You are on page 1of 126

‫األيام النظرة والسيرة العطرة‬

‫لرسولنا صلى اهلل عليه وسلم‬

‫الشيخ صالح بن عواد المغامسي‬


‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬
‫احلمد هلل خالق الكون مبا فيه وجامع الناس ٍ‬
‫ليوم ال ريب فيه‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده‬
‫حممدا‪9‬‬
‫تقدست عن األشباه ذاته ودلت على وجوده آياته وخملوقاته‪ ،‬وأشهد أن سيدنا ونبينا ً‬
‫وذكرا‪ ،‬صلى اهلل‬
‫عصرا وأوهلم وأرفعهم‪ 9‬يوم القيامة شأنًا ً‬
‫عبده ورسوله‪ ،‬آخر األنبياء يف الدنيا‪ً 9‬‬
‫ٍ‬
‫بإحسان إىل يوم الدين‪.‬‬ ‫عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع هنجه‬

‫أما بعد ‪.‬‬

‫التعـريف بصـاحب التصنيفـ ‪ -‬و بدء الشـرح من أول المتن ‪:‬‬

‫فهذا حبمد‪ 9‬اهلل وتوفيقه وعونه أول دروسنا العلمية يف التعليق على "الدرة املضيئة يف السرية‬
‫النبوية" للعالمة عبد الغين بن عبد الواحد‪ 9‬املقدسي رمحه اهلل تعاىل‪ ،‬وإن من التأدب مع أهل‬
‫عمل نافع‪ ،‬وصاحب‬ ‫جل وعال من ٍ‬ ‫التصنيف أن يُذكر ما هلم من فضل وما قدموه لدين اهلل ّ‬
‫هذا التصنيف الذي بني يديكم أحد أئمة املسلمني الذي‪ 9‬عاشوا يف القرن السادس اهلجري‪،‬‬
‫ورع وعبادة‪ ،‬وممن اشتغل بطلب العلم وتعليمه‪ ،‬وممن عُرف عنهم كثرة التعبد‪9‬‬ ‫وكان ذا ٍ‬
‫فقيها حنبليًا رمحه اهلل تعاىل‪.‬‬
‫والتماس األثر‪ ،‬وكان ً‬
‫ومما يُذكر عنه أنه يف يوم وفاته ‪ -‬واخلواتيم تدل على أيام اإلنسان ومراحله اليت مضت ‪ -‬أنه‬
‫رمحه أصابه املرض حىت مل يقدر على الذهاب على املسجد‪ ،‬فلما اشتد عليه املرض دخل عليه‬
‫أحد أبنائه فقال له يا أبتاه ما تشتهي؟ قال أشتهي اجلنة‪ ،‬مث إنه صلى الفجر‪ ،‬مث قال له ابنه يا‬
‫كررا‬
‫–شاعرا بدنو األجل‪ ،-‬مث إنه قال له ابنه ُم ً‬
‫ً‬ ‫أبتاه هاهنا دواء‪ ،‬قال يا بين مل يبق إال املوت‬
‫له السؤال ماذا تشتهي‪ ،‬قال أشتهي أن أنظر إىل وجه اهلل تبارك وتعاىل‪ ،‬فدخل عليه مجاعة من‬
‫بصوت ضعيف‪ ،‬مث أخذوا يتحادثون فيما بينهم‬ ‫ٍ‬ ‫أصحابه يعودونه فلما سلّموا عليه رد عليهم‬
‫فكان العجب‪ 9‬أنه وهو املريض الذي‪ 9‬يُعاد قال هلم قولوا ال إله إال اهلل‪ ،‬اذكروا اهلل‪ ،‬فيم أنتم‬
‫ختوضون‪ ،‬فلما قاموا‪ 9‬عنه أخذ يُردد ال إله إال اهلل وحيرك هبا شفتيه حىت فاضت‪ 9‬روحه وانتقل‬
‫إىل جوار ربه‪.‬‬

‫جل وعال عليهم‬


‫هذا يدلك على ما كان عليه بعض علماء السلف من الربكة‪ ،‬وما أفاءه اهلل ّ‬
‫خاص بالسرية العطرة واأليام النضرة لرسولنا‬
‫من الفضل‪ ،‬وهذا الفضل الذي‪ 9‬بني يديك ٌّ‬
‫صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬وتعري ًفا جبملة من أصحابه‪ ،‬هم العشرة املبشرون باجلنة رضي اهلل‬
‫عنهم وأرضاهم‪.‬‬

‫وإننا قبل أن نشرع يف شرح املنت جيب أن ننبه إىل أمور‪ ،‬إن اإلنسان ال ميكن أن يُهيأ‬
‫جل وعال أعظم من أن يدرس سرية نبيه صلى اهلل عليه‬ ‫له مقام بعد أن يُدرس كتاب اهلل ّ‬
‫جل وعال به‬ ‫وسلم‪ ،‬وال ريب أن نبينا عليه الصالة والسالم ختم اهلل به الرساالت‪ ،‬وأمت اهلل ّ‬
‫ونذيرا‪ ،‬وأمر العباد مبحبته وطاعته والتماس هديه‬ ‫بشرا ً‬ ‫النبوات‪ ،‬وبعثه بني يدي الساعة هاديًا ُم ً‬
‫شرعا قبل أن نشرع‬ ‫واقتفاء أثره صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬وعلى هذا فإنه ينبغي أن يُقرر ً‬
‫تكلما وسامعني يف شرح هذه الدرة املضيئة أن نقول‪ :‬إنه جيب علينا أن نتعلم سريته صلى اهلل‬ ‫ُم ً‬
‫نتأسى به‬
‫عليه وسلم الأن نبز أقراننا ونفوق إخواننا ونرتفع على من بني أيدينا‪ ،‬وإمنا حىت ّ‬
‫صلوات اهلل وسالمه عليه وجنعله بيننا وبني ربنا فنقتفي أثره‪ ،‬ونلتمس سنته‪ ،‬ونتبع هديه‪ ،‬ذلكم‬
‫جل وعال به يف املقام األول‪ ،‬قال تباركت أمساؤه وجل ثناؤه ﴿ لََق ْد َكا َن لَ ُك ْم‬ ‫الذي أمرنا اهلل ّ‬
‫ُس َوةٌ َح َسنَةٌ لِ َم ْن َكا َن َي ْر ُجو اللَّهَ َوالَْي ْو َ‪9‬م اآْل َ ِخَر َوذَ َكَر اللَّهَ َكثِ ًريا‪[ ﴾ 9‬األحـزاب‪:‬‬ ‫ِ ِ‬
‫يِف َر ُسول اللَّه أ ْ‬
‫‪.]21‬‬

‫كثريا من خلقه على حمبة نبيه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقد صعد أحد‬
‫جل وعال ً‬‫وقد فطر اهلل ّ‬
‫وصديق‬
‫ٌ‬ ‫نيب‬
‫فرحا بصعوده‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم ( اثبت أُحد فإمنا عليك ٌ‬
‫فرجف اجلبل ً‬
‫فحن اجلذع إليه‪ ،‬فقام عليه‬
‫صنع له املنرب ّ‬‫وشهيدان )‪ ،‬وترك اجلذع الذي كان خيطب عليه ملا ُ‬
‫الصالة والسالم والتمس اجلذع وضمه إليه‪ ،‬وكان احلسن البصري‪ 9‬رمحه اهلل إذا حدث هبذا‪9‬‬
‫احلديث يقول "يا معشر املسلمني اخلشبة حتن إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فما بال‬
‫قلوبكم ال حتن إليه"‪.‬‬

‫وقد أعطاه اهلل من املزايا والعطايا ما مل يُعط أح ٌد من العاملني‪ ،‬أشار إىل القمر وأومأ إليه فانفلق‬
‫إكراما إلشارته‪ ،‬إىل غري ذلك مما سيأيت يف‬
‫تأييدا لرسالته‪ ،‬وأشار إىل السحاب فتفرق ً‬ ‫بإذن اهلل ً‬
‫املنت من معجزاته صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬هذا كله يدفع‪ 9‬املؤمن وطالب العلم يف املقام األول‬
‫طلعا على سريته صلى اهلل عليه وسلم؛ حىت يدعو الناس إىل هديه‬ ‫فقيها ُم ً‬
‫إىل أن يكون عاملًا ً‬
‫موصل إليه إال ما كان عن طريقه صلوات اهلل‬‫ٍ‬ ‫عليه الصالة والسالم فإن اهلل سد كل ٍ‬
‫باب‬
‫وسالمه عليه‪.‬‬

‫والرسالة والنبوة ال تنال بالسعي وال بالكد وال بالعمل وال بطلب العلم وإمنا هي هبةٌ من اهلل‪،‬‬
‫ث جَيْ َع ُل ِر َسالَتَهُ ﴾ [األنعام‪ ،]124 :‬فاهلل تبارك وتعاىل‬ ‫يقول اهلل جل شأنه ﴿ اللَّهُ َأ َْعلَ ُم َحْي ُ‬
‫هدى‬
‫اصطفى هؤالء الرسل من بني خلقه أمجعني ومنحهم النبوة وأعطاهم الرسالة فكانوا أئمة ً‬
‫ومصابيح ُدجى‪ ،‬نشر اهلل هبم دينه على مر العصور‪ 9‬وكر الدهور حجةً من اهلل تبارك وتعاىل‬
‫ين لِئَاَّل يَ ُكو َن‬ ‫ِِ‬
‫على خلقه كما قال اهلل تبارك وتعاىل يف سورة النساء ﴿ ُر ُساًل ُمبَ ِّش ِر َ‬
‫ين َو ُمْنذر َ‬
‫يما ﴾ [النساء‪.]165 :‬‬ ‫ِ‬ ‫لِلن ِ‬
‫َّاس َعلَى اللَّ ِه ُح َّجةٌ َب ْع َد ُّ‬
‫الر ُس ِل َو َكا َن اللَّهُ َع ِز ًيزا َحك ً‬
‫واملقصود من هذا كله إخالص النية والسعي‪ 9‬قدر اإلمكان يف فهم سريته العطرة وأيامه‬
‫النضرة صلوات اهلل وسالمه عليه قبل أن نشرع تفصيال يف ذكرها‪.‬‬
‫وصاحب هذا املنت قال يف أوله‪ :‬أنه موجز وأنه خُم تصر‪ ،‬وأن املراد به اإلملام الشامل بسريته عليه‬
‫الصالة والسالم‪ ،‬وسنحاول أن نعرج قدر‪ 9‬اإلمكان على ما أطلق منها ألن بعض النصوص يف‬
‫معلوم ال يكاد جيهلها أحد‪ ،‬وإمنا سنقف على ما يغلب على الظن أنه حيتاج إىل‬ ‫املنت كما هو ٌ‬
‫أن يقف اإلنسان معه ويبينه لغريه‪ ،‬واهلل تعاىل هو املستعان وعليه التكالن‪ ،‬ونسأل اهلل أن يرزقنا‬
‫وإياكم صالح النية وإخالص القصد‪ ،‬وأن جيعل أعمالنا خالصةً لوجهه يُبتغى هبا رضاه ويُتقى‬
‫مسيع جميب‪.‬‬
‫هبا سخطه إنه ٌ‬

‫( احلمد هلل خالق األرض‪ 9‬والسماء‪ ،‬وجاعل النور والظلماء‪ ،‬وجامع اخللق لفصل القضاء‪،‬‬
‫لفوز احملسنني وشقوة أهل الشقاء‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وحده ال شريك له‪ ،‬شهادة يسعد‬
‫هبا قائلها يوم اجلزاء‪ ،‬وصلى اهلل على سيد املرسلني واألنبياء‪ ،‬حممد‪ ،‬وآله‪ ،‬وصحبه النجباء‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫فهذه مجلة خمتصرة من أحوال سيدنا ونبينا‪ ،‬املصطفى حممد‪ 9‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬ال يستغين‬
‫عنها أحد من املسلمني‪ ،‬نفعنا اهلل هبا‪ ،‬ومن قرأها‪ ،‬ومسعها‪.‬‬

‫نسبه صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬

‫فنبدأ بنسبه‪:‬‬

‫اش ِم بن عبد َمنَاف بن‬ ‫فهو أبو القاسم‪ ،‬حُم مد بن عبد اهلل بن عبد املطلب بن ه ِ‬
‫َ‬
‫َّض ِر بن كِنَانَة بن‬
‫ك بن الن ْ‬ ‫ب بن فِه ِر بن مالِ ِ‬ ‫ي بن َغالِ ِ‬‫ب بن لَُؤ ِّ‬ ‫قُص ِّي ابن كِ ِ‬
‫الب بن ُمَّر َة بن َك ْع ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ور‬ ‫اح‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫بن‬ ‫‪9‬‬
‫م‬ ‫و‬
‫َّ‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ل‬
‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ابن‬ ‫د‬ ‫ُد‬‫أ‬ ‫بن‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ا‬‫َ‬‫ن‬ ‫د‬
‫ْ‬ ‫ع‬ ‫بن‬ ‫د‬
‫ّ‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫بن‬ ‫ار‬ ‫ز‬ ‫خزمْيَةَ ابن م ْد ِر َكةَ بن إِلْياس بن مضر بن نِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ ََ‬ ‫ُ‬ ‫َُ‬
‫ب بن نَابِت بن إمساعيل بن إبراهيم خليل الرمحن بن تَارح – وهو‬ ‫ب بن يَ ْش ُج َ‬ ‫بن َتْيَر َح بن َي ْع ُر َ‬
‫وع بن َراعُو بن فَالِخ ابن َعْيرَب بن َشالِخ بن أ َْرفَ َخ ْشد بن َسام بن نُوح‬ ‫ور بن َس ُار َ‬ ‫اح َ‬ ‫آزر – بن نَ ُ‬
‫َخنُوخ – وهو إدريس النيب فيما يزعمون‪ ،‬وهو أول بين آدم أعطي‬ ‫وش ْلخ بن أ ْ‬‫ك بن ُمتُ َ‬ ‫بن لَم ِ‬
‫ْ‬
‫يل بن َقْينَن بن يَانِش بن ِشيث بن آدم صلى اهلل عليه‬ ‫النبوة‪ ،‬وخط بالقلم ابن يرد بن مهلِ‬
‫َْ َ َ ْ َ‬
‫وسلم‪.‬‬
‫هذا النسب‪ 9‬ذكره حممد‪ 9‬بن إسحاق بن يسار املدين يف إحدى الروايات عنه‪ .‬وإىل عدنان متفق‬
‫على صحته من غري اختالف فيه‪ ،‬وما بعده خمتلف فيه‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وقريش‪ :‬ابن فهر بن مالك‪ ،‬وقيل‪ :‬النضر بن كنانة )‬

‫بدأ املصنف رمحه اهلل كتابه بذكر أن كنية نبينا صلى اهلل عليه وسلم هي أبو القاسم‪ ،‬والكنية ما‬
‫بأب وأم أو ابن‪ ،‬كما يقال ابن أم مكتوم‪ ،‬أو ابن أم عبد‪ ،‬أو أبو القاسم‪ ،‬أو أبو حفص‪،‬‬ ‫صدِّر ٍ‬
‫ُ‬
‫هذه كلها تُسمى ُكىن‪ ،‬والنيب صلى اهلل عليه وسلم كان له من خدجية رضي اهلل تعاىل عنها‬
‫ذكورا وإناثًا‪ ،‬كان له القاسم‪ 9‬والطيب املسمى عبد اهلل‪ ،‬وكان له أربع بنات‪ ،‬فكان‬
‫ً‬ ‫أوالد‬
‫ُ‬
‫بديهيًا أن األصل أن اإلنسان يُكىن بأكرب بنيه‪ ،‬ف ُكين صلى اهلل عليه وسلم بأيب القاسم‪ ،‬وقد‬
‫كثريا يف كتب األحاديث كما يف حديث ثوبان يف صحيح ُمسلم وغريه "يا أبا القاسم‪9‬‬ ‫وردت ً‬
‫ما أول أشراط الساعة"‪ ،‬إىل آخر ذلك مما ورد هاهنا وهناك يف الصحيحني ويف غريمها مناداة‬
‫اليهود أو بعض كفار قريش له بأيب القاسم‪ ،‬فهذه كنيته صلوات اهلل وسالمه عليه‪.‬‬

‫أما امسه فإن النيب صلى اهلل عليه وسلم فيما ذكره النسابون عنه مُي كن تصنيف النسب‪ 9‬الشريف‬
‫تفق‬
‫تفق عليه‪ُ ،‬م ٌ‬
‫أمر ُم ٌ‬‫إىل ثالثة أقسام‪ ،‬نسبه صلى اهلل عليه وسلم منه إىل جده عدنان‪ ،‬وهذا ٌ‬
‫تلف فيه‪ ،‬ومن إمساعيل وإبراهيم إىل آدم‬
‫على صحة هذا النسب‪ ،‬ومن عدنان إىل إمساعيل خُم ٌ‬
‫عليه السالم كثريٌ منه غري صحيح وميكن أن يُقال علميًا أنه يصعب إثبات وذكره‪ ،‬فعلى هذا‬
‫تلف فيه لكن‬
‫وقسم خُم ٌ‬
‫قسم ثبتت صحته‪9ٌ ،‬‬ ‫يتحرر أن النسب الشريف املذكور ثالثة أقسام‪ٌ ،‬‬
‫تلف فيه وأكثره غري صحيح؛ لصعوبة اإلثبات‪.‬‬‫وقسم خُم ٌ‬
‫الصحيح منه أكثر‪9ٌ ،‬‬

‫اش ِم بن عبد َمنَاف ابن‬ ‫أما النسب الذي‪ 9‬هو مثبت فهو حُم مد‪ 9‬بن عبد اهلل بن عبد املطلب بن ه ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫َّض ِر بن كِنَانَة‬
‫ك بن الن ْ‬‫ب بن فِه ِر بن مالِ ِ‬
‫ي بن َغالِ ِ‬
‫ب بن لَُؤ ِّ‬ ‫قُص ِّي بن ُك ِ‬
‫الب بن ُمَّر َة بن َك ْع ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫‪1‬‬
‫مالحظة ‪ :‬الكتابة بالخط األخضر هي المتن ‪.‬‬ ‫()‬
‫صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬كنانة هذا كان النيب صلى اهلل عليه وسلم يقول ( واصطفاين من بين‬
‫جل وعال اختار هذا‬
‫كنانة )‪ ،‬ولذلك توقفنا عنده‪ ،‬والذي يعنينا يف هذا املقام أن تعرف أن اهلل ّ‬
‫النيب ليتم به الرساالت ويكمل به النبوات‪ ،‬فكان ح ًقا على اهلل –وال ممنت على اهلل‪ -‬أن حيفظه‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يف أصالب الرجال وأرحام النساء‪ ،‬فكان صلى اهلل عليه وسلم يولد من‬
‫نكاح إىل نكاح حمفوظًا يف أصالب الرجال ويف أرحام النساء حىت وضعته أمه آمنة بنت وهب‬ ‫ٍ‬
‫من أبيه عبد اهلل بن املطلب‪.‬‬

‫وهذا النسب ليس معناه أن مجيع آباء النيب صلى اهلل عليه وسلم وأجداده كانوا مؤمنني‪ ،‬وهذا‬
‫ٍ‬
‫وأجداد من كان من أهل‬ ‫ال يدل الواقع‪ 9‬التارخيي عليه‪ ،‬نبينا صلى اهلل عليه وسلم من ٍ‬
‫أباء‬
‫الفطرة‪ ،‬واهلل أعلم هبم‪ ،‬والشك أن من إبراهيم إىل آدم من كان على غري ملة اإلسالم‪،‬‬
‫واملقصود أنه صلى اهلل عليه وسلم كان حمفوظًا برعاية ربه تبارك وتعاىل‪.‬‬

‫قطعا من ذرية‬
‫وهذا النسب عندما نقول النيب العدناين فإمنا ننسبه إىل جده عدنان الذي هو ً‬
‫أخ‬
‫إمساعيل‪ ،‬وعندما نقول النيب املضري نسبة إىل ُمضر الذي‪ 9‬هو خصيم ربيعة‪ ،‬فإن ُمضر له ٌ‬
‫يُقال له ربيعة انفلقت منه العرب فلقتني‪ ،‬املضريون كانوا يسكنون مكة وهم عرب احلجاز‪،‬‬
‫وربيعة من كانوا يسكنون جهة البادية يف بادية جند والعراق‪ ،‬وملا ظهر مسيلمة كان من ربيعة‪،‬‬
‫فكان أتباع مسيلمة يقولون كاذب ربعية يقصدون مسيلمة‪ ،‬والصادق ُمضر يقصدون النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪-‬أخذهتم احلمية‪ ،-‬أو عندما يُقال النيب العدناين أو يُقال النيب املضري‪،‬‬
‫ُ‬
‫لكن ال يتعلق هبذين االمسني أي حك ٍم شرعي‪.‬‬

‫ويصل بك األمر حىت تصل إىل هاشم فتقول ‪ :‬صلى اهلل عليه وسلم حممد بن عبد اهلل بن‬
‫أمر شرعي وهو أنه إذا‬
‫عبد املطلب بن هاشم‪ ،‬عندما يصل األمر إىل جده هاشم يتعلق به ٌ‬
‫قيل آل بيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فإن املقصود منه بنو هاشم‪ ،‬واحلكم الشرعي‬
‫الذي يتعلق هبذا النسب‪ 9‬هنا أن الزكاة ال تُعطى إليهم كما أخرب صلوات اهلل وسالمه عليه‪.‬‬
‫على أنه كذلك يُضاف إىل بين هاشم أن هامشًا هذا هو ابن عبد مناف‪ ،‬وعبد مناف ترك أربعة‬
‫من الولد‪ ،‬ترك نوفل وترك عبد مشس وترك املطلب –بدون عبد‪ -‬وترك هامشًا‪ ،‬وهذه جيب‬
‫حتريرها ألنه يتعلق هبا مسائل شرعية‪ ،‬فهؤالء األربع إخوان من أبيهم الذي هو عبد مناف‪ ،‬قال‬
‫هاشم هذا له إخوة ثالثة الذين‬
‫عليه الصالة والسالم عندما ننسب ننسب إىل بين هاشم‪ٌ ،‬‬
‫قريش‬
‫مشس واملطلب‪ ،‬ملا حصل ما حصل يف شعب بين طالب وحاصرت ٌ‬ ‫ذكرناهم‪ ،‬قلنا عبد ٍ‬
‫النيب عليه الصالة والسالم يف الشعب‪ 9‬انضم إليه أبناء املطلب‪ ،‬انضموا إىل بين هاش ٍم يف الشعب‬
‫كافرهم ومؤمنهم‪ ،‬وبقي بنو عبد مشس وبنو نوفل مع قريش ضد النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وبين هاشم ‪.‬‬

‫هذه اخلصيصة لبين املطلب حفظها النيب صلى اهلل عليه وسلم هلم‪ ،‬فلما كانت غزوة خيرب‬
‫وقسم النيب صلى اهلل عليه وسلم الغنائم وجاءه وف ٌد من بين عبد مشس وبين نوفل‪ ،‬جاءه جبري‬
‫بن مطعم وجاءه عثمان رضي اهلل عنه من بين عبد مشس فقالوا "يا نيب اهلل إنك أعطيت إخواننا‬
‫من بين هاشم وهذه ال تثريب فيها؛ ألن اهلل شرفهم‪ 9‬بك‪ ،‬وإنك أعطيت إخواننا من بين املطلب‬
‫أخ لنوفل وأخ لعبد مشس‪ ،‬قال صلى اهلل عليه وسلم (‬ ‫وحنن وإياهم شيءٌ واحد"‪ ،‬ألن املطلب ٌ‬
‫ال‪ ،‬إن بين املطلب مل يُفارقونا يف جاهلية وال يف إسالم‪ ،‬وشبك بني أصبعه )‪ ،‬من هذا ذهب‬
‫مجهور العلماء إىل أن بين املطلب يدخلون يف آل البيت مبقتضى هذا احلديث عن رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهذه أهم ما يُعرف من فوائد ذكر النسب‪ 9‬الشريف على نبينا صلوات‬
‫اهلل وسالمه عليه ‪.‬‬

‫مث إذا نزلت قليال فإن هامشًا هذا امسه عمرو‪ ،‬وإمنا مُس ي هامشًا ألنه كان يكسر اخلبز ويضعه مع‬
‫املرق ويُسمى عند العرب حني ذاك الثريد ويطعم به احلجاج‪ ،‬وهو الذي سن رحليت الشتاء‬
‫والصيف لقريش‪ ،‬وكان امسه احلقيقي عمرو كما بينت‪ ،‬وقد قيل فيه‬

‫عمرو الذي‪ 9‬هشم الثريد لقومه *** ‪ ‬قوم مبكة مسنتني عـجــاف‬
‫سنت إليه الرحلتان كالمهـا‪ 9***  ‬سفر الشتاء ورحلة األصياف‬

‫هذا الذي‪ 9‬يُنسب إليه صلى اهلل عليه وسلم يف املقام األول‪ ،‬ويُقال النيب اهلامشي‪ ،‬وقلنا كما يُقال‬
‫النيب املضري خيرج بين ربيعة‪ ،‬وعندما يُقال العدناين املقصود نسبته إىل إمساعيل وسيأيت بيان‬
‫هذا‪ ،‬مث دون ذلك يكون عبد املطلب –وليس املطلب األول‪ ،-‬وامسه شيبة‪ ،‬وهو جد النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم وأحد الذين كفلوه كما سيأيت حتريره يف موضعه‪ ،‬وامسه شيبة‪ ،‬قيل له‬
‫شيبة احلمد ‪ ،‬وإمنا مُس ي عبد املطلب؛ ألن املطلب الذي ذكرناه يف األول أخو هاشم ملا جاء‬
‫صغريا‪ 9‬ابنًا ألخيه هاشم‪ ،‬فلما مات هاشم أخذ املطلب شيبة هذا وأردفه‬ ‫املدينة كان شيبة هذا ً‬
‫عبدا للمطلب فأخذوا‬‫وراءه ودخل به مكة‪ ،‬فلما دخل به مكة ظنه الناس من قريش أنه ً‬
‫يقولون عبد املطلب عبد املطلب عبد املطلب حىت غلبت عليه‪ ،‬وإال فامسه شيبة‪.‬‬

‫فتخرا (‬
‫وتظهر فائدة ثانية قلما ينتبه إليها إال القليل وهي أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال ُم ً‬
‫أنا النيب ال كذب‪ ،‬أنا ابن عبد املطلب )‪ ،‬هذا احلديث قاله النيب صلى اهلل عليه وسلم يف غزوة‬
‫والشَّراح عندما يأتون إىل ذكر اإلنسان أنه ال يُذكر اإلنسان أنه عب ٌد لغري اهلل فيقولون‬
‫حنني ُ‬
‫جيوز من باب النسب‪ ،‬ويأتون هبذا الدليل‪ ،‬يقولون إن النيب صلى اهلل عليه وسلم يقول ( أنا‬
‫وهم ممن قاله‪ ،‬ملاذا؟ ألن النيب عليه الصالة‬
‫النيب ال كذب‪ ،‬أنا ابن عبد املطلب )‪ ،‬وهذا ٌ‬
‫والسالم عندما قال ( أنا ابن عبد املطلب) العبودية هنا مل يقصد هبا القرشيون عبودية الذل‬
‫زيدا من الناس مثال عب ٌد لبين فالن‪،‬‬
‫وعبودية التعبد وإمنا قصدوا‪ 9‬هبا عبودية الرق‪ ،‬كما يقول ً‬
‫عب ٌد مبعىن رقيق ليس أنه يعبدهم‪.‬‬

‫فقوله عليه الصالة والسالم ( أنا النيب ال كذب‪ ،‬أنا ابن عبد املطلب ) مل يُغري عليه الصالة‬
‫عبدا؛ ألنه فهم الوضع‪ 9‬الذي ذُكر منه‬
‫والسالم اسم جده ومل يقل أن عبد املطلب مل يكن ً‬
‫قريش أنه عبد للمطلب أي أنه أجري غالم مبعىن عبودية الرق‪،‬‬ ‫االسم وهو أن شيبة فهمت‪ٌ 9‬‬
‫وحىت حنرر املسألة العبودية أصال ثالثة أقسام ‪:‬‬
‫عبودية رق وضدها احلرية‪ ،‬وهذه تُسمى عبودية شرعية والدليل قوله تعاىل ‪َ ﴿ :‬والْ َعْب ُد بِالْ َعْب ِد‬
‫﴾[البقرة‪. ]178:‬‬

‫وعبودية ذل وقهر وهذه يشرتك فيها كل اخللق‪ ،‬املالئكة واجلن واإلنس‪ ،‬كلهم عبي ٌد هلل تبارك‬
‫وتعاىل من هذا الباب‪ ،‬عبودية ذل وقهر من جانب الرب تبارك وتعاىل‪ ،‬ودليلها من القرآن ﴿‬
‫ض إِاَّل آَيِت الرَّمْح َ ِن َعْب ًدا ﴾ [مرمي‪. ]93 :‬‬ ‫السماو ِ‬
‫ات َواأْل َْر ِ‬ ‫إِ ْن ُك ُّل َم ْن يِف‬
‫َّ َ َ‬
‫العبودية الثالثة عبودية الطاعة‪ ،‬وتنقسم إىل قسمني ‪:‬‬

‫طاعة هلل‪ ،‬وعبودية طاعة لغري اهلل تبارك وتعاىل‪ ،‬كما قال عليه الصالة والسالم ( تعس‬ ‫عبودية ٍ‬
‫عبد الدينار‪ 9،‬تعس عبد الدرهم‪ ،‬تعس عبد اخلميصة )‪ ،‬والطاعة هلل هي اليت يتنافس فيها‬
‫املتنافسون ويشمر فيها العاملون‪ ،‬وهي اليت بلغ النيب صلى اهلل عليه وسلم الذروة منها فكان‬
‫جل وعال قال ﴿ َتبَ َار َك الَّ ِذي َنَّز َل الْ ُف ْرقَا َ‪9‬ن َعلَى َعْب ِد ِه ﴾ [الفرقان‪ ،]1 :‬أراداهلل‬
‫كما مسّاه اهلل ّ‬
‫هبا هنا عبودية الطاعة‪.‬‬

‫هذا عبد املطلب جد النيب صلى اهلل عليه وسلم األول‪ ،‬من هذا نفهم أن النيب صلى اهلل عليه‬
‫عريب من العرب املستعربة ‪.‬‬
‫وسلم من جهة أبيه وأمه ٌ‬
‫والعرب أمة تنقسم إىل ثالثة أقسام‪ ،‬عرب بائدة‪ ،‬وعرب عاربة‪ ،‬وعرب مستعربة‪ ،‬أما العرب‬
‫البائدة فهم مثود وعاد فهذه أمم عربية كانت موجودة مث بادت ومل يبق منها على األرض‪ 9‬من‬
‫جدا‪ ،‬وهم ذرية يعرب بن قحطان‪ ،‬واملصنف هنا رمحه‬ ‫أقحاح ً‬
‫ٌ‬ ‫وعرب عاربة أي عرب‬
‫ٌ‬ ‫نسل‪،‬‬
‫يعرب‬
‫اهلل تعاىل مل يذكر أن يعرب ابنًا لقحطان‪ ،‬فأمهل قحطان ما بني يعرب واجلد الذي يليه‪ٌ ،‬‬
‫هذا هو جد العرب‪ ،‬ويُسمى العرب هؤالء بالقحطانيني نسبةً إىل يعرب بن قحطان وهؤالء‬
‫هم العرب العاربة‪.‬‬

‫بقي القسم الثالث وهم العرب المستعربة‪،‬‬


‫واأللف والسني والتاء يف اللغة غالبًا ما تعين االكتساب‪ ،‬تعين الطلب‪ ،‬تعين االكتساب‪ ،‬مسائل‬
‫فعرب مستعربة أي ليسوا عربًا يف أصلهم وإمنا اكتسبوا العروبة‪،‬‬ ‫عدة تعين اكتساب الشيء‪ٌ ،‬‬
‫إمساعيل عليه الصالة والسالم ابن إبراهيم‪ ،‬وإبراهيم مل يكن عربيًا ‪-‬وإن كان من ذرية سام‪،-‬‬
‫يم ﴾ بالفتح‪ ،‬ويقولون النحاة ممنوع من‬ ‫لكنه مل يكن عربيا‪ ،‬ولذلك تقرأ يف القرآن ﴿ إِىَل إِبر ِ‬
‫اه‬
‫َْ َ‬ ‫ً‬
‫الصرف للعلمية وللعُ ْجمى‪ ،‬أي غري عريب ‪،‬‬

‫فإبراهيم عليه الصالة والسالم ‪ ،‬وبالتايل إمساعيل ليس عربيًا‪ ،‬لكن إمساعيل اكتسب‪ 9‬العربية من‬
‫وجرهم قبيلة عربية قحطانية‪ ،‬فمن تولد من ذرية‬
‫ماذا؟ من جهة زوجته‪ ،‬ألنه أخذ من ُجرهم‪ُ ،‬‬
‫إمساعيل وزوجته اليت من ُجرهم يُسمون عربًا ُمستعربة ومنهم نبينا صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫فالعرب قحطانيون وعدنانيون ‪ ،‬هذا تقسيم‪ ،‬ويُسمون‪ 9‬عرب الشمال وعرب اجلنوب هذا‬
‫تقسيم ‪ ،‬ويُسمون‪ 9‬عرب احلجاز هم العرب املستعربة يف الغالب‪ ،‬وليس هلذا التقسيم‪ 9‬قسيم‪،‬‬
‫قسيم آخر حنيل عليه‪ ،‬على هذا يُفهم أن العرب أمةٌ‬
‫يعين إذا قلنا عرب احلجاز ال يوجد له ٌ‬
‫وعرب عاربة‪ ،‬وعرب مستعربة‪ ،‬ونبينا صلى اهلل عليه‬
‫ٌ‬ ‫تنقسم إىل ثالثة أقسام‪ ،‬عرب بائدة‪،‬‬
‫وسلم من العرب املستعربة الذين اكتسبوا العربية من جرهم قبيلة قحطانية نزلت مكة وتزوج‬
‫منهم إمساعيل عليه الصالة والسالم‪ ،‬هذا كله يف ذكر نسبه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقد بينا أهم‬
‫ما فيه‪.‬‬

‫ذكر املصنف يف مجلة ما قرأ القارئ أن إدريس أو من نُبئ وأول من خط بالقلم‪ ،‬وهذا ذكره‬
‫أبو هالل العسكري يف األوائل‪ ،‬وال دليل عليها‪ ،‬وإذا أطقنا النبوة فمن اخلطأ أن يُقال إن‬
‫إدريس عليه السالم أول من نُبئ ألن هذا قد يُفهم منه بادي الرأي أن آدم عليه السالم ليس‬
‫أنيب‬
‫شرعا املقـرر فـي هـذا احلديث أن النيب عليه الصالة والسالم ُسئل عن آدم ٌ‬ ‫بنيب‪ ،‬واملعلوم ً‬
‫نيب ُمكلم )‪ ،‬فآدم نيب‪ ،‬فالقول أن إدريس أول من نُبئ غري صحيح إال أن‬ ‫هو؟ قال ( نعم‪ٌ ،‬‬
‫يكون املقصود أول من نُبئ بعد آدم عليه السالم‪ ،‬أما أن يُقال أنه أول من خط بالقلم وما إىل‬
‫ذلك فال سبيل وال دليل إىل إثباته‪.‬‬
‫فهر نفسه‪ ،‬أن قريش‬
‫قال املصنف يف آخر ما قرأنا أن قريش هو ابن فهر‪ ،‬والصواب أنه هو ٌ‬
‫قادرا على أن جيمع الناس‪ ،‬كان ذا‬
‫لقب على فهر‪ ،‬واختلفوا ملاذا مُس ي قريش‪ ،‬واألظهر أنه كان ً‬‫ٌ‬
‫لقب على فهر غلب عليه ‪ ،‬وليس ابن فهر‪ ،‬ولكن فهر هو‬
‫فقريش ٌ‬
‫ٌ‬ ‫سلطان‪ ،‬هلذا مُس ي قريش‪،‬‬
‫قريش على األرجح من أقوال العلماء‪ ،‬هذا ما يتعلق بالنسب الشريف‪.‬‬
‫أمه صلى اهلل عليه وسلم ووالدته ‪:‬‬
‫( أمه صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬وأم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬آمنة بنت وهب بن عبد‬
‫ب‪.‬‬‫ي بن َغالِ ِ‬ ‫مناف بن ُزهرة بن كِ ِ‬
‫الب بن ُمَّر َة بن َك ْع ِ‬
‫ب بن لَُؤ ِّ‬

‫والدته صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬


‫وولد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مبكة عام "الفيل" يف شهر ربيع األول لليلتني خلتا منه‪،‬‬
‫يوم االثنني‪.‬‬
‫عاما‪ .‬والصحيح أنه ولد عام‬‫عاما‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬بأربعني ً‬‫وقال بعضهم‪ :‬بعد "الفيل" بثالثني ً‬
‫الفيل )‬

‫ذكر املصنف هنا أن أم النيب صلى اهلل عليه وسلم هي آمنة‪ ،‬ومل يقل أبوه هو فالن ألنه ورد‬
‫ذكره يف النسب األول‪ ،‬وأفرد األم ألنه مل يرد ذكرها يف النسب‪ 9‬األول ‪ ،‬آمنة بنت وهب هي‬
‫بطن من بطون قريش فتجتمع مع‬ ‫أم نبينا صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهي من بني زهرة‪ ،‬وبنو زهرة ٌ‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم يف جده كالب‪ ،‬آمنة هذه تزوجها أبوالنيب صلى اهلل عليه وسلم عبد‬
‫اهلل‪ ،‬فلما تزوجها محلت منه بسيد اخللق صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫وحلكم أرادها اهلل أن ميوت األبوان قبل أن ينشأ صلى اهلل عليه وسلم النشأة اليت ميكن أن نقول‬
‫إهنا بلغت سن التمييز‪ ،‬فأبوه عبد اهلل ملا تزوج آمنة ومحلت به على أظهر أقوال العلماء أن أباه‬
‫أخوال من بين النجار‪ 9‬يف املدينة –مدينة النيب‬
‫ٌ‬ ‫محل عليه الصالة والسالم‪ ،‬كان له‬
‫مات وهو ٌ‬
‫ودفن يف دار‬‫صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬فذهب عبد اهلل هذا لتجارة ألبيه فمات هناك يف املدينة‪ُ ،‬‬
‫النابغة أي يف دار النابغة اجلعدي أحد شعراء اجلاهلية وأدرك اإلسالم وأسلم وحسن إسالمه‪.‬‬
‫االختالف وقع فيما ذكره املصنف يف قضية مىت ُولد النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬جيب أن تعلم‬
‫ودائما اإلنسان يف طلب العلم يأخذ ما‬‫أن املُتفق عليه أنه ولد يف االثنني ويف شهر ربي ٍع األول‪ً ،‬‬
‫اتُفق عليه يف األول‪ ،‬وما اختلف عليه يبدأ بعد ذلك باألقوى‪ ،‬لكن البد يف املسرية العلمية من‬
‫شيء قوي تركن إليه‪ ،‬مث خُت رج األضعف فاألضعف‪ ،‬فالثابت‪ 9‬أنه صلى اهلل عليه وسلم ُولد يف‬ ‫ٍ‬
‫قطعي أنه ُولد يوم االثنني ‪ ،‬وأصالً ال‬
‫يوم ُولدت فيه )‪ ،‬فهذا ٌ‬ ‫يوم االثنني وسئل فقال ( هو ٌ‬
‫أعلم أن هناك خالفًا يف أنه ُولد يف غري يوم االثنني‪ ،‬األمر الثاين املتفق عليه أنه ُولد يف شهر‬
‫ُ‬
‫ربي ٍع األول‪.‬‬

‫عامة الناس يف عصرنا أنه يوم االثنني‬ ‫ٍ‬


‫اخلالف يف أي يوم من شهر ربي ٍع األول ُولد‪ ،‬الذي‪ 9‬عليه ّ‬
‫الثاين عشر ربيع األول‪ ،‬وقال املصنف أنه يف يوم االثنني الثاين من ربي ٍع األول‪ ،‬واألظهر ‪-‬واهلل‬
‫أعلم‪ -‬اليت دلت عليه الدراسات املعاصرة أنه ُولد يوم االثنني التاسع من شهر ربي ٍع األول‪ ،‬ألن‬
‫الفلكيني كالعالمة حممود باشا وغريه كاملنصور فوزي وغريه ذكروا أنه ال ميكن أن يكون يوم‬
‫االثنني يف العام الذي ُولد فيه النيب صلى اهلل عليه وسلم فلكيًا أن يكون يوم اثين عشر‪ ،‬وإمنا هو‬
‫يوم االثنني التاسع من شهر ربي ٍع األول املوافق يف السنة امليالدية الثاين والعشرين من شهر إبريل‬
‫لعام مخسائة وواحد وسبعني من ميالد املسيح عليه الصالة والسالم‪.‬‬

‫كثريا مبا ال فائدة من ورائه‪ ،‬إمنا‬


‫دائما اإلنسان ال يتعلق ً‬
‫لكننا كطلبة علم ال يعنينا هذا‪ ،‬يعين ً‬
‫الذي يعنينا أنه ُولد يوم االثنني ألنه صامه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬لكنه من الناحية التارخيية حىت‬
‫لو فرضنا أن القول الذي‪ 9‬قلناه أنه اليوم‪ 9‬التاسع خطأ هذا ال يُغري من املوضوع شيئًا‪ ،‬قد يكون‬
‫يوم االثنني التاسع كما قال الفلكيون وهو الذي‪ 9‬نعتمده وهو األظهر‪ ،‬وقد يكون قبله أو بعده‪،‬‬
‫قطعا يوم االثنني من شهر ربي ٍع األول‪.‬‬
‫لكنه ً‬
‫ُولد يف عام الفيل‪ ،‬جرت العادة عند العرب قدميًا وعند األمم كلها أهنم يؤرخون باحلدث‬
‫العظيم‪ ،‬فالنصارى كانوا يؤرخون مبيالد املسيح‪ ،‬فلما كانت العرب أمة ال احتكاك هلا باألمم‬
‫األخرى أرخوا حبادثة الفيل‪،‬‬

‫والفيل قصته شهرية وهي أن أبرهة نائب النجاشي على اليمن قدم إىل مكة يريد هدم البيت‬
‫يف القضية والقصة واملعروفة حىت وصل إىل وادي حُم تم ما بني مزدلفة ومىن‪ ،‬هناك ناخ الفيل‬
‫ب به إىل‬ ‫وبرك ورفض التوجه إىل الكعبة ‪-‬كما هو معلوم‪ -‬وحيث ما و ِّجه توجه إال إذا ذُ ِ‬
‫ه‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫طريا أبابيل‪ ،‬هذا العام لعظيم احلادثة اليت وقعت فيه أرخ العرب‬
‫جل وعال عليهم ً‬‫مكة‪ ،‬ووكل ّ‬
‫شيء عظيم وهو مولده‬ ‫آنذاك بعام الفيل‪ ،‬ألنه أصبح أمرا مُم يزا‪ ،‬ولعل هذا شيء خاصاً حلدوث ٍ‬
‫ً ً‬
‫صلوات اهلل وسالمه عليه‪.‬‬

‫املقصود أنه ُولد عليه الصالة والسالم يف عام الفيل‪ ،‬أما القول أنه بعد الفيل أو قبل بثالثني‬
‫أقوال‬
‫أقوال وإن كانت موجودة إال أهنا ٌ‬ ‫عاما فهذا خالف الصحيح‪ ،‬وهي ٌ‬ ‫عاما أو أربعني ً‬
‫ً‬
‫مردودة يردها كثرة الروايات اليت تُدل على أنه صلى اهلل عليه وسلم ُولد يف عام الفيل‪.‬‬
‫وفاة والد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأمه‪ ،‬وجده‪:‬‬
‫( وفاة والد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأمه‪ ،‬وجده‪ :‬ومات أبوه عبد اهلل بن عبد املطلب‬
‫شهرا‪ .‬وقال بعضهم‪( :‬مات أبوه‬ ‫ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد أتى له مثانية وعشرون ً‬
‫وهو ابن سبعة أشهر)‪ .‬وقال بعضهم (مات أبوه يف‬
‫دار النابغة وهو محل)‪ .‬وقيل‪( :‬مات باألبواء بني مكة واملدينة)‪.‬‬
‫وقال أبو عبد اهلل الزبري بن بكار الزبريي‪( :‬تويف عبد اهلل بن عبد املطلب باملدينة ورسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ابن شهرين)‪.‬‬
‫وماتت أمه وهو ابن أربع سنني‪ .‬ومات جده عبد املطلب وهو ابن مثان سنني‪ .‬وقيل‪( :‬ماتت‬
‫أمه وهو ابن ست سنني) )‬

‫هنا ذكر املصنف يُتمه صلى اهلل عليه وسلم مع اخلالف يف زمن اليتم‪ ،‬فقيل إنه وهو محل‪،‬‬
‫وقيل غري ذلك كما هو مذكور عندك‪ ،‬واألظهر أنه صلى اهلل عليه وسلم أكثر الروايات على‬
‫محل يف بطن أمه‪ ،‬وقد يكون مات أبوه بعد والدته‪ ،‬هذه الروايات كلها‬‫أن أبوه مات وهو ٌ‬
‫محل صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬وقلنا أن‬
‫موجودة واألظهر كما قلت الرواية األوىل أنه وهو ٌ‬
‫أباه عبداهلل مات يف املدينة‪ ،‬أما القول بأنه مات يف األبواء بني مكة واملدينة كما هو مكتوب‬
‫فهذا خالف الصحيح‪ ،‬والصحيح أن أمه ماتت باألبواء ‪ ،‬أمه مرضت باملدينة وماتت باألبواء‬
‫صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬مث بعد دفنه كفلته أمه مدة أربع سنوات وماتت بعد ذلك‪ ،‬مث كفله‬
‫جده عبد املطلب إىل ست أو مثان ‪ ،‬مث كفله عمه أبوطالب‪.‬‬
‫ٍ‬
‫حلكمة أرادها أن يعيش نبيه‬ ‫جل وعال‬
‫الذي يعنينا يف هذا املقام يف فقه السرية أن يُفهم أن اهلل ّ‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يتيما حىت تكتمل عليه منة اهلل‪ ،‬واهلل إذا أراد أن مين على ٍ‬
‫عبد من عباده‬ ‫ً‬
‫بشيء جنبه الناس‪ ،‬فإبراهيم عليه الصالة والسالم قدم ولده للقربان وقدم جسده للنريان‪ ،‬وقدم‬
‫قلبه للرمحن‪ ،‬فلما هم قومه بأن يلقوه يف النار‪ 9‬قال حسبنا اهلل ونعم الوكيل‪ ،‬وكان إبراهيم عليه‬
‫الصالة والسالم أعبد أهل زمانه‪ ،‬بل أعبد الناس على اإلطالق بعد نبينا صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫وكان ملك املطر يعلم أن اهلل لن خُي زي إبراهيم فيحرقه بالنار‪ ،‬وأن اهلل سينصر إبراهيم ال حمالة‪،‬‬
‫ولكن يعلم أن النار‪ 9‬ال يطفئها إال املاء فغلب على ظنه‬

‫جل وعال سيأمره أن ينزل القطر على النار‪ 9‬يطفئها فيسلم إبراهيم‪ ،‬فعجل ميكال يطأطأ‬ ‫أن اهلل ّ‬
‫إكراما إلبراهيم خاطب النار بذاته‬
‫جل وعال ً‬ ‫رأسه ينتظر مىت يؤمر أن ينزل القطر‪ ،‬ولكن اهلل ّ‬
‫يم ﴾ [األنبياء‪ ،]69 :‬فخرج منها‬ ‫العلية بقوله ﴿ ُق ْلنا يا نَار ُكويِن بردا وساَل ما علَى إِبر ِ‬
‫اه‬
‫َْ ً َ َ ً َ َْ َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫وسالما معافًاً ميشي على قدميه والناس‬
‫ً‬ ‫بردا‬
‫صلوات اهلل وسالمه عليه بعد أن جعلها اهلل ً‬
‫ينظرون‪.‬‬

‫ألحد من أهل األرض‪ 9‬عليه منة صلوات اهلل وسالمه‬ ‫ما ال يفقهه الناس هو أنه خرج وليس ٍ‬
‫عليه إال منة اهلل‪ ،‬وهذه منزلة ال يناهلا اإلنسان إال إذا بلغ درجة عظيمة يف العبودية‪ ،‬فإن‬
‫بأحد غري اهلل كان أبعد‬ ‫اإلنسان إذا حترر قلبه من غري اهلل كان أقرب إىل اهلل‪ ،‬وكلما تعلق قلبه ٍ‬
‫جل وعال‪ ،‬ومن أراد اهلل يرزقه الفالح احلق الكامل مل جيعل يف قلبه أحد غري ربه تبارك‬ ‫من اهلل ّ‬
‫جل‬
‫وتعاىل‪ ،‬حيب حببه‪ ،‬ويُبغض ببغضه‪ ،‬ويوايل مبواالته‪ ،‬فإن كان هذا القلب ال يعرف إال اهلل ّ‬
‫جل وعال به أعظم وعنايته‬ ‫وعال يف سرائه وضرائه وليله وهناره وإقامته وسفره كان رعاية اهلل ّ‬
‫يتيما مل‬
‫به أكمل تبارك وتعاىل‪ ،‬وهذا هو املقصود األمسى من كونه صلى اهلل عليه وسلم نشأ ً‬
‫يرعاه أب حىت إذا بلغ النبوة نسب الناس نبوته إىل أبيه‪ ،‬ومل ترعاه أمه حىت إذا بلغ اجملد نسب‬
‫يما فَآَ َوى * َو َو َج َد َك‬‫ِ ِ‬
‫جل وعال مُم تنًا عليه ﴿ أمل جَي ْد َك يَت ً‬
‫الناس رعايته وتربيته إىل أمه‪ ،‬قال اهلل ّ‬
‫ضااًّل َف َه َدى * َو َو َج َد َك َعائِاًل فَأَ ْغىَن ﴾ [الضحى‪.]8 -6 :‬‬
‫َ‬
‫ذكرت باليتم يف القرآن تكرمة‪          ‬وقيمة اللؤلؤ املكـنون يف اليتم‬
‫ت يف األرزاق والقسم‬ ‫اهلل قسم بني اخلــلق رزقهم‪           ‬وأنت ُخرِّي َ‬
‫إن قلت يف األمر ( ال ) أو قلت فيه‪ (            ‬نعم ) ِ‬
‫فخريةُ اهلل بال منك أو نعم‬
‫‪ ‬حديثك الشهد عند الذائق الفهم‪9‬‬ ‫يا أفصح الناطقني الضاد قاطبة‪     ‬‬
‫جاء النبيون باآليات فانصرمت‪               ‬وجئتنا حبكيم غري منصرم‬
‫ـدد‪                  ‬يزينهن جالل العتق والقدم‬
‫آياته كلما طال املدى ج ـ ٌ‬
‫صلوات اهلل وسالمه عليه ‪.‬‬

‫رضاعه صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬


‫( رضاعه صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬وأرضعته صلى اهلل عليه وسلم ثويبة جارية أيب هلب‪،‬‬
‫وأرضعت معه محزة بن عبد املطلب‪ ،‬وأبا سلمة عبد اهلل بن عبد األسد املخزومي‪ ،‬أرضعتهم‪9‬‬
‫بلنب ابنها مسروح ‪ .‬وأرضعته حليمة بنت أيب ذؤيب السعدية )‬

‫يتيما ‪-‬وبينا احلكمة يف كونه صلى اهلل عليه وسلم‬


‫بعد أن ذكر أنه صلى اهلل عليه وسلم نشأ ً‬
‫يتيما‪ -‬ذكر املصنف رمحه اهلل من نلنا شرف رضاعته صلوات اهلل وسالمه عليه ‪ ،‬ممن‬ ‫نشأ ً‬
‫أرضعنه بال شك أمه آمنة‪ ،‬وممن أرضعنه ثويبة جارية كانت لعمه أيب هلب‪ ،‬ومل يكن بالطبع أبو‬
‫هلب يعلم أن هذا سيكون نبيًا رسوال وأنه سيعاديه‪ ،‬ولكن جاريته ثويبة أرضعت النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وممن أرضعنه –وهي أكثر من أرضعته‪ -‬حليمة السعدية املشهورة ‪ ،‬خرجت به إىل‬
‫بادية بين سعد يف قصة نُقلت عنها‪ ،‬أهنا جاءت إىل مكة وأخذته صلوات اهلل وسالمه عليه إىل‬
‫مذكور مشهور‪ 9‬يف كتب السرية‪ ،‬أنا قلت أنه‬
‫ٌ‬ ‫بادية بين سعد‪ ،‬وتغري حاهلا وحال قومها مما هو‬
‫مشهورا‪ 9‬ال نُعرج عليه‪ ،‬وإمنا نُعرج على ما كان خمفيًا حيتاج‬
‫ً‬ ‫يف منهجنا يف التدريس‪ 9‬أن ما كان‬
‫الناس إىل بيانه‪ ،‬هؤالء الثالثة هن الاليت أرضعنه صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬وهذا من لطف ربه‬
‫به عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫فـصـل فـي أسـمـائـه ـ صلى اهلل عليه و سلم ‪:‬‬

‫فصل في أسمائه‪:‬‬
‫(روى جبري بن مطعم قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ( :‬إين أنا حممد‪ ،‬وأنا أمحد‪،‬‬
‫وأنا املاحي الذي‪ 9‬ميحو اهلل يب الكفر‪ ،‬وأنا احلاشر الذي َح َشَر الناس‪ ،‬وأنا العاقب الذي‪ 9‬ليس‬
‫بعدي نيب ) صحيح متفق عليه )‬

‫فصل يف ذكر أمسائه صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬وحترير املسألة أن يُقال إن من أمسائه صلى‬ ‫هذا ٌ‬
‫سم ْون مبحمد وأمحد‪ ،‬وهلذا مل‬ ‫اهلل عليه وسلم ما يُشاركه فيه الناس مثل حممد وأمحد‪ ،‬فالناس يُ َ‬
‫يقل صلى اهلل عليه وسلم يف تفسريمها شيئًا‪ ،‬قال ( أنا حممد ) ومل يُبني‪ ،‬وقال ( أنا أمحد ) ومل‬
‫يُفصل‪ ،‬ألهنا من األمساء املشرتكة اليت يُسميها كل أحد‪ ،‬لكن عندما قال ( أنا املاحي ) ( أنا‬
‫العاقب‪ ) 9‬فسر صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬ألن املاحي والعاقب‪ 9‬تتعلق بكونه نبيًا ورسوال ال‬
‫تتعلق بكونه رجال يُنادى بني الناس‪.‬‬

‫كونه عليه الصالة والسالم ماحيًا فللكفر‪ ،‬وعاقبًا أي جاء عقب النبيني عليه الصالة والسالم‪،‬‬
‫هذا يتعلق برسالته‪ ،‬فلهذا بني ما معىن (املاحي)‪ ،‬وبني ما معىن (العاقب‪ )9‬الذي‪ 9‬حُي شر الناس على‬
‫يديه‪ ،‬مبعىن أنه من أشراط الساعة خروجه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬لكنه عندما قال ( أنا حممد‬
‫وأنا أمحد ) فهذا من األمساء اليت يشرتك فيها صلى اهلل عليه وسلم يف أصل التسمية‪ 9‬مع الناس‪.‬‬

‫وأمحد هو االسم املسمى به يف اإلجنيل‪ ،‬وحممد‪ 9‬هو االسم املسمى به يف التوراة‪ ،‬يف التوراة جاء‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أن امسه حممد‪ ،‬ويف اإلجنيل جاء أن امسه أمحد‪.‬‬
‫( وروى أبو موسى عبد اهلل بن قيس‪ ،‬قال‪ :‬مسَّى لنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم نفسه‬
‫أمساءً‪ ،‬منها ما حفظنا‪ ،‬فقال‪ ( :‬أنا حممد‪ ،‬وأنا أمحد‪ ،‬وامل َقفِّي‪ ،‬ونَيِب ُّ التوبة‪ ،‬ونَيِب ُّ الرمحة ) ويف‬
‫ُ‬
‫رواية‪ ( :‬ونيب امللحمة ) وهي املقتلة‪ ،‬صحيح‪ ،‬رواه مسلم )‬

‫أبو موسى هو أبو موسى األشعري الصحايب اجلليل املعروف عبد اهلل بن قيس‪ ،‬أحد الذين‬
‫وفدوا‪ 9‬على النيب صلى اهلل عليه وسلم من اليمن‪ ،‬واحلديث كما بنّي املصنف أخرجه اإلمام‬
‫مسلم يف الصحيح‪ ،‬وقد ذكر به النيب صلى اهلل عليه وسلم أمساءً خاصةً به هي حممد‪ 9‬وأمحد‬ ‫ٌ‬
‫نيب من األنبياء امسه حممد‪ ،‬وال يوجد نيب من‬
‫بالنسبة للنبيني‪ ،‬ومعىن بالنسبة لنبيني ال يوجد ٌ‬
‫األنبياء امسه أمحد‪ ،‬لكن كلمة نيب التوبة تُطلق عليه وعلى غريه من األنبياء‪ ،‬ونيب الرمحة تُطلق‬
‫عليه وعلى غريه من األنبياء؛ ألن كل األنبياء عليهم الصالة والسالم كانوا رمحةً وتوبةً للناس‪،‬‬
‫لكن الفرق بينه وبينهم أنه له منها صلى اهلل عليه وسلم احلظ األوفر‪ 9‬والنصيب‪ 9‬األكمل‪.‬‬

‫( وروى جابر بن عبد اهلل قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ( :‬أنا أمحد‪ ،‬وأنا حممد‪،‬‬
‫وأنا احلاشر‪ ،‬وأنا املاحي الذي ميحو اهلل يب الكفر‪ ،‬فإذا كان يوم القيامة لواء احلمد معي‪،‬‬
‫وكنت إمام املرسلني‪ ،‬وصاحب شفاعتهم )‪.‬‬
‫ومساه اهلل – عز وجل – يف كتابه العزيز‪ ﴿ :‬بَ ِش ًريا ﴾ و﴿ َنَ ِذ ًيرا ﴾ [البقرة‪ ،]119 :‬و﴿‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني ﴾ [األنبياء‪ ]107 :‬صلى اهلل عليه وسلم )‬ ‫يما ﴾ و﴿ َرمْح َةً لِّْل َعالَم َ‬
‫َرءُوفًا ﴾ و﴿ َّرح ً‬
‫األمساء األوىل اليت ذكرها صلى اهلل عليه وسلم ونقلها املصنف تدل على رفيع مقامه عليه‬
‫الصالة والسالم عند ربه‪ ،‬وعلو منزلته‪ ،‬وله عليه الصالة والسالم خصائص يف الدنيا‪9‬‬
‫وخصائص يف اآلخرة‪ ،‬واملقام احملمود خصيصةٌ يف اآلخرة وهي أعظم خصائصه صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬قال عليه الصالة والسالم كما يف الصحيح من حديث عبد اهلل بن عمرو بن العاص‬
‫( إذا مسعتم املؤذن فقولوا‪ 9‬مثلما يقول‪ ،‬مث صلوا علي‪ ،‬مث سلوا اهلل يل الوسيلة فإهنا درجة يف‬
‫لعبد وأرجو أن أكون أنا هو ) صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬وحنن‬ ‫اجلنة ال ينبغي أن تكون إال ٍ‬
‫نقول كما علمنا نبينا عليه الصالة والسالم‪ :‬وابعثه‬
‫جل وعال قال له يف اإلسراء ﴿ َو ِم َن اللَّْي ِل‬ ‫حممودا‪ 9‬الذي وعدته‪ ،‬واهلل ّ‬ ‫ً‬ ‫مقاما‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫ودا ﴾ [اإلسـراء‪ ،]79 :‬فاملقام احملمود له‬ ‫ك َم َق ًاما حَمْ ُم ً‬
‫ك َربُّ َ‬‫ك َع َسى أَ ْن َيْب َعثَ َ‬‫َفَت َه َّج ْد بِِه نَافلَةً لَ َ‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫ولواء احلمد قال عليه الصالة والسالم يف احلديث الصحيح ( ولواء احلمد ٍ‬
‫يومئذ بيدي )‪ ،‬كل‬
‫الناس آدم فمن سواه حتت هذا اللواء الذي‪ 9‬حيمله صلوات اهلل وسالمه عليه‪ .‬املقصود رفيع‪9‬‬
‫مقامه وجليل مكانته‪ ،‬وال نريد أن نفصل فيها أكثر ألهنا سيأيت بياهنا يف فصول قادمة‪ ،‬لكن‬
‫معلوم من الدين بالضرورة مقامه صلوات اهلل وسالمه عليه بني خلق اهلل أمجعني ورفيع‪ 9‬منزلته‬
‫ٌ‬
‫وعلو درجته عليه الصالة والسالم عند ربه‪.‬‬

‫مث قال املصنف ( ومساه اهلل – عز وجل – يف كتابه العزيز‪ ﴿ :‬بَ ِش ًريا ﴾ و﴿ َنَ ِذ ًيرا ﴾ [البقرة‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يما ﴾ و﴿ َرمْح َةً لِّْل َعالَم َ‬
‫ني ﴾ )‪،‬‬ ‫‪ ،]119‬و﴿ َرءُوفًا ﴾ و﴿ َّرح ً‬
‫هذه األفضل أن يُقال أهنا صفات أكثر من كوهنا أمساءً‪ ،‬هذه صفات له عليه الصالة والسالم‬
‫أكثر من كوهنا أمساءً‪ ،‬ألن مجيع الرسل كانوا مبشرين وكانوا منذرين‪ ،‬وكانوا‪ 9‬رؤوفني بأممهم‪،‬‬
‫وكانوا رامحني للعامل أمجع‪ ،‬لكن كما قلنا أن الفرق بينه وبينهم صلوات اهلل وسالمه عليه أن له‬
‫املقام األعلى وأنه أوفر حظًا وأكمل نصيبًا عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫فصل‪ :‬نشأته صلى اهلل عليه وسلم بمكة‪ ،‬وخروجه مع عمه أبي طالب إلى الشام‪،‬‬
‫وزواجه بخديجة ‪:‬‬

‫(‪ :‬ونشأ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يتيما يكفله جده عبد املطلب‪ ،‬وبعده عمه أبو طالب‬
‫ابن عبد املطلب‪.‬‬
‫وطهره اهلل – عز وجل – من دنس اجلاهلية‪ ،‬ومن كل عيب‪ ،‬ومنحه كل ُخلق مجيل‪ ،‬حىت مل‬
‫يكن يعرف بني قومه إال باألمني‪ ،‬ملا شاهدوا‪ 9‬من أمانته‪ ،‬وصدق حديثه‪ ،‬وطهارته )‬

‫ال ريب أن اهلل أعد نبيه صلى اهلل عليه وسلم هلذا األمر العظيم منذ األزل‪ ،‬فكان‬
‫صنَ َ‪9‬ع َعلَى َعْييِن ﴾ [طـه‪:‬‬ ‫ِ‬
‫جل وعال قال ملوسى ﴿ َولتُ ْ‬
‫جل وعال‪ ،‬واهلل ّ‬
‫منطقيًا أن يتعهده ربه ّ‬
‫حممد صلى اهلل عليه وسلم!‬‫‪ ،]39‬فإذا كان يف حق موسى فكيف حبق ٍ‬

‫واملصنف هنا ذكر ما أفاءه اهلل جل وعال عليه من إيواء جده أيب ٍ‬
‫طالب أول األمر‪ ،‬مث عمه أيب‬ ‫ّ‬
‫عظيما يف كفالة نبينا صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬أما عبد املطلب‬
‫جهدا ً‬‫طالب‪ ،‬وكال الرجلني بذال ً‬
‫فقد كان يقربه منه‪ ،‬وكانت يُفرش له فراش عند الكعبة فيجلس صلى اهلل عليه وسلم جبوار‪9‬‬
‫طاعا ُمهابًا‪ ،‬لكن كانت احلَظْ َوة‬
‫سيدا ُم ً‬
‫وجيها ً‬
‫جده وال يُعاتبه أح ٌد رغم أن عبد املطلب كان ً‬
‫صيب عند جده عظيمة‪.‬‬
‫برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو ٌ‬
‫فلما مات كفله عمه أبو طالب‪ ،‬أبو طالب امسه عبد مناف –على األظهر‪ ،9-‬وهذا العم‪ 9‬مات‬
‫على غري إسالم‪ ،‬لكن ذلك ال مينع أنه كان من أعظم النصراء لنبينا صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ومما‬
‫وكبريا‪ 9‬أنه كان – والنيب عليه الصالة‬
‫ً‬ ‫صغريا‬
‫يُقال عنه يف تعهده بنبينا عليه الصالة والسالم ً‬
‫طالب أن يستسقي هلم إذا أجدبت الديار – كما نقل‬ ‫قريش من أيب ٍ‬ ‫صغريا ـ تطلب ٌ‬
‫والسالم ً‬
‫طالب ومحل النيب صلى اهلل عليه وسلم – وكان يوم‬ ‫ابن عساكر يف تاريخ دمشق‪ -‬فجاء أبو ٌ‬
‫أبيضا‪ -‬فألصقه جبدار‪ 9‬الكعبة‪ ،‬فلما ألصقه جبدار الكعبة أشار صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫ٍ‬
‫صغريا‪ً 9‬‬
‫إذ ً‬
‫فسقوا حىت سال الوادي‪ ،‬فقال‬
‫بإصبعه إىل السماء وهو صيب‪ ،‬فجاء السحاب من كل مكان ُ‬
‫طالب يف الميته بعد ذلك‪:‬‬
‫أبو ٌ‬
‫وأبيض يُستسقى الغمام‪ 9‬بوجهه‪            ‬مثال اليتامى عصمةٌ لألرامل‬

‫هذا من حظوة النيب صلى اهلل عليه وسلم عند أيب طالب‪ ،‬فلما كرب بقيت هذه احلَظْ َوة كما‬
‫هي‪ ،‬وكان صلى اهلل عليه وسلم قد ربّاه اهلل وتعهده أنه يفقه ماذا يفعل وماذا يصنع من دون‬
‫أن يعلم أنه سيكون نبيًا‪ ،‬فكان يرعى الغنم‪ 9‬على قراريط‪ 9‬ألهل مكة من أجل أن يسد العوز‪9‬‬
‫والفقر واملسكنة املالية اليت كانت موجودة عند أيب طالب حىت ال يكون عبئًا عليه‪ ،‬فلما‬
‫حوصرت بنو هاش ٍم يف الشعب كان أبو طالب – رغم كفره‪ -‬أحد الذين حوصروا مع النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يف الشعب‪.‬‬

‫وبلغ من حمبته – رغم الكفر‪ -‬مع النيب صلى اهلل عليه وسلم أنه كان إذا جاء الليل حيمل النيب‬
‫عليه الصالة والسالم من مكانه ويضعه يف مكانًا آخر‪ ،‬مث يأيت بأحد أبنائه ويضعه مكان النيب‬
‫عليه الصالة والسالم حىت إذا أراد أح ٌد قد بيت النية أن يغتال النيب عليه الصالة والسالم وهو‬
‫نائم يغتال ابنه لصلبه وال يغتال النيب عليه الصالة والسالم‪ ،‬هذا يفعله كله وهو مشرك‪ ،‬يقول‬
‫اهلل يف األنعام ﴿ وهم يْنهو َن عْنه ويْنأَو َن عْنه ﴾ [األنعام‪ ﴿ ،]26 :‬يْنهو َن ﴾ عن ٍ‬
‫أحد أن‬ ‫َ َْ‬ ‫َ ُ ْ َ َْ َ ُ ََ ْ َ ُ‬
‫يقتل إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم‪َ ﴿ ،‬و َيْنأ َْو َن َعْنهُ ﴾ أي أنه ال يقبل أن يدخل يف الدين‪ ،‬حىت‬
‫تعلم أن اهلداية مردها إىل الرب تبارك وتعاىل‪.‬‬

‫وجيب على العاقل املسلم أن يستفيد من األوضاع التارخيية‪ 9‬اليت يعاصرها‪ ،‬فأبو ٍ‬
‫طالب كان‬
‫كافر وال‬
‫كافرا فاستفاد النيب صلى اهلل عليه وسلم من جاه عمه ومن نصرته‪ ،‬ومل يقل إنه ٌ‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫مرحلة نصرة الدين‬ ‫أستعني به وال أجلأ إليه ألن األوضاع ختتلف من زم ٍن إىل زمن ومن‬
‫فاعمل به وال تبايل‪ ،‬ألنه ال خيلو األمر من مصاحل ومفاسد‪ ،‬لكن إذا كان اإلنسان يقدم أعظم‬
‫املصلحتني ويدرأ أعظم املفسدتني فإن املقصود األعظم نصرة الدين‪ ،‬وقد قبل صلى اهلل عليه‬
‫شعب ٍ‬
‫واحد استفاد ًة من جاه عمه‬ ‫وسلم أن يكون مع عمه وهو كافر يسجد لغري اهلل يف ٍ‬
‫ٌ‬
‫ونصرته‪ ،‬وكان عليه الصالة والسالم يُثين على عمه وتشفع له عند ربه أن يكون أهون أهل‬
‫النار عذابًا‪ ،‬هذه الفائدة األوىل‪.‬‬

‫قلنا يف الفائدة األوىل أن النيب صلى اهلل عليه وسلم استفاد من نصرة عمه أيب طالب‪ ،‬الفائدة‬
‫علق بني إصبعني من أصابع الرمحن‬ ‫الثانية أن اهلداية بيد اهلل‪ ،‬وأن اإلنسان قلبه كقلب غريه ُم ٌ‬
‫يقلبها كيف يشاء‪ ،‬وأنت ال تفرح ٍ‬
‫بشيء أعظم من نعمة اهلداية‪ ،‬فإن نعمة اهلداية اليت رزقك‬
‫اهلل إياها أو ِ‬
‫رزقك اهلل إياها يا أختاه ُحرمها أبو طالب من نصر النيب صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫حىت تعلم فضل الرب تبارك وتعاىل عليك‪ ،‬وال ييأسن أح ٌد من ٍ‬
‫أحد وهو يدعوه‪ ،‬وال جُي زم‬
‫رجل من الصالح ال تقطع له ٍ‬
‫جبنة وال بنار‪،‬‬ ‫أحد وهو يراه‪ ،‬مبعىن مهما رأيت على ٍ‬ ‫أح ٌد يف ٍ‬
‫أحد من ٍ‬
‫سوء وفساد ال تقطع له ٍ‬
‫جبنة وال نار‪ ،‬إمنا األعمال باخلواتيم‪.‬‬ ‫ومهما رأيت على ٍ‬

‫كان عبد اهلل بن أيب الصرح أحد الصحابة‪ ،‬أسلم قدميًا مث هاجر إىل املدينة‪ ،‬وكان جييد الكتابة‪،‬‬
‫وكان يكتب الوحي لرسول اهلل صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬فلما نزلت سورة املؤمنون كان‬
‫جربيل ميليها على النيب عليه الصالة والسالم وعبد اهلل بن أيب الصرح يسمعها منه‪ ،‬فقرأ جربيل‬
‫ني ﴾ [املؤمنون‪]12 :‬‬ ‫على النيب عليه الصالة والسالم﴿ ولََق ْد َخلَ ْقنَا اإْلِ نْسا َن ِم ْن ُساَل لٍَة ِم ْن ِط ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫فكتبها عبد اهلل‪ ،‬يقرأها النيب عليه الصالة والسالم فيكتبها عبد اهلل‪ ،‬مث قرأ ﴿ مُثَّ َج َع ْلنَاهُ نُطْ َفةً‬
‫ني ﴾ [املؤمنون‪ ]13 :‬فكتبها‪ ،‬مث أمت اآلية‪ ،‬مث أمت اآلية حىت قال ﴿ مُثَّ أَنْ َشأْنَاهُ َخ ْل ًقا‬ ‫يِف َقرا ٍر َم ِك ٍ‬
‫َ‬
‫آَ َخَر ﴾ [املؤمنون‪ ]14 :‬فكتبها عبد اهلل‪ ،‬فقال عبد اهلل قبل أن يتكلم النيب صلى اهلل عليه‬
‫ِِ‬
‫ني ﴾ [املؤمنون‪ ،]14 :‬فقال صلى اهلل عليه وسلم ( هكذا‬ ‫وسلم ﴿ َفتَبَ َار َك اللَّهُ أ ْ‬
‫َح َس ُن اخْلَالق َ‬
‫علي ) أو ( هكذا أمالين إيّاها جربيل )‪ ،‬فطبق املصحف – وما كان يُسمى ُمصح ًفا‪،‬‬ ‫أُنْزلت ّ‬
‫مُسِّي ُمصح ًفا يف عهد أيب بكر‪ ،-‬فطبق الورقة اليت كان يكتبها وقال‪ :‬إن كان حمم ٌ‪9‬د كاذبًا فأنا‬
‫أكذب كما يكذب حممد‪ ،‬وإن كان حمم ٌ‪9‬د صادقًا فأنا يوحى إيل كما يوحى إىل ٍ‬
‫حممد‪ ،‬وترك‬ ‫ّ‬
‫كافرا حىت كان عام الفتح‪.‬‬
‫اإلسالم وخرج من الدين ورجع إىل الكفر‪ ،‬وأصبح ً‬
‫أخ لعثمان رضي اهلل عنه من الرضاعة‪ ،‬فلما كان عام الفتح دخل عثمان به على‬ ‫عبد اهلل هذا ٌ‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم – وكان عليه الصالة والسالم قد أباح دمه أو هدر دمه‪ -‬فطلب له‬
‫العهد – أي طلب له أن يصون دمه‪ -‬فسكت صلى اهلل عليه وسلم وهو يف ٍ‬
‫ملئ بني أصحابه‬
‫وجعل حيدق النظر فيه مد ًة طويلة‪ ،‬فلما أحلَّ عثمان على رسول اهلل قال ( نعم ) أي أجرناه‪،‬‬
‫فخرج عثمان بأخيه عبد اهلل خارج معسكر املسلمني‪،‬‬
‫فلما خرجوا قال عليه الصالة والسالم ألصحابه ( أما قام منكم من ٍ‬
‫أحد إذ قد رآين قد‬
‫أبطأت عنه فيضرب عنقه )‪ ،‬قالوا‪ 9‬يا رسول اهلل مل نكن ندري ما مرادك‪ ،‬لو أشرت إلينا‬
‫ُ‬
‫بعينيك‪ ،‬قال ( ال ينبغي لن ٍيب أن تكون له خائنة األعني )‪.‬‬

‫موضع الشاهد‪ 9‬هذا الرجل الذي‪ 9‬ارتد أصابه الندم على ما كان من الردة‪ ،‬فلما أسلم يعمل من‬
‫تعويضا عما فات‪ ،‬فلما كانت الفتنة بين علي ومعاوية رضي اهلل تعاىل عنهما ترك‬
‫ً‬ ‫الصاحلات‬
‫حريصا على الصلوات خوفًا من أن‬ ‫ً‬ ‫الفتنة واعتزهلا وسكن يف عكة يف أرض فلسطني‪ ،‬ومكث‬
‫خُي تم له بسوء‪ ،‬حىت كان ذات ليلة دعا ربه‪ :‬اللهم أمتين وأنا أصلي الفجر‪ ،‬فلما كانت صالة‬
‫ضبحا ‪-‬ومل ينقل الرواة ماذا قرأ يف الركعة‬
‫إماما‪ ،‬قرأ يف األوىل والعاديات ً‬
‫الفجر صلى بالناس ً‬
‫الثانية‪ ،-‬مث سلم التسليمة األوىل – مل تتحقق اإلجابة‪ -‬وقبل أن يُسلم التسليمة الثانية فاضت‪9‬‬
‫جل وعال وقد مات يف صالة الفجر كما دعا‪.‬‬‫روحه إىل ربه ّ‬
‫املقصود من هذا انظر الرجل كيف تقلب مث استقر على خري حال‪ ،‬فالقلوب بني يدي الرمحن‪،‬‬
‫هذا أبو طالب مع النيب عليه الصالة والسالم يف احلرب والسلم‪ 9‬والسراء والضراء‪ ،‬وأقول‬
‫رجل يف أقاصي‬
‫جتويزا فلم يكن يف مكة حرب‪ ،‬ومع ذلك مل يُرزق اهلداية‪ ،‬وقد يُرزقها ٌ‬‫احلرب ً‬
‫ت َولَ ِك َّن اللَّهَ َي ْه ِدي َم ْن يَ َشاءُ ﴾ [القصص‪:‬‬
‫َحبَْب َ‬
‫ِ‬
‫األرض كما قال اهلل ﴿ إِنَّ َ‬
‫ك اَل َت ْهدي َم ْن أ ْ‬
‫‪ ،]56‬نسأل اهلل لنا ولكم الثبات على هذا‪.‬‬

‫صَرى فرآه حبريى‬‫( فلما بلغ اثنيت عشرة سنة‪ ،‬خرج مع عمه أيب طالب إىل الشام‪ ،‬حىت بلغ بُ ْ‬
‫الراهب‪ ،‬فعرفه بصفته‪ ،‬فجاء وأخذ بيده وقال‪ :‬هذا سيد العاملني‪ ،‬هذا رسول رب العاملني‪،‬‬
‫هذا يبعثه رمحة للعاملني‪ .‬فقيل له‪ :‬وما علمك بذلك؟ قال‪ :‬إنكم حني أقبلتم من العقبة مل يبق‬
‫ساجدا‪ ،‬وال يسجدون إال لنيب‪ ،‬وإنا جنده يف كتبنا‪ ،‬وسأل أبا‬
‫ً‬ ‫شجرة‪ ،‬وال حجر‪ ،‬إال خر‬
‫طالب فرده خوفًا عليه من اليهود )‬

‫هذه رحلة النيب صلى اهلل عليه وسلم األوىل إىل الشام‪ 9‬وفيها خرب حُب ريى الراهب‪ ،‬لكن قبل‬
‫شجر إال سجد له" نقول فيها ما‬
‫حجر وال ٌ‬ ‫حبرية ما نُقل أن الراهب قال أنه "ملا دخل مل يبق ٌ‬
‫يلي هذه غري ثابتة‪ ،‬وإن ثبتت فيكون خترجيها على أن املقصود بالسجود هنا سجود حتية ال‬
‫سجود عبادة‪ ،‬إن ثبتت فيكون خترجيها على أن من سجد من حج ٍر أو شجر يكون سجد‬
‫شرعا أن يسجد لغريه تبارك وتعاىل‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫سجود حتية ال سجود عبادة‪ ،‬ألن اهلل ال يأذن ألحد ً‬
‫فسجود املالئكة آلدم وسجود أخوة يوسف ليوسف كله كان سجود حتية ومل يكن سجود‬
‫عبادة‪ ،‬واملقصود منه أنه صلى اهلل عليه وسلم كان معروفًا يف التوراة‪ ،‬وهذا الراهب‪ 9‬اطلع على‬
‫فقطعي أنه عرف فيه من الدالئل‪ 9‬ما يدل على أنه صلى اهلل عليه وسلم سيكون‬ ‫ٌّ‬ ‫ما يف التوراة‪،‬‬
‫خامت األنبياء‪.‬‬

‫( مث خرج ثانيًا إىل الشام مع ميسرة غالم خدجية رضي اهلل عنها يف جتارة هلا قبل أن يتزوجها‪،‬‬
‫صَرى‪ ،‬فباع جتارته )‬
‫حىت بلغ إىل سوق بُ ْ‬
‫هذه هي الرحلة الثانية‪ ،‬وكانت كما ذكر املصنف مع ميسرة غالم خدجية‪ ،‬وهذه أحد‬
‫األسباب اليت أرادها اهلل تبارك وتعاىل حىت يتزوج صلى اهلل عليه وسلم من خدجية بنت‬
‫خويلد‪ ،‬ونقف هنا عند خدجية بنت خويلد رضي اهلل تعاىل عنها وأرضاها‪ ،‬ونقول علميًا هلا‬
‫خصائص ال يشاركها‪ 9‬فيها أح ٌد من أمهات املؤمنني‪ ،‬وهلا خصيصة واحدة ال يشاركها فيها‬
‫أح ٌد من نساء العاملني‪ ،‬فمن اخلصائص اليت مل يُشاركها يف أح ٌد من أمهات املؤمنني أن النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم مل يتزوج عليها وهي حية‪ ،‬فلم جيمع بينها وبني ٍ‬
‫أحد من النساء‪ ،‬والثانية‬
‫بولد من غريها إال ما كان من جاريته مارية أم إبراهيم‪ ،‬هذه‬ ‫أن اهلل رزقه منها الولد ومل يرزقه ٍ‬
‫اخلصائص اليت تفردت هبا خدجية رضي اهلل تعاىل عنها عن أمهات املؤمنني‪.‬‬

‫جل وعال بلغها سالمه مع جربيل‬ ‫أما اخلصيصة اليت تفردت هبا عن نساء العاملني أمجعني أن اهلل ّ‬
‫أحدا من نساء العاملني ناهلا‪ ،‬رضي اهلل تعاىل عنها‬
‫عليه السالم‪ ،‬وهذه خصيصة ال يُعلم نقال أن ً‬
‫زقت‬
‫وأرضاها‪ ،‬وقد ثبت عنه صلى اهلل عليه وسلم – كما يف الصحيحني‪ 9-‬أنه قال ( إيّن ُر ُ‬
‫حبها )‪ ،‬أي حب خدجية رضي اهلل تعاىل عنها وأرضاها‪.‬‬

‫واملقصود أن هذه كانت هي الرحلة الثانية له صلى اهلل عليه وسلم إىل الشام‪ ،‬وخدجية هي أول‬
‫فصل عن نسائه صلوات اهلل وسالمه عليه‪.‬‬‫نسائه‪ ،‬وسيأيت ٌ‬

‫مخسا وعشرين سنة تزوج خدجية عليها السالم‪.‬فلما بلغ أربعني سنة اختصه اهلل‬ ‫( فلما بلغ ً‬
‫بكرامته‪ ،‬وابتعثه برسالته‪ ،‬أتاه جربيل عليه السالم‬
‫وهو بغار حراء – جبل مبكة ‪ ،-‬فأقام مبكة ثالث عشرة سنة‪ ،‬وقيل مخس عشرة‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫عشرا‪ ،‬والصحيح األول‪).‬‬ ‫ً‬
‫هذا ذكر ما كان له صلى اهلل عليه وسلم عند متام األربعني‪ ،‬يف متام األربعني ملا قارهبا بدأ ما‬
‫جل وعال سيختصه بأم ٍر عظيم‪ ،‬فكان ال ميشي يف طرقات مكة إال ناداه‬ ‫يدل على أن اهلل ّ‬
‫شخصا وال خياال‬
‫ً‬ ‫احلجر والشجر "السالم عليك يا نيب اهلل" فيلتفت ميينًا ومشاال فال يرى‬
‫فحبب إليه‬ ‫فيتعجب وميضي‪ ،‬مث ُحبب إليه اخلالء بعد أن أصبح يرى الرؤيا فتقع كفلق الصبح‪ُ ،‬‬
‫اخلالء فأخذ معه سوي ًقا وماءً وكان يتحنث ليايل ذوات عدد يف غار حراء يتأمل يف ملكوت‬
‫اهلل‪ ،‬وكل هذا ميضي بقدر اهلل حىت أمت عليه الصالة والسالم رأس األربعني‪.‬‬

‫شرف على اإلطالق وهو أنه خامت النبيني‪،‬‬ ‫فلما أمتها جاءه جربيل بالوحي من اهلل ليعطيه أعظم ٍ‬
‫ومل يكن عليه الصالة والسالم قد رأى امللك من قبل ال يف صورته احلقيقية وال يف غريها‪ ،‬كان‬
‫رجال من عامة الناس‪ ،‬ما بني هذه اللحظة وهذه اللحظة أصبح خامت األنبياء وسيد املرسلني‪،‬‬
‫جاءه امللك قال‪ :‬اقرأ‪ ،‬فقال ( ما أنا بقارئ ) أي ال أجيد القراءة‪ ،‬فامللك يردد الطلب‪ ،‬والنيب‬
‫ك الَّ ِذي َخلَ َق * َخلَ َق‬ ‫اس ِم َربِّ َ‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم يردد اإلجابة‪ ،‬مث قال له امللك ﴿ ا ْقَرأْ بِ ْ‬
‫ك اأْل َ ْكَر ُم * الَّ ِذي َعلَّ َم بِالْ َقلَ ِم * َعلَّ َم اإْلِ نْ َسا َن َما مَلْ َي ْعلَ ْم ﴾‬
‫اإْلِ نْ َسا َن ِم ْن َعلَ ٍق * ا ْقَرأْ َو َربُّ َ‬
‫[العلق‪ ،]5-1 :‬اخلمس اآليات األول من سورة العلق‪ ،‬فنزل صلى اهلل عليه وسلم يرجف‬
‫فؤاده تتسابق خطواته يَ ْش ُك ُل عليه أمران‪ ،‬لذة املناجاة‪ ،‬واخلوف والفزع الذي‪ 9‬أصابه مما رآه‬
‫ألول وهلة‪.‬‬

‫حىت وصل إىل خدجية رضي اهلل عنه وأرضاها‪ ،‬فلما أخربها مبا رأى صدقته فأصبحت خدجية‬
‫أول خلق اهلل إميانًا برسولنا صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فأصبحت‪ 9‬خدجية أول هذه األمة إميانًا‬
‫برسولنا صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فضمته وهو يقول ( دثروين دثروين زملوين زملوين )‪ ،‬وملا‬
‫أبدا‪ ،‬مث هذا‬ ‫أخربها اخلرب كانت تعلم أن باطنه وظاهره سواء‪ :‬فقالت‪ :‬واهلل ال خيزيك اهلل ً‬
‫اليمني استدلت عليه بدالئل‪ ،‬قالت‪ :‬إنك لتعني على نوائب احلق وحتمل الكل وتُقري الضيف‪،‬‬
‫أهل للنبوة عليه‬ ‫وأخذت تُعدد ما تراه وما تُشاهده من زوجها صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬وأنه ٌ‬
‫الصالة والسالم فلم تُفاجأ أنه سيُنبأ ملا علمت رضي اهلل عنها وأرضاها وهي تعاشره وختالطه‬
‫جل وعال عليها قبل أن يُنبأ‪.‬‬
‫ويأوي إليها من عظيم صفاهتا وجليل مناقبه اليت فطره اهلل ّ‬
‫شيء ثقيل مُي سك جوارحه حىت تقل وحشته‪ ،‬فكانت بدهيًا أن‬ ‫اإلنسان إذا خاف حيتاج إىل ٍ‬
‫جل‬
‫يقول ( زملوين زملوين دثروين دثروين ) ألن اخلوف بلغ به مبلغا‪ ،‬فدثرته خدجية فأنزل اهلل ّ‬
‫وعال عليه قوله ﴿ يَاأَيُّ َها الْ ُمدَّثِّ ُ‪9‬ر * قُ ْم فَأَنْ ِذ ْر ﴾ [املدثر‪ ]2 ،1 :‬و ﴿ يَا أَيُّ َها الْ ُمَّز ِّم ُل * قُ ِم اللَّْي َل‬
‫إِاَّل قَلِياًل ﴾ [املزمل‪،]2 ،1 :‬‬
‫فأخذ صلى اهلل عليه وسلم يدعو إىل ربه‪.‬‬
‫حلكمة إهلية‪ ،‬ملا انقطع الوحي لفرتة ذهب اخلوف وبقيت لذة املناجاة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫مث انقطع الوحي فرت ًة‬
‫فأصبح صلى اهلل عليه وسلم يف أعظم الشوق للمناجاة‪ ،‬فلما جاءه الوحي مر ًة أُخرى بالقرآن‬
‫كان صلى اهلل عليه وسلم يف أكمل حال يبلغ رسالة ربه على أكمل وجه‪.‬‬

‫مث قال املصنف أنه عاش مبكة ثالثة عشر سنة هذا هو الصحيح‪ ،‬وغريه شاذٌّ ال يُ ّ‬
‫عول عليه‪ ،‬ويف‬
‫املدينة عشر سنني بعد أن هاجر إليها صلوات اهلل وسالمه عليه‪.‬‬

‫الصالة أعظم فرائض الدين‪ ،‬وكان صلى اهلل عليه وسلم يُصلي قبل أن تُفرض عليه الصلوات‬
‫اخلمس –على األظهر‪ 9-‬ركعتني قبل الغروب وركعتني قبل طلوع الشمس‪ ،‬وكان يُصلي بني‬
‫الركنني اليمانيني‪ ،‬فاإلنسان إذا وقف بني الركنني اليمانيني واستقبل القبلة يُصبح بيت املقدس‬
‫واحد قد مجع بني استقبال بيت املقدس ألنه مشال‬ ‫آن ٍ‬ ‫أمامه‪ ،‬فيكون صلى اهلل عليه وسلم يف ٍ‬
‫مكة‪ ،‬وما بني استقبال الكعبة‪ ،‬يعين مل جيعل الكعبة وراء ظهره‪ ،‬فكان يصلي على هذه احلال‪.‬‬
‫مث فُرضت عليه الصلوات اخلمس يف رحلة اإلسراء واملعراج‪ ،‬مث هاجر إىل املدينة فمكث فيها‬
‫َّك‬ ‫ب َو ْج ِه َ‬
‫ك يِف َّ‬
‫الس َما ِء َفلَُن َولَِّين َ‬ ‫جل وعال قوله ﴿ قَ ْد َنَرى َت َقلُّ َ‬
‫شهرا مث أنزل اهلل ّ‬ ‫ستة عشر ً‬
‫ك َشطَْر الْ َم ْس ِج ِد احْلََر ِام ﴾ [البقرة‪ ،]144 :‬فوىل النيب صلى اهلل عليه‬ ‫اها َف َو ِّل َو ْج َه َ‬
‫ضَ‬
‫ِ‬
‫قْبلَةً َتْر َ‬
‫وسلم شطر املسجد احلرام‪ ،‬وعلى هذا يُفهم أن ما يُنقل من أن النيب صلى اهلل عليه وسلم ملا‬
‫أراد أن يبين املسجد جاءه جربيل فمحى ما بينه وبني مكة حىت رأى الكعبة فجعل القبلة عليها‬
‫غير صحيح‪ ،‬ألن النيب صلى اهلل عليه وسلم ملا بىن املسجد كانت قبلته جهة الشمال‪ ،‬ومل تكن‬
‫شهرا‪ ،‬لكن إن قيل أن هذا حصل بعد‬
‫جهة مكة جهة اجلنوب‪ ،‬وإمنا بُدل هذا بعد ستة عشر ً‬
‫التبديل فرمبا يكون له وجهٌ من النظر‪.‬‬

‫هجرته صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬


‫(مث هاجر إىل املدينة ومعه أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه وموىل أيب بكر عامر بن فهرية‪،‬‬
‫ودليلهم عبد اهلل بن األريقط الليثي‪ ،‬وهو كافر ومل يعرف له إسالم‪.‬وأقام باملدينة عشر سنني )‬

‫صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬ذكر لنا املصنف هنا هجرته إىل املدينة‪ ،‬النيب عليه الصالة والسالم ملا‬
‫أرض ذات خنل‪ ،‬فجاء يف ظنه أهنا أرض هجر ـ‬ ‫اشتد عليه أذى الكفار‪ 9‬رأى رؤيا أنه يهاجر يف ٍ‬
‫خنل بني حضرتني‪ ،‬فهاجر إليه عليه‬ ‫األحساء ـ ‪ ،‬مث استبان له عليه الصالة والسالم أهنا املدينة ٌ‬
‫الصالة والسالم‪ .‬واهلجرة قصتها معروفة‪ ،‬لكن الذي‪ 9‬يعنينا يف اهلجرة كدرس أن يُعلم أن النيب‬
‫مقام‬
‫نيب له ٌ‬ ‫نيب يُقتدى به‪ ،‬وأمور تتعلق بكونه ٌ‬ ‫أمور تتعلق بكونه ٌ‬‫صلى اهلل عليه وسلم هناك ٌ‬
‫مقام عند اهلل ال عالقة لنا به من حيث االقتداء‪،‬‬
‫نيب له ٌ‬‫عظيم عند اهلل‪ ،‬فما كان يتعلق بكونه ٌ‬
‫ٌ‬
‫جل‬
‫وما يتعلق بكونه نبيًا يُقتدى به هذا الذي لنا عالقةٌ به‪ ،‬وحىت تتضح الصورة نقول أن اهلل ّ‬
‫برهة من الليل من املسجد احلرام إىل املسجد األقصى‪ ،‬وعرج به يف نفس‬ ‫وعال أسرى به يف ٍ‬
‫جل‬
‫الليلة إىل السماوات السبع‪ ،‬وعاد به ليلتها‪ ،‬وألهنا رحلةٌ ال يتعلق هبا اقتداءٌ‪ 9‬جعلها اهلل ّ‬
‫وعال رحلة خارجة عن نطاق البشر‪ ،‬ولذلك ملا يتعلق برفيع مقامه‪ ،‬وال نؤمر حنن بالعروج‪ .‬أما‬
‫نيب يُقتدى به‪ ،‬فلما كان النظر إليه صلى اهلل عليه وسلم هنا على أنه‬ ‫اهلجرة فتتعلق بكونه ٌ‬
‫أمرا بشريًا حبتًا أخذ له صلى اهلل عليه وسلم األسباب‬ ‫يُقتدى به يف هذا األمر كانت الرحلة ً‬
‫اليت يأخذها البشر عادةً فتخفى‪ ،‬ووارى‪ 9،‬وخرج يف اجلهة اليت ال يُعتقد أنه سيخرج إليها‪،‬‬
‫أياما‪ ،‬وأمر من ميسح آثاره بعد صعوده‬ ‫وجعل عليًا مكانه على الفراش‪ ،‬واختفى يف الغار‪ 9‬ثالثة ً‬
‫معنوي مع‬
‫ٌ‬ ‫وزاد‬
‫زاد مادي‪ٌ ،‬‬ ‫ووضع‪ 9‬له الطعام يُذهب به إليه ومل ميت من اجلوع‪ٌ ،‬‬ ‫إىل اجلبل‪ُ ،‬‬
‫كافر يدله‬
‫دليل ٌ‬‫يوما يف الطريق معه ٌ‬ ‫اهلل‪ ،‬وجلس يف الغار ثالثة أيام‪ ،‬مث مكث تقريبًا أحد عشر ً‬
‫على الطريق‪ ،‬ومعه موىًل أليب بك ٍر يعينه يف الطعام والشراب‪ ،‬ومعه صاحبه رضي اهلل تعاىل عنه‬
‫أسباب مادية‪ ،‬ولو استغىن عن األسباب أح ٌد الستغىن عنها رسولنا صلى‬
‫ٌ‬ ‫وأرضاه‪ ،‬فهذه كلها‬
‫اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫والناس يف هذا الباب على ثالثة ٍ‬
‫فرق‪ ،‬فرقة ترتك األخذ باألسباب كليةً وتقول‪ :‬جنو ٌن منك أن‬
‫باطل ال تدل السنة عليه‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫تسعى لرزق ويُرزق يف غياهبه اجلنني وهذا ٌ‬
‫أبدا‪ ،‬وإمنا تنظر إىل املاديات‪ ،‬وهو ما متليه العلمانية املعاصرة‪ .‬وفرقةٌ هداها‬
‫وفرقةٌ ال تعرف اهلل ً‬
‫اهلل لإلميان وإىل سنة نبيه صلى اهلل عليه وسلم فتأخذ باألسباب وتعتمد على امللك الغالب جل‬
‫شأنه‪ ،‬وهذا هو هديه صلوات اهلل وسالمه عليه حىت يقتدي الناس به عليه الصالة والسالم‪،‬‬
‫هذه هي القضية األوىل‪.‬‬

‫القضية الثانية باهلجرة أن الصحابة رضي اهلل تعاىل عنهم يف أيام أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب‬
‫رضي اهلل تعاىل عنه كانت الوالة تكتب لعمر فريد عليها حصل هذا يف شعبان‪ ،‬حصل هذا يف‬
‫رمضان‪ ،‬حصل هذا يف شوال‪ ،‬فكتبت الوالة األمراء العمال الذين لعمر كتبوا له إننا ال نفهم‬
‫منك‪ ،‬أي ٍ‬
‫شوال تقصد؟ أي شعبان‪ ،‬فلو جعلت لنا شيئًا نفيء إليه نؤرخ‪.‬‬

‫فاجتمع رضي اهلل عنه اهلل مع الصحابة واختاروا أن خيتاروا حدثًا يُرخون به‪ ،‬فنظروا يف ثالثة‬
‫أمور‪ ،‬مولد النيب عليه الصالة والسالم‪ ،‬وهجرته‪ ،‬ووفاته‪ ،‬فأعرضوا عن املولد‪ ،‬وأعرضوا عن‬
‫يوم فرق اهلل به بني احلق والباطل وأقام به بعده دولة‬
‫الوفاة‪ ،‬واختاروا‪ 9‬اهلجرة ورأوها أهنا ٌ‬
‫اإلسالم‪ ،‬وكان هذا مشورة من عل ٍي رضي اهلل تعاىل عنه وأرضاه‪ ،‬وأقره عمر‪ ،‬مث أمجع‬
‫املسلمون عليه‪ ،‬وهذا من أعظم الدالئل‪ 9‬على عظيم حدث اهلجرة يف التاريخ اإلسالمي‪.‬‬
‫واستعانة النيب صلى اهلل عليه وسلم بعبد اهلل بن أرقيط –على رواية وعبد اهلل بن أريقد بالدال‬
‫على رواية‪ ،‬وال يعنينا هذا االختالف‪ -‬داللة على أن املؤمن يستعني مبا ميكن االستعانة به إذا‬
‫احتاج إليه إذا كان املقصود نصرة دين الرب تبارك وتعاىل‪.‬‬
‫وفاته صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫(وتويف وهو ابن ثالث وستني‪ .‬وقيل‪ :‬مخس وستني‪ .‬وقيل ستني‪ ،‬واألول أصح‪.‬وتويف صلى اهلل‬
‫عليه وسلم يوم االثنني حني اشتد الضحى لثنيت عشرة ليلة خلت من شهر ربيع األول‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫لليلتني خلتا منه‪ ،‬وقيل‪ :‬الستهالل شهر ربيع األول‪ .‬ودفن ليلة األربعاء‪ ،‬وقيل‪ :‬ليلة الثالثاء )‬

‫السن اليت مات فيها صلى اهلل عليه وسلم كانت ثالثًا وستني‪ ،‬هذه هي الروايات الصحيحة‪،‬‬
‫وتوجد روايات يف الصحيح أنه كان ابن ٍ‬
‫مخس وستني‪ ،‬لكن الصواب أن هذه روايةٌ شاذة يف‬
‫متنها وإن كانت مثبتةٌ يف أحد الصحيحني‪ ،‬قال هذا بعض العلماء‪ ،‬وقال بعضهم إنه ميكن‬
‫اجلمع بأن العرب تتجاوز عن الكسر‪ ،‬هذه العبارة أن العرب تتجاوز عن الكسر ميكن إمرارها‬
‫على القول يف رواية بأنه مات ابن ستني سنة‪ ،‬ميكن أن نقول إن من قال إنه مات وهو ابن‬
‫ستني مل يقصد هبا‪ .‬أما القول على أنه مات وهو ابن مخس وستني صلوات اهلل وسالمه عليه‬
‫فال ميكن خترجيها إال أن تُرد الرواية‪ ،‬ألنه ال ميكن اجلمع ما بني القول بأنه مات وهو ابن ثالث‬
‫وستني ومات وهو ابن مخس وستني‪ ،‬وأكثر الروايات الصحيحة واليت دلت عليها الروايات‬
‫املتعددة وأشياء أخرى وقرائن ُكثر على أنه مات صلى اهلل عليه وسلم وهو ابن ٍ‬
‫ثالث وستني‬
‫سنة‪.‬‬

‫يوما‪.‬وغسله علي بن أيب طالب‪ ،‬وعمه‬


‫يوما‪ ،‬وقيل‪ :‬أربعة عشر ً‬
‫( وكانت مدة علته اثين عشر ً‬
‫العباس‪ ،‬والفضل بن العباس‪ ،‬وقثم بن العباس‪ ،‬وأسامة بن زيد‪ ،‬وشقران مولياه‪ ،‬وحضرهم‬
‫أوس بن خويل األنصاري‪) 9‬‬

‫هذا ما يتعلق بوفاته صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬واعلم أن األمة مل تُصب ٍ‬
‫بشيء أعظم من وفاته عليه‬
‫الصالة والسالم‪ ،‬ولذلك قال ( تعزوا عن مصائبكم مبصيبيت )‪ ،‬واحلديث عن وفاته صلى اهلل‬
‫لزم باحلديث عنه وفق املنت‪ ،‬مث أتكلم عن‬
‫عليه وسلم حيرك القلوب ويثري الشجون‪ 9،‬ولكنين ُم ٌ‬
‫احلديث عنه إمجاال‪.‬‬

‫ذكر املصنف رمحه اهلل تعاىل االختالف يف مدة مرضه عليه الصالة والسالم وذكر منها ثالثة‬
‫يوما‪ ،‬واحلق أن مدة مرض الوفاة عشرة أيام‪ ،‬وإن‬‫يوما أو اثين عشر ً‬
‫يوما أو أربعة عشر ً‬
‫عشر ً‬
‫كان األمر يف هذا واسع بغري التحديد‪ 9‬يف بداية املرض‪ ،‬واحملفوظ أنه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬كان‬
‫بصداع يف الرأس ومُحّى أصابته معها‪ ،‬مث‬
‫ٍ‬ ‫راجع من جناز ٍة من البقيع‪ ،‬شعر‬
‫أول ما اشتكى وهو ٌ‬
‫ملا دخل بيته وجد عائشة قد عصبت رأسها تقول وارأساه‪ ،‬فقال ( بل أنا وارأساه )‪ ،‬هذا أول‬
‫ما اشتكى املرض صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬وهذا يف آخر صفر وأول ربي ٍع األول‪.‬‬

‫علي والعباس وقثم‬


‫مث ذكر املصنف رمحه اهلل تعاىل أن الذين تولوا غسله عليه الصالة والسالم ٌّ‬
‫والفضل وشقران وأسامة بن زيد وحضره أوس بن خويل‪ ،‬هذا فيه تفصيل‪ ،‬اإلنسان امليت أوىل‬
‫الناس به أهل بيته‪ ،‬والنيب صلى اهلل عليه وسلم توىل أهل بيته وعصبته من بين هاشم أمر غسله‪،‬‬
‫علي رضي اهلل تعاىل عنه وأرضاه‪ ،‬أسند النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫والذي‪ 9‬باشر الغسل مباشرةً ٌ‬
‫لعلي عمه العباس وابنا‬
‫ميت إىل صدره‪ ،‬والذي كان يقلب النيب عليه الصالة والسالم ٍّ‬ ‫وهو ٌ‬
‫قثم والفضل‪ ،‬هذان ابنا العباس بن عبد املطلب عم النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬والذي‪9‬‬
‫العباس ٌ‬
‫كان يصب املاء أسامة بن زيد رضي اهلل تعاىل عنه وشقران –وامسه صاحل‪ ،-‬وسيتكرر شقران‬
‫هذا مرةً بامسه ومرة بلقبه‪ ،‬امسه صاحل ولقبه شقران موىل النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫علي رضي اهلل عنه يف غسل نبينا صلى اهلل عليه وسلم ناداه أوس بن خويل من‬
‫قبل أن يشرع ٌ‬
‫بين ٍ‬
‫عوف من اخلزرج من خلف الدار‪:‬يا علي أنشدك اهلل وحظنا من رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫علي رضي اهلل عنه ألن زمام األمر بيده وبيد بين هاشم‪،‬‬
‫وسلم إال أدخلتين أشهد غسله‪ ،‬فوافق ٌّ‬
‫ألن القضية اآلن قضية عصبة وليست قضية صحبة‪ ،‬ولذلك ال دخل أليب بك ٍر وال عمر‪ ،‬فأذن‬
‫فأوس شهد‬ ‫علي ٍ‬
‫ألوس أن يدخل وأن جيلس دون أن يُباشر غسل النيب عليه الصالة والسالم‪ٌ ،‬‬ ‫ٌّ‬
‫الغسل لكنه مل يشارك فيه‪ ،‬شهده رغبةً منه رضي اهلل عنه وأرضاه أن حيظى بأن يكون ممن‬
‫يشهد غسل نيب األمة صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫علي فقط‪ ،‬والقثم‪ 9‬والفضل وأبوهم العباس يقلبون النيب عليه‬


‫وقلت إن الذي‪ 9‬باشر الغسل ٌ‬ ‫ُ‬
‫وعلي مسن ٌد رسول اهلل إىل صدره من غري‬
‫الصالة والسالم‪ ،‬وشقران وأسامة يصبان املاء‪ٌّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫جتريد من ثيابه وبيده خرقة يغسل هبا النيب عليه الصالة والسالم وهو يقول ما أطيبك يا رسول‬
‫اهلل حيًّا وميتا‪ .‬هذا ما ذكره املصنف يف غسل نبينا صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫( وكفن يف ثالثة أثواب بيض سحولية من ثياب سحول – بلدة باليمن – ليس فيها قميص‬
‫وال عمامة‪ .‬وصلى عليه املسلمون أفذا ًذا‪ ،‬مل يؤمهم عليه أحد )‬

‫ذكر املصنف بعد ذلك أنه ملا فرغوا من غسله كفنوه‪ ،‬و ُكفن عليه الصالة والسالم يف ثالثة‬
‫أثواب سحولية –بلدةٌ يف اليمن‪ ،9-‬والثياب كانت من قطن‪ ،‬ولذلك جاءت يف بعض الروايات‬ ‫ٍ‬
‫أهنا من كرسف‪ ،‬والكرسف هو القطن‪ ،‬فكفن عليه الصالة والسالم يف ثالثة أثواب‪ ،‬أدرج‬
‫ثياب‪ ،‬مث شرع املسلمون يصلون عليه‪ ،‬والناس‬ ‫فيها إدراجا دون أن خيلعوا ما كان عليه من ٍ‬
‫ً‬
‫اآلن يصلون على امليت مجاعةً خلف إمام كما صلى النيب عليه الصالة والسالم على أموات‬
‫املسلمني يف حياته‪ ،‬صفهم‪ 9‬ملا صلى على النجاشي‪ ،‬وصفهم‪ 9‬ملا صلى على غريه‪ ،‬لكن الصحابة‬
‫أفرادا‪،‬‬
‫رضي اهلل عنهم مل يصلوا على النيب عليه الصالة والسالم خلف إمام‪ ،‬وإمنا صلوا عليه ً‬
‫شخص يُصلي لوحده من غري إمام‪ .‬والروايات مجلة‬ ‫ٍ‬ ‫هذا معىن أفراد ‪ ،‬هذا معىن أفذا ًذا ‪ ،‬كل‬
‫تدل على أن أول من صلى عليه عمه العباس لكون كبري بني هاشم وعم النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬مث أخذوا يصلون عليه عشرة عشرة‪ ،‬فصلى عليه أول األمر بنو هاشم آله عليه الصالة‬
‫والسالم‪ ،‬مث صلى عليه املهاجرون‪ ،‬مث صلى عليه األنصار‪ ،‬مث صلى عليه باقي الناس‪ ،‬مث صلى‬
‫عليه النساء مث الصبيان‪ ،‬وقيل الصبيان مث النساء‪ ،‬واملقصود املتفق عليه أهنم مل يصلوا عليه‬
‫أفرادا‪.-‬‬
‫خلف إمام‪ ،‬وإمنا صلوا عليه أفذا ًذا –أي ً‬
‫واختلف العلماء يف العلة اليت من أجلها صلى املسلمون الصحابة على نبيهم صلى اهلل عليه‬
‫وسلم هبذه الطريقة‪ ،‬وقيل يف هذه أجوبة‪ ،‬قيل إن هذا من باب التعبد الذي‪ 9‬ال يُعقل معناه‪ ،‬لك‬
‫أمجل األجوبة اليت قيلت ما قاله أبو عبد اهلل اإلمام الشافعي‪ 9‬رمحه اهلل أنه قال إن الصحابة صلوا‬
‫على النيب صلى اهلل عليه وسلم أفذا ًذا لعظيم قدره وعلى أنه ال ميكن أن يأمهم عليه أحد‬
‫ملنافستهم‪ 9‬على أنه يأمهم عليه أحد‪ ،‬يعين استعظموا أن يأمهم أح ٌد وهم يصلون على نبيهم‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ولعظيم قدره‪ ،‬هذا تعليل الشافعي‪ 9‬رمحه اهلل‪ ،‬وقال غريه –وال تعارض بني‬
‫أفرادا‪ ،‬تكثر‬
‫تعليل الشافعي وتعليل غريه‪ -‬أنه حىت تكثر الصالة عليه لكثرة من يصلي عليه ً‬
‫فردا ‪ .‬هذا من إكثار‬‫فردا ً‬
‫الصالة عليه مجاعةً بعد مجاعة‪ ،‬عشر ًة بعد عشر ًة‪ ،‬كلهم يصلي عليه ً‬
‫الصالة عليه عليه الصالة والسالم‪ ،‬وقيل حىت تكون الصالة فردية من املصلي إليه صلوات اهلل‬
‫وسالمه عليه‪.‬‬

‫كل هذه أجوبة ذكرها العلماء يف سبب أن الصحابة رضي اهلل عنهم مل يصلوا على النيب صلى‬
‫إمام واحد‪ ،‬وقلنا إن األمر املتفق عليه أهنم مل يصلوا عليه خلف ٍ‬
‫إمام‬ ‫اهلل عليه وسلم خلف ٍ‬
‫واحد‪.‬‬
‫مجموعة فوائد ‪ -‬فصل في أوالده ‪:‬‬
‫كنا قد ذكرنا شيئًا من نسبه عليه الصالة والسالم ومولده وهجرته‪ ،‬مث انتهينا إىل وفاته صلوات‬
‫اهلل وسالمه عليه‪ ،‬وذكرنا مجلةً من الفوائد‪ 9‬لعله قد يكون من املناسب استحضار بعضها‪ ،‬فإننا‬
‫ذكرنا زواجه عليه الصالة والسالم من خدجية بنت خويلد‪ ،‬وقلنا إن هذه الصحابية اجلليلة أم‬
‫ببعض من اخلصائص‪ ،‬منها من انفردت به عن أمهات املؤمنني‪،‬‬ ‫جل وعال ٍ‬ ‫خصها اهلل ّ‬
‫املؤمنني ّ‬
‫ومنها ما انفردت به عن نساء العاملني أمجعني‪،‬‬

‫فما الذي انفردت به عن أمهات املؤمنني؟‬

‫أحدا يف حياهتا‪.‬‬
‫أوال‪ :‬أن النيب صلى اهلل عليه وسلم مل يتزوج عليها ً‬
‫جل وعال رزقه منها الولد‪ .‬هذا من انفردت به عن أمهات املؤمنني‪ ،‬مث قلنا إن‬ ‫والثانية‪ :‬أن اهلل ّ‬
‫هلا خصيصة ليست ٍ‬
‫ألحد من نساء العاملني‪ ،‬أن اهلل أمر جربيل أن يُبلغها السالم‪ ،‬وهذه‬
‫اخلصيصة مل تكن ٍ‬
‫ألحد –فيما نعلم‪ -‬من نساء العاملني‪.‬‬
‫حدث يتعلق بشخصيته صلى اهلل عليه وسلم كقدوة‪ ،‬وقلنا ما كان‬ ‫مث إننا ذكرنا أن اهلجرة ٌ‬
‫يتعلق به كقدوة هذا الذي‪ 9‬حُي تذى به‪ ،‬أما ما كان ال يتعلق به كقدوة فهذا يُعلم ويُعرف له‬
‫قدره عليه الصالة والسالم‪ ،‬لكن األمة غري ٍ‬
‫ملزمة به‪ ،‬وذكرنا على هذا مثاال حادثة اإلسراء‬
‫واملعراج‪.‬‬

‫كما أننا تكلمنا عن أيب طالب‪ ،‬وقلنا إنه ناصر النيب عليه الصالة والسالم وعضده وكان معه‬
‫قريش النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وذكرنا أنه يتعلق بنصرة‬
‫يف شعب بين هاشم حينما حاصرت ٌ‬
‫أيب ٍ‬
‫طالب للنيب عليه الصالة والسالم فوائد ذكرنا منها فائدتني‪:‬‬
‫• أن اإلنسان يستخدم الوسائل التارخيية املتاحة إذا كان يف ذلك نُصرةً لإلسالم‪.‬‬
‫• والثانية اهلداية‪ ،‬وقلنا إن كون أيب ٍ‬
‫طالب رغم نصرته للنيب عليه الصالة والسالم مل‬
‫جل وعال أن يثبتنا‬
‫يُرزق اهلداية يدل على أن اهلداية بيد الرب تبارك وتعاىل‪ ،‬ونسأل اهلل ّ‬
‫وإيّاكم على هديه‪.‬‬

‫( وفرش حتته قطيفة محراء كان يتغطى هبا )‬

‫كثريا من أصحابه‬
‫األصل أن امليت ال يُفرش له شيءٌ يف قربه‪ ،‬دفن النيب صلى اهلل عليه وسلم ً‬
‫ماتوا يف حياته ومل يُنقل أنه أُدخل معهم يف قربهم شيءٌ‪ ،‬ولكن هذه القطيفة كان عليه الصالة‬
‫والسالم يفرشها وجيلس عليها ويلبسها أحيانًا‪ ،‬فأنزهلا شقران الذي‪ 9‬هو صاحل مواله معه يف‬
‫القرب‪ ،‬مث فرشها وجعل النيب عليه الصالة والسالم عليها‪ ،‬وأصل هذا الكالم الذي ذكره‬
‫املصنف يف صحيح مسل ٍم من حديث ابن عبّاس‪.‬‬

‫على هذا تتحرر مسألة هل جيوز أن يُفرش حتت امليت قطيفة أم ال؟‬

‫قال بعض العلماء يف اإلجابة عن هذا وحكاه النووي عن اجلمهور أنه يُكره فعله وأن شقران‬
‫فعلها دون علم الصحابة ألنه كره –أي شقران‪ -‬أن يلبسها أح ٌد بعد نبينا صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪.‬‬

‫وهذا التعليل الذي‪ 9‬ذكره النووي‪ 9‬رمحه اهلل غري صحيح‪ ،‬أو بتعب ٍري أصح ضعيف‪ ،‬ألننا نقول إن‬
‫قدرا لشقران أن يضع هذه‬ ‫جل وعال ال خيتار لنبيه إال األفضل‪ ،‬فما كان اهلل ليسمح ً‬ ‫اهلل ّ‬
‫القطيفة حتت النيب صلى اهلل عليه وسلم واهلل يكره ذلك‪ ،‬ألن النيب عليه الصالة والسالم يكفله‬
‫ربه ويرعاه وحيفظه وحُي يطه بعنايته حيًا وميتًا‪ ،‬فينجم عن هذا خترجيًا أسهل فنقول إنه يُكره بل‬
‫قد يصل أحيانًا إىل حد املنع أن يوضع حتت أي ميّت قطيفة محراء أو قطيفة من أي نوع‪ ،‬وإمنا‬
‫هذه خاصة بالنيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فإن قال قائل ما وجه اخلصوص هنا‪ ،‬قلنا إن النيب صلى‬
‫حرم اهلل عليها أن تأكل أجساد األنبياء‪ ،‬فألن األرض‪ 9‬ال تأكل‬
‫اهلل عليه وسلم أخرب أن األرض‪ّ 9‬‬
‫قدرا لشقران أن يضع هذه القطيفة حتت نبينا صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫جسده أذن اهلل ً‬
‫وهبذا ميكن ختريج املسألة بأن اهلل ال خيتار لنبيه إال األفضل‪ ،‬وأن هذا من خصائصه‪ ،‬وممن نص‬
‫من العلماء على أن هذه خصيصةٌ للنيب صلى اهلل عليه وسلم وكيع بن اجلراح احملدث املشهور‪،‬‬
‫فوكيع نص على أهنا خصيصة للنيب صلى اهلل عليه‬
‫ٌ‬ ‫شيخ كثري من السلف كاإلمام أمحد وغريه‪،‬‬
‫وسلم‪ ،‬وهبذا يظهر لنا أنه ينجلي اإلشكال يف املسألة‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫ودفن يف املوضع‬
‫( ودخل قربه العباس وعلي والفضل وقثم وشقران‪ ،‬وأطبق عليه تسع لبنات‪ُ ،‬‬
‫الذي توفاه اهلل فيه حول فراشه‪ ،‬وحفر له وأحلد يف بيته الذي‪ 9‬كان بيت عائشة‪ ،‬مث دفن معه أبو‬
‫بكر وعمر – رضي اهلل عنهما ‪) -‬‬

‫وقثم‬
‫أما كون من نزل معه القرب فقد ذكر املصنف رمحه اهلل أنه نزل القرب مخسة‪ ،‬العباس ٌ‬
‫وعلي وصاحلٌ مواله الذي هو شقران‪ ،‬وهذا روايةٌ أضعف والصحيح أن الذي‬ ‫والفضل ٌ‬
‫نزل القرب أربعةٌ فقط ليس منهم العباس‪ ،‬ذكر املقدسي رمحه اهلل يف هذا أن العبّاس منهم‬
‫قثم والفضل ابنا العبّاس‬
‫كما ذكره النووي‪ 9،‬لكن الصحيح أن الذي‪ 9‬نزل القرب أربعة هم ٌ‬
‫وعلي ومواله شقران‪ ،‬هؤالء األربعة الذين تولوا‪ 9‬نزول قربه وإجنانه –‬
‫بن عبد املطلب ٌّ‬
‫أي سرته صلى اهلل عليه وسلم – دون الناس‪ ،‬هؤالء الذين نزلوا القرب‪.‬‬

‫حلدا كما هو صنيع أهل‬ ‫مث وضعت عليه تسع ٍ‬


‫لبنات‪ ،‬وقبلها كانوا قد اختلفوا هل يلحدون له ً‬ ‫ُ‬
‫املدينة‪ ،‬أما جيعلون القرب ش ًقا كما هو صنيع أهل مكة‪ ،‬فبعثوا إىل االثنني وقالوا‪ :‬اللهم ِخر‬
‫لنبيك –أي اخرت لنبيك‪ ،-‬فالذي‪ 9‬ذهب ليأيت باحلفار الذي يشق مل يأت ومل جيده‪ ،‬والذي‬
‫حلدا يف القرب‪ 9-‬جاء وحفر القرب‬
‫ذهب إىل بيت أيب طلحة وكان يلحد ألهل املدينة ‪-‬أي يضع ً‬
‫للنيب عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫وقبل أن حيفروا القرب اختلوا أين يُدفن‪ ،‬وهذا أحد أسباب تأخري دفن النيب صلى اهلل عليه‬
‫أسباب أخرى‪ ،‬هذا أحد األسباب اليت‬‫ٌ‬ ‫وسلم‪ ،‬وعندما أقول أحد األسباب يدل على أن هناك‬
‫دعت الصحابة إىل أن يتأخروا يف دفن النيب صلى اهلل عليه وسلم حىت قال أبو بك ٍر رضي اهلل‬
‫نيب إال ُدفن حيث يُقبض )‪ ،‬وهذا القول‬‫عنه مسعت النيب صلى اهلل عليه وسلم يقول ( ما مات ٌّ‬
‫صح القول‪ 9-‬يقودنا –من باب االستطراد العلمي‪ -‬ملعرفة‬‫أحد خصائص األنبياء‪ ،‬وهذا –إن ّ‬
‫بعض خصائص األنبياء كفوائد‪9.‬‬

‫جل وعال جعل لألنبياء خصائص نذكرها إمجاال‪:‬‬


‫اهلل ّ‬
‫• منها الوحي‪ ،‬وهو أعظم خصائص األنبياء‪ ،‬الوحي الذي‪ 9‬هو أعظم خصيحة فرق اهلل هبا بين‬
‫األنبياء وغريهم من الناس‪.‬‬

‫• األمر الثاين أهنم خُي ريون عند املوت‪.‬‬

‫• األمر الثالث أهنم يُدفنون حيث ميوتون‪.‬‬

‫• األمر الرابع أن األرض ال تأكل أجسادهم‪.‬‬

‫مجيعا رعوا الغنم‪ ،‬قال عليه الصالة والسالم كما يف حديث جابر ( وما‬ ‫• األمر اخلامس أهنم ً‬
‫من ن ٍيب إال رعاها )‪ ،‬ملا جىن معهم ال َكبَاث قال ( عليكم باألسود منه فإنه أطيبه )‪ ،‬قالوا‪ :‬يا‬
‫رسول اهلل كأنك كنت ترعى الغنم‪ ،‬قال ( وهل من ن ٍيب إال رعاها‪ ،‬كنت أرعاها على قراريط‬
‫ألهل مكة )‪.‬‬

‫• األمر السادس أنه تنام أعينهم وال تنام قلوهبم‪.‬‬


‫استطرادا‪ ،‬وجاء معنا أن‬
‫ً‬ ‫هذه ستةٌ من خصائص أنبياء اهلل صلوات اهلل وسالمه عليهم ذكرناها‬
‫النيب عليه الصالة والسالم ُدفن يف املوقع الذي مات فيه –أي يف حجرة عائشة‪ ،-‬وهذا مما‬
‫تواترا بني املسلمني وحترر أنه يف املكان املقبور فيه‪.‬‬
‫تناقل ً‬
‫مث قال املصنف ( مث دفن معه أبو بكر وعمر – رضي اهلل عنهما ‪) -‬‬

‫أبو بك ٍر وعمر ُدفنا يف نفس حجرة عائشة‪ ،‬وكانت عائشة رضي اهلل تعاىل عنها –وهذا من‬
‫الفوائد‪ 9‬وفرائد العلم‪ 9-‬قد رأت قبل أن ميوت النيب صلى اهلل عليه وسلم يف منامها أن ثالثة أهلة‬
‫أو أقمار سقطت يف حجرها‪ ،‬فذهبت إىل أبيها أيب بكر الصديق رضي اهلل تعاىل عنه وأرضاه‬
‫وقصت عليه الرؤيا وكان أبو بك ٍر مما يُعرب‪ ،‬فسكت عنها ومل جيبها أدبًا مع رسول اهلل صلى اهلل‬
‫ودفن يف حجرة عائشة جاء أبو بك ٍر إىل عائشة‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬فلما مات عليه الصالة والسالم ُ‬
‫وقال هلا "هذا أول أقمارك يا عائشة"‪ ،‬مث ُدفن أبو بك ٍر رضي اهلل عنه جبوار النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪.‬‬

‫وكانت عائشة رضي اهلل عنه تريد أن تدخر ما بقي من احلجرة هلا‪ ،‬فلما مات أمري املؤمنني‬
‫عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه قبل أن ميوت أرسل ابنه عبد اهلل يستأذن عائشة يف أن يُدفن ما‬
‫صاحبيه وقال‪ :‬قل هلا عمر بن اخلطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه‪ ،‬فدخل عليها عبد اهلل‬
‫وقال هلا‪ :‬عمر بن اخلطاب يستأذن أن يُدفن مع صاحبيه‪ ،‬فقالت‪ :‬ألوثرنه اليوم على نفسي‬
‫وقد كنت أدخره –أي املوضع‪ 9-‬لنفسي‪ ،‬فوافقت‪ ،‬فلما رجع عبد اهلل إىل أبيه كان عمر مازال‬
‫حيًّا طريح الفراش من طعنة أيب لؤلؤة اجملوسي‪ ،‬فلما دخل قال‪ :‬ما وراءك‪ ،‬يعين يسأل ما‬
‫اجلواب‪ ،‬قال عبد اهلل ابنه‪ :‬أبشر بالذي يسرك يا أمري املؤمنني فإهنا قد وافقت‪ ،‬فقال عمر رضي‬
‫علي من هذا األمر‪ ،‬أن يُدفن مع صاحبيه‪.‬‬ ‫أهم‬ ‫كان‬ ‫اهلل عنه‪ :‬واهلل ما من ٍ‬
‫شيء‬
‫ّ‬
‫مث ظهرت عدالة عمر جبالء فقال‪ :‬فإذا أنا مت فغسلوين وكفنوين مث استأذنوا يل منعائشة مرةً‬
‫حي‪ ،‬فلما مات عمر وغُ ِّسل و ُكفن‬
‫أُخرى فإنين أخاف أهنا وافقت يف األول استحياءً مين أنين ٌّ‬
‫حممول على أعناق الرجال‪ :‬عمر بن اخلطاب يستأذن أن يُدفن‬
‫ٌ‬ ‫وصلِّي عليه ومُح ل قيل هلا وهو‬
‫ُ‬
‫فدفن عمر مع النيب عليه الصالة والسالم‬
‫مع صاحبيه مر ًة أُخرى‪ ،‬فوافقت رضي اهلل عنها ُ‬
‫وصاحبه‪ ،‬وقال بعض املؤرخني بقي موضع مجلةٌ من الروايات تدل على أنه سيدفن فيه عيسى‬
‫أعز وأعلى وأعلم‪.‬‬
‫بن مرمي‪ ،‬واهلل تعاىل ُّ‬

‫قبل أن نُكمل هذا ما تقيدت به يف شرح النص الذي ارتبط باملنت‪ ،‬أما الكالم عن وفاته عليه‬
‫الصالة والسالم مجلةً فسأسردها إمجاال ُّمبينًا بعض ما فيها من فوائد‪ 9‬بعد أن انتهينا مبا يتعلق‬
‫أحدا أعظم من رسوهلم صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقد‬ ‫بذمتنا الشرعية حول النص‪ .‬مل يفقد الناس ً‬
‫جل وعال عليه قوله ﴿‬ ‫شعر صلى اهلل عليه وسلم بدنو األجل يف حجة الوداع ملا أنزل اهلل ّ‬
‫ت َعلَْي ُك ْم نِ ْع َميِت َو َر ِض ُ‪9‬‬ ‫ِ‬
‫يت لَ ُك ُم‬ ‫ت لَ ُك ْم دينَ ُك ْم َوأَمْتَ ْم ُ‬
‫الَْي ْو َم أَ ْك َم ْل ُ‬
‫اإْلِ ْساَل َم ِدينًا ﴾ [املائدة‪ ]3 :‬عرف صلى اهلل عليه وسلم أن األمر الذي بُعث من أجله قد مت‪،‬‬
‫فأخذ يودع الناس ويقول ( لعلي ال ألقاكم بعد عامي هذا )‪ ،‬فيخطب مث يقطع ويقول ( أيها‬
‫الناس لعلي ال ألقاكم بعد عامي هذا‪ ،‬وإنكم ستُسألون عين فما أنتهم قائلون )‪ ،‬فيجيبون‪:‬‬
‫نشهد أنك قد بلغت الرسالة وأديت األمانة ونصحت األمة‪ ،‬فريفع إصبعه الطاهر إىل السماء‪ 9‬مث‬
‫ينكتها إىل األرض‪ 9‬ويقول ( اللهم فاشهد‪ ،‬اللهم فاشهد )‪.‬‬

‫مث رجع إىل املدينة تشرف به الوهاد والنجاد يف حىت دخلها‪ ،‬يف آخر صفر وأول ربيع حضر‬
‫بصداع يف رأسه ومحَّى تُصيبه فدخل على عائشة فقالت‪ :‬وارأساه‪ ،‬فقال‬ ‫ٍ‬ ‫جنازةً فلما رجع شعر‬
‫( بل أنا وارأساه )‪ ،‬فلما شعر بدنو األجل خرج إىل شهداء أُحد فاستغفر هلم ودعا هلم‬
‫غالم له يُقال له أبو ُمويْهبة فأتى أهل البقيع فدعا هلم واستغفر‬ ‫كاملودع‪ ،‬مث خرج يف ليلة مع ٍ‬
‫هلم وقال ( لِيهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس‪ ،‬أقبلت الفنت كقطع الليل املظلم يتبع‬
‫شر من األوىل )‪ ،‬مث قال ( يا أبا ُمويْهبة إن اهلل خرَّي ين ما بني خزائن الدنيا‬
‫آخرها أوهلا‪ ،‬اآلخرة ٌّ‬
‫واخللد فيها مث اجلنة‪ ،‬وما بني لقاء ريب مث اجلنة فاخرتت لقاء اهلل مث اجلنة )‪ ،‬فقال له ُمويهبة‪ :‬يا‬
‫اخرتت لقاء اهلل مث‬
‫ُ‬ ‫نيب اهلل بأيب أنت وأمي اخرت اخللد يف الدنيا مث اجلنة‪ ،‬قال ( يا أبا ُمويْهبة إنين‬
‫اجلنة )‪.‬‬

‫يوما عاصبًا رأسه فخطب على املنرب وقال ( إن رجال خريه اهلل ما بني الدنيا‪ 9‬مث اجلنة‬‫مث خرج ً‬
‫وما بني لقاء اهلل مث اجلنة ) فقال أبو بك ٍر‪ :‬بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول اهلل‪ ،‬وجعل‬
‫يبكي فتعجب الناس من بكاء أيب بكر‪ ،‬مث قال عليه الصالة والسالم ( على ِرسلك يا أبا بكر )‬
‫ومدح وأثىن على أيب بك ٍر رضي اهلل تعاىل عنه كأنه يُشري إليه باخلالفة من بعده‪ ،‬مث قبل وفاته‬
‫حتررا من قيود الدنيا‪ ،‬مث مل‬
‫بيوم تص ّدق بالدنانري‪ ،‬تسعة أو سبعة كانت عنده‪ ،‬مث أعتق غلمانه ً‬
‫يُبق إال بغلته وسيفه وشيئًا يتجمل به األئمة وامللوك بعده‪.‬‬

‫مث إنه عليه الصالة والسالم يف يوم اإلثنني الذي مات فيه ُكشف ستار حجرة عائشة وأبو بكر‬
‫رضي اهلل تعاىل عنه يُصلي بالناس فأطل عليه الصالة والسالم‪ ،‬يقول أنس‪ :‬يتهلل وجهه كأنه‬
‫إمام ٍ‬
‫واحد يف صالهتا‪ ،‬فاقرتب الناس‬ ‫ورقة مصحف‪ ،‬وقرت عينه أن األمة اجتمعت بعده على ٍ‬
‫وكادوا أن يُفتنوا‪ ،‬مث أُعيد الستار كما كان ورجع صلى اهلل عليه وسلم إىل حجرته‪ ،‬وخرج‬
‫ٍ‬
‫بالسىن حوايل املدينة‪ ،‬وتفرق الناس على اخلري‪.‬‬ ‫أبو بك ٍر ً‬
‫فرحا إىل بيت له ُ‬
‫مث دخل عليه صلى اهلل عليه وسلم يف ذلك اليوم ابنته فاطمة فأسرها أنه سيموت يف مرضه هذا‬
‫كرب بعد اليوم )‪ ،‬مث إنه عليه الصالة‬
‫فبكت‪ ،‬مث قالت‪ :‬واكرب أبتاه‪ ،‬قال ( ليس على أبيك ٌ‬
‫والسالم دخل عليه أسامة وجعل يسأله الدعاء فدعا له دون أن يرفع صوته‪ ،‬وهو نيب األمة‬
‫ورأس امللة وسيد الفصحاء وإمام البلغاء‪ ،‬مث دخل عليه عبد الرمحن بن أيب بك ٍر ويف يد عبد‬
‫الرمحن سواك‪ ،‬فجعل حيرك النظر فيه دون أن يستطيع أن يطلبه من عبد الرمحن ففهمت‪ 9‬عائشة‬
‫مراده فأخذته من أخيها وقضمته وطيبته وأعطته نبينا عليه الصالة والسالم واستاك‪.‬‬

‫مث جاءه امللك خُي ريه‪ ،‬قال قبل أن خُي ري يضع يده يف ركوة فيها ماء وميسح هبا وجهه الطاهرة‬
‫الشريفة ويقول ( ال إله إال اهلل‪ ،‬اللهم إن للموت سكرات فأعين على سكرات املوت )‪ ،‬مث‬
‫جعل خُي ريه امللك وهو يقول ( مع الذين أنعمت عليهم من النبيني والصديقني والشهداء‪9‬‬
‫والصاحلني وحسن أولئك رفي ًقا )‪ ،‬وامللك خيريه وهو يقول ( بل الرفيق األعلى‪ ،‬بل الرفيق‬
‫األعلى‪ ،‬بل الرفيق األعلى )‪ ،‬قاهلا ثالثًا مث ماتت يده وفاضت روحه إىل أعلى عليني يف‬
‫امللكوت األعلى واحملل األسىن صلوات اهلل وسالمه عليه‪.‬‬

‫حسان‪:‬‬
‫قال ّ‬
‫بطيبة رسم للنيب ومعهد‪        ‬منري وهل متحو الرسوم وهتمد‬

‫هبا حجرات كان ينزل وسطها‪       ‬من اهلل نور يستضاء ويوقد‬

‫معامل مل تطمس على العهد آيها‪       ‬أتاها البلى فاآلي منها جتدد‬

‫وقربا به واراه يف الرتب ُملحد‬ ‫عرفت هبا رسم الرسول وصحبه‪ ‬‬

‫وهل عدلت يوما رزية هالك‪            ‬رزية يوم مات فيه حممد‪9‬‬

‫وما فقد املاضون مثل حممد‪            ‬وال مثله حىت القيامة يُفقد‬

‫صلى اإلله ومن حيف بعرشه‪       ‬والطيِّبون على املبارك أمحد‬


‫ُ‬
‫فصل في أوالده‪:‬ـ‬
‫(وله صلى اهلل عليه وسلم من البنني ثالثة‪:‬القاسم‪ :‬وبه كان يكىن‪ ،‬ولد مبكة قبل النبوة‪ ،‬ومات‬
‫هبا وهو ابن سنتني‪ ،‬وقال قتادة‪ :‬عاش حىت مشى‪ .‬وعبد اهلل‪ :‬ويسمى الطيب والطاهر‪ ،‬ألنه‬
‫ولد يف اإلسالم‪ .‬وقيل‪ :‬إن الطاهر والطيب غريه‪ ،‬والصحيح األول‪.‬وإبراهيم‪ :‬ولد باملدينة‪،‬‬
‫شهرا أو مثانية عشر‪ .‬وقيل‪ :‬كان له ابن يقال له‪:‬‬
‫ومات هبا سنة عشر‪ ،‬وهو ابن سبعة عشر ً‬
‫عبد العزى‪ ،‬وقد طهره اهلل – عز وجل–من ذلك وأعاذه منه )‬

‫بعد أن ذكر املصنف رمحه اهلل مولد النيب صلى اهلل عليه وسلم وحياته ووفاته ذكر مجلةً مما‬
‫يتعلق بأوالده عليه الصالة والسالم‪ ،‬واألوالد يف اللغة إذا أُطلقت يُراد هبا الذكر واألنثى سويًا‪،‬‬
‫ظ اأْل ُْنَثَينْي ِ ﴾‬ ‫وصي ُكم اللَّهُ يِف أ َْواَل ِد ُك ‪9‬م لِ َّ‬
‫لذ َك ِر ِمثْل َح ِّ‬ ‫قال اهلل جل وعال يف كتابه الكرمي ﴿ ي ِ‬
‫ُ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫صحيح من حيث اللغة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ولدا على أنه ابن غري‬ ‫العامة أن فالنًا ُرزق ً‬
‫[النساء‪ ،]11 :‬فتعبري ّ‬
‫شائع وال صحيح مهجور‪ ،‬وعلى العموم‪ 9‬فإنه عليه الصالة والسالم ُرزق‬ ‫لكنهم يقولون خطأٌ ٌ‬
‫كورا‪ 9‬وإناثًا‪.‬‬
‫من األوالد ذُ ً‬
‫بدأ املصنف رمحه اهلل بذكر األوالد‪ ،‬فاألوالد‪ 9‬الذين ُرزقهم‪ 9‬عليه الصالة والسالم القاسم‪ ،‬وهذا‬
‫أكرب أبنائه وأول من ُرزق على األظهر‪ ،‬لكنه ُر ِزقه قبل أن يُبعث ومات وهو صغري‪ ،‬قيل سنتني‬
‫وقيل غري ذلك‪ ،‬وأيان كان فإنه مل يُدرك النيب عليه الصالة والسالم وقد نُبئ‪ ،‬وكان يُكىّن عليه‬
‫مر معنا بأيب القاسم‪.‬‬
‫الصالة والسالم كما ّ‬
‫ورزق عبد اهلل بعد النبوة‪ ،‬ولذلك اقرتن‪ 9‬اسم عبد اهلل بالطيب والطاهر كلقب‪ ،‬لكن عبد اهلل‬
‫ُ‬
‫هذا مات كذلك هو صغري‪.‬‬
‫مث ُرزق إبراهيم من ُسريته مارية القبطية اليت أهداها إليه املقوقس حاكم مصر‪ ،‬أهدى للنيب عليه‬
‫ُ‬
‫الصالة والسالم جارية يُقال هلا مارية‪ ،‬فتسراها عليه الصالة والسالم فأجنب منها إبراهيم‪،‬‬
‫شهرا‪ ،‬ومات يف شوال من السنة العاشرة قبل حجة الوداع‪،‬‬ ‫وإبراهيم هذا عاش مثانية عشر ً‬
‫وهو الذي‪ 9‬قال النيب عليه الصالة والسالم فيه ( وإنّا على فراقك يا إبراهيم حملزونون )‪.‬‬

‫رأيت‬
‫أنس رضي اهلل عنه "ما ُ‬ ‫وكانت له ُمرضعة امسها فاطمة ظئر ترضعه يف عوايل املدينة‪ ،‬قال ٌ‬
‫أحدا أرحم بالعيال من رسولنا صلى اهلل عليه وسلم"‪ ،‬وكان عليه الصالة والسالم يأيت إىل‬ ‫ً‬
‫عوايل املدينة فيحمل ابنه إبراهيم ويشمه ويضمه ويُقبله‪ ،‬مث فُجع به عليه الصالة والسالم بوفاة‬
‫ابنه إبراهيم فحزن قلبه ودمعت عيناه وقال ( إن القلب ليحزن‪ ،‬وإن العني لتدمع‪ ،‬وإنا على‬
‫فراقك يا إبراهيم حملزونون )‪.‬‬

‫وهذا من الدالئل على أن اإلنسان مهما عال شرفه وعظم قدره فإنه عُرضةٌ للبالء‪ ،‬والصاحلون‪9‬‬
‫أعظم عُرضة‪ ،‬ونبينا عليه الصالة والسالم إمام الصاحلني‪ ،‬بل إمام اخللق أمجعني‪ ،‬فلم يُكتب له‬
‫أن يعيش له ول ٌد كبري يعضده‪ ،‬وهذا من حكمة اهلل تبارك وتعاىل‪ ،‬وإبراهيم ملا ُرزقه عليه‬
‫شهرا‪ ،‬واهلل يقول يف كتابه ﴿ لََق ْد َخلَ ْقنَا‬ ‫ِ‬
‫الصالة والسالم بعد كرب سنه مات وعمره مثانية عشر ً‬
‫اإْلِ نْ َسا َن يِف َكبَ ٍد ﴾ [البلد‪ ،]4 :‬وكذلك الناس يُعطون ومُي نعون وحُي رمون ويأخذون‪ ،‬والداعي‪9‬‬
‫وطالب العلم واملوفق واملسدد يف سبيل اهلل يعلم أن الدنيا أخ ٌذ وعطاء وصربٌ وابتالء‪ ،‬وهذا ما‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫جل وعال عليه الدنيا وجعلها سجنًا للمؤمن وجنةً للكافر‪.‬‬
‫جبل اهلل ّ‬
‫واملؤمن يأخذ من هذا العرب يف وفاته عليه الصالة والسالم ووفاة ابنه‪ ،‬وأنه ال راحة للمؤمن‬
‫بكلمة أعظم من هذه لكفى‪ ،‬ال راحة للمؤمن دون‬‫ٍ‬ ‫دون لقاء اهلل‪ ،‬ولو مل يظفر طالب العلم‬
‫جيدا أنه ال راحة للمؤمن دون‬
‫لقاء اهلل‪ ،‬أي عناء وأي مشقة تعرتيك يف طريقك إىل اهلل تذكر ً‬
‫لقاء اهلل‪ ،‬لن ترتاح حىت تلقى اهلل تبارك وتعاىل على اإلميان‪ ،‬أما دون ذلك ال ميكن أن يصفو‬
‫لك أمر‪ ،‬ال القرب وال القيام بني يدي رب العاملني‪ ،‬النيب عليه الصالة والسالم دفن سعد بن‬
‫ُمعاذ وقد نزل سبعون ألف ملك من السماء يُشيعونه مث قال ( لقد ضم القرب عليه ضمة لو جنى‬
‫منها أح ٌد لنجى منها هذا العبد‪ 9‬الصاحل )‪.‬‬

‫فاملؤمن ال راحة له حىت يلقى الرب تبارك وتعاىل‪ ،‬نسأل اهلل أن جيعل خري أيامنا يوم نلقاه‪.‬‬

‫بناته صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬


‫(البنات‪ :‬زينب‪ :‬تزوجها أبو العاص‪ 9‬بن الربيع بن عبد العزى بن عبد مشس‪ ،‬وهو ابن خالتها‪،‬‬
‫صغريا‪ – 9‬وأمامة اليت محلها النيب صلى اهلل عليه‬
‫وأمه هالة بنت خويلد‪ ،‬ولدت له عليًا – مات ً‬
‫وسلم يف الصالة‪ ،‬وبلغت حىت تزوجها علي بعد موت فاطمة‪.‬‬
‫وفاطمة‪ :‬بنت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم تزوجها علي بن أيب طالب‪ ،‬فولدت له احلسن‬
‫واحلسني‪ ،‬وحمسنًا – مات صغريا – وأم كلثوم‪ ،‬تزوجها عمر بن اخلطاب‪ ،‬وزينب‪ ،‬تزوجها‬
‫عبد اهلل بن جعفر بن أيب طالب )‬

‫بعضا منهن‪ ،‬بناته عليه الصالة والسالم أربع‪ ،‬رقية وأم كلثوم وزينب‬
‫ذكر البنات‪ ،‬وذكر هنا ً‬
‫وفاطمة‪ ،‬ذكر املصنف أوهلن زينت واألظهر أهنا الكربى‪ ،‬هذه زينب رضي اهلل عنها تزوجها‬
‫أبو العاص بن الربيع‪ ،‬وكان ُمشر ًكا يف أول األمر مث أسلم‪ ،‬وهي اليت أهدهتا أمها خدجية بنت‬
‫مث ملا كانت معركة بدر أُسر زوجها ضمن‬ ‫خويلد قالدة يوم أن دخلت على زوجها‪.‬‬
‫ّ‬
‫فلما ُشرع الفداء ليفدوا‪ 9‬أسراهم أخرجت زينب ‪-‬وهي بنت‬ ‫األسرى الذين أسرهم املسلمون‪ّ ،‬‬
‫رسول اهلل‪ -‬هذه القالدة اليت أعطتها إيّاها أُمها خدجية لتفدي هبا زوجها الكافر العاص‪ 9‬بن‬
‫الربيع‪ ،‬فلما أخرجتها ورأى النيب صلى اهلل عليه وسلم القالدة اليت أهدهتا زوجته خدجية أم‬
‫زينب زينب يوم زواجها دمعت عيناه صلوات اهلل وسالمه عليه وحترك قلبه ألنه تذكر أيّام‬
‫أمرا حُم زنًا ويفرح إذا‬ ‫ٍ‬
‫خدجية‪ ،‬واإلنسان‪ 9‬جبلةً إذا رأى شيئًا يُذكره بشيء قدمي حيزن إذا كان ً‬
‫فرح‬
‫أمرا ُم ً‬
‫كان ً‬
‫فقلت له إن األسى يبعث األسى‪           ‬فهذا كله قربُ مالك‬

‫هذا عن زينب‪ ،‬زينب هذه ولدت منه –أي من العاص‪ 9-‬أمامة‪ ،‬وهي اسم جارية‪ ،‬وهي اليت‬
‫كان النيب صلى اهلل عليه وسلم حيملها‪ ،‬هذا ما يتعلق بزينب‪.‬‬

‫أما رقية فقد تزوجها عثمان رضي اهلل تعاىل عنه وأرضاه‪ ،‬وستأيت رقية يف الورقة الثانية‪.‬‬
‫علي بن أيب طالب رضي اهلل تعاىل عنه وأرضاه‪،‬‬ ‫وأما فاطمة رضي اهلل تعاىل عنها فقد تزوجها ُّ‬
‫وهي أصغر بناته على قول‪ ،‬والقول اآلخر أن األصغر أم كلثوم‪ ،‬لكن تُالحظ يف املنت أنه‬
‫وحمسن )‪ ،‬والنيب عليه‬
‫ً‬ ‫املصنف رمحه اهلل قال ( فولدت له ) أي ولدت لعلي ( احلسن واحلسني‪،‬‬
‫علي وفاطمة قال ( أي ابين؟ ما‬ ‫الصالة والسالم ملا ولدت فاطمة ابنها األول دخل على ِّ‬
‫مسيتموه؟ )‪ ،‬قالوا‪ :‬مسيناه حرب‪ ،‬قال ( بل هو احلسن )‪ ،‬فلما محلت باحلسني وولدت قال‬
‫( أين ابين؟ ما مسيتموه؟ ) قالوا‪ :‬مسيناه حرب‪ ،‬قال ( بل هو احلسني )‪ ،‬فلما ولدت الثالث قال‬
‫سموه‪ ،‬قال‬‫علي وفاطمة حيبون أن يُ ُّ‬‫( ما مسيتموه ) قالوا‪ :‬حرب‪ ،‬كأن حرب هذا اسم كان ٌّ‬
‫ومبشر )‪ .‬حُم سن مات وهو‬ ‫بشار وبُشري ُ‬
‫( ال‪ ،‬بل هو حُم ِّسن )‪ ،‬مث قال مسيتهم بولد هارون ( ّ‬
‫صغري‪ ،‬فمن الذي بقي؟ احلسن واحلسني‪ ،‬فهما رحيانتا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من‬
‫الدنيا‪ .‬مث قال املصنف ( وأم كلثوم‪ ،‬تزوجها عمر بن اخلطاب )‪ ،‬ليست هذه أم كلثوم بنت‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬هذه بنت علي رضي اهلل عنه من فاطمة‪ ،‬أخت احلسن احلسني‪،‬‬
‫ُولدت يف السنة السادسة من اهلجرة‪ ،‬أي أن النيب صلى اهلل عليه وسلم مات وعمرها أربع‬
‫سنوات‪ ،‬وتزوجها عمر رضي اهلل عنه وأصدقها‪ 9‬أربعني أل ًفا يريد –لشرفها‪ 9-‬أن حيظى ٍ‬
‫بقرابة‬
‫مع آل بيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫( ورقية‪ :‬بنت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم تزوجها عثمان بن عفان فماتت عنده‪ ،‬مث تزوج‬
‫أم كلثوم فماتت‪ 9‬عنده‪ ،‬وولدت رقية ابنًا فسماه عبد اهلل‪ ،‬وبه كان يكىن‪.‬‬
‫فالبنات أربع بال خالف‪ ،‬والصحيح من البنني أهنم ثالثة‪ ،‬وأول من ُولد له القاسم‪ ،‬مث زينب‪،‬‬
‫مث رقية‪ ،‬مث فاطمة‪ ،‬مث أم كلثوم‪ ،‬مث يف اإلسالم عبد اهلل‪ ،‬مث إبراهيم باملدينة‪ .‬وأوالده كلهم من‬
‫خدجية إال إبراهيم فإنه من مارية القبطية‪ ،‬وكلهم ماتوا قبله إال فاطمة‪ ،‬فإهنا عاشت بعده ستة‬
‫أشهر )‬

‫ذكر املصنف ما تبقى من البنات‪ ،‬وهن رقية وأم كلثوم‪ ،‬زوجها –أي رقية‪ -‬من عثمان‪،‬‬
‫فماتت عنده –أي حتته‪ ،-‬ماتت يف أيّام عزوة بدر‪ ،‬ولذلك مل يشهد عثمان رضي اهلل عنه‬
‫عزوة بد ٍر كان مُيَِّرض زوجته رقية‪ ،‬فلما عاد النيب صلى اهلل عليه وسلم وجدها قد ماتت على‬
‫األظهر‪ ،‬مث زوجه النيب عليه الصالة والسالم أختها أم كلثوم‪ ،‬مث ماتت عنده يف حياة النيب صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬ولذلك لُقب عثمان بذي النورين ألنه تزوج ابنيت رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وقد قال املؤرخون إنه ال يوجد أح ٌد من أهل األرض مجع اهلل له ابنيت ن ٍيب حتت ٍ‬
‫سقف‬
‫ٍ‬
‫واحد إال عثمان بن عفان رضي اهلل تعاىل عنه وأرضاه‪.‬‬

‫مث ذكر فاطمة وهي أحب بنات النيب صلى اهلل عليه وسلم إليه‪ ،‬واإلمام الذهيب ملا ترجم هلا يف‬
‫ّ‬
‫األعالم قال "هي البضعة النبوية واجلهة املصطفوية"‪ ،‬وكانت أشبه الناس ِمشيةً برسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكان عليه الصالة والسالم حيبها وجيلها ويعظمها وإذا دخلت قام هلا ويقبلها‬
‫ويضمها‪ ،‬كانت قطعةً منه‪ ،‬ويقول ( فاطمة بضعةً مين‪ ،‬يريبين ما راهبا‪ ،‬ويُضريين ما أضرها )‪،‬‬
‫أو كلمةً حنوها‪.‬‬

‫علي احلسن واحلسني‪ ،‬ولذلك كان عليه الصالة والسالم حُي ب احلسن واحلسني‬ ‫وأجنب منها ٌ‬
‫حب مجًّا‪ ،‬وكان يضعهما على كتفيه ويُقبل هذا مرة وهذا مرة ويقول ( اللهم إين أحبهما‬‫ًّ‬
‫فأحبهما )‪ ،‬وقال ( مها رحيانتاي من الدنيا )‪ ،‬وقطع خطبته وهو املنرب ملا دخال عليهما قميصان‬
‫ّ‬
‫أمحران ميشيان فيعثران‪ ،‬فنزل من املنرب وقطع اخلطبة وتركها ونزل ومحلهما ووضعهما‪ 9‬بني يديه‬
‫مث التفت إىل الناس وقال ( صدق اهلل ورسول إمنا أموالكم وأوالدكم فتنة‪ ،‬لقد نظرت إىل ابين‬
‫هذين ميشيان فيعثران فلم أصرب حىت نزلت ومحلتهما )‪.‬‬

‫سمي باحلسن واحلسني‬ ‫سهوا أو خطأً أو جهال يتباعد على أن يُ ِّ‬


‫ومع ذلك يوجد من الناس ً‬
‫ويقول إن هذا تقر به أعني الشيعة‪ ،‬واحلق ال يُرتك إذا تلبس به أهل الباطل‪ ،‬احلق ال يُرتك إذا‬
‫أحدا نُبغضه‬ ‫تلبس به أهل الباطل‪ ،‬فتسمية احلسن واحلسني تسميةٌ نبوية‪ ،‬ال ميكن أن تُرتك ألن ً‬
‫فعلها‪ ،‬وكذلك ترك الناس تسمية بعض أهل البيت كقثم والعباس والفضل‪ ،‬قلما يوجد هذا‬
‫َسأَلُ ُك ْم‬
‫بني الناس رغم أنه تسمية بآل بيت نبينا صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬واهلل يقول ﴿ قُ ْل اَل أ ْ‬
‫َجًرا إِاَّل الْ َم َو َّد َة يِف الْ ُق ْرىَب ﴾ [الشورى‪ ،]23 :‬وقد حث النيب عليه الصالة والسالم على‬ ‫ِ‬
‫َعلَْيه أ ْ‬
‫حب آل بيته وعلى نصرهتم وعلى مواالهتم‪ 9‬يف أحاديث ُكثر‪ ،‬منها أنه قال ( تركت فيكم‬
‫علي احلوض )‪.‬‬
‫الثقلني‪ ،‬كتاب اهلل وعرتيت فإهنما‪ 9‬ال خيتلفا حىت يردا َّ‬
‫غال‬ ‫قيدا بالضوابط‪ 9‬الشرعية‪ ،‬ويكون املؤمن فيه ال جُم ٍ‬
‫اف وال م ٍ‬ ‫لكن حب آل البيت‪ 9‬يكون ُم ً‬
‫ُ‬
‫كما هو ديدن املسلم يف سائر أمره واهلل أعلم‪.‬‬

‫فصل في حجه وعمره ‪:‬‬


‫( فصل يف حجه وعمره ‪ :‬روى مهام بن حيىي عن قتادة‪ ،‬قال‪ :‬قلت ألنس‪ :‬كم حج النيب صلى‬
‫اهلل عليه وسلم من حجة؟ قال‪" :‬حجة واحدة‪،‬واعتمر أربع عمر عمرة النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم حني صده املشركون عن البيت‪ ،‬والعمرة الثانية حيث صاحلوه من العام املقبل‪ ،‬وعمرة‬
‫من اجلعرانة حيث قسم غنيمة حنني يف ذي القعدة‪ ،‬وعمرته مع حجته" صحيح متفق عليه‪.‬‬
‫هذا بعد قدومه املدينة‪ ،‬وأما ما حج مبكة واعتمر فلم حيفظ‪ ،‬والذي‪ 9‬حج حجة الوداع‪ ،‬ودع‬
‫الناس فيها‪ ،‬وقال‪ ( :‬عسى أال تروين بعد عامي هذا ) )‬

‫بعد أن ذكر املصنف أوالده عليه الصالة والسالم ذكر حجه وعمرته‪ ،‬ذكر احلج والعمرة ألهنا‬
‫ٍ‬
‫بشكل يرونه‬ ‫ال تُفعل عاد ًة بكثرة‪ ،‬وألنه عليه الصالة والسالم كان يصوم ويُصلي بني الناس‬
‫يوميًا‪ ،‬مث بنّي ما تتاىل من حجته وعمرته عليه الصالة والسالم‪.‬‬

‫النيب عليه الصالة والسالم اعتمر أربع عمر‪ ،‬عمرةٌ هي اليت كانت يف عام احلديبية سنة ست‪،‬‬
‫أحرم من ذي احلليفة من املدينة فخرج حىت وصل إىل مكة‪ ،‬فلما وصل إىل مكة وجاء عند‬
‫احلديبية بركت الناقة‪ ،‬فقال الصحابة‪ :‬خألت القصواء‪ ،‬فقال ( واهلل ما خألت القصواء‪ 9‬وما‬
‫ذاك هلا خبلق‪ ،‬والذي نفسي بيده ال يسألونين اليوم‪ 9‬خطةً يعظمون فيها حرمات اهلل إال أعطيتهم‬
‫إيّاها )‪ ،‬ففقه عليه الصالة والسالم من هذا زيادةً يف فهم عظمة حرمة البيت‪ ،‬وكانت إشارة‬
‫من اهلل أنه لن يدخل البيت‪ ،‬وقول الصحابة "خألت القصواء"‪ ،‬مبعىن بركت وحرمت من غري‬
‫علة ظاهرة‪ ،‬وقال عليه الصالة والسالم ( حبسها حابس الفيل ) أي أن بيت اهلل عظيم‪.‬‬ ‫ٍ‬

‫قريش أال يدخل مكة‪ ،‬يف صلح احلديبية املشهور وليس هذا وقت شرحه‪ ،‬فقبل‬ ‫فطلبت منه ٌ‬
‫عليه الصالة والسالم ورضي‪ ،‬وهذا الذي جيب أن يفقهه كل من يدعو إىل اهلل‪ ،‬من يدعو إىل‬
‫اهلل ال ينتصر لنفسه‪ ،‬ليس شيئًا تلبست به البد أن ميضي‪ ،‬املهم أين مصلحة اإلسالم‪ ،‬فهذا‪ 9‬نيب‬
‫األمة ورأس امللة حُي رم من ذي احلليفة ويقطع كل هذه املسافات حىت يصل إىل مكة‪ ،‬مث يقبل‬
‫أن حيل إحرامه ويرجع كما جاء من غري أن يدخل مكة‪ ،‬ألنه رأى –ولو كان هذا فيه شيءٌ‬
‫عظيم ومصلحةٌ ملن؟ لإلسالم واملسلمني‪ ،‬ألن بعد صلح احلديبية كان‬ ‫أمر ٌ‬ ‫يتعلق بذاته‪ -‬أنه فيه ٌ‬
‫أفواجا‪ ،‬فأنزل اهلل عليه وهو عائد ﴿ إِنَّا َفتَ ْحنَا‬
‫عظيما‪ ،‬دخل كثريٌ من الناس يف دين اهلل ً‬
‫فتحا ً‬ ‫ً‬
‫ك َفْت ًحا ُمبِينًا ﴾ [الفتح‪.]1 :‬‬‫لَ َ‬
‫وملا أمر الصحابة أن حُي لوا إحرامهم مل يقبلوا‪ ،‬أو بتعب ٍري أصح مل يستجيبوا‪ ،‬وال يعين هذا أهنم‬
‫كانوا يُعاندون النيب عليه الصالة والسالم ‪-‬حاشاهم‪ ،-‬وإمنا قد اليُطيعك من حُي بك‪ ،‬تتغلب‬
‫عليه حالةٌ نفسية‪ ،‬فلما أمرهم عليه الصالة والسالم أن حُي لوا إحرامهم‪ 9‬مل يفعل أح ٌد‪ ،‬فدخل‬
‫على أم سلمة فأخربها مبا لقي من الناس‪ ،‬وأم سلمة تعلم حمبة الصحابة للنيب عليه الصالة‬
‫والسالم فأشارت عليه أن حيلق رأسه وينحر اهلدي‪ ،‬فحلق رأسه وحنر اهلدي فاستجاب‬
‫أمر واقع‪ 9‬فحلقوا رؤوسهم وحنروا هديهم حىت أصاهبم الغم‪ 9‬وكاد يقتل‬ ‫الصحابة ألهنم رأوا أنه ٌ‬
‫بعضا‪.‬‬
‫بعضهم ً‬
‫هذه العمرة مل تتم‪ ،‬لكن املصنف ذكرها كما ذكرها أهل السري من قبل ألنه أحرم هبا صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬كان من شروط صلح احلديبية أن يعود صلى اهلل عليه وسلم يف العام التايل‬
‫ليدخل مكة‪ ،‬فلذلك دخلها يف العام التايل –يعين يف السنة السابعة‪ ،-‬أحرم من ذي احلليفة حىت‬
‫دخل مكة وأقام فيها ثالثة أيام‪ ،‬فهذه أول عمرة ّأداها النيب صلى اهلل عليه وسلم كاملةً يف‬
‫اإلسالم‪.‬‬

‫العمرة الثالثة كانت بعد غزوة حنني‪ ،‬بعد أن وقعت معركة حنني نزل عليه الصالة والسالم إىل‬
‫صباحا‪ ،‬أي‬
‫حل خارج مكة‪ ،‬دخل مكة ليال مث اعتمر ورجع يف نفس الليلة أو ً‬ ‫اجلعرانة ‪-‬وهي ٌّ‬
‫رجع عاجال إىل اجلعرانة وأكمل مسريه بعد ذلك إىل املدينة‪ ،‬دخل مكة وأحرم من اجلعرانة‪،‬‬
‫حرم ملا جاز أن حُي رم منها‪.‬‬
‫ودل على أن اجلعرانة ماذا؟ حلٌّ‪ ،‬ألهنا لو كانت ٌ‬
‫كثريا‪ 9‬يف زاد املعاد على ما كان يصنعه أهل مكة يف أيامه من‬
‫ابن القيم رمحه اهلل تعاىل أغلظ ً‬
‫أهنم كانوا حيرمون من اجلعرانة‪ ،‬وقال إن النيب صلى اهلل عليه وسلم أحرم منها ألهنا وافقت‬
‫حل على وجه األرض‪ 9‬ألن النيب صلى اهلل‬‫حمله‪ ،‬وبعض املالكية يقول إن اجلعرانة هي أفضل ٍّ‬
‫حل إال اجلعرانة‪ ،‬ألنه أحرم من املدينة‬
‫عليه وسلم أحرم منها ومل حُي رم عليه الصالة والسالم من ٍّ‬
‫حل إال اجلعرانة‪ ،‬هذه فوائد‪9‬‬
‫حرم‪ ،‬وأحرم يف احلج من مكة ومكة حرم‪ ،‬ومل حيرم من ٍّ‬‫واملدينة ٌ‬
‫قد يصيب أصحاهبا وال يصيبون‪ ،‬لكن يفقهها طالب العلم‪ ،‬هذه العمرة الثالثة‪.‬‬

‫العمرة الرابعة كانت مع حجته‪ ،‬ألنه حج قارنًا عليه الصالة والسالم فكانت احلجة قارنةٌ‪ .‬من‬
‫هذا يتحرر أن العمر‪ 9‬الثالث كلهن كن يف شهر ذي القعدة‪ ،‬حىت عمرة احلج أحرم هبا يف شهر‬
‫ذي القعدة لكنه مل يؤديها إال يف شهر ذي احلجة‪ ،‬ألنه ما وصل مكة إال وقد دخل هالل شهر‬
‫ذي احلجة‪.‬‬

‫هذه األربع عمر اليت ثبتت عنه صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫ودع الناس فيها‪ ،‬وهي‬‫أما احلج فلم حيج يف اإلسالم إال حجة واحدة مُس يِّت حبجة الوداع ألنه ّ‬
‫حجةٌ عظيمة‪ ،‬علم عليه الصالة والسالم أنه لن حيج غريها فأعلم الناس أنه سيحج‪ ،‬فقدم املدينة‬ ‫ّ‬
‫خلق كثري كلهم يريدوا أن يأمتُّوا حبجته عليه الصالة والسالم‪ ،‬وكان فيها من عظيم الفوائد‪ 9‬ما‬
‫ٌ‬
‫كثريا‪ 9‬من‬
‫فصل آخر ألن الوقت‪ 9‬ال يشفع بأن نُطنب فيها‪ ،‬لكنه ذكر فيها ً‬ ‫أرجو أن يأيت يف ٍ‬
‫كثريا من قواعد‪9‬‬
‫خريا‪ ،‬وجعل مآثر اجلاهلية حتت قدميه‪ ،‬وأقام ً‬‫قواعد الدين‪ ،‬وأوصى بالنساء ً‬
‫اإلسالم‪ ،‬وبني حرمة الدماء‪ 9‬واألعراض واألموال‪ ،‬وهي حجته صلوات اهلل وسالمه عليه‪ .‬أما‬
‫حج عليه الصالة والسالم أو‬
‫غري ذلك فكله مل يثبت وغري حمفوظ‪ ،‬واهلل أعلم إن كان قد ّ‬
‫اعتمر قبل اإلسالم وهو يف مكة‪ ،‬هذا كله غري ثابت‪ ،‬وما نُقل يُنقل بطرائق غري مكتملة السند‪9‬‬
‫الذي نستطيع أن حنكم عليه بالصحة‪.‬‬
‫فـصـل فـي غـزواتـه ـ صلى اهلل عليه و سلم ‪:‬‬
‫مخسا وعشرين غزوة‪ ،‬هذا هو املشهور‪ ،‬قاله حممد‪9‬‬‫(غزا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بنفسه ً‬
‫بن إسحاق‪ ،‬وأبو معشر‪ ،‬وموسى بن عقبة وغريهم‪ .‬وقيل‪ :‬غزا سبعا وعشرين‪ ،‬والبعوث‬
‫والسرايا مخسون أو حنوها‪.‬‬
‫ومل يقاتل إال يف تسع‪ :‬بدر‪ ،‬وأحد‪ ،‬واخلندق‪ ،‬وبين قريظة‪ ،‬واملصطلق‪ ،‬وخيرب‪ ،‬وفتح مكة‪،‬‬
‫وحنني‪ ،‬والطائف‪ .‬وقد‪ 9‬قيل‪ :‬إنه قاتل بوادي القرى‪ ،‬ويف الغابة‪ ،‬وبين النضري )‪.‬‬

‫ذكر املصنف هنا رمحه اهلل تعاىل غزواته صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬والفرق ما بني الغزوة‬
‫والسرية أن الغزوة ما يقودها النيب صلى اهلل عليه وسلم بنفسه‪ ،‬أما السرية أو البعث‪ 9‬فكالمها‬
‫قائدا من الصحابة‬
‫مبعىًن متقارب‪ ،‬واملقصود منها ما يبعثه النيب صلى اهلل عليه وسلم وجيعل عليه ً‬
‫دون أن يكون معهم‪ ،‬فاملعركة اليت حيضرها صلوات اهلل وسالمه عليه غزوة‪ ،‬واليت ال حيضرها‬
‫وإمنا يبعث بعثًا تُسمى سرية أو بعث‪ ،‬وكالمها مبعىًن ُمتقارب‪ ،‬فال يكون صلى اهلل عليه وسلم‬
‫ُمشار ًكا فيها‪ ،‬هذا من باب املدخل للموضوع‪.‬‬

‫ومعلوم أن املصنف يذكر هذه األمور‪ 9‬وهي واضحة‪ ،‬فال ينبغي ملن يتصدر يف الشرح أن يكرر‬
‫ٌ‬
‫شرحا‪ ،‬وإمنا نذكر ما وراء هذا املنت‪ ،‬فنقول هذه‬
‫سمى ً‬ ‫ما يقوله صاحب املنت ألن هذا ال يُ َّ‬
‫الغزوات من أعظم الدالئل‪ 9‬على جهاده بالسنان كما جاهد باللسان صلوات اهلل وسالمه عليه‪،‬‬
‫تقرييب قد‬
‫ٌّ‬ ‫عدد‬
‫فقد قاتل من أجل أن تكون كلمة اهلل هي العليا‪ ،‬والعدد الذي‪ 9‬ذكرها املصنف ٌ‬
‫يزيد قليال وقد ينقص قليال‪ ،‬وهي كلها يف مجلتها تدل على ما كان عليه صلوات اهلل وسالمه‬
‫عليه من ٍ‬
‫جهاد يف سبيل إعالء دين ربه تبارك وتعالى‪.‬‬

‫مشروعا لديهم‪ ،‬وإمنا ُشرع اجلهاد من‬


‫ً‬ ‫والنبيون الذين قبله عليه الصالة والسالم مل يكن اجلهاد‬
‫مشروعا‪ ،‬وإمنا كانت القضية أن النيب يدعو‬
‫ً‬ ‫موسى فما بعد‪ ،‬أما قبل موسى فلم يكن اجلهاد‬
‫متبع للنيب‪ ،‬مث إن اهلل‬
‫وقليل منهم ٌ‬
‫قومه فيختلفون فيه إىل فريقني‪ ،‬يكون أكثرهم غري متبعني ٌ‬
‫كثريا‪ 9‬من‬
‫يُهلك من مل يتبع ذلك النيب فينتهون‪ ،‬كما أهلك اهلل مثود وأهلك اهلل عاد وأهلك اهلل ً‬
‫جهاد ما بني النيب وأتباعه من املؤمنني مع‬
‫وكثريا‪ 9‬من األمم دون أن يكون هناك ٌ‬
‫ً‬ ‫قوم نوح‬
‫أولئك الكفار‪.‬‬

‫َّسةَ الَّيِت‬
‫ض الْ ُم َقد َ‬
‫جل وعال ﴿ ْاد ُخلُوا اأْل َْر َ‪9‬‬
‫وإمنا ُشرع اجلهاد يف شريعة موسى كما قال اهلل ّ‬
‫ب اللَّهُ لَ ُك ْم ﴾ [املائدة‪ ،]21 :‬وبعد ذلك يف األنبياء من بين إسرائيل ويف عهد عيسى بن‬ ‫َكتَ َ‬
‫فشرع اجلهاد بعد هجرته عليه الصالة والسالم إىل‬ ‫مرمي‪ ،‬مث جاء نبينا صلى اهلل عليه وسلم ُ‬
‫املدينة‪ ،‬هذا املدخل الثاين‪.‬‬

‫املسألة الثالثة أو املدخل الثالث‪ 9‬يف القضية رؤوس الغزوات وأعظمهن وأصوهلا سبع‪ ،‬وهن على‬
‫وفتح‬
‫سمى أحيانًا باخلندق‪ ،-‬وخيرب‪ُ ،‬‬ ‫واألحزاب ‪-‬وتُ َّ‬
‫ُ‬ ‫بدر‪ ،‬وأُح ٌد‪،‬‬
‫ترتيب وقوعها التارخيي ٌ‬
‫بدرا يف "األنفال"‪،‬‬
‫مكة‪ ،‬وحنني‪ ،‬وتبوك‪ ،‬هذه الغزوات اليت ورد ذكرها يف القرآن‪ ،‬ذكر اهلل ً‬
‫ُحدا يف "آل عمران"‪ ،‬وذكر حنينًا يف "التوبة"‪ ،‬وذكر فتح خيرب يف "احلشر"‪ ،‬وغريها‪،‬‬‫وذكر أ ً‬
‫كل هذه السبع نص تعاىل عليها أو أرشد إليها أو أشار يف القرآن مجلةُ إليها‪ ،‬هذه السبع‪.‬‬

‫بدر على التحقيق ثالثة‪ ،‬بدر‬


‫من الفوائد‪ 9‬العلمية أن بدر إذا أُطلقت يُراد هبا بدر الكربى‪ ،‬وإال ٌ‬
‫الصغرى‪ ،‬وبدر الكربى وبدر املوعد‪،‬‬

‫رجل يُقال له كرز‬


‫شهرا من اهلجرة‪ ،‬جاء ٌ‬‫فأما بدر الصغرى‪ 9‬فقد كانت على رأس ثالثة عشر ً‬
‫الفهري فأغار على سرح املدينة فتبعه النيب صلى اهلل عليه وسلم إىل ٍ‬
‫واد يُقال له وادي صفوان‪9‬‬
‫كرزا‬
‫قريب من بدر‪ ،‬النيب عليه الصالة والسالم ملا أغار كرز الفهري‪ 9‬على سرح املدينة تبع ً‬
‫سمى بدر‬
‫سمى وادي صفوان‪ ،9‬فهذه عند بعض أهل السري تُ َّ‬ ‫هذا إىل ٍ‬
‫واد قريب من بدر يُ َّ‬
‫الصغرى‪.‬‬
‫أما بدر الكربى فغنية عن التعريف‪ ،‬هي املوقعة املشهورة اليت وقعت عند ماء بدر يف شهر‬
‫جل وعال بيوم الفرقان‪.‬‬
‫رمضان‪ ،‬واليت أمساها اهلل ّ‬

‫أما بدر املوعد – وهي غري مشهورة ‪ -‬فهذه ذكرها أبو إسحاق أن النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وعده أبو سفيان يوم أحد‪ ،‬أبو سفيان توعد املسلمني حبرب يف العام القادم ملا انتصر يف أحد‪،‬‬
‫إمتاما للموعد ولكن أبا سفيان خرج حىت‬‫فخرج النيب صلى اهلل عليه وسلم إىل بد ٍر يف القادم ً‬
‫تجا بأن ذلك العام عام جدب‪ ،‬فلم يقع فيها قتال‪ ،‬لكننا‬ ‫مضى يف بعض الطريق مث رجع حُم ً‬
‫بدرا تُطلق على ثالثة‪ ،‬بدر الصغرى‪ ،‬وبدر‬
‫نذكرها من باب السرد التارخيي‪ ،‬فيتحرر أن ً‬
‫الكربى‪ ،‬وبدر املوعد‪ ،‬هذه الثالثة‪.‬‬

‫كل منها كان حيمل حدثًا بعينه ينبئ عن عظيم قدره‬ ‫املسألة الرابعة يف القضية‪ ،‬هذه الغزوات ٌ‬
‫وعظيم جهاده وما الذي يٌقتفى به صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فمثال يف يوم بدر قال عليه الصالة‬
‫والسالم ( امضوا‪ 9‬فإن اهلل وعدين إحدى الطائفتني )‪ ،‬كان يقصد بإحدى الطائفتني إما العري‬
‫َن َغير َذ ِ‬ ‫اليت كانت مع أيب سفيان‪ ،‬وإما النصر على ٍ‬
‫ات‬ ‫قريش إذا حارهبا‪ ،‬قال اهلل ﴿ َوَت َو ُّدو َن أ َّ ْ َ‬
‫الش َّْو َك ِة تَ ُكو ُن لَ ُك ْم ﴾ [األنفال‪.]7 :‬‬
‫كان مطمع املسلمني يف العري‪ ،‬ومع ذلك – وهذا موضع‪ 9‬الشاهد يف القضية كلها‪ -‬أنه عليه‬
‫الصالة والسالم ليلة بدر يف العريش وقف يدعو ويرفع يديه ويذكر اهلل ويُثين عليه ويدعوه‬
‫ويُلح بالدعاء حىت أشفق عليه أبو بكر‪ ،‬مع علمه صلى اهلل عليه وسلم أنه سينتصر فإنه قال‬
‫ألصحابه وهو الصادق املصدوق ( إن اهلل وعدين إحدى الطائفتني )‪ ،‬وقلنا إن إحدى الطائفتني‬
‫إما العري وإما النصر‪ ،‬والعري فلتت ومضت‪ ،‬خرج هبا أبو سفيان وجنت‪ ،‬فأصبح ال حمالة بالنسبة‬
‫له بتبليغ اهلل له أنه سينتصر‪.‬‬
‫ومع أنه يعلم يقينًا أنه سينتصر إال أنه وقف صلى اهلل عليه وسلم يدعو‪ ،‬فلماذا وقف يدعو –‬
‫جل‬ ‫ٍ‬
‫وهذا أعظم ما دلّت عليه غزوة بدر من فوائد‪-‬؟ وقف يدعو حىت حيقق كما التوحيد لربه ّ‬
‫جل وعال‪ ،‬فأظهر صلى اهلل عليه وسلم يف يوم بد ٍر‬ ‫وعال‪ ،‬ويظهر من نفسه كمال العبودية لربه ّ‬
‫كمال العبودية هلل والتضرع وسؤال اهلل وهو يعلم عليه الصالة والسالم يقينًا أنه ُمنتصر ألنه‬
‫قال ألصحابه قبل أن يصل إىل العريش ( امضوا فإن اهلل وعدين إحدى الطائفتني )‪ ،‬فهو‬
‫جل وعال‪ ،‬وهذا أحد أعظم أسباب‬ ‫تحقق من وعد اهلل له‪ ،‬لكنه فعلها ليظهر عبوديته لربه ّ‬
‫ُم ٌ‬
‫عُلُِّو شأنه على مجيع اخللق صلوات اهلل وسالمه عليه‪.‬‬

‫قوم شجوا رأس نبيهم وهو‬ ‫ٍ‬


‫يف يوم أُحد ُش َّج رأسه و ُكسرت رباعيته فقال ( كيف يُفلح ٌ‬
‫ك ِم َن اأْل َْم ِر َش ْيءٌ ﴾ [أل عمران‪:‬‬‫س لَ َ‬
‫جل وعال قوله ﴿ لَْي َ‬
‫يدعوهم إىل اهلل؟! ) فأنزل اهلل ّ‬
‫أحدا مع أهل اإلشراك أسلم بعد ذلك‬ ‫‪ ،]128‬وكان األمر كما أرد اهلل‪ ،‬فقد وقع ممن شهد ً‬
‫بدرس قدمي وفائدة قدمية أن القلوب بيد اهلل وأن اإلنسان‬ ‫دافعا‪ 9‬عن الدين‪ ،‬وهذا يُذ ّكر ٍ‬
‫وكان ُم ً‬
‫أحد وهو يدعوه‪ ،‬بل إنه حُي اول أن يستثمر من حوله كيف يدعوهم إىل دين الرب‬ ‫ال ييأس من ٍ‬
‫تبارك وتعاىل‪.‬‬

‫كذلك من الفوائد‪ 9‬تواضعه صلى اهلل عليه وسلم يوم دخل مكة‪ ،‬فقد دخلها مطرقًا رأسه وعلى‬
‫جل وعال‬ ‫هلل‬ ‫ظهرون‬ ‫ي‬ ‫مرادهم‬ ‫وحققوا‬ ‫سادوا‬ ‫إذا‬ ‫والعظماء‬ ‫وعال‪،‬‬ ‫جل‬ ‫لربه‬ ‫‪9‬‬
‫ا‬ ‫تواضع‬ ‫غفر‬‫رأسه املِ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫تواضعهم‪ 9‬حىت يُعلِم من حوله ‪-‬بسلوك احلال فضال عن لسان احلال‪ -‬أهنم نالوا ما نالوا مبا‬
‫أعطاهم اهلل تبارك وتعاىل إياه‪ ،‬هذه مجلة مما ميكن أن يُقال عن فوائد ما ذُكر عن غزواته صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫بقي التعليق على ما ذكره املصنف يف آخر هذه الفصل أنه عليه الصالة والسالم قيل إنه قاتل‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫يف غزوة وادي القرى والغابة وبين النضري‪ ،‬وادي القرى واد بني ْتي َماء وخيرب‪ ،‬وخيرب أقرب إىل‬
‫املدينة من تيماء‪ ،‬ومُس ي بوادي القرى لكثرة القرى اليت فيه‪ ،‬وهي معركة حصلت بعد غزوة‬
‫خيرب‪ ،‬هذا ما يتعلق بوادي القرى‪ ،‬أما الغابة فهو مكا ٌن غري ٍ‬
‫بعيد عن املدينة‪ ،‬جاءت يف سرية‬
‫قوم من‬
‫ابن إسحاق ما يذكر أن النيب صلى اهلل عليه وسلم بعث سريةً إليها‪ ،‬أما بين النضري فإنه ٌ‬
‫اليهود‪ ،‬إحدى قبائل اليهود اليت كانت تسكن املدينة‪ ،‬أجالهم النيب صلى اهلل عليه وسلم عنها‬
‫يف شهر ربي ٍع األول من السنة الرابعة‪.‬‬

‫فصل في كتابه ورسله‪:‬‬


‫(كتب له صلى اهلل عليه وسلم‪:‬أبو بكر الصديق‪ ،‬وعمر بن اخلطاب‪ ،‬وعثمان بن عفان‪ ،‬وعلي‬
‫بن أيب طالب‪ ،‬وعامر بن فُهرية‪ ،‬وعبد اهلل بن األرقم الزهري‪ ،‬وأُيب بن كعب‪ ،‬وثابت بن قيس‬
‫بن مشَّاس‪ ،‬وخالد بن سعيد بن العاص‪ ،‬وحنظلة بن الربيع األسدي‪ ،‬وزيد بن ثابت‪ ،‬ومعاوية‬
‫بيل بن حسنة‪ ،‬وكان معاوية بن أيب سفيان وزيد بن ثابت ألزمهم لذلك‪،‬‬‫وشَر ْح ُ‬
‫بن أيب سفيان‪ُ ،‬‬
‫وأخصهم به )‬

‫بعضا مما يُشري إىل غزواته صلوات اهلل وسالمه عليه أشار إىل من‬ ‫بعد أن ذكر املصنف رمحه اهلل ً‬
‫جل وعال‬ ‫ٍ‬
‫كان يكتب له عليه الصالة والسالم‪ ،‬وهذا يسوقنا إىل مسألة مهمة وهي أن اهلل ّ‬
‫بعث نبيه أميًّا ال يقرأ وال يكتب‪ ،‬وقد عاش عليه الصالة والسالم ال يقرأ وال يكتب أربعني‬
‫حلكمة أرادها اهلل حىت ال يأيت أح ٌد ويقول إن هذا النيب حصل على ما‬ ‫ٍ‬ ‫عاما قبل النبوة‪ ،‬وهذا‬ ‫ً‬
‫كثريا‪ ،‬قال‬
‫حصل عليه مما يقوله من قرآن مبعرفته بأخبار األمم‪ 9‬السابقة‪ ،‬وهذا أ ّكد القرآن عليه ً‬
‫اب الْ ُمْب ِطلُو َن ﴾‬ ‫ت َتْتلُو ِمن َقْبلِ ِه ِمن كِتَ ٍ‬
‫اب َواَل خَتُطُّهُ بِيَ ِمينِ َ‬
‫ك إِ ًذا اَل ْرتَ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫جل وعال ﴿ َو َما ُكْن َ‬‫اهلل ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت تَ ْد ِري َما الْكتَ ُ‬
‫اب َواَل اإْلِ ميَا ُن َولَك ْن َج َع ْلنَاهُ‬ ‫جل وعال ﴿ َما ُكْن َ‬ ‫[العنكبوت‪ ،]48 :‬وقال ّ‬
‫اط ُم ْستَ ِقي ٍم ﴾ [الشورى‪ ،]52 :‬وقال‬ ‫ك لََته ِدي إِىَل ِصر ٍ‬
‫َ‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ورا َن ْهدي بِه َم ْن نَ َشاءُ م ْن عبَادنَا َوإِنَّ َ ْ‬
‫نُ ً‬
‫ك ﴾ [القصص‪:‬‬ ‫اب إِاَّل َرمْح َةً ِم ْن َربِّ َ‬ ‫اهلل جل وعال ﴿ وما ُكْنت َترجو أَ ْن ي ْل َقى إِلَي َ ِ‬
‫ك الْكتَ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُْ‬ ‫ََ‬ ‫ّ‬
‫‪ .]86‬فالنيب عليه الصالة والسالم حفظه اهلل من أن يقرأ ويكتب قبل النبوة حىت ال يتسلط‬
‫ألحد ممن يعرتض على دينه بأنه عليه الصالة والسالم كان جييد‬ ‫أح ٌد عليه ويكون عذرا ٍ‬
‫ً‬
‫القراءة‪ ،‬قال اهلل عنهم –أي أهل قريش‪ -‬أهنم قالوا عنه يف سورة الفرقان‪ ﴿ 9‬وقَالُوا‪ 9‬أ ِ‬
‫َساطريُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫َصياًل ﴾ [الفرقان‪ ،]5 :‬و﴿ ا ْكتَتََب َها ﴾ أي طلب من‬‫اأْل ََّولِني ا ْكتَتَبها فَ ِهي مُتْلَى علَي ِه ب ْكر ًة وأ ِ‬
‫َْ ُ َ َ‬ ‫َ ََ َ‬
‫ظاهر يف القرآن‪.‬‬
‫جل وعال عليهم ذلك كله كما هو ٌ‬ ‫غريه أن يكتبها له‪ ،‬فرد اهلل ّ‬
‫فلما كان اهلل قد حفظ نبيه من هذا جعل له كتبةً‪ ،‬والشيء‪ 9‬الذي ال حيسنه اإلنسان يكله إىل‬
‫غريه‪ ،‬وليس هذا ٍ‬
‫بنقص فيه‪ ،‬بل هذا من مقومات كمال األمر‪ ،‬والنيب عليه الصالة والسالم هو‬
‫جل وعال له أن يتخذ كتبة يُعينونه على أمره‬
‫رأس امللة وإمام األمة وهو يقود الناس‪ ،‬شرع اهلل ّ‬
‫عليه الصالة والسالم‪ ،‬فيكتبون الوحي الذي‪ 9‬ينزل من السماء‪ ،‬ويكتبون كتبه اليت يبعثها إىل‬
‫غريهم‪ ،‬ويكتبون بعض األحكام اليت ُوجدت عندهم‪ ،‬كما يف كتاب عمرو بن حزم‪.‬‬

‫هذا كله قام به ثلة من الصحابة ألن العرب كانت ‪-‬يف الغالب‪ -‬أمةٌ أمية ال تكتب وال‬
‫حتسب‪ ،‬فالذين كانوا يكتبون كانوا قليال‪ ،‬منهم اخللفاء األربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي‪،‬‬
‫وكان هناك بعض الصحابة مجع املزيّتني‪ ،‬كان خطيبًا للنيب عليه الصالة والسالم وكان كاتبًا‬
‫كما هو شأن ثابت بن قيس‪ ،‬وكان من هؤالء الكتبة من هو ُمتميِّز كما يوجد يف الطالب أو‬
‫الوزراء أو يف املساندين ألي حاك ٍم ٌ‬
‫قوم مميّزون‪ ،‬كان زيد بن ثابت رضي اهلل عنه أميز‬
‫الصحابة يف الكتابة‪ ،‬وتعلم لغة يهود‪ ،‬وهو الذي طلب منه الصديق رضي اهلل تعاىل عنه‬
‫والفاروق بعد ذلك أن جيمع‪ 9‬القرآن‪ ،‬فهؤالء رضي اهلل عنهم وأرضاهم ثلةٌ من الصحابة كانوا‬
‫ودليل على أن العاقل يتخذ من أسباب العصر الذي‪ 9‬هو فيه ما‬
‫مع النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ٌ ،‬‬
‫ينفعه يف أموره خاصةً تلك اليت تتعلق بشئون الدعوة‪.‬‬

‫( وبعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬عمرو بن أمية الضمري رسواًل إىل النجاشي وامسه‬
‫أصحمة‪ ،‬ومعناه عطية‪ ،‬فأخذ كتاب رسول اهلل‪ ،‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ووضعه على عينيه‪،‬‬
‫ونزل عن سريره‪ ،‬فجلس على األرض‪ ،‬وأسلم وحسن إسالمه‪ ،‬إال أن إسالمه كان عند‬
‫حضور جعفر بن أيب طالب وأصحابه‪ ،‬وصح أن النيب صلى اهلل عليه وسلم صلى عليه يوم‬
‫مات‪ ،‬وروي‪ 9‬أنه كان ال يزال يرى النور على قربه )‬

‫ذكر املصنف هنا من بعثه النيب صلى اهلل عليه وسلم إىل امللوك‪ ،‬وبدأ بالنجاشي‪ ،‬قبل أن نشرع‬
‫طور جدي ٌد يف‬
‫سمى ٌ‬ ‫طور جدي ٌد يف الدعوة إىل اهلل‪ ،‬هذه املرحلة تُ َّ‬
‫فيه هذا نقول إن هذا الطور ٌ‬
‫جل وعال‪ ،‬وهذا الطور وقع بعد صلح احلديبية‪ ،‬كان القرشيُّون ميثلون الوثنية يف‬ ‫الدعوة إىل اهلل ّ‬
‫جزيرة العرب‪ ،‬وكان اليهود ميثلون – بطبيعة احلال‪ -‬اليهودية‪ ،‬وكانت القوى‪ 9‬اليت حُت ارب‬
‫قريشا يف صلح‬
‫اإلسالم ثالثة‪ ،‬اليهود وقريش وغطفان‪ ،‬فلما صاحل النيب صلى اهلل عليه وسلم ً‬
‫عموما‪ ،‬واهلل يقول عنه‬
‫احلديبية انكسرت شوكة الوثنيني فتفرغ صلى اهلل عليه وسلم للدعوة ً‬
‫ِ ِ‬
‫ني ﴾ [األنبياء‪،]107 :‬‬ ‫اك إِاَّل َرمْح َةً ل ْل َعالَم َ‬
‫﴿ َو َما أ َْر َس ْلنَ َ‬

‫َّاس بَ ِش ًريا َونَ ِذ ًيرا ﴾ [سبا‪ ،]28 :‬وقال صلى اهلل عليه وسلم‬
‫اك إِاَّل َكافَّةً لِلن ِ‬
‫وقال ﴿ َو َما أ َْر َس ْلنَ َ‬
‫( وكان النيب يُبعث يف قومه خاصةُ وبُعثت إىل الناس كافة )‪.‬‬

‫جديدا ومرحلةً دعوية‪ ،‬والنيب عليه الصالة والسالم مل يبدأ هبذا‬


‫طورا ً‬
‫فكان هذا كله يتطلب ً‬
‫الطور من قدمي – مع احلاجة إليه‪ ،-‬لكن املسلم العاقل ال يقيم اإلسالم يف غريه حىت يقيمه يف‬
‫نفسه‪ ،‬فلما شكل صلى اهلل عليه وسلم وأقام دولة اإلسالم وختلص من خصومه القريبني تفرغ‬
‫ٍ‬
‫جبهات‬ ‫للدعوة إىل اهلل جل وعال‪ ،‬والعاقل ال يستعدي الناس عليه يف ٍ‬
‫يوم واحد وال يكون‬ ‫ّ‬
‫متعددة حُت اربه ألن هذا أدعى ألن خيسر ويفشل‪ ،‬لكن العاقل يؤمن باملرحلية يف حياته‪ ،‬يؤمن‬
‫بالواقع‪ 9‬الذي يعيشه‪.‬‬

‫فهو عليه الصالة والسالم مل خُي اطب كسرى وال قيصر وال أقيال‪ 25‬اليمن وال غريهم حىت‬
‫كسر شوكة قريش‪ ،‬كسر شوكتها بصلح احلديبية على أن يستمر الناس عشر سنني ليس بينهم‬
‫بشر اهلل به نبيه يوم انصرف من‬
‫حرب‪ ،‬ملا توقفت احلرب كان هذا هو الفتح العظيم الذي‪ّ 9‬‬
‫احلديبية ﴿ إِنَّا َفتَ ْحنَا لَ َ‬
‫ك َفْت ًحا ُمبِينًا ﴾ [الفتح‪ ،]1 :‬فكان هذا سببًا يف أن يتهيّأ صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ليُخاطب اآلخرين غري مجاعته وعشريته األقربني الذين أُمر أن يبدأ هبم أوال وهم قريش‬
‫الذي هو منهم صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬وهو عليه الصالة والسالم وهو يدعو إىل اهلل ‪-‬كما‬
‫دعا بالسنان كما مر معنا يف غزاته‪ -‬دعا باللسان واختذ‪ 9‬األسباب املشروعة يف الدعوة اليت‬
‫توافق عصره آن ذاك‪.‬‬

‫فلما أخربوه –أي الصحابة‪ -‬أن العرب أو امللوك والسالطني واألمراء‪ 9‬ال يقبلون إال كتابًا‬
‫خمتوما مل يُعاند وإمنا اختذ‪ 9‬خامتًا من فضة عليه الصالة والسالم‪ ،‬جعل له ثالثة أسطر "حممد‬
‫ً‬
‫رسول اهلل"‪ ،‬كما يف البخاري‪ 9‬وغريه‪ ،‬فجعل كلمة حممد أسفل وكلمة رسول يف الوسط‪9‬‬
‫وكلمة اهلل –الذي هو لفظ اجلاللة‪ -‬يف األعلى‪ ،‬فأصبح اخلامت نقشه حممد‪ ،‬أعلى منها رسول‪،‬‬
‫وأعلى منها لفظ اجلاللة اهلل‪ ،‬فأصبح يُقرأ من األدىن "حممد رسول اهلل"‪ ،‬فحىت يف نقش خامته‬
‫جل وعال‪ ،‬وال يوجد أح ٌد تأدب مع ربه تبارك وتعاىل كما‬ ‫عليه الصالة والسالم تأدب مع ربه ّ‬
‫ٍ‬
‫أسباب كثرية‬ ‫كان نبينا عليه الصالة والسالم ُمتأدبًا مع ربه يعرف هلل قدره‪ ،‬وهذا واح ٌد من‬
‫أفاءها اهلل عليه جعلته أعظم النبيني وأكمل اخللق صلوات اهلل وسالمه عليه‪.‬‬
‫ملا عرج به إىل سدرة املنتهى مل يلتفت ميينا وال مشاال مل ينظر إىل أي ٍ‬
‫شيء إال ِوفق ما يُريه اهلل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫فما أراه اهلل رآه‪ ،‬وما مل يريه اهلل مل يتحرك منه جارحة واحدة تلتفت من غري أن يؤذن له‪،‬‬
‫ص ُر َو َما طَغَى ﴾‬
‫غ الْبَ َ‬
‫ولذلك زكى اهلل بصره يف القرآن فقال اهلل يف سورة النجم ﴿ َما َزا َ‬
‫[النجم‪ ،]17 :‬أي مل يتجاوز حدوده‪ ،‬وكان عليه الصالة والسالم يف كل حاله وآله ُمتأدبًا مع‬
‫جل وعال‪،‬‬ ‫أسباب من أعظمها األدب مع اهلل ّ‬ ‫ٌ‬ ‫جل وعال‪ ،‬وأنت إذا تُريد الرفعة فالرفعة هلا‬
‫ربه ّ‬
‫وما أورث أنبياء اهلل ورسله الناس شيئًا أعظم من أدهبم مع اهلل‪.‬‬

‫ال أََفَرأ َْيتُ ْم َما ُكْنتُ ْم َت ْعبُ ُدو َن * أَْنتُ ْم َوآَبَا ُؤ ُك ُم‬
‫قال اهلل عن خليله إبراهيم وهو يُعرف ربّه ﴿ قَ َ‬
‫ني * الَّ ِذي َخلَ َقيِن َف ُه َو َي ْه ِدي ِن * َوالَّ ِذي ُه َو يُطْعِ ُميِن‬ ‫اأْل َقْ َدمو َ‪9‬ن * فَِإنَّهم ع ُد ٌّو يِل إِاَّل ر َّ ِ‬
‫ب الْ َعالَم َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ َ‬ ‫ُ‬
‫ت َف ُهو يَ ْش ِف ِ‬
‫ني ﴾ ومل يقل فإذا‬ ‫ني ﴾ فلما ذكر املرض نسبه إىل نفسه قال ﴿ َوإِ َذا َم ِر ْ‬ ‫ويَس ِق ِ‬
‫ضُ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ني ﴾ [الشعراء‪ ،]81-75 :‬كل‬ ‫أمرضين تأدبًا مع ربه جل وعال‪ ،‬مث قال ﴿ والَّ ِذي‪ 9‬مُيِيتُيِن مُثَّ حُيْيِ ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫جل وعال‪.‬‬‫ذلك من كما أدهبم مع اهلل ّ‬
‫رجل يشتكي جدب الديار‬ ‫ونبينا صلى اهلل عليه وسلم كان خيطب يف صالة اجلمعة فدخل ٌ‬
‫وقلة األمطار وقال‪ :‬يا رسول اهلل استسق اهلل لنا‪ ،‬فرفع صلى اهلل عليه وسلم يديه يقول ( اللهم‬
‫ُسبوعا‪ ،‬مث يف يوم‬
‫أغثنا‪ ،‬اللهم أغثنا‪ ،‬اللهم أغثنا ) فتكون السحاب بأمر اهلل وأُمطر الناس أ ً‬
‫السبل‬
‫رجل ‪-‬هو أو غريه‪ -‬من نفس الباب يشكو كثرة أن السيول قطعت ُ‬ ‫اجلمعة املُقبل دخل ٌ‬
‫وفرقت الناس وأضرت بالطرق فقال يا رسول اهلل كذا‪ 9‬وكذا حصل من أثر السيول فادع اهلل‬
‫أن ميسكها عنّا‪ ،‬فكان لكمال أدبه يف املرة األوىل حينما قال الرجل أغثنا قال ( اللهم أغثنا )‪،‬‬
‫يف املرة الثانية قال امسكها عنّا فلم يقل صلى اهلل عليه وسلم لربه أمسك عنّا رمحتك ألنه يعلم‬
‫أهنا رمحة‪ ،‬قال ( اللهم حوالينا وال علينا‪ ،‬اللهم على اآلكام والظراب وبطون األودية ومنابت‬
‫الشجر ) وجعل يشري بيديه‪ ،‬قال أنس "فواهلل ما أشار إىل ناحية إال اجته السحاب إليها "‪،‬‬
‫صلوات اهلل وسالمه عليه‪.‬‬

‫وهذا األدب يغفل عنه كثريٌ من الناس وهو يتأدب به مع ربه‪ ،‬كما حظي به النبيون حظي به‬
‫َشٌّر أُِر َيد مِب َ ْن يِف اأْل َْر ِ‬
‫ض أ َْم أ ََر َاد‬ ‫األتقياء عرب التاريخ كله‪ ،‬قال اهلل عن اجلن ﴿ َوأَنَّا اَل نَ ْد ِري أ َ‬
‫هِبِ ْم َربُّ ُه ْم َر َش ًدا ﴾ [اجلن‪،]10 :‬‬
‫الشر نسبوه إىل ما‬ ‫هِبِ‬
‫فلما ذكروا الرشد نسبوه إىل اهلل ﴿ أ َْم أ ََر َاد ْم َربُّ ُه ْم َر َش ًدا ﴾‪ ،‬وملا ذكروا ّ‬
‫ض ﴾ ومل‬ ‫َشٌّر أُِر َيد مِب َ ْن يِف اأْل َْر ِ‬
‫سمى فاعله كما يقول النحويون‪ ،‬قالوا ﴿ َوأَنَّا اَل نَ ْد ِري أ َ‬ ‫مل يُ َّ‬
‫ينسبوه إىل اهلل مع أن اهلل خالق اخلري وخالق الشر‪.‬‬

‫الس ِفينَةُ‬
‫وكذلك اخلضر عليه السالم ملا ذكر السفينة وعيبها قال –كما أخرب اهلل عنه‪ ﴿ -‬أ ََّما َّ‬
‫فَ َكانَت لِمساكِني يعملُو َن يِف الْبح ِر فَأَر ْدت أَ ْن أ ِ‬
‫َع َيب َها ﴾ أسند العيب‪ 9‬إىل نفسه‪َ ﴿ ،‬و َكا َن‬ ‫َْ َ ُ‬ ‫ْ َ َ َ َْ َ‬
‫صبًا * َوأ ََّما الْغُاَل ُم فَ َكا َن أ ََب َواهُ ُم ْؤ ِمَننْي ِ فَ َخ ِشينَا أَ ْن يُْر ِه َق ُه َما‬ ‫ِ ٍ‬
‫ك يَأْ ُخ ُذ ُك َّل َسفينَة َغ ْ‬ ‫َو َراءَ ُه ْم َملِ ٌ‬
‫ب ُرمْح ًا * َوأ ََّما اجْلِ َد ُار فَ َكا َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫طُ ْغيَانًا َو ُك ْفًرا * فَأ ََر ْدنَا أَ ْن يُْبدهَلَُما َربُّ ُه َما َخْيًرا مْنهُ َز َكا ًة َوأَْقَر َ‬
‫َش َّدمُهَا‬ ‫لِغُاَل م ِ يتِيم ِ يِف الْم ِدين ِة و َكا َن حَت ته َكْنز هَل ما و َكا َن أَبومُه ا حِل‬
‫ك أَ ْن َيْبلُغَا أ ُ‬ ‫صا ًا فَأ ََر َاد َربُّ َ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫ْ َ ُ ٌ َُ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ نْي َ َ نْي‬
‫ك ﴾[الكهف‪ ،]82-79 :‬فلما ذكر الزكاة والرمحة نسبها إىل‬ ‫َويَ ْستَ ْخ ِر َجا َكْنَزمُهَا َرمْح َةً ِم ْن َربِّ َ‬
‫ت‬‫ك ﴾‪ ،‬ومل يقل فأردت ‪ ،‬وملا ذكر العيب‪ 9‬نسبه إىل نفسه قال ﴿ فَأ ََر ْد ُ‬ ‫الرب قال ﴿ فَأ ََر َاد َربُّ َ‬
‫ِ‬
‫ندرج ضمن أدب رسولنا صلى اهلل عليه وسلم مع ربه‪ ،‬وهو أعظم‬ ‫أَ ْن أَع َيب َها ﴾‪ ،‬وهذا كله ُم ٌ‬
‫ما يُنقل عنه ويُتأسى به صلوات اهلل وسالمه عليه‪.‬‬

‫نعود إىل فقه الواقع‪ 9‬الذي كان عليه صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬كتب الكتب وبعث هبا إىل‬
‫امللوك والزعماء يدعو إىل اهلل ويبلغ رسالة ربه‪ ،‬وهو يف كل رسالة يبعثها خيتار من حيملها‪،‬‬

‫خطاب من‬
‫ٌ‬ ‫والعاقل تدل على عقله ثالثة أشياء‪ :‬هديته‪ ،‬وكتابه‪ ،‬ورسوله‪ ،‬مبعىن أنه لو أتاك‬
‫أحد أو مرسول من أحد أو هدية من أحد فإمنا الكتاب واهلدية واملرسول تدلك على عقل من‬ ‫ٍ‬
‫قوما ُمعينني من أصحابه وهو يبعثهم إىل امللوك‬
‫بعثها‪ ،‬لذلك كان صلى اهلل عليه وسلم خيتار ً‬
‫والرؤساء مبا يوافق حاهلم –أي حال هؤالء امللوك‪ ،-‬ألن ليس املقصود التجرب والتكرب وإمنا‬
‫أفواجا‪.‬‬
‫املقصود أن يدخل الناس يف دين اهلل ً‬
‫لقب يُطلق على من ملك احلبشة‪ ،‬واختلف يف‬
‫فكان ممن بعث هلم النجاشي‪ ،‬والنجاشي ٌ‬
‫النجاشي الذي بعث النيب صلى اهلل عليه وسلم عمرو بن أمية إليه هل هو النجاشي الذي هاجر‬
‫قوم آخرون – أقصد من‬‫إليه املهاجرون األوائل؟ قال هبذا‪ 9‬قوم‪ ،‬وهل هو غريه؟ قال هبذا‪ٌ 9‬‬
‫العلماء‪ ،-‬والذي‪ 9‬يظهر – واهلل تعاىل أعلم‪ -‬أنه غري النجاشي األول كما يدل عليه حديث‬
‫أنس‪ ،‬واهلل تعاىل أعلم‪.‬‬

‫( بعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم دحية بن خليفة الكليب إىل قيصر ملك الروم‪ ،‬وامسه‬
‫هرقل‪ ،‬فسأل عن النيب صلى اهلل عليه وسلم وثبت عنده صحة نبوته‪ ،‬فهم باإلسالم‪ ،‬فلم توافقه‬
‫الروم‪ ،‬وخافهم على ملكه فأمسك‪.‬‬
‫وبعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عبد اهلل بن حذافة السهمي‪ 9‬إىل كسرى ملك فارس‪،‬‬
‫فمزق كتاب النيب صلى اهلل عليه وسلم وقال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ( :‬مزق اهلل ملكه )‪.‬‬
‫فمزق اهلل ملكه وملك قومه‪.‬‬
‫وبعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حاطب بن أيب بلتعة اللخمي إىل املقوقس ملك‬
‫خريا‪ ،‬وقارب األمر‪ ،‬ومل يسلم‪ ،‬فأهدى إىل النيب صلى اهلل عليه‬
‫اإلسكندرية ومصر‪ ،‬فقال ً‬
‫وسلم‪ ،‬مارية القبطية وأختها سريين‪ ،‬فوهبها حلسان بن ثابت‪ ،‬فولدت له عبد الرمحن بن‬
‫حسان‪.‬‬
‫وبعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عمرو بن العاص إىل ملكي عُ َمان جيفر وعبد ابين‬
‫اجللندي‪ ،‬ومها من األزد‪ ،‬وامللك جيفر‪ ،‬فأسلما وص ّدقا‪ ،‬وخلَّيا بني عمرو وبني الصدقة واحلكم‬
‫فيما بينهم‪ ،‬فلم يزل عندهم حىت تويف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وبعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم َسليط بن عمرو بن العامري‪ 9‬إىل اليمامة‪ ،‬إىل هوذة ابن‬
‫علي احلنفي‪ ،‬فأكرمه وأنزله‪ ،‬وكتب إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬ما أحسن ما تدعو إليه‬
‫وأمجله‪ ،‬وأنا خطيب قومي وشاعرهم‪ ،‬فاجعل يل بعض األمر‪ ،‬فأىب النيب‪ ،‬صلى اهلل عليه وسلم‬
‫ومل يسلم‪ ،‬ومات زمن الفتح‪.‬‬
‫وبعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم شجاع بن وهب األسدي‪ 9‬إىل احلارث بن أيب مشر‬
‫الغساين ملك البلقاء من أرض الشام‪ ،‬قال شجاع‪ :‬فانتهيت إليه وهو بغوطة دمشق‪ ،‬فقرأ‬
‫كتاب النيب صلى اهلل عليه وسلم مث رمى به‪ ،‬وقال‪ :‬إين سائر إليه‪ ،‬وعزم على ذلك‪ ،‬فمنعه‬
‫قيصر‪.‬‬
‫وبعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املهاجر بن أيب أُميَّة املخزومي إىل احلارث احلمريي أحد‬
‫مقاولة اليمن‪.‬‬
‫وبعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم العالء بن احلضرمي إىل املنذر بن ساوي العبدي ملك‬
‫ُ‬
‫البحرين‪ ،‬وكتب إليه كتابًا يدعوه إىل اإلسالم‪ ،‬فأسلم وص ّدق‪.‬‬

‫وبعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أبا موسى األشعري ومعاذ بن جبل األنصاري‪ 9‬رضي‬
‫داعينْي إىل اإلسالم‪ ،‬فأسلم عامة أهل اليمن وملوكهم‪9‬‬
‫اهلل عنهما إىل مجلة اليمن‪َ ،‬‬
‫طوعا من غري قتال )‪.‬‬
‫ً‬
‫ذكر املصنف رمحه اهلل مجلةً ممن بعثهم النيب صلى اهلل عليه وسلم إىل ملوك وأمراء ذلك العصر‪،‬‬
‫وهذا فيه دالئل من أمهها ما قدمناه مما بذله صلى اهلل عليه وسلم يف سبيل الدعوة إىل اهلل‪ ،‬وفيه‬
‫فضيلة أصحاب حممد عليه الصالة والسالم وأهنم محلوا تلك الكتب‪ 9‬والرسائل وأوصلوها إىل‬
‫غري ُمبالني من أن يُقتلوا‪ ،‬قاطعني الفيايف والصحراء واجلبال وال ِوهاد‪ ،‬كل ذلك‬
‫أولئك امللوك َ‬
‫ليُشاركوا يف تبليغ دعوة الرب تبارك وتعاىل‪.‬‬

‫األمر املهم يف القضية كلها‪ ،‬حاول أن تربط ما بني املنت الذي مسعته وما بني واقع املسلمني‬
‫اليوم‪ ،‬الناس هم الناس واألحداث هي األحداث‪ ،‬وإمنا خيتلف الناس فقط‪ ،‬أولئك الزعماء‬
‫واحدا‪ ،‬منهم من‬ ‫مجيعا تعامال ً‬
‫تعاملوا مع اخلطاب النبوي‪ 9‬تعامال متباينًا ُمتفاوتًا‪ ،‬فلم يتعاملوا ً‬
‫قبله وجعله بني عينيه وأسلم‪ ،‬ومنهم من أسلم من غري تقبيل‪ ،‬ومنهم من مزقه‪ ،‬جبَّ ٌار عني ٌد‬
‫مزقه‪ ،‬ومنهم من حاول أن يسوس الناس الذين عنده هل يُوافقونه أو ال يُوافقونه‪ ،‬فلما غلب‬ ‫ّ‬
‫تأدب مع النيب‬ ‫عن ظنه أهنم ال يُوافقونه خاف على ملكه‪ ،‬ومنهم من مل يقبل اإلسالم لكنه ّ‬
‫صلى اهلل عليه وسلم وبعث له هبدية‪ ،‬ومنهم أقوام ليست فيهم قوة آن ذاك كجملة اليمن‬
‫فبعث إليهم أبا موسى األشعري ومعاذ بن جبل‪ ،‬وقد تُويف النيب صلى اهلل عليه وسلم ومعاذٌ يف‬
‫فمعاذ مل يشهد وفاة النيب صلى اهلل عليه وسلم يف املدينة‪.‬‬ ‫اليمن‪ُ ،‬‬
‫فاآلن العامل اإلسالمي الذي نعيشه نظرة غري املسلمني من حكومات وشعوب العامل من‬
‫متاما نظرة األوائل يف ذلك الزمان‪ ،‬فال يُعقل أن يكون مجيع زعماء العامل‬
‫املسلمني هي نفسها ً‬
‫وشعوب العامل نظرهتا إىل اإلسالم اليوم نظر ًة واحدة‪ ،‬وهناك من حُي اربه وهناك من يستحيي‬
‫منه‪ ،‬وهناك من يود أن يدخل فيه لكنه غري قادر‪ ،‬وهناك من يدخل يف الدين‪ ،‬فيتفاوت الناس‪،‬‬
‫شيء كما قلت يف مقدمة الدرس‪ -‬ال يستعدي‪ 9‬الناس‪ ،‬يتعامل‬‫فاملسلم العاقل –والعاقل‪ 9‬يف كل ٍ‬
‫مع من حوله بذكاء حىت حُي قق مصاحله‪ ،‬ال يهدم األمر على قومه وعلى نفسه وعلى عشريته‬
‫فيضيع األمر كله أو يتخبط الناس فيه‪.‬‬

‫كان النيب صلى اهلل عليه وسلم ينتهز فرصة من حوله فيبعث ذلك اخلطاب الذي يسرتق به‬
‫جل وعال بعث موسى وهارون إىل أعظم اجلبابرة يف عصره وقال ﴿ َف ُقواَل لَهُ َق ْواًل‬ ‫الناس‪ ،‬واهلل ّ‬
‫لَِّينًا لَ َعلَّهُ َيتَ َذ َّك ُر أ َْو خَي ْ َشى ﴾ [طـه‪ ،]44 :‬فأعظم ما يقتبسه املسلمون من السنة أن يعقلوا‬
‫حريصا على أن يدعو الناس‪ ،‬النيب عليه الصالة والسالم‬ ‫ً‬ ‫كيف كان النيب عليه الصالة والسالم‬
‫تابعا )‪ ،‬فأعظم رغبةً له عليه الصالة‬
‫ذكر األنبياء مث قال ( وإين ألرجو اهلل أن أكون أكثرهم ً‬
‫والسالم أن يكون أكثر األنبياء استجابةً‪ ،‬وهذا ال يتحقق إال بالدعوة‪ ،‬فالعاقل الذي يريد أن‬
‫أخر‬
‫حُي قق الرغبة النبوية يُسهم يف الدعوة إىل اهلل ال يف التنفري من الدين‪ ،‬وقد قلنا إن النيب ّ‬
‫مسألة دعوة امللوك حىت يُقيم اإلسالم يف ماذا؟ يف املسلمني‪ ،‬وأنت لن تُقيم اإلسالم يف غريك‬
‫حىت تُقيمه يف نفسك‪.‬‬

‫أما قضية التعامل باملثل هذه قضية خاطئة‪ ،‬أنت قدم اإلسالم كما هو اإلسالم‪ ،‬ال تقدم اإلسالم‬
‫جل وعال لنا‪ ،‬مثال عندنا يف املدينة‬
‫كما يريد األعداء‪ 9‬أن يروه‪ ،‬قدم اإلسالم كما قدمه ّ‬
‫‪-‬لألسف‪ -‬يسكن طائفة‪ ،‬ال داعي للذكر‪ ،‬يسكن طائفة معينة غري أهل السنة‪ ،‬وكنت قدميًا‬
‫أعمل يف اإلشراف الرتبوي‪ ،‬يعين ُمشرف على املدارس‪ ،‬فيأتيك معلم يسبهم ليل هنار ويفعل‬
‫أمور أُنزه املسجد هلم‪ ،‬مث يقول واهلل يا فالن –خُي اطبين‪ -‬يا فالن ما استجابوا ما آمنوا ما تركوا‬
‫البدع‪.‬‬
‫من الذي تقابله وميد يده يسلم عليك تسحب يدل وتبصق يف وجهه وترميه وال هتنئه بشيء‬
‫وال تعزيه إذا مات أحد مث تريده أن يدخل يف هذا املبدأ الذي‪ 9‬تدعو إليه؟! هذا جنون ال ميكن‬
‫جل‬
‫أن يقع‪ ،‬ما فيه عاقل يتبعك وأنت على هذه احلال‪ ،‬لكن قدم اإلسالم كما جاء به اهلل ّ‬
‫أفواجا‪ ،‬أما تأتيين أنا أمد‬
‫وعال على لسان رسوله صلى اهلل عليه وسلم يدخل الناس يف دين اهلل ً‬
‫يدي ألصافحك وأنت تسحبها وأُرزق مبولود ال هُت نئين وميوت يل ميِّت ال تعزيين مث تقول يل‬
‫ادخل يف السنة اليت أنا أتبعها‪ ،‬أنت مل تقدم السنة كما قدمها‪ 9‬نبينا صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهذا‬
‫مرض يف القلب‪.‬‬
‫ٌ‬
‫النيب عليه الصالة والسالم بعث عليًّا يف حربه مع يهود‪ ،‬واليهود‪ 9‬بأسلحتهم يف حصوهنم‪،‬‬
‫حياربونه‪ ،‬وغدروا‪ 9‬به‪ ،‬وأعطوه شا ًة مسمومة‪ ،‬واهلل لعنهم يف القرآن‪ ،‬وهم حاملو أسلحة‪،‬‬
‫لعلي ( فادعهم إىل ال إله إال اهلل‪ ،‬فألن يهدي اهلل بك رجال‬
‫والنيب صلى اهلل عليه وسلم يقول ٍّ‬
‫واحدا خريٌ لك من مُح ر النعم )‪ ،‬ومل يقل له لو قتلت يهودي تدخل اجلنة‪ ،‬قال له ( ألن يهدي‬
‫ً‬
‫واحدا خريٌ لك من مُح ر النعم‪.) 9‬‬
‫اهلل بك رجال ً‬
‫فالدعوة إىل اهلل تبارك وتعاىل مقدمة على شيء‪ ،‬واإلنسان الذي‪ 9‬يتبع هدي ٍ‬
‫حممد صلى اهلل عليه‬
‫وسلم أول أمر ينزع اهلوى‪ 9‬الذي يف قلبه والرغبات الشخصية يرميها وراء ظهره‪ ،‬مث جيعل هنج‬
‫حممد صلى اهلل عليه وسلم بني يديه‪ ،‬هذا هو احملك احلقيقي يف اتباع السنة‪ ،‬هل تأيت لإلنسان‬ ‫ٍ‬
‫وتسأله أنت مسلم أم كافر؟ قال أنا كافر تقتله ومتضي! هذا ال ميكن أن يأيت به حمم ٌ‪9‬د صلى اهلل‬
‫ِ‬ ‫ت فَظًّا َغلِي َ‬
‫ك ﴾ [آل‬ ‫ب اَل ْن َفضُّوا ِم ْن َح ْول َ‬
‫ظ الْ َق ْل ِ‬ ‫عليه وسلم عن ربه‪ ،‬قال اهلل عنه ﴿ َولَ ْو ُكْن َ‬
‫عمران‪ ،]159 :‬انصرف صلى اهلل عليه وسلم من بدر وهو ُمنتصر فقال بعض املسلمني من‬
‫صلعى" يقصد ُكفار قريش‪ ،‬فقال صلى اهلل عليه وسلم ( على‬ ‫األنصار "إن وجدنا إال عجائز ُ‬
‫ِرسلِك يا ابن أخي أولئك املأل لو أمروك ألجبتهم )‪ ،‬أي أهنم أشراف الناس‪ ،‬فلم يُنقص‬
‫قدرهم صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫جل وعال‪ ،‬حارب النيب عليه الصالة والسالم من حال بينه وبني أن‬ ‫فكان يدعو إىل دين اهلل ّ‬
‫يدعو إىل اهلل‪ ،‬حارب النيب صلى اهلل عليه وسلم من حال بينه وبني من يدعو إىل اهلل‪ ،‬وهذا‬
‫ون ﴾ [الدخان‪ ،]21 :‬أي ال‬ ‫هنج األنبياء من قبل‪ ،‬موسى يقول ﴿ َوإِ ْن مَلْ ُت ْؤ ِمنُوا يِل فَ ْ‬
‫اعتَ ِزلُ ِ‬
‫متنعوين أن أدعو اهلل‪ ،‬فما أحوج املسلمني اليوم‪ 9‬إىل من يفقه الدعوة النبوية اليت جاء هبا حمم ٌد‬
‫صلى اهلل عليه وسلم عن ربه‪ ،‬فهؤالء الرسل يقطعون الفيايف يبلغون رساالت اهلل باحلكمة‬
‫أبدا أن يُرتك اجلهاد‪ ،‬فاجلهاد ذروة سنام اإلسالم‪ ،‬لكن كما‬ ‫واملوعظة احلسنة‪ ،‬هذا كله ال يعين ً‬
‫جل وعال‪.‬‬
‫قلت حارب الرسول من وقف بينه وبني أن يدعو إىل اهلل ّ‬
‫هؤالء القوم‪ 9‬الذين حارهبم‪ 9‬رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ولذلك كان الصحابة كأيب بك ٍر‬
‫وغريه مينع الناس أن يتعرض إىل الذين يف الكنائس ِ‬
‫والديَر‪ ،‬يقول ال تتعرضوا هلم‪ ،‬يعين هؤالء‬
‫مشغولون مبا هم فيه ال مينعونك من أن تدعو‪ ،‬ادع كما شئت ال مينعونك‪ ،‬يرتكونك تدعو‬
‫فلم يتعرض هلم املسلمون‪.‬‬

‫واملقصود من هذا كله أن الوضع املعاصر يفرض على من يعقل من علماء املسلمني أن يقول‬
‫احلق‪ ،‬أما أن يلتمس اإلنسان من كالمه رغبة الناس –وهذا من أعظم أخطائنا يف الصحوة‪،-‬‬
‫إذا جئت تتكلم ال ينبغي أن تقول ما يريده الناس‪ ،‬ينبغي أن تقول ما هو مراد اهلل‪ ،‬ألن العلماء‬
‫يسورون أقوال العلماء‪ ،‬هذه الكلمة اليت يقولوها‬
‫هم الذين يقودون العامة‪ ،‬وليس العامة الذين ِّ‬
‫جل وعال‬ ‫َّ‬
‫النقاد السينمائيون‪" 9‬ما يريده اجلمهور" هذا عند شبَّاك السينما‪ ،‬أما هنا يف شرع اهلل ّ‬
‫فليس األمر مرتوك يل وال لك‪.‬‬

‫نور أتى به حمم ٌد صلى اهلل عليه وسلم من ربه فنبلغه كما بلغه نبينا صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫هذا ٌ‬
‫بلغه بالسنان بالقتل مع من حرمه أن يبلغ دين ربه‪ ،‬وبلغه باللسان واحلكمة واملوعظة واحلسنة‬
‫جل وعال‪ ،‬حىت قال العلماء إن النيب عليه الصالة والسالم أقر‬
‫مع من مل يتعرض لدعوته لربه ّ‬
‫من أسلم من امللوك على ملكهم ومل يبعث صحابة يسلبوهم امللك حىت ال يُفتنوا‪ ،‬ترك امللوك‬
‫أفواجا وليس‬
‫والرؤساء الذين أسلموا على ملكهم‪ ،‬ألن املقصود أن يدخل الناس يف دين اهلل ً‬
‫زعيما على تلك الطائفة‪ ،‬املقصود‬
‫املقصود أن يأيت أحد الصحابة فريث تلك األرض‪ 9‬ويُصبح ً‬
‫عظيما إذا كنت سببًا يف دخول‬
‫أفواجا‪ ،‬وأنت ستكون حظيظًا ً‬
‫أن يدخل الناس يف دين اهلل ً‬
‫جل وعال‪.‬‬
‫الناس إىل دين ربك ّ‬
‫نعلق كذلك على بعض ما جاء باملنت وقلت هذا هو الزبدة منه‪ ،‬هرقل هذا عظيم الروم‪ ،‬واآلن‬
‫انظر يف أشياء ما هي غيب‪ ،‬لكن تظهر يف نصف احلديث تكشف لك أشياء أخرى‪ ،‬كسرى‬
‫مزق اهلل ملكه )‪ ،‬قيصر ما قبل اإلسالم لكن‬ ‫مزق الكتاب‪ ،‬ماذا قال صلى اهلل عليه وسلم؟ ( ّ‬
‫ما قال صلى اهلل عليه وسلم مزق اهلل ملكه‪ ،‬اآلن انظر إىل الواقع‪ ،‬ال يوجد ملك كسراوي‬
‫مزق اهلل ملكه ) انتهى‬‫كافر‪ ،‬ويوجد ملك للروم كافر‪ ،‬واضح؟‪ ،‬قال صلى اهلل عليه وسلم ( ّ‬
‫قدرا‬
‫ملكه‪ ،‬وبقي ملك الروم كما هو‪ ،‬ملاذا مل يدعُ عليهم؟ حىت يبقى قدر اهلل‪ ،‬فما أراده اهلل ً‬
‫قدرا‪ 9‬ال جيريه اهلل‬
‫شرعا‪ ،‬وهذا من دقائق العلم‪ ،‬ما يريده اهلل أن يقع ً‬
‫ال جيريه على لسان نبيه ً‬
‫شرعا‪.‬‬
‫على لسان نبيه ً‬

‫جل وعال قال يف سورة األنعام –وأنا قلت هذا يف حماضراتنا يف التفسري املوجودة‪ ،-‬قلنا إن‬ ‫اهلل ّ‬
‫ت أ َْر ُجلِ ُك ْم أ َْو‬‫اهلل جل وعال قال يف سورة األنعام ملا ذكر أنه ﴿ ع َذابا ِمن َفوقِ ُك ‪9‬م أَو ِمن حَتْ ِ‬
‫َ ً ْ ْ ْ ْ ْ‬ ‫ّ‬
‫ض ﴾ [األنعام‪ ،،]65 :‬فلما قرأ جربيل ﴿ َع َذابًا ِم ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س َب ْع ٍ‬
‫ض ُك ْم بَأْ َ‬ ‫َي ْلبِ َس ُك ْم شَي ًعا َويُذ َ‬
‫يق َب ْع َ‬
‫َف ْوقِ ُك ْم ﴾ استجار النيب صلى اهلل عليه وسلم بربه‪ ،‬هذه األمة ال ميكن أن تُعذب باحلجارة‪ ،‬ال‬
‫ت أ َْر ُجلِ ُك ْم ﴾ فال ميكن‬ ‫ميكن أن تُعذب عذاب هالك باحلجارة من السماء‪ ،‬وقال ﴿ ِمن حَتْ ِ‬
‫ْ‬
‫هلذه األمة أن خُي سف هبا وتنتهي‪ ،‬مث وجربيل يتلو على النيب صلى اهلل عليه وسلم ﴿ أ َْو َي ْلبِ َس ُك ْم‬
‫س َب ْع ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض ﴾ ما قال صلى اهلل عليه وسلم أعوذ باهلل من ذلك كما قال‬ ‫ض ُك ْم بَأْ َ‬‫يق َب ْع َ‬
‫شَي ًعا َويُذ َ‬
‫قدرا فلم جيريها‬ ‫قدرا‪ 9،‬واهلل قد كتب يف األزل أهنا ستقع ً‬ ‫شرعا تقع ً‬ ‫يف األولني‪ ،‬ألنه لو قاهلا ً‬
‫شرعا‪ ،‬قال صلى اهلل عليه وسلم ( هذا أهون وأيسر )‪ ،‬وأنت ترى األمة إىل‬‫على لسان نبيِّه ً‬
‫اليوم يُذيق بعضها بأس بعض‪ ،‬تتقاتل‪ ،‬منذ مقتل عثمان إىل اليوم واألمة يذيق بعضها بأس‬
‫بعض‪ ،‬ومل يقل صلى اهلل عليه وسلم ملا نزلت اآلية أعوذ باهلل من ذلك حىت ميضي قدر اهلل‪.‬‬
‫ّ‬
‫شرعا جيريه على‬
‫شرعا‪ ،‬وما أراد اهلل منعه ً‬
‫قدرا‪ 9‬ال جيريه على لسان نبيه ً‬
‫فما أراده اهلل أن يقع ً‬
‫مزق اهلل ملكه ) فانتهى ملك األكاسرة‪ ،‬ولكنه‬‫شرعا‪ ،‬فقال يف كسرا وهو كافر ( ّ‬‫لسان نبيه ً‬
‫–طبعا هي الروم‪ 9-‬باقي ملكها إىل اليوم‪ ،‬ولن‬
‫مل يقل يف هرقل مزق اهلل ملكه فإىل اليوم‪ 9‬أوربا ً‬
‫تقوم الساعة حىت تكون الروم أكثر الناس‪.‬‬
‫أعمامه و عماته و أزواجه ـ صلى اهلل عليه و سلم ‪:‬‬

‫فصل في أعمامه وعماته‪:‬‬


‫(وكان له صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬من العمومة أحد عشر؛ منهم‪:‬‬
‫احلارث‪ :‬وهو أكرب ولد عبد املطلب‪ ،‬وبه كان يكىن‪ ،‬ومن ولده وولد‪ 9‬ولده مجاعة هلم صحبة‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫صغريا‪ ،‬وهو أخو احلارث ألمه‪.‬‬
‫وقثم‪ :‬هلك ً‬
‫والزبري بن عبد املطلب‪ :‬وكان من أشراف قريش‪ ،‬وابنه عبد اهلل بن الزبري‪ ،‬شهد مع رسول اهلل‬
‫وروي‪ 9‬أنه وجد إىل جنب سبعة‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم حنينًا‪ ،‬وثبت يومئذ‪ ،‬واستُشهد‪ 9‬بأجنادين‪ُ ،‬‬
‫قد قتلهم وقتلوه‪.‬‬
‫وضباعة بنت الزبري‪ ،‬هلا صحبة‪ ،‬وأم احلكم بنت الزبري‪ ،‬روت عن النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ومحزة بن عبد املطلب‪ :‬أسد اهلل وأسد رسوله‪ ،‬وأخوه من الرضاعة‪ ،‬أسلم قدميًا‪ ،‬وهاجر إىل‬
‫شهيدا‪ ،‬ومل يكن له إال ابنة‪.‬‬
‫بدرا‪ ،‬وقُتل يوم أحد ً‬‫املدينة‪ ،‬وشهد ً‬
‫وأبو الفضل العباس بن عبد املطلب‪ :‬أسلم وحسن إسالمه‪ ،‬وهاجر إىل املدينة‪ ،‬وكان أكرب من‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم بثالث سنني‪ ،‬وكان له عشرة من الذكور‪ :‬الفضل‪ ،‬وعبد اهلل‪ ،‬وقثم‬
‫هلم صحبة‪ ،‬ومات سنة اثنتني وثالثني يف خالفة عثمان ابن عفان باملدينة‪ .‬ومل يسلم من أعمام‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم إال العباس ومحزة‪.‬‬
‫وأبو طالب بن عبد املطلب‪ :‬وامسه عبد مناف‪ ،‬وهو أخو عبد اهلل – أيب رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم – ألمه‪ ،‬وعاتكة صاحبة الرؤيا يف بدر وأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران‬
‫كافرا – وعقيل‪ ،‬وجعفر‪ ،‬وعلي‪ ،‬وأم هانئ – هلم‬ ‫طالب – مات ً‬‫بن خمزوم‪.‬وله من الولد‪ٌ 9‬‬
‫أيضا‪.‬‬
‫صحبة – واسم أم هانئ فاختة‪ ،‬وقيل‪ :‬هند‪ .‬ومجانة ذكرت يف أوالده ً‬
‫وأبو هلب بن عبد املطلب‪ :‬وامسه عبد العزى‪ ،‬كناه أبوه بذلك حلسن وجهه‪ ،‬ومن ولده عتبة‪،‬‬
‫َّب‪ ،‬ثبتا مع النيب صلى اهلل عليه وسلم يوم حنني‪ ،‬ودرة‪ ،‬هلم صحبة‪ .‬وعَُتْيبَةُ قتلة األسد‬ ‫ومعت ٌ‬
‫ُ‬
‫بالزرقاء من أرض الشام‪ 9‬على كفره بدعوة النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫وعبد الكعبة‪ ،‬و ِح ْج ٌل وامسه املغرية‪ ،‬وضرار‪ 9‬أخو العباس ألمه‪ ،‬والغَْي َداق‪ ،‬وإمنا مسي الغيداق‬
‫طعاما )‬
‫ألنه أجود قريش‪ ،‬وأكثرهم ً‬
‫هؤالء كما ذكر صاحب املنت من أعمام النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقبل التعليق على هذا‬
‫معروف هو أخو الوالد‪ ،‬أن عبد املطلب هو جد النيب صلى‬‫ٌ‬ ‫العم‬
‫حيسن أن تعلم أن األصل أن ّ‪9‬‬
‫ابن واحد‪ ،‬مث إنه اشتد عليه بعض اخلالف مع‬ ‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬ومل يكن له يف أول األمر إال ٌ‬
‫أوالدا مينعونه أن يذبح أحدهم –هذا يف اجلاهلية‪ ،-‬فرزقه اهلل‬
‫زعماء قريش فنذر‪ 9‬إن رزقه اهلل ً‬
‫أوالدا‪،‬‬
‫جل وعال ً‬ ‫ّ‬
‫دي عبد اهلل مبائة من‬
‫فأراد أن يذبح ابنه عبد اهلل مث حصل ما حصل من قضية االستهام‪ ،‬فُ َ‬
‫أعماما له‪.‬‬
‫اإلبل‪ ،‬هؤالء كلهم إخوة لعبد اهلل والد النيب صلى اهلل عليه وسلم فأصبح إخوة أبيه ً‬
‫نعود ألصل املوضوع‪ ،‬أصل املوضوع أن لوطًا عليه الصالة والسالم‪ ،‬وحيسن لطالب العلم أن‬
‫جل وعال من أجلها الرسل‪ ،‬األصل أن لوطًا‬ ‫يربط بني حياة األنبياء ويفقه السنن اليت يبعث اهلل ّ‬
‫أخ إلبراهيم عليه الصالة والسالم‪ ،‬فلما هاجر لو ٌط ونزل أرض‬ ‫عليه الصالة والسالم كان ابن ٍ‬
‫ٍ‬
‫حسان تام اخللقة وفُنت هبم‬ ‫ٍ‬
‫وجوه‬ ‫سدُّوم يف جهة البحر امليِّت اليوم وجاءته املالئكة يف صورة‬
‫ال‬
‫لوط ودخلوا عليه وراودوه عن ضيفه كما قال القرآن‪ ،‬قال لو ٌط –كما نص اهلل‪ ﴿ -‬قَ َ‬ ‫قوم ٍ‬
‫ٍِ‬
‫َن يِل بِ ُك ْم ُق َّوةً أ َْو آَ ِوي إِىَل ُر ْك ٍن َشديد ﴾ [هـود‪ ،]80 :‬فكان يتمىّن أن يكون له ٌ‬
‫قوم‬ ‫لَ ْو أ َّ‬
‫منيعا ملا جترأ هؤالء عليه‪ ،‬قال صلى اهلل عليه وسلم كما يف‬
‫ينصرونه على هؤالء‪ ،‬ألنه لو كان ً‬
‫البخاري‪ 9‬وغريه ( فما بعث اهلل بعده من نيب إال يف ٍ‬
‫منعة من قومه )‪.‬‬ ‫ٍّ‬
‫سيت عند القرشيني‪ ،‬هذا كله‬ ‫أعماما‪ ،‬وبنو هاشم كانوا هلم ُ‬
‫فكان للنيب صلى اهلل عليه وسلم ً‬
‫من أجل حفظ نبيِّنا صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقد بيّنا يف السابق أن اإلنسان قد يستفيد حىت من‬
‫مجيعا‬
‫وكافرا‪ 9‬كانوا عصبة للنيب عليه الصالة والسالم‪ ،‬وقلنا إهنم ً‬
‫ً‬ ‫الكافر‪ ،‬فبنو هاشم مؤمنًا‬
‫دخلوا معه الشعب‪ 9‬املؤمن منهم والكافر‪ ،‬وقبلوا احلصار ألهنم يشعرون باألنفة واحلميّة ملن‬
‫حيمونه ولو كانوا خيالفونه‪ ،‬والشاهد من هذا كله‪ ،‬هذه قضية أن النيب عليه الصالة والسالم‬
‫لزما حبفظهم‪ ،‬وإمنا ذكرهم صاحب‬ ‫أعمام كثريون‪ ،‬لكن هؤالء األعمام‪ 9‬أنت لست ُم ً‬‫كان له ٌ‬
‫لزما كطالب علم حبفظ أمساء األحد عشر‪ ،‬لكن ما الذي‪9‬‬ ‫املنت من باب التعلم‪ ،‬ولست ُم ً‬
‫لزم به؟ التصور‪ 9‬الكامل للمسألة‪ ،‬أن تعلم أن أعمام النيب صلى اهلل عليه وسلم ميكن‬ ‫أنت ُم ٌ‬
‫تقسيمهم إىل ثالثة أقسام‪:‬‬

‫قسم مل يُدرك نبوة الرسول صلى اهلل عليه وسلم ومبعثه‪ ،‬وبالتايل عندما مل‬
‫القسم األول ‪ٌ :‬‬
‫يدرك النبوة ومل يدرك املبعث يكون مات على ماذا؟ ميوت على دين آبائه فهو من أهل‬
‫الفطرة‪ ،‬جيري عليه ما جيري على أهل الفطرة‪ ،‬ألنه ما أدرك بعثة النيب صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫قسم أول‪.‬‬
‫هذا ٌ‬
‫القسم‪ 9‬الثاين‪ :‬أدرك مبعث النيب صلى اهلل عليه وسلم ومل يؤمن‪ ،‬وهذا يضم اثنني شهريين‪ ،‬أبو‬
‫طالب وأبو هلب‪ ،‬فكالمها أردك البعثة النبوية ومل يؤمن‪ ،‬إال أن هذا القسم‪ 9‬نفسه –أي الثاين‪-‬‬
‫هو نفسه ينقسم إىل قسمني‪:‬‬

‫قسم مل يؤمن وناصر النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهو أبو طالب‪.‬‬
‫• ٌ‬
‫وقسم مل يؤمن وعاد النيب عليه الصالة والسالم ومل ينصره وهو أبو هلب‪ ،‬ومُسِّي أبو هلب‬ ‫• ٌ‬
‫هلب كنيته‪ ،‬ويف هذا نزل قول اهلل‬ ‫جلمال خديه ونورمها‪ ،‬وامسه احلقيقي عبد العُّزى‪ ،‬وإمنا أبو ٍ‬
‫ت يَ َدا أَيِب هَلَ ٍ‬
‫ب ﴿‪[ ﴾ ﴾2‬املسد‪:‬‬ ‫ب ﴿‪َ ﴾1‬ما أَ ْغىَن َعْنهُ َمالُهُ َو َما َك َس َ‬
‫ب َوتَ َّ‬ ‫جل وعال ﴿ َتبَّ ْ‬
‫ّ‬
‫‪.]2 ،1‬‬
‫ألحد أن خيرج عن مشيئة اهلل‪ ،‬كيف هي‬ ‫وهذه اآلية من أعظم الصور‪ 9‬الدالة‪ 9‬على أنه ال ميكن ٍ‬
‫وقريش تقول ومن‬ ‫ٌ‬ ‫دالة على هذا؟ النيب عليه الصالة والسالم يقول هذا القرآن من عند اهلل‪،‬‬
‫فلما قال أبو هلب للنيب عليه الصالة والسالم تبًّا‬ ‫ضمنها أبو هلب هذا القرآن ليس من عند اهلل‪ّ ،‬‬
‫لك سائر اليوم‪ 9‬أهلذا مجعتنا أنزل اهلل على نبينا هذه السورة‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم يتلوها‬
‫ات هَلَ ٍ‬ ‫ت يَ َدا أَيِب هَلَ ٍ‬
‫ب‬ ‫صلَى نَ ًارا َذ َ‬
‫ب ﴿‪َ ﴾2‬سيَ ْ‬ ‫ب ﴿‪َ ﴾1‬ما أَ ْغىَن َعْنهُ َمالُهُ َو َما َك َس َ‬
‫ب َوتَ َّ‬ ‫﴿ َتبَّ ْ‬
‫﴿‪[ ﴾ ﴾3‬املسد‪.]3-1 :‬‬

‫ومعلوم أن النار ذات هلب ال يصالها املؤمن‪ ،‬يصالها الكافر‪ ،‬فهو يقول للناس وأبو هلب‬ ‫ٌ‬
‫ب ﴾‪ ،‬أنا قلت أن فيها دليال أنه ال يسع أح ٌد أن خيرج على‬ ‫ات هَلَ ٍ‬
‫صلَى نَ ًارا ذَ َ‬
‫يسمع ﴿ َسيَ ْ‬
‫مشيئة اهلل‪ ،‬فأين الدليل؟ كان بإمكان أيب هلب أن يقول للناس حممد يقول إنين يف النار‪ ،‬أنا‬
‫اآلن مؤمن مبحمد حىت يُبطل على النيب القرآن‪ ،‬يعين كان بإمكان أيب هلب أن يقول أمام الناس‬
‫نارا ذات هلب‪ ،‬وهو يقول‬ ‫هذا حمم ٌ‪9‬د يقول إنين سأدخل النار‪ ،‬كالم ربه يقول أنين سأصلى ً‬
‫لكم أن املؤمن ال يدخل النار‪ ،‬فأنا أريد أن أُبطل قرآن حممد‪ 9‬فأنا أقول لكم اآلن أنا أشهد أن‬
‫اب‪.‬‬
‫ال إله إال اهلل‪ ،‬فكيف أدخل النار؟ إذا حمم ٌد ك ّذ ٌ‬
‫جل وعال يعلم يقينًا أنه‬
‫هذه على سهولتها مل يستطع أن يقوهلا‪ ،‬و إال لو قاهلا خلرج‪ ،‬لكن اهلل ّ‬
‫ب ﴾‪ ،‬وأنا ال أريد أن أخرج من السرية إىل‬ ‫ات هَلَ ٍ‬
‫صلَى نَ ًارا ذَ َ‬
‫لن يقوهلا‪ ،‬ولذلك قال اهلل ﴿ َسيَ ْ‬
‫كنوز‬
‫التفسري‪ ،‬ولكن من أراد أن خيشع يف القرآن فليتدبر القرآن يف املقام األول‪ ،‬ويف القرآن ٌ‬
‫ليس هذا وقت إخراجها‪ ،‬من ُرزق قدرةً على التفسري سريى شيئًا عجبًا يف دالئل قدرة اهلل‪،‬‬
‫لكن كما قلت ال أريد أن أخرج إىل هذا املنحى املقصود أن أبا هلب مل يؤمن بالرسول –‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬وعاداه‪.‬‬

‫والقسم‪ 9‬الثالث هو من أدرك بعثة النيب صلى اهلل عليه وسلم وآمن‪ ،‬وهذا يشمل اثنني فقط‬
‫عما‬
‫رضي اهلل عنهما وأرضامها‪ ،‬ومها العباس ومحزة ابنا عبد املطلب‪ ،‬فهذان‪ – 9‬محزة والعبّاس‪َّ -‬‬
‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬إال أن الفرق أن محزة تقدم إسالمه والعبَّاس تأخر إسالمه‪،‬‬

‫ومحزة رضي اهلل عنه مل يرتك إال ابنة‪ ،‬وهو أسد اهلل وأسد رسوله صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهو‬
‫عظيما يوم‬
‫صح اخلرب عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬وقاتل قتاال ً‬ ‫سيد الشهداء – كما َّ‬
‫بد ٍر ويوم أحد‪.‬‬

‫غالم ليس له ناقة‬


‫وحشي هذا ٌ‬‫ٌّ‬ ‫فأراد أحد املشركني ممن وتِر يف بد ٍر جاء ٍ‬
‫لغالم امسه وحشي‪،‬‬ ‫َُ‬
‫وال مجل يف دين قريش‪ ،‬فقيل له تشرتي حريتك بأن تقتل محزة‪ ،‬فأعد حربةً ومكث يف يوم‬
‫أحد ال يريد أن تنتصر قريش وال أن ينتصر حمم ٌد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬املهم عنده أن يفوز‬
‫بعضا‬
‫حبريته‪ ،‬فاختذ‪ 9‬احلربة وتربص حبمزة مث رماه هبا فقتله‪ ،‬مث جاءت هن ٌد قبل إسالمها فقطعت ً‬
‫من جسده –رضي اهلل عنه وأرضاه‪ ،-‬أخذت كبده والكتها بفمها‪ ،‬وحصل ما حصل له من‬
‫التمثيل رضي اهلل عنه وأرضاه‪ُ ،‬مثل به‪ُ ،‬مثل به قليال‪.‬‬
‫مث إن وحشيًّا هذا أُعتق فاشرتى حريته بقتل محزة‪ ،‬مث مرت األيام ومرت السنون وكل ٍ‬
‫شيء‬ ‫ّ‬
‫بقدر‪ ( ،‬وإن الرجل ليعمل بعمل أهل اجلنة حىت ما يبقى بينه وبنيها إال ذراع فيسبق عليه‬
‫الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها‪ ،‬وإن الرجل ليعلم بعمل أهل النار حىت ما يبقى بينه‬
‫وحشي‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫وبينها إال ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل اجلنة فيدخلها )‪ ،‬فلما أسلم‬
‫قص على النيب صلى اهلل عليه وسلم كيف قتل محزة‪ ،‬فقال له عليه الصالة والسالم‬ ‫فلما أسلم َّ‬
‫غرب وجهك عين )‪ ،‬أي ال أستطيع أن أراك‪ ،‬ومل يرد إسالمه ألن هذا دين‪ ،‬ليس للنيب عليه‬ ‫( ِّ‬
‫بشري‬
‫ٌ‬ ‫مرتوك له‪ ،‬وهو شيءٌ‬
‫أمر ٌ‬ ‫الصالة والسالم أن يتحكم فيه‪ ،‬لكن مسألة العاطفة مع العم ٌ‬
‫لوحشي كما قتل محزة أن‬
‫ٍّ‬ ‫فلم يستطع عليه الصالة والسالم بعد ذلك أن يرى وحشيًّا‪،‬وقُ ِّدر‪9‬‬
‫جيب ما قبله‪.‬‬‫يقتل ُم َسْيلِ َمةَ الكذاب‪ 9‬يف حرب اليمامة‪ ،‬ولعل هذه تُكفر تلك وإن كان اإلسالم ُّ‬
‫أما العبّاس رضي اهلل عنه فقد عُ ِّمر حىت بعد وفاة النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكان أكرب من‬
‫النيب عليه الصالة والسالم بثالث سنني‪ ،‬فإذا ُسئل أيهما أكرب أنت أم رسول اهلل يتأدب ويقول‪:‬‬
‫أسن منه‪،‬‬
‫أسن منه‪ ،‬يتأدب وجييب ويقول‪ :‬هو –أي النيب‪ 9-‬أكرب مين وأنا ُّ‬ ‫هو أكرب مين وأنا ُّ‬
‫كلمة "أسن" تُشعرك بالضعف‪ ،‬كلمة أكرب تُشعرك بالقوة‪ ،‬فينسب القوة والعلو للنيب عليه‬
‫قدرا‪ ،‬وأنا أسن منه يعين يف السن‪ ،‬وال يقول أنا أكرب ألن هذا‬
‫الصالة والسالم‪ ،‬يعين أكرب مين ً‬
‫من األدب يف األلفاظ‪ ،‬هذا العبّاس رضي اهلل تعاىل عنه وأرضاه‪.‬‬

‫إ ًذا ينجم عن هذا أنه مل يُسلم من أعمام النيب صلى اهلل عليه وسلم إال اثنان مها محزة والعبّاس‬
‫رضي اهلل تعاىل عنهما وأرضامها‪.‬‬
‫وعماتُه صلى اهلل عليه وسلم ست‪:‬‬
‫(صفية بنت عبد املطلب‪ :‬أسلمت وهاجرت‪ ،‬وهي أم الزبري بن العوام‪ ،‬توفيت باملدينة يف‬
‫خالفة عمر بن اخلطاب‪ ،‬وهي أخت محزة ألمه‪.‬‬
‫وعاتكة بنت عبد املطلب‪ :‬قيل إهنا أسلمت‪ ،‬وهي صاحبة الرؤيا يف بدر‪ ،‬وكانت عند أيب أمية‬
‫وزهريا‪ ،‬وقريبة‬
‫ً‬ ‫بن املغرية بن عبد اهلل بن عمر بن خمزوم‪ ،‬ولدت له عبد اهلل‪ ،‬أسلم وله صحبة‪،‬‬
‫الكربى‪.‬‬
‫وأروى بنت عبد املطلب‪ :‬كانت عند عمري بن وهب بن عبد الدار‪ 9‬بن قصي‪ ،‬فولدت له طليب‬
‫بن‬
‫بدرا‪ ،‬وقُتِل بأجنادين ً‬
‫شهيدا‪ ،‬ليس له عقب‪.‬‬ ‫عُمري‪ ،‬وكان من املهاجرين األولني‪ ،‬شهد ً‬
‫شهيدا‪،‬‬
‫وأميمة بنت عبد املطلب كانت عند جحش بن رئاب‪ ،‬ولدت له عبد اهلل املقتول بأحد ً‬
‫وأبا أمحد األعمى الشاعر وامسه عبد‪ ،‬وزينب زوج النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وحبيبة‪ ،‬ومحنة‪،‬‬
‫كافرا‪.‬‬
‫كلهم هلم صحبة‪ ،‬وعبيد اهلل بن جحش أسلم مث تنصر‪ ،‬ومات باحلبشة ً‬
‫وبَّرة بنت عبد املطلب‪ :‬كانت عند عبد األسد بن هالل بن عبد اهلل بن عمر بن خمزوم‪،‬‬ ‫َ‬
‫فولدت له أبا سلمة‪ ،‬وامسه عبد اهلل‪ ،‬وكان زوج أم سلمة قبل النيب صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫وتزوجها بعد عبد األسد أبو رهم بن عبد العزى بن أيب قيس‪ ،‬فولدت له أبا عربة بن أيب رهم‪.‬‬
‫وأم حكيم وهي البيضاء بنت عبد املطلب‪ ،‬كانت عند ُكَريْز بن ربيعة بن حبيب ابن عبد مشس‬
‫بن عبد مناف‪ ،‬فولدت له أروى بنت ُكَريْز‪ ،‬وهي أم عثمان ابن عفان رضي اهلل عنه )‪.‬‬

‫عمات النيب عليه الصالة والسالم‪،‬‬


‫بعد أن ذكر املؤلف أعمام النيب صلى اهلل عليه وسلم ذكر ّ‬
‫العمات‪ ،‬الذي يلزم منهم املعرفة اإلمجالية‪ ،‬ومن يثبت منهن من‬
‫وكما قلنا يف األعمام‪ 9‬نقول يف ّ‬
‫الست أهنا أسلمت إال صفية‪ ،‬صفية ثبت إسالمها‪ ،‬وهي أم الزبري بن العوام‪ 9‬واألخت الشقيقة‬
‫حلمزة بن عبد املطلب رضي اهلل عنه وأرضاه‪ .‬وأما عاتكة وأروى فاختلف يف إسالمهما‪،‬‬
‫فقليل من قال به‪ ،‬وقد قال املصنف إن‬
‫وأروى بعض العلماء يُصحح إسالمها‪ ،‬أما عاتكة ٌ‬
‫عاتكة هي صاحبة الرؤيا يوم بدر‪ ،‬واملقصود برؤيا بدر أن عاتكة هذه قبل موقعة بدر رأت يف‬
‫منامها أن رجال يأيت على مكة ويقول‪ :‬يا أهل بدر هلم إىل مصرعكم‪ ،‬مث إن صخر ًة جاءت‬
‫فلما شاع اخلرب يف قريش –‬ ‫فانفلقت وخرجت منها شظايا فلم ترتك بيتًا يف مكة إال أصابته‪ّ ،‬‬
‫وهذا قبل بد ٍر‪ -‬جاء أبو ٍ‬
‫جهل إىل العباس رضي اهلل تعاىل عنه وأرضاه وقال‪ :‬يا بين عبد‬
‫املطلب أما يكفيكم أن يتنبأ رجالكم حىت يتنبأ نساؤكم‪ ،‬لقول عاتكة أهنا رأت كذا وكذا‪ ،‬مث‬
‫حتققت هذه الرؤيا وص ّدق اهلل رؤياها ووقع‪ 9‬ما وقع يف بد ٍر وكان كما قالت هؤالء الناس‬
‫أحدا من ٍ‬
‫قريش إال قليال إال أصابته بسوء وناله‬ ‫بدر ً‬
‫أكثرهم صرعى يف قليب بدر‪ ،‬ومل ترتك ٌ‬
‫عمات النيب صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬مث بعد‬ ‫معلوم‪ .‬فهؤالء على اإلمجال ّ‬
‫من كرهبا كما هو ٌ‬
‫ذلك ننتقل إىل أزواجه رضي اهلل عنهن وأرضاهن‪.‬‬
‫ذكر أزواجه عليه وعليهنـ الصالة والسالم‪:‬‬
‫(وأول من تزوج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬خدجية بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى‬
‫ابن قصي بن كالب‪ ،‬تزوجها وهو ابن مخس وعشرين سنة‪ ،‬وبقيت معه حىت بعثه اهلل – عز‬
‫وجل – فكانت له وزير صدق‪ ،‬وماتت قبل اهلجرة بثالث سنني‪ ،‬وهذا أصح األقوال‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫قبل اهلجرة خبمس سنني‪ ،‬وقيل‪ :‬بأربع سنني )‬

‫هذه أوىل أمهات املؤمنني‪ ،‬وقد سبق التعليق عليها مبا سلف‪ ،‬وهي خدجية بنت ُخويلد‪ ،‬وقلنا‬
‫جل وعال أبلغها السالم عن طريق جربيل‪ ،‬وأن النيب صلى اهلل‬ ‫إن هلا مزايا‪ ،‬من مزاياها أن اهلل ّ‬
‫أحدا عليها يف حياهتا‪ ،‬وأهنا رضي اهلل تعاىل عنها وأرضاها رزق اهلل نبينا‬
‫عليه وسلم مل يتزوج ً‬
‫جل وعال نبينا حبها‪ ،‬وكان عليه الصالة‬‫منها الولد كما قال عليه الصالة والسالم‪ ،‬ورزق اهلل ّ‬
‫أحد من النساء ما غرت على خدجية"‪.‬‬ ‫والسالم حيبها حبًّا مجًّا‪ ،‬تقول عائشة "ما غرت من ٍ‬

‫وقد كان النيب صلى اهلل عليه وسلم يذبح الشاة مث يبعث هبا إىل من له عالقة أو قرابة أو معرفة‬
‫خبدجية رضي اهلل تعاىل عنها وأرضاها‪ ،‬وقد ورد أن عائشة قالت للنيب عليه الصالة والسالم‬
‫خريا منها" –تقصد نفسها‪ ،-‬قال ( واهلل‬ ‫عجوزا يف غابر األزمان‪ 9‬أبدلك اهلل ً‬
‫ً‬ ‫"وهل كانت إال‬
‫يب الناس‪ ،‬وواستين مباهلا إذ حرمين الناس‪،‬‬
‫خريا منها‪ ،‬لقد آمنت يب إذ كفر َ‬‫ما أبدلين اهلل ً‬
‫وصدقتين إذ ك ّذبين الناس‪ ،‬ورزقين اهلل منها الولد )‪.‬‬

‫صحت بذلك األخبار وجاءت بذلك اآلثار‪ ،‬وهي –‬ ‫وهي إحدى سيدات نساء العاملني كما ّ‬
‫قدرا‪ ،‬رضي اهلل تعاىل عنها وأرضاها‪ ،‬وقد سبق الكالم عنها‬
‫كما يظهر‪ -‬أعظم أمهات املؤمنني ً‬
‫تفصيال فيما سبق‪.‬‬
‫( مث تزوج‪ :‬سودة بنت ُزمعة بن قيس بن عبد مشس بن عبد ُو ِّد بن نصر بن مالك بن ِح ْسل بن‬
‫عامر بن لؤي‪ ،‬بعد خدجية مبكة قبل اهلجرة‪ ،‬وكانت قبله عند السكران بن عمرو أخي سهيل‬
‫بن عمرو‪ ،‬وكربت عنده وأراد طالقها فوهبت يومها لعائشة فأمسكها )‬

‫هذه ثاين أمهات املؤمنني سودة بنت ُزمعة‪ ،‬وقد كانت رضي اهلل عنها وأرضاها بدينة ثقيلة‬
‫رخص هلا النيب صلى اهلل عليه وسلم أن تنزل يف يوم مزدلفة قبل الناس ومن‬ ‫احلركة‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫معروف يف كتب‬
‫ٌ‬ ‫كان يف وضعها‪ ،‬أذن هلا أن خترج من ُمزدلفة عند ُمنتصف الليل كما هو‬
‫الفقهاء‪ ،‬وأذن هلا أن تأيت مىًن قبله‪ ،‬وقلنا إهنا كانت امرأة ثبطة‪ ،‬مث إهنا يف آخر أيامها خشيت‬
‫أن يطلقها النيب صلى اهلل عليه وسلم وأرادت أن تكون زوجته يف اجلنة فقبلت معه أن متنح‬
‫ليلتها لعائشة رضي اهلل وأرضاها‪.‬‬

‫على هذا أصبح أن النيب عليه الصالة والسالم اجتمع عنده من النساء تسع‪ ،‬وكان يقسم على‬
‫مثان ألن سودة تنازلت عن ليلتها لعائشة رضي اهلل عنها وأرضاها‪.‬‬

‫( وتزوج رسول اهلل ـ صلى اهلل عليه وسلم ـ‪ :‬عائشة بنت أيب بكر الصديق مبكة قبل اهلجرة‬
‫بسنتني‪ ،‬وقيل‪ :‬بثالث سنني‪ ،‬وهي بنت ست سنني‪ ،‬وقيل‪ :‬سبع سنني‪ ،‬واألول أصح‪ ،‬وبىن هبا‬
‫بعد اهلجرة باملدينة وهي بنت تسع سنني على رأس سبعة أشهر‪ ،‬وقيل‪ :‬على رأس مثانية عشر‬
‫شهرا‪ .‬ومات النيب صلى اهلل عليه وسلم وهي بنت مثان عشرة‪ ،‬وتوفيت باملدينة‪ ،‬ودفنت‬‫ً‬
‫بالبقيع‪ ،‬أوصت بذلك‪ ،‬سنة مثان ومخسني‪ ،‬وقيل سنة سب ٍع ومخسني‪ ،‬واألول أصح‪ ،‬وصلى‬
‫بكرا غريها‪ ،‬و ُكنيتها أم عبد اهلل‪،‬‬
‫عليها أبو هريرة‪ ،‬ومل يتزوج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ً‬
‫وروى أهنا أسقطت من النيب صلى اهلل عليه وسلم سقطًا‪ ،‬ومل يثبت )‬

‫هذه هي الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهي أمنا أم املؤمنني‬
‫عائشة بنت أيب بك ٍر‪ ،‬وهلا خصائص منها‪:‬‬
‫بكرا غريها‪ ،‬هذا ذكره املصنف‪.‬‬
‫• أن النيب صلى اهلل عليه وسلم مل يتزوج ً‬
‫• أن الوحي مل ينزل عليه عليه الصالة والسالم يف حلاف امرأة غري عائشة‪.‬‬

‫وقد شاع عنها حديث اإلفك املعروف‪ ،‬وأصله أن النيب عليه الصالة والسالم انصرف من بين‬
‫بإسراعا ألنه يتلعق خبربها‬ ‫املصطلق على غري ٍ‬
‫بعيد عن املدينة ملا أناخ اجليش مطاياه –وأنا أقوله‬
‫ً‬
‫عقدا هلا فقدته كانت أمها أم رومان قد أهدته هلا‪،‬‬
‫رضي اهلل عنها وأرضاها‪ -‬خرجت تلتمس ً‬
‫فلما ذهبت تلتمسه مضى اجليش‪ ،‬وكانت امرأة آن ذاك سنها تقريبًا يف الرابعة عشر عندما‬
‫حصلت غزوة بين املصطلق‪ ،‬ألهنا حصلت تقريبًا يف السنة اخلامسة‪ ،‬والنيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫عاما‪ ،‬ينجم عن هذا أن عمرها يف حادثة اإلفك تقريبًا‬ ‫تُويف يف العاشرة وقد كان هلا مثانية عشر ً‬
‫يف الرابعة عشر‪ ،‬وكانت امرأة خفيفة اللحم‪ ،‬خفيفة البدن‪ 9‬غري مكنزة اللحم‪ ،‬بل إهنا كانت‬
‫جدا فأشار النيب عليه على أبويها على أيب بك ٍر‬
‫قبل أن يتزوجها النيب صلى اهلل عليه وسلم حنيلةً ً‬
‫يسريا‪ ،‬ودخل عليها النيب صلى اهلل‬‫وعلى أم رومان أن يُطعموها القثاء بالرطب حىت ميتلئ بدهنا ً‬
‫عليه‬
‫وسلم باملدينة يف شهر شوال عام تسع‪.‬‬

‫أبدا أن أم املؤمنني ليست‬


‫واملقصود ملا جاء الذين حيملون اهلودج محلوه ومل خيطر بباهلم ً‬
‫موجودةً فيه‪ ،‬فحملوا اهلودج وذهبوا‪ ،‬فلما ذهبوا جاءت رضي اهلل عنها وأرضاها ومل يكن يف‬
‫ظنها أن حيدث أمور عظام على تأخرها هذا‪ ،‬ظنت أن اجليش سيفقدها على بعد قليل مث يعود‬
‫إليها فأناخت حتت شجرة وتقنعت رضي اهلل عنها وأرضاها‪ ،‬وكان قد تأخر عن اجليش‬
‫السلمي‪ 9‬فلما جاء صفوان ورآها عرفها‪ ،‬فلما عرفها رزقه اهلل وأهلمه أن‬‫صفوان بن ُمعطلة ُ‬
‫يقول "إنا هلل وإنا إليه راجعون"‪ ،‬واإلنسان إذا ابتلي قبل أن يقع يوطن نفسه على كثرة أن‬
‫يقول هذه الكلمة "إنا هلل وإنا إليه راجعون"‪ ،‬فقال صفوان‪ 9‬كأنه علم أن هذا األمر لن يتم‬
‫بسهولة ولن يرتكه املنافقون ميضي فقال "إنا هلل وإنا إليه راجعون"‪.‬‬
‫مث أناخ بعريه عندها وتنحى فركبت على البعري رضي اهلل عنها وأرضاها‪ ،‬وقاد صفوان‪- 9‬وهو‬
‫بكلمة واحدة‪ ،‬فلما أشرف على اجليش رآه املنافقون‪ ،‬فقام‬ ‫ٍ‬ ‫طاهر‪ -‬البعري دون أن يكلمها‬
‫رجل ٌ‬ ‫ٌ‬
‫رجل غريه واهلل ما سلمت منه وال سلم منها –‬ ‫عبد اهلل بن أُيب فقال للناس‪ :‬امرأة نبيكم مع ٍ‬
‫ات ﴾‬ ‫عيا ًذا باهلل‪ ،-‬فأالك الناس اخلرب وهي كل ذلك ال تدري‪ ،‬واهلل يقول ﴿ الْغَافِاَل ِ‬
‫ت الْم ْؤ ِمنَ ِ‬
‫ُ‬
‫[النـور‪ ،]23 :‬يعين ال يعلمون ما يُدار‪ 9‬وحُي اك حوهلن‪ ،‬فلما رجعت إىل بيتها رضي اهلل عنها‬
‫تغيًرا من النيب صلى اهلل عليه وسلم رغم وجعها‪ ،‬لكنه مل خيطر بباهلا أن‬ ‫وأرضاها وجدت ُّ‬
‫يكون هذا األمر‪ ،‬حىت إن أمها أم رومان مل تكن تعلم‪ .‬مث إهنا خرجت مع أم مسطح لبعض‬
‫شأهنا تقضي حوائجها ‪-‬ومل يكن الناس قد اختذوا‪ 9‬ال ُكنُف آن ذلك‪ -‬فعثرت أم مسطح‪ ،‬فلما‬
‫عثرت أم مسطح قالت‪ :‬تعس مسطح‪ ،‬فسكتت عائشة‪ ،‬مث عثرت مرة ثانية فقالت‪ :‬تعس‬
‫مسطح –تسب ابنها‪ ،-‬فتعجبت عائشة‪ ،‬هي تريد أن تفتح املوضوع معها‪ ،‬فقالت‪ 9‬هلا‪ :‬عجبًا‬
‫بدرا تسبينه‪ ،‬فذكرت هلا القصة‪ ،‬فتعجبت‪ 9‬قالت‪:‬‬ ‫لك رجال شهد ً‬
‫أو خاض الناس يف هذا‪ ،‬ورجعت إىل البيت‪ 9‬تبكي‪ ،‬مث استأذنت النيب صلى اهلل عليه وسلم أن‬
‫مُت رض عند أمها أم رومان فوافق عليه الصالة والسالم‪.‬‬

‫فكان أبو بك ٍر رضي اهلل عنه جيلس على سقف البيت ‪-‬وهو الصديق األكرب وأول الناس‬
‫جالس‬
‫ٌ‬ ‫إسالما وخري العباد بعد النبيني واملرسلني رضي اهلل عنه وأرضاه‪ ،-‬لكن املؤمن ُمبتلى‪،‬‬
‫ً‬
‫على سطح البيت‪ 9‬يقرأ القرآن‪ ،‬وهو يقرأ القرآن يسمع بكاء ابنته حتت‪ ،‬فينزل فيسمع‪ 9‬بكاء‬
‫عائشة رضي اهلل عنها فال ميلك إال أن يزرف دمعة ويقول‪ :‬واهلل إنه ألمر ما فعلناه ال يف‬
‫أمر ال نعرفه ال يف جاهلية وال يف‬‫جاهلية وال يف إسالم‪ ،‬يعين الزنا واخلوض يف الفواحش ٌ‬
‫إسالم‪ ،‬مث ال يلبث أن يقول إنا هلل وإنا إليه راجعون‪ ،‬ويستحيي أن يُكلم النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم يف املوضوع‪ ،‬ويصرب على ما جيد‪.‬‬
‫حدثت أمور بعد ذلك منها اختصام األوس واخلزرج ملا خطب النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وحي حىت يعلم الناس أن النيب‬ ‫ٍ‬
‫فيهم‪ ،‬املهم بعد شهر تقريبًا والنيب عليه الصالة والسالم ال يأتيه ٌ‬
‫ال يأيت بقرآن من عنده‪ ،‬لو كان القرآن من عنده لكان أول ما قال أن يُربئ زوجته‪ ،‬لكنه‬
‫شهرا من األسى قضاه عليه الصالة والسالم والناس خيوضون‪ 9‬يف عرض‬ ‫سكت ألن اهلل سكت‪ً ،‬‬
‫أم املؤمنني رضي اهلل عنها وأرضاها‪ .‬مث ملا بعد شه ٍر دخل عليها صلى اهلل عليه وسلم يف بيت‬
‫أبويها وأم رومان وأبو بك ٍر عندها وهي تبكي‪ ،‬فقال هلا ( يا عائشة إن كنت قد أملمت ٍ‬
‫بذنب‬
‫فاستغفري اهلل )‪ ،‬وأخذ يعرض عليها األمر‪ ،‬فقالت‪ 9‬رضي اهلل عنها وأرضاها‪ :‬واهلل إن قلت أنين‬
‫بريئة لن تصدقوين ولكن أقول كما قال العبد‪ 9‬الصاحل –نسيت اسم يعقوب على شهرته‪﴿ -‬‬
‫ص ُفو َن ﴿‪[ ﴾ ﴾18‬يوسف‪ ،]18 :‬مث إن النيب عليه‬ ‫فَصبر مَجِ يل واللَّه الْمسَتعا ُن علَى ما تَ ِ‬
‫َْ ٌ ٌ َ ُ ُ ْ َ َ َ‬
‫يوم صائف‬ ‫الصالة والسالم نزل عليه الوحي‪ ،‬فإذا نزل عليه الوحي تصبب منه العرق كأنه يف ٍ‬
‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ٍ‬
‫ين َجاءُوا بِاإْلِ فْك عُ ْ‬
‫صبَةٌ‬ ‫رغم أنه يف يوم شات‪ ،‬مث قال هلا بعد أن نزل عليه الوحي ﴿ إ َّن الذ َ‬
‫ِمْن ُك ْم ﴾ [النور‪ ]11 :‬إىل آخر اآليات يف سورة النور املتعلقة باحلدث‪ ،‬قال رسول اهلل ( يا‬
‫عائشة أبشري فقد برأك اهلل )‪ ،‬فقالت هلا أمها‪ :‬قومي إىل رسول اهلل فامحديه‪ ،‬فرفضت‪ 9‬أن تقوم‬
‫وإظهارا ملكانتها‪ ،‬وقالت‪ :‬ال أمحد إال اهلل‪ ،‬فنجاها‬ ‫ً‬ ‫تدلال على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫جل وعال من حادثة اإلفك‪ ،‬وبرأها اهلل تبارك وتعاىل من فوق سبع مساوات‪.‬‬ ‫اهلل ّ‬
‫ك ُمَبَّرءُو َن مِم َّا َي ُقولُو َن ﴾ [النور‪:‬‬
‫جل وعال فيما قاله ﴿ أُولَئِ َ‬
‫وبرأ صفوان‪ 9‬بن املعطل وقال ّ‬
‫جل وعال ‪-‬وهو أعلم‪ -‬أولئك مربءون مما قالوا‪ ،‬قاهلا يف صيغة املضارع ومل‬ ‫‪ ،]26‬ومل يقل ّ‬
‫يقلها يف صيغة املاضي مما يدل على أنه سيبقى يف الناس –والعياذ باهلل‪ -‬من خيوض يف عرض‬
‫حاصل من بعض‬
‫ٌ‬ ‫جل وعال من فوق سبع مساوات وهو ما هو‬ ‫هذه الطاهرة اليت برأها اهلل ّ‬
‫الفرق‪.‬‬
‫الذي يعنينا براءة أم املؤمنني عائشة رضي اهلل تعاىل عنها وأرضاها‪ ،‬وقد مات النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم وهو ُمسنِ ٌد رأسه الشريف إىل صدرها وحنرها رضي اهلل عنها وأرضاها‪ ،‬ومجع اهلل‬
‫بني ريقه وريقها أهنا أعطته املسواك قبل أن ميوت صلوات اهلل وسالمه عليه ومات يف بيتها‬
‫ودفن يف حجرهتا رضي اهلل عنها وأرضاها وعن مجيع أمهات املؤمنني‪.‬‬ ‫ُ‬
‫( وتزوج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬حفصة بنت عمر بن اخلطاب – رضي اهلل عنهما –‬
‫وكانت قبله عند ُخنَيس بن حذافة‪ ،‬وكان من أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬تويف‬
‫بدرا‪ .‬ويروى أن النيب صلى اهلل عليه وسلم طلقها‪ ،‬فأتاه جربيل – عليه‬
‫باملدينة‪ ،‬وقد شهد ً‬
‫السالم ‪ -‬فقال‪ ( :‬إن اهلل يأمرك أن تراجع حفصة فإهنا صوامة قوامة‪ ،‬وإهنا زوجتك يف اجلنة )‪.‬‬

‫وروى عقبة بن عامر اجلُهين قال‪ :‬طلق رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حفصة بنت عمر‪ ،‬فبلغ‬
‫ذلك عمر‪ ،‬فحثا على رأسه الرتاب‪ ،‬وقال‪ :‬ما يعبأ اهلل بعمر وابنتِه بعد هذا‪ ،‬فنزل جربيل من‬
‫الغد على النيب صلى اهلل عليه وسلم وقال‪ ( :‬إن اهلل – عز وجل – يأمرك أن تراجع حفصة‬
‫رمحة لِعمر )‪ ،‬توفيت سنة سبع وعشرين‪ .‬وقيل‪ :‬سنة مثان وعشرين عام أفريقية )‬

‫عام أفريقية يعين عام فتح أفريقية‪ ،‬أما حفصة فهي بنت عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه كما أن‬
‫عائشة بنت الصديق‪ ،‬فعائشة وحفصة يتفقان يف أهنما ابنتا وزيري رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وحفصة رضي اهلل عنها وأرضاها تزوجها النيب صلى اهلل عليه وسلم بعد وفاة زوجها‪،‬‬
‫وكان أبوها عمر قد عرضها على عثمان فأخربه أنه ال حاجة له يف النساء‪ ،‬مث عرضها على أيب‬
‫بك ٍر فسكت‪ ،‬فوجد عمر يف نفسه شيئًا على أيب بكر‪ ،‬فلما خطب النيب عليه الصالة والسالم‬
‫حفصة أفصح أبو بك ٍر عن السبب الذي‪ 9‬جعله ميتنع على أن يقبل حفصة عندما عرضها عليه‬
‫عمر‪ ،‬وقال "النيب صلى اهلل عليه وسلم يذكرها"‪.‬‬
‫( وتزوج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أم حبيبة بنت أيب سفيان‪ ،‬وامسها‪َ :‬ر ْملَةُ بنت صخر‬
‫بن حرب بن أمية بن عبد مشس بن عبد مناف‪ ،‬هاجرت مع زوجها عبيد اهلل بن جحش إىل‬
‫أرض احلبشة‪ ،‬فتنصر باحلبشة‪ ،‬وأمت اهلل هلا اإلسالم‪ ،‬وتزوجها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وهي بأرض احلبشة‪ ،‬وأصدقها عنه النجاشي بأربعمائة دينار‪ ،‬بعث رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم عمرو بن أمية الضمري‪ 9‬فيها إىل أرض احلبشة‪ ،‬وويل نكاحها عثمان بن عفان‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫خالد بن سعيد بن العاصي‪ .‬توفيت سنة أربع وأربعني )‬

‫هذه أم حبيبة بنت أيب سفيان‪ ،‬كما كانت عائشة وحفصة بنت وزيريه فإن أم حبيبة عندما‬
‫تزوجها على أهنا بنت من؟ بنت عدوه أبا سفيان قبل أن يسلم أبو سفيان‪ ،‬وال أريد أن أدخل‬
‫دائما نؤكد عليها قضية القلوب وتغريها‪ ،‬فزوجها‬
‫يف أم حبيبة أكثر مما أدخل يف القضية اليت ً‬
‫فارا بدينه‪ ،‬وهناك يف احلبشة تنصر ومات‬
‫سلما إىل احلبشة ً‬
‫عُبيد اهلل بن جحش خرج من مكة ُم ً‬
‫جل وعال‪.‬‬
‫على الكفر‪ ،‬فالقلوب بيد الرمحن ّ‬
‫مهما من أسباب سوء اخلامتة‪ ،‬من أسباب سوء اخلامتة اخلوض يف‬ ‫واحدا ًّ‬
‫لكنين سأذكر سببًا ً‬
‫أعراض الناس‪ ،‬أعظم أسباب سوء اخلامتة اخلوض يف أعراض الناس‪ ،‬كان أحد الصاحلني –‬
‫عمدا‪ -‬حمبوبًا من طالبه‪ ،‬وهذه ذكرها الذهيب يف األعالم‪ ،‬وذكرها ابن‬
‫وأحيانًا أترك األمساء ً‬
‫رجل حيسده على هذه املنزلة من‬
‫أنس‪ -‬يف وفيات األعيان‪ ،‬والشاهد‪ 9‬فكان ٌ‬ ‫خالن –إن مل َ‬
‫طالبه‪ ،‬فكان إذا جاء الشيخ حيدث يقوم هذا ويشغب عليه يف احللقة‪ ،‬فقام ذات ٍ‬
‫يوم والناس‬ ‫ُ‬
‫ظ للقرآن حسن الصوت به‪ ،‬فلما أغضب الشيخ‬ ‫ُمستمعون للشيخ فقام‪ ،‬وهذا الذي قام حاف ٌ‬
‫قال الشيخ‪ :‬اجلس فواهلل إين ألخشى أن متوت على غري ملة اإلسالم ‪ ,‬مث قدر هلذا الرجل الذي‪9‬‬
‫رجل من النصارى من السفراء‪ 9‬من القسطنطينية من سفراء‬‫شغب على الشيخ أن يزور بغداد ٌ‬
‫الروم‪ ،‬فلما أراد الرجوع أحب هذا الذي‪ 9‬حيفظ القرآن وندي الصوت به أن يرى بالد الروم‬
‫فذهب معه إىل القسطنطينية‪ ،‬فلما ذهب معه إىل القسطنطينية أعجبه عاملهم وترك اإلسالم‬
‫وبقي على النصرانية‪ ،‬مث إن أحد جتار املسلمني دخل القسطنطينية فرآه وعرفه وكان يعرف‬
‫مجال صوته بالقرآن‪ ،‬فرآه وهو على باب إحدى الكنائس يهش الذباب عن نفسه‪ ،‬فقال له‪ :‬يا‬
‫هذا ما فعل اهلل بك؟‪ ،‬قال‪ :‬أنا كما ترى‪ ،‬قال‪ :‬إنين كنت أراك حافظًا للقرآن فما بقي يف‬
‫صدرك منه؟‪ ،‬قال ما بقي منه وال آية إال آيةً واحدة مث مات –والعياذ باهلل‪ -‬على الكفر‪،‬‬
‫فصدقت‪ 9‬عليه مقولة الشيخ ملا كان يراه يف احللقة يُشغب عليه أنه قال له‪ :‬إين ألخشى أن متوت‬
‫على غري ملة اإلسالم‪.‬‬

‫واإلنسان إذا سلم قلبه من احلقد على الناس وسلم لسانه من اخلوض يف أعراضهم كان أدعى‬
‫إىل أن يُوفق إىل حسن اخلامتة‪ ،‬وقد كان عندنا يف املدينة ‪-‬مدينة رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫رجل ميين‪ ،‬وهذا من دالئل حسن اخلامتة‪ ،‬وقد ذكرت هذا يف بعض احملاضرات‪ ،‬كان‬ ‫وسلم‪ٌ -‬‬
‫رجل ميين ليس له عالقة بالناس‪ ،‬يدخل إذا جاء وقت الصلوات وخيرج وليس له أي ارتباط‬ ‫ٌ‬
‫بالناس‪ ،‬وكان ال يقرأ وال يكتب‪ ،‬فكان إذا دخل املسجد يأيت ألي إنسان ليس عنده شيء –‬
‫علي من كالم ريب ويستمع‪،‬‬ ‫خال‪ -‬فيأخذ مصح ًفا ويُعطيه للرجل اخلايل ويقول‪ :‬اقرأ َّ‬ ‫يعين ٍ‬
‫والناس يعرفونه خاصةً من يُكثر الصالة يف احلرم ‪ ,‬فيأيت على هذه الطريقة سنني‪ ،‬حىت كان‬
‫عام ‪1418‬هـ دخل احلرم فرأى رجال خاليًا فأخذ مصح ًفا كالعادة وأعطاه للرجل هذا وقال‬
‫مر بآية سجدة‬ ‫مر بآية سجدة‪ ،‬ملا َّ‬ ‫علي من كالم اهلل َّ‬
‫علي من كالم اهلل‪ ،‬فلما قال له اقرأ َّ‬
‫اقرأ َّ‬
‫سجد االثنان القارئ واألخ‪ 9‬اليمين‪ ،‬فانتهى القارئ من التسبيح ورفع‪ 9‬رأسه وبقي األخ اليمين‬
‫ساجدا‪ ،‬فمات يف حرم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف‬ ‫ً‬ ‫جل وعال وهو‬‫ساجدا وقبضه اهلل ّ‬
‫ً‬
‫هيأة ليس بعدها وال أشرف منها هيأة وهي هيأة السجود‪ 9‬لرب العاملني‪.‬‬
‫حنن نتكلم عن الظاهر‪ ،‬أما سريرته فأمرها إىل اهلل‪ ،‬ال حنكم ٍ‬
‫ألحد ٍ‬
‫جبنة وال نار‪ ،‬لكن أقول هذا‬
‫متاما أنه ال‬
‫عُبيد اهلل بن جحش يأخذ زوجته ويفر من مكة إىل احلبشة بدينه مث يتنصر‪ ،‬ثق ً‬
‫جل‬
‫يهلك على اهلل إال هالك‪ ،‬دواخل القلوب هي من أعظم أسباب سوء اخلامتة‪ ،‬لكن اهلل ّ‬
‫جل وعال يقدر ومُي يته ميتة السوء‪ ،‬لكن‬‫وعال أكرم وأرحم أن يكون أح ٌد صادق معه مث إن اهلل ّ‬
‫من صدقت‪ 9‬سريرته تصدق خامتته‪ ،‬ومن صدق إىل اهلل فراره صدق مع اهلل قراره‪ ،‬أعيد‪ ،‬من‬
‫صدق إىل اهلل فراره صدق مع اهلل قراره‪ ،‬من صدق إىل اهلل فراره ‪-‬أي صادق يف أوبته إىل اهلل‪-‬‬
‫جل وعال‪ ،‬املقصود بيبقى مع ربه يعين يف إميانه بربه‬
‫صدق مع اهلل قراره‪ ،‬أي يبقى مع ربه ّ‬
‫تبارك وتعاىل‪.‬‬

‫فلما مات زوجها وتنصر –أي أم حبيبة‪ -‬أكرمها النيب صلى اهلل عليه وسلم بأن طلبها وخطبها‬
‫وتزوجها عليه الصالة والسالم وسيقت له من احلبشة‪.‬‬

‫( وتزوج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أم سلمة‪ ،‬وامسها هند بنت أيب أمية بن املغرية ابن‬
‫عبد اهلل بن عمر بن خمزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب‪ ،‬وكانت قبله عند أيب‬
‫سلمة عبد اهلل بن عبد األسد بن هالل بن عبد اهلل بن عمر بن خمزوم‪ ،‬توفيت سنة اثنتني‬
‫وستني‪ ،‬ودفنت بالبقيع باملدينة‪ ،‬وهي آخر أزواج النيب صلى اهلل عليه وسلم وفاة‪ ،‬وقيل‪ :‬إن‬
‫ميمونة آخرهن )‬

‫هذه أم سلمة رضي اهلل عنها وأرضاها‪ ،‬ملا مات زوجها اسرتجعت‪ ،‬قالت‪ :‬إنا هلل وإنا إليه‬
‫خريا منها‪ ،‬وكانت تقول يف نفسها من خيلفين يف‬ ‫راجعون اللهم أجرين يف مصيبيت واعوضين ً‬
‫أيب سلمة‪ ،‬فلما مات خطبها النيب صلى اهلل عليه وسلم فاعتذرت بثالث حجج‪ ،‬اعتذرت بأهنا‬
‫عائل‬ ‫ِ‬
‫ُمصبية ‪-‬أي لديها صبيان كثريون‪ ،-‬وأهنا غرية –أي شديدة الغرية‪ ،-‬وأهنا ليس هلا ٌ‬
‫يزوجها‪ ،‬فأما التزويج فاختلف يف من زوجها وقيل عمر بن اخلطاب‪ ،‬وأما كوهنا ُمصبية فقال‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم ( هم إىل اهلل وإىل رسوله )‪ ،‬وأما أهنا غريه فإن النيب عليه الصالة‬
‫والسالم قال ( أنا أسأل اهلل أن يذهب غريتك )‪ ،‬فتزوجها عليه الصالة والسالم ‪ ,‬وابنها عمرو‬
‫بن سلمة الذي طاشت يده بالصفحة وقال عليه الصالة والسالم له ( يا غالم سم اهلل كل‬
‫بيمينك وقل مما يليك ) ابن أم سلمة‪ ،‬وعمر هذا ربيب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬يعين‬
‫من تزوجها النيب صلى اهلل عليه وسلم من أبنائها عمر فكان يأكل النيب عليه الصالة والسالم‬
‫فطاشت يده يف الصفحة‪ ،‬وأنت تسمع هذا احلديث بكثرة أن النيب عليه الصالة والسالم قال (‬
‫يا غالم سم اهلل كل بيمينك وقل مما يليك )‪ ،‬هذا قاله لربيبه عمر بن أم سلمة رضي اهلل عنها‬
‫وأرضاها‪.‬‬

‫( وتزوج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬زينب بنت جحش بن رئاب بن َي ْعمر بن صربة بن‬
‫مرة بن كبري بن غنم بن دودان بن أسد بن خزمية بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن‬
‫َم َعد بن عدنان‪ ،‬وهي بنت عمته أميمة بنت عبد املطلب‪ ،‬وكانت قبله عند مواله زيد بن‬
‫حارثة‪ ،‬فطلقها‪ ،‬فزوجها اهلل إياه من السماء‪ ،‬ومل يعقد عليها‪ ،‬وصح أهنا كانت تقول ألزواج‪9‬‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬زوجكن آباؤكن‪ ،‬وزوجين اهلل من فوق سبع مساوات "‪ .‬توفيت‬
‫باملدينة سنة عشرين‪ ،‬ودفنت بالبقيع )‬

‫جل وعال من فوق‬ ‫هذه زينب بنت جحش اليت قالت ُمفتخرةً "زوجكن أهليكن وزوجين اهلل ّ‬
‫سبع مساوات"‪ ،‬هذه باختصار زينب‪ ،‬النيب عليه الصالة والسالم كان قبل البعثة تبىّن زيد بن‬
‫َح ٍد‬
‫جل وعال ﴿ َما َكا َن حُمَ َّم ٌ‪9‬د أَبَا أ َ‬ ‫سمى عند الناس زيد بن حممد‪ ،‬فلما قال اهلل ّ‬ ‫حارثة‪ ،‬فكان يُ ّ‬
‫ط ِعْن َد اللَّ ِه ﴾ [األحـزاب‪:‬‬ ‫وه ْم آِل َبَائِ ِه ْم ُه َو أَقْ َس ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫م ْن ِر َجال ُك ْم ﴾ [األحـزاب‪ ،]40 :‬وقال ﴿ ْادعُ ُ‬
‫‪ ]5‬أصبح يُدعى زيد بن حارثة بامسه احلقيقي‪.‬‬

‫زي ٌد هذا تزوج زينب بنت جحش ابنة عم النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فلما تزوجها كانت ترى‬
‫يف نفسها أهنا أعلى منه ألنه هو موىل وهي قرشية‪ ،‬فأخرب اهلل نبيه أن زينب هذه اليت هي اآلن‬
‫جل وعال‬
‫كثريا‪ ،‬اهلل ّ‬
‫حتت زيد ستصبح زوجةً لك‪ ،‬أعيد ألن هذه آية شغب حوهلا املُستشرقون ً‬
‫أخرب نبيه وزينب حتت ٍ‬
‫زيد أهنا ستكون زوجته‪ ،‬فجاء زي ٌد يشتكي زوجته زينب إىل النيب عليه‬
‫الصالة والسالم فقال له عليه الصالة والسالم ( اتق اهلل وأمسك عليك زوجك )‪ ،‬فقال اهلل‬
‫ٍِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ضى اللَّهُ َو َر ُسولُهُ أ َْمًرا أَ ْن يَ ُكو َن هَلُ ُم‬‫جل وعال يف كتابه ﴿ َو َما َكا َن ل ُم ْؤم ٍن َواَل ُم ْؤمنَة إِ َذا قَ َ‬ ‫ّ‬
‫ول لِلَّ ِذي أَْن َع َم‬ ‫ضاَل اًل ُمبِينًا ﴿‪َ ﴾36‬وإِ ْذ َت ُق ُ‬ ‫ص اللَّهَ َو َر ُسولَهُ َف َق ْد َ‬
‫ض َّل َ‬ ‫اخْلَِيَرةُ ِم ْن أ َْم ِر ِه ْم َو َم ْن َي ْع ِ‬
‫ك َما اللَّهُ ُمْب ِد ِيه َوخَت ْ َشى‬ ‫ِ‬
‫ك َوات َِّق اللَّهَ َوخُتْفي يِف َن ْف ِس َ‬ ‫ك َز ْو َج َ‬‫ك َعلَْي َ‬ ‫ت َعلَْي ِه أ َْم ِس ْ‬ ‫ِ‬
‫اللَّهُ َعلَْيه َوأَْن َع ْم َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني‬
‫ضى َزيْ ٌد مْن َها َوطًَرا َز َّو ْجنَا َك َها ل َك ْي اَل يَ ُكو َن َعلَى الْ ُم ْؤمن َ‬ ‫َّاس َواللَّهُ أ َ‬
‫َح ُّق أَ ْن خَت ْ َشاهُ َفلَ َّما قَ َ‬ ‫الن َ‬
‫ض ْوا ِمْن ُه َّن َوطًَرا َو َكا َن أ َْم ُر اللَّ ِه َم ْفعُواًل ﴿‪[ ﴾ ﴾37‬األحـزاب‪:‬‬ ‫حرج يِف أ َْزو ِ ِ ِ‬
‫اج أ َْدعيَائ ِه ْم إِ َذا قَ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ٌ‬
‫‪ .]37 ،36‬من القائل؟ النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬من الذي أنعم اهلل عليه وأنعم عليه‬
‫ِ‬
‫ك ﴾ ما الذي أخفاه يف نفسه صلى اهلل عليه وسلم؟ أهنا‬ ‫الرسول؟ زيد‪َ ﴿ ،‬وخُتْفي يِف َن ْف ِس َ‬
‫ك َما اللَّهُ ُمْب ِد ِيه ﴾ ما معىن ﴿ َما اللَّهُ ُمْب ِد ِيه ﴾؟ الذي‬ ‫ِ‬
‫ستكون زوجتك‪َ ﴿ ،‬وخُتْفي يِف َن ْف ِس َ‬
‫َّاس ﴾ ختشى الناس يف‬ ‫سيظهره اهلل وسيقع وسيكون وهو زواجك من زينت‪َ ﴿ ،‬وخَت ْ َشى الن َ‬
‫ماذا؟ ختشى الناس أن يقولوا‪ 9‬تزوج حمم ٌ‪9‬د ابنة‬
‫ذكر‬
‫ضى َزيْ ٌد ﴾ وليس يف القرآن ٌ‬ ‫ابنه‪ ،‬ابنة ابنه على ما كانوا يعتقدونه يف اجلاهلية‪َ ﴿ .‬فلَ َّما قَ َ‬
‫فضل يف ذاته‪ ،‬وإمنا القضية قضية حادثة عني‪،‬‬ ‫القضية‬ ‫يف‬ ‫وليس‬ ‫زيد‪،‬‬ ‫إال‬ ‫الصحابة‬ ‫من‬ ‫ٍ‬
‫ألحد‬
‫ٌ‬
‫فالبد أن يُذكر بامسه حىت ينجلي ما يف القلوب‪ ،‬وإال أبو بك ٍر وعمر وغريمها ممن هو أفضل من‬
‫زيد مل يُذكر امسهم صراحة يف القرآن‪ ،‬مل يُذكر يف القرآن إال النبيون وثالث أو‬ ‫زيد على فضل ٍِ‬
‫عني به هو‪ ،‬والنساء‪ 9‬مل يُذكر يف القرآن إال‬ ‫أربعة اختلف فيهم كلقمان وعيسى بن مرمي حلادثة ٌ‬
‫ضى َزيْ ٌد‬ ‫جل وعال ﴿ َفلَ َّما قَ َ‬ ‫مرمي ابنة عمران لشرفها‪ 9‬وفضلها‪ ،‬واملقصود هذا معىن قول اهلل ّ‬
‫ض ْوا ِمْن ُه َّن‬ ‫ني حرج يِف أ َْزو ِ ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اج أ َْدعيَائ ِه ْم إِ َذا قَ َ‬ ‫َ‬ ‫مْن َها َوطًَرا َز َّو ْجنَا َك َها ل َك ْي اَل يَ ُكو َن َعلَى الْ ُم ْؤمن َ‪ٌ َ َ 9‬‬
‫َوطًَرا َو َكا َن أ َْم ُر اللَّ ِه َم ْفعُواًل ﴿‪ .﴾ ﴾37‬هذا ما يتعلق بزينب بنت جحش رضي اهلل عنها‬
‫وأرضاها‪.‬‬

‫( وتزوج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬زينب بنت خزمية بن احلارث بن عبد اهلل بن عمرو‬
‫بن عبد مناف بن هالل بن عامر بن صعصعة بن معاوية‪ ،‬وكانت تسمى "أم املساكني"؛ لكثرة‬
‫إطعامها املساكني‪ ،‬وكانت حتت عبد اهلل بن جحش‪ ،‬وقيل‪ :‬عبد الطفيل بن احلارث‪ ،‬واألول‬
‫يسريا‪ :‬شهرين أو ثالثة )‬
‫أصح‪ .‬وتزوجها سنة ثالث من اهلجرة‪ ،‬ومل تلبث عنده إال ً‬
‫مل تلبث زينب بنت خزمية بن احلارث عند النيب صلى اهلل عليه وسلم إال شهرين‪ ،‬وورد يف‬
‫بعض الروايات أهنا لبثت عنده مثانية أشهر‪ ،‬وكوهنا‪ 9‬مل تلبث مع النيب صلى اهلل عليه وسلم إال‬
‫هذه املدة اليسرية لذلك املصادرالتارخيية‪ 9‬شحيحة بالكثري من أخبارها‪ ،‬لكن أنت كطالب علم‬
‫تضمها مع من اآلن؟ تضمها مع خدجية ألهنا هي وخدجية فقط اللتان ماتتا يف عصمته صلى اهلل‬
‫عليه وسلم أو يف حياته صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬أما باقي أمهات املؤمنني كلهم ماتوا بعد وفاته‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬أما زينب هذه وخدجية ماتتا يف حياة النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫( وتزوج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬جويرية بنت احلارث بن أيب ضرار بن حبيب ابن‬
‫عائذ بن مالك بن املصطلق اخلزاعية‪ُ ،‬سبِيت يف غزوة بين املصطلق‪ ،‬فوقعت‪ 9‬يف سهم ثابت بن‬
‫قيس بن مشاس‪ ،‬فكاتبها فقضى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كتابتها‪ ،‬وتزوجها يف ست من‬
‫اهلجرة‪ ،‬وتوفيت يف ربيع األول سنة ست ومخسني )‪.‬‬

‫زعيما‪ ،‬فدخلت على‬‫هذه جويرية بنت احلارث اخلزاعية‪ُ ،‬سبيت يف بين املصطلق وكان أبوها ً‬
‫يسريا بقي عليها‪،‬‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم تريد أن تدفع‪ 9‬مثن لتخرج من األسر‪ ،‬مجعت ً‬
‫جل وعال‬
‫ودخلت على النيب عليه الصالة والسالم تطلب منه زيادة مال‪ ،‬فلما رآها جعلها اهلل ّ‬
‫يطلبها على أنه يساعدها ويتزوجها فوافقت رضي اهلل عنها وأرضاها‪ ،‬فتزوجها‪ ،‬فلما علم‬
‫الصحابة أن النيب عليه الصالة والسالم تزوجها تركوا من بأيديهم من األسرى من بين‬
‫املصطلق‪ ،‬فكانت امرأة عظيمة الربكة‪ 9‬على قومها‪ ،‬مث جاء أبوها احلارث إىل النيب عليه الصالة‬
‫والسالم يطلبها فخريها النيب عليه الصالة والسالم ما بني البقاء معه أو بني أن تذهب مع أبيها‬
‫فاختارت البقاء مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬مث أسلم احلارث بعد ذلك وجعله النيب‬
‫عليه الصالة والسالم على صدقات قومه‪.‬‬
‫تـابع ذكـرـ أزواجه ‪ -‬خدمـه ‪ -‬أفراسـهـ صلى اهلل عليه و سلم ‪:‬‬
‫كنا قد انتهينا يف ذكر أزواجه صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬وتكلمنا عن أكثرهن‪ ،‬ومل يبق لنا‬
‫إال احلديث عن زوجتني من أزواجه رضي اهلل تعاىل عنهن وأرضاهن‪.‬‬

‫( وتزوج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬صفية بنت حيي بن أخطب بن أيب حيىي ابن كعب‬
‫بن اخلزرج النضرية‪ ،‬من ولد هارون بن عمران – أخي موسى بن عمران عليهما السالم –‬
‫ُسبيت يف خيرب سنة سبع من اهلجرة‪ ،‬وكانت قبله حتت كنانة ابن أيب احلقيق‪ ،‬قتله رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأعتق صفية‪ ،‬وجعل عتقها صداقها‪ ،‬وتوفيت سنة ثالثني‪ .‬وقيل سنة‬
‫مخسني )‬

‫هذه صفية بنت حيي بن أخطب زوجة نبينا صلى اهلل عليه وسلم أم املؤمنني‪ ،‬حيي ابن‬
‫نيب‪،‬‬
‫أخطب أحد زعماء يهود‪ ،‬وملا قدم النيب عليه الصالة والسالم املدينة رآه ُحيَ ٌّي فعرف أنه ٌّ‬
‫واليهود كانت تعرف النيب صلى اهلل عليه وسلم؛ ملا قرأت عنه يف التوراة‪ ،‬وهي حدثت بعد‬
‫عمها‬
‫وعمها التقيا بعد أن رأيا النيب عليه الصالة والسالم‪،‬فقال ُّ‬ ‫ذلك –أي صفية– أن أباها ّ‬
‫ألبيها‪ :‬أهو هو؟ –يسأل–‪ ،‬قال‪ :‬نعم أعرفه بوجهه –أو بنعته–‪ ،‬قال‪ :‬فما يف صدرك له؟‪،‬‬
‫جل وعال‪َ ﴿ :‬فلَ َّما َجاءَ ُه ْم َما َعَرفُوا‪َ 9‬ك َف ُروا بِِه‬
‫قال‪ :‬عداوته ما بقيت‪ ،‬وهذا مصداق قول اهلل ّ‬
‫﴾ [البقرة‪،]89 :‬‬

‫اب َي ْع ِرفُونَهُ َك َما َي ْع ِرفُو َن أ َْبنَاءَ ُه ْم ﴾ [البقرة‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬


‫اه ُم الْكتَ َ‬
‫ين آََتْينَ ُ‬
‫وقال تبارك وتعاىل ﴿ الذ َ‬
‫‪ ،146‬األنعام‪ ،]20 :‬أي أن أهل الكتاب يعرفون النيب عليه الصالة والسالم ال خُي طئون يف‬
‫وصفه كما يعرف الرجل منهم ابنه‪ ،‬والرجل عاد ًة ال خُي طئ يف معرفة ابنه‪ .‬مث إنه ذهب إىل‬
‫خيرب يف اإلجالء األول وهو من بين النضري‪ ،‬فلما ذهب إىل خيرب وقعت‪ 9‬معركة خيرب كانت‬
‫حتت كنانة بن أيب احلقيق‪ ،‬مث إن النيب صلى اهلل عليه وسلم تزوجها بعد أن كانت يف سبيه‪،‬‬
‫فأصبحت أمةً له‪ ،‬فأعتقها وجعل عتقها صداقًا‪ 9‬هلا ‪.‬‬

‫واختلف العلماء رمحهم اهلل – من باب الفائدة الفقهية – هل يكون العتق صداقًا أو ال؟‬

‫منهم من قال‪ :‬إن هذا خصيصة للنيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬إنه غري ذلك‪،‬‬
‫والذي‪ 9‬يعنينا يف شرح السرية هنا أن النيب صلى اهلل عليه وسلم أعتقها‪ ،‬وجعل عتقها صداقها‬
‫خاصا به أو كان شامال ألمته‪.‬وقد كانت مجيلةً رضي اهلل عنها وأرضاها‪،‬‬ ‫سواءٌ كان هذا ً‬
‫وهي من ولد هارون بن عمران أخي موسى ـ على موسى وعلى هارون السالم ـ ‪ ،‬وقد‬
‫أغضبتها بعض أمهات املؤمنني – وقد مر معنا هذا يف الدرس األول– فجاءت للنيب عليه‬
‫الصالة والسالم تبكي فقال هلا عليه الصالة والسالم ( مب تفخر عليك‪ ،‬فإنك ابنة نيب‪ ،‬وعمك‬
‫نيب ) يقصد موسى ( وإنك لتحت نيب ) يقصد نفسه عليه الصالة والسالم‪.‬وملا تزوجها عليه‬
‫الصالة والسالم يف منصرفه من خيرب أراد أن يدخل عليها على مقربة من خيرب فامتنعت‬
‫وأبت‪ ،‬مث ملا تقدم قليال حنو املدينة قبلت ودخل عليها صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فسأهلا عن املانع‬
‫األول فقالت‪" :‬خشيت عليك من اليهود"‪ ،‬مما يدل على أنه وقر يف قلبها حمبة الدين وحمبة‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقد خشي أبو أيوب األنصاري على نبينا عليه الصالة‬
‫والسالم يوم أن دخل عليها فبات حيرصه خوفًا أن يكون هبا شيءٌ من غدر يهود وهو ال‬
‫يعلمها‪ ،‬مث تبني مدى حبها لنبينا صلى اهلل عليه وسلم وحسن إسالمها‪ ،‬وبقيت كذلك حىت‬
‫جل وعال‪ ،‬فهي زوجة نبينا يف الدنيا‪ 9‬واآلخرة رضي اهلل عنها وأرضاها‪.‬‬
‫توفاها اهلل ّ‬
‫( وتزوج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬ميمونة بنت احلارث بن حزن بن جبري ابن اهلرم بن‬
‫رويبة بن عبد اهلل بن هالل بن عامر بن صعصعة بن معاوية‪ ،‬وهي خالة خالد بن الوليد‪،‬‬
‫وعبداهلل بن عباس‪ ،‬تزوجها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بسرف‪ ،‬وبىن هبا فيه‪ ،‬وماتت به‪،‬‬
‫وهو ماء على تسعة أميال من مكة‪ ،‬وهي آخر من تزوج من أمهات املؤمنني‪ ،‬توفيت سنة‬
‫ثالث وستني‪.‬فهذه مجلة من دخل هبن من النساء‪ ،‬وهن إحدى عشرة‪ ،‬وعقد على سبع ومل‬
‫يدخل هبن )‪.‬‬

‫هذه ميمونة بنت احلارث اهلاللية أخت أم الفضل زوجة العباس بن عبد املطلب‪ ،‬فالعباس‬
‫رضي اهلل عنه وأرضاه عم النيب صلى اهلل عليه وسلم كان يعرف منها الصالة والصيام‪9‬‬
‫والقيام؛ فأشار على النيب صلى اهلل عليه وسلم أن يتزوجها‪ ،‬وهي أخت زوجته‪ ،‬أخت أم‬
‫الفضل‪ ،‬فتزوجها النيب صلى اهلل عليه وسلم يف منصرفه من عمرة القضاء يف ٍ‬
‫واد يُقال له‬ ‫ُ‬
‫سرف على وزن َكتف‪ ،‬وهو ٍ‬
‫واد يف مكة‪ ،‬يف طريق املدينة‬ ‫َ‬
‫اخلارج من مكة إىل املدينة بعد النوارية بقليل يأيت وادي سرف‪ ،‬وهو اآلن معمور‪ 9‬به بقاالت‬
‫وحمطات تأيت على مينك ومشالك‪ ،‬هذا الوادي‪ 9‬هو وادي سرف الذي‪ 9‬تزوج فيه النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم أم املؤمنني ميمونة بنت احلارث‪.‬‬

‫وكان من فائدة زواجه هبا بالنسبة لألمة أن عبد اهلل بن عبّاس رضي اهلل تعاىل عنهما تُصبح‬
‫هذه املرأة خالته فكان يبيت عندها‪ ،‬فإذا بات عندها يرى قيام النيب صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫كثريا‪ 9‬من أخبار النيب عليه الصالة والسالم لكونه يستطيع أن يدخل‬
‫فنقل عبد اهلل بن عبّاس ً‬
‫على خالته ميمونة بنت احلارث رضي اهلل تعاىل عنها وأرضاها‪.‬‬

‫وقد ذكر املصنف أهنا آخر أمهات املؤمنني موتًا –هذا على قول–‪ ،‬والقول الثاين أن آخر‬
‫أمهات املؤمنني موتًا هي أم سلمة‪ ،‬إ ًذَا هناك خالف يف آخر أمهات املؤمنني موتًا هل هي‬
‫علم تارخيي ال يتعلق به حكم‪،‬‬
‫ميمونة أو هي أم سلمة رضي اهلل تعاىل عنهن وأرضاهن‪ ،‬هذا ٌ‬
‫كما أهنم اتفقوا‪ 9‬على أن زينب بنت جحش هي أول نساء النيب صلى اهلل عليه وسلم موتًا‬
‫بعده‪ ،‬ماتت بعد عشرين سنة من وفاته صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فهي أول نسائه حلوقًا به عليه‬
‫الصالة والسالم‪.‬‬
‫يتحرر من هذا كله أمهات املؤمنني‪ ،‬وقد ذكر املصنف يف آخر املقال أن النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم عقد على سب ٍع ومل يدخل هبن‪ ،‬وهذا بعي ٌد بعض الشيء‪ ،‬واألشهر أنه على مخس أو‬
‫أربع ومل يدخل هبن‪ ،‬منهن من استعاذت به ـ ولعل األصح "استعاذت منه"‪ ،‬فقد ثبت عند‬
‫البخاري‪ 9‬ومسلم َع ْن َس ْه ِل بْ ِن‬
‫ُسْي ٍد أَ ْن يُْر ِس َل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صلَّى اللَّهُ َعلَْيه َو َسلَّ َم ْامَرأَةٌ م ْن الْ َعَرب فَأ ََمَر أَبَا أ َ‬
‫ِ ِ ِ ِ‬
‫ال ‪ ( :‬ذُكَر لَر ُسول اللَّه َ‬ ‫َس ْع ٍد قَ َ‬
‫إِلَْي َها‬
‫صلَّى اللَّهُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم َحىَّت‬ ‫اع َد َة فَخرج رس ُ ِ‬ ‫فَأَرسل إِلَيها َف َق ِدمت َفَنزلَت يِف أُج ِم بيِن س ِ‬
‫ول اللَّه َ‬ ‫ََ َ َ ُ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫َ ْ َ ْ‬ ‫ْ َ َ َْ‬
‫صلَّى اللَّهُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم‬ ‫جاءها فَ َدخل علَيها فَِإ َذا امرأَةٌ منَ ِّكسةٌ رأْسها َفلَ َّما َكلَّمها رس ُ ِ‬
‫ول اللَّه َ‬ ‫ََ َ ُ‬ ‫َْ ُ َ َ َ َ‬ ‫َ ََ َ َ َ ْ َ‬
‫بياضا‪،‬‬ ‫ال قَ ْد أَع ْذتُ ِ ِ‬ ‫ت أَعُوذُ بِاللَّ ِه ِمْن َ‬
‫ك ميِّن ‪ )...‬ـ ومنهن من وجد يف كشحها ً‬ ‫َ‬ ‫ك قَ َ‬ ‫قَالَ ْ‬
‫جيدا‪ ،‬لكن الذي‪ 9‬يعنينا أن النيب صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫وأخريات مل تثبتهن كتب املصادر إثباتًا ً‬
‫مات عن تس ٍع من النساء‪ ،‬وكان يقسم –كما قلنا باألمس– لثمان‪ ،‬ملاذا؟ قلنا أن سودة‬
‫مجيعا وأرضاهن‪.‬‬ ‫وهبت ليلتها لعائشة رضي اهلل تعاىل عنهن ً‬
‫يف عصرنا احلديث ما شغّب املستشرقون والطاعنون بالسنة يف شيء كما شغّبوا يف قضية أن‬
‫ُ‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم كيف يتزوج هذا العدد‪ 9‬من النساء؟‬

‫وهذا مما يطول شرحه لكن نقوله على وجه اإلمجال‪ ،‬لو كان النيب عليه الصالة والسالم‬
‫يريد ما يفهمه الناس من زواجه من النساء لكان إىل األبكار‪ 9‬أقرب منه إىل الثيب‪ ،‬ومع ذلك‬
‫بكرا إال عائشة‪ ،‬ومل يُثين –يتزوج الثانية– إال وقد جاوز اخلمسني صلوات اهلل‬
‫مل يتزوج ً‬
‫عاما مع زوجته خدجية وهي أكرب منه سنُّا ومل يتزوج عليها‬ ‫وسالمه عليه‪ ،‬وعاش قرابة ثالثني ً‬
‫ٍ‬
‫وأغراض‪ ،‬منها ما يكون إبطاال حلكم‬ ‫صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬وإمنا تزوج ألمو ٍر متعددة‬
‫جاهلي كزواجه من زينت‪ ،‬ومنها ما يكون نصرةً للدين‪ ،‬فإن العرب يف عادهتا وأعرافها‬
‫السابقة كانت ترى أن الصهر يقرب بني بطون القبائل‪ ،‬فكان صلى اهلل عليه وسلم ملا هاجر‬
‫إىل املدينة له خصوم وأعداءٌ يف القبائل فكان يتزوج حىت يكسر ثورة غضب واجتماع القبائل‬
‫عليه حىت يكون له عندهن رمحًا وصهرا فيكون هناك نوع من احلمية بالنسبة هلن أن بناهتن‬
‫حتت نبينا صلوات اهلل وسالمه عليه‪.‬‬

‫مث إننا نقول إن هؤالء األمهات رضي اهلل تعاىل عنهن وأرضاهن صربن على شظف العيش‪،‬‬
‫ظاهر‪ ،‬وإمنا املكسب العظيم يف أهنن‬
‫نيوي ٌ‬
‫فليس يف الزواج منه صلى اهلل عليه وسلم متاعٌ ُد ٌّ‬
‫زوجاته يف اآلخرة‪ ،‬ولذلك كان بيت النيب عليه الصالة والسالم لو رفعت‪ 9‬يدك للمست‪9‬‬
‫سقفه‪ ،‬ولو اتكأت على أحد حائطه ومددت قدمك للمست‪ 9‬احلائط اآلخر من ضيق حجرات‬
‫أمهات املؤمنني رضي اهلل تعاىل عنهن وأرضاهن‪.‬‬
‫ِ‬
‫مث إهنن كما قال اهلل تعاىل ﴿ يَا أَيُّ َها النَّيِب ُّ قُ ْل أِل َْز َواج َ‬
‫ك إِ ْن ُكْننُت َّ تُِر ْد َن احْلَيَا َة ُّ‬
‫الد ْنيَا َو ِزينََت َها‬
‫َّار اآْل َ ِخَرةَ‬
‫احا مَجِ ياًل ﴿‪َ ﴾28‬وإِ ْن ُكْننُت َّ تُِر ْد َن اللَّهَ َو َر ُسولَهُ َوالد َ‪9‬‬ ‫ُسِّر ْح ُك َّن َسَر ً‬
‫َفَت َعالَنْي َ أ َُمت ِّْع ُك َّن َوأ َ‬
‫ِ‬ ‫فَِإ َّن اللَّه أ ِ ِ ِ ِ‬
‫يما ﴾ [األحزاب‪ ،]29 ،28 :‬فالنيب عليه الصالة‬ ‫َجًرا َعظ ً‬ ‫َع َّد ل ْل ُم ْحسنَات مْن ُك َّن أ ْ‬‫َ َ‬
‫والسالم خرّي نساءه ما بني البقاء معه والصرب على شظف العيش يف الدنيا؛ ألن اهلل خريه هو‬
‫عبدا نبيًّا فاختار العبودية‪ ،‬ومل خيرت امللك كما اختارها داود‬ ‫نفسه من أن يكون مل ًكا نبيًّا أو ً‬
‫عبدا يشبع وجيوع‪ ،‬وميرض‬ ‫واختارها سليمان عليهما السالم‪ ،‬فبقي صلى اهلل عليه وسلم ً‬
‫أحكام عديدة عليه الصالة والسالم حىت أنه كان يظهر اهلالل ثالث‬ ‫ٌ‬ ‫ويصح‪ ،‬وجتري عليه‬
‫مرات يف الشهرين اهلالل مث اهلالل مث اهلالل وال يُوقد يف بيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫شيءٌ‪ ،‬فهو أكرم اخللق على اهلل‪ ،‬فلما ُسئلت عائشة عن ذلك –عن طعامهم– قالت‬
‫"األسودان‪ ،‬التمر واملاء"‪.‬‬

‫فلم يكن مما قاله املستشرقون شيء‪ ،‬وإمنا صربن أولئك األمهات وقدمن مناذج إنسانية فريدة‪،‬‬
‫ومنهن من اشتهرت بالصالة والصيام‪ ،‬ومنهن من اشتهرت حبب املساكني‪ ،‬ومنهن من‬
‫اشتهرت بالعلم‪ ،‬تنوع عطاؤهن حىت يستفيد اجملتمع‪ 9‬من قرهبن من رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وتنزل الوحي‪،‬‬

‫ولذلك قال حسان يذكر حجرات أمهات املؤمنني ونزول الوحي عليها‪:‬‬

‫هبا حجرات كان ينزل وسطه‪     ‬‬


‫من اهلل نور يستضاء ويوقد‬

‫فخرجن أمهات املؤمنني حُي دثن خبرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف بيوهتن‪ ،‬هذا ما ميكن‬
‫التعليق عليه إمجاال‪ ،‬وحنن كما قلت من قبل ُمقيدون باملنت حول زواجه صلى اهلل عليه وسلم‬
‫عليه وسلم من أمهات املؤمنني‪.‬‬

‫ذكر خدمه صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬


‫(أنس بن مالك بن النضر األنصاري‪.‬وهن ٌ‪9‬د وأمساءٌ ابنا حارثة األسلميان‪ .‬وربيعة بن كعب‬
‫األسلمي‪.‬‬
‫وكان عبد اهلل بن مسعود صاحب نعليه‪ ،،‬كان إذا قام ألبسه إيامها‪ ،‬وإذا جلس جعلهما يف‬
‫ذراعيه حىت يقوم‪ .‬وكان عقبة بن عامر اجلهين صاحب بغلته‪ ،‬يقودها يف األسفار‪.‬وبالل بن‬
‫رباح؛ املؤذن‪ .‬وسعد‪ ،‬موىل أيب بكر الصديق‪.‬وذو خِم مر ابن أخي النجاشي‪ ،‬ويقال‪ :‬ابن أخته‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬ذو خمرب بالباء‪.‬وبكري بن شداخ الليثي‪ ،‬ويقال‪ :‬بكر‪ .‬وأبو ذر الغفاري‪.) 9‬‬

‫هؤالء هم خدم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وال ريب أهنم قد أصاهبم من الشرف ما ال‬
‫خدم لسيد اخللق‬
‫يعلم قدره إال اهلل‪ ،‬فإن اهلل سخرهم رضي اهلل عنهم وأرضاهم ليكونوا‪ٌ 9‬‬
‫أي ٍ‬
‫شرف يكتسبوه‪ ،‬فلذلك كانوا يفتخرون رضي اهلل‬ ‫صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬وقد علموا َّ‬
‫شرف‬
‫عنهم بأهنم كانوا خيدمون‪ 9‬النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فخدمته عليه الصالة والسالم ٌ‬
‫عظيم‪ ،‬وهؤالء يتفاوت املهام اليت أوكلها النيب صلى اهلل عليه وسلم إليهم‪ ،‬والعاقل‪ 9‬إذا تبوأ‬
‫واحد إىل آخر‪ ،‬فليس كل الناس يصلح ٍ‬
‫ملهمة واحدة‪،‬‬ ‫مكانةً خيتلف اصطفاؤه للرجال من ٍ‬
‫فقد حُي سن الرجل مهمة وال حيسن أخرى‪ ،‬ولذلك تفاوتت مهام خدم رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪.‬فأما أنس فهو الذي جاءت به أمه وجعلته وهو صغري ووهبته للنيب صلى اهلل عليه‬
‫خادما له‪ ،‬وقد دعا له النيب عليه الصالة والسالم بكثرة املال والولد‪ 9‬فتحققت‪9‬‬
‫وسلم أن يكون ً‬
‫دعوته عليه الصالة والسالم ألنس‪ ،‬وملا جاءت خالفة عبد امللك بن مروان وصلت احلجاج‬
‫أنس رضي اهلل عنه إىل‬‫أنسا‪ ،‬فكتب ٌ‬ ‫بن يوسف على مكة واملدينة آذى احلجاج بن يوسف ً‬
‫أمريا للمؤمنني– يشكو تسلط احلجاج بن يوسف عليه‪ ،‬وكان فيما‬ ‫ٍ‬
‫عبد امللك –وكان يومئذ ً‬
‫يوما لعظمته بين إسرائيل‪ ،‬فكيف‬ ‫كتبه أنس قال "لو أن رجال من بين إسرائيل خدم موسى ً‬
‫خدمت نبينا صلى اهلل عليه وسلم عشر سنني"‪ ،‬فبعث عبد امللك إىل احلجاج يأمره أن‬ ‫ُ‬ ‫وقد‬
‫أنس رضي اهلل تعاىل عنه‪ ،‬وقد كان أنس من مهامه يذهب يف‬ ‫يكف يده عن أنس‪.‬هذا ٌ‬
‫أنس ما كان عليه الصالة‬
‫احلوائج اليومية‪ ،‬يغدو ويروح يف احلوائج اليسرية‪ ،‬وقد نقل لنا ٌ‬
‫ٍ‬
‫لشيء مل‬ ‫والسالم من خلق فقال "خدمت النيب صلى اهلل عليه وسلم عشر سنني فلم يقل‬
‫لشيء فعلته مل فعلته"‪ ،‬وهذا من مجيل خلقه وكرمي أدبه‪ ،‬وحسن‬ ‫ٍ‬ ‫أفعله مِلَ مَلْ تفعله‪ ،‬وال‬
‫معاملته صلى اهلل عليه وسلم من األهل واخلدم واملوايل وسائر الناس‪.‬‬

‫وممن خدمه عليه الصالة والسالم عقبة بن عامر‪ ،‬وهذا كان يقود له البغلة‪ ،‬وهو الذي‪ 9‬قال له‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم يف أحد أسفاره ملا هبت ريح أمره أن يتعوذ باملعوذتني ﴿ قُ ْل أَعُوذُ‬
‫تعوذٌ مبثلهما )‪.‬‬
‫تعوذ ُم ِّ‬
‫َّاس ﴾ وقال ( ما ّ‬ ‫ب الْ َفلَ ِق ﴾ و﴿ قُ ْل أَعُوذُ بَِر ِّ‬
‫ب الن ِ‬ ‫بَِر ِّ‬

‫ومنهم بالل وهو مؤذنه‪ ،‬وهذا مشهور‪.‬ومنهم ربيعة بن كعب األسلمي وكان من مهامه أنه‬
‫تطوعا‪ ،‬فأحب النيب صلى اهلل عليه‬
‫الوضوء للنيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكان يفعل هذا ً‬
‫يضع َ‬
‫وسلم أن يُكافئه فقال ( يا ربيعة سلين حاجتك ) ‪ ،‬قال‪ :‬يا رسول اهلل أسألك مرافقتك يف‬
‫اجلنة‪ ،‬ولقد وجد ربيعة من الشرف واحلَظْ َوة عند رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم والفخر‬
‫خبدمته له يف الدنيا‪ 9‬ما جعله يتطلع ألن يكون رفيقه يف اجلنة‪ ،‬فقال له صلى اهلل عليه وسلم‬
‫( فأعين على نفسك بكثرة السجود‪ ،) 9‬فدل على أن كثرة الصلوات مما جتعل العبد‪ 9‬قريبًا من‬
‫جوار نبينا عليه الصالة والسالم‪.‬‬

‫صغريا‪ ،‬وقد نقل احلافظ ابن‬


‫ومن خدمه عليه الصالة والسالم بُكري بن ش ّداخ الليثي‪ ،‬وكان ً‬
‫بكريا هذا كان يبعثه النيب عليه الصالة والسالم إىل‬ ‫ٍ‬
‫كثري رمحه اهلل تعاىل عنه قصةً مفادها أن ً‬
‫بيوت أمهات املؤمنني‪ ،‬فلما بلغ واحتلم جاء للنيب عليه الصالة والسالم وقال‪ :‬يا رسول اهلل‬
‫إنين بلغت مبلغ الرجال فال تبعث يب إىل‬
‫نسائك‪ ،‬فتعجب النيب صلى اهلل عليه وسلم من صدقه‪ ،‬وقال له ( اللهم ص ّدق قوله وبلغه‬
‫الظفر )‪ ،‬فكانت دعوة النيب صلى اهلل عليه وسلم ُمتحققة فيه‪ ،‬فلما كانت والية عمر بن‬
‫اخلطاب رضي اهلل عنه وخرج اجملاهدون يف أصقاع األرض حيملون لواء الدين‪ ،‬كان ممن‬
‫بكريا بأهل بيته‪ ،‬فكان هناك‬‫خرج أحد األنصار فرتك زوجته‪ ،‬وكأن األنصاري هذا أوصى ً‬
‫يهودي يأيت إىل تلك املرأة ويراودها عن نفسها‪ ،‬فقام بكريٌ فقلته‪.‬فلما قتله ُوجد هذا اليهودي‬
‫فحمل‪ ،‬فقام عمر رضي اهلل عنه وهو أمري املؤمنني‬‫مدرجا يف دمائه ُ‬
‫ً‬ ‫ُمل ًقا يف أحد أحياء املدينة‬
‫على املنرب فخطب خطبةً مث قال‪ :‬أنشد اهلل كل ٍ‬
‫رجل يعرف عن هذا القتيل شيئًا إال أخربنا‪،‬‬
‫فقام بكريٌ والناس يسمعون وقال‪ :‬أنا قتلته يا أمري املؤمنني‪ ،‬فتعجب‪ 9‬عمر من صراحته وجرأته‪،‬‬
‫قال‪ :‬ما دفعك إىل هذا؟ فأخربه القصة‪ ،‬فتذكر عمر دعوة النيب صلى اهلل عليه وسلم فرتكه‬
‫إكراما لدعوة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وألنه جعل دم اليهودي‪ 9‬يف‬‫ومل يصنع به شيئًا ً‬
‫بكريا هذا خدم النيب صلى اهلل عليه وسلم وهو صغري‪،‬‬‫هذه احلالة أنه ُمهدر‪.‬والذي‪ 9‬يعنينا أن ً‬
‫مجيعا رضي اهلل عنهم وأرضاهم شرفوا خبدمة سيد اخللق صلوات اهلل وسالمه عليه‪.‬‬ ‫فهؤالء ً‬
‫ذكر مواليه صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫(زيد بن حارثة بن ُشراحيل الكليب‪ ،‬وابنه أسامة بن زيد‪ ،‬وكان يقال ألسامة بن زيد‪ :‬احلب‬
‫بن احلب‪.‬‬
‫وثوبان بن جبدد؛ وكان له نسب يف اليمن‪.‬وأبو كبشة من ُمولدي‪ 9‬مكة‪ .‬يقال‪ :‬امسه ُسليم‪،‬‬
‫بدرا‪ ،‬ويقال‪ :‬كان من ُمولدي‪ 9‬أرض دوس‪.‬وأنسةُ ُمولدي‪ 9‬السراة‪.‬وصاحل‪ ،‬شقران‪.‬‬ ‫شهد ً‬
‫عبدا للعباس‪،‬‬
‫ويسار‪ ،‬نويب‪.‬وأبو رافع‪ 9،‬وامسه أسلم‪ .‬وقيل‪ :‬إبراهيم‪ ،‬وكان ً‬
‫ٌ‬ ‫ورباح‪ ،‬أسود‪.‬‬
‫فوهبه للنيب صلى اهلل عليه وسلم فأعتقه‪.‬وأبو مويهبة‪ ،‬من ُمولدي مزينة‪ .‬وفضالة‪ ،‬نزل‬
‫بالشام‪.‬ورافع كان لسعيد بن العاص فورثه ولده‪ ،‬فأعتقه بعضهم‪ ،‬ومتسك بعضهم‪ ،‬فجاء رافع‬
‫إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم يستعينه‪ُ ،‬فوهب له‪ ،‬وكان يقول‪ :‬أنا موىل رسول اهلل صلى اهلل‬
‫وسلم‪.‬ومدعم‪ ،‬أسود‪ ،‬وهبه له رفاعة بن زيد اجلذامي‪ ،‬وكان من مولدي‪ِ 9‬حسمي‪ ،‬قتل‬ ‫ِ‬ ‫عليه‬
‫بوادي القرى‪.‬‬
‫وكركرة‪ ،‬كان على ثقل النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬وزيد‪ ،‬جد هالل بن يسار بن زيد‪،‬‬
‫وعُبيد‪.‬وطهمان‪ ،‬أو كيسان‪ ،‬أو مهران‪ ،‬أو ذكوان‪ ،‬أو مروان‪.‬ومأبور القبطي‪ ،‬أهداه‬
‫واقد‪ ،‬وهشام‪ ،‬وأبو ضمرية‪ ،‬وحنني‪ ،‬وأبو عسيب‪ ،‬وامسه أمحر‪ ،‬وأبو‬‫املقوقس‪.‬وواقد‪ ،‬وأبو ٍ‬
‫عبدا ألم سلمة زوج النيب صلى اهلل عليه وسلم فأعتقته‪ ،‬وشرطت عليه أن‬ ‫عبيد‪.‬وسفينة كان ً‬
‫خيدم النيب صلى اهلل عليه وسلم حياته‪ ،‬فقال‪ :‬لو مل تشرتطي علي ما فارقت رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫هؤالء املشهورون‪ ،‬وقيل‪ :‬إهنم أربعون‪.‬‬
‫ومن اإلماء‪ :‬سلمى أم رافع‪ 9،‬وبركة أم أمين‪ ،‬ورثها من أبيه‪ ،‬وهي أم أسامة بن زيد‪ ،‬وميمونة‬
‫سعد‪ ،‬وخضرة‪ ،‬ورضوى )‬ ‫بنت ٍ‬
‫ذكر املصنف هنا موايل النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬واملوىل يف اللغة تُطلق على أربعة أو أكثر‬
‫–وهذا من الفوائد–‪:‬‬

‫· تُطلق على السيد‪ ،‬فتقول للغالم‪ :‬أين موالك؟‬

‫· ُوتطلق على العبد‪ 9‬إذا أُعتق فيُصبح والؤه لسيده‪ ،‬فيُقال له‪ :‬موىل بين فالن‪ ،‬أي أن والءه‬
‫عبدا عندهم مث أُعتق‪ ،‬وهذه هي اليت أرادها املصنف حينما قال ( ذكر مواليه صلى‬ ‫هلم‪ ،‬كان ً‬
‫اهلل عليه وسلم )‬

‫ين آَ َمنُوا َوأ َّ‬


‫َن‬ ‫َن اللَّه موىَل الَّ ِ‬
‫ذ‬ ‫َّ‬ ‫أ‬‫ك بِ‬ ‫· وتُطلق على النصري والظهري‪ ،‬ودليلها من القرآن ﴿ َذلِ‬
‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫الْ َكاف ِر َ‬
‫ين اَل‬
‫َم ْوىَل هَلُ ْم ﴾ [حممد‪ ،]11 :‬أي أن اهلل نصريٌ وظهريٌ للمؤمنني‪ ،‬والكافرين ليس هلم ظهريٌ وال‬
‫نصريٌ‪.‬‬
‫ِ‬
‫· وتُطلق على الرب جل جالله‪ ،‬ودليلها من القرآن ﴿ مُثَّ ُر ُّدوا إِىَل اللَّه َم ْواَل ُه ُم احْلَ ِّق أَاَل لَهُ‬
‫احْلُ ْك ُم َو ُه َو‬
‫ِ‬
‫ني ﴾ [األنعام‪ ،]62 :‬فموالهم هنا مبعىن رهبم‪ ،‬ليست مبعىن نصريهم ألن اهلل‬ ‫َسَرعُ احْلَاسبِ َ‬ ‫أْ‬
‫ظهريا للكفار‪.‬‬
‫نصريا وال ً‬‫ليس ً‬
‫عبدا مث أُعتق‪ ،‬وقد بدأ املصنف بزيد‬
‫هذه كفائدة لغوية‪ ،‬أما املوايل املقصود هبا هنا من كان ً‬
‫بن حارثة وابنه أسامة‪ ،‬فأما زي ٌد وأسامة فهما حبَّا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقد كان‬
‫قريش منه أن يتشفع‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم حيب أسامة حبًّا مجًّا‪ ،‬وأسامة هو الذي‪ 9‬طلبت ٌ‬
‫عند النيب عليه الصالة والسالم فقال له ( أتشفع يا أسامة يف ٍ‬
‫حد من حدود اهلل )‪ ،‬لعلم‬
‫املخزوميني من قريش مبكانة أسامة عند النيب عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫أبيضا‪ ،‬وكان أسامة أمسر اللون‪ ،‬فكان هذا يثري التساؤالت عند الناس‪،‬‬ ‫وقد كان زي ٌد أبوه ً‬
‫أسى يف قلبه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬أي التساؤالت اليت يثريها الناس من‬ ‫وكان هذا حيدث ً‬
‫يوم جبوار بعضهما وظهرت أقدامهما‬ ‫كون أسامة خيتلف لونه عن لون أبيه‪ ،‬حىت ناما ذات ٍ‬
‫علم بالقفاية واألنساب واألثر‪ ،‬فلما‬
‫رجل من بين‪  ‬مدجل له ٌ‬ ‫دون أن تظهر وجوههما فجاء ٌ‬
‫نظر إىل قدمي أسامة وقدمي زيد وهو ال يعرف أن هذا أسامة وهذا زي ٌد ابنه‪ ،‬وإمنا نظر إىل‬
‫األقدام بعضها مسراء وبعضها بيضاء‪ ،‬قال‪ :‬إن هذه األقدام‪ 9‬بعضها من بعض‪ ،‬فتهلل وجهه‬
‫صلوات اهلل وسالمه عليه وظهر الفرح عليه ودخل على عائشة تربق أسارير وجهه وهو‬
‫يقول ( أما علمت أن فالنا املدجلي نظر إىل أسامة وزيد فقال كذا‪ 9‬وكذا‪ ،) 9‬ألن اإلنسان إىل‬
‫أحب شيئًا أحب ما يتعلق به وأحب ما يفرحه‪ ،‬وإذا أبغض شيئًا –عيا ًذا باهلل– أبغض ما‬
‫يتعلق به‪ ،‬فكان صلى اهلل عليه وسلم حُم بًّا ٍ‬
‫لزيد وحُم بًّا ألسامة‪ ،‬فكان حيب أي شيء يدخل‬
‫الفرح أو يظهر الكرامة أو الفضل ألسامة ٍ‬
‫ولزيد رضي اهلل تعاىل عنهما وأرضامها‪.‬‬

‫عبدا للنيب عليه الصالة والسالم أهدته إياه‬


‫وزيدا‪ 9‬كان ً‬
‫فهما موايل النيب عليه الصالة والسالم‪ً ،‬‬
‫زوجته خدجية مث أعتقه صلوات اهلل وسالمه عليه‪.‬‬

‫وممن ذكر املصنف رمحة اهلل عليه من املوايل سفينة‪ ،‬وامسه على األشهر مهران‪ ،‬وأما سفينة‬
‫بسند حسن‪ ،‬كان‬‫فلقب قيل إن النيب عليه الصالة والسالم أطلقه عليه كما رواه اإلمام أمحد ٍ‬
‫ٌ‬
‫حيمل املتاع فألقى الصحابة رضي اهلل تعاىل عنهم متاعهم يف ردائه‪ ،‬فكأن الرداء محل أكثر‬
‫من املعهود‪ ،‬فقال النيب عليه الصالة والسالم ( بل أنت سفينة )‪ ،‬كناية على أنه حيمل شيئًا‬
‫غزيرا‪ ،‬فقال سفينة‪ :‬فلو أنين مُحِّلت محل بعريين أو ثالثة أو أربعة أو مخسة أو ستة أو سبعة‬
‫ً‬
‫حلملتها من قول النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫سفينة وإذعان األسد له ‪:‬‬

‫وسفينة هذا أدرك زمن عثمان‪ ،‬وركب البحر فرمت به ألواح البحر‪ ،‬كان ُمتكئًا على لوح‬
‫قارب يف البحر فضربتهم األمواج‪ 9‬ورماه البحر إىل أمجة –يعين غابة–‪ ،‬فلما رماه البحر إىل‬
‫أمجة ضل الطريق فرأى األسد‪ ،‬فلما أبصر األسد –والعرب تُسمي األسد أبا احلارث–‪ ،‬فلما‬
‫رآه سفينة أخذ ينظر إىل األسد ويقول‪ :‬يا أبا احلارث أنا سفينة موىل رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فطأطأ األسد رأسه وأقبل على سفينة ومحله على عاتقه وخرج به من الغابة حىت‬
‫دله على الطريق‪ ،‬مث رجع قليال‪ ،‬مث أقعى على ذنبه‪ ،‬مث أخذ يهمهم كأنه يودعه‪،‬‬

‫وسبع ُمفرتس ملا علم أن الذي بني يديه موىل لرسول‬


‫كاسر ٌ‬‫وحش ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫فهذا‪ 9‬كما قال العلماء‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم تغري طبعه وتغري حاله‪ ،‬فاملؤمنون أوىل أن يكونوا أرق قلوبًا وعاطفة‬
‫مع بعضهم البعض يف املقام األول‪ ،‬ملاذا؟ ألن جيمعين وجيمعك شهادة التوحيد وحمبتنا لرسول‬
‫صلوات اهلل وسالمه عليه‪.‬‬

‫بعضا منهم‪ ،‬مث ذكر‬


‫وممن كانوا من موايل النيب صلى اهلل عليه وسلم ُكثر‪ ،‬لكن ذكر املصنف ً‬
‫زيدا وذكر أسامة وذكر سفينة‪ ،‬وهؤالء أشهر موايل النيب عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫ً‬
‫وذكر من النساء أم أمين‪ ،‬وهي امسها بركة‪ ،‬وهي إحدى حواضن النيب صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫وقد كان النيب صلى اهلل عليه وسلم حيبها‪ ،‬وهي زوجة ٍ‬
‫زيد رضي اهلل تعاىل عنه وأرضاه‪.‬‬
‫ذكر أفراس رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫(أول فرس ملكه‪ :‬السكب‪ ،‬اشرتاه من أعرايب من بين فزارة بعشر أواق‪ ،‬وكان امسه عند‬
‫األعرايب الضرس‪ ،‬فسماه السكب‪ ،‬وكان أغر حمجاًل طلق اليمني‪ ،‬وهو أول فرس غزا عليه‪،‬‬
‫وكان له سبحة‪ ،‬وهون الذي‪ 9‬سابق عليه‪ ،‬فسبق‪ ،‬ففرح به‪.‬‬
‫واملرجتز‪ :‬وهو الذي‪ 9‬اشرتاه من األعرايب الذي‪ 9‬شهد له خزمية بن ثابت‪ ،‬واألعرايب من بين‬
‫مرة‪.‬وقال سهل بن سعد الساعدي‪ " :‬كان لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عندي ثالثة‬
‫أفراس‪ :‬لزاز‪ ،‬والضرب‪ ،‬واللحيف‪ .‬فأما لزاز‪ :‬فأهداه له املقوقس‪ ،‬وأما اللحيف‪ :‬فأهداه له‬
‫ربيعة بن أيب الرباء‪ ،‬فأثابه عليه فرائض من نعم بين كالب‪ ،‬وأما الضرب‪ :‬فأهداه له فروة بن‬
‫عمرو اجلذامي‪.‬وكان له فرس يقال له‪ :‬الورد‪ ،‬أهداه له متيم الداري‪ ،‬فأعطاه عمر‪ ،‬فحمل‬
‫الد ُلدل‪ ،‬يركبها يف األسفار‪ ،‬وعاشت بعده حىت كرِب ت‬‫عليه‪ ،‬فوجده يباع‪.‬وكانت بغلته ُ‬
‫وزالت‪[ 9‬أسنانه]‪ ،‬وكان جيش هلا الشعري‪ ،‬وماتت بينبع‪ ،‬ومحاره [عُ َفري] مات يف حجة الوداع‪.‬‬
‫وكان له عشرون لقحة بالغابة‪ ،‬يراح إليه كل ليلة بقربتني عظيمتني من لنب‪ ،‬وكان فيها لقاح‬
‫غزار‪ :‬احلناء‪ ،‬والسمراء‪ ،‬والعريس‪ ،‬والسعدية‪ ،‬والبغوم‪ ،‬واليسرية‪ ،‬والريا‪.‬وكانت‪ 9‬له لقحة‬
‫تدعي بردة‪ ،‬أهداها له الضحاك‪ 9‬بن سفيان‪ ،‬كانت حتلب كما حتلب لقحتان غزيرتان‪.‬وكانت‬
‫له مهرة أرسل هبا سعد بن عبادة من نعم بين عقيل‪ .‬والشقراء‪.‬وكانت‪ 9‬له العضباء‪ ،‬ابتاعها أبو‬
‫بكر من نعم بين احلريش‪ ،‬وأخرى بثمامنائة درهم‪ ،‬فأخذها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫بأربعمائة درهم‪ ،‬وهي اليت هاجر عليها‪ ،‬وكانت حني قدم املدينة رباعية‪،‬وهي القصواء‪9‬‬
‫واجلدعاء‪ ،‬وقد ُسبقت‪ ،‬فشق على املسلمني‪.‬‬
‫وكان له منائح سبع من الغنم‪ :‬عجرة‪ ،‬وزمزم‪ ،‬وسقيا‪ ،‬وبركة‪ ،‬وورسة‪ ،‬وأطالل‪،‬‬
‫وأطراف‪.‬وكان له مائة من الغنم )‬
‫هذه األخبار مجلةً بعضها قد ال يكاد يثبت‪ ،‬لكن الذي‪ 9‬يعنينا حرص سلف األمة رضي اهلل‬
‫دونوا ما كان‬
‫عنهم ورمحهم اهلل على كل ما يتعلق بنبينا صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬حىت إهنم ّ‬
‫حممود هلم‪ ،‬وقد كان‬
‫ٌ‬ ‫أمر‬
‫يركبه صلى اهلل عليه وسلم وما كان ميلكه من الدواب‪ ،‬وهذا ٌ‬
‫السلف كذلك من عنايتهم بكل ما يتعلق به صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬وهذا يؤكد ما قلناه‬
‫من قبل أن من أحب شيئًا أحب ما يتعلق به‪.‬‬

‫أما ما ذكره املصنف فبالنسبة لك كطالب عل ٍم ال يلزم حفظ هذا كله‪ ،‬لكن هو املقصود‬
‫عندما تتذكر األحاديث تربط األحاديث الفقهية أو غري الفقهية مبا مسعت اآلن يف السرية‪،‬‬
‫فرسا من ٍ‬
‫رجل من بين‬ ‫فمثال حديث خزمية بن ثابت أن النيب صلى اهلل عليه وسلم اشرتى ً‬
‫شاهدا يشهد أن النيب صلى‬
‫مرة مل يكن هناك شاهد‪ ،‬فكأهنما اختلفا يف أمر فطلب األعرايب ً‬
‫اهلل عليه وسلم اشرتى منه هذا الفرس‪ ،‬ألن النيب عليه الصالة والسالم اتفق معه على سعر‪ ،‬مث‬
‫سعرا أرفع‪ ،‬فقال النيب عليه الصالة‬
‫أن األعرايب كأنه طمع فقال ما بعتك هبذا السعر أريد ً‬
‫شاهدا‪ ،‬فجاء خزمية بن ثابت‬
‫والسالم ( إنك بعتين إياه‪ ،‬سبق أن انتهينا من األمر )‪ ،‬فلم جيد ً‬
‫رضي اهلل تعاىل عنه وأرضاه وقال‪ :‬أنا أشهد أن النيب صلى اهلل عليه وسلم اشرتاه منك بكذا‬
‫وكذا‪ ،‬فلما شهد قال له عليه الصالة والسالم ( كيف تشهد؟ ) وهو يعلم أنه مل حيضر‪،‬‬
‫كلمة حنوها ـ أفال أصدقك أنك اشرتيت‬‫فقال‪ :‬يا رسول اهلل إنين أصدقك خبرب السماء‪ 9‬ـ أو ٍ‬
‫أعرايب بكذا وكذا‪ ،‬فجعل النيب صلى اهلل عليه وسلم شهادة خزمية بشهادة رجلني‪.‬‬‫ٍّ‬ ‫فرسا من‬
‫ً‬
‫وهذا يُسمى –إن صح التعبري–‪ 9‬يف علم االجتماع‪ ،‬اإلنسان أحيانًا يرزقه اهلل موهبة انتهاز‬
‫الفرص احلسنة‪ ،‬وذكرنا على هذا أمثلة من السرية كأيب أيوب األنصاري رضي اهلل تعاىل عنه‪،‬‬
‫أن النيب عليه الصالة والسالم ملا دخل املدينة كان فيها حيَّان عظيمان‪ ،‬األوس واخلزرج‪،‬‬
‫فكان راكبًا على الناقة فيقول له اخلزرج‪ :‬هلم إىل هاهنا يا رسول اهلل‪ ،‬يقول ( خلو سبيلها‬
‫فإهنا مأمورة )‪ ،‬ويقول األوس نفس القضية ويقول عليه الصالة والسالم ( خلو سبيلها فإهنا‬
‫مأمورة )‪ ،‬فلما بركت الناقة وقامت تركها النيب صلى اهلل عليه وسلم حىت تربك ومل ينزل‪ ،‬مث‬
‫قامت وجالت جولة مث رجعت وبركت يف موطنها األول‪ ،‬هنا مل ينزل عليه الصالة والسالم‬
‫حىت ال يقولن قائل لو نزل عند األوس لقال اخلزرج مال علينا من أول يوم‪ ،‬ولو نزل عند‬
‫اخلزرج لقالت األوس ذلك وبقي على الناقة‪ .‬فجاء أبو أيوب األنصاري‪ ،‬وهذا الذي‪ 9‬نتحدث‬
‫عنه عن انتهاز الفرص‪ ،‬فعمد إىل متاع النيب عليه الصالة والسالم وأدخله بيته‪ ،‬فلما أدخله‬
‫مسجدا‪ 9‬يقولون‪:‬‬
‫ً‬ ‫بيته ُحسم األمر‪ ،‬فلما جاء الناس اجملاورون لألرض اليت أصبحت بعد ذلك‬
‫يا رسول اهلل هاهنا هاهنا قال عليه الصالة والسالم ( املرء مع رحله )‪ ،‬فظفر أبو أيوب رضي‬
‫اهلل عنه وأرضاه بسكىن النيب عليه الصالة والسالم عنده من دون غريه من األنصار لتبكريه‬
‫وانتهازه للفرصة احلسنة هنا‪.‬‬

‫كذلك خزمية بن ثابت‪ ،‬كل الصحابة أصال من أيب بكر فمن دونه –وليس فيهم من يُسمى‬
‫بالدون– يصدقون‪ 9‬النيب عليه الصالة والسالم خبرب السماء‪ ،‬لكن خزمية استغل األمر أكثر من‬
‫ومعلوم ملا يُقال هذا األمر النيب عليه الصالة والسالم مل يرد شهادته‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫غريه وقال‪ :‬أنا أشهد‪،‬‬
‫فظفر بأن شهادته بشهادة رجلني رضي اهلل عنه وأرضاه‪ ،‬وهذه من املناقب احملمودة يف‬
‫الرجال‪.‬‬

‫إذا هبت رياحك فاغتنمها‪          ‬فـ ـإن لكل خافقة سـكون‬


‫و إن درت نياقك فاحتبلها‪      ‬فال تدري الفصيل ملن يكون‬

‫هذه أسباب يضعها اهلل تبارك وتعاىل يف الناس‪ ،‬هذا يصيب وهذا خُي طئ‪ ،‬لكن هذه سنن اهلل‬
‫يف اخللق‪ ،‬وإذا أراد اهلل شيئًا هيَّأ أسبابه‪.‬‬

‫سمى واحد‪،‬‬
‫ونقف عند العضباء وهي القصواء مل ًّ‬
‫ُ‬
‫وهي الناقة –إذا صح التعبري–‪ 9‬الرئيسة اليت كانت حتمل النيب عليه الصالة والسالم‪ ،‬واليت‬
‫محلته يف اهلجرة‪ ،‬ومحلته يف يوم عرفة‪ ،‬حلمته يف احلج ومحلته يف اهلجرة‪ ،‬وهذه الناقة كانت‬
‫أعرايب بقعود فسابق هذه الناقة وسبقها‪ ،‬فلما سبقها شق ذلك على‬
‫ٌّ‬ ‫ال تكاد تُسبق‪ ،‬فجاء‬
‫الصحابة‪ ،‬ملاذا شق على الصحابة؟‪ ،‬نُعيد نفس القاعدة‪ ،‬إن من أحب شيئًا أحب ما يتعلق به‪،‬‬
‫قعودا يسبق ناقة؟! ال يعنيهم شيءٌ‪ ،‬لكن شق عليهم وتغري حاهلم‬
‫الصحابة ما الذي يعنيهم أن ً‬
‫أن هذه الناقة ناقة من؟ ناقة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬هنا جاء التأديب النبوي لألمة‪،‬‬

‫وهذا من أعظم وسائل تربية الناس على التوحيد أن يُربوا عمليًّا‪ ،‬فإن متون التوحيد على‬
‫ٍ‬
‫بشيء أكثر‬ ‫أمر عظيم ال خالف فيه‪ ،‬لكنه ال يُدرس التوحيد‬ ‫جاللة قدرها مما دونه العلماء ٌ‬
‫من تدريس كيف كان النيب صلى اهلل عليه وسلم يعلم األمة التوحيد‪ ،‬اآلن ناقة تُسبق أين‬
‫ناقة تُسبق؟‪ ،‬فلما ُسبقت الناقة وتغري وجوه الصحابة قال صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫التوحيد يف ٍ‬
‫حق على اهلل أال يرفع شيئًا إال وضعه )‪ ،‬ال يرتفع شيءٌ إال وضعه اهلل ‪.‬‬
‫( إنه ٌّ‬

‫هذا هو التوحيد‪ ،‬أين التوحيد؟‪ ،‬الشمس والقمر‪ 9‬فتنةٌ للناس‪ ،‬ولذلك كتب اهلل على الشمس‬
‫والقمر الكسوف واخلسوف حىت يُعلم أنا مهما بلغت قابلة للنقصان‪ ،‬وجهه صلى اهلل عليه‬
‫نورا من وجهه عليه الصالة والسالم‪ ،‬ومع ذلك يُشج وتُكسر‬ ‫وسلم ليس هناك وجهٌ أشد ً‬
‫خملوق‪ ،‬كل من حولك من العظماء يريك اهلل‬ ‫الرباعية وينزل الدم‪ ،‬ألنه مهما بلغ فهو وجه ٍ‬
‫جل وعال فيهم آية تدل على أهنم بشر جتري عليهم أحكام البشر‪ ،‬انظر إىل مج ٍع من املمثلني‬ ‫ّ‬
‫مبرض يشوه مجاله‪ ،‬حىت آخرهم موتًا‪ ،‬كنت‬ ‫واملمثالت ممن يوصفون باجلمال‪ ،‬غالبهم ميوت ٍ‬
‫أدرس يف املدينة‪ ،‬آخرهم موتًا –وال أتكلم عن أمساء– عفا اهلل عنه وغفر اهلل له‪ ،‬اجلنة والنار‪9‬‬
‫ليس لنا فيها سبيل‪ ،‬هذا الرجل كان فتنة يف زمانه قدميًا لكث ٍري من الصبايا والنساء‪ ،‬فلما‬
‫قربت وفاته دخلته أمراض حىت تغري وجهه حىت إن أهله كانوا خيفون وجهه عن الناس‪ ،‬حىت‬
‫مات ووري‪ 9‬يف جنازة مستورة حىت ال يرى الناس وجهه بعد أن رأوه أنه كان فتنة يف‬
‫جل وعال ﴿ َواَل‬ ‫اهلل‬ ‫قال‬ ‫النقص‪،‬‬ ‫يعرتيه‬ ‫عظم‬ ‫مهما‬ ‫السابق‪ ،‬فسنة اهلل يف خلقه أن كل ٍ‬
‫شيء‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫تَ ْدعُ َم َع اللَّ ِه إِهَلًا آَ َخَر اَل إِلَهَ إِاَّل ُه َو ُك ُّل َش ْيء َهالِ ٌ‬
‫ك إِاَّل َو ْج َههُ لَهُ احْلُ ْك ُم َوإِلَْي ِه ُتْر َجعُو َن ﴾‬
‫ك ذُو اجْلَاَل ِل‬‫ان ﴿‪َ ﴾26‬و َيْب َقى َو ْجهُ َربِّ َ‬ ‫[القصص‪ ، ]88 :‬وقال سبحانه ﴿ ُك ُّل من علَيها فَ ٍ‬
‫َ ْ َ َْ‬
‫َواإْلِ ْكَر ِام ﴾ [الرمحن‪.]27 ،26 :‬‬

‫فكل عظي ٍم مهما ارتقى فينزل‪ ،‬ونبينا صلى اهلل عليه وسلم ملا ساد اجلزيرة ودخل مكة فاحتًا‬
‫احلمى وأصبح وهو سيد‬ ‫وخطب الناس يف خطبة الوداع وبلغ األمر منتهاه مرض وأصابته َّ‬
‫اخللق الذي جاهد يف أرجاء اجلزيرة كلها يعجز أن يصل إىل املسجد‪ ،‬مث كان عليه الصالة‬
‫والسالم أفصح من نطق الضاد وأفصح الفصحاء وسيد البلغاء يعجز أن يتكلم ويدعو ألسامة‬
‫بصوت مرتفع‪ ،‬بل يصل إىل أنه يرى السواك‪– 9‬كما قلنا قبل درسني– وال يستطيع أن يقول‬ ‫ٍ‬
‫أعطوين السواك‪ ،‬فسبحان ربنا الذي‪ 9‬ال شيء مثله‪ ،‬وال نظري له وال ند‪ ،‬وهو الذي‪ 9‬يرينا‬
‫عظمته وجالله وكماله وقدرته‪ ،‬وأنه تبارك وتعاىل ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصري‪،‬‬
‫يرينا هذه اآلية يف كل غدوة ورواح‪ ،‬لكن املتعظني بتلك اآليات قليل‪ ،‬جعلين اهلل وإياكم من‬
‫أولئك القليل‪.‬‬

‫هذا ما يتعلق سبق القصواء من قبل القعود الذي مع األعرايب‪.‬‬

‫بشر من‬
‫مما يتعلق بذكر أفراسه ودوابه عليه الصالة والسالم أنه كان عليه الصالة والسالم ٌ‬
‫الناس‪ ،‬يعيش كما يعيش الناس‪ ،‬يركب كما يركبون‪ ،‬وميشي كما ميشون‪ ،‬ويفرح كما‬
‫فرسا أعجبه اشرتاه‪ ،‬وقلما نُقل عنه البيع‪ ،‬البيع يف‬
‫يفرحون‪ ،‬فلما سبق فرسه فرح‪ ،‬وملا رأى ً‬
‫حياته صلى اهلل عليه وسلم قليل‪ ،‬أما الشراء‪ 9‬فهو كثريٌ‪ ،‬فكان يشرتي ما كان يعجبه‪ ،‬وكان‬
‫ومسحا إذا اشرتى‪.‬‬
‫ومسحا إذا باع ً‬
‫يأخذ ويعطي ويفاوض ويبيع ويساوم‪ً ،‬‬
‫فهذا كله يدل على أنه بشر‪ ،‬وقد كان القرشيون يتعجبون يف أول األمر كيف يكون هذا نبيًا‬
‫َس َو ِاق لَ ْواَل أُنْ ِز َل إِلَْي ِه َملَ ٌ‬
‫ك َفيَ ُكو َن‬ ‫ِ‬ ‫ويقولون ﴿ م ِال ه َذا َّ ِ‬
‫الر ُسول يَأْ ُك ُل الطَّ َع َام َومَيْشي يِف اأْل ْ‬ ‫َ َ‬
‫بآيات عديدة أن الدنيا‪ 9‬ليست مكافأ ًة‬ ‫معه نَ ِذيرا ﴾ [الفرقان‪ ،]7 :‬فأخربه اهلل جل وعال ٍ‬
‫ّ‬ ‫ََُ ً‬
‫جل وعال أهل الكفر‪ ،‬فعاش نبيه صلى اهلل‬ ‫ألحد‪ ،‬ولو كانت مكافأ ًة يف ذاهتا فلمنعها اهلل ّ‬
‫بشرا كما يعيش الناس‪ ،‬ونُ ِّعم أهل الكفر‪ ،‬بعضهم ينعم وبعضهم‪ 9‬ال ينعم‪ ،‬جتري‬ ‫عليه وسلم ً‬
‫جل وعال القدرية‪ ،‬وال عالقة هلا باإلميان وال بغريه‪ .‬لكن اآلخرة هي‬ ‫على اجلميع أحكام اهلل ّ‬
‫اح َد ًة جَلَ َع ْلنَا لِ َم ْن يَ ْك ُف ُر‬
‫دار اجلزاء‪ ،‬فاهلل يقول يف "الزخرف" ﴿ ولَواَل أَ ْن ي ُكو َن النَّاس أ َُّمةً و ِ‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫ِج َعلَْي َها يَظْ َه ُرو َن ﴿‪َ ﴾33‬ولُِبيُوهِتِ ْم أ َْب َوابًا َو ُس ُر ًرا َعلَْي َها‬ ‫ر‬
‫ََ َ‬ ‫ا‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫بِالرَّمْح ِن لِبيوهِتِم س ُق ًفا ِمن فَض ٍ‬
‫َّة‬ ‫ْ‬ ‫َ ُُ ْ ُ‬
‫الد ْنيا واآْل َ ِخرةُ ِعْن َد ربِّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يت ِ‬
‫ني ﴾‬ ‫ك ل ْل ُمتَّق َ‬ ‫َ َ‬ ‫ك لَ َّما َمتَاعُ احْلَيَاة ُّ َ َ َ‬ ‫َّكئُو َن ﴿‪َ ﴾34‬و ُز ْخ ُرفًا َوإِ ْن ُك ُّل َذل َ‬ ‫َ‬
‫[الزخرف‪ ،]35–33 :‬فجعل اهلل جل وعال اآلخرة هي دار التقوى‪ ،‬وملا كان حيمل الّلنِب‬
‫ّ‬
‫عمار حيمل لبنتني لبنتني‪ ،‬فأعجب النيب صلى اهلل عليه وسلم عمار‬ ‫وحيمل أصحابه اللنب كان ّ‬
‫عمار‬ ‫أنه حيمل لبنتني لبنتني فقال ( ويح ابن مسية تقتله الفئة الباغية )‪ ،‬مث قال ( اهتدوا هبدي ّ‬
‫)‪ ،‬الشاهد‪ 9‬منه ملا أراد أن يبث فيهم العالقة األخروية قال هلم عليه الصالة والسالم يدعو‬
‫( اللهم ال عيش إال عيش اآلخرة‪ ،‬فاغفر لألنصار واملهاجرة )‪.‬‬

‫فاملؤمن وطالب العلم يف املقام األول ال جيعل من العلم حظًا للكسب الدنيوي‪ ،‬وإمنا جيعل‬
‫العلم الذي‪ 9‬علم به سنة النيب صلى اهلل عليه وسلم وهديه وفقهه وما إىل ذلك طري ًقا إىل‬
‫ظ من الدنيا‪ 9‬بعلمه قل حظه يف اآلخرة وقل قبول علمه عند‬ ‫اآلخرة‪ ،‬وكلما كان لإلنسان ح ٌ‬
‫الناس يف الغالب‪.‬‬

‫العالمة األلباين رمحه اهلل تعاىل وغفر له ملا بُشر بأنه فاز جبائزة امللك فيصل العاملية حاول‬
‫الصحفيون‪ 9‬أن جيعلوا من فوزه هبا مادةً ثريةً يف الصحافة‪ ،‬واتصل به أحد الصحفيني ليهنئه‬
‫ني ﴾ [الزخرف‪:‬‬ ‫ويسأله عن مشاعره فقال الشيخ رمحه اهلل ﴿ واآْل َ ِخرةُ ِعْن َد ربِّ ِ ِ‬
‫ك ل ْل ُمتَّق َ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫‪ ،]35‬مث أقفل اهلاتف وأهنى املكاملة‪ ،‬فالعامل الرباين حبق هو من ينشد ما عند اهلل وأجر‬
‫اآلخرة‪ ،‬وهذا الذي‪ 9‬ينبغي أن يكون عليه العلماء وطلبة العلم يف املقام األول‪.‬‬
‫فبادره وخذ باجلد ف ـيه‪    ‬فإن أعطاكه اهلل انتفعت‬

‫وإن أوتيت فيه طويل باع‪     ‬وقال الناس إنك قد رأست‬

‫فال تأمن سؤال اهلل عنه‪       ‬بتوبيخ علمت فهل عملت‬

‫جل وعال يقول ﴿ إِمَّنَا خَي ْ َشى اللَّهَ ِم ْن ِعبَ ِاد ِه الْعُلَ َماءُ ﴾ [فاطر‪،]28 :‬‬
‫وإمنا العلم العمل‪ ،‬واهلل ّ‬
‫هذا أهم ما ميكن أن يكتسبه اإلنسان يف هذه املقطوعة من السرية‪.‬‬
‫ذكر سالحه صلى هللا عليه و سلم و االنتهاء من شرح المتن ‪:‬‬
‫و سنشرع ا إن شاء اهلل تعاىل يف ختم الكتاب وإمتامه‪ ،‬وقد يقول قائل‪ :‬إنه كيف يُعطى يف‬
‫يوم واحد ما أعطى قرابته يف أسبوع كامل؛ حىت يزيل اللبس فإن املتبقي من الكتاب أكثره‬
‫أمساء تتعلق بالعشرة املبشرين رضي اهلل تعاىل عنهم وأرضاهم‪ ،‬وأما ما يتعلق بصفته صلى‬
‫اهلل عليه وسلم فهذا ما سنقف عنده كثرياً ‪.‬‬

‫أسلحته صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬

‫قال املصنف رمحه اهلل‪ ( :‬وكان له ثالثة رماح أصاهبا من سالح بين قينقاع‪ ،‬وثالثة قسي‪ ،‬قوس‬
‫امسها الروحاء‪ ،‬وقوس شوحط‪ ،‬وقوس صفراء تدعى الصفراء‪.‬وكان‪ 9‬له ترس فيه متثال رأس‬
‫كبش‪ ،‬فكره مكنه‪ ،‬فأصبح وقد أذهبه اهلل عز وجل‪.‬وكان سيفه ذو الفقار‪ ،‬تنفله يوم بدر‪،‬‬
‫وهو الذي‪ 9‬رأى فيه الرؤيا يوم أحد‪ ،‬وكان ملنبه بن احلجاج السهمي‪.‬وأصاب من سالح بين‬
‫قينقاع ثالثة أسياف‪ :‬سيف قلعي‪ ،‬وسيف يدعى بتارا‪ ،‬وسيف يدعى احلتف‪.‬وكان عنده بعد‬
‫ذلك املخدم‪ ،‬ورسوب‪ ،‬أصاهبا من الفلس‪ ،‬وهو صنم لطيء‪.‬‬
‫قال أنس بن مالك‪ :‬كان نعل سيف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فضة‪ ،‬وقبيعته فضة‪ ،‬وما‬
‫بني ذلك حلق فضة ‪.‬وأصاب من سالح بين قينقاع درعني‪ :‬درع يقال هلا‪ :‬السعدية‪ ،‬ودرع‬
‫يقال هلا‪ :‬فضة‪.‬وروي‪ 9‬عن حممد‪ 9‬بن سلمة قال‪ :‬رأيت على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوم‬
‫أحد درعني‪ :‬درعه ذات الفضول‪ ،‬ودرعه فضة‪ ،‬ورأيت عليه يوم خيرب درعني‪ :‬ذات الفضول‬
‫والسعدية )‪.‬‬

‫هذا ما ذكره املصنف النيب صلى اهلل عليه وسلم كان إمام اجملاهدين‪ ،‬وال ميكن إن يكون إمام‬
‫اجملاهدين حىت يكون لديه سالح‪ ،‬وهذه األسلحة اليت ذكرت ونقلت عنه صلى اهلل عليه وسلم‬
‫نُقلت بأسانيد ختتلف منها ما هو صحيح منها ما هو دون ذلك‪ ،‬لكن مجلة قُبلت عند العلماء‬
‫وتناقلوها هذا الفكرة األوىل يف املوضوع‪.‬‬

‫الفكرة الثانية يف املوضوع إذا أردت أن تدون سيفه ذو الفقار هذا السيف الذي كان ال يكاد‬
‫يفارقه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬سيف ذو الفقار هو السيف الذي‪ 9‬كان ال يكاد يفارقه صلوات‬
‫اهلل وسالمه عليه مبعىن أنه كان حيمله كثرياً ولذلك قال املصنف ( وهو الذي‪ 9‬رأى فيه الرؤيا‬
‫يوم أحد ) فلو ُسئلت وأنت درست املنت ما معىن قول املصنف ( وهو الذي‪ 9‬رأى فيه الرؤيا‬
‫يوم أحد ) أي أن هذا السيف قبل معركة أحد النيب صلى اهلل عليه وسلم رأى يف هذا السيف‬
‫ثلمة رأى فيه ماذا؟ ثلمة يعين شبه كسر‪ ،‬وسيف اإلنسان هو الذي‪ 9‬يدفع به عن نفسه فأُول يف‬
‫املنام بأنه أحد عصبته‪ ،‬وكان مقتل من ؟ مقتل محزة بن عبد املطلب رضي اهلل عنه وأرضاه‬
‫وموته شهيداً‪ ،‬فالرؤيا اليت رآها رأى بقراً تنحر هذا موت أصحابه ورأى يف سيفه ثلمة؟ هذا‬
‫هو مقتل من مقتل محزة يف أي سيف رأى هذه الرؤيا يف سيفه ذي الفقار‪ ،‬فعلى هذا قلنا إن‬
‫سيفه ذا الفقار هو السيف الذي‪ 9‬ال يكاد يفارقه‪.‬‬
‫الفائدة الثانية‪ :‬ما مل يذكره املصنف أن له صلى اهلل عليه وسلم سيفاً يقال له مأثور ورثه عن‬
‫أبيه‪ ،‬مبعين أن النيب صلى اهلل عليه وسلم ورث هذا عن أبيه عبد اهلل أي أن مأثور يف األصل ملن‬
‫؟ لعبد اهلل هو والد‪ 9‬النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬وهذه هي أهم الفوائد‪ 9‬مر معنا يا أُخي السالح اآلن ومر معنا قبله الدواب ومر معنا قبل‬
‫الدواب اإلماء واملواىل والعبيد‪ 9،‬السؤال أين ذهبت هذه؟ اإلماء والعبيد والسالح‪ 9‬والدواب‪9‬‬
‫الذي ذكرهنا مجيعاً تكتب يف املنت قال احلافظ بن كثري رمحه اهلل ‪ :‬إن النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫قد صح عنه إنه مات ومل يرتك ديناراً وال درمهاً وأن درعه كانت مرهونة عند يهودي يف‬
‫ثالثني صاعاً من شعري‪ ،‬وأن مجيع ما ذكر من قبل من‬
‫العبيد واإلماء والدواب والسالح‪ 9‬قد أجنز التصدق به صلى اهلل عليه وسلم قبل موته؛ لعموم‪9‬‬
‫قوله صلى اهلل عليه وسلم ( إنا معاشر األنبياء ال نورث ما تركناه صدقه ) اآلن انتهينا من‬
‫قضية سالحه‪.‬‬
‫فصل في صفته صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬
‫( روي عن أنس بن مالك رضي اهلل عنه قال‪ :‬كان أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه إذا رأى‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬مقبال يقول‪:‬أمني مصطفى باخلري يدعو كضوء البدر زايله الظالم‬
‫وروي عن أيب هريرة رضي اهلل عنه قال‪ :‬كان عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه ينشد قول زهري‬
‫بن أيب سلمى يف هرم بن سنان‪ ،‬حيث يقول‪ :‬لو كنت من شيء سوى بشر كنت املضيء ليلة‬
‫البدر‪.‬مث يقول عمر وجلساؤه‪ :‬كذلك كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪،‬ومل يكن كذلك‬
‫غريه ) ‪.‬‬

‫هذا إمجال ما ذكره املصنف هنا قد يكون يف األول بالذات فيه نظر بأن أبا بكر ما يعرف عنه‬
‫الشعر‪ ،‬لكن مجلة مقبولة ألن املعىن صحيح قد ال يصح نسبة هذه األمور‪ 9‬إىل أيب بكر لكن‬
‫املعين صحيح‪ ،‬مث جاء عن وصفه صلى اهلل عليه وسلم من حيث التفصيل قال ( وعن علي بن‬
‫أيب طالب رضي اهلل عنه قال‪ :‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أبيض اللون‪ ،‬مشربًا محرة‬
‫)‪.‬‬

‫األبيض إما أن يكون أبيض أمهق كما سيأيت فيكون بياضه غري ممدوح ولكن بياضه صلى اهلل‬
‫عليه وسلم كما قال علي كان مشرباً حبمرة أي خملوطاً حبمرة ( أدعج العينني) املعين شديد‬
‫سواد العينني‪.‬‬

‫( سبط الشعر ) معىن سبط الشعر أي أن شعره ليس مسرتسل‪ ،‬اآلن اليوم‪ 9‬العامية يقولون ناعم‬
‫ليس مسرتسالً وال ملتوي أي أن شعره صلى اهلل عليه وسلم ليس مسرتسالً متاماً وال ملتوي‬
‫مسرتسل ليس مسرتسالً خرب ليس وال ملتوياً‪.‬‬
‫( كث اللحية‪ ،‬ذا وفرة‪ ،‬دقيق املسربة ) واملقصود الشعر الذي من أعلى الصدر إىل أدين السرة‬
‫دقيق املسربة وليست املشربة مكتوبة يف الكتاب بالشني وهي املسربة واملعىن الشعر املمتد من‬
‫أعلى الصدر‪ 9‬إىل أدىن الصدر ‪.‬‬

‫( ليس يف بطنه‪ ،‬وال صدره شعر غريه ) هذا واضحة ( شئن الكفني والقدمني) هذه معناها‬
‫غليظ أصابع الكفني وغليظ أصابع القدمني‪.‬‬

‫مجيع)‬
‫( إذا مضى كأمنا ينحط من صبب‪ ،‬وإذا مشى كأمنا ينقلع من صخر‪ ،‬إذا التفت‪ 9‬التفت ً‬
‫هذه واضحة ينحط من صبب‪ ،‬الصبب املكان العايل‪.‬‬

‫( كأن عرقه اللؤلؤ‪ ،‬ولَريح عرقه أطيب من ريح املسك األذفر‪ ،‬ليس بالطويل وال بالقصري‪،‬وال‬
‫الفاجر وال اللئيم) هذه واضحة جداً ‪.‬‬

‫( مل أر قبله وال بعده مثله ) من القائل ؟ علي ابن أيب طالب‪ ،‬وىف لفظ أي لعلي بني كتفيه‬
‫خامت النبوة وهو خامت النبيني‪ ،‬خامت النبوة شعريات ما بني الكتفني من اخللف إىل جهة الشمال‬
‫أقرب‪ ،‬خامت النبوة شعرات من اخللف اجتمع بعضها إىل بعض إىل الشمال أقرب‪ ،‬واضح وهو‬
‫خامت النبيني ‪.‬‬

‫صدرا‪ ) 9‬هذه ظاهرة (وأصدق الناس‬


‫( أجود الناس كفا ) كناية عن الكرم ( وأوسع الناس ً‬
‫هلجة‪ ،‬وأوىف الناس ذمة‪ ،‬وألينهم عريكة‪ ،‬وأكرمهم ِعشرة‪ ،‬من رآه بديهة هابه‪ ،‬ومن خالطه‬
‫أحبه‪ ،‬يقول ناعته‪ :‬مل أر قبله وال بعده مثله صلى اهلل عليه وسلم )‬

‫مربوعا ) أي ال‬
‫ً‬ ‫( وقال الرباء‪ 9‬بن عازب‪ :‬صاحيب معروف كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫بالطويل وال بالقصري ( بعيد ما بني املنكبني‪ ،‬له شعر يبلغ شحمة أذنيه‪ ،‬رأيته يف حلة محراء‪ ،‬مل‬
‫أر شيئًا قط أحسن منه صلى اهلل عليه وسلم ) مربوعاً قلنا واضح ما بني الطول والقصر بعيد‬
‫ما بني املنكبني هذان املنكبان واملقصود أن صدره وظهره ممتد ‪.‬‬

‫( له شعر يبلغ شحمة أذنيه ) هذه شحمه األذن ( رأيته يف حلة محراء ) احللة الثوب املكون من‬
‫قطعتني‪ ،‬اإلزار والرداء ( مل أر شيئًا قط أحسن منه صلى اهلل عليه وسلم ) مل هذه أداة نفي‬
‫جاء بعدها بقط ألنه نفى شيئاً ماضي ولو أراد أن ينفي شيئاً يف املستقبل يأيت بأبداً ‪.‬‬

‫( وقالت‪ 9‬أم معبد اخلزاعية يف صفته‪ ،‬صلى اهلل عليه وسلم ) أم معبد أين رآها النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ؟ رآها أين ؟ أم معبد يف اهلجرة يف طريقه من مكة على املدينة مر على أم معبد‪ ،‬أم‬
‫معبد امرأة من خزاعة كان عندها خيمتان تكري األضياف فمر النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫عليها ونزل ضيفاً عندها وجاءت معها قصة الشاة املعروفة ‪:‬‬

‫جزى اهلل رب الناس خري جزائه رفيقني حال خيمة أم معبد‬


‫مها نزال بالرب وارحتال به وأفلح من أمسى رفيق حممد‬

‫هذه أم معبد رأته وكانت خزاعية فصيحة فلما جاء زوجها سأهلا فأجابته بالتايل‪:‬‬

‫( رأيت رجاًل ظاهر الوضاءة‪ ،‬أبلج الوجه‪ ،‬حسن اخللق‪ ،‬مل تعبه ثجلة‪ ،‬ومل تزر به صعلة ) هذه‬
‫ثجلة وصعلة حتتاج إىل شرح مل تعبه ثجلة‪ ،‬الثجلة الضخامة يف البدن‪ 9‬والصعلة صغر الرأس‪،‬‬
‫قسيما‪،‬‬
‫فهو عليه الصالة والسالم ضخم إىل حد ال يعاب وال صغري الرأس إىل حد يعاب به ( ً‬
‫يف عينيه دعج ) أي سواد ( ويف أشفاره غطف ) األشفار شعر اجلفن ( ويف صوته صحل ) أي‬
‫يف صوته حبة‪ ،‬الصحل هو ماذا ؟ البحة ( ويف عنقه سطع ) تقصد نور تقصد أن عنقه منري‬
‫( ويف حليته كثاثة ) هذه واضحة أي كثرة ( أزج أقرن ) أما كونه أزج فاملعىن أن خيط اجلفن‬
‫هذا دقيق قليالً‪ ،‬أما قوهلا أقرن هذا ال يقبل فإما أن يكون خطأً منها وإما أن يكون خطأً من‬
‫الرواة الذين نقلوا قالت‪ ( 9‬أزج أقرن ) فإما أن يكون خطأً منها وإما أن يكون خطأً ممن من‬
‫الرواة؛ ألن معىن أقرن أن يكو ن هذان ملتصقان بعضهما ببعض احلاجبان إذا اتصال يسمى‬
‫أقرن مبعىن مقرتنني وهذا عيب مذموم عند العرب قدمياً وهو ال يعيب الرجل إذا وجد فيه؛ ألن‬
‫جل وعال ال جيعل نبيه هبذا‪ 9‬األمر وسيأيت وصفه عليه الصالة والسالم بأنه‬
‫هذا خلق لكن اهلل ّ‬
‫أزج يف غري قرن سيمر معك أظن املصنف تعرض له هذا حمفوظ وما أدري إن كان املصنف‬
‫ذكره أو ال أزج يف غري قرن‪ ،‬فقوهلا أزج أقرن إال أن تكون قصدت شيئاً مل أفهمه أنا‪ ،‬واضح‬
‫إذا؟ كم ختريج اآلن ؟ ثالثة‪.‬‬

‫األول ‪ :‬أن يكون خطأ ممن؟ من أم معبد‪.‬‬

‫واخلطأ الثاين أن يكون ممن ؟ من الرواة‪ ،‬واخلطأ الثاين يكون يف فهمنا حنن لكن الصواب الذي‬
‫ال حميل عنه أن الرسول مل يكن أقرن واضح ‪.‬‬

‫( أزج أقرن‪ ،‬إن صمت‪ 9‬فعليه الوقار‪ ،‬وإن تكلم مسا وعاله البهاء ) وهذه ظاهرة ( أمجل الناس‪،‬‬
‫فصل‪ ،‬ال نزل وال هذر‪ ،‬كأن منطقه‬‫وأهباه من بعيد‪ ،‬وأحاله وأحسنه من قريب‪ ،‬حلو املنطق‪ٌ ،‬‬
‫خزرات نظم حتدرت ربعة ال بائن من طول‪ ،‬وال تقتحمه عني من قصر‪ ،‬غصن بني غصنني )‬
‫منظرا‪،‬‬
‫تتكلم عن من الغصنني األخرين؟ أبو بكر وعامر بن فهرية ( وهو أنضر الثالثة ً‬
‫قدرا‪ 9،‬له رفقاء حيفون به‪ ،‬إن قال؛ أنصتوا لقوله‪ ،‬وإن أمر تبادروا ألمره حمفود‬
‫وأحسنهم ً‬
‫حمشود ) ما معىن حمفود ما معىن حمشود ؟ احملفود من يعظمه أصحابه ومن حوله ويسارعون يف‬
‫طاعته هذا معىن حمفود‪.‬‬

‫حمشود‪ :‬أي جيتمع‪ 9‬إليه الناس ( ال عابس‪ ،‬وال مفند ) التفنيد الصد‪ 9‬الرد التهجني‪ ،‬ومعىن ال‬
‫عابس‪ ،‬وال مفند‪ ،‬أي مجيل املعاشرة ال يهجن أحداً وال حيتقره‪.‬‬

‫( وعن أنس بن مالك األنصاري رضي اهلل عنه أنه وصف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫فقال‪ :‬كان ربعة ) مستحيل طبعاً أن تكون ربعة ملاذا؟ خرب كان ما يكون مرفوعا منصوبا‬
‫( كان ربعة من القوم‪ ،‬ليس بالطويل البائن) هذه مرت معنا ( وال بالقصري املرتدد‪ ،‬أزهر اللون‪،‬‬
‫ليس باألبيض األمهق‪ ،‬وال باآلدم ) اآلدم األمسر اآلدم من مييل إىل السمرة أي أن بياضه صلى‬
‫اهلل عليه وسلم كما قلنا مشرباً حبمرة واألبيض األمهق الكريه البياض‪.‬‬

‫فائدة َمن من األنبياء كان مييل إىل السمرة؟ موسى ولذلك اهلل قال أن يده بيضاء من غري سوء‪.‬‬

‫موسى كان أمسر ( ليس جبعد‪ ،‬وال قطط‪ ،‬وال سبط‪ ،‬رجل الشعر ) هذه مرت معنا أي ليس‬
‫مسرتسالً ‪.‬‬

‫( وقال هند بن أيب هالة‪ :‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فخما مفخما‪ ،‬يتألأل وجهه‬
‫تأللؤ القمر‪ 9‬ليلة البدر‪ ،‬أطول من املربوع‪ ،‬وأقصر من املشذب ) املشذب يعين الطويل ( عظيم‬
‫اهلامة‪ ،‬رجل الشعر‪ ،‬إن انفرقت عقيقته فرق‪ ،‬وإال فال جياوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره‪،‬‬
‫أزهر اللون ) مر معنا أي بياض معقول ( واسع اجلبني‪ ،‬أزج احلواجب‪ ،‬سوابغ يف غري ) ماذا؟‬
‫( يف غري قرن ) كما أثبتناه يف األول ( بينهما عرق يدره الغضب‪ ،‬أقىن العرنني) العرنني األنف‪،‬‬
‫العرنني الذي‪ 9‬ارتفع أعلى أنفه واحدودب وسطه وضاق منخراه ( كث اللحية‪ ،‬أدعج العينني )‬
‫مرت ( سهل اخلدين‪ ،‬ضليع الفم‪ ) 9‬أي كبري الفم‪ 9‬وكان عنوانا‬
‫عند العرب على الفصاحة والبالغة ( أشنب ) يعين مجيل الفم ( مفلج األسنان ) الثنايا كان‬
‫فيها فلجة مل تكن متالصقة ( دقيق املسربة ) هذه مرت معنا ( كأن عنقه جيد دمية يف صفاء‬
‫الفضة‪ ،‬معتدل اخللق‪ ،‬بادنًا متماس ًكا‪ ،‬سواء البطن والصدر ) ما معىن سواء البطن والصدر‪9،‬‬
‫هذه ظاهرة بتعبري البطن يعين فرق ما بني البطن والكرش كل إنسان له بطن لكن ليس كل‬
‫إنسان يوصف بأن له كرش‪ ،‬إذا البطن برزت يسمى كرش‪ ،‬أما إذا مل تربز فهي بطن ألنه ال‬
‫يوجد إنسان ليس له بطن‪.‬‬

‫( سواء البطن والصدر مسيح الصدر‪ ،‬بعيد ما بني املنكبني‪ ،‬ضخم الكراديس ) الكراديس‬
‫رؤوس العظام أي عظم هذا أو هذا يف الركب يسمى كراديس ( أنور املتجرد ) املتجرد أي‬
‫املواطن اليت ال شعر فيها تظهر كأهنا نور هذا معىن أنور املتجرد أي املواطن اليت ال شعر فيها‬
‫من جسمه تظهر كأن هلا نور ( موصول ما بني اللبة والسرة) اللبة هذه الفتحة الذي يف أسفل‬
‫الصدر‪ 9‬يف أسفل الرقبة هذه اللبة ( موصول ما بني اللبة والسرة بشعر جيري كاخلط ) معىن هذا‬
‫أن باقي اجلسم من األمام ليس فيه شعر ولذا قال ( عاري الثديني والبطن مما سوى ذلك ) مما‬
‫سوى ذلك من ماذا؟ من الشعر ‪.‬‬

‫( أشعر الذراعني واملنكبني ) يف الذراع واملنكب كان أشعر صلى اهلل عليه وسلم (عريض‬
‫الصدر‪ ،‬طويل الزندين‪ ،‬رحب الراحة‪ ،‬شئن الكفني ) مرت ( والقدمني‪ ،‬سائل األطراف‪ ،‬سبط‬
‫القصب‪ ،‬مخصان األمخصني ) هذه مخصان األمخصني معناها األمخص هو الذي‪ 9‬ينطوي شيء‬
‫من القدم يف باطنها يعين أي إنسان األصل أنه أمخص يف جهة من القدم ما تصل إىل ماذا؟ ما‬
‫تصل إىل األرض‪ ،‬لكنه هذا الذي طبيعة اإلنسان لكن ثبت عنه صلى اهلل عليه وسلم أنه كان‬
‫أمخص أي أن قدمه كانت سواء ( وميشي مسيح القدمني‪ ،‬ينبو عنهما املاء‪ ،‬إذا زال زال قلعا‪،‬‬
‫وخيطو تكفؤا‪ ،‬وميشي هونًا‪ ،‬ذريع املشية ) ذريع املشية أنه مشيته ماذا متباعدة ( إذا مشى كأمنا‬
‫مجيعا خافض الطرف ) أي النظر ( نظره إىل األرض‬ ‫ينحط من صبب‪ ،‬وإذا التفت التفت‪ً 9‬‬
‫أطول من نظره إىل السماء‪ ) ،‬كناية عن ماذا؟ التواضع ( جل نظره املالحظة ) أي ما يدقق‬
‫( يسوق أصحابه ويبدأ من لقيه بالسالم ) صلوات اهلل وسالمه عليه‪.‬‬

‫هذه الصفة اخلُلقية واآلن طبيعي أن يأيت إىل الصفة اخلَلقية‪.‬‬

‫قال ( فصل يف أخالقه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أشجع‬
‫الناس‪.‬‬

‫قال على ابن أيب طالب رضي اهلل عنه ستمر معنا أشياء ال حاجة إىل الشرح وإمنا سأتكلم بعد‬
‫القوم اتقينا برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫القوم‪َ 9‬‬
‫ذلك إمجاالً ( كنا إذا امحر البأس‪ ،‬ولقي ُ‬
‫وكان أسخى الناس ما سئل شيئاً قط فقال‪ :‬ال ‪ ،‬وكان أحلم الناس )‬
‫إال أن سخاؤه مىت يظهر يف أوجه؟ يف رمضان‪ ،‬إذا لقيه جربيل ( وكان أحلم الناس‪ ،‬كان أشد‬
‫حياء من العذراء يف خدرها ال يثبت بصره يف وجه أحد‪ ،‬وكان ال ينتقم لنفسه‪ ،‬وال يغضب‬
‫هلا‪ ،‬إال أن تنتهك حرمات اهلل‪ ،‬فيكون هلل ينتقم‪ ،‬وإذا غضب هلل مل يقم لغضبه أحد‪ ،‬والقريب‪،‬‬
‫والبعيد‪ ،‬والقوي‪ ،‬والضعيف عنده يف احلق واحد )‪.‬‬

‫جل وعال زكى بصره‪ ،‬وزكى قلبه‪ ،‬وزكى لسانه‪ ،‬وزكى خلقه‬ ‫وهذا أمر ال خالف فيه فاهلل ّ‬
‫ِ‬
‫ب‬‫فأين زكى اهلل لسانه؟ ﴿ َو َما َيْنط ُق َع ِن اهْلََوى‪[﴾9‬النجم‪.]3:‬وأين زكى اهلل قلبه؟ ﴿ َما َك َذ َ‬
‫الْ ُف َؤ ُاد َما َرأَى﴾[ النجم‪.]11:‬‬

‫ص ُر َو َما طَغَى ﴾[النجم‪.]179:‬‬


‫غ الْبَ َ‬
‫وأين زكى اهلل بصره؟ ﴿ َما َزا َ‬

‫ك لَ َعلَى ُخلُ ٍق َع ِظي ٍم ﴾[القلم‪ ]4:‬هذه إمجاالً وجاءت مفصلة يف‬


‫وأين زكى اهلل خلقه؟ ﴿ َوإِنَّ َ‬
‫آيات أخرى ‪.‬‬

‫( وما عاب طعاماً قط‪ ،‬إن اشتهاه أكله‪ ،‬وإن مل يشتهيه تركه‪ ،‬وكان ال يأكل متكئاً‪ ،‬وال‬
‫يأكل على خوان ) ما اخلوان؟ املائدة اليت يوضع عليها الطعام يعرب عنها أحيانا بالطاولة‪.‬‬

‫( قال أنس رضي اهلل عنه كما يف الصحيح ما أكل النيب صلى اهلل عليه وسلم على خوان قط )‬
‫( وال ميتنع من مباح‪ ،‬إن وجد متراً أكله وإن وجد خبزاً أكله وإن وجد شواء أكله ) وهذا‬
‫يدل على عدم التكلف‪ ،‬يعين ال يرد موجوداً وال يطلب مفقوداً‬

‫( إن وجد خبز بر أو شعرياً أكله‪ ،‬وإن وجد لبناً اكتفى‪ ،‬أكل البطيخ بالرطب ) ما البطيخ ؟‬
‫املقصود‬
‫بالبطيخ هنا اخلربز‪ ،‬أين الدليل على أنه اخلربز؟ ثبت عنه صلى اهلل عليه وسلم هذا البطيخ‬
‫جاءت بثالثة روايات‪.‬‬
‫جاءت برواية ( أكل البطيخ باخلربز ) وجاءت بنقل عن عائشة ( أكل البطيخ األمحر باخلربز )‬
‫( أكل البطيخ األصفر باخلربز ) ‪.‬وجاءت برواية أوضح ( أكل اخلربز بالرطب ) ‪.‬‬

‫علله ملاذا أكل البطيخ بالرطب ؟ ملاذا أكل البطيخ بالرطب ؟ ما الفرق ؟ ملاذا مجع ما بني‬
‫اخلربز والرطب؟حار والبطيخ بارد‪ ،‬وقال صلى اهلل عليه وسلم ( نكسر حر هذا بربد هذا وبرد‬
‫هذا حبر هذا )‬

‫( وكان حيب احللواء والعسل‪.‬‬


‫قال أبو هريرة رضي اهلل عنه‪ :‬خرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من الدنيا ومل يشبع من‬
‫خبز الشعري‪ ،‬وكان يأيت على آل حممد‪ 9‬الشهر والشهران ال يوقد يف بيت من بيوته نار‪ ،‬وكان‬
‫قوهتم التمر واملاء‪ ،‬يأكل اهلدية‪ ،‬وال يأكل الصدقة ) وال يأكل الصدقة خاصة به؟ هو وآل‬
‫بيته‪ ،‬ويكافئ على ماذا؟ ( ويكافئ على اهلدية )‪ ،‬إذا أخذ هدية يكافئ عليها‪ ،‬وأغلب أحواله‬
‫أن يرد اهلدية بأكثر منها‪.‬‬

‫ملبس‪ ،‬يأكل ما وجد‪ ،‬ويلبس ما وجد‪.‬‬‫مأكل وال ٍ‬‫( ال يتأنق يف ٍ‬


‫وكان خيصف النعل‪ ،‬ويرقع الثوب‪ ،‬وخيدم‪ 9‬يف مهنة أهله‪ ،‬ويعود املرضى‪.‬‬
‫غين‪ ،‬أو فق ٍري‪ ،‬أو دينء‪ ،‬أو شريف ) ال يفرق‪.‬‬
‫تواضعا‪ ،‬جُي يب من دعاه من ٍّ‬
‫ً‬ ‫وكان أشد الناس‬
‫فقريا لفقره‪ ،‬وال يهاب‬
‫( وكان حيب املساكني‪ ،‬ويشهد جنائزهم‪ ،‬ويعود مرضاهم‪ ،‬ال حيتقر ً‬
‫مل ًكا مللكه‪.‬‬
‫ُ‬
‫دليل على عدم التكلف‪ ( ،‬ويُردف‬
‫وكان يركب الفرس‪ ،‬والبعري‪ ،‬واحلمار‪ ،‬والبغلة ) هذا كله ٌ‬
‫أحدا ميشي خلفه‪ ،‬ويقول ( خلوا ظهري للمالئكة )‪.‬‬ ‫خلفه عبده‪ ،‬أو غريه‪ ،‬ال يدع ً‬
‫أحب اللباس إليه احلربة‪ ،‬وهي من برود اليمن‪ ،‬فيها‬
‫ويلبس الصوف وينتعل املخصوف‪ ،‬وكان ُّ‬
‫مُح رةٌ وبياض ) احلربة الثياب املقلمة ذات اخلطوط‪ ،‬وهي من برود اليمني‪ ،‬فيها محرة وبياض‪.‬‬
‫( وخامته فضةٌ‪ ،‬فضه منه‪ ،‬يلبسه يف خنصره األمين‪ ،‬ورمبا لبسه يف األيسر‪.‬وكان‪ 9‬يعصب على‬
‫بطنه احلجر من اجلوع‪ ،‬وقد آتاه اهلل مفاتيح خزائن األرض كلها‪ ،‬فأىب أن يأخذها واختار‬
‫اآلخرة عليها‪.‬‬
‫تبس ًما‪ ،‬وأحسنهم‬
‫وكان يُكثر الذكر‪ 9‬ويُقل اللغو‪ ،‬ويُطيل الصالة ويُقصر اخلطبة‪.‬أكثر الناس ُّ‬
‫بشرا‪ ،‬مع أنه كان متواصل األحزان دائم الفكر ‪.‬وكان حيب الطيب‪ ،‬ويكره الريح‬ ‫ً‬
‫الكريهة‪.‬يستألف أهل الشرف‪ ،‬ويكرم أهل الفضل‪ ،‬وال يطوي بشره عن ٍ‬
‫أحد‪ ،‬وال جيفو‬
‫عليه‪.‬يرى اللعب املباح فال ينكره‪ ،‬ميزح وال يقول إال ًّ‬
‫حقا‪ ،‬ويُقبل معذرة املعتذر إليه‪.‬له عبي ٌد‬
‫ُ‬
‫عمل هلل‪ ،‬أو فيما البد له‬‫وقت يف غري ٍ‬‫مأكل وال ملبس‪.‬ال ميضي له ٌ‬ ‫وإماءٌ‪ ،‬ال يرتفع عليهم يف ٍ‬
‫)‪.‬وسئلت عائشةُ –رضي اهلل عنها‪-‬‬ ‫نيب إال وقد رعاها ُ‬ ‫وألهله منه‪.‬رعى الغنم‪ ،‬وقال‪ ( :‬ما من ٍّ‬
‫عن ُخلق رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقالت‪" :‬كان خلقه القرآن"‪ ،‬يغضب لغضبه ويرضى‬
‫لرضاه ) صلوات اهلل وسالمه عليه‪.‬‬

‫حريرا ألني من كف‬ ‫وصح عن أنس بن ٍ‬


‫ديباجا وال ً‬
‫مسست ً‬ ‫ُ‪9‬‬ ‫مالك رضي اهلل عنه قال‪" :‬ما‬ ‫( َّ‬
‫قط كانت أطيب من رائحة رسول اهلل‬ ‫مشمت رائحةً ُّ‬
‫ُ‬ ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وال‬
‫خدمت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عشر سنني‪ ،‬فما قال يل‬ ‫ُ‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ولقد‪9‬‬
‫لشيء فعلته‪ :‬مل فعلت كذا؟ وال ٍ‬
‫لشيء مل أفعله‪ :‬أال فعلت كذا وكذا؟"‪.‬‬ ‫قط‪ ،‬وال ٍ‬ ‫ُف ُّ‬
‫أ ٍّ‬

‫قد مجع اهلل له كما األخالق‪ ،‬وحماسن األفعال‪ ،‬وآتاه اهلل علم األولني واآلخرين‪ ،‬وما فيه النَّجاة‬
‫أمي ال يقرأ وال يكتب‪ ،‬وال ُمعلِّم له من البشر‪ ،‬نشأ يف بالد اجلهل والصحاري‪،‬‬‫والفوز‪ ،‬وهو ٌّ‬
‫أحدا من العاملني‪ ،‬واختاره على مجيع األولني واآلخرين‪ ،‬فصلوات اهلل عليه‬‫آتاه اهلل ما مل يؤت ً‬
‫دائمةً إىل يوم الدين )‪.‬‬

‫هذا كله ظاهر‪ ،‬وال أعتقد أنه حيتاج إىل ٍ‬


‫تعليق‪.‬‬
‫فصل في معجزاته صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬
‫ٌ‬
‫(فمن أعظم معجزاته‪ ،‬وأوضح دالالته "القرآن العزيز" الذي ال يأتيه الباطل من بني يديه وال‬
‫من خلفه‪ ،‬تنزيل من حكي ٍم ٍ‬
‫محيد‪ ،‬الذي‪ 9‬أعجز الفصحاء‪ ،‬وحرَّي البُلغاء‪ ،‬وأعياهم أن يأتوا بعشر‬ ‫ٌ‬
‫سور مثله‪ ،‬أو بسورة‪ ،‬أو بآية‪ ،‬وشهد بإعجازه املشركون‪ ،‬وأيقن بصدقه اجلاحدون‪،‬‬
‫وامللحدون )‪.‬‬

‫عجز يف لفظه ومعناه‪ ،‬قال شوقي رمحه اهلل‪:‬‬


‫القرآن الكرمي معجزة نبينا اخلالدة‪ ،‬وهو ُم ٌ‬
‫ِ‬
‫منصرم‬ ‫وجئتنا حبكي ٍم غري‬ ‫جاء النبيون باآليات فانصرمت‬

‫( وسأل املشركون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن يُريهم آيةً فأراهم انشقاق القمر‪ ،‬فانشق‬
‫اعةُ َوانْ َش َّق الْ َق َم ُ‪9‬ر ﴾ [القمر‪.]1 :‬‬ ‫حىت صار فرقتني‪ ،‬وهو املراد بقوله تعاىل ﴿ ا ْقَترب ِ‬
‫الس َ‬
‫ت َّ‬ ‫ََ‬
‫فرأيت مشارقها ومغارهبا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ( إن اهلل تعاىل زوى يل األرض‬
‫بأن ُملك أمته بلغ أقصى املشرق‬ ‫وسيبلغ ُملك أميت ما ُزوي يل منها )‪ .‬وصدَّق اهلل قوله َّ‬
‫واملغرب‪ ،‬ومل ينتشر يف اجلنوب وال يف الشمال )‪ ،‬وهذا فيه نظر‪ ،‬فليس املقصود املشرق‬
‫حتديدا‪ ،‬وإمنا املقصود انتشار الدين يف كل مكان‪.‬‬‫واملغرب ً‬
‫حن اجلذع حنني العشار‪ ،‬حىت جاء إليه‬ ‫جذع‪ ،‬فلما اختذ املنرب وقام عليه َّ‬
‫( وكان خيطب إىل ٍ‬
‫والتزمه‪ ،‬وكان يئن كما يئن الصيب الذي‪ 9‬يُسكت‪ ،‬مث سكن‪.‬ونبع املاء من بني أصابعه غري مرة‬
‫)‪ ،‬واختلف العلماء يف معىن نبع املاء من بني أصابعه عليه الصالة والسالم على قولني‪ ،‬القول‬
‫األول‪ :‬أن يكون املاء نبع فعال من بني أصابعه‪ ،‬أي خرج من بني أصابعه‪ ،‬القول الثاين‪ :‬أن‬
‫يكون املعىن أنه بربكته عليه الصالة والسالم ملا وضع أصابعه تكاثر املاء بربكته عليه الصالة‬
‫حقيقي من أصابعه‪ ،‬والقول األول هو األظهر إذ ال مانع مينعه‬ ‫ٌّ‬ ‫نبع‬
‫والسالم‪ ،‬ومل يكن هناك ٌ‬
‫وعليه األكثرون‪ ،‬األكثرون‪ِ 9‬من َمن؟ من العلماء‪ ،‬هناك أشياءٌ حُت ذف لداللة‪ 9‬املعىن عليها‪.‬‬
‫( وسبَّح احلصى يف كفه‪ ،‬ومث وضعه يف كف أيب بك ٍر‪ ،‬مث عمر‪ ،‬مث عثمان‪ ،‬فسبَّح‪.‬‬
‫وكانوا يسمعون تسبيح الطعام عنده وهو يؤكل‪.‬وسلَّم عليه احلجر والشَّجر ليايل بُعث‪.‬‬
‫وكلمته الذراع املسمومة‪ ،‬ومات الذي‪ 9‬أكل معه من الشاة املسمومة‪ ،‬وعاش هو صلى اهلل عليه‬
‫وسلم بعده أربع سنني‪ ،) .‬الذي‪ 9‬مات معه َمن؟ بشر بن الرباء رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫( وأصيبت رجل عبد اهلل بن عتيك األنصاري فمسحها‪ 9‬فربأت من حينها‪.‬‬


‫يسريا فمات‪.‬‬ ‫وأخرب أنه يقتل أُيب بن ٍ‬
‫خدشا ً‬‫محي يوم أحد‪ ،‬فخدشه ً‬ ‫خلف اجلُ َّ‬ ‫َ‬
‫حممدا‪ 9‬يزعم أنه قاتلك"‪ ،‬ف ُقتل يوم بد ٍر‬
‫"مسعت ً‬
‫ُ‬ ‫وقال سعد بن ُمعاذ ألخيه أمية بن خلف‪:‬‬
‫كافرا‪.‬‬
‫ً‬
‫غدا إن شاء اهلل‪ ،‬وهذا مصرع‬ ‫وأخرب يوم "بد ٍر" مبصارع املشركني؛ فقال‪ ( :‬هذا مصرع ٍ‬
‫فالن ً‬
‫يعد واح ٌد منهم مصرعه الذي مسَّاه‪.‬‬
‫غدا إن شاء اهلل )‪ ،‬فلم ُ‬ ‫ٍ‬
‫فالن ً‬

‫وأخرب أن طوائف من أمته يغزون البحر‪ ،‬وأن أم حرام بنت ملحان منهم‪ ،‬فكان كما قال‪.‬‬
‫وقال لعثمان‪ :‬إنه سيُصيبه ب ْلوى؛ فقتل عثمان‪.‬‬
‫علي‪ ( :‬إن ابين هذا سي ٌد‪ ،‬ولعل اهلل أن يُصلح به بني فئتني من املؤمنني‬
‫وقال للحسن بن ٍّ‬
‫عظيمتني ) فكان كذلك‪.‬‬
‫العنسي الكذاب ليلة َقْتلِ ِه‪ ،‬ومبن قتله‪ ،‬وهو بصنعاء اليمن‪ ،‬ومبثل ذلك يف‬
‫ِّ‬ ‫وأخرب مبقتل األسود‬
‫قتل كسرى‪.‬‬
‫وأخرب عن الشيماء‪ 9‬بنت بقيلة األزدية أهنا رفعت له يف مخا ٍر أسود على ٍ‬
‫بغلة شهباء‪ ،‬فأُخذت يف‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫زمن أيب بك ٍر الصديق يف جيش خالد بن الوليد هبذه الصفة‪.‬‬
‫محيدا‪ ،‬وقُتل يوم اليمامة‬
‫شهيدا )‪ ،‬فعاش ً‬‫محيدا‪ ،‬وتُقتل ً‬‫وقال لثابت بن قيس بن مشاس‪ ( :‬تعيش ً‬
‫شهيدا‪.‬‬
‫ً‬
‫وقال ٍ‬
‫لرجل ممن يدَّعي اإلسالم وهو معه يف القتال‪ ( :‬إنه من أهل النار‪ ،) 9‬فصدَّق اهلل قوله بأنه‬
‫حنر نفسه )‪.‬‬

‫مجاع هذا علميًّا أن يُقال‪ :‬الغيب الذي أخرب عنه النيب صلى اهلل عليه وسلم ينقسم إىل ثالثة‬
‫أقسام‪:‬‬

‫غيب يتعلق باألمم والقرون‪ 9‬الغابرة‪ ،‬ومثاله إخباره عن يوسف‪ ،‬أصحاب الكهف‪ ،‬قوم‬
‫أوال‪ٌ :‬‬
‫إخبار عن ٍ‬
‫غيب سبق‪ ،‬كإخباره عن أهل الكهف‪ ،‬وإخباره عن‬ ‫نوح‪ ،‬قوم عاد‪ ،‬هذا كله ٌ‬
‫يوسف وإخوته‪ ،‬وإخباره عن غري ذلك مما سلف‪.‬‬

‫الثاين‪ :‬إخباره عن ٍ‬
‫غيب وقع يف حياته قبل أن ميوت‪ ،‬مثل إخباره بالذي قتل نفسه‪ ،‬و إخباره‬
‫مبقتل قريش يوم بدر‪ ،‬ومقتل األسود العنسي‪ ،‬هذا كله حصل يف حياته صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬إخباره ٍ‬
‫بغيب وقع بعد وفاته صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬مثل ( إن ابين هذا سي ٌد ) هذا وقع‬
‫بعد وفاته‪ ،‬و قصة سراقة بن مالك أنه لبس سوار كسرى‪ ،‬وأشراط الساعة ستقع بعد وفاته‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫هذا خالصة ما ميكن أن يُقال يف الغيب‪ 9‬الذي أخرب عنه النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫احلر‬
‫لعلي بن أيب طالب أن يُذهب اهلل عنه َّ‬ ‫( ودعا لعمر بن اخلطاب‪ ،‬فأصبح عُمر فأسلم‪.‬ودعا ٍّ‬
‫بردا‪.‬ودعا لعبد اهلل بن عبَّ ٍ‬
‫اس أن يُفقهه اهلل يف الدين‪ ،‬ويُعلمه‬ ‫حرا وال ً‬
‫والربد‪ ،‬فكان ال جيد ًّ‬
‫مالك بطول العمر‪ ،‬وكثرة املال‬ ‫سمى احلرب والبحر لكثرة علمه‪.‬ودعا ألنس بن ٍ‬ ‫التأويل‪ ،‬فكان يُ َّ‬
‫ذكرا من لصلبه‪ ،‬وكان خنله حيمل يف‬ ‫والولد‪ 9،‬وأن يُبارك اهلل له فيه‪ُ ،‬فولد‪ 9‬له مائة وعشرون ً‬
‫شق قميصه‬‫هلب قد ٌّ‬‫السنة مرتني‪ ،‬وعاش مائة وعشرين سنة أو حنوها‪.‬وكان عتيبة بن أيب ٍ‬
‫وآذاه‪ ،‬فدعا عليه أن يُسلط اهلل عليه كلبًا من كالبه‪ ،‬فقتله األسد بالزرقاء من أرض‬
‫وجل وما يف لسماء قزعة‪ ،‬فثار‬
‫عز ّ‬ ‫الشام‪.‬وشكي إليه قحوط املطر وهو على املنرب فدعا اهلل ّ‬
‫ُ‬
‫فمطروا إىل اجلمعة األخرى حىت ُشكي إليه كثرة املطر‪ ،‬فدعا اهلل‬ ‫سحاب كثريٌ أمثال اجلبال‪ُ ،‬‬
‫ٌ‬
‫وجل فأقلعت وخرجوا ميشون يف الشمس‪.‬‬ ‫عز ّ‬ ‫ّ‬
‫ألف‪ -‬من صاع شع ٍري أو دونه‪ ،‬وهبيمة‪ ،‬فشبعوا وانصرفوا والطعام‬ ‫وأطعم أهل اخلندق –وهم ٌ‬
‫أكثر ما كان‪.‬‬
‫وأطعم أهل اخلندق أيضا من مت ٍر يس ٍري أتت به ابنة بشري بن ٍ‬
‫سعد إىل أبيها وخاهلا عبد اهلل بن‬ ‫ً‬
‫رواحة‪.‬‬
‫فزود‪ ،‬وبقي كأنه مل‬ ‫ٍ‬
‫راكب من مت ٍر كالفصيل الرابض‪َّ ،‬‬ ‫زود أربعمائة‬
‫وأمر عمر بن اخلطاب أن يُ ِّ‬
‫بنوته )‪.‬‬
‫ينقص مترةً واحدةً‪.‬وشهد الذئب َّ‬
‫بسند صحيح من حديث أيب ٍ‬
‫سعيد اخلدري‬ ‫شهادة الذئب‪ 9‬بنوته رواها اإلمام أمحد يف مسنده ٍ‬
‫رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫ومر يف سف ٍر ببع ٍري يُستقى عليه‪ ،‬فلما رآه جرجر‪ ،‬ووضع جرانه فقال‪ ( :‬إنه شكا كثرة العمل‬‫( َّ‬
‫وقلة العلف)‪.‬‬
‫حن وذرفت‪ 9‬عيناه‪ ،‬فقال لصاحبه ( إنه‬
‫ودخل حائطًا فيه بعريٌ ) احلائط أي البستان ( فلما رآه َّ‬
‫إىل أنك جتيعه وتؤدبه )‪.‬‬ ‫شكا َّ‬
‫ودخل حائطًا آخر فيه فحالن من اإلبل‪ ،‬وقد عجز صاحبهما عن أخذمها‪ ،‬فلما رآه أحدمها‬
‫وفلما رآه اآلخر فعل مثل ذلك )‪.‬‬
‫جاءه حىت برك بني يديه‪ ،‬فخطمه‪ ،‬ودفعه إىل صاحبه‪َّ ،‬‬

‫جل وعال له صلوات اهلل وسالمه عليه‪.‬إىل أن قال يف‬


‫هذه كلها أخرب تدل على ما سخره اهلل ّ‬
‫قريش وهم ينتظرونه فوضع‪ 9‬الرتاب على رؤوسهم ومضى‬ ‫آخر صفحة ( وخرج على مائة من ٍ‬
‫ومل يروه‪.‬وتبعه سراقة بن مالك بن ُجشعم يريد قتله أو أسره‪ ،‬فلما قرب منه دعا عليه‪،‬‬
‫فساخت يد فرسه يف األرض‪ 9،‬فناداه باألمان‪ ،‬وسأله أن يدعو له‪ ،‬فدعا له‪ ،‬فنجاه اهلل‪.‬وله صلى‬
‫وأخالق طاهرةٌ‪ ،‬اقتصرنا منها على هذا‬
‫ٌ‬ ‫ودالالت ظاهرةٌ‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫عجزات باهرةٌ‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫اهلل عليه وسلم ُم‬
‫حتقي ًقا )‪.‬‬

‫ويف اخلتام أوصيكم ونفسي بتقوى اهلل تبارك وتعاىل وسالمة الصدر جلميع املؤمنني‪ ،‬والسعي‬
‫جل وعال أن يبلغنا أعلى املنازل يف الدنيا‪ 9‬واآلخرة‪.‬‬
‫بالعمل مبا نعلم‪ ،‬لعل اهلل ّ‬
‫هذا‪ ،‬واهلل تعاىل أعلم‪ ،‬وصلى اهلل على ٍ‪9‬‬
‫حممد وعلى آله‪ ،‬واحلمد هلل رب العاملني‪.‬‬

You might also like