You are on page 1of 48

‫‪http://www.shamela.

ws‬‬
‫مت إعداد هذا امللف آليا بواسطة املكتبة الشاملة‬

‫الكتاب ‪ :‬إمعان يف أقسام القرآن‬


‫أتليف‪ :‬العالمة عبداحلميد الفراهي رمحه هللا‬
‫صاحب تفسري (نظام القرآن وأتويل الفرقان ابلفرقان)‬
‫مكتبة ملتقى أهل التفسري‬
‫‪www.tafsir.org/books‬‬
‫مالحظة‪[ :‬هذا الكتاب من كتب املستودع مبوقع املكتبة الشاملة]‬

‫إمعان‬
‫يف أقسام القرآن‬
‫أتليف‬
‫العالمة عبداحلميد الفراهي رمحه هللا‬
‫صاحب تفسري‬
‫(نظام القرآن وأتويل الفرقان ابلفرقان)‬
‫مكتبة ملتقى أهل التفسري‬
‫‪www.tafsir.org/books‬‬
‫(‪)1‬‬
‫فده‪ .‬تسبح الشمس لكربايئه وجمده ‪ ،‬ويسجد‬ ‫ي ِر ِ‬‫يده ‪ ،‬وغَ ِذ ُّ‬
‫سبحان الذي أنطق كل شيء أبنه صنع ِ‬
‫ُ َ‬
‫وم ِده ‪ ،‬كما َ‬
‫قال تعاىل يف‬ ‫ِ ِ‬ ‫الرب بغَورهِ َْ‬
‫وخ ِده ‪ ،‬يتنهد له َُّ‬
‫البحر جبَزره َ‬
‫وَيف ُد إليه ُ‬
‫وَنده ‪َ ،‬‬ ‫له القمر جببينه َ‬
‫شيء إال يسبح ِ‬
‫حبمده)‪.‬‬ ‫يهن وإن من ٍ‬‫ومن فِ َّ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َرض َ‬
‫السبع واأل ُ‬
‫ُ‬ ‫السموات‬
‫ُ‬ ‫سبح لهُ‬
‫كتابه ‪(:‬تٌ ُ‬
‫ونصلي ونسلم على حممد رسوله املختار وعبده ‪ ،‬وعلى آله وصحبه املعتصمني حببله وعهده ‪،‬‬
‫والتابعني هلم على سواء السبيل وقصده‪.‬‬
‫أما بعد ‪ :‬فهذا كتاب يف بيان أقسام القرآن ‪ ،‬وموجز من املقدمة اليت جعلتها لذكر األمور الكلية اليت‬
‫أحتاج إىل إيرادها يف كتاب (نظام القرآن وأتويل الفرقان ابلفرقان) لتغين عن التكرار الذي ال طائل‬
‫س ُم يف كتاب هللا تعاىل كثرياً ‪ ،‬واشتبه على الناس معناه وحكمته ‪.‬‬
‫حتته‪ .‬وقد جاء ال َق َ‬
‫والبحث عنه يف كل موضع ال يليق بكتابنا الذي بين على اإلجياز‪ .‬فأردت أن أتكلم عليه من جهة‬
‫كلية يف جزء خمتصر‪.‬‬
‫ومل أطلع على كتاب من القدماء يف هذا الباب غري كتاب التبيان للعالمة ابن القيم ‪ ،‬أو ما ذكر يف‬
‫التفسري الكبري للعالمة الرازي ومن أمته رمحهم هللا‪.‬‬
‫وسنورد منهما يف خالل فصول كتابنا هذا ما يقتضيه سياق الكالم وهللا اهلادي إىل سبيل السالم‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫ذكر الشبهات الثالث‬
‫على أقسام القرآن‬
‫ملا كان املقصد األعظم من هذا البحث إزالة الشبهات ‪ ،‬أردت أن أذكرها أوالً ‪ ،‬ليكون الناظر من‬
‫قبل على بصرية مبساق الكالم ‪ ،‬فيتضح له شكل نظامه ‪ ،‬وغرض سهامه‪ .‬فاعلم أن الشبهة على‬
‫أقسام القرآن من وجوه ‪:‬‬

‫(‪)1/1‬‬

‫موضع َم ْن ال‬
‫َ‬ ‫القسم نفسه ال يليق جباللة هللا ربنا ؛ فإن الذي َيلف على قوله يهني نفسه ‪ ،‬ويضعها‬
‫معو َل على حديثه ‪ ،‬وقد جاء يف القرآن‪(:‬وال تطع كل حالف مهني) القلم ‪ ، 10‬فجعل احللف من‬
‫َّ‬
‫اخلالل املذمومة ‪ ،‬وهنى املسيح احلواريني عن احللف مطلقاً ‪ ،‬فقال هلم ‪(:‬ليكن قولكم نعم نعم أو ال‬
‫ال وال حتلفوا)‪.‬‬
‫القسم يف القرآن جاء على أمور مهمة ‪ ،‬كاملعاد والتوحيد والرسالة‪ .‬وال فائدة فيها للقسم ‪ ،‬ال‬
‫للمنكر هبا ؛ فإنه يطلب الدليل والربهان ‪ ،‬والقسم ليس فيه شيء منه ‪ ،‬وال للمؤمن فإنه قد آمن هبا‪.‬‬
‫وجل‪ .‬وقد قال النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪(: -‬من كان حالفاً فليحلف‬
‫القسم يكون ابلذي عظم َّ‬
‫ابهلل أو ليصمت)‪ .‬فنهى عن القسم بغري هللا‪ .‬فكيف يليق جباللة ربنا أن يقسم ابملخلوق وال سيما‬
‫أبشياء مثل التني والزيتون؟‬
‫فهذه ثالث شبهات ‪ ،‬ونذكر أوالً ما أجاب به الرازي وغريه من املتقدمني ‪ ،‬وندلك على ما فيه من‬
‫الضعف ‪ ،‬لنحذرك عن التمسك ابلعرى الواهنة ‪ ،‬فإنه أكرب ضرراً يف الدين ‪ ،‬وأبسط أللسنة‬
‫املعاندين‪ .‬ومع ذلك ندعو أن جيازيهم هللا مبا اجتهدوا يف الذب عن بيضة احلق وذماره ‪ ،‬كما أدعو‬
‫أن جيعلين من حزب احلق وأنصاره‪.‬‬
‫(‪)3‬‬
‫طريق اإلمام الرازي‬
‫يف اجلواب عن هذه الشبهات‬
‫قد ذكر اإلمام الرازي الشبهة الثانية ‪ ،‬وأجاب عنها يف تفسري سورة (والصافات) ‪ .‬فقال‪(:‬واجلواب‬
‫من وجوه ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أنه تعاىل قرر التوحيد ‪ ،‬وصحة البعث والقيامة يف سائر السور ابلدالئل اليقينية ‪ ،‬فلما تقدم‬
‫ذكر تلك الدالئل مل يبعد تقريرها ‪ ،‬فذكر القسم أتكيداً ‪ ،‬ال سيما والقرآن أنزل بلغة العرب ‪ ،‬وإثبات‬
‫املطالب ابحللف واليمني طريقة مألوفة عند العرب)‪.‬‬

‫(‪)2/1‬‬

‫وفيما ذكر من نزول القرآن بلغة العرب ‪ ،‬وكون اليمني طريقة مألوفة عندهم أيضاً جواب للشبهة‬
‫عو ُل عليها‪ .‬وأما إيراد القسم‬
‫األوىل‪ .‬وحاصل هذا الوجه أن القسم إمنا هو مسبوق ابلدالئل ‪ ،‬فامل َّ‬
‫فهو للتأكيد احملض كما هو عادة العرب‪ .‬والظاهر أن هذا اجلواب يناقضه القرآن فإنك يف أوائل‬
‫الوحي ترى القسم أكثر مما تراه بعد استيفاء الدالئل‪.‬‬
‫(الوجه الثاين يف اجلواب أنه تعاىل ملا أقسم هبذه األشياء على صحة قوله تعاىل ‪(:‬إن إهلكم لواحد)‬
‫ذكر عقيبه ما هو كالدليل اليقيين يف كون اإلله واحداً ‪ ،‬وهو قوله تعاىل‪(:‬رب السموات واألرض وما‬
‫بينهما ورب املشارق)‪ .‬وذلك ألنه تعاىل بني يف قوله ‪(:‬لو كان فيهما آهلة إال هللا لفسدات) أن انتظام‬
‫السموات واألرض يدل على أن اإلله واحد‪ .‬فهاهنا ملا قال‪(:‬إن إهلكم لواحد) أردفه بقوله‪(:‬رب‬
‫السموات واألرض وما بينهما ورب املشارق)‪ .‬كأنه قيل‪ :‬قد بينا أن النظر يف انتظام هذا العامل يدل‬
‫على كون اإلله واحداً ‪ ،‬فتأملوا يف ذلك الدليل ليحصل لكم العلم ابلتوحيد)‪.‬‬
‫وحاصل هذا اجلواب أن القسم هاهنا مردف بقول فيه احلجة ‪ ،‬فاالحتجاج هبا‪ .‬وأما القسم فلمحض‬
‫التنبيه‪ .‬وهذا اجلواب يشبه اجلواب األول ‪ .‬وكالمها ساكت عن بيان حكمة هذه الصور املتنوعة‬
‫للقسم‪ .‬فأي فائدة للعدول عن القسم ابهلل إىل القسم هبذه األشياء‪.‬‬
‫(الوجه الثالث يف اجلواب أن املقصود من هذا الكالم الرد على عبدة األصنام يف قوهلم أبهنا آهلة‬
‫فكأنه قيل‪ :‬هذا املذهب قد بلغ يف السقوط والركاكة إىل حيث يكفي يف إبطاهلا مثل هذه احلجة وهللا‬
‫أعلم)‪.‬‬
‫هذا اجلواب سخيف جداً ‪ .‬كأنه بعد ما اعرتف يف الوجهني األولني أبن القسم ال حجة فيه ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫إن مذهب اخلصم كان جديراً أبن جياب عنه مبا ليس من احلجة يف شيء‪.‬‬

‫(‪)3/1‬‬

‫مث ذكر من حكمة القسم يف تفسري سورة الذارايت ما يشبه ابجلواب عن الشبهات ‪ ،‬فقال ‪( :‬قد‬
‫ذكران احلكمة يف القسم ‪ ،‬وهي من املسائل الشريفة ‪ ،‬واملطالب العظيمة ‪ ،‬يف سورة والصافات ‪،‬‬
‫ونعيدها ههنا‪ .‬وفيها وجوه ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أن الكفار كانوا يف بعض األوقات يعرتفون بكون النيب غالباً يف إقامة الدليل ‪ ،‬وكانوا ينسبونه‬
‫إىل اجملادلة وإىل أنه عارف يف نفسه بفساد ما يقوله ‪ ،‬وأنه يغلبنا بقوة اجلدل ال بصدق املقال ‪ ،‬كما‬
‫أن بعض الناس إذا أقام عليه اخلصم الدليل ‪ ،‬ومل يبق له حجة ‪ ،‬يقول‪ :‬إنه غلبين بطريق اجلدل‬
‫وعجزي عن ذلك ‪ ،‬وهو يف نفسه يعلم أن احلق بيدي ‪ ،‬فال يبقى للمتكلم املربهن طريق غري اليمني‬
‫‪ ،‬فيقول ‪ :‬إن األمر كما أقول ‪ ،‬وال أجادلك ابلباطل‪.‬‬
‫وذلك ألنه لو سلك طريقاً آخر من ذكر دليل آخر ‪ ،‬فإذا مت الدليل اآلخر ‪ ،‬يقول اخلصم فيه مثل‬
‫ما قال يف األول إن ذلك تقرير بقوة اجلدل ‪ ،‬فال يبقى إال السكوت أو التمسك ابألميان وترك إقامة‬
‫الربهان)‪.‬‬
‫ويف هذا اجلواب خلط بني الغث والسمني ‪ ،‬ونقض ملا قال يف تفسري سورة والصافات ‪ ،‬فإنه رمحه هللا‬
‫أجاب هناك يف الوجه الثاين أبن القسم يتبعه الدليل ‪ ،‬وإمنا كان القسم ألجل التأكيد ‪ ،‬واألمر‬
‫كذلك‪ .‬فإن القرآن ال يسكت على القسم ‪ ،‬فلو قال إن الدليل احملض رمبا ال ينجع يف اخلصم إذا‬
‫كان قليل املعرفة ابالستدالل ‪ ،‬وقليل االعتماد على نظره أو متهماً للمتكلم خبالبة بيانه ‪ ،‬فيحسن‬
‫يف هذه احلاالت شوب احلجة ابليمني – فلو قال هكذا لكان أقرب‪.‬‬
‫(الثاين‪ :‬هو أن العرب كانت حترتز عن األميان الكاذبة ‪ ،‬وتعتقد أهنا تدع الداير بالقع ‪ ،‬مث إن النيب ‪-‬‬
‫صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬أكثر من األميان بكل شريف ومل يزده ذلك إال رفعة وثبااتً ‪ ،‬وكان َيصل هلم‬
‫العلم أبنه ال َيلف هبا كاذابً ‪ ،‬وإال ألصابه شؤم األميان ‪ ،‬ولناله املكروه يف بعض األزمان)‪.‬‬

‫(‪)4/1‬‬
‫ويف هذا اجلواب كأنه أشار إىل سبب كون اليمني طريقة مألوفة عند العرب كما مر ‪ ،‬وقد أصاب يف‬
‫ذلك لو مل يزد عليه ما قال من أن النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬أكثر من األميان بكل شريف ‪،‬‬
‫كأنه بني سبب خوفهم ‪ ،‬وأراد أهنم إذا أقسموا بكل شريف خافوا سخطه إن كذبوا يف ميينهم به‪.‬‬
‫وضعف هذا القول ظاهر ‪ ،‬فإن أقسام القرآن‪:‬‬
‫رمبا يكون مبا ليس فيه شرف‪.‬‬
‫والقرآن يهدي إىل أن ال خناف إال هللا‪.‬‬
‫وأي شؤم خياف من التني والزيتون‪.‬‬
‫مث النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬كان يبلغ القرآن من هللا فالقسم منه تعاىل‪ .‬وهو ال خياف أحداً‪.‬‬
‫فلو اقتصر على اجلزء األول من جوابه ‪ ،‬وقال ‪ :‬إن العرب كانت حترتز عن األميان الكاذبة ‪ ،‬وختاف‬
‫مغبتها ‪ ،‬وتعتقد أن الرجل ال َيلف كذابً ‪ ،‬فإذا حلف أح ٌد أصغوا إليه ‪ ،‬كان أقرب إىل ما جياب به‬
‫عن الشبهة األوىل والثانية جواابً ضعيفاً‪.‬‬
‫(الثالث ‪ :‬أن األميان اليت حلف هللا تعاىل هبا كلها دالئل أخرجها يف صورة األميان‪ .‬مثاله قول القائل‬
‫ملنعمه‪ :‬وحق نعمك الكثرية ‪ ،‬إين ال أزال أشكرك‪ .‬فيذكر النعم ‪ ،‬وهي سبب مفيد لدوام الشكر ‪،‬‬
‫ويسلك مسلك القسم‪ .‬كذلك هذه األشياء كلها (أي اليت أقسم هبا يف أول الذارايت) دليل على‬
‫قدرة هللا تعاىل على اإلعادة‪ .‬فإن قيل فلم أخرجها خمرج األميان؟ نقول ‪ :‬ألن اإلنسان إذا شرع يف‬
‫أول مالمه حبلف يعلم السامع أنه يريد أن يتكلم بكالم عظيم فيصغي أليه أكثر من أن يصغي إليه‬
‫حيث يعلم أن الكالم ليس مبعترب ‪ ،‬فبدأ ابحللف ‪ ،‬وأدرج الدليل يف صورة اليمني)‪.‬‬
‫هذا اجلواب يكفي لدفع الشبهة الثانية‪ .‬ولكن يلزم على القائل به أن يبني وجه االستدالل ابملقسم به‬
‫على املقسم عليه‪.‬‬
‫وهذا – مع كونه ظاهراً يف بعض املواضع – كثرياً ما َيتاج إىل إمعان شديد‪ .‬ولعله هلذا السبب مل‬
‫يعتمد عليه إال يف سورة الذارايت ويف بعض آخر‪ .‬وأما يف البواقي فله طريقان‪:‬‬

‫(‪)5/1‬‬

‫األول ‪ :‬أنه ينكر وجود القسم إذا أمكنه اإلنكار فراراً عن شبهات واردة على القسم ‪ .‬كما قال يف‬
‫تفسري سورة القيامة يف ذكر (ال) اليت تبتدئ هبا السورة‪.‬‬
‫(االحتمال الثاين أن (ال) هنا لنفي القسم‪ .‬كأنه قال ‪ :‬ال أقسم بذلك اليوم وتلك النفس ‪ ،‬ولكين‬
‫أسألك غري مقسم ‪ :‬أحتسب أان ال َنمع عظامك إذا تفرقت ابملوت‪ .‬فإن كنت حتسب ذلك فاعلم‬
‫أان قادرون على أن نفعل ذلك‪ .‬وهذا القول اختيار أيب مسلم وهو األصح)‪.‬‬
‫هذا القول غري خمتار عند العارف بكالم العرب‪ .‬فإنه لو كان املراد كما فهم لكان وجه القول نفي‬
‫جمرد القسم ال ذكر األشياء اخلاصة كالنفس اللوامة واخلنس اجلواري الكنس وغريها‪ .‬مث هذا خمالف‬
‫ألسلوب كالمهم‪ .‬فإهنم يستعملون كلمة (ال) قبل القسم منقطعة ‪ ،‬كما بينا يف تفسري سورة القيامة‪.‬‬
‫وهذا هو خمتار الزخمشري‪.‬‬
‫والطريق الثاين ‪ :‬هو القول أبن القسم للتأكيد والتنبيه على شرافة املقسم به‪ .‬قال يف تفسري الذارايت‬
‫‪ :‬وقد عرفت أن املقصود من القسم التنبيه على جاللة املقسم به)‪.‬‬
‫وعلى هذا األصل قال يف تفسري سورة التني ‪(:‬اعلم أن اإلشكال هو أن التني والزيتون ليسا من‬
‫األمور الشريفة فكيف يليق أن يقسم هللا تعاىل هبما ؟ فألجل هذا السؤال حصل فيه قوالن) مث ذكر‬
‫فوائدمها إن كان املراد منهما هذه األمثار ‪ ،‬وذكر شرافتهما إن كان املراد منهما مسجدين أو بلدين‪.‬‬
‫وقد علمت أن التمسك هبذا اجلواب مع كونه ابدي اخللل ال يزيل الشبهة الثالثة ‪ ،‬فإن هذه األشياء‬
‫اليت أقسم هبا يف القرآن ‪ ،‬ومنها ‪ :‬العادايت ضبحاً ‪ ،‬واجلواري الكنس ‪ ،‬والليل ‪ ،‬والصبح ‪ ،‬والتني‬
‫والزيتون ‪ ،‬ليست من اجلاللة مبكان يقسم هبا خالقها ورهبا إن كان القسم ألجل شرافتها‪.‬‬
‫(‪)4‬‬
‫طريق العالمة ابن القيم رمحه هللا‬
‫يف أتويل أقسام القرآن لدفع الشبهات‬

‫(‪)6/1‬‬

‫مل يضع العالمة ابن القيم كتابه على شكل اجملادلة ‪ ،‬فيذكر الشبهات وجييب عنها ‪ ،‬لكنه حبث عن‬
‫كن إىل اجلواب الذي‬
‫حكمة القسم يف القرآن ‪ ،‬وبني فيه ما يزيل الوهم وَيسم جراثيم االعرتاض ‪ ،‬ور َ‬
‫استحسنتُه‪ .‬ولكنه مثل الرازي مل يتمسك به كل التمسك ‪ ،‬فذبذب بني أمرين‪ .‬وهو يف كتابه رمبا‬
‫يشرع يف تفسري السور اليت فيها القسم ‪ ،‬وخيرج من قول إىل قول‪.‬‬
‫وإين أورد عليك خالصة جوابه ‪ ،‬وندلك على موضع اخللل فيه حسب شرطنا‪.‬‬
‫فاعلم أنه رمحه هللا سلك مسلك االستقراء ‪ ،‬فمهد أوالً أن أقسام القرآن كلها ابهلل وصفاته وآايته ‪،‬‬
‫فقال‪:‬‬
‫(وهو سبحانه يقسم أبمور على أمور‪ .‬وإمنا يقسم بنفسه املوصوفة بصفاته وآايته املستلزمة لذاته‬
‫وصفاته ‪ ،‬وإقسامه ببعض املخلوقات دليل على أنه من عظيم آايته)‪ .‬وبعد ذكر األمثلة قال ‪:‬‬
‫(إذا عرف فهو سبحانه يقسم على أصول اإلميان اليت جيب على اخللق معرفتها‪ .‬اترة يقسم على‬
‫التوحيد ‪ ،‬واترة يقسم على أن القرآن حق ‪ ،‬واترة على أن الرسول حق ‪ ،‬واترة على اجلزاء والوعد‬
‫والوعيد ‪ ،‬واترة على حال اإلنسان)‪.‬‬
‫ومآله عنده إىل اجلزاء ‪ ،‬فاقتصر القسم على ثالثة أمور‪ .‬وهذه الثالثة مآهلا واحد ‪ .‬وهو صفته تعاىل ‪،‬‬
‫كما ستعلم من قوله عن قريب‪ .‬فبعد هذا التمهيد مل يبق له كبري حاجة إىل جواب القسم ‪ ،‬فإن‬
‫القسم بنفسه داللة على املقسم عليه املعلوم املتعني ‪ ،‬وهو أحد األمور الثالثة ‪ ،‬فقال يف ذكر القسم‬
‫الذي تبتدئ به سورة والعادايت وسورة والعصر‪:‬‬
‫ف جواب القسم ألنه قد ُعلِ َم أبنه يقسم على هذه األمور (أي التوحيد والنبوة واملعاد) وهي‬
‫(ح ِذ َ‬
‫ُ‬
‫متالزمة ‪ .‬فمىت ثبت صدق الرسول الذي جاء به‪ .‬ومىت ثبت أن الوعد حق والوعيد حق ثبت صدق‬
‫الرسول وصدق الكتاب الذي جاء به‪ .‬واجلواب َيذف اترة وال يراد ذكره بل يراد تعظيم املقسم به ‪،‬‬
‫وأنه مما َيلف به)‪.‬‬

‫(‪)7/1‬‬

‫فهذه األقسام عنده دالالت على صفات هللا ‪ ،‬كما قال يف ذكر القسم الذي تبتدئ به سورة الربوج‬
‫‪(:‬وكل ذلك من آايت قدرته وشواهد وحدانيته) مث قال ‪(:‬واألحسن أن يكون هذا القسم مستغنياً‬
‫عن اجلواب ألن القصد التنبيه على املقسم به وأنه من آايت الرب العظيمة)‪.‬‬
‫وكذلك قال يف ذكر القسم الذي تبتدئ به سورة الطارق ‪ (:‬واملقصود أنه سبحانه أقسم ابلسماء‬
‫وَنومها املضيئة ‪ ،‬وكل منها آية من آايته الدالة على وحدانيته)‪.‬‬
‫مث قال يف ذكر القسم الذي جاء يف وسط هذه السورة‪(:‬فأقسم سبحانه ابلسماء ذات املطر واألرض‬
‫ذات النبات ‪ ،‬وكل ذلك آية من آايت هللا تعاىل الدالة على ربوبيته)‪.‬‬
‫وهكذا قال يف ذكر القسم الذي يف أواخر سورة االنشقاق ‪(:‬وهذه _أي الشفق والليل والقمر‬
‫وأمثاهلا آايت دالة على ربوبيته مستلزمة للعمل بصفات كماله)‪ .‬مث قال يف جواب هذا القسم ‪ (:‬جيوز‬
‫أن يكون من القسم احملذوف جوابه)‪ .‬وهذا ملا قلنا أنه ال َيتاج إىل جواب القسم فإن املقسم عليه‬
‫عنده معلوم متعني‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وال خيفى عليك الفرق بني طريق الرازي رمحه هللا الذي أشار إىل أجوبة خمتلفة رمبا يناقض‬
‫بعضها بعضاً وبني طريق ابن القيم رمحه هللا الذي عمد إىل هنج واحد ‪ ،‬واجتهد أن يعول عليه يف‬
‫مجيع األقسام‪ .‬وهذا الطريق أحسن‪.‬‬
‫واآلن ندلك على مالك األمر يف جوابه ‪ ،‬فاعلم أنه رمحه هللا اعتمد على أصلني ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أنه سبحانه وتعاىل إمنا أقسم بنفسه وآايته ‪ .‬وأما القسم ابملخلوقات فهو أيضاً من ابب‬
‫القسم بذاته فإهنا من آايته‪ .‬وأراد هبذا األصل إزالة الشبهة الثالثة وهي تعظيم املخلوق فوق مكانته‪.‬‬
‫ولكنها مل تزل ‪ ،‬فإن القسم تعلق صرَياً ابملخلوقات‪ .‬وكوهنا من آايته ودالئل صفاته ال خيرجها عن‬
‫كوهنا املقسم هبا‪.‬‬

‫(‪)8/1‬‬

‫وقوله ‪(:‬واجلواب َيذف اترة وال يراد ذكره بل يراد تعظيم املقسم به وأنه مما َيلف به) تصريح منه‬
‫أبنه سبحانه أقسم بغري ذاته املقدسة ‪ ،‬وأراد تعظيم بعض خملوقاته‪ .‬فغاية األمر أنه تعاىل مل يقسم هبا‬
‫إال من جهة شريفة‪ .‬وال أبس أبن جيعل هللا تعاىل لبعض خملوقاته شرفاً وكرامة ‪ ،‬لكن الشبهة ليست يف‬
‫حمض شرافة بعض األشياء ‪ ،‬فرب صغري كبري ‪ ،‬ورب ضئيل نبيل ال ختالف االعتبارات ‪ ،‬بل الشبهة‬
‫يف وضعها موضع ما يقسم به الرب تعاىل شأنه علواً كبرياً‪.‬‬
‫واألصل الثاين الذي اعتمد عليه هو أن األقسام كلها دالالت على املقسم عليه‪ .‬وأراد هبذا األصل‬
‫إزالة الشبهة الثانية ‪ ،‬كما فعل الرازي رمحه هللا حني ذكره يف وجوه أخر ‪ ،‬فلم يعتمد عليه‪ .‬وأما ابن‬
‫القيم رمحه هللا فاعتمد على هذا األصل كل االعتماد ‪ ،‬وفسر أكثر آايت القسم على طريق يظهر به‬
‫املقسم عليه حمذوفاً‪ .‬وجعل القسم‬
‫داللة املقسم به على املقسم عليه‪ .‬وإذا أشكل عليه الربط جعل َ‬
‫داالً على صفات هللا وغريها مما ذكران آنفاً‪.‬‬
‫ومع هذا الوهن يف جوابه والتصريح أحياانً أبن القسم لتعظيم املقسم به ‪ ،‬لقد أجاد وأصاب أو قد‬
‫كاد يف غري موضع من كتابه‪.‬‬
‫(‪)5‬‬
‫طريق هذا الكتاب يف اجلواب‬
‫على سبيل اإلمجال‬
‫الخيفى عليك مما سبق من أقوال العلماء رمحهم هللا أن أحسنهم قوالً من يقول إن هذه األقسام‬
‫دالالت‪ .‬ولكن الغمة اليت مل تنجل عنهم ‪ ،‬واملضيق الذي مل خيرجوا منه هو ظنهم بكون القسم‬
‫مشتمالً على تعظيم املقسم به ال حمالة‪ .‬وذلك هو الظن الباطل الذي صار حجاابً على فهم أقسام‬
‫القرآن ‪ ،‬ومنشأ للشبهات‪ .‬فنبطله أوالً حىت يتبني أن أصل القسم ليس يف شيء من التعظيم ‪ ،‬وإمنا‬
‫يفهم من بعض أقسامه‪.‬‬
‫مث نبني أن أقسام القرآن ابملخلوقات ليست إال آايت دالة ‪ ،‬وأهنا نوع من القسم مباين لألقسام‬
‫التعظيمية ‪ ،‬وليس من القسم بصفات هللا كما ذهب إليه ابن القيم رمحه هللا‪.‬‬

‫(‪)9/1‬‬

‫مث نرجع إىل الفرق بني مواقع القسم احملمودة وغري احملمودة حىت يتبني أن النهي املطلق غري صحيح‪.‬‬
‫فهذه ثالثة مقاصد يتوجه إليها الكالم يف كتابنا هذا‪ .‬وإذ هي تقتضي بعض التفاصيل والبسط يف‬
‫الكالم دعينا إىل أن نبحث عن اتريخ القسم وحاجة الناس إليه قدمياً وحديثاً وطرقه املتنوعة ‪ ،‬ونبني‬
‫معاين كلمات القسم ومفهومه األصلي ومفاهيمه املتشعبة الثالثة من اإلكرام والتقديس واالستدالل‬
‫اجملرد عن التعظيم‪.‬‬
‫ونورد من نفس القرآن دالئل واضحة على أتويل أقسامه‪ .‬وندل على أسباب خفاء هذا التأويل‬
‫ليتضح عذر من قبلنا من كبار العلماء رمحهم هللا ‪ .‬ونشري إىل بعض وجوه البالغة يف أقسام القرآن‪.‬‬
‫مث نذكر وجوه النهي واإلابحة ‪ ،‬واالستحسان يف القسم‪ .‬ونكشف عن أتويل قول املسيح عليه‬
‫السالم حني هنى تالميذه عن احللف‪.‬‬
‫ونلمع إملاعاً إىل بعض بالغة القرآن يف متييزه بني كلمات القسم حسب مواقعه لتعلم ما ال َيسن منه‪.‬‬
‫ذلك ‪ ،‬وقد ذكران فيما قدمنا جل مطالب هذا الكتاب إمجاالً ‪ ،‬فاآلن نشرع يف التفصيل ‪ ،‬وهللا‬
‫املوفق ونعم الوكيل‪.‬‬
‫(‪)6‬‬
‫اتريخ القسم وحاجة الناس إليه‬
‫وطرقه املختلفة والداللة على حقيقة معناه يف أول األمر‬
‫إن اإلنسان رمبا َيتاج إىل أتكيد خرب أو وعد منه ‪ ،‬حني يريد أن يعتمد عليه املخاطب وتطمئن به‬
‫نفسه ‪ ،‬وال سيما يف األمور العظيمة كاملعاهدة بني قوم وقوم أو بني ملك ورعيته أو بني أفراد الناس ‪،‬‬
‫والويل من العدو‪ .‬وهذه احلاجة‬
‫َّ‬ ‫ليكونوا على ثقة بعضهم من بعض ‪ ،‬فيعلموا املوافق من املخالف‬
‫التمدنية دعتهم إىل طرق وكلمات خاصة يعربون هبا عن هذا التأكيد‪ .‬فكان ذلك أصل قسمهم ‪.‬‬
‫فرمبا عربوا عنه أبخذ اليمني كما علمنا من أحوال الروم والعرب والعربانيني‪ .‬فإذا أخذ بعضهم ميني‬
‫بعض عند املعاهدة أفصحوا بعزمهم وأتكيده‪ .‬كأهنم قالوا ‪ ،‬أننا قد وصلنا أمران ورهنَّا به أمياننا‪.‬‬
‫ولذلك مسوا القسم مييناً ‪ ،‬ورمبا صرحوا هبذا املعىن كما قال جساس ‪:‬‬
‫سأؤدي حق جاري ويدي رهن فعايل‬

‫(‪)10/1‬‬

‫ومن هنا تضمن القسم معىن الكفالة والضمانة‪.‬‬


‫وهذا معلوم ومعروف وابق يف أخذ اليمني للبيعة ‪ ،‬وصفق اليد يف البيع والشراء‪ .‬ونراه يف أمم أخر‬
‫كالروم واهلند‪ .‬ونرى العربانيني أيضاً أهنم عربوا عن القسم ابليمني‪ .‬فجاء يف الزبور ص ‪ 144‬عدد ‪8‬‬
‫‪(:‬الذين أفواههم تنطق سوءاً وميينهم ميني كذب)‪.‬‬
‫يف العربانية ‪(:‬أشر فيهم دبر سوء وميينام ميني شاقر) والعجب من املرتمجني االنكليزيني كيف ذهب‬
‫عليهم هذا املعىن فرتمجوه بقول معناه ‪ (:‬اليد اليمىن منهم يد ميىن الكذب)‪.‬‬
‫س َم بل اليد اليمىن ! وهذا من أفحش العثرات ‪ ،‬وخيرب عن قلة‬
‫فلم يفهموا من كلمة اليمني ال َق َ‬
‫التفاهتم إىل العربانية ‪ .‬والعجب كل العجب أهنم يف هذا الزمان أصلحوا الرتمجة املستندة ‪ ،‬وغريوها‬
‫كثرياً ‪ ،‬ومع ذلك تركوا هذا اخلطأ الفاحش على حاله‪.‬‬
‫ذلك وجاء ذكر العقد بصفقة الكف يف أمثال سليمان يف التحذير عن الضمانة ص ‪ 6‬عدد ‪(: 1‬اي‬
‫بين إن ضمنت صاحبك فصفقت كفك لغريب)‪.‬‬
‫فتشاهبت هااتن األمتان يف أمر العقد‪ .‬ولذلك صارت كلمة اليمني امساً للقسم بني العربانيني كما هي‬
‫عندان‪.‬‬
‫ورمبا غمسوا أمياهنم يف إانء ماء إذا كانوا كثريين فكأهنم أخذ بعضهم يد بعض وأمجعوا أمرهم مبا مسهم‬
‫شيء واحد ‪ ،‬واملاء أبلغ يف املس واللصوق‪ .‬ولذلك قالوا ‪ :‬بل ابلشيء يدي ‪ ،‬أي لصقت به‪ .‬قال‬
‫طرفة ‪:‬‬
‫إذا ابتدر القوم السالح وجدتين منيعاً إذا بلت بقائمة يدي‬
‫ورمبا أخذوا عطراً ‪ ،‬فاقتسموه بينهم ‪ ،‬ومسحوا به أيديهم ‪ ،‬فراحوا ‪ ،‬وعبقه هبم ‪ ،‬فهو أبقى من املاء‬
‫وأشهر وأعرف ‪ ،‬ولذلك مسوه عرفاً ونشراً‪.‬‬
‫ومن أمثلة هذا الطريق ملعاهدهتم ما نرى يف قصة عطر َم ْن ِشم ‪ ،‬وهي أن قوماً حتالفوا على أن يقاتلوا‬
‫عدوهم ‪ ،‬وجعلوا آية احللف تعاطي عطر ابعوه من عطارة تسمى منشم ‪ ،‬وقصة هذا احللف مشهورة‬
‫حىت جرى به املثل قال زهري‪:‬‬
‫تداركتما عبساً وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم‬

‫(‪)11/1‬‬

‫وكذلك نرى غمس األيدي يف العطر يف قصة حلف املطيبني اليت نذكرها يف الفصل العاشر‪.‬‬
‫ورمبا ذحبوا هبيمة ورشوا دمها على أجسام الفريقني من احللفاء عالمة ملواالهتم إىل حد القرابة ‪ ،‬أو‬
‫لثباهتم على احللف حىت يسيلوا مهجهم‪ .‬جاء يف سفر اخلروج ص ‪ 24‬عدد ‪: 8-5‬‬
‫(وأرسل فتيان بين إسرائيل فأصعدوا حمرقات وذحبوا ذابئح سالمة للرب من الثريان‪ .‬فأخذ موسى‬
‫نصف الدم ووضعه يف الطسوس ‪ ،‬ونصف الدم رشه على املذبح‪ .‬وأخذ كتاب العهد وقرأ يف مسامع‬
‫الشعب‪ .‬فقالوا ‪ :‬كل ما تكلم به الرب نفعل ونسمع له‪ .‬وأخذ موسى الدم ورش على الشعب ‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬هو ذا دم العهد الذي قطعه الرب معكم على مجيع هذه األقوال)‪.‬‬
‫فرتى هذا القسم أهنم عاهدوا الرب برش الدم على أنفسهم وعلى املذبح نيابة عن الرب ‪ ،‬فصاروا‬
‫حلفاء للرب‪ .‬وهذا كثري ‪ ،‬جاء يف سفر زكراي ص ‪ 9‬عدد ‪(: 11‬فإين بدم عهدك قد أطلقت أسراك)‪.‬‬
‫ورمبا وصل بعضهم حبله حببل اآلخر ‪ ،‬فصار من حلفائه ‪ ،‬حىت صار احلبل امساً لعقد الذمة واجلوار ‪،‬‬
‫كما جاء يف القرآن ‪(:‬حببل من هللا وحبل من الناس)‪.‬‬
‫وقال امرؤ القيس ‪:‬‬
‫إين حببلك واصل حبلي وبريش نبلك رائش نبلي‬
‫وذكر احلطيئة أصل ذلك فقال‪:‬‬
‫قوم يبيت قرير العني جارهم إذا لوى بقوى أطناهبم طنبا‬
‫فهذه طرق أتكيد عقودهم بني فريقني ومن الفريقني‪.‬‬
‫ورمبا حرموا على أنفسهم بعض املشتهيات حىت يفعلوا بعض ما أوجبوا على أنفسهم ‪ ،‬ومسوه (نذراً)‪.‬‬
‫كما نذر املهلهل أخو كليب أن ال يشرب اخلمر وال ميس الطيب وال يرجل شعره إىل أن أيخذ بثأر‬
‫أخيه ‪ ،‬وقصته مشهورة‪.‬‬
‫وكذلك فعل أمرؤ القيس وقال بعد ما حل نذره ‪:‬‬
‫حلت يل اخلمر وكنت أمرءاً عن شرهبا يف شغل شاغل‬
‫مث توسع معناه وصار النذر التزام شيء عن طريق القسم‪ .‬كما قال عمرو بن معد يكرب ‪:‬‬
‫هم ينذرون دمي وأنذر إن لقيت أبن أشدا‬
‫ولذلك مسوا النذر مييناً ‪ ،‬كما قال قبيصة بعد ذكر إيفاء النذر‪:‬‬
‫فأصبحت قد حلت مييين وأدركت بنو ثعل تبلي وراجعين شعري‬

‫(‪)12/1‬‬

‫يف أبيات ذكرت يف احلماسة‪ .‬أي بعد إدراك تبلي حل نذري ‪ ،‬أي ما حرمته علي ابلنذر‪.‬‬
‫النذر دعوهتم على أنفسهم أو إلزامهم إايها سوءاً إن كانوا كاذبني يف خرب أو وعد‪ .‬كما قال‬
‫ويشبه َ‬
‫معدان بن جواس الكندي ‪:‬‬
‫األانمل‬
‫ُ‬ ‫إن كان ما بلغت عين فالمين صديقي وشلت من يدي‬
‫قاتل‬
‫وكفنت وحدي منذراً يف ردائه وصادف حوطاً من أعادي ُ‬
‫ومثله ما قال األشرت النخعي ‪:‬‬
‫ِ‬
‫عبوس‬ ‫يت وفري واحنرفت عن العلى ولقيت أضيايف بوجه‬‫بَ َّق ُ‬
‫إن مل أشن على ابن حرب غارة مل ختل يوماً من هناب ِ‬
‫نفوس‬
‫ومن هذا الدعاء ابملكروه حملة يف األقسام الدينية‪ .‬فإن فيها خوف سخط هللا ولعنته إن كذب احلالف‬
‫بعد إشهاد هللا على قوله‪.‬‬
‫ورمبا كفوا عن شيء من غري شرط ‪ ،‬ومسوه (أَليَّةً) كما جاء يف القرآن ‪(:‬للذين يؤلون من نسائهم‬
‫تربص أربعة أشهر)‪ .‬مث توسع استعماهلا فصار قوهلم (آليت) مرادفاً لقوهلم (أقسمت)‪ .‬قال امرؤ‬
‫القيس‪:‬‬
‫َلت ِح ْل َفةً مل َحتلَّ ِل‬
‫‪ ...‬وآ ْ‬
‫وقال طرفة ‪:‬‬
‫فآليت ال ينفك كشحي بطانة لعضب رقيق الشفرتني مهند‬
‫وقالت غنية أم حامت الطائي ‪:‬‬
‫لعمري لقدماً عضين اجلوع عضة فآليت أال أمنع الدهر جائعا‬
‫وهذا كثري يف كالمهم ‪ ،‬يقولون ‪ :‬آليت مرادفاً ألقسمت‪.‬‬
‫ورمبا استعملوا الم التأكيد ‪ ،‬وقالوا ألفعلنه ‪ ،‬أو مثله‪ .‬كقوله تعاىل‪(:‬وإن مل ينتهوا عما يقولون ليمسن‬
‫الذين كفروا منهم عذاب أليم) ‪ ،‬أو كقوله تعاىل ‪(:‬ولينصرن هللا من ينصره) ‪ ،‬أو كقول لبيد ‪:‬‬
‫ولقد علمت لتأتني منييت إن املنااي ال تطيش سهامها‬
‫قال سيبويه رمحه هللا ‪(:‬كأنه قال ‪ :‬وهللا لتأتني) ‪ .‬وإمنا قال هذا على طريق التمثيل ‪ ،‬فإنه رمحه هللا‬
‫أراد أن ههنا مييناً ‪ ،‬كما قال يف ذكر الم القسم‪.‬‬
‫ومثل ذلك ‪(:‬ملن تبعك منهم ألمألن) ‪ ،‬إمنا دخلت الالم على نية اليمني ‪ ،‬وهللا أعلم ‪ ،‬فلم يرد أن‬
‫ههنا قسماً بشيء ‪ ،‬بل املراد أن جمرد قوله تعاىل ‪(:‬ألمألن) ميني‪ .‬وذلك ألن القسم ليس إال التأكيد‬
‫‪ ،‬وال حتتاج إىل تقدير املقسم به يف كل موضع‪.‬‬

‫(‪)13/1‬‬

‫وعلى هذا األصل كل ما ترى يف القرآن من الم اليمني ‪ ،‬وإذا جاءت قبلها كلمة تدل على اليقني‬
‫واجلزم كانت مشاهبة بكلمة القسم ‪ ،‬كما رأيت يف بيت لبيد الذي مر آنفاً‪ .‬ومثله يف قوله تعاىل ‪(:‬مث‬
‫بدا هلم من بعد ما رأوا اآلايت ليسجننه حىت حني)‪.‬‬
‫ومثله قوله تعاىل‪(:‬قال فاحلق واحلق أقول * ألمألن جهنم)‪.‬‬
‫فليس لك أن تقدر مقسماً به يف هذه األمثلة اليت ذكرانها ‪ ،‬وال يليق هبا كما يظهر من سياق‬
‫الكالم‪.‬‬
‫فكل ما ذكران من طريق اليمني واحللف وتعبرياته يدلك على أن املقسم به ليس من لوازم القسم حىت‬
‫تقدره كلما مل يذكر ‪ ،‬إمنا أرادوا ابلقسم أتكيداً حمضاً للقول أو إظهار عزم وصرمية ألزموا به على‬
‫أنفسهم فعالً أو ترك فعل‪.‬‬
‫(‪)7‬‬
‫بيان أن القسم ال يلزمه املقسم به‬
‫إبيضاح معاين كلمات كثر استعماهلا للقسم‬
‫ليس القسم ابهلل أو بشعائره من املعاين البسيطة حىت يوضع له اللفظ أوالً ‪ ،‬فيظن أن املقسم به إذا مل‬
‫يذكر كان املراد منه القسم ابهلل تعاىل‪ .‬إمنا القسم التعظيمي نشأ من تركيب دواعي املعاشرة وعقائد‬
‫الدين‪ .‬وأيتيك بيانه يف الفصل العاشر‪.‬‬
‫وأما يف هذا الفصل فنوضح معاين كلمات كثر استعماهلا للقسم ‪ ،‬لتعرف أهنا يف أصلها مل توضع‬
‫للقسم ابهلل أو بشعائره ‪ ،‬أو بشيء آخر‪ .‬وهذه الكلمات هي ‪ :‬اليمني ‪ ،‬والنذر ‪ ،‬واأللية ‪ ،‬والقسم ‪،‬‬
‫واحللف‪.‬‬
‫أما اليمني ‪ ،‬فقد علمت وجه استعماهلا ‪ ،‬وعمومها للقسم ‪ ،‬وما فيها من معىن الرهن ‪ ،‬والكفالة ‪،‬‬
‫والضمانة فال نعيده‪.‬‬
‫وأما النذر فهو اإلبعاد والتحذير‪ .‬ومنه إبعاد الشيء عنك ‪ ،‬وجعله هلل ‪ ،‬فصار مبعىن التحرمي‪ .‬وهبذا‬
‫املعىن يستعمل يف العربانية‪ .‬ومنه حترمي املشتهيات ‪ ،‬مث توسع إللزام الشيء على النفس على وجه‬
‫القسم كما مر‪.‬‬

‫(‪)14/1‬‬

‫وأما األَليَّةُ فمعناها اإلقصار عن األمر ‪ ،‬فيقال (اآليل) للمقصر العاجز عن الشيء‪ .‬مث جاء لرتك‬
‫الشيء‪ .‬ومنه اإليالء من النساء على وجه القسم ‪ ،‬مث توسع يف معىن إلزام الشيء سواء كان للرتك أو‬
‫الفعل ‪ ،‬ولكنه أكثر يف إلزام ما فيه شوب من املضرة ‪ ،‬فشابه النذر ‪ ،‬كما قال ابن زايبة التيمي ‪:‬‬
‫آليت ال أدفن قتالكم فدخنوا املرء وسرابله‬
‫مث توسع وصار مرادفاً للقسم ‪ ،‬كما مر يف الفصل السابق‪.‬‬
‫وأما القسم فهو يف أصله للقطع‪ .‬ومنه قسمت الشيء وقسمته‪ .‬والقطع يستعمل لنفي الريب‬
‫والشبهة ‪ ،‬ولذلك شواهد كالصرمية ‪ ،‬واجلزم ‪ ،‬والقول الفصل ‪ ،‬واإلابنة والصدع‪ ،‬والقطع فهذا هو‬
‫األصل‪.‬‬
‫مث اختص القسم من بني هذه األلفاظ بشدة الفصل ابلقول‪ .‬واستعماله من ابب اإلفعال خلاصية‬
‫املبالغة كقوهلم (أسفر الصبح)‪ .‬وال يلزمه أن يكون له مقسم به سواء كان على خرب أو عقد ‪ ،‬كما‬
‫قال طرفة ‪:‬‬
‫رم ِد‬ ‫َكقنطرةِ‬
‫شاد بَِق َ‬
‫أقسم َرُّهبَا لَتُكْتَ نَ َف ْن حىت تُ َ‬
‫الرومي َ‬
‫ِ‬
‫وهذا كثري يف كالم العرب‪ .‬قالت جنوب يف مرثيتها املشهورة‪:‬‬
‫فأقسمت اي عمرو لو نبهاك إذاً نبها منك أمراً عضاال‬
‫وقال ريطة السلمية ‪:‬‬
‫فأقسمت ال أنفك أحدر عربة جتود هبا العينان مين لتسجما‬
‫وقالت خرنق أخت طرفة‪:‬‬
‫أال أقسمت آسى بعد بشر على حي ميوت وال صديق‬
‫وجاء يف القرآن ‪(:‬أهؤالء الذين أقسمتم ال يناهلم هللا برمحة) ومنه قوله تعاىل‪(:‬وقامسهما إين لكما ملن‬
‫الناصحني * فدالمها بغرور)‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬إن املقسم به مقدر ‪ ،‬وهو هللا تعاىل‪.‬‬
‫قلنا ‪ :‬إن أردت االحتمال فال ننكره‪ .‬إمنا قولنا إنه غري الزم ‪ ،‬فلقد رأينا أن القسم يكون ابهلل تعاىل‬
‫وبغريه ‪ ،‬ورمبا يكون جمرداً عن املقسم به ‪ ،‬وحينئذ ال يراد به إال التأكيد واجلزم املَحض‪.‬‬
‫وأما احللف فمعناه القطع واحلدة ‪ ،‬فيشابه كلمة القسم‪ .‬يقال ‪ :‬سنان حليف ‪ ،‬أي قاطع ‪ ،‬ولسان‬
‫ْف ‪ ،‬وهو نبات أطرافه حمددة‪.‬‬‫حليف ‪ ،‬أي حديد َذلْق‪ .‬وعند األزهري هذا مأخوذ من احلل ِ‬
‫َ‬

‫(‪)15/1‬‬

‫فقوهلم ‪ :‬حلف على أمر ‪ ،‬كقوهلم ‪ :‬قطع به‪ .‬وهذا هو األصل‪ .‬مث اختص مثل (القسم) بشدة الفصل‬
‫واجلزم يف القول‪ .‬ولذلك ال يلزمه املقسم به ‪ ،‬أال ترى أهنم إذا عقدوا املواالة بينهم أبي طريق كانت‬
‫‪ ،‬مسوا حلفاء‪ .‬وقد علمت طرقه املختلفة اليت مل َيلفوا فيها بشيء‪.‬‬
‫فتبني مما مر بك يف هذا الفصل والذي قبله أن القسم ال يلزمه املقسم به فضالً عن تعظيمه‪ .‬وتلك‬
‫هي كلمات قد كثر استعماهلا للقسم حبيث إنه ال يلتفت إىل أصول معانيها ‪ ،‬ولذلك قدمنا ذكرها‪.‬‬
‫مث للقسم كلمات أخر مل يذهل عن معانيها األصلية ‪ ،‬فإذا نظران فيها وجدانها أظهر داللة على أهنا‬
‫ليست يف شيء من تعظيم املقسم به ‪ ،‬ونذكر هذه الكلمات يف الفصل اآليت‪.‬‬
‫(‪)8‬‬
‫بيان أصل معىن القسم إذا كان فيه مقسم به‬
‫بعد ما علمت معىن القسم اجملرد عن املقسم به ‪ ،‬ال يبعد عنك فهم معناه إذا أقسم فيه بشيء ‪ .‬فإمنا‬
‫هو ضم املقسم به مع املقسم كالشاهد على قوله ‪ ،‬ولذلك كثر استعمال الواو قبله وكذلك الباء‪.‬‬
‫وأما التاء فإمنا هي مقلوبة من الواو كما ترى يف تقوى وجتاه ‪ ،‬فهذه احلروف للمعية ولضم الشيء‬
‫ابلشيء‪.‬‬
‫ويؤيد هذا التأويل ما علمت من اتريخ القسم وطرقه ‪ .‬فإهنم مل يقسموا إال على رؤوس األشهاد‪.‬‬
‫فكانوا شهداء على أمياهنم لتأكيدها‪ .‬فإن الرجل جيتنب أن جيعل نفسه كاذابً يف عيون الناس‪.‬‬
‫ويشهد على هذا ما جاء يف القرآن يف ذكر ميثاق النبيني حيث قال عز من قائل‪(:‬وإذ أخذ هللا ميثاق‬
‫النبيني ملا آتيتكم من كتاب وحكمة مث جاءكم رسول مصدق ملا معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررمت‬
‫وأخذمت على ذلكم إصري قالوا أقرران قال فاشهدوا وأان معكم من الشاهدين * فمن توىل بعد ذلك‬
‫فأولئك هم الفاسقون)‪.‬‬
‫أي قد أوثقنا هذا العهد مبشهدي ومشهدكم ‪ ،‬فال يسوغ اإلنكار بعد ذلك إال ابلفسق‪.‬‬

‫(‪)16/1‬‬

‫وأصل هذا التأكيد أن املرء إذا قال‪ :‬أشهد به ‪ ،‬فقد صرح أبنه يقول بعلمه ومشهده ‪ ،‬ال بسماعه‪.‬‬
‫فال ميكن له العذر إن كذب‪ .‬ولذلك قال إخوة يوسف عليه السالم‪(:‬وما شهدان إال مبا علمنا وما كنا‬
‫للغيب حافظني)‪ .‬واستعمال هذا الوجه يف القسم يرى يف قوله تعاىل‪(:‬لكن هللا يشهد مبا أنزل إليك‬
‫أنزله بعلمه واملالئكة يشهدون وكفى ابهلل شهيدا)‪.‬‬
‫مث يف الشهادة أكرب وجوه التأكيد من جهة أخرى‪ .‬وهي أن الرجل إذا قال ‪ :‬أشهد أن األمر كذا ‪،‬‬
‫فكأنه قال‪ :‬أان أقول هذا كمن يقوم شاهداً على أمر ‪ ،‬والكذب يف الشهادة أكرب إمثاً وأشد ذماً‪.‬‬
‫ولذلك ورد النهي عنه خاصة يف الشرائع ‪ ،‬كما جاء يف األحكام العشرة من التوراة‪ .‬ويشبهه ما ذكر‬
‫يف القرآن يف مدح األبرار (والذين ال يشهدون الزور) على أظهر أتويله‪.‬‬
‫مث ترى صريح قوهلم يف أقسامهم (أان أشهد) (وهللا يشهد) (وهللا يعلم)‪ .‬وهذا يف أكثر اللغات‪.‬‬
‫فإننا نرى األمم يف املشرق واملغرب مع اختالف كثري يف عاداهتم ال خيتلفون يف أهنم إذا قالوا ‪ :‬هللا‬
‫شهيد على ذلك ‪ ،‬أو ما يشبهه ‪ ،‬أرادوا به القسم‪.‬‬
‫قال سيبويه رمحه هللا يف ذكر الم اليمني ‪(:‬واعلم أن من األفعال أشياء فيها معىن اليمني جيري الفعل‬
‫بعدها جمراه بعد قولك ‪ :‬أقسم ألفعلن ‪ ،‬وأشهد ألفعلن) الكتاب ‪ 454/1‬فصرح أبن (أشهد) معناه‬
‫اليمني ‪ ،‬وأن قولك (أقسم) كقولك أشهد‪.‬‬
‫فأما معىن تعظيم املقسم به فذلك مما انضم به يف بعض األحوال فهو من عوارض القسم‪ .‬وسيأيت‪.‬‬
‫وبعدما علمت حقيقة القسم وأصل مفهومه نذكر لك املفاهيم اليت هي فروع على األصل ‪ ،‬وهي‬
‫اإلكرام والتقديس واالستدالل ‪ ،‬ونذكرها ابلرتتيب لتفهم وجوهها ومتيز بني معانيها ‪ ،‬حىت يسهل لك‬
‫النظر يف أقسام القرآن ‪ ،‬فتعرفها على وجهها ‪ ،‬وتكون على بصرية يف أتويلها‪.‬‬
‫(‪)9‬‬
‫القسم على وجه اإلكرام‬
‫للمقسم به ‪ ،‬واملتكلم ‪ ،‬واملخاطب‬

‫(‪)17/1‬‬

‫ملا كان الصدق من أحب سجااي العرب – ال سيما إذا عاهدوا على أمر ‪ ،‬وأعطوا له أمياهنم ‪،‬‬
‫وأشهدوا عليه – فإذا صاروا حلفاء ‪ ،‬أو عقدوا عقد اجلوار ‪ ،‬أو نذروا أبمر ‪ ،‬أوفوا ذمتهم ‪ ،‬وعدوا‬
‫الكذب فيها بعد القسم عاراً عظيماً وذلة كبرية ‪ ،‬ألنفتهم وللحمية اليت جبلوا عليها‪.‬‬
‫وكان يف رهن أيديهم للعقود عندهم آية على أهنم خياطرون هلا أنفسهم ‪ ،‬فتضمن القسم خماطرة‬
‫النفس كما مر يف الفصل السادس‪.‬‬
‫ولذلك كثر قسمهم بقوهلم ‪ :‬لعمري ‪ ،‬أي أان أخاطر على هذا القول حيايت‪ .‬ورمبا بينوا هذا املراد كما‬
‫قالت ريطة بنت العباس السلمي ‪:‬‬
‫علي هبني لنعم الفىت أرديتم آل خثعما‬
‫لعمري وما عمري َّ‬
‫وقال النابغة الذبياين ‪:‬‬
‫علي األقارع‬
‫علي هبني لقد نطقت بطال َّ‬
‫لعمري وما عمري َّ‬
‫وهذا كثري ‪ ،‬ومن هذه اجلهة انضم مفهوم اإلكرام ابملقسم به‪ .‬فإن املتكلم ال يدل على أتكيد قوله‬
‫هبذا الطريق إال إذا أقسم مبا يكرمه ويضن به‪ .‬فهذا أصل هذا النوع من القسم ‪ ،‬مث جتاوزوه إىل قوهلم‬
‫(لعمرك) أو ما يشبهه ملا فيه من إكرام املخاطب‪ .‬كأن القائل أراد أين ال أقسم بعمري بل بعمرك‬
‫علي‪ .‬وهذا هو األصل ‪ ،‬مث رمبا ال يراد به إال أتكيد القول مع إكرام املخاطب ‪،‬‬
‫الذي هو أعز وأكرم َّ‬
‫وملا كان هذا أحسن يف التحاور كثر قوهلم يف القسم ‪ :‬لعمرك ولعمر أبيك ‪ ،‬أو َو َج ِد َك وبعزتك ‪،‬‬
‫وأمثاهلا‪.‬‬
‫وهذه الكلمات اليت ذكران كثر استعماهلا للقسم فال حاجة إىل نقل السند هلا‪ .‬ولكن يهمنا يف هذا‬
‫القسم النظر إىل أمور‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن املقسم به يف هذه األقسام ‪ ،‬وإن كان عند املتكلم كرمياً ومضنوانً به ‪ ،‬لكنه ال يكون مما‬
‫يعبده ويقدسه ‪ ،‬كما سرتى يف أقسام دينية نذكرها يف الفصل التايل‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أنه إذا أضيف املقسم به إىل املخاطب دل على إكرامه ‪ ،‬كقوله تعاىل‪(:‬لعمرك إهنم لفي‬
‫سكرهتم يعمهون) فأكرم هللا نبيه هبذا اخلطاب‪ .‬ومنه قوله تعاىل ‪(:‬فال وربك ال يؤمنون حىت‬
‫َيكموك)‪.‬‬

‫(‪)18/1‬‬

‫وإذا أضيف إىل املتكلم دل على عزته ومنعته ‪ ،‬كأنه قال ‪ :‬إن حيايت وعزي منيع ال يرام‪ .‬ومن هذه‬
‫اجلهة ال ينبغي هذا القسم لعباد هللا اخلاشعني املتواضعني‪ .‬ولعل املسيح أشار إىل هذا األمر حيث‬
‫قال عليه السالم فيما هنى عن احللف مطلقاً ‪ (:‬ال حتلف براسك ألنك ال تقدر أن جتعل شعرة واحدة‬
‫بيضاء أو سوداء)‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أنه ملا كان من بعض وجوه القسم الدعاء ابلسوء على احلانث ‪ ،‬كما مر يف الفصل السادس‬
‫‪ ،‬ورمبا انضم هبذا النوع ذلك املفهوم ‪ ،‬كأن احلالف قال‪ :‬إن كنت كاذابً أُبِي َد عمري ‪ ،‬وأهينت عزيت‪.‬‬
‫وال خيفى عليك مما ذكران أن هذا النوع من القسم ال يكون إال إبضافة املقسم به ‪ ،‬إما إىل املتكلم أو‬
‫إىل املخاطب ‪ ،‬وال يكون إال أبلفاظه اخلاصة اليت ذكرانها‪ .‬وال يكون إال أبمور عرف عزهتا على‬
‫املتكلم‪ .‬فبني أن أقسام القرآن ابلذارايت والعادايت واخلنس اجلوار الكنس وأمثاهلا ال يكون من هذا‬
‫النوع‪.‬‬
‫واعلم أن هذه األقسام ليست من جهد أمياهنم ‪ ،‬وعلى األكثر تستعمل حملض التأكيد مبعىن أقسمت‬
‫‪ ،‬ولذلك رمبا قالوا‪ :‬لعمر هللا ‪ ،‬فال يريدون هبا متام معناها األصلي إال إذا بينوه كما مر يف قول ريطة‬
‫السلمية والنابغة‪.‬‬
‫مث إن هلم أمياانً غليظة غري ذلك ‪ ،‬وأيتيك ذكرها يف الفصل اآليت‪.‬‬
‫(‪)10‬‬
‫القسم على وجه التقديس للمقسم به‬
‫تقدم احلديث عن دواعي توثيق أقواهلم ‪ ،‬فرمبا دعتهم تلك الدواعي إىل مبالغة االستيثاق واملغاالة فيه‬
‫‪ ،‬فكانوا جيتمعون للمعاهدة مبشهد معابدهم‪ .‬وبذلك خلطوا ابلقسم جهة دينية ‪ ،‬وأرادوا به جعل‬
‫الرب شاهداً على قوهلم ‪ ،‬فإن كذبوا فيما أقسموا عليه أسخطوه‪.‬‬
‫وملا كانت دائرة حكومتهم ضيقة ‪ ،‬ومل تفرق األمم املتجاورة حدود فطرية كاجلبال الشاخمة ‪ ،‬والبحور‬
‫املتالطمة ‪ ،‬مل مينع اجلريان عن االقتتال غري املعاهدة ‪ ،‬فصارت هي أحصن معاقلهم‪.‬‬

‫(‪)19/1‬‬
‫ورمبا اتفقت أقوام مل جتمعهم أواصر القرابة على خالف عدو ‪ ،‬فعاهدوا على التعاون‪ .‬فأميا كان من‬
‫سلم أو حرب ‪ ،‬إذا عظم أمرها فزعوا إىل العهد ‪ ،‬ولذلك ترى إبراهيم عليه السالم ملا هاجر قومه ‪،‬‬
‫وسكن يف بالد العرب ‪ ،‬ورآه أبو ملك ذا أبس ومنعة ‪ ،‬هابه واستعظمه فعاهد به على رسم خاص ‪،‬‬
‫لكيال تكون بينهما حرب ‪ ،‬وصارا حليفني هبذه املعاهدة‪.‬‬
‫والتاريخ شاهد بعظم مكانة املعاهدة يف التمدن ‪ ،‬حىت ترى اآلن اعتصام األمم العظيمة هبا‪ .‬والعرب‬
‫كانوا يف جاهليتهم أشد األمم أبساً وألدهم خصاماً ‪ ،‬كما أهنم أبرهم ميثاقاً وأوفاهم ذماماً‪ .‬وكانت‬
‫الكعبة أعظم معاهدهم‪ .‬وحرماهتا أكرب وازع هلم عن احلرب ‪ ،‬فتطفأ انرها يف شهور احلج ‪ ،‬وأيتون إىل‬
‫الكعبة من كل فج حمرمني راهبني خمتلطني يف غاية األمن ‪ ،‬كاخلرفان بعد أن كانوا أسوداً ضارية‪ .‬وذلك‬
‫كله من تعظيمهم للكعبة ‪ ،‬حىت إهنم مسوا مكة صالحاً وأم الرحم ‪ ،‬فإذا حاولوا توثيق عهد جاءوا إىل‬
‫هذا املعبد ليقسموا ابهلل العظيم على مواثيقهم‪.‬‬
‫ومن شركهم رمبا أقسموا عند أنصاهبم اليت ذحبوا عليها لشفعائهم عند هللا األكرب‪.‬‬
‫وكانوا يقسمون ‪ :‬إما إبهراق القرابن ‪ ،‬أو مبسح الكعبة كما ستعلم مما ذكروا يف أشعارهم ‪ ،‬أو‬
‫بغمسهم أيديهم يف عطر ومسح الكعبة هبا ‪ ،‬كما ترى يف حلف املطيبني الذي كان قبيل البعثة ‪ ،‬حني‬
‫أرادت بنوعبد مناف أن جيمعوا أمرهم ‪ ،‬فوضعوا جفنة طيب ألحالفهم عند الكعبة ‪ ،‬فغمس القوم‬
‫أيديهم فيها ‪ ،‬مث مسحوا هبا الكعبة ‪ ،‬فسموا املطيبني‪ .‬وكان النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬وأبو‬
‫بكر رضي هللا عنه منهم‪ .‬أو مبجرد شهودهم عند البيت وعقدهم أمياهنم لديه‪.‬‬
‫فهذا أصل قسمهم الديين ‪ ،‬مث توسعوا فاكتفوا مبجرد ذكر الكعبة ومشاعر احلج ‪ ،‬كما سرتى‬
‫التصريح به يف بعض هذه األمثلة اليت نذكرها‪.‬‬
‫قال زهري بن أيب سلمى ‪:‬‬
‫فأقسمت ابلبيت الذي طاف حوله رجال بنوه من قريش وجرهم‬
‫وقال أيضاً‪:‬‬
‫فتجمع أمين منا ومنكم مبقسمة متور هبا الدماء‬

‫(‪)20/1‬‬
‫وقال أعشى قيس‪:‬‬
‫فإين وثويب راهب احلج واليت بناها قصي وحده وابن جرهم‬
‫وقال أيضاً‪:‬‬
‫حلفت له ابلراقصات إىل مىن إذا خمرم خلفته بعد خمرم‬
‫وقال احلارث بن عباد‪:‬‬
‫كال ورب الراقصات إىل مىن كال ورب احلل واإلحرام‬
‫وقال النابغة الذبياين ‪:‬‬
‫فال لعمر الذي مسحت كعبته وما هريق على األنصاب من جسد‬
‫واملؤمن العائذات الطري متسحها ركبان مكة بني الغيل والسعد‬
‫ما قلت من سيء مما أتيت به إذاً فال رفعت سوطي إيل يدي‬
‫إذا فعاقبين ريب معاقبة قرت هبا عني من أيتيك ابلفند‬
‫وقال شأس أخو علقمة الفحل‪:‬‬
‫حلفت مبا ضم احلجيج إىل مىن وما شج من حنر اهلدى املقلد‬
‫وقالت غنية األعرابية تصف ابنها ‪:‬‬
‫أحلف ابملروة يوماً والصفا أنك خري من تفاريق العصا‬
‫وأما حلفهم ابألنصاب فمنه قول املهلهل‪:‬‬
‫كال وأنصاب لنا عادية معبودة قد قطعت تقطيعا‬
‫وقول طرفة ‪:‬‬
‫فأقسمت عند النصب أين هلالك مبتلفة ليست بغبط وال خفش‬
‫وقول امللتمس ‪:‬‬
‫أطردتين حذر اهلجاء وال وهللا واألنصاب ال تئل‬
‫وقال رشيد بن رميض العنزي ‪:‬‬
‫حلفت مبائرات حول عوض وأنصاب تركن لدى السعري‬
‫والقسم ابألنصاب قليل جداً فكان جل أقسامهم املؤكدة ابلكعبة ومشاعر احلج‪ .‬فإن العرب مع‬
‫اختالف دايانهتم يف اجلاهلية مل خيتلفوا يف تعظيم هذا البيت العتيق ‪ .‬وعلموا أنه أول بيت هللا الذي‬
‫وضع للناس ‪ ،‬حىت إنك ترى النصارى منهم كانوا يقسمون به‪ .‬قال عدي بن زيد وقد تنصر يف‬
‫اجلاهلية ‪:‬‬
‫سعى األعداء ال أيلون شراً عليك ورب مكة والصليب‬
‫وقال األخطل وكان جماهراً بنصرانيته ‪:‬‬
‫حلفت مبن تساق له اهلدااي ومن حلت بكعبته النذور‬
‫وقال أيضاً‪:‬‬
‫لقد حلفت مبا أسرى احلجيج له والناذرين دماء البدن يف احلرم‬
‫وقال أيضاً‪:‬‬
‫إين حلفت برب الراقصات وما أضحى مبكة من حجب وأستار‬
‫وابهلدي إذا امحرت مذارعها يف يوم نسك وتشريق وتنحار‬
‫فرتى مما ذكران أهنم إذا اجتهدوا ابلقسم حلفوا ابلكعبة ومشاعر احلج‪ .‬وبذلك جاء التصريح منهم ‪،‬‬
‫قال حسان بن اثبت األنصاري فيما قال قبل إسالمه‪:‬‬

‫(‪)21/1‬‬

‫إين ورب املخيسات وما يقطعن من كل سربخ جدد‬


‫والبدن قد قربت ملنحرها حلفة بر اليمني جمتهد‬
‫وقال عارق الطائي‪:‬‬
‫فأقسمت جهداً ابملنازل من مىن وما سحقت فيه املقادم والقمل‬
‫وبقي بعد ذلك يف اإلسالم‪ .‬قال الفرزدق‪:‬‬
‫أمل ترين عاهدت ريب وإنين لبني راتج قائماً ومقام‬
‫على حلفة ال أشتم الدهر مسمالً وال خارجا من يف زرو كالم‬
‫وقال احلطيئة ‪:‬‬
‫لعمر الراقصات بكل فج من الركبان موعدها مناها‬
‫فتلك جل أقسامهم الدينية ‪ ،‬وال خيفى عليك أهنم مل يريدوا هبا إال إشهاد اإلله املعبود الذي جعلوه‬
‫شاهداً ‪ ،‬وبذلك جعلوه وكيالً وكفيالً على العقود‪ .‬ومرادهم أهنم إن كذبوا بعد ذلك أسخطوا هللا ‪،‬‬
‫كما صرح به النابغة يف أبيات مرت يف هذا الفصل‪.‬‬
‫وأما مراد الصلحاء من إشهاد هللا تعاىل فليس إال اعتمادهم وتوكلهم على رهبم ‪ ،‬وإظهار جدهم يف‬
‫شهاداهتم ‪ ،‬كما سرتى يف أمثلة جتدها يف آخر هذا الفصل‪.‬‬
‫وإمنا ذكرت العرب يف أمياهنم الكعبة والنحر عندها ومسحها أتكيداً ملعىن اإلشهاد وإشارة إىل طريق‬
‫قسمهم ابإلله عند بيته‪ .‬ولذلك ترى زهرياً يسمي املنحر (مقسمة) وأنه هناك جتمع أمياننا‪ .‬وإذا كان‬
‫القسم مبحض اسم الرب عاماً ‪ ،‬ال ينتبه له بينوه بذكر أصله ‪ ،‬وصوروه ببيان شكله ‪ ،‬ليكون أوقع يف‬
‫القلب‪.‬‬
‫وهذا املراد الذي فهمنا من أحواهلم وأشعارهم يؤيده تصرَيهم إبشهاد هللا تعاىل يف أمياهنم‪ .‬فيقولون‬
‫‪(:‬وهللا شهيد) ‪( ،‬وهللا يعلم) أو ما يشبهه ‪ ،‬كما قال عمرو بن معد يكرب‪:‬‬
‫هللا يعلم ما تركت قتاهلم حىت علوا فرسي أبشقر مزبد‬
‫وقال احلارث بن عباد‪:‬‬
‫مل أكن من جناهتا علم هللا وإين حبرها اليوم صال‬
‫أو كما صرح النابغة الذبياين يف ذكر قصة احلية وحليفها الذي لدغت ابنه فمات ‪ ،‬مث صاحلته على‬
‫أن تعطيه دية ابنه‪ .‬فلما كاد الرجل أن يستويف الدية هم بقتلها ‪ ،‬ولكن وقاها هللا ضربته ‪ ،‬فحينئذ‬
‫دعاها للعهد مرة أخرى‪ .‬فذلك يذكر النابغة بقوله‪:‬‬
‫فقال ‪ :‬تعايل َنعل هللا بيننا على ما لنا أو تنجزي يل آخره‬

‫(‪)22/1‬‬

‫فقالت ميني هللا أفعل إنين رأيتك مسحوراً ميينك فاجره‬


‫أو كما صرح به النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬يف خطبة البالغ ‪ ،‬فقال بعد ما بلغهم عوازم األمور‬
‫‪(:‬أال هل بلغت اللهم اشهد)‪ .‬فجعل الرب شاهداً على ما عاهدهم به‪.‬‬
‫أو كما قال حني رجع إليه ابن اللتبية األزدي ‪ ،‬وقد استعمله على الصدقة ‪ ،‬وأخذ اهلدااي ‪ ،‬فأسخط‬
‫النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ .-‬فبعد ما أخربهم النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬بتبعات الغلول‬
‫رفع عليه السالم يديه إىل السماء ‪ ،‬وقال‪(:‬اللهم هل بلغت) ثالث مرات‪ .‬فهذا رفع اليد كان‬
‫إلشهاد هللا تعاىل على ما قال‪ .‬كأنه قال ‪ :‬اللهم اشهد‪.‬‬
‫وهكذا نرى إشهاد هللا برفع اليد إىل السماء يف قصة إبراهيم عليه السالم‪ .‬جاء يف سفر التكوين ص‬
‫‪ 14‬عدد ‪: 22‬‬
‫(فقال إبرام (إبراهيم) مللك سدوم رفعت يدي إىل الرب اإلله العلي مالك السماء واألرض ‪ 23 ،‬ال‬
‫آخذن ال خيطاً وال شراك نعل ‪ ،‬وال من كل ما هو لك)‪.‬‬
‫أي أقسمت ابهلل على ذلك وأشهدته وعاهدته‪.‬‬
‫ورفع اليد يف الصالة للعهد والشهادة وتفصيل ذلك يف كتاب (أصول الشرائع)‪.‬‬
‫أو كما صرح به القرآن يف غري موضع‪ .‬وقد مر أمثلته يف الفصل الثامن‪.‬‬
‫ومجلة الكالم أن األميان الدينية أيضاً أصلها اإلشهاد‪ .‬وإمنا اختلط هبا معىن التعظيم من جهة املقسم‬
‫به ‪ ،‬المن جهة حمض اإلشهاد الذي هو أظهر معىن القسم ابلشيء‪.‬‬
‫ويتضح هذا األمر من نوع آخر من أقسامهم اليت أشهدوا فيها ابملقسم به على وجه االستدالل ال‬
‫غري‪ .‬وهو مسلك لطيف من البالغة‪ .‬ونذكره يف الفصول اآلتية‪.‬‬
‫(‪)11‬‬
‫القسم على وجه االستدالل ابملقسم به‬
‫قد تبني مما ذكران أهنم كانوا يقسمون ابلشهادة من أنفسهم أو ابلشهادة ابهلل تعاىل‪ .‬وإذ كانت‬
‫الشهادة ابهلل أكرب الشهادات ‪ ،‬كثر القسم هبا ‪ ،‬ولذلك ظن من قل التفاته إىل أساليب الكالم وفنون‬
‫بالغته أن اإلشهاد ال يكون إال ابملعبود وعلى جهة التعظيم‪.‬‬

‫(‪)23/1‬‬

‫ولكنك إذا سرحت النظر يف كالم العرب وغريهم وجدت أهنم رمبا أشهدوا أبشياء مل يعبدوها وال‬
‫عظموها‪ .‬وإمنا أرادوا االستدالل جبعل املقسم به شاهداً على أقواهلم‪ .‬بل رمبا جتمع جهة االستدالل‬
‫ابألقسام الدينية أيضاً‪ .‬وسيأتيك ذكره يف الفصل اخلامس عشر‪.‬‬
‫وأما هاهنا فإمنا نذكر أمثلة القسم االستداليل ونوضح مفهومه‪ .‬فمنها ما قال أبو العراين الطائي ميدح‬
‫حامتاً اجلواد‪:‬‬
‫قد علموا والقدور تعلمه ومستهل الغرار مطرد‬
‫أن ليس عند اعرتار طارقها لديك إال استالهلا مدد‬
‫ومنها ما قال الراعي ‪:‬‬
‫إن السماء وإن الريح شاهدة واألرض تشهد واألايم والبلد‬
‫لقد جزيت بين بدر ببغيهم يوم اهلباءة يوماً ما له قود‬
‫ومنها ما قال النابغة الذبياين ‪:‬‬
‫واخليل تعلم أان يف جتاولنا عند الطعان أولو أبس وإنعام‬
‫ومنها قول عنرتة ‪:‬‬
‫واخليل تعلم والفوارس أنين فرقت مجعهم بطعنة فيصل‬
‫فقد رأيت يف هذه األمثلة أهنم أشهدوا ابلقدور ‪ ،‬واملدية ‪ ،‬والسماء والريح ‪ ،‬واألرض ‪ ،‬واألايم ‪،‬‬
‫والبلد ‪ ،‬واخليل ‪ ،‬والفوارس‪ .‬وليس املراد إال أنك لو سألتهن ونطقن لشهدن على دعواان‪.‬‬
‫ومن هذا األسلوب ما قال الفضل بن عيسى بن أابن يف وعظه‪(:‬سل األرض ‪ ،‬فقل ‪ :‬من شق أهنارك‬
‫وغرس أشجارك ‪ ،‬وجىن مثارك؟ فإن مل جتبك حواراً ‪ ،‬أجابتك اعتباراً)‪.‬‬
‫ولعل هذا الكالم مأخوذ من صحف أيوب عليه السالم ‪ ،‬قال ص ‪ 12‬عدد ‪(: 10-7‬فاسأل‬
‫البهائم فتعلمك ‪ ،‬وطيور السماء فتخربك ‪ ،‬أو كلم األرض فتجيبك ‪ ،‬وَيثك مسك البحر‪ .‬من ال‬
‫يعلم من كل هؤالء أن يد الرب صنعت هذا‪ .‬الذي بيده نفس كل حي وروح كل إنسي)‪.‬‬
‫ومثل هذا ما جاء يف صحف موسى عليه السالم سفر التثنية ص ‪ 30‬عدد ‪ (: 19‬أشهد عليكم‬
‫السماء واألرض قد جعلت قدامك احلياة واملوت ‪ ،‬والربكة واللعنة ‪ ،‬فاخرت احلياة لكي حتيا أنت‬
‫ونسلك)‪.‬‬

‫(‪)24/1‬‬

‫فأراد هبذا اإلشهاد أن عهدي هذا بكم ال يؤخذ سراً بل َنعله مشهوداً ومشتهراً ‪ ،‬فإن نقضتموه‬
‫لزمكم عاره دائماً أبداً‪ .‬فمىت ما أظلتكم السماء وأقلتكم الغرباء جاءتكم اللعنة والعذاب من فوقكم‬
‫وحتتكم‪ .‬فضرب السماء واألرض مثالً لدوام ولزوم ذلة النقض ‪ ،‬فكأنه عليه السالم أقام عليهم‬
‫شاهدين ال يفلتون منهما أبداً وآيتني ال تغرابن عنهم‪.‬‬
‫ومما جيلو الشبهة عن القسم الذي يشهد فيه مبا ينطق بلسان احلال أهنم كما أشهدوه بكلمة (يشهد)‬
‫و(يعلم) أو ما يشبههما ‪ ،‬فكذلك أشهدوه بكلمات خصت ابلقسم ‪ ،‬أو نصت له مثل ‪ :‬واو القسم‬
‫(لعمري) أو ما يشاهبهما‪.‬‬
‫فإن مل يطمئن قلبك ابألمثلة السابقة ‪ ،‬فدونك أقسام صرَية أبمور انطقة بلسان احلال‪ .‬فمنها قول‬
‫عروة بن مرة اهلذيل ‪:‬‬
‫فقلت ‪َ :‬وَم ْر َخ ٍة دعوى كبري‬
‫وقال أبو أمامة ايل بكر ُ‬
‫يستهزئ الشاعر أبيب أمامة على استغاثته بقبيلة بكر‪ .‬فقال ‪:‬‬
‫هذه دعوى كبرية ‪ ،‬أي ما أصغر من يدعوه لنصره!! فأقسم بشجرة صغرية ال تؤوي من يلوذ هبا ‪،‬‬
‫وضرهبا مثالً ألضعف األشياء مالذاً ‪ ،‬ويتضح هذا املعىن مما قال أبو جندب اهلذيل ‪:‬‬
‫وكنت إذا جار دعا ملضوفة أمشر حىت ينصف الساق مئزري‬
‫فال حتسنب جاري لدى ضل مرخة وال حتسبنه فقع قاع بقرقر‬
‫ومنها قسم اهلجرس حني قتل جساساً قاتل أبيه ‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫(وفرسي وأذنيه ‪ ،‬ورحمي ونصليه ‪ ،‬وسيفي وغراريه ‪ ،‬ال يرتك الرجل قاتل أبيه ‪ ،‬وهو ينظر إليه )‪.‬‬
‫فأقسم هبذه األشياء استدالالً هبا ‪ ،‬كأنه قال‪ :‬فكيف أترك قاتل أيب ؟ وأان قادر على الكر والفر‬
‫والطعن والضرب‪.‬‬
‫فذكر يف قسمه ما يصدق دعواه ‪ ،‬ويستدل هبا على وجوب ما أراد به ‪ ،‬ومنها قسم طرفة ‪:‬‬
‫وقربة ذي القرىب وجدك إنين مىت يك أمر للنكيثة أشهد‬
‫أراد أنه كيف ال يشهد جملس ذوي القرىب إذا اجتمعوا ألمر كبري ‪ ،‬وال يراعي منزلة الرحم ‪ ،‬وهي‬
‫عظيمة عندهم ‪ ،‬وكانوا ينشدون ابهلل والرحم ‪ ،‬فأقسم هبا استدالالً على لزوم مشهده‪ .‬ومنها قول‬
‫احلصني بن محاد يرثي نعيم بن احلارث خليله ‪:‬‬

‫(‪)25/1‬‬

‫قتلنا مخسة ورموا نعيما وكان القتل للفتيان زينا‬


‫لعمر الباكيات على نعيم لقد جلت رزيته علينا‬
‫فلم يقسم ابلباكيات إال ألن حاهلن يشهد على جاللة هذه الرزية ‪ ،‬وهذا النوع من القسم ‪ ،‬وإن مل‬
‫يكثر يف كالمهم لدقة مذهبه ‪ ،‬ولغلبة أقسام أخرى ولكنه طريق واضح ‪ ،‬وأسلوب خاص ‪ ،‬جيمع‬
‫ابواابً من البالغة ‪ ،‬كما سيأتيك بياهنا يف الفصل السابع عشر؟ ويوجد يف العرب والعجم وندلك على‬
‫عمومه إبيراد بعض األمثلة من كالم اليواننيني‪.‬‬
‫(‪)12‬‬
‫القسم على وجه االستدالل‬
‫يف كالم دمياسثنس أعظم بلغاء يوانن‬
‫كانت اليوانن يف أول أمرهم على حرية كاملة ‪ ،‬مل ميلكهم ملك ‪ ،‬بل يدور أمرهم على اجلمهورية ‪،‬‬
‫حىت نشأ فيهم فيلبوس أبو إسكندر األعظم‪ .‬فتملك عليهم‪ .‬ولكن مل يستقر حكمه إال بعد‬
‫مشاجرات ابجلمهور‪ .‬وكان َيرضهم عليها أعظم خطبائهم دمياسثنس الشهري‪ .‬فلما هزمهم فيلبوس‬
‫قام هذا اخلطيب على أهل أثينة وهي عاصمة بالدهم ‪ ،‬وألقى عليهم خطبته الطنانة يسليهم على‬
‫هزميتهم وميدحهم على إلقاء نفوسهم إىل اهلالك إلبقاء حريتهم ‪ ،‬وكان خطيب آخر يسمى أسكنس‬
‫مينعهم عن خمالفة امللك ‪ ،‬فقال دمياسثنس راداً على أسكنس ومادحاً أهل أثينة‪.‬‬
‫(أيها األثينيون إنكم مل تكونوا على الباطل حني خاطرمت بنفوسكم يف القتال عن حرية يوانن وسالمتها‬
‫‪ ،‬ويف ذلك لكم أسوة يف أسالفكم ‪ ،‬فإهنم مل يكونوا على الباطل ‪ :‬الذين قاتلوا على مراثن ‪ ،‬الذين‬
‫قاتلوا على سالمس ‪ ،‬الذين قاتلوا على فالطي‪ .‬إنكم مل تكونوا على الباطل‪ .‬كال ‪ ،‬مل تكونوا‪ .‬أقسم‬
‫ابلذين خاطروا بنفوسهم على معركة مراثن ‪ ،‬الذين من أسالفكم ألقوا بنفوسهم إىل اهلالك على ميدان‬
‫مراثن ‪ ،‬الذين كانوا يف احلرب البحرية عند سالمس وأرطميسيم ‪ ،‬والذين كافحوا األعداء على‬
‫فالطى‪ .‬فيا أسكنس إن أهل البلد مل يكرموا الفائزين منهم فقط ‪ ،‬بل أكرموهم أمجعني إبكرام جنازهتم‬
‫إكراماً مجهورايً)‪.‬‬

‫(‪)26/1‬‬

‫يعين مل يكرموهم على فوزهم بل على حماماهتم واستمتاتتهم للحرية ‪ ،‬فكذلك أنتم وإن مل تفوزوا فقد‬
‫بذلتم نفوسكم للدفاع عن احلرية‪.‬‬
‫فانظر يف هذا القسم ‪ ،‬كيف مثل أسالفهم وفعاهلم بني أيديهم ليمأل قلوهبم ابلفخار املسلم عندهم ‪،‬‬
‫فضرب هلم مثالً ‪ ،‬وجعل حسن مساعيهم شاهداً على حسن مسعاة املخاطبني ‪ .‬وأخرج الكالم خمرج‬
‫القسم الذي بين على التأكيد‪.‬‬
‫واشتهر هذا القسم لبالغته ‪ ،‬واستجاده السلف واخللف من الناقدين ‪ .‬ولكن أرى املتأخرين منهم‬
‫أخطأوا كما أخطأ علماؤان‪ .‬فإن ال َننوس اليوانين الذي نشأ بعد ستمائة من دمياسثنس ‪ ،‬وكان معلماً‬
‫للبالغة يف أثينة ‪ ،‬ومشهوراً بغزارة العلم يف زمانه ‪ ،‬ذكر هذا القسم يف كتابه على البالغة ‪ ،‬وقال فيه‬
‫‪ :‬إن حسنه يف غاية تعظيم املقسم هبم ‪ ،‬فإن دمياسثنس جعلهم مبنزلة اآلهلة‪ .‬وأنكر على من قال إن‬
‫هذا األسلوب مأخوذ من قول الشاعر يوبولس الذي أقسم إبكليله‪.‬‬
‫وإين أذكر قسم يوبولس أيضاً ليكون مثاالً اثنياً ‪ ،‬ولتعلم أن الرأي الذي أنكره ال َنوس هو الرأي‬
‫القومي‪.‬‬
‫(‪)13‬‬
‫القسم على وجه االستدالل‬
‫يف كالم يوبولس الشاعر اليوانين‬
‫كان من سنن يوانن يف زمان حريتهم أنه إذا فعل أحد منهم أمراً عظيماً انفعاً هلم عصبوا برأسه إكليالً‬
‫تشريفاً لقدره واعرتافاً حبقه‪ .‬وكان الشاعر يوبولس انل منهم هذا اإلكرام يف حرب مراثن ملا أبلى بالء‬
‫حسناً‪.‬‬
‫مث بعد ذلك اهتمه بعض حساده أبنه ساخط ابلقوم ‪ ،‬ليزرع هبذه التهمة بغضه يف قلوهبم‪ .‬فأزاح‬
‫يوبولس هذا الظن عن نفسه بقول ترمجته ‪:‬‬
‫ال وإكليلي الذي نلت لدى مراثنا‬
‫ال يراين شامت أضمر سخطاً كامنا‬
‫فأقسم إبكليله الذي انله من أيدي قومه استدالالً على عدم سخطه هبم كأنه قال ‪ :‬كيف أسخط‬
‫على قومي بعد أن أكرموين هبذا العز‪.‬‬

‫(‪)27/1‬‬

‫فنرى يف هذا املثال – كما رأينا يف أمثلة أخر – أن القسم ال خيتص ابإلله‪ .‬وبذلك ينهدم ما بىن عليه‬
‫ال َننوس رأيه ‪ ،‬وتبني لنا أن من جعل قسم دمياسثنس مشاهباً بقسم الشاعر يوبولس أصاب املراد‪.‬‬
‫فإهنما استعماله على وجه االستدالل وضرب املثل ‪ ،‬وليس املراد منه تعظيم املقسم به‪ .‬فإن كان‬
‫املقسم به يف نفس األمر عظيماً فهذا من حمض االتفاق ‪ ،‬وال يتعلق به غرض القسم‪ .‬حمض القسم‬
‫ساكت عن عظمته‪ .‬أال ترى عروة بن مرة الذي مر شعره يف الفصل احلادي عشر كيف أقسم ابملرخة‬
‫وضرهبا مثالً لغاية الذلة والضعف‪.‬‬
‫(‪)14‬‬
‫شرح دالالت القسم االستداليل‬
‫بعدما وقفت على أمثلة القسم االستداليل من النثر ‪ ،‬والنظم لدى العرب والعجم ‪ ،‬وتبني لك أنه‬
‫أسلوب خاص من البالغة ‪ ،‬نريد أن َنمع لك يف هذا الفصل ما فيه من الدالالت االستداللية اليت‬
‫ذكرانها يف الفصول السابقة شتااتً لتفهمها كل الفهم ‪ ،‬فإن ذلك من مهمات مباحث هذا الكتاب‪.‬‬
‫مث جتد زايدة عليه حني نذكر ما يف القسم من أبواب البالغة‪.‬‬
‫فاعلم أهنم إذا أشهدوا على وجه االستدالل رمبا أرادوا به شدة وضوح املقسم عليه كما ترى يف قول‬
‫الراعي ‪:‬‬
‫إن السماء وإن الريح شاهدة واألرض تشهد واألايم والبلد‬
‫يعين أن األمر بلغ غاية الشهرة واملعرفة حىت إن كل شيء يشهد به ‪ ،‬فذهب يف آفاق السماء وأقطار‬
‫األرض ‪ ،‬وجرت به الريح يف كل جانب ‪ ،‬وبلغ كل بلد ‪ ،‬وكفلت األايم إببقائه على صفحات الدهر‪.‬‬
‫وغاية التأكيد يف أن هذه األشياء اليت ال روح هلا تشهد به فكيف أبهل السمع والبصر والنطق‪.‬‬
‫وهذا حبسب الظاهر مبالغة‪ .‬ولكنه بين على الصدق ‪ ،‬فإن املراد به غاية الشهرة وعموم العلم به‪.‬‬
‫ويشبه ذلك ما مر من قسم موسى عليه السالم حيث أشهد السماء واألرض‪.‬‬

‫(‪)28/1‬‬

‫ورمبا أرادوا به ضرب مثل على وجه التشبيه ادعاء من املتكلم كما ترى يف قسم عروة بن مرة‪ .‬فإنه‬
‫ضرب املرخة مثالً لقبيلة بكر اليت استغاث هبم أبو أمامة ‪ ،‬فشبههم ابملرخة‪ .‬وهذا حمض االدعاء ‪،‬‬
‫ولكن الدعوى إذا كانت بطريق اإلشارة يتلقاها املخاطب ابلقبول ‪ ،‬مثلما تراه يف التشبيه والكناية ‪،‬‬
‫كما بينوه يف كتب املعاين ‪ ،‬ونرجع إىل هذا البحث يف الفصل السابع عشر إن شاء هللا تعاىل‪.‬‬
‫ورمبا أرادوا به أتييداً للقول ‪ ،‬فأشهدوا ابملقسم به لكونه مؤكداً للمقسم عليه ‪ ،‬كما ترى يف قول‬
‫يوبولس‪ .‬فإنه أشهد إبكليله الذي أكرمه به قومه‪ .‬وهو أقصى الغاية عندهم يف التعظيم‪ .‬فكأنه قال‬
‫يف رد قول خمالفه ‪ ،‬إين بعد هذا الشرف الدائم كيف يظن يب أين أسخط هبم‪ .‬وكان يف هذا‬
‫االستدالل ضعف فإنه ميكن ملخالفه أن يقول ‪ :‬أنت مع هذا اإلكرام العظيم تبدلت ‪ ،‬وصرت جاحد‬
‫النعمة‪ .‬فأكد قسمه ابإلكليل بذكر شرف نفسه ‪ ،‬فقال‪ :‬إين اقتنيته يف أشهر حروهبم اليت بدت فيها‬
‫منازل سراة القوم ‪ ،‬فكنت فيها من الطراز األول‪ .‬فبعد هذا التأكيد مل يرتك خلصمه إال حمل حسود‬
‫يسيئ الظن ابلكرام‪ .‬ولكن يف هذا االستدالل ال يتم التقريب بني الدعوى ودليلها‪.‬‬
‫ورمبا أرادوا به حجة قاطعة على قوهلم بذكر أمر جامع بني املقسم به واملقسم عليه ‪ ،‬كما ترى يف‬
‫قسم دمياسثنس‪ .‬فإنه ذكر حسن فعال أسالف املخاطبني ‪ ،‬وهم ال يشكون فيه ‪ ،‬واحتج به على‬
‫حسن فعال الذين اتبعوا أسالفهم‪ .‬ولذلك صرح أوالً أبن لكم أسوة يف أسالفكم وهذا لعمرك‬
‫أحسن وجوه هذا النمط من القسم‪.‬‬
‫(‪)15‬‬
‫األدلة املأخوذة من نفس القرآن‬
‫على ما فيه من األقسام االستداللية‬
‫بعدما تبني لك أن القسم أصله االستشهاد ‪ ،‬وأنه ال يراد من التعظيم ‪ ،‬إال إذا كان ابهلل تعاىل‬
‫وبشعائره ‪ ،‬وعلمت أنه رمبا يكون حملض االستدالل ‪ ،‬ال خيفى عليك أن أقسام القرآن اليت بىن عليها‬
‫املعرتض الشبهتني األخريتني ليست إال لالستدالل واإلشهاد ابآلايت الدالة‪.‬‬

‫(‪)29/1‬‬

‫فإ قال قائل ‪ :‬هب أن أصل القسم هو اإلشهاد ‪ ،‬ولكنه لكثرة استعماله للتعظيم صار كاملنقول ‪،‬‬
‫وأصله كاملذهول‪ .‬ولذلك هني عن القسم بغري هللا تعاىل ‪ ،‬فال يصار إىل األصل إال بدليل واضح بني‪.‬‬
‫قلنا ‪ :‬سلمنا ولكنا مل نذهب إىل هذا املعىن اخلاص ألقسام القرآن إال بداللة القرآن من وجوه كثرية‪.‬‬
‫ودونك بياهنا ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬ما علمنا من سنة القرآن من استعماله بعض الكلمات مرة للعبد وأخرى هلل تعاىل‪ .‬وحينئذ‬
‫مييز بني وجوهها ‪ ،‬حىت ال يكون خمالفاً جلاللة ربنا جلت عظمته ‪ ،‬مثل كلمة الصالة فإهنا الدعاء من‬
‫العبد والرمحة من هللا تعاىل ‪ .‬وكلمة الشكر فإهنا من العبد االعرتاف ابلنعمة ‪ ،‬ومن هللا تعاىل قبوله‬
‫احلسنات من عبده‪.‬‬
‫وهكذا التوبة ‪ ،‬والسخط ‪ ،‬واملكر ‪ ،‬والكيد ‪ ،‬واألسف ‪ ،‬واحلسرة وغريها‪ .‬بل ما من كلمة إال مييز‬
‫بني وجوه معانيها إذا استعملت هلل تعاىل‪ .‬ويؤخذ أبحسنها ويرتك ما ال يليق بذاته املقدسة‪ .‬وقد علمنا‬
‫الوجوه الكثرية للقسم ‪ ،‬فحملناه على وجه يليق جباللة ربنا ‪ ،‬وأخذان مبا هو (خري وأحسن أتويالً)‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬ما هتتدي إليه من محل النظري على النظري وتفسري اآلايت بعضها ببعض‪ .‬فإنك ترى القرآن‬
‫يذكر األمور الدالة اترة على أسلوب القسم هبا ‪ ،‬وأخرى على أسلوب اآلية والعربة‪ .‬وكلها إشهاد ملن‬
‫يتفكر فيها‪ .‬قال تعاىل‪(:‬إن يف خلق السموات واألرض واختالف الليل والنهار والفلك اليت جتري يف‬
‫البحر مبا ينفع الناس وما أنزل هللا من السماء من ماء فأحيا به األرض بعد موهتا وبث فيها من كل‬
‫دابة وتصريف الرايح والسحاب املسخر بني السماء واألرض آلايت لقوم يعقلون)‪.‬‬
‫ومثل هذا كثري‪ .‬فيذكر هللا تعاىل آايته وَيتج هبا‪.‬‬

‫(‪)30/1‬‬

‫مث ترى هذه اآلايت أشهد هبا القرآن على أسلوب القسم ‪ ،‬فأشهد ابلسماء واألرض والشمس‬
‫والقمر ‪ ،‬والليل والنهار ‪ ،‬والفجر والضحى ‪ ،‬والريح والسحاب ‪ ،‬واجلبال ‪ ،‬والبحر والبلد ‪،‬‬
‫واإلنسان والوالد والولد ‪ ،‬والذكر واألنثى ‪ ،‬والشفع والوتر‪ .‬فكوهنا آايت دالة له نظري ‪ ،‬وال سبيل‬
‫إىل إرادة تعظيمها‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬ما يدلك عليه نفس املقسم به ‪ .‬فإن العاقل ال يتوهم أن هللا تعاىل يضع خملوقاته موضع‬
‫املعبود املقدس ‪ ،‬ال سيما الذي ليس له كبري تقدس كاخليل العادية والريح الذارية ‪ ،‬وقد صرح القرآن‬
‫بكون هاتيك املقسم هبا من السماء واألرض والشمس والقمر والنجوم وغريها مسخرة مدللة طائعة‪.‬‬
‫ففي نفس القسم هبا داللة على أن املراد حمض اإلشهاد هبا‪.‬‬
‫والرابع ‪ :‬ما ترى من املناسبة الظاهرة بني املقسم به واملقسم عليه‪ .‬فإن القرآن وضع أكثر هذه‬
‫األقسام حبيث ال خيفى على العاقل جهة داللتها على ما أقسم عليه‪ .‬ولذلك ترى صاحب التفسري‬
‫الكبري – رمحه هللا – مع ظنه أبن القسم للتعظيم ‪ ،‬وتكلفه لبيان فضائل التني والزيتون – مل ختف‬
‫عليه جهة عامة يف داللة األقسام اليت جاءت يف أول سورة الذارايت فقال‪( :‬إهنا كلها دالئل أخرجها‬
‫يف صورة األميان)‪ .‬ولو أتمل يف سائر أقسام القرآن اليت جاءت على وجه االستدالل الختار هذا‬
‫التأويل يف مجيعها‪.‬‬
‫واخلامس ‪ :‬ما ترى من تعميم املقسم به على طريق تعميم اآلايت الدالة ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪(:‬فال أقسم‬
‫مبا تبصرون * وما ال تبصرون) فلم يرتك شيئاً إال وقد أقسم به ‪ ،‬كما قال ‪(:‬وإن من شيء إال يسبح‬
‫حبمده) فلم يرتك شيئاً إال وقد أنطقه حبمده وأشهده مبجده‪ .‬ويشبه هذا التعميم استعمال املتقابلني‬
‫حيث أقسم ابلليل والنهار واألرض والسماء‪ .‬فكيف يظن أن هللا َعظَّ َم كل شيء ؟ والسبيل إىل جعله‬
‫آية دالة ظاهر فال يصار إال إليه‪.‬‬

‫(‪)31/1‬‬

‫والسادس ‪ :‬ما يتبع املقسم به من التنبيه على كون املقسم به دليالً للعقالء‪ .‬كما قال تعاىل ‪(:‬والفجر‬
‫* وليال عشر * والشفع والوتر* والليل إذا يسر * هل يف ذلك قسم لذي حجر)‪.‬‬
‫فهذه اجلملة األخرية مثل ما جتد كثرياً يف القرآن بعد ذكر الدالئل كما جاء يف سورة النحل ‪ (:‬إن يف‬
‫ذلك آلايت لقوم يعقلون) أو كما جاء يف سورة طه ‪(:‬إن يف ذلك آلايت ألويل النهى) أو كما جاء يف‬
‫سورة آل عمران ‪ (:‬إن يف ذلك لعربة ألوىل األبصار) وهذا كثري‪ .‬فهكذا هاهنا بعد ذكر األقسام نبه‬
‫على كوهنا دالئل لذي عقل وبصرية‪.‬‬
‫ويشبه ذلك ما جاء من التنبيه بعد القسم يف سورة الواقعة حيث قال‪ (:‬فال أقسم مبواقع النجوم *‬
‫وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) أي إن فيها داللة عظيمة وشهادة كبرية‪ .‬فصرح بعظمة القسم ال بعظمة‬
‫املقسم به‪.‬‬
‫والسابع ‪ :‬ما ترى يف ذكر املقسم به على صفة خاصة تشري إىل جهة االستدالل‪ .‬كقوله تعاىل‬
‫‪(:‬والنجم إذا هوى) وقوله تعاىل‪(:‬فال أقسم ابخلنس * اجلوار الكنس) وقوله تعاىل‪(:‬والصافات صفا *‬
‫فالزاجرات زجرا * فالتاليات ذكرا) وقوله تعاىل‪(:‬والذارايت ذرواً * فاحلامالت وقرا* فاجلارايت يسرا *‬
‫فاملقسمات أمرا) وقوله تعاىل ‪ (:‬وال أقسم ابلنفس اللوامة) وغريها‪.‬‬
‫فهوي الثراي ‪ ،‬وخنوس النجوم ‪ ،‬وصف املالئكة ‪ ،‬وذرو الرايح ‪ ،‬وتقسيمها األمور ‪ ،‬ومالمة النفس‬
‫أقرب إىل االستدالل منها إىل التعظيم‪.‬‬
‫والثامن ‪ :‬ما يسبق املقسم به من صريح ذكر اآلايت الدالة ‪ ،‬مث يعرب عن املقسم به على وجه يشري‬
‫إىل تلك اآلايت ‪ ،‬كأنه مهد من قبل ملا أريد من وجه االستدالل ‪ .‬وهذا مما يهتز له املتدبر يف نظم‬
‫القرآن‪.‬‬
‫ويتضح ذلك ابملثال‪ .‬قال تعاىل يف سورة الذارايت ‪(:‬ويف األرض آايت للموقنني * ويف أنفسكم أفال‬
‫تبصرون* ويف السماء رزقكم وما توعدون)‪.‬‬

‫(‪)32/1‬‬

‫أي إن لكم فيهن آية على الربوبية والدينونة ‪ ،‬كما فصل ذلك يف غري موضع من القرآن‪ .‬فبعد ما‬
‫ذكر أن األرض والسماء قد اشتملت على آايت اجلزاء بل على نفس اجلزاء ‪ ،‬جاء بقوله ‪ (:‬فورب‬
‫السماء واألرض إنه) أي الدين واجلزاء‪ .‬وليس املراد به القرآن كما تومهوه (حلق مثل ما أنكم‬
‫تنطقون)‪.‬‬
‫فال خيفى أن هذا القسم – مع داللته على التقديس لكونه إشهاداً ابهلل تعاىل – قد تضمن‬
‫االستدالل آبايت يف األرض والسماء ‪ ،‬ملا عرب عن املقسم به على صفة تشري إىل ما سبق من صريح‬
‫االستدالل ابآلايت الدالة‪ .‬وملا كان وجه التعظيم يف هذا القسم أظهر ‪ ،‬وكاد يشغل عن وجه‬
‫االستدالل حسن التمهيد له من قبل‪.‬‬
‫ويف هذا القدر كفاية إن شاء هللا تعاىل‪ .‬فإذا سأل سائل‪ :‬كيف خفي الصواب على العلماء ‪ ،‬أم كيف‬
‫يطمئن القلب هبذا القول املبتدع‪ .‬أجبناه مبا نذكره يف الفصل اآليت‪.‬‬
‫(‪)16‬‬
‫بعض أسباب خفاء الوجه الصحيح‬
‫يف أتويل أقسام القرآن‬
‫مما ذكران من أقوال العلماء يف الفصول السابقة نرى أن هذا املعىن للقسم ليس ببدع ‪ ،‬بيد أنه خفي‬
‫عليهم بعض وجوهه ومعانيه‪ .‬فلم يتمسكوا به كل التمسك‪ .‬فإما أن تركوه يف بعض املواضع ‪ ،‬وإما‬
‫خلطوا به معىن آخر‪ .‬ولنذكر هنا بعض أسباب اخلفاء ليظهر عذرهم‪.‬‬
‫فالسبب األول ‪ :‬أنه يف بعض املواقع كان املقسم به يف نفسه شريفاً ‪ ،‬مثل القرآن والطور ومكة ‪ ،‬أو‬
‫الشمس والقمر والنجوم ‪ ،‬أو العصر والليل والنهار ‪ ،‬فلم َيتاجوا إىل جعل اإلقسام به استدالالً‪.‬‬
‫وقد ظنوا أن القسم ابلشريف العظيم عام شائع‪ .‬فإذا وجدوا املقسم به ذا احتماالت أخذوا منها ما‬
‫يشبه ابلشرافة‪ .‬وهبذا السبب منعوا عن التعريج إىل السمت الصحيح‪ .‬وذهبوا من القسم يف مذهب‬
‫عام ‪ ،‬كما أن املاء جيري إىل اخلفض إن مل يصرفه صارف‪.‬‬

‫(‪)33/1‬‬

‫والسبب الثاين ‪ :‬أن احلكماء َنعتهم األمور الكلية‪ .‬فال يعجبهم رأي ينخرم بعض جوانبه‪ .‬ووجه‬
‫الداللة يف األقسام مع ظهوره يف بعض األمثلة كان خفياً يف بعضها‪ .‬وملا مل يتبني هلم وجه الداللة فيه‬
‫زعموا أن هذه الكلية ال تصح هاهنا‪.‬‬
‫وليس من دأب أكثرهم أن يقروا ابلعجز وَيولوا العلم إىل هللا تعاىل ‪ ،‬كما ترى ذلك يف مسألة نظم‬
‫القرآن‪ .‬فإنه ظاهر واضح يف أكثر املواضع ومل يشكل كل اإلشكال إال يف قليل‪ .‬فلو اعرتفوا ابجلهل‬
‫‪ ،‬كما فعل بعضهم ‪ ،‬لكان حرايً هبم‪ .‬لكن تراهم مل يعتمدوا على وجود النظم‪ .‬وإمنا أرادوا بذلك أنه‬
‫ليس كلياً ‪ ،‬فظن العوام أن ال نظم يف القرآن ‪ ،‬وكلها اقتضاب‪.‬‬
‫والصواب أن نتحرى يف كل أمر ما هو األوىل واألحسن ‪ ،‬وقد دلت عليه دالئله ‪ ،‬وبدت خمايله ‪،‬‬
‫وترجح جانبه ‪ ،‬وتوضح الحبه ‪ ،‬ونكون كما قال تعاىل ‪ (:‬الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه‬
‫أولئك الذين هداهم هللا وأولئك هم أولوا األلباب)‪.‬‬
‫فإن أشكل علينا بعض وجوهه نسبناه إىل قلة علمنا ‪ ،‬وسيجعل هللا يسراً بعد عسر ‪ ،‬وجرباً بعد كسر‬
‫‪ ،‬والعلوم متزايدة ‪ ،‬وهللا يهدي من يشاء‪.‬‬
‫فمحض غموض جهة االستدالل يف بعض األقسام ال يصرفنا إىل رأي ابطل مع سخافته‪ .‬أال ترى‬
‫اآلايت الدالة ليست كلها ظاهرة الداللة حبيث ال حتتاج إىل أتمل‪ .‬والقرآن صرح بذلك وندب إىل‬
‫التفكر والتدبر فيها‪ .‬بل صرح أبهنا ال يفهمها إال العاقلون املتقون ‪ ،‬كما جاء كثرياً يف القرآن‬
‫والصحف األوىل‪ .‬ومع ذلك ال نشك يف أهنا دالئل قاطعة وحجج ساطعة‪ .‬فهذا التحري هو اخلطوة‬
‫األوىل للتأمل وإعمال العقل حىت تنحل اإلشكاالت ويطمئن القلب بعد العلم‪.‬‬
‫وإين حبمد هللا تعاىل مل أطمئن هلذا الرأي إال بعد أن أتملت يف مجيع أقسام القرآن ‪ ،‬حىت تبني يل أهنا‬
‫دالئل‪ .‬ومل يدلين عليه إال القرآن من وجوه عديدة كما مر ذكرها آنفاً‪.‬‬

‫(‪)34/1‬‬

‫والسبب الثالث ‪ :‬وهو مدار األولني ‪ ،‬أهنم ملا وجدوا القسم ابهلل تعاىل وشعائره شائعاً غلب على‬
‫ظنهم أن ذلك أصله‪ .‬فإذا وجدوا القسم بغريه جعلوه جمازاً‪ .‬مث رأوا أن اجملاز ال يصار إليه إال إذا‬
‫تعذرت احلقيقة‪.‬‬
‫ولكن حمض الكثرة ليس دليل األصلية ‪ ،‬وال املصري إىل اجملاز مشروط بتعذر احلقيقة‪ .‬بل الصواب أن‬
‫أتخذ من املعاين ما هو أحسن وأحرى ‪ ،‬وأشبه ابلسياق ‪ ،‬وما له نظائر يف ابقي الكالم‪.‬‬
‫فلما جعلوا الفرع أصالً خفي عليهم حقيقة معىن القسم ابلشيء ‪ ،‬وهو اإلشهاد به‪ .‬فقوهلم يف بعض‬
‫األقسام إهنا دالئل مل يكن إال لشدة وضوح هذا املراد فيها‪ .‬كأن القرآن دعاهم بصوت جهوري‬
‫وجذهبم ببطش قسوري إىل صحيح معناه‪ .‬ومع ذلك هم على الظن األول‪ .‬فلم يكن اخلفاء من جهة‬
‫القرآن بل من بعض الظن منهم عفا هللا عنهم‪.‬‬
‫والسبب الرابع ‪ :‬شهرة بعض أمور ذات وجوه على وجه خاص ‪ ،‬مثل قصة هالك فرعون وقومه‪ .‬فإن‬
‫املشهور أهنم أهلكوا مبحض املاء ‪ ،‬وال يرون فيه دخالً للريح‪ .‬وحقيقة األمر أنه كان من عجائب‬
‫تصاريفها أبمر رهبا‪ .‬وهكذا األمر يف طوفان نوح عليه السالم ‪ ،‬كما بيناه يف تفسري سورة الذارايت‪.‬‬
‫فأينما كانت املناسبة بني املقسم به واملقسم عليه منوطة ببعض الوجوه ‪ ،‬خفي وجه االستدالل على‬
‫من خفي عليه ذلك الوجه‪ .‬وملا مل يكن تفصيل هذا القصص من مهمات العقائد واألحكام مل يلتفت‬
‫إليها علماؤان رمحهم هللا تعاىل‪.‬‬
‫والسبب اخلامس ‪ :‬وهو يشبه ما قبله ‪ ،‬أن علماءان رمحهم هللا تعاىل شغلتهم العلوم العقلية والنقلية‬
‫املشهورة عن علوم هي أكرب منها نفعاً يف التفسري ‪ ،‬وذلك هو علم لسان أوحي به إلينا وإىل من قبلنا‬
‫‪ ،‬واتريخ هذه األمم السامية ‪ ،‬وعلومهم وآداهبم‪ .‬وإذ هي ال ختتص مبسألة القسم ال نبسط القول‬
‫فيها‪.‬‬
‫وال حاجة إىل استقصاء أسباب اخلفاء ‪ ،‬فليكفنا هذا القدر منها‪.‬‬
‫(‪)17‬‬
‫ذكر بعض ما يف القسم‬
‫من أبواب البالغة ولطائفها‬

‫(‪)35/1‬‬

‫لعلك تقول ‪ :‬إن كانت هذه األقسام دالئل ال غري ‪ ،‬فلم مل تذكر على أسلوب االحتجاج الصريح‪.‬‬
‫فاعلم أن االستدالل إذا كان على أمور ال تتعلق هبا الرغبة والنفرة ‪ ،‬مثل ما ترى يف العلوم الطبيعية‬
‫والرايضية أو يف اتريخ األولني على األكثر ‪ ،‬كان ذكر األدلة فيها أوىل ابلتصريح‪ .‬فأما إذا استدللنا‬
‫على أمور نفسانية يتصادم فيها من القائل والسامع حث واستنكار ‪ ،‬وزجر واستكبار ‪ ،‬وإحلاح‬
‫وإصرار ‪ ،‬احتجنا إىل إيراد األدلة على وجوه خمتلفة من أساليب الكالم متفاوتة يف الوضاحة واللطافة‬
‫والقوة واحلدة‪.‬‬
‫ورمبا نبدل األسلوب حملض االجتناب عن مالل السامع أو الرجاء أن ينجح فيه بعض األساليب أكثر‬
‫من بعض ‪ ،‬كما صرح به القرآن ‪(:‬انظر كيف نصرف اآلايت لعلهم يفقهون) وكما فعل إبراهيم عليه‬
‫السالم مع الذي حاجه يف ربه ‪ ،‬فرتك اإلصرار على الدليل األول ‪ ،‬حني مل يفهمه اخلصم ‪ ،‬وعمد إىل‬
‫دليل آخر أقرب إىل فهمه ‪ (:‬فبهت الذي كفر)‪.‬‬
‫فهذه مجلة اجلواب ‪ .‬مث يف أسلوب القسم معان مفيدة لالستدالل مما يفتح عليه من البالغة أبواابً ‪،‬‬
‫ويلقي عليه من احملاسن جلباابً‪ .‬ونذكر هنا بعض تلك املعاين ‪ ،‬وندلك على ما فيه من البالغة‪.‬‬
‫األول‪ :‬هو إظهار التأكيد واجلد يف القول ‪ ،‬كما ترى يف قول املرسلني من النصارى حيث جاء يف‬
‫القرآن ‪(:‬قالوا ربنا يعلم إان إليكم ملرسلون * وما علينا إال البالغ املبني) أو كما ترى يف قوله تعاىل ‪(:‬‬
‫(والسماء ذات الرجع * واألرض ذات الصدع* إنه لقول فصل * وما هو ابهلزل)‪.‬‬
‫وقد علموا أن احلر املهذب إذا أقسم على أمر فقد ابلغ يف إظهار اجلد منه ‪ ،‬ونفى عن نفسه اهلزل‪.‬‬
‫ولذلك كثر القسم يف أوائل النبوة حىت تبني هلم جده‪ .‬وقد صرح يف املثالني املذكورين‪ .‬وذلك‬
‫خلصوصية يف أسلوب القسم ‪ ،‬ال ألن فيه تعظيماً ‪ ،‬كما ترى أتكيد اإلثبات واإلنكار أبسلوب‬
‫االستفهام أو التعجب يف أكثر األسئلة ‪ ،‬أو أتكيد التعجب ابلنداء كقولك ‪ :‬ايللماء ‪ ،‬و‪:‬‬
‫ايلقومي للشباب املسبكر‬
‫(‪)36/1‬‬

‫والثاين‪ :‬كون القسم إنشاء ‪ .‬وذلك يبهم طريق اإلنكار على اخلصم‪ .‬فإنه إن شاء أنكر جواب القسم‬
‫‪ ،‬لكونه خرباً ‪ ،‬ولكن ال يسنح له أن ينكر نفس القسم ‪ ،‬لكونه إنشاء‪ .‬كما أنه ال يتوجه إىل إنكار‬
‫الصفة مع أهنما يف احلقيقة من األخبار‪.‬‬
‫ورمبا جيمع أقسام القرآن هذين اخلربين ‪ ،‬كالقسم ابلقرآن اجمليد ‪ ،‬وابليوم املوعود ‪ ،‬وابملقسمات أمراً‬
‫‪ ،‬وابلفارقات فرقاً ‪ ،‬وابلصافات صفا‪.‬‬
‫فإن شرحتها رأيت فيها مجلتني خربيتني‪ .‬مثالً إن املالئكة صافون كالعبيد ‪ ،‬وإن الرايح تفرق ومتيز‬
‫حسب أمر هللا ‪ ،‬وإن هلم يوماً موعوداً ‪ ،‬وإن هذا القرآن جميد‪ .‬فهذه أخبار أدجمت يف الصفات ‪ ،‬مث‬
‫زيد عليها ما أدرج من القسم‪ .‬وهي أن هذه األشياء شواهد ودالئل‪.‬‬
‫فإن كان ذلك مما ينتبه اخلصم إلنكاره ‪ ،‬فتارة يصرف اخلطاب إىل النهي كقوله تعاىل ‪(:‬يس * والقرآن‬
‫احلكيم * إنك ملن املرسلني)‪.‬‬
‫واترة َيذف جواب القسم الذي يكون مجلة خربية‪ .‬فحينئذ يكتفي ابملقسم به ‪ ،‬ويبادرهم بكالم آخر‬
‫مؤيد ملا حذف ‪ ،‬لكيال جيد اخلصم فرصة لتحويل اإلنشاء إىل اخلرب فينازع فيه ‪ ،‬ولكي جيد الكالم‬
‫فرصة فيه ‪ ،‬فيستمع بعد القسم ملا ينتظر جوابه ‪ ،‬فيهجم عليه ما يؤيد االستدالل املقصود من‬
‫الكالم السابق ‪ ،‬كقوله تعاىل ‪(:‬ص والقرآن ذي الذكر * بل الذين كفروا يف عزة وشقاق)‪.‬‬
‫فاكتفى ابجلملة اإلنشائية ‪ ،‬واجتنب اخلربية‪ .‬وقد فرغ عنها مبا ذكر يف القسم من صفة القرآن‪ .‬كأنه‬
‫قيل ‪(:‬قد شهد القرآن أنه لذكر ونصح هلم)‪ .‬مث ذكر من خصائلهم ما ال ينكروهنا بل يباهون هبا ‪،‬‬
‫وأشار إىل أن إنكارهم ليس إال حلميتهم اجلاهلية ‪ ،‬وجداهلم ابلباطل‪.‬‬
‫ومثل ذلك قوله تعاىل ‪(:‬ق والقرآن اجمليد * بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا‬
‫شيء عجيب) أي قد شهد القرآن أنه لنذير مبني من هللا تعاىل ابلبعث ‪ ،‬ولكنهم ينكرونه ملا يعجبون‬
‫أن أييت به منذر منهم‪.‬‬

‫(‪)37/1‬‬
‫فأما إذا كان القسم مما ال ينكرونه مل َيذف اجلواب ‪ ،‬كقوله تعاىل‪(:‬حم * والكتاب املبني* إان جعلناه‬
‫قرآانً عربياً لعلكم تعقلون)‪.‬‬
‫فذكر يف القسم ككونه كتاابً مبيناً ‪ ،‬ويف اجلواب كونه قرآانً عربياً ‪ ،‬وال ينكرون شيئاً منهما‪ .‬وأما كونه‬
‫منزالً من هللا تعاىل فلم خيرب به كدعوى على حدة ‪ ،‬بل جعله أصل الكالم مبا خاطبهم بنفسه ‪ ،‬فال‬
‫يتجه اإلنكار إليه‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬ولوال كراهية اخلروج عن موضوعنا لبسطنا الكالم يف حذف جواب القسم وفوائده‪ .‬وذكره‬
‫حتت آايت القسم أوىل‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬إجياز هذا األسلوب لالستدالل‪ .‬فإن اللفظ إذا قل يرتاءى املعىن متجرداً عن حجبه ‪،‬‬
‫فيزيده تنويراً وأتثرياً ‪ ،‬كأنه أرهف حده ‪ ،‬وقرب بعده‪ .‬وهذا مما جيعل االستعارة أحياانً أبلغ من‬
‫التشبيه‪ .‬وال حاجة إىل توضيح حسن اإلجياز فإنه مبسوط يف كتب البالغة‪.‬‬
‫وقد ابلغ يف استحسانه بعض كتاب زماننا ‪ ،‬فقال‪ :‬إن اإلجياز هلو البالغة ‪ ،‬وتكلف يف رد مجيع‬
‫احملاسن إليه‪ .‬وإمنا جعله أصل البالغة لتشعب أفنانه ‪ ،‬وتقلب ألوانه‪ .‬فلم يدخل ابابً من أبواب‬
‫البالغة ‪ ،‬إال ورأى اإلجياز هناك موجوداً ‪ ،‬فقصر النظر عليه‪.‬‬
‫ومن فوائد اإلجياز أنه ميكنك أن جتمع دالئل عديدة يف قرب بعضها من بعض‪ .‬فإذا دللن على أمر‬
‫واحد من جهات خمتلفة كن أشد أثراً ‪ ،‬وأحكم أمراً ‪ ،‬كما ترى يف أقسام سور الطور والبلد والتني‪.‬‬
‫فلو فصل فيها الكالم وشرح األدلة لتشتت النظام ووهنت قوته‪ .‬ويقرب منها أقسام سور الفجر‬
‫والشمس والليل‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬والعرب لذكائهم وكربهم كانوا َيبون اإلجياز أكثر من أقوام أخر‪ ..‬ولذلك ال ترى شيئاً من‬
‫القرآن إآل ومعناه أوفر من اللفظ ‪ ،‬فإن أطنب قوالً من وجه أوجزه من وجوه أخر‪ .‬ولذلك ال تنقضي‬
‫عجائبه‪.‬‬

‫(‪)38/1‬‬

‫والرابع ‪ :‬إشراك السامع يف استنباط الدليل ‪ ،‬وذلك مما يكسر سورة خصامه‪ .‬فإنه إذا علم شيئاً بعد‬
‫التأمل فرح به واهتز له‪ .‬فإن املتكلم إذا جعل السامع منفعالً حمضاً أتعبه وصار كالمه عليه ثقالً‪.‬‬
‫وهذا إذا مل خيالف رأيه‪ .‬فأما إذا خالفه أمشأز منه وسد منه أذنه‪.‬‬
‫ولذلك رمبا يستعمل االستفهام بدل اإلخبار كقولك ‪:‬أال ترى ذلك؟ وهل مسعت هذا ؟‬
‫أو كما استفهم النيب عليه السالم يف خطبة الوداع حيث سأهلم ‪ :‬أي بلد هذا ؟ وأي شهر هذا ؟‬
‫وأي يوم هذا ؟ فلذلك جيلب االلتفات ‪ ،‬وينشط للسمع‪.‬‬
‫وقد مجع القرآن هذين األمرين يف أول سورة الفجر ‪ ،‬فأشهد أبمور تدعو الفكر إىل استنباط الدالئل‬
‫على تدبري هللا تعاىل وتقديره وعدله‪ .‬مث أتبع ذلك بقوله ‪(:‬هل يف ذلك قسم لذي حجر) ومثل ذلك‬
‫قوله تعاىل ‪(:‬والسماء والطارق * وما أدراك ما الطارق* النجم الثاقب)‪.‬‬
‫ورب مستدل حاذق يسوق املخاطب إىل الدعوى بسهولة من غري تسفيه رأيه ‪ ،‬حىت يظن أنه هو‬
‫الذي اهتدى إليها من قبل نفسه‪ .‬وهذا مما يصري الكناية أحياانً أبلغ من التصريح‪.‬‬
‫وترى ذلك بيناً يف أقسام القرآن فإهنا تعرض على السامع أمراً يدعوه إىل استعمال عقله‪ .‬ورمبا تسوقه‬
‫إىل مست الدعوى بلطافة وتدريج‪ .‬كالقسم ابلذارايت حىت انتهى إىل قوله ‪(:‬فاملقسمات أمرا)‪ .‬ومثل‬
‫ذلك قسمه ابملرسالت عرفاً حىت انتهى إىل قوله‪(:‬فالفارقات فرقاً * فامللقيات ذكر* عذراً أو نذرا)‪.‬‬
‫فلو ألقي عليه أوالً أن الرايح تفرق بني قوم وقوم أنكر ذلك‪.‬‬
‫واخلامس ‪ :‬وضع الدليل يف غري صورته ‪ ،‬لكيال يبادر املنكر إىل املخاصمة‪ .‬وذلك غري معىن اإلنشاء‬
‫الذي مر آنفاً يف الوجه الثاين ‪ ،‬فإنه يسد ابب اإلنكار‪ .‬وهذا إمنا يذهل عن اخلصام‪ .‬لكونه غري‬
‫اإلنشاء جتده ابقياً يف صورة اخلرب أيضاً‪.‬‬

‫(‪)39/1‬‬

‫مثالً إن حولت قوله تعاىل ‪(:‬والعصر * إن اإلنسان لفي خسر) وجدت بعد هذا التحويل من اإلنشاء‬
‫إىل اخلرب أيضاً فرقاً واضحاً بينه وبني صريح االستدالل‪ .‬وهو أن تقول‪ :‬إن اإلنسان لفي خسر ؛ ألن‬
‫مر الزمان ينقص العمر ‪ ،‬فإن هذا االستدالل مع صحته وظهوره يدعو اخلصم حلبه اجلدل إىل‬
‫اإلنكار به‪ .‬أو ابلذي ينتج منه ‪ :‬وهو االعتماد على اإلميان والعمل الصاحل‪ .‬فإنه سيقول ‪ :‬كال ‪ ،‬إن‬
‫اإلنسان لفي ربح عظيم ‪ ،‬فإنه يشرتي اللذائذ ويقتين املىن ‪ ،‬هبذا العمر الذي ال بد أن يفىن‪ .‬أو‬
‫سيقول ‪ :‬كال ‪ ،‬فإنه إذ ال بد من البلى ‪ ،‬فالتمتع ابلشهوات أوىل ‪ ،‬كما قال امللك الضليل بن حجر‬
‫القتيل‪:‬‬
‫متتع من الدنيا فإنك فان من النشوات والنساء احلسان‬
‫وال شك أن تلك حجة داحضة‪ .‬ولكن إذا فتح ابب اجلدال ‪ ،‬كثر القيل والقال‪ .‬وكلما زدت‬
‫إيضاحاً ‪ ،‬ازداد اخلصم مجاحاً‪ .‬فيحسن أحياانً أن تذهله عن وجه النزاع ‪ ،‬فإن لإلنسان به ضراوة‬
‫كضراوة السباع‪.‬‬
‫وكانت العرب أشد األمم جدالً ‪ ،‬وأحدهم مقوالً ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪(:‬ما ضربوه لك إال جدالً بل هم‬
‫قوم خصمون)‪ .‬وكذلك مساهم ‪(:‬قوماً لدا)‪.‬‬
‫واعلم أن هذا الوجه والذي قبله ‪ ،‬مبنيان على لطافة األدلة يف األقسام ‪ ،‬فإنه كما تصرفهم عن‬
‫اإلنكار والنزاع ‪ ،‬فكذلك تنشطهم للفكر واالستنباط‪.‬‬
‫والسادس ‪ :‬ما يعطي أوائل السور من نضرة هبجتها ‪ ،‬ورونق ديباجتها‪ .‬فتلمع األقسام يف قسمات‬
‫السور على األكثر كالغرة البارقة ‪ ،‬وأما الذي جاء يف أثناء السورة فإمنا هو قليل‪ .‬ومثاله كمجيء‬
‫املطلع يف أثناء القصيدة‪.‬‬
‫وليس يف كل قسم تزيني‪ .‬ولكنه ملا كان مما يستفتح به الكالم ‪ ،‬جعله سبباً لتزيني الفواتح أبن‬
‫اصطفى له كلما إن صور على عنوان الكتاب ‪ ،‬أو متثل للعقل يف مطلع اخلطاب ‪ ،‬مأل العني والفؤاد‬
‫حبسنه وجاللته‪ .‬بل جيل أكثرها عن التصوير لكمال عظمتها وضيق نطاق اخليال عن سعتها‪.‬‬

‫(‪)40/1‬‬

‫وال شيء من أساليب الكالم أصلح للتصوير من القسم‪ .‬فإن الذي أقسمت به دعوته كالشاهد ‪،‬‬
‫فأوقفته بني يدي املخاطب متمثالً‪.‬‬
‫فلما أراد هللا أن يوشي عنوان السور أبلوان الصور بدأها أبقسام خاصة‪ :‬فرتى أحياانً صورة أمر واحد‬
‫كالقلم الكاتب والنجم الثاقب واخليل العادايت والرايح الذارايت واملالئكة الصافات‪.‬‬
‫وتنظر أخرى إىل صور عديدة يضمها أمر جامع بينها كالتني والزيتون وطور سينني والبلد األمني ‪ ،‬أو‬
‫كالطور والكتاب املسطور والبيت املعمور والسقف املرفوع والبحر املسجور ‪ ،‬أو كالشمس والقمر‬
‫والليل والنهار واألرض والسماء والنفس وغري ذلك ‪ ،‬مما يدل على أحوال أو أحداث يستدل هبا‬
‫على مسألة مهمة‪.‬‬
‫وال منزلة عند العقل هلذه التصاوير لوال أن فيها دالئل على أمور عظيمة‪ .‬وهذا لرعاية جانب‬
‫املستمع لكيال يتنفر ‪ ،‬فيسد أذنيه‪ .‬ومن كمال التبليغ وإمتام احلجة تليني القول وأتليف القلب‪ .‬وقد‬
‫أمر هللا األنبياء هبذا ‪ ،‬كما قال تعاىل ملوسى وهارون حني أرسلهما إىل فرعون‪(:‬فقوال له قوال ليناً لعله‬
‫يتذكر أو خيشى)‪.‬‬
‫والسابع‪ :‬تقدمي الدليل على ذكر الدعوى‪ .‬فيلقي أوالً على اخلصم أمراً يوجهه إىل مست ال بد أن‬
‫جيلبه إىل الدعوى‪ .‬ولكن املنكر إذا علم من قبل ما تريد االستدالل عليه أخذ مستاً آخر ‪ ،‬وتنكب‬
‫عن الوجه الصحيح‪ .‬فإذا مل تذكر الدعوى يوشك أن يتوجه إىل صراط مستقيم‪ .‬فإذا سار على قصد‬
‫السبيل قدته إىل آخر النتيجة‪ .‬ومثال ذلك كل ما ذكران يف الوجه الرابع واخلامس‪.‬‬
‫والثامن ‪ :‬كون القسم من جوامع الكلم‪ .‬فإن املقسم به ال يذكر معه جهة االستدالل‪ .‬فلو ضم به‬
‫جهة خاصة كان دليالً واحداً ‪ ،‬ولكن الشيء الواحد جيمع معاين كثرية ووجوهاً خمتلفة‪ .‬وللمتوسم فيه‬
‫دالئل شىت‪.‬‬

‫(‪)41/1‬‬

‫وهذا األمر مشرتك يف ما ذكر من األمور الدالة على أسلوب اآلية ‪ ،‬فجعل شيئاً واحداً موضعاً ال‬
‫ستنباط دالئل كثرية‪ .‬كما قال تعاىل ‪(:‬أمل تر أن الفلك جتري يف البحر بنعمت هللا لرييكم من آايته إن‬
‫يف ذلك آلايت لكل صبار شكور) وكما قال تعاىل ‪(:‬ويف األرض آايت للموقنني* ويف أنفسكم أفال‬
‫تبصرون)‪ .‬فمن َيصي ما يف األرض والنفس من اآلايت الدالة على القدرة والعظمة والرمحة واحلكمة‬
‫(حجج القرآن)‪.‬‬
‫مث على التوحيد والرسالة واملعاد ‪ ،‬كما فصلناه يف كتاب ُ‬
‫فإذا أشهد هللا تعاىل بعض خلقه ‪ ،‬مث ذكر معه من املطالب الدينية اليت يستدل عليها ‪ ،‬ترك املتأمل‬
‫أن يستنبط الدالئل من وجوه كثرية‪.‬‬
‫وبعد االتفاق يف املستدل عليه وبعد رعاية نظام الكالم ‪ ،‬ال أبس ابختالف الدالئل وطرقها ‪ ،‬فإهنا‬
‫تتنوع وتتكثر حسب مدارج األفهام والعقول‪ .‬وجعل هللا القرآن جم الفوائد ال تنقضي عجائبه ‪ ،‬كما‬
‫ال تنقضي عجائب خلقه وحكمة صنعه‪ .‬قال عز من قائل‪( :‬ولو أمنا يف األرض من شجرة أقالم‬
‫والبحر ميده من بعده سبعة أحبر ما نفدت كلمات هللا إن هللا عزيز حكيم)‪ .‬ولنكتف هبذا القدر من‬
‫أبواب البالغة اليت جتد يف أقسام القرآن ‪ ،‬وما أردت االستقصاء ‪ ،‬ومن يطيقه؟‬
‫وقد تبني مما مر معنا معىن القسم ‪ ،‬ووجوهه ‪ ،‬وبذلك احنسمت الشبهتان األخرياتن املهمتان‪ .‬وأما‬
‫الشبهة األوىل فاضمحلت أيضاً ملا ذكران من حاجة الناس إىل القسم وضرورته يف عزائم األمور‬
‫وموقعه يف التعايش والتعاشر بني األمم وامللوك والرعااي ‪ ،‬كما مر يف الفصل السادس والعاشر‪.‬‬
‫وقد تبني ورد القسم كثرياً يف الكتب املقدسة وكالم الرؤساء والبلغاء ‪ ،‬فلم يبق اآلن إال تبيني علة‬
‫النهي عنه‪.‬‬
‫(‪)18‬‬
‫الفرق بني ما َيسن وما ال َيسن من القسم‬
‫ملا كان يف القسم إما إشهاد بنفس املتكلم ‪ ،‬أو إشهاد ابهلل تعاىل ‪ ،‬ويف ذلك خماطرة املرء بعزه وبدينه‬
‫‪ ،‬مل َيسن التالعب به‪ .‬فيتجه النهي إليه من ثالث جهات‪.‬‬
‫إما من جهة املقسم عليه‪.‬‬
‫أو من جهة املقسم به‪.‬‬

‫(‪)42/1‬‬

‫أو من كليهما‪.‬‬
‫فأما من جهة املقسم عليه ‪ ،‬فمن حلف على أمور سخيفة أظهر عدم مباالته بشرف نفسه‪ .‬ولذلك‬
‫جاء يف القرآن صيغة املبالغة يف شناعة احللف حيث قال تعاىل ‪(:‬وال تطع كل حالف مهني)‪ .‬فدل‬
‫على أن من حلف على كل أمر جل أو دق ‪ ،‬فقد أهان نفسه ‪ ،‬سواء حلف ابهلل أو بغريه‪ .‬كالذي‬
‫يغضب من غري سبب ‪ ،‬أو يضحك من غري عجب‪ .‬فهذا من جهة املقسم عليه‪.‬‬
‫وأما من جهة املقسم به ‪ ،‬فإذا أقسم عب ٌد قسماً دينياً بغري هللا تعاىل ‪ ،‬فكأنه اختذه إهلاً‪ .‬فاملنع عن‬
‫القسم بغريه تعاىل على العموم سد ألبواب الشرك ‪ ،‬كاملنع عن السجدة لغريه تعاىل ‪ ،‬أو كاملنع عن‬
‫حنت األصنام ‪ ،‬كما جاء يف األحكام العشرة ‪ ،‬ولذلك جاء يف سفر التثنية ص ‪ 6‬عدد ‪(: 13‬الرب‬
‫إهلك تتقي ‪ ،‬وإايه تعبد ‪ ،‬وابمسه حتلف)‪ .‬وهكذا هنى النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬عن القسم بغري‬
‫هللا تعاىل‪.‬‬
‫وأما من جهة كليهما معاً ‪ ،‬فذلك أن يقسم ابهلل تعاىل على أمور سخيفة‪ .‬وهذا مجع بني قلة املروءة ‪،‬‬
‫وقلة التقوى معاً‪ .‬وإىل هذا يشري قوله تعاىل‪(:‬وال جتلعوا هللا عرضة ألميانكم)‪.‬‬
‫فهذه هي الوجوه احملظورة يف اليمني ‪ ،‬فأما دون ذلك فال ينهى عنه ‪ ،‬السيما إذا دعت إليه دواعي‬
‫املعاشرة ‪ ،‬كما ذكران يف الفصل السادس عشر‪.‬‬
‫وشريعتنا قد أنزلت للناس كافة فرتاعي حاجات التمدن ‪ ،‬ومتيز بني دقائق األحكام ‪ ،‬وتنظر إىل‬
‫ضعف فطرة اإلنسان‪ .‬كما قال تعاىل ‪(:‬يريد هللا أن خيفف عنكم وخلق اإلنسان ضعيفا) فال ينبغي‬
‫فيها النهي املطلق عن أمر هو املفزع عند جد األمر وعزائم األمور التمدنية والدينية ‪ ،‬كما ال ينبغي‬
‫فيها املؤاخذة على ميني مل يتعلق هبا نية املتكلم ‪ ،‬بل نطق هبا على ما جرت به العادة يف التحاور‪.‬‬
‫فقال تعاىل ‪(:‬ال يؤاخذكم هللا ابللغو يف إميانكم ولكن يؤاخذكم مبا كسبت قلوبكم وهللا غفور حليم)‪.‬‬
‫(‪)43/1‬‬

‫وذلك أبن األعمال ابلنيات‪ .‬فيمني اللغو وإن كانت خالف املروءة ‪ ،‬ال يؤاخذ عليها ‪ ،‬ألن الرب‬
‫غفور لعباده ‪ ،‬يرمحهم لضعفهم ‪ ،‬فال يؤاخذ عامتهم على كل صغرية‪.‬‬
‫وهذا الذي ذكران يتعلق ابألميان العامة ‪ ،‬فأما أقسام القرآن ‪ ،‬فلكون جلها استدالالً ال خماطرة فيها‬
‫لشرف وال دين ‪ ،‬فال متسها معرة‪.‬‬
‫مث إهنا على التوحيد واملعاد والرسالة‪ .‬وذلك أعظم األمور جاللة فهو أجدر ما يقسم عليه‪ .‬هل نفس‬
‫أحد أشرف من أن خياطر هبا هلذه الشهادة؟ أم خياف أحد على دينه خلوف الكذب فيها ‪ .‬إذا ال دين‬
‫له‪.‬‬
‫أم هو يستحي من إشهاد هللا تعاىل على هذه األمور ؟ مث قد شهد به هللا واملالئكة والعاملون‪.‬‬
‫فالقسم عليه حممول على حقيقة معىن الشهادة اليت تبلغها األنبياء صراحة‪ .‬فإن النيب يف عموم تبليغه‬
‫يقول إن هللا تعاىل أرسله بعلمه ‪ ،‬ويشهد على صدقه ‪ ،‬وهو يلوذ به ‪ ،‬ويعتمد عليه ‪ ،‬ويتخذه وكيالً‬
‫على ما يقول‪ .‬وهذه املعاين هي اليت تفهم من القسم ابهلل كما مر يف الفصل العاشر‪ .‬فأي حرج إن‬
‫ذكرها أبسلوب القسم؟‬
‫وال خيفى أن القسم إذا كان من هللا خبلقه وكلماته فال مظنة فيه للشرك ‪ ،‬وال معىن له إال الشهادة‬
‫اخلالية عن معىن التعظيم‪.‬‬
‫ومجلة الكالم أن االعرتاض على أقسام القرآن أو على أقسام األنبياء والصلحاء الذين أظهروا‬
‫أبقسامهم توكلهم على هللا وفرارهم إليه واستعانتهم به ‪ ،‬وكذلك النهي املطلق عن اليمني مل ينشأ إال‬
‫من قلة التدبر والتمييز بني األمور‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وأما ما روي عن املسيح من هنيه عن احللف مطلقاً ‪ ،‬فلعلة خاصة‪ .‬ونبينها فيما يتلو‪.‬‬
‫(‪)13‬‬
‫إيضاح ما جتد يف اإلَنيل‬
‫من النهي املطلق عن احللف‬

‫(‪)44/1‬‬
‫قد علمنا ‪ ،‬وقد اعرتف علماء املسيحيني أبن أصل اإلَنيل مفقود ‪ ،‬وإمنا يف أيدينا تراجم اختلط فيها‬
‫أقوال املسيح وأقوال الرواة ‪ ،‬والرواايت خمتلفة رمبا يضاد بعضها بعضاً مع اضطراب املتون وعدم‬
‫السند فضالً عن االتصال والصحة‪ .‬فااللتفات إليها والتعرض هلا ليس إال على تقدير التسليم وعلى‬
‫سبيل التنزل‪.‬‬
‫فاعلم أن النهي عن احللف جاء يف اخلطبة املعروفة ابخلطبة اجلبلية املذكورة يف االَنيل املنسوب إىل‬
‫(م َّىت) ببعض البسط‪ .‬وال توجد يف (مرقس) وال يف (يوحنَّا) ما خال بعض الفقرات منها‪ .‬وجاءت يف‬
‫َ‬
‫(لوقا) خمتصرة ‪ ،‬والختصاره اخرتته مأخذاً ال قتباسي‪.‬‬
‫فإن نظرت يف هذه اخلطبة وأتملت آايهتا ومواقعها تبني لك أنه عليه السالم مل خياطب هبا اجلمهور ‪،‬‬
‫ومل جيعلها شريعة عوض التوراة ‪ ،‬بل خص هبا تالميذه وأتباعه ملصلحة عظيمة كما ستعلمها‪.‬‬
‫أما الدليل على التخصيص فمن وجوه ‪:‬‬
‫(م َّىت) مسبوقة متصلة بقوله ‪(:‬فلما جلس‬
‫األول‪ :‬تصرَيه عليه السالم بذلك‪ .‬فإن هذه اخلطبة يف َ‬
‫تقدم إليه تالميذه ففتح فاه وعلمهم قائالً)‪.‬‬
‫وكذلك رواية لوقا تذكر أنه أحىي الليل ابلصالة ‪ .‬مث إنه دعا تالميذه ‪ ،‬واختار منهم اثين عشر ‪ ،‬وبعد‬
‫ذلك تقول ‪ :‬ورفع عينيه إىل تالميذه وقال ‪ ،‬مث بدأ اخلطبة بقوله ‪:‬‬
‫(طوىب لكم أيها املساكني ألن لكم ملكوت هللا ‪ ،‬طوىب لكم أيها اجلياع اآلن ألنكم تشبعون‪ ...‬طوىب‬
‫لكم إذا أبغضكم الناس وإذا أفرزوكم وعريوكم وأخرجوا امسكم كشرير‪ ...‬ولكن ويل لكم أيها‬
‫األغنياء ؛ ألنكم قد نلتم عزاءكم ‪ ،‬ويل لكم أيها الشباعى ألنكم ستجوعون ‪ ،‬ويل لكم أيها‬
‫الضاحكون اآلن ألنكم ستحزنون وتبكون)‪.‬‬

‫(‪)45/1‬‬

‫والثاين ‪ ... :‬أن يف هذه اخلطبة أحكاماً ال تليق إال ابملساكني والفقراء‪ .‬فإنه عليه السالم كما هنى‬
‫فيها عن احللف ‪ ،‬هنى عن الكثري واالهتمام للغد ومحاية النفس عن الظلم ‪ ،‬وابلغ يف ذلك حىت‬
‫قال‪(:‬من ضربك على خدك فاعرض له اآلخر أيضاً‪ .‬ومن أخذ رداءك فال متنعه ثوبك أيضاً‪ .‬وكل من‬
‫سألك فأعطه ومن أخذ الذي لك فال تطالبه)‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬أن يف هذه الوصااي حسب ظاهرها نسخاً للتوراة ‪ .‬واملسيح يتحاشى عنه‪ .‬فقال على سبيل‬
‫دفع دخل مقدر قبل ذكر الوصااي‪(:‬ال تظنوا أين جئت ألنقض الناموس(التوراة) أو األنبياء ‪ ،‬ما جئت‬
‫ألنقض بل ألكمل)‪ .‬مىت ‪.‬‬
‫مث دفع دخالً مقدراً آخر ‪ ،‬وهو أنه ال كمال يف ترك الدنيا أبسرها ‪ ،‬فبني هلم أن هذا كمال إضايف ‪:‬‬
‫وهو التطهر عن الذنوب ابلفرار عن االمتحان‪ .‬وكان ذلك سنته تعليماً للذين عجزوا عن كمال‬
‫أكمل ‪ ،‬فقال (ليس التلميذ أفضل من معلمه بل كل من صار كامالً يكون مثل معلمه) لوقا‪.‬‬
‫واملبتدعون مل يرضوا أبن تكون سنته كماالً إضافياً‪ .‬فزادوا يف رواية مىت ‪(:‬فكونوا أنتم كاملني كما أن‬
‫أابكم الذي يف السموات كامل)‪ .‬ويف رواية لوقا عوض هذه اجلملة‪(:‬فكونوا رمحاء كما أن أابكم أيضاً‬
‫رحيم)‪.‬‬

‫(‪)46/1‬‬

‫هيهات هيهات! هل يساوي العبد ربه ؟ ولكن احلق غالب ‪ ،‬ويبقى على رغم معانديه ‪ ،‬ويطمس على‬
‫عيوهنم ‪ ،‬فانظر إىل تصرَيه مبا ينفي شائبة الشرك ‪ ،‬ويبني أن كماله ٌ‬
‫كمال إضايف مما خيتص ابلفقراء ‪،‬‬
‫كما جاء يف مىت ‪ :‬ص ‪ 19‬عدد ‪( 16‬وإذا واحد تقدم وقال له ‪ :‬ملاذا تدعوين صاحلاً ؟ ليس أحد‬
‫صاحلاً إال واحد وهو هللا‪ .‬ولكن إن أردت أن تدخل احلياة فاحفظ الوصااي ‪ 18‬فقال له ‪ :‬أية‬
‫الوصااي ؟ فقال يسوع ‪ :‬ال تقتل‪ .‬ال تزن‪ .‬التسرق‪ .‬ال تشهد ابلزور‪ 19 .‬أكرم أابك وأمك ‪ ،‬وأحب‬
‫قريبك كنفسك ‪ 20‬قال له الشاب ‪ :‬هذه كلها حفظتها منذ حداثيت فماذا يعوزين بعد؟ ‪ 21‬قال له‬
‫يسوع ‪ :‬إن أردت أن تكون كامالً فاذهب وبع أمالكك وأعط الفقراء فيكون لك كنز يف السماء‬
‫وتعال اتبعين ‪ 22‬فلما مسع الشاب الكلمة مضى حزيناً ألنه كان ذا أموال كثرية ‪ 23‬فقال يسوع‬
‫لتالميذه ‪ :‬احلق أقول لكم إنه يعسر أن يدخل غين إىل ملكوت السماوات ‪ 24‬وأقول لكم أيضاً إن‬
‫مرور مجل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غين إىل ملكوت هللا)‪.‬‬
‫فبني للسائل أن كماله يف اتباعه والتجرد عن أسباب التمدن ‪ ،‬والظاهر أن هذا ليس بكمال الكاملني‬
‫‪ .‬أال ترى أن إبراهيم وداود وسليمان ويوسف عليهم السالم كانوا ذوي الثروة والكمال يف الدين‬
‫معاً؟ هل يقال إهنم مل يدخلوا ملكوت هللا؟ فبما قلنا تزول شبهة نقض الناموس ‪ ،‬وترفع املخالفة بني‬
‫التوراة واإلَنيل‪.‬‬
‫والرابع‪ :‬أن هذه الوصااي إن أريد هبا العموم واإلطالق تكون خمالفة لسنة أئمة اهلدى كإبراهيم وداود‬
‫وغريمها‪ .‬فإهنم قاتلوا ‪ ،‬وانتصروا ‪ ،‬ومجعوا الوفر‪ ،‬وأنفقوه يف املواقع احملمودة ‪ ،‬ومل يكونوا عياالً على‬
‫الناس‪.‬‬
‫ولدفع هذا االعرتاض زادوا يف رواية مىت ما َيرف الكالم عن معناه ‪ .‬فقال ‪(:‬طوىب للمساكني ابلروح)‬
‫‪ ،‬وكذلك طوىب للجياع وللعطاش إىل الرب ألهنم يشبعون)‪.‬‬

‫(‪)47/1‬‬

‫وهذا ال يبدل ابقي الكالم الذي فيه اخلطاب إىل الفقراء واملساكني من جهة الروح‪ .‬وإمنا حرفوه ألهنم‬
‫مل يفهموا أتويله‪ .‬وسيأتيك عن قريب‪.‬‬
‫فتبني من غري شك أن هذه األحكام خمتصة أبمة قد خلت ‪ ،‬وقضت وطرها ‪ ،‬وليست بشريعة كاملة‬
‫يرتقى هبا اإلنسان إىل ذروة الكمال يف التمدن وهتذيب النفس ‪ ،‬وهي شريعة اإلسالم ملا فيه من‬
‫إسالم النفس واملال هلل تعاىل أوالً ‪ ،‬مث القيام هبما يف طاعة الرب ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪ (:‬إن هللا اشرتى‬
‫من املؤمنني أنفسهم وأمواهلم) اآلية ‪ ،‬وذلك مبسوط يف موضعه‪.‬‬
‫فبعد هذا التخصيص ال دليل على هنيه عن اليمني مطلقاً ‪ ،‬وقد علمنا عقالً ونقالً جوازها واحلاجة‬
‫إليها‪ .‬وحنن معشر املسلمني نوقر األنبياء أمجعني ‪ ،‬فال نؤول كالمهم إىل ما خيالف العقل أو َيط‬
‫األخالق‪.‬‬
‫وهذا يتبني كل التبني مما سنذكر يف الفصل اآليت من املصلحة العظيمة اليت ألجلها خصهم هبذه‬
‫الوصااي‪ .‬وإمنا نذكرها بغاية اإلجياز ‪ ،‬ألهنا من مسائل بسطها خيرجنا عن موضوع هذا الكتاب ‪ ،‬وهي‬
‫مبسوطة يف موضعها‪.‬‬
‫(‪)20‬‬
‫احلكمة يف ختصيص هذه الوصااي أبتباعه‬
‫املسيحيون ال حاجة هلم إىل تطبيق النقل ابلعقل ‪ ،‬فإهنم زعموا أن الدين وراء العقل‪ .‬ولكن فيهم‬
‫رجاالً متفلسفني سعوا يف محاية الدين عن شني كل ما يشمئز عنه العقل‪ .‬وهم مع ذلك ‪ ،‬بل لذلك‬
‫عند أئمتهم وعامتهم من املالحدة‪ .‬ومنهم اسبنوزا املتفلسف املاهر ابلعربانية‪.‬‬
‫فقبل أن نبني لك ما هو التأويل عندي ‪ ،‬نورد رأي هذا املتفلسف يف أمر هذه الوصااي ‪ ،‬لتعلم أنه‬
‫يوافقنا يف جعلها خمصوصة ألمة وحالة ‪ ،‬ولتعلم الفرق بني أهل العقول من طائفيت املسيحيني‬
‫واملسلمني ‪ ،‬وتعلم أن أتويلنا مع ظهور حجته أكرب تعظيماً للشريعة وصاحبها‪.‬‬

‫(‪)48/1‬‬
‫زعم اسبنوزا أن املسيح عليه السالم إمنا أمر أتباعه أبحكام فيها التذلل واخلضوع للظاملني ‪ ،‬ألهنم‬
‫حينئذ مقهورين حتت سلطة اجلبارين‪ .‬فأمرهم أبن ال تقاوموا الشر ‪ ،‬وتعرضوا اخلدود للطمة ‪،‬‬‫ٍ‬ ‫كانوا‬
‫وأمثاهلا ‪ ،‬ال لشرافة أو حسن أو تدين فيها ‪ ،‬بل لكوهنا أصلح حباهلم‪.‬‬
‫فهذا الرجل مع علمه وخوضه يف كتب األنبياء وأحواهلم – أقر بكون هذه الوصااي خمصوصة ‪ ،‬ولكنه‬
‫مل يهتد إىل علة هذا التخصيص ‪ ،‬فلئن راعى جانب العقل ‪ ،‬فقد أضاع جانب الشريعة اإلهلية‬
‫واملسيح وحوارييه‪.‬‬
‫وأما حنن فنقول‪ :‬إن من قرأ نسخ اإلَنيل هذه ابلتأمل ال خيفى عليه أن املسيح عليه السالم إمنا جاء‬
‫مبشراً بقرب ملكوت هللا الظاهر الذي كان عبارة عن سلطة دينية‪ .‬وقد كان أعطاه هللا اليهود ‪،‬‬
‫وضيعوه ‪ ،‬مث دارت عليهم الدوائر‪ .‬وكانوا ينتظرونه مرة أخرى لوعد هللا هلم ‪ ،‬فبشرهم املسيح بقربه ‪،‬‬
‫وعرفه هلم أبمثال كثرية تطابق مطابقة واضحة نبوة خامت النبيني‪.‬‬
‫وملا مل يؤمن به مجهور قومه ‪ ،‬وآيسه علماؤهم لقساوة قلوهبم وتعبدهم لزخارف الدنيا ‪ ،‬اصطفى من‬
‫عامتهم البسطاء شرذمة قليلة مل يغلبهم الرتف واحلرص ‪ ،‬لكيال يعسر عليهم الدخول يف ملكوت هللا‬
‫إذا ظهر ‪ ،‬وحينئذ يكملون ابلشريعة الكاملة‪ .‬فأمرهم بوصااي تبقيهم على حالة الفقر واملسكنة ‪،‬‬
‫ليبقوا على طهارة القلب والتقوى والصرب ‪ ،‬ليتوب هللا عليهم حسب سنته ووعده ‪ ،‬كما هو مبسوط‬
‫يف موضعه‪.‬‬
‫ومل يكن ذنبهم إال أهنم أعطوا أمواهلم يف سبيل هللا ‪ ،‬وألزموا على أنفسهم الفقر ‪ ،‬ومل يرتكوا التوراة ‪،‬‬
‫وحرموا اخلنزير ‪ ،‬وأوجبوا اخلتان ‪ ،‬ومل يقولوا أبلوهية املسيح ‪ ،‬ومل يقبلوا إال اإلَنيل العرباين الذي‬
‫ضيعه اآلخرون ‪ ،‬وشنعوا على بولوس الذي بدل النصرانية ‪ ،‬وخالف احلواريني ‪ ،‬وادعى أبنه تعلم من‬
‫املسيح يف الرؤاي‪ .‬فال حاجة له إىل اتباع تالميذه‪.‬‬

‫(‪)49/1‬‬

‫فلما جاء امللكوت املبشر على يد خامت النبيني دخله كثريون من هؤالء الفقراء ‪ ،‬وخالفه األغنياء‬
‫املتكربون‪ .‬وعلى ما قلنا شهادات يف التوراة واإلَنيل والقرآن واتريخ املسيحيني‪ .‬ولكن بسط ذلك‬
‫يف كتابنا (ملكوت هللا) وغريه‪ .‬فإمنا الكالم ها هنا جر بنا اضطراراً ‪ ،‬فلم ميكنا الصفح عنه ابلكلية ‪،‬‬
‫وال البسط له ابلتمام ‪ ،‬فإنه موكول إىل موضعه اجلدير به‪.‬‬
‫ومجلة القول أن هني املسيح عن اليمني مطلقاً كان خمصوصاً ابلذين كانوا على سنته‪ .‬وال ننكر ذلك ‪،‬‬
‫فإن امرأ تسلل عن التمدن ابلكلية ‪ ،‬ومجع جراميزه مللكوت عظيم ينتظره ‪ ،‬يشتم ويلطم ويظلم فال‬
‫ينتقم‪ .‬فهو ال يعامل وال جيادل ‪ ،‬فال يقاول ‪ ،‬فأي أمر يدعوه إىل احللف؟ إمنا يكون قوله ال ال ونعم‬
‫ونعم‪.‬‬
‫مث نقول ‪ :‬إن هنيه عن القسم كان أيضاً خمصوصاً من جهة املقسم عليه ‪ ،‬كما يظهر من موقع كالمه‪.‬‬
‫فإين ال أرى أنه عليه السالم هنى عن القسم على احلقائق الدينية ‪ ،‬ألنه عليه السالم نفسه حسب‬
‫رواية يوحنا أشهد هللا تعاىل على صدق رسالته‪ .‬وهل القسم إال اإلشهاد؟‬
‫وكذلك ترى يف القرآن أقسام صاحلي النصارى املرسلني لتبيلغ احلق حيث جاء يف سورة يس ‪(:‬قالوا‬
‫ربنا يعلم إان إليكم ملرسلون * وما علينا إال البالغ املبني)‪.‬‬
‫فقوهلم ‪(:‬ربنا يعلم) قسم كما مر ‪ ،‬وهو ظاهر‪.‬‬
‫هذا ويف ما مر من الفصول السابقة كفاية إن شاء هللا تعاىل ملن أراد جواب الشبهات‪ .‬فإن فيما ذكران‬
‫توفيقاً بني النقل والعقل تصديقاً ابلتوراة واإلَنيل والقرآن‪.‬‬
‫ومهما كان من اختالف ‪ ،‬فإمنا هو من جهة اإلمتام والتفصيل ‪ ،‬وإقامة الوسط بني اإلفراط والتفريط ‪،‬‬
‫ورعاية التمييز بني دقائق األحكام عند تشابك النفع والضر‪.‬‬

‫(‪)50/1‬‬

‫وقد رأيت كيف راعى القرآن هذا التمييز يف حكم القسم ‪ ،‬وليس هذا موضع تفصيله يف سائر‬
‫أحكام هذه الشريعة الكاملة ‪ ،‬ولكن نذكر اآلن ما َيسن وما ال َيسن منه إمتاماً ملا ذكران من معاين‬
‫القسم ‪ ،‬وتنبيهاً على طرف آخر من بالغة القرآن ‪ ،‬وحثاً على بذل اجلهد يف معرفة اللغة العربية فإن‬
‫بعض اجلهل هبا يضر بدين املرء‪.‬‬
‫(‪)21‬‬
‫الفرق يف كلمات القسم‬
‫حسب مواقعها مما َيسن ومما ال َيسن‬
‫قد تبني عند علماء اللسان أن يف األلفاظ املرتادفة فروقاً ولكل منها معىن خاصاً وحداً حمدوداً ‪ ،‬وقد‬
‫وجد علماء العربية يف القرآن من هذه الفروق ما ال ينتبه له إال الناقد املتتبع ‪ ،‬كاستعماله الرايح يف‬
‫موضع النفع والريح يف موقع الضرر ‪ ،‬وكاستعماله اإلمطار يف موقع العذاب ‪ ،‬فمن هذا الباب مراعاة‬
‫الفرق بني كلمات القسم حبيث يشري بذلك إىل بعض خصائصها‪.‬‬
‫وقد ذكران يف الفصل الثامن عشر أن القسم رمبا يهني قدر املرء ويذهب بشرفه‪ .‬فانظر كيف ينبه‬
‫القرآن على هذا األمر ابستعماله كلمة احللف فيمن يصغر نفسه بيمينه ‪ ،‬ويلح حيث ال يلح شريف‪.‬‬
‫فرتى يف سورة الرباءة ذكر القسم من املنافقني يف سبعة مواضع ‪ ،‬فلم أيت به إال بكلمة احللف‬
‫لدانءهتم وكذهبم يف اعتذارهم‪.‬‬
‫وما جاءت هذه الكلمة يف سائر القرآن إال حيث يشنع ملا فيها من قلة املباالة بشرف النفس والنزوع‬
‫إىل ما يلقيها يف الكذب واإلحلاح‪.‬‬
‫ولذلك ملا أراد النابغة الغلو يف تضرعه عند النعمان بن املنذر قال‪:‬‬
‫حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء هللا للمرء مذهب‬
‫فأفصح عن غاية االستكانة ‪ ،‬وهذا أبلغ بينة يف إظهار اخلشية والتذلل ‪ ،‬وهو أبلغ الشعراء عند‬
‫الرهبة‪ .‬ولذلك قيل ‪(:‬أشعرهم امرؤ القيس إذا ركب ‪ ،‬واألعشى إذا طرب ‪ ،‬وعنرتة إذا غضب ‪،‬‬
‫والنابغة إذا رهب)‪.‬‬
‫فإن صحت هذه اخلصوصية عندك عرفت قدرها يف الدين ‪ ،‬فإنك إذاً تتجنب استعمال كلمة احللف‬
‫هلل تعاىل‪ .‬كما ترى املفسرين منا واملرتمجني للتوراة ال يبالون بقوهلم (حلف هللا بكذا)‪.‬‬

‫(‪)51/1‬‬

‫وخلصائص ابقي كلمات القسم حنولك إىل الفصل السابع لكي تستنبطها مما ذكران من معانيها‪ .‬فإن‬
‫موضوع الكالم هاهنا أن القسم ملا كان أحياانً مذموماً ‪ ،‬ذمه القرآن حسب موضعه ‪ ،‬ودل عليه‬
‫بكلمة خاصة ‪ ،‬وهذا من متام التشريع وكمال التبيني كما قال تعاىل ‪(:‬ونزلنا عليك الكتاب تبياانً لكل‬
‫شيء وهدى ورمحة وبشرى للمسلمني)‪.‬‬
‫(‪)22‬‬
‫خامتة الكتاب‬
‫كل ما ذكرت يف الفصول السابقة ليس إال ما يتعلق مبسألة القسم من جهة كلية ‪ ،‬وأما أتويل آايت‬
‫القسم على تفاصيلها فمذكور يف مواضعها من التفسري غري أين يف طي الفصول وغضون األمثلة‬
‫دللت على مالك أمرها ومست هنجها‪.‬‬
‫مث مل يهمين يف هذا الكتاب إال طرف خاص من حبث القسم‪ .‬وهو الذي اشتبه على املعرتض‪ .‬ومع‬
‫ذلك رمبا قادتين عالئق الكالم إىل أمور تقتضي بسطاً وتفصيالً ‪ ،‬فجلت جولة إىل فسحة من القول‬
‫‪ ،‬حىت إذا سطع احلق ‪ ،‬واَنابت الشبهة ‪ ،‬أقصرت عن استقصاء البحث لكيال أخرج عن املوضوع‪.‬‬
‫فصار الكتاب جامعاً بني خطتني ‪ :‬اإلجياز واإلطناب ‪ ،‬وواقعاً بني نقطتني ‪ :‬اإلمجال والتفصيل‪.‬‬
‫ويوشك الناظر املستعجل يتهمين مرة ابحلصر ‪ ،‬وأخرى ابهلذر ‪ ،‬فليعلم أنه قد اضطرين إىل هذا‬
‫الوضع شكل املسألة وصورهتا اخلاصة‪ .‬ومع ذلك ما أبرئ نفسي عن الزلة والعثرة ‪ ،‬ويف ذلك متام‬
‫املعذرة‪ .‬وأسأل هللا العفو واملغفرة ‪ ،‬فإنه أرحم الرامحني‪.‬‬
‫وآخر دعواان أن احلمد هلل رب العاملني‪.‬‬
‫***‬
‫* انتهى الكتاب حبمد هللا ‪ ،‬وعذراً على السهو واخلطأ‪ .‬والرجوع إىل الكتاب املطبوع أوىل وإمنا‬
‫الطباعة ملن مل يتيسر له احلصول عليه للمشاركة‪ .‬عبدالرمحن الشهري – ملتقى أهل التفسري‬

‫(‪)52/1‬‬

You might also like