You are on page 1of 146

‫طبائع االستبداد‬

‫ومصارع االستعباد‬
‫ر�سم الفنان العراقي �إ�سماعيل عزام ‪ -‬العراق‬
‫عبد الرحمن الكواكبي‬

‫طبائع االستبداد‬
‫ومصارع االستعباد‬

‫تقدمي‪ :‬د‪ .‬حممد لطفي اليو�سفي‬


‫طبائع االستبداد‬
‫ومصارع االستعباد‬

‫عبد الرحمن الكواكبي‬

‫وزارة الثقافة والفنون والرتاث ‪ -‬الدوحة‬

‫رقم الإيداع بدار الكتب القطرية ‪:‬‬


‫الرتقيم الدويل (ردمك) ‪:‬‬

‫الطبعة الأوىل ‪2011‬‬

‫النا�رش‬
‫وزارة الثقافة والفنون والرتاث ‪ -‬دولة قطر‬

‫العمل الفني للغالف‪ :‬حممد حجي ‪ -‬م�رص‬


‫الرحالة كـ‬
‫طبائع االستبداد‬
‫ومصارع االستعباد‬

‫وهي كلمة حق وصرخة في واد‬

‫إن ذهبت اليوم مع الريح‬

‫لقد تذهب غدًا باألوتاد‬

‫عبد الرحمن الكواكبي‬


‫فهرس الكتاب‬

‫‪8‬‬ ‫تقدمي د‪ .‬حممد لطفي اليو�سفي‬


‫‪20‬‬ ‫فاحتة الكتاب‬
‫‪23‬‬ ‫مقدمة‬
‫‪26‬‬ ‫ما هو اال�ستبداد‬
‫‪33‬‬ ‫اال�ستبداد وال ّدين‬
‫‪47‬‬ ‫اال�ستبداد والعلم‬
‫‪54‬‬ ‫اال�ستبداد واملجد‬
‫‪67‬‬ ‫اال�ستبداد واملال‬
‫‪69‬‬ ‫اال�ستبداد والإن�سان‬
‫‪81‬‬ ‫اال�ستبداد والأخالق‬
‫‪95‬‬ ‫اال�ستبداد والرتبية‬
‫‪106‬‬ ‫اال�ستبداد والرتقِّي‬
‫‪129‬‬ ‫اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه‬
‫نات اال�ستبداد والقهر‬ ‫تاريخُ الغَ لَبة ُ‬
‫وم َد َ ّو ُ‬

‫نات اال�ستبداد والقهر‬


‫وم َد َ ّو ُ‬
‫الغ َلبة ُ‬
‫تاريخ َ‬
‫ُ‬

‫هنا خري مظلوم هنا خري كاتـب‬ ‫هنا رجــل الدنيا هنا مهبط ال ّتقى ‬
‫عــليه فهـذا الـقرب قـرب الكواكبي‬ ‫قفوا واقر�ؤوا (�أم الكتاب) و�س ّلموا ‬
‫بيتان من مرثية حافظ �إبراهيم ُنق�شا ًعلى قرب الكواكبي يف القاهرة‬

‫�شهيداً رحل عبد الرحمن الكواكبي عن الدنيا‪ .‬نذر حياته للإ�سهام‬


‫امل�ستبدين وفعالهم‪ .‬مل يكن قد‬
‫ّ‬ ‫يف احلركة الإ�صالحية العربية وف�ضح‬
‫فد�ست له‬
‫حتركت �آلة العقاب ّ‬ ‫بعد الثامنة والأربعني من عمره حني ّ‬ ‫تخطى ُ‬ ‫ّ‬
‫للم�ستبدين العرب مل تنته‬
‫ّ‬ ‫ال�سم يف فنجان قهوة‪ .‬غري �أن منازلة الكواكبي‬
‫ّ‬
‫للتحرر من نري‬
‫ّ‬ ‫�شة‬ ‫املتعط‬
‫ّ‬ ‫العربية‬ ‫أجيال‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫أيدي‬ ‫�‬ ‫بني‬ ‫ترك‬ ‫فلقد‬ ‫برحيله‬
‫اال�ستبداد كتاب طبائع اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد‪ .‬وهو كتاب ي�ضعنا‬
‫واخل�سة والفظاظة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫امل�ستبد الذي يجمع �إىل الغدر‬
‫ّ‬ ‫يف ح�رضة �صورة‬
‫ومن�شق‪� .‬إنها �صورة عارية‬
‫ّ‬ ‫الرغبة العاتية يف �إبادة ك ّل مغاير وخمالف‬ ‫ّ‬
‫كالف�ضيحة‪.‬‬
‫الراجح �أن الكواكبي كان يدرك �أن الكتابة عن اال�ستبداد �ستقوده‬
‫�إىل حتفه‪ .‬والراجح �أي�ض ًا �أنه كان على يقني من �أن لال�ستبداد يف ديار‬

‫‪8‬‬
‫العرب ويف الثقافة العربية حكاية وتاريخ ًا‪ .‬ولتلك احلكاية التواءاتها‬
‫للم�ستبدين‬
‫ّ‬ ‫أحقاب‪ .‬فال�صورة القامتة‬‫ٌ‬ ‫وف�صولها‪ ،‬ولتاريخها �أزمنة و�‬
‫امل�ستبد واجلرمية �صنوين‬ ‫ّ‬ ‫و�صنائعهم‪ ،‬تلك ال�صورة التي جتعل من �سلطة‬
‫لي�ست وليدة القرنني الثامن والتا�سع ع�رش‪ .‬ذلك �أن الناظر يف املتون‬
‫العربية القدمية يالحظ �أن اخليال نف�سه يعجز عن ابتداع �أمنوذج يعادل‬ ‫ّ‬
‫امل�ستبد التي تر�سمها تلك املتون‬‫ّ‬ ‫�صورة‬ ‫ووح�شيته‬ ‫وق�سوته‬ ‫فظاعته‬ ‫يف‬
‫حتدث عن احلاكم العربي منذ الغ�سا�سنة يف ما قبل الإ�سالم‪ .‬لهذا ك ّله‬ ‫حني ّ‬
‫حر�ص الكواكبي على �إجراء العديد من املقارنات بني الداخل واخلارج‪،‬‬
‫امل�ستبد‪� ،‬أما‬
‫ّ‬ ‫وتفوقهم �إىل موت‬
‫بني الغرب وال�رشق‪ .‬ف�أرجع قوة الغربيني ّ‬
‫ت�صوره‬‫�سماه «�أ�صل الداء»‪ ،‬و�أ�صل الداء يف ّ‬ ‫«انحطاط ال�رشق» فربطه مبا ّ‬
‫هو ما نعته «باال�ستبداد ال�سيا�سي»‪.‬‬
‫ويتهدده‬
‫ّ‬ ‫تام ب�أن املا�ضي يتع ّقب الراهن‬ ‫لقد كان الكواكبي على وعي ّ‬
‫بالويالت جميعها‪ .‬وهذا يعني �أن م�آزق الإن�سان العربي لي�ست وليدة‬
‫راهنه‪ ،‬بل هي قادمة من بعيد‪ .‬وجميع حمنه وم�آ�سيه ك ّلها نتاج لتاريخ‬
‫من الطغيان واال�ستبداد والقهر‪ .‬هذا ما نه�ضت الكتابة لت�شهد عليه‪ ،‬فيما‬
‫هي تف�ضح طبائع اال�ستبداد‪.‬‬
‫هذا الوعي امل�ضني بتاريخ اال�ستبداد يف ديار العرب و ّلد لدى‬
‫الكواكبي �إح�سا�س ًا مريراً ب�أن الطريق امل�ؤدية �إىل خال�ص الأمة من «داء‬
‫طريق كرب ٌة وعر ٌة طويل ٌة‪ .‬لذلك طفح كتابه بنوع من ال�شجن‬ ‫ٌ‬ ‫اال�ستبداد»‬
‫مرده �إح�سا�سه العاتي ب�أن جهوده وجهود �أمثاله من الإ�صالحيني العرب‬ ‫ّ‬
‫لي�ست �سوى �رصخة يف ليل طويل‪ .‬وهو يعبرّ عن ذلك �رصاحة �إذ و�صف‬
‫واد»‪ .‬لكن هذا الوعي ال�شقي‬ ‫حق و�رصخة يف ٍ‬ ‫كتابه قائ ًال �إنه‪« :‬كلمة ّ‬
‫مت�شوف ًا تبا�شري‬
‫ّ‬ ‫مل يكن وعي ًا انهزامي ًا بقدر ما كان مفتوح ًا على الآتي‪،‬‬
‫امل�ستبد واقع ًا‬
‫ّ‬ ‫ميالد الأجيال اجلديدة التي �ستجعل من حلم التخ ّل�ص من‬
‫واد �إن ذهبت‬ ‫حمدث ًا عن كتابه �إنه‪�« :‬رصخة يف ٍ‬ ‫وحقيقة‪ .‬لذلك �أ�ضاف ّ‬
‫اليوم مع الريح فقد تذهب غداً بالأوتاد»‪.‬‬
‫والكلية‪ .‬ولكي‬‫ّ‬ ‫م�ضى على هذه النبوءة الآن قرن من الزمان بالتمام‬
‫تكتمل النبوءة �أهدى الكواكبي كتابه �إىل ال�شباب حملة جذوة النار‬

‫‪9‬‬
‫نات اال�ستبداد والقهر‬ ‫تاريخُ الغَ لَبة ُ‬
‫وم َد َ ّو ُ‬

‫�سميته طبائع اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد‬ ‫املقد�سة فكتب‪ :‬هذا «كتاب ّ‬ ‫ّ‬
‫وجعلته هدية مني للنا�شئة العربية املباركة الأبية املعقودة �آمال الأمة‬
‫على نوا�صيهم‪ .‬وال غرو‪ ،‬فال �شباب �إال بال�شباب»‪ .‬حت ّققت النبوءة �إذن‪.‬‬
‫على �أيدي ال�شباب حتققت النبوءة يف تون�س وم�رص‪ ،‬وعلى �أيدي ال�شباب‬
‫�أي�ض ًا بد�أت «�أوتاد» عرو�ش امل�ستبدين ي ّزلزل زلزالها يف �أكرث من بل ٍد‬
‫عربي‪.‬‬
‫و�إنه لأمر مذهل ح ّق ًا �أن �أحالم م�صلحني من �أمثال ابن �أبي ال�ضياف‬
‫(‪1291 /1217‬هـ ‪1874/ 1802 -‬م) ورفاعة الطهطاوي (‪/1216‬‬
‫‪1290‬هـ ‪1873/ 1801 -‬م) وفار�س ال�شدياق(‪1306 /1219‬هـ ‪/1804 -‬‬
‫‪1888‬م) وقا�سم حممد �أمني (‪1326 /1280‬هـ ‪1908/ 1863 -‬م) وخري‬
‫الدين با�شا التون�سي(‪1307/ 1237‬هـ– ‪1890 /1822‬م) ‪-‬هذه الأحالم‪-‬‬
‫تلم�س الطريق امل�ؤدية‪ .‬و�إنها‬ ‫تتج�سد هنا والآن وتبد�أ ال�شعوب العربية يف ّ‬
‫مدوخة �أن يقع الإحلاح يف الراهن ال�سيا�سي والإعالمي العربي‬ ‫ملفارقة ّ‬
‫الي ْتم‪ :‬ال �آباء وال �أجداد وال‬
‫طالع من ُ‬
‫ٌ‬ ‫الآن على �أن جيل الثورات العربية‬
‫حلم‬
‫تلم�س الطريق �إىل التخ ّل�ص من اال�ستبداد ٌ‬ ‫عمومة �أي�ض ًا‪ .‬واحلال �أن ّ‬
‫قدمي عا�شت عليه �أجيال من امل�صلحني واملثقفني والأدباء الأحرار طيلة‬ ‫ٌ‬
‫دونه �أحمد بن �أبي ال�ضياف عن حكام‬ ‫ّ‬ ‫ما‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫ت‬‫ف‬‫ّ‬ ‫نتل‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫هنا‬ ‫يكفي‬ ‫أحقاب‪.‬‬ ‫�‬
‫زمانه‪.‬‬
‫فالثابت �أن امل� ّؤرخ التون�سي �أحمد بن �أبي ال�ضياف كان واحداً من‬
‫التقية‪ .‬لذلك حني انتدبه باي تون�س‬ ‫امل� ّؤرخني امل�صلحني الذين �أتقنوا ّ‬
‫امل�شري �أحمد با�شا باي (‪1271 /1220‬هـ ‪1855 /1806 -‬م) وزيراً للقلم‬
‫�رسه كتب تاريخ البايات وامللوك الذين عا�رشهم وجمعه‬ ‫واتخذه �أمني ّ‬
‫يف كتابه «�إحتاف �أهل الزمان ب�أخبار ملوك تون�س وعهد الأمان»‪.‬‬
‫جاء كتاب الإحتاف جامع ًا �إىل الإ�شادة الظاهرة ب�أجماد البايات‬
‫واحلر�ص على تدوين رذائلهم وجورهم‪ .‬وبذلك انفتح التاريخ على‬ ‫َ‬
‫امل�ضاد‪ .‬وجاء التاريخ ال�رسي ليه ّزئ التاريخ العلني ويحيطه‬ ‫ّ‬ ‫التاريخ‬
‫بالظلمات والدياجري‪ .‬ولذلك تتعالق الف�صول قائمة على ما ي�شبه‬
‫املنت واحلا�شية‪ .‬ت�أتي احلا�شية يف �شكل تعليقات و�آراء لته ّزئ املنت‬

‫‪10‬‬
‫فيحدث ابن �أبي ال�ضياف عن م�آثر �أحمد باي‬ ‫ّ‬ ‫وتف�ضح ما يتك ّتم عليه‪.‬‬
‫و�إ�صالحاته‪ ،‬وت�أ�سي�سه للمدر�سة احلربية‪ ،‬وتطويره للتعليم‪ ،‬وتعزيزه‬
‫بالعلوم واملعارف احلديثة‪ .‬لكن هذا الف�صل ُيخرتق بالكالم عن جوره‬
‫وا�ستهانته بالكرامة الب�رشية‪ ،‬و�إثقاله كاهل الرعية بال�رضائب املجحفة‪،‬‬
‫و�إر�ساله ع�ساكره �إىل القرى واملدن جلمع ال�رضائب بالقهر والغلبة‪ .‬يع ّلق‬
‫امل� ّؤرخ على هذه الفعال قائ ًال‪« :‬هذا و�أج�ساد اخللق من�ساقة منقادة‬
‫م�رضتهم وابتزاز نعمتهم خوف ًا من‬ ‫ّ‬ ‫انقياد بهائم الأنعام ولو � ّأدى ذلك �إىل‬
‫ع�ساكره الذين جعلهم �آلة لتغ ّلبه ال تقهر»‪ .‬ال ي�ستخدم ابن �أبي ال�ضياف‬
‫ويلح على �أن الظلم‬‫ّ‬ ‫ي�سمي ال�شعب «عبيد اجلباية»‪،‬‬ ‫عبارة الرعية‪ ،‬بل ّ‬
‫وام‪ .‬فعاف الفالحون �أرا�ضيهم و�صار الواحد منهم �إذا «لقي‬ ‫حولهم �إىل َه ٍ‬
‫ّ‬
‫ويتو�سع يف ذكر‬
‫ّ‬ ‫تي»‪.‬‬ ‫ورزي‬
‫ّ‬ ‫بالئي‬ ‫�سبب‬ ‫«يا‬ ‫‪:‬‬ ‫ال‬
‫ً‬ ‫قائ‬ ‫ركله‬ ‫احلقل‬ ‫يف‬ ‫حمراثه‬
‫حال النا�س الذين �أم�سوا «ولي�س لهم من م�سقط ر�ؤو�سهم وبالدهم ومنبت‬
‫والربط‬‫�آبائهم و�أجدادهم �إ ّال �إعطاء الدرهم والدينار على مذ ّل ٍة و�صغار‪ّ ،‬‬
‫حب الوطن والدار‪ ،‬وان�سلخوا‬ ‫على اخل�سف ربط احلمار‪ ،‬حتى زهدوا يف ّ‬
‫من �أخالق الأحرار»‪.‬‬
‫كثرياً ما يطفح التاريخ ال�رسي بنربة َن ْو ٍح و َن ْد ٍب على النا�س ال�سيما‬
‫يتفن امل� ّؤرخ يف ذكر املحن والرزايا التي اب ُتلي بها �أهل تون�س‬ ‫حني نّ‬
‫ن�شيد �أ�سود يرفع رثاء للمظلومني‪ .‬لك�أن‬ ‫ٌ‬ ‫فت�صبح الكتابة كما لو �أنها‬
‫ام َظ َل َم ٍة ّ‬
‫يتو�سع يف ذكر �آالم بني‬ ‫امل� ّؤرخ الذي �أرغم على تدوين م�آثر ح ّك ٍ‬
‫ليتطهر منها فيما هو ُي�شهِ د عليها وي�ؤ ّثث بها ذاكرة امل�ستقبل‪� .‬أو‬ ‫ّ‬ ‫قومه‬
‫لك�أن امل� ّؤرخ ُي ْ�شهِ د الدنيا على فظاعة ما حدث حتى ال يحدث ثانية‪.‬‬
‫يكفي هنا �أي�ض ًا �أن ننظر يف م�ؤلفات رفاعة الطهطاوي وهو من �أبرز‬
‫قادة النه�ضة الفكرية والعلمية يف م�رص على عهد حممد علي با�شا (‪1182‬‬
‫‪1265/‬هـ ‪1849/ 1769 -‬م) و�سنالحظ �أنه كان على وعي ب�أن احلرية‬
‫ف�صل احلديث‬ ‫والعدالة هما ال�سبيل امل�ؤدية �إىل الكرامة والرقي‪ .‬لذلك ّ‬
‫وتو�سع‬
‫ّ‬ ‫عن هذين املفهومني يف كتابه امل ُْر ِ�شد الأمني للبنات والبنني‬
‫ملح ًا على �أن ال وطنية دون م�ساواة بني من‬ ‫يف تبيان مفهوم الوطنية ّ‬
‫واحد حتى يتعاونوا «على حت�سني الوطن وتكميل نظامه‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وطن‬
‫يجمعهم ٌ‬

‫‪11‬‬
‫نات اال�ستبداد والقهر‬ ‫تاريخُ الغَ لَبة ُ‬
‫وم َد َ ّو ُ‬

‫وغناه وثروته‪ ،‬لأن ال ِغ َنى �إمنا يتح�صل من‬ ‫يف ما يخ�ص �رشف الوطن ِ‬
‫انتظام املعامالت وحت�صيل املنافع العمومية‪ ،‬وهي تكون بني �أهل الوطن‬
‫على ال�سوية‪ ،‬النتفاعهم جميع ًا بمِ َ ز َِّي ِة ال َّن ْخ َو ِة الوطني ِة»‪ .‬وهو ي�صل �إىل‬
‫و�ضعي‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫حد متجيد القانون املعمول به يف فرن�سا‪ ،‬م�شرياً �إىل �أنه قانون‬ ‫ّ‬
‫لكنه يحقق العدل‪ .‬نقر�أ‪« :‬والقانون الذي مي�شي عليه الفرن�ساوية الآن‪،‬‬
‫ويتخذونه �أ�سا�س ًا ل�سيا�ستهم هو القانون الذي �أ َّل َفه لهم َمل ُك ُهم امل َُ�س َّمى‬
‫أمور ال ُي ْن ِكر‬
‫وم ْر ِ�ضي ًا لهم‪ ،‬وفيه � ٌ‬ ‫ِلوِيز الثامن ع�رش‪ .‬وما زال ُم َّت َبع ًا عندهم ُ‬
‫ِف كيف َح َك َم ْت عقولهم ب�أن العدل‬ ‫َذ ُوو العقول �أنها من باب العدل‪ِ ...‬ل َت ْعر َ‬
‫والإن�صاف من �أ�سباب تعمري امل ََما ِلك وراحة العباد»‪.‬‬
‫ال تخرج كتابات خري الدين با�شا التون�سي وقا�سم حممد �أمني من‬
‫هذه الدائرة الإ�صالحية‪ .‬فلقد دعا خري الدين يف كتابه «�أقوم امل�سالك يف‬
‫معرفة �أحوال املمالك» �إىل الإ�صالح ال�شامل ُب ْغ َي َة حتقيق العدل وامل�ساواة‬
‫يف حكم النا�س ودفع الظلم عنهم واحرتام حقوقهم‪ .‬وهذا ُم َت َع َّل ٌق ال يتحقق‬
‫�إال بنظام حكم قائم على ال�شورى‪ ،‬وتعدد م�ؤ�س�سات احلكم‪ ،‬و�إبطال احلكم‬
‫الفردي لأن االنفراد باحلكم يقود �إىل اال�ستبداد‪� .‬أما قا�سم حممد �أمني‬
‫وف�صل القول يف العديد من‬ ‫و�سع دائرة ال�س�ؤال عن �أ�سباب التخ ّلف ّ‬ ‫فقد ّ‬
‫وتفطن‪� ،‬ش�أنه يف ذلك �ش�أن �أحمد فار�س ال�شدياق‬ ‫ّ‬ ‫الق�ضايا االجتماعية‬
‫�إىل �أن حرمان املر�أة من حقوقها هو �أ�صل الداء يف املجتمعات العربية‪.‬‬
‫يعني هذا �إذن �أن كتاب الكواكبي حلقة يف �سل�سلة حماوالت ر�سمت‬
‫ال�رس العمل‬ ‫فرت�سب يف الوجدان اجلماعي العربي ووا�صل يف ّ‬ ‫للحلم مداه ّ‬
‫امل�ستبد العربي يف غفلة من �أمره ال ميتثل �إال لطبائع اال�ستبداد‬ ‫ّ‬ ‫فيما‬
‫املركوزة يف نف�سه‪ ،‬وال ي�صغي �إال �إىل رغبته اللجوج يف ممار�سة الغلبة‬
‫والقهر‪ .‬لقد انطلق كل من الطهطاوي وابن �أبي ال�ضياف وخري الدين با�شا‬
‫ت�صور ابن خلدون حول ن�ش�أة العمران‬ ‫والكواكبي نف�سه –انطلقوا‪ -‬من ّ‬
‫الب�رشي وخراب الدول والأم�صار وت�سليمه يف الباب الثالث والأربعني‬
‫ؤذن بخراب العمران»‪،‬‬ ‫من املقدمة ب�أن «العدل �أ�سا�س العمران» و«الظلم م� ٌ‬
‫خطر على احلياة نف�سها‪ ،‬لأن «ف�ساد العمران‬ ‫ٌ‬ ‫وجزمه ب�أن اال�ستبداد‬
‫وخرابه م�ؤذن بانقطاع النوع الب�رشي»‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫لكن الفارق بني كتاب الكواكبي واملحاوالت الإ�صالحية التي �سبقته‬
‫جوهري‪ .‬ففي حني اكتفى ه�ؤالء امل�صلحون بالدعوة �إىل الإ�صالح‬ ‫ّ‬ ‫فارق‬
‫ال�سيا�سي ب�إر�ساء د�ساتري وبرملانات وجمال�س �شورى‪ ،‬اختار الكواكبي‬
‫�أن مي�ضي يف ال�شوط بعيداً‪ :‬الدعوة �إىل ا�ستئ�صال اال�ستبداد وهدم عرو�ش‬
‫امل�ستبدين و�سدنتهم و�أتباعهم وم�ؤ�س�ساتهم وثقافتهم‪.‬‬ ‫ّ‬
‫جمرد حتليل‬‫ّ‬ ‫كونه‬ ‫عن‬ ‫اال�ستعباد‬ ‫وم�صارع‬ ‫اال�ستبداد‬ ‫طبائع‬ ‫كتاب‬ ‫كف‬
‫ّ‬
‫للم�ستبد وملقولة اال�ستبداد‬
‫ّ‬ ‫لال�ستبداد‪ .‬و�صار عبارة عن مواجهة عنيفة‬
‫داء» ال يرجى �شفا�ؤه‬ ‫تو�سط �أي�ض ًا �إن «اال�ستبداد ٌ‬ ‫نف�سها‪ .‬وال خيار‪ ،‬ال ّ‬
‫واله ْد ِي وال ّلني‪ .‬لذلك‬
‫بالإ�صالح والرتميم‪ ،‬وال ميكن التخ ّل�ص منه بالرفق َ‬
‫امل�ستبد وفظائعه‬
‫ّ‬ ‫تو�سع الكواكبي يف تع ّقب مظاهر اال�ستبداد وفعال‬ ‫ّ‬
‫وجرائره و�إف�ساده للدنيا من حوله‪ .‬ف�صارت الكتابة عبارة عن هبوط‬
‫مدوخ �إىل عامل جحيمي �إبلي�سي ال �شيء فيه غري ال�رشور والويالت والدم‬ ‫ّ‬
‫امل�ستبد املحاط بالليل والدياجري وخ�رسان بني الب�رش‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫عامل‬ ‫إنه‬ ‫�‬ ‫املراق‪.‬‬
‫وتفرعت‪« :‬ما هو اال�ستبداد؟ ما �سببه؟ ما‬ ‫ّ‬ ‫الكتاب‬ ‫تنوعت الأ�سئلة يف هذا‬ ‫ّ‬
‫�أعرا�ضه؟ ما �سريه؟ ما �إنذاره؟ ما دوا�ؤه؟ ما هي طبائع اال�ستبداد؟ ملاذا‬
‫امل�ستبد؟‬
‫ّ‬ ‫رعية‬
‫امل�ستبد �شديد اخلوف؟ ملاذا ي�ستويل اجلنب على ّ‬ ‫ّ‬ ‫يكون‬
‫ما ت�أثري اال�ستبداد على الدين؟ على العلم؟ على املجد؟ على املال؟ على‬
‫الأخالق؟ على الرت ّقي؟ على الرتبية؟ على العمران؟»‪.‬‬
‫ر�سمت هذه الأ�سئلة للكتاب ف�صوله و�أق�سامه‪ ،‬وللكتابة �ضفافها‪.‬‬
‫فتحول �إىل مطاردة عنيدة لك ّل مظاهر اال�ستبداد و�أعرا�ضه ونتائجه‪.‬‬ ‫ّ‬
‫تو�صل‬‫ّ‬ ‫قد‬ ‫خلدون‬ ‫ابن‬ ‫كان‬ ‫التي‬ ‫ذاتها‬ ‫النتيجة‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫الكواكبي‬ ‫يخل�ص‬ ‫لذلك‬
‫يعطلها ويبيدها‪.‬‬ ‫�إليها حني جزم ب�أن الظلم ال يف�سد احلياة فح�سب‪ ،‬بل ّ‬
‫ال�سم يف فنجان قهوة �ستودي بحياة‬ ‫امتدت لد�س ّ‬ ‫الي َد التي ّ‬‫الراجح �أن َ‬
‫امل�ستبد الذي جنح كتاب الكواكبي يف جعله‬ ‫ّ‬ ‫الكواكبي كانت يد �أحد �سدنة‬
‫امل�ستبد‬
‫ّ‬ ‫اره‪ ،‬وبني �أن‬ ‫و�ص َغ َ‬‫قدام النا�س �أجمعني فك�شف �ص َغ َره َ‬ ‫ف�ضيحة ّ‬
‫مقدام ال يخ�شى ركوب اخلطر‪ ،‬يف حني �أنه‬ ‫ٌ‬ ‫قوي‬
‫يوهم يف الظاهر ب�أنه ّ‬
‫ي�ستمد جربوته ونفوذه «من‬ ‫ُّ‬ ‫امل�ستبد‬
‫ّ‬ ‫جبان «�شديد اخلوف»‪� .‬إن‬ ‫ٌ‬ ‫رعديد‬
‫ٌ‬
‫اجلنب الذي ي�ستويل على رعيته»‪� .‬إن ا�ستبداد الطاغية وجوره و�إمعانه يف‬

‫‪13‬‬
‫نات اال�ستبداد والقهر‬ ‫تاريخُ الغَ لَبة ُ‬
‫وم َد َ ّو ُ‬

‫الرعية من‬ ‫ّ‬ ‫اجلرمية والقتل �إمنا تت�أ ّتى يف جانب كبري منها‪ ،‬ال من خوف‬
‫ال�سيما �أن اخلوف‬ ‫ال�سلطان فح�سب‪ ،‬بل من احرتامها له و�إعالئها ل�ش�أنه‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫واالحرتام انفعاالن كثرياً ما يتداخالن ويف�ضي �أحدهما �إىل الآخر‪ .‬ومن‬
‫امل�ستبد‪-‬ك ّل‬
‫ّ‬ ‫ي�ستمد‬
‫ّ‬ ‫تداخلهما وامتزاج �أحدهما بالآخر يف نفو�س النا�س‪،‬‬
‫م�ستبد‪� -‬سطوته و�سلطانه‪.‬‬ ‫ّ‬
‫امل�ستبد و�أمرا�ضه النف�سية‬ ‫ّ‬ ‫�شخ�صية‬ ‫بتعرية‬ ‫الكواكبي‬ ‫يكتفي‬ ‫ال‬
‫وعقده‪ ،‬بل يدفع بالتحليل �إىل مناطق حاملا يبلغها ت�صبح الكتابة عبارة‬
‫ملح ًا‪ ،‬يف‬ ‫امل�ستبد ّ‬
‫ّ‬ ‫عن �إدانة لل�رشائح االجتماعية التي تتبارى يف خدمة‬
‫م�ستبدة يف كل فروعها‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبدة تكون‬
‫ّ‬ ‫الآن نف�سه‪ ،‬على �أن «احلكومة‬
‫الفرا�ش‪� ،‬إىل كنا�س ال�شوارع‪ ..‬وهذه‬ ‫امل�ستبد الأعظم‪� ،‬إىل ال�رشطي‪� ،‬إىل ّ‬ ‫ّ‬ ‫من‬
‫�شدة اال�ستبداد وخ ّفته‪ ،‬فك ّلما‬ ‫الفئة امل�ستخدمة يكرث عددها ويق ّل ح�سب ّ‬
‫املتمجدين‬
‫ّ‬ ‫امل�ستبد حري�ص ًا على الع�سف احتاج �إىل زيادة جي�ش‬ ‫ّ‬ ‫كان‬
‫العاملني له املحافظني عليه‪ ،‬واحتاج �إىل مزيد الد ّقة يف اتخاذهم من‬
‫�أ�سفل املجرمني الذين ال �أثر عندهم لدينٍ �أو م ّل ٍة»‪.‬‬
‫توظف نف�سها يف خدمة‬ ‫لكن املثقفني يظلون �أخطر �رشيحة اجتماعية ّ‬
‫ت�سبح‬
‫م�ستبد يف ديار العرب �إال وله بطانة من املثقفني ّ‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد‪ .‬فما من‬
‫ّ‬
‫يوظف املثقفني العتقاده �أن العديد من املثقفني‬ ‫ّ‬ ‫إمنا‬ ‫�‬ ‫وامل�ستبد‬
‫ّ‬ ‫بحمده‪.‬‬
‫امل�ستبد‪ ،‬يف‬
‫ّ‬ ‫هم �سدنة اال�ستبداد وخدمه يف ك ّل الأزمنة والأم�صار‪ .‬ذلك �أن‬
‫املكر‬
‫واخل�س َة‪ ،‬و�إىل احليلة َ‬ ‫ّ‬ ‫نظر الكواكبي‪� ،‬شخ�ص يجمع �إىل الغفلة اجله َل‬
‫«يجرب �أحيان ًا يف املنا�صب واملراتب بع�ض العقالء‬ ‫ّ‬ ‫واخلديع َة‪ .‬ولذلك‬
‫الأذكياء اغرتاراً منه ب�أنه يقوى على تليني طينتهم وت�شكيلهم بال�شكل‬
‫الذي يريد‪ ،‬فيكونون له �أعوان ًا خبثاء ينفعونه بدهائهم»‪ .‬ف�إذا ق�ضى‬
‫منهم حاجته �أو«يئ�س من �إف�سادهم يبادر �إىل �إبعادهم وين ّكل بهم»‪.‬‬
‫غري �أن الكواكبي ال يدين هذا ال�صنف من املثقفني ال�سدنة فح�سب‪،‬‬
‫اجلهال‬
‫بل يخرجهم من دائرة املثقفني الف�ضالء ويرمي بهم يف دائرة ّ‬
‫امل�ستبد �إال اجلاهل العاجز الذي‬ ‫ّ‬ ‫ي�ستقر عند‬
‫ّ‬ ‫واخلبثاء املرائني‪ .‬نقر�أ‪« :‬ال‬
‫�شا�سع بني املثقف‬ ‫ٌ‬ ‫بو ٌن‬
‫يعبده من دون اهلل‪� ،‬أو اخلبيث اخلائن»‪ .‬ثمة ْ‬
‫يتحول �إىل خمرب وخادم �أمني ي�سري يف‬ ‫ّ‬ ‫احلقيقي واملثقف ال ّزائف الذي‬ ‫ّ‬

‫‪14‬‬
‫املن�شق الذي‬
‫ّ‬ ‫بال�ضعينة‪ ،‬بني املثقف‬ ‫ّ‬ ‫مدجج ًا‬
‫ال�سلطة اجلائرة ّ‬ ‫ركاب ّ‬
‫ويلطخ اال�سم‬ ‫يحافظ على �رشف اال�سم واملثقف الذي ير�ضى بدور العبد ّ‬
‫ملخبرِ‬
‫الدهر ك ّله‪ .‬هكذا يعمد الكواكبي �إىل طرد هذا املثقف ا ُ‬ ‫َ‬ ‫بعار ال يطف�أ‬
‫خارج دائرة الثقافة والفكر ليلحقه بزمرة املخربين وال�رشطة و�سدنة‬
‫امل�ستبدة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ال�سلطات‬
‫أمر مذه ٌل حق ًا �أن تو�صيف الكواكبي لهذه الفئة ما زال ثاقب ًا‬ ‫و�إنه ل ٌ‬
‫�صحيح ًا رغم مرور قرن من الزمان على ن�رش كتاب طبائع اال�ستبداد‬
‫نتمعن يف ما يجري يف تون�س ويف‬ ‫وم�صارع اال�ستعباد‪ .‬يكفي هنا �أن ّ‬
‫مرة �أخرى يف هذا ال�صنف من‬ ‫يتج�سد ّ‬ ‫ّ‬ ‫العجاب‬
‫م�رص و�سرنى العجب ُ‬
‫امل�ستبد‪ .‬عديدون هم املثقفون الذين تفانوا يف خدمة‬ ‫ّ‬ ‫املثقفني �سدنة‬
‫اال�ستبداد يف ك ّل من تون�س وم�رص‪ .‬وعندما حت ّققت نبوءة الكواكبي حول‬
‫فر طاغية تون�س املخلوع وتهاوى عر�ش‬ ‫«م�صارع اال�ستعباد»‪ ،‬حني ّ‬
‫و�س وخرجوا على النا�س معلنني‬ ‫م�ستبد م�رص املدحور‪ ،‬لب�سوا لك ّل حال َل ُب ٍ‬ ‫ّ‬
‫رواد التغيري وقادته‪ .‬وهذا ف�ص ٌل‬ ‫ّ‬ ‫ومن‬ ‫التاريخ‪،‬‬ ‫حركة‬ ‫مة‬ ‫مقد‬
‫ّ‬ ‫يف‬ ‫�أنهم‬
‫خم ٍز مل يكتبه الكواكبي‪.‬‬
‫بد من الإ�شارة �أي�ض ًا �إىل �أن هذا الكتاب خمرتق من الداخل ب�أكرث من‬ ‫ال ّ‬
‫املن�شق الذي �أعلن االن�شقاق طريق ًا م�ؤدية �إىل‬ ‫ّ‬ ‫�صوت‪ّ � .‬أولها �صوت الكاتب‬
‫اخلال�ص من اال�ستبداد‪ .‬لذلك ترد الكتابة يف �شكل حما�سبة عنيفة متو ّترة‬
‫امل�ستبد‬
‫ّ‬ ‫ملظاهر اال�ستبداد‪ ،‬ومطاردة عنيدة لنتائج اال�ستبداد وفعال‬
‫امل�ستبد‪ :‬ال العلم‬
‫ّ‬ ‫وخ�سته و�إف�ساده للدنيا من حوله‪ .‬فال �أحد ي�سلم من فعال‬ ‫ّ‬
‫ي�سلم‪ ،‬وال الرتبية والأخالق والقيم يف منجاة من مكائده ومكره‪ .‬فحيثما‬
‫طافح بال�شجن‬ ‫ٌ‬ ‫اخلراب‪� .‬أما ال�صوت الثاين ف�إنه �صوت‬ ‫ُ‬ ‫م�ستبد كان‬
‫ٌ‬ ‫ُوجد‬
‫مليء باحلرقة والت� ّأ�سي على حال الوطن العربي‪ .‬فت�صبح الكتابة كما لو‬
‫ن�شيد �أ�سود يرفع يف وجه اخلراب‬ ‫ٌ‬ ‫�أنها نوع من النوح والندب �أو لك�أنها‬
‫قدا�س جنائزي يعت�رص‬ ‫ين�شد التخ ّل�ص من �أ�سبابه‪ .‬وت�صبح القراءة ك�أنها ّ‬ ‫ُ‬
‫�شغاف القلب‪.‬‬
‫ويتو�سل مقا�صده تلك‬ ‫ّ‬ ‫يوظف الكواكبي �أ�سلوب الكتابة بامل�شهد‪.‬‬ ‫ههنا ّ‬
‫بو�سيلة موغلة يف االقت�صاد والب�ساطة حني يحاكي كيفات ت�شك ّل ال�صوت‬

‫‪15‬‬
‫نات اال�ستبداد والقهر‬ ‫تاريخُ الغَ لَبة ُ‬
‫وم َد َ ّو ُ‬

‫وال�صدى م�ستخدم ًا �أ�سلوب النداء‪ .‬يت�ش ّكل النداء يف �شكل خماطبة للوطن‪:‬‬
‫«�أنت �أيها الوطن املحبوب‪� /‬أيها الوطن العزيز‪� /‬أيها الوطن احلنون‪)...‬‬
‫ويكون امل�شهد مبثابة رجع �صدى للنداء ذاته‪� .‬إن ال�صدى يكون عادة �أكرث‬
‫ومتو ٌج‪ .‬لذلك ي�أخذ‬
‫ورجع ّ‬‫ٌ‬ ‫ترجيع‬
‫ٌ‬ ‫امتداداً من ال�صوت‪ .‬لأن ال�صدى فيه‬
‫م�ساحة �أو�سع من تلك التي يحتلها ال�صوت يف الهواء‪ .‬وعلى هذا الن�سق‬
‫فيتو�سع يف ر�سم‬
‫ّ‬ ‫جريان الكتابة‪� .‬إن النداء مقت�ضب موجز‪� .‬أما ال�صدى‬
‫املحن‪ .‬نقر�أ مث ًال‪� « :‬أيها الوطن الباكي �ضعافه‪ :‬عليك تبكي العيون وفيك‬
‫يحلو املنون‪� .‬إىل متى يعبث خاللك اللئام الطغام؟ يظلمون بنيك ويذلون‬
‫ذويك‪� ..‬أيها الوطن امللتهب ف�ؤاده‪� :‬أما رويت من �سقيا الدموع والدماء‪،‬‬
‫ولكنها دموع بناتك الثاكالت ودماء �أبنائك الأبرياء»‪.‬‬
‫�شجن ال يطف�أ تر�شح به الكتابة حني يجري الكواكبي مقارنات‬ ‫ٌ‬ ‫ثمة‬‫ّ‬
‫بني حال النا�س يف الغرب وهوان الب�رش و�ضعتهم يف بالد العرب‪ .‬ثمة‬
‫و�ضجر من ا�ست�سالم النا�س لال�ستبداد‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ي� ٌأ�س من حال الأمة يف ع�رصه‪،‬‬
‫يحدث عنهم قائ ًال‪�« :‬إمنا هم – غفر اهلل لهم‪ -‬من علمت‪ ،‬ق َّل فيهم‬ ‫وهو ّ‬
‫احلر الغيور‪ ،‬ق َّل فيهم من يقول �أنا ال �أخاف الظاملني»‪.‬‬‫ُّ‬
‫لكن نربة ال�شجن الطافحة بالي�أ�س �رسعان ما ترتاجع حني يوجه‬
‫اخلطاب �إىل ال�شباب قائ ًال‪�« :‬أنا�شدكم يا نا�شئة الأوطان‪ ..‬حماكم اهلل من‬
‫ق�صور َف َخاركم على معايل الهمم ومكارم‬ ‫َ‬ ‫ال�سوء‪ ..‬نرجو لكم �أن تبنوا‬
‫ال�شيم‪ ..‬و�أن تعلموا �أنكم خلقتم �أحراراً لتموتوا كرام ًا»‪.‬‬
‫‪lll‬‬

‫فا�صلة �صغرية‪:‬‬
‫� ْأي عبد الرحمن الكواكبي‪:‬‬
‫امل�ستبد‪ ،‬وال�شباب يف م�رص التي �شهدت‬
‫ّ‬ ‫ال�شباب يف تون�س زلزلوا بيت‬
‫امل�ستبد‪ .‬ولل�سيول التي �ستهد العرو�ش بقية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مقتلك غيلة ع�صفت بعر�ش‬
‫‪lll‬‬

‫‪16‬‬
‫تذييل‪:‬‬
‫�سرية الكواكبي‬
‫ولد عبد الرحمن الكواكبي �سنة ‪1270‬هـ املوافق ل�سنة ‪1854‬م‬
‫بحلب يف بيت علم ي�شهد له بالف�ضل‪ .‬توفيت �أمه فرعته خالته املقيمة‬
‫عم �أمه جنيب النقيب الذي �أ�صبح‬ ‫يف �أنطاكيا وعلمته الرتكية فع ّلمه ّ‬
‫يف ما بعد �أ�ستاذاً خا�ص ًا للخديوي عبا�س حلمي الثاين يف م�رص‪ .‬در�س‬
‫الكواكبي ال�رشيعة واملنطق وعلم الطبيعة وال�سيا�سة‪ .‬وا�شتغل بالتدري�س‬
‫وهو يف الع�رشين من العمر‪� .‬أن�ش�أ مبعية ها�شم العطار جريدة ال�شهباء‬
‫�سنة ‪1877‬م التي �رسعان ما منعتها ال�سلطات العثمانية‪ .‬ف�أ�صدر‬
‫جريدة االعتدال �سنة ‪1879‬م‪ ،‬ووا�صل ن�رش �أفكاره الداعية �إىل النهو�ض‬
‫والإ�صالح‪ .‬وعندما �أغلقت ال�سلطات اجلريدة ا�شتغل باملحاماة زمن ًا‬
‫�ضيقت‬‫وكان يدافع عن املظلومني جمان ًا حتى ل ّقب بـ«�أبي ال�ضعفاء»‪ّ .‬‬
‫عليه ال�سلطات العثمانية اخلناق فغادر حلب و�ساح يف �آ�سيا والهند‬
‫وتوطن م�رص حتى ُقتل‬
‫ّ‬ ‫وال�صني و�سواحل �رشق �آ�سيا و�سواحل �إفريقيا‪،‬‬
‫فيها غيلة �سنة ‪1902‬م‪.‬‬
‫أهم م�ؤلفاته‪:‬‬
‫� ّ‬
‫‪ l‬كتاب �أم القرى الذي عالج فيه �أ�سباب التخلف يف العامل الإ�سالمي‬
‫و�أرجعها �إىل ما �سماه الأ�سباب الدينية وتتم ّثل يف ما نعته بعقيدة اجلرب‬
‫و�إهمال العلوم العقلية‪ ،‬والأ�سباب ال�سيا�سية وتتم ّثل يف حرمان النا�س‬
‫من حرية القول والعمل‪ ،‬والأ�سباب اخللقية ومردها الركون �إىل اجلهل‬
‫وف�ساد التعليم وتف�ضيل الوظائف على ال�صنائع‪.‬‬
‫‪ l‬كتاب طبائع اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد الذي تقدمه جملة‬
‫الدوحة هدية للقارئ مع هذا العدد‪.‬‬

‫د‪ .‬حممد لطفي اليو�سفي‬


‫جامعة قطر‬

‫‪17‬‬
‫فاحتة الكتاب‬

‫‪18‬‬
‫ب�سم اهلل الرحمن الرحيم‬
‫فاحتة الكتاب‬

‫وال�سالم على‬ ‫وال�صالة ّ‬‫نظام حمكم ٍ متني‪ّ ،‬‬‫احلمد للهّ ‪ ،‬خالق الكون على ٍ‬
‫العربي‬
‫ّ‬ ‫النبي‬
‫ّ‬ ‫احلق املبني‪ ،‬ال�سيما منهم على‬
‫�أنبيائه العظام‪ ،‬هداة الأمم �إىل ّ‬
‫الذي �أر�سله رحمة ً للعاملني لريقى بهم معا�ش ًا ومعاداً على �س ّلم احلكمة �إىل‬
‫ع ّليني‪.‬‬
‫ال�صادع بالأمر‪،‬‬ ‫ال�ضعيف ّ‬ ‫أقول و�أنا م�سلم عربي م�ضطر لالكتتام �ش�أن ّ‬‫� ُ‬
‫عمن قال‪:‬‬ ‫الراجي اكتفاء املطالعني بالقول ًّ‬ ‫املعلن ر�أيه حتت �سماء ال�رشق‪ّ ،‬‬
‫احلق يف ذاته ال بالرجال‪� ،‬إنني يف �سنة ثماين ع�رش وثالثمائة و�ألف‬ ‫وتعرف ّ‬
‫فزرت م�رص‪ ،‬واتخذتها يل مركزاً‬ ‫ُ‬ ‫هجرت دياري �رسح ًا يف ال�شرّ ق‪،‬‬
‫ُ‬ ‫هجرية‬
‫�سمي عم ال ّنبي‬
‫احلر ّية فيها على عهد عزيزها ح�رضة ًّ‬ ‫�أرجع �إليه مغتنم ًا عهد ّ‬
‫فوجدت �أفكار �رساة‬‫ُ‬ ‫(العبا�س الثاين) ال ّنا�رش لواء الأمن على �أكناف ملكه‪،‬‬

‫‪19‬‬
‫فاحتة الكتاب‬

‫القوم يف م�رص كما هي يف �سائر ال�شرّ ق خائ�ض ٌة عباب البحث يف امل�س�ألة‬


‫الكربى‪� ،‬أعني امل�س�ألة االجتماعية يف ال�شرّ ق عموم ًا ويف امل�سلمني خ�صو�ص ًا‪،‬‬
‫�إمنا هم ك�سائر الباحثني‪ ،‬ك ٌّل يذهب مذهب ًا يف �سبب االنحطاط ويف ما هو‬
‫ال�سيا�سي‬ ‫الداء هو اال�ستبداد ّ‬ ‫متح�ص عندي � ّأن �أ�صل ّ‬ ‫وحيث �إين قد ّ‬ ‫ُ‬ ‫الدواء‪.‬‬
‫ا�ستقر فكري على ذلك ‪ -‬كما � ّأن ل ُك ّل‬ ‫ََّ‬ ‫الد�ستورية‪ .‬وقد‬ ‫بال�شورى ّ‬ ‫ودوا�ؤه دفعه ّ‬
‫يخطر على‬ ‫ُ‬ ‫نب�أ م�ستقراًـ بعد بحث ثالثني عام ًا‪ ...‬بحث ًا �أظ ّن ُه يكاد ي�شمل ك ّل ما‬
‫الداء �أو‬ ‫يتوه ُم فيه الباحث عند النظر ِة الأوىل‪� ،‬أن ُه ظفر ب�أ�صل ّ‬ ‫البال من �سبب ّ‬
‫ولكن‪ ،‬ال يلبث � ْأن يك�شف له ال ّتدقيق �أ ّنه مل يظفر ب�شيء‪� ،‬أو � ّأن‬ ‫ْ‬ ‫أهم �أ�صوله‪،‬‬‫ب� ّ‬
‫فرع ال �أ�صل‪� ،‬أو هو نتيجة ال و�سيلة ‪.‬‬ ‫ذلك ٌ‬
‫الدين‪ ،‬ال يلبث � ْأن يقف حائراً‬ ‫الداء ال ّتهاون يف ّ‬ ‫فالقائل مث ًال‪ّ � :‬إن �أ�صل ّ‬
‫ُ‬
‫الداء اختالف‬ ‫الدين؟ والقائل‪ّ � :‬إن ّ‬ ‫عندما ي�س�أل نف�سه ملاذا تهاون ال ّنا�س يف ّ‬
‫الآراء‪ ،‬يقف مبهوت ًا عند تعليل �سبب االختالف‪ .‬ف�إن قال‪� :‬سببه اجلهل‪َ ،‬ي ْ�ش ُك ُل‬
‫أ�شد‪ ...‬وهكذا‪ ،‬يجد نف�سه‬ ‫عليه وجود االختالف بني العلماء ب�صورة �أقوى و� ّ‬
‫يف حلقة ُمفرغة ال مبد�أ لها‪ ،‬فريجع �إىل القول‪ :‬هذا ما يريده اهلل بخلقه‪ ،‬غري‬
‫رحيم‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫عادل‬
‫ٌ‬ ‫حكيم‬‫ٌ‬ ‫مكرتث مبنازعة عقله ودينه له ب� ّأن اهلل‬
‫أتعبت نف�سي‬ ‫أعدد لهم املباحث التي طاملا � ُ‬ ‫و�إنيّ ‪� ،‬إراح ًة لفكر املطالعني‪ّ � ،‬‬
‫وخاطرت ح ّتى بحياتي يف در�سها وتدقيقها‪ ،‬وبذلك يعلمون �أنيّ‬ ‫ُ‬ ‫يف حتليلها‪،‬‬
‫ال�سيا�سي �إال بعد‬ ‫الداء هو اال�ستبداد ّ‬ ‫الر�أي القائل ب� ّأن �أ�صل ّ‬ ‫وافقت على ّ‬ ‫ُ‬ ‫ما‬
‫نيتي �شفيع‬ ‫�سن َّ‬ ‫أ�صبت الغر�ض‪ .‬و�أرجو اهلل � ْأن يجعل ُح َ‬ ‫يرجح قد � ُ‬ ‫ُ‬ ‫عنا ٍء طويل‬
‫�سيئاتي‪ ،‬وهاهي املباحث‪:‬‬
‫ن�رشت يف �أ�شهر جرائدها بع�ض مقاالت �سيا�سية‬ ‫ُ‬ ‫يف زيارتي هذه مل�رص‪،‬‬
‫الدين‪ ،‬على العلم‪،‬‬ ‫حتت عنوانات اال�ستبداد‪ :‬ما هو اال�ستبداد وما ت�أثريه على ّ‬
‫على الترّ بية على الأخالق‪ ،‬على املجد‪ ،‬على املال‪� ...‬إىل غري ذلك‪.‬‬
‫عت‬ ‫فو�س ُ‬ ‫أجبت تكليف بع�ض ال�شبيبة‪ّ ،‬‬ ‫ثم يف زيارتي �إىل م�رص ثاني ًة � ُ‬
‫تلك املباحث خ�صو�ص ًا يف االجتماعيات كالرتبية والأخالق‪ ،‬و�أ�ضفت‬
‫�سميته (طبائع‬ ‫ون�رشت ذلك يف كتاب َّ‬ ‫ُ‬ ‫�إليها طرائق التخ ُّل�ص من اال�ستبداد‪،‬‬
‫اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد) وجعلته هدي ًة مني لل ّنا�شئة العربية املباركة‬
‫غرو‪ ،‬فال �شباب �إال بال�شباب‪.‬‬ ‫بي ْمنِ نوا�صيهم‪ .‬وال َ‬ ‫الأبية املعقودة �آمال الأمة ُ‬

‫‪20‬‬
‫ٍ‬
‫برهة قليلة‪،‬‬ ‫وجدت الكتاب قد نفد يف‬ ‫ُ‬ ‫ثم يف زيارتي هذه‪ ،‬وهي الثالثة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫أحببت �أن �أعيد ال ّنظر فيه‪ ،‬و�أزيده زيداً مما در�س ُت ُه ف�ضبط ُته‪� ،‬أو ما اقتب�س ُته‬‫ف� ُ‬
‫وعناء غري قليل‪ ...‬و�أنا ال �أق�صد‬ ‫ً‬ ‫�رصفت يف هذا ال�سبيل عمراً عزيزاً‬
‫ُ‬ ‫وطبق ُته‪ ،‬وقد‬
‫َّ‬
‫أردت بيان طبائع‬ ‫ُ‬ ‫�‬ ‫إمنا‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫خم�ص�صة‪،‬‬ ‫ة‬ ‫أم‬
‫َّ‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫حكوم‬ ‫وال‬ ‫بعينه‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫ظامل‬ ‫مباحثي‬ ‫يف‬
‫اال�ستبداد وما يفعل‪ ،‬وت�شخي�ص م�صارع اال�ستعباد وما يق�ضيه ومي�ضيه على‬
‫الدفني‪ ،‬ع�سى �أن يعرف‬ ‫ق�صد �آخر‪ ،‬وهو التنبيه ملورد الداء ّ‬ ‫ذويه‪ ...‬ويل هناك ٌ‬
‫الذين ق�ضوا نحبهم‪� ،‬أنهم هم املت�سببون ملا ح َّل بهم‪ ،‬فال يعتبون على الأغيار‬
‫وال على الأقدار‪� ،‬إمنا يعتبون على اجلهل و َف ْق ِد الهمم وال ّتواكل‪ ..‬وع�سى الذين‬
‫فيهم بقية رمقٍ من احلياة ي�ستدركون �ش�أنهم قبل املمات‪...‬‬
‫ال�سهل املفيد‬‫وقد تخيرّ ُت يف الإن�شاء �أ�سلوب االقت�ضاب‪ ،‬وهو الأ�سلوب ّ‬
‫الذي يختاره ُك َّتاب �سائر اللغات‪ ،‬ابتعاداً عن قيود التعقيد و�سال�سل ال ّت�أ�صيل‬
‫وال ّتفريغ‪ .‬هذا و�إنيّ �أخالف �أولئك امل�ؤ ِّلفني‪ ،‬فال �أمتنى العفو عن الزلل‪� ،‬إمنا‬
‫�أقول‪:‬‬
‫هذا جهدي‪ ،‬وللناقد الفا�ضل �أن ي�أتي قومه بخري منه‪ .‬فما �أنا �إال فاحت‬
‫يل املهتدين‪.‬‬ ‫يو�سعه‪ ،‬واهلل و ُّ‬ ‫باب �صغري من �أ�سوار اال�ستبداد‪ .‬ع�سى الزمان ِّ‬

‫‪1320‬هـ‪1902 -‬م‬

‫‪21‬‬
‫مقدمة‬

‫‪22‬‬
‫مقدمة‬
‫ومباحث‬
‫َ‬ ‫يتفر ُع �إىل فنون كثرية‬
‫جداً‪ّ ،‬‬ ‫وا�سع ّ‬‫ٌ‬ ‫علم‬
‫ال�سيا�سة ٌ‬‫ال خفاء � ّأن ّ‬
‫دقيقة �ش ّتى‪ .‬وق ّلما يوجد �إن�سان يحيط بهذا العلم‪ ،‬كما �أ ّنه ق ّلما يوجد �إن�سان‬
‫يحتك فيه‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ال‬
‫ال�سيا�سة‬‫علماء �سيا�سيون‪ ،‬تك ّلموا يف فنون ّ‬ ‫ُ‬ ‫وقد ُوجد يف ك ِّل الأمم املرتقية‬
‫مدونات الأديان �أو احلقوق �أو التاريخ �أو الأخالق‬ ‫ومباحثها ا�ستطراداً يف ّ‬
‫ال�سيا�سة لغري م� ِّؤ�س�سي‬
‫كتب خم�صو�صة يف ّ‬ ‫�أو الأدب‪ .‬وال ُتعرف للأقدمني ٌ‬
‫الرومان واليونان‪ ،‬و�إنمّ ا لبع�ضهم ُم�ؤ ّلفات �سيا�سية �أخالقية‬ ‫اجلمهوريات يف ّ‬
‫وحمررات �سيا�سية دينية كنهج البالغة‬ ‫ّ‬ ‫ككليلة ودمنة ور�سائل غوريغوريو�س‪،‬‬
‫وكتاب اخلراج‪.‬‬
‫ف�صلة يف هذا الفن لغري علماء‬ ‫و�أما يف القرون املتو�سطة فال ت�ؤثر �أبحاث ُم ّ‬
‫والطو�سي‪ ،‬والغزايل‪،‬‬ ‫كالرازي‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫الإ�سالم‪ ،‬فهم �أ ّلفوا فيه ممزوج ًا بالأخالق‬
‫واملتنبي‪ ،‬وهي‬
‫ّ‬ ‫كاملعري‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والعالئي‪ ،‬وهي طريقة ال ُف ْر ِ�س‪ ،‬وممزوج ًا بالأدب‬
‫طريقة العرب‪ ،‬وممزوج ًا بالتاريخ كابن خلدون‪ ،‬وابن بطوطة‪ ،‬وهي طريقة‬
‫املغاربة‪.‬‬
‫تو�سعوا يف هذا العلم و�أ ّلفوا‬
‫ثم �أمريكا‪ ،‬فقد َّ‬ ‫� ّأما املت� ِّأخرون من �أهل �أوروبا‪َّ ،‬‬

‫‪23‬‬
‫مقدمة‬

‫فيه كثرياً و�أ�شبعوه تف�صي ًال‪ ،‬ح َّتى �إ ّنهم �أفردوا بع�ض مباحثه يف ال ّت�أليف‬
‫ميزوا مباحثه �إىل �سيا�سة عمومية‪ ،‬و�سيا�سة خارجية‪،‬‬ ‫مبج ّلدات �ضخمة‪ ،‬وقد ّ‬
‫وق�سموا ك ًال منها‬
‫و�سيا�سة �إدارية‪ ،‬و�سيا�سة اقت�صادية‪ ،‬و�سيا�سة حقوقية‪� ،‬إلخ‪ّ .‬‬
‫�إىل �أبواب �ش َّتى و�أ�صول وفروع‪.‬‬
‫و� ّأما املت� ِّأخرون من ال�رشقيني‪ ،‬فقد ُوجد من الترّ ك كثريون �أ ّلفوا يف‬
‫�أكرث مباحثه ت�آليف م�ستق ّلة وممزوجة مثل‪� :‬أحمد جودة با�شا‪ ،‬وكمال بك‪،‬‬
‫و�سليمان با�شا‪ ،‬وح�سن فهمي با�شا‪ ،‬وامل�ؤ ّلفون من العرب قليلون ومق ّلون‪،‬‬
‫الدين با�شا‬ ‫والذين ي�ستح ّقون الذكر منهم فيما نعلم‪ :‬رفاعة بك‪ ،‬وخري ّ‬
‫ال ّتون�سي‪ ،‬و�أحمد فار�س‪ ،‬و�سليم الب�ستاين‪،‬واملبعوث املدين‪.‬‬
‫ال�سيا�سيني من العرب قد كرثوا‪ ،‬بدليل ما‬ ‫املحررين ّ‬
‫ِّ‬ ‫ولكن‪ ،‬يظهر لنا � ّأن‬ ‫ْ‬
‫يظهر من من�شوراتهم يف اجلرائد واملجالت يف موا�ضع كثرية‪ .‬ولهذا‪ ،‬الح لهذا‬
‫أهم‬
‫ذكر ح�رضاتهم على ل�سان بع�ض اجلرائد العربية مبو�ضوع هو � ّ‬ ‫العاجز � ْأن �أُ ّ‬
‫ال�سيا�سية‪ ،‬وق َّل من طرق بابه منهم �إىل الآن‪ ،‬ف�أدعوهم �إىل ميدان‬ ‫املباحث ّ‬
‫وينبهونهم‬
‫ِّ‬ ‫امل�سابقة يف خري خدمة ينريون بها �أفكار �إخوانهم ال�رشقيني‬
‫ـ ال�سيما العرب منهم ـ ملا هم عنه غافلون‪ ،‬فيفيدونهم بالبحث وال ّتعليل‬
‫و�رضب الأمثال وال ّتحليل (ما هو داء ال�شرّ ق وما هو دوا�ؤه؟)‪.‬‬
‫ال�ش�ؤون امل�شرتكة مبقت�ضى‬ ‫ال�سيا�سة ب�أ ّنه هو (�إدارة ّ‬‫ملا كان تعريف علم ّ‬ ‫و ّ‬
‫أهمها بحث (اال�ستبداد)‪� ،‬أي‬ ‫ال�سيا�سة و� ّ‬
‫بالطبع � ّأول مباحث ّ‬ ‫احلكمة) يكون ّ‬
‫ال�ش�ؤون امل�شرتكة مبقت�ضى الهوى‪.‬‬ ‫�رصف يف ّ‬ ‫ال ّت ُّ‬
‫و�إنيّ �أرى � ّأن املتكلِّم يف اال�ستبداد عليه �أن يالحظ تعريف وت�شخي�ص‬
‫«ما هو اال�ستبداد؟ ما �سببه؟ ما �أعرا�ضه؟ ما �سريه؟ ما �إنذاره؟ ما دوا�ؤه؟»‬
‫يتحمل تف�صيالت كثرية‪ ،‬وينطوي على مباحث �ش ّتى‬ ‫ّ‬ ‫وكل مو�ضوع من ذلك‬ ‫ُّ‬
‫امل�ستبد �شديد اخلوف؟‬
‫ُّ‬ ‫من �أمهاتها‪ :‬ما هي طبائع اال�ستبداد؟ ملاذا يكون‬
‫الدين؟ على‬ ‫امل�ستبد؟ ما ت�أثري اال�ستبداد على ّ‬
‫ّ‬ ‫ملاذا ي�ستويل اجلنب على رعية‬
‫العلم؟ على املجد؟ على املال؟ على الأخالق؟ على الترَّ ِّقي؟ على الترّ بية؟ على‬
‫العمران؟‬
‫تحمل اال�ستبداد؟ كيف يكون ال ّتخل�ص من‬ ‫امل�ستبد؟ هل ُي ّ‬
‫ّ‬ ‫َم ْن هم �أعوان‬
‫اال�ستبداد؟ مباذا ينبغي ا�ستبدال اال�ستبداد؟‬

‫‪24‬‬
‫ت�ستقر‬
‫ُّ‬ ‫قبل اخلو�ض يف هذه امل�سائل ميكننا �أن ن�شري �إىل ال ّنتائج التي‬
‫عندها �أفكار الباحثني يف هذا املو�ضوع‪ ،‬وهي نتائج م َّتحدة املدلول خمتلفة‬
‫التعبري على ح�سب اختالف امل�شارب والأنظار يف الباحثني‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫والدواء‪ :‬املقاومة‪.‬‬
‫الداء‪ :‬القوة‪ّ ،‬‬ ‫يقول املادي‪ّ :‬‬
‫احلر ّية‪.‬‬
‫والدواء‪ :‬ا�سرتداد ّ‬
‫الداء‪ :‬ا�ستعباد الربية‪ّ ،‬‬ ‫ال�سيا�سي‪ّ :‬‬ ‫ويقول ّ‬
‫والدواء‪ :‬االقتدار على‬ ‫الداء‪ :‬القدرة على االعت�ساف‪ّ ،‬‬ ‫ويقول احلكيم‪ّ :‬‬
‫اال�ستن�صاف‪.‬‬
‫والدواء‪ :‬تغليب ال�شرّ يعة‬ ‫ال�سلطة على ال�شرّ يعة‪ّ ،‬‬‫الداء‪ :‬تغ ّلب ّ‬‫ويقول احلقوقي‪ّ :‬‬
‫ال�سلطة‪.‬‬
‫على ّ‬
‫والدواء‪ :‬توحيد اهلل ح ّق ًا‪.‬‬‫الداء‪ :‬م�شاركة اهلل يف اجلربوت‪ّ ،‬‬ ‫الر ّباين‪ّ :‬‬
‫ويقول ّ‬
‫وهذه �أقوال �أهل النظر‪ ،‬و� ّأما �أهل العزائم‪:‬‬
‫ال�شموخ عن ال ّذل‪.‬‬‫والدواء‪ّ :‬‬
‫الرقاب لل�سال�سل‪ّ ،‬‬ ‫مد ّ‬
‫الداء‪ُّ :‬‬ ‫أبي‪ّ :‬‬
‫فيقول ال ُّ‬
‫والدواء‪ :‬ربطهم بالقيود‬ ‫الر�ؤ�ساء بال زمام‪ّ ،‬‬ ‫الداء‪ :‬وجود ّ‬ ‫ويقول املتني‪ّ :‬‬
‫ال ّثقال‪.‬‬
‫والدواء‪ :‬تذليل املتكبرّ ين‪.‬‬ ‫الداء‪ :‬ال ّتعايل على ال ّنا�س باط ًال‪ّ ،‬‬ ‫احلر‪ّ :‬‬
‫ويقول ّ‬
‫حب املوت‪.‬‬
‫والدواء‪ُّ :‬‬
‫حب احلياة‪ّ ،‬‬ ‫الداء‪ُّ :‬‬ ‫ويقول املفادي‪ّ :‬‬

‫‪25‬‬
‫ما هو اال�ستبداد‬

‫‪26‬‬
‫ما هو اال�ستبداد‬
‫اال�ستبداد لغ ًة هو‪ :‬غرور املرء بر�أيه‪ ،‬والأنفة عن قبول ال ّن�صيحة‪� ،‬أو‬ ‫ُ‬
‫الر�أي ويف احلقوق امل�شرتكة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يف‬ ‫اال�ستقالل‬
‫خا�ص ًة‪ ،‬لأ ّنها �أعظم‬
‫ّ‬ ‫ويراد باال�ستبداد عند �إطالقه ا�ستبداد احلكومات‬ ‫ُ‬
‫جعلت الإن�سان �أ�شقى ذوي احلياة‪ .‬و�أما حت ّكم ال ّنف�س‬ ‫ْ‬ ‫التي‬ ‫أ�رضاره‬ ‫�‬ ‫مظاهر‬
‫على العقل‪ ،‬وحت ُّكم الأب والأ�ستاذ وال ّزوج‪ ،‬ور�ؤ�ساء بع�ض الأديان‪ ،‬وبع�ض‬
‫الطبقات‪ ،‬فيو�صف باال�ستبداد جمازاً �أو مع الإ�ضافة‪.‬‬ ‫ال�رشكات‪ ،‬وبع�ض ّ‬
‫ال�سيا�سيني هو‪َ :‬ت�صرَ ُّ ف فرد �أو جمع يف حقوق قوم‬ ‫اال�ستبداد يف ا�صطالح ّ‬
‫طرق مزيدات على هذا املعنى اال�صطالحي‬ ‫بامل�شيئة وبال خوف تبعة‪ ،‬وقد َت ُ‬
‫في�ستعملون يف مقام كلمة (ا�ستبداد) كلمات‪ :‬ا�ستعباد‪ ،‬واعت�ساف‪ ،‬وت�س ُّلط‪،‬‬
‫وح�س م�شرتك‪ ،‬وتكاف�ؤ‪ ،‬و�سلطة عامة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وحت ُّكم‪ .‬ويف مقابلتها كلمات‪ :‬م�ساواة‪،‬‬
‫جبار‪ ،‬وطاغية‪ ،‬وحاكم ب�أمره‪،‬‬ ‫(م�ستبد) كلمات‪ّ :‬‬
‫ّ‬ ‫وي�ستعملون يف مقام �صفة‬
‫م�ستبدة) كلمات‪ :‬عادلة‪ ،‬وم�س�ؤولة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وحاكم مطلق‪ .‬ويف مقابلة (حكومة‬
‫الرعية (امل�س َت َب ّد عليهم)‬
‫ومقيدة‪ ،‬ود�ستورية‪ .‬وي�ستعملون يف مقام و�صف ّ‬ ‫ّ‬
‫كلمات‪� :‬أ�رسى‪ ،‬وم�ست�صغرين‪ ،‬وب�ؤ�ساء‪ ،‬وم�ستنبتني‪ ،‬ويف مقابلتها‪� :‬أحرار‪،‬‬
‫و�أباة‪ ،‬و�أحياء‪ ،‬و�أع ّزاء‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫ما هو اال�ستبداد‬

‫هذا تعريف اال�ستبداد ب�أ�سلوب ذكر املرادفات واملقابالت‪ ،‬و� ّأما تعريفه‬
‫بالو�صف فهو‪ّ � :‬أن اال�ستبداد �صفة للحكومة املطلقة العنان فع ًال �أو حكم ًا‪ ،‬التي‬
‫الرعية كما ت�شاء بال خ�شية ح�ساب وال عقاب حم َّق َقني‪.‬‬ ‫تت�رصف يف �ش�ؤون ّ‬ ‫ّ‬
‫ت�رصفها على �شرّ يعة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫بتطبيق‬ ‫فة‬ ‫ل‬
‫ّ‬ ‫ك‬‫م‬‫ُ‬ ‫غري‬ ‫هي‬ ‫ا‬ ‫إم‬
‫ّ‬ ‫�‬ ‫احلكومة‬ ‫كون‬ ‫هو‬ ‫ذلك‬ ‫وتف�سري‬
‫�أو على �أمثلة تقليدية‪� ،‬أو على �إرادة ال ّأمة‪ ،‬وهذه حالة احلكومات املُطلقة‪� .‬أو‬
‫قوة القيد مبا تهوى‪،‬‬ ‫مقيدة بنوع من ذلك‪ ،‬ولك ّنها متلك بنفوذها �إبطال ّ‬ ‫هي ّ‬
‫باملقيدة �أو باجلمهورية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫�سمي نف�سها‬ ‫وهذه حالة �أكرث احلكومات التي ُت ّ‬
‫حمل تف�صيلها‪ .‬ويكفي‬ ‫امل�ستبدة كثرية لي�س هذا البحث ُّ‬ ‫ّ‬ ‫و�أ�شكال احلكومة‬
‫هنا الإ�شارة �إىل � ّأن �صفة اال�ستبداد‪ ،‬كما ت�شمل حكومة احلاكم الفرد املطلق‬
‫املقيد املنتخب‬ ‫الذي تولىّ احلكم بالغلبة �أو الوراثة‪ ،‬ت�شمل �أي�ض ًا احلاكم الفرد َّ‬
‫متى كان غري م�س�ؤول‪ ،‬وت�شمل حكومة اجلمع ولو منتخب ًا‪ ،‬ل َّأن اال�شرتاك يف‬
‫يعدله االختالف نوع ًا‪ ،‬وقد يكون عند اال ّتفاق‬ ‫الر�أي ال يدفع اال�ستبداد‪ ،‬و�إنمَّ ا قد ّ‬ ‫ّ‬
‫ُفرقة فيها بال ُكلِّ َّية‬
‫َّ‬ ‫مل‬ ‫ا‬ ‫�ستورية‬ ‫الد‬
‫ّ‬ ‫احلكومة‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫أي�ض‬ ‫�‬ ‫وي�شمل‬ ‫الفرد‪.‬‬ ‫ا�ستبداد‬ ‫من‬ ‫أ�رض‬
‫� ّ‬
‫املراقبة‪ ،‬ل َّأن اال�ستبداد ال يرتفع ما مل‬ ‫ِ‬ ‫قوة‬‫قوة ال َّتنفيذ وعن َّ‬ ‫قوة الت�رشيع عن َّ‬ ‫َّ‬
‫مل�شرَ ِّعني‪،‬‬ ‫مل َن ِّف ُذون م�س�ؤولني لدى ا ُ‬ ‫يكن هناك ارتباط يف امل�س�ؤولية‪ ،‬فيكون ا ُ‬
‫ال�ش�أن ك ّله‪،‬‬ ‫وه�ؤالء م�س�ؤولني لدى ال َّأمة‪ ،‬تلك ال َّأمة التي تعرف �أ َّنها �صاحبة ّ‬
‫وتعرف � ْأن تراقب و� ْأن تتقا�ضى احل�ساب‪.‬‬
‫ال�شيطان هي حكومة الفرد‬ ‫تعوذ بها من ّ‬ ‫أ�شد مراتب اال�ستبداد التي ُي َّ‬ ‫و� ّ‬
‫املطلق‪ ،‬الوارث للعر�ش‪ ،‬القائد للجي�ش‪ ،‬احلائز على �سلطة دينية‪ .‬ولنا � ْأن نقول‬
‫خف اال�ستبداد �إىل � ْأن ينتهي باحلاكم‬ ‫من هذه الأو�صاف‪َّ ،‬‬ ‫ك ّلما ق َّل َو ْ�ص ٌف ْ‬
‫يخف اال�ستبداد ـ طبع ًاـ ك ّلما ق َّل عدد‬ ‫املنتخب املوقت امل�س�ؤول فع ًال‪ .‬وكذلك ُّ‬
‫الرعية‪ ،‬وق َّل االرتباط بالأمالك ال ّثابتة‪ ،‬وق َّل ال ّتفاوت يف الثرّ وة وك ّلما‬ ‫نفو�س َّ‬
‫ال�شعب يف املعارف‪.‬‬ ‫تر َّقى ّ‬
‫� َّإن احلكومة من � ّأي نوع كانت ال تخرج عن و�صف اال�ستبداد‪ ،‬ما مل تكن‬
‫ال�شديدة واالحت�ساب ا ّلذي ال ت�سامح فيه‪ ،‬كما جرى يف �صدر‬ ‫حتت املراقبة َّ‬
‫علي ر�ضي اهلل عنهما‪ ،‬وكما جرى‬ ‫ثم على ّ‬ ‫الإ�سالم يف ما ُن ِقم على عثمان‪َّ ،‬‬
‫يف عهد هذه اجلمهورية احلا�رضة يف فرن�سا يف م�سائل ال ّنيا�شني وبناما‬
‫ودريفو�س‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫املقررة طبيع ًة وتاريخ ًا‌ �أ َّنه‪ ،‬ما من حكومة عادلة ت�أمن‬ ‫َّ‬ ‫ومن الأمور‬
‫امل�س�ؤولية وامل�ؤاخذة ب�سبب غفلة ال ّأمة �أو ال َّتم ُّكن من �إغفالها �إ ّال وت�سارع �إىل‬
‫ال َّت ُّلب�س ب�صفة اال�ستبداد‪ ،‬وبعد � ْأن تتم َّكن فيه ال ترتكه ويف خدمتها �إحدى‬
‫املنظمة‪ .‬وهما �أكرب م�صائب الأمم‬ ‫الو�سيلتني العظيمتني‪ :‬جهالة ال َّأمة‪ ،‬واجلنود َّ‬
‫املتمدنة ـ نوع ًا ماـ من اجلهالة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫أهم معائب الإن�سانية‪ ،‬وقد تخ َّل�صت الأمم‬ ‫و� ّ‬
‫ال�شدة التي جعلتها �أ�شقى‬ ‫ولكن‪ُ ،‬بليت ب�شدة اجلندية اجلربية العمومية‪ ،‬تلك ّ‬ ‫ْ‬
‫حيا ًة من الأمم اجلاهلة‪ ،‬و�أل�صق عاراً بالإن�سانية من �أقبح �أ�شكال اال�ستبداد‪،‬‬
‫ال�شيطان‪ ،‬فقد‬ ‫ي�صح �أن يقال‪َّ � :‬إن خمرتع هذه اجلندية �إذا كان هو ّ‬ ‫ّ‬ ‫ح َّتى ربمَّ ا‬
‫انتقم من �آدم يف �أوالده �أعظم ما ميكنه � ْأن ينتقم! نعم‪� ،‬إذا ما دامت هذه‬
‫اجلندية التي م�ضى عليها نحو قر َنينْ �إىل قرن �آخر �أي�ض ًا تنهك جت ُّلد الأمم‪،‬‬
‫وجتعلها ت�سقط دفعة واحدة‪ .‬ومن يدري كم يتعجب رجال اال�ستقبال من َت َر ِّقي‬
‫العلوم يف هذا الع�رص تر ِّقي ًا مقرون ًا با�شتداد هذه امل�صيبة التي ال ترتك حم ًال‬
‫ال�ستغراب �إطاعة امل�رصيني للفراعنة يف بناء الأهرامات �سخرة‪ ،‬ل َّأن تلك ال‬
‫حيث ُتعلِّمها‬
‫تتجاوز ال ّتعب و�ضياع الأوقات‪ ،‬و� ّأما اجلندية ف ُتف�سد �أخالق ال ّأمة‪ُ ،‬‬
‫والطاعة العمياء واال ِّتكال‪ ،‬وتمُ يت ال ّن�شاط وفكرة اال�ستقالل‪ ،‬و ُتكلِّف‬ ‫ال�شرّ ا�سة ّ‬
‫وك ُّل ذلك من�رصف لت�أييد اال�ستبداد امل�ش�ؤوم‪:‬‬ ‫ال ّأمة الإنفاق الذي ال يطاق‪ُ ،‬‬
‫القوة من جهة‪ ،‬وا�ستبداد الأمم بع�ضها على‬ ‫ا�ستبداد احلكومات القائدة لتلك َّ‬
‫بع�ض من جهة �أخرى‪.‬‬
‫ولرنجع لأ�صل البحث ف�أقول‪ :‬ال ُيعهد يف تاريخ احلكومات املدنية‬
‫مدة �أكرث من ن�صف قرن �إىل غاية قرن ون�صف‪ ،‬وما‬ ‫ا�ستمرار حكومة م�س�ؤولة َّ‬
‫وال�سبب يقظة الإنكليز الذين‬ ‫�ش َّذ من ذلك �سوى احلكومة احلا�رضة يف �إنكلرتا‪ّ ،‬‬
‫ال ُي�سكرهم انت�صار‪ ،‬وال ُيخملهم انك�سار‪ ،‬فال يغفلون حلظة عن مراقبة ملوكهم‪،‬‬
‫وال�صهر‪،‬‬‫وح َ�ش َم ُه ف�ض ًال عن ال ّزوجة ّ‬
‫ح َّتى � َّأن الوزارة هي تنتخب للملك َخ َد َم ُه َ‬
‫وملوك الإنكليز الذين فقدوا منذ قرون ك َّل �شيء ما عدا ال ّتاج‪ ،‬لو ت�س ّنى الآن‬
‫ولكن‪ ،‬هيهات � ْأن يظفر بغرة من قومه ي�ستلم‬ ‫ْ‬ ‫لأحدهم اال�ستبداد َل َغ ِن َم ُه حا ًال‪،‬‬
‫فيها زمام اجلي�ش‪.‬‬
‫البدوية التي تت�أ َّلف رعيتها ك ّلها �أو �أكرثها من ع�شائر‬ ‫ّ‬ ‫� ّأما احلكومات‬
‫حر ّيتهم‬ ‫م�س ْت حكوم ُتهم ّ‬
‫فرق متى َّ‬ ‫الرحيل وال َّت ّ‬ ‫يقطنون البادية‪ ،‬ي�سهل عليهم ّ‬

‫‪29‬‬
‫ما هو اال�ستبداد‬

‫ال�شخ�صية‪ ،‬و�سام ْتهم �ضيم ًا‪ ،‬ومل يقووا على اال�ستن�صاف‪ ،‬فهذه احلكومات ق ّلما‬ ‫ّ‬
‫اندفعت �إىل اال�ستبداد‪ .‬و�أقرب مثال لذلك �أهل جزيرة العرب‪ ،‬ف�إ َّنهم ال يكادون‬
‫وحميرْ وغ�سان �إىل الآن �إ ّال فرتات‬ ‫تبع ُ‬
‫يعرفون اال�ستبداد من قبل عهد ملوك ّ‬
‫قليلة‪ .‬و�أ�صل احلكمة يف � َّأن احلالة البدوية بعيدة باجلملة عن الوقوع حتت‬
‫كل فرد ميكنه � ْأن‬ ‫البدوي ن�ش�أة ا�ستقاللية‪ ،‬بحيث ُّ‬ ‫ّ‬ ‫نري اال�ستبداد‪ ،‬وهو � َّأن ن�ش�أة‬
‫ين الطبع‪ ،‬تلك‬ ‫يعتمد يف معي�شته على نف�سه فقط‪ ،‬خالف ًا لقاعدة الإن�سان املد ّ‬
‫القاعدة التي �أ�صبحت �سخرية عند علماء االجتماع املت� ِّأخرين‪ ،‬القائلني ب� َّأن‬
‫الإن�سان من احليوانات التي تعي�ش �أ�رساب ًا يف كهوف وم�سارح خم�صو�صة‪،‬‬
‫و� ّأما الآن فقد �صار من احليوان الذي متى انتهت ح�ضانته‪ ،‬عليه � ْأن يعي�ش‬
‫م�ستق ًال بذاته‪ ،‬غري متع ّلق ب�أقاربه وقومه ك ّل االرتباط‪ ،‬وال مرتبط ببيته وبلده‬
‫ك ّل ال ّتع ُّلق‪ ،‬كما هي معي�شة �أكرث الإنكليز والأمريكان الذين يفتكر الفرد منهم‬
‫� َّأن تع ُّلقه بقومه وحكومته لي�س ب�أكرث من رابطة �رشيك يف �رشكة اختيارية‪،‬‬
‫خالف ًا للأمم التي تتبع حكوماتها حتى فيما تدين‪.‬‬
‫ال ّناظر يف �أحوال الأمم يرى � َّأن الأُ�رساء يعي�شون متال�صقني مرتاكمني‪،‬‬
‫تلتف حول بع�ضها �إذا‬ ‫يتح َّفظُ بع�ضهم ببع�ض من �سطوة اال�ستبداد‪ ،‬كالغنم ُّ‬
‫اال�ستقالل ال ّناجز‬
‫َ‬ ‫احلرة املالك �أفرادها‬
‫ذعرها ال ّذئب‪ّ � ،‬أما الع�شائر والأمم ّ‬
‫فرقني‪.‬‬
‫فيعي�شون ُم َت ِّ‬
‫�سيما املت� ِّأخرون منهم ـ يف و�صف اال�ستبداد‬ ‫وقد تك َّلم بع�ض احلكماء ـ ال َّ‬
‫�صور يف الأذهان �شقاء الإن�سان‪ ،‬ك�أ َّنها تقول له‬ ‫ودوائه بجمل بليغة بديعة ُت ِّ‬
‫عدوك فانظر ماذا ت�صنع‪ ،‬ومن هذه اجلمل قولهم‪:‬‬ ‫هذا َّ‬
‫(امل�ستبد‪ :‬يتح َّكم يف �ش�ؤون ال ّنا�س ب�إرادته ال ب�إرادتهم‪ ،‬ويحكمهم بهواه ال‬ ‫ّ‬
‫املتعدي في�ضع كعب رجله على �أفواه‬ ‫ِّ‬ ‫ب�رشيعتهم‪ ،‬ويعلم من نف�سه �أ َّنه الغا�صب‬
‫باحلق وال ّتداعي ملطالبته)‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ي�سدها عن ال ّنطق‬ ‫املاليني من ال َّنا�س ُّ‬
‫واحلر ّية � ّأمهم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫حل ّية وقاتلهما‪ ،‬واحلق �أبو الب�رش‪،‬‬ ‫عدو ا ّ‬
‫احلق‪ّ ،‬‬ ‫عدو ّ‬ ‫(امل�ستبد‪ّ :‬‬
‫ّ‬
‫الرا�شدون‪ْ � ،‬إن‬ ‫والعوام �صبية �أيتام ال يعلمون �شيئ ًا‪ ،‬والعلماء هم �إخوتهم ّ‬
‫لبوا‪ ،‬و�إال في َّت�صل نومهم باملوت)‪.‬‬ ‫هبوا‪ ،‬و� ْإن دعوهم ّ‬ ‫�أيقظوهم ّ‬
‫الظامل على جنب‬ ‫ير حاجزاً من حديد‪ ،‬فلو ر�أى ّ‬ ‫احلد ما مل َ‬ ‫(امل�ستبد‪ :‬يتجاوز ّ‬ ‫ّ‬
‫الظلم‪ ،‬كما يقال‪ :‬اال�ستعداد للحرب مينع احلرب)‪.‬‬ ‫املظلوم �سيف ًا ملا �أقدم على ّ‬

‫‪30‬‬
‫الرعية � ْأن‬ ‫بالطبع لل�شرّ وبالإجلاء للخري‪ ،‬فعلى ّ‬ ‫م�ستعد ّ‬ ‫ٌّ‬ ‫إن�سان‬
‫(امل�ستبد‪ٌ � :‬‬ ‫ّ‬
‫تعرف ما هو اخلري وما هو ال�شرّ فتلجئ حاكمها للخري رغم طبعه‪ ،‬وقد يكفي‬
‫الطلب �إذا علم احلاكم � َّأن وراء القول فع ًال‪ .‬ومن املعلوم � َّأن جمرد‬ ‫جمرد َّ‬ ‫للإجلاء َّ‬
‫�رش اال�ستبداد)‪.‬‬ ‫اال�ستعداد للفعل فعل يكفي َّ‬
‫دراً وطاع ًة‪ ،‬وكالكالب تذ ُّل ًال ومت ُّلق ًا‪،‬‬ ‫يود � ْأن تكون رعيته كالغنم ّ‬ ‫(امل�ستبد‪ُّ :‬‬
‫ّ‬
‫دمت‪ ،‬و� ْإن �ضرُ ِبت �شرَ �ست‪ ،‬وعليها‬ ‫ْ ُ َ َ ْ‬ ‫خ‬ ‫ت‬ ‫م‬‫د‬‫ِ‬ ‫خ‬ ‫إن‬ ‫�‬ ‫كاخليل‬ ‫تكون‬ ‫أن‬
‫ْ‬ ‫�‬ ‫عية‬ ‫الر‬
‫وعلى َّ‬
‫بال�صيد كلِّه‪ ،‬خالف ًا للكالب‬ ‫ّ‬ ‫�أن تكون كال�صقور ال ُتالعب وال ُي�ست�أثر عليها‬
‫الرعية �أن‬ ‫التي ال فرق عندها �أَطُ ِعمت �أو ُحرِمت ح َّتى من العظام‪ .‬نعم‪ ،‬على ّ‬
‫وخلق هو‬ ‫تعرف مقامها‪ :‬هل ُخ ِلقت خادمة حلاكمها‪ ،‬تطيعه � ْإن عدل �أو جار‪ُ ،‬‬
‫ليحكمها كيف �شاء بعدل �أو اعت�ساف؟ �أم هي جاءت به ليخدمها ال ي�ستخدمها؟‪..‬‬
‫تقيد وح�ش اال�ستبداد بزمام ت�ستميت دون بقائه يف يدها‪،‬‬ ‫والرعية العاقلة َّ‬ ‫َّ‬
‫لت�أمن من بط�شه‪ ،‬ف�إن �شمخ ه َّزت به ال ّزمام و� ْإن �صال ربط ْته)‪.‬‬
‫من �أقبح �أنواع اال�ستبداد ا�ستبداد اجلهل على العلم‪ ،‬وا�ستبداد ال ّنف�س على‬
‫�سمى ا�ستبداد املرء على نف�سه‪ ،‬وذلك � َّأن اهلل ج ّل ْت نعمه َخل ََق الإن�سان‬ ‫وي ّ‬ ‫العقل‪ُ ،‬‬
‫و�سخر له‬ ‫حراً‪ ،‬قائده العقل‪ ،‬فك َف َر و�أبى �إال � ْأن يكون عبداً قائده اجلهل‪َ .‬خ َل َقه َّ‬ ‫ّ‬
‫ثم جعل له الأر�ض � ّأم ًا والعمل �أب ًا‪،‬‬ ‫ّ َّ‬ ‫ه‪،‬‬ ‫أ�شد‬ ‫�‬ ‫يبلغ‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫أوده‬ ‫�‬ ‫ب‬ ‫يقومان‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫أب‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫� َّأم‬
‫َف َك َفر وما ر�ضي �إال �أن تكون � َّأم ُته � ّأمه وحاكمه �أباه‪َ .‬خل ََق له �إدراك ًا ليهتدي �إىل‬
‫ويدين ليعمل‪ ،‬ول�سان ًا‬ ‫وعي َنينْ ليب�رص‪ ،‬ورجلينْ لي�سعى‪ْ ،‬‬ ‫معا�شه وي ّتقي مهلكه‪ْ ،‬‬
‫أحب �إال � ْأن يكون كالأبله الأعمى‪،‬‬ ‫ليكون ترجمان ًا عن �ضمريه‪ ،‬ف َك َف َر وما � َّ‬
‫�شي من غريه‪ ،‬وق َّلما يطبق ل�سانه جنانه‪.‬‬ ‫املقعد‪ ،‬الأ�ش ّل‪ ،‬الكذوب‪ ،‬ينتظر ُك َّل ْ‬
‫َخ َل َق ُه منفرداً غري م َّت�صل بغريه ليملك اختياره يف حركته و�سكونه‪ ،‬ف َك َف َر وما‬
‫�سماها الوطن‪ ،‬وت�شابك بال ّنا�س ما‬ ‫ا�ستطاب �إال االرتباط يف �أر�ض حمدودة َّ‬
‫ا�ستطاع ا�شتباك تظالمُ ال ا�شتباك تعاون‪َ ...‬خ َل َقه لي�شكره على جعله عن�رصاً‬
‫حي ًا بعد �أن كان تراب ًا‪ ،‬وليلج�أ �إليه عند الفزع تثبيت ُا للجنان‪ ،‬ولي�ستند عليه‬ ‫ّ‬
‫للرتدد‪ ،‬وليثق مبكاف�أته �أو جمازاته على الأعمال‪ ،‬ف َك َف َر و�أبى‬ ‫عند العزم دفع ًا ُّ‬
‫ال�صحيح بالباطل ليغالط نف�سه وغريه‪َ .‬خ َل َقه‬ ‫وخلَطَ يف دين الفطرة ّ‬ ‫ُ�ش ْك َره َ‬
‫يطلب منفعته جاع ًال رائده الوجدان‪ ،‬ف َك َف َر‪ ،‬وا�ستح َّل املنفعة ب�أي وجه كان‪،‬‬
‫ُحرم كبري‪ .‬خلقه وبذل له مواد‬ ‫تو�ص ًال مل َّ‬ ‫فال يتع ّفف عن حمظور �صغري �إال ُّ‬

‫‪31‬‬
‫ما هو اال�ستبداد‬

‫احلياة‪ ،‬من نور ون�سيم ونبات وحيوان ومعادن وعنا�رص مكنوزة يف خزائن‬
‫الطبيعة‪ ،‬مبقادير ناطقة بل�سان احلال‪ ،‬ب� َّأن واهب احلياة حكيم خبري جعل‬ ‫ّ‬
‫إن�سان نعم َة اهلل‬ ‫مواد احلياة �أكرث لزوم ًا يف ذاته‪� ،‬أكرث وجوداً وابتذا ًال‪ ،‬ف َك َف َر ال ُ‬
‫ربه �إىل نف�سه‪ ،‬وابتاله بظلم نف�سه وظُ ْلم‬ ‫فوكل ُه ُّ‬
‫و�أبى �أن يعتمد كفالة رزقه‪َّ ،‬‬
‫جن�سه‪ ،‬وهكذا كان الإن�سان ظلوم ًا كفوراً‪.‬‬
‫عبوديته‬
‫َّ‬ ‫ي�صفع بها رقاب الآبقني من ج ّنة‬ ‫ُ‬ ‫اخلفية‬
‫ّ‬ ‫القوية‬
‫اال�ستبداد‪َ :‬ي ُد اهلل ّ‬
‫امل�ستبدين الذين ي�شاركون اهلل يف عظمته ويعاندونه جهاراً‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫�إىل جه َّنم عبودية‬
‫ثم ينتقم منه)‪ ،‬كما جاء يف �أث ٍر‬ ‫(الظامل �سيف اهلل ينتقم به‪َّ ،‬‬ ‫وقد ورد يف اخلرب‪ّ :‬‬
‫الظامل‬ ‫�شك يف � َّأن �إعانة ّ‬‫(م ْن �أعان ظامل ًا على ظلمه َ�سلَّطَ ه اهلل عليه)‪ ،‬وال َّ‬ ‫�آخر‪َ :‬‬
‫جمرد الإقامة على �أر�ضه‪.‬‬ ‫تبتدئ من َّ‬
‫الدنيا‪ ،‬واجلحيم هو نار غ�ضبه يف الآخرة‪،‬‬ ‫اال�ستبداد‪ :‬هو نار غ�ضب اهلل يف ّ‬
‫من خلقهم‬ ‫الدنيا َد َن َ�س ْ‬ ‫املطهرات‪َ ،‬ف ُيطَ ِّهر بها يف ّ‬ ‫ِّ‬ ‫وقد خلق اهلل ال ّنار �أقوى‬
‫وبذل فيها رزقهم‪ ،‬ف َك َفروا بنعمته‪ ،‬ور�ضخوا‬ ‫وب َ�سطَ لهم الأر�ض وا�سعة‪َ ،‬‬ ‫�أحراراً‪َ ،‬‬
‫لال�ستعباد وال َّتظامل‪.‬‬
‫يتعجل اهلل به االنتقام من عباده اخلاملني‪ ،‬وال‬ ‫َّ‬ ‫اال�ستبداد‪� :‬أعظم بالء‪،‬‬
‫يرفعه عنهم ح َّتى يتوبوا توبة الأنفة‪ .‬نعم‪ ،‬اال�ستبداد �أعظم بالء‪ ،‬لأ َّنه وباء دائم‬
‫والغ�صب‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫بال�سلب‬
‫وحريق متوا�ص ٌل َّ‬ ‫ٌ‬ ‫م�ستمر بتعطيل الأعمال‪،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫وج ْد ٌب‬ ‫بالفنت َ‬
‫مل ال‬ ‫وظالم يعمي الأب�صار‪ ،‬و�أ ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وخوف يقطع القلوب‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫جارف للعمران‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫و�سي ٌل‬
‫ْ‬
‫يفرت‪ ،‬و�صائ ٌل ال يرحم‪ ،‬وق�صة �سوء ال تنتهي‪ .‬و�إذا �س�أل �سائ ٌل‪ :‬ملاذا يبتلي اهلل‬
‫مطلق ال يظلم �أحداً‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫عادل‬
‫ٌ‬ ‫أبلغ جواب ُم ْ�س ِكت هو‪َّ � :‬إن اهلل‬ ‫بامل�ستبدين؟ ف� ُ‬ ‫ِّ‬ ‫عباده‬
‫َ‬
‫ال�سائل نظرة احلكيم املد ِّقق لوجد‬ ‫ّ‬ ‫نظر‬ ‫ولو‬ ‫ين‪.‬‬ ‫امل�ستبد‬
‫ِّ‬ ‫على‬ ‫إال‬ ‫�‬ ‫امل�ستبد‬
‫ّ‬ ‫فال ُ لىَّ‬
‫و‬ ‫ي‬
‫�ستبداً يف نف�سه‪ ،‬لو قدر جلعل زوجته وعائلته‬ ‫ُك َّل فرد من �أُ�رساء اال�ستبداد ُم ّ‬
‫وربه الذي خل َق ُه تابعني لر�أيه و�أمره‪.‬‬ ‫وع�شريته وقومه والب�رش ُك َّلهم‪ ،‬ح َّتى َّ‬
‫م�ستبد‪ ،‬والأحرار يتوالهم الأحرار‪ ،‬وهذا �رصيح‬ ‫ّ‬ ‫فامل�ستبدون يتوالهم‬ ‫ُّ‬
‫معنى‪( :‬كما تكونوا ُيولىَّ عليكم)‪.‬‬
‫حر ّيته‪ ،‬ف� َّإن‬ ‫حيث ميلك ّ‬ ‫يتحول عنها �إىل ُ‬ ‫َّ‬ ‫أر�ض �أن‬ ‫أليق بالأ�سري يف � ٍ‬ ‫ما � َ‬
‫خري حيا ًة من الأ�سد املربوط‪.‬‬ ‫الطليق ُ‬ ‫الكلب ّ‬

‫‪32‬‬
‫اال�ستبداد وال ّدين‬
‫الطبيعي للأديان‪ ،‬على‬ ‫ت�ضافرت �آراء �أكرث العلماء ال ّناظرين يف ال ّتاريخ ّ‬
‫يكن‬
‫الديني‪ ،‬والبع�ض يقول‪ْ � :‬إن مل ْ‬ ‫ال�سيا�سي ُم َت َو ِّلد من اال�ستبداد ِّ‬
‫� َّأن اال�ستبداد ّ‬
‫الريا�سة‪� ،‬أو هما �صنوان‬ ‫هناك توليد فهما �أخوان‪� ،‬أبوهما ال َّتغلب و� ّأمهما ّ‬
‫قويان‪ ،‬بينهما رابطة احلاجة على ال ّتعاون لتذليل الإن�سان‪ ،‬وامل�شاكلة‬ ‫ّ‬
‫بينهما �أ َّنهما حاكمان‪� ،‬أحدهما يف مملكة الأج�سام والآخر يف عامل القلوب‪.‬‬
‫والفريقان م�صيبان بحكمهما بال ّنظر �إىل مغزى �أ�ساطري ال ّأولني‪ ،‬والق�سم‬
‫حق‬ ‫والر�سائل امل�ضافة �إىل الإجنيل‪ .‬وخمطئون يف ّ‬ ‫ال ّتاريخي من ال ّتوراة‪ّ ،‬‬
‫الأق�سام ال ّتعليمية الأخالقية فيهما‪ ،‬كما هم خمطئون �إذا نظروا �إىل � َّأن القر�آن‬
‫ال�سيا�سي‪ .‬ولي�س من العذر �شيء � ْأن يقولوا‪ :‬نحن ال ندرك‬ ‫جاء م� ّؤيداً لال�ستبداد ّ‬
‫طي بالغته‪ ،‬ووراء العلم ب�أ�سباب نزول‬ ‫دقائق القر�آن نظراً خلفائها علينا يف ِّ‬
‫مقدمات ما ن�شاهد عليه امل�سلمني منذ قرون‬ ‫�آياته‪ ،‬و�إنمَّ ا نبني نتيجتنا على ِّ‬
‫بالدين‪.‬‬
‫�ستبديهم ِّ‬ ‫�إىل الآن من ا�ستعانة ُم ِّ‬
‫ماوية تدعو‬
‫ال�س ّ‬ ‫الدينية‪ ،‬ومنها الكتب َّ‬ ‫املحررون‪َّ � :‬إن ال َّتعاليم ّ‬
‫ِّ‬ ‫يقول ه�ؤالء‬
‫تتهدد الإن�سان بك ّل‬ ‫قوة َّ‬ ‫قوة عظيمة ال ُتدرك العقول ُك ْن َهها‪ّ ،‬‬ ‫الب�رش �إىل خ�شية ّ‬
‫م�صيبة يف احلياة فقط‪ ،‬كما عند البوذية واليهودية‪� ،‬أو يف احلياة وبعد املمات‪،‬‬

‫‪33‬‬
‫اال�ستبداد وال ّدين‬

‫كما عند ال ّن�صارى والإ�سالم‪ ،‬تهديداً ترتعد منه الفرائ�ص فتخور القوى‪،‬‬
‫ثم تفتح هذه ال َّتعاليم �أبواب ًا‬ ‫وتنذهل منه العقول فت�ست�سلم للخبل واخلمول‪َّ ،‬‬
‫ولكن‪ ،‬على تلك الأبواب‬ ‫ْ‬ ‫لل ّنجاة من تلك املخاوف جناة وراءها نعيم مقيم‪،‬‬
‫حجاب من الرباهمة والكهنة والق�سو�س و�أمثالهم الذين ال ي�أذنون لل ّنا�س‬ ‫ّ‬
‫وال�صغار‪ ،‬ويرزقوهم با�سم نذر �أو ثمن‬ ‫ّ‬ ‫لِ‬ ‫ل‬
‫ّ‬ ‫ذ‬ ‫ت‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫مع‬ ‫موهم‬ ‫يعظ‬‫ِّ‬ ‫مل‬ ‫ما‬ ‫خول‬ ‫بالد‬
‫ّ‬
‫احلجاب يف بع�ض الأديان يحجزون فيما يزعمون لقاء‬ ‫َّ‬ ‫أولئك‬ ‫�‬ ‫إن‬ ‫�‬
‫َّ َّ‬ ‫ى‬ ‫ت‬ ‫ح‬ ‫غفران‪،‬‬
‫بربها ما مل ي�أخذوا عنها مكو�س املرور �إىل القبور وفدية اخلال�ص‬ ‫الأرواح ِّ‬
‫يرهبون ال ّنا�س من‬ ‫من مطهر الأعراف‪ .‬وه�ؤالء املهيمنون على الأديان كم ِّ‬
‫ثم ير�شدونهم �إىل � ْأن‬ ‫غ�ضب اهلل وينذرونهم بحلول م�صائبه وعذابه عليهم‪َّ ،‬‬
‫ال خال�ص وال منا�ص لهم �إال بااللتجاء �إىل �سكان القبور الذين لهم دالة‪ ،‬بل‬
‫�سطوة على اهلل فيحمونهم من غ�ضبه‪.‬‬
‫أ�سا�س من هذا القبيل‪،‬‬ ‫ال�سيا�سيني يبنون كذلك ا�ستبدادهم على � ٍ‬ ‫ويقولون‪َّ � :‬إن ّ‬
‫ويذ ِّللونهم‬‫احل�سي‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ال�شخ�صي وال ّت�شامخ‬ ‫فهم ي�سرتهبون ال ّنا�س بال ّتعايل ّ‬
‫و�سلب الأموال ح َّتى يجعلوهم خا�ضعني لهم‪ ،‬عاملني لأجلهم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫والقوة‬
‫ّ‬ ‫بالقهر‬
‫يتم َّتعون بهم ك�أ َّنهم نوع من الأنعام التي ي�رشبون �ألبانها‪ ،‬وي�أكلون حلومها‪،‬‬
‫ويركبون ظهورها‪ ،‬وبها يتفاخرون‪.‬‬
‫وال�سيا�سي‪،‬‬‫الديني ّ‬ ‫اال�ستبداد ْين‪ِّ ،‬‬
‫َ‬ ‫ويرون � َّأن هذا ال َّت�شاكل يف بناء ونتائج‬
‫م�شرتكينْ يف العمل‪ ،‬ك�أ َّنهما يدان‬ ‫َ‬ ‫جعلهما يف مثل فرن�سا خارج باري�س‬
‫متعاونتان‪ ،‬وجعلهما يف مثل رو�سيا م�شتب َكينْ ِ يف الوظيفة‪ ،‬ك�أ َّنهما اللوح‬
‫�سجالن ال�شقاء على الأمم‪.‬‬ ‫والقلم ُي ِّ‬
‫ينجر بعوام الب�رشـ وهم ال�سواد‬ ‫ُّ‬ ‫القوتَينْ‬
‫قررون � َّأن هذا ال َّت�شاكل بني ّ‬ ‫وي ِّ‬ ‫ُ‬
‫بحق وبني‬ ‫الأعظم ـ �إىل نقطة � ْأن يلتب�س عليهم الفرق بني الإله املعبود ّ‬
‫ملطاع بالقهر‪ ،‬فيختلطان يف م�ضايق �أذهانهم من حيث ال َّت�شابه‬ ‫امل�ستبد ا ُ‬
‫ّ‬
‫ال�س�ؤال وعدم امل�ؤاخذة على الأفعال‪،‬‬ ‫والرفعة عن ّ‬ ‫يف ا�ستحقاق مزيد ال َّتعظيم‪ِّ ،‬‬
‫امل�ستبد النتفاء ال ّن�سبة بني عظمته‬ ‫ّ‬ ‫بناء عليه‪ ،‬ال يرون لأنف�سهم ح ّق ًا يف مراقبة‬ ‫ً‬
‫م�شرتكينْ ِ يف كث ٍري‬
‫َ‬ ‫وجبارهم‬ ‫َّ‬ ‫معبودهم‬ ‫العوام‬ ‫يجد‬ ‫أخرى‪:‬‬ ‫�‬ ‫وبعبارة‬ ‫ودناءتهم‪،‬‬
‫فرقوا مث ًال بني‬ ‫ُ ِّ‬ ‫ي‬ ‫أن‬
‫ْ‬ ‫�‬ ‫أنهم‬ ‫وال�صفات‪ ،‬وهم لي�س من �ش�‬ ‫من احلاالت والأ�سماء ِّ‬
‫عما يفعل) وغري م�س�ؤول‪،‬‬ ‫الفعال املطلق)‪ ،‬واحلاكم ب�أمره‪ ،‬وبني (ال ُي�س�أل ّ‬ ‫( َّ‬

‫‪34‬‬
‫عظمون‬ ‫بناء عليه‪ُ ،‬ي ِّ‬ ‫ال�ش�أن‪ً .‬‬ ‫يل النعم‪ ،‬وبني (ج َّل �ش�أنه) وجليل َّ‬ ‫وبني (املنعم) وو ّ‬
‫حليم كرمي‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫اجلبابرة تعظيمهم هلل‪ ،‬ويزيدون تعظيمهم على ال َّتعظيم هلل‪ ،‬لأ َّنه‬
‫اجلبار فعاج ٌل حا�رض‪ .‬والعوام ـ كما يقال‬ ‫غائب‪ ،‬و� َّأما انتقام َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ول َّأن عذابه �آج ٌل‬
‫ي�صح‬
‫ّ‬ ‫�شاهد‪ ،‬ح َّتى‬ ‫مل َ‬ ‫ـ عقولهم يف عيونهم‪ ،‬يكاد ال يتجاوز فعلهم املح�سو�س ا ُ‬
‫الدنيا‪،‬‬ ‫� ْأن ُيقال فيهم‪ :‬لوال رجا�ؤهم باهلل‪ ،‬وخوفهم منه فيما يتع َّلق بحياتهم ّ‬
‫الدالئل والأوراد‬ ‫رجحوا قراءة ّ‬ ‫ملا �ص ّلوا وال �صاموا‪ ،‬ولوال �أملهم العاجل‪ ،‬ملا َّ‬
‫املقربني كما يعتقدون ـ على‬ ‫رجحوا اليمني بالأولياء ـ َّ‬ ‫على قراءة القر�آن‪ ،‬وال َّ‬
‫اليمني باهلل‪.‬‬
‫املنحطة دعوى بع�ض‬ ‫َّ‬ ‫�سهلت يف الأمم الغابرة‬ ‫وهذه احلال‪ ،‬هي التي َّ‬
‫الرعية‪ ،‬ح َّتى‬ ‫امل�ستبدين الألوهية على مراتب خمتلفة‪ ،‬ح�سب ا�ستعداد �أذهان َّ‬ ‫ِّ‬
‫قد�سية ي�شارك‬ ‫ّ‬ ‫�سيا�سي �إىل الآن �إال وي َّتخذ له �صفة‬ ‫ّ‬ ‫م�ستبد‬
‫ٍّ‬ ‫ُيقال‪� :‬إ َّنه ما من‬
‫مقام ذي عالقة مع اهلل‪ .‬وال �أق َّل من � ْأن ي َّتخذ بطانة من‬ ‫َ‬ ‫بها اهلل‪� ،‬أو تعطيه‬
‫أقل ما يعينون به اال�ستبداد‪،‬‬ ‫الدين يعينونه على ظلم ال َّنا�س با�سم اهلل‪ ،‬و� ُّ‬ ‫َخ َد َم ِة ِّ‬
‫قوة‬ ‫تفريق الأمم �إىل مذاهب و�شيع متعادية تقاوم بع�ضها بع�ض ًا‪ ،‬فتتهاتر َّ‬
‫فرخ‪ ،‬وهذه �سيا�سة‬ ‫وي ِّ‬‫اجلو لال�ستبداد ليبي�ض ُ‬ ‫ال ّأمة ويذهب ريحها‪ ،‬فيخلو ّ‬
‫الإنكليز يف امل�ستعمرات‪ ،‬ال ُي� ِّؤيدها �شيء مثل انق�سام الأهايل على �أنف�سهم‪،‬‬
‫و�إفنائهم ب�أ�سهم بينهم ب�سبب اختالفهم يف الأديان واملذاهب‪.‬‬
‫امل�ستبدين من �أمثال (�أبناء داود) و(ق�سطنطني) يف ن�رش‬ ‫ِّ‬ ‫وي َعلِّ ُلون � َّأن قيام‬
‫ُ‬
‫الدين بني رعاياهم‪ ،‬وانت�صار مثل (فيليب ال ّثاين) الأ�سباين و(هرني ال ّثامن)‬ ‫ِّ‬
‫الفاطمي‬
‫ّ‬ ‫احلاكم‬ ‫وقيام‬ ‫(انكيزي�سيون)‬ ‫جمال�س‬ ‫بت�شكيل‬ ‫ى‬ ‫ت‬
‫َّ‬ ‫ح‬ ‫ين‪،‬‬ ‫للد‬
‫ِّ‬ ‫إنكليزي‬ ‫ال‬
‫وفية‪ ،‬وبنائهم لهم‬ ‫ال�ص ّ‬ ‫وال�سالطني الأعاجم يف الإ�سالم باالنت�صار لغالة ُّ‬ ‫َّ‬
‫الدين وببع�ض �أهله املغ َّفلني‬ ‫يكن �إال بق�صد اال�ستعانة مبم�سوخ ِّ‬ ‫ال ّتكايا‪ ،‬مل ْ‬
‫وي� ّؤيدها � َّأن ال ّنا�س‬ ‫امل�ستبد ُ‬
‫ّ‬ ‫على ظلم امل�ساكني‪ ،‬و�أعظم ما يالئم م�صلحة‬
‫فيودون ت�أليف ال ّأمة‬ ‫يتل ّقون قواعده و�أحكامه ب�إذعان بدون بحث وجدال‪ّ ،‬‬
‫عينه‪ ،‬كثرياً ما يحاولون بناء‬ ‫على تل ّقي �أوامرهم مبثل ذلك‪ ،‬ولهذا الق�صد ْ‬
‫�أوامرهم �أو تفريعها على �شي ٍء من قواعد ِّ‬
‫الدين‪.‬‬
‫تنفك متى‬ ‫يني مقارنة ال ُّ‬ ‫والد ّ‬ ‫يا�سي ّ‬‫ال�س ّ‬‫اال�ستبداد ْين‪ّ :‬‬
‫َ‬ ‫ويحكمون ب� َّأن بني‬
‫جر الآخر �إليه‪� ،‬أو متى زال‪ ،‬زال رفيقه‪ ،‬و� ْإن �صلح‪� ،‬أي‬ ‫ُوجِ د �أحدهما يف � ّأمة َّ‬

‫‪35‬‬
‫اال�ستبداد وال ّدين‬

‫جداً ال‬
‫�ضعف ال ّأول‪� ،‬صلح‪� ،‬أي �ضعف ال ّثاين‪ .‬ويقولون‪َّ � :‬إن �شواهد ذلك كثري ٌة ّ‬
‫ال�سيا�سة‬ ‫الدين �أقوى ت�أثرياً من ّ‬ ‫ويربهنون على � َّأن ّ‬ ‫زمان وال مكان‪ُ .‬‬ ‫ٌ‬ ‫يخلو منها‬
‫بال�سك�سون‪� ،‬أي الإنكليز والهولنديني والأمريكان‬ ‫�إ�صالح ًا و�إف�ساداً‪ ،‬ويمُ ّثلون ّ‬
‫ال�سيا�سي‬ ‫الديني يف الإ�صالح ّ‬ ‫حرر ّ‬ ‫الربوت�ستنتية‪ ،‬ف�أثر ال ّت ّ‬
‫ّ‬ ‫والأملان الذين قبلوا‬
‫يا�سية يف جمهور الالتني‪� ،‬أي‬ ‫ال�س ّ‬ ‫احلر ّية املطلقة ّ‬ ‫والأخالق �أكرث من ت�أثري ّ‬
‫ال�سيا�سيون‬ ‫والطليان واال�سبانيول والربتغال‪ .‬وقد �أجمع الك ّتاب ّ‬ ‫الفرن�سيني ّ‬
‫ملد ِّققون‪ ،‬باال�ستناد على ال ّتاريخ واال�ستقراء‪ ،‬من � َّأن ما من � ّأمة �أو عائلة‬ ‫ا ُ‬
‫ت�شدد فيه �إال واخت َّل نظام دنياه وخ�رس �أوالده‬ ‫الدين �أي َّ‬ ‫�أو �شخ�ص َت َن َّط َع يف ّ‬
‫وعقباه‪.‬‬
‫والدين مي�شيان‬ ‫ال�سيا�سة ّ‬ ‫ال�سيا�سيني يرون � َّأن ّ‬ ‫واحلا�صل � َّأن كل املد ِّققني ّ‬
‫الدين هو �أ�سهل و�أقوى و�أقرب طريق للإ�صالح‬ ‫متكات َفينْ ‪ ،‬ويعتربون � َّأن �إ�صالح ّ‬
‫ال�سيا�سي‪.‬‬
‫ّ‬
‫الدين يف الإ�صالح‬ ‫ِّ‬ ‫ا�ستخدم‬ ‫أي‬ ‫�‬ ‫امل�سلك‪،‬‬ ‫هذا‬ ‫�سلك‬ ‫من‬ ‫ل‬ ‫أو‬
‫ّ‬ ‫�‬ ‫كان‬ ‫ورمبا‬
‫امل�ستبدين يف حملهم‬ ‫ِّ‬ ‫ملوكهم‬ ‫على‬ ‫لوا‬‫حتي‬
‫َّ‬ ‫حيث‬ ‫اليونان‪،‬‬ ‫حكماء‬ ‫ال�سيا�سي‪ ،‬هم‬ ‫ّ‬
‫ال�سيا�سة ب�إحيائهم عقيدة اال�شرتاك يف الألوهية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يف‬ ‫اال�شرتاك‬ ‫قبول‬ ‫على‬
‫�أخذوها عن الآ�شوريني‪ ،‬ومزجوها ب�أ�ساطري امل�رصيني ب�صورة تخ�صي�ص‬
‫العدالة ب�إله‪ ،‬واحلرب ب�إله‪ ،‬والأمطار ب�إله‪� ،‬إىل غري ذلك من ال ّتوزيع‪ ،‬وجعلوا‬
‫وحق الترّ جيح عند وقوع االختالف بينهم‪.‬‬ ‫حق ال ّنظارة عليهم‪ّ ،‬‬ ‫لإله الآلهة ّ‬
‫ثم بعد مت ُّكن هذه العقيدة يف الأذهان مبا �أُلب�ست من جاللة املظاهر و�سحر‬ ‫َّ‬
‫البيان َ�س ُه َل على �أولئك احلكماء دفعهم ال ّنا�س �إىل مطالبة جبابرتهم بال ّنزول‬
‫ال�سماء‪ ،‬فان�صاع ملوكهم‬ ‫من مقام االنفراد‪ ،‬وب� ْأن تكون �إدارة الأر�ض ك�إدارة ّ‬
‫�إىل ذلك ُم ْكرهني‪ .‬وهذه هي الو�سيلة العظمى التي م َّكنت اليونان �أخرياً من‬
‫الرومان‪ .‬وهذا الأ�صل مل يزل‬ ‫�إقامة جمهوريات �أثينا و�إ�سبارطة‪ ،‬وكذلك فعل ّ‬
‫املثال القدمي لأ�صول توزيع الإدارة يف احلكومات امللكية واجلمهوريات على‬
‫�أنواعها �إىل هذا العهد‪.‬‬
‫�إنمَّ ا هذه الو�سيلة‪� ،‬أي ال َّت�رشيك‪ ،‬ف�ض ًال عن كونها باطلة يف ذاتها‪َ ،‬ن َت َج عنها‬
‫فتحت للم�شعوذين من �سائر طبقات ال ّنا�س باب ًا‬ ‫ْ‬ ‫أ�رض كثرياً‪ ،‬وذلك �أ َّنها‬‫رد فعلٍ � َّ‬ ‫ُّ‬
‫�رصفات‬ ‫ُّ‬ ‫ت‬
‫ّ‬ ‫وال‬ ‫ة‬ ‫�سي‬
‫ْ ّ‬ ‫د‬ ‫ق‬
‫ُ‬ ‫ال‬ ‫فات‬‫كال�ص‬‫ّ‬ ‫ألوهية‪،‬‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫خ�صائ�ص‬ ‫من‬ ‫�شيء‬ ‫لدعوى‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫وا�سع‬

‫‪36‬‬
‫يتهجم على مثلها غري �أفراد من اجلبابرة‪ ،‬كنمرود‬ ‫وحية‪ ،‬وكان قبل ذلك ال ّ‬ ‫الر ّ‬ ‫ُّ‬
‫يف‪.‬‬ ‫وال�صو ّ‬‫ُّ‬ ‫والبادري‬
‫ّ‬ ‫الربهمي‬
‫ّ‬ ‫عيها‬ ‫يد‬
‫َّ‬ ‫�صار‬ ‫ثم‬
‫َّ‬ ‫ومو�سى‪،‬‬ ‫وفرعون‬ ‫إبراهيم‬ ‫و�‬
‫وملالءمة هذه املف�سدة لطباع الب�رش من وجوه كثرية ـ لي�س بحثنا هذا حم ّلها‬
‫امل�ستبدين‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫وعمت وج َّندت جي�ش ًا عرمرم ًا يخدم‬ ‫ـ انت�رشت ّ‬
‫وقد جاءت ال ّتوراة بال َّن�شاط‪ ،‬فخ َّل�صتهم من خمول اال ِّتكال بعد �أن بلغ فيهم‬
‫ونبيه يقاتالن عنهم‪ ،‬وجاءتهم بال ّنظام بعد فو�ضى الأحالم‪،‬‬ ‫� ْأن ُيكلِّفوا اهلل ّ‬
‫املتعددة باملالئكة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ورفعت عقيدة ال ّت�رشيك‪ُ ،‬م�ستبدل ًة ـ مث ًال ـ �أ�سماء الآلهة‬
‫ثم جاء الإجنيل ب�سل�سبيل‬ ‫ير�ض ملوك �آل كوهني بال َّتوحيد ف�أف�سدوه‪َّ .‬‬ ‫ولكن‪ ،‬مل َ‬ ‫ْ‬
‫الدعة واحل ْلم‪ ،‬ف�صادف �أفئد ًة حمروق ًة بنار الق�ساوة واال�ستبداد‪ ،‬وكان �أي�ض ًا‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬
‫ولكن‪ ،‬مل ي ْق َو ُدعاته ال َّأولون على تفهيم تلك الأقوام‬ ‫م� ّؤيداً لنامو�س ال ّتوحيد‪ْ ،‬‬
‫أبوة‬ ‫�رصانية قبل الأمم املرت ِّقية‪َّ � ،‬أن ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫املنحطة‪ ،‬الذين بادروا لقبول ال َّن‬ ‫َّ‬
‫جمازيتان ُيعبرَّ بهما عن معنى ال يقبله العقل �إال ت�سليم ًا‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫والبنوة �صفتان‬ ‫ّ‬
‫كم�س�ألة القدر التي ورثت الإ�سالمية ال ّتفل�سف فيها عن �أديان اليهود و�أوهام‬
‫حقيقي‪ ،‬لأ ّنه �أقرب‬‫ّ‬ ‫والبنوة مبعنى توالد‬ ‫ّ‬ ‫أبوة‬
‫اليونان‪ .‬ولهذا‪ ،‬تل َّقت تلك الأمم ال ّ‬
‫�إىل مداركهم الب�سيطة التي ي�صعب عليها تناول ما فوق املح�سو�سات‪ ،‬ولأ ّنهم‬
‫كانوا قد �ألفوا االعتقاد يف بع�ض جبابرتهم ال ّأولني �أ َّنهم �أبناء اهلل‪ ،‬ف َكبرُ َ‬
‫ال�سالم �صفة هي دون مقام �أولئك امللوك‪.‬‬ ‫عليهم � ْأن يعتقدوا يف مو�سى عليه ّ‬
‫تلب�ست ثوب ًا غري ثوبها‪،‬‬ ‫ملا انت�رشت ال ّن�رصانية ودخلها �أقوام خمتلفون‪َّ ،‬‬ ‫ثم ّ‬ ‫َّ‬
‫فتو�سعت بر�سائل بول�س ونحوها‪ ،‬فامتزجت‬ ‫َّ‬ ‫�سلفتها‪،‬‬ ‫التي‬ ‫أديان‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫�سائر‬ ‫كما‬
‫للرومان وامل�رصيني ُم�ضافة على �شعائر الإ�رسائيليني‬ ‫ب�أزياء و�شعائر وثنية ُّ‬
‫و�أ�شياء من الأ�ساطري وغريها‪ ،‬و�أ�شياء من مظاهر امللوك ونحوها‪ .‬وهكذا‬
‫عظم رجال الكهنوت �إىل درجة اعتقاد ال ّنيابة عن اهلل‬ ‫�صارت ال ّن�رصانية ُت ِّ‬
‫مما رف�ضه �أخرياً الربوت�ستان‪،‬‬ ‫وقوة ال َّت�رشيع‪ ،‬ونحو ذلك ّ‬ ‫والع�صمة عن اخلط�أ َّ‬
‫الراجعني يف الأحكام لأ�صل الإجنيل‪.‬‬ ‫�أي ّ‬
‫�رصانية‪ُ ،‬م� َّؤ�س�س ًا على احلكمة‬ ‫ّ‬ ‫لليهودية وال ّن‬ ‫ّ‬ ‫ثم جاء الإ�سالم مه ِّذب ًا‬ ‫َّ‬
‫املتو�سطة‬ ‫ّ‬ ‫يا�سية‬ ‫ال�س‬
‫ّّ ّ‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫احلر‬ ‫لقواعد‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫م‬ ‫ِ‬
‫ك‬ ‫محُ‬ ‫و‬ ‫ية‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫ُ‬ ‫بال‬ ‫�رشيك‬ ‫ت‬
‫ّ‬ ‫لل‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫هادم‬ ‫والعزم‪،‬‬
‫ونزع ك َّل �سلطة دينية‬ ‫َ‬ ‫وحيد‪،‬‬ ‫ت‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫�س‬ ‫أ�س‬‫الدميوقراطية والأر�ستقراطية‪َّ ،‬‬
‫�‬ ‫ف‬ ‫بني ِّ‬
‫بية تتح َّكم يف ال ّنفو�س �أو يف الأج�سام‪ ،‬وو�ضع �رشيعة حكمة �إجمالية‬ ‫�أو تغ ّل ّ‬

‫‪37‬‬
‫اال�ستبداد وال ّدين‬

‫فطرية �سامية‪ ،‬و�أظهر للوجود‬ ‫ّ‬ ‫مدنية‬


‫�صاحلة لك ِّل زمان وقوم ومكان‪ ،‬و�أوجد ّ‬
‫الرا�شدين التي مل ي�سمح ال ّزمان مبثال لها بني الب�رش‬ ‫حكومة كحكومة اخللفاء ّ‬
‫ح َّتى ومل يخلفهم فيها بني امل�سلمني �أنف�سهم خلف‪� ،‬إال بع�ض �شواذ‪ ،‬كعمر‬
‫ال�شهيد‪ .‬ف� َّإن ه�ؤالء اخللفاء‬ ‫الدين ّ‬ ‫ا�سي ونور ّ‬
‫العب ّ‬ ‫بن عبد العزيز واملهتدي ّ‬
‫الرا�شدين فهموا معنى ومغزى القر�آن ال ّنازل بلغتهم‪ ،‬وعملوا به وا َّتخذوه‬ ‫ّ‬
‫ق�ض ْت بال ّت�ساوي ح َّتى بينهم �أنف�سهم وبني فقراء‬ ‫َ‬ ‫حكومة‬ ‫ؤوا‬ ‫ش�‬ ‫أن�‬ ‫�‬ ‫ف‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫إمام‬ ‫�‬
‫ال ّأمة يف نعيم احلياة و�شظفها‪ ،‬و�أحدثوا يف امل�سلمني عواطف �أخوة وروابط‬
‫هيئة اجتماعية ا�شرتاكية ال تكاد توجد بني �أ�شقاء يعي�شون ب�إعالة � ٍأب واحد‬
‫ويف ح�ضانة � ٍّأم واحدة‪ ،‬ل ُك ٍّل منهم وظيفة �شخ�صية‪ ،‬ووظيفة عائلية‪ ،‬ووظيفة‬
‫حمدي‬ ‫مل َّ‬‫الطراز ال ّنبوي ا ُ‬
‫الريا�سة هو ِّ‬ ‫ال�سامي من ّ‬ ‫الطراز ّ‬
‫قومية‪ .‬على � َّأن هذا ّ‬
‫ثم �أخذ بال ّتناق�ص‪ ،‬و�صارت ال ّأمة‬ ‫الذي مل يخلفه فيه ح ّق ًا غري �أبي بكر وعمر‪َّ ،‬‬
‫الدين �إذا مل‬
‫تطلبه وتبكيه من عهد عثمان �إىل الآن‪ ،‬و�سيدوم بكا�ؤها �إىل يوم ِّ‬
‫الطراز الذي اهتدت �إليه بع�ض‬ ‫�شوري‪ ،‬ذلك ّ‬ ‫ّ‬ ‫�سيا�سي‬
‫ّ‬ ‫تنتبه ال�ستعوا�ضه بطراز‬
‫ي�صح � ْأن نقول‪ ،‬قد ا�ستفادت من الإ�سالم �أكرث‬ ‫�أمم الغرب‪ ،‬تلك الأمم التي‪ ،‬لربمّ ا ُّ‬
‫مما ا�ستفاده امل�سلمون‪.‬‬ ‫ّ‬
‫م�شحون بتعاليم �إماتة اال�ستبداد و�إحياء العدل‬ ‫ٌ‬ ‫الكرمي‬ ‫آن‬ ‫�‬ ‫القر‬ ‫وهذا‬
‫وال ّت�ساوي ح ّتى يف الق�ص�ص منه‪ ،‬ومن جملتها قول بلقي�س ملكة �سب�أ من‬
‫تخاطب �أ�رشاف قومها‪( :‬يا � ُّأيها امللأُ �أفتوين يف �أمري ما كنت‬ ‫ُ‬ ‫عرب ُت َّبع‬
‫قوة و ُ�أولوا ب� ٍأ�س �شدي ٍد والأمر‬‫�شهدون * قالوا نحن �أولوا ٍ‬ ‫قاطع ًة �أمراً حتى َت َ‬
‫إليك فانظري ماذا ت�أمرين * قالت � َّإن امللوك �إذا دخلوا قري ًة �أف�سدوها وجعلوا‬ ‫� ِ‬
‫�أع ّزة �أهلها �أ ِذل ًة وكذلك يفعلون)‪.‬‬
‫الرعية‪،‬‬‫فهذه الق�صة ُتعلِّم كيف ينبغي �أن ي�ست�شري امللوك امللأ‪� ،‬أي �أ�رشاف َّ‬
‫القوة والب�أ�س يف يد‬ ‫و�أن ال يقطعوا �أمراً �إال بر�أيهم‪ ،‬وت�شري �إىل لزوم �أن تحُ فظ ّ‬
‫الرعية‪ ،‬و�أن يخ�ص�ص امللوك بال ّتنفيذ فقط‪ ،‬و�أن يكرموا بن�سبة الأمر �إليهم‬ ‫ّ‬
‫وتقبح �ش�أن امللوك امل�ستبدين‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫توقري‬
‫ومن هذا الباب �أي�ض ًا ما ورد يف ق�صة مو�سى عليه ال�سالم مع فرعون‬
‫ل�ساحر عليم * يريد �أن‬‫ٌ‬ ‫يف قوله تعاىل‪( :‬قال امللأ من قوم فرعون � َّإن هذا‬
‫يخرجكم من �أر�ضكم فماذا ت�أمرون)‪� ،‬أي قال الأ�رشاف بع�ضهم لبع�ض‪ :‬ماذا‬

‫‪38‬‬
‫أر�سل يف املدائن‬‫ر�أيكم؟ (قالوا) خطاب ًا لفرعون وهو قرارهم‪�( :‬أَرجِ ه و�أخاه و� ِ‬
‫ثم و�صف مذاكراتهم بقوله تعاىل‪:‬‬ ‫حا�رشين * ي�أتوك بك ِّل �ساح ٍر عليم)‪ّ ،‬‬
‫أ�رسوا النجوى)‪� ،‬أي �أف�ضت مذاكراتهم‬ ‫(فتنازعوا �أمرهم)‪� ،‬أي ر�أيهم (بينهم و� ُّ‬
‫العلنية �إىل ال ّنزاع ف�أجروا مذاكرة �رسية طبق ما يجري �إىل الآن يف جمال�س‬
‫ال�شورى العمومية‪.‬‬
‫تقدم‪ ،‬ال جمال لرمي الإ�سالمية بت�أييد اال�ستبداد مع ت�أ�سي�سها‬ ‫بناء على ما ّ‬‫ً‬
‫البينات التي منها قوله تعاىل‪( :‬و�شاورهم يف الأمر)‪� ،‬أي‬ ‫ِّ‬ ‫آيات‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫مئات‬ ‫على‬
‫يف ال�ش�أن‪ ،‬ومن قوله تعاىل‪( :‬يا �أيها الذين �آمنوا �أطيعوا اهلل و�أطيعوا الر�سول‬
‫و�أويل الأمر منكم)‪� ،‬أي �أ�صحاب الر�أي وال�ش�أن منكم‪ ،‬وهم العلماء والر�ؤ�ساء‬
‫على ما ا َّتفق عليه �أكرث املف�سرِّ ين‪ ،‬وهم الأ�رشاف يف ا�صطالح ال�سيا�سيني‪.‬‬
‫أمر فرعون)‪� ،‬أي ما �ش�أنه‪،‬‬ ‫ومما ي� ِّؤيد هذا املعنى �أي�ض ًا قوله تعاىل‪( :‬وما � ُ‬
‫وحديث (�أمريي من املالئكة جربيل)‪� ،‬أي م�شاوري‪.‬‬
‫ولي�س بالأمر الغريب �ضياع معنى (و�أُويل الأمر) على كثري من الأفهام‬
‫يحرفون ال َك ِل َم عن موا�ضعه‪ ،‬وقد �أغفلوا معنى‬ ‫بت�ضليل علماء اال�ستبداد الذي ِّ‬
‫لتطرق �أفكار امل�سلمني �إىل التفكري ب� ّأن‬ ‫ُّ‬ ‫قيد (منكم)‪� ،‬أي امل�ؤمنني منع ًا‬
‫التدرج �إىل معنى �آية (�إن اهلل ي�أمر‬
‫ثم ُّ‬ ‫الظاملني ال يحكمونهم مبا �أنزل اهلل‪َّ ،‬‬
‫بالعدل)‪� ،‬أي بالت�ساوي‪( ،‬و�إذا حكمتم بني النا�س �أن حتكموا بالعدل)‪� ،‬أي‬
‫ثم ينتقل �إىل معنى �آية‪( :‬ومن مل يحكم مبا �أنزل اهلل ف�أولئك هم‬ ‫الت�ساوي‪ّ ،‬‬
‫ثم ي�ستنتج عدم وجوب طاعة الظاملني و�إن قال بوجوبها بع�ض‬ ‫الكافرون)‪َّ .‬‬
‫الفقهاء املمالئني دفع ًا للفتنة التي حت�صد �أمثالهم ح�صداً‪ .‬والأغرب من هذا‬
‫ج�سارتهم على ت�ضليل الأفهام يف معنى (�أمر) يف �آية‪( :‬و�إذا �أردنا �أن نهلك‬
‫فدمرناها تدمرياً)‪ ،‬ف�إنهم‬
‫فحق عليها القول َّ‬ ‫قري ًة �أمرنا مرتفيها فف�سقوا فيها َّ‬
‫علواً كبرياً‪،‬‬
‫مل يبالوا �أن ين�سبوا �إىل اهلل الأمر بالف�سق‪ ...‬تعاىل اهلل عن ذلك ّ‬
‫واحلقيقة يف معنى (�أمرنا) هنا �أ َّنه مبعنى �أمرِنا ‪ -‬بك�رس امليم �أو ت�شديدها ‪-‬‬
‫فحق عليهم العذاب‪،‬‬ ‫�أي جعلنا �أمراءها مرتفيها فف�سقوا فيها (�أي ظلموا �أهلها) ّ‬
‫�أي (نزل بهم العذاب)‪.‬‬
‫معنى ُعرفي ًا‪ ،‬وهو احلكم‬
‫ً‬ ‫والأغرب من هذا وذاك‪� ،‬أ َّنهم جعلوا للفظة العدل‬
‫تدل على غري هذا‬ ‫مبقت�ضى ما قاله الفقهاء‪ ،‬حتى �أ�صبحت لفظة العدل ال ُّ‬

‫‪39‬‬
‫اال�ستبداد وال ّدين‬

‫املعنى‪ ،‬مع � ّأن العدل لغ ًة للت�سوية‪ ،‬فالعدل بني ال ّنا�س هو الت�سوية بينهم‪،‬‬
‫وهذا هو املراد يف �آية‪�( :‬إن اهلل ي�أمر بالعدل)‪ ،‬وكذلك الق�صا�ص يف �آية‪( :‬ولكم‬
‫يف الق�صا�ص حيا ٌة) املتواردة مطلق ًا‪ ،‬ال املعاقبة باملثل فقط على ما يتبادر‬
‫الدين غري الوقوف‬ ‫�إىل �أذهان الأُ�رساء‪ ،‬الذين ال يعرفون لل ّت�ساوي موقع ًا يف ِّ‬
‫بني يدي الق�ضاة‪.‬‬
‫قبل �شهادتهم ل�سقوط عدالتهم‪ ،‬فذكروا ح ّتى من‬ ‫عدد الفقهاء من ال ُت َ‬ ‫وقد ّ‬
‫ف�سقوا الأمراء‬
‫ولكن �شيطان اال�ستبداد �أن�ساهم �أن ُي ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ي�أكل ما�شي ًا يف الأ�سواق‪،‬‬
‫فريدوا �شهادتهم‪ .‬ولع ّل الفقهاء ُيع َذرون ب�سكوتهم هنا مع ت�شنيعهم‬ ‫الظاملني ّ‬
‫على الظاملني يف مواقع �أخرى‪ ،‬ولكن‪ ،‬ما عذرهم يف حتويل معنى الآية‪:‬‬
‫(ولتكن منكم � ّأم ٌة يدعون �إىل اخلري وي�أمرون باملعروف وينهون عن املنكر)‬
‫�إىل � ّأن هذا الفر�ض هو فر�ض كفاية ال فر�ض عني؟ واملراد منه �سيطرة �أفراد‬
‫امل�سلمني بع�ضهم على بع�ض‪ ،‬ال �إقامة فئة ت�سيطر على حكامهم كما اهتدت‬
‫فخ�ص�صت منها جماعات با�سم جمال�س ّنواب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫�إىل ذلك الأمم املوفقة للخري‪،‬‬
‫وظيفتها ال�سيطرة واالحت�ساب على الإدارة العمومية‪ :‬ال�سيا�سية واملالية‬
‫والت�رشيعية‪ ،‬فتخ ّل�صوا بذلك من �ش�آمة اال�ستبداد‪� .‬ألي�ست هذه ال�سيطرة وهذا‬
‫االحت�ساب ب�أهم من ال�سيطرة على الأفراد؟ ومن يدري من �أين جاء فقهاء‬
‫اال�ستبداد بتقدي�س احل ّكام عن امل�س�ؤولية حتى �أوجبوا لهم احلمد �إذا عدلوا‪،‬‬
‫وعدوا ك ّل معار�ضة لهم بغي ًا يبيح دماء‬ ‫ال�صرب عليهم �إذا ظلموا‪ّ ،‬‬ ‫و�أوجبوا ّ‬
‫املعار�ضني؟!‬
‫الدين الذي �أنزلت‪ ،‬فال‬ ‫امل�ستبدين و�رشكاءهم قد جعلوا دينك غري ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫اللهم‪ّ � ،‬إن‬
‫قوة �إال بك!‬
‫حول وال ّ‬
‫كذلك ما ُعذر ال�صوفية الذين جعلتهم الإنعامات على زاوياتهم �أن يقولوا‪:‬‬
‫ولي ًا من �أولياء اهلل‪ ،‬وال ي�أتي �أمراً �إال ب�إلهام من اهلل‪،‬‬ ‫ال يكون الأمري الأعظم �إال ّ‬
‫ويت�رصف قطب الغوث باطن ًا! �أال �سبحان اهلل‬ ‫َّ‬ ‫يت�رصف يف الأمور ظاهراً‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫و�إنه‬
‫ما �أحلمه!‬
‫حيث �أر�سل لهم ر�سو ًال من �أنف�سهم‬
‫نعم‪ ،‬لوال ُحلم اهلل خل�سف الأر�ض بالعرب‪ُ ،‬‬
‫� ّأ�س�س لهم �أف�ضل حكومة �أُ ِّ�س َ�ست يف ال ّنا�س‪ ،‬جعل قاعدتها قوله‪( :‬ك ُّلكم ٍ‬
‫راع‬
‫�سلطان عام وم�س�ؤول عن الأمة‪ .‬وهذه‬ ‫ٌ‬ ‫رعيته)‪� ،‬أي ك ٌّل منكم‬
‫ؤول عن ّ‬ ‫وك ُّلكم م�س� ٌ‬

‫‪40‬‬
‫م�رشع �سيا�سي من الأولني والآخرين‪،‬‬ ‫اجلملة التي هي �أ�سمى و�أبلغ ما قاله ِّ‬
‫حرف املعنى عن ظاهره وعموميته‪� ،‬إىل � َّأن امل�سلم‬ ‫فجاء من املنافقني من َّ‬
‫حرفوا معنى الآية‪( :‬وامل�ؤمنون‬ ‫راع على عائلته وم�س�ؤول عنها فقط‪ .‬كما َّ‬ ‫ٍ‬
‫أولياء بع�ض) على والية ال�شهادة دون الوالية العامة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫�‬ ‫هم‬ ‫بع�ض‬
‫ُ‬ ‫ؤمنات‬ ‫�‬ ‫وامل‬
‫الدين‪ ،‬وطم�سوا على العقول حتى جعلوا‬ ‫ِّ‬ ‫لوا‬ ‫وبد‬
‫َّ‬ ‫اللغة‪،‬‬ ‫مفهوم‬ ‫وهكذا غيرّ وا‬
‫احلرية‪ ،‬بل جعلوهم ال يعقلون كيف حتكم‬ ‫ّ‬ ‫ال ّنا�س ين�سون لغة اال�ستقالل‪ ،‬وع ّزة‬
‫� ّأم ٌة نف�سها بنف�سها دون �سلطانٍ قاهر‪.‬‬
‫وك� ّأن امل�سلمني مل ي�سمعوا بقول ال ّنبي عليه ال�سالم‪( :‬ال ّنا�س �سوا�سية‬
‫أ�صح‬
‫لعربي على �أعجمي �إال بال ّتقوى)‪ .‬وهذا احلديث � ُّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ك�أ�سنان امل�شط‪ ،‬ال ف�ضل‬
‫الأحاديث ملطابقته للحكمة وجميئه مف�سرِّ اً الآية (� َّإن �أكرمكم عند اهلل �أتقاكم)‬
‫ف� َّإن اهلل ج َّل �ش�أنه �ساوى بني عباده م�ؤمنني وكافرين يف املكرمة بقوله‪:‬‬
‫ثم جعل الأف�ضلية يف الكرامة للم َّتقني فقط‪ .‬ومعنى‬ ‫بني �آدم) َّ‬
‫كرمنا َ‬ ‫(ولقد َّ‬
‫ال َّتقوى لغ ًة لي�س كرثة العبادة‪ ،‬كما �صار �إىل ذلك حقيقة ُعرفية غر�سها علماء‬
‫اال�ستبداد القائلني يف تف�سري (عند اهلل)‪� ،‬أي يف الآخرة دون الدنيا‪ ،‬بل ال َّتقوى‬
‫لغ ًة هي اال ِّتقاء‪� ،‬أي االبتعاد عن رذائل الأعمال احرتازاً من عقوبة اهلل‪ .‬فقوله‪:‬‬
‫(� َّإن �أكرمكم عند اهلل �أتقاكم) كقوله‪َّ � :‬إن �أف�ضل ال ّنا�س �أكرثهم ابتعاداً عن الآثام‬
‫و�سوء عواقبها‪.‬‬
‫احلرية برفعها ك ّل‬ ‫تقدم � َّأن الإ�سالمية م�ؤ�س�سة على �أ�صول ّ‬ ‫وقد ظهر مما َّ‬
‫وبح�ضها على‬
‫ِّ‬ ‫�سيطرة وحت ُّكم‪ ،‬ب�أمرها بالعدل وامل�ساواة والق�سط والإخاء‪،‬‬
‫ال�شورى الأري�ستوقراطية‪،‬‬ ‫الإح�سان والتحابب‪ .‬وقد جعلت �أ�صول حكومتها‪ّ :‬‬
‫�أي �شورى �أهل احل ِّل والعقد يف الأمة بعقولهم ال ب�سيوفهم‪ .‬وجعل �أ�صول‬
‫�إدارة الأمة‪ :‬الت�رشيع الدميوقراطي‪� ،‬أي اال�شرتاكي ح�سبما ي�أتي فيما بعد‪ .‬وقد‬
‫مت‬
‫م�ضى عهد النبي (عليه ال�سالم) وعهد اخللفاء الرا�شدين على هذه الأ�صول ب�أ ّ‬
‫و�أكمل �صورها‪ .‬ومن املعلوم �أ ّنه ال يوجد يف الإ�سالمية نفوذ ديني مطلق ًا يف‬
‫غري م�سائل �إقامة �شعائر الدين‪ ،‬ومنها القواعد العامة الت�رشيعية التي ال تبلغ‬
‫امل�رشعون من قبل‬ ‫ِّ‬ ‫وحكم‪ ،‬ك ُّلها من � َأج ّل و�أح�سن ما اهتدى �إليه‬ ‫مائة قاعدة ُ‬
‫احلر‪ ،‬احلكيم‪ ،‬ال�سهل‪ ،‬ال�سمح‪ ،‬الظاهر‬ ‫ومن بعد‪ .‬ولكن‪ ،‬وا�أ�سفاه على هذا الدين ّ‬
‫فيه �آثار الرقي على غريه من �سوابقه‪ ،‬الدين الذي رفع الإ�رص والأغالل‪،‬‬

‫‪41‬‬
‫اال�ستبداد وال ّدين‬

‫و�أباد امليزة واال�ستبداد‪ .‬الدين الذي ظلمه اجلاهلون‪ ،‬فهجروا حكمة القر�آن‬
‫الدين الذي فقد الأن�صار الأبرار واحلكماء الأخيار‪،‬‬ ‫ودفنوها يف قبور الهوان‪ّ .‬‬
‫ف�سطا عليه امل�ستبدون واملرت�شحون لال�ستبداد‪ ،‬وا َّتخذوا و�سيلة لتفريق‬
‫ف�ضيعوا مزاياه‪،‬‬‫�شيع ًا‪ ،‬وجعلوه �آلهة لأهوائهم ال�سيا�سية‪ّ ،‬‬
‫الكلمة وتق�سيم الأمة َ‬
‫وحيرّ وا �أهله بالتقريع والتو�سيع‪ ،‬والت�شديد والت�شوي�ش‪ ،‬و�إدخال ما لي�س منه‬
‫يتوهم‬
‫فيه كما فعل قبلهم �أ�صحاب الأديان ال�سائرة‪ ،‬حتى جعلوه دين ًا حرج ًا ّ‬
‫ن�سب ال�سم �إ�سالمي هو‬‫دونه املتفننون بني د َّفتي كتاب ُي َ‬
‫النا�س فيه � َّأن ك َّل ما ّ‬
‫من الدين‪ ،‬ومبقت�ضاها �أنه ال يقوى على القيام بواجباته و�آدابه ومزيداته‪� ،‬إال‬
‫من ال عالقة له باحلياة الدنيا‪ ،‬بل �أ�صبحت مبقت�ضاها حياة الإن�سان الطويل‬
‫العمر‪ ،‬العاطل عن ك ِّل عمل‪ ،‬ال تفي بتع ُّلم ما هي الإ�سالمية عجزاً عن متييز‬
‫ال�صحيح من الباطل من تلك الآراء املت�شعبة التي �أطال �أهلها فيها اجلدال‬
‫واملناظرة‪ ،‬وما افرتقوا �إال وك ٌّل منهم يف موقفه الأول يظهر �أنه �ألزم خ�صمه‬
‫احلجة و�أ�سكته بالربهان‪ ،‬واحلقيقة � َّأن ك ًال منهم قد �سكت تعب ًا وكال ًال من‬ ‫ّ‬
‫امل�شاغبة‪.‬‬
‫الدين مناف�سو املجو�س‪ ،‬انفتح على ال ّأمة‬ ‫وبهذا ال ّت�شديد الذي �أدخله على ّ‬
‫التلوم على النف�س ف�ض ًال عن حما�سبة احلكام املنوط بهم قيام العدل‬ ‫باب ّ‬
‫وال ِّنظام‪ .‬وهذا الإهمال للمراقبة‪ ،‬هو �إهمال الأمر باملعروف وال ّنهي عن املنكر‪،‬‬
‫وقد �أو�سع لأمراء الإ�سالم جمال اال�ستبداد وجتاوز احلدود‪ .‬وبهذا وذاك ظهر‬
‫لي�ستعملن اهلل عليكم‬
‫ّ‬ ‫ولتنهون عن املنكر �أو‬
‫ّ‬ ‫أمرن باملعروف‬
‫ُحكم حديث‪( :‬لت� ّ‬
‫�رشاركم فلي�سومونكم �سوء العذاب)‪ ،‬و�إذا تتبعنا �سرية �أبي بكر وعمر ر�ضي اهلل‬
‫مفطورين خري فطرة‪ ،‬ونائلني الرتبية‬ ‫َ‬ ‫عنهما مع ال ّأمة‪ ،‬جند �أ ّنهما مع كونهما‬
‫النبوية‪ ،‬مل ترتك الأمة معهما املراقبة واملحا�سبة‪ ،‬ومل تطعهما طاع ًة عمياء‪.‬‬
‫وقد جمع بع�ضهم جملة مما اقتب�سه و�أخذه امل�سلمون عن غريهم‪ ،‬ولي�س‬
‫هو من دينهم بال ّنظر �إىل القر�آن واملتواترات من احلديث و�إجماع ال�سلف‬
‫الأول فقال‪:‬‬
‫(اقتب�سوا) من الن�رصانية مقام البابوية با�سم الغوثية‪ ،‬و(�ضاهوا) يف‬
‫الأو�صاف والأعداد �أو�صاف و�أعداد البطارقة‪ ،‬والكردينالية وال�شهداء‬
‫والأ�ساقفة‪ ،‬و(حاكوا) مظاهر القدي�سني وعجائبهم‪ ،‬والدعاة املب�شرّ ين‬

‫‪42‬‬
‫والرهبنات ور�ؤ�سائها‪ ،‬وحالة الأديرة وبادريتها‪ .‬والرهبنات‬ ‫و�صربهم‪ّ ،‬‬
‫الرق�ص على‬‫واحلمية وتوقيتها‪ ،‬و(ق ّلدوا) الوثنيني الرومانيني يف ّ‬ ‫َّ‬ ‫ور�سومها‬
‫�أنغام الناي والتغايل يف تطييب املوتى واالحتفال الزائد يف اجلنائز وت�رسيح‬
‫الذبائح معها‪ ،‬وتكليلها وتكليل القبور بالزهور‪ .‬و(�شاكلوا) مرا�سم الكنائ�س‬
‫وزينتها‪ ،‬والب َِيع واحتفاالتها‪ ،‬والرت ّنحات ووزنها‪ ،‬والرتنمُّ ات و�أ�صولها‪،‬‬
‫الرحال لزيارتها‪ ،‬والإ�رساج عليها‪،‬‬ ‫و�شد ِّ‬
‫ّ‬ ‫و�إقامة الكنائ�س على القبور‪،‬‬
‫التربك بالآثار‪ :‬كالقدح‬‫واخل�ضوع لديها‪ ،‬وتعليق الآمال ب�سكانها‪ .‬و(�أخذوا) ّ‬
‫واحلربة والد�ستار‪ ،‬من احرتام الذخرية وقد�سية العكاز‪ ،‬وكذلك �إمرار اليد على‬
‫ال�صدر عند ذكر ال�صاحلني‪ ،‬من �إمرارها على ال�صدر لإ�شارة ال�صليب‪ .‬و(انتزعوا)‬ ‫ّ‬
‫وال�سقيا‬
‫ّ‬ ‫�سم‪،‬‬‫الر‬
‫ّ‬ ‫من‬ ‫واخلالفة‬ ‫احللول‪،‬‬ ‫من‬ ‫الوجود‬ ‫ووحدة‬ ‫‪،‬‬ ‫ال�رس‬
‫ّ‬ ‫من‬ ‫احلقيقة‬
‫من تناول القربان‪ ،‬واملولد من امليالد‪ ،‬وحفلته من الأعياد‪ ،‬ورفع الأعالم من‬
‫امل�صدرة بال ّنداء على اجلدران من تعليق‬
‫َّ‬ ‫حمل ال�صلبان‪ ،‬وتعليق �ألواح الأ�سماء‬
‫انحناء �أمام‬
‫ً‬ ‫التوجه بالقلوب‬
‫ّ‬ ‫ال�صور والتماثيل‪ ،‬واال�ستفا�ضة واملراقبة من‬ ‫ّ‬
‫وال�س َّنة كحظر الكاثوليك‬
‫ُ‬ ‫الكتاب‬ ‫ن�صو�ص‬ ‫من‬ ‫اال�ستهداء‬ ‫و(منعوا)‬ ‫أ�صنام‪.‬‬ ‫ال‬
‫الدليل من التوراة‬ ‫التفهم من الإجنيل‪ ،‬وامتناع �أحبار اليهود عن �إقامة ّ‬ ‫ّ‬
‫يف الأحكام‪ .‬و(جاءوا) من املجو�سية با�ستطالع الغيب من الفلك‪ ،‬وبخ�شية‬
‫�أو�ضاع الكواكب وبا ِّتخاذ �أ�شكالها �شعاراً للملك‪ ،‬وباحرتام النار ومواقدها‪.‬‬
‫و(ق ّلدوا) البوذيني حرف ًا بحرف يف الطريق والريا�ضة وتعذيب اجل�سم بالنار‬
‫ودق الطبول وال�صنوج‬ ‫باحليات والعقارب و�رشب ال�سموم‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫وال�سالح‪ ،‬واللعب‬
‫وجعل رواتب من الأدعية والأنا�شيد والأحزاب‪ ،‬واعتقاد ت�أثري العزائم ونداء‬
‫الأ�سماء وحمل التمائم‪� ،‬إىل غري ذلك مما هو ُم�شاهد يف بوذيي الهند وجمو�س‬
‫وال�سند �إىل يومنا هذا‪ .‬وقد قيل �إ ّنه نقله �إىل الإ�سالمية‪ :‬جون و�ست‪،‬‬ ‫فار�س ّ‬
‫و�سلطان علي منال‪ ،‬والبغدادي‪ ،‬وحا�شية فالن ال�شيخ وفالن الفار�سي‪ ،‬على‬
‫� ّأن �إ�سناد ذلك �إىل �أ�شخا�ص معينني يحتاج �إىل تثبيت‪ .‬و(ل َّفقوا) من الأ�ساطري‬
‫�سموها لدنيات‪.‬‬
‫والإ�رسائيليات �أنواع ًا من القربات‪ ،‬وعلوم ًا ّ‬
‫كذلك ُيقال عن مبتدعي الن�صارى‪ ،‬من � ّأن �أكرث ما اعتربه املت�أخرون‬
‫منهم من ال�شعائر الدينية‪ -‬حتى م�شكلة التثليث‪ -‬ال �أ�صل له فيما ورد عن‬
‫بتدع وكثريها‬‫نف�س امل�سيح عليه ال�سالم‪� ،‬إمنا هو مزيدات وترتيبات قليلها ُم َ‬

‫‪43‬‬
‫اال�ستبداد وال ّدين‬

‫م َّتبع‪ .‬وقد اكت�شف العلماء الآثاريون من ال�صفائح احلفرية الهندية والآ�شورية‬


‫ال�صحف التي ُوجدت يف نواوي�س امل�رصيني الأقدمني‪ ،‬على م�آخذ‬ ‫ومن ّ‬
‫�أكرثها‪ .‬وكذلك وجدوا ملزيدات التلمود وبدع الأحبار �أ�صو ًال يف الأ�ساطري‬
‫والآثار والألواح الآ�شورية‪ ،‬وتر ّقوا يف التطبيق والتدقيق �إىل �أن وجدوا معظم‬
‫اخلرافات امل�ضافة �إىل �أ�صول عامة الأديان يف ال�رشق الأدنى مقتب�سة من‬
‫الو�ضعيات املن�سوبة لنحل ال�رشق الأق�صى‪ ،‬وقد ك�شفت الآثار � ّأن اال�ستبداد‬
‫�أخفى تاريخ الأديان وجعل �أخبار من�شئها يف ظالم مطبق‪ ،‬ح ّتى � َّإن �أعداء‬
‫الأديان املت�أخرين �أمكنهم �أن ينكروا �أ�سا�س ًا وجود مو�سى وعي�سى عليهما‬
‫�شو�ش اال�ستبداد يف امل�سلمني تاريخ �آل البيت عليهم الر�ضوان‪،‬‬ ‫ال�سالم‪ ،‬كما ّ‬
‫ت�شيعت لهم كالإمامية والإ�سماعيلية‬ ‫ِ‬
‫الأمر الذي تو ّلد عنه ظهور الف َرق التي َّ‬
‫والزيدية واحلاكمية وغريهم‪.‬‬
‫و�شوهت الأديان تكاد ُك ُّلها‬ ‫�شو�شت الإميان َّ‬ ‫واخلال�صة � ّأن الب َِدع التي َّ‬
‫تت�سل�سل بع�ضها من بع�ض‪ ،‬وتتو ّلد جميعها من غر�ض واحد هو املراد‪� ،‬أال‬
‫وهو اال�ستعباد‪.‬‬
‫للم�ستبدين من اخللفاء وامللوك‬ ‫ّ‬ ‫وال ّناظر املد ّقق يف تاريخ الإ�سالم يجد‬
‫الأولني‪ ،‬وبع�ض العلماء الأعاجم‪ ،‬وبع�ض مق ّلديهم من العرب املت�أخرين‬
‫�أقوا ًال افرتوها على اهلل ور�سوله ت�ضلي ًال للأمة عن �سبيل احلكمة‪ ،‬يريدون‬
‫يتم نوره‪ ،‬فحفظ‬ ‫بها �إطفاء نور العلم و�إطفاء نور اهلل‪ ،‬ولكن‪� ،‬أبى اهلل �إال �أن ّ‬
‫مت�سه يد‬ ‫للم�سلمني كتابه الكرمي الذي هو �شم�س العلوم وكنز احلكم من �أن ّ‬
‫التحريف‪ ،‬وهي �إحدى معجزاته لأ َّنه قال فيها‪�( :‬إ ّنا نحن ن َّزلنا ال ِّذكر و�إ َّنا له‬
‫م�سه املنافقون �إال بالت�أويل‪ ،‬وهذا �أي�ض ًا من معجزاته‪ ،‬لأنه‬ ‫حلافظون) فما ّ‬
‫�أخرب عن ذلك يف قوله‪( :‬ف�أما ا َّلذين يف ُق ُلوبهم َزي ٌغ في َّتبعون ما ت�شابه منه‬
‫ابتغاء الفتنة وابتغاء ت�أويله)‪.‬‬
‫و�إين �أُم ِّثل للمطالعني ما فعله اال�ستبداد يف الإ�سالم‪ ،‬مبا حجر على العلماء‬
‫ق�سمي الآالء والأخالق تف�سرياً مد ِّق َق ًا‪ ،‬لأنهم كانوا‬ ‫احلكماء من �أن يف�سرِّ وا َ‬
‫املقربني‬‫َّ‬ ‫يخافون خمالفة ر�أي بع�ض ال ُغ َّفل ال�سالفني �أو بع�ض املنافقني‬
‫فيق َتلون‪ .‬وهذه م�س�ألة �إعجاز القر�آن‪ ،‬وهي �أهم م�س�ألة‬ ‫فيك َّفرون ُ‬
‫املعا�رصين‪ُ ،‬‬
‫الدين مل يقدروا �أن يوفوها ح ّقها من البحث‪ ،‬واقت�رصوا على ما قاله‬ ‫يف ِّ‬

‫‪44‬‬
‫ال�سلف قو ًال جمم ًال من �أ َّنها ق�صور الطاقة عن الإتيان مبثله يف‬ ‫فيها بع�ض ّ‬
‫الروم بعد غلبهم �سيغلبون‪ .‬مع �أنه لو‬ ‫ف�صاحته وبالغته‪ ،‬و�أ ّنه �أخرب عن � ّأن ّ‬
‫ُفتح للعلماء ميدان التدقيق وحرية الر�أي والت�أليف‪ ،‬كما �أُطلق عنان التخريف‬
‫لأهل الت�أويل واحلُكم‪ ،‬لأظهروا يف �ألوف من �آيات القر�آن �ألوف �آيات الإعجاز‪،‬‬
‫ولر�أوا فيه ك ّل يوم �آية تتجدد مع الزمان واحلدثان تربهن �إعجازه ب�صدق‬
‫كتاب مبني) وجلعلوا الأمة ت�ؤمن ب�إعجازه‬ ‫ياب�س �إال يف ٍ‬
‫طب وال ٍ‬ ‫قوله‪( :‬وال َر ٍ‬
‫عن برهان وعيان ال جمرد ت�سليم و�إذعان‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪َّ � :‬أن العلم ك�شف يف هذه القرون الأخرية حقائق وطبائع كثرية‬
‫ُتعزى لكا�شفيها وخمرتعيها من علماء �أوروبا و�أمريكا‪ ،‬واملدقق يف القر�آن‬
‫يجد �أكرثها ورد به ال ّت�رصيح �أو التلميح يف القر�آن منذ ثالثة ع�رش قرن ًا‪ ،‬وما‬
‫بقيت م�ستورة حتت غ�شاء من اخلفاء �إال لتكون عند ظهورها معجزة للقر�آن‬
‫رب ال يعلم الغيب �سواه‪ ،‬ومن ذلك �أ ّنهم قد ك�شفوا � ّأن مادة‬ ‫�شاهدة ب�أ ّنه كالم ٍّ‬
‫(ثم ا�ستوى �إىل ال�سماء‬ ‫الكون هي الأثري‪ ،‬وقد و�صف القر�آن بدء التكوين فقال‪َّ :‬‬
‫وهي دخان) وك�شفوا � ّأن الكائنات يف حركة دائمة دائبة والقر�آن يقول‪( :‬و�آي ٌة‬
‫فلك ي�سبحون)‪.‬‬ ‫لهم الأر�ض امليت ُة �أحييناها) �إىل �أن يقول‪( :‬وك ٌّل يف ٍ‬
‫ال�سموات‬ ‫وحققوا � َّأن الأر�ض منفتقة يف النظام ال�شم�سي‪ ،‬والقر�آن يقول‪َّ �( :‬أن ّ‬
‫والأر�ض كانتا رتق ًا ففتقناهما)‪.‬‬
‫من�شق من الأر�ض‪ ،‬والقر�آن يقول‪�( :‬أفال يرون �أ ّنا ن�أتي‬ ‫ٌّ‬ ‫وحققوا � َّأن القمر‬
‫وان�شق القمر)‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ال�ساعة‬ ‫ِ‬
‫(اقرتبت ّ‬ ‫الأر�ض ننق�صها من �أطرافها)‪ .‬ويقول‪:‬‬
‫وحققوا � َّأن طبقات الأر�ض �سبع‪ ،‬والقر�آن يقول‪( :‬اهلل الذي خلق �سبع‬
‫�سموات ومن الأر�ض مثلهن)‬ ‫ٍ‬
‫جت‬‫وحققوا �أ ّنه لوال اجلبال القت�ضى ال ّثقل النوعي �أن متيد الأر�ض‪� ،‬أي تر ّ‬
‫روا�سي �أن متيد بكم)‪.‬‬
‫َ‬ ‫يف دورتها‪ ،‬والقر�آن يقول‪( :‬و�ألقى يف الأر�ض‬
‫وك�شفوا � َّأن �رس الرتكيب الكيماوي‪ -‬بل واملعنوي‪ -‬هو تخالف ن�سبة‬
‫(وكل �شي ٍء عنده مبقدار)‪.‬‬
‫املقادير و�ضبطها‪ ،‬والقر�آن يقول‪ُّ :‬‬
‫وك�شفوا � َّأن للجمادات حياة قائمة مباء التبلور والقر�آن يقول‪( :‬وجعلنا من‬
‫املاء ك َّل �شي ٍء حي)‪.‬‬
‫وحققوا � ّأن العامل الع�ضوي‪ ،‬ومنه الإن�سان‪ ،‬تر ّقى من اجلماد‪ ،‬والقر�آن‬

‫‪45‬‬
‫اال�ستبداد وال ّدين‬

‫ٍ‬
‫�ساللة من طني)‪.‬‬ ‫يقول‪( :‬ولقد خلقنا الإن�سان من‬
‫وك�شفوا نامو�س اللقاح العام يف النبات‪ ،‬والقر�آن يقول‪( :‬خلق الأزواج‬
‫نبات �ش ّتى)‪ ،‬ويقول‪:‬‬ ‫ك ّلها مما تنبت الأر�ض) ويقول‪( :‬ف�أخرجنا به �أزواج ًا من ٍ‬
‫زوج بهيج)‪ .‬ويقول‪( :‬ومن ك ِّل الثمرات جعل فيها زوجني‬ ‫وربت من ك ِّل ٍ‬ ‫(اهت ّزت َ‬
‫اثنني)‪.‬‬
‫الظل‪� ،‬أي الت�صوير ال�شم�سي‪ ،‬والقر�آن يقول‪�( :‬أمل َت َر‬ ‫وك�شفوا طريقة �إم�ساك ِّ‬
‫م�س عليه دلي ًال)‪.‬‬‫ال�ش َ‬
‫ثم جعلنا ّ‬ ‫الظ َّل ولو �شاء جلعله �ساكن ًا َّ‬
‫مد ِّ‬ ‫ربك كيف َّ‬ ‫�إىل ِّ‬
‫ال�سفن واملركبات بالبخار والكهرباء والقر�آن يقول‪ ،‬بعد‬ ‫وك�شفوا ت�سيري ّ‬
‫ذكره الدواب واجلواري بالريح‪( :‬وخلقنا لهم من مثله ما يركبون)‪.‬‬
‫وك�شفوا وجود امليكروب‪ ،‬وت�أثريه وغريه من الأمرا�ض‪ ،‬والقر�آن يقول‪:‬‬
‫بحجارة من‬ ‫ٍ‬ ‫(و�أر�سل عليهم طرياً �أبابيل)‪� ،‬أي متتابعة متجمعة (ترميهم‬
‫�سجيل)‪� ،‬أي من طني امل�ستنقعات الياب�س‪� .‬إىل غري ذلك من الآيات الكثرية‬ ‫ّ‬
‫املحققة لبع�ض مكت�شفات علم الهيئة والنوامي�س الطبيعية‪ .‬وبالقيا�س على ما‬
‫�رسها يف امل�ستقبل يف وقتها‬ ‫تقدم ذكره‪ ،‬يقت�ضي � َّأن كثرياً من �آياته �سينك�شف ُّ‬ ‫َّ‬
‫كر اجلديدان‪ ،‬فال‬ ‫َّ‬ ‫وما‬ ‫الزمان‬ ‫مادام‬ ‫الغيب‬ ‫يف‬ ‫ا‬‫عم‬ ‫ّ‬ ‫إعجازه‬ ‫ل‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫جتديد‬ ‫املرهون‪،‬‬
‫ُب َّد �أن ي�أتي يوم يك�شف العلم فيه � َّأن اجلمادات �أي�ض ًا تنمو باللقاح كما ت�شري‬
‫�إىل ذلك �آية (ومن ك ِّل �شي ٍء خلقنا زوجني)‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫اال�ستبداد والعلم‬
‫يت�رصف يف‬ ‫ّ‬ ‫بالو�صي اخلائن القوي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫امل�ستبد يف ن�سبته �إىل رعيته‬
‫َّ‬ ‫ما �أ�شبه‬
‫�أموال الأيتام و�أنف�سهم كما يهوى ما داموا �ضعاف ًا قا�رصين‪ ،‬فكما �أ ّنه لي�س من‬
‫تتنور‬
‫امل�ستبد �أن ّ‬
‫ّ‬ ‫الو�صي �أن يبلغ الأيتام ر�شدهم‪ ،‬كذلك لي�س من غر�ض‬ ‫ّ‬ ‫�صالح‬
‫الرعية بالعلم‪.‬‬
‫امل�ستبد‪ ،‬مهما كان غبياً‪ْ � ،‬أن ال ا�ستعباد وال اعت�ساف �إال‬
‫ّ‬ ‫ال يخفى على‬
‫امل�ستبد طرياً‬
‫ُّ‬ ‫الرعية حمقاء تخبط يف ظالمة جهل وتيه عماء‪ ،‬فلو كان‬ ‫مادامت ّ‬
‫لكان خ ّفا�ش ًا ي�صطاد هوام العوام يف ظالم اجلهل‪ ،‬ولو كان وح�ش ًا لكان ابن‬
‫�آوى يتل ّقف دواجن احلوا�رض يف غ�شاء الليل‪ ،‬ولك ّنه هو الإن�سان ي�صيد عالمِ َه‬
‫جاه ُل ُه‪.‬‬
‫ك�شاف ًا مب�رصاً‪ ،‬يو ّلد يف النفو�س‬
‫العلم قب�س ٌة من نور اهلل‪ ،‬وقد خلق اهلل ال ّنور ّ‬
‫حرار ًة ويف الر�ؤو�س �شهامةً‪ ،‬العلم نور والظلم ظالم‪ ،‬ومن طبيعة ال ّنور تبديد‬
‫الظالم‪ ،‬واملت�أمل يف حالة ك ِّل رئي�س ومر�ؤو�س يرى ك َّل �سلطة الرئا�سة تقوى‬ ‫ّ‬
‫وت�ضعف بن�سبة نق�صان علم املر�ؤو�س وزيادته‪.‬‬
‫يقوم الل�سان و�أكرثها‬
‫امل�ستبد ال يخ�شى علوم اللغة‪ ،‬تلك العلوم التي بع�ضها ّ‬ ‫ُّ‬
‫هزل وهذيان ي�ضيع به الزمان‪ ،‬نعم‪ ،‬ال يخاف علم اللغة �إذا مل يكن وراء الل�سان‬ ‫ٌ‬

‫‪47‬‬
‫اال�ستبداد والعلم‬

‫حكمة حما�س تعقد الألوية‪� ،‬أو �سحر بيان يح ُّل عقد اجليو�ش‪ ،‬لأنه يعرف � ّأن‬
‫ني ب�أن تلد الأمهات كثرياً من �أمثال‪ :‬الكميت وح�سان �أو مونتي�سكيو‬ ‫الزمان �ضن ٌ‬
‫و�شيللر‪.‬‬
‫امل�ستبد من العلوم الدينية املتعلِّقة باملعاد‪ ،‬املخت�صة ما‬
‫ُّ‬ ‫وكذلك ال يخاف‬
‫يتلهى‬
‫بني الإن�سان وربه‪ ،‬العتقاده �أ ّنها ال ترفع غباو ًة وال تزيل غ�شاوة‪� ،‬إمنا ّ‬
‫املتهو�سون للعلم‪ ،‬حتى �إذا �ضاع فيها عمرهم‪ ،‬وامتلأتها �أدمغتهم‪ ،‬و�أخذ‬ ‫ِّ‬ ‫بها‬
‫امل�ستبد منهم‬
‫ُّ‬ ‫منهم الغرور‪ ،‬ف�صاروا ال يرون علم ًا غري علمهم‪ ،‬فحينئ ٍذ ي�أمن‬
‫ال�سكران �إذا خمر‪ .‬على �أ ّنه �إذا نبغ منهم البع�ض ونالوا حرمة بني‬ ‫�رش ّ‬ ‫كما ُي�ؤمن ُّ‬
‫امل�ستبد و�سيلة ال�ستخدامها يف ت�أييد �أمره وجماراة هواه يف‬ ‫ّ‬ ‫العوام ال يعدم‬
‫ٍ‬
‫وي�سد �أفواههم بلقيمات من مائدة‬ ‫ُّ‬ ‫مقابلة �أ ّنه ي�ضحك عليهم ب�شيء من التعظيم‪،‬‬
‫اال�ستبداد‪ ،‬وكذلك ال يخاف من العلوم ال�صناعية حم�ضاً‪ ،‬ل ّأن �أهلها يكونون‬
‫امل�ستبد بقليل من املال‬‫ُّ‬ ‫م�ساملني �صغار ال ّنفو�س‪� ،‬صغار الهمم‪ ،‬ي�شرتيها‬
‫والإعزاز‪ ،‬وال يخاف من املاديني‪ ،‬ل ّأن �أكرثهم مبتلون ب�إيثار ال ّنف�س‪ ،‬وال من‬
‫الريا�ضيني‪ ،‬ل ّأن غالبهم ق�صار النظر‪.‬‬
‫امل�ستبد من علوم احلياة مثل احلكمة النظرية‪ ،‬والفل�سفة‬ ‫ُّ‬ ‫ترتعد فرائ�ص‬
‫املف�صل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫العقلية‪ ،‬وحقوق الأمم وطبائع االجتماع‪ ،‬وال�سيا�سة املدنية‪ ،‬والتاريخ‬
‫وتو�سع العقول‪،‬‬
‫ّ‬ ‫واخلطابة الأدبية‪ ،‬ونحو ذلك من العلوم التي ُتكرب النفو�س‪،‬‬
‫وتعرف الإن�سان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها‪ ،‬وكيف الطلب‪ ،‬وكيف ال ّنوال‪،‬‬ ‫ّ‬
‫امل�ستبد من �أ�صحاب هذه العلوم‪ ،‬املندفعني‬ ‫ّ‬ ‫يخاف‬ ‫ما‬ ‫أخوف‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫احلفظ‪.‬‬ ‫وكيف‬
‫منهم لتعليم ال ّنا�س اخلطابة �أو الكتابة وهم املعبرَّ عنهم يف القر�آن بال�صاحلني‬
‫عبادي ال�صاحلون) ويف‬ ‫َ‬ ‫وامل�صلحني يف نحو قوله تعاىل‪ّ �( :‬أن الأر�ض يرثها‬
‫بظلم و�أهلها م�صلحون)‪ ،‬و� ْإن كان علماء‬ ‫ربك ليهلك القرى ٍ‬ ‫قوله‪( :‬وما كان ُّ‬
‫حولوا معنى مادة‬ ‫التعبد كما ّ‬‫اال�ستبداد يف�سرِّ ون مادة ال�صالح والإ�صالح بكرثة ُّ‬
‫الف�ساد والإف�ساد‪ :‬من تخريب نظام اهلل �إىل الت�شوي�ش على امل�ستبدين‪.‬‬
‫امل�ستبد يخاف من ه�ؤالء العاملني الرا�شدين املر�شدين‪ ،‬ال‬ ‫ّ‬ ‫واخلال�صة‪َّ � :‬أن‬
‫حمفوظات كثرية ك�أ ّنها مكتبات‬
‫ٌ‬ ‫من العلماء املنافقني �أو الذين حفر ر�ؤو�سهم‬
‫مقفلة!‬
‫العلم ونتائجه‪ ،‬يبغ�ضه �أي�ض ًا لذاته‪ ،‬لأن للعلم �سلطان ًا‬
‫امل�ستبد َ‬ ‫ُّ‬ ‫كما يبغ�ض‬

‫‪48‬‬
‫للم�ستبد من �أن ي�ستحقر نف�سه كلما وقعت عينه على‬ ‫ِّ‬ ‫بد‬
‫�أقوى من ك ِّل �سلطان‪ ،‬فال َّ‬
‫امل�ستبد �أن يرى وجه عا ٍمل عاقل يفوق‬‫ُّ‬ ‫يحب‬
‫من هو �أرقى منه علماً‪ .‬ولذلك ال ُّ‬
‫عليه فكراً‪ ،‬ف�إذا ا�ضطر ملثل الطبيب واملهند�س يختار الغبي املت�صاغر املتملِّق‪.‬‬
‫وعلى هذه القاعدة بنى ابن خلدون قوله‪( :‬فاز املتملقون)‪ ،‬وهذه طبيعة ك ِّل‬
‫املتكربين‪ ،‬بل يف غالب النا�س‪ ،‬وعليها مبنى ثنائهم على ك ِّل من يكون م�سكين ًا‬
‫ل�رش‪.‬‬
‫خام ًال ال ُيرجى خل ٍري وال ٍّ‬
‫تقدم � َّأن بني اال�ستبداد والعلم حرب ًا دائم ًة وطراداً م�ستمراً‪ :‬ي�سعى‬ ‫وينتج مما َّ‬
‫امل�ستبد يف �إطفاء نورها‪ ،‬والطرفان يتجاذبان‬‫ُّ‬ ‫العلماء يف تنوير العقول‪ ،‬ويجتهد‬
‫العوام‪ .‬ومن هم العوام؟ هم �أولئك الذين �إذا جهلوا خافوا‪ ،‬و�إذا خافوا ا�ست�سلموا‪،‬‬
‫كما �أ َّنهم هم الذين متى علموا قالوا‪ ،‬ومتى قالوا فعلوا‪.‬‬
‫امل�ستبد و ُق ْو ُت ُه‪ .‬بهم عليهم ي�صول ويطول‪ ،‬ي�أ�رسهم فيتهللون‬ ‫ُّ‬ ‫العوام هم قوة‬
‫ل�شوكته‪ ،‬ويغ�صب �أموالهم فيحمدونه على �إبقائه حياتهم‪ ،‬ويهينهم فيثنون على‬
‫رفعته‪ ،‬ويغري بع�ضهم على بع�ض فيفتخرون ب�سيا�سته‪ ،‬و�إذا �أ�رسف يف �أموالهم‬
‫يقولون كرمياً‪ ،‬و�إذا قتل منهم مل مي ِّثل يعتربونه رحيماً‪ ،‬وي�سوقهم �إىل خطر‬
‫املوت‪ ،‬فيطيعونه حذر التوبيخ‪ ،‬و�إن نقم عليه منهم بع�ض الأباة قاتلهم ك�أنهم‬
‫ُبغاة‪.‬‬
‫واحلا�صل � َّأن العوام يذبحون �أنف�سهم ب�أيديهم ب�سبب اخلوف النا�شئ عن‬
‫وتنور العقل زال اخلوف‪ ،‬و�أ�صبح النا�س ال‬ ‫اجلهل والغباوة‪ ،‬ف�إذا ارتفع اجلهل َّ‬
‫ينقادون طبع ًا لغري منافعهم‪ ،‬كما قيل‪ :‬العاقل ال يخدم غري نف�سه‪ ،‬وعند ذلك ال‬
‫امل�ستبد اللئيم‬
‫َّ‬ ‫للم�ستبد من االعتزال �أو االعتدال‪ .‬وكم �أجربت الأمم برت ّقيها‬ ‫ِّ‬ ‫بد‬
‫َّ‬
‫على الرت ّقي معها واالنقالب ‪-‬رغم طبعه‪� -‬إىل وكيلٍ �أمني يهاب احل�ساب‪،‬‬
‫حليم يتلذذ بالتحابب‪ .‬وحينئ ٍذ تنال الأمة‬ ‫ورئي�س عادل يخ�شى االنتقام‪ ،‬و� ٍأب ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حظ الرئي�س من‬ ‫ر�ضية هنية‪ ،‬حياة رخاء ومناء‪ ،‬حياة ع ّز و�سعادة‪ ،‬ويكون ّ‬ ‫حيا ًة ّ‬
‫ذلك ر�أ�س احلظوظ‪ ،‬بعد �أن كان يف دور اال�ستبداد �أ�شقى العباد‪ ،‬لأنه على الدوام‬
‫ملحوظ ًا بالبغ�ضاء‪ ،‬حماط ًا بالأخطار‪ ،‬غري �أمني على ريا�سته‪ ،‬بل وعلى حياته‬
‫قط �أمامه من ي�سرت�شده فيما يجهل‪ ،‬ل َّأن الواقف بني‬ ‫طرفة عني‪ ،‬ولأنه ال يرى ّ‬
‫بد �أن يهابه‪ ،‬في�ضطرب باله‪ ،‬فيت�شو�ش فكره‪،‬‬ ‫يديه مهما كان عاق ًال متيناً‪ ،‬ال َّ‬
‫ويخت ّل ر�أيه‪ ،‬فال يهتدي على ال�صواب‪ ،‬و�إن اهتدى فال يج�رس على الت�رصيح به‬

‫‪49‬‬
‫اال�ستبداد والعلم‬

‫امل�ستبد‪ ،‬ف�إن ر�آه مت�صلِّب ًا فيما يراه فال ي�سعه �إال ت�أييده را�شداً‬ ‫ّ‬ ‫قبل ا�ستطالع ر�أي‬
‫احلق‪:‬‬
‫هياب فهو ك َّذاب‪ ،‬والقول ُّ‬ ‫يدعي �أ َّنه غري ّ‬‫غياً‪ ،‬وك ُّل م�ست�شار غريه َّ‬ ‫كان �أو ّ‬
‫امل�ستبد قطُّ من ر�أي‬‫ُّ‬ ‫بناء عليه‪ ،‬ال ي�ستفيد‬ ‫� َّإن ال�صدق ال يدخل ق�صور امللوك‪ً ،‬‬
‫وعذاب وخوف‪ ،‬وكفى بذلك انتقام ًا منه على‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وتردد‬ ‫غريه‪ ،‬بل يعي�ش يف �ضالل‬
‫ا�ستعباده ال ّنا�س وقد خلقهم ربهم �أحراراً‪.‬‬
‫امل�ستبد من نقمة رعيته �أكرث من خوفهم من ب�أ�سه‪ ،‬ل َّأن خوفه‬ ‫ّ‬ ‫� َّإن خوف‬
‫ين�ش�أ عن علمه مبا ي�ستح ُّقه منهم‪ ،‬وخوفهم نا�شئ عن جهل‪ ،‬وخوفه عن عج ٍز‬
‫توهم التخاذل فقط‪ ،‬وخوفه على فقد حياته و�سلطانه‪،‬‬ ‫حقيقي فيه‪ ،‬وخوفهم عن ّ‬
‫وخوفهم على لقيمات من ال ّنبات وعلى وطنٍ ي�ألفون غريه يف �أيام‪ ،‬وخوفه على‬
‫حياة تعي�سة فقط‪.‬‬‫ك ِّل �شيء حتت �سماء ملكه‪ ،‬وخوفهم على ٍ‬
‫رعيته وح ّتى من حا�شيته‪،‬‬ ‫امل�ستبد ظلم ًا واعت�ساف ًا زاد خوفه من ّ‬ ‫ُّ‬ ‫كلما زاد‬
‫امل�ستبد باجلنون ال ّتام‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫وحتى ومن هواج�سه وخياالته‪ .‬و�أكرث ما ُتختم حياة‬
‫قط‪ ،‬لنفوره من البحث عن احلقائق‪،‬‬ ‫امل�ستبد ال يخلو من احلمق ّ‬‫َّ‬ ‫قلت‪( :‬التام) ل ّأن‬
‫و�إذا �صادف وجود م�ستب ٍّد غري �أحمق في�سارعه املوت قهراً �إذا مل ي�سارعه‬
‫وقلت‪� :‬إنه يخاف من حا�شيته‪ ،‬ل َّأن �أكرث ما يبط�ش بامل�ستبدين‬ ‫اجلنون �أو العته‪ُ ،‬‬
‫حوا�شيهم‪ ،‬ل َّأن ه�ؤالء �أ�شقى خلق اهلل حيا ًة‪ ،‬يرتكبون ك َّل جرمي ٍة وفظيعة حل�ساب‬
‫امل�ستبد الذي يجعلهم مي�سون وي�صبحون خمبولني م�رصوعني‪ُ ،‬يجهدون الفكر‬ ‫ِّ‬
‫ي�رصح‪ .‬فكم ينقم عليهم‬ ‫ِّ‬ ‫أو‬ ‫�‬ ‫يطلب‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫بدون‬ ‫فعله‬ ‫منهم‬ ‫يريد‬ ‫ما‬ ‫ا�ستطالع‬ ‫يف‬
‫ملجرد �أنهم ال يعلمون الغيب‪ ،‬ومن ذا الذي يعلم الغيب‪ ،‬الأنبياء‬ ‫َّ‬ ‫ويهينهم‬
‫يل‪ ،‬وال‬ ‫نبي وال و ٌّ‬
‫والأولياء؟ وما ه�ؤالء �إال �أ�شقياء‪� ،‬أ�ستغفرك اللهم! ال يعلم غيبك ٌّ‬
‫احلق‪( :‬فال‬ ‫يظن �صدقه �إ ّال مغ َّفل‪ ،‬ف�إ َّنك اللهم قلت وقولك ّ‬ ‫دجال‪ ،‬وال ُّ‬ ‫يدعي ذلك �إ ّال ّ‬ ‫ّ‬
‫علمت اخلري ال�ستكرثت منه)‪.‬‬ ‫يظهر على غيبه �أحداً) و�أف�ضل �أنبيائك يقول‪( :‬لو ُ‬
‫م�ستبدين‬
‫َّ‬ ‫من قواعد امل� ِّؤرخني املدققني‪َّ � :‬إن �أحدهم �إذا �أراد املوازنة بني‬
‫كنريون وتيمور مثالً‪ ،‬يكتفي �أن يوازن درجة ما كانا عليه من التح ُّذر والتح ُّفظ‪.‬‬
‫و�إذا �أراد املفا�ضلة بني عادلني ك�أنو �رشوان وعمر الفاروق‪ ،‬يوازن بني مرتبتي‬
‫�أمنهما يف قوميهما‪.‬‬
‫ملا كانت �أكرث الديانات م�ؤ�س�سة على مبد�أي اخلري وال�رش كالنور والظالم‪،‬‬
‫أ�رض �شيء‬ ‫وال�شم�س وزحل‪ ،‬والعقل وال�شيطان‪ ،‬ر�أت بع�ض الأمم الغابرة � َّأن � َّ‬

‫‪50‬‬
‫أ�رض �آثار اجلهل هو اخلوف‪ ،‬فعملت هيك ًال خم�ص�ص ًا‬ ‫على الإن�سان هو اجلهل‪ ،‬و� ّ‬
‫ل�رشه‪.‬‬
‫اتقاء ِّ‬ ‫للخوف ُيعبد ً‬
‫امل�ستبد يف ك ِّل زمان هو‬
‫ِّ‬ ‫قال �أحد املحررين ال�سيا�سيني‪� :‬إين �أرى ق�رص‬
‫هيكل اخلوف عينه‪ :‬فامللك اجلبار هو املعبود‪ ،‬و�أعوانه هم الكهنة‪ ،‬ومكتبته‬
‫املقد�س‪ ،‬والأقالم هي ال�سكاكني‪ ،‬وعبارات التعظيم هي ال�صلوات‪،‬‬ ‫هي املذبح َّ‬
‫قدمون قرابني اخلوف‪ ،‬وهو �أهم النوامي�س الطبيعية‬ ‫والنا�س هم الأ�رسى الذين ُي َّ‬
‫يف الإن�سان‪ ،‬والإن�سان يقرب من الكمال يف ن�سبة ابتعاده عن اخلوف‪ ،‬وال و�سيلة‬
‫لتخفيف اخلوف �أو نفيه غري العلم بحقيقة املخيف منه‪ ،‬وهكذا �إذا زاد علم �أفراد‬
‫امل�ستبد امر�ؤٌ عاجز مثلهم‪ ،‬زال خوفهم منه وتقا�ضوه حقوقهم‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫الرعية ب� ّأن‬
‫ويقول �أهل النظر‪َّ � :‬إن خري ما ي�ستبدل به على درجة ا�ستبداد احلكومات‪،‬‬
‫هو تغاليها يف �شن�آن امللوك‪ ،‬وفخامة الق�صور‪ ،‬وعظمة احلفالت‪ ،‬ومرا�سيم‬
‫الت�رشيفات‪ ،‬وعالئم ال َّأبهة‪ ،‬ونحو ذلك من التمويهات التي ي�سرتهب بها امللوك‬
‫امل�ستبد كما‬
‫ُّ‬ ‫رعاياهم عو�ض ًا عن العقل واملفاداة‪ ،‬وهذه التمويهات يلج�أ �إليها‬
‫ال�صدق لليمني‪ ،‬وقليل املال‬ ‫للت�صوف‪ ،‬وقليل ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫يلج�أ قليل الع ِّز للتكبرُّ ‪ ،‬وقليل العلم‬
‫لزينة اللبا�س‪.‬‬
‫�ستدل على عراقة الأمة يف اال�ستعباد �أو احلرية‬ ‫ويقولون‪� :‬إ َّنه كذلك ُي ُّ‬
‫با�ستنطاق لغتها‪ ،‬هل هي قليلة �ألفاظ التعظيم كالعربية مثالً؟ �أم هي غنية يف‬
‫عبارات اخل�ضوع كالفار�سية‪ ،‬وكتلك اللغة التي لي�س فيها بني املتخاطبني �أنا‬
‫و�أنت‪ ،‬بل �سيدي وعبدكم؟!‬
‫واخلال�صة � َّأن اال�ستبداد والعلم �ضدان متغالبان‪ ،‬فك ُّل �إدارة م�ستبدة ت�سعى‬
‫جهدها يف �إطفاء نور العلم‪ ،‬وح�رص الرعية يف حالك اجلهل‪ .‬والعلماء احلكماء‬
‫الذين ينبتون �أحيان ًا يف م�ضايق �صخور اال�ستبداد ي�سعون جهدهم يف تنوير‬
‫�أفكار ال ّنا�س‪ ،‬والغالب � َّأن رجال اال�ستبداد ُيطاردون رجال العلم وينكلون بهم‪،‬‬
‫فال�سعيد منهم من يتم ّكن من مهاجرة دياره‪ ،‬وهذا �سبب � َّأن ك َّل الأنبياء العظام‬
‫‪ -‬عليهم ال�صالة وال�سالم و�أكرث العلماء الأعالم والأدباء والنبالء‪ -‬تقلَّبوا يف‬
‫البالد وماتوا غرباء‪.‬‬
‫ُ‬
‫ح�ض على العلم‪ ،‬وكفى �شاهداً � َّأن �أول كلمة �أنزلت‬ ‫أول دين َّ‬ ‫� َّإن الإ�سالمية � َّ‬
‫نت بها على‬ ‫من القر�آن هي الأمر بالقراءة �أمراً مكرراً‪ ،‬و� َّأول ِم َّن ٍة �أجلَّها اهلل وام َّ‬

‫‪51‬‬
‫اال�ستبداد والعلم‬

‫ال�سلف الأول من‬ ‫الإن�سان هي �أ َّنه علَّمه بالقلم‪ .‬علَّمه به ما مل يعلم‪ .‬وقد فهم َّ‬
‫مغزى هذا الأمر وهذا االمتنان وجوب تعلُّم القراءة والكتابة على ك ِّل م�سلم‪،‬‬
‫تعم‪ ،‬وبذلك �صار العلم يف‬ ‫عمت القراءة والكتابة يف امل�سلمني �أو كادت ُّ‬ ‫وبذلك َّ‬
‫الدين �أو الأ�رشاف كما كان يف الأمم‬ ‫يخت�ص به رجال ّ‬‫ُّ‬ ‫الأمة حراً مباح ًا للك ِّل ال‬
‫ولكن‪ ،‬قاتل‬‫ْ‬ ‫ال�سابقة‪ ،‬وبذلك انت�رش العلم يف �سائر الأمم �أخذاً على امل�سلمني!‬
‫اهلل اال�ستبداد الذي ا�ستهان بالعلم حتى جعله كال�سلعة ُيعطى ويمُ نح للأميني‪،‬‬
‫وال يجر�ؤ �أحد على االعرتا�ض‪� ،‬أجل‪ ،‬قاتل اهلل اال�ستبداد الذي رجع بالأمة �إىل‬
‫الأمية‪ ،‬فالتقى �آخرها ب�أولِّها‪ ،‬وال حول وال قوة �إال باهلل‪.‬‬
‫قال املدققون‪َّ � :‬إن �أخوف ما يخافه امل�ستبدون الغربيون من العلم �أن يعرف‬
‫النا�س حقيقة � َّأن احلرية �أف�ضل من احلياة‪ ،‬و�أن يعرفوا النف�س وع َّزها‪ ،‬وال�شرّ ف‬
‫وعظمته‪ ،‬واحلقوق وكيف تحُ فظ‪ ،‬والظلم وكيف ُيرفع‪ ،‬والإن�سانية وما هي‬
‫والرحمة وما هي ل ّذاتها‪.‬‬ ‫وظائفها‪ّ ،‬‬
‫�أما امل�ستبدون ال�رشقيون ف�أفئدتهم هواء ترجتف من �صولة العلم‪ ،‬ك� ّأن العلم‬
‫نار و�أج�سامهم من بارود‪ .‬امل�ستبدون يخافون من العلم حتى من علم النا�س‬
‫معنى كلمة (ال �إله �إال اهلل)‪ ،‬وملاذا كانت �أف�ضل الذكر‪ ،‬وملاذا ُبني عليها الإ�سالم‪.‬‬
‫ُبني الإ�سالم‪ ،‬بل وكافة الأديان على (ال �إله �إال اهلل)‪ ،‬ومعنى ذلك �أ ّنه ال ُيعبد‬
‫حق ًا �سوى ال�صانع الأعظم‪ ،‬ومعنى العبادة اخل�ضوع ومنها لفظة العبد‪ ،‬فيكون‬
‫�شيء غري اهلل)‪ .‬وما �أف�ضل تكرار هذا‬ ‫معنى ال �إله �إال اهلل‪( :‬ال ي�ستحق اخل�ضوع ٌ‬
‫املعنى على الذاكرة �آناء الليل و�أطراف النهار حت ُّذراً من الوقوع يف ورطة �شيء‬
‫من اخل�ضوع لغري اهلل وحده‪ .‬فهل ‪-‬واحلالة هذه‪ -‬ينا�سب غر�ض امل�ستبدين �أن‬
‫يعلم عبيدهم � ْأن ال �سيادة وال عبودية يف الإ�سالم وال والية فيه وال خ�ضوع‪� ،‬إمنا‬
‫عدوا كلمة‬ ‫امل�ؤمنون بع�ضهم �أولياء بع�ض؟ كال‪ ،‬ال يالئم ذلك غر�ضهم‪ ،‬ورمبا ّ‬
‫(ال �إله �إال اهلل) �شتم ًا لهم! ولهذا‪ ،‬كان امل�ستبدون ‪-‬وال زالوا‪ -‬من �أن�صار ال�شرِّ ك‬
‫و�أعداء العلم‪.‬‬
‫كخ َد َمة الأديان املتكبرِّ ين‬
‫� َّإن العلم ال ينا�سب �صغار امل�ستبدين �أي�ض ًا َ‬
‫وكالآباء اجل َُهالء‪ ،‬والأزواج احلمقى‪ ،‬وكر�ؤ�ساء ك ِّل اجلمعيات ال�ضعيفة‪.‬‬
‫قط �إال وتك�سرَّ ت فيها قيود الأ�رس‪،‬‬ ‫واحلا�صل‪� :‬أ َّنه ما انت�رش نور العلم يف �أم ٍة ّ‬
‫امل�ستبدين من ر�ؤ�ساء �سيا�سة �أو ر�ؤ�ساء دين‪.‬‬‫ّ‬ ‫و�ساء م�صري‬

‫‪52‬‬
‫اال�ستبداد واملجد‬
‫حل َكم البالغة للمت�أخرين قولهم‪( :‬اال�ستبداد �أ�ص ٌل لك ِّل داء)‪ ،‬ومبنى ذلك‬ ‫من ا ِ‬
‫� َّأن الباحث املدقق يف �أحوال الب�رش وطبائع االجتماع ك�شف � َّأن لال�ستبداد �أثراً‬
‫�سيئ ًا يف ك ِّل واد‪ ،‬وقد �سبق � َّأن اال�ستبداد ي�ضغط على العقل فيف�سده‪ ،‬و�إين الآن‬
‫التمجد‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫�أبحث يف �أ َّنه كيف ُيغالب اال�ستبداد املجد فيف�سده‪ ،‬ويقيم مقامه‬
‫حب واحرتام يف القلوب‪ ،‬وهو مطلب طبيعي‬ ‫املجد‪ :‬هو �إحراز املرء مقام ٍّ‬
‫ين �أو خامل‪.‬‬ ‫ينحط عنه د ٌّ‬‫ُّ‬ ‫نبي �أو زاهد‪ ،‬وال‬
‫�رشيف لك ِّل �إن�سان‪ ،‬ال يرت َّفع عنه ٌّ‬
‫للمجد ل َّذ ٌة روحية تقارب ل َّذة العبادة عند الفانني يف اهلل تعاىل‪ ،‬وتعادل ل َّذة‬
‫العلم عند احلكماء‪ ،‬وتربو على ل َّذة امتالك الأر�ض مع قمرها عند الأمراء‪،‬‬
‫وتزيد على ل َّذة مفاج�أة الإثراء عند الفقراء‪ .‬ولذا‪ ،‬يزاحم املجد يف النفو�س‬
‫منزلة احلياة‪.‬‬
‫وقد �أ�ش َك َل على بع�ض الباحثني � ّأي احلر�صني �أقوى؟ حر�ص احلياة �أم‬
‫وميزوا بها تخليط ابن‬ ‫عول عليها املت� ِّأخرون َّ‬ ‫حر�ص املجد؟ واحلقيقة التي َّ‬
‫مف�ضل على احلياة عند امللوك وال ُق َّواد‬ ‫خلدون هي التف�ضيل‪ ،‬وذلك � َّأن املجد َّ‬
‫وحب احلياة ممتاز على املجد عند‬ ‫ُّ‬ ‫حمية‪،‬‬
‫وظيف ًة‪ ،‬وعند ال ُّنجباء والأحرار ّ‬
‫الأُ�رساء والأ ِّذالء طبيعة‪ ،‬وعند اجلبناء والن�ساء �رضورة‪ .‬وعلى هذه القاعدة‬

‫‪53‬‬
‫اال�ستبداد واملجد‬

‫يكون �أئمة �آل البيت ‪-‬عليهم ال�سالم‪ -‬معذورين يف �إلقاء �أنف�سهم يف تلك‬
‫يف�ضلون املوت‬ ‫فحميتهم جعلتهم ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ملا كانوا جنباء �أحراراً‪،‬‬ ‫املهالك‪ ،‬لأ َّنهم ّ‬
‫خط�أ �أجماد الب�رش يف �إقدامهم‬ ‫ذل مثل حياة ابن خلدون الذي ّ‬ ‫كرام ًا على حياة ٍّ‬
‫هدد جمدهم‪ ،‬ذاه ًال على � َّأن بع�ض �أنواع احليوان‪ ،‬ومنها البلبل‪،‬‬ ‫على اخلطر �إذا َّ‬
‫ُوجِ دت فيها طبيعة اختيار االنتحار �أحيان ًا تخ ُّل�ص ًا من قيود ال ُّذ ِّل‪ ،‬و� َّأن �أكرث‬
‫�سباع الطري والوحو�ش �إذا �أُ�سرِ َ ت كبرية ت�أبى الغذاء حتى متوت‪ ،‬و� َّأن احل َُّرة‬
‫ر�ضها‪ ،‬واملاجدة متوت وال ت�أكل بثدييها!‬ ‫متوت وال ت�أكل ب ِع ِ‬
‫بنوع من البذل يف �سبيل اجلماعة‪ ،‬وبتعبري ال�رشقيني‬ ‫املجد ال ُينال �إال ٍ‬
‫الدين‪ ،‬وبتعبري الغربيني يف �سبيل املدنية �أو �سبيل‬ ‫يف �سبيل اهلل �أو �سبيل ّ‬
‫‪-‬امل�ستحق ال ّتعظيم لذاته‪ -‬ما طالب عبيده بتمجيده‬ ‫ُّ‬ ‫الإن�سانية‪ .‬واملوىل تعاىل‬
‫�إال وقرن الطلب بذكر نعمائه عليهم‪.‬‬
‫وهذا البذل �إما بذل مال للنفع العام وي�سمى جمد الكرم‪ ،‬وهو �أ�ضعف‬
‫وي�سمى جمد الف�ضيلة‪� ،‬أو بذل‬ ‫ّ‬ ‫املجد‪� ،‬أو بذل العلم ال ّنافع املفيد للجماعة‪،‬‬
‫احلق وحفظ ال ِّنظام‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫للم�شاق والأخطار يف �سبيل ن�رصة‬ ‫ّ‬ ‫بالتعر�ض‬
‫ُّ‬ ‫ال ّنف�س‬
‫وي�سمى جمد ال ّنبالة‪ ،‬وهذا �أعلى املجد‪ ،‬وهو املراد عند الإطالق‪ ،‬وهو املجد‬ ‫ُ‬
‫وحتن �إليه �أعناق النبالء‪ .‬وكم له من ع�شاق‬ ‫ُّ‬ ‫الكبرية‪،‬‬ ‫النفو�س‬ ‫إليه‬ ‫�‬ ‫تتوق‬ ‫الذي‬
‫تل ُّذ لهم يف حبه امل�صاعب واملخاطرات‪ ،‬و�أكرثهم يكون من مواليد بيوت‬
‫ال�صدف من عيون الظاملني املذ ّلني‪� ،‬أو يكون من جنباء بيوت‬ ‫نادرة حمتها ُّ‬
‫ما انقطعت فيها �سل�سلة املجاهدين وما انقطعت عجائزها عن بكائهم‪ .‬ومن‬
‫�أمثلة املجد قولهم‪ :‬خلق اهلل للمجد رجا ًال ي�ستعذبون املوت يف �سبيله‪ ،‬وال‬
‫الهمة والإقدام وال ّثبات‪ ،‬تلك اخل�صال ال ّثالث التي بها‬ ‫�سبيل �إليه �إال بعظيم ّ‬
‫تقدر قيم الرجال‪.‬‬ ‫َّ‬
‫وهذا نريون الظامل �س�أل �أغربني ال�شاعر وهو حتت ال َّنطع‪ :‬من �أ�شقى النا�س؟‬
‫معر�ض ًا به‪ :‬من �إذا ذكر النا�س اال�ستبداد كان مثا ًال له يف اخليال‪.‬‬ ‫ف�أجابه ِّ‬
‫وكان ترايان العادل �إذا ق َّلد �سيف ًا لقائد يقول له‪( :‬هذا �سيف الأمة �أرجو �أن‬
‫ن�صيب يف عنقي)‪ .‬وخرج قي�س من جمل�س الوليد‬ ‫ٌ‬ ‫أتعدى القانون فيكون له‬ ‫ال � ّ‬
‫مغ�ضب ًا يقول‪�( :‬أتريد �أن تكون جباراً؟ واهلل‪َّ � ،‬إن نعال ال�صعاليك لأطول من‬
‫�سيفك)!‪ .‬وقيل لأحد الأباة‪« :‬ما فائدة �سعيك غري جلب ال�شقاء على نف�سك؟»‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫«علي �أن �أيف‬‫فقال‪« :‬ما �أحلى ال�شقاء يف �سبيل تنغي�ص الظاملني!»‪ .‬وقال �آخر‪َّ :‬‬
‫علي �ضمان الق�ضاء»‪ .‬وقيل لأحد النبالء‪« :‬ملاذا ال تبني لك‬ ‫بوظيفتي وما َّ‬
‫داراً؟» فقال‪« :‬ما �أ�صنع فيها و�أنا املقيم على ظهر اجلواد �أو يف ال�سجن �أو يف‬
‫القرب»‪ ،‬وهذه ذات النطاقني (�أ�سماء بنت �أبي بكر ر�ضي اهلل عنها) وهي امر�أة‬
‫احلق فاذهب وقاتل احلجاج حتى‬ ‫تودع ابنها بقولها‪�« :‬إن كنت على ّ‬ ‫عجوز ِّ‬
‫ا�ستبد يف �أمر فدخل عليه‬ ‫َّ‬ ‫متوت»‪ .‬وهذا مكماهون رئي�س جمهورية فرن�سا‬
‫�صديقه غامبتا وهو يقول‪« :‬الأمر للأمة ال �إليك‪ ،‬فاعتدل‪� ،‬أو اعتزل‪ ،‬و�إال ف�أنت‬
‫املخذول املهان امليت»!!‬
‫حمب ٌب للنفو�س‪ ،‬ال تفت�أ ت�سعى وراءه وترقى‬ ‫املجد َّ‬
‫ُ‬ ‫واحلا�صل � َّأن املجد هو‬
‫وهمته‪،‬‬ ‫مراقيه‪ ،‬وهو مي�سرَّ ٌ يف عهد العدل لك ِّل �إن�سان على ح�سب ا�ستعداده َّ‬
‫الظلم على ح�سب الإمكان‪.‬‬ ‫وينح�رص حت�صيله يف زمن اال�ستبداد مبقاومة ّ‬
‫التمجد؟ وماذا يكون‬ ‫ّ‬ ‫التمجد‪ .‬وما هو‬
‫ُّ‬ ‫يقابل املجد‪ ،‬من حيث مبتناه‪،‬‬
‫لفظ هائل املعنى‪ ،‬ولهذا �أراين �أتعثرَّ بالكالم و�أتلعثم يف‬ ‫التمجد ٌ‬‫ُّ‬ ‫التمجد؟‬
‫ّ‬
‫اخلطاب‪ ،‬وال �سيما من حيث �أخ�شى م�سا�س �إح�سا�س بع�ض املطالعني‪� .‬إن مل‬
‫واحلق‬
‫ّ‬ ‫يكن من جهة �أنف�سهم فمن جهة �أجدادهم الأولني‪ ،‬ف�أنا�شدهم الوجدان‬
‫ثم هم مثلي ومثل �سائر‬ ‫يتجردوا دقيقتني من ال ّنف�س وهواها‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫املهان‪� ،‬أن‬
‫اجلانني على الإن�سانية ال يعدمون ت�أوي ًال‪ .‬و�إنني �أعلِّل ال ّنف�س بقبولهم تهويني‬
‫هذا‪ ،‬ف�أنطلق و�أقول‪:‬‬
‫امل�ستبد بالفعل‬‫ِّ‬ ‫امل�ستبدة‪ ،‬وهو القربى من‬ ‫َّ‬ ‫التمجد خا�ص بالإدارات‬ ‫ّ‬
‫كالأعوان والعمال‪� ،‬أو بالقوة كاملل َّقبني بنحو دوق وبارون‪ ،‬واملخاطبني بنحو‬
‫املطوقني باحلمائل‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ورب ال�صولة‪� ،‬أو املو�سومني بالنيا�شني‪� ،‬أو‬ ‫رب العزة ّ‬ ‫ِّ‬
‫امل�ستبد‬
‫ِّ‬ ‫التمجد هو �أن ينال املرء جذوة نار من جهنم كربياء‬ ‫ُّ‬ ‫ٍ‬
‫وبتعريف �آخر‪،‬‬
‫ليحرق بها �رشف امل�ساواة يف الإن�سانية‪.‬‬
‫ِ‬
‫الرجل �سيف ًا من ق َبل اجلبارين يربهن به على‬ ‫ٍ‬
‫وبو�صف �أجلى‪ :‬هو �أن يتق ّلد ّ‬
‫�أ َّنه جالد يف دولة اال�ستبداد‪� ،‬أو يعلِّق على �صدره و�سام ًا م�شعراً مبا وراءه من‬
‫الوجدان امل�ستبيح للعدوان‪� ،‬أو يتزين ب�سيور مزرك�شة تنبئ ب�أ ّنه �صار خم َّنث ًا‬
‫�أقرب �إىل الن�ساء منه �إىل الرجال‪ ،‬وبعبارة �أو�ضح و�أخ�رص‪ ،‬هو �أن ي�صري‬
‫امل�ستبد الأعظم‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الإن�سان م�ستبداً �صغرياً يف كنف‬

‫‪55‬‬
‫اال�ستبداد واملجد‬

‫خا�ص بالإدارات اال�ستبدادية‪ ،‬وذلك ل َّأن احلكومة احلرة‬ ‫ٌّ‬ ‫التمجد‬


‫ُّ‬ ‫قلت‪َّ � :‬إن‬‫ُ‬
‫التي مت ِّثل عواطف الأمة ت�أبى ك َّل الإباء �إخالل الت�ساوي بني الأفراد �إال لف�ضلٍ‬
‫حقيقي‪ ،‬فال ترفع قدر �أحد منها �إال رفع ًا �صوري ًا �أثناء قيامه يف خدمتها‪� ،‬أي‬
‫متيز‬‫اخلدمة العمومية‪ ،‬وذلك ت�شويق ًا له على التفاين يف اخلدمة‪ ،‬كما �أ َّنها ال ّ‬
‫بلقب �إال ما كان علمي ًا �أو ذكرى خلدمة مهمة‬ ‫ت�رشفه ٍ‬ ‫�أحداً منها بو�سام �أو ِّ‬
‫بع�ض درجات يف‬ ‫هلل النا�س بع�ضهم فوق ٍ‬ ‫و َّفقه اهلل �إليها‪ .‬ومبثل هذا يرفع ا ُ‬
‫القلوب ال يف احلقوق‪.‬‬
‫وهذا لقب اللوردية مث ًال عند الإنكليز هو من بقايا عهد اال�ستبداد‪ ،‬ومع‬
‫ذلك ال يناله عندهم غالب ًا �إال من يخدم � َّأمته خدمة عظيمة‪ ،‬ويكون من حيث‬
‫�أخالقه وثروته �أه ًال لأن يخدمها خدمات مهمة غريها‪ ،‬ومن املقرر �أن ال‬
‫اعتبار للورد يف نظر الأمة �إال �إذا كان م�ؤ�س�س ًا �أو وارث ًا‪� ،‬أو كانت الأمة تقر�أ‬
‫مم�ضي بدمه يق�سم فيه‬ ‫ٍّ‬ ‫يف جبهته �سطراً حمرراً بقلم الوطنية ومبداد ال�شهامة‬
‫ب�رشفه �أنه �ضمني برثوته وحياته نامو�س الأمة‪� ،‬أي قانونها الأ�سا�سي‪ ،‬حفيظ‬
‫على روحها‪� ،‬أي حريتها‪.‬‬
‫التمجد ال يكاد يوجد له �أثر يف الأمم القدمية �إال يف دعوى الألوهية وما‬ ‫ُّ‬
‫معناها من نفع النا�س بالأنفا�س‪� ،‬أو يف دعوى ال ّنجابة بالن�سب التي يهول‬
‫وال�شارات يف‬ ‫التمجد بالألقاب ّ‬ ‫ّ‬ ‫بها الأ�صالء ن�سل امللوك والأمراء‪ ،‬و�إمنا ن�ش�أ‬
‫ثم قامت فتاة احلرية تتغ ّنى‬ ‫القرون الو�سطى‪ ،‬وراج �سوقه يف القرون الأخرية‪َّ ،‬‬
‫بامل�ساواة وتغ�سل �أدرانه على ح�سب قوتها وطاقتها‪ ،‬ومل تبلغ غايتها �إىل‬
‫الآن يف غري �أمريكا‪.‬‬
‫املتمجدون يريدون �أن يخدعوا العامة‪ ،‬وما يخدعون غري ن�سائهم الالتي‬ ‫ِّ‬
‫يتفحفحن بني عجائز احلي ب�أنهم كبار العقول‪ ،‬كبار النفو�س‪� ،‬أحرار يف‬
‫�ش�ؤونهم ال ُيزاح لهم نقاب‪ ،‬وال ُت�صفع منهم رقاب‪ ،‬فيحوجهم هذا املظهر‬
‫امل�ستبد‪ ،‬بل‬
‫ّ‬ ‫لتحمل الإ�ساءات والإهانات التي تقع عليهم من ِق َبل‬ ‫ُّ‬ ‫الكاذب‬
‫حتوجهم للحر�ص على كتمها‪ ،‬بل على �إظهار عك�سها‪ ،‬بل على مقاومة من‬
‫امل�ستبد و�إبعادهم عن‬ ‫ِّ‬ ‫حق‬
‫يدعي خالفها‪ ،‬بل على تغليط �أفكار ال ّنا�س يف ِّ‬ ‫ّ‬
‫اعتقاد � َّأن من �ش�أنه الظلم‪.‬‬
‫وهكذا يكون املتمجدون �أعداء للعدل �أن�صاراً للجور‪ ،‬ال دين وال وجدان وال‬

‫‪56‬‬
‫امل�ستبد من �إيجادهم والإكثار منهم ليتم َّكن‬ ‫ُّ‬ ‫�رشف وال رحمة‪ ،‬وهذا ما يق�صده‬
‫يغرر الأمة على �إ�رضار نف�سها حتت ا�سم منفعتها‪ ،‬في�سوقها‬ ‫بوا�سطتهم من �أن ِّ‬
‫مث ًال حلرب اقت�ضاها حم�ض التجبرُّ والعدوان على اجلريان‪ ،‬فيوهمها �أ َّنه يريد‬
‫ن�رصة الدين‪� ،‬أو ُي�رسف باملاليني من �أموال الأمة يف ملذاته وت�أييد ا�ستبداده‬
‫با�سم حفظ �رشف الأمة و�أبهة اململكة‪� ،‬أو ي�ستخدم الأمة يف التنكيل ب�أعداء‬
‫يت�رصف يف حقوق اململكة والأمة كما ي�شا�ؤه‬ ‫َّ‬ ‫ظلمه با�سم �أنهم �أعداء لها‪� ،‬أو‬
‫هواه با�سم � َّأن ذلك من مقت�ضى احلكمة وال�سيا�سة‪.‬‬
‫املتمجدين �سما�رسة لتغرير الأمة با�سم‬ ‫ّ‬ ‫واخلال�صة‪َّ � :‬أن امل�ستبد ي ّتخذ‬
‫حب الوطن‪� ،‬أو تو�سيع اململكة‪� ،‬أو حت�صيل منافع عامة‪� ،‬أو‬ ‫خدمة الدين‪� ،‬أو ّ‬
‫م�س�ؤولية الدولة‪� ،‬أو الدفاع عن اال�ستقالل‪ ،‬واحلقيقة � َّأن ك ّل هذه الدواعي‬
‫الفخيمة العنوان يف الأ�سماع والأذهان ما هي �إال تخييل و�إيهام يق�صد بها‬
‫الدفاع عن‬ ‫رجال احلكومة تهييج الأمة وت�ضليلها‪ ،‬حتى �إ َّنه ال ُي�ستثنى منها ّ‬
‫أمة م�أ�سورة لزيد �أن ي�أ�رسها عمرو؟ وما مثلها‬ ‫اال�ستقالل‪ ،‬لأ ّنه ما الفرق على � ٍ‬
‫الدابة التي ال يرحمها راكب مطمئن‪ ،‬مالك ًا كان �أو غا�صب ًا‪.‬‬ ‫�إال ّ‬
‫امل�ستبد ال ي�ستغني عن �أن ي�ستمجد بع�ض �أفراد من �ضعاف القلوب الذين‬ ‫ُّ‬
‫هم كبقر اجلنة ال ينطحون وال يرحمون‪ ،‬ي ّتخذهم ك�أمنوذج البائع الغ�شا�ش‪،‬‬
‫خمارة‬ ‫على �أ ّنه ال ي�ستعملهم يف �شيء من مهامه‪ ،‬فيكونون لديه كم�صحف يف ّ‬
‫�أو �سبحة يف يد زنديق‪ ،‬ورمبا ال ي�ستخدم �أحيان ًا بع�ضهم يف بع�ض ال�ش�ؤون‬
‫تغليط ًا لأذهان العامة يف �أ َّنه ال يعتمد ا�ستخدام الأراذل والأ�سافل فقط‪ ،‬ولهذا‬
‫ُيقال‪ :‬دولة اال�ستبداد دولة ُب ٍله و�أوغاد‪.‬‬
‫يجرب �أحيان ًا يف املنا�صب واملراتب بع�ض العقالء الأذكياء‬ ‫امل�ستبد ِّ‬
‫ُّ‬
‫بال�شكل الذي‬ ‫�أي�ض ًا اغرتاراً منه ب�أ ّنه يقوى على تليني طينتهم وت�شكيلهم ّ‬
‫ثم هو بعد التجربة �إذا‬ ‫يريد‪ ،‬فيكونون له �أعوان ًا خبثاء ينفعونه بدهائهم‪َّ ،‬‬
‫ي�ستقر عنه‬
‫ّ‬ ‫خاب ويئ�س من �إف�سادهم يتبادر �إبعادهم �أو ين ّكل بهم‪ .‬ولهذا ال‬
‫امل�ستبد �إال اجلاهل العاجز الذي يعبده من دون اهلل‪� ،‬أو اخلبيث اخلائن الذي‬ ‫ّ‬
‫ير�ضيه ويغ�ضب اهلل‪.‬‬
‫أنبه فكر املطالعني �إىل � َّأن هذه الفئة من العقالء الأمناء باجلملة‪،‬‬ ‫وهنا � ِّ‬
‫ثم‬
‫الذين يذوقون ع�سيلة جمد احلكومة وين�شطون خلدمة ونيل جمد ال ّنبالة‪َّ ،‬‬

‫‪57‬‬
‫اال�ستبداد واملجد‬

‫ملجرد � َّأن بني �أ�ضلعهم قب�سة من الإميان ويف �أعينهم‬ ‫َّ‬ ‫ي�رضب على يدهم‬
‫بارقة من الإن�سانية‪ ،‬هي الفئة التي تتكهرب بعداوة اال�ستبداد وينادي‬
‫�أفرادها بالإ�صالح‪ .‬وهذا االنقالب قد �أعيا امل�ستبدين‪ ،‬لأنهم ال ي�ستغنون عن‬
‫املغبة‪ .‬ومن هنا ن�ش�أ اعتمادهم غالب ًا على العريقني‬ ‫التجربة وال ي�أمنون هذه ّ‬
‫يف خدمة اال�ستبداد‪ ،‬الوارثني من �آبائهم و�أجدادهم الأخالق املر�ضية‬
‫التمجد بالأ�صالة والأن�ساب‪،‬‬‫ّ‬ ‫للم�ستبدين‪ ،‬ومن هنا ابتد�أت يف الأمم نغمة‬ ‫ّ‬
‫وامل�ستبدون املح ّنكون يطيلون �أمد التجربة باملنا�صب ال�صغرية في�ستعملون‬ ‫ّ‬
‫ثم يختمون‬ ‫ّ‬ ‫القدم‪،‬‬ ‫قاعدة‬ ‫برعاية‬ ‫ذلك‬ ‫ون‬ ‫وي�سم‬
‫ّ‬ ‫الرتاخي‪،‬‬ ‫مع‬ ‫ي‬ ‫ق‬
‫ّ‬ ‫الرت‬ ‫قاعدة‬
‫املتمرن خدمة يكون فيها رئي�س ًا مطلق ًا ولو يف قرية‪ ،‬ف�إن‬ ‫ّ‬ ‫التجريب ب�إعطاء‬
‫�أظهر مهارة يف اال�ستبداد‪ ،‬وذلك ما ي�سمونه حكمة احلكومة فبها نعمت‪ ،‬و�إال‬
‫قالوا عنه‪ :‬هذا حيوان‪ ،‬يا �ضيعة الأمل فيه‪.‬‬
‫ثم‬
‫بد �أن نبحث فيها قلي ًال‪َّ ،‬‬ ‫والتمجد فال َّ‬
‫ّ‬ ‫� َّإن للأ�صالة م�شاكلة قوية للمجد‬
‫املتمجدين ف�أقول‪:‬‬
‫ّ‬ ‫امل�ستبد و�أعوانه‬
‫ّ‬ ‫نعود ملو�ضوع‬
‫الأ�صالة �صفة قد يكون لها بع�ض املزايا من حيث الأميال التي يرثها‬
‫رياء‪،‬‬
‫الأبناء من الآباء‪ ،‬ومن حيث الرتبية التي تكون م�ستحكمة يف البيت ولو ً‬
‫ومن حيث � َّإن الأ�صالة تكون مقرونة غالب ًا ب�شيء من الرثوة املعينة على‬
‫ال�شهامة والرحمة‪ ،‬ومن حيث تقويتها العالقة بالأمة والوطن خوف‬ ‫مظاهر ّ‬
‫مذ ّلة االغرتاب‪ ،‬ومن حيث � َّإن �أهلها يكونون منظورين دائم ًا فيتحا�شون‬
‫املعائب والنقائ�ص بع�ض التحا�شي‪.‬‬
‫وبيوت الأ�صالة تنق�سم �إىل ثالثة �أنواع‪ :‬بيوت علم وف�ضيلة‪ ،‬وبيوت مال‬
‫أهم موقع ًا‪،‬‬
‫وكرم‪ ،‬وبيوت ظلم و�إمارة‪ .‬وهذا الأخري هو الق�سم الأكرث عدداً وال ّ‬
‫امل�ستبد يف اال�ستعانة ومو�ضع‬
‫ّ‬ ‫وهم ‪-‬كما �سبقت الإ�شارة �إليه‪ -‬مطمح نظر‬
‫ثقته‪ ،‬وهم اجلند الذي جتتمع حتت لوائه ب�سهولة‪ ،‬ورمبا يكفيه � ْأن ي�ضحك‬
‫يف وجههم �ضحكة‪ .‬فلننظر ما هو ن�صيب �أهل هذا الق�سم من تلك املزايا‬
‫املوروثة‪:‬‬
‫هل يرث االبن عن جده امل�ؤ�س�س ملجده �أميا َله يف العدالة ومل توجد؟ �أم‬
‫يرتبى على غري‬ ‫وي�شب على غري الترّ ف امل�ص ِّغر للعقول‪ ،‬املميت للهمم؟ �أم ّ‬ ‫ُّ‬ ‫يدب‬
‫ُّ‬
‫ال�سائد فيما بني العائلة يف بيتهم؟ �أم ي�ستخدم الرثوة‬ ‫ّ‬ ‫للباطل‪،‬‬ ‫امل�ضحك‬ ‫الوقار‬

‫‪58‬‬
‫يف غري املالذ اجل�سمية الدنيئة البهيمية وتلك ال ّأبهة الطاوو�سية الباطلة؟ �أم‬
‫يتم َّثل بغري �أقران ال�سوء املتملقني املنافقني؟ �أم ال ي�ستحقر قومه جلهلهم قدر‬
‫يقدرونه‬ ‫ال ُّنطفة امللعونة التي ُخلق منها جنابه؟ �أم ال يبغ�ض العلماء الذين ال ِّ‬
‫مقراً يليق به غري‬ ‫قدره ح�سبما هو قائم يف خميلة خيالئه؟ �أم يرى جلنابه ّ‬
‫مقعد التح ُّكم وم�سرتاح الت�آمر؟ �أم ي�ستحي من ال ّنا�س؟ ومن هم ال ّنا�س؟ وما‬
‫ال ّنا�س عند ح�رضته غري �أ�شباح عندها �أرواح ُخلقت خلدمته!‬
‫حق من نال منهم‬ ‫وهذه حالة الأكرثين من الأ�صالء‪ ،‬على �أننا ال نبخ�س َّ‬
‫حظ ًا من العلم و�أوتي احلكمة و�أراد اهلل به خرياً ف�أ�صابه بن�صيب من القهر‬
‫انخف�ض به �شاموخ �أنفه‪ ،‬ف� َّإن ه�ؤالء ‪ -‬وقليل ما هم‪ -‬ينجبون جنابة عظيمة‪،‬‬
‫قوة القلب ي�ستعملونها يف اخلري ال يف ال�شرّ ‪،‬‬ ‫في�صدق عليهم �أ َّنهم قد ورثوه ّ‬
‫وا�ستفادوا من �أنفة الكربياء كاجل�سارة على العظماء‪ ،‬وهكذا تتحول فيهم ميزة‬
‫وح َ�س ٍب �شامخ من نحو احلنني �إىل الوطن و�أهله‪ ،‬والأنني‬ ‫ال�رش على فائ�ض خري َ‬ ‫ِّ‬
‫مل�صابه‪ ،‬والإقدام على العظائم يف �سبيل القوم‪ ،‬و�أمثال ه�ؤالء النوابغ ال ُن َجباء‬
‫�إذا كرثوا يف �أمة يو�شك �أن يرت ّقى منهم �آحاد �إىل درجة اخلوارق فيقودوا‬
‫�أممهم �إىل درجة النجاح والفالح‪ ،‬وال غرو ف� َّإن اجتماع نفوذ الن�سب وقوة‬
‫امل�ستبد العادل الذي ين�شده ال�رشقيون‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫احل�سب يفعالن وال عجب َ�ش َب َه فعل‬
‫وخ�صو�ص ًا امل�سلمني‪ ،‬و�إن كان العقل ال يجوز �أن ي َّت�صف باال�ستبداد مع العدل‬
‫ال�ساقطة التي قد تت�س ّفل بالإن�سان �إىل عدم‬ ‫الهمة ّ‬
‫غري اهلل وحده‪� ،‬أال قاتل اهلل ّ‬
‫�إتعاب الفكر فيما يطلب هل هو ممكن �أم هو حمال؟!‬
‫الأ�صالء‪ ،‬باعتبار �أكرثيتهم‪ ،‬هم جرثومة البالء يف ك ِّل قبيلة ومن ك ِّل‬
‫ال�صدفة بع�ض �أفرادهم‬ ‫ميزت ُّ‬
‫قبيل‪ .‬ل َّأن بني �آدم داموا �إخوان ًا مت�ساوين �إىل � ْأن َّ‬
‫متيز �أفراد على‬‫بكرثة ال ّن�سل‪ ،‬فن�ش�أت منها القوات الع�صبية‪ ،‬ون�ش�أ من تنازعها ُّ‬
‫وح ْف ُظ هذه امليزة �أوجد الأ�صالء‪ .‬فالأ�صالء يف ع�شرية �أو �أمة �إذا كانوا‬ ‫�أفراد‪ِ ،‬‬
‫متقاربي القوات ا�ستبدوا على باقي النا�س و�أ�س�سوا حكومة �أ�رشاف‪ ،‬ومتى‬
‫ي�ستبد وحده‬
‫ُّ‬ ‫ُوجد بيت من الأ�صالء يتميز كثرياً يف القوة على باقي البيوت‬
‫وي�ؤ�س�س احلكومة الفردية املقيدة �إذا لباقي البيوت بقية ب�أ�س‪� ،‬أو املطلقة �إذا‬
‫يبق �أمامه من ي َّتقيه‪.‬‬
‫مل َ‬
‫بناء عليه‪� ،‬إذا مل يوجد يف � ّأمة �أ�صالء بالكلية‪� ،‬أو وجد‪ ،‬ولكن‪ ،‬كان ل�سواد‬ ‫ً‬

‫‪59‬‬
‫اال�ستبداد واملجد‬

‫ابتداء‪،‬‬‫ً‬ ‫�صوت غالب‪� ،‬أقامت تلك لنف�سها حكومة انتخابية ال وراثة فيها‬ ‫ٌ‬ ‫النا�س‬
‫كل‬ ‫ولكن‪ ،‬ال يتواىل بع�ض متولني �إال وي�صري �أن�سالهم �أ�صالء يتناظرون‪ُّ ،‬‬
‫فريق منهم ي�سعى الجتذاب طرف من الأمة ا�ستعداداً للمغالبة و�إعادة التاريخ‬
‫الأول‪.‬‬
‫م�ضار الأ�صالء �أنهم ينهمكون �أثناء املغالبة على �إظهار ال َّأبهة‬ ‫ّ‬ ‫ومن �أكرب‬
‫ثم‬ ‫والعظمة‪ ،‬ي�سرتهبون �أعني النا�س وي�سحرون عقولهم ويتكبرّ ون عليهم‪َّ .‬‬
‫وا�ستبد بالأمر ال يرتكها الباقون لألفتهم لذتها ومل�ضاهاة‬ ‫َّ‬ ‫�إذا غلب غالبهم‬
‫يدر عليهم‬ ‫وامل�ستبد نف�سه ال يحملهم على تركها‪ ،‬بل ُّ‬
‫ُّ‬ ‫امل�ستبد يف نظر النا�س‪.‬‬
‫ِّ‬
‫والرتب و�شيئ ًا من ال ّنفوذ والت�س ُّلط‬
‫املال ويعينهم عليها‪ ،‬ويعطيهم الألقاب ُّ‬
‫ليتلهوا بذلك عن مقاومة ا�ستبداده‪ ،‬ولأجل �أن ي�ألفوها مديداً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫على النا�س‬
‫فتف�سد �أخالقهم‪ ،‬فينفر منهم النا�س‪ ،‬وال يبقى لهم ملج�أ غري بابه‪ ،‬في�صريون‬
‫�أعوان ًا له بعد �أن كانوا �أ�ضداداً‪.‬‬
‫والرخاء‪ ،‬واملنع‬ ‫ال�شد ّ‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد �أي�ض ًا مع الأ�صالء �سيا�سة‬ ‫ُّ‬ ‫وي�ستعمل‬
‫والإعطاء‪ ،‬وااللتفات والإغ�ضاء كي ال يبطروا‪ ،‬و�سيا�سة �إلقاء الف�ساد و�إثارة‬
‫ال�شحناء فيما بينهم كي ال يتفقوا عليه‪ ،‬وتارة يعاقب عقاب ًا �شديداً با�سم‬
‫يقبلون �أذيالهم ا�ستكباراً‬ ‫إر�ضاء للعوام‪ ،‬و�أخرى يقرنهم ب�أفراد كانوا ِّ‬ ‫ً‬ ‫العدالة �‬
‫فيجعلهم �سادة عليهم يفركون �آذانهم ا�ستحقاراً‪ ،‬يق�صد بذلك ك�رس �شوكتهم‬
‫امل�ستبد يذلل‬
‫ّ‬ ‫�أمام �إمام النا�س وع�رص �أنوفهم �أمام عظمتهم‪ .‬واحلا�صل � َّأن‬
‫الأ�صالء بك ِّل و�سيلة حتى يجعلهم مرتامني بني رجليه كي ي َّتخذهم جلام ًا‬
‫لتذليل الرعية‪ ،‬وي�ستعمل عني هذه ال�سيا�سة مع العلماء ور�ؤ�ساء الأديان الذين‬
‫�شم من �أحدهم رائحة الغرور بعقله �أو علمه ينكل به �أو ي�ستبدله بالأحمق‬ ‫متى َّ‬
‫ظان من �أن �إدارة الظلم حمتاجة �إىل �شيء‬ ‫اجلاهل �إيقاظ ًا له ولأمثاله من ك ِّل ٍّ‬
‫اجلو‬
‫امل�ستبد‪ .‬وبهذه ال�سيا�سة ونحوها يخلو ّ‬ ‫ِّ‬ ‫من العقل �أو االقتدار فوق م�شيئة‬
‫جو حمرق‪.‬‬ ‫كري�ش يقلبه ال�رص�رص يف ٍّ‬‫ٍ‬ ‫ويت�رصف يف الرعية‬‫َّ‬ ‫فيع�صف وين�سف‬
‫امل�ستبد يف حلظة جلو�سه على عر�شه وو�ضع تاجه املوروث على ر�أ�سه‬ ‫ُّ‬
‫يرى نف�سه كان �إن�سان ًا ف�صار �إله ًا‪ .‬ثم ُيرجع النظر فريى نف�سه يف نف�س الأمر‬
‫�أعجز من ك ِّل عاجز و�أ َّنه ما نال ما نال �إال بوا�سطة من حوله من العوان‪،‬‬
‫فريفع نظره �إليهم في�سمع ل�سان حالهم يقول له‪ :‬ما العر�ش؟ وما التاج؟ وما‬

‫‪60‬‬
‫ال�صوجلان؟ ما هذه �إال �أوهام يف �أوهام‪ .‬هل يجعلك هذا الري�ش يف ر�أ�سك‬
‫طاوو�س ًا و�أنت غراب؟ �أم تظن الأحجار الرباقة يف تاجك جنوم ًا ور�أ�سك �سماء؟‬
‫�أم تتوهم � َّأن زينة �صدرك ومنكبيك �أخرجتك عن كونك قطعة طنيٍ من هذه‬
‫الأر�ض؟ واهلل ما م َّكنك يف هذا املقام و�س َّلطك على رقاب الأنام �إال �شعوذتنا‬
‫و�سحرنا وامتهاننا لديننا ووجداننا وخيانتنا لوطننا و�إخواننا‪ ،‬فانظر �أيها‬
‫ال�صغري املكبرَّ احلقري املو ّقر كيف تعي�ش معنا!‬
‫الرعية املتفرجني‪ ،‬منهم الطائ�شون املهللون‬ ‫ثم يلتفت �إىل جماهري ّ‬ ‫َّ‬
‫امل�سبحون بحمده‪ ،‬ومنهم امل�سحورون املبهوتون ك�أنهم �أموات من حني‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫ولكن‪ ،‬يتج ّلى يف فكره � َّأن خالل ال�ساكتني بع�ض �أفراد عقالء �أجماد يخاطبونه‬
‫وكلناك يف ق�ضائها على ما‬ ‫بالعيون‪ ،‬ب� َّأن لنا معا�رش ال َّأمة �ش�ؤون ًا عمومية َّ‬
‫حق الوكالة ُح َّق لك االحرتام‪،‬‬ ‫نريد ونبغي‪ ،‬ال على ما تريد فتبغي‪ .‬ف� ْإن و َّفيت َّ‬
‫و�إن مرت م َك ْرنا وحاقت بك العاقبة‪� ،‬أال � َّإن مكر اهلل عظيم‪.‬‬
‫ال�سدنة‬‫امل�ستبد �إىل نف�سه قائ ًال‪ :‬الأعوان الأعوان‪ ،‬احل ََم َلة َّ‬ ‫ُّ‬ ‫وعندئ ٍذ يرجع‬
‫بجي�ش من الأوغاد �أحارب بهم ه�ؤالء العبيد العقالء‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫�أ�سلمهم القياد و�أردفهم‬
‫معر�ض ًا‬
‫وبغري هذا احلزم ال يدوم يل ُم ْل ٌك كيفما �أكون‪ ،‬بل �أبقى �أ�سرياً للعدل ِّ‬
‫للمناق�شة من ِّغ�ص ًا يف نعيم امللك‪ ،‬ومن العار �أن ير�ضى بذلك من ميكنه �أن‬
‫قهاراً‪.‬‬‫متفرداً ّ‬
‫يكون �سلطان ًا جباراً ِّ‬
‫امل�ستبد الأعظم‬
‫ّ‬ ‫م�ستبدة يف كل فروعها من‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبدة تكون طبع ًا‬
‫ّ‬ ‫احلكومة‬
‫�صنف �إال من‬‫ٍ‬ ‫كل‬
‫الفرا�ش‪� ،‬إىل كنائ�س ال�شوارع‪ ،‬وال يكون ُّ‬ ‫�إىل ال�رشطي‪� ،‬إىل ّ‬
‫�أ�سفل �أهل طبقته �أخالق ًا‪ ،‬لأن الأ�سافل ال يهمهم طبع ًا الكرامة وح�سن ال�سمعة‪،‬‬
‫�إمنا غاية م�سعاهم �أن يربهنوا ملخدومهم ب�أنهم على �شاكلته‪ ،‬و�أن�صار‬
‫لدولته‪ ،‬و�رشهون لأكل ال�سقطات من � ٍّأي كان ولو ب�رشاً �أم خنازير‪� ،‬آباءهم‬
‫امل�ستبد وي�أمنونه في�شاركهم وي�شاركونه‪ .‬وهذه‬ ‫ُّ‬ ‫�أم �أعداءهم‪ ،‬وبهذا ي�أمنهم‬
‫ويقل ح�سب �شدة اال�ستبداد وخ ّفته‪ ،‬فكلما كان‬ ‫الفئة امل�ستخدمة يكرث عددها ُّ‬
‫املتمجدين العاملني له‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد حري�ص ًا على الع�سف احتاج �إىل زيادة جي�ش‬ ‫ُّ‬
‫املحافظني عليه‪ ،‬واحتاج �إىل مزيد الد ّقة يف ا ِّتخاذهم من �أ�سفل املجرمني‬
‫ذمة‪ ،‬واحتاج حلفظ الن�سبة بينهم يف املراتب‬ ‫الذين ال �أثر عندهم لدينٍ �أو ّ‬
‫بالطريقة املعكو�سة‪ ،‬وهي �أن يكون �أ�سفلهم طباع ًا وخ�صا ًال �أعالهم وظيف ًة‬

‫‪61‬‬
‫اال�ستبداد واملجد‬

‫للم�ستبد هو اللئيم الأعظم يف‬ ‫ّ‬ ‫بد �أن يكون الوزير الأعظم‬ ‫وقرب ًا‪ ،‬ولهذا‪ ،‬ال َّ‬
‫الأمة‪ ،‬ثم من دونه ل�ؤم ًا‪ ،‬وهكذا تكون مراتب الوزراء والأعوان يف ل�ؤمهم‬
‫رت‬ ‫رت املطالع كما اغ َّ‬ ‫ح�سب مراتبهم يف الت�رشيفات والقربى منه‪ .‬ورمبا يغ ُّ‬
‫امل�ستبد‬
‫ّ‬ ‫امل�ستبد يت�أوهون من‬
‫ّ‬ ‫كثري من امل� ِّؤرخني الب�سطاء ب�أن بع�ض وزراء‬
‫ويت�ش ّكون من �أعماله ويجهرون مبالمه‪ ،‬ويظهرون لو �أ ّنه �ساعدهم الإمكان‬
‫لعملوا وفعلوا وافتدوا الأمة ب�أموالهم‪ ،‬بل وحياتهم‪ ،‬فكيف ‪ -‬واحلالة هذه‪-‬‬
‫يكون ه�ؤالء ل�ؤماء؟ بل كيف ذلك وقد ُوجِ د منهم الذين خاطروا ب�أنف�سهم‬
‫والذين �أقدموا فع ًال على مقاومة اال�ستبداد فنالوا املراد �أو بع�ضه �أو هلكوا‬
‫دونه؟‬
‫حمتاج لع�صابة‬ ‫ٌ‬ ‫خائف‬
‫ٌ‬ ‫خائن‬
‫ٌ‬ ‫قط عن �أ ّنه‬
‫امل�ستبد ال يخرج ّ‬
‫َّ‬ ‫فجواب ذلك � ّأن‬
‫يجوز العقل‬ ‫تعينه وحتميه‪ ،‬فهو ووزرا�ؤه كزمرة ل�صو�ص‪ :‬رئي�س و�أعوان‪ .‬فهل ِّ‬
‫�أن ُينتخب رفاق من غري �أهل الوفاق‪ ،‬وهو هو الذي ال ي�ستوزر �إال بعد جتربة‬
‫واختبار عمراً طوي ًال؟!‬
‫هل ميكن �أن يكون الوزير متخلِّق ًا باخلري حقيقة‪ ،‬وبال�شرَّ ِّ ظاهراً فيخدع‬
‫امل�ستبد ب�أعماله‪ ،‬وال يخاف من �أ َّنه كما ن�صبه و�أع َّزه بكلمة يعزله ويذ ّله؟!‬ ‫ّ‬
‫فامل�ستبد وهو من ال يجهل � َّأن النا�س �أعدا�ؤه لظلمه‪ ،‬ال ي�أمن‬ ‫ّ‬ ‫عليه‪،‬‬ ‫بناء‬
‫ً‬
‫على بابه �إال من يثق به �أ َّنه �أظلم منه للنا�س‪ ،‬و�أبعد منه على �أعدائه‪ ،‬و�أما‬
‫حنق‬ ‫امل�ستبد فهو �إن مل يكن خداع ًا للأمة فهو ٌ‬ ‫ّ‬ ‫تلوم بع�ض الوزراء على لوم‬ ‫ُّ‬
‫فقدم عليه من هو دونه يف خدمته‬ ‫َّ‬ ‫حقه‪،‬‬ ‫م‬ ‫املتلو‬
‫ّ‬ ‫ذلك‬ ‫بخ�س‬ ‫أنه‬ ‫ل‬ ‫‪،‬‬ ‫امل�ستبد‬
‫ّ‬ ‫على‬
‫امل�ستبد يف‬
‫ّ‬ ‫�صولة‬ ‫من‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫أمين‬ ‫�‬ ‫الوزير‬ ‫يكون‬ ‫ال‬ ‫وكذلك‬ ‫ووجدانه‪.‬‬ ‫دينه‬ ‫بت�ضحية‬
‫�صحبته ما مل ي�سبق بينهما وفاق وا ِّتفاق على خرية ال�شيطان‪ ،‬لأن الوزير‬
‫�رش‪ ،‬ويبغ�ضه النا�س ولو تبع ًا‬ ‫حم�سود بالطبع‪ ،‬يتو ّقع له املزاحمون ك َّل ّ‬ ‫ٌ‬
‫هدف يف ك ِّل �ساعة لل�شكايات والو�شايات‪ .‬كيف يكون عند‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫لظاملهم‪ ،‬وهو‬
‫ال�شفقة‬ ‫�شيء من الت ّقوى �أو احلياء �أو العدل �أو احلكمة �أو املروءة �أو ّ‬ ‫ٌ‬ ‫الوزير‬
‫على الأمة‪ ،‬وهو العامل ب� َّأن الأمة تبغ�ضه ومتقته وتتو ّقع له ك َّل �سوء‪ ،‬وت�شمت‬
‫امل�ستبد‪ ،‬وما هو بفاعلٍ ذلك‬ ‫ّ‬ ‫مب�صائبه‪ ،‬فال تر�ضى عنه ما مل ي ّتفق معها على‬
‫قط‪� ،‬إمنا‬ ‫�أبداً �إال �إذا يئ�س من �إقباله عنده‪ ،‬و�إن يئ�س وفعل فال يق�صد نفع الأمة ّ‬
‫مل�ستجد جديد ع�ساه ي�ستوزره في�ؤازره على وزره‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫باب‬
‫يريد فتح ٍ‬

‫‪62‬‬
‫امل�ستبد‪ ،‬ال وزير ال ّأمة كما يف‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد هو وزير‬ ‫ّ‬ ‫والنتيجة � َّأن وزير‬
‫امل�ستبد ليغمده يف الرقاب‬ ‫ّ‬ ‫احلكومات الد�ستورية‪ .‬كذلك القائد يحمل �سيف‬
‫امل�ستبد ال ب�أمر الأمة‪ ،‬بل هو ي�ستعيذ �أن تكون الأمة �صاحبة �أمر‪ ،‬ملا‬ ‫ّ‬ ‫ب�أمر‬
‫يعلم من نف�سه � َّأن ال ّأمة ال تقلِّد القيادة ملثله‪.‬‬
‫والقواد من الإنكار على‬ ‫ّ‬ ‫يت�شدق به الوزراء‬ ‫رت العقالء مبا َّ‬ ‫بناء عليه‪ ،‬ال يغ ُّ‬
‫ً‬
‫تلهفوا و�إن ت�أففوا‪ ،‬وال ينخدعون ملظاهر‬ ‫َّ‬ ‫إن‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫إ�صالح‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫والتفل�سف‬ ‫اال�ستبداد‬
‫و�سبحوا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وا‬‫ل‬‫ّ‬ ‫�ص‬ ‫مهما‬ ‫بوجدانهم‬ ‫وال‬ ‫بهم‬ ‫غريتهم و�إن ناحوا و�إن بكوا‪ ،‬وال يثقون‬
‫ل َّأن ذلك ك ّله ينايف �سريهم و�سريتهم‪ ،‬وال دليل على �أ ّنهم �أ�صبحوا يخالفون ما‬
‫امل�ستبد‬
‫ِّ‬ ‫�شبوا و�شابوا عليه‪ ،‬هم �أقرب �أن ال يق�صدوا بتلك املظاهر غري �إقالق‬ ‫ّ‬
‫الرعية‪� ،‬أي �أموالها‪ .‬نعم‪ ،‬كيف‬ ‫ّ‬ ‫دماء‬ ‫ا�ستدرار‬ ‫يف‬ ‫لي�شاركهم‬ ‫�سلطته‬ ‫وتهديد‬
‫يجوز ت�صديق الوزير والعامل الكبري الذي قد �ألف عمراً كبرياً ل ّذة البذخ وع ّزة‬
‫اجلربوت يف �أ َّنه ير�ضى بالدخول حتت حكم ال ّأمة‪ ،‬ويخاطر بعر�ض �سيفه‬
‫عليها فتح ّله �أو تك�رسه حتت �أرجلها‪� .‬ألي�س هو ع�ضواً ظاهر الف�ساد يف ج�سم‬
‫تلك الأمة التي قتل اال�ستبداد فيها ك َّل الأميال ال�رشيفة العالية ف�أبعدها عن‬
‫الأن�س والإن�سانية‪ ،‬ح ّتى �صار الفالح التعي�س منها ي�ؤخذ للجندية وهو يبكي‪،‬‬
‫فيتنمر على‬ ‫ّ‬ ‫ب�رش الأخالق‪،‬‬ ‫ويتلب�س ِّ‬ ‫َّ‬ ‫كم ال�سرتة الع�سكرية �إال‬ ‫فال يكاد يلب�س َّ‬
‫مييز‬ ‫ويكظ �أ�سنانه عط�ش ًا للدماء ال ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ويتمرد على �أهل قريته وذويه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫�أمه و�أبيه‪،‬‬
‫فكل‬ ‫ذمة‪ُّ ،‬‬ ‫بني � ٍأخ وعدو؟! � َّإن �أكابر رجال عهد اال�ستبداد ال �أخالق لهم وال ّ‬
‫غ�ش الأمة امل�سكينة‬ ‫التذمر والت�ألمّ يق�صدون به َّ‬ ‫ما يتظاهرون به �أحيان ًا من ّ‬
‫التي يطمعهم يف انخداعها وانقيادها لهم علمهم ب� َّأن اال�ستبداد القائم بهم‬
‫وخدر �أع�صابها‪ ،‬فجعلها‬ ‫بهمتهم قد �أعمى �أب�صارها وب�صائرها‪َّ ،‬‬ ‫وامل�ستعمر َّ‬
‫فتئن من‬ ‫كامل�صاب ببحران العمى‪ ،‬فهي ال ترى غري هول وظالم و�شدة و�آالم‪ُّ ،‬‬
‫لت�صده‪ ،‬فتوا�سيها فئة من‬ ‫َّ‬ ‫البالء وال تدري ما هو تداويه‪ ،‬وال من �أين جاءها‬
‫مرد‬‫ق�ضاء من ال�سماء ال َّ‬ ‫ٌ‬ ‫�أولئك املتعاظمني با�سم الدين يقولون‪ :‬يا ب�ؤ�ساء‪ ،‬هذا‬
‫له‪ ،‬فالواجب تل ّقيه بال�صرب والر�ضاء وااللتجاء �إىل الدعاء‪ ،‬فاربطوا �أل�سنتكم‬
‫عن اللغو والف�ضول‪ ،‬واربطوا قلوبكم ب�أهل ال�سكينة واخلمول‪ ،‬و�إياكم والتدبري‬
‫ف�إن اهلل غيور‪ ،‬وليكن وِ ْر ُدكم‪ :‬اللهم ان�رص �سلطاننا‪ ،‬و�آم ّنا يف �أوطاننا‪ ،‬واك�شف‬
‫عنا البالء‪� ،‬أنت ح�سبنا ونعم الوكيل‪ .‬ويغرر الأمة �آخرون من املتكربين ب�أنهم‬

‫‪63‬‬
‫اال�ستبداد واملجد‬

‫الأطباء الرحماء املهتمون مبداواة املر�ض‪� ،‬إنمَّ ا هم يرت َّقبون �سنوح الفر�ص‪،‬‬
‫وكال الفريقني ‪-‬واهلل‪� -‬إما �أدنياء جبناء‪� ،‬أو هم خائنون خمادعون‪ ،‬يريدون‬
‫التثبيط والتلبيد واالمتنان على الظاملني‪.‬‬
‫مغررون خمادعون يظهرون ما ال ُيبطنون‪،‬‬ ‫من دالئل �أن �أولئك الأكابر ِّ‬
‫�أ َّنهم ال ي�ست�صنعون �إال الأ�سافل الأراذل من النا�س‪ ،‬وال مييلون لغري املتملقني‬
‫امل�ستبد الأكرب‪ ،‬ومنها �أ َّنه‬
‫ّ‬ ‫املنافقني من �أهل الدين‪ ،‬كما هو �ش�أن �صاحبهم‬
‫ولكن‪ ،‬لي�س فيهم العفيف‬ ‫قد يوجد فيهم من ال يتن َّزل لقليل الر�شوة �أو ال�رسقة‪ْ ،‬‬
‫عن الكثري‪ ،‬وكفى مبا يتمتعون من الرثوات الطائلة التي ال منبت لها غري‬
‫امل�ستبد يف امت�صا�صه دم الأمة‪ ،‬وذلك ب�أخذهم‬ ‫َّ‬ ‫امل�ستبيح الفاخر مب�شاركة‬
‫العطايا الكبرية‪ ،‬والرواتب الباهظة‪ ،‬التي تعادل �أ�ضعاف ما ت�سمح به الإدارة‬
‫العادلة لأمثالهم‪ ،‬لأنها �إدارة را�شدة ال تدفع �أجوراً زائدة‪ .‬ومنها �أنهم ال‬
‫ي�رصفون �شيئ ًا ولو �رساً من هذا ال�سحت الكثري يف �سبيل مقاومة اال�ستبداد‬
‫الذي يزعمون �أنهم �أعدا�ؤه‪� ،‬إمنا ي�رصف بع�ضهم منه �شيئ ًا يف ال�صدقات‬
‫ورياء‪ ،‬وك�أنهم يريدون �أن ي�رسقوا �أي�ض ًا قلوب‬
‫ً‬ ‫الطفيفة وبناء املعابد �سمع ًة‬
‫النا�س بعد �سلب �أموالهم �أو �أنهم ير�شون اهلل‪� ،‬أال �ساء ما يتوهمون‪ .‬ومنها � َّأن‬
‫�أكرثهم م�رسفون مب ِّذرون‪ ،‬فال تكفي �أحدهم الرواتب املعتدلة التي ميكن �أن‬
‫ينالها �أجرة خدمة ال ثمن ذمة‪ .‬ومنها �أنه قد يكون �أحدهم �شحيح ًا مقترِّ اً‬
‫يخل يف �رشف مقامه‪ ،‬فال ي�رصف ن�صف �أو ربع راتبه‬ ‫يف نفقاته‪ ،‬بحيث ُّ‬
‫مع �أ َّنه يقب�ضه زائداً على �أجر مثله لأجل حفظ �رشف املقام‪ ،‬العائد ل�رشف‬
‫ال�ش ّح يكون خائن ًا ومهين ًا‪ .‬واحلا�صل � َّأن الأكابر حري�صون على‬ ‫الأمة‪ ،‬وبهذا ُّ‬
‫�أن يبقى اال�ستبداد مطلق ًا لتبقى �أيديهم مطلقة يف الأموال‪.‬‬
‫هذا وال ينكر التاريخ �أن الزمان �أوجد نادراً بع�ض وزراء وازروا اال�ستبداد‬
‫فرطوا فتابوا و�أنابوا‪ ،‬ورجعوا ن�صف الأمة‬ ‫ثم ندموا على ما َّ‬ ‫عمراً طوي ًال‪َّ ،‬‬
‫وا�ستعدوا ب�أموالهم و�أنف�سهم لإنقاذها من داء اال�ستبداد‪ .‬ولهذا‪ ،‬ال يجوز‬
‫الي�أ�س من وجود بع�ض �أفراد من الوزراء والقواد عريقني يف ال�شهامة‪ ،‬فيظهر‬
‫�رس الوراثة ولو بعد بطون �أو بعد الأربعني ورمبا ال�سبعني من �أعمارهم‬ ‫فيهم ّ‬
‫أمة �أن‬ ‫بين ًا تلألأ يف حميا �صاحبه ثريا �صدق النجابة‪ .‬وال ينبغي ل ٍ‬ ‫ظهوراً ّ‬
‫ال�صدف التي ال ُتبنى‬ ‫تتكل على �أن يظهر فيها �أمثال ه�ؤالء‪ ،‬ل َّأن وجودهم من ُّ‬

‫‪64‬‬
‫عليها �آمال وال �أحالم‪.‬‬
‫فرد عاجز ال حول له وال وقوة �إال باملتمجدين‪،‬‬ ‫والنتيجة � َّأن امل�ستبد ٌ‬
‫يحك جلدها غري ظفرها‪ ،‬وال يقودها �إال‬ ‫والأمة‪� ،‬أي �أمة كانت‪ ،‬لي�س لها من ُّ‬
‫اكفهرت �سماء عقول بينها‬ ‫َّ‬ ‫العقالء بالتنوير والإهداء والثبات‪ ،‬حتى �إذا ما‬
‫قي�ض اهلل لها من جمعهم الكبري �أفراداً كبار النفو�س قادة �أبراراً ي�شرتون لها‬ ‫َّ‬
‫ال�سعادة ب�شقائهم واحلياة مبوتهم‪ ،‬حيث يكون اهلل جعل يف ذلك لذتهم‪ ،‬وملثل‬
‫ف�ساق ًا ُف ّجاراً‬
‫تلك ال�شهادة ال�رشيفة خلقهم‪ ،‬كما خلق رجال عهد اال�ستبداد ّ‬
‫مهالكهم ال�شهوات واملثالب‪ .‬ف�سبحان الذي يختار من ي�شاء ملا ي�شاء‪ ،‬وهو‬
‫اخل ّالق العظيم‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫اال�ستبداد واملال‬

‫‪66‬‬
‫اال�ستبداد واملال‬
‫ال�رش‪ ،‬و�أبي‬ ‫اال�ستبداد لو كان رج ًال و�أراد �أن يحت�سب وينت�سب لقال‪�( :‬أنا ُّ‬
‫امل�س َكنة‪ ،‬وعمي ال�ضرُّ ّ ‪ ،‬وخايل‬‫الظلم‪ ،‬و� ّأمي الإ�ساءة‪ ،‬و�أخي الغدر‪ ،‬و�أختي ْ‬
‫ال ُّذ ّل‪ ،‬وابني الفقر‪ ،‬وبنتي البطالة‪ ،‬وع�شريتي اجلهالة‪ ،‬ووطني اخلراب‪� ،‬أما‬
‫ديني و�رشيف فاملال املال املال)‪.‬‬
‫ي�صح يف و�صفه �أن ُيقال‪ :‬القوة مال‪ ،‬والوقت مال‪ ،‬والعقل مال‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫املال‬
‫والدين مال‪ ،‬وال ّثبات مال‪ ،‬واجلاه مال‪ ،‬واجلمال مال‪ ،‬والرتتيب‬ ‫والعلم مال‪ِّ ،‬‬
‫كل ما ُين َت َفع به يف احلياة‬ ‫وال�شهرة مال‪ ،‬واحلا�صل ُّ‬
‫مال‪ ،‬واالقت�صاد مال‪ُّ ،‬‬
‫هو مال‪.‬‬
‫وي�شرتى‪� ،‬أي ي�ستبدل بع�ضه ببع�ض‪ ،‬وموازين املعادلة‬ ‫وكل ذلك ُيباع ُ‬
‫ُّ‬
‫هي‪ :‬احلاجة والع ّزة والوقت والتعب‪ ،‬وحمافظة اليد والف�ضة والذهب والذمة‪،‬‬
‫و�سوقه املجتمعات‪ ،‬و�شيخ ال�سوق ال�سلطان‪ ..‬فانظر يف �سوق يتح ّكم فيه‬
‫م�ستبد‪ ،‬ي�أمر زيداً بالبيع‪ ،‬وينهى عمرواً عن ال�رشاء‪ ،‬ويغ�صب بكراً ماله‪،‬‬ ‫ٌّ‬
‫ويحابي خالداً من مال النا�س‪.‬‬
‫بينان‪ ،‬و َل ِن ْع َم‬
‫املال تعتوره الأحكام‪ ،‬فمنه احلالل ومنه احلرام وهما ِّ‬
‫احلاكم فيها الوجدان‪ ،‬فاحلالل الطيب ما كان عو�ض �أعيان‪� ،‬أو �أجرة �أعمال‪،‬‬

‫‪67‬‬
‫اال�ستبداد واملال‬

‫ثم‬
‫�أو بدل وقت‪� ،‬أو مقابل �ضمان‪ .‬واملال اخلبيث احلرام هو ثمن ال�شرّ ف‪َّ ،‬‬
‫ثم املحتال فيه‪.‬‬
‫إجلاء َّ‬
‫ثم امل�أخوذ � ً‬ ‫ثم امل�رسوق‪َّ ،‬‬
‫املغ�صوب‪َّ ،‬‬
‫ال�سمك والهوام‪� ،‬إال �أنثى‬
‫� َّإن النظام الطبيعي يف ك ِّل احليوانات حتى يف ّ‬
‫العنكبوت‪َّ � ،‬إن النوع الواحد منها ال ي�أكل بع�ضه بع�ض ًا‪ ،‬والإن�سان ي�أكل‬
‫الرزق من اهلل‪� ،‬أي من مورده‬ ‫الإن�سان‪ .‬ومن غريزة �سائر احليوان �أن يلتم�س ّ‬
‫حري�ص على اختطافه من يد �أخيه‪ ،‬بل‬ ‫ٌ‬ ‫الظامل نف�سه‬
‫الطبيعي‪ ،‬وهذا الإن�سان ّ‬
‫من فيه‪ ،‬بل كم �أكل الإن�سان الإن�سان!‬

‫‪68‬‬
‫اال�ستبداد والإن�سان‬
‫ويتلمظ بدمائه‪� ،‬إىل �أن‬ ‫َّ‬ ‫عا�ش الإن�سان دهراً طوي ًال يتلذذ بلحم الإن�سان‬
‫�سداً للباب‪ ،‬كما‬‫كلي ًا‪َّ ،‬‬
‫ثم الهند من �إبطال �أكل اللحم ّ‬‫ال�صني‪َّ ،‬‬
‫مت َّكن احلكماء يف ّ‬
‫ثم جاءت ال�رشائع الدينية الأوىل يف غربي �آ�سيا بتخ�صي�ص‬ ‫هو د�أبهم �إىل الآن‪َّ .‬‬
‫ذبح على يد‬ ‫وي َ‬‫ثم بالقربان ُين َذر للمعبود‪ُ ،‬‬
‫ما ي�ؤكل من الإن�سان ب�أ�سري احلرب‪َّ ،‬‬
‫تدرج الإن�سان‬‫وج ِعل طعمة للنريان‪ ،‬وهكذا َّ‬ ‫أكل حلم القربان‪ُ ،‬‬ ‫بطل � ُ‬‫ثم �أُ ِ‬
‫الكهان‪َّ .‬‬
‫الدماء لوال �إبراهيم‬‫�إىل ن�سيان ل َّذة حلم �إخوانه‪ ،‬وما كان لين�سى عبادة �إهراق ِّ‬
‫�شيخ الأنبياء ا�ستبدل قربان الب�رش باحليوان‪ ،‬وا َّتبعه مو�سى عليهما ال�سالم‪،‬‬
‫وبه جاء الإ�سالم‪ .‬وهكذا بطل هذا العدوان بهذا ال�شكل �إال يف �أوا�سط �أفريقيا‬
‫عند (النامنام)‪.‬‬
‫ير�ض �أن يقتل الإن�سان الإن�سان ذبح ًا لي�أكل حلمه‬ ‫اال�ستبداد امل�ش�ؤوم مل َ‬
‫فامل�ستبدون ي�أ�رسون‬
‫ّ‬ ‫تفن يف الظلم‪،‬‬
‫�أك ًال كما كان يفعل الهمج الأولون‪ ،‬بل نَّ‬
‫جماعتهم‪ ،‬ويذبحونهم ف�صداً مبب�ضع الظلم‪ ،‬وميت�صون دماء حياتهم بغ�صب‬
‫�أموالهم‪ ،‬ويق�رصون �أعمارهم با�ستخدامهم �سخرة يف �أعمالهم‪� ،‬أو بغ�صب‬
‫ثمرات �أتعابهم‪ .‬وهكذا ال فرق بني الأولني والآخرين يف نهب الأعمار و�إزهاق‬
‫الأرواح �إال يف ال�شكل‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫اال�ستبداد والإن�سان‬

‫بالظلم القائم يف فطرة‬ ‫قوي العالقة ُّ‬‫بحث ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫� َّإن بحث اال�ستبداد واملال‬
‫ملقدمات تتع َّلق نتائجها‬ ‫الإن�سان‪ ،‬ولهذا‪ ،‬ر�أيت �أن ال ب�أ�س يف اال�ستطراد ِّ‬
‫باال�ستبداد ال�سيا�سي‪ ،‬فمن ذلك‪:‬‬
‫املقدر جمموعهم ب�ألف وخم�سمئة مليون ن�صفهم َك ٌّل على ال ّن�صف‬ ‫� َّإن الب�رش َّ‬
‫هن‬‫الآخر‪ ،‬وي�ش ِّكل �أكرثية هذا الن�صف ال َك ّل ن�ساء املدن‪ .‬ومن ال ّن�ساء؟ ال ّن�ساء َّ‬
‫ال ّنوع الذي عرف مقامه يف الطبيعة ب�أ َّنه هو احلافظ لبقاء اجلن�س‪ ،‬و�أ َّنه يكفي‬
‫وامل�شاق‪،‬‬
‫ّ‬ ‫للألف منه ملقح واحد‪ ،‬و� َّإن باقي الذكور حظهم �أن ُي�ساقوا للمخاطر‬
‫�أو هم ي�ستح ّقون ما ي�ستح ُّقه ذكر النحل‪ ،‬وبهذا النظر اقت�سمت الن�ساء مع الذكور‬
‫ن�صيبهن هينِّ‬
‫َّ‬ ‫ب�سن قانونٍ عام‪ ،‬به جعلن‬ ‫�أعمال احلياة ق�سم ًة �ضيزى‪ ،‬وحت َّك ْمن ِّ‬
‫نوعهن مطلوب ًا عزيزاً ب�إيهام الع ّفة‪ ،‬وجعلن‬ ‫َّ‬ ‫ال�ضعف‪ ،‬وجعلن‬ ‫الأ�شغال بدعوى ّ‬
‫نوعهن ُيهني‬ ‫َّ‬ ‫فيهن حممدتني يف الرجال‪ ،‬وجعلن‬ ‫َّ‬ ‫ال�شجاعة والكرم �سيئتني‬
‫يربني البنات والبنني‪،‬‬ ‫فيعان‪ ،‬وعلى هذا القانون ِّ‬ ‫وال ُيهان‪ ،‬ويظلم �أو ُيظ َلم ُ‬
‫الرجال كما ي�ش�أن حتى �أنهن جعلن الذكور يتوهمون �أ َّنهن‬ ‫ويتالعنب بعقول ِّ‬
‫امل�رض! ومن‬ ‫ِّ‬ ‫اهن بالن�صف‬ ‫�سم َّ‬
‫�أجمل منهم �صور ًة‪ .‬واحلا�صل �أ َّنه قد �أ�صاب من َّ‬
‫امل�شاهد � َّأن �رضر الن�ساء بالرجال يرت ّقى مع احل�ضارة واملدنية على ن�سبة‬
‫الترَّ قي امل�ضاعف‪ .‬فالبدوية ت�شارك الرجل منا�صف ًة يف الأعمال والثمرات‪،‬‬
‫الرجل لأجل معي�شتها وزينتها اثنني‬ ‫فتعي�ش كما يعي�ش‪ ،‬واحل�رضية ت�سلب ّ‬
‫وتود �أال‬ ‫من ثالثة‪ .‬و ُتعينه يف �أعمال البيت‪ .‬واملدنية ت�سلب ثالثة من �أربعة‪ُّ ،‬‬
‫الرجال‪ .‬وما �أ�صدق‬ ‫تخرج من الفرا�ش‪ ،‬وهكذا ترت َّقى بنات العوا�صم يف �أ�رس ِّ‬
‫الرجال فيها‬ ‫ت�سمى املدنية الن�سائية‪ ،‬ل َّأن ِّ‬ ‫باملدنية احلا�رضة يف �أوروبا‪� ،‬أن ّ‬
‫�صاروا �أنعام ًا لل ِّن�ساء‪.‬‬
‫م�شاق احلياة ق�سم ًة ظامل ًة �أي�ض ًا‪ ،‬ف� َّإن �أهل ال�سيا�سة‬ ‫َّ‬ ‫الرجال تقا�سموا‬ ‫ثم � َّإن ِّ‬ ‫َّ‬
‫والأديان ومن يلتحق بهم ‪ -‬وعددهم ال يبلغ اخلم�سة يف املئة ‪ -‬يتمتعون‬
‫الرفه والإ�رساف‪،‬‬ ‫يتجمد يف دم الب�رش �أو زيادة‪ُ ،‬ينفقون ذلك يف َّ‬ ‫َّ‬ ‫بن�صف ما‬
‫يزينون ال�شوارع مباليني من امل�صابيح ملرورهم فيها �أحيان ًا‬ ‫مثال ذلك‪� :‬أ َّنهم ِّ‬
‫مرتاوحني بني املالهي واملواخري وال يف ِّكرون يف ماليني من الفقراء يعي�شون‬
‫يف بيوتهم يف ظالم‪.‬‬
‫ثم �أهل ال�صنائع النفي�سة والكمالية‪ ،‬والتجار ال�شرَّ هون املحتكرون و�أمثال‬ ‫َّ‬

‫‪70‬‬
‫‪-‬ويقدرون كذلك بخم�سة يف املئة‪ -‬يعي�ش �أحدهم مبثل ما يعي�ش‬ ‫َّ‬ ‫هذه الطبقة‬
‫ال�ص ّناع وال ُّز ّراع‪ .‬وجرثومة هذه الق�سمة‬‫به الع�رشات �أو املئات �أو الألوف من ُّ‬
‫الظاملة هي اال�ستبداد ال غريه‪ .‬وهناك �أ�صناف من‬ ‫املتفاوتة املتباعدة ّ‬
‫ال ّنا�س ال يعملون �إال قلي ًال‪� ،‬إمنا يعي�شون باحليلة كال�سما�رسة وامل�شعوذين‬
‫قدرون بخم�سة ع�رش يف املئة‪� ،‬أو يزيدون على‬ ‫با�سم الأدب �أو الدين‪ ،‬وه�ؤالء ُي َّ‬
‫�أولئك‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬ال يقت�ضي �أن يت�ساوى العامل الذي �رصف زهوة حياته يف حت�صيل‬
‫العلم النافع �أو ال�صنعة املفيدة بذاك اجلاهل النائم يف ظ ِّل احلائط‪ ،‬وال ذاك‬
‫التاجر املجتهد املخاطر بالك�سول اخلامل‪ ،‬ولكن العدالة تقت�ضي غري ذلك‬
‫فيقربه من‬
‫ِّ‬ ‫ال�سافل‪،‬‬
‫التفاوت‪ ،‬بل تقت�ضي الإن�سانية �أن ي�أخذ الراقي بيد ّ‬
‫ويقاربه يف معي�شته‪ ،‬ويعينه على اال�ستقالل‬ ‫منزلته‪ ،‬ويقاربه من منزلته‪ُ ،‬‬
‫يف حياته‪.‬‬
‫ال! ال! ال يطلب الفقري معاونة الغني‪� ،‬إمنا يرجوه �أن ال يظلمه‪ ،‬وال يلتم�س‬
‫الرحمة‪� ،‬إمنا يلتم�س العدالة‪ ،‬ال ي� ِّؤمل منه الإن�صاف‪� ،‬إمنا ي�س�أله �أن ال‬ ‫منه ّ‬
‫يمُ يته يف ميدان مزاحمة احلياة‪.‬‬
‫َب َ�س َط املوىل ‪-‬ج ّلت حكمته‪� -‬سلطان الإن�سان على الأكوان‪ ،‬فطغى‪ ،‬وبغى‪،‬‬
‫ربه وعبد املال واجلمال‪ ،‬وجعلهما منيته ومبتغاه‪ ،‬ك�أ َّنه ُخلق خادم ًا‬ ‫ون�سي َّ‬
‫لبطنه وع�ضوه فقط‪ ،‬ال �ش�أن له غري الغذاء وال ّتحاك‪ .‬وبالنظر �إىل � َّأن املال‬
‫هم للإن�سان يف جمع املال‪،‬‬ ‫هو الو�سيلة املو�صلة للجمال كاد ينح�رص �أكرب ٍّ‬
‫وب�رس الوجود‪ ،‬وروى كري�سكوا امل� ِّؤرخ الرو�سي‪:‬‬‫ِّ‬ ‫ولهذا ُيك َّنى عنه مبعبود الأمم‬
‫رعيتها‪ ،‬ف�أر�شدها �شيطا ُنها �إىل حمل ال ِّن�ساء على‬ ‫� َّإن كاترينا �شكت ك�سل ّ‬
‫ال�شبان للعمل وك�سب املال‬ ‫فهب ّ‬ ‫اخلالعة‪ ،‬ففعلت و�أحدثت ك�سوة املراق�ص‪َّ ،‬‬
‫ربات اجلمال‪ ،‬ويف ظرف خم�س �سنني‪ ،‬ت�ضاعف دخل خزينتها‪،‬‬ ‫ل�رصفه على ّ‬
‫امل�ستبدون ال تهمهم الأخالق‪� ،‬إنمَّ ا يهمهم‬
‫ّ‬ ‫فا َّت�سع لها جمال الإ�رساف‪ .‬وهكذا‬
‫املال‪.‬‬
‫املال عند االقت�صاديني‪ :‬ما ينتفع به الإن�سان‪ ،‬وعند احلقوقيني‪ :‬ما يجري‬
‫فيه املنع والبذل‪ ،‬وعند ال�سيا�سيني‪ :‬ما ُت�ستعا�ض به القوة‪ ،‬وعند الأخالقيني‪:‬‬
‫ي�ستمد من الفي�ض الذي �أودعه اهلل تعاىل‬ ‫ُّ‬ ‫ما تحُ فظ به احلياة ال�رشيفة‪ .‬املال‬

‫‪71‬‬
‫اال�ستبداد والإن�سان‬

‫يف الطبيعة ونوامي�سها‪ ،‬وال ميلك‪� ،‬أي ال يتخ�ص�ص ب�إن�سان‪� ،‬إال بعمل فيه �أو‬
‫يف مقابله‪.‬‬
‫واملق�صود من املال هو �أحد اثنني ال ثالث لهما وهما‪ :‬حت�صيل ل ّذة �أو دفع‬
‫كل مقا�صد الإن�سان‪ ،‬وعليهما مبنى �أحكام ال�رشائع كلها‪،‬‬ ‫�أمل‪ ،‬وفيهما تنح�رص ُّ‬
‫طيب املال وخبيثه‪ ،‬هو الوجدان الذي خلقه اهلل �صبغ ًة‬ ‫واحلاكم املعتدل يف ّ‬
‫لل ّنف�س‪ ،‬وعبرَّ عنه القر�آن ب�إلهامها فجورها وتقواها‪ ،‬فالوجدان خيرَّ بني‬
‫املال احلالل واملال احلرام‪.‬‬
‫ثم � َّإن �أعمال الب�رش يف حت�صيل املال ترجع �إىل ثالثة �أ�صول‪1- :‬‬ ‫َّ‬
‫ا�ستح�ضاره املواد الأ�صلية‪ 2- .‬تهيئته املواد لالنتفاع‪ 3- .‬توزيعها على‬
‫وكل و�سيلة‬ ‫ت�سمى بالزراعة وال�صناعة والتجارة‪ُّ ،‬‬ ‫النا�س‪ .‬وهي الأ�صول التي ّ‬
‫خارجة عن هذه الأ�صول وفروعها الأولية‪ ،‬فهي و�سائل ظاملة ال خري فيها‪.‬‬
‫التمول‪� ،‬أي ِّادخار املال‪ ،‬طبيعة يف بع�ض �أنواع احليوانات الدنيئة كالنمل‬ ‫ُّ‬
‫تطبع على‬ ‫َّ‬ ‫إن�سان‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫إن�سان‪.‬‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫غري‬ ‫املرتقية‬ ‫احليوانات‬ ‫يف‬ ‫له‬ ‫أثر‬ ‫�‬ ‫وال‬ ‫والنحل‪،‬‬
‫التمول لدواعي احلاجة املح َّققة �أو املوهومة‪ ،‬وال حت ُّقق للحاجة �إال عند �سكان‬ ‫ُّ‬
‫املعر�ضة للقحط يف بع�ض‬ ‫َّ‬ ‫أرا�ضي‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫أو‬ ‫�‬ ‫أهلها‪،‬‬ ‫�‬ ‫على‬ ‫الثمرات‬ ‫قة‬ ‫�ضي‬
‫ّ‬ ‫أرا�ضي‬ ‫ال‬
‫ال�سنني‪ ،‬ويلتحق باحلاجة املح َّققة حاجة العاجزين ج�سم ًا عن االرتزاق‬
‫يف البالد املبتالة بجور الطبيعة �أو جور اال�ستبداد‪ ،‬ورمبا يلتحق بها �أي�ض ًا‬
‫ال�رصف على امل�ضطرين وعلى امل�صارف العمومية يف البالد التي ينق�صها‬
‫االنتظام العام‪.‬‬
‫واملراد باالنتظام العام‪ ،‬معي�شة اال�شرتاك العمومي التي �أ�س�سها الإجنيل‬
‫بتخ�صي�صه ع�رش الأموال للم�ساكني‪ ،‬ولكن‪ ،‬مل يكد يخرج ذلك من القوة �إىل‬
‫مت نظام‪ ،‬ولكن‪ ،‬مل تدم �أي�ض ًا‬ ‫ثم �أحدث الإ�سالم ُ�س َّنة اال�شرتاك على �أ ِّ‬ ‫الفعل‪َّ ،‬‬
‫�أكرث من قرنٍ واحد كان فيه امل�سلمون ال يجدون من يدفعون لهم ال�صدقات‬
‫والك ّفارات‪ ،‬وذلك � َّأن الإ�سالمية ‪ -‬كما �سبق بيانه‪� -‬أ�س�ست حكومة �أر�ستقراطية‬
‫املبنى‪ ،‬دميوقراطية الإدارة‪ ،‬فو�ضعت للب�رش قانون ًا م�ؤ�س�س ًا على قاعدة‪َّ � :‬إن‬
‫املال هو قيمة الأعمال‪ ،‬وال يجتمع يف يد الأغنياء �إال ب�أنواع من ال َغ َلبة‬
‫واخلداع‪.‬‬
‫رد على الفقراء‪ ،‬بحيث‬ ‫وي ّ‬ ‫ق�سم من مال ُ‬
‫فالعدالة املطلقة تقت�ضي �أن ي�ؤخذ ٌ‬

‫‪72‬‬
‫يح�صل التعديل وال ميوت الن�شاط للعمل‪ .‬وهذه القاعدة يتم ّنى ما هو من‬
‫نوعها �أغلب العامل املتمدن الإفرجني‪ ،‬وت�سعى وراءها الآن جمعيات منهم‬
‫مكونة من ماليني كثرية‪ .‬وهذه اجلمعيات تق�صد ح�صول الت�ساوي‬ ‫منتظمة َّ‬
‫�ضد اال�ستبداد املايل‪،‬‬ ‫�أو التقارب يف احلقوق املعا�شية بني الب�رش‪ ،‬وت�سعى َّ‬
‫فتطلب � ْأن تكون الأرا�ضي والأمالك الثابتة و�آالت املعامل ال�صناعية الكبرية‬
‫م�شرتكة ال�شيوع بني عامة الأمة‪ ،‬و� َّأن الأعمال والثمرات تكون موزعة‬
‫بوجوه متقاربة بني اجلميع‪ ،‬و� َّأن احلكومة ت�ضع قوانني لكافة ال�ش�ؤون حتى‬ ‫ٍ‬
‫اجلزئيات‪ ،‬وتقوم بتنفيذها‪.‬‬
‫وهذه الأ�صول مع بع�ض التعديل قررتها الإ�سالمية دين ًا‪ ،‬وذلك �أنها‬
‫قررت‪:‬‬
‫�أو ًال‪� -‬أنواع الع�شور والزكاة وتق�سيمها على �أنواع امل�صارف العامة و�أنواع‬
‫املحتاجني حتى املدينني‪ .‬وال يخفى على املدققني � َّأن جزءاً من �أربعني من‬
‫ر�ؤو�س الأموال يقارب ن�صف الأرباح املعتدلة باعتبار �أنها خم�سة باملئة‬
‫�سنوي ًا‪ ،‬وبهذا النظر يكون الأغنياء م�ضاربني للجماعة منا�صف ًة‪ .‬وهكذا يلحق‬
‫فقراء الأمة ب�أغنيائها‪ ،‬ومينع تراكم الرثوات املفرطة املو ِّلدة لال�ستبداد‪،‬‬
‫وامل�رضة ب�أخالق الأفراد‪.‬‬
‫َّ‬
‫أحكام حمكمة متنع حمذور التواكل يف االرتزاق‪ ،‬و ُتلزِم ك َّل‬ ‫ٌ‬ ‫�‬ ‫قررت‬ ‫‪-‬‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫ثاني‬
‫ا�شتد �ساعده‪� ،‬أو ملك قوت يومه‪� ،‬أو ال َّن ّ�صاب على الأكرث‪� ،‬أن‬
‫فرد من الأمة متى َّ‬
‫م�ستبدة ت�رضب‬ ‫ّ‬ ‫ي�سعى لرزقه بنف�سه‪� ،‬أو ميوت الفرد جوع ًا‪� ،‬إذا مل تكن حكومته‬
‫على يده و�سعيه ون�شاطه مبدافع ا�ستبدادها‪ ،‬وقد قيل‪ :‬يبد�أ االنقياد للعمل عند‬
‫نهاية اخلوف من احلكومة ونهاية اال ِّتكال على الغري‪.‬‬
‫ثالث ًا‪ -‬قررت الإ�سالمية ترك الأرا�ضي الزراعية ملك ًا لعامة الأمة‪،‬‬
‫ي�ستنبتها وي�ستمتع بخرياتها العاملون فيها ب�أنف�سهم فقط‪ ،‬ولي�س عليهم غري‬
‫الع�رش �أو اخلراج الذي ال يجوز �أن يتجاوز اخلم�س لبيت املال‪.‬‬
‫كلية ت�صلح للإحاطة ب�أحكام‬ ‫رابع ًا‪ -‬جاءت الإ�سالمية بقواعد �رشعية ّ‬
‫كافة ال�ش�ؤون حتى اجلزئية ال�شخ�صية‪ ،‬و�أناطت تنفيذها باحلكومة‪ ،‬كما‬
‫تطلبه �أغلب جمعيات اال�شرتاكيني‪ .‬على � َّأن هذا النظام الذي جاء به الإ�سالم‪،‬‬
‫�صعب الإجراء جداً‪ ،‬لأ َّنه منوط ب�سيطرة الك ّل ور�ضاء النفو�س‪ ،‬ول َّأن القانون‬

‫‪73‬‬
‫اال�ستبداد والإن�سان‬

‫معر�ض ًا للت�أويل ح�سب الأغرا�ض‪،‬‬ ‫الكثري الفروع يتع َّذر حفظه ب�سيط ًا‪ ،‬ويكون َّ‬
‫ولالختالف يف تطبيقه ح�سب الأهواء‪ ،‬كما وقع فع ًال يف امل�سلمني‪ ،‬فلم ميكنهم‬
‫ت�شعبت معهم الأمور بطبيعة‬ ‫ثم َّ‬‫�إجراء �رشيعتهم بب�ساطة و�أمان �إال عهداً قلي ًال‪َّ ،‬‬
‫ا ِّت�ساع امللك واختالف طبائع الأمم‪ ،‬و َف َق َد الرجال الذين ميكنهم �أن ي�سوقوا‬
‫مئات ماليني من �أجنا�س النا�س‪ :‬الأبي�ض والأ�صفر‪ ،‬واحل�رضي والبدوي‪،‬‬
‫بع�صا واحدة قرون ًا عديدة‪.‬‬
‫يت�صوره العقل‪ ،‬ولكن‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وال َغ ْر َو �إذا كانت املعي�شة اال�شرتاكية من �أبدع ما‬
‫مع الأ�سف مل يبلغ الب�رش بعد الرت ّقي ما يكفي لتو�سيعهم نظام التعاون‬
‫جربت الأمم‬ ‫والت�ضامن يف املعي�شة العائلية �إىل �إدارة الأمم الكبرية‪ .‬وكم َّ‬
‫تقدم هو‬
‫ذلك فلم تنجح فيها �إال الأمم ال�صغرية مدة قليلة‪ .‬وال�سبب كما َّ‬
‫جمرد �صعوبة التحليل والرتكيب بني ال�صوالح وامل�صالح الكثرية املختلفة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫واملت� ِّأمل يف عدم انتظام حالة العائالت الكبرية‪ ،‬يقنع حا ًال ب� َّأن التكافل‬
‫والت�ضامن غري مي�سورين يف الأمم الكبرية‪ ،‬ولهذا يكون خري ح ٍّل مقدور‬
‫للم�س�ألة االجتماعية هو ما ي�أتي‪:‬‬
‫حراً م�ستق ًّال يف �ش�ؤونه‪ ،‬ك�أنه ُخ ِلق وحده‪.‬‬
‫‪ -‬يكون الإن�سان ّ‬
‫‪ -‬تكون العائلة م�ستقلة‪ ،‬ك�أنها �أمة وحدها‪.‬‬
‫قارة واحدة ال عالقة لها‬ ‫‪ -‬تكون القرية �أو املدينة م�ستقلة ك�أنها ّ‬
‫بغريها‪.‬‬
‫‪ -‬تكون القبائل يف ال�شعب �أو الأقاليم يف اململكة ك�أنها �أفالك‪ ،‬ك ٌّل منها‬
‫م�ستق ٌّل يف ذاته‪ ،‬ال يربطها مبركز نظامها االجتماعي‪ ،‬وهو اجلن�س �أو الدين‬
‫�أو امللك غري حم�ض التجاذب املانع من الوقوع يف نظام �آخر ال يالئم طبائع‬
‫حياتها‪.‬‬
‫التمول لأجل احلاجات ال�سالفة ال ِّذكر وبقدرها فقط حممودة بثالثة‬ ‫ثم � َّإن ُّ‬‫َّ‬
‫التمول من �أقبح اخل�صال‪:‬‬‫ّ‬ ‫كان‬ ‫ال‬
‫ّ‬ ‫�‬
‫إ‬ ‫و‬ ‫�رشوط‪،‬‬
‫ال�رشط الأول‪� :‬أن يكون املال بوجه م�رشوع حال ًال‪� ،‬أي ب�إحرازه من بذل‬
‫الطبيعة‪� ،‬أو باملعاو�ضة‪� ،‬أي يف مقابل عمل‪� ،‬أو يف مقابل �ضمان على ما‬
‫تقوم بتف�صيله ال�رشائع املدنية‪.‬‬
‫التمول ت�ضييق على حاجيات الغري كاحتكار‬ ‫وال�رشط الثاين‪� :‬أن ال يكون يف ّ‬

‫‪74‬‬
‫ال�رضوريات‪� ،‬أو مزاحمة ال�ص ّناع والعمال ال�ضعفاء‪� ،‬أو التغ ُّلب على املباحات‪،‬‬
‫مثل امتالك الأرا�ضي التي جعلها خالقها ممرح ًا لكافة خملوقاته‪ ،‬وهي �أمهم‬
‫تر�ضعهم لنب جهازاتها‪ ،‬وتغ ّذيهم بثمراتها‪ ،‬وت�ؤويهم يف ح�ضن �أجزائها‪،‬‬
‫امل�ستبدون الظاملون الأولون وو�ضعوا �أ�صو ًال حلمايتها من �أبنائها‬ ‫ّ‬ ‫فجاء‬
‫م�ستبد مايل من الإنكليز‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وحالوا بينهما‪ .‬فهذه �إيرلندا ‪-‬مث ًال‪ -‬قد حماها �ألف‬
‫ليتمتعوا بثلثي �أو ثالثة �أرباع ثمرات �أتعاب ع�رشة ماليني من الب�رش الذين‬
‫ُخ ِلقوا من تربة �إيرلندا‪ .‬وهذه م�رص وغريها تقرب من ذلك حا ًال و�ستفوقها‬
‫ما ًال‪ ،‬وكم من الب�رش يف �أوروبا املتمدنة‪ ،‬وخ�صو�ص ًا يف لندن وباري�س‪ ،‬ال يجد‬
‫�أحدهم �أر�ض ًا ينام عليها متمدداً‪ ،‬بل ينامون يف الطبقة ال�سفلى من البيوت‪،‬‬
‫حيث ال ينام البقر‪ ،‬وهم قاعدون �صفوف ًا يعتمدون ب�صدورهم على حبالٍ من‬
‫م�سد من�صوبة �أفقية يتلوون عليها مين ًة وي�رسة‪.‬‬
‫وحكومة ال�صني خمت ّلة النظام يف نظر املتمدنني‪ ،‬ال جتيز قوانينها �أن‬
‫ال�شخ�ص الواحد �أكرث من مقدار معني من الأر�ض ال يتجاوز الع�رشين‬ ‫ميتلك ّ‬
‫كيلومرتاً مربع ًا‪� ،‬أي نحو خم�سة �أفدن م�رصية �أو ثالثة ع�رش دومن ًا عثماني ًا‪.‬‬
‫امل�ستبدة القا�سية يف ُعرف �أكرث الأوروبيني و�ضعت ‪�-‬أخرياً‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫ورو�سيا‬
‫لواليتها البولونية الغربية قانون ًا �أ�شبه بقانون ال�صني‪ ،‬وزادت عليه �أ َّنها‬
‫لفالح �أن ي�ستدين �أكرث‬
‫ٍ‬ ‫م�سجل على فالح‪ ،‬وال ت�أذن‬ ‫ّ‬ ‫منعت �سماع دعوى دينٍ‬
‫من نحو خم�سمئة فرنك‪ .‬وحكومات ال�شرّ ق �إذا مل ت�ستدرك الأمر فت�ضع قانون ًا‬
‫من قبيل قانون رو�سيا‪ ،‬ت�صبح الأرا�ضي الزراعية بعد خم�سني عام ًا �أو قرن‬
‫على الأكرث ك�إيرلندا الإنكليزية امل�سكينة‪ ،‬التي وجدت لها يف مدى ثالثة‬
‫قرون �شخ�ص ًا واحداً حاول �أن يرحمها فلم ُيفلح‪ ،‬و�أعني به غالد�ستون‪ ،‬على‬
‫الرحمة‪.‬‬
‫� َّأن ال�رشق رمبا ال يجد يف ثالثني قرن ًا من يلتم�س له َّ‬
‫التمول‪ ،‬هو‪� :‬أال يتجاوز املال قدر احلاجة بكثري‪،‬‬ ‫وال�رشط الثالث جلواز ّ‬
‫لأن �إفراط الرثوة مهلكة للأخالق احلميدة يف الإن�سان‪ ،‬وهذا معنى الآية‪( :‬كال‬
‫� َّإن الإن�سان ليطغى* �أن ر�آه ا�ستغنى)‪ ،‬وال�رشائع ال�سماوية ك ُّلها‪ ،‬وكذلك احلكمة‬
‫حرمت الربا‪� ،‬صيان ًة لأخالق املرابني من الف�ساد‪ ،‬ل َّأن‬ ‫الأخالقية والعمرانية َّ‬
‫الربا‪ :‬هو ك�سب بدون مقابل مادي‪ ،‬ففيه معنى الغ�صب‪ ،‬ودون عمل‪ ،‬ل َّأن‬
‫تعر�ض خل�سائر‬ ‫املرابي يك�سب وهو نائم‪ ،‬ففيه الأُلفة على البطالة‪ ،‬ومن دون ُّ‬

‫‪75‬‬
‫اال�ستبداد والإن�سان‬

‫طبيعية كالتجارة والزراعة والأمالك‪ ،‬ففيه النماء املطلق امل�ؤدي النح�صار‬


‫الرثوات‪ .‬ومن القواعد االقت�صادية امل َّتفق عليها � ْأن لي�س من ك�سب ال عار وال‬
‫فيختل‬
‫ُّ‬ ‫احتكار فيه �أربح من الربا مهما كان معتد ًال‪ ،‬و� َّأن بالربا تربو الرثوات‬
‫الت�ساوي �أو التقارب بني ال ّنا�س‪.‬‬
‫الربا‪،‬‬ ‫وقد نظر املا ّليون وبع�ض االقت�صاديني من �أن�صار اال�ستبداد يف �أمر ِّ‬
‫بد منه‪� .‬أو ًال‪ :‬لأجل قيام املعامالت الكبرية‪،‬‬ ‫فقالوا‪َّ � :‬إن املعتدل منه نافع‪ ،‬بل ال َّ‬
‫وثاني ًا‪ :‬لأجل � َّأن النقود املوجودة ال تكفي للتداول‪ ،‬فكيف �إذا �أم�سك املكتنزون‬
‫ق�سم ًا منها �أي�ض ًا؟! وثالث ًا‪ :‬لأجل � َّأن كثريين من املتمولني ال يعرفون طرائق‬
‫اال�سرتباح �أو ال يقدرون عليها‪ ،‬كما � َّأن كثرياً من العارفني بها ال يجدون‬
‫ر�ؤو�س �أموال وال �رشكاء عنان‪ .‬فهذا النظر �صحيح من وجه �إمناء ثروات‬
‫بع�ض الأفراد‪� .‬أما ال�سيا�سيون اال�شرتاكيو املبادئ والأخالقيون‪ ،‬فينظرون‬
‫�إىل � َّأن �رضر الرثوات الأفرادية يف جمهور الأمم �أكرب من نفعها‪ .‬لأنها مت ِّكن‬
‫وتقوي اال�ستبداد‬ ‫اال�ستبداد الداخلي‪ ،‬فتجعل النا�س �صنفني‪ :‬عبيداً و�أ�سياداً‪ّ ،‬‬
‫التعدي على حرية ا�ستقالل‬ ‫فت�سهل للأمم التي تغنى بغناء �أفرادها ّ‬ ‫ِّ‬ ‫اخلارجي‪،‬‬
‫الأمم ال�ضعيفة‪ .‬وهذه مقا�صد فا�سدة يف نظر احلكمة والعدالة‪ ،‬ولذلك يقت�ضي‬
‫الربا حترمي ًا مغ َّلظ ًا‪.‬‬ ‫حترمي ِّ‬
‫يخف كثرياً عند �أهايل احلكومات‬ ‫ُّ‬ ‫التمول‪ ،‬وهو الطمع القبيح‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ِح ْر�ص‬
‫العادلة املنتظمة ما مل يكن ف�ساد الأخالق منغلب ًا على الأهايل‪ ،‬ك�أكرث الأمم‬
‫التمول يف ن�سبة‬ ‫ُّ‬ ‫املتمدنة يف عهدنا‪ ،‬ل َّأن ف�ساد الأخالق يزيد يف امليل �إىل‬ ‫ِّ‬
‫ولكن حت�صيل الرثوة الطائلة يف عهد احلكومة العادلة‬ ‫َّ‬ ‫إ�رسافية‪،‬‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫احلاجة‬
‫املنحطة‪� ،‬أو التجارة‬‫ّ‬ ‫أمم‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫مع‬ ‫املراباة‬ ‫طريق‬ ‫من‬ ‫إال‬ ‫�‬ ‫ع�سري جداً‪ ،‬وقد ال يت�أتى‬ ‫ٌ‬
‫الكبرية التي فيها نوع احتكار‪� ،‬أو اال�ستعمار يف البالد البعيدة مع املخاطرات‪،‬‬
‫على � َّأن هذه ال�صعوبة تكون مقرونة بل ّذة عظيمة من نوع ل ّذة من ي�أكل ما‬
‫طبخ‪� ،‬أو ي�سكن ما بنى‪.‬‬
‫ي�شتد يف ر�ؤو�س النا�س يف عهد احلكومات‬ ‫ُّ‬ ‫التمول القبيح‬ ‫ّ‬ ‫وح ْر�ص‬ ‫ِ‬
‫وبالتعدي‬
‫ّ‬ ‫امل�ستبدة‪ ،‬حيث ي�سهل فيها حت�صيل الرثوة بال�رسقة من بيت املال‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫على احلقوق العامة‪ ،‬وبغ�صب ما يف �أيدي ال�ضعفاء‪ ،‬ور�أ�س مال ذلك هو � ْأن‬
‫وينحط يف �أخالقه �إىل مالءمة‬ ‫َّ‬ ‫الدين والوجدان واحلياء جانب ًا‬ ‫يرتك الإن�سان ِّ‬

‫‪76‬‬
‫امل�ستبد الأعظم‪� ،‬أو �أحد �أعوانه وعماله‪ ،‬ويكفيه و�سيل ًة �أن ي ّت�صل بباب �أحدهم‬ ‫ّ‬
‫ويتقرب من �أعتابه‪ ،‬ويظهر له �أ َّنه يف الأخالق من �أمثاله وعلى �شاكلته‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ويربهن له ذلك ب�أ�شياء من التم ُّلق و�شهادة الزور‪ ،‬وخدمة ال�شهوات‪ ،‬والتج�س�س‪،‬‬
‫ثم قد يطلع هذا املنت�سب على بع�ض اخلفايا‬ ‫ال�سلب ونحو ذلك‪َّ .‬‬ ‫والداللة على ّ‬
‫والأ�رسار التي يخاف رجال اال�ستبداد من ظهورها خوف ًا حقيقي ًا �أو وهمي ًا‪،‬‬
‫فيك�سب املنت�سب ر�سوخ القدم وي�صري هو باب ًا لغريه‪ ،‬وهكذا يح�صل على الرثوة‬
‫الطائلة �إذا �ساعدته الظروف على ال ّثبات طوي ًال‪ .‬وهذا �أعظم �أبواب الرثوة يف‬
‫ثم الربا الفاح�ش‪ ،‬وهي‬ ‫ثم املالهي‪َّ ،‬‬‫بالدين‪َّ ،‬‬
‫ال�رشق والغرب‪ ،‬ويليه االتجِّ ار ّ‬
‫بئ�س املكا�سب وبئ�س ما ت�ؤ ِّثر يف �إف�ساد �أخالق الأمم‪.‬‬
‫أ�رض كثرياً‬
‫وقد ذكر املدققون � َّأن ثروة بع�ض الأفراد يف احلكومات العادلة � ّ‬
‫قوتهم املالية‬ ‫امل�ستبدة‪ ،‬ل َّأن الأغنياء يف الأوىل ي�رصفون ّ‬
‫َّ‬ ‫منها يف احلكومات‬
‫يف �إف�ساد �أخالق النا�س و�إخالل امل�ساواة و�إيجاد اال�ستبداد‪ّ � ،‬أما الأغنياء يف‬
‫امل�ستبدة في�رصفون ثروتهم يف ال َّأبهة والتعاظم �إرهاب ًا للنا�س‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫احلكومات‬
‫املن�صبة عليهم بالتغايل الباطل‪ ،‬وي�رسفون الأموال يف‬ ‫ّ‬ ‫لل�سفالة‬
‫وتعوي�ض ًا ّ‬
‫الف�سق والفجور‪.‬‬
‫يتعجلها الزوال‪ ،‬حيث يغ�صبها الأقوى منهم من‬ ‫ّ‬ ‫بناء عليه‪ ،‬ثروة ه�ؤالء‬ ‫ً‬
‫حلظة وبكلمة‪ .‬وتزول �أي�ض ًا ‪-‬‬ ‫ٍ‬ ‫امل�ستبد الأعظم يف‬
‫ُّ‬ ‫ي�سلبها‬ ‫وقد‬ ‫أ�ضعف‪،‬‬ ‫ال‬
‫واحلمد هلل‪ -‬قبل �أن يتع ّلم �أ�صحابها �أو ورثتهم كيف تحُ فظ الرثوات‪ ،‬وكيف‬
‫تنمو‪ ،‬وكيف ي�ستعبدون بها النا�س ا�ستعباداً �أ�صولي ًا م�ستحكم ًا‪ ،‬كما هو احلال‬
‫املهددة ب�رشوط الفو�ضويني ب�سبب الي�أ�س من مقاومة‬ ‫َّ‬ ‫يف �أوروبا املتمدنة‬
‫اال�ستبداد املايل فيها‪.‬‬
‫أثر فقر الأمة ظهوراً بيان ًا �إال فج�أ ًة‬
‫ومن طبائع اال�ستبداد �أ َّنه ال يظهر فيه � ُ‬
‫ُق َريب ق�ضاء اال�ستبداد نحبه‪ .‬و�أ�سباب ذلك � َّأن النا�س يقت�صدون يف الن�سل‪،‬‬
‫تغربهم‪ ،‬ويبيعون �أمالكهم من الأجانب‪ ،‬فتتق ّل�ص‬ ‫وتكرث وفياتهم‪ ،‬ويكرث ّ‬
‫الرثوة‪ ،‬وتكرث النقود بني الأيدي‪ .‬وبئ�ست من ثروة ونقود ت�شبه ن�شوة‬
‫املذبوح‪.‬‬
‫ولرنجع �إىل بحث طبيعة اال�ستبداد يف مطلق املال ف�أقول‪َّ � :‬إن اال�ستبداد‬
‫وعماله غ�صب ًا‪،‬‬ ‫امل�ستبد و�أعوانه ّ‬
‫ّ‬ ‫يجعل املال يف �أيدي النا�س عر�ض ًة ل�سلب‬

‫‪77‬‬
‫اال�ستبداد والإن�سان‬

‫بحجة باطلة‪ ،‬وعر�ض ًة �أي�ض ًا ل�سلب املعتدين من الل�صو�ص واملحتالني‬ ‫ٍ‬ ‫�أو‬
‫ح�صل �إال بامل�ش ّقة‪،‬‬
‫الراتعني يف ظ ِّل �أمان الإدارة اال�ستبدادية‪ .‬وحيث املال ال ُي َ‬
‫املن على االنتفاع بالثمرة‪.‬‬ ‫فال تختار النفو�س الإقدام على املتاعب مع عدم ِّ‬
‫امل�ستبدة �أ�صعب من ك�سبه‪ ،‬ل َّأن ظهور �أثره‬ ‫ّ‬ ‫ِح ْف ُظ املال يف عهد الإدارة‬
‫على �صاحبه جملبة لأنواع البالء عليه‪ ،‬ولذلك ُي�ضطر النا�س زمن اال�ستبداد‬
‫لإخفاء نعمة اهلل وال ّتظاهر بالفقر والفاقة‪ ،‬ولهذا ورد يف �أمثال الأُ�رساء � َّأن‬
‫حفظ درهم من الذهب يحتاج �إىل قنطار من العقل‪ ،‬و� َّأن العاقل من يخفي‬
‫ذهبه وذهابه ومذهبه‪ ،‬و� َّأن �أ�سعد النا�س ال�صعلوك الذي ال يعرف احل ّكام وال‬
‫يعرفونه‪.‬‬
‫ومن طبائع اال�ستبداد‪َّ � ،‬أن الأغنياء �أعدا�ؤه فكراً و�أوتاده عم ًال‪ ،‬فهم ربائط‬
‫الذل يف الأمم‬ ‫وي�ستدرهم فيح ّنون‪ ،‬ولهذا ير�سخ ُّ‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد‪ ،‬يذ ُّلهم فيئ ّنون‪،‬‬
‫ِّ‬
‫امل�ستبد خوف النعجة من الذئاب‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫التي يكرث �أغنيا�ؤها‪� .‬أما الفقراء فيخافهم‬
‫ويتحبب �إليهم ببع�ض الأعمال التي ظاهرها الر�أفة‪ ،‬يق�صد بذلك �أن يغ�صب‬
‫ٍ‬
‫دناءة‬ ‫�أي�ض ًا قلوبهم التي ال ميلكون غريها‪ .‬والفقراء كذلك يخافونه خوف‬
‫ونذالة‪ ،‬خوف البغاث من العقاب‪ ،‬فهم ال يج�رسون على االفتكار ف�ض ًال عن‬
‫يتوهمون � َّأن داخل ر�ؤو�سهم جوا�سي�س عليهم‪ .‬وقد يبلغ ف�ساد‬ ‫الإنكار‪ ،‬ك�أنهم َّ‬
‫وجه كان‬ ‫امل�ستبد عنهم ب� ِّأي ٍ‬
‫ِّ‬ ‫ي�رسهم فع ًال ر�ضاء‬ ‫الأخالق يف الفقراء �أن ّ‬
‫ر�ضا�ؤه‪.‬‬
‫وقد خالف الأخالقيون املت� ِّأخرون �أ�سالفهم يف قولهم‪ ،‬لي�س الفقراء بعيب‪،‬‬
‫ثم‬‫ا�ستغناء عن ال ّنا�س‪َّ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫مفتقر للغري‪ ،‬والغناء‬
‫ٌ‬ ‫فقالوا‪ :‬الفقر �أبو املعائب‪ ،‬لأنه‬
‫قالوا‪ :‬الفقر يذهب بع ّزة النف�س‪ ،‬ويف�ضي �إىل خلع احلياء‪ ،‬وقالوا‪َّ � :‬إن حل�سن‬
‫والتنعم يف املعي�شة ت�أثرياً مهم ًا على نفو�س الب�رش‪ ،‬خالف ًا‬ ‫ّ‬ ‫اللبا�س والأمتعة‬
‫ملن يقول‪ :‬لي�س املرء بطيل�سانه‪ ،‬وحديث (اخ�شو�شنوا‪ ،‬ف�إن النعم ال تدوم)‬
‫امل�شاق يف احلروب والأ�سفار وعند‬ ‫ّ‬ ‫التعود ج�سم ًا على‬
‫ّ‬ ‫هو لأ ّنه يحمل على‬
‫احلاجة‪ .‬فقالوا‪َّ � :‬إن رغد العي�ش ونعيمه ملن �أعظم احلاجات‪ ،‬به تعلو الهمم‪،‬‬
‫ولأجله ُتق َتحم العظائم‪.‬‬
‫يحل امل�شكالت الزمان واملال‪ .‬القوة كانت‬ ‫ُيقال يف مدح املال‪َّ � :‬إن ما ُّ‬
‫ثم �صارت للمال‪ .‬العلم واملال ُيطيالن عمر‬ ‫ثم �صارت للعلم‪َّ ،‬‬ ‫للع�صبية‪َّ ،‬‬

‫‪78‬‬
‫بالدم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الإن�سان‪ ،‬حيث يجعالن �شيخوخته ك�شبابه‪ .‬ال ُي�صان ال�شرّ ف �إال‬
‫وال يت�أتى الع ُّز �إال باملال‪ .‬وقد م�ضى جمد الرجال وجاء جمد املال‪ .‬وورد‬
‫خري من اليد ال�سفلى‪ .‬و� َّأن الغني ال�شاكر �أف�ضل من‬ ‫يف الأثر‪َّ � :‬إن اليد العليا ٌ‬
‫الفقري ال�صابر‪ .‬ومل يكن قدمي ًا �أهمية للرثوة العمومية‪� ،‬أما الآن وقد �صارت‬
‫املحاربات حم�ض مغالبة وعلم ومال‪ ،‬ف�أ�صبح للرثوة العمومية �أهمية‬
‫عظمى لأجل حفظ اال�ستقالل‪ ،‬على � َّأن الأمم امل�أ�سورة ال ن�صيب لها من الرثوة‬
‫العمومية‪ ،‬بل منزلتها يف املجتمع الإن�ساين ك�أنعام تتناقلها الأيدي‪ ،‬وال‬
‫تعار�ض هذه القاعدة ثروة اليهود‪ ،‬لأنها ثروة غري مزاحمني عليها‪ ،‬لأنها فيما‬
‫يقوله �أعدا�ؤه فيها‪ :‬ثروة ر�أ�سمالها النامو�س‪ ،‬وم�رصفها املالهي واملقامرة‬
‫والغ�ش وامل�ضاربات‪ ،‬وال يخلو هذا القول من التحامل عليهم ح�سداً‬ ‫ّ‬ ‫والربا‬
‫ممن يقدمون �إقدامهم وال ينالون منالهم‪.‬‬
‫هذا وللمال الكثري �آفات على احلياة ال�رشيفة ترتعد منها فرائ�ص �أهل‬
‫الرزق مع حفظ احلرية وال�رشف‬ ‫الف�ضيلة والكمال‪ ،‬الذين يف�ضلون الكفاف من ِّ‬
‫على امتالك دواعي الرتف وال�سرّ ف‪ ،‬وينظرون �إىل املال الزائد على احلاجة‬
‫بالء من حيث االفتكار ب�إمنائه‪،‬‬ ‫الكمالية �أ ّنه بالء يف بالء يف بالء‪� ،‬أي �أ ّنه ٌ‬
‫و�أما املكتفي فيعي�ش مطمئن ًا م�سرتيح ًا �أمين ًا بع�ض الأمن على دينه و�رشفه‬
‫و�أخالقه‪.‬‬
‫قرر الأخالقيون � َّأن الإن�سان ال يكون حراً متام ًا ما مل تكن له �صنعة م�ستق ٌّل‬
‫فيها‪� ،‬أي غري مر�ؤو�س لأحد‪ ،‬لأن حريته ال�شخ�صية تكون تابعة الرتباطه‬
‫بالر�ؤ�ساء‪ .‬وعليه تكون �أقبح الوظائف هي وظائف احلكومة‪ .‬وقالوا‪َّ � :‬إن‬
‫دل به على �أحوال‬ ‫لل�صنعة ت�أثرياً يف الأخالق والأميال‪ ،‬وهي من �أ�صدق ما ُي�س َت ُّ‬
‫الأفراد والأقوام‪ .‬فاملوظفون يف احلكومة مث ًال يفقدون ال�شفقة والعواطف‬
‫العالية تبع ًا ل�صنعتهم التي من مقت�ضاها عدم ال�شعور بتبعة �أعمالهم‪ ،‬وقال‬
‫احلكماء‪َّ � :‬إن العاجز يجمع املال بالتقتري‪ ،‬والكرمي يجمعه بالك�سب‪ ،‬وقالوا‪َّ � :‬إن‬
‫�أقل ك�سب ير�ضى به العاقل ما يكفي معا�شه باقت�صاد‪ ،‬وقالوا‪ :‬خري املال ما‬
‫ذل القلة وطغيان الكرثة‪ .‬وهذا معنى احلديث (فاز املخففون)‬ ‫يكفي �صاحبه ّ‬
‫ويقال‪ :‬الغنى غنى القلب‪ ،‬والغني‬ ‫وحديث «ا�س�ألوا اهلل الكفاف من الرزق»‪ُ .‬‬
‫كل‬ ‫من ق َّلت حاجته‪ ،‬والغني من ا�ستغنى عن النا�س‪ .‬وقال بع�ض احلكماء‪ُّ :‬‬

‫‪79‬‬
‫اال�ستبداد والإن�سان‬

‫�إن�سانٍ فقري بالطبع ينق�صه مثل ما ميلك‪ ،‬فمن ميلك ع�رشة يرى نف�سه حمتاج ًا‬
‫ألف �أخرى‪ .‬وهذا معنى‬ ‫لع�رشة �أخرى‪ ،‬ومن ميلك �ألف ًا يرى نف�سه حمتاج ًا ل ٍ‬
‫أحب �أن يكون له واديان»‪.‬‬
‫واد من ذهب � َّ‬ ‫احلديث‪« :‬لو كان البن �آدم ٍ‬
‫وال يق�صد الأخالقيون من التزهيد يف املال التثبيط عن ك�سبه‪� ،‬إمنا‬
‫يق�صدون �أال يتجاوز ك�سبه بالطرائق الطبيعية ال�رشيفة‪� .‬أما ال�سيا�سيون فال‬
‫يهمهم �إال �أن ت�ستغني الرعية ب�أي و�سيلة كانت‪ ،‬والغربيون منهم ُيعينون الأمة‬
‫على الك�سب لي�شاركوها‪ ،‬وال�رشقيون ال يفتكرون يف غري �سلب املوجود‪ ،‬وهذه‬
‫من جملة الفروق بني اال�ستبدادين الغربي وال�رشقي‪ ،‬التي منها � َّأن اال�ستبداد‬
‫ولكن‪ ،‬مع ال ّلني‪ ،‬وال�رشقي يكون مقلق ًال‬
‫أ�شد وط�أ ًة‪ْ ،‬‬
‫الغربي يكون �أحكم و�أر�سخ و� ّ‬
‫تبدل‬ ‫�رسيع الزوال‪ ،‬ولك ّنه يكون مزعج ًا‪ .‬ومنها � َّأن اال�ستبداد الغربي �إذا زال ّ‬
‫بحكومة عادلة ُتقيم ما �ساعدت الظروف �أن تقيم‪� ،‬أما ال�رشقي فيزول ويخلفه‬
‫�رش منه‪ ،‬ل َّأن من د�أب ال�رشقيني �أال يفتكروا يف م�ستقبل قريب‪ ،‬ك� َّأن‬ ‫ا�ستبداد ٌّ‬
‫�أكرب همهم من�رصف �إىل ما بعد املوت فقط‪� ،‬أو �أنهم مبتلون بق�رص النظر‪.‬‬
‫أ�شد وط�أ ًة من الوباء‪� ،‬أكرث هو ًال من‬ ‫داء � ُّ‬
‫وخال�صة القول‪َّ � :‬إن اال�ستبداد ٌ‬
‫بقوم‬
‫داء �إذا نزل ٍ‬ ‫أذل للنفو�س من ال�س�ؤال‪ٌ .‬‬ ‫ال�سيل‪ُّ � ،‬‬
‫احلريق‪� ،‬أعظم تخريب ًا من ّ‬
‫ربها‬ ‫�سمعت �أرواحهم هاتف ال�سماء ينادي الق�ضاء الق�ضاء‪ ،‬والأر�ض تناجي ّ‬
‫عهد‪� ،‬أ�شقى النا�س فيه العقالء والأغنياء‪ ،‬و�أ�سعدهم‬ ‫بك�شف البالء‪ .‬اال�ستبداد ٌ‬
‫يتعجلون املوت فيح�سدهم‬ ‫مبحياه اجلهالء والفقراء‪ ،‬بل �أ�سعدهم �أولئك الذين ّ‬
‫الأحياء‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫اال�ستبداد والأخالق‬
‫يت�رصف يف �أكرث الأميال الطبيعية والأخالق احل�سنة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫اال�ستبداد‬
‫في�ضعفها‪� ،‬أو ُيف�سدها‪� ،‬أو ميحوها‪ ،‬فيجعل الإن�سان يكفر ب ِن َعم مواله‪ ،‬لأنه مل‬ ‫ُ‬
‫حق احلمد‪ ،‬ويجعله حاقداً على قومه‪ ،‬لأنهم‬ ‫ّ‬ ‫عليها‬ ‫ليحمده‬ ‫امللك‬ ‫حق‬
‫ّ‬ ‫ميلكها‬
‫حب وطنه‪ ،‬لأ َّنه غري �آمن على اال�ستقرار‬ ‫ً ّ‬ ‫ا‬ ‫وفاقد‬ ‫عليه‪،‬‬ ‫اال�ستبداد‬ ‫عون لبالء‬
‫ٌ‬
‫احلب لعائلته‪ ،‬لأنه يعلم منهم �أ َّنهم مثله ال‬
‫ويود لو انتقل منه‪ ،‬و�ضعيف ِّ‬ ‫فيه‪ُّ ،‬‬
‫أ�سري‬
‫�ضطرون لإ�رضار �صديقهم‪ ،‬بل وقتله وهم باكون‪ُ � .‬‬ ‫ميلكون التكاف�ؤ‪ ،‬وقد ُي ّ‬
‫معر�ض‬‫اال�ستبداد ال ميلك �شيئ ًا ليحر�ص على حفظه‪ ،‬لأ َّنه ال ميلك ما ًال غري َّ‬
‫معر�ض للإهانة‪ .‬وال ميلك اجلاهل منه �آما ًال م�ستقبلة‬ ‫لل�سلب وال �رشف ًا غري َّ‬ ‫ّ‬
‫ليتبعها وي�شقى كما ي�شقى العاقل يف �سبيلها‪.‬‬
‫وهذه احلال جتعل الأ�سري ال يذوق يف الكون لذ ًة نعيم‪ ،‬غري بع�ض املل ّذات‬
‫بناء عليه‪ ،‬يكون �شديد احلر�ص على حياته احليوانية و� ْإن كانت‬ ‫البهيمية‪ً .‬‬
‫تعي�سة‪ ،‬وكيف ال يحر�ص عليها وهو ال يعرف غريها؟! �أين هو من احلياة‬
‫الأدبية؟! �أين هو من احلياة االجتماعية؟! � َّأما الأحرار فتكون منزلة حياتهم‬
‫احليوانية عندهم بعد مراتب عديدة‪ ،‬وال يعرف ذلك �إال من كان منهم‪� ،‬أو ك�شف‬
‫عن ب�صريته‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫اال�ستبداد والأخالق‬

‫ومثال الأ�رساء يف حر�صهم على حياتهم ال�شيوخ‪ ،‬ف�إ َّنهم عندما مت�سي‬
‫حياتهم ك ُّلها �أ�سقام ًا و�آالم ًا ويقربون من �أبواب القبور‪ ،‬يحر�صون على حياتهم‬
‫�أكرث من ال�شباب يف مقتبل العمر‪ ،‬يف مقتبل املالذ‪ ،‬يف مقتبل الآمال‪.‬‬
‫الراحة الفكرية‪ ،‬في�ضني الأج�سام فوق �ضناها بال�شقاء‪،‬‬ ‫اال�ستبداد ي�سلب ّ‬
‫ويختل ال�شعور على درجات متفاوتة يف النا�س‪ .‬والعوام‬ ‫ُّ‬ ‫فتمر�ض العقول‪،‬‬
‫الذين هم قليلو املادة يف الأ�صل قد ي�صل مر�ضهم العقلي �إىل درجة قريبة‬
‫من عدم التمييز بني اخلري وال�رش‪ ،‬يف ك ِّل ما لي�س من �رضوريات حياتهم‬
‫جمرد �آثار ال َّأبهة والعظمة التي‬ ‫احليوانية‪ .‬وي�صل ت�س ُّفل �إدراكهم �إىل � َّأن ّ‬
‫وجمرد �سماع �ألفاظ التفخيم‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد و�أعوانه تبهر �أب�صارهم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يرونها على‬
‫يف و�صفه وحكايات قوته و�صولته يزيغ �أفكارهم‪ ،‬فريون ويفكرون � َّأن الدواء‬
‫يف الداء‪ ،‬فين�صاعون بني يدي اال�ستبداد ان�صياع الغنم بني �أيدي الذئاب‪،‬‬
‫مقر حتفها‪.‬‬
‫حيث هي جتري على قدميها جاهد ًة �إىل ِّ‬
‫ولهذا كان اال�ستبداد ي�ستويل على تلك العقول ال�ضعيفة ف�ض ًال عن الأج�سام‬
‫فيف�سدها كما يريد‪ ،‬ويتغ ّلب على تلك الأذهان ال�ضئيلة‪ ،‬في�شو�ش فيها احلقائق‪،‬‬
‫بل البديهيات كما يهوى‪ ،‬فيكون َم َث ُلهم يف انقيادهم الأعمى لال�ستبداد‬
‫ومقاومتهم للر�شد والإر�شاد‪ ،‬مثل تلك الهوام التي ترتامى على النار‪ ،‬وكم هي‬
‫تغالب من يريد حجزها على الهالك‪ .‬وال غرابة يف ت�أثري �ضعف الأج�سام على‬
‫ال�ضعف يف العقول‪ ،‬ف� َّإن يف املر�ضى وخ ّفة عقولهم‪ ،‬وذوي العاهات ونق�ص‬
‫بين ًا كافي ًا ُيقا�س عليه نق�ص عقول الأُ�رساء الب�ؤ�ساء بالن�سبة‬ ‫�إدراكهم‪� ،‬شاهداً ّ‬
‫�إىل الأحرار ال�سعداء‪ ،‬كما يظهر احلال �أي�ض ًا ب�أق ّل فرق بني الفئتني‪ ،‬من الفرق‬
‫الدم وا�ستحكام ال�صحة وجمال الهيئات‪.‬‬ ‫البينّ يف قوة الأج�سام وغزارة ّ‬
‫رمبا ي�سرتيب املطالع اللبيب الذي مل ُيتعب فكره يف در�س طبيعة اال�ستبداد‪،‬‬
‫من � َّأن اال�ستبداد امل�ش�ؤوم كيف يقوم على قلب احلقائق‪ ،‬مع �أ َّنه �إذا د ّقق النظر‬
‫يتجلى له � َّأن اال�ستبداد يقلب احلقائق يف الأذهان‪ .‬يرى �أ َّنه كم م ّكن بع�ض‬
‫القيا�رصة وامللوك الأولني من التالعب بالأديان ت�أييداً ال�ستبدادهم فا َّتبعهم‬
‫النا�س‪ .‬ويرى � َّأن النا�س و�ضعوا احلكومات لأجل خدمتهم‪ ،‬واال�ستبداد قلب‬
‫املو�ضوع‪ ،‬فجعل الرعية خادمة للرعاة‪ ،‬فقبلوا وقنعوا‪ .‬ويرى � َّأن اال�ستبداد‬
‫فاجر‪ ،‬وتارك ح ّقه مطيع‪ ،‬وامل�شتكي‬ ‫ٌ‬ ‫احلق‬
‫ما �ساقهم �إليه من اعتقاد � َّأن طالب ِّ‬

‫‪82‬‬
‫املتظلِّم مف�سد‪ ،‬وال ّنبيه املدقق ملحد‪ ،‬واخلامل امل�سكني �صالح �أمني‪ .‬وقد ا َّتبع‬
‫عتواً‪،‬‬
‫وال�شهامة ّ‬ ‫النا�س اال�ستبداد يف ت�سميته الن�صح ف�ضو ًال‪ ،‬والغرية عداوة‪ّ ،‬‬
‫واحلمية حماقة‪ ،‬والرحمة مر�ض ًا‪ ،‬كما جاروه على اعتبار � َّأن ال ِّنفاق �سيا�سة‪،‬‬
‫والتحيل كيا�سة‪ ،‬والدناءة لطف‪ ،‬والنذالة دماثة‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫وال غرابة يف حت ُّكم اال�ستبداد على احلقائق يف �أفكار الب�سطاء‪� ،‬إمنا الغريب‬
‫�سمون الفاحتني‬ ‫�إغفاله كثرياً من العقالء‪ ،‬ومنهم جمهور امل� ِّؤرخني الذين ُي ّ‬
‫ملجرد �أ َّنهم‬
‫بالرجال العظام‪ ،‬وينظرون �إليهم نظر الإجالل واالحرتام ّ‬ ‫الغالبني ِّ‬
‫كانوا �أكرث يف قتل الإن�سان‪ ،‬و�أ�رسفوا يف تخريب العمران‪ .‬ومن هذا القبيل يف‬
‫الغرابة �إعالء امل� ِّؤرخني قدر من جاروا امل�ستبدين‪ ،‬وحازوا القبول والوجاهة‬
‫عند الظاملني‪ .‬وكذلك افتخار الأخالق ب�أ�سالفهم املجرمني الذين كانوا من‬
‫ه�ؤالء الأعوان الأ�رشار‪.‬‬
‫احلرة‪،‬‬
‫ح�سنات مفقودة يف الإدارة ّ‬ ‫ٍ‬ ‫يظن بع�ض النا�س � َّأن لال�ستبداد‬ ‫وقد ُّ‬
‫واحلق � َّأن ذلك يح�صل فيه عن‬ ‫ُّ‬ ‫ويلطفها‪،‬‬
‫فيقولون مث ًال‪ :‬اال�ستبداد يلينّ الطباع ِّ‬
‫فقد ال�شهامة ال عن فقد ال�رشا�سة‪ .‬ويقولون‪ :‬اال�ستبداد ُيعلِّم ال�صغري اجلاهل‬
‫واحلق � َّأن هذا فيه عن خوف وجبانة ال‬ ‫ُّ‬ ‫ح�سن الطاعة واالنقياد للكبري اخلرب‪،‬‬
‫يربي النفو�س على االعتدال والوقوف عند‬ ‫عن اختيارٍ و�إذعان‪ .‬ويقولون‪ :‬هو ّ‬
‫انكما�ش وتقهقر‪ .‬ويقولون‪ :‬اال�ستبداد يقلل‬ ‫ٍ‬ ‫واحلق � ْأن لي�س هناك غري‬‫ُّ‬ ‫احلدود‪،‬‬
‫واحلق �أ َّنه عن فقر وعجر‪ ،‬ال عن ع ّف ٍة �أو دين‪ .‬ويقولون‪ :‬هو‬ ‫ُّ‬ ‫الف�سق والفجور‪،‬‬
‫فيقل تعديدها‬ ‫واحلق �أ َّنه مينع ظهورها ويخفيها‪ُّ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫يقلل التعديات واجلرائم‪،‬‬
‫ال عدادها‪.‬‬
‫و�سقياها العلم‪ ،‬والقائمون‬ ‫الأخالق �أثمار بذرها الوراثة‪ ،‬وتربتها الرتبية‪ُ ،‬‬
‫بناء عليه‪ ،‬تفعل ال�سيا�سة يف �أخالق الب�رش ما تفعله‬ ‫عليها هم رجال احلكومة‪ً ،‬‬
‫العناية يف �إمناء ال�شجر‪.‬‬
‫نعم‪ :‬الأقوام كالآجام‪� ،‬إن ُترِكت مهملة تزاحمت �أ�شجارها و�أفالذها‪ ،‬و�س ُقم‬
‫املتوح�شة‪ .‬و�إن‬
‫ِّ‬ ‫قويها على �ضعيفها ف�أهلكه‪ ،‬وهذا مثل القبائل‬ ‫�أكرثها‪ ،‬وتغ َّلب ّ‬
‫فدبرها ح�سبما تطلبه طباعها‪ ،‬قويت‬ ‫�صادفت ب�ستاني ًا يهمه بقا�ؤها وزهوها ّ‬
‫ين جدير‬ ‫وح�سنت ثمارها‪ ،‬وهذا مثل احلكومة العادلة‪ .‬و�إذا ُبليت بب�ستا ٍّ‬ ‫و�أينعت ُ‬
‫وخربها‪ ،‬وهذا مثل‬ ‫حطاب ًا ال يعنيه �إال عاجل االكت�ساب‪� ،‬أف�سدها ّ‬ ‫ي�سمى ّ‬ ‫ب�أن ّ‬

‫‪83‬‬
‫اال�ستبداد والأخالق‬

‫احلطاب غريب ًا مل ُيخلق من تراب تلك الديار‬ ‫امل�ستبدة‪ .‬ومتى كان ّ‬‫ّ‬ ‫احلكومة‬
‫همه احل�صول على الفائدة‬ ‫ولي�س له فيها فخار وال يلحقه منها عار‪� ،‬إنمّ ا ّ‬
‫فبناء على هذا‬‫ً‬ ‫الطامة وهناك البوار‪.‬‬ ‫العاجلة ولو باقتالع الأ�صول‪ ،‬فهناك ّ‬
‫احلطاب الذي ال ُيرجى‬ ‫عل اال�ستبداد يف �أخالق الأمم ِفعل ذلك ّ‬ ‫املثال‪ ،‬يكون ِف ُ‬
‫منه غري الإف�ساد‪.‬‬
‫ال تكون الأخالق �أخالق ًا ما مل تكن ملكة ُمطردة على قانون فطري‬
‫تقت�ضيه �أو ًال وظيفة الإن�سان نحو نف�سه‪ ،‬وثاني ًا وظيفته نحو عائلته‪ ،‬وثالث ًا‬
‫ي�سمى‬‫وظيفته نحو قومه‪ ،‬ورابع ًا وظيفته نحو الإن�سانية‪ ،‬وهذا القانون هو ما ّ‬
‫عند النا�س بالنامو�س‪.‬‬
‫ومن �أين لأ�سري اال�ستبداد �أن يكون �صاحب نامو�س‪ ،‬وهو كاحليوان اململوك‬
‫يهب الريح‪ ،‬ال نظام وال‬ ‫يهب‪ ،‬حيث ُّ‬ ‫العنان‪ُ ،‬يقاد حيث ُيراد‪ ،‬ويعي�ش كالري�ش‪ُّ ،‬‬
‫�إرادة؟ وما هي الإرادة؟ هي � ُّأم الأخالق‪ ،‬هي ما قيل فيها تعظيم ًا ل�ش�أنها‪:‬‬
‫لو جازت عبادة غري اهلل الختار العقالء عبادة الإرادة! هي تلك ال�صفة التي‬
‫تف�صل احليوان عن ال ّنبات يف تعريفه ب�أ ّنه متحرك بالإرادة‪ .‬فالأ�سري‪� ،‬إذن‪،‬‬
‫يتحرك ب�إرادة غريه ال ب�إرادة نف�سه‪ .‬ولهذا قال الفقهاء‪ :‬ال‬ ‫ّ‬ ‫دون احليوان لأ ّنه‬
‫لنية مواله‪ .‬وقد ُيعذر الأ�سري‬ ‫نية للرقيق يف كثري من �أحواله‪� ،‬إمنا هو تابع ّ‬ ‫ّ‬
‫على ف�ساد �أخالقه‪ ،‬ل َّأن فاقد اخليار غري م�ؤاخذ عق ًال و�رشع ًا‪.‬‬
‫�أ�سري اال�ستبداد ال نظام يف حياته‪ ،‬فال نظام يف �أخالقه‪ ،‬قد ي�صبح غني ًا‬
‫كل‬‫في�ضحى �شجاع ًا كرمي ًا‪ ،‬وقد مي�سي فقرياً فيبيت جبان ًا خ�سي�س ًا‪ ،‬وهكذا ُّ‬
‫�ش�ؤونه ت�شبه الفو�ضى ال ترتيب فيها‪ ،‬فهو يتبعها بال وجهة‪� .‬ألي�س الأ�سري قد‬
‫في�شنق‪ ،‬ويجوع يوم ًا في�ضوى‪ ،‬ويخ�صب‬ ‫فيعفى‪ ،‬وقلي ًال ُ‬‫ُيرهق‪ ،‬وي�سيء كثرياً ُ‬
‫فيم َنع‪ ،‬وي�أبى �شيئ ًا فيرُ غم؟! وهكذا يعي�ش كما‬ ‫يوم ًا فيتخم‪ ،‬يريد �أ�شياء ُ‬
‫ال�صدف �أن يعي�ش‪ ،‬ومن كانت هذه حاله كيف يكون له �أخالق‪ ،‬و� ْإن‬ ‫تقت�ضيه ُّ‬
‫ُكم على الأ�رساء‬‫جتوز احلكمة احل َ‬ ‫وجد ابتداء يتعذر ا�ستمراره عليه؟! ولهذا ال ّ‬
‫�رش‪.‬‬‫بخ ٍري �أو ّ‬
‫أقل ما ي�ؤ ّثره اال�ستبداد يف �أخالق النا�س‪� ،‬أ َّنه يرغم حتى الأخيار منهم‬ ‫� ُّ‬
‫غي‬ ‫ال�سيئتان‪ ،‬و�إنه يعني الأ�رشار على �إجراء ّ‬
‫الرياء والنفاق ولبئ�س ّ‬ ‫على �إلفة ّ‬
‫نفو�سهم �آمنني من ك ِّل تبعة ولو �أدبية‪ ،‬فال اعرتا�ض وال انتقاد وال افت�ضاح‪،‬‬

‫‪84‬‬
‫ل َّأن �أكرث �أعمال الأ�رشار تبقى م�ستورة‪ ،‬يلقي عليها اال�ستبداد رداء خوف النا�س‬
‫�رش وعقبى ذكر الفاجر مبا فيه‪ .‬ولهذا‪� ،‬شاعت بني‬ ‫من تبعة ال�شهادة على ذي ّ‬
‫الأ�رساء قواعد كثرية باطلة كقولهم‪� :‬إذا كان الكالم من ف�ضة فال�سكوت من‬
‫�سد �أفواههم‬ ‫وعاظهم يف ِّ‬ ‫موكول باملنطق‪ .‬وقد تغاىل ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ذهب‪ ،‬وقولهم‪ :‬البالء‬
‫حل َكم النبوية‪ ،‬وكم هجوا لهم الهجو‬ ‫حتى جعلوا لهم �أمثال هذه الأقوال من ا ِ‬
‫بال�سوء من القول) ويغفلون‬ ‫هلل اجلهر ّ‬ ‫يحب ا ُ‬
‫والغيبة بال قيد‪ ،‬فهم يقر�ؤون‪( :‬ال ُّ‬
‫بقية الآية‪ ،‬وهي‪�( :‬إ ّال من ُظ ِلم)‪.‬‬
‫�أقوى �ضابط للأخالق النهي عن املنكر بالن�صيحة والتوبيخ‪� ،‬أي بحر�ص‬
‫الأفراد على حرا�سة نظام االجتماع‪ ،‬وهذه الوظيفة غري مقدور عليها يف عهد‬
‫اال�ستبداد لغري ذوي املنعة وقليل ما هم‪ ،‬وقلي ًال ما يفعلون‪ ،‬وقلي ًال ما يفيد‬
‫نهيهم‪ ،‬لأنه ال ميكنهم توجيهه لغري امل�ست�ضعفني الذين ال ميلكون �رضراً‬
‫وال نفع ًا‪ ،‬بل وال ميلكون من �أنف�سهم �شيئ ًا‪ ،‬ولأ َّنه ينح�رص مو�ضوع نهيهم‬
‫الرذائل النف�سية ال�شخ�صية فقط‪ ،‬ومع ذلك‬ ‫فيما ال تخفى قباحته على �أح ٍد من ّ‬
‫فاجل�سور ال يرى ُب ّداً من اال�ستثناء املخ ِّل للقواعد العامة كقوله‪ :‬ال�سرّ قة قبيحة‬
‫واملوظفون يف عهد‬ ‫َّ‬ ‫�إال �إذا كانت ا�سرتداداً منها‪ ،‬والكذب حرام �إال للمظلوم‪.‬‬
‫اال�ستبداد للوعظ والإر�شاد يكونون ‪-‬مطلق ًا‪ -‬وال �أقول غالب ًا‪ ،‬من املنافقني‬
‫الذين نالوا الوظيفة بالتم ّلق‪ ،‬وما �أبعد ه�ؤالء عن الت�أثري‪ ،‬ل َّأن الن�صح الذي ال‬
‫ثم � َّإن ال ُّن�صح‬
‫رياء ك�أ�صله‪َّ ،‬‬
‫�إخال�ص فيه هو بذر عقيم ال ينبت‪ ،‬و� ْإن نبت كان ً‬
‫ال يفيد �شيئ ًا �إذا مل ي�صادف �أذن ًا تتط ّلب �سماعه‪ ،‬ل َّأن الن�صيحة و�إن كانت عن‬
‫أر�ض �صاحلة نبت‪ ،‬و�إن‬ ‫احلي‪ْ � :‬إن �أُلقي يف � ٍ‬
‫�إخال�ص فهي ال تتجاوز ُح ْك َم البذر ّ‬
‫أر�ض قاحلة مات‪.‬‬ ‫�أُلقي يف � ٍ‬
‫� ّأما النهي عن املنكرات يف الإدارة احلرة‪ ،‬فيمكن لك ِّل غيورٍ على نظام‬
‫يوجه �سهام قوار�صه على ال�ضعفاء‬ ‫قومه �أن يقوم به ب�أمانٍ و�إخال�ص‪ ،‬و�أن ِّ‬
‫يخ�ص بها الفقري املجروح الف�ؤاد‪ ،‬بل ت�ستهدف �أي�ض ًا‬ ‫ُّ‬ ‫والأقوياء �سواء‪ ،‬فال‬
‫الظلم‬‫واد حتى يف موا�ضيع تخفيف ُّ‬ ‫ال�شوكة والعناد‪ .‬و� ْأن يخو�ض يف ك ِّل ٍ‬ ‫ذوي ّ‬
‫ويجدي‪ ،‬والذي �أطلق‬ ‫حل ّكام‪ ،‬وهذا هو الن�صح الإنكاري الذي ُيعدي ُ‬ ‫وم�ؤاخذة ا ُ‬
‫(الدين) تعظيم ًا ل�ش�أنه‪ ،‬فقال‪( :‬الدين الن�صيحة)‪.‬‬ ‫عليه ال ّنبي عليه ال�سالم ا�سم ّ‬
‫�ضبط �أخالق الطبقات العليا من ال ّنا�س �أهم الأمور‪� ،‬أطلقت الأمم‬ ‫ُ‬ ‫ملا كان‬
‫ّ‬

‫‪85‬‬
‫اال�ستبداد والأخالق‬

‫احلرة حرية اخلطابة والت�أليف واملطبوعات م�ستثني ًة القذف فقط‪ ،‬ور�أت �أن‬ ‫ّ‬
‫م�رضة الفو�ضى يف ذلك خري التحديد‪ ،‬لأ َّنه ال مانع للح ّكام � ْأن يجعلوا‬
‫َّ‬ ‫حتمل‬
‫احلرية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أي‬ ‫�‬ ‫الطبيعة‪،‬‬ ‫تهم‬ ‫عدو‬
‫ّ‬ ‫بها‬ ‫ويخنقوا‬ ‫حديد‪،‬‬ ‫من‬ ‫�سل�سلة‬ ‫التقييد‬ ‫ال�شعرة من‬
‫ّ‬
‫كاتب وال �شهيد)‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫�ضار‬
‫وقد حمى القر�آن قاعدة الإطالق بقوله الكرمي‪( :‬وال ُي ُّ‬

‫اخل�صال تنق�سم �إىل ثالثة �أنواع‪:‬‬


‫والهمة واملدافعة‬ ‫ّ‬ ‫الأول‪ :‬اخل�صال احل�سنة الطبيعية‪ ،‬كال�صدق والأمانة‬
‫والرحمة‪ ،‬والقبيحة الطبيعية كالرياء واالعتداء واجلبانة والق�سوة‪ ،‬وهذا‬
‫كل الطبائع وال�رشائع‪.‬‬ ‫الق�سم ت�ضافرت عليه ُّ‬
‫والنوع الثاين‪ :‬اخل�صال الكمالية التي جاءت بها ال�رشائع الإلهامية‪،‬‬
‫كتح�سني الإيثار والعفو وتقبيح الز ّنى والطمع‪ ،‬وهذا الق�سم يوجد فيه ما ال‬
‫للدين احرتام ًا‬ ‫كل العقول حكمته �أو حكمة تعميمه‪ ،‬فيم ّثله املنت�سبون ّ‬ ‫تدرك ُّ‬
‫�أو خوف ًا‪.‬‬
‫والنوع الثالث‪ :‬اخل�صال االعتيادية‪ ،‬وهي ما يكت�سبه الإن�سان بالوراثة �أو‬
‫�ضطر �إىل‬
‫بالرتبية �أو بالألفة‪ ،‬في�ستح�سن �أو ي�ستقبح على ح�سب �أمياله ما مل ُي ّ‬
‫التحول عنها‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ثم � َّإن التدقيق يفيد � َّأن الأق�سام ت�شتبك وت�شرتك وي�ؤثر بع�ضها يف بع�ض‪،‬‬ ‫َّ‬
‫كل خ�صلة منها تر�سخ �أو‬ ‫في�صري جمموعها حتت ت�أثري الألفة املديدة‪ ،‬بحيث ُّ‬
‫تتزلزل‪ ،‬ح�سبما ي�صادفها من ا�ستمرار الألفة �أو انقطاعها‪ ،‬فالقاتل ‪-‬مث ًال‪ -‬ال‬
‫املرة الثانية كما ا�ستقبحها يف نف�سه يف الأوىل‪ ،‬وهكذا‬ ‫ي�ستنكر �شنيعته يف ّ‬
‫حق طبيعي‬ ‫يخف اجلرم يف وهمه‪ ،‬حتى ي�صل �إىل درجة التلذذ بالقتل‪ ،‬ك�أ ّنه ٌّ‬ ‫ُّ‬
‫جت يف �أفئدتهم‬ ‫اجلبارين وغالب ال�سيا�سيني‪ ،‬الذين ال تر ُّ‬ ‫له‪ ،‬كما هي حالة ّ‬
‫عاطفة رحمة عند قتلهم �أفراداً �أو �أمم ًا لغاياتهم ال�سيا�سية‪� ،‬إهراق ًا بال�سيف �أو‬
‫�إزهاق ًا بالقلم‪ ،‬وال فرق بني القتل بقطع الأوداج وبني الإماتة ب�إيراث ال�شقاء‬
‫غري الت�رسيع والإبطاء‪.‬‬
‫أ�رشها‪ ،‬وال‬
‫ويرتبى على � ِّ‬ ‫ّ‬ ‫�رش اخل�صال‪،‬‬
‫�أ�سري اال�ستبداد العريق فيه يرث َّ‬
‫بناء عليه‪ ،‬ما �أبعده عن خ�صال الكمال!‬ ‫بد �أن ي�صحبه بع�ضها مدى العمر‪ً .‬‬ ‫َّ‬
‫بالرياء‬
‫ّ‬ ‫تلب�سه‬ ‫واالعتيادية‬ ‫وال�رشعية‬ ‫الطبيعية‬ ‫اخل�صال‬ ‫ل‬‫ِّ‬ ‫لك‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫مف�سد‬ ‫ويكفيه‬

‫‪86‬‬
‫ا�ضطراراً حتى ال ي�ألفه وي�صري َم َلك ًة فيه‪ ،‬فيفقد ب�سبب ثقته نف�سه بنف�سه‪ ،‬لأ َّنه‬
‫م�ستقراً فيه‪ ،‬فال ميكنه‪ ،‬مث ًال‪� ،‬أن يجزم ب�أمانته‪� ،‬أو ي�ضمن ثباته‬ ‫ّ‬ ‫ال يجد ُخ ُلق ًا‬
‫لوام ًا‬‫حق ذاته مرتدداً يف �أعماله‪ّ ،‬‬ ‫الظن يف ِّ‬
‫على �أم ٍر من الأمور‪ ،‬فيعي�ش �سيئ ّ‬
‫همته ونق�ص مروءته‪ ،‬ويبقى طول‬ ‫نف�سه على �إهماله �ش�ؤونه‪� ،‬شاعراً بفتور َّ‬
‫اخلالق‪،‬واخلالق ‪-‬ج َّل �ش�أنه‪ -‬مل ُينق�صه‬
‫ُ‬ ‫عمره جاه ًال مورد هذا اخللل‪ ،‬في َّتهم‬
‫�شيئ ًا‪ .‬وي َّتهم تار ًة دينه‪ ،‬وتار ًة تربيته‪ ،‬وتار ًة زمانه‪ ،‬وتار ًة قومه‪ ،‬واحلقيقة‬
‫حراً ف�أُ�رس‪.‬‬
‫بعيدة عن ك ِّل ذلك‪ ،‬وما احلقيقة غري �أ ّنه ُخلق ّ‬
‫ب�شائبة من �أ�صول القبائح اخللقية ال‬ ‫ٍ‬ ‫املتلب�س‬
‫ِّ‬ ‫�أجمع الأخالقيون على � َّأن‬
‫ميكنه �أن يقطع ب�سالمة غريه منها‪ ،‬وهذا معنى‪�( :‬إذا �ساءت ِفعال املرء �ساءت‬
‫يظن الرباءة يف غريه من �شائبة‬ ‫ظنونه)‪ .‬فاملرائي ‪-‬مث ًال‪ -‬لي�س من �ش�أنه �أن َّ‬
‫الرياء‪� ،‬إ ّال �إذا َب ُع َد ت�شابه الن�ش�أة بينهما ُبعداً كبرياً‪ ،‬ك�أن تكون بينهما مغايرة‬
‫مهم يف املنزلة ك�صعلوك و�أمري كبري‪ .‬ومثال‬ ‫الدين �أو تفاوت ٌّ‬ ‫يف اجلن�س �أو ّ‬
‫ال�رشقي اخلائن‪ ،‬ي�أمن الإفرجني يف معاملته‪ ،‬ويثق بوزنه وح�سبانه‪ ،‬وال‬ ‫ّ‬ ‫ذلك‬
‫ي�أمن ويثق بابن جلدته‪ .‬وكذلك الإفرجني اخلائن قد ي�أمن ال�رشقي‪ ،‬وال ي�أمن‬
‫مطلق ًا ابن جن�سه‪ .‬وهذا احلكم �صادق على عك�س الق�ضية �أي�ض ًا‪� ،‬أي � َّأن الأمني‬
‫خدع)‪،‬‬ ‫يظن النا�س �أمناء‪ ،‬خ�صو�ص ًا �أ�شباهه يف الن�ش�أة‪ ،‬وهذا معنى (الكرمي ُي َ‬ ‫ُّ‬
‫الظن يف مواقعه‬ ‫ِّ‬ ‫إ�ساءة‬ ‫�‬ ‫يف‬ ‫احلزم‬ ‫حكمة‬ ‫باع‬ ‫ت‬
‫ِّ‬ ‫ا‬ ‫عن‬ ‫نف�سه‬ ‫يف‬ ‫أمني‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫يذهل‬ ‫وكم‬
‫الالزمة‪.‬‬
‫�إذا علمنا � َّأن من طبيعة اال�ستبداد �ألفة النا�س بع�ض الأخالق الرديئة‪ ،‬و� َّأن‬
‫منها ما ُي�ضعف ال ّثقة بالنف�س‪ ،‬علمنا �سبب قلة �أهل العمل و�أهل العزائم يف‬
‫ال�سرّ اء‪ ،‬وعلمنا �أي�ض ًا حكمة فقد الأُ�رساء ثقتهم بع�ضهم ببع�ض‪ .‬فينتج من ذلك‬
‫� َّأن الأُ�رساء حمرومون ‪-‬طبع ًا‪ -‬من ثمرة اال�شرتاك يف �أعمال احلياة‪،‬يعي�شون‬
‫م�ساكني بائ�سني متواكلني متخاذلني متقاع�سني متفا�شلني‪ ،‬والعاقل احلكيم‬
‫ال يلومهم‪ ،‬بل ي�شفق عليهم‪ ،‬ويلتم�س لهم خمرج ًا‪ .‬ويتبع �أثر �أحكم احلكماء‬
‫«رب ارحم قومي‪ ،‬ف�إنهم ال يعلمون»‪« ،‬اللهم اه ِد قومي‪ ،‬ف�إنهم ال‬ ‫القائل‪ِّ :‬‬
‫يعلمون»‪.‬‬
‫وهنا �أ�ستوقف املطالع و�أ�ستلفته �إىل الت� ّأمل يف ما هي ثمرة اال�شرتاك‬
‫�رس يف الكائنات‪ ،‬به‬ ‫التي يحرمها الأ�رساء‪ ،‬ف�أذكره ب� َّأن اال�شرتاك هو �أعظم ٍّ‬

‫‪87‬‬
‫اال�ستبداد والأخالق‬

‫قيام ك ِّل �شيء ما عدا اهلل وحده‪ .‬به قيام الأجرام ال�سماوية‪ ،‬به قيام ك ِّل حياة‪،‬‬
‫به قيام املواليد‪ ،‬به قيام الأجنا�س والأنواع‪ ،‬به قيام الأمم والقبائل‪ ،‬به‬
‫�رس ت�ضاعف القوة‬ ‫قيام العائالت‪ ،‬به تعاون الأع�ضاء‪ .‬نعم‪ ،‬اال�شرتاك فيه ُّ‬
‫�رس اال�ستمرار على الأعمال التي ال تفي بها �أعمار‬ ‫بن�سبة نامو�س الرتبيع‪ ،‬فيه ُّ‬
‫ال�رس يف جناح الأمم املتمدنة‪ .‬به �أكملوا‬ ‫كل ّ‬ ‫ال�رس ُّ‬
‫الأفراد‪ .‬نعم‪ ،‬اال�شرتاك هو ُّ‬
‫نامو�س حياتهم القومية‪ ،‬به �ضبطوا نظام حكوماتهم‪ ،‬به قاموا بعظائم‬
‫الأمور‪ ،‬به نالوا كل ما يغبطهم عليه �أُ�رساء اال�ستبداد الذين منهم العارفون‬
‫ويت�شوقون �إليه‪ ،‬ولكن‪ ،‬ك ٌّل منهم ُيبطن لغنب �رشكائه با ِّتكاله‬ ‫َّ‬ ‫بقدر اال�شرتاك‬
‫عليهم عم ًال‪ ،‬وا�ستبداده عليهم ر�أي ًا‪ ،‬حتى �صار من �أمثالهم قولهم‪( :‬ما من‬
‫مغلوب للآخر)‪.‬‬‫ٌ‬ ‫م َّتفقني �إال و�أحدهما‬
‫اخلفي‪ ،‬وطاملا كتب‬ ‫ّ‬ ‫�رس اال�شرتاك لي�س بالأمر‬ ‫ور َّب قائلٍ يقول � َّإن َّ‬ ‫ُ‬
‫اليابانيون والبوير‪ ،‬فما ال�سبب؟ ف�أجيبه ب� َّأن ال ُك َّتاب كتبوا و�أكرثوا و�أح�سنوا‬
‫ولكن‪ ،‬قاتل اهلل اال�ستبداد و�ش�ؤمه‪ ،‬جعل الك ّتاب‬ ‫ْ‬ ‫و�صوروا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ف�صلوا‬
‫فيما ّ‬
‫يح�رصون �أقوالهم يف الدعوة �إىل اال�شرتاك‪ ،‬وما مبعناه من التعاون واالحتاد‬
‫كلي ًا‪،‬‬
‫التفرق واالنحالل ّ‬ ‫التعر�ض لذكر �أ�سباب ّ‬ ‫والتحابب واال ِّتفاق‪ ،‬ومنعهم من ُّ‬
‫�أو ا�ضطرهم �إىل االقت�صار على بيان الأ�سباب الأخرية فقط‪ .‬فمن قائلٍ مث ًال‪:‬‬
‫مري�ض و�سببه اجلهل‪ ،‬ومن قائلٍ ‪ :‬اجلهل بالء و�سببه ق ّلة املدار�س‪ ،‬ومن‬ ‫ٌ‬ ‫ال�رشق‬
‫عار و�سببه عدم التعاون على �إن�شائها من قبل الأفراد �أو‬ ‫قائلٍ ‪ :‬ق ّلة املدار�س ٌ‬
‫من قبل ذوي ال�ش�أن‪.‬‬
‫يخطه قلم الكاتب ال�رشقي ك�أ ّنه و�صل �إىل ال�سبب املانع‬ ‫وهذا �أعمق ما ُّ‬
‫الطبيعي �أو االختياري‪ .‬واحلقيقة‪َّ � ،‬أن هناك �سل�سلة �أ�سباب �أخرى حلقتها‬
‫الأوىل اال�ستبداد‪.‬‬
‫ثم يقف‪،‬‬ ‫التم�سك بالدين‪َّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫وكاتب �آخر يقول‪ :‬ال�رشق مري�ض و�سببه فقد‬
‫تتبع الأ�سباب لبلغ �إىل احلكم ب� َّأن التهاون يف الدين �أو ًال و�آخراً‬ ‫مع �أ َّنه لو َّ‬
‫نا�شئ من اال�ستبداد‪ .‬و�آخر يقول‪َّ � :‬إن ال�سبب ف�ساد الأخالق‪ ،‬وغريه يرى �أ ّنه‬
‫ظن �أ َّنه الك�سل‪ ،‬واحلقيقة � َّأن املرجع الأول يف الك ّل هو‬ ‫فقد الرتبية‪ ،‬و�سواء َّ‬
‫اال�ستبداد‪ ،‬الذي مينع حتى �أولئك الباحثني عن الت�رصيح با�سمه املهيب‪.‬‬
‫وقد ا َّتفق احلكماء الذين �أكرمهم اهلل تعاىل بوظيفة الأخذ بيد الأمم يف‬

‫‪88‬‬
‫بحثهم عن املهلكات واملنجيات‪ ،‬على � َّأن ف�ساد الأخالق ُيخرج الأمم عن‬
‫�أن تكون قابلة للخطاب‪ ،‬و� َّأن معاناة �إ�صالح الأخالق من �أ�صعب الأمور‬
‫يعم‬
‫و�أحوجها �إىل احلكمة البالغة والعزم القوي‪ ،‬وذكروا � َّأن ف�ساد الأخالق ُّ‬
‫ثم يدخل بالعدوى �إىل ك ّل البيوت‪ ،‬وال �سيما بيوت‬ ‫امل�ستبد و�أعوانه وعماله‪َّ ،‬‬
‫َّ‬
‫الطبقات العليا التي تتم َّثل بها ال�سفلى‪ .‬وهكذا يغ�شو الف�ساد‪ ،‬ومت�سي الأمة‬
‫املحب وي�شمت بها العدو‪ ،‬وتبيت ودا�ؤها عياء يتعا�صى على الدواء‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫يبكيها‬
‫وقد �سلك الأنبياء عليهم ال�سالم‪ ،‬يف �إنقاذ الأمم من ف�ساد الأخالق‪ ،‬م�سلك‬
‫بفك العقول من تعظيم غري اهلل والإذعان ل�سواه‪ .‬وذلك بتقوية‬ ‫االبتداء �أو ًال ِّ‬
‫ثم جهدوا يف تنوير العقول‬ ‫كل �إن�سان‪َّ ،‬‬
‫ح�سن الإميان املفطور عليه وجدان ُّ‬
‫مببادئ احلكمة‪ ،‬وتعريف الإن�سان كيف ميلك �إرادته‪� ،‬أي حريته يف �أفكاره‪،‬‬
‫و�سدوا منابع الف�ساد‪.‬‬
‫واختياره يف �أعماله‪ ،‬وبذلك هدموا ح�صون اال�ستبداد ّ‬
‫ثم بعد �إطالق زمام العقول‪� ،‬صاروا ينظرون �إىل الإن�سان ب�أ َّنه مك َّلف‬ ‫َّ‬
‫بقانون الإن�سانية‪ ،‬ومطالب بح�سن الأخالق‪ ،‬فيعلمونه ذلك ب�أ�ساليب التعليم‬
‫وبث الرتبية التهذيبية‪.‬‬
‫املقنع ّ‬
‫واحلكماء ال�سيا�سيون الأقدمون ا َّتبعوا الأنبياء‪ -‬عليهم ال�سالم‪ -‬يف �سلوك‬
‫هذا الطريق وهذا الرتتيب‪� ،‬أي باالبتداء من نقطة دينية فطرية ت�ؤدي �إىل‬
‫ثم با ِّتباع طريق الرتبية والتهذيب دون فتورٍ وال انقطاع‪.‬‬ ‫حترير ال�ضمائر‪َّ ،‬‬
‫�أما املت�أخرون من قادة العقول يف الغرب‪ ،‬فمنهم فئة �سلكوا طريقة‬
‫اخلروج ب�أممهم من حظرية الدين و�آدابه النف�سية‪� ،‬إىل ف�ضاء الإطالق وتربية‬
‫الطبيعة‪ ،‬زاعمني � َّأن الفطرة يف الإن�سان �أهدى �سبي ًال‪ ،‬وحاجته �إىل النظام‬
‫ثم‬
‫احل�س بالهموم‪ّ ،‬‬ ‫تعطل َّ‬‫تغنيه عن �إعانة الدين‪ ،‬التي هي كاملخدرات �سموم ِّ‬
‫تذهب باحلياة‪ ،‬فيكون �رضرها �أكرب من نفعها‪.‬‬
‫وقد �ساعدهم على �سلوك هذا امل�سلك‪� ،‬أ َّنهم وجدوا �أممهم قد ف�شا فيها‬
‫نور العلم‪ ،‬ذلك العلم الذي كان منح�رصاً يف خدمة الدين عند امل�رصيني‬
‫والآ�شوريني‪ ،‬وحم َت َكراً يف �أبناء الأ�رشاف عند الغرناطيني والرومان‪،‬‬
‫ال�شبان املنتخبني عند الهنود واليونانيني‪ ،‬حتى جاء‬ ‫وخم�ص�ص ًا يف �أعداد من ّ‬
‫العرب بعد الإ�سالم‪ ،‬و�أطلقوا حرية العلم‪ ،‬و�أباحوا تناوله لك ِّل متعلم‪ ،‬فانتقل‬
‫فتنورت به عقول الأمم على درجات‪،‬‬ ‫�إىل �أوروبا حراً على رغم رجال الدين‪َّ ،‬‬

‫‪89‬‬
‫اال�ستبداد والأخالق‬

‫ويف ن�سبتها تر َّقت الأمم يف النعيم‪ ،‬وانت�رشت وتخالطت‪ ،‬و�صار املت� ِّأخر منها‬
‫املتقدم ويتن َّغ�ص من حالته‪ ،‬ويتط َّلب اللحاق‪ ،‬ويبحث عن و�سائله‪ .‬فن�ش�أ‬ ‫ِّ‬ ‫يغبط‬
‫من ذلك حركة قوية يف الأفكار‪ ،‬وحركة معرفة اخلري والغرية على نواله‪،‬‬
‫ال�رش والأ َن َفة من ال�صرب عليه‪ ،‬حركة ال�سري �إىل الأمام رغم ك ِّل‬
‫حركة معرفة ّ‬
‫معار�ض‪ .‬اغتنم زعماء احلرية يف الغرب قوة هذه احلركة و�أ�ضافوا �إليها قوات‬
‫�أدبية �ش ّتى‪ ،‬كا�ستبدالهم ثقالة وقار الدين بزهوة عرو�س احلرية‪ ،‬حتى �إ َّنهم‬
‫مل يبالوا بتمثيل احلرية بح�سناء خليعة تختلب النفو�س‪ .‬وكا�ستبدالهم رابطة‬
‫اال�شرتاك يف الطاعة للم�ستبدين برابطة اال�شرتاك يف ال�ش�ؤون العمومية‪ ،‬ذلك‬
‫حب الوطن‪ .‬وهكذا جعلوا قوة حركة الأفكار تياراً‬ ‫اال�شرتاك الذي يتو ّلد منه ُّ‬
‫ثم � َّإن ه�ؤالء الزعماء‬‫�س ّلطوه على ر�ؤو�س الر�ؤو�س من �أهل ال�سيا�سة والدين‪َّ .‬‬
‫ا�ستباحوا الق�ساوة �أي�ض ًا‪ ،‬ف�أخذوا من مهجورات دينهم قاعدة (الغاية تربر‬
‫الوا�سطة)‪ ،‬كجواز ال�رسقة �إذا كانت الغاية من �رصف املال يف �سبيل اخلري‪،‬‬
‫ذمة الكاهن التي‬ ‫وقاعدة (تثقيل الذمة يبيح الفعل القبيح) ك�شهادة الزور على ّ‬
‫يتحمل عنها خطيئتها‪ ،‬ودفعوا النا�س بهما �إىل ارتكاب اجلرائم الفظيعة التي‬ ‫َّ‬
‫تق�شعر منها الإن�سانية‪ ،‬التي ال ي�ستبيحها احلكيم ال�رشقي ملا بني �أبناء الغرب‬ ‫ُّ‬
‫و�أبناء ال�رشق من التباين يف الغرائز والأخالق‪.‬‬
‫حري�ص على االنتقام‪،‬‬‫ٌ‬ ‫قوي النف�س‪� ،‬شديد املعاملة‪،‬‬
‫مادي احلياة‪ُّ ،‬‬
‫ُّ‬ ‫الغربي‪:‬‬
‫يبق عنده �شيء من املبادئ العالية والعواطف ال�رشيفة التي نقلتها‬ ‫ك�أ َّنه مل َ‬
‫له م�سيحية ال�رشق‪ .‬فاجلرماين مث ًال‪ :‬جاف الطبع‪ ،‬يرى � َّأن الع�ضو ال�ضعيف‬
‫من الب�رش ي�ستحق املوت‪ ،‬ويرى ك َّل ف�ضيلة يف القوة‪ ،‬وك َّل القوة يف املال‪،‬‬
‫ويحب املجد‪ ،‬ولكن لأجل املال‪ .‬وهذا‬ ‫ُّ‬ ‫يحب العلم‪ ،‬ولكن‪ ،‬لأجل املال‪،‬‬ ‫فهو ُّ‬
‫الالتيني مطبوع على العجب والطي�ش‪ ،‬يرى العقل يف الإطالق‪ ،‬واحلياة يف‬
‫خلع احلياء‪ ،‬وال�شرّ ف يف الترّ ف‪ ،‬والكيا�سة يف الك�سب‪ ،‬والع ّز يف الغلبة‪ ،‬والل َّذة‬
‫يف املائدة والفرا�ش‪.‬‬
‫احلب‪،‬‬
‫�أما �أهل ال�رشق فهم �أدبيون‪ ،‬ويغلب عليهم �ضعف القلب و�سلطان ِّ‬
‫للرحمة ولو يف غري موقعها‪ ،‬وال ُّلطف ولو مع‬ ‫والإ�صغاء للوجدان‪ ،‬وامليل ّ‬
‫اخل�صم‪ .‬ويرون الع َّز يف الفتوة واملروءة‪ ،‬والغنى يف القناعة والف�ضيلة‪،‬‬
‫وال�سكينة‪ ،‬واللذة يف الكرم والتحبب‪ ،‬وهم يغ�ضبون‪ ،‬ولكن‪،‬‬ ‫والراحة يف الأن�س ّ‬

‫‪90‬‬
‫للدين فقط‪ ،‬ويغارون‪ ،‬ولكن‪ ،‬على ال ِع ْر�ض فقط‪.‬‬
‫لي�س من �ش�أن ال�رشقي �أن ي�سري مع الغربي يف طريقٍ واحدة‪ ،‬فال تطاوعه‬
‫طباعه على ا�ستباحة ما ي�ستح�سنه الغربي‪ ،‬و�إن تك َّلف تقليده يف �أمر فال‬
‫ُيح�سن التقليد‪ ،‬و�إن �أح�سنه فال يثبت‪ ،‬و�إن ثبت فال يعرف ا�ستثماره‪ ،‬حتى‬
‫يهتم يف‬‫لو �سقطت الثمرة يف ك ِّفه مت ّنى لو قفزت على فمه!‪ ..‬فال�رشقي مث ًال ُّ‬
‫ثم ال يفكر فيمن يخلفه وال يراقبه‪ ،‬فيقع‬ ‫�ش�أن ظامله �إىل �أن يزول عنه ظلمه‪َّ ،‬‬
‫الكرة ويعود الظلم �إىل ما ال نهاية‪ .‬وك�أولئك الباطنة‬ ‫يف الظلم ثاني ًة‪ ،‬فيعيد ّ‬
‫يف الإ�سالم‪ :‬فتكوا مبئات �أمراء على غري طائل‪ ،‬ك�أ َّنهم مل ي�سمعوا باحلكمة‬
‫يحب‬‫النبوية‪( :‬ال ُي َلدغ املرء من ُجح ٍر مرتني)‪ ،‬وال باحلكمة القر�آنية (� َّإن اهلل ُّ‬
‫امل َّتقني)‪� .‬أما الغربي �إذا �أخذ على يد ظامله فال يفلته حتى ي�ش َّلها‪ ،‬بل حتى‬
‫يقطعها ويكوي مقطعها‪.‬‬
‫وهكذا بني ال�رشقيني والغربيني فروق كثرية‪ ،‬قد يف�ضل يف الإفراديات‬
‫ال�رشقي على الغربي‪ ،‬ويف االجتماعيات يف�ضل الغربي على ال�رشقي مطلق ًا‪.‬‬
‫مثال ذلك‪ :‬الغربيون ي�ستحلفون �أمريهم على ال�صداقة يف خدمته لهم والتزام‬
‫القانون‪ .‬وال�سلطان ال�رشقي ي�ستحلف الرعية على االنقياد والطاعة! الغربيون‬
‫يتكرمون‬ ‫يمَ ّنون على ملوكهم مبا يرتزقون من ف�ضالتهم‪ ،‬والأمراء ال�رشقيون َّ‬
‫على من �شا�ؤوا ب�إجراء �أموالهم عليهم �صدقات! الغربي يعترب نف�سه مالك ًا‬
‫وال�رشقي يعترب نف�سه و�أوالده وما يف يديه ملك ًا لأمريه!‬‫ّ‬ ‫جلز ٍء م�شاع من وطنه‪،‬‬
‫الغربي له على �أمريه حقوق‪ ،‬ولي�س عليه حقوق‪ ،‬وال�رشقي عليه لأمريه حقوق‬
‫ولي�س له حقوق! الغربيون ي�ضعون قانون ًا لأمريهم ي�رسي عليه‪ ،‬وال�رشقيون‬
‫ي�سريون على قانون م�شيئة �أمرائهم! الغربيون ق�ضا�ؤهم وقدرهم من اهلل‪،‬‬
‫وال�رشقيون ق�ضا�ؤهم وقدرهم ما ي�صدر من بني �شفتي امل�ستعبدين! ال�رشقي‬
‫�رسيع الت�صديق‪ ،‬والغربي ينفي وال يثبت حتى يرى ويلم�س‪ .‬ال�رشقي �أكرث ما‬
‫م�ستود ٌع فيها‪ ،‬والغربي �أكرث ما يغار على‬ ‫َ‬ ‫يغار على الفروج ك� َّأن �رشفه ك ّله‬
‫حري�ص‬‫ٌ‬ ‫حري�ص على الدين والرياء فيه‪ ،‬والغربي‬ ‫ٌ‬ ‫حريته وا�ستقالله! ال�رشقي‬
‫على القوة والع ّز واملزيد فيهما! واخلال�صة‪َّ � :‬أن ال�رشقي ابن املا�ضي واخليال‪،‬‬
‫والغربي ابن امل�ستقبل واجلد!‪...‬‬
‫احلكماء املت�أخرون الغربيون �ساعدتهم ظروف الزمان واملكان‪،‬‬

‫‪91‬‬
‫اال�ستبداد والأخالق‬

‫وخ�صو�صية الأحوال‪ ،‬الخت�صار الطريق ف�سلكوه‪ ،‬وا�ستباحوا ما ا�ستباحوا‪،‬‬


‫امل�ستبد على ت�شديد‬
‫َّ‬ ‫حتى �إ َّنهم ا�ستباحوا يف التمهيد ال�سيا�سي ت�شجيع �أعوان‬
‫وط�أة الظلم واالعت�ساف بق�صد تعميم احلقد عليه‪ ،‬ومبثل هذه التدابري القا�سية‬
‫نالوا املراد �أو بع�ضه‪ ،‬من حترير الأفكار وتهذيب الأخالق وجعل الإن�سان‬
‫�إن�سان ًا‪.‬‬
‫وقد �سبق ه�ؤالء ال ُغالة فئة ا َّتبعت �أثر النبيني‪ ،‬ومل حتفل بطول الطريق‬
‫وتعبه‪ ،‬فنجحت ور�سخت‪ ،‬و�أعني بتلك الفئة �أولئك احلكماء الذين مل ي�أتوا‬
‫مت�سكوا مبعاداة ك ِّل دين‪ ،‬كم�ؤ�س�سي جمهورية الفرن�سي�س‪،‬‬ ‫بدينٍ جديد‪ ،‬وال ّ‬
‫وقربوا‪ ،‬حتى‬‫و�سهلوا‪َّ ،‬‬
‫الدهر يف دينهم مبا ن َّقحوا‪ ،‬وه َّذبوا‪َّ ،‬‬ ‫بل رتقوا ُفتوق ّ‬
‫جددوه‪ ،‬وجعلوه �صاحل ًا لتجديد خليق �أخالق الأمة‪.‬‬ ‫َّ‬
‫وما �أحوج ال�رشقيني �أجمعني من بوذيني وم�سلمني وم�سيحيني‬
‫و�إ�رسائيليني وغريهم‪� ،‬إىل حكماء ال يبالون بغوغاء العلماء املرائني الأغبياء‪،‬‬
‫الدين‪ ،‬نظر من ال يحفل بغري‬ ‫والر�ؤ�ساء الق�ساة اجلهالء‪ .‬فيجددون ال ّنظر يف ّ‬
‫احلق ال�رصيح‪ ،‬نظر من ال ي�ضيع النتائج بت�شوي�ش املقدمات‪ ،‬نظر من يق�صد‬ ‫ِّ‬
‫ربه ال ا�ستمالة النا�س‬ ‫�إظهار احلقيقة ال �إظهار الف�صاحة‪ ،‬نظر من يريد وجه ِّ‬
‫املعطلة يف الدين‪ ،‬ويه ِّذبونه من الزوائد الباطلة‬‫َّ‬ ‫�إليه‪ ،‬وبذلك يعيدون النواق�ص‬
‫مما يطر�أ عاد ًة على ك ِّل دينٍ يتقادم عهده‪ ،‬فيحتاج �إىل جمددين يرجعون‬
‫به �إىل �أ�صله املبني الربيء من حيث متليك الإرادة ورفع البالدة من كل ما‬
‫ي�شني‪ ،‬املخ ِّفف �شقاء اال�ستبداد واال�ستعباد‪ ،‬املب�صرِّ بطرائق التعليم والتع ّلم‬
‫املهيئ قيام الرتبية احل�سنة وا�ستقرار الأخالق املنتظمة مما به‬ ‫ّ‬ ‫ال�صحيحني‪،‬‬
‫ي�صري الإن�سان �إن�سان ًا‪ ،‬وبه ال بالكفر يعي�ش النا�س �إخوان ًا‪.‬‬
‫وال�رشقيون ما داموا على حا�رض حالهم بعيدين عن املجد والعزم‪،‬‬
‫مرتاحني للهو والهزل ت�سكين ًا لآالم �إ�سارة النف�س‪ ،‬و�إخالداً �إىل اخلمول‬
‫والت�س ُّفل‪ ،‬طلب ًا لراحة الفكر امل�ضغوط عليه من ك ِّل جانب‪ ،‬يت�أملون من‬
‫تذكريهم باحلقائق‪ ،‬ومطالبتهم بالوظائف‪ ،‬ينتظرون زوال العناد بالتواكل‪،‬‬
‫�أو جمرد التم ّني والدعاء‪� .‬أو يرتب�صون �صدفة مثل التي نالتها بع�ض الأمم‪،‬‬
‫فليتو ّقعوا �إذن �أن يفقدوا الدين كلي ًا‪ ،‬فيم�سوا ‪ -‬وما م�سا�ؤهم ببعيد‪ -‬دهريني‪،‬‬
‫ال يدرون �أي احلياتني �أ�شقى‪ ،‬فلينظروا ما حاق بالآ�شوريني والفينيقيني‬

‫‪92‬‬
‫وخ َو ًال‪.‬‬
‫وغريهم من الأمم املنقر�ضة املندجمة يف غريها خدم ًا َ‬
‫املنحطة من جميع الأديان حت�رص بلية‬ ‫ّ‬ ‫والأمر الغريب‪َّ � ،‬أن ك َّل الأمم‬
‫انحطاطها ال�سيا�سي يف تهاونها ب�أمور دينها‪ ،‬وال ترجو حت�سني حالتها‬
‫بالتم�سك بعروة الدين مت�سك ًا مكين ًا‪ ،‬ويريدون بالدين العبادة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫االجتماعية �إال‬
‫ول ِنعم االعتقاد لو كان يفيد �شيئ ًا‪ ،‬لكنه ال يفيد �أبداً‪ ،‬لأنه ٌ‬
‫قول ال ميكن �أن‬
‫بذر جيد ال �شبهة فيه‪ ،‬ف�إذا �صادف مغر�س ًا‬ ‫يكون وراءه فعل‪ ،‬وذلك � َّأن الدين ٌ‬
‫طيب ًا نبت ومنا‪ ،‬و�إن �صادف �أر�ض ًا قاحلة مات وفات‪� ،‬أو �أر�ض ًا مغراق ًا هاف‬
‫اال�ستبداد ب�رصها وب�صريتها‪ ،‬و�أف�سد �أخالقها ودينها‪ ،‬حتى �صارت ال تعرف‬
‫أ�رض‬
‫حدهما امل�رشوع � ُّ‬ ‫للدين معنى غري العبادة والن�سك اللذين زيادتهما على ِّ‬
‫على الأمة من نق�صهما كما هو م�شاهد يف املتن�سكني‪.‬‬
‫نعم! الدين يفيد الرت ّقي االجتماعي �إذا �صادف �أخالق ًا فطرية مل تف�سد‪،‬‬
‫فينه�ض بها كما نه�ضت الإ�سالمية بالعرب‪ ،‬تلك النه�ضة التي نتطلبها منذ‬
‫�ألف عام عبث ًا‪.‬‬
‫وقد ع َّلمنا هذا الدهر الطويل ‪-‬مع الأ�سف‪َّ � -‬أن �أكرث النا�س ال يحفلون‬
‫ورياء‪ ،‬وعلمنا � َّأن النا�س عبيد منافعهم‬ ‫ً‬ ‫بالدين �إال �إذا وافق �أغرا�ضهم‪� ،‬أو لهواً‬
‫وعبيد الزمان‪ ،‬و� َّأن العقل ال يفيد العزم عندهم‪� ،‬إمنا العزم عندهم يتو ّلد من‬
‫ال�رضورة �أو يح�صل بال�سائق املجرب‪ .‬وال ي�ستحي النا�س من �أن ُيلزموا �أنف�سهم‬
‫املنحطة �أن تلتم�س دواءها من‬ ‫ّ‬ ‫بناء عليه‪ ،‬ما �أجدر بالأمم‬‫باليمني �أو النذر‪ً .‬‬
‫طريق �إحياء العلم و�إحياء الهمة مع اال�ستعانة بالدين واال�ستفادة منه مبثل‪:‬‬
‫ال�صالة تنهى عن الفح�شاء واملنكر)‪ ،‬ال �أن ي َّت ِكلوا على � َّأن ال�صالة متنع‬ ‫(� َّإن ّ‬
‫النا�س عنهما بطبعها‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫اال�ستبداد والرتبية‬

‫‪94‬‬
‫اال�ستبداد والرتبية‬
‫هلل يف الإن�سان ا�ستعداداً لل�صالح وا�ستعداداً للف�ساد‪ ،‬ف�أبواه ي�صلحانه‪،‬‬ ‫خلق ا ُ‬
‫و�أبواه يف�سدانه‪� ،‬أي � َّإن الرتبية تربو با�ستعداده ج�سم ًا ونف�س ًا وعق ًال‪ْ � ،‬إن خرياً‬
‫ف�رش‪ .‬وقد �سبق � َّأن اال�ستبداد امل�ش�ؤوم ي�ؤ ِّثر على الأج�سام‬ ‫فخري‪ ،‬و� ْإن �رشاً ّ‬
‫فيورثها الأ�سقام‪ ،‬وي�سطو على النفو�س‪ ،‬فيف�سد الأخالق‪ ،‬وي�ضغط على العقول‬
‫بناء عليه‪ ،‬تكون الرتبية واال�ستبداد عاملني متعاك�سني‬ ‫فيمنع مناءها بالعلم‪ً .‬‬
‫فكل ما تبنيه الرتبية مع �ضعفها يهدمه اال�ستبداد بقوته‪ ،‬وهل‬ ‫يف النتائج‪ُّ ،‬‬
‫بناء وراءه هاد؟‬ ‫يتم ٌ‬ ‫ُّ‬
‫رقي ًا وانحطاط ًا‪ .‬وهذا الإن�سان الذي حارت العقول‬ ‫ّ‬ ‫لغايتيه‬ ‫حد‬
‫َّ‬ ‫ال‬ ‫إن�سان‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫مت خالقه ا�ستعداده‪،‬‬ ‫حتمل �أمانة تربية ال َّنف�س‪ ،‬وقد �أبتها العوامل‪ ،‬ف�أ َّ‬ ‫فيه‪ ،‬الذي َّ‬
‫ثم �أوكله خلريته‪ ،‬فهو �إن ي�ش�أ الكمال يبلغ فيه �إىل ما فوق مرتبة املالئكة‪،‬‬ ‫َّ‬
‫لل�رش‬
‫ِّ‬ ‫أقرب‬ ‫�‬ ‫إن�سان‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫أن‬
‫َّ‬ ‫�‬ ‫على‬ ‫ال�شياطني‪،‬‬ ‫من‬ ‫أحط‬
‫ّ‬ ‫�‬ ‫حتى‬ ‫ذائل‬ ‫بالر‬
‫َّ‬ ‫�س‬ ‫تلب‬
‫َّ‬ ‫�شاء‬ ‫إن‬ ‫و�‬
‫ٍ‬
‫بو�صف‬ ‫منه للخري‪ .‬وكفى � َّأن اهلل ما ذكر الإن�سان يف القر�آن‪� ،‬إال وقرن ا�سمه‬
‫وجبار وجهول و�أثيم‪ .‬ما ذكر اهلل تعاىل الإن�سان‬ ‫قبيح كظلوم وغرور وك ّفار ّ‬
‫لكفور)‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫يف القر�آن �إال وهجاه‪ ،‬فقال‪ُ ( :‬ق ِتل ال ُ‬
‫إن�سان ما �أكفره)‪َّ �( ،‬إن الإن�سان‬
‫(خ ِلق‬ ‫(� َّإن الإن�سان لفي ُخ�رس)‪َّ �( ،‬إن الإن�سان ليطغى)‪( ،‬وكان الإن�سان َعجو ًال)‪ُ ،‬‬

‫‪95‬‬
‫اال�ستبداد والرتبية‬

‫الإن�سان من َع َجلٍ )‪ .‬ما ُوجِ د من خملوقات اهلل من نازع اهلل يف عظمته‪،‬‬


‫الرذالة قد يقبحون‬ ‫وامل�ستبدون من الإن�سان ينازعونه فيها‪ ،‬واملتناهون يف ّ‬ ‫ّ‬
‫عبث ًا لغري حاجة يف ال َّنف�س حتى وقد يتعمدون الإ�ساءة لأنف�سهم‪.‬‬
‫م�ستقيم ل ِد ٌن بطبعه‪ ،‬ولك ّنها‬
‫ٌ‬ ‫الرطب‪ ،‬فهو‬ ‫الإن�سان يف ن�ش�أته كالغ�صن َّ‬
‫�شب يب�س وبقي على‬ ‫ال�رش‪ ،‬ف�إذا َّ‬
‫�أهواء الرتبية متيل به �إىل ميني اخلري �أو �شمال ّ‬
‫�أمياله ما دام حي ًا‪ ،‬بل تبقى روحه �إىل �أبد الآبدين يف نعيم ال�رسور ب�إيفائه‬
‫حق وظيفة احلياة �أو يف جحيم الندم على تفريطه‪ .‬ورمبا كان ال غرابة يف‬ ‫َّ‬
‫ت�شبيه الإن�سان بعد املوت باملرء الفرح الفخور �إذا نام ول َّذت له الأحالم‪� ،‬أو‬
‫باملجرم اجلاين �إذا نام فغ�شيته قوار�ص الوجدان بهواج�س ك ُّلها مالم و�آالم‪.‬‬
‫أهم �أ�صولها‬ ‫الرتبية ملك ٌة حت�صل بالتعليم والتمرين والقدوة واالقتبا�س‪ ،‬ف� ُّ‬
‫أهم فروعها وجود الدين‪ .‬وجعلت الدين فرع ًا ال �أ�ص ًال‪ ،‬ل َّأن‬ ‫وجود املرابني‪ ،‬و� ُّ‬
‫علم ال يفيد العمل �إذا مل يكن مقرون ًا بالتمرين‪ .‬وهذا هو �سبب اختالف‬ ‫الدين ٌ‬
‫الأخالف من علماء الدين عند الإ�سالم عن �أمثالهم من الرباهمة والن�صارى‪،‬‬
‫وهو �سبب �إقبال امل�سلمني يف القرن اخلام�س‪ ،‬وفيما بعده‪ ،‬على قبول �أ�صول‬
‫لب ًا حم�ض ًا ملا كانت تعليم ًا ومترين ًا‪� ،‬أي تربية للمريدين‪،‬‬ ‫الطرائق التي كانت ّ‬
‫ثم �صار �أكرثها لهواً �أو كفراً‪.‬‬ ‫ثم �صارت ق�رشاً حم�ض ًا‪َّ ،‬‬‫ثم خالطها الق�رش‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫ملكة الرتبية بعد ح�صولها � ْإن كانت �رشاً ت�ضافرت مع ال ّنف�س ووليها‬
‫ال�شيطان اخل ّنا�س فر�سخت‪ ،‬و�إن كانت خرياً تبقى مقلقلة كال�سفينة يف بحر‬
‫ال�رس والعالنية‪� ،‬أو الوازع ال�سيا�سي‬ ‫الأهواء‪ ،‬ال ير�سو بها �إال فرعها الديني يف ِّ‬
‫عند يقني العقاب‪.‬‬
‫ريح �رص�رص فيه �إع�صار يجهل الإن�سان ك ّل �ساعة �ش�أنه‪ ،‬وهو‬ ‫واال�ستبداد ٌ‬
‫مي�سها لأنها‬ ‫أهم ق�سميه‪� ،‬أي الأخالق‪� ،‬أما العبادات منه فال ّ‬ ‫ُم ِ‬
‫ف�س ٌد للدين يف � ِّ‬
‫جمردة‬ ‫تالئمه �أكرث‪ .‬ولهذا تبقى الأديان يف الأمم امل�أ�سورة عبارة عن عبادات ّ‬
‫�صارت عادات‪ ،‬فال تفيد يف تطهري النفو�س �شيئ ًا‪ ،‬وال تنهى عن فح�شاء وال‬
‫وتتلوى‬ ‫ّ‬ ‫منكر لفقد الإخال�ص فيها تبع ًا لفقده يف النفو�س‪ ،‬التي �ألفت �أن تتلج�أ‬
‫والرياء واخلداع والنفاق‪ ،‬ولهذا ال‬ ‫بني يدي �سطوة اال�ستبداد يف زوايا الكذب ّ‬
‫ربه‪،‬‬ ‫الرياء‪� ،‬أن ي�ستعمله �أي�ض ًا مع ِّ‬ ‫ُي�ستغرب يف الأ�سري الأليف تلك احلال‪� ،‬أي ّ‬
‫ومع �أبيه و� ِّأمه ومع قومه وجن�سه‪ ،‬حتى ومع نف�سه‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫ثم‬ ‫الرتبية تربية اجل�سم وحده �إىل �سنتني‪ ،‬هي وظيفة الأم �أو احلا�ضنة‪َّ ،‬‬
‫ُت�ضاف �إليها تربية النف�س �إىل ال�سابعة‪ ،‬وهي وظيفة الأبوين والعائلة مع ًا‪،‬‬
‫ثم‬ ‫ثم ُت�ضاف �إليها تربية العقل �إىل البلوغ‪ ،‬وهي وظيفة املعلِّمني واملدار�س‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫ثم‬‫َّ‬ ‫دفة‪،‬‬ ‫ال�ص‬
‫ُّ‬ ‫وظيفة‬ ‫وهي‬ ‫الزواج‪،‬‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫واخللطاء‬ ‫أقربني‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫القدوة‬ ‫تربية‬ ‫أتي‬ ‫ت�‬
‫ت�أتي تربية املقارنة‪ ،‬وهي وظيفة الزوجني �إىل املوت �أو الفراق‪.‬‬
‫بد �أن ت�صحب الرتبية من بعد البلوغ‪ ،‬تربية الظروف املحيطة‪ ،‬وتربية‬ ‫وال َّ‬
‫الهيئة االجتماعية‪ ،‬وتربية القانون �أو �سري ال�سيا�سي‪ ،‬وتربية الإن�سان نف�سه‪.‬‬
‫احلكومات املنتظمة هي التي تتولىّ مالحظة ت�سهيل تربية الأمة‬
‫ت�سن قوانني النكاح‪ ،‬ثم تعتني‬ ‫من حني تكون يف ظهور الآباء‪ ،‬وذلك ب�أن ّ‬
‫تعد‬
‫ثم تفتح بيوت الأيتام اللقطاء‪ ،‬ثم ُّ‬ ‫بوجود القابالت واملل ّقحني والأطباء‪َّ ،‬‬
‫ت�سهل‬ ‫ثم ِّ‬ ‫املكاتب واملدار�س للتعليم من االبتدائي اجلربي �إىل �أعلى املراتب‪َّ ،‬‬
‫ومتهد امل�سارح‪ ،‬وحتمي املنتديات‪ ،‬وجتمع املكتبات والآثار‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫االجتماعات‪،‬‬
‫وتقيم ال ُّن�صب املذكرات‪ ،‬وت�ضع القوانني املحافظة على الآداب واحلقوق‪،‬‬
‫وتقوي‬ ‫ّ‬ ‫وت�سهر على حفظ العادات القومية‪ ،‬و�إمناء الإح�سا�سات املللية‪،‬‬
‫الآمال‪ ،‬وتي�سرِّ الأعمال‪ ،‬وت� ِّؤمن العاجزين فع ًال عن الك�سب من املوت جوع ًا‪،‬‬
‫وتدفع �سليمي الأج�سام �إىل الك�سب ولو يف �أق�صى الأر�ض‪ ،‬وحتمي الف�ضل‬
‫وتقدر الف�ضيلة‪ .‬وهكذا تالحظ ك َّل �ش�ؤون املرء‪ ،‬ولكن‪ ،‬من بعيد‪ ،‬كي ال تخ ّل‬ ‫ِّ‬
‫بحريته وا�ستقالله ال�شخ�صي‪ ،‬فال تقرب منه �إال �إذا جنى جرم ًا لتعاقبه‪� ،‬أو‬
‫مات لتواريه‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬الأمة حتر�ص على �أن يعي�ش ابنها را�ضي ًا بن�صيبه من حياته ال‬
‫قط كيف تكون بعده حالة �صبية �ضعاف يرتكهم وراءه‪ ،‬بل ميوت‬ ‫يفتكر ّ‬
‫مطمئن ًا را�ضي ًا مر�ضي ًا �آخر دعائه‪ :‬فلتحي الأمة‪ ،‬فلتحي الهمة‪.‬‬
‫امل�ستبدة فهي غنية عن الرتبية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫�أما املعي�شة الفو�ضى يف الإدارات‬
‫حم�ض مناء ي�شبه الأ�شجار الطبيعية يف الغابات واحلرا�ش‪ ،‬ي�سطو‬ ‫ُّ‬ ‫لأنها‬
‫ويت�رصف‬ ‫َّ‬ ‫وحتطمها العوا�صف والأيدي القوا�صف‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫عليها احلرق والغرق‪.‬‬
‫احلطابني �أن‬ ‫يف ف�سائلها وفروعها الف�أ�س الأعمى‪ ،‬فتعي�ش ما �شاءت رحمة ّ‬
‫لل�صدفة تعوج �أو ت�ستقيم‪ ،‬تثمر �أو تعقم‪.‬‬ ‫تعي�ش‪ ،‬واخليار ُّ‬
‫يعي�ش الإن�سان يف ظ ِّل العدالة واحلرية ن�شيط ًا على العمل بيا�ض نهاره‪،‬‬

‫‪97‬‬
‫اال�ستبداد والرتبية‬

‫وتري�ض‪ ،‬لأ ّنه هكذا‬ ‫تروح ّ‬ ‫تلهى َّ‬ ‫وعلى الفكر �سواد ليله‪� ،‬إن طعم تل َّذذ‪ ،‬و�إن ّ‬
‫ر�أى �أبويه و�أقرباءه‪ ،‬وهكذا يرى قومه الذين يعي�ش بينهم‪ .‬يراهم رجا ًال‬
‫ون�ساء‪� ،‬أغنياء وفقراء‪ ،‬ملوك ًا و�صعاليك‪ ،‬ك ُّلهم دائبني على الأعمال‪ ،‬يفتخر‬ ‫ً‬
‫وجده‪ .‬نعم‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫أبيه‬ ‫�‬ ‫عن‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫إرث‬ ‫�‬ ‫املليار‬ ‫مالك‬ ‫على‬ ‫ه‪،‬‬ ‫وجد‬
‫ّ‬ ‫ه‬ ‫بكد‬
‫ِّ‬ ‫الدينار‬ ‫كا�سب‬ ‫منهم‬
‫ي�رسه النجاح وال تقب�ضه اخليبة‪� ،‬إنمّ ا ينتقل من‬ ‫يعي�ش العامل ناعم البال ُّ‬
‫ال�سعد‬‫عملٍ �إىل غريه‪ ،‬ومن فك ٍر �إىل �آخر‪ ،‬فيكون متلذذاً ب�آماله � ْإن مل ي�سارعه ّ‬
‫يف �أعماله‪ ،‬وكيفما كان يبلغ العذر عن نف�سه والنا�س مبجرد �إيفائه وظيفة‬
‫احلياة‪� ،‬أي العمل‪ .‬ويكون فرح ًا فخوراً جنح �أو مل ينجح‪ ،‬لأ َّنه بريء من عار‬
‫العجز والبطالة‪.‬‬
‫�أما �أ�سري اال�ستبداد‪ ،‬فيعي�ش خام ًال خامداً �ضائع الق�صد‪ ،‬حائراً ال يدري‬
‫حري�ص على بلوغ‬ ‫ٌ‬ ‫كيف مييت �ساعاته و�أوقاته ويدرج �أيامه و�أعوامه‪ ،‬ك�أ َّنه‬
‫يظن � َّأن �أكرث الأ�رساء ال �سيما‬ ‫�أجله لي�سترت حتت الرتاب‪ .‬ويخطئ‪ ،‬واهلل من ُّ‬
‫منهم الفقراء ال ي�شعرون ب�آالم الأ�رس‪ .‬م�ستد ًال ب�أنهم لو كانوا ي�شعرون لبادروا‬
‫�إىل �إزالته‪ ،‬واحلقيقة يف ذلك �أنهم ي�شعرون ب�أكرث الآالم ولكنهم ال يدركون ما‬
‫هو �سببها‪ ،‬ومن �أين جاءتهم؟ فريى �أحدهم نف�سه منقب�ض ًا عن العمل‪ ،‬لأنه‬
‫ال�سلب حق ًا طبيعي ًا للأقوياء‬ ‫ظن ّ‬ ‫غري �أمني على اخت�صا�صه بالثمرة‪ .‬ورمبا َّ‬
‫ثم يعمل تار ًة‪ ،‬ولكن‪ ،‬دون ن�شاط وال �إتقان‪ ،‬فيف�شل‬ ‫فيتم ّنى � ْأن لو كان منهم‪َّ .‬‬
‫ي�سميه �سعداً �أو حظ ًا �أو‬‫�رضور ًة‪ ،‬وال يدري �أي�ض ًا ما ال�سبب‪ ،‬فيغ�ضب على ما ّ‬
‫طالع ًا �أو قدراً‪ .‬وامل�سكني من �أين له �أن يعرف � َّأن الن�شاط والإتقان ال يت�أتيان‬
‫قدر احلكماء �أ َّنها اللذة الكربى‪،‬‬ ‫�إال مع لذة انتظار جناح العمل‪ ،‬تلك اللذة التي َّ‬
‫ال�ستمرار زمانها من حني العزم �إىل متام العمل‪ ،‬والأ�سري ال اطمئنان فيه على‬
‫اال�ستمرار‪ ،‬وال ت�شجيع له على ال�صرب واجللد‪.‬‬
‫الأ�سري املع َّذب املنت�سب �إىل دين ي�س ّلي نف�سه بال�سعادة الأخروية‪ ،‬فيعدها‬
‫أعده له الرحمن‪ ،‬ويبعد عن فكره � َّأن الدنيا‬ ‫بجنان ذات �أفنان ونعيم مقيم � َّ‬
‫عنوان الآخرة‪ ،‬و� َّأن رمبا كان خا�رساً ال�صفقتني‪ ،‬بل ذلك هو الكائن غالب ًا‪.‬‬
‫خا�صة بهم يعطفون م�صائبهم عليها‪ ،‬وهي‬ ‫ولب�سطاء الإ�سالم م�سليات �أظ ُّنها ّ‬
‫أحب اهلل عبداً ابتاله‪ ،‬هذا‬ ‫نحو قولهم‪ :‬الدنيا �سجن امل�ؤمن‪ ،‬امل�ؤمن م�صاب‪� ،‬إذا � َّ‬
‫لقيمات يقمن �صلبه‪ .‬ويتنا�سون حديث‪َّ �( :‬إن اهلل‬ ‫ٍ‬ ‫�ش�أن �آخر الزمان‪ ،‬ح�سب املرء‬

‫‪98‬‬
‫البطال)‪ ،‬واحلديث املفيد معنى (�إذا قامت ال�ساعة ويف يد �أحدكم‬ ‫يكره العبد ّ‬
‫غر�س ًة فليغر�سها)‪ ،‬ويتغافلون عن الن�ص القاطع امل� ّؤجل قيام ال�ساعة �إىل ما‬
‫بعد ا�ستكمال الأر�ض زخرفتها وزينتها‪ .‬و�أين ذلك بعد؟‬
‫يحول‬
‫ال�سم القاتل‪ ،‬الذي ّ‬ ‫وكل هذه امل�سميات املثبطات تهون عند ذلك ّ‬ ‫ُّ‬
‫امل�ستبدين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الأذهان عن التما�س معرفة �سبب ال�شقاء‪ ،‬فريفع امل�س�ؤولية عن‬
‫ويلقيها على عاتق الق�ضاء والقدر‪ ،‬بل على عاتق الأُ�رساء امل�ساكني �أنف�سهم‪.‬‬
‫ال�سم‪ ،‬فهم العوام‪ ،‬وبله اخلوا�ص‪ ،‬ملا ورد يف التوراة من نحو‪:‬‬ ‫و�أعني بهذا ّ‬
‫(اخ�ضعوا لل�سلطان وال �سلطة �إال من اهلل)‪ ،‬و(احلاكم ال يتق ّلد ال�سيف جزاف ًا‪� ،‬إنه‬
‫وحمدثوهم من ذلك‬ ‫ِّ‬ ‫وعاظ امل�سلمني‬‫مقام لالنتقام من �أهل ال�رش)‪ ،‬وقد �صاغ ّ‬
‫ثم ينتقم‬ ‫ظل اهلل يف الأر�ض)‪ ،‬و(الظامل �سيف اهلل ينتقم به‪َّ ،‬‬ ‫قولهم‪( :‬ال�سلطان ُّ‬
‫مقيد‬
‫�صح فهو ّ‬ ‫وكل ما ورد يف هذا املعنى � ْإن َّ‬ ‫منه)‪ ،‬و(امللوك ملهمون)‪ .‬هذا ُّ‬
‫بالعدالة �أو حمتمل للت�أويل مبا يعقل‪ ،‬ومبا ينطبق على حكم الآية الكرمية‬
‫التي فيها ف�صل اخلطاب‪ ،‬وهي‪�( :‬أال لعنة اهلل على الظاملني)‪ ،‬و�آية (فال عدوان‬
‫�إال على الظاملني)‪.‬‬
‫علم وعمل‪ .‬ولي�س من �ش�أن الأمم اململوكة �ش�ؤونها‪ْ � ،‬أن يوجد فيها‬ ‫الرتبية ٌ‬
‫من يعلم الرتبية وال من يعلمها‪ .‬حتى � َّإن الباحث ال يرى عند الأ�رساء علم ًا يف‬
‫ت�صور وجوده‬ ‫الرتبية مدفون ًا يف الكتب ف�ض ًال عن الأذهان‪ّ � .‬أما العمل‪ ،‬فكيف ُي َّ‬
‫(النية‬
‫بال �سبق عزم‪ ،‬وهو بال �سبق يقني‪ ،‬وهو بال �سبق علم‪ .‬وقد ورد يف الأثر ّ‬
‫بناء عليه‪ ،‬ما �أبعد‬ ‫بالنيات)‪ً .‬‬
‫ّ‬ ‫�سابقة العمل)‪ .‬وورد يف احلديث‪�( :‬إنمّ ا الأعمال‬
‫النا�س املغ�صوبة �إرادتهم‪ ،‬املغلولة �أيديهم‪ ،‬عن توجيه الفكر �إىل مق�صد مفيد‬
‫كالرتبية‪� ،‬أو توجيه اجل�سم �إىل عملٍ نافع كتمرين الوجه على احلياء والقلب‬
‫على ال�شفقة‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬ما �أبعد الأ�رساء عن اال�ستعداد لقبول الرتبية‪ ،‬وهي َق�صرْ النظر على‬
‫حل َكم‪ ،‬وتعويد الل�سان على‬ ‫املحا�سن وال ِعبرَ ‪ ،‬و َق�صرْ ال�سمع على الفوائد وا ِ‬
‫قول اخلري‪ ،‬وتعويد اليد على الإتقان‪ ،‬وتكبري النف�س عن ال�سفا�سف‪ ،‬وتكبري‬
‫الوجدان عن ن�رصة الباطل‪ ،‬ورعاية الرتتيب يف ال�ش�ؤون‪ ،‬ورعاية التوفري‬
‫يف الوقت واملال‪ .‬واالندفاع بالك ّلية حلفظ ال�رشف‪ ،‬حلفظ احلقوق‪ ،‬وحلماية‬
‫حلب العائلة‪ ،‬ولإعانة العلم‪ ،‬لإعانة‬ ‫وحلب الوطن‪ِّ ،‬‬ ‫ِّ‬ ‫الدين‪ ،‬حلماية النامو�س‪،‬‬

‫‪99‬‬
‫اال�ستبداد والرتبية‬

‫ال�ضعيف‪ ،‬والحتقار الظاملني‪ ،‬الحتقار احلياة‪ ...‬على غري ذلك مما ال ينبت �إال‬
‫يف �أر�ض العدل‪ ،‬حتت �سماء احلرية‪ ،‬يف ريا�ض الرتبيتني‪ :‬العائلية والقومية‪.‬‬
‫والتحيل واخلداع وال ِّنفاق‬
‫ُّ‬ ‫�ضطر ال ّنا�س �إىل ا�ستباحة الكذب‬
‫اال�ستبداد ُي ُّ‬
‫اجلد وترك العمل‪� ...‬إىل �آخره‪.‬‬ ‫حل ِّ�س و�إماتة النف�س ونبذ ّ‬ ‫والتذلل‪ ،‬و�إىل مراغمة ا ِ‬
‫وينتج من ذلك � َّأن اال�ستبداد امل�ش�ؤوم هو يتوىل بطبعه تربية النا�س على هذه‬
‫بناء عليه‪ ،‬يرى الآباء � َّأن تعبهم يف تربية الأبناء الرتبية‬ ‫اخل�صال امللعونة‪ً .‬‬
‫بد � ْأن يذهب عبث ًا حتت �أرجل تربية اال�ستبداد‪ ،‬كما‬ ‫الأوىل على غري ذلك ال َّ‬
‫�سدى‪.‬‬
‫ذهبت قبلها تربية �آبائهم لهم‪� ،‬أو تربية غريهم لأبنائهم ً‬
‫ثم � َّإن عبيد ال�سلطان التي ال حدود لها هم غري مالكني �أنف�سهم‪ ،‬وال هم‬ ‫َّ‬
‫للم�ستبدين‪ ،‬و�أعوان ًا‬
‫ّ‬ ‫يربون �أنعام ًا‬
‫ّ‬ ‫هم‬ ‫بل‬ ‫لهم‪.‬‬ ‫أوالدهم‬ ‫�‬ ‫ون‬ ‫يرب‬
‫ّ‬ ‫هم‬‫ن‬‫َّ‬ ‫�‬
‫أ‬ ‫على‬ ‫آمنون‬ ‫�‬
‫لهم عليهم‪.‬‬
‫ويف احلقيقة‪َّ � ،‬إن الأوالد يف عهد اال�ستبداد‪ ،‬هم �سال�سل من حديد يرتبط‬
‫بها الآباء على �أوتاد الظلم والهوان واخلوف الت�ضييق‪ .‬فالتوالد من حيث هو‬
‫حمق م�ضاعف! وقد قال ال�شاعر‪:‬‬ ‫زمن اال�ستبداد حمق‪ ،‬واالعتناء بالرتبية ٌ‬
‫فرح مبولو ِد‬
‫ميت ومل ُي َ‬ ‫بك ٌ‬ ‫� ْإن دام هذا ومل حتدث له ِغيرَ ٌ مل ُي َ‬

‫وغالب الأُ�رساء ال يدفعهم للزواج ق�صد التوالد‪� ،‬إمنا يدفعهم �إليه اجلهل‬
‫املظلم‪ ،‬و�أ َّنهم حتى الأغنياء منهم حمرومون من ك ِّل املل ّذات احلقيقية‪ :‬كل ّذة‬
‫العلم وتعليمه‪ ،‬ول ّذة املجد واحلماية‪ ،‬ول ّذة الإيثار والبذل‪ ،‬ول ّذة �إحراز مقام‬
‫يف القلوب‪ ،‬ول ّذة نفوذ الر�أي ال�صائب‪ ،‬ول ّذة ِكبرَ النف�س عند ال�سفا�سف‪� ،‬إىل غري‬
‫ذلك من املل ّذات الروحية‪.‬‬
‫�أما مل ّذات ه�ؤالء التع�ساء فهي مق�صورة على لذتني اثنتني‪ ،‬الأوىل منها‬
‫لذة الأكل‪ ،‬وهي جعلهم بطونهم مقابر للحيوانات �إن تي�سرَّ ت‪ ،‬و�إال فمزابل‬
‫للنباتات‪� ،‬أو بجعلهم �أج�سامهم يف الوجود كما قيل‪� :‬أنابيب بني املطبخ‬
‫الرع�شة‬
‫و(الكنيف)‪� ،‬أو جعلها معامل لتجهيز الأخبثني‪ .‬والل ّذة الثانية هي ّ‬
‫با�ستفراغ ال�شهوة‪ ،‬ك�أن �أج�سامهم خلقت دمامل جرب على �أدمي الأر�ض‪ ،‬يطيب‬
‫احلك ووظيفتها توليد ال�صديد ودفعه‪ .‬وهذا ال�رشه البهيمي يف البِعال هو‬ ‫لها ّ‬
‫ما يعمي الأ�رساء ويرميهم بالزواج والتوالد‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫معر�ض‬ ‫ال ِعر�ض ‪-‬زمن اال�ستبداد‪ -‬ك�سائر احلقوق غري م�صون‪ ،‬بل هو َّ‬
‫لهتك ال ُف ّ�ساق من امل�ستبدين والأ�رشار من �أعوانهم‪ ،‬ف�إنهم‪ ،‬كما �أخرب القر�آن‬
‫عن الفراعنة‪ ،‬ي�أ�رسون الأوالد وي�ستحيون الن�ساء‪ ،‬خ�صو�ص ًا يف احلوا�رض‬
‫ال�صغرية والقرى امل�ست�ضعف �أهلها‪ .‬ومن الأمور امل�شاهدة � َّأن الأمم التي تقع‬
‫أمة تغايرها يف ال�سيماء‪ ،‬ال مي�ضي عليها �أجيال �إال وتغ�شو فيها‬ ‫حتت �أ�رس � ٍ‬
‫�سيماء الآ�رسين‪ :‬ك�سواد العيون يف الإ�سبانيول‪ ،‬وبيا�ض الب�رشة يف الأفريقيني‪.‬‬
‫يتم �إال باالخت�صا�ص‪،‬‬ ‫احلب الذي ال ُّ‬ ‫وعدم االطمئنان على ال ِعر�ض ُي�ضعف ّ‬
‫حتمل م�شاق‬ ‫وي�ضعف ل�صقة الأوالد ب�أزواج �أمهاتهم‪ ،‬فت�ضعف ال َغرية على ّ‬ ‫ُ‬
‫ال�سفاح‪.‬‬
‫وحرم ِّ‬ ‫�رشع اهلل النكاح‪َّ ،‬‬
‫الرتبية‪ ،‬تلك الغرية التي لأجلها َّ‬
‫ال�سعة؟!‬ ‫لل�سعة والفقر �أي�ض ًا دخ ٌل كبري يف ت�سهيل الرتبية‪ ،‬و�أين الأ�رساء من ّ‬ ‫ّ‬
‫كما � َّأن النتظام املعي�شة ولو مع الفقر عالقة قوية يف الرتبية‪ ،‬ومعي�شة الأُ�رساء‬
‫و�ضيق يف �ضيق‪ ،‬وذلك يجعل‬ ‫ٌ‬ ‫�أغنياء كانوا �أو معدمني‪ ،‬ك ُّلها خل ٌل يف خلل‪،‬‬
‫ي�ستحق املزيد يف‬ ‫ُّ‬ ‫الأ�سري هينّ النف�س‪ ،‬وهذا �أول دركات االنحطاط‪ ،‬يرى ذاته ال‬
‫النعيم مطعم ًا وم�رشب ًا وملب�س ًا وم�سكن ًا‪ ،‬وهذا ثاين الدركات ويرى ا�ستعداده‬
‫قا�رصاً عن الرت ّقي يف العلم‪ ،‬وهذا ثالثها‪ ،‬ويرى حياته على ب�ساطتها ال تقوى‬
‫جرا!‪.‬‬
‫وهلم ّ‬
‫�إال مبعاونة غريه له‪ ،‬وهذا رابعها‪َّ ،‬‬
‫يتحملون‬ ‫َّ‬ ‫بناء عليه‪ ،‬ما �أبعد الأُ�رساء عن الن�شاط للرتبية‪َّ ،‬‬
‫ثم ملاذا‬ ‫ً‬
‫نوروا �أوالدهم بالعلم جنوا عليهم بتقوية �إح�سا�سهم‪،‬‬ ‫إن‬
‫ْ َّ‬ ‫�‬ ‫وهم‬ ‫الرتبية‪،‬‬ ‫م�شاق‬
‫َّ‬
‫بالء؟ ولهذا ال غرو �أن يختار الأ�رساء الذين فيهم‬ ‫ً‬ ‫ويزيدونهم‬ ‫‪،‬‬‫�شقاء‬
‫ً‬ ‫فيزيدونهم‬
‫بقية من الإدراك‪ ،‬ترك �أوالدهم هم ًال جترفهم البالهة �إىل حيث ت�شاء‪.‬‬
‫يرتبى‪،‬جند �أ َّنه ُيل َّقح‬ ‫و�إذا افتكرنا كيف ين�ش�أ الأ�سري يف البيت الفقري‪ ،‬وكيف َّ‬
‫حرك �رشا�سة‬ ‫حترك جنين ًا َّ‬ ‫ثم �إذا َّ‬
‫به‪ ،‬ويف الغالب �أبواه متناكدان مت�شاك�سان‪َّ ،‬‬
‫�ضيقت عليه بطنها لإلفتها‬ ‫� ِّأمه فت�شتمه‪� ،‬أو زاد �آالم حياتها فت�رضبه‪ ،‬ف�إذا ما َّ‬
‫االنحناء خمو ًال والت�رصر �صغاراً‪ ،‬والتق ُّل�ص ل�ضيق فرا�ش الفقر‪ ،‬ومتى ولدته‬
‫�سدت فمه بثديها‪� ،‬أو‬ ‫�ضغطت عليه بالقماط اقت�صاداً وجه ًال‪ ،‬ف�إذا ت�ألمَّ وبكى َّ‬
‫خ�ض ًا �أو بدوار ال�رسير‪� ،‬أو �سقته خمدراً عجزاً عن نفقة الطبيب‪،‬‬ ‫قطعت نف�سه ّ‬
‫ف�إذا ما ُف ِطم‪ ،‬ي�أتيه الغذاء الفا�سد ي�ضيق معدته‪ ،‬ويف�سد مزاجه‪ ،‬ف�إذا كان قوي‬
‫البنية طويل العمر وترعرع‪ ،‬يمُ نع من ريا�ضة اللعب ل�ضيق البيت‪ ،‬ف�إذا �س�أل‬

‫‪101‬‬
‫اال�ستبداد والرتبية‬

‫زجر ويلكم ل�ضيق ُخ ُلق �أبويه‪ ،‬و�إن جال�سهما‬ ‫وا�ستفهم ماذا وما هذا؟ ليتع ّلم‪ُ ،‬ي َ‬
‫التوج�س يبعدانه كي ال يقف على �أ�رسارهما‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لي�ألف املعا�رشة‪ ،‬وينتفي عنه‬
‫في�سرتقها منه اجلريان اخللطاء‪ ،‬فتنمى �أعوان الظاملني وما �أكرثهم‪ ،‬ف�إذا‬
‫قويت رجاله ُيدفع به �إىل خارج الباب‪� ،‬إىل مدر�سة الألفة على القذارة‪ ،‬وتع ّلم‬
‫�صيغ ال�شتائم وال�سباب‪ ،‬ف� ْإن عا�ش ون�ش�أ ُو�ضع يف مكتب �أو عند ذي �صنعة‪،‬‬
‫فيكون �أكرب الق�صد ربطه عن ال�سرّ اح واملراح‪ .‬ف�إذا بلغ ال�شباب‪ ،‬ربطه �أوليا�ؤه‬
‫يفر من م�شاكلتهم يف �شقاء احلياة‪ ،‬ليجني هو على‬ ‫على وتد الزواج كي ال ّ‬
‫ثم هو يتوىل الت�ضييق على نف�سه ب�أطواق اجلهل‬ ‫ن�سله كما جنى عليه �أبواه‪َّ ،‬‬
‫امل�ستبدون الت�ضييق على عقله ول�سانه وعمله و�أمله‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وقيود اخلوف‪ ،‬ويتوىل‬
‫وهكذا يعي�ش الأ�سري ‪ -‬يف حني يكون ن�سمة‪ -‬يف �ضيق و�ضغط‪ ،‬يهرول ما‬
‫يودع �سقم ًا وي�ستقبل �سقم ًا �إىل �أن يفوز بنعمة املوت‬ ‫غم‪ِّ ،‬‬
‫هم ووادي ٍّ‬ ‫بني عتبة ٍّ‬
‫م�ضيع ًا دنياه مع �آخرته‪ ،‬فيموت غري �آ�سف وال م�أ�سوف عليه‪.‬‬
‫وما �أظلم من ي�ؤاخذ الأ�رساء على عدم اعتنائهم بلوازم احلياة‪ .‬فالنظافة‬
‫م�ستمر؟ �أم لأجل‬‫ّ‬ ‫مر�ض‬
‫�صحته وهو يف ٍ‬ ‫مث ًال‪ :‬ملاذا يهتم بها الأ�سري؟ هل لأجل َّ‬
‫ل َّذته وهو املت�أمل كيفما تق َّلب ج�سمه �أو نظره؟ �أم لأجل ذوق من يجال�س �أو‬
‫ي�ؤاكل‪ ،‬وهو من ع َّفت نف�سه �صحبة احلياة؟‬
‫أقل �رشاً من هذا‪ ،‬كال‪ ،‬بل‬‫نن املطالع � َّأن حالة �أغنياء الأ�رساء هي � ُّ‬‫وال يظ َّ‬
‫هم �أ�شقى و�أق ّل عافي ًة‪ ،‬و�أق�رص عمراً من هذا‪� ،‬إذا نق�صتهم بع�ض املن ِّغ�صات‪،‬‬
‫�صح‬
‫تزيد فيهم م�شاق التظاهر بالراحة والرفاه والع ّزة واملنعة‪ ،‬تظاهراً �إن َّ‬
‫فيبتلى‬ ‫قليله فكثريه الكاذب حم ٌل ثقيل على عواتقهم كال�سكران يت�صاحى ُ‬
‫بال�صداع‪� ،‬أو كالعاهرة البائ�سة تت�ضاحك لرت�ضي الزاين‪.‬‬
‫حياة الأ�سري ت�شبه حياة النائم املزعوج بالأحالم‪ ،‬فهي حياة ال روح‬
‫فيها‪ ،‬حياة وظيفتها متثيل مندر�سات اجل�سم فقط‪ ،‬وال عالقة لها بحفظ املزايا‬
‫ميت بالن�سبة‬ ‫وبناء على هذا‪ ،‬كان فاقد احلرية ال �أنانية له لأنه ٌ‬ ‫ً‬ ‫الب�رشية‪،‬‬
‫حي بالن�سبة لغريه‪ ،‬ك�أ َّنه ال �شيء يف ذاته‪� ،‬إنمَّ ا هو �شيء بالإ�ضافة‪.‬‬ ‫لنف�سه‪ٌّ ،‬‬
‫حق له‬‫ومن كان وجوده يف الوجود بهذه ال�صورة وهي الفناء يف امل�ستبدين‪َّ ،‬‬
‫�أن ال ي�شعر بوظيفة �شخ�صية ف�ض ًال عن وظيفة اجتماعية‪ .‬ولوال � ْأن لي�س يف‬
‫وال�صدف التي‬ ‫الكون �شيء غري تابع لنظام حتى اجلماد‪ ،‬حتى فلتات الطبيعة ُّ‬

‫‪102‬‬
‫هي م�سببات لأ�سباب نادرة‪ ،‬حلكمنا ب� َّأن معي�شة الأ�رساء هي حم�ض فو�ضى‪،‬‬
‫ال �شبه فو�ضى‪.‬‬
‫على � َّأن التدقيق العميق‪ ،‬يفيدنا ب� َّأن للأ�رساء قوانني غريبة يف مقاومة‬
‫ويرتبى‬ ‫َ‬ ‫الفناء ي�صعب �ضبطها وتعريفها‪� ،‬إمنا الأ�سري ير�ضعها مع لنب �أمه‪،‬‬
‫عليها‪ ،‬وقد يبدع فيها ب�سائق احلاجة‪ ،‬ويكون منهم احلاذق فيها علم ًا‪ ،‬املاهر‬
‫يف تطبيقها عم ًال‪ ،‬هو املو َّفق يف ميدان حرب احلياة مع الذل‪ ،‬كالهنود‬
‫واليهود‪ .‬والعاجز عنها‪ّ � ،‬إما جاهل هذا القانون �أو العاجز فطر ًة عن ا ِّتباعه‬
‫كالعرب مث ًال‪ ،‬فال يخرج عن كونه كرة يلعب بها �صبيان اال�ستبداد‪ ،‬تار ًة‬
‫ي�رضبون بها الأر�ض وتارة احليطان‪ ،‬و�أما �إذا كان عجزه كما يقال عن عرق‬
‫ها�شمي‪� ،‬أي عن �شي ٍء من كرامة نف�س �أو قوة �إح�سا�س �أو ج�سارة جنان‪ ،‬فيكون‬
‫كاحلجارة تتك�سرَّ وال تلني‪.‬‬
‫قوانني حياة الأ�سري هي مقت�ضيات ال�ش�ؤون املحيطة به‪ ،‬التي ت�ضطره لأن‬
‫ويدبر نف�سه على موجبها‪ ،‬وذلك نحو مقابلة التجبرُّ‬ ‫يطبق �إح�سا�ساته عليها‪ِّ ،‬‬
‫عليه بالتذلل وال ّت�صاغر‪ ،‬وتعديل ال�شدة عليه بالتالين واملطاوعة‪ ،‬و�إعطاء‬
‫املطلوب منه بعد قليلٍ من التم ُّنع‪ ،‬ولو � َّأن املطلوب هو ابنه ملجزرة اجلندية �أو‬
‫�شيخ �رشير‪ ،‬واملطالبة يف احلقوق ب�صفة ا�ستعطاف ك�أ َّنه طالب‬ ‫ابنته لفرا�ش ٍ‬
‫وحفظ املال ب�إخفائه عن الأعني‪،‬‬ ‫�صدقة‪ ،‬وك�سب املعا�ش مع �شكاية احلاجة‪ِ ،‬‬
‫والتعامي عن ز ّالت امل�ستبدين‪ ،‬والت�صامم عن �سماع ما ُيهان به‪ ،‬والتظاهر‬
‫احل�س �أو تعطيله باملخدرات القوية كالأفيون واحل�شي�ش‪ ،‬وتعطيل العقل‬ ‫بفقد ّ‬
‫بال ّتباله و�سرت العلم بالتجاهل‪ ،‬واالرتداء بالتدين والرياء‪ ،‬وتعويد الل�سان‬
‫على ال ّزالقة يف عبائر الت�صاغر والتم ّلق‪ ،‬وعزو ك ّل خري �إىل ف�ضل امل�ستبدين‬
‫حتى �إذا كان اخلري طبيعي ًا نحو مطر ال�سماء‪ ،‬فعزوه �إىل يمُ ن احلكام �أو دعاء‬
‫�رش‪ ،‬ولو من نوع الت�س ُّلط على الأعرا�ض‪ ،‬على اال�ستحقاق‬ ‫الكهنة‪ .‬وي�سند ك َّل ٍّ‬
‫من جانب اهلل‪� .‬إىل غري ذلك من �أحكام ذلك القانون‪ ،‬الذي ر�ؤو�س م�سائله فقط‬
‫مت ّل القارئ ف�ض ًال عن تف�صيالتها‪.‬‬
‫� َّإن �أخوف ما يخافه الأ�سري هو �أن يظهر عليه �أثر نعمة اهلل يف اجل�سم �أو‬
‫املال‪ ،‬فت�صيبه عني اجلوا�سي�س (وهذا �أ�صل عقيدة �إ�صابة العني)! �أو �أن يظهر‬
‫امل�ستبد (وهذا‬
‫ِّ‬ ‫جاه �أو ٍ‬
‫نعمة مهمة‪ ،‬في�سعى به حا�سدوه �إىل‬ ‫علم �أو ٍ‬ ‫له �ش�أن يف ٍ‬

‫‪103‬‬
‫اال�ستبداد والرتبية‬

‫يتحيل الأ�سري على حفظ ماله الذي ال‬ ‫ّ‬ ‫تعوذ منه)! وقد‬‫�أ�صل �رش احل�سد الذي ُي َّ‬
‫ميكنه �إخفا�ؤه كالزوجة اجلميلة‪� ،‬أو الدابة الثمينة‪� ،‬أو الدار الكبرية‪ ،‬فيحميها‬
‫ب�إ�سناد ال�ش�ؤم‪( ،‬وهذا �أ�صل الت�شا�ؤم بالأقدام والنوا�صي والأعتاب)‪.‬‬
‫امل�ستبد‪ ،‬وال يقوون على‬
‫َّ‬ ‫ومن غريب الأحوال � َّأن الأُ�رساء يبغ�ضون‬
‫ا�ستعمالهم معه الب�أ�س الطبيعي املوجود يف الإن�سان �إذا غ�ضب‪ ،‬في�رصفون‬
‫فيعادون من بينهم فئ ًة م�ست�ضعف ًة‪� ،‬أو الغرباء‪،‬‬ ‫ب�أ�سهم يف وجهة �أخرى ظلم ًا‪ُ :‬‬
‫وم َث ُلهم يف ذلك مثل الكالب الأهلية‪� ،‬إذا �أريد‬
‫�أو يظلمون ن�ساءهم ونحو ذلك‪َ .‬‬
‫منها احلرا�سة وال�رشا�سة‪ ،‬ف�أ�صحابها يربطونها نهاراً ويطلقونها لي ًال فت�صري‬
‫�رش�سة عقورة‪ ،‬وبهذا التعليل تع َّلل ج�سارة الأ�رساء �أحيان ًا يف حمارباتهم‪ ،‬ال‬
‫على �أنها ج�سارة عن �شجاعة‪ .‬و�أحيان ًا تكون ج�سارة الأ�رساء عن التناهي يف‬
‫امل�ستبد الذي ي�سوقهم �إىل املوت‪ ،‬فيطيعونه انذعاراً كما تطيع‬ ‫ِّ‬ ‫اجلبانة �أمام‬
‫الغنمة الذئب فتهرول بني يديه �إىل حيث ي�أكلها‪.‬‬
‫تقدم � َّأن الرتبية غري مق�صودة‪ ،‬وال مقدورة يف ظالل‬ ‫وقد ا َّت�ضح مما َّ‬
‫اال�ستبداد �إال ما قد يكون بالتخويف من القوة القاهرة‪ ،‬وهذا النوع ي�ستلزم‬
‫انخالع القلوب ال تزكية النفو�س‪ .‬وقد �أجمع علماء االجتماع والأخالق‬
‫والرتبية على � َّأن الإقناع خري من الرتغيب ف�ض ًال عن الرتهيب‪ ،‬و� َّإن التعليم‬
‫مع احلرية بني املعلِّم واملتعلِّم �أف�ضل من التعليم مع الوقار‪ ،‬و� َّأن التعليم‬
‫التكمل �أر�سخ من العلم احلا�صل طمع ًا يف املكاف�أة‪� ،‬أو غرية‬ ‫ُّ‬ ‫عن رغبة يف‬
‫من الأقران‪ .‬وعلى هذه القاعدة بنوا قولهم‪َّ � :‬إن املدار�س تقلل اجلنايات ال‬
‫ال�سجون‪ ،‬وقولهم‪َّ � :‬إن الق�صا�ص واملعاقبة ق َّلما يفيدان يف زجر النف�س كما‬
‫قال احلكيم العربي‪:‬‬
‫زاجر‬
‫ما مل يكن منها لها ُ‬ ‫غيها ‬
‫ال ترجع الأنف�س عن ّ‬

‫ومن يت�أمل جيداً يف قوله تعاىل‪( :‬ولكم يف الق�صا�ص حيا ٌة يا �أويل‬


‫الألباب) مالحظ ًا � َّأن معنى الق�صا�ص لغ ًة‪ :‬هو الت�ساوي مطلق ًا‪ ،‬ال مق�صوراً‬
‫على املعاقبة باملثل يف اجلنايات فقط‪ ،‬ويدقق النظر يف القر�آن الكرمي و�سائر‬
‫الر�سل العظام ‪-‬عليهم ال�صالة وال�سالم‪ -‬يرى‬‫الكتب ال�سماوية‪ ،‬وي َّتبع م�سالك ُّ‬

‫‪104‬‬
‫ثم �إىل الأطماع عاج ًال‬ ‫من�رصف �إىل الإقناع‪َّ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫� َّأن االعتناء يف طريق الهداية فيها‬
‫ثم �إىل الرتهيب الآجل غالب ًا ومع ترك �أبواب ُتديل �إىل النجاة‪.‬‬ ‫�أو �آج ًال‪َّ ،‬‬
‫ثم � َّإن الرتبية التي هي �ضا ّلة الأمم‪ ،‬وفقدها هو امل�صيبة العظيمة‪ ،‬التي‬ ‫َّ‬
‫هي امل�س�ألة االجتماعية‪ ،‬حيث الإن�سان يكون �إن�سان ًا برتبيته‪ ،‬وكما يكون‬
‫الآباء يكون الأبناء‪ ،‬وكما يكون الأفراد تكون ال ّأمة‪ ،‬والرتبية املطلوبة هي‬
‫ثم‬
‫ثم على ح�سن التفهيم والإقناع‪َّ ،‬‬ ‫الرتبية املر َّتبة على �إعداد العقل للتمييز‪َّ ،‬‬
‫ثم على ح�سن القدوة‬ ‫ثم على التمرين والتعويد‪َّ ،‬‬ ‫الهمة والعزمية‪َّ ،‬‬ ‫على تقوية ّ‬
‫التو�سط واالعتدال‪ ،‬و� ْأن تكون‬‫ّ‬ ‫ثم على‬‫ثم على املواظبة والإتقان‪َّ ،‬‬ ‫واملثال‪َّ ،‬‬
‫تربية العقل م�صحوب ًة برتبية اجل�سم‪ ،‬لأنهما مت�صاحبان �صحة واعتال ًال‪،‬‬
‫امل�شاق‪ ،‬واملهارة يف‬
‫ّ‬ ‫حتمل‬
‫ف�إنه يقت�ضي تعويد اجل�سم على النظافة وعلى ّ‬
‫احلركات‪ ،‬والتوقيت يف النوم والغذاء والعبادة‪ ،‬والرتتيب يف العمل ويف‬
‫الريا�ضة والراحة‪ .‬و�أن تكون تلكما الرتبيتني م�صحوبتني �أي�ض ًا برتبية النف�س‬
‫على معرفة خالقها ومراقبته واخلوف منه‪ .‬ف�إذا كان ال مطمع يف الرتبية‬
‫العامة على هذه الأ�صول مبانع طبيعة اال�ستبداد‪ ،‬فال يكون لعقالء املبتلني‬ ‫ّ‬
‫ثم بعد ذلك‬ ‫َّ‬ ‫العقول‪،‬‬ ‫هذه‬ ‫على‬ ‫ال�ضاغط‬ ‫املانع‬ ‫إزالة‬ ‫�‬ ‫وراء‬ ‫ال‬
‫ً‬ ‫أو‬ ‫�‬ ‫ي�سعوا‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫إال‬ ‫به �‬
‫يعتنوا بالرتبية‪ ،‬حيث ميكنهم حينئ ٍذ �أن ينالوها على توايل البطون‪ ،‬واهلل‬
‫املوفق‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫‪106‬‬
‫اال�ستبداد والرتقِّي‬
‫�شخو�ص وهبوط‪ .‬فالرت ّقي هو احلركة‬ ‫ٍ‬ ‫احلركة ُ�س َّن ٌة دائب ٌة يف اخلليقة بني‬
‫احليوية‪� ،‬أي حركة ال�شخو�ص‪ ،‬ويقابله الهبوط وهو احلركة �إىل املوت �أو‬
‫االنحالل �أو اال�ستحالة �أو االنقالب‪.‬‬
‫ال�س ّنة كما هي عاملة يف املادة و�أعرا�ضها‪ ،‬عاملة �أي�ض ًا يف الكيفيات‬ ‫وهذه ُّ‬
‫امليت‬‫ويخرج ّ‬ ‫امليت ُ‬
‫احلي من ّ‬ ‫ال�شارح لذلك �آية‪(ُ :‬يخرِج َّ‬ ‫ومركباتها‪ ،‬والقول ّ‬ ‫َّ‬
‫أمر �إال وبدا نق�صه)‪ ،‬وقولهم‪( :‬التاريخ يعيد نف�سه)‪.‬‬‫مت � ٌ‬ ‫احلي)‪ ،‬وحديث‪( :‬ما َّ‬ ‫من ّ‬
‫وحكمهم ب� َّأن احلياة واملوت ح ّقان طبيعيان‪.‬‬
‫وهذه احلركة اجل�سمية والنف�سية والعقلية ال تقت�ضي ال�سري �إىل النهاية‬
‫كل �ساعة يف �ش�أن‪ ،‬والعربة‬ ‫�شخو�ص ًا �أو هبوط ًا‪ ،‬بل هي �أ�شبه مبيزان احلرارة‪ُّ ،‬‬
‫يف احلكم للوجهة الغالبة‪ ،‬ف�إذا ر�أينا �آثار حركة الرت ّقي هي الغالبة على‬
‫�أفرادها‪ ،‬حكمنا لها باحلياة‪ ،‬ومتى ر�أينا عك�س ذلك ق�ضينا عليها باملوت‪.‬‬
‫ال ّأمة هي جمموعة �أفراد يجمعها ن�سب �أو وطن �أو لغة �أو دين‪ ،‬كما � َّأن‬
‫وقو ًة يكون‬‫البناء جمموع �أنقا�ض‪ ،‬فح�سبما تكون الأنقا�ض جن�س ًا وجما ًال ّ‬
‫انحطت الأمة تر َّقت هيئتها االجتماعية‪ ،‬حتى � َّإن حالة‬ ‫َّ‬ ‫البناء‪ ،‬ف�إذا تر َّقت �أو‬
‫الفرد الواحد من ال ّأمة ت�ؤ ِّثر يف جمموع تلك الأمة‪ .‬كما �إذا لو اخت َّلت حجرة‬

‫‪107‬‬
‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫يختل جمموعه و� ْإن كان ال ي�شعر بذلك‪ ،‬كما لو وقفت بعو�ضة على‬ ‫ُّ‬ ‫من ح�صن‬
‫درك ذلك بامل�شاعر‪ .‬وبع�ض‬ ‫طرف �سفينة عظيمة �أثقلتها و�أمالتها و� ْإن مل ُي َ‬
‫كل فرد‬ ‫رقي ًا �أن يجتهد ُّ‬‫ال�سيا�سيني بنى على هذه القاعدة‪� :‬أ َّنه يكفي الأمة ّ‬
‫منها يف ترقية نف�سه بدون �أن يفتكر يف تر ّقي جمموع الأمة‪.‬‬
‫وهمته هو �أو ًال‪ :‬الرت ّقي‬
‫الرت ّقي احليوي الذي يجتهد فيه الإن�سان بفطرته ّ‬
‫القوة بالعلم واملال‪ ،‬ثالث ًا‪ :‬الرت ّقي‬‫�صح ًة وتل ُّذذاً‪ ،‬ثاني ًا‪ :‬الرت ّقي يف ّ‬‫يف اجل�سم ّ‬
‫يف النف�س باخل�صال واملفاخر‪ ،‬رابع ًا‪ :‬الرت ّقي بالعائلة ا�ستئنا�س ًا وتعاون ًا‪،‬‬
‫خام�س ًا‪ :‬الرت ّقي بالع�شرية تنا�رصاً عند الطوارئ‪� ،‬ساد�س ًا‪ :‬الرت ّقي بالإن�سانية‪،‬‬
‫وهذا منتهى الرت ّقي‪.‬‬
‫نوع �آخر من الرت ّقي ويتعلق بالروح وبالكمال‪ ،‬وهو � َّأن الإن�سان‬ ‫وهناك ٌ‬
‫يحمل نف�س ًا ملهمة ب� َّأن لها وراء حياتها هذه حيا ًة �أخرى يرت ّقى بها على‬
‫�س ّلم العدل والرحمة واحل�سنات‪ .‬ف�أهل الأديان ‪-‬ما عدا �أهل التوراة‪ -‬ي�ؤمنون‬
‫بالبعث �أو التنا�سخ‪ ،‬في�أتون بالعدل والرحمة رجاء املكاف�أة �أو خوف املجازاة‪،‬‬
‫وهم من قبيل الطبيعيني يعتربون �أنف�سهم مدينني للإن�سانية بحفظها تاريخ‬
‫بح�سن‬ ‫احلياة الطبيعية‪ ،‬فيلتزمون بخدمتها اهتمام ًا بحياتهم التاريخية ُ‬
‫ال ّذكر �أو قبحه‪.‬‬
‫وهذه الرت ّقيات‪ ،‬على �أنواعها ال�س ّتة‪ ،‬ال يزال الإن�سان ي�سعى وراءها ما‬
‫مل يعرت�ضه مانع غالب ي�سلب �إرادته‪ ،‬وهذا املانع � َّإما هو القدر املحتوم‪،‬‬
‫امل�سمى عند البع�ض بالعجز الطبيعي‪� ،‬أو هو اال�ستبداد امل�ش�ؤوم‪ .‬على � َّأن‬ ‫ّ‬
‫فيكر راقي ًا‪ .‬و�أما اال�ستبداد ف�إ َّنه‬
‫ُّ‬ ‫يطلقه‬ ‫ثم‬ ‫‪،‬‬
‫ً َّ‬ ‫ة‬ ‫ملح‬ ‫ي‬ ‫ق‬
‫ّ‬ ‫الرت‬ ‫�سري‬ ‫ي�صدم‬ ‫القدر‬
‫يقلب ال�سري من الرت ّقي �إىل االنحطاط‪ ،‬ومن التقدم �إىل الت�أخر‪ ،‬من النماء �إىل‬
‫الفناء‪ ،‬ويالزم الأمة مالزمة الغرمي ال�شحيح‪ ،‬ويفعل فيها دهراً طوي ًال �أفعاله‬
‫حطة‬ ‫تقدم و�صف بع�ضها يف الأبحاث ال�سابقة‪� ،‬أفعاله التي تبلغ بالأمة ّ‬ ‫التي َّ‬
‫العجماوات فال يهمها غري حفظ حياتها احليوانية فقط‪ ،‬بل قد تبيح حياتها‬
‫خفية‪ .‬وال عار على الإن�سان � ْأن‬ ‫هذه الدنيئة �أي�ض ًا اال�ستبداد �إباح ًة ظاهرة �أو ّ‬
‫ُ‬
‫يختار املوت على الذل‪ ،‬وهذه �سباع الطري والوحو�ش �إذا �أ�سرِ َ ت كبرية قد ت�أبى‬
‫الغذاء حتى املوت‪.‬‬
‫يحول ميلها الطبيعي من طلب الرت ّقي‬ ‫وقد يبلغ فعل اال�ستبداد بالأمة �أن ِّ‬

‫‪108‬‬
‫الرفعة لأبت وت�ألمَّ ت كما يت�ألمَّ الأجهر من‬ ‫�إىل الت�س ُّفل‪ ،‬بحيث لو ُد ِف َعت �إىل ِّ‬
‫النور‪ ،‬و�إذا �أُلز َِمت باحلرية ت�شقى‪ ،‬ورمبا تفنى كالبهائم الأهلية �إذا �أُط ِلق‬
‫�رساحها‪ .‬عندئ ٍذ ي�صري اال�ستبداد كالعلق يطيب له املقام على امت�صا�ص دم‬
‫ينفك عنها حتى متوت وميوت هو مبوتها‪.‬‬ ‫الأمة‪ ،‬فال ُّ‬
‫وتو�صف حركة الرت ّقي واالنحطاط يف ال�ش�ؤون احليوية للإن�سان‪� ،‬أنها من‬
‫نوع احلركة الدودية‪ ،‬التي حت�صل باالندفاع واالنقبا�ض‪ ،‬وذلك � َّأن الإن�سان‬
‫ثم ي�أخذ يف ال�سري‪ ،‬تدفعه‬ ‫يولد وهو �أعجز حراك ًا و�إدراك ًا من ك ِّل حيوان‪َّ ،‬‬
‫�رس �أن‬
‫الرغائب النف�سية والعقلية وتقب�ضه املوانع الطبيعية واملزاحمة‪ .‬وهذا ّ‬
‫�رس ما ورد يف القر�آن الكرمي من ابتالء اهلل‬ ‫الإن�سان ينتابه اخلري وال�رش‪ .‬وهو ّ‬
‫النا�س باخلري وال�رش‪ ،‬وهو معنى ما ورد يف الأثر ب� َّأن اخلري مربوط بذيل‬
‫مربوط بذيل اخلري‪ ،‬وهو املراد من �أقوال احلكماء نحو‪ :‬على قدر‬ ‫ٌ‬ ‫ال�رش‪ ،‬وال�رش‬
‫حرب‬
‫ال ّنعمة تكون النقمة‪ ،‬على قدر الهمم ت�أتي العزائم‪ ،‬بني ال�سعادة وال�شقاء ٌ‬
‫والكي�س من ي�ستفيد من م�صيبته‬ ‫ِّ‬ ‫ِ�سجال‪ ،‬العاقل من ي�ستفيد من م�صيبته‪،‬‬
‫وم�صيبة غريه‪ ،‬واحلكيم من يبتهج بامل�صائب ليقطف منها الفوائد‪ ،‬ما كان‬
‫يف احلياة ل ّذة لو مل يتخللها �آالم‪.‬‬
‫ف�إذا تقرر هذا فليعلم �أي�ض ًا � َّأن �سبيل الإن�سان هو الرقي‪ ،‬ما دام جناحا‬
‫االندفاع واالنقبا�ض فيه متوازيني كتوازن الإيجابية وال�سلبية يف‬
‫ثم � َّإن االندفاع‬‫الكهربائية‪ ،‬و�سبيله القهقرى �إن غلبته الطبيعة �أو املزاحمة‪َّ .‬‬
‫�إذا غلب فيه العقل النف�س‪ ،‬كانت الوجهة �إىل احلكمة‪ ،‬و� ْإن غلبت النف�س العقل‪،‬‬
‫كانت الوجهة �إىل الزيغ‪� .‬أما االنقبا�ض‪ ،‬فاملعتدل منه هو ال�سائق للعمل‪،‬‬
‫والقوي منه ُمه ِل ٌك للحركة‪ ،‬واال�ستبداد امل�ش�ؤوم الذي نبحث فيه هو قاب�ض‬
‫أحق بو�صف‬ ‫�ضاغط م�سكن‪ ،‬واملبتلون به هم امل�ساكني‪ .‬نعم‪� :‬أ�رساء اال�ستبداد � ُّ‬
‫امل�ساكني من عجزة الفقراء‪.‬‬
‫ولو ملك الفقهاء حرية النظر خلرجوا من االختالف يف تعريف امل�ساكني‬
‫الذين جعل لهم اهلل ن�صيب ًا من الزكاة فقالوا‪ :‬هم عبيد اال�ستبداد‪ ،‬وجلعلوا‬
‫الرق الأكرب‪.‬‬
‫فك الرقاب ت�شمل هذا ّ‬ ‫ك َّفارات ِّ‬
‫�أُ�رساء اال�ستبداد حتى الأغنياء منهم ك ُّلهم م�ساكني ال حراك فيهم‪ ،‬يعي�شون‬
‫منحطني يف الأخالق‪ .‬وما �أظلم‬ ‫ّ‬ ‫منحطني يف الإح�سا�س‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫منحطني يف الإدراك‪،‬‬
‫ّ‬

‫‪109‬‬
‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫�شبه حالتهم‬ ‫توجيه اللوم عليهم بغري ل�سان الر�أفة والإر�شاد‪ ،‬وقد �أبدع من َّ‬
‫بدود حتت �صخرة‪ ،‬فما �أليق بالالئمني �أن يكونوا م�شفقني ي�سعون يف رفع‬
‫ذرة‪.‬‬
‫ذر ًة بعد ّ‬
‫ال�صخرة ولو ح ّت ًا بالأظافر َّ‬
‫وقد �أجمع احلكماء على � َّأن �أهم ما يجب عمله على الآخذين بيد ال َّأمة‪،‬‬
‫الذين فيهم ن�سمة مروءة و�رشار حمية‪ ،‬الذين يعرفون ما هي وظيفتهم ب�إزاء‬
‫الإن�سانية‪ ،‬امللتم�سني لإخوانهم العافية‪� ،‬أن ي�سعوا يف رفع ال�ضغط عن العقول‬
‫النمو فتم ِّزق غيوم الأوهام التي متطر املخاوف‪� ،‬ش�أن‬ ‫ِّ‬ ‫لينطلق �سبيلها يف‬
‫الطبيب يف اعتنائه �أو ًال بقوة ج�سم املري�ض‪ ،‬و�أن يكون الإر�شاد متنا�سب ًا مع‬
‫ٍ‬
‫�صوت‬ ‫ينبهه ال�صوت اخلفيف‪ ،‬وال ّنائم يحتاج �إىل‬
‫الغفلة خ َّف ًة وقوة‪ :‬كال�ساهي ِّ‬
‫�صياح وزجر‪ .‬فالأ�شخا�ص من هذا النوع الأخري‪ ،‬يقت�ضي‬ ‫ٌ‬ ‫�أقوى‪ ،‬والغافل يلزمه‬
‫مراً‬
‫لإيقاظهم الآن بعد �أن ناموا �أجيا ًال طويلة �أن ي�سقيهم النطا�سي البارع ّ‬
‫من الزواجر والقوار�س ع َّلهم يفيقون‪ ،‬و�إال فهم ال يفيقون‪ ،‬حتى ي�أتي الق�ضاء‬
‫من ال�سماء‪ :‬فتربق ال�سيوف‪ ،‬وترعد املدافع ومتطر البنادق‪ ،‬فحينئ ٍذ ي�صحون‪،‬‬
‫ولكن‪� ،‬صحوة املوت!‪.‬‬

‫الدين ي�ؤ ِّثر على الرت ّقي الإفرادي‪،‬‬‫بع�ض االجتماعيني يف الغرب يرون � َّأن ِّ‬
‫احل�س‪� ،‬أو حاجب ًا كالغيم يغ�شى‬ ‫معط ًال كفعل الأفيون يف ِّ‬ ‫ثم االجتماعي ت�أثرياً ِّ‬ ‫َّ‬
‫�ضدان متزاحمان‬ ‫ّ‬ ‫والعقل‬ ‫الدين‬ ‫يقولون‪:‬‬ ‫الغالة‬ ‫بع�ض‬ ‫وهناك‬ ‫ال�شم�س‪.‬‬ ‫نور‬
‫يف الر�ؤو�س‪ ،‬و� َّإن �أول نقطة من الرت ّقي تبتدئ عند �آخر نقطة من الدين‪ .‬و� َّإن‬
‫الرقي واالنحطاط يف الأفراد �أو يف الأمم‬ ‫�ستد ُّل به على مرتبة ُّ‬
‫�أ�صدق ما ُي َّ‬
‫الغابرة واحلا�رضة‪ ،‬هو مقيا�س االرتباط بالدين قو ًة و�ضعف ًا‪.‬‬
‫للرد عليها‪ ،‬ولكن‪ ،‬بالنظر �إىل الأديان‬ ‫هذه الآراء ك ُّلها �صحيحة ال جمال ِّ‬
‫حد احلكمة‪ ،‬كالدين املبني على تكليف‬ ‫اخلرافية �أ�سا�س ًا �أو التي مل تقف عند ِّ‬
‫جمرد الإذعان ملا يعقل‬ ‫بت�صور � َّأن الواحد ثالثة والثالثة واحد‪ .‬ل َّأن َّ‬
‫ُّ‬ ‫العقل‬
‫يعد‬
‫برهان على ف�ساد بع�ض مراكز العقل‪ ،‬ولهذا �أ�صبح العامل املتمدن ّ‬
‫االنت�ساب �إىل هذه العقيدة من العار‪ ،‬لأنه �شعار احلُمق‪.‬‬
‫�أما الأديان املبنية على العقل املح�ض كالإ�سالم املو�صوف بدين الفطرة‪،‬‬
‫وال �أعني بالإ�سالم ما يدين به �أكرث امل�سلمني الآن‪� ،‬إنمَّ ا �أريد بالإ�سالم‪ :‬دين‬

‫‪110‬‬
‫مقيد الفكر‬
‫كل �إن�سانٍ غري َّ‬ ‫القر�آن‪� ،‬أي الدين الذي يقوى على فهمه من القر�آن ُّ‬
‫بتف�صح زيد �أو حت ُّكم عمرو‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫الدين �إذا كان مبني ًا على العقل‪ ،‬يكون �أف�ضل �صارف للفكر عن‬ ‫أن‬
‫َّ ِّ‬ ‫�‬ ‫�شك‬ ‫فال‬
‫املخرفني‪ ،‬و�أنفع وازع ب�ضبط ال َّنف�س من ال�شطط‪ ،‬و�أقوى‬ ‫ِّ‬ ‫م�صائد‬ ‫الوقوع يف‬
‫من�شط‬ ‫م�شاق احلياة‪ ،‬و�أعظم ِّ‬‫ّ‬ ‫حتمل‬‫م�ؤ ِّثر لتهذيب الأخالق‪ ،‬و�أكرب معني على ُّ‬
‫مثبت على املبادئ ال�رشيفة‪ ،‬ويف النتيجة‬ ‫املهمة اخلطرة‪ .‬و�أج َّل ِّ‬ ‫َّ‬ ‫على الأعمال‬
‫رقي ًا‬
‫�ستدل به على الأحوال النف�سية يف الأمم والأفراد ّ‬ ‫أ�صح مقيا�س ُي ُّ‬ ‫يكون � َّ‬
‫وانحطاط ًا‪.‬‬
‫هذا القر�آن الكرمي �إذا �أخذناه وقر�أناه بالترّ وي يف معاين �ألفاظه العربية‬
‫تفهم �أ�سباب نزول �آياته وما �أ�شارت �إليه‪ ،‬ومع‬ ‫و�أ�سلوب تركيبه القر�شي‪ ،‬مع ُّ‬
‫التب�صرُّ يف مقا�صده الدقيقة وت�رشيعه ال�سامي‪ ،‬ومع �أخذ بع�ض التو�ضيحات‬
‫ال�س َّنة العملية النبوية �أو الإجماع �إن وجدا‪ ،‬وق َّلما يوجدان‪ ،‬فحينئ ٍذ ال نرى‬ ‫من ُّ‬
‫فيه من �أو ِّله �إىل �آخره غري ِح َك ٍم يتل ّقاها العقل بالإجالل والإعظام‪� ،‬إىل درجة‬
‫حل َكم ِح َك ٌم عزيزة �إلهية‪،‬‬
‫انقياد العقل طوع ًا �أو كره ًا للإميان �إجما ًال ب� َّأن تلك ا ِ‬
‫و� َّأن الذي �أنزلها اهلل على قلبه هو اف�ضل من �أر�سله اهلل مر�شداً لعباده‪.‬‬
‫حق النظر يرى �أ َّنه ال يكلِّف الإن�سان‬ ‫وتو�ضيح ذلك‪َّ � :‬أن الناظر يف القر�آن ّ‬
‫قط بالإذعان ل�شيء فوق العقل‪ ،‬بل يح ِّذره وينهاه من الإميان ا ِّتباع ًا لر�أي‬ ‫ّ‬
‫الغري �أو تقليداً للآباء‪ .‬ويراه طافح ًا بالتنبيه �إىل �أعمال الإن�سان فكره ونظره‬
‫ثم اال�ستدالل بذلك �إىل � َّأن لهذه الكائنات‬ ‫يف هذه الكائنات وعظيم انتظامها‪َّ ،‬‬
‫ال�صفات التي ي�ستلزم العقل‬ ‫ثم االنتقال �إىل معرفة ِّ‬ ‫�صانع ًا �أبدعها من العدم‪َّ ،‬‬
‫ثم يرى القر�آن يعلِّم الإن�سان‬ ‫�أن يكون هذا ال�صانع م َّت ِ�صف ًا بها‪� ،‬أو من َّزه ًا عنها‪َّ ،‬‬
‫بع�ض �أعمال و�أحكام و�أوامر ونواهي ك ّلها ال تبلع املائة عدداً‪ ،‬وك ُّلها ب�سيطة‬
‫التعبدية التي �شرُ ِّعت لتكون �شعاراً يعرف به‬ ‫ُّ‬ ‫معقولة‪� ،‬إال قلي ًال من الأمور‬
‫في�ستدل‬
‫ُّ‬ ‫امل�سلم �أخاه‪� ،‬أو ي�ستطلع من خالل قيامه بها �أو تهاونه فيها �أخالقه‪،‬‬
‫مث ًال بال ّتكا�سل عن ال�صالة على َفق ِد الن�شاط‪ ،‬وبرتك ال�صوم على عدم ال�صرب‪،‬‬
‫وبال�سكر على غلبة النف�س والعقل ونحو ذلك‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫رقيها بالب�رش �إىل منزلة ح�رصها‬ ‫ّ‬ ‫الت�رشيع‪،‬‬ ‫يف‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫رقي‬
‫ّ‬ ‫إ�سالمية‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫وكفى‬
‫�أ�سارة الإن�سان يف جهة �رشيفة واحدة وهي (اهلل)‪ ،‬وعتقها عقل الب�رش عن‬

‫‪111‬‬
‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫توهم وجود قوة ما‪ ،‬يف غري اهلل‪ ،‬من �ش�أنها �أن ت�أتي للإن�سان بخ ٍري ما‪� ،‬أو‬ ‫ُّ‬
‫�رشاً ما‪ .‬فالإ�سالمية جتعل الإن�سان ال يرجو وال يهاب من ر�سولٍ �أو‬ ‫ّ‬ ‫عنه‬ ‫تدفع‬
‫يل �أو ج ّني‪� ،‬أو �ساح ٍر �أو كاهن‪� ،‬أو �شيطانٍ �أو �سلطان‪.‬‬ ‫نبي‪� ،‬أو ٍ‬
‫ملك �أو فلك‪� ،‬أو و ٍّ‬ ‫ّ‬
‫و�أعظم بهذا التعليم الذي يرمي الإن�سان عن عاتقه جبا ًال من اخلوف‬
‫والأوهام واخلياالت‪ ،‬جبا ًال اعتقلها منذ كان ي�رسح مع الغيالن‪� ،‬أو ورثها‬
‫من �أبيه �آدم الذي طغاه �شيطان النف�س‪� .‬أو لي�س العتيق من الأوهام ي�صبح‬
‫�صحيح العقل‪ ،‬قوي الإرادة‪ ،‬ثابت العزمية‪ ،‬قائده احلكمة‪� ،‬سائقه الوجدان‪،‬‬
‫فيعي�ش حراً‪ ،‬فرح ًا �صبوراً فخوراً‪ .‬ال يبايل حتى باملوت لعلمه بال�سعادة‬
‫الروح والريحان‪ ،‬واحلور‬ ‫التي ي�ستقبلها‪ ،‬التي مي ِّثلها له القر�آن باجلنان‪ ،‬فيها ّ‬
‫وتقر به العينان؟!‬ ‫والغلمان‪ ،‬فيها كل مل ت�شتهي الأنف�س ُّ‬
‫اطالعهم‬ ‫أظن �أن ه�ؤالء املنكرين فائدة الدين‪ ،‬ما �أنكروا ذلك �إال من عدم ِّ‬ ‫و� ُّ‬
‫على دينٍ �صحيح مع ي�أ�سهم من �إ�صالح ما لديهم‪ ،‬عجزاً عن مقاومة �أن�صار‬
‫الف�ساد‪ .‬و�إذا نظرنا يف � َّأن ه�ؤالء �أنف�سهم هم يف �آنٍ واحد ي�شددون ال َّنكري على‬
‫جهة �أخرى‬ ‫الدين من جهة‪ ،‬قائلني‪َّ � :‬إن �رضره �أكرب من نفعه‪ ،‬ويهيجون من ٍ‬ ‫ِّ‬
‫حب‬
‫ِّ‬ ‫مثل‬ ‫وذلك‬ ‫أمم‪،‬‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫بناء‬ ‫يف‬ ‫منه‬ ‫بد‬
‫َّ‬ ‫ال‬ ‫أنه‬ ‫�‬ ‫يرون‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫حم�ض‬ ‫وهمية‬ ‫أدبية‬ ‫�‬ ‫رات‬ ‫ث‬
‫ِّ‬ ‫�‬
‫ؤ‬ ‫م‬
‫وال�سمعة احل�سنة وعك�سها‪،‬‬ ‫وحب الإن�سانية والإ�ساءة �إليها ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫الوطن وخيانته‪،‬‬
‫وال ِّذكر التاريخي باخلري �أو ال�شرَّ ونحو ذلك مما هو ال �شيء يف ذاته‪ ،‬وال �شيء‬
‫�أي�ض ًا بالن�سبة �إىل ت�أثري طاعة اهلل واخلوف منه‪ ،‬ل َّأن (اهلل) حقيقة ال ريب‬
‫فيها‪ ،‬بل وال خالف �إال يف الأ�سماء بني (اهلل) وبني (مادة) �أو (طبيعة)‪ .‬ولوال‬
‫� َّأن املاديني والطبيعيني ي�أبون اال�سرت�سال يف البحث يف �صفات ما ي�سمونه‬
‫مادة �أو طبيعة‪ ،‬اللتقوا ‪-‬وال �شك‪ -‬مع الإ�سالم يف نقطة واحدة‪ ،‬فارتفع‬
‫اخلالف العلمي و�أ�سلم الك ّل هلل‪.‬‬
‫أ�صور الرقي واالنحطاط يف ال َّنف�س‪،‬‬ ‫وعلى ذكر اللوم الإر�شادي الح يل � ْأن � ِّ‬
‫وكيف ينبغي للإن�سان العاقل �أن يعاين �إيقاظ قومه‪ ،‬وكيف ير�شدهم �إىل �أنهم‬
‫ويحرك‬
‫ِّ‬ ‫وال�سفالة‪ ،‬فيذ ِّكرهم‪،‬‬‫ال�صرب على ال ُّذ ِّل َّ‬ ‫ُخ ِلقوا لغري ما هم عليه من َّ‬
‫قلوبهم‪ ،‬ويناجيهم‪ ،‬وينذرهم بنحو اخلطابات الآتية‪:‬‬
‫أحييه‬ ‫حي ف� ّ‬ ‫قوم‪ :‬ينازعني واهلل ال�شعور‪ ،‬هل موقفي هذا يف جمع ٍّ‬ ‫(يا ُ‬
‫بال�سالم؟ �أم �أنا �أخاطب �أهل القبور ف�أحييهم بالرحمة؟ يا ه�ؤالء‪ ،‬ل�ستم ب�أحياء‬

‫‪112‬‬
‫التنبت‪،‬‬
‫ي�سمى ُّ‬‫برزخ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫عاملني‪ ،‬وال �أموات م�سرتيحني‪ ،‬بل �أنتم بني بني‪ :‬يف‬
‫رباه‪� :‬إين �أرى �أ�شباح �أنا�س ي�شبهون ذوي احلياة‪،‬‬ ‫وي�رصح ت�شبيهه بال ّنوم! يا ّ‬
‫وهم يف احلقيقة موتى ال ي�شعرون‪ ،‬بل هم موتى‪ ،‬لأنهم ال ي�شعرون)‪.‬‬
‫نعيم مقيم‪،‬‬‫(يا قوم‪ :‬هداكم اهلل‪� ،‬إىل متى هذا ال�شقاء املديد وال ّنا�س يف ٍ‬
‫وع ٍّز كرمي؟ �أفال تنظرون؟ وما هذا الت� ُّأخر‪ ،‬وقد �سبقتكم الأقوام �ألوف مراحل‪،‬‬
‫حتى �صار ما بعد ورائكم �أمام ًا! �أفال تتبعون؟ وما هذا االنخفا�ض والنا�س‬
‫الرفعة‪� ،‬أفال تغارون؟ �أنا�شدكم اهلل‪ ،‬هل طابت لكم طول غيبة ال�صواب‬ ‫يف �أوج ّ‬
‫ثم قاموا‪ ،‬و�إذا بالدنيا غري‬ ‫عنكم؟ �أم �أنتم ك�أهل ذلك الكهف ناموا �ألف عام َّ‬
‫الدنيا‪ ،‬والنا�س غري النا�س‪ ،‬ف�أخذتهم الده�شة والتزموا ال�سكون؟)‪.‬‬
‫(يا قوم‪ :‬وقاكم اهلل من ال�رش‪� ،‬أنتم بعيدون عن مفاخر الإبداع و�رشف‬
‫القدوة‪ُ ،‬مبتلون بداء التقليد والتبعية يف ك ِّل فك ٍر وعمل‪ ،‬وبداء احلر�ص على ك ِّل‬
‫عتيق ك�أ َّنكم ُخ ِلقتم للما�ضي ال للحا�رض‪ :‬ت�شكون حا�رضكم وت�سخطون عليه‪،‬‬
‫ومن يل �أن تدركوا � َّأن حا�رضكم نتيجة ما�ضيكم‪ ،‬ومع ذلك �أراكم تقلِّدون‬
‫�أجدادكم يف الو�ساو�س واخلرافات والأمور ال�سافالت فقط‪ ،‬وال تقلِّدونهم يف‬
‫حمامدهم! �أين الدين؟ �أين الرتبية؟ �أين الإح�سا�س؟ �أين الغرية؟ �أين اجل�سارة؟‬
‫�أين الثبات؟ �أين الرابطة؟ �أين املنعة؟ �أين ال�شهامة؟ �أين النخوة؟ �أين الف�ضيلة؟‬
‫�أين املوا�ساة؟ هل ت�سمعون؟ �أم �أنتم ُ�ص ٌّم الهون؟)‬
‫قوم‪ :‬عافاكم اهلل‪� ،‬إىل متى هذا النوم؟ و�إىل متى هذا التق ُّلب على فرا�ش‬ ‫يا ُ‬
‫الب�أ�س وو�سادة الي�أ�س؟ �أنتم مف َّتح ٌة عيونكم ولكنكم نيام‪ ،‬لكم �أب�صار ولكنكم‬
‫ال�صدور!‬ ‫ولكن‪ ،‬تعمى القلوب التي يف ّ‬ ‫ْ‬ ‫ال تنظرون‪ ،‬وهكذا ال تعمى الأب�صار‪،‬‬
‫احل�س ولكنكم ال ت�شعرون به ما‬ ‫كم‪ ،‬ولكم �شبيه ِّ‬ ‫ول�سان ولكنكم ُ�ص ٌّم ُب ٌ‬
‫ٌ‬ ‫�سمع‬
‫لكم ٌ‬
‫ؤو�س كبرية ولكنها م�شغولة مبزعجات‬ ‫هي اللذائذ حق ًا وما هي الآالم‪ ،‬ولكم ر� ٌ‬
‫ولكن‪� ،‬أنتم ال تعرفون‬ ‫نفو�س ح ُّقها �أن تكون عزيزة‪ْ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫الأوهام والأحالم‪ ،‬ولكم‬
‫لها قدراً ومقام ًا)‪.‬‬
‫قوم‪ :‬قاتل اهلل الغباوة‪ ،‬ف�إنها متلأ القلوب رعب ًا من ال �شيء‪ ،‬وخوف ًا‬ ‫(يا ُ‬
‫من ك ِّل �شيء‪ ،‬وتفعم الر�ؤو�س ت�شوي�ش ًا و�سخافة‪� .‬ألي�ست هي الغباوة جعلتكم‬
‫وجتي�شون‬
‫ّ‬ ‫م�سكم ال�شيطان‪ ،‬فتخافون من ظلِّكم وترهبون من قوتكم‪،‬‬ ‫ك�أنكم قد َّ‬
‫منكم عليكم جيو�ش ًا ليقتل بع�ضكم بع�ض ًا؟ ترتامون على املوت خوف املوت‪،‬‬

‫‪113‬‬
‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫الدماغ ونطقكم يف الل�سان و�إح�سا�سكم‬ ‫وحت�سبون ‪-‬طول العمر‪ -‬فكركم يف ِّ‬


‫يف الوجدان خوف ًا من �أن ي�سجنكم الظاملون‪ ،‬وما ي�سجنون غري �أرجلكم �أيام ًا‪،‬‬
‫الذل تخافون �أن ت�صريوا ُج َّال�س الرجال يف‬ ‫فما بالكم يا �أحال�س الن�ساء مع ّ‬
‫ال�سجون؟)‪.‬‬
‫(يا قوم‪� :‬أُعيذكم باهلل من ف�ساد الر�أي‪ ،‬و�ضياع احلزم‪ ،‬وفقد الثقة بالنف�س‪،‬‬
‫للر�شد يف �أن يو ِّكل الإن�سان عنه وكي ًال‬ ‫وترك الإرادة للغري‪ ،‬فهل ترون �أثراً ُّ‬
‫الت�رصف يف ماله و�أهله‪ ،‬والتح ُّكم يف حياته و�رشفه والت�أثري على‬ ‫ُّ‬ ‫ويطلق له‬
‫ُ‬
‫عبث وخيانة و� ٍ‬
‫إ�رساف‬ ‫دينه وفكره‪ ،‬مع ت�سليف هذا الوكيل العفو عن ك ِّل ٍ‬
‫و�إتالف؟ �أم ترون � َّأن هذا النوع من اجلنة به �أن يظلم الإن�سان نف�سه؟ هل خلق‬
‫هلل ال َيظلم‬‫اهلل لكم عقو ًال لتفهموا به ك َّل �شيء؟ �أم لتهملوه ك�أ َّنه ال �شيء؟ «� َّإن ا َ‬
‫ولكن النا�س �أنف�سهم يظلمون»)‪.‬‬‫ال ّنا�س �شيئ ًا َّ‬
‫(يا قوم‪� :‬شفاكم اهلل‪ ،‬قد ينفع اليوم الإنذار واللوم‪ ،‬و�أما غداً �إذا ح َّل الق�ضاء‪،‬‬
‫فال يبقى لكم غري ال ّندب والبكاء‪ .‬ف�إىل متى هذا التخادع والتخاذل؟ و�إىل‬
‫متى هذا الإهمال؟ هل طاب لكم النوم على الو�سادة اللينة‪ ،‬و�سادة اخلمول؟‬
‫وتودون لو ت�سكنون القبور؟ �أم عاهدمت �أنف�سكم �أن ت�صلوا‬ ‫�أم طاب لكم ال�سكون ّ‬
‫ال�سبات قبل �صباح يوم الن�شور‪ ،‬يوم‬ ‫غفلة احلياة باملمات‪ ،‬فال تفيقوا من ُّ‬
‫وحق لكم‬
‫تعلو ال�سيوف رقابكم وت�صمي املدافع �آذانكم فتم�سون الأذ ّالء حق ًا‪َّ ،‬‬
‫�أن تذلوا؟)‪.‬‬
‫تعي�سة دنيئة ال متلكونها‬ ‫ٍ‬ ‫قوم‪ :‬رحمكم اهلل‪ ،‬ما هذا احلر�ص على ٍ‬
‫حياة‬ ‫(يا ُ‬
‫ون�صب! هل‬ ‫تعب َ‬ ‫�ساعة! ما هذا احلر�ص على الراحة املوهومة وحياتكم ك ُّلها ٌ‬
‫هلل �ساء ما تتوهمون‪ ،‬لي�س‬ ‫فخر �أو لكم عليه �أجر؟ ك ّال‪ ،‬وا ِ‬
‫ال�صرب ٌ‬ ‫لكم يف هذا َّ‬
‫لكم �إال القهر يف احلياة‪ ،‬وقبيح ال ِّذكر بعد املمات‪ ،‬لأ َّنكم ما �أفدمت الوجود‬
‫للخ َلف‪� .‬أل�ستم‬‫ال�سلف و�رصمت بئ�س الوا�سطة َ‬ ‫�شيئ ًا‪ .‬بل �أتلفتم ما ورثتم عن ّ‬
‫يا نا�س مديونني للأ�سالف بك ِّل ما �أنتم فيه من الرت ّقي عن �إن�سان الغابات؟‬
‫للح ْفظ‪ ،‬وهذه العجماوات تنقل رقيها‬ ‫ف�إذا مل تكونوا �أه ًال للمزيد فكونوا �أه ًال ِ‬
‫لن�سلها ب�أمانة)‪.‬‬
‫حدب ين�سلون‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫قوم‪ :‬حماكم اهلل‪ ،‬قد جاءكم امل�ستمتعون من ك ِّل‬ ‫(يا ُ‬
‫ف�إن وجدوكم �أيقاظ ًا عاملوكم كما يتعامل اجلريان ويتجامل الأقران‪ ،‬و�إن‬

‫‪114‬‬
‫وحتيلوا‬
‫َّ‬ ‫وجدوكم رقوداً ال ت�شعرون �سلبوا �أموالكم‪ ،‬وزاحموكم على �أر�ضكم‪،‬‬
‫تذليلكم‪ ،‬و�أوثقوا ربطكم‪ ،‬وا َّتخذوكم �أنعام ًا‪ ،‬وعندئ ٍذ لو �أردمت حراك ًا ال تقوون‪،‬‬
‫بل جتدون القيود م�شدود ًة والأبواب م�سدودة ال جناة وال خمرج)‪.‬‬
‫هون اهلل م�صابكم‪ ،‬ت�شكون من اجلهل وال تنفقون على التعليم‬ ‫قوم‪َّ :‬‬
‫(يا ُ‬
‫ن�صف ما ت�رصفون على التدخني‪ ،‬ت�شكون من احل َّكام‪ ،‬وهم اليوم منكم‪ ،‬فال‬
‫وجوه ال تف ِّكرون‬ ‫ٍ‬ ‫ت�سعون يف �إ�صالحهم‪ ،‬ت�شكون فقد الرابطة‪ ،‬ولكم روابط من‬
‫ال�صالح و�أنتم‬ ‫يف �إحكامها‪ .‬ت�شكون الفقر وال �سبب له غري الك�سل‪ .‬هل ترجون َّ‬
‫ُيخادع بع�ضكم بع�ض ًا وال تخدعون �إال �أنف�سكم؟‪ .‬تر�ضون ب�أدنى املعي�شة‬
‫متوهون على‬ ‫توك ًال! ِّ‬ ‫�سمونه ُّ‬
‫�سمونه قناعة‪ ،‬وتهملون �ش�ؤونكم تهاون ًا ُت ّ‬ ‫عجزاً ُت ّ‬
‫جهلكم الأ�سباب بق�ضاء اهلل وتدفعون عار امل�سببات بعطفها على القدر‪� ،‬أال‬
‫واهلل ما هذا �ش�أن الب�رش!)‪.‬‬
‫اجلبار‪� .‬أمل‬
‫قوم‪� :‬ساحمكم اهلل‪ ،‬ال تظلموا الأقدار‪ ،‬وخافوا غرية املنعم ّ‬ ‫(يا ُ‬
‫أكفاء �أحراراً طلقاء ال يثقلكم غري ال ّنور والن�سيم‪ ،‬ف�أبيتم �إال �أن حتملوا‬‫يخلقكم � ً‬
‫حمل �صغريكم‬ ‫على عواتقكم ظلم ال�ضعفاء وقهر الأقوياء؟! لو �شاء كبريكم �أن ُي ِّ‬
‫كرة الأر�ض حلنى له ظهره‪ ،‬ولو �شاء �أن يركبه لط�أط�أ له ر�أ�سه‪ .‬ماذا ا�ستفدمت‬
‫من هذا اخل�ضوع واخل�شوع لغري اهلل؟ وماذا ترجون من تقبيل الأذيال والأعتاب‬
‫ال�صغار كلِّه هو �ضعف ثقتكم‬ ‫وخف�ض ال�صوت ونك�س الر�أ�س؟ �ألي�س من�ش�أ هذا ّ‬
‫ب�أنف�سكم‪ ،‬ك�أ ِّنكم عاجزون عن حت�صيل ما تقوم به احلياة‪ ،‬وح�سب احلياة‬
‫نبات يقمن �ضلع ابن �آدم‪ ،‬وقد بذلها اخل ّالق لأ�ضعف احليوان‪،‬‬ ‫قيمات من ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ُل‬
‫وهذه الوحو�ش جتد فرائ�سها �أينما ح َّلت‪ ،‬وهذه الهوام ال تفقد قوتها؟ فما بال‬
‫الرجل منكم ي�ضع نف�سه مقام الطفل الذي ال ينال حاجته �إال بالتذ ُّلل والبكاء‪،‬‬ ‫َّ‬
‫والدعاء؟)‪.‬‬ ‫�أو مو�ضع ال�شيخ الفاين الذي ال ينال حاجته �إال بالتم ُّلق ُّ‬
‫(يا قوم‪ :‬رفع اهلل عنكم املكروه‪ ،‬ما هذا التفاوت بني �أفرادكم وقد خلقكم‬
‫ربكم �أكفاء يف البنية‪� ،‬أكفاء يف القوة‪ِ � ،‬أك ّفاء يف الطبيعة‪� ،‬أك َّفاء يف احلاجات‪،‬‬
‫ال يف�ضل بع�ضكم بع�ض ًا �إال بالف�ضيلة‪ ،‬ال ربوبية بينكم وال عبودية؟ واهلل‪،‬‬
‫برزخ من الوهم‪ .‬ولو درى ال�صغري بوهمه‪،‬‬ ‫لي�س بني �صغريكم وكبريكم غري ٍ‬
‫العاجز بوهمه‪ ،‬ما يف النف�س الكبري املت�آله من اخلوف منه لزال الإ�شكال‬
‫وق�ضي الأمر الذي فيه ت�شقون! يا �أعزاء اخللقة‪ ،‬جهالء املقام‪ ،‬كان النا�س‬

‫‪115‬‬
‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫ثم تر ّقى ال ّنا�س‪ ،‬فهبط‬ ‫يف دور الهمجية‪ ،‬فكان ُدهاتهم بينهم �آلهة و�أنبياء‪َّ ،‬‬
‫حل َّكام‬
‫فانحط �أولئك �إىل مرتبة ا ُ‬
‫َّ‬ ‫الرقي‬
‫ثم زاد ّ‬‫ه�ؤالء ملقام اجلبابرة والأولياء‪َّ ،‬‬
‫واحلكماء‪ ،‬حتى �صار ال ّنا�س نا�س ًا فزال العماء‪ ،‬وانك�شف الغطاء‪ ،‬وبان � َّأن‬
‫الك َّل �أكفاء‪ .‬ف�أنا�شدكم اهلل يف �أي الأدوار �أنتم؟ �أال تف ِّكرون؟)‪.‬‬
‫قوم‪ :‬جعلكم اهلل من املهتدين‪ ،‬كان �أجدادكم ال ينحنون �إال ركوع ًا‬ ‫(يا ُ‬
‫ٍ‬
‫مغمو�سة بدم الإخوان‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بلقمة‬ ‫هلل‪ ،‬و�أنتم ت�سجدون لتقبيل �أرجل املن ِعمني ولو‬
‫معوجة رقابكم‬ ‫و�أجدادكم ينامون يف قبورهم م�ستوين �أعزاء‪ ،‬و�أنتم �أحياء َّ‬
‫تود لو تنت�صب قاماتها و�أنتم من كرثة اخل�ضوع كادت ت�صري‬ ‫�أذ ّالء! البهائم ُّ‬
‫�أيديكم قوائم‪ .‬النبات يطلب العلو و�أنتم تطلبون االنخفا�ض‪ .‬ل َف َظتكم الأر�ض‬
‫لتكونوا على ظهرها و�أنتم حري�صون على �أن تنغر�سوا يف جوفها‪ ،‬ف� ْإن كانت‬
‫بطن الأر�ض بغيتكم‪ ،‬فا�صربوا قلي ًال لتناموا فيها طوي ًال)‪.‬‬
‫الر�شد‪ ،‬متى ت�ستقيم قاماتكم وترتفع من الأر�ض‬ ‫قوم‪� :‬ألهمكم اهلل ّ‬
‫(يا ُ‬
‫�إىل ال�سماء �أنظاركم‪ ،‬ومتيل �إىل التعايل نفو�سكم‪ ،‬في�شعر �أحدكم بوجوده يف‬
‫الوجود‪ ،‬فيعرف معنى الأنانية لي�ستق ّل بذاته لذاته‪ ،‬وميلك �إرادته واختياره‬
‫وربه‪ ،‬ال يت ِّكل على �أحد من خلق اهلل ا ِّتكال الناق�ص يف اخللق على‬ ‫ويثق بنف�سه ّ‬
‫الكامل فيه‪� ،‬أو ا ِّتكال الغا�صب على مال الغافل �أو الك ِّل على �سعي العامل‪ ،‬بل‬
‫ثم‬‫يرى �أحدكم نف�سه �إن�سان ًا كرمي ًا يعتمد على املبادلة والتعاو�ض في�سلف‪َّ ،‬‬
‫ي�ستويف‪ ،‬وي�ستويف على �أن يفي‪ ،‬بل ينظر يف نف�سه �أ َّنه هو ال ّأمة وحده‪ ،‬وما‬
‫�أجدر ب�أحدكم �أن يعمل لدنياه بنف�سه لنف�سه‪ ،‬فال ي َّتكل على غريه‪ ،‬كما يعمل‬
‫الإن�سان ليعبد اهلل ب�شخ�صه ال ينيب عنه غريه؟ ف�إذا فعلتم ذلك �أظهر اهلل بينكم‬
‫ثمرة الت�ضامن بال ا�شرتاط‪ ،‬والتقا�ضي بال حما�رشة‪ ،‬فت�صريون بنعمة اهلل‬
‫�إخوان ًا)‪.‬‬
‫(يا قوم‪� :‬أبعد اهلل عنكم امل�صائب وب�صرَّ كم بالعواقب‪� .‬إن كانت املظامل‬
‫و�ضيقت �أنف�سكم‪ ،‬حتى �صغرت نفو�سكم‪ ،‬وهانت عليكم هذه‬ ‫َّ‬ ‫غ َّلت �أيديكم‪،‬‬
‫واجلد و�أم�سيتم ال تبالون �أتعي�شون‬ ‫ّ‬ ‫احلياة و�أ�صبحت ال ت�ساوي عندكم اجلهد‬
‫�أم متوتون‪ ،‬فه ّال �أخربمتوين ملاذا حت ِّكمون فيكم الظاملني حتى يف املوت؟‬
‫�ألي�س لكم من اخليار �أن متوتوا كما ت�شا�ؤون‪ ،‬ال كما ي�شاء الظاملون؟ هل �سلب‬
‫اال�ستبداد �إرادتكم حتى يف املوت؟ كال واهلل‪� :‬إن �أنا �أحببت املوت �أموت كما‬

‫‪116‬‬
‫بد‪ ،‬فلماذا اجلبانة؟‬
‫�أحب‪ ،‬لئيم ًا �أو كرمي ًا‪ ،‬حتف ًا �أو �شهيداً‪ ،‬ف�إن كان املوت وال َّ‬
‫و�إن �أردت املوت‪ ،‬فليكن اليوم قبل الغد‪ ،‬ولكن بيدي ال بيد عمرو‪� .‬ألي�س‪:‬‬
‫كطعم املوت يف �أم ٍر عظي ِم‬ ‫وطعم املوت يف �أم ٍر �صغري ‬

‫حتبون املوت‪ ،‬بل‬ ‫قلت �إ َّنكم ال ُّ‬ ‫قوم‪� :‬أنا�شدكم اهلل‪� ،‬أال �أقول حق ًا �إذا ُ‬‫(يا ُ‬
‫تنفرون منه‪ ،‬ولكنكم جتهلون الطريق فتهربون من املوت �إىل املوت‪ ،‬ولو‬
‫موت‪ ،‬وطلب املوت حياة‪،‬‬ ‫اهتديتم �إىل ال�سبيل لعلمتم � َّأن الهرب من املوت ٌ‬
‫تعب‪ ،‬والإقدام على التعب راح ٌة‪ ،‬ولفطنتم �إىل � َّأن‬ ‫ولعرفتم � َّأن اخلوف من التعب ٌ‬
‫و�سقياها قطرات من الدم الأحمر امل�سفوح‪ ،‬والأ�سارة‬ ‫احلرية هي �شجرة اخللد‪ُ ،‬‬
‫هي �شجرة الز ّقوم‪ ،‬و�سقياها �أنهر من الدم الأبي�ض‪� ،‬أي الدموع‪ ،‬ولو كربت‬
‫نفو�سكم لتفاخرمت بتزيني �صدوركم بورد اجلروح ال بو�سامات الظاملني؟!)‪.‬‬
‫قوم‪ :‬و�أعني منكم امل�ساكني‪� ...‬أيها امل�سلمون‪� :‬إين ن�ش�أت و�شبت و�أنا‬ ‫(يا ُ‬
‫أتق�صى‬ ‫فكنت � ّ‬ ‫ُ‬ ‫�أف ِّكر يف �ش�أننا االجتماعي‪ ،‬ع�سى �أهتدي لت�شخي�ص دائنا‪،‬‬
‫وقعت على ما �أظ ُّنه عام ًا‪� ،‬أقول‪ :‬لع َّل هذا هو‬ ‫ُ‬ ‫ال�سبب بعد ال�سبب‪ ،‬حتى �إذا‬
‫أتعمق فيه متحي�ص ًا و�أحلِّله حتلي ًال‪ ،‬فينك�شف التحقيق عن‬ ‫الداء‪ ،‬ف� َّ‬‫جرثومة ّ‬
‫� َّأن ما قام يف الفكر هو �سبب من جملة الأ�سباب‪� ،‬أو هو �سبب فرعي ال �أ�صلي‪،‬‬
‫أ�صبحت �أجهد الفكر يف‬ ‫ُ‬ ‫أم�سيت و�‬
‫ُ‬ ‫ف�أخيب و�أعود �إىل البحث والتنقيب‪ .‬وطاملا �‬
‫و�سافرت لأ�ستطلع �آراء ذوي الآراء‪ ،‬ع�سى �أهتدي‬ ‫ُ‬ ‫�سعيت‬
‫ُ‬ ‫اال�ستق�صاء‪ ،‬وكثرياً ما‬
‫ا�ستقرت عليه‬ ‫َّ‬ ‫ربي‪ .‬و�آخر ما‬ ‫�إىل ما ي�شفي �صدري من �آالم بحث �أتعبني به ِّ‬
‫�سفينة فكري هو‪:‬‬
‫� َّإن جرثومة دائنا هي خروج ديننا عن كونه دين الفطرة واحلكمة‪ ،‬دين‬
‫النظام والن�شاط‪ ،‬دين القر�آن ال�رصيح البيان‪� ،‬إىل �صيغة �أ َّنا جعلناه دين‬
‫اخليال واخلبال‪ ،‬دين اخللل والت�شوي�ش‪ ،‬دين الب َِدع والت�شديد‪ ،‬دين الإجهاد‪.‬‬
‫دب فينا هذا املر�ض منذ �ألف عام‪ ،‬فتم َّكن فينا و�أ َّثر يف ك ِّل �ش�ؤوننا‪،‬‬ ‫وقد َّ‬
‫حتى بلغ فينا ا�ستحكام اخللل يف الفكر والعمل �أننا ال نرى يف اخلالق ‪-‬ج َّل‬
‫�ش�أنه‪ -‬نظام ًا فيما ا َّت�صف‪ ،‬نظام ًا فيما ق�ضى‪ ،‬نظام ًا فيما �أمر‪ ،‬وال نطالب‬
‫واطراد ومثابرة‪.‬‬‫وترتيب ِّ‬‫ٍ‬ ‫بنظام‬
‫ٍ‬ ‫�أنف�سنا ف�ض ًال عن �آمرنا �أو م�أمورنا‬

‫‪117‬‬
‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫م�شو�شة‪،‬‬‫م�شو�ش‪ ،‬و�سيا�ستنا َّ‬ ‫م�شو�ش‪ ،‬وفكرنا َّ‬ ‫وهكذا �أ�صبحنا واعتقادنا َّ‬
‫م�شو�شة‪ .‬ف�أين منا واحلالة هذه‪ ،‬احلياة الفكرية‪ ،‬احلياة العملية‪،‬‬ ‫ومعي�شتنا َّ‬
‫احلياة العائلية‪ ،‬احلياة االجتماعية‪ ،‬احلياة ال�سيا�سية؟!)‪.‬‬
‫�ضيع دينكم ودنياكم �سا�ستكم الأولون وعلما�ؤكم املنافقون‪،‬‬ ‫قوم‪ :‬قد َّ‬
‫(يا ُ‬
‫و�إنيّ �أر�شدكم �إىل عملٍ �إفرادي ال حرج فيه علم ًا وال عم ًال‪� :‬ألي�س بني جنبي‬
‫ال�رش‪ ،‬واملعروف من املنكر ولو متييزاً‬ ‫فرد منكم وجدان مييز اخلري من ّ‬ ‫ك ِّل ٍ‬
‫�إجمالي ًا؟ �أما بلغكم قول معلِّم اخلري نبيكم الكرمي عليه �أف�ضل ال�صالة والت�سليم‪:‬‬
‫طن اهلل عليكم �رشاركم فيدعو‬ ‫ولتنهون عن املنكر �أو لي�سلِّ َّ‬‫َّ‬ ‫أمرن باملعروف‬ ‫«لت� َّ‬
‫خياركم فال ي�ستجاب لهم»‪ ،‬وقوله‪« :‬من ر�أى منكم منكراً فليغيرّ ه بيده‪ ،‬و�إن مل‬
‫ي�ستطع فبل�سانه‪ ،‬و�إن مل ي�ستطع فبقلبه‪ ،‬وذلك �أ�ضعف الإميان»؟!‬
‫(و�أنتم تعلمون �إجماع �أئمة مذاهبكم كلِّها على � َّأن �أنكر املنكرات بعد الكفر‬
‫وثم‪ ...،‬وقد �أو�ضح العلماء � َّأن‬‫ثم‪َّ ،‬‬ ‫ثم قتل ال َّنف�س‪َّ ،‬‬ ‫الظلم الذي ف�شا فيكم‪َّ ،‬‬ ‫هو ُّ‬
‫بناء عليه‪ ،‬فمن‬ ‫املتلب�س فيه بغ�ض ًا يف اهلل‪ً .‬‬ ‫ِّ‬ ‫تغيري املنكر بالقلب هو بغ�ض‬
‫يعامل الظامل �أو الفا�سق غري م�ضطر‪� ،‬أو يجامله ولو بال�سالم‪ ،‬يكون قد خ�رس‬
‫�أ�ضعف الإميان والعياذ باهلل)‪.‬‬
‫(وال �أظنكم جتهلون � َّأن كلمة ال�شهادة‪ ،‬وال�صوم وال�صالة‪ ،‬واحلج والزكاة‪،‬‬
‫ال�شعائر‪،‬‬ ‫ك ّلها ال تغني �شيئ ًا مع فقد الإميان‪� ،‬إمنا يكون القيام حينئ ٍذ بهذه ّ‬
‫بعادات وتقليدات وهو�سات ت�ضيع بها الأموال والأوقات)‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫قيام ًا‬
‫(بناء عليه‪ ،‬فالدين يكلِّفكم �إن كنتم م�سلمني‪ ،‬واحلكمة ُتلزِمكم �إن كنتم‬ ‫ً‬
‫عاقلني‪� :‬أن ت�أمروا باملعروف وتنهوا عن املنكر جهدكم‪ ،‬وال �أق ّل يف هذا الباب‬
‫من �إبطانكم البغ�ضاء للظاملني والفا�سقني‪ ،‬و�أظ ّنكم �إذا ت� َّأملتم قلي ًال ترون هذا‬
‫الدواء ال�سهل املقدور لك ِّل �إن�سانٍ منكم‪ ،‬يكفي لإنقاذكم مما ت�شكون‪ .‬والقيام‬
‫بهذا الواجب متعينّ على ك ِّل فرد منكم بنف�سه‪ ،‬ولو �أهمله كا ّفة امل�سلمني‪ .‬ولو‬
‫� َّأن �أجدادكم الأولني قاموا به ملا و�صلتم �إىل ما �أنتم عليه من الهوان‪ .‬فهذا‬
‫ني وعمل‪ ،‬ال‬ ‫والدين ما يدين به الفرد ال ما يدين به اجلمع‪ ،‬والدين يق ٌ‬ ‫دينكم‪ّ ،‬‬
‫فظ يف الأذهان‪� .‬ألي�س من قواعد دينكم فر�ض الكفاية وهو �أن يعمل‬ ‫وح ٌ‬ ‫علم ِ‬ ‫ٌ‬
‫امل�سلم ما عليه غري منتظ ٍر غريه؟!)‪.‬‬
‫يغركم دين ال تعملون به و�إن كان‬ ‫(ف�أنا�شدكم اهلل يا م�سلمني‪� :‬أن ال َّ‬

‫‪118‬‬
‫خري دين‪ ،‬وال تغر َّنكم �أنف�سكم ب�أ َّنكم � ّأمة خري �أو خري � ّأمة‪ ،‬و�أنتم املتواكلون‬
‫ال�شعار‬‫قوة �إال باهلل العلي العظيم‪ .‬و ِن ْع َم ِّ‬ ‫املقت�رصون على �شعار‪ :‬ال حول وال ّ‬
‫�شعار امل�ؤمنني‪ ،‬ولكن‪� ،‬أين هم؟ �إين ال �أرى �أمامي � َّأم ًة تعرف حق ًا معنى ال �إله‬
‫�إال اهلل‪ ،‬بل �أرى � َّأم ًة خبلتها عبادة الظاملني!)‪.‬‬
‫قوم‪ :‬و�أعني بكم الناطقني بال�ضاد من غري امل�سلمني‪� ،‬أدعوكم �إىل‬ ‫(يا ُ‬
‫تنا�سي الإ�ساءات والأحقاد‪ ،‬وما جناه الآباء والأجداد‪ ،‬فقد كفى ما ُفعل‬
‫ذلك على �أيدي املثريين‪ ،‬و�أج ُّلكم من �أن ال تهتدوا لو�سائل االتحِّ اد و�أنتم‬
‫املهتدون ال�سابقون‪ .‬فهذه �أمم �أو�سرتيا و�أمريكا قد هداها العلم لطرائق �ش ّتى‬
‫و�أ�صول را�سخة لالتحِّ اد الوطني دون الديني‪ ،‬والوفاق اجلن�سي دون املذهبي‪،‬‬
‫واالرتباط ال�سيا�سي دون الإداري‪ .‬فما بالنا نحن ال نفتكر يف �أن نتبع‬
‫ال�شحناء من الأعاجم‬ ‫�إحدى تلك الطرائق �أو �شبهها‪ .‬فيقول عقال�ؤنا ملثريي َّ‬
‫ندبر �ش�أننا‪ ،‬نتفاهم بالف�صحاء‪ ،‬ونرتاحم‬ ‫والأجانب‪ :‬دعونا يا ه�ؤالء نحن ِّ‬
‫ال�رضاء‪ ،‬ونت�ساوى يف ال�سرَّ اء‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بالإخاء‪ ،‬ونتوا�سى يف‬
‫ندبر حياتنا الدنيا‪ ،‬وجنعل الأديان حتكم يف الأخرى فقط‪ .‬دعونا‬ ‫دعونا ِّ‬
‫فلنحي‬
‫َ‬ ‫فليحي الوطن‪،‬‬‫َ‬ ‫(فلتحي الأمة‪،‬‬‫َ‬ ‫ٍ‬
‫كلمات �سواء‪� ،‬أال وهي‪:‬‬ ‫جنتمع على‬
‫طلقاء �أع ّزاء)‪.‬‬
‫أخ�ص منكم ال ُّنجباء للتب�صرُّ والتب�صري فيما �آل �إليه امل�صري‪،‬‬ ‫(�أدعوكم و� ُّ‬
‫أخف ا�ستحقاراً لأخيه الغربي؟ هذا الغربي قد �أ�صبح‬ ‫�ألي�س مطلق العربي � ّ‬
‫تظاهره مع بع�ضنا بالإخاء الديني �إال‬ ‫ُ‬ ‫مادي ًا ال دين له غري الك�سب‪ ،‬فما‬ ‫ّ‬
‫وك ِذب ًا‪ .‬ه�ؤالء الفرن�سي�س يطاردون �أهل الدين‪ ،‬ويعملون على �أ َّنهم‬ ‫ً َ‬ ‫ة‬ ‫خمادع‬
‫ال�صياد‬ ‫د‬
‫ِّ ّ‬ ‫يغر‬ ‫كما‬ ‫إال‬ ‫�‬ ‫ق‪،‬‬ ‫شرَّ‬‫�‬ ‫ال‬ ‫يف‬ ‫ين‬ ‫الد‬
‫ِّ‬ ‫دعواهم‬ ‫تكون‬ ‫ال‬ ‫عليه‪،‬‬ ‫بناء‬
‫يتنا�سونه‪ً ،‬‬
‫وراء الأ�شباك!‬
‫لو كان للدين ت�أثري عند الغربي ملا كانت البغ�ضاء بني الالتني وال�سك�سون‪،‬‬
‫بل بني الطليان والفرن�سي�س‪ ،‬وملا كانت بني الأملان والفرن�سيني الغربيني‪.‬‬
‫الغربي �أرقى من ال�رشقي علم ًا وثروة ومنعة‪ ،‬فله على ال�رشقيني �إذا واطنهم‬
‫ال�سيادة الطبيعية‪� .‬أما ال�رشقيون فيما بينهم‪ ،‬فمتقاربون ال يتغابنون‪.‬‬
‫الغربي يعرف كيف ي�سو�س‪ ،‬وكيف يتم َّتع‪ ،‬وكيف ي�أ�رس‪ ،‬وكيف ي�ست�أثر‪.‬‬
‫فمتى ر�أى فيكم ا�ستعداداً واندفاع ًا ملجاراته �أو �سبقه‪� ،‬ضغط على عقولكم‬

‫‪119‬‬
‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫لتبقوا وراءه �شوط ًا كبرياً كما يفعل الرو�س مع البولونيني‪ ،‬واليهود والتتار‪،‬‬
‫وكذلك �ش�أن ك ِّل امل�ستعمرين‪ .‬الغربي مهما مكث يف ال�رشق ال يخرج عن �أ َّنه‬
‫تاجر م�ستمتع‪ ،‬في�أخذ ف�سائل ال�رشق ليغر�سها يف بلده التي ال يفت�أ يفتخر‬
‫ويحن �إىل �أربا�ضها‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫بريا�ضها‬
‫قد م�ضى على الهوالنديني يف الهند وجزائرها‪ ،‬وعلى الرو�س يف قاوزان‪،‬‬
‫ولكن‪ ،‬ما خدموا العلم والعمران بع�رش ما خدمناها‪،‬‬ ‫مثل ما �أقمنا يف الأندل�س‪ْ ،‬‬
‫ٍ‬
‫بجريدة‬ ‫ودخل الفرن�ساويون اجلزائر منذ �سبعني عام ًا‪ ،‬ومل ي�سمحوا بعد لأهلها‬
‫ف�ضل قديد بالده‪ ،‬و�سمك بحاره‪ ،‬على‬ ‫قر�أ‪ .‬نرى الإنكليزي يف بالدنا ُي ِّ‬ ‫واحدة ُت َ‬
‫طري حلمنا و�سمكنا‪ .‬فهلاّ واحلالة هذه تب�رصون يا �أويل الألباب؟)‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫(و�أنت �أيها ال�رشق الفخيم رعاك اهلل‪ .‬ماذا دهاك؟ ماذا �أقعدك عن م�رساك؟‬
‫�ألي�ست �أر�ضك تلك الأر�ض ذات اجلنان والأقنان‪ ،‬ومنبت العلم والعرفان‪،‬‬
‫و�سما�ؤك تلك ال�سماء م�صدر الأنوار‪ ،‬ومهبط احلكمة والأديان‪ ،‬وهوا�ؤك ذاك‬
‫الن�سيم العدل‪ ،‬ال العوا�صف وال�ضباب‪ .‬وما�ؤك ذاك العذب الغدق‪ ،‬ال الكدر وال‬
‫الأجاج؟)‪.‬‬
‫(رعاك اهلل يا �رشق‪ ،‬ماذا �أ�صابك ف�أخ َّل نظامك‪ ،‬والدهر ذاك الدهر ما غيرَّ‬
‫وبنوك هم الفائقون‬ ‫وبدل �رشعه فيك؟ �أمل تزل مناطقك هي املعتدلة‪َ ،‬‬ ‫و�ضعك‪َّ ،‬‬
‫فطر ًة وعدداً؟ �ألي�س نظام اهلل فيك على عهده الأول‪ ،‬ورابطة الأديان يف بنيك‬
‫محُ كمة قومية‪ ،‬م�ؤ�س�سة على عبادة ال�صانع الوازع؟ �ألي�ست معرفة املنعم‬
‫حب‬ ‫حقيقة راهنة �أ�رشقت فيك �شم�سها‪َّ � ،‬أيدت بها ع ّز النف�س‪ ،‬و�أحكمت بها َّ‬
‫وحب اجلن�س؟)‪.‬‬ ‫الوطن َّ‬
‫(رعاك اهلل يا �رشق‪ ،‬ماذا عراك و�س َّكن منك احلراك؟ �أمل تزل �أر�ضك وا�سعة‬
‫خ�صبة‪ ،‬ومعادنك وافية غنية‪ ،‬وحيوانك رابي ًا متنا�س ًال‪ ،‬وعمرانك قائم ًا‬
‫ربيتهم �أقرب للخري من ال�شرَّ ؟ �ألي�س عندهم احللم‬ ‫وبنوك على ما َّ‬ ‫متوا�ص ًال‪َ ،‬‬
‫امل�سمى باجلبانة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫امل�سمى عند غريهم �ضعف ًا يف القلب‪ ،‬وعندهم احلياء‬ ‫ّ‬
‫امل�سماة بالعجز‪ ،‬وعندهم‬ ‫ّ‬ ‫القناعة‬ ‫وعندهم‬ ‫إتالف‪،‬‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫ى‬ ‫امل�سم‬
‫ّ‬ ‫الكرم‬ ‫وعندهم‬
‫بالذل؟ نعم‪ ،‬ما هم‬ ‫ّ‬ ‫امل�سماة‬
‫ّ‬ ‫املجاملة‬ ‫وعندهم‬ ‫بالبالهة‪،‬‬ ‫امل�سماة‬
‫ّ‬ ‫الع ّفة‬
‫بال�ساملني من الظلم‪ ،‬ولكن‪ ،‬فيما بينهم‪ ،‬وال من اخلدع‪ ،‬ولكن‪ ،‬ال يفتخرون‬
‫به‪ ،‬وال من الإ�رضار‪ ،‬ولكن‪ ،‬مع اخلوف من اهلل)‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫ال�شقاء‬‫الدهر فيك ما ي�ستوجب هذا ّ‬ ‫(رعاك اهلل يا �رشق‪ ،‬ال نرى من غري ّ‬
‫لبنيك‪ ،‬وي�ستلزم ذ َّلهم لبني �أخيك‪ .‬فلماذا قد �أ�صبحت �إذا انقطع عنك مدد‬
‫فقد احلديد‬ ‫�أخيك مب�صنوعاته‪ ،‬يبقى �أبنا�ؤك ُعراة حفاة يف ظالم‪ ،‬بل مي ّنيهم ُ‬
‫بالرجوع �إىل الع�رص ال ّنحا�سي‪ ،‬بل احلجري املو�صوف بع�رص التعفني؟)‪.‬‬
‫(رعاك اهلل يا �رشق‪ ،‬بل راعى اهلل �أخاك الغرب‪ ،‬العائل بنف�سه والعائل فيك‪،‬‬
‫وقاتل اهلل اال�ستبداد‪ ،‬بل لعن اهلل اال�ستبداد‪ ،‬املانع من الترّ ّقي يف احلياة‪،‬‬
‫املنحط بالأمم �إىل �أ�سفل الدركات‪� .‬أال ُبعداً للظاملني)‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وبياك‪ ،‬قد عرفت لأخيك �سابق ف�ضله عليك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫اك‬ ‫وحي‬
‫ّ‬ ‫غرب‪،‬‬ ‫يا‬ ‫اهلل‬ ‫(رعاك‬
‫ا�شتد �ساعد بع�ض �أوالد‬ ‫َّ‬ ‫فوفيت‪ ،‬وكفيت‪ ،‬و�أح�سنت الو�صاية وهديت‪ ،‬وقد‬
‫�أخيك‪ ،‬فهلاّ ينتدب بع�ض �شيوخ �أحرارك لإعانة �أجناب �أخيك على هدم ذاك‬
‫ال�سور‪� ،‬سور ال�ش�ؤم وال�رشور‪ ،‬ليخرجوا �إىل �أر�ض احلياة‪� ،‬أر�ض الأنبياء الهداة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫في�شكرون ف�ضلك والدهر مكاف�أة؟)‪.‬‬
‫وفقد‬
‫ُ‬ ‫الدين غري ال�رشق � ْإن دامت حياته بحريته‪،‬‬ ‫غرب‪ ،‬ال يحفظ لك ِّ‬ ‫(يا ُ‬
‫يهددك باخلراب القريب‪ .‬فماذا �أعددت للفو�ضيني �إذا �صاروا جي�ش ًا‬ ‫الدين ِّ‬ ‫ّ‬
‫جراراً؟ وماذا �أعددت لديارك احلبلى بالثورة االجتماعية؟ هل ُت ِع ُّد املواد‬
‫جاوزت �أنواعها الألف؟ �أن ُت ِع ُّد الغازات اخلانقة وقد �سهل‬ ‫ْ‬ ‫املتفرقعة‪ ،‬وقد‬
‫ا�ستح�ضارها على ال�صبيان؟)‪.‬‬
‫(يا قوم‪ :‬و�أريد بكم �شباب اليوم‪ ،‬رجال الغد‪� ،‬شباب الفكر‪ ،‬رجال اجلد‪،‬‬
‫�أُعيذكم من اخلزي واخلذالن بتفرقة الأديان‪ ،‬و�أُعيذكم من اجلهل‪ ،‬جهل � َّأن‬
‫ربك جلعل النا�س‬ ‫يل ال�رسائر وال�ضمائر «ولو �شاء ُّ‬ ‫الدينونة هلل‪ ،‬وهو �سبحانه و ُّ‬
‫� ّأم ًة واحدة»)‪.‬‬
‫(�أنا�شدكم يا نا�شئة الأوطان‪� ،‬أن تعذروا ه�ؤالء الواهنة اخلائرة قواهم �إال‬
‫املعطل عملهم �إال يف التثبيط‪ ،‬الذين اجتمع فيهم داء اال�ستبداد‬ ‫َّ‬ ‫يف �أل�سنتهم‪،‬‬
‫والتواكل فجعالهما �آلة ُتدار وال تدير‪ .‬و�أ�س�ألكم عفوهم من العتاب واملالم‪،‬‬
‫لأ َّنهم مر�ضى مبتلون‪ ،‬مثقلون بالقيود‪ ،‬ملجمون باحلديد‪ ،‬يق�ضون حياة خري‬
‫ما فيها �أ َّنهم �آبا�ؤكم!)‪.‬‬
‫(قد علمتم يا نجُ َ باء من طبائع اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد ُج َم ًال كافية‬
‫للتدبر‪ ،‬فاعتربوا بنا وا�س�ألوا اهلل العافية‪:‬‬ ‫ُّ‬

‫‪121‬‬
‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫نحن �أ ِلفنا الأدب مع الكبري ولو دا�س رقابنا‪� .‬أ ِلفنا الثبات ثبات الأوتاد‬
‫حتت املطارق‪� ،‬أ ِلفنا االنقياد ولو �إىل املهالك‪� .‬أ ِلفنا �أن نعترب ال َّت�صاغر �أدب ًا‬
‫والتذ ُّلل لطف ًا‪ ،‬والتم ُّلق ف�صاح ًة‪ ،‬واللكنة رزانة‪ ،‬وترك احلقوق �سماح ًة‪ ،‬وقبول‬
‫بالظلم طاعة‪ ،‬ودعوى اال�ستحقاق غروراً‪ ،‬والبحث‬ ‫والر�ضا ُّ‬ ‫الإهانة توا�ضع ًا‪ِّ ،‬‬
‫تهوراً‪،‬‬‫ومد ال َّنظر �إىل الغد �أم ًال طوي ًال‪ ،‬والإقدام ُّ‬ ‫عن العموميات ف�ضو ًال‪َّ ،‬‬
‫وحرية الفكر ُكفراً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وحرية القول وقاحة‪،‬‬‫َّ‬ ‫وال�شهامة �رشا�سة‪،‬‬ ‫واحلمية حماقة‪ّ ،‬‬
‫وحب الوطن جنون ًا‪.‬‬ ‫َّ‬
‫�أما �أنتم‪ ،‬حماكم اهلل من ال�سوء‪ ،‬فرنجو لكم �أن تن�ش�ؤوا على غري ذلك‪،‬‬
‫التم�سك ب�أ�صول الدين‪ ،‬دون �أوهام املتفننني‪ ،‬فتعرفوا قدر‬ ‫ُّ‬ ‫�أن تن�ش�ؤوا على‬
‫نفو�سكم يف هذه احلياة فتكرموها‪ ،‬وتعرفوا قدر �أرواحكم و�أ َّنها خالدة ُتثاب‬
‫وتجُ زى‪ ،‬وت َّتبعوا ُ�سنن النبيني فال تخافون غري ال�صانع الوازع العظيم‪ .‬ونرجو‬
‫ال�شيم‪ ،‬وال على عظام‬ ‫لكم �أن تبنوا ق�صور فخاركم على معايل الهمم ومكارم َّ‬
‫نخرة‪ .‬و�أن تعلموا �أ َّنكم ُخ ِلقتم �أحراراً لتموتوا كرام ًا‪ ،‬فاجهدوا على �أن حتيوا‬
‫ر�ضية‪ ،‬يت�س ّنى فيها لك ٍّل منكم �أن يكون �سلطان ًا م�ستق ًال‬ ‫ّ‬ ‫ذلكما اليومني حيا ًة‬
‫ي�ضن عليهم بعنيٍ �أو‬ ‫ُّ‬ ‫وفي ًا لقومه ال‬
‫احلق‪ ،‬ومدين ًا ّ‬ ‫يف �ش�ؤونه ال يحكمه غري ّ‬
‫وحمب ًا‬
‫َّ‬ ‫باراً لوطنه‪ ،‬ال يبخل عليه بجز ٍء من فكره ووقته وماله‪،‬‬ ‫عون‪ ،‬وولداً ّ‬
‫للإن�سانية ويعمل على � َّأن خري النا�س �أنفعهم للنا�س‪ ،‬يعلم � َّأن احلياة هي‬
‫العمل ووباء العمل القنوط‪ ،‬وال�سعادة هي الأمل‪ ،‬ووباء الأمل الرتدد‪ ،‬ويفقه‬
‫� َّأن الق�ضاء والقدر هما عند اهلل ما يعلمه ومي�ضيه‪ ،‬وهما عند النا�س ال�سعي‬
‫والعمل‪ ،‬ويوقن � َّأن ك َّل �أث ٍر على ظهر الأر�ض هو من عمل �إخوانه الب�رش‪ ،‬وك َّل‬
‫تعاو َر ُه غريه �إىل � ْأن كمل‪ ،‬فال يتخيل الإن�سان‬ ‫ثم َ‬ ‫فرد‪َّ ،‬‬‫عملٍ عظيم قد ابتد�أ به ٌ‬
‫يف نف�سه عجزاً‪ ،‬وال يتو َّقع �إال خرياً‪ ،‬وخري اخلري للإن�سان �أن يعي�ش ُح ّراً‬
‫مقدام ًا‪� ،‬أو ميوت)‪.‬‬
‫(وك�أنيّ ب�سائلكم ي�س�ألني تاريخ التغالب بني ال�رشق والغرب‪ ،‬ف�أجيب‪ :‬ب�أ َّنا‬
‫ني من‬ ‫ثم جاء ح ٌ‬ ‫فقوة‪ ،‬فك َّنا له �أ�سياداً! َّ‬‫ك ّنا �أرقى من الغرب علم ًا‪ ،‬فنظام ًا‪َّ ،‬‬
‫الدهر حلق بنا الغرب‪ ،‬ف�صارت مزاحمة احلياة بيننا ِ�سجا ًال‪ْ � :‬إن ُف ْقناه �شجاع ًة‬ ‫َّ‬
‫ثم جاء ال ّزمن الأخري‬ ‫َّ‬ ‫كلمته‪.‬‬ ‫باجتماع‬ ‫فاقنا‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫ثرو‬ ‫قناه‬ ‫ف‬‫ُ‬ ‫إن‬
‫ْ‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬‫ً‬ ‫ا‬ ‫عدد‬ ‫فاقنا‬
‫وان�ضم �إىل ذلك �أو ًال‪ :‬قوة اجتماعه‬ ‫َّ‬ ‫فقو ًة‪.‬‬
‫تر ّقى فيه الغرب علم ًا‪ ،‬فنظام ًا‪ّ ،‬‬

‫‪122‬‬
‫قوة البارود‪ ،‬حيث �أبطل ال�شجاعة وجعل العربة للعدد‪.‬‬ ‫�شعوب ًا كبري ًة‪ .‬ثاني ًا‪َّ :‬‬
‫قوة الفحم الذي �أهدته له‬ ‫قوة ك�شفه �أ�رسار الكيمياء وامليكانيك‪ .‬رابع ًا‪َّ :‬‬ ‫ثالث ًا‪َّ :‬‬
‫قوة الأمن على‬ ‫قوة الن�شاط بك�رسه قيود اال�ستبداد‪� .‬ساد�س ًا‪َّ :‬‬ ‫الطبيعة‪ .‬خام�س ًا‪َّ :‬‬
‫القوات فيه ولي�س عند ال�شرَّ ق‬ ‫عقد ال�رشكات املالية الكبرية‪ .‬فاجتمعت هذه ّ‬
‫بالدين خالف ًا‬‫حجة عليه‪ ،‬والغرور ّ‬ ‫ما يقابلها غري االفتخار بالأ�سالف‪ ،‬وذلك َّ‬
‫(ح�س ُبنا اهلل‬
‫للدين‪ ،‬فامل�سلمون يقابلون تلك القوات مبا ُيقال عند الي�أ�س وهو‪ْ :‬‬ ‫ّ‬
‫قوة‪ ،‬ال‬‫َّ‬ ‫من‬ ‫ا�ستطاعوا‬ ‫ما‬ ‫وا‬ ‫د‬ ‫ِ‬
‫ع‬
‫ُ ّ‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫ب‬ ‫لهم‬ ‫آن‬ ‫�‬ ‫القر‬ ‫أمر‬ ‫�‬ ‫ويخالفون‬ ‫الوكيل)‪،‬‬ ‫م‬ ‫و ِن ْ َ‬
‫ع‬
‫�صالة و�صوم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ما ا�ستطاعوا من‬
‫وك�أين ب�سائلكم يقول‪ :‬هل بعد اجتماع هذه القوات يف الغرب وا�ستيالئه‬
‫مرتدد‪َّ � :‬إن الأمر‬
‫على �أكرث ال�شرَّ ق من �سبيل لنجاة البقية؟ ف�أجيب قاطع ًا غري ِّ‬
‫مقدور ولع َّله مي�سور‪ .‬ور�أ�س احلكمة فيه ك�رس قيود اال�ستبداد‪ .‬و� ْأن يكتب‬
‫النا�شئون على جباههم ع�رش كلمات‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪ -‬ديني ما �أُظهر وما �أُخفي‪.‬‬
‫احلق وال �أبايل‪.‬‬
‫حيث يكون ُّ‬ ‫‪� -‬أكون‪ُ ،‬‬
‫حراً‪.‬‬
‫حر و�س�أموت ّ‬ ‫‪� -‬أنا ٌّ‬
‫‪� -‬أنا م�ستق ٌّل ال �أ ِّتكل على غري نف�سي وعقلي‪.‬‬
‫اجلد واال�ستقبال‪ ،‬ال �إن�سان املا�ضي واحلكايات‪.‬‬ ‫‪� -‬أنا �إن�سان ّ‬
‫‪ -‬نف�سي ومنفعتي قبل ك ِّل �شيء‪.‬‬
‫تعب لذيذ‪.‬‬ ‫‪ -‬احلياة ك ُّلها ٌ‬
‫‪ -‬الوقت غالٍ عزيز‪.‬‬
‫‪ -‬ال�شرَّ ف يف العلم فقط‪.‬‬
‫‪� -‬أخاف اهلل ال �سواه‪.‬‬
‫املقد�س يف القلوب‪،‬‬ ‫(و�أنت �أيها الوطن املحبوب‪� :‬أنت العزيز على النفو�س‪َّ ،‬‬
‫تئن الأرواح‪� ...‬أيها الوطن الباكي �ضعافه‪ :‬عليك‬ ‫حتن الأ�شباح وعليك ُّ‬ ‫�إليك ُّ‬
‫الطغام؟‬ ‫تبكي العيون‪ ،‬وفيك يحلو املنون‪� .‬إىل متى يعبث خاللك اللئام ّ‬
‫يظلمون بنيك ويذ ُّلون ذويك‪ .‬يطاردون �أجنالك الأحباب ومي�سكون على‬
‫الديار؟‪.‬‬
‫ويقفرون ّ‬ ‫الطرق والأبواب‪ُ ،‬يخرجون العمران ُ‬ ‫امل�ساكني ُّ‬
‫�أيها الوطن العزيز‪ :‬هل �ضاعت رحابك عن �أوالدك؟ �أم �ضاقت �أح�ضانك‬

‫‪123‬‬
‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫عن �أفالذك؟‪ ...‬كال‪� ،‬إنمَّ ا فقدت الأُباة‪ ،‬فقدت احلُماة‪ ،‬فقدت الأحرار‪� .‬أيها الوطن‬
‫ولكن‪ ،‬دموع بناتك‬ ‫ْ‬ ‫والدماء؟‬
‫امللتهب ف�ؤاده‪� :‬أما رويت من ُ�سقيا الدموع ِّ‬
‫الثاكالت ودماء �أبنائك الأبرياء‪ ،‬ال دموع النادمني وال دماء الظاملني‪� .‬أال‬
‫الب ْل ِه اخلاملني‪ ،‬وال حتزن‪ ،‬فما هم كرائم ًا‬ ‫فا�رشب هنيئ ًا وال ت�أ�سف على ُ‬
‫هن كرائم ًا باكيات حمم�سات‪ ،‬ولي�سوا هم كرام ًا �أع َّزة �شهداء‪،‬‬ ‫ل�س َن َّ‬‫وكرام ًا‪ْ ،‬‬
‫احلر الغيور‪ ،‬ق َّل فيهم من يقول‬ ‫�إنمَّ ا هم ‪-‬غفر اهلل لهم‪ -‬من علمت‪ ،‬ق َّل فيهم ُّ‬
‫�أنا ال �أخاف الظاملني‪.‬‬
‫�أيها الوطن احلنون‪َ :‬ك َّو َن اهلل عنا�رص �أج�سامنا منك‪ ،‬وجعل الأمهات‬
‫حوا�ضن‪ ،‬ورزقنا الغذاء منك‪ ،‬وجعل املر�ضعات جمهزات‪ ،‬نعم‪ ،‬خلقنا اهلل منك‬
‫يحق لكفي �رشع الطبيعة‬ ‫حتن على �أفالذك‪ .‬كما ّ‬ ‫حتب �أجزاءك و�أن َّ‬
‫فحق لك �أن َّ‬ ‫َّ‬
‫حبك‪ ،‬الذي ي�ؤذيك وال يواليك‪ ،‬ويزاحم‬ ‫حتب الأجنبي الذي ي�أبى طبعه َّ‬ ‫� ْأن ال َّ‬
‫بنيك عليك وي�شاركهم فيك‪ ،‬وينقل �إىل �أر�ضه ما يف جوفك من نفي�س العنا�رص‬
‫وكنوز املعادن‪ ،‬فيفقرك ليغني وطنه‪ ،‬وال لوم عليه‪ ،‬بل بارك اهلل فيه!)‪.‬‬
‫وعدة الغد‪ ،‬هذا خطابي �إليكم فيما هو‬ ‫قوم‪ :‬جعلكم اهلل خرية اليوم َّ‬ ‫(يا ُ‬
‫الرت ّقي وما هو االنحطاط‪ ،‬ف�إن وعيتم ولو �شذرات‪ ،‬فيا ب�رشاي وال�سالم عليكم‪،‬‬
‫الرفاه ال�سالم)‪.‬‬
‫و�إال فيما �ضياع الأنف�س‪ ،‬وعلى َّ‬
‫اال�ستبداد الذي يبلغ يف االنحطاط بال َّأمة �إىل غاية �أن متوت‪ ،‬وميوت هو‬
‫معها‪ ،‬كثري ال�شواهد يف قدمي الزمان وحديثه‪� ،‬أما بلوغ الرت ّقي بالأمم �إىل‬
‫ال�سامية التي تليق بالإن�سانية‪ ،‬فهذا مل ي�سمح الزمان ح َّتى‬ ‫املرتبة الق�صوى ّ‬
‫الآن ب� َّأم ٍة ت�صلح مثا ًال له‪ ،‬لأ َّنه �إىل الآن مل توجد � َّأمة حكمت نف�سها بر�أيها‬
‫بنوع‬
‫نوع من اال�ستبداد ولو با�سم الوقار واالحرتام‪� ،‬أو ٍ‬ ‫العام ُحكم ًا ال ي�شوبه ً‬
‫ال�شقاق الديني �أو اجلن�سي بني النا�س‪.‬‬‫من الإغفال ولو ببذر ِّ‬
‫فك� َّأن احلكمة الإلهية مل تزل ترى الب�رش غري مت� ِّأهلني لنوال �سعادة الأخوة‬
‫العمومية بالتحابب بني الأفراد‪ ،‬والقناعة بامل�ساواة احلقوقية بني الطبقات‪.‬‬
‫نعم‪ُ ،‬وجد للرت ّقي القريب من الكمال بع�ض �أمثال قليلة يف القرون الغابرة‪،‬‬
‫املتقطعة‬
‫ِّ‬ ‫كاجلمهورية الثانية للرومان‪ ،‬وكعهد اخللفاء الرا�شدين‪ ،‬وكالأزمنة‬
‫املنظمني ال الفاحتني مثل �أنو�رشوان وعبد امللك الأموي‬ ‫ّ‬ ‫يف عهد امللوك‬
‫ال�شهيد وبطر�س الكبري‪ .‬وكبع�ض اجلمهوريات ال�صغرية واملمالك‬ ‫ونور الدين َّ‬

‫‪124‬‬
‫املو َّفقة لأحكام التقييد املوجودة يف هذا ال َّزمان‪ .‬و�إنيّ �أقت�رص على و�صف‬
‫منتهى الرت ّقي الذي و�صلت �إليه تلك الأمم و�صف ًا �إجمالي ًا‪ ،‬واترك للمطالع �أن‬
‫يوازنها ويقي�س عليها درجات �سائر الأمم‪.‬‬
‫ورمبا ي�سرتيب يف ذلك املطالع املولود يف �أر�ض اال�ستبداد‪ ،‬الذي مل‬
‫يدر�س �أحوال الأمم يف الوجود‪ ،‬وال عتب عليه ف�إ َّنه كاملولود �أعمى ال ُيدرك‬
‫للمناظر البهية معنى‪.‬‬
‫قد بلغ الرت ّقي يف اال�ستقالل ال�شخ�صي يف ظالل احلكومات العادلة‪ ،‬ل ْأن‬
‫يعي�ش الإن�سان املعي�شة التي ت�شبه يف بع�ض الوجوه ما وعدته الأديان لأهل‬
‫خالد بقومه ووطنه‪ ،‬وك�أنه‬ ‫ٌ‬ ‫ال�سعادة يف اجلنان‪ .‬حتى � َّإن ك ًّل ٍ‬
‫فرد يعي�ش ك�أنه‬
‫ني على ك ِّل مطلب‪ ،‬فال هو يكلِّف احلكومة �شطط ًا وال هي تهمله ا�ستحقاراً‪:‬‬ ‫�أم ٌ‬
‫ني على ال�سالمة يف ج�سمه وحياته بحرا�سة احلكومة التي ال‬ ‫‪� 1-‬أم ٌ‬
‫تغفل عن حمافظته بك ِّل قوتها يف ح�رضه و�سفره بدون �أن ي�شعر بثقل‬
‫قيامها عليه‪ ،‬فهي حتيط به �إحاطة الهواء‪ ،‬ال �إحاطة ال�سور يلطمه كيفما‬
‫التفت �أو �سار‪.‬‬
‫ني على املل َّذات اجل�سمية والفكرية باعتناء احلكومة يف ال�ش�ؤون‬ ‫‪� 2-‬أم ٌ‬
‫العامة‪ ،‬املتعلِّقة بالرتوي�ضات اجل�سمية والنظرية والعقلية حتى يرى � َّأن‬
‫الطرقات امل�سهلة‪ ،‬والتزيينات البلدية‪ ،‬واملتن َّزهات‪ ،‬واملنتديات‪ ،‬واملدار�س‪،‬‬
‫واملجامع‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬قد ُوجِ دت ك ُّلها لأجل مل ّذاته‪ ،‬ويعترب م�شاركة النا�س‬
‫له فيها لأجل �إح�سانه‪ ،‬فهو بهذا النظر واالعتبار ال ينق�ص عن �أغنى النا�س‬
‫�سعاد ًة‪.‬‬
‫ني على احلرية‪ ،‬ك�أ َّنه ُخ ِلق وحده على �سطح هذه الأر�ض‪ ،‬فال‬ ‫‪� 3-‬أم ٌ‬
‫يخ�ص �شخ�صه من دينٍ وفك ٍر وعملٍ و�أمل‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫يعار�ضه معار�ض فيما‬
‫�سلطان عزيز‪ ،‬فال ممانع له وال معاك�س يف‬ ‫ٌ‬ ‫ني على النفوذ‪ ،‬ك�أ َّنه‬ ‫‪� 4-‬أم ٌ‬
‫تنفيذ مقا�صده النافعة يف الأمة التي هو منها‪.‬‬
‫املزية‪ ،‬ك�أ َّنه يف � َّأم ٍة ي�ساوي جميع �أفرادها منزل ًة و�رشف ًا‬
‫ني على ّ‬ ‫‪� 5-‬أم ٌ‬
‫مبزية �سلطان‬ ‫ّ‬ ‫أحد عليه‪� ،‬إال‬
‫وقو ًة‪ ،‬فال يف�ضل هو على �أحد وال يف�ضل � ٌ‬
‫الف�ضيلة فقط‪.‬‬
‫ني على العدل‪ ،‬ك�أ َّنه القاب�ض على ميزان احلقوق‪ ،‬فال يخاف‬ ‫‪� 6-‬أم ٌ‬

‫‪125‬‬
‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫ا�ستحق �أن‬
‫َّ‬ ‫املثمن فال يحذر بخ�س ًا‪ ،‬وهو املطمئن على �أ َّنه �إذا‬ ‫ّ‬ ‫تطفيف ًا‪ ،‬وهو‬
‫يكون ملك ًا �صار ملك ًا‪ ،‬و�إذا جنة جناي ًة نال جزاءه ال حمالة‪.‬‬
‫ني على املال وامللك‪ ،‬ك� َّأن ما �أحرزه بوجهه امل�رشوع قلي ًال كان‬ ‫‪� 7-‬أم ٌ‬
‫�أو كثرياً‪ ،‬قد خلقه اهلل لأجله فال يخاف عليه‪ ،‬كما �أ َّنه تقلع عينه � ْإن نظر‬
‫�إىل مال غريه‪.‬‬
‫ني على ال�رشف ب�ضمان القانون‪ ،‬بن�رصة الأمة‪ ،‬ببذل الدم‪ ،‬فال‬ ‫‪� 8-‬أم ٌ‬
‫يرى حتقرياً �إال لدى وجدانه‪ ،‬وال يعرف طمع ًا ملرارة ال ُذ ِّل والهوان‪.‬‬
‫�أما الأ�سري ‪-‬وال �أُحزن املطالع بو�صف حالته‪ -‬ف�أكتفي بالقول‪� :‬إ َّنه ال‬
‫ميلك وال نف�سه‪ ،‬وغري �أمنيٍ حتى على عظامه يف رم�سه‪� ،‬إذا وقع نظره على‬
‫مر من قرب �إحدى‬ ‫يتعوذ باهلل‪ ،‬و�إذا َّ‬
‫امل�ستبد �أو �أحد من جماعته على كرثتهم َّ‬ ‫ِّ‬
‫رب‪َّ � ،‬إن هذا الدار‪ ،‬بئ�س‬ ‫دوائر حكومته �أ�رسع وهو يكرر قوله‪( :‬حمايتك يا ّ‬
‫كل من فيها �إما ذابح �أو مذبوح‪َّ � .‬إن هذه الدار كالكنيف‬ ‫الدار‪ ،‬هي كاملجزرة ُّ‬
‫ال يدخله �إال امل�ضطر)‪.‬‬
‫وقد يبلغ الرت ّقي يف اال�ستقالل ال�شخ�صي مع الرتكيب بالعائلة والع�شرية‪،‬‬
‫�أن يعي�ش الإن�سان معترباً نف�سه من وجه غني ًا عن العاملني‪ ،‬ومن وجه ع�ضواً‬
‫ثم الب�رش‪.‬‬
‫ثم ال َّأمة‪َّ ،‬‬
‫حي هو العائلة‪َّ ،‬‬ ‫ج�سم ٍّ‬
‫حقيقي ًا من ٍ‬
‫وينظر �إىل انق�سام الب�رش �إىل �أمم‪ ،‬ثم �إىل عائالت‪ ،‬ثم �إىل �أفراد‪ ،‬وهو من‬ ‫ُ‬
‫قبيل انق�سام املمالك �إىل مدنٍ ‪ ،‬وهي �إىل بيوت‪ ،‬وهي �إىل مرافق‪ ،‬وكما �أ َّنه ال‬
‫ي�ستحق الهدم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وظيفة معينة ي�صلح لها و�إال كان بنا�ؤه عبث ًا‬ ‫ٍ‬ ‫بد لك ِّل مرفقٍ من‬ ‫َّ‬
‫يعد ك ّل منهم نف�سه لوظيفة يف قيام حياة عائلته‬ ‫َّ‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫بد‬
‫َّ‬ ‫ال‬ ‫إن�سان‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫أفراد‬ ‫�‬ ‫كذلك‬
‫ثم حياة قومه ثاني ًا‪.‬‬ ‫�أو ًال‪َّ ،‬‬
‫ولهذا يكون الع�ضو الذي ال ي�صلح لوظيفة‪� ،‬أو ال يقوم مبا ي�صلح له‪ ،‬حقرياً‬
‫ي�ستحق‬
‫ُّ‬ ‫طبيعي‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫وكل من يريد �أن يعي�ش َك ًّال على غريه‪ ،‬ال عن عج ٍز‬ ‫مهان ًا‪ُّ .‬‬
‫الظفر ي�ستحقان‬ ‫كالدرن يف اجل�سم �أو كالزائد من ُّ‬ ‫املوت ال ال�شفقة‪ ،‬لأن َّه َّ‬
‫حرمت ال�رشائع ال�سماوية املالهي التي لي�س‬ ‫الإخراج والقطع‪ ،‬ولهذا املعنى َّ‬
‫والربا‬
‫املعطل عن العمل عق ًال وج�سم ًا‪ ،‬واملقامرة ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫وال�س ْكر‬
‫فيها تروي�ض‪ُّ ،‬‬
‫احلجام‬‫ف�ضل اهلل الك َّنا�س على َّ‬ ‫لأنهما لي�سا من نوع العمل والتبادل فيه‪ .‬وقد َّ‬
‫ال�شعر‪ ،‬ل َّأن �صنعتهما �أنفع للجمهور‪.‬‬ ‫و�صانع اخلبز على ناظم ِّ‬

‫‪126‬‬
‫فرد من ال َّأمة مالك ًا‬ ‫كل ٍ‬‫وقد يبلغ تر ّقي الرتكيب يف الأمم درجة � ْأن ي�صري ُّ‬
‫فرد منها م�ستعداً‬ ‫كل ٍ‬
‫لنف�سه متام ًا‪ ،‬ومملوك ًا لقومه متام ًا‪ .‬فال َّأمة التي يكون ُّ‬
‫بحجة هذا اال�ستعداد يف الأفراد‪،‬‬ ‫الفتدائها بروحه ومباله‪ ،‬ت�صري تلك ال َّأمة َّ‬
‫غنية عن �أرواحهم و�أموالهم‪.‬‬
‫يتميز على باقي �أنواع الرت ّقيات ال�سالفة‬ ‫الرت ّقي يف القوة بالعلم واملال َّ‬
‫متيز الر�أ�س على باقي �أع�ضاء اجل�سم‪ ،‬فكما � َّأن الر�أ�س ب�إحرازه مركزية‬ ‫البيان ّ‬
‫متيز على باقي الأع�ضاء وا�ستخدمها يف‬ ‫العقل‪ ،‬ومركزية �أكرث احلوا�س‪ّ ،‬‬
‫حاجاته‪ ،‬فكذلك احلكومات املنتظمة يرت ّقى �أفرادها وجمموعها يف العلم‬
‫انحط بها‬ ‫َّ‬ ‫�سلطان طبيعي على الأفراد �أو الأمم التي‬ ‫ٌ‬ ‫والرثوة‪ ،‬فيكون لهم‬
‫اال�ستبداد امل�ش�ؤوم �إىل ح�ضي�ض اجلهل والفقر‪.‬‬
‫بقي علينا بحث الرت ّقي يف الكماالت باخل�صال والأثرة‪ ،‬وبحث الرت ّقي‬
‫الذي يتعلق بالروح‪� ،‬أي مبا وراء هذه احلياة‪ ،‬ويرقى �إليه الإن�سان على ُ�س َّلم‬
‫الرحمة واحل�سنات‪ ،‬فهذه �أبحاث طويلة الذيل‪ ،‬ومنابعها حكميات الكتب‬ ‫َّ‬
‫ومدونات الأخالق‪ ،‬وتراجم م�شاهري الأمم‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ال�سماوية‬
‫و�أكتفي بالقول يف هذا النوع‪� :‬إ َّنه يبلغ بالإن�سان مرتبة �أن ال يرى حلياته‬
‫ثم �أمنه على‬ ‫ثم امتالك حريته‪َّ ،‬‬ ‫فيهمه �أم ًال‪ :‬حياة � ِّأمه‪َّ ،‬‬
‫�أهمية �إال بعد درجات‪ّ ،‬‬
‫وثم‪ ...‬وقد‬ ‫ثم‪َّ ،‬‬ ‫ثم ماله‪َّ ،‬‬ ‫ثم وقايته حياته‪َّ ،‬‬ ‫ثم حمافظته على عائلته‪َّ ،‬‬ ‫�رشفه‪َّ ،‬‬
‫ت�شمل �إح�سا�ساته عامل الإن�سانية كلِّه‪ ،‬ك� َّأن قومه الب�رش ال قبيلته‪ ،‬ووطنه‬
‫يتقيد بجدران بيت خم�صو�ص‬ ‫الأر�ض ال بلده‪ ،‬وم�سكنه‪ ،‬حيث يجد راحته‪ ،‬ال َّ‬
‫ي�سترت فيه ويفتخر به كما هو �ش�أن الأُ�رساء‪.‬‬
‫وقد يرت َّفع الإن�سان عن الإمارة ملا فيها من معنى الكرب‪ ،‬وعن ال ِّتجارة‬
‫ثم‬ ‫ثم املطرقة‪َّ ،‬‬ ‫ملا فيها من التمويه والتب ّذل‪ ،‬فريى ال�رشف يف املحراث‪َّ ،‬‬
‫القلم‪ ،‬ويرى الل َّذة يف التجديد واالخرتاع‪ ،‬ال يف املحافظة على العتيق‪ ،‬ك� َّأن‬
‫له وظيفة يف تر ّقي جمموع الب�رش‪.‬‬
‫جدها لتبديد ا�ستبدادها‪ ،‬تنال‬ ‫وخال�صة القول‪َّ � :‬إن الأمم التي ُي�سعدها ّ‬
‫ُ‬
‫احل�سي واملعنوي ما ال يخطر على فكر �أ�رساء اال�ستبداد‪ .‬فهذه‬ ‫من ال�شرَّ ف ّ‬
‫برمتها‪ ،‬مكتفي ًة يف نفقاتها بنماء فوائد‬ ‫بلجيكا �أبطلت التكاليف الأمريية َّ‬
‫حمبو�س‬
‫ٌ‬ ‫بنك احلكومة‪ .‬وهذه �سوي�رسا ي�صادفها كثرياً �أن ال يوجد يف �سجونها‬

‫‪127‬‬
‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫واحد‪ .‬وهذه �أمريكا �أثرت حتى كادت تخرج الف�ضة من مقام النقد �إىل مقام‬
‫املتاع‪ .‬وهذه اليابان �أ�صبحت ت�ستنزف قناطري الذهب من �أوروبا و�أمريكا‬
‫ثمن امتيازات اخرتاعاتها وطبع تراجم م�ؤ َّلفاتها‪.‬‬
‫حظ ًا من املل َّذات احلقيقية‪ ،‬التي ال تخطر على فكر‬ ‫وقد تنال تلك الأمم ّ‬
‫الأُ�رساء‪ ،‬كل َّذة العلم وتعليمه‪ ،‬ول َّذة املجد واحلماية‪ ،‬ول َّذة الإثراء والبذل‪ ،‬ول َّذة‬
‫احلب الطاهر‪� ،‬إىل‬
‫�إحراز االحرتام يف القلوب‪ ،‬ول َّذة نفوذ الر�أي ال�صائب‪ ،‬ول َّذة ِّ‬
‫غري هذه املل َّذات الروحية‪ .‬و� َّأما الأ�رساء واجلهالء فمل َّذاتهم مق�صورة على‬
‫م�شاركة الوحو�ش ال�ضارية يف املطاعم وامل�شارب وا�ستفراغ ال�شهور‪ ،‬ك� َّأن‬
‫�أج�سامهم ظروف تمُلأ و ُتفرغ‪� ،‬أو هي دمامل تولد ال�صديد وتدفعه‪.‬‬
‫و�أنفع ما بلغه الرت ّقي يف الب�رش‪ ،‬هو �إحكامهم �أ�صول احلكومات املنتظمة‬
‫�سداً متين ًا يف وجه اال�ستبداد‪ ،‬واال�ستبداد جرثومة ك ِّل ف�ساد‪ ،‬وبجعلهم‬ ‫ببنائهم ّ‬
‫�أ ّال قوة وال نفوذ فوق قوة ال�شرَّ ع‪ ،‬وال�شرَّ ع هو حبل اهلل املتني‪ .‬وبجعلهم‬
‫قوة الت�رشيع يف يد ال َّأمة‪ ،‬وال َّأمة ال جتتمع على �ضالل‪ .‬وبجعلهم املحاكم‬ ‫َّ‬
‫ال�سواء‪ ،‬فتحاكي يف عدالتها الكربى الإلهية‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫على‬ ‫علوك‬ ‫وال�ص‬
‫ُّ‬ ‫لطان‬ ‫ال�س‬
‫ُّ‬ ‫حتاكم‬
‫تعدي حدود وظائفهم‪ ،‬ك�أنهم مالئكة ال‬ ‫ّ‬ ‫على‬ ‫لهم‬ ‫�سبيل‬ ‫ال‬ ‫العمال‬ ‫وبجعلهم‬
‫يع�صون �أمراً‪ ،‬وبجعلهم ال َّأمة يقظة �ساهرة على مراقبة �سري حكومتها‪ ،‬ال‬
‫عما يفعل الظاملون‪.‬‬ ‫تغفل طرفة عني‪ ،‬كما � َّأن اهلل ‪-‬ع َّز وج ّل‪ -‬ال يغفل َّ‬
‫هذا مبلغ الرت ّقي الذي و�صلت �إليه الأمم منذ ُعرِف التاريخ‪ ،‬على �أ َّنه مل‬
‫عما كانوا عليه‬ ‫يقم دليل �إىل الآن على تر ّقي الب�رش يف ال�سعادة احليوية ّ‬
‫يف الع�صور اخلالية حتى احلجرية‪ ،‬ح ّتى منذ كانوا عرا ًة ي�رسحون �أ�رساب ًا‪،‬‬
‫تدل على �أكرث من تر ّقي العلم والعمران‪ ،‬وهما �آلتان‬ ‫والآثار امل�شهودة ال ُّ‬
‫كما ي�صلحان للإ�سعاد‪ ،‬ي�صلحان للإ�شقاء‪ ،‬وتر ِّقيها هو من ُ�س َّنة الكون التي‬
‫�أرادها اهلل تعاىل لهذه الأر�ض وبنيها‪ ،‬وو�صف لنا ما �سيبلغ �إليه تر ّقي زينتها‬
‫وظن‬
‫واقتدار �أهلها بقوله ع َّز �ش�أنه‪« :‬حتى �إذا �أخذت الأر�ض ُزخرفها وا َّزينت َّ‬
‫�أهلها �أنهم قادرون عليها �أتاها �أمرنا لي ًال �أو نهاراً فجعلناها ح�صيداً ك�أن‬
‫يدل على � َّأن الدنيا وبنيها مل يزاال يف مقتبل الرت ّقي‪،‬‬ ‫مل َت ْغ َن بالأم�س»‪ .‬وهذا ُّ‬
‫وال يعار�ض هذا � َّأن ما م�ضى من عمرها هو �أكرث مما بقي ح�سبما �أخربت به‬
‫�شيء �آخر‪.‬‬
‫الكتب ال�سماوية‪ ،‬ل َّأن العمر �شيء‪ ،‬والرت ّقي ٌ‬

‫‪128‬‬
‫اال�ستبداد والتخلُّ�ص منه‬
‫لي�س لنا مدر�سة �أعظم من التاريخ الطبيعي‪ ،‬وال برهان �أقوى من اال�ستقراء‪،‬‬
‫ت�سمى (دور‬ ‫تتبعهما يرى � َّأن الإن�سان عا�ش دهراً طوي ًال يف حالة طبيعية َّ‬ ‫من َّ‬
‫يتجول حول املياه �أ�رساب ًا جتمعه حاجة احل�ضانة �صغرياً‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫االفرتا�س)‪ ،‬فكان‬
‫وق�صد اال�ستئنا�س كبرياً‪ ،‬ويعتمد يف رزقه على النبات الطبيعي وافرتا�س‬
‫الرب والبحر‪ ،‬وت�سو�سه الإرادة فقط‪ ،‬ويقوده من بنيته‬ ‫�ضعاف احليوان يف ِّ‬
‫حيث يكرث الرزق‪.‬‬‫�أقوى �إىل ُ‬
‫ت�سمى (دور االقتناء)‪:‬‬ ‫ثم تر َّقى الكثري من الإن�سان �إىل احلالة البدوية التي ّ‬
‫فكان ع�شائر وقبائل‪ ،‬يعتمد يف رزقه على ِّادخار الفرائ�س �إىل حني احلاجة‪،‬‬
‫ف�صارت جتمعه حاجة التح ُّفظ على املال العام والأنعام‪ ،‬وحماية امل�ستودعات‬
‫ثم انتقل ‪-‬وال ُيقال تر ّقى‪ -‬ق�سم كبري من‬ ‫واملراعي واملياه من املزاحمني‪َّ ،‬‬
‫الإن�سان �إىل املعي�شة احل�رضية‪ :‬ف�سكن القرى ي�ستنبت الأر�ض اخل�صبة يف‬
‫تعدى‬ ‫ا�ستحق ذلك بفعله‪ ،‬لأ َّنه َّ‬
‫َّ‬ ‫معا�شه‪ ،‬ف�أخ�صب‪ ،‬ولكن‪ ،‬يف ال�شقاء‪ ،‬ولع َّله‬
‫ف�سكن‪،‬‬
‫َ‬ ‫جوا ًال‪ ،‬ي�سري يف الأر�ض‪ ،‬ينظر �آالء اهلل‪،‬‬ ‫حراً َّ‬
‫قانون اخلالق‪ ،‬ف�إ َّنه خلقه ّ‬
‫و�سكن �إىل اجلهل وال ُّذ ّل‪ ،‬وخلق اهلل الأر�ض مباح ًة‪ ،‬فا�ست�أثر بها‪ ،‬ف�س َّلط اهلل‬
‫عليه من يغ�صبها منه وي�أ�رسه‪ .‬وهذا الق�سم يعي�ش بال جامعة‪ ،‬حتكمه �أهواء‬
‫�أهل املدن وقانونه‪� :‬أن يكون ظامل ًا �أو مظلوم ًا‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه‬

‫ال�صناع‪ ،‬و� َّإما‬‫الت�رصف � ّإما يف املادة وهم ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫ثم تر ّقى ق�سم من الإن�سان �إىل‬ ‫َّ‬
‫املت�رصفون هم �سكان‬ ‫ِّ‬ ‫ؤالء‬ ‫�‬ ‫وه‬ ‫والعلوم‪.‬‬ ‫املعارف‬ ‫أهل‬ ‫�‬ ‫وهم‬ ‫النظريات‬ ‫يف‬
‫املدن الذين هم � ْإن �سجنوا �أج�سامهم بني اجلدران‪ ،‬لكنهم �أطلقوا عقولهم يف‬
‫ولكن �أكرثهم مل‬ ‫تو�سعوا يف احلاجات‪َّ ،‬‬ ‫الرزق كما َّ‬ ‫تو�سعوا يف ِّ‬‫الأكوان‪ ،‬وهم قد َّ‬
‫يهتدوا حتى الآن للطريق املثلى يف �سيا�سة اجلمعيات الكربى‪ .‬وهذا هو �سبب‬
‫كل‬ ‫ر�ض عام‪� .‬إنمَّ ا ُّ‬ ‫تنوع �أ�شكال احلكومات وعدم ا�ستقرار � َّأم ٍة على �شكل ُم ٍ‬ ‫ُّ‬
‫بات �سيا�سية على �سبيل التجريب‪ ،‬وبح�سب تغ ّلب �أحزاب االجتهاد‬ ‫الأمم يف تق ّل ٍ‬
‫�أو رجال اال�ستبداد‪.‬‬
‫وتقرير �شكل احلكومة هو �أعظم و�أقدم م�شكلة يف الب�رش‪ ،‬وهو املعرتك‬
‫الأكرب لأفكار الباحثني‪ ،‬وامليدان الذي ق َّل يف الب�رش من ال يجول فيه على‬
‫فر�س من الفرا�سة‪� ،‬أو على حمارٍ‬‫فيل من الفكر‪� ،‬أو على جملٍ من اجلهل‪� ،‬أو على ٍ‬
‫من احل ُْمق‪ ،‬حتى جاء الزمن الأخري فجال فيه �إن�سان الغرب جولة املغوار‬
‫املمتطي يف التدقيق مراكب البخار‪ .‬فقرر بع�ض قواعد �أ�سا�سية يف هذا الباب‬
‫احلق اليقني‪ ،‬ف�صارت ُت َع ُّد‬ ‫ت�ضافر عليها العقل والتجريب‪ ،‬وح�صح�ص فيها ّ‬
‫من املقررات االجتماعية عند الأمم املرتقية‪ ،‬وال يعار�ض ذلك كون الأمم مل‬
‫تزل �أي�ض ًا منق�سمة �إىل �أحزاب �سيا�سية يختلفون �شيع ًا‪ ،‬ل َّأن اختالفهم هو يف‬
‫وجوه تطبيق تلك القواعد وفروعها على �أحوالهم اخل�صو�صية‪.‬‬
‫وهذه القواعد التي قد �صارت ق�ضايا بديهية يف الغرب‪ ،‬مل تزل جمهولة �أو‬
‫غريبة‪� ،‬أو منفوراً منها يف ال�رشق‪ ،‬لأ َّنها عند الأكرثين منهم مل تطرق �سمعهم‪،‬‬
‫وعند البع�ض مل تنل التفاتهم وتدقيقهم‪ ،‬وعند �آخرين مل حتز قبو ًال‪ ،‬لأ َّنهم ذوو‬
‫غر�ض‪� ،‬أو م�رسوقة قلوبهم‪� ،‬أو يف قلوبهم مر�ض‪.‬‬
‫و�إنيّ �أطرح لتدقيق املطالعني ر�ؤو�س م�سائل بع�ض املباحث التي تتع َّلق‬
‫بها احلياة ال�سيا�سية‪ .‬وقبل ذلك �أذ ِّكرهم ب�أ َّنه قد �سبق يف تعريف اال�ستبداد‬
‫ب�أ َّنه‪( :‬هو احلكومة التي ال يوجد بينها وبني ال َّأمة رابطة معينة معلومة‬
‫م�صونة بقانون نافذ احلكم)‪ .‬كما �أ�ستلفت نظرهم �إىل �أ َّنه ال يوثق بوعد من‬
‫ال�سلطة �أي ًا كان‪ ،‬وال بعهده وميينه على مراعاة الدين‪ ،‬والتقوى‪ ،‬واحلق‪،‬‬ ‫يتوىل ُّ‬
‫وال�رشف‪ ،‬والعدالة‪ ،‬ومقت�ضيات امل�صلحة العامة‪ ،‬و�أمثال ذلك من الق�ضايا‬
‫بر وفاجر‪ .‬وما هي يف احلقيقة �إال‬ ‫الكلية املبهمة التي تدور على ل�سان ك ِّل ٍّ‬

‫‪130‬‬
‫كالم مبهم فارغ‪ ،‬ل َّأن املجرم ال يعدم ت�أوي ًال‪ ،‬ول َّأن من طبيعة القوة االعت�ساف‪،‬‬
‫ٌ‬
‫ول َّأن القوة ال ُتقابل �إال بالقوة‪.‬‬

‫ثم فلرنجع للمباحث التي �أريد طرحها لتدقيق املطالعني‪ ،‬وهي‪:‬‬


‫َّ‬

‫‪ 1-‬مبحث (ما هي ال َّأمة‪� ،‬أي َّ‬


‫ال�شعب؟)‪:‬‬
‫ٍ‬
‫ملالك متغلِّب‪ ،‬وظيفتهم‬ ‫عبيد‬ ‫ٍ‬
‫خملوقات نامية‪� ،‬أو جمعية‪ٌ ،‬‬ ‫ركام‬
‫ُ‬ ‫هل هي‬
‫جمع بينهم روابط دين �أو جن�س �أو لغة‪،‬‬
‫الطاعة واالنقياد ولو ُكره ًا؟ �أم هي ٌ‬
‫حق �إ�شهار‬ ‫ووطن‪ ،‬وحقوق م�شرتكة‪ ،‬وجامعة �سيا�سية اختيارية‪ ،‬لك ِّل ٍ‬
‫فرد ُّ‬
‫ر�أيه فيها توفيق ًا للقاعدة الإ�سالمية التي هي �أ�سمى و�أبلغ قاعدة �سيا�سية‪،‬‬
‫رعيته)‪.‬‬
‫ؤول عن ِّ‬
‫راع‪ ،‬وك ُّلكم م�س� ٌ‬
‫وهي‪( :‬ك ُّلكم ٍ‬

‫‪ 2-‬مبحث (ما هي احلكومة)‪:‬‬


‫يت�رصف يف رقابهم‪ ،‬ويتم َّتع ب�أعمالهم‬ ‫َّ‬ ‫هل هي �سلطة امتالك فرد جلمع‪،‬‬
‫ويفعل ب�إرادته ما ي�شاء؟ �أم هي وكالة ُتقام ب�إرادة ال َّأمة لأجل �إدارة �ش�ؤونها‬
‫امل�شرتكة العمومية؟‪.‬‬

‫‪ 3-‬مبحث (ما هي احلقوق العمومية؟)‪:‬‬


‫هل هي �آحاد امللوك‪ ،‬ولكنها ُت�ضاف للأمم جمازاً؟ �أم بالعك�س‪ ،‬هي حقوق‬
‫جموع الأمم‪ ،‬و ُت�ضاف للملوك جمازاً‪ ،‬ولهم عليها والية الأمانة وال ّنظارة على‬
‫مثل الأرا�ضي واملعادن‪ ،‬والأنهر وال�سواحل‪ ،‬والقالع واملعابد‪ ،‬والأ�ساطيل‬
‫واملعدات‪ ،‬ووالية احلدود‪ ،‬واحلرا�سة على مثل الأمن العام‪ ،‬والعدل والنظام‪،‬‬
‫وحفظ و�صيانة الدين والآداب‪ ،‬والقوانني واملعاهدات واالتجِّ ار‪� ،‬إىل غري ذلك‬
‫يحق لك ِّل ٍ‬
‫فرد من ال َّأمة �أن يتمتع به و� ْأن يطمئن عليه؟‬ ‫مما ُّ‬

‫‪ 4-‬مبحث (الت�ساوي يف احلقوق)‪:‬‬


‫هل للحكومة الت�صرّ ف يف احلقوق العامة املادية والأدبية كما ت�شاء‬
‫بذ ًال وحرمان ًا؟ �أم تكون احلقوق حمفوظة للجميع على الت�ساوي وال�شيوع‪،‬‬

‫‪131‬‬
‫اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه‬

‫وتكون املغامن واملغارم العمومية مو َّزعة على الف�صائل والبلدان وال�صنوف‬


‫حق اال�ستن�صاف؟‬ ‫ٍ‬
‫بن�سبة عادلة‪ ،‬ويكون الأفراد مت�ساوين يف ِّ‬ ‫والأديان‬

‫‪ 5-‬مبحث (احلقوق ال�شخ�صية)‪:‬‬


‫هل احلكومة متلك ال�سيطرة على الأعمال والأفكار؟ �أم �أفراد الأمة �أحرار‬
‫يف الفكر مطلق ًا‪ ،‬ويف الفعل ما مل يخالف القانون االجتماعي‪ ،‬لأ َّنهم �أدرى‬
‫مبنافعهم ال�شخ�صية‪ ،‬واحلكومة ال تتداخل �إال يف ال�ش�ؤون العمومية؟‬

‫‪ 6-‬مبحث (نوعية احلكومة)‪:‬‬


‫املقيدة؟ وما‬
‫َّ‬ ‫هل الأ�صلح هي امللكية املطلقة من ك ِّل زمام؟ �أم امللكية‬
‫هي القيود؟ �أم الرئا�سة االنتخابية الدائمة مع احلياة‪� ،‬أو امل�ؤ َّقتة �إىل �أجل؟‬
‫وهل ُتنال احلاكمية بالوراثة‪� ،‬أو العهد‪� ،‬أو الغلبة؟ وهل يكون ذلك كما ت�شاء‬
‫ال�صدفة‪� ،‬أم مع وجود �رشائط الكفاءة‪ ،‬وما هي تلك ال�رشائط؟ وكيف ي�صري‬ ‫ّ‬
‫ت�ستمر املراقبة عليها؟‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫وكيف‬ ‫ا�ستمرارها؟‬ ‫يراقب‬ ‫وكيف‬ ‫وجودها؟‬ ‫حتقيق‬

‫‪ 7-‬مبحث (ما هي وظائف احلكومة؟)‪:‬‬


‫مقيدة بقانون‬ ‫هل هي �إدارة �ش�ؤون الأمة ح�سب الر�أي واالجتهاد؟ �أم تكون َّ‬
‫موافق لرغائب الأمة و� ْإن خالف الأ�صلح؟ و�إذا اختلفت احلكومة مع ال َّأمة يف‬
‫وامل�رض‪ ،‬فهل على احلكومة �أن تعتزل الوظيفة؟‬
‫ّ‬ ‫اعتبار ال�صالح‬

‫‪ 8-‬مبحث (حقوق احلاكمية)‪:‬‬


‫تخ�ص�ص بنف�سها لنف�سها ما ت�شاء من مراتب العظمة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫هل للحكومة �أن‬
‫ورواتب املال‪ ،‬وحتابي من تريد مبا ت�شاء من حقوق الأمة و�أموالها؟ �أم يكون‬
‫إعطاء وحتديداً ومنع ًا منوط ًا بالأمة؟‬
‫ال َّت�رصف يف ذلك كلِّه � ً‬

‫‪ 9-‬مبحث (طاعة الأمة للحكومة)‪:‬‬


‫هل الإرادة لل َّأمة‪ ،‬وعلى احلكومة العمل؟ �أم الإرادة للحكومة وعلى ال َّأمة‬
‫الطاعة؟ وهل للحكومة تكليف ال َّأمة طاع ًة عمياء بال فهم وال اقتناع؟ �أم‬

‫‪132‬‬
‫عليها االعتناء بو�سائل التفهيم والإذعان لتت�أ َّتى الطاعة ب�إخال�ص و�أمانة؟‬

‫‪ 10-‬مبحث توزيع التكليفات‪:‬‬


‫تقرر النفقات‬
‫مفو�ض ًا لر�أي احلكومة؟ �أم ال َّأمة ِّ‬
‫هل يكون و�ضع ال�رضائب َّ‬
‫الالزمة وتعينِّ موارد املال‪ ،‬و ُتر ِّتب طرائق جبايته وحفظه؟‪.‬‬

‫‪ 11-‬مبحث (�إعداد ا َ‬
‫مل َنعة)‪:‬‬
‫هل يكون �إعداد القوة بالتجنيد والت�سليح ا�ستعداداً للدفاع مفو�ض ًا لإرادة‬
‫احلكومة �إهما ًال‪� ،‬أو �إقال ًال‪� ،‬أو �إكثاراً‪� ،‬أو ا�ستعما ًال على قهر ال َّأمة؟ �أم يلزم �أن‬
‫يكون ذلك بر�أي ال َّأمة وحتت �أمرها‪ ،‬بحيث تكون القوة من ِّفذة رغبة الأمة ال‬
‫رغبة احلكومة؟‬

‫‪ 12-‬مبحث (املراقبة على احلكومة)‪:‬‬


‫حق ال�سيطرة عليها‪،‬‬
‫هل تكون احلكومة ال ُت�س�أل عما تفعل؟ �أم يكون للأمة ُّ‬
‫االطالع على ك ِّل �شيء‪،‬‬
‫حق ِّ‬
‫ل َّأن ال�ش�أن �ش�أنها‪ ،‬فلها �أن ُتنبت عنها وكالء لهم ُّ‬
‫وتوجيه امل�س�ؤولية على � ٍّأي كان‪ ،‬ويكون �أهم وظائف النواب حفظ احلقوق‬
‫الأ�سا�سية املقررة للأمة على احلكومة؟‬

‫‪ 13-‬مبحث (حفظ الأمن العام)‪:‬‬


‫هل يكون ال�شخ�ص مك َّلف ًا بحرا�سة نف�سه ومتع َّلقاته؟ �أم تكون احلكومة‬
‫مك َّلفة بحرا�سته مقيم ًا وم�سافراً حتى من بع�ض طوارئ الطبيعة باحليلولة ال‬
‫باملجازاة والتعوي�ض؟‬

‫‪ 14-‬مبحث (حفظ ّ‬
‫ال�سلطة يف القانون)‪:‬‬
‫هل يكون للحكومة �إيقاع عمل �إكراهي على الأفراد بر�أيها‪� ،‬أي بدون‬
‫ال�سلطة منح�رصة يف القانون‪� ،‬إال يف ظروف‬ ‫الو�سائط القانونية؟ �أم تكون ُّ‬
‫خم�صو�صة وم�ؤ َّقتة؟‬
‫‪ 15-‬مبحث (ت�أمني العدالة الق�ضائية)‪:‬‬

‫‪133‬‬
‫اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه‬

‫هل يكون العدل ما تراه احلكومة؟ �أم ما يراه الق�ضاة امل�صون وجدانهم‬
‫ٍ‬
‫�ضغط حتى �ضغط الر�أي العام؟‬ ‫من ك ِّل م�ؤ ِّثر غري ال�رشع واحلق‪ ،‬ومن ك ِّل‬

‫‪ 16-‬مبحث (حفظ الدين والآداب)‪:‬‬


‫هل يكون للحكومة ‪-‬ولو الق�ضائية‪� -‬سلطة و�سيطرة على العقائد‬
‫وال�ضمائر؟ �أم تقت�رص وظيفتها يف حفظ اجلامعات الكربى كالدين‪ ،‬واجلن�سية‪،‬‬
‫واللغة‪ ،‬والعادات‪ ،‬والآداب العمومية على ا�ستعمال احلكمة ما �أغنت الزواجر‪،‬‬
‫وال تتداخل احلكومة يف �أمر الدين ما مل ُتن َت َهك حرمته؟ وهل ال�سيا�سة‬
‫الإ�سالمية �سيا�سة دينية؟ �أم كان ذلك يف مبد�أ ظهور الإ�سالم‪ ،‬كالإدارة‬
‫العرفية عقب الفتح؟‬

‫‪ 17-‬مبحث (تعيني الأعمال بالقوانني)‪:‬‬


‫هل يكون يف احلكومة ‪-‬من احلاكم �إىل البولي�س‪ -‬من ُيط َلق له عنان‬
‫كلياتها وجزئياتها‪،‬‬
‫ال َّت�رصف بر�أيه وخربته؟ �أم يلزم تعيني الوظائف‪ّ ،‬‬
‫بقوانني �رصيحة وا�ضحة‪ ،‬ال ت�سوغ خمالفتها ولو مل�صلحة مهمة‪� ،‬إال يف‬
‫حاالت اخلطر الكبري؟‬

‫‪ 18-‬مبحث (كيف تو�ضع القوانني؟)‪:‬‬


‫هل يكون و�ضعها منوط ًا بر�أي احلاكم الأكرب‪� ،‬أو ر�أي جماعة ينتخبهم‬
‫منتخب من قبل الكا ّفة ليكونوا عارفني حتم ًا‬
‫ٌ‬ ‫جمع‬
‫لذلك؟ �أم ي�ضع القوانني ٌ‬
‫بحاجات قومهم وما ُيالئم طبائعهم ومواقعهم و�صواحلهم‪ ،‬ويكون حكمه‬
‫عام ًا �أو خمتلف ًا على ح�سب تخالف العنا�رص والطبائع وتغري املوجبات‬
‫والأزمان؟‬

‫‪ 19-‬مبحث (ما هو القانون َّ‬


‫وقوته؟)‪:‬‬
‫يحتج بها القوي على ال�ضعيف؟ �أم هو �أحكام‬ ‫ُّ‬ ‫هل القانون هو �أحكام‬
‫ومالحظ فيها طبائع �أكرثية الأفراد‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫منتزعة من روابط النا�س بع�ضهم ببع�ض‪،‬‬
‫ومن ن�صو�ص خالية من الإبهام والتعقيد وحكمها �شامل ك ّل الطبقات‪ ،‬ولها‬

‫‪134‬‬
‫�سلطان نافذ قاهر م�صون من م�ؤ ِّثرات الأغرا�ض‪ ،‬وال�شفاعة‪ ،‬وال�شفقة‪ ،‬وبذلك‬
‫يكون القانون هو القانون الطبيعي لل َّأمة فيكون حمرتم ًا عند الكا ّفة‪ ،‬م�ضمون‬
‫احلماية من ِق َبل �أفراد الأمة؟‬

‫‪ 20-‬مبحث (توزيع الأعمال والوظائف)‪:‬‬


‫ومقربيه؟ �أم‬
‫احلظ يف ذلك خم�صو�ص ًا ب�أقارب احلاكم وع�شريته َّ‬
‫هل يكون ُّ‬
‫العامة على كا َّفة القبائل والف�صائل‪ ،‬ولو مناوبة مع‬
‫َّ‬ ‫تو َّزع كتوزيع احلقوق‬
‫مالحظات الأهمية والعدد‪ ،‬بحيث يكون رجال احلكومة �أمنوذج ًا من ال َّأمة‪،‬‬
‫�أو هم ال َّأمة م�ص َّغرة‪ ،‬وعلى احلكومة �إيجاد الكفاءة والأعداد ولو بالتعليم‬
‫الإجباري؟‬

‫ال�سلطات ال�سيا�سية والدينية والتعليم)‪:‬‬ ‫‪ 21-‬مبحث (التفريق بني ّ‬


‫كل وظيفة‬‫خ�ص�ص ُّ‬
‫�شخ�ص واحد؟ �أم ُت َّ‬
‫ٍ‬ ‫هل ُيجمع بني �سلطتني �أو ثالث يف‬
‫من ال�سيا�سة والدين والتعليم مبن يقوم ب�إتقان‪ ،‬وال �إتقان �إال باالخت�صا�ص‪،‬‬
‫ويف االخت�صا�ص‪ ،‬كما جاء يف احلكمة القر�آنية‪« :‬ما جعل ا ُ‬
‫هلل لرجلٍ قلبني يف‬
‫جوفه»‪ ،‬ولذلك ال يجوز اجلمع منع ًا ال�ستفحال ال�سلطة‪.‬‬

‫‪ 22-‬مبحث (الرت ّقي يف العلوم واملعارف)‪:‬‬


‫ال�ضغط على العقول كي يقوى نفوذ ال َّأمة‬ ‫رتك للحكومة �صالحية َّ‬ ‫هل ُي َ‬
‫عليها؟ �أم تحُ مل على تو�سيع املعارف بجعل التعليم االبتدائي عمومي ًا‬
‫بالت�شويق والإجبار‪ ،‬وبجعل الكمايل �سه ًال للمتناول‪ ،‬وجعل التعليم والتع ُّلم‬
‫حراً مطلق ًا؟‬
‫ّ‬
‫(التو�سع يف الزراعة وال�صنائع والتجارة)‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫‪ 23-‬مبحث‬
‫هل ُيرتك ذلك للن�شاط املفقود يف ال َّأمة؟ �أم تلزم احلكومة باالجتهاد يف‬
‫ال�سائرة‪ ،‬وال �سيما املزاحمة واملجاورة‪ ،‬كيال تهلك‬ ‫ت�سهيل م�ضاهاة الأمم َّ‬
‫ال َّأمة باحلاجة لغريها �أو ت�ضعف بالفقر؟‬
‫‪ 24-‬مبحث َّ‬
‫(ال�سعي يف العمران)‪:‬‬

‫‪135‬‬
‫اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه‬

‫ال�سكان‪� ،‬أو النهماكها‬


‫هل ُيرتك ذلك لإهمال احلكومة املميت لع َّزة نف�س ُّ‬
‫فيه �إ�رساف ًا وتبذيراً؟ �أم حتمل على ا ِّتباع االعتدال املتنا�سب مع الثورة‬
‫العمومية؟‬

‫‪ 25-‬مبحث َّ‬
‫(ال�سعي يف رفع اال�ستبداد)‪:‬‬
‫هل ُينتظر ذلك من احلكومة ذاتها؟ �أم نوال احلرية ورفع اال�ستبداد رفع ًا ال‬
‫يرتك جما ًال لعودته‪ ،‬من وظيفة ع َقالء الأمة و�رساتها؟‬

‫هذه خم�سة وع�رشون مبحث ًا‪ ،‬ك ٌّل منها يحتاج �إىل تدقيقٍ عميق‪ ،‬وتف�صيلٍ‬
‫ذكرت هذه‬ ‫ُ‬ ‫طويل‪ ،‬وتطبيق على ك ِّل الأحوال واملقت�ضيات اخل�صو�صية‪ .‬وقد‬
‫املباحث تذكر ًة لل ُك َّتاب ذوي الألباب وتن�شيط ًا لل ُّنجباء على اخلو�ض فيها‬
‫برتتيب‪ ،‬ا ِّتباع ًا حلكمة �إتيان البيوت من �أبوابها‪ .‬و�إين �أقت�رص على بع�ض‬
‫ال�سعي يف رفع‬ ‫الكالم فيما يتعلق باملبحث الأخري منها فقط‪� ،‬أعني مبحث َّ‬
‫اال�ستبداد‪ ،‬ف�أقول‪:‬‬
‫احلرية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ت�ستحق‬
‫ُّ‬ ‫‪ -‬ال َّأمة التي ال ي�شعر ك ُّلها �أو �أكرثها ب�آالم اال�ستبداد ال‬
‫والتدرج‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫بال�شدة �إمنا ُيقاوم باللني‬ ‫يقاوم ِّ‬ ‫‪ -‬اال�ستبداد ال َ‬
‫بدل به اال�ستبداد‪.‬‬ ‫‪ -‬يجب قبل مقاومة اال�ستبداد‪ ،‬تهيئة ما ُي�س َت َ‬
‫وت�رس‬
‫ّ‬ ‫هذه قواعد رفع اال�ستبداد‪ ،‬وهي قواعد ُتبعد �آمال الأ�رساء‪،‬‬
‫امل�ستبدين مبا‬
‫ّ‬ ‫امل�ستبدين‪ ،‬ل َّأن ظاهرها ي�ؤم ِّنهم على ا�ستبدادهم‪ .‬ولهذا �أذ ِّكر‬ ‫ّ‬
‫قوته ومزيد‬ ‫َّ‬ ‫بعظيم‬ ‫امل�ستبد‬
‫ُّ‬ ‫يفرحن‬
‫َّ‬ ‫(ال‬ ‫قال‪:‬‬ ‫حيث‬
‫ُ‬ ‫امل�شهور‪،‬‬ ‫الفياري‬ ‫�أنذرهم‬
‫جبار‬ ‫مظلوم �صغري)‪ ،‬و�إين �أقول‪ :‬كم من ّ‬ ‫ٌ‬ ‫جبارٍ عني ٍد ُج ِّند له‬
‫احتياطه‪ ،‬فكم ّ‬
‫قهار �أخذه اهلل �أخذ عزي ٍز منتقم!‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ت�ستحق‬
‫ّ‬ ‫مبنى قاعدة كون ال َّأمة التي ال ي�شعر �أكرثها ب�آالم اال�ستبداد ال‬
‫احلرية هو‪:‬‬
‫ّ‬
‫� َّإن ال َّأمة �إذا �ضرُ َِبت عليها ال ِّذ َّلة وامل�سكنة‪ ،‬وتوالت على ذلك القرون‬
‫الطباع ح�سبما �سبق تف�صيله يف الأبحاث‬ ‫والبطون‪ ،‬ت�صري تلك ال َّأمة �سافلة ِّ‬
‫ال�سالفة‪ ،‬حتى �إ َّنها ت�صري كالبهائم‪� ،‬أو دون البهائم‪ ،‬ال ت�س�أل عن احلرية‪ ،‬وال‬ ‫َّ‬
‫تلتم�س العدالة‪ ،‬وال تعرف لال�ستقالل قيمة‪� ،‬أو للنظام مزية‪ ،‬وال ترى لها يف‬

‫‪136‬‬
‫حد �سواء‪ ،‬وقد‬ ‫أح�سن �أو �أ�ساء على ٍّ‬ ‫احلياة وظيفة غري التابعية للغالب عليها‪َ � ،‬‬
‫ولكن‪ ،‬طلب ًا لالنتقام من �شخ�صه ال طلب ًا للخال�ص من‬ ‫امل�ستبد نادراً‪ْ ،‬‬
‫ِّ‬ ‫تنقم على‬
‫كمغ�ص ب�صداع‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫اال�ستبداد‪ ،‬فال ت�ستفيد �شيئ ًا‪� ،‬إمنا ت�ستبدل مر�ض ًا مبر�ض‪،‬‬
‫تتو�سم فيه �أ َّنه �أقوى �شوك ًة من‬ ‫َّ‬ ‫م�ستبد �آخر‬
‫ٍّ‬ ‫ب�سوق‬
‫امل�ستبد َ‬
‫َّ‬ ‫وقد تقاوم‬
‫امل�ستبد الأول‪ ،‬ف�إذا جنحت ال يغ�سل هذا ال�سائق يديه �إال مباء اال�ستبداد‪ ،‬فال‬ ‫ِّ‬
‫ت�ستفيد �أي�ض ًا �شيئ ًا‪� ،‬إمنا ت�ستبدل مر�ض ًا مزمن ًا مبر�ض حديث‪ ،‬ورمبا ُتنال‬
‫تهتم‬
‫احلرية عفواً‪ ،‬فكذلك ال ت�ستفيد منها �شيئ ًا‪ ،‬لأ َّنها ال تعرف طعمها‪ ،‬فال ُّ‬
‫أ�شد‬
‫م�شو�ش � ُّ‬ ‫ٍ‬
‫ا�ستبداد َّ‬ ‫بحفظها‪ ،‬فال تلبث احلرية �أن تنقلب �إىل فو�ضى‪ ،‬وهي �إىل‬
‫قرر احلكماء � َّأن احلرية التي تنفع ال َّأمة‬ ‫وط�أ ًة كاملري�ض �إذا انتك�س‪ .‬ولهذا‪َّ ،‬‬
‫هي التي حت�صل عليها بعد اال�ستعداد لقبولها‪ ،‬و� َّأما التي حت�صل على �أثر ثورةٍ‬
‫حمقاء فق ّلما تفيد �شيئ ًا‪ ،‬ل َّأن الثورة ‪-‬غالب ًا‪ -‬تكتفي بقطع �شجرة اال�ستبداد‬
‫وال تقتلع جذورها‪ ،‬فال تلبث �أن تنبت وتنمو وتعود �أقوى مما كانت �أو ًال‪.‬‬
‫ف�إذا ُوجِ د يف ال َّأمة امليتة من تدفعه �شهامته للأخذ بيدها والنهو�ض بها‬
‫يبث فيها احلياة وهي العلم‪� ،‬أي علمها ب� َّأن حالتها �سيئة‪ ،‬و�إنمَّ ا‬ ‫فعليه �أو ًال �أن َّ‬
‫بالإمكان تبديلها بخ ٍري منها‪ ،‬ف�إذا هي علمت بطبعه من الآحاد �إىل الع�رشات‪،‬‬
‫بالتحم�س ويبلغ بل�سان حالها �إىل‬ ‫ُّ‬ ‫�إىل �إىل‪ ،...‬حتى ي�شمل �أكرث ال َّأمة‪ ،‬وينتهي‬
‫املعري‪:‬‬
‫ّ‬ ‫منزلة قول احلكيم‬
‫فنحن على تغيريها ُق َدراء‬ ‫�إذا مل ت ُقم بالعدل فينا حكوم ٌ ة‬

‫واد ظاهر احلكمة ي�سري كال�سيل‪ ،‬ال يرجع‬ ‫وهكذا ينقذف ِف ُ‬


‫كر ال َّأمة يف ٍ‬
‫حتى يبلغ منتهاه‪.‬‬
‫ال�شهامة‪� ،‬إمنا الأ�سف � ْأن يندر فيها من‬
‫ثم � َّإن الأمم امليتة ال يندر فيها ذو َّ‬
‫َّ‬
‫يهتدي يف � َّأول ن�ش�أته �إىل الطريق الذي به يح�صل على املكانة التي مت ِّكنه‬
‫أنبه فكر النا�شئة العزيزة � َّأن من‬
‫يف م�ستقبله من نفوذ ر�أيه يف قومه‪ .‬و�إنيِّ � ِّ‬
‫يرى منهم يف نف�سه ا�ستعداداً للمجد احلقيقي فليحر�ص على الو�صايا الآتية‬
‫البيان‪:‬‬
‫‪� 1-‬أن يجهد يف ترقية معارفه مطلق ًا ال �سيما يف العلوم ال ّنافعة‬

‫‪137‬‬
‫اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه‬

‫االجتماعية كاحلقوق وال�سيا�سة واالقت�صاد والفل�سفة العقلية‪ ،‬وتاريخ قومه‬


‫اجلغرايف والطبيعي وال�سيا�سي‪ ،‬والإدارة احلربية‪ ،‬فيكت�سب من �أ�صول وفروع‬
‫هذه الفنون ما ميكنه �إحرازه بالتل ِّقي‪ ،‬و�إن تع َّذر فباملطالعة مع التدقيق‪.‬‬
‫‪� 2-‬أن يتقن �أحد العلوم التي تك�سبه يف قومه موقع ًا حمرتم ًا وعلمي ًا‬
‫الطب‪.‬‬
‫خم�صو�ص ًا‪ ،‬كعلم الدين واحلقوق �أو الإن�شاء �أو ّ‬
‫‪� 3-‬أن يحافظ على �آداب وعادات قومه غاية املحافظة ولو � َّأن فيها‬
‫بع�ض �أ�شياء �سخيفة‪.‬‬
‫‪� 4-‬أن يقلل اختالطه مع النا�س حتى رفقائه يف املدر�سة‪ ،‬وذلك حفظ ًا‬
‫�صاحب‬
‫ٍ‬ ‫للوقار وحت ُّفظ ًا من االرتباط القوي مع �أحد كيال ي�سقط تبع ًا ل�سقوط‬
‫له‪.‬‬
‫كلي ًا م�صاحبة املمقوت عند النا�س ال �سيما احل ّكام ولو‬ ‫‪� 5-‬أن يتج َّنب ّ‬
‫حق‪.‬‬
‫كان ذلك املقت بغري ّ‬
‫مزيته العلمية على الذين هم دونه يف‬ ‫‪� 6-‬أن يجتهد ما �أمكنه يف كتم ّ‬
‫مزيته لبع�ض‬ ‫ذلك العلم لأجل �أن ي�أمن غوائل ح�سدهم‪� ،‬إمنا عليه �أن يظهر ّ‬
‫ٍ‬
‫بدرجات كثرية‪.‬‬ ‫من هم فوقه‬
‫‪� 7-‬أن يتخيرَّ له بع�ض من ينتمي �إليه من الطبقة العليا‪ ،‬ب�رشط‪ْ � :‬أن‬
‫ال ُيكرث الرتدد عليه‪ ،‬وال ي�شاركه �ش�ؤونه‪ ،‬وال يظهر له احلاجة‪ ،‬ويتك َّتم يف‬
‫ن�سبته �إليه‪.‬‬
‫‪� 8-‬أن يحر�ص على الإقالل من بيان �آرائه و�إال ي�ؤخذ عليه تبعة ر�أي‬
‫يراه �أو خ ٍرب يرويه‪.‬‬
‫ال�صدق والأمانة‬ ‫‪� 9-‬أن يحر�ص على �أن ُيعرف بح�سن الأخالق‪ ،‬ال �سيما ّ‬
‫والثبات على املبادئ‪.‬‬
‫‪� 10-‬أن ُيظهر ال�شفقة على ال�ضعفاء والغرية على الدين والعالقة‬
‫بالوطن‪.‬‬
‫امل�ستبد و�أعوانه �إال مبقدار ما‬
‫ّ‬ ‫‪� 11-‬أن يتباعد ما �أمكنه من مقاربة‬
‫معر�ض ًا لذلك‪.‬‬
‫�رشهم �إذا كان َّ‬ ‫ي�أمن به فظائع ِّ‬
‫�سن الثالثني فما فوق حائزاً على ال�صفات املذكورة‪ ،‬يكون قد‬ ‫فمن يبلغ َّ‬
‫أعد نف�سه على �أكمل وجه لإحراز ثقة قومه عندما يريد يف برهة قليلة‪ ،‬وبهذه‬ ‫� َّ‬

‫‪138‬‬
‫ال�صفات‬ ‫ال ِّثقة يفعل ما ال تقوى عليه اجليو�ش والكنوز‪ .‬وما ينق�صه من هذه ِّ‬
‫ولكن‪ ،‬قد ي�ستغني مبزيد كمال بع�ضها عن فقدان بع�ضها‬ ‫ُينق�ص من مكانته‪ْ ،‬‬
‫ال�صفات الأخالقية قد تكفي يف بع�ض الظروف عن‬ ‫الآخر �أو نق�صه‪ .‬كما � َّأن ِّ‬
‫املت�صدي للإر�شاد ال�سيا�سي فاقد‬ ‫ّ‬ ‫ال�صفات العلمية ك ّلها وال عك�س‪ ،‬و�إذا كان‬
‫ال ِّثقة فقدان ًا �أ�صلي ًا �أو طارئ ًا‪ ،‬ميكنه �أن ي�ستعمل غريه ممن تنق�صه اجل�سارة‬
‫والهمة وال�صفات العلمية‪.‬‬ ‫ّ‬
‫واخلال�صة‪َّ � :‬أن الراغب يف نه�ضة قومه‪ ،‬عليه �أن يهيئ نف�سه ويزن‬
‫ثم يعزم متو ِّك ًال على اهلل يف خلق ال َّنجاح‪.‬‬ ‫ا�ستعداده‪َّ ،‬‬
‫ومبنى قاعدة � َّأن اال�ستبداد ال ُيقاوم بال�شدة‪� ،‬إمنا ُيقاوم باحلكمة والتدريج‬
‫الفعالة لقطع دابر اال�ستبداد هي تر ّقي ال َّأمة يف‬ ‫هو‪َّ � :‬أن الو�سيلة الوحيدة ّ‬
‫ثم � َّإن اقتناع‬ ‫الإدراك والإح�سا�س‪ ،‬وهذا ال يت�أتى �إال بالتعليم والتحمي�س‪َّ .‬‬
‫الفكر العام و�إذعانه �إىل غري م�ألوفه‪ ،‬ال يت�أ ّتى �إال يف زمنٍ طويل‪ ،‬ل َّأن العوام‬
‫مهما تر ّقوا يف الإدراك ال ي�سمحون با�ستبدال الق�شعريرة بالعافية �إال بعد‬
‫الترّ وي املديد‪ ،‬ورمبا كانوا معذورين يف عدم الوثوق وامل�سارعة‪ ،‬لأ َّنهم �أ ِلفوا‬
‫الغ�ش واخلداع غالب ًا‪ .‬ولهذا كثرياً ما‬ ‫والدعاة �إال ّ‬ ‫�أن ال يتوقعوا من الر�ؤ�ساء ُّ‬
‫امل�ستبد الأعظم �إذا كان يقهر معهم بال�سوية الر�ؤ�ساء والأ�رشاف‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫يحب الأُ�رساء‬ ‫ّ‬
‫امل�ستبد ب�سوء‪ ،‬لأ َّنهم‬
‫َّ‬ ‫ون‬ ‫مي�س‬
‫ّ‬ ‫وال‬ ‫فقط‬ ‫أعوان‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫من‬ ‫�رساء‬ ‫ُ‬ ‫ل‬
‫أ‬ ‫ا‬ ‫ينتقم‬ ‫ما‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫وكثري‬
‫امل�ستبد‪ ،‬وكم �أحرقوا من عا�صمة‬ ‫ِّ‬ ‫يرون ظاملهم مبا�رش ًة هم الأعوان دون‬
‫حم�ض الت�ش ّفي ب�إ�رضار �أولئك الأعوان‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لأجل‬
‫قوة الإرهاب بالعظمة‬ ‫أنواع القوات التي فيها ّ‬ ‫حمفوف ب� ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫ثم � َّإن اال�ستبداد‬ ‫َّ‬
‫وقوة اجلُند‪ ،‬ال �سيما �إذا كان اجلند غريب اجلن�س‪ ،‬وقوة املال‪ ،‬وقوة الألفة على‬ ‫ّ‬
‫وقوة الأن�صار من الأجانب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الرثوات‪،‬‬ ‫أهل‬ ‫�‬ ‫ة‬‫وقو‬
‫ّ‬ ‫الدين‪،‬‬ ‫رجال‬ ‫ة‬ ‫وقو‬
‫ّ‬ ‫الق�سوة‪،‬‬
‫قابل بع�صا الفكر العام الذي هو يف‬ ‫ُ َ‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫كال�سيف‬ ‫اال�ستبداد‬ ‫جتعل‬ ‫القوات‬ ‫فهذه‬
‫� َّأول ن�ش�أته يكون �أ�شبه بغوغاء‪ ،‬ومن طبع الفكر العام �أ َّنه �إذا فار يف �سنة يغور‬
‫بناء عليه‪ ،‬يلزم ملقاومة تلك القوات‬ ‫يف �سنة‪ ،‬و�إذا فار يف يوم يغور يف يوم‪ً .‬‬
‫الهائلة مقابلتها مبا يفعله الثبات والعناد امل�صحوبان باحلزم والإقدام‪.‬‬
‫قاوم بالعنف‪ ،‬كي ال تكون فتنة حت�صد النا�س‬ ‫اال�ستبداد ال ينبغي �أن ُي َ‬
‫ال�شدة درجة تنفجر عندها الفتنة انفجاراً‬ ‫ح�صداً‪ .‬نعم‪ ،‬اال�ستبداد قد يبلغ من َّ‬

‫‪139‬‬
‫اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه‬

‫ابتداء‪ ،‬حتى �إذا �سكنت‬


‫ً‬ ‫طبيعي ًا‪ ،‬ف�إذا كان يف ال َّأمة عقالء يتباعدون عنها‬
‫ثورتها نوع ًا وق�ضت وظيفتها يف ح�صد املنافقني‪ ،‬حينئ ٍذ ي�ستعملون احلكمة‬
‫يف توجيه الأفكار نحو ت�أ�سي�س العدالة‪ ،‬وخري ما ت� َّؤ�س�س يكون ب�إقامة حكومة‬
‫ال عهد لرجالها باال�ستبداد‪ ،‬وال عالقة لهم بالفتنة‪.‬‬
‫امل�ستبد غالب ًا �إال عقب �أحوال خم�صو�صة‬
‫ِّ‬ ‫العوام ال يثور غ�ضبهم على‬
‫مهيجة فورية‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫ِّ‬
‫امل�ستبد على املظلوم يريد االنتقام‬
‫ّ‬ ‫يوقعه‬ ‫ؤمل‬ ‫�‬ ‫م‬ ‫دموي‬ ‫م�شهد‬ ‫عقب‬ ‫‪-‬‬
‫لنامو�سه‪.‬‬
‫امل�ستبد مغلوب ًا‪ ،‬وال يتم َّكن من �إل�صاق عار‬
‫ُّ‬ ‫‪ -‬عقب حرب يخرج منها‬
‫القواد‪.‬‬
‫التغ ُّلب بخيانة ّ‬
‫الدين �إهان ًة م�صحوب ًة با�ستهزاء ي�ستلزم‬ ‫امل�ستبد ب�إهانة ّ‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬عقب تظاهر‬
‫حدة العوام‪.‬‬ ‫َّ‬
‫‪ -‬عقب ت�ضييق �شديد عام مقا�ضا ًة ملالٍ كثري ال يتي�سرَّ �إعطا�ؤه ح ّتى على‬
‫�أوا�سط النا�س‪.‬‬
‫عامة ال يرى النا�س فيها موا�سا ًة ظاهرة‬ ‫‪ -‬يف حالة جماعة �أو م�صيبة ّ‬
‫امل�ستبد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫من‬
‫كتعر�ضه لنامو�س العر�ض‪،‬‬ ‫للم�ستبد ي�ستف ّز الغ�ضب الفوري‪ّ ،‬‬ ‫ِّ‬ ‫‪ -‬عقب عمل‬
‫�أو حرمة اجلنائز يف ال�رشق‪ ،‬وحتقريه القانون �أو ال�رشف املوروث يف الغرب‪.‬‬
‫‪ -‬عقب حادث ت�ضييق يوجب تظاهر ق�سم كبري من الن�ساء يف اال�ستجارة‬
‫واال�ستن�صار‪.‬‬
‫عدواً ل�رشفها‪.‬‬
‫امل�ستبد ملن تعتربه ال َّأمة ّ‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬عقب ظهور مواالة �شديدة من‬
‫�إىل غري ذلك من الأمور املماثلة لهذه الأحوال التي عندها ميوج النا�س‬
‫يف ال�شوارع وال�ساحات‪ ،‬ومتلأ �أ�صواتهم الف�ضاء‪ ،‬وترتفع فتبلغ عنان ال�سماء‪،‬‬
‫احلق‪.‬‬
‫للحق‪ ،‬املوت �أو بلوغ ّ‬ ‫احلق‪ ،‬االنت�صار ّ‬ ‫احلق ّ‬‫ينادون‪ّ :‬‬
‫امل�ستبد مهما كان غبي ًا ال تخفى عليه تلك املزالق‪ ،‬ومهما كان عتي ًا ال‬ ‫ُّ‬
‫يغفل عن ا ِّتقائها‪ ،‬كما � َّأن هذه الأمور يعرفها �أعوانه ووزرا�ؤه‪.‬‬
‫يهورونه على الوقوع يف‬ ‫ف�إذا ُوجِ د منهم بع�ض يريدون له التهلكة ِّ‬
‫ويل�صقونها به خالف ًا لعادتهم يف �إبعادها عنه بالتمويه على النا�س‪.‬‬ ‫�إحداها‪ُ ،‬‬

‫‪140‬‬
‫الدين عنده‪ ،‬هم �أقدر النا�س‬ ‫امل�ستبد �أو رئي�س ُق َّواده‪� ،‬أو رئي�س ِّ‬
‫ِّ‬ ‫� َّإن رئي�س وزراء‬
‫على الإيقاع به‪ ،‬وهو يداريهم حت ّذراً من ذلك‪ ،‬و�إذا �أراد �إ�سقاط �أحدهم فال‬
‫يوقعه �إال بغتة‪.‬‬
‫ملثريي اخلواطر على اال�ستبداد طرائق �ش ّتى ي�سلكونها بال�سرّ ّ ‪ ،‬والبطء‪،‬‬
‫ي�ستقرون حتت �ستار الدين‪ ،‬في�ستنبتون غابة الثورة من بذرة �أو بذورات‬ ‫ّ‬
‫امل�ستبد ب�سوقه �إىل اال�شتغال‬‫َّ‬ ‫يلهون‬ ‫وكم‬ ‫اخللوات‪.‬‬ ‫يف‬ ‫بدموعهم‬ ‫ي�سقونها‬
‫وال�شهوات‪ ،‬وكم يغرونه بر�ضاء ال َّأمة عنه‪ ،‬ويج�سرِّ ونه على مزيد‬ ‫بالف�سوق َّ‬
‫ي�شو�شون‬ ‫الر�شد‪ ،‬وكم ِّ‬‫الت�شديد‪ ،‬وكم يحملونه على �إ�ساءة التدبري‪ ،‬ويكتمونه ُّ‬
‫فكره ب�إرباكه مع جريانه و�أقرانه‪ .‬يفعلون ذلك و�أمثاله لأجل غاية واحدة‪،‬‬
‫�سد الطريق التي فيها ي�سلكون‪َّ � ،‬أما �أعوانه‪ ،‬فال‬ ‫هي �إبعاده عن االنتباه �إىل ِّ‬
‫و�سيلة لإغفالهم عن �إيقاظه غري حتريك �أطماعهم املالية مع تركهم ينهبون‬
‫ما �شا�ؤوا �أن ينهبوا‪.‬‬
‫ومبنى قاعدة �أ َّنه يجب قبل مقاومة اال�ستبداد‪ ،‬تهيئة ماذا ُي�ستبدل به‬
‫�رشط طبيعي للإقدام على ك ِّل عمل‪ ،‬كما � َّأن‬ ‫اال�ستبداد هو‪َّ � :‬إن معرفة الغاية ٌ‬
‫معرفة الغاية ال تفيد �شيئ ًا �إذا جهل الطريق املو�صل �إليها‪ ،‬واملعرفة الإجمالية‬
‫بد من تعيني املطلب واخلطة تعيين ًا‬ ‫يف هذا الباب ال تكفي مطلق ًا‪ ،‬بل ال َّ‬
‫وا�ضح ًا موافق ًا لر�أي الك ِّل‪� ،‬أو الأكرثية التي هي فوق ثالثة الأرباع عدداً �أو‬
‫يتم الأمر‪ ،‬حيث �إذا كانت الغاية مبهمة نوع ًا‪ ،‬يكون الإقدام‬ ‫قوة ب�أ�س و�إال فال ّ‬
‫بالكلية عند ق�سم من النا�س �أو خمالفة‬ ‫ّ‬ ‫ناق�ص ًا نوع ًا‪ ،‬و�إذا كانت جمهولة‬
‫امل�ستبد‪ ،‬فتكون فتن ًة �شعواء‪ ،‬و�إذا كانوا يبلغون‬ ‫ِّ‬ ‫ين�ضمون �إىل‬
‫ّ‬ ‫لر�أيهم‪ ،‬فه�ؤالء‬
‫امل�ستبد‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫مقدار الثلث فقط‪ ،‬تكون حينئ ٍذ الغلبة يف جانب‬
‫ثم �إذا كانت الغاية مبهمة ومل يكن ال�سري يف �سبيلٍ معروف‪ ،‬ويو�شك �أن‬ ‫َّ‬
‫يقع اخلالف يف �أثناء الطريق‪ ،‬فيف�سد العمل �أي�ض ًا وينقلب �إىل انتقام وفنت‪.‬‬
‫ولذلك يجب تعيني الغاية ب�رصاحة و�إخال�ص و�إ�شهارها بني الكا ّفة‪ ،‬وال�سعي‬
‫يف �إقناعهم وا�ستح�صال ر�ضائهم بها ما �أمكن ذلك‪ ،‬بل الأَوىل حمل العوام‬
‫على النداء بها وطلبها من عند �أنف�سهم‪ .‬وهذا �سبب عدم جناح الإمام علي‬
‫ومن وليه من �أئمة �آل البيت ر�ضي اهلل عنهم‪ ،‬ولع َّل ذلك كان منهم ال عن غفلة‪،‬‬
‫بل مقت�ضى ذلك الزمان من �صعوبة املوا�صالت وفقدان البو�ستات املنتظمة‬

‫‪141‬‬
‫اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه‬

‫والن�رشيات املطبوعة �إذ ذاك‪.‬‬


‫واملراد � َّأن من ال�رضوري تقرير �شكل احلكومة التي يراد وميكن � ْأن ُي�ستبدل‬
‫بها اال�ستبداد‪ ،‬ولي�س هذا بالأمر الهينّ الذي تكفيه فكرة �ساعات‪� ،‬أو فطنة‬
‫�آحاد‪ ،‬ولي�س هو ب�أ�سهل من ترتيب املقاومة واملغالبة‪ .‬وهذا اال�ستعداد الفكري‬
‫بد من تعميمه وعلى‬ ‫النظري ال يجوز � ْأن يكون مق�صوراً على اخلوا�ص‪ ،‬بل ال َّ‬
‫ح�ساب الإمكان ليكون بعيداً عن الغايات ومع�ضوداً بقبول الر�أي العام‪.‬‬
‫ثم يلزم‬ ‫ح�س ال َّأمة ب�آالم اال�ستبداد‪َّ ،‬‬ ‫وخال�صة البحث �أ َّنه يلزم �أو ًال تنبيه ّ‬
‫حملها على البحث يف القواعد الأ�سا�سية لل�سيا�سة املنا�سبة لها‪ ،‬بحيث ي�شغل‬
‫ذلك �أفكار ك ِّل طبقاتها‪ ،‬والأوىل �أن يبقى ذلك حتت خم�ض العقول �سنني‪،‬‬
‫التلهف احلقيقي‬ ‫بل ع�رشات ال�سنني حتى ين�ضج متام ًا‪ ،‬وحتى يح�صل ظهور ّ‬
‫على نوال احلرية يف الطبقات العليا‪ ،‬والتم ّني يف الطبقات ال�سفلى‪ ،‬واحلذر‬
‫كل احلذر من �أن ي�شعر امل�ستبد باخلطر‪ ،‬في�أخذ بالتح ّذر ال�شديد‪ ،‬والتنكيل‬
‫امل�ستبد ويتكالب‪ ،‬فحينئ ٍذ �إما �أن تغتنم‬ ‫ّ‬ ‫باملجاهدين‪ ،‬فيكرث ال�ضجيج‪ ،‬فيزيغ‬
‫وجتدد الأ�رس على العباد بقليلٍ‬ ‫ِّ‬ ‫الفر�صة دولة �أخرى فت�ستويل على البالد‪،‬‬
‫الرق املنحو�س‪ ،‬وهذا ن�صيب �أكرث‬ ‫من التعب‪ ،‬فتدخل ال َّأمة يف دورٍ �آخر من ِّ‬
‫احلظ على عدم وجود‬ ‫ّ‬ ‫الأمم ال�رشقية يف القرون الأخرية‪ ،‬و� َّإما �أن ي�ساعد‬
‫طامع �أجنبي‪ ،‬وتكون ال َّأمة قد ت� َّأهلت للقيام ب�أن حتكم نف�سها بنف�سها‪ ،‬ويف‬
‫امل�ستبد ذاته لرتك �أ�صول اال�ستبداد‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫هذه احلال ميكن لعقالء ال َّأمة �أن يكلِّفوا‬
‫وامل�ستبد اخلائر القوى ال ي�سعه‬ ‫ُّ‬ ‫وا ِّتباع القانون الأ�سا�سي الذي تطلبه الأمة‪.‬‬
‫امل�ستبد على‬
‫ُّ‬ ‫أ�رص‬
‫ي�صادف‪ .‬و�إن � َّ‬ ‫َ‬ ‫عند ذلك �إال الإجابة طوع ًا‪ ،‬وهذا �أف�ضل ما‬
‫القوة‪ ،‬ق�ضوا بالزوال على دولته‪ ،‬و�أ�صبح ك ٌّل منهم راعي ًا‪ ،‬وك ٌّل منهم م�س�ؤو ًال‬ ‫ّ‬
‫عن رعيته‪ ،‬و�أ�ضحوا �آمنني‪ ،‬ال يطمع فيهم طامع‪ ،‬وال ُيغلبون عن ق ّلة‪ ،‬كما هو‬
‫بناء عليه‪ ،‬فليب�صرَّ العقالء‪،‬‬ ‫�ش�أن ك ِّل الأمم التي حتيا حيا ًة كاملة حقيقية‪ً ،‬‬
‫ت�صور ال�صعوبة ال ي�ستلزم‬ ‫ولي َّتقِ اهلل املغرون‪ ،‬وليعلم � َّأن الأمر �صعب‪ ،‬ولكن ّ‬
‫أ�شم‪.‬‬
‫القنوط‪ ،‬بل يثري همم الرجل ال ّ‬
‫ونتيجة البحث‪َّ � ،‬أن اهلل ‪-‬ج َّلت حكمته‪ -‬قد جعل الأمم م�س�ؤولة عن �أعمال‬
‫حق‪ .‬ف�إذا مل حت�سن � ّأمة �سيا�سة نف�سها �أذ َّلها اهلل ل َّأمة‬ ‫من تحُ ِّكمه عليها‪ .‬وهذا ٌّ‬
‫القيم على القا�رص �أو ال�سفيه‪ ،‬وهذه‬ ‫�أخرى حتكمها‪ ،‬كما تفعل ال�رشائع ب�إقامة ّ‬

‫‪142‬‬
‫حكمة‪ .‬ومتى بلغت � َّأم ٌة ر�شدها‪ ،‬وعرفت للحرية قدرها‪ ،‬ا�سرتجعت ع َّزها‪ ،‬وهذا‬
‫عدل‪.‬‬
‫ٌ‬
‫يذل اهلل قط‬
‫ربك �أحداً‪� ،‬إمنا هو الإن�سان يظلم نف�سه‪ ،‬كما ال ُّ‬ ‫وهكذا ال يظلم ُّ‬
‫ي�سبب ك َّل ع َّلة‪.‬‬
‫�أمة عن ق ّلة‪� ،‬إمنا هو اجلهل ِّ‬
‫و�إين �أختم كتابي هذا بخامتة ب�رشى‪ ،‬وذلك � َّأن بوا�سق العلم وما بلغ �إليه‪،‬‬
‫تدل على� َّأن يوم اهلل قريب‪ .‬ذلك اليوم الذي يق ّل فيه التفاوت يف العلم وما‬ ‫ُّ‬
‫القوة‪ ،‬وعندئ ٍذ تتكاف�أ القوات بني الب�رش‪ ،‬فتنح ّل ال�سلطة‪ ،‬ويرتفع‬ ‫ّ‬ ‫من‬ ‫يفيده‬
‫التغالب‪ ،‬في�سود بني النا�س العدل والتوادد‪ ،‬فيعي�شون ب�رشاً ال �شعوب ًا‪ ،‬و�رشكات‬
‫ال دو ًال‪ ،‬وحينئ ٍذ يعلمون ما معنى احلياة الطيبة‪ :‬هل هي حياة اجل�سم وح�رص‬
‫الهمة يف خدمته؟ �أم حياة الروح وغذا�ؤها الف�ضيلة؟ ويومئ ٍذ يت�س ّنى للإن�سان‬ ‫ّ‬
‫م�شرتك يف‬
‫ٌ‬ ‫خمت�ص يف �ش�أنه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫جنم‬
‫ٌ‬ ‫ه‬ ‫ن‬
‫َّ‬ ‫�‬
‫أ‬ ‫ك‬ ‫خالد‪،‬‬ ‫ل‬
‫ٌّ‬ ‫م�ستق‬ ‫عامل‬ ‫ه‬ ‫ن‬
‫َّ‬ ‫�‬
‫أ‬ ‫ك‬ ‫يعي�ش‬ ‫�أن‬
‫ملك‪ ،‬وظيفته تنفيذ �أوامر الرحمن امللهمة للوجدان‪.‬‬ ‫النظام‪ ،‬ك�أ َّنه ٌ‬

‫مت الكتاب بعونه تعاىل‬


‫َّ‬

‫‪143‬‬

You might also like