Professional Documents
Culture Documents
Im'an Fi
Im'an Fi
ws
مت إعداد هذا امللف آليا بواسطة املكتبة الشاملة
إمعان
يف أقسام القرآن
أتليف
العالمة عبداحلميد الفراهي رمحه هللا
صاحب تفسري
(نظام القرآن وأتويل الفرقان ابلفرقان)
مكتبة ملتقى أهل التفسري
www.tafsir.org/books
()1
فده .تسبح الشمس لكربايئه وجمده ،ويسجد ي ِر ِيده ،وغَ ِذ ُّ
سبحان الذي أنطق كل شيء أبنه صنع ِ
ُ َ
وم ِده ،كما َ
قال تعاىل يف ِ ِ الرب بغَورهِ َْ
وخ ِده ،يتنهد له َُّ
البحر جبَزره َ
وَيف ُد إليه ُ
وَنده َ ، له القمر جببينه َ
شيء إال يسبح ِ
حبمده). يهن وإن من ٍومن فِ َّ ِ
ُ َرض َ
السبع واأل ُ
ُ السموات
ُ سبح لهُ
كتابه (:تٌ ُ
ونصلي ونسلم على حممد رسوله املختار وعبده ،وعلى آله وصحبه املعتصمني حببله وعهده ،
والتابعني هلم على سواء السبيل وقصده.
أما بعد :فهذا كتاب يف بيان أقسام القرآن ،وموجز من املقدمة اليت جعلتها لذكر األمور الكلية اليت
أحتاج إىل إيرادها يف كتاب (نظام القرآن وأتويل الفرقان ابلفرقان) لتغين عن التكرار الذي ال طائل
س ُم يف كتاب هللا تعاىل كثرياً ،واشتبه على الناس معناه وحكمته .
حتته .وقد جاء ال َق َ
والبحث عنه يف كل موضع ال يليق بكتابنا الذي بين على اإلجياز .فأردت أن أتكلم عليه من جهة
كلية يف جزء خمتصر.
ومل أطلع على كتاب من القدماء يف هذا الباب غري كتاب التبيان للعالمة ابن القيم ،أو ما ذكر يف
التفسري الكبري للعالمة الرازي ومن أمته رمحهم هللا.
وسنورد منهما يف خالل فصول كتابنا هذا ما يقتضيه سياق الكالم وهللا اهلادي إىل سبيل السالم.
()2
ذكر الشبهات الثالث
على أقسام القرآن
ملا كان املقصد األعظم من هذا البحث إزالة الشبهات ،أردت أن أذكرها أوالً ،ليكون الناظر من
قبل على بصرية مبساق الكالم ،فيتضح له شكل نظامه ،وغرض سهامه .فاعلم أن الشبهة على
أقسام القرآن من وجوه :
()1/1
موضع َم ْن ال
َ القسم نفسه ال يليق جباللة هللا ربنا ؛ فإن الذي َيلف على قوله يهني نفسه ،ويضعها
معو َل على حديثه ،وقد جاء يف القرآن(:وال تطع كل حالف مهني) القلم ، 10فجعل احللف من
َّ
اخلالل املذمومة ،وهنى املسيح احلواريني عن احللف مطلقاً ،فقال هلم (:ليكن قولكم نعم نعم أو ال
ال وال حتلفوا).
القسم يف القرآن جاء على أمور مهمة ،كاملعاد والتوحيد والرسالة .وال فائدة فيها للقسم ،ال
للمنكر هبا ؛ فإنه يطلب الدليل والربهان ،والقسم ليس فيه شيء منه ،وال للمؤمن فإنه قد آمن هبا.
وجل .وقد قال النيب -صلى هللا عليه وسلم (: -من كان حالفاً فليحلف
القسم يكون ابلذي عظم َّ
ابهلل أو ليصمت) .فنهى عن القسم بغري هللا .فكيف يليق جباللة ربنا أن يقسم ابملخلوق وال سيما
أبشياء مثل التني والزيتون؟
فهذه ثالث شبهات ،ونذكر أوالً ما أجاب به الرازي وغريه من املتقدمني ،وندلك على ما فيه من
الضعف ،لنحذرك عن التمسك ابلعرى الواهنة ،فإنه أكرب ضرراً يف الدين ،وأبسط أللسنة
املعاندين .ومع ذلك ندعو أن جيازيهم هللا مبا اجتهدوا يف الذب عن بيضة احلق وذماره ،كما أدعو
أن جيعلين من حزب احلق وأنصاره.
()3
طريق اإلمام الرازي
يف اجلواب عن هذه الشبهات
قد ذكر اإلمام الرازي الشبهة الثانية ،وأجاب عنها يف تفسري سورة (والصافات) .فقال(:واجلواب
من وجوه :
األول :أنه تعاىل قرر التوحيد ،وصحة البعث والقيامة يف سائر السور ابلدالئل اليقينية ،فلما تقدم
ذكر تلك الدالئل مل يبعد تقريرها ،فذكر القسم أتكيداً ،ال سيما والقرآن أنزل بلغة العرب ،وإثبات
املطالب ابحللف واليمني طريقة مألوفة عند العرب).
()2/1
وفيما ذكر من نزول القرآن بلغة العرب ،وكون اليمني طريقة مألوفة عندهم أيضاً جواب للشبهة
عو ُل عليها .وأما إيراد القسم
األوىل .وحاصل هذا الوجه أن القسم إمنا هو مسبوق ابلدالئل ،فامل َّ
فهو للتأكيد احملض كما هو عادة العرب .والظاهر أن هذا اجلواب يناقضه القرآن فإنك يف أوائل
الوحي ترى القسم أكثر مما تراه بعد استيفاء الدالئل.
(الوجه الثاين يف اجلواب أنه تعاىل ملا أقسم هبذه األشياء على صحة قوله تعاىل (:إن إهلكم لواحد)
ذكر عقيبه ما هو كالدليل اليقيين يف كون اإلله واحداً ،وهو قوله تعاىل(:رب السموات واألرض وما
بينهما ورب املشارق) .وذلك ألنه تعاىل بني يف قوله (:لو كان فيهما آهلة إال هللا لفسدات) أن انتظام
السموات واألرض يدل على أن اإلله واحد .فهاهنا ملا قال(:إن إهلكم لواحد) أردفه بقوله(:رب
السموات واألرض وما بينهما ورب املشارق) .كأنه قيل :قد بينا أن النظر يف انتظام هذا العامل يدل
على كون اإلله واحداً ،فتأملوا يف ذلك الدليل ليحصل لكم العلم ابلتوحيد).
وحاصل هذا اجلواب أن القسم هاهنا مردف بقول فيه احلجة ،فاالحتجاج هبا .وأما القسم فلمحض
التنبيه .وهذا اجلواب يشبه اجلواب األول .وكالمها ساكت عن بيان حكمة هذه الصور املتنوعة
للقسم .فأي فائدة للعدول عن القسم ابهلل إىل القسم هبذه األشياء.
(الوجه الثالث يف اجلواب أن املقصود من هذا الكالم الرد على عبدة األصنام يف قوهلم أبهنا آهلة
فكأنه قيل :هذا املذهب قد بلغ يف السقوط والركاكة إىل حيث يكفي يف إبطاهلا مثل هذه احلجة وهللا
أعلم).
هذا اجلواب سخيف جداً .كأنه بعد ما اعرتف يف الوجهني األولني أبن القسم ال حجة فيه ،قال :
إن مذهب اخلصم كان جديراً أبن جياب عنه مبا ليس من احلجة يف شيء.
()3/1
مث ذكر من حكمة القسم يف تفسري سورة الذارايت ما يشبه ابجلواب عن الشبهات ،فقال ( :قد
ذكران احلكمة يف القسم ،وهي من املسائل الشريفة ،واملطالب العظيمة ،يف سورة والصافات ،
ونعيدها ههنا .وفيها وجوه :
األول :أن الكفار كانوا يف بعض األوقات يعرتفون بكون النيب غالباً يف إقامة الدليل ،وكانوا ينسبونه
إىل اجملادلة وإىل أنه عارف يف نفسه بفساد ما يقوله ،وأنه يغلبنا بقوة اجلدل ال بصدق املقال ،كما
أن بعض الناس إذا أقام عليه اخلصم الدليل ،ومل يبق له حجة ،يقول :إنه غلبين بطريق اجلدل
وعجزي عن ذلك ،وهو يف نفسه يعلم أن احلق بيدي ،فال يبقى للمتكلم املربهن طريق غري اليمني
،فيقول :إن األمر كما أقول ،وال أجادلك ابلباطل.
وذلك ألنه لو سلك طريقاً آخر من ذكر دليل آخر ،فإذا مت الدليل اآلخر ،يقول اخلصم فيه مثل
ما قال يف األول إن ذلك تقرير بقوة اجلدل ،فال يبقى إال السكوت أو التمسك ابألميان وترك إقامة
الربهان).
ويف هذا اجلواب خلط بني الغث والسمني ،ونقض ملا قال يف تفسري سورة والصافات ،فإنه رمحه هللا
أجاب هناك يف الوجه الثاين أبن القسم يتبعه الدليل ،وإمنا كان القسم ألجل التأكيد ،واألمر
كذلك .فإن القرآن ال يسكت على القسم ،فلو قال إن الدليل احملض رمبا ال ينجع يف اخلصم إذا
كان قليل املعرفة ابالستدالل ،وقليل االعتماد على نظره أو متهماً للمتكلم خبالبة بيانه ،فيحسن
يف هذه احلاالت شوب احلجة ابليمني – فلو قال هكذا لكان أقرب.
(الثاين :هو أن العرب كانت حترتز عن األميان الكاذبة ،وتعتقد أهنا تدع الداير بالقع ،مث إن النيب -
صلى هللا عليه وسلم -أكثر من األميان بكل شريف ومل يزده ذلك إال رفعة وثبااتً ،وكان َيصل هلم
العلم أبنه ال َيلف هبا كاذابً ،وإال ألصابه شؤم األميان ،ولناله املكروه يف بعض األزمان).
()4/1
ويف هذا اجلواب كأنه أشار إىل سبب كون اليمني طريقة مألوفة عند العرب كما مر ،وقد أصاب يف
ذلك لو مل يزد عليه ما قال من أن النيب -صلى هللا عليه وسلم -أكثر من األميان بكل شريف ،
كأنه بني سبب خوفهم ،وأراد أهنم إذا أقسموا بكل شريف خافوا سخطه إن كذبوا يف ميينهم به.
وضعف هذا القول ظاهر ،فإن أقسام القرآن:
رمبا يكون مبا ليس فيه شرف.
والقرآن يهدي إىل أن ال خناف إال هللا.
وأي شؤم خياف من التني والزيتون.
مث النيب -صلى هللا عليه وسلم -كان يبلغ القرآن من هللا فالقسم منه تعاىل .وهو ال خياف أحداً.
فلو اقتصر على اجلزء األول من جوابه ،وقال :إن العرب كانت حترتز عن األميان الكاذبة ،وختاف
مغبتها ،وتعتقد أن الرجل ال َيلف كذابً ،فإذا حلف أح ٌد أصغوا إليه ،كان أقرب إىل ما جياب به
عن الشبهة األوىل والثانية جواابً ضعيفاً.
(الثالث :أن األميان اليت حلف هللا تعاىل هبا كلها دالئل أخرجها يف صورة األميان .مثاله قول القائل
ملنعمه :وحق نعمك الكثرية ،إين ال أزال أشكرك .فيذكر النعم ،وهي سبب مفيد لدوام الشكر ،
ويسلك مسلك القسم .كذلك هذه األشياء كلها (أي اليت أقسم هبا يف أول الذارايت) دليل على
قدرة هللا تعاىل على اإلعادة .فإن قيل فلم أخرجها خمرج األميان؟ نقول :ألن اإلنسان إذا شرع يف
أول مالمه حبلف يعلم السامع أنه يريد أن يتكلم بكالم عظيم فيصغي أليه أكثر من أن يصغي إليه
حيث يعلم أن الكالم ليس مبعترب ،فبدأ ابحللف ،وأدرج الدليل يف صورة اليمني).
هذا اجلواب يكفي لدفع الشبهة الثانية .ولكن يلزم على القائل به أن يبني وجه االستدالل ابملقسم به
على املقسم عليه.
وهذا – مع كونه ظاهراً يف بعض املواضع – كثرياً ما َيتاج إىل إمعان شديد .ولعله هلذا السبب مل
يعتمد عليه إال يف سورة الذارايت ويف بعض آخر .وأما يف البواقي فله طريقان:
()5/1
األول :أنه ينكر وجود القسم إذا أمكنه اإلنكار فراراً عن شبهات واردة على القسم .كما قال يف
تفسري سورة القيامة يف ذكر (ال) اليت تبتدئ هبا السورة.
(االحتمال الثاين أن (ال) هنا لنفي القسم .كأنه قال :ال أقسم بذلك اليوم وتلك النفس ،ولكين
أسألك غري مقسم :أحتسب أان ال َنمع عظامك إذا تفرقت ابملوت .فإن كنت حتسب ذلك فاعلم
أان قادرون على أن نفعل ذلك .وهذا القول اختيار أيب مسلم وهو األصح).
هذا القول غري خمتار عند العارف بكالم العرب .فإنه لو كان املراد كما فهم لكان وجه القول نفي
جمرد القسم ال ذكر األشياء اخلاصة كالنفس اللوامة واخلنس اجلواري الكنس وغريها .مث هذا خمالف
ألسلوب كالمهم .فإهنم يستعملون كلمة (ال) قبل القسم منقطعة ،كما بينا يف تفسري سورة القيامة.
وهذا هو خمتار الزخمشري.
والطريق الثاين :هو القول أبن القسم للتأكيد والتنبيه على شرافة املقسم به .قال يف تفسري الذارايت
:وقد عرفت أن املقصود من القسم التنبيه على جاللة املقسم به).
وعلى هذا األصل قال يف تفسري سورة التني (:اعلم أن اإلشكال هو أن التني والزيتون ليسا من
األمور الشريفة فكيف يليق أن يقسم هللا تعاىل هبما ؟ فألجل هذا السؤال حصل فيه قوالن) مث ذكر
فوائدمها إن كان املراد منهما هذه األمثار ،وذكر شرافتهما إن كان املراد منهما مسجدين أو بلدين.
وقد علمت أن التمسك هبذا اجلواب مع كونه ابدي اخللل ال يزيل الشبهة الثالثة ،فإن هذه األشياء
اليت أقسم هبا يف القرآن ،ومنها :العادايت ضبحاً ،واجلواري الكنس ،والليل ،والصبح ،والتني
والزيتون ،ليست من اجلاللة مبكان يقسم هبا خالقها ورهبا إن كان القسم ألجل شرافتها.
()4
طريق العالمة ابن القيم رمحه هللا
يف أتويل أقسام القرآن لدفع الشبهات
()6/1
مل يضع العالمة ابن القيم كتابه على شكل اجملادلة ،فيذكر الشبهات وجييب عنها ،لكنه حبث عن
كن إىل اجلواب الذي
حكمة القسم يف القرآن ،وبني فيه ما يزيل الوهم وَيسم جراثيم االعرتاض ،ور َ
استحسنتُه .ولكنه مثل الرازي مل يتمسك به كل التمسك ،فذبذب بني أمرين .وهو يف كتابه رمبا
يشرع يف تفسري السور اليت فيها القسم ،وخيرج من قول إىل قول.
وإين أورد عليك خالصة جوابه ،وندلك على موضع اخللل فيه حسب شرطنا.
فاعلم أنه رمحه هللا سلك مسلك االستقراء ،فمهد أوالً أن أقسام القرآن كلها ابهلل وصفاته وآايته ،
فقال:
(وهو سبحانه يقسم أبمور على أمور .وإمنا يقسم بنفسه املوصوفة بصفاته وآايته املستلزمة لذاته
وصفاته ،وإقسامه ببعض املخلوقات دليل على أنه من عظيم آايته) .وبعد ذكر األمثلة قال :
(إذا عرف فهو سبحانه يقسم على أصول اإلميان اليت جيب على اخللق معرفتها .اترة يقسم على
التوحيد ،واترة يقسم على أن القرآن حق ،واترة على أن الرسول حق ،واترة على اجلزاء والوعد
والوعيد ،واترة على حال اإلنسان).
ومآله عنده إىل اجلزاء ،فاقتصر القسم على ثالثة أمور .وهذه الثالثة مآهلا واحد .وهو صفته تعاىل ،
كما ستعلم من قوله عن قريب .فبعد هذا التمهيد مل يبق له كبري حاجة إىل جواب القسم ،فإن
القسم بنفسه داللة على املقسم عليه املعلوم املتعني ،وهو أحد األمور الثالثة ،فقال يف ذكر القسم
الذي تبتدئ به سورة والعادايت وسورة والعصر:
ف جواب القسم ألنه قد ُعلِ َم أبنه يقسم على هذه األمور (أي التوحيد والنبوة واملعاد) وهي
(ح ِذ َ
ُ
متالزمة .فمىت ثبت صدق الرسول الذي جاء به .ومىت ثبت أن الوعد حق والوعيد حق ثبت صدق
الرسول وصدق الكتاب الذي جاء به .واجلواب َيذف اترة وال يراد ذكره بل يراد تعظيم املقسم به ،
وأنه مما َيلف به).
()7/1
فهذه األقسام عنده دالالت على صفات هللا ،كما قال يف ذكر القسم الذي تبتدئ به سورة الربوج
(:وكل ذلك من آايت قدرته وشواهد وحدانيته) مث قال (:واألحسن أن يكون هذا القسم مستغنياً
عن اجلواب ألن القصد التنبيه على املقسم به وأنه من آايت الرب العظيمة).
وكذلك قال يف ذكر القسم الذي تبتدئ به سورة الطارق (:واملقصود أنه سبحانه أقسم ابلسماء
وَنومها املضيئة ،وكل منها آية من آايته الدالة على وحدانيته).
مث قال يف ذكر القسم الذي جاء يف وسط هذه السورة(:فأقسم سبحانه ابلسماء ذات املطر واألرض
ذات النبات ،وكل ذلك آية من آايت هللا تعاىل الدالة على ربوبيته).
وهكذا قال يف ذكر القسم الذي يف أواخر سورة االنشقاق (:وهذه _أي الشفق والليل والقمر
وأمثاهلا آايت دالة على ربوبيته مستلزمة للعمل بصفات كماله) .مث قال يف جواب هذا القسم (:جيوز
أن يكون من القسم احملذوف جوابه) .وهذا ملا قلنا أنه ال َيتاج إىل جواب القسم فإن املقسم عليه
عنده معلوم متعني.
هذا ،وال خيفى عليك الفرق بني طريق الرازي رمحه هللا الذي أشار إىل أجوبة خمتلفة رمبا يناقض
بعضها بعضاً وبني طريق ابن القيم رمحه هللا الذي عمد إىل هنج واحد ،واجتهد أن يعول عليه يف
مجيع األقسام .وهذا الطريق أحسن.
واآلن ندلك على مالك األمر يف جوابه ،فاعلم أنه رمحه هللا اعتمد على أصلني :
األول :أنه سبحانه وتعاىل إمنا أقسم بنفسه وآايته .وأما القسم ابملخلوقات فهو أيضاً من ابب
القسم بذاته فإهنا من آايته .وأراد هبذا األصل إزالة الشبهة الثالثة وهي تعظيم املخلوق فوق مكانته.
ولكنها مل تزل ،فإن القسم تعلق صرَياً ابملخلوقات .وكوهنا من آايته ودالئل صفاته ال خيرجها عن
كوهنا املقسم هبا.
()8/1
وقوله (:واجلواب َيذف اترة وال يراد ذكره بل يراد تعظيم املقسم به وأنه مما َيلف به) تصريح منه
أبنه سبحانه أقسم بغري ذاته املقدسة ،وأراد تعظيم بعض خملوقاته .فغاية األمر أنه تعاىل مل يقسم هبا
إال من جهة شريفة .وال أبس أبن جيعل هللا تعاىل لبعض خملوقاته شرفاً وكرامة ،لكن الشبهة ليست يف
حمض شرافة بعض األشياء ،فرب صغري كبري ،ورب ضئيل نبيل ال ختالف االعتبارات ،بل الشبهة
يف وضعها موضع ما يقسم به الرب تعاىل شأنه علواً كبرياً.
واألصل الثاين الذي اعتمد عليه هو أن األقسام كلها دالالت على املقسم عليه .وأراد هبذا األصل
إزالة الشبهة الثانية ،كما فعل الرازي رمحه هللا حني ذكره يف وجوه أخر ،فلم يعتمد عليه .وأما ابن
القيم رمحه هللا فاعتمد على هذا األصل كل االعتماد ،وفسر أكثر آايت القسم على طريق يظهر به
املقسم عليه حمذوفاً .وجعل القسم
داللة املقسم به على املقسم عليه .وإذا أشكل عليه الربط جعل َ
داالً على صفات هللا وغريها مما ذكران آنفاً.
ومع هذا الوهن يف جوابه والتصريح أحياانً أبن القسم لتعظيم املقسم به ،لقد أجاد وأصاب أو قد
كاد يف غري موضع من كتابه.
()5
طريق هذا الكتاب يف اجلواب
على سبيل اإلمجال
الخيفى عليك مما سبق من أقوال العلماء رمحهم هللا أن أحسنهم قوالً من يقول إن هذه األقسام
دالالت .ولكن الغمة اليت مل تنجل عنهم ،واملضيق الذي مل خيرجوا منه هو ظنهم بكون القسم
مشتمالً على تعظيم املقسم به ال حمالة .وذلك هو الظن الباطل الذي صار حجاابً على فهم أقسام
القرآن ،ومنشأ للشبهات .فنبطله أوالً حىت يتبني أن أصل القسم ليس يف شيء من التعظيم ،وإمنا
يفهم من بعض أقسامه.
مث نبني أن أقسام القرآن ابملخلوقات ليست إال آايت دالة ،وأهنا نوع من القسم مباين لألقسام
التعظيمية ،وليس من القسم بصفات هللا كما ذهب إليه ابن القيم رمحه هللا.
()9/1
مث نرجع إىل الفرق بني مواقع القسم احملمودة وغري احملمودة حىت يتبني أن النهي املطلق غري صحيح.
فهذه ثالثة مقاصد يتوجه إليها الكالم يف كتابنا هذا .وإذ هي تقتضي بعض التفاصيل والبسط يف
الكالم دعينا إىل أن نبحث عن اتريخ القسم وحاجة الناس إليه قدمياً وحديثاً وطرقه املتنوعة ،ونبني
معاين كلمات القسم ومفهومه األصلي ومفاهيمه املتشعبة الثالثة من اإلكرام والتقديس واالستدالل
اجملرد عن التعظيم.
ونورد من نفس القرآن دالئل واضحة على أتويل أقسامه .وندل على أسباب خفاء هذا التأويل
ليتضح عذر من قبلنا من كبار العلماء رمحهم هللا .ونشري إىل بعض وجوه البالغة يف أقسام القرآن.
مث نذكر وجوه النهي واإلابحة ،واالستحسان يف القسم .ونكشف عن أتويل قول املسيح عليه
السالم حني هنى تالميذه عن احللف.
ونلمع إملاعاً إىل بعض بالغة القرآن يف متييزه بني كلمات القسم حسب مواقعه لتعلم ما ال َيسن منه.
ذلك ،وقد ذكران فيما قدمنا جل مطالب هذا الكتاب إمجاالً ،فاآلن نشرع يف التفصيل ،وهللا
املوفق ونعم الوكيل.
()6
اتريخ القسم وحاجة الناس إليه
وطرقه املختلفة والداللة على حقيقة معناه يف أول األمر
إن اإلنسان رمبا َيتاج إىل أتكيد خرب أو وعد منه ،حني يريد أن يعتمد عليه املخاطب وتطمئن به
نفسه ،وال سيما يف األمور العظيمة كاملعاهدة بني قوم وقوم أو بني ملك ورعيته أو بني أفراد الناس ،
والويل من العدو .وهذه احلاجة
َّ ليكونوا على ثقة بعضهم من بعض ،فيعلموا املوافق من املخالف
التمدنية دعتهم إىل طرق وكلمات خاصة يعربون هبا عن هذا التأكيد .فكان ذلك أصل قسمهم .
فرمبا عربوا عنه أبخذ اليمني كما علمنا من أحوال الروم والعرب والعربانيني .فإذا أخذ بعضهم ميني
بعض عند املعاهدة أفصحوا بعزمهم وأتكيده .كأهنم قالوا ،أننا قد وصلنا أمران ورهنَّا به أمياننا.
ولذلك مسوا القسم مييناً ،ورمبا صرحوا هبذا املعىن كما قال جساس :
سأؤدي حق جاري ويدي رهن فعايل
()10/1
()11/1
وكذلك نرى غمس األيدي يف العطر يف قصة حلف املطيبني اليت نذكرها يف الفصل العاشر.
ورمبا ذحبوا هبيمة ورشوا دمها على أجسام الفريقني من احللفاء عالمة ملواالهتم إىل حد القرابة ،أو
لثباهتم على احللف حىت يسيلوا مهجهم .جاء يف سفر اخلروج ص 24عدد : 8-5
(وأرسل فتيان بين إسرائيل فأصعدوا حمرقات وذحبوا ذابئح سالمة للرب من الثريان .فأخذ موسى
نصف الدم ووضعه يف الطسوس ،ونصف الدم رشه على املذبح .وأخذ كتاب العهد وقرأ يف مسامع
الشعب .فقالوا :كل ما تكلم به الرب نفعل ونسمع له .وأخذ موسى الدم ورش على الشعب .
وقال :هو ذا دم العهد الذي قطعه الرب معكم على مجيع هذه األقوال).
فرتى هذا القسم أهنم عاهدوا الرب برش الدم على أنفسهم وعلى املذبح نيابة عن الرب ،فصاروا
حلفاء للرب .وهذا كثري ،جاء يف سفر زكراي ص 9عدد (: 11فإين بدم عهدك قد أطلقت أسراك).
ورمبا وصل بعضهم حبله حببل اآلخر ،فصار من حلفائه ،حىت صار احلبل امساً لعقد الذمة واجلوار ،
كما جاء يف القرآن (:حببل من هللا وحبل من الناس).
وقال امرؤ القيس :
إين حببلك واصل حبلي وبريش نبلك رائش نبلي
وذكر احلطيئة أصل ذلك فقال:
قوم يبيت قرير العني جارهم إذا لوى بقوى أطناهبم طنبا
فهذه طرق أتكيد عقودهم بني فريقني ومن الفريقني.
ورمبا حرموا على أنفسهم بعض املشتهيات حىت يفعلوا بعض ما أوجبوا على أنفسهم ،ومسوه (نذراً).
كما نذر املهلهل أخو كليب أن ال يشرب اخلمر وال ميس الطيب وال يرجل شعره إىل أن أيخذ بثأر
أخيه ،وقصته مشهورة.
وكذلك فعل أمرؤ القيس وقال بعد ما حل نذره :
حلت يل اخلمر وكنت أمرءاً عن شرهبا يف شغل شاغل
مث توسع معناه وصار النذر التزام شيء عن طريق القسم .كما قال عمرو بن معد يكرب :
هم ينذرون دمي وأنذر إن لقيت أبن أشدا
ولذلك مسوا النذر مييناً ،كما قال قبيصة بعد ذكر إيفاء النذر:
فأصبحت قد حلت مييين وأدركت بنو ثعل تبلي وراجعين شعري
()12/1
يف أبيات ذكرت يف احلماسة .أي بعد إدراك تبلي حل نذري ،أي ما حرمته علي ابلنذر.
النذر دعوهتم على أنفسهم أو إلزامهم إايها سوءاً إن كانوا كاذبني يف خرب أو وعد .كما قال
ويشبه َ
معدان بن جواس الكندي :
األانمل
ُ إن كان ما بلغت عين فالمين صديقي وشلت من يدي
قاتل
وكفنت وحدي منذراً يف ردائه وصادف حوطاً من أعادي ُ
ومثله ما قال األشرت النخعي :
ِ
عبوس يت وفري واحنرفت عن العلى ولقيت أضيايف بوجهبَ َّق ُ
إن مل أشن على ابن حرب غارة مل ختل يوماً من هناب ِ
نفوس
ومن هذا الدعاء ابملكروه حملة يف األقسام الدينية .فإن فيها خوف سخط هللا ولعنته إن كذب احلالف
بعد إشهاد هللا على قوله.
ورمبا كفوا عن شيء من غري شرط ،ومسوه (أَليَّةً) كما جاء يف القرآن (:للذين يؤلون من نسائهم
تربص أربعة أشهر) .مث توسع استعماهلا فصار قوهلم (آليت) مرادفاً لقوهلم (أقسمت) .قال امرؤ
القيس:
َلت ِح ْل َفةً مل َحتلَّ ِل
...وآ ْ
وقال طرفة :
فآليت ال ينفك كشحي بطانة لعضب رقيق الشفرتني مهند
وقالت غنية أم حامت الطائي :
لعمري لقدماً عضين اجلوع عضة فآليت أال أمنع الدهر جائعا
وهذا كثري يف كالمهم ،يقولون :آليت مرادفاً ألقسمت.
ورمبا استعملوا الم التأكيد ،وقالوا ألفعلنه ،أو مثله .كقوله تعاىل(:وإن مل ينتهوا عما يقولون ليمسن
الذين كفروا منهم عذاب أليم) ،أو كقوله تعاىل (:ولينصرن هللا من ينصره) ،أو كقول لبيد :
ولقد علمت لتأتني منييت إن املنااي ال تطيش سهامها
قال سيبويه رمحه هللا (:كأنه قال :وهللا لتأتني) .وإمنا قال هذا على طريق التمثيل ،فإنه رمحه هللا
أراد أن ههنا مييناً ،كما قال يف ذكر الم القسم.
ومثل ذلك (:ملن تبعك منهم ألمألن) ،إمنا دخلت الالم على نية اليمني ،وهللا أعلم ،فلم يرد أن
ههنا قسماً بشيء ،بل املراد أن جمرد قوله تعاىل (:ألمألن) ميني .وذلك ألن القسم ليس إال التأكيد
،وال حتتاج إىل تقدير املقسم به يف كل موضع.
()13/1
وعلى هذا األصل كل ما ترى يف القرآن من الم اليمني ،وإذا جاءت قبلها كلمة تدل على اليقني
واجلزم كانت مشاهبة بكلمة القسم ،كما رأيت يف بيت لبيد الذي مر آنفاً .ومثله يف قوله تعاىل (:مث
بدا هلم من بعد ما رأوا اآلايت ليسجننه حىت حني).
ومثله قوله تعاىل(:قال فاحلق واحلق أقول * ألمألن جهنم).
فليس لك أن تقدر مقسماً به يف هذه األمثلة اليت ذكرانها ،وال يليق هبا كما يظهر من سياق
الكالم.
فكل ما ذكران من طريق اليمني واحللف وتعبرياته يدلك على أن املقسم به ليس من لوازم القسم حىت
تقدره كلما مل يذكر ،إمنا أرادوا ابلقسم أتكيداً حمضاً للقول أو إظهار عزم وصرمية ألزموا به على
أنفسهم فعالً أو ترك فعل.
()7
بيان أن القسم ال يلزمه املقسم به
إبيضاح معاين كلمات كثر استعماهلا للقسم
ليس القسم ابهلل أو بشعائره من املعاين البسيطة حىت يوضع له اللفظ أوالً ،فيظن أن املقسم به إذا مل
يذكر كان املراد منه القسم ابهلل تعاىل .إمنا القسم التعظيمي نشأ من تركيب دواعي املعاشرة وعقائد
الدين .وأيتيك بيانه يف الفصل العاشر.
وأما يف هذا الفصل فنوضح معاين كلمات كثر استعماهلا للقسم ،لتعرف أهنا يف أصلها مل توضع
للقسم ابهلل أو بشعائره ،أو بشيء آخر .وهذه الكلمات هي :اليمني ،والنذر ،واأللية ،والقسم ،
واحللف.
أما اليمني ،فقد علمت وجه استعماهلا ،وعمومها للقسم ،وما فيها من معىن الرهن ،والكفالة ،
والضمانة فال نعيده.
وأما النذر فهو اإلبعاد والتحذير .ومنه إبعاد الشيء عنك ،وجعله هلل ،فصار مبعىن التحرمي .وهبذا
املعىن يستعمل يف العربانية .ومنه حترمي املشتهيات ،مث توسع إللزام الشيء على النفس على وجه
القسم كما مر.
()14/1
وأما األَليَّةُ فمعناها اإلقصار عن األمر ،فيقال (اآليل) للمقصر العاجز عن الشيء .مث جاء لرتك
الشيء .ومنه اإليالء من النساء على وجه القسم ،مث توسع يف معىن إلزام الشيء سواء كان للرتك أو
الفعل ،ولكنه أكثر يف إلزام ما فيه شوب من املضرة ،فشابه النذر ،كما قال ابن زايبة التيمي :
آليت ال أدفن قتالكم فدخنوا املرء وسرابله
مث توسع وصار مرادفاً للقسم ،كما مر يف الفصل السابق.
وأما القسم فهو يف أصله للقطع .ومنه قسمت الشيء وقسمته .والقطع يستعمل لنفي الريب
والشبهة ،ولذلك شواهد كالصرمية ،واجلزم ،والقول الفصل ،واإلابنة والصدع ،والقطع فهذا هو
األصل.
مث اختص القسم من بني هذه األلفاظ بشدة الفصل ابلقول .واستعماله من ابب اإلفعال خلاصية
املبالغة كقوهلم (أسفر الصبح) .وال يلزمه أن يكون له مقسم به سواء كان على خرب أو عقد ،كما
قال طرفة :
رم ِد َكقنطرةِ
شاد بَِق َ
أقسم َرُّهبَا لَتُكْتَ نَ َف ْن حىت تُ َ
الرومي َ
ِ
وهذا كثري يف كالم العرب .قالت جنوب يف مرثيتها املشهورة:
فأقسمت اي عمرو لو نبهاك إذاً نبها منك أمراً عضاال
وقال ريطة السلمية :
فأقسمت ال أنفك أحدر عربة جتود هبا العينان مين لتسجما
وقالت خرنق أخت طرفة:
أال أقسمت آسى بعد بشر على حي ميوت وال صديق
وجاء يف القرآن (:أهؤالء الذين أقسمتم ال يناهلم هللا برمحة) ومنه قوله تعاىل(:وقامسهما إين لكما ملن
الناصحني * فدالمها بغرور).
فإن قيل :إن املقسم به مقدر ،وهو هللا تعاىل.
قلنا :إن أردت االحتمال فال ننكره .إمنا قولنا إنه غري الزم ،فلقد رأينا أن القسم يكون ابهلل تعاىل
وبغريه ،ورمبا يكون جمرداً عن املقسم به ،وحينئذ ال يراد به إال التأكيد واجلزم املَحض.
وأما احللف فمعناه القطع واحلدة ،فيشابه كلمة القسم .يقال :سنان حليف ،أي قاطع ،ولسان
ْف ،وهو نبات أطرافه حمددة.حليف ،أي حديد َذلْق .وعند األزهري هذا مأخوذ من احلل ِ
َ
()15/1
فقوهلم :حلف على أمر ،كقوهلم :قطع به .وهذا هو األصل .مث اختص مثل (القسم) بشدة الفصل
واجلزم يف القول .ولذلك ال يلزمه املقسم به ،أال ترى أهنم إذا عقدوا املواالة بينهم أبي طريق كانت
،مسوا حلفاء .وقد علمت طرقه املختلفة اليت مل َيلفوا فيها بشيء.
فتبني مما مر بك يف هذا الفصل والذي قبله أن القسم ال يلزمه املقسم به فضالً عن تعظيمه .وتلك
هي كلمات قد كثر استعماهلا للقسم حبيث إنه ال يلتفت إىل أصول معانيها ،ولذلك قدمنا ذكرها.
مث للقسم كلمات أخر مل يذهل عن معانيها األصلية ،فإذا نظران فيها وجدانها أظهر داللة على أهنا
ليست يف شيء من تعظيم املقسم به ،ونذكر هذه الكلمات يف الفصل اآليت.
()8
بيان أصل معىن القسم إذا كان فيه مقسم به
بعد ما علمت معىن القسم اجملرد عن املقسم به ،ال يبعد عنك فهم معناه إذا أقسم فيه بشيء .فإمنا
هو ضم املقسم به مع املقسم كالشاهد على قوله ،ولذلك كثر استعمال الواو قبله وكذلك الباء.
وأما التاء فإمنا هي مقلوبة من الواو كما ترى يف تقوى وجتاه ،فهذه احلروف للمعية ولضم الشيء
ابلشيء.
ويؤيد هذا التأويل ما علمت من اتريخ القسم وطرقه .فإهنم مل يقسموا إال على رؤوس األشهاد.
فكانوا شهداء على أمياهنم لتأكيدها .فإن الرجل جيتنب أن جيعل نفسه كاذابً يف عيون الناس.
ويشهد على هذا ما جاء يف القرآن يف ذكر ميثاق النبيني حيث قال عز من قائل(:وإذ أخذ هللا ميثاق
النبيني ملا آتيتكم من كتاب وحكمة مث جاءكم رسول مصدق ملا معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررمت
وأخذمت على ذلكم إصري قالوا أقرران قال فاشهدوا وأان معكم من الشاهدين * فمن توىل بعد ذلك
فأولئك هم الفاسقون).
أي قد أوثقنا هذا العهد مبشهدي ومشهدكم ،فال يسوغ اإلنكار بعد ذلك إال ابلفسق.
()16/1
وأصل هذا التأكيد أن املرء إذا قال :أشهد به ،فقد صرح أبنه يقول بعلمه ومشهده ،ال بسماعه.
فال ميكن له العذر إن كذب .ولذلك قال إخوة يوسف عليه السالم(:وما شهدان إال مبا علمنا وما كنا
للغيب حافظني) .واستعمال هذا الوجه يف القسم يرى يف قوله تعاىل(:لكن هللا يشهد مبا أنزل إليك
أنزله بعلمه واملالئكة يشهدون وكفى ابهلل شهيدا).
مث يف الشهادة أكرب وجوه التأكيد من جهة أخرى .وهي أن الرجل إذا قال :أشهد أن األمر كذا ،
فكأنه قال :أان أقول هذا كمن يقوم شاهداً على أمر ،والكذب يف الشهادة أكرب إمثاً وأشد ذماً.
ولذلك ورد النهي عنه خاصة يف الشرائع ،كما جاء يف األحكام العشرة من التوراة .ويشبهه ما ذكر
يف القرآن يف مدح األبرار (والذين ال يشهدون الزور) على أظهر أتويله.
مث ترى صريح قوهلم يف أقسامهم (أان أشهد) (وهللا يشهد) (وهللا يعلم) .وهذا يف أكثر اللغات.
فإننا نرى األمم يف املشرق واملغرب مع اختالف كثري يف عاداهتم ال خيتلفون يف أهنم إذا قالوا :هللا
شهيد على ذلك ،أو ما يشبهه ،أرادوا به القسم.
قال سيبويه رمحه هللا يف ذكر الم اليمني (:واعلم أن من األفعال أشياء فيها معىن اليمني جيري الفعل
بعدها جمراه بعد قولك :أقسم ألفعلن ،وأشهد ألفعلن) الكتاب 454/1فصرح أبن (أشهد) معناه
اليمني ،وأن قولك (أقسم) كقولك أشهد.
فأما معىن تعظيم املقسم به فذلك مما انضم به يف بعض األحوال فهو من عوارض القسم .وسيأيت.
وبعدما علمت حقيقة القسم وأصل مفهومه نذكر لك املفاهيم اليت هي فروع على األصل ،وهي
اإلكرام والتقديس واالستدالل ،ونذكرها ابلرتتيب لتفهم وجوهها ومتيز بني معانيها ،حىت يسهل لك
النظر يف أقسام القرآن ،فتعرفها على وجهها ،وتكون على بصرية يف أتويلها.
()9
القسم على وجه اإلكرام
للمقسم به ،واملتكلم ،واملخاطب
()17/1
ملا كان الصدق من أحب سجااي العرب – ال سيما إذا عاهدوا على أمر ،وأعطوا له أمياهنم ،
وأشهدوا عليه – فإذا صاروا حلفاء ،أو عقدوا عقد اجلوار ،أو نذروا أبمر ،أوفوا ذمتهم ،وعدوا
الكذب فيها بعد القسم عاراً عظيماً وذلة كبرية ،ألنفتهم وللحمية اليت جبلوا عليها.
وكان يف رهن أيديهم للعقود عندهم آية على أهنم خياطرون هلا أنفسهم ،فتضمن القسم خماطرة
النفس كما مر يف الفصل السادس.
ولذلك كثر قسمهم بقوهلم :لعمري ،أي أان أخاطر على هذا القول حيايت .ورمبا بينوا هذا املراد كما
قالت ريطة بنت العباس السلمي :
علي هبني لنعم الفىت أرديتم آل خثعما
لعمري وما عمري َّ
وقال النابغة الذبياين :
علي األقارع
علي هبني لقد نطقت بطال َّ
لعمري وما عمري َّ
وهذا كثري ،ومن هذه اجلهة انضم مفهوم اإلكرام ابملقسم به .فإن املتكلم ال يدل على أتكيد قوله
هبذا الطريق إال إذا أقسم مبا يكرمه ويضن به .فهذا أصل هذا النوع من القسم ،مث جتاوزوه إىل قوهلم
(لعمرك) أو ما يشبهه ملا فيه من إكرام املخاطب .كأن القائل أراد أين ال أقسم بعمري بل بعمرك
علي .وهذا هو األصل ،مث رمبا ال يراد به إال أتكيد القول مع إكرام املخاطب ،
الذي هو أعز وأكرم َّ
وملا كان هذا أحسن يف التحاور كثر قوهلم يف القسم :لعمرك ولعمر أبيك ،أو َو َج ِد َك وبعزتك ،
وأمثاهلا.
وهذه الكلمات اليت ذكران كثر استعماهلا للقسم فال حاجة إىل نقل السند هلا .ولكن يهمنا يف هذا
القسم النظر إىل أمور:
األول :أن املقسم به يف هذه األقسام ،وإن كان عند املتكلم كرمياً ومضنوانً به ،لكنه ال يكون مما
يعبده ويقدسه ،كما سرتى يف أقسام دينية نذكرها يف الفصل التايل.
الثاين :أنه إذا أضيف املقسم به إىل املخاطب دل على إكرامه ،كقوله تعاىل(:لعمرك إهنم لفي
سكرهتم يعمهون) فأكرم هللا نبيه هبذا اخلطاب .ومنه قوله تعاىل (:فال وربك ال يؤمنون حىت
َيكموك).
()18/1
وإذا أضيف إىل املتكلم دل على عزته ومنعته ،كأنه قال :إن حيايت وعزي منيع ال يرام .ومن هذه
اجلهة ال ينبغي هذا القسم لعباد هللا اخلاشعني املتواضعني .ولعل املسيح أشار إىل هذا األمر حيث
قال عليه السالم فيما هنى عن احللف مطلقاً (:ال حتلف براسك ألنك ال تقدر أن جتعل شعرة واحدة
بيضاء أو سوداء).
الثالث :أنه ملا كان من بعض وجوه القسم الدعاء ابلسوء على احلانث ،كما مر يف الفصل السادس
،ورمبا انضم هبذا النوع ذلك املفهوم ،كأن احلالف قال :إن كنت كاذابً أُبِي َد عمري ،وأهينت عزيت.
وال خيفى عليك مما ذكران أن هذا النوع من القسم ال يكون إال إبضافة املقسم به ،إما إىل املتكلم أو
إىل املخاطب ،وال يكون إال أبلفاظه اخلاصة اليت ذكرانها .وال يكون إال أبمور عرف عزهتا على
املتكلم .فبني أن أقسام القرآن ابلذارايت والعادايت واخلنس اجلوار الكنس وأمثاهلا ال يكون من هذا
النوع.
واعلم أن هذه األقسام ليست من جهد أمياهنم ،وعلى األكثر تستعمل حملض التأكيد مبعىن أقسمت
،ولذلك رمبا قالوا :لعمر هللا ،فال يريدون هبا متام معناها األصلي إال إذا بينوه كما مر يف قول ريطة
السلمية والنابغة.
مث إن هلم أمياانً غليظة غري ذلك ،وأيتيك ذكرها يف الفصل اآليت.
()10
القسم على وجه التقديس للمقسم به
تقدم احلديث عن دواعي توثيق أقواهلم ،فرمبا دعتهم تلك الدواعي إىل مبالغة االستيثاق واملغاالة فيه
،فكانوا جيتمعون للمعاهدة مبشهد معابدهم .وبذلك خلطوا ابلقسم جهة دينية ،وأرادوا به جعل
الرب شاهداً على قوهلم ،فإن كذبوا فيما أقسموا عليه أسخطوه.
وملا كانت دائرة حكومتهم ضيقة ،ومل تفرق األمم املتجاورة حدود فطرية كاجلبال الشاخمة ،والبحور
املتالطمة ،مل مينع اجلريان عن االقتتال غري املعاهدة ،فصارت هي أحصن معاقلهم.
()19/1
ورمبا اتفقت أقوام مل جتمعهم أواصر القرابة على خالف عدو ،فعاهدوا على التعاون .فأميا كان من
سلم أو حرب ،إذا عظم أمرها فزعوا إىل العهد ،ولذلك ترى إبراهيم عليه السالم ملا هاجر قومه ،
وسكن يف بالد العرب ،ورآه أبو ملك ذا أبس ومنعة ،هابه واستعظمه فعاهد به على رسم خاص ،
لكيال تكون بينهما حرب ،وصارا حليفني هبذه املعاهدة.
والتاريخ شاهد بعظم مكانة املعاهدة يف التمدن ،حىت ترى اآلن اعتصام األمم العظيمة هبا .والعرب
كانوا يف جاهليتهم أشد األمم أبساً وألدهم خصاماً ،كما أهنم أبرهم ميثاقاً وأوفاهم ذماماً .وكانت
الكعبة أعظم معاهدهم .وحرماهتا أكرب وازع هلم عن احلرب ،فتطفأ انرها يف شهور احلج ،وأيتون إىل
الكعبة من كل فج حمرمني راهبني خمتلطني يف غاية األمن ،كاخلرفان بعد أن كانوا أسوداً ضارية .وذلك
كله من تعظيمهم للكعبة ،حىت إهنم مسوا مكة صالحاً وأم الرحم ،فإذا حاولوا توثيق عهد جاءوا إىل
هذا املعبد ليقسموا ابهلل العظيم على مواثيقهم.
ومن شركهم رمبا أقسموا عند أنصاهبم اليت ذحبوا عليها لشفعائهم عند هللا األكرب.
وكانوا يقسمون :إما إبهراق القرابن ،أو مبسح الكعبة كما ستعلم مما ذكروا يف أشعارهم ،أو
بغمسهم أيديهم يف عطر ومسح الكعبة هبا ،كما ترى يف حلف املطيبني الذي كان قبيل البعثة ،حني
أرادت بنوعبد مناف أن جيمعوا أمرهم ،فوضعوا جفنة طيب ألحالفهم عند الكعبة ،فغمس القوم
أيديهم فيها ،مث مسحوا هبا الكعبة ،فسموا املطيبني .وكان النيب -صلى هللا عليه وسلم -وأبو
بكر رضي هللا عنه منهم .أو مبجرد شهودهم عند البيت وعقدهم أمياهنم لديه.
فهذا أصل قسمهم الديين ،مث توسعوا فاكتفوا مبجرد ذكر الكعبة ومشاعر احلج ،كما سرتى
التصريح به يف بعض هذه األمثلة اليت نذكرها.
قال زهري بن أيب سلمى :
فأقسمت ابلبيت الذي طاف حوله رجال بنوه من قريش وجرهم
وقال أيضاً:
فتجمع أمين منا ومنكم مبقسمة متور هبا الدماء
()20/1
وقال أعشى قيس:
فإين وثويب راهب احلج واليت بناها قصي وحده وابن جرهم
وقال أيضاً:
حلفت له ابلراقصات إىل مىن إذا خمرم خلفته بعد خمرم
وقال احلارث بن عباد:
كال ورب الراقصات إىل مىن كال ورب احلل واإلحرام
وقال النابغة الذبياين :
فال لعمر الذي مسحت كعبته وما هريق على األنصاب من جسد
واملؤمن العائذات الطري متسحها ركبان مكة بني الغيل والسعد
ما قلت من سيء مما أتيت به إذاً فال رفعت سوطي إيل يدي
إذا فعاقبين ريب معاقبة قرت هبا عني من أيتيك ابلفند
وقال شأس أخو علقمة الفحل:
حلفت مبا ضم احلجيج إىل مىن وما شج من حنر اهلدى املقلد
وقالت غنية األعرابية تصف ابنها :
أحلف ابملروة يوماً والصفا أنك خري من تفاريق العصا
وأما حلفهم ابألنصاب فمنه قول املهلهل:
كال وأنصاب لنا عادية معبودة قد قطعت تقطيعا
وقول طرفة :
فأقسمت عند النصب أين هلالك مبتلفة ليست بغبط وال خفش
وقول امللتمس :
أطردتين حذر اهلجاء وال وهللا واألنصاب ال تئل
وقال رشيد بن رميض العنزي :
حلفت مبائرات حول عوض وأنصاب تركن لدى السعري
والقسم ابألنصاب قليل جداً فكان جل أقسامهم املؤكدة ابلكعبة ومشاعر احلج .فإن العرب مع
اختالف دايانهتم يف اجلاهلية مل خيتلفوا يف تعظيم هذا البيت العتيق .وعلموا أنه أول بيت هللا الذي
وضع للناس ،حىت إنك ترى النصارى منهم كانوا يقسمون به .قال عدي بن زيد وقد تنصر يف
اجلاهلية :
سعى األعداء ال أيلون شراً عليك ورب مكة والصليب
وقال األخطل وكان جماهراً بنصرانيته :
حلفت مبن تساق له اهلدااي ومن حلت بكعبته النذور
وقال أيضاً:
لقد حلفت مبا أسرى احلجيج له والناذرين دماء البدن يف احلرم
وقال أيضاً:
إين حلفت برب الراقصات وما أضحى مبكة من حجب وأستار
وابهلدي إذا امحرت مذارعها يف يوم نسك وتشريق وتنحار
فرتى مما ذكران أهنم إذا اجتهدوا ابلقسم حلفوا ابلكعبة ومشاعر احلج .وبذلك جاء التصريح منهم ،
قال حسان بن اثبت األنصاري فيما قال قبل إسالمه:
()21/1
()22/1
()23/1
ولكنك إذا سرحت النظر يف كالم العرب وغريهم وجدت أهنم رمبا أشهدوا أبشياء مل يعبدوها وال
عظموها .وإمنا أرادوا االستدالل جبعل املقسم به شاهداً على أقواهلم .بل رمبا جتمع جهة االستدالل
ابألقسام الدينية أيضاً .وسيأتيك ذكره يف الفصل اخلامس عشر.
وأما هاهنا فإمنا نذكر أمثلة القسم االستداليل ونوضح مفهومه .فمنها ما قال أبو العراين الطائي ميدح
حامتاً اجلواد:
قد علموا والقدور تعلمه ومستهل الغرار مطرد
أن ليس عند اعرتار طارقها لديك إال استالهلا مدد
ومنها ما قال الراعي :
إن السماء وإن الريح شاهدة واألرض تشهد واألايم والبلد
لقد جزيت بين بدر ببغيهم يوم اهلباءة يوماً ما له قود
ومنها ما قال النابغة الذبياين :
واخليل تعلم أان يف جتاولنا عند الطعان أولو أبس وإنعام
ومنها قول عنرتة :
واخليل تعلم والفوارس أنين فرقت مجعهم بطعنة فيصل
فقد رأيت يف هذه األمثلة أهنم أشهدوا ابلقدور ،واملدية ،والسماء والريح ،واألرض ،واألايم ،
والبلد ،واخليل ،والفوارس .وليس املراد إال أنك لو سألتهن ونطقن لشهدن على دعواان.
ومن هذا األسلوب ما قال الفضل بن عيسى بن أابن يف وعظه(:سل األرض ،فقل :من شق أهنارك
وغرس أشجارك ،وجىن مثارك؟ فإن مل جتبك حواراً ،أجابتك اعتباراً).
ولعل هذا الكالم مأخوذ من صحف أيوب عليه السالم ،قال ص 12عدد (: 10-7فاسأل
البهائم فتعلمك ،وطيور السماء فتخربك ،أو كلم األرض فتجيبك ،وَيثك مسك البحر .من ال
يعلم من كل هؤالء أن يد الرب صنعت هذا .الذي بيده نفس كل حي وروح كل إنسي).
ومثل هذا ما جاء يف صحف موسى عليه السالم سفر التثنية ص 30عدد (: 19أشهد عليكم
السماء واألرض قد جعلت قدامك احلياة واملوت ،والربكة واللعنة ،فاخرت احلياة لكي حتيا أنت
ونسلك).
()24/1
فأراد هبذا اإلشهاد أن عهدي هذا بكم ال يؤخذ سراً بل َنعله مشهوداً ومشتهراً ،فإن نقضتموه
لزمكم عاره دائماً أبداً .فمىت ما أظلتكم السماء وأقلتكم الغرباء جاءتكم اللعنة والعذاب من فوقكم
وحتتكم .فضرب السماء واألرض مثالً لدوام ولزوم ذلة النقض ،فكأنه عليه السالم أقام عليهم
شاهدين ال يفلتون منهما أبداً وآيتني ال تغرابن عنهم.
ومما جيلو الشبهة عن القسم الذي يشهد فيه مبا ينطق بلسان احلال أهنم كما أشهدوه بكلمة (يشهد)
و(يعلم) أو ما يشبههما ،فكذلك أشهدوه بكلمات خصت ابلقسم ،أو نصت له مثل :واو القسم
(لعمري) أو ما يشاهبهما.
فإن مل يطمئن قلبك ابألمثلة السابقة ،فدونك أقسام صرَية أبمور انطقة بلسان احلال .فمنها قول
عروة بن مرة اهلذيل :
فقلت َ :وَم ْر َخ ٍة دعوى كبري
وقال أبو أمامة ايل بكر ُ
يستهزئ الشاعر أبيب أمامة على استغاثته بقبيلة بكر .فقال :
هذه دعوى كبرية ،أي ما أصغر من يدعوه لنصره!! فأقسم بشجرة صغرية ال تؤوي من يلوذ هبا ،
وضرهبا مثالً ألضعف األشياء مالذاً ،ويتضح هذا املعىن مما قال أبو جندب اهلذيل :
وكنت إذا جار دعا ملضوفة أمشر حىت ينصف الساق مئزري
فال حتسنب جاري لدى ضل مرخة وال حتسبنه فقع قاع بقرقر
ومنها قسم اهلجرس حني قتل جساساً قاتل أبيه ،فقال:
(وفرسي وأذنيه ،ورحمي ونصليه ،وسيفي وغراريه ،ال يرتك الرجل قاتل أبيه ،وهو ينظر إليه ).
فأقسم هبذه األشياء استدالالً هبا ،كأنه قال :فكيف أترك قاتل أيب ؟ وأان قادر على الكر والفر
والطعن والضرب.
فذكر يف قسمه ما يصدق دعواه ،ويستدل هبا على وجوب ما أراد به ،ومنها قسم طرفة :
وقربة ذي القرىب وجدك إنين مىت يك أمر للنكيثة أشهد
أراد أنه كيف ال يشهد جملس ذوي القرىب إذا اجتمعوا ألمر كبري ،وال يراعي منزلة الرحم ،وهي
عظيمة عندهم ،وكانوا ينشدون ابهلل والرحم ،فأقسم هبا استدالالً على لزوم مشهده .ومنها قول
احلصني بن محاد يرثي نعيم بن احلارث خليله :
()25/1
()26/1
يعين مل يكرموهم على فوزهم بل على حماماهتم واستمتاتتهم للحرية ،فكذلك أنتم وإن مل تفوزوا فقد
بذلتم نفوسكم للدفاع عن احلرية.
فانظر يف هذا القسم ،كيف مثل أسالفهم وفعاهلم بني أيديهم ليمأل قلوهبم ابلفخار املسلم عندهم ،
فضرب هلم مثالً ،وجعل حسن مساعيهم شاهداً على حسن مسعاة املخاطبني .وأخرج الكالم خمرج
القسم الذي بين على التأكيد.
واشتهر هذا القسم لبالغته ،واستجاده السلف واخللف من الناقدين .ولكن أرى املتأخرين منهم
أخطأوا كما أخطأ علماؤان .فإن ال َننوس اليوانين الذي نشأ بعد ستمائة من دمياسثنس ،وكان معلماً
للبالغة يف أثينة ،ومشهوراً بغزارة العلم يف زمانه ،ذكر هذا القسم يف كتابه على البالغة ،وقال فيه
:إن حسنه يف غاية تعظيم املقسم هبم ،فإن دمياسثنس جعلهم مبنزلة اآلهلة .وأنكر على من قال إن
هذا األسلوب مأخوذ من قول الشاعر يوبولس الذي أقسم إبكليله.
وإين أذكر قسم يوبولس أيضاً ليكون مثاالً اثنياً ،ولتعلم أن الرأي الذي أنكره ال َنوس هو الرأي
القومي.
()13
القسم على وجه االستدالل
يف كالم يوبولس الشاعر اليوانين
كان من سنن يوانن يف زمان حريتهم أنه إذا فعل أحد منهم أمراً عظيماً انفعاً هلم عصبوا برأسه إكليالً
تشريفاً لقدره واعرتافاً حبقه .وكان الشاعر يوبولس انل منهم هذا اإلكرام يف حرب مراثن ملا أبلى بالء
حسناً.
مث بعد ذلك اهتمه بعض حساده أبنه ساخط ابلقوم ،ليزرع هبذه التهمة بغضه يف قلوهبم .فأزاح
يوبولس هذا الظن عن نفسه بقول ترمجته :
ال وإكليلي الذي نلت لدى مراثنا
ال يراين شامت أضمر سخطاً كامنا
فأقسم إبكليله الذي انله من أيدي قومه استدالالً على عدم سخطه هبم كأنه قال :كيف أسخط
على قومي بعد أن أكرموين هبذا العز.
()27/1
فنرى يف هذا املثال – كما رأينا يف أمثلة أخر – أن القسم ال خيتص ابإلله .وبذلك ينهدم ما بىن عليه
ال َننوس رأيه ،وتبني لنا أن من جعل قسم دمياسثنس مشاهباً بقسم الشاعر يوبولس أصاب املراد.
فإهنما استعماله على وجه االستدالل وضرب املثل ،وليس املراد منه تعظيم املقسم به .فإن كان
املقسم به يف نفس األمر عظيماً فهذا من حمض االتفاق ،وال يتعلق به غرض القسم .حمض القسم
ساكت عن عظمته .أال ترى عروة بن مرة الذي مر شعره يف الفصل احلادي عشر كيف أقسم ابملرخة
وضرهبا مثالً لغاية الذلة والضعف.
()14
شرح دالالت القسم االستداليل
بعدما وقفت على أمثلة القسم االستداليل من النثر ،والنظم لدى العرب والعجم ،وتبني لك أنه
أسلوب خاص من البالغة ،نريد أن َنمع لك يف هذا الفصل ما فيه من الدالالت االستداللية اليت
ذكرانها يف الفصول السابقة شتااتً لتفهمها كل الفهم ،فإن ذلك من مهمات مباحث هذا الكتاب.
مث جتد زايدة عليه حني نذكر ما يف القسم من أبواب البالغة.
فاعلم أهنم إذا أشهدوا على وجه االستدالل رمبا أرادوا به شدة وضوح املقسم عليه كما ترى يف قول
الراعي :
إن السماء وإن الريح شاهدة واألرض تشهد واألايم والبلد
يعين أن األمر بلغ غاية الشهرة واملعرفة حىت إن كل شيء يشهد به ،فذهب يف آفاق السماء وأقطار
األرض ،وجرت به الريح يف كل جانب ،وبلغ كل بلد ،وكفلت األايم إببقائه على صفحات الدهر.
وغاية التأكيد يف أن هذه األشياء اليت ال روح هلا تشهد به فكيف أبهل السمع والبصر والنطق.
وهذا حبسب الظاهر مبالغة .ولكنه بين على الصدق ،فإن املراد به غاية الشهرة وعموم العلم به.
ويشبه ذلك ما مر من قسم موسى عليه السالم حيث أشهد السماء واألرض.
()28/1
ورمبا أرادوا به ضرب مثل على وجه التشبيه ادعاء من املتكلم كما ترى يف قسم عروة بن مرة .فإنه
ضرب املرخة مثالً لقبيلة بكر اليت استغاث هبم أبو أمامة ،فشبههم ابملرخة .وهذا حمض االدعاء ،
ولكن الدعوى إذا كانت بطريق اإلشارة يتلقاها املخاطب ابلقبول ،مثلما تراه يف التشبيه والكناية ،
كما بينوه يف كتب املعاين ،ونرجع إىل هذا البحث يف الفصل السابع عشر إن شاء هللا تعاىل.
ورمبا أرادوا به أتييداً للقول ،فأشهدوا ابملقسم به لكونه مؤكداً للمقسم عليه ،كما ترى يف قول
يوبولس .فإنه أشهد إبكليله الذي أكرمه به قومه .وهو أقصى الغاية عندهم يف التعظيم .فكأنه قال
يف رد قول خمالفه ،إين بعد هذا الشرف الدائم كيف يظن يب أين أسخط هبم .وكان يف هذا
االستدالل ضعف فإنه ميكن ملخالفه أن يقول :أنت مع هذا اإلكرام العظيم تبدلت ،وصرت جاحد
النعمة .فأكد قسمه ابإلكليل بذكر شرف نفسه ،فقال :إين اقتنيته يف أشهر حروهبم اليت بدت فيها
منازل سراة القوم ،فكنت فيها من الطراز األول .فبعد هذا التأكيد مل يرتك خلصمه إال حمل حسود
يسيئ الظن ابلكرام .ولكن يف هذا االستدالل ال يتم التقريب بني الدعوى ودليلها.
ورمبا أرادوا به حجة قاطعة على قوهلم بذكر أمر جامع بني املقسم به واملقسم عليه ،كما ترى يف
قسم دمياسثنس .فإنه ذكر حسن فعال أسالف املخاطبني ،وهم ال يشكون فيه ،واحتج به على
حسن فعال الذين اتبعوا أسالفهم .ولذلك صرح أوالً أبن لكم أسوة يف أسالفكم وهذا لعمرك
أحسن وجوه هذا النمط من القسم.
()15
األدلة املأخوذة من نفس القرآن
على ما فيه من األقسام االستداللية
بعدما تبني لك أن القسم أصله االستشهاد ،وأنه ال يراد من التعظيم ،إال إذا كان ابهلل تعاىل
وبشعائره ،وعلمت أنه رمبا يكون حملض االستدالل ،ال خيفى عليك أن أقسام القرآن اليت بىن عليها
املعرتض الشبهتني األخريتني ليست إال لالستدالل واإلشهاد ابآلايت الدالة.
()29/1
فإ قال قائل :هب أن أصل القسم هو اإلشهاد ،ولكنه لكثرة استعماله للتعظيم صار كاملنقول ،
وأصله كاملذهول .ولذلك هني عن القسم بغري هللا تعاىل ،فال يصار إىل األصل إال بدليل واضح بني.
قلنا :سلمنا ولكنا مل نذهب إىل هذا املعىن اخلاص ألقسام القرآن إال بداللة القرآن من وجوه كثرية.
ودونك بياهنا :
األول :ما علمنا من سنة القرآن من استعماله بعض الكلمات مرة للعبد وأخرى هلل تعاىل .وحينئذ
مييز بني وجوهها ،حىت ال يكون خمالفاً جلاللة ربنا جلت عظمته ،مثل كلمة الصالة فإهنا الدعاء من
العبد والرمحة من هللا تعاىل .وكلمة الشكر فإهنا من العبد االعرتاف ابلنعمة ،ومن هللا تعاىل قبوله
احلسنات من عبده.
وهكذا التوبة ،والسخط ،واملكر ،والكيد ،واألسف ،واحلسرة وغريها .بل ما من كلمة إال مييز
بني وجوه معانيها إذا استعملت هلل تعاىل .ويؤخذ أبحسنها ويرتك ما ال يليق بذاته املقدسة .وقد علمنا
الوجوه الكثرية للقسم ،فحملناه على وجه يليق جباللة ربنا ،وأخذان مبا هو (خري وأحسن أتويالً).
والثاين :ما هتتدي إليه من محل النظري على النظري وتفسري اآلايت بعضها ببعض .فإنك ترى القرآن
يذكر األمور الدالة اترة على أسلوب القسم هبا ،وأخرى على أسلوب اآلية والعربة .وكلها إشهاد ملن
يتفكر فيها .قال تعاىل(:إن يف خلق السموات واألرض واختالف الليل والنهار والفلك اليت جتري يف
البحر مبا ينفع الناس وما أنزل هللا من السماء من ماء فأحيا به األرض بعد موهتا وبث فيها من كل
دابة وتصريف الرايح والسحاب املسخر بني السماء واألرض آلايت لقوم يعقلون).
ومثل هذا كثري .فيذكر هللا تعاىل آايته وَيتج هبا.
()30/1
مث ترى هذه اآلايت أشهد هبا القرآن على أسلوب القسم ،فأشهد ابلسماء واألرض والشمس
والقمر ،والليل والنهار ،والفجر والضحى ،والريح والسحاب ،واجلبال ،والبحر والبلد ،
واإلنسان والوالد والولد ،والذكر واألنثى ،والشفع والوتر .فكوهنا آايت دالة له نظري ،وال سبيل
إىل إرادة تعظيمها.
والثالث :ما يدلك عليه نفس املقسم به .فإن العاقل ال يتوهم أن هللا تعاىل يضع خملوقاته موضع
املعبود املقدس ،ال سيما الذي ليس له كبري تقدس كاخليل العادية والريح الذارية ،وقد صرح القرآن
بكون هاتيك املقسم هبا من السماء واألرض والشمس والقمر والنجوم وغريها مسخرة مدللة طائعة.
ففي نفس القسم هبا داللة على أن املراد حمض اإلشهاد هبا.
والرابع :ما ترى من املناسبة الظاهرة بني املقسم به واملقسم عليه .فإن القرآن وضع أكثر هذه
األقسام حبيث ال خيفى على العاقل جهة داللتها على ما أقسم عليه .ولذلك ترى صاحب التفسري
الكبري – رمحه هللا – مع ظنه أبن القسم للتعظيم ،وتكلفه لبيان فضائل التني والزيتون – مل ختف
عليه جهة عامة يف داللة األقسام اليت جاءت يف أول سورة الذارايت فقال( :إهنا كلها دالئل أخرجها
يف صورة األميان) .ولو أتمل يف سائر أقسام القرآن اليت جاءت على وجه االستدالل الختار هذا
التأويل يف مجيعها.
واخلامس :ما ترى من تعميم املقسم به على طريق تعميم اآلايت الدالة ،كما قال تعاىل (:فال أقسم
مبا تبصرون * وما ال تبصرون) فلم يرتك شيئاً إال وقد أقسم به ،كما قال (:وإن من شيء إال يسبح
حبمده) فلم يرتك شيئاً إال وقد أنطقه حبمده وأشهده مبجده .ويشبه هذا التعميم استعمال املتقابلني
حيث أقسم ابلليل والنهار واألرض والسماء .فكيف يظن أن هللا َعظَّ َم كل شيء ؟ والسبيل إىل جعله
آية دالة ظاهر فال يصار إال إليه.
()31/1
والسادس :ما يتبع املقسم به من التنبيه على كون املقسم به دليالً للعقالء .كما قال تعاىل (:والفجر
* وليال عشر * والشفع والوتر* والليل إذا يسر * هل يف ذلك قسم لذي حجر).
فهذه اجلملة األخرية مثل ما جتد كثرياً يف القرآن بعد ذكر الدالئل كما جاء يف سورة النحل (:إن يف
ذلك آلايت لقوم يعقلون) أو كما جاء يف سورة طه (:إن يف ذلك آلايت ألويل النهى) أو كما جاء يف
سورة آل عمران (:إن يف ذلك لعربة ألوىل األبصار) وهذا كثري .فهكذا هاهنا بعد ذكر األقسام نبه
على كوهنا دالئل لذي عقل وبصرية.
ويشبه ذلك ما جاء من التنبيه بعد القسم يف سورة الواقعة حيث قال (:فال أقسم مبواقع النجوم *
وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) أي إن فيها داللة عظيمة وشهادة كبرية .فصرح بعظمة القسم ال بعظمة
املقسم به.
والسابع :ما ترى يف ذكر املقسم به على صفة خاصة تشري إىل جهة االستدالل .كقوله تعاىل
(:والنجم إذا هوى) وقوله تعاىل(:فال أقسم ابخلنس * اجلوار الكنس) وقوله تعاىل(:والصافات صفا *
فالزاجرات زجرا * فالتاليات ذكرا) وقوله تعاىل(:والذارايت ذرواً * فاحلامالت وقرا* فاجلارايت يسرا *
فاملقسمات أمرا) وقوله تعاىل (:وال أقسم ابلنفس اللوامة) وغريها.
فهوي الثراي ،وخنوس النجوم ،وصف املالئكة ،وذرو الرايح ،وتقسيمها األمور ،ومالمة النفس
أقرب إىل االستدالل منها إىل التعظيم.
والثامن :ما يسبق املقسم به من صريح ذكر اآلايت الدالة ،مث يعرب عن املقسم به على وجه يشري
إىل تلك اآلايت ،كأنه مهد من قبل ملا أريد من وجه االستدالل .وهذا مما يهتز له املتدبر يف نظم
القرآن.
ويتضح ذلك ابملثال .قال تعاىل يف سورة الذارايت (:ويف األرض آايت للموقنني * ويف أنفسكم أفال
تبصرون* ويف السماء رزقكم وما توعدون).
()32/1
أي إن لكم فيهن آية على الربوبية والدينونة ،كما فصل ذلك يف غري موضع من القرآن .فبعد ما
ذكر أن األرض والسماء قد اشتملت على آايت اجلزاء بل على نفس اجلزاء ،جاء بقوله (:فورب
السماء واألرض إنه) أي الدين واجلزاء .وليس املراد به القرآن كما تومهوه (حلق مثل ما أنكم
تنطقون).
فال خيفى أن هذا القسم – مع داللته على التقديس لكونه إشهاداً ابهلل تعاىل – قد تضمن
االستدالل آبايت يف األرض والسماء ،ملا عرب عن املقسم به على صفة تشري إىل ما سبق من صريح
االستدالل ابآلايت الدالة .وملا كان وجه التعظيم يف هذا القسم أظهر ،وكاد يشغل عن وجه
االستدالل حسن التمهيد له من قبل.
ويف هذا القدر كفاية إن شاء هللا تعاىل .فإذا سأل سائل :كيف خفي الصواب على العلماء ،أم كيف
يطمئن القلب هبذا القول املبتدع .أجبناه مبا نذكره يف الفصل اآليت.
()16
بعض أسباب خفاء الوجه الصحيح
يف أتويل أقسام القرآن
مما ذكران من أقوال العلماء يف الفصول السابقة نرى أن هذا املعىن للقسم ليس ببدع ،بيد أنه خفي
عليهم بعض وجوهه ومعانيه .فلم يتمسكوا به كل التمسك .فإما أن تركوه يف بعض املواضع ،وإما
خلطوا به معىن آخر .ولنذكر هنا بعض أسباب اخلفاء ليظهر عذرهم.
فالسبب األول :أنه يف بعض املواقع كان املقسم به يف نفسه شريفاً ،مثل القرآن والطور ومكة ،أو
الشمس والقمر والنجوم ،أو العصر والليل والنهار ،فلم َيتاجوا إىل جعل اإلقسام به استدالالً.
وقد ظنوا أن القسم ابلشريف العظيم عام شائع .فإذا وجدوا املقسم به ذا احتماالت أخذوا منها ما
يشبه ابلشرافة .وهبذا السبب منعوا عن التعريج إىل السمت الصحيح .وذهبوا من القسم يف مذهب
عام ،كما أن املاء جيري إىل اخلفض إن مل يصرفه صارف.
()33/1
والسبب الثاين :أن احلكماء َنعتهم األمور الكلية .فال يعجبهم رأي ينخرم بعض جوانبه .ووجه
الداللة يف األقسام مع ظهوره يف بعض األمثلة كان خفياً يف بعضها .وملا مل يتبني هلم وجه الداللة فيه
زعموا أن هذه الكلية ال تصح هاهنا.
وليس من دأب أكثرهم أن يقروا ابلعجز وَيولوا العلم إىل هللا تعاىل ،كما ترى ذلك يف مسألة نظم
القرآن .فإنه ظاهر واضح يف أكثر املواضع ومل يشكل كل اإلشكال إال يف قليل .فلو اعرتفوا ابجلهل
،كما فعل بعضهم ،لكان حرايً هبم .لكن تراهم مل يعتمدوا على وجود النظم .وإمنا أرادوا بذلك أنه
ليس كلياً ،فظن العوام أن ال نظم يف القرآن ،وكلها اقتضاب.
والصواب أن نتحرى يف كل أمر ما هو األوىل واألحسن ،وقد دلت عليه دالئله ،وبدت خمايله ،
وترجح جانبه ،وتوضح الحبه ،ونكون كما قال تعاىل (:الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه
أولئك الذين هداهم هللا وأولئك هم أولوا األلباب).
فإن أشكل علينا بعض وجوهه نسبناه إىل قلة علمنا ،وسيجعل هللا يسراً بعد عسر ،وجرباً بعد كسر
،والعلوم متزايدة ،وهللا يهدي من يشاء.
فمحض غموض جهة االستدالل يف بعض األقسام ال يصرفنا إىل رأي ابطل مع سخافته .أال ترى
اآلايت الدالة ليست كلها ظاهرة الداللة حبيث ال حتتاج إىل أتمل .والقرآن صرح بذلك وندب إىل
التفكر والتدبر فيها .بل صرح أبهنا ال يفهمها إال العاقلون املتقون ،كما جاء كثرياً يف القرآن
والصحف األوىل .ومع ذلك ال نشك يف أهنا دالئل قاطعة وحجج ساطعة .فهذا التحري هو اخلطوة
األوىل للتأمل وإعمال العقل حىت تنحل اإلشكاالت ويطمئن القلب بعد العلم.
وإين حبمد هللا تعاىل مل أطمئن هلذا الرأي إال بعد أن أتملت يف مجيع أقسام القرآن ،حىت تبني يل أهنا
دالئل .ومل يدلين عليه إال القرآن من وجوه عديدة كما مر ذكرها آنفاً.
()34/1
والسبب الثالث :وهو مدار األولني ،أهنم ملا وجدوا القسم ابهلل تعاىل وشعائره شائعاً غلب على
ظنهم أن ذلك أصله .فإذا وجدوا القسم بغريه جعلوه جمازاً .مث رأوا أن اجملاز ال يصار إليه إال إذا
تعذرت احلقيقة.
ولكن حمض الكثرة ليس دليل األصلية ،وال املصري إىل اجملاز مشروط بتعذر احلقيقة .بل الصواب أن
أتخذ من املعاين ما هو أحسن وأحرى ،وأشبه ابلسياق ،وما له نظائر يف ابقي الكالم.
فلما جعلوا الفرع أصالً خفي عليهم حقيقة معىن القسم ابلشيء ،وهو اإلشهاد به .فقوهلم يف بعض
األقسام إهنا دالئل مل يكن إال لشدة وضوح هذا املراد فيها .كأن القرآن دعاهم بصوت جهوري
وجذهبم ببطش قسوري إىل صحيح معناه .ومع ذلك هم على الظن األول .فلم يكن اخلفاء من جهة
القرآن بل من بعض الظن منهم عفا هللا عنهم.
والسبب الرابع :شهرة بعض أمور ذات وجوه على وجه خاص ،مثل قصة هالك فرعون وقومه .فإن
املشهور أهنم أهلكوا مبحض املاء ،وال يرون فيه دخالً للريح .وحقيقة األمر أنه كان من عجائب
تصاريفها أبمر رهبا .وهكذا األمر يف طوفان نوح عليه السالم ،كما بيناه يف تفسري سورة الذارايت.
فأينما كانت املناسبة بني املقسم به واملقسم عليه منوطة ببعض الوجوه ،خفي وجه االستدالل على
من خفي عليه ذلك الوجه .وملا مل يكن تفصيل هذا القصص من مهمات العقائد واألحكام مل يلتفت
إليها علماؤان رمحهم هللا تعاىل.
والسبب اخلامس :وهو يشبه ما قبله ،أن علماءان رمحهم هللا تعاىل شغلتهم العلوم العقلية والنقلية
املشهورة عن علوم هي أكرب منها نفعاً يف التفسري ،وذلك هو علم لسان أوحي به إلينا وإىل من قبلنا
،واتريخ هذه األمم السامية ،وعلومهم وآداهبم .وإذ هي ال ختتص مبسألة القسم ال نبسط القول
فيها.
وال حاجة إىل استقصاء أسباب اخلفاء ،فليكفنا هذا القدر منها.
()17
ذكر بعض ما يف القسم
من أبواب البالغة ولطائفها
()35/1
لعلك تقول :إن كانت هذه األقسام دالئل ال غري ،فلم مل تذكر على أسلوب االحتجاج الصريح.
فاعلم أن االستدالل إذا كان على أمور ال تتعلق هبا الرغبة والنفرة ،مثل ما ترى يف العلوم الطبيعية
والرايضية أو يف اتريخ األولني على األكثر ،كان ذكر األدلة فيها أوىل ابلتصريح .فأما إذا استدللنا
على أمور نفسانية يتصادم فيها من القائل والسامع حث واستنكار ،وزجر واستكبار ،وإحلاح
وإصرار ،احتجنا إىل إيراد األدلة على وجوه خمتلفة من أساليب الكالم متفاوتة يف الوضاحة واللطافة
والقوة واحلدة.
ورمبا نبدل األسلوب حملض االجتناب عن مالل السامع أو الرجاء أن ينجح فيه بعض األساليب أكثر
من بعض ،كما صرح به القرآن (:انظر كيف نصرف اآلايت لعلهم يفقهون) وكما فعل إبراهيم عليه
السالم مع الذي حاجه يف ربه ،فرتك اإلصرار على الدليل األول ،حني مل يفهمه اخلصم ،وعمد إىل
دليل آخر أقرب إىل فهمه (:فبهت الذي كفر).
فهذه مجلة اجلواب .مث يف أسلوب القسم معان مفيدة لالستدالل مما يفتح عليه من البالغة أبواابً ،
ويلقي عليه من احملاسن جلباابً .ونذكر هنا بعض تلك املعاين ،وندلك على ما فيه من البالغة.
األول :هو إظهار التأكيد واجلد يف القول ،كما ترى يف قول املرسلني من النصارى حيث جاء يف
القرآن (:قالوا ربنا يعلم إان إليكم ملرسلون * وما علينا إال البالغ املبني) أو كما ترى يف قوله تعاىل (:
(والسماء ذات الرجع * واألرض ذات الصدع* إنه لقول فصل * وما هو ابهلزل).
وقد علموا أن احلر املهذب إذا أقسم على أمر فقد ابلغ يف إظهار اجلد منه ،ونفى عن نفسه اهلزل.
ولذلك كثر القسم يف أوائل النبوة حىت تبني هلم جده .وقد صرح يف املثالني املذكورين .وذلك
خلصوصية يف أسلوب القسم ،ال ألن فيه تعظيماً ،كما ترى أتكيد اإلثبات واإلنكار أبسلوب
االستفهام أو التعجب يف أكثر األسئلة ،أو أتكيد التعجب ابلنداء كقولك :ايللماء ،و:
ايلقومي للشباب املسبكر
()36/1
والثاين :كون القسم إنشاء .وذلك يبهم طريق اإلنكار على اخلصم .فإنه إن شاء أنكر جواب القسم
،لكونه خرباً ،ولكن ال يسنح له أن ينكر نفس القسم ،لكونه إنشاء .كما أنه ال يتوجه إىل إنكار
الصفة مع أهنما يف احلقيقة من األخبار.
ورمبا جيمع أقسام القرآن هذين اخلربين ،كالقسم ابلقرآن اجمليد ،وابليوم املوعود ،وابملقسمات أمراً
،وابلفارقات فرقاً ،وابلصافات صفا.
فإن شرحتها رأيت فيها مجلتني خربيتني .مثالً إن املالئكة صافون كالعبيد ،وإن الرايح تفرق ومتيز
حسب أمر هللا ،وإن هلم يوماً موعوداً ،وإن هذا القرآن جميد .فهذه أخبار أدجمت يف الصفات ،مث
زيد عليها ما أدرج من القسم .وهي أن هذه األشياء شواهد ودالئل.
فإن كان ذلك مما ينتبه اخلصم إلنكاره ،فتارة يصرف اخلطاب إىل النهي كقوله تعاىل (:يس * والقرآن
احلكيم * إنك ملن املرسلني).
واترة َيذف جواب القسم الذي يكون مجلة خربية .فحينئذ يكتفي ابملقسم به ،ويبادرهم بكالم آخر
مؤيد ملا حذف ،لكيال جيد اخلصم فرصة لتحويل اإلنشاء إىل اخلرب فينازع فيه ،ولكي جيد الكالم
فرصة فيه ،فيستمع بعد القسم ملا ينتظر جوابه ،فيهجم عليه ما يؤيد االستدالل املقصود من
الكالم السابق ،كقوله تعاىل (:ص والقرآن ذي الذكر * بل الذين كفروا يف عزة وشقاق).
فاكتفى ابجلملة اإلنشائية ،واجتنب اخلربية .وقد فرغ عنها مبا ذكر يف القسم من صفة القرآن .كأنه
قيل (:قد شهد القرآن أنه لذكر ونصح هلم) .مث ذكر من خصائلهم ما ال ينكروهنا بل يباهون هبا ،
وأشار إىل أن إنكارهم ليس إال حلميتهم اجلاهلية ،وجداهلم ابلباطل.
ومثل ذلك قوله تعاىل (:ق والقرآن اجمليد * بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا
شيء عجيب) أي قد شهد القرآن أنه لنذير مبني من هللا تعاىل ابلبعث ،ولكنهم ينكرونه ملا يعجبون
أن أييت به منذر منهم.
()37/1
فأما إذا كان القسم مما ال ينكرونه مل َيذف اجلواب ،كقوله تعاىل(:حم * والكتاب املبني* إان جعلناه
قرآانً عربياً لعلكم تعقلون).
فذكر يف القسم ككونه كتاابً مبيناً ،ويف اجلواب كونه قرآانً عربياً ،وال ينكرون شيئاً منهما .وأما كونه
منزالً من هللا تعاىل فلم خيرب به كدعوى على حدة ،بل جعله أصل الكالم مبا خاطبهم بنفسه ،فال
يتجه اإلنكار إليه.
هذا ،ولوال كراهية اخلروج عن موضوعنا لبسطنا الكالم يف حذف جواب القسم وفوائده .وذكره
حتت آايت القسم أوىل.
والثالث :إجياز هذا األسلوب لالستدالل .فإن اللفظ إذا قل يرتاءى املعىن متجرداً عن حجبه ،
فيزيده تنويراً وأتثرياً ،كأنه أرهف حده ،وقرب بعده .وهذا مما جيعل االستعارة أحياانً أبلغ من
التشبيه .وال حاجة إىل توضيح حسن اإلجياز فإنه مبسوط يف كتب البالغة.
وقد ابلغ يف استحسانه بعض كتاب زماننا ،فقال :إن اإلجياز هلو البالغة ،وتكلف يف رد مجيع
احملاسن إليه .وإمنا جعله أصل البالغة لتشعب أفنانه ،وتقلب ألوانه .فلم يدخل ابابً من أبواب
البالغة ،إال ورأى اإلجياز هناك موجوداً ،فقصر النظر عليه.
ومن فوائد اإلجياز أنه ميكنك أن جتمع دالئل عديدة يف قرب بعضها من بعض .فإذا دللن على أمر
واحد من جهات خمتلفة كن أشد أثراً ،وأحكم أمراً ،كما ترى يف أقسام سور الطور والبلد والتني.
فلو فصل فيها الكالم وشرح األدلة لتشتت النظام ووهنت قوته .ويقرب منها أقسام سور الفجر
والشمس والليل.
هذا ،والعرب لذكائهم وكربهم كانوا َيبون اإلجياز أكثر من أقوام أخر ..ولذلك ال ترى شيئاً من
القرآن إآل ومعناه أوفر من اللفظ ،فإن أطنب قوالً من وجه أوجزه من وجوه أخر .ولذلك ال تنقضي
عجائبه.
()38/1
والرابع :إشراك السامع يف استنباط الدليل ،وذلك مما يكسر سورة خصامه .فإنه إذا علم شيئاً بعد
التأمل فرح به واهتز له .فإن املتكلم إذا جعل السامع منفعالً حمضاً أتعبه وصار كالمه عليه ثقالً.
وهذا إذا مل خيالف رأيه .فأما إذا خالفه أمشأز منه وسد منه أذنه.
ولذلك رمبا يستعمل االستفهام بدل اإلخبار كقولك :أال ترى ذلك؟ وهل مسعت هذا ؟
أو كما استفهم النيب عليه السالم يف خطبة الوداع حيث سأهلم :أي بلد هذا ؟ وأي شهر هذا ؟
وأي يوم هذا ؟ فلذلك جيلب االلتفات ،وينشط للسمع.
وقد مجع القرآن هذين األمرين يف أول سورة الفجر ،فأشهد أبمور تدعو الفكر إىل استنباط الدالئل
على تدبري هللا تعاىل وتقديره وعدله .مث أتبع ذلك بقوله (:هل يف ذلك قسم لذي حجر) ومثل ذلك
قوله تعاىل (:والسماء والطارق * وما أدراك ما الطارق* النجم الثاقب).
ورب مستدل حاذق يسوق املخاطب إىل الدعوى بسهولة من غري تسفيه رأيه ،حىت يظن أنه هو
الذي اهتدى إليها من قبل نفسه .وهذا مما يصري الكناية أحياانً أبلغ من التصريح.
وترى ذلك بيناً يف أقسام القرآن فإهنا تعرض على السامع أمراً يدعوه إىل استعمال عقله .ورمبا تسوقه
إىل مست الدعوى بلطافة وتدريج .كالقسم ابلذارايت حىت انتهى إىل قوله (:فاملقسمات أمرا) .ومثل
ذلك قسمه ابملرسالت عرفاً حىت انتهى إىل قوله(:فالفارقات فرقاً * فامللقيات ذكر* عذراً أو نذرا).
فلو ألقي عليه أوالً أن الرايح تفرق بني قوم وقوم أنكر ذلك.
واخلامس :وضع الدليل يف غري صورته ،لكيال يبادر املنكر إىل املخاصمة .وذلك غري معىن اإلنشاء
الذي مر آنفاً يف الوجه الثاين ،فإنه يسد ابب اإلنكار .وهذا إمنا يذهل عن اخلصام .لكونه غري
اإلنشاء جتده ابقياً يف صورة اخلرب أيضاً.
()39/1
مثالً إن حولت قوله تعاىل (:والعصر * إن اإلنسان لفي خسر) وجدت بعد هذا التحويل من اإلنشاء
إىل اخلرب أيضاً فرقاً واضحاً بينه وبني صريح االستدالل .وهو أن تقول :إن اإلنسان لفي خسر ؛ ألن
مر الزمان ينقص العمر ،فإن هذا االستدالل مع صحته وظهوره يدعو اخلصم حلبه اجلدل إىل
اإلنكار به .أو ابلذي ينتج منه :وهو االعتماد على اإلميان والعمل الصاحل .فإنه سيقول :كال ،إن
اإلنسان لفي ربح عظيم ،فإنه يشرتي اللذائذ ويقتين املىن ،هبذا العمر الذي ال بد أن يفىن .أو
سيقول :كال ،فإنه إذ ال بد من البلى ،فالتمتع ابلشهوات أوىل ،كما قال امللك الضليل بن حجر
القتيل:
متتع من الدنيا فإنك فان من النشوات والنساء احلسان
وال شك أن تلك حجة داحضة .ولكن إذا فتح ابب اجلدال ،كثر القيل والقال .وكلما زدت
إيضاحاً ،ازداد اخلصم مجاحاً .فيحسن أحياانً أن تذهله عن وجه النزاع ،فإن لإلنسان به ضراوة
كضراوة السباع.
وكانت العرب أشد األمم جدالً ،وأحدهم مقوالً ،كما قال تعاىل (:ما ضربوه لك إال جدالً بل هم
قوم خصمون) .وكذلك مساهم (:قوماً لدا).
واعلم أن هذا الوجه والذي قبله ،مبنيان على لطافة األدلة يف األقسام ،فإنه كما تصرفهم عن
اإلنكار والنزاع ،فكذلك تنشطهم للفكر واالستنباط.
والسادس :ما يعطي أوائل السور من نضرة هبجتها ،ورونق ديباجتها .فتلمع األقسام يف قسمات
السور على األكثر كالغرة البارقة ،وأما الذي جاء يف أثناء السورة فإمنا هو قليل .ومثاله كمجيء
املطلع يف أثناء القصيدة.
وليس يف كل قسم تزيني .ولكنه ملا كان مما يستفتح به الكالم ،جعله سبباً لتزيني الفواتح أبن
اصطفى له كلما إن صور على عنوان الكتاب ،أو متثل للعقل يف مطلع اخلطاب ،مأل العني والفؤاد
حبسنه وجاللته .بل جيل أكثرها عن التصوير لكمال عظمتها وضيق نطاق اخليال عن سعتها.
()40/1
وال شيء من أساليب الكالم أصلح للتصوير من القسم .فإن الذي أقسمت به دعوته كالشاهد ،
فأوقفته بني يدي املخاطب متمثالً.
فلما أراد هللا أن يوشي عنوان السور أبلوان الصور بدأها أبقسام خاصة :فرتى أحياانً صورة أمر واحد
كالقلم الكاتب والنجم الثاقب واخليل العادايت والرايح الذارايت واملالئكة الصافات.
وتنظر أخرى إىل صور عديدة يضمها أمر جامع بينها كالتني والزيتون وطور سينني والبلد األمني ،أو
كالطور والكتاب املسطور والبيت املعمور والسقف املرفوع والبحر املسجور ،أو كالشمس والقمر
والليل والنهار واألرض والسماء والنفس وغري ذلك ،مما يدل على أحوال أو أحداث يستدل هبا
على مسألة مهمة.
وال منزلة عند العقل هلذه التصاوير لوال أن فيها دالئل على أمور عظيمة .وهذا لرعاية جانب
املستمع لكيال يتنفر ،فيسد أذنيه .ومن كمال التبليغ وإمتام احلجة تليني القول وأتليف القلب .وقد
أمر هللا األنبياء هبذا ،كما قال تعاىل ملوسى وهارون حني أرسلهما إىل فرعون(:فقوال له قوال ليناً لعله
يتذكر أو خيشى).
والسابع :تقدمي الدليل على ذكر الدعوى .فيلقي أوالً على اخلصم أمراً يوجهه إىل مست ال بد أن
جيلبه إىل الدعوى .ولكن املنكر إذا علم من قبل ما تريد االستدالل عليه أخذ مستاً آخر ،وتنكب
عن الوجه الصحيح .فإذا مل تذكر الدعوى يوشك أن يتوجه إىل صراط مستقيم .فإذا سار على قصد
السبيل قدته إىل آخر النتيجة .ومثال ذلك كل ما ذكران يف الوجه الرابع واخلامس.
والثامن :كون القسم من جوامع الكلم .فإن املقسم به ال يذكر معه جهة االستدالل .فلو ضم به
جهة خاصة كان دليالً واحداً ،ولكن الشيء الواحد جيمع معاين كثرية ووجوهاً خمتلفة .وللمتوسم فيه
دالئل شىت.
()41/1
وهذا األمر مشرتك يف ما ذكر من األمور الدالة على أسلوب اآلية ،فجعل شيئاً واحداً موضعاً ال
ستنباط دالئل كثرية .كما قال تعاىل (:أمل تر أن الفلك جتري يف البحر بنعمت هللا لرييكم من آايته إن
يف ذلك آلايت لكل صبار شكور) وكما قال تعاىل (:ويف األرض آايت للموقنني* ويف أنفسكم أفال
تبصرون) .فمن َيصي ما يف األرض والنفس من اآلايت الدالة على القدرة والعظمة والرمحة واحلكمة
(حجج القرآن).
مث على التوحيد والرسالة واملعاد ،كما فصلناه يف كتاب ُ
فإذا أشهد هللا تعاىل بعض خلقه ،مث ذكر معه من املطالب الدينية اليت يستدل عليها ،ترك املتأمل
أن يستنبط الدالئل من وجوه كثرية.
وبعد االتفاق يف املستدل عليه وبعد رعاية نظام الكالم ،ال أبس ابختالف الدالئل وطرقها ،فإهنا
تتنوع وتتكثر حسب مدارج األفهام والعقول .وجعل هللا القرآن جم الفوائد ال تنقضي عجائبه ،كما
ال تنقضي عجائب خلقه وحكمة صنعه .قال عز من قائل( :ولو أمنا يف األرض من شجرة أقالم
والبحر ميده من بعده سبعة أحبر ما نفدت كلمات هللا إن هللا عزيز حكيم) .ولنكتف هبذا القدر من
أبواب البالغة اليت جتد يف أقسام القرآن ،وما أردت االستقصاء ،ومن يطيقه؟
وقد تبني مما مر معنا معىن القسم ،ووجوهه ،وبذلك احنسمت الشبهتان األخرياتن املهمتان .وأما
الشبهة األوىل فاضمحلت أيضاً ملا ذكران من حاجة الناس إىل القسم وضرورته يف عزائم األمور
وموقعه يف التعايش والتعاشر بني األمم وامللوك والرعااي ،كما مر يف الفصل السادس والعاشر.
وقد تبني ورد القسم كثرياً يف الكتب املقدسة وكالم الرؤساء والبلغاء ،فلم يبق اآلن إال تبيني علة
النهي عنه.
()18
الفرق بني ما َيسن وما ال َيسن من القسم
ملا كان يف القسم إما إشهاد بنفس املتكلم ،أو إشهاد ابهلل تعاىل ،ويف ذلك خماطرة املرء بعزه وبدينه
،مل َيسن التالعب به .فيتجه النهي إليه من ثالث جهات.
إما من جهة املقسم عليه.
أو من جهة املقسم به.
()42/1
أو من كليهما.
فأما من جهة املقسم عليه ،فمن حلف على أمور سخيفة أظهر عدم مباالته بشرف نفسه .ولذلك
جاء يف القرآن صيغة املبالغة يف شناعة احللف حيث قال تعاىل (:وال تطع كل حالف مهني) .فدل
على أن من حلف على كل أمر جل أو دق ،فقد أهان نفسه ،سواء حلف ابهلل أو بغريه .كالذي
يغضب من غري سبب ،أو يضحك من غري عجب .فهذا من جهة املقسم عليه.
وأما من جهة املقسم به ،فإذا أقسم عب ٌد قسماً دينياً بغري هللا تعاىل ،فكأنه اختذه إهلاً .فاملنع عن
القسم بغريه تعاىل على العموم سد ألبواب الشرك ،كاملنع عن السجدة لغريه تعاىل ،أو كاملنع عن
حنت األصنام ،كما جاء يف األحكام العشرة ،ولذلك جاء يف سفر التثنية ص 6عدد (: 13الرب
إهلك تتقي ،وإايه تعبد ،وابمسه حتلف) .وهكذا هنى النيب -صلى هللا عليه وسلم -عن القسم بغري
هللا تعاىل.
وأما من جهة كليهما معاً ،فذلك أن يقسم ابهلل تعاىل على أمور سخيفة .وهذا مجع بني قلة املروءة ،
وقلة التقوى معاً .وإىل هذا يشري قوله تعاىل(:وال جتلعوا هللا عرضة ألميانكم).
فهذه هي الوجوه احملظورة يف اليمني ،فأما دون ذلك فال ينهى عنه ،السيما إذا دعت إليه دواعي
املعاشرة ،كما ذكران يف الفصل السادس عشر.
وشريعتنا قد أنزلت للناس كافة فرتاعي حاجات التمدن ،ومتيز بني دقائق األحكام ،وتنظر إىل
ضعف فطرة اإلنسان .كما قال تعاىل (:يريد هللا أن خيفف عنكم وخلق اإلنسان ضعيفا) فال ينبغي
فيها النهي املطلق عن أمر هو املفزع عند جد األمر وعزائم األمور التمدنية والدينية ،كما ال ينبغي
فيها املؤاخذة على ميني مل يتعلق هبا نية املتكلم ،بل نطق هبا على ما جرت به العادة يف التحاور.
فقال تعاىل (:ال يؤاخذكم هللا ابللغو يف إميانكم ولكن يؤاخذكم مبا كسبت قلوبكم وهللا غفور حليم).
()43/1
وذلك أبن األعمال ابلنيات .فيمني اللغو وإن كانت خالف املروءة ،ال يؤاخذ عليها ،ألن الرب
غفور لعباده ،يرمحهم لضعفهم ،فال يؤاخذ عامتهم على كل صغرية.
وهذا الذي ذكران يتعلق ابألميان العامة ،فأما أقسام القرآن ،فلكون جلها استدالالً ال خماطرة فيها
لشرف وال دين ،فال متسها معرة.
مث إهنا على التوحيد واملعاد والرسالة .وذلك أعظم األمور جاللة فهو أجدر ما يقسم عليه .هل نفس
أحد أشرف من أن خياطر هبا هلذه الشهادة؟ أم خياف أحد على دينه خلوف الكذب فيها .إذا ال دين
له.
أم هو يستحي من إشهاد هللا تعاىل على هذه األمور ؟ مث قد شهد به هللا واملالئكة والعاملون.
فالقسم عليه حممول على حقيقة معىن الشهادة اليت تبلغها األنبياء صراحة .فإن النيب يف عموم تبليغه
يقول إن هللا تعاىل أرسله بعلمه ،ويشهد على صدقه ،وهو يلوذ به ،ويعتمد عليه ،ويتخذه وكيالً
على ما يقول .وهذه املعاين هي اليت تفهم من القسم ابهلل كما مر يف الفصل العاشر .فأي حرج إن
ذكرها أبسلوب القسم؟
وال خيفى أن القسم إذا كان من هللا خبلقه وكلماته فال مظنة فيه للشرك ،وال معىن له إال الشهادة
اخلالية عن معىن التعظيم.
ومجلة الكالم أن االعرتاض على أقسام القرآن أو على أقسام األنبياء والصلحاء الذين أظهروا
أبقسامهم توكلهم على هللا وفرارهم إليه واستعانتهم به ،وكذلك النهي املطلق عن اليمني مل ينشأ إال
من قلة التدبر والتمييز بني األمور.
هذا ،وأما ما روي عن املسيح من هنيه عن احللف مطلقاً ،فلعلة خاصة .ونبينها فيما يتلو.
()13
إيضاح ما جتد يف اإلَنيل
من النهي املطلق عن احللف
()44/1
قد علمنا ،وقد اعرتف علماء املسيحيني أبن أصل اإلَنيل مفقود ،وإمنا يف أيدينا تراجم اختلط فيها
أقوال املسيح وأقوال الرواة ،والرواايت خمتلفة رمبا يضاد بعضها بعضاً مع اضطراب املتون وعدم
السند فضالً عن االتصال والصحة .فااللتفات إليها والتعرض هلا ليس إال على تقدير التسليم وعلى
سبيل التنزل.
فاعلم أن النهي عن احللف جاء يف اخلطبة املعروفة ابخلطبة اجلبلية املذكورة يف االَنيل املنسوب إىل
(م َّىت) ببعض البسط .وال توجد يف (مرقس) وال يف (يوحنَّا) ما خال بعض الفقرات منها .وجاءت يف
َ
(لوقا) خمتصرة ،والختصاره اخرتته مأخذاً ال قتباسي.
فإن نظرت يف هذه اخلطبة وأتملت آايهتا ومواقعها تبني لك أنه عليه السالم مل خياطب هبا اجلمهور ،
ومل جيعلها شريعة عوض التوراة ،بل خص هبا تالميذه وأتباعه ملصلحة عظيمة كما ستعلمها.
أما الدليل على التخصيص فمن وجوه :
(م َّىت) مسبوقة متصلة بقوله (:فلما جلس
األول :تصرَيه عليه السالم بذلك .فإن هذه اخلطبة يف َ
تقدم إليه تالميذه ففتح فاه وعلمهم قائالً).
وكذلك رواية لوقا تذكر أنه أحىي الليل ابلصالة .مث إنه دعا تالميذه ،واختار منهم اثين عشر ،وبعد
ذلك تقول :ورفع عينيه إىل تالميذه وقال ،مث بدأ اخلطبة بقوله :
(طوىب لكم أيها املساكني ألن لكم ملكوت هللا ،طوىب لكم أيها اجلياع اآلن ألنكم تشبعون ...طوىب
لكم إذا أبغضكم الناس وإذا أفرزوكم وعريوكم وأخرجوا امسكم كشرير ...ولكن ويل لكم أيها
األغنياء ؛ ألنكم قد نلتم عزاءكم ،ويل لكم أيها الشباعى ألنكم ستجوعون ،ويل لكم أيها
الضاحكون اآلن ألنكم ستحزنون وتبكون).
()45/1
والثاين ... :أن يف هذه اخلطبة أحكاماً ال تليق إال ابملساكني والفقراء .فإنه عليه السالم كما هنى
فيها عن احللف ،هنى عن الكثري واالهتمام للغد ومحاية النفس عن الظلم ،وابلغ يف ذلك حىت
قال(:من ضربك على خدك فاعرض له اآلخر أيضاً .ومن أخذ رداءك فال متنعه ثوبك أيضاً .وكل من
سألك فأعطه ومن أخذ الذي لك فال تطالبه).
والثالث :أن يف هذه الوصااي حسب ظاهرها نسخاً للتوراة .واملسيح يتحاشى عنه .فقال على سبيل
دفع دخل مقدر قبل ذكر الوصااي(:ال تظنوا أين جئت ألنقض الناموس(التوراة) أو األنبياء ،ما جئت
ألنقض بل ألكمل) .مىت .
مث دفع دخالً مقدراً آخر ،وهو أنه ال كمال يف ترك الدنيا أبسرها ،فبني هلم أن هذا كمال إضايف :
وهو التطهر عن الذنوب ابلفرار عن االمتحان .وكان ذلك سنته تعليماً للذين عجزوا عن كمال
أكمل ،فقال (ليس التلميذ أفضل من معلمه بل كل من صار كامالً يكون مثل معلمه) لوقا.
واملبتدعون مل يرضوا أبن تكون سنته كماالً إضافياً .فزادوا يف رواية مىت (:فكونوا أنتم كاملني كما أن
أابكم الذي يف السموات كامل) .ويف رواية لوقا عوض هذه اجلملة(:فكونوا رمحاء كما أن أابكم أيضاً
رحيم).
()46/1
هيهات هيهات! هل يساوي العبد ربه ؟ ولكن احلق غالب ،ويبقى على رغم معانديه ،ويطمس على
عيوهنم ،فانظر إىل تصرَيه مبا ينفي شائبة الشرك ،ويبني أن كماله ٌ
كمال إضايف مما خيتص ابلفقراء ،
كما جاء يف مىت :ص 19عدد ( 16وإذا واحد تقدم وقال له :ملاذا تدعوين صاحلاً ؟ ليس أحد
صاحلاً إال واحد وهو هللا .ولكن إن أردت أن تدخل احلياة فاحفظ الوصااي 18فقال له :أية
الوصااي ؟ فقال يسوع :ال تقتل .ال تزن .التسرق .ال تشهد ابلزور 19 .أكرم أابك وأمك ،وأحب
قريبك كنفسك 20قال له الشاب :هذه كلها حفظتها منذ حداثيت فماذا يعوزين بعد؟ 21قال له
يسوع :إن أردت أن تكون كامالً فاذهب وبع أمالكك وأعط الفقراء فيكون لك كنز يف السماء
وتعال اتبعين 22فلما مسع الشاب الكلمة مضى حزيناً ألنه كان ذا أموال كثرية 23فقال يسوع
لتالميذه :احلق أقول لكم إنه يعسر أن يدخل غين إىل ملكوت السماوات 24وأقول لكم أيضاً إن
مرور مجل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غين إىل ملكوت هللا).
فبني للسائل أن كماله يف اتباعه والتجرد عن أسباب التمدن ،والظاهر أن هذا ليس بكمال الكاملني
.أال ترى أن إبراهيم وداود وسليمان ويوسف عليهم السالم كانوا ذوي الثروة والكمال يف الدين
معاً؟ هل يقال إهنم مل يدخلوا ملكوت هللا؟ فبما قلنا تزول شبهة نقض الناموس ،وترفع املخالفة بني
التوراة واإلَنيل.
والرابع :أن هذه الوصااي إن أريد هبا العموم واإلطالق تكون خمالفة لسنة أئمة اهلدى كإبراهيم وداود
وغريمها .فإهنم قاتلوا ،وانتصروا ،ومجعوا الوفر ،وأنفقوه يف املواقع احملمودة ،ومل يكونوا عياالً على
الناس.
ولدفع هذا االعرتاض زادوا يف رواية مىت ما َيرف الكالم عن معناه .فقال (:طوىب للمساكني ابلروح)
،وكذلك طوىب للجياع وللعطاش إىل الرب ألهنم يشبعون).
()47/1
وهذا ال يبدل ابقي الكالم الذي فيه اخلطاب إىل الفقراء واملساكني من جهة الروح .وإمنا حرفوه ألهنم
مل يفهموا أتويله .وسيأتيك عن قريب.
فتبني من غري شك أن هذه األحكام خمتصة أبمة قد خلت ،وقضت وطرها ،وليست بشريعة كاملة
يرتقى هبا اإلنسان إىل ذروة الكمال يف التمدن وهتذيب النفس ،وهي شريعة اإلسالم ملا فيه من
إسالم النفس واملال هلل تعاىل أوالً ،مث القيام هبما يف طاعة الرب ،كما قال تعاىل (:إن هللا اشرتى
من املؤمنني أنفسهم وأمواهلم) اآلية ،وذلك مبسوط يف موضعه.
فبعد هذا التخصيص ال دليل على هنيه عن اليمني مطلقاً ،وقد علمنا عقالً ونقالً جوازها واحلاجة
إليها .وحنن معشر املسلمني نوقر األنبياء أمجعني ،فال نؤول كالمهم إىل ما خيالف العقل أو َيط
األخالق.
وهذا يتبني كل التبني مما سنذكر يف الفصل اآليت من املصلحة العظيمة اليت ألجلها خصهم هبذه
الوصااي .وإمنا نذكرها بغاية اإلجياز ،ألهنا من مسائل بسطها خيرجنا عن موضوع هذا الكتاب ،وهي
مبسوطة يف موضعها.
()20
احلكمة يف ختصيص هذه الوصااي أبتباعه
املسيحيون ال حاجة هلم إىل تطبيق النقل ابلعقل ،فإهنم زعموا أن الدين وراء العقل .ولكن فيهم
رجاالً متفلسفني سعوا يف محاية الدين عن شني كل ما يشمئز عنه العقل .وهم مع ذلك ،بل لذلك
عند أئمتهم وعامتهم من املالحدة .ومنهم اسبنوزا املتفلسف املاهر ابلعربانية.
فقبل أن نبني لك ما هو التأويل عندي ،نورد رأي هذا املتفلسف يف أمر هذه الوصااي ،لتعلم أنه
يوافقنا يف جعلها خمصوصة ألمة وحالة ،ولتعلم الفرق بني أهل العقول من طائفيت املسيحيني
واملسلمني ،وتعلم أن أتويلنا مع ظهور حجته أكرب تعظيماً للشريعة وصاحبها.
()48/1
زعم اسبنوزا أن املسيح عليه السالم إمنا أمر أتباعه أبحكام فيها التذلل واخلضوع للظاملني ،ألهنم
حينئذ مقهورين حتت سلطة اجلبارين .فأمرهم أبن ال تقاوموا الشر ،وتعرضوا اخلدود للطمة ،ٍ كانوا
وأمثاهلا ،ال لشرافة أو حسن أو تدين فيها ،بل لكوهنا أصلح حباهلم.
فهذا الرجل مع علمه وخوضه يف كتب األنبياء وأحواهلم – أقر بكون هذه الوصااي خمصوصة ،ولكنه
مل يهتد إىل علة هذا التخصيص ،فلئن راعى جانب العقل ،فقد أضاع جانب الشريعة اإلهلية
واملسيح وحوارييه.
وأما حنن فنقول :إن من قرأ نسخ اإلَنيل هذه ابلتأمل ال خيفى عليه أن املسيح عليه السالم إمنا جاء
مبشراً بقرب ملكوت هللا الظاهر الذي كان عبارة عن سلطة دينية .وقد كان أعطاه هللا اليهود ،
وضيعوه ،مث دارت عليهم الدوائر .وكانوا ينتظرونه مرة أخرى لوعد هللا هلم ،فبشرهم املسيح بقربه ،
وعرفه هلم أبمثال كثرية تطابق مطابقة واضحة نبوة خامت النبيني.
وملا مل يؤمن به مجهور قومه ،وآيسه علماؤهم لقساوة قلوهبم وتعبدهم لزخارف الدنيا ،اصطفى من
عامتهم البسطاء شرذمة قليلة مل يغلبهم الرتف واحلرص ،لكيال يعسر عليهم الدخول يف ملكوت هللا
إذا ظهر ،وحينئذ يكملون ابلشريعة الكاملة .فأمرهم بوصااي تبقيهم على حالة الفقر واملسكنة ،
ليبقوا على طهارة القلب والتقوى والصرب ،ليتوب هللا عليهم حسب سنته ووعده ،كما هو مبسوط
يف موضعه.
ومل يكن ذنبهم إال أهنم أعطوا أمواهلم يف سبيل هللا ،وألزموا على أنفسهم الفقر ،ومل يرتكوا التوراة ،
وحرموا اخلنزير ،وأوجبوا اخلتان ،ومل يقولوا أبلوهية املسيح ،ومل يقبلوا إال اإلَنيل العرباين الذي
ضيعه اآلخرون ،وشنعوا على بولوس الذي بدل النصرانية ،وخالف احلواريني ،وادعى أبنه تعلم من
املسيح يف الرؤاي .فال حاجة له إىل اتباع تالميذه.
()49/1
فلما جاء امللكوت املبشر على يد خامت النبيني دخله كثريون من هؤالء الفقراء ،وخالفه األغنياء
املتكربون .وعلى ما قلنا شهادات يف التوراة واإلَنيل والقرآن واتريخ املسيحيني .ولكن بسط ذلك
يف كتابنا (ملكوت هللا) وغريه .فإمنا الكالم ها هنا جر بنا اضطراراً ،فلم ميكنا الصفح عنه ابلكلية ،
وال البسط له ابلتمام ،فإنه موكول إىل موضعه اجلدير به.
ومجلة القول أن هني املسيح عن اليمني مطلقاً كان خمصوصاً ابلذين كانوا على سنته .وال ننكر ذلك ،
فإن امرأ تسلل عن التمدن ابلكلية ،ومجع جراميزه مللكوت عظيم ينتظره ،يشتم ويلطم ويظلم فال
ينتقم .فهو ال يعامل وال جيادل ،فال يقاول ،فأي أمر يدعوه إىل احللف؟ إمنا يكون قوله ال ال ونعم
ونعم.
مث نقول :إن هنيه عن القسم كان أيضاً خمصوصاً من جهة املقسم عليه ،كما يظهر من موقع كالمه.
فإين ال أرى أنه عليه السالم هنى عن القسم على احلقائق الدينية ،ألنه عليه السالم نفسه حسب
رواية يوحنا أشهد هللا تعاىل على صدق رسالته .وهل القسم إال اإلشهاد؟
وكذلك ترى يف القرآن أقسام صاحلي النصارى املرسلني لتبيلغ احلق حيث جاء يف سورة يس (:قالوا
ربنا يعلم إان إليكم ملرسلون * وما علينا إال البالغ املبني).
فقوهلم (:ربنا يعلم) قسم كما مر ،وهو ظاهر.
هذا ويف ما مر من الفصول السابقة كفاية إن شاء هللا تعاىل ملن أراد جواب الشبهات .فإن فيما ذكران
توفيقاً بني النقل والعقل تصديقاً ابلتوراة واإلَنيل والقرآن.
ومهما كان من اختالف ،فإمنا هو من جهة اإلمتام والتفصيل ،وإقامة الوسط بني اإلفراط والتفريط ،
ورعاية التمييز بني دقائق األحكام عند تشابك النفع والضر.
()50/1
وقد رأيت كيف راعى القرآن هذا التمييز يف حكم القسم ،وليس هذا موضع تفصيله يف سائر
أحكام هذه الشريعة الكاملة ،ولكن نذكر اآلن ما َيسن وما ال َيسن منه إمتاماً ملا ذكران من معاين
القسم ،وتنبيهاً على طرف آخر من بالغة القرآن ،وحثاً على بذل اجلهد يف معرفة اللغة العربية فإن
بعض اجلهل هبا يضر بدين املرء.
()21
الفرق يف كلمات القسم
حسب مواقعها مما َيسن ومما ال َيسن
قد تبني عند علماء اللسان أن يف األلفاظ املرتادفة فروقاً ولكل منها معىن خاصاً وحداً حمدوداً ،وقد
وجد علماء العربية يف القرآن من هذه الفروق ما ال ينتبه له إال الناقد املتتبع ،كاستعماله الرايح يف
موضع النفع والريح يف موقع الضرر ،وكاستعماله اإلمطار يف موقع العذاب ،فمن هذا الباب مراعاة
الفرق بني كلمات القسم حبيث يشري بذلك إىل بعض خصائصها.
وقد ذكران يف الفصل الثامن عشر أن القسم رمبا يهني قدر املرء ويذهب بشرفه .فانظر كيف ينبه
القرآن على هذا األمر ابستعماله كلمة احللف فيمن يصغر نفسه بيمينه ،ويلح حيث ال يلح شريف.
فرتى يف سورة الرباءة ذكر القسم من املنافقني يف سبعة مواضع ،فلم أيت به إال بكلمة احللف
لدانءهتم وكذهبم يف اعتذارهم.
وما جاءت هذه الكلمة يف سائر القرآن إال حيث يشنع ملا فيها من قلة املباالة بشرف النفس والنزوع
إىل ما يلقيها يف الكذب واإلحلاح.
ولذلك ملا أراد النابغة الغلو يف تضرعه عند النعمان بن املنذر قال:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء هللا للمرء مذهب
فأفصح عن غاية االستكانة ،وهذا أبلغ بينة يف إظهار اخلشية والتذلل ،وهو أبلغ الشعراء عند
الرهبة .ولذلك قيل (:أشعرهم امرؤ القيس إذا ركب ،واألعشى إذا طرب ،وعنرتة إذا غضب ،
والنابغة إذا رهب).
فإن صحت هذه اخلصوصية عندك عرفت قدرها يف الدين ،فإنك إذاً تتجنب استعمال كلمة احللف
هلل تعاىل .كما ترى املفسرين منا واملرتمجني للتوراة ال يبالون بقوهلم (حلف هللا بكذا).
()51/1
وخلصائص ابقي كلمات القسم حنولك إىل الفصل السابع لكي تستنبطها مما ذكران من معانيها .فإن
موضوع الكالم هاهنا أن القسم ملا كان أحياانً مذموماً ،ذمه القرآن حسب موضعه ،ودل عليه
بكلمة خاصة ،وهذا من متام التشريع وكمال التبيني كما قال تعاىل (:ونزلنا عليك الكتاب تبياانً لكل
شيء وهدى ورمحة وبشرى للمسلمني).
()22
خامتة الكتاب
كل ما ذكرت يف الفصول السابقة ليس إال ما يتعلق مبسألة القسم من جهة كلية ،وأما أتويل آايت
القسم على تفاصيلها فمذكور يف مواضعها من التفسري غري أين يف طي الفصول وغضون األمثلة
دللت على مالك أمرها ومست هنجها.
مث مل يهمين يف هذا الكتاب إال طرف خاص من حبث القسم .وهو الذي اشتبه على املعرتض .ومع
ذلك رمبا قادتين عالئق الكالم إىل أمور تقتضي بسطاً وتفصيالً ،فجلت جولة إىل فسحة من القول
،حىت إذا سطع احلق ،واَنابت الشبهة ،أقصرت عن استقصاء البحث لكيال أخرج عن املوضوع.
فصار الكتاب جامعاً بني خطتني :اإلجياز واإلطناب ،وواقعاً بني نقطتني :اإلمجال والتفصيل.
ويوشك الناظر املستعجل يتهمين مرة ابحلصر ،وأخرى ابهلذر ،فليعلم أنه قد اضطرين إىل هذا
الوضع شكل املسألة وصورهتا اخلاصة .ومع ذلك ما أبرئ نفسي عن الزلة والعثرة ،ويف ذلك متام
املعذرة .وأسأل هللا العفو واملغفرة ،فإنه أرحم الرامحني.
وآخر دعواان أن احلمد هلل رب العاملني.
***
* انتهى الكتاب حبمد هللا ،وعذراً على السهو واخلطأ .والرجوع إىل الكتاب املطبوع أوىل وإمنا
الطباعة ملن مل يتيسر له احلصول عليه للمشاركة .عبدالرمحن الشهري – ملتقى أهل التفسري
()52/1