You are on page 1of 5

‫حزب االتحاد االشتراكي العربي‬

‫الفارابي… بين مدينته الفاضلة وجمهورية أفالطون‬

‫‪admin admin‬‬

‫‪ ago‬سنتين‬

‫إبراهيم العريس |‬

‫)‪(1‬‬

‫‪:‬للفارابي )السياسة المدنية(‬

‫دور الفيلسوف في إيصال الناس إلى السعادة‬

‫إن النظرية السياسية تهيمن على فكر الفارابي إلى درجة أن بقية الدراسات الفلسفية‪ -‬وال أقصد فقط اإللهيات واألخالق وعلم النف(‬

‫أفالطون‬

‫س وحسب‪ ،‬بل كذلك الطبيعة والمنطق‪ -‬تتبع لتلك النظرية وتخضع لها)‪ .‬هذا الكالم كتبه عن أبي النصر الفارابي مفكر كان يعتبر من كبار‬
‫المهتمين بالفكر السياسي اإلسالمي‪ ،‬وهو باول كراوس‪ ،‬وهذا القول يتطابق‪ ،‬بالطبع‪ ،‬مع ما كتبه هنري الوست‪ ،‬والذي كان من أبرز‬
‫المستشرقين الفرنسيين‪ ،‬من(أن الجزء الرئيسي والمحوري في فلسفة الفارابي‪ ،‬وأكثر فروعها أصالة هو سياسته)‪ .‬فهل يهم كثيرا بعد ذلك أن‬
‫يقول روزنتال إن كتاب (آراء أهل المدينة الفاضلة) للفارابي يعتمد في جزئه السياسي على (جمهورية أفالطون)‪ ،‬وبنسبة أقل على (األخالق‬
‫إلى نيقوماخوس) ألرسطو‪ ،‬فيما تستوحي بنيته الفوقية ذات الجوهر الالهوتي الميتافيزيقي محاورة (طيماوس) ألفالطون وكتاب (أتولوجيا)‬
‫المنسوب إلى أرسطو‪ ،‬طالما ان الباحث هورتن يؤكد في هذا المجال بالذات أن (الفارابي أثبت قدرته على تكييف الغنى الساحق لألفكار‬
‫‪.‬الفلسفية اليونانية مع حس الحنين إلى هللا لدى الشرقيين‪ ،‬ومع تجربته الصوفية الخاصة)؟‬

‫إذا‪ ،‬مهما‪ f‬كان المنطلق لدراسة الفارابي‪ ،‬فإن المؤكد هو أن هذا المفكر اإلسالمي الكبير‪ ،‬كان ذا فكر يصب في السياسة أوال وأخيرا‪ .‬أي كان‬
‫صاحب مشروع فكري سياسي‪ .‬ولئن كنا نطالع هذا المشروع بكل وضوح وقوة في كتابه األكثر شهرة وانتشارا (آراء أهل المدينة الفاضلة)‪،‬‬
‫فإننا لن نعدم أن نطالعه في الجزء األكبر من كتاباته األخرى‪ ،‬علما أن السياسة لم تكن لدى الفارابي غاية في حد ذاتها‪ ،‬بل كانت‪ -‬باألحرى‪-‬‬
‫وسيلة لبلوغ السعادة‪ .‬ومن هنا لم يكن غريبا أن يعنون الفارابي بـ(تحصيل السعادة) واحدا من كتبه األثيرة‪ ،‬حتى وإن كان يرى في هذه الكتب‬
‫أن (تحصيل السعادة) ال يكون إال في تعلّم الفلسفة والعمل بمبادئها‪ .‬والحـــال أن الــفارابي حين يتحدث عن الفلسفة في هذا السياق‪ ،‬ال يعني‬
‫فقط الفلسفة بالمعنى التقني‪ ،‬بل الفلسفة بصفتها شاملة لإللهيات ولألخالق وللمنطق‪ ،‬ثم خصوصا للسياسة المدنية‪ .‬وهذا ما يوصلنا إلى كتابه‬
‫الذي عنونه‪ ،‬بالتحديد (كتاب السياسة المدنية)‪ ،‬حيث انطالقا من البحث في أمور تبدو للوهلة األولى ميتافيزيقية مثل (مـــبادئ الموجــودات)‬
‫و(العقــل الفــعال) و(النفوس)‪ ،‬يرسم لنا الــفارابي في العمل مراحل العــمل الســياسي في ارتــباط مطــلق بالفلــسفة‪ ،‬وحتــى بالفــلسفة في‬
‫‪.‬أعــمق أعـماقها‬

‫وفي بحثه هذا‪ ،‬ينطلق الفارابي من فكرة نراها أيضا‪ ،‬وبخاصة‪ ،‬في (آراء أهل المدينة الفاضلة) فحواها أن (الفرد محتاج في تحصيل قوته‪،‬‬
‫وبلوغ كماله‪ ،‬إلى أشياء كثيرة‪ ،‬وإذ يعجز وحده عن القيام بكل هذه األشياء‪ ،‬نراه يتعاون مع غيره من الناس‪ ،‬فيكون االجتماع اإلنساني)‪.‬‬
‫ومن هنا تكون (المدينة) التي يضيف في (السياسة‪ f‬المدنية) أنها تتفاضل (في الخدمة والرئاسة طبقا لما فطر عليه أصحابها من آداب‬
‫وأعراف‪ -‬والرئيس هو الذي يرتب هذا التفاضل وفق استسهال كل واحد لرتبته‪ -‬سواء كانت رتبته محسوبة على الخدمة االجتماعية أو في‬
‫‪.‬نطاق رئاسة الدولة)‬

‫يحذر ممن (يحض القوم على تعظيم هللا‪ ،‬وعلى الصالة والتسبيح مع ترك خيرات الدنيا للحصول‬ ‫والحال أن الفارابي الذي ال يفوته هنا أن ّ‬
‫على خيرات اآلخرة)‪ ،‬قائال‪( :‬إن كل ذلك أبواب من الحيل والمكابدة على قوم للحصول على خيرات اآلخرين) يعتبر في (السياسة‪ f‬المدنية)‪،‬‬
‫أنه مهما كان األمر‪ ،‬ال يمكن الوصول إلى السياسة وبحثها وحض الناس على االهتمام بها‪ ،‬من دون حض الناس على أن يجعلوا في مقدم‬
‫‪.‬ذلك‪ ،‬فهمهم‪ f‬لمبادئ الموجودات والعقل الفعال والنفوس وغيرها من األمور التي قد تبدو‪ ،‬أول األمر‪ ،‬على عالقة مباشرة بالمسألة السياسية‬

‫وهنا يرى الفارابي أن (المبادئ التي بها قوام األجسام واألعراض التي لها‪ ،‬ستة أصناف لها ست مراتب عظمى‪ ،‬كل مرتبة منها تحوز صنفا‬
‫منها‪ :‬السبب األول في المرتبة األولى‪ ،‬األسباب الثواني في المرتبة الثانية‪ ،‬العقل الفعال في المرتبة الثالثة‪ ،‬النفس في المرتبة الرابعة‪،‬‬
‫الصورة في المرتبة الخامسة‪ f،‬والمادة في المرتبة السادسة واألخيرة‪ .‬فما في المرتبة األولى منها‪ ،‬ال يمكن أن يكون كثيرا‪ ،‬بل واحدا فردا‬
‫فقط‪ .‬وأما ما في كل واحدة من سائر المراتب فهو كثير‪ .‬فثالثة منها ليست هي أجساما‪ f‬وال هي في األجسام‪ f،‬وهي‪ :‬السبب األول والثواني‬
‫والعقل الفعال‪ .‬وثالثة هي في أجسام‪ ،‬وليست ذواتها أجساما‪ f‬وهي النفس والصورة والمادة‪ .‬واألجسام ستة أجناس‪ :‬السماوي والحيوان الناطق‬
‫‪.‬والحيوان غير الناطق والنبات والجسم المعدني واالسقطسات األربعة‪ ،‬والجملة المجتمعة‪ f‬في هذه األجناس الستة من األجسام هي العالم)‬

‫وبعد ذلك يرى الفارابي أن (العقل الفعال فعله العناية بالحيوان الناطق والتماس تبليغه أقصى مراتب الكمال‪ ،‬الذي لإلنسان أن يبلغه‪ ،‬وهو‬
‫السعادة القصوى‪ ،‬وذلك أن يصير اإلنسان في مرتبة العقل الفعال‪ .‬وإنما يكون بذلك بأن يحصل مفارقا لألجسام‪ ،‬غير محتاج في قوامه إلى‬
‫شيء آخر مما هو دونه من جسم‪ ،‬أو مادة‪ ،‬أو عرض‪ ،‬وأن يبقى على ذلك الكمال دائما‪ .‬والعقل الفعال هو الذي ينبغي أن يقال انه الروح‬
‫‪.‬األمين‪ ،‬وروح القدس‪ ،‬ويسمى بأشباه هذين من األسماء‪ ،‬ورتبته تسمى الملكوت وأشباه ذلك من األسماء)‬

‫وبعد أن يحدد الفارابي العالقة بين العقل الفعال وما دونه من مراتب‪ ،‬يصل إلى النفوس‪ ،‬حيث يفيدنا بأن من في مرتبة النفس من المبادئ‬
‫كثرة‪ ،‬منها أنفس الحيوان الناطق (والتي للحيوان الناطق من األنفس هي القوة الناطقة‪ ،‬والقوة النزوعية والقوة المتخيلة والقوة الحساسة)‪،‬‬
‫ويستطرد الفارابي أن (القوة الناطقة هي التي يحوز اإلنسان بها العلوم والصناعات‪ ،‬وبها يميز بين الجميل والقبيح من األفعال واألخالق‪،‬‬
‫وبها يروي في ما ينبغي أن يفعل أو ال يفعل‪ .‬ويدرك بها‪ ،‬مع هذه‪ ،‬النافع والضار‪ ،‬والملذ والمؤذي‪ .‬والناطقة منها نظرية ومنها عملية‪ .‬أما‬
‫القوة النزوعية‪ ،‬في رأي الفارابي فهي التي يكون بها (النزوع اإلنساني بأن يطلب الشيء‪ ،‬أو يهرب منه‪ ،‬ويشتاقه أو يكرهه‪ ،‬ويؤثره أو‬
‫يتجنبه‪ .‬وبها يكون البغضة والمحبة والصداقة والعداوة)‪ .‬أما القوة المتخيلة فهي (التي تحفظ رسم المحسوسات بعد غيبتها عن الحس‪ ،‬وتركب‬
‫بعضها إلى بعض ويفصل بعضها عن البعض‪ ،‬في اليقظة والنوم‪ ،‬تركيبات وتفصيالت بعضها صادق‪ ،‬وبعضها كاذب)‪ .‬وأما القوة الحساسة‪،‬‬
‫ّ‬
‫الملذ والمؤذي‪ ،‬لكنها ال تميّز الضار والنافع وال‬ ‫فإن أمرها‪ ،‬في رأي الفارابي (بيّن‪ ،‬وهي تدرك المحسوسات بالحواس الخمس‪ .‬وتدرك‬
‫‪.‬الجميل والقبيح)‬
‫إن الفارابي في (السياسة المدنية) إذا يقود خطوات قارئه‪ ،‬بالتدريج من أعلى المراتب في الكون إلى المشاعر األكثر بساطة‪ ،‬لكي يشرح لنا‬
‫الحقا ثم في كتبه األساسية األخرى‪ ،‬ارتباط هذه المراتب بالسياسة العملية كفعل اجتماع وعالقة بين البشر‪ ،‬مبني عبر ذلك التدرج من الواحد‬
‫‪.‬إلى الكثرة‪ ،‬ومن األعلى إلى األسفل‪ ،‬موضحا في هذا دور الفيلسوف المفكر في إيصال البشر إلى إدراك السياسي ودوافعه وضروراته‬

‫وأبو نصر الفارابي (محمد بن محمد بن طرخان)‪ ،‬هو واحد من أكبر الفالسفة المسلمين‪ ،‬ولد في إحدى بلدات مقاطعة فاراب في كازاخستان‪،‬‬
‫ودرّس في بغداد‪ ،‬ثم توجه إلى حلب ليستقر في مجلس سيف الدولة‪ .‬وسافر بعد ذلك إلى القاهرة‪ ،‬ثم مات في دمشق عام ‪950‬م‪ .‬عن ثمانين‬
‫‪.‬عاما‪ .‬ومن أهم كتب الفارابي إلى ما ذكرنا‪( :‬مقالة في العقل) و(الجمع بين رأيي الحكيمين أفالطون وأرسطو طاليس) و(إحصاء العلوم)‬

‫)‪(2‬‬

‫‪:‬للفارابي )آراء أهل المدينة الفاضلة(‬

‫الجميع في خدمة المواطن‬

‫على رغم خوض أبي نصر الفارابي في األمور الفلسفية كافة‪ ،‬من مدنية ودينية وفكرية بحتة‪ ،‬فإن اسمه ارتبط خصوصا بثالثة أمور‪ :‬نظرية‬
‫‪.‬الفيض ومحاولة الجمع‪ ،‬إسالميا‪ ،‬بين رأيي الفيلسوفين (الحكيمين) أفالطون وأرسطو‪ ،‬وتصوره للمدينة الفاضلة‬

‫إن قارئ كتاب الفارابي األساس (آراء أهل المدينة الفاضلة) يتضح له أن هذا الكتاب الفريد من نوعه في الفكر العربي القديم‪ ،‬يجمع تلك‬
‫األمور الثالثة في حزمة واحدة‪ .‬ونحن نعرف بالطبع أن الفارابي‪ ،‬الذي لقبه العرب بـ(المعلم الثاني)‪ ،‬باعتبار أرسطو هو (المعلم األول)‪،‬‬
‫تعرض ألعنف درجات الهجوم من المتكلمين اإلسالميين‪ ،‬وعلى رأسهم اإلمام أبو حامد الغزالي (في تهافت‪ f‬الفالسفة) الذي ب ّدعه وكفّره في‬
‫معظم مسائله‪ ،‬وتحديدا بسبب الكثير من األفكار والطروحات التي جاءت في (آراء أهل المدينة الفاضلة)‪ .‬مع هذا‪ ،‬وعلى رغم تحامل‬
‫الغزالي‪ ،‬ال يزال هذا الكتاب حيا حتى اليوم‪ ،‬وعلى األقل في جانبه السياسي‪/‬المدني‪ ،‬إذ يعتبر‪ ،‬في تاريخ الفكر‪ ،‬واحدا من تلك الكتب التي‬
‫‪.‬كان همها أن تبحث لإلنسان عن محيط فاضل يعيش فيه‬

‫وفي هذا اإلطار‪ ،‬يقال عادة أن الفارابي‪ ،‬في بنائه لـ(مدينته الفاضلة) إنما سار على خطى أفالطون الذي كان بنى عالما مشابها في بعض‬
‫أقوى فصول كتابه (الجمهورية)‪ .‬ومع هذا ثمة الكثير من أرسطو وكتابه (السياسة) في (آراء أهل المدينة الفاضلة)‪ ،‬لذا يمكننا القول إن‬
‫الفارابي هنا أيضا في هذا الكتاب‪ ،‬سعى إلى التوفيق بين فيلسوفي العصر اإلغريقي الكبيرين‪ ،‬توفيقا‪ ،‬لم يكن على أية حال‪ ،‬موفقا‪ ،‬إال في‬
‫النتيجة النهائية التي أدى إليها‪ :‬توليفة المدينة التي رسمها أبو نصر‪ ،‬والتي استلهم منها المفكرون ودرسوها وما زالوا يدرسونها‪ .‬ورب قائل‪:‬‬
‫المؤسف‪ ،‬طبعا‪ ،‬هو أنها لم تستلهم ممن كان يجب أن يعنيهم األمر‪ ،‬أكثر أي الحكام‪ .‬فمدينة أبي نصر الفاضلة‪ ،‬ظلت خيالية حتى يومنا هذا‪،‬‬
‫‪.‬ما يجعلها‪ ،‬على رغم واقعيتها تصطف إلى جانب مدن توماس مور وكامبانيال وبيكون وغيرهم‬
‫ومع هذا ليست المدينة الفارابية الفاضلة‪ ،‬خيالية وال هي تقع في جزر استوائية وال تنتمي أبدا إلى عالم الخيال‪/‬السياسي‪ .‬إنها مدينة ممكنة‪،‬‬
‫وتنطلق من تلك الفكرة البسيطة التي أخذها الفارابي عن أفالطون‪ ،‬وأورثها البن خلدون (أكبر مطوريها وأهمهم)‪( :‬إنما البشر‪ ،‬على‬
‫تنافرهم‪ ،‬محتاجون إلى االجتماع والتعاون)‪ .‬أي أن اإلنسان‪ ،‬وفق تلخيص د‪ .‬ألبير نصري نادر‪ ،‬لفكرة الفارابي‪( :‬ال يستطيع أن يبقى وأن‬
‫يبلغ أفضل كماالته إال في المجتمع‪ .‬والمجتمعات البشرية منها ما هو كامل‪ ،‬ومنها ما هو غير كامل‪ .‬فالكامل منها ثالثة‪ :‬العظمى (وهي‬
‫المعمورة)‪ ،‬الوسطى (وهي األمة)‪ ،‬والصغرى (وهي المدينة)‪ .‬وغير الكاملة هي‪( :‬القرية والمحلة والسكة والمنزل)‪ .‬أما المدينة الفاضلة‪،‬‬
‫فـ(شبيهة بالجسم الكامل التام‪ ،‬الذي تتعاون أعضاؤه لتحقيق الحياة والمحافظة‪ f‬عليها)‪ ،‬وكما أن (مختلف أجزاء الجسم الواحد مرتب بعضها‬
‫لبعض‪ ،‬وتخضع لرئيس واحد‪ ،‬هو القلب‪ ،‬كذلك يجب أن تكون الحال في المدينة)‪ .‬وكما أن (القلب هو أول ما يتكون في الجسم‪ ،‬ومن ثم‬
‫تتكون بقية األعضاء فيديرها القلب‪ ،‬كذلك رئيس المدينة)‪ .‬والرئيس هو إنسان تحققت فيه اإلنسانية على أكملها‪ .‬فكيف يبدو للفارابي هذا‬
‫‪(.‬الرئيس) المستعار أصال من أفالطون؟‬

‫فالفارابي بعد أن يقول لنا إن (الرئاسة تكون بشيئين‪ :‬أحدهما أن يكون بالفطرة والطبع معدا لها‪ ،‬والثاني بالهيئة والملكة اإلرادية)‪ ،‬يقول‪( :‬إن‬
‫الرئيس األول في جنس ال يمكن أن يرأسه شيء من ذلك الجنس)‪ ،‬و (أن ذلك اإلنسان يكون إنسانا قد استكمل فصار عقال ومعقوال بالفعل)‪.‬‬
‫والفارابي يحدد ‪ 12‬خصلة فطر عليها الرئيس‪( :‬أن يكون تام األعضاء جيد الفهم والتصور‪ ،‬جيد الحفظ لما يفهمه ولما يراه ويسمعه‪ f،‬ثم أن‬
‫يكون جيد الفطنة ذكيا وأن يكون حسن العبارة‪ ،‬يؤاتيه لسانه على إبانة كل ما يضمره‪ ،‬محبا للتعليم واالستفادة‪ ،‬غير شره على المأكول‬
‫والمشروب والمنكوح‪ ،‬أن يكون محبا للصدق وأهله‪ ،‬كبير النفس‪ ،‬محبا للكرامة‪ ،‬أن يكون الدرهم والدينار وسائر أعراض الدنيا هينة عنده‪،‬‬
‫محبا للعدل وأهله‪ ،‬أن يكون قوي العزيمة على الشيء الذي يرى أنه ينبغي أن يفعل)‪ .‬والحال أن الفارابي إذا كان يركز هنا‪ ،‬وفي التفصيل‪،‬‬
‫على خصال المؤهل للرئاسة‪ ،‬فما هذا إال ألنه ال يتصور مدينة فاضلة ال يحمل رئيسها صفات تقربه كثيرا من صورة الفيلسوف الذي به ينيط‬
‫أفالطون تسلم الحكم في (الجمهورية)‪ .‬والفارابي يلفت إلى أنه إذا (لم يوجد إنسان واحد اجتمعت فيه هذه الشرائط‪ ،‬ولكن وجد اثنان‪ ،‬أحدهما‬
‫حكيم والثاني فيه الشرائط الباقية‪ ،‬كانا هما رئيسين في هذه المدينة)‪ .‬وإذ يصف الفارابي الرئيس والرئاسة على هذا النحو‪ ،‬يفصل رأيه في‬
‫المدينة الفاضلة‪ ،‬ولكن باألحرى عبر تعريفه لمضاداتها‪ ،‬وهي (المدينة الجاهلة) (التي لم يعرف أهلها السعادة)‪ ،‬و(المدينة الفاسقة) (وهي‬
‫التي تعلم كل ما يعلمه أهل المدينة الفاضلة‪ ،‬ولكن تكون أفعالها أفعال أهل المدن الجاهلة)‪ ،‬و(المدينة المتبدلة) (وهي التي تكون آراؤها في‬
‫‪.‬القديم آراء أهل المدينة الفاضلة وأفعالها‪ ،‬غير أنها تبدلت)‪ ،‬وأخيرا (المدينة الضالة) (وهي التي تظن السعادة‪ ،‬ولكنها غير هذه)‬

‫وإذا كنا هنا قد ركزنا على هذه األمور‪ ،‬فإن ذلك ألنها تشكل جوهر ما كان يرمي إليه الفارابي‪ ،‬والذي وصل إليه بعد تحليل طويل ومعمق‪،‬‬
‫في كتاب‪ ،‬يقسم قسمين‪ :‬األول فلسفي‪ .‬والثاني سياسي‪ /‬اجتماعي‪ ،‬علما أن القسم األول كان مجرد تمهيد للثاني‪ .‬في القسم األول درس‬
‫الفارابي هللا وصفاته‪ ،‬ثم صدور الكائنات عن األول (نظرية الفيض التي دانها الغزالي أساسا)‪ ،‬ثم اإلنسان الذي (يتمتع بإرادة حرة إلى جانب‬
‫العقل‪ ،‬وظيفتها تحصيل السعادة له بواسطة أعماله العاقلة)‪ .‬أما في القسم السياسي‪ ،‬وهو األهم كما أشرنا‪ ،‬والذي يطور فيه الفارابي آراء‬
‫وأفكارا عالجها وبالطريقة نفسها في كتاب آخر له هو (السياسة‪ f‬المدنية)‪ ،‬فإن المؤلف يبحث كما أشرنا في (المدينة الفاضلة ومضاداتها)‬
‫انطالقا من نظام فلسفي أخالقي سياسي متكامل‪ ،‬تأثر فيه بأفالطون‪ ،‬كما تأثر في حديثه عن النفس بأرسطو‪ ،‬ولكن إذا وصل إليه من طريق‬
‫‪.‬شروحات اإلسكندر األفروديسي (ما شوه أفكار أرسطو وجعل من الممكن للفارابي أن يحاول التوفيق بينه وبين أفالطون!)‬

‫لعب كتاب (آراء أهل المدينة الفاضلة) دورا أساسيا في تاريخ الفكر اإلسالمي‪ ،‬حتى وإن كان في قسمه األول يخالف (وبخاصة في بحثه في‬
‫مسألة (الفيض)‪ ،‬والتمييز بين الحكمة والشريعة‪ -‬وهو تمييز حاول ابن رشد الحقا دحضه في (فصل المقال)‪ ،‬ومسألة قدم العالم في الزمان)‬
‫ما جاء في تعاليم اإلسالم‪ ،‬ما سهّل على الغزالي التصدي له‪ ،‬في شكل غطى على أمور مدنية جاءت‪ f‬لدى الفارابي‪ ،‬ولم يكن فيها‪ ،‬هي‪ ،‬ما من‬
‫شأنه أن يخالف اإلسالم‪ .‬مهما يكن من أمر ذلك السجال الحاد بين الفارابي والغزالي‪ ،‬فإن األول ظلت‪ ،‬وال تزال‪ ،‬له مكانته‪ ،‬وال يزال ما بقي‬
‫‪.‬لنا من كتبه الكثيرة‪ ،‬يشكل جزءا أساسيا من التراث اإلسالمي نفسه‬
Categories: f‫أبحاث ودراسات‬

Leave a Comment

You might also like