Professional Documents
Culture Documents
عبد الرحمان الكواكبي - طبائع الإستبداد
عبد الرحمان الكواكبي - طبائع الإستبداد
ومصارع االستعباد
ر�سم الفنان العراقي �إ�سماعيل عزام -العراق
عبد الرحمن الكواكبي
طبائع االستبداد
ومصارع االستعباد
النا�رش
وزارة الثقافة والفنون والرتاث -دولة قطر
هنا خري مظلوم هنا خري كاتـب هنا رجــل الدنيا هنا مهبط ال ّتقى
عــليه فهـذا الـقرب قـرب الكواكبي قفوا واقر�ؤوا (�أم الكتاب) و�س ّلموا
بيتان من مرثية حافظ �إبراهيم ُنق�شا ًعلى قرب الكواكبي يف القاهرة
8
العرب ويف الثقافة العربية حكاية وتاريخ ًا .ولتلك احلكاية التواءاتها
للم�ستبدين
ّ أحقاب .فال�صورة القامتةٌ وف�صولها ،ولتاريخها �أزمنة و�
امل�ستبد واجلرمية �صنوين ّ و�صنائعهم ،تلك ال�صورة التي جتعل من �سلطة
لي�ست وليدة القرنني الثامن والتا�سع ع�رش .ذلك �أن الناظر يف املتون
العربية القدمية يالحظ �أن اخليال نف�سه يعجز عن ابتداع �أمنوذج يعادل ّ
امل�ستبد التي تر�سمها تلك املتونّ �صورة ووح�شيته وق�سوته فظاعته يف
حتدث عن احلاكم العربي منذ الغ�سا�سنة يف ما قبل الإ�سالم .لهذا ك ّله حني ّ
حر�ص الكواكبي على �إجراء العديد من املقارنات بني الداخل واخلارج،
امل�ستبد� ،أما
ّ وتفوقهم �إىل موت
بني الغرب وال�رشق .ف�أرجع قوة الغربيني ّ
ت�صوره�سماه «�أ�صل الداء» ،و�أ�صل الداء يف ّ «انحطاط ال�رشق» فربطه مبا ّ
هو ما نعته «باال�ستبداد ال�سيا�سي».
ويتهدده
ّ تام ب�أن املا�ضي يتع ّقب الراهن لقد كان الكواكبي على وعي ّ
بالويالت جميعها .وهذا يعني �أن م�آزق الإن�سان العربي لي�ست وليدة
راهنه ،بل هي قادمة من بعيد .وجميع حمنه وم�آ�سيه ك ّلها نتاج لتاريخ
من الطغيان واال�ستبداد والقهر .هذا ما نه�ضت الكتابة لت�شهد عليه ،فيما
هي تف�ضح طبائع اال�ستبداد.
هذا الوعي امل�ضني بتاريخ اال�ستبداد يف ديار العرب و ّلد لدى
الكواكبي �إح�سا�س ًا مريراً ب�أن الطريق امل�ؤدية �إىل خال�ص الأمة من «داء
طريق كرب ٌة وعر ٌة طويل ٌة .لذلك طفح كتابه بنوع من ال�شجن ٌ اال�ستبداد»
مرده �إح�سا�سه العاتي ب�أن جهوده وجهود �أمثاله من الإ�صالحيني العرب ّ
لي�ست �سوى �رصخة يف ليل طويل .وهو يعبرّ عن ذلك �رصاحة �إذ و�صف
واد» .لكن هذا الوعي ال�شقي حق و�رصخة يف ٍ كتابه قائ ًال �إنه« :كلمة ّ
مت�شوف ًا تبا�شري
ّ مل يكن وعي ًا انهزامي ًا بقدر ما كان مفتوح ًا على الآتي،
امل�ستبد واقع ًا
ّ ميالد الأجيال اجلديدة التي �ستجعل من حلم التخ ّل�ص من
واد �إن ذهبت حمدث ًا عن كتابه �إنه�« :رصخة يف ٍ وحقيقة .لذلك �أ�ضاف ّ
اليوم مع الريح فقد تذهب غداً بالأوتاد».
والكلية .ولكيّ م�ضى على هذه النبوءة الآن قرن من الزمان بالتمام
تكتمل النبوءة �أهدى الكواكبي كتابه �إىل ال�شباب حملة جذوة النار
9
نات اال�ستبداد والقهر تاريخُ الغَ لَبة ُ
وم َد َ ّو ُ
�سميته طبائع اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد املقد�سة فكتب :هذا «كتاب ّ ّ
وجعلته هدية مني للنا�شئة العربية املباركة الأبية املعقودة �آمال الأمة
على نوا�صيهم .وال غرو ،فال �شباب �إال بال�شباب» .حت ّققت النبوءة �إذن.
على �أيدي ال�شباب حتققت النبوءة يف تون�س وم�رص ،وعلى �أيدي ال�شباب
�أي�ض ًا بد�أت «�أوتاد» عرو�ش امل�ستبدين ي ّزلزل زلزالها يف �أكرث من بل ٍد
عربي.
و�إنه لأمر مذهل ح ّق ًا �أن �أحالم م�صلحني من �أمثال ابن �أبي ال�ضياف
(1291 /1217هـ 1874/ 1802 -م) ورفاعة الطهطاوي (/1216
1290هـ 1873/ 1801 -م) وفار�س ال�شدياق(1306 /1219هـ /1804 -
1888م) وقا�سم حممد �أمني (1326 /1280هـ 1908/ 1863 -م) وخري
الدين با�شا التون�سي(1307/ 1237هـ– 1890 /1822م) -هذه الأحالم-
تلم�س الطريق امل�ؤدية .و�إنها تتج�سد هنا والآن وتبد�أ ال�شعوب العربية يف ّ
مدوخة �أن يقع الإحلاح يف الراهن ال�سيا�سي والإعالمي العربي ملفارقة ّ
الي ْتم :ال �آباء وال �أجداد وال
طالع من ُ
ٌ الآن على �أن جيل الثورات العربية
حلم
تلم�س الطريق �إىل التخ ّل�ص من اال�ستبداد ٌ عمومة �أي�ض ًا .واحلال �أن ّ
قدمي عا�شت عليه �أجيال من امل�صلحني واملثقفني والأدباء الأحرار طيلة ٌ
دونه �أحمد بن �أبي ال�ضياف عن حكام ّ ما إىل � تفّ نتل أن � هنا يكفي أحقاب. �
زمانه.
فالثابت �أن امل� ّؤرخ التون�سي �أحمد بن �أبي ال�ضياف كان واحداً من
التقية .لذلك حني انتدبه باي تون�س امل� ّؤرخني امل�صلحني الذين �أتقنوا ّ
امل�شري �أحمد با�شا باي (1271 /1220هـ 1855 /1806 -م) وزيراً للقلم
�رسه كتب تاريخ البايات وامللوك الذين عا�رشهم وجمعه واتخذه �أمني ّ
يف كتابه «�إحتاف �أهل الزمان ب�أخبار ملوك تون�س وعهد الأمان».
جاء كتاب الإحتاف جامع ًا �إىل الإ�شادة الظاهرة ب�أجماد البايات
واحلر�ص على تدوين رذائلهم وجورهم .وبذلك انفتح التاريخ على َ
امل�ضاد .وجاء التاريخ ال�رسي ليه ّزئ التاريخ العلني ويحيطه ّ التاريخ
بالظلمات والدياجري .ولذلك تتعالق الف�صول قائمة على ما ي�شبه
املنت واحلا�شية .ت�أتي احلا�شية يف �شكل تعليقات و�آراء لته ّزئ املنت
10
فيحدث ابن �أبي ال�ضياف عن م�آثر �أحمد باي ّ وتف�ضح ما يتك ّتم عليه.
و�إ�صالحاته ،وت�أ�سي�سه للمدر�سة احلربية ،وتطويره للتعليم ،وتعزيزه
بالعلوم واملعارف احلديثة .لكن هذا الف�صل ُيخرتق بالكالم عن جوره
وا�ستهانته بالكرامة الب�رشية ،و�إثقاله كاهل الرعية بال�رضائب املجحفة،
و�إر�ساله ع�ساكره �إىل القرى واملدن جلمع ال�رضائب بالقهر والغلبة .يع ّلق
امل� ّؤرخ على هذه الفعال قائ ًال« :هذا و�أج�ساد اخللق من�ساقة منقادة
م�رضتهم وابتزاز نعمتهم خوف ًا من ّ انقياد بهائم الأنعام ولو � ّأدى ذلك �إىل
ع�ساكره الذين جعلهم �آلة لتغ ّلبه ال تقهر» .ال ي�ستخدم ابن �أبي ال�ضياف
ويلح على �أن الظلمّ ي�سمي ال�شعب «عبيد اجلباية»، عبارة الرعية ،بل ّ
وام .فعاف الفالحون �أرا�ضيهم و�صار الواحد منهم �إذا «لقي حولهم �إىل َه ٍ
ّ
ويتو�سع يف ذكر
ّ تي». ورزي
ّ بالئي �سبب «يا : ال
ً قائ ركله احلقل يف حمراثه
حال النا�س الذين �أم�سوا «ولي�س لهم من م�سقط ر�ؤو�سهم وبالدهم ومنبت
والربط�آبائهم و�أجدادهم �إ ّال �إعطاء الدرهم والدينار على مذ ّل ٍة و�صغارّ ،
حب الوطن والدار ،وان�سلخوا على اخل�سف ربط احلمار ،حتى زهدوا يف ّ
من �أخالق الأحرار».
كثرياً ما يطفح التاريخ ال�رسي بنربة َن ْو ٍح و َن ْد ٍب على النا�س ال�سيما
يتفن امل� ّؤرخ يف ذكر املحن والرزايا التي اب ُتلي بها �أهل تون�س حني نّ
ن�شيد �أ�سود يرفع رثاء للمظلومني .لك�أن ٌ فت�صبح الكتابة كما لو �أنها
ام َظ َل َم ٍة ّ
يتو�سع يف ذكر �آالم بني امل� ّؤرخ الذي �أرغم على تدوين م�آثر ح ّك ٍ
ليتطهر منها فيما هو ُي�شهِ د عليها وي�ؤ ّثث بها ذاكرة امل�ستقبل� .أو ّ قومه
لك�أن امل� ّؤرخ ُي ْ�شهِ د الدنيا على فظاعة ما حدث حتى ال يحدث ثانية.
يكفي هنا �أي�ض ًا �أن ننظر يف م�ؤلفات رفاعة الطهطاوي وهو من �أبرز
قادة النه�ضة الفكرية والعلمية يف م�رص على عهد حممد علي با�شا (1182
1265/هـ 1849/ 1769 -م) و�سنالحظ �أنه كان على وعي ب�أن احلرية
ف�صل احلديث والعدالة هما ال�سبيل امل�ؤدية �إىل الكرامة والرقي .لذلك ّ
وتو�سع
ّ عن هذين املفهومني يف كتابه امل ُْر ِ�شد الأمني للبنات والبنني
ملح ًا على �أن ال وطنية دون م�ساواة بني من يف تبيان مفهوم الوطنية ّ
واحد حتى يتعاونوا «على حت�سني الوطن وتكميل نظامه، ٌ وطن
يجمعهم ٌ
11
نات اال�ستبداد والقهر تاريخُ الغَ لَبة ُ
وم َد َ ّو ُ
وغناه وثروته ،لأن ال ِغ َنى �إمنا يتح�صل من يف ما يخ�ص �رشف الوطن ِ
انتظام املعامالت وحت�صيل املنافع العمومية ،وهي تكون بني �أهل الوطن
على ال�سوية ،النتفاعهم جميع ًا بمِ َ ز َِّي ِة ال َّن ْخ َو ِة الوطني ِة» .وهو ي�صل �إىل
و�ضعي،
ٌّ حد متجيد القانون املعمول به يف فرن�سا ،م�شرياً �إىل �أنه قانون ّ
لكنه يحقق العدل .نقر�أ« :والقانون الذي مي�شي عليه الفرن�ساوية الآن،
ويتخذونه �أ�سا�س ًا ل�سيا�ستهم هو القانون الذي �أ َّل َفه لهم َمل ُك ُهم امل َُ�س َّمى
أمور ال ُي ْن ِكر
وم ْر ِ�ضي ًا لهم ،وفيه � ٌ ِلوِيز الثامن ع�رش .وما زال ُم َّت َبع ًا عندهم ُ
ِف كيف َح َك َم ْت عقولهم ب�أن العدل َذ ُوو العقول �أنها من باب العدلِ ...ل َت ْعر َ
والإن�صاف من �أ�سباب تعمري امل ََما ِلك وراحة العباد».
ال تخرج كتابات خري الدين با�شا التون�سي وقا�سم حممد �أمني من
هذه الدائرة الإ�صالحية .فلقد دعا خري الدين يف كتابه «�أقوم امل�سالك يف
معرفة �أحوال املمالك» �إىل الإ�صالح ال�شامل ُب ْغ َي َة حتقيق العدل وامل�ساواة
يف حكم النا�س ودفع الظلم عنهم واحرتام حقوقهم .وهذا ُم َت َع َّل ٌق ال يتحقق
�إال بنظام حكم قائم على ال�شورى ،وتعدد م�ؤ�س�سات احلكم ،و�إبطال احلكم
الفردي لأن االنفراد باحلكم يقود �إىل اال�ستبداد� .أما قا�سم حممد �أمني
وف�صل القول يف العديد من و�سع دائرة ال�س�ؤال عن �أ�سباب التخ ّلف ّ فقد ّ
وتفطن� ،ش�أنه يف ذلك �ش�أن �أحمد فار�س ال�شدياق ّ الق�ضايا االجتماعية
�إىل �أن حرمان املر�أة من حقوقها هو �أ�صل الداء يف املجتمعات العربية.
يعني هذا �إذن �أن كتاب الكواكبي حلقة يف �سل�سلة حماوالت ر�سمت
ال�رس العمل فرت�سب يف الوجدان اجلماعي العربي ووا�صل يف ّ للحلم مداه ّ
امل�ستبد العربي يف غفلة من �أمره ال ميتثل �إال لطبائع اال�ستبداد ّ فيما
املركوزة يف نف�سه ،وال ي�صغي �إال �إىل رغبته اللجوج يف ممار�سة الغلبة
والقهر .لقد انطلق كل من الطهطاوي وابن �أبي ال�ضياف وخري الدين با�شا
ت�صور ابن خلدون حول ن�ش�أة العمران والكواكبي نف�سه –انطلقوا -من ّ
الب�رشي وخراب الدول والأم�صار وت�سليمه يف الباب الثالث والأربعني
ؤذن بخراب العمران»، من املقدمة ب�أن «العدل �أ�سا�س العمران» و«الظلم م� ٌ
خطر على احلياة نف�سها ،لأن «ف�ساد العمران ٌ وجزمه ب�أن اال�ستبداد
وخرابه م�ؤذن بانقطاع النوع الب�رشي».
12
لكن الفارق بني كتاب الكواكبي واملحاوالت الإ�صالحية التي �سبقته
جوهري .ففي حني اكتفى ه�ؤالء امل�صلحون بالدعوة �إىل الإ�صالح ّ فارق
ال�سيا�سي ب�إر�ساء د�ساتري وبرملانات وجمال�س �شورى ،اختار الكواكبي
�أن مي�ضي يف ال�شوط بعيداً :الدعوة �إىل ا�ستئ�صال اال�ستبداد وهدم عرو�ش
امل�ستبدين و�سدنتهم و�أتباعهم وم�ؤ�س�ساتهم وثقافتهم. ّ
جمرد حتليلّ كونه عن اال�ستعباد وم�صارع اال�ستبداد طبائع كتاب كف
ّ
للم�ستبد وملقولة اال�ستبداد
ّ لال�ستبداد .و�صار عبارة عن مواجهة عنيفة
داء» ال يرجى �شفا�ؤه تو�سط �أي�ض ًا �إن «اال�ستبداد ٌ نف�سها .وال خيار ،ال ّ
واله ْد ِي وال ّلني .لذلك
بالإ�صالح والرتميم ،وال ميكن التخ ّل�ص منه بالرفق َ
امل�ستبد وفظائعه
ّ تو�سع الكواكبي يف تع ّقب مظاهر اال�ستبداد وفعال ّ
وجرائره و�إف�ساده للدنيا من حوله .ف�صارت الكتابة عبارة عن هبوط
مدوخ �إىل عامل جحيمي �إبلي�سي ال �شيء فيه غري ال�رشور والويالت والدم ّ
امل�ستبد املحاط بالليل والدياجري وخ�رسان بني الب�رش. ّ عامل إنه � املراق.
وتفرعت« :ما هو اال�ستبداد؟ ما �سببه؟ ما ّ الكتاب تنوعت الأ�سئلة يف هذا ّ
�أعرا�ضه؟ ما �سريه؟ ما �إنذاره؟ ما دوا�ؤه؟ ما هي طبائع اال�ستبداد؟ ملاذا
امل�ستبد؟
ّ رعية
امل�ستبد �شديد اخلوف؟ ملاذا ي�ستويل اجلنب على ّ ّ يكون
ما ت�أثري اال�ستبداد على الدين؟ على العلم؟ على املجد؟ على املال؟ على
الأخالق؟ على الرت ّقي؟ على الرتبية؟ على العمران؟».
ر�سمت هذه الأ�سئلة للكتاب ف�صوله و�أق�سامه ،وللكتابة �ضفافها.
فتحول �إىل مطاردة عنيدة لك ّل مظاهر اال�ستبداد و�أعرا�ضه ونتائجه. ّ
تو�صلّ قد خلدون ابن كان التي ذاتها النتيجة إىل � الكواكبي يخل�ص لذلك
يعطلها ويبيدها. �إليها حني جزم ب�أن الظلم ال يف�سد احلياة فح�سب ،بل ّ
ال�سم يف فنجان قهوة �ستودي بحياة امتدت لد�س ّ الي َد التي ّالراجح �أن َ
امل�ستبد الذي جنح كتاب الكواكبي يف جعله ّ الكواكبي كانت يد �أحد �سدنة
امل�ستبد
ّ اره ،وبني �أن و�ص َغ َقدام النا�س �أجمعني فك�شف �ص َغ َره َ ف�ضيحة ّ
مقدام ال يخ�شى ركوب اخلطر ،يف حني �أنه ٌ قوي
يوهم يف الظاهر ب�أنه ّ
ي�ستمد جربوته ونفوذه «من ُّ امل�ستبد
ّ جبان «�شديد اخلوف»� .إن ٌ رعديد
ٌ
اجلنب الذي ي�ستويل على رعيته»� .إن ا�ستبداد الطاغية وجوره و�إمعانه يف
13
نات اال�ستبداد والقهر تاريخُ الغَ لَبة ُ
وم َد َ ّو ُ
الرعية من ّ اجلرمية والقتل �إمنا تت�أ ّتى يف جانب كبري منها ،ال من خوف
ال�سيما �أن اخلوف ال�سلطان فح�سب ،بل من احرتامها له و�إعالئها ل�ش�أنهّ . ّ
واالحرتام انفعاالن كثرياً ما يتداخالن ويف�ضي �أحدهما �إىل الآخر .ومن
امل�ستبد-ك ّل
ّ ي�ستمد
ّ تداخلهما وامتزاج �أحدهما بالآخر يف نفو�س النا�س،
م�ستبد� -سطوته و�سلطانه. ّ
امل�ستبد و�أمرا�ضه النف�سية ّ �شخ�صية بتعرية الكواكبي يكتفي ال
وعقده ،بل يدفع بالتحليل �إىل مناطق حاملا يبلغها ت�صبح الكتابة عبارة
ملح ًا ،يف امل�ستبد ّ
ّ عن �إدانة لل�رشائح االجتماعية التي تتبارى يف خدمة
م�ستبدة يف كل فروعها ّ امل�ستبدة تكون
ّ الآن نف�سه ،على �أن «احلكومة
الفرا�ش� ،إىل كنا�س ال�شوارع ..وهذه امل�ستبد الأعظم� ،إىل ال�رشطي� ،إىل ّ ّ من
�شدة اال�ستبداد وخ ّفته ،فك ّلما الفئة امل�ستخدمة يكرث عددها ويق ّل ح�سب ّ
املتمجدين
ّ امل�ستبد حري�ص ًا على الع�سف احتاج �إىل زيادة جي�ش ّ كان
العاملني له املحافظني عليه ،واحتاج �إىل مزيد الد ّقة يف اتخاذهم من
�أ�سفل املجرمني الذين ال �أثر عندهم لدينٍ �أو م ّل ٍة».
توظف نف�سها يف خدمة لكن املثقفني يظلون �أخطر �رشيحة اجتماعية ّ
ت�سبح
م�ستبد يف ديار العرب �إال وله بطانة من املثقفني ّ ّ امل�ستبد .فما من
ّ
يوظف املثقفني العتقاده �أن العديد من املثقفني ّ إمنا � وامل�ستبد
ّ بحمده.
امل�ستبد ،يف
ّ هم �سدنة اال�ستبداد وخدمه يف ك ّل الأزمنة والأم�صار .ذلك �أن
املكر
واخل�س َة ،و�إىل احليلة َ ّ نظر الكواكبي� ،شخ�ص يجمع �إىل الغفلة اجله َل
«يجرب �أحيان ًا يف املنا�صب واملراتب بع�ض العقالء ّ واخلديع َة .ولذلك
الأذكياء اغرتاراً منه ب�أنه يقوى على تليني طينتهم وت�شكيلهم بال�شكل
الذي يريد ،فيكونون له �أعوان ًا خبثاء ينفعونه بدهائهم» .ف�إذا ق�ضى
منهم حاجته �أو«يئ�س من �إف�سادهم يبادر �إىل �إبعادهم وين ّكل بهم».
غري �أن الكواكبي ال يدين هذا ال�صنف من املثقفني ال�سدنة فح�سب،
اجلهال
بل يخرجهم من دائرة املثقفني الف�ضالء ويرمي بهم يف دائرة ّ
امل�ستبد �إال اجلاهل العاجز الذي ّ ي�ستقر عند
ّ واخلبثاء املرائني .نقر�أ« :ال
�شا�سع بني املثقف ٌ بو ٌن
يعبده من دون اهلل� ،أو اخلبيث اخلائن» .ثمة ْ
يتحول �إىل خمرب وخادم �أمني ي�سري يف ّ احلقيقي واملثقف ال ّزائف الذي ّ
14
املن�شق الذي
ّ بال�ضعينة ،بني املثقف ّ مدجج ًا
ال�سلطة اجلائرة ّ ركاب ّ
ويلطخ اال�سم يحافظ على �رشف اال�سم واملثقف الذي ير�ضى بدور العبد ّ
ملخبرِ
الدهر ك ّله .هكذا يعمد الكواكبي �إىل طرد هذا املثقف ا ُ َ بعار ال يطف�أ
خارج دائرة الثقافة والفكر ليلحقه بزمرة املخربين وال�رشطة و�سدنة
امل�ستبدة.
ّ ال�سلطات
أمر مذه ٌل حق ًا �أن تو�صيف الكواكبي لهذه الفئة ما زال ثاقب ًا و�إنه ل ٌ
�صحيح ًا رغم مرور قرن من الزمان على ن�رش كتاب طبائع اال�ستبداد
نتمعن يف ما يجري يف تون�س ويف وم�صارع اال�ستعباد .يكفي هنا �أن ّ
مرة �أخرى يف هذا ال�صنف من يتج�سد ّ ّ العجاب
م�رص و�سرنى العجب ُ
امل�ستبد .عديدون هم املثقفون الذين تفانوا يف خدمة ّ املثقفني �سدنة
اال�ستبداد يف ك ّل من تون�س وم�رص .وعندما حت ّققت نبوءة الكواكبي حول
فر طاغية تون�س املخلوع وتهاوى عر�ش «م�صارع اال�ستعباد» ،حني ّ
و�س وخرجوا على النا�س معلنني م�ستبد م�رص املدحور ،لب�سوا لك ّل حال َل ُب ٍ ّ
رواد التغيري وقادته .وهذا ف�ص ٌل ّ ومن التاريخ، حركة مة مقد
ّ يف �أنهم
خم ٍز مل يكتبه الكواكبي.
بد من الإ�شارة �أي�ض ًا �إىل �أن هذا الكتاب خمرتق من الداخل ب�أكرث من ال ّ
املن�شق الذي �أعلن االن�شقاق طريق ًا م�ؤدية �إىل ّ �صوتّ � .أولها �صوت الكاتب
اخلال�ص من اال�ستبداد .لذلك ترد الكتابة يف �شكل حما�سبة عنيفة متو ّترة
امل�ستبد
ّ ملظاهر اال�ستبداد ،ومطاردة عنيدة لنتائج اال�ستبداد وفعال
امل�ستبد :ال العلم
ّ وخ�سته و�إف�ساده للدنيا من حوله .فال �أحد ي�سلم من فعال ّ
ي�سلم ،وال الرتبية والأخالق والقيم يف منجاة من مكائده ومكره .فحيثما
طافح بال�شجن ٌ اخلراب� .أما ال�صوت الثاين ف�إنه �صوت ُ م�ستبد كان
ٌ ُوجد
مليء باحلرقة والت� ّأ�سي على حال الوطن العربي .فت�صبح الكتابة كما لو
ن�شيد �أ�سود يرفع يف وجه اخلراب ٌ �أنها نوع من النوح والندب �أو لك�أنها
قدا�س جنائزي يعت�رص ين�شد التخ ّل�ص من �أ�سبابه .وت�صبح القراءة ك�أنها ّ ُ
�شغاف القلب.
ويتو�سل مقا�صده تلك ّ يوظف الكواكبي �أ�سلوب الكتابة بامل�شهد. ههنا ّ
بو�سيلة موغلة يف االقت�صاد والب�ساطة حني يحاكي كيفات ت�شك ّل ال�صوت
15
نات اال�ستبداد والقهر تاريخُ الغَ لَبة ُ
وم َد َ ّو ُ
وال�صدى م�ستخدم ًا �أ�سلوب النداء .يت�ش ّكل النداء يف �شكل خماطبة للوطن:
«�أنت �أيها الوطن املحبوب� /أيها الوطن العزيز� /أيها الوطن احلنون)...
ويكون امل�شهد مبثابة رجع �صدى للنداء ذاته� .إن ال�صدى يكون عادة �أكرث
ومتو ٌج .لذلك ي�أخذ
ورجع ٌّ ترجيع
ٌ امتداداً من ال�صوت .لأن ال�صدى فيه
م�ساحة �أو�سع من تلك التي يحتلها ال�صوت يف الهواء .وعلى هذا الن�سق
فيتو�سع يف ر�سم
ّ جريان الكتابة� .إن النداء مقت�ضب موجز� .أما ال�صدى
املحن .نقر�أ مث ًال� « :أيها الوطن الباكي �ضعافه :عليك تبكي العيون وفيك
يحلو املنون� .إىل متى يعبث خاللك اللئام الطغام؟ يظلمون بنيك ويذلون
ذويك� ..أيها الوطن امللتهب ف�ؤاده� :أما رويت من �سقيا الدموع والدماء،
ولكنها دموع بناتك الثاكالت ودماء �أبنائك الأبرياء».
�شجن ال يطف�أ تر�شح به الكتابة حني يجري الكواكبي مقارنات ٌ ثمةّ
بني حال النا�س يف الغرب وهوان الب�رش و�ضعتهم يف بالد العرب .ثمة
و�ضجر من ا�ست�سالم النا�س لال�ستبداد.
ٌ ي� ٌأ�س من حال الأمة يف ع�رصه،
يحدث عنهم قائ ًال�« :إمنا هم – غفر اهلل لهم -من علمت ،ق َّل فيهم وهو ّ
احلر الغيور ،ق َّل فيهم من يقول �أنا ال �أخاف الظاملني».ُّ
لكن نربة ال�شجن الطافحة بالي�أ�س �رسعان ما ترتاجع حني يوجه
اخلطاب �إىل ال�شباب قائ ًال�« :أنا�شدكم يا نا�شئة الأوطان ..حماكم اهلل من
ق�صور َف َخاركم على معايل الهمم ومكارم َ ال�سوء ..نرجو لكم �أن تبنوا
ال�شيم ..و�أن تعلموا �أنكم خلقتم �أحراراً لتموتوا كرام ًا».
lll
فا�صلة �صغرية:
� ْأي عبد الرحمن الكواكبي:
امل�ستبد ،وال�شباب يف م�رص التي �شهدت
ّ ال�شباب يف تون�س زلزلوا بيت
امل�ستبد .ولل�سيول التي �ستهد العرو�ش بقية.
ّ مقتلك غيلة ع�صفت بعر�ش
lll
16
تذييل:
�سرية الكواكبي
ولد عبد الرحمن الكواكبي �سنة 1270هـ املوافق ل�سنة 1854م
بحلب يف بيت علم ي�شهد له بالف�ضل .توفيت �أمه فرعته خالته املقيمة
عم �أمه جنيب النقيب الذي �أ�صبح يف �أنطاكيا وعلمته الرتكية فع ّلمه ّ
يف ما بعد �أ�ستاذاً خا�ص ًا للخديوي عبا�س حلمي الثاين يف م�رص .در�س
الكواكبي ال�رشيعة واملنطق وعلم الطبيعة وال�سيا�سة .وا�شتغل بالتدري�س
وهو يف الع�رشين من العمر� .أن�ش�أ مبعية ها�شم العطار جريدة ال�شهباء
�سنة 1877م التي �رسعان ما منعتها ال�سلطات العثمانية .ف�أ�صدر
جريدة االعتدال �سنة 1879م ،ووا�صل ن�رش �أفكاره الداعية �إىل النهو�ض
والإ�صالح .وعندما �أغلقت ال�سلطات اجلريدة ا�شتغل باملحاماة زمن ًا
�ضيقتوكان يدافع عن املظلومني جمان ًا حتى ل ّقب بـ«�أبي ال�ضعفاء»ّ .
عليه ال�سلطات العثمانية اخلناق فغادر حلب و�ساح يف �آ�سيا والهند
وتوطن م�رص حتى ُقتل
ّ وال�صني و�سواحل �رشق �آ�سيا و�سواحل �إفريقيا،
فيها غيلة �سنة 1902م.
أهم م�ؤلفاته:
� ّ
lكتاب �أم القرى الذي عالج فيه �أ�سباب التخلف يف العامل الإ�سالمي
و�أرجعها �إىل ما �سماه الأ�سباب الدينية وتتم ّثل يف ما نعته بعقيدة اجلرب
و�إهمال العلوم العقلية ،والأ�سباب ال�سيا�سية وتتم ّثل يف حرمان النا�س
من حرية القول والعمل ،والأ�سباب اخللقية ومردها الركون �إىل اجلهل
وف�ساد التعليم وتف�ضيل الوظائف على ال�صنائع.
lكتاب طبائع اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد الذي تقدمه جملة
الدوحة هدية للقارئ مع هذا العدد.
17
فاحتة الكتاب
18
ب�سم اهلل الرحمن الرحيم
فاحتة الكتاب
وال�سالم على وال�صالة ّنظام حمكم ٍ متنيّ ،احلمد للهّ ،خالق الكون على ٍ
العربي
ّ النبي
ّ احلق املبني ،ال�سيما منهم على
�أنبيائه العظام ،هداة الأمم �إىل ّ
الذي �أر�سله رحمة ً للعاملني لريقى بهم معا�ش ًا ومعاداً على �س ّلم احلكمة �إىل
ع ّليني.
ال�صادع بالأمر، ال�ضعيف ّ أقول و�أنا م�سلم عربي م�ضطر لالكتتام �ش�أن ّ� ُ
عمن قال: الراجي اكتفاء املطالعني بالقول ًّ املعلن ر�أيه حتت �سماء ال�رشقّ ،
احلق يف ذاته ال بالرجال� ،إنني يف �سنة ثماين ع�رش وثالثمائة و�ألف وتعرف ّ
فزرت م�رص ،واتخذتها يل مركزاً ُ هجرت دياري �رسح ًا يف ال�شرّ ق،
ُ هجرية
�سمي عم ال ّنبي
احلر ّية فيها على عهد عزيزها ح�رضة ًّ �أرجع �إليه مغتنم ًا عهد ّ
فوجدت �أفكار �رساةُ (العبا�س الثاين) ال ّنا�رش لواء الأمن على �أكناف ملكه،
19
فاحتة الكتاب
20
ٍ
برهة قليلة، وجدت الكتاب قد نفد يف ُ ثم يف زيارتي هذه ،وهي الثالثة، ّ
أحببت �أن �أعيد ال ّنظر فيه ،و�أزيده زيداً مما در�س ُت ُه ف�ضبط ُته� ،أو ما اقتب�س ُتهف� ُ
وعناء غري قليل ...و�أنا ال �أق�صد ً �رصفت يف هذا ال�سبيل عمراً عزيزاً
ُ وطبق ُته ،وقد
َّ
أردت بيان طبائع ُ � إمنا � و خم�ص�صة، ة أم
َّ � و ة
ً حكوم وال بعينه ا
ً ظامل مباحثي يف
اال�ستبداد وما يفعل ،وت�شخي�ص م�صارع اال�ستعباد وما يق�ضيه ومي�ضيه على
الدفني ،ع�سى �أن يعرف ق�صد �آخر ،وهو التنبيه ملورد الداء ّ ذويه ...ويل هناك ٌ
الذين ق�ضوا نحبهم� ،أنهم هم املت�سببون ملا ح َّل بهم ،فال يعتبون على الأغيار
وال على الأقدار� ،إمنا يعتبون على اجلهل و َف ْق ِد الهمم وال ّتواكل ..وع�سى الذين
فيهم بقية رمقٍ من احلياة ي�ستدركون �ش�أنهم قبل املمات...
ال�سهل املفيدوقد تخيرّ ُت يف الإن�شاء �أ�سلوب االقت�ضاب ،وهو الأ�سلوب ّ
الذي يختاره ُك َّتاب �سائر اللغات ،ابتعاداً عن قيود التعقيد و�سال�سل ال ّت�أ�صيل
وال ّتفريغ .هذا و�إنيّ �أخالف �أولئك امل�ؤ ِّلفني ،فال �أمتنى العفو عن الزلل� ،إمنا
�أقول:
هذا جهدي ،وللناقد الفا�ضل �أن ي�أتي قومه بخري منه .فما �أنا �إال فاحت
يل املهتدين. يو�سعه ،واهلل و ُّ باب �صغري من �أ�سوار اال�ستبداد .ع�سى الزمان ِّ
1320هـ1902 -م
21
مقدمة
22
مقدمة
ومباحث
َ يتفر ُع �إىل فنون كثرية
جداًّ ، وا�سع ٌّ علم
ال�سيا�سة ٌال خفاء � ّأن ّ
دقيقة �ش ّتى .وق ّلما يوجد �إن�سان يحيط بهذا العلم ،كما �أ ّنه ق ّلما يوجد �إن�سان
يحتك فيه.
ُّ ال
ال�سيا�سةعلماء �سيا�سيون ،تك ّلموا يف فنون ّ ُ وقد ُوجد يف ك ِّل الأمم املرتقية
مدونات الأديان �أو احلقوق �أو التاريخ �أو الأخالق ومباحثها ا�ستطراداً يف ّ
ال�سيا�سة لغري م� ِّؤ�س�سي
كتب خم�صو�صة يف ّ �أو الأدب .وال ُتعرف للأقدمني ٌ
الرومان واليونان ،و�إنمّ ا لبع�ضهم ُم�ؤ ّلفات �سيا�سية �أخالقية اجلمهوريات يف ّ
وحمررات �سيا�سية دينية كنهج البالغة ّ ككليلة ودمنة ور�سائل غوريغوريو�س،
وكتاب اخلراج.
ف�صلة يف هذا الفن لغري علماء و�أما يف القرون املتو�سطة فال ت�ؤثر �أبحاث ُم ّ
والطو�سي ،والغزايل، كالرازيّ ، ّ الإ�سالم ،فهم �أ ّلفوا فيه ممزوج ًا بالأخالق
واملتنبي ،وهي
ّ كاملعري،
ّ والعالئي ،وهي طريقة ال ُف ْر ِ�س ،وممزوج ًا بالأدب
طريقة العرب ،وممزوج ًا بالتاريخ كابن خلدون ،وابن بطوطة ،وهي طريقة
املغاربة.
تو�سعوا يف هذا العلم و�أ ّلفوا
ثم �أمريكا ،فقد َّ � ّأما املت� ِّأخرون من �أهل �أوروباَّ ،
23
مقدمة
فيه كثرياً و�أ�شبعوه تف�صي ًال ،ح َّتى �إ ّنهم �أفردوا بع�ض مباحثه يف ال ّت�أليف
ميزوا مباحثه �إىل �سيا�سة عمومية ،و�سيا�سة خارجية، مبج ّلدات �ضخمة ،وقد ّ
وق�سموا ك ًال منها
و�سيا�سة �إدارية ،و�سيا�سة اقت�صادية ،و�سيا�سة حقوقية� ،إلخّ .
�إىل �أبواب �ش َّتى و�أ�صول وفروع.
و� ّأما املت� ِّأخرون من ال�رشقيني ،فقد ُوجد من الترّ ك كثريون �أ ّلفوا يف
�أكرث مباحثه ت�آليف م�ستق ّلة وممزوجة مثل� :أحمد جودة با�شا ،وكمال بك،
و�سليمان با�شا ،وح�سن فهمي با�شا ،وامل�ؤ ّلفون من العرب قليلون ومق ّلون،
الدين با�شا والذين ي�ستح ّقون الذكر منهم فيما نعلم :رفاعة بك ،وخري ّ
ال ّتون�سي ،و�أحمد فار�س ،و�سليم الب�ستاين،واملبعوث املدين.
ال�سيا�سيني من العرب قد كرثوا ،بدليل ما املحررين ّ
ِّ ولكن ،يظهر لنا � ّأن ْ
يظهر من من�شوراتهم يف اجلرائد واملجالت يف موا�ضع كثرية .ولهذا ،الح لهذا
أهم
ذكر ح�رضاتهم على ل�سان بع�ض اجلرائد العربية مبو�ضوع هو � ّ العاجز � ْأن �أُ ّ
ال�سيا�سية ،وق َّل من طرق بابه منهم �إىل الآن ،ف�أدعوهم �إىل ميدان املباحث ّ
وينبهونهم
ِّ امل�سابقة يف خري خدمة ينريون بها �أفكار �إخوانهم ال�رشقيني
ـ ال�سيما العرب منهم ـ ملا هم عنه غافلون ،فيفيدونهم بالبحث وال ّتعليل
و�رضب الأمثال وال ّتحليل (ما هو داء ال�شرّ ق وما هو دوا�ؤه؟).
ال�ش�ؤون امل�شرتكة مبقت�ضى ال�سيا�سة ب�أ ّنه هو (�إدارة ّملا كان تعريف علم ّ و ّ
أهمها بحث (اال�ستبداد)� ،أي ال�سيا�سة و� ّ
بالطبع � ّأول مباحث ّ احلكمة) يكون ّ
ال�ش�ؤون امل�شرتكة مبقت�ضى الهوى. �رصف يف ّ ال ّت ُّ
و�إنيّ �أرى � ّأن املتكلِّم يف اال�ستبداد عليه �أن يالحظ تعريف وت�شخي�ص
«ما هو اال�ستبداد؟ ما �سببه؟ ما �أعرا�ضه؟ ما �سريه؟ ما �إنذاره؟ ما دوا�ؤه؟»
يتحمل تف�صيالت كثرية ،وينطوي على مباحث �ش ّتى ّ وكل مو�ضوع من ذلك ُّ
امل�ستبد �شديد اخلوف؟
ُّ من �أمهاتها :ما هي طبائع اال�ستبداد؟ ملاذا يكون
الدين؟ على امل�ستبد؟ ما ت�أثري اال�ستبداد على ّ
ّ ملاذا ي�ستويل اجلنب على رعية
العلم؟ على املجد؟ على املال؟ على الأخالق؟ على الترَّ ِّقي؟ على الترّ بية؟ على
العمران؟
تحمل اال�ستبداد؟ كيف يكون ال ّتخل�ص من امل�ستبد؟ هل ُي ّ
ّ َم ْن هم �أعوان
اال�ستبداد؟ مباذا ينبغي ا�ستبدال اال�ستبداد؟
24
ت�ستقر
ُّ قبل اخلو�ض يف هذه امل�سائل ميكننا �أن ن�شري �إىل ال ّنتائج التي
عندها �أفكار الباحثني يف هذا املو�ضوع ،وهي نتائج م َّتحدة املدلول خمتلفة
التعبري على ح�سب اختالف امل�شارب والأنظار يف الباحثني ،وهي:
والدواء :املقاومة.
الداء :القوةّ ، يقول املاديّ :
احلر ّية.
والدواء :ا�سرتداد ّ
الداء :ا�ستعباد الربيةّ ، ال�سيا�سيّ : ويقول ّ
والدواء :االقتدار على الداء :القدرة على االعت�سافّ ، ويقول احلكيمّ :
اال�ستن�صاف.
والدواء :تغليب ال�شرّ يعة ال�سلطة على ال�شرّ يعةّ ،الداء :تغ ّلب ّويقول احلقوقيّ :
ال�سلطة.
على ّ
والدواء :توحيد اهلل ح ّق ًا.الداء :م�شاركة اهلل يف اجلربوتّ ، الر ّباينّ :
ويقول ّ
وهذه �أقوال �أهل النظر ،و� ّأما �أهل العزائم:
ال�شموخ عن ال ّذل.والدواءّ :
الرقاب لل�سال�سلّ ، مد ّ
الداءُّ : أبيّ :
فيقول ال ُّ
والدواء :ربطهم بالقيود الر�ؤ�ساء بال زمامّ ، الداء :وجود ّ ويقول املتنيّ :
ال ّثقال.
والدواء :تذليل املتكبرّ ين. الداء :ال ّتعايل على ال ّنا�س باط ًالّ ، احلرّ :
ويقول ّ
حب املوت.
والدواءُّ :
حب احلياةّ ، الداءُّ : ويقول املفاديّ :
25
ما هو اال�ستبداد
26
ما هو اال�ستبداد
اال�ستبداد لغ ًة هو :غرور املرء بر�أيه ،والأنفة عن قبول ال ّن�صيحة� ،أو ُ
الر�أي ويف احلقوق امل�شرتكة. ّ يف اال�ستقالل
خا�ص ًة ،لأ ّنها �أعظم
ّ ويراد باال�ستبداد عند �إطالقه ا�ستبداد احلكومات ُ
جعلت الإن�سان �أ�شقى ذوي احلياة .و�أما حت ّكم ال ّنف�س ْ التي أ�رضاره � مظاهر
على العقل ،وحت ُّكم الأب والأ�ستاذ وال ّزوج ،ور�ؤ�ساء بع�ض الأديان ،وبع�ض
الطبقات ،فيو�صف باال�ستبداد جمازاً �أو مع الإ�ضافة. ال�رشكات ،وبع�ض ّ
ال�سيا�سيني هوَ :ت�صرَ ُّ ف فرد �أو جمع يف حقوق قوم اال�ستبداد يف ا�صطالح ّ
طرق مزيدات على هذا املعنى اال�صطالحي بامل�شيئة وبال خوف تبعة ،وقد َت ُ
في�ستعملون يف مقام كلمة (ا�ستبداد) كلمات :ا�ستعباد ،واعت�ساف ،وت�س ُّلط،
وح�س م�شرتك ،وتكاف�ؤ ،و�سلطة عامة. ّ وحت ُّكم .ويف مقابلتها كلمات :م�ساواة،
جبار ،وطاغية ،وحاكم ب�أمره، (م�ستبد) كلماتّ :
ّ وي�ستعملون يف مقام �صفة
م�ستبدة) كلمات :عادلة ،وم�س�ؤولة، ّ وحاكم مطلق .ويف مقابلة (حكومة
الرعية (امل�س َت َب ّد عليهم)
ومقيدة ،ود�ستورية .وي�ستعملون يف مقام و�صف ّ ّ
كلمات� :أ�رسى ،وم�ست�صغرين ،وب�ؤ�ساء ،وم�ستنبتني ،ويف مقابلتها� :أحرار،
و�أباة ،و�أحياء ،و�أع ّزاء.
27
ما هو اال�ستبداد
هذا تعريف اال�ستبداد ب�أ�سلوب ذكر املرادفات واملقابالت ،و� ّأما تعريفه
بالو�صف فهوّ � :أن اال�ستبداد �صفة للحكومة املطلقة العنان فع ًال �أو حكم ًا ،التي
الرعية كما ت�شاء بال خ�شية ح�ساب وال عقاب حم َّق َقني. تت�رصف يف �ش�ؤون ّ ّ
ت�رصفها على �شرّ يعة، ُّ بتطبيق فة ل
ّ كمُ غري هي ا إم
ّ � احلكومة كون هو ذلك وتف�سري
�أو على �أمثلة تقليدية� ،أو على �إرادة ال ّأمة ،وهذه حالة احلكومات املُطلقة� .أو
قوة القيد مبا تهوى، مقيدة بنوع من ذلك ،ولك ّنها متلك بنفوذها �إبطال ّ هي ّ
باملقيدة �أو باجلمهورية.
ّ �سمي نف�سها وهذه حالة �أكرث احلكومات التي ُت ّ
حمل تف�صيلها .ويكفي امل�ستبدة كثرية لي�س هذا البحث ُّ ّ و�أ�شكال احلكومة
هنا الإ�شارة �إىل � ّأن �صفة اال�ستبداد ،كما ت�شمل حكومة احلاكم الفرد املطلق
املقيد املنتخب الذي تولىّ احلكم بالغلبة �أو الوراثة ،ت�شمل �أي�ض ًا احلاكم الفرد َّ
متى كان غري م�س�ؤول ،وت�شمل حكومة اجلمع ولو منتخب ًا ،ل َّأن اال�شرتاك يف
يعدله االختالف نوع ًا ،وقد يكون عند اال ّتفاق الر�أي ال يدفع اال�ستبداد ،و�إنمَّ ا قد ّ ّ
ُفرقة فيها بال ُكلِّ َّية
َّ مل ا �ستورية الد
ّ احلكومة اً أي�ض � وي�شمل الفرد. ا�ستبداد من أ�رض
� ّ
املراقبة ،ل َّأن اال�ستبداد ال يرتفع ما مل ِ قوةقوة ال َّتنفيذ وعن َّ قوة الت�رشيع عن َّ َّ
مل�شرَ ِّعني، مل َن ِّف ُذون م�س�ؤولني لدى ا ُ يكن هناك ارتباط يف امل�س�ؤولية ،فيكون ا ُ
ال�ش�أن ك ّله، وه�ؤالء م�س�ؤولني لدى ال َّأمة ،تلك ال َّأمة التي تعرف �أ َّنها �صاحبة ّ
وتعرف � ْأن تراقب و� ْأن تتقا�ضى احل�ساب.
ال�شيطان هي حكومة الفرد تعوذ بها من ّ أ�شد مراتب اال�ستبداد التي ُي َّ و� ّ
املطلق ،الوارث للعر�ش ،القائد للجي�ش ،احلائز على �سلطة دينية .ولنا � ْأن نقول
خف اال�ستبداد �إىل � ْأن ينتهي باحلاكم من هذه الأو�صافَّ ، ك ّلما ق َّل َو ْ�ص ٌف ْ
يخف اال�ستبداد ـ طبع ًاـ ك ّلما ق َّل عدد املنتخب املوقت امل�س�ؤول فع ًال .وكذلك ُّ
الرعية ،وق َّل االرتباط بالأمالك ال ّثابتة ،وق َّل ال ّتفاوت يف الثرّ وة وك ّلما نفو�س َّ
ال�شعب يف املعارف. تر َّقى ّ
� َّإن احلكومة من � ّأي نوع كانت ال تخرج عن و�صف اال�ستبداد ،ما مل تكن
ال�شديدة واالحت�ساب ا ّلذي ال ت�سامح فيه ،كما جرى يف �صدر حتت املراقبة َّ
علي ر�ضي اهلل عنهما ،وكما جرى ثم على ّ الإ�سالم يف ما ُن ِقم على عثمانَّ ،
يف عهد هذه اجلمهورية احلا�رضة يف فرن�سا يف م�سائل ال ّنيا�شني وبناما
ودريفو�س.
28
املقررة طبيع ًة وتاريخ ًا �أ َّنه ،ما من حكومة عادلة ت�أمن َّ ومن الأمور
امل�س�ؤولية وامل�ؤاخذة ب�سبب غفلة ال ّأمة �أو ال َّتم ُّكن من �إغفالها �إ ّال وت�سارع �إىل
ال َّت ُّلب�س ب�صفة اال�ستبداد ،وبعد � ْأن تتم َّكن فيه ال ترتكه ويف خدمتها �إحدى
املنظمة .وهما �أكرب م�صائب الأمم الو�سيلتني العظيمتني :جهالة ال َّأمة ،واجلنود َّ
املتمدنة ـ نوع ًا ماـ من اجلهالة،
ُّ أهم معائب الإن�سانية ،وقد تخ َّل�صت الأمم و� ّ
ال�شدة التي جعلتها �أ�شقى ولكنُ ،بليت ب�شدة اجلندية اجلربية العمومية ،تلك ّ ْ
حيا ًة من الأمم اجلاهلة ،و�أل�صق عاراً بالإن�سانية من �أقبح �أ�شكال اال�ستبداد،
ال�شيطان ،فقد ي�صح �أن يقالَّ � :إن خمرتع هذه اجلندية �إذا كان هو ّ ّ ح َّتى ربمَّ ا
انتقم من �آدم يف �أوالده �أعظم ما ميكنه � ْأن ينتقم! نعم� ،إذا ما دامت هذه
اجلندية التي م�ضى عليها نحو قر َنينْ �إىل قرن �آخر �أي�ض ًا تنهك جت ُّلد الأمم،
وجتعلها ت�سقط دفعة واحدة .ومن يدري كم يتعجب رجال اال�ستقبال من َت َر ِّقي
العلوم يف هذا الع�رص تر ِّقي ًا مقرون ًا با�شتداد هذه امل�صيبة التي ال ترتك حم ًال
ال�ستغراب �إطاعة امل�رصيني للفراعنة يف بناء الأهرامات �سخرة ،ل َّأن تلك ال
حيث ُتعلِّمها
تتجاوز ال ّتعب و�ضياع الأوقات ،و� ّأما اجلندية ف ُتف�سد �أخالق ال ّأمةُ ،
والطاعة العمياء واال ِّتكال ،وتمُ يت ال ّن�شاط وفكرة اال�ستقالل ،و ُتكلِّف ال�شرّ ا�سة ّ
وك ُّل ذلك من�رصف لت�أييد اال�ستبداد امل�ش�ؤوم: ال ّأمة الإنفاق الذي ال يطاقُ ،
القوة من جهة ،وا�ستبداد الأمم بع�ضها على ا�ستبداد احلكومات القائدة لتلك َّ
بع�ض من جهة �أخرى.
ولرنجع لأ�صل البحث ف�أقول :ال ُيعهد يف تاريخ احلكومات املدنية
مدة �أكرث من ن�صف قرن �إىل غاية قرن ون�صف ،وما ا�ستمرار حكومة م�س�ؤولة َّ
وال�سبب يقظة الإنكليز الذين �ش َّذ من ذلك �سوى احلكومة احلا�رضة يف �إنكلرتاّ ،
ال ُي�سكرهم انت�صار ،وال ُيخملهم انك�سار ،فال يغفلون حلظة عن مراقبة ملوكهم،
وال�صهر،وح َ�ش َم ُه ف�ض ًال عن ال ّزوجة ّ
ح َّتى � َّأن الوزارة هي تنتخب للملك َخ َد َم ُه َ
وملوك الإنكليز الذين فقدوا منذ قرون ك َّل �شيء ما عدا ال ّتاج ،لو ت�س ّنى الآن
ولكن ،هيهات � ْأن يظفر بغرة من قومه ي�ستلم ْ لأحدهم اال�ستبداد َل َغ ِن َم ُه حا ًال،
فيها زمام اجلي�ش.
البدوية التي تت�أ َّلف رعيتها ك ّلها �أو �أكرثها من ع�شائر ّ � ّأما احلكومات
حر ّيتهم م�س ْت حكوم ُتهم ّ
فرق متى َّ الرحيل وال َّت ّ يقطنون البادية ،ي�سهل عليهم ّ
29
ما هو اال�ستبداد
ال�شخ�صية ،و�سام ْتهم �ضيم ًا ،ومل يقووا على اال�ستن�صاف ،فهذه احلكومات ق ّلما ّ
اندفعت �إىل اال�ستبداد .و�أقرب مثال لذلك �أهل جزيرة العرب ،ف�إ َّنهم ال يكادون
وحميرْ وغ�سان �إىل الآن �إ ّال فرتات تبع ُ
يعرفون اال�ستبداد من قبل عهد ملوك ّ
قليلة .و�أ�صل احلكمة يف � َّأن احلالة البدوية بعيدة باجلملة عن الوقوع حتت
كل فرد ميكنه � ْأن البدوي ن�ش�أة ا�ستقاللية ،بحيث ُّ ّ نري اال�ستبداد ،وهو � َّأن ن�ش�أة
ين الطبع ،تلك يعتمد يف معي�شته على نف�سه فقط ،خالف ًا لقاعدة الإن�سان املد ّ
القاعدة التي �أ�صبحت �سخرية عند علماء االجتماع املت� ِّأخرين ،القائلني ب� َّأن
الإن�سان من احليوانات التي تعي�ش �أ�رساب ًا يف كهوف وم�سارح خم�صو�صة،
و� ّأما الآن فقد �صار من احليوان الذي متى انتهت ح�ضانته ،عليه � ْأن يعي�ش
م�ستق ًال بذاته ،غري متع ّلق ب�أقاربه وقومه ك ّل االرتباط ،وال مرتبط ببيته وبلده
ك ّل ال ّتع ُّلق ،كما هي معي�شة �أكرث الإنكليز والأمريكان الذين يفتكر الفرد منهم
� َّأن تع ُّلقه بقومه وحكومته لي�س ب�أكرث من رابطة �رشيك يف �رشكة اختيارية،
خالف ًا للأمم التي تتبع حكوماتها حتى فيما تدين.
ال ّناظر يف �أحوال الأمم يرى � َّأن الأُ�رساء يعي�شون متال�صقني مرتاكمني،
تلتف حول بع�ضها �إذا يتح َّفظُ بع�ضهم ببع�ض من �سطوة اال�ستبداد ،كالغنم ُّ
اال�ستقالل ال ّناجز
َ احلرة املالك �أفرادها
ذعرها ال ّذئبّ � ،أما الع�شائر والأمم ّ
فرقني.
فيعي�شون ُم َت ِّ
�سيما املت� ِّأخرون منهم ـ يف و�صف اال�ستبداد وقد تك َّلم بع�ض احلكماء ـ ال َّ
�صور يف الأذهان �شقاء الإن�سان ،ك�أ َّنها تقول له ودوائه بجمل بليغة بديعة ُت ِّ
عدوك فانظر ماذا ت�صنع ،ومن هذه اجلمل قولهم: هذا َّ
(امل�ستبد :يتح َّكم يف �ش�ؤون ال ّنا�س ب�إرادته ال ب�إرادتهم ،ويحكمهم بهواه ال ّ
املتعدي في�ضع كعب رجله على �أفواه ِّ ب�رشيعتهم ،ويعلم من نف�سه �أ َّنه الغا�صب
باحلق وال ّتداعي ملطالبته). ّ ي�سدها عن ال ّنطق املاليني من ال َّنا�س ُّ
واحلر ّية � ّأمهم،
ّ حل ّية وقاتلهما ،واحلق �أبو الب�رش، عدو ا ّ
احلقّ ، عدو ّ (امل�ستبدّ :
ّ
الرا�شدونْ � ،إن والعوام �صبية �أيتام ال يعلمون �شيئ ًا ،والعلماء هم �إخوتهم ّ
لبوا ،و�إال في َّت�صل نومهم باملوت). هبوا ،و� ْإن دعوهم ّ �أيقظوهم ّ
الظامل على جنب ير حاجزاً من حديد ،فلو ر�أى ّ احلد ما مل َ (امل�ستبد :يتجاوز ّ ّ
الظلم ،كما يقال :اال�ستعداد للحرب مينع احلرب). املظلوم �سيف ًا ملا �أقدم على ّ
30
الرعية � ْأن بالطبع لل�شرّ وبالإجلاء للخري ،فعلى ّ م�ستعد ّ ٌّ إن�سان
(امل�ستبدٌ � : ّ
تعرف ما هو اخلري وما هو ال�شرّ فتلجئ حاكمها للخري رغم طبعه ،وقد يكفي
الطلب �إذا علم احلاكم � َّأن وراء القول فع ًال .ومن املعلوم � َّأن جمرد جمرد َّ للإجلاء َّ
�رش اال�ستبداد). اال�ستعداد للفعل فعل يكفي َّ
دراً وطاع ًة ،وكالكالب تذ ُّل ًال ومت ُّلق ًا، يود � ْأن تكون رعيته كالغنم ّ (امل�ستبدُّ :
ّ
دمت ،و� ْإن �ضرُ ِبت �شرَ �ست ،وعليها ْ ُ َ َ ْ خ ت مدِ خ إن � كاخليل تكون أن
ْ � عية الر
وعلى َّ
بال�صيد كلِّه ،خالف ًا للكالب ّ �أن تكون كال�صقور ال ُتالعب وال ُي�ست�أثر عليها
الرعية �أن التي ال فرق عندها �أَطُ ِعمت �أو ُحرِمت ح َّتى من العظام .نعم ،على ّ
وخلق هو تعرف مقامها :هل ُخ ِلقت خادمة حلاكمها ،تطيعه � ْإن عدل �أو جارُ ،
ليحكمها كيف �شاء بعدل �أو اعت�ساف؟ �أم هي جاءت به ليخدمها ال ي�ستخدمها؟..
تقيد وح�ش اال�ستبداد بزمام ت�ستميت دون بقائه يف يدها، والرعية العاقلة َّ َّ
لت�أمن من بط�شه ،ف�إن �شمخ ه َّزت به ال ّزمام و� ْإن �صال ربط ْته).
من �أقبح �أنواع اال�ستبداد ا�ستبداد اجلهل على العلم ،وا�ستبداد ال ّنف�س على
�سمى ا�ستبداد املرء على نف�سه ،وذلك � َّأن اهلل ج ّل ْت نعمه َخل ََق الإن�سان وي ّ العقلُ ،
و�سخر له حراً ،قائده العقل ،فك َف َر و�أبى �إال � ْأن يكون عبداً قائده اجلهلَ .خ َل َقه َّ ّ
ثم جعل له الأر�ض � ّأم ًا والعمل �أب ًا، ّ َّ ه، أ�شد � يبلغ أن � إىل � أوده � ب يقومان ا
ً أب � و ا
ً � َّأم
َف َك َفر وما ر�ضي �إال �أن تكون � َّأم ُته � ّأمه وحاكمه �أباهَ .خل ََق له �إدراك ًا ليهتدي �إىل
ويدين ليعمل ،ول�سان ًا وعي َنينْ ليب�رص ،ورجلينْ لي�سعىْ ، معا�شه وي ّتقي مهلكهْ ،
أحب �إال � ْأن يكون كالأبله الأعمى، ليكون ترجمان ًا عن �ضمريه ،ف َك َف َر وما � َّ
�شي من غريه ،وق َّلما يطبق ل�سانه جنانه. املقعد ،الأ�ش ّل ،الكذوب ،ينتظر ُك َّل ْ
َخ َل َق ُه منفرداً غري م َّت�صل بغريه ليملك اختياره يف حركته و�سكونه ،ف َك َف َر وما
�سماها الوطن ،وت�شابك بال ّنا�س ما ا�ستطاب �إال االرتباط يف �أر�ض حمدودة َّ
ا�ستطاع ا�شتباك تظالمُ ال ا�شتباك تعاونَ ...خ َل َقه لي�شكره على جعله عن�رصاً
حي ًا بعد �أن كان تراب ًا ،وليلج�أ �إليه عند الفزع تثبيت ُا للجنان ،ولي�ستند عليه ّ
للرتدد ،وليثق مبكاف�أته �أو جمازاته على الأعمال ،ف َك َف َر و�أبى عند العزم دفع ًا ُّ
ال�صحيح بالباطل ليغالط نف�سه وغريهَ .خ َل َقه وخلَطَ يف دين الفطرة ّ ُ�ش ْك َره َ
يطلب منفعته جاع ًال رائده الوجدان ،ف َك َف َر ،وا�ستح َّل املنفعة ب�أي وجه كان،
ُحرم كبري .خلقه وبذل له مواد تو�ص ًال مل َّ فال يتع ّفف عن حمظور �صغري �إال ُّ
31
ما هو اال�ستبداد
احلياة ،من نور ون�سيم ونبات وحيوان ومعادن وعنا�رص مكنوزة يف خزائن
الطبيعة ،مبقادير ناطقة بل�سان احلال ،ب� َّأن واهب احلياة حكيم خبري جعل ّ
إن�سان نعم َة اهلل مواد احلياة �أكرث لزوم ًا يف ذاته� ،أكرث وجوداً وابتذا ًال ،ف َك َف َر ال ُ
ربه �إىل نف�سه ،وابتاله بظلم نف�سه وظُ ْلم فوكل ُه ُّ
و�أبى �أن يعتمد كفالة رزقهَّ ،
جن�سه ،وهكذا كان الإن�سان ظلوم ًا كفوراً.
عبوديته
َّ ي�صفع بها رقاب الآبقني من ج ّنة ُ اخلفية
ّ القوية
اال�ستبدادَ :ي ُد اهلل ّ
امل�ستبدين الذين ي�شاركون اهلل يف عظمته ويعاندونه جهاراً، ِّ �إىل جه َّنم عبودية
ثم ينتقم منه) ،كما جاء يف �أث ٍر (الظامل �سيف اهلل ينتقم بهَّ ، وقد ورد يف اخلربّ :
الظامل �شك يف � َّأن �إعانة ّ(م ْن �أعان ظامل ًا على ظلمه َ�سلَّطَ ه اهلل عليه) ،وال َّ �آخرَ :
جمرد الإقامة على �أر�ضه. تبتدئ من َّ
الدنيا ،واجلحيم هو نار غ�ضبه يف الآخرة، اال�ستبداد :هو نار غ�ضب اهلل يف ّ
من خلقهم الدنيا َد َن َ�س ْ املطهراتَ ،ف ُيطَ ِّهر بها يف ّ ِّ وقد خلق اهلل ال ّنار �أقوى
وبذل فيها رزقهم ،ف َك َفروا بنعمته ،ور�ضخوا وب َ�سطَ لهم الأر�ض وا�سعةَ ، �أحراراًَ ،
لال�ستعباد وال َّتظامل.
يتعجل اهلل به االنتقام من عباده اخلاملني ،وال َّ اال�ستبداد� :أعظم بالء،
يرفعه عنهم ح َّتى يتوبوا توبة الأنفة .نعم ،اال�ستبداد �أعظم بالء ،لأ َّنه وباء دائم
والغ�صب، ْ بال�سلب
وحريق متوا�ص ٌل َّ ٌ م�ستمر بتعطيل الأعمال، ٌّ وج ْد ٌب بالفنت َ
مل ال وظالم يعمي الأب�صار ،و�أ ٌ ٌ وخوف يقطع القلوب، ٌ جارف للعمران، ٌ و�سي ٌل
ْ
يفرت ،و�صائ ٌل ال يرحم ،وق�صة �سوء ال تنتهي .و�إذا �س�أل �سائ ٌل :ملاذا يبتلي اهلل
مطلق ال يظلم �أحداً، ٌ عادل
ٌ أبلغ جواب ُم ْ�س ِكت هوَّ � :إن اهلل بامل�ستبدين؟ ف� ُ ِّ عباده
َ
ال�سائل نظرة احلكيم املد ِّقق لوجد ّ نظر ولو ين. امل�ستبد
ِّ على إال � امل�ستبد
ّ فال ُ لىَّ
و ي
�ستبداً يف نف�سه ،لو قدر جلعل زوجته وعائلته ُك َّل فرد من �أُ�رساء اال�ستبداد ُم ّ
وربه الذي خل َق ُه تابعني لر�أيه و�أمره. وع�شريته وقومه والب�رش ُك َّلهم ،ح َّتى َّ
م�ستبد ،والأحرار يتوالهم الأحرار ،وهذا �رصيح ّ فامل�ستبدون يتوالهم ُّ
معنى( :كما تكونوا ُيولىَّ عليكم).
حر ّيته ،ف� َّإن حيث ميلك ّ يتحول عنها �إىل ُ َّ أر�ض �أن أليق بالأ�سري يف � ٍ ما � َ
خري حيا ًة من الأ�سد املربوط. الطليق ُ الكلب ّ
32
اال�ستبداد وال ّدين
الطبيعي للأديان ،على ت�ضافرت �آراء �أكرث العلماء ال ّناظرين يف ال ّتاريخ ّ
يكن
الديني ،والبع�ض يقولْ � :إن مل ْ ال�سيا�سي ُم َت َو ِّلد من اال�ستبداد ِّ
� َّأن اال�ستبداد ّ
الريا�سة� ،أو هما �صنوان هناك توليد فهما �أخوان� ،أبوهما ال َّتغلب و� ّأمهما ّ
قويان ،بينهما رابطة احلاجة على ال ّتعاون لتذليل الإن�سان ،وامل�شاكلة ّ
بينهما �أ َّنهما حاكمان� ،أحدهما يف مملكة الأج�سام والآخر يف عامل القلوب.
والفريقان م�صيبان بحكمهما بال ّنظر �إىل مغزى �أ�ساطري ال ّأولني ،والق�سم
حق والر�سائل امل�ضافة �إىل الإجنيل .وخمطئون يف ّ ال ّتاريخي من ال ّتوراةّ ،
الأق�سام ال ّتعليمية الأخالقية فيهما ،كما هم خمطئون �إذا نظروا �إىل � َّأن القر�آن
ال�سيا�سي .ولي�س من العذر �شيء � ْأن يقولوا :نحن ال ندرك جاء م� ّؤيداً لال�ستبداد ّ
طي بالغته ،ووراء العلم ب�أ�سباب نزول دقائق القر�آن نظراً خلفائها علينا يف ِّ
مقدمات ما ن�شاهد عليه امل�سلمني منذ قرون �آياته ،و�إنمَّ ا نبني نتيجتنا على ِّ
بالدين.
�ستبديهم ِّ �إىل الآن من ا�ستعانة ُم ِّ
ماوية تدعو
ال�س ّ الدينية ،ومنها الكتب َّ املحررونَّ � :إن ال َّتعاليم ّ
ِّ يقول ه�ؤالء
تتهدد الإن�سان بك ّل قوة َّ قوة عظيمة ال ُتدرك العقول ُك ْن َههاّ ، الب�رش �إىل خ�شية ّ
م�صيبة يف احلياة فقط ،كما عند البوذية واليهودية� ،أو يف احلياة وبعد املمات،
33
اال�ستبداد وال ّدين
كما عند ال ّن�صارى والإ�سالم ،تهديداً ترتعد منه الفرائ�ص فتخور القوى،
ثم تفتح هذه ال َّتعاليم �أبواب ًا وتنذهل منه العقول فت�ست�سلم للخبل واخلمولَّ ،
ولكن ،على تلك الأبواب ْ لل ّنجاة من تلك املخاوف جناة وراءها نعيم مقيم،
حجاب من الرباهمة والكهنة والق�سو�س و�أمثالهم الذين ال ي�أذنون لل ّنا�س ّ
وال�صغار ،ويرزقوهم با�سم نذر �أو ثمن ّ لِ ل
ّ ذ ت
ّ ال مع موهم يعظِّ مل ما خول بالد
ّ
احلجاب يف بع�ض الأديان يحجزون فيما يزعمون لقاء َّ أولئك � إن �
َّ َّ ى ت ح غفران،
بربها ما مل ي�أخذوا عنها مكو�س املرور �إىل القبور وفدية اخلال�ص الأرواح ِّ
يرهبون ال ّنا�س من من مطهر الأعراف .وه�ؤالء املهيمنون على الأديان كم ِّ
ثم ير�شدونهم �إىل � ْأن غ�ضب اهلل وينذرونهم بحلول م�صائبه وعذابه عليهمَّ ،
ال خال�ص وال منا�ص لهم �إال بااللتجاء �إىل �سكان القبور الذين لهم دالة ،بل
�سطوة على اهلل فيحمونهم من غ�ضبه.
أ�سا�س من هذا القبيل، ال�سيا�سيني يبنون كذلك ا�ستبدادهم على � ٍ ويقولونَّ � :إن ّ
ويذ ِّللونهماحل�سيُ ، ّ ال�شخ�صي وال ّت�شامخ فهم ي�سرتهبون ال ّنا�س بال ّتعايل ّ
و�سلب الأموال ح َّتى يجعلوهم خا�ضعني لهم ،عاملني لأجلهم، ِ والقوة
ّ بالقهر
يتم َّتعون بهم ك�أ َّنهم نوع من الأنعام التي ي�رشبون �ألبانها ،وي�أكلون حلومها،
ويركبون ظهورها ،وبها يتفاخرون.
وال�سيا�سي،الديني ّ اال�ستبداد ْينِّ ،
َ ويرون � َّأن هذا ال َّت�شاكل يف بناء ونتائج
م�شرتكينْ يف العمل ،ك�أ َّنهما يدان َ جعلهما يف مثل فرن�سا خارج باري�س
متعاونتان ،وجعلهما يف مثل رو�سيا م�شتب َكينْ ِ يف الوظيفة ،ك�أ َّنهما اللوح
�سجالن ال�شقاء على الأمم. والقلم ُي ِّ
ينجر بعوام الب�رشـ وهم ال�سواد ُّ القوتَينْ
قررون � َّأن هذا ال َّت�شاكل بني ّ وي ِّ ُ
بحق وبني الأعظم ـ �إىل نقطة � ْأن يلتب�س عليهم الفرق بني الإله املعبود ّ
ملطاع بالقهر ،فيختلطان يف م�ضايق �أذهانهم من حيث ال َّت�شابه امل�ستبد ا ُ
ّ
ال�س�ؤال وعدم امل�ؤاخذة على الأفعال، والرفعة عن ّ يف ا�ستحقاق مزيد ال َّتعظيمِّ ،
امل�ستبد النتفاء ال ّن�سبة بني عظمته ّ بناء عليه ،ال يرون لأنف�سهم ح ّق ًا يف مراقبة ً
م�شرتكينْ ِ يف كث ٍري
َ وجبارهم َّ معبودهم العوام يجد أخرى: � وبعبارة ودناءتهم،
فرقوا مث ًال بني ُ ِّ ي أن
ْ � أنهم وال�صفات ،وهم لي�س من �ش� من احلاالت والأ�سماء ِّ
عما يفعل) وغري م�س�ؤول، الفعال املطلق) ،واحلاكم ب�أمره ،وبني (ال ُي�س�أل ّ ( َّ
34
عظمون بناء عليهُ ،ي ِّ ال�ش�أنً . يل النعم ،وبني (ج َّل �ش�أنه) وجليل َّ وبني (املنعم) وو ّ
حليم كرمي، ٌ اجلبابرة تعظيمهم هلل ،ويزيدون تعظيمهم على ال َّتعظيم هلل ،لأ َّنه
اجلبار فعاج ٌل حا�رض .والعوام ـ كما يقال غائب ،و� َّأما انتقام َّ ٌ ول َّأن عذابه �آج ٌل
ي�صح
ّ �شاهد ،ح َّتى مل َ ـ عقولهم يف عيونهم ،يكاد ال يتجاوز فعلهم املح�سو�س ا ُ
الدنيا، � ْأن ُيقال فيهم :لوال رجا�ؤهم باهلل ،وخوفهم منه فيما يتع َّلق بحياتهم ّ
الدالئل والأوراد رجحوا قراءة ّ ملا �ص ّلوا وال �صاموا ،ولوال �أملهم العاجل ،ملا َّ
املقربني كما يعتقدون ـ على رجحوا اليمني بالأولياء ـ َّ على قراءة القر�آن ،وال َّ
اليمني باهلل.
املنحطة دعوى بع�ض َّ �سهلت يف الأمم الغابرة وهذه احلال ،هي التي َّ
الرعية ،ح َّتى امل�ستبدين الألوهية على مراتب خمتلفة ،ح�سب ا�ستعداد �أذهان َّ ِّ
قد�سية ي�شارك ّ �سيا�سي �إىل الآن �إال وي َّتخذ له �صفة ّ م�ستبد
ٍّ ُيقال� :إ َّنه ما من
مقام ذي عالقة مع اهلل .وال �أق َّل من � ْأن ي َّتخذ بطانة من َ بها اهلل� ،أو تعطيه
أقل ما يعينون به اال�ستبداد، الدين يعينونه على ظلم ال َّنا�س با�سم اهلل ،و� ُّ َخ َد َم ِة ِّ
قوة تفريق الأمم �إىل مذاهب و�شيع متعادية تقاوم بع�ضها بع�ض ًا ،فتتهاتر َّ
فرخ ،وهذه �سيا�سة وي ِّاجلو لال�ستبداد ليبي�ض ُ ال ّأمة ويذهب ريحها ،فيخلو ّ
الإنكليز يف امل�ستعمرات ،ال ُي� ِّؤيدها �شيء مثل انق�سام الأهايل على �أنف�سهم،
و�إفنائهم ب�أ�سهم بينهم ب�سبب اختالفهم يف الأديان واملذاهب.
امل�ستبدين من �أمثال (�أبناء داود) و(ق�سطنطني) يف ن�رش ِّ وي َعلِّ ُلون � َّأن قيام
ُ
الدين بني رعاياهم ،وانت�صار مثل (فيليب ال ّثاين) الأ�سباين و(هرني ال ّثامن) ِّ
الفاطمي
ّ احلاكم وقيام (انكيزي�سيون) جمال�س بت�شكيل ى ت
َّ ح ين، للد
ِّ إنكليزي ال
وفية ،وبنائهم لهم ال�ص ّ وال�سالطني الأعاجم يف الإ�سالم باالنت�صار لغالة ُّ َّ
الدين وببع�ض �أهله املغ َّفلني يكن �إال بق�صد اال�ستعانة مبم�سوخ ِّ ال ّتكايا ،مل ْ
وي� ّؤيدها � َّأن ال ّنا�س امل�ستبد ُ
ّ على ظلم امل�ساكني ،و�أعظم ما يالئم م�صلحة
فيودون ت�أليف ال ّأمة يتل ّقون قواعده و�أحكامه ب�إذعان بدون بحث وجدالّ ،
عينه ،كثرياً ما يحاولون بناء على تل ّقي �أوامرهم مبثل ذلك ،ولهذا الق�صد ْ
�أوامرهم �أو تفريعها على �شي ٍء من قواعد ِّ
الدين.
تنفك متى يني مقارنة ال ُّ والد ّ يا�سي ّال�س ّاال�ستبداد ْينّ :
َ ويحكمون ب� َّأن بني
جر الآخر �إليه� ،أو متى زال ،زال رفيقه ،و� ْإن �صلح� ،أي ُوجِ د �أحدهما يف � ّأمة َّ
35
اال�ستبداد وال ّدين
جداً ال
�ضعف ال ّأول� ،صلح� ،أي �ضعف ال ّثاين .ويقولونَّ � :إن �شواهد ذلك كثري ٌة ّ
ال�سيا�سة الدين �أقوى ت�أثرياً من ّ ويربهنون على � َّأن ّ زمان وال مكانُ . ٌ يخلو منها
بال�سك�سون� ،أي الإنكليز والهولنديني والأمريكان �إ�صالح ًا و�إف�ساداً ،ويمُ ّثلون ّ
ال�سيا�سي الديني يف الإ�صالح ّ حرر ّ الربوت�ستنتية ،ف�أثر ال ّت ّ
ّ والأملان الذين قبلوا
يا�سية يف جمهور الالتني� ،أي ال�س ّ احلر ّية املطلقة ّ والأخالق �أكرث من ت�أثري ّ
ال�سيا�سيون والطليان واال�سبانيول والربتغال .وقد �أجمع الك ّتاب ّ الفرن�سيني ّ
ملد ِّققون ،باال�ستناد على ال ّتاريخ واال�ستقراء ،من � َّأن ما من � ّأمة �أو عائلة ا ُ
ت�شدد فيه �إال واخت َّل نظام دنياه وخ�رس �أوالده الدين �أي َّ �أو �شخ�ص َت َن َّط َع يف ّ
وعقباه.
والدين مي�شيان ال�سيا�سة ّ ال�سيا�سيني يرون � َّأن ّ واحلا�صل � َّأن كل املد ِّققني ّ
الدين هو �أ�سهل و�أقوى و�أقرب طريق للإ�صالح متكات َفينْ ،ويعتربون � َّأن �إ�صالح ّ
ال�سيا�سي.
ّ
الدين يف الإ�صالح ِّ ا�ستخدم أي � امل�سلك، هذا �سلك من ل أو
ّ � كان ورمبا
امل�ستبدين يف حملهم ِّ ملوكهم على لواحتي
َّ حيث اليونان، حكماء ال�سيا�سي ،هم ّ
ال�سيا�سة ب�إحيائهم عقيدة اال�شرتاك يف الألوهية، ّ يف اال�شرتاك قبول على
�أخذوها عن الآ�شوريني ،ومزجوها ب�أ�ساطري امل�رصيني ب�صورة تخ�صي�ص
العدالة ب�إله ،واحلرب ب�إله ،والأمطار ب�إله� ،إىل غري ذلك من ال ّتوزيع ،وجعلوا
وحق الترّ جيح عند وقوع االختالف بينهم. حق ال ّنظارة عليهمّ ، لإله الآلهة ّ
ثم بعد مت ُّكن هذه العقيدة يف الأذهان مبا �أُلب�ست من جاللة املظاهر و�سحر َّ
البيان َ�س ُه َل على �أولئك احلكماء دفعهم ال ّنا�س �إىل مطالبة جبابرتهم بال ّنزول
ال�سماء ،فان�صاع ملوكهم من مقام االنفراد ،وب� ْأن تكون �إدارة الأر�ض ك�إدارة ّ
�إىل ذلك ُم ْكرهني .وهذه هي الو�سيلة العظمى التي م َّكنت اليونان �أخرياً من
الرومان .وهذا الأ�صل مل يزل �إقامة جمهوريات �أثينا و�إ�سبارطة ،وكذلك فعل ّ
املثال القدمي لأ�صول توزيع الإدارة يف احلكومات امللكية واجلمهوريات على
�أنواعها �إىل هذا العهد.
�إنمَّ ا هذه الو�سيلة� ،أي ال َّت�رشيك ،ف�ض ًال عن كونها باطلة يف ذاتهاَ ،ن َت َج عنها
فتحت للم�شعوذين من �سائر طبقات ال ّنا�س باب ًا ْ أ�رض كثرياً ،وذلك �أ َّنهارد فعلٍ � َّ ُّ
�رصفات ُّ ت
ّ وال ة �سي
ْ ّ د ق
ُ ال فاتكال�صّ ألوهية، ل ا خ�صائ�ص من �شيء لدعوى ا
ً وا�سع
36
يتهجم على مثلها غري �أفراد من اجلبابرة ،كنمرود وحية ،وكان قبل ذلك ال ّ الر ّ ُّ
يف. وال�صو ُّّ والبادري
ّ الربهمي
ّ عيها يد
َّ �صار ثم
َّ ومو�سى، وفرعون إبراهيم و�
وملالءمة هذه املف�سدة لطباع الب�رش من وجوه كثرية ـ لي�س بحثنا هذا حم ّلها
امل�ستبدين.
ِّ وعمت وج َّندت جي�ش ًا عرمرم ًا يخدم ـ انت�رشت ّ
وقد جاءت ال ّتوراة بال َّن�شاط ،فخ َّل�صتهم من خمول اال ِّتكال بعد �أن بلغ فيهم
ونبيه يقاتالن عنهم ،وجاءتهم بال ّنظام بعد فو�ضى الأحالم، � ْأن ُيكلِّفوا اهلل ّ
املتعددة باملالئكة، ِّ ورفعت عقيدة ال ّت�رشيكُ ،م�ستبدل ًة ـ مث ًال ـ �أ�سماء الآلهة
ثم جاء الإجنيل ب�سل�سبيل ير�ض ملوك �آل كوهني بال َّتوحيد ف�أف�سدوهَّ . ولكن ،مل َ ْ
الدعة واحل ْلم ،ف�صادف �أفئد ًة حمروق ًة بنار الق�ساوة واال�ستبداد ،وكان �أي�ض ًا ِ ّ
ولكن ،مل ي ْق َو ُدعاته ال َّأولون على تفهيم تلك الأقوام م� ّؤيداً لنامو�س ال ّتوحيدْ ،
أبوة �رصانية قبل الأمم املرت ِّقيةَّ � ،أن ال ّ ّ املنحطة ،الذين بادروا لقبول ال َّن َّ
جمازيتان ُيعبرَّ بهما عن معنى ال يقبله العقل �إال ت�سليم ًا، َّ والبنوة �صفتان ّ
كم�س�ألة القدر التي ورثت الإ�سالمية ال ّتفل�سف فيها عن �أديان اليهود و�أوهام
حقيقي ،لأ ّنه �أقربّ والبنوة مبعنى توالد ّ أبوة
اليونان .ولهذا ،تل َّقت تلك الأمم ال ّ
�إىل مداركهم الب�سيطة التي ي�صعب عليها تناول ما فوق املح�سو�سات ،ولأ ّنهم
كانوا قد �ألفوا االعتقاد يف بع�ض جبابرتهم ال ّأولني �أ َّنهم �أبناء اهلل ،ف َكبرُ َ
ال�سالم �صفة هي دون مقام �أولئك امللوك. عليهم � ْأن يعتقدوا يف مو�سى عليه ّ
تلب�ست ثوب ًا غري ثوبها، ملا انت�رشت ال ّن�رصانية ودخلها �أقوام خمتلفونَّ ، ثم ّ َّ
فتو�سعت بر�سائل بول�س ونحوها ،فامتزجت َّ �سلفتها، التي أديان ل ا �سائر كما
للرومان وامل�رصيني ُم�ضافة على �شعائر الإ�رسائيليني ب�أزياء و�شعائر وثنية ُّ
و�أ�شياء من الأ�ساطري وغريها ،و�أ�شياء من مظاهر امللوك ونحوها .وهكذا
عظم رجال الكهنوت �إىل درجة اعتقاد ال ّنيابة عن اهلل �صارت ال ّن�رصانية ُت ِّ
مما رف�ضه �أخرياً الربوت�ستان، وقوة ال َّت�رشيع ،ونحو ذلك ّ والع�صمة عن اخلط�أ َّ
الراجعني يف الأحكام لأ�صل الإجنيل. �أي ّ
�رصانيةُ ،م� َّؤ�س�س ًا على احلكمة ّ لليهودية وال ّن ّ ثم جاء الإ�سالم مه ِّذب ًا َّ
املتو�سطة ّ يا�سية ال�س
ّّ ّ ة ي احلر لقواعد ا
ً م ِ
ك محُ و ية، ِّ ل ك ُ بال �رشيك ت
ّ لل ا
ً هادم والعزم،
ونزع ك َّل �سلطة دينية َ وحيد، ت
ّ ال �س أ�سالدميوقراطية والأر�ستقراطيةَّ ،
� ف بني ِّ
بية تتح َّكم يف ال ّنفو�س �أو يف الأج�سام ،وو�ضع �رشيعة حكمة �إجمالية �أو تغ ّل ّ
37
اال�ستبداد وال ّدين
38
أر�سل يف املدائنر�أيكم؟ (قالوا) خطاب ًا لفرعون وهو قرارهم�( :أَرجِ ه و�أخاه و� ِ
ثم و�صف مذاكراتهم بقوله تعاىل: حا�رشين * ي�أتوك بك ِّل �ساح ٍر عليم)ّ ،
أ�رسوا النجوى)� ،أي �أف�ضت مذاكراتهم (فتنازعوا �أمرهم)� ،أي ر�أيهم (بينهم و� ُّ
العلنية �إىل ال ّنزاع ف�أجروا مذاكرة �رسية طبق ما يجري �إىل الآن يف جمال�س
ال�شورى العمومية.
تقدم ،ال جمال لرمي الإ�سالمية بت�أييد اال�ستبداد مع ت�أ�سي�سها بناء على ما ًّ
البينات التي منها قوله تعاىل( :و�شاورهم يف الأمر)� ،أي ِّ آيات ل ا مئات على
يف ال�ش�أن ،ومن قوله تعاىل( :يا �أيها الذين �آمنوا �أطيعوا اهلل و�أطيعوا الر�سول
و�أويل الأمر منكم)� ،أي �أ�صحاب الر�أي وال�ش�أن منكم ،وهم العلماء والر�ؤ�ساء
على ما ا َّتفق عليه �أكرث املف�سرِّ ين ،وهم الأ�رشاف يف ا�صطالح ال�سيا�سيني.
أمر فرعون)� ،أي ما �ش�أنه، ومما ي� ِّؤيد هذا املعنى �أي�ض ًا قوله تعاىل( :وما � ُ
وحديث (�أمريي من املالئكة جربيل)� ،أي م�شاوري.
ولي�س بالأمر الغريب �ضياع معنى (و�أُويل الأمر) على كثري من الأفهام
يحرفون ال َك ِل َم عن موا�ضعه ،وقد �أغفلوا معنى بت�ضليل علماء اال�ستبداد الذي ِّ
لتطرق �أفكار امل�سلمني �إىل التفكري ب� ّأن ُّ قيد (منكم)� ،أي امل�ؤمنني منع ًا
التدرج �إىل معنى �آية (�إن اهلل ي�أمر
ثم ُّ الظاملني ال يحكمونهم مبا �أنزل اهللَّ ،
بالعدل)� ،أي بالت�ساوي( ،و�إذا حكمتم بني النا�س �أن حتكموا بالعدل)� ،أي
ثم ينتقل �إىل معنى �آية( :ومن مل يحكم مبا �أنزل اهلل ف�أولئك هم الت�ساويّ ،
ثم ي�ستنتج عدم وجوب طاعة الظاملني و�إن قال بوجوبها بع�ض الكافرون)َّ .
الفقهاء املمالئني دفع ًا للفتنة التي حت�صد �أمثالهم ح�صداً .والأغرب من هذا
ج�سارتهم على ت�ضليل الأفهام يف معنى (�أمر) يف �آية( :و�إذا �أردنا �أن نهلك
فدمرناها تدمرياً) ،ف�إنهم
فحق عليها القول َّ قري ًة �أمرنا مرتفيها فف�سقوا فيها َّ
علواً كبرياً،
مل يبالوا �أن ين�سبوا �إىل اهلل الأمر بالف�سق ...تعاىل اهلل عن ذلك ّ
واحلقيقة يف معنى (�أمرنا) هنا �أ َّنه مبعنى �أمرِنا -بك�رس امليم �أو ت�شديدها -
فحق عليهم العذاب، �أي جعلنا �أمراءها مرتفيها فف�سقوا فيها (�أي ظلموا �أهلها) ّ
�أي (نزل بهم العذاب).
معنى ُعرفي ًا ،وهو احلكم
ً والأغرب من هذا وذاك� ،أ َّنهم جعلوا للفظة العدل
تدل على غري هذا مبقت�ضى ما قاله الفقهاء ،حتى �أ�صبحت لفظة العدل ال ُّ
39
اال�ستبداد وال ّدين
املعنى ،مع � ّأن العدل لغ ًة للت�سوية ،فالعدل بني ال ّنا�س هو الت�سوية بينهم،
وهذا هو املراد يف �آية�( :إن اهلل ي�أمر بالعدل) ،وكذلك الق�صا�ص يف �آية( :ولكم
يف الق�صا�ص حيا ٌة) املتواردة مطلق ًا ،ال املعاقبة باملثل فقط على ما يتبادر
الدين غري الوقوف �إىل �أذهان الأُ�رساء ،الذين ال يعرفون لل ّت�ساوي موقع ًا يف ِّ
بني يدي الق�ضاة.
قبل �شهادتهم ل�سقوط عدالتهم ،فذكروا ح ّتى من عدد الفقهاء من ال ُت َ وقد ّ
ف�سقوا الأمراء
ولكن �شيطان اال�ستبداد �أن�ساهم �أن ُي ِّ ّ ي�أكل ما�شي ًا يف الأ�سواق،
فريدوا �شهادتهم .ولع ّل الفقهاء ُيع َذرون ب�سكوتهم هنا مع ت�شنيعهم الظاملني ّ
على الظاملني يف مواقع �أخرى ،ولكن ،ما عذرهم يف حتويل معنى الآية:
(ولتكن منكم � ّأم ٌة يدعون �إىل اخلري وي�أمرون باملعروف وينهون عن املنكر)
�إىل � ّأن هذا الفر�ض هو فر�ض كفاية ال فر�ض عني؟ واملراد منه �سيطرة �أفراد
امل�سلمني بع�ضهم على بع�ض ،ال �إقامة فئة ت�سيطر على حكامهم كما اهتدت
فخ�ص�صت منها جماعات با�سم جمال�س ّنواب، ّ �إىل ذلك الأمم املوفقة للخري،
وظيفتها ال�سيطرة واالحت�ساب على الإدارة العمومية :ال�سيا�سية واملالية
والت�رشيعية ،فتخ ّل�صوا بذلك من �ش�آمة اال�ستبداد� .ألي�ست هذه ال�سيطرة وهذا
االحت�ساب ب�أهم من ال�سيطرة على الأفراد؟ ومن يدري من �أين جاء فقهاء
اال�ستبداد بتقدي�س احل ّكام عن امل�س�ؤولية حتى �أوجبوا لهم احلمد �إذا عدلوا،
وعدوا ك ّل معار�ضة لهم بغي ًا يبيح دماء ال�صرب عليهم �إذا ظلمواّ ، و�أوجبوا ّ
املعار�ضني؟!
الدين الذي �أنزلت ،فال امل�ستبدين و�رشكاءهم قد جعلوا دينك غري ِّ ِّ اللهمّ � ،إن
قوة �إال بك!
حول وال ّ
كذلك ما ُعذر ال�صوفية الذين جعلتهم الإنعامات على زاوياتهم �أن يقولوا:
ولي ًا من �أولياء اهلل ،وال ي�أتي �أمراً �إال ب�إلهام من اهلل، ال يكون الأمري الأعظم �إال ّ
ويت�رصف قطب الغوث باطن ًا! �أال �سبحان اهلل َّ يت�رصف يف الأمور ظاهراً، َّ و�إنه
ما �أحلمه!
حيث �أر�سل لهم ر�سو ًال من �أنف�سهم
نعم ،لوال ُحلم اهلل خل�سف الأر�ض بالعربُ ،
� ّأ�س�س لهم �أف�ضل حكومة �أُ ِّ�س َ�ست يف ال ّنا�س ،جعل قاعدتها قوله( :ك ُّلكم ٍ
راع
�سلطان عام وم�س�ؤول عن الأمة .وهذه ٌ رعيته)� ،أي ك ٌّل منكم
ؤول عن ّ وك ُّلكم م�س� ٌ
40
م�رشع �سيا�سي من الأولني والآخرين، اجلملة التي هي �أ�سمى و�أبلغ ما قاله ِّ
حرف املعنى عن ظاهره وعموميته� ،إىل � َّأن امل�سلم فجاء من املنافقني من َّ
حرفوا معنى الآية( :وامل�ؤمنون راع على عائلته وم�س�ؤول عنها فقط .كما َّ ٍ
أولياء بع�ض) على والية ال�شهادة دون الوالية العامة. ُ � هم بع�ض
ُ ؤمنات � وامل
الدين ،وطم�سوا على العقول حتى جعلوا ِّ لوا وبد
َّ اللغة، مفهوم وهكذا غيرّ وا
احلرية ،بل جعلوهم ال يعقلون كيف حتكم ّ ال ّنا�س ين�سون لغة اال�ستقالل ،وع ّزة
� ّأم ٌة نف�سها بنف�سها دون �سلطانٍ قاهر.
وك� ّأن امل�سلمني مل ي�سمعوا بقول ال ّنبي عليه ال�سالم( :ال ّنا�س �سوا�سية
أ�صح
لعربي على �أعجمي �إال بال ّتقوى) .وهذا احلديث � ُّ ٍّ ك�أ�سنان امل�شط ،ال ف�ضل
الأحاديث ملطابقته للحكمة وجميئه مف�سرِّ اً الآية (� َّإن �أكرمكم عند اهلل �أتقاكم)
ف� َّإن اهلل ج َّل �ش�أنه �ساوى بني عباده م�ؤمنني وكافرين يف املكرمة بقوله:
ثم جعل الأف�ضلية يف الكرامة للم َّتقني فقط .ومعنى بني �آدم) َّ
كرمنا َ (ولقد َّ
ال َّتقوى لغ ًة لي�س كرثة العبادة ،كما �صار �إىل ذلك حقيقة ُعرفية غر�سها علماء
اال�ستبداد القائلني يف تف�سري (عند اهلل)� ،أي يف الآخرة دون الدنيا ،بل ال َّتقوى
لغ ًة هي اال ِّتقاء� ،أي االبتعاد عن رذائل الأعمال احرتازاً من عقوبة اهلل .فقوله:
(� َّإن �أكرمكم عند اهلل �أتقاكم) كقولهَّ � :إن �أف�ضل ال ّنا�س �أكرثهم ابتعاداً عن الآثام
و�سوء عواقبها.
احلرية برفعها ك ّل تقدم � َّأن الإ�سالمية م�ؤ�س�سة على �أ�صول ّ وقد ظهر مما َّ
وبح�ضها على
ِّ �سيطرة وحت ُّكم ،ب�أمرها بالعدل وامل�ساواة والق�سط والإخاء،
ال�شورى الأري�ستوقراطية، الإح�سان والتحابب .وقد جعلت �أ�صول حكومتهاّ :
�أي �شورى �أهل احل ِّل والعقد يف الأمة بعقولهم ال ب�سيوفهم .وجعل �أ�صول
�إدارة الأمة :الت�رشيع الدميوقراطي� ،أي اال�شرتاكي ح�سبما ي�أتي فيما بعد .وقد
مت
م�ضى عهد النبي (عليه ال�سالم) وعهد اخللفاء الرا�شدين على هذه الأ�صول ب�أ ّ
و�أكمل �صورها .ومن املعلوم �أ ّنه ال يوجد يف الإ�سالمية نفوذ ديني مطلق ًا يف
غري م�سائل �إقامة �شعائر الدين ،ومنها القواعد العامة الت�رشيعية التي ال تبلغ
امل�رشعون من قبل ِّ وحكم ،ك ُّلها من � َأج ّل و�أح�سن ما اهتدى �إليه مائة قاعدة ُ
احلر ،احلكيم ،ال�سهل ،ال�سمح ،الظاهر ومن بعد .ولكن ،وا�أ�سفاه على هذا الدين ّ
فيه �آثار الرقي على غريه من �سوابقه ،الدين الذي رفع الإ�رص والأغالل،
41
اال�ستبداد وال ّدين
و�أباد امليزة واال�ستبداد .الدين الذي ظلمه اجلاهلون ،فهجروا حكمة القر�آن
الدين الذي فقد الأن�صار الأبرار واحلكماء الأخيار، ودفنوها يف قبور الهوانّ .
ف�سطا عليه امل�ستبدون واملرت�شحون لال�ستبداد ،وا َّتخذوا و�سيلة لتفريق
ف�ضيعوا مزاياه،�شيع ًا ،وجعلوه �آلهة لأهوائهم ال�سيا�سيةّ ،
الكلمة وتق�سيم الأمة َ
وحيرّ وا �أهله بالتقريع والتو�سيع ،والت�شديد والت�شوي�ش ،و�إدخال ما لي�س منه
يتوهم
فيه كما فعل قبلهم �أ�صحاب الأديان ال�سائرة ،حتى جعلوه دين ًا حرج ًا ّ
ن�سب ال�سم �إ�سالمي هودونه املتفننون بني د َّفتي كتاب ُي َ
النا�س فيه � َّأن ك َّل ما ّ
من الدين ،ومبقت�ضاها �أنه ال يقوى على القيام بواجباته و�آدابه ومزيداته� ،إال
من ال عالقة له باحلياة الدنيا ،بل �أ�صبحت مبقت�ضاها حياة الإن�سان الطويل
العمر ،العاطل عن ك ِّل عمل ،ال تفي بتع ُّلم ما هي الإ�سالمية عجزاً عن متييز
ال�صحيح من الباطل من تلك الآراء املت�شعبة التي �أطال �أهلها فيها اجلدال
واملناظرة ،وما افرتقوا �إال وك ٌّل منهم يف موقفه الأول يظهر �أنه �ألزم خ�صمه
احلجة و�أ�سكته بالربهان ،واحلقيقة � َّأن ك ًال منهم قد �سكت تعب ًا وكال ًال من ّ
امل�شاغبة.
الدين مناف�سو املجو�س ،انفتح على ال ّأمة وبهذا ال ّت�شديد الذي �أدخله على ّ
التلوم على النف�س ف�ض ًال عن حما�سبة احلكام املنوط بهم قيام العدل باب ّ
وال ِّنظام .وهذا الإهمال للمراقبة ،هو �إهمال الأمر باملعروف وال ّنهي عن املنكر،
وقد �أو�سع لأمراء الإ�سالم جمال اال�ستبداد وجتاوز احلدود .وبهذا وذاك ظهر
لي�ستعملن اهلل عليكم
ّ ولتنهون عن املنكر �أو
ّ أمرن باملعروف
ُحكم حديث( :لت� ّ
�رشاركم فلي�سومونكم �سوء العذاب) ،و�إذا تتبعنا �سرية �أبي بكر وعمر ر�ضي اهلل
مفطورين خري فطرة ،ونائلني الرتبية َ عنهما مع ال ّأمة ،جند �أ ّنهما مع كونهما
النبوية ،مل ترتك الأمة معهما املراقبة واملحا�سبة ،ومل تطعهما طاع ًة عمياء.
وقد جمع بع�ضهم جملة مما اقتب�سه و�أخذه امل�سلمون عن غريهم ،ولي�س
هو من دينهم بال ّنظر �إىل القر�آن واملتواترات من احلديث و�إجماع ال�سلف
الأول فقال:
(اقتب�سوا) من الن�رصانية مقام البابوية با�سم الغوثية ،و(�ضاهوا) يف
الأو�صاف والأعداد �أو�صاف و�أعداد البطارقة ،والكردينالية وال�شهداء
والأ�ساقفة ،و(حاكوا) مظاهر القدي�سني وعجائبهم ،والدعاة املب�شرّ ين
42
والرهبنات ور�ؤ�سائها ،وحالة الأديرة وبادريتها .والرهبنات و�صربهمّ ،
الرق�ص علىواحلمية وتوقيتها ،و(ق ّلدوا) الوثنيني الرومانيني يف ّ َّ ور�سومها
�أنغام الناي والتغايل يف تطييب املوتى واالحتفال الزائد يف اجلنائز وت�رسيح
الذبائح معها ،وتكليلها وتكليل القبور بالزهور .و(�شاكلوا) مرا�سم الكنائ�س
وزينتها ،والب َِيع واحتفاالتها ،والرت ّنحات ووزنها ،والرتنمُّ ات و�أ�صولها،
الرحال لزيارتها ،والإ�رساج عليها، و�شد ِّ
ّ و�إقامة الكنائ�س على القبور،
التربك بالآثار :كالقدحواخل�ضوع لديها ،وتعليق الآمال ب�سكانها .و(�أخذوا) ّ
واحلربة والد�ستار ،من احرتام الذخرية وقد�سية العكاز ،وكذلك �إمرار اليد على
ال�صدر عند ذكر ال�صاحلني ،من �إمرارها على ال�صدر لإ�شارة ال�صليب .و(انتزعوا) ّ
وال�سقيا
ّ �سم،الر
ّ من واخلالفة احللول، من الوجود ووحدة ، ال�رس
ّ من احلقيقة
من تناول القربان ،واملولد من امليالد ،وحفلته من الأعياد ،ورفع الأعالم من
امل�صدرة بال ّنداء على اجلدران من تعليق
َّ حمل ال�صلبان ،وتعليق �ألواح الأ�سماء
انحناء �أمام
ً التوجه بالقلوب
ّ ال�صور والتماثيل ،واال�ستفا�ضة واملراقبة من ّ
وال�س َّنة كحظر الكاثوليك
ُ الكتاب ن�صو�ص من اال�ستهداء و(منعوا) أ�صنام. ال
الدليل من التوراة التفهم من الإجنيل ،وامتناع �أحبار اليهود عن �إقامة ّ ّ
يف الأحكام .و(جاءوا) من املجو�سية با�ستطالع الغيب من الفلك ،وبخ�شية
�أو�ضاع الكواكب وبا ِّتخاذ �أ�شكالها �شعاراً للملك ،وباحرتام النار ومواقدها.
و(ق ّلدوا) البوذيني حرف ًا بحرف يف الطريق والريا�ضة وتعذيب اجل�سم بالنار
ودق الطبول وال�صنوج باحليات والعقارب و�رشب ال�سمومّ ، ّ وال�سالح ،واللعب
وجعل رواتب من الأدعية والأنا�شيد والأحزاب ،واعتقاد ت�أثري العزائم ونداء
الأ�سماء وحمل التمائم� ،إىل غري ذلك مما هو ُم�شاهد يف بوذيي الهند وجمو�س
وال�سند �إىل يومنا هذا .وقد قيل �إ ّنه نقله �إىل الإ�سالمية :جون و�ست، فار�س ّ
و�سلطان علي منال ،والبغدادي ،وحا�شية فالن ال�شيخ وفالن الفار�سي ،على
� ّأن �إ�سناد ذلك �إىل �أ�شخا�ص معينني يحتاج �إىل تثبيت .و(ل َّفقوا) من الأ�ساطري
�سموها لدنيات.
والإ�رسائيليات �أنواع ًا من القربات ،وعلوم ًا ّ
كذلك ُيقال عن مبتدعي الن�صارى ،من � ّأن �أكرث ما اعتربه املت�أخرون
منهم من ال�شعائر الدينية -حتى م�شكلة التثليث -ال �أ�صل له فيما ورد عن
بتدع وكثريهانف�س امل�سيح عليه ال�سالم� ،إمنا هو مزيدات وترتيبات قليلها ُم َ
43
اال�ستبداد وال ّدين
44
ال�سلف قو ًال جمم ًال من �أ َّنها ق�صور الطاقة عن الإتيان مبثله يف فيها بع�ض ّ
الروم بعد غلبهم �سيغلبون .مع �أنه لو ف�صاحته وبالغته ،و�أ ّنه �أخرب عن � ّأن ّ
ُفتح للعلماء ميدان التدقيق وحرية الر�أي والت�أليف ،كما �أُطلق عنان التخريف
لأهل الت�أويل واحلُكم ،لأظهروا يف �ألوف من �آيات القر�آن �ألوف �آيات الإعجاز،
ولر�أوا فيه ك ّل يوم �آية تتجدد مع الزمان واحلدثان تربهن �إعجازه ب�صدق
كتاب مبني) وجلعلوا الأمة ت�ؤمن ب�إعجازه ياب�س �إال يف ٍ
طب وال ٍ قوله( :وال َر ٍ
عن برهان وعيان ال جمرد ت�سليم و�إذعان.
ومثال ذلكَّ � :أن العلم ك�شف يف هذه القرون الأخرية حقائق وطبائع كثرية
ُتعزى لكا�شفيها وخمرتعيها من علماء �أوروبا و�أمريكا ،واملدقق يف القر�آن
يجد �أكرثها ورد به ال ّت�رصيح �أو التلميح يف القر�آن منذ ثالثة ع�رش قرن ًا ،وما
بقيت م�ستورة حتت غ�شاء من اخلفاء �إال لتكون عند ظهورها معجزة للقر�آن
رب ال يعلم الغيب �سواه ،ومن ذلك �أ ّنهم قد ك�شفوا � ّأن مادة �شاهدة ب�أ ّنه كالم ٍّ
(ثم ا�ستوى �إىل ال�سماء الكون هي الأثري ،وقد و�صف القر�آن بدء التكوين فقالَّ :
وهي دخان) وك�شفوا � ّأن الكائنات يف حركة دائمة دائبة والقر�آن يقول( :و�آي ٌة
فلك ي�سبحون). لهم الأر�ض امليت ُة �أحييناها) �إىل �أن يقول( :وك ٌّل يف ٍ
ال�سموات وحققوا � َّأن الأر�ض منفتقة يف النظام ال�شم�سي ،والقر�آن يقولَّ �( :أن ّ
والأر�ض كانتا رتق ًا ففتقناهما).
من�شق من الأر�ض ،والقر�آن يقول�( :أفال يرون �أ ّنا ن�أتي ٌّ وحققوا � َّأن القمر
وان�شق القمر).
َّ ال�ساعة ِ
(اقرتبت ّ الأر�ض ننق�صها من �أطرافها) .ويقول:
وحققوا � َّأن طبقات الأر�ض �سبع ،والقر�آن يقول( :اهلل الذي خلق �سبع
�سموات ومن الأر�ض مثلهن) ٍ
جتوحققوا �أ ّنه لوال اجلبال القت�ضى ال ّثقل النوعي �أن متيد الأر�ض� ،أي تر ّ
روا�سي �أن متيد بكم).
َ يف دورتها ،والقر�آن يقول( :و�ألقى يف الأر�ض
وك�شفوا � َّأن �رس الرتكيب الكيماوي -بل واملعنوي -هو تخالف ن�سبة
(وكل �شي ٍء عنده مبقدار).
املقادير و�ضبطها ،والقر�آن يقولُّ :
وك�شفوا � َّأن للجمادات حياة قائمة مباء التبلور والقر�آن يقول( :وجعلنا من
املاء ك َّل �شي ٍء حي).
وحققوا � ّأن العامل الع�ضوي ،ومنه الإن�سان ،تر ّقى من اجلماد ،والقر�آن
45
اال�ستبداد وال ّدين
ٍ
�ساللة من طني). يقول( :ولقد خلقنا الإن�سان من
وك�شفوا نامو�س اللقاح العام يف النبات ،والقر�آن يقول( :خلق الأزواج
نبات �ش ّتى) ،ويقول: ك ّلها مما تنبت الأر�ض) ويقول( :ف�أخرجنا به �أزواج ًا من ٍ
زوج بهيج) .ويقول( :ومن ك ِّل الثمرات جعل فيها زوجني وربت من ك ِّل ٍ (اهت ّزت َ
اثنني).
الظل� ،أي الت�صوير ال�شم�سي ،والقر�آن يقول�( :أمل َت َر وك�شفوا طريقة �إم�ساك ِّ
م�س عليه دلي ًال).ال�ش َ
ثم جعلنا ّ الظ َّل ولو �شاء جلعله �ساكن ًا َّ
مد ِّ ربك كيف َّ �إىل ِّ
ال�سفن واملركبات بالبخار والكهرباء والقر�آن يقول ،بعد وك�شفوا ت�سيري ّ
ذكره الدواب واجلواري بالريح( :وخلقنا لهم من مثله ما يركبون).
وك�شفوا وجود امليكروب ،وت�أثريه وغريه من الأمرا�ض ،والقر�آن يقول:
بحجارة من ٍ (و�أر�سل عليهم طرياً �أبابيل)� ،أي متتابعة متجمعة (ترميهم
�سجيل)� ،أي من طني امل�ستنقعات الياب�س� .إىل غري ذلك من الآيات الكثرية ّ
املحققة لبع�ض مكت�شفات علم الهيئة والنوامي�س الطبيعية .وبالقيا�س على ما
�رسها يف امل�ستقبل يف وقتها تقدم ذكره ،يقت�ضي � َّأن كثرياً من �آياته �سينك�شف ُّ َّ
كر اجلديدان ،فال َّ وما الزمان مادام الغيب يف اعم ّ إعجازه ل ً ا جتديد املرهون،
ُب َّد �أن ي�أتي يوم يك�شف العلم فيه � َّأن اجلمادات �أي�ض ًا تنمو باللقاح كما ت�شري
�إىل ذلك �آية (ومن ك ِّل �شي ٍء خلقنا زوجني).
46
اال�ستبداد والعلم
يت�رصف يف ّ بالو�صي اخلائن القوي،
ّ امل�ستبد يف ن�سبته �إىل رعيته
َّ ما �أ�شبه
�أموال الأيتام و�أنف�سهم كما يهوى ما داموا �ضعاف ًا قا�رصين ،فكما �أ ّنه لي�س من
تتنور
امل�ستبد �أن ّ
ّ الو�صي �أن يبلغ الأيتام ر�شدهم ،كذلك لي�س من غر�ض ّ �صالح
الرعية بالعلم.
امل�ستبد ،مهما كان غبياًْ � ،أن ال ا�ستعباد وال اعت�ساف �إال
ّ ال يخفى على
امل�ستبد طرياً
ُّ الرعية حمقاء تخبط يف ظالمة جهل وتيه عماء ،فلو كان مادامت ّ
لكان خ ّفا�ش ًا ي�صطاد هوام العوام يف ظالم اجلهل ،ولو كان وح�ش ًا لكان ابن
�آوى يتل ّقف دواجن احلوا�رض يف غ�شاء الليل ،ولك ّنه هو الإن�سان ي�صيد عالمِ َه
جاه ُل ُه.
ك�شاف ًا مب�رصاً ،يو ّلد يف النفو�س
العلم قب�س ٌة من نور اهلل ،وقد خلق اهلل ال ّنور ّ
حرار ًة ويف الر�ؤو�س �شهامةً ،العلم نور والظلم ظالم ،ومن طبيعة ال ّنور تبديد
الظالم ،واملت�أمل يف حالة ك ِّل رئي�س ومر�ؤو�س يرى ك َّل �سلطة الرئا�سة تقوى ّ
وت�ضعف بن�سبة نق�صان علم املر�ؤو�س وزيادته.
يقوم الل�سان و�أكرثها
امل�ستبد ال يخ�شى علوم اللغة ،تلك العلوم التي بع�ضها ّ ُّ
هزل وهذيان ي�ضيع به الزمان ،نعم ،ال يخاف علم اللغة �إذا مل يكن وراء الل�سان ٌ
47
اال�ستبداد والعلم
حكمة حما�س تعقد الألوية� ،أو �سحر بيان يح ُّل عقد اجليو�ش ،لأنه يعرف � ّأن
ني ب�أن تلد الأمهات كثرياً من �أمثال :الكميت وح�سان �أو مونتي�سكيو الزمان �ضن ٌ
و�شيللر.
امل�ستبد من العلوم الدينية املتعلِّقة باملعاد ،املخت�صة ما
ُّ وكذلك ال يخاف
يتلهى
بني الإن�سان وربه ،العتقاده �أ ّنها ال ترفع غباو ًة وال تزيل غ�شاوة� ،إمنا ّ
املتهو�سون للعلم ،حتى �إذا �ضاع فيها عمرهم ،وامتلأتها �أدمغتهم ،و�أخذ ِّ بها
امل�ستبد منهم
ُّ منهم الغرور ،ف�صاروا ال يرون علم ًا غري علمهم ،فحينئ ٍذ ي�أمن
ال�سكران �إذا خمر .على �أ ّنه �إذا نبغ منهم البع�ض ونالوا حرمة بني �رش ّ كما ُي�ؤمن ُّ
امل�ستبد و�سيلة ال�ستخدامها يف ت�أييد �أمره وجماراة هواه يف ّ العوام ال يعدم
ٍ
وي�سد �أفواههم بلقيمات من مائدة ُّ مقابلة �أ ّنه ي�ضحك عليهم ب�شيء من التعظيم،
اال�ستبداد ،وكذلك ال يخاف من العلوم ال�صناعية حم�ضاً ،ل ّأن �أهلها يكونون
امل�ستبد بقليل من املالُّ م�ساملني �صغار ال ّنفو�س� ،صغار الهمم ،ي�شرتيها
والإعزاز ،وال يخاف من املاديني ،ل ّأن �أكرثهم مبتلون ب�إيثار ال ّنف�س ،وال من
الريا�ضيني ،ل ّأن غالبهم ق�صار النظر.
امل�ستبد من علوم احلياة مثل احلكمة النظرية ،والفل�سفة ُّ ترتعد فرائ�ص
املف�صل،
ّ العقلية ،وحقوق الأمم وطبائع االجتماع ،وال�سيا�سة املدنية ،والتاريخ
وتو�سع العقول،
ّ واخلطابة الأدبية ،ونحو ذلك من العلوم التي ُتكرب النفو�س،
وتعرف الإن�سان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها ،وكيف الطلب ،وكيف ال ّنوال، ّ
امل�ستبد من �أ�صحاب هذه العلوم ،املندفعني ّ يخاف ما أخوف � و احلفظ. وكيف
منهم لتعليم ال ّنا�س اخلطابة �أو الكتابة وهم املعبرَّ عنهم يف القر�آن بال�صاحلني
عبادي ال�صاحلون) ويف َ وامل�صلحني يف نحو قوله تعاىلّ �( :أن الأر�ض يرثها
بظلم و�أهلها م�صلحون) ،و� ْإن كان علماء ربك ليهلك القرى ٍ قوله( :وما كان ُّ
حولوا معنى مادة التعبد كما ّاال�ستبداد يف�سرِّ ون مادة ال�صالح والإ�صالح بكرثة ُّ
الف�ساد والإف�ساد :من تخريب نظام اهلل �إىل الت�شوي�ش على امل�ستبدين.
امل�ستبد يخاف من ه�ؤالء العاملني الرا�شدين املر�شدين ،ال ّ واخلال�صةَّ � :أن
حمفوظات كثرية ك�أ ّنها مكتبات
ٌ من العلماء املنافقني �أو الذين حفر ر�ؤو�سهم
مقفلة!
العلم ونتائجه ،يبغ�ضه �أي�ض ًا لذاته ،لأن للعلم �سلطان ًا
امل�ستبد َ ُّ كما يبغ�ض
48
للم�ستبد من �أن ي�ستحقر نف�سه كلما وقعت عينه على ِّ بد
�أقوى من ك ِّل �سلطان ،فال َّ
امل�ستبد �أن يرى وجه عا ٍمل عاقل يفوقُّ يحب
من هو �أرقى منه علماً .ولذلك ال ُّ
عليه فكراً ،ف�إذا ا�ضطر ملثل الطبيب واملهند�س يختار الغبي املت�صاغر املتملِّق.
وعلى هذه القاعدة بنى ابن خلدون قوله( :فاز املتملقون) ،وهذه طبيعة ك ِّل
املتكربين ،بل يف غالب النا�س ،وعليها مبنى ثنائهم على ك ِّل من يكون م�سكين ًا
ل�رش.
خام ًال ال ُيرجى خل ٍري وال ٍّ
تقدم � َّأن بني اال�ستبداد والعلم حرب ًا دائم ًة وطراداً م�ستمراً :ي�سعى وينتج مما َّ
امل�ستبد يف �إطفاء نورها ،والطرفان يتجاذبانُّ العلماء يف تنوير العقول ،ويجتهد
العوام .ومن هم العوام؟ هم �أولئك الذين �إذا جهلوا خافوا ،و�إذا خافوا ا�ست�سلموا،
كما �أ َّنهم هم الذين متى علموا قالوا ،ومتى قالوا فعلوا.
امل�ستبد و ُق ْو ُت ُه .بهم عليهم ي�صول ويطول ،ي�أ�رسهم فيتهللون ُّ العوام هم قوة
ل�شوكته ،ويغ�صب �أموالهم فيحمدونه على �إبقائه حياتهم ،ويهينهم فيثنون على
رفعته ،ويغري بع�ضهم على بع�ض فيفتخرون ب�سيا�سته ،و�إذا �أ�رسف يف �أموالهم
يقولون كرمياً ،و�إذا قتل منهم مل مي ِّثل يعتربونه رحيماً ،وي�سوقهم �إىل خطر
املوت ،فيطيعونه حذر التوبيخ ،و�إن نقم عليه منهم بع�ض الأباة قاتلهم ك�أنهم
ُبغاة.
واحلا�صل � َّأن العوام يذبحون �أنف�سهم ب�أيديهم ب�سبب اخلوف النا�شئ عن
وتنور العقل زال اخلوف ،و�أ�صبح النا�س ال اجلهل والغباوة ،ف�إذا ارتفع اجلهل َّ
ينقادون طبع ًا لغري منافعهم ،كما قيل :العاقل ال يخدم غري نف�سه ،وعند ذلك ال
امل�ستبد اللئيم
َّ للم�ستبد من االعتزال �أو االعتدال .وكم �أجربت الأمم برت ّقيها ِّ بد
َّ
على الرت ّقي معها واالنقالب -رغم طبعه� -إىل وكيلٍ �أمني يهاب احل�ساب،
حليم يتلذذ بالتحابب .وحينئ ٍذ تنال الأمة ورئي�س عادل يخ�شى االنتقام ،و� ٍأب ٍ ٍ
حظ الرئي�س من ر�ضية هنية ،حياة رخاء ومناء ،حياة ع ّز و�سعادة ،ويكون ّ حيا ًة ّ
ذلك ر�أ�س احلظوظ ،بعد �أن كان يف دور اال�ستبداد �أ�شقى العباد ،لأنه على الدوام
ملحوظ ًا بالبغ�ضاء ،حماط ًا بالأخطار ،غري �أمني على ريا�سته ،بل وعلى حياته
قط �أمامه من ي�سرت�شده فيما يجهل ،ل َّأن الواقف بني طرفة عني ،ولأنه ال يرى ّ
بد �أن يهابه ،في�ضطرب باله ،فيت�شو�ش فكره، يديه مهما كان عاق ًال متيناً ،ال َّ
ويخت ّل ر�أيه ،فال يهتدي على ال�صواب ،و�إن اهتدى فال يج�رس على الت�رصيح به
49
اال�ستبداد والعلم
امل�ستبد ،ف�إن ر�آه مت�صلِّب ًا فيما يراه فال ي�سعه �إال ت�أييده را�شداً ّ قبل ا�ستطالع ر�أي
احلق:
هياب فهو ك َّذاب ،والقول ُّ يدعي �أ َّنه غري ّغياً ،وك ُّل م�ست�شار غريه َّ كان �أو ّ
امل�ستبد قطُّ من ر�أيُّ بناء عليه ،ال ي�ستفيد � َّإن ال�صدق ال يدخل ق�صور امللوكً ،
وعذاب وخوف ،وكفى بذلك انتقام ًا منه على ٍ ٍ
وتردد غريه ،بل يعي�ش يف �ضالل
ا�ستعباده ال ّنا�س وقد خلقهم ربهم �أحراراً.
امل�ستبد من نقمة رعيته �أكرث من خوفهم من ب�أ�سه ،ل َّأن خوفه ّ � َّإن خوف
ين�ش�أ عن علمه مبا ي�ستح ُّقه منهم ،وخوفهم نا�شئ عن جهل ،وخوفه عن عج ٍز
توهم التخاذل فقط ،وخوفه على فقد حياته و�سلطانه، حقيقي فيه ،وخوفهم عن ّ
وخوفهم على لقيمات من ال ّنبات وعلى وطنٍ ي�ألفون غريه يف �أيام ،وخوفه على
حياة تعي�سة فقط.ك ِّل �شيء حتت �سماء ملكه ،وخوفهم على ٍ
رعيته وح ّتى من حا�شيته، امل�ستبد ظلم ًا واعت�ساف ًا زاد خوفه من ّ ُّ كلما زاد
امل�ستبد باجلنون ال ّتام. ِّ وحتى ومن هواج�سه وخياالته .و�أكرث ما ُتختم حياة
قط ،لنفوره من البحث عن احلقائق، امل�ستبد ال يخلو من احلمق َّّ قلت( :التام) ل ّأن
و�إذا �صادف وجود م�ستب ٍّد غري �أحمق في�سارعه املوت قهراً �إذا مل ي�سارعه
وقلت� :إنه يخاف من حا�شيته ،ل َّأن �أكرث ما يبط�ش بامل�ستبدين اجلنون �أو العتهُ ،
حوا�شيهم ،ل َّأن ه�ؤالء �أ�شقى خلق اهلل حيا ًة ،يرتكبون ك َّل جرمي ٍة وفظيعة حل�ساب
امل�ستبد الذي يجعلهم مي�سون وي�صبحون خمبولني م�رصوعنيُ ،يجهدون الفكر ِّ
ي�رصح .فكم ينقم عليهم ِّ أو � يطلب أن � بدون فعله منهم يريد ما ا�ستطالع يف
ملجرد �أنهم ال يعلمون الغيب ،ومن ذا الذي يعلم الغيب ،الأنبياء َّ ويهينهم
يل ،وال نبي وال و ٌّ
والأولياء؟ وما ه�ؤالء �إال �أ�شقياء� ،أ�ستغفرك اللهم! ال يعلم غيبك ٌّ
احلق( :فال يظن �صدقه �إ ّال مغ َّفل ،ف�إ َّنك اللهم قلت وقولك ّ دجال ،وال ُّ يدعي ذلك �إ ّال ّ ّ
علمت اخلري ال�ستكرثت منه). يظهر على غيبه �أحداً) و�أف�ضل �أنبيائك يقول( :لو ُ
م�ستبدين
َّ من قواعد امل� ِّؤرخني املدققنيَّ � :إن �أحدهم �إذا �أراد املوازنة بني
كنريون وتيمور مثالً ،يكتفي �أن يوازن درجة ما كانا عليه من التح ُّذر والتح ُّفظ.
و�إذا �أراد املفا�ضلة بني عادلني ك�أنو �رشوان وعمر الفاروق ،يوازن بني مرتبتي
�أمنهما يف قوميهما.
ملا كانت �أكرث الديانات م�ؤ�س�سة على مبد�أي اخلري وال�رش كالنور والظالم،
أ�رض �شيء وال�شم�س وزحل ،والعقل وال�شيطان ،ر�أت بع�ض الأمم الغابرة � َّأن � َّ
50
أ�رض �آثار اجلهل هو اخلوف ،فعملت هيك ًال خم�ص�ص ًا على الإن�سان هو اجلهل ،و� ّ
ل�رشه.
اتقاء ِّ للخوف ُيعبد ً
امل�ستبد يف ك ِّل زمان هو
ِّ قال �أحد املحررين ال�سيا�سيني� :إين �أرى ق�رص
هيكل اخلوف عينه :فامللك اجلبار هو املعبود ،و�أعوانه هم الكهنة ،ومكتبته
املقد�س ،والأقالم هي ال�سكاكني ،وعبارات التعظيم هي ال�صلوات، هي املذبح َّ
قدمون قرابني اخلوف ،وهو �أهم النوامي�س الطبيعية والنا�س هم الأ�رسى الذين ُي َّ
يف الإن�سان ،والإن�سان يقرب من الكمال يف ن�سبة ابتعاده عن اخلوف ،وال و�سيلة
لتخفيف اخلوف �أو نفيه غري العلم بحقيقة املخيف منه ،وهكذا �إذا زاد علم �أفراد
امل�ستبد امر�ؤٌ عاجز مثلهم ،زال خوفهم منه وتقا�ضوه حقوقهم. َّ الرعية ب� ّأن
ويقول �أهل النظرَّ � :إن خري ما ي�ستبدل به على درجة ا�ستبداد احلكومات،
هو تغاليها يف �شن�آن امللوك ،وفخامة الق�صور ،وعظمة احلفالت ،ومرا�سيم
الت�رشيفات ،وعالئم ال َّأبهة ،ونحو ذلك من التمويهات التي ي�سرتهب بها امللوك
امل�ستبد كما
ُّ رعاياهم عو�ض ًا عن العقل واملفاداة ،وهذه التمويهات يلج�أ �إليها
ال�صدق لليمني ،وقليل املال للت�صوف ،وقليل ِّ ُّ يلج�أ قليل الع ِّز للتكبرُّ ،وقليل العلم
لزينة اللبا�س.
�ستدل على عراقة الأمة يف اال�ستعباد �أو احلرية ويقولون� :إ َّنه كذلك ُي ُّ
با�ستنطاق لغتها ،هل هي قليلة �ألفاظ التعظيم كالعربية مثالً؟ �أم هي غنية يف
عبارات اخل�ضوع كالفار�سية ،وكتلك اللغة التي لي�س فيها بني املتخاطبني �أنا
و�أنت ،بل �سيدي وعبدكم؟!
واخلال�صة � َّأن اال�ستبداد والعلم �ضدان متغالبان ،فك ُّل �إدارة م�ستبدة ت�سعى
جهدها يف �إطفاء نور العلم ،وح�رص الرعية يف حالك اجلهل .والعلماء احلكماء
الذين ينبتون �أحيان ًا يف م�ضايق �صخور اال�ستبداد ي�سعون جهدهم يف تنوير
�أفكار ال ّنا�س ،والغالب � َّأن رجال اال�ستبداد ُيطاردون رجال العلم وينكلون بهم،
فال�سعيد منهم من يتم ّكن من مهاجرة دياره ،وهذا �سبب � َّأن ك َّل الأنبياء العظام
-عليهم ال�صالة وال�سالم و�أكرث العلماء الأعالم والأدباء والنبالء -تقلَّبوا يف
البالد وماتوا غرباء.
ُ
ح�ض على العلم ،وكفى �شاهداً � َّأن �أول كلمة �أنزلت أول دين َّ � َّإن الإ�سالمية � َّ
نت بها على من القر�آن هي الأمر بالقراءة �أمراً مكرراً ،و� َّأول ِم َّن ٍة �أجلَّها اهلل وام َّ
51
اال�ستبداد والعلم
ال�سلف الأول من الإن�سان هي �أ َّنه علَّمه بالقلم .علَّمه به ما مل يعلم .وقد فهم َّ
مغزى هذا الأمر وهذا االمتنان وجوب تعلُّم القراءة والكتابة على ك ِّل م�سلم،
تعم ،وبذلك �صار العلم يف عمت القراءة والكتابة يف امل�سلمني �أو كادت ُّ وبذلك َّ
الدين �أو الأ�رشاف كما كان يف الأمم يخت�ص به رجال ُّّ الأمة حراً مباح ًا للك ِّل ال
ولكن ،قاتلْ ال�سابقة ،وبذلك انت�رش العلم يف �سائر الأمم �أخذاً على امل�سلمني!
اهلل اال�ستبداد الذي ا�ستهان بالعلم حتى جعله كال�سلعة ُيعطى ويمُ نح للأميني،
وال يجر�ؤ �أحد على االعرتا�ض� ،أجل ،قاتل اهلل اال�ستبداد الذي رجع بالأمة �إىل
الأمية ،فالتقى �آخرها ب�أولِّها ،وال حول وال قوة �إال باهلل.
قال املدققونَّ � :إن �أخوف ما يخافه امل�ستبدون الغربيون من العلم �أن يعرف
النا�س حقيقة � َّأن احلرية �أف�ضل من احلياة ،و�أن يعرفوا النف�س وع َّزها ،وال�شرّ ف
وعظمته ،واحلقوق وكيف تحُ فظ ،والظلم وكيف ُيرفع ،والإن�سانية وما هي
والرحمة وما هي ل ّذاتها. وظائفهاّ ،
�أما امل�ستبدون ال�رشقيون ف�أفئدتهم هواء ترجتف من �صولة العلم ،ك� ّأن العلم
نار و�أج�سامهم من بارود .امل�ستبدون يخافون من العلم حتى من علم النا�س
معنى كلمة (ال �إله �إال اهلل) ،وملاذا كانت �أف�ضل الذكر ،وملاذا ُبني عليها الإ�سالم.
ُبني الإ�سالم ،بل وكافة الأديان على (ال �إله �إال اهلل) ،ومعنى ذلك �أ ّنه ال ُيعبد
حق ًا �سوى ال�صانع الأعظم ،ومعنى العبادة اخل�ضوع ومنها لفظة العبد ،فيكون
�شيء غري اهلل) .وما �أف�ضل تكرار هذا معنى ال �إله �إال اهلل( :ال ي�ستحق اخل�ضوع ٌ
املعنى على الذاكرة �آناء الليل و�أطراف النهار حت ُّذراً من الوقوع يف ورطة �شيء
من اخل�ضوع لغري اهلل وحده .فهل -واحلالة هذه -ينا�سب غر�ض امل�ستبدين �أن
يعلم عبيدهم � ْأن ال �سيادة وال عبودية يف الإ�سالم وال والية فيه وال خ�ضوع� ،إمنا
عدوا كلمة امل�ؤمنون بع�ضهم �أولياء بع�ض؟ كال ،ال يالئم ذلك غر�ضهم ،ورمبا ّ
(ال �إله �إال اهلل) �شتم ًا لهم! ولهذا ،كان امل�ستبدون -وال زالوا -من �أن�صار ال�شرِّ ك
و�أعداء العلم.
كخ َد َمة الأديان املتكبرِّ ين
� َّإن العلم ال ينا�سب �صغار امل�ستبدين �أي�ض ًا َ
وكالآباء اجل َُهالء ،والأزواج احلمقى ،وكر�ؤ�ساء ك ِّل اجلمعيات ال�ضعيفة.
قط �إال وتك�سرَّ ت فيها قيود الأ�رس، واحلا�صل� :أ َّنه ما انت�رش نور العلم يف �أم ٍة ّ
امل�ستبدين من ر�ؤ�ساء �سيا�سة �أو ر�ؤ�ساء دين.ّ و�ساء م�صري
52
اال�ستبداد واملجد
حل َكم البالغة للمت�أخرين قولهم( :اال�ستبداد �أ�ص ٌل لك ِّل داء) ،ومبنى ذلك من ا ِ
� َّأن الباحث املدقق يف �أحوال الب�رش وطبائع االجتماع ك�شف � َّأن لال�ستبداد �أثراً
�سيئ ًا يف ك ِّل واد ،وقد �سبق � َّأن اال�ستبداد ي�ضغط على العقل فيف�سده ،و�إين الآن
التمجد.
ُّ �أبحث يف �أ َّنه كيف ُيغالب اال�ستبداد املجد فيف�سده ،ويقيم مقامه
حب واحرتام يف القلوب ،وهو مطلب طبيعي املجد :هو �إحراز املرء مقام ٍّ
ين �أو خامل. ينحط عنه د ٌُّّ نبي �أو زاهد ،وال
�رشيف لك ِّل �إن�سان ،ال يرت َّفع عنه ٌّ
للمجد ل َّذ ٌة روحية تقارب ل َّذة العبادة عند الفانني يف اهلل تعاىل ،وتعادل ل َّذة
العلم عند احلكماء ،وتربو على ل َّذة امتالك الأر�ض مع قمرها عند الأمراء،
وتزيد على ل َّذة مفاج�أة الإثراء عند الفقراء .ولذا ،يزاحم املجد يف النفو�س
منزلة احلياة.
وقد �أ�ش َك َل على بع�ض الباحثني � ّأي احلر�صني �أقوى؟ حر�ص احلياة �أم
وميزوا بها تخليط ابن عول عليها املت� ِّأخرون َّ حر�ص املجد؟ واحلقيقة التي َّ
مف�ضل على احلياة عند امللوك وال ُق َّواد خلدون هي التف�ضيل ،وذلك � َّأن املجد َّ
وحب احلياة ممتاز على املجد عند ُّ حمية،
وظيف ًة ،وعند ال ُّنجباء والأحرار ّ
الأُ�رساء والأ ِّذالء طبيعة ،وعند اجلبناء والن�ساء �رضورة .وعلى هذه القاعدة
53
اال�ستبداد واملجد
يكون �أئمة �آل البيت -عليهم ال�سالم -معذورين يف �إلقاء �أنف�سهم يف تلك
يف�ضلون املوت فحميتهم جعلتهم ِّ ّ ملا كانوا جنباء �أحراراً، املهالك ،لأ َّنهم ّ
خط�أ �أجماد الب�رش يف �إقدامهم ذل مثل حياة ابن خلدون الذي ّ كرام ًا على حياة ٍّ
هدد جمدهم ،ذاه ًال على � َّأن بع�ض �أنواع احليوان ،ومنها البلبل، على اخلطر �إذا َّ
ُوجِ دت فيها طبيعة اختيار االنتحار �أحيان ًا تخ ُّل�ص ًا من قيود ال ُّذ ِّل ،و� َّأن �أكرث
�سباع الطري والوحو�ش �إذا �أُ�سرِ َ ت كبرية ت�أبى الغذاء حتى متوت ،و� َّأن احل َُّرة
ر�ضها ،واملاجدة متوت وال ت�أكل بثدييها! متوت وال ت�أكل ب ِع ِ
بنوع من البذل يف �سبيل اجلماعة ،وبتعبري ال�رشقيني املجد ال ُينال �إال ٍ
الدين ،وبتعبري الغربيني يف �سبيل املدنية �أو �سبيل يف �سبيل اهلل �أو �سبيل ّ
-امل�ستحق ال ّتعظيم لذاته -ما طالب عبيده بتمجيده ُّ الإن�سانية .واملوىل تعاىل
�إال وقرن الطلب بذكر نعمائه عليهم.
وهذا البذل �إما بذل مال للنفع العام وي�سمى جمد الكرم ،وهو �أ�ضعف
وي�سمى جمد الف�ضيلة� ،أو بذل ّ املجد� ،أو بذل العلم ال ّنافع املفيد للجماعة،
احلق وحفظ ال ِّنظام، ِّ للم�شاق والأخطار يف �سبيل ن�رصة ّ بالتعر�ض
ُّ ال ّنف�س
وي�سمى جمد ال ّنبالة ،وهذا �أعلى املجد ،وهو املراد عند الإطالق ،وهو املجد ُ
وحتن �إليه �أعناق النبالء .وكم له من ع�شاق ُّ الكبرية، النفو�س إليه � تتوق الذي
تل ُّذ لهم يف حبه امل�صاعب واملخاطرات ،و�أكرثهم يكون من مواليد بيوت
ال�صدف من عيون الظاملني املذ ّلني� ،أو يكون من جنباء بيوت نادرة حمتها ُّ
ما انقطعت فيها �سل�سلة املجاهدين وما انقطعت عجائزها عن بكائهم .ومن
�أمثلة املجد قولهم :خلق اهلل للمجد رجا ًال ي�ستعذبون املوت يف �سبيله ،وال
الهمة والإقدام وال ّثبات ،تلك اخل�صال ال ّثالث التي بها �سبيل �إليه �إال بعظيم ّ
تقدر قيم الرجال. َّ
وهذا نريون الظامل �س�أل �أغربني ال�شاعر وهو حتت ال َّنطع :من �أ�شقى النا�س؟
معر�ض ًا به :من �إذا ذكر النا�س اال�ستبداد كان مثا ًال له يف اخليال. ف�أجابه ِّ
وكان ترايان العادل �إذا ق َّلد �سيف ًا لقائد يقول له( :هذا �سيف الأمة �أرجو �أن
ن�صيب يف عنقي) .وخرج قي�س من جمل�س الوليد ٌ أتعدى القانون فيكون له ال � ّ
مغ�ضب ًا يقول�( :أتريد �أن تكون جباراً؟ واهللَّ � ،إن نعال ال�صعاليك لأطول من
�سيفك)! .وقيل لأحد الأباة« :ما فائدة �سعيك غري جلب ال�شقاء على نف�سك؟».
54
«علي �أن �أيففقال« :ما �أحلى ال�شقاء يف �سبيل تنغي�ص الظاملني!» .وقال �آخرَّ :
علي �ضمان الق�ضاء» .وقيل لأحد النبالء« :ملاذا ال تبني لك بوظيفتي وما َّ
داراً؟» فقال« :ما �أ�صنع فيها و�أنا املقيم على ظهر اجلواد �أو يف ال�سجن �أو يف
القرب» ،وهذه ذات النطاقني (�أ�سماء بنت �أبي بكر ر�ضي اهلل عنها) وهي امر�أة
احلق فاذهب وقاتل احلجاج حتى تودع ابنها بقولها�« :إن كنت على ّ عجوز ِّ
ا�ستبد يف �أمر فدخل عليه َّ متوت» .وهذا مكماهون رئي�س جمهورية فرن�سا
�صديقه غامبتا وهو يقول« :الأمر للأمة ال �إليك ،فاعتدل� ،أو اعتزل ،و�إال ف�أنت
املخذول املهان امليت»!!
حمب ٌب للنفو�س ،ال تفت�أ ت�سعى وراءه وترقى املجد َّ
ُ واحلا�صل � َّأن املجد هو
وهمته، مراقيه ،وهو مي�سرَّ ٌ يف عهد العدل لك ِّل �إن�سان على ح�سب ا�ستعداده َّ
الظلم على ح�سب الإمكان. وينح�رص حت�صيله يف زمن اال�ستبداد مبقاومة ّ
التمجد؟ وماذا يكون ّ التمجد .وما هو
ُّ يقابل املجد ،من حيث مبتناه،
لفظ هائل املعنى ،ولهذا �أراين �أتعثرَّ بالكالم و�أتلعثم يف التمجد ٌُّ التمجد؟
ّ
اخلطاب ،وال �سيما من حيث �أخ�شى م�سا�س �إح�سا�س بع�ض املطالعني� .إن مل
واحلق
ّ يكن من جهة �أنف�سهم فمن جهة �أجدادهم الأولني ،ف�أنا�شدهم الوجدان
ثم هم مثلي ومثل �سائر يتجردوا دقيقتني من ال ّنف�س وهواهاَّ ، َّ املهان� ،أن
اجلانني على الإن�سانية ال يعدمون ت�أوي ًال .و�إنني �أعلِّل ال ّنف�س بقبولهم تهويني
هذا ،ف�أنطلق و�أقول:
امل�ستبد بالفعلِّ امل�ستبدة ،وهو القربى من َّ التمجد خا�ص بالإدارات ّ
كالأعوان والعمال� ،أو بالقوة كاملل َّقبني بنحو دوق وبارون ،واملخاطبني بنحو
املطوقني باحلمائل، َّ ورب ال�صولة� ،أو املو�سومني بالنيا�شني� ،أو رب العزة ّ ِّ
امل�ستبد
ِّ التمجد هو �أن ينال املرء جذوة نار من جهنم كربياء ُّ ٍ
وبتعريف �آخر،
ليحرق بها �رشف امل�ساواة يف الإن�سانية.
ِ
الرجل �سيف ًا من ق َبل اجلبارين يربهن به على ٍ
وبو�صف �أجلى :هو �أن يتق ّلد ّ
�أ َّنه جالد يف دولة اال�ستبداد� ،أو يعلِّق على �صدره و�سام ًا م�شعراً مبا وراءه من
الوجدان امل�ستبيح للعدوان� ،أو يتزين ب�سيور مزرك�شة تنبئ ب�أ ّنه �صار خم َّنث ًا
�أقرب �إىل الن�ساء منه �إىل الرجال ،وبعبارة �أو�ضح و�أخ�رص ،هو �أن ي�صري
امل�ستبد الأعظم.
ِّ الإن�سان م�ستبداً �صغرياً يف كنف
55
اال�ستبداد واملجد
56
امل�ستبد من �إيجادهم والإكثار منهم ليتم َّكن ُّ �رشف وال رحمة ،وهذا ما يق�صده
يغرر الأمة على �إ�رضار نف�سها حتت ا�سم منفعتها ،في�سوقها بوا�سطتهم من �أن ِّ
مث ًال حلرب اقت�ضاها حم�ض التجبرُّ والعدوان على اجلريان ،فيوهمها �أ َّنه يريد
ن�رصة الدين� ،أو ُي�رسف باملاليني من �أموال الأمة يف ملذاته وت�أييد ا�ستبداده
با�سم حفظ �رشف الأمة و�أبهة اململكة� ،أو ي�ستخدم الأمة يف التنكيل ب�أعداء
يت�رصف يف حقوق اململكة والأمة كما ي�شا�ؤه َّ ظلمه با�سم �أنهم �أعداء لها� ،أو
هواه با�سم � َّأن ذلك من مقت�ضى احلكمة وال�سيا�سة.
املتمجدين �سما�رسة لتغرير الأمة با�سم ّ واخلال�صةَّ � :أن امل�ستبد ي ّتخذ
حب الوطن� ،أو تو�سيع اململكة� ،أو حت�صيل منافع عامة� ،أو خدمة الدين� ،أو ّ
م�س�ؤولية الدولة� ،أو الدفاع عن اال�ستقالل ،واحلقيقة � َّأن ك ّل هذه الدواعي
الفخيمة العنوان يف الأ�سماع والأذهان ما هي �إال تخييل و�إيهام يق�صد بها
الدفاع عن رجال احلكومة تهييج الأمة وت�ضليلها ،حتى �إ َّنه ال ُي�ستثنى منها ّ
أمة م�أ�سورة لزيد �أن ي�أ�رسها عمرو؟ وما مثلها اال�ستقالل ،لأ ّنه ما الفرق على � ٍ
الدابة التي ال يرحمها راكب مطمئن ،مالك ًا كان �أو غا�صب ًا. �إال ّ
امل�ستبد ال ي�ستغني عن �أن ي�ستمجد بع�ض �أفراد من �ضعاف القلوب الذين ُّ
هم كبقر اجلنة ال ينطحون وال يرحمون ،ي ّتخذهم ك�أمنوذج البائع الغ�شا�ش،
خمارة على �أ ّنه ال ي�ستعملهم يف �شيء من مهامه ،فيكونون لديه كم�صحف يف ّ
�أو �سبحة يف يد زنديق ،ورمبا ال ي�ستخدم �أحيان ًا بع�ضهم يف بع�ض ال�ش�ؤون
تغليط ًا لأذهان العامة يف �أ َّنه ال يعتمد ا�ستخدام الأراذل والأ�سافل فقط ،ولهذا
ُيقال :دولة اال�ستبداد دولة ُب ٍله و�أوغاد.
يجرب �أحيان ًا يف املنا�صب واملراتب بع�ض العقالء الأذكياء امل�ستبد ِّ
ُّ
بال�شكل الذي �أي�ض ًا اغرتاراً منه ب�أ ّنه يقوى على تليني طينتهم وت�شكيلهم ّ
ثم هو بعد التجربة �إذا يريد ،فيكونون له �أعوان ًا خبثاء ينفعونه بدهائهمَّ ،
ي�ستقر عنه
ّ خاب ويئ�س من �إف�سادهم يتبادر �إبعادهم �أو ين ّكل بهم .ولهذا ال
امل�ستبد �إال اجلاهل العاجز الذي يعبده من دون اهلل� ،أو اخلبيث اخلائن الذي ّ
ير�ضيه ويغ�ضب اهلل.
أنبه فكر املطالعني �إىل � َّأن هذه الفئة من العقالء الأمناء باجلملة، وهنا � ِّ
ثم
الذين يذوقون ع�سيلة جمد احلكومة وين�شطون خلدمة ونيل جمد ال ّنبالةَّ ،
57
اال�ستبداد واملجد
ملجرد � َّأن بني �أ�ضلعهم قب�سة من الإميان ويف �أعينهم َّ ي�رضب على يدهم
بارقة من الإن�سانية ،هي الفئة التي تتكهرب بعداوة اال�ستبداد وينادي
�أفرادها بالإ�صالح .وهذا االنقالب قد �أعيا امل�ستبدين ،لأنهم ال ي�ستغنون عن
املغبة .ومن هنا ن�ش�أ اعتمادهم غالب ًا على العريقني التجربة وال ي�أمنون هذه ّ
يف خدمة اال�ستبداد ،الوارثني من �آبائهم و�أجدادهم الأخالق املر�ضية
التمجد بالأ�صالة والأن�ساب،ّ للم�ستبدين ،ومن هنا ابتد�أت يف الأمم نغمة ّ
وامل�ستبدون املح ّنكون يطيلون �أمد التجربة باملنا�صب ال�صغرية في�ستعملون ّ
ثم يختمون ّ القدم، قاعدة برعاية ذلك ون وي�سم
ّ الرتاخي، مع ي ق
ّ الرت قاعدة
املتمرن خدمة يكون فيها رئي�س ًا مطلق ًا ولو يف قرية ،ف�إن ّ التجريب ب�إعطاء
�أظهر مهارة يف اال�ستبداد ،وذلك ما ي�سمونه حكمة احلكومة فبها نعمت ،و�إال
قالوا عنه :هذا حيوان ،يا �ضيعة الأمل فيه.
ثم
بد �أن نبحث فيها قلي ًالَّ ، والتمجد فال َّ
ّ � َّإن للأ�صالة م�شاكلة قوية للمجد
املتمجدين ف�أقول:
ّ امل�ستبد و�أعوانه
ّ نعود ملو�ضوع
الأ�صالة �صفة قد يكون لها بع�ض املزايا من حيث الأميال التي يرثها
رياء،
الأبناء من الآباء ،ومن حيث الرتبية التي تكون م�ستحكمة يف البيت ولو ً
ومن حيث � َّإن الأ�صالة تكون مقرونة غالب ًا ب�شيء من الرثوة املعينة على
ال�شهامة والرحمة ،ومن حيث تقويتها العالقة بالأمة والوطن خوف مظاهر ّ
مذ ّلة االغرتاب ،ومن حيث � َّإن �أهلها يكونون منظورين دائم ًا فيتحا�شون
املعائب والنقائ�ص بع�ض التحا�شي.
وبيوت الأ�صالة تنق�سم �إىل ثالثة �أنواع :بيوت علم وف�ضيلة ،وبيوت مال
أهم موقع ًا،
وكرم ،وبيوت ظلم و�إمارة .وهذا الأخري هو الق�سم الأكرث عدداً وال ّ
امل�ستبد يف اال�ستعانة ومو�ضع
ّ وهم -كما �سبقت الإ�شارة �إليه -مطمح نظر
ثقته ،وهم اجلند الذي جتتمع حتت لوائه ب�سهولة ،ورمبا يكفيه � ْأن ي�ضحك
يف وجههم �ضحكة .فلننظر ما هو ن�صيب �أهل هذا الق�سم من تلك املزايا
املوروثة:
هل يرث االبن عن جده امل�ؤ�س�س ملجده �أميا َله يف العدالة ومل توجد؟ �أم
يرتبى على غري وي�شب على غري الترّ ف امل�ص ِّغر للعقول ،املميت للهمم؟ �أم ّ ُّ يدب
ُّ
ال�سائد فيما بني العائلة يف بيتهم؟ �أم ي�ستخدم الرثوة ّ للباطل، امل�ضحك الوقار
58
يف غري املالذ اجل�سمية الدنيئة البهيمية وتلك ال ّأبهة الطاوو�سية الباطلة؟ �أم
يتم َّثل بغري �أقران ال�سوء املتملقني املنافقني؟ �أم ال ي�ستحقر قومه جلهلهم قدر
يقدرونه ال ُّنطفة امللعونة التي ُخلق منها جنابه؟ �أم ال يبغ�ض العلماء الذين ال ِّ
مقراً يليق به غري قدره ح�سبما هو قائم يف خميلة خيالئه؟ �أم يرى جلنابه ّ
مقعد التح ُّكم وم�سرتاح الت�آمر؟ �أم ي�ستحي من ال ّنا�س؟ ومن هم ال ّنا�س؟ وما
ال ّنا�س عند ح�رضته غري �أ�شباح عندها �أرواح ُخلقت خلدمته!
حق من نال منهم وهذه حالة الأكرثين من الأ�صالء ،على �أننا ال نبخ�س َّ
حظ ًا من العلم و�أوتي احلكمة و�أراد اهلل به خرياً ف�أ�صابه بن�صيب من القهر
انخف�ض به �شاموخ �أنفه ،ف� َّإن ه�ؤالء -وقليل ما هم -ينجبون جنابة عظيمة،
قوة القلب ي�ستعملونها يف اخلري ال يف ال�شرّ ، في�صدق عليهم �أ َّنهم قد ورثوه ّ
وا�ستفادوا من �أنفة الكربياء كاجل�سارة على العظماء ،وهكذا تتحول فيهم ميزة
وح َ�س ٍب �شامخ من نحو احلنني �إىل الوطن و�أهله ،والأنني ال�رش على فائ�ض خري َ ِّ
مل�صابه ،والإقدام على العظائم يف �سبيل القوم ،و�أمثال ه�ؤالء النوابغ ال ُن َجباء
�إذا كرثوا يف �أمة يو�شك �أن يرت ّقى منهم �آحاد �إىل درجة اخلوارق فيقودوا
�أممهم �إىل درجة النجاح والفالح ،وال غرو ف� َّإن اجتماع نفوذ الن�سب وقوة
امل�ستبد العادل الذي ين�شده ال�رشقيون، ِّ احل�سب يفعالن وال عجب َ�ش َب َه فعل
وخ�صو�ص ًا امل�سلمني ،و�إن كان العقل ال يجوز �أن ي َّت�صف باال�ستبداد مع العدل
ال�ساقطة التي قد تت�س ّفل بالإن�سان �إىل عدم الهمة ّ
غري اهلل وحده� ،أال قاتل اهلل ّ
�إتعاب الفكر فيما يطلب هل هو ممكن �أم هو حمال؟!
الأ�صالء ،باعتبار �أكرثيتهم ،هم جرثومة البالء يف ك ِّل قبيلة ومن ك ِّل
ال�صدفة بع�ض �أفرادهم ميزت ُّ
قبيل .ل َّأن بني �آدم داموا �إخوان ًا مت�ساوين �إىل � ْأن َّ
متيز �أفراد علىبكرثة ال ّن�سل ،فن�ش�أت منها القوات الع�صبية ،ون�ش�أ من تنازعها ُّ
وح ْف ُظ هذه امليزة �أوجد الأ�صالء .فالأ�صالء يف ع�شرية �أو �أمة �إذا كانوا �أفرادِ ،
متقاربي القوات ا�ستبدوا على باقي النا�س و�أ�س�سوا حكومة �أ�رشاف ،ومتى
ي�ستبد وحده
ُّ ُوجد بيت من الأ�صالء يتميز كثرياً يف القوة على باقي البيوت
وي�ؤ�س�س احلكومة الفردية املقيدة �إذا لباقي البيوت بقية ب�أ�س� ،أو املطلقة �إذا
يبق �أمامه من ي َّتقيه.
مل َ
بناء عليه� ،إذا مل يوجد يف � ّأمة �أ�صالء بالكلية� ،أو وجد ،ولكن ،كان ل�سواد ً
59
اال�ستبداد واملجد
ابتداء،ً �صوت غالب� ،أقامت تلك لنف�سها حكومة انتخابية ال وراثة فيها ٌ النا�س
كل ولكن ،ال يتواىل بع�ض متولني �إال وي�صري �أن�سالهم �أ�صالء يتناظرونُّ ،
فريق منهم ي�سعى الجتذاب طرف من الأمة ا�ستعداداً للمغالبة و�إعادة التاريخ
الأول.
م�ضار الأ�صالء �أنهم ينهمكون �أثناء املغالبة على �إظهار ال َّأبهة ّ ومن �أكرب
ثم والعظمة ،ي�سرتهبون �أعني النا�س وي�سحرون عقولهم ويتكبرّ ون عليهمَّ .
وا�ستبد بالأمر ال يرتكها الباقون لألفتهم لذتها ومل�ضاهاة َّ �إذا غلب غالبهم
يدر عليهم وامل�ستبد نف�سه ال يحملهم على تركها ،بل ُّ
ُّ امل�ستبد يف نظر النا�س.
ِّ
والرتب و�شيئ ًا من ال ّنفوذ والت�س ُّلط
املال ويعينهم عليها ،ويعطيهم الألقاب ُّ
ليتلهوا بذلك عن مقاومة ا�ستبداده ،ولأجل �أن ي�ألفوها مديداً، ّ على النا�س
فتف�سد �أخالقهم ،فينفر منهم النا�س ،وال يبقى لهم ملج�أ غري بابه ،في�صريون
�أعوان ًا له بعد �أن كانوا �أ�ضداداً.
والرخاء ،واملنع ال�شد ّ ّ امل�ستبد �أي�ض ًا مع الأ�صالء �سيا�سة ُّ وي�ستعمل
والإعطاء ،وااللتفات والإغ�ضاء كي ال يبطروا ،و�سيا�سة �إلقاء الف�ساد و�إثارة
ال�شحناء فيما بينهم كي ال يتفقوا عليه ،وتارة يعاقب عقاب ًا �شديداً با�سم
يقبلون �أذيالهم ا�ستكباراً إر�ضاء للعوام ،و�أخرى يقرنهم ب�أفراد كانوا ِّ ً العدالة �
فيجعلهم �سادة عليهم يفركون �آذانهم ا�ستحقاراً ،يق�صد بذلك ك�رس �شوكتهم
امل�ستبد يذلل
ّ �أمام �إمام النا�س وع�رص �أنوفهم �أمام عظمتهم .واحلا�صل � َّأن
الأ�صالء بك ِّل و�سيلة حتى يجعلهم مرتامني بني رجليه كي ي َّتخذهم جلام ًا
لتذليل الرعية ،وي�ستعمل عني هذه ال�سيا�سة مع العلماء ور�ؤ�ساء الأديان الذين
�شم من �أحدهم رائحة الغرور بعقله �أو علمه ينكل به �أو ي�ستبدله بالأحمق متى َّ
ظان من �أن �إدارة الظلم حمتاجة �إىل �شيء اجلاهل �إيقاظ ًا له ولأمثاله من ك ِّل ٍّ
اجلو
امل�ستبد .وبهذه ال�سيا�سة ونحوها يخلو ّ ِّ من العقل �أو االقتدار فوق م�شيئة
جو حمرق. كري�ش يقلبه ال�رص�رص يف ٍٍّ ويت�رصف يف الرعيةَّ فيع�صف وين�سف
امل�ستبد يف حلظة جلو�سه على عر�شه وو�ضع تاجه املوروث على ر�أ�سه ُّ
يرى نف�سه كان �إن�سان ًا ف�صار �إله ًا .ثم ُيرجع النظر فريى نف�سه يف نف�س الأمر
�أعجز من ك ِّل عاجز و�أ َّنه ما نال ما نال �إال بوا�سطة من حوله من العوان،
فريفع نظره �إليهم في�سمع ل�سان حالهم يقول له :ما العر�ش؟ وما التاج؟ وما
60
ال�صوجلان؟ ما هذه �إال �أوهام يف �أوهام .هل يجعلك هذا الري�ش يف ر�أ�سك
طاوو�س ًا و�أنت غراب؟ �أم تظن الأحجار الرباقة يف تاجك جنوم ًا ور�أ�سك �سماء؟
�أم تتوهم � َّأن زينة �صدرك ومنكبيك �أخرجتك عن كونك قطعة طنيٍ من هذه
الأر�ض؟ واهلل ما م َّكنك يف هذا املقام و�س َّلطك على رقاب الأنام �إال �شعوذتنا
و�سحرنا وامتهاننا لديننا ووجداننا وخيانتنا لوطننا و�إخواننا ،فانظر �أيها
ال�صغري املكبرَّ احلقري املو ّقر كيف تعي�ش معنا!
الرعية املتفرجني ،منهم الطائ�شون املهللون ثم يلتفت �إىل جماهري ّ َّ
امل�سبحون بحمده ،ومنهم امل�سحورون املبهوتون ك�أنهم �أموات من حني، ِّ
ولكن ،يتج ّلى يف فكره � َّأن خالل ال�ساكتني بع�ض �أفراد عقالء �أجماد يخاطبونه
وكلناك يف ق�ضائها على ما بالعيون ،ب� َّأن لنا معا�رش ال َّأمة �ش�ؤون ًا عمومية َّ
حق الوكالة ُح َّق لك االحرتام، نريد ونبغي ،ال على ما تريد فتبغي .ف� ْإن و َّفيت َّ
و�إن مرت م َك ْرنا وحاقت بك العاقبة� ،أال � َّإن مكر اهلل عظيم.
ال�سدنةامل�ستبد �إىل نف�سه قائ ًال :الأعوان الأعوان ،احل ََم َلة َّ ُّ وعندئ ٍذ يرجع
بجي�ش من الأوغاد �أحارب بهم ه�ؤالء العبيد العقالء، ٍ �أ�سلمهم القياد و�أردفهم
معر�ض ًا
وبغري هذا احلزم ال يدوم يل ُم ْل ٌك كيفما �أكون ،بل �أبقى �أ�سرياً للعدل ِّ
للمناق�شة من ِّغ�ص ًا يف نعيم امللك ،ومن العار �أن ير�ضى بذلك من ميكنه �أن
قهاراً.متفرداً ّ
يكون �سلطان ًا جباراً ِّ
امل�ستبد الأعظم
ّ م�ستبدة يف كل فروعها من ّ امل�ستبدة تكون طبع ًا
ّ احلكومة
�صنف �إال منٍ كل
الفرا�ش� ،إىل كنائ�س ال�شوارع ،وال يكون ُّ �إىل ال�رشطي� ،إىل ّ
�أ�سفل �أهل طبقته �أخالق ًا ،لأن الأ�سافل ال يهمهم طبع ًا الكرامة وح�سن ال�سمعة،
�إمنا غاية م�سعاهم �أن يربهنوا ملخدومهم ب�أنهم على �شاكلته ،و�أن�صار
لدولته ،و�رشهون لأكل ال�سقطات من � ٍّأي كان ولو ب�رشاً �أم خنازير� ،آباءهم
امل�ستبد وي�أمنونه في�شاركهم وي�شاركونه .وهذه ُّ �أم �أعداءهم ،وبهذا ي�أمنهم
ويقل ح�سب �شدة اال�ستبداد وخ ّفته ،فكلما كان الفئة امل�ستخدمة يكرث عددها ُّ
املتمجدين العاملني له ّ امل�ستبد حري�ص ًا على الع�سف احتاج �إىل زيادة جي�ش ُّ
املحافظني عليه ،واحتاج �إىل مزيد الد ّقة يف ا ِّتخاذهم من �أ�سفل املجرمني
ذمة ،واحتاج حلفظ الن�سبة بينهم يف املراتب الذين ال �أثر عندهم لدينٍ �أو ّ
بالطريقة املعكو�سة ،وهي �أن يكون �أ�سفلهم طباع ًا وخ�صا ًال �أعالهم وظيف ًة
61
اال�ستبداد واملجد
للم�ستبد هو اللئيم الأعظم يف ّ بد �أن يكون الوزير الأعظم وقرب ًا ،ولهذا ،ال َّ
الأمة ،ثم من دونه ل�ؤم ًا ،وهكذا تكون مراتب الوزراء والأعوان يف ل�ؤمهم
رت رت املطالع كما اغ َّ ح�سب مراتبهم يف الت�رشيفات والقربى منه .ورمبا يغ ُّ
امل�ستبد
ّ امل�ستبد يت�أوهون من
ّ كثري من امل� ِّؤرخني الب�سطاء ب�أن بع�ض وزراء
ويت�ش ّكون من �أعماله ويجهرون مبالمه ،ويظهرون لو �أ ّنه �ساعدهم الإمكان
لعملوا وفعلوا وافتدوا الأمة ب�أموالهم ،بل وحياتهم ،فكيف -واحلالة هذه-
يكون ه�ؤالء ل�ؤماء؟ بل كيف ذلك وقد ُوجِ د منهم الذين خاطروا ب�أنف�سهم
والذين �أقدموا فع ًال على مقاومة اال�ستبداد فنالوا املراد �أو بع�ضه �أو هلكوا
دونه؟
حمتاج لع�صابة ٌ خائف
ٌ خائن
ٌ قط عن �أ ّنه
امل�ستبد ال يخرج ّ
َّ فجواب ذلك � ّأن
يجوز العقل تعينه وحتميه ،فهو ووزرا�ؤه كزمرة ل�صو�ص :رئي�س و�أعوان .فهل ِّ
�أن ُينتخب رفاق من غري �أهل الوفاق ،وهو هو الذي ال ي�ستوزر �إال بعد جتربة
واختبار عمراً طوي ًال؟!
هل ميكن �أن يكون الوزير متخلِّق ًا باخلري حقيقة ،وبال�شرَّ ِّ ظاهراً فيخدع
امل�ستبد ب�أعماله ،وال يخاف من �أ َّنه كما ن�صبه و�أع َّزه بكلمة يعزله ويذ ّله؟! ّ
فامل�ستبد وهو من ال يجهل � َّأن النا�س �أعدا�ؤه لظلمه ،ال ي�أمن ّ عليه، بناء
ً
على بابه �إال من يثق به �أ َّنه �أظلم منه للنا�س ،و�أبعد منه على �أعدائه ،و�أما
حنق امل�ستبد فهو �إن مل يكن خداع ًا للأمة فهو ٌ ّ تلوم بع�ض الوزراء على لوم ُّ
فقدم عليه من هو دونه يف خدمته َّ حقه، م املتلو
ّ ذلك بخ�س أنه ل ، امل�ستبد
ّ على
امل�ستبد يف
ّ �صولة من ا
ً أمين � الوزير يكون ال وكذلك ووجدانه. دينه بت�ضحية
�صحبته ما مل ي�سبق بينهما وفاق وا ِّتفاق على خرية ال�شيطان ،لأن الوزير
�رش ،ويبغ�ضه النا�س ولو تبع ًا حم�سود بالطبع ،يتو ّقع له املزاحمون ك َّل ّ ٌ
هدف يف ك ِّل �ساعة لل�شكايات والو�شايات .كيف يكون عند ٍ ٌ لظاملهم ،وهو
ال�شفقة �شيء من الت ّقوى �أو احلياء �أو العدل �أو احلكمة �أو املروءة �أو ّ ٌ الوزير
على الأمة ،وهو العامل ب� َّأن الأمة تبغ�ضه ومتقته وتتو ّقع له ك َّل �سوء ،وت�شمت
امل�ستبد ،وما هو بفاعلٍ ذلك ّ مب�صائبه ،فال تر�ضى عنه ما مل ي ّتفق معها على
قط� ،إمنا �أبداً �إال �إذا يئ�س من �إقباله عنده ،و�إن يئ�س وفعل فال يق�صد نفع الأمة ّ
مل�ستجد جديد ع�ساه ي�ستوزره في�ؤازره على وزره. ٍّ باب
يريد فتح ٍ
62
امل�ستبد ،ال وزير ال ّأمة كما يف ّ امل�ستبد هو وزير ّ والنتيجة � َّأن وزير
امل�ستبد ليغمده يف الرقاب ّ احلكومات الد�ستورية .كذلك القائد يحمل �سيف
امل�ستبد ال ب�أمر الأمة ،بل هو ي�ستعيذ �أن تكون الأمة �صاحبة �أمر ،ملا ّ ب�أمر
يعلم من نف�سه � َّأن ال ّأمة ال تقلِّد القيادة ملثله.
والقواد من الإنكار على ّ يت�شدق به الوزراء رت العقالء مبا َّ بناء عليه ،ال يغ ُّ
ً
تلهفوا و�إن ت�أففوا ،وال ينخدعون ملظاهر َّ إن � و إ�صالح ل با والتفل�سف اال�ستبداد
و�سبحوا، ّ والّ �ص مهما بوجدانهم وال بهم غريتهم و�إن ناحوا و�إن بكوا ،وال يثقون
ل َّأن ذلك ك ّله ينايف �سريهم و�سريتهم ،وال دليل على �أ ّنهم �أ�صبحوا يخالفون ما
امل�ستبد
ِّ �شبوا و�شابوا عليه ،هم �أقرب �أن ال يق�صدوا بتلك املظاهر غري �إقالق ّ
الرعية� ،أي �أموالها .نعم ،كيف ّ دماء ا�ستدرار يف لي�شاركهم �سلطته وتهديد
يجوز ت�صديق الوزير والعامل الكبري الذي قد �ألف عمراً كبرياً ل ّذة البذخ وع ّزة
اجلربوت يف �أ َّنه ير�ضى بالدخول حتت حكم ال ّأمة ،ويخاطر بعر�ض �سيفه
عليها فتح ّله �أو تك�رسه حتت �أرجلها� .ألي�س هو ع�ضواً ظاهر الف�ساد يف ج�سم
تلك الأمة التي قتل اال�ستبداد فيها ك َّل الأميال ال�رشيفة العالية ف�أبعدها عن
الأن�س والإن�سانية ،ح ّتى �صار الفالح التعي�س منها ي�ؤخذ للجندية وهو يبكي،
فيتنمر على ّ ب�رش الأخالق، ويتلب�س ِّ َّ كم ال�سرتة الع�سكرية �إال فال يكاد يلب�س َّ
مييز ويكظ �أ�سنانه عط�ش ًا للدماء ال ّ ُّ ويتمرد على �أهل قريته وذويه، ّ �أمه و�أبيه،
فكل ذمةُّ ، بني � ٍأخ وعدو؟! � َّإن �أكابر رجال عهد اال�ستبداد ال �أخالق لهم وال ّ
غ�ش الأمة امل�سكينة التذمر والت�ألمّ يق�صدون به َّ ما يتظاهرون به �أحيان ًا من ّ
التي يطمعهم يف انخداعها وانقيادها لهم علمهم ب� َّأن اال�ستبداد القائم بهم
وخدر �أع�صابها ،فجعلها بهمتهم قد �أعمى �أب�صارها وب�صائرهاَّ ، وامل�ستعمر َّ
فتئن من كامل�صاب ببحران العمى ،فهي ال ترى غري هول وظالم و�شدة و�آالمُّ ،
لت�صده ،فتوا�سيها فئة من َّ البالء وال تدري ما هو تداويه ،وال من �أين جاءها
مردق�ضاء من ال�سماء ال َّ ٌ �أولئك املتعاظمني با�سم الدين يقولون :يا ب�ؤ�ساء ،هذا
له ،فالواجب تل ّقيه بال�صرب والر�ضاء وااللتجاء �إىل الدعاء ،فاربطوا �أل�سنتكم
عن اللغو والف�ضول ،واربطوا قلوبكم ب�أهل ال�سكينة واخلمول ،و�إياكم والتدبري
ف�إن اهلل غيور ،وليكن وِ ْر ُدكم :اللهم ان�رص �سلطاننا ،و�آم ّنا يف �أوطاننا ،واك�شف
عنا البالء� ،أنت ح�سبنا ونعم الوكيل .ويغرر الأمة �آخرون من املتكربين ب�أنهم
63
اال�ستبداد واملجد
الأطباء الرحماء املهتمون مبداواة املر�ض� ،إنمَّ ا هم يرت َّقبون �سنوح الفر�ص،
وكال الفريقني -واهلل� -إما �أدنياء جبناء� ،أو هم خائنون خمادعون ،يريدون
التثبيط والتلبيد واالمتنان على الظاملني.
مغررون خمادعون يظهرون ما ال ُيبطنون، من دالئل �أن �أولئك الأكابر ِّ
�أ َّنهم ال ي�ست�صنعون �إال الأ�سافل الأراذل من النا�س ،وال مييلون لغري املتملقني
امل�ستبد الأكرب ،ومنها �أ َّنه
ّ املنافقني من �أهل الدين ،كما هو �ش�أن �صاحبهم
ولكن ،لي�س فيهم العفيف قد يوجد فيهم من ال يتن َّزل لقليل الر�شوة �أو ال�رسقةْ ،
عن الكثري ،وكفى مبا يتمتعون من الرثوات الطائلة التي ال منبت لها غري
امل�ستبد يف امت�صا�صه دم الأمة ،وذلك ب�أخذهم َّ امل�ستبيح الفاخر مب�شاركة
العطايا الكبرية ،والرواتب الباهظة ،التي تعادل �أ�ضعاف ما ت�سمح به الإدارة
العادلة لأمثالهم ،لأنها �إدارة را�شدة ال تدفع �أجوراً زائدة .ومنها �أنهم ال
ي�رصفون �شيئ ًا ولو �رساً من هذا ال�سحت الكثري يف �سبيل مقاومة اال�ستبداد
الذي يزعمون �أنهم �أعدا�ؤه� ،إمنا ي�رصف بع�ضهم منه �شيئ ًا يف ال�صدقات
ورياء ،وك�أنهم يريدون �أن ي�رسقوا �أي�ض ًا قلوب
ً الطفيفة وبناء املعابد �سمع ًة
النا�س بعد �سلب �أموالهم �أو �أنهم ير�شون اهلل� ،أال �ساء ما يتوهمون .ومنها � َّأن
�أكرثهم م�رسفون مب ِّذرون ،فال تكفي �أحدهم الرواتب املعتدلة التي ميكن �أن
ينالها �أجرة خدمة ال ثمن ذمة .ومنها �أنه قد يكون �أحدهم �شحيح ًا مقترِّ اً
يخل يف �رشف مقامه ،فال ي�رصف ن�صف �أو ربع راتبه يف نفقاته ،بحيث ُّ
مع �أ َّنه يقب�ضه زائداً على �أجر مثله لأجل حفظ �رشف املقام ،العائد ل�رشف
ال�ش ّح يكون خائن ًا ومهين ًا .واحلا�صل � َّأن الأكابر حري�صون على الأمة ،وبهذا ُّ
�أن يبقى اال�ستبداد مطلق ًا لتبقى �أيديهم مطلقة يف الأموال.
هذا وال ينكر التاريخ �أن الزمان �أوجد نادراً بع�ض وزراء وازروا اال�ستبداد
فرطوا فتابوا و�أنابوا ،ورجعوا ن�صف الأمة ثم ندموا على ما َّ عمراً طوي ًالَّ ،
وا�ستعدوا ب�أموالهم و�أنف�سهم لإنقاذها من داء اال�ستبداد .ولهذا ،ال يجوز
الي�أ�س من وجود بع�ض �أفراد من الوزراء والقواد عريقني يف ال�شهامة ،فيظهر
�رس الوراثة ولو بعد بطون �أو بعد الأربعني ورمبا ال�سبعني من �أعمارهم فيهم ّ
أمة �أن بين ًا تلألأ يف حميا �صاحبه ثريا �صدق النجابة .وال ينبغي ل ٍ ظهوراً ّ
ال�صدف التي ال ُتبنى تتكل على �أن يظهر فيها �أمثال ه�ؤالء ،ل َّأن وجودهم من ُّ
64
عليها �آمال وال �أحالم.
فرد عاجز ال حول له وال وقوة �إال باملتمجدين، والنتيجة � َّأن امل�ستبد ٌ
يحك جلدها غري ظفرها ،وال يقودها �إال والأمة� ،أي �أمة كانت ،لي�س لها من ُّ
اكفهرت �سماء عقول بينها َّ العقالء بالتنوير والإهداء والثبات ،حتى �إذا ما
قي�ض اهلل لها من جمعهم الكبري �أفراداً كبار النفو�س قادة �أبراراً ي�شرتون لها َّ
ال�سعادة ب�شقائهم واحلياة مبوتهم ،حيث يكون اهلل جعل يف ذلك لذتهم ،وملثل
ف�ساق ًا ُف ّجاراً
تلك ال�شهادة ال�رشيفة خلقهم ،كما خلق رجال عهد اال�ستبداد ّ
مهالكهم ال�شهوات واملثالب .ف�سبحان الذي يختار من ي�شاء ملا ي�شاء ،وهو
اخل ّالق العظيم.
65
اال�ستبداد واملال
66
اال�ستبداد واملال
ال�رش ،و�أبي اال�ستبداد لو كان رج ًال و�أراد �أن يحت�سب وينت�سب لقال�( :أنا ُّ
امل�س َكنة ،وعمي ال�ضرُّ ّ ،وخايلالظلم ،و� ّأمي الإ�ساءة ،و�أخي الغدر ،و�أختي ْ
ال ُّذ ّل ،وابني الفقر ،وبنتي البطالة ،وع�شريتي اجلهالة ،ووطني اخلراب� ،أما
ديني و�رشيف فاملال املال املال).
ي�صح يف و�صفه �أن ُيقال :القوة مال ،والوقت مال ،والعقل مال، ُّ املال
والدين مال ،وال ّثبات مال ،واجلاه مال ،واجلمال مال ،والرتتيب والعلم مالِّ ،
كل ما ُين َت َفع به يف احلياة وال�شهرة مال ،واحلا�صل ُّ
مال ،واالقت�صاد مالُّ ،
هو مال.
وي�شرتى� ،أي ي�ستبدل بع�ضه ببع�ض ،وموازين املعادلة وكل ذلك ُيباع ُ
ُّ
هي :احلاجة والع ّزة والوقت والتعب ،وحمافظة اليد والف�ضة والذهب والذمة،
و�سوقه املجتمعات ،و�شيخ ال�سوق ال�سلطان ..فانظر يف �سوق يتح ّكم فيه
م�ستبد ،ي�أمر زيداً بالبيع ،وينهى عمرواً عن ال�رشاء ،ويغ�صب بكراً ماله، ٌّ
ويحابي خالداً من مال النا�س.
بينان ،و َل ِن ْع َم
املال تعتوره الأحكام ،فمنه احلالل ومنه احلرام وهما ِّ
احلاكم فيها الوجدان ،فاحلالل الطيب ما كان عو�ض �أعيان� ،أو �أجرة �أعمال،
67
اال�ستبداد واملال
ثم
�أو بدل وقت� ،أو مقابل �ضمان .واملال اخلبيث احلرام هو ثمن ال�شرّ فَّ ،
ثم املحتال فيه.
إجلاء َّ
ثم امل�أخوذ � ً ثم امل�رسوقَّ ،
املغ�صوبَّ ،
ال�سمك والهوام� ،إال �أنثى
� َّإن النظام الطبيعي يف ك ِّل احليوانات حتى يف ّ
العنكبوتَّ � ،إن النوع الواحد منها ال ي�أكل بع�ضه بع�ض ًا ،والإن�سان ي�أكل
الرزق من اهلل� ،أي من مورده الإن�سان .ومن غريزة �سائر احليوان �أن يلتم�س ّ
حري�ص على اختطافه من يد �أخيه ،بل ٌ الظامل نف�سه
الطبيعي ،وهذا الإن�سان ّ
من فيه ،بل كم �أكل الإن�سان الإن�سان!
68
اال�ستبداد والإن�سان
ويتلمظ بدمائه� ،إىل �أن َّ عا�ش الإن�سان دهراً طوي ًال يتلذذ بلحم الإن�سان
�سداً للباب ،كماكلي ًاَّ ،
ثم الهند من �إبطال �أكل اللحم ّال�صنيَّ ،
مت َّكن احلكماء يف ّ
ثم جاءت ال�رشائع الدينية الأوىل يف غربي �آ�سيا بتخ�صي�ص هو د�أبهم �إىل الآنَّ .
ذبح على يد وي َثم بالقربان ُين َذر للمعبودُ ،
ما ي�ؤكل من الإن�سان ب�أ�سري احلربَّ ،
تدرج الإن�سانوج ِعل طعمة للنريان ،وهكذا َّ أكل حلم القربانُ ، بطل � ُثم �أُ ِ
الكهانَّ .
الدماء لوال �إبراهيم�إىل ن�سيان ل َّذة حلم �إخوانه ،وما كان لين�سى عبادة �إهراق ِّ
�شيخ الأنبياء ا�ستبدل قربان الب�رش باحليوان ،وا َّتبعه مو�سى عليهما ال�سالم،
وبه جاء الإ�سالم .وهكذا بطل هذا العدوان بهذا ال�شكل �إال يف �أوا�سط �أفريقيا
عند (النامنام).
ير�ض �أن يقتل الإن�سان الإن�سان ذبح ًا لي�أكل حلمه اال�ستبداد امل�ش�ؤوم مل َ
فامل�ستبدون ي�أ�رسون
ّ تفن يف الظلم،
�أك ًال كما كان يفعل الهمج الأولون ،بل نَّ
جماعتهم ،ويذبحونهم ف�صداً مبب�ضع الظلم ،وميت�صون دماء حياتهم بغ�صب
�أموالهم ،ويق�رصون �أعمارهم با�ستخدامهم �سخرة يف �أعمالهم� ،أو بغ�صب
ثمرات �أتعابهم .وهكذا ال فرق بني الأولني والآخرين يف نهب الأعمار و�إزهاق
الأرواح �إال يف ال�شكل.
69
اال�ستبداد والإن�سان
بالظلم القائم يف فطرة قوي العالقة ُّبحث ُّ ٌ � َّإن بحث اال�ستبداد واملال
ملقدمات تتع َّلق نتائجها الإن�سان ،ولهذا ،ر�أيت �أن ال ب�أ�س يف اال�ستطراد ِّ
باال�ستبداد ال�سيا�سي ،فمن ذلك:
املقدر جمموعهم ب�ألف وخم�سمئة مليون ن�صفهم َك ٌّل على ال ّن�صف � َّإن الب�رش َّ
هنالآخر ،وي�ش ِّكل �أكرثية هذا الن�صف ال َك ّل ن�ساء املدن .ومن ال ّن�ساء؟ ال ّن�ساء َّ
ال ّنوع الذي عرف مقامه يف الطبيعة ب�أ َّنه هو احلافظ لبقاء اجلن�س ،و�أ َّنه يكفي
وامل�شاق،
ّ للألف منه ملقح واحد ،و� َّإن باقي الذكور حظهم �أن ُي�ساقوا للمخاطر
�أو هم ي�ستح ّقون ما ي�ستح ُّقه ذكر النحل ،وبهذا النظر اقت�سمت الن�ساء مع الذكور
ن�صيبهن هينِّ
َّ ب�سن قانونٍ عام ،به جعلن �أعمال احلياة ق�سم ًة �ضيزى ،وحت َّك ْمن ِّ
نوعهن مطلوب ًا عزيزاً ب�إيهام الع ّفة ،وجعلن َّ ال�ضعف ،وجعلن الأ�شغال بدعوى ّ
نوعهن ُيهني َّ فيهن حممدتني يف الرجال ،وجعلن َّ ال�شجاعة والكرم �سيئتني
يربني البنات والبنني، فيعان ،وعلى هذا القانون ِّ وال ُيهان ،ويظلم �أو ُيظ َلم ُ
الرجال كما ي�ش�أن حتى �أنهن جعلن الذكور يتوهمون �أ َّنهن ويتالعنب بعقول ِّ
امل�رض! ومن ِّ اهن بالن�صف �سم َّ
�أجمل منهم �صور ًة .واحلا�صل �أ َّنه قد �أ�صاب من َّ
امل�شاهد � َّأن �رضر الن�ساء بالرجال يرت ّقى مع احل�ضارة واملدنية على ن�سبة
الترَّ قي امل�ضاعف .فالبدوية ت�شارك الرجل منا�صف ًة يف الأعمال والثمرات،
الرجل لأجل معي�شتها وزينتها اثنني فتعي�ش كما يعي�ش ،واحل�رضية ت�سلب ّ
وتود �أال من ثالثة .و ُتعينه يف �أعمال البيت .واملدنية ت�سلب ثالثة من �أربعةُّ ،
الرجال .وما �أ�صدق تخرج من الفرا�ش ،وهكذا ترت َّقى بنات العوا�صم يف �أ�رس ِّ
الرجال فيها ت�سمى املدنية الن�سائية ،ل َّأن ِّ باملدنية احلا�رضة يف �أوروبا� ،أن ّ
�صاروا �أنعام ًا لل ِّن�ساء.
م�شاق احلياة ق�سم ًة ظامل ًة �أي�ض ًا ،ف� َّإن �أهل ال�سيا�سة َّ الرجال تقا�سموا ثم � َّإن ِّ َّ
والأديان ومن يلتحق بهم -وعددهم ال يبلغ اخلم�سة يف املئة -يتمتعون
الرفه والإ�رساف، يتجمد يف دم الب�رش �أو زيادةُ ،ينفقون ذلك يف َّ َّ بن�صف ما
يزينون ال�شوارع مباليني من امل�صابيح ملرورهم فيها �أحيان ًا مثال ذلك� :أ َّنهم ِّ
مرتاوحني بني املالهي واملواخري وال يف ِّكرون يف ماليني من الفقراء يعي�شون
يف بيوتهم يف ظالم.
ثم �أهل ال�صنائع النفي�سة والكمالية ،والتجار ال�شرَّ هون املحتكرون و�أمثال َّ
70
-ويقدرون كذلك بخم�سة يف املئة -يعي�ش �أحدهم مبثل ما يعي�ش َّ هذه الطبقة
ال�ص ّناع وال ُّز ّراع .وجرثومة هذه الق�سمةبه الع�رشات �أو املئات �أو الألوف من ُّ
الظاملة هي اال�ستبداد ال غريه .وهناك �أ�صناف من املتفاوتة املتباعدة ّ
ال ّنا�س ال يعملون �إال قلي ًال� ،إمنا يعي�شون باحليلة كال�سما�رسة وامل�شعوذين
قدرون بخم�سة ع�رش يف املئة� ،أو يزيدون على با�سم الأدب �أو الدين ،وه�ؤالء ُي َّ
�أولئك.
نعم ،ال يقت�ضي �أن يت�ساوى العامل الذي �رصف زهوة حياته يف حت�صيل
العلم النافع �أو ال�صنعة املفيدة بذاك اجلاهل النائم يف ظ ِّل احلائط ،وال ذاك
التاجر املجتهد املخاطر بالك�سول اخلامل ،ولكن العدالة تقت�ضي غري ذلك
فيقربه من
ِّ ال�سافل،
التفاوت ،بل تقت�ضي الإن�سانية �أن ي�أخذ الراقي بيد ّ
ويقاربه يف معي�شته ،ويعينه على اال�ستقالل منزلته ،ويقاربه من منزلتهُ ،
يف حياته.
ال! ال! ال يطلب الفقري معاونة الغني� ،إمنا يرجوه �أن ال يظلمه ،وال يلتم�س
الرحمة� ،إمنا يلتم�س العدالة ،ال ي� ِّؤمل منه الإن�صاف� ،إمنا ي�س�أله �أن ال منه ّ
يمُ يته يف ميدان مزاحمة احلياة.
َب َ�س َط املوىل -ج ّلت حكمته� -سلطان الإن�سان على الأكوان ،فطغى ،وبغى،
ربه وعبد املال واجلمال ،وجعلهما منيته ومبتغاه ،ك�أ َّنه ُخلق خادم ًا ون�سي َّ
لبطنه وع�ضوه فقط ،ال �ش�أن له غري الغذاء وال ّتحاك .وبالنظر �إىل � َّأن املال
هم للإن�سان يف جمع املال، هو الو�سيلة املو�صلة للجمال كاد ينح�رص �أكرب ٍّ
وب�رس الوجود ،وروى كري�سكوا امل� ِّؤرخ الرو�سي:ِّ ولهذا ُيك َّنى عنه مبعبود الأمم
رعيتها ،ف�أر�شدها �شيطا ُنها �إىل حمل ال ِّن�ساء على � َّإن كاترينا �شكت ك�سل ّ
ال�شبان للعمل وك�سب املال فهب ّ اخلالعة ،ففعلت و�أحدثت ك�سوة املراق�صَّ ،
ربات اجلمال ،ويف ظرف خم�س �سنني ،ت�ضاعف دخل خزينتها، ل�رصفه على ّ
امل�ستبدون ال تهمهم الأخالق� ،إنمَّ ا يهمهم
ّ فا َّت�سع لها جمال الإ�رساف .وهكذا
املال.
املال عند االقت�صاديني :ما ينتفع به الإن�سان ،وعند احلقوقيني :ما يجري
فيه املنع والبذل ،وعند ال�سيا�سيني :ما ُت�ستعا�ض به القوة ،وعند الأخالقيني:
ي�ستمد من الفي�ض الذي �أودعه اهلل تعاىل ُّ ما تحُ فظ به احلياة ال�رشيفة .املال
71
اال�ستبداد والإن�سان
يف الطبيعة ونوامي�سها ،وال ميلك� ،أي ال يتخ�ص�ص ب�إن�سان� ،إال بعمل فيه �أو
يف مقابله.
واملق�صود من املال هو �أحد اثنني ال ثالث لهما وهما :حت�صيل ل ّذة �أو دفع
كل مقا�صد الإن�سان ،وعليهما مبنى �أحكام ال�رشائع كلها، �أمل ،وفيهما تنح�رص ُّ
طيب املال وخبيثه ،هو الوجدان الذي خلقه اهلل �صبغ ًة واحلاكم املعتدل يف ّ
لل ّنف�س ،وعبرَّ عنه القر�آن ب�إلهامها فجورها وتقواها ،فالوجدان خيرَّ بني
املال احلالل واملال احلرام.
ثم � َّإن �أعمال الب�رش يف حت�صيل املال ترجع �إىل ثالثة �أ�صول1- : َّ
ا�ستح�ضاره املواد الأ�صلية 2- .تهيئته املواد لالنتفاع 3- .توزيعها على
وكل و�سيلة ت�سمى بالزراعة وال�صناعة والتجارةُّ ، النا�س .وهي الأ�صول التي ّ
خارجة عن هذه الأ�صول وفروعها الأولية ،فهي و�سائل ظاملة ال خري فيها.
التمول� ،أي ِّادخار املال ،طبيعة يف بع�ض �أنواع احليوانات الدنيئة كالنمل ُّ
تطبع على َّ إن�سان ل ا إن�سان. ل ا غري املرتقية احليوانات يف له أثر � وال والنحل،
التمول لدواعي احلاجة املح َّققة �أو املوهومة ،وال حت ُّقق للحاجة �إال عند �سكان ُّ
املعر�ضة للقحط يف بع�ض َّ أرا�ضي ل ا أو � أهلها، � على الثمرات قة �ضي
ّ أرا�ضي ال
ال�سنني ،ويلتحق باحلاجة املح َّققة حاجة العاجزين ج�سم ًا عن االرتزاق
يف البالد املبتالة بجور الطبيعة �أو جور اال�ستبداد ،ورمبا يلتحق بها �أي�ض ًا
ال�رصف على امل�ضطرين وعلى امل�صارف العمومية يف البالد التي ينق�صها
االنتظام العام.
واملراد باالنتظام العام ،معي�شة اال�شرتاك العمومي التي �أ�س�سها الإجنيل
بتخ�صي�صه ع�رش الأموال للم�ساكني ،ولكن ،مل يكد يخرج ذلك من القوة �إىل
مت نظام ،ولكن ،مل تدم �أي�ض ًا ثم �أحدث الإ�سالم ُ�س َّنة اال�شرتاك على �أ ِّ الفعلَّ ،
�أكرث من قرنٍ واحد كان فيه امل�سلمون ال يجدون من يدفعون لهم ال�صدقات
والك ّفارات ،وذلك � َّأن الإ�سالمية -كما �سبق بيانه� -أ�س�ست حكومة �أر�ستقراطية
املبنى ،دميوقراطية الإدارة ،فو�ضعت للب�رش قانون ًا م�ؤ�س�س ًا على قاعدةَّ � :إن
املال هو قيمة الأعمال ،وال يجتمع يف يد الأغنياء �إال ب�أنواع من ال َغ َلبة
واخلداع.
رد على الفقراء ،بحيث وي ّ ق�سم من مال ُ
فالعدالة املطلقة تقت�ضي �أن ي�ؤخذ ٌ
72
يح�صل التعديل وال ميوت الن�شاط للعمل .وهذه القاعدة يتم ّنى ما هو من
نوعها �أغلب العامل املتمدن الإفرجني ،وت�سعى وراءها الآن جمعيات منهم
مكونة من ماليني كثرية .وهذه اجلمعيات تق�صد ح�صول الت�ساوي منتظمة َّ
�ضد اال�ستبداد املايل، �أو التقارب يف احلقوق املعا�شية بني الب�رش ،وت�سعى َّ
فتطلب � ْأن تكون الأرا�ضي والأمالك الثابتة و�آالت املعامل ال�صناعية الكبرية
م�شرتكة ال�شيوع بني عامة الأمة ،و� َّأن الأعمال والثمرات تكون موزعة
بوجوه متقاربة بني اجلميع ،و� َّأن احلكومة ت�ضع قوانني لكافة ال�ش�ؤون حتى ٍ
اجلزئيات ،وتقوم بتنفيذها.
وهذه الأ�صول مع بع�ض التعديل قررتها الإ�سالمية دين ًا ،وذلك �أنها
قررت:
�أو ًال� -أنواع الع�شور والزكاة وتق�سيمها على �أنواع امل�صارف العامة و�أنواع
املحتاجني حتى املدينني .وال يخفى على املدققني � َّأن جزءاً من �أربعني من
ر�ؤو�س الأموال يقارب ن�صف الأرباح املعتدلة باعتبار �أنها خم�سة باملئة
�سنوي ًا ،وبهذا النظر يكون الأغنياء م�ضاربني للجماعة منا�صف ًة .وهكذا يلحق
فقراء الأمة ب�أغنيائها ،ومينع تراكم الرثوات املفرطة املو ِّلدة لال�ستبداد،
وامل�رضة ب�أخالق الأفراد.
َّ
أحكام حمكمة متنع حمذور التواكل يف االرتزاق ،و ُتلزِم ك َّل ٌ � قررت - ا
ً ثاني
ا�شتد �ساعده� ،أو ملك قوت يومه� ،أو ال َّن ّ�صاب على الأكرث� ،أن
فرد من الأمة متى َّ
م�ستبدة ت�رضب ّ ي�سعى لرزقه بنف�سه� ،أو ميوت الفرد جوع ًا� ،إذا مل تكن حكومته
على يده و�سعيه ون�شاطه مبدافع ا�ستبدادها ،وقد قيل :يبد�أ االنقياد للعمل عند
نهاية اخلوف من احلكومة ونهاية اال ِّتكال على الغري.
ثالث ًا -قررت الإ�سالمية ترك الأرا�ضي الزراعية ملك ًا لعامة الأمة،
ي�ستنبتها وي�ستمتع بخرياتها العاملون فيها ب�أنف�سهم فقط ،ولي�س عليهم غري
الع�رش �أو اخلراج الذي ال يجوز �أن يتجاوز اخلم�س لبيت املال.
كلية ت�صلح للإحاطة ب�أحكام رابع ًا -جاءت الإ�سالمية بقواعد �رشعية ّ
كافة ال�ش�ؤون حتى اجلزئية ال�شخ�صية ،و�أناطت تنفيذها باحلكومة ،كما
تطلبه �أغلب جمعيات اال�شرتاكيني .على � َّأن هذا النظام الذي جاء به الإ�سالم،
�صعب الإجراء جداً ،لأ َّنه منوط ب�سيطرة الك ّل ور�ضاء النفو�س ،ول َّأن القانون
73
اال�ستبداد والإن�سان
معر�ض ًا للت�أويل ح�سب الأغرا�ض، الكثري الفروع يتع َّذر حفظه ب�سيط ًا ،ويكون َّ
ولالختالف يف تطبيقه ح�سب الأهواء ،كما وقع فع ًال يف امل�سلمني ،فلم ميكنهم
ت�شعبت معهم الأمور بطبيعة ثم َّ�إجراء �رشيعتهم بب�ساطة و�أمان �إال عهداً قلي ًالَّ ،
ا ِّت�ساع امللك واختالف طبائع الأمم ،و َف َق َد الرجال الذين ميكنهم �أن ي�سوقوا
مئات ماليني من �أجنا�س النا�س :الأبي�ض والأ�صفر ،واحل�رضي والبدوي،
بع�صا واحدة قرون ًا عديدة.
يت�صوره العقل ،ولكن، َّ وال َغ ْر َو �إذا كانت املعي�شة اال�شرتاكية من �أبدع ما
مع الأ�سف مل يبلغ الب�رش بعد الرت ّقي ما يكفي لتو�سيعهم نظام التعاون
جربت الأمم والت�ضامن يف املعي�شة العائلية �إىل �إدارة الأمم الكبرية .وكم َّ
تقدم هو
ذلك فلم تنجح فيها �إال الأمم ال�صغرية مدة قليلة .وال�سبب كما َّ
جمرد �صعوبة التحليل والرتكيب بني ال�صوالح وامل�صالح الكثرية املختلفة. ّ
واملت� ِّأمل يف عدم انتظام حالة العائالت الكبرية ،يقنع حا ًال ب� َّأن التكافل
والت�ضامن غري مي�سورين يف الأمم الكبرية ،ولهذا يكون خري ح ٍّل مقدور
للم�س�ألة االجتماعية هو ما ي�أتي:
حراً م�ستق ًّال يف �ش�ؤونه ،ك�أنه ُخ ِلق وحده.
-يكون الإن�سان ّ
-تكون العائلة م�ستقلة ،ك�أنها �أمة وحدها.
قارة واحدة ال عالقة لها -تكون القرية �أو املدينة م�ستقلة ك�أنها ّ
بغريها.
-تكون القبائل يف ال�شعب �أو الأقاليم يف اململكة ك�أنها �أفالك ،ك ٌّل منها
م�ستق ٌّل يف ذاته ،ال يربطها مبركز نظامها االجتماعي ،وهو اجلن�س �أو الدين
�أو امللك غري حم�ض التجاذب املانع من الوقوع يف نظام �آخر ال يالئم طبائع
حياتها.
التمول لأجل احلاجات ال�سالفة ال ِّذكر وبقدرها فقط حممودة بثالثة ثم � َّإن َُّّ
التمول من �أقبح اخل�صال:ّ كان ال
ّ �
إ و �رشوط،
ال�رشط الأول� :أن يكون املال بوجه م�رشوع حال ًال� ،أي ب�إحرازه من بذل
الطبيعة� ،أو باملعاو�ضة� ،أي يف مقابل عمل� ،أو يف مقابل �ضمان على ما
تقوم بتف�صيله ال�رشائع املدنية.
التمول ت�ضييق على حاجيات الغري كاحتكار وال�رشط الثاين� :أن ال يكون يف ّ
74
ال�رضوريات� ،أو مزاحمة ال�ص ّناع والعمال ال�ضعفاء� ،أو التغ ُّلب على املباحات،
مثل امتالك الأرا�ضي التي جعلها خالقها ممرح ًا لكافة خملوقاته ،وهي �أمهم
تر�ضعهم لنب جهازاتها ،وتغ ّذيهم بثمراتها ،وت�ؤويهم يف ح�ضن �أجزائها،
امل�ستبدون الظاملون الأولون وو�ضعوا �أ�صو ًال حلمايتها من �أبنائها ّ فجاء
م�ستبد مايل من الإنكليز،
ّ وحالوا بينهما .فهذه �إيرلندا -مث ًال -قد حماها �ألف
ليتمتعوا بثلثي �أو ثالثة �أرباع ثمرات �أتعاب ع�رشة ماليني من الب�رش الذين
ُخ ِلقوا من تربة �إيرلندا .وهذه م�رص وغريها تقرب من ذلك حا ًال و�ستفوقها
ما ًال ،وكم من الب�رش يف �أوروبا املتمدنة ،وخ�صو�ص ًا يف لندن وباري�س ،ال يجد
�أحدهم �أر�ض ًا ينام عليها متمدداً ،بل ينامون يف الطبقة ال�سفلى من البيوت،
حيث ال ينام البقر ،وهم قاعدون �صفوف ًا يعتمدون ب�صدورهم على حبالٍ من
م�سد من�صوبة �أفقية يتلوون عليها مين ًة وي�رسة.
وحكومة ال�صني خمت ّلة النظام يف نظر املتمدنني ،ال جتيز قوانينها �أن
ال�شخ�ص الواحد �أكرث من مقدار معني من الأر�ض ال يتجاوز الع�رشين ميتلك ّ
كيلومرتاً مربع ًا� ،أي نحو خم�سة �أفدن م�رصية �أو ثالثة ع�رش دومن ًا عثماني ًا.
امل�ستبدة القا�سية يف ُعرف �أكرث الأوروبيني و�ضعت �-أخرياً- ّ ورو�سيا
لواليتها البولونية الغربية قانون ًا �أ�شبه بقانون ال�صني ،وزادت عليه �أ َّنها
لفالح �أن ي�ستدين �أكرث
ٍ م�سجل على فالح ،وال ت�أذن ّ منعت �سماع دعوى دينٍ
من نحو خم�سمئة فرنك .وحكومات ال�شرّ ق �إذا مل ت�ستدرك الأمر فت�ضع قانون ًا
من قبيل قانون رو�سيا ،ت�صبح الأرا�ضي الزراعية بعد خم�سني عام ًا �أو قرن
على الأكرث ك�إيرلندا الإنكليزية امل�سكينة ،التي وجدت لها يف مدى ثالثة
قرون �شخ�ص ًا واحداً حاول �أن يرحمها فلم ُيفلح ،و�أعني به غالد�ستون ،على
الرحمة.
� َّأن ال�رشق رمبا ال يجد يف ثالثني قرن ًا من يلتم�س له َّ
التمول ،هو� :أال يتجاوز املال قدر احلاجة بكثري، وال�رشط الثالث جلواز ّ
لأن �إفراط الرثوة مهلكة للأخالق احلميدة يف الإن�سان ،وهذا معنى الآية( :كال
� َّإن الإن�سان ليطغى* �أن ر�آه ا�ستغنى) ،وال�رشائع ال�سماوية ك ُّلها ،وكذلك احلكمة
حرمت الربا� ،صيان ًة لأخالق املرابني من الف�ساد ،ل َّأن الأخالقية والعمرانية َّ
الربا :هو ك�سب بدون مقابل مادي ،ففيه معنى الغ�صب ،ودون عمل ،ل َّأن
تعر�ض خل�سائر املرابي يك�سب وهو نائم ،ففيه الأُلفة على البطالة ،ومن دون ُّ
75
اال�ستبداد والإن�سان
76
امل�ستبد الأعظم� ،أو �أحد �أعوانه وعماله ،ويكفيه و�سيل ًة �أن ي ّت�صل بباب �أحدهم ّ
ويتقرب من �أعتابه ،ويظهر له �أ َّنه يف الأخالق من �أمثاله وعلى �شاكلته، َّ
ويربهن له ذلك ب�أ�شياء من التم ُّلق و�شهادة الزور ،وخدمة ال�شهوات ،والتج�س�س،
ثم قد يطلع هذا املنت�سب على بع�ض اخلفايا ال�سلب ونحو ذلكَّ . والداللة على ّ
والأ�رسار التي يخاف رجال اال�ستبداد من ظهورها خوف ًا حقيقي ًا �أو وهمي ًا،
فيك�سب املنت�سب ر�سوخ القدم وي�صري هو باب ًا لغريه ،وهكذا يح�صل على الرثوة
الطائلة �إذا �ساعدته الظروف على ال ّثبات طوي ًال .وهذا �أعظم �أبواب الرثوة يف
ثم الربا الفاح�ش ،وهي ثم املالهيَّ ،بالدينَّ ،
ال�رشق والغرب ،ويليه االتجِّ ار ّ
بئ�س املكا�سب وبئ�س ما ت�ؤ ِّثر يف �إف�ساد �أخالق الأمم.
أ�رض كثرياً
وقد ذكر املدققون � َّأن ثروة بع�ض الأفراد يف احلكومات العادلة � ّ
قوتهم املالية امل�ستبدة ،ل َّأن الأغنياء يف الأوىل ي�رصفون ّ
َّ منها يف احلكومات
يف �إف�ساد �أخالق النا�س و�إخالل امل�ساواة و�إيجاد اال�ستبدادّ � ،أما الأغنياء يف
امل�ستبدة في�رصفون ثروتهم يف ال َّأبهة والتعاظم �إرهاب ًا للنا�س، ّ احلكومات
املن�صبة عليهم بالتغايل الباطل ،وي�رسفون الأموال يف ّ لل�سفالة
وتعوي�ض ًا ّ
الف�سق والفجور.
يتعجلها الزوال ،حيث يغ�صبها الأقوى منهم من ّ بناء عليه ،ثروة ه�ؤالء ً
حلظة وبكلمة .وتزول �أي�ض ًا - ٍ امل�ستبد الأعظم يف
ُّ ي�سلبها وقد أ�ضعف، ال
واحلمد هلل -قبل �أن يتع ّلم �أ�صحابها �أو ورثتهم كيف تحُ فظ الرثوات ،وكيف
تنمو ،وكيف ي�ستعبدون بها النا�س ا�ستعباداً �أ�صولي ًا م�ستحكم ًا ،كما هو احلال
املهددة ب�رشوط الفو�ضويني ب�سبب الي�أ�س من مقاومة َّ يف �أوروبا املتمدنة
اال�ستبداد املايل فيها.
أثر فقر الأمة ظهوراً بيان ًا �إال فج�أ ًة
ومن طبائع اال�ستبداد �أ َّنه ال يظهر فيه � ُ
ُق َريب ق�ضاء اال�ستبداد نحبه .و�أ�سباب ذلك � َّأن النا�س يقت�صدون يف الن�سل،
تغربهم ،ويبيعون �أمالكهم من الأجانب ،فتتق ّل�ص وتكرث وفياتهم ،ويكرث ّ
الرثوة ،وتكرث النقود بني الأيدي .وبئ�ست من ثروة ونقود ت�شبه ن�شوة
املذبوح.
ولرنجع �إىل بحث طبيعة اال�ستبداد يف مطلق املال ف�أقولَّ � :إن اال�ستبداد
وعماله غ�صب ًا، امل�ستبد و�أعوانه ّ
ّ يجعل املال يف �أيدي النا�س عر�ض ًة ل�سلب
77
اال�ستبداد والإن�سان
بحجة باطلة ،وعر�ض ًة �أي�ض ًا ل�سلب املعتدين من الل�صو�ص واملحتالني ٍ �أو
ح�صل �إال بامل�ش ّقة،
الراتعني يف ظ ِّل �أمان الإدارة اال�ستبدادية .وحيث املال ال ُي َ
املن على االنتفاع بالثمرة. فال تختار النفو�س الإقدام على املتاعب مع عدم ِّ
امل�ستبدة �أ�صعب من ك�سبه ،ل َّأن ظهور �أثره ّ ِح ْف ُظ املال يف عهد الإدارة
على �صاحبه جملبة لأنواع البالء عليه ،ولذلك ُي�ضطر النا�س زمن اال�ستبداد
لإخفاء نعمة اهلل وال ّتظاهر بالفقر والفاقة ،ولهذا ورد يف �أمثال الأُ�رساء � َّأن
حفظ درهم من الذهب يحتاج �إىل قنطار من العقل ،و� َّأن العاقل من يخفي
ذهبه وذهابه ومذهبه ،و� َّأن �أ�سعد النا�س ال�صعلوك الذي ال يعرف احل ّكام وال
يعرفونه.
ومن طبائع اال�ستبدادَّ � ،أن الأغنياء �أعدا�ؤه فكراً و�أوتاده عم ًال ،فهم ربائط
الذل يف الأمم وي�ستدرهم فيح ّنون ،ولهذا ير�سخ ُّ ّ امل�ستبد ،يذ ُّلهم فيئ ّنون،
ِّ
امل�ستبد خوف النعجة من الذئاب، ُّ التي يكرث �أغنيا�ؤها� .أما الفقراء فيخافهم
ويتحبب �إليهم ببع�ض الأعمال التي ظاهرها الر�أفة ،يق�صد بذلك �أن يغ�صب
ٍ
دناءة �أي�ض ًا قلوبهم التي ال ميلكون غريها .والفقراء كذلك يخافونه خوف
ونذالة ،خوف البغاث من العقاب ،فهم ال يج�رسون على االفتكار ف�ض ًال عن
يتوهمون � َّأن داخل ر�ؤو�سهم جوا�سي�س عليهم .وقد يبلغ ف�ساد الإنكار ،ك�أنهم َّ
وجه كان امل�ستبد عنهم ب� ِّأي ٍ
ِّ ي�رسهم فع ًال ر�ضاء الأخالق يف الفقراء �أن ّ
ر�ضا�ؤه.
وقد خالف الأخالقيون املت� ِّأخرون �أ�سالفهم يف قولهم ،لي�س الفقراء بعيب،
ثما�ستغناء عن ال ّنا�سَّ ،
ٌ مفتقر للغري ،والغناء
ٌ فقالوا :الفقر �أبو املعائب ،لأنه
قالوا :الفقر يذهب بع ّزة النف�س ،ويف�ضي �إىل خلع احلياء ،وقالواَّ � :إن حل�سن
والتنعم يف املعي�شة ت�أثرياً مهم ًا على نفو�س الب�رش ،خالف ًا ّ اللبا�س والأمتعة
ملن يقول :لي�س املرء بطيل�سانه ،وحديث (اخ�شو�شنوا ،ف�إن النعم ال تدوم)
امل�شاق يف احلروب والأ�سفار وعند ّ التعود ج�سم ًا على
ّ هو لأ ّنه يحمل على
احلاجة .فقالواَّ � :إن رغد العي�ش ونعيمه ملن �أعظم احلاجات ،به تعلو الهمم،
ولأجله ُتق َتحم العظائم.
يحل امل�شكالت الزمان واملال .القوة كانت ُيقال يف مدح املالَّ � :إن ما ُّ
ثم �صارت للمال .العلم واملال ُيطيالن عمر ثم �صارت للعلمَّ ، للع�صبيةَّ ،
78
بالدم،
ّ الإن�سان ،حيث يجعالن �شيخوخته ك�شبابه .ال ُي�صان ال�شرّ ف �إال
وال يت�أتى الع ُّز �إال باملال .وقد م�ضى جمد الرجال وجاء جمد املال .وورد
خري من اليد ال�سفلى .و� َّأن الغني ال�شاكر �أف�ضل من يف الأثرَّ � :إن اليد العليا ٌ
الفقري ال�صابر .ومل يكن قدمي ًا �أهمية للرثوة العمومية� ،أما الآن وقد �صارت
املحاربات حم�ض مغالبة وعلم ومال ،ف�أ�صبح للرثوة العمومية �أهمية
عظمى لأجل حفظ اال�ستقالل ،على � َّأن الأمم امل�أ�سورة ال ن�صيب لها من الرثوة
العمومية ،بل منزلتها يف املجتمع الإن�ساين ك�أنعام تتناقلها الأيدي ،وال
تعار�ض هذه القاعدة ثروة اليهود ،لأنها ثروة غري مزاحمني عليها ،لأنها فيما
يقوله �أعدا�ؤه فيها :ثروة ر�أ�سمالها النامو�س ،وم�رصفها املالهي واملقامرة
والغ�ش وامل�ضاربات ،وال يخلو هذا القول من التحامل عليهم ح�سداً ّ والربا
ممن يقدمون �إقدامهم وال ينالون منالهم.
هذا وللمال الكثري �آفات على احلياة ال�رشيفة ترتعد منها فرائ�ص �أهل
الرزق مع حفظ احلرية وال�رشف الف�ضيلة والكمال ،الذين يف�ضلون الكفاف من ِّ
على امتالك دواعي الرتف وال�سرّ ف ،وينظرون �إىل املال الزائد على احلاجة
بالء من حيث االفتكار ب�إمنائه، الكمالية �أ ّنه بالء يف بالء يف بالء� ،أي �أ ّنه ٌ
و�أما املكتفي فيعي�ش مطمئن ًا م�سرتيح ًا �أمين ًا بع�ض الأمن على دينه و�رشفه
و�أخالقه.
قرر الأخالقيون � َّأن الإن�سان ال يكون حراً متام ًا ما مل تكن له �صنعة م�ستق ٌّل
فيها� ،أي غري مر�ؤو�س لأحد ،لأن حريته ال�شخ�صية تكون تابعة الرتباطه
بالر�ؤ�ساء .وعليه تكون �أقبح الوظائف هي وظائف احلكومة .وقالواَّ � :إن
دل به على �أحوال لل�صنعة ت�أثرياً يف الأخالق والأميال ،وهي من �أ�صدق ما ُي�س َت ُّ
الأفراد والأقوام .فاملوظفون يف احلكومة مث ًال يفقدون ال�شفقة والعواطف
العالية تبع ًا ل�صنعتهم التي من مقت�ضاها عدم ال�شعور بتبعة �أعمالهم ،وقال
احلكماءَّ � :إن العاجز يجمع املال بالتقتري ،والكرمي يجمعه بالك�سب ،وقالواَّ � :إن
�أقل ك�سب ير�ضى به العاقل ما يكفي معا�شه باقت�صاد ،وقالوا :خري املال ما
ذل القلة وطغيان الكرثة .وهذا معنى احلديث (فاز املخففون) يكفي �صاحبه ّ
ويقال :الغنى غنى القلب ،والغني وحديث «ا�س�ألوا اهلل الكفاف من الرزق»ُ .
كل من ق َّلت حاجته ،والغني من ا�ستغنى عن النا�س .وقال بع�ض احلكماءُّ :
79
اال�ستبداد والإن�سان
�إن�سانٍ فقري بالطبع ينق�صه مثل ما ميلك ،فمن ميلك ع�رشة يرى نف�سه حمتاج ًا
ألف �أخرى .وهذا معنى لع�رشة �أخرى ،ومن ميلك �ألف ًا يرى نف�سه حمتاج ًا ل ٍ
أحب �أن يكون له واديان».
واد من ذهب � َّ احلديث« :لو كان البن �آدم ٍ
وال يق�صد الأخالقيون من التزهيد يف املال التثبيط عن ك�سبه� ،إمنا
يق�صدون �أال يتجاوز ك�سبه بالطرائق الطبيعية ال�رشيفة� .أما ال�سيا�سيون فال
يهمهم �إال �أن ت�ستغني الرعية ب�أي و�سيلة كانت ،والغربيون منهم ُيعينون الأمة
على الك�سب لي�شاركوها ،وال�رشقيون ال يفتكرون يف غري �سلب املوجود ،وهذه
من جملة الفروق بني اال�ستبدادين الغربي وال�رشقي ،التي منها � َّأن اال�ستبداد
ولكن ،مع ال ّلني ،وال�رشقي يكون مقلق ًال
أ�شد وط�أ ًةْ ،
الغربي يكون �أحكم و�أر�سخ و� ّ
تبدل �رسيع الزوال ،ولك ّنه يكون مزعج ًا .ومنها � َّأن اال�ستبداد الغربي �إذا زال ّ
بحكومة عادلة ُتقيم ما �ساعدت الظروف �أن تقيم� ،أما ال�رشقي فيزول ويخلفه
�رش منه ،ل َّأن من د�أب ال�رشقيني �أال يفتكروا يف م�ستقبل قريب ،ك� َّأن ا�ستبداد ٌّ
�أكرب همهم من�رصف �إىل ما بعد املوت فقط� ،أو �أنهم مبتلون بق�رص النظر.
أ�شد وط�أ ًة من الوباء� ،أكرث هو ًال من داء � ُّ
وخال�صة القولَّ � :إن اال�ستبداد ٌ
بقوم
داء �إذا نزل ٍ أذل للنفو�س من ال�س�ؤالٌ . ال�سيلُّ � ،
احلريق� ،أعظم تخريب ًا من ّ
ربها �سمعت �أرواحهم هاتف ال�سماء ينادي الق�ضاء الق�ضاء ،والأر�ض تناجي ّ
عهد� ،أ�شقى النا�س فيه العقالء والأغنياء ،و�أ�سعدهم بك�شف البالء .اال�ستبداد ٌ
يتعجلون املوت فيح�سدهم مبحياه اجلهالء والفقراء ،بل �أ�سعدهم �أولئك الذين ّ
الأحياء.
80
اال�ستبداد والأخالق
يت�رصف يف �أكرث الأميال الطبيعية والأخالق احل�سنة، َّ اال�ستبداد
في�ضعفها� ،أو ُيف�سدها� ،أو ميحوها ،فيجعل الإن�سان يكفر ب ِن َعم مواله ،لأنه مل ُ
حق احلمد ،ويجعله حاقداً على قومه ،لأنهم ّ عليها ليحمده امللك حق
ّ ميلكها
حب وطنه ،لأ َّنه غري �آمن على اال�ستقرار ً ّ ا وفاقد عليه، اال�ستبداد عون لبالء
ٌ
احلب لعائلته ،لأنه يعلم منهم �أ َّنهم مثله ال
ويود لو انتقل منه ،و�ضعيف ِّ فيهُّ ،
أ�سري
�ضطرون لإ�رضار �صديقهم ،بل وقتله وهم باكونُ � . ميلكون التكاف�ؤ ،وقد ُي ّ
معر�ضاال�ستبداد ال ميلك �شيئ ًا ليحر�ص على حفظه ،لأ َّنه ال ميلك ما ًال غري َّ
معر�ض للإهانة .وال ميلك اجلاهل منه �آما ًال م�ستقبلة لل�سلب وال �رشف ًا غري َّ ّ
ليتبعها وي�شقى كما ي�شقى العاقل يف �سبيلها.
وهذه احلال جتعل الأ�سري ال يذوق يف الكون لذ ًة نعيم ،غري بع�ض املل ّذات
بناء عليه ،يكون �شديد احلر�ص على حياته احليوانية و� ْإن كانت البهيميةً .
تعي�سة ،وكيف ال يحر�ص عليها وهو ال يعرف غريها؟! �أين هو من احلياة
الأدبية؟! �أين هو من احلياة االجتماعية؟! � َّأما الأحرار فتكون منزلة حياتهم
احليوانية عندهم بعد مراتب عديدة ،وال يعرف ذلك �إال من كان منهم� ،أو ك�شف
عن ب�صريته.
81
اال�ستبداد والأخالق
ومثال الأ�رساء يف حر�صهم على حياتهم ال�شيوخ ،ف�إ َّنهم عندما مت�سي
حياتهم ك ُّلها �أ�سقام ًا و�آالم ًا ويقربون من �أبواب القبور ،يحر�صون على حياتهم
�أكرث من ال�شباب يف مقتبل العمر ،يف مقتبل املالذ ،يف مقتبل الآمال.
الراحة الفكرية ،في�ضني الأج�سام فوق �ضناها بال�شقاء، اال�ستبداد ي�سلب ّ
ويختل ال�شعور على درجات متفاوتة يف النا�س .والعوام ُّ فتمر�ض العقول،
الذين هم قليلو املادة يف الأ�صل قد ي�صل مر�ضهم العقلي �إىل درجة قريبة
من عدم التمييز بني اخلري وال�رش ،يف ك ِّل ما لي�س من �رضوريات حياتهم
جمرد �آثار ال َّأبهة والعظمة التي احليوانية .وي�صل ت�س ُّفل �إدراكهم �إىل � َّأن ّ
وجمرد �سماع �ألفاظ التفخيم ّ امل�ستبد و�أعوانه تبهر �أب�صارهم،
ّ يرونها على
يف و�صفه وحكايات قوته و�صولته يزيغ �أفكارهم ،فريون ويفكرون � َّأن الدواء
يف الداء ،فين�صاعون بني يدي اال�ستبداد ان�صياع الغنم بني �أيدي الذئاب،
مقر حتفها.
حيث هي جتري على قدميها جاهد ًة �إىل ِّ
ولهذا كان اال�ستبداد ي�ستويل على تلك العقول ال�ضعيفة ف�ض ًال عن الأج�سام
فيف�سدها كما يريد ،ويتغ ّلب على تلك الأذهان ال�ضئيلة ،في�شو�ش فيها احلقائق،
بل البديهيات كما يهوى ،فيكون َم َث ُلهم يف انقيادهم الأعمى لال�ستبداد
ومقاومتهم للر�شد والإر�شاد ،مثل تلك الهوام التي ترتامى على النار ،وكم هي
تغالب من يريد حجزها على الهالك .وال غرابة يف ت�أثري �ضعف الأج�سام على
ال�ضعف يف العقول ،ف� َّإن يف املر�ضى وخ ّفة عقولهم ،وذوي العاهات ونق�ص
بين ًا كافي ًا ُيقا�س عليه نق�ص عقول الأُ�رساء الب�ؤ�ساء بالن�سبة �إدراكهم� ،شاهداً ّ
�إىل الأحرار ال�سعداء ،كما يظهر احلال �أي�ض ًا ب�أق ّل فرق بني الفئتني ،من الفرق
الدم وا�ستحكام ال�صحة وجمال الهيئات. البينّ يف قوة الأج�سام وغزارة ّ
رمبا ي�سرتيب املطالع اللبيب الذي مل ُيتعب فكره يف در�س طبيعة اال�ستبداد،
من � َّأن اال�ستبداد امل�ش�ؤوم كيف يقوم على قلب احلقائق ،مع �أ َّنه �إذا د ّقق النظر
يتجلى له � َّأن اال�ستبداد يقلب احلقائق يف الأذهان .يرى �أ َّنه كم م ّكن بع�ض
القيا�رصة وامللوك الأولني من التالعب بالأديان ت�أييداً ال�ستبدادهم فا َّتبعهم
النا�س .ويرى � َّأن النا�س و�ضعوا احلكومات لأجل خدمتهم ،واال�ستبداد قلب
املو�ضوع ،فجعل الرعية خادمة للرعاة ،فقبلوا وقنعوا .ويرى � َّأن اال�ستبداد
فاجر ،وتارك ح ّقه مطيع ،وامل�شتكي ٌ احلق
ما �ساقهم �إليه من اعتقاد � َّأن طالب ِّ
82
املتظلِّم مف�سد ،وال ّنبيه املدقق ملحد ،واخلامل امل�سكني �صالح �أمني .وقد ا َّتبع
عتواً،
وال�شهامة ّ النا�س اال�ستبداد يف ت�سميته الن�صح ف�ضو ًال ،والغرية عداوةّ ،
واحلمية حماقة ،والرحمة مر�ض ًا ،كما جاروه على اعتبار � َّأن ال ِّنفاق �سيا�سة،
والتحيل كيا�سة ،والدناءة لطف ،والنذالة دماثة. ُّ
وال غرابة يف حت ُّكم اال�ستبداد على احلقائق يف �أفكار الب�سطاء� ،إمنا الغريب
�سمون الفاحتني �إغفاله كثرياً من العقالء ،ومنهم جمهور امل� ِّؤرخني الذين ُي ّ
ملجرد �أ َّنهم
بالرجال العظام ،وينظرون �إليهم نظر الإجالل واالحرتام ّ الغالبني ِّ
كانوا �أكرث يف قتل الإن�سان ،و�أ�رسفوا يف تخريب العمران .ومن هذا القبيل يف
الغرابة �إعالء امل� ِّؤرخني قدر من جاروا امل�ستبدين ،وحازوا القبول والوجاهة
عند الظاملني .وكذلك افتخار الأخالق ب�أ�سالفهم املجرمني الذين كانوا من
ه�ؤالء الأعوان الأ�رشار.
احلرة،
ح�سنات مفقودة يف الإدارة ّ ٍ يظن بع�ض النا�س � َّأن لال�ستبداد وقد ُّ
واحلق � َّأن ذلك يح�صل فيه عن ُّ ويلطفها،
فيقولون مث ًال :اال�ستبداد يلينّ الطباع ِّ
فقد ال�شهامة ال عن فقد ال�رشا�سة .ويقولون :اال�ستبداد ُيعلِّم ال�صغري اجلاهل
واحلق � َّأن هذا فيه عن خوف وجبانة ال ُّ ح�سن الطاعة واالنقياد للكبري اخلرب،
يربي النفو�س على االعتدال والوقوف عند عن اختيارٍ و�إذعان .ويقولون :هو ّ
انكما�ش وتقهقر .ويقولون :اال�ستبداد يقلل ٍ واحلق � ْأن لي�س هناك غريُّ احلدود،
واحلق �أ َّنه عن فقر وعجر ،ال عن ع ّف ٍة �أو دين .ويقولون :هو ُّ الف�سق والفجور،
فيقل تعديدها واحلق �أ َّنه مينع ظهورها ويخفيهاُّ ، ُّ يقلل التعديات واجلرائم،
ال عدادها.
و�سقياها العلم ،والقائمون الأخالق �أثمار بذرها الوراثة ،وتربتها الرتبيةُ ،
بناء عليه ،تفعل ال�سيا�سة يف �أخالق الب�رش ما تفعله عليها هم رجال احلكومةً ،
العناية يف �إمناء ال�شجر.
نعم :الأقوام كالآجام� ،إن ُترِكت مهملة تزاحمت �أ�شجارها و�أفالذها ،و�س ُقم
املتوح�شة .و�إن
ِّ قويها على �ضعيفها ف�أهلكه ،وهذا مثل القبائل �أكرثها ،وتغ َّلب ّ
فدبرها ح�سبما تطلبه طباعها ،قويت �صادفت ب�ستاني ًا يهمه بقا�ؤها وزهوها ّ
ين جدير وح�سنت ثمارها ،وهذا مثل احلكومة العادلة .و�إذا ُبليت بب�ستا ٍّ و�أينعت ُ
وخربها ،وهذا مثل حطاب ًا ال يعنيه �إال عاجل االكت�ساب� ،أف�سدها ّ ي�سمى ّ ب�أن ّ
83
اال�ستبداد والأخالق
احلطاب غريب ًا مل ُيخلق من تراب تلك الديار امل�ستبدة .ومتى كان ّّ احلكومة
همه احل�صول على الفائدة ولي�س له فيها فخار وال يلحقه منها عار� ،إنمّ ا ّ
فبناء على هذاً الطامة وهناك البوار. العاجلة ولو باقتالع الأ�صول ،فهناك ّ
احلطاب الذي ال ُيرجى عل اال�ستبداد يف �أخالق الأمم ِفعل ذلك ّ املثال ،يكون ِف ُ
منه غري الإف�ساد.
ال تكون الأخالق �أخالق ًا ما مل تكن ملكة ُمطردة على قانون فطري
تقت�ضيه �أو ًال وظيفة الإن�سان نحو نف�سه ،وثاني ًا وظيفته نحو عائلته ،وثالث ًا
ي�سمىوظيفته نحو قومه ،ورابع ًا وظيفته نحو الإن�سانية ،وهذا القانون هو ما ّ
عند النا�س بالنامو�س.
ومن �أين لأ�سري اال�ستبداد �أن يكون �صاحب نامو�س ،وهو كاحليوان اململوك
يهب الريح ،ال نظام وال يهب ،حيث ُّ العنانُ ،يقاد حيث ُيراد ،ويعي�ش كالري�شُّ ،
�إرادة؟ وما هي الإرادة؟ هي � ُّأم الأخالق ،هي ما قيل فيها تعظيم ًا ل�ش�أنها:
لو جازت عبادة غري اهلل الختار العقالء عبادة الإرادة! هي تلك ال�صفة التي
تف�صل احليوان عن ال ّنبات يف تعريفه ب�أ ّنه متحرك بالإرادة .فالأ�سري� ،إذن،
يتحرك ب�إرادة غريه ال ب�إرادة نف�سه .ولهذا قال الفقهاء :ال ّ دون احليوان لأ ّنه
لنية مواله .وقد ُيعذر الأ�سري نية للرقيق يف كثري من �أحواله� ،إمنا هو تابع ّ ّ
على ف�ساد �أخالقه ،ل َّأن فاقد اخليار غري م�ؤاخذ عق ًال و�رشع ًا.
�أ�سري اال�ستبداد ال نظام يف حياته ،فال نظام يف �أخالقه ،قد ي�صبح غني ًا
كلفي�ضحى �شجاع ًا كرمي ًا ،وقد مي�سي فقرياً فيبيت جبان ًا خ�سي�س ًا ،وهكذا ُّ
�ش�ؤونه ت�شبه الفو�ضى ال ترتيب فيها ،فهو يتبعها بال وجهة� .ألي�س الأ�سري قد
في�شنق ،ويجوع يوم ًا في�ضوى ،ويخ�صب فيعفى ،وقلي ًال ُُيرهق ،وي�سيء كثرياً ُ
فيم َنع ،وي�أبى �شيئ ًا فيرُ غم؟! وهكذا يعي�ش كما يوم ًا فيتخم ،يريد �أ�شياء ُ
ال�صدف �أن يعي�ش ،ومن كانت هذه حاله كيف يكون له �أخالق ،و� ْإن تقت�ضيه ُّ
ُكم على الأ�رساءجتوز احلكمة احل َ وجد ابتداء يتعذر ا�ستمراره عليه؟! ولهذا ال ّ
�رش.بخ ٍري �أو ّ
أقل ما ي�ؤ ّثره اال�ستبداد يف �أخالق النا�س� ،أ َّنه يرغم حتى الأخيار منهم � ُّ
غي ال�سيئتان ،و�إنه يعني الأ�رشار على �إجراء ّ
الرياء والنفاق ولبئ�س ّ على �إلفة ّ
نفو�سهم �آمنني من ك ِّل تبعة ولو �أدبية ،فال اعرتا�ض وال انتقاد وال افت�ضاح،
84
ل َّأن �أكرث �أعمال الأ�رشار تبقى م�ستورة ،يلقي عليها اال�ستبداد رداء خوف النا�س
�رش وعقبى ذكر الفاجر مبا فيه .ولهذا� ،شاعت بني من تبعة ال�شهادة على ذي ّ
الأ�رساء قواعد كثرية باطلة كقولهم� :إذا كان الكالم من ف�ضة فال�سكوت من
�سد �أفواههم وعاظهم يف ِّ موكول باملنطق .وقد تغاىل ّ ٌ ذهب ،وقولهم :البالء
حل َكم النبوية ،وكم هجوا لهم الهجو حتى جعلوا لهم �أمثال هذه الأقوال من ا ِ
بال�سوء من القول) ويغفلون هلل اجلهر ّ يحب ا ُ
والغيبة بال قيد ،فهم يقر�ؤون( :ال ُّ
بقية الآية ،وهي�( :إ ّال من ُظ ِلم).
�أقوى �ضابط للأخالق النهي عن املنكر بالن�صيحة والتوبيخ� ،أي بحر�ص
الأفراد على حرا�سة نظام االجتماع ،وهذه الوظيفة غري مقدور عليها يف عهد
اال�ستبداد لغري ذوي املنعة وقليل ما هم ،وقلي ًال ما يفعلون ،وقلي ًال ما يفيد
نهيهم ،لأنه ال ميكنهم توجيهه لغري امل�ست�ضعفني الذين ال ميلكون �رضراً
وال نفع ًا ،بل وال ميلكون من �أنف�سهم �شيئ ًا ،ولأ َّنه ينح�رص مو�ضوع نهيهم
الرذائل النف�سية ال�شخ�صية فقط ،ومع ذلك فيما ال تخفى قباحته على �أح ٍد من ّ
فاجل�سور ال يرى ُب ّداً من اال�ستثناء املخ ِّل للقواعد العامة كقوله :ال�سرّ قة قبيحة
واملوظفون يف عهد َّ �إال �إذا كانت ا�سرتداداً منها ،والكذب حرام �إال للمظلوم.
اال�ستبداد للوعظ والإر�شاد يكونون -مطلق ًا -وال �أقول غالب ًا ،من املنافقني
الذين نالوا الوظيفة بالتم ّلق ،وما �أبعد ه�ؤالء عن الت�أثري ،ل َّأن الن�صح الذي ال
ثم � َّإن ال ُّن�صح
رياء ك�أ�صلهَّ ،
�إخال�ص فيه هو بذر عقيم ال ينبت ،و� ْإن نبت كان ً
ال يفيد �شيئ ًا �إذا مل ي�صادف �أذن ًا تتط ّلب �سماعه ،ل َّأن الن�صيحة و�إن كانت عن
أر�ض �صاحلة نبت ،و�إن احليْ � :إن �أُلقي يف � ٍ
�إخال�ص فهي ال تتجاوز ُح ْك َم البذر ّ
أر�ض قاحلة مات. �أُلقي يف � ٍ
� ّأما النهي عن املنكرات يف الإدارة احلرة ،فيمكن لك ِّل غيورٍ على نظام
يوجه �سهام قوار�صه على ال�ضعفاء قومه �أن يقوم به ب�أمانٍ و�إخال�ص ،و�أن ِّ
يخ�ص بها الفقري املجروح الف�ؤاد ،بل ت�ستهدف �أي�ض ًا ُّ والأقوياء �سواء ،فال
الظلمواد حتى يف موا�ضيع تخفيف ُّ ال�شوكة والعناد .و� ْأن يخو�ض يف ك ِّل ٍ ذوي ّ
ويجدي ،والذي �أطلق حل ّكام ،وهذا هو الن�صح الإنكاري الذي ُيعدي ُ وم�ؤاخذة ا ُ
(الدين) تعظيم ًا ل�ش�أنه ،فقال( :الدين الن�صيحة). عليه ال ّنبي عليه ال�سالم ا�سم ّ
�ضبط �أخالق الطبقات العليا من ال ّنا�س �أهم الأمور� ،أطلقت الأمم ُ ملا كان
ّ
85
اال�ستبداد والأخالق
احلرة حرية اخلطابة والت�أليف واملطبوعات م�ستثني ًة القذف فقط ،ور�أت �أن ّ
م�رضة الفو�ضى يف ذلك خري التحديد ،لأ َّنه ال مانع للح ّكام � ْأن يجعلوا
َّ حتمل
احلرية.
ّ أي � الطبيعة، تهم عدو
ّ بها ويخنقوا حديد، من �سل�سلة التقييد ال�شعرة من
ّ
كاتب وال �شهيد).
ٌ �ضار
وقد حمى القر�آن قاعدة الإطالق بقوله الكرمي( :وال ُي ُّ
86
ا�ضطراراً حتى ال ي�ألفه وي�صري َم َلك ًة فيه ،فيفقد ب�سبب ثقته نف�سه بنف�سه ،لأ َّنه
م�ستقراً فيه ،فال ميكنه ،مث ًال� ،أن يجزم ب�أمانته� ،أو ي�ضمن ثباته ّ ال يجد ُخ ُلق ًا
لوام ًاحق ذاته مرتدداً يف �أعمالهّ ، الظن يف ِّ
على �أم ٍر من الأمور ،فيعي�ش �سيئ ّ
همته ونق�ص مروءته ،ويبقى طول نف�سه على �إهماله �ش�ؤونه� ،شاعراً بفتور َّ
اخلالق،واخلالق -ج َّل �ش�أنه -مل ُينق�صه
ُ عمره جاه ًال مورد هذا اخللل ،في َّتهم
�شيئ ًا .وي َّتهم تار ًة دينه ،وتار ًة تربيته ،وتار ًة زمانه ،وتار ًة قومه ،واحلقيقة
حراً ف�أُ�رس.
بعيدة عن ك ِّل ذلك ،وما احلقيقة غري �أ ّنه ُخلق ّ
ب�شائبة من �أ�صول القبائح اخللقية ال ٍ املتلب�س
ِّ �أجمع الأخالقيون على � َّأن
ميكنه �أن يقطع ب�سالمة غريه منها ،وهذا معنى�( :إذا �ساءت ِفعال املرء �ساءت
يظن الرباءة يف غريه من �شائبة ظنونه) .فاملرائي -مث ًال -لي�س من �ش�أنه �أن َّ
الرياء� ،إ ّال �إذا َب ُع َد ت�شابه الن�ش�أة بينهما ُبعداً كبرياً ،ك�أن تكون بينهما مغايرة
مهم يف املنزلة ك�صعلوك و�أمري كبري .ومثال الدين �أو تفاوت ٌّ يف اجلن�س �أو ّ
ال�رشقي اخلائن ،ي�أمن الإفرجني يف معاملته ،ويثق بوزنه وح�سبانه ،وال ّ ذلك
ي�أمن ويثق بابن جلدته .وكذلك الإفرجني اخلائن قد ي�أمن ال�رشقي ،وال ي�أمن
مطلق ًا ابن جن�سه .وهذا احلكم �صادق على عك�س الق�ضية �أي�ض ًا� ،أي � َّأن الأمني
خدع)، يظن النا�س �أمناء ،خ�صو�ص ًا �أ�شباهه يف الن�ش�أة ،وهذا معنى (الكرمي ُي َ ُّ
الظن يف مواقعه ِّ إ�ساءة � يف احلزم حكمة باع ت
ِّ ا عن نف�سه يف أمني ل ا يذهل وكم
الالزمة.
�إذا علمنا � َّأن من طبيعة اال�ستبداد �ألفة النا�س بع�ض الأخالق الرديئة ،و� َّأن
منها ما ُي�ضعف ال ّثقة بالنف�س ،علمنا �سبب قلة �أهل العمل و�أهل العزائم يف
ال�سرّ اء ،وعلمنا �أي�ض ًا حكمة فقد الأُ�رساء ثقتهم بع�ضهم ببع�ض .فينتج من ذلك
� َّأن الأُ�رساء حمرومون -طبع ًا -من ثمرة اال�شرتاك يف �أعمال احلياة،يعي�شون
م�ساكني بائ�سني متواكلني متخاذلني متقاع�سني متفا�شلني ،والعاقل احلكيم
ال يلومهم ،بل ي�شفق عليهم ،ويلتم�س لهم خمرج ًا .ويتبع �أثر �أحكم احلكماء
«رب ارحم قومي ،ف�إنهم ال يعلمون»« ،اللهم اه ِد قومي ،ف�إنهم ال القائلِّ :
يعلمون».
وهنا �أ�ستوقف املطالع و�أ�ستلفته �إىل الت� ّأمل يف ما هي ثمرة اال�شرتاك
�رس يف الكائنات ،به التي يحرمها الأ�رساء ،ف�أذكره ب� َّأن اال�شرتاك هو �أعظم ٍّ
87
اال�ستبداد والأخالق
قيام ك ِّل �شيء ما عدا اهلل وحده .به قيام الأجرام ال�سماوية ،به قيام ك ِّل حياة،
به قيام املواليد ،به قيام الأجنا�س والأنواع ،به قيام الأمم والقبائل ،به
�رس ت�ضاعف القوة قيام العائالت ،به تعاون الأع�ضاء .نعم ،اال�شرتاك فيه ُّ
�رس اال�ستمرار على الأعمال التي ال تفي بها �أعمار بن�سبة نامو�س الرتبيع ،فيه ُّ
ال�رس يف جناح الأمم املتمدنة .به �أكملوا كل ّ ال�رس ُّ
الأفراد .نعم ،اال�شرتاك هو ُّ
نامو�س حياتهم القومية ،به �ضبطوا نظام حكوماتهم ،به قاموا بعظائم
الأمور ،به نالوا كل ما يغبطهم عليه �أُ�رساء اال�ستبداد الذين منهم العارفون
ويت�شوقون �إليه ،ولكن ،ك ٌّل منهم ُيبطن لغنب �رشكائه با ِّتكاله َّ بقدر اال�شرتاك
عليهم عم ًال ،وا�ستبداده عليهم ر�أي ًا ،حتى �صار من �أمثالهم قولهم( :ما من
مغلوب للآخر).ٌ م َّتفقني �إال و�أحدهما
اخلفي ،وطاملا كتب ّ �رس اال�شرتاك لي�س بالأمر ور َّب قائلٍ يقول � َّإن َّ ُ
اليابانيون والبوير ،فما ال�سبب؟ ف�أجيبه ب� َّأن ال ُك َّتاب كتبوا و�أكرثوا و�أح�سنوا
ولكن ،قاتل اهلل اال�ستبداد و�ش�ؤمه ،جعل الك ّتاب ْ و�صوروا،
ّ ف�صلوا
فيما ّ
يح�رصون �أقوالهم يف الدعوة �إىل اال�شرتاك ،وما مبعناه من التعاون واالحتاد
كلي ًا،
التفرق واالنحالل ّ التعر�ض لذكر �أ�سباب ّ والتحابب واال ِّتفاق ،ومنعهم من ُّ
�أو ا�ضطرهم �إىل االقت�صار على بيان الأ�سباب الأخرية فقط .فمن قائلٍ مث ًال:
مري�ض و�سببه اجلهل ،ومن قائلٍ :اجلهل بالء و�سببه ق ّلة املدار�س ،ومن ٌ ال�رشق
عار و�سببه عدم التعاون على �إن�شائها من قبل الأفراد �أو قائلٍ :ق ّلة املدار�س ٌ
من قبل ذوي ال�ش�أن.
يخطه قلم الكاتب ال�رشقي ك�أ ّنه و�صل �إىل ال�سبب املانع وهذا �أعمق ما ُّ
الطبيعي �أو االختياري .واحلقيقةَّ � ،أن هناك �سل�سلة �أ�سباب �أخرى حلقتها
الأوىل اال�ستبداد.
ثم يقف، التم�سك بالدينَّ ،
ّ وكاتب �آخر يقول :ال�رشق مري�ض و�سببه فقد
تتبع الأ�سباب لبلغ �إىل احلكم ب� َّأن التهاون يف الدين �أو ًال و�آخراً مع �أ َّنه لو َّ
نا�شئ من اال�ستبداد .و�آخر يقولَّ � :إن ال�سبب ف�ساد الأخالق ،وغريه يرى �أ ّنه
ظن �أ َّنه الك�سل ،واحلقيقة � َّأن املرجع الأول يف الك ّل هو فقد الرتبية ،و�سواء َّ
اال�ستبداد ،الذي مينع حتى �أولئك الباحثني عن الت�رصيح با�سمه املهيب.
وقد ا َّتفق احلكماء الذين �أكرمهم اهلل تعاىل بوظيفة الأخذ بيد الأمم يف
88
بحثهم عن املهلكات واملنجيات ،على � َّأن ف�ساد الأخالق ُيخرج الأمم عن
�أن تكون قابلة للخطاب ،و� َّأن معاناة �إ�صالح الأخالق من �أ�صعب الأمور
يعم
و�أحوجها �إىل احلكمة البالغة والعزم القوي ،وذكروا � َّأن ف�ساد الأخالق ُّ
ثم يدخل بالعدوى �إىل ك ّل البيوت ،وال �سيما بيوت امل�ستبد و�أعوانه وعمالهَّ ،
َّ
الطبقات العليا التي تتم َّثل بها ال�سفلى .وهكذا يغ�شو الف�ساد ،ومت�سي الأمة
املحب وي�شمت بها العدو ،وتبيت ودا�ؤها عياء يتعا�صى على الدواء. ُّ يبكيها
وقد �سلك الأنبياء عليهم ال�سالم ،يف �إنقاذ الأمم من ف�ساد الأخالق ،م�سلك
بفك العقول من تعظيم غري اهلل والإذعان ل�سواه .وذلك بتقوية االبتداء �أو ًال ِّ
ثم جهدوا يف تنوير العقول كل �إن�سانَّ ،
ح�سن الإميان املفطور عليه وجدان ُّ
مببادئ احلكمة ،وتعريف الإن�سان كيف ميلك �إرادته� ،أي حريته يف �أفكاره،
و�سدوا منابع الف�ساد.
واختياره يف �أعماله ،وبذلك هدموا ح�صون اال�ستبداد ّ
ثم بعد �إطالق زمام العقول� ،صاروا ينظرون �إىل الإن�سان ب�أ َّنه مك َّلف َّ
بقانون الإن�سانية ،ومطالب بح�سن الأخالق ،فيعلمونه ذلك ب�أ�ساليب التعليم
وبث الرتبية التهذيبية.
املقنع ّ
واحلكماء ال�سيا�سيون الأقدمون ا َّتبعوا الأنبياء -عليهم ال�سالم -يف �سلوك
هذا الطريق وهذا الرتتيب� ،أي باالبتداء من نقطة دينية فطرية ت�ؤدي �إىل
ثم با ِّتباع طريق الرتبية والتهذيب دون فتورٍ وال انقطاع. حترير ال�ضمائرَّ ،
�أما املت�أخرون من قادة العقول يف الغرب ،فمنهم فئة �سلكوا طريقة
اخلروج ب�أممهم من حظرية الدين و�آدابه النف�سية� ،إىل ف�ضاء الإطالق وتربية
الطبيعة ،زاعمني � َّأن الفطرة يف الإن�سان �أهدى �سبي ًال ،وحاجته �إىل النظام
ثم
احل�س بالهمومّ ، تعطل َّتغنيه عن �إعانة الدين ،التي هي كاملخدرات �سموم ِّ
تذهب باحلياة ،فيكون �رضرها �أكرب من نفعها.
وقد �ساعدهم على �سلوك هذا امل�سلك� ،أ َّنهم وجدوا �أممهم قد ف�شا فيها
نور العلم ،ذلك العلم الذي كان منح�رصاً يف خدمة الدين عند امل�رصيني
والآ�شوريني ،وحم َت َكراً يف �أبناء الأ�رشاف عند الغرناطيني والرومان،
ال�شبان املنتخبني عند الهنود واليونانيني ،حتى جاء وخم�ص�ص ًا يف �أعداد من ّ
العرب بعد الإ�سالم ،و�أطلقوا حرية العلم ،و�أباحوا تناوله لك ِّل متعلم ،فانتقل
فتنورت به عقول الأمم على درجات، �إىل �أوروبا حراً على رغم رجال الدينَّ ،
89
اال�ستبداد والأخالق
ويف ن�سبتها تر َّقت الأمم يف النعيم ،وانت�رشت وتخالطت ،و�صار املت� ِّأخر منها
املتقدم ويتن َّغ�ص من حالته ،ويتط َّلب اللحاق ،ويبحث عن و�سائله .فن�ش�أ ِّ يغبط
من ذلك حركة قوية يف الأفكار ،وحركة معرفة اخلري والغرية على نواله،
ال�رش والأ َن َفة من ال�صرب عليه ،حركة ال�سري �إىل الأمام رغم ك ِّل
حركة معرفة ّ
معار�ض .اغتنم زعماء احلرية يف الغرب قوة هذه احلركة و�أ�ضافوا �إليها قوات
�أدبية �ش ّتى ،كا�ستبدالهم ثقالة وقار الدين بزهوة عرو�س احلرية ،حتى �إ َّنهم
مل يبالوا بتمثيل احلرية بح�سناء خليعة تختلب النفو�س .وكا�ستبدالهم رابطة
اال�شرتاك يف الطاعة للم�ستبدين برابطة اال�شرتاك يف ال�ش�ؤون العمومية ،ذلك
حب الوطن .وهكذا جعلوا قوة حركة الأفكار تياراً اال�شرتاك الذي يتو ّلد منه ُّ
ثم � َّإن ه�ؤالء الزعماء�س ّلطوه على ر�ؤو�س الر�ؤو�س من �أهل ال�سيا�سة والدينَّ .
ا�ستباحوا الق�ساوة �أي�ض ًا ،ف�أخذوا من مهجورات دينهم قاعدة (الغاية تربر
الوا�سطة) ،كجواز ال�رسقة �إذا كانت الغاية من �رصف املال يف �سبيل اخلري،
ذمة الكاهن التي وقاعدة (تثقيل الذمة يبيح الفعل القبيح) ك�شهادة الزور على ّ
يتحمل عنها خطيئتها ،ودفعوا النا�س بهما �إىل ارتكاب اجلرائم الفظيعة التي َّ
تق�شعر منها الإن�سانية ،التي ال ي�ستبيحها احلكيم ال�رشقي ملا بني �أبناء الغرب ُّ
و�أبناء ال�رشق من التباين يف الغرائز والأخالق.
حري�ص على االنتقام،ٌ قوي النف�س� ،شديد املعاملة،
مادي احلياةُّ ،
ُّ الغربي:
يبق عنده �شيء من املبادئ العالية والعواطف ال�رشيفة التي نقلتها ك�أ َّنه مل َ
له م�سيحية ال�رشق .فاجلرماين مث ًال :جاف الطبع ،يرى � َّأن الع�ضو ال�ضعيف
من الب�رش ي�ستحق املوت ،ويرى ك َّل ف�ضيلة يف القوة ،وك َّل القوة يف املال،
ويحب املجد ،ولكن لأجل املال .وهذا ُّ يحب العلم ،ولكن ،لأجل املال، فهو ُّ
الالتيني مطبوع على العجب والطي�ش ،يرى العقل يف الإطالق ،واحلياة يف
خلع احلياء ،وال�شرّ ف يف الترّ ف ،والكيا�سة يف الك�سب ،والع ّز يف الغلبة ،والل َّذة
يف املائدة والفرا�ش.
احلب،
�أما �أهل ال�رشق فهم �أدبيون ،ويغلب عليهم �ضعف القلب و�سلطان ِّ
للرحمة ولو يف غري موقعها ،وال ُّلطف ولو مع والإ�صغاء للوجدان ،وامليل ّ
اخل�صم .ويرون الع َّز يف الفتوة واملروءة ،والغنى يف القناعة والف�ضيلة،
وال�سكينة ،واللذة يف الكرم والتحبب ،وهم يغ�ضبون ،ولكن، والراحة يف الأن�س ّ
90
للدين فقط ،ويغارون ،ولكن ،على ال ِع ْر�ض فقط.
لي�س من �ش�أن ال�رشقي �أن ي�سري مع الغربي يف طريقٍ واحدة ،فال تطاوعه
طباعه على ا�ستباحة ما ي�ستح�سنه الغربي ،و�إن تك َّلف تقليده يف �أمر فال
ُيح�سن التقليد ،و�إن �أح�سنه فال يثبت ،و�إن ثبت فال يعرف ا�ستثماره ،حتى
يهتم يفلو �سقطت الثمرة يف ك ِّفه مت ّنى لو قفزت على فمه! ..فال�رشقي مث ًال ُّ
ثم ال يفكر فيمن يخلفه وال يراقبه ،فيقع �ش�أن ظامله �إىل �أن يزول عنه ظلمهَّ ،
الكرة ويعود الظلم �إىل ما ال نهاية .وك�أولئك الباطنة يف الظلم ثاني ًة ،فيعيد ّ
يف الإ�سالم :فتكوا مبئات �أمراء على غري طائل ،ك�أ َّنهم مل ي�سمعوا باحلكمة
يحبالنبوية( :ال ُي َلدغ املرء من ُجح ٍر مرتني) ،وال باحلكمة القر�آنية (� َّإن اهلل ُّ
امل َّتقني)� .أما الغربي �إذا �أخذ على يد ظامله فال يفلته حتى ي�ش َّلها ،بل حتى
يقطعها ويكوي مقطعها.
وهكذا بني ال�رشقيني والغربيني فروق كثرية ،قد يف�ضل يف الإفراديات
ال�رشقي على الغربي ،ويف االجتماعيات يف�ضل الغربي على ال�رشقي مطلق ًا.
مثال ذلك :الغربيون ي�ستحلفون �أمريهم على ال�صداقة يف خدمته لهم والتزام
القانون .وال�سلطان ال�رشقي ي�ستحلف الرعية على االنقياد والطاعة! الغربيون
يتكرمون يمَ ّنون على ملوكهم مبا يرتزقون من ف�ضالتهم ،والأمراء ال�رشقيون َّ
على من �شا�ؤوا ب�إجراء �أموالهم عليهم �صدقات! الغربي يعترب نف�سه مالك ًا
وال�رشقي يعترب نف�سه و�أوالده وما يف يديه ملك ًا لأمريه!ّ جلز ٍء م�شاع من وطنه،
الغربي له على �أمريه حقوق ،ولي�س عليه حقوق ،وال�رشقي عليه لأمريه حقوق
ولي�س له حقوق! الغربيون ي�ضعون قانون ًا لأمريهم ي�رسي عليه ،وال�رشقيون
ي�سريون على قانون م�شيئة �أمرائهم! الغربيون ق�ضا�ؤهم وقدرهم من اهلل،
وال�رشقيون ق�ضا�ؤهم وقدرهم ما ي�صدر من بني �شفتي امل�ستعبدين! ال�رشقي
�رسيع الت�صديق ،والغربي ينفي وال يثبت حتى يرى ويلم�س .ال�رشقي �أكرث ما
م�ستود ٌع فيها ،والغربي �أكرث ما يغار على َ يغار على الفروج ك� َّأن �رشفه ك ّله
حري�صٌ حري�ص على الدين والرياء فيه ،والغربي ٌ حريته وا�ستقالله! ال�رشقي
على القوة والع ّز واملزيد فيهما! واخلال�صةَّ � :أن ال�رشقي ابن املا�ضي واخليال،
والغربي ابن امل�ستقبل واجلد!...
احلكماء املت�أخرون الغربيون �ساعدتهم ظروف الزمان واملكان،
91
اال�ستبداد والأخالق
92
وخ َو ًال.
وغريهم من الأمم املنقر�ضة املندجمة يف غريها خدم ًا َ
املنحطة من جميع الأديان حت�رص بلية ّ والأمر الغريبَّ � ،أن ك َّل الأمم
انحطاطها ال�سيا�سي يف تهاونها ب�أمور دينها ،وال ترجو حت�سني حالتها
بالتم�سك بعروة الدين مت�سك ًا مكين ًا ،ويريدون بالدين العبادة، ُّ االجتماعية �إال
ول ِنعم االعتقاد لو كان يفيد �شيئ ًا ،لكنه ال يفيد �أبداً ،لأنه ٌ
قول ال ميكن �أن
بذر جيد ال �شبهة فيه ،ف�إذا �صادف مغر�س ًا يكون وراءه فعل ،وذلك � َّأن الدين ٌ
طيب ًا نبت ومنا ،و�إن �صادف �أر�ض ًا قاحلة مات وفات� ،أو �أر�ض ًا مغراق ًا هاف
اال�ستبداد ب�رصها وب�صريتها ،و�أف�سد �أخالقها ودينها ،حتى �صارت ال تعرف
أ�رض
حدهما امل�رشوع � ُّ للدين معنى غري العبادة والن�سك اللذين زيادتهما على ِّ
على الأمة من نق�صهما كما هو م�شاهد يف املتن�سكني.
نعم! الدين يفيد الرت ّقي االجتماعي �إذا �صادف �أخالق ًا فطرية مل تف�سد،
فينه�ض بها كما نه�ضت الإ�سالمية بالعرب ،تلك النه�ضة التي نتطلبها منذ
�ألف عام عبث ًا.
وقد ع َّلمنا هذا الدهر الطويل -مع الأ�سفَّ � -أن �أكرث النا�س ال يحفلون
ورياء ،وعلمنا � َّأن النا�س عبيد منافعهم ً بالدين �إال �إذا وافق �أغرا�ضهم� ،أو لهواً
وعبيد الزمان ،و� َّأن العقل ال يفيد العزم عندهم� ،إمنا العزم عندهم يتو ّلد من
ال�رضورة �أو يح�صل بال�سائق املجرب .وال ي�ستحي النا�س من �أن ُيلزموا �أنف�سهم
املنحطة �أن تلتم�س دواءها من ّ بناء عليه ،ما �أجدر بالأممباليمني �أو النذرً .
طريق �إحياء العلم و�إحياء الهمة مع اال�ستعانة بالدين واال�ستفادة منه مبثل:
ال�صالة تنهى عن الفح�شاء واملنكر) ،ال �أن ي َّت ِكلوا على � َّأن ال�صالة متنع (� َّإن ّ
النا�س عنهما بطبعها.
93
اال�ستبداد والرتبية
94
اال�ستبداد والرتبية
هلل يف الإن�سان ا�ستعداداً لل�صالح وا�ستعداداً للف�ساد ،ف�أبواه ي�صلحانه، خلق ا ُ
و�أبواه يف�سدانه� ،أي � َّإن الرتبية تربو با�ستعداده ج�سم ًا ونف�س ًا وعق ًالْ � ،إن خرياً
ف�رش .وقد �سبق � َّأن اال�ستبداد امل�ش�ؤوم ي�ؤ ِّثر على الأج�سام فخري ،و� ْإن �رشاً ّ
فيورثها الأ�سقام ،وي�سطو على النفو�س ،فيف�سد الأخالق ،وي�ضغط على العقول
بناء عليه ،تكون الرتبية واال�ستبداد عاملني متعاك�سني فيمنع مناءها بالعلمً .
فكل ما تبنيه الرتبية مع �ضعفها يهدمه اال�ستبداد بقوته ،وهل يف النتائجُّ ،
بناء وراءه هاد؟ يتم ٌ ُّ
رقي ًا وانحطاط ًا .وهذا الإن�سان الذي حارت العقول ّ لغايتيه حد
َّ ال إن�سان ل ا
مت خالقه ا�ستعداده، حتمل �أمانة تربية ال َّنف�س ،وقد �أبتها العوامل ،ف�أ َّ فيه ،الذي َّ
ثم �أوكله خلريته ،فهو �إن ي�ش�أ الكمال يبلغ فيه �إىل ما فوق مرتبة املالئكة، َّ
لل�رش
ِّ أقرب � إن�سان ل ا أن
َّ � على ال�شياطني، من أحط
ّ � حتى ذائل بالر
َّ �س تلب
َّ �شاء إن و�
ٍ
بو�صف منه للخري .وكفى � َّأن اهلل ما ذكر الإن�سان يف القر�آن� ،إال وقرن ا�سمه
وجبار وجهول و�أثيم .ما ذكر اهلل تعاىل الإن�سان قبيح كظلوم وغرور وك ّفار ّ
لكفور)،
ٌ يف القر�آن �إال وهجاه ،فقالُ ( :ق ِتل ال ُ
إن�سان ما �أكفره)َّ �( ،إن الإن�سان
(خ ِلق (� َّإن الإن�سان لفي ُخ�رس)َّ �( ،إن الإن�سان ليطغى)( ،وكان الإن�سان َعجو ًال)ُ ،
95
اال�ستبداد والرتبية
96
ثم الرتبية تربية اجل�سم وحده �إىل �سنتني ،هي وظيفة الأم �أو احلا�ضنةَّ ،
ُت�ضاف �إليها تربية النف�س �إىل ال�سابعة ،وهي وظيفة الأبوين والعائلة مع ًا،
ثم ثم ُت�ضاف �إليها تربية العقل �إىل البلوغ ،وهي وظيفة املعلِّمني واملدار�سَّ ، ّ
ثمَّ دفة، ال�ص
ُّ وظيفة وهي الزواج، إىل � واخللطاء أقربني ل با القدوة تربية أتي ت�
ت�أتي تربية املقارنة ،وهي وظيفة الزوجني �إىل املوت �أو الفراق.
بد �أن ت�صحب الرتبية من بعد البلوغ ،تربية الظروف املحيطة ،وتربية وال َّ
الهيئة االجتماعية ،وتربية القانون �أو �سري ال�سيا�سي ،وتربية الإن�سان نف�سه.
احلكومات املنتظمة هي التي تتولىّ مالحظة ت�سهيل تربية الأمة
ت�سن قوانني النكاح ،ثم تعتني من حني تكون يف ظهور الآباء ،وذلك ب�أن ّ
تعد
ثم تفتح بيوت الأيتام اللقطاء ،ثم ُّ بوجود القابالت واملل ّقحني والأطباءَّ ،
ت�سهل ثم ِّ املكاتب واملدار�س للتعليم من االبتدائي اجلربي �إىل �أعلى املراتبَّ ،
ومتهد امل�سارح ،وحتمي املنتديات ،وجتمع املكتبات والآثار، ِّ االجتماعات،
وتقيم ال ُّن�صب املذكرات ،وت�ضع القوانني املحافظة على الآداب واحلقوق،
وتقوي ّ وت�سهر على حفظ العادات القومية ،و�إمناء الإح�سا�سات املللية،
الآمال ،وتي�سرِّ الأعمال ،وت� ِّؤمن العاجزين فع ًال عن الك�سب من املوت جوع ًا،
وتدفع �سليمي الأج�سام �إىل الك�سب ولو يف �أق�صى الأر�ض ،وحتمي الف�ضل
وتقدر الف�ضيلة .وهكذا تالحظ ك َّل �ش�ؤون املرء ،ولكن ،من بعيد ،كي ال تخ ّل ِّ
بحريته وا�ستقالله ال�شخ�صي ،فال تقرب منه �إال �إذا جنى جرم ًا لتعاقبه� ،أو
مات لتواريه.
وهكذا ،الأمة حتر�ص على �أن يعي�ش ابنها را�ضي ًا بن�صيبه من حياته ال
قط كيف تكون بعده حالة �صبية �ضعاف يرتكهم وراءه ،بل ميوت يفتكر ّ
مطمئن ًا را�ضي ًا مر�ضي ًا �آخر دعائه :فلتحي الأمة ،فلتحي الهمة.
امل�ستبدة فهي غنية عن الرتبية، ّ �أما املعي�شة الفو�ضى يف الإدارات
حم�ض مناء ي�شبه الأ�شجار الطبيعية يف الغابات واحلرا�ش ،ي�سطو ُّ لأنها
ويت�رصف َّ وحتطمها العوا�صف والأيدي القوا�صف، ِّ عليها احلرق والغرق.
احلطابني �أن يف ف�سائلها وفروعها الف�أ�س الأعمى ،فتعي�ش ما �شاءت رحمة ّ
لل�صدفة تعوج �أو ت�ستقيم ،تثمر �أو تعقم. تعي�ش ،واخليار ُّ
يعي�ش الإن�سان يف ظ ِّل العدالة واحلرية ن�شيط ًا على العمل بيا�ض نهاره،
97
اال�ستبداد والرتبية
وتري�ض ،لأ ّنه هكذا تروح ّ تلهى َّ وعلى الفكر �سواد ليله� ،إن طعم تل َّذذ ،و�إن ّ
ر�أى �أبويه و�أقرباءه ،وهكذا يرى قومه الذين يعي�ش بينهم .يراهم رجا ًال
ون�ساء� ،أغنياء وفقراء ،ملوك ًا و�صعاليك ،ك ُّلهم دائبني على الأعمال ،يفتخر ً
وجده .نعم، ِّ أبيه � عن ا
ً إرث � املليار مالك على ه، وجد
ّ ه بكد
ِّ الدينار كا�سب منهم
ي�رسه النجاح وال تقب�ضه اخليبة� ،إنمّ ا ينتقل من يعي�ش العامل ناعم البال ُّ
ال�سعدعملٍ �إىل غريه ،ومن فك ٍر �إىل �آخر ،فيكون متلذذاً ب�آماله � ْإن مل ي�سارعه ّ
يف �أعماله ،وكيفما كان يبلغ العذر عن نف�سه والنا�س مبجرد �إيفائه وظيفة
احلياة� ،أي العمل .ويكون فرح ًا فخوراً جنح �أو مل ينجح ،لأ َّنه بريء من عار
العجز والبطالة.
�أما �أ�سري اال�ستبداد ،فيعي�ش خام ًال خامداً �ضائع الق�صد ،حائراً ال يدري
حري�ص على بلوغ ٌ كيف مييت �ساعاته و�أوقاته ويدرج �أيامه و�أعوامه ،ك�أ َّنه
يظن � َّأن �أكرث الأ�رساء ال �سيما �أجله لي�سترت حتت الرتاب .ويخطئ ،واهلل من ُّ
منهم الفقراء ال ي�شعرون ب�آالم الأ�رس .م�ستد ًال ب�أنهم لو كانوا ي�شعرون لبادروا
�إىل �إزالته ،واحلقيقة يف ذلك �أنهم ي�شعرون ب�أكرث الآالم ولكنهم ال يدركون ما
هو �سببها ،ومن �أين جاءتهم؟ فريى �أحدهم نف�سه منقب�ض ًا عن العمل ،لأنه
ال�سلب حق ًا طبيعي ًا للأقوياء ظن ّ غري �أمني على اخت�صا�صه بالثمرة .ورمبا َّ
ثم يعمل تار ًة ،ولكن ،دون ن�شاط وال �إتقان ،فيف�شل فيتم ّنى � ْأن لو كان منهمَّ .
ي�سميه �سعداً �أو حظ ًا �أو�رضور ًة ،وال يدري �أي�ض ًا ما ال�سبب ،فيغ�ضب على ما ّ
طالع ًا �أو قدراً .وامل�سكني من �أين له �أن يعرف � َّأن الن�شاط والإتقان ال يت�أتيان
قدر احلكماء �أ َّنها اللذة الكربى، �إال مع لذة انتظار جناح العمل ،تلك اللذة التي َّ
ال�ستمرار زمانها من حني العزم �إىل متام العمل ،والأ�سري ال اطمئنان فيه على
اال�ستمرار ،وال ت�شجيع له على ال�صرب واجللد.
الأ�سري املع َّذب املنت�سب �إىل دين ي�س ّلي نف�سه بال�سعادة الأخروية ،فيعدها
أعده له الرحمن ،ويبعد عن فكره � َّأن الدنيا بجنان ذات �أفنان ونعيم مقيم � َّ
عنوان الآخرة ،و� َّأن رمبا كان خا�رساً ال�صفقتني ،بل ذلك هو الكائن غالب ًا.
خا�صة بهم يعطفون م�صائبهم عليها ،وهي ولب�سطاء الإ�سالم م�سليات �أظ ُّنها ّ
أحب اهلل عبداً ابتاله ،هذا نحو قولهم :الدنيا �سجن امل�ؤمن ،امل�ؤمن م�صاب� ،إذا � َّ
لقيمات يقمن �صلبه .ويتنا�سون حديثَّ �( :إن اهلل ٍ �ش�أن �آخر الزمان ،ح�سب املرء
98
البطال) ،واحلديث املفيد معنى (�إذا قامت ال�ساعة ويف يد �أحدكم يكره العبد ّ
غر�س ًة فليغر�سها) ،ويتغافلون عن الن�ص القاطع امل� ّؤجل قيام ال�ساعة �إىل ما
بعد ا�ستكمال الأر�ض زخرفتها وزينتها .و�أين ذلك بعد؟
يحول
ال�سم القاتل ،الذي ّ وكل هذه امل�سميات املثبطات تهون عند ذلك ّ ُّ
امل�ستبدين،
ّ الأذهان عن التما�س معرفة �سبب ال�شقاء ،فريفع امل�س�ؤولية عن
ويلقيها على عاتق الق�ضاء والقدر ،بل على عاتق الأُ�رساء امل�ساكني �أنف�سهم.
ال�سم ،فهم العوام ،وبله اخلوا�ص ،ملا ورد يف التوراة من نحو: و�أعني بهذا ّ
(اخ�ضعوا لل�سلطان وال �سلطة �إال من اهلل) ،و(احلاكم ال يتق ّلد ال�سيف جزاف ًا� ،إنه
وحمدثوهم من ذلك ِّ وعاظ امل�سلمنيمقام لالنتقام من �أهل ال�رش) ،وقد �صاغ ّ
ثم ينتقم ظل اهلل يف الأر�ض) ،و(الظامل �سيف اهلل ينتقم بهَّ ، قولهم( :ال�سلطان ُّ
مقيد
�صح فهو ّ وكل ما ورد يف هذا املعنى � ْإن َّ منه) ،و(امللوك ملهمون) .هذا ُّ
بالعدالة �أو حمتمل للت�أويل مبا يعقل ،ومبا ينطبق على حكم الآية الكرمية
التي فيها ف�صل اخلطاب ،وهي�( :أال لعنة اهلل على الظاملني) ،و�آية (فال عدوان
�إال على الظاملني).
علم وعمل .ولي�س من �ش�أن الأمم اململوكة �ش�ؤونهاْ � ،أن يوجد فيها الرتبية ٌ
من يعلم الرتبية وال من يعلمها .حتى � َّإن الباحث ال يرى عند الأ�رساء علم ًا يف
ت�صور وجوده الرتبية مدفون ًا يف الكتب ف�ض ًال عن الأذهانّ � .أما العمل ،فكيف ُي َّ
(النية
بال �سبق عزم ،وهو بال �سبق يقني ،وهو بال �سبق علم .وقد ورد يف الأثر ّ
بناء عليه ،ما �أبعد بالنيات)ً .
ّ �سابقة العمل) .وورد يف احلديث�( :إنمّ ا الأعمال
النا�س املغ�صوبة �إرادتهم ،املغلولة �أيديهم ،عن توجيه الفكر �إىل مق�صد مفيد
كالرتبية� ،أو توجيه اجل�سم �إىل عملٍ نافع كتمرين الوجه على احلياء والقلب
على ال�شفقة.
نعم ،ما �أبعد الأ�رساء عن اال�ستعداد لقبول الرتبية ،وهي َق�صرْ النظر على
حل َكم ،وتعويد الل�سان على املحا�سن وال ِعبرَ ،و َق�صرْ ال�سمع على الفوائد وا ِ
قول اخلري ،وتعويد اليد على الإتقان ،وتكبري النف�س عن ال�سفا�سف ،وتكبري
الوجدان عن ن�رصة الباطل ،ورعاية الرتتيب يف ال�ش�ؤون ،ورعاية التوفري
يف الوقت واملال .واالندفاع بالك ّلية حلفظ ال�رشف ،حلفظ احلقوق ،وحلماية
حلب العائلة ،ولإعانة العلم ،لإعانة وحلب الوطنِّ ، ِّ الدين ،حلماية النامو�س،
99
اال�ستبداد والرتبية
ال�ضعيف ،والحتقار الظاملني ،الحتقار احلياة ...على غري ذلك مما ال ينبت �إال
يف �أر�ض العدل ،حتت �سماء احلرية ،يف ريا�ض الرتبيتني :العائلية والقومية.
والتحيل واخلداع وال ِّنفاق
ُّ �ضطر ال ّنا�س �إىل ا�ستباحة الكذب
اال�ستبداد ُي ُّ
اجلد وترك العمل� ...إىل �آخره. حل ِّ�س و�إماتة النف�س ونبذ ّ والتذلل ،و�إىل مراغمة ا ِ
وينتج من ذلك � َّأن اال�ستبداد امل�ش�ؤوم هو يتوىل بطبعه تربية النا�س على هذه
بناء عليه ،يرى الآباء � َّأن تعبهم يف تربية الأبناء الرتبية اخل�صال امللعونةً .
بد � ْأن يذهب عبث ًا حتت �أرجل تربية اال�ستبداد ،كما الأوىل على غري ذلك ال َّ
�سدى.
ذهبت قبلها تربية �آبائهم لهم� ،أو تربية غريهم لأبنائهم ً
ثم � َّإن عبيد ال�سلطان التي ال حدود لها هم غري مالكني �أنف�سهم ،وال هم َّ
للم�ستبدين ،و�أعوان ًا
ّ يربون �أنعام ًا
ّ هم بل لهم. أوالدهم � ون يرب
ّ همنَّ �
أ على آمنون �
لهم عليهم.
ويف احلقيقةَّ � ،إن الأوالد يف عهد اال�ستبداد ،هم �سال�سل من حديد يرتبط
بها الآباء على �أوتاد الظلم والهوان واخلوف الت�ضييق .فالتوالد من حيث هو
حمق م�ضاعف! وقد قال ال�شاعر: زمن اال�ستبداد حمق ،واالعتناء بالرتبية ٌ
فرح مبولو ِد
ميت ومل ُي َ بك ٌ � ْإن دام هذا ومل حتدث له ِغيرَ ٌ مل ُي َ
وغالب الأُ�رساء ال يدفعهم للزواج ق�صد التوالد� ،إمنا يدفعهم �إليه اجلهل
املظلم ،و�أ َّنهم حتى الأغنياء منهم حمرومون من ك ِّل املل ّذات احلقيقية :كل ّذة
العلم وتعليمه ،ول ّذة املجد واحلماية ،ول ّذة الإيثار والبذل ،ول ّذة �إحراز مقام
يف القلوب ،ول ّذة نفوذ الر�أي ال�صائب ،ول ّذة ِكبرَ النف�س عند ال�سفا�سف� ،إىل غري
ذلك من املل ّذات الروحية.
�أما مل ّذات ه�ؤالء التع�ساء فهي مق�صورة على لذتني اثنتني ،الأوىل منها
لذة الأكل ،وهي جعلهم بطونهم مقابر للحيوانات �إن تي�سرَّ ت ،و�إال فمزابل
للنباتات� ،أو بجعلهم �أج�سامهم يف الوجود كما قيل� :أنابيب بني املطبخ
الرع�شة
و(الكنيف)� ،أو جعلها معامل لتجهيز الأخبثني .والل ّذة الثانية هي ّ
با�ستفراغ ال�شهوة ،ك�أن �أج�سامهم خلقت دمامل جرب على �أدمي الأر�ض ،يطيب
احلك ووظيفتها توليد ال�صديد ودفعه .وهذا ال�رشه البهيمي يف البِعال هو لها ّ
ما يعمي الأ�رساء ويرميهم بالزواج والتوالد.
100
معر�ض ال ِعر�ض -زمن اال�ستبداد -ك�سائر احلقوق غري م�صون ،بل هو َّ
لهتك ال ُف ّ�ساق من امل�ستبدين والأ�رشار من �أعوانهم ،ف�إنهم ،كما �أخرب القر�آن
عن الفراعنة ،ي�أ�رسون الأوالد وي�ستحيون الن�ساء ،خ�صو�ص ًا يف احلوا�رض
ال�صغرية والقرى امل�ست�ضعف �أهلها .ومن الأمور امل�شاهدة � َّأن الأمم التي تقع
أمة تغايرها يف ال�سيماء ،ال مي�ضي عليها �أجيال �إال وتغ�شو فيها حتت �أ�رس � ٍ
�سيماء الآ�رسين :ك�سواد العيون يف الإ�سبانيول ،وبيا�ض الب�رشة يف الأفريقيني.
يتم �إال باالخت�صا�ص، احلب الذي ال ُّ وعدم االطمئنان على ال ِعر�ض ُي�ضعف ّ
حتمل م�شاق وي�ضعف ل�صقة الأوالد ب�أزواج �أمهاتهم ،فت�ضعف ال َغرية على ّ ُ
ال�سفاح.
وحرم ِّ �رشع اهلل النكاحَّ ،
الرتبية ،تلك الغرية التي لأجلها َّ
ال�سعة؟! لل�سعة والفقر �أي�ض ًا دخ ٌل كبري يف ت�سهيل الرتبية ،و�أين الأ�رساء من ّ ّ
كما � َّأن النتظام املعي�شة ولو مع الفقر عالقة قوية يف الرتبية ،ومعي�شة الأُ�رساء
و�ضيق يف �ضيق ،وذلك يجعل ٌ �أغنياء كانوا �أو معدمني ،ك ُّلها خل ٌل يف خلل،
ي�ستحق املزيد يف ُّ الأ�سري هينّ النف�س ،وهذا �أول دركات االنحطاط ،يرى ذاته ال
النعيم مطعم ًا وم�رشب ًا وملب�س ًا وم�سكن ًا ،وهذا ثاين الدركات ويرى ا�ستعداده
قا�رصاً عن الرت ّقي يف العلم ،وهذا ثالثها ،ويرى حياته على ب�ساطتها ال تقوى
جرا!.
وهلم ّ
�إال مبعاونة غريه له ،وهذا رابعهاَّ ،
يتحملون َّ بناء عليه ،ما �أبعد الأُ�رساء عن الن�شاط للرتبيةَّ ،
ثم ملاذا ً
نوروا �أوالدهم بالعلم جنوا عليهم بتقوية �إح�سا�سهم، إن
ْ َّ � وهم الرتبية، م�شاق
َّ
بالء؟ ولهذا ال غرو �أن يختار الأ�رساء الذين فيهم ً ويزيدونهم ،�شقاء
ً فيزيدونهم
بقية من الإدراك ،ترك �أوالدهم هم ًال جترفهم البالهة �إىل حيث ت�شاء.
يرتبى،جند �أ َّنه ُيل َّقح و�إذا افتكرنا كيف ين�ش�أ الأ�سري يف البيت الفقري ،وكيف َّ
حرك �رشا�سة حترك جنين ًا َّ ثم �إذا َّ
به ،ويف الغالب �أبواه متناكدان مت�شاك�سانَّ ،
�ضيقت عليه بطنها لإلفتها � ِّأمه فت�شتمه� ،أو زاد �آالم حياتها فت�رضبه ،ف�إذا ما َّ
االنحناء خمو ًال والت�رصر �صغاراً ،والتق ُّل�ص ل�ضيق فرا�ش الفقر ،ومتى ولدته
�سدت فمه بثديها� ،أو �ضغطت عليه بالقماط اقت�صاداً وجه ًال ،ف�إذا ت�ألمَّ وبكى َّ
خ�ض ًا �أو بدوار ال�رسير� ،أو �سقته خمدراً عجزاً عن نفقة الطبيب، قطعت نف�سه ّ
ف�إذا ما ُف ِطم ،ي�أتيه الغذاء الفا�سد ي�ضيق معدته ،ويف�سد مزاجه ،ف�إذا كان قوي
البنية طويل العمر وترعرع ،يمُ نع من ريا�ضة اللعب ل�ضيق البيت ،ف�إذا �س�أل
101
اال�ستبداد والرتبية
زجر ويلكم ل�ضيق ُخ ُلق �أبويه ،و�إن جال�سهما وا�ستفهم ماذا وما هذا؟ ليتع ّلمُ ،ي َ
التوج�س يبعدانه كي ال يقف على �أ�رسارهما، ّ لي�ألف املعا�رشة ،وينتفي عنه
في�سرتقها منه اجلريان اخللطاء ،فتنمى �أعوان الظاملني وما �أكرثهم ،ف�إذا
قويت رجاله ُيدفع به �إىل خارج الباب� ،إىل مدر�سة الألفة على القذارة ،وتع ّلم
�صيغ ال�شتائم وال�سباب ،ف� ْإن عا�ش ون�ش�أ ُو�ضع يف مكتب �أو عند ذي �صنعة،
فيكون �أكرب الق�صد ربطه عن ال�سرّ اح واملراح .ف�إذا بلغ ال�شباب ،ربطه �أوليا�ؤه
يفر من م�شاكلتهم يف �شقاء احلياة ،ليجني هو على على وتد الزواج كي ال ّ
ثم هو يتوىل الت�ضييق على نف�سه ب�أطواق اجلهل ن�سله كما جنى عليه �أبواهَّ ،
امل�ستبدون الت�ضييق على عقله ول�سانه وعمله و�أمله.
ّ وقيود اخلوف ،ويتوىل
وهكذا يعي�ش الأ�سري -يف حني يكون ن�سمة -يف �ضيق و�ضغط ،يهرول ما
يودع �سقم ًا وي�ستقبل �سقم ًا �إىل �أن يفوز بنعمة املوت غمِّ ،
هم ووادي ٍّ بني عتبة ٍّ
م�ضيع ًا دنياه مع �آخرته ،فيموت غري �آ�سف وال م�أ�سوف عليه.
وما �أظلم من ي�ؤاخذ الأ�رساء على عدم اعتنائهم بلوازم احلياة .فالنظافة
م�ستمر؟ �أم لأجلّ مر�ض
�صحته وهو يف ٍ مث ًال :ملاذا يهتم بها الأ�سري؟ هل لأجل َّ
ل َّذته وهو املت�أمل كيفما تق َّلب ج�سمه �أو نظره؟ �أم لأجل ذوق من يجال�س �أو
ي�ؤاكل ،وهو من ع َّفت نف�سه �صحبة احلياة؟
أقل �رشاً من هذا ،كال ،بلنن املطالع � َّأن حالة �أغنياء الأ�رساء هي � ُّوال يظ َّ
هم �أ�شقى و�أق ّل عافي ًة ،و�أق�رص عمراً من هذا� ،إذا نق�صتهم بع�ض املن ِّغ�صات،
�صح
تزيد فيهم م�شاق التظاهر بالراحة والرفاه والع ّزة واملنعة ،تظاهراً �إن َّ
فيبتلى قليله فكثريه الكاذب حم ٌل ثقيل على عواتقهم كال�سكران يت�صاحى ُ
بال�صداع� ،أو كالعاهرة البائ�سة تت�ضاحك لرت�ضي الزاين.
حياة الأ�سري ت�شبه حياة النائم املزعوج بالأحالم ،فهي حياة ال روح
فيها ،حياة وظيفتها متثيل مندر�سات اجل�سم فقط ،وال عالقة لها بحفظ املزايا
ميت بالن�سبة وبناء على هذا ،كان فاقد احلرية ال �أنانية له لأنه ٌ ً الب�رشية،
حي بالن�سبة لغريه ،ك�أ َّنه ال �شيء يف ذاته� ،إنمَّ ا هو �شيء بالإ�ضافة. لنف�سهٌّ ،
حق لهومن كان وجوده يف الوجود بهذه ال�صورة وهي الفناء يف امل�ستبدينَّ ،
�أن ال ي�شعر بوظيفة �شخ�صية ف�ض ًال عن وظيفة اجتماعية .ولوال � ْأن لي�س يف
وال�صدف التي الكون �شيء غري تابع لنظام حتى اجلماد ،حتى فلتات الطبيعة ُّ
102
هي م�سببات لأ�سباب نادرة ،حلكمنا ب� َّأن معي�شة الأ�رساء هي حم�ض فو�ضى،
ال �شبه فو�ضى.
على � َّأن التدقيق العميق ،يفيدنا ب� َّأن للأ�رساء قوانني غريبة يف مقاومة
ويرتبى َ الفناء ي�صعب �ضبطها وتعريفها� ،إمنا الأ�سري ير�ضعها مع لنب �أمه،
عليها ،وقد يبدع فيها ب�سائق احلاجة ،ويكون منهم احلاذق فيها علم ًا ،املاهر
يف تطبيقها عم ًال ،هو املو َّفق يف ميدان حرب احلياة مع الذل ،كالهنود
واليهود .والعاجز عنهاّ � ،إما جاهل هذا القانون �أو العاجز فطر ًة عن ا ِّتباعه
كالعرب مث ًال ،فال يخرج عن كونه كرة يلعب بها �صبيان اال�ستبداد ،تار ًة
ي�رضبون بها الأر�ض وتارة احليطان ،و�أما �إذا كان عجزه كما يقال عن عرق
ها�شمي� ،أي عن �شي ٍء من كرامة نف�س �أو قوة �إح�سا�س �أو ج�سارة جنان ،فيكون
كاحلجارة تتك�سرَّ وال تلني.
قوانني حياة الأ�سري هي مقت�ضيات ال�ش�ؤون املحيطة به ،التي ت�ضطره لأن
ويدبر نف�سه على موجبها ،وذلك نحو مقابلة التجبرُّ يطبق �إح�سا�ساته عليهاِّ ،
عليه بالتذلل وال ّت�صاغر ،وتعديل ال�شدة عليه بالتالين واملطاوعة ،و�إعطاء
املطلوب منه بعد قليلٍ من التم ُّنع ،ولو � َّأن املطلوب هو ابنه ملجزرة اجلندية �أو
�شيخ �رشير ،واملطالبة يف احلقوق ب�صفة ا�ستعطاف ك�أ َّنه طالب ابنته لفرا�ش ٍ
وحفظ املال ب�إخفائه عن الأعني، �صدقة ،وك�سب املعا�ش مع �شكاية احلاجةِ ،
والتعامي عن ز ّالت امل�ستبدين ،والت�صامم عن �سماع ما ُيهان به ،والتظاهر
احل�س �أو تعطيله باملخدرات القوية كالأفيون واحل�شي�ش ،وتعطيل العقل بفقد ّ
بال ّتباله و�سرت العلم بالتجاهل ،واالرتداء بالتدين والرياء ،وتعويد الل�سان
على ال ّزالقة يف عبائر الت�صاغر والتم ّلق ،وعزو ك ّل خري �إىل ف�ضل امل�ستبدين
حتى �إذا كان اخلري طبيعي ًا نحو مطر ال�سماء ،فعزوه �إىل يمُ ن احلكام �أو دعاء
�رش ،ولو من نوع الت�س ُّلط على الأعرا�ض ،على اال�ستحقاق الكهنة .وي�سند ك َّل ٍّ
من جانب اهلل� .إىل غري ذلك من �أحكام ذلك القانون ،الذي ر�ؤو�س م�سائله فقط
مت ّل القارئ ف�ض ًال عن تف�صيالتها.
� َّإن �أخوف ما يخافه الأ�سري هو �أن يظهر عليه �أثر نعمة اهلل يف اجل�سم �أو
املال ،فت�صيبه عني اجلوا�سي�س (وهذا �أ�صل عقيدة �إ�صابة العني)! �أو �أن يظهر
امل�ستبد (وهذا
ِّ جاه �أو ٍ
نعمة مهمة ،في�سعى به حا�سدوه �إىل علم �أو ٍ له �ش�أن يف ٍ
103
اال�ستبداد والرتبية
يتحيل الأ�سري على حفظ ماله الذي ال ّ تعوذ منه)! وقد�أ�صل �رش احل�سد الذي ُي َّ
ميكنه �إخفا�ؤه كالزوجة اجلميلة� ،أو الدابة الثمينة� ،أو الدار الكبرية ،فيحميها
ب�إ�سناد ال�ش�ؤم( ،وهذا �أ�صل الت�شا�ؤم بالأقدام والنوا�صي والأعتاب).
امل�ستبد ،وال يقوون على
َّ ومن غريب الأحوال � َّأن الأُ�رساء يبغ�ضون
ا�ستعمالهم معه الب�أ�س الطبيعي املوجود يف الإن�سان �إذا غ�ضب ،في�رصفون
فيعادون من بينهم فئ ًة م�ست�ضعف ًة� ،أو الغرباء، ب�أ�سهم يف وجهة �أخرى ظلم ًاُ :
وم َث ُلهم يف ذلك مثل الكالب الأهلية� ،إذا �أريد
�أو يظلمون ن�ساءهم ونحو ذلكَ .
منها احلرا�سة وال�رشا�سة ،ف�أ�صحابها يربطونها نهاراً ويطلقونها لي ًال فت�صري
�رش�سة عقورة ،وبهذا التعليل تع َّلل ج�سارة الأ�رساء �أحيان ًا يف حمارباتهم ،ال
على �أنها ج�سارة عن �شجاعة .و�أحيان ًا تكون ج�سارة الأ�رساء عن التناهي يف
امل�ستبد الذي ي�سوقهم �إىل املوت ،فيطيعونه انذعاراً كما تطيع ِّ اجلبانة �أمام
الغنمة الذئب فتهرول بني يديه �إىل حيث ي�أكلها.
تقدم � َّأن الرتبية غري مق�صودة ،وال مقدورة يف ظالل وقد ا َّت�ضح مما َّ
اال�ستبداد �إال ما قد يكون بالتخويف من القوة القاهرة ،وهذا النوع ي�ستلزم
انخالع القلوب ال تزكية النفو�س .وقد �أجمع علماء االجتماع والأخالق
والرتبية على � َّأن الإقناع خري من الرتغيب ف�ض ًال عن الرتهيب ،و� َّإن التعليم
مع احلرية بني املعلِّم واملتعلِّم �أف�ضل من التعليم مع الوقار ،و� َّأن التعليم
التكمل �أر�سخ من العلم احلا�صل طمع ًا يف املكاف�أة� ،أو غرية ُّ عن رغبة يف
من الأقران .وعلى هذه القاعدة بنوا قولهمَّ � :إن املدار�س تقلل اجلنايات ال
ال�سجون ،وقولهمَّ � :إن الق�صا�ص واملعاقبة ق َّلما يفيدان يف زجر النف�س كما
قال احلكيم العربي:
زاجر
ما مل يكن منها لها ُ غيها
ال ترجع الأنف�س عن ّ
104
ثم �إىل الأطماع عاج ًال من�رصف �إىل الإقناعَّ ،
ٌ � َّأن االعتناء يف طريق الهداية فيها
ثم �إىل الرتهيب الآجل غالب ًا ومع ترك �أبواب ُتديل �إىل النجاة. �أو �آج ًالَّ ،
ثم � َّإن الرتبية التي هي �ضا ّلة الأمم ،وفقدها هو امل�صيبة العظيمة ،التي َّ
هي امل�س�ألة االجتماعية ،حيث الإن�سان يكون �إن�سان ًا برتبيته ،وكما يكون
الآباء يكون الأبناء ،وكما يكون الأفراد تكون ال ّأمة ،والرتبية املطلوبة هي
ثم
ثم على ح�سن التفهيم والإقناعَّ ، الرتبية املر َّتبة على �إعداد العقل للتمييزَّ ،
ثم على ح�سن القدوة ثم على التمرين والتعويدَّ ، الهمة والعزميةَّ ، على تقوية ّ
التو�سط واالعتدال ،و� ْأن تكونّ ثم علىثم على املواظبة والإتقانَّ ، واملثالَّ ،
تربية العقل م�صحوب ًة برتبية اجل�سم ،لأنهما مت�صاحبان �صحة واعتال ًال،
امل�شاق ،واملهارة يف
ّ حتمل
ف�إنه يقت�ضي تعويد اجل�سم على النظافة وعلى ّ
احلركات ،والتوقيت يف النوم والغذاء والعبادة ،والرتتيب يف العمل ويف
الريا�ضة والراحة .و�أن تكون تلكما الرتبيتني م�صحوبتني �أي�ض ًا برتبية النف�س
على معرفة خالقها ومراقبته واخلوف منه .ف�إذا كان ال مطمع يف الرتبية
العامة على هذه الأ�صول مبانع طبيعة اال�ستبداد ،فال يكون لعقالء املبتلني ّ
ثم بعد ذلك َّ العقول، هذه على ال�ضاغط املانع إزالة � وراء ال
ً أو � ي�سعوا أن � إال به �
يعتنوا بالرتبية ،حيث ميكنهم حينئ ٍذ �أن ينالوها على توايل البطون ،واهلل
املوفق.
105
اال�ستبداد والرت ِّقي
106
اال�ستبداد والرتقِّي
�شخو�ص وهبوط .فالرت ّقي هو احلركة ٍ احلركة ُ�س َّن ٌة دائب ٌة يف اخلليقة بني
احليوية� ،أي حركة ال�شخو�ص ،ويقابله الهبوط وهو احلركة �إىل املوت �أو
االنحالل �أو اال�ستحالة �أو االنقالب.
ال�س ّنة كما هي عاملة يف املادة و�أعرا�ضها ،عاملة �أي�ض ًا يف الكيفيات وهذه ُّ
امليتويخرج ّ امليت ُ
احلي من ّ ال�شارح لذلك �آية(ُ :يخرِج َّ ومركباتها ،والقول ّ َّ
أمر �إال وبدا نق�صه) ،وقولهم( :التاريخ يعيد نف�سه).مت � ٌ احلي) ،وحديث( :ما َّ من ّ
وحكمهم ب� َّأن احلياة واملوت ح ّقان طبيعيان.
وهذه احلركة اجل�سمية والنف�سية والعقلية ال تقت�ضي ال�سري �إىل النهاية
كل �ساعة يف �ش�أن ،والعربة �شخو�ص ًا �أو هبوط ًا ،بل هي �أ�شبه مبيزان احلرارةُّ ،
يف احلكم للوجهة الغالبة ،ف�إذا ر�أينا �آثار حركة الرت ّقي هي الغالبة على
�أفرادها ،حكمنا لها باحلياة ،ومتى ر�أينا عك�س ذلك ق�ضينا عليها باملوت.
ال ّأمة هي جمموعة �أفراد يجمعها ن�سب �أو وطن �أو لغة �أو دين ،كما � َّأن
وقو ًة يكونالبناء جمموع �أنقا�ض ،فح�سبما تكون الأنقا�ض جن�س ًا وجما ًال ّ
انحطت الأمة تر َّقت هيئتها االجتماعية ،حتى � َّإن حالة َّ البناء ،ف�إذا تر َّقت �أو
الفرد الواحد من ال ّأمة ت�ؤ ِّثر يف جمموع تلك الأمة .كما �إذا لو اخت َّلت حجرة
107
اال�ستبداد والرت ِّقي
يختل جمموعه و� ْإن كان ال ي�شعر بذلك ،كما لو وقفت بعو�ضة على ُّ من ح�صن
درك ذلك بامل�شاعر .وبع�ض طرف �سفينة عظيمة �أثقلتها و�أمالتها و� ْإن مل ُي َ
كل فرد رقي ًا �أن يجتهد ُّال�سيا�سيني بنى على هذه القاعدة� :أ َّنه يكفي الأمة ّ
منها يف ترقية نف�سه بدون �أن يفتكر يف تر ّقي جمموع الأمة.
وهمته هو �أو ًال :الرت ّقي
الرت ّقي احليوي الذي يجتهد فيه الإن�سان بفطرته ّ
القوة بالعلم واملال ،ثالث ًا :الرت ّقي�صح ًة وتل ُّذذاً ،ثاني ًا :الرت ّقي يف ّيف اجل�سم ّ
يف النف�س باخل�صال واملفاخر ،رابع ًا :الرت ّقي بالعائلة ا�ستئنا�س ًا وتعاون ًا،
خام�س ًا :الرت ّقي بالع�شرية تنا�رصاً عند الطوارئ� ،ساد�س ًا :الرت ّقي بالإن�سانية،
وهذا منتهى الرت ّقي.
نوع �آخر من الرت ّقي ويتعلق بالروح وبالكمال ،وهو � َّأن الإن�سان وهناك ٌ
يحمل نف�س ًا ملهمة ب� َّأن لها وراء حياتها هذه حيا ًة �أخرى يرت ّقى بها على
�س ّلم العدل والرحمة واحل�سنات .ف�أهل الأديان -ما عدا �أهل التوراة -ي�ؤمنون
بالبعث �أو التنا�سخ ،في�أتون بالعدل والرحمة رجاء املكاف�أة �أو خوف املجازاة،
وهم من قبيل الطبيعيني يعتربون �أنف�سهم مدينني للإن�سانية بحفظها تاريخ
بح�سن احلياة الطبيعية ،فيلتزمون بخدمتها اهتمام ًا بحياتهم التاريخية ُ
ال ّذكر �أو قبحه.
وهذه الرت ّقيات ،على �أنواعها ال�س ّتة ،ال يزال الإن�سان ي�سعى وراءها ما
مل يعرت�ضه مانع غالب ي�سلب �إرادته ،وهذا املانع � َّإما هو القدر املحتوم،
امل�سمى عند البع�ض بالعجز الطبيعي� ،أو هو اال�ستبداد امل�ش�ؤوم .على � َّأن ّ
فيكر راقي ًا .و�أما اال�ستبداد ف�إ َّنه
ُّ يطلقه ثم ،
ً َّ ة ملح ي ق
ّ الرت �سري ي�صدم القدر
يقلب ال�سري من الرت ّقي �إىل االنحطاط ،ومن التقدم �إىل الت�أخر ،من النماء �إىل
الفناء ،ويالزم الأمة مالزمة الغرمي ال�شحيح ،ويفعل فيها دهراً طوي ًال �أفعاله
حطة تقدم و�صف بع�ضها يف الأبحاث ال�سابقة� ،أفعاله التي تبلغ بالأمة ّ التي َّ
العجماوات فال يهمها غري حفظ حياتها احليوانية فقط ،بل قد تبيح حياتها
خفية .وال عار على الإن�سان � ْأن هذه الدنيئة �أي�ض ًا اال�ستبداد �إباح ًة ظاهرة �أو ّ
ُ
يختار املوت على الذل ،وهذه �سباع الطري والوحو�ش �إذا �أ�سرِ َ ت كبرية قد ت�أبى
الغذاء حتى املوت.
يحول ميلها الطبيعي من طلب الرت ّقي وقد يبلغ فعل اال�ستبداد بالأمة �أن ِّ
108
الرفعة لأبت وت�ألمَّ ت كما يت�ألمَّ الأجهر من �إىل الت�س ُّفل ،بحيث لو ُد ِف َعت �إىل ِّ
النور ،و�إذا �أُلز َِمت باحلرية ت�شقى ،ورمبا تفنى كالبهائم الأهلية �إذا �أُط ِلق
�رساحها .عندئ ٍذ ي�صري اال�ستبداد كالعلق يطيب له املقام على امت�صا�ص دم
ينفك عنها حتى متوت وميوت هو مبوتها. الأمة ،فال ُّ
وتو�صف حركة الرت ّقي واالنحطاط يف ال�ش�ؤون احليوية للإن�سان� ،أنها من
نوع احلركة الدودية ،التي حت�صل باالندفاع واالنقبا�ض ،وذلك � َّأن الإن�سان
ثم ي�أخذ يف ال�سري ،تدفعه يولد وهو �أعجز حراك ًا و�إدراك ًا من ك ِّل حيوانَّ ،
�رس �أن
الرغائب النف�سية والعقلية وتقب�ضه املوانع الطبيعية واملزاحمة .وهذا ّ
�رس ما ورد يف القر�آن الكرمي من ابتالء اهلل الإن�سان ينتابه اخلري وال�رش .وهو ّ
النا�س باخلري وال�رش ،وهو معنى ما ورد يف الأثر ب� َّأن اخلري مربوط بذيل
مربوط بذيل اخلري ،وهو املراد من �أقوال احلكماء نحو :على قدر ٌ ال�رش ،وال�رش
حرب
ال ّنعمة تكون النقمة ،على قدر الهمم ت�أتي العزائم ،بني ال�سعادة وال�شقاء ٌ
والكي�س من ي�ستفيد من م�صيبته ِّ ِ�سجال ،العاقل من ي�ستفيد من م�صيبته،
وم�صيبة غريه ،واحلكيم من يبتهج بامل�صائب ليقطف منها الفوائد ،ما كان
يف احلياة ل ّذة لو مل يتخللها �آالم.
ف�إذا تقرر هذا فليعلم �أي�ض ًا � َّأن �سبيل الإن�سان هو الرقي ،ما دام جناحا
االندفاع واالنقبا�ض فيه متوازيني كتوازن الإيجابية وال�سلبية يف
ثم � َّإن االندفاعالكهربائية ،و�سبيله القهقرى �إن غلبته الطبيعة �أو املزاحمةَّ .
�إذا غلب فيه العقل النف�س ،كانت الوجهة �إىل احلكمة ،و� ْإن غلبت النف�س العقل،
كانت الوجهة �إىل الزيغ� .أما االنقبا�ض ،فاملعتدل منه هو ال�سائق للعمل،
والقوي منه ُمه ِل ٌك للحركة ،واال�ستبداد امل�ش�ؤوم الذي نبحث فيه هو قاب�ض
أحق بو�صف �ضاغط م�سكن ،واملبتلون به هم امل�ساكني .نعم� :أ�رساء اال�ستبداد � ُّ
امل�ساكني من عجزة الفقراء.
ولو ملك الفقهاء حرية النظر خلرجوا من االختالف يف تعريف امل�ساكني
الذين جعل لهم اهلل ن�صيب ًا من الزكاة فقالوا :هم عبيد اال�ستبداد ،وجلعلوا
الرق الأكرب.
فك الرقاب ت�شمل هذا ّ ك َّفارات ِّ
�أُ�رساء اال�ستبداد حتى الأغنياء منهم ك ُّلهم م�ساكني ال حراك فيهم ،يعي�شون
منحطني يف الأخالق .وما �أظلم ّ منحطني يف الإح�سا�س، ِّ منحطني يف الإدراك،
ّ
109
اال�ستبداد والرت ِّقي
�شبه حالتهم توجيه اللوم عليهم بغري ل�سان الر�أفة والإر�شاد ،وقد �أبدع من َّ
بدود حتت �صخرة ،فما �أليق بالالئمني �أن يكونوا م�شفقني ي�سعون يف رفع
ذرة.
ذر ًة بعد ّ
ال�صخرة ولو ح ّت ًا بالأظافر َّ
وقد �أجمع احلكماء على � َّأن �أهم ما يجب عمله على الآخذين بيد ال َّأمة،
الذين فيهم ن�سمة مروءة و�رشار حمية ،الذين يعرفون ما هي وظيفتهم ب�إزاء
الإن�سانية ،امللتم�سني لإخوانهم العافية� ،أن ي�سعوا يف رفع ال�ضغط عن العقول
النمو فتم ِّزق غيوم الأوهام التي متطر املخاوف� ،ش�أن ِّ لينطلق �سبيلها يف
الطبيب يف اعتنائه �أو ًال بقوة ج�سم املري�ض ،و�أن يكون الإر�شاد متنا�سب ًا مع
ٍ
�صوت ينبهه ال�صوت اخلفيف ،وال ّنائم يحتاج �إىل
الغفلة خ َّف ًة وقوة :كال�ساهي ِّ
�صياح وزجر .فالأ�شخا�ص من هذا النوع الأخري ،يقت�ضي ٌ �أقوى ،والغافل يلزمه
مراً
لإيقاظهم الآن بعد �أن ناموا �أجيا ًال طويلة �أن ي�سقيهم النطا�سي البارع ّ
من الزواجر والقوار�س ع َّلهم يفيقون ،و�إال فهم ال يفيقون ،حتى ي�أتي الق�ضاء
من ال�سماء :فتربق ال�سيوف ،وترعد املدافع ومتطر البنادق ،فحينئ ٍذ ي�صحون،
ولكن� ،صحوة املوت!.
الدين ي�ؤ ِّثر على الرت ّقي الإفرادي،بع�ض االجتماعيني يف الغرب يرون � َّأن ِّ
احل�س� ،أو حاجب ًا كالغيم يغ�شى معط ًال كفعل الأفيون يف ِّ ثم االجتماعي ت�أثرياً ِّ َّ
�ضدان متزاحمان ّ والعقل الدين يقولون: الغالة بع�ض وهناك ال�شم�س. نور
يف الر�ؤو�س ،و� َّإن �أول نقطة من الرت ّقي تبتدئ عند �آخر نقطة من الدين .و� َّإن
الرقي واالنحطاط يف الأفراد �أو يف الأمم �ستد ُّل به على مرتبة ُّ
�أ�صدق ما ُي َّ
الغابرة واحلا�رضة ،هو مقيا�س االرتباط بالدين قو ًة و�ضعف ًا.
للرد عليها ،ولكن ،بالنظر �إىل الأديان هذه الآراء ك ُّلها �صحيحة ال جمال ِّ
حد احلكمة ،كالدين املبني على تكليف اخلرافية �أ�سا�س ًا �أو التي مل تقف عند ِّ
جمرد الإذعان ملا يعقل بت�صور � َّأن الواحد ثالثة والثالثة واحد .ل َّأن َّ
ُّ العقل
يعد
برهان على ف�ساد بع�ض مراكز العقل ،ولهذا �أ�صبح العامل املتمدن ّ
االنت�ساب �إىل هذه العقيدة من العار ،لأنه �شعار احلُمق.
�أما الأديان املبنية على العقل املح�ض كالإ�سالم املو�صوف بدين الفطرة،
وال �أعني بالإ�سالم ما يدين به �أكرث امل�سلمني الآن� ،إنمَّ ا �أريد بالإ�سالم :دين
110
مقيد الفكر
كل �إن�سانٍ غري َّ القر�آن� ،أي الدين الذي يقوى على فهمه من القر�آن ُّ
بتف�صح زيد �أو حت ُّكم عمرو. ُّ
الدين �إذا كان مبني ًا على العقل ،يكون �أف�ضل �صارف للفكر عن أن
َّ ِّ � �شك فال
املخرفني ،و�أنفع وازع ب�ضبط ال َّنف�س من ال�شطط ،و�أقوى ِّ م�صائد الوقوع يف
من�شط م�شاق احلياة ،و�أعظم ِّّ حتملم�ؤ ِّثر لتهذيب الأخالق ،و�أكرب معني على ُّ
مثبت على املبادئ ال�رشيفة ،ويف النتيجة املهمة اخلطرة .و�أج َّل ِّ َّ على الأعمال
رقي ًا
�ستدل به على الأحوال النف�سية يف الأمم والأفراد ّ أ�صح مقيا�س ُي ُّ يكون � َّ
وانحطاط ًا.
هذا القر�آن الكرمي �إذا �أخذناه وقر�أناه بالترّ وي يف معاين �ألفاظه العربية
تفهم �أ�سباب نزول �آياته وما �أ�شارت �إليه ،ومع و�أ�سلوب تركيبه القر�شي ،مع ُّ
التب�صرُّ يف مقا�صده الدقيقة وت�رشيعه ال�سامي ،ومع �أخذ بع�ض التو�ضيحات
ال�س َّنة العملية النبوية �أو الإجماع �إن وجدا ،وق َّلما يوجدان ،فحينئ ٍذ ال نرى من ُّ
فيه من �أو ِّله �إىل �آخره غري ِح َك ٍم يتل ّقاها العقل بالإجالل والإعظام� ،إىل درجة
حل َكم ِح َك ٌم عزيزة �إلهية،
انقياد العقل طوع ًا �أو كره ًا للإميان �إجما ًال ب� َّأن تلك ا ِ
و� َّأن الذي �أنزلها اهلل على قلبه هو اف�ضل من �أر�سله اهلل مر�شداً لعباده.
حق النظر يرى �أ َّنه ال يكلِّف الإن�سان وتو�ضيح ذلكَّ � :أن الناظر يف القر�آن ّ
قط بالإذعان ل�شيء فوق العقل ،بل يح ِّذره وينهاه من الإميان ا ِّتباع ًا لر�أي ّ
الغري �أو تقليداً للآباء .ويراه طافح ًا بالتنبيه �إىل �أعمال الإن�سان فكره ونظره
ثم اال�ستدالل بذلك �إىل � َّأن لهذه الكائنات يف هذه الكائنات وعظيم انتظامهاَّ ،
ال�صفات التي ي�ستلزم العقل ثم االنتقال �إىل معرفة ِّ �صانع ًا �أبدعها من العدمَّ ،
ثم يرى القر�آن يعلِّم الإن�سان �أن يكون هذا ال�صانع م َّت ِ�صف ًا بها� ،أو من َّزه ًا عنهاَّ ،
بع�ض �أعمال و�أحكام و�أوامر ونواهي ك ّلها ال تبلع املائة عدداً ،وك ُّلها ب�سيطة
التعبدية التي �شرُ ِّعت لتكون �شعاراً يعرف به ُّ معقولة� ،إال قلي ًال من الأمور
في�ستدل
ُّ امل�سلم �أخاه� ،أو ي�ستطلع من خالل قيامه بها �أو تهاونه فيها �أخالقه،
مث ًال بال ّتكا�سل عن ال�صالة على َفق ِد الن�شاط ،وبرتك ال�صوم على عدم ال�صرب،
وبال�سكر على غلبة النف�س والعقل ونحو ذلك. ُّ
رقيها بالب�رش �إىل منزلة ح�رصها ّ الت�رشيع، يف ا
ً رقي
ّ إ�سالمية ل با وكفى
�أ�سارة الإن�سان يف جهة �رشيفة واحدة وهي (اهلل) ،وعتقها عقل الب�رش عن
111
اال�ستبداد والرت ِّقي
توهم وجود قوة ما ،يف غري اهلل ،من �ش�أنها �أن ت�أتي للإن�سان بخ ٍري ما� ،أو ُّ
�رشاً ما .فالإ�سالمية جتعل الإن�سان ال يرجو وال يهاب من ر�سولٍ �أو ّ عنه تدفع
يل �أو ج ّني� ،أو �ساح ٍر �أو كاهن� ،أو �شيطانٍ �أو �سلطان. نبي� ،أو ٍ
ملك �أو فلك� ،أو و ٍّ ّ
و�أعظم بهذا التعليم الذي يرمي الإن�سان عن عاتقه جبا ًال من اخلوف
والأوهام واخلياالت ،جبا ًال اعتقلها منذ كان ي�رسح مع الغيالن� ،أو ورثها
من �أبيه �آدم الذي طغاه �شيطان النف�س� .أو لي�س العتيق من الأوهام ي�صبح
�صحيح العقل ،قوي الإرادة ،ثابت العزمية ،قائده احلكمة� ،سائقه الوجدان،
فيعي�ش حراً ،فرح ًا �صبوراً فخوراً .ال يبايل حتى باملوت لعلمه بال�سعادة
الروح والريحان ،واحلور التي ي�ستقبلها ،التي مي ِّثلها له القر�آن باجلنان ،فيها ّ
وتقر به العينان؟! والغلمان ،فيها كل مل ت�شتهي الأنف�س ُّ
اطالعهم أظن �أن ه�ؤالء املنكرين فائدة الدين ،ما �أنكروا ذلك �إال من عدم ِّ و� ُّ
على دينٍ �صحيح مع ي�أ�سهم من �إ�صالح ما لديهم ،عجزاً عن مقاومة �أن�صار
الف�ساد .و�إذا نظرنا يف � َّأن ه�ؤالء �أنف�سهم هم يف �آنٍ واحد ي�شددون ال َّنكري على
جهة �أخرى الدين من جهة ،قائلنيَّ � :إن �رضره �أكرب من نفعه ،ويهيجون من ٍ ِّ
حب
ِّ مثل وذلك أمم، ل ا بناء يف منه بد
َّ ال أنه � يرون ا
ً حم�ض وهمية أدبية � رات ث
ِّ �
ؤ م
وال�سمعة احل�سنة وعك�سها، وحب الإن�سانية والإ�ساءة �إليها ُّ ِّ الوطن وخيانته،
وال ِّذكر التاريخي باخلري �أو ال�شرَّ ونحو ذلك مما هو ال �شيء يف ذاته ،وال �شيء
�أي�ض ًا بالن�سبة �إىل ت�أثري طاعة اهلل واخلوف منه ،ل َّأن (اهلل) حقيقة ال ريب
فيها ،بل وال خالف �إال يف الأ�سماء بني (اهلل) وبني (مادة) �أو (طبيعة) .ولوال
� َّأن املاديني والطبيعيني ي�أبون اال�سرت�سال يف البحث يف �صفات ما ي�سمونه
مادة �أو طبيعة ،اللتقوا -وال �شك -مع الإ�سالم يف نقطة واحدة ،فارتفع
اخلالف العلمي و�أ�سلم الك ّل هلل.
أ�صور الرقي واالنحطاط يف ال َّنف�س، وعلى ذكر اللوم الإر�شادي الح يل � ْأن � ِّ
وكيف ينبغي للإن�سان العاقل �أن يعاين �إيقاظ قومه ،وكيف ير�شدهم �إىل �أنهم
ويحرك
ِّ وال�سفالة ،فيذ ِّكرهم،ال�صرب على ال ُّذ ِّل َّ ُخ ِلقوا لغري ما هم عليه من َّ
قلوبهم ،ويناجيهم ،وينذرهم بنحو اخلطابات الآتية:
أحييه حي ف� ّ قوم :ينازعني واهلل ال�شعور ،هل موقفي هذا يف جمع ٍّ (يا ُ
بال�سالم؟ �أم �أنا �أخاطب �أهل القبور ف�أحييهم بالرحمة؟ يا ه�ؤالء ،ل�ستم ب�أحياء
112
التنبت،
ي�سمى ُّبرزخ ّ ٍ عاملني ،وال �أموات م�سرتيحني ،بل �أنتم بني بني :يف
رباه� :إين �أرى �أ�شباح �أنا�س ي�شبهون ذوي احلياة، وي�رصح ت�شبيهه بال ّنوم! يا ّ
وهم يف احلقيقة موتى ال ي�شعرون ،بل هم موتى ،لأنهم ال ي�شعرون).
نعيم مقيم،(يا قوم :هداكم اهلل� ،إىل متى هذا ال�شقاء املديد وال ّنا�س يف ٍ
وع ٍّز كرمي؟ �أفال تنظرون؟ وما هذا الت� ُّأخر ،وقد �سبقتكم الأقوام �ألوف مراحل،
حتى �صار ما بعد ورائكم �أمام ًا! �أفال تتبعون؟ وما هذا االنخفا�ض والنا�س
الرفعة� ،أفال تغارون؟ �أنا�شدكم اهلل ،هل طابت لكم طول غيبة ال�صواب يف �أوج ّ
ثم قاموا ،و�إذا بالدنيا غري عنكم؟ �أم �أنتم ك�أهل ذلك الكهف ناموا �ألف عام َّ
الدنيا ،والنا�س غري النا�س ،ف�أخذتهم الده�شة والتزموا ال�سكون؟).
(يا قوم :وقاكم اهلل من ال�رش� ،أنتم بعيدون عن مفاخر الإبداع و�رشف
القدوةُ ،مبتلون بداء التقليد والتبعية يف ك ِّل فك ٍر وعمل ،وبداء احلر�ص على ك ِّل
عتيق ك�أ َّنكم ُخ ِلقتم للما�ضي ال للحا�رض :ت�شكون حا�رضكم وت�سخطون عليه،
ومن يل �أن تدركوا � َّأن حا�رضكم نتيجة ما�ضيكم ،ومع ذلك �أراكم تقلِّدون
�أجدادكم يف الو�ساو�س واخلرافات والأمور ال�سافالت فقط ،وال تقلِّدونهم يف
حمامدهم! �أين الدين؟ �أين الرتبية؟ �أين الإح�سا�س؟ �أين الغرية؟ �أين اجل�سارة؟
�أين الثبات؟ �أين الرابطة؟ �أين املنعة؟ �أين ال�شهامة؟ �أين النخوة؟ �أين الف�ضيلة؟
�أين املوا�ساة؟ هل ت�سمعون؟ �أم �أنتم ُ�ص ٌّم الهون؟)
قوم :عافاكم اهلل� ،إىل متى هذا النوم؟ و�إىل متى هذا التق ُّلب على فرا�ش يا ُ
الب�أ�س وو�سادة الي�أ�س؟ �أنتم مف َّتح ٌة عيونكم ولكنكم نيام ،لكم �أب�صار ولكنكم
ال�صدور! ولكن ،تعمى القلوب التي يف ّ ْ ال تنظرون ،وهكذا ال تعمى الأب�صار،
احل�س ولكنكم ال ت�شعرون به ما كم ،ولكم �شبيه ِّ ول�سان ولكنكم ُ�ص ٌّم ُب ٌ
ٌ �سمع
لكم ٌ
ؤو�س كبرية ولكنها م�شغولة مبزعجات هي اللذائذ حق ًا وما هي الآالم ،ولكم ر� ٌ
ولكن� ،أنتم ال تعرفون نفو�س ح ُّقها �أن تكون عزيزةْ ، ٌ الأوهام والأحالم ،ولكم
لها قدراً ومقام ًا).
قوم :قاتل اهلل الغباوة ،ف�إنها متلأ القلوب رعب ًا من ال �شيء ،وخوف ًا (يا ُ
من ك ِّل �شيء ،وتفعم الر�ؤو�س ت�شوي�ش ًا و�سخافة� .ألي�ست هي الغباوة جعلتكم
وجتي�شون
ّ م�سكم ال�شيطان ،فتخافون من ظلِّكم وترهبون من قوتكم، ك�أنكم قد َّ
منكم عليكم جيو�ش ًا ليقتل بع�ضكم بع�ض ًا؟ ترتامون على املوت خوف املوت،
113
اال�ستبداد والرت ِّقي
114
وحتيلوا
َّ وجدوكم رقوداً ال ت�شعرون �سلبوا �أموالكم ،وزاحموكم على �أر�ضكم،
تذليلكم ،و�أوثقوا ربطكم ،وا َّتخذوكم �أنعام ًا ،وعندئ ٍذ لو �أردمت حراك ًا ال تقوون،
بل جتدون القيود م�شدود ًة والأبواب م�سدودة ال جناة وال خمرج).
هون اهلل م�صابكم ،ت�شكون من اجلهل وال تنفقون على التعليم قومَّ :
(يا ُ
ن�صف ما ت�رصفون على التدخني ،ت�شكون من احل َّكام ،وهم اليوم منكم ،فال
وجوه ال تف ِّكرون ٍ ت�سعون يف �إ�صالحهم ،ت�شكون فقد الرابطة ،ولكم روابط من
ال�صالح و�أنتم يف �إحكامها .ت�شكون الفقر وال �سبب له غري الك�سل .هل ترجون َّ
ُيخادع بع�ضكم بع�ض ًا وال تخدعون �إال �أنف�سكم؟ .تر�ضون ب�أدنى املعي�شة
متوهون على توك ًال! ِّ �سمونه ُّ
�سمونه قناعة ،وتهملون �ش�ؤونكم تهاون ًا ُت ّ عجزاً ُت ّ
جهلكم الأ�سباب بق�ضاء اهلل وتدفعون عار امل�سببات بعطفها على القدر� ،أال
واهلل ما هذا �ش�أن الب�رش!).
اجلبار� .أمل
قوم� :ساحمكم اهلل ،ال تظلموا الأقدار ،وخافوا غرية املنعم ّ (يا ُ
أكفاء �أحراراً طلقاء ال يثقلكم غري ال ّنور والن�سيم ،ف�أبيتم �إال �أن حتملوايخلقكم � ً
حمل �صغريكم على عواتقكم ظلم ال�ضعفاء وقهر الأقوياء؟! لو �شاء كبريكم �أن ُي ِّ
كرة الأر�ض حلنى له ظهره ،ولو �شاء �أن يركبه لط�أط�أ له ر�أ�سه .ماذا ا�ستفدمت
من هذا اخل�ضوع واخل�شوع لغري اهلل؟ وماذا ترجون من تقبيل الأذيال والأعتاب
ال�صغار كلِّه هو �ضعف ثقتكم وخف�ض ال�صوت ونك�س الر�أ�س؟ �ألي�س من�ش�أ هذا ّ
ب�أنف�سكم ،ك�أ ِّنكم عاجزون عن حت�صيل ما تقوم به احلياة ،وح�سب احلياة
نبات يقمن �ضلع ابن �آدم ،وقد بذلها اخل ّالق لأ�ضعف احليوان، قيمات من ٍ ٍ ُل
وهذه الوحو�ش جتد فرائ�سها �أينما ح َّلت ،وهذه الهوام ال تفقد قوتها؟ فما بال
الرجل منكم ي�ضع نف�سه مقام الطفل الذي ال ينال حاجته �إال بالتذ ُّلل والبكاء، َّ
والدعاء؟). �أو مو�ضع ال�شيخ الفاين الذي ال ينال حاجته �إال بالتم ُّلق ُّ
(يا قوم :رفع اهلل عنكم املكروه ،ما هذا التفاوت بني �أفرادكم وقد خلقكم
ربكم �أكفاء يف البنية� ،أكفاء يف القوةِ � ،أك ّفاء يف الطبيعة� ،أك َّفاء يف احلاجات،
ال يف�ضل بع�ضكم بع�ض ًا �إال بالف�ضيلة ،ال ربوبية بينكم وال عبودية؟ واهلل،
برزخ من الوهم .ولو درى ال�صغري بوهمه، لي�س بني �صغريكم وكبريكم غري ٍ
العاجز بوهمه ،ما يف النف�س الكبري املت�آله من اخلوف منه لزال الإ�شكال
وق�ضي الأمر الذي فيه ت�شقون! يا �أعزاء اخللقة ،جهالء املقام ،كان النا�س
115
اال�ستبداد والرت ِّقي
ثم تر ّقى ال ّنا�س ،فهبط يف دور الهمجية ،فكان ُدهاتهم بينهم �آلهة و�أنبياءَّ ،
حل َّكام
فانحط �أولئك �إىل مرتبة ا ُ
َّ الرقي
ثم زاد ّه�ؤالء ملقام اجلبابرة والأولياءَّ ،
واحلكماء ،حتى �صار ال ّنا�س نا�س ًا فزال العماء ،وانك�شف الغطاء ،وبان � َّأن
الك َّل �أكفاء .ف�أنا�شدكم اهلل يف �أي الأدوار �أنتم؟ �أال تف ِّكرون؟).
قوم :جعلكم اهلل من املهتدين ،كان �أجدادكم ال ينحنون �إال ركوع ًا (يا ُ
ٍ
مغمو�سة بدم الإخوان، ٍ
بلقمة هلل ،و�أنتم ت�سجدون لتقبيل �أرجل املن ِعمني ولو
معوجة رقابكم و�أجدادكم ينامون يف قبورهم م�ستوين �أعزاء ،و�أنتم �أحياء َّ
تود لو تنت�صب قاماتها و�أنتم من كرثة اخل�ضوع كادت ت�صري �أذ ّالء! البهائم ُّ
�أيديكم قوائم .النبات يطلب العلو و�أنتم تطلبون االنخفا�ض .ل َف َظتكم الأر�ض
لتكونوا على ظهرها و�أنتم حري�صون على �أن تنغر�سوا يف جوفها ،ف� ْإن كانت
بطن الأر�ض بغيتكم ،فا�صربوا قلي ًال لتناموا فيها طوي ًال).
الر�شد ،متى ت�ستقيم قاماتكم وترتفع من الأر�ض قوم� :ألهمكم اهلل ّ
(يا ُ
�إىل ال�سماء �أنظاركم ،ومتيل �إىل التعايل نفو�سكم ،في�شعر �أحدكم بوجوده يف
الوجود ،فيعرف معنى الأنانية لي�ستق ّل بذاته لذاته ،وميلك �إرادته واختياره
وربه ،ال يت ِّكل على �أحد من خلق اهلل ا ِّتكال الناق�ص يف اخللق على ويثق بنف�سه ّ
الكامل فيه� ،أو ا ِّتكال الغا�صب على مال الغافل �أو الك ِّل على �سعي العامل ،بل
ثميرى �أحدكم نف�سه �إن�سان ًا كرمي ًا يعتمد على املبادلة والتعاو�ض في�سلفَّ ،
ي�ستويف ،وي�ستويف على �أن يفي ،بل ينظر يف نف�سه �أ َّنه هو ال ّأمة وحده ،وما
�أجدر ب�أحدكم �أن يعمل لدنياه بنف�سه لنف�سه ،فال ي َّتكل على غريه ،كما يعمل
الإن�سان ليعبد اهلل ب�شخ�صه ال ينيب عنه غريه؟ ف�إذا فعلتم ذلك �أظهر اهلل بينكم
ثمرة الت�ضامن بال ا�شرتاط ،والتقا�ضي بال حما�رشة ،فت�صريون بنعمة اهلل
�إخوان ًا).
(يا قوم� :أبعد اهلل عنكم امل�صائب وب�صرَّ كم بالعواقب� .إن كانت املظامل
و�ضيقت �أنف�سكم ،حتى �صغرت نفو�سكم ،وهانت عليكم هذه َّ غ َّلت �أيديكم،
واجلد و�أم�سيتم ال تبالون �أتعي�شون ّ احلياة و�أ�صبحت ال ت�ساوي عندكم اجلهد
�أم متوتون ،فه ّال �أخربمتوين ملاذا حت ِّكمون فيكم الظاملني حتى يف املوت؟
�ألي�س لكم من اخليار �أن متوتوا كما ت�شا�ؤون ،ال كما ي�شاء الظاملون؟ هل �سلب
اال�ستبداد �إرادتكم حتى يف املوت؟ كال واهلل� :إن �أنا �أحببت املوت �أموت كما
116
بد ،فلماذا اجلبانة؟
�أحب ،لئيم ًا �أو كرمي ًا ،حتف ًا �أو �شهيداً ،ف�إن كان املوت وال َّ
و�إن �أردت املوت ،فليكن اليوم قبل الغد ،ولكن بيدي ال بيد عمرو� .ألي�س:
كطعم املوت يف �أم ٍر عظي ِم وطعم املوت يف �أم ٍر �صغري
حتبون املوت ،بل قلت �إ َّنكم ال ُّ قوم� :أنا�شدكم اهلل� ،أال �أقول حق ًا �إذا ُ(يا ُ
تنفرون منه ،ولكنكم جتهلون الطريق فتهربون من املوت �إىل املوت ،ولو
موت ،وطلب املوت حياة، اهتديتم �إىل ال�سبيل لعلمتم � َّأن الهرب من املوت ٌ
تعب ،والإقدام على التعب راح ٌة ،ولفطنتم �إىل � َّأن ولعرفتم � َّأن اخلوف من التعب ٌ
و�سقياها قطرات من الدم الأحمر امل�سفوح ،والأ�سارة احلرية هي �شجرة اخللدُ ،
هي �شجرة الز ّقوم ،و�سقياها �أنهر من الدم الأبي�ض� ،أي الدموع ،ولو كربت
نفو�سكم لتفاخرمت بتزيني �صدوركم بورد اجلروح ال بو�سامات الظاملني؟!).
قوم :و�أعني منكم امل�ساكني� ...أيها امل�سلمون� :إين ن�ش�أت و�شبت و�أنا (يا ُ
أتق�صى فكنت � ّ ُ �أف ِّكر يف �ش�أننا االجتماعي ،ع�سى �أهتدي لت�شخي�ص دائنا،
وقعت على ما �أظ ُّنه عام ًا� ،أقول :لع َّل هذا هو ُ ال�سبب بعد ال�سبب ،حتى �إذا
أتعمق فيه متحي�ص ًا و�أحلِّله حتلي ًال ،فينك�شف التحقيق عن الداء ،ف� َّجرثومة ّ
� َّأن ما قام يف الفكر هو �سبب من جملة الأ�سباب� ،أو هو �سبب فرعي ال �أ�صلي،
أ�صبحت �أجهد الفكر يف ُ أم�سيت و�
ُ ف�أخيب و�أعود �إىل البحث والتنقيب .وطاملا �
و�سافرت لأ�ستطلع �آراء ذوي الآراء ،ع�سى �أهتدي ُ �سعيت
ُ اال�ستق�صاء ،وكثرياً ما
ا�ستقرت عليه َّ ربي .و�آخر ما �إىل ما ي�شفي �صدري من �آالم بحث �أتعبني به ِّ
�سفينة فكري هو:
� َّإن جرثومة دائنا هي خروج ديننا عن كونه دين الفطرة واحلكمة ،دين
النظام والن�شاط ،دين القر�آن ال�رصيح البيان� ،إىل �صيغة �أ َّنا جعلناه دين
اخليال واخلبال ،دين اخللل والت�شوي�ش ،دين الب َِدع والت�شديد ،دين الإجهاد.
دب فينا هذا املر�ض منذ �ألف عام ،فتم َّكن فينا و�أ َّثر يف ك ِّل �ش�ؤوننا، وقد َّ
حتى بلغ فينا ا�ستحكام اخللل يف الفكر والعمل �أننا ال نرى يف اخلالق -ج َّل
�ش�أنه -نظام ًا فيما ا َّت�صف ،نظام ًا فيما ق�ضى ،نظام ًا فيما �أمر ،وال نطالب
واطراد ومثابرة.وترتيب ٍِّ بنظام
ٍ �أنف�سنا ف�ض ًال عن �آمرنا �أو م�أمورنا
117
اال�ستبداد والرت ِّقي
م�شو�شة،م�شو�ش ،و�سيا�ستنا َّ م�شو�ش ،وفكرنا َّ وهكذا �أ�صبحنا واعتقادنا َّ
م�شو�شة .ف�أين منا واحلالة هذه ،احلياة الفكرية ،احلياة العملية، ومعي�شتنا َّ
احلياة العائلية ،احلياة االجتماعية ،احلياة ال�سيا�سية؟!).
�ضيع دينكم ودنياكم �سا�ستكم الأولون وعلما�ؤكم املنافقون، قوم :قد َّ
(يا ُ
و�إنيّ �أر�شدكم �إىل عملٍ �إفرادي ال حرج فيه علم ًا وال عم ًال� :ألي�س بني جنبي
ال�رش ،واملعروف من املنكر ولو متييزاً فرد منكم وجدان مييز اخلري من ّ ك ِّل ٍ
�إجمالي ًا؟ �أما بلغكم قول معلِّم اخلري نبيكم الكرمي عليه �أف�ضل ال�صالة والت�سليم:
طن اهلل عليكم �رشاركم فيدعو ولتنهون عن املنكر �أو لي�سلِّ ََّّ أمرن باملعروف «لت� َّ
خياركم فال ي�ستجاب لهم» ،وقوله« :من ر�أى منكم منكراً فليغيرّ ه بيده ،و�إن مل
ي�ستطع فبل�سانه ،و�إن مل ي�ستطع فبقلبه ،وذلك �أ�ضعف الإميان»؟!
(و�أنتم تعلمون �إجماع �أئمة مذاهبكم كلِّها على � َّأن �أنكر املنكرات بعد الكفر
وثم ...،وقد �أو�ضح العلماء � َّأنثمَّ ، ثم قتل ال َّنف�سَّ ، الظلم الذي ف�شا فيكمَّ ، هو ُّ
بناء عليه ،فمن املتلب�س فيه بغ�ض ًا يف اهللً . ِّ تغيري املنكر بالقلب هو بغ�ض
يعامل الظامل �أو الفا�سق غري م�ضطر� ،أو يجامله ولو بال�سالم ،يكون قد خ�رس
�أ�ضعف الإميان والعياذ باهلل).
(وال �أظنكم جتهلون � َّأن كلمة ال�شهادة ،وال�صوم وال�صالة ،واحلج والزكاة،
ال�شعائر، ك ّلها ال تغني �شيئ ًا مع فقد الإميان� ،إمنا يكون القيام حينئ ٍذ بهذه ّ
بعادات وتقليدات وهو�سات ت�ضيع بها الأموال والأوقات). ٍ قيام ًا
(بناء عليه ،فالدين يكلِّفكم �إن كنتم م�سلمني ،واحلكمة ُتلزِمكم �إن كنتم ً
عاقلني� :أن ت�أمروا باملعروف وتنهوا عن املنكر جهدكم ،وال �أق ّل يف هذا الباب
من �إبطانكم البغ�ضاء للظاملني والفا�سقني ،و�أظ ّنكم �إذا ت� َّأملتم قلي ًال ترون هذا
الدواء ال�سهل املقدور لك ِّل �إن�سانٍ منكم ،يكفي لإنقاذكم مما ت�شكون .والقيام
بهذا الواجب متعينّ على ك ِّل فرد منكم بنف�سه ،ولو �أهمله كا ّفة امل�سلمني .ولو
� َّأن �أجدادكم الأولني قاموا به ملا و�صلتم �إىل ما �أنتم عليه من الهوان .فهذا
ني وعمل ،ال والدين ما يدين به الفرد ال ما يدين به اجلمع ،والدين يق ٌ دينكمّ ،
فظ يف الأذهان� .ألي�س من قواعد دينكم فر�ض الكفاية وهو �أن يعمل وح ٌ علم ِ ٌ
امل�سلم ما عليه غري منتظ ٍر غريه؟!).
يغركم دين ال تعملون به و�إن كان (ف�أنا�شدكم اهلل يا م�سلمني� :أن ال َّ
118
خري دين ،وال تغر َّنكم �أنف�سكم ب�أ َّنكم � ّأمة خري �أو خري � ّأمة ،و�أنتم املتواكلون
ال�شعارقوة �إال باهلل العلي العظيم .و ِن ْع َم ِّ املقت�رصون على �شعار :ال حول وال ّ
�شعار امل�ؤمنني ،ولكن� ،أين هم؟ �إين ال �أرى �أمامي � َّأم ًة تعرف حق ًا معنى ال �إله
�إال اهلل ،بل �أرى � َّأم ًة خبلتها عبادة الظاملني!).
قوم :و�أعني بكم الناطقني بال�ضاد من غري امل�سلمني� ،أدعوكم �إىل (يا ُ
تنا�سي الإ�ساءات والأحقاد ،وما جناه الآباء والأجداد ،فقد كفى ما ُفعل
ذلك على �أيدي املثريين ،و�أج ُّلكم من �أن ال تهتدوا لو�سائل االتحِّ اد و�أنتم
املهتدون ال�سابقون .فهذه �أمم �أو�سرتيا و�أمريكا قد هداها العلم لطرائق �ش ّتى
و�أ�صول را�سخة لالتحِّ اد الوطني دون الديني ،والوفاق اجلن�سي دون املذهبي،
واالرتباط ال�سيا�سي دون الإداري .فما بالنا نحن ال نفتكر يف �أن نتبع
ال�شحناء من الأعاجم �إحدى تلك الطرائق �أو �شبهها .فيقول عقال�ؤنا ملثريي َّ
ندبر �ش�أننا ،نتفاهم بالف�صحاء ،ونرتاحم والأجانب :دعونا يا ه�ؤالء نحن ِّ
ال�رضاء ،ونت�ساوى يف ال�سرَّ اء. ّ بالإخاء ،ونتوا�سى يف
ندبر حياتنا الدنيا ،وجنعل الأديان حتكم يف الأخرى فقط .دعونا دعونا ِّ
فلنحي
َ فليحي الوطن،َ (فلتحي الأمة،َ ٍ
كلمات �سواء� ،أال وهي: جنتمع على
طلقاء �أع ّزاء).
أخ�ص منكم ال ُّنجباء للتب�صرُّ والتب�صري فيما �آل �إليه امل�صري، (�أدعوكم و� ُّ
أخف ا�ستحقاراً لأخيه الغربي؟ هذا الغربي قد �أ�صبح �ألي�س مطلق العربي � ّ
تظاهره مع بع�ضنا بالإخاء الديني �إال ُ مادي ًا ال دين له غري الك�سب ،فما ّ
وك ِذب ًا .ه�ؤالء الفرن�سي�س يطاردون �أهل الدين ،ويعملون على �أ َّنهم ً َ ة خمادع
ال�صياد د
ِّ ّ يغر كما إال � ق، شرَّ� ال يف ين الد
ِّ دعواهم تكون ال عليه، بناء
يتنا�سونهً ،
وراء الأ�شباك!
لو كان للدين ت�أثري عند الغربي ملا كانت البغ�ضاء بني الالتني وال�سك�سون،
بل بني الطليان والفرن�سي�س ،وملا كانت بني الأملان والفرن�سيني الغربيني.
الغربي �أرقى من ال�رشقي علم ًا وثروة ومنعة ،فله على ال�رشقيني �إذا واطنهم
ال�سيادة الطبيعية� .أما ال�رشقيون فيما بينهم ،فمتقاربون ال يتغابنون.
الغربي يعرف كيف ي�سو�س ،وكيف يتم َّتع ،وكيف ي�أ�رس ،وكيف ي�ست�أثر.
فمتى ر�أى فيكم ا�ستعداداً واندفاع ًا ملجاراته �أو �سبقه� ،ضغط على عقولكم
119
اال�ستبداد والرت ِّقي
لتبقوا وراءه �شوط ًا كبرياً كما يفعل الرو�س مع البولونيني ،واليهود والتتار،
وكذلك �ش�أن ك ِّل امل�ستعمرين .الغربي مهما مكث يف ال�رشق ال يخرج عن �أ َّنه
تاجر م�ستمتع ،في�أخذ ف�سائل ال�رشق ليغر�سها يف بلده التي ال يفت�أ يفتخر
ويحن �إىل �أربا�ضها.
ُّ بريا�ضها
قد م�ضى على الهوالنديني يف الهند وجزائرها ،وعلى الرو�س يف قاوزان،
ولكن ،ما خدموا العلم والعمران بع�رش ما خدمناها، مثل ما �أقمنا يف الأندل�سْ ،
ٍ
بجريدة ودخل الفرن�ساويون اجلزائر منذ �سبعني عام ًا ،ومل ي�سمحوا بعد لأهلها
ف�ضل قديد بالده ،و�سمك بحاره ،على قر�أ .نرى الإنكليزي يف بالدنا ُي ِّ واحدة ُت َ
طري حلمنا و�سمكنا .فهلاّ واحلالة هذه تب�رصون يا �أويل الألباب؟). ِّ
(و�أنت �أيها ال�رشق الفخيم رعاك اهلل .ماذا دهاك؟ ماذا �أقعدك عن م�رساك؟
�ألي�ست �أر�ضك تلك الأر�ض ذات اجلنان والأقنان ،ومنبت العلم والعرفان،
و�سما�ؤك تلك ال�سماء م�صدر الأنوار ،ومهبط احلكمة والأديان ،وهوا�ؤك ذاك
الن�سيم العدل ،ال العوا�صف وال�ضباب .وما�ؤك ذاك العذب الغدق ،ال الكدر وال
الأجاج؟).
(رعاك اهلل يا �رشق ،ماذا �أ�صابك ف�أخ َّل نظامك ،والدهر ذاك الدهر ما غيرَّ
وبنوك هم الفائقون وبدل �رشعه فيك؟ �أمل تزل مناطقك هي املعتدلةَ ، و�ضعكَّ ،
فطر ًة وعدداً؟ �ألي�س نظام اهلل فيك على عهده الأول ،ورابطة الأديان يف بنيك
محُ كمة قومية ،م�ؤ�س�سة على عبادة ال�صانع الوازع؟ �ألي�ست معرفة املنعم
حب حقيقة راهنة �أ�رشقت فيك �شم�سهاَّ � ،أيدت بها ع ّز النف�س ،و�أحكمت بها َّ
وحب اجلن�س؟). الوطن َّ
(رعاك اهلل يا �رشق ،ماذا عراك و�س َّكن منك احلراك؟ �أمل تزل �أر�ضك وا�سعة
خ�صبة ،ومعادنك وافية غنية ،وحيوانك رابي ًا متنا�س ًال ،وعمرانك قائم ًا
ربيتهم �أقرب للخري من ال�شرَّ ؟ �ألي�س عندهم احللم وبنوك على ما َّ متوا�ص ًالَ ،
امل�سمى باجلبانة، ّ امل�سمى عند غريهم �ضعف ًا يف القلب ،وعندهم احلياء ّ
امل�سماة بالعجز ،وعندهم ّ القناعة وعندهم إتالف، ل با ى امل�سم
ّ الكرم وعندهم
بالذل؟ نعم ،ما هم ّ امل�سماة
ّ املجاملة وعندهم بالبالهة، امل�سماة
ّ الع ّفة
بال�ساملني من الظلم ،ولكن ،فيما بينهم ،وال من اخلدع ،ولكن ،ال يفتخرون
به ،وال من الإ�رضار ،ولكن ،مع اخلوف من اهلل).
120
ال�شقاءالدهر فيك ما ي�ستوجب هذا ّ (رعاك اهلل يا �رشق ،ال نرى من غري ّ
لبنيك ،وي�ستلزم ذ َّلهم لبني �أخيك .فلماذا قد �أ�صبحت �إذا انقطع عنك مدد
فقد احلديد �أخيك مب�صنوعاته ،يبقى �أبنا�ؤك ُعراة حفاة يف ظالم ،بل مي ّنيهم ُ
بالرجوع �إىل الع�رص ال ّنحا�سي ،بل احلجري املو�صوف بع�رص التعفني؟).
(رعاك اهلل يا �رشق ،بل راعى اهلل �أخاك الغرب ،العائل بنف�سه والعائل فيك،
وقاتل اهلل اال�ستبداد ،بل لعن اهلل اال�ستبداد ،املانع من الترّ ّقي يف احلياة،
املنحط بالأمم �إىل �أ�سفل الدركات� .أال ُبعداً للظاملني). ّ
وبياك ،قد عرفت لأخيك �سابق ف�ضله عليك، ّ اك وحي
ّ غرب، يا اهلل (رعاك
ا�شتد �ساعد بع�ض �أوالد َّ فوفيت ،وكفيت ،و�أح�سنت الو�صاية وهديت ،وقد
�أخيك ،فهلاّ ينتدب بع�ض �شيوخ �أحرارك لإعانة �أجناب �أخيك على هدم ذاك
ال�سور� ،سور ال�ش�ؤم وال�رشور ،ليخرجوا �إىل �أر�ض احلياة� ،أر�ض الأنبياء الهداة، ّ
في�شكرون ف�ضلك والدهر مكاف�أة؟).
وفقد
ُ الدين غري ال�رشق � ْإن دامت حياته بحريته، غرب ،ال يحفظ لك ِّ (يا ُ
يهددك باخلراب القريب .فماذا �أعددت للفو�ضيني �إذا �صاروا جي�ش ًا الدين ِّ ّ
جراراً؟ وماذا �أعددت لديارك احلبلى بالثورة االجتماعية؟ هل ُت ِع ُّد املواد
جاوزت �أنواعها الألف؟ �أن ُت ِع ُّد الغازات اخلانقة وقد �سهل ْ املتفرقعة ،وقد
ا�ستح�ضارها على ال�صبيان؟).
(يا قوم :و�أريد بكم �شباب اليوم ،رجال الغد� ،شباب الفكر ،رجال اجلد،
�أُعيذكم من اخلزي واخلذالن بتفرقة الأديان ،و�أُعيذكم من اجلهل ،جهل � َّأن
ربك جلعل النا�س يل ال�رسائر وال�ضمائر «ولو �شاء ُّ الدينونة هلل ،وهو �سبحانه و ُّ
� ّأم ًة واحدة»).
(�أنا�شدكم يا نا�شئة الأوطان� ،أن تعذروا ه�ؤالء الواهنة اخلائرة قواهم �إال
املعطل عملهم �إال يف التثبيط ،الذين اجتمع فيهم داء اال�ستبداد َّ يف �أل�سنتهم،
والتواكل فجعالهما �آلة ُتدار وال تدير .و�أ�س�ألكم عفوهم من العتاب واملالم،
لأ َّنهم مر�ضى مبتلون ،مثقلون بالقيود ،ملجمون باحلديد ،يق�ضون حياة خري
ما فيها �أ َّنهم �آبا�ؤكم!).
(قد علمتم يا نجُ َ باء من طبائع اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد ُج َم ًال كافية
للتدبر ،فاعتربوا بنا وا�س�ألوا اهلل العافية: ُّ
121
اال�ستبداد والرت ِّقي
نحن �أ ِلفنا الأدب مع الكبري ولو دا�س رقابنا� .أ ِلفنا الثبات ثبات الأوتاد
حتت املطارق� ،أ ِلفنا االنقياد ولو �إىل املهالك� .أ ِلفنا �أن نعترب ال َّت�صاغر �أدب ًا
والتذ ُّلل لطف ًا ،والتم ُّلق ف�صاح ًة ،واللكنة رزانة ،وترك احلقوق �سماح ًة ،وقبول
بالظلم طاعة ،ودعوى اال�ستحقاق غروراً ،والبحث والر�ضا ُّ الإهانة توا�ضع ًاِّ ،
تهوراً،ومد ال َّنظر �إىل الغد �أم ًال طوي ًال ،والإقدام ُّ عن العموميات ف�ضو ًالَّ ،
وحرية الفكر ُكفراً،
ّ وحرية القول وقاحة،َّ وال�شهامة �رشا�سة، واحلمية حماقةّ ،
وحب الوطن جنون ًا. َّ
�أما �أنتم ،حماكم اهلل من ال�سوء ،فرنجو لكم �أن تن�ش�ؤوا على غري ذلك،
التم�سك ب�أ�صول الدين ،دون �أوهام املتفننني ،فتعرفوا قدر ُّ �أن تن�ش�ؤوا على
نفو�سكم يف هذه احلياة فتكرموها ،وتعرفوا قدر �أرواحكم و�أ َّنها خالدة ُتثاب
وتجُ زى ،وت َّتبعوا ُ�سنن النبيني فال تخافون غري ال�صانع الوازع العظيم .ونرجو
ال�شيم ،وال على عظام لكم �أن تبنوا ق�صور فخاركم على معايل الهمم ومكارم َّ
نخرة .و�أن تعلموا �أ َّنكم ُخ ِلقتم �أحراراً لتموتوا كرام ًا ،فاجهدوا على �أن حتيوا
ر�ضية ،يت�س ّنى فيها لك ٍّل منكم �أن يكون �سلطان ًا م�ستق ًال ّ ذلكما اليومني حيا ًة
ي�ضن عليهم بعنيٍ �أو ُّ وفي ًا لقومه ال
احلق ،ومدين ًا ّ يف �ش�ؤونه ال يحكمه غري ّ
وحمب ًا
َّ باراً لوطنه ،ال يبخل عليه بجز ٍء من فكره ووقته وماله، عون ،وولداً ّ
للإن�سانية ويعمل على � َّأن خري النا�س �أنفعهم للنا�س ،يعلم � َّأن احلياة هي
العمل ووباء العمل القنوط ،وال�سعادة هي الأمل ،ووباء الأمل الرتدد ،ويفقه
� َّأن الق�ضاء والقدر هما عند اهلل ما يعلمه ومي�ضيه ،وهما عند النا�س ال�سعي
والعمل ،ويوقن � َّأن ك َّل �أث ٍر على ظهر الأر�ض هو من عمل �إخوانه الب�رش ،وك َّل
تعاو َر ُه غريه �إىل � ْأن كمل ،فال يتخيل الإن�سان ثم َ فردَّ ،عملٍ عظيم قد ابتد�أ به ٌ
يف نف�سه عجزاً ،وال يتو َّقع �إال خرياً ،وخري اخلري للإن�سان �أن يعي�ش ُح ّراً
مقدام ًا� ،أو ميوت).
(وك�أنيّ ب�سائلكم ي�س�ألني تاريخ التغالب بني ال�رشق والغرب ،ف�أجيب :ب�أ َّنا
ني من ثم جاء ح ٌ فقوة ،فك َّنا له �أ�سياداً! َّك ّنا �أرقى من الغرب علم ًا ،فنظام ًاَّ ،
الدهر حلق بنا الغرب ،ف�صارت مزاحمة احلياة بيننا ِ�سجا ًالْ � :إن ُف ْقناه �شجاع ًة َّ
ثم جاء ال ّزمن الأخري َّ كلمته. باجتماع فاقنا ة
ً ثرو قناه فُ إن
ْ � و ،ً ا عدد فاقنا
وان�ضم �إىل ذلك �أو ًال :قوة اجتماعه َّ فقو ًة.
تر ّقى فيه الغرب علم ًا ،فنظام ًاّ ،
122
قوة البارود ،حيث �أبطل ال�شجاعة وجعل العربة للعدد. �شعوب ًا كبري ًة .ثاني ًاَّ :
قوة الفحم الذي �أهدته له قوة ك�شفه �أ�رسار الكيمياء وامليكانيك .رابع ًاَّ : ثالث ًاَّ :
قوة الأمن على قوة الن�شاط بك�رسه قيود اال�ستبداد� .ساد�س ًاَّ : الطبيعة .خام�س ًاَّ :
القوات فيه ولي�س عند ال�شرَّ ق عقد ال�رشكات املالية الكبرية .فاجتمعت هذه ّ
بالدين خالف ًاحجة عليه ،والغرور ّ ما يقابلها غري االفتخار بالأ�سالف ،وذلك َّ
(ح�س ُبنا اهلل
للدين ،فامل�سلمون يقابلون تلك القوات مبا ُيقال عند الي�أ�س وهوْ : ّ
قوة ،الَّ من ا�ستطاعوا ما وا د ِ
ع
ُ ّ ي أن � ب لهم آن � القر أمر � ويخالفون الوكيل)، م و ِن ْ َ
ع
�صالة و�صوم. ٍ ما ا�ستطاعوا من
وك�أين ب�سائلكم يقول :هل بعد اجتماع هذه القوات يف الغرب وا�ستيالئه
مرتددَّ � :إن الأمر
على �أكرث ال�شرَّ ق من �سبيل لنجاة البقية؟ ف�أجيب قاطع ًا غري ِّ
مقدور ولع َّله مي�سور .ور�أ�س احلكمة فيه ك�رس قيود اال�ستبداد .و� ْأن يكتب
النا�شئون على جباههم ع�رش كلمات ،وهي:
-ديني ما �أُظهر وما �أُخفي.
احلق وال �أبايل.
حيث يكون ُّ � -أكونُ ،
حراً.
حر و�س�أموت ّ � -أنا ٌّ
� -أنا م�ستق ٌّل ال �أ ِّتكل على غري نف�سي وعقلي.
اجلد واال�ستقبال ،ال �إن�سان املا�ضي واحلكايات. � -أنا �إن�سان ّ
-نف�سي ومنفعتي قبل ك ِّل �شيء.
تعب لذيذ. -احلياة ك ُّلها ٌ
-الوقت غالٍ عزيز.
-ال�شرَّ ف يف العلم فقط.
� -أخاف اهلل ال �سواه.
املقد�س يف القلوب، (و�أنت �أيها الوطن املحبوب� :أنت العزيز على النفو�سَّ ،
تئن الأرواح� ...أيها الوطن الباكي �ضعافه :عليك حتن الأ�شباح وعليك ُّ �إليك ُّ
الطغام؟ تبكي العيون ،وفيك يحلو املنون� .إىل متى يعبث خاللك اللئام ّ
يظلمون بنيك ويذ ُّلون ذويك .يطاردون �أجنالك الأحباب ومي�سكون على
الديار؟.
ويقفرون ّ الطرق والأبوابُ ،يخرجون العمران ُ امل�ساكني ُّ
�أيها الوطن العزيز :هل �ضاعت رحابك عن �أوالدك؟ �أم �ضاقت �أح�ضانك
123
اال�ستبداد والرت ِّقي
عن �أفالذك؟ ...كال� ،إنمَّ ا فقدت الأُباة ،فقدت احلُماة ،فقدت الأحرار� .أيها الوطن
ولكن ،دموع بناتك ْ والدماء؟
امللتهب ف�ؤاده� :أما رويت من ُ�سقيا الدموع ِّ
الثاكالت ودماء �أبنائك الأبرياء ،ال دموع النادمني وال دماء الظاملني� .أال
الب ْل ِه اخلاملني ،وال حتزن ،فما هم كرائم ًا فا�رشب هنيئ ًا وال ت�أ�سف على ُ
هن كرائم ًا باكيات حمم�سات ،ولي�سوا هم كرام ًا �أع َّزة �شهداء، ل�س َن َّوكرام ًاْ ،
احلر الغيور ،ق َّل فيهم من يقول �إنمَّ ا هم -غفر اهلل لهم -من علمت ،ق َّل فيهم ُّ
�أنا ال �أخاف الظاملني.
�أيها الوطن احلنونَ :ك َّو َن اهلل عنا�رص �أج�سامنا منك ،وجعل الأمهات
حوا�ضن ،ورزقنا الغذاء منك ،وجعل املر�ضعات جمهزات ،نعم ،خلقنا اهلل منك
يحق لكفي �رشع الطبيعة حتن على �أفالذك .كما ّ حتب �أجزاءك و�أن َّ
فحق لك �أن َّ َّ
حبك ،الذي ي�ؤذيك وال يواليك ،ويزاحم حتب الأجنبي الذي ي�أبى طبعه َّ � ْأن ال َّ
بنيك عليك وي�شاركهم فيك ،وينقل �إىل �أر�ضه ما يف جوفك من نفي�س العنا�رص
وكنوز املعادن ،فيفقرك ليغني وطنه ،وال لوم عليه ،بل بارك اهلل فيه!).
وعدة الغد ،هذا خطابي �إليكم فيما هو قوم :جعلكم اهلل خرية اليوم َّ (يا ُ
الرت ّقي وما هو االنحطاط ،ف�إن وعيتم ولو �شذرات ،فيا ب�رشاي وال�سالم عليكم،
الرفاه ال�سالم).
و�إال فيما �ضياع الأنف�س ،وعلى َّ
اال�ستبداد الذي يبلغ يف االنحطاط بال َّأمة �إىل غاية �أن متوت ،وميوت هو
معها ،كثري ال�شواهد يف قدمي الزمان وحديثه� ،أما بلوغ الرت ّقي بالأمم �إىل
ال�سامية التي تليق بالإن�سانية ،فهذا مل ي�سمح الزمان ح َّتى املرتبة الق�صوى ّ
الآن ب� َّأم ٍة ت�صلح مثا ًال له ،لأ َّنه �إىل الآن مل توجد � َّأمة حكمت نف�سها بر�أيها
بنوع
نوع من اال�ستبداد ولو با�سم الوقار واالحرتام� ،أو ٍ العام ُحكم ًا ال ي�شوبه ً
ال�شقاق الديني �أو اجلن�سي بني النا�س.من الإغفال ولو ببذر ِّ
فك� َّأن احلكمة الإلهية مل تزل ترى الب�رش غري مت� ِّأهلني لنوال �سعادة الأخوة
العمومية بالتحابب بني الأفراد ،والقناعة بامل�ساواة احلقوقية بني الطبقات.
نعمُ ،وجد للرت ّقي القريب من الكمال بع�ض �أمثال قليلة يف القرون الغابرة،
املتقطعة
ِّ كاجلمهورية الثانية للرومان ،وكعهد اخللفاء الرا�شدين ،وكالأزمنة
املنظمني ال الفاحتني مثل �أنو�رشوان وعبد امللك الأموي ّ يف عهد امللوك
ال�شهيد وبطر�س الكبري .وكبع�ض اجلمهوريات ال�صغرية واملمالك ونور الدين َّ
124
املو َّفقة لأحكام التقييد املوجودة يف هذا ال َّزمان .و�إنيّ �أقت�رص على و�صف
منتهى الرت ّقي الذي و�صلت �إليه تلك الأمم و�صف ًا �إجمالي ًا ،واترك للمطالع �أن
يوازنها ويقي�س عليها درجات �سائر الأمم.
ورمبا ي�سرتيب يف ذلك املطالع املولود يف �أر�ض اال�ستبداد ،الذي مل
يدر�س �أحوال الأمم يف الوجود ،وال عتب عليه ف�إ َّنه كاملولود �أعمى ال ُيدرك
للمناظر البهية معنى.
قد بلغ الرت ّقي يف اال�ستقالل ال�شخ�صي يف ظالل احلكومات العادلة ،ل ْأن
يعي�ش الإن�سان املعي�شة التي ت�شبه يف بع�ض الوجوه ما وعدته الأديان لأهل
خالد بقومه ووطنه ،وك�أنه ٌ ال�سعادة يف اجلنان .حتى � َّإن ك ًّل ٍ
فرد يعي�ش ك�أنه
ني على ك ِّل مطلب ،فال هو يكلِّف احلكومة �شطط ًا وال هي تهمله ا�ستحقاراً: �أم ٌ
ني على ال�سالمة يف ج�سمه وحياته بحرا�سة احلكومة التي ال � 1-أم ٌ
تغفل عن حمافظته بك ِّل قوتها يف ح�رضه و�سفره بدون �أن ي�شعر بثقل
قيامها عليه ،فهي حتيط به �إحاطة الهواء ،ال �إحاطة ال�سور يلطمه كيفما
التفت �أو �سار.
ني على املل َّذات اجل�سمية والفكرية باعتناء احلكومة يف ال�ش�ؤون � 2-أم ٌ
العامة ،املتعلِّقة بالرتوي�ضات اجل�سمية والنظرية والعقلية حتى يرى � َّأن
الطرقات امل�سهلة ،والتزيينات البلدية ،واملتن َّزهات ،واملنتديات ،واملدار�س،
واملجامع ،ونحو ذلك ،قد ُوجِ دت ك ُّلها لأجل مل ّذاته ،ويعترب م�شاركة النا�س
له فيها لأجل �إح�سانه ،فهو بهذا النظر واالعتبار ال ينق�ص عن �أغنى النا�س
�سعاد ًة.
ني على احلرية ،ك�أ َّنه ُخ ِلق وحده على �سطح هذه الأر�ض ،فال � 3-أم ٌ
يخ�ص �شخ�صه من دينٍ وفك ٍر وعملٍ و�أمل. ُّ يعار�ضه معار�ض فيما
�سلطان عزيز ،فال ممانع له وال معاك�س يف ٌ ني على النفوذ ،ك�أ َّنه � 4-أم ٌ
تنفيذ مقا�صده النافعة يف الأمة التي هو منها.
املزية ،ك�أ َّنه يف � َّأم ٍة ي�ساوي جميع �أفرادها منزل ًة و�رشف ًا
ني على ّ � 5-أم ٌ
مبزية �سلطان ّ أحد عليه� ،إال
وقو ًة ،فال يف�ضل هو على �أحد وال يف�ضل � ٌ
الف�ضيلة فقط.
ني على العدل ،ك�أ َّنه القاب�ض على ميزان احلقوق ،فال يخاف � 6-أم ٌ
125
اال�ستبداد والرت ِّقي
ا�ستحق �أن
َّ املثمن فال يحذر بخ�س ًا ،وهو املطمئن على �أ َّنه �إذا ّ تطفيف ًا ،وهو
يكون ملك ًا �صار ملك ًا ،و�إذا جنة جناي ًة نال جزاءه ال حمالة.
ني على املال وامللك ،ك� َّأن ما �أحرزه بوجهه امل�رشوع قلي ًال كان � 7-أم ٌ
�أو كثرياً ،قد خلقه اهلل لأجله فال يخاف عليه ،كما �أ َّنه تقلع عينه � ْإن نظر
�إىل مال غريه.
ني على ال�رشف ب�ضمان القانون ،بن�رصة الأمة ،ببذل الدم ،فال � 8-أم ٌ
يرى حتقرياً �إال لدى وجدانه ،وال يعرف طمع ًا ملرارة ال ُذ ِّل والهوان.
�أما الأ�سري -وال �أُحزن املطالع بو�صف حالته -ف�أكتفي بالقول� :إ َّنه ال
ميلك وال نف�سه ،وغري �أمنيٍ حتى على عظامه يف رم�سه� ،إذا وقع نظره على
مر من قرب �إحدى يتعوذ باهلل ،و�إذا َّ
امل�ستبد �أو �أحد من جماعته على كرثتهم َّ ِّ
ربَّ � ،إن هذا الدار ،بئ�س دوائر حكومته �أ�رسع وهو يكرر قوله( :حمايتك يا ّ
كل من فيها �إما ذابح �أو مذبوحَّ � .إن هذه الدار كالكنيف الدار ،هي كاملجزرة ُّ
ال يدخله �إال امل�ضطر).
وقد يبلغ الرت ّقي يف اال�ستقالل ال�شخ�صي مع الرتكيب بالعائلة والع�شرية،
�أن يعي�ش الإن�سان معترباً نف�سه من وجه غني ًا عن العاملني ،ومن وجه ع�ضواً
ثم الب�رش.
ثم ال َّأمةَّ ،
حي هو العائلةَّ ، ج�سم ٍّ
حقيقي ًا من ٍ
وينظر �إىل انق�سام الب�رش �إىل �أمم ،ثم �إىل عائالت ،ثم �إىل �أفراد ،وهو من ُ
قبيل انق�سام املمالك �إىل مدنٍ ،وهي �إىل بيوت ،وهي �إىل مرافق ،وكما �أ َّنه ال
ي�ستحق الهدم،
ّ وظيفة معينة ي�صلح لها و�إال كان بنا�ؤه عبث ًا ٍ بد لك ِّل مرفقٍ من َّ
يعد ك ّل منهم نف�سه لوظيفة يف قيام حياة عائلته َّ أن � بد
َّ ال إن�سان ل ا أفراد � كذلك
ثم حياة قومه ثاني ًا. �أو ًالَّ ،
ولهذا يكون الع�ضو الذي ال ي�صلح لوظيفة� ،أو ال يقوم مبا ي�صلح له ،حقرياً
ي�ستحق
ُّ طبيعي،
ٍّ وكل من يريد �أن يعي�ش َك ًّال على غريه ،ال عن عج ٍز مهان ًاُّ .
الظفر ي�ستحقان كالدرن يف اجل�سم �أو كالزائد من ُّ املوت ال ال�شفقة ،لأن َّه َّ
حرمت ال�رشائع ال�سماوية املالهي التي لي�س الإخراج والقطع ،ولهذا املعنى َّ
والربا
املعطل عن العمل عق ًال وج�سم ًا ،واملقامرة ِّ ِّ وال�س ْكر
فيها تروي�ضُّ ،
احلجامف�ضل اهلل الك َّنا�س على َّ لأنهما لي�سا من نوع العمل والتبادل فيه .وقد َّ
ال�شعر ،ل َّأن �صنعتهما �أنفع للجمهور. و�صانع اخلبز على ناظم ِّ
126
فرد من ال َّأمة مالك ًا كل ٍوقد يبلغ تر ّقي الرتكيب يف الأمم درجة � ْأن ي�صري ُّ
فرد منها م�ستعداً كل ٍ
لنف�سه متام ًا ،ومملوك ًا لقومه متام ًا .فال َّأمة التي يكون ُّ
بحجة هذا اال�ستعداد يف الأفراد، الفتدائها بروحه ومباله ،ت�صري تلك ال َّأمة َّ
غنية عن �أرواحهم و�أموالهم.
يتميز على باقي �أنواع الرت ّقيات ال�سالفة الرت ّقي يف القوة بالعلم واملال َّ
متيز الر�أ�س على باقي �أع�ضاء اجل�سم ،فكما � َّأن الر�أ�س ب�إحرازه مركزية البيان ّ
متيز على باقي الأع�ضاء وا�ستخدمها يف العقل ،ومركزية �أكرث احلوا�سّ ،
حاجاته ،فكذلك احلكومات املنتظمة يرت ّقى �أفرادها وجمموعها يف العلم
انحط بها َّ �سلطان طبيعي على الأفراد �أو الأمم التي ٌ والرثوة ،فيكون لهم
اال�ستبداد امل�ش�ؤوم �إىل ح�ضي�ض اجلهل والفقر.
بقي علينا بحث الرت ّقي يف الكماالت باخل�صال والأثرة ،وبحث الرت ّقي
الذي يتعلق بالروح� ،أي مبا وراء هذه احلياة ،ويرقى �إليه الإن�سان على ُ�س َّلم
الرحمة واحل�سنات ،فهذه �أبحاث طويلة الذيل ،ومنابعها حكميات الكتب َّ
ومدونات الأخالق ،وتراجم م�شاهري الأمم. ِّ ال�سماوية
و�أكتفي بالقول يف هذا النوع� :إ َّنه يبلغ بالإن�سان مرتبة �أن ال يرى حلياته
ثم �أمنه على ثم امتالك حريتهَّ ، فيهمه �أم ًال :حياة � ِّأمهَّ ،
�أهمية �إال بعد درجاتّ ،
وثم ...وقد ثمَّ ، ثم مالهَّ ، ثم وقايته حياتهَّ ، ثم حمافظته على عائلتهَّ ، �رشفهَّ ،
ت�شمل �إح�سا�ساته عامل الإن�سانية كلِّه ،ك� َّأن قومه الب�رش ال قبيلته ،ووطنه
يتقيد بجدران بيت خم�صو�ص الأر�ض ال بلده ،وم�سكنه ،حيث يجد راحته ،ال َّ
ي�سترت فيه ويفتخر به كما هو �ش�أن الأُ�رساء.
وقد يرت َّفع الإن�سان عن الإمارة ملا فيها من معنى الكرب ،وعن ال ِّتجارة
ثم ثم املطرقةَّ ، ملا فيها من التمويه والتب ّذل ،فريى ال�رشف يف املحراثَّ ،
القلم ،ويرى الل َّذة يف التجديد واالخرتاع ،ال يف املحافظة على العتيق ،ك� َّأن
له وظيفة يف تر ّقي جمموع الب�رش.
جدها لتبديد ا�ستبدادها ،تنال وخال�صة القولَّ � :إن الأمم التي ُي�سعدها ّ
ُ
احل�سي واملعنوي ما ال يخطر على فكر �أ�رساء اال�ستبداد .فهذه من ال�شرَّ ف ّ
برمتها ،مكتفي ًة يف نفقاتها بنماء فوائد بلجيكا �أبطلت التكاليف الأمريية َّ
حمبو�س
ٌ بنك احلكومة .وهذه �سوي�رسا ي�صادفها كثرياً �أن ال يوجد يف �سجونها
127
اال�ستبداد والرت ِّقي
واحد .وهذه �أمريكا �أثرت حتى كادت تخرج الف�ضة من مقام النقد �إىل مقام
املتاع .وهذه اليابان �أ�صبحت ت�ستنزف قناطري الذهب من �أوروبا و�أمريكا
ثمن امتيازات اخرتاعاتها وطبع تراجم م�ؤ َّلفاتها.
حظ ًا من املل َّذات احلقيقية ،التي ال تخطر على فكر وقد تنال تلك الأمم ّ
الأُ�رساء ،كل َّذة العلم وتعليمه ،ول َّذة املجد واحلماية ،ول َّذة الإثراء والبذل ،ول َّذة
احلب الطاهر� ،إىل
�إحراز االحرتام يف القلوب ،ول َّذة نفوذ الر�أي ال�صائب ،ول َّذة ِّ
غري هذه املل َّذات الروحية .و� َّأما الأ�رساء واجلهالء فمل َّذاتهم مق�صورة على
م�شاركة الوحو�ش ال�ضارية يف املطاعم وامل�شارب وا�ستفراغ ال�شهور ،ك� َّأن
�أج�سامهم ظروف تمُلأ و ُتفرغ� ،أو هي دمامل تولد ال�صديد وتدفعه.
و�أنفع ما بلغه الرت ّقي يف الب�رش ،هو �إحكامهم �أ�صول احلكومات املنتظمة
�سداً متين ًا يف وجه اال�ستبداد ،واال�ستبداد جرثومة ك ِّل ف�ساد ،وبجعلهم ببنائهم ّ
�أ ّال قوة وال نفوذ فوق قوة ال�شرَّ ع ،وال�شرَّ ع هو حبل اهلل املتني .وبجعلهم
قوة الت�رشيع يف يد ال َّأمة ،وال َّأمة ال جتتمع على �ضالل .وبجعلهم املحاكم َّ
ال�سواء ،فتحاكي يف عدالتها الكربى الإلهية. َّ على علوك وال�ص
ُّ لطان ال�س
ُّ حتاكم
تعدي حدود وظائفهم ،ك�أنهم مالئكة ال ّ على لهم �سبيل ال العمال وبجعلهم
يع�صون �أمراً ،وبجعلهم ال َّأمة يقظة �ساهرة على مراقبة �سري حكومتها ،ال
عما يفعل الظاملون. تغفل طرفة عني ،كما � َّأن اهلل -ع َّز وج ّل -ال يغفل َّ
هذا مبلغ الرت ّقي الذي و�صلت �إليه الأمم منذ ُعرِف التاريخ ،على �أ َّنه مل
عما كانوا عليه يقم دليل �إىل الآن على تر ّقي الب�رش يف ال�سعادة احليوية ّ
يف الع�صور اخلالية حتى احلجرية ،ح ّتى منذ كانوا عرا ًة ي�رسحون �أ�رساب ًا،
تدل على �أكرث من تر ّقي العلم والعمران ،وهما �آلتان والآثار امل�شهودة ال ُّ
كما ي�صلحان للإ�سعاد ،ي�صلحان للإ�شقاء ،وتر ِّقيها هو من ُ�س َّنة الكون التي
�أرادها اهلل تعاىل لهذه الأر�ض وبنيها ،وو�صف لنا ما �سيبلغ �إليه تر ّقي زينتها
وظن
واقتدار �أهلها بقوله ع َّز �ش�أنه« :حتى �إذا �أخذت الأر�ض ُزخرفها وا َّزينت َّ
�أهلها �أنهم قادرون عليها �أتاها �أمرنا لي ًال �أو نهاراً فجعلناها ح�صيداً ك�أن
يدل على � َّأن الدنيا وبنيها مل يزاال يف مقتبل الرت ّقي، مل َت ْغ َن بالأم�س» .وهذا ُّ
وال يعار�ض هذا � َّأن ما م�ضى من عمرها هو �أكرث مما بقي ح�سبما �أخربت به
�شيء �آخر.
الكتب ال�سماوية ،ل َّأن العمر �شيء ،والرت ّقي ٌ
128
اال�ستبداد والتخلُّ�ص منه
لي�س لنا مدر�سة �أعظم من التاريخ الطبيعي ،وال برهان �أقوى من اال�ستقراء،
ت�سمى (دور تتبعهما يرى � َّأن الإن�سان عا�ش دهراً طوي ًال يف حالة طبيعية َّ من َّ
يتجول حول املياه �أ�رساب ًا جتمعه حاجة احل�ضانة �صغرياً، َّ االفرتا�س) ،فكان
وق�صد اال�ستئنا�س كبرياً ،ويعتمد يف رزقه على النبات الطبيعي وافرتا�س
الرب والبحر ،وت�سو�سه الإرادة فقط ،ويقوده من بنيته �ضعاف احليوان يف ِّ
حيث يكرث الرزق.�أقوى �إىل ُ
ت�سمى (دور االقتناء): ثم تر َّقى الكثري من الإن�سان �إىل احلالة البدوية التي ّ
فكان ع�شائر وقبائل ،يعتمد يف رزقه على ِّادخار الفرائ�س �إىل حني احلاجة،
ف�صارت جتمعه حاجة التح ُّفظ على املال العام والأنعام ،وحماية امل�ستودعات
ثم انتقل -وال ُيقال تر ّقى -ق�سم كبري من واملراعي واملياه من املزاحمنيَّ ،
الإن�سان �إىل املعي�شة احل�رضية :ف�سكن القرى ي�ستنبت الأر�ض اخل�صبة يف
تعدى ا�ستحق ذلك بفعله ،لأ َّنه َّ
َّ معا�شه ،ف�أخ�صب ،ولكن ،يف ال�شقاء ،ولع َّله
ف�سكن،
َ جوا ًال ،ي�سري يف الأر�ض ،ينظر �آالء اهلل، حراً َّ
قانون اخلالق ،ف�إ َّنه خلقه ّ
و�سكن �إىل اجلهل وال ُّذ ّل ،وخلق اهلل الأر�ض مباح ًة ،فا�ست�أثر بها ،ف�س َّلط اهلل
عليه من يغ�صبها منه وي�أ�رسه .وهذا الق�سم يعي�ش بال جامعة ،حتكمه �أهواء
�أهل املدن وقانونه� :أن يكون ظامل ًا �أو مظلوم ًا.
129
اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه
ال�صناع ،و� َّإماالت�رصف � ّإما يف املادة وهم ُّ ُّ ثم تر ّقى ق�سم من الإن�سان �إىل َّ
املت�رصفون هم �سكان ِّ ؤالء � وه والعلوم. املعارف أهل � وهم النظريات يف
املدن الذين هم � ْإن �سجنوا �أج�سامهم بني اجلدران ،لكنهم �أطلقوا عقولهم يف
ولكن �أكرثهم مل تو�سعوا يف احلاجاتَّ ، الرزق كما َّ تو�سعوا يف ِّالأكوان ،وهم قد َّ
يهتدوا حتى الآن للطريق املثلى يف �سيا�سة اجلمعيات الكربى .وهذا هو �سبب
كل ر�ض عام� .إنمَّ ا ُّ تنوع �أ�شكال احلكومات وعدم ا�ستقرار � َّأم ٍة على �شكل ُم ٍ ُّ
بات �سيا�سية على �سبيل التجريب ،وبح�سب تغ ّلب �أحزاب االجتهاد الأمم يف تق ّل ٍ
�أو رجال اال�ستبداد.
وتقرير �شكل احلكومة هو �أعظم و�أقدم م�شكلة يف الب�رش ،وهو املعرتك
الأكرب لأفكار الباحثني ،وامليدان الذي ق َّل يف الب�رش من ال يجول فيه على
فر�س من الفرا�سة� ،أو على حمارٍفيل من الفكر� ،أو على جملٍ من اجلهل� ،أو على ٍ
من احل ُْمق ،حتى جاء الزمن الأخري فجال فيه �إن�سان الغرب جولة املغوار
املمتطي يف التدقيق مراكب البخار .فقرر بع�ض قواعد �أ�سا�سية يف هذا الباب
احلق اليقني ،ف�صارت ُت َع ُّد ت�ضافر عليها العقل والتجريب ،وح�صح�ص فيها ّ
من املقررات االجتماعية عند الأمم املرتقية ،وال يعار�ض ذلك كون الأمم مل
تزل �أي�ض ًا منق�سمة �إىل �أحزاب �سيا�سية يختلفون �شيع ًا ،ل َّأن اختالفهم هو يف
وجوه تطبيق تلك القواعد وفروعها على �أحوالهم اخل�صو�صية.
وهذه القواعد التي قد �صارت ق�ضايا بديهية يف الغرب ،مل تزل جمهولة �أو
غريبة� ،أو منفوراً منها يف ال�رشق ،لأ َّنها عند الأكرثين منهم مل تطرق �سمعهم،
وعند البع�ض مل تنل التفاتهم وتدقيقهم ،وعند �آخرين مل حتز قبو ًال ،لأ َّنهم ذوو
غر�ض� ،أو م�رسوقة قلوبهم� ،أو يف قلوبهم مر�ض.
و�إنيّ �أطرح لتدقيق املطالعني ر�ؤو�س م�سائل بع�ض املباحث التي تتع َّلق
بها احلياة ال�سيا�سية .وقبل ذلك �أذ ِّكرهم ب�أ َّنه قد �سبق يف تعريف اال�ستبداد
ب�أ َّنه( :هو احلكومة التي ال يوجد بينها وبني ال َّأمة رابطة معينة معلومة
م�صونة بقانون نافذ احلكم) .كما �أ�ستلفت نظرهم �إىل �أ َّنه ال يوثق بوعد من
ال�سلطة �أي ًا كان ،وال بعهده وميينه على مراعاة الدين ،والتقوى ،واحلق، يتوىل ُّ
وال�رشف ،والعدالة ،ومقت�ضيات امل�صلحة العامة ،و�أمثال ذلك من الق�ضايا
بر وفاجر .وما هي يف احلقيقة �إال الكلية املبهمة التي تدور على ل�سان ك ِّل ٍّ
130
كالم مبهم فارغ ،ل َّأن املجرم ال يعدم ت�أوي ًال ،ول َّأن من طبيعة القوة االعت�ساف،
ٌ
ول َّأن القوة ال ُتقابل �إال بالقوة.
131
اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه
132
عليها االعتناء بو�سائل التفهيم والإذعان لتت�أ َّتى الطاعة ب�إخال�ص و�أمانة؟
11-مبحث (�إعداد ا َ
مل َنعة):
هل يكون �إعداد القوة بالتجنيد والت�سليح ا�ستعداداً للدفاع مفو�ض ًا لإرادة
احلكومة �إهما ًال� ،أو �إقال ًال� ،أو �إكثاراً� ،أو ا�ستعما ًال على قهر ال َّأمة؟ �أم يلزم �أن
يكون ذلك بر�أي ال َّأمة وحتت �أمرها ،بحيث تكون القوة من ِّفذة رغبة الأمة ال
رغبة احلكومة؟
14-مبحث (حفظ ّ
ال�سلطة يف القانون):
هل يكون للحكومة �إيقاع عمل �إكراهي على الأفراد بر�أيها� ،أي بدون
ال�سلطة منح�رصة يف القانون� ،إال يف ظروف الو�سائط القانونية؟ �أم تكون ُّ
خم�صو�صة وم�ؤ َّقتة؟
15-مبحث (ت�أمني العدالة الق�ضائية):
133
اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه
هل يكون العدل ما تراه احلكومة؟ �أم ما يراه الق�ضاة امل�صون وجدانهم
ٍ
�ضغط حتى �ضغط الر�أي العام؟ من ك ِّل م�ؤ ِّثر غري ال�رشع واحلق ،ومن ك ِّل
134
�سلطان نافذ قاهر م�صون من م�ؤ ِّثرات الأغرا�ض ،وال�شفاعة ،وال�شفقة ،وبذلك
يكون القانون هو القانون الطبيعي لل َّأمة فيكون حمرتم ًا عند الكا ّفة ،م�ضمون
احلماية من ِق َبل �أفراد الأمة؟
135
اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه
25-مبحث َّ
(ال�سعي يف رفع اال�ستبداد):
هل ُينتظر ذلك من احلكومة ذاتها؟ �أم نوال احلرية ورفع اال�ستبداد رفع ًا ال
يرتك جما ًال لعودته ،من وظيفة ع َقالء الأمة و�رساتها؟
هذه خم�سة وع�رشون مبحث ًا ،ك ٌّل منها يحتاج �إىل تدقيقٍ عميق ،وتف�صيلٍ
ذكرت هذه ُ طويل ،وتطبيق على ك ِّل الأحوال واملقت�ضيات اخل�صو�صية .وقد
املباحث تذكر ًة لل ُك َّتاب ذوي الألباب وتن�شيط ًا لل ُّنجباء على اخلو�ض فيها
برتتيب ،ا ِّتباع ًا حلكمة �إتيان البيوت من �أبوابها .و�إين �أقت�رص على بع�ض
ال�سعي يف رفع الكالم فيما يتعلق باملبحث الأخري منها فقط� ،أعني مبحث َّ
اال�ستبداد ،ف�أقول:
احلرية.
ّ ت�ستحق
ُّ -ال َّأمة التي ال ي�شعر ك ُّلها �أو �أكرثها ب�آالم اال�ستبداد ال
والتدرج.
ُّ بال�شدة �إمنا ُيقاوم باللني يقاوم ِّ -اال�ستبداد ال َ
بدل به اال�ستبداد. -يجب قبل مقاومة اال�ستبداد ،تهيئة ما ُي�س َت َ
وت�رس
ّ هذه قواعد رفع اال�ستبداد ،وهي قواعد ُتبعد �آمال الأ�رساء،
امل�ستبدين مبا
ّ امل�ستبدين ،ل َّأن ظاهرها ي�ؤم ِّنهم على ا�ستبدادهم .ولهذا �أذ ِّكر ّ
قوته ومزيد َّ بعظيم امل�ستبد
ُّ يفرحن
َّ (ال قال: حيث
ُ امل�شهور، الفياري �أنذرهم
جبار مظلوم �صغري) ،و�إين �أقول :كم من ّ ٌ جبارٍ عني ٍد ُج ِّند له
احتياطه ،فكم ّ
قهار �أخذه اهلل �أخذ عزي ٍز منتقم!. ّ
ت�ستحق
ّ مبنى قاعدة كون ال َّأمة التي ال ي�شعر �أكرثها ب�آالم اال�ستبداد ال
احلرية هو:
ّ
� َّإن ال َّأمة �إذا �ضرُ َِبت عليها ال ِّذ َّلة وامل�سكنة ،وتوالت على ذلك القرون
الطباع ح�سبما �سبق تف�صيله يف الأبحاث والبطون ،ت�صري تلك ال َّأمة �سافلة ِّ
ال�سالفة ،حتى �إ َّنها ت�صري كالبهائم� ،أو دون البهائم ،ال ت�س�أل عن احلرية ،وال َّ
تلتم�س العدالة ،وال تعرف لال�ستقالل قيمة� ،أو للنظام مزية ،وال ترى لها يف
136
حد �سواء ،وقد أح�سن �أو �أ�ساء على ٍّ احلياة وظيفة غري التابعية للغالب عليهاَ � ،
ولكن ،طلب ًا لالنتقام من �شخ�صه ال طلب ًا للخال�ص من امل�ستبد نادراًْ ،
ِّ تنقم على
كمغ�ص ب�صداع. ٍ اال�ستبداد ،فال ت�ستفيد �شيئ ًا� ،إمنا ت�ستبدل مر�ض ًا مبر�ض،
تتو�سم فيه �أ َّنه �أقوى �شوك ًة من َّ م�ستبد �آخر
ٍّ ب�سوق
امل�ستبد َ
َّ وقد تقاوم
امل�ستبد الأول ،ف�إذا جنحت ال يغ�سل هذا ال�سائق يديه �إال مباء اال�ستبداد ،فال ِّ
ت�ستفيد �أي�ض ًا �شيئ ًا� ،إمنا ت�ستبدل مر�ض ًا مزمن ًا مبر�ض حديث ،ورمبا ُتنال
تهتم
احلرية عفواً ،فكذلك ال ت�ستفيد منها �شيئ ًا ،لأ َّنها ال تعرف طعمها ،فال ُّ
أ�شد
م�شو�ش � ُّ ٍ
ا�ستبداد َّ بحفظها ،فال تلبث احلرية �أن تنقلب �إىل فو�ضى ،وهي �إىل
قرر احلكماء � َّأن احلرية التي تنفع ال َّأمة وط�أ ًة كاملري�ض �إذا انتك�س .ولهذاَّ ،
هي التي حت�صل عليها بعد اال�ستعداد لقبولها ،و� َّأما التي حت�صل على �أثر ثورةٍ
حمقاء فق ّلما تفيد �شيئ ًا ،ل َّأن الثورة -غالب ًا -تكتفي بقطع �شجرة اال�ستبداد
وال تقتلع جذورها ،فال تلبث �أن تنبت وتنمو وتعود �أقوى مما كانت �أو ًال.
ف�إذا ُوجِ د يف ال َّأمة امليتة من تدفعه �شهامته للأخذ بيدها والنهو�ض بها
يبث فيها احلياة وهي العلم� ،أي علمها ب� َّأن حالتها �سيئة ،و�إنمَّ ا فعليه �أو ًال �أن َّ
بالإمكان تبديلها بخ ٍري منها ،ف�إذا هي علمت بطبعه من الآحاد �إىل الع�رشات،
بالتحم�س ويبلغ بل�سان حالها �إىل ُّ �إىل �إىل ،...حتى ي�شمل �أكرث ال َّأمة ،وينتهي
املعري:
ّ منزلة قول احلكيم
فنحن على تغيريها ُق َدراء �إذا مل ت ُقم بالعدل فينا حكوم ٌ ة
137
اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه
138
ال�صفات ال ِّثقة يفعل ما ال تقوى عليه اجليو�ش والكنوز .وما ينق�صه من هذه ِّ
ولكن ،قد ي�ستغني مبزيد كمال بع�ضها عن فقدان بع�ضها ُينق�ص من مكانتهْ ،
ال�صفات الأخالقية قد تكفي يف بع�ض الظروف عن الآخر �أو نق�صه .كما � َّأن ِّ
املت�صدي للإر�شاد ال�سيا�سي فاقد ّ ال�صفات العلمية ك ّلها وال عك�س ،و�إذا كان
ال ِّثقة فقدان ًا �أ�صلي ًا �أو طارئ ًا ،ميكنه �أن ي�ستعمل غريه ممن تنق�صه اجل�سارة
والهمة وال�صفات العلمية. ّ
واخلال�صةَّ � :أن الراغب يف نه�ضة قومه ،عليه �أن يهيئ نف�سه ويزن
ثم يعزم متو ِّك ًال على اهلل يف خلق ال َّنجاح. ا�ستعدادهَّ ،
ومبنى قاعدة � َّأن اال�ستبداد ال ُيقاوم بال�شدة� ،إمنا ُيقاوم باحلكمة والتدريج
الفعالة لقطع دابر اال�ستبداد هي تر ّقي ال َّأمة يف هوَّ � :أن الو�سيلة الوحيدة ّ
ثم � َّإن اقتناع الإدراك والإح�سا�س ،وهذا ال يت�أتى �إال بالتعليم والتحمي�سَّ .
الفكر العام و�إذعانه �إىل غري م�ألوفه ،ال يت�أ ّتى �إال يف زمنٍ طويل ،ل َّأن العوام
مهما تر ّقوا يف الإدراك ال ي�سمحون با�ستبدال الق�شعريرة بالعافية �إال بعد
الترّ وي املديد ،ورمبا كانوا معذورين يف عدم الوثوق وامل�سارعة ،لأ َّنهم �أ ِلفوا
الغ�ش واخلداع غالب ًا .ولهذا كثرياً ما والدعاة �إال ّ �أن ال يتوقعوا من الر�ؤ�ساء ُّ
امل�ستبد الأعظم �إذا كان يقهر معهم بال�سوية الر�ؤ�ساء والأ�رشاف، َّ يحب الأُ�رساء ّ
امل�ستبد ب�سوء ،لأ َّنهم
َّ ون مي�س
ّ وال فقط أعوان ل ا من �رساء ُ ل
أ ا ينتقم ما ً ا وكثري
امل�ستبد ،وكم �أحرقوا من عا�صمة ِّ يرون ظاملهم مبا�رش ًة هم الأعوان دون
حم�ض الت�ش ّفي ب�إ�رضار �أولئك الأعوان. ّ لأجل
قوة الإرهاب بالعظمة أنواع القوات التي فيها ّ حمفوف ب� ٍ ٌ ثم � َّإن اال�ستبداد َّ
وقوة اجلُند ،ال �سيما �إذا كان اجلند غريب اجلن�س ،وقوة املال ،وقوة الألفة على ّ
وقوة الأن�صار من الأجانب، ّ الرثوات، أهل � ةوقو
ّ الدين، رجال ة وقو
ّ الق�سوة،
قابل بع�صا الفكر العام الذي هو يف ُ َ ي ال كال�سيف اال�ستبداد جتعل القوات فهذه
� َّأول ن�ش�أته يكون �أ�شبه بغوغاء ،ومن طبع الفكر العام �أ َّنه �إذا فار يف �سنة يغور
بناء عليه ،يلزم ملقاومة تلك القوات يف �سنة ،و�إذا فار يف يوم يغور يف يومً .
الهائلة مقابلتها مبا يفعله الثبات والعناد امل�صحوبان باحلزم والإقدام.
قاوم بالعنف ،كي ال تكون فتنة حت�صد النا�س اال�ستبداد ال ينبغي �أن ُي َ
ال�شدة درجة تنفجر عندها الفتنة انفجاراً ح�صداً .نعم ،اال�ستبداد قد يبلغ من َّ
139
اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه
140
الدين عنده ،هم �أقدر النا�س امل�ستبد �أو رئي�س ُق َّواده� ،أو رئي�س ِّ
ِّ � َّإن رئي�س وزراء
على الإيقاع به ،وهو يداريهم حت ّذراً من ذلك ،و�إذا �أراد �إ�سقاط �أحدهم فال
يوقعه �إال بغتة.
ملثريي اخلواطر على اال�ستبداد طرائق �ش ّتى ي�سلكونها بال�سرّ ّ ،والبطء،
ي�ستقرون حتت �ستار الدين ،في�ستنبتون غابة الثورة من بذرة �أو بذورات ّ
امل�ستبد ب�سوقه �إىل اال�شتغالَّ يلهون وكم اخللوات. يف بدموعهم ي�سقونها
وال�شهوات ،وكم يغرونه بر�ضاء ال َّأمة عنه ،ويج�سرِّ ونه على مزيد بالف�سوق َّ
ي�شو�شون الر�شد ،وكم ِّالت�شديد ،وكم يحملونه على �إ�ساءة التدبري ،ويكتمونه ُّ
فكره ب�إرباكه مع جريانه و�أقرانه .يفعلون ذلك و�أمثاله لأجل غاية واحدة،
�سد الطريق التي فيها ي�سلكونَّ � ،أما �أعوانه ،فال هي �إبعاده عن االنتباه �إىل ِّ
و�سيلة لإغفالهم عن �إيقاظه غري حتريك �أطماعهم املالية مع تركهم ينهبون
ما �شا�ؤوا �أن ينهبوا.
ومبنى قاعدة �أ َّنه يجب قبل مقاومة اال�ستبداد ،تهيئة ماذا ُي�ستبدل به
�رشط طبيعي للإقدام على ك ِّل عمل ،كما � َّأن اال�ستبداد هوَّ � :إن معرفة الغاية ٌ
معرفة الغاية ال تفيد �شيئ ًا �إذا جهل الطريق املو�صل �إليها ،واملعرفة الإجمالية
بد من تعيني املطلب واخلطة تعيين ًا يف هذا الباب ال تكفي مطلق ًا ،بل ال َّ
وا�ضح ًا موافق ًا لر�أي الك ِّل� ،أو الأكرثية التي هي فوق ثالثة الأرباع عدداً �أو
يتم الأمر ،حيث �إذا كانت الغاية مبهمة نوع ًا ،يكون الإقدام قوة ب�أ�س و�إال فال ّ
بالكلية عند ق�سم من النا�س �أو خمالفة ّ ناق�ص ًا نوع ًا ،و�إذا كانت جمهولة
امل�ستبد ،فتكون فتن ًة �شعواء ،و�إذا كانوا يبلغون ِّ ين�ضمون �إىل
ّ لر�أيهم ،فه�ؤالء
امل�ستبد.
ِّ مقدار الثلث فقط ،تكون حينئ ٍذ الغلبة يف جانب
ثم �إذا كانت الغاية مبهمة ومل يكن ال�سري يف �سبيلٍ معروف ،ويو�شك �أن َّ
يقع اخلالف يف �أثناء الطريق ،فيف�سد العمل �أي�ض ًا وينقلب �إىل انتقام وفنت.
ولذلك يجب تعيني الغاية ب�رصاحة و�إخال�ص و�إ�شهارها بني الكا ّفة ،وال�سعي
يف �إقناعهم وا�ستح�صال ر�ضائهم بها ما �أمكن ذلك ،بل الأَوىل حمل العوام
على النداء بها وطلبها من عند �أنف�سهم .وهذا �سبب عدم جناح الإمام علي
ومن وليه من �أئمة �آل البيت ر�ضي اهلل عنهم ،ولع َّل ذلك كان منهم ال عن غفلة،
بل مقت�ضى ذلك الزمان من �صعوبة املوا�صالت وفقدان البو�ستات املنتظمة
141
اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه
142
حكمة .ومتى بلغت � َّأم ٌة ر�شدها ،وعرفت للحرية قدرها ،ا�سرتجعت ع َّزها ،وهذا
عدل.
ٌ
يذل اهلل قط
ربك �أحداً� ،إمنا هو الإن�سان يظلم نف�سه ،كما ال ُّ وهكذا ال يظلم ُّ
ي�سبب ك َّل ع َّلة.
�أمة عن ق ّلة� ،إمنا هو اجلهل ِّ
و�إين �أختم كتابي هذا بخامتة ب�رشى ،وذلك � َّأن بوا�سق العلم وما بلغ �إليه،
تدل على� َّأن يوم اهلل قريب .ذلك اليوم الذي يق ّل فيه التفاوت يف العلم وما ُّ
القوة ،وعندئ ٍذ تتكاف�أ القوات بني الب�رش ،فتنح ّل ال�سلطة ،ويرتفع ّ من يفيده
التغالب ،في�سود بني النا�س العدل والتوادد ،فيعي�شون ب�رشاً ال �شعوب ًا ،و�رشكات
ال دو ًال ،وحينئ ٍذ يعلمون ما معنى احلياة الطيبة :هل هي حياة اجل�سم وح�رص
الهمة يف خدمته؟ �أم حياة الروح وغذا�ؤها الف�ضيلة؟ ويومئ ٍذ يت�س ّنى للإن�سان ّ
م�شرتك يف
ٌ خمت�ص يف �ش�أنه،
ّ جنم
ٌ ه ن
َّ �
أ ك خالد، ل
ٌّ م�ستق عامل ه ن
َّ �
أ ك يعي�ش �أن
ملك ،وظيفته تنفيذ �أوامر الرحمن امللهمة للوجدان. النظام ،ك�أ َّنه ٌ
143