬
‫والخالفات' التى جعلت الواقع الثقافى فى مصر أشبه بلوحة من الموزايك وإ ن كانت لوحة يبدو‬
‫عليها التآكل وأثار الزمن‪.‬‬

‫‪       ·        ‬حالة عدم الرضا الشخصي' ‪،‬واتساع نطاق الفجوة بين اآلمال والرغبات المتوقعة وبين‬
‫ماهو قائم أو متاح بالفعل ‪ ،‬ويكفى هنا اإلشارة الى الرغبة فى الهجرة وترك البالد لدى‬
‫قطاعات واسعة من الشباب‪.‬‬

‫‪       ·        ‬األزمة السياسة والمأزق الديمقراطى الذى يتمثل‪  ‬فى انغالق أي أفق لتداول السلطة ‪،‬‬
‫تصلب دماء النخبة السياسة وتأكلها‪ ،‬وانفضاض الجمهور عن االحزاب السياسية وهشاشتها‬
‫وضعفها' الشديد‪.‬‬

‫وتشير قراءة التاريخ المصري' الى ان غياب الحركات االجتماعية القادرة على ممارسة نوعا‬
‫من التأثير والتغيير' االجتماعي الحقيقي ‪ ،‬لسرعة‪  ‬إجهاضها' قبل ان تتاح لها فرص النمو والتطور'‬
‫وغرس جذورها' فى الواقع يعود بدرجة كبيرة‪  ‬الى‪:‬‬

‫‪207‬‬
‫‪      ‬الدور الطاغي للدولة والممتد' تاريخيا' عبر آالف السنين والذى ربط حياة‬ ‫‪-1‬‬
‫المصريين واستقرارهم'‪  ‬ليس فقط بقوة الدولة وقدرتها' على القيام بدورها ووظائفها‪،‬‬
‫ولكن ايضا بمساحة مقبولة من االستبداد غالبا ما يتم تجاوزها' من قبل القابضين على‬
‫جهاز الدولة من الحكام‪،‬والذين يصبح الصراع معهم ليس مواجهة االستبداد' بل العودة‬
‫به الى حدوده المقبولة (‪ ،)8‬وهى السمة التاريخية التى رسخت فى الذهنية والثقافة‬
‫السياسية للمصريين حالة من االتكالية واالعتماد على الدولة وغياب أي خبرة حقيقية‬
‫فى التحرك المنظم الجماعي المستقل عنها او فى مواجهتها ‪،‬حتى ولو بهدف إصالحها‬
‫‪،‬بجانب ترسخ اإلحساس بان تقليص دور الدولة‪  ‬هو الوجه اآلخر لعدم االستقرار و‬
‫الفوضى‪ ،‬يدعم هذا ارتباط مصالح قطاع كبير من السكان بالدولة حيث عمل لديها‬
‫بشكل مباشر' فى عام ‪ 1988‬كما تشير اإلحصائيات ما يقرب من‪%25‬من إجمالي قوة‬
‫العمل(حوالي ‪ 3,25‬مليون مواطن)وهى النسبة التى أخذت فى التزايد فى السنوات‬
‫التالية‪ ،‬و إذا أضيف إليهم أسرهم او من يعولونهم' لوجدنا' ان الدولة تسيطر' على‬
‫مقدرات حياة ما يوازي من ‪% 35- 30‬من السكان وتتحكم' فى أرزاقهم'(‪.)9‬‬

‫هذا الدور الطاغي للدولة سيد نظرية ان التغيير متاح فقط لمن يمسك بدفة عصا الدولة (‬
‫‪ )10‬وليس عن طريق إتاحة الفرصة لحركة الجماهير‪ ،‬وعبر مشاركتها ‪ ،‬وهو ما خلق ميال‬
‫واضحا لدى كل القوى السياسية فى مصر الى السعي للتغيير ليس بالجماهير او عبر‬
‫مشاركتها‪  ‬بل‪  ‬باختراق جهاز الدولة وتغيير موازيين القوى بداخله لصالح اتجاه او سياسة‬
‫ما(‪ ،)11‬او بالسيطرة على أحد مؤسسات القمع التابعة لجهاز الدولة واستخدامها فى فرض‬
‫اتجاه جديد أو مجموعة جديدة حاكمة(‪)12‬‬

‫‪.2‬نمط التعليم السائد فى مصر منذ بدأ التعليم الحديث فى عصر محمد على ‪ ،‬حيث كان‬
‫التعليم وما يزال ليس فقط خاضعا لإلشراف' المباشر' للدولة ولكنه وظف' لخدمة أيديولوجيتها‬
‫ودورها االجتماعي فهو تعليم ال يسعى لبناء عقلية أو شخصية ناقدة ‪،‬مفكرة ‪،‬مبدعة‪ ،‬مستقلة‪،‬‬
‫لديها القدرة على التحليل واالستنتاج ‪،‬او حتى تفكر بشكل علمي يربط األسباب بالنتائج ‪ ،‬فالنظام‬
‫التعليمي يستهدف‪ ،‬وحتى اآلن‪،‬إعداد موظفين للعمل لدى الدولة‪ ،‬وأقصى ما سمح به فى اطار‬
‫التغيير االجتماعي الذى صاحب ثورة ‪ 1952‬ان اصبح التعليم قناة للحراك االجتماعي‪ ،‬خاصة‬
‫ألبناء الطبقة الوسطى ‪،‬وهى الطبقة الفاعلة‪  ‬فى التاريخ السياسى و االجتماعي لمصر‪،‬هذا‬
‫الحراك الذى ارتبط ايضا بالتوظف والعمل لدى الدولة ‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫اثر هذان العامالن بالسلب على المالمح العامة للتحركات االجتماعية فى مصر‪  ‬وقدرتها'‪ ‬‬
‫على التطور والنمو واإلنجاز ‪ ،‬وكذلك على أنماطها‪  ‬ونوعياتها‪ '،‬ولعل ابرز هذه المالمح وأكثرها‬
‫تأثيرا اتساع نطاق نفوذ وتأثير االتجاهات الفكرية الدينية ‪ ،‬وهى ذات طابع إحيائي سلفي ألنها‬
‫تسعى لعودة القيم القديمة وإ حياء انساق ثقافية كانت تعمل سابقا بنجاح ‪،‬كما أنها ال تعتمد على‬
‫المشاركة الحرة والمبادرة للقطاعات الواسعة من الجماهير بقدر ‪ ،‬مع تسعى لتوظيفها' فى صراعها‬
‫مع الدولة وفى الحدود التى تحددها النخب المسيطرة على هذه االتجاهات ‪ ،‬والتى تظهر موقفا‬
‫معاديا واضحا من الفكر الليبرالي والثقافة الديموقراطية وتنعته بأشد النعوت سلبية بداية من الكفر‬
‫والسعي' إلبدال شرع اهلل و مشاركته‪  ‬فى وحدانيته وحقه فى التشريع ‪،‬نهاية بأنه يطمس الهوية‬
‫االسالمية وينقل لنا أسوء ما فى الغرب العلماني من قيم التفسخ واالنحالل ‪   ،‬لهذا تركز هذه‬
‫التحركات على أحداث التغيير الثقافى الذى يشكل األرضية المواتية لتشديد قبضتها' على العقل‬
‫وحرية التفكير‪ .‬‬

‫‪ ‬‬

‫المجتمع المصري والفكر الليبرالي ‪ ..‬ظروف النشأة والعزلة‬

‫خالفا لما جرى فى أوربا' الغربية حيث تشكلت البرجوازية من بين صفوف سكان المدن‬
‫األحرار فى مجرى صراعها مع اإلقطاعيين‪ ،‬حيث ولد عبر هذا الصراع‪  ‬المحتدم طويل األمد‬
‫ومتعدد' المستويات' الفكر الليبرالي بكل تراثه السياسى والممارسات' واألطر' المرتبطة به ‪،‬‬
‫وحيث تجذر فى وعى الجماهير التى كانت طرفا مباشرا فى هذه الصراعات بالتوازي' مع‬
‫الصراع من اجل التقدم العلمي واالقتصادي ومرتبطا' به ‪.‬‬

‫أما طالئع االفكار الليبرالية فقد دخلت مجتمعاتنا العربية( و مصر بالطبع جزء منها) مع‬
‫مرحلة تدهور' اإلمبراطورية العثمانية وانهيارها' وتنامي' وتشابك' العالقة مع أوربا‪ ،‬تلك العالقة‬
‫التى تداخلت فيها األطماع االستعمارية ومشروعات السيطرة والنهب ‪ ،‬واظهر تنامى هذه‬
‫التشابكات‪  ‬بوضوح' متزايد التباين بين المعايير' الحقوقية السائدة فى بلداننا والقائمة على القيم‬
‫اإلقطاعية والشريعة الدينية‪  ،  ‬وبين‪  ‬متطلبات الحياة اليومية والطموحات نحو تجاوز' حالة‬
‫التخلف واالستبداد' السياسى' ‪ ،‬هذا التباين الذى طرح وبإلحاح متزايد فكرة تبنى المعايير‬
‫الحقوقية التى تعيش فى ظلها المجتمعات األوربية والمبنية على أسس علمانية تفصل الدين عن‬
‫إدارة المجتمع‪ ،)13(.‬وهو ما جسده محمد على فى سعيه الى االستفادة من منجزات العلم‬
‫والتقنية األوربية فى إنشاء جيش وأسطول حديثين األمر الذى تطلب إحداث تغييرات عميقة فى‬

‫‪209‬‬
‫البالد وهو ما فتح ثغرة لنفاذ الثقافة واألفكار الليبرالية حيث ظهرت ألول مرة المدارس‪  ‬العامة‬
‫والتخصصية الطبية والهندسية والعسكرية على الطراز' األوربي' وكان األجانب من الفرنسيين‬
‫واإليطاليين واإلنجليز' هم الذين يدرسون بها‪،‬‬

‫وكذلك‪  ‬المدربون فى الجيش ‪ ،‬والمشرفون على المشروعات الصناعية واإلنشائية‪ ‬‬


‫ومشروعات الري الجديدة ‪ ،‬ونشطت فى مصر حركة ترجمة جادة عن الفرنسية أساسا ‪،‬‬
‫ترجمت الى العربية الكتب المدرسية واألدبية ‪ ،‬وكان الفضل الرئيسي فى ذلك لمدرسة األلسن‬
‫التى أسسها الشيخ رفاعة الطهطاوى'‪ ،  ‬بجانب توالى إرسال البعثات العلمية الى أوربا'‪.‬‬

‫ورغم تعدد الثغرات التى انسابت منها االفكار األوربية خاصة األيدلوجية التنويرية وأفكار‬
‫الثورة الفرنسية أال أن تأثيرها لم يمس اال أعلى فئات المجتمع المصري‪ ،‬والتى لم تكن فى‬
‫معظمها' مصرية األصل ‪ ،‬دون ان تمس أسلوب حياة الجماهير العريضة وهو ما يرجع الى ‪:‬‬

‫‪  ·             ‬المقاومة العنيفة الى أبدتها القوى المدافعة عن التقاليد والعادات المألوفة والعقيدة الدينية‬
‫الجامدة‪ ،‬والتى كانت ترى فى كل تطور وتجديد خروجا على المألوف' ونوعا من الزيغ‬
‫والضالل‪.‬‬

‫‪  ·             ‬ان محمد على لم يكن تلميذا منسجما مع الغرب البرجوازي' حيث سعى الى توظيف'‬
‫اإلنجازات العلمية األوربية فى مجال االقتصاد أو الصناعة او الري أو العلوم العسكرية‬
‫ولكن على أسس إقطاعية ‪.‬‬

‫‪  ·             ‬ان عملية التحول التى قادها محمد على استند ت على التراث التاريخي' الستبداد' الدولة‬
‫حيث تحول الباشا الى الصانع والتاجر'‪  ‬والمالك الزراعي األول وفرضت' الحكومة‬
‫احتكارها' على الحياة االقتصادية وهو ما همش الى حد كبير نشاط التجار‪،‬أما الفالح فقد‬
‫استخدم' فى‪  ‬العمل اإلجباري' فى مصانع الباشا او الخدمة العسكرية اإلجبارية فى جيشه(‬
‫‪،)14‬وهو ما أجهض بالتالي إمكانية نمو القوى االجتماعية التى يمكنها تبنى هذه االفكار'‬
‫دفاعا عن مصالحها ‪.‬‬

‫‪  ·             ‬كانت مجمل الترجمات واألفكار التنويرية التى نقلها الطهطاوى وتالميذه فى مدرسة‬
‫األلسن تسعى فى األساس الى تهذيب التصورات عن أوربا' وأسلوب الحياة الحديثة حيث‬
‫كانت تؤكد على ضرورة األخذ بمنجزات المدنية الغربية دون تخط للشريعة ‪،‬بل كانوا‬
‫كثيرا ما يهتمون بالتدليل على األهمية السامية‪  ‬للقيم الروحية االسالمية (‪ ،)15‬و بالتالي‬

‫‪210‬‬
‫لم تستطع كل جهود التبشير بالفكر الليبرالي حل مشكلة العالقة بين الدينى والعلماني' فى‬
‫الفكر السياسى'‬

‫هكذا كانت الطالئع األولى لألفكار الليبرالية البرجوازية‪  ‬تتسرب فى ظل حماية الدولة ذات‬
‫األساس اإلقطاعي والطبيعة االستبدادية سياسيا والوضع االحتكاري اقتصاديا ‪ ،‬ورغم طبيعتها‬
‫العلمانية أال أنها هادنت الفكر الدينى ولم تسعى لتجاوزه‪ ،‬لم تتغلغل لنسيج حياة الفالحين وهم‬
‫الغالبية من المصريين الذين لم يعلموا عنها ‪ ،‬كانت تلك هي سمات النشأة األولى التى حكمت‬
‫على الفكر الليبرالي بالعزلة واالغتراب‪  ‬رغم كل ما بذله المثقفون األوائل من جهود خاصة من‬
‫خالل الصحافة التى لعبت‪  ‬دورا واضحا فى التأثير على االنتلجنسيا (والتى كان ينتمي قطاع كبير‬
‫منها ألصول غير مصرية )وعرفتهم فى ظروف االستبداد السياسى بالنظم السياسية الليبرالية‬
‫وحالة العلم الحديث وكان أقصى نجاح لها هو نشر النزعة الدستورية والتحرر القومى فى‬
‫الحدود المعتدلة بين قطاعات هذه النخبة ‪ ،‬والتى قد تمنحهم مساحة اكبر من السلطة والثروة‪،‬‬
‫وهو ما وجد ترجمته الواضحة فى مشروع الدستور األول ‪1879‬الذى وضعه شريف باشا ممثل‬
‫الجناح الليبرالي من المالك العقاريين ‪،‬اال ان ظهور عرابي وصحبة شكل دعما لالتجاهات‬
‫الليبرالية نتيجة اإلحساس المتنامي بالقوة والذى ولده السيطرة على أهم أجهزة الدولة وهو‬
‫الجيش‪ ،‬بجانب دخول التأييد الفالحى على الخط ‪ ،‬ووجود العديد من القيادات ذات التأثير والنفوذ‬
‫الجماهيري (ديني او شعبوى )مثل الشيخ محمد عبده وعبد اهلل النديم والتى سعت لنقل تأييد‬
‫الثورة الى صفوف الجماهير عبر استخدام منابر المساجد‪ ،‬وعمل العرائض وجمع التوقيعات‬
‫عليها ‪ ،‬تأسيس الجمعيات والمنتديات األهلية ‪ ،‬الخطابة فى كل التجمعات ‪)16(.‬‬

‫وهو ما ساعد على بدء استنهاض حركة اجتماعية حقيقية أال أنها كانت تحمل أهم وأقوى‬
‫نقاط ضعفها‪  ‬وهى ارتباطها بالدولة وعدم وجو مساحة زمنية كافية كي تبلور قيادتها وأدواتها‬
‫بعيدا عن جهاز الدولة الذى انهار واختفى تحت تأثير االحتالل اإلنجليزي و تواطوء الخديوي و‬
‫هو ما افقد الحركة قيادتها وتنظيماتها وعاد بالواقع سنوات أخرى للوراء‪.‬‬

‫شكلت النهاية المأساوية لجهود غرس االفكار الليبرالية فى التربة المصرية و السعي‬
‫المتزاجها بالتحركات االجتماعية نقطة تراجع فاصلة فى جهود التبشير بها ‪،‬خاصة بعد ان‪  ‬وعت‬
‫القوى المعادية للحرية والمساواة واالستقالل الدرس من تجربة عرابي ‪ ،‬هذا التراجع الذى رجح‬
‫مرة أخرى كفة الجناح المعتدل من بين المبشرين بالفكر الليبرالي‪ ،‬و الذين واصلوا جهودهم‬
‫على استحياء شديد مطالبين بالعودة لإلصالحات الدستورية التدريجية ‪ ،‬انطالقا من فكرة عدم‬

‫‪211‬‬
‫استعداد‪ ,‬الشعب لحكم نفسه بنفسه وهو الجناح الذى مثله الشيخ محمد عبده الذى كان يرى‪"  ‬انه‬
‫من غير المعقول منح الرعية ما ليست مهيأة له"(‪.)17‬‬

‫وعلى الصعيد السياسي' عرفت مصر تبلور هذا االتجاه فى حزب االمة والذى كان حزبا‬
‫لكبار المالك العقاريين وكبار الموظفين من الليبراليين الذين تصالحوا مع واقع االحتالل‪ ،‬وهو‬
‫ما ساهم فى مزيد من حصار' الجهد التبشيرى' لألفكار' الليبرالية ‪ ،‬وهو نفس المصير' الذى‬
‫القته‪  ‬الجهود التى بذلها‪  ‬ابرز دعاة الفكر الليبرالي من المثقفين العرب من سوريا' ولبنان الذين‬
‫استقروا فى مصر هربا من االستبداد العثماني مثل شبلي شميل وفرح انطون وغيرهم ‪ ،‬حيث‬
‫أضيف قيد أخر يحول دون التقاء أفكارهم' بالمصريين وهو انتماءهم الدينى‪  ‬المسيحى ‪،‬‬
‫وحملتهم' الشعواء على االستبداد' العثماني خاصة وانهم كي يتفادوا الصدام مع سلطة االحتالل‬
‫ركزوا' على القضايا المرتبطة بحرية الفكر والمعتقد ‪ ،‬وفصل' الدين عن الدولة وعن السياسة‬
‫والتعليم'‪)18(.  ‬‬

‫ورغم هذا استمر تيار الدعاة لإلصالح الدستوري ولالستقالل ‪ ،‬والذين استطاعوا قيادة‬
‫ثورة ‪،19‬عبر تاريخهم الممتد فى العمل العام سواء بمشاركتهم'‪  ‬فى الثورة العرابية ‪،‬التواجد فى‬
‫الجمعية التشريعية كأعضاء منتخبين ‪ ،‬أو عبر مواقعهم' فى قمة جهاز الدولة ‪ ،‬واستطاعوا عبر‬
‫مشاركة جماهيرية واسعة كانت مفاجئة لهم‪  ‬تكرار تجربة الثورة العرابية وان كانت فى ثوب‬
‫مدني الحصول على دستور ‪ 23‬وقدر' من االستقالل النسبي ‪،‬اال ان محدودية او قصور فكرهم‬
‫السياسى' الليبرالي والذى لم يكن يسمح بقبول االختالف او التعددية او استمرار' مشاركة‬
‫الجماهير فى صنع مستقبلها السياسى (‪)19‬أجهض‪  ‬التحركات االجتماعية الواسعة التى‬
‫صاحبت ثورة ‪ 19‬وهو ما ساعد عليه وجود جيش االحتالل واستبداد القصر وفرغ‪  ‬فى‬
‫الممارسة العديد من االطروحات السياسة المرتبطة بالفكر الليبرالي من مضمونها‪ ،  ‬حيث‬
‫تحول تداول السلطة الى تبادلها بين أحزاب األقلية المعادية لمصالح الجماهير والمهادنة‬
‫لالحتالل ‪ ،‬أما االحتكام لرأى االمة عن طريق' االنتخابات فقد انتهى‪  ‬الى تكريس أساليب‬
‫التزوير' التى مازلنا نعاني منها الى اآلن ‪ ،‬وقضية االستقالل‪  ‬تحولت الى مفاوضات النهائية‬
‫مع الحكومة البريطانية ‪ ،‬لهذا‪  ‬أخذت فى التنامي من جديد أفكارا معاديه للديمقراطية والتى لم‬
‫تجنى منها الجماهير فى الواقع أي ثمار حقيقية ‪ ،‬لعل أبرزها‪  ‬فكرة المستبد العادل ‪،‬بجانب‬
‫بروز' العديد من الجماعات السياسية المعادية للفكر الليبرالي الغربي‪  ‬والتى أخذت تدريجيا‬
‫تسحب البساط من تحت أقدام حزب الوفد' الذى اصبح الممثل السياسى' األكثر شعبية للتيار‬
‫الليبرالي منذ ثورة ‪،1919‬مثل التنظيمات الماركسية ‪ ،‬حزب مصر الفتاة ‪ ،‬جماعة األخوان ‪،‬‬

‫‪212‬‬
‫واستمر' التدهور' حتى جاء عام ‪ 1952‬وسيطر ضباط الجيش على مقاليد األمور' من خالل أحد‬
‫أهم أقوى' مؤسسات'‪  ‬جهاز الدولة‪  ‬وصودرت' بالكامل الحياة السياسة المستقلة حتى عام‬
‫‪1976‬حينما عادت التعددية السياسية المقيدة ‪ ،‬وعرفت معها عودة نفس القوى بنفس االفكار'‬
‫والتراث السياسى‪ ،‬بل وبنفس األشخاص فى كثير من األحيان ‪ ،‬حتى وصلت مصر‪  ‬الى حالة‬
‫ازمة سياسية عميقة فى الفكر السياسى وفى أوضاع‪  ‬النخبة التى تبدى عجزها عن بناء حركة‬
‫اجتماعية ذات مرجعية سياسية ليبرالية ‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫الحركات الدينية اإلحيائية وسيناريوهات المستقبل‬

‫منذ بدايات السبعينيات‪  ‬شهد المجتمع المصري' نمو واتساع نطاق تأثير التنظيمات ذات الطابع‬
‫الدينى واإلحيائي(‪ ،)20‬والتى ركزت على أسلمة المجتمع من الوسط‪  ‬عبر المؤسسات المالية و‬
‫المضاربة على العملة و التواطؤ مع شركات توظيف األموال‪  ‬ثم االنطالق‪  ‬للمنظمات المدنية‬
‫ممثلة فى النقابات المهنية‪  ‬باعتبارها‪  ‬مناطق' العافية‪  ‬والحيوية السياسية للطبقة الوسطى بهدف‬
‫احتواء الدولة واالنطالق من هذه المواقع الى الهياكل الفوقية لمؤسسات' الدولة (البرلمان ‪/‬أجهزة‬
‫الدولة البيروقراطية)وذلك عبر التحالفات السياسية مع القوى السياسية التى تتمتع بالشرعية‬
‫القانونية(‪ ،)21‬ويعود اتساع نطاق هذه التنظيمات‪  ‬من حيث تنوعها وتعدد اتجاهاتها وتزايد' قدرتها'‬
‫على التأثير فى قطاعات كبيرة من الجماهير ‪،‬فى جزء منه الى‪:‬‬

‫‪      ‬فشل‪  ‬تجارب التحديث والتنمية التى قادتها' الدولة‪ ،‬والذى يرجعه نشطاء‬ ‫‪-1‬‬
‫تنظيمات اإلسالم السياسى' الى عدم استنادها الى المرجعية الدينية كما يروجون فى‬
‫خطابهم' السياسى‪،‬كبديل عن مناقشة وبحث األسباب السياسة واالقتصادية واالجتماعية‬
‫لفشل هذه التجارب‪،‬وهو' ما يعفيهم منذ البداية من طرح برنامج حقيقي للتغيير‬
‫االجتماعي قد يصبح سببا فى اصطدامهم المبكر بالدولة‪،‬او نشوء الخالفات بين‬
‫مناصريهم ‪،‬او ألنهم فى الحقيقة ال يملكون برنامجا يطرح بديال اجتماعيا وسياسيا‬
‫حقيقيا عما هو قائم ‪ ،‬فى هذا اإلطار يمكن تفهم دوافع' طرحهم' للشعارات العامة ذات‬
‫المحتوى' الدينى‪  ‬مثل "اإلسالم هو الحل" او " إصالح الدنيا بالدين"واعتمادهم على‬
‫الرموز' والدالالت الدينية فى كل أنشطتهم(‪.)22‬‬

‫‪213‬‬
‫‪       ‬تفسخ وتدهور' الدور االقتصادى' واالجتماعي' للدولة (وليس مستوى‬ ‫‪-2‬‬
‫استبدادها') سواء من حيث كفاءة القيام ببعض األدوار التقليدية‪ ،‬أومن حيث السيطرة‬
‫على اتساع نطا قات الفقر وتوفير' قدر من الحماية االجتماعية للفئات التى تقع فى قاعدة‬
‫الهرم االجتماعي ‪ ،‬وهى الوظيفة التى بدأت المؤسسات والحركات الدينية(مسيحية‬
‫وإ سالمية )فى احتاللها(‪)23‬وهو ما دعم نفوذها‪  ‬وتأثيرها' بين قطاعات متزايدة من‬
‫السكان ‪.‬‬

‫‪      ‬ارتبط‪  ‬تصاعد نفوذ تيار منظمات اإلسالم السياسى' منذ بداية السبعينيات‪ ‬‬ ‫‪-3‬‬
‫بالدعم المباشر' الذى قدم‪  ‬من الدولة فى محاولة لتحجيم نفوذ قوى المعارضة اليسارية‬
‫والناصرية خاصة بين صفوف طالب الجامعة (‪.)24‬‬

‫وإ ذا كانت العوامل السابقة قد ساعدت على تنامي نفوذ منظمات اإلسالم السياسى' ‪ ،‬فقد صبغت‬
‫سياسات الهيمنة اإلمبريالية على المنطقة العربية بجانب أيدلوجيتها' الدينية موقفها' من الغرب‪.‬‬

‫‪  ‬فمع‪  ‬تزايد الصراع من اجل الهيمنة اإلمبريالية (األمريكية واألوربية‪)  ‬على مقدرات العالم‬
‫العربي واإلسالمي منذ الحملة الفرنسية عام ‪1798‬وهو الصراع الذى تضمن غزوا وتسلطا' على‬
‫الصعيد السياسى واالقتصادي والثقافي وتعددت أشكاله من االحتالل السافر' بالقوات العسكرية‪  ‬الى‬
‫توطين جزء من شعوبهم' فى أجزاء من األرض العربية ‪ ‬وبتر األصول الجنسية والثقافية‬
‫والتاريخية لهذه البالد‪ ،‬وهى الهيمنة التى ارتبطت بصعود اإلمبريالية من جهة وساهمت من جهة‬
‫أخرى فى الترويج لمقوالت مفكرى تيارات اإلسالم السياسى' حول ان الغرب معركته الحقيقية هي‬
‫مع اإلسالم ‪ ،‬وبالتالي' تعميم العداء لكل مكونات الفكر والحضارة الغربية الذى يسعى الى فرض‬
‫نموذجه الحضاري المهيمن بالقوة (‪.)25‬وهو ما وجد انعكاسه المباشر' فى عداء ونفور الخطاب‬
‫السياسى' لتيارات اإلسالم السياسى' للفكر الليبرالي ‪،‬الذى اصبح لديهم جزء من منظومة واليات‬
‫الهيمنة والسيطرة الغربية‪  ،‬وانعكس هذا فى العديد من األدبيات والتراث السياسى لمفكرى تيارات‬
‫اإلسالم السياسى بداية من حسن البنا الذى يرى العالقة مع الغرب فى سعى األوربيين الذين‬
‫"عملوا جاهدين على ان تغمر موجة الحياة المادية بمظاهرها الفاسدة وجراثيمها القاتلة جميع‬
‫البالد االسالمية التى امتدت اليها أيديهم ‪ ،‬و أوقعها سوء الطالع تحت سلطانهم ‪ ،‬مع حرصهم‬
‫الشديد على ان يحتجزوا دون هذه األمم عناصر اإلصالح والقوة من العلوم والمعارف‬
‫والصناعات والنظم النافعة ‪ ،‬وقد احكموا خطة هذا الغزو االجتماعي إحكاما شديدا واستعانوا‪,‬‬
‫بدهائهم السياسى وسلطانهم العسكري حتى تم لهم ما أرادوا‪ ،‬أغروا حكام المسلمين باالستدانة‬

‫‪214‬‬
‫منهم والتعامل معهم وسهلوا لهم ذلك وهونوه عليهم ‪ ،‬واستطاعوا بذلك ان يكتسبوا حق التدخل‬
‫االقتصادى وان يغرقوا البالد برؤوس أموالهم‪ ,‬ومصارفهم وشركاتهم وان يديروا دوالب العمل‬
‫االقتصادى كما يريدون وان يستأثروا دون األهلين باألرباح الطائلة والثروات العظيمة وتمكنوا‬
‫من ان يغيروا من قواعد الحكم‪ ,‬والقضاء والتعليم وان يصبغوا النظم السياسية والتشريعية‬
‫والثقافية بصبغتهم الخالصة فى أقوى بالد اإلسالم ‪ ،‬وجلبوا الى هذه الديار نساءهم الكاسيات‬
‫العاريات وخمورهم ومسارحهم ومالهيهم وقصصهم وجرائدهم وخياالتهم وعبثهم‬
‫ومجونهم‪،‬وأباحوا فيها من الجرائم ما لم يبيحوه فى ديارهم وزينوا هذه الدنيا الصاخبة العابثة‬
‫التى تعج باإلثم وتطفح بالفجور فى أعين البسطاء األغرار من المسلمين األغنياء وذوى الرأي‬
‫فيهم وأهل المكانة والسلطان ‪ ،‬ولم يكفهم ذا حتى أنشأوا المدارس والمعاهد العلمية والثقافية فى‬
‫عقر دار اإلسالم تقذف فى نفوس أبنائه الشك واإللحاد ينتقصون أنفسهم ويحتقرون دينهم‬
‫ووطنهم وينسلخون من تقاليدهم وعقائدهم ويقدسون كل ماهو غربي ويؤمنون بان كل ما يصدر‬
‫عن األوربيين وحده هو المثل األعلى (‪ ")26‬ورغم صحة رصد حسن البنا لبعض جوانب‬
‫الظاهرة االستعمارية أال انه رجع بأسبابها ونتائجها الى عوامل ثقافية وأخالقية وهو ما يتفق مع‬
‫األيدلوجية الدينية والطابع اإلحيائي للتنظيمات االسالمية ‪ ،‬وهى الرؤية التى سعى سيد قطب الى‬
‫صياغتها أيدلوجيا فى مفهومه للحاكمية حيث يرى ان "اتجاهات الفلسفة بجملتها واتجاهات تفسير‬
‫التاريخ اإلنساني بجملتها ‪ ،‬واتجاهات علم النفس بجملتها ومباحث األخالق بجملتها واتجاهات‬
‫دراسة األديان المقارنة بجملتها واتجاهات تفسير والمذاهب االجتماعية بجملتها أن هذه‬
‫االتجاهات كلها فى الفكر الجاهلي ‪-‬أي غير االسالمى ‪ -‬قديما وحديثا متأثرة مباشرة بتصورات‬
‫اعتقاديه جاهلية ‪ ،‬وقائمة على هذه التصورات ‪ ،‬ومعظمها ‪-‬ان لم يكن كلها ‪-‬يتضمن فى أصوله‬
‫عداء ظاهرا أو خفيا للتصور الدينى جملة وللتصور االسالمى على وجه الخصوص "ويضيف‬
‫ايضا الى ان "حكاية ان الثقافة تراث إنساني ال وطن له وال جنسية هي حكاية صحيحة عندما‬
‫يتعلق األمر بالعلوم البحتة وتطبيقاتها العملية دون تجاوز الى التفسيرات الفلسفية لنتائج هذه‬
‫العلوم وال الى التفسيرات الفلسفية لنفس االنسان ونشاطه وتاريخه وال الى الفن واألدب‬
‫والتعبيرات الشعورية جميعا ‪.‬ولكنها فيما وراء ذلك جميعا إحدى مصايد اليهود العالمية (‬
‫‪")27‬ووجدت' مثل هذه الصياغات األيدلوجية التى تنفى كل منجزات الحضارة الغربية‪  ‬قيمتها'‪ ‬‬
‫وإ نجازها'‪  ‬الفكري و اإلنساني انطالقا من مفهوم الحاكمية الذى‪  ‬يقيد حرية الفكر والفهم والتفسير‬
‫واالجتهاد' اإلنساني' خارج النص الدينى تطورها' الموضوعي' فى العداء الصريح للحريات السياسة‬
‫والنظم' الديمقراطية‪ ،‬تشير واحدة من وثائق' تنظيم' الجماعة االسالمية الى ان المجتمع المسلم ال‬
‫يعرف "سلطة تشريعية بشرية لها حق التشريع المطلق ‪،‬فمثل هذه السلطة الوجود لها البتة فى‬
‫المجتمعات التى تؤمن باهلل "وتضيف وثيقة أخرى لتنظيم الجهاد "ان عرض اإلسالم فى صورة‬

‫‪215‬‬
‫برنامج حزبي هو الخطوة األولى لالشتراك مع العلمانيين فى أرضية واحدة‪  ‬تلك األرضية التى‬
‫يفقد عندها الدين معناه(‪")29‬وتؤكد' نفس الوثيقة على "ان اإلسالم لم ينزل لمعالجة مشاكل‬
‫الجاهلية وبالتالي فيجب على اإلسالميين ان ال يستدرجوا لطرح برامج لحل مشاكل المجتمع‬
‫الجاهلي "هكذا انتهى الخطاب الفكري‪  ‬المعادى للغرب والحضارة الغربية‪ ،‬وعدم التفرقة بين‬
‫تراث هذه الحضارة‪  ‬وإ نجازاتها' الفكرية واإلنسانية‪ ،‬وبين سياسات الهيمنة واإلفقار' والنهب‬
‫االستعماري فى الممارسة العملية الى خطاب سياسى' يطمس الناقضات الطبقية ويجرد' اوسع‬
‫الجماهير من حرياتها' السياسية والفكرية والتى هي باألساس أداتها لمواجهة اإلفقار والهيمنة‬
‫واالستبداد وهو الموقف' الذى يختلط‪  ‬فيه حاليا الموقف من سياسات اإلفقار والهيمنة التى تعد أحد‬
‫مخرجات العولمة بسياسة العداء للغرب والحضارة الغربية وفى' القلب منها الفكر السياسى'‬
‫الليبرالي المعاصر وما يرتبط' به من ثقافة الديمقراطية وحقوق االنسان‪.  ‬‬

‫لهذا ومنذ منتصف' السبعينيات ومع تصاعد التأثير والنفوذ والضغط الذى مارسته تنظيمات‬
‫اإلسالم السياسى عبر خطابها' السياسى' والثقافي' المعادى للحريات السياسية والفكرية‪  ‬خاصة مع‬
‫التركيز' على األبعاد المرتبطة بالعقيدة والتمييز' على خلفية الدين ‪ ،‬تنامي رد الفعل المعاكس‬
‫والمضاد' لدى المصريين من األقباط' الذين حوصروا' بين‪  ‬مطرقة منظمات اإلسالم السياسى‬
‫‪،‬وسندان الدولة التى زايدت فى تدينها وإ سالمها' على تنظيمات اإلسالم السياسى حتى ال تسلم لهم‬
‫بانفرادهم' بالشرعية الدينية دونها‪ ،‬وه ــو ما‪  ‬دفع األقباط' للبحث عن حماية لهم‪  ‬داخل‪  ‬جدران‬
‫الكنيسة‪  ‬بعد ان عجز عنها براح الوطن الذى ال يساوى' بين حقوق مواطنيه خاصة حريتهم‬
‫الدينية‪،‬وهو ما ولد فى مواجهة السعي لبناء حركة دينية إسالمية ‪،‬السعي لبناء حركة دينية مسيحية‬
‫‪،‬وان اختلفت الدوافع' وحجم التأثير واألهداف‪،‬اإلسالميون يسعون لبناء حركة إحياء ديني تفرض‬
‫مجتمعهم' االسالمى بكل تجليا ته الثقافية و السياسية واالجتماعية ‪،‬واألقباط يسعون لبناء حركة‬
‫سياسية‪  ‬تنطلق من الكنيسة ومؤسساتها للدفاع عن خصوصيتهم العقيدية‪  ‬وحقوقهم' الدينية‪ ،‬وهو ما‬
‫منح الكنيسة واقعيا‪  ‬دورا سياسيا ليس لها ان تقوم به ‪.‬‬

‫وشهدت مصر فى الربع قرن األخير تصاعد و تجذر كال االتجاهين‪،  ‬للدرجة التى تجاوزت'‬
‫مرحلة االحتقان الطائفي الى مرحلة الصدام الطائفي وفرض هذا الوضع الصراعى وتداعياته‬
‫قضية العالقة مع اآلخر الخارجي' والغربي' تحديدا (بأبعادها' المختلفة السياسية واالقتصادية و‬
‫الثقافية) والتى لخصتها تنظيمات اإلسالم السياسى فى إطار رؤيتها السلفية المنغلقة فى المزيد من‬
‫العداء للتحديث والديمقراطية والغرب‪  ‬والذى اصبح مجرد "الغرب الصليبي الملحد اإلباحي"والذى‬
‫ال يستهدف اال‪  ‬دحر قوى' اإلسالم والتوحيد' فى تحالف يبدأ من مصر حيث العلمانيون والنصارى‬

‫‪216‬‬
‫ويمتد' ليشمل كل أرجاء العالم فى تحالف لحزب الشيطان فى مواجهة حزب اهلل (‪)29‬الذى يمثلونه‬
‫هم بالطبع ‪ ،‬وعلى الجانب القبطي ومع تصاعد المناخ الطائفي وتزايد' االرتباط' بالكنيسة برز تيار‬
‫يرى فى اآلخر الخارجي بصرف النظر عن مواقفه السياسية الحقيقية والفعلية هو الحامي وطوق'‬
‫النجاة عبر ما يمكن ان يمارسه‪  ‬من ضغوط' على الدولة ‪ ،‬وحتى الدعوة للتدخل المباشر(‪،)30‬‬
‫انطالقا' من ان هذا اآلخر الخارجي' ينتمي لسياق ثقافى وحضاري' يكرس لحقوق المواطنة والحرية‬
‫الدينية ويحترمها‪.‬‬

‫ومنذ منتصف' التسعينيات ووسط' هذا المناخ الطائفي و الصراعي ووصوله لمرحلة القتال بين‬
‫الدولة وتنظيمات اإلسالم السياسى والتردي الواضح فى أوضاع' االحزاب والتيارات' الفكرية‬
‫والسياسية ‪ ،‬وعجزها عن إخراج الوطن من أزمته اخذ فى التبلور تيار جديد ينتمي إلى عدد من‬
‫األطر و المؤسسات التى تنشط فى الحياة العامة والتى تسعى للتأثير فى قطاعات اوسع من‬
‫الجمهور‪ ،‬وتتميز هذه االطر او المؤسسات بـ ‪:‬‬

‫‪                   .1                     ‬اهتمامها بالشأن العام (قضايا' ذات طابع سياسى‪ ،‬تنموى ‪،‬ثقافى‪،‬اجتماعي‪،‬حقوقي'‬
‫… الخ)‪.‬‬

‫‪       .2       ‬ممارسة انشطة ذات طابع جماهيرى اوموجهه للجمهور' (ندوات‪ ،‬مؤتمرات‪ ،‬اصداركتب'‬
‫‪،‬مجالت‪ ،‬عمل بحوث‪،‬برامج تدريب‪،‬تنظيم حوارات‪،‬تنفيذ مشروعات تنموية ‪،‬اصدار' بيانات‬
‫تعبيرا عن موقف' ‪،‬لقاءات ذات طابع احتفالى )‪.‬‬

‫‪       .3       ‬عدد من هذه االطر او المؤسسات'‪  ‬يرتبط تنظيميا‪  ‬أو يستمد شرعيته الفكرية من األنتماء‬
‫أما إلحدى المؤسسات الدينية القائمة بالفعل‪،‬اوللتراث والثقافة الدينية السائدة ‪ ،‬ورغم وجود' هذه‬
‫الرابطة التنظيمية او الفكرية اال ان خطابهاالسياسى او الثقافى خطابا غير ديني فى عمومه ‪0‬‬

‫‪       .4       ‬يالحظ كذلك على النشطاء والفاعلين او المؤثرين فى هذه االطر او المؤسسات' انتماءهم‬
‫الى جيل الوسط' الذى عاصر اوشارك' اولعب دورا‪  ‬فى الحركةالطالبية التى‪  ‬شهدتها'‬
‫الجامعات المصرية منذ عام ‪ 1968‬وعلى امتداد السبعينيات وأوئل الثمانينيات‪.‬‬

‫‪       .5       ‬استطاع'‪  ‬النشطاء اوالفاعلين والمؤثرين‪  ‬فى هذه االطر والمؤسسات' بناء حالة من الحوار‬
‫حول واقع ازمة المجتمع المصري' ومستقبله مع العديد من المنتمين‪  ‬للتيارات الفكرية‬
‫والسياسية الرئيسية االخرى‪  ‬فى مصر ( الماركسى‪ '،‬القومى الناصرى‪ ،‬الليبيرالى ‪،‬الوطنى'‬
‫الديمقراطى'‪/‬االسالمى ‪/‬المسيحى) وقد' ارتبطت الغالبية العظمى من هؤالء‪  ‬النشطاء او‬

‫‪217‬‬
‫الفاعلين‪  ‬فكريا وتنظيميا' بالقوى السياسيةالرئيسية فى مصر( الشرعية او المحجوب عنها‬
‫الشرعية القانونية)‪0‬‬

‫‪       .6       ‬امتالك الغالبية العظمى لهؤالء النشطاء و الفاعلين موقفا نقديا من التيارات الفكرية‬
‫والسياسة التى كانوا ينتمون لها‪ ،‬ويتفقون فى سعيهم‪  ‬لضرورة تطوير وتجديد خطابها السياسى‬
‫والفكرى وتجاوز' مواقفها' الماضوية والسلفية والدوجمائية ‪،‬وبناء فاعلية سياسيةحقيقية لها‪،‬‬
‫وتعتبر' قضية الديمقراطية من ابرز القضايا الخالفية التى يسعى هؤالء الناشطون لتطوير'‬
‫مواقفهم' تجاهها‪.‬‬

‫‪       .7       ‬بالنظر' الى الفترة الزمنية التى برز فيها نشاط هذه االطر اوالمؤسسات‪  ‬سعيا وراء بناء‬
‫وعى نقدى لدى الفئات التى امتد إليهم نشاطهم سنجد ان هناك ارتباطا' زمنيا بين بروز' هذه‬
‫األنشطة و‪  ‬تدهور االوضاع االجتماعية والسياسية واالقتصادية فى مصر والتى صاحبت‬
‫التوسع فى تطبيق' سياسة التكيف الهيكلىوخصخصة المؤسسات' االقتصادية‪ ،‬بروز مشكلة‬
‫البطالة خاصة بين الشباب‪ ،‬اتساع نطاق اعمال العنف بين الدولة وتنظيمات الجماعة االسالمية‬
‫وحركة الجهاد االسالمى‪ ،‬وبروز' شبح الحرب األهلية واالنهيار الشامل فى المجتمع ‪،‬وهى‬
‫الفترة التى ميزت عقد التسعينيات ومازالت تجلياتها مستمرة ‪،‬خاصة تأزم الوضع االقتصادى‬
‫واتساع' نطاق الفساد وتعمق ازمة الديمقراطية‪0‬‬

‫وعلى امتداد اكثر من عقد من الزمان يمكن القول ان النشطاء والفاعلين المرتبطين بهذه‬
‫االطر والمؤسسات'‪  ‬وداعميهم من ابناء نفس الجيل استطاعوا بلورة خطاب فكرى وسياسى'‬
‫مشترك' يدور' فى عمومه حول القضايا التالية‪:‬‬

‫الديمقراطية ( حرية تشكيل االحزاب‪ /  ‬تداول السلطة ‪ /‬االشراف القضائى على‬


‫االنتخابات ‪/‬الغاء القوانين المقيدة للحريات )‪0‬‬

‫حقوق االنسان(ضمان حقوق المواطنة ‪/‬حرية الفكر واالعتقاد ‪ /‬مكافحة كافة اشكال التعذيب‬
‫واالنتهاك' والعنف' البدنى اوالمعنوى')‪0‬‬

‫العدالة االجتماعية(حق‪  ‬كل مواطن فى حياة كريمة تضمن له العمل والتعليم' والرعاية‬
‫الصحية والسكن المناسب )‬

‫‪218‬‬
‫وينتشر' وينشط' الفاعلون‪  ‬والنشطاء المنتمون لهذا التيار‪  ‬بنفس االفكار والتوجهات‪  ‬وبدرجة‬
‫واضحة‪  ‬من التعاون فى عشرات االطر والمؤسسات' التى تنتشر' تقريبا فى كل محافظات مصر‬
‫وتتعدد' اشكالها بين منظمات غيرحكومية ‪/‬مراكز بحثية غير حكومية ‪ /‬مراكز بحثية حكومية‪ /‬شر‬
‫كات مدنية التستهدف الربح ‪/‬صالونات ثقافية ‪ /‬اسر وتجمعات فى منظمات نقابية مهنية ‪/‬مراكز‬
‫تدريب واستشارات' غيرحكومية ‪/‬صحف ومجالت حكومية ومعارضة ‪ /‬شبكات لمنظمات اهلية ‪/‬‬
‫مدارس و جامعات ‪/‬مؤسسات' دينية‪،‬ويمثلون منذ نهاية التسعينيات محاولة جادة لتجاوز' المرجعيات‬
‫السلفية الدينية أو السياسية تجاه تأسيس تيار فكرى' له طابع ديمقراطي إنساني معادى لالستبداد‬
‫واالستعمار والهيمنة وعلى خلفية جيلية ‪ ،‬فهل بإمكانهم' بلورة خطاب ليبرالي من نوع جديد يربط‬
‫بين الحريات‪  ‬السياسية والمدنية واالجتماعية واالقتصادية فى رؤية واحدة وهل بإمكانهم' من خالل‬
‫شبكة المؤسسات واألطر التى ينتمون اليها بناء حركة اجتماعية جديدة‪  ‬هذا ما سوف' يكشف عنه‬
‫المستقبل‪.  ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫الهوامــــــش ‪:‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪.1‬على سبيل المثال راجع المؤشرات الواردة فى تقرير التنمية اإلنسانية العربية ‪2002‬‬

‫‪2‬على سبيل المثال ال الحصر راجع العشرات من الصحف الحزبية والمستقلة(او الخاصة)‪ ‬‬
‫وما تعيد إنتاجه وضخه من أفكار' وقيم' والتى كلما ارتفعت حدة الديماجوجية والعداء للقيم‬
‫الديمقراطية وحقوق حرية الفكر واالعتقاد فى خطابهم' السياسى' ‪ ،‬وكلما توسعت فى توزيع تهم‬
‫التخوين والتكفير والتربح‪ ،‬كلما زادت أرقام توزيعها' وتم التعامل مع المسئولين عنها بصفتهم‬

‫‪219‬‬
‫مفكرين كبار يطلون علينا بشكل شبه يومي من شاشات التلفزيون والمنابر' الثقافية والعلمية‬
‫الرسمية رغم انهم يقدمون أنفسهم بصفتهم معارضين للنظام وسياسته‪.‬‬

‫‪.3‬يمكن مالحظة هذا ببساطة من تتبع معدالت التصويت فى االنتخابات العامة ‪ ،‬او حجم‬
‫المشاركين فى عضوية وأنشطة االحزاب السياسة ‪ ،‬او النزاعات الداخلية بين النخب السياسة‬
‫المسيطرة على النقابات المهنية وتراجع األداء النقابي ‪ ،‬وأخيرا' فى الحشود المحدودة جدا والتى‬
‫يشارك' فى الدعوة لها عشرات االطر والمنظمات' للتضامن مع االنتفاضة الفلسطينية الباسلة‬

‫‪Herbert Blumer,"Collective Behavior"in Alfred ML(Ed)Principles.4‬‬


‫‪of Sociology,New York,1969,p121‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪5.James Mckee, "Introduction to       Sociology",New‬‬


‫‪York:Rienhart            and Winston,inc1974,p440.‬‬

‫‪ .6‬المرجع السابق‬

‫‪.7‬ا‪.‬س‪.‬كمهان "مقدمة فى نظريات الثورة "ترجمة فاروق عبد القادر‪،‬المؤسسة العربية‬


‫للدراسات والنشر‪،‬بيروت ‪،1979‬ص‪.17‬‬

‫‪.8‬لمزيد من التفاصيل حول التراث التاريخي الستبداد ومركزية الدولة فى مصر يمكن‬
‫الرجوع' الى ‪:‬احمد صادق سعد " تاريخ مصر االجتماعي االقتصادى‪,‬دار ابن خلدون‪،‬بيروت‬
‫‪. 1979‬‬

‫تحول التكوين المصري من النمط األسيوي الى النمط الرأسمالي"بيروت دار الحداثة‪،‬‬
‫‪.1980‬‬

‫‪.9‬السيد عبد المطلب غانم "التوظف الحكومي فى مصر الحاضر العداد المستقبل" (تحرير)‪،‬‬
‫مركز البحوث والدراسات السياسية‪،‬كلية االقتصاد والعلوم السياسية ‪/‬جامعة القاهرة ‪،‬ص‪/ 45‬‬
‫‪.19912‬‬

‫‪.10‬نموذج لهذا ما قام به الرئيس السادات من انقالب كامل على السياسات الناصرية‬
‫واإلطاحة بالمجموعة الناصرية فى الحكم فيما عرف بثورة ‪ 15‬مايو ‪.1971‬‬

‫‪220‬‬
‫‪ .11‬االستراتيجية القائمة على اختراق مؤسسات' الدولة من اسفل تشكل عصب النشاط‬
‫الحركي لتيار األخوان المسلمين وكل الجماعات التى تتبنى التغيير عن طريق' التربية او كما قال‬
‫المرشد العام األول حسن البنا ان بناء الفرد المسلم هو األساس لبناء األسرة المسلمة التى تبنى‬
‫المجتمع المسلم ‪:‬لمزيد من‪  ‬التفاصيل راجع عماد صيام "نشطاء الحركة االسالمية وأساليب بناء‬
‫النفوذ السياسى من اسفل "‪/‬المجلة االجتماعية القومية‪،‬المركز القومى للبحوث االجتماعية‬
‫والجنائية ‪،‬القاهرة‪،‬سبتمبر‪.1992‬‬

‫‪.12‬نموذج لهذا الثورة العرابية‪/1881‬ثورة يوليو'‪ 1952‬وكالهما تم من خالل السيطرة على‬


‫الجيش‪.‬‬

‫‪ .13‬لمزيد من التفاصيل ‪:‬ز‪.‬ل‪.‬ليفين "الفكر السياسى واالجتماعي الحديث فى لبنان وسوريا‬


‫ومصر "ترجمة بشير السباعي ‪ ،‬دار ابن خلدون ط‪،1،1978‬ص‪.22‬‬

‫‪ .14‬لمزيد من التفاصيل ‪:‬عبد الرحمن الرافعى " عصر محمد على "سلسلة كتب مكتبة‬
‫األسرة ‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب ‪2000،‬‬

‫‪.15‬الفكر السياسى فى فلسطين ‪..‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪. 175/180‬‬

‫‪.16‬لمزيد من التفاصيل حول الثورة العرابية يمكن الرجوع الى ‪:‬صالح عيسى "الثورة‬
‫العرابية "‪،‬دار المستقبل العربي‪ ،‬القاهرة‪1982  ‬‬

‫‪ ‬رفعت السعيد" األساس االجتماعي للثورة العرابية "‪ ،‬مكتبة مدبولى‬

‫‪.17‬الفكر السياسى فى فلسطين ‪..‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪190/192‬‬

‫‪ .18‬لمزيد من التفاصيل د‪ .‬رفعت السعيد ‪:‬الليبرالية المصرية ‪ ،‬المثقفون وحزب الوفد"‪ ،‬دار‬
‫مصر المحروسة ‪،‬ط‪ ،1‬القاهرة ‪. 2002 ،‬‬

‫‪.19‬لمزيد من التفاصيل حول العالقة بين قيادة ثورة ‪ 19‬والجماهير يمكن الرجوع الى ‪:‬‬

‫صالح عيسى " البرجوازية المصرية وأسلوب المفاوضة "‪،‬مطبوعات الثقافة الوطنية ‪،‬ط‬
‫‪،2‬القاهرة ‪1980،‬‬

‫‪221‬‬
‫د‪ .‬رفعت السعيد ‪:‬الليبرالية المصرية ‪ ،‬المثقفون وحزب الوفد"‪ ،‬دار مصر المحروسة ‪،‬ط‪،1‬‬
‫القاهرة ‪. 2002 ،‬‬

‫‪.20‬تجاوز' ت أعداد تلك التنظيمات العشرات‪  ‬وظهر الكثير منها كانشقاق أو انقسام عن تنظيم‬
‫آخر أال انه بشكل عام كان يمكن تقسيمهم الى تيارين أساسيين التيار الدعوى الذى يسعى للتغيير‬
‫عبر الدعوة السلمية وابر تنظيماته جماعة األخوان المسلمين والتيار الجهادى الذى يعتمد على‬
‫العنف كنهج للتغيير وبناء الدولة والمجتمع االسالمى وابرز' منظماته الجماعة االسالمية وتنظيم'‬
‫الجهاد‬

‫‪.21‬نبيل عبد الفتاح "الوجه والقناع ‪-‬الحركة االسالمية والعنف والتطبيع"‪   ‬دار سشات‬
‫للدراسات والنشر والتوزيع ‪،‬القاهرة ‪،‬ط‪، 1،1995‬ص‪88‬‬

‫‪.22‬حول التركيز' على الرموز والدالالت ذات الطابع الدينى فى أساليب حركة تنظيمات‬
‫اإلسالم السياسى يمكن الرجوع' الى‪" :‬نشطاء الحركة االسالمية وأساليب بناء النفوذ السياسى فى‬
‫قرية مصرية‪،‬مرجع سبق ذكره‪.‬‬

‫‪.23‬لمزيد من التفاصيل حول الدور والخدمات االجتماعية لتيارات اإلسالم السياسى يمكن‬
‫الرجوع' الى‪:‬د‪.‬عماد صيام الحركة االسالمية والجمعيات األهلية فى مصر"ودراسات أخرى‬
‫منشورة فى" الجمعيات األهلية االسالمية فى مصر"‪،‬تحرير ‪..‬عبد الغفار شكر‪،‬مركز البحوث‬
‫العربية‪/‬البحوث العربية‪/‬دار األمين للطباعة والنشر‪،‬القاهرة ‪.2001‬‬

‫‪ .24‬لمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع الى ‪:‬هالة مصطفى "الدولة والحركة االسالمية‬
‫المعارضة بين المهادنة والمواجهة‪ ,‬فى عهدي السادات ومبارك"‪/‬كتاب المحروسة رقم ‪،19‬ط‪1،1‬‬
‫‪.995‬‬

‫محمد حسنين هيكل "خريف الغضب قصة بداية ونهاية عصر السادات"‪/‬شركة المطبوعات‬
‫للتوزيع والنشر‪،‬بيروت ‪.1985،‬‬

‫وائل عثمان"أسرار الحركة الطالبية‪/ "68/75‬مطابع مد كور‪،‬القاهرة‪.‬‬

‫‪.25‬احمد صدقي الدجانى "الصحوة االسالمية ومشاريع الهيمنة األجنبية "فى الصحوة‬
‫االسالمية وهموم الوطن العربي ‪ ،‬تحرير سعد الدين إبراهيم ‪ ،‬منتدى الفكر العربي ‪ ،‬عمان ‪،‬‬
‫‪ ،1988‬صت‪.129/141‬‬

‫‪222‬‬
‫‪.26‬حسن البنا "من رسائل األخوان المسلمين "‪،‬دار التوزيع والنشر االسالمية ‪،1990،‬صـ‬
‫‪.76/78‬‬

‫‪.27‬سيد قطب "معالم فى الطريق "دار الشروق ‪ ،‬ط‪،1982 ،8‬صـ‪140/141‬‬

‫‪.28‬النص الكامل لهذه الوثائق فى رفعت سيد احمد"النبي المسلح(‪…… )2‬الثائرون"رياض‬


‫الريس للكتب والنشر‪،‬ط‪1،1991‬‬

‫‪.29‬هناك مئات الوثائق' والكتابات التى تؤكد رؤية تنظيمات الحركة االسالمية لألخر الداخلي‬
‫والخارجي ‪،‬والتى ال ترى فيه اال حزب الشيطان من أهمها وثيقة اإلحياء االسالمى من منظور‬
‫جماعة الجهاد االسالمى‪    ‬بقلم كمال السعيد حبيب (‪   )1986‬‬

‫كذلك وثيقة الخالفة " لمصطفى شكري' أمير جماعة المسلمون والمعروفة إعالميا بجماعة‬
‫التكفير والهجرة ‪  ‬النص الكامل لهذه الوثائق فى رفعت سيد احمد"النبي المسلح(‪…… )2‬‬
‫الثائرون"رياض الريس للكتب والنشر‪،‬ط‪1،1991‬‬

‫‪.30‬من ابرز هذه التيارات جماعات أقباط المهجر فى الواليات المتحدة واستراليا وكندا ‪،‬‬
‫والتى يوجد لها مناصرين ومؤيدين فى الوسط'‬

‫الحركات االجتماعية الديموقراطية في مواجهة إمبريالية العولمة‬

‫‪ ‬‬

‫سمير امين‬

‫‪ ‬‬

‫‪    -1‬البديل ‪ :‬التقدم االجتماعي والمقرطة واالعتماد المتبادل عبر التفاوض حول‬


‫شروطه‬

‫‪ ‬‬

‫تحتاج الشعوب في عالم اليوم ‪ ،‬كما األمس ‪ ،‬الي مشروعات لمجمل المجتمع‬

‫‪223‬‬
‫( وطنية‪  ‬و إقليمية ) تتمفصل علي هياكل معولمة يتم تنظيمها عبرالتفاوض حول‬
‫شروطها ‪ ،‬مما يسمح بإحراز تقدم في ثالثة اتجاهات – بشرط التكامل النسبي‬
‫بينهم ‪-:‬‬

‫‪ -1‬التقدم االجتماعي ‪ :‬ويتطلب ان يكون التقدم االقتصادي ( االبتكار وتطور‬


‫االنتاجية وتوسع السوق) مصحوبا بتحقيق مزايا اجتماعية للكافة ( التوظيف واالندماج‬
‫االجتماعي والحد من التفاوتات االجتماعية)‬

‫‪-2‬مقرطة جميع المجاالت‪  ‬في المجتمع ‪ ،‬وهي عملية مستمرة غير منتهية ‪ ،‬وليست‬
‫نموذجا جاهزا تحدد لمرة واحدة ويصلح للجميع ومن الضروري' ان يكون الزخم‬
‫الديموقراطي محسوسا في كل المجاالت االجتماعية واالقتصادية ‪ ،‬وال يجري‪  ‬حصره‬
‫في المجال السياسي‬

‫‪-3‬األخذ بالتنمية االقتصادية واالجتماعية لمجمل المجتمع ‪ ،‬وبناء أشكال من العولمة‬


‫توفر هذه االمكانية ‪ ،‬علي ان يكون مفهوما ان التنمية المعتمدة علي الذات ال تعني‬
‫استبعاد االنفتاح او المشاركة في العولمة (االعتماد المتبادل) ‪ ،‬شريطة ان يظل‬
‫مسيطرا عليه‬

‫ٍ ومن المتصور' ان ثمة حاجة لصياغة هذه األبعاد وفق شروط تسمح بالحد من تفاوت‬
‫الثروة والسلطة بين األمم والمناطق وليس تفاقمهم‬

‫ان البديل الذي حددناه أبعاده الثالثة‪  ‬يتطلب السير قدما في االتجاهات الثالث في آن‬
‫ان تجارب التاريخ الحديث التي نهضت علي إعطاء اولوية مطلقة لالستقالل الوطني ‪،‬‬
‫سواء كان مصحوبا بالتقدم االجتماعي او تمت التضحية به‪ ،‬ولكن دون ديموقراطية‬
‫دائما ‪ ،‬أظهرت باستمرار عدم قدرتها علي اجتياز‪  ‬الحدود التاريخية‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪224‬‬
‫كما لم تسهم المشاريع الديموقراطية المعاصرة ‪ ،‬والتي قبلت التضحية بالتقدم‬
‫االجتماعي واالستقالل لحساب اعتماد متبادل معولم ‪ ،‬في تعزيز الطاقة التحررية‬
‫للديموقراطية‪ ،‬بل قوضتها واساءت اليها واخيرا صفت مشروعيته‬

‫واذا كان الخطاب النيو ليبرالي السائد يزعم انه البديل سوي الخضوع لمطالب السوق‬
‫‪ ،‬وان هذه الفكرة بذاتها تكفل تحقيق التقدم االجتماعي ( وهذا غير حقيقي)‪ ،‬لماذا اذن‬
‫تحمل تبعات اجراء االنتخابات؟‪  ‬لقد أصبحت الحكومات المنتخبة مجرد ديكورات ال‬
‫لزوم لها ‪ ،‬و اصبح "التغيير"‪  ‬بمعني تعاقب قادة مختلفين ولكنهم يفعلون نفس الشئ‬
‫بديال عن االختيار من بين بدائل بحكم تعريف الديموقراطية‪  ‬ومن ثم فان رد اعتبار‬
‫السياسة وثقافة المواطنة يحدد إمكانية بديل ضروري لالنحطاط الديموقراطي‬

‫ومن الضروري أيضا السير قدما في البديل بأبعاده الثالثة نظرا الرتباطهم مع‬
‫ويتطلب ذلك صياغة إستراتيجيات متدرجة تسمح بتعزيز التقدم ‪ ،‬بعضها متواضع‬
‫قابل للتحقيق علي الفور‪ ،‬وصوال الي االرقي ‪ ،‬مما يقلل مخاطر اإلخفاق او الخروج‬
‫عن المسار او االنتكاس‬

‫ان صياغة استراتيجيات متدرجة – خطوة بخطوة – تعني األخذ بعين االعتبار درجة‬
‫تطور العلوم والتكنولوجيا وتسارع وتيرة الثورات العلمية والتكنولوجية مع اإلحاطة‬
‫بكل أبعادها مثل الثروات الجديدة وقوي التدمير الكامنة التي عجلت بها تلك الثورات‬
‫والتحوالت في ميدان تنظيم العمل والهياكل االجتماعية الخ ومن أجل االضطالع بهذه‬
‫المهمة ينبغي اال نسقط فريسة أمل كاذب‪  ‬يري هذه الثورات تمتلك قدرة "سحرية" لحل‬
‫تحديات التقدم االجتماعي والمقرطة ‪ ،‬فالعكس هو الصحيح ويوجد في إدماج الجديد"‬
‫في دينامية اجتماعية فعالة تمكننا من االستفادة من الطاقة التحررية الكامنة فيه‬

‫ان المشروع االجتماعي الموسوم تعسفا بانه ليبرالي ( وهو نيوليبرالي' في صورته‬
‫األخيرة) يقوم علي التضحية بالتقدم االجتماعي لحساب مطالب طرف واحد وهي‬
‫تحقيق الربح السريع لقطاعات مسيطرة من راس المال (راس المال متعدي الجنسية‬
‫المتمثل في نحو ‪ 5-5‬من كبريات الشركات متعدية الجنسية) ومن ثم يتم إخضاع‬

‫‪225‬‬
‫العمال والبشر واألمم من جانب واحد لمنطق السوق‪  ‬والريب ان هذا تعبير عن‬
‫يوتوبيا راس المال الدائمة التي تعني تكييف كل جوانب الحياة لمطالب تحقيق الربح‬
‫انها يوتوبيا صبيانية تفتقر الي أساس علمي أو أخالقي ‪ ،‬وعبر هذا الخضوع يتم‬
‫تفريغ التقدم االجتماعي من أي مضامين‬

‫وعلي الصعيد العالمي يعمل هذا الخضوع علي إعادة انتاج وتعميق التفاوتات بين‬
‫األمم واألقاليم السيما في ضوء الهياكل الجديدة التي تتوافق مع مطالب راس المال‬
‫الذي بلغ مستوي جديد من التطور وهذا يعني ان االحتكارات التي تستفيد منها‬
‫الرأسمالية االحتكارية – االوليغوبولية‪ -‬في المراكز المسيطرة في الثالوث –أمريكا و‬
‫أوربا واليابان‪ -‬لم تعد ببساطة تدور حول الصناعة ولكن حول اشكال اخري للسيطرة‬
‫االقتصادية‪  ‬واالجتماعية والسياسية (السيطرة علي التكنولوجيا مدعومة بتطبيقات‬
‫متعسفة لحقوق الملكية الصناعية و الفكرية ‪ ،‬والنفاذ للموارد الطبيعية علي ظهر‬
‫األرض ) والقدرة عي التأثير في الرأي العام عبر السيطرة علي المعلومات وعبر‬
‫تمركز وسائل التدخل المالي ومن خالل قلة منتقاة لديها القدرة علي امتالك أسلحة‬
‫الدار الشامل‬

‫ال يوجد انفصال بين اقتصاديات السوق والسلطة السياسية للدولة –بما فيها العسكرية‪-‬‬
‫في عالم اليوم ‪ ،‬كما كان الحال دوم ولقد حل راس المال والرأسمالية االحتكارية –‬
‫االوليغوبولية' – متعدية الجنسية والسلطات السياسية العاملة في خدمتها بديال عن هذه‬
‫الوحدة المشار اليه إذن كيف يتسنى لنا بناء استراتيجيات للمواجهة متمحورة حول‬
‫الشعوب وكيف تدفع‪  ‬قوي "المقاومة" بالبديل المحدد هنا ‪ ،‬هذا هو التحدي الفعلي‬

‫‪ ‬‬

‫‪    -2‬توحيد الحركات االجتماعية واعادة بناء المواطن السياسي‬

‫ال يوجد مجتمع رهين مرحلة واحدة ال تتغير بهذا المعني ليس جديدا وجود حركات‬
‫اجتماعية ‪ ،‬سواء كانت ظاهرة او خفية ‪ ،‬منظمة او تعمل في خفاء ‪ ،‬متبلورة حول‬

‫‪226‬‬
‫برنامج عمل محدد بلغة سياسية او ايديولجية او ال تكترث بالخطابات او‪  ‬السياسة ‪،‬‬
‫موحدة او مفتتة الجديد الذي تتسم به الحركة الراهنة هو ان الحركات االجتماعية ‪-‬او‬
‫المجتمع المدني بالتعبير الدارج‪ -‬مفتتة والتكترث بالسياسة او األيدلوجيا‪  ‬وهو امر‬
‫نتاج تآكل المعركة االجتماعية والسياسية في الفترة السابقة علي التاريخ المعاصر (‬
‫بعد الحرب العالمية الثانية) ولهذا ضعفت فاعليتها وكفاءتها ومن ثم مصداقيتها‬
‫ومشروعيته وقد جاء هذا التآكل في إطار عدم توازن أساسي ‪ ،‬ومع راسمال سائد‬
‫استفاد من هذا الفراغ في اخضاع شعوب ومجتمعات لمنطق مطالبه الكلية مدعيا‬
‫ابدية‪"  ‬حكمه" ‪ ،‬زاعما انه العقالني والخير وانه "نهاية التاريخ" ‪ ،‬أنها يوتوبيا‬
‫الرأسمالية الدائمة‪  ‬بيد ان هذه األزمة تتمظهر في مقوالت عبثية مثل "البديل" او في‬
‫تصور حركة اجتماعية امتالك القدرة علي تغيير العالم دون تعيين أهدافها وخططه‬

‫ان الحركات االجتماعية –بالجمع‪ -‬توجد وتعزز حضورها وتحركاتها في كل انحاء‬


‫العالم ومن امثلة ذلك الحركات الطبقية والحركات الديموقراطية وحركات حقوق‬
‫المرأة‪  ‬وحقوق اإلنسان وحقوق الشعوب والفالحين والمدافعين عن البيئة ‪ ،‬وهي‬
‫بعض تعبيرات الحركات االجتماعية ان تغيير العالم يتم فقط عبر بلورة البديل من‬
‫خالل المشاركة النشطة في هذه الحركات‪ ،‬بيد ان ذلك يتطلب منها معرفة كيفية‬
‫المضي قدما من الدفاع الي الهجوم ومن التفتت الي التوحد المتنوع للقيام بدور حاسم‬
‫في صياغة مشروعات خالقة وكفئؤة لبناء استراتيجية سياسية موجهة للمواطنين‬

‫ان ادراك نقاط ضعف الحركة الراهنة اليعني التقليل من شانها او التطلع في حنين الي‬
‫ماضي ولي ‪ ،‬ولكن بغرض العمل علي تعزيز طاقتها التحريرية‬

‫ان عدو الشعوب هو الرأسمالية االحتكارية – االوليجاركية‪  -‬وراس المال المعولم‬


‫والهيمنة االمبريالية والسلطات السياسية التوتالية العاملة‪  ‬في خدمتها‪  ‬حتي وقتنا هذا‪ ‬‬
‫ويمكن القول ان حكومات الثالوث ‪ ،‬سواء من اليمين او اليسار تتشاطر نفس الهوي‬
‫الليبرالي' ‪ ،‬السيما في الواليات المتحدة حيث يشترك الحزبان الجمهوري‬
‫والديموقراطي' في نفس الرؤية عن الدور المهيمن للواليات المتحدة‪  ‬ويضاف الي‬

‫‪227‬‬
‫هؤالء الطبقات الحاكمة قي الجنوب ويقوم هذا العدو بنشر استراتيجيته االقتصادية‬
‫والسياسية واأليدلوجية والعسكرية والتي تعمل عل خدمتها كل المؤسسات التي تشكلت‬
‫لهذا الغرض ومنها منظمة التعاون والتنمية االقتصادية والبنك الدولي وصندوق النقد‬
‫الدولي ومنظمة التجارة العالمية وحلف الناتو‪  ‬الخ كما يملك العدو مراكز للتفكير لها‬
‫اجتماعات معروفة مثل "منتدي دافوس" الشهير فضال عن الجامعات وأقسام االقتصاد‬
‫التقليدية‪  ‬وتسيطر هذه المراكز علي "الموضات الفكرية" وتنتقي الكلمات البراقة‬
‫والخطابات التي تعمل علي فرضها ‪" :‬الديموقراطية وحقوق االنسان" أو "الحرب ضد‬
‫الفقر" أو"الشعوب المضطهدة" أو "تعزيزحقوق االقليات" أو " الحرب علي االرهاب"‬
‫الخ أن غالبية قادة الحركات والنشطاء‪  ‬الزالوا متاخرين حتي االن في الرد علي‬
‫المقاالت التي تتضمن هذه االستراتيجية وذلك الخطاب ولذلك‪  ‬يجب ان نحرر انفسنا‬
‫من المواقف الدفاعية القائمة علي رد الفعل ونضطلع بدورنا ونقدم خطاباتنا‬
‫واستراتيجيتنا واهدافنا ولغتنا‪  ‬الن الطريق شاق وطويل‬

‫سوف نستطيع السير في هذا االتجاه لو استطعنا تحليل استراتيجية الخصم بصورة‬
‫منهجية واحطنا بابعادها العالمية وتعبيراتها المحلية‪ ،‬فالتزال هذه االستراتجيات بعيدة‬
‫عن ان تكون كتلة واحدة صماء مبراة من كل عيب ‪ ،‬فهي تتخللها التناقضات التي‬
‫نحتاج الي تحليلها ومعرفتها وتحديدها وفرزها كما نحتاج الي اقتراح استراتيجيات‬
‫مضادة تستفيد من هذه التناقضات‪  ‬بيد ان الحركات‪  ‬التزال ضعيفة‪  ،‬ولم تدرك اهمية‬
‫هذه الفكرة ولم تستخلص أهمية العمل الموحد ‪،‬والي األن الحركة في حالة تفتت وفي‬
‫موقف الدفاع والتزال رخوة في خطابها ومقترحاتها وهو امر يعرفه العدو ويفاد منه‬
‫ومن ثم يجب التقدم الي مستويات جديدة تجعل بللورة القوي الشعبية الستراتيجيات‬
‫للمواجهة امرا ممكنا‪ ،‬وتحديد رؤيتها العالمية وموقفها من االعتماد المتبادل وتعيين‬
‫التعبيرات المحلية والقطاعية لهذه االستراتيجية‪  ‬وهذا يتوقف علي تحديد وصياغة‬
‫مقومات البديل بصورة متماسكة واطالق برامج وانشطة وتحركات ثرية متنوعة‬
‫ومنسجمة متناسقة لها تأثيرها علي المجتمع بيد ان هذا يتحقق عندما تصبح الحركة‬
‫قوة للتغيير في التاريخ ان خصمنا علي يقين ان تقدمنا مسالة صعبة ‪ ،‬ليس فقط بسبب‬

‫‪228‬‬
‫التدخالت المادية عند الضرورة عبر اجهزة الشرطة واستخدام العنف والتراجع عن‬
‫المكاسب الديموقراطية ودعم التيارات الفاشية الجديدة وشن الحروب ‪ ،‬لكن ايضا من‬
‫خالل تقديم مقترحات ملطفة‪  ‬ومن ثم تظل الحركة ال سياسية الطابع ورخوة ومتخلفة‬
‫بخطوة الي الوراء‪  ‬وفي هذا الصدد تسهم األيدلوجية "الحركوية" في هذا االمر‬
‫برفضها من حيث المبدأ ما نقترحه من ضرورة إعمال الوحدة مع التنوع و اعادة بناء‬
‫سياسات مدنية –للمواطنين‪  -‬وفي هذه الظروف ينبغي إجراء درس نقدي لهذه‬
‫الحركات واألشكال التنظيمية التي تدعمها‪  ،‬بخاصة المنظمات غير الحكومية التي تعد‬
‫غالبا تعبير جامع مانع عن المجتمع المدني وهل هي تتمسك وتشايع منظور بناء‬
‫البديل ؟ ام هي مجرد تكنيك الدارة النظام وتحقيق طموحاته الفعلية – عبر استخدامها‪ ‬‬
‫كأداة لمناهضة البديل ؟‬

‫ان بناء سياسة مدنية سوف يسمح للحركة امتالك الفرصة‪  ‬التي‪  ‬تستدعي التساؤل‬
‫عن التوازن الذي يعمل لمصلحة راس المال ‪ ،‬كما تتيح ظهور توازنات اجتماعية‬
‫وسياسية‪  ‬جديدة تكره راس المال علي "التكيف" مع مطالب لم تأت نتاجا لمنطقه القائم‬
‫علي إجبار الشعوب علي التكيف مع مطالبه ‪ ،‬بل علي العكس إجبار راس المال علي‬
‫التكيف مع مطالب الشعوب‬

‫ان دعوتنا موجهة الي الجميع – والينا أيضا‪ -‬ممن يجدون انفسهم مشاركين في انشطة‬
‫واجتماعات المنتدى االجتماعي العالمي (بورت اليجري) وفي المنتديات الوطنية‬
‫واإلقليمية‪  ‬ان المنتدى العالي للبدائل سوف يساعد – مع آخرين – في صياغة‬
‫استراتيجيات شعبية فعالة و كفؤة لمقاومة العولمة‬

‫والمقترح التالي هو مجرد اطروحات ‪ ،‬سوف يحسبها البعض خاطئة ومتشددة أو‬
‫استفزازية‪ ،‬بيد انها برأيي تستحق عناء النقاش‬

‫‪ ‬‬

‫‪229‬‬
‫‪-3‬امبريالية الثالوث الجماعية (الواليات المتحدة وأوربا واليابان) وهجوم الهيمنة‬
‫االمريكية وعسكرة العولمة‬

‫األطروحة األولى‬

‫ان النظام العالمي ليس نظاما بعد إمبريالي ‪ ،‬انه محض إمبريالي ‪ ،‬يشاطر النظم‬
‫االمبريالية السابقة عليه والتي قادت توسع الرأسمالية العالمية في عديد من الخصائص‬
‫االساسية الثابتة انه اليقدم لشعوب االطراف – الجنوب بالمصطلح الدارج – وهي‬
‫ثالثة ارباع سكان العالم ‪ ،‬اية فرصة ل "اللحاق" او اإلفادة –لالفضل او االسوا – من‬
‫مزايا االستهالك المادي الذي تنعم به شعوب المراكز واليقدم سوي انتاج واعادة انتاج‬
‫الفجوة بين الشمال والجنوب واآلخذة في االتساع‪  ‬علي أي حال لقد دخلت اإلمبريالية‬
‫مرحلة جديدة من مراحل توسعها‪  ‬ولهذا عالقة مباشرة بالتحوالت الجارية علي صعيد‬
‫الرأسمالية وراس المال ‪ :‬الثورة التكنولوجية والتحوالت في سوق العمل وسيادة‬
‫العولمة‪  ‬المالية الخ وهي موضوع بحث جاد وحورات ونقاشات حيةبيد ان الهاجس‬
‫االقتصادي لدي البعض والسياسات الرخوة للبعض االخر من علية القوم تعمل علي‬
‫ضبط وتوجيه ايقاع‪  ‬هذه النقاشات لدرجة انه يجري تقديم النظام علي انه يوفر‬
‫الفرص لكل اولئك الذين يرغبون في االخذ به‪  ‬وهذا راجع الي ضعف الحركة وكفاءة‬
‫الخطاب السائد وهذا يدفعني الي طرح بعد اخر لإلمبريالية وقد جرت العادة دائما علي‬
‫اإلشارة أليها بالجمع الن الصراع السياسي االقتصادي الدائم والعنيف بين المراكز‬
‫االمبرياية المختلفة كان دوما في مقدمة التاريخ ‪ ،‬اما اآلن نشير اليها بصيفة المفرد‬
‫النها أصبحت إمبريالية "الثالوث" الجماعية (الواليات المتحدة واوربا واليابان)‬

‫وتظهر الحقائق بجالء الطبيعة الجماعية للحالة اإلمبريالية الجديدة ففي كل المؤسسات‬
‫العالمية الدارة االقتصاد لم يتم فرز مواقف الوربا واليابان مغايرة لمواقف الواليات‬
‫المتحدة سواء في البنك الدولي او صندوق النقد الدولي او منظمة التجارة العالمية‪ ‬‬
‫ولتنذكر المطالب التي فرضت علي مؤتمر منظمة التجارة العالمية في الدوحة عام ‪21‬‬
‫من جانب الموفد األوربي "باسكال المي" وكانت اشد إجحافا من المطالب االمريكية‬

‫‪230‬‬
‫اذن‪  ‬ما هي االسياب التي تقف وراء هذه الرؤية المشتركة للثالوث ؟ وهل التضامن‬
‫الذي يظهره الثالوث يعني خطوة مستقرة جديدة في تاريخ العولمة االمبريالية ؟‪  ‬واين‬
‫نجد التناقضات الطارئة داخل الثالوث؟‪  ‬لقد جرت العادة ان يفسر هذا التضامن‬
‫بأسباب سياسية ‪ :‬القلق المشترك من االتحاد السوفيت و "الشيوعية" بيد ان اختفاء هذا‬
‫التهديد لم يضع حدا للجبهة "الشمالية" المشتركة علي أي حال لم تعد اوربا واليابان‬
‫تايعتين للوالبات المتحدة كما كان الحال في اعقاب الحرب العالمية الثانية ‪ ،‬بل صارا‬
‫منافسين خطيرين للوالبات المتحدة ‪ ،‬وكان المرء يتوقع ان تفضي الصراعات بينهم‬
‫الي تدمير الثالوث‪  ‬والحقيقة ان ما حدث‪  ‬هو العكس تماما ‪ ،‬فقد قبلت اوربا واليابان‬
‫بالمشروع النيوليبرالي المعولم‪  ‬ومن ثم اميل‪  ‬بقوة الي تفسير هذا االختيار بضغوط‪ ‬‬
‫الرأسمالية االحتكارية المسيطرة – االوليغوبولية‪ -‬والمطالب الجديدة للتراكم الرأسمالي‬
‫والن هذه االراسماليات بلغت مستوي من النمو لم يعرف من قبل مما دفع‬
‫االولفوبوليات –الشركات متعدية الجنسية الكبيرة ان تلقي بمراسيها في دول الثالوث ‪،‬‬
‫نظرا لحاجتها الي اعادة االنتاج والنفاذ الي سوق عالمي مفتوح‪  ‬ويري البعض ان هذه‬
‫الحقيقة الجديدة تعني ان هناك رأسمال وبرجوازية متعديان الجنسية علي نحو صرف‬
‫آخذة في التشكل ان هذه المسالة جديرة بالبحث العميق‪  ‬بيد ان البعض اآلخر‪ -‬من‬
‫بينهم ككاتب هذه السطور‪ -‬اليري ضرورة التوصل الي نتيجة نهائية الن المصالح‬
‫المشتركة في ادارة السوق العالمي من القوة بمكان كي تشكل أساسا لتضامن راس‬
‫المال متعدي الجنسية‬

‫ان التناقضات التي كان يمكن ان تدمر الثالوث او علي االقل تضعف من قوته‬
‫الجماعية ال تكمن في المصالح المتعارضة للقطاعات السائدة من راس المال ‪ ،‬بل‬
‫يجب البحث عنها في مواضع اخري‪  ‬ونظرا الن راس المال والدول هي مفهومات‬
‫ووقائع‪ ،‬فان الثالوث – وحتي قطاعه األوربي يظل مهيكال في دول منفصلة ‪،‬‬
‫واليمكن اختزال وظائف الدولة في مجرد تقديم الخدمات لراس المال المسيطر‪  ‬ففي‬
‫الدولة تتمفصل كل التناقضات التي يتسم بها المجتمع – الصراعات الطبقية‪ ،‬والثقافة‬
‫السياسية للشعب بمختلف أبعادها ‪  ،‬وتنوع المصالح الوطنية "الجماعية"‪ ،‬والتعبيرات‬

‫‪231‬‬
‫الجيوسياسية لمتطلبات الدفاع واألمن ومع هذا تعد الدولة العبا رأسماليا متميزا‬
‫وبارزا‪  ‬اذن ما الذي تفضي إليه هذه الدينامية المعقدة ؟‪  ‬هل تفضي الي الخضوع‬
‫للمصالح‪  ‬المباشرة والكلية لراس المال المسيطر؟‪  ‬ام ان هناك كيانات اخري تنظم‬
‫مطالب اعادة انتاج راس المال تتمظهر في ميادين اخري ؟‪ ‬‬

‫الفرضية االولي ‪ :‬مع غياب مؤسسة سياسية مشتركة متكاملة لدول الثالوث ‪ ،‬فان‬
‫الواليات المتحدة ‪ ،‬رئيس اركان الثالوث ‪ ،‬سوف يطلب أليها الوفاء بمتطلبات الدولة‬
‫"العالمية" ‪ ،‬وهي شرط ضروري لإلدارة الرشيدة للرأسمالية العالمية‪  ‬وسوف يقبل‬
‫الشركاء في الثالوث‬

‫بالنتائج‪  ‬بيد انه في هذه الحالة أقول ان "المشروع االوربي" سيكون خاليا من‬
‫المضمون' ويختزل في احسن االحوال ليكون القطاع األوربي لإلمبريالية الجماعية‪،‬‬
‫وفي أسوأها‪  ‬يصبح القسم األوربي في مشروع الهيمنة االمريكية وحتي هذه اللحظة‬
‫يبدو ان الحشرجة التي نسمعها من حين الخر صادرة بسبب االدارة السياسية‬
‫والعسكرية للعولمة‪  ‬ال بسبب االدارة االقتصادية واالجتماعية له بمعني ان ثمة قوي‬
‫أوربية تفضل إدارة سياسية جماعية للنظام العالمي بينما يقبل اخرون بادارة امريكية‬
‫كاملة‬

‫وفي الفرضية الثانية يمكن القول انه لو نجحت الشعوب األوربية في ان تفرض علي‬
‫راس المال المسيطر شروط اتقاق تاريخي جديد يحدد هوية الدول األوربية واالتحاد‬
‫االوربي ‪ ،‬يمكن الوربا ان تتطلع الي ان تكون العبا مستقل ان خيار "اوربا‬
‫االجتماعية" – بافتراض ان السطة التعمل بصورة فورية وكلية في خدمة اراس المال‬
‫المسيطر‪ -‬الينفصل عن خيار اوربا "غير األمريكية" وهذا يحدث فقط اذا نأت اوربا‬
‫بنفسها عن االدارة االمبريالية الجماعية التي تتحدد بها مصالح راس المال المسيطر‬
‫في جملة واحدة اما ان تكون اوربا في "اليسار" او ال تكون ‪ ،‬مع ادراك ان هذا‬
‫المفهوم بعني وضع المصالح االجتماعية للشعوب األوربية في االعتبار‪ ،‬وان تطوير‬
‫العالقات البناءة بين الشمال والجنوب سوف يؤديان الي تطور ما بعد إمبريالي حقيقي‪ ‬‬

‫‪232‬‬
‫‪ ‬‬

‫األطروحة الثانية‬

‫تتمظهر‪  ‬استراتيجية الهيمنة االمريكية في الطبيعة الجماعية لالمبريالية ‪ ،‬وتستفيد من‬


‫عدم كفاءة وضعف الحركات االجتماعية والسياسية المناهضة للعولمة ان هذه‪ ‬‬
‫االستراتيحية‪  ‬التي يقر‪  ‬بها المدافعون الموالون المريكا‪  ‬بصراحة‪  ‬هي قي‪  ‬الخطاب‬
‫السائد موضوعا ألطروحتين " رخوتين" ‪  ،‬غير صحيحتين لكنهما فعالتين من وجهت‬
‫نظر الخصم‪  ‬تقول األولى ان هذه الهيمنة تنتسب الي قيادة "لطيفة " ‪ ،‬تعرف احيانا‬
‫بالهيمنة "الحنون" من جانب الجناح الديموقراطي في المؤسسة األمريكية الحاكمة‪  ‬ومن‬
‫خالل خليط األكاذيب والنفاق الصريح يزعم هذا الخطاب ان الواليات المتحدة تعمل‬
‫لمصلحة شعوب الثالوث ‪ ،‬تحركها دوافع "ديموقراطية" بل أنها تعمل لمصلحة بقية‬
‫شعوب العالم الذين تقدم لهم العولمة فرصة "التنمية" يعززها مزايا الديموقراطية التي‬
‫تسعي القوي األمريكية الي تدعيمها في كل مكان‪ ،‬كما نعرف وتقول األطروحة الثانية‬
‫انه في كل المجاالت تستفيد الواليات المتحدة من المميزات العديدة سواء االقتصادية‬
‫او العلمية او السياسية او العسكرية او الثقافية التي تضفي المشروعية علي هيمنته‬
‫والحقيقة ان الهيمنة االمريكية تعمل من منطق ونظام ال يكترثان كثيرا بالخطاب الذي‬
‫يغلفهم‬

‫لقد تم اإلعالن عن أهداف الهيمنة االمريكية وهي تتفق مع التصريحات العديدة لقادة‬
‫الواليات المتحدة ‪ ،‬ولسوء الحظ ان الضحايا ال يقرءون اال نادرا‪  ‬فبعد سقوط التحاد‬
‫السوفيتي – الخصم العسكري المحتمل الوحيد‪ -‬قدرت اإلدارة األمريكية ان لديها‬
‫عشرون عاما لفرض هيمنتها الكوكبية واختزال امكانيات‪  ‬ظهور اعداء محتملين‪  ‬الي‬
‫حد العدم‪ ،‬ليسوا بالضرورة قادرين علي فرض هيمنة بديلة بل قادرين علي تاكيد‬
‫استقاللهم في نظام عالمي اليقوم علي الهيمنة – بتعبيري ‪ :‬نظام متعدد المراكز‪ ‬‬
‫وهؤالء الخصوم بالطبع أوربا ‪ -‬مع مالجظة اننا لم نعد نسمع عن هيمنة يابانية –‬
‫وأيضا روسيا والصين ‪ ،‬واألخيرة هي العدو الرئيسي الذي ربما تتصور واشنطن‬

‫‪233‬‬
‫تدميره عسكريا لو اصرت علي مواصلة التنمية والحفاظ عي إرادة سياسية مستفلة‬
‫بدرجة معينة ومن االعداء اآلخرين كل بلدان الجنوب التي قد تطور المقاومة لمواجهة‬
‫الضغوط الملحة من العولمة النيو ليبرالية ‪ ،‬وخاصة الهند والبرازيل وايران وجنوب‬
‫افريقي‬

‫ان أهداف الهيمنة األمريكية تتمثل في استرقاق الحلفاء في الثالوث لجعلهم عاجزين‬
‫عن اتخاذ المبادرات العالمية الفعالة وتحطيم "البلدان الكبيرة ‪ ،‬فليس من حق احد ان‬
‫يكون هكذا سوي الواليات المتحدة‪  ‬ومن ثم تفكيك روسيا بعد تفكيك االتحاد السوفيتي‬
‫وتفكيك الصين والهند وحتي البرازيل ‪ ،‬واستغالل مواطن الضعف في النظم السياسية‬
‫في كل بلد والمناورة علي دول االتحاد السوفيتي السايق و ضرب قوي التوحيد‬
‫المركزية في االتحاد الروسي ودعم مسلمي "اكسنجيانج" ورهبان التبت وتغذية‬
‫الصراع مع مسلمي شبه القارة الهندية والتدخل في االمازون‪(  ‬سهل كولومبيا) الخ‬

‫‪ ‬‬

‫ووفق هذا المنظور االستراتيجي قررت الواليات المتحدة ان تكون أولى ضرباتها في‬
‫المنطقة الممتدة من البلقان الي آسيا الوسطي الي الشرق األوسط والخليج‪  ‬لماذا‪ ‬‬
‫اختارت واشنطن‪  ‬هذه المنطقة ميدانا الولي الحروب األمريكية في القرن الواحد‬
‫والعشرين ؟ ليس ألنها تأوي اعداء خطيرين ‪ ،‬فالعكس هو الصحيح‪  ،‬ولكن ألنها‬
‫البطن الرخو للنظام العالمي ‪ ،‬وتتكون من مجتمعات عاجزة –السباب عديدة –عن‬
‫الرد علي العدوان ولو بأدنى قدر من الكفاءة ان‪  ‬توجيه ضربة للضعيف في مستهل‬
‫سلسلة حروب طويلة‪  ‬هي استراتيجية عسكرية واضحة ومبتذلة أنها علي غرار ما‬
‫فعل هتلر عندما بدأ بغزو تشيكوسلوفاكيا ثم توسعت طموحاته حتي شملت المملكة‬
‫المتحدة وفرنسا روسيا‪   ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪234‬‬
‫ان غزو هذه المنطقة يوفر فرصا اخري ‪ ،‬فهي منتج رئيسي للنفط والغاز وسيطرة‬
‫الواليات المتحدة الشاملة عليهما تجعل اوربا تابعا مما يحد من قدرتها علي المناورة ‪،‬‬
‫كما ان إقامة قواعد أمريكية في أو راسيا‪  ‬يسهل حروب المستقبل ضد الصين وروسيا‬
‫وغيرم ان الدعم غير المشروط إلسرائيل منطقي تماما في اطار هذا المنظور‬
‫اإلستراتيجي ‪ ،‬فقد اصبحت إسرائيل باألمر الواقع قاعدة عسكرية دائمة في خدمة‬
‫واشنطن‬

‫‪ ‬‬

‫ان قرار عسكرة ادارة النظام العالمي لم يتخذه فريق بوش االبن ‪ ،‬بل كان دعوة‬
‫اطلقتها الطبقات الحاكمة منذ سقوط األتحاد السوفيتي وال يختلف الجمهوريون‬
‫والديموقراطيون' اال في لغة الخطاب وعلي غير ما يعتقد‪  ‬الرأي العام الساذج فان‬
‫القصد من هذا الخيار هو الحد من اوجه القصور في االقتصاد األمريكي حيث تتدهور‬
‫القدرة التنافسية لكل قطاعات النظام اإلنتاجي بصورة مستمرة يشهد علي ذلك العجز‬
‫التجاري الذي يتسم به‪  ‬ومن خالل فرض نفسها ديكتاتورا عسكريا علي النظام‬
‫العالمي ‪ ،‬وليس عبر االضطالع بدور القيادة الطبيعية من خالل التقدم االقتصادي ‪،‬‬
‫فان الواليات المتحدة تخلق ظرفا‪  ‬الجبار خلفائها التابعين (أوربا واليابان)‪  ‬و اخرين‬
‫علي دفع فاتورة العجز االقتصادي لقد أصبحت الواليات المتحدة مجتمعا طفيليا ال‬
‫يستطيع الحفاظ علي مستويات االستهالك وهدر الموارد دون إفقار بقية العالم‬

‫‪ ‬‬

‫األطروحة الثالثة‬

‫يتسم العصر الراهن بطبيعته االستثنائية ومن ثم من المقبول عقد المقارنات مع‬
‫ثالثينيات القرن الماضي‪  ‬فلقد قرر الرئيس األمريكي ‪ ،‬مثلما فعل هتلر ‪ ،‬إحالل القوة‬
‫العسكرية الغاشمة محل القانون والقضاء علي كل اإلنجازات التي سمح بها االنتصار‬
‫علي الفاشية وتعريض األمم المتحدة لنفس المصير المذري الذي القته عصبة االمم‬

‫‪235‬‬
‫ومع اآلسف تستمر المقارنات ‪ ،‬اصطناع واختالق وانتقاء أعداء صغار لتمهيد الميدان‬
‫لمواجهات عسكرية كبري ‪ ،‬وممارسة الكذب بصورة منتظمة وتتصرف الطبقات‬
‫المسيطرة في دول الحلفاء مثلما فعل "تشامبرلين" و "داليديه" مع هتلر‪  ‬تذعن وتسهم‬
‫في اضفاء المشروعية علي الحروب األمريكية في عيون الذين يمارسون خداعهم‬

‫ويتعين علي الحركة ان تفهم في ضوء هذه االستراتيجية االجرامية انه لن تكون هناك‬
‫استراتيبجية فعالة للمواجهة مالم تكافح ضد الحروب االمريكية بوصفها المحور‬
‫االساسي لنشاطه فماذا يساوي خطاب مكافحة الفقر او خطاب حقوق االنسان مقارنة‬
‫بما هو خبئ للشعوب من مستقبل مظلم سوف يجري فرضه بالعنف العسكري ؟ ومع‬
‫ان الحروب التزال "صغيرة" – رغم الدمار المادي والبشري الهائل‪ -‬اال أنها باكورة‬
‫استراتيجية العدو‬

‫‪ ‬‬

‫عناصر استراتيجية المواجهة الشعبية‬

‫ان التأمالت السابقة يمكن ان تؤدي الي نتيجة واحدة مفادها ان المحور األساسي‬
‫للنشاط ينتظم حول تنظيم العمل والتحركات المناهضة للحروب االمريكية وتشكيل‬
‫جبهة واسعة من كل القوي التي تقف في خندق المعارضة‪  ‬وبهذه الروح اعرض ثالثة‬
‫مقترحات‬

‫االقتراح االول‪ :‬اعطاء اولوية في اوربا العادة بناء سياسة مدنية قادرة علي توحيد‬
‫وتجميع مطالب الحركات التي التزال مفتتة الي حد مخيف‬

‫ان بناء هذه القوة السياسية وتوحيد الهدف الجامع يمثل شرطا لنجاح الحركات في‬
‫مطالبها االجتماعية االحتجاجية ‪ ،‬بل يمكن القول ان القدرة علي ابداع يسار حقيقي‬
‫يعطي بعدا اجتماعيا للمشروع المشار إليه سابق وبهذا الشرط أيضا يمكن ان ينفصل‬
‫اليسار عن اليمين الذي يقبل االنحياز الستراتيجيات اإلمبريالية األمريكية او اليمين‬
‫الذي يعرب عن رغبته في في ادارة سياسية جماعية للمبريالية بمعني اخر لن يكون‬

‫‪236‬‬
‫هناك اوربا اجتماعية مالم يتم االنشغال الفوري بصياغة سياسات بديلة تجاه بقية العالم‬
‫إلحداث تحول ما بعد إمبريالي حقيقي‬

‫ان الشعوب االوربية يمكن بل يجب ان تجعل الواليات المتجدة تدرك هشاشة وضعها‬
‫في النظام االقتصادي للرأسمالية المعولمة‪  ‬واذا نجحت الشعوب االوربية في فرض‬
‫استخدام فوائض راسمال في التنمية االجتماعية بدال من دورها الحالي في دعم الهدر‬
‫األمريكي للموارد‪ ،‬فانها سوف تكبح الواليات المتحدة وتجبرها علي التخلي عن‬
‫طموحاتها الزائدة بيد ان هذا الهدف اإلستراتيجي ال يعني استبعاد تقديم المساندة‬
‫للرجال والنساء الشجعان الذين –وهم في قلب النظام – يقولون ال للحرب‪  ‬ومع ذلك‪ ‬‬
‫أتشكك في فعالية المعارضة الداخلية في الواليات المتحدة مادامت االمتيازات مكفولة‬
‫في هذا المجتمع الطفيلي لقد نجحت الطبقة الحاكمة في الواليات المتحدة في الحصول‬
‫علي راي عام أحمق يري ان احتجاجات القلة الواعية لن تحبط انتشار استراتيجية‬
‫الهيمنة االمريكية‬

‫‪ ‬‬

‫االقتراح الثاني ‪ :‬تشجيع التقارب بين الشركاء "االوراسيويين" الكبار ‪ ،‬تحديدا أوربا و‬
‫روسيا والصين والهند والن روسيا باحتياطاتها من النفط والغاز توفر ألوروبا السبيل‬
‫الوحيد لإلفالت من الفرمان األمريكي ‪ ،‬بافتراض نجاح واشنطن في خططها الرامية‬
‫الحكام السيطرة علي الشرق األوسط ونظرا الن اغلب التجارة الخارجية‬
‫واالستثمارات األجنبية في روسيا آتية من أوربا‪ -  ‬ال الواليات المتحدة – فثمة‬
‫أرضية مؤاتية للتقارب بينهما رغم الصعوبات التي تنتجها إدارة "الكمبرادور'"‬
‫لالقتصاد الروسي حيث ترتبط به قطاعات مهمة من الطبقة الحاكمة ‪ ،‬وأالعيب‬
‫اإلمبريالية االمريكية الداعمة لقوي التفتيت العاملة في روسيا ودول االتحاد السوفيتي‬
‫السابق و هنا أيضا ثمة تطور مؤات ‪ ،‬مثلما في أوربا ‪ ،‬لصالح الطبقة العاملة يشير‬
‫الي إمكانية بروز سياسة خارجية بديلة تبتعد بنفسها عن واشنطن‬

‫‪237‬‬
‫ويجد التقارب الروسي الصيني الهندي مبرر وجوده في التهديدات العسكرية التي‬
‫تواجه هذه البلدان في حالة نجاح انتشار الواليات المتحدة في آسيا الوسطي‪  ‬وتعمل‬
‫الدبلوماسية االمريكية علي جعل هذا التقارب صعبا قدر االمكان من خالل تعيئة‬
‫التناقضات في الرؤي السياسية للشركاء الثالثة ‪ ،‬وعبر دعم الشرائح الكمبرادورية‬
‫داخل الطبقات الحاكمة‪  ‬وفوق هذا وذاك تعمل عي إشعال الصراعات الجيوسياسية‬
‫بسبب المشكالت الحدودية بين الصين والهند او التبت و"اكسينجيانج" ‪ ،‬ومناورات‬
‫واشنطن لدعم الهند ضد الصين وفي نفس الوقت تهدئة باكستان او اثارة الصراعات‬
‫بين الهند والهندوس'‪  ‬ان استراتيجية القوي الشعبية في هذه المرحلة تتطلب تشكيل‬
‫جبهة معادية للكمبرادور' والمعيار هو العالقة المباشرة‪  ‬بالمطالب الجيوسياسية‬
‫األمريكية التي تدافع عنها‪  ‬اإلدارات الكمبرادورية'‪  ‬في روسيا والهند ‪-‬و تتهدد‬
‫الصين‪ -‬‬

‫االقتراح الثالث‪ :‬احياء التضامن بين الشعوب أال فرو آسيوية (روح باندونج ) وبعث‬
‫التضامن بين القارات الثالث‬

‫يجري التضامن بين شعوب الجنوب في عالم اليوم عبر النضال ضد القوي‬
‫الكمبرادورية' التي أفرزتها ودعمتها العولمة الليبرالية'‪  ‬والطروحات الواردة اعاله‬
‫حول البديل – التقدم االجتماعي والمقرطة واالستقالل الوطني تجد مبرر وجودها هن‬
‫و ال ريب ان شرعية االقوي الكمبرادورية‪  ‬أضحت محل شك في كثير من بلدان‬
‫الجنوب‪  ‬بيد ان استجابات شعوب الجنوب للتحديات التي تواجههم من النظام‬
‫اإلمبريالي الجديد والليبرالية تجعل من الصعب التقدم صوب البدائل الجديدة وهي‬
‫المقرطة والتقدم الجتماعي واالعتماد المتبادل العادل من خالل التفاوض حول شروطه‬
‫‪ ،‬والسياب عديدة‪  ‬اخري منها تآكل الصيغ الشعبوية الوطنية التي اتسمت بها الحقبة‬
‫الماضية والتي بزغت من حركة التحرر الوطني ‪ ،‬وبسبب ممارسات االدارة السياسية‬
‫االوتوقراطية – رغم الرطانة الديموقراطية‪-‬التي التزال سائدة في عدد من البلدان ‪،‬‬
‫والن الطبقات الشعبية المشتتة تبحث عن المالذ في في األوهام األصولية سواء كانت‬
‫دينية او عرقية و التي تستغلها الطبقات الحاكمة الكمبرادورية المحلية المدعومة من‬

‫‪238‬‬
‫الي بعد نظر‬
‫اإلمبريالية وبخاصة الواليات المتحدة كل هذه تشكل انتكاسات تحتاج ِ‬
‫وشجاعة لمكافحتها‪ ،‬وهي تشكل عائقا أمام إعادة بناء التضامن بين الشعوب األفرو‬
‫أسيوية (مثل تأجيج الصراعات االجرامية بين المسلمين والهندوس هنا والهوتو‬
‫والتوتسي هناك)‪  ‬ان األزمة التي تشكل هذه الردة المجتمعية تجد تعبيرها الفج في‬
‫شخصيات محل شك مثل الطالبان وبن الدن‪  ‬او صدام جسين –والذين استفادوا من‬
‫الدعم السخي لوكالة االستخبارات المركزية األمريكية –سي أي ايه‪ ، -‬واصبحوا‬
‫العدو األول للواليات المتحدة وهم يبدون كذلك في نظر أقسام واسعة من الرأي العام‬
‫الشعبي‬

‫‪ ‬‬

‫وثمة نقطة ا ضافية مستفادة من دروس تشكيل التحالفات الديموقراطية والشعبية التي‬
‫اسقطت بعض الديكتاتوريات – مالي مثال مهم‪ -‬واالبرتهايد في جنوب افريقيا ‪،‬‬
‫والتحالف الذى قاد انتصار "لوال" في البرازيل بيد ان هذه التطورات متواضعة بالنظر‬
‫الي الهجوم االمبريالي الراهن وهي مجرد طالئع للمقاومة الكامنة لدي جبهة شعوب‬
‫الجنوب‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬خاتمة‪:‬‬

‫ان النضال من اجل العدالة االجتماعية والديموقراطية ونظام دولي عادل متعدد‬
‫المراكز ال ينفصل عن بعضه البعض وهو ما تفهمه المؤسسة األمريكية الحاكمة جيدا‬
‫‪ ،‬ولعل هذا يجد تفسيره‪  ‬في مضيها قدما نحو تطبيق نظامها الدولي القائم علي الهيمنة‬
‫باستبدال القوة المسلحة الغاشمة محل القانون والعدالة‪  ‬فهي تدرك انه السبيل الوحيد‬
‫لفرض نظام اجتماعي نيو ليبرالي غير عادل يهدد الديموقراطية اينما وجدت ويسيئ‬
‫اليها ويجعلها مستحيلة في بعض األماكن ‪ ،‬وعلي حركات المقاومة ان تفهم ذلك جيدا‬

‫‪239‬‬
‫‪ ،‬كما ان عليها ان تدرك انه ال مستقبل لخططها في التقدم االجتماعي والديموقراطي'‪ ‬‬
‫اذا لم يتم كبح خطط الواليات المتحدة للهيمنة العسكرية‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪240‬‬

You might also like