You are on page 1of 2

‫اليكم نموذج توضيحي لتحليل سؤال فلسفي وفق المنهجية التي قدمتها لكم سابقا‬

‫هل معرفة الغير ممكنة ؟‬


‫من خالل القراءة المتأنية للسؤال يتضح انه يندرج ضمن مجزوءة الوضع البشري و المقصود‬
‫بذلك كل ما يحدد الذات البشرية ويشكلها في مختلف مستويات وجودها‪ ،‬و التي تتسم بتداخلها‬
‫وتشابكها‪ ،‬مما يجعل هذا الوضع وضعا معقدا يصعب التعمق فيه‪ ،‬ويتطرق السؤال بالتحديد‬
‫لمفهوم الغير الذي يحيل على االنا الذي ليس انا‪ ،‬اي ان الذات تشبهني بوصفي انسانا وتختلف‬
‫عني بوصفه عالما مستقال عني باعتباري انا االخرعالم مستقل عنه انطالقا من هذا االستقالل‬
‫واالنغالق المتبادل بيني وبين الغير فالسؤال هو محاولة الستقصاء قضية معرفة الغير التي‬
‫تعتبر من القضايا الفلسفية التي انكب الفالسفة على دراستها وتقديم تصورات كل وزاويته‬
‫الخاصة‪ ،‬وهذا ما يقودنا الى طرح االشكال التالي‪ :‬هل معرفة الغير ممكنة ام مستحيلة ؟ ومن‬
‫خالل هذا السؤال االشكالي يمكن وضع االستفهامات الجزئية التالية‪ :‬هل يمكن القول ان معرفة‬
‫الغير ممكنة؟ واذا كانت كذلك‪ ،‬فما هي وسائلها وشروطها؟ وهل يتم ادراكها كذات؟ وهل هي‬
‫معرفة يقينية؟ أما اذا كانت معرفته مستحيلة اي متعذرة‪ ،‬فما هي العوائق التي تقف امام‬
‫تحققها ؟‬
‫بداية نرى ضرورة الوقوف عند تحليل بنية السؤال واهم مكوناته‪ ،‬يبدا السؤال بأداة استفهام‬
‫"هل" وهي تخيريه بين قضيتين متقابلتين قد يصرح بهما معا وقد يصرح بإحداهما‪ ،‬ويتم‬
‫اضمار االخرى‪ ،‬كما هو الحال في السؤال مطروح علينا‪ ،‬ان الطابع االستفهامي لهذه األداة‬
‫يفرض اجابتين محتملتين‪" E:‬نعم" ام "ال" مع التحليل طبعا اإلجابة االولى تعتبر معرفه الغير‬
‫ممكنة (نعم) و اإلجابة الثانية تعتبر معرفه غير ممكنه (ال)‪،‬ثم يتضمن السؤال مفهوم المعرفة‬
‫وتحيل على الفعل الذي يدرك العقل بواسطته موضوعا ويقصد بهذا االخير هنا كل ما يتجه‬
‫اليه النشاط الفكري للذات العارفة‪ ،‬كما يتضمن السؤال المطروح ايضا مفهوم الغير الذي يشير‬
‫الى االخر من االنسان اي االنا الذي ليس انا باعتباره الشبيه من حيث هو ذات واعية‬
‫والمختلف عني في نفس الوقت من حيث مضمون ذلك الوعي ومحتواه‪ ،‬اما مفردة ممكنة‬
‫‪.‬فتحيل على اإلمكانية واالمكان مقابل التعذر واالستحالة‬
‫بالعودة مجددا الى السؤال فإننا نجده يتصور أطروحة فلسفية مفادها ان معرفة الغير ممكنة‪،‬‬
‫ويظهر ذلك من خالل ثنائية الذات والغير وهي عالقة ابيستيمية من طرفين احدهما يمثل الذات‬
‫العارفة واالخر يمثل موضوع المعرفة‪ ،‬ويحاول ان يبني هذه المعرفة ال على العقل المعرفي‬
‫وانما على العقل التواصلي‪ E‬االنساني ‪،‬وهكذا نجد موريس ميرلوبونتي يؤكد ان معرفة الغير‬
‫ممكنة تنبني على التواصل‪ E‬القابل للتحقق بين االنا والغير من خالل دخولهما في عالقة‬
‫االعتراف المتبادل بينهما بكل حرية وتلقائية وتنشا من بينهما عالقه تعاطف ومشاركة وجدانية‬
‫‪ ،‬يقول ميرلوبونتي "ان نظرة الغير ال تحولني الى موضوع كما ال تحوله نظرتي الى‬
‫موضوع"‪ ،‬الن العائق قد زال عبر التواصل والتعاطف‪ ،‬وهكذا فما يجعل ادراك الغير‬
‫‪.‬ومعرفته ممكنة وهو من خالل تحقق شرط التواصل‪ E‬والنقاش والحوار‬

‫يظهر لنا انه مهما تعددت طرق ووسائل معرفة الغير وادراكه انطالقا من الحوار والتواصل‬
‫معه‪ ،‬فما الشيء الذي يبرز وجود اشكال التنافر والتباعد بين االنا والغير؟ اي ذلك التنافر الذي‬
‫يظهر في سوء التفاهم وفي الصراع مع الغير وفي اقصائه ونفي اختالفه والفشل في تأسيس‬
‫عالقة ايجابية مستقرة معه ؟ اال يعبر ذلك على وجود هوة فاصلة بين االنا والغير ال يمكن‬
‫طيها ‪ ،‬وجدار عازل بينهما ال يمكن القفز عليه؟‬
‫يحمل السؤال في طياته تقابال اساسي بين االيجاب والمتمثل في امكانية معرفة الغير ويتأتى‬
‫ذلك من خالل التواصل‪ E‬والحوار كما ان هناك احتمال النفي وذلك من خالل ان معرفة الغير‬
‫غير ممكن او يمكن ان تكون مستحيلة‪ ،‬وفي هذا السياق يمكن ان نستحضر موقف الفيلسوف‬
‫روني ديكارت الذي يرى ان معرفة الغير تخمينة وافتراضية فقد اعتبر وجود الذات مستقل‬
‫في العالم ‪ ،‬معناه انه ال يجزم سوى بوجودها الخاص اما الغير فوجوده احتمالي وهذا ما‬
‫ينعكس سلبا على معرفته التي تظل بدورها معرفه احتمالية وغير يقينية‪ ،‬ويمضي مالبرونش‬
‫في توسيع تلك الهوة الفاصل بين االنا والغير‪ ،‬فهو يؤكد على ان معرفة الغير تخمينية تقريبية‬
‫غير يقينية الن االنا ال تستطيع النفاذ الى االعماق الغير إلدراك حقيقة مشاعره وعواطفه‬
‫واحساسيه وانفعاالته ويقوم بعملية االسقاط اي يسقط عليه ما يحس به ويشعر به انطالقا من‬
‫‪.‬مبدا المماثلة ‪ ،‬وبذلك يخلص الى ان معرفة الغير تظل معرفة احتمالية وليست يقينية‬

‫وبهذا ان معرفة الغير هي معرفة غير يقينة يستحيل الولوج الى وعي االخرين وعقولهم‬
‫… وادراك افكارهم فقط‬

You might also like