Professional Documents
Culture Documents
خلق ،عملت أيدينا ،فطر ،جعل ،أنشأ ،ذرأ ،برأ ،بثّ ،أنبت،
حفّ ،زرع ،فجّر ،فتق ،بديع ،صنع
3414هـ1031 /م
3414هـ1031 /م
لالقتباس:
2معجمية وموضوعية) ،عبد اجمليد بن حممد
من أفعال اخللق يف القرآن الكريم (دراسة
الغيلي3414 ،هـ1031/م ،منشور على موقع املؤلف :رحى احلرف ،ص ...
الفهرس:
الفهرس3 ........................ ................................ :
مقدمة41 ........................ ................................ :
خالصة الدالالت41 ............. ................................ :
املبحث األول( :خلق) يف القرآن الكريم 41 ........................
خالصة الدالالت41 ......................................... :
املطلب األول :مفهوم (اخللق)41 ........................... :
أوالً :املعنى اللغوي لدى اللغويني واملفسرين41 ........ :
ثانياً :التحقيق يف الداللة22 .......................... :
ثالثاً :شرح الداللة24 .................................. :
املطلب الثاني :املخلوقات يف القرآن23 ..................... :
[السماوات واألرض] 21 ...................................
[املخلوقات األخرى] 21 ...................................
(خيلق ما يشاء) 21 ......................................
(خلق كل شيء)22 .................................... :
(وخيلق ما ال تعلمون)21 .............................. :
(واهلل خلقكم وما تعملون)21 .......................... :
( َمنْ خلق ،وما خلق)33 ................................ :
املطلب الثالث :املفرد واجلمع :خالق ،خالق ،خالقون 31 ....
اخلالق واخلالق31 ..................................... :
اخلالق واخلالقون32 ................................... :
ختلق من الطني كهيئة الطري32 ................. :
وختلقون إفكا31 ................................... :
مل خيلق مثلها يف البالد33 ........................ :
3
أحسن اخلالقني31 ................................ :
أأنتم ختلقونه أم حنن اخلالقون14 ............... :
املطلب الرابع :إضافة اخللق إىل (اهلل ،الرمحن) 12 .........
خلق اهلل12 ............. ................................ :
فليغرين خلق اهلل12 ............................... :
ال تبديل خللق اهلل ،هذا خلق اهلل12 ............... :
خلق الرمحن11 ........................................ :
املطلب اخلامس :بدء اخللق وإعادته 13 .....................
يبدأ اخللق ثم يعيده13 ................................ :
كما بدأكم تعودون12 ................................ :
املطلب السادس :أول خلق ،وخلق جديد ،واخللق األول،
وخلق آخر 12 ...................... ................................
أول خلق (كما بدأنا أول خلق نعيده)12 .............. :
مع املفسرين12 .................................... :
التحقيق يف املسألة11 ............................. :
(خلق جديد)13 ........................................ :
(اخللق األول)24 ....................................... :
(ثم أنشأناه خلقا آخر)22 .............................. :
(خلقا من بعد خلق)23 ................................ :
سرد اآليات الدالة على أن خلق النسل مرحلتان23 :
أوال( :تسمية املرحلة)21 ........................... ،
ثانيا :مكونات املخلوق21 .......................... ،
ثالثا :غيض األرحام وما تزداد 22 ...................
رابعاً :وصف الرحم بأنه (مستقر ومستودع)22 .... .
1
من ساللة من طني ثم جعلناه نطفة23 ........... :
اخللق األول واخللق اآلخَر12 ..................... :
الفرق بني الرحم والبطن12 ....................... :
وهناً على وهن12 .................................. :
املطلب السابع :الزيادة يف اخللق 11 .........................
يزيد يف اخللق ما يشاء11 .............................. :
وزادكم يف اخللق بسطة13 ............................ :
املطلب الثامن :التنكيس يف اخللق 32 .......................
(مع املفسرين)32 ...................................... :
التحقيق يف اآلية33 .................................... :
أوال ،داللة التعمري يف القرآن الكريم33 ............ .
ثانياً :مفهوم األجل31 ............................. ،
ثالثا :حاالت التويف 32 ..............................
رابعاً :الداللة على اهلرم 33 .........................
خامساً :لفظ (اخللق) معرفة 33 ...................
سادساً :مفهوم التنكيس 31 .........................
سابعاً :سياق اآليات12 ............................. :
ثامناً :داللة اآلية12 ............................... :
تاسعاً :التنكيس يف اخللق سيكون يف اآلخرة13 ... :
املطلب التاسع :وربك خيلق ما يشاء وخيتار 11 ............
املطلب العاشر :تراكيب أخرى 424..........................
وما كنا عن اخللق غافلني424........................ :
(أعطى كل شيء خلقه)423........................... :
املبحث الثاني :عملت أيدينا 421.................................
1
املطلب األول( :مما عملت أيدينا) تفسري اآلية ومفهومها
421................................ ................................
أوالً :الفرق بني (خلق) و(خلق مِن)421................ :
ثانياً :تفسري قوله( :مما عملت أيدينا)422............ :
ثالثاً( :ما األصول السابقة)؟ 423.......................
رابعاً( :أكرب من خلق الناس) 421......................
املطلب الثاني :املاء والرتاب وعالقتهما بأصل اخللق 444....
أوالً :املاء خملوق قبل السماوات واألرض444........... :
ثانياً :املاء أصل /أو سبب لكل شيء حي 443............
( :)3ما يتعلق بسبب األصل443................... :
اآلية األوىل( :وجعلنا من املاء كل شيء حي):
443.................. ................................
اآلية الثانية( :وهو الذي خلق من املاء بشرا):
441.................. ................................
اآلية الثالثة( :خلق كل دابة من ماء)443.....
( :)1ما يتعلق ببيان السبب 422.....................
ثالثاً :ما أصل كل شيء إذن؟ 424......................
( )3الرتاب أصل للبشر424....................... :
( )1هل الرتاب أصل كل شيء؟ 423...............
(( )1إشكال واإلجابة عنه)421.................... :
املبحث الثالث( :فَطَر) يف القرآن الكريم 432.....................
املطلب األول :مفهوم (فطر) واستخدامها يف القرآن الكريم
434................................ ................................
الداللة اللغوية434..................................... :
2
استخدامها يف القرآن الكريم432...................... :
الصيغ املستخدمة432............................. :
دالالت استخدام القرآن لـ(فطر)432............... :
املطلب الثاني( :فِطْرَة اهلل) 431..............................
(مع املفسرين)431..................................... :
(التحقيق يف املسألة)431.............................. :
املراحل الدالة على الفطرة431.................... :
الفطرة واألمانة اليت محلها اإلنسان431.......... :
إني جاعل يف األرض خليفة412................... :
القدرة على االنتفاع باألعضاء412................ :
خلْقي411............................ :
الفطرة نظام َ
املنتفع بهذا النظام وغري املنتفع به411........... :
املطلب الثالث :األمانة413.................................. :
ما األمانة إذن؟ 413......................................
األمانة وديعة مسرتدة411.............................. :
(ولقد كرمنا بين آدم)413............................. :
املطلب الرابع :ال تبديل خللق اهلل411...................... :
ال تبديل خللق اهلل411................................. :
فليغرين خلق اهلل412................................... :
الفرق بني التبديل والتغيري411........................ :
املبحث الرابع( :جعل) يف القرآن الكريم 411.....................
املطلب األول :الداللة العامة لـ (جعل) 422..................
املطلب الثاني :استخدام ودالالت (جعل) يف القرآن الكريم
423................................ ................................
1
أوالً :التصيري423....................................... :
( )3حني يكون هلا مفعوالن423................... :
([ )1جعل على]421................................. ،
([ )1جعل حتت/فوق]421.......................... ،
([ )4جعل بعد]422................................. ،
([ )5جعل مع]422.................................. ،
([ )6جعل لـ]422.................................... ،
([ )7جعل مِن]421.................................. ،
ثانياً :الظرفية423..................................... :
([ )3جعل يف]423................................... ،
([ )1جعل بني]423.................................. ،
([ )1جعل أمام/خلف]421.......................... ،
([ )4جعل حيث]421................................ ،
املطلب الثالث :استخدام (جعل) اليت مبعنى (خلق) 412....
أوالً :الصريورة412...................................... :
([ )3حني يكون هلا مفعوالن]412................... ،
([ )1جعل حتت]414................................ ،
([ )1جعل بعد]414................................. ،
([ )4جعل لـ]414.................................... ،
([ )5جعل مِن]412.................................. ،
ثانياً :الظرفية411..................................... :
([ )3جعل يف]411................................... ،
([ )1جعل خالل]412............................... ،
([ )1جعل بني]412.................................. ،
3
املطلب الرابع :قوله ( وجعل الظلمات النور) 411............
املطلب اخلامس :موازنة بني استخدام (خلق) و(جعل)434..
املبحث اخلامس( :أنشأ) و(ذرأ) و(برأ) و(بثّ) يف القرآن الكريم
431..................................... ................................
املطلب األول( :أنشأ) يف القرآن الكريم 431..................
أوالً :داللة اإلنشاء يف املعاجم431...................... :
ثانياً :داللة اإلنشاء وإيضاحها431..................... :
ثالثاً :النشأة األوىل والنشأة األخرى431............... :
رابعاً :أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع433 :
خامساً :هو أنشأكم من األرض412................... :
سادساً :كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين413........ :
سابعاً :مفعوالت اإلنشاء يف القرآن الكريم411......... :
( )3اإلنسان وأجزاؤه411.......................... :
( )1نساء أهل اجلنة411.......................... :
( )1القرون من الناس411........................ :
( )4النبات واألنعام411........................... :
املطلب الثاني( :ذرأ) يف القرآن الكريم 411...................
أوالً :ذرأ يف املعاجم411................................. :
ثانياً :داللة (ذرأ) وإيضاحها411........................ :
ثالثاً :ولقد ذرأنا جلهنم413............................ :
رابعاً :ذرأ من احلرث واألنعام413....................... :
خامساً :يذرؤكم فيه411.............................. :
املطلب الثالث( :برأ) يف القرآن الكريم 224...................
أوالً :برأ يف املعاجم224................................. :
1
ثانياً :داللة (برأ) وإيضاحها222........................ :
ثالثاً :من قبل أن نربأها222............................ :
رابعاً :البارئ221........................................ :
املطلب الرابع :بثّ 222.......................................
أوالً :الداللة اللغوية واملصطلحية222................. :
ثانياً :استخدام اللفظ يف القرآن الكريم221........... :
ثالثاً( :بث) املسندة إىل اهلل تعاىل 242...................
املبحث السادس( :أنبت) ،و(حفّ) ،و(زرع) يف القرآن الكريم 242..
املطلب األول :الداللة اللغوية واملصطلحية لـ(أنبت) 242....
أوالً :الداللة اللغوية242................................ :
ثانيا :الداللة املصطلحية عند املتقدمني242.......... :
ثالثاً :النبات عند املعاصرين241....................... :
املطلب الثاني :استخدام القرآن الكريم لـ(نبت) ومشتقاتها
222................................ ................................
أوالً :استخدام القرآن للفظ النبات222................ :
ثانياً :سياق (اإلنبات) املسند إىل اهلل222............... :
املطلب الثالث :مفهوم (اإلنبات) املسند إىل اهلل 221.........
أوالً :املفهوم العام لـ(اإلنبات) املسند إىل اهلل تعاىل221. :
ثانياً :الفرق بني أنبت به ،وأنبت فيها221.............. :
ثالثاً :الفرق بني أنبت ،وأخرج نبات234............... :..
املطلب الرابع( :زرع) و(حرث) يف القرآن الكريم 232..........
أوالً :الداللة اللغوية232................................ :
ثانياً :استخدام (زرع) و(حرث) يف القرآن الكريم 231....
ثالثاً :الفرق بني (حرث) و(زرع)232.................... :
42
رابعاً :أفرءيتم ما حترثون231.......................... :
خامساً :نساؤكم حرث لكم212........................ :
سادساً :حرث الدنيا وحرث اآلخرة214................. :
املطلب اخلامس( :حفّ) يف القرآن الكريم 211...............
أوالً :الداللة اللغوية211................................ :
ثانياً :استخدام القرآن الكريم للفظ 211...............
وحففناهما بنخل212.................................. :
املبحث السابع( :فجّر) و(فتق ورتق) يف القرآن الكريم 213.......
املطلب األول :فجّر 211.......................................
أوالً :الداللة اللغوية211................................ :
ثانيا :التحقيق يف داللة (فجر) ومشتقاتها214........ :
ثالثا :استخدام القرآن الكريم للفظ213.............. :
رابعاً( :فجّر) املسندة إىل اهلل 211........................
األوىل :دفع املاء املنحبس (وفجرنا نهرا) 211.......
الثانية :تصديع األرض 211.........................
(وفجرنا األرض عيونا) 211....................
وإذا البحار فجرت211......................... :
وإن من احلجارة ملا يتفجر منه األنهار211.... :
خامسا( :فجّر) املسندة إىل البشر 224...................
يفجرونها تفجريا224.............................. :
فتفجر األنهار224................................. :
سادسا :فجر اإلنسانُ فجوراً221........................ :
/3احلافظ التدبريي221.......................... :
/1احلافظ االبتالئي221.......................... :
44
واقٍ من اهلل221..................................... :
ليفجر أمامه214................................... :
املطلب الثاني :فتق ورتق 211................................
أوالً :الرتق211.......................................... :
/3يف معاجم اللغة211............................ :
/1يف كتب التفسري211.......................... :
/1التحقيق يف داللة اللفظ211................... :
ثانياً :الفتق213........................................ :
/3يف معاجم اللغة213............................. :
/1التحقيق يف داللة اللفظ234................... :
أ :الشيء املفتوق 234...........................
ب :طبيعة الفتق232.......................... :
ج :مب يكون الفتق؟ 233.........................
/1بيان اآلية (كانتا رتقا ففتقناهما)231........ :
املبحث الثامن( :بديع) و(صنع) يف القرآن الكريم 232...........
املطلب األول :بديع 232......................................
أوالً :الداللة اللغوية واملصطلحية232................. :
ثانيا :استخدام اللفظ يف القرآن الكريم 233............
ثالثاً :بديع السماوات واألرض231..................... :
املطلب الثاني :صُنْع 212.....................................
أوالً :الداللة اللغوية واملصطلحية212................. :
ثانياً :استخدام القرآن الكريم للفظ211............... :
ثالثاً :التحقيق يف داللة اللفظ211.................... :
رابعاً :صنع املسندة إىل اهلل322......................... :
42
قوله :صنع اهلل الذي أتقن كل شيء322.......... :
قوله :ولتصنع على عيين321...................... :
خامساً :وهم حيسبون أنهم حيسنون صنعا321........ :
43
مقدمة:
أدرس يف هذا البحث (أفعال اخللق يف القرآن الكريم) .وقد
درست :مخسة عشر لفظا ،وهي :خلق ،وعملت أيدينا ،وفطر ،وجعل،
وأنشأ ،وذرأ ،وبرأ ،وبثّ ،وأنبت ،وحفّ ،وزرع ،وفجّر ،وفتق ،وبديع ،وصنع.
وهذا عدا عن األلفاظ املتصلة بها.
وهذه دراسة معجمية يف األساس ،إال أنين توسعت يف دراسة
بعض األلفاظ دراسة موضوعية .وكان تركيزي يف وجه إسناد هذه
األفعال إىل اهلل سبحانه وتعاىل ،وقد توسعت أحيانا يف بعض اآليات،
ذات الصلة بالدراسة.
اللهم أنتَ فطَرتَنا ،وأنشأتَنا من األرض ،وبثثتَنا فيها ،وأنتَ
أنشأتَنا من نفس واحدة ،وأنشأتَ لنا من األنعام ومن كل الثمرات،
آمنّا بكَ ،ومبا أعددتَ ملنْ آمن ،فال جتعلنا ممنْ ذرأتَهم جلهنم ،وال
حتشرْنا على وجوهنا عمياً وبكماً وصماً .وأسكنّا يف جنتك وارفعنا
فيها.
41
خالصة الدالالت:
41
-البثّ :إظهار نسل الدواب من أصوهلا ،وتفريقها
-إنبات اهلل للشيء :خلق الشيء من األرض ،باملاء ،وتنميته
شيئا فشيئاً.
-فجّر :إخراج املاء املنحبس يف األرض ،بدفعه ،أو تصديع
األرض.
-فتق :شق اجلرم ،كما يشق النسيج ،وهذا الشق يبدأ بفرجة
تتسع شيئا فشيئا ،حتى تصبح شديدة االتساع.
-البديع هو :البادئ األول يف خلق أول املخلوقات.
-الصنع :إتقان الفعل ،مع العلم التام بأسبابه ونتائجه
ومآالته (والفعل يشمل :اخللق واألمر).
42
املبحث األول( :خلق) يف القرآن الكريم
خالصة الدالالت:
-اخللق :اإلنشاء األول للشيء ،يف طَورٍ ما.
-اخلالق :هو الذي خيلق الشيء ،واخلالق :هو الذي يقدِر
على اخللق َبدْاً وإعادة.
-البدء يف اخللق :هو خلق أصل الشيء ال نسله ،أما اخللق:
فهو خلق أصل الشيء ونسله .وأما اإلعادة ،فهي اإلنشاء
الثاني ألول خلق.
-أول خلق :هو خلق األصل ال النسل ،واإلعادة تكون مثل خلق
األصل.
-خلق جديد :مغاير متاماً للخلق الذي عليه اإلنسان.
-اخللق األول :املرحلة األوىل يف خلق اجلنني.
-خلق آخر :املرحلة الثانية يف خلق اجلنني.
-القرآن الكريم يستخدم لفظ (األرحام) للداللة على مرحلة
اخللق األول ،فهو قرار للنطفة حتى تتخلق ،ويستخدم لفظ
(البطون) للداللة على اخللق األول واخللق اآلخر ،ففيه
الظلمات ،وفيه يكون اخللق اآلخر بعد اخللق األول.
-الرحم مستقر النطفة ،تثبت فيه ،فيهيئ هلا أسباب
41
االستقرار ،حتى تصبح خلقا آخر .املستودع هو البطن الذي
يُحفظ فيه اخللق اآلخر.
43
املطلب األول :مفهوم (اخللق):
41
االمتزاج والرتكيب ،صورةً).
22
وسكت عن بعضها ،فال يدل لفظ اخللق على ذلك.
وسأحتدث عن الفرق بني (خلق) و(خلق ِمنْ) ،عند قولهَ ( :عمِلت
أيدينا) .حيث بينت أن (خلق) فقط تطرد مع خلق األصول اليت ال
نعلم مم خلقت ،كالسموات واألرض ،وهل خلقت من شيء أو من غري
شيء ،أما (خلق من) فتأتي مع األشياء اليت هلا أصول سابقة مبينة.
24
كان ذلك اإلنشاء يف طور آخر فهو خلق آخر .قال تعاىلَ ( :و َقدْ
طوَارًا) .وداللة املرحلية واضحة يف كثري من اآليات اليت
خ َلقَكُمْ أَ ْ
َ
خ ْلقًا مِنْ
ُمهَاتِكُمْ َ
خ ُلقُكُمْ فِي بُطُونِ أ َّ
تتحدث عن اخللق ،كقولهَ ( :ي ْ
ط َفةٍ ثُمَّ ِمنْ
خ َلقَكُمْ ِمنْ ُترَابٍ ثُمَّ ِمنْ نُ ْ
الذِي َ
خلْقٍ) ،وقولهُ ( :هوَ َّ
َب ْعدِ َ
َع َل َقةٍ) ،أي :ثم خلقكم من نطفة ،ثم خلقكم من علقة ،فاإلنشاء األول
يف كل طور مساه خلقا .وهذا تفسري قوله (خلقا من بعد خلق)،
ط َفةً فِي َقرَارٍ مَكِنيٍ
وبينت هذه األطوار سورة املؤمنون( :ثُمَّ جَ َعلْنَاهُ نُ ْ
خ َلقْنَا ا ْلمُضْ َغةَ
ض َغةً َف َ
خ َلقْنَا الْ َع َل َقةَ مُ ْ
ط َفةَ عَ َل َقةً َف َ
خ َلقْنَا النُّ ْ
( )31ثُمَّ َ
خرَ) ،فطور النطفة
خ ْلقًا آ َ
حمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ َ
سوْنَا ا ْلعِظَامَ َل ْ
عِظَامًا فَكَ َ
خلق ،وطور العلقة خلق ،وطور املضغة خلق ،وطور العظام خلق ،وطور
كساء العظام حلما خلق ،ثم تنشئته خلقا آخر خلق.
ولداللة الطورية يف اخللق فإنه يأتي معه بيان املراحل والعدد،
كخلق السماوات واألرض يف ستة أيام ،كما يف آيات كثرية.
فإذا اختلف الطور فقد اختلف الشيء ،فالنطفة شيء ،والعلقة
شيء ،وهكذا.
22
املطلب الثاني :املخلوقات يف القرآن:
األشياء اليت جاءت مفاعيل لفعل اخللق يف القرآن الكريم ،هي:
السمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ) ،وما بينهما:
خلَقَ َّ
)3السماوات واألرضَ ( :
السمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ وَمَا بَيْ َن ُهمَا) ،وما فيهما( :إِنَّ فِي
خلَقَ َّ
( َ
السمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ)،
خلَقَ اهللُ فِي َّ
َالنهَارِ وَمَا َ
اخْ ِتلَافِ اللَّ ْيلِ و َّ
جمِيعًا).
خلَ َق لَكُمْ مَا فِي الْأَ ْرضِ َ
وما يف األرضَ ( :
خلَقَ اللَّ ْيلَ
الذِي َ
)1الليل والنهار والشمس والقمرَ ( :و ُهوَ َّ
س َبحُونَ).
َالشمْسَ وَا ْل َق َمرَ كُلٌّ فِي َف َلكٍ يَ ْ
َالنهَارَ و َّ
و َّ
خلَقَ الْإِنْسَانَ) ،وجاء بالضمري املفرد واجلمع.
)1اإلنسانَ ( :
خلَقَ ا ْلجَانَّ).
)4اجلان( :وَ َ
ظرُونَ ِإلَى الْإِ ِبلِ
خ َل َقهَا) ،واإلبل( :أَ َفلَا يَنْ ُ
)5األنعام (وَالْأَ ْنعَامَ َ
خ ِلقَتْ) ،وما يركبون( :وَخَ َلقْنَا َلهُمْ ِمنْ مِ ْث ِلهِ مَا
كَ ْيفَ ُ
كبُونَ) ،واملقصود بها األنعام ،فلم يذكر سواها من
َيرْ َ
احليوانات مقرتنا مع اخللق.
خلَقَ كُلَّ دَ َّابةٍ ِمنْ مَاءٍ).
)6كل دابة( :وَاهللُ َ
خلَقَ الزَّوْجَ ْينِ
خلَقَ الْأَ ْزوَاجَ ك َُّلهَا) ،والزوجنيَ ( :
)7األزواجَ ( :
كرَ وَالْأُنْثَى).
خلَقَ الذَّ َ
كرَ وَالْأُنْثَى) ،والذكر واألنثى ( َ
الذَّ َ
خلَقَ ا ْل َموْتَ وَا ْلحَيَاةَ).
الذِي َ
)8املوت واحلياةَّ ( :
خلَقَ كُلَّ شَيْءٍ).
)9كل شيء( :وَ َ
23
خلَقَ اهللُ ِمنْ شَيْءٍ)
)30من شيء( :أَ َولَمْ َيرَوْا ِإلَى مَا َ
خيلُقُ مَا يَشَاءُ).
)33ما يشاءْ ( :
خلُقُ مَا لَا َت ْع َلمُونَ).
)31ما ال تعلمون( :وَ َي ْ
خ َلقَكُمْ وَمَا َت ْعمَلُونَ).
( )31وَاهللُ َ
[السماوات واألرض]
وقع فعل اخللق على :السماوات واألرض وما بينهما وما فيهما،
واطرد ذلك ،ولكن مل يقع على املخلوقات اليت فيهما.
ومن ثم فلم يقع الفعل على اجلبال وحنوها من املخلوقات
الكائنة يف السماوات واألرض ،فال جتد يف القرآن :خلق اهلل اجلبال أو
الرواسي ،أو األنهار ،أو األشجار ،أو النجوم ،أو الظلمات والنور ...بل
تقرتن بألفاظ أخرى ،غالبا (جعل) ،وغريها ،حنو :سخّر ،ألقى ،أنشأ...
اخل.
ومل يرد من ذلك إال( :الليل والنهار والشمس والقمر) يف قوله:
خ َل َقهُنَّ) ،وقوله
الذِي َ
سجُدُوا ل َِّلهِ َّ
سجُدُوا لِلشَّمْسِ َولَا ِل ْل َق َمرِ وَا ْ
(لَا تَ ْ
الشمْسَ ضِيَاءً وَا ْل َقمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِ َت ْع َلمُوا َع َددَ
الذِي جَ َعلَ َّ
( ُهوَ َّ
َصلُ الْآيَاتِ ِل َقوْمٍ
خلَقَ اهللُ َذ ِلكَ إِلَّا بِا ْلحَقِّ يُف ِّ
السِّنِنيَ وَا ْلحِسَابَ مَا َ
َالنهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْ َق َمرَ كُلٌّ
خلَقَ اللَّ ْيلَ و َّ
الذِي َ
َي ْع َلمُونَ) ،وقوله ( َو ُهوَ َّ
س َبحُونَ) .أما اآلية األوىل فقد جاءت لبيان أن السجود ال
فِي َف َلكٍ يَ ْ
خلَق ال ملن خُلق ،واآلية الثانية لبيان أن خلْق كل شيء
يكون إال ملن َ
21
كان باحلق .واآلية الثالثة جاءت يف سورة األنبياء بعد احلديث عن
فتق السماوات واألرض.
[املخلوقات األخرى]
مل يقع فعل اخللق على شيء مما على األرض إال :اإلنسان،
واجلان ،ومل يقع على حيوان إال األنعام ،ويف موطن مسى منها اإلبل.
ووقع على الزوجية مطلقا ،والقرآن الكريم يربط كثريا بني اإلنسان
واألنعام والزوجية .ووقع على عمل اإلنسان.
كما وقع على املوت واحلياة( .وسأحتدث عنه يف اإلحياء
واإلماتة).
ويرتبط هذا مبا ذكرته يف حبثي :السماء والسماوات يف القرآن
الكريم ،حيث حتدثت عن املراحل الفاصلة فيها ،واألفعال املستخدمة
فيها.
(خيلق ما يشاء)
وقع فعل اخللق على ما يفيد املشيئة :ما يشاء .فاهلل خلق ما
شاء.
وقد وردت اآليات اليت تنص على أن اهلل خيلق (ما يشاء) يف ستة
مواضع ،آيتان ارتبطت بالقدرة ( َعلَى كُلِّ شَيْءٍ َقدِيرٌ) ،وآيتان قرنت
بالعلم والقدرة ( َعلِيمٌ َقدِيرٌ) ،وآية ارتبطت بالقضاء (ِإذَا قَضَى أَ ْمرًا
خلُقُ مَا يَشَاءُ
كنْ فَيَكُونُ) ،وآية باالختيار (وَر َُّبكَ َي ْ
فَإ َِّنمَا َيقُولُ َلهُ ُ
وَ َيخْتَارُ).
21
فاهلل خيلق ما يشاء كيف شاء بعلمه وقدرته وقضائه ،وكما
خيلق ما يشاء فإنه خيتار ما يشاء مما خلق (وسأحتدث عن هذا
الحقا).
(خلق كل شيء):
وقع فعل اخللق على ما يفيد االستغراق :كل شيء ،من شيء.
ووردت اآليات اليت تنص على أن اهلل خلق كل شيء ،يف مقام
االستدالل على وحدانيته سبحانه وتعاىل ،وتنزهه عن اختاذ الولد
والشريك ،فهو الذي خلق كل شيء ،وليس حباجة إىل ولد أو
شريك.
السمَاوَاتِ
ظرُوا فِي َملَكُوتِ َّ
و(من شيء) جاءت يف آيتني( :أَ َولَمْ يَنْ ُ
خلَقَ اهللُ ِمنْ شَيْءٍ
خلَقَ اهللُ ِمنْ شَيْءٍ) ،و(أَوَلَمْ َيرَوْا ِإلَى مَا َ
وَالْأَ ْرضِ وَمَا َ
خرُونَ) ،وكالهما
ُجدًا ل َِّلهِ َوهُ ْم دَا ِ
َالشمَا ِئلِ س َّ
ظلَا ُلهُ عَنِ الْ َيمِنيِ و َّ
يَ َتفَيَّأُ ِ
يف سياق الدعوة إىل النظر يف ملكوت السماوات واألرض ،وما خلقه
اهلل فيهما من شيء .قال الطربي( :وفيما خلق جل ثناؤه من شيء
فيهما) ،وقال الزخمشري( :وفيما خلق اهلل مما يقع عليه اسم
اللهُ مِنْ شَيْءٍ} لفظ يعم مجيع
خلَقَ َّ
الشيء) ،وقال ابن عطية{( :وَما َ
ما ينظر فيه ويستدل به من الصنعة الدالة على الصانع ومن نفس
اإلنس وحواسه ومواضع رزقه ،و«الشيء» واقع على املوجودات) ،وقال
الشوكاني( :أي :مل ينظروا يف ملكوت السموات واألرض وال فيما
خلق اهلل من شيء من األشياء كائنا ما كان).
22
(وخيلق ما ال تعلمون):
شرِكُونَ
السمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ بِا ْلحَقِّ َتعَالَى عَمَّا يُ ْ
خلَقَ َّ
قال تعاىلَ ( :
خ َل َقهَا
خلَقَ الْإِنْسَانَ ِمنْ نُطْ َفةٍ فَِإذَا ُهوَ خَصِيمٌ ُمبِنيٌ ( )4وَالْأَ ْنعَامَ َ
(َ ) 1
جمَالٌ حِنيَ
كلُونَ (َ )5ولَكُمْ فِيهَا َ
لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَا ِفعُ وَمِ ْنهَا تَأْ ُ
حمِلُ أَ ْثقَالَكُمْ ِإلَى َب َلدٍ لَمْ تَكُونُوا بَا ِلغِيهِ
سرَحُونَ ( )6وَ َت ْ
ُترِحيُونَ وَحِنيَ تَ ْ
حمِريَ
إِلَّا بِشِقِّ الْأَ ْنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ َلرَءُوفٌ رَحِيمٌ ( )7وَا ْلخَ ْيلَ وَا ْل ِبغَالَ وَا ْل َ
خلُقُ مَا لَا َت ْع َلمُونَ).
كبُوهَا وَزِي َنةً وَ َي ْ
لِ َترْ َ
اختلف املفسرون يف داللتها ،فبعضهم قال بأن ذلك يف اآلخرة،
يف الطربي( :ما ال تعلمون مما أعدّ يف اجلنة ألهلها ويف النار ألهلها
مما مل تره عني وال مسعته أذن وال خطر على قلب بشر).
وبعضهم فسرها بعمومها ،قال مكي بن أبي طالب يف اهلداية:
(واألحسن يف هذه اآلية :كونها على العموم ،أن اهلل خيلق األشياء ال
يعلمها وال يعرفها [أحد] وأنه هو العامل بها وحده ال إله إال هو) .إال أن
اآلية تنفي العلم عن املخاطبني (ما ال تعلمون) ،وال تنفيه عن كل
أحد.
قال الزخمشري( :جيوز أن يريد به :ما خيلق فينا ولنا مما ال
نعلم كنهه وتفاصيله ومين علينا بذكره ،كما منّ باألشياء
املعلومة مع الداللة على قدرته .وجيوز أن خيربنا بأن له من اخلالئق
ما ال علم لنا به ،ليزيدنا داللة على اقتداره باإلخبار بذلك ،وإن
طوى عنا علمه حلكمة له يف طيه) .والقول األول للزخمشري خيصها
مبا ينتفع به الناس ،والقول الثاني يفسرها بالعموم.
21
أما الرازي فقد خصها باألشياء اليت ال ينتفع بها اإلنسان،
يقول( :اعلم أنه تعاىل ملا ذكر أوال :أحوال احليوانات اليت ينتفع
اإلنسان بها انتفاعا ضروريا ،وثانيا :أحوال احليوانات اليت ينتفع
اإلنسان بها انتفاعا غري ضروري ،بقي القسم الثالث من احليوانات
وهي األشياء اليت ال ينتفع اإلنسان بها يف الغالب ،فذكرها على
سبيل اإلمجال ،فقال( :وخيلق ما ال تعلمون) ،وذلك ألن أنواعها
وأصنافها وأقسامها كثرية خارجة عن احلد واإلحصاء).
وقال أبو حيان( :والظاهر نفي العلم عن ذوات ما خيلق تعاىل،
فقال اجلمهور :املعنى ما ال تعلمون من اآلدميني واحليوانات
واجلمادات اليت خلقها كلها ملنافعكم ،فأخربنا بأن له من اخلالئق
ما ال علم لنا به ،لنزداد داللة على قدرته باإلخبار ،وإن طوى عنا علمه
حكمة له يف طيه ،وما خلق تعاىل من احليوان وغريه ال حييط بعلمه
بشر .وقال قتادة :ما ال تعلمون أصل حدوثه كالسوس يف النبات
والدود يف الفواكه .وقال ابن حبر :ال تعلمون كيف خيلقه).
وخصها بعض املتأخرين باألشياء اليت تكون من جنس ما
ينتفعون به ،فتابع الزخمشري ،وخالف الرازي ،وهو قول السعدي.
وبعض املتأخرين كابن عاشور ،والشنقيطي ،خص تلك املنافع
باملركوبات ،وفسر بها ما صنعه اإلنسان من وسائل النقل
كالطائرات والسيارات والقاطرات ،...باعتبار أن اهلل أهلم اإلنسان
فكرتها ،كما أهلمه صناعة الفلك ،وأيضا ألن موادها من حديد
وحنوه هي مما خلقه اهلل.
23
وإذا رجعنا إىل اآليات ،فسنجد أنها حتدثت أوالً عن خلق
السماوات واألرض ،ثم عن خلق اإلنسان ،ثم عن خلق األنعام اليت
خلُقُ مَا لَا َت ْع َلمُونَ) ،وبذلك فهو
ينتفع بها اإلنسان ،ثم قال( :وَ َي ْ
قسيم رابع ،وال يندرج ضمن احلديث عن األنعام ومنافعها ،وبذلك
فال وجه لتخصيصه باألشياء اليت ينتفع بها الناس ،سواء بالركوب
أو بغريه .ومن محلها على عمومها فقوله أوىل ،وأنسب للمقام،
واملعنى :وخيلق ما ال تعلمون ،وقد يعلمه غريكم من البشر ،وقد
يعلمونه يف عصور الحقة ،وقد ال يعلمه البشر ويعلمه غريهم ،وقد ال
يعلمه أحد من خلقه .فاآلية عامة وال وجه لتخصيصها.
21
والذي يرتجح لدي أنها موصولة ،كما ذكر املفسرون،
والتقدير :واهلل خلقكم وخلق أوثانكم اليت تنحتونها .ويؤيد ذلك:
السياق ،واالستخدام ،واملطرد يف القرآن الكريم ،والسرد.
أما السياق ،فإن إبراهيم يقول لقومه :أتعبدون هذه األوثان
املنحوتة ،واهلل خلقها وخلقكم؟! فالسياق يقتضي أن يكون اإلنكار
منصبّ ًا على األوثان ،وأن تكون داللة احلال متعلقة بها ،أي :كيف
تعبدونها ،واحلال أنها خملوقة؟! فاهلل خلق العابد واملعبود.
قال ابن تيمية:
(ومن قال :إنها مصدرية واملراد واهلل خلقكم وعملكم فهو
ضعيف؛ فإن سياق الكالم إمنا يدل على األول؛ ألنه قال{ :أتعبدون ما
تنحتون -واهلل خلقكم وما تعملون} فأنكر عليهم عبادة املنحوت،
فاملناسب أن يذكر ما يتعلق باملنحوت وأنه خملوق هلل ...وألنه لو
قال :واهلل خلقكم وعملكم ،مل يكن يف هذا ما يقتضي ذمهم على
الشرك ،بل قد يقال :إنه إقامة عذر هلم .وذلك ألن الواو يف قوله:
{واهلل خلقكم وما تعملون} واو احلال .واحلال هنا شبه الظرف،
كالهما قد يتضمن معنى التعليل ،كما يقال :أتذم فالنا وهو رجل
صاحل وتسيء إليه وهو حمسن إليك؟ فتقرر بذلك ما يوجب ذمه
ونهيه عما أنكرته عليه .وهو سبحانه ينكر عليهم عبادة ما ينحتون،
فذكر قوله{ :واهلل خلقكم وما تعملون} متضمنا ما يوجب ذمهم
على ذلك ونهيهم عنه ،وذلك كون اهلل تعاىل خلق معموهلم ،ولو
أريد واهلل خلقكم وعملكم الذي هو الكفر وغريه ،مل يكن يف ذلك ما
32
يناسب ذمهم ،ومل يكن يف بيان خلق اهلل تعاىل ألفعال عباده ما يوجب
ذمهم على الشرك).
34
وعليه فـفعل اخللق يف اآلية مل يقع على عمل اإلنسان ،وال يوجد
يف القرآن الكريم دليل صريح على أن عمل اإلنسان خملوق.
ح َملْنَا ذُرِّيَّ َتهُمْ فِي ا ْل ُفلْكِ
وبعضهم استدل بقوله( :وَآ َيةٌ َلهُمْ أَنَّا َ
كبُونَ) ،على أن الفلك
شحُونِ ( )43وَخَ َلقْنَا َلهُمْ ِمنْ مِ ْث ِلهِ مَا َيرْ َ
ا ْلمَ ْ
خملوق ،وهذا استدالل غري صحيح ففعل اخللق ،مل يقع على
الفلك ،وإمنا وقع على األنعام ،واملعنى :وخلقنا هلم من األنعام ما
ج َعلَ لَكُمْ مِنَ
يركبون ،واألنعام هي (مثل الفلك) ،كما قال( :وَ َ
كبُونَ).
ا ْل ُف ْلكِ وَالْأَ ْنعَامِ مَا تَرْ َ
ج َعلَ لَكُمْ ِمنْ بُيُوتِكُمْ
َاللهُ َ
وال داللة على اخللق يف مثل قوله( :و َّ
ظعْنِكُمْ وَ َيوْمَ
جلُودِ الْأَ ْنعَامِ بُيُوتًا تَسْ َتخِفُّو َنهَا َيوْمَ َ
ج َعلَ لَكُمْ ِمنْ ُ
سَكَنًا وَ َ
شعَا ِرهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا ِإلَى حِنيٍ) ،قال
صوَا ِفهَا وَأَوْبَا ِرهَا وَأَ ْ
إقَامَتِكُمْ وَ ِمنْ َأ ْ
بعضهم :بأن فعل اخللق وقع عليها ،وكلها مصنوعات لبين آدم .وهذا
غري صحيح ،فاآلية تتحدث عن تصيريها كذلك ،وليس عن خلقها،
وسأبسط القول فيها عند احلديث عن (جعل).
وهناك أدلة أخرى ليس هذا مقام ذكرها ،إال أن اخلالصة أن
القرآن الكريم مل يتحدث عن خلق أفعال العباد ،ال بإثبات وال بنفي،
ومل يرد ما يدل على ذلك مع أي من األفعال اليت استخدمها القرآن
الكريم للداللة على اخللق .وقد بليت األمة خبالف طويل الذيل
حول هذه القضية ،وحنن يف غنى عن جر أذياهلا ،فال نقول أن اهلل
خلق أفعال العباد ،وال نقول :أن اهلل مل خيلقها ،فكالهما قول ليس
عليه أثارة بينة من الكتاب العظيم ،وهو جدل لفظي ،ومن غري
32
الصحيح أن جنعل (الفعل اإلنساني يف مقصلة ثنائية) ،فإما نقول
بهذا أو بهذا!! فمن اخلطأ إيقاع اخللق على فعل اإلنسان .والقرآن
الكريم يقول( :وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اهللُ) ،فلماذا نقول :وما تفعلون
إال ما خيلقه اهلل؟!
ُل شَيْءٍ) ،وأن
يسعنا أن نقول كما قال تعاىل( :اهللُ خَالِقُ ك ِّ
حنُ ُنحْيِي ا ْل َم ْوتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَا َرهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ
نقول( :إِنَّا َن ْ
أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ ُمبِنيٍ) ،وأن نقول( :مَا َأصَابَ ِمنْ مُصِي َبةٍ فِي الْأَ ْرضِ
َولَا فِي أَ ْنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ ِمنْ َق ْبلِ أَنْ َن ْبرََأهَا) ،مع إقرارنا بأن
للعبد مشيئة وإرادة وقدرة ،وأنه ال يشاء العبد إال أن يشاء اهللِ ( .ل َمنْ
شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْ َتقِي َم ( )18وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اهللُ رَبُّ ا ْلعَا َلمِنيَ).
وهلذه القضية حبث آخر إن شاء اهلل.
33
خ َلقْنَا أَ ْنعَامًا
سقِيَهُ مِمَّا َ
خلَقَ)( ،لِ ُنحْيِيَ ِبهِ َب ْلدَةً مَيْتًا وَنُ ْ
ِمنْ شَرِّ مَا َ
وَأَنَاسِيَّ كَثِريًا).
خلْقُ اهللِ
وكذلك اجمليء باملصدر (خلْق) ،كما يف قولهَ ( :هذَا َ
الذِينَ ِمنْ دُو ِنهِ) ،فهو يشري إىل خملوقاته :السماوات
خلَقَ َّ
فَأَرُونِي مَاذَا َ
وما خلق يف األرض.
31
املطلب الثالث :املفرد واجلمع :خالق ،خالق ،خالقون
اخلالق واخلالق:
اخلالق هو الذي خيلق الشيء ،واخلالق :هو الذي يقدِر على
اخللق َبدْءاً وإعادة ،فـ(اخلالق) يتعلق بالفعل ،و(اخلالق) يتعلق
بالقدرة على الفعل ،وال يستخدم إال يف إثبات القدرة ،ال يف الفعل.
السمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ بِقَادِرٍ َعلَى أَنْ
خلَقَ َّ
الذِي َ
قال تعاىل( :أَ َولَيْسَ َّ
خلُقَ مِ ْث َلهُمْ َبلَى َو ُهوَ ا ْلخَلَّاقُ ا ْل َعلِيمُ) .فاقرتن مع القدرة على
َي ْ
اإلعادة ،وليس مع اخللق نفسه .وقد ورد (اخلالق) يف القرآن مرتني،
السمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ وَمَا
خ َلقْنَا َّ
هذه اآلية يف يس ،ويف احلجر( :وَمَا َ
جمِيلَ ( )85إِنَّ
الص ْفحَ ا ْل َ
ص َفحِ َّ
بَيْ َن ُهمَا إِلَّا بِا ْلحَقِّ وَإِنَّ السَّا َعةَ لَآتِ َيةٌ فَا ْ
ر ََّبكَ ُهوَ ا ْلخَلَّاقُ ا ْل َعلِيمُ) ،وكالهما مقرتن بالقدرة على اإلعادة،
كما هو واضح يف يس ،ويف احلجر جاء مقرتنا مبجيء الساعة،
فاملعنى :إن الساعة آتية ،وال تظنوا أن اهلل يعجزه إعادة خلقكم،
فربك هو اخلالق العليم (أي القادر على إعادة اخللق).
31
اخلالق واخلالقون:
هذا ومل يرد لفظ اخللق يف القرآن الكريم إال منسوبا إىل اهلل،
إال يف ثالثة مواضع،
32
وختلقون إفكا:
والثاني قول إبراهيم لقومهَ ( :وإِ ْبرَاهِيمَ ِإذْ قَالَ ِل َقوْمِهِ ا ْع ُبدُوا اهللَ
َاتقُوهُ َذلِكُمْ خَ ْيرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ َت ْع َلمُونَ ( )36إ َِّنمَا َت ْع ُبدُونَ ِمنْ دُونِ اهللِ
و َّ
الذِينَ َت ْع ُبدُونَ ِمنْ دُونِ اهللِ لَا َي ْملِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا
خ ُلقُونَ إِفْكًا إِنَّ َّ
أَوْثَانًا َو َت ْ
جعُونَ) ،فقوله
فَابْ َتغُوا عِنْدَ اهللِ الرِّزْقَ وَا ْع ُبدُوهُ وَاشْ ُكرُوا َلهُ ِإلَ ْيهِ ُترْ َ
(ختلقون إفكا) ،قال الطربي( :واختلف أهل التأويل يف تأويل قوله:
خ ُلقُونَ إِفْكًا) فقال بعضهم :معناه :وتصنعون كذبا .وقال آخرون:
( َوتَ ْ
وتقولون كذبا .وقال آخرون :بل معنى ذلك :وتنحِتون إفكا [أي:
أوثانا]) ،ونقل قول ابن عباس( :تنحِتون تصوّرون إفكا) ،وقول ابن زيد
(األوثان اليت ينحتونها بأيديهم) .وقال الزخمشري( :واختالقهم
اإلفك :تسميتهم األوثان آهلة وشركاء هلل أو شفعاء إليه .أو مسى
األصنام :إفكا ،وعملهم هلا وحنتهم :خلقا لإلفك).
واألَوىل كما يبدو أن تظل (ختلقون) على معناها دون حتويلها
إىل اختلق ،وتفسري ابن عباس هو األوىل ،فتخلقون إفكا ،أي :تنشئون
أوثانا وتتخذونها آهلة ،فكأنهم خلقوا آهلتهم!! وهو تعجيب من
حاهلم ،فبدال من أن يعبدوا من خيلقهم إذا بهم خيلقون من يعبدونه،
وهي صورة تدعو إىل العجب .ويدل على سياق اآلية ،فإبراهيم يقول
هلم :أنكم تعبدون أوثانا ،وهذه األوثان أنتم من خلقها [وهي إفك
وباطل] ،ثم بني هلم ذلك التناقض فقال :إن هذه األوثان اليت
ختلقونها ال متلك لكم رزقا ،فكيف تعبدونها؟! وهكذا كقوله( :قَالَ
خ َلقَكُمْ وَمَا َتعْ َملُونَ) .فاخللق يف اآلية
َأ َت ْع ُبدُونَ مَا تَ ْنحِتُونَ ( )95وَاهللُ َ
مبعناه :اإلنشاء األول ،فهو يقول هلم :أن هذه اآلهلة اليت تعبدونها
31
أنتم من أنشأها ،ومل ينشئها أحد قبلكم ،ثم تعبدونها!!
33
َلعَلَّكُمْ َتخْ ُلدُونَ) ،وقد بلغ من كربيائهم أنهم اعتقدوا يف أنفسهم قوة
اخلالق وقدرته ،فقالوا( :فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَ ْك َبرُوا فِي الْأَ ْرضِ ِبغَ ْيرِ ا ْلحَقِّ
خ َل َقهُمْ ُهوَ أَشَدُّ مِ ْنهُمْ
الذِي َ
وَقَالُوا َمنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَ َولَ ْم َيرَوْا أَنَّ اهللَ َّ
قُوَّةً) ،أي فـ(الذي خلقهم) هو أشد منهم قوة ،وهم اعتقدوا أنهم
خالقون وأنهم أشد قوة يف األرض .ولذلك فقد كانت عقوبتهم هي
تدمريهم وإبقاء مساكنهم ،ويف هذا تهكم بهم وآية ملن بعدها ،فأبقى
ما اعتقدوا أنهم خلقوه ،ودمر ذلك (اخلالق) املزعوم ،قال تعاىل:
ص َبحُوا لَا ُيرَى إِلَّا مَسَاكِ ُنهُمْ) ،وقال عن
َمرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَ ْمرِ ر َِّبهَا فَ َأ ْ
( ُتد ِّ
خلٍ مُ ْن َق ِعرٍ) ،وقال( :وَأَمَّا عَادٌ
الريح (تَ ْن ِزعُ النَّاسَ كَأَنَّهُ ْم أَ ْعجَازُ َن ْ
َخ َرهَا َعلَ ْيهِمْ سَ ْبعَ لَيَالٍ وَ َثمَانِيَةَ
صرٍ عَاتِ َيةٍ ( )6س َّ
ص ْر َ
فَ ُأ ْهلِكُوا بِرِيحٍ َ
خلٍ خَاوِ َيةٍ ()7
صرْعَى كَأ ََّنهُمْ أَ ْعجَازُ َن ْ
أَيَّامٍ حُسُومًا فَ َترَى ا ْل َقوْمَ فِيهَا َ
َف َه ْل َترَى َلهُمْ ِمنْ بَاقِ َيةٍ) فأي خالق هذا؟! وأي خملوق ذاك؟!
أحسن اخلالقني:
سنُ ا ْلخَا ِلقِنيَ) ،وقوله
املوضع الرابع قوله (فَ َتبَا َركَ اهللُ أَحْ َ
سنَ ا ْلخَا ِلقِنيَ) ،وقد اختلف املفسرون يف
(َأ َتدْعُونَ َب ْعلًا َو َتذَرُونَ أَحْ َ
ذلك ،فقيل :أحسن الصانعني ،فاخلالق صانع ،وقيل :أحسن
املقدرين ،من اخللق مبعنى التقدير ،وقيل إنه ذكر ذلك ألن عيسى
كان خيلق .وهناك قوالن جديران باالعتبار ،أوهلما ذكره مكي ابن
أبي طالب يف اهلداية ،قال( :وقيل املعنى ،أن املشركني صنعوا متاثيل
وال ينفخون فيها الروح فخلق اهلل آدم ونفخ فيه الروح ،فهو أحسن
الصانعني ،إذ ال يطيق أحد نفخ الروح غريه) .والثاني ذكره الرازي يف
تفسريه نقال عن أحدهم( :فوجب محل هذه اآلية على أنه أحسن
31
اخلالقني يف اعتقادكم وظنكم ،كقوله تعاىل( :وهو أهون عليه) أي
هو أهون عليه يف اعتقادكم وظنكم).
والذي يرتجح لي ما ذكره الرازي ومكي ،من أن اآلية جرت على
ما يعتقدونه ،حيث يعتقدون أن مثة من خيلق ،وتقدم معنا قول
إبراهيم لقومه (وختلقون إفكا) ،فهم اعتقدوا أنهم بنحتهم التماثيل
خيلقونها ،فاملعنى :أن اهلل هو اخلالق وال خالق غريه ،وهذا خلقه
فماذا خلق اخلالقون من دونه كما تعتقدون ،كما قالَ ( :هذَا خَلْقُ
ضلَالٍ ُمبِنيٍ)،
الذِينَ ِمنْ دُو ِنهِ َبلِ الظَّا ِلمُونَ فِي َ
خلَقَ َّ
اهللِ فَأَرُونِي مَاذَا َ
ج َعلُوا
أي فهم ظاملون حني يعتقدون أن مثة خالقا غري اهلل .وقال( :أَمْ َ
خلْقُ َعلَ ْيهِمْ ُقلِ اهللُ خَالِقُ كُلِّ
خلْ ِقهِ فَتَشَابَهَ ا ْل َ
خ َلقُوا كَ َ
شرَكَاءَ َ
ل َِّلهِ ُ
حدُ ا ْلقَهَّارُ) ،فاخلطاب جرى مبا تشابه عليهم ،أي :هل
شَيْءٍ َو ُهوَ ا ْلوَا ِ
تشابه عليهم األمر فظنوا أن مثة خالقني آخرين .ومنه قوله( :أَمْ
السمَاوَاتِ
خ َلقُوا َّ
خ ِلقُوا ِمنْ غَ ْيرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ا ْلخَا ِلقُونَ ( )15أَمْ َ
ُ
الذِينَ َتدْعُونَ
شرَكَاءَكُمُ َّ
وَالْأَ ْرضَ بَل لَا يُوقِنُونَ) ،وقالُ ( :قلْ أَرَأَيْتُمْ ُ
خ َلقُوا ِمنَ الْأَ ْرضِ) أي :فاهلل أحسن من هؤالء
ِمنْ دُونِ اهللِ أَرُونِي مَاذَا َ
الذين تعتقدون ،فلو كان هناك خالقون فماذا خلقوا؟
شرِكُونَ مَا لَا
وقد نفى نسبة اخللق إليهم مطلقا ،قال تعاىل( :أَيُ ْ
َالذِينَ َيدْعُونَ ِمنْ دُونِ اهللِ لَا
خ َلقُونَ) ،وقال (و َّ
خلُقُ شَيْئًا َوهُمْ يُ ْ
َي ْ
خ ُلقُونَ شَيْئًا
َاتخَذُوا ِمنْ دُونِهِ آ ِلهَةً لَا َي ْ
خ َلقُونَ)( ،و َّ
خ ُلقُونَ شَيْئًا َوهُمْ ُي ْ
َي ْ
َيهَا النَّاسُ
خ َلقُونَ) .وأعجزهم عن أن خيلقوا حتى ذبابا (يَا أ ُّ
َوهُمْ ُي ْ
خ ُلقُوا ذُبَابًا
الذِينَ َتدْعُونَ ِمنْ دُونِ اهللِ َلنْ َي ْ
ضرِبَ مَ َثلٌ فَاسْ َت ِمعُوا لَهُ إِنَّ َّ
ُ
ض ُعفَ
س ُل ْبهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْ ِقذُو ُه مِ ْنهُ َ
َو َلوِ اجْ َت َمعُوا َلهُ وَإِنْ يَ ْ
12
طلُوبُ).
الطَّالِبُ وَا ْلمَ ْ
14
املطلب الرابع :إضافة اخللق إىل (اهلل ،الرمحن)
خلق اهلل:
أضيف (خلق) إىل فاعله لفظ اجلاللة (اهلل) يف ثالثة مواضع،
َنهُمْ َولَآ ُمر ََّنهُمْ َفلَ ُيبَتِّكُنَّ آذَانَ
َّنهُمْ َولَأُمَنِّي َّ
وهي قوله يف النساءَ ( :ولَ ُأضِل َّ
جهَكَ
خلْقَ اهللِ) ،ويف سورة الروم( :فَأَقِمْ وَ ْ
َيرُنَّ َ
الْأَ ْنعَامِ َولَآ ُمر ََّنهُمْ َفلَ ُيغ ِّ
خلْقِ اهللِ)،
طرَ النَّاسَ َعلَ ْيهَا لَا َت ْبدِيلَ ِل َ
طرَةَ اهللِ الَّتِي فَ َ
لِلدِّينِ حَنِيفًا فِ ْ
الذِينَ ِم ْن دُو ِنهِ).
خلَقَ َّ
خلْقُ اهللِ فَأَرُونِي مَاذَا َ
ويف سورة لقمانَ ( :هذَا َ
12
الدين :حتليل احلرام وحتريم احلالل .والثاني :أنه تغيري اخللق
باخلصاء .والثالث :أنه التغيري بالوشم .والرابع :أنه تغيري أمر اهلل.
واخلامس :أنه عبادة الشمس والقمر واحلجارة ،وحتريم ما حرموا من
األنعام ،وإمنا خلق ذلك لالنتفاع به).
فمن فسرها بتغيري خلق اهلل ،محلها على ثالثة وجوه،
األول :التغيري الظاهر ،كإخصاء البهائم ،أو قطع اآلذان ،أو فقء
العيون ،أو غريه من التغيري الظاهر كالوشم ووصل الشعر ،قال ابن
عطية( :ومالك تفسري هذه اآلية :أن كل تغيري ضار فهو يف اآلية،
وكل تغيري نافع فهو مباح).
والوجه الثاني :تغيري منفعة اخللق ،قال الرازي يف بيان هذا
الوجه( :حكى الزجاج عن بعضهم أن اهلل تعاىل خلق األنعام
لريكبوها ويأكلوها فحرموها على أنفسهم كالبحائر والسوائب
والوصائل ،وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرة للناس ينتفعون
بها فعبدها املشركون ،فغريوا خلق اهلل).
والوجه الثالث :تغيري وظيفة اخللق ،فقالوا بأنه :التخنث أو
السحاق ،قال الرازي يف بيانه( :التخنث عبارة عن ذكر يشبه األنثى،
والسحق عبارة عن أنثى تشبه الذكر) .وقال أبو حيان( :وقيل :تغيري
خلق اهلل هو أن كل ما يوجده اهلل لفضيلة فاستعان به يف رذيلة فقد
غري خلقه .وقد دخل يف عمومه ما جعله اهلل تعاىل لإلنسان من شهوة
اجلماع ليكون سببا للتناسل على وجه خمصوص ،فاستعان به يف
السفاح واللواط ،فذلك تغيري خلق اهلل .وكذلك املخنث إذا نتف
13
حليته ،وتقنع تشبها بالنساء ،والفتاة إذا ترجلت متشبهة بالفتيان).
والوجه الرابع :وهو تغيري ما فطر اهلل عليه خلقه ،وقد قال
بذلك الرازي رمحه اهلل ،وخالصة قوله :أن اهلل خلق الناس وفطرهم
يف الدنيا على صفة معينة ،وهي أن يستعدوا ملقامهم األبدي يف الدار
اآلخرة ،فمن نسي املعاد ،وأقبل يف الدنيا على اللذات العاجلة ،فقد
غري خلق اهلل.
ومن فسرها بتغيري دين اهلل ،فقد قرروا فيها وجهني،
األول :محلها على التحليل والتحريم ،واستدل على ذلك بآية
الروم ،كالطربي وغريه .واستدلوا باحلديث الذي يف صحيح مسلم:
(وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ،وإنهم أتتْهم الشياطني فاجتالتْهم
عن دينهم ،وحرمتْ عليهم ما أحللتُ هلم ،وأمرتْهم أن يشركوا بي ما
مل أنزل به سلطانا) ،ولفظه عند النسائي( :وإنهم أتتْهم الشياطني
فاجتالتْهم عن دينهم ،وحرمتْ عليهم ما أحللتُ هلم ،وأمرتْهم أن
يشركوا بي ما مل أنزل به سلطانا ،وأمرتْهم أن يغريوا خلقي).
والثاني :محلها بعضهم على الكفر ،قال الرازي يف تقرير هذا
الوجه( :أن اهلل تعاىل فطر اخللق على اإلسالم يوم أخرجهم من ظهر
آدم كالذر وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم وآمنوا به ،فمن كفر فقد
غري فطرة اهلل اليت فطر الناس عليها ،وهذا معنى قوله صلى اهلل
عليه وسلم« :كل مولود يولد على الفطرة ،ولكن أبواه يهودانه
وينصرانه وميجسانه»).
وقد مجع تلك األقوال ابن عاشور ،ودجمها يف قول واحد ،فقال:
11
(وقوله" :وآلمرنهم فليغرين خلق اهلل" تعريض مبا كانت تفعله أهل
اجلاهلية من تغيري خلق اهلل لدواع سخيفة ،فمن ذلك ما يرجع إىل
شرائع األصنام مثل فقء عني احلامي ،وهو البعري الذي محى ظهره
من الركوب لكثرة ما أنسل ،ويسيب للطواغيت .ومنه ما يرجع إىل
أغراض ذميمة كالوشم إذ أرادوا به التزين ،وهو تشويه ،وكذلك
وسم الوجوه بالنار .ويدخل يف معنى تغيري خلق اهلل وضع املخلوقات
يف غري ما خلقها اهلل له ،وذلك من الضالالت اخلرافية .كجعل
الكواكب آهلة .وجعل الكسوفات واخلسوفات دالئل على أحوال
الناس .ويدخل فيه تسويل اإلعراض عن دين اإلسالم ،الذي هو دين
الفطرة ،والفطرة خلق اهلل فالعدول عن اإلسالم إىل غريه تغيري خللق
اهلل).
ثم قال( :وليس من تغيري خلق اهلل التصرف يف املخلوقات مبا
أذن اهلل فيه وال ما يدخل يف معنى احلسن فإن اخلتان من تغيري خلق
اهلل ولكنه لفوائد صحية ،وكذلك حلق الشعر لفائدة دفع بعض
األضرار ،وتقليم األظفار لفائدة تيسري العمل باأليدي ،وكذلك
ثقب اآلذان للنساء لوضع األقراط والتزين ،وأما ما ورد يف السنة من
لعن الواصالت واملتنمصات واملتفلجات للحسن فمما أشكل تأويله.
وأحسب تأويله أن الغرض منه النهي عن مسات كانت تعد من مسات
العواهر يف ذلك العهد ،أو من مسات املشركات ،وإال فلو فرضنا هذه
منهيا عنها ملا بلغ النهي إىل حد لعن فاعالت ذلك) .ثم قال( :ومالك
األمر أن تغيري خلق اهلل إمنا يكون إمنا إذا كان فيه حظ من طاعة
الشيطان ،بأن جيعل عالمة لنحلة شيطانية ،كما هو سياق اآلية
11
واتصال احلديث بها).
والقول يف آية الروم كالقول يف آية النساء.
وسأحتدث عن داللة (خلق اهلل) يف اآليتني الحقاً ،بعد أن أبني
الداللة الدقيقة للفطرة( .انظر املبحث الثالث).
12
خلق الرمحن:
أضيف لفظ (خلْق) إىل فاعله (الرمحن) ،يف موضع واحد يف
حمَنِ
خلْقِ الرَّ ْ
طبَاقًا مَا َترَى فِي َ
س َموَاتٍ ِ
س ْبعَ َ
خلَقَ َ
الذِي َ
سورة امللكَّ ( :
ِمنْ َتفَاوُتٍ) .ومل يضف إىل أي اسم آخر سوى لفظ اجلاللة (اهلل)،
خلْقُ اهللِ) .وسأبني داللة ذلك عند حديثي عن
كما يف قولهَ ( :هذَا َ
أمساء اهلل احلسنى.
ولفظ (خلق) هنا مبعناه ،وقد اختلف املفسرون يف خترجيه،
فبعضهم خصصه ،كالزخمشري ،حيث قال أن املراد به :السماوات،
فكأنه قال :ما ترى يف خلقهن من تفاوت .وبعضهم عممه ،كأبي
حيان ،قال( :والظاهر عموم خلق الرمحن من األفالك وغريها ،فإنه ال
تفوت فيه وال فطور ،بل كل جار على اإلتقان) .وقال ابن عاشور:
(أصل الكالم :ما ترى فيهن وال يف خلق الرمحن من تفاوت ...ألن
انتفاء التفاوت عما خلقه اهلل متحقق يف خلق السماوات وغريها ،أي
كانت السماوات طباقا ألنها من خلق الرمحان ،وليس فيما خلق
الرمحان من تفاوت ومن ذلك نظام السماوات).
و(من تفاوت) كما قال الزخمشري( :أي :من اختالف
واضطراب يف اخللقة وال تناقض ،إمنا هي مستوية مستقيمة.
وحقيقة التفاوت :عدم التناسب ،كأن بعض الشيء يفوت بعضا وال
يالئمه .ومنه قوهلم :خلق متفاوت).
11
املطلب اخلامس :بدء اخللق وإعادته
13
خلْقَ الْإِنْسَانِ ِم ْن طِنيٍ) ،فأول
خلقه من طني ،كما قال تعاىل( :وَ َبدَأَ َ
إنسان بدأ اهلل خلقه ،فهذا أول خلق له ،وهو أول إظهار له ،أما من جاء
بعد ذلك من الناس فليس بأول إظهار هلم ،فاهلل خلقهم ولكنه مل
يبدأ خلقهم ،بل بدأ خلق األصل ،وهو (أول خلق).
أما داللة (خلق) فهي عامة ألول خلق ،وخللق النسل بعد ذلك.
وعليه فخلق اإلنسان يف بطن أمه ،هو خلق ،ولكنه ليس بدءا يف
اخللق .وباختصار فالبدء يف اخللق :هو خلق أصل الشيء ال نسله،
واخللق :هو خلق أصل الشيء ونسله.
وأما اإلعادة ،فهي اإلنشاء الثاني ألول خلق .فهو ليس خبلق
جديد ،ولكنه إنشاء آخر لـ(أول خلق) نفسه .وقلت (للخلق) ،وإعادة
اخللق يشمل األحياء كاإلنسان ،وغري األحياء كالسماوات واألرض،
وقد ورد معها كلها .وال تقرتن اإلعادة إال ببدء اخللق ،وهذا يدل
على أن إعادة اخللق كله ستكون مثل بدء أول خلق ،وليست مثل
اخللق ،وسأوضح هذا الحقا (انظر :أول خلق).
خلْقَ ثُمَّ ُيعِيدُهُ َوهُوَ َأ ْهوَنُ َعلَ ْيهِ)،
الذِي َي ْبدَأُ ا ْل َ
قال تعاىلَ ( :و ُهوَ َّ
ففي مقاييس البشر أن اإلعادة أهون من ال َبدْء يف الشيء ،فجرى هذا
على ما يعرفه الناس ،أما بالنسبة للخالق العليم ،فـ(إ َِّنمَا أَ ْمرُهُ ِإذَا أَرَادَ
شَيْئًا أَنْ َيقُولَ َلهُ كُنْ فَيَكُونُ) ،فيستوي عنده سبحانه وتعاىل اخللق
سمِيعٌ
حدَةٍ إِنَّ اهللَ َ
خ ْلقُكُمْ َولَا َبعْثُكُمْ إِلَّا كَ َنفْسٍ وَا ِ
واإلعادة( ،مَا َ
بَصِريٌ).
وقد توهم الكافرون بأن اإلعادة خلق جديد ،فقالوا( :وَقَالُوا أَئِذَا
11
جدِيدٍ َبلْ هُمْ ِب ِلقَاءِ ر َِّبهِمْ كَا ِفرُونَ)،
خلْقٍ َ
ض َللْنَا فِي الْأَ ْرضِ أَئِنَّا َلفِي َ
َ
وسأناقش هذه القضية الحقا (انظر :خلق جديد).
ومل يرد فعل اإلعادة يف القرآن الكريم إال مقرتنا ببدء اخللق ،إال
يف موطن واحد جاء على لسان املنكرين ،قال تعاىل يف سورة اإلسراء:
صدُورِكُمْ
خ ْلقًا مِمَّا يَكْ ُبرُ فِي ُ
حجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ( )50أَوْ َ
( ُقلْ كُونُوا ِ
طرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ،ولذلك كان
الذِي فَ َ
فَسَ َيقُولُونَ َمنْ ُيعِيدُنَا قُلِ َّ
اجلواب خمتلفا ،قوله (فطركم أول مرة) ،فلم يرد الفعل (فطر)
خياطب اهلل به الناس إال يف هذا املوضع.
**
12
وابن جبري وحممد بن كعب.
والثاني( :كما خلقكم أوال ،ومل تكونوا شيئا ،فإنه يعيدكم مرة
أخرى ،ويبعثكم من قبوركم أحياء بعد أن متم وصرمت عظاما رميما،
واآليات الدالة على هذا الوجه كثرية جدا).
والراجح هو القول األول( ،مذهب ابن عباس وغريه) ،لعدة دالئل،
أوالها :استخدام لفظ (بدأ) يف القرآن الكريم ،فلم يرد إال
مقرتنا بـ(اخللق) ،كما بينت ،ويف هذا املوضع مل يقرتن باخللق ،فدل
على أنه ال يتحدث عن بدء اخللق وإعادته ،وإمنا عن شيء آخر.
وثانيها :استخدام لفظ (تعودون) ،فلفظ اإلعادة يف القرآن
الكريم الدال على إعادة اخللق مل يأت إال من( :أعاد) ،كما يف قوله
(ثُمَّ ُيعِيدُهُ) ،ومل يأت من :عاد يعود ،فـ(يعودون) ال يقصد به :إعادة
اخللق.
وثالثها :السياق ،وهو ما أشار إليه اإلمام األلوسي ،فقال( :وروي
عن احلرب [ابن عباس] أن املعنى كما بدأكم مؤمنا وكافرا
خ َلقَكُمْ َفمِنْكُمْ
الذِي َ
يعيدكم يوم القيامة ،فهو كقوله تعاىل( :هُوَ َّ
كا ِفرٌ وَمِنْكُمْ ُمؤْ ِمنٌ) ،وعليه يكون قوله سبحانهَ ( :فرِيقاً هَدى وَ َفرِيقاً
حَقَّ َعلَ ْيهِمُ الضَّال َلةُ) بيانا وتفصيال لذلك ،ونظريه قوله تعاىل:
كنْ فَيَكُونُ) ،بعد قوله عز شأنه( :إن مثل
خ َل َقهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ ُ
( َ
عيسى عند اهلل كمثل آدم) ،قيل وهو األنسب بالسياق).
14
املطلب السادس :أول خلق ،وخلق جديد ،واخللق األول،
وخلق آخر
مع املفسرين:
خلص ابن اجلوزي يف زاد املسري أقوال املفسرين ،فقال( :اخللق
ها هنا مصدر ،وليس مبعنى املخلوق .ويف معنى الكالم أربعة أقوال:
أحدها :كما بدأناهم يف بطون أُمَّهاتهم حفاةً عُراةً غُرالً ،كذلك
نعيدهم يوم القيامة .والثاني :أن املعنى :إِنا نُهلك كل شيء كما
كان أول مرة .والثالث :أن السماء متطر أربعني يوماً كمين الرجال،
فينبتون باملطر يف قبورهم ،كما ينبتون يف بطون أُمَّهاتهم .والرابع:
أن املعنى :قُدرتنا على اإلِعادة كقُدرتنا على االبتداء).
وإذا استبعدنا القول الثاني ،فيخلص لنا قوالن ،أوجزهما ابن
عطية ،فقال( :حيتمل معنيني :أحدهما أن يكون خربا عن البعث ،أي
كما اخرتعنا اخللق أوال على غري مثال كذلك ننشئهم تارة أخرى
فنبعثهم من القبور .والثاني أن يكون خربا عن أن كل شخص يبعث
يوم القيامة على هيئته اليت خرج بها إىل الدنيا ،ويؤيد هذا التأويل
أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،قال« :حيشر الناس يوم القيامة
12
حفاة عراة غرال كما بدأنا أول خلق نعيده»)،
فعلى القول األول يكون املعنى كما ذكر األلوسي :أن اإلعادة
تتحقق مثلما حتقق البدء ،وليس املعنى أن تكون اإلعادة مثل البدء.
وقد أفصح الزخمشري عن هذا ،ففي الكشاف( :واملعنى :نعيد أول
اخللق كما بدأناه ،تشبيها لإلعادة باإلبداء يف تناول القدرة هلما
على السواء ،فإن قلت :وما أول اخللق حتى يعيده كما بدأه؟ قلت:
أوله إجياده عن العدم ،فكما أوجده أوال عن عدم ،يعيده ثانيا عن
عدم) .قال األلوسي( :أي [التشبيه] :يف السهولة وعدم التعذر .وقيل:
أي يف كونها إجيادا بعد العدم ،أو مجعا من األجزاء املتفرقة) [انظر
الرازي واأللوسي].
وعلى القول الثاني يكون التقدير كما ذكره األلوسي :نعيد
مثل الذي بدأناه يف أول خلق ،فـ(خلق) مصدر .واملثلية هنا تتعلق
بالفرد ،أي :أول خلق كل إنسان ،كما يف احلديث :حيشر الناس
حفاة عراة غرال.
**
وأما عن تنكري (خلق) ،فقال الزخمشري( :فإن قلت :ما بال
"خلق" منكرا؟ قلت :هو كقولك :هو أول رجل جاءني ،تريد أول
الرجال ،ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجال رجال ،فكذلك
معنى أول خلق :أول اخللق ،مبعنى :أول اخلالئق ،ألن اخللق مصدر ال
خلْقٍ" إلرادة التفصيل ،وهو قائم مقام
جيمع) .قال األلوسي( :وتنكري " َ
اجلمع يف إفادة تناول اجلميع ،فكأنه قيل :نعيد املخلوقني األولني).
13
**
التحقيق يف املسألة:
ورد ذكر بدء اخللق وإعادته يف تسعة مواضع ،ميكن تصنيفها
إىل ثالث فئات:
األوىل :ست آيات جاءت لتقرير بدء اخللق وإعادته ،يف سورة
يونس ثالث مرات ،ويف النمل ،ويف الروم مرتني .وهذه اآليات تقرر هذه
احلقيقة :بدء اخللق وإعادته ،فالقادر على بدء اخللق قادر على
الذِي َي ْبدَأُ
جعُونَ)َ ( ،و ُهوَ َّ
خلْقَ ثُمَّ ُيعِيدُهُ ثُمَّ ِإلَ ْيهِ ُترْ َ
إعادته( ،اهللُ َي ْبدَأُ الْ َ
خلْقَ ثُمَّ ُيعِيدُهُ َوهُوَ َأهْوَنُ َعلَ ْيهِ) .وكلها جاءت بالرتكيب ( َي ْبدَأُ
ا ْل َ
خلْقَ ثُمَّ ُيعِيدُهُ) ،فاخللق معرفة ،وقع مفعوال لـ(يبدأ).
ا ْل َ
الثانية :آيتان وكالهما يف العنكبوت ،جاءتا لدعوة اإلنسان إىل
النظر يف كيفية بدء اخللق ،ثم التقرير أن اإلعادة مثل بدء اخللق،
خلْقَ ثُمَّ ُيعِيدُهُ إِنَّ َذ ِلكَ َعلَى
قال تعاىل( :أَ َولَمْ َيرَوْا كَ ْيفَ ُي ْبدِئُ اهللُ ا ْل َ
خلْقَ ثُمَّ اهللُ
ظرُوا كَ ْيفَ َبدَأَ ا ْل َ
اهللِ يَسِريٌ (ُ )39قلْ سِريُوا فِي الْأَ ْرضِ فَانْ ُ
خرَةَ إِنَّ اهللَ َعلَى كُلِّ شَيْءٍ َقدِيرٌ) ،فذلك يسري على
يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآ ِ
اهلل ،وهو قادر على كل شيء .ويف اآليتني جاء بلفظ (كيف)،
والنظر (أومل يروا) (فانظروا) .كما جاء فعال (البدء) خمتلفني عما
مضى ،األول :يُبدئ (من :أبدأ) ،والثاني بصيغة املاضي (بدأ) ،فنظر
اإلنسان يتعلق مبا مضى (بالنسبة لإلنسان) ،وذلك كان الصيغة
ماضية ،وبها يستدل على ما يأتي.
السمَاءَ كَطَيِّ
طوِي َّ
الثالثة :آية واحدة ،وهي آية األنبياءَ ( ،يوْمَ نَ ْ
11
خلْقٍ ُنعِيدُهُ وَ ْعدًا َعلَيْنَا إِنَّا كُنَّا
كمَا َبدَأْنَا أَوَّلَ َ
السجِلِّ ِللْكُتُبِ َ
ِّ
فَا ِعلِنيَ) ،فهذه اآلية اختلفت عن اجملموعتني السابقتني يف أمور،
أوهلا :وقوع فعل البدء على (أول خلق) ،وليس على (اخللق)،
وثانيها :اجمليء بـ(خلق) نكرة ،ال معرفة.
والثالث :تشبيه البدء باإلعادة (كما بدأنا)،
والرابع :اجمليء بصيغة املاضي (بدأنا) ،وهي تتفق مع املوضع
الثاني يف العنكبوت ،وكالهما يتعلق بتقرير ما مضى.
واخلامس :التعقيب بقوله (وعدا علينا) ،فلم يعقب بهذا يف
سائر املواضع،
والسادس :تأكيد الفعل (إنا كنا فاعلني) ،ويف سائر املواضع
إما يبني القدرة ،أو أن اإلعادة أهون ،أو أن ذلك يسري.
وبهذا فال ينبغي أن حتمل آية األنبياء على مشرع اآليات
األخرى ،فهي ليست خربا عن البعث ،أو عن إمكانية حتقق اإلعادة.
والوجه أن يقال أن آية األنبياء تقرر كيفية اإلعادة ،فاإلعادة
تكون مثل البدء ،هذا أوال .وهذا األمر واضح .وثانيا :تبني أن إعادة
كل شيء مثل بدء أصله ال نسله .وسأبني هذا.
حتى نفهم هذا ،فعلينا أن نرجع للقرآن الكريم نفسه ،قال
سلَا َلةٍ ِمنْ
ج َعلَ نَسْ َلهُ ِمنْ ُ
خلْقَ الْإِنْسَانِ ِمنْ طِنيٍ( )7ثُمَّ َ
تعاىل( :وَ َبدَأَ َ
مَاءٍ َمهِنيٍ) ،فهذه اآلية الوحيدة يف القرآن الكريم اليت اقرتن فيها
لفظ (البدء) مع خلق اإلنسان ،فاهلل بدأ خلق اإلنسان من طني،
11
فالبدء يتعلق خبلق األصل ،فاألصل خلقه اهلل من طني ،وليس من
ماء مهني .ثم اقتضت سنته أن يكون تناسله من ماء مهني ،كما
بينت اآلية .فخلْق األصل غري خلق النسل .واقتضت سنة اهلل أن يكون
خلق النسل بالزوجية ليس يف اإلنسان فقط بل يف سائر األحياء،
خلَقَ الْأَزْوَاجَ ك َُّلهَا مِمَّا تُ ْنبِتُ الْأَ ْرضُ وَ ِمنْ
الذِي َ
س ْبحَانَ َّ
كما قال ( ُ
سهِمْ وَمِمَّا لَا َي ْع َلمُونَ) ،فاألزواج كلها خلقت من األصل ،وبها
أَ ْنفُ ِ
استمر النسل ،أما األصل فقد خلق من الرتاب .فالرتاب مادة األصل،
والنطفة مادة النسل.
وبهذا يتبني لنا أن بدء اخللق يف القرآن الكريم خيتص ببيان
األصل ،وليس بالنسل.
وننظر ثانيا يف قوله تعاىل( :وَاهللُ أَ ْنبَتَكُمْ ِمنَ الْأَ ْرضِ َنبَاتًا ()37
خرَاجًا) ،فاآلية تتحدث عن كيفية
خرِجُكُمْ إِ ْ
ثُمَّ ُيعِيدُكُمْ فِيهَا وَ ُي ْ
خروج أصل البشر؛ حيث أنزل اهلل املاء ،فأخرج به البشر من تراب
األرض ،كما خيرج باملاء النبات ،فكان طينا ،ثم مر باملراحل املتعاقبة،
وهو كحالة النبات اخلارج من األرض ،حتى سواه اهلل ونفخ فيه من
روحه ،فباين النبات ،وأصبح إنسانا .فهذا هو األصل ،أما النسل فقد
جاء من املاء املهني ،فيكون يف بطن أمه حتى خيرج طفال .فالرتاب
خلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ
مادة األصل ،والنطفة مادة النسل ،قال تعاىل( :وَ َبدَأَ َ
سلَا َلةٍ ِمنْ مَاءٍ َمهِنيٍ).
ج َعلَ نَسْ َلهُ ِمنْ ُ
ني ( )7ثُمَّ َ
طِ ٍ
وعليه فإن إعادة كل إنسان يوم القيامة تكون مثل (أولِ خلْق)
له ،و(أولُ خلقٍ) له هو خلق األصل ،ال النسل ،فينبت الناس مجيعا
12
من األرض ،كما نبت األصل (آدم) ،وهكذا سائر اخللق ،يعيده اهلل
كما بدأ أول خلق منه (أي األصل) ،وال يكون لسنة الزوجية دور يف
اإلعادة ،كما كان هلا دور يف خلق النسل.
وقد قررت سائر آيات (النشر) و(اخلروج) الكيفية اليت خيرج بها
الناس مجيعا ،وهي مثل الكيفية اليت بدأ بها (أول خلق) ،أي :خلق
األصل (من األرض) ،وليست كالكيفية اليت بدأ بها النسل (من
ماء)[ .راجع حبث :ألفاظ اإلحياء واإلماتة يف القرآن].
وبهذا ندرك سر جميء اللفظ هنا خمتلفا (أول خلق) ،فجاء
نكرة ،مقرتنا بـ(أول) ،ليشري إىل أول خلق كان لألصل ،وليس للنسل،
وجاء التشبيه (كما بدأنا) ليبني أن اإلعادة ستكون مثل بدء أول
خلق .واهلل أعلى وأعلم.
11
(خلق جديد):
جاء الرتكيب الوصفي (خلق جديد) يف سبعة مواضع ،وكان
استخدامه يف مقامني:
جدِيدٍ) يف
خ ْلقٍ َ
املقام األول :مقام القدرة( ،إِنْ يَشَأْ ُي ْذ ِهبْكُمْ وَيَأْتِ ِب َ
سورتي إبراهيم وفاطر .وهو يبني أن مشيئة اهلل مطلقة ،وأنه لو شاء
ألذهب البشر وأتى خبلق جديد ،مغاير هلم( ،وَمَا َذ ِلكَ َعلَى اهللِ
ِب َعزِيزٍ) ،فليس يعجزه شيء ،كما قال( :إِنَّا َلقَادِرُو َن (َ )40علَى أَنْ ُنبَدِّلَ
سبُوقِنيَ) .فـ(خلق جديد) أي :مغاير متاما
حنُ ِبمَ ْ
خَ ْيرًا مِ ْنهُمْ وَمَا َن ْ
للخلق الذي عليه اإلنسان.
املقام الثاني :جاء على لسان الكافرين املستبعدين للبعث ،حيث
ض َللْنَا فِي
توهم الكافرون أن اإلعادة خلق جديد ،فقالوا( :وَقَالُوا أَ ِئذَا َ
جدِيدٍ َبلْ هُمْ ِب ِلقَاءِ ر َِّبهِمْ كَا ِفرُونَ) .وقد ورد
خلْقٍ َ
الْأَ ْرضِ أَئِنَّا َلفِي َ
هذا اللفظ منهم يف مخسة مواضع ،وبني اهلل خطأهم ،وبني اللبس
خلْقِ الْأَوَّلِ َبلْ هُمْ فِي َلبْسٍ ِمنْ
الذي هم فيه ،قال تعاىل( :أَ َفعَيِينَا بِا ْل َ
جدِيدٍ) ،وسأبني الحقا داللة (اخللق األول).
خلْقٍ َ
َ
وهناك خالف طويل الذيل حول :هل اإلعادة خلق جديد ،أو
مجع لألجزاء املتفرقة .وقد نقلها األلوسي يف روح املعاني .والذي
يتبني لي أن اإلعادة ليست خلقا جديدا ،وال هي مجع لألجزاء
املتفرقة ،ولكنها إنشاء آخر للخلق األول ،والقرآن الكريم مل يسمّ
ذلك (خلقا جديدا) أبداً ،بل مساه إعادة حيث ذكر ،ومساه( :النشأة
األخرى) .بل إن استخدام القرآن الكريم للرتكيب (خلق جديد)
13
يفهم أنه خلق آخر ال صلة له باخللق األول ،قال تعاىل( :إِنْ يَشَأْ
جدِي ٍد ( )39وَمَا َذ ِلكَ َعلَى اهللِ ِب َعزِيزٍ) ،فهو
خلْقٍ َ
ُي ْذ ِهبْكُمْ وَيَأْتِ ِب َ
يتحدث عن قدرته سبحانه على اإلتيان خبلق جديد آخر ال صلة له
باملخاطبني الذين لو شاء اهلل ألهلككم.
بل إن القرآن الكريم يستخدم لفظ (خلق أمثاهلم) للداللة على
إعادة خلق أجسادهم ،أي مثل األجساد اليت كانت هلم يف الدنيا،
السمَاوَاتِ
خلَقَ َّ
الذِي َ
سنعيد خلقها ،كما قال تعاىل( :أَ َولَيْسَ َّ
خلُقَ مِ ْث َلهُمْ َبلَى َو ُهوَ ا ْلخَلَّاقُ ا ْل َعلِيمُ) ،وقال:
وَالْأَ ْرضَ ِبقَادِرٍ َعلَى أَنْ يَ ْ
خلُقَ
السمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ قَادِرٌ َعلَى أَنْ َي ْ
خلَقَ َّ
الذِي َ
(أَ َولَمْ َيرَوْا أَنَّ اهللَ َّ
جلًا لَا رَيْبَ فِيهِ).
مِ ْث َلهُمْ وَجَ َع َل َلهُمْ أَ َ
جدِيدٍ).
خلْقٍ َ
خلْقِ الْأَوَّلِ َبلْ هُمْ فِي َلبْسٍ ِمنْ َ
وقوله( :أَ َفعَيِينَا بِا ْل َ
يقول هلم :مل يعيين اخللق األول ،فكيف أنتم يف لبس من خلق
جديد!! فهو مل يسم اإلعادة :خلقا جديدا.
وقد توهم الكافرون – كما ذكرت -أن اإلعادة خلق جديد،
والقرآن الكريم ال يذكر ذلك ،بل يذكر اإلعادة ،أو النشأة األخرى،
ومل يرد (خلق جديد) إال على ألسنة املكذبني بالبعث .وآية سورة ق،
جرت على ما تردده ألسنتهم ،فهو يقول :حنن مل يعينا اخللق األول،
واملشركون ال زالوا يف لبس من خلق جديد ،فاهلل قادر على اخللق
اجلديد ،ولكنه مل خيربنا أن اإلعادة خلق جديد ،بل أخربنا أنها
إعادة ،أو نشأة أخرى .وهذا وجه تنكري (خلق جديد) ،فلم يقل :بل هم
يف لبس من اخللق اجلديد ،فلو عرف لكان ذلك بيانا بأن اإلعادة هي
11
خلق جديد ،ولكنه جاء نكرة ليبني صورة األمر عندهم ،فهم مل يفتأوا
جدِيدٍ) .وقد ذكر الرازي يف تفسريه تعليال
خلْقٍ َ
يقولون( :أَئِنَّا َلفِي َ
بعيدا لتنكري (خلق جديد) ،ال يتفق مع سياق الكالم ،وال مع
استخدام القرآن الكريم لأللفاظ ،ميكن الرجوع إليه يف تفسريه.
واآلية جاءت يف سياق بيان القدرة اإلهلية على إعادة خلق
اإلنسان ،والرد على املكذبني حيث قالوا( :أَ ِئذَا مِتْنَا وَكُنَّا ُترَابًا َذلِكَ
جعٌ َبعِيدٌ) ،واآلية يف أول سورة ق ،فبني احلق سبحانه وتعاىل قدرته
رَ ْ
يف تسوية السماء ودحو األرض ،وبني كيف حييي األرض بعد موتها
خلْقٍ
خلْقِ الْأَوَّلِ َبلْ هُمْ فِي َلبْسٍ ِمنْ َ
باملاء ،ثم قال( :أَ َفعَيِينَا بِا ْل َ
جدِيدٍ) ،أي :هل أعجزنا اخللق األول؟! وهم يقرون بذلك ،يقرون أن
َ
اهلل الذي خلق السماوات واألرض وخلقهم ،فنحن مل نعي باخللق
األول ،واحلال أن املشركني ما زالوا يف لبس من خلق جديد ،فهو
تفكري متأخر جدا ،تأخر تفكريهم حني يشكون يف خلق جديد ،واهلل
خ َلقْنَا الْإِنْسَانَ) ،فنحن خلقناه،
هو من خلق أوال .ثم قال( :وَ َل َقدْ َ
وحنن سنعيده.
س ْم ُعهُمْ
ش ِهدَ عَلَ ْيهِمْ َ
وقوله تعاىل( :حَتَّى ِإذَا مَا جَاءُوهَا َ
جلُودِهِمْ لِمَ
وَأَبْصَا ُرهُمْ وَجُلُودُهُمْ ِبمَا كَانُوا َي ْع َملُونَ ( )10وَقَالُوا ِل ُ
ش ِه ْدتُمْ َعلَيْنَا) ...دليل على ما ذكرته ،أن اإلعادة إنشاء آخر للخلق
َ
األول ،فهي أيديهم وأرجلهم وأمساعهم ...اليت كانت معهم يف الدنيا
فسجلت كل شيء كسبته تلك اجلوارح ،ستكون شاهدة يوم
القيامة عليهم بكسبها.
22
(اخللق األول):
خلْقٍ
خلْقِ الْأَوَّلِ َبلْ هُمْ فِي لَبْسٍ ِمنْ َ
جاء يف قوله (أَ َفعَيِينَا بِا ْل َ
جدِيدٍ)،
َ
وقد اختلف املفسرون يف املراد بـ(اخللق األول) ،فبعضهم قال:
اإلنسان ،قال البغوي( :أعجزنا حني خلقناهم أوال فنعيا باإلعادة)،
وقال ابن عطية( :إنشاء اإلنسان من نطفة على التدريج املعلوم).
وبعضهم قال :آدم( ،قال احلسن« :اخللق األول» آدم عليه السالم).
وبعضهم قال :السماوات واألرض ،قال الرازي( :حيتمل أن يكون
املراد باخللق األول هو خلق السموات ،ألنه هو اخللق األول ،وكأنه
تعاىل قال :أفلم ينظروا إىل السماء ،ثم قال :أفعيينا بهذا اخللق..
ويؤيد هذا الوجه هو أن اهلل تعاىل قال بعد هذه اآلية :ولقد خلقنا
اإلنسان ،فهو كاالستدالل خبلق اإلنسان) .واملفسرون املتأخرون
بعضهم مجع بني القولني ،كالبقاعي.
والداللة الدقيقة للخلق األول سأبينها يف الفقرة التالية ،عند
قوله( :خلقا من بعد خلق).
24
(ثم أنشأناه خلقا آخر):
ضغَةً
خ َلقْنَا ا ْلعَ َل َقةَ مُ ْ
ط َفةَ َع َل َقةً َف َ
خ َلقْنَا النُّ ْ
قال تعاىل( :ثُمَّ َ
خ ْلقًا آخَرَ
حمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ َ
سوْنَا ا ْلعِظَامَ َل ْ
ض َغةَ عِظَامًا فَكَ َ
خ َلقْنَا ا ْلمُ ْ
َف َ
سنُ ا ْلخَا ِلقِنيَ).
فَ َتبَا َركَ اهللُ أَحْ َ
جاء يف تفسري ابن عطية( :واختلف الناس يف «اخللق اآلخر» ،
فقال ابن عباس والشعيب وأبو العالية والضحاك وابن زيد :هو نفخ
الروح فيه ،وقال ابن عباس أيضا :خروجه إىل الدنيا ،وقال قتادة عن
فرقة :نبات شعره ،وقال جماهد :كمال شبابه وقال ابن عباس أيضا:
تصرفه يف أمور الدنيا .قال ابن عطية :وهذا التخصيص كله ال وجه
له وإمنا هو عام يف هذا وغريه من وجوه من النطق واإلدراك وحسن
خرَ هي نفخ الروح فيه،
خرَ ،وأول رتبة من كونه آ َ
احملاولة هو بها آ َ
خرَ حتصيله املعقوالت).
والطرف اآلخر من كونه آ َ
وسأبني داللتها الدقيقة يف الفقرة التالية( :خلقا من بعد خلق).
22
(خلقا من بعد خلق):
23
ح ِملُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا َتغِيضُ
)5وقال تعاىل( :اهللُ َي ْعلَمُ مَا َت ْ
الْأَرْحَامُ وَمَا َت ْزدَادُ)[ .سورة الرعد]
حدَةٍ َفمُسْ َتقَرٌّ
)6وقال تعاىلَ ( :و ُهوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ ِمنْ َنفْسٍ وَا ِ
وَمُسْ َت ْو َدعٌ)[ .سورة األنعام]
سأضع جدوال يبني حديث هذه اآليات عن املرحلتني:
املرحلة الثانية املرحلة األوىل م الوصف
اخللق اآلخر اخللق األول .3تسمية املرحلة
نطفة فعلقة فمضغة ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا .1تكوين املخلوق
آخَرَ فعظاما فلحما
ازدياد األرحام حيث غيض األرحام من .1الرحم
الغيض والزيادة
مستودع .4الرحم من حيث الثبات مستقر (قرار)
21
[فاخللق األول ليس كما فسر بأنه خلق اإلنسان مطلقا]،
فاخللق األول يقابله اخللق اآلخر .واخللق اآلخر هو املرحلة الثانية
يف خلق اجلنني ،واخللق األول هو املرحلة األوىل.
21
نهاية األسبوع الثامن .أما اخللق اآلخر فهو تركيب النفس على
اجلسد ،بعد أن يأتي امللك فينفخ الروح ،فريكب النفس على
اجلسد( .انظر حبثي :اإلحياء واإلماتة يف القرآن).
22
فيه ،فالقرار هو الشيء الذي تثبت فيه األشياء وتسكن ،ولذلك
وصف اهلل األرض أنها قرار ومستقر للناس ،فقال تعاىل( :جَ َعلَ الْأَرْضَ
َقرَارًا) ،وقالَ ( :ولَكُمْ فِي الْأَ ْرضِ مُسْ َتقَرٌّ) .وأما (و د ع) ،فيدل على
استحفاظ الشيء ،وصيانته ،ووقايته.
واملستقر هو مكان قرار يثبت فيه الشيء.
ويقيد القرآن الكريم وصف الرحم بالقرار ،بأنه يكون قرارا إىل
قدر أو أجل ،وقد ارتبط وصف الرحم بأنه قرار بالنطفة ،وقد ذكر يف
ط َفةً فِي َقرَارٍ
ج َعلْنَاهُ نُ ْ
موضعني ويف كليهما يرتبط بالنطفة( .ثُمَّ َ
ج َعلْنَاهُ فِي َقرَارٍ مَكِنيٍ ()13
خ ُلقْكُمْ ِمنْ مَاءٍ َمهِنيٍ (َ )10ف َ
مَكِنيٍ)َ( ،ألَمْ َن ْ
ِإلَى َقدَرٍ َم ْعلُومٍ) ،واملوضع الثاني يبني أنه قرار مكني إىل قدر معلوم،
وهذا ما بينته آيات احلج (وَ ُنقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)،
أي نقر النطفة وختليقها [وهو اخللق األول] يف األرحام إىل أجل
مسمى (كقوله :إىل قدر معلوم)؛ فهو أجل قدره اهلل الستقرار املاء يف
الرحم .فاخللق األول حيتاج إىل مستقر يقر فيه ،ويكون قرارا مكينا
له؛ حتى يتخلق ويستوي .فإذا ختلق واستوى فقد أصبح خلقا آخر.
فالرحم مستقر النطفة ،تثبت فيه ،فيهيئ هلا أسباب االستقرار،
حتى تصبح خلقا آخر .وهو قرار مكني هلا ،وقد وصف القرار بأنه
(مكني) ،قال أبو حيان( :واملكني :املتمكن ،وصف القرار به لتمكنه يف
نفسه حبيث ال يعرض له اختالل ،أو لتمكن من حيل فيه ،فوصف
بذلك على سبيل اجملاز ،كقوله طريق سائر لكونه يسار فيه) ،واآلية
تبني أن النطفة جعلها اهلل يف قرار مكني ،فالرحم هو قرار مكني ،أي
21
هو مستقَر ثابت حصني للنطفة ،تنشأ فيه ،وتتخلق.
واملستودع ،هو املكان الذي يُحفظ فيه اخللق اآلخر ،فاملستودع
هو مكان للحفظ والصيانة ،واإلنسان قد أصبح خلقا آخر ،ومن ثم
يناسبه أن يكون يف مستودع حيفظه ويصونه ،حتى يكتمل منوه،
وخيرج من هذا املستودع إىل األرض .ومسي مستودعا؛ ألن النطفة مل
تعد نطفة ،بل أصبحت خلقا آخر ،وقد نفخ فيها الروح ،فهي أصبحت
شيئا ،ومن ثم أودع اهلل هذا الشيء يف الرحم ،فالرحم مستودع له.
واحلقيقة أن املستودع هو البطن الذي فيه الرحم ،كما سأبني بعد
قليل.
**
23
طفَةً فِي َقرَارٍ مَكِنيٍ).
ج َعلْنَاهُ نُ ْ
سلَا َلةٍ ِمنْ طِنيٍ ( )31ثُمَّ َ
الْإِنْسَانَ ِمنْ ُ
فاهلل خلق األصل من ساللة من طني ،وأما النسل فجعله اهلل نطفة
ومنها خلق اإلنسان ،فـ(ثم) هنا لبيان اختالف الطريقة األوىل عن
الثانية ،واختالف أزمانهما .وقد أشار إىل ذلك يف آيات كثرية ،ومنها
ِنةٌ فِي بُطُونِ
قولهُ ( :هوَ أَ ْعلَمُ بِكُمْ ِإذْ أَنْشَ َأكُمْ ِمنَ الْأَرْضِ وَِإذْ أَنْتُمْ أَج َّ
ُمهَاتِكُمْ).
أ َّ
خ َلقْنَا
وأما مراحل خلق النسل ،فبينتها اآلية الثالثة( :ثُمَّ َ
سوْنَا
ضغَةَ عِظَامًا فَكَ َ
خ َلقْنَا ا ْلمُ ْ
ض َغةً َف َ
خ َلقْنَا ا ْل َع َل َقةَ مُ ْ
ط َفةَ َع َل َقةً َف َ
النُّ ْ
سنُ ا ْلخَا ِلقِنيَ).
خرَ فَ َتبَا َركَ اهللُ أَحْ َ
خ ْلقًا آ َ
حمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ َ
ا ْلعِظَامَ َل ْ
هذه اآلية تبني مرحليت خلق النسل يف بطن أمه ،األوىل (خلقنا
النطفة علقة ،)...والثانية (ثم أنشأناه خلقا آخر) .فـ(ثم) يف قوله (ثم
أنشأناه) هي فاصلة بني مرحلتني خيلق بهما النسل اإلنساني يف بطن
األم ،املرحلة األوىل يسميها القرآن الكريم :اخللق األول ،واملرحلة
الثانية :اخللق اآلخر.
طفَةَ) فهي لالنتقال من
خ َلقْنَا النُّ ْ
وأما (ثم) يف أول اآلية (ثُمَّ َ
بيان طريقة اخللق إىل بيان مراحل خلق النسل ،فهو يقول :خلقنا
اإلنسان بطريقتني :أصله من طني ،ونسله من ماء .ثم إن النسل
خلقناه مبرحلتني :ختليق النطفة ،ثم أنشأناه خلق آخر .فال نقول
أنها ثالث مراحل (مرحلة النطفة ،ومرحلة التخليق ،ومرحلة
النشأة) ،فهذا غري مقصود ،واآليات اطردت ببيان مرحلتني.
ثم حتدثت اآلية عن مصري اإلنسان :املوت ،ثم البعث.
21
**
12
مواضع وردت مبعنى القرابة وقد ختصص بغري العصبة أو الفروض.
ويف سبعة مواضع للداللة على الرحم ،العضو املعروف الذي يكون يف
خلَقَ
بطن الثدييات ،ثالث منها يف قولهَ ( :ولَا َيحِلُّ َلهُنَّ أَنْ يَكْ ُت ْمنَ مَا َ
اهللُ فِي أَرْحَا ِمهِنَّ) ،فذكر األرحام هنا؛ ألن خلق النطفة ينشأ يف
كرَ ْينِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَ ْينِ أَمَّا اشْ َت َملَتْ َعلَ ْيهِ
الرحم ،وقولهُ ( :قلْ آلذَّ َ
أَرْحَامُ الْأُنْثَيَ ْينِ) مرتني .وداللتها على مطلق احلمل الذي حتمله
األنثى من البشر أو غريهم.
وبقيت أربع مواضع ،وهي اليت تتحدث عن اخللق داخل الرحم،
جلٍ مُسَمًّى)( ،اهللُ
وهي قوله تعاىل( :وَ ُنقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ ِإلَى أَ َ
ح ِملُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا َتغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا َت ْزدَا ُد وَكُلُّ شَيْءٍ
َي ْعلَمُ مَا َت ْ
عِ ْندَهُ ِب ِم ْقدَارٍ)( ،إِنَّ اهللَ عِ ْندَهُ ِعلْمُ السَّا َعةِ وَيُنَزِّلُ ا ْلغَيْثَ وَ َيعْلَمُ مَا فِي
الْأَرْحَامِ وَمَا َتدْرِي َنفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ َغدًا وَمَا َتدْرِي َنفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ
الذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَ ْيفَ يَشَاءُ).
َتمُوتُ)ُ ( ،هوَ َّ
وقد بينت أن قرار الرحم وكونه مستقرا يرتبط مبرحلة "اخللق
األول" ،وهي مرحلة ختلق النطفة ،ثم بعد ذلك يصبح الرحم
مستودعا .والقرآن الكريم ال يذكر األرحام إال عند احلديث عن
اخللق األول ،فغيض األرحام يكون يف املرحلة األوىل ،والتصوير يف
األرحام كذلك ،يكون بعد خلقه مضغة ،أي يف مرحلة "اخللق
األول" ،وكذلك قوله (نقر يف األرحام ما نشاء) .وعليه حيمل قوله
(ويعلم ما يف األرحام) ،أي ما يكون فيها يف مرحلة اخللق األول .وال
يشمل طيلة احلمل.
14
وإضافة إىل دليل استخدام القرآن الكريم للفظ "األرحام" ،فإن
هناك دليال آخر ،وهو استخدام القرآن الكريم للفظ "البطون" ،فهو
يستخدمه بدال من "األرحام" حني يتحدث عن طيلة شهور احلمل،
خ ُلقُكُمْ فِي
أي :مرحليت اخللق األول واخللق اآلخر ،قال تعاىلَ ( :ي ْ
ظ ُلمَاتٍ َثلَاثٍ) ،فاخللق األول
خلْقٍ فِي ُ
خ ْلقًا ِمنْ َب ْعدِ َ
ُمهَاتِكُمْ َ
بُطُونِ أ َّ
والثاني يكون يف بطن األم ،وفيه الظلمات الثالث .وقولهُ ( :هوَ أَعْلَمُ
ُمهَاتِكُمْ)،
بِكُمْ ِإذْ أَنْشَأَكُمْ ِمنَ الْأَ ْرضِ وَِإذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أ َّ
فاجلنني ميتد عمره حتى خروجه من بطن أمه ،فلم يقل :يف أرحام
ُمهَاتِكُمْ لَا َت ْعلَمُونَ شَيْئًا)،
أمهاتكم .وقوله( :وَاهللُ أَخْرَجَكُمْ ِمنْ بُطُونِ أ َّ
فاإلخراج من البطون ،واإلخراج يكون بعد متام مدة احلمل.
وبذلك يتبني أن القرآن الكريم يستخدم لفظ (األرحام)
للداللة على مرحلة اخللق األول ،فهو قرار للنطفة حتى تتخلق،
ويستخدم لفظ (البطون) للداللة على اخللق األول واخللق اآلخر،
ففيه الظلمات ،وفيه يكون اخللق اآلخر بعد اخللق األول.
**
12
الولد على وهن الوالدة وضعفها) .ويف تفسري ابن أبي حامت( :عن
عطاء اخلراساني قال :ضعفا على ضعف) ،وعند ابن عطية( :وقيل
إشارة إىل مشقة احلمل ومشقة الوالدة بعده ،وقيل إشارة إىل ضعف
الولد وضعف األم معه ،وحيتمل أن أشار إىل تدرج حاهلا يف زيادة
الضعف ،فكأنه مل يعني ضعفني بل كأنه قال :محلته أمه والضعف
يتزيد بعد الضعف إىل أن ينقضي أمره) .ويف البحر احمليط( :وقيل:
وهنا على وهن :نطفة ثم علقة ،إىل آخر النشأة ،فعلى هذا يكون حاال
من الضمري املنصوب يف محلته ،وهو الولد).
والذي يبدو لي يف هذه اآلية أنها تنسلك ضمن اآليات اليت
ذكرتها سابقا ،واليت تبني مرحليت احلمل ،ومن ثم فهي تصف
مرحليت احلمل :اخللق األول واخللق اآلخر ،وهو ما أملح ابن عباس
إليه (خلقا من بعد خلق) ،أي وهن اخللق األول على وهن اخللق
اآلخر .والوهن هو أشد الضعف ،قال تعاىلَ ( :فمَا َوهَنُوا لِمَا َأصَا َبهُمْ
ض ُعفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا) ،ففارق بني الوهن والضعف،
سبِيلِ اهللِ وَمَا َ
فِي َ
وانتقل من األشد إىل األخف ،فنفى عنهم األشد (الوهن) ،ثم األخف
منه (الضعف) ،ثم األخف من ذلك (االستكانة) .وقال تعاىلَ ( :ذلِكُمْ
وَأَنَّ اهللَ مُو ِهنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) ،أي مضعفه أشد الضعف ،وقال( :وَإِنَّ
أَ ْو َهنَ ا ْلبُيُوتِ َلبَيْتُ ا ْلعَنْ َكبُوتِ)( ،قَالَ رَبِّ إِنِّي َو َهنَ ا ْلعَظْمُ مِنِّي) .فهو
يصف حالة الضعف الشديد يف مرحليت اخللق األول واخللق اآلخر،
ومل يقل :محلته أمه وهنا؛ ألن الوهن يف املرحلة األوىل (اخللق األول)
أقل من الوهن الثاني ،يف مرحلة (اخللق اآلخر) .فالوهن أوال حني
يكون الرحم مستقرا للنطفة ،والوهن ثانيا حني يكون البطن
13
مستودعا للجنني.
وقد ذكر أبو حيان أن قوله (وهنا على وهن) حيتمل أن يكون
حاال من الفاعل (األم) ،فهي الواهنة وهنا على وهن ،وحيتمل أن يكون
حاال من الضمري املنصوب يف (محلته) ،أي الولد ،فالواهن هو اجلنني
وهنا على وهن .وكالهما حمتمل ،وإن كان محله على األم أوىل؛
ألن املقام مقام توصية باألم ،فالسياق يبني الوهن الذي عانته أثناء
محلها باإلنسان.
كما أن القرآن الكريم يستخدم لفظ (الضعف) للحديث عن
خلِقَ الْإِنْسَانُ
ض ْعفٍ)( ،وَ ُ
خ َلقَكُمْ ِمنْ َ
الولد ،كقوله( :اهللُ الَّذِي َ
ضعِيفًا) .واهلل أعلم.
َ
11
املطلب السابع :الزيادة يف اخللق
السمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ جَا ِعلِ ا ْل َملَائِ َكةِ
طرِ َّ
ح ْمدُ ل َِّلهِ فَا ِ
قال تعاىل( :ا ْل َ
خلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اهللَ
حةٍ مَثْنَى وَ ُثلَاثَ وَرُبَاعَ َيزِيدُ فِي ا ْل َ
سلًا أُولِي أَجْ ِن َ
رُ ُ
َعلَى كُلِّ شَيْءٍ َقدِيرٌ) سورة فاطر ،وقال تعاىل على لسان نيب اهلل هود
خ َلفَاءَ ِمنْ َبعْدِ
ج َعلَكُمْ ُ
كرُوا ِإذْ َ
عليه السالم خياطب قومه (عاد)( :وَاذْ ُ
كرُوا آلَاءَ اهللِ َلعَلَّكُمْ ُتفْ ِلحُونَ)
طةً فَاذْ ُ
خلْقِ بَسْ َ
َقوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي ا ْل َ
سورة األعراف.
فما الزيادة يف اخللق؟
11
والقول األول هو األقرب للمعنى ،واألنسب للسياق ،ولكن ليس
على معنى زيادة املالئكة باألجنحة على من سواهم ،بل على الوجه
القائل بزيادة املالئكة بعضهم على بعض يف األجنحة( ،قال الفراء
والزجاج :هذا يف األجنحة اليت للمالئكة أي يزيد يف خلق األجنحة
ٍّ ستة أجنحة أو أكثر ،وروي ذلك عن
للمالئكة ما يشاء فيجعل لكل
احلسن ،وكأن اجلملة لدفع توهم عدم الزيادة على األربعة) .وقال
ابن عاشور( :وجيوز أن تكون مجلة "يزيد يف اخللق ما يشاء" صفة
ثانية للمالئكة ،أي :أولي أجنحة مثنى وثالث ورباع يزيد يف خلقهم
ما يشاء ،كأنه قيل :مثنى وثالث ورباع وأكثر .فما يف بعض
األحاديث من كثرة أجنحة جربيل يبني معنى "يزيد يف اخللق ما
يشاء" .وعليه فاملراد باخللق ما خلق عليه املالئكة من أن لبعضهم
أجنحة زائدة على من لبعض آخر).
فهذه اآلية هي الوحيدة يف القرآن الكريم اليت تتحدث عن
الصفة اخللقية للمالئكة ،فاهلل جعلهم رسال ،أولي أجنحة :مثنى،
وثالث ،ورباع ،ثم بني سبحانه أنه يزيد يف اخللق ما يشاء ،فسياق
اآلية يتحدث عن الزيادة يف أجنحة املالئكة :مثنى ،وثالث ،ورباع،
وأكثر من ذلك .وهذا هو املناسب للسياق ،وعليه فـ(اخللق) يراد به:
خلقهم ،فـ(ال) التعريفية قامت مقام الضمري العائد ،أي :يزيد يف
خلقهم ما يشاء.
وقد ذكر ابن هشام يف مغين اللبيب يف روابط اجلملة ،فقال:
(ال النائبة عن الضمري ،وهو قول الكوفيني وطائفة من البصريني
النفْسَ عَنِ ا ْل َهوَى ( )40فَإِنَّ
ومنه { وَأَمَّا َمنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَ َنهَى َّ
12
َنةَ هِيَ ا ْلمَأْوَى} ،األصل مأواه) .وهذا مذهب الكوفيني ،وجيعلون
ا ْلج َّ
منه قوهلم( :زوجي املس مس أرنب ،والريح ريح زرنب) ،أي :مسه مس
أرنب ،ورحيه ريح زرنب .وهلم أدلة أخرى .وقد ذكر ذلك ابن مالك
يف شرح التسهيل ،فقال( :وقد تغين عنه األلف والالم ،كقول الشاعر:
ب َنحْلٍ أخطأ الغارَ مُطْنِفُ
كأنّ حَفيف النَّبْل من فوق َعجْسِها ..عواز ُ
11
وزادكم يف اخللق بسطة:
وأما آية قوم عاد (وزادكم يف اخللق بسطة) ،فقد فسرها ابن
عباس بأنها زيادة يف القوة (الشدة) ،وفسرها السدي بأنها زيادة يف
الطول ،وقال( :كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع ،وقامة القصري
منهم ستون ذراعا) .وهذا على أن (اخللق) مصدر ،وقيل أن (اخللق)
مبعنى :املخلوقني ،واملعنى :زادكم فضال [ما تتفاضل به األمم] على
الناس أو على أهل زمانكم .ويف البحر احمليط ألبي حيان أقوال أخرى.
وبالرجوع إىل القرآن الكريم ،لتبني املقصود بقول هود عليه
السالم لقومه( :وزادكم يف اخللق بسطة) ،فسنجد أدلة واضحة تبني
لنا املقصود بالزيادة.
أوال( :البسطة) ،يف تاج العروس( :وأصل البسط :النشر ،وما عداه
يتفرع عليه) ،والنشر ضد القبض ،ودالالت (ب س ط) كما قال
تتفرع على :النشر ،حنو :انبسط النهار :أي امتد وطال ،فكأنه انتشر
بأكثر مما كان عليه ،وكأن ما كان عليه انقباض فيه ،ومكان
بسيط :واسع ،ففي السعة داللة النشر ،ويف الضيق داللة القبض،
فالواسع منشور ،والضيق مقبوض ،وقال ابن السكيت :تقول العرب:
هذا فراش َيبْسُطُين ،إذا كان سابغا واسعا .ومن ذلك :البسطة،
فداللته ترجع إىل االنتشار والسعة .كما أن دالالت البسطة كلها
تعرف بقياسها إىل حد االعتدال من جنسها ،فالنهار مثال له حد
اعتدال ،فإذا طال عن هذا احلد ،فقد انبسط ،وكذلك البسطة يف
املكان ،وكذلك يف اجلسم.
13
ثانيا :وردت آيتان يف القرآن الكريم تتحدث عن زيادة البسطة،
طفَاهُ َعلَيْكُمْ
هذه اآلية يف عاد ،واألخرى يف طالوت( :قَالَ إِنَّ اهللَ اصْ َ
طةً فِي ا ْل ِعلْمِ وَالْجِسْمِ) .ومن ثم فكالهما حدد زيادة البسطة
وَزَادَهُ بَسْ َ
يف أي شيء تكون ،فزيادتها يف اجلسم ،غري زيادتها يف اخللق ،غري
زيادتها يف العلم.
ثالثا :القرآن الكريم يستخدم الفعل (يبسط) مسندا إىل اهلل،
واقعا على الرزقَ ( :يبْسُطُ الرِّزْقَ) ،واستخدمه مرة مع السحاب( :فَتُثِريُ
السمَا ِء) .وحني حتدث عن البسطة يف اخللق
طهُ فِي َّ
سحَابًا فَ َيبْسُ ُ
َ
والعلم واجلسم ،مل يقل :يبسط اجلسم ،أو اخللق ،بل جاء مع فعل
الزيادة( :زاد بسطة يف) .وهذا يعين أن نركز حبثنا عن زيادة البسطة،
وليس البسطة .ومن ثم فهناك درجتان يف الزيادة ،األوىل :البسطة يف
اجلسم أو اخللق ،كأن تقول :هو ذو بسطة يف اجلسم ،وهذا يعين أن
به من السعة والزيادة عن حد االعتدال يف اآلخرين ما يفوقهم.
والدرجة الثانية :زيادة البسطة فيه ،فالبسطة هي الزيادة عن حد
االعتدال ،فزيادة البسطة تعين أنها زيادة مفرطة ،وليست اعتيادية.
خامسا( :زادكم بسطة يف اخللق) ،بينت اختالف املفسرين يف
املقصود بزيادة البسطة يف اخللق ،وبالنظر إىل ما قاله هود عليه
السالم لقومه ،فنجد أنه كان يتحدث معهم عن زيادة القوة ،وليس
عن زيادة شيء آخر ،فقال هلم( :وَيَا َقوْمِ اسْ َت ْغ ِفرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا ِإلَيْهِ
السمَاءَ َعلَيْكُمْ ِمدْرَارًا وَ َي ِزدْكُمْ قُوَّةً ِإلَى قُوَّتِكُمْ) ،فهو يتحدث
سلِ َّ
ُيرْ ِ
عن قوتهم اليت يتطاولون بها ،ويبني هلم أن اهلل سيزيدهم قوة إىل ما
آتاهم من قوة ،وقال هلم( :وَِإذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) ،ومل يتحدث
11
نيب آخر مع قومه عن بطشهم ،والبطش أشد األخذ ،ولذلك قال اهلل
ِالذِي ُهوَ َعدُوٌّ َل ُهمَا) ،وحتدث عن
عن موسىَ ( :فلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ َيبْطِشَ ب َّ
شدِيدٌ).
ك لَ َ
نفسه( :إِنَّ بَطْشَ ر َِّب َ
كما أن اهتمام قوم عاد كان بالقوة أيضا ،ولذلك قالوا( :فَأَمَّا
عَادٌ فَاسْتَ ْك َبرُوا فِي الْأَ ْرضِ ِبغَ ْيرِ ا ْلحَقِّ وَقَالُوا َمنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَ َولَمْ َيرَوْا
خ َل َقهُمْ ُهوَ أَشَدُّ مِ ْنهُمْ قُوَّةً) ،فهم تطاولوا بقوتهم ،وليس
الذِي َ
أَنَّ اهللَ َّ
بشيء آخر ،ومل يقل اهلل أن من كان قبلهم هو أشد منهم قوة ،كما
ظرُوا
قال عن األقوام الذين تبعوهم( :أَوَلَمْ يَسِريُوا فِي الْأَ ْرضِ فَيَنْ ُ
الذِينَ كَانُوا ِمنْ َق ْب ِلهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِ ْنهُمْ قُوَّةً
كَ ْيفَ كَانَ عَا ِقبَةُ َّ
وَآثَارًا فِي الْأَ ْرضِ).
كما أن العقوبة اليت حلت بهم كانت الريح ،ووصفها اهلل
َمرُ
ج َعلَ ْتهُ كَالرَّمِيمِ) ،وقالُ ( :تد ِّ
ت َعلَ ْيهِ إِلَّا َ
بقوله( :مَا َتذَرُ ِمنْ شَيْءٍ َأتَ ْ
كُلَّ شَيْءٍ بِأَ ْمرِ ر َِّبهَا) ،فهي قوة تدمريية ،أتت فأنهت قوتهم ،وهي
الزيادة يف اخللق اليت أوتوها.
وبهذا يتبني أن الزيادة يف اخللق اليت آتاها اهلل قوم عاد ،هي
القوة ،وهذا ما فسره ابن عباس .فقد آتاهم اهلل من القوة ما مل يؤت
أحدا من خلقه ،حتى طغوا بها ،وجتربوا ،واستخدموها يف البنيان،
وكانوا يظنون أنهم سيخلدون فيهاَ( ،أ َتبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً َت ْعبَثُونَ
خلُدُونَ ( )319وَِإذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ
خذُونَ مَصَا ِنعَ َلع ََّلكُمْ تَ ْ
(َ )318وتَتَّ ِ
خلَقْ مِ ْث ُلهَا
جَبَّارِينَ) .ووصف مدينتهم اليت بنوها ،فقال( :الَّتِي لَمْ ُي ْ
فِي ا ْل ِبلَادِ) ،وقد حتدثت سابقا عن استخدام لفظ (خيلق) يف هذا
32
املوضع.
وأما من فسرها بزيادة الطول ،وبعضهم قال :أقصرهم كان
طوله ستني ذراعا وأطوهلم مائة ذراع -فهذا ما ال دليل عليه ،وقد
قال ابن العربي معقبا على هذا( :وهو باطل؛ ألن يف الصحيح" :إن اهلل
خلق آدم طوله ستون ذراعا يف اهلواء ،فلم يزل اخللق ينقص إىل
اآلن").
واحلديث يف البخاري ومسلم( :خلق اهلل آدم على صورته ،طوله
ستون ذراعا ،فلما خلقه ،قال :اذهب ،فسلم على أولئك النفر من
املالئكة جلوس ،فاستمع ما حييونك ،فإنها حتيتك وحتية ذريتك،
فقال :السالم عليكم ،فقالوا :السالم عليك ورمحة اهلل ،فزادوه
ورمحة اهلل ،فكل من يدخل -يعنى اجلنة -على صورة آدم ،فلم
يزل اخللق ينقص بعد حتى اآلن) .قال ابن حجر( :قوله "فلم يزل
اخللق ينقص حتى اآلن" ،أي :أن كل قرن يكون نشأته يف الطول
أقصر من القرن الذي قبله فانتهى تناقص الطول إىل هذه األمة
واستقر األمر على ذلك).
34
املطلب الثامن :التنكيس يف اخللق
خلْقِ).
سهُ فِي ا ْل َ
َمرْهُ نُنَكِّ ْ
قال تعاىل( :وَ َمنْ ُنع ِّ
طمَسْنَا َعلَى أَعْيُ ِنهِمْ فَاسْ َت َبقُوا
وسياق اآلياتَ ( :و َلوْ نَشَاءُ لَ َ
سخْنَاهُمْ َعلَى مَكَانَ ِتهِمْ َفمَا
صرُونَ (َ )66و َلوْ نَشَاءُ َلمَ َ
الصرَاطَ فَأَنَّى ُيبْ ِ
ِّ
خلْقِ أَ َفلَا
َمرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي ا ْل َ
اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا َولَا َيرْجِعُونَ ( )67وَ َمنْ ُنع ِّ
َي ْع ِقلُونَ).
ما املقصود بالتنكيس يف اخللق؟
(مع املفسرين):
ذهب مجهورهم إىل أن اآلية تتحدث عن سنة اهلل يف اإلنسان،
فمن يطل عمره يرده إىل أرذل العمر ،بتنكيسه يف اخللق ،أي بقلبه،
وهذا دليل كما قال بعضهم على قدرة اهلل على البعث ،فكأن اآلية
تقول :حنن قادرون على قلب األحوال بطمس األعني ،أو املسخ ،أال
يرون كيف نقلب األحوال بتنكيس اإلنسان يف اخللق.
وأوضح هذا الزخمشري بقوله( :نقلبه فيه فنخلقه على عكس
ما خلقناه من قبل ،وذلك أنا خلقناه على ضعف يف جسده ،وخلو من
عقل وعلم ،ثم جعلناه يتزايد وينتقل من حال إىل حال ويرتقى من
درجة إىل درجة ،إىل أن يبلغ أشده ويستكمل قوته ،ويعقل ويعلم ما له
وما عليه ،فإذا انتهى نكسناه يف اخللق فجعلناه يتناقص ،حتى يرجع
يف حال شبيهة حبال الصبى يف ضعف جسده وقلة عقله وخلوه من
العلم ،كما ينكس السهم فيجعل أعاله أسفله) .وقال ابن كثري:
32
(خيرب تعاىل عن ابن آدم أنه كلما طال عمره رد إىل الضعف بعد
القوة والعجز بعد النشاط) .وقال أبو حيان( :وملا ذكر تعاىل الطمس
واملسخ على تقدير املشبه ،ذكر تعاىل دليال على باهر قدرته يف
تنكيس املعمر ،وأن ذلك ال يفعله إال هو تعاىل).
وذهب ابن عاشور إىل أن تفسري اآلية ليس كذلك ،فالتعمري ال
يراد به اإلطالة يف العمر وإدراك اهلرم ،بل يراد به اإلبقاء ،كما يف
َكرَ) ،أي :أمل نبقكم مدة
َكرُ فِيهِ مَنْ َتذ َّ
َمرْكُمْ مَا يَ َتذ َّ
قوله( :أَ َولَمْ ُنع ِّ
من احلياة تكفي املتأمل .والتنكيس يف اخللق على اجملاز ال احلقيقة،
واخللق مبعنى املخلوق ،واملعنى :ومن نعمره منكم يا قريش فسنذله
بعد عز ،فيكون ذليال يف اخللق (أي :بني الناس) .قال( :فهو وعيد هلم
ووعد للمؤمنني بالنصر على املشركني ووقوعهم حتت نفوذ
املسلمني ،فإن أولئك الذين كانوا رؤوسا للمشركني يف اجلاهلية
صاروا يف أسر املسلمني يوم بدر ويف حكمهم يوم الفتح فكانوا يدعون
الطلقاء).
**
التحقيق يف اآلية:
33
والعمر هو مدة بقاء اإلنسان (أو األمة) يف الدنيا( ،)4ويستخدم
القرآن الكريم للتعبري عنه( :أجل مسمى) ،بغض النظر عن مدة املكث
ح ُدهُمْ َلوْ
شرَكُوا َيوَدُّ أَ َ
الذِينَ أَ ْ
أطالت أم قصرت ،قال تعاىل( :وَ ِمنَ َّ
َمرَ) ،أي يظل يف
حهِ ِمنَ ا ْل َعذَابِ أَنْ يُع َّ
حزِ ِ
َمرُ َأ ْلفَ سَ َنةٍ وَمَا ُهوَ ِب ُمزَ ْ
ُيع َّ
الدنيا هذا العمر ،فذكر املدة يبني أن لفظ (التعمري) ال يدل على
طول أو قصر ،وإمنا يدل على استيفاء العمر املقدر.
أما التعبري عن إطالة العمر فقد جاء مقرتنا باإلطالة ،كقوله:
َتعْنَا َه ُؤلَاءِ وَآبَا َءهُمْ حَتَّى طَالَ َعلَ ْيهِمُ ا ْل ُع ُمرُ) ،أو يقرتن بالرد إىل
( َبلْ م َّ
أرذله ،كقوله( :وَمِنْكُمْ مَنْ ُيرَدُّ ِإلَى أَ ْرذَلِ ا ْل ُع ُمرِ لِكَيْ لَا َي ْعلَمَ َب ْعدَ ِعلْمٍ
َمرُ مِنْ
شَيْئًا) .وكذلك التعبري عن نقص العمر ،كقوله( :وَمَا ُيع َّ
َمرٍ َولَا يُ ْن َقصُ ِمنْ ُع ُمرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ).
ُمع َّ
وبهذا فلفظ التعمري ال يعين إطالة العمر ،بل يعين استيفاء
َكرُ فِيهِ مَنْ
َمرْكُمْ مَا يَ َتذ َّ
العمر ،كما تدل عليه آية فاطر (أَ َولَمْ ُنع ِّ
َمرٍ َولَا يُ ْن َقصُ ِمنْ ُع ُمرِهِ) ،أي وما
َمرُ ِمنْ ُمع َّ
َكرَ) ،وقوله( :وَمَا ُيع َّ
َتذ َّ
سهُ فِي
َمرْهُ نُنَكِّ ْ
يستويف عمره أو ينقص منه .وعليه فقوله (وَ َمنْ نُع ِّ
خلْقِ) ،ال يدل على اهلرم ،بل يدل على استيفاء العمر.
ا ْل َ
( )3قال الراغب يف املفردات( :والْ َعمْرُ والْ ُعمُرُ :اسم ملدّة عمارة البدن باحلياة ...والتَّ ْع ِمريُ:
إعطاء العمر بالفعل ،أو بالقول على سبيل الدّعاء).
31
جلٌ
ُمةٍ أَ َ
فاألجل ،هو وقت حيدد النتهاء الشيء ،كقولهَ ( :ولِكُلِّ أ َّ
خرُونَ سَا َعةً َولَا يَسْ َت ْقدِمُونَ) ،وقوله( :مَا
ج ُلهُمْ لَا يَسْتَأْ ِ
فَِإذَا جَاءَ أَ َ
َخرَ اهللُ َنفْسًا ِإذَا
خرُونَ) ،وقولهَ ( :و َلنْ يُؤ ِّ
ج َلهَا وَمَا يَسْتَأْ ِ
ُمةٍ أَ َ
سبِقُ ِمنْ أ َّ
تَ ْ
ح ْم َلهُنَّ) .فاهلل
ضعْنَ َ
ج ُلهُنَّ أَنْ يَ َ
حمَالِ أَ َ
ج ُلهَا) ،وقوله( :وَأُولَاتُ الْأَ ْ
جَاءَ أَ َ
حدد لكل نفس ولكل أمة وقتا تنتهي فيه حياتهم ،ويأتيهم املوت ،فهذا
هو األجل.
واألجل املسمى ،مدة مساها اهلل وحددها سلفا لبقاء الشيء يف
الدنيا .ويستخدمه القرآن الكريم ويراد به :نهاية املخلوق ،فنهاية
حياة اإلنسان باملوت ،كقوله( :اهللُ يَتَوَفَّى الْأَ ْنفُسَ حِنيَ َم ْو ِتهَا وَالَّتِي
خرَى
سلُ الْأُ ْ
سكُ الَّتِي قَضَى َعلَ ْيهَا ا ْل َموْتَ وَ ُيرْ ِ
لَمْ تَمُتْ فِي مَنَا ِمهَا فَ ُيمْ ِ
جرَحْتُمْ
الذِي يَ َتوَفَّاكُمْ بِاللَّ ْيلِ وَ َي ْعلَ ُم مَا َ
جلٍ مُسَمًّى)َ ( ،و ُهوَ َّ
ِإلَى أَ َ
جلٌ مُسَمًّى).
ِالنهَارِ ثُمَّ َي ْبعَثُكُمْ فِي ِه لِيُقْضَى أَ َ
ب َّ
ونهاية املخلوقات كالشمس أو القمر حني تقوم القيامة،
خلَقَ
جلٍ مُسَمًّى)( ،مَا َ
جرِي لِأَ َ
الشمْسَ وَا ْل َق َمرَ كُلٌّ َي ْ
َخرَ َّ
كقوله( :وَس َّ
جلٍ مُسَمًّى).
السمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ وَمَا بَ ْي َن ُهمَا إِلَّا بِا ْلحَقِّ وَأَ َ
اهللُ َّ
واهلل سبحانه وتعاىل ال يأخذ نفسا إال إذا جاء أجلها املسمى،
ويستخدم القرآن الكريم (التأخري إىل أجل مسمى) ،للداللة على
َتعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا ِإلَى أَجَلٍ
َخرَكُمْ ِإلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)ُ ( ،يم ِّ
هذا( .وَ ُيؤ ِّ
جلٌ مُسَمًّى َلجَا َءهُمُ
جلُونَكَ بِالْ َعذَابِ َو َل ْولَا أَ َ
مُسَمًّى)( ،وَيَسْتَ ْع ِ
ا ْل َعذَابُ).
واألجل القريب ،هو األجل الذي يطلب اإلنسان أن يتأخر إليه
31
بعد جميء أجله املسمى( ،وَأَ ْن ِفقُوا ِمنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ ِمنْ َق ْبلِ أَنْ يَ ْأتِيَ
كنْ
جلٍ َقرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَ ُ
َخ ْرتَنِي ِإلَى أَ َ
حدَكُمُ ا ْل َموْتُ فَ َيقُولَ رَبِّ َل ْولَا أ َّ
أَ َ
َخ ْرتَنَا ِإلَى
ِمنَ الصَّا ِلحِنيَ)( ،وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَ َتبْتَ َعلَيْنَا ا ْلقِتَالَ َل ْولَا أ َّ
َخرْنَا ِإلَى أَجَلٍ َقرِيبٍ).
ظ َلمُوا رَبَّنَا أ ِّ
الذِينَ َ
جلٍ َقرِيبٍ)( ،فَ َيقُولُ َّ
أَ َ
واألجل املعدود ،هو وقت نهاية الدنيا ،قال تعاىلَ ( :ذ ِلكَ َيوْمٌ
جلٍ
َخرُهُ إِلَّا لِأَ َ
شهُودٌ ( )301وَمَا ُنؤ ِّ
جمُوعٌ لَهُ النَّاسُ َوذَلِكَ َيوْمٌ مَ ْ
َم ْ
َم ْعدُودٍ).
ومن حدد هذه اآلجال هو اهلل ،ولذلك أضيف إليه باعتباره
َخرُ)،
جلَ اهللِ ِإذَا جَاءَ لَا ُيؤ َّ
جلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَ َ
َخرْكُمْ ِإلَى أَ َ
الفاعل( :وَ ُيؤ ِّ
جلَ اهللِ لَآتٍ) .وأضيف إىل املخلوق
( َمنْ كَانَ َيرْجُو ِلقَاءَ اهللِ فَإِنَّ أَ َ
ج ُلهُمْ لَا
باعتباره املفعول ،أي األجل الواقع عليه( ،فَِإذَا جَاءَ أَ َ
َخرَ اهللُ َنفْسًا ِإذَا جَاءَ
خرُونَ سَا َعةً َولَا يَسْ َت ْقدِمُونَ)( ،وَ َلنْ ُيؤ ِّ
يَسْتَأْ ِ
ج ُلهَا).
أَ َ
32
فاآليتان تتحدثان عن ثالث حاالت لبلوغ األجل ،احلالة األوىل:
أن يعمر اإلنسان املدة املتعارف عليها بني الناس .واحلالة الثانية :أن
يقل عن ذلك ،واحلالة الثالثة أن يزيد عن ذلك.
أما احلالة األوىل :فهي التعمري ،أي :إمتام العمر ،وهو املراد يف
فاطر بقوله( :وما يعمر من معمر) ،وهو املراد بقوله( :من يتوفى) ،أي
يتوفى بعد بلوغ املدة اليت يبلغها الناس عادة يف زمنه ،ولكل جيل مدة
ختتلف عن اجليل اآلخر ،وهذه األمة قال الرسول صلى اهلل عليه
وسلم عن أعمارها( :أعمار أميت ما بني الستني والسبعني ،وأقلهم من
جيوز ذلك) فمن مات أو قتل يف هذا السن فقد عمر عمره.
احلالة الثانية :نقص العمر ،وهو املراد بقوله( :من يتوفى من
قبل) ،أي :من قبل بلوغ ذلك العمر ،وهو املراد بقوله يف سورة فاطر
(وال ينقص من عمره) .فأجله املسمى أن يكون عمره ناقصا عن عمر
أمثاله.
واحلالة الثالثة :الزيادة يف العمر ،وهو من يتجاوز عمر أمثاله
من الناس ،كما يف احلديث (وأقلهم من جيوز ذلك) .وقد تكون زيادة
كثرية وهو ما يسميه القرآن الرد إىل أرذل العمر( :من يرد إىل أرذل
ض ْعفًا وَشَ ْي َبةً).
ج َعلَ ِمنْ َب ْعدِ قُوَّ ٍة َ
العمر) ،وهو املراد بقوله( :ثُمَّ َ
وكل هؤالء بلغوا أجلهم املسمى ،سواء أ ُعمّر عمرا تاما ،أم نُقص
من عمره ،أم زِيد يف عمره.
وكل إنسان جعل اهلل له أجال مسمى ،وحدد أجله ،وحدد هل
يكون له عمر تام أم ينقص من عمره أم يزيد يف عمره.
31
**
31
مؤخراً ،والعالي سافالً ،ومنه قيل :نكس رأسه ،فالرأس عالٍ ،فحني
ينكس رأسه فإنه يطأطئه ويرده سافالً .وانتكس املريض :رجع إىل
املرض وقد بدأ بالتعايف منه.
فداللة التنكيس إذن :هي ردّ الشيء إىل حالته األوىل ،بعد أن
جتاوزها إىل حالة أفضل .وهو يرتبط بالرد املذموم.
وقوله (ثم نكسوا على رؤوسهم) ،يبني أن القوم بدأوا يهتدون
حني وعظهم إبراهيم ،ويفكرون مبنطقه القوي وحجته الباهرة ،فكان
حرياً بهم أن يعلنوا احلق ويعرتفوا بأن آهلتهم ال تنفع وال تضر .فلما
وصلوا إىل هذا املستوى املتقدم من التفكري ،نكسوا ،أي رجعوا على
أعقابهم إىل الضالل والغي ،فقالوا :لقد علمت ما هؤالء ينطقون.
وتنكيس اهلل البن آدم ،أن يرده إىل حالته األوىل ،بعد أن جتاوزها
خ َلقَكُمْ
الذِي َ
إىل حالة أفضل .وهذه احلاالت يبينها قوله تعاىل( :اهللُ َّ
ض ْعفًا
ج َعلَ ِمنْ َب ْعدِ قُوَّةٍ َ
ض ْعفٍ قُوَّةً ثُمَّ َ
ج َعلَ ِمنْ بَ ْع ِد َ
ض ْعفٍ ثُمَّ َ
ِمنْ َ
وَشَ ْي َبةً) ،فاحلالة األوىل :الضعف ،واحلالة الثانية القوة ،واحلالة
الثانية هي الرد إىل احلالة األوىل ،فهي الضعف والشيبة .وهذه
احلالة هي الوهن من بعد القوة.
12
ظرُونَ إِلَّا
اآليات السابقة كانت تتحدث عن اليوم اآلخر( :مَا يَنْ ُ
ِصمُونَ) ،ثم حتدث النفخ يف الصور،
خ ُذهُمْ وَهُمْ َيخ ِّ
حدَةً تَأْ ُ
حةً وَا ِ
صَ ْي َ
ثم اخلروج من األجداث ،ثم احلساب واجلزاء ،ثم نعيم أصحاب
اجلنة ،ثم عذاب أصحاب النار وتبكيتهم ،والتبيني هلم أن طاعتهم
للشيطان أوردتهم املهالك .ثم قال( :الْ َيوْمَ نَخْتِمُ َعلَى أَ ْفوَا ِههِمْ
سبُونَ).
ج ُلهُمْ ِبمَا كَانُوا يَكْ ِ
َوتُك َِّلمُنَا أَ ْيدِيهِمْ َوتَشْ َهدُ أَرْ ُ
واملعنى :اليوم (أي اليوم اآلخر) سنسلب منهم ما آتيناهم من
إمكانات يف الدنيا ،ونبدل اإلمكانات ،فاألفواه كانت تتكلم يف الدنيا،
أما اليوم فالذي يتكلم األيدي واألرجل .فهو يصور قدرة اهلل اليت
تتحقق ذلك اليوم.
وهذه القدرة املتحققة يف اليوم اآلخر ،هي قدرة ممكنة ،لو شاء
اهلل سبحانه وتعاىل لفعلها يف الدنيا ،وقد جاءت ثالث آيات تبني
ذلك:
تتحدث هذه اآليات عن قدرة اهلل املمكنة ،ففي اآلية األوىل
يتحدث عن قدرته لو شاء يف طمس األعني ،وإذهاب قدرتها على
اإلبصار ،ويف اآلية الثانية يتحدث عن قدرته لو شاء على إذهاب ما
آتاهم من استطاعة على احلركة ،فما يستطيعون احلركة.
ثم جاءت اآلية الثالثة ،فتحدثت عن أن من يعمره اهلل ينكسه يف
اخللق .فاآلية جاءت يف سياق احلديث عن القدرة املمكنة (وهي
القدرة اليت تبني أن لو شاء اهلل لفعل ،ولكنه مل يفعل) .ومل تأت يف
سياق القدرة املتحققة (أي :اليت تبني األقدار املتحققة يف اخللق).
14
**
12
منه ،وإرجاعه بال قوة ،فما يستطيع حركة وال فعال وال إبصارا وال
مسعا ،ويكون مثله كمثل البشر قبل نفخ الروح فيه .فما الذي ينفعه
اخللود يف الدنيا؟!
شرٍ ِمنْ
ولكن قضى اهلل أال خلدَ إال يف اآلخرة( :وَمَا جَ َعلْنَا ِلبَ َ
خ ْلدَ أَفَإِنْ مِتَّ َفهُمُ ا ْلخَا ِلدُو َن ( )14كُلُّ َنفْسٍ ذَا ِئ َقةُ ا ْل َموْتِ).
َق ْب ِلكَ ا ْل ُ
السمَاوَاتِ
خلَقَ اهللُ َّ
كما أن الدنيا نفسها هلا أجل مسمى( :مَا َ
جلٍ مُسَمًّى) ،فهي غري خالدة ،وكل
وَالْأَ ْرضَ وَمَا بَيْ َن ُهمَا إِلَّا بِا ْلحَقِّ وَأَ َ
من يف السماوات واألرض غري خالدين ،وسيأتي يومٌ يصعقون فيه
السمَاوَاتِ وَ َمنْ فِي الْأَ ْرضِ إِلَّا
صعِقَ َمنْ فِي َّ
مجيعاً( :وَ ُنفِخَ فِي الصُّورِ فَ َ
َمنْ شَاءَ اهللُ).
واهلل أعلى وأعلم.
**
13
مسخا آخر ،يذوق العذاب بوصفه إنساناً ،ولكنه يكون يف حالة ال حياة
فيها وال موت ،وال يسمع وال يبصر وال يتكلم ،وال ميشي .وهذه حال
أهل جهنم والعياذ باهلل ،كما ختربنا آيات الكتاب الكريم.
سنِ َت ْقوِيمٍ
خ َلقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْ َ
وهذا مفهوم قوله تعاىلَ ( :ل َقدْ َ
الذِينَ آمَنُوا وَ َع ِملُوا الصَّا ِلحَاتِ
س َفلَ سَا ِفلِنيَ ( )5إِلَّا َّ
( )4ثُمَّ َر َددْنَاهُ أَ ْ
جرٌ غَ ْيرُ َممْنُونٍ)،
َف َلهُمْ أَ ْ
أي :لقد خلقنا اإلنسان يف أحسن تقويم ،فوهبنا له السمع
والبصر والقلب وأمكناه من التعقل والتفكر ،وأودعنا فيه كثريا من
القوى واإلمكانات اليت جعلته يف أحسن تقويم ،وسيكون يف هذا
التقويم احلسن مدة حياته يف الدنيا.
وترتهن نفسه وجناتها وانتقاهلا إىل مرحلة أفضل من التقويم
بكسبه (اإلميان وعمل الصاحلات) ،فإن أحسن فإنه ينتقل إىل حال
أفضل وهي احلال اليت ال نعلم عنها كثريا ،فهي النعيم املقيم،
والقوى املطلقة لإلنسان ،ونيل ما تشتهيه األنفس وتلذ األعني.
ولكن إن مل يفك رهان نفسه ،فإنه ينتقل إىل حالة السوء ،فريده
اهلل أسفل سافلني ،وهي الظلمة التامة اليت ال نور فيها ،وحتى أعضاء
اإلنسان فيها ال تستطيع أداء وظائفها من حركة وبصر ومسع،
فيكون اإلنسان يف أسفل سافلني مسخاً؛ معه أذن وال يسمع بها ،ومعه
عني وال يبصر بها ،ومعه رجل وال ميشي بها ،ومعه يد وال يبطش بها.
وهذا أشد العذاب أن تسلب االنتفاع بالقوى املوجودة لديك.
الذِينَ
ويفسر هذا قوله تعاىل( :إِنَّ الْإِنْسَانَ َلفِي خُسْرٍ ( )1إِلَّا َّ
11
ِالص ْبرِ) ،وقوله:
صوْا ب َّ
صوْا بِا ْلحَقِّ َو َتوَا َ
آمَنُوا وَ َع ِملُوا الصَّا ِلحَاتِ َو َتوَا َ
صحَابَ الْ َيمِنيِ) .فاإلنسان يف
سبَتْ رَهِي َنةٌ ( )18إِلَّا َأ ْ
(كُلُّ َنفْسٍ ِبمَا كَ َ
خسر( ،يف أسفل سافلني ،ينكس اهلل خلقه) إذ نفسه تبقى رهينة
بكسبها ،مل يفك رهانه ،ومل ينقذها ،إال املؤمنون أصحاب اليمني،
فإنهم لن يكونوا يف خسر ،ولن يردهم اهلل أسفل سافلني ،ولن ينكس
اهلل خلقهم.
وآيات يس الثالث ،تبني أن هذه قدرة اهلل سبحانه وتعاىل اليت
ستتحقق يف اآلخرة ،ملن كفر وتوىلَ ( ،و َلوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا َعلَى أَعْيُ ِنهِمْ
سخْنَاهُمْ َعلَى
صرُونَ (َ )66و َلوْ نَشَاءُ َلمَ َ
الصرَاطَ فَأَنَّى ُي ْب ِ
فَاسْ َت َبقُوا ِّ
َمرْهُ نُنَكِّسْهُ
جعُونَ ( )67وَ َمنْ ُنع ِّ
مَكَانَ ِتهِمْ َفمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا َولَا َيرْ ِ
خلْقِ أَ َفلَا َي ْع ِقلُونَ) .فهو يقول :ولو نشاء لفعلنا ذلك يف الدنيا،
فِي ا ْل َ
ولكننا ال نفعله إال يف اآلخرة.
ش ُرهُمْ َيوْمَ
فيطمس اهلل على أعينهم ،كما قال تعاىل( :وَ َنحْ ُ
شرُهُ َيوْمَ
ا ْلقِيَا َمةِ َعلَى وُجُو ِههِمْ ُع ْميًا وَبُ ْكمًا َوصُمًّا) ،وقال( :وَ َنحْ ُ
ا ْلقِيَا َمةِ أَعْمَى).
والكالم سيسلب منهم( :اخْسَئُوا فِيهَا وَال تُك َِّلمُونِ).
واحلركة ستسلب منهم ،فيُحضرون إىل العذاب إحضارا ،كما
خرَةِ فَأُولَ ِئكَ فِي
ك َفرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا َو ِلقَاءِ الْآ ِ
الذِينَ َ
قال( :وَأَمَّا َّ
ضرُونَ) ،أي ال يقدرون على احلركة ،فتحضرهم زبانية
ا ْل َعذَابِ ُمحْ َ
جهنم إىل العذاب ،كما قالَ ( :و َل ْولَا ِن ْع َمةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ
ضرِينَ).
ا ْل ُمحْ َ
11
ويردون إىل أسفل سافلني ،فينكس اهلل خلقهم ،فيكونون يف
جهنم كالدواب املمسوخة؛ يتعذبون وهم ال يتكلمون وال يسمعون،
وال يبصرون ،وال يتحركون.
12
املطلب التاسع :وربك خيلق ما يشاء وخيتار
11
فآية القصص تدل على اختيار مطلق مما خلقه اهلل ،وآية طه
والدخان تدل على اختيار ممن خلق اهلل من الناس.
الوجه يف تفسري اآلية عندي:
والوجه عندي أن املعنى :وريك خيلق ما يشاء ،وخيتار مما
خلقه ما شاء فيربأه ،فكل شيء خلقه اهلل ،وهو يف كتاب مبني ،كما
بينت آي الكتاب ،واهلل سبحانه وتعاىل خيتار ما شاء مما خلق
فيظهره ،وخيتار املكان الذي يربأه فيه ،والزمان الذي يربأه فيه ،فكما
أن له اخللق املطلق ،فله االختيار املطلق .وقوله (ما كان هلم
اخلرية) ،أي :ما كان هلم االختيار يف حتديد زمان وجودهم أو مكانه،
فضال عن اختيار وجود خملوقات أخرى ،فاهلل هو من اختار ذلك.
فهذه اآلية يفسرها قوله (مَا َأصَابَ ِمنْ مُصِي َبةٍ فِي الْأَ ْرضِ َولَا فِي
أَ ْنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ ِمنْ َق ْبلِ أَنْ َن ْبرََأهَا).
السمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َولَا
خلْقَ َّ
ش َه ْد ُتهُمْ َ
وقد جاء قوله تعاىل( :مَا أَ ْ
ضدًا) ،لينفي عنهم أن
خذَ ا ْلمُضِلِّنيَ عَ ُ
ُت ِ
سهِمْ وَمَا كُنْتُ م َّ
خلْقَ أَ ْنفُ ِ
َ
يكون هلم رأي يف اخللق ،ال خلق أنفسهم وال خلق شيء ،وجاء قوله
س ْبحَانَ اهللِ
خلُقُ مَا يَشَاءُ وَ َيخْتَارُ مَا كَانَ َلهُمُ الْخِ َيرَةُ ُ
(وَر َُّبكَ َي ْ
شرِكُونَ) ،لينفي عنهم أن يكون هلم رأي يف االختيار من
َو َتعَالَى عَمَّا يُ ْ
اخللق.
ويرجح ما ذهبت إليه أن لفظ (ما) يف قوله :خيلق ما يشاء ،عام
يعم كل املخلوقات ،وال يقتصر على اإلنس وحدهم ،و(خيتار) عطف
عليه ،والتقدير :وخيتار ما يشاء ،فمفعوله عام أيضا ،وال داعي لقصر
13
االختيار على أن يكون املفعول هو البشر ،سواء قلنا بالرسالة أو
الطاعة ،فذلك يستقيم لو قال( :من يشاء) ،وليس (ما يشاء).
وقد أسند الفعل إىل الرب (وربك) ،فالرب هو الذي خيلق وهو
الذي خيتار ،وهو الذي يسوي ما خلق ،وهو الذي يدبر األمر ،فللرب
صلة بأفعال اخللق والتدبري .وكذلك يف سورة طه (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ
طوًى ( )31وَأَنَا اخْ َت ْر ُتكَ) ،أي:
خ َلعْ َن ْعلَ ْيكَ إ َِّنكَ بِالْوَادِ ا ْل ُمقَدَّسِ ُ
فَا ْ
أنا ربك من اختارك ،فهو يدبر أمر اخلليقة ،فيختار منهم من شاء ملا
شاء.
واآلية تقرر أن اهلل خيلق ما يشاء ،وهذا قررته آيات كثرية،
واألمر اآلخر :أن اهلل خيتار مما خلق ما يشاء ،خيتار أن يربأه ،فهو
اختيار الوجود والزمان واملكان ...فسبحانه وتعاىل عما يشركون.
فهو الذي خيلق ،وهو الذي خيتار ،ثم يشركون به آهلة أخرى ال
ج َعلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَا ُهمَا
ختلق وال ختتار؟! ( َفلَمَّا آتَا ُهمَا صَا ِلحًا َ
خلُقُ شَيْئًا َوهُمْ
شرِكُونَ مَا لَا َي ْ
شرِكُونَ ( )390أَيُ ْ
فَ َتعَالَى اهللُ عَمَّا يُ ْ
خ َلقُونَ).
ُي ْ
ومثلما دل قوله (وخيتار) على اختيار الوجود ،فإنه يدل على
اختيار الطريقة اليت يوجد بها الشيء ،وهذا كقوله تعاىل( :وَمَا
سبُوقِنيَ ( )60عَلَى أَنْ ُنبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا
حنُ ِبمَ ْ
َن ْ
َت ْعلَمُونَ) ،فهو اختار لإلنسان مسارا معينا لنشأته ،ولو شاء ألنشأه
نشأة أخرى.
كما يدل على اختيار اهليئة ،فاهلل خيتار للمخلوق اهليئة اليت
يكون عليها ،فمثال اإلنسان :خيتار اهلل له اللون ،والطول ،وسائر
11
الصفات اخللقية ،وقوة مسعه وبصره ...وهذا ما يفسره قوله عليه
السالم( :ومتعنا بأمساعنا ،وأبصارنا ،وقواتنا ما أحييتنا ،واجعله
الوارث منا).
واخلالصة أن املعنى :وربك خيلق ما يشاء ،وخيتار ما شاء مما
خلق ،خيتار وجوده وطريقة وجوده ،وهيئته اليت يبدو عليها.
ومن ثم ففعل االختيار متصل باخللق.
422
املطلب العاشر :تراكيب أخرى
422
(أعطى كل شيء خلقه):
هناك أقوال عديدة ذكرها املفسرون يف تفسري اآلية ،وقد
خلصها الشنقيطي يف أضواء البيان ،فيمكن الرجوع إليه.
وما يرتجح لي هو ما قاله جماهد ،ونقله عنه الطربي( :أعطى
كلّ شيء صورته) ،وروي عنه( :سوّى خلق كلّ دابة ثم هداها ملا
يُصلحها وعلَّمها إياه ،ومل جيعل الناس يف خلق البهائم ،وال خلق
البهائم يف خلق الناس ،ولكن خلق كل شيء فقدّره تقديرا) ،ويشمل
ذلك أيضا ما ذكره الزخمشري( :أعطى كل شيء صورته وشكله
الذي يطابق املنفعة املنوطة به ،كما أعطى العني اهليئة اليت تطابق
اإلبصار ،واألذن الشكل الذي يوافق االستماع ،وكذلك األنف واليد
والرجل واللسان :كل واحد منها مطابق ملا علق به من املنفعة ،غري
ناب عنه) .وقال البقاعي( :أي [أعطى كل شيء] ما هو عليه مما هو
به أليق يف املنافع املنوطة به ،واآلثار اليت تتأثر عنه من الصورة
والشكل واملقدار واللون والطبع وغري ذلك مما يفوت احلصر ،وجيل
عن الوصف).
فأعطى كل شيء خلقه ،يقصد به التقدير ،أي :أعطى كل
شيء قدره املناسب له من خمتلف اخلواص :الكمية والكيفية
الذِي
والزمنية واملكانية ...إخل .ثم هدى ملا قدر ،وهذا كقوله تعاىلَّ ( :
َالذِي قَدَّرَ َف َهدَى) ،فاهلداية بعد التقدير.
خلَقَ فَسَوَّى ( )1و َّ
َ
423
املبحث الثاني :عملت أيدينا
421
خ َلقْتَ
جدُ ِل َمنْ َ
س ُ
وعلى ذلك حتمل اآليات ،كقوله( :قَالَ أَأَ ْ
ضعِيفًا) ،أي:
خلِقَ الْإِنْسَانُ َ
طِينًا) ،أي :ملن خلقته من طني .وقوله( :وَ ُ
ض ْعفٍ) .وقوله:
خ َلقَكُمْ مِنْ َ
الذِي َ
خُلق من ضعف ،كما يف قوله( :اهللُ َّ
خلِقَ َهلُوعًا) ،أي :خلق من هلع ،وهذا يفسره قوله تعاىل:
(إِنَّ الْإِنْسَانَ ُ
جلٍ).
خلِقَ الْإِنْسَانُ ِمنْ َع َ
( ُ
ط َفةَ َع َل َقةً
كما حيمل على ذلك قوله تعاىل( :ثُمَّ خَ َلقْنَا النُّ ْ
خ َلقْنَا ا ْلمُضْ َغةَ عِظَامًا) ،أي :خلقنا من
ض َغةً َف َ
خ َلقْنَا ا ْل َع َل َقةَ مُ ْ
َف َ
النطفة علقة ،فخلقنا من العلقة مضغة ،فخلقنا من املضغة عظاما،
َيهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ِمنَ ا ْل َبعْثِ فَإِنَّا
بدليل قوله تعاىل( :يَا أ ُّ
ض َغةٍ مُخ ََّلقَةٍ
ط َفةٍ ثُمَّ ِمنْ َعلَ َقةٍ ثُمَّ ِمنْ مُ ْ
خلَقْنَاكُمْ ِمنْ ُترَابٍ ثُمَّ مِنْ نُ ْ
َ
وَغَ ْيرِ ُمخ ََّل َقةٍ).
والسؤال هنا :ما الفرق بني االستخدامني؟
بينت يف حبث آخر أن املراحل الفاصلة يف السماوات واألرض
ثالث ،األوىل :مرحلة اخللق حيث خلق اهلل السماوات واألرض وما
فيهن ،والثانية :التقدير والتسوية ،حيث سوى سبحانه ما خلق ،وهو
قوله (خلق فسوى) ،واملرحلة الثالثة :التدبري ،وهو قوله (يدبر األمر)،
وقوله (أال له اخللق واألمر).
فاملرحلة األوىل :خلق اهلل فيها السماوات واألرض ،وخلق فيها
األصول اليت أنشأ منها كل شيء ،فأما السماوات واألرض فلم يذكر
القرآن الكريم أنهما خلقا من شيء آخر ،وسكوت القرآن عن ذلك قد
يدل على أن أول خلقهما كان من غري شيء ،وقد ال يدل على ذلك.
421
ثم خلق اهلل األشياء األخرى من تلك األصول.
والسؤال :ما الدليل على ذلك؟
الدليل األول :اطراد استخدام فعل اخللق ،كما أوضحت آنفا.
خ َلقْنَا َلهُمْ مِمَّا َع ِملَتْ
والدليل الثاني ،قوله تعاىل( :أَ َولَمْ يَرَوْا أَنَّا َ
أَ ْيدِينَا أَ ْنعَامًا َفهُمْ َلهَا مَالِكُونَ) ،ومل يرد يف القرآن الكريم نسبة العمل
إىل اخلالق يف غري هذا املوضع ،فقوله (مما عملت أيدينا) ،يتحدث
عن األصول اليت خلقها اهلل ،ومنها خلق سائر اخللق ،وقد جاء بقوله
(مما عملت أيدينا).
**
422
والبطش باليد ،فعرب هلم عن القدرة باجلهة اليت قربت يف أفهامهم،
واهلل تعاىل منزه عن اجلارحة والتشبيه كله).
قال أبو السعود( :أي مما تولينا إحداثَه بالذات .وذكر األيدي
وإسناد العمل إليها استعارة تفيد مبالغة يف االختصاص والتفرد
باإلحداث واالعتناء به).
واللفتة املهمة وجدتها عند ابن عاشور يف التحرير والتنوير ،قال:
(واستعري عمل األيدي الذي هو املتعارف يف الصنع إىل إجياد أصول
األجناس بدون سابق منشأ من توالد أو حنوه فأسند ذلك إىل أيدي
اهلل تعاىل لظهور أن تلك األصول مل تتولد عن سبب كقوله:
(والسماء بنيناها بأيد) ،فـ(من) يف قوله :مما عملت ابتدائية ألن
األنعام اليت هلم متولدة من أصول حتى تنتهي إىل أصوهلا األصلية
اليت خلقها اهلل كما خلق آدم ،فعرب عن ذلك اخللق بأنه بيد اهلل
استعارة متثيلية لتقريب شأن اخللق اخلفي البديع مثل قوله{ :ملا
خلقت بيدي}).
التحقيق يف اآلية:
يبني ابن عاشور أن استخدام (عمل األيدي) يف هذا السياق
استعارة لبيان إجياد األصول اليت خلق منها األشياء.
وهو ما تبني لي ،غري أن اهتمامي ينصب على لفظ (عملت)
وليس (أيدينا) ،فهذا املوضع فرد يف القرآن الكريم ،وليس له نظري ،و
هو املوضع الوحيد الذي سيق لبيان األصول ،وهو املوضع الوحيد
الذي نسب العمل إىل اخلالق ،فلفظ (عملت أيدينا) استخدم لبيان
421
األصول اليت نشأت منها األشياء األخرى .كما جاء يف السورة نفسها
كلُوا ِمنْ َث َمرِهِ وَمَا َع ِملَ ْتهُ أَ ْيدِيهِمْ أَ َفلَا يَشْ ُكرُونَ) ،فهو ينفي
قوله (لِيَأْ ُ
نسبة العمل إىل أيديهم ،ويثبتها له سبحانه يف اآلية األخرى ( َع ِملَتْ
أَ ْيدِينَا).
والعمل يف اللغة العربية يطلق على الفعل الذي يكون عن قصد
وصنعة ،كما يف اللسان ،ويدل عليه قوله( :أَنِ ا ْع َملْ سَا ِبغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي
جوَابِ
جفَانٍ كَا ْل َ
الس ْردِ) ،و( َيعْ َملُو َن َلهُ مَا يَشَاءُ ِمنْ َمحَارِيبَ َو َتمَاثِيلَ وَ ِ
َّ
وَ ُقدُورٍ رَاسِيَاتٍ ا ْع َملُوا آلَ دَاوُودَ شُ ْكرًا وَ َقلِيلٌ ِمنْ ِعبَادِيَ الشَّكُورُ)،
حرِ) .وقوله( :ما عملته أيديهم)،
و(فَكَانَتْ ِلمَسَاكِنيَ َي ْع َملُونَ فِي ا ْل َب ْ
أي :ما صنعته ،وقد مسى اهلل بديع خلقه صنعا ،قال تعاىل( :صُنْعَ
الذِي َأ ْت َقنَ كُلَّ شَيْءٍ) .فقوله (مما عملت أيدينا) ،أي :مما
اهللِ َّ
صنعته حلكمة ،وهو أن يكون أصال لغريه .فقوله (عملت أيدينا) جاء
لبيان األصول األوىل اليت خلقها اهلل من غري شيء ،وخلق منها
األشياء.
423
خ َلقَكُمْ ِم ْن ُترَابٍ).
وبني أن خلق اإلنسان من تراب( ،وَاهللُ َ
والقرآن الكريم مل يذكر صراحة أن السماوات واألرض خلقتا
من شيء ،فما أصوهلما السابقة؟
وسأتناول اإلجابة عن هذا السؤال يف املطلب التالي.
كما أن األرض من األصول السابقة ،وهلذا قال عن الشركاء
خ َلقُوا ِمنَ الْأَ ْرضِ) ،فهذا رتبة أعلى يف التحدي،
املزعومني (أَرُونِي مَاذَا َ
فهو يقول :أنا خلقت األصل وهي األرض ،فماذا خلقوا من هذه
األصل؟
وهناك أصول ثانوية ،متولدة من األصول األوىل ،فاإلنسان أصله
خ َل َقهُ
كمَ َثلِ آدَمَ َ
األول الرتاب ،ومنه خلق آدم (إِنَّ مَ َثلَ عِيسَى عِ ْندَ اهللِ َ
كنْ فَيَكُونُ) ،ومنه خلق زوجه ،فهو أصل ثانوي
ِمنْ ُترَابٍ ثُمَّ قَالَ َلهُ ُ
ج َعلَ مِ ْنهَا
حدَةٍ ثُمَّ َ
بالنسبة لإلنسان ،قال تعاىل( :خَ َلقَكُمْ ِمنْ َنفْسٍ وَا ِ
جهَا).
زَوْ َ
421
خلقناه خلقا أوال؟
خ ِلقُوا ِمنْ غَ ْيرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ا ْلخَا ِلقُونَ ( )15أَمْ خَ َلقُوا
وقوله( :أَمْ ُ
السمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ بَل لَا يُوقِنُونَ)
َّ
قال ابن اجلوزي يف زاد املسري( :فيه أربعة أقوال :أحدها :أم خلقوا
من غري رب خالق؟ والثاني :أم خلقوا من غري آباء وال أمهات ،فهم
كاجلماد ال يعقلون؟ والثالث :أم خلقوا من غري شيء كالسموات
واألرض؟ أي :إنهم ليسوا بأشد خلقا من السماوات واألرض .ألنها
خلقت من غري شيء ،وهم خلقوا من آدم ،وآدم من تراب .والرابع :أم
خلقوا لغري شيء؟ فتكون «من» مبعنى الالم ،واملعنى :ما خلقوا عبثا
فال يؤمرون وال ينهون).
والذي يرجح لي من هذه األقوال هو األول؛ ألن التقسيم يقتضي
ذلك :فإما أن يكون اإلنسان خُلق من غري خالق ،أو خلقه خالق.
واألول باطل ،فكيف يُخلق من غري خالق؟! فاالحتمال الثاني أن يكون
خلقه خالق ،فهذا اخلالق إما أن يكون اإلنسان نفسه ،أي أنه خلق
نفسه ،أو خالق آخر .فإذا كان اإلنسان هو خلق نفسه فهل هو من
خلق السماوات واألرض؟ واإلنسان مل خيلق السماوات واألرض ،ومل
يوجد إنسان يدعي ذلك ،وبذلك يبطل أن يكون اإلنسان خلق نفسه
أيضاً ،فاخلالق واحد.
442
املطلب الثاني :املاء والرتاب وعالقتهما بأصل اخللق
[سأحتدث يف هذا املطلب عن :املاء والرتاب ،فقط بالنظر إىل ما
يتعلق بأصل اخللق ،وأما املاء والرتاب يف القرآن الكريم فسأحتدث
عنه يف حبث :األرض يف القرآن الكريم].
اآليات اليت تتحدث عن املاء تبني حقيقتني كربيني:
األوىل :املاء خملوق قبل خلق السماوات واألرض.
الثانية :كون املاء سببا لكل شيء حي.
442
ثانياً :املاء أصل /أو سبب لكل شيء حي
هل املاء أصل لكل شيء حي؟ أو سبب لكل شيء حي؟
اآليات اليت تربط بني املاء واحلياة ،ميكن تصنيفها إىل
جمموعتني ،كالتالي:
اجملموعة األوىل( :ما يتعلق بسبب األصل) آيتان ،وهما قوله
الذِي
ٍّ) ،وقوله تعاىلَ ( :و ُهوَ َّ
ج َعلْنَا ِمنَ ا ْلمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَي
تعاىل( :وَ َ
شرًا) .وفيها يأتي (املاء) معرفة ،ويتعدى فعل اجلعل
خلَقَ ِمنَ ا ْلمَاءِ بَ َ
َ
أو اخللق إليه بـ(من).
اجملموعة الثانية( :ما يبني السبب) ،بقية اآلي اليت تتحدث عن
كون املاء سببا يف حياة األرض ،أو يف إخراج النبات .ويأتي فعل
اإلخراج أو اإلنبات أو اإلحياء متعديا بالباء ،وقد يأتي املاء معرفة،
وقد يكون نكرة.
443
الفعل املستخدم هنا( :جعل) وليس (خلق) ،وجعل هنا – كما سيأتي
-تفيد معنى التصيري ،فمعنى اآلية :صرينا كل شيء حي من املاء،
ج َعلَ لَكُمْ ِمنْ أَ ْنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) ،أي :صري لكم من
وهذا كقولهَ ( :
أنفسكم أزواجا ،فـ(جعل) هنا جاءت مبعنى :خلق ،مع التصيري؛ إلفادة
شيء متعلق باألصل ،وبيان أن اهلل أنشأ من ذلك األصل شيئا آخر،
ضرِ نَارًا).
جرِ الْأَخْ َ
الش َ
ج َع َل لَكُمْ ِمنَ َّ
وكقوله( :ا َّلذِي َ
والثاني :أن اهلل مل جيعل من املاء كل شيء ،وإمنا كل شيء
حي ،فلم يقل :جعل منه كل شيء ،بل خصصه ،والتخصيص يف هذا
املقام يفيد معنى أن غري املخصص ليس كل ذلك ،مبعنى :األشياء
غري احلية مل جيعلها اهلل من املاء.
وأما حديث أبي هريرة عندما سأل رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم :أنبئين عن كل شيء .فقال" :كل شيء خلق من ماء" رواه
أمحد ،وقد ضعفه األلباني يف سلسلة األحاديث الضعيفة ،ولكن
األلباني صحح يف مشكاة املصابيح ما رواه الرتمذي وأمحد أن أبا
هريرة سأل :مم خلق اخللق؟ فقال "من املاء" ،وضعفه يف ضعيف
الرتمذي .فاحلديث يف تصحيحه خالف.
ٍّ) دليل على ضعفه،
ج َعلْنَا ِمنَ ا ْلمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَي
ثم إن اآلية (وَ َ
وعلى افرتاض صحته فيحمل على أن املراد بـ(كل شيء) يف احلديث:
كل شيء حي .ومن ثم فاآلية دليل على اختصاص املاء باألشياء
احلية ،وليس مبطلق األشياء.
وقد اختلف املفسرون فذهب بعضهم إىل التخصيص كما يف
441
اآلية ،وبعضهم أطلق فقال :كل شيء ،قال الطربي( :وأحيينا باملاء
الذي ننزله من السماء ك ّل شيء .فإن قال قائل :وكيف خصّ كل
شيء حيّ بأنه جعل من املاء دون سائر األشياء غريه ،فقد علمت أنه
حييا باملاء الزروع والنبات واألشجار ،وغري ذلك مما ال حياة له ،وال
يقال له حيّ وال ميت؟ قيل :ألنه ال شيء من ذلك إال وله حياة وموت،
وإن خالف معناه يف ذلك معنى ذوات األرواح يف أنه ال أرواح فيهنّ وأن
يف ذوات األرواح أرواحا) ،وقال ابن عطية( :حيمل على أعم ما ميكن
فاحليوان أمجع والنبات على أن احلياة فيه مستعارة داخل يف هذا).
وقال الرازي( :اختلف املفسرون ،فقال بعضهم املراد من قوله :كل
شيء حي احليوان فقط ،وقال آخرون :بل يدخل فيه النبات والشجر
ألنه من املاء صار ناميا وصار فيه الرطوبة واخلضرة والنور والثمر،
وهذا القول أليق باملعنى املقصود ،كأنه تعاىل قال :ففتقنا السماء
إلنزال املطر وجعلنا منه كل شيء يف األرض من النبات وغريه حيا،
حجة القول األول أن النبات ال يسمى حيا ،قلنا ال نسلم والدليل عليه
قوله تعاىل :كيف حيي األرض بعد موتها) .وقال الشوكاني:
(أحيينا باملاء الذي ننزله من السماء كل شيء ،فيشمل احليوان
والنبات ،واملعنى أن املاء سبب حياة كل شيء).
وهذه النقوالت وغريها بناء على أحد التفسريين للماء ،أي املاء
املعروف ،وبعضهم فسره بالنطفة.
إال أن اآلية خصصت الشيء ،فاهلل يقول (كل شيء حي) ،فكيف
نقول حنن :كل شيء؟! والوصف مؤسس وليس مؤكدا ،كقوله:
(وَاهللُ لَا َي ْهدِي ا ْل َقوْمَ الظَّا ِلمِنيَ) ،فنفي اهلداية عن القوم الظاملني،
441
وليس عن (القوم) ،وأمثلة ذلك كثرية .وإذا أطلقنا (كل شيء) فلن
يكون هناك مسوغ لقصره على النبات ،فاحلجارة شيء ،واجلبال شيء،
والسماوات شيء ،واألجرام شيء ...وعليه فال دليل ملن أطلق القول
بأن املاء أصل كل شيء ،فيدخل يف ذلك :العرش ،وما خلق بعده،
والسماوات واألرض...اخل.
والسؤال اآلن :هل تفيد اآلية أن املاء أصل لكل شيء حي أو سبب
حلياة كل شيء حي؟
بعض املفسرين اعترب أن اآلية دالة على األصل ،فـ(من) يف اآلية
لبيان األصل ،واملعنى :أن اهلل خلق من املاء كل شيء حي .وبعض
املفسرين اعترب (من) لبيان السبب ال األصل .وقد أورد القولني
الزخمشري ،فقال( :املعنى :خلقنا من املاء كل حيوان ،كقوله
تعاىل "واهلل خلق كل دابة من ماء" ...أو صرينا كل شيء حي بسبب
من املاء ال بد له منه) .وقد أوضح الشوكاني هذا بقوله( :أحيينا
باملاء الذي ننزله من السماء كل شيء ،فيشمل احليوان والنبات،
واملعنى أن املاء سبب حياة كل شيء).
وبتدبر اآليات جند أن مثة فرقا بني استخدام القرآن الكريم
للماء لبيان كونه سببا للحياة ،وبني هذه اآلية؛ فقد اطرد جميء
الباء مع إنزال املاء لبيان السببية ،ومل تأت (مِن) ،أما (مِن) فاطرد
جميؤها مع اخللق واجلعل لبيان األصل ،أو ما له عالقة باألصل.
فنحن ال نقول أن اآلية تدل على أن املاء سبب لكل شيء حي ،بل نقول
أن املاء كان سببا مع األصل يف نشوء حياة كل شيء .فاآلية ال تبني
442
السببية املستمرة ،كما حيدث مع نزول املطر وإخراج اهلل النبات به،
ولكنها تبني السببية األوىل ،اليت اختلطت باألصل األول (الرتاب)،
فجعل اهلل من املاء كل شيء حي.
فـ(جعل) هنا ليست كـ(خلق) ،بل مبعنى :صري .و(املاء) هو املاء
املعروف ،و(مِن) تبني السببية املتعلقة باألصل ،وهي السببية األوىل،
فـ(من) األصل فيها أن تأتي البتداء الغاية كما يقول النحاة ،وداللة
السببية واضحة يف اآلية ،فمن ثم فهي تبني السببية األوىل .و(كل
شيء حي) ،ختتص ببيان عالقة املاء باألشياء احلية ،فاهلل جعل منه
كل شيء حي ،وليس كل شيء.
وبهذا يتبني أن اآلية ال تدل على األصل ،وال على السبب ،بل
عليهما معا .وال تنص على أن املاء أصل لكل شيء حي ،بل سبب
حلياة األصل األول من كل شيء حي.
جرِ
الش َ
ج َعلَ لَكُ ْم ِمنَ َّ
الذِي َ
وهذه داللة (من) يف قوله تعاىلَّ ( :
ضرِ نَارًا) ،فالشجر األخضر سبب لنشوء أصل النار.
الْأَخْ َ
**
441
موصوف (واهلل خلق كل دابة من ماء).
ثم إن لفظ (بشرا) مل يستخدم يف القرآن الكريم مع (املاء)
املقصود به النطفة ،بل يأتي لفظ (إنسان) .واملاء يف اآلية هو ذلك
املاء الذي اختلط بالرتاب فصار طينا ،فقد كان سببا ألن يصبح
الرتاب شيئا حيا ،وألنه كما بينت كان سببا أوال ،واختلط مع
األصل ،فقد جاء التعبري باخللق منه ،كما يف اآلية السابقة.
وبهذا ،فلم يرد إال يف هذين املوضعني أن (املاء سبب حلياة األصل
األول من كل شيء حي) ،فاملوضع األول ذكر األحياء عموما،
واملوضع الثاني خص اإلنسان بالذكر؛ فهو أعظم وأشرف األشياء
احلية.
**
443
خلقت من ماء) ،أي :من ماء الزوجية ،فمفهوم اآلية أنه ما من دابة
إال وتأتي من ماء ،كما يأتي اإلنسان من النطفة .فـ(ماء) يف اآلية،
غري (املاء) يف اآلية األوىل .والدواب هي من األشياء احلية ،وهي ما
يدب على األرض ،فهي تدخل يف عموم قوله (وجعلنا من املاء كل
شيء حي) ،فاهلل جعلها من املاء الذي جعل منه كل شيء حي ،إال أن
خلقها (املقصود يف هذه اآلية) من ماء (التزاوج بني الذكر واألنثى).
وكذلك مل خيص القرآن الكريم بتسمية شيء من اخللق ،أنه
خلق من (ماء) ،سوى (اإلنسان) ،الذي ذكر أنه خلق من (ماء)،
ووصف بأنه (ماء دافق)( ،ماء مهني).
فكما ذكر أوال أنه جعل من املاء كل شيء حي ،وخص (البشر)
بالذكر أيضا .فقد ذكر أيضاً أنه خلق كل دابة من (ماء) ،وهذا
املاء هو (النطفة) ،وقد خص (اإلنسان بالذكر).
وعليه فقوله (خلق كل دابة من ماء) ،ال تتعلق بـ(املاء) املعروف،
بل تتعلق مباء النطفة .واهلل أعلم.
**
441
( :)1ما يتعلق ببيان السبب
اطرد حديث القرآن الكريم يف بيان أن املاء سبب للحياة ،وقد
اطرد هذا احلديث مع األرض وما خيرج منها من نبات ،كما اطرد
الرتكيب مع (السبب) ،باستخدام (الباء) ،وقد اقرتن بفعلي( :إخراج
النبات) و(إحياء األرض) يف 13موضعاً .وهذا خبالف آييت األنبياء
والفرقان ،حيث اقرتن الفعل فيهما بـ(مِن) ،ووقع على (كل شيء
حي/البشر).
السمَاءِ مَاءً
فمثال اقرتانه بإخراج النبات ،قوله( :وَأَ ْنزَلَ مِنَ َّ
خرَجْنَا بِهِ
السمَاءِ مَاءً فَأَ ْ
الث َمرَاتِ رِزْقًا َلكُمْ) ،و(أَ ْنزَلَ ِمنَ َّ
خ َرجَ ِبهِ ِمنَ َّ
فَأَ ْ
السمَاءِ مَاءً فَأَ ْنبَتْنَا ِبهِ) .ومثال
َنبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ) ،و(وَأَ ْنزَلَ َلكُمْ ِمنَ َّ
حيَا بِهِ الْأَرْضَ
السمَاءِ مَاءً فَأَ ْ
اقرتانه بإحياء األرض ،قوله( :أَ ْنزَلَ مِنَ َّ
َب ْعدَ َم ْو ِتهَا).
وسأفصل القول عن ذلك يف حبثي :األرض يف القرآن الكريم.
**
422
ثالثاً :ما أصل كل شيء إذن؟
تبني لنا أن املاء ليس أصالً لكل شيء حي ،بل (سبب حلياة
األصل األول من كل شيء حي) .فما أصل كل شيء إذن؟
424
وليس من الطني كله ،ثم أصبح الزبا (متماسكا جامدا) ،ثم تفاعل
فاسود وتغريت رائحته (محأ مسنون) ،ثم يبس وأصبح صلصاال
(كالفخار).
واملتدبر آلي الكتاب جيد اطراد استخدام القرآن الكريم:
( )3مع أصل تكوين البشر ،مل يستخدم لفظ (اإلنسان) ،بل
(البشر) ،و(آدم).
( )1مع مراحل خلق ذلك األصل ،اطرد استخدام لفظ
(اإلنسان) مع املراحل كلها( :من طني ،من ساللة من طني ،من
صلصال من محأ مسنون ،من صلصال كالفخار) ،كما ذكر لفظ
(البشر) مع( :من طني ،من صلصال من محأ مسنون).
( )1مع مراحل خلق اإلنسان يف بطن أمه ،اطرد استخدامه مع
لفظ (اإلنسان) فقط ،خلق من (ماء) ،ووصف بأنه( :ماء دافق ،ماء
مهني ،من ساللة من ماء مهني) ،ومسي املاء( :نطفة) .وسأبني هذا يف
حبثي :البشر واإلنسان يف القرآن الكريم.
**
422
( )1هل الرتاب أصل كل شيء؟
يتبني لنا مما سبق ما يلي:
القرآن الكريم ذكر أصال للخلق ،وهو (الرتاب) ،وبني أنه جعل
من (املاء) كل شيء حي ،وبذلك فـ(الرتاب مع املاء) أصل لكل شيء
حي .فهل ميكننا االستنتاج أن الرتاب أصل لكل شيء غري حي،
ويشرتك معه املاء يف الشيء احلي؟
ومن ثم تكون األشياء احلية أصلها :الرتاب مع املاء ،مع اختالف
املقادير وطرق التكوين ،والسالالت ،فاإلنسان مثال كان تشكيله كما
ذكر القرآن الكريم لنا :من طني ...إىل آخر تلك املراحل.
فالرتاب واملاء أصل لكل شيء حي ،والرتاب وحده أصل لكل شيء.
هناك أدلة عدة قد ترجح اجلواب باإلجياب ،ومنها:
األول :أن إبليس حني أبى السجود ،وبرر ذلك ،مل يقل :خلقته
من تراب ،وخلقتين من نار ،بل قال( :خلقتين من نار وخلقته من
طني) ،والطني ليس األصل كما ذكرت أعاله ،وإمنا هو أول مراحل
ختليق األصل (الرتاب مع املاء) ،وهذا يدل على أنه يرى أنه أفضل من
آدم ألن تشكيلته ختتلف عن تشكيلة آدم ،فآدم تشكيلة أصله بدأت
خلْقَ
خ َل َقهُ وَ َبدَأَ َ
سنَ كُلَّ شَيْءٍ َ
الذِي أَحْ َ
بالطني ،كما قال تعاىلَّ ( :
الْإِنْسَانِ ِمنْ طِنيٍ) ،فاآلية تتحدث عن أن بدأ خلق اإلنسان كان من
طني ،فاحلديث عن أول مراحل تكوين األصل.
وعليه فإبليس مل يفضل نفسه على آدم كون آدم من تراب ،بل
423
كونه من طني ،والطني :اختالط املاء والرتاب.
خلَقَ
الثاني :حني ذكر اهلل سبحانه خلق اجلان واإلنسان قالَ ( :
خلَقَ ا ْلجَانَّ ِمنْ مَا ِرجٍ ِمنْ نَارٍ)،
صلْصَالٍ كَا ْلفَخَّارِ ( )34وَ َ
الْإِنْسَانَ ِمنْ َ
حمَإٍ مَسْنُونٍ
صلْصَالٍ ِمنْ َ
خ َلقْنَا الْإِنْسَانَ ِمنْ َ
ويف سورة احلجرَ ( :و َل َقدْ َ
السمُومِ) ،فاملقابلة كانت بني
خ َلقْنَاهُ ِمنْ َق ْبلُ ِمنْ نَارِ َّ
( )16وَا ْلجَانَّ َ
مراحل وليس بني أصول.
وإذا أعدنا تدبر اآليات السابقة فيتبني لنا ما يلي:
األصول: )3
أ .بينت اآليات أن اهلل خلق البشر من أصل :الرتاب
مع املاء.
ب .مل يذكر أصل تكوين اجلن.
ج .بني أنه جعل من املاء كل شيء حي.
د .يف سورة يس ،بني أنه خلق األنعام (مِمَّا َع ِملَتْ
أَ ْيدِينَا) ،فأبهم األصل[ .وقد حتدثت عن هذا يف
حبث :اخللق والتسوية والتدبري].
مراحل تكوين األصول: )1
أ .أول مراحل تكوين تلك األصول ،بالنسبة
لإلنسان :الطني ،وهذا يقابل :النار (بالنسبة
للجان).
421
ب .وثاني مراحل تكوين اإلنسان :احلمأ املسنون،
وهذا يقابل :نار السموم (بالنسبة للجان).
ج .وثالث مراحل تكوين اإلنسان :الصلصال
كالفخار ،وهذا يقابل :مارج من نار (بالنسبة
للجان)(.)2
مراحل خلق النسل: )1
أ .بني القرآن الكريم مراحل خلق اإلنسان (كنسل
يف بطن أمه) ،من ماء مهني ،ثم علقة ،ثم
مضغة ...اخل.
ب .ذكر القرآن الكريم أن كل دابة خلقها من
(ماء) ،أي :ماء النطفة ،وكل دابة ،هنا خيتص
بالنسل ال األصل ،أي :كل دابة خملوقة ،فهي
تأتي من ماء.
وبالتأمل يف ما ذكر أعاله ،جند أن القرآن الكريم فصل القول
يف خلق البشر (األصل ،ومراحل ختليق األصل ،والنسل ومراحل
()2
جاء يف املادة اليت خلق اهلل منها اإلنسان ،د .خالف الغاليب ،عن جملة اإلعجاز
العلمي ،ما نصه( :لعل املادة الرتابية اليت بدأ منها خلق آدم ـ عليه السالم ـ كانت
عبارة عن طني رملي طري "طني الزب" هذا حتول بفعل عملية التصخر يف مرحلة
جد مبكرة إىل محا "حيث تلعب املادة العضوية ـ البكرتيا ـ دورا كبرياً يف تغيري
الطني" مث يف مرحلة أخرية إىل صلصال "أو طني صفحي" ولعلها املادة األخرية اليت
مت عليها التصوير والتسوية).
421
ختليق النسل).
الثالث :ومما يستأنس هلذا ،باحلديث( :إن اهلل حيشر اخللق
كلهم ،كل دابة وطائر وإنسان ،يقول للبهائم والطري :كونوا ترابا،
فعند ذلك يقول الكافر( :يا ليتين كنت ترابا)) [أخرجه ابن جرير
وصححه األلباني] .فهي ال ترجع إىل املاء ،بل ترجع إىل األصل
املشرتك بني األحياء وغري األحياء ،وهو الرتاب.
خلُقُ ِمنَ الطِّنيِ
الرابع :مما يؤيده أيضا قوله تعاىل( :وَِإذْ تَ ْ
كهَيْ َئةِ الطَّ ْيرِ بِِإذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَ ْيرًا بِِإذْنِي) ،فعيسى أقدره
َ
اهلل على اخللق ،من الطني ،والطني :تراب مع املاء ،فهو خلق من
الطني كهيئة الطري ،كما أنبت اهلل الطري (األصل) أول مرة من
الطني ،ثم نفخ فيه فكان طريا .فالطري أصله من الطني ،ثم نسله من
ماء .فبينت اآلية أصل أولِ خل ٍق للطري.
واليوم مما تقرر لدى العلماء أن املواد العضوية يف النبات
واحليوان واإلنسان تتكون من عناصر الرتاب األساسية.
ومل يرد نص يبني لنا متى خلق اهلل الرتاب ،وهل الرتاب األول
الذي خلق منه كل شيء يشتمل على كل العناصر الكيميائية،
واليت ما زال اإلنسان حتى اليوم يكتشف مزيدا منها؟
**
422
(( )1إشكال واإلجابة عنه):
ٍّ)
ج َعلْنَا ِمنَ ا ْلمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَي
قال بعض املفسرين أن قوله (وَ َ
ال يشمل اجلان وال املالئكة ،فاجلان خلق من نار ،واملالئكة من نور.
أما املالئكة فلم يرد احلديث عن خلقهم يف القرآن الكريم ،وال
ندري ما النور الذي خلقوا منه ،وكيف ت َكوّن ،وهل هو النور الوارد يف
ج َعلَ الظُّ ُلمَاتِ وَالنُّورَ) ،أو نور آخر .وهلذا لن أخوض اآلن يف
قوله( :وَ َ
هذا األمر ،حتى يؤتيين اهلل من لدنه علما.
أما اجلان ،فقد بينتُ فك اجلهة بني النار واملاء ،فالنار ال يقابل
األصل (الرتاب مع املاء) ،وإمنا يقابل مرحلة التكوين( :الطني)؛ فكون
اجلان خلق من نار ال ينفي أن يكون أصله من الرتاب مع املاء ،فالنار
مرحلة خلق وليس أصل خلق ،مثلها مثل الطني ،فهو مرحلة خلق
وليس أصل خلق.
ثم إن القرآن الكريم بني لنا أن اهلل جعل لنا من الشجر األخضر
ضرِ نَارًا فَِإذَا أَنْتُمْ مِ ْنهُ تُو ِقدُونَ)،
جرِ الْأَخْ َ
الش َ
ج َعلَ لَكُمْ ِمنَ َّ
الذِي َ
ناراَّ ( ،
حنُ
ج َر َتهَا أَمْ َن ْ
ش َ
و(أَ َفرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ( )73أَأَنْتُمْ أَنْشَ ْأتُمْ َ
ا ْلمُنْشِئُونَ) ،فالنار (الناشئ عن الوقود) من النبات ،والنبات من
الرتاب ،واملاء سبب يف حياته .فنجد أن الرتاب أصل لكل شيء ،والرتاب
مع املاء أصل لكل حي ،وسبب يف حياة كل شيء.
وإذا نظرنا يف عناصر تربة األرض فإنها تشتمل على مكونات
عضوية وغري عضوية ،وهناك أنواع كثرية من الرتبة ،وهلا خصائص
الطمْيية.
عديدة ،فالرتبة الرملية ،ختتلف عن الطينية ،ختتلف عن َّ
421
والوقود الطبيعي – كما هو معروف –حيصل عليه اإلنسان من
املخزون الواقع حتت األرض .والفحم احلجري تكون من بقايا نباتات
ومواد عضوية حتللت يف الرتبة ،ويعتقد العلماء أن النباتات اليت
شكلت الفحم احلجري قد منت يف مستنقعات أثناء العصر الكربوني.
والعلماء اليوم يؤكدون أنه ال توجد مواد غري قابلة لالحرتاق ،فحتى
املواد اليت ال حترتق مثل اخلرسانة واحلجر ميكن إتالفها بالنريان
الشديدة .حتى املاء ميكن حرقه بالتحليل الكهربائي لعنصريه ،واملاء
مكون من مادتني قابلتني لالشتعال :األكسجني واهليدروجني.
(انظر :املوسوعة العربية) .وتتجه التقنيات احلديثة إىل استخدام
املاء كمصدر بديل للطاقة ،يف حمركات السيارات وغريها من
وسائل النقل ،بدال من البنزين.
كما أن الوقود احليوي اليوم يتم إنتاجه من النباتات ،كالذرة
وفول الصويا ،وتوجهت األحباث األخرية إىل إنتاجه من الطحالب،
وهي نباتات مائية.
ومن ثم فغري مستبعد أن تكون النار اليت خلق منها اجلان ،قد
تولدت من تفاعالت بني الرتاب واملاء ،مع حرارة مناسبة ،فتكونت
النار ،ومنها خلق اهلل اجلان.
اخلالصة:
واخلالصة أن اآليات تبني لنا ما يلي:
املاء خملوق من قبل خلق السماوات واألرض. )3
(الرتاب مع املاء) أصلٌ ،منه خلق اهلل كل شيء حي. )1
423
املاء سبب حلياة كل شيء. )1
الرتاب[ ،كما رجحته] أصل لكل شيء حي وغري حي، )4
ينفرد يف األشياء غري احلية ،ويشرتك معه املاء يف
األشياء احلية.
الرتاب مادة األصل ،والنطفة مادة النسل. )5
421
املبحث الثالثَ ( :فطَر) يف القرآن الكريم
خالصة الدالالت:
الفَطْر :بَدء خلقِ الشيء ،مزوداً بنظام قابلية الفطرة.
الفطرة :هي إنشاء خاصية االنتفاع باألعضاء يف اإلنسان ،وهي
خاصية متكنه من تسخري املخلوقات ،واالنتفاع بها يف اخلالفة يف
األرض.
األمانة :هي ما أودع اهلل يف هذه األعضاء من خاصية االنتفاع
بها ،فاألمانة هي الفطرة ،ولفظ (الفطرة) باعتبار أن اهلل جعل هذه
اخلاصة يف خلق اإلنسان ،فهي جزء من نظامه اخلَلقي ،ولفظ
(األمانة) باعتبار أن هذه اخلاصية هي شيء أودعه اهلل يف اإلنسان،
وطلب منه أن يؤدي حقها .ومل يودعها يف غريه.
432
املطلب األول :مفهوم (فطر) واستخدامها يف القرآن
الكريم
الداللة اللغوية:
يرد لفظ (ف ط ر) مبعنى الشَّقّ والبدء ،قال ابن عبَّاس رضي اهلل
طرُ السموات حتَّى أتاني أعرابيَّانِ خيتصِمان
عنه :كنت ال أدري ما فا ِ
ط ْرتُها ،أي أنا ابتدأتُ حفرها.
يف بئر ،فقال أحدهما :أنا فَ َ
قال يف أساس البالغة :فاطر السموات :مبتدعها .وافتطر األمر:
ابتدعه ،وقد فطر البئر :ابتدأها ...ومن اجملاز :ال خري يف الرأي
الفطري (أي املبتدَع).
وقد مجع بينهما اإلمام العسكري يف الفروق ،فقال( :الفَطْر:
إظهار احلادث بإخراجه من العدم إىل الوجود ،كأنه شَقّ عنه فظهر،
وأصل الباب الشَّقّ ،ومع الشق الظهور .ومن ثم قيل :تفطّر الشجر :إذا
طر اهلل اخللق :أظهرهم
طرتُ اإلناء :شققته ،وفَ َ
تشقق بالورق ،وفَ َ
بإجياده إياهم ،كما يظهر الورق إذا تفطر عنه الشجر).
434
استخدامها يف القرآن الكريم:
الصيغ املستخدمة:
استخدم يف القرآن الكريم (فطر) ،مقرتنا مع خلق السماوات
واألرض [غالبا]( ،فاطر السماوات واألرض ،فطر السماوات واألرض)،
ومع اإلنسان( ،فطرني ،فطرنا ،فطركم) .ومل يقرتن بغريهما.
وقد جاء (فاطر السماوات واألرض) 6 :مرات ،ومل يقرتن (فاطر)
بغريها ،والفعل (فطر) 7 :مرات( ،مرتني :مع السماوات واألرض)4( ،
مع اإلنسان متحدثا عن نفسه :فطرني ،فطرنا)( ،ومرة مع اإلنسان
خياطبه اهلل :فطركم) .وجاء الفعل (فطر على) مقرتنا بالناس:
طرَ النَّاسَ َعلَ ْيهَا).
طرَةَ اهللِ الَّتِي فَ َ
(فِ ْ
432
الكريم يتحدث عن خلق السماوات واألرض يف ستة أيام ،وال يصح أن
أقول :فطر اهلل السماوات واألرض يف ستة أيام ،بل :فطر اهلل السماوات
واألرض ،فهو ينصرف إىل بدء خلقها أول مرة .ويقال :خلق اهلل
اإلنسان من تراب ،ثم خلقه من نطفة ،ثم خلقه من علقة ...وال
يستخدم (فطر) يف أي من هذه املواطن ،بل يقال :فطر اهلل اإلنسان،
[بدأ خلقه] .وال يقال :سيعيد اهلل فطر اإلنسان ،بل يقال :سيعيد اهلل
خلق اإلنسان.
ثانيا :املتدبر لآليات اليت ذكر فيها (فاطر ،فطر) جيد أن أغلبها
جاءت على لسان صاحلي البشر [إبراهيم ،1 :يوسف ،3:هود ،3:الرسل:
،3مؤمن آل يس ،3 :السحرة ]3 :يف سياق توحيد اهلل وإخالص
عبادتهم له ،وبراءتهم من الشرك به ،ومن ثم طلب اهلداية واألجر
منه .وهذه املعاني متناسبة مع داللة (الفَطْر) ،فاهلل الذي بدأ خلق
السماوات واألرض ،أو خلق اإلنسان ،ومل يكن قبل ذلك شيئا ،وهذا
أدل على أحقيته بعبادة اإلنسان ،فهو الذي فطره أول مرة.
السمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ
ثالثاً :قال تعاىلِ( :إنَّا َع َرضْنَا الْأَمَا َنةَ َعلَى َّ
ح َم َلهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ
ش َف ْقنَ مِ ْنهَا وَ َ
ح ِملْ َنهَا وَأَ ْ
جبَالِ فَأَبَ ْينَ أَنْ َي ْ
وَا ْل ِ
جهُولًا) .فلماذا عرضت األمانة على هذه املخلوقات؟
ظلُومًا َ
َ
املالحظ أوال أن هذه املخلوقات هي املخلوقات اليت (فطرها) اهلل.
واألمانة لن تعرض إال على خملوق لديه القابلية ألخذها أو تركها،
أو بعبارة أخرى :لديه القابلية لالختيار ،إن شاء أخذ وإن شاء ترك.
فهل هذه القابلية موجودة لدى كل املخلوقات؟ الذي يتبني من
433
اآلية أنها موجودة يف هذه املخلوقات ،اليت فطرها اهلل :السماوات
واألرض واإلنسان.
فالفطر يتعلق بأول خلق للشيء [كما هي داللته اللغوية] ،وفق
نظام ما[ ،كما يتبني من استخدام القرآن الكريم] .والنظام هو :نظام
القابلية للفطرة .فالفطر شيء والفطرة شيء آخر.
وعليه فمعنى :فطر اهلل السماوات واألرض أنه خلقهن أول مرة
وزودهن بنظام قابلية الفطرة .فالفطر( :بدء خلق الشيء ،مزوداً
بنظام قابلية الفطرة) .واآلن أبني داللة (الفِطرة).
431
املطلب الثاني( :فِطْرَة اهلل)
جاء لفظ الفطرة يف آية واحدة ،يف سورة الروم ،قال تعاىل( :فَأَقِمْ
طرَ النَّاسَ َعلَ ْيهَا لَا َت ْبدِيلَ
طرَةَ اهللِ الَّتِي فَ َ
ج َهكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِ ْ
وَ ْ
س لَا َي ْع َلمُونَ).
هلل َذ ِلكَ الدِّينُ ا ْلقَيِّمُ َولَكِنَّ أَكْ َثرَ النَّا ِ
خلْقِ ا ِ
ِل َ
(مع املفسرين):
خللْقة اليت خُلق
يقول املفسرون واللغويون أن الفطرة :هي ا ِ
عليها البشر ،ثم خيتلفون يف تأويلها .فبعضهم أوهلا باإلسالم،
وبعضهم أوهلا :مبعرفة اهلل واإلقرار بوحدانيته ،وبعضهم قال إنها
العهد الذي أخذه اهلل من بين آدم كما يف سورة األعراف.
قال الزخمشري( :واملعنى :أنه خلقهم قابلني للتوحيد ودين
اإلسالم ،غري نائني عنه وال منكرين له ،لكونه جماوبا للعقل ،مساوقا
للنظر الصحيح ،حتى لو تركوا ملا اختاروا عليه دينا آخر ،ومن غوى
منهم فبإغواء شياطني اإلنس واجلن).
وقال ابن عطية( :أنها اخللقة واهليئة يف نفس الطفل اليت هي
معدة مهيأة ألن مييز بها مصنوعات اهلل تعاىل ويستدل بها على ربه
ويعرف شرائعه ويؤمن به).
وقال أبو حيان( :ورجح احلذاق أنها القابلية اليت يف الطفل
للنظر يف مصنوعات اهلل ،واالستدالل بها على موجده ،فيؤمن به
ويتبع شرائعه ،لكن قد تعرض له عوارض تصرفه عن ذلك ،كتهويد
أبويه له ،وتنصريهما ،وإغواء شياطني اإلنس واجلن).
431
وقال ابن عاشور( :الفطرة هي النظام الذي أوجده اهلل يف كل
خملوق ،والفطرة اليت ختص نوع اإلنسان هي ما خلقه اهلل عليه
جسدا وعقال ،فمشي اإلنسان برجليه فطرة جسدية ،وحماولته أن
يتناول األشياء برجليه خالف الفطرة اجلسدية ،واستنتاج املسببات
من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية ،وحماولة استنتاج
أمر من غري سببه خالف الفطرة العقلية ...فوصف اإلسالم بأنه
فطرة اهلل معناه أن أصل االعتقاد فيه جار على مقتضى الفطرة
العقلية).
ويتبني من هذه النصوص أن بعضهم فسر الفطرة بالقابلية
للتوحيد ،أو القابلية لإلسالم نفسه باعتباره دين التوحيد اخلالص،
أو باإلسالم نفسه.
432
(التحقيق يف املسألة):
431
ش ِهدْنَا
سهِمْ َألَسْتُ ِبرَبِّكُمْ قَالُوا َبلَى َ
ش َه َدهُمْ َعلَى أَ ْنفُ ِ
ظهُورِهِمْ ذُرِّيَّ َتهُمْ وَأَ ْ
ُ
أَنْ َتقُولُوا َيوْمَ ا ْلقِيَا َمةِ إِنَّا كُنَّا َعنْ َهذَا غَا ِفلِنيَ ( )371أَوْ َتقُولُوا إ َِّنمَا
ِّيةً ِمنْ َب ْع ِدهِمْ أَفَ ُت ْهلِكُنَا ِبمَا َفعَلَ
ش َركَ آبَاؤُنَا ِمنْ َق ْبلُ وَكُنَّا ذُر َّ
أَ ْ
طلُونَ) .وهذا تأكيد ملا فطرهم اهلل عليه ،فاإلقرار ليس الفطرة،
ا ْل ُمبْ ِ
بل هو إذا صح التعبري :اختبار للنظام ،وهلل املثل األعلى ،فاإلنسان
حني خيرتع شيئا يضعه حتت التجربة واالختبار ،أما اهلل سبحانه
وتعاىل فإنه طبّق النظام على الناس مباشرة ،حتى ال تكون هلم حجة
على ربهم .وهذا هو ما جاءت الرسل تذكر الناس به ،فهي تذكرهم
َكرٌ).
َكرْ إ َِّنمَا أَنْتَ ُمذ ِّ
بشيء عرفوه ولكنهم نسوهَ ( .فذ ِّ
من هنا يتبني لنا ما يلي:
)3الفِطرة ،مرتبطة دالليا بالفَطْر ،فالفطر هو خلق النظام
احلاضن للفطرة ،وقد فطر اهلل بعض خلقه ،ثم عرض
عليهن محل األمانة فأبني ومحلها اإلنسان ،ففطره اهلل على
الفطرة.
)1اختص اإلنسان بالفطرة ،والفطرة ترتبط ببدء خلق
خللْقي ،يتميز بها عما سواه
اإلنسان ،فهي جزء من تكوينه ا َ
من املخلوقات.
)1الفِطرة ،ليست مشرتكة بني اإلنسان وغريه ،ومن ثم فال
يصح القول( :الفطرة اجلسدية ،كالرِّجْل مفطورة على
املشي) ،فهذا ال يسمى فطرة ،بل يسمى هداية ،فاهلل سوى
خ ْل َقهُ ثُمَّ
خلقه ثم هدى ،كما قال( :أَعْطَى كُلَّ شَ ْيءٍ َ
َهدَى) ،أي سواه ثم هداه ملا سواه ،فسوى النملة وفق نظام
433
التقدير ،وهداها ملا سواها له.
)4الفِطرة ،مرتبطة مبا مييز اإلنسان عن غريه من اخللق ،فما
الذي ميز اإلنسان عن سائر اخللق؟
431
إني جاعل يف األرض خليفة:
وأما الثاني فهو قوله تعاىل( :وَِإذْ قَالَ ر َُّبكَ ِللْ َملَائِ َكةِ إِنِّي جَاعِلٌ
خلِي َفةً) ...إىل آخر اآليات .فاآليات تبني خاصة اختص
فِي الْأَ ْرضِ َ
بها اهلل اإلنسان ،وهي "القدرة على استخدام العلم يف خالفة األرض".
فالقدرة على العلم تشمل القدرة على تسمية األشياء ،والقدرة
على تصنيفها ،والقدرة على اإلبانة ،والقدرة على االستنتاج ...اخل.
وهذه ميزة لإلنسان على املالئكة ،ولكنها ليست ميزة له على اجلن،
فاجلن كما تبني آيات القرآن الكريم لديهم القدرة على العلم أيضا،
َلهُمْ َعلَى َم ْو ِتهِ إِلَّا دَابَّةُ
كما يف قولهَ ( :فلَمَّا قَضَيْنَا َعلَ ْيهِ الْ َموْتَ مَا د َّ
كلُ مِنْسَ َأ َتهُ فَلَمَّا خَرَّ َتبَيَّنَتِ ا ْلجِنُّ أَنْ َلوْ كَانُوا َي ْع َلمُونَ
الْأَ ْرضِ تَأْ ُ
جهَنَّمَ كَثِريًا
ا ْلغَيْبَ مَا َلبِثُوا فِي ا ْل َعذَابِ ا ْل ُمهِنيِ) ،وقولهَ ( :و َل َقدْ ذَرَأْنَا ِل َ
صرُونَ ِبهَا
ِمنَ ا ْلجِنِّ وَالْإِنْسِ َلهُمْ ُقلُوبٌ لَا َي ْف َقهُونَ ِبهَا َو َلهُمْ أَعْ ُينٌ لَا ُيبْ ِ
َل أُولَ ِئكَ هُمُ
س َمعُونَ ِبهَا أُولَ ِئكَ كَالْأَ ْنعَامِ َبلْ هُمْ َأض ُّ
َو َلهُمْ آذَانٌ لَا يَ ْ
ا ْلغَا ِفلُونَ).
ولك أن تسألين :ملاذا خصصتها باستخدام العلم؟ فأقول اآلية
هي ما دلت على ذلك ،حيث قال تعاىل( :إِنِّي جَا ِع ٌل فِي الْأَرْضِ
خلِي َفةً) ،فاخلليفة له ميزتان ،األوىل :القدرة على العلم ،والثانية:
َ
القدرة على استخدام العلم يف خالفة األرض ،ليعمرهاُ ( .هوَ أَنْشَأَكُمْ
ِمنَ الْأَ ْرضِ وَاسْ َت ْع َمرَكُمْ فِيهَا).
فامليزة األوىل يشرتك فيها اإلنسان واجلان ،وهي تستوجب أن
يكون لدى املخلوق نظام اختياري (مزدوج االجتاه) ،خيتار ما يريد،
412
خيتار اخلري أو الشر ،خيتار احلق أو الباطل ،خيتار س أو ص ..وقد
اقرتن النظام االختياري باجلزاء ،فاإلنسان واجلان كالهما حماسب
جمازى على اختياره .أما سائر اخللق فليس لديهم إال نظام أحادي
االجتاه ،واملالئكة منهم .وقد بينت هذا يف كتابي (علّم القرآن :يف
تفسري سورة املزمل).
وأما امليزة الثانية ،وهي القدرة على استخدام العلم يف خالفة
األرض .فهذه كما تبني آيات القرآن الكريم ،وكما يبني تاريخ
اخلليفة يف األرض ،خاصة باإلنسان ،ال يشاركها فيه غريه ،وقد
استوجبت هذه امليزة أن يسخر اهلل لإلنسان السماوات واألرض وما
فيهن ،ومن فيهم ،فكلهم مسخرون خلدمته.
ولنا أن نسأل :ما القدرة على استخدام العلم يف خالفة األرض؟
واإلجابة بوضوح ،هي :القدرة على التدبري .فاهلل أقدر اإلنسان على
تدبري بعض األمر يف األرض ،فينشئ فيها ،ويعمر ،ويسوي ،ويبين،
وحيكم ،ويتصرف سائر التصرفات ،وهذه اخلاصة ليست لسواه.
وعليه فاألمانة ،تفسرها آية البقرة ،وهي :شيء يتعلق بـ"القدرة
على استخدام العلم يف خالفة األرض" ،أو بعبارة أخرى" :خالفة
األرض" ،وخالفة األرض :عمارتها وتدبريها ،وفق ما يريد املستخلِف.
فما ذلك الشيء املتعلق بالقدرة على استخدام العلم يف خالفة
األرض؟
414
القدرة على االنتفاع باألعضاء:
لقد أخربنا اهلل سبحانه وتعاىل يف عشرات اآليات عن ذلك
الشيء ،وهو :االنتفاع بالسمع واألبصار واألفئدة واللسان واألنف
وباألرجل وباأليدي يف خالفة األرض .فهذا الشيء هو خاصية
االنتفاع بهذه األعضاء ،وقد خص اهلل بها اإلنسان.
وهنا ينبغي التمييز بني دالالت األلفاظ؛ فالعني شيء ،والرؤية
شيء آخر ،واإلبصار شيء آخر ،واالنتفاع به يف خالفة األرض شيء
آخر .وهكذا األذن واللسان ...وإذا أدركنا هذا تبني لنا أن االنتفاع
مبجموع هذه الوسائل مما اختص اهلل به اإلنسان ،وهنا تتجلى قدرة
اهلل سبحانه وتعاىل ،يف أنه خلق نفس هذه األعضاء يف خملوقات
كثرية ،كما خلقها يف اإلنسان ،ولكن وظائفها يف اإلنسان ،ومدى
انتفاعه بها خيتلف عن سائر املخلوقات .فمثال :الصقر أحدّ رؤية من
اإلنسان ،ولكن عني اإلنسان عني عليمة بديعة ،واألسد أبطش من
اإلنسان ،ولكن يد اإلنسان تصنع قوة تدمريية ،أو تبين حتفة معمارية،
أو ترسم لوحة فنية ،أو تعزف نغمة موسيقية ...وهكذا القول يف سائر
تلك األعضاء.
وهنا أعود وأذكر بأن اهلداية هي تسوية اخللق وهدايته ملا سواه
له ،فاهلل سوى العني يف املخلوق ،وهداها ملا سواها له من الرؤية،
فاهلداية يف العني (الرؤية) يستوي فيها اإلنسان واحليوان ،وكذلك
األنف واألذن ...مع وجود التفاوت بني املخلوقات يف قوتها ،وليس يف
االنتفاع بها .فسائر احليوانات لديها األذن والعني واللسان واألنف
والفؤاد والرجل واليد ،وقد هداها اهلل لعملها ،يف احليوانات كما يف
412
اإلنسان.
أما اإلنسان فيتميز عنها باستخدامه هلا ،وانتفاعه بذلك يف
خالفة األرض .ولذلك جتد القرآن الكريم مينت كثريا على الناس
بالسمع والبصر والفؤاد ،وحيث وردت يف القرآن الكريم فال ترد مع
خرَجَكُمْ
لفظ (خلق) ،بل مع (جعل) غالبا ،ومع (أنشأ) مرة( ،وَاهللُ أَ ْ
الس ْمعَ وَالْأَبْصَارَ
ج َعلَ لَكُمُ َّ
ُمهَاتِكُمْ لَا َت ْع َلمُونَ شَيْئًا وَ َ
ِمنْ بُطُونِ أ َّ
وَالْأَفْ ِئدَةَ َلعَلَّكُمْ تَشْ ُكرُونَ) ،ففي اآلية ربطها بالعلم .وجميؤها مع
(جعل) يفيد الصريورة ،أي :صارت لكم بعد أن مل تكن ،فهي ليست
األذن أو العني ،وما تقتضيه وظائفهما ،فهذه لدى كل احليوانات ،بل
املقصود بها :جعال خاصا جعله اهلل لإلنسان .وقد جاءت يف أربعة
مواضع ،وكلها أعقبها طلب الشكر ( َقلِيلًا مَا تَشْ ُكرُونَ) يف ثالثة
منها ،و( َلعَلَّكُمْ تَشْ ُكرُونَ) يف الرابع .أي :تشكرون ربكم على ما خصكم
به وميزكم عن سائر خلقه .وسياق الشكر يف القرآن الكريم ،يأتي يف
مقام الفضل من اهلل على الناس ،وما خصهم به من آالئه ونعمه ،يف
أنفسهم أو يف األرض ،أو يف األنعام.
والقرآن الكريم يطلب من اإلنسان أن يستخدم هذه اخلاصية ،يف
السري يف األرض ،ويف النظر إىل آيات اهلل ،ويف التفكر ،حتى حيقق
خالفة األرض كما يريد املستخلِف ،كقوله( :أَ َفلَمْ يَسِريُوا فِي
س َمعُونَ ِبهَا فَإ َِّنهَا لَا
الْأَ ْرضِ فَتَكُونَ َلهُمْ ُقلُوبٌ َي ْع ِقلُونَ ِبهَا أَوْ آذَانٌ يَ ْ
الصدُورِ) ،فربط منفعة
َت ْعمَى الْأَبْصَارُ َولَ ِكنْ َت ْعمَى ا ْل ُقلُوبُ الَّتِي فِي ُّ
هذه األعضاء بالسري يف األرض ،وهو جزء من خالفة اإلنسان فيها.
وقوله( :إِنَّ فِي َذ ِلكَ َلعِ ْبرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) ،وكثريا ما يعقب اآليات
413
صرُونَ)( ،أَ َفلَا َت ْع ِقلُونَ).
س َمعُونَ)( ،أَفَلَا ُتبْ ِ
بقوله( :أَ َفلَا تَ ْ
الذِينَ َتدْعُونَ ِمنْ دُونِ اهللِ ِعبَادٌ أَمْثَالُكُمْ
وقال تعاىل( :إِنَّ َّ
فَادْعُوهُمْ َفلْيَسْ َتجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِنيَ (َ )394أ َلهُمْ أَرْجُلٌ
صرُونَ ِبهَا أَمْ َلهُمْ
َيمْشُونَ ِبهَا أَمْ َلهُمْ أَ ْيدٍ َيبْطِشُونَ ِبهَا أَمْ َلهُمْ أَعْ ُينٌ ُيبْ ِ
س َمعُونَ ِبهَا) ،فهو ينعى على اإلنسان أن يعبد آهلة ال متتلك ما
آذَانٌ يَ ْ
ميتلكه هو ،فاهلل يقول :هذه اآلهلة ليس هلا ما لك أيها اإلنسان
فكيف تعبدها؟! والذي لإلنسان هو الفطرة ،فرجله اليت ميشي بها
غري سائر األرجل اليت متشي بها الكائنات ،وكذلك يده ،وعينه
وأذنه .فالرتكيز هنا ينصب على الشيء الزائد يف هذه األعضاء الذي
اختص اهلل به اإلنسان.
َخرَ لَكُمْ مَا
واهلل سخر لإلنسان السماوات واألرض وما فيهما( ،وَس َّ
جمِيعًا مِ ْنهُ إِنَّ فِي ذَ ِلكَ لَآيَاتٍ ِل َقوْمٍ
السمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَ ْرضِ َ
فِي َّ
َكرُونَ) .ففطرة اإلنسان متكنه من االنتفاع بهذه املسخرات ،ومتكنه
يَ َتف َّ
من حتقيق التسخري ،وهذا ما ليس ملخلوق آخر سوى اإلنسان.
خلْقي:
الفطرة نظام َ
خلْقي" ،جعله اهلل
فهذا الشيء الذي متيز به اإلنسان هو "نظام َ
يف اإلنسان دون سواه ،وبعبارة أخرى :هيئة خاصة فطر اهلل اإلنسان
عليها ،وهذه اهليئة اخلاصة متيزه عن غريه ،فغريه من البهائم مثالً
لديهم آذان ،ولكن أذن اإلنسان ذات هيئة خاصة مميزة ،هذه اهليئة
هي :الفِطرة ،والفِطرة ،بزنةِ ( :فعْلة) ،وهذا الوزن يأتي يف العربية
للداللة على هيئة الشيء ،فمثال ،تقول :ضرب زيدا عمرا ،فهذه تفيد
411
ضرْبَة منكرة،
وقوع الضرب ،فلو أردت بيان حالة الضرب ،لقلت :ضربه ِ
وإذا حتدث الناس عن هذه الضِربة ،فإنها تصبح مثال بعد ذلك،
ضرْبة زيد ،أي مثل تلك الضربة،
فيقول أحدهم :ضربت فالنا ِ
فهيئتها معروفة هلم .والفِطرة اسم هيئة من (فطر) ،فهي حالة
خاصة من الفطر ،متيز بها اإلنسان عن املخلوقات كلها ،وعن
املفطورات اليت كانت لديهن قابلية الفطرة.
ويتحدث علم التشريح اليوم عن مزايا خاصة بدماغ اإلنسان،
هي املسؤولة عن وظائف األعضاء من حركة وتوازن ونطق وتفكري
وحتليل وخيال وقراءة وأخالق وأحكام وتدين...اخل .والدماغ نفسه
مسؤول أيضا عن الوظائف األساسية لألعضاء ،كالرؤية والسمع
والغرائز ...اخل ،وهي وظائف أساسية لدى اإلنسان وغريه من
احليوانات .فالفطرة تتعلق مبا خيتص به اإلنسان ،وليس مبا يشرتك
فيه مع غريه.
فالفطرة :هي إنشاء خاصية االنتفاع باألعضاء يف اإلنسان ،وهي
خاصية متكنه من تسخري املخلوقات ،واالنتفاع بها يف اخلالفة يف
األرض.
فإن استخدم تلك اخلاصية كما يريد املستخلِف نال رضاه،
وثوابه ،وإن استخدمها بغري ما يريد املستخلِف فقد استحق سخطه
وعقابه.
411
كما يف قوله تعاىل يف وصف أنبيائه( :وَاذْكُرْ ِعبَادَنَا إِ ْبرَاهِيمَ
سحَاقَ وَ َي ْعقُوبَ أُولِي الْأَ ْيدِي وَالْأَبْصَارِ) ،قال املفسرون :أولي األيدي،
وَإِ ْ
أي :القوة ،واألبصار :أي البصائر .والوجه أن تفسريها ينبثق مما
ذكرته هنا ،فهم أولو األيدي واألبصار ،أي من يستخدمون أيديهم
وأبصارهم وفق الفطرة ،فينتفعون بها لعمارة األرض كما يريد ربهم.
وأما من مل ينتفع بها ،فإن القرآن الكريم ينفي عنه ذلك،
فمثله كمثل من ليس لديه تلك اخلاصية أصال ،كقوله( :أَمْ
سمَعُونَ أَوْ َي ْعقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَ ْنعَامِ َبلْ هُمْ
َتحْسَبُ أَنَّ أَكْ َث َرهُمْ يَ ْ
سبِيلًا) ،فهم كاألنعام اليت لديها تلك األعضاء ولكن ليس
َأضَلُّ َ
لديها خاصية االنتفاع بها خلالفة األرض ،فهو مثلها ،بل هو أضل
منها؛ ألنه يف احلقيقة لديه السمع والبصر ولكنه استخدمهما ال
س َمعُ أَوْ نَ ْع ِقلُ مَا كُنَّا فِي
كما يريد املستخلِف( .وَقَالُوا َلوْ كُنَّا نَ ْ
السعِريِ).
صحَابِ َّ
َأ ْ
جهَنَّمَ كَثِريًا ِمنَ ا ْلجِنِّ وَالْإِنْسِ َلهُمْ
وقال تعاىلَ ( :ولَ َقدْ ذَرَأْنَا ِل َ
س َمعُونَ
صرُونَ ِبهَا َو َلهُمْ آذَانٌ لَا يَ ْ
ُقلُوبٌ لَا َي ْف َقهُونَ ِبهَا َو َلهُمْ أَعْ ُينٌ لَا ُيبْ ِ
ِبهَا أُولَ ِئكَ كَالْأَ ْنعَامِ َبلْ ُهمْ َأضَلُّ أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلغَا ِفلُونَ) ،فاستوى
اجلن واإلنس يف سوء االنتفاع من هذه األعضاء يف اإلميان بربهم،
وأما اإلنس فلم ينتفعوا بها أيضا يف تدبري األرض كما يريد ربهم،
وخالفة األرض مما اختص به اإلنس ال اجلن .وتأمل التعقيب بقوله
(أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلغَا ِفلُونَ) ،وهو ما حذر اهلل بين آدم منه حني أشهدهم
على أنفسهم (أَنْ َتقُولُوا َيوْمَ ا ْلقِيَا َمةِ إِنَّا كُنَّا َعنْ َهذَا غَا ِفلِنيَ) ،أي:
ط َبعَ اهللُ
الذِينَ َ
الغفلة عن مقتضى الفِطرة .ومثله قوله( :أُولَ ِئكَ َّ
412
س ْمعِهِمْ وَأَبْصَا ِرهِمْ وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلغَا ِفلُونَ) ،فعقب
َعلَى ُقلُو ِبهِمْ وَ َ
بالغفلة.
ظرُونَ
س َمعُوا َو َترَاهُمْ يَنْ ُ
ومثله قوله( :وَإِنْ َتدْعُوهُمْ ِإلَى ا ْل ُهدَى لَا يَ ْ
س ِمعْنَا
َالذِينَ قَالُوا َ
صرُونَ) ،وقولهَ ( :ولَا تَكُونُوا ك َّ
ِإلَ ْيكَ َوهُمْ لَا ُيبْ ِ
الذِينَ لَا
س َمعُونَ ( )13إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِ ْندَ اهللِ الصُّمُّ ا ْلبُكْمُ َّ
َوهُمْ لَا يَ ْ
س ْم ِعهِمْ وَ َعلَى أَبْصَا ِرهِمْ
َي ْع ِقلُونَ) ،وقوله( :خَتَمَ اهللُ َعلَى ُقلُو ِبهِمْ وَ َعلَى َ
س ْمعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ َعلَى
خذَ اهللُ َ
غِشَاوَةٌ) ،وقولهُ ( :قلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَ َ
ُقلُوبِكُمْ َمنْ ِإ َلهٌ غَ ْيرُ اهللِ يَ ْأتِيكُمْ ِبهِ) ،أي :إن أخذها عليكم فأصبحتم
كاألنعام لكم آذان وأعني وقلوب ،كما لديها ،فالذي يأخذه ليس
اآلذان بل األمساع ،وليس العيون بل األبصار .وقولهَ ( :و َل َقدْ مَكَّنَّاهُمْ
ج َعلْنَا َلهُمْ سَ ْمعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْ ِئدَةً َفمَا أَغْنَى
فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَ َ
س ْمعُهُمْ َولَا أَبْصَا ُرهُمْ َولَا أَفْ ِئ َد ُتهُمْ ِمنْ شَيْءٍ).
عَ ْنهُمْ َ
وقال تعاىل( :فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي ُهدًى َف َمنِ َّات َبعَ ُهدَايَ َفلَا يَضِلُّ
شةً ضَنْكًا)،
كرِي فَإِنَّ َلهُ َمعِي َ
شقَى ( )311وَ َمنْ أَ ْع َرضَ َعنْ ذِ ْ
َولَا يَ ْ
فمعيشته الضنك؛ ألنه يعمل خالف الفطرة اليت فطر عليها ،فهو
يعيش يف شقاق دائم مع نفسه ،ومع فطرته اليت خلقه اهلل عليها( ،بَلِ
شقَاقٍ) .أما من اتبع اهلدى فال يضل وال
ك َفرُوا فِي عِزَّةٍ وَ ِ
الذِينَ َ
َّ
يشقى ،بل يعيش مطمئنا سعيدا ،إذ هو متوافق مع خِلقته.
411
املطلب الثالث :األمانة:
413
األمانة وديعة مسرتدة:
واألمانة هي وديعة يسرتدها املؤمتن متى شاء ،واهلل سيكافئ من
حفظ األمانة فيدخلهم جنته منعمني باألمانة اليت حفظوها من
مسع وبصر ،أما اخلائنون فيسرتد اهلل منهم األمانة اليت خانوها ومل
س ْمعُهُمْ
يكونوا أهال هلا .ويبدأ ذلك بشهادتها عليهم (شَ ِهدَ َعلَ ْيهِمْ َ
جلُودُهُمْ) ،ثم تتربأ منهم تلك األمانة ،وحتاجهم أمام
وَأَبْصَا ُرهُمْ وَ ُ
اخللق ،وتفضح خيانتهم.
س ْمعُهُمْ وَأَبْصَا ُرهُمْ
ش ِهدَ َعلَ ْيهِمْ َ
قال تعاىل( :حَتَّى ِإذَا مَا جَاءُوهَا َ
ش ِه ْدتُمْ َعلَيْنَا
جلُو ِدهِمْ لِمَ َ
جلُو ُدهُمْ ِبمَا كَانُوا َي ْع َملُونَ ( )10وَقَالُوا ِل ُ
وَ ُ
خ َلقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَِإلَيْهِ
الذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ َو ُهوَ َ
طقَنَا اهللُ َّ
قَالُوا أَنْ َ
س ْمعُكُمْ َولَا
ش َهدَ َعلَيْكُمْ َ
جعُونَ ( )13وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَ ِترُونَ أَنْ يَ ْ
ُترْ َ
جلُودُكُمْ َو َل ِكنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اهللَ لَا َي ْعلَمُ كَثِريًا مِمَّا
أَبْصَارُكُمْ َولَا ُ
َت ْع َملُونَ) ،وقال تعاىل( :الْ َيوْمَ َنخْتِمُ َعلَى أَ ْفوَا ِههِمْ َوتُك َِّلمُنَا أَ ْيدِيهِمْ
سبُونَ) .فسمعهم وأبصارهم وجلودهم
ش َهدُ أَرْجُ ُلهُمْ ِبمَا كَانُوا يَكْ ِ
َوتَ ْ
ستشهد عليهم ،تشهد أنهم مل يؤدوا أمانتها.
ش ُرهُمْ َيوْمَ
وبعد ذلك تؤخذ منهم ،كما قال تعاىل( :وَنَحْ ُ
خبَتْ
جهَنَّمُ ك َُّلمَا َ
ا ْلقِيَا َمةِ َعلَى وُجُو ِههِمْ عُمْيًا وَبُ ْكمًا َوصُمًّا مَأْوَاهُمْ َ
شرُهُ َيوْمَ ا ْلقِيَا َمةِ أَ ْعمَى ( )314قَالَ رَبِّ لِمَ
سعِريًا) ،وقال( :وَ َنحْ ُ
ِزدْنَاهُمْ َ
ك َذ ِلكَ َأتَ ْتكَ آيَاتُنَا
ش ْرتَنِي أَ ْعمَى وَ َقدْ كُنْتُ بَصِريًا ( )315قَالَ َ
حَ َ
ك َذ ِلكَ الْ َيوْمَ تُ ْنسَى) ،فهو عمى اإلبصار ال عمى الرؤية،
فَنَسِي َتهَا وَ َ
كما سأوضح بعد قليل.
411
جهَنَّمَ أَنْتُمْ َلهَا
وقال( :إِنَّكُمْ وَمَا َت ْعبُدُونَ ِمنْ دُونِ اهللِ حَصَبُ َ
وَا ِردُونَ (َ )98لوْ كَانَ َه ُؤلَاءِ آ ِل َهةً مَا وَ َردُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَا ِلدُونَ ()99
س َبقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الذِينَ َ
س َمعُونَ ( )300إِنَّ َّ
َلهُمْ فِيهَا زَفِريٌ َوهُمْ فِيهَا لَا يَ ْ
ا ْلحُسْنَى أُولَ ِئكَ عَ ْنهَا ُم ْب َعدُونَ) ،فهو نفى عنهم السمع (وهم ال
يسمعون).
والكالم ،سيؤخذ منهم بعد مدة من دخوهلم جهنم ،كما تفيد
ذلك آيات القرآن الكريم يف نقل كالمهم .نقل الطربي يف تفسري
قوله( :اخْسَئُوا فِيهَا وَال تُك َِّلمُونِ) عن حممد بن كعب (قال :فال
يتكلمون فيها أبدا ،فانقطع عند ذلك الدعاء والرجاء منهم .وأقبل
بعضهم ينبح يف وجه بعض ،فأطبقت عليهم) ،ونقل ابن أبي حامت عن
بعد اهلل بن عمرو( :إن أهل جهنم يدعون مالكا ،فال جييبهم أربعني
عاما ثم يرد عليهم :إنكم ماكثون ،قال :هانت دعوتهم واهلل على
مالك ورب مالك .ثم يدعون ربهم فيقولون ربنا غلبت علينا شقوتنا
وكنا قوما ضالني ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظاملون قال:
فيسكت ،عنهم قدر الدنيا مرتني ،ثم يرد عليهم اخسؤا فيها وال
تكلمون قال :واهلل ما نبس القوم بعدها بكلمة واحدة ،وما هو إال
الزفري والشهيق يف نار جهنم .قال :فشبهت أصواتهم بأصوات احلمري
أوهلا زفري وآخرها شهيق) ،ونقله الزخمشري حنوه عن ابن عباس.
فيكونون يف جهنم كالدواب يتعذبون وهم ال يتكلمون وال
يسمعون .وما كان اهلل ليعذب أمانته ،اليت كرم بها بين آدم ،بل
يسرتدها منهم ،ثم يعذبهم.
412
والعمى ال يقصد به عدم الرؤية ،بل عدم اإلبصار ،وكذلك نفي
السمع هو نفي السمع اخلاص باإلنسان ،ال السمع الذي هو وظيفة
األذن ،فالعذاب منه ما يتعلق بالسمع ،وما يتعلق باجللد ،وما يتعلق
بالعني .فهذه األعضاء ووظائفها باقية ،ليذوقوا العذاب .أما السمع
واألبصار واألفئدة اليت كانت خاصة باإلنسان ،فإن اهلل يسرتدها
منهم.
جرِمُونَ النَّارَ) ،وقال( :أَوْ َتقُولَ حِنيَ َترَى
قال تعاىل( :وَرَأَى ا ْل ُم ْ
الذِينَ
ا ْل َعذَابَ َلوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ ِمنَ ا ْل ُمحْسِنِنيَ) ،وقالِ( :إذْ َتبَرَّأَ َّ
سبَابُ) ،وقال:
َطعَتْ ِبهِمُ الْأَ ْ
الذِينَ َّات َبعُوا وَرَأَوُا ا ْل َعذَابَ َو َتق َّ
ُّات ِبعُوا ِمنَ َّ
الندَا َمةَ لَمَّا رَأَوُا ا ْل َعذَابَ) ،وقالَ ( :و َترَى الظَّا ِلمِنيَ لَمَّا رَأَوُا
(وَأَسَرُّوا َّ
سبِيلٍ (َ )44و َترَاهُمْ ُي ْع َرضُونَ َعلَ ْيهَا
ٍّ ِمنْ َ
ا ْل َعذَابَ َيقُولُونَ َهلْ إِلَى َمرَد
ِي) .وكذلك السمع ،كما
ٍّ
خفطرْفٍ َ
ظرُونَ ِمنْ َ
شعِنيَ ِمنَ الذُّلِّ يَنْ ُ
خَا ِ
س ِمعُوا َلهَا َتغَيُّظًا وَزَفِريًا)،
يف قولهِ( :إذَا رََأ ْتهُم مِّن مَّكَانٍ َبعِيدٍ َ
َط ِلعُ َعلَى
وكذلك األفئدة ،قال تعاىلَ ( :نارُ اهللِ ا ْلمُو َقدَةُ ( )6الَّتِي ت َّ
ك َفرُواْ بِآيَاتِنَا
الذِينَ َ
الْأَفْ ِئدَةِ) ،وكذلك اجللود ،قال تعاىل( :إِنَّ َّ
جلُودًا غَ ْي َرهَا
َدلْنَاهُمْ ُ
جلُو ُدهُمْ ب َّ
ضجَتْ ُ
صلِيهِمْ نَارًا ك َُّلمَا نَ ِ
سوْفَ نُ ْ
َ
لِ َيذُوقُواْ ا ْل َعذَابَ) .وكذلك ينطقون نطقا وظيفيا ،كما تنطق
البهائم حني تستغيث أو تصرخ ،قال تعاىل( :وَِإذَا ُأ ْلقُوا مِ ْنهَا مَكَانًا
ك ُثبُورًا) ،وقال( :إِنَّا أَعْ َتدْنَا لِلظَّا ِلمِنيَ نَارًا
َيقًا ُمقَرَّنِنيَ دَ َعوْا هُنَا ِل َ
ض ِّ
سرَادِ ُقهَا وَإِن يَسْ َتغِيثُوا ُيغَاثُوا ِبمَاء كَا ْلمُ ْهلِ) ،وقال( :حَتَّى
أَحَاطَ ِبهِمْ ُ
خذْنَا مُ ْترَفِيهِم بِا ْل َعذَابِ ِإذَا هُمْ َيجْأَرُونَ).
ِإذَا أَ َ
ويدل على ذلك قوله تعاىل( :الْ َيوْمَ َنخْتِمُ َعلَى أَ ْفوَا ِههِمْ َوتُك َِّلمُنَا
414
طمَسْنَا
سبُونَ (َ )65ولَوْ نَشَاءُ لَ َ
ش َهدُ أَرْجُ ُلهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْ ِ
أَ ْيدِيهِمْ َوتَ ْ
صرُونَ (َ )66و َلوْ نَشَاءُ
الصرَاطَ فَأَنَّى ُيبْ ِ
ِّ َعلَى أَعْيُ ِنهِمْ فَاسْ َت َبقُوا
جعُونَ) ،قال أبو
سخْنَاهُمْ َعلَى مَكَانَ ِتهِمْ َفمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا َولَا َيرْ ِ
َلمَ َ
حيان( :والظاهر أن هذا لو كان يكون يف الدنيا .وقال ابن سالم :هذا
التوعد كله يوم القيامة) .وتأويل املفسرين هلا على أنه يف الدنيا،
ولو كان يف اآلخرة كما يفيده السياق ،فإن التأويل أن اهلل لو شاء
لطمس على أعينهم كما أذهب أبصارهم ،فأصبحوا ال يرون ،ولو شاء
ألذهب قدرتهم على احلركة أيضاً ،ولكن شاءت إرادة اهلل أن يروا
ليذوقوا العذاب ،وأن يتحركوا يف جهنم ،حيث يعاجلون السالسل
ص َبةٌ).
واألغالل ويف هذا مزيد من العذاب ،كما قال تعاىل( :عَا ِم َلةٌ نَا ِ
412
(ولقد كرمنا بين آدم):
ح َملْنَاهُمْ فِي
ويتصل بهذا قوله تعاىلَ ( :ولَ َقدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَ َ
خ َلقْنَا
ِمنْ َ
َضلْنَاهُمْ َعلَى كَثِريٍ م َّ
َّيبَاتِ وَف َّ
ا ْلبَرِّ وَا ْل َبحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الط ِّ
َتفْضِيلًا (َ )70يوْمَ َندْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَا ِمهِمْ َف َمنْ أُوتِيَ كِتَا َبهُ بِ َيمِي ِنهِ
ظ َلمُونَ فَتِيلًا ( )73وَ َمنْ كَانَ فِي َهذِهِ
فَأُولَ ِئكَ َي ْقرَءُونَ كِتَا َبهُمْ َولَا يُ ْ
سبِيلًا) .فاهلل كرمهم بهذه األمانة
خرَةِ أَ ْعمَى وََأضَلُّ َ
أَ ْعمَى َف ُهوَ فِي الْآ ِ
على خلقه ،وجعلهم خلفاء يف األرض ،وفضلهم على كثري ممن
خلق .ثم بني سبحانه أن من خان هذه األمانة يف الدنيا فستؤخذ منه
يف اآلخرة (ومن كان يف هذه أعمى فهو يف اآلخرة أعمى).
الذِي عَلَّمَ بِا ْل َقلَمِ ()4
كرَمُ (َّ )1
وتدبر قوله تعاىل( :ا ْقرَأْ وَر َُّبكَ الْأَ ْ
عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَ ْعلَمْ) ،فقد جاءت صفة (األكرم) مقرتنة مع
تعليم اإلنسان ما مل يعلم ،فهذا هو كرم اهلل ،وتكرميه لبين آدم ،الذي
خصهم به.
الذِي كَرَّ ْمتَ َعلَيَّ لَئِنْ
وهذا تفسري قوله( :قَالَ أَرَأَيْ َتكَ َهذَا َّ
َخ ْر َتنِ ِإلَى يَوْمِ ا ْلقِيَا َمةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّ َتهُ إِلَّا َقلِيلًا) ،فإبليس كان
أ َّ
حسده على آدم أن كرمه اهلل عليه ،واهلل كرم آدم باألمانة اليت
استودعه إياها ،ولذلك أسجد له مالئكته من قبل أن يعلموا بهذا
األمر ،حيث أسجدهم له بعد أن نفخ فيه من روحه ،وهم مل يعلموا إال
بعد أن عرض األمساء على آدم .ولكنها الطاعة اليت جبلوا عليها،
والكرب الذي جبل عليه إبليس منعه من السجود.
الذِي
َركَ ِبر َِّبكَ الْ َكرِيمِ (َّ )6
وقال تعاىل( :يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غ َّ
413
َك َبكَ) ،ومل يرد
خ َل َقكَ فَسَوَّاكَ َف َع َد َلكَ ( )7فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ ر َّ
َ
اسم (الكريم) يف القرآن الكريم إال مرة واحدة يف هذا املوطن ،مقرتنا
خبلق اإلنسان وتسويته وتركيبه يف صورته اليت ركبه اهلل عليها،
فكان مهيأ خلالفة األرض .واآلية يف مساق العتاب ،أي :كيف تغرت
وال تقدر ربك حق قدره ،وهو ربك الكريم الذي تفضل عليك،
وأكرمك ،واختصك بأمانته؟!
ضلِ رَبِّي
وجاء على لسان سليمان هذا االسم (قَالَ َهذَا مِنْ فَ ْ
ك َفرَ فَإِنَّ
ك ُفرُ وَ َمنْ شَ َكرَ فَإ َِّنمَا يَشْ ُكرُ لِ َنفْسِهِ وَ َمنْ َ
لِ َي ْب ُلوَنِي أَأَشْ ُكرُ أَمْ أَ ْ
كرِيمٌ) ،مقرتنا بفضل اهلل عليه ،وواجب الشكر من اإلنسان
رَبِّي غَنِيٌّ َ
لربه.
فالكريم :هو املنعم احملسن إىل اإلنسان ،الذي ميزه عن غريه من
اخللق ،وفضله عليها.
**
فاخلالصة أن الفطرة هي :إنشاء خاصية االنتفاع باألعضاء يف
اإلنسان ،وهي خاصية متكنه من اخلالفة يف األرض بعمارتها
وتدبريها.
واألمانة هي :هذه اخلاصية اليت أودعها اهلل يف اإلنسان ،فاألمانة
اليت لدى اإلنسان هي فطرة اهلل اليت فطر الناس عليها.
وهذا هو تكريم اهلل لبين آدم.
411
املطلب الرابع :ال تبديل خللق اهلل:
طرَ
طرَةَ اهللِ الَّتِي فَ َ
قوله تعاىل( :فَأَقِمْ وَجْ َهكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِ ْ
خلْقِ اهللِ َذلِكَ الدِّينُ ا ْلقَيِّمُ َولَكِنَّ أَكْ َثرَ
النَّاسَ َعلَ ْيهَا لَا َت ْبدِيلَ ِل َ
خلْقَ اهللِ) .فما
َيرُنَّ َ
النَّاسِ لَا َي ْع َلمُونَ) ،وقسم إبليسَ ( :ولَآ ُمرَنَّهُمْ َفلَ ُيغ ِّ
املراد خبلق اهلل؟
نقلت سابقا أقوال املفسرين يف هاتني اآليتني ،وبينت أني
سأوضح داللتهما بعد حديثي عن الفطرة.
411
خ ُلفُونَ).
ج َعلْنَا مِنْكُمْ َملَائِ َكةً فِي الْأَ ْرضِ َي ْ
نَشَا ُء َل َ
فهذه قدرة اهلل .ولكن اهلل سبحانه وتعاىل بني أنه ال مبدل
هلل َت ْبدِيلًا) ،ومن ثم فال تبديل خللقه.
ُنةِ ا ِ
ج َد لِس َّ
لكلماتهَ ( ،و َل ْن تَ ِ
412
وقد حتقق إلبليس ما أراده ،كما أخرب القرآن الكريم عن أتباعه
من البشر ،أنهم بال مسع وبال بصر ،وال يعقلون.
( )1قال تعاىل( :وَمَا َنحْنُ بِمَسْبُوقِنيَ (َ )00علَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَا َلكُمْ) ،وقال( :إِنَّا َلقَا ِدرُونَ
خَلقْنَاهُمْ َوشَ َددْنَا أَسْرَهُمْ َوِإذَا شِئْنَا
(َ )40علَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ) ،وقالَ ( :نحْنُ َ
بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا).
411
شمَا ِئ ِلهِمْ) .وكون البشر قادرين على
خ ْل ِفهِمْ وَ َعنْ أَ ْيمَا ِنهِمْ وَ َعنْ َ
َ
َيرُ مَا ِب َقوْمٍ حَتَّى
التغيري ،أخرب عنه القرآن الكريم ،فقال( :إِنَّ اهللَ لَا يُغ ِّ
سهِمْ).
َيرُوا مَا بِأَ ْنفُ ِ
ُيغ ِّ
وعليه فلفظ (خلق اهلل) يف اآليتني مل خيرج عن داللة اخللق،
ولكنه (خلق خاص) ،خيص اإلنسان ،وهذا اخللق اخلاص هو أمانة
اهلل عند اإلنسان.
413
املبحث الرابع( :جعل) يف القرآن الكريم
411
املطلب األول :الداللة العامة لـ (جعل)
قال اخلليل :جعلت الشيء :صنعته ،إال أن "جعل" أعم ،تقول:
جعل يقول ،وال تقول :صنع يقول).
وقال العسكري يف الفروق اللغوية "مفرقاً بني اجلعل والعمل":
(ا ْل َعمَل ُهوَ إجياد األثر فِي الشَّيْء.
واجلعل َتغْيِري بإجياد الْأَثر فِيهِ ِبغَيْر َذلِك .أَال ترى أَنَّك تَقول:
جعل الطني خزفا ،وَجعل السَّاكِن متحركا ،وَتقول :عمل الطني
خزفاَ ،ولَا تَقول :عمل السَّاكِن متحركا؛ لِأَن ا ْلحَرَكَة لَيست بأثر
يُؤثر ِبهِ فِي الشَّيْء.
واجلعل أَيْضا يكون ِب َمعْنى اإلحداث َو ُهوَ َقوْله َتعَالَى( :وَجعل
الظ ُلمَات والنور) وَقَوله َتعَالَى (وَجعل لكم السّمع واألبصار) .وَجيوز أَن
ُّ
ُيقَال إِن َذلِك َيقْتَضِي أَنه جعلهَا على َهذِه الصّفة الَّتِي هِيَ َعلَ ْيهَا
كمَا تَقول :جعلت الطني خزفا.
َ
واجلعل أَيْضا يدل على الِاتِّصَال ،وَل َذلِك جعل طرفا ل ْل ِفعْل
ك َق ْولِك :جعل َيقُول ،وَجعل ينشد.
فتستفتح ِبهِ َ
خبَر فِي َقوْله َتعَالَى (وَجعلُوا ا ْل َملَائِكَة
وَجَاء أَيْضا ِب َمعْنى ا ْل َ
حمَن إِنَاثًا) أَي أخربوا بذلك .وَبِ َمعْنى احلكم فِي
الَّذين هم عباد الرَّ ْ
سقَايَة ا ْلحَاج) اي حكمتم) .أ.هـ.
َقوْله َتعَالَى (أجعلتم ِ
وقال الراغب يف املفردات:
ج َعلَ :لفظ عام يف األفعال كلها ،وهو أعمّ من فعل وصنع وسائر
َ
422
أخواتها ،ويتصرّف على مخسة أوجه:
األول :جيري جمرى صار وطفق فال يتعدّى ،جنو جعل زيد يقول
كذا.
والثاني :جيري جمرى أوجد ،فيتعدّى إىل مفعول واحد حنو
الظلُماتِ وَالنُّورَ}.
قوله عزّ وجل{ :وَجَ َعلَ ُّ
َاللهُ جَ َعلَ
والثالث :يف إجياد شيء من شيء وتكوينه منه ،حنو{ :و َّ
لَكُمْ ِمنْ أَ ْنفُسِكُمْ أَزْواجاً}.
الذِي
والرابع :يف تصيري الشيء على حالة دون حالة ،حنوَّ { :
ج َع َل لَكُمُ الْأَ ْرضَ فِراشاً}.
َ
واخلامس :احلكم بالشيء على الشيء ،حقا كان أو باطال ،فأمّا
سلِنيَ}،
احلقّ فنحو قوله تعاىل{ :إِنَّا رَادُّوهُ ِإلَ ْيكِ وَجاعِلُوهُ ِمنَ ا ْل ُمرْ َ
حرْثِ
وأمّا الباطل فنحو قوله عزّ وجل{ :وَجَ َعلُوا ل َِّلهِ مِمَّا ذَرَأَ ِمنَ ا ْل َ
وَالْأَنْعامِ نَصِيباً}.
أ.هـ.
جاء يف الكشاف للزخمشري( :والفرق بني اخللق واجلعل :أن
اخللق فيه معنى التقدير ،ويف اجلعل معنى التضمني ،كإنشاء شيء
من شيء ،أو تصيري شيء شيئا ،أو نقله من مكان إىل مكان).
وقال أبو السعود يف تفسريه( :واجلعل هو اإلنشاء واإلبداع،
كاخللق خال أن ذلك خمتص باإلنشاء التكويين ،وفيه معنى
التقدير والتسوية ،وهذا عام له كما يف اآلية (وجعل الظلمات
424
ج َعلَ اللَّهُ ِمنْ
والنور) ،وللتشريعي أيضا ،كما يف قوله سبحانه( :ما َ
َبحِريَةٍ) .وأيّا ما كان ففيه إنباء عن مالبسة مفعوله بشيء آخر ،بأن
يكون فيه أو له أو منه أو حنو ذلك مالبسة مصححة ألن يتوسط
بينهما شيء من الظروف لغوا كان أو مستقرا لكن ال على أن يكون
عمدة يف الكالم بل قيدا فيه ،كما يف قوله( :وجعل بَيْ َن ُهمَا َبرْزَخاً)،
و(وَجَ َعلَ فِيهَا رَوَاسِىَ)).
وقال احلرالي( :اجلعل :إظهار أمر عن سبب وتصيري).
ويف املعجم املوسوعي أللفاظ القرآن الكريم وقراءاته ،ذكر ستة
معاني لـ(جعل):
ج َع َل لَكُمُ الْأَ ْرضَ ِفرَاشًا).
األول :خلق وأوجد( :الَّذِي َ
ج َعلْنَاهُمْ غُثَاءً).
الثاني :صيّر وحوّلَ ( :ف َ
الثالث :شرع( :مَا جَ َع َل اهللُ ِمنْ َبحِريَةٍ َولَا سَا ِئ َبةٍ وَلَا َوصِي َلةٍ َولَا
حَامٍ).
حلِ أَخِيهِ).
السقَا َيةَ فِي رَ ْ
الرابع :وضع( :جَ َعلَ ِّ
خرَ).
الذِي جَ َعلَ َمعَ اهللِ ِإ َلهًا آ َ
اخلامس :ادّعىَّ ( :
كمَا َلهُمْ آ ِل َهةٌ).
ج َع ْل لَنَا ِإ َلهًا َ
السادس :صنع( :ا ْ
**
وبتتبع استخدام القرآن الكريم لـ(جعل) ،وجدت أن داللتها تكاد
تنحصر يف :التصيري ،والظرفية .سواء السياق الذي استخدمت فيه
للداللة على اخللق أم ال .وسأبني كال األمرين يف املطالب القادمة.
422
املطلب الثاني :استخدام ودالالت (جعل) يف القرآن الكريم
لـ(جعل) عموما يف القرآن الكريم داللتان :التصيري والظرفية.
أوالً :التصيري:
التصيري :النقل من حال إىل حال .والصريورة :االنتقال من حال
إىل حال .وقد جاءت (جعل) بداللة الصريورة يف الرتاكيب التالية:
423
ومنه قولهَ ( :و َتجْ َعلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) ،أي :جتعلون رزقكم
الذي رزقكم اهلل التكذيبَ به ،فكأنهم صريوه كذلك ،وبعض
جعَلْ
املفسرين يقدر :الشكر ،أي شكر رزقكم .ومنه قولهَ( :ألَمْ َي ْ
ضلِيلٍ) ،ففي هنا ليست للظرفية ،وإمنا للصريورة :صري
كَ ْي َدهُمْ فِي تَ ْ
كيدهم هباءَ.
خلَا ِئفَ فِي الْأَ ْرضِ ِمنْ َب ْع ِدهِمْ) ،أي:
ج َعلْنَاكُمْ َ
وكقوله( :ثُمَّ َ
ج َعلْنَا مِنْكُمْ َملَائِ َكةً فِي الْأَرْضِ
صريناكم خالئف ،وقوله ( َو َلوْ نَشَاءُ َل َ
خلُفُونَ) ،أي :لصرينا مالئكة خلفاء يف األرض بدال منكم.
َي ْ
ويدخل يف ذلك أيضا [جعل كـ] ،والكاف مبعنى :مثل ،كقوله
جرِمِنيَ) ،أي :أفنصري املسلمني مثلَ
ج َعلُ ا ْلمُسْ ِلمِنيَ كَا ْل ُم ْ
(أَفَ َن ْ
كدُعَاءِ َبعْضِكُمْ َبعْضًا)،
ج َعلُوا دُعَا َء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ َ
اجملرمني ،و(لَا َت ْ
سقَا َيةَ ا ْلحَاجِّ وَ ِعمَارَةَ
جعَلَ فِتْ َنةَ النَّاسِ كَ َعذَابِ اهللِ)( ،أَجَ َعلْتُمْ ِ
و( َ
الذِينَ
خرِ)( ،أَمْ حَسِبَ َّ
ك َمنْ آ َمنَ بِاهللِ وَالْ َيوْمِ الْآ ِ
حرَامِ َ
جدِ ا ْل َ
س ِ
ا ْلمَ ْ
َالذِينَ آمَنُوا وَعَ ِملُوا الصَّا ِلحَاتِ)( ،أَمْ
ج َع َلهُمْ ك َّ
اجْ َترَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ َن ْ
سدِينَ فِي الْأَ ْرضِ أَمْ
الذِينَ آمَنُوا وَ َع ِملُوا الصَّا ِلحَاتِ كَا ْل ُمفْ ِ
ج َعلُ َّ
َن ْ
ُتقِنيَ كَا ْلفُجَّارِ) ...وكقوله (مَا َتذَرُ ِمنْ شَيْءٍ َأتَتْ َعلَ ْيهِ إِلَّا
ج َعلُ ا ْلم َّ
َن ْ
ج َعلَ ْتهُ كَالرَّمِيمِ) ،أي :صريته مثل الرميم.
َ
421
جزْءًا) ،أي صري األجزاء اليت لديك مفرقة على
ج َبلٍ مِ ْنهُنَّ ُ
كُلِّ َ
كل جبل ،فهو حممول على الصريورة ،وليس على جمرد (الوضع)،
ج َعلْ َلعْ َنةَ اهللِ َعلَى الْكَاذِبِنيَ) ،أي :نصري اللعن
ومنه( :ثُمَّ َنبْ َت ِهلْ فَ َن ْ
ليحيق بالكاذبني ،فبدال من أن حتيق لعنة اهلل بأحد منا ،ندعو اهلل أن
شرِي َعةٍ ِمنَ الْأَمْرِ
ج َعلْنَاكَ َعلَى َ
تصري على الكاذب منا ،ومنه (ثُمَّ َ
َات ِب ْعهَا) ،أي :صريناك على شريعة بينة ،فنقلناك من حال إىل أخرى
ف َّ
ح َرجٍ) ،أي :ما صري
بها ،وكقوله (وَمَا جَ َعلَ َع َليْكُمْ فِي الدِّينِ ِمنْ َ
عليكم حرجا يف الدين ،فهو مل ينقلكم من حالة اليسر إىل حالة
احلرج .وهكذا سائر األمثلة.
الذِينَ اخْ َت َلفُوا فِيهِ) ،أي :إمنا
السبْتُ َعلَى َّ
وقوله (إ َِّنمَا جُ ِعلَ َّ
صريناه يوم عبادة على من اختلف فيه ،فهو مل يكن يوم عبادة ،بل
كان غريه ،قال ابن عطية( :أي مل يكن من ملة إبراهيم وإمنا جعله
اهلل فرضا عاقب به القوم املختلفني فيه ،قاله ابن زيد ،وذلك أن
موسى أمر بين إسرائيل أن جيعلوا من اجلمعة يوما خمتصا بالعبادة
وأمرهم أن يكون اجلمعة ،فقال مجهورهم :بل يكون يوم السبت ألن
اهلل فرغ فيه من خلق خملوقاته ،فقال غريهم :بل نقبل ما أمر اهلل به
موسى ،فراجعهم اجلمهور فتابعهم اآلخرون ،فألزمهم اهلل يوم السبت
إلزاما قويا عقوبة هلم منه ،فلم يكن منهم ثبوت بل عصوا فيه وتعدوا
فأهلكهم).
421
الذَ ْينِ َأضَلَّانَا ِمنَ ا ْلجِنِّ وَالْإِنْسِ َنجْ َع ْل ُهمَا َتحْتَ أَ ْقدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ
أَرِنَا َّ
الذِينَ َّات َبعُوكَ
س َفلِنيَ) ،فنصري مكانهما إىل األسفل ،وقوله (وَجَا ِعلُ َّ
الْأَ ْ
ك َفرُوا ِإلَى َيوْمِ ا ْلقِيَا َمةِ) ،أي :فمصري مكانهم إىل األعلى.
الذِينَ َ
َفوْقَ َّ
422
كمَا َلهُمْ آ ِل َهةٌ)،
ج َعلْ لَنَا ِإ َلهًا َ
وَالْأَ ْنعَامِ نَصِيبًا) ،و(قَالُوا يَا مُوسَى ا ْ
ج َعلْنَا فِتْ َنةً لِ ْل َقوْمِ الظَّا ِلمِنيَ)،
شرَكَاءَ الْجِنَّ)( ،رَبَّنَا لَا َت ْ
و(وَجَ َعلُوا ل َِّلهِ ُ
ج َعلْ لِي آ َيةً)َ ( ،ولَا ُت ْؤتُوا
ج َعلْ لَكُمْ ُفرْقَانًا)( ،قَالَ رَبِّ ا ْ
َتقُوا اهللَ َي ْ
(إِنْ ت َّ
ج َعلَ اهللُ لَكُمْ قِيَامًا) ،أي :صري لكم القيام
الس َفهَاءَ أَ ْموَالَكُمُ الَّتِي َ
ُّ
ج َعلْنَا
سبِيلًا)( ،وَمَا َ
ج َعلَ اهللُ ِللْكَا ِفرِينَ َعلَى ا ْل ُمؤْمِنِنيَ َ
فيهاَ ( ،و َلنْ َي ْ
جعَلَ
خرَجًا)َ ( ،قدْ َ
ج َعلْ َلهُ َم ْ
خلْدَ)( ،وَ َمنْ يَتَّقِ اهللَ َي ْ
شرٍ ِمنْ َق ْب ِلكَ ا ْل ُ
ِلبَ َ
شرْ َعةً وَمِ ْنهَاجًا) ،أي :صرينا
ج َعلْنَا مِنْكُمْ ِ
ٍّ َ
اهللُ لِكُلِّ شَيْءٍ َقدْرًا)( ،لِكُل
لكل منكم شرعة ومنهاجا ...اخل.
421
ثانياً :الظرفية:
أما الظرفية ،فتعين جعل شيء يف شيء ،وقد جاءت (جعل)
بداللة الظرفية يف الرتاكيب التالية:
423
([ )1جعل أمام/خلف]،
كقوله( :وَجَ َعلْنَا ِمنْ بَ ْينِ أَ ْيدِيهِمْ سَدًّا وَ ِمنْ خَ ْل ِفهِمْ سَدًّا
صرُونَ) ،فهو يدل على إحاطة السدود بهم.
فَأَغْشَيْنَاهُمْ َفهُ ْم لَا ُيبْ ِ
421
املطلب الثالث :استخدام (جعل) اليت مبعنى (خلق)
استخدام (جعل) مبعنى (خلق) ،فهي تدل على :خلق الشيء مع
بيان صريورته أو ظرفيته.
وبذلك فـ(جعل) هنا مل تتمحض لداللة (خلق) ،بل جاءت
مقرتنة ببيان الصريورة أو الظرفية .وهذا الفرق بني داللة (خلق)
و(جعل).
أوالً :الصريورة:
الصريورة :وداللتها ،صريورة الشيء املخلوق إىل شيء آخر ،أو
حال أخرى .وجاءت يف الرتاكيب التالية:
412
وقد يأتي باملفعول الثاني مجلة فعلية لبيان العلة ،كقوله ( ُهوَ
ج َعلَ
صرًا) ،كما قال( :وَ َ
َالنهَارَ ُمبْ ِ
ج َعلَ لَكُمُ اللَّ ْيلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ و َّ
الذِي َ
َّ
كبُوا مِ ْنهَا
ج َعلَ لَكُمُ الْأَ ْنعَامَ لِ َترْ َ
الذِي َ
هلل َّ
اللَّ ْيلَ سَكَنًا) ،وكقوله( :ا ُ
خلَقَ الْأَزْوَاجَ
كلُونَ) ،أي :جعلها رَكوبا لكم ،ومثله( :وَالَّذِي َ
وَمِ ْنهَا تَأْ ُ
ج َعلَ
الذِي َ
كبُونَ) ،و(وَ ُهوَ َّ
ج َعلَ لَكُمْ ِمنَ ا ْلفُ ْلكِ وَالْأَ ْنعَامِ مَا َترْ َ
ك َُّلهَا وَ َ
حرِ) ،أي :هداية لكم.
ظ ُلمَاتِ ا ْلبَرِّ وَا ْلبَ ْ
النجُو َم لِ َتهْ َتدُوا ِبهَا فِي ُ
لَكُمُ ُّ
وأمثلة الباب كثرية جداً.
414
واطرد استخدام (جعل) مع أعضاء جسم اإلنسان ،مقرتنة
ج َعلْ َلهُ عَيْنَ ْينِ (َ )8ولِسَانًا
بـ(لكم/هلم/له) ،قال تعاىلَ( :ألَمْ نَ ْ
شفَتَ ْينِ) ،ومل ترد يف غريها .وكذلك السمع واألبصار واألفئدة
وَ َ
س ْمعًا وَأَبْصَارًا
ج َعلْنَا لَهُمْ َ
جعَلَ لَكُمُ السَّ ْمعَ وَالْأَبْصَا َر وَالْأَفْ ِئدَةَ) ،و(وَ َ
(وَ َ
وَأَفْ ِئدَةً) ،وقد وردت أربع مرات كلها مع (جعل) ،واخلامسة مع (أنشأ)،
الس ْمعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْ ِئدَةَ) .وقوله( :مَا
الذِي أَنْشَأَ لَ ُكمُ َّ
يف قوله( :وَ ُهوَ َّ
جوْ ِفهِ).
جلٍ ِمنْ َق ْلبَ ْينِ فِي َ
هلل ِلرَ ُ
ج َعلَ ا ُ
َ
فاملعنى أن اهلل صري لإلنسان هذه النعم بعد أن مل تكن ،فميزه
اهلل بها عن عامة اخللق ،كما بينت سابقا (راجع مبحث :فطر).
412
ط َفةٍ
كرَ وَالْأُنْثَى) ،و(وَاهللُ خَ َلقَكُمْ ِمنْ ُترَابٍ ثُمَّ ِمنْ نُ ْ
مِ ْنهُ الزَّوْجَ ْينِ الذَّ َ
الث َمرَاتِ جَ َعلَ فِيهَا زَوْجَ ْينِ
ج َعلَكُمْ أَزْوَاجًا) ،وقوله( :وَ ِمنْ كُلِّ َّ
ثُمَّ َ
اثْنَ ْينِ).
خلَقَ مِ ْنهَا
كما جاء استخدام (الزوجية) مع (خلق) يف قوله( :وَ َ
خ َلقْنَا زَ ْوجَ ْينِ لَعَلَّكُمْ
جهَا) يف النساء ،وقوله (وَ ِمنْ كُلِّ شَيْءٍ َ
زَوْ َ
خلَقَ الزَّوْجَ ْينِ الذَّكَرَ
َكرُونَ) يف الذاريات ،وقوله يف النجم( :وَأ ََّنهُ َ
َتذ َّ
ط َفةٍ ِإذَا ُتمْنَى) ،وقوله يف الروم( :وَ ِمنْ آيَا ِتهِ أَنْ خَلَقَ
وَالْأُنْثَى (ِ )45منْ نُ ْ
الذِي
س ْبحَانَ َّ
لَكُمْ ِمنْ أَ ْنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا ِإلَ ْيهَا) ،وقوله يف يسُ ( :
سهِمْ وَمِمَّا لَا َي ْع َلمُونَ)،
خلَقَ الْأَزْوَاجَ ك َُّلهَا مِمَّا تُ ْنبِتُ الْأَ ْرضُ وَ ِمنْ أَ ْنفُ ِ
َ
ج َعلَ لَكُمْ ِمنَ ا ْل ُف ْلكِ
َالذِي خَلَ َق الْأَزْوَاجَ ك َُّلهَا وَ َ
ويف الزخرف( :و َّ
خ َلقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا).
كبُونَ)( ،وَ َ
وَالْأَ ْنعَامِ مَا َترْ َ
واستخدمت مع (أنبت) بالنسبة لألرض ،كقوله( :وَأَ ْنبَتْنَا فِيهَا
السمَاءِ مَاءً
ِمنْ كُلِّ زَ ْوجٍ َبهِيجٍ) ،ومع (أخرج) يف قوله( :وَأَ ْنزَلَ ِمنَ َّ
خرَجْنَا ِبهِ أَزْوَاجًا ِمنْ َنبَاتٍ شَتَّى).
فَأَ ْ
خلْقَ الْإِنْسَانِ ِمنْ طِنيٍ ()7
وجاء (جعل من) أيضا يف قوله( :وَ َبدَأَ َ
ثُمَّ جَ َعلَ نَسْ َلهُ ِمنْ سُلَا َلةٍ ِم ْن مَاءٍ َمهِنيٍ) ،أي صار بدء نسله من ساللة
من ماء مهني ،فـ(الساللة) متثل األصل الذي جاء منه النسل.
ج َعلَ لَكُمْ
كما جاء هذا الرتكيب (جعل من) يف قوله( :وَاهللُ َ
جلُودِ الْأَ ْنعَامِ بُيُوتًا تَسْ َتخِفُّو َنهَا َيوْمَ
ج َعلَ لَكُمْ ِمنْ ُ
ِمنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَ َ
شعَا ِرهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا
صوَا ِفهَا وَأَوْبَا ِرهَا وَأَ ْ
ظعْنِكُمْ وَ َيوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَ ِمنْ َأ ْ
َ
جبَالِ
ظلَالًا وَجَ َعلَ لَكُمْ ِمنَ ا ْل ِ
خلَقَ ِ
جعَلَ لَكُمْ مِمَّا َ
ِإلَى حِنيٍ ( )80وَاهللُ َ
413
سرَابِيلَ َتقِيكُمْ بَأْسَكُمْ
سرَابِيلَ َتقِيكُمُ ا ْلحَرَّ وَ َ
ج َعلَ لَكُمْ َ
أَكْنَانًا وَ َ
ك َذ ِلكَ يُتِمُّ ِن ْعمَ َتهُ َعلَيْكُمْ َلعَلَّكُمْ تُسْ ِلمُونَ) ،فتالحظ أن اآلية يف
َ
سياق اإلنعام ،وتبني أن اهلل جعل للناس نعما كثرية من أشياء
الذِي جَعَلَ
يعرفونها ،ثم قال هلم أنه يتم نعمته عليهم .ومثله قولهَّ ( :
ضرِ نَارًا فَِإذَا أَنْتُمْ مِ ْنهُ تُو ِقدُونَ) ،أي صري النار من
جرِ الْأَخْ َ
الش َ
لَكُمْ ِمنَ َّ
الشجر األخضر.
َي) ،أي :صرينا كل شيء
ٍّ
ج َعلْنَا ِمنَ ا ْلمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ ح
وقوله( :وَ َ
حي من املاء.
411
ثانياً :الظرفية:
الظرفية ،وداللتها :جعل شيء يف شيء آخر.
412
املطلب الرابع :قوله ( وجعل الظلمات النور)
السمَاوَاتِ
خلَقَ َّ
الذِي َ
ح ْمدُ ل َِّلهِ َّ
أما قوله سبحانه وتعاىل( :ا ْل َ
ك َفرُوا ِبرَبِّهِمْ َي ْع ِدلُونَ) ،فهو
الذِينَ َ
وَالْأَ ْرضَ وَجَ َعلَ الظُّ ُلمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ َّ
املوضع الوحيد الذي مل يالبس (جعل) مفعوال ثانيا ،ومل يالبسها
حرف جر أو ظرف ،كعامة األمثلة.
وخرجها عامة املفسرين أن (جعل) مبعنى :خلق وأوجد .قال
ج َعلَ الظُّ ُلمَاتِ وَالنُّورَ} يعين وخلق ،فغاير بني اللفظ
املاورديَ {( :و َ
ليكون أحسن يف النظم) .وقال البغوي( :واجلعل مبعنى اخللق ،وقال
الواقدي :كل ما يف القرآن من الظلمات والنور فهو الكفر واإلميان،
إال يف هذه اآلية فإنه يريد بهما الليل والنهار).
الظلُماتِ وَالنُّورَ} أنشأهما ،والفرق
وقال البيضاوي{( :وَجَعَلَ ُّ
بني خلق وجعل الذي له مفعول واحد أن اخللق فيه معنى التقدير
واجلعل فيه معنى التضمن .ولذلك عرب عن إحداث النور والظلمة
باجلعل تنبيه ًا على أنهما ال يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية).
وتابعه ابن عاشور ،يف أن الظلمات والنور عرضان ،قال( :ففعل
"خلق" أليق بإجياد الذوات ،وفعل "جعل" أليق بإجياد أعراض الذوات
وأحواهلا ونظامها).
وأنا ال أتفق مع ابن عاشور يف أن (جعل) أليق بأعراض الذوات؛
ففي كثري من اآليات ذكر جعل شيء يف شيء ،وكالهما ذات ،مثل
(جعل يف السماء بروجا) ...وغريها من اآليات الواردة .ثم إن الظلمات
والنور ذوات وليستا جمرد عرضني .وهو ما أملح إليه بعض املفسرين،
411
كاحلرالي حيث قال أن الظلمات :ما يطمس الباديات حساً ومعنى،
والنور هو ما يُظهر الباديات حسا ومعنى ،وكذلك البقاعي ،حيث
قال{( :الظلمات} أي :األجرام املتكاثفة).
وهذا هو املوضع الوحيد الذي اقرتنت فيه (الظلمات والنور)
بفعل (جعل) ،ومل ترد يف غريه مقرتنة بفعل من األفعال الدالة على
اخللق واإلنشاء.
وقد بينت يف حبث (الظلمات والنور يف القرآن الكريم) ،أن مثة
ثالث ظلمات ،ونورا واحدا فقط ،وجاء يف احلديث« :إن اهلل عز وجل
خلق خَلْ َقه يف ظُلْمة ،ثم ألقى عليهم نورا من نوره» ،فهي الظلمة
األوىل اليت خلق اهلل فيها اخللق ،ثم الظلمة الثانية :ظلمة الدنيا ،ثم
الظلمة الثالثة :ظلمة القيامة.
وعليه فاملعنى :خلق اهلل السماوات واألرض ،وجعلها من عامل
الغيب ،وخلق الظلمات والنور؛ لتنفذ إرادة اهلل سبحانه وتعاىل يف
إظهار ما شاء من عامل الغيب ليصري من عامل الشهادة .فالسماوات
واألرض وما فيهما من الغيب يكون غيباً يف الظلمات ،ويصري شهادة
بالنور.
الس ْمعَ
وعليه فيمكن أن نقدر الالم ،كقوله( :وَجَ َعلَ لَكُمُ َّ
وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْ ِئدَةَ) ،أي :صري لكم .ويف آية األنعام يكون التقدير:
وصري الظلمات والنور للسماوات واألرض وما فيهما من خلق.
وميكن أن نقدر حرف( :يف) ،أي :جعل فيهما الظلمات والنور،
كما قدر يف قوله (ما جعل اهلل من حبرية) ،أي :ما جعل اهلل يف دينه
413
من حبرية...اخل.
**
وهذا يبني أمرين:
األول :الظلمات يف السماوات
السماوات حميطة خبلق اهلل سبحانه وتعاىل ،وقد اقتضى أمره
أن يكون عامل الغيب ذي الظلمة يف السماوات وليس خارجها .وقد
بينت يف (الغيب والشهادة يف القرآن الكريم) ،أن الغيب إما غيب
حمجوب بالظلمة (وهو أنباء الغيب وأخبار الغيب) ،وإما غيب
حمجوب بالنور ،كاجلنة ،واهلل سبحانه وتعاىل غيب حمجوب عن
خلقه بنوره.
فآية األنعام تبني لنا أن الظلمات اليت خيتفي فيها عامل الغيب،
كلها يف السماوات واألرض وما بينهما.
وهذا يفسر لنا قوله تعاىل( :يَسْ َألُو َنكَ عَنِ السَّا َعةِ أَيَّانَ ُمرْسَاهَا
السمَاوَاتِ
ُقلْ إ َِّنمَا ِع ْل ُمهَا عِ ْندَ رَبِّي لَا ُيجَلِّيهَا ِلوَقْ ِتهَا إِلَّا ُهوَ َثقُلَتْ فِي َّ
وَالْأَ ْرضِ) ،فالساعة هي غيب (من أخبار الغيب) ،وهي موجودة ،ولكنها
حمجوبة بظلمة ،واآلية تبني لنا أن الساعة موجود يف السماوات،
السمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ) .فحني
وليست خارجها ،ولذلك قالَ ( :ث ُقلَتْ فِي َّ
يأذن اهلل بتجليها فإنها تأتي ،ثم بعد ذلك حيدث التبديل يف نظام
السماوات واألرض.
سعَ
الثاني :كل ما كان خارج السماوات كالعرش والكرسي (وَ ِ
411
السمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ) ،فهو غيب حمجوب بالنور ،فال توجد
ِيهُ َّ
كرْس ُّ
ُ
ظلمة خارج إطار السماوات .وهذا يبني أن اجلنة اليت أعدها اهلل
للمتقني ليست داخل السماوات ،بل هي خارجها ،حيث النور التام.
432
املطلب اخلامس :موازنة بني استخدام (خلق) و(جعل)
وباملوازنة بني استخدام (خلق) و(جعل) تبني ما يلي:
( -جعل) ال تدل على اخللق بإطالقها ،بل تدل عليه ببيان
صريورته أو ظرفيته ،كما رأينا يف اآليات السابقة.
( -جعل) ال تستخدم مع األصول األوىل ،كالسماوات
واألرض ،بل يستعمل معها (خلق) ،وأما (جعل) فتستعمل
من املخلوقات اليت نشأت عن األصول األوىل ،كاإلنسان.
واستخدام جعل مع األصول األوىل كاألرض لبيان
ج َعلَ
َمنْ َ
الصريورة ،وال يأتي إال مع مفعولني ،كقوله (أ َّ
الْأَ ْرضَ َقرَارًا) ،خبالف استخدامه مع ما يف األرض ،كقوله:
ج َعلَ فِيهَا رَوَاسِيَ ِمنْ َفوْ ِقهَا).
(وَ َ
( -خلق) تستخدم مع املرحلة األوىل يف اخللق ،أما (جعل)
فتستخدم مع املرحلة الثانية[ .راجع حبثي :السماء
والسماوات يف القرآن الكريم].
-اخللق يستخدم مصدرا وفعال وامسا واسم فاعل ،واسم
خلْق السماوات واألرض ،له
خلَقَ ،
مفعول ،وصفة مشبهةَ ( ،
جدِيدٍ ،خالق ،خلق [مفعول] ،خالق).
خلْقٍ َ
اخللق ،أَئِنَّا َلفِي َ
أما اجلعل فاستخدم فعال واسم فاعل فقط (جعل ،جاعل).
[مع اإلنسان]:
-اطرد استخدام (جعل) مع أعضاء جسم اإلنسان ،ومل
434
تستخدم فيها (خلق).
-وأما أطوار خلق اإلنسان ،ومراحل تكوينه األوىل( :النطفة
والعلقة واملضغة )..فقد اطرد معها استخدام (خلق) .ووردت
ثالث آيات توهم غري ذلك ،وهي قوله ( َولَ َقدْ خَ َلقْنَا الْإِنْسَانَ
ط َفةً فِي َقرَارٍ مَكِنيٍ)،
ج َعلْنَاهُ نُ ْ
سلَا َلةٍ ِمنْ طِنيٍ ( )31ثُمَّ َ
ِمنْ ُ
أي :جعلنا اإلنسان نطفة ،مبعنى :صريناه ،فالفعل وقع على
(ضمري اإلنسان) ،ليبني احلالة اليت صار عليها ،ومل يقع
سلَالَةٍ ِمنْ مَاءٍ
سلَهُ ِمنْ ُ
جعَلَ نَ ْ
على (النطفة) ،وقوله( :ثُمَّ َ
َمهِنيٍ) ،فالفعل وقع على (نسله) ال على (الساللة) .وقوله:
ج َعلْنَاهُ فِي َقرَارٍ مَكِنيٍ
خ ُلقْكُمْ ِمنْ مَاءٍ َمهِنيٍ (َ )10ف َ
(َألَمْ َن ْ
(ِ )13إلَى َقدَرٍ َم ْعلُومٍ) ،فجعل هنا مبعنى :وضع ،أي وضعناه
وحفظناه .ولذلك فقد اطرد استخدام (جعل) مع (قرار
مكني).
-مل يرد (جعل) مع االسم الظاهر (اإلنسان) ،بل( :خلق)،
سهُ)،
سوِسُ ِبهِ َنفْ ُ
خ َلقْنَا الْإِنْسَانَ وَ َن ْعلَمُ مَا ُتوَ ْ
كقولهَ ( :و َل َقدْ َ
خلِقَ الْإِنْسَانُ
صلْصَالٍ)( ،وَ ُ
خ َلقْنَا الْإِنْسَانَ ِمنْ َ
( َولَقَدْ َ
جلٍ) .وأما مع الضمري الغائب
خلِقَ الْإِ ْنسَانُ ِمنْ َع َ
ضعِيفًا)ُ ( ،
َ
العائد لإلنسان ،فقد جاءت (جعل) ،وكذلك (خلق) .وأما
ضمري املخاطب (كم) ،فاطرد استخدام (خلق) :خلقكم،
خلقناكم ،خلقك ...إال يف موضع واحد استخدمت جعل،
وهو قوله (ثُمَّ جَ َعلَكُمْ أَزْوَاجًا) ،وذلك لكونه يتحدث عن
الزوجية.
432
[مع السماء والسماوات واألرض]
-مل يرد (جعل) مع السماوات واألرض أو السماوات ،بل
(خلق).
-اطرد استخدام جعل مع (السماء) ،مبينة احلالة اليت خلقها
اهلل عليها :بناءً ،سقفا حمفوظا ،رجوما للشياطني.
-اطرد استخدام (جعل) مع الرواسي واألنهار واجلنات
واملعايش (يف األرض) ،ومل تستخدم (خلق) مع أي منها.
-اطرد استخدام لبيان الظرفية (يف السماء) :بروجا ،وسراجا،
وقمرا منريا .و(يف السماوات) :جعل القمر فيهن نورا ،وجعل
الشمس سراجا .ومل ترد( :خلق).
[سنة الزوجية]
اطرد استخدام (جعل) مع سنة الزوجية ،كما استخدمت
(خلق) إال أن (جعل) أغلب ،وندر استخدام (أنبت) ،و(أخرج).
433
املبحث اخلامس( :أنشأ) و(ذرأ) و(برأ) و(بثّ) يف
القرآن الكريم
431
ثانياً :داللة اإلنشاء وإيضاحها:
أعرف اإلنشاء (املضاف إىل اهلل) بأنه :بدءٌ يف خلق أول الشيء
وتنميته ،أو إعادة أوله.
اإلنشاء هو بدءٌ يف خلق أول الشيء ،ولذلك غالبا ما يقرتن
بـ(مِن) الدالة على ذلك ،كقوله تعاىلَ ( :و ُهوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ
حدَةٍ) ،وقولهُ ( :هوَ أَنْشَأَكُمْ ِمنَ الْأَ ْرضِ).
َنفْسٍ وَا ِ
و(تنميته) ،مصدر :منّى الشيء ،فالتنمية داخلة يف داللة
حلْ َيةِ َو ُهوَ فِي ا ْلخِصَامِ غَ ْيرُ ُمبِنيٍ)،
اإلنشاء ،فقوله( :أَوَ َمنْ يُنَشَّ ُأ فِي ا ْل ِ
السحَابَ ال ّثقَالَ)،
أي ينمى شيئا فشيئا .وهلذا قال تعاىل( :وَيُنْشِىء َّ
أي :يبدأها ثم ينميها شيئا فشيئا حتى تصبح ثقاال ،ولذلك جتد
قوله ( َولَكِنَّا أَنْشَأْنَا ُقرُونًا) ،أي أوجدنا القرن بعد القرن ،فكأن كل
قرن يكون مناء للقرن الذي قبله ،وقوله ( ُهوَ أَنْشَأَكُ ْم ِمنَ الْأَ ْرضِ
وَاسْ َت ْع َمرَكُمْ فِيهَا) ،فهي دالة على التنمية ،حيث أنشأهم منها
ومناهم شيئا فشيئا ،ومن تنميتهم أن جعلهم مستعمرين فيها،
ج َعلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا) ،فهي
وكذلك قوله( :إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (َ )15ف َ
تنمية خاصة بهن ،وال تزال التنمية حتى أصبحن أبكارا.
واإلنشاء حيدد مسار اخللق ،ولذلك استخدم يف قوله( :وَمَا
ني (َ )60علَى أَنْ ُنبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا َت ْع َلمُونَ
سبُوقِ َ
حنُ ِبمَ ْ
َن ْ
(َ )63و َل َقدْ َع ِلمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى) ،أي :ما كنا عاجزين على أن جنعل
مسار خلقكم مسارا آخر ال تعلمونه ،ولكنا جعلناه املسار الذي
تعلمونه ( َو َل َقدْ َع ِلمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى).
431
خرَ) ،فهو يدل على أن مسار خلق
خ ْلقًا آ َ
وقوله (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ َ
اإلنسان يبدأ من هذا الطور ،أي بعد كساء العظام حلما ،فهو مسار
خيتص به ،وال يشاركه فيه خلق آخر ،ويأخذ يف مراحل النمو يف هذا
املسار اجلديد .وهي املرحلة اليت تبدأ بتسوية اإلنسان( ،انظر حبثي:
سوى ومشتقاتها يف القرآن الكريم).
ظرُوا
واإلنشاء أيضاً بدءٌ يف إعادة أول الشيء ،قال تعاىل( :فَانْ ُ
خرَةَ)( ،وَأَنَّ َعلَ ْيهِ النَّشْأَةَ
خلْقَ ثُمَّ اهللُ ُينْشِئُ النَّشْأَةَ الْآ ِ
كَ ْيفَ َبدَأَ ا ْل َ
خرَى) فسماها النشأة األخرى ،يف مقابل النشأة األوىل ،قال تعاىل:
الْأُ ْ
َكرُونَ).
( َولَ َقدْ َع ِلمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى َف َل ْولَا َتذ َّ
وقد بينت سابقا أن اخللق األول يقابله اخللق اآلخَر ،وهما
املرحلتان الفاصلتان يف تكوين اإلنسان حني يكون جنينا يف بطن أمه.
432
ثالثاً :النشأة األوىل والنشأة األخرى:
النشأة األوىل ،تقابلها النشأة األخرى ،والنشأة األخرى هي إعادة
خلق اإلنسان بعد بعثه ،وأما النشأة األوىل فهي خلق اإلنسان ألول
الذِي أَنْشَ َأهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ)َ ( ،ل َقدْ
مرة ،كما قال تعاىلُ ( :قلْ ُيحْيِيهَا َّ
خ َلقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).
كمَا َ
جِئْ ُتمُونَا َ
ومن ثم فقول بعض املفسرين يف تفسري اآلية( :أعجزنا عن
اخللق األول ،فنعجز عن اخللق الثاني ،وهذا توقيف للكفار ،وتوبيخ
وإقامة احلجة الواضحة عليهم ).فقابل اخللق األول باخللق الثاني،
وهذا غري دقيق ،فلم يرد يف القرآن الكريم :اخللق الثاني ،أو النشأة
الثانية ،بل الذي ورد ،ما ذكرته :النشأة األخرى .ولو أراد املقابلة
لقال :النشأة األخرى .أما اخللق األول واآلخر فقد عرفنا داللته ،ثم
إنا لو قلنا باخللق الثاني لقلنا باخللق الثالث والرابع ،وكل ذلك
جائز يف قدرته سبحانه ،إال أنه مل خيربنا إال عن اخللق األول واآلخَر،
والنشأة األوىل واآلخرة ،فنلتزم بألفاظ القرآن الكريم الدقيقة.
431
رابعاً :أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع:
حدَةٍ َفمُسْ َتقَرٌّ وَمُسْ َت ْو َدعٌ)،
الذِي أَنْشَأَكُمْ ِمنْ َنفْسٍ وَا ِ
وقوله( :وَ ُهوَ َّ
أي :بدأ يف خلق أولكم من نفس واحدة ،وهي النفس اليت خلق منها
زوجها بعد ذلك.
وقوله (فمستقر ومستودع) ،للمفسرين فيها أقوال كثرية،
ذكرها ابن اجلوزي يف زاد املسري ،وخالصتها )3( :فمستقر يف األرحام
ومستودع يف األصالب ،وقيل العكس :املستقر يف األصالب واملستودع يف
األرحام ( :)1املستقر يف األرحام واملستودع يف القرب :)1( .املستقر يف
األرض واملستودع يف األصالب :)4( .املستقر واملستودع يف الرحم:)5( .
املستقر حيث يأوي واملستودع حيث ميوت :)6( .املستقر يف الدنيا
واملستودع يف القرب ،وقيل العكس :املستقر يف القرب واملستودع يف
الدنيا :)7( .املستقر يف الدنيا واملستودع عند اهلل تعاىل.
وإلدراك الداللة الدقيقة لقوله (فمستقر ومستودع) ،نوضح ما
يلي:
أوال :ورد هذا الرتكيب يف أربع آيات ،إحداهن مع (أنشأ)،
َيهَا النَّاسُ َّاتقُوا
والثالث األخريات مع (خلق) -قال تعاىل( :يَا أ ُّ
جهَا وَبَثَّ مِ ْن ُهمَا
خلَقَ مِ ْنهَا زَوْ َ
حدَةٍ وَ َ
خ َلقَكُمْ ِمنْ َنفْسٍ وَا ِ
الذِي َ
رَبَّكُمُ َّ
جعَلَ
حدَةٍ وَ َ
خ َلقَكُمْ ِمنْ نَفْسٍ وَا ِ
الذِي َ
رِجَالًا كَثِريًا وَنِسَاءً) ،وقالُ ( :هوَ َّ
حدَةٍ ثُمَّ
خ َلقَكُمْ ِمنْ َنفْسٍ وَا ِ
جهَا لِيَسْكُنَ ِإلَ ْيهَا) ،وقال تعاىلَ ( :
مِ ْنهَا زَوْ َ
خ ُلقُكُمْ فِي
جهَا وَأَ ْنزَلَ لَكُمْ ِمنَ الْأَ ْنعَامِ َثمَانِ َيةَ أَزْوَاجٍ َي ْ
ج َعلَ مِ ْنهَا زَوْ َ
َ
ظ ُلمَاتٍ َثلَاثٍ) .ويف الثالث
خلْقٍ فِي ُ
خ ْلقًا ِمنْ َب ْعدِ َ
ُمهَاتِكُمْ َ
بُطُونِ أ َّ
433
اآليات (املقرتنة بلفظ اخللق) يعطف عليها بأنه خلق منها زوجها،
خبالف آية (أنشأكم) .ويف اآليات الثالث يتحدث عن سنة الزوجية
بعد قوله (من نفس واحدة) ،وهذا يبني أن اهلل أنشأ أول الناس من
نفس واحدة ،ثم قضى بسنة الزوجية ،فهم ينشأون فيها جيال بعد
جيل .وجاء يف آية الزمر (وأنزل لكم من األنعام مثانية أزواج) ،فتحدث
عن الزوجية يف األنعام.
ومن ثم فقوله (فمستقر ومستودع) يتعلق بسنة الزوجية ،كما
تدل عليه كافة اآليات ،وقد جعل اهلل رحم األنثى مقرا (أو معمالً)،
تتحقق فيه سنة الزوجية .فتفسريه بالرحم هو أوىل األقوال ،وهو قول
منسوب البن عباس ،أن املستقر واملستودع يف الرحم .وتؤيده األدلة
التالية.
ثانيا :القرآن الكريم يسمى الرحم بالقرار املكني ،قال تعاىل:
ج َعلْنَاهُ فِي َقرَارٍ مَكِنيٍ (ِ )13إلَى قَدَرٍ
خ ُلقْكُمْ ِمنْ مَاءٍ َمهِنيٍ (َ )10ف َ
(َألَمْ َن ْ
ط َفةً فِي َقرَارٍ مَكِنيٍ) ،وقال( :وَ ُنقِرُّ فِي
ج َعلْنَاهُ نُ ْ
َم ْعلُومٍ) ،وقال( :ثُمَّ َ
جلٍ مُسَمًّى).
الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ ِإلَى أَ َ
ثالثا :جاءت هذه اآلية يف سورة األنعام يف سياق آيات تتحدث عن
خ ِرجُ ا ْلحَيَّ ِمنَ ا ْلمَيِّتِ
َالنوَى ُي ْ
الفلق ،قال تعاىل( :إِنَّ اهللَ فَالِقُ ا ْلحَبِّ و َّ
صبَاحِ
خ ِرجُ ا ْلمَيِّتِ ِمنَ ا ْلحَيِّ َذلِكُمُ اهللُ فَأَنَّى ُتؤْفَكُونَ ( )95فَالِقُ الْ ِإ ْ
وَ ُم ْ
سبَانًا َذلِكَ َت ْقدِيرُ ا ْل َعزِيزِ
ج َعلَ اللَّ ْيلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَا ْلقَ َمرَ حُ ْ
وَ َ
ظ ُلمَاتِ ا ْلبَرِّ
النجُومَ لِ َتهْ َتدُوا ِبهَا فِي ُ
ج َعلَ لَكُمُ ُّ
الذِي َ
ا ْل َعلِيمِ (َ )96و ُهوَ َّ
َصلْنَا الْآيَاتِ ِل َقوْمٍ َي ْع َلمُونَ (َ )97و ُهوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ ِمنْ
حرِ قَدْ ف َّ
وَا ْل َب ْ
431
ت ِل َقوْمٍ َي ْف َقهُونَ).
َصلْنَا الْآيَا ِ
حدَةٍ َفمُسْ َتقَرٌّ وَمُسْ َت ْو َدعٌ َقدْ ف َّ
َنفْسٍ وَا ِ
فاآليات تتحدث عن أن اهلل فالق احلب والنوى ،وفالق اإلصباح،
والفلق هو شيء كان يف شيء مظلم ،وفلْقه :شق الشيء املظلم
وإخراج ذلك الشيء منه ،فكما أن الشجرة احلية أخرجها اهلل من
ظلمات احلب والنوى بعد أن استقرت فيها مدة من الزمن ،إىل قدر
معلوم ،فكذلك النطفة ،استقرت يف ظلمات ثالث ،فهي مستقرها
ومستودعها ،إىل قدر معلوم.
حدَةٍ ثُمَّ
رابعا :ومما يدل عليه أيضا ،قوله( :خَ َلقَكُمْ ِمنْ نَفْسٍ وَا ِ
خ ُلقُكُمْ فِي
جهَا وَأَ ْنزَلَ لَكُمْ ِمنَ الْأَ ْنعَامِ َثمَانِ َيةَ أَزْوَاجٍ َي ْ
ج َعلَ مِ ْنهَا زَوْ َ
َ
ظ ُلمَاتٍ َثلَاثٍ) ،فهذه اآلية تفسر
خلْقٍ فِي ُ
خ ْلقًا ِمنْ بَ ْعدِ َ
ُمهَاتِكُمْ َ
بُطُونِ أ َّ
املستقر واملستودع ،بأنه الظلمات الثالث اليت استقرت فيها النطفة،
فكانت هلا مستقرا ،حتى فلق اهلل تلك الظلمات عن إنسان سوي.
وكل دابة هلا مستقر ومستودع ،ذلك أن نسل الدواب يأتي عن طريق
الزوجية( ،فيكون الرحم مستقرها ومستودعها) .قال تعاىل( :وَمَا ِمنْ
س َت ْودَ َعهَا كُلٌّ
َرهَا وَمُ ْ
هلل رِزْ ُقهَا وَ َيعْلَمُ مُسْ َتق َّ
َابةٍ فِي الْأَ ْرضِ إِلَّا َعلَى ا ِ
د َّ
فِي كِتَابٍ ُمبِنيٍ).
وقد بينت سابقا [مبحث :خلق] ،أن الرحم هو املستقر واملستودع،
وأن ذلك يبني مرحلتيه ،األوىل :حني يكون قرارا مكينا للنطفة ،وفيه
تتخلق النطفة حتى تصبح مضغة فعظاما فلحما .والثانية :حني
يكون الرحم مستودعا ،وفيه تزداد األرحام ،وينشأ اجلنني خلقا آخر،
ومن ثم يصبح شيئا غري الشيء األول ،فيكون الرحم مستودعا هلذا
412
املخلوق.
414
خامساً :هو أنشأكم من األرض:
وقولهُ ( :هوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَ ْرضِ وَاسْ َت ْع َمرَكُمْ فِيهَا) ،أي :بدأ يف
خلق أولكم من األرض ،كقوله ( ُهوَ أَعْلَمُ بِكُمْ ِإذْ أَنْشَأَكُمْ ِمنَ
الْأَ ْرضِ) ،وهذا يفسر قوله تعاىل( :وَاهللُ أَ ْنبَتَكُمْ ِمنَ الْأَ ْرضِ َنبَاتًا ()37
خ َلقْنَاكُمْ وَفِيهَا
خرَاجًا) ،وقوله( :مِ ْنهَا َ
خرِجُكُمْ إِ ْ
ثُمَّ ُيعِيدُكُمْ فِيهَا وَ ُي ْ
خرَى) .فاإلنشاء هو إنبات الشيء شيئا
خرِجُكُمْ تَارَةً أُ ْ
ُنعِيدُكُمْ وَمِ ْنهَا ُن ْ
فشيئا ،وكالهما يتعلقان خبلق أول الشيء ،حيث يبدأ بالظهور ،ثم
خيتلفان يف كون اإلنشاء يتعلق خبلق أول الشيء مطلقاً ،وتنميته
شيئا فشيئا ،أما اإلنبات فهو خلق أول الشيء من األرض ،وألن
اإلنسان خلق من األرض فإنه نبات من أنبِتتها ،بدأ ظهوره منها.
412
سادساً :كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين:
خرِينَ) ،أي :بدأ خلق أولكم
ِّيةِ َقوْمٍ آ َ
كمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُر َّ
وقولهَ ( :
من ذرية قوم آخرين.
ومن الواضح أن داللة ضمري اخلطاب ختتلف باختالف السياق،
فقوله (أنشأكم من ذرية قوم آخرين) يدل على أن املخاطب كل
إنسان ،فكل إنسان ينشأ من ذرية غريه ،وأما قوله (أنشأكم من نفس
واحدة) ،فهو يدل على كل البشر ما عدا تلك النفس (آدم) ،وقوله
(أنشأكم من األرض) يتحدث عن أصل البشر ،وهو تلك النفس
خ َل َقهُ
كمَ َثلِ آدَمَ َ
الواحدة (آدم) ،قال تعاىل( :إِنَّ مَ َثلَ عِيسَى عِ ْندَ اهللِ َ
ِم ْن ُترَابٍ).
413
سابعاً :مفعوالت اإلنشاء يف القرآن الكريم:
411
ظهورهم على األرض ميثل ظهورا جديدا للناس بعد هالك السابقني،
كما تظهر طائفة من النبات اليت تنبت يف األرض بعد جدبها ،فهو
إنشاء لقوم آخرين ،بعد هالك تام لقوم سابقني .ومل تستخدم إال يف
موطن اهلالك التام للقوم السابقني.
واملوضع اخلامس يف سورة القصص ،قال تعاىلَ ( :و َل َقدْ آتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ ِمنْ َب ْعدِ مَا َأ ْهلَكْنَا ا ْل ُقرُونَ الْأُولَى بَصَا ِئرَ لِلنَّاسِ َو ُهدًى
َكرُونَ ( )41وَمَا كُنْتَ ِبجَانِبِ ا ْلغَرْبِيِّ ِإذْ قَضَيْنَا إِلَى
ح َمةً َلعَلَّهُمْ يَ َتذ َّ
وَرَ ْ
مُوسَى الْأَ ْمرَ وَمَا كُنْتَ ِمنَ الشَّا ِهدِينَ (َ )44ولَكِنَّا أَنْشَأْنَا ُقرُونًا
فَتَطَاوَلَ َعلَ ْيهِمُ ا ْل ُع ُمرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي َأ ْهلِ َمدْ َينَ تَ ْتلُو َعلَ ْيهِمْ
سلِنيَ) .فقوله (أنشأنا قرونا) ،جاءت بعد احلديث
آيَاتِنَا َولَكِنَّا كُنَّا ُمرْ ِ
عن (إهالك القرون األوىل) ،ثم جميء موسى ،وإنشاء اهلل قروناً
كثرية ،وهنا نلحظ استخدام اجلمع (قرون) ،خبالف املواضع
السابقة حيث استخدم املفرد ،وهذا يدل على أن اهلل مل يهلك قرنا
تاما من البشر بعد بعثة موسى ،فالقرون األوىل هي اليت هلكت
هالكا تاما ،وكان اهلل ينشئ بعد كل قرن قرنا آخرين .أما بعد
موسى فقد أنشأ اهلل قرونا ،حتى بعثة حممد( ،فتطاول عليهم
العمر) ،أي :فنسوا الذكر ،ونسوا الوحي ،فأرسل اهلل حممدا صلى
اهلل عليه وسلم مذكرا هلم.
411
كلُوا ِمنْ َث َمرِهِ ِإذَا
ك ُلهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَا ِبهًا وَغَ ْيرَ مُتَشَا ِبهٍ ُ
أُ ُ
سرِفِنيَ ()343
سرِفُوا إ َِّنهُ لَا يُحِبُّ ا ْلمُ ْ
أَ ْث َمرَ وَآتُوا حَقَّهُ َيوْمَ حَصَادِهِ َولَا تُ ْ
طوَاتِ
َت ِبعُوا خُ ُ
كلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اهللُ َولَا ت َّ
حمُو َلةً وَ َفرْشًا ُ
وَ ِمنَ الْأَ ْنعَامِ َ
الشَّيْطَانِ إ َِّنهُ لَكُمْ َعدُوٌّ ُمبِنيٌ) ،ويف سورة املؤمنون مقرتنا بالنبات
السمَاءِ مَاءً ِب َقدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَ ْرضِ وَإِنَّا َعلَى
فقط( :وَأَ ْن َزلْنَا ِمنَ َّ
َذهَابٍ ِبهِ َلقَادِرُونَ ( )38فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ ِبهِ جَنَّاتٍ ِمنْ َنخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ
خ ُرجُ ِمنْ طُورِ
جرَةً َت ْ
ش َ
كلُونَ ( )39وَ َ
كهُ كَثِريَةٌ وَمِ ْنهَا تَأْ ُ
فِيهَا َفوَا ِ
كلِنيَ) .وكالهما جاءتا يف مقام
ص ْبغٍ ِللْآ ِ
ِالد ْهنِ وَ ِ
سَيْنَاءَ تَ ْنبُتُ ب ُّ
االمتنان واإلنعام على الناس ،وأن اهلل أباح هلم ما أنشأه ألجلهم.
**
واخلالصة أن اإلنشاء يف القرآن الكريم ،استخدم مقرتنا مع
اإلنسان ،أو مع ما خلق لإلنسان من نبات وأنعام ،يأكل منها ،وينتفع
بها محولة وفرشا ،أو مع ما خلق لإلنسان املؤمن يف اجلنة من حور
عني.
412
املطلب الثاني( :ذرأ) يف القرآن الكريم
خلْقُ كثريٍ مبثوثٍ من الشيء الواحد.
الذَّرْءَ :
411
اشتقاق لفظ :الذرية) ،فكأن الذرية تكثري للخلق بالتزاوج .كما
ترتبط داللة الذَّرْء بالتفريق ،وهو مقتضى الكثرة ،وهو يتصل بداللة
(الذرّ) ،قال يف لسان العرب( :ذَرَّ الشيءَ :نثره ،وبدده ،وذَرَّ احلب :فرّقه).
وبتدبر استخدام القرآن الكريم للفظ ،جند هذه الداللة
الذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَ ْرضِ) ،أي خلق كثريا
واضحة .قال تعاىلَ ( :و ُهوَ َّ
منكم وبثكم يف األرض ،فلفظ (ذرأ) ،حيمل داللة اخللق والبث ،وجتده
غالبا يقرتن بـ(يف) ،ومنه قوله( :وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَ ْرضِ ُمخْ َت ِلفًا
َأ ْلوَا ُنهُ) ،أي خلق لكم كثريا من النبات املختلف ألوانه ،وفرقه يف
خمتلف أحناء األرض ،وهذا يتناسب مع تفريق البشر يف خمتلف
األرض.
411
جهَا وَأَ ْنزَلَ لَكُمْ ِمنَ الْأَ ْنعَامِ َثمَانِ َيةَ أَزْوَاجٍ
ج َعلَ مِ ْنهَا زَوْ َ
حدَةٍ ثُمَّ َ
وَا ِ
ظ ُلمَاتٍ َثلَاثٍ).
خلْقٍ فِي ُ
خ ْلقًا ِمنْ َب ْعدِ َ
ُمهَاتِكُمْ َ
خ ُلقُكُمْ فِي بُطُونِ أ َّ
َي ْ
ومن ثم فاآلية تربط بني الزوجية يف البشر واألنعام ،وأن هذه
الزوجية هي الطريق الذي يتكاثر فيه الناس واألنعام .وتذكري
الضمري (فيه) ،باعتبار أن الزوجية هي من أمر اهلل ،فالقرآن الكريم
خلْقُ وَالْأَ ْمرُ)،
يسمي السنن اإلهلية :األمر ،قال تعاىلَ( :ألَا َلهُ ا ْل َ
فاقتضى هذا األمر أن يكون تكثري اهلل خللق الناس وبثهم فيه بطريق
الزوجية ،فهو خيلقهم خلقا كثريا مبثوثا يف (أمر الزوجية) ،أي:
سنة الزوجية.
وجند أن القرآن الكريم يستخدم اللفظ مع األشياء اليت يوجد
منها خلق كثري مبثوث ،كالناس ،أو النبات ،أو األنعام ،وألن اللفظ
دال على الكثرة والبث ،فال يصح استخدامه مع املفرد ،فال تقول:
ذرأكَ اهلل ،أو :ذرأ اهلل هذا الرجلَ ،أو ذرأ اهلل هذه الناقة ،بل الصحيح
هنا :خلق ،وأما ذرأ ،فنقول معها :ذرأ اهلل الناس ،ذرأ اهلل النوق...اخل.
وكذلك ال أقول :ذرأ اهلل السماوات؛ إذ ال كثرةَ فيها وال بثَّ .واهلل
أعلم.
222
املطلب الثالث( :برأ) يف القرآن الكريم
البَرْء :إظهار لشيءٍ خملوق مل يكن ظاهرا.
224
ثانياً :داللة (برأ) وإيضاحها:
البَرْء :إظهار لشيءٍ خملوق مل يكن ظاهرا.
فهو مرحلة الحقة للخلق ،كما سأبني ذلك .وداللة اللفظ يف
اللغة حتمل معنى :اإلظهار بعد خفاء ،فـ(أبرأ) :شفى ،فهو يظهر
الشفاء بعد اختفائه باملرض ،والرباءة هي النقاء أو اخلالص الذي
يظهر بعد التهمة ،وبرِئ الرجل فهو بريء :أي ظهرت براءته بعد
اختفائها بالتهمة ،وبرّأه :أظهر ذلك ،فدالالت اللفظ تبني أن مثة
انتقال من حالة خفاء إىل حالة إظهار بيّن .وكذلك ال َبرْء ،فهو
إظهار للشيء الذي كان خملوقا غري ظاهر.
223
ثم يقع يف التأويل وفقا لذلك ،أما اهلل سبحانه وتعاىل فهو خالق
الزمان ،وحييط به ،فال ماضي عنده وال حاضر وال مستقبل ،سبحانه
وتعاىل ،وقوهلم :إن اهلل يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون ،فإمنا
هذا التقسيم الزمين بالنسبة إلدراكنا حنن ،وليس بالنسبة هلل
سبحانه وتعاىل ،الذي ال (كان) لديه ،وال (كائن حاضر) ،وال
(سيكون) ،بل كل شيء يف كتاب مبني (كُلٌّ فِي كِتَابٍ ُمبِنيٍ) ،إن
ذلك على اهلل يسري.
ومثل اآلية قوله تعاىل( :وَمَا َي ْعزُبُ َعنْ رَبِّكَ ِمنْ مِ ْثقَالِ ذَرَّةٍ فِي
ك َبرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ
ص َغرَ ِمنْ َذ ِلكَ َولَا أَ ْ
السمَاءِ َولَا َأ ْ
الْأَ ْرضِ َولَا فِي َّ
َابةٍ فِي الْأَ ْرضِ إِلَّا َعلَى اهللِ رِزْ ُقهَا وَ َي ْعلَمُ
ُمبِنيٍ) ،وقوله( :وَمَا ِمنْ د َّ
سقُطُ مِنْ
َرهَا وَمُسْ َت ْودَ َعهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ ُمبِنيٍ) ،وقوله( :وَمَا تَ ْ
مُسْ َتق َّ
ظ ُلمَاتِ الْأَ ْرضِ َولَا رَطْبٍ َولَا يَابِسٍ إِلَّا فِي
َبةٍ فِي ُ
وَرَ َقةٍ إِلَّا يَ ْع َل ُمهَا َولَا ح َّ
كِتَابٍ ُمبِنيٍ) ،وقوله( :قَالَ َفمَا بَالُ ا ْل ُقرُونِ الْأُولَى ( )53قَالَ ِع ْل ُمهَا
عِ ْندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي َولَا يَنْسَى) ،وقولهَ( :ألَ ْم َت ْعلَمْ أَنَّ اهللَ
السمَاءِ وَالْأَ ْرضِ إِنَّ َذ ِلكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ َذ ِلكَ َعلَى اهللِ
َي ْعلَمُ مَا فِي َّ
َمرُ ِمنْ
ضعُ إِلَّا ِبعِلْ ِمهِ وَمَا ُيع َّ
يَسِريٌ) ،وقوله( :وَمَا َتحْ ِملُ ِمنْ أُنْثَى َولَا تَ َ
ِن َذ ِلكَ َعلَى اهللِ يَسِريٌ).
َمرٍ َولَا يُ ْن َقصُ ِمنْ ُع ُمرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إ َّ
ُمع َّ
رابعاً :البارئ:
ومن أمساء اهلل سبحانه وصفاته :البارئ ،وقد ذكرت يف سورة
احلشر مع األمساء احلسنى ،قال تعاىلُ ( :هوَ اهللُ ا ْلخَالِقُ ا ْلبَارِئُ
سمَاءُ ا ْلحُسْنَى)،
ا ْلمُصَوِّ ُر َلهُ الْأَ ْ
221
واملتدبر جيد أنه ذكرت عقب (اخلالق) ،وعقبها (املصور) ،وهذه
مراحل ثالث متعاقبة ،فاخللق أوال ،والربء ثانيا (إظهار اخللق)،
ُم صَوَّرْنَاكُمْ).
والتصوير ثالثا ،كما قال تعاىل( :وَ َل َقدْ خَ َلقْنَاكُمْ ث َّ
كما ذكرت يف خطاب نيب اهلل موسى لقومه( :وَِإذْ قَالَ مُوسَى
جلَ فَتُوبُوا إِلَى
ِاتخَاذِكُمُ ا ْل ِع ْ
ظ َلمْتُمْ أَ ْنفُسَكُمْ ب ِّ
ِل َقوْ ِمهِ يَا َقوْمِ إِنَّكُمْ َ
بَارِئِكُمْ فَاقْ ُتلُوا أَ ْنفُسَكُمْ َذلِكُمْ خَ ْيرٌ لَكُمْ عِ ْندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ َعلَيْكُمْ إ َِّنهُ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ،وقد ناسب اجمليء بـ(بارئ) يف هذا السياق ،فهو يقول
هلم :إن اهلل هو الذي خلقكم وأظهركم إىل الوجود وأنتم تعصونه؟!
فهو تبكيت وتوبيخ هلم ،حيث أساؤوا إىل من أحسن إليهم بدءًا ،ومن
ثم كانت العقوبة (فاقتلوا أنفسكم) تناسب هذا املعنى ،فكأن القتل
خيفيهم من األرض بعد ظهورهم فيها ،وبذلك يكون كفارة هلم عند
ربهم ،ولذلك قال (ذلك خري لكم عند بارئكم) .واهلل أعلم.
(وانظر حبث :الظلمات والنور يف القرآن الكريم ،عند قوله{ :ال
جيليها لوقتها إال هو}.
221
املطلب الرابع :بثّ
221
خلق أنواع الدواب على األرض فعرب عنه بالبث لتصوير ذلك اخللق
العجيب املتكاثر فاملعنى وخلق فبث فيها من كل دابة).
وقال د .حممد جبل يف املعجم االشتقاقي املؤصل أللفاظ القرآن
الكريم( :البث :نشر ما كان جمتمعا منضما وتفريقه).
**
مما سبق يتبني أن (البث) له أربعة عناصر داللية ،هي :إظهار
اخلفي ،ونشر الكثري ،وتفريق اجملتمع ،وتهييج الساكن .فالشيء
املبثوث يكون قبل بثه متصفا بأربع صفات :اخلفاء ،والكثرة،
واالجتماع ،والسكون.
وميكن القول أن الداللة العامة للبث هي :إظهار األشياء اخلفية
الساكنة الكثرية اجملتمعة ،وتهييجها ،ونشرها ،وتفريقها.
وداللة (التهييج) يقتضي أن الشيء بعد بثه يكون متحركا ،ال
ساكناً.
223
ثانياً :استخدام اللفظ يف القرآن الكريم:
([ )3بث] مسندة إىل اهلل تعاىل:
جاء الفعل (بث ،يبث) مسندا إىل اهلل تعاىل يف مخسة مواضع،
وأخذ ثالثة تراكيب:
األول( :بث يف) ،يف قوله( :وََأ ْلقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن َتمِيدَ بِكُمْ
السمَاء مِن مَّاء
َابةٍ) ،وقوله( :وَمَا أَنزَلَ ال ّلهُ ِمنَ َّ
وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ د َّ
َآبةٍ) ،فهو يتحدث عن
فَأَحْيَا ِبهِ األ ْرضَ َب ْعدَ َم ْو ِتهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ د َّ
السمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ وَمَا
خلْقُ َّ
بث الدواب يف األرض .وقوله( :وَ ِمنْ آيَا ِتهِ َ
َابةٍ) ،أي :يف السماوات واألرض.
بَثَّ فِي ِهمَا مِن د َّ
َابةٍ آيَاتٌ)؛ ألن
خ ْلقِكُمْ وَمَا َيبُثُّ مِن د َّ
الثاني( :بث) ،يف قوله( :وَفِي َ
الغرض بيان البث دون ارتباط باملكان ،فعطفه على املصدر ،والتقدير:
ويف خلقكم آيات ،ويف بث الدواب آيات.
خلَقَ مِ ْنهَا
حدَةٍ وَ َ
خلَقَكُمْ ِمنْ َنفْسٍ وَا ِ
والثاني( :بث من) ،يف قوله ( َ
جهَا وَبَثَّ مِ ْن ُهمَا رِجَالًا كَثِريًا وَنِسَاءً) ،فهو يبني أصل البث ،أي بدأ
زَوْ َ
بث الرجال والنساء منهما.
ووقع مفعول (بث) يف أربعة مواضع (دابة) ،ويف املوضع اخلامس:
(رجاال ونساء).
([ )1مبثوث]
جاء وصفاً يف موضعني ،قوله( :وَزَرَابِيُّ َمبْثُو َثةٌ) ،وقولهَ ( :يوْمَ
يَكُونُ النَّاسُ كَا ْل َفرَاشِ ا ْل َمبْثُوثِ).
221
حزْنِي ِإلَى اهللِ).
( )1البث ،يف قوله( :إ َِّنمَا أَشْكُو بَثِّي وَ ُ
جبَالُ بَسًّا
( )4منبث ،جاءت وصفاً للجبال يف قوله( :وَبُسَّتِ ا ْل ِ
( )5فَكَانَتْ َهبَاءً مُ ْنبَثًّا).
**
وداللتها يف هذه املواضع ،تشتمل على العناصر الداللية األربعة:
إظهار اخلفي ،وتهييج الساكن ،ونشر الكثري ،وتفريق اجملتمع.
فقوله( :وَزَرَابِيُّ َمبْثُو َثةٌ) :أي أصبحت ظاهرة بعد خفائها ،مفرقة
بعد اجتماعها ،منتشرة بكثرة .وهو يرسم مشهد النعمة يف قصور أهل
اجلنة ،السرر املرفوعة ،واألكواب املوضوعة ،والوسائد املصفوفة
املتقاربة ،أما الزرابي فهي مبثوثة .والزرابي هي البسط اليت تفرش يف
األرض.
وقوله( :كَا ْل َفرَاشِ ا ْل َم ْبثُوثِ) ،أي :املنتشر الكثري املتفرق املتهيج.
واآلية تصف خروج الناس من أجداثهم ،فهناك مليارات هائلة من
شرٌ) ،أي :عدد كثري
جرَادٌ مُنْتَ ِ
البشر خترج يف وقت واحد( ،كَأ ََّنهُمْ َ
ميأل أرض احملشر ،وقد تفرقوا أول خروجهم يف أرض احملشر ،وانبثوا
دون نظام ،وظهروا من أجداثهم بعد أن كانوا غيباً فيها ،وتهيجوا
بعد سكونهم[ .انظر :ألفاظ اإلحياء واإلماتة يف القرآن].
وقوله( :فَكَانَتْ َهبَاءً مُ ْنبَثًّا) ،فاجلبال كانت جمتمعة ساكنة.
وحني يأذن اهلل سبحانه وتعاىل فيدكها ،تصري هباء منبثاً ،أي غباراً
متطايرا متفرقا منتشراً .فانبثاثها يكون تهييج لسكون ذراتها
وحصياتها ،وتفريق لذراتها اجملتمعة ،ونشر هلا بكثرة ،حتى تصبح
242
غبارا يتطاير .وهو تصوير بديع للمشهد الذي تصبح عليه هذه
اجلبال الساكنة الوقورة اجملتمعة اليت ترسي األرض ،فإذا بها غبارا
يتطاير يف اهلواء ،وتصري أثراً بعد عني .وحني يأذن اهلل تتزلزل
وتضطرب وترجف ،فرجفة اجلبال بداية تهييج سكونها ،ثم تتعاقب
املراحل ،حتى تصبح هباء منبثا.
**
244
ثالثاً( :بث) املسندة إىل اهلل تعاىل
بتدبر اآليات اليت جاء فيها لفظ (بث) مسندا إىل اهلل ،يتبني ما
يلي:
جميء مفعوهلا (دابة) أربع مرات ،و(رجاال ونساء) مرة .3
واحدة.
يبني فعل (البث) ،متعلقني ،األول :الظرفية (يف)، .1
والثاني :بيان األصل (من) (.)1
اقرتن فعل (البث) يف كل املواطن باخللق ،سواء خلق .1
السماوات واألرض ،أو خلق اإلنسان.
وعليه فيمكن الوصول إىل احلقائق التالية:
األوىل:
(بث) تقع على (الدواب) وليس على عامة املخلوقات.
والدواب يف القرآن الكريم ،هي اليت تدب على األرض (أي متشي
السمَاوَاتِ وَا َألرْضِ وَاخْتِالَفِ ( )4وميكن إضافة السببية ،ففي قوله تعاىل( :إِنَّ فِي َ
خ ْلقِ َّ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَا ْل ُفلْكِ الَّتِي َتجْرِي فِي الْ َبحْرِ ِبمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّ ُه مِنَ السَّمَاء مِن
َث فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ) .قوله (وبث) قال الزخمشري،
مَّاء فَ َأحْيَا بِهِ األرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَب َّ
وتبعه بعض املفسرين ،فيه احتماالن،
األول :أن يكون معطوفاً على (أنزل) ،والتقدير :إن يف خلق السماوات واألرض،
واختالف الليل والنهار وجريان الفلك ،وإنزال املاء من السماء ،وبث الدواب ،وتصريف
الرياح ،وتسخري السحاب ،آيات لقوم يعقلون.
والثاني :عطفه على (أحيا) ،والتقدير :وإنزال اهلل من السماء ماء؛ فأحيا باملاء األرض
بعد موتها ،وبث باملاء يف األرض من كل دابة.
242
خلَقَ
على األرض) ،فالطيور واألمساك ليست دواب ،قال تعاىل( :وَاهللُ َ
َابةٍ ِمنْ مَاءٍ َفمِ ْنهُمْ َم ْن َيمْشِي َعلَى بَطْ ِنهِ وَمِ ْنهُمْ َمنْ َيمْشِي َعلَى
كُلَّ د َّ
َابةٍ فِي الْأَرْضِ
جلَ ْينِ وَمِنْهُمْ َمنْ َيمْشِي َعلَى أَرْ َبعٍ) ،وقال( :وَمَا مِنْ د َّ
رِ ْ
َولَا طَا ِئرٍ يَطِريُ ِبجَنَاحَ ْيهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) ،فعطف الطري على الدواب.
ويف اآلية األوىل قيد الدواب بأنها اليت متشي على األرض ،واألمساك
ال متشي.
الدوَابِّ عِنْدَ اهللِ
واإلنسان من (الدواب) ،كما قال تعاىل( :إِنَّ شَرَّ َّ
ك َفرُوا) ،وأما قوله( :وَ ِمنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَ ْنعَامِ ُمخْ َتلِفٌ
الذِينَ َ
َّ
َأ ْلوَا ُنهُ) ،فهذا من عطف اخلاص على العام ،فالناس واألنعام من
الدواب ،وخصوا بالذكر ألن اهلل مينت عليهم ويبني هلم قدرته أيضا
يف خلقهم وتلوينهم وتلوين ما يتصل بهم من دواب وهي األنعام،
وكذلك عامة الدواب.
الثانية:
(بث) ختتص بوقوعها على املفعول املتحرك ،وهو الدواب،
حرْثِ
خبالف (ذرأ) اليت تقع على الدواب وغريها كاحلرث (ذَرَأَ ِمنَ ا ْل َ
وَالْأَ ْنعَامِ) ،وقد ذكرت أن (ذرأ) تعين :خلق كثري منتشر متفرق من
الشيء الواحد .أما (بث) فال يقع على اخللق كله ،وال يقع على
النبات أو احلرث ،ولكنه خيتص بالوقوع على (الدواب اليت متشي).
الثالثة:
ارتباط (فعل البث) بـ(فعل اخللق) ،فالبث غري اخللق( ،خالفاً ملا
قال بعضهم) ،وهو عملية الحقة للخلق.
243
الرابعة:
بث الدواب من أصل واحد ،كما قال( :وَبَثَّ مِ ْن ُهمَا رِجَالًا كَثِريًا
وَنِسَاءً) ،فاألشياء املبثوثة كانت جمتمعة يف ذلك األصل ،منضمة
فيه ،واهلل خيرجها منه ،وينشرها ويفرقها.
ويف هذا دليل على أن النسل كله خملوق يف األصل ،ثم يبث اهلل
من ذلك األصل نسله .فكما كان الناس مجيعا يف صلب أبيهم
األول ،وكانوا يف عامل الذر ،فكذلك كل دواب األرض ،كانت يف
صلب أصوهلا األوىل ،ثم بثها اهلل منها.
كما فيه دليل على أن البث ال يقع على املخلوق األول من
الشيء ،وال على آحاد الشيء ،ولكن على نسل الشيء.
**
وعليه فيمكن تعريف (بث) املسندة إىل اهلل مبا يلي:
(إظهار نسل الدواب من أصوهلا ،وتفريقها)
فهذا التعريف يشتمل على العناصر الداللية لـ(بث) ،إضافة إىل
موجهات االستخدام للفظ يف القرآن الكريم.
فهو (إظهار) ،واإلظهار يكون للشيء الذي كان خمفيا.
ولفظ (الدواب) يبني أن الشيء املبثوث متحرك ،فال يقع البث
على خملوقات أخرى .ولذلك مل يقع فعل البث يف القرآن الكريم إال
على (الدواب) ،وهو مقتضى داللة (البث) ،فاملبثوث ال بد أن يكون
متحركا.
241
ولفظ (نسل) يبني أن البث ال يكون لألصل ،فاألصل ليس كثريا
وال متجمعا ،أما النسل فهو كثري متجمع فيه ،فبثه يعين :نشر
الكثري ،وتفريق املتجمع.
241
املبحث السادس( :أنبت) ،و(حفّ) ،و(زرع) يف القرآن
الكريم
242
الصفَات بهَا ،فَأَما َقوْله َتعَالَى {فأحيينا ِبهِ األَرْض بعد مَوتهَا}
ِّ
َف َمعْنَاه :أَنا جعلنَا حَاهلَا كَحال ا ْلحَيّ فِي الِانْ ِتفَاع بهَاَ .وقد دلّ
الدلِيل على أَن ا ْلحَيّ بعد أَن مل يكن حَيا حَيّ من أجل احلياة فَالَّذِي
َّ
سهِ.
مل يزل حَيا يَ ْن َبغِي أَن يكون حَيا لنَف ِ
والنماء يزِيد الشَّيْء حَاال بعد حَال من نَفسه لَا بإضافة ِإلَ ْيهِ،
فالبنات ينمي وَيزِيد َولَيْسَ حبيَ ،ولَا ُيقَال ملن أصَاب مِريَاثا أَو أعطي
عَطِيَّة أَنه قد منى مَالُه ،وَإ َِّنمَا ُيقَال :منى مَاله إِذا زَاد فِي نَفسه،
حقِيقَة لِأ ََّنهَا تزيد بتوالدها َقلِيال َقلِيالً ،وَفِي
والنماء فِي ا ْلمَاشِيَة َ
َالذهَب جمَاز .وهذا ُهوَ الْفرق بَني الزِّيَادَة والنماء ،وَ ُيقَال
ا ْلوَرق و َّ
لألشجار والنبات :نوامٍ؛ لِأ ََّنهَا تزيد فِي كل َيوْم ِإلَى أَن تَ ْن َتهِي ِإلَى حد
التَّمام) .أ .هـ.
وقال الكفوي يف الكليات( :واإلنبات :عمل طبيعة األَرْض فِي
النبَات بتسخري اهلل إِيَّاهَا وتدبريهَ ،و َذلِكَ أَمر آخر
تربية البذور ومادة َّ
وَرَاء إجياده وإجياد أَسبَابه).
وقال التهانوي يف كشاف اصطالحات الفنون( :اختلفوا يف
النبات :فقيل هو حي؛ ألنّ احلياة صفة هي مبدأ التغذية والتنمية.
وقيل ليس حبي؛ إذ احلياة صفة هي مبدأ احلسّ واحلركة .ومنهم
من ادّعى حتقّق احلسّ واحلركة فيه مستندا باألمارات الظّنية.
ومنهم من بالغ يف اتصافه بإدراك الكليات).
241
كتابه (جغرافية املناخ والنبات)( :والنبات كائن حي يولد ويعيش
وميوت ،شأنه يف ذلك شأن احليوان واإلنسان وهو مثل احليوان
واإلنسان أيضًا حمتاج دائمًا للغذاء لكي يقيم به بنيانه ،بل هو يتخري
غذاءه ،فإذا كان بعض احليوان يأكل العشب وبعضه اآلخر يأكل
اللحم ،وإذا كان اإلنسان ال يأكل كل شيء بل خيتار لنفسه من
األطعمة ما يريد ،فكذلك النبات حيب هذا النوع من الغذاء ويكره
ذاك .وإذا كان يف احليوان واإلنسان ما يألف احلر وما يألف الربد
فكذلك النبات .وإذا كانت حياة احليوان واإلنسان مستحيلة بغري
هواء فكذلك النبات).
ويعد علماء األحياء النباتات قسما من أقسام الكائنات احلية،
جاء يف املوسوعة العربية العاملية:
(ممالك الكائنات احلية-3 :النباتات- 1 ،احليوانات- 1 ،
الفطريات - 4 ،الطالئعيات (الفرطيسيات)- 5 ،بدائيات النواة
(املونريا) .ويضم العلماء الكائنات احلية يف مملكة حمددة ألنها
تشرتك يف خصائص أساسية معينة ،ومن هذه اخلصائص الرتكيب
الطبيعي ،ووسائل احلصول على الغذاء ،وطرق التكاثُر(.)1
( )5وجاء يف املوسوعة العربية العاملية الفرق بني النباتات والكائنات احلية األخرى:
تتصف النباتات مبجموعة من اخلصائص متيزّهُا عن الكائنات احلية األخرى .فعلى
سبيل املثال :كلٌّ من النباتات واحليوانات كائنات حيّة معقدة ،ترتكب من خاليا
متعددة األنواع .ومع ذلك فخاليا النبات ذات جدُر مسيكة ترتكب من مادة تسمى
السليلوز ،بينما تفتقر خاليا احليوان إىل هذه املادة.
وكما هو احلال يف النباتات فإن خاليا أوليات النواة ،وبعض الطالئعيات حتتوي على
243
جدر سليلوزية وإن كانت أوليات النواة والطالئعيات كائنات حية بسيطة ،ترتكب
من خلية واحدة ،أو من بضعة أنواع من اخلاليا .وتُعدُّ البكترييا ،والطحالب اخلضراء
املائلة إىل الزرقة من بدائيات النواة ،بينما تشتمل الطالئعيات على بقية الطحالب،
والدياتومات ،واألوليات.
تنمو مجيع النباتات من شكل صغري جدًا للنبات يعرف باجلنني بينما ال تنمو أوليات
النواة ،والطالئعيات ،والفطريات مثل األعفان وعيش الغراب من األجنة .حتصل
النّباتات على غذائها بطرق ختتلف عن تلك اليت تستخدمها معظم الكائنات احلية
األخرى .ومتكث مجيع النباتات تقريبًا يف مكان واحد طوال حياتها ،وحتصل على
غذائها من اهلواء ،وضوء الشمس ،واملاء بوساطة عملية تسمى الرتكيب الضوئي.
وبعض النباتات مثل اهلالوك واحلامول ليست خضراء اللون ،وال تنتج غذاءها بوساطة
الرتكيب الضوئي ،بل تعيش متطفلة وحتصل على غذائها من نباتات أخرى .وبعض
النباتات األخرى مثل نبات الغليون اهلندي واألركيد ذي اجلذر املرجاني رمية وتتغذى
بنبات ميت ،أو مادة حيوانية .وال تستطيع الفطريات إنتاج غذائها ،وحتصل على ما
حتتاجه من مواد غذائية من احليوانات ،والنباتات واملواد املتحللة اليت تعيش عليها.
كذلك ال تستطيع احليوانات إنتاج غذائها ،لكن تستطيع غالبية احليوانات احلركة
حبثًا عنه.
241
املطلب الثاني :استخدام القرآن الكريم لـ(نبت)
ومشتقاتها
()0
قال الراغب :وقوله{ :تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} ،الباء للحال ال للتّعدية ،ألنّ «نبت» متعدّ
ت حاملةً للدُّهْن .أي :تنبت والدّهن موجود فيها بالقوّة.
تقديره :تَنْبُ ُ
222
خلَقَ الْأَزْوَاجَ ك َُّلهَا مِمَّا
َبهِيجٍ) ،وقوله( :سُ ْبحَانَ الَّذِي َ
تُ ْنبِتُ الْأَ ْرضُ).
س ْبعَ سَنَا ِبلَ).
َبةٍ أَ ْنبَتَتْ َ
كمَ َثلِ ح َّ
.cاحلبة :يف قولهَ ( :
.dاإلنسان على وجه النفي :يف قوله( :مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ
ج َرهَا).
ش َ
تُ ْنبِتُوا َ
االسم (نبات) ،وأسند إىل اهلل تعاىل ،وقد جاء مفعوال .1
خرَجْنَا ِبهِ
لفعل (أخرج) ،يف ثالثة مواضع :قولهَ ( :فأَ ْ
خرَجْنَا ِبهِ أَزْوَاجًا ِمنْ َنبَاتٍ
َنبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ) ،وقوله( :فَأَ ْ
خ ِرجَ ِبهِ حَبًّا وَ َنبَاتًا).
شَتَّى) ،وقوله( :لِ ُن ْ
(نبات) ،وجاء فاعال للفعل: .4
خ ُرجُ َنبَا ُتهُ بِِإذْنِ
.aخيرج ،يف قوله( :وَا ْلبَ َلدُ الطَّيِّبُ َي ْ
ر َِّبهِ).
السمَاءِ
َّ كمَاءٍ أَ ْن َزلْنَاهُ ِمنَ
.bاختلط ،يف قولهَ ( :
فَاخْ َتلَطَ بِهِ َنبَاتُ الْأَ ْرضِ) ،مرتني يف سورتي :يونس،
والكهف.
كمَ َثلِ غَيْثٍ أَ ْعجَبَ الْكُفَّارَ َنبَا ُتهُ).
.cأعجب :يف قولهَ ( :
(نبات) وجاء مصدرا ،للفعل (أنبت) املسند إىل اهلل ،يف .5
موضعني ،وكالهما مل يقصد بهما نبات األرض ،بل
اإلنسان .قوله( :وَاهللُ أَ ْنبَتَكُمْ ِمنَ الْأَ ْرضِ نَبَاتًا) .،وقوله:
سنٍ وَأَ ْنبَ َتهَا َنبَاتًا حَسَنًا) .وقيل
َب َلهَا ر َُّبهَا ِب َقبُولٍ حَ َ
(فَ َتق َّ
224
إنه يف هاتني اآليتني جاء حاالً)(.)1
**
222
جمموعة من النعم ،ومن ضمنها :اإلنبات يف األرض.
الصنف الثاني( :أنبت بـ)
وآيات هذا الصنف ،مينت اهلل سبحانه وتعاىل على اإلنسان بأنه
أنزل له املاء من السماء ،فأنبت بذلك املاء نباتات األرض .فالسياق
سياق االمتنان بنعمة املاء ،وبهذه النعمة أنبت اهلل النبات.
السمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا
َزلْنَا ِمنَ َّ
وجاء يف ثالثة مواضع ،كقوله( :وَن َّ
ط ْلعٌ نَضِيدٌ
سقَاتٍ َلهَا َ
خلَ بَا ِ
فَأَ ْنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ ا ْلحَصِيدِ ( )9وَالنَّ ْ
ك َذلِكَ ا ْلخُرُوجُ) ،فهو يبني أنه
( )30رِزْقًا ِل ْل ِعبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ َب ْلدَةً مَيْتًا َ
باملاء أنبت النبات ،وباملاء أحيا األرض امليتة ،وكذلك يكون اخلروج.
جرَةً مِّن َيقْطِنيٍ) ،فاآلية جاء يف سياق
ش َ
وأما قوله( :وَأَنبَتْنَا َعلَ ْيهِ َ
قصصي ،حيث يبني اهلل سبحانه وتعاىل نعمته على عبده يونس عليه
السالم ،بعد خروجه من بطن احلوت ،فأنبت عليه يقطينة .ومل تأت
اآلية يف مقام االمتنان على الناس ،كاآليات السابقة .بل جاءت
لبيان قدرته سبحانه وتعاىل على كل شيء.
( )1إنبات اإلنسان:
جاء يف قوله( :وَاهللُ أَ ْنبَتَكُمْ ِمنَ الْأَ ْرضِ َنبَاتًا ( )37ثُمَّ ُيعِيدُكُمْ
خرَاجًا) .وسأحتدث عنها.
خرِجُكُمْ إِ ْ
فِيهَا وَ ُي ْ
سنٍ وَأَ ْنبَ َتهَا َنبَاتًا حَسَنًا
َب َلهَا ر َُّبهَا ِب َقبُولٍ حَ َ
وجاء يف قوله( :فَ َتق َّ
كرِيَّا) ،أي :أنشأها تنشئة حسنة .فاإلنبات يف اآلية مبعنى
َف َلهَا زَ َ
وَك َّ
اإلنشاء ،أي تنشئة الشيء شيئا فشيئاً ،فهو منو متدرج ،وهو املعنى
223
العام لإلنبات ،فاهلل سبحانه وتعاىل هو الذي ينمي األشياء وينبتها،
ويرعاها ،فتكرب شيئا فشيئا ،وتنمو ،حتى يكتمل منوها ،فتصبح تامّة،
بإذنه سبحانه وتعاىل.
221
املطلب الثالث :مفهوم (اإلنبات) املسند إىل اهلل
221
خلق ،وهو خلق األصل ،ال النسل ،وهذا يبني قوله تعاىل( :وَاهللُ أَ ْنبَتَكُمْ
خرَاجًا) ،فاآلية
خرِجُكُمْ إِ ْ
ِمنَ الْأَ ْرضِ َنبَاتًا ( )37ثُمَّ ُيعِيدُكُمْ فِيهَا وَ ُي ْ
تتحدث عن كيفية خروج أصل البشر؛ حيث أنزل اهلل املاء ،فأخرج به
البشر من تراب األرض ،كما خيرج باملاء النبات ،فكان طينا ،ثم مر
باملراحل املتعاقبة ،وهو كحالة النبات اخلارج من األرض ،حتى سواه
اهلل ونفخ فيه من روحه ،فباين النبات ،وأصبح إنسانا .فهذا هو
األصل ،أما النسل فقد جاء من املاء املهني ،فيكون يف بطن أمه حتى
خيرج طفال .فالرتاب مادة األصل ،والنطفة مادة النسل.
وقد قررت سائر آيات (النشر) و(اخلروج) الكيفية اليت خيرج بها
الناس مجيعا ،وهي مثل الكيفية اليت بدأ بها (أول خلق) ،أي :خلق
األصل (من األرض) ،وليست كالكيفية اليت بدأ بها النسل (من
ماء).
222
ثانياً :الفرق بني أنبت به ،وأنبت فيها:
(( )3أنبت يف):
اآليات اليت جاء فيها لفظ (أنبت يف) مخس آيات ،وهي جاءت يف
سياق االمتنان على اإلنسان بأن اهلل مهد له األرض ،كما ذكرت
آنفاً .وهذه اآليات تتحدث عن اإلنبات األول يف األرض ،أي أن اهلل مهد
األرض لإلنسان ،ومن متهيده أن ألقى فيها الرواسي ،وفجّر األنهار،
وأنبت أصول النباتات األوىل .أي البذور األوىل لكل نبات (أزواجا من
نبات شتى) ،اليت نسلت منها النباتات بعد ذلك.
تأمل سياق هذه اآليات:
{ وَالْ َأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَ ْينَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَ ْتنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَ ْوزُونٍ
( )39وَجَعَ ْلنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَا ِيشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَا ِزقِنيَ ( )10وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا
ِعنْدَنَا خَزَا ِئنُهُ وَمَا ُننَزِّلُهُ إِلَّا بِقَ َدرٍ مَ ْعلُومٍ } (سورة احلجر )13 - 39
{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْ َأ ْرضِ كَمْ أَنْبَ ْتنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ( )7إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَ ُرهُمْ مُؤْ ِمنِنيَ } (سورة الشعراء )8 - 7
{ وَالْ َأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَ ْينَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَ ْتنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ()7
تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ ُمنِيبٍ (( } )8سورة ق )8 - 7
خ َلقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْ َأ ْرضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ
{ َ
وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَ ْلنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَ ْتنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
خ َلقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ
خ ْلقُ اهللِ فَ َأرُونِي مَاذَا َ
كَرِيمٍ ( )30هَذَا َ
ضلَالٍ مُبِنيٍ } (سورة لقمان )33 - 30
فِي َ
{ َفلْ َي ْنظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ( )14أَنَّا صَبَ ْبنَا الْمَاءَ صَبًّا ( )15ثُمَّ شَقَقْنَا
خلًا
الْ َأ ْرضَ شَقًّا ( )16فَأَنْبَ ْتنَا فِيهَا حَبًّا (َ )17وعِنَبًا َوقَضْبًا (َ )18وزَيْتُونًا وَنَ ْ
( )19وَحَدَا ِئقَ غُلْبًا (َ )10وفَاكِهَةً وَأَبًّا ( )13مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَ ْنعَامِكُمْ } (سورة
221
عبس )11 - 14
221
خ َلقَ السَّمَاوَاتِ وَالْ َأ ْرضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَ ْتنَا بِهِ حَدَا ِئقَ
{ أَمَّنْ َ
ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ ُتنْبِتُوا شَجَ َرهَا أَإِلَهٌ مَعَ اهللِ بَلْ هُمْ قَ ْومٌ يَعْدِلُونَ }
(سورة النمل )60
{ َأ َفلَمْ َي ْنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَ ْوقَهُمْ كَيْفَ َبنَ ْينَاهَا َوزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ
( ) 6وَالْ َأ ْرضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَ ْينَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَ ْتنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
( )7تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ ُمنِيبٍ ( )8وَنَزَّ ْلنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا
طلْعٌ نَضِيدٌ ()30
فَأَنْبَ ْتنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ( )9وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا َ
ِر ْزقًا ِللْعِبَادِ وَأَحْيَ ْينَا بِهِ َبلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ } (سورة ق )33 - 6
فعلى سبيل املثال آيات سورة ق ،جند أنه ذكر يف اآلية السابعة
(وأنبتنا فيها) ،ثم يف اآلية التاسعة ذكر (فأنبتنا به) ،فليس هنا
تكرار كما يتوهم بعضهم ،بل األوى يراد بها نبات األصل ،وهي البذور
األوىل لكل شيء اليت أنبتها اهلل يف األرض .أما الثانية فهي اآلية اليت
يراها اإلنسان بنفسه ،وهي إنبات النباتات (نباتات النسل).
232
ثالثاً :الفرق بني أنبت ،وأخرج نبات:..
خرَجْنَا ِبهِ
خرَجْنَا ِبهِ َنبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ) ،وقوله( :فَأَ ْ
أما قوله( :فَأَ ْ
خ ِرجَ ِبهِ حَبًّا وَ َنبَاتًا).
أَزْوَاجًا ِمنْ َنبَاتٍ شَتَّى) ،وقوله( :لِ ُن ْ
فهو يشري إىل أنه سبحانه وتعاىل مهّد األرض ،لتكون صاحلة
حلمل النبات يف بطنها ،ومنوه ،ثم خروجه منها .فاألرض حتمل
النبات ،كما حتمل األنثى اجلنني يف بطنها ،ثم ينمو ويكرب اجلنني
كما تنمو وتكرب البذرة ،ثم تضع األنثى ،أما األرض فال تضع ،ولكنها
خترج نباتها بإذن ربها ،فجاء التعبري بلفظ (إخراج النبات).
فاإلنبات يقصد به :خلق الشيء من األرض ،باملاء ،وتنميته شيئا
فشيئاً .أما إخراج النبات ،فهو اإلظهار التام للنبات بعد خفائه يف
األرض.
فاإلنبات فعل يقع على خلق الشيء يف الظلمة ،أما اإلخراج
ففعل يقع على إخراج الشيء من الظلمة ،بعد جاهزيته للخروج إىل
النور.
234
املطلب الرابع( :زرع) و(حرث) يف القرآن الكريم
233
ثانياً :استخدام (زرع) و(حرث) يف القرآن الكريم
جاء (زرع) ومشتقاتها يف القرآن الكريم على النحو التالي:
الفعل ،جاء يف موضعني ،وكالهما مسند إىل الناس، .3
س ْبعَ سِنِنيَ) ،وقوله( :أَأَنْتُ ْم َتزْرَعُو َنهُ أَمْ
قولهَ ( :تزْرَعُونَ َ
حنُ الزَّارِعُونَ).
َن ْ
املشتق اسم الفاعل ،موصوفا به اهلل سبحانه وتعاىل: .1
حنُ الزَّارِعُونَ).
(أَأَنْتُ ْم َتزْرَعُو َنهُ أَمْ َن ْ
الذِي
االسم ،وجاء مفردا يف مثانية مواضع ،قولهَ ( :و ُهوَ َّ .1
خلَ وَالزَّ ْرعَ
َالن ْ
أَنْشَأَ جَنَّاتٍ َم ْعرُوشَاتٍ وَغَ ْيرَ َم ْعرُوشَاتٍ و َّ
طعٌ مُ َتجَاوِرَاتٌ
ك ُلهُ) ،وقوله( :وَفِي الْأَ ْرضِ قِ َ
ُمخْ َت ِلفًا أُ ُ
وَجَنَّاتٌ ِمنْ أَعْنَابٍ وَزَ ْرعٌ وَ َنخِيلٌ) ،وقولهِ ( :بوَادٍ غَ ْيرِ ذِي
زَ ْرعٍ) ،وقوله( :يُنْبِتُ لَكُمْ ِبهِ الزَّ ْرعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ
ج َعلْنَا بَيْ َن ُهمَا
خلٍ وَ َ
حفَفْنَا ُهمَا بِ َن ْ
وَالْأَعْنَابَ) ،وقوله( :وَ َ
كلُ مِ ْنهُ أَنْعَا ُمهُمْ
خ ِرجُ ِبهِ زَرْعًا تَأْ ُ
زَرْعًا) ،وقوله( :فَ ُن ْ
خ ِرجُ ِبهِ زَرْعًا ُمخْ َت ِلفًا َأ ْلوَا ُنهُ)،
سهُمْ) ،وقوله( :ثُمَّ ُي ْ
وَأَ ْنفُ ُ
خ َرجَ شَطْأَهُ).
كزَ ْرعٍ أَ ْ
وقولهَ ( :
ومجعا يف موضعنيَ( :أتُ ْترَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِنيَ
خلٍ طَ ْل ُعهَا
( )346فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( )347وَزُرُوعٍ وَ َن ْ
هَضِيمٌ) ،وقوله( :كَمْ تَرَكُوا ِمنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ()15
كرِيمٍ).
وَزُرُوعٍ وَ َمقَامٍ َ
231
أما (حرث) ،فقد جاء فعال مرة واحدة مسندا إىل البشر ،يف قوله:
حنُ الزَّارِعُونَ).
حرُثُو َن ( )61أَأَنْتُ ْم َتزْرَعُو َنهُ أَمْ َن ْ
(أَ َفرَأَيْتُمْ مَا َت ْ
وجاء ثالث عشرة مرة امسا ،باملعاني التالية:
حرْثَ)، -ما يزرعه اإلنسان يف األرض ،يف قولهَ ( :ولَا تَ ْ
سقِي ا ْل َ
سلَ) ،وقوله( :وَا ْلخَ ْيلِ ا ْلمُسَوَّ َمةِ
حرْثَ وَالنَّ ْ
وقوله( :وَ ُي ْه ِلكَ ا ْل َ
حرْثَ َقوْمٍ) ،وقوله:
حرْثِ) ،وقولهَ( :أصَابَتْ َ
وَالْأَ ْنعَامِ وَا ْل َ
حرْثِ وَالْأَ ْنعَامِ) ،وقوله( :وَقَالُوا
جعَلُوا ل َِّلهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ا ْل َ
(وَ َ
ط َع ُمهَا) ،وقولهِ( :إذْ َيحْ ُكمَانِ فِي
جرٌ لَا يَ ْ
ح ْ
حرْثٌ ِ
َهذِهِ أَ ْنعَامٌ وَ َ
حرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُ ْم صَارِمِنيَ).
حرْثِ) ،وقوله( :أَنِ ا ْغدُوا َعلَى َ
ا ْل َ
-ما يزرعه الرجل يف املرأة ،يف قوله( :نِسَاؤُكُمْ َ
حرْثٌ لَكُمْ فَ ْأتُوا
حرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ).
َ
-ما يزرعه اإلنسان من العمل يف دنياه أو أخراه ،يف قولهَ ( :منْ
حرْ ِثهِ وَ َمنْ كَانَ ُيرِيدُ
خرَةِ َن ِزدْ َلهُ فِي َ
حرْثَ الْآ ِ
كَانَ ُيرِيدُ َ
خرَةِ ِمنْ نَصِيبٍ).
حرْثَ الدُّنْيَا ُن ْؤ ِتهِ مِ ْنهَا وَمَا َلهُ فِي الْآ ِ
َ
231
ثالثاً :الفرق بني (حرث) و(زرع):
وبهذا يتبني الفرق بني :حرث ،وزرع.
( -حرث) مل تسند إال إىل البشر ،أما (زرع) فأسندت إليهم يف
سورة يوسف ،وإىل اهلل سبحانه وتعاىل .ونفي إسنادها إىل
البشر أيضاً يف سورة الواقعة ،يف حني أثبت هلم فعل احلرث
فقط.
( -احلرث) يغلب إطالقه على احلقول اخلاصة لشخص أو
لقوم ،يزرعونها ،وميلكونها .أما (الزرع) ،فقد يكون ذلك وقد
يكون غريه من املزروعات اليت يف األرض ،ولو مل تكن
مملوكة.
( -الزرع) ،يف كثري من اآليات جاء قسيما للنخيل واألعناب
والزيتون والرمان ،ووصف يف آية بأنه (خمتلفا أكله) ،ويف
أخرى (تأكل منه أنعامهم وأنفسهم) ،ووصف بأنه (أخرج
شطأه).
( -الزرع) مل يطلق إال على النبات ،أما احلرث فأطلق على
النبات ،وعلى غريه ،كحرث الرجل يف املرأة ،فسمى املرأة
(حرثا) ،وكذلك على حرث العمل ،فاإلنسان حيرث يف
حقله ،إما حرث الدنيا ،وإما حرث اآلخرة.
231
فاحلبوب واألعالف اليت حيرثها اإلنسان بنفسه ،نطلق عليها
زرعا وحرثا؛ فهي حرث ألن اإلنسان حرثها ،وهي زرع ألنه نباتات
شطئية .أما النخيل واألعناب وغريها مما حيرثه اإلنسان فتسمى
حرثا ال زرعا .واحلبوب واألعالف اليت تنبت دون أن حيرثها اإلنسان
تسمى زرعا ال حرثاً .وكالهما يدخالن يف دائرة أوسع ،وهي :النبات،
فالنبات يشمل احلرث والزرع ،وغري ذلك من النباتات.
**
233
رابعاً :أفرءيتم ما حترثون:
حرُثُونَ ( )61أَأَنْتُمْ َتزْرَعُو َنهُ أَمْ
ومن ثم فقوله تعاىل( :أَ َفرَأَيْتُمْ مَا َت ْ
حنُ الزَّارِعُونَ) ،أي أرءيتم ما حرثتم ،ثم نبت بإذن اهلل ،أتظنون أنكم
َن ْ
الذين زرعتموه؟! أنتم حرثتم فقط ،أما الزارع فهو اهلل سبحانه
وتعاىل ،فالزرع هو إنبات ما وضعه اإلنسان يف األرض ،فاإلنسان يلقي
البذرة ،واهلل يزرعها حتى خترج زرعا بإذن اهلل .كما يضع الذكر
نطفته يف رحم األنثى ،فيخلقها اهلل سبحانه وتعاىل( :أَ َفرَأَيْتُمْ مَا
حنُ ا ْلخَا ِلقُونَ) .فحرث اإلنسان يف
خ ُلقُو َنهُ أَمْ َن ْ
ُتمْنُونَ ( )58أَأَنْتُمْ َت ْ
األرض عملية تشبه إمناؤه يف الرحم ،هو يلقي البذرة (أو النطفة)
اليت لديه ،يف أرض مهيئة لإلنبات .واهلل سبحانه وتعاىل هو الذي
خيلق ،وهو الذي يزرع.
وعليه فلفظ (الزارعون) ،معناها :إنبات البذر الذي يلقيه
اإلنسان يف األرض.
فقوله (تزرعونه) ،الضمري يعود إىل احلرث ،أي :أأنتم زرعتم
ذلك احلرث ،أم حنن الزارعون؟! أي :حنن الذين أنبتنا ما بذرمتوه يف
األرض.
وبهذا يتبني الفرق بني إسناد (اإلنبات) إىل اهلل ،وإسناد (الزرع)
إليه ،سبحانه وتعاىل.
فاهلل ينبت كل شيء ،وهو الذي يزرع ما حيرثه اإلنسان.
231
خامساً :نساؤكم حرث لكم:
ذكرت أن (احلرث) فعل اإلنسان ،فهو ما حيرثه اإلنسان،
واحلرث يعين أن اإلنسان يشق شيئا ،فيدخل فيه بذراً ،يكون البذر
مهيئا للنمو والنبات ،واخلروج من الرحم اليت ألقي فيها .فهذه
العناصر جمتمعة تدل على احلرث.
فهذه العملية تطلق على ما حيرثه اإلنسان يف األرض ،كما
بينته آنفاً .وعلى ما حيرثه الرجل يف املرأة .فهو يلقي يف رمحها
نطفته ،بعد أن تنشق له ،ثم تنمو تلك النطفة بإذن ربها ،حتى خترج
خرَجَكُمْ ِمنْ بُطُونِ
من ذلك املكان الذي ألقيت فيه ،قال تعاىل( :وَاهللُ أَ ْ
خ ِرجَ ِبهِ حَبًّا وَ َنبَاتًا).
ُمهَاتِكُمْ) ،كما أخرج النبات من األرض (لِ ُن ْ
أ َّ
واإلنسان حني يلقي بذرته (أو نطفته) ،فإنه ينتظر مثرتها،
فتحرج نباتا أو طفالً .فلو مل يضعها يف مكان مهيأ إلخراجها ملا مسي
ذلك حرثاً ،كمن ألقى بذرة يف البحر ،فإن البحر ال خيرجها له
نباتا ،فهذا ليس حرثا .وكذلك من ألقى نطفته يف غري موضعها
(كالدبر ،والعياذ باهلل) ،فهذا ال يسمى حرثا ،قال تعاىل( :نِسَاؤُكُمْ
حرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَ ْنفُسِكُمْ) ،أي كيف شئتم،
حرْثٌ لَكُمْ فَ ْأتُوا َ
َ
طاملا كان يف موضع احلرث.
وقوله يف اآلية (وقدموا ألنفسكم) ،إشارة إىل حرث اآلخرة ،أي:
كما حترثون يف نسائكم ،فاحرثوا يف آخرتكم ،وهذا ما تقدمونه
ألنفسكم .وسأبني ذلك يف الفقرة التالية.
212
سادساً :حرث الدنيا وحرث اآلخرة:
حرْ ِثهِ وَمَنْ
خرَةِ نَ ِزدْ لَهُ فِي َ
حرْثَ الْآ ِ
قال تعاىلَ ( :منْ كَانَ ُيرِيدُ َ
خرَةِ ِمنْ نَصِيبٍ).
حرْثَ الدُّنْيَا ُن ْؤ ِتهِ مِ ْنهَا وَمَا َلهُ فِي الْآ ِ
كَانَ ُيرِيدُ َ
خالصة ما قررته أن احلرث هو "إلقاء الشيء بذرة ،وجَنْيُه مثرة".
وبذلك فهو من فعل اإلنسان ،فاإلنسان هو احلارث ،وال يصح وصف
اهلل سبحانه وتعاىل بهذا الوصف .فمفهوم احلرث يقتضي جمموعة
من العناصر الداللية:
أوهلا :شق شيء بآلة مهيأة له (كاألرض ،أو الرحم).
ثانيها :إلقاء بذرة (أو نطفة) (أو ) ..يف ذلك الشيء املشقوق؛
ليكون رمحاً لتلك البذرة.
ثالثها :صالحية الشيء املشقوق لنمو البذرة (أو النطفة) امللقاة
فيه ،حبيث ينمو وينشأ خلقا آخر.
رابعها :جين تلك البذرة بعد أن أصبحت خلقا آخر ،فاحلبة
تصبح شجرة ،والنطفة تصبح طفالً .فاإلنسان جيين ما عمل.
خامسها :خروج تلك البذرة من رحم الظلمة اليت كانت فيها،
إىل النور ،بإذن ربها.
**
ومن ثم فالقرآن الكريم استخدم فعل (احلرث) مسندا إىل
اإلنسان ،واقعا على ثالثة مفاعيل ،هي:
-ما يبذره يف بطن األرض ،فيجنيه شجرة.
214
-ما يبذره الرجل يف رحم األنثى ،فيجنيه طفالً.
-ما يقدمه اإلنسان لنفسه من سعي ،فيجنيه جزاء.
خرَةِ َن ِزدْ َلهُ
حرْثَ الْآ ِ
وعلى ذلك فقوله تعاىلَ ( :منْ كَانَ ُيرِيدُ َ
خرَةِ ِمنْ
حرْثَ الدُّنْيَا ُن ْؤ ِتهِ مِ ْنهَا وَمَا َلهُ فِي الْآ ِ
حرْ ِثهِ وَ َمنْ كَانَ ُيرِيدُ َ
فِي َ
نَصِيبٍ) .ليس من باب اجملاز ،كما فسره املفسرون ،ولكنه واقع على
احلقيقة.
فما يعمله اإلنسان ،إمنا هو حرث حيرثه .وقد جعل اهلل له
حقلني للحرث ،حقل الدنيا ،وحقل اآلخرة ،فإن شاء حرث يف حرث
الدنيا ،وإن شاء حرث يف حقل اآلخرة .فالعمل هو (البذرة) اليت
يلقيها يف احلقل.
والقرآن الكريم يسمي هذا اإللقاء :تقدميا ،قال تعاىلَ ( :ولَنْ
َنوْهُ أَ َبدًا ِبمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) ،وقال( :وَمَا ُتقَدِّمُوا لِأَ ْنفُسِكُمْ ِمنْ خَيْرٍ
يَ َتم َّ
جدُوهُ عِنْدَ اهللِ) ،وقال( :وَقَدِّمُوا لِأَ ْنفُسِكُمْ) ،وقالَ ( :ذ ِلكَ ِبمَا قَدَّمَتْ
َت ِ
ظرْ َنفْسٌ مَا قَدَّمَتْ
َيدَاكَ وَأَنَّ اهللَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ ِل ْل َعبِيدِ) ،وقالَ ( :ولْتَنْ ُ
ِل َغدٍ).
فالتقديم يف كل ذلك ،هو احلرث الذي يضعه اإلنسان يف
حقله ،كما يقدم احلارث بذرته ،ثم ينتظر حمصوهلا ،فكذلك
اإلنسان يقدم عمله يف حقله ،ثم ينتظر حمصوله .ولن جيين إال ما
زرع ،فالذي يبذر بذر العنب سيحصد العنب ،والذي يبذر بذر الشوك
سيجين الشوك .ومن بذر اخلري حصد خريا ،ومن بذر الشر حصد
الشر.
212
ص ْبهُمْ سَيِّ َئةٌ ِبمَا قَدَّمَتْ أَ ْيدِيهِمْ ِإذَا هُمْ
قال تعاىل( :وَإِنْ تُ ِ
َيقْنَطُونَ) ،فالسيئة هي الثمرة اليت غرسوها ،ولكنهم ال يعلمون ،وهذا
مثل يف الدنيا ،فاإلنسان جيد سيئة أو حسنة ما قدم .فاحلسنة أو
السيئة هي الثمرة ،وما قدمه هو البذرة.
وجاء يف الصحيحني( :من تصدق بعدل مترة من كسب طيب،
وال يقبل اهلل إال الطيب ،وإن اهلل يتقبلها بيمينه ،ثم يربيها لصاحبه،
كما يربي أحدكم َفلُوَّهُ ،حتى تكون مثل اجلبل).
فالصورة يف احلديث حقيقة ال جماز ،فما يعمله اإلنسان (وهنا
ضرب مثال للصدقة) ،فهي البذرة اليت يلقيها يف احلرث ،واهلل سبحانه
وتعاىل كما ينبت الزرع ،وينشئ اجلنني ،هو الذي يربي الصدقة،
حتى يأتي اإلنسان يوم القيامة فيجد عمله مثل اجلبل .فتلك
البذرة الصغرية اليت مل يأبه هلا أصبحت جبال عظيما.
وجاء يف األثر( :إن املليلة والصداع يولعان باملؤمن ،وإن ذنبه مثل
جبل أحد؛ حتى ال يدعا عليه من ذنبه مثقال حبة من خردل) .فقوله
(وإن ذنبه مثل جبل أحد) تصوير حقيقي للنتيجة اليت تصبح عليها
البذرة .فهي تكرب حتى تصبح كاجلبل.
ويف احلديث الصحيح( :إن الذي ال يؤدي زكاة ماله ميثل له يوم
القيامة شجاع أقرع له زبيبتان قال :يلزمه ،أو يطوقه قال :يقول له:
أنا كنزك أنا كنزك).
وهذا يبني أن لكل بذرة مساراً ،ثم تصبح يف النهاية مثرة معينة.
فمثال :بذرة الربتقال ستنتج مثرة الربتقال ،وبذرة العنب تنتج مثرة
213
العنب| ،وبذرة الشوك تنتج مثرة الشوك ،وبذرة احلنظل تنتج مثرة
احلنظل ...إخل.
وكذلك األعمال ،فبذرة الكفر هلا مثرة تنتجها ،وبذرة اإلميان
هلا مثرتها ،وبذرة الصالة هلا مثرتها ،وبذرة ترك الصالة هلا مثرتها،
وبذرة منع الزكاة هلا مثرتها ،وبذرة الظلم هلا مثرتها .وهكذا .وحنن
ال نعرف طبيعة تلك الثمار ،ولكن ورد اخلرب ببعضها ،ومن ذلك
مثال ما جاء يف احلديث السابق أن (منع الزكاة) وهذه بذرة،
ومثرتها :شجاع أقرع يطوق عنق صاحبه.
ويف احلديث اآلخر( :ال يأتي رجل مواله فيسأله من فضل هو
عنده فيمنعه إياه إال دعي له يوم القيامة شجاع أقرع يتلمظ فضله
الذي منع منه).
**
واملؤمن يرى بنور اهلل ،فهو ال يرى البذرة الصغرية اليت يلقيها يف
الدنيا ،ولكنه يرى الثمرة اليت تصبح عليها تلك البذرة ،بعكس
الكافر الذي ال يرى الذنب إال بذرة صغرية ،فال يعبأ به .وهذا معنى
احلديث( :إن املؤمن يرى ذنوبه كأنه يف أصل جبل خياف أن يقع
عليه ،وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال له :هكذا
فطار).
211
املطلب اخلامس( :حفّ) يف القرآن الكريم
211
وحففناهما بنخل:
جلَ ْينِ
ضرِبْ َلهُمْ مَ َثلًا رَ ُ
أسند فعل (حفّ) إىل اهلل عزوجل( ،وَا ْ
خلٍ وَجَ َعلْنَا بَيْ َن ُهمَا
ح َففْنَا ُهمَا بِ َن ْ
ح ِد ِهمَا جَنَّتَ ْينِ ِمنْ أَعْنَابٍ وَ َ
ج َعلْنَا لِأَ َ
َ
زَرْعًا)
خلٍ} :وجعلنا النخل حميطا
ح َففْناهُما بِ َن ْ
قال الزخمشري{( :وَ َ
باجلنتني ،وهذا مما يؤثره الدهاقني يف كرومهم :أن جيعلوها مؤزرة
باألشجار املثمرة .يقال :حفوه :إذا أطافوا به ،وحففته بهم :أي
جعلتهم حافني حوله ،وهو متعدّ إىل مفعول واحد ،فتزيده الباء
مفعوال ثانيا ،كقولك :غشيه ،وغشيته به).
فعل (حف) يدل على ما ذكره العلماء :اإلحاطة املستديرة،
تقول :حفّ جنته بالنخل ،أي :جعل النخل حميطة بها ،بهيئة
مستديرة ،من مجيع حوافها ،وهي جوانبها .وقوله تعاىل عن املالئكة:
حوْلِ ا ْل َعرْشِ) ،أي :حميطني به ،من حوله،
( َو َترَى ا ْل َملَائِ َكةَ حَافِّنيَ ِمنْ َ
يسبحون حبمد ربهم.
وإسناد الفعل إىل اهلل عزوجل (وحففناهما) ،كإسناده يف قوله:
حنُ الزَّارِعُونَ) ،فاإلنسان
حرُثُونَ ( )61أَأَنْتُمْ َتزْرَعُو َنهُ أَمْ َن ْ
(أَ َفرَأَيْتُمْ مَا َت ْ
حيرث الزرع ،واهلل هو الذي يزرعه وينبته .فإسناده إىل اإلنسان من
حيث إنه فعل السبب (بذر البذرة يف األرض) ،وإسناده إىل اهلل سبحانه
وتعاىل من حيث إنه الذي ينبت الزرع ،وخيرجه نباتا من األرض .فهو
فالق احلب والنوى.
وكذلك (حفّ) ،فاإلنسان ينسق حديقته ،وحييطها بالنخيل
212
البهيج ،حيث يضع البذور ،واهلل سبحانه وتعاىل هو الذي ينبت ذلك
احلِفاف احمليط باحلديقة ،فنسبته إىل اهلل ،باعتبار أنه الذي ينبت
ويفلق ،وهو الذي ينشئ ويتم األمر بإذنه.
وقوله (وجعلنا بينهما زرعا) ،أي جعلنا بني جنيت األعناب زرعاً،
ومن ثم تبدو الصورة كما يلي:
جنتان من أعناب بينهما زرع ،وحيف باجلنتني خنيل .وخالل
اجلنتني جيري نهر .فهو مشهد يصور النعمة اليت يتقلب فيها
صاحب اجلنتني ،وهو يغدو ويروح يف نعمة اهلل عليه ،فاهلل هو جعل له
اجلنتني ،وهو الذي حفهما بالنخل ،وهو الذي جعل بينهما الزرع،
وهو الذي فجر خالهلما النهر .فكيف يكفر بربه الذي أنعم عليه؟!
211
املبحث السابع( :فجّر) و(فتق ورتق) يف القرآن
الكريم
213
املطلب األول :فجّر
212
ثانيا :التحقيق يف داللة (فجر) ومشتقاتها:
يتبني من تتبع لفظ (فجر) ومشتقاته ،يف القرآن الكريم ،وكالم
العرب ،أن عملية ( َفجْر) الشيء ،عبارة عن شيء داخل وعاء ،فيتشقق
الوعاء ،وينبعث الشيء الذي بداخله.
ومن ثم فلدينا ثالثة عناصر :الشيء املنفجِر ،والشيء املنفجَر
منه ،وطريقة التفجري.
األول( :الشيء املنفجِر) ،وهو شيء حمتبس منضغط بشدة،
داخل وعاء .واألصل فيه أن يكون سائالً ،كاملاء ،وقد يكون غري سائل
(كاهلواء ،أو غريه كالضوء) ،فهو شيء قابل للتمدد واالنتشار
السريع ،كما هو قابل لالنكماش واالنضغاط الشديد.
الثاني( :الشيء املنفجَر منه) ،وهو الوعاء الذي بداخله الشيء
املنفجر .كاألرض اليت يكون املاء حمتبساً داخلها ،أو غطاء قنبلة
(حتتبس املواد القابلة لالنفجار داخلها).
الثالث :طريقة التفجري ،والتفجري له طريقان( ،الطريق األول):
تصديع الوعاء بتشقيقه تشقيقا واسعا متفرقاً وشديدا وسريعا؛ مما
يؤدي إىل اندفاع ما بداخله بشدة .و(الطريق الثاني) متديد الشيء
املنفجر نفسه ،وتسليط قوة عليه حبيث يتمدد وينتشر بسرعة،
فيضغط على الوعاء فيشققه.
فاخلالصة أن( :املنفجِر) شيء منحبس منضغط داخل وعاء،
وتفجريه إما بتشقيق وعائه تشقيقا متفرقا واسعاً سريعا ،وإما بدفعه
من حبسه بطريقة ما .وانفجاره :اندفاعه من حمبسه بقوة شديدة
214
وانتشار.
واألصل يف استخدام اللفظ أن يقال للشيء السائل املنحبس،
كاملاء ،ثم قيل لكل حمتبس منضغط إذا اندفع من حمبسه بقوة
وانتشار :انفجر.
فالداللة العامة لـ(انفجر) ،هي :اندفاع الشيء املنحبس بقوة
وانتشار ،وتصدع وعائه.
وفجْر الشيء ،وتفجريه :دَفْع الشيء املنحبس بقوة وانتشار،
وتصديع وعائه.
وسأبني حتقق هذه الدالالت يف األلفاظ الواردة يف القرآن الكريم،
وهي :فجّر األنهار واملاء تفجرياً ،..و َفجَر اإلنسانُ فجوراً.
وأما الفجر ،فداللته كذلك ،فسمي الفجر؛ ألنه ضوء كان
منحبسا يف رَحِم الليل ،وحني يأتي ذلك الوقت ينشق (وعاء) الليل،
فيندفع الضوء اندفاعاً شديدا وسريعا ،وما هي إال سويعة حتى ميأل
األرض.
فالفجر يطلق على أول النهار .وهو يقابل (غسق الليل) ،فغسق
الليل سيالنه رويدا رويداً حتى ميحو أثر الشمس ،وينتشر الليل.
وكذلك الفجر ،فهو اندفاع الضوء ،وانتشاره يف األرض ،وإزالته
لظلمة الليل.
212
ثالثا :استخدام القرآن الكريم للفظ:
جاء اللفظ يف القرآن الكريم على النحو التالي:
( )3فجر املاء
جرَ
-جاء الثالثي يف قوله( :وَقَالُوا َلنْ ُنؤْ ِمنَ َلكَ حَتَّى َت ْف ُ
لَنَا ِمنَ الْأَ ْرضِ َي ْنبُوعًا)،
( -فجّر تفجرياً) املتعدي ،على النحو التالي:
َجرْنَا
oمسندا إىل اهلل ،يف ثالثة مواضع( :وَف َّ
َجرْنَا فِيهَا ِمنْ ا ْلعُيُونِ)،
خلَا َل ُهمَا َن َهرًا)( ،وَف َّ
ِ
َجرْنَا الْأَ ْرضَ عُيُونًا).
(وَف َّ
oمبين للمجهول ( ُفجّر) ،يف قوله( :وَِإذَا ا ْل ِبحَارُ
ُجرَتْ).
ف ِّ
شرَبُ ِبهَا
oمسندا إىل عباد اهلل يف اجلنة( :عَيْنًا يَ ْ
َجرُو َنهَا َتفْجِريًا).
ِعبَادُ اهللِ ُيف ِّ
oمسندا إىل الرسول ،حني طلب ذلك منه
َنةٌ
املشركون من باب التعجيز( :أَوْ تَكُونَ َلكَ ج َّ
خلَا َلهَا َت ْفجِريًا).
َجرَ الْأَ ْنهَارَ ِ
ِمنْ َنخِيلٍ وَعِنَبٍ فَ ُتف ِّ
حجَارَةِ
( -تفجّر يتفجّر) الالزم ،وجاء يف قوله( :وَإِنَّ ِمنَ ا ْل ِ
َجرُ مِ ْنهُ الْأَ ْنهَارُ).
َلمَا يَ َتف َّ
شرَةَ
جرَتْ مِ ْنهُ اثْنَتَا عَ ْ
( -انفجر) الالزم ،يف قوله( :فَا ْن َف َ
عَيْنًا).
213
( )1فجر اإلنسانُ فجوراً ،فهو فاجر:
جاء على الصيغ التالي:
-الفعل (فجَر اإلنسانُ) الزماً ،يف قولهَ ( :بلْ ُيرِيدُ الْإِنْسَانُ
جرَ أَمَا َمهُ).
لِ َي ْف ُ
-املصدر (فجور) ،يف قوله( :فَ َأ ْل َه َمهَا ُفجُو َرهَا َو َت ْقوَاهَا).
-املشتق الفاعل( :فاجر) مفرداً ،واجلمع( :فجرة ،وفجار)،
جرًا كَفَّارًا)،
(فاجر) مرة يف قولهَ ( :ولَا َي ِلدُوا إِلَّا فَا ِ
جرَةُ).
و(فجرة) مرة يف قوله( :أُولَ ِئكَ هُمُ الْ َك َفرَةُ ا ْل َف َ
ُتقِنيَ
ج َعلُ ا ْلم َّ
و(فجار) ثالث مرات يف قوله( :أَمْ َن ْ
جحِيمٍ) ،وقوله( :إِنَّ
كَا ْلفُجَّارِ) ،وقوله( :وَإِنَّ ا ْلفُجَّارَ َلفِي َ
كِتَابَ ا ْلفُجَّا ِر َلفِي سِجِّنيٍ).
( )1الفجر (الوقت)
َينَ لَكُمُ ا ْلخَيْطُ
ورد مخس مرات يف أربع آيات ،قوله( :حَتَّى يَ َتب َّ
جرِ إِنَّ ُقرْآنَ
جرِ) ،وقوله( :وَ ُقرْآنَ ا ْل َف ْ
سوَدِ ِمنَ ا ْل َف ْ
الْأَبْ َيضُ ِمنَ ا ْلخَيْطِ الْأَ ْ
جرِ) ،وقوله:
صلَاةِ ا ْل َف ْ
شهُودًا) ،وقولهِ ( :منْ َق ْبلِ َ
جرِ كَانَ مَ ْ
ا ْل َف ْ
جرِ).
ط َلعِ ا ْل َف ْ
(وَا ْل َفجْرِ) ،وقوله( :حَتَّى مَ ْ
211
رابعاً( :فجّر) املسندة إىل اهلل
(فجّر) املسندة إىل اهلل ،داللتها هي:
إخراج املاء املنحبس يف األرض ،بدفعه ،أو تصديع األرض.
ومن التعريف يتبني أن مثة طريقتني لتفجري اهلل املاء:
211
وهو عندي على حقيقته ،فتفجري األرض :تصديعها صدوعا
كثرية متفرقة واسعة ،مما يؤدي إىل اندفاع ما بداخلها من املاء بقوة
شديدة ،وغزارة ،وانتشار.
وهذه اآلية جاءت لبيان ما حدث لقوم نوح ،فاهلل فتح أبواب
السماء فانهمرت ماؤها ،وصدّع األرض فانفجرت عيونها .فقد كانت
حالة خاصة لتفجري األرض.
أما احلاالت السابقة ،فإن التفجري يكون بإخراج املاء ،وذلك
بدفعه بشدة ،فيصدع األرض اليت خيرج منها .وقد ورد يف سياق
االمتنان بتفجري األنهار والعيون للناس ،فتفجري املاء هو نعمة
وامتنان ،أما تفجري األرض فكان غضبا وانتقاما.
وتصديع األرض ،يكون بتشقيقها تشقيقا سريعا ،وتكون الشقوق
متفرقة واسعة .وهذه العملية تكون بالغليان ،أي تعرض األرض
لغليان هائل ،حتى تتصدع تلك الصدوع .ولذلك قال تعاىل( :وَفَارَ
التَّنُّورُ) ،فالتنور هي األرض اليت فارت ،ففورانها غليانها؛ مما أدى إىل
إحداث تصدعات هائلة فيها ،فاندفع املاء الذي بداخلها ،وانتشر
بسرعة وغزارة وحرارة.
ُجرَتْ) ،وقال يف سورة
ويؤيد هذا قوله تعاىل( :وَِإذَا ا ْل ِبحَارُ ف ِّ
ُجرَتْ) .كما سأبينه الحقاً.
التكوير( :وَِإذَا ا ْل ِبحَارُ س ِّ
وكما بينت اآليات الطريقة اليت تفجرت بها األرض ،فقد بينت
الطريقة اليت غاض بها املاء .قال تعاىل( :وَقِيلَ يَا أَ ْرضُ ا ْب َلعِي مَا َءكِ
سمَاءُ أَ ْق ِلعِي وَغِيضَ ا ْلمَاءُ وَقُضِيَ الْأَ ْمرُ) ،فهذه معجزة أخرى،
وَيَا َ
212
فاألرض اليت تصدعت وتشققت ،أمرها اهلل أن تبلع ماءها الذي اندفع
منها ،وتلتئم به مرة أخرى ،فعاد املاء الذي اندفع منها إىل حمبسه،
وغيض املاء .إنه تصوير بديع لعملية اندفاع املاء أوالً من حمبسه
بغزارة ،ثم غيضه ورجوعه إىل حمبسه ،بعد أن أدى مهمته ،فهو
كالرسول الذي يبعثه امللك ألداء مهمته ثم يعود أدراجه.
**
211
وبالعودة إىل معاجم اللغة العربية ،جند أن املعنى األصلي للفظ
(حبر) :املكان الواسع ،يف مقاييس اللغة( :البَحْرة :الفجوة من األرض
تتسع) ،وذكر كثريا من استخدام العرب للفظ ،وكلها ترجع إىل
املكان الواسع .ولذلك مسي البحر حبراً ،قال اخلليل( :مسي البحر
حبرا الستبحاره وهو انبساطه وسعته) .ويف لسان العرب( :مسي
بذلك لعمقه واتساعه).
ثم أطلق على املاء الذي يكون يف البحر :حبراً ،واألصل أن
التسمية للمكان ،فسمي الشيء باسم مكانه ،فالبحر ،أي :ماء البحر،
وقد شاع حتى مل تعد تلك العالقة ملحوظة .وهذه العالقة من باب
قوله تعاىل( :وَنَجَّيْنَاهُ ِمنَ ا ْل َقرْ َيةِ) ،أي :من أهل القرية ،وقوله( :وَاسْأَلِ
ا ْل َقرْ َيةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا) .وتقول :احتفلت املدينة ،وأنت تقصد :أهلها.
ُجرَتْ) ،فالبحر هنا مكان املاء
وعليه فقوله تعاىل( :وَِإذَا ا ْل ِبحَارُ ف ِّ
نفسه ،وليس املاء ،وتفجريها يكون مبرحلتني:
سجْرها ،حيث تتعرض حلرارة هائلة ،وهو ما
املرحلة األوىلَ :
ُجرَتْ).
ذكر يف قوله( :وَِإذَا ا ْل ِبحَارُ س ِّ
املرحلة الثانية :تصديعها ،فبفعل تلك احلرارة اهلائلة تتمزق
األرض ،بسرعة شديدة ،فتتشقق شقوقا هائلة كثرية واسعة ،فيندفع
املاء الذي بداخلها وينتشر حبرارة وغزارة ،ويتطاير.
**
وبذلك يتبني أن تفجري اهلل (للوعاء :األرض ،البحار) مل يرد إال
يف موضعني ،وكالهما يف مقام إظهار قدرته سبحانه وتعاىل بتحقيق
213
وعيده ،سواء حني أغرق قوم نوح ،أو حني يتبدل نظام اخللق كله.
أما تفجري اهلل للماء (لألنهار ،العيون) ،فجاء يف سياق االمتنان
على الناس ،ومن ثم عليهم أن يشكروا املنعم الذي أنعم عليهم
خرَجْنَا مِ ْنهَا حَبًّا َفمِنْهُ
بذلك( :وَآ َيةٌ َلهُمُ الْأَ ْرضُ ا ْلمَيْ َتةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَ ْ
َجرْنَا فِيهَا مِنَ
ج َعلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ ِمنْ َنخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَف َّ
كلُونَ ( )11وَ َ
يَأْ ُ
ش ُكرُونَ).
كلُوا ِمنْ َث َمرِهِ وَمَا َع ِملَ ْتهُ أَ ْيدِيهِمْ أَ َفلَا يَ ْ
ا ْلعُيُو ِن ( )14لِيَأْ ُ
**
211
ِم ْن َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ)(.)3
وعليه فاملعنى :احلجارة تتفجر ،أي :تتصدع صدوعا واسعة،
فتندفع األنهار منها اندفاعا شديدا منتشراً .فاحلجارة هي وعاء
األنهار .وهي اليت تتصدع.
وفرق بني حالتني للحجارة ،احلالة األوىل :تفجرها ،واحلالة
الثانية :تشققها.
ففي حالة تفجر احلجارة ،فإن اخلارج منها أنهار مندفعة
متدفقة .ويف حالة تشققها ،فإن اخلارج منها ماء .فالتفجر يفيد
معنى زائدا على التشقق ،وهو التصدع الشديد السريع ،وحصول
الشقوق الواسعة ،مما يؤدي إىل اندفاع ما بداخلها اندفاعا سريعا
شديدا غزيرا ،فينتشر .أما التشقق فليس فيه هذا املعنى ،بل هو
حدوث فتحات يف الشيء املتشقق ،يؤدي إىل تسرب ما بداخله ،وليس
اندفاعه.
ففي حالة تفجر احلجارة ،فإن املاء يندفع ويتدفق بسرعة
وغزارة .ويف حال تشقق احلجارة فإن املاء يسيل منها ،ويتسرب دون
اندفاع.
()8
جاء يف روح املعاني لأللوسي( :والتفجر -التفتح بسعة وكثرة كما يدل عليه
جوهر الكلمة وبناء التفعل ،واملراد من األنهار املاء الكثري الذي جيري يف األنهار،
والكالم إما على حذف املضاف ،أو ذكر احملل وإرادة احلال أو اإلسناد جمازي ،قال
بعض احملققني :ومحلها على املعنى احلقيقي وهم إذ التفتح ال ميكن إسناده إىل
األنهار اللهم إال بتضمني معنى احلصول بأن يقال :يتفجر وحيصل منه األنهار).
222
خامسا( :فجّر) املسندة إىل البشر
يفجرونها تفجريا:
َجرُو َنهَا
شرَبُ بِهَا ِعبَادُ اهللِ ُيف ِّ
وقوله تعاىل عن أهل اجلنة( :عَيْنًا يَ ْ
َت ْفجِريًا).
قال الطربي( :يفجرون تلك العني اليت يشربون بها كيف
شاءوا وحيث شاءوا من منازهلم وقصورهم تفجريا ،ويعين بالتفجري:
اإلسالة واإلجراء) .وقال ابن عاشور( :والتفجري :فتح األرض عن املاء،
أي استنباط املاء الغزير ،وأطلق هنا على االستقاء منها بال حد وال
نضوب ،فكأن كل واحد يفجر لنفسه ينبوعا ،وهذا من االستعارة).
والذي يبدو أن اآلية ليس من باب االستعارة ،فعباد اهلل يف اجلنة
يعطيهم اهلل اإلمكان الذي جيعلهم يستطيعون به أن يفجروا العيون
حيث شاؤوا ،ومتى شاؤوا .فهم ال حيملون همّ احلصول على املاء ،أو
البحث عن مواضع املاء .فأين جلسوا فجروا العيون ،فشربوا وارتووا
ومتتعوا به.
فالتفجري هنا بالطريقة األوىل ،أي :إخراج املاء بدفعه من
حمبسه.
فتفجر األنهار:
قال تعاىل:
جرَ لَنَا مِنَ الْأَ ْرضِ يَنْبُوعًا ( )90أَوْ
(وَقَالُوا َلنْ ُنؤْ ِمنَ َلكَ حَتَّى َت ْف ُ
خلَا َلهَا َت ْفجِريًا).
َجرَ الْأَ ْنهَارَ ِ
َنةٌ ِمنْ َنخِيلٍ وَ ِعنَبٍ فَ ُتف ِّ
تَكُو َن َلكَ ج َّ
224
قرئ يف السبع :حتى َت ْفجُر ،وقرئُ :ت َفجّر ،بالتخفيف والتشديد.
فقريش طلبت من الرسول صلى اهلل عليه وسلم أن يفعل هلم
هذه األمور ،كشرط إلميانهم ،وهم ال يقصدون أن يفعلها بنفسه،
وإمنا يطلبها من ربه ،فقالوا :لو كنت نبيا لسألت ربك وأجابك.
وقال ابن كثري يف تفسريه( :الينبوع :العني اجلارية ،سألوه أن
جيري هلم عينا معينا يف أرض احلجاز هاهنا وهاهنا ،وذلك سهل
يسري على اهلل تعاىل ،لو شاء لفعله وألجابهم إىل مجيع ما سألوا
الذِينَ حَقَّتْ
وطلبوا ،ولكن علم أنهم ال يهتدون ،كما قال تعاىل{ :إِنَّ َّ
ك ِل َمةُ ر َِّبكَ لَا ُيؤْمِنُونَ َو َلوْ جَا َء ْتهُمْ كُلُّ آ َيةٍ حَتَّى َيرَوُا ا ْل َعذَابَ
َعلَ ْيهِمْ َ
األلِيمَ} ،وقال تعاىلَ { :و َلوْ أَنَّنَا نزلْنَا ِإلَ ْيهِمُ ا ْلمَالئِ َكةَ وَك ََّل َمهُمُ ا ْلمَ ْوتَى
شرْنَا َعلَ ْيهِمْ كُلَّ شَيْءٍ ُقبُال مَا كَانُوا لِ ُيؤْمِنُوا إِال أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ
وَحَ َ
ج َهلُونَ}).
َولَكِنَّ أَكْ َث َرهُمْ َي ْ
وورد يف السري ،أن رؤساء أهل مكة أرسلوا إىل الرسول صلى اهلل
عليه وسلم وهم جلوس عند الكعبة فأتاهم فقالوا يا حممد إن أرض
مكة ضيقة فسري جباهلا لننتفع فيها وفجر لنا فيها ينبوعا أي نهرا
وعيونا نزرع فيها فقال ال أقدر عليه ،فقال قائل منهم أو يكون لك
جنة من خنيل وعنب فتفجر األنهار خالهلا تفجريا فقال ال أقدر
عليه ،فقيل أو يكون لك بيت من زخرف أي من ذهب فيغنيك عنا
فقال ال أقدر عليه ،فقيل له أما تستطيع أن تأتي قومك مبا
يسألونك فقال ال أستطيع ،قالوا فإذا كنت ال تستطيع اخلري
فاستطع الشر فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ،أي قطعا
222
بالعذاب.
وقال ابن عاشور( :واملراد باألرض :أرض مكة ،فالتعريف للعهد.
ووجه ختصيصها أن أرضها قليلة املياه بعيدة عن اجلنات ....وخصوا
هذه اجلنة بأن تكون له ،ألن شأن اجلنة أن تكون خاصة مللك واحد
معني ،فأروه أنهم ال يبتغون من هذا االقرتاح نفع أنفسهم ولكنهم
يبتغون حصوله ولو كان لفائدة املقرتح عليه .واملقرتح هو تفجري
املاء يف األرض القاحلة ،وإمنا ذكروا وجود اجلنة متهيدا لتفجري
أنهار خالهلا فكأنهم قالوا :حتى تفجر لنا ينبوعا يسقي الناس
كلهم ،أو تفجر أنهارا تسقي جنة واحدة تكون تلك اجلنة وأنهارها
لك .فنحن مقتنعون حبصول ذلك ال بغية االنتفاع منه .وهذا
كقوهلم :أو يكون لك بيت من زخرف).
223
سادسا :فجر اإلنسانُ فجوراً:
ال َفجْر ،كما ذكرت :هو تصديع الوعاء الذي بداخله الشيء
املنضغط املنحبس ،مما يؤدي إىل اندفاعه منه بشدة.
سأحتدث عن مفهوم (احلافظ التدبريي ،واحلافظ االبتالئي
للنفس) ،ليتضح لنا مفهوم الفجور.
/3احلافظ التدبريي:
لقد جعل اهلل لكل نفس حافظاً منه ،فقال( :إِنْ كُلُّ َنفْسٍ لَمَّا
حفَظُو َنهُ
خ ْل ِفهِ َي ْ
َقبَاتٌ ِمنْ بَ ْينِ َيدَ ْيهِ وَ ِمنْ َ
َعلَ ْيهَا حَافِظٌ) ،وقالَ ( :لهُ ُمع ِّ
ِمنْ أَ ْمرِ اهللِ) .فهذا إطار جعله اهلل حيفظ اإلنسان ،ولذلك وصفه
(من بني يديه ومن خلفه) ،فال تستطيع نفس أن تعيش دون هذا
احلافظ .وهذا احلافظ تدبريي ،ال يستطيع اإلنسان ،وال أي نفس ،أن
تصدعه ،أو تنتهك حدوده.
ولذلك يظل اإلنسان حماطا بهذا احلفظ ،حتى إذا جاء أجله
خلّي بينه وبني األجل ،قال تعاىلَ ( :و ُهوَ ا ْلقَا ِهرُ َفوْقَ ِعبَادِهِ وَ ُيرْسِلُ
ُ
ت َتوَفَّ ْتهُ رُسُلُنَا).
حدَكُمُ ا ْل َموْ ُ
ظةً حَتَّى ِإذَا جَاءَ َأ َ
حفَ َ
َعلَيْكُمْ َ
حفِيظٌ)،
واهلل حفيظ على كل شيء( ،إِنَّ رَبِّي َعلَى كُلِّ شَيْءٍ َ
فما من شيء إال وهو يف حفظ اهلل ،وال ميكن أن يتعدى حدود حفظ
اهلل.
/1احلافظ االبتالئي:
كذلك فقد جعل اهلل لكل إنسان حافظا ابتاله باحلفاظ عليه،
221
فأوكل إىل اإلنسان مهمة احلفاظ على (احلافظ) ،وحافظ اهلل هو
أمانته اليت محلها اإلنسان .هذا احلافظ كل حدود اهلل ونعمه اليت
جعل لإلنسان االستطاعة يف أن حيفظها أو ال حيفظها.
وهذا احلافظ هو حدود جعلها اهلل حميطة باإلنسان ،وهذه
احلدود هي أوامره ونواهيه ،ونعمه اليت أنعم بها على اإلنسان وأمره
بالقيام حبقها ،وعدم تبديلها ملا خلقت له ،وعدم التفريط فيها...
فكل هذه حدود حميطة باإلنسان.
فاإلنسان يولد على الفطرة ،وهو مُحاط حبافظ اهلل االبتالئي،
حتى يبلغ ،فإذا بلغ سن التكليف ،فإنه يوكل إليه مهمة حفظ هذه
احلدود ،وعليه أال ينتهكها ،وأال يتجاوزها ،فإن فعل ذلك فهو متقي،
(أي :اتقى انتهاكها ،فاملتقي هو الذي ال ينتهك احلواجز واحلدود،
والوقاية :توقي الوقوع يف الشيء) .وإن انتهك تلك احلدود ،فهو
فاجر.
فالفاجر هو الذي يصدع احلدود احلافظة ،ويشققها ،وينتهكها،
ليندفع منها.
وقد مجع بني لفظي (التقوى والفجور) ،فقال( :وَ َنفْسٍ وَمَا
سَوَّاهَا ( )7فَ َأ ْل َه َمهَا ُفجُو َرهَا َو َت ْقوَاهَا) ،أي :أهلم النفس كيف تتقي
تلك احلدود ،وأهلمها كيف تفجرها .فيعرف اخلري فيأتيه ويعرف
الشر فيتقيه ،كما قال الشاعر:
لتوقيهِ لكن للشر ال الشرَّ عرفت
فيه يقعْ الناس من الشرَّ يعرف ال ومن
221
ُتقِنيَ كَا ْلفُجَّارِ) ،أي :كيف جنعل
ج َع ُل ا ْلم َّ
وقال تعاىل( :أَمْ َن ْ
املتقني الذين حفظوا حدود اهلل ومل ينتهكوها ،وظلوا حمافظني على
الوسيلة اآلمنة اهلادية ،كمان فجروا تلك احلدود ،ومزقوا احلافظ
الذي حيفظهم ،فسقطوا يف جهنم.
والناس احلافظون حلدود اهلل ،هم أبرار ،بروا أي صدقوا
فحفظوا األمانة ،ومل يتجاوزوا حدود ربهم ،أما من اعتدوا على حدو
اهلل فهم ُفجّار ،أي :فجروا تلك احلدود ،ومزقوها ،ومل يرعوها( ،إِنَّ
جحِيمٍ) .وقال( :كَلَّا إِنَّ
ِن ا ْلفُجَّارَ َلفِي َ
الْأَ ْبرَارَ َلفِي َنعِيمٍ ( )31وَإ َّ
ني) ،وقال( :كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَ ْبرَارِ َلفِي
كِتَابَ ا ْلفُجَّارِ َلفِي سِجِّ ٍ
عِلِّيِّنيَ) .فالفجار سقطوا يف سجني ،أما األبرار فقادتهم حدود اهلل
احلافظة هلم إىل عليني.
وهذا يصور لنا أن اإلنسان مؤمتن على هذه احلدود احمليطة به،
فإن حفظها ،فإنه ينجو ،وإن فجَرها فإنه يهلك.
وأضرب مثالً:
لو أن إنسانا ركب منطادا وطار به يف اهلواء ،فإن املنطاد إطار
حيميه من السقوط ،طاملا حافظ عليه ،ويوصله إىل هدفه آمناً ،فإن
شق املنطاد ومزقه ،فإنه سرعان ما يسقط به.
وكذلك اإلنسان يف الدنيا ،جعل اهلل له حدودا حافظة ،فهو
يسعى فيها ،فإن حافظ عليها ،جنا وأوصلته إىل اجلنة ،وإن فجَرها
(ومزقها ،وانتهكها) سقط ووقعت به يف نار جهنم والعياذ باهلل.
وعلينا أال نتصور أن هذه احلدود جماز ،ولكنا ال نعي حقيقتها،
222
وألفاظ القرآن الكريم تبني لنا أنها حدود حقيقية ،واإلنسان حمفوظ
داخلها ،وكلما مزقها فإمنا يظلم نفسه.
ولذلك جند القرآن الكريم يأمرنا باحلفاظ على هذه احلدود،
الص َلوَاتِ)،
حدُودِ اهللِ) ،وقال( :حَافِظُوا َعلَى َّ
قال تعاىل( :وَا ْلحَافِظُونَ ِل ُ
َالذِينَ هُ ْم ِلفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ).
وقال( :و َّ
حدُودُ اهللِ
وقد بني اهلل للناس حدوده بيانا واضحاَ ( ،و ِت ْلكَ ُ
ُيبَيِّ ُنهَا ِل َقوْمٍ َي ْع َلمُونَ) ،وأمر الناس أال يقربوا حدود ،أي :أال ينتهكوها؛
فهي األمان هلم كي يصلوا إىل بر األمان ،وإال فإنهم يهلكونِ ( :تلْكَ
حدُودُ اهللِ َفلَا َتعْ َتدُوهَا وَ َمنْ
حدُودُ اهللِ َفلَا َت ْقرَبُوهَا) ،وقالِ ( :ت ْلكَ ُ
ُ
حدُودَ اهللِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّا ِلمُونَ) ،أي يظلم نفسه ،كمن
يَ َتعَدَّ ُ
يشقق املنطاد الذي هو فيه وهو يف اهلواء ،فهو بفعله يعرض نفسه
حدُودَ اهللِ
للهالك ،ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه .قال( :وَ َمنْ يَ َتعَدَّ ُ
سهُ).
ظلَمَ َنفْ َ
َف َقدْ َ
حدُودَهُ ُيدْخِ ْلهُ نَارًا خَا ِلدًا
وقال( :وَ َمنْ َي ْعصِ اهللَ وَرَسُو َلهُ وَيَ َتعَدَّ ُ
فِيهَا) ،فمن يتعد حدود اهلل فإنه قد خسر (املنطاد) الذي ينقله إىل
اجلنة ،فليس له إال أن يسقط يف أودية جهنم.
ويصور القرآن الكريم صورة الفاجر الذي شقق حدود اهلل ،ومل
ش ِركْ بِاهللِ
شرِكِنيَ ِبهِ وَ َمنْ يُ ْ
حيفظها ،فقال( :حُ َنفَاءَ ل َِّلهِ غَ ْيرَ مُ ْ
ط ُفهُ الطَّ ْيرُ أَوْ َت ْهوِي ِبهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ
السمَاءِ فَ َتخْ َ
فَكَأ ََّنمَا خَرَّ ِمنَ َّ
شعَا ِئرَ اهللِ فَإ َِّنهَا ِمنْ َت ْقوَى ا ْل ُقلُوبِ).
سحِيقٍ (َ )13ذ ِلكَ وَ َمنْ ُيعَظِّمْ َ
َ
فشبهه براكب املنطاد الذي يف السماء ،ولكنه مزق منطاده فخر من
221
السماء ،وهذه الصورة تبني لنا حقيقة الفجور ،وتقربه إىل وعينا
وإدراكنا.
فالكافر انتهك حدود اهلل ،فلم يعد من حوله حافظ حيفظه،
ومن ثم فإنه قد فَ َق َد وسيلة النقل اليت تنقله إىل اجلنة ،وكل من
فقد هذه الوسيلة ،فإنه خير من السماء فيقع يف جهنم .أما من يعظم
شعائر اهلل فهو املتقي (من تقوى القلوب) ،فال ينتهك حدود اهلل ،وال
يفجر أمامه.
إن حدود اهلل (هي أمان وهداية) ،فهي أمان حتفظ مَن بداخلها،
وتؤمنه من اهلالك ،كما أنها وسيلة هداية ،حيث تقوده حتى يصل
إىل مبتغاه ،وهو اجلنة .فمن شقها فقدَ األمان واهلداية ،قال تعاىل:
ظلْمٍ أُولَ ِئكَ َلهُمُ الْأَ ْمنُ َوهُمْ
الذِينَ آمَنُوا َولَمْ َي ْلبِسُوا ِإميَا َنهُمْ بِ ُ
( َّ
ُمهْ َتدُونَ) .فجمع بني األمن واهلداية.
حزَنُونَ) ،فهم ال
خوْفٌ َعلَ ْيهِمْ َولَا هُمْ يَ ْ
وقالَ ( :ف َمنْ َت ِبعَ ُهدَايَ َفلَا َ
خيافون؛ ألنهم حماطون بوسيلة نقل آمنة ،وهم ال حيزنون؛ ألنهم
مهتدون بهذه الوسيلة ،وواثقون أنها تؤديهم إىل مسكنهم األول.
فاإلنسان حيزن حني يفقد مسكنه األصلي وال يعرف كيف يرجع
إليه ،أما من وجد مرشدا يدله على العودة إىل مسكنه األصلي فإنه
يفرح وال حيزن.
وكذلك الناس خرجوا من اجلنة ،وهي مسكنهم األصلي،
وبثهم اهلل يف األرض ،وقد جعل هلم وسائل آمنة وهادية تنقلهم إىل
اجلنة ،فرتدهم إىل مسكنهم األصلي ،فمن اهتدى بها فاز ووصل ،ومن
223
أبى شقي وخاب وهلك وانقطعت به السبل.
ولذلك فاإلنسان يظل مهاجرا؛ ألنه يريد العودة إىل موطنه
جرٌ ِإلَى
األول ،قال تعاىل عن نبيه لوط( :فَآ َمنَ َلهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي ُمهَا ِ
جرًا ِإلَى اهللِ وَرَسُو ِلهِ) ،فسمى
خ ُرجْ ِمنْ بَيْ ِتهِ ُمهَا ِ
رَبِّي) ،وقال( :وَ َمنْ َي ْ
عمله الصاحل هجرة إىل اهلل.
**
واقٍ من اهلل:
خرَةِ أَشَقُّ وَمَا
قال تعاىلَ ( :لهُمْ َعذَابٌ فِي ا ْلحَيَاةِ الدُّنْيَا َو َل َعذَابُ الْآ ِ
خ َذهُمُ اهللُ ِبذُنُو ِبهِمْ وَمَا كَانَ َلهُمْ مِنَ
َلهُمْ ِمنَ اهللِ مِنْ وَاقٍ) ،وقال( :فَأَ َ
اهللِ ِمنْ وَاقٍ) ،وقالَ ( :ولَ ِئنِ َّات َبعْتَ َأ ْهوَا َءهُمْ بَ ْعدَمَا جَا َءكَ ِمنَ ا ْل ِعلْمِ مَا
ٍّ َولَا وَاقٍ) .فما الواقي الذي من اهلل؟
َلكَ ِمنَ اهللِ ِمنْ َولِي
لقد جعل اهلل لكل نفس حافظا حيفظها ،وهذا احلافظ كما
ذكرت :حافظ تدبريي وحافظ ابتالئي ،وبينت ذلك .والقرآن الكريم
يسمي احلافظ االبتالئي( :واقي) ،فهو واقٍ جعله اهلل لكل نفس،
فيحفظ اإلنسان من خماطر السري وضالل الطريق ،فيضمن هلم
األمن واهلداية .وهو نور من اهلل حييط باإلنسان فيهديه إىل ربه ،قال
ج َعلْنَا َلهُ نُورًا يَمْشِي ِبهِ فِي النَّاسِ
تعاىل( :أَوَ َمنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَ َ
ك َمنْ مَ َث ُلهُ فِي الظُّ ُلمَاتِ لَ ْيسَ ِبخَا ِرجٍ مِ ْنهَا) .فهو نور ميشي به ،أي
َ
يسري به فيكون له وقاء آمناً ،وهادياً ،فال خياف وال حيزن ،أما من فجر
ذلك الوقاء ،فيكون يف ظلمات ال خيرج منها؛ إذ ال وقاء يؤمنه من
خماطر السري ،وال هادي يهديه إىل نور ربه.
221
وأمرهم أن حيفظوا هذا الواقي ،وأال يفجروه (أال يصدعوه
وميزقوه وخيرقوه) ،فمن فجر ذلك الواقي فقد أضاع واقي اهلل الذي
منحه ،فليس له من اهلل من واق ،يقيه من عذاب اآلخرة.
ويبني القرآن الكريم أن من فجر واقي اهلل ،فإن الشيطان يتواله،
فيضله ويهديه إىل السعري ،وبئس اهلادي ،قال تعاىل( :وَ ِمنَ النَّاسِ َمنْ
َت ِبعُ كُلَّ شَيْطَانٍ َمرِيدٍ ( )1كُتِبَ َعلَ ْيهِ أَنَّهُ
ُيجَادِلُ فِي اهللِ ِبغَ ْيرِ ِعلْمٍ وَي َّ
السعِريِ) .وهذا ما تعهد به
َمنْ َتوَلَّاهُ فَأ ََّنهُ يُض ُِّلهُ وَ َيهْدِيهِ ِإلَى َعذَابِ َّ
إبليس ،أن حييط باإلنسان ،فإذا مكنه اإلنسان من نفسه؛ بأن خرق له
الوقاء الذي يقيه؛ فإن الشيطان ينفذ من تلك الشقوق ،حبسب
صرَاطَكَ
سعتها وكثرتها( :قَالَ َف ِبمَا أَ ْغوَيْتَنِي لَأَ ْق ُعدَنَّ َلهُمْ ِ
خ ْل ِفهِمْ وَ َعنْ أَ ْيمَا ِنهِمْ
َنهُمْ ِمنْ بَ ْينِ أَ ْيدِيهِمْ وَ ِمنْ َ
ا ْلمُسْ َتقِيمَ ( )36ثُمَّ لَآتِي َّ
كرِينَ).
جدُ أَكْ َث َرهُمْ شَا ِ
شمَا ِئ ِلهِمْ َولَا َت ِ
وَ َعنْ َ
**
والفاجر من كثرت معاصيه ،فال يقال ملن عصى معصية واحدة
فاجر؛ إال إذا كانت املعصية كبرية من الكبائر ،كالكفر أو الزنا ،أو
شرب اخلمر ..فهذه املعصية متزق احلدود متزيقا هائال ،وتشققها
تشقيقا سريعا .أما الصغائر فإن كل معصية منها حتدث شقا يف
احلدود ،وكلما عصى أحدث فرجة يف احلدود احمليطة به.
والتوبة هي وسيلة اإلنسان يف رتق الصدوع ،وألم الشقوق ،وردم
الفجوات ،اليت أحدثها يف احلدود احلافظة له.
اللمَمَ
كبَائِرَ الْإِثْمِ وَا ْل َفوَاحِشَ إِلَّا َّ
الذِينَ َيجْتَ ِنبُونَ َ
قال تعاىلَّ ( :
212
سعُ ا ْل َم ْغ ِفرَةِ ُهوَ أَ ْعلَمُ بِكُمْ ِإذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَ ْرضِ وَِإذْ أَنْتُمْ
إِنَّ رَبَّكَ وَا ِ
ُمهَاتِكُمْ َفلَا ُتزَكُّوا أَ ْنفُسَكُمْ ُهوَ أَعْلَمُ ِب َمنِ َّاتقَى)
ِنةٌ فِي بُطُونِ أ َّ
أَج َّ
فجاء بلفظ (واسع) ،فكما أن الكبائر حتدث صدوعا واسعة يف
جدار حدود اهلل ،فإن اإلنسان إذا تاب منها ،فإن اهلل واسع املغفرة،
فيغفر تلك الذنوب .وختم اآلية بقوله( :هو أعلم مبن اتقى) ،أي :من
اتقى حدود اهلل فلم ينتهكها ،وهو أعلم مبن فجر فانتهكها.
**
ليفجر أمامه:
ِالنفْسِ اللَّوَّا َمةِ
قال تعاىل( :لَا أُقْسِمُ بِ َيوْمِ ا ْلقِيَا َمةِ (َ )3ولَا أُقْسِمُ ب َّ
ج َمعَ عِظَا َمهُ (َ )1بلَى قَادِرِينَ َعلَى أَنْ نُسَوِّيَ
َلنْ َن ْ
( )1أَ َيحْسَبُ الْإِنْسَانُ أ َّ
جرَ أَمَا َمهُ)
بَنَا َن ُه (َ )4بلْ ُيرِيدُ الْإِنْسَانُ لِ َي ْف ُ
يقسم املوىل سبحانه وتعاىل بيوم القيامة ،وبالنفس اللوامة،
والنفس اللوامة ،هي تلك النفس املؤمنة اليت تذنب فتتوب ،وتذنب
فتتوب ،وكلما أذنبت أحدثت توبة ،وهكذا .فالنفس تذنب فتثقب يف
ذلك الوقاء الذي جعله اهلل نورا حيفظها وحييطها ،ثم تتوب فتسد
الثغرات اليت أحدثتها .فهي نفس جماهدة ،تدركها الغفلة فتشق
حدود اهلل ،ثم يدركها اخلوف فتسد ما أحدثته من خرق.
ثم قال :أحيسب اإلنسان ألن نبعثه مرة أخرى إلينا؟! هل يظن
اإلنسان أن حياته الدنيا هي نهاية األمر؟! أال يدري أنه سائر إلينا،
فإن قدم علينا وهو حماط بنورنا أمن واهتدى إىل اجلنة ،وإن قدم
214
إلينا وقد هتك أستار نورنا ،خاب وخر إىل سجني.
صدّع) حدود اهلل
ثم قال :بل يريد اإلنسان ليفجر أمامه ،أي (يُ َ
وحافظه الذي جعله وقاء آمنا وهاديا لإلنسان؛ ألنه يعتقد أنه إذا
فجر ذلك الواقي فإنه يتمتع مبلذات الدنيا ،وشهواتها ،اليت يراها
وهو داخل وقائه ،فال يصرب على أن يظل رهني وقائه ،بل يشققه
فيندفع منه اندفاع املاء احملبوس يف باطن األرض ،يندفع كالثور
اهلائج؛ فتتلقفه الشياطني ،ويتخبط يف الظلمات ،فتزيده ضالال،
وتهديه إىل أسوأ املصري.
قال تعاىلُ ( :قلْ أَ َندْعُو مِنْ دُونِ اهللِ مَا لَا يَ ْن َفعُنَا َولَا يَضُرُّنَا وَ ُنرَدُّ
َالذِي اسْ َت ْه َو ْتهُ الشَّيَاطِنيُ فِي الْأَرْضِ
َعلَى أَ ْعقَابِنَا َب ْعدَ ِإذْ َهدَانَا اهللُ ك َّ
صحَابٌ َيدْعُو َنهُ ِإلَى ا ْل ُهدَى ائْتِنَا) ،فهو بعد أن انتهك
حَ ْيرَانَ َلهُ َأ ْ
حدود اهلل وخرق وقاءه ،تتلقفه الشياطني وتستهويه يف األرض ،أي
تضله يف مهاوي التيه ،فيظل حريان ،ال يهتدي إىل نور اهلل ،وال يأمن
من وعورة الطريق.
وقوله( :أمامه) ،أي يفجر وقاء اهلل ونوره الذي أحاطه به ،وهو
سائر يف طريقه إىل اهلل؛ ألن كل إنسان مرده إىل اهلل ،فإما يتقي وإما
يفجر .فاألمام هو الطريق الذي هو سائر فيه ،والقرآن الكريم يصور
سري اإلنسان إىل أجله بالسائر باجتاه األمام ال اخللف ،ولذلك
يستخدم لفظ (التقديم) ،كما قال تعاىل( :وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا)( ،بِمَا
ظرْ َنفْسٌ مَا قَدَّمَتْ ِل َغدٍ)َ ( ،يقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ
قَدَّمَتْ أَ ْيدِيهِمْ)َ ( ،ولْتَنْ ُ
ِلحَيَاتِي).
212
***
فاخلالصة أن داللة لفظ فجور اإلنسان هي الداللة العامة
للفَجر ،وهي تصديع الوعاء يندفع ما بداخله بشدة؛ فاإلنسان حماط
حبدود حافظة له ،وهذه احلدود هي وسيلته اليت تنقه إىل عليني
بأمان ،وتهديه يف جنة ربه .فإن شقّق هذه احلدود وم ّزقها وقطّعها
جرَها ،فهو فاجر ،وهذا هو الفجور .وإن حافظ عليها فهو
فإنه ف َ
متقي ،وهذه هي التقوى.
213
املطلب الثاني :فتق ورتق
الفتق :شق متدرج ،يبدأ بإحداث فرجة ضيقة ،تتسع شيئا
فشيئا ،حتى تصبح شديدة االتساع.
السمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ كَانَتَا
ك َفرُوا أَنَّ َّ
الذِينَ َ
قال تعاىل( :أَ َولَمْ يَرَ َّ
َر ْتقًا َففَ َتقْنَا ُهمَا) .فهو يتحدث عن الفتق ،والفتق كان بعد الرتق.
أوالً :الرتق:
211
أن السموات كانت رتقا ال متطر ،وكانت األرض رتقا ال تنبت ،ففتق
هذه باملطر ،وهذه بالنبات ،رواه عبد اهلل بن دينار عن ابن عباس ،وبه
قال عطاء ،وعكرمة ،وجماهد يف رواية ،والضحاك يف آخرين .والثاني:
أن السموات واألرض كانتا ملتصقتني ،ففتقهما اهلل تعاىل ،رواه
العويف عن ابن عباس ،وبه قال احلسن ،وسعيد بن جبري ،وقتادة.
والثالث :أنه فتق من األرض ست أرضني فصارت سبعا ،ومن السماء
ست مسوات فصارت سبعا ،رواه السدي عن أشياخه ،وابن أبي جنيح
عن جماهد).
وقال ابن كثري( :كان اجلميع متصال بعضه ببعض متالصق
مرتاكم ،بعضه فوق بعض يف ابتداء األمر ،ففتق هذه من هذه).
وقال البقاعي"( :رتقاً" أي ملتزقتني زبدة واحدة على وجه املاء،
والرتق يف اللغة :السد ،الفتق :الشق" ،ففتقناهما" ،أي :بعظمتنا ،بأن
ميزنا إحداهما عن األخرى بعد التكوين املتقن).
211
الرتق والفتق .وأما خلق السماوات واألرض فلم يذكر لنا القرآن مم
خلقتا ،وهل خلقتا من شيء أو من غري شيء .وما أقوله هنا أن اهلل
خلق السماوات واألرض كلها فكانتا رتقا ،ثم فتقهما اهلل.
وهذا يعين أن السماوات واألرض كانتا معا يف جرم واحد،
ملتصقتني ،متصلتني ،ومل حتدد اآلية حجم اجلرم ،وإمنا حددت
طبيعته (رتقا) ،غري أن ذكر لفظ (السماوات) يفيد ضآلة حجم
اجلرم إىل حد ال ميكن تصوره ،فالسماوات كانت يف رحم السماء
األولية (مل تسوّ بعد) ،وهذا يعين أن املدى الذي تسوت إليه السماء
األولية فأصبحت سبع مساوات هو مدى هائل ،كما أن احلجم الذي
كانت فيه السماء األولية واألرض ضئيل جدا ،ذلك احلجم هو
الذي أصبح السموات واألرض ،وضآلة ما كان عليه إىل ما أصبح
عليه كضآلة السماء بالنسبة للسماوات .ولعل هذا يكشف عن سر
ذكر لفظ (السماوات) بصيغة اجلمع.
سعُونَ)،
َالسمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا َلمُو ِ
ويؤيد هذا قوله تعاىل (و َّ
فثمة إيساع ،وإيساع الشيء يدل على أن جرمه كان أصغر وأضيق،
فهو يتوسع رويدا رويدا.
كما يدل مفهوم الرتق ،على أن الشيء كان حبالة ال يستفاد
منها ،فالرتقاء هي اليت ال يستطيع الذكر وطأها؛ النضمام فرجها.
وهذا ما فهمه أهل التفسري حني قالوا أن السماء كانت رتقا ال
متطر ،واألرض رتقا ال تنبت .وهو فهم صحيح ،غري أن داللته ال
تقتصر على هذا ،بل داللته أن السماوات واألرض يف حالة الرتق مل
212
تكن مهيئة حلياة الكائنات عليها ،وما خلقت الكائنات احلية إال بعد
ك َفرُوا أَنَّ
الفتق ،ولعل هذا ما يفسر قوله تعاىل( :أَ َولَمْ َيرَ َّالذِينَ َ
ج َعلْنَا ِمنَ ا ْلمَاءِ كُلَّ
السمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ كَانَتَا َر ْتقًا َففَ َتقْنَا ُهمَا وَ َ
َّ
ٍّ) ،فذكر احلياة بعد الفتق.
شَيْءٍ حَي
211
ثانياً :الفتق:
213
ويف العني( :الفِتَاق :مخرية ضخمة ال يلبث العجني
إذا جعلت فيه أن يدرك) ،وقد بني الزخمشري يف
أساس البالغة أن تسميته (ألنه ينفخ العجني،
ويفتقه) .ويقال عام الفتق :أي اخلصب ،قال
الزخمشري( :ألنه يفتق املواشي مسناً) ،ويف اللسان:
(مسي عام الفتق؛ النشقاق األرض بالنبات) .ويف
عيون األخبار( :قال شبيب بن شيبة لبعض فرسان
بين منقر :ما مطلت مطل الفرسان وال فتقت فتق
السادة) ،وهو كقول آخر( :ما أنت بأرسح فتكون
فارسا وال بعظيم الرأس فتكون سيدا).
( )1يف تهذيب اللغة( :الفِتاق :أصل اللِّيف الْأَبْيَض ،يشبَّه
ِبهِ ا ْلوَجْه لنقائه وصفائه ،).ويف احملكم البن سيده:
الذِي مل يظْهر).
(الفِتاق :أصل الليف الْأَبْيَض َّ
( )4قال ابن السكيت( :أفْتَقَ قرن الشمس ،إذا أصاب فتقا
يف السحاب فبدا منه) ،أي :شقا .ويف مجهرة اللغة:
السحَاب)،
الشمْس إِذا َبدَت من فتوق َّ
(وأفتقت َّ
فالسحاب تفتق ،أي تشقق .ويف أساس البالغة( :فتْق
الفجر :انشقاقه) .ويف اللسان( :الفِتاق :الشمس حني
يُطبَق عليها ثم يبدو منها شيء) .قال املربد يف
الكامل( :يقال :أفتق السحاب ،إذا انكشف انكشافة
فكانت منه فرجة يسرية بني السحابتني .تقول العرب:
دام علينا الغيم ثم أفتقنا ،وإذا نظر إىل الشمس
211
والقمر من فتق السحاب فهو أحسن ما يكون وأشده
استنارة).
( )5جاء يف وصف مسري النيب صلى اهلل عليه وسلم إىل
الصدْمَتَني» ،قال ابن
َّ خ َرجَ حَتَّى أَفْتَق بَيْن
بدرَ « :
خرَج ِمنْ مَضِيق ا ْلوَادِي ِإلَى املتَّسِع .يُقال:
األثري( :أَيْ َ
أَفْتَقَ السَّحابُ ِإذَا ا ْنفَرج ،ويف صفته صلى اهلل عليه
ص َرتَيْه ا ْنفِتَاق» ،أي :اتساع) .ويف
وسلم« :كَانَ فِي خا ِ
حةِ أَوِ الفَتْق) ،قال
احلديث (يَسْأَلُ الرجلُ فِي ا ْلجَا ِئ َ
ابن األثري( :أي احلرب تكون بني القوم ،وتقع فيها
اجلراحات والدماء ،وأصله :الشق أو الفتح) .ويف تاج
العروس( :الفتق :شق عصا اجلماعة ،ووقوع احلرب
بينهم وتصدع الكلمة).
( )6يف العني( :الفَتْقُ :انفِتاقُ َرتْقِ كل شيء متصل
مستو) ،ويف أساس البالغة( :ومن اجملاز :كرهت أن
أفتق عليك فتقاً ال ترتقه أبداً)؛ إذ ال تعرف كيف
ترتقه .ويف اللسان( :فتق اخلياطةَ يفتقها) ،وتفسريه
كما يف معجم العربية املعاصرة :فتق الثوب :نقض
خياطته حتى فصل بعضها عن بعض.
( )7يف العني( :فَتَقتُ العجني أي جعلت فيه فِتاقاً) ،فأنت
تفتق العجني بالفِتاق .ويف أساس البالغة( :وتقول:
تفتق باللحم ،حتى تفتّق بالشحم) .ويف الصحاح:
232
(فتق املسك بغريه :استخراج رائحته بشيء تدخله
عليه) .ويف األثر عن على مرفوعا( :أول من فتق اهلل
لسانَه بالعربية إمساعيلَ) .ويف اللسان( :مسي عام
الفتق؛ النشقاق األرض بالنبات) .ويف أمالي القالي
يروي عن األصمعي أنه مسع أعرابيا يدعو ،ويف دعائه:
(يا من فتق العقول مبعرفته ،وأطلق األلسن حبمده).
234
شيئني ،فيكون التئامهما شديدا كما لو كانا شيئا
واحدا ،والشيء الواحد يكون متصال مستويا،
كالثوب[ .نصوص اجملموعة .]3
وقد يكون التئامه أشبه بالنسيج (الليف) ،والشق
الذي يكون فتقا ،يشبه حالة تشقق النسيج ،ولذلك
مست العرب :الليف بالفِتاق ،حيث يتشقق تدرجييا،
ويتسع الشق اتساعا كبريا .فيكون الفتق تشقيقا له،
كما تشقق النسيج[ .نصوص اجملموعة .]1
احلالة الثانية :أن يكون شديد االمتالء ،فالفتق ال ()1
يكون إال إثر امتالء مفرط ،فالشيء إذا امتأل حتى
بلغ غاية االمتالء ،ثم بدأ يتشقق ،فهذا هو الفتق.
كفتق املثانة بعد امتالئها ،أو فتق اجلمل بعد
مسنته ،أو فتق العجني بعد انتفاخه[ .نصوص
اجملموعة .]1
232
وتضيق الظلمة ،شيئا فشيئا ،حتى يصبح الفتق واسعا شديد
االتساع[ .نصوص اجملموعة .]4
ثم حني يأخذ الفتق مداه ،فإنه يصبح واسعا شديد االتساع،
وتتصدع بنيته األساسية ،حتى ختتفي املعامل األوىل للشيء املفتوق.
[نصوص اجملموعة .]5
كما أن الفتق خيتص حبالة نقض عرى الشيء امللتئم ،فهو
ليس جمرد تفريق عشوائي ،بل عادة ما يكون نقضا ملا مت حبكه ،أو
فتقا ملا مت رتقه ،وهذا يشبه تشقيق النسيج ،أو نقض خياطة الثوب.
[نصوص اجملموعة .]6
233
/1بيان اآلية (كانتا رتقا ففتقناهما):
السمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ كَانَتَا َر ْتقًا
الذِينَ كَ َفرُوا أَنَّ َّ
قوله (أَ َولَمْ َيرَ َّ
َففَ َتقْنَا ُهمَا)،
(كانتا رتقا) ،أي :كانتا ملتحمتني واتسما بثالث خصائص:
األوىل :شدة االلتئام بينهما ،كأنهما شيء واحد ،والثانية :شدة
االمتالء ،وهذا يشري إىل الكثافة اهلائلة للجرم الصغري الذي حوى
السماوات واألرض ،فهو جرم ممتلئ بهما .والثالثة :احلالة النسيجية
هلذا اجلرم .فهو شيء ملتئم ممتلئ حمبوك شديد احلبك.
(ففتقناهما) ،أي :شققنا ذلك اجلرم ،كما يشق النسيج ،وهذا
الشق بدأ بفرجة تتسع شيئا فشيئا ،حتى أصبحت شديدة االتساع.
(وإنا ملوسعون) .وفتقهما أشبه بنقض عرى الشيء احملبوك ،بتوسيعها
والتفريق بينها ،وتباعدها باستمرار ،كما تتباعد خيوط الثوب
املشقق ،بعد أن كانت شديدة التماسك والتقارب (يف حالة الرتق).
(مب فتقتا؟):
قال الزجاج :فتقهما اهلل باهلواء ،وقال ابن عباس :فتق السماء
باملطر ،واألرض بالنبات .وقال كعب :خلق اهلل السموات واألرض
ملتصقتني ثم خلق رحيا توسطتهما ففتقهما بها ،ونقل رازي عن
بعضهم :فتقهما اهلل بإظهار النهار املبصر.
وإذا عدنا إىل الداللة اللغوية ،فسنجد أن الشيء املمتلئ يتفتق
مبا امتأل به ،حيث إنه لشدة امتالئه يبدأ بالتشقق ،وكأن ما داخله
231
حبث له عن مدى أوسع ،بعد أن ضاق به حاله األول .وكذلك
السماوات واألرض ،خلقهما اهلل وخلق ما فيهما ،وكانتا رتقا ،وكان
اجلرم الذي هما فيه ممتلئ بهما وباملخلوقات اليت فيهما ،ففتق اهلل
ذلك اجلرم ،فأخذ ما كان فيه بالتوسع واالمتداد .فاهلل فتقهما مبا
امتآل به من خلق ،وبعد الفتق بدأ كل جرم يكرب ويتسع ،ويتباعد
عن األجرام األخرى ،وما بينهما خملوقات خلقها اهلل ،وليست فراغا،
السمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ وَمَا بَيْ َن ُهمَا).
خلَقَ َّ
كما قال تعاىلَ ( :
وبهذا نعلم أن السماوات واألرض كانتا معا يف الرتق ،وال نعلم
ضآلة حجم اجلرم الذي كانتا فيه ،وال نعلم نسبة ضآلة األرض وهي
يف ذلك اجلرم إىل السماء ،وحني يتحدث العلماء اليوم أن األرض
خلقت بعد السماء ،فإمنا يتحدثون حبسب علمهم ،وحسب ما
توصلت إليه آخر التطورات املمكنة ،وقد يأتي غدا بأجهزة أكثر
تطورا ودقة ،فتكون أدق يف حتديداتها ،ويف أحكامها ،وهكذا تتطور
علوم البشرية باستمرار .وما أقوله هنا أن األرض كانت حبجم من
الضآلة ال ميكن حتى اآلن تصوره ،فتخلقت هي والسماء يف رحم
واحدة ،وانفتقا ،واستمر ختلقها وختلق ما فيها ،ومنت حتى أصبحت
باحلجم الذي رصدته أجهزة البشرية أوال .واهلل أعلى وأعلم.
231
املبحث الثامن( :بديع) و(صنع) يف القرآن الكريم
232
أفعل َم ْعرُوف فِي ا ْل َعرَبيَّة ُيقَال بَصِري من أبْصر وَحَكِيم من أحكم،
والبدعة فِي الدّين مَأْخُوذَة من َهذَا ،وَ ُهوَ قَول مَا مل يعرف قبله ،وَمِنْه
َقوْله َتعَالَى {مَا كنت بدعا من الرُّسُل}) .والتحقيق أن بديع من
بدَع ،ال من :أبدع ،كما سأبينه.
السمَاوَات وَالْأَرْض} :عديم
وقال الكفوي يف الكليات{( :بديع َّ
النظري فيهما).
وقال اجلرجاني يف التعريفات( :اإلبداع :إجياد الشيء من ال
شيء؛ وقيل :اإلبداع :تأسيس الشيء عن الشيء ،واخللق :إجياد شيء
خلَقَ
ض} وقالَ { :
السمَاوَاتِ وَالْأَرْ ِ
من شيء ،قال اهلل تعاىلَ { :بدِيعُ َّ
السمَاوَاتِ
الْإِنْسَانَ} .واإلبداع أعم من اخللق ،ولذا قالَ { :بدِيعُ َّ
خلَقَ الْإِنْسَانَ} ومل يقل :بديع اإلنسان).
وَالْأَ ْرضِ} ،وقالَ { :
وقال اجلرجاني يف التعريفات يف تعريف االبتداع( :االبتداع:
إجياد شيءٍ غري مسبوق مبادة وال زمان ،كالعقول ،وهو يقابل
التكوين لكونه مسبوقًا باملادة ،واإلحداث لكونه مسبوقًا بالزمان،
والتقابل بينهما؛ تقابل التضاد إن كانا وجوديني ،بأن يكون االبتداع
عبارةً عن اخللو عن املسبوقية مبادة ،والتكوين عبارة عن املسبوقية
مبادة ،ويكون بينهما تقابل اإلجياب والسلب إن كان أحدهما وجوديًّا
واآلخر عدميًا ،ويعرف هذا من تعريف املتقابلني).
وقال التهانوي يف كشاف اصطالحات الفنون والعلوم( :اإلبداع
يف اللغة إحداث شيء على غري مثال سبق .ويف اصطالح احلكماء
إجياد شيء غري مسبوق بالعدم ،ويقابله الصّنع وهو إجياد شيء
231
مسبوق بالعدم) .ونقل عن السيّد السند قوله( :اإلبداع يف االصطالح
إخراج الشيء من العدم إىل الوجود -بغري مادة).
ويف املعجم املوسوعي أللفاظ القرآن( :بديع :منشئ خالق
ِيةً
لألشياء على غري مثال سابق) .وابتدع( :ابتكر واستحدث { :وَ َر ْهبَان َّ
ابْ َتدَعُوهَا }).
ويف معجم اللغة العربية املعاصرة( :إبداع :ابتكار ،إجياد شيء
غري مسبوق مبادّة أو زمان .ويف املعجم الوسيط( :اإلبداع :إجياد
الشيء من عدم ،فهو أخصُّ من اخللْق).
ويف املعجم االشتقاقي املؤصل أللفاظ القرآن الكريم( :إنشاء
الشيء جديدا على غري أصل سبق).
**
233
ضوَانِ اهللِ َفمَا رَ َع ْوهَا حَقَّ رِعَايَ ِتهَا).
َعلَ ْيهِمْ إِلَّا ابْ ِتغَاءَ ِر ْ
**
231
ونؤكد جمموعة من املسائل:
املسألة األوىل( :بديع) من ( َبدَع) ال من (أبدع):
لفظ (بديع) هو فاعل الفعل الثالثيَ :بدَع َي ْبدَع َبدْعاً ،فهو بديع.
وأما (مبدع) فهو فاعل من الفعل الرباعي :أبدع يُبدِع إبداعا فهو
مبدع.
فال يصح أن نقول :أبدع اهلل السماوات واألرض ،أو إبداع اهلل
للسماوات واألرض ،أو اهلل مبدع السماوات واألرض ،فلم يرد هذا
االستخدام.
بل نقول :اهلل بديع السماوات واألرض ،ونقولَ :بدَع اهللُ السماواتِ
واألرضَ .ونقولَ :بدْع اهلل للسماوات واألرض.
**
املسألة الثانيةَ ( :بدَع) و(بدأ):
ولفظ (بديع) ،يرتبط لغويا مع لفظ آخر ،وهو (بدأ) ،تقول :بدع
الشيء وبدأه ،فالعني واهلمزة كالهما من حروف احللق ،والفعالن
يعنيان :البدء يف الشيء.
وقد بينت يف املبحث األول الفرق بني قوله :بدأ اخللق ،وخلق،
فداللة( :يبدأ اخللق) ،أخص من داللة( :خيلق)؛ فبدء اخللق ،هو
البدء يف أول خلق ،والبدء فيه هو أول إظهار له .أما داللة (خلق) فهي
عامة ألول خلق ،وخللق النسل بعد ذلك .وعليه فخلق اإلنسان يف
بطن أمه ،هو خلق ،ولكنه ليس بدءا يف اخللق .وباختصار فالبدء يف
212
اخللق :هو خلق أصل الشيء ال نسله ،واخللق :هو خلق أصل الشيء
ونسله.
أما داللة (بديع) فتعين البدء ،ولكن ليس يف خلق أصل الشيء،
بل البدء يف اخللق األول .ويبني الشكل التالي الفرق بني (بَدع
اخللق) ،و(بدأ اخللق) ،و(خلق).
212
وأعظمها.
ومن ثم فال َبدْع هو :ال َبدْء األول يف خلق أول األشياء.
والتحقيق يف الداللة يبني ما يلي:
/3نقول (بدْع) ال إبداع ،كما درجت عليه التعريفات السابقة.
وال نقول (ابتداع) ففعله :ابتدع ،واهلل ال يبتدع اخللق ،كما ال نقول:
(ابتداء) ،بلَ :بدْء.
/1ال نقول :إجياد شيء ،بل :خلقه ،أو إنشاؤه ،وقد بينت هذا
سابقا.
/1ال نقول :إجياد شيء مسبوق بالعدم ،أو من العدم ،وقد بينت
أن هذا غري صحيح .وقول بعضهم يف التعريفات( :ابتداء الشيء ال
عن مثال سابق) .هو أصح يف الداللة من قوهلم (مسبوق بالعدم).
/4بدع وبدأ ،كالهما يدالن على البدء يف إنشاء الشيء
إال أن (بدأ) ختتص بالبدء يف إنشاء أول الشيء األصل دون
إمتامه .فبدأ اهلل خلق اإلنسان من طني ،أي :بدأ يف إنشاء أصله (وهو
اخللق األول منه) من طني .وبدء اخللق للمرحلة األوىل من خلقه
(أي من طني) ،ثم املراحل الالحقة نقول :خلق اهلل اإلنسان.
أما (بدع) فتعين :البدء األول يف الفعل .فاهلل بدع السماوات
واألرض ،فهو اخللق األول ،وخلقهما قبل خلق ما فيهما ومن فيهما.
وعليه نقول :بدأ اهلل خلق اإلنسان من طني( ،أي :اإلنسان األول،
وهو األصل) ،ونقول :بدأ خلق األسد ،وبدأ خلق النمل ...إخل ،وبدأ
213
خلق النخيل ،فداللة ذلك خلق األصل األول من هذه املخلوقات.
وال نقول :بدأ اهلل خلق السماوات واألرض؛ إذ ال نسل هلما.
ونقول :بدع اهللُ السماوات واألرض ،فاهلل بدأ اخللق خبلق
السماوات واألرض ،وهذا بَدْعهما.
وال نقول :بدع اهلل اإلنسان؛ ألن قبل اإلنسان خملوقات كثرية
خلقها اهلل .فلفظ (بدع) يطلق على املخلوق السابق لغريه من
املخلوقات األخرى .أما (بدأ) فيطلق على املخلوق األصل ،وال يطلق
على النسل.
وأقصد بـ(الفعل) يف التعريف :اخللق ،فال َبدْع :البدء األول يف
اخللق ،أي خلق أول األشياء ،وهي السماوات واألرض ،أما اخللق بعد
ذلك لغريها كاإلنسان واحليوانات والنباتات ،فال نقول :بدع؛ ألن
اخللق قد سبق.
وعليه يتحرر التعريف ،فليس كما قالوا أن (اإلبداع) خلق
الشيء ال عن مثال ،فاعتربوا أن األولية يف الشيء املفعول.
بل التحقيق أن األولية يف الفعل نفسه ،فاخللق ألول مرة هو
الذي نسميهَ ( :بدْعاً) ،أما اخللق بعد ذلك فال نسميه (بدعا).
ولذلك وقع (بديع) على السماوات واألرض؛ إذ هي أول اخللق.
فالبديع هو :البادئ األول يف خلق أول املخلوقات.
**
وهذه الداللة لـ(بدع) تنطبق على استخداماتها املختلفة :البدء
211
األول يف الفعل.
فالسيارة مثالً ،ال نقول :أبدعها إال للشخص الذي اخرتع أول
سيارة ،أما من أتى بعد ذلك فنقول :صنعها فهو صانع ،وإن أنتج
خطوطا جديدة ،فيمكن أن نقول :ابتكر ،ال :أبدع.
ونقول :أبدع الشعرَ ،للشاعر األول من البشر الذي أبدع هذا
النوع من الكالم ،أما من قال شعرا بعد ذلك فال نقول له :أبدع
الشعر.
211
املطلب الثاني :صُنْع
212
وقال التهانوي( :الصنع :إجياد شيء مسبوق بالعدم).
الذِي َأ ْت َقنَ كُلَّ شَيْءٍ):
وقال املاوردي يف تفسري قوله( :صُ ْنعَ اهللِ َّ
(أي فعل اهلل الذي أتقن كل شيء) .وقال ابن عاشور( :الصنع يطلق
على العمل املتقن يف اخلري أو الشر).
ويف املعجم االشتقاقي املؤصل أللفاظ القرآن الكريم ،أن الصنع
يطلق على العمل الذي فيه تدبري واحتيال أو إحكام .وأصله :مجع أو
حتصيل يف هيأة جديدة ،أو تعظيم نفس اهليأة ،بتدبري واحتال أو
إحكام) ،فالصِّنْع هو السَّفُّود تُنظم فيه قطع اللحم ،واملصانع :أحباس
تتخذ للماء ،وقوم صَنَاعيّة :يصنعون املال أي جيمعونه ويكثرونه،
وصنع الرجل فرسه :علفه ومسّنه .واملصانعة :الرشوة ،فهي حيلة
للحصول على شيء.
**
211
(الفعل) املقصود به عملهم ،واجلزاء املرتتب عليه يف اآلخرة،
قوله( :وَسَوْفَ يُنَبِّ ُئهُمُ اهللُ ِبمَا كَانُوا يَصْ َنعُونَ) ،وقولهُ ( :قلْ ِل ْل ُمؤْمِنِنيَ
جهُمْ َذ ِلكَ أَزْكَى َلهُمْ إِنَّ اهللَ خَبِريٌ
َيغُضُّوا ِمنْ أَبْصَا ِرهِمْ وَيَحْفَظُوا ُفرُو َ
الصلَاةَ إِنَّ
ِبمَا يَصْ َنعُونَ) ،وقوله( :ا ْتلُ مَا أُوحِيَ ِإلَ ْيكَ ِمنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ َّ
كرُ اهللِ أَكْ َبرُ وَاهللُ َيعْلَمُ مَا
الصلَاةَ تَ ْنهَى َعنِ ا ْل َفحْشَاءِ وَا ْلمُنْ َكرِ وَ َلذِ ْ
َّ
سرَاتٍ إِنَّ اهللَ َعلِيمٌ ِبمَا
سكَ َعلَ ْيهِمْ حَ َ
تَصْ َنعُونَ) ،وقولهَ ( :فلَا َتذْهَبْ َنفْ ُ
حبَارُ َعنْ َق ْو ِلهِمُ الْإِثْمَ
يَصْ َنعُونَ) .وقولهَ ( :ل ْولَا يَ ْنهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَ ْ
حبِطَ مَا
ك ِلهِمُ السُّحْتَ َلبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْ َنعُونَ) .وقوله( :وَ َ
وَأَ ْ
طلٌ مَا كَانُوا َي ْع َملُونَ) ،وقولهُ ( :قلْ َهلْ نُنَبِّئُكُمْ
صَ َنعُوا فِيهَا وَبَا ِ
سعْ ُيهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدُّنْيَا َوهُمْ
سرِينَ أَ ْعمَالًا ( )301الَّذِينَ ضَلَّ َ
بِالْأَخْ َ
سبُونَ أ ََّنهُمْ ُيحْسِنُونَ صُ ْنعًا).
َيحْ َ
وقد يكون اجلزاء املرتتب عليه يف الدنيا ،يف قوله( :فَ َأذَا َقهَا اهللُ
الذِينَ
خوْفِ ِبمَا كَانُوا يَصْ َنعُونَ) ،وقولهَ ( :ولَا َيزَالُ َّ
ِلبَاسَ ا ْلجُوعِ وَا ْل َ
ك َفرُوا تُصِيبُهُمْ ِبمَا صَ َنعُوا قَارِ َعةٌ).
َ
(الفعل) مقصودا به صناعة معينة ،كصناعة الفلك( :وَاصْ َنعِ
ا ْل ُف ْلكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا)( ،وَيَصْ َنعُ ا ْل ُف ْلكَ) ،أو صناعة السحر( :وََألْقِ
حرٍ َولَا ُي ْف ِلحُ
مَا فِي َيمِي ِنكَ َت ْل َقفْ مَا صَ َنعُوا إ َِّنمَا صَنَعُوا كَ ْيدُ سَا ِ
حرُ حَيْثُ َأتَى) ،أو صناعة الدروع( :وَع ََّلمْنَاهُ صَ ْن َعةَ َلبُوسٍ لَكُمْ
السَّا ِ
َمرْنَا مَا كَانَ
لِ ُتحْصِنَكُمْ ِمنْ بَأْسِكُمْ) ،أو صناعة القصور والبنيانَ ( :ود َّ
يَصْ َنعُ ِفرْ َعوْنُ وَ َقوْ ُمهُ وَمَا كَانُوا َي ْعرِشُونَ).
وجاء مجعا لالسم( ،مصانع) ،وفعله (اختذ) يف قولهَ( :أ َتبْنُونَ
213
خ ُلدُونَ).
َتخِذُونَ مَصَا ِن َع َلعَلَّكُمْ َت ْ
بِكُلِّ رِيعٍ آ َي ًة َت ْعبَثُو َن (َ )318وت َّ
سبُونَ أ ََّنهُمْ ُيحْسِنُونَ صُ ْنعًا).
وجاء املصدر يف قوله( :وَهُمْ َيحْ َ
**
211
وختطيط ،وليس فعال غري مقصود.
الثاني :الصنع ،وتوفر فيه عنصر :إجادة الفعل ،وإتقانه ،فال يقال
ألي عمل إنه صنع.
الثالث :املصنوع ،وهو الشيء املفعول ،سواء كان ذاتا (كصنع
السفينة) ،أو معنى (كعمل اخلري أو الشر) .خبالف املخلوق فال
يطلق إال على الذات .كما أن املصنوع قد يكون مصنوعا ال عن مثال
سابق (كاملخلوق ،أو املُب َتدَع) ،وقد يكون مصنوعا عن مثال سابق.
فالداللة اجلوهرية يف لفظ (صنع) ،ال ترتبط بالشيء املصنوع،
ولكنها ترتبط بالصنع نفسه ،فالصنع :إتقان الفعل ،مع العلم التام
بأسبابه ونتائجه ومآالته .فهذا هو الصنع ،فإن تكسب بهذا الصنع،
فيسمى عمله( :صِناعة) ،فالصناعة هي التكسب بالصنع.
وبهذه الوجوه يتبني اختالف داللة الصنع عن الفعل والعمل
واخللق.
وهذه الداللة تسري يف مجيع استخدامات اللفظ ،فمثال:
(وَاصْ َنعِ ا ْل ُفلْكَ) ،وقوله( :صَ ْن َعةَ َلبُوسٍ لَكُمْ) ،وقولهِ( :إ َّنمَا
حرٍ) .فالصنع يف كذلك هو عمل يتقنه فاعله،
صَ َنعُوا كَ ْيدُ سَا ِ
ويعلم سابقاً أسبابه اليت تؤدي إىل الفعل ،ونتائجه اليت يصري عليها،
ويعلم منافعه ومضاره.
وقد يكون الفعل هو الكسب ،كما يف قوله( :وَاهللُ َي ْعلَمُ مَا
تَصْ َنعُونَ) ،أي :ما تفعلونه ،وأنتم تعلمون أسبابه ونتائجه ،وتعلمون
322
منافعه ومضاره ،وتعلمون خريه وشره.
ولذلك رتب عليه جزاء اهلل هلم يف الدنيا ،كقوله( :فَ َأذَا َقهَا اهللُ
الذِينَ
خوْفِ ِبمَا كَانُوا يَصْ َنعُونَ) ،وقولهَ ( :ولَا َيزَالُ َّ
ِلبَاسَ ا ْلجُوعِ وَا ْل َ
ك َفرُوا تُصِيبُهُمْ ِبمَا صَ َنعُوا قَارِ َعةٌ)؛ فالعقوبة جاء ألفعاهلم املقصودة
َ
اليت يعلمون أسبابها ونتائجها ومآالتها.
َتخِذُونَ مَصَانِعَ
وقولهَ( :أ َتبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آ َيةً َت ْعبَثُونَ (َ )318وت َّ
خلُدُونَ) ،قال ابن عاشور( :من سابق أعمال عاد أنهم كانوا
َلعَلَّكُمْ َت ْ
بنوا يف طرق أسفارهم أعالما ومنارات تدل على الطريق كيال يضل
السائرون يف تلك الرمال املتنقلة اليت ال تبقى فيها آثار السائرين
واحتفروا وشيدوا مصانع للمياه وهي الصهاريج جتمع ماء املطر يف
الشتاء ليشرب منها املسافرون وينتفع بها احلاضرون يف زمن قلة
األمطار ،وبنوا حصونا وقصورا على أشراف من األرض) .فاملصانع هي
صهاريج املاء.
و(الصناعة) مساها القرآن الكريم :صَنْعة ،قال تعاىل( :وَع ََّلمْنَاهُ
صَ ْن َعةَ َلبُوسٍ لَكُمْ لِ ُتحْصِنَكُمْ ِمنْ بَأْسِكُمْ) ،أي :صنعة الدروع .فسماها:
صنعة ،وبني أن داوود أوتيها بتعلم ،حتى اكتسب العلم بها ،وبني
نتائجها (لتحصنكم من بأسكم).
324
رابعاً :صنع املسندة إىل اهلل:
322
ونصبها قبل تسيريها ،كل ذلك صنع متقن).
والقول الثاني أن املقصود باآلية هو خلق اهلل الذي خلقه وأنشأه،
وأن اآلية معرتضة بني اآلي .قال ابن عاشور (بتصرف):
(واعلم أن الصنع يطلق على العمل املتقن يف اخلري أو الشر.
ووصف اهلل ب {الذي أتقن كل شيء} تعميم قصد به التذييل ،أي ما
هذا الصنع العجيب إال مماثال ألمثاله من الصنائع اإلهلية الدقيقة
الصنع .وهذا يقتضي أن تسيري اجلبال نظام متقن ،وأنه من نوع
التكوين واخللق واستدامة النظام وليس من نوع اخلرم
والتفكيك)( ...وقوله :صنع اهلل الذي أتقن كل شيء املقتضي أنه
اعتبار حبالة نظامها املألوف ال حبالة اخنرام النظام؛ ألن خرم النظام
ال يناسب وصفه بالصنع املتقن ،ولكنه يوصف باألمر العظيم أو حنو
ذلك من أحوال اآلخرة اليت ال تدخل حتت التصور) ،وقال( :اإلتقان
إجادة ،واهلدم ال حيتاج إىل إتقان).
**
وأرى أال وجه لتخصيص (صنع اهلل) بأحد األمرين( ،أي :اخللق،
أو تبديل اخللق) .فاخللق مثله مثل تبديل اخللق ،كالهما صنع،
وليس كما قال ابن عاشور ،وكالهما حيتاج إىل إتقان وإجادة وعلم
وقصد.
فصنع اهلل املتقن ،يتجلى يف ما خلق ،ويتجلى يف ما قضى وقدر،
ويتجلى يف ما أمر.
الصنع كما حققت ،ال يقتصر على الشيء الذات ،بل يشمل
323
الذات واملعنى .وصنع اهلل ال يقتصر على خلقه ،بل يشمل :خلقه
خلْقُ وَالْأَ ْمرُ) ،فاهلل أتقن خلقه ،وأحكم
وأمره ،قال تعاىلَ( :ألَا َلهُ ا ْل َ
أمره .فاخللق من صنع اهلل ،واألمر من صنعه أيضاً.
واخلالصة أن صنع اهلل :فعل اهلل املتمثل يف اخللق واألمر .وقد
وصف اهلل نفسه بأنه (أتقن كل شيء) ،فصنعه يقوم على العلم
النهائي التام بكل شيء ،سبب وجوده ،ومقتضيات وعالقاته ،ونتائجه،
ومآالته ،وكذلك علمه النهائي بكل أمر .سبحانه وتعاىل.
**
321
أمري).
وقوله( :واصطنعتك لنفسي)،
قال الواحدي( :االصطناع :اختاذ الصنيعة وهي اخلري تسديه
إىل اإلنسان ،وهذا افتعال من الصنع) ،ونقل عن الكليب أن املعنى:
(اخرتتك بالرسالة لنفسي ،لكي حتبين وتقوم بأمري) ،وقيل:
(اخرتتك باإلحسان إليك إلقامة حجيت) .ونقل عن الزجاج:
(اخرتتك إلقامة حجيت ،وجعلتك بيين وبني خلقي حتى صرت يف
اخلطاب عين والتبليغ عين باملنزلة اليت أكون أنا بها لو خاطبتهم
واحتججت عليهم) .وقال البغوي( :أي اخرتتك واصطفيتك
لوحيي ورساليت ،يعين لتتصرف على إرادتي وحمبيت وذلك أن قيامه
بأداء الرسالة تصرف على إرادة اهلل وحمبته).
ويف تفسري القرطيب( :قال ابن عباس :أي اصطفيتك لوحي
ورساليت .وقيل :اصطنعتك :خلقتك ،مأخوذ من الصنعة .وقيل:
قويتك وعلمتك لتبلغ عبادي أمرى ونهى).
وقال ابن عاشور( :واالصطناع :صنع الشيء باعتناء .والالم
لألجل ،أي ألجل نفسي .والكالم متثيل هليئة االصطفاء لتبليغ
الشريعة بهيئة من يصطنع شيئا لفائدة نفسه فيصرف فيه غاية
إتقان صنعه).
**
321
التحقيق يف اآلية:
بتدبر سياق اآليات جند أن احلديث عن موسى وهو يف مرحلة
معينة من حياته ،حني وضعته أمه يف التابوت ،فألقت التابوت يف
اليم ،فأخذه فرعون ،فتتبعته أخته ،ف ُردّ إىل أمه ،ثم عاد إىل قصر
فرعون فنشأ فيهم ،ثم قتل القبطي ،ثم فر من مصر ،ثم جلأ إىل
مدين ،ثم جاء على وقت قدره اهلل له ،فأوحى إليه.
فتسلسل هذه األحداث ،قد يبدو لإلنسان أنها مصادفة ،ولكن اهلل
سبحانه وتعاىل يبني أنها صنعه سبحانه وتعاىل .وكذلك كل
إنسان تسلسل أحداثه هو صنع اهلل به ،وهو ما يقتضيه أمره ،والصنع
هو اخللق واألمر.
والصنع كما ذكرت هو :إتقان الفعل مع العلم التام بأسبابه
ونتائجه ومآالته ،والفعل يشمل :اخللق واألمر.
فاهلل يصنع كل إنسان وفق ما قدر له أن يكون ،ووفق اهلدف
الذي يصري إليه ،ووفق الغاية اليت ينتهي إليها.
ولذلك فاألنبياء يصنعهم اهلل صنعا يناسب الوظيفة اليت
يعدهم اهلل هلا ،فتكون األحداث اليت يف حياتهم أحداثا تناسب
مقامهم الذي اختارهم اهلل له ،فاهلل يصطفيهم على الناس ،أي
خيتارهم ملا صنعوا ألجله ،قال تعاىل( :إِنَّ اهللَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ
إِ ْبرَاهِيمَ وَآلَ ِع ْمرَانَ َعلَى ا ْلعَا َلمِنيَ) ،وقال( :وَِإذْ قَالَتِ ا ْل َملَائِ َكةُ يَا َمرْيَمُ
طفَاكِ َعلَى نِسَاءِ ا ْلعَا َلمِنيَ ( )41يَا
َهرَكِ وَاصْ َ
طفَاكِ وَط َّ
إِنَّ اهللَ اصْ َ
كعِي َمعَ الرَّاكِعِنيَ) .فعقب على
جدِي وَارْ َ
س ُ
َمرْيَمُ اقْنُتِي ِلر َِّبكِ وَا ْ
322
ذكر االصطفاء باألمر هلا أن تفعل ما يناسب اصطفاءها.
ولذلك فاهلل يأمر مصطفاه بأن يفعل األفعال اليت اصطفي
هلا ،وأن تكون أفعاله متوائمة مع الصنع الذي صنع له( :يَا مُوسَى إِنِّي
كنْ مِنَ
خذْ مَا آتَيْ ُتكَ وَ ُ
طفَيْ ُتكَ َعلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِ َكلَامِي َف ُ
اصْ َ
كرِينَ) ،أي :اصطفيتك وخصصتك برساالتي وبكالمي ،فهذه
الشَّا ِ
صنعة اختصصتك بها ،ولذلك خذ ما آتيتك وكن من
الشاكرين.
طفَيْنَا ِمنْ ِعبَادِنَا َفمِ ْنهُمْ
الذِينَ اصْ َ
وقوله( :ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ َّ
صدٌ وَمِ ْنهُمْ سَابِقٌ بِا ْلخَ ْيرَاتِ بِِإذْنِ اهللِ ذَ ِلكَ
سهِ وَمِ ْنهُمْ ُمقْتَ ِ
ظَالِمٌ لِ َنفْ ِ
ضلُ الْ َكبِريُ) ،أي :اخرتناهم وصنعنا هلم األحداث وفق
ُهوَ ا ْلفَ ْ
اختيارنا ،فبعضهم ظامل لنفسه وبعضهم مقتصد وبعضهم سابق
باخلريات .فاالصطفاء ال يعين بإطالقه :املزية والتشريف والتفضيل،
ولكنه يعين :اختيار شيء لشيء ،فاهلل يصطفي من الناس رسالً ،أي
خيتار منهم من يرسله ،ومن ثم يصنعه صنعا يناسب ما اصطفاه له.
وهذا يفسر قوله( :وَاصْطَ َنعْ ُتكَ لِ َنفْسِي ( )43ا ْذهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ
كرِي) ،فهو يقول :يا موسى صنعتك صنعا
بِآيَاتِي َولَا تَنِيَا فِي ذِ ْ
يناسب ما اصطفيتك له ،فقد اصطفيتك لرساالتي وكالمي،
ولذلك صنعتك صنعا مناسبا للرسالة ،فال تظن أن األحداث
مصادفة ،بل على قدر يا موسى .ثم يبني له هذا املعنى فيقول:
(وَاصْطَ َنعْ ُتكَ لِ َنفْسِي) ،أي أن ما ذكرته من صنعك على عيين إمنا
هو ألني اصطنعتك لنفسي ،أي :لتكون رسوال ناطقا بامسي
321
وبكالمي .ولذلك جاء التوجيه له :اذهب أنت وأخوك بآياتي ..فهذا
ما اصطنعتك واصطفيتك له.
**
وكذلك قد امنت اهلل على رسوله حممد صلى اهلل عليه وسلم،
ج ْدكَ يَتِيمًا
بأنه صنعه على عينه ،واصطنعه لنفسه ،فقالَ( :ألَمْ َي ِ
ج َدكَ عَا ِئلًا فَأَغْنَى ( )8فَأَمَّا
ج َدكَ ضَالًّا َف َهدَى ( )7وَوَ َ
فَآوَى ( )6وَوَ َ
الْيَتِيمَ َفلَا َت ْق َهرْ ( )9وَأَمَّا السَّا ِئلَ َفلَا تَ ْن َهرْ ( )30وَأَمَّا بِ ِن ْع َمةِ رَبِّكَ
َفحَدِّثْ) .فهو يقول له أن األحداث اليت مر بها ونتائجها ،كلها بصنع
اهلل ،الذي صنعه فأحسن صنعه ،ثم أمره مبجموعة من األوامر اليت
تناسب ما اصطنعه له :أال يقهر اليتيم ،وأال ينهر السائل ،وأن حيدث
بنعمة ربه.
323
خامساً :وهم حيسبون أنهم حيسنون صنعا:
سبُونَ أ ََّنهُمْ ُيحْسِنُونَ صُ ْنعًا) ،أي :يظنون أن ما
وقوله( :وَهُمْ َيحْ َ
يعملونه قد أحسنوا أسبابه ونتائجه ومآالته ،فهم ال يعتقدون أن
مآالت أعماهلم ستقودهم إىل اهلالك واملصري السيء .كالصانع الذي
يصنع العمل وهو مستيقن أن عمله سيؤدي إىل نتائج حمددة.
فهؤالء املشركون أو غريهم ممن كفروا بآيات اهلل ،يظنون أال
بعث وال جزاء ،ومن ثم فما يفعلونه سيحصدون مثاره يف الدنيا،
ويعتقدون أن ذلك منتهى الفعل .فهم حيسبون أنهم حيسنون صنعاً،
ولكنهم ال يعلمون أن ذلك بئس الصنع .فنتائج الفعل مل حيتسبوها،
سبُو َن).
حتَ ِ
وسيجدونها فيندمون( .وَ َبدَا َلهُمْ ِمنَ اهللِ مَا لَمْ يَكُونُوا َي ْ
طلٌ مَا كَانُوا َي ْع َملُونَ) ،تهكم
حبِطَ مَا صَ َنعُوا فِيهَا وَبَا ِ
وقوله( :وَ َ
واضح بهم ،فهو يقول هلم :أرأيتم ما صنعتم ،وظننتم أنه صنع متقن،
وأنكم تعلمون نتائج أفعالكم!! فذلك الصنع قد حبط ،وأنتم كنتم
حتسبون أنكم حتسنون صنعا ،واحلقيقة أنكم كنتم واهمني.
فمثل ذلك كمثل صانع يصنع شيئا ،ويقضي يف صناعته
عمره ،ثم يأتي ليبيعه للناس ،فيكشف له خرباء الصناعة أن ما
أنتجه من مصنوع فاسدٌ ،وأنه ال يصلح ملا صنع له ،وأن عليه أن يعيد
الصنع من جديد.
فهذا حال أولئك الصانعني (الكفار) ،الذين صنعوا يف الدنيا
أعماالً ،واعتقدوا أنهم أحاطوا بأسبابها ونتائجها ومآالتها ،وأنهم
علموا منافعها ومضارها ،ولكن حني يأتون إذا بتلك األعمال
321
ج َعلْنَاهُ َهبَاءً
حمبطة ،قال تعاىل( :وَ َقدِمْنَا ِإلَى مَا َع ِملُوا ِمنْ َع َملٍ َف َ
سبُهُ
سرَابٍ ِبقِي َعةٍ َيحْ َ
ك َفرُوا أَ ْعمَا ُلهُمْ كَ َ
َالذِينَ َ
مَنْثُورًا) ،وقال( :و َّ
ك َفرُوا
الذِينَ َ
جدْهُ شَيْئًا) ،وقال( :مَ َثلُ َّ
الظمْآنُ مَاءً حَتَّى ِإذَا جَاءَهُ لَمْ َي ِ
َّ
صفٍ لَا َي ْقدِرُونَ
كرَمَادٍ اشْتَدَّتْ ِبهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَا ِ
ِبر َِّبهِمْ أَ ْعمَا ُلهُمْ َ
الضلَالُ ا ْل َبعِيدُ).
ك ُهوَ َّ
سبُوا َعلَى شَيْ ٍء ذَ ِل َ
مِمَّا كَ َ
342