Professional Documents
Culture Documents
Maqasid Syariah Qardawi
Maqasid Syariah Qardawi
عند
الشيخ القرضاوي
هذا البحث
2
أولا :إعادة التفسير
ثانيا :نقد النظريات السابقة
هل يدخل "حفظ العرض" في الضرورات؟
ثالث ا :تبني مصطلحات مقاصدية معاصرة
مقاصد "الحرية" و"المساواة"
هل تتجدد المقاصد؟
المبحث الثالث :المقاصد العامة الرئيسية عند الشيخ
أولا :مقصد التيسير
ثاني ا :مقصد العدل
ثالث ا :مقصد التعبد
رابعا :مقصد الدعوة
خامس ا :مقصد مراعاة الفطرة
المبحث الرابع :أهمية علم المقاصد عند الشيخ القرضاوي
أولا :أهمية المقاصد لفهم القرآن الكريم فهم ا صحيح ا
ثانيا :أهمية المقاصد لفهم الشريعة اإلسالمية بشكل عام
ثالثا :أهمية المقاصد للغة الخطاب اإلسالمي المعاصر
رابع ا :أهمية المقاصد لستمرار حركة الجتهاد
خامس ا :أهمية المقاصد لصحة الجتهاد واستقامته
سادسا :أهمية المقاصد للمفتي
سابعا :أهمية المقاصد لقبول الفتوى بعد إصدارها
ثامن ا :أهمية المقاصد في "تقنين" األخالق وحمايتها
تاسع ا :أهمية المقاصد في الحوار والتعاون مع أهل الديانات
عاش ار :أهمية المقاصد في الحوار والتقريب بين المذاهب اإلسالمية
3
الفصل الثالث :المقاصد ونماذج من فكر الشيخ القرضاوي
المبحث األول :المقاصد ومنطق الستقراء عند الشيخ
هل الستقراء يفيد "اليقين"؟
اليقين المنطقي بين أرسطو و ابن تيمية
اليقين درجات
المبحث الثاني :تصنيف المدارس الفكرية وفلسفة المقاصد عند الشيخ
بين "الظاهرية الجدد" و"المعطلة الجدد"
المقاصد وسمات المدرسة الوسطية
التأرخ"
المنهج بين "الختزال" و " ّ
المبحث الثالث :المقاصد والسياسة عند الشيخ
مقصد العدل السياسي
مقصد الحرية السياسية
مواقف "الظاهرية الجدد" السياسية
العبرة في السياسة الشرعية بالمقاصد والمعاني
نظرة مقاصدية للديمقراطية
المقاصد واألقليات غير المسلمة
المبحث الرابع :المقاصد والقتصاد عند الشيخ
مقصد العدل الجتماعي
مقصد التكافل
مقصد الحرية القتصادية
غاية القتصاد في اإلسالم
المبحث الخامس :المقاصد واألسرة والمرأة عند الشيخ
مقصد "تكوين األسرة الصالحة وانصاف المرأة"
مقاصد اإلسالم من الزواج
المبحث السادس :المقاصد والحوار عند الشيخ
4
الحوار بين المذاهب اإلسالمية
الحوار مع غير المسلمين
5
تغير قيم العمالت األساسية
تغير شكل النقود
تغير األطعمة والسلع األساسية
المبحث الخامس :التفرقة بين الوسائل المتغيرة والمقاصد الثابتة
السواك وسيلة متغيرة وطهارة الفم مقصد ثابت
رؤية الهالل بالبصر وسيلة متغيرة واثبات دخول الشهر مقصد ثابت
الطب وسيلة متغيرة والتداوي مقصد ثابت
تعيين المقاييس وسيلة متغيرة وتوحيد المقاييس مقصد ثابت
الفن وسيلة حكمها حكم مقصدها
الجلباب وسيلة متغيرة والستر مقصد ثابت
المبحث السادس :مقاصد الرسول (صلى اهلل عليه وسلم) في تصرفاته
تعيين النبي صلى اهلل عليه وسلم بعض تقديرات الزكاة بصفة اإلمامة
قصد اإلرشاد في أحاديث الوصفات الطبية
قصد العناية بالقرآن في نهي الصحابة عن كتابة الحديث
قصد التشجيع على اقتناء الخيل في العفو عن صدقتها
المبحث السابع :سد الذرائع لدرء المفاسد وفتحها لتحقيق المقاصد
سد الذرائع ومسألة النقاب
سد الذرائع ومسألة تعلم المرأة
سد الذرائع ومسألة إعطاء المرأة حقوقها السياسية
سد الذرائع ومسألة أطفال األنابيب
سد الذرائع ومسألة الغناء
المبحث الثامن :الحكم بالمآلت
مآل إسقاط الزكاة عن أموال التجارة
مآل العنف السياسي
المبحث التاسع :بطالن الحيل باعتبار المقاصد
6
إبطال حيل التهرب من الزكاة
إبطال حيلة المحلل
المبحث العاشر :أثر قصود المكلفين
رفع الصليب بقصد التمثيل السينمائي
استغالق القصد على الغضبان
المبحث الحادي عشر :حكم وأسرار العقائد والعبادات والمعامالت
حكمة الزكاة
حكمة اشتراط النصاب في الزكاة
حكمة التسمية في الصيد والذبح
حكمة المهر
المبحث الثاني عشر :الوقوف على الظاهر لتحقيق المقاصد
الوقوف على الظاهر في العبادات والمقدرات
األخذ بالظاهر في أمر الرضاعة في فتوى بنوك الحليب
المبحث الثالث عشر :أنواع من "الفقه الجديد" ترتبط بفقه المقاصد عند الشيخ
فقه األولويات
فقه الموازنات
فقه األقليات المسلمة
الفقه الحضاري
فقه السنن اإللهية
خاتمة
7
هذا البحث
شرفني فضيلة العالمة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي بدعوتي إلى "ملتقى اإلمام القرضاوي
ّ
مع التالميذ واألصحاب" ،والذي عقد في الدوحة في أغسطس/آب الموافق لجمادى اآلخرة من
عام 7002م8271/هـ ،والذي تدارس فيه العلم مع تالمذته ومحبيه من كل مكان ،والذين
يشرفني أن أكون واحداً منهم .وكم كانت سعادتي بالغة حين طلب مني الشيخ أن أبحث
وأكتب عن مقاصد الشريعة في منهجه وفقهه وفكره ،فمقاصد الشريعة هو الموضوع اإلسالمي
لدى ،والشيخ –حفظه اهلل -له مكانة خاصة في قلبي ،فتضاعفت سعادتي بالكتابة عن
األثير ّ
إلى.
إلي في الموضوع األحب ّ الشيخ األحب ّ
نشأت أتعلّم من
ُ والحق أنه منذ أن تفتحت عيوننا على العلم والدعوة والفقه والفكر اإلسالمي،
محاضرات الشيخ وكتبه وخطبه ،وكنت أحرص على الحضور واالستفادة في كل مرة كان
يزور فيها القاهرة ليشارك في مسيرة الدعوة هناك منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي .وفي
التسعينيات –وكنت أعيش وقتها في كندا -كان الشيخ يكرمنا دائماً بقبول دعوة رابطة الشباب
كنا نسعد فيه بمداخالت
المسلم العربي في أمريكا لحضور مؤتمرنا السنوي الحاشد ،الذي كم ّ
الشيخ وعلمه وفتاواه.
ثم إن عندي ركن في مكتبتي فيه ج ّل كتب الشيخ –حفظه اهلل -وأحرص على أن أتابع الجديد
دائماً مما يخطه قلمه الرشيق وينتجه عقله المتدفق.
الشاهد من ذكر هذا كله هو أن لي باعاً بفكر الشيخ ومنهجه –جزاه اهلل خي اًر .غير أنني حين
راجعت كتب الشيخ هذه المرة لكي أكتب هذا البحث بعين "مقاصدية" ،إن صح التعبير ،كان
في انتظاري مفاجأة!
كنت قد وضعت تصو اًر نظرياً لموضوع هذا البحث على هيئة جدول محتويات مبدئي قبل أن
أشرع في مراجعة كتب الشيخ .وضعت هذا الجدول بناء على أحالمي وأمنياتي العلمية أن
أرى علم المقاصد يتسع ليشمل ِح َكم التشريع في كافة دوائر التشريع ،وأن يتعدى البحث في
حكم العبادات إلى حكم المعامالت بأنواعها ،بل وأدوات أصول الفقه من دالالت وقياس
واستصالح ومراعاة عرف وسد ذرائع وغيرها – حتى تكون المقاصد أصالً من األصول بل
أصالً لألصول.
8
ثم إنني أضفت إلى جدول المحتويات المجرد هذا عناوين لموضوعات عن عالقة علم
المقاصد باإلسالم بشكل عام ،كمنهج حياة فكري ،واجتماعي ،وسياسي ،واقتصادي ،إلى غير
ذلك من جوانب الحياة .ووضعت عنواناً مفاده أن تكون المقاصد الشرعية فلسفة إسالمية
جديدة يقوم عليها اإلصالح اإلسالمي المعاصر والتنمية البشرية الشاملة المرجوة للمجتمعات
اإلسالمية.
والحق أنني كنت أحسب أنني لن أستطيع أن أمأل كل هذه الفصول واألقسام التي تصورتها
مبدئياً لبحثي هذا عن الشيخ ،وكانت نيتي أن أحذف العناوين التي أجد -بعد مراجعة الكتب-
أن الشيخ لم يكتب فيها .ولكنني حين شرعت في مراجعة أول مجموعة من كتب الشيخ كانت
المفاجأة أنني وجدت فيضاً من النظر المقاصدي والرؤى المقاصدية ،فيضاً يمأل كل األقسام
قسمتها ،بل ويزيد عليها أقساماً وموضوعات أخرى ما كنت أحسب أن لها
التي كنت قد ّ
معالجات مقاصدية موجودة كما وجدتها عند الشيخ.
مثالً ،عالقة مقاصد الشريعة بالحوار بين المذاهب اإلسالمية ،وبقضايا الحريات السياسية،
وبالتكافل االجتماعي ،كل هذه الموضوعات التي لم تكن في حسباني وما كانت في تقسيمي
النظري على تفصيله واطنابه ،فأضفتها إليه.
الحظت في قراءاتي سابقاً أن الشيخ القرضاوي قد كتب
ُ ومقصد "مراعاة الفطرة" لم أكن قد
عنه .ولكنني جمعت فيه مادة وفيرة من كتب الشيخ ،حتى انتهى بي االستقراء إلى اعتباره
ضمن ما أطلقت عليه "المقاصد العامة الرئيسية في فكر الشيخ".
ووجدت ألواناً من "الفقه الجديد" ،حسب تعبير الشيخ ،لم أكن قد أدخلتها في خطتي ،مثل فقه
السنن اإللهية والفقه الحضاري ،كان من إبداعات الشيخ -حفظه اهلل -أن ربطها بعلم المقاصد
ربطاً .إلى غير ذلك من الموضوعات.
واذا بالبحث الذي خططت لكي يقع في عشرين أو ثالثين صفحة يتسع حتى غدا كتاباً متوسط
الحجم ،وقررت أن أقتصر على تقديم جدول المحتويات فقط في الوقت المتاح في الملتقى!
محتويات البحث –إذن– تنقسم إلى فصول ستة وخاتمة .أعرض في الفصل األول عالقة
التكوين العلمي للشيخ بموضوع المقاصد .وأبدأ بعلماء السلف ممن كان لهم في علم المقاصد
أثنى بنشأة الشيخ العلمية،
أت أن الشيخ قد تأثر بهم وتبنى نظرياتهم .و ّ سهم بارز واستقر ُ
والعلماء الذين عاصرهم و"علقوه بعلم المقاصد" ،حسب تعبيره .ثم أذكر شيئاً عن تطور النظر
9
المقاصدي عند الشيخ نفسه في مراحل حياته ،كما ظهر لي من كتبه التي كتبها على مدار
العقود .وأختم هذا الفصل األول بنقول من بعض من كتبوا عن الشيخ حفظه اهلل ،ممن تحدثوا
عن عالقة الشيخ بعلم المقاصد ومنهجه فيه.
أما الفصل الثاني ،وعنوانه "أبعاد المقاصد وأهمية دراستها عند الشيخ القرضاوي" ،فأعرض فيه
أوالً تعريفاً –بل تعريفات– للمقاصد بأبعادها المختلفة كما وجدتها عند الشيخ .وأثنى بتحليل
نواحي التجديد في هذه التعريفات تفسي اًر ،ونقداً ،واضافة .ثم أعرض المقاصد العامة الرئيسية
التي أخذ بها الشيخ كما استقرأتها من فكره وفقهه ،وهي مقاصد التيسير والعدل وعبادة اهلل
والدعوة ومراعاة الفطرة .وختمت هذا الفصل بمبحث عن أهمية دراسة المقاصد وعلم المقاصد
من كتابات الشيخ.
والفصل الثالث يعرض نماذج من المنهج الفكري للشيخ من خالل المقاصد .يبدأ الفصل
بمناقشة قضيتين فلسفتين منهجيتين متعلقتين بالمقاصد ،أال وهما قضية قطعية االستقراء،
وقضية تصنيف المذاهب الفكرية المعاصرة .ثم يعرض الفصل للنظر المقاصدي في نماذج
من فكر الشيخ عنها في مجاالت السياسة ،واالقتصاد ،واألسرة ،والم أرة ،والحوار مع "اآلخر".
أما الفصل الرابع ،فيتناول العالقة بين المقاصد وفقه الشيخ حفظه اهلل ،ليس من باب الفتاوى
المجردة ،وانما حاولت تحليل األدوات األصولية المنهجية عند الشيخ وعالقتها بالمقاصد.
ويتناول هذا الفصل االجتهاد بنوعيه اإلنشائي واالنتقائي ،والقياس ،واعتبار تغير الظروف،
والتفرقة بين الوسائل المتغيرة والمقاصد الثابتة ،ومقاصد الرسول (صلى اهلل عليه وسلم) في
تصرفاته ،وسد الذرائع وفتحها ،والحكم بالمآالت ،وقضية الحيل الفقهية ،وأثر قصود المكلفين
على المعامالت ،وحكم وأسرار بعض العبادات والمعامالت .ثم أب ّين البعد المقاصدي في
وقوف الشيخ على ظواهر النصوص أحياناً .ثم أعرض أخي اًر من كالم الشيخ تلك األنواع من
"الفقه الجديد" التي ترتبط ارتباطاً عضوياً بفقه المقاصد ،أال وهي فقه األولويات ،وفقه
الموازنات ،وفقه المآالت ،وفقه السنن اإللهية ،وفقه األقليات المسلمة ،والفقه الحضاري.
وأختم الكتاب بخاتمة فيها خالصات لألفكار والتحليالت التي وردت في كل الفصول.
هذا ،وقد كثر تالميذ الشيخ القرضاوي -حفظه اهلل -واتسعت دوائرهم وتنوعت خلفياتهم،
حتى أن بعضهم أنشأ في بداية عام 7080م ( 8240هـ) في الدوحة أيضاً رابطة تحت اسم
"رابطة تالميذ القرضاوي" ،وهي جماعة علمية تسعى إلى التواصل بين تالمذة الشيخ بعضهم
10
مع بعض ،والى تواصل التالميذ مع شيخهم .وقد أسعدني أن قبلت هذه الرابطة عضويتي
فيها ،وأن أحضر حلقات للمناقشة العلمية بين الشيخ القرضاوي وبعض أعضاء الرابطة .وكان
مما ذكر الشيخ م ار اًر في تلك المدارسات أنه ال يريدنا مقلدين! وأكد لنا أنه ال يريد من تالميذه
أن يقلدوه إال في القضايا المنهجية الرئيسية ،واال فإن الشيخ كان دائماً ما يفتح الباب على
مصراعيه لالختالف والمناقشة معه – حفظه اهلل .وهذا في الواقع هو صنيع ودأب العلماء
الكبار في هذه األمة مع طلبة العلم.
ومن هذا الباب ،رأيت أن أناقش في بعض المواضع المحدودة من هذا البحث ما أستسمح
القارئ الكريم أن أختلف فيه مع آراء شيخنا وأستاذنا الشيخ القرضاوي ،مناقشة متواضعة ألتزم
فيه بمنهج شيخنا نفسه في علم مقاصد الشريعة -كما فهمته ودرسته -لمناقشة آراء رأيتها ال
تتماشى مع ذلك المنهج ،واهلل أعلم.
حفظ اهلل العالمة الشيخ القرضاوي وجزاه عن طلبة العلم وعن اإلسالم وأهله خير الجزاء.
جاسر عودة
الدوحة
سبتمبر /7080شوال 8248
11
الفصل األول
12
كتب الشيخ القرضاوي تحت عنوان" :عن اهتمامي بمقاصد الشريعة ،ومتى بدأ ،واالم انتهى"
-كتب يقول:
"آمنت من زمن بعيد بمقاصد الشريعة ،وضرورة معرفتها ،وأهميتها في تكوين
عقلية الفقيه الذي يريد أن يغوص في بحار الشريعة ،ويلتقط آللئها ،وفي مساعدته
على الوصول إلى الحكم الصحيح ،وال يكتفي بالوقوف عند ظواهر النصوص الجزئية،
فيشرد عن سواء السبيل ،ويسيء الفهم عن اهلل ورسوله.
وكان سبب إيماني بهذه المقاصد :إيماني بحكمة اهلل تعالى ،وأن من أسمائه
الحسنى :الحكيم ،وقد ذكر اسم الحكيم في القرآن الكريم أكثر من تسعين مرة ,
وهوسبحانه حيكم فيما خلق ،فال يخلق شيئا عبثا وال باطال ،كما أنه حكيم فيما شرع،
فال يشرع شيئا عبثا وال اعتباطا.
وهو سبحانه غني عن عباده فهوحين يأمرهم وينهاهم ،ويحل لهم ويحرم عليهم،
ويشرع لهم :ال يعود عليه شيء وراء ذلك من نفع أوضرر ،فهوغني عن العالمين.
ولكنه يشرع لعباده :ما فيه تحقيق الخير والصالح لهم في دنياهم وأخراهم ،ودرء الشر
والفساد عنهم ،في حاضرهم ومستقبلهم ،أوفي معاشهم ومعادهم .فالتشريع اإللهي ليس
وراءه إال مصلحة الخلق في العاجل واآلجل ،علم ذلك من علمه ،وجهله من جهله.
وقد أكد إيماني هذا ونماه َّ
ومكنه وعمقه في نفسي وعقلي ،جملة أمور: ّ
-8التدبر في القرآن الكريم ،وما فيه من تعليالت شتى في عالم الخلق ،وعالم األمر،
وترتيب المسببات على أسبابها ،والمعلوالت على عللها ،والنتائج على مقدماتها ،حتى
8
قال اإلمام ابن القيم :وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع!
-7استقراء أحكام الشريعة وما تحويه من مثل عليا ،وقيم رفيعة ،وغايات حميدة،
ومصالح أصيلة ،تشتمل على خيري الدنيا واآلخرة ،للفرد ولألسرة وللجماعة ولألمة
ولإلنسانية كلها.
-4قراءة مؤلفات العلماء الذين يعنون بمقاصد الشريعة ،أكثر من عنايتهم بألفاظها
وأشكالها ،مثل اإلمام أبي العباس ابن تيمية (271هـ) وتلميذه اإلمام ابن القيم
انظر :كتاب ( الداء والدواء) البن القيم ص 02طبعة مطبعة املدين بتحقيق حممد حمي الدين عبد احلميد – .ونقلت هذا اهلامش كما ذكره الشيخ يف
حبثه املذكور.
13
(258هـ) في المشرق ،ومثل اإلمام أبي اسحق الشاطبي (290هـ) في المغرب،
واإلمام ولي اهلل الدهلوي في الهند (8021هـ) ،واإلمام محمد بن إبراهيم الوزير(ت
120هـ) في اليمن .وفي عصرنا الحديث مثل :العالمة محمد رشيد رضا (ت
8452هـ).
-2معايشة علماء يؤمنون بالفكرة المقاصدية ،ويرفضون الحرفية في فهم النصوص ،مثل
مشايخنا الكبار الذين عاصرناهم :محمود شلتوت ،ومحمد عبد اهلل دراز ،ومحمد
يوسف موسى ،ومحمد المدني ،ومحمد أبوزهرة ،وعبد الوهاب خالف ،وعلي الخفيف،
ومحمـد مصطفى شلبي ،وعلي حسب اهلل ،ومصطفى زيد ،ومصطفى الزرقا،
ومصطفى السباعي ،والبهي الخولي ،ومحمد الغزالي ،وسيد سابق ،وغيرهم ،رحمهم
اهلل .
لدي وضوحا وعمقا ،وترسخت في
وكلما تعمقت في الدراسة أكثر :ازدادت الفكرة ّ
أعماقي كلمة ابن القيم :الشريعة مبناها وأساسها على مصالح العباد في المعاش
والمعاد ،وهي عدل كلها ،رحمة كلها ،حكمة كلها ،ومصالح كلها.
وبدأ اإليمان بفقه المقاصد ،يفرض نفسه على تفكيري واجتهاداتي وترجيحاتي ،فيما
أؤلفه من كتب ،وفيما أصدره من فتاوى ،وفيما ألقيه من محاضرات ،وفيما أقدمه من
7
برامج ولقاءات ."...
ويبدأ هذا الفصل بمبحث عن أثر بعض هؤالء األئمة من علماء السلف في منهج المقاصد
عند الشيخ ،خاصة "أئمة المقاصد" الذين أسسوا لهذا العلم في ما بين القرنين الخامس والثامن
الهجريين .ثم يلي ذلك مبحث عن أثر العلماء المعاصرين "من مشايخه الكبار" ،كما ذكر.
0القرضاوي ،يوسف .بني املقاصد الكلية والنصوص اجلزئية ،مقاصد الشريعة اإلسالمية :دراسات يف قضايا املنهج وجماالت التطبيق ،حترير :حممد سليم العوا،
مركز دراسات مقاصد الشريعة اإلسالمية ،لندن .0222 ،ص98
14
المبحث األول:
تأثر الشيخ بأئمة المقاصد الذين أفردوا هذا العلم بالتأليف
إمام مقاصد الشريعة األول هو الرسول الكريم صلى اهلل عليه وسلم ،فهو الذي نزلت عليه هذه
الرسالة ،وهو أول من أدرك غاياتها ومقاصدها على اإلجمال والتفصيل .ونهل من معين
الرسول الصافي صحابته الكرام رضي اهلل عنهم ،ثم التابعين ،وتابعي التابعين من أئمة الدين
وأئمة الفقه ،وكلهم من رسول اهلل ملتمس.
ولكن الفترة ما بين القرنين الخامس والثامن الهجريين كانت فترة إفراد هذا العلم ،علم المقاصد،
بالتأليف .فظهر فيه أئمة يمكننا أن نطلق عليهم في هذا المقام "أئمة المقاصد".
وتأثر الشيخ القرضاوي في تكوينه العلمي ،باإلضافة إلى من عاصر من العلماء ،بأئمة
المقاصد هؤالء ،كما ذكر أعاله وكما يظهر جلياً في كتاباته ودراساته ،ونقل عنهم الشيخ
وطبقها على الواقع الذي عايشه وعالجه .كان من أبرز هؤالء
آراءهم ونظرياتهم وحللّها ونشرها ّ
األعالم األئمة الجويني ،والعز بن عبد السالم ،وأبو حامد الغزالي ،والطوفي ،وابن القيم،
والقرافي ،والشاطبي ،وأفرد الشيخ بعضهم بالتأليف والبحث في مناهجهم كالجويني ،والغزالي،
والشاطبي 4.وفيما يلي إشا ارت موجزة لتأثر الشيخ العلمي حفظه اهلل بهؤالء األعالم
"المقاصديين".
أما إمام الحرمين الجويني ،فقد كتب عنه الشيخ القرضاوي يقول:
"كان إمام الحرمين عبقري زمانه –وما بعد زمانه -في العلوم التي تجمع بين العقل
والنقل ،وهي :علم الكالم ،وأصول الفقه ،والفقه ،والخالف .وربما يظن كثير من الناس
أن علم الفقه علم نقلي بحت ،وهو كذلك عند الكثيرين ،ولكنه –عند إمام الحرمين ومن
جرى مجراه -له ارتباط وثيق بالعقل ،في التأصيل والتدليل ،والتقرير والتعليل ،وربط
راجع من مؤلفات الشيخ القرضاوي :إمام احلرمني اجلويين ،الغزايل بني مادحيه وناقديه ،والرتبية عند اإلمام الشاطيب.
15
المسائل بجذورها ،ورد الفروع إلى أصولها ،وقياس األشباه بأشباهها ،ومراعاة الجوامع
2
والفوارق ،ورعاية العلل والمقاصد".
وتحت عنوان "االستقالل في التفكير واالستقالل في التعبير" ،كتب الشيخ القرضاوي يقول:
"تميز إمام الحرمين باالستقالل في التفكير ،واالستقالل في التعبير ...وهو واضع
5
اللمسات األولى في مقاصد الشريعة".
القيم عن المصالح
وأما سلطان العلماء العز بن عبد السالم ،فكثي اًر ما يشير الشيخ إلى كتابه ّ
"قواعد األحكام في مصالح األنام" ،وينقل عنه ،خاصة في الموازنات المختلفة بين المصالح
والمفاسد بدرجاتها ،والذي يسميها الشيخ بفقه الموازنات ويربطها بفقه المقاصد في غير موضع
من كتاباته .والعز بن عبد السالم له إسهامات في المقاصد بمعنى الحكم واألسرار ،إذ ألف
كتابين في هذا الباب تحت عنواني (مقاصد الصالة) و(مقاصد الصوم) 1،وهو الذي ربط
كذلك بين المقاصد وجلب المصالح ودرء المفاسد فقال:
"ومن تبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من مجموع ذلك
بأن هذه المصلحة ال يجوز إهمالها ،وأن هذه المفسدة ال يجوز قربانها،
اعتقاد أو عرفان ّ
2
وان لم يكن فيها نص وال إجماع وال قياس خاص ،فإن فهم نفس الشرع يوجب ذلك ."...
وأما شمس الدين ابن القيم ،فكثي اًر ما ينقل الشيخ القرضاوي نقوالً من كتبه وآرائه خاصة من
"إعالم الموقعين عن رب العالمين" .كتب يقول:
"ومن الكلمات المضيئة التي يتناقلها أهل العلم هنا :ما قاله اإلمام ابن القيم في
(إعالمه)( :إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد ،في المعاش
والمعاد .وهي عدل كلها ،ورحمة كلها ،وحكمة كلها .ومصلحة كلها ،فكل مسألة
القرضاوي ،يوسف .اجلويين ..إمام احلرمني .مكتبة وهبة القاهرة0222 .م ،ص89
8نفسه .ص 89
2ومها مطبوعان بتحقيق إياد التباع ،دار الفكر ببريوت 888 ،م
ابن عبد السالم ،العز .القواعد الكربى .دمشق :دار القلم2000 ،م ،ج ، 2ص31
16
خرجت عن العدل إلى الجور ،وعن الرحمة إلى ضدها ،وعن المصلحة إلى المفسدة،
وعن الحكمة إلى العبث ،فليست من الشريعة ،وان أدخلت فيها بالتأويل)".
ثم علق الشيخ القرضاوي قائالً:
نعض عليه بالنواجذ ،وأن نواجه به الذين يتمسحون بابن القيم
ّ "وهذا كالم ينبغي أن
وشيخه ابن تيمية ،ولكنهم لم يحملوا عنهما هذه الروح ،وهذه البصيرة ،التي تنظر إلى
الشريعة هذه النظرة ،وترى ذلك أساسا لتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان واإلنسان،
وفقا للمقاصد واألهداف والمصالح التي راعاها الشارع عند تشريعه للحكم ،إيجابا أو
1
استحباباً ،أو تحريماً أو كراهة أو إباحة".
وينقل الشيخ القرضاوي أيضاً عن ابن القيم وشيخه ابن تيمية آراءهم في منع ما ُس ّمي بالحيل
الفقهية .كتب يقول:
"إن تقرير مقاصد الشريعة وتأكيدها ،ينافي ما ذهب إليه بعض الفقهاء من تجويز
(الحيل) في بعض األحكام التي تستوفي صورتها الشكلية في الظاهر ،ولكنها ال تحقق
مقصد الشارع من شرعيتها .وقد استدل اإلمام البخاري على إبطال الحيل بالحديث
المشهور( :إنما األعمال بالنيات ،وانما لكل امرئ ما نوى) .كما استدل بما جاء في
أحاديث الصدقة( :ال يفرق بين مجتمع ،وال ُيجمع بين متفرق ،خشية الصدقة) .ففي
زكاة األنعام كالغنم مثالً ،إذا كان هناك اثنان يملك كل منهما أربعين شاة ،فقد ملك
نصاباً فعليه شاة ،فإذا خلطا غنمهما ،لم يجب عليهما إال شاة واحدة ،حسب مقدار
الواجب في الغنم .فال يجوز هذا الخلط أو الجمع إذا كان منه تقليل الواجب في
الصدقة .كما ال يجوز للعامل على الصدقة أن يفرق بين المجتمع والمخلوط من الغنم،
ليوجب فيه زيادة .وقد ألف شيخ اإلسالم ابن تيمية كتاباً سماه (إقامة الدليل على
بطالن التحليل) وهو الذي جاء فيه الحديث( :لعن اهلل المحلل والمحلل له) ،وأطال
9
النفس فيه في بيان إبطال الشرع للحيل ،ومنافاتها للمقاصد الشرعية".
9عوامل السعة و املرونة يف الشريعة اإلسالمية ،العامل اخلامس ،ومدخل لدراسة الشريعة اإلسالمية ،فصل :تغري الفتوى ،ص .008-022
8القرضاوي ،يوسف .مدخل لدراسة الشريعة اإلسالمية .مكتبة وهبة 88 .م .ص92- 8
17
ويشير الشيخ في مواضع عديدة من كتبه إلى "إعالم الموقعين" ،حيث ذكر ابن القيم عشرات
حيل وأبطلها عن طريق ترجيح اعتبار المقاصد الشرعية على اعتبار الشكليات ِ
من أمثلة ال َ
والظواهر المجردة لألحكام .ويربط ابن القيم ذلك بالمقاصد بكالم مفصل ،منه:
وحرم أوجب الواجبات حيل وتحريمها أن اهلل تعالى إنما ِ
َ َ "مما يدل على ُبطالن ال َ
المحرمات لِما تتضمن من مصالِ ِح ِع ِ
باده في معاشهم ومعادهم ...فإذا احتا َل العبد على َ
تحليل ما حرم اهلل واسقاط ما فرض اهلل وتعطيل ما شرع اهلل ،كان ساعياً في دين اهلل
ونقض
ُ أحدها إبطالُها ما في األمر المحتال عليه من حكمة الشارع،
بالفساد من وجوهُ :
عنده حقيقة وال هو
حكمته فيه ومناقضتُهُ له ،والثاني أن األمر المحتال به ليس له َ
المحرم
ُ المقصود له هو
ُ مقصود ،بل هو ظاهر المشروع ،فالمشروع ليس مقصوداً له ،و
نفسه ،وهذا ظاهر كل الظهور فيما يقصد الشارع .فإن المرابي مثالً مقصوده الربا
ُ
غير مقصودة له ،وكذلك المتحّيل على إسقاط الفرائض المحرم ،وصورة البيع الجائز ُ
بتمليك ماله لمن ال َيهَُبهُ درهما واحداً ،حقيقةُ مقصوِد ِه إسقاطُ الفرض ،وظاهر الهبة
المشروعة غير مقصودة له ...فإن الشريعة للقلوب بمنزلة الغذاء والدواء لألبدان ،وانما
80
وص َوِرها".
ذلك بحقائقها ال بأسمائها ُ
بل إنه يبدو لي أن الشيخ القرضاوي قد تأثر بابن القيم في تقسيمه الثالثي المشهور لآلراء
الموجودة على الساحة اإلسالمية بين مف ِرط ومفَِّرط .فالشيخ يربط دائماً بين الموقف الوسطي
الذي يدعو له والقسط الذي قامت عليه السماوات واألرض .وقد كتب الشيخ ناقالً عن ابن
القيم يقول:
"قال ابن القيم :وهذا موضع مزلة أقدام ،ومضلة أفهام .وهو مقام ضنك ،ومعترك
فرط فيه طائفة ،فعطلوا الحدود ،وضيعوا الحقوق ،وجرؤوا أهل الفجور على صعبّ .
الفساد .وجعلوا الشريعة قاصرة ال تقوم بمصالح العباد ،محتاجة إلى غيرها ...وأفرطت
طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة فسوغت من ذلك ما ينافي حكم اهلل ورسوله .وكلتا
الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث اهلل به رسوله ،وأنزل به كتابه .فإن اهلل
سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط ،وهو العدل الذي قامت به األرض
2
9- ابن القيم ،إعالم املوقعني ،طبعة دار الفكر ببريوت ،ب ت -ج :ص:
18
فثم شرع اهلل
والسماوات .فإذا ظهرت أمارات العدل ،وأسفر وجهة بأي طريق كانَّ :
88
ودينه".
وأما اإلمام نجم الدين الطوفي ،فله اهتمام بارز بمقاصد الشريعة ،ودائماً ما كان يربطها
بمفهوم العبادة ،وهو الذي عرف المصلحة بقوله" :وهي السبب المؤدي إلى مقصود الشارع
عبادة ال عادة" 87.ولكن اشتهر على ألسنة الناس أنه "يقدم المصلحة على النص" ،كما يقول
بعض الشرعيين ،أو أنه "ال يخضع لسلطان النص" ،كما يقول بعض العلمانيين .إال أن الشيخ
القرضاوي قد دافع عنه في غير موضع من كتبه .فمثالً ،كتب يقول:
"الواقع أن الطوفي رحمه اهلل قد ظلمه العلمانيون ،وظلمه الشرعيون .فالعلمانيون جعلوه
من أئمتهم الذين يرجعون إليهم بعزل الدين عن حياة المجتمع ،ويقدمون العقل على
الشرع باستمرار ،والرجل بريء من ذلك .والحق أنهم خطفوا جزء من كالمه ،وطاروا
به فرحاً وأش اًر ،ولم يصبروا على قراءة كالمه كله ،أو قل :لم يريدوا أن يقرؤوه ،ألن
ادعوا على الشيخ .والشرعيون أيضا فيه حجة عليهم .ولو قرؤوه كله ،لوجدوا غير ما َّ
لم يستوعبوا كالم الشيخ ،وأخذوه بالجزء األول من مقولته ،ولم يستوعبوا كل ما قال،
ونقل بعضهم عن بعض دون الرجوع إلى األصل ،فأوسعوا الرجل نقداً وتجريحاً .وهو
ال يستحق كل هذا ...وعندما عدت إلى مقولة الطوفي ،وقرأت كالمه فيها بإمعان،
تبين لي بيقين :أنه حين يذكر (النص) في كالمه ال يعني به إال (النص الظني) في
سنده وثبوته ،أو في متنه وداللته .وهذا واضح لمن ق أر كالمه كله ،ولم يقتصر على
بعضه ،ولم تضلله إطالقاته وايهاماته ،وهو ما يؤخذ عليه فيما كتب (انظر :التعيين
في شرح األربعين للطوفي ،ص 758و ... )757فهو هنا -بكل وضوح -يمنع
صراحة أن يخالف النص القطعي في سنده وفي داللته :المصلحة .وهذا أبلغ رد على
84
من نقلوا عنه خالف ذلك".
القرضاوي ،يوسف .السياسة الشرعية يف ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها .مكتبة وهبة القاهرة0228 .م.
0الطويف ،جنم الدين سليمان بن عبد القوي احلنبلي .التعيني يف رر ارأربعني .بريوت :مؤسسة الريان 8 ،ھ ،ص.0 8
القرضاوي ،يوسف .بني املقاصد الكلية والنصوص اجلزئية ،مقاصد الشريعة اإلسالمية :دراسات يف قضايا املنهج وجماالت التطبيق ،حترير :حممد سليم
العوا ،مركز دراسات مقاصد الشريعة اإلسالمية ،لندن .0222 ،ص80-98
19
وأما حجة اإلسالم أبو حامد الغزالي فقد كتب عنه الشيخ القرضاوي دراسة مستقلة سماها
"الغزالي بين مادحيه وناقديه" .وكتب الشيخ في مقدمة الدراسة يقول:
"كان في تقديري أن أكتب في ذلك نحو عشر صفحات ،أو بضع عشرة صفحة على
علي
األكثر .فلما شرعت أكتب إذا بالموضوع يتسع أمامي ،واذا الغزالي يفرض نفسه ّ
بقوة ،وكأنه كان يعاتبني من عالم الروح كيف أكتب عنه صفحات معدودة ،وأنا الذي
82
تتلمذت عليه ،وغرفت من بحره ،منذ عهد الصبا؟!".
ولكن هذه التلمذة على اإلمام أبي حامد الغزالي لم تمنع الشيخ القرضاوي من استدراك بعض
المسائل على أبي حامد ،خاصة فيما يتعلق بالمقاصد .فقد كتب الشيخ معلقاً على شروط
اإلمام الغزالي أن تكون المصلحة المعتبرة ضرورية وكلية وقطعية ،كتب يقول:
"وليس من الالزم إذن ما اشترط اإلمام الغزالي أن تكون المصلحة من الضروريات،
فقد تكون مصلحة حاجية ،مما ييسر على الناس ،ويرفع عنهم العنت والحرج.
وليس من الالزم أن تكون ُك ّلية عامة ،فرعاية مصالح األفراد ،والفئات المختلفة ،أمر
معتبر في الشريعة.
وليس من الالزم أن تكون قطعية ،فالعمل بالظن الراجح أمر معمول به في األحكام
85
الفرعية ،وناط به الشرع أمو اًر كثيرة".
وكتب الشيخ معلقاً على طريقة اإلمام الغزالي في االستدالل على حفظ العقل بتحريم الخمر
وفرض العقوبة على شاربها .كتب يقول:
"من األمور المهمة التي ذكرها األصوليون في هذا المقام ،والتي يجب االحتفاظ بها،
والتركيز عليها ،وهوتقسيم الكليات والمصالح الشرعية إلى مستوياتها ومراتبها الثالث،
التي بنى عليها اإلمام الغزالي ،وتبعه في ذلك من بعده إلى اليوم وهي:
-8مرتبة الضروريات.
-7مرتبة الحاجيات.
القرضاوي ،يوسف .اإلمام الغزايل بني مادحيه وناقديه .مكتبة وهبة القاهرة022 .م
8
القرضاوي .السياسة الشرعية يف ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها .ص 2
20
-4مرتبة التحسينات.
فهذا تقسيم منطقي ال يستغني عنه مجتهد في الحكم على وقائع الحياة ،والموازنة بين
األشياء عندما تتعارض .فالضروريات مقدمة على الحاجيات والتحسينات ،والحاجيات
مقدمة على التحسينات .ولكل مرتبة حكمها.
وهناك بعض المالحظات على استدالل األصوليين على بعض الضروريات والكليات،
مثل استداللهم على حفظ العقل بتحريم الخمر وفرض العقوبة على شاربها.
وأرى أن حفظ العقل يتم في اإلسالم بوسائل وأمور كثيرة ،منها :فرض طلب العلم
على كل مسلم ومسلمة ،والرحلة في طلب العلم ،واالستمرار في طلب العلم من المهد
إلى اللحد ،وفرض كل علم تحتاج إليه األمة في دينها أودنياها فرض كفاية ،وانشاء
العقلية العلمية التي تلتمس اليقين وترفض إتباع الظن أواتباع الهوى ،كما ترفض
اإلمعة) ،والدعوة إلى النظر
التقليد لآلباء وللسادة الكبراء ،أولعوام الناس ،شأن ( ّ
والتفكر في ملكوت السموات واألرض وما خلق اهلل من شيء .إلى آخر ما فصلناه في
81
كتابنا (العقل والعلم في القرآن الكريم)".
وكتب الشيخ معلقاً على طريقة اإلمام الغزالي للوصول إلى مقاصد الشريعة .كتب يقول:
"هل يمكن استخدام طريقة أخرى للوصول إلى مقاصد الشريعة ،غير الطريقة التي
ابتكرها حجة اإلسالم أبوحامد الغزالي ،وهويتحدث في كتابه (المستصفى) عن
المصلحة باعتبارها (أصال موهوما) إذ استطرد إلى هذه التحقيقات األصيلة ،في
مقصد الشريعة ،وانتهى إلى وضع أساس (نظرية المقاصد) التي التزم بها العقل
اإلسالمي طوال العصور الماضية ،وقسمها إلى مراتبها الثالث :الضروريات
82
والحاجيات والتحسينات؟ ال أرى مانعا من هذا".
وتأثر الشيخ القرضاوي بمنهج أبي حامد في أولوياته ،خاصة األولويات العملية التي تناولها
في كتابه الواسع األثر "إحياء علوم الدين" ،والذي يظهر أثره في بعض ما كتب الشيخ من
أولويات .كتب الشيخ عن أبي حامد يقول:
2
القرضاوي ،يوسف .بني املقاصد الكلية والنصوص اجلزئية .انظر ص80-98
نفس املصدر
21
"ومن العلماء الذين عنوا بفقه األولويات ،ونقدوا المجتمع المسلم بالتفريط فيه :اإلمام
الغزالي .وهذا ظاهر في موسوعته (إحياء علوم الدين) يجدها قارئه في (أرباعه)
81
األربعة ،وفي كتبه األربعين".
وأما شهاب الدين القرافي ،فكثي اًر ما يستشهد الشيخ القرضاوي بفروقه خاصة الفرق السادس
والثالثين المتعلق بتصرفات الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،والتي يطلق عليها الشيخ القرضاوي
"قصد الرسول" .كتب الشيخ يقول:
"وفي القرن السابع ،رأينا العالمة المالكي ،اإلمام شهاب الدين القرافي المصري،
يعرض ألقواله وتصرفاته صلى اهلل عليه وسلم ،واختالف وجهاتها ،ما بين اإلمامة
والقضاء والفتوى أو التبليغ عن اهلل تعالى ،وأثر ذلك في عموم الحكم أو خصوصه،
واطالقه أو تقييده ،فيفصِّل ذلك تفصيال غير مسبوق ،وذلك في كتابين له ،وهما من
الكتب األصيلة الفريدة( :الفروق)( ،اإلحكام في تمييز الفتاوى من األحكام) .ونكتفي
هنا بما ذكره في الفروق حيث قال في الفرق السادس والثالثين ،وهو (الفرق بين قاعدة
تصرفه -صلى اهلل عليه وسلم -بالقضاء ،وقاعدة تصرفه بالفتوى –وهي التبليغ-
89
وقاعدة تصرفه باإلمامة .")...
والشيخ القرضاوي يوافق اإلمام القرافي في إضافة "العرض" إلى الضروريات الخمسة ليكون
سادسها ،وكتب في ذلك يقول:
"وقد أضاف القرافي وغيره إلى هذه الخمسة عنص اًر سادساً ،وهو (حفظ العرض) ...
70
وهي إضافة صحيحة يجب اعتبارها".
ومن المفاهيم المقاصدية التي تأثر فيها الشيخ القرضاوي كذلك بالقرافي ،والمالكية عموماً،
مفهوم "فتح الذرائع" .فعند القرافي أن الذرائع كما تسد للمفاسد تفتح للمصالح .وبنى الشيخ
القرضاوي على الموازنة بين سد الذرائع وفتحها بعضاً من فتاواه ،خاصة في مجال المرأة ،كما
سيأتي.
22
أما اإلمام أبو إسحاق الشاطبي ،فيبدو لي أنه يمثل المرجع الرئيس للشيخ القرضاوي في إطاره
النظري للمقاصد ،خاصة كتابه "الموافقات" .كتب الشيخ عن الشاطبي و"الموافقات" يقول:
"وقد منح [الشاطبي] رحمه اهلل هذا الموضوع :اهتماماً بالغاً في كتابه البديع
(الموافقات) ،حيث شغل األصوليون قبله بالمباحث اللفظية ،ولم يعطوا هذا األمر ما
يستحق .كما شغل علماء الفقه باألحكام الجزئية ،وغفلوا عن المقاصد ،وترتب على
78
ذلك ظهور فن (الحيل الفقهية) التي يضاد معظمها مقاصد الشريعة ."...
0القرضاوي ،يوسف .االجتهاد يف الشريعة اإلسالمية .دار القلم 888 .م .ص 8 -8
00القرضاوي .بني املقاصد الكلية والنصوص اجلزئية .ص28
23
مهملين المقاصد الكلية ،فيخلطوا ويخبطوا .ولقد اهتم الشاطبي بهذا الشرط ونوه به،
74
حتى جعله هو سبب االجتهاد ،ال مجرد شرط".
وينقل عن الشاطبي تقسيماته المختلفة للمقاصد ،كالذي نقله عنه في التفريق بين المقاصد
األصلية والتابعة .كتب يقول:
"للعبادة –كما قال اإلمام الشاطبي– مقصداً أصلياَ ،ومقاصد تابعة ،فالمقصد األصلي
فيها هو :التوجه إلى الواحد المعبود بغاية الخضوع والطاعة والمحبة له ...ومن
المقاصد التابعة للعبادة :صالح النفس واكتساب الفضيلة .قال الشاطبي :فالصالة
مثال ،أصل مشروعيتها :الخضوع هلل سبحانه ...ثم إن لها مقاصد تابعة كالنهي عن
الفحشاء والمنكر ،واالستراحة إليها من أنكاد الدنيا ...وانجاح الحاجات كصالة
72
االستخارة وصالة الحاجة."...
وكتب الشيخ دراسة طريفة عن الشاطبي ومنهجه في التربية ،ربط فيها بين بعض القواعد
الشرعية المقررة والقواعد التربوية الحديثة .فمثالً ،ربط الشيخ (من كالم الشاطبي) بين قاعدة
مراعاة حال المكلفين في التكليف ونظرية مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين ،فكتب يقول:
"[الشاطبي] يرى أن الطريقة المناسبة لجمهور الناس ،المقدورة ألوساطهم ،هي التي
تقوم على التقريب والتيسير في فهم الحقائق العلمية وافهامها ،ال على التعمق واإليغال
في التعاريف الفلسفية واالستدالالت المنطقية ،التي يصعب على الجمهور هضمها ...
وبهذا قرر إمامنا الشاطبي إحدى القواعد التربوية األساسية التي انتهى إليها فالسفة
التربية في العصر الحديث .وهي قاعدة مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين ...ويقول
رحمه اهلل[( :المربي] يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها ،بناء على
75
أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف .")...
وحديث الشاطبي في نفس الكتاب عن مذهب "التوسط" بين من "وقف مع الظاهر" و"المغرق
أصل لمذهب
في القياس" ،على حد تعبيره ،يدل على أثر آخر في فكر الشيخ القرضاوي حين ّ
مقاصدي وسطي بين "الظاهرية الجدد" و"المعطلة الجدد" ،كما سيأتي .كتب الشاطبي يقول:
24
"الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع ،وهو الذي كان عليه السلف الصالح.
فلينظر المقلد أي مذهب كان أجرى على هذا الطريق فهو أخلق باإلتباع وأولى
باالعتبار .وان كانت المذاهب كلها طرقا إلى اهلل ،ولكن الترجيح فيها ال بد منه ألنه أبعد
من اتباع الهوى وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل االجتهاد .فقد قالوا في مذهب
داود لما وقف مع الظاهر مطلقاً :إنه بدعة حدثت بعد المائتين ،وقالوا في مذهب
أصحاب الرأي :ال يكاد المغرق في القياس إال يفارق السنة ،فإن كان ثَم رأي بين هذين
71
فهو األولى باالتباع".
وباإلضافة إلى ما سبق ،فإن أثر الشاطبي ظاهر فيما كتب الشيخ القرضاوي عن المقاصد في
العديد من القضايا األخرى ،كرد الجزئيات إلى الكليات ،واعتماد االستقراء منهجاً أقرب ما
يكون إلى القطع ،والتفريق بين المقصد والوسيلة ،وغيرها من القضايا التي يأتي الحديث عنها
في ثنايا هذا البحث.
ورغم إعجاب الشيخ القرضاوي باإلمام الشاطبي ،إال أنه أيضاً أشار إلى أوجه القصور التي
الحظها في نظرياته ،كالجنوح إلى الفردية في التنظير للمقاصد ،وكتب الشيخ يحث على
التركيز على فقه المقاصد بغرض" :استكمال الشوط الذي قام به الشاطبي في موافقاته ،وابراز
العناية بالمقاصد االجتماعية خاصة" ،كما سيأتي.
25
المبحث الثاني:
تأثر الشيخ بمن عاصر من علماء القرن الرابع عشر
وهذ إشارات موجزة كذلك للتوجه المقاصدي الواضح عند بعض علماء القرن الرابع عشر
الهجري ،ممن ذكر الشيخ أنه قد تأثر بهم في علم المقاصد خصوصاً ،كما مر .ونذكر منهم
في هذا المقام الشيخ محمود شلتوت ،والشيخ محمد عبد اهلل دراز ،والشيخ الخضر الحسين،
والشيخ محمد مصطفى شلبي ،والشيخ مصطفى زيد ،الشيخ محمد رشيد رضا ،والشيخ محمد
أبو زهرة ،والشيخ محمد الغزالي.
أما الشيخ محمود شلتوت فقد تعلم منه الشيخ القرضاوي مباشرة وذكره ضمن مشايخه ،ووصفه
بقوله:
"الفقيه المجدد الذائع الصيت ،الذي كنت أزوره في بيته ...وأستفيد من فكره ونظراته
72
التجديدية".
وللشيخ شلتوت توجه مقاصدي واضح في كتاباته وفتاواه ،خاصة في تفسيره الذي ألقاه على
هيئة محاضرات وفصول نشرتها مجلة رسالة اإلسالم ،والذي تناول فيه كل سورة من القرآن
71
عن طريق موضوعاتها ومحاورها المختلفة رابطاً ذلك بما أسماه "مقاصد السورة".
وأما الشيخ محمد عبد اهلل دراز ،فهو" :من أبرز مشايخ الشيخ القرضاوي وأساتذته ،وقد درس
الدكتور (دراز) القرضاوي في مرحلة تخصص التدريس باألزهر ...يقول عنه :رأيت أنه
(دراز) ينطبق عليه ما كان يكتبه األولون عن علمائهم ومؤلفيهم ،مثل :العالم العالمة ،الحبر
79
البحر العالمة ،فهذا ما يمكن أن نقوله عن الشيخ".
وكفى بتحقيق الشيخ دراز لكتاب الشاطبي "الموافقات في أصول الشريعة" إضافة لعلم المقاصد
في عصرنا .وهو الذي كتب في مقدمة شرحه للكتاب ينتقد الفقهاء بقوله:
26
"أغفلوا علم أسرار الشريعة ومقاصدها إغفاالً ...فلم يتكلموا عن مقاصد الشارع ،اللهم
إال إشارة وردت في باب القياس ،عند تقسيم العلة بحسب مقاصد الشارع وبحسب
اإلفضاء إليها ...مع أن هذا كان أولى بالعناية والتفصيل واالستقصاء والتدوين من
40
كثير من المسائل التي ُجلبت إلى األصول من علوم أخرى".
وأما الشيخ الخضر الحسين ،الذي تخرج من جامع الزيتونة بتونس واختير شيخاً لألزهر عام
8428هـ8957/م ،فكان قد أنشأ مجلة "السعادة العظمى" في بدايات القرن العشرين والتي
كانت مهمتها "نشر محاسن اإلسالم" ،و"المحاسن" هو تعبير أصيل عن ِح َكم التشريع
ومقاصده ،كما في كتاب "محاسن الشرائع" للقفال الشاشي الكبير وغيره من الكتب .ثم إن
48
الشيخ الخضر الحسين له تعليقات منشورة على كتاب الموافقات للشاطبي.
وأما الشيخ محمد مصطفى شلبي فهو من أوائل من كتب رسائل لدرجة العالمية في القرن
العشرين عن موضوع مقاصدي صرف وهو "تعليل األحكام" – والتي نوقشت عام 8924م في
األزهر.47
والشيخ مصطفى زيد ،الذي ذكر الشيخ القرضاوي تأثره به كذلك في علم المقاصد ،كانت
رسالته للماجستير في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة عن "المصلحة في التشريع اإلسالمي
44
ونجم الدين الطوفي" ،وهي أيضاً دراسة وثيقة الصلة بالمقاصد.
أما شيخهم الذي تأثروا به جميعاً وتأثر به أيضاً الشيخ القرضاوي فهو الشيخ محمد رشيد
رضا ،الذي أسهم في هذا العلم علم المقاصد بدراسته لمقاصد القرآن التي قدمها في كتابه
"الوحي المحمدي" ،وتحقيقه العتصام الشاطبي ،وكتابه "يسر اإلسالم وأصول التشريع
2
املوافقات ،ج ،ص 8
قرأت عن هذا الكتاب ومل أعثر عليه.
0
الدليل اإلررادي ملقاصد الشريعة اإلسالمية .حممد كمال إمام .مركز دراسات مقاصد الشريعة اإلسالمية022 ،م .ص8
مصطفى زيد ،املصلحة يف التشريع اإلسالمي وجنم الدين الطويف ،دار الفكر ،القاهرة 88 ،م.
27
42
ومقاالته في مجلة المنار ،وهو الذي كتب تحديداً عن "التفرقة بين الوسائل العام" ،
والمقاصد" ،كما في كتابه "يسر اإلسالم" وغيره.
وقد أعجب الشيخ القرضاوي بالشيخ رشيد رضا ،وكتب عنه يقول:
" أنا ال أنكر أني من أشد المعجبين بالشيخ رشيد ،وأعتبره أحد مجددي اإلسالم ،وواحد
من أعالمه الراسخين في العلم ،المستقلين في الفكر ،المجتهدين في الدين ،وقد كان
لمجلته (المنار) وتفسيره ،وكتبه ،وفتاويه ،أثر ال يجحد في تنبيه األمة اإلسالمية من
غفلتها ،وتحريرها من أغالل التقليد التي وضعتها في أعناقها ،والعمل على إعادتها
إلى الدين مما شابه وعلق به على مر العصور ،من البدع والزوائد واالنحرافات التي
كدرت صفاءه ،ولوثت نقاءه ،والدعوة إلى اإلسالم ،بوصفه عقيدة وشريعة وحضارة.
فهو في طليعة دعاة السلفية ،وأنصار السنة المحمدية ،الذين أحيوا علوم السلف ونوهوا
بها ،وناصروا المدرسة السلفية بالعقل والنقل ،وبالبينات التي تخاطب العقل المعاصر،
وبالحجج التي تدحض شبهات الخصوم ،وافتراءات األعداء ،وتدعو إلى اإلسالم في
شمول وتكامل وتوازن ،كما أنزله اهلل في كتابه ،وبعث به رسوله صلى اهلل عليه وسلم.
وال يعني هذا أن الشيخ رشيداً مب أر من كل عيب أو معصوم من كل خطأ ،فهذا ما لم
يقله عن نفسه وما ال نقوله نحن عنه .وقد عاش عمره يحارب الذين يقدسون شيوخهم
45
إلى حد يكاد يجعلهم معصومين ال يخطئون في قول أو فعل".
وقد أعجب الشيخ القرضاوي بإبداع الشيخ رشيد رضا في تقسيمه الجديد لمقاصد القرآن ،فكتب
عنه يقول:
"فهذا العالمة السيد رشيد رضا يتحدث عن مقاصد القرآن ،في كتابه الشهـير (الوحي
المحمدي) فيذكر مقاصده بطريقة أخرى غير طريقة األصوليين المجملة في تحقيق
المصالح في مراتبها الثالث :الضروريات والحاجيات والتحسينات .بل فصل ذلك
تفصيال بحسب الموضوعات التي يعمل فيها اإلسالم ،والمقاصد الكبرى التي يحققها
القرآن في حياة األمة .وقد جعلها عشرة مقاصد إلصالح البشرية:
( )8إصالح أركان الدين الثالث.
28
( )7بيان ما جهل البشر من أمر النبوة والرسالة وظائف الرسل.
( )4بيان أن اإلسالم دين الفطرة والعقل والعلم والحكمة والبرهان والحرية واالستقالل.
( )2اإلصالح االجتماعي اإلنساني السياسي بتحقيق الوحدات الثمان.
( )5تقرير مزايا اإلسالم العامة في التكاليف الشخصية من العبادات والمحظـورات.
( )1بيان أصول العالقات الدولية في اإلسالم.
( )2اإلرشاد إلى اإلصالح المالي واالقتصادي.
( )1إصالح نظام الحرب ودفع مفاسدها ،وحصرها على ما فيه الخير للبشر.
( )9إعطاء النساء جميع حقوقهن اإلنسانية والدينية والمدنية.
41
( )80تحرير الرقاب من الرق".
وأما الشيخ محمد أبو زهرة فهو من العلماء الذين تأثر بهم الشيخ القرضاوي ،وكان هو ممن
لهم اهتمام خاص بمقاصد الشريعة كموضوع أصولي أساسي ،كتب عنه فصالً مستقالً ضمن
كتابه عن أصول الفقه ،بل وانتقد علم أصول الفقه التقليدي لعدم التركيز الكافي على موضوع
المقاصد ،فكتب في مقدمة كتابه عن اإلمام الشافعي يقول:
"علماء األصول من لدى الشافعي لم يكونوا يتجهون إلى بيان مقاصد الشريعة العامة ...
فكان هذا نقصاً واضحاً في علم أصول الفقه ،ألن هذه المقاصد هي أغراض الفقه
42
وهدفه".
وال يفوتني هنا أن أذكر أثر الشيخ الذي قال عنه الشيخ القرضاوي في رثائه:
"هوى النجم الساطع ،واندك الجبل األشم ،وطوي العلم المنشور ،وغابت الشمس
المشرقة ،وترجل الفارس المعلم ،ومات الشيخ الغزالي .أخي اًر فقدت األمة اإلسالمية
41
علم األعالم ،وشيخ اإلسالم ،وامام البيان ،ورجل القرآن ."...
2
القرضاوي .بني املقاصد الكلية والنصوص اجلزئية .مرجع سابق.
حممد أبو زهرة ،اإلمام الشافعي .دار املعارف.
9
كساب .املنهج الدعوي عند القرضاوي .ص82
29
ذلك هو الشيخ محمد الغزالي رحمه اهلل ،والذي كان اهتمامه بمحاربة الحرفية ،والتفرقة بين
الوسائل واألهداف ،واضافة مصطلحات العدل والحرية للضرورات الشرعية ،وفقه األولويات،
وغيرها من الموضوعات المقاصدية التجديدية ،اهتمام معروف ومشهور .وقد ذكر الشيخ
القرضاوي تقسيم الشيخ محمد الغزالي لمحاور القرآن الكريم الموضوعية ضمن المحاوالت
المعاصرة للتنظير في علم المقاصد ،فكتب عنه يقول:
"وقد عرض لذلك الداعية الكبير الشيخ الغزالي في كتابه (المحاور الخمسة للقرآن
الكريم) ،فذكر خمسة محاور ،هي:
( )8اهلل الواحد.
( )7الكون الدال على خالقه.
( )4اإليمان بالبعث.
( )2القصص القرآني.
49
( )5ميدان التربية والتشريع".
وكتب عنه الشيخ القرضاوي أيضاً يقول:
"ممن عنى بفقه األولويات نظ اًر وفك اًر وشرحاً :الداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي
رحمه اهلل ،فقد أولى هذا األمر عناية فائقة في كتبه ،وال سيما األخيرة منها ،وذلك لما
لمسه وعاناه في رحلته الدعوية من أناس ينتمون إلى اإلسالم ،والى الدعوة ،ولكنهم
قلبوا شجرة اإلسالم ،فجعلوا جذوعها األصلية فروعاً خفيفة ،وجعلوا فروعها أوراقاً تعبث
بها الرياح ،في حين جعلوا األوراق هي الجذوع ،التي ينبغي أن يتوجه إليها كل الفكر،
20
وكل االهتمام ،وكل العمل ."...
8
القرضاوي .بني املقاصد الكلية والنصوص اجلزئية .مرجع سابق.
2
القرضاوي ،يوسف .يف فقه ارأولويات .مكتبة وهبة0228 .م .ص0 9
30
المبحث الثالث:
تطور النظر المقاصدي عند الشيخ
الحظت من مراجعة كتب الشيخ أن النظر المقاصدي قد تطور عنده بين كتابه األول الموفق
"الحالل والحرام في اإلسالم" ،إلى إفراد المقاصد بالتأليف مؤخ اًر في كتابه "دراسة في مقاصد
الشريعة" ،وكتابه عن "أصول العمل الخيري في اإلسالم" ،وكتابه عن "مقاصد الشريعة
التطور في المراحل التالية (على ما بها من
ّ المتعلقة بالمال" ،وغير ذلك .ويمكن تحليل هذا
تداخل طبيعي وتشابك في المصطلحات).
أولا :دراسة الحكم واألسرار التي تترتب على تطبيق األحكام الشرعية:
يظهر هذا االتجاه بوضوح في كتابه األول "الحالل والحرام" ويتطور ويستمر في سائر
مؤلفاته ،وفيه يشرح الشيخ اآلثار الطيبة لتطبيق األحكام الشرعية من توثيق للعالقات
االجتماعية ،وتحسين لمستوى معيشة الفرد ،ورفع الضرر عن بعض طوائف المجتمع،
ومحافظة على البيئة ،ونشر لقيم األخالق والسالم ،وغيرها من المقاصد بمعنى ِ
الح َكم والمنافع
في الدين والدنيا واآلخرة .وأضرب مثالً واحداً على ذلك .كتب تحت عنوان "الحكمة في تحريم
التماثيل" يقول:
"(أ) ومن أسرار هذا التحريم وليس هو العلة الوحيدة .كما يظن بعض الناس حماية
التوحيد ،والبعد عن مشابهة الوثنيين في تصاويرهم وأوثانهم التي يصنعونها بأيديهم ،ثم
يقدسونها ويقفون أمامها خاشعين...
(ب) ومن أسرار التحريم بالنسبة للصائغ [المثّال] أن ذلك المصور أو المثّال الذي
ينحت تمثاالً ،يملؤه الغرور ،حتى لكأنما أنشأ خلقاً من عدم ،أو بدع كائناً حيا من
تراب...
فيصورون النساء
إن الذين ينطلقون في هذا الفن إلى مداه ال يقفون عند حدُ ،
(ج) ثم ّ
ويصورون مظاهر الوثنية وشعائر األديان األخرى ،كالوثن،
عاريات أو شبه عارياتُ ،
وغير ذلك مما ال يجوز أن يقبله المسلم.
31
(د) وفضالً عن ذلك ،فقد كانت التماثيل –وال تزال -من مظاهر أرباب الترف والتنعم،
يملئون بها قصورهم ،ويزينون بها حجراتهم ،ويتفننون في صنعها من معادن
28
مختلفة ."...
ثم الحظت في "فقه الزكاة" (ولع ّل السبب هو أن تلك الدراسة دراسة علمية قدمت لنيل درجة
الدكتو اره وليست كتاباً للعامة) – الحظت أن المقاصد بدأت تأخذ شكالً أصولياً وتلعب دو اًر
لحكم (وليس بعده كما كان الحال في الحكم ملموساً في االجتهاد عند الشيخ قبل تقريره ل ُ
فالحظت أن الشيخ يدخل هذه ِ
الح َكم ال في التعليل (فالشيخ يرى أن العلة البد أن ُ واألسرار).
تكون منضبطة وبالتالي ال يرى التعليل بالحكمة ،كما يظهر لي) ،ولكن في مناسبة القياس –
أي المصلحة التي ينبغي لهذه العلة المنضبطة أن تحققها في دنيا الناس .وباإلضافة إلى
مناسبة القياس ،وجدت أن الشيخ ينظر دائما إلى مآالت األفعال ،أي النتائج العملية التي
تترتب على الحكم ،ومدى مالءمتها لمقاصد الشارع أو مناقضتها لها .وسيأتي من ذلك أمثلة
عديدة في الفصول الالحقة ،إال أنني أيضاً أضرب مثاالً واحداً "من فقه الزكاة" .كتب الشيخ
يقول:
"فجاءت هذه الزكاة [زكاة الفطر] في ختام الشهر ،بمثابة غسل أو (حمام) يتطهر به
من أوضار ما شاب نفسه ،أو كدر صومه ،وتجبر ما فيه من قصور ،فإن الحسنات
يذهبن السيئات ...وأما األمر الثاني :فيتعلق بالمجتمع واشاعة المحبة والمسرة في
جميع أنحائه وخاصة المساكين وأهل الحاجة فيه .فالعيد يوم فرح وسرور عام ،فينبغي
تعميم السرور على أبناء المجتمع المسلم .ولن يفرح المسكين ويسر إذا رأى الموسرين
والقادرين يأكلون ما لذ وطاب وهو ال يجد قوت يومه في يوم عيد المسلمين .فاقتضت
حكمة الشارع أن يفرض له في هذا اليوم ما يغنيه عن الحاجة وذل السؤال .ويشعره
بأن المجتمع لم يهمل أمره ،ولم ينسه في أيام سروره وبهجته ،ولهذا ورد الحديث:
32
(أغنوهم في هذا اليوم) .وكان من حكمة الشارع أيضاً :تقليل مقدار الواجب –كما
سيأتي -واخراجه مما يسهل على الناس من غالب قوتهم ،حتى يشترك أكبر عدد
ممكن من األمة في هذه المساهمة الكريمة ،وهذا اإلسعاف العاجل في هذه المناسبة
27
المباركة".
وقد علق الشيخ القرضاوي في (فقه الزكاة) أيضاً على قصة يعلى بن أمية 24بقوله:
قصة عمر مع يعلى بن أمية لها في نظري أهمية بالغة في باب الزكاة .فقد دل
تصرف عمر رضي اهلل عنه على أن للقياس فيها مدخال ولالجتهاد مسرحا ،وأن أَخ َذ
النبي الزكاة من بعض األموال ال يمنع َمن َبع َدهُ أن يأخذوها من غيرها مما ماثلها،
يكون وعاء للزكاة ،وأن المقادير فيما ال نص فيه نام يجب أن مال خطيٍر ٍ
وأن أي ٍ
َ
تخضع لالجتهاد أيضا .هذا وقد أجاب الجمهور عن هذه القصة بأن ذلك اجتهاد من
0القرضاوي ،يوسف .فقه الزكاة :دراسة مقارنة رأحكامها وفلسفتها يف ضوء القرآن والسنة (أصله رسالة دكتوراه يف جامعة ارأزهر كلية الشريعة) .القاهرة:
مؤسسة الرسالة ،الطبعة اخلامسة عشر 898 ،م ،ص80 -800
يم اخليل مث يدفع صدقتها إىل عمر .وروى عبد الرزاق عن ِ
أخرج الدارقطين عن ُج َويْريَة عن مالك عن الزهري أن السائب بن يزيد أخربه قال :رأيت أيب يُ َق ُ
ابن جريج أخربين عمرو بن دينار أن جبري بن يعلى أخربه أنه مسع يعلى بن أمية يقول :ابتاع عبد الرمحن بن أمية أخو يعلى بن أمية من رجل من أهل اليمن
فرسا أنثى مبائة قلوص ،فندم البائع ،فلحق عمر فقال :غصبين يعلى وأخوه فرسا يل .فكتب إىل يعلى أن احلق يب ،فأتاه فأخربه اخلرب ،فقال :إن اخليل لتبلغ
هذا عندكم! ما علمت أن فرسا يبلغ هذا ،فنأخذ عن كل أربعني راة وال نأخذ من اخليل ريئا ،خذ من كل فرس دينارا .فقرر على اخليل دينارا دينارا .وروى
يصدق اخليل ،وأن السائب بن يزيد أخربه أن كان يأيت عمر بن اخلطاب أيضا عن ابن جريج :أخربين ابن أيب حسني أن ابن رهاب أخربه أن عثمان كان ْ
بصدقة اخليل .قال ابن رهاب :ال أعلم أن رسول اهلل َسن صدقةَ اخليل.
نفس املصدر ،ج ،ص 2وص.008
33
الراكدة ،وبين الذين أهملوا النصوص والثوابت باسم المصالح والمقاصد وباسم التحرر من
الركود والتخلف .فوظّف الشيخ المقاصد الشرعية في تعريف خصائص المدرسة الوسطية التي
يدعو إليها ،والحديث المفصل عن هذا يأتي الحقاً.
ثم إن الفقه والفتوى واالجتهاد في الفروع ومراعاة المقاصد ،كل ذلك أدى مع مرور الزمن إلى
ود ّرسها .وهذا تطور طبيعي من التلقي
أن يراجع الشيخ بعض نظريات المقاصد التي َد َرسها َ
إلى النقد ،ومن الفقه إلى األصول ،ومن الفروع إلى القواعد ،ومن التطبيق إلى النظرية .فبدأ
الشيخ يعرض لنظريات األصول ويتبعها بتعليقات ينتقد فيها دعاوى اإلجماع مثالً ودعاوى
النسخ وغيرها من الدعاوى ،وينتقد بعض مصطلحات المقاصد لميلها إلى جانب الفرد دون
األسرة والمجتمع ،وتهميشها لبعض المفاهيم االجتماعية األساسية .فمثالً ،كتب يقول:
"إن تقسيم المصالح التي جاءت الشريعة لتحقيقها إلى المراتب الثالث :الضرورية
والحاجية والتحسينية ،لم يرد به نص وال إجماع ،ولكن أوجبه استقراء أحكام الشريعة
في أبواب الفقه المختلفة ...قد يفهم من كالم األصوليين حول المقاصد والمصالح:
أن انتباههم موجه بصورة أكبر إلى اإلنسان الفرد ،ولم يلتفت بقدر كاف إلى المجتمع
واألمة ...ومهما يكن لهم من عذر ،فالبد أن نؤكد أن شريعة اإلسالم تهتم بالمجتمع،
كما تهتم بالفرد .وهي تقيم توازناً بين النزعة الفردية والنزعة الجماعية في غير طغيان
وال إخسار ...ومن المؤكد أن الشريعة اإلسالمية تقيم اعتبا اًر أي اعتبار للقيم
االجتماعية العليا ،وتعتبرها من مقاصدها األساسية ،كما دلت على ذلك النصوص
المتواترة ،واألحكام المتكاثرة .من هذه القيم -8 :العدل والقسط -7 .واإلخاء-4 .
25
والتكافل -2 .والحرية -5 .والكرامة".
8
القرضاوي ،يوسف .مدخل ملعرفة اإلسالم .مكتبة وهبة022 .م .ص2- 8
34
كان آخر مراحل التطور في التأليف والنظر المقاصدي عند الشيخ الجليل هو أنه بدأ يفرد
قدمه للندوة التأسيسية لمركز دراسات مقاصد الشريعة
المقاصد تحديداً بالتأليف .فكتب بحثاً ّ
اإلسالمية ،التي عقدتها مؤسسة الفرقان للتراث اإلسالمي في لندن عام 7005م ،وطُبع الحقاً
ضمن كتاب أصدره المركز تحت عنوان "مقاصد الشريعة اإلسالمية :دراسات في قضايا
المنهج ومجاالت التطبيق" .ثم و ّس ّّع الشيخ هذا البحث ونشره كتاباً مستقالً تحت عنوان:
"بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية :دراسة في فقه مقاصد الشريعة" .وهو الكتاب الذي
فصل فيه نظريته في المقاصد وعالقتها بالمدرسة الوسطية والفكر الوسطي.
ّ
35
المبحث الرابع:
هؤلء كتبوا عن الشيخ والمقاصد
كتب الكثيرون عن فقه الشيخ وفكر الشيخ حفظه اهلل .والحظ كل منصف ممن كتب عن
الشيخ أثر علم مقاصد الشريعة على منهجه الفكري والفقهي .وأنقل هنا بعضاً من ذلك يدل
على ما وراءه من كتابات.
كتب الشيخ عبد الفتاح أبو غدة -رحمه اهلل -عن الشيخ القرضاوي يقول:
"َ ...يخلُف بسماحة ُخلُِقه السالفين ،ويتبع في علمه وسيرته األئمة المعتبرين ،يدافع
عن الدين بلسانه وبنانه ،ويرشد المسترشدين المؤمنين إلى المنهج الحق وسلطانه،
وي ُرد على التائهين عن الحق والزائغين ،بما أتاه اهلل من علم وحكمة ،وفقه وبصر
َ
21
بالشريعة ومقاصدها ."...
وكتب الشيخ الدكتور عبد اهلل بن بيه عن "الجدلية بين النصوص والمقاصد" في منهج الشيخ
القرضاوي الفقهي ،فقال:
" يميل إلى التيسير في فتاويه الفروعية ،لكنه يتصف بالقوة التي تدنو من الشدة في
القضايا األساسية والثوابت ،يزاوج بين النصوص والمقاصد ،في جدلية ال يهتدي في
مجالها وال يقف على معادلتها إال الراسخون في العلم الذين وصفهم الشيخ يوسف
وكأنه يصف نفسه عندما يقول في كتابه( :المرجعية العليا للقرآن والسنة)( ... :ومهمة
الراسخين في العلم أن يبحثوا عن مقاصد الشريعة من خالل النصوص بعد أن يتجولوا
في آفاقها ويغوصوا في أعماقها ويربطوا جزئياتها بكلياتها ويردوا فروعها إلى أصولها
ويشدوا أحكامها بعضها ببعض بحيث تتسق وتنتظم الحبات في عقدها ،مع اليقين بأن
تسوي بين مختلفين -ص .)740إنه
الشريعة الغراء ال تفرق بين متماثلين كما ال ّ
22
أفضل وصف يمكن أن يقدم في وصف مترجمنا".
2أبو غدة ،عبد الفتا .فقيهنا ومرردنا .يوسف القرضاوي :كلمات يف تكرميه .دار السالم .القاهرة022 .م .ص
ابن بيّه ،عبد اهلل .إمام من أئمة املسلمني .يوسف القرضاوي :كلمات يف تكرميه .دار السالم .القاهرة022 .م .ص 99-9
36
أما الشيخ الدكتور عبد العظيم الديب رحمه اهلل ،فيربط بين موقف الشيخ القرضاوي الوسطي
من هذه الجدلية المذكورة وتتبع الشيخ لهدي الصحابة رضي اهلل عنهم .فكتب يقول:
"يؤكد القرضاوي ضرورة معرفة المقاصد لدارس الشريعة ،يؤكد هذا دائماً ،ويدعو إليه،
ويذكر في كثير من أحاديثه ،عبارة ابن القيم (إن الشريعة مبناها وأساسها على ِ
الح َكم
ومصالح العباد) حتى إذا قلت :إن كثي اًر من الذين يرددونها اآلن ،ويستشهدون بها ،ما
كان من الممكن أن يعرفوها وال أن يصلوا إلى مصدرها ،لوال أنهم أخذوها عن
القرضاوي؛ إذا قلت ذلك ،لم أكن مبالغاً ...ومع أهمية المقاصد والمعاني و ِ
الح َكم التي
تبنى عليها الشريعة ،فإن القرضاوي يقف موقفاً عدالً وسطاً؛ ُّ
فيرد قول هؤالء الذين
تدق على أفهامهم ومداركهم ِح َكم الشريعة ومقاصدها ،فيردون بعض األحكام زاعمين
أنها ال مصلحة فيها ،وأنها أدخلت في الشريعة بتأويل ،وما ذاك إال لقصور فهمهم،
وعجز بصيرتهم عن اإلحاطة الشاملة المستوعبة ألحكام الشريعة؛ التي تجمع بين
المتفرقات والجزئيات ،وتدرك الكليات ومناظم األحكام ...والقرضاوي في هذا يتبع
هدي صحابة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ورضي عنهم ،فقد رأيناهم أول من وازن
بين المقاصد الكلية للشريعة والنصوص الجزئية ،وما موقف عمر بن الخطاب وعدم
قسمته أرض السواد ،وقضاء عثمان رضي اهلل عنه بالتقاط ضوال اإلبل مع وجود
نص بعد التقاطها ،وتضمين علي للصناع ،إال من الباب .وعلى هذا الهدي كان فقهاء
التابعين ،وكبار علماء األمة ،واألئمة أصحاب المذاهب المتبوعة .رضي اهلل عن
21
الجميع".
وكتب الشيخ مصطفى الزرقا رحمه اهلل عن ضرورة "فقه األولويات" الذي تميز به الشيخ
القرضاوي ،فقال:
"وقد تميز القرضاوي -بارك اهلل فيه -بإدراكه العميق لفقه الواقع االجتماعي
واالقتصادي والسياسي ،أو كما قال هو في بعض كتبه القيمة (فقه األولويات) الذي به
يستطيع العالم القائم بمهمة التوجيه واإلفتاء أن يميز بين أصول اإلسالم وفروعه،
9
9- الديب ،عبد العظيم .يوسف القرضاوي :كلمات يف تكرميه .دار السالم .القاهرة022 .م .ص
37
وبين الكلي والجزئي ،واألهم والمهم .والواقع أن فقه األولويات هذا الذي أصبح من
الضروريات التي تدعو إليها وتلح عليها دواعي العصر ومشكالته ،ينبغي أن يضاف
29
إلى تلك األسس الثالثة [العقيدة والفقه والفكر] ،فتصير به أربعة."...
العوا عن نفس ذلك "اإلدراك" المتميز عند الشيخ ،فقال:
وكتب األستاذ الدكتور محمد سليم ّ
"وقال [الشيخ القرضاوي في كتابه "كيف نتعامل مع السنة"]( :وهذا يحتاج إلى فقه
عميق ،ونظر دقيق ،ودراسة مستوعبة للنصوص ،وادراك بصير لمقاصد الشريعة،
وحقيقة الدين ،مع شجاعة أدبية ،وقوة نفسية للصدع بالحق ،وان خالف ما ألفه الناس
وتوارثوه ،وليس هذا بالشي الهين) .والناظر في كتاب :كيف نتعامل مع السنة ،يشهد
50
للشيخ القرضاوي -إذا أنصف ولم يتعسف -بالحظ الوافر من ذلك كله."...
وكتب الشيخ الدكتور عصام البشير عن مصطلحات "الفقه الجديد" التي كان الشيخ القرضاوي
"ابن بجدتها" ،على حد تعبيره ،فقال:
"وقد عمل الشيخ على إحياء أنماط من الفكر والفقه اشتدت لها الحاجة المعاصرة،
وألف في ذلك كتباً ،ككتابه (فقه األولويات في ضوء الكتاب والسنة) وله في ذلك أيضاً
تعابير وآراء ومصطلحات هو ابن بجدتها علماً وفقهاً مثل (فقه الموازنات) و(فقه
58
المقاصد) و(فقه السنن) و(فقه السلوك الحضاري)"...
أما الشيخ الدكتور طه جابر العلواني ،فعبر عن رغبته في أن يتناول هذا "الفقه الجديد"
بأنواعه ،ومنه "فقه المقاصد" ،ويتتبع اجتهادات الشيخ القرضاوي عموماً ،بالدراسة العلمية
الجادة .فكتب يقول:
" ..وقد كنت أعتزم أن البحث عن طالب ذكي وباحث كفء أكل إليه مهمة تتبع
اجتهادات أبي محمد يوسف القرضاوي ،وفتواه وفقهه الجديد في كثير من المشكالت
علمي مناسب
ّ المعاصرة ألشرف عليه ونخرج معاً ذلك الفقه وتلك االجتهادات بشكل
8الزرقا ،مصطفى .حجة العصر وهو من نعم اهلل على املسلمني .يوسف القرضاوي :كلمات يف تكرميه .دار السالم .القاهرة022 .م .ص
82
السنة النبوية .يوسف القرضاوي :كلمات يف تكرميه .دار السالم .القاهرة022 .م .ص
العوا ،حممد سليم .جهود الدكتور يوسف القرضاوي يف خدمة ُ
8البشري ،عصام.عالمة العصر ،وفقيه ارأمة ...رحلة قاصدة وجهاد نبيل .يوسف القرضاوي :كلمات يف تكرميه .دار السالم .القاهرة022 .م .ص8 8
38
يفتح الطريق لمعاصريه ولمن يأتي بعده للبناء على هذه االجتهادات والنسج على
57
منوال أبي محمد فيها."...
وخص األستاذ الدكتور محمد عمارة "فقه المقاصد" بحديث حين كتب عن الشيخ القرضاوي،
فقال:
"يدعو الدكتور يوسف القرضاوي إلى فهم األحاديث في ضوء أسباب ورودها
ومالبسات قولها أو فعلها أو إقرارها ...وكذلك في ضوء مقاصدها ...كما يدعو إلى
التميز في فهم السنة والتعامل معها ،بين المقاصد واألهداف الثابتة ،وبين الوسائل
المتغيرة ،من مثل مقاصد (التداوي والتعافي واالستشفاء) ووسائل (األدوية) التي ورد
ذكرها فيما يسمى بالطب النبوي ،مثالً ..ومن مثل مقصد (رؤية الهالل) و(وسائل هذه
الرؤية) ..فالمقاصد ثوابت ..بينما الوسائل متغيرات[ ...فـ]اتسع مفهوم (الفقه) وميدانه،
في مشروع الدكتور يوسف القرضاوي ،ليشمل فقه هذه الميادين ...ولقد أكد على هذه
الحقيقة عندما كتب فقال ( :إننا أحوج ما نكون إلى أنواع من الفقه ،ينبغي التركيز
عليها ،وهي :أوالً :فقه المقاصد :الذي ال يقف عند جزئيات الشريعة ومفرداتها وحدها،
بل ينفذ إلى كلياتها وأهدافها في كل جوانب الحياة ،واستكمال الشوط الذي قام به
اإلمام الشاطبي في موافقاته ،وابراز العناية بالمقاصد االجتماعية خاصة) ...فالفقه
في هذا المشروع الفكري ،ليس الفقه التقليدي ،واالجتهاد فيه واإلحياء له ال يقف به
عند إطاره الذي تعارف عليه القدماء ،وانما هو إحياء فكري لمختلف الميادين التي
54
يجب أن يفقهها فقهاء اإلسالم ."...
وكتب األستاذ الدكتور أحمد الريسوني عن النظر المقاصدي عند الشيخ تحت عنوان
"القرضاوي فقيه المقاصد" ،فقال:
"هو فقيه المقاصد بمعنى أنه خبير متبصر بمقاصد الشريعة كلياتها وجزئياتها
مستوعب فاحص لما كتب فيها ،كما أنه صاحب نظرات ولمحات في قضاياها
العلمية .وهو فقيه المقاصد باعتباره من أكثر الفقهاء تعليالً وتقصيداً لألحكام الشرعية
80العلواين ،طه .فقيه الدعاة وداعية الفقهاء .يوسف القرضاوي :كلمات يف تكرميه .دار السالم .القاهرة022 .م .ص
8عمارة ،حممد .الدكتور يوسف القرضاوي ..املدرسة الفكرية ..واملشروع الفكري .يوسف القرضاوي :كلمات يف تكرميه .دار السالم .القاهرة022 .م.
ص 9 8-9
39
في جميع المجاالت ،وله في ذلك منهج ثابت ال يفتأ يقوله ويكرره ويدعو إليه ...وال
أبالغ أيضاً إذا قلت :إن الميزة األولى واألساسية لفقه القرضاوي هي رعاية المقاصد،
وهيمنة الطابع المقاصدي عليه؛ فإذا كان القرضاوي من فقهاء اليسر والتيسير ،فألن
التيسير ورفع الحرج مقصد كبير من مقاصد الشريعة .واذا كان من دعاة ربط
الجزئيات بالكليات ،فإن جماع الكليات مرجعه إلى المقاصد العامة للشريعة .واذا كان
القرضاوي حريصاً على اعتبار المآالت ورعاية األولويات واتباع فقه الموازنات ،فإن
ذلك كله إنما هو تعبير عن النظر المقاصدي واعمال للسلم المقاصدي بما فيه من
52
ضروريات وحاجيات وتحسينيات ومكمالت."...
وكتب الشيخ األستاذ عصام العطار عن الشيخ القرضاوي ،مرك اًز أيضاً على فقه المقاصد
والموازنات واألولويات ،وعالقتها بشمول المجاالت التي يتعامل معها الشيخ ،فقال:
ويفرق بين
"فقيهاً كبي اًر مبدعاً ،يرى الكليات مع الجزئيات ،والمقاصد مع الوقائعّ ،
الثابت والمتغير في األحكام والحياة والمجتمعات ،ويتقن فقه الموازنات ،وفقه
األولويات ،ويستطيع مساعدة المسلمين وارشادهم فيما يواجههم ويستجد في حياتهم من
شؤون وظروف وأوضاع ،ويملك أن يقدم إليهم حلوالً إستراتيجية مستقبلية بعيدة وحلوالً
55
اقعية وقتية ،أو موضوعية قريبة ،بمقياس اإلسالم ومبادئه ومقاصده وقواعده".
و ّ
وعن شمول وتنوع مجاالت البحث عند الشيخ القرضاوي ،كتب الشيخ محمد الغزالي رحمه اهلل
–عام 8991م -يقول عن الشيخ القرضاوي:
" وقد بدأت المشابه تتضح بينه وبين شيوخ اإلسالم الكبار ،فهو يبحث في الفقه
واألصول ،والسنة رواية ودراية ،والعقيدة واألخالق ،والسيرة والفلسفة ،وما يسميه
شيوخنا :المعقول والمنقول ...وما أحسب منصفاً من السلف أو الخلف إال رضي
51
النفس بما كتب ،مستبش اًر بغد أنضر للفكر اإلسالمي الذي حمل لواءه ."...
أما األستاذ محمد الطاهرالميساوي ،فقد أعجبه ربط الشيخ القرضاوي لمفهوم الوسطية فكرياً
ومنهجياً بالمقاصد .كتب يقول:
0- 8الريسوين ،أمحد .يوسف القرضاوي فقيه املقاصد .يوسف القرضاوي :كلمات يف تكرميه .دار السالم .القاهرة022 .م .ص
88العطار ،عصام .يوسف القرضاوي وكفى!! .يوسف القرضاوي :كلمات يف تكرميه .دار السالم .القاهرة022 .م .ص
82الغزايل ،حممد .سبق سبقاً بعيداً .يوسف القرضاوي :كلمات يف تكرميه .دار السالم .القاهرة022 .م .ص- 0
40
"أستاذنا العالمة الشيخ يوسف القرضاوي أحسن أيما إحسان بربط مفهوم الوسطية في
اإلسالم فكرياً ومنهجياً بالمقاصد التي تعتبر في الواقع احد النواظم الكلية لتعاليم
الشريعة اإلسالمية بوصفها انعكاساً للمفاهيم األساسية والقيم الخالدة التي جاء بها
52
اإلسالم لتحقيق صالح اإلنسان والكون وفق ميزان عدل ال يحيد وال يميد".
أما أستاذنا الدكتور أحمد العسال رحمه اهلل – وقد كان رفيق درب الشيخ القرضاوي -فقد
جعل فقه المقاصد عند الشيخ أحد مجاالت "فقه الدعوة" ،الذي هو "فريضة المرحلة" ،حسب
تعبيره .فكتب يقول:
"رأينا كيف انتقل [الشيخ القرضاوي] بالحركة والدعوة نقلة كبيرة حينما فتح اهلل عليه
بإحياء فقه الدعوة في مجاالته الستة :المقاصد -والسنن -والموازنات -واألولويات-
والمصالح والمفاسد -واالختالف .إن الفكر في هذه الجوانب هو فريضة المرحلة ،بل
الفريضة العينية لكل الدعاة والعاملين ،ويجب أن يجد طريقه إلى كل قلب وعقل يحب
اإلسالم ونهضته ،وأن يقرر في أقسام الدعوة ،وفي كليات الشريعة ،وأن تكون له
51
ندوات ولقاءات ..وأن تكتب في محاوره بحوث ورسائل."...
نوه بمحافظة الشيخ القرضاوي على معالم الشرعوأما الشيخ علي الدكتور القرة داغي ،فقد ّ
والمقدرات الثابتة فيه ،ورعاية المقاصد في االجتهاد فيما سوى ذلك .فكتب يقول:
"رد [الشيخ] على بعض الكتاب الذين حاولوا إخضاع مقادير الزكاة ،وأنصبتها للتغيير
وبين خطورة منهجهم والتحوير تحت عنوان رعاية المقاصد والمصالحَّ ،
وفند مزاعمهم ّ
حيث يؤدي إلى محو معالم الزكاة الشرعية ،وتحويلها إلى ضريبة مدنية بحتة
كالضرائب التي تفرضها الحكومات .وفيما سوى المقادير واألنصبة أخذ برعاية
المقاصد والمصالح حسب الضوابط األصولية ،وتظهر ذلك في معظم ترجيحات الشيخ
حيث بناها على المقاصد ورعاية المصالح إضافة إلى األدلة األخرى إن وجدت.
رجح جواز دفع القيمة بدل العين في الزكاة ،كما رجح جواز نقلها
وعلى هذا األساس ّ
العتبارات مهمة ،باعتبار أن المسلمين أمة واحدة .ويظهر من الكتاب بوضوح أن
الشيخ القرضاوي من فقهاء المقاصد منذ بداية انشغاله بالفقه ،ثم ترعرع هذا المنهج
41
معه حتى نستطيع القول بأن جميع كتبه الفقهية وحتى الدعوية سارت على نفس
59
الخط".
وكتب األخ الشيخ عصام تليمة عن "خصائص فقه القرضاوي" يقول:
"ومن خصائص فقه القرضاوي :فهم النصوص في ضوء مقاصد الشريعة ،فإن آفة
كثير من المشتغلين بالفقه –في اآلونة األخيرة -عدم اهتمامهم بدراسة مقاصد
الشريعة ،على الرغم من أن اإلمام الشاطبي رحمه اهلل جعل من شروط االجتهاد:
التعمق في دراسة المقاصد الشرعية ...وانطالقاً من أقوال األصوليين ينطلق الشيخ
يعد أشهر فقيه معاصر يتحدث عن القرضاوي فينبه ويدعو لدراسة المقاصد ،بل ُ
المقاصد ويدعو إليها ،ويكتب عنها بإسهاب في عدد من كتبه ،ويذكر كذلك اآلفات
المترتبة على عدم فهم مقاصد الشريعة ...ويتفرع عن خصيصة فهم النصوص
الشرعية في ضوء مقاصدها خصيصة مهمة وهي :إسقاط الكليات على الجزئيات.
وتلك مزية نلحظها في فتاوى الشيخ ،إذ يتناول القضايا الجزئية في ضوء كليات
10
الشرع ،ولذا تعتبر هذه الخصيصة مقياساً لبيان الفقيه الثبت من غيره."...
أما األخت الدكتورة هبة رءوف ،فقد الحظت أثر المنهج المقاصدي الذي انتهجه الشيخ
القرضاوي على موقفه الوسطي من الم أرة ،فكتبت تقول:
"وعبر أدوار المرأة كإنسانة وأم وزوجة وابنة وأنثى ،ثم كعضو فاعل في المجتمع
المسلم تتكامل شخصية المرأة المسلمة كما صاغت أبعادها اآليات القرآنية واألحاديث
النبوية وجسدتها نساء الرسول والصحابيات .واذا كان الشيخ قد أفاض في شرح تلك
األدلة ،فإنه في الوقت ذاته وبعقلية األصولي الرصينة قد وضع لهذه الصورة إطا اًر من
الفهم المقاصدي للشرع مؤكداً على دور المرأة داخل األسرة باعتبارها الوحدة
معطياً لها مركز الثقل في تقرير شروط
ّ االجتماعية األولى في بنية األمة المسلمة،
وحدود مشاركة المرأة في العمل العام أو الوظيفي ،وواضعاً إياها في سلم األولويات
ومحور الحركة ،ملتمساً في ذلك طريقاً وسطاً بين فريق يريد أن يحجر على المرأة
88القرة داغي ،علي .فقه القرضاوي يف الزكاة .يوسف القرضاوي :كلمات يف تكرميه .دار السالم .القاهرة022 .م .ص222
22تليمه ،عصام .خصائص املشروع الفقهي للشيخ .يوسف القرضاوي :كلمات يف تكرميه .دار السالم .القاهرة022 .م .ص822
42
ويحجم حركتها ،وآخر يستهدي بالغرب فيريدها أن تسلك سبيل المرأة الغربية دون
18
تقدير للعواقب والمآالت".
17
وكتبت -فيما سبق -تعليقاُ على منهج الشيخ القرضاوي في تناول الفقه ،والذي ظهر جلياً
ُ
حين ناقش اجتهاد عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه في مسألة وعاء الزكاة ،وقد ذكرناها آنفاً،
كتبت أقول أن منهج الشيخ -حفظه اهلل -في ذلك االجتهاد هو األقرب من منهج الصحابة
المجتهدين رضي اهلل عنهم في النظر إلى مقاصد األحكام الشرعية.
المتوسع في هذه المسألة بإيجابه للزكاة
َ مذهب أبي حنيفةَ
َ أيد
" ...ولكن الشيخ القرضاوي َ
ص ُد بزراعته النماء ،بل عمم القرضاوي ذلك الحكم بأن
في كل ما أخرجت األرض مما ُيق َ
ٍ ٍ
جعل كل مال نام وعاء للزكاة ،وكتب معلالً لذلك( :إن الزكاة إنما ُش ِرَعت َ
لسد حاجة
الفقراء والمساكين والغارمين وابن السبيل ،وإلقامة المصالح العامة للمسلمين كالجهاد في
إلقاء
ص َد َ سبيل اهلل وتأليف القلوب على اإلسالم ...ومن المستبعد أن يكون الشارع قد َق َ
ق من هذا العبء على َمن َيملك خمساً من اإلبل أو أربعين من الغنم أو خمسةَ أَو ُس ٍ
أضخم العمارات ،أوَ أعظم المصانع و
َ الشعير ثم يعفي كبار الرأسماليين الذين يملكون
األطباء والمحامين وكبار الموظفين ورجال المهن الحرة ،الذين يكسبون في اليوم الواحد
ومنهج
ُ ما يكسبه صاحب الخمسة من اإلبل أو الخمسة من أَو ُس ٍ
ق الشعير في سنوات).
الشيخ القرضاوي في هذه المسألة -فيما يبدو لنا -أقرب ما يكون من منهج عمر
والصحابة المجتهدين رضي اهلل عنهم في النظر إلى مقاصد األحكام الشرعية وأهدافها
عند تغير الزمان واألحوال".
2رؤوف ،هبة .املرأة وتيار الوسطية اإلسالمية .يوسف القرضاوي :كلمات يف تكرميه .دار السالم .القاهرة022 .م .ص 80
20عودة ،جاسر .فقه املقاصد .املعهد العاملي للفكر اإلسالمي .الطبعة الثالثة0229 ،م .ص0
43
الفصل الثاني
44
المبحث األول:
تعريفات المقاصد عند الشيخ
أما المقاصد بمعنى األهداف والغايات فهي عند الشيخ "جلب مصالح أو دفع مفاسد" .وتعريف
15
المقاصد على أنها مصالح ليس جديداً .فإننا لو رجعنا إلى تاريخ مصطلح المقاصد نفسه،
لوجدنا اإلمام الجويني -أحد المؤسسين األوائل لهذا العلم -يعبر عن مقاصد الشريعة أحياناً
بلفظ المصالح العامة .وأما أبوحامد الغزالي فقد اعتبر المقاصد كلها بضرو ارتها وحاجياتها
2كلمة الشيخ القرضاوي يف افتتا الندوة التأسيسية ملركز مقاصد الشريعة اإلسالمية .لندن مارس 0228م
2القرضاوي .السياسة الشرعية يف ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها .ص92
28عودة .فقه املقاصد .ص - 2
45
وتحسينياتها ضمن المصالح المرسلة .وعرف الطوفي المصلحة بقوله :وهي السبب المؤدي إلى
مقصود الشارع عبادة ال عادة .وكذا الق ارفي في قوله :قاعدة :ال َيعتَبِ ُر الشرعُ من المقاصد إال ما
شيخ
تعلق به غرض صحيحُ ،محصل لمصلحة ،أو دارئ لمفسدة .وقال التاج السبكي :أرجع ُ
اإلسالم عز الدين بن عبد السالم الفقهَ كله إلى اعتبار المصالح ودرء المفاسد؛ ولو ضايقه
ُمضايق لقال :أرجع الكل إلى اعتبار المصالح ،فإن درَء المفاسد من جملتها.
وتعريف الشيخ القرضاوي للمقاصد بشكل مجرد ال يخرج عن "المصالح" بمعناها العام .فقد
كتب يقول:
"ومما ال ريب فيه ألي دارس أن الشريعة اإلسالمية أقامت أحكامها على رعاية
11
مصالح المكلفين ،ودرء المفاسد عنهم ،وتحقيق أقصى الخير لهم".
ولكن الشيخ يؤكد على أن هذه المصلحة هي المصلحة الشاملة التي توازن بين كل المصالح
الجزئية ،وال تميل إلى فئة أو معنى على حساب الفئات والمعاني المقابلة ،وأن هذا التوازن
الدقيق ال يقدر على تحقيقه إال اهلل تعالى ،فقال:
" ...يتبين لنا شمول المصلحة التي قصدت الشريعة إلى إقامتها وحفظها .فهي ليست
المصلحة الدنيوية فحسب ،كما يدعو خصوم الدين ،وال المصلحة المادية فقط ،كما
يريد أعداء الروحية ،وال المصلحة الفردية وحدها ،كما ينادي عشاق الوجودية وأنصار
الرأسمالية ،وال مصلحة الجماعة أو البلوريتاريا كما يدعو إلى ذلك أتباع الماركسية
والمذاهب الجماعية ،وال المصلحة اإلقليمية العنصرية كما ينادي بذلك دعاة العصبية،
وال المصلحة اآلنية للجيل الحاضر وحده ،كما تتصور بعض النظرات السطحية .إنما
المصلحة التي قامت عليها الشريعة في كلياتها جزئياتها ،وراعتها في عامة أحكامها،
وهي المصلحة التي تسع الدنيا واآلخرة ،وتشمل المادة والروح ،توازن بين الفرد
والمجتمع وبين الطبقة واألمة ،وبين المصلحة القومية الخاصة والمصلحة اإلنسانية
46
العامة ،وبين مصلحة الجيل الحاضر ومصلحة األجيال المستقبلة .والموازنة بالقسط
بين هذه المصالح المتقابلة المتضاربة في كثير من األحيان ال ينهض بها علم ،بشر،
وحكمة بشر ،وقدرة بشر ...ولهذا كانت رعاية المصالح كلها (فردية واجتماعية)
لإلنسان كله (جسمه وروحه وعقله) وللطبقات كلها (أغنياء وفقراء ،وحكاما
ومحكومين ،وعماال وأرباب عمل) ولإلنسانية كلها (بيضاً وسوداً ووطنيين وأجانب)
ولألجيال كلها (حاضرة ومستقبلة) ال يقدر عليها إال رب الناس ،ملك الناس ،إله
12
الناس".
أما عن تقسيم هذه المصلحة على التفصيل ،فالشيخ يتبنى تقسيمات متنوعةّ ،أولها ما كتبه أبو
حامد الغزالي في مستصفاه .فكتب الشيخ تحت عنوان "تقسيم المصلحة من حيث قوتها
(الضروريات والحاجات والتحسينات)" ،ناقالً كالم أبي حامد:
"إن المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها ،تنقسم إلى - :ما هي من رتبة الضروريات- .
والى ما هي في الحاجات - .والى ما يتعلق بالتحسينات والتزيينات ،وتتقاعد أيضاً
عن رتبة الحاجات .ويتعلق بأذيال كل قسم من األقسام ما يجري منها مجرى التكملة
والتتمة لها ...ونعني بالمصلحة :المحافظة على مقصود الشرع .ومقصود الشرع من
الخلق خمسة :وهو أن يحفظ عليهم :دينهم ،ونفسهم ،وعقلهم ،ونسلهم ،ومالهم .فكل ما
يتضمن حفظ هذه األصول الخمسة ،فهو مصلحة .وكل ما يفوت هذه األصول ،فهو
مفسدة ،ودفعها مصلحة .واذا أطلقنا المعنى المخيل والمناسب -في كتاب القياس-
11
أردنا به هذا الجنس".
47
وهنا يحذر الشيخ من الخلط في التعريف بين "مقاصد الخلق" و"مقاصد الشارع" ،وهي
المصلحة بمعناها الشرعي ،فقال:
"وكان العرب في الجاهلية يعتبرون من المصلحة المرعية :شرب الخمر ،ولعب
الميسر ،وأكل الربا ،والعصبية للقبلية في الحق والباطل ،وحرمان اإلناث والصغار من
الميراث ،وقتل األوالد من إمالق أو خشية اإلمالق ،واعتبار ميالد البنت كارثة قد
تنتهي بوأدها ،ووراثة الرجل امرأة أبيه من بعده ...إلى غير ذلك مما أبطله اإلسالم.
من أجل هذا حرص الغزالي رحمه اهلل على التفرقة في تعريف المصلحة بين مقاصد
الخلق ومقاصد الشارع .وقرر أن المحافظة على الثانية ،وان خالفت األولى ،وهي
19
المصلحة الشرعية".
والشيخ إذن يفرق بوضوح بين المصلحة بمعناها العرفي العقلي المحض ،والمصلحة بمعناها
الشرعي ،وهي التي عناها أبو حامد في تعريفه ،فقال:
"الغزالي ال يقصد بالمصلحة معناها العرفي ،وانما يقصد بها جلب نفع أو دفع ضرر
مقصود للشارع ،ال مطلق نفع أو ضرر .ومعنى هذا :أن الناس قد يعدون األمر منفعة
وهو في نظر الشارع مفسدة ،وبالعكس ،فليس هناك تالزم بين المصلحة والمفسدة في
عرف الناس ،وبينهما في عرف الشارع ،أو بعبارة أخرى ،فإن المصلحة في نظره هي
المحافظة على مقاصد الشارع ولو خالفت مقاصد الناس ،فإن األخيرة عند مخالفتها
لألولى ليست في الواقع مصالح ،بل أهواء وشهوات زينتها النفس ،وألبستها العادات
20
والتقاليد ثوب المصالح."...
48
"المصالح الضرورية هي متفاوتة فيما بينها .فتقدم المصلحة المتعلقة بحفظ الدين على
المصلحة المتعلقة بحفظ النفس 28،"...وهكذا.
الحظت أن هذا الترتيب ليس على إطالقه .فقد ثبت عن الرسول صلى اهلل عليه وسلم ُ ولكنني
أنَ " :من قُتِ َل ُدون مالِ ِه فَهُو َشهيد" 27،رغم أن حفظ النفس مقدم على حفظ المال في الترتيب
ض الترتيب حين لم ُيف ِت بإباحة الزنى تحت اإلك اره ،رغم أن النسل
المذكور .وأبو حامد نفسه ناقَ َ
متأخر عن النفس في ترتيبه المذكور.
ولعل هذا هو الذي أدى إلى عدم تصريح كثير من العلماء بنتائج فقهية تُب َنى على ترتيب
24
الضرورات الشرعية بشكل مطلق ،مثل الشاطبي والرازي والقرافي.
هذا من ناحية التقسيم من حيث "قوة المقاصد" ،حسب تعبير الشيخ .ولكن هناك تقسيم آخر
عند الشيخ من حيث "عموم المقاصد" إلى مقاصد عامة ومقاصد جزئية .كتب يقول:
"وهناك مقاصد جزئية لبعض األحكام ،ومقاصد كلية عامة ...فالعدل مقصد عام ...
وتحقيق الكفاية واألمن مقصد عام ...واشراك الناس فيما أفاء اهلل عليهم :مقصد
22
عام ."...
أما مقاصد األحكام المخصوصة فهي "مقاصد جزئية" ،كمقصد الزكاة مثالً .كتب الشيخ يقول:
"قال ابن الهمام :إن المقصود من شرعية الزكاة –مع المقصود األصلي من االبتالء-
هو مواساة الفقراء ،على وجه ال يصير هو فقي اًر ،بأن يعطي من فضل ماله قليالً من
كثير .واإليجاب في المال الذي ال نماء له أصالً ،يؤدي إلى خالف ذلك عند تكرر
السنين ،خصوصاً مع الحاجة إلى اإلنفاق .وبهذا يتحقق –مادياً -قول رسول اهلل صلى
نفسه .ص
0رواه ،عن عبد اهلل بن عمر وسعيد بن زيد ،البخاري وأمحد وأبو داود والرتمذي والنسائي وابن حبان والبيهقي واحلاكم .راجع مثالً :صحيح البخاري .ج
2ص 877باب من قاتل دون ماله.
راجع :املوافقات ج ص ،احملصول ج 0ص ،2 0رر تنقيح الفصول ص . 8
القرضاوي .السنة مصدراً للمعرفة واحلضارة .ص 0
49
اهلل عليه وسلم( ،ما نقص مال من صدقة) فإن ذلك الجزء القليل الواجب من مال
25
كثير نام مغل ال ينقصه أبداً ،وفقاً لسنة اهلل تعالى".
وبالتالي ،فالمقاصد الجزئية هي الحكم وراء التشريع أو األسرار والمعاني التي يستنبطها
المجتهد من حكم ما .وسأفرد لهذا النوع في فقه الشيخ مبحثاً خاصاً في الفصل الاربع من هذا
البحث.
وأما المقاصد بمعنى النيات ،فكثي اًر ما يستشهد الشيخ -كما مر -بكالم القرافي في فروقه عن
تصرفات الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأثرها .ويشير أيضاً إلى التحليل اإلضافي الذي قدمه
ابن عاشور في هذا الباب .كتب يقول:
"وممن عني بهذا األمر من علماء العصر ،وشرحه وفصله ومثل له ،العالمة محمد
الطاهر بن عاشور شيخ علماء تونس في كتابه( :مقاصد الشريعة اإلسالمية) .فقد نقل
ملخص كالم القرافي في (الفروق) ،ثم عقب عليه( ... :وقد عرض لي اآلن أن أعد
من أحوال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم -التي صدر عنها قول منه أو فعل -اثني
عشر حاالً .منها ما وقع في كالم القرافي ،ومنها ما لم يذكره .وهي :التشريع ،والفتوى،
والقضاء ،واإلمارة ،والهدى ،والصلح ،واإلشارة على المستشير ،والنصيحة ،وتكميل
النفوس ،وتعليم الحقائق العالية ،والتأديب ،والتجرد عن اإلرشاد) .وقد تحدث الشيخ
[ابن عاشور] رحمه اهلل عن هذه األحوال ،وضرب لها األمثلة ،مما قد نوافقه في
21
بعضها أو نخالفه".
وهناك معنى أخير للمقصد عند الشيخ ،وهو بمعني نية المكلف التي تؤثر في العقود وسائر
األحكام .وأُفرد لذلك أيضاً مبحث خاص في الفصل الرابع إن شاء اهلل.
8
القرضاوي .فقه الزكاة .ص2
2
القرضاوي .السنة مصدراً للمعرفة واحلضارة .ص2- 8
50
المبحث الثاني:
نواحي التجديد في تعريفات المقاصد عند الشيخ
يظهر لنا من المبحث السابق كيف تبنى الشيخ القرضاوي نظريات من سبقه من األئمة الذين
قسموها .ولكنني استقرأت من نواحي التجديد في تعريفات المقاصد النظرية أصلوا للمقاصد و ّ
ّ
عند الشيخ القرضاوي ثالثة نواح ،أال وهي إعادة التفسير بلغة العصر ،ونقد النظريات السابقة
وتبنى مصطلحات مقاصدية جديدة.
في بعض جوانبهاّ ،
إعادة التفسير سمة عامة من سمات التجديد اإلسالمي المعاصر ،إذ به يوظّف المصطلح
التراثي لخدمة قضايا العصر عن طريق شرحه شرحاً يتناول هذه القضايا بلغة الخطاب التي
يفهمها المعاصرون .وأجد عند الشيخ من ذلك في تفسيره لمصطلحات المقاصد التقليدية.
فمثالً ،كتب الشيخ عن حفظ العرض يقول" :العرض بتعبيرنا هو الكرامة والسمعة" 22،وكتب
يشرح هذا التفسير المعاصر لحفظ العرض من خالل مفردات حقوق اإلنسان المعاصرة ،فقال:
"تأكيدا لهذه الكرامة اإلنسانية قرر القرآن (منذ أربعة عشر قرناً) ما تتغنى به اإلنسانية
اليوم ،ويظنه بعض الجاهلين من ثمار العصر الحديث ،وأعني به ما يطلق عليه
(حقوق اإلنسان) :حق اإلنسان في حرية النظر والتفكير ...وحق اإلنسان في حرية
االعتقاد ...وقرر حرية القول واألمر والنهي ...وحق اإلنسان في المساواة بغيره من
األجناس واأللوان واألنساب ...وحق اإلنسان في االستمتاع بالطيبات من الرزق...
وحق اإلنسان في الزواج وتكوين األسرة ،رجال كان أو امرأة ...وحق اإلنسان – بعد
الزواج -في اإلنجاب ...وحق الذرية في الحياة ،بنين كانوا أو بنات ...وحق كل
إنسان في الحياة ،ما لم يرتكب جرما موجبا إباحة دمه شرعاً ...وحق كل إنسان في
51
العمل والمشي في مناكب األرض ،سعياً لكسب رزقه ...وحق كل إنسان في أن يتمتع
بثمرة ما كسب من حالل ،عن طريق التملك ،رجالً كان أو امرأة ...وحق اإلنسان في
احترام مسكنه الخاص وعدم دخوله إال بإذنه قرره القرآن ...وحق اإلنسان في صيانة
دمه وماله ،وحماية ملكه الحالل ...وحق اإلنسان في صيانة عرضه وكرامته ...وحق
اإلنسان في الدفاع عن نفسه ...وحق اإلنسان في العدل واإلنصاف –ولو كان كاف اًر
أو عدواً ...-وحق اإلنسان في كفاية العيش إن كان عاج اًز أو فقي اًر ،في األموال
الواجدين من األفراد ...وحق اإلنسان في مناقشة أولي األمر ومخالفة رأيهم ...وحق
21
اإلنسان في إنكار المنكر ،ورفض الفساد ،ومقاومة الظلم."...
فنجد هنا ِج ّدة في إعادة تفسير مفهوم "حفظ العرض" لتقابل مفاهيم حقوق اإلنسان ،حسب
التعريف المعاصر .كما نجد نفس المنهج في شرح الشيخ لمفهوم حفظ العقل ،الذي ربطه
بمفاهيم علمية معاصرة مثل "إنشاء العقلية العلمية" .فكتب الشيخ عن "حفظ العقل" يقول:
"أرى أن حفظ العقل يتم في اإلسالم بوسائل وأمور كثيرة ،منها ...وانشاء العقلية العلمية
التي تلتمس اليقين وترفض اتباع الظن أو اتباع الهوى ،كما ترفض التقليد لآلباء وللسادة
اإلمعة ،والدعوة إلى النظر والتفكر في ملكوت السموات ِ
الكبراء ،أو ل َعوام الناس ،شأن ّ
واألرض وما خلق اهلل من شيء ،إلى آخر ما فصلناه في كتابنا (العقل والعلم في القرآن
29
الكريم)".
أما المقاصد العامة كالعدل الذي هو مقصد الشريعة األسمى وسبب نزول الكتاب والميزان،
معاصر .فكتب يقول:
اً تفسير
اً فسره الشيخ أيضاً
كما يكرر الشيخ في كتاباته ،فقد ّ
"ويمكن تقسيم العدل هنا إلى ثالثة أقسام أساسية -8 :العدل القانوني أو القضائي،
-7والعدل االجتماعي ،وهو المتعلق بتوزيع الثروة -4 ،والعدل الدولي ،وهو المتعلق
10
بتنظيم الصلة بين الدول اإلسالمية وغيرها من الدول."...
9القرضاوي ،يوسف .كيف نتعامل مع القرآن العظيم .دار الشروق 888 .م .ص90- 8
8القرضاوي .بني املقاصد الكلية والنصوص اجلزئية.
92نفسه.
52
والشيخ -حفظه اهلل -ال يكتفي بإعادة التفسير للمصطلح القديم ،ولكنه ينتقد هذا المصطلح
منزلة
أحياناً من أجل الوصول إلى ما هو أنسب للعصر .فمصطلحات المقاصد ليست ّ
بحرفياتها ،ولم يرد بها نص وال إجماع -كما يقول الشيخ -وانما هي نوع من الفقه والتصور
الذي قد يتغير بتغير الزمان واختالف األفهام.
ولهذا نجد الشيخ القرضاوي يستدرك على أبي حامد مالحظتان في تعريفه للمصلحة الذي ذكر
سابقاً:
"وهنا نجد أن كالمه [الغزالي] ُيف ِهم أن المصلحة مقصورة على حفظ هذه الضروريات
الخمس ،فأين موقع الحاجيات والتحسينيات حسب تقسيمه نفسه ،وكلها داخل في
المصالح المراعاة شرعاً في حياة الناس؟ فهو يريد بهم اليسر ،والتخفيف ،ودفع الحرج،
والهداية إلى أقوم المناهج في اآلداب واألخالق ،والنظم والمعامالت .مما يدخل في
المصالح الحاجية والتحسينية .هذه هي المالحظة األولى.
أما المالحظة الثانية ،فهي حصر الضروريات في هذه الخمس ،وأرى أن هناك
ضروريات أخرى راعتها الشريعة وقصدت إليها ،مثل حفظ العرض ،وتحقيق األمن،
18
والعدل ،والتكافل ،ورعاية الحقوق والحريات العامة ،واقامة أمة وسط".
ونجد الشيخ أيضاً يستدرك على أئمة المقاصد اقتصارهم على الفردية في التنظير ،في مقابل
الجماعية والعموم .فكتب يقول:
"قد يفهم من كالم األصوليين حول المقاصد والمصالح :أن انتباههم موجه بصورة أكبر
إلى اإلنسان الفرد ،ولم يلتفت بقدر كاف إلى المجتمع واألمة ...ومهما يكن لهم من
عذر ،فالبد أن نؤكد أن شريعة اإلسالم تهتم بالمجتمع ،كما تهتم بالفرد .وهي تقيم
17
توازناً بين النزعة الفردية والنزعة الجماعية في غير طغيان وال إخسار. "...
والشيخ أيضاً يستدرك على بعض العلماء اقتصارهم على النظر "التقنيني" و"العقابي" في
اإلسالم .فبعد أن تحدث عن أهداف التشريع اإلسالمي في كتابه "مدخل لمعرفة اإلسالم"،
كتب يقول:
53
"وأحب أن أبين هنا أمرين مهمين:
أولهما :أن الجانب التشريعي أو القانوني ليس هو كل اإلسالم وال ُجله ،كما يتصور
وخلق
بعض الناس أو يصورون ،فاإلسالم عقيدة تالئم الفطرة ،وعبادة تغذي الروحُ ،
تزكو به النفس ،وأدب تجمل به الحياة ،وعمل ينفع الناس ،ويمكث في األرض ودعوة
لهداية العالم إلى اهلل ،وجهاد في سبيل الحق والخير ،وتواصل بالصبر والمرحمة ...إن
اإلسالم توجيه وتربية وتكوين للفرد الصالح ،وللمجتمع الصالح ،قبل أن يكون قانوناً
وتشريعاً.
واألمر الثاني :أن الحدود والقصاص والعقوبات جزء محدود في التشريع اإلسالمي
الواسع ،وآيات الحدود والقصاص في القرآن ال تتجاوز عشر آيات من نحو ستة آالف
آية أو تزيد ،كما هو معلوم .ثم إن العقاب للمنحرفين من الناس ،وهؤالء ليسوا هم
األكثرين ،وليسوا هم القاعدة ،بل هم الشواذ من القاعدة .واإلسالم لم يجئ لعالج
المنحرفين أساساً ،بل لتوجيه األسوياء ووقايتهم أن ينحرفوا .والعقوبة ليست هي العامل
األكبر في معالجة الجريمة في نظر اإلسالم ،بل الوقاية منها بمنع أسبابها هو العامل
14
األكبر ،فالوقاية دائماً خير من العالج".
ويبدو لي أن ذكر هاتين المالحظتين الهامتين بعد شرح الشيخ ألهداف التشريع اإلسالمي
ومقاصده قد قصد بهما الشيخ نقد نظريات المقاصد التقليدية ،والتي تبدو أحياناً وكأنها تقتصر
على الحدود وتقسيماتها .فمن "مزاجر" أبي الحسن العامري (والتي كانت أول إرهاصة
لتقسيمات الضرورات في القرن الرابع الهجري ،) 12إلى األمثلة التي ساقها إمام الحرمين
الجويني واإلمام الغزالي واإلمام الشاطبي للتمثيل على األحكام التي شرعت لحفظ الضرورات،
تبدو النظرة التقليدية لتقسيم المقاصد مبنيةً على الحدود ومجاالتها ،محدودةَ االعتبار لإلسالم
وخلقاً وأدباً وعمالً ودعوةً وجهاداً وتربيةً -كما ذكر الشيخ.
كنظام شامل عقيدةً وعبادةً ُ
54
ثم إن الشيخ القرضاوي لما تبنى إضافة "حفظ العرض" ضرورةً سادسة تضاف إلى تقسيم أبي
حامد الغزالي ،علل لذلك قائالً:
"وقد أضاف القرافي وغيره إلى هذه الخمسة عنص اًر سادساً ،وهو (حفظ العرض).
والعرض بتعبيرنا هو الكرامة والسمعة ...وهي إضافة صحيحة يجب اعتبارها ،وقد
جاء في الحديث الصحيح( :كل مسلم على المسلم حرام ،دمه وعرضه وماله) .فقرن
15
العرض بالدم وقدمه على المال".
لكن األستاذ الدكتور أحمد الريسوني يعقب على هذا بقوله:
"والشيخ القرضاوي يرى إضافة (العرض) إلى الضروريات الخمس ليكون سادسها ...
وكالم الشيخ الجليل فيه نظر من حيث أصله ،ومن حيث االستدالل عليه .فأوالً:
الحديث رواه مسلم عن أبي هريرة رضي اهلل عنه ،وفيه" :كل المسلم على المسلم
حرام :دمه ،وماله ،وعرضه" ،هكذا بتقديم المال على العرض ...وثانياً :الترتيب في
الحديث حتى لو صح على النحو الذي ذكره الشيخ الفاضل ،ليس حجة فيما ذهب
إليه ...وحفظ العرض إنما نوع من الترقي والتحضر والسمو في الحياة البشرية
11
وعالقاتها االجتماعية ،وليس من أسس الحياة وضروراتها الدنيا التي ال فكاك عنها".
ورغم أنه ال مشاحة في االصطالح ،وأن قضايا النظريات المقاصدية كلها صواب وكلها عليها
من الشرع أدلة مستق ارة ،إال أنني أرى أن طرح الشيخ القرضاوي -حفظه اهلل -أقرب للفطرة
البشرية التي تصوغها األخالق اإلسالمية صياغة تسمو فيها مكانة العرض على المال وغيره
من المصالح.
إن الحديث الذي رواه البخاري يدل على أن "من قتل دون عرضه فهو شهيد" ،ويدلنا بالتالي
على تقديم حفظ العرض على حفظ النفس أحياناً ،فضالً عن تقديمه على حفظ المال .وفي
هذا يقول سيدنا على رضي اهلل عنه:
اء طالبـاً وأجعله وقفاً على القرض والفرض َمن ُح مالي ُكل َمن َج َ
سأ َ
ت عن لؤ ِم ِه ِعر ِ ِ ِ
ضي ص نـ ُ َ
ضهُ وِا ّما لئيم ُ
بالمال عر َ ت
صن ُفِإ ّما َك ِريم ُ
55
وقال حسان بن ثابت رضي اهلل عنه في نفس المعنى:
ض في ِ
المال بعد العـِر ِ أصون ِعرضي بمالي ال أدنسهُ ال َب َار َ
ك اهللُ َ ُ
وبالتالي ،فإدخال العرض في "الضرورات" مطلوب ،بل واإلضافات األخرى التي اقترحها
الشيخ كلها مطلوبة وضرورية.
أما التقديم والتأخير في ألفاظ الحديث ،فال أرى -واهلل أعلم -أن تؤخذ منه نتائج ذات بال .فإن
من يقارن روايات اآلحاد المتنوعة في الكثرة الكاثرة من الوقائع ،يتبين له بوضوح أن االختالف
الطفيف في الروايات الصحيحة ال يصل إلى درجة التناقض ،وانما يحصل بسبب اختالف دقة
تذكر الرواة لنفس الواقعة ،وهو أمر طبيعي ومتوقع!
ووجدت أن الشيخ لم يكتف بالنقد -الذي ذكر سابقاً -وانما بادر بطرح مصطلحات مقاصدية
جديدة تسد الخلل الذي رآه في المصطلحات القديمة وتوسع دائرة النظر المقاصدي في البحث
المعاصر .كتب معقباً على مالحظاته على تقسيم اإلمام الغزالي يقول:
"ولو كان لي أن أضيف إلى تعريف الغزالي للمصلحة ،لقلت مستخدماً أصل عبارته:
نعني بالمصلحة :المحافظة على مقصود الشرع ،ومقصود الشرع من الخلق :أن يحفظ
عليهم :دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم وعرضهم وأمنهم وحقوقهم وحرياتهم،
واقامة العدل والتكافل في أمة نموذجية ،وكل ما ييسر عليهم حياتهم ،ويرفع الحرج
عنهم ،ويتمم لهم مكارم األخالق ،ويهديهم إلى التي هي أقوم في اآلداب واألعراف
12
والنظم والمعامالت".
ثم قال:
56
"وأحسب أن إمامنا الغزالي ال يمانع في هذه اإلضافة ،فهي تتفق مع هدفه في ربط
11
المصلحة بمقاصد الشرع ،وما ذكرناه يدخل في ذلك ال ريب ."...
واستق أر الشيخ من القرآن الكريم أيضاً مقاصد عامة سبعة إضافية ،أال وهي:
"-8تصحيح العقائد والتصورات لأللوهية والرسالة والجزاء.
-7تقرير كرامة اإلنسان وحقوقه ،وخصوصاً الضعفاء من الناس.
-4توجيه البشر إلى حسن عبادة اهلل تعالى وتقواه.
-2الدعوة إلى تزكية النفس البشرية.
-5تكوين األسرة الصالحة وانصاف المرأة.
-1بناء األمة الشهيدة على البشرية.
19
-2الدعوة إلى عالم إنساني متعاون".
وتحت عنوان "تقرير كرامة اإلنسان وحقوقه" كتب الشيخ تفصيالً لحقوق اإلنسان في اإلسالم
-كما مر -ثم عقب قائالً:
"بل إن اإلسالم قد ارتقى بهذه األمور من مرتبة الحقوق إلى مرتبة الفرائض
والواجبات ،ألن ما كان من الحقوق يمكن لصاحبه أن يتنازل عنه ،أما الواجبات
90
المفروضة فال يجوز التنازل عنها".
وأيد الشيخ اعتبار مفهومي "الحرية" و"المساواة" مقاصد إسالمية أصيلة ،ولو لم يكونا قد وردا
بلفظيهما في النصوص الشرعية ،فكتب يقول:
57
"ومن القيم اإلنسانية التي عظّم أمرها اإلسالم :الحرية ،التي ترفع عن اإلنسان كل
ألوان الضغط والقهر واإلكراه واإلذالل .وتجعله كما أراد اهلل له :سيداً في الكون ،عبداً
هلل وحده .وتشمل هذه الحرية :الحرية الدينية ،والحرية الفكرية ،والحرية السياسية،
والحرية المدنية ،وكل الحريات الحقيقية .ونعني بالحرية الدينية :حرية االعتقاد ،وحرية
ممارسة الشعائر ،فال يقبل اإلسالم بحال أن يكره أحد على ترك دين رضيه واعتنقه،
أو ُيجبر على اعتناق دين ال يرضاه...
ومن الناس من كتب في عصرنا يقول :إن التراث العربي واإلسالمي لم يعرف الحرية
بالمفهوم الحديث المعاصر ،الذي نقل إلينا من الغرب ،بعد الثورة الفرنسية .إنما يعرف
الحرية بمعنى (عدم الرق) فقط ،فالحر من ليس عبداً ،والحرية مقابل الرق والعبودية.
فنحن حين نؤمن بالحرية ،أو ننادي بالحرية عالة على فرنسا ،فقبلها لم نكن نعرف
ويزعم لهم -أنهم مثقفون
عنها شيئاً!! واني ألعجب أن يقول هذا أناس يزعمون – ُ
معين يدل على
وعلميون ،وباحثون موضوعيون! ...إن عدم وجود لفظ أو مصطلح ّ
مفهوم أو مضمون نعرفه اآلن :ال يعني بالضرورة عدم وجود هذا المدلول أو
المضمون .فقد يوجد هذا المضمون أو المحتوى تحت لفظ أو المصطلح آخر .وقد
يوجد منثو اًر تحت كلمات أو مصطلحات أخرى.
فقد ال يجد الباحث في تراثنا كلمة (المساواة) مستخدمة كما نستخدمها نحن اآلن.
ولكنه بأدنى بحث يجد مضمونها مبثوثاً منتش اًر ،في آيات القرآن الكريم ،وأحاديث
الرسول العظيم ،وفي عبادات اإلسالم وشعائره ،من الصالة والصيام والحج والعمرة،
تفرق بين الشريف والوضيع .وفي مبادئ اإلسالم
وفي أحكام اإلسالم وعقوباته التي ال ِّ
التي تحطم الفوارق بين األجناس واأللوان والطبقات ،وتجعل الناس سواسية كأسنان
المشط.
بالعزةَ ( :ولِلَّ ِه
آدم) .أو ِعبر عنها بالكرامةَ ( :ولَقَد َك َّرم َنا َبنِي َ
ذلك :الحرية ،فقد ُي َّ ومثل
ِ ِ ِ ال ِع َّزةُ
َما
يم فَ َال تَقهَر * َوأ َّ
َما ال َيت َ
ين) .أو بتحريم القهر والنهر( :فَأ َّ َولِ َر ُسولِه َولِل ُمؤ ِمن َ
98
السَّائِ َل فَ َال تَنهَر) .أو بتحريم اإلرهاب والترويع( :ال يحل لمسلم أن يروع مسلماً)".
8القرضاوي ،يوسف .مالمح اجملتمع املسلم الذي ننشده .مؤسسة الرسالة . 882 .ص- 2
58
بل ويفيض الشيخ في فتاواه في شرح معنى الحرية -خاصة الحرية الدينية -ويطبقه على
القضايا المعاصرة التي يطرحها عليه السائلون .كتب في "فتاوى معاصرة" يقول:
"الجواب :جاء اإلسالم فقرر مبدأ الحرية ،وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كلمته
المشهورة :متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أح ار اًر .وقال علي بن أبي طالب
في وصية له :ال تكن عبد غيرك وقد خلقك اهلل ح اًر .فاألصل في الناس أنهم أحرار
بحكم خلق اهلل ،وبطبيعة والدتهم ...هم أحرار ،لهم الحق الحرية ...وليسوا عبيداً...
جاء اإلسالم فأقر الحرية في زمن كان الناس فيه مستعبدين :فكرياً ،وسياسياً،
واجتماعياً ،ودينياً ،واقتصاديا ،جاء فأقر الحرية ،حرية االعتقاد ،وحرية الفكر ،وحرية
القول ،والنقد ،أهم الحريات التي يبحث عنها البشر ...جاء اإلسالم وهو دين ،فأقر
الحرية الدينية ،حرية االعتقاد .فلم يبح أبداً أن يكره الناس على اعتناقه ،أو اعتناق
آلم َن َمن ِفي ك َ سواه من األديان وأعلن في ذلك قول اهلل عز وجلَ ( :ولَو َشاء َرُّب َ
ِ ِ األَر ِ ُّ
ين) .هذا في العهد المكي، ونوا ُمؤ ِمن َ
اس َحتَّى َي ُك ُ َنت تُك ِرهُ َّ
الن َ يعا أَفَأ َ
ض ُكلهُم َجم ً
الرش ُد ِم َن ال َغ ِّي).
ين قَد تََّبَّي َن ُّ وفي العهد المدني جاء في سورة البقرة( :الَ إِك َراهَ ِفي ِّ
الد ِ
وسبب نزول هذه اآلية يبين لنا إلى أي مدى وصل اإلسالم في تقديس الحرية ،وفي
تكريم هذا المعنى ،وتأكيد هذا المبدأ ،فقد كان األوس والخزرج في الجاهلية إذا امتنعت
المرأة من الحمل فنذرت إذا ولدت ولداً هودته ،أي جعلته من يهود ،وهكذا نشأ األوس
والخزرج هاتين القبيلتين العربيتين بعض أبناء يهود ،فلما جاء اإلسالم وأكرمهم اهلل
بهذا الدين وأتم عليهم نعمته ،أراد بعض اآلباء أن يعيدوا أبناءهم إلى اإلسالم دينهم،
ودين األمة في ذلك الحين ،وأن يخرجوهم من اليهودية ،ورغم الظروف التي دخلوا فيها
اليهودية ،ورغم الحرب التي بين المسلمين وبين اليهود ،لم يبح اإلسالم إكراه أحد على
الخروج من دينه وعلى الدخول في دين آخر ولو كان هو اإلسالم .فقال( :الَ إِك َراهَ ِفي
ين) في وقت كانت الدولة البيزنطية تقول :إما التنصر واما القتل وكان المصلحون ِّ
الد ِ
الدينيون في فارس يتهمون بأشنع التهم ،وهكذا ...
لم يكن مبدأ الحرية قد جاء نتيجة تطور في المجتمع ،أو ثورة طالبت به ،أو نضوج
وصل إليه الناس ،وانما كان مبدأ أعلى من المجتمع في ذلك الحين ..جاء مبدأ من
59
السماء ،ليرتفع به أهل األرض ،جاء اإلسالم ليرقى بالبشرية ،بتقرير هذا المبدأ ،مبدأ
97
حرية االعتقاد ،وحرية التدين."...
وهذا التبني للمصطلحات الجديدة و"تجديد لغة الخطاب" عند الشيخ يتسق تمام االتساق مع
ت سابقاً أن
روح اإلسالم ،وال يتعارض مع ثوابت علم المقاصد -كما قد يظن البعض .طرح ُ
المصطلحات المقاصدية تعكس رؤية المجتهد للعالم والكون من حوله ،وانفعاالته بمشكالته
العامة 94.وذكرت أنه بالرغم من أن هناك ثوابت إنسانية ،مثل حفظ النفوس والعقول ،إال أن
فالمقاصد
ُ تجديد نظريات المقاصد مع تغير الزمان والواقع أقرب للصواب من تثبيتها أبداً.
عرفها العلماء باستقراء النصوص ،واالستقراء
الخمسة أو الستة أو غيرها من أنواع المقاصد إنما َ
تصور نظري في ذهن اإلنسان ،تُمثل المسميات والهياكل النظرية جزء منه.
عبارة عن ّ
وهذا التصور قابل للتغير بحسب العقول وبحسب تغير الزمان والمكان ،دون أن يعني ذلك أن
الشارع عز وجل لم يرتب المقاصد ترتيباً معيناً تنتظم فيه .فالترتيب والتنظيم واإلبداع في َخل ِ
ق
تيب ك المجتهدين لكل ِ
أبعاد هذا التر ِ كل شيء وفي تشريع كل شيء عقيدة نؤمن بها ،ولكن إد ار َ
ِ
البسيطة -أمر آخر .ومثال ِ
األولية ِ
أنساقنا المنتظم -الذي قد يكون في حقيقته أعقد بكثير من
الكون المرئي ،وقد خلقه الباري تعالى يإبداع ونظام واحكام وتََو ُازن وما له من فطور ،وكل
ُ ذلك
وسب ِر أغواره كلها ٍ
مسلم يؤمن بذلك .ولكن محاوالتنا -نحن البشر -الكتشاف هذا النظام َ
ٍ
مجال ما ناقصة ،وهذا ما تثبته األيام .فعلى مدار التاريخ ،كلما تصور علماء الطبيعة نظاماً في
صر -اكتشاف آخر ليعلِّمنا أن التصور السابق ٍ
نتيجة اكتشاف ما ،جاء بعد ذلك بزمن -طال أم قَ ُ
تقترب بنا من "حقيقة" النظام الكوني ،وما
ُ كان صحيحاً جزئياً فقط ،وأن درجة أكبر من التعقيد قد
المقاصد ال تخرج عن هذا المثال ،ألن سنة اهلل في
َ ك ما حقيقةُ النظام الكوني! ويبدو لي أن
أد ار َ
الكون اقتضت أن تتشابه منظومات الطبيعة وأنساق الفكر اإلنساني عموماً.
80القرضاوي ،يوسف .فتاوى معاصرة .ج .دار القلم .0220 .ص 20- 2
8عودة ،جاسر .من حفظ الضرورات إىل تنمية ارأمة :أثر رؤية العامل على مصطلح الضرورات .مؤمتر املقاصد .اجلامعة اإلسالمية العاملية مباليزيا0222 .م.
وكذلك يف "فقه املقاصد" ،الفصل ارأول.
60
61
المبحث الثالث:
المقاصد العامة الرئيسية عند الشيخ
المقاصد العامة عند الشيخ القرضاوي (حسب تعريف المبحث السابق) شملت العديد من
المعاني والمصالح .ولكنني استقرأت من مراجعتي لكتب الشيخ أن هناك مقاصد خمسة احتلّت
مكانة خاصة في فكر الشيخ وفقهه ،وظهر أثرها واضحاً في آرائه وفتاواه ومواقفه .هذه
المقاصد العامة الخمسة هي التيسير ،والعدل ،وعبادة اهلل ،والدعوة إلى اهلل ،ومراعاة الفطرة.
أما التيسير ،فقد وضعته أوالً في هذا المقام ألنه هو السمة األوضح في فكر الشيخ وفقهه،
وهو المعنى الذي يبحث عنه أينما ح ّل وارتحل ،ويعتبره على حد قوله" :روح الشريعة ولحمتها
وسداها 92".كتب الشيخ القرضاوي هذا في تقديمه لكتاب الشيخ عبد الحليم أبي شقة عن
تحرير المرأة في عصر الرسالة ،الذي مدحه الشيخ القرضاوي بقوله:
"والكتاب يسير في اتجاه التيسير ورفع الحرج واإلعنات عن المرأة المسلمة .وسبب
ذلك أن االتجاه الذي ساد العالم اإلسالمي قروناً هو اتجاه التزمت والتشديد على المرأة
وسوء الظن بها .وعلة ذلك الموقف المتشدد تتجلى في أمرين:
األول :جهل األكثرين بالنصوص الشرعية التي تتضمن التيسير ،وتقاوم التعسير،
وبخاصة نصوص السنة النبوية الصحيحة ،فإن نصوص القرآن معلومة للجميع .أما
السنة فقد ظهرت في الكتب ،ونسيت في الدواوين الكثيرة من الجوامع والمسانيد
والمعاجم واألجزاء وغيرها .واشتغل الناس بكتب المذاهب وفقهها عن الكشف عن
السنة وكنوزها .وقد ترتب على هذا أن ترى كثي اًر من المسلمين يغفلون عن أحاديث
صحيحة ،ويستدلون بأحاديث ضعيفة ،أو موضوعة.
8أبو رقة ،عبد احلليم .حترير املرأة يف عصر الرسالة .دار القلم .الكويت 888 .م .ص8
62
الثاني :سوء فهمهم للنصوص التي عرفوها ،بوضعها في غير موضعها ،أو قسرها
على استنباط أحكام ،ال تدل عليها إال باعتساف ،أو بترها عن سبب ورودها أو عن
سباقها وسياقها .أو عزلها عن باقي أحكام اإلسالم ،ومقاصده الكلية ،فال يوفق بين
95
بعضها وبعض".
ويربط الشيخ -في مقام آخر -بين خصيصة "التيسير" في الشريعة وخصيصة "الواقعية".
فكتب يقول:
الح َرج الذي تميزت به عن
"ومن واقعية هذه الشريعة ابتناؤها على مبدأ التيسير ورفع َ
شرائع دينية سابقة .وذلك أن التشديد قد يصلح عالجاً في ظروف خاصة لجماعة
معينة ولمرحلة مؤقتة ،أما الشريعة العامة لكل الناس ولكل األجيال إلى أن تقوم
الساعة فال يليق بها إال التخفيف والتيسير ورفع اآلصار واألغالل ...وكان من
ِ
األدعية التي علمها اهلل للمؤمنين أن يقولواَ ( :ربَّ َنا َوالَ تَحمل َعلَي َنا إِص ًار َك َما َح َملتَهُ
ين ِمن قَبلَِنا َربَّ َنا َوالَ تُ َح ِّمل َنا َما الَ طَاقَةَ لََنا بِه) .ورد في الحديث الصحيح :أن َِّ
َعلَى الذ َ
اهلل تعالى قد أجاب هذا الدعاء وقال النبي صلى اهلل عليه وسلم( :بعثت بحنيفية
سمحة) ،وقال ألصحابه( :إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) ...وعلى هذا
91
األساس قامت قاعدة كبيرة من قواعد الفقه اإلسالمي وهي :المشقة تجلب التيسير".
ويشرح الشيخ سمات "الفقيه الحق" قائالً:
" الفقيه الحق هو من يلتزم روح الشريعة التي مبناها على التيسير ...وليس معنى
التيسير اإلتيان بشرع جديد من عند أنفسناُ ،نسقط به عن الناس ما فرضه اهلل عليهم،
أو ُنحل لهم ما حرم اهلل عليهم ،أو نبتدع لهم في الدين ما لم يأذن به اهلل تعالى ،فهذا
ليس من التيسير الذي نريده في شي ،بل هو تزييف وتحريف ،ال يقبله عالم مسلم
يحترم دينه ،ويحترم عقله ...إن التيسير أمر مطلوب شرعاً في ذاته ،وليس مجرد
92
استجابة لضغط الواقع ،أو تناغماً مع روح العصر ،كما قد يتصور بعض الناس".
88من مقدمته لكتاب أبو رقة .حترير املرأة يف عصر الرسالة .ص 0
82القرضاوي .مدخل لدراسة الشريعة اإلسالمية .ص02- 08
8القرضاوي ،يوسف" .حنو فقه ميسر" .حبث قدمه لندوة القانون واحتياطات اجملتمع القطري بكلية الشريعة-جامعة قطر ،ديسمرب 888م .انظر ص
إىل . 2
63
والشيخ إذن يشرح منهجه في الفتوى بقوله:
"اخترت لنفسي أن أيسر في الفروع -على حين اشدد في األصول -وليس معنى هذا
أن ألوي أعناق النصوص رغماً عنها ،ألستخرج منها -كره ًا -معاني وأحكاماً تيسر
على الناس .كال ،فالتيسير الذي أعنيه ،هو الذي ال يصادم نصا ثابتاً محكماً ،وال
قاعدة شرعية قاطعة ،بل يسير في ضوء النصوص ،والقواعد ،والروح العامة
91
لإلسالم".
بل ويحلل الشيخ -حفظه اهلل -أقسام "تخفيفات الشرع" بقوله:
"وقد ذكر العلماء جملة موجبات التيسير والتخفيف في الشرع وهي :المرض ،والسفر،
واإلكراه ،والخطأ ،والنسيان ،وعموم البلوى ...وقسم العلماء تخفيفات الشرع إلى
أنواع ....تخفيف إسقاط ...تخفيف تنقيص ...تخفيف إبدال ...تخفيف تقديم...
تخفيف تأخير ...تخفيف ترخيص ...تخفيف تغيير ...مراعاة سنة التدرج :ومن واقعية
اإلسالم وتيسيره على البشر :أنه راعى معهم ُسنة التدرج فيما يشرعه لهم –إيجابا أو
99
تحريماً".
إذن ،فالشيخ يفهم "سنة التدرج" في حدود التيسير الذي جاءت به الشريعة .وكتب أيضاً يقول:
"فإذا أردنا أن نقيم (مجتمعاً إسالمياً حقيقياً) فال نتوهم أن ذلك يتحقق بجرة قلم ،أو
بقرار يصدر من ملك أو رئيس ،أو مجلس قيادة أو برلمان ...إنما يتحقق ذلك بطريق
التدرج ،أعني باإلعداد والتهيئة الفكرية والنفسية واألخالقية واالجتماعية وايجاد البدائل
800
المحرمة التي قامت عليها مؤسسات عدة ألزمنة طويلة".
َّ الشرعية لألوضاع
ويفهم الشيخ "مراعاة العرف" في حدود التيسير كذلك ،فكتب يقول:
العرف في هذه الحالة إنما هي نوع من رعاية المصلحة أيضاً؛ إذ من مصلحة "ورعاية ُ
الناس أن يقروا على ما ألفوه وتعارفوه ،واستقر عليه أمرهم على مر السنين واألجيال،
فقد أصبح إلفهم واستقرارهم على عاداتهم حاجة من حاجاتهم االجتماعية يعسر عليهم
64
أن يتركوها ،ويعنتهم أن يتخلوا عنها .وقد جاء الدين بالتيسير ،ورفع الحرج والعنت عن
808
يد بِ ُك ُم ال ُعس َر)".
يد اللّهُ بِ ُك ُم ال ُيس َر َوالَ ُي ِر ُ
األمة ،قال تعالىُ ( :ي ِر ُ
و"تغير الفتوى" أيضاً يفهمه الشيخ في حدود التيسير .كتب يقول:
"ولهذا ال تراعي تغير الزمان والمكان واألعراف واألحوال التي ذكر المحققون من
العلماء :إنها توجب تغير الفتوى بتغيرها ،وال ينظرون كثي ار إلى المخفّفات التي توجب
807
التيسير على الناس".
ويتبنى الشيخ التيسير منهجاً لما ُيطلق عليه اآلن "لغة الخطاب" ،فكتب عن اإلمام الشاطبي
يقول:
"هو يرى أن الطريقة المناسبة لجمهور الناس ،المقدورة ألوساطهم ،هي التي تقوم على
التقريب والتيسير في فهم الحقائق العلمية وافهامها ،ال على التعمق واإليغال في
804
التعاريف الفلسفية واالستدالالت المنطقية ،التي يصعب على الجمهور هضمها".
وقد قدم الشيخ أكرم كساب -الذي كتب عن منهج الشيخ الدعوي -تحليالً ألثر معنى التيسير
على فقه الشيخ فهماً وتطبيقاً ،أنقل منه ما يلي:
" ..وقد كان لعمق ظاهرة التيسير لدى الشيخ أن دعا إلى تيسير الفقه ،ويعني الشيخ
بتيسير الفقه أمرين:
األول :التيسير في الفهم.
الثاني :التيسير في األحكام للعمل والتطبيق.
أما النوع األول وهو التيسير في الفهم إنما يتحقق في نظر الشيخ بأمور منها:
-8توخي السهولة والتوسط...
-7مخاطبة العقل المعاصر بلغته...
-4استخدام معارف العصر ومقاديره ومصطلحاته.
-2ربط الفقه بالواقع وحذف ما ال يتصل به.
-5بيان الحكمة من التشريع حتى يقتنع به العقل ويطمئن به القلب.
2
القرضاوي ،مدخل لدراسة الشريعة اإلسالمية .ص2- 28
20
القرضاوي .بني املقاصد الكلية والنصوص اجلزئية .ص 22 -8
2
القرضاوي .الرتبية عند اإلمام الشاطيب .ص0
65
-1ربط األحكام بعضها ببعض وبالمقاصد الكلية للشريعة.
-2التخفف من كثرة الزوائد والتشعيبات والتعقيدات التي أضافتها العصور المختلفة.
-1االستفادة من كتابات العصر من العلماء الثقات ،ومن ق اررات المجامع الفقهية
والعلمية ،ومن الرسائل الجامعية.
-9عرض مستويات مختلفة من الكتب...
-80االلتزام بالترقيم ووسائل اإليضاح والفهرسة الدقيقة.
وأما النوع الثاني وهو التيسير في األحكام للعمل والتطبيق فيتحقق بجملة أمور:
-8مراعاة جانب الرخص
-7مراعاة الضرورات والظروف
-4اختيار األيسر ال األحوط في زماننا.
-2التضييق في اإليجاب والتحريم.
-5التحرر من العصبية المذهبية.
-1التيسير فيما تعم به البلوى.
-2رعاية المقاصد.
802
-1تغير الفتوى".
إال أنني أرى أن "رعاية المقاصد" ليست مفردة واحدة في هذا التحليل ألثر التيسير عند الشيخ،
لب هذا المنهج الذي بني على مقصد أساسي وهو مقصد التيسير.
بل هي ّ
يعتبر الشيخ العدل قيمة إنسانية أساسية ومقصداً للرساالت السماوية جميعاً .كتب يقول:
"ومن القيم اإلنسانية األساسية التي جاء بها اإلسالم ،وجعلها من مقومات الحياة
الفردية واألسرية واالجتماعية والسياسية( :العدل).
2
كساب .املنهج الدعوي عند القرضاوي .ص 0 0-0
66
القسط –أي العدل -بين الناس هو هدف الرساالت السماوية حتى جعل القرآن إقامة ِ
اس وم َّ َنزل َنا معهم ال ِكتَاب وال ِم َيز ِ ِ ِ
الن ُ ان ل َيقُ َ
َ َ َ كلها .يقول تعالى( :لَقَد أَر َسل َنا ُر ُسلََنا بال َبي َِّنات َوأ َ َ َ ُ ُ
بِال ِقس ِط).
وليس ثمة تنويه بقيمة ِ
القسط أو العدل أعظم من أن يكون هو المقصود األول من
805
إرسال اهلل تعالى رسله ،وانزال كتبه".
وهو ما يذكرنا بنفس المعنى ونفس االستشهاد في "مقدمة" الشاطبي للجزء الثالث من
الموافقات ،والذي تحدث فيه عن المقاصد بالتفصيل.
وكما مر ،فالشيخ يقسم أنواع العدل إلى عدل قانوني قضائي ،وعدل االجتماعي ،وعدل
801
ويفصل الشيخ أنواع العدل باعتبار مجاله ،فيقول: سياسي دولي.
"اإلسالم يأمر المسلم بالعدل مع النفس :بأن يوازن بين حق نفسه ،وحق ربه ،وحقوق
غيره ...ويأمر اإلسالم بالعدل مع األسرة ...ويأمر اإلسالم بالعدل مع الناس كل
الناس :عدل المسلم مع َمن يحب ،وعدل المسلم مع َمن يكره ،ال تدفعه عاطفة الحب
إلى المحاباة بالباطل ،وال تمنعه عاطفة الكره من اإلنصاف واعطاء الحق لمن
802
يستحق".
ويشرح الشيخ كيف أن تحقيق العدل ركن ركين من أركان الشريعة اإلسالمية في كل مجاالتها
وأبوابها .كتب يقول:
"والمتتبع ألحكام الشريعة ،يجد أنها توخت العدل في كل مجاالتها :في البيوع
والمبادالت ،والزواج والطالق ،والجنايات والسياسات ،والعالقة بين الفرد والفرد ،والفرد
واألسرة ،والفرد والمجتمع ،والفرد والحكومة ،وبين الدولة المسلمة وغيرها من الدول
801
األخرى ،مسالمة ومحاربة ،فالعدل مقصد أساسي ال ُيفرط فيه بحال من األحوال".
ومقصد العدل يتناقض مع األحكام التجزيئية التي يأخذ بها بعض الناس ،فيؤدي منهجهم
القاصر إلى ٍ
ظلم ّبين يحدثونه باسم اإلسالم ،واإلسالم منه بري .فمثالً ،يفهم بعض الناس
67
أحكام الميراث بمعزل عن أحكام النفقات األخرى ،ويؤدي ذلك إلى استنتاجات خاطئة تتعلق
بقيمة المساواة بين البشر في اإلسالم .ولكن الشيخ يشرح التناسق والتوازن في هذه األحكام
بقوله:
" ...نجد تناسقاً بين قانون الميراث ،وقانون النفقات ،وقانون الصداق ،بحيث تخدم
كلها مبدأ العدل المطلق الذي قام عليه اإلسالم ،بل قامت به السموات واألرض...
والخطأ الذي يقع فيه الكثيرون هنا ،هو النظر إلى األحكام الشرعية في بعض القضايا
نظرة جزئية ،منفصلة عما يتصل بها من أحكام متناثرة في أبواب شتى من الفقه ،وهنا
809
يظلم الشريعة الكاملة ،لقصور نظره ،أو قلة إحاطته".
ويجعل الشيخ قضايا العدل قاسماً مشتركاً بين "أهل األديان" ،يم ّكنهم من الوقوف صفاً واحداً
أمام الظلم بجميع صوره .كتب يقول:
" ...الوقوف معاً [أي مع أهل األديان] لنصرة قضايا العدل ،وتأييد المستضعفين
والمظلومين في العالم مثل قضية فلسطين والبوسنة والهرسك ،وكوسوفا ،وكشمير،
واضطهاد السود والملونين في أمريكا وفي غيرها ،ومساندة الشعوب المقهورة ضد
الظالمين والمستكبرين في األرض بغير الحق ،الذين يريدون أن يتخذوا عباد اهلل عباداً
لهم .فاإلسالم يقاوم الظلم ،ويناصر المظلومين ،من أي شعب ،ومن أي جنس ،ومن
880
أي دين".
كثير ما يذكر الشيخ كيف يوازن اإلسالم بين الروح والجسد وبين الدنيا واآلخرة ،ويعرف
اً
المصلحة نفسها على أنها" :تسع الدنيا واآلخرة ،وتشمل المادة والروح" ،كما مر .ومن هذا
الباب نجد "التعبد" مقصداً ذا خطر وأثر واضح في فقه الشيخ وفكره ،يقصد أحياناً لذاته .كتب
الشيخ يقول:
28
نفسه .ص- 2
2
القرضاوي .فتاوى معاصرة .ج .0ص 8
68
"إذا وصف الطبيب للمريض دواء يأخذ منه ملعقة قبل كل وجبة ،ودواء آخر يأخذ منه
ملعقتين بعد األكل ،ودواء ثالثاً يشتمل على حبوب وأقراص يتناول منه عدداً معيناً في
مواقيت محددة .فهل من شأن المريض أن يقول للطبيب :لماذا كان هذا قبل األكل
وذاك بعده؟ ولما أتناول من الحبوب الكبيرة ثالثاً ومن الصغيرة واحد؟
وهل تتسع مداركه ومعارفه ليشرح له الطبيب الحكمة في ذلك مفصلة ،ويقفه على
أسرار تركيب الدواء ومالءمته إلزالة الداء؟؟
وهذا بالضبط وهو ما نقوله لمن يريد أن يعرف أسرار تفاصيل العبادات -ومنها
الطهارة والغسل ،فالعبادات -كما قال اإلمام الغزالي -أدوية للقلب اإلنساني ،تشفيه من
مرض الغفلة والغرور والنسيان لحق اهلل تبارك وتعالى .ومن حق اهلل سبحانه أن
888
يستأثر بسر تركيب هذه األدوية الروحية ،وقد يتفضل فيطلعنا على شيء منها".
وال يقتصر مقصد "التعبد" على العبادات عند الشيخ .بل إنه قد جعل المقصد من االنتعاش
االقتصادي نفسه تحقيق عبادة اهلل .فكتب ،تحت عنوان "الحياة االقتصادية الطيبة وسيلة إلى
هدف أكبر" ،يقول:
" إن تلك األنظمة مادية ِ
صرف ،تجعل االقتصاد غايتها ،والمال معبودها ،والدنيا كل
همها .إن الرفاهية المادية هي هدفها األخير ،وفردوسها المنشود .أما االقتصاد
اإلسالمي فيجعل هدفه من وراء طيب الحياة ورغد العيش؛ أن الناس بأنفسهم ،ويسموا
بأرواحهم إلى ربهم ،وأال يشغلهم الهم في طلب الرغيف ،واالنهماك في معركة الخبز
وحسن الصلة به ،واالستعداد لحياة أخرى هي
واإلدام؛ عن معرفة اهلل تعالى ،وعبادتهُ ،
خير وأبقى.
إن الناس إذا توافرت لهم كفايتهم ،وكفاية َمن يعولونه ،وأمنوا على أنفسهم وأرزاقهم،
أمكنهم أن يطمئنوا في حياتهم ،ويتجهوا بالعبادة الخاشعة إلى ربهم ،الذي أطعمهم من
جوع ،وآمنهم من خوف .وعبادة اهلل –جل شأنه -هي الغاية األولى التي من أجلها ذ أر
اهلل هذا الكون ،ونفخ الروح في هذا اإلنسان ...إن اإلنسان لم ُيخلق من أجل
االقتصاد ،ولكن االقتصاد ُخلِق من أجل اإلنسان ،أما اإلنسان فُخلِق هلل تعالى ،ليتوجه
69
بعقله وقلبه إليه ،وليجعل هواه تبعاً ألمره ،وليصوغ حياته وأوضاعه وسلوكه وفقاً
ت ال ِج َّن
لرضاه .وهذا هو المعنى الكبير للعبادة التي خلق اهلل لها اإلنسانَ ( :و َما َخلَق ُ
887
نس إِ َّال لَِيعُب ُد ِ
ون)". وِ
اإل َ َ
ومن هذا الباب يقف الشيخ على ظواهر العبادات والمقدرات ،يستثنيها من التعليل والتغيير،
ويعتبر هذا الوقوف نوعاً من الحفاظ على هذا المقصد األساسي في شريعة اهلل وهو التعبد،
رغم أن الشيخ يؤمن أن وراء كل حكم علة عرفها وجهلها من جهلها .وبين الشيخ أن الوقوف
على ظواهر العبادات والمقدرات هو منهج األئمة األعالم الذين أصلوا للمصلحة .كتب يقول:
" ...وهذا الذي قاله الغزالي قرره قبله شيخه إمام الحرمين في كتابه ألصولي المعروف
(البرهان) وأكده بعده األصولي الحنبلي نجم الدين الطوفي في مقولته عن المصلحة،
وتقديمها على النص واإلجماع -يقصد النص الظني كما ّبينا ذلك موضعه -فقد
884
استثنى الطوفي من ذلك العبادات ،كما استثنى المقدرات الشرعية ."...
إذن ،فالعبادات والشعائر "مقاصد" في حد ذاتها ،يحذرنا الشيخ من تحويلها إلى "وسائل"
متغيرة .كتب يقول:
"وأريد هنا أن أنبه إلى نقطة في غاية األهمية ،وهي :محاولة بعضهم أن يحول
المقاصد إلى وسائل ،ومعنى هذا :أن هذه المقاصد والغايات تغدو قابلة للتغير ،بل
لإلزالة نهائيا ،واستبدال غيرها بها.
وهذا أظهر ما يكون في العبادات الشعائرية الكبرى مثل :الصالة ،والزكاة ،والصيام،
والحج ،وهي األركان العملية التي بني عليها اإلسالم ،والتي ثبتت بحديث جبريل
الشهير ،وبحديث( :بني اإلسالم على خمس) ،وبإجماع األمة اليقيني المستقر،
المرتبط بالعمل المستمر ...هذا ،وقد ناقشت هذه الفكرة في ثاني كتاب أدخل به ميدان
التأليف بعد (الحالل والحرام) وهو كتاب (العبادة في اإلسالم) وال بأس أن أنقل منه
هذه الفقرة:
هل العبادة مجرد وسيلة لتهذيب النفس؟
0
القرضاوي ،يوسف .دور القيم وارأخالق يف االقتصاد اإلسالمي .مكتبة وهبة022 .م .ص 29- 2
القرضاوي .بني املقاصد الكلية والنصوص اجلزئية .ص 2
70
هناك دعوة خبيثة شريرة يروجها بعض الملحدين المستكبرين عن عبادة اهلل ،فتجد
هؤالء يستغلون ما جاء به الدين نفسه من رد العبادة السطحية المرائية التي ال تنفذ إلى
القلب ،وال تزكي النفس ،وال تنهى عن فحشاء أو منكر ،يستغلون هذا ليقولوا :إن
الغرض من األديان وعقائدها وعباداتها :إنما هو إصالح النفس وتربية الضمير،
واستقامة الخلق ..فإذا وصلنا إلى هذه النتيجة بأي وسيلة أخرى كالتهذيب النفسي
المجرد ،والتربية األخالقية المدنية ،فلسنا بحاجة إلى العبادة والشعائر والصلوات
والمناسك ،فإنما هذه وسائل ال غايات ،وقد انتهينا إلى الغاية التي يريدها اهلل منا ،فما
تشبثنا بالوسيلة؟ وما حاجتنا إليها؟ ...صالح النفس ثمرة للعبادة الحقة وليس عله
لها ...ذلك أن للعبادة – كما قال اإلمام الشاطبي – مقصداً أصلياً ،ومقاصد تابعة،
فالمقصد األصلي فيها هو :التوجه إلى الواحد المعبود بغاية الخضوع والطاعة والمحبة
له ...ومن المقاصد التابعة للعبادة :صالح النفس واكتساب الفضيلة .قال الشاطبي:
فالصالة مثال ،أصل مشروعيتها :الخضوع هلل سبحانه ...ثم إن لها مقاصد تابعة
كالنهي عن الفحشاء والمنكر ،واالستراحة إليها من أنكاد الدنيا ...وانجاح الحاجات
كصالة االستخارة وصالة الحاجة ...والخالصة أن كل دعوة تغفل المقصود األصلي
في العبادات وتهيل تراب النسيان عليه ،وتشيد بالمقاصد الفرعية التابعة ،وتسلط
األضواء عليها وحدها ،هي دعوة باطلة ؛ ألنها تضاد القصد األول من العبادة ،بل
القصد األول من الدين ،بل القصد األول من خلق الناس ،بل من خلق السماوات
882
واألرض".
885
والدعوة في الشيخ القرضاوي "فقيه الدعاة وداعية الفقهاء" كما وصفه الدكتور طه العلواني.
فكره بل وفي فقهه لها مكانة أساسية .فكثي اًر ما يعتبر الشيخ في فتواه مآالت الفتوى على
71
الدعوة إلى اهلل وهداية البشر إلى خالقهم ،وهو أول ما يصف به رسولَنا محمداً صلى اهلل عليه
وسلم في افتتاح كالمه إذ يصلّي الشيخ على "معلم الناس الخير ،وهادي البشرية إلى النور"،
صلى اهلل عليه وسلم .وهذا المقصد في فكر الشيخ يبدو لي وكأنه أثر من آثار عمله المبكر
في صفوف دعوة اإلخوان المسلمين ومعاناته مع هذه الدعوة حتى تصل كلمة اهلل إلى كل
الناس بالحكمة والموعظة الحسنة.
والحق أن هذا المقصد (الدعوة إلى اهلل) من المقاصد التي ترى لها أث اًر في فتاوى المذاهب
الفقهية ،في قول بعض الفقهاء أنه "قد يرجى من ذلك هداية الكفار" ،ونحو ذلك من التعبيرات.
إال أن للدعوة إلى اهلل أث اًر أوضح وأقوى من ذلك بكثير في فقه وفكر الشيخ ،خاصة في هذا
شيخنا (ويكتب عن ذلك كثي اًر) أن كوكب األرض قد أضحى قرية
الزمان ،الذي يدرك فيه ُ
عالمية بفعل ثورة االتصاالت المعاصرة .كتب يقول:
" فاإلسالم منذ فجر دعوته كان رسالة عالمية ،ودعوة للناس كافة ،ورحمة لكل عباد
اهلل ،عرباً كانوا أو عجماً ،ولكل بالد اهلل ،شرقاً كانت أم غرباً ،والى جميع األلوان
881
بيضاً كانوا أم سوداً".
إذن ،فمقصد الدعوة يرتبط في فكر الشيخ بالطبيعة العالمية لرسالة اإلسالم ،وبالقيم اإلنسانية
العامة كالحرية واألخوة والمساواة والعدل والسالم والتسامح .كتب الشيخ يقول:
"رسالة اإلسالم العالمية (رحمة عامة) كما وصفها اهلل ،ودعوة إلى خير اإلنسانية،
وهذه الرحمة أو هذا الخير يتجلى في جملة مبادئ أو قيم عليا دعا إليها اإلسالم
أهمها وأبرزها ما يلي -8 :تحرير اإلنسان من العبودية لإلنسان -7األخوة والمساواة
اإلنسانية -4العدل لجميع الناس -2السالم العالمي -5التسامح مع غير
882
المسلمين".
وينعى الشيخ القرضاوي على "الظاهرية الجدد" الضرر الذي يحدثونه لدعوة اإلسالم في "العالم
المتحضر" بآرائهم الجامدة التي تأباها الفطر اإلنسانية السليمة .كتب عنهم يقول:
"وال ريب أنهم بجمودهم وتشددهم – بالرغم من إخالص كثير منهم وتعبدهم –
يضرون بالدعوة إلى اإلسالم والى تطبيق شريعته ،ضر اًر بليغاً ،ويشوهون صورته
ُّ
2
القرضاوي .مدخل ملعرفة اإلسالم .ص0 2
نفسه .ص092-0 0
72
المضيئة أمام مثقفي العصر ،وأمام العالم المتحضر ،كما يبدو ذلك واضحا في موقفهم
من قضايا المرأة واألسرة ،وقضايا الثقافة والتربية واالقتصاد والسياسة واإلدارة،
881
وخصوصا العالقات الدولية ،والعالقة بغير المسلمين".
كتب الشيخ الطاهر بن عاشور عن "مراعاة الفطرة" باعتبارها مقصد من مقاصد الشريعة
اإلسالمية .وهذا المقصد هو نقطة بحث هامة وطريفة تحتاج إلى من يتفرغ لها من الباحثين
ولكن القارئ لفقه الشيخ القرضاوي يلمس استشعا اًر دائماً لهذا المقصد اللطيف ،بل
ّ النبهاء.
وتطبيقاً حسناً له في كثير من فتاواه وآرائه .وهذا باب جديد من أبواب الفقه يربط النظر
المقاصدي المعاصر بسنن اهلل في الكون وخلق اإلنسان ويخدم كل المقاصد التي ذكرت آنفاً
889
ولذلك، من تيسير ودعوة وعبادة .فاإلسالم نفسه "عقيدة تالئم الفطرة" ،كما قال الشيخ .
تحت عنوان "حاجة الفطرة البشرية" (أي إلى الدين) ،كتب الشيخ يقول:
" اإلنسان بفطرته ال يقنعه علم وال ثقافة ،وال يشبع نهمته فن وال أدب ،وال يمأل فراغ
نفسه زينة أو متعة ،ويظل قلق النفسَ ،جوعان الروح ،ظمآن الفطرة ،وشاع اًر بالفراغ
والنقص ،حتى يجد العقيدة في اهلل ،فيطمئن بعد قلق ،ويسكن بعد اضطراب ،ويأمن
بعد خوف ،ويحس بأنه وجد نفسه ...وال عجب أن وجدنا هذه العقيدة عند كل األمم،
بدائية ومتحضرة ،وفي كل القارات شرقية وغربية ،وفي كل العصور قديمة وحديثة،
وان كان األكثرون قد انحرفوا بها عن الصراط المستقيم ...ولهذا جعل القرآن الدين –
9
القرضاوي .بني املقاصد الكلية والنصوص اجلزئية .ص . 8
8
القرضاوي .مدخل ملعرفة اإلسالم .ص2- 8
73
ين َحنِيفًا ِفط َرةَ اللَّ ِه الَّتِي
ك لِ ِّلد ِ
بمعنى العقيدة -هو الفطرة البشرية نفسها( :فَأ َِقم َوجهَ َ
870
اس َعلَيهَا)". ط َر َّ
الن َ فَ َ
وكتب الشيخ عن فطرة حب التملك وحرية التملك ،وبالتالي ،مراعاة اإلسالم لقيمة الملكية
الفردية ،كتب يقول:
"ومن الفطرة التي فطر اهلل الناس عليها :حب التملك الذي نشاهده حتى عند األطفال
زود اهلل اإلنسان بهذه الغريزة لتكون دافعاً قوياً ،يحفز اإلنسان
بال تعليم وال تلقين ،وانما ّ
على الحركة واإلجادة واإلتقان ،إذا عرف انه يملك ثمرة كسبه وجهده في النهاية،
فتزدهر الحياة ،وينمو العمران ،ويزداد اإلنتاج ويتحسن.
الملكية من خصائص الحرية ،فالعبد ال يملك ،والحر هو الذي يملك ،بل هي من وِ
خصائص اإلنسانية ،فالحيوان ال يملك ،واإلنسان هو الذي يملك.
ولهذا أقر اإلسالم حق ( ِ
الملكية الفردية) ألنه دين جاء يحترم الفطرة ،ويحترم الحرية، ّ
ويحترم اإلنسانية .كما انه ليس من العدل أن تَحرم اإلنسان ثمرة سعيه وكسبه لتمنحها
878
لغيره من القاعدين والخاملين".
بل ويرجح الشيخ أحياناً بين اآلراء الفقهية المتشابكة بهذا المقصد العجيب (مراعاة الفطرة).
من ذلك ترجيحه لجواز الموسيقى ،بعد أن ثبت لديه عدم وجود نص ثابت واضح فيها ،فكتب
تحت عنوان" :الرجوع إلى مقاصد الشريعة" ،يقول:
"ومما استدل به القائلون بإجازة الغناء واآلالت :النظرة إلى مقاصد الشرع وأس ارره ،فمن
المعلوم أن أحكام الشرع -وخصوصاً في شئون المعامالت والعاديات -مفهومة معللة،
وهي أحكام منطقية تنشرح بها الصدور ،وتقتنع بها العقول ،كما قال البوصيري في
مدح النبي صلى اهلل عليه وسلم:
حرصاً علينا ،فلم نرتب ولم نهم! ... لم يمتحنا بما تعيا العقول به
ولكن قد يكون في العبادات أمور ال تخضع للتعليل .امتحاناً من اهلل لعباده ،كمواقيت
الصلوات ،وأعداد الركعات ،وكون الركوع مرة والسجود مرتين ،وكذلك ما يكون في
الحج من طواف وسعي ورمي جمار ،إلخ.
02
القرضاوي ،يوسف .الدين يف عصر العلم .مكتبة وهبة .022 .ص -
0
القرضاوي .مالمح اجملتمع املسلم الذي ننشده .ص 00
74
أما العاديات وأمور الحياة فإن التعليل فيها أوضح ،ولهذا دخل فيها القياس عند
جمهور األئمة ،كما دخل االستحسان واالستصالح عند المحققين من علمائها ...
وال شئ في الغناء إال أنه من طيبات الدنيا التي تستلذها األنفس ،وتستطيبها العقول،
وتستحسنها الفطر ،وتشتهيها األسماع ،فهو لذة األذن ،كما أن الطعام الهنيء لذة
المعدة ،والمنظر الجميل لذة العين ،والرائحة الذكية لذة الشم ...إلخ ،فهل الطيبات –
أي المستلذات -حرام أم حالل؟ ...
ولو تأملنا لوجدنا حب الغناء والطرب للصوت الحسن يكاد يكون غريزة إنسانية وفطرة
بشرية ،حتى إننا لنشاهد الصبي الرضيع في مهده يسكته الصوت الطيب عن بكائه،
وتنصرف نفسه عما يبكيه إلى اإلصغاء إليه ...حتى قال الغزالي في اإلحياء( :من لم
يحركه السماع فهو ناقص مائل عن االعتدال ،بعيد عن الروحانية ،زائد في غلظ
الطبع وكثافته على الجمال والطيور وجميع البهائم )...واذا كان حب الغناء غريزة
وفطرة فهل جاء الدين لمحاربة الغرائز والفطر والتنكيل بها؟ كال ،إنما جاء لتهذيبها
والسمو بها ،وتوجيهها التوجيه القويم .قال اإلمام ابن تيمية رحمه اهلل :أن األنبياء قد
877
بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها ال بتبديلها وتغييرها".
وينتهج الشيخ نفس المنهج في "إجازة المسابقة في كل شيء" بناء على مقصد مراعاة الفطرة
الذي يقتضي حاجة اإلنسان إلى اللهو .كتب يقول:
"والرأي الذي أختاره في هذه القضية هو :ما ذهب إليه الفقيه التابعي الجليل :عطاء
بن رباح ،من إجازة المسابقة في كل شيء ،كما حكى ذلك الشوكاني.
وهذا هو الذي أفتى به باطمئنان إليه ،ألنه الذي يتفق مع نظرة اإلسالم العامة إلى
اإلنسان والى الحياة ،فاإلنسان يحتاج إلى اللهو ،كما يحتاج إلى المجد ،وال يصبر
على الجد المطلق والدائم ،إال األنبياء ،كما قال أبو حامد الغزالي .والحياة ال بد أن
تقوم على التوازن والتكامل ،بين المتقابالت بعضها وبعض ،وال يمكن أن تكون كلها
874
حياة روحية محضة ،كما ال يقبل أن تكون الحياة كلها حياة مادية بحتة".
00
القرضاوي ،يوسف .فقه الغناء واملوسيقى يف ضوء القرآن والسنة .مكتبة وهبة0222 .م .ص09- 08
0
القرضاوي ،يوسف .فقه اللهو والرتويح .مكتبة وهبة0222 .م .ص28
75
ويحذر الشيخ من أن الخروج على فطرة اهلل في خلقه تعرض الناس للهالك المادي والمعنوي،
كالذي حدث في مرض "جنون البقر" الذي أضر بالناس "لخروجهم فيه عن فطرة اهلل
872
وكالرهبنة ،التي يقول عنه الشيخ: واطعامهم البقر -آكل العشب -ما ال يليق به"،
"اقتضت حكمة اهلل أن يكون التكوين العضوي والنفسي للمرأة يحمل عناصر الجاذبية
للرجل وقابلية االنجذاب إليه .ورّكب اهلل في كل من الرجل والمرأة شهوة غريزية فطرية
قوية تسوقهما إلى التجاذب واللقاء حتى تستمر الحياة ويبقى النوع .ومن ثَّم يرفض
875
اإلسالم كل نظام يصادم هذه الفطرة ويعطلها ،كنظام الرهبنة".
وهناك العديد من المقاصد العامة األخرى التي عني بها الشيخ حفظه اهلل ،إال أنني اخترت
هذه الخمس المذكورة لتكون أهم المقاصد العامة التي تبناها الشيخ ،كما بدا لي من استقراء
كتبه وأبحاثه وفتاواه.
0
القرضاوي .السنة مصدراً للمعرفة واحلضارة 88 .م .ص
08
القرضاوي .مالمح اجملتمع املسلم الذي ننشده .ص22- 88
76
المبحث الرابع:
أهمية علم المقاصد عند الشيخ القرضاوي
يعتبر الشيخ القرضاوي العلم بمقاصد الشريعة اإلسالمية فرضاً كفائياً يأثم المسلمون أمام اهلل
تعالى إذا لم يتعلمه عدد كاف منهم يقوم بما يجب تجاه هذا العلم .فقال:
"علم مقاصد الشريعة من الفرائض الكفائية التي على األمة أن تقوم بها حتى ال تسأل
871
أمام اهلل يوم القيامة".
وكتب الشيخ الشيء الكثير عن أهمية هذا العلم وفوائده المختلفة ،أقتطف من ذلك النقاط
العشرة التالية ،وأؤيدها بشواهد موجزة مما كتب الشيخ.
02
كلمة الشيخ القرضاوي يف افتتا الندوة التأسيسية ملركز مقاصد الشريعة اإلسالمية .لندن مارس 0228م
0
القرضاوي ،يوسف .املرجعية العليا يف اإلسالم للقرآن والسنة .مكتبة وهبة 880 .م .ص9 - 92
77
واستقراء مقاصد القرآن له عالقة وثيقة بمنهج الشيخ –حفظه اهلل -في التفسير الموضوعي،
يحض الشيخ على البحث فيها وأسهم هو نفسه فيها في موضوعين، ّ وهو أحد المدارس التي
أال وهما العقل والصبر .كتب في مقدمة كتابه (العقل والعلم في القرآن الكريم) يقول:
" ...كتبت كتابي (الصبر في القرآن الكريم) باعتباره َحلقة في سلسة للدراسات القرآنية
لدي من قديم فيتتناول التفسير الموضوعي للقرآن ...وقد كان من المسودات التي ّ
الدراسات القرآنية :هذا الموضوع الذي قدمه أقدمه اليوم للقارئ الكريم (العقل والعلم في
871
القرآن الكريم)".
09
القرضاوي ،يوسف .العقل والعلم يف القرآن الكرمي .مكتبة وهبة0222 .م. .ص9
08
القرضاوي .مدخل لدراسة الشريعة اإلسالمية .ص 9
78
"ومن دالئل الحكمة التي ينبغي أن يحرص عليها الخطاب الديني اإلسالمي
المعاصر :المحافظة على مراتب اإلعمال وقيمها ونسبها الشرعية ...هذا وقد أصدرت
كتاباً مستقالً ،يعالج هذه القضية من جذورها ،ويؤصلها تأصيالً شرعياً موثقاً باألدلة
840
من نصوص الشرع ومقاصده ."...
2
القرضاوي ،يوسف خطابنا اإلسالمي يف عصر العوملة .دار الشروق ،القاهرة022 .م .ص- 0
نفسه .ص 8
79
االستنباط بناء على فهمه فيها ...وربما قيل :أن أحدا من األصوليين لم يذكر هذا
الشرط الذي عول عليه الشاطبي لالجتهاد!
والجواب من وجهين :أحدهما :أنهم لعلهم اكتفوا بما ذكروه من وجوب الرسوخ في
معرفة القرآن والسنة ،فهذا يؤدي بدوره إلى معرفة مقاصد الشريعة ،ألنها إنما تعرف
منهما أوال وبالذات ،لمن أحسن فهمهما .والثاني :أنهم أشاروا إلى أهمية معرفة القواعد
الكلية ...على أن هذا مما يمكن أن يدخل تحت( :مقاصد الشريعة) .والناظر في فقه
الصحابة رضي اهلل عنهم :يجد أنهم أولوا هذا األمر عنايتهم ،ونظروا إلى مقاصد
الشريعة وفتاويهم ،مع نظرهم إلى النصوص الجزئية ...ونظرتهم إلى المقاصد ،هي
التي جعلتهم يفعلون أشياء لم يفعلها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،لما أروا فيها
مصلحة األمة ...والذي يبدو لي أن هذا الشرط –رغم أهميته -ليس شرطاً لبلوغ رتبة
847
االجتهاد ،بل هو شرط لصحة االجتهاد ،واستقامته".
0
القرضاوي .االجتهاد يف الشريعة اإلسالمية .ص 8 -8
القرضاوي ،يوسف .الفتوى بني االنضباط والتسيب .املكتب اإلسالمي . 888 .ص 20- 2
80
كتب الشيخ يقول:
" ...إن ذكر الحكمة والعلة أمر ال يستغنى عنه ،وخصوصاً في عصرنا ،كما بينا ذلك
من قبل .والقاء الفتوى ساذجة مجردة من حكمة التشريع ،وسر التحليل والتحريم يجعلها
جافة ،غير مستساغة لدى كثير من العقول ،بخالف ما إذا عرفت سرها وعلة حكمها،
842
وقد قيل :إذا عرف السبب بطل العجب ."...
81
وربما يعكر مما قررناه هنا من (أخالقية الشريعة اإلسالمية) أمر قال به بعض
المذاهب الفقهية والحظه األستاذ كولسون أيضاً وهو :الشكلية في العقود ،واالكتفاء
بظاهر الفعل ،وعدم النفاذ إلى النية أو الباعث أو القصد أو الدافع إلى الفعل ،وهذا
هو طابع الفقه الحنفي ،وعلى هذا األساس أجاز (زواج المحلل) والوقف على النفس،
والفرار من الزكاة ،وغير ذلك مما يدخل تحت باب (الحيل الفقهية أو الشرعية) ...ومع
هذا فليس الفقه الحنفي هنا أكثر من اجتهاد يؤجر عليه من ذهب إليه ولكنه ال ُيعبر
في الحقيقة عن روح الشريعة اإلسالمية التي أعطت للنيات والبواعث أكبر عناية وأبلغ
اهتمام ...ولهذا كان ابلغ مذهب َعّبر عن الشريعة هنا بحق هو المذهب الحنبلي الذي
جعل العبرة في العقود والتصرفات للمقاصد والمعاني ،ال لأللفاظ والمباني والذي حمل
فقهاؤه على الحيل المسماة (شرعية) حملة شعواء مؤيدة بالبراهين الناصعة من الكتاب
845
وهدي الصحابة".
والسنة َ
8
القرضاوي .مدخل لدراسة الشريعة اإلسالمية .ص 28- 22
2
القرضاوي .فتاوى معاصرة .ج .0ص 8
82
كتب الشيخ كثي اًر في هذا المفهوم ،وذكر –مثالً -في كتابه "مبادئ في الحوار والتقريب بين
المذاهب اإلسالمية" ،تحت عنوان "التركيز على نقاط االتفاق":
"والمهم أن الفقهين في النهاية –فقه السنة وفقه الشيعة -يتقاربان على حد كبير ،ألن
المصدر األصلي واحد ،وهو الوحي اإللهي المتمثل في القران والسنة ،واألهداف
842
األساسية والمقاصد الكلية للدين واحدة عند الفريقين ."...
ولعلي أسمح لنفسي بتعليق متواضع في هذا الموضع على ما صدر عن شيخنا من
تصريحات مؤخ اًر فيما يتعلق بقضية السنة والشيعة ،رغم علمي أن كثي اًر منها مما وضعه
بعض الصحفيين المغرضين خارج سياقاته ومما احتالوا له لوضع عناوين لكالم الشيخ ال تمثل
حقيقة ما قال في الحوار المنقول نفسه .وقد صرح شيخنا على موقعه اإللكتروني وفي وسائل
اإلعالم بذلك ،فقال" :وأنا أعترف أن صحيفة ...لم تنقل كالمي هنا حرفايا ،بل َّ
تصرفت فيه،
841
جزاه اهلل خي اًر. فلم يكن قولها دقيقا ومستوعبا ،كما جاء في جوابي األصلي ."...
إال أن بعض القضايا التي أبرزها الشيخ حفظه اهلل قد ال تستحق الذكر في هذا السياق
التاريخي الحالي تحديداً ،مراعاة لألولويات في النهي عن المنكر ،وم ارعاة لمقاصد الوحدة
والتقارب بين المسلمين والوقوف صفاً واحداً أمام أعداء اإلسالم ،كحديثه مثالً عن قضية
عامي شيعي في عصرنا ولو
ّ (تحريف بعض الشيعة للقرآن) ،وهو الذي ال يقول بها عالم وال
كان بعض المنتسبين إليهم قد قال به فيما مضى من الزمان مما لم يبقى له أثر ،وكحديثه عن
(ما يحدث عند م ازرات آل البيت من شركيات) ،رغم أنها شبيهة بما يحدث عند م ازرات أهل
السنة من شركيات كذلك ،مما ال يقره عالم سني كان أو شيعي .ويبدو لي أن النظر
المقاصدي والمآلي الذي تعلمناه من الشيخ يتعارض مع ذلك الموقف ،ولعل (التركيز على
نقاط االتفاق) كما قال الشيخ م ار اًر ،أولى .ونتمسك هنا بموقف الشيخ الذي قال فيه:
بكل ِف َرقها وطوائفها ومذاهبها ،فهي تؤمن بكتاب
"أنا أؤمن أوال بوحدة األمة اإلسالمية ِّ
واحد ،وبرسول واحد ،وتتَّجه إلى ِقبلة واحدة .وما بين ِف َرقها من خالف ال ُي ِ
خرج فرقة
منها عن كونها جزءا من األمة ،والحديث الذي ُيعتمد عليه في تقسيم الفرق يجعل
القرضاوي ،يوسف .مبادئ يف احلوار والتقريب بني املذاهب اإلسالمية .مكتبة وهبة0228 .م .ص 09،
9
موقع القرضاوي www.qaradawi.net
83
َّ
انشق من هذه الفرق عن اإلسالم الجميع من األمة" ،ستفترق أمتي ."...إال َمن
849
تماما ،وبصورة قطعية".
8
نفس املصدر
84
الفصل الثالث
85
هذا الفصل يعرض للمقاصد في نماذج من فكر الشيخ -حفظه اهلل -في السياسة واالقتصاد
واألسرة والمرأة والدعوة والحوار ،من خالل أهم المقاصد التي تخص هذه األبواب في كتابات
الشيخ .ولكن الفصل يبدأ بمبحثين يناقشان قضيتين فلسفتين منهجيتين متعلقتين بالمقاصد:
األولى تتعلق بالمنطق االستقرائي الذي اعتمده الشيخ للوصول إلى "اليقين" في التعرف على
المقاصد الشرعية .والقضية الثانية تتعلق بتقسيم المذاهب الفكرية حسب مناهجها النظرية في
التعامل مع المقاصد ،وهو التقسيم الذي طرحه الشيخ وتبناه الكثيرون من أجل تعريف المدرسة
الوسطية في مقابل المدارس األخرى على الساحة الفكرية.
المبحث األول:
المقاصد ومنطق الستقراء عند الشيخ
ذكر الشيخ في معرض حديثه عن المقاصد الشرعية بأبعادها المختلفة أن االستقراء -بضم
بعض األدلة إلى بعض -كان طريقته المنهجية في التعرف على هذه المقاصد من مصادرها.
وكتب شارحاً لهذا المنهج يقول:
"وهذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه موقف المؤمن مع القرآن :أن يضم بعض آياته
إلى بعض ،فيستبين له المعنى ،وتتضح له الغاية ،ويستقيم له الطريق ،وتتجلى له
وخلقاً
مقاصد الشريعة ،وبعبارة أشمل :مقاصد الرسالة المحمدية :عقيدة وشريعة وفك اًر ُ
820
وسلوكاً".
وقد استقرى الشيخ القرآن الكريم بحثاً عن مقاصده التي تأكدت وتكررت فيه ،وكتب يقول:
"لقد دعا القرآن الكريم إلى كثير من المبادئ والمقاصد التي تصلح اإلنسانية بغيرها.
828
ونجترئ هنا بسبعة منها مما أكده القرآن وكرره ،وعنى به أشد العناية ،وهي."... :
وكان االستقراء أيضاً منهجه العلمي في التعامل مع السنة النبوية على صاحبها الصالة
والسالم وآراء الصحابة رضي اهلل عنهم ،من أجل استكشاف المقاصد والحكم والمعاني .كتب
يقول:
2
القرضاوي .املرجعية العليا يف اإلسالم للقرآن والسنة .ص9 - 92
القرضاوي .كيف نتعامل مع القرآن العظيم .ص
86
"ومن استق أر ما أثر عن فقهاء الصحابة – رضي اهلل عنهم -مثل الخلفاء الراشدين،
وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعائشة ،ومعاذ وزيد بن ثابت ،ونظر إلى فقههم
وتأمله بعمق :تبين له أنهم كانوا ينظرون إلى ما وراء األحكام من علل ومصالح ،وما
تحمله األوامر والنواهي من حكم ومقاصد ،فإذا أفتوا في مسألة ،أو حكموا في قضية،
827
لم تغب عن بالهم مقاصد الشريعة وأهدافها ."...
واستقرى الشيخ مقاصد من مذاهب الفقه في أبوابها المختلفة وأحكامها الجزئية ،بل إن التقسيم
النظري للمقاصد كانت الوسيلة المنهجية فيه هي االستقراء أيضاً ،كما سيأتي .وكتب الشيخ
يقول:
"من هذه المقاصد ما نص عليه القرآن والسنة صراحة بأدوات التعليل المعروفة ،ومنها
824
ما عرف باستقراء األحكام الجزئية".
ولكن بيت القصيد هنا أن هذا االستقراء يفيد "اليقين" عند الشيخ ،وعبر هو عن ذلك بقوله:
"البد للعالم من تحري معرفة مقصود اهلل تعالى من شرعه ،وانما تعرف مقاصد
الشريعة باستقراء األحكام المتنوعة ،وتتبع النصوص المتعددة وتعليالتها المختلفة ،التي
822
يفيد مجموعتها يقيناً بمقصد الشريعة".
ونجد فيما ذكره شيخ الزيتونة الطاهر ابن عاشور كالماً عن قضية "قطعية" المقاصد ،ذكره في
معرض حديثه عن حجية التعليل بالمقاصد عند افتقاد النص الجزئي في المسألة .ولكن ابن
عاشور لم يجزم بالقطع أو اليقين في المقاصد المستقراة كما فعل الشيخ القرضاوي .كتب ابن
عاشور رحمه اهلل في "مقاصد الشريعة اإلسالمية" يقول:
"إذا كنا نقول بحجية القياس ،الذي هو إلحاق جزئي حادث ال ُيعرف له حكم في الشرع؛
بجزئي ثابت حكمه في الشريعة ،للمماثلة بينهما في العلة المستنبطة ،وهي مصلحة
0
القرضاوي .بني املقاصد الكلية والنصوص اجلزئية .ص- 2
القرضاوي .السنة مصدراً للمعرفة واحلضارة .ص 0
0 القرضاوي .السياسة الشرعية يف ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها .ص
87
جزئية ظنية غالبا لقلة صور العلة المنصوصة ،فَ َألن نقول بحجية قياس مصلحة كلية
حادثة في األمة ال يعرف لها حكم ،على كلية ثابت اعتبارها في الشريعة باستقراء أدلة
الشريعة ،الذي هو قطعي أو ظني قريب من القطعي ،أولى بنا ،وأجدر بالقياس ،وأَد َخ ُل
825
في االحتجاج الشرعي".
والشيخ القرضاوي إذن يخالف -فلسفياً -الكثيرين ممن كتبوا في األصول والفلسفة في مسألة
"ظنية االستقراء" ،والذين إنما نقلوا ما قاله أرسطو والمشاءون في هذه المسألة .فقد ادعى
أرسطو قطعية االستنباط المنطقي من قديم ،واحتج بقطعية ما ُيستنبط عن طريق اآلالت
اللوجستية -التي نظّر لها تنظي اًر محكم ًا -في مقابل ما ُيستكشف عن طريق االستقراء .ورأى
أرسطو أن االستقراء إذا كان كامالً فال حاجة إليه ،ألنه استوعب كل الحاالت المنطقية على أية
شكك في سالمة استخدامه كآلة
َ حال ،وان كان ناقصاً فهو ال يفيد القطع ،وبالتالي فقد
821
منطقية.
أي أرسطو كان هو غم معارضة أغلب الفقهاء للفلسفة والفالسفة والمنطق والمناطقة ،إال أن ر َ
ور َ
السائد بين الفقهاء ،بنقل مباشر أو غير مباشر عنه 822.وكان االستثناء من هذه القاعدة قلة من
َ
ابن تيمية الذي عارض مسألة قطعية االستنباط المنطقي ،ألنه يستند العلماء ،كان على رأسهم ُ
في أساسه ومقدماته المنطقية على" كليات في الذهن" ،وهو ما أداه إلى رد الفارق األرسطي بين
العو ِارض ،وكان ّ
سباقاً بهذا في تاريخ الفلسفة. 821 ِ
ال ُكنه و َ
88
وألن الطريق الرئيس الستكشاف المقاصد الشرعية هو االستقراء ،وبسبب فكرة عدم قطعية
االستقراء ،افتقدت المقاصد عند األصوليين مرتبة "اليقين" ،التي قررها الشيخ القرضاوي هنا،
وهي المرتبة نفسها التي توافرت للعلل التي اعتمدت في أغلبها على االستنباط أو ما يشبهه من
الطرق الصورية .حتى إن أبا حامد الغزالي الذي أبدع في التنظير للمقاصد الشرعية ردد بدوره
"عدم قطعية االستقراء" ،ثم وصف المقاصد في أول حديثه الرائع عنها في "المستصفى" بـ
"المصالح الموهومة"!
لتتبوأ مكانتها ِ
ولذلك ،عندما أراد أبو إسحاق الشاطبي اإلفاضة في التنظير للمقاصد ،ودفعها ّ
ضمن "أصول الشريعة" بدأ كتاب المقاصد من الموافقات في مقدمته األولى التي قال عنها أنها:
"محتاج إليها قبل النظر في مسائل الكتاب" ،بدأ بالتأكيد على" قطعية األصول" ،ثُم "قطعية
االستقراء" ،ومن ثَم "قطعية المقاصد".
اليقين درجات
نفي أرسطو للقطع المطلق عن االستقراء دقيق ،كما أن نقد ابن تيمية لمنطق والحق أن َ
قطع في االستقراء وال االستنباط وال أية نظرية بشرية متصورة ،علمية
االستنباط دقيق كذلك ،وال َ
سمها درجة الظن إن شئت) كلها نسبية،كانت أم فلسفية أم شرعية .وانما درجةُ القطع (أو ّ
واإلنسان يزداد يقينا بأية قضية كانت ،كلما توافرت األدلة عليها ،وهذا هو المنطق الذي يظهر
لي أن الشيخ القرضاوي قد سلكه في استقرائه.
بل إن منطق القرآن نفسه في إثبات وجود الخالق عز وجل هو منطق استقرائي باألساس ،يعتمد
على لفت النظر إلى تكاثر األدلة على وجود الباري المبدع سبحانه وتعالى ،من مثل قوله تعالى:
( ُق ِل انظُروا ما َذا ِفي السماو ِ
ات َو َاألرض) .يونس .808-وال ُيقال إن هذا االستقراء ناقص ألننا لم ََ ُ َ
نفحص كل دليل في السماوات واألرض لعلنا نجد ما يناقض االعتقاد ،فاهلل عز وجل قد أمرنا أن
نستنتج أنه ال فُطور في هذا الكون عن طريق إرجاع البصر في ما نرى من الكون في حدود
الطاقة البشرية ،ألنه يكفي للبشر أن يقيسوا الغائب على الشاهد.
89
المبحث الثاني:
تصنيف المدارس الفكرية وفلسفة المقاصد عند الشيخ
ذكرت في بداية الكتاب أمنيتي العلمية أن يكون علم المقاصد أساساً لفلسفة إسالمية ومنهج
فكري متكامل ،ثم وجدت أن الشيخ القرضاوي -حفظه اهلل -قد خطا خطوات هامة في هذا
يقسم الشيخ التيارات الفكرية المعاصرة تقسيماً منهجياً
الطريق .فمن خالل النظر إلى المقاصدّ ،
ثالثياً .كتب الشيخ تحت عنوان "مدارس ثالث في فقه المقاصد" يقول:
"المدرسة األولى :التي تعني بالنصوص الجزئية ،وتتشبث بها ،وتفهمها فهماً َحرِفياً،
الحرفيون هم الذين سميتهم من قديم بمعزل عما قصد الشرع من ورائها .وهؤالء َ
الج ُدد) .فهم ورثة الظاهرية القدامى ،الذين أنكروا تعليل األحكام أو ربطها
(الظاهرية ُ
بأي حكمة أو مقصد ،كما أنكروا القياس ...
عنى بمقاصد
والمدرسة الثانية :هي المدرسة المقابلة لهؤالء ،وهي التي تزعم أنها تُ َ
الشريعة ،و(روح) الدين ،معطّلة النصوص الجزئية للقرآن العزيز ،والسنة الصحيحة،
مدعية أن الدين جوهر ال شكل ،وحقيقة ال صورة ...وقد أطلقت على هؤالء الدخالء
على الشريعة وفقهها :اسم ( المعطلة الجدد).
والمدرسة الثالثة :المدرسة الوسطية التي ال تغفل النصوص الجزئية من كتاب اهلل
تعالى ،ومن صحيح سنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ولكنها ال تفقه هذه
النصوص الجزئية بمعزل عن المقاصد الكلية ،بل تفهمها في إطارها وفي ضوئها،
فهي ترد الفروع إلى أصولها ،والجزئيات إلى كلياتها ،والمتغيرات إلى ثوابتها،
والمتشابهات إلى محكماتها ،معتصمة بالنصوص (القطعية) في ثبوتها وداللتها ...
وهذه هي المدرسة التي نؤمن بها ،ونتبنى منهجها ،ونراها هي المعبرة بصدق عن
829
حقيقة اإلسالم ."...
8
القرضاوي .بني املقاصد الكلية والنصوص اجلزئية.
90
بين "الظاهرية الجدد" و"المعطلة الجدد"
82
نفسه .ص 8 -82
8
نفسه .ص -
91
ومن خصائص هذه المدرسة :أنها تتبنى خط التيسير على الخلق ،والتخفيف عنهم
...فالتيسير هو المنهج القرآني ،والمنهج النبوي ،وهو الذي علمه الرسول ألصحابه
وأمرهم باتباعه أفراداً أو جماعة ...فالمطلوب هو التيسير في الفتوى ،والتبشير في
الدعوة ...
وتؤمن المدرسة الوسطية بعالمية اإلسالم ،وأنه رحمة للعالمين ،ودعوة للناس جميعاً،
ولهذا ال تشغلها المشكالت المحلية عن البعد العالمي ،فهي تؤمن بوحدة األسرة
البشرية ،وأنها جميعا تنتمي من ناحية الخلق إلى رب واحد ،ومن ناحية النسب إلى أب
واحد ،وتتبنى التسامح بين األديان ،والحوار بين الحضا ارت ،ناهيك بالتقريب بين
المذاهب ...
وأول مرتكزات المدرسة الوسطية :أنها تجتهد في البحث عن مقصد النص الشرعي
وهدفه ،قبل أن تسارع بإصدار الحكم من مجرد لفظه .وذلك ال يكون إال بطول البحث
والتدبر للنصوص الواردة.
إن من المهم لكل مجتهد ـكلي أو جزئي ـ في مسألة من المسائل :أن يعرف مقصد
الشارع فيما أمر به أو فيما نهى عنه .حتى يكون حكمه على المسألة حكماً صحيحاً.
إذ المقصد الشرعي هنا له دخل في توجيه الحكم بالوجوب أو االستحباب في
المأمورات ،وفي التحريم أو الكراهية في المنهيات ،وفي الحكم بالحل واإلباحة فيما عدا
ذلك.
إنه ال يتصور أن يكون الشيء من (الضروريات) التي ال تقوم الحياة إال بها ،ثم يكون
حكمه هو مجرد االستحباب ،ناهيك باإلباحة .وال يتصور أن يكون الشيء مما يناقض
هذه الضروريات ،بل مما يأتي عليها بالنقص والبطالن ،ثم يكون حكمه الكراهة ،ناهيك
بأن يكون مباحاً .وال يتصور أن يكون الشيء من (التحسينات) أو (الكماليات) ـ كما
857
نقول في عصرنا ـ ثم يكون حكمه اإليجاب والفرضية الملزمة ."...
80
نفسه .ص - 9
92
وهكذا يرسم الشيخ القرضاوي مالمح هذه المدرسة الوسطية ،والتي تتعلق كلها بمقاصد الشريعة
بشكل أو بآخر ،من التعبد والعدل والتيسير والسماحة والعالمية ،إلى حفظ الضرورات
والحاجيات والتحسينيات ،كل حسب أهميته وأولويته.
التأرخ"
المنهج بين "الختزال" و " ّ
واننا إذا أردنا أن نحلّل المذهبين اآلخرين الذين ذكرهما الشيخ (أي الظاهرية الجدد والمعطلة
الجدد) من الناحية الفلسفية ،فإننا يمكن أن نطلق على منهجية الظاهرية الجدد عنوان
"المنهجية االختزالية" أو "التجزيئية" ،وأن نطلق على منهجية "المعطلة الجدد" أو "العلمانية"
عنوان "منهجية ما بعد الحداثة التفكيكية".
أما "المنهجية االختزالية" فهي التي ينظر أصحابها إلى األمور والى النصوص نظرة جزئية،
وهي نظرة تتبني مفاهيم ذرّية منفصلة ليس بينها روابط ،وهو ما يخالف سنن الكون ومنطق
العلم ،كما نعرفه اآلن بعد االكتشافات العلمية الباهرة في عصرنا .فالعلم اآلن قد علّمنا أن هذا
الكون مرتبط كله في وحدة كلية عظيمة ،وأن أي نظرة علمية صحيحة ألي ظاهرة علمية البد
أن تأخذ بعين االعتبار هذا الترابط والتجاذب والتفاعل بين قوانين الكون وعناصره ،صغيرها
وكبيرها ،وال تقتصر على عالقة سبب واحد بمسبب واحد أياً كان.
سر نظرتهم إلى حرفية األلفاظ واهمال المعاني،
وهذا القصور في المنهج عند "االختزاليين" هو ّ
والى الحاكم واهمال المحكوم ،والى الرجل واهمال المرأة ،والى العرب واهمال غيرهم ،والى هذا
النص أو ذاك واطراح النصوص األخرى بدعاوى التعارض أو التناسخ بدون دليل.
وتصر على
ّ والنظرة المقاصدية الوسطية التي يطرحها الشيخ ترفض ذلك االختزال المخ ّل،
إحداث التوازن بين كل ما يتصوره الناس تصو اًر سطحياً على أنه من المتناقضات.
وعلى الجانب اآلخر ،فاتجاهات "ما بعد الحداثة" تتبنى مفهومي "التفكيك" و"التأرخ" الفلسفيين
للوصول إلى تعطيل الشريعة ،كما ذكر الشيخ .والتفكيك مصطلح استحدثه جاك َدريدا (وهو
فيلسوف فرنسي يهودي "ما بعد حداثي" من أصل جزائري) ،في الستينيات من القرن العشرين
للتخلص -حسب رأيه -من كل تمحور أو تمركز حول أي سلطة كانت ،سواء كانت لنص ،أو
93
دين ،أو جنس ،أو أشخاص .و"ما بعد الحداثة" مدرسة فلسفية معاصرة اختلفت اآلراء حتى في
تعريفها ،ما بين "الالعقالنية" ،و"فسيفساء التناقضات" ،و"المدرسية الش ّكية الجديدة".
والتأرُخ مفهوم ولد من رحم "التفكيك" ما بعد الحداثي .فعلى حد زعم دريدا :حتى يفكك الناس
المرجعيات والسلطات التي تستمد جبروتها من تعريف األضداد الباطلة مثل الحق والباطل،
والصواب والخطأ ،واإليمان والكفر ،وغيرها -البد إذن أن "تتأرخ" الثقافات واألحداث .وهذا
يعني أن ترتبط النصوص -كل النصوص -ارتباطا كلياً وجزئياً بسياقها التاريخي ،وبما يط أر
عليها من تطور تاريخي ،وال تتعدى دالالتها هذا السياق التاريخي إلى الواقع المعاش ،وهو ما
يسمونه عندهم "فصل الدال عن المدلول".
واذا كان المفهوم المجرد الذي يربط النصوص المكتوبة بسياقها التاريخي وجيهاً بعض الوجاهة
-من الناحية الفلسفية -فإن الخطأ الذي وقع فيه الُمتَأَرخون هو أنهم قاسوا النصوص والمؤلفات
ال محصلة الثقافات والتصورات المتغيرة) ،على النص والوحي اإللهي الذي البشرية (التي هي فع ً
يختلف في مصدره ومقاصده عن مصادر ومقاصد البشر.
وبالتالي ،فإن مفهوم " تأرخ القرآن" الذي ينادي به "المعطلة الجدد" ال يتفق مع اإليمان بقداسة
كالم اهلل ووحيه المباشر إلى نبيه صلى اهلل عليه وسلم ،وشمول القرآن وسريان سلطانه في
وفقدان مصدرها المعرفي الرئيسي،
ُ بعدي الزمان والمكان .ومآل هذا الفكر هو ضياعُ دين األمة
تفرق بين ما عندهم من علم
وبالتالي سقوطها في َش َرك االنقياد األعمى لغيرها من األمم ،ال ّ
نافع ،والحكمة ضالة المؤمن ،وما عندهم مما يضر وال ينفع.
والمقاصد الشرعية تسهم في حماية األمة من ذلك السقوط بإذن اهلل ،ذلك أنها تعزز من مفاهيم
العقل والحرية -التي ينادي بها الناس جميعاً ،-ولكن من دون أن تضعها في وضع مناقض أو
َرخون المعطلون لهذه النصوص.
متحد للنصوص الشرعية ،كما يفعل الُمتَأ ُ
إذن ،فمقاصد الشريعة بأبعادها المختلفة تقدم منهجاً فكرياً ًّ أصيالً ،بل وفلسفة تشريع وفلسفة
أخالق ،يمكن أن تشكل إطا اًر منهجياً للتجديد اإلسالمي الشامل ،بدء من القواعد الكالمية
واألصولية ،وانتهاء باإلصالح ،والتنمية ،ومعالجة مشكالت الواقع الفقهية والعملية.
94
المبحث الثالث:
المقاصد والسياسة عند الشيخ
مقصد "العدل" هو من المقاصد العامة العليا في فكر الشيخ كما ذكرنا ،وهو المقصد األول في
فكره السياسي .فمفهوم الشورى الذي طالما يذ ّكر الشيخ به يهدف أول ما يهدف إلى إشراك
الناس في صنع القرار السياسي الذي يؤثر على حياتهم وادارة شؤونهم .كتب الشيخ يقول:
"ومن القيم اإلنسانية األساسية التي جاء بها اإلسالم ،وجعلها من مقومات الحياة
854
الفردية واألسرية واالجتماعية والسياسية( :العدل)".
والعدل عند الشيخ ال يقتصر على األفراد والمجتمعات ،بل كتب عن ما سماه "العدل
852
الذي يقوم على أساس المساواة بين البشر .ومن ثََّم ،فالشيخ يرفض مفهوم الدولي" ،
"العولمة" بمعناه االستعماري .كتب عن العولمة يقول:
"وربما كان معنى العولمة في ظاهره يقترب من معنى (العالمية) الذي جاء به اإلسالم،
ِّ ِ وأ ّكده القرآن في سوره المكية ،مثل قوله تعالى( :وما أَرسل َنا َ َّ
ك إِال َرح َمةً لل َعالَم َ
ين) ... ََ َ
ولكن هناك في الواقع فرق كبير بين مضمون (العالمية) الذي جاء به اإلسالم،
ومضمون (العولمة) التي يدعو إليها اليوم الغرب عامة ،وأمريكا خاصة .فالعالمية في
اإلسالم تقوم على أساس تكريم بني آدم جميعاً ( َولَقَد َك َّرم َنا َبنِي َ
آد َم) (اإلسراء ،)20
وسخر لهم ما في السماوات واألرض جميعاً منه. ّ فقد استخلفهم اهلل في األرض،
وكذلك على أساس المساواة بين الناس في أصل الكرامة واإلنسانية ،وفي أصل
التكليف والمسؤولية ،وأنهم جميعاً شركاء في العبودية هلل تعالى ،وفي البنوة آلدم ،كما
قال الرسول الكريم أمام الجموع الحاشدة في حجة الوداع( :يا أيها الناس ،أال إن ربكم
واحد ،وان أباكم واحد ،أال ال فضل لعربي على أعجمي ،وال أعجمي على عربي ،وال
8
القرضاوي .مالمح اجملتمع املسلم الذي ننشده .ص9- 2
8
القرضاوي .مدخل لدراسة الشريعة اإلسالمية .ص9
95
ألحمر على أسود ،وال أسود على أحمر إال بالتقوى ،)...وهو بهذا يؤكد ما قرره
اس ِإَّنا َخلَق َنا ُكم ِّمن َذ َك ٍر َوأُنثَى
النَّ ُ أَُّيهَا
القرآن في خطابه للناس كل الناسَ ( :يا
اللَّ ِه أَتقَا ُكم) (الحجرات .)84 :ولكن ِع َ
وبا َوقََبائِ َل ِلتَ َع َارفُوا إِ َّن أَك َرَم ُكم
ند َو َج َعل َنا ُكم ُش ُع ً
القرآن في هذه اآلية التي تقرر المساواة العامة بين البشر ،ال يلغي خصوصيات
الشعوب ،فهو يعترف بأن اهلل تعالى جعلهم (شعوباً وقبائل) ليتعارفوا.
أما (العولمة) فالذي يظهر لنا من دعوتها حتى اليوم :أنها فرض هيمنة سياسية
واقتصادية وثقافية واجتماعية من الواليات المتحدة األمريكية على العالم ،وخصوصاً
وباألخص العالم اإلسالمي ...إنها اسم مهذب لالستعمار
ّ عالم الشرق ،والعالم الثالث،
الجديد ،الذي خلع أرديته القديمة ،وترك أساليبه القديمة ،ليمارس عهداً جديداً من
855
الهيمنة تحت مظلة هذا العنوان اللطيف (العولمة) ."...
وباإلضافة إلى العدل ،فالحرية من أهم مقاصد السياسة عند الشيخ .كتب يقول:
"إن المعركة األولى للدعوة اإلسالمية والصحوة اإلسالمية في عصرنا هي معركة
الحرية .فيجب على كل الغيورين على اإلسالم أن يقفوا صفاً واحداً للدعوة إليها
والدفاع عنها ،فال غنى عنها وال بديل ..ولست بالمولعين باستخدام الكلمات األجنبية
كالديمقراطية ،بل إني أوثر استعمال المصطلحات اإلسالمية ،ولكن إذا شاع
نصم سمعنا عنه ،بل علينا أن نعرف المقصود منه وال يضيرنا أن
َّ المصطلح فلن
اللفظ جاء من غيرنا ،فإن مدار الحكم ليس على األسماء والعناوين؛ بل على
المسميات والمضامين ..وكثير من اإلسالميين يطالبون بالديمقراطية شكالً للحكم
وضماناً للحريات ،على أن تكون ديمقراطية حقيقية تمثل إرادة األمة ...وأنا من
المطالبين بالديمقراطية بوصفها الوسيلة الميسورة والمنضبطة لتحقيق هدفنا في الحياة
الكريمة التي نستطيع فيها أن ندعوا إلى اهلل دون أن يزج بنا في ظلمات المعتقالت أو
88
القرضاوي ،يوسف .اجمللة العلمية للمجلس الفقهي ارأورويب .العدد الثالث .خطابنا اإلسالمي يف عصر العوملة022 .م .ص 020-02
96
تنصب لنا المشانق ،كما أنها تحقق لشعوبنا حياة الحرية والكرامة وحقها في اختيار
حكامها ومحاسبتهم وتغييرهم إن انحرفوا دون حاجة إلى انقالبات أو اغتياالت أو
851
نحوها".
وكتب عن اإلمام حسن البنا يقول:
"واإلمام الشهيد حسن البنا عني -أول ما عني -بتصحيح فهم اإلسالم لدى المسلمين،
واعادة ما حذف منه على أيدي المتغربين والعلمانيين ...وبذل جهداً كبي اًر ليبين للناس:
852
أن السياسة جزء من اإلسالم ،وأن الحرية فريضة من فرائضه ."...
والشيخ يعيب على من سماهم بالظاهرية الجدد مواقفهم السياسية من المرأة ،ومن األقليات
غير المسلمة في مجتمعات األغلبية المسلمة ،ومن الديمقراطية عموماً ،والشيخ بذلك -في
نظري -يكشف المحتوى السياسي لألفكار الحرفية التي تتمسح بالدين وبالسلفية لتحقيق مآرب
سياسية معينة .كتب الشيخ عنهم يقول:
" ...وهم ال يقبلون أن تشهد المرأة في االنتخابات ،ويكون لها صوت باإليجاب أو
بالسلب .ناهيك أن ترشح لمجلس الشورى أو للنواب أو حتى للبلدية .وهم يدعون إلى
أن نأخذ من مواطنينا المسيحيين وأمثالهم :الجزية باسمها وعنوانها ،وأن ال نبدأهم
بالسالم ،واذا لقيناهم في الطريق ألجأناهم إلى أضيقه ،وأن نطبق عليهم ما ذكره
الفقهاء حرفيا في العصور الماضية من أحكام أهل الذمة ،ومنها تمييزهم في الزي عن
المسلمين .وهم يعترضون على ما ذكره الماوردى وغيره في أحكامه السلطانية من
جواز تولي أهل الذمة و ازرة التنفيذ .بل هم ينكرون ترشيحهم للمجالس النيابية .وهم
يرفضون تحديد مدة للوالية لرئيس الدولة ،وال بد أن تكون لمدى الحياة ،وينكرون على
من أجاز التحديد ،بأنه تقليد للكفار! ...ومن هنا يعتبرون الديمقراطية كلها (منك اًر)
تجب مقاومته ،وأخذ القرار باألكثرية( :بدعة غربية) مستوردة .وكذلك فكرة تكوين
97
(األحزاب) أو(الجماعات) كلها تدخل في دائرة الحديث الصحيح المتفق عليه( :من
851
أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) ،أي مردود عليه ."...
والشيخ بالتالي يدعو ألن تكون العبرة بالمقاصد والمعاني في السياسة الشرعية .كتب –مثالً-
معلقاً على اجتهاد عمر في قضية بني تغلب والجزية ،تحت عنوان "حاجتنا إلى هذا االجتهاد
العمري" ،يقول:
"إن اجتهاد عمر في قضية بني تغلب ،وقبوله منهم إسقاط (اسم الجزية) وعنوانها
عنهم ،ودفع ما يدفعونه إلى الدولة المسلمة أو إلى البيت المال باسم الزكاة أو
الصدقة :اجتهاد له قيمته وأهميته في باب السياسة الشرعية ،وخصوصا في عصرنا.
وما أحوجنا في الفقه السياسي إلى هذا اللون من االجتهاد العمري ...
ثم إنه في هذا االجتهاد :قرر قاعدة جليلة ال يجوز لمجتهد إغفالها ،وهي :أن العبرة
للمقاصد والمعاني ،ال لأللفاظ والمباني ،وأن مدار األحكام على المسميات
والمضامين ،ال األسماء والعناوين ،ولهذا لم يبال أن يسمي ما يأخذه من الجزية باسم
الصدقة والزكاة التي فرضها اهلل على المسلمين إذا كان تغيير االسم يحل مشكلة
859
قائمة".
ثم يربط منهج عمر رضي اهلل عنه في السياسة الشرعية بالمنهج الوسطي الذي يدعو له
ويعتبره هو المعبر عن روح اإلسالم .كتب يقول:
"لقد كان منهج عمر في آرائه واجتهاداته المتعلقة بالسياسة الشرعية هو منهج الوسط
المتوازن الذي نعتبره هو المعبر عن روح اإلسالم ،ووسطية اإلسالم .إنه المنهج الذي
يوازن بين النظر في النصوص الشرعية الجزئية ،والمقاصد الشرعية الكلية .وبعبارة
810
أخرى :إنه ينظر إلى النصوص في ضوء المقاصد".
89
القرضاوي .بني املقاصد الكلية والنصوص اجلزئية .ص . 2 - 8
88
القرضاوي .السياسة الشرعية يف ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها .ص8
22
نفسه .ص 00
98
نظرة مقاصدية للديمقراطية
2
2 -2 القرضاوي .فتاوى معاصرة .ج .0ص
99
" ...ال يوجد مانع شرعي من وجود أكثر من حزب سياسي داخل الدولة اإلسالمية ،إذ
المنع الشرعي يحتاج إلى نص وال نص .بل إن هذا التعدد قد يكون ضرورة في هذا
العصر؛ ألنه يمثل صمام أمان من استبداد فرد أو فئة معينة بالحكم ،وتسلطها على
سائر الناس ،وتحكمها في رقاب اآلخرين ،وفقدان أي قوة تستطيع أن تقول لها :ال،
أو :لم؟ كما دل على قراءة التاريخ ،واستقراء الواقع ...
إن تكوين هذه األحزاب أو الجماعات السياسية أصبحت وسيلة الزمة لمقاومة طغيان
السلطات الحاكمة ومحاسبتها ،وردها إلى سواء الصراط ،أو إسقاطها ليحل غيرها
محلها ،وهي التي يمكن بها االحتساب على الحكومة ،والقيام بواجب النصيحة واألمر
بالمعروف ،وما ال يتم الواجب إال به فهو واجب ...
وعلى هذا ال غضاضة وال حرج من اقتباس مبدأ التعدد الحزبي من الديمقراطية الغربية
بشرطين:
أولهما :أن نجد في ذلك مصلحة حقيقية لنا ،وال يضرنا أن نخشى من بعض المفاسد
من جرائه ،المهم أن يكون نفعه أكبر من ضرره ،فإن مبنى الشريعة على اعتبار
المصالح الخالصة أو الغالبة ،وعلى إلغاء المفاسد الخالصة أو الراجحة .وقوله تعالى
اس َوِاث ُمهُ َمآ أَك َب ُر ِمن َّنف ِع ِه َما) أصل
في الخمر والميسرُ ( :قل ِفي ِه َما إِثم َكبِير و َم َن ِافعُ لِلنَّ ِ
َ
في هذا الباب.
وثانيهما :أن نعدل ونطور فيما نقتبسه ،حتى يتفق مع قيمنا الدينية ومثلنا األخالقية،
817
وأحكامنا الشرعية ،وتقاليدنا المرعية".
وأما عن التدابير السياسية لألقليات غير المسلمة في المجتمعات المسلمة ،فالشيخ أيضاً ينحى
منحى مقاصدياً .كتب يقول:
20
نفسه .ص .222-280
100
"فليست عبارة عن (أهل الذمة) عبارة ذم أو تنقيص ،بل هي عبارة توحي بوجوب
الرعاية والوفاء ،تدينا وامتثاال لشرع اهلل .واذا كان اإلخوة المسيحيون يتأذون من هذا
المصطلح ،فليغير أو يحذف ،فإن اهلل لم يتعبدنا به ،وقد حذف سيدنا عمر رضي اهلل
عنه ما هو أهم منه ،وهو لفظ (الجزية) ،رغم أنه مذكور في القرآن ،وذلك استجابة
لعرب بني تغلب من النصارى ،الذين أنفوا من هذا االسم ،وطلبوا أن يؤخذ منهم ما
يؤخذ باسم الصدقة ،وان كان مضاعفا .فوافقهم عمر ،ولم ير في ذلك بأساً ،وقال:
هؤالء القوم حمقى ،رضوا بالمعنى ،وأبو االسم.
وهذا تنبيه من الفاروق على أصل مهم ،وهو النظر إلى المقاصد والمعاني ،ال إلى
األلفاظ والمباني ،واالعتبار بالمسميات ال األسماء ومن هنا نقول :إنه ال ضرورة
للتمسك بلفظ (الجزية) الذي يأنف منه إخواننا النصارى في مصر وأمثالهم في البالد
العربية واإلسالمية ،والذين امتزجوا بالمسلمين ،فأصبحوا يكونون نسيجاً قومياً واحدا.
فيكفي أن يدفعوا (ضريبة) أو يشتركوا بأنفسهم في الدفاع عن األمة والوطن فتسقط
814
عنهم.".
وقد ألف الشيخ كتاباً كامالً عن السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها،
فليراجع.
2
نفسه .ص2 2
101
المبحث الرابع:
المقاصد والقتصاد عند الشيخ
اهتم الشيخ -حفظه اهلل -باالقتصاد اإلسالمي أيما اهتمام وألّف فيه العديد من الكتب التي
تتناول الموضوع من جوانبه المتعددة .ولكن المقصود باالقتصاد اإلسالمي عند الشيخ هو
الصورة الكلية والقواعد العامة (مع بعض التفاصيل الهامة) وليس كل تفصيالت النظام
االقتصادي التي يراها تخضع للتغير والتطور .كتب تحت عنوان "شبهات حول وجود اقتصاد
إسالمي" ،يقول:
" ويحسن بي أن أذكر هنا خالصة مناقشة دارت بيني وبين صديق درس في جامعات
الغرب ،وذلك منذ أكثر من ربع قرن ،حول وجود اقتصاد إسالمي متميز عن
تغير رأيه،
االقتصادات الوضعية األخرى :رأسمالية واشتراكية ،وان كان هو اآلن قد ّ
ولكن لم يزل كثيرون يحملون نفس فكره وتوجهه .قال صاحبي-وهو من المثقفين
المخلصين : -هل تعتقد أن لإلسالم اقتصاداً خاصاً به ،وبعبارة أخرى :هل له نهج أو
نظام اقتصادي –أو سياسي -يميزه عن غيره من المناهج واألنظمة؟
قلت :إن كان المقصود بالنهج أو النظام :الصورة التفصيلية التي تشمل الفروع
والجزئيات والتطبيقات المتنوعة ،فاإلجابة عندي بالنفي ،وان كان المقصود :الصورة
الكلية التي تتضمن األسس الهادية والقواعد الحاكمة والتوجهات األساسية الضابطة،
812
وبعض الفروع ذات األهمية الخاصة ،فاإلجابة عندي باإليجاب".
وهذه الصورة الكلية واألسس الهادية والقواعد الحاكمة ،التي تحدث عنها الشيخ ،كلها وثيقة
الصلة بالمقاصد .فمثالً ،كما كان العدل مقصد السياسة األول ،فالعدل هو مقصد االقتصاد
األول عند الشيخ كذلك .كتب يقول:
2
القرضاوي ،يوسف .دور القيم وارأخالق يف االقتصاد اإلسالمي .مكتبة وهبة022 .م .ص 8-
102
"والعدل االجتماعي هو المتعلق بتوزيع الثروة ،بحيث ال تستأثر بها فئة قليلة وتحرم
منها الفئات األخرى ،بل َّ
تقدم الفئات الضعيفة على غيرها في توزيع ما أفاء اهلل به
ون ُدولَةً
على األمة من موارد ،مثل :عائدات النفط والغاز والماس ونحوهاَ :كي َال َي ُك َ
َبي َن األَغنَِياء ِمن ُكم .ومثل ذلك توزيع الفرص في التعليم والتوظيف والكسب
815
وغيرها" .
وهذا العدل االجتماعي اعتبار رئيس في اختيارات الشيخ الفقهية في المعامالت المالية عموماً.
كتب الشيخ عن مسألة نفقة الزرع في باب الزكاة يقول:
"ورعاية العدل الذي بنيت عليه الشريعة هو الذي جعلنا نرجح قول التابعي الجليل
اإلمام عطاء بن رباح في رفع نفقة الزرع من جملة المحصول ثم تزكية الباقي ،وجعلنا
نختار أن يزكي المستأجر الزرع الخارج بعد طرح النفقات ،ومنها أجرة األرض ،وأن
يزكي مالك األرض األجرة التي يقبضها بمجرد قبضها ،ويخرج منها العشر أو نصفه،
811
ألنها بدل عما يستحقه من الخارج لو زارع عليها ...إلى غير ذلك من األمثلة".
ومن باب العدل كذلك ،يدعو الشيخ إلى أن يكون التكافل االجتماعي دعامةً من دعامات
االقتصاد األساسية ،بل ويدخله في تعريف المصلحة عنده حين قال:
"نعني بالمصلحة :المحافظة على مقصود الشرع ،ومقصود الشرع من الخلق :أن
يحفظ عليهم :دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم وعرضهم وأمنهم وحقوقهم
812
وحرياتهم ،واقامة العدل والتكافل".
مقصد التكافل
ومن باب العدل االجتماعي كذلك ،جعل الشيخ التكافل من "مقاصد الشريعة اإلسالمية
األساسية" حين قال:
28
القرضاوي .دور القيم وارأخالق يف االقتصاد اإلسالمي .ص 8-
22
القرضاوي .فقه الزكاة .مؤسسة الرسالة .ص
2
القرضاوي .السياسة الشرعية يف ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها .ص 80-8
103
"من المؤكد أن الشريعة اإلسالمية تقيم اعتبا اًر أي اعتبار للقيم االجتماعية العليا،
وتعتبرها من مقاصدها األساسية ،كما دلت على ذلك النصوص المتواترة ،واألحكام
المتكاثرة .من هذه القيم -8 :العدل والقسط -7 .واإلخاء -4 .والتكافل-2 .والحرية.
811
.5والك ارمة".
وكتب الشيخ كتاباً عن "مشكلة الفقر وكيف عالجها اإلسالم" .ولكن الشيخ يطرح نظرة متوازنة
بين نظرية التحكم الحكومي في السوق عند االشتراكيين ونظرية حرية السوق الرأسمالية ،ويقدم
بذلك رؤية إسالمية توازن بين مقصدين شرعيين :الحرية التي تتيح للتجار تحديد األسعار،
والعدل الذي يقتضي منع االستغالل ،وهي بالتالي توازن بين "المصلحة الفردية التي ينادي بها
عشاق الوجودية وأنصار الرأسمالية ،ومصلحة الجماعة أو البروليتاريا كما يدعو إلى ذلك
819
فكتب يقول: أتباع الماركسية والمذاهب الجماعية" ،على حد قول الشيخ.
"إن فقهاء اإلسالم منذ عهد التابعين أجازوا تدخل أولي األمر لتسعير السلع واألشياء
عند الحاجة ،مع ما ورد عن النبي صلى اهلل عليه وسلم من امتناعه عن التسعير في
زمنه ،وعدم استجابته عندما طلبوا منه ذلك عند غالء األسعار.
فقد روى أنس :أن السعر غال على عهد النبي صلى اهلل عليه وسلم فقالوا :يا رسول
اهلل ،سعر لنا ،فقال( :إن اهلل هو المسعر القابض الباسط ،واني ألرجو أن ألقى اهلل،
وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم وال مال).
والحديث يدل على أن األصل هو حرية السوق ،وتركها للقوانين الطبيعية دون تدخل
مفتعل ،ولكن إذا تدخلت في السوق عوامل غير طبيعية ،من جهة المتالعبين أو
المحتكرين أو المستغلين لحاجات الناس ،وكانت مصلحة جمهور الناس تقتضي
التدخل من السلطة الشرعية بالتسعير أو التحديد أو اإللزام ،فإن التدخل حينئذ يكون
من شرع اهلل .يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية( :وأما التسعير ،فمنه ما هو ظلم محرم،
820
ومنه ما هو عدل جائز .")...
مقصد الحرية القتصادية
29
القرضاوي .مدخل ملعرفة اإلسالم .ص2- 8
28
القرضاوي .مدخل لدراسة الشريعة اإلسالمية .ص2 /20
2
القرضاوي .فتاوى معاصرة .ج .ص892
104
وكما كانت الحرية من مقاصد السياسة األساسية عند الشيخ ،فهي كذلك من مقاصد
االقتصاد ،ودائماً ما يدعو الشيخ إلى "الحرية االقتصادية" التي اعتبرها أحد أعمدة الحرية التي
جاء اإلسالم ليقرها في دنيا الناس .كتب يقول:
"جاء اإلسالم فقرر مبدأ الحرية ،وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كلمته
المشهورة :متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أح ار اًر .وقال علي بن أبي طالب
في وصية له :ال تكن عبد غيرك وقد خلقك اهلل ح اًر .فاألصل في الناس أنهم أحرار
بحكم خلق اهلل ،وبطبيعة والدتهم ...هم أحرار ،لهم الحق الحرية ...وليسوا عبيداً...
جاء اإلسالم فأقر الحرية في زمن كان الناس فيه مستعبدين :فكرياً ،وسياسياً،
828
واجتماعياً ،ودينياً ،واقتصادياً ."...
والشيخ كما ينعى على العولمة أنها تريد أن تفرض على العالم هيمنة سياسية معينة ،ينعي
عليها أنها تريد أن تفرض على العالم هيمنة اقتصادية ،كما مر .وبالتالي ،فالشيخ يرفض
االحتكار بكل صوره ،وتحت عنوان "المحتكر ملعون" ،كتب يقول:
"وبرغم أن اإلسالم يكفل الحرية لألفراد في البيع والشراء والتنافس الفطري ،فإنه ينكر
أشد اإلنكار أن تدفع بعض الناس أنانيتهم الفردية وطمعهم الشخصي إلى التضخم
827
المالي على حساب غيرهم ،واإلثراء ولو من أقوات الشعب وضرورياته".
وغاية االقتصاد -بشكل عام -عند الشيخ أن يخدم مقاصد حفظ الدين والنفس والعقل ،وليست
غاية مادية صرف .فتحت عنوان "غاية االقتصاد اإلسالمي ومهمته" ،كتب يقول:
"على أن اإلسالم يخالف تلك األنظمة الوضعية ،فيما هو أعمق من حرية الفرد
ومنفعة المجتمع ،انه يخالفها جميعاً في الروح واألساس ،وفي الغاية واالتجاه ،وفي
المهمة الوظيفية ...إن االقتصاد في تلك األنظمة المادية الوضعية ،مفصول عن
105
هم تلك األنظمة زيادة اإلنتاج ،وتنمية الثروة الفردية أو
المثُل العليا .وانما ّ
األخالق ،و ُ
الجماعية بأي طريق.
أما اإلسالم ،فاالقتصاد عنده خادم للقيم اإلسالمية ،والعقيدة اإلسالمية ،واألخالق
اإلسالمية ،فإذا تعارضت األغراض االقتصادية لألفراد أو المجتمع ،مع تلك القيم
وضحى بها قرير العين ،في سبيل الحفاظ
ّ واألخالق ،لم يبال اإلسالم بتلك األغراض،
على مبادئه وأهدافه وفضائله.
فإذا كان افتتاح ناد للميسر أو الرقص ،أو حانة لبيع الخمر ،يحقق منفعة اقتصادية،
فإن هذه المنفعة غير
كتشجيع السياحة ،والحصول على ُعملة أجنبية ،أو نحو ذلكّ ،
معتبرة في نظر اإلسالم؛ ألنها تتعارض مع مبادئه ،في الحفاظ على سالمة العقول
824
واألبدان واألخالق والعقائد والعالقات ."...
106
المبحث الخامس:
المقاصد واألسرة والمرأة عند الشيخ
أدخل الشيخ القرضاوي ،كما مر ،مفهوم "المحافظة على األسرة" ضمن مصطلحات
822
بل جعل "تكوين األسرة الضرورات الشرعية التي استقرى أن القرآن والسنة يقصدان إليها،
الصالحة وانصاف المرأة" في صلب المقاصد العليا التي استقراها من كتاب اهلل تعالى ،و كتب
يقول:
"ومن المقاصد التي هدف إليها القرآن :تكوين األسرة الصالحة ،التي هي ركيزة
825
المجتمع الصالح ،ونواة األمة الصالحة".
ونالحظ أن الشيخ ضم "إنصاف المرأة" إلى "تكوين األسرة" في المقصد الذي استقراه من
القرآن ،وهو مصطلح قريب من "إعطاء النساء حقوقهن" ،الذي استقراه السيد رشيد رضا أيضاً
821
وقد ذكر الشيخ القرضاوي ذلك ،ونقل عن السيد رشيد رضا بعضاً مما كتب، من القرآن.
قائالً:
" ...وحسبي هنا أن أسجل في هذا المبحث عن إنصاف المرأة وتحريرها :ما ذكره
العالمة محمد رشيد رضا رحمه اهلل في كتابه (الوحي المحمدي) عن المرأة ،واعتبره
822
أحد المقاصد األساسية للقرآن الكريم ." ...
ذلك أن الشيخ يؤمن بدور المرأة األساسي في تكوين األسرة وفي سالمة بنيانها .وقد مر بنا
كيف عبرت األخت الدكتورة هبة رءوف عن أثر "المنهج المقاصدي" الذي انتهجه الشيخ
107
القرضاوي على موقفه الوسطي من المرأة وتأكيد دورها داخل األسرة ،وكيف أن الشيخ قد
وضع لهذه الصورة الفاعلة لدور المرأة "إطا اًر من الفهم المقاصدي للشرع" ،باعتبارها الوحدة
االجتماعية األولى في بنية األمة المسلمة ،وواضعاً إياها في سلم األولويات ومحور
821
الحركة.
وكثي اًر ما يذكر الشيخ "تكريم المرأة" و"حماية المرأة" ونحو ذلك ،ضمن بحثه عن حكم التشريع
وأس ارره .فمثالً ،كتب عن الحكمة من المهر يقول:
"والحكمة من وراء شرعية هذا المهر عدة أمور:
-8تكريم المرأة بأن تكون هي المطلوبة ال الطالبة ،والتي يسعى إليها الرجل ،ال التي
تسعى إلى الرجل ،فهو الذي يطلب ويسعى ويبذل ،وعلى عكس األمم التي تكلف
المرأة أن تبذل هي للرجل من مالها ،أو مال أهلها ،حتى يقبل الزواج منها.
وهذ ا عند الهنود وغيرهم ،حتى إن المسلمين في باكستان والهند الزال عندهم رواسب
من هذه الجاهلية الهندوسية إلى اليوم ،مما يكلف المرأة وأهلها شططاً ،ويرهقهم عس اًر،
إلى حد أن بعض األسر تبيع ما تملك لتزوج بناتها ،ويا ويل أبي البنات الفقير ،وأم
البنات األرملة المسكينة!!
-7إظهار الرجل رغبته في المرأة ومودته لها ،فهو يعطيها هذا المال نحلة منه ،أي
عطية وهدية وهبة منه ،ال ثمناً للمرأة كما يقول المتقولون ...وفي ذلك يقول القرآن
ٍ ِ ِ ِ
ص ُدقَات ِه َّن نحلَةً فَِإن طب َن لَ ُكم َعن َشيء ِّمنهُ َنف ًسا فَ ُكلُوهُ
بصريح العبارةَ ( :وآتُوا النَّ َساء َ
َهنِ ًيئا َّم ِر ًيئا).
-4اإلشعار بالجدية ،فالزواج ليس ملهاة يتسلى بها الرجال ،فيقول الرجل للمرأة:
تزوجتك ويربطها به ،ثم ال يلبث أن يدعها ليجد أخرى يقول لها ما قال لألولى...
جاد في طلبه للمرأة ،جاد في االرتباط
وهكذا .إن بذل المال دليل على أن الرجل ّ
829
بها ."...
والمرأة الجاهلة ال تحسن تربية أوالدها وال رعاية أسرتها .ولذلك نجد الشيخ ينتقد من العلماء
من يضيق بتعليم المرأة .كتب يقول:
9
رؤوف ،هبة .املرأة وتيار الوسطية اإلسالمية .يوسف القرضاوي يوسف القرضاوي :كلمات يف تكرميه .دار السالم .القاهرة022 .م .ص 80
8
القرضاوي .فتاوى معاصرة .ج .0ص -
108
"وقد وقف بعض العلماء يوما في وجه تعليم المرأة ،ودخولها المدارس والجامعات من
باب سد الذرائع حتى قال بعضهم :تعلّم القراءة ال الكتابة! حتى ال تستخدم القلم في
ووجد أن التعلم في ذاته ليس
كتابة الرسائل الغرامية ونحوها! ولكن غلب التيار اآلخرُ ،
810
ش اًر ،بل ربما قادها إلى خير كثير".
التكوين المنشود لألسرة يبدأ بفهم مقاصد اإلسالم من الزواج نفسه ،والتي وضع الشيخ على
رأسها "االستجابة لسنة اهلل في الكون" .فكتب تحت عنوان "مقاصد اإلسالم من الزواج" يقول:
"(أ) سنة اهلل في الكون أن ال شيء فيه يستطيع أن يؤدي مهمته وحده ،بل خلقه اهلل
السنة شرع
محتاجاً إلى االتصال بغيره من نوعه ليكمل به ويكمله ...واستجابة لهذه ُ
اهلل سبحانه في عالمنا اإلنساني لوناً رفيعاً كريماً من االتصال بين الرجل والمرأة يليق
بمكانة اإلنسان وكرامته ،وهو ما نسميه (الزواج) ...
(ب) وبالزواج يحدث النسل ،الذي يمتد به وجود اإلنسان ،فيطول عمره ،ويتصل
عمله ،بذريته الصالحة من بعده ،ولهذا امتن اهلل على عباده فقالَ ( :واللّهُ َج َع َل لَ ُكم ِّمن
ات) ...وبالنسل أَنفُ ِس ُكم أَزواجا وجع َل لَ ُكم ِّمن أَزوا ِج ُكم بنِين وحفَ َدةً ورَزقَ ُكم ِّمن الطَّيِّب ِ
َ َ َ َ َ َ ََ َ َ ً َََ
يبقى النوع اإلنساني كله ،وتستمر حياته على األرض إلى ما يشاء اهلل من أجل
معلوم ...
(ج) والزواج -من جهة ثالثة -تمام الدين للمرء المسلم ،به يغض بصره ،ويعف نفسه،
ويجد متنفساً لشهوته في الحالل ،فال يفكر في الحرام ،ولهذا قال -صلى اهلل عليه
وسلم -عن الزواج( :أنه أغض للبصر وأحصن للفرج) ...
(د) والزواج ليس حفظاً للدين فحسب ،ولكنه أيضاً من مقومات السعادة الدنيوية ،التي
ال يكرهها اإلسالم ،بل يحبها ألتباعه ،ويوفرها ألبنائه ،ليفزعهم لما هو أعظم ،من
السمو بالنفس ،واالتصال بالمأل األعلى...
92
نفسه .ج .0ص2- 8
109
(هـ) وبالزواج يتفرغ الرجل إلتقان أعماله في خارج البيت ،مطمئناً إلى أن في بيته من
818
يدبر أمره ،ويحفظ ماله ،ويرعى أوالده ."...
وكتب الشيخ أيضاً عن "أهداف الزواج الشرعي" يقول:
"يجب أن يعي المسلم الذي يريد الزواج :أنه ليس مجرد ارتباط جسد بجسد ،بل ارتباط
إنسان بإنسان .واإلنسان عقل وضمير ووجدان ،وروح ،أكثر من كونه جسداً مادياً
يتكون من األجهزة والخاليا واألعصاب .وليس معنى هذا :أن المتعة الجسدية واشباع
الغريزة ،بمعزل عن أهداف الزواج الشرعي ،كال ،بل هي هدف أساسي من
األهداف ...ولكن المؤمن يريد من الزواج ما هو أكثر من هذا ،وهو إنشاء بيت
817
مؤمن ،وتكوين أسرة صالحة ،تكون مع غيرها نواة للمجتمع الصالح".
9
القرضاوي .مدخل ملعرفة اإلسالم .ص0 8-0 8
90
القرضاوي ،يوسف .ارأسرة كما يريدها اإلسالم .مكتبة وهبة0228 .م .ص 0-
110
المبحث السادس:
المقاصد والحوار عند الشيخ
مر بنا كيف أن الدعوة إلى اهلل دل االستقراء على أنها من المقاصد الشرعية األساسية التي
ُعني بها الشيخ في فكره وفقهه .والحوار -الذي هو وسيلة أساسية لهذه الدعوة -هو أيضاً مما
عنى به الشيخ .وللحوار بهذا المعنى مجاالن :مجال للحوار بين المذاهب اإلسالمية ،ومجال
للحوار بين المسلمين وغير المسلمين من أهل "الديانات" .ويستخدم الشيخ هذه الكلمة
"الديانات" بناء على استدالله باآلية (لكم دينكم ولي دين) ،وهو استدالل حسن.
أما الحوار والتقريب بين المذاهب اإلسالمية ،خاصة بين السنة والشيعة ،فالذي يظهر من
استقراء كتب الشيخ الكثيرة ومئات المحاضرات والخطب على مدار حياته المباركة – إلى وقت
قريب – أن الشيخ قد كتب عنه ودعا إليه ،بل وأفرد هذا الموضوع بالحديث في كتابه "مبادئ
في الحوار والتقريب بين المذاهب اإلسالمية" .وأما عالقة هذا الحوار بالمقاصد الشرعية فهو
سماها الشيخ "نقاط االتفاق" ،وطلب من الفريقين
أن المقاصد من الموضوعات األساسية التي ّ
أشرت إلى ذلك سابقاً باإلشارة إلى ما
ُ أن يركزوا عليها في حوارهم وسعيهم نحو التقريب ،كما
كتب الشيخ تحت عنوان "التركيز على نقاط االتفاق" ،إذ يقول:
"والمهم أن الفقهين في النهاية -فقه السنة وفقه الشيعة -يتقاربان على حد كبير ،ألن
المصدر األصلي واحد ،وهو الوحي اإللهي المتمثل في القران والسنة ،واألهداف
814
األساسية والمقاصد الكلية للدين واحدة عند الفريقين ."...
9
القرضاوي ،يوسف .مبادئ يف احلوار والتقريب بني املذاهب اإلسالمية .مكتبة وهبة0228 .م .ص 09،
111
الحوار مع غير المسلمين
أما الحوار مع غير المسلمين وعالقته بمقاصد الشريعة ،فالشيخ يركز فيه أيضاً على نقاط
االتفاق بين المسلمين وغيرهم مما يتعلق بقضايا العدل ورفع الظلم ومقاومة اإلباحية والحفاظ
على األسرة ،وغيرها مما يدخل في إطار مقاصد اإلسالم العليا وأخالقه اإلنسانية .فكتب عن
"نصرة قضايا العدل" يقول:
"الوقوف معاً [مع أهل األديان] لنصرة قضايا العدل ،وتأييد المستضعفين والمظلومين
في العالم مثل قضية فلسطين والبوسنة والهرسك ،وكوسوفا ،وكشمير ،واضطهاد السود
والملونين في أمريكا وفي غيرها ،ومساندة الشعوب المقهورة ضد الظالمين والمستكبرين
في األرض بغير الحق ،الذين يريدون أن يتخذوا عباد اهلل عباداً لهم .فاإلسالم يقاوم
الظلم ،ويناصر المظلومين ،من أي شعب ،ومن أي جنس ،ومن أي دين.
والرسول صلى اهلل عليه وسلم ذكر حلف الفضول الذي شارك فيه في شبابه في
الجاهلية ،وكان حلفاً لنصرة المظلومين ،والمطالبة بحقوقهم ،ولو كانت عند أشراف
القوم وسراتهم .وقال صلى اهلل عليه وسلم( :لو دعيت إلى مثله في اإلسالم
812
ألجبت)".
وكتب عن "منع الظلم" يقول:
"وفي مقابل ذلك تمنع الشريعة الظلم بكل صوره ،وفي كل المجاالت ،وتقف مع
المظلوم ضد الظالم ،أياً كان هذا الظالم ،وخصوصاً إذا كان المظلوم مستضعفاً،
كالمحكوم مع الحاكم ،والفقير مع الغني ،والعامل مع رب العمل ،والمرأة مع الرجل،
815
الذمي أو المستأمن مع المسلم".
والصغير مع الكبير ،والغريب مع صاحب الدار ،و ّ
وقد ذكرنا فيما سبق كيف أن الشيخ يعيب على من سماهم بالظاهرية الجدد مواقفهم من
األقليات غير المسلمة في مجتمعات األغلبية المسلمة ،إذ يقول:
9
القرضاوي .فتاوى معاصرة .ج .0ص 8
98
القرضاوي .مدخل لدراسة الشريعة اإلسالمية.
112
"وهم يدعون إلى أن نأخذ من مواطنينا المسيحيين وأمثالهم :الجزية باسمها
811
وعنوانها ."...
ولعلي أسمح لنفسي هنا بالتعليق على ما كتبه شيخنا في كتابه (فقه الجهاد) عن موضوع
قريب من ذلك يتعلق بغير المسلمين ،إذ ذكر التالي تحت عنوان "جواز االسترقاق للمصلحة
العليا لألمة":
"وما خرج عن (المن والفداء) فهو عند التأمل من باب (السياسة الشرعية) التي يتخذ
ولي األمر فيها ق ارراته وفق المصلحة العليا لألمة ...فمن ذلك :االسترقاق
812
لألسرى ."...
إال أن الشيخ حفظه اهلل ذكر في نفس السياق:
"كان الرق نظاماً سائداً في العالم كله ،ولم يكن من مصلحة المسلمين أن يلغوه وحدهم
811
وأعداؤهم يتعاملون به ،لهذا أبقوه مع إدخال إصالحات عليه ."...
ورأيي المتواضع هنا هو أنه كان ينبغي أن ينسحب (تغير العصر) على مسألة الرق حتى
تعود من (الجواز) إلى األصل في مسألة استعباد الناس وهو (التحريم) .ومراعاة تغير العصر
في مثل هذه المسائل هو رأي شيخنا حفظه اهلل في قضايا أخرى شبيهة بذلك من قضايا
(السياسة الشرعية) ،كقضية الغنائم التي كتب فيها يقول:
"ما الحكم في عصرنا وقد اختلف الحال عما كان عليه في عصر النبوة وما بعده ،فقد
أصبحت الجيوش والقوات المسلحة تحتاج إلى نفقات هائلة ...وبهذه الصورة تغير
الوضع تماماً عما كان عليه من قبل ،وهذه األحكام ليست تعبدية محضة ،بل هي
أحكام مفهومة مربوطة بعللها وأسبابها ،والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ...واذا
كان سيدنا عمر وقف متأمالً في النص القرآني المتعلق بتقسيم الغنائم في سورة
األنفال ،مجتهداً في تفسيره ،بحيث خصص عمومه ،وقصره على غير األرض
والعقار ،فإن من حقنا في هذا العصر الذي تغيرت فيه األوضاع العسكرية والمالية
لنحرفه أو نلوي
عما كان قديماً :أن نقف وقفة أخرى أمام النص القرآني المقدس ،ال ّ
92
القرضاوي .بني املقاصد الكلية والنصوص اجلزئية .ص . 2 - 8
9
القرضاوي ،يوسف .فقه اجلهاد .مكتبة وهبة0228 .م .ص989
99
نفس املصدر
113
عنقه ،ولكن لنحاول أن نفهمه في ضوء معطيات واقعنا الذي نعيشه ،ولن نجد في
أحسنا فهمه – ما يمنعنا من االجتهاد في تغيير الحكم القديم في تقسيم
ّ النص – إذا
الغنائم ،وهو الذي حمله إلينا فهمنا التقليدي وهو – بال شك – حكم صائب في زمنه،
819
ولكنه ليس صائباً في زمننا ."...
وهذا "التأريخ" للغنائم ،واسترقاق األسرى ،وتقسيم العالم إلى دار حرب ودار إسالم ،وما شابه
ذلك من مسائل السياسة الشرعية هو األولى لتحقيق المقاصد الشرعية المرجوة من الحوار مع
غير المسلمين التي ذكرها الشيخ آنفاً ،واهلل أعلم.
98
القرضاوي ،يوسف .فقه اجلهاد .مكتبة وهبة0228 .م .ص9 8-9 0
114
الفصل الرابع
115
هذا الفصل يبحث في أثر المقاصد في فقه الشيخ القرضاوي ،وهو األثر الذي يظهر دائماً
وبقوة في فتاواه واجتهاداته ،اإلنشائية منها واالنتقائية ،وما بني منها على طريقة من طرق
االستنباط ،وحتى ما بني منها على األخذ بظواهر النصوص أحياناً .ويوضح الفصل دور
المقاصد في المناهج واألدوات األصولية التي أخذ بها الشيخ ،كالقياس ،وسد الذرائع ،والحكم
بالمآل ،واعتبار تغير الظروف ،وغيرها .كما يناقش الفصل دور المقاصد في آراء الشيخ في
بعض القضايا األصولية ذات األثر في اجتهاده الفقهي ،كالنسخ ،والحيل الفقهية ،ومراعاة
قصد المكلف .وأورد بعض المسائل والفتاوى مما كتب الشيخ في كل مبحث ،بغرض التمثيل
ال االستقصاء.
المبحث األول:
الستصالح (أو الجتهاد اإلنشائي)
ينهج الشيخ منهجاً استصالحياً مقاصدياً حين َيفتقد النص الجزئي قطعي الثبوت قطعي الداللة
في المسألة .وأحسب أن هذا المنهج هو ما قصد الشيخ بـ "االجتهاد اإلنشائي" ،وهو أيضاً
المنهج الذي يتبعه في حدود ما سماه "منطقة العفو" التي تخلو من النصوص .كتب يوضح
هذا المنهج ويقول:
كلياً وجذرّياً ،ترك
بتغير الزمان والمكان واإلنسان تغي اًر ّ
"وباالستقراء عرفنا أن ما يتغير ّ
الشارع النص عليه ،وهو منطقة (العفو) التي تحدثنا عنها .وهي متروكة الجتهاد
العقل اإلسالمي ،يشرع لها ما يناسب زمانه ومكانه في ضوء النصوص ومقاصد
890
الشريعة العامة".
واعتبر الشيخ وجود واتساع هذه المنطقة (منطقة العفو) العامل األول من "عوامل السعة
والمرونة في الشريعة اإلسالمية" .كتب يقول:
"العامل األول :سعة منطقة العفو المتروكة قصداً :إن أول هذا العوامل ما يلمسه
الدارس للشريعة وفقهها من اتساع منطقة (العفو) أو الفراغ التي تركتها النصوص
82
القرضاوي .السياسة الشرعية يف ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها .ص
116
قصداً ،الجتهاد المجتهدين في األمة ليملؤوها بما هو أصلح لهم ،وأليق بزمانهم
898
وحالهم ،مراعين في ذلك المقاصد العامة للشريعة ."...
ويحذر الشيخ من ادعاء االستصالح في وجود النصوص (التي ال تحتمل التأويل) ،واالنتهاء
إلى نتائج تعارض هذه النصوص ،إذ يبين الشيخ أنه يستحيل أن يتعارض (النص القطعي)
و(المصلحة الحقيقية) .كتب تحت عنوان "معارضة النصوص بدعوى المصلحة" ،يقول:
"ومن أهم ما يجب التنبيه عليه والتحذير منه ما أشرنا إليه في حديثنا عن (الضوابط)
وهو :توهم أن توجد مصالح حقيقية تعارض النصوص القطعية ...
والحق أن هذه الدعوى العريضة ال يؤيدها دليل من العقل وال من النقل وال من الواقع.
بل تنقصها أدلة العقول والنقول والوقائع.
وبين أحكامها ،وكلّف خلقه العمل بها ،هو الذي فإن الذي أنزل هذه الشريعة اإللهيةّ ،
خلق الناس ،وعلم ما هم في حاجة إليه من األحكام فشرعه ،وعلم ما يصلحهم ويرقى
ق َو ُه َو اللَّ ِط ُ
يف ال َخبِ ُير؟) .فهو أعلم بهم بهم من الشرائع فألزمهم به( .أ ََال َيعلَ ُم َمن َخلَ َ
من أنفسهم ،وأبر بهم من أنفسهم ،وأرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم ...
ولهذا كان تصور مصلحة حقيقية تعارضها النصوص القطعية ،تصو اًر نظرياً أو
افتراضياً محضاً ،ال وجود له في أرض الواقع.
وينبغي أن نحرر محل النزاع هنا ،وهو التعارض بين قطعي النصوص ،وقطعي
المصالح ،وهو ما نقول بامتناعه.
أما التعارض بين مصلحة حقيقية معتبرة وبين نص محتمل للتأويل ،فهذا قد وقع ويقع.
وهنا يجب تأويل النص ليتفق مع المصلحة المعتبرة شرعاً ...
897
وكذلك التعارض بين نص قطعي ومصلحة موهومة ال يدخل فيما نحن فيه."...
واألمثلة التالية تبين بعضاً من هذه القضايا التي لم يثبت فيها نص ،أو تعلّقت بها نصوص لم
تدل عليها تحديداً ،وبالتالي رجع الشيخ فيها إلى مقاصد الشريعة ،كما ذكر.
8
القرضاوي .مدخل لدراسة الشريعة اإلسالمية .ص80
80
القرضاوي .املرجعية العليا يف اإلسالم للقرآن والسنة .ص8 - 88
117
دية المرأة ومقصد المساواة
اشتهر عن المالكية والحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية والزيدية والجعفرية واإلباضية ،أن
دية المرأة على النصف من دية الرجل .ولكن الشيخ القرضاوي بحث القضية في ضوء
النصوص :فلم يصح عنده فيها نص ،وفي ضوء اإلجماع :فثبت عنده عدم وقوعه ،وفي
ضوء المقاصد :فانتهى إلى التسوية بين الرجل والمرأة في الدية .وكتب يقول:
"الدية ليس فيها حديث متفق على صحته ،وال إجماع مستيقن ...واذا لم يصح حديث
في القضية ُيحتج به ،فكذلك لم يثبت فيها إجماع ،على ما في اإلجماع من كالم .بل
السلَف -إلى التسوية بين الرجل والمرأة في الدية،
ذهب ابن علية واألصم –من فقهاء ّ
وهو الذي يتفق مع عموم النصوص القرآنية والنبوية الصحيحة واطالقها .ولو ذهب
إلى ذلك ذاهب اليوم ،ما كان عليه من حرج ،فالفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان،
فكيف إذا كانت تتمشى مع النصوص الجزئية والمقاصد الكلية للشريعة؟
وهو ما ذهب إليه شيخنا الشيخ محمود شلتوت في كتابه (اإلسالم عقيدة وشريعة).
قال رحمه اهلل تحت عنوان (دية الرجل والمرأة سواء)( :واذا كانت إنسانية المرأة من
القصاص)إنسانية الرجل ،ودمها من دمه ،والرجل من المرأة والمرأة من الرجل ،وكان ( ِ
الح َكم بينهما في االعتداء على النفس ،وكانت جهنم والخلود فيها ،وغضب اهلل
هو َ
ولعنته ،هو الجزاء األخروي في قتل المرأة ،كما هو الجزاء األخروي في قتل الرجل –
894
فإن الدية في قتل المرأة خطأ ،هي الدية في قتل الرجل خطأ)".
واالستنساخ من القضايا الجديدة التي ليس فيها نص خاص يتعلق بها من قريب أو بعيد،
وبالتالي يتعذر الحكم فيها بناء على استدالل أو قياس .وهنا رجع الشيخ إلى مقاصد الشريعة
العامة وسنن اهلل في خلق الكون يلتمس الحكم ،وكتب يقول:
"الستنساخ في عالم الحيوان جائز بشروط:
8
القرضاوي ،يوسف .مركز املرأة يف احلياة اإلسالمية .مكتبة وهبة القاهرة0228 .م .ص 09-0
118
ونحن إذا نظرنا إلى قضية االستنساخ ،فنحن نجيزه في عالم الحيوان بشروط :األول:
أن يكون في ذلك مصلحة حقيقية للبشر ،ال مجرد مصلحة متوهمة لبعض الناس.
الثاني :أال يكون هناك مفسدة أو مضرة أكبر من هذه المصلحة ،فقد ثبت للناس اآلن
-وألهل العلم خاصة -أن النباتات المعالجة بالوراثة إثمها أكبر من نفعها ،وانطلقت
صيحات التحذير منها في أرجاء العالم .الثالث :أال يكون في ذلك إيذاء أو إضرار
بالحيوان ذاته .ولو على المدى الطويل ،فإن إيذاء هذه المخلوقات العجماوات حرام في
دين اهلل.
الستنساخ في مجال البشر ل يجوز:
...وهنا نقول :أن منطق الشرع اإلسالمي-بنصوصه المطلقة ،وقواعده الكلية،
ومقاصده العامة -يمنع دخول هذا االستنساخ في عالم البشر ،لما يترتب عليه من
المفاسد اآلتية:
الستنساخ ينافي التنوع:
إن اهلل خلق هذا الكون على قاعدة (التنوع) ولهذا نجد هذه العبارة ترد في القرآن كثي اًر
بعد خلق األشياء واالمتنان بها على العباد (مختلف ألوانه) فاختالف األلوان تعبير عن
ظاهرة (التنوع) ...واالستنساخ يناقض التنوع ،ألنه يقوم على تخليق نسخة مكررة من
الشخص الواحد ،وهذا يترتب عليه مفاسد كثيرة في الحياة البشرية واالجتماعية،
بعضها ندركه ،وبعضها قد ال ندركه إال بعد حين ...
على أن االستنساخ بالصورة التي قرأناها وشرحها المختصون :ينافي ظاهرة (االزدواج)
أو سنة (الزوجية) في هذا الكون الذي نعيش فيه .فالناس خلقهم اهلل أزواجاً من ذكر
وأنثى ،وكذلك الحيوانات والطيور والزواحف والحشرات ،بل كذلك النباتات كلها .بل
كشف لنا العلم الحديث أن االزدواج قائم في عالم الجمادات ،كما نرى في الكهرباء
ظاهرة الموجب والسالب ،بل إن (الذرة) –وهي وحدة البناء الكوني كله -تقوم على
892
إلكترون وبروتون ،أي شحنة كهربائية موجبة ،وأخرى سالبة ،ثم النواة".
8
القرضاوي .فتاوى معاصرة .ج .0ص 80 -80
119
النتخابات ومقصد الشورى
وهذه قضية أخرى من "منطقة العفو" ،ليس فيها نصوص واضحة ثابتة -أخذ فيها الشيخ بما
يحقق مبدأ أو مقصد الشورى.
"قال تعالى في القرآن المكي( :وأمرهم شورى بينهم) (الشورى .)41وقال في القرآن
المدني( :وشاورهم في األمر) (آل عمران .)859
ولكن كيف تكون الشورى؟ ومن المستشارون؟ وكيف يختار أهل الحل والعقد؟ وكيف
يبايع الخليفة ويختار؟
لم يعين الشرع وسيلة لذلك ،بل تركها للمسلمين ،يجتهدون في اختيارها وتحديدها،
وتحسينها وتطويرها ،حسب الزمان والمكان ،ولذلك اختلفت طريقة اختيار الخلفاء
الراشدين األربعة ،كل حسب ظروفه اختياره .وفي عصرنا يمكننا اختيار طريقة
الترشيح وانتخاب األفضل بأغلبية األصوات ،كما هو شأن النظام الديمقراطي ...وهكذا
نجد كثي اًر من (المبادئ) أو (المقاصد) الشرعية ،ترك الشارع الحكيم تحديد وسائل
معينة لتحقيقها ،قصدا للتوسعة على الناس ،غير غافل وال نسيان ،وهو داخل فيما
895
أسميناه( :منطقة العفو) التي تركها الشارع قصداً تيسي ار على الناس ،ورحمة بهم".
وهذه المسألة من المسائل التي اشتد فيها الخالف مؤخ اًر بين اإلجازة والتحريم ،حتى إن المجلس
األوروبي لإلفتاء والبحوث بحث فيها على مدار ثالث دورات متتابعات ،ولم يصل أعضاؤه فيها
إلى قرار يجمعون عليه .وانتهى المجلس إلى تخصيص عدد كامل من مجلته العلمية لهذه
المسألة ،تضمن كل األبحاث القيمة التي قُدمت للمجلس ،وفيها بحث الشيخ القرضاوي.
ورأي الشيخ في هذه المسألة ينتهي إلى إقرار الزوجين على نكاحهما وتخيير المرأة في أن
تبقى أو تفارق زوجها أو يفرق بينهما سلطان (أي حكم قضائي) ،وهو رأي بناه على عدم
88
بني املقاصد الكلية والنصوص اجلزئية .ص- 8
120
وجود نص في المسألة إال النصوص التي استدل بها على تحريم زواج المسلمة بغير المسلم
891
وأنقل هنا بعضاً من كالم الشيخ -حفظه اهلل: ابتداء (وليس بقاء).
"تبين لي أن اإلجماع صحيح وثابت بالنظر إلى تزويج المسلمة بغير المسلم ابتداء،
فهذا حرام مقطوع به ،ولم يقل به فقيه قط ،ال من المذاهب األربعة ،أو الثمانية ،أو
من خارج المذاهب ،فهو إجماع نظري وعملي معاً ،وهو ثابت ومستقر بيقين.
أما الذي ذكر المحقق ابن القيم فيه الخالف ،فهو فيما كانت المرأة غير المسلمة
متزوجة أصالً من غير المسلم ،وشرح اهلل صدرها لإلسالم ،فأسلمت ولم يسلم زوجها،
892
فهذه هي التي حدث فيها الخالف ."...
ثم عقب الشيخ على الرأي الذي قال" :هما على نكاحهما ما لم يفرق بينهما سلطان" ،مشيداً
بتحقيقه لمقصد التيسير ،فقال:
"وهذا تيسير عظيم للمسلمات الجدد ،وان كان يشق على الكثيرين من أهل العلم؛ ألنه
خالف ما ألفوه وتوارثوه ،ولكن من المقرر المعلوم أنه (يغتفر في البقاء ما ال يغتفر
891
في االبتداء) .وهذه قاعدة فقهية مقررة ."...
82
وقد استفدت من ما كتبه الشيخ حني كتبت حبثاً عن هذا املوضوع ضمن :عودة ،جاسر .فقه املقاصد .املعهد العاملي للفكر اإلسالمي0222 .م.
8
القرضاوي ،يوسف .يف فقه ارأقليات املسلمة .دار الشروق0220 .م .ص
89
نفسه .ص 0
121
المبحث الثاني:
الترجيح (أو الجتهاد النتقائي) بناء على المقاصد
يختلف العلماء في أغلب المسائل الفرعية ،كل حسب مذهبه ومشربه ،بل لعل الباحث في
الخالف في كثير من المسائل يجد فيها "كل االحتماالت العقلية الممكنة" ،كما يقول الشيخ
القرضاوي .في هذه الحالة ،ال يتعصب الشيخ القرضاوي لمذهب وال عالم معين ،وانما يأخذ
بما يراه صالحاً للناس وموافقاً لمقاصد الشرع .كتب عن الترجيح بين اآلراء المختلفة يقول:
"ال ريب أن هذه اآلراء المختلفة المنازع ،المتعددة المشارب ،تمثل ثروة طائلة في عالم
الفقه ،يستفيد منها الباحثون ،وينتقون منها ما يصلح لحل مشكالتهم ،واإلجابة عن
تساؤالتهم ،فقد يصلح قول أو مذهب لزمن ويصلح آلخر ،ويصلح لبيئة وال يصلح
ألخرى ،ويصلح في حال وال يصلح في أخرى .والواجب على اإلمام -أو ولي األمر-
إن كان من أهل االجتهاد ،هو االختيار والترجيح :أن يختار من بين هذه اآلراء
واالجتهادات ،ما يراه أرجح دليالً ،وأهدى سبيالً ،وما يعتقد أنه أقرب إلى تحقيق
899
مقاصد الشرع ."...
وكتب تحت عنوان "التحرر من العصبية والتقليد" يقول:
"ولكن حسب العالم المستقل في هذا الموقف أمور ... :أن يكون قاد اًر على الترجيح
بين األقوال المختلفة ،واآلراء المتعارضة بالموازنة بين أدلتها ،والنظر في مستنداتها
من النقل والعقل ،ليختار منها ما كان أسعد بنصوص الشرع ،وأقرب إلى مقاصده،
وأولى بإقامة مصالح الخلق التي نزلت لتحقيقها شريعة الخالق .وهذا أمر ليس بالعسير
على من ملك وسائله من دراسة العربية وعلومها ،وفهم المقاصد الكلية للشريعة،
700
بجانب االطالع على كتب التفسير والحديث والمقارنة".
وهذه بعض األمثلة من فتاوى الشيخ -حفظه اهلل -أذكر فيها كل مسألة متبوعة باختيار الشيخ
فيها .والحظ أثر المقاصد في كل هذه االختيارات.
122
مسألة أداء القيمة في الزكاة
123
أن الطعام كان في ذلك العهد أيسر على المعطي ،وأنفع لآلخذ .واهلل أعلم
707
بالصواب".
124
مسألة زكاة الحلي
028نفسه .ص080
022نفسه .ص9 8-9 9
125
المبحث الثالث:
المقاصد ومناسبة القياس
القياس هو :إلحاق مسألة سكت ٍت عنها النصوص بمسألة منصوص على حكمها ،بناء على
اشتراك المسألتين في علة هذا الحكم .وهو مصدر (ثانوي) من مصادر األحكام الشرعية عند
األصوليين على اختالف مذاهبهم وِف َرِقهم ،إال الظاهرية الذين أنكروا القياس ،سواء ُنص على
المستنبطة دون
َ علته أو استُنبطت من النص ،وكذلك اإلمامية والزيدية ،الذين أنكروا العلل
702
المنصوص عليها.
الحكم (وهو حكم هذه المسألة
وأركان القياس أربعة :األص ُل (وهو المسألة المنصوص عليه) ،و ُ
المنصوص عليه من تحليل ،أو تحريم ،أو غيرها من أنواع األحكام) ،والفرعُ (المسكوت عن
حكمه في النصوص الجزئية) ،والعلة (وهي وصف .8 :ظاهر ،أي واضح يمكن إدراكه
والتحقق من وجوده .7 .منضبط ،أي ال يختلف باختالف موصوِفه وال باختالف الصور
تعدي ،أي أن ال يكون خصوصية للرسول صلى اهلل عليه واألشخاص واألزمان واألحوال .4 .م ّ
وسلم مثالً أو أحد أصحابه .2 .معتبر ،أي أن ال يكون الشارع قد أورد أحكاما تدل على عدم
701
االعتداد به).
الظهور واالنضباطَ فيهما
َ أما التعدي واالعتبار فليس فيهما خالف بين األصوليين ،ولكن
خالف .فرأى بعض األصوليين أنه يجوز التعليل بما أطلقوا عليه "الحكمة" ،وهي مصلحة
مظنونة مترتبة على الحكم ،ولو أن هذه المصلحة قد تخفى على العباد فتفتقد شرط الظهور ،وقد
709
تتغير حسب األحوال واألشخاص فتفتقد شرط االنضباط ،بل قد يتخلف عنها الحكم.
الحكم ألجله" ،وهو تعريف
ُ وهناك من األصوليين من رأى أن العلة هي "المعنى الذي ُش ِرع
ِ
المقصد ،ولكن العلةَ كما يراها جمهور األصوليين هي يقترب بتعريف العلة كثي اًر من تعريف
02عودة ،جاسر .فقه املقاصد .املعهد العاملي للفكر اإلسالمي0222 .م .ص 89-82
029نفسه
028نفسه
126
"الوصف الذي جعله الشارع مناطاَ لثبوت الحكم بناء على أنه مظنة لتحقيق المصلحة المقصودة
780
للشارع من شرع الحكم".
هذه "المصلحة المقصودة" هي "المعنى المناسب" التي ساواه أبو حامد الغزالي بالمقاصد ،ونقل
ذلك عنه الشيخ القرضاوي في كتابه "السياسة الشرعية" ،وغيره .كتب أبو حامد يقول:
"مقصود الشرع من الخلق خمسة :وهو أن يحفظ عليهم :دينهم ،ونفسهم ،وعقلهم،
ونسلهم ،ومالهم .فكل ما يتضمن حفظ هذه األصول الخمسة ،فهو مصلحة .وكل ما
يفوت هذه األصول ،فهو مفسدة ،ودفعها مصلحة .واذا أطلقنا المعنى المخيل
788
والمناسب -في كتاب القياس -أردنا به هذا الجنس".
ويظهر لي من استقراء استدالالت الشيخ القرضاوي الفقهية أن الشيخ ال يقيس بـ"الحكمة"،
وانما يقيس بالوصف الظاهر المنضبط ،مراعياً "المعنى المناسب" ،أي المقصد .وهذا ما تبينه
األمثلة التالية من فتاوى الشيخ -حفظه اهلل -أذكر فيها كل مسألة متبوعة باختيار الشيخ فيها.
والحظ أثر المقاصد في كل هذه االختيارات.
0 2نفسه
0القرضاوي .السياسة الشرعية يف ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها .ص9 -92
127
مع ما في ذلك من سد ذريعة المفاسد ،وهي تضخم األموال وحصرها في أناس
معدودين- ،وهو المشار إليه بقوله تعالى في حكمة قسمة الفيء( :كيال يكون دولة
بين األغنياء منكم) -فهل يعقل أن يخرج من هذه المقاصد الشرعية كلها التجار الذين
787
ربما تكون معظم ثروة األمة في أيديهم؟".
قياس كل مال نام على األموال المنصوص عليها فيما يؤخذ منه الزكاة
وهذه مسألة أخرى تغيب فيها "العالمة" أو السبب الذي يوجب الصالة ،مثل غروب الشمس أو
الغسق ،أو تتأخر تأخ اًر شديداً ،مما أدى بالشيخ إلى القياس مع اعتبار مقصد التيسير .وكتب
الشيخ يقول:
"وفي رواية :جمع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بين الظهر والعصر ،وبين المغرب
والعشاء ،بالمدينة من غير خوف وال مطر .قيل البن عباس :ما أ ارد إلى ذلك؟ قال:
أراد أال يحرج أمته ...وهذا التعليل من حبر األمة ابن عباس ،يعني :أنه أراد أن يوسع
على األمة وييسر عليها ،وال يوقعها في الحرج والضيق ،فما جعل اهلل في هذا الدين
من حرج ،بل يريد اهلل بعباده اليسر ،وال يريد بهم العسر.
وعلى كل حال عندنا حديث صحيح ال مطعن في صحته ،رواه ابن عباس وأقره عليه
عملياً ،واستشهد به في الرد على من أنكروا عليه تأخير
ّ أبو هريرة ،وطبقه ابن عباس
128
صالة المغرب ،وقد علله بما علله به ،وهذا كله يفيدنا في الجواب عن السؤال
المعروض علينا ،وهو جواز الجمع بين صالتي المغرب والعشاء في أوروبا في فترة
الصيف حين يشتد تأخر وقت العشاء إلى منتصف الليل أو بعده ،والناس يطالبون
بالذهاب إلى أعمالهم في الصباح الباكر ،فكيف نكلفهم السهر ألداء العشاء في وقتها،
وفي حرج وتضييق عليهم ،وهو مرفوع عن األمة بنص القرآن ،وبما قاله راوي حديث
الجمع بين الصالتين في الحضر :ابن عباس أيضاً رضي اهلل عنهما.
جداً ،وصعوبة
بل يجوز الجمع في تلك البالد في فصل الشتاء أيضاً ،لقصر النهار ّ
أداء كل صالة في وقتها للعاملين في مؤسساتهم ،إال بمشقة وحرج ،وهو مرفوع عن
782
األمة".
129
المبحث الرابع:
المقاصد و"تغير الظروف التي قيل فيها النص"
يشرح الشيخ منهجه في "تغير الفتوى بتغير الظروف" وبناء على رعاية المقاصد .ولكن المعنى
الدقيق هنا هو أن الشيخ يراعي تغير الظروف ليس فقط بالمقارنة مع عهد الصحابة أو األئمة
المتبوعين ،وانما بالمقارنة مع عهد النبي صلى اهلل عليه وسلم الذي ورد فيه النص .كتب
يقول:
"رعاية العلل والمقاصد التي ُش ِرعت لها األحكام هي التي جعلت علماء األمة منذ
العرف والحال .بل بدأ
عصر الصحابة ،يقررون تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان و ُ
781
هذا منذ عهد النبي صلى اهلل عليه وسلم ."...
130
ال تدل على النسخ األصولي الذي زعمه بعضهم –وهو رفع الحكم الذي تضمنته اآلية
تبين أن اآلية األولى عزيمة ،أو مقيدة بحال
األولى ،وانتهاء العمل به إلى األبد– فقد ّ
مقيدة بحال الضعف .ومعنى هذا أن اآلية الثانية تشرع لحالةالقوة ،والثانية ُرخصة ّ
معينة ،غير الحالة التي جاءت لها اآلية األولى ،وهذا أصل لتغير الفتوى بتغير
األحوال .ومثل ذلك آيات الصبر ،والصفح ،والعفو ،واإلعراض ،عن المشركين ونحو
ذلك ،مما قال فيه كثير من المفسرين :نسختها آية السيف .فالحق :أن لهذه اآليات
السنة النبوية يجد لهذه
وقتها ومجالها ،وآلية السيف وقتها ومجالها كذلك ...الناظر في ُ
782
القاعدة –تغير الفتوى -أصالً فيها ودليالً عليها ،في أكثر من شاهد ومثال".
وفيما يلي أمثلة راعى فيها الشيخ تغير الظروف عن تلك "الظروف التي قيل فيها النص" ،كما
ذكر سابقاً.
0نفسه .ص028-020
0 9القرضاوي .السياسة الشرعية يف ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها .ص- 8
131
تغير الظروف السياسية
يبيح الشيخ للمسلم أن يقيم "بين أظهر المشركين" بناء على تغير الظروف السياسية التي ورد
فيها حديث "أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" .وكتب يقول:
"… فمعنى قوله عليه الصالة والسالم( :أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر
عرض نفسه لذلك بإقامته بين هؤالء
المشركين) ،أي بريء من دمه إذا قتل ،ألنه َّ
المحاربين لدولة اإلسالم .ومعنى هذا :أنه إذا تغيرت الظروف التي قيل فيها النص،
وانتفت العلة الملحوظة من ورائه ،من مصلحة تُجلب ،أو مفسدة تُدفع ،فالمفهوم أن
789
ينتفي الحكم الذي ثبت من قبل بهذا النص ،فالحكم يدور مع علّته وجوداً وعدماً".
وكذلك رأي الشيخ في قضية الغنائم ،والتي تغيرت فيها الظروف التاريخية تغي اًر ينبغي معه أن
تراجع األحكام المتعلقة بالغنائم .كتب تحت عنوان "غنائم الحرب وأحكامها" يقول:
"كان الجيش في العصر النبوي يقوم أساساً على التطوع والمتطوعين ...ومن هنا كان
العبء كله –مالياً وعسكرياً -على المقاتلين أنفسهم ،فال غرو أن يكون ما يغنمه
الجيش في المعركة من نصيب هؤالء المقاتلين؛ إال قليالً منه ،هو الخمس ،وهو الذي
حدد القرآن مصارفه بعد غزوة بدر في سورة األنفال فقالَ " :واعلَ ُموا أََّن َما َغنِمتُم ِّمن
يل إِن ُكنتُمالسبِ ِ
ين َواب ِن َّ ول ولِ ِذي القُربى واليتَامى والمس ِ
اك ِ ِ ِ َشي ٍء فَأ َّ ِ ِ
َ َ َ َ َ ََ َن للّه ُخ ُم َسهُ َول َّلر ُس َ
ان" ...ولكن ما الحكم َنزل َنا َعلَى َعب ِد َنا َيوَم الفُرقَ ِ
ان َيوَم التَقَى ال َجم َع ِ آمنتُم بِاللّ ِه َو َما أ َ
َ
في عصرنا وقد اختلف الحال عما كان عليه في عصر النبوة وما بعده ،فقد أصبحت
الجيوش والقوات المسلحة تحتاج إلى نفقات هائلة ...وبهذه الصورة تغير الوضع
تماماً عما كان عليه من قبل ،وهذه األحكام ليست تعبدية محضة ،بل هي أحكام
مفهومة مربوطة بعللها وأسبابها ،والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ...واذا كان
132
سيدنا عمر وقف متأمالً في النص القرآني المتعلق بتقسيم الغنائم في سورة األنفال،
مجتهداً في تفسيره ،بحيث خصص عمومه ،وقصره على غير األرض والعقار ،فإن
من حقنا في هذا العصر الذي تغيرت فيه األوضاع العسكرية والمالية عما كان قديماً:
لنحرفه أو نلوي عنقه ،ولكن
ّ أن نقف وقفة أخرى أمام النص القرآني المقدس ،ال
لنحاول أن نفهمه في ضوء معطيات واقعنا الذي نعيشه ،ولن نجد في النص – إذا
أحسنا فهمه – ما يمنعنا من االجتهاد في تغيير الحكم القديم في تقسيم الغنائم ،وهو
ّ
الذي حمله إلينا فهمنا التقليدي وهو – بال شك – حكم صائب في زمنه ،ولكنه ليس
770
صائباً في زمننا ."...
وتغير وسائل وظروف السفر أدت بالشيخ إلى إباحة سفر المرأة دون محرم ،وكتب يقول:
"… جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي اهلل عنهما وغيره مرفوعاً( :ال
تسافر امرأة إال مع ذي محرم) .فالعلة وراء هذا النهي :هي الخوف على المرأة من
سفرها وحدها بال زوج أو محرم ،في زمن كان السفر فيه على الجمال أو البغال أو
الحمير ،وتجتاز فيه غالباً :صحاري ومفاوز تكاد تكون خالية من العمران واألحياء،
فإذا لم يصب المرأة شر في نفسها أصابها في سمعتها .ولكن إذا تغير الحال – كما
في عصرنا – وأصبح السفر في طائرة تقل مائة راكب أو أكثر ،أو في قطار يحمل
مئات المسافرين ،ولم يعد هناك مجال للخوف على المرأة إذا سافرت وحدها ،فال حرج
778
عليها شرعاَ في ذلك ،ولم يعد هذا مخالفة للحديث".
002القرضاوي ،يوسف .فقه اجلهاد .مكتبة وهبة0228 .م .ص9 8-9 0
00نفسه .ص 2
133
وهذا مثال آخر على تغير صورة رياضة ورد فيها نصوص شرعية ،مما يدل على إباحتها،
ولكنها قد تمارس اليوم بطريقة تتناقض مع مقاصد الشريعة في حفظ النفوس! كتب الشيخ عن
ّ
سباق اإلبل يقول:
"وكان للنبي صلى اهلل عليه وسلم ناقة اسمها (العضباء) ال تُسبق ...
وقد اشتهر سباق اإلبل (الهجن) في عصرنا ،وال سيما في بالد الخليج العربي ،بعد أن
وسع اهلل عليه بالنفط وغيره ،ولكن يالحظ أن هناك آفات ومآخذ على هذه
ّ
الرياضة ...
ليروضوها بأنفسهم ويسابقوا عليها
ومنها :أنهم ال يركبونها هم وال أوالدهم وال أحفادهمّ ،
غيرهم ،ولكنهم يستأجرون لها صبياناً صغا اًر من باكستان أو اليمن أو السودان،
وغيرها من البالد اإلفريقية أو اآلسيوية الفقيرة ،ويعرضون هؤالء الصبية للخطر ،حتى
إن أحدهم قد يصاب في عموده الفقري ،أو يبتلى بعاهة مستديمة ،مما يوجب له دية
كاملة أو نصف دية ،وربما أكثر من دية .ولكنه ال يأخذ التعويض الشرعي الالزم ،وال
777
يجد من يدافع عنه ،ويطالب له بحقه ." ...
ويراعي الشيخ تغير قيم العمالت األساسية عن زمن النبي صلى اهلل عليه وسلم ،وذلك -
مثالً -في الفتوى التالية:
"لقد بينت في كتابي (فقه الزكاة) :أن النبي صلى اهلل عليه وسلم لم يقصد إلى وضع
نصابين متفاوتين للزكاة ،بل هو نصاب واحد ،من ملكه اعتبر غنيا وجبت عليه
الزكاة ،قدر بعملتين جرى العرف بالتعامل بهما في عصر النبوة ،إذ لم يكن للعرب
عملة خاصة يتعاملون بها ،بل كان اعتمادهم على (الدراهم) الفضية التي ترد إليهم
من دولة الفرس في (إيران) وهذه معظم نقودهم ،أو على (الدنانير) الذهبية التي ترد
إليهم من (دولة الروم البيزنطية) وهي قليلة فقدر الرسول -صلى اهلل عليه وسلم -
134
النصاب الذي يمثل الحد األدنى للغنى الموجب للزكاة ،بما ذكرنا من العملتين
السائدتين في المجتمع العربي عند البعثة ،فجاء النص بناء على هذا العرف القائم،
وحدد النصاب بمبلغين متعادلين تماما ،فإذا تغير الحال في عصرنا ،وانخفض سعر
الفضة بالنسبة لسعر الذهب انخفاضاً هائالً :لم يجز لنا أن نقدر النصاب بمبلغين
774
متفاوتين غاية التفاوت (انظر :فقه الزكاة .")715-718/8
ويراعي الشيخ أيضاً تغير شكل النقود عن زمن النبي صلى اهلل عليه وسلم ،وذلك في الفتوى
التالية:
"لقد وجدنا من يقول :إن النقود الورقية – التي يتعامل بها العالم كله اليوم ،ومنه العالم
السَّنة ،وعلى هذا ال
اإلسالمي – ليست هي النقود الشرعية التي وردت في الكتاب و ُ
تجب فيها الزكاة ،وال يجري فيها الربا! إنما النقود الشرعية هي الذهب والفضة
وحدهما! ...يمكنك في قول هؤالء" :الظاهرية الجدد" أن تملك الماليين من هذه النقود،
فتتطوع به ...فهذه النقود
َّ وال تخرج عنها زكاة في كل َحول ،إال أن تطيب نفسك بشيء
هي التي يدفعونها ثمناً لألشياء ،فيستحلون بها مختلف السلع من عقار ومنقول .وهي
التي يدفعونها أجرة فيستحلون بها َعرق العامل األجير ،وينتفعون في مقابلها بالعين
المؤجرة .وهي التي يدفعونها مه اًر للمرأة ،فيستحلون بها الفروج ،ويصححون النكاح،
ويثبتون األنساب .وهي التي يدفعونها دية في القتل الخطأ ،فيبرأون من دم المقتول.
وهي التي يقبضون بها رواتبهم ومكافآتهم ،وأجور عقاراتهم ،وأثمان بضائعهم ،ويقيمون
الدعاوى ،ويطلبون التعويضات ،ضد من يتأخر عنهم في ذلك ،أو يأكل بعض ذلك
عليهم .وهي التي يعتبرون غنى المرء بمقدار ...فكيف ساغ لهؤالء أن يغفلوا ذلك كله،
ذهبا وال فضة ،لوال
ويسقطوا الزكاة عن هذه النقود ،ويجيزوا الربا فيها ،ألنها ليست ًُ
772
النزعة الظاهرية الحرفية ،التي ذهبت بهم بعيدا عن الصواب؟!!".
135
تغير األطعمة والسلع األساسية
ويراعي الشيخ كذلك تغير "السلع األساسية" عن زمن النبي صلى اهلل عليه وسلم ،وذلك في
الفتوى التالية:
" إن التمسك بحرفية السنة أحيانا ال يكون تنفيذا لروح السنة ومقصودها ،بل يكون
مضادا لها ،وان كان ظاهره التمسك بها .خذ مثالً تشدد الذين يرفضون كل الرفض
إخراج زكاة الفطر بقيمتها نقداَ ،كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ،وهو قول عمر
بن عبد العزيز وغيره من فقهاء السلف ..وحجة هؤالء المتشددين:
أن النبي صلى اهلل عليه وسلم أوجبها في أصناف معينة من الطعام :التمر والزبيب
والقمح والشعير ،فعلينا أن نقف عند ما حدده رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وال
نعارض السنة بالرأي .ولو تأمل هؤالء اإلخوة في األمر كما ينبغي له ،لوجدوا أنهم
خالفوا النبي صلى اهلل عليه وسلم ،في الحقيقة وان اتبعوه في الظاهر .أقصد أنهم عنوا
بجسم السنة وأهملوا روحها .فالرسول صلى اهلل عليه وسلم راعى ظروف البيئة والزمن،
فأوجب زكاة الفطر مما في أيدي الناس من األطعمة ،وكان ذلك أيسر على المعطي،
775
وأنفع لآلخذ".
ويحرص الشيخ على التحذير من الخوض في هذا الباب بغير علم ،ويؤكد على ضرورة "عمق
الفهم لمقاصد الشريعة" حتى يسلم التطبيق لهذه القاعدة المهمة .كتب يقول:
"على أن أهم ما يجب أن ننبه عليه ،ونلفت األنظار إليه ،في ختام هذا البحث ،هو
ضرورة التدقيق وشدة التحري في التمييز بين ما جاء في السنة للتشريع وما لم يجئ
للتشريع ،وما كان للتشريع العام المطلق الدائم ،وما ليس كذلك ،وما صدر بوصف
اإلمامة والرئاسة ،وما ليس له هذه الصفة .فبعد إثبات مبدأ التقسيم –كما ذكره
المحققون من القدماء والمحدثين -الذين نقلنا أقوالهم في دراستنا هذه :تبقى سالمة
136
التطبيق على ما ورد في السنة ،فهنا مزلة القدم ،وهنا يقع اإلفراط والتفريط اللذان ال
771
يسلم منهما إال من رزقه اهلل البصيرة ،وعمق الفهم لمقاصد الشريعة".
137
المبحث الخامس:
التفرقة بين الوسائل المتغيرة والمقاصد الثابتة
وهذا باب آخر من أبواب االجتهاد الدقيقة ،التي ينبغي للفقيه أن يفرق فيه بين الوسائل
المتغيرة والمقاصد الثابتة .كتب الشيخ يقول:
"ومن األحكام ما نرى الشريعة الغراء قد عينت له وسيلة مناسبة للزمان والمكان،
لتحقيق المقصد الذي أراده الشارع .ولكن الشارع الحكيم لم يقصد أن تكون هذه الوسيلة
عالمية أبدية ،بحيث تشمل كل مكان وكل زمان ،بل راعى بها ظروف المخاطبين في
عصر نزول الوحي ،فأرشدهم إلى ما يليق بهم ...
والمتأمل في أحكام الشريعة وأوامرها ونواهيها :يتبين له أن منها ما يقرر المبدأ
يعين له وسيلة لتحقيقه ،ألن وسائله قابلة للتغير
المطلوب ،وهو المقصود للشارع ،وال ّ
واالختالف؛ باختالف األزمنة واألمكنة واألعراف ،والظروف االجتماعية واالقتصادية
والسياسية.
ولهذا نرى الشارع في هذا المقام يترك المكلفين أح ار اًر فيما يختارون ألنفسهم من
ويجمد
ّ وسائل مالئمة ،وال يقيدهم بوسيلة معينة لعصر البعثة ،فيتشبث بها بعضهم،
نفسه عندها ،ويظنها بعضهم أم اًر تعبدياً يلزم كل مسلم التقيد به ،وال يجوز له مجرد
التفكير في الفكاك منه .وكان األولى أن تترك تعيين الوسيلة للعقل المسلم ،ليختارها
772
وفق ظروفه وأحواله".
وأنقل فيما يلي أمثلة من آراء الشيخ تبين فقهه -حفظه اهلل -في التفريق بين الوسائل المتغيرة
صت َّ
كل مثال في عنوان جانبي. لخ ُ والمقاصد الثابتة .وقد ّ
138
السواك وسيلة متغيرة وطهارة الفم مقصد ثابت
رؤية الهالل بالبصر وسيلة متغيرة واثبات دخول الشهر مقصد ثابت
139
يريد بهم العسر ،وقد قال عليه الصالة والسالم عن نفسه( :إن اهلل لم يبعثني معنتاً وال
متعنتاً ،ولكن بعثني معلماً ميس اًر) .فإذا وجدت وسيلة أخرى أقدر على تحقيق مقصد
الحديث ،وأبعد عن احتمال الخطأ والوهم والكذب في دخول الشهر ،وأصبحت هذه
الوسيلة ميسورة غير معسورة ،ولم تعد وسيلة صعبة المنال ،وال فوق طاقة األمة ،بعد
أن أصبح فيها علماء وخبراء فلكيون ،وجيولوجيون ،وفيزيائيون متخصصون على
المستوى العالمي ،وبعد أن بلغ العلم البشري مبلغاً مكن اإلنسان أن يصعد إلى القمر
نفسه ،وينزل على سطحه ،ويجوس خالل أرضه ،ويجلب نماذج من صخوره وأتربته!
بل يحاول أن يغزو الكواكب األبعد مثل :المريخ ،فلماذا نجمد على الوسيلة –وهي
779
ليست مقصودة في ذاتها– ونغفل المقصد الذي نشده الحديث؟!".
140
إذا جاع ،وفي التداوي إذا مرض ...إن الوسائل قد تتغير من عصر إلى عصر ،ومن
بيئة إلى أخرى ،بل هي البد متغيرة ،فإذا نص الحديث على شئ منها ،فإنما ذلك
لبيان الواقع ،ال ليقيدنا بها ويجمدنا عندها .بل لو نص القرآن نفسه على وسيلة مناسبة
لمكان معين ،وزمان معين ،فال يعني ذلك أن نقف عندها ،وال نفكر في غيرها من
الوسائل المتطورة بتطور الزمان والمكان .ألم يقل القرآن الكريم (وأ ِ
َع ُّدوا لَهُم َّما استَطَعتُم َ
740 ِّمن قُ َّوٍة و ِمن ِّرب ِ
اط ال َخي ِل.")... َ َ
141
كتب الشيخ يقول:
" ...وألن الفن وسيلة إلى المقصد ،فحكمه حكم مقصده ،فإن استُ ِ
خد َم في حالل فهو
747
حالل ،وان استُخدم في حرام فهو حرام".
142
الشرع في الزي هي :أن يستر المسلمة ،وال يكشف عورة يجب سترها ،وال يشف وال يصف ،وال
744
. خصوصيتها"... المسلمة يفقد
143
المبحث السادس:
مقاصد الرسول (صلى اهلل عليه وسلم) في تصرفاته
ويفرق الشيخ فيما نقل إلينا من سنة الرسول صلى اهلل عليه وسلم بين ما يقصد به التشريع وما
ال يقصد به التشريع .وفيما يلي نقول يشرح فيها الشيخ هذا المعنى الهام ،ويعرض أقوال
األصوليين المتعلقة به قديماً وحديثاً:
السنة النبوية المنقولة إلينا :ما ال يدخل في باب التشريع ،وانما هو من أمر دنيانا
"من ُ
المحض الذي ترك تدبيره وتنظيمه إلى عقولنا واجتهادنا –ونحن أعلم به -كما أنه
نهى ما ال يحمل صفة التشريع العام المطلق الدائم ،الذي يخاطب الناس به في كل
زمان ومكان ،بل قصد به حاالت جزئية في ظروف معينة ،وهو ما قاله أو فعله صلى
اهلل عليه وسلم بصفة اإلمامة والرئاسة التي كانت له ،فهو إمام المسلمين ورئيس
دولتهم ،والقائم بأمر سياستهم ،وبيده سلطة التنفيذ ،أو بصفة القضاء والحكم التي
كانت له أيضاً .والنظر في السنة المشرفة بهذا المنظار الفاحص يحل لنا كثي اًر من
742
المشكالت تراثنا الفقهي العريض".
144
تصرفه -صلى اهلل عليه وسلم -بالقضاء ،وقاعدة تصرفه بالفتوى – وهي التبليغ-
745
وقاعدة تصرفه باإلمامة) ."...
وكتب الشيخ تحت عنوان "تقسيم الشيخ شلتوت السنة إلى تشريع وغير تشريع" ،يقول:
145
"وممن اهتم ببيان هذا األمر في عصرنا ،وأعطاه عنوانه الحالي -كما ذكرنا في مطلع
البحث -شيخنا الشيخ محمد شلتوت ،فقد استفاد مما كتبه الدهلوي ورشيد رضا
741
وقسمه تقسيماً حسناً ننقله عنه هنا ."...
والقرافي وغيرهمّ ،
وفيما يلي بعض التطبيقات على هذا األصل ،في صورة نقول من كالم الشيخ ،وعناوين فرعية
وضعتها بغرض التلخيص.
تعيين النبي صلى اهلل عليه وسلم بعض تقديرات الزكاة بصفة اإلمامة
كتب الشيخ تحت عنوان "تفسير الخالف الطفيف بين كتب الزكاة" ،يقول:
"والذي يظهر لي :أن تعيين النبي صلى اهلل عليه وسلم لبعض هذه التقديرات كان
بصفة اإلمامة والرياسة التي له صلى اهلل عليه وسلم على األمة حينئذ ،ال بصفة
النبوة .وصفة اإلمامة تعتبر ما هو األنفع للجماعة في الوقت والمكان والحال المعين،
146
وتأمر به ،وقد تأمر بغيره عند تغير الزمان أو المكان أو الحال تغيرها كلها .بخالف
ما يجئ بصفة النبوة ،فهو يأخذ صورة التشريع الملزم لجميع األمة في جميع األزمنة
واألمكنة ..ويبدو لي أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ترك بعض األمور قصداً في
أنصبة الزكاة ومقاديرها ،ولم يحددها تحديداً قاطعاً ،ليوسع بذلك على أولي األمر من
720
المسلمين ،فيختاروا ألمتهم ما يناسب المكان والزمان والحال".
147
عناية ممكنة للقرآن الكريم ،من ناحية وشدة االحتياط في التباس القرآن بغيره من
أحاديث الرسول ،وخصوصاً في أول األمر ،وبالنسبة لبعض الناس .فلما زال هذا
المانع أو زالت هذه الخشية :لم يروا حرجاً في كتابة األحاديث النبوية ،ولم يعتبروا ذلك
727
مخالفة للرسول علية الصالة والسالم .وهو ما استقر عليه األمر".
148
المبحث السابع:
سد الذرائع لدرء المفاسد وفتحها لتحقيق المقاصد
عرضت في الفصل األول من هذا الكتاب كيف أن الشيخ القرضاوي قد تأثر بشهاب الدين
ُ
القرافي ،خاصة في نظرته المتوازنة بين سد الذرائع لمنع المضار والمفاسد وفتحها لتحقيق
المصالح والمقاصد .واألمثلة التالية يشرح فيها الشيخ هذا األصل ويطبقه على بعض المسائل.
"وهناك دليل يلجأ إليه دعاة النقاب إذا لم يجدوا األدلة المحكمة من النصوص ،وذلك
هو (سد الذريعة) فهذا هو السالح الذي ُيشهر إذا ُفلّت كل األسلحة األخرى .وسد
الذريعة ُيقصد به منع شيء مباح ،خشية أن يوصل إلى الحرام ،وهو أمر اختلف فيه
جوز ،وموسع ومضيق ،وأقام ابن القيم في (إعالم الموقعين) وم ِّ
الفقهاء ما بين مانع ُ
تسعة وتسعين دليالً على مشروعيته .ونحن مع القائلين بسد الذريعة.
ولكن من المقرر لدى المحققين من علماء الفقه واألصول :أن المبالغة في سد الذرائع
أن المبالغة في فتح الذرائع قد تأتي بمفاسد كثيرة تضر
كالمبالغة في فتحها ،فكما ّ
الناس في دينهم ودنياهم ،فإن المبالغة في سدها قد تضيع على الناس مصالح كثيرة
722
أيضاً في معاشهم ومعادهم" .
0القرضاوي ،يوسف .النِقاب للمرأة بني القول ببدعيته ..والقول بوجوبه..مكتبة وهبة0228 .م .ص 8
149
كتب الشيخ يقول:
"واذا فتح الشارع شيئاً بنصوصه وقواعده ،فال شيء ينبغي لنا أن نسده بآرائنا
حرم اهلل ،أو ُن َش ّرع ما لم يأذن به اهلل ...وفي الوقت من
وتخوفاتنا ،فنحل بذلك ما ّ
األوقات دارت معارك جدلية بين بعض المسلمين وبعض حول جواز تعلم المرأة،
وذهابها إلى المدارس والجامعات .وكانت ُح ّجة المانعين سد الذريعة ،فالمرأة المتعلمة
أقدر على المغازلة والمشاغلة بالمكاتبة والمراسلة ..إلخ ،ثم انتهت المعركة بإقرار
الجميع بأن تتعلم المرأة كل علم ينفعها ،وينفع أسرتها ومجتمعاتها ،من علوم الدين
والدنيا ،وأصبح هذا أم اًر سائداً في جميع بالد المسلمين ،من غير نكير من أحد منهم،
إال ما كان من خروج على آداب اإلسالم وأحكامه .ويكفينا هنا األحكام واآلداب التي
725
قررها الشرع ."...
150
سد الذرائع ومسألة أطفال األنابيب
151
-4وقسم اختلفت فيه .فهناك من يسده كمالك ،ومن يخالفه.
...والذي أراه :أننا إذا وضعنا الضوابط الشرعية ،والشروط المرعية للغناء المباح،
فلسنا في حاجة إلى استعمال قاعدة (سد الذرائع) وتكفينا النصوص الصريحة،
721
والمقاصد الكلية".
152
المبحث الثامن:
الحكم بالمآلت
وهذا منحى آخر من مناحي إعتبار المقاصد في القضايا االجتهادية ،وفيه يبني الفقيه حكمه
-باإلضافة إلى األدلة النصية -على اعتبار المصالح والمفاسد التي تترتب على الحكم .وأنقل
فيما يلي أمثلة من آراء الشيخ تبين فقهه -حفظه اهلل -في الحكم بناء على اعتبار مآالت
صت َّ
كل مثال في عنوان جانبي. لخ ُ
األفعال .وقد ّ
كتب الشيخ معلقاً على فتوى الشيخ ناصر الدين األلباني بسقوط الزكاة عن أموال التجارة،
يقول:
َخ َذت المدن التجارية الكبرى في عالمنا اإلسالمي بفتوى الشيخ، "وليت ِشع ِري لو أ َ
قدر
فماذا يكون للفقراء ،والغارمين ،وفي سبيل اهلل ،وسائر المصارف من أموالهم التي تُ ّ
بالمليارات؟ ليس على تجار جدة والرياض والكويت ودبي وأبو ظبي والدوحة والمنامة
نض منوع َّمان وبيروت والقاهرة ودمشق وبغداد وغيرها من زكاة إال ما َّ
ومسقط َ
الحول ،أو ما طابت به أنفسهم من قليل أو
البضائع (أي ما ُسيِّل منها) وحال عليه َ
كثير .وقد تمر سنوات ،وال ُي َسَّي ُل من هذه العروض شيء ،ألن بضاعة تذهب ،وأخرى
تجيء ،وهكذا دواليك ،والمحروم هو الفقراء والمستحقون ،والمظلوم هو اإلسالم".
"وقد تبين للدارسين والمراقبين ألعمال العنف والمقاومة المسلحة :أنها ال تحقق الهدف
منها ،فلم تسقط بسببها حكومة ،بل لم تضعف بسببها حكومة .كل ما يمكن أن تنجح
153
فيه جماعة العنف في بعض األحيان :قتل رئيس دولة أو رئيس و ازرة أو وزير ،أو
مدير أمن أو نحو ذلك .ولكن هذا ال يحل المشكلة ،فكثي اًر ما يأتي بدل الذاهب من
729
هو أشد منه وأنكى وأقسى في التعامل مع اإلسالميين."...
154
المبحث التاسع:
بطالن الحيل باعتبار المقاصد
عرضت في الفصل األول من هذا الكتاب كيف أن الشيخ القرضاوي قد تأثر بابن القيم وشيخه
ُ
ابن تيمية ،خاصة في إبطالهم للحيل الفقهية لتناقضها مع مقاصد الشريعة .كتب الشيخ عن
"الحيل" يقول:
"يجب مطاردة فكرة (الحيل) التي انتشرت لدى بعض المتأخرين للتحايل على فعل
750
المحرمات ،أو إسقاط بعض الواجبات".
َّ بعض
كتب الشيخ عن الذين يتحايلون على فريضة الزكاة بضم ثرواتهم بعضها إلى بعض ،يقول:
"قد استدل اإلمام البخاري على إبطال الحيل بالحديث المشهور( :إنما األعمال
بالنيات ،وانما لكل امرئ ما نوى) .كما استدل بما جاء في أحاديث الصدقة( :ال يفرق
بين مجتمع ،وال ُيجمع بين متفرق ،خشية الصدقة) .ففي زكاة األنعام كالغنم مثالً ،إذا
كان هناك اثنان يملك كل منهما أربعين شاة ،فقد ملك نصاباً فعليه شاة ،فإذا خلطا
غنمهما ،لم يجب عليهما إال شاة واحدة ،حسب مقدار الواجب في الغنم .فال يجوز هذا
الخلط أو الجمع إذا كان منه تقليل الواجب في الصدقة .كما ال يجوز للعامل على
758
الصدقة أن يفرق بين المجتمع والمخلوط من الغنم ،ليوجب فيه زيادة".
155
إبطال حيلة المحلل
ولعلي أسمح لنفسي بتعليق متواضع في هذا الموضع على ما صدر عن شيخنا من فتاوى
فيها بعض التحيل الفقهي الذي ال يتفق -في ما يبدو لي -مع ما ذكره في هذا الباب ،وهي
على أي حال شديدة الندرة ،إال أن التنويه على ذلك هو من باب األمانة العلمية التي تعلمناها
من الشيخ الجليل.
من ذلك فتوى "التورق" ،ومعناه" :أن يشتري الرجل السلعة بثمن مؤجل ،ثم يبيعها إلى آخر نقداً
754
وفي الفتوى التي صدرت بتوقيع الشيخ حفظه اهلل: بثمن أقل مما اشتراها به".
"أجازت الهيئة الشرعية (برئاسة الشيخ يوسف القرضاوي) لبنك قطر الوطني اإلسالمي
التورق المنضبط الذي وضعت له ضوابط دقيقة من وجود محل العقد ،وحيازته،
وتملكه ،ثم بيعه لطرف ثالث ،ومع ذلك قيدته الهيئة :بأن يكون هذا خاصاً بأصحاب
الديون الذين يريدون سداد ديونهم للخروج من الربا المحرم ،والبدء بالتعامل المشروع
البعيد عن كل ما هو حرام .ولذلك ال ترى الهيئة الشرعية لبنك قطر الوطني اإلسالمي
مانعاً شرعياً من طرح (التورق) بضوابطه السابقة على الجمهور ،والتعامل معه؛
انطالقاً من يسر شريعتنا الغراء وصالحيتها لكل زمان ومكان ،ووجود كل البدائل
080نفسه
08معجم لغة الفقهاء ،قلعه جي وقنييب ،ص . 82
156
المشروعة فيها لتتحقق ألتباعها السعادة الحقيقية في الدنيا واآلخرة .واهلل الموفق وهو
752
الهادي إلى سواء السبيل".
لكن الذي يحدث أن هذه المعاملة كلها ليس فيها مقصود البيع والشراء على أي حال ،ال بين
المدعى ،وهي إذن حيلة شكلية -لم
الطرفين األصليين (العميل والبنك) ،وال "الطرف الثالث" ّ
يسمح الشيخ القرضاوي أن تكون "منظمة" ،كما كتب على موقعه اإللكتروني يقول:
"بعض إخواننا من علماء البنوك متساهلون وبعضهم يفتون فيما يسمونه التسهيل أو
التيسير ،والمرابحة العكسية ،والتورق المنظم ،وأنا ضد هذا االتجاه ،فتوريق البنوك
معظمه قائم على السلعة والمعادن ،وهي عملية شكلية ليس فيها سلعة وال معدن ،ومن
سنين دعت ندوة البركة االقتصادية للوقوف ضد هذا التوجه ،وكنت ضمن عدد من
755
العلماء الذين وقفوا ضد أن تسيطر الشكلية على البنوك اإلسالمية".
ولكن يبدو لي أنه سواء كان التورق منظماً أم غير منظم ،وسواء كان خاصاً بأصحاب الديون
الذين يريدون سداد ديونهم أم غيرهم ،فهو حيلة على أي حال تنتمي إلى الحيل التي قال عنها
الشيخ:
"إن تقرير مقاصد الشريعة وتأكيدها ،ينافي ما ذهب إليه بعض الفقهاء من تجويز
[الحيل] في بعض األحكام التي تستوفي صورتها الشكلية في الظاهر ،ولكنها ال تحقق
751
مقصد الشارع".
ولعل موقف المجلس الفقهي األوروبي (الذي يرأسه الشيخ كذلك) أولى ،إذ جاء في فتواهم
مؤخ اًر:
"وناقش المجلس موضوع (التورق) الذي تجريه بعض المصارف اإلسالمية ،والحظ أن
المجامع الفقهية قد اتخذت في هذا الموضوع ق اررات مهمة ،ونخص بالذكر قرار مجمع
157
الفقه اإلسالمي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر اإلسالمي في دورته التاسعة عشرة
في الشارقة (دولة اإلمارات) من 8إلى 5جمادى األولى 8240هـ ،الموافق — 71
40إبريل 7009م ،والذي وضع معيار التواطؤ أو الترتيب في المعاملة حداً فاصالً
لتعريف التورق المنظم ،سواء أكان التواطؤ ضمنياً أم صريحاً ،أم صار عرفاً وعادة
ممارسة ،واعتبر وجود التواطؤ يجعل المعاملة ربا محضاً .وكذلك قرار المجمع الفقهي
اإلسالمي التابع لرابطة العالم اإلسالمي بهذا الخصوص ،والذي أكد ضرورة كون
السلعة مقصودة لذاتها حتى يتم تجنب الربا .وقد قرر المجلس تبني هذه الق اررات
المجمعية ودعوة هيئات الرقابة في المؤسسات المالية اإلسالمية في أوروبا وخارجها
إلى العمل على تطبيق هذه الق اررات ألهميتها في وضع الصورة الصحيحة للممارسات
المالية اإلسالمية ،وخصوصاً في هذا الوقت الذي تتطلع فيه السلطات والدوائر المالية
في الدول األوروبية إلى المصرفية اإلسالمية وتسعى إلى تفهم أغراضها ومضامينها
752
وامكان تطبيقها في البلدان األوروبية".
158
المبحث العاشر:
أثر قصود المكلفين
مما يدخل في معانى المقاصد التي تؤثر في الحكم الشرعي -قصد المكلف ،بمعنى نية
المكلف في الفعل أو الترك .فالعبرة في العقود والتصرفات للمقاصد والمعاني ،ال لأللفاظ
والمباني ،كما شرح الشيخ سابقاً .والمثاالن التاليان مما يدخل في هذا المعنى من فقه الشيخ.
أجاب الشيخ عن سؤال يتعلق برفع الصليب بغرض التمثيل في فيلم سينمائي ،بقوله:
"أما ما سألتم عنه من عزمكم على إنتاج فيلم عن شخصية القائد المسلم صالح الدين،
وحروبه ضد (الفرنجة) الذين عرفوا باسم (الصليبيين) وأن هذا (يضطركم) إلى إظهار
الصليب في كثير من المشاهد مثل أعالم األعداء ،ولباس جنودهم.
فالجواب :أن هذا ال حرج فيه إن شاء اهلل ،ألن المقصود من إظهار لهذه الصلبان
ليس تقديسها وال تعظيمها –وهو ما يحرمه اإلسالم على المسلم واشتد في تحريمه-بل
المقصود التمييز بين المسلمين وأعدائهم في لباسهم وشاراتهم وفي أعالمهم ،وابراز
ذلك واضحاً للمشاهد ،وقد عرفت هذه الحروب باسم (الحروب الصليبية) ألنهم اتخذوا
(الصليب) شعا اًر لهم ،وجاءوا من أوروبا بقضهم وقضيضهم ،رافعين لهذه الصلبان،
فمن الالزم أن يبرز ذلك في العمل الفني ،حتى تتجلى حقيقة الصراع بين الطرفين
المتحاربين.
159
وقد أورد لنا القرآن الكريم في كثير من سوره أقوال المشركين والدهريين واليهود
والنصارى والشياطين وغيرهم ،وهي أقوال كفر وضالل ،ولكن إيرادها ليس مقصوداً
751
لذاته ،وال يراد به الترويج لهذه العاوي الباطلة ،بل للرد عليها".
"نذكر حديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الذي أخذ منه المحققون أن طالق
الغضبان ال يقع وهو قوله عليه السالم( :ال طالق وال عتاق في إغالق) ،واإلغالق
كل حالة تستغلق فيها على المرء مقاصده فيأتي من األعمال ما ال يقصده ،وابن
عباس حبر األمة وترجمان القرآن قال( :إنما الطالق عن وطر) والوطر كل مأرب
تتعلق به همة المرء ،فيسعى إليه ويحتال لتحقيقه بكل ما وسعته الحيلة.
وفي ضوء هذه المعاني النبوية الجليلة تتبين أنه ال قيمة ألي طالق يوقعه صاحبه
عند بادرة غضب أو عابرة خالف ،ما دامت همته لم تتعلق به من قبل ،ولم تكن له
759
فيه نية مبيتة ووطر يرتب له األمور في أناة ،وتوضع المقدمات إلدراكه ."...
160
المبحث الحادي عشر:
حكم وأسرار العبادات والمعامالت
الحكمة -كما مر -مصلحة تترتب على تطبيق الحكم ،ولكن تطبيق الحكم نفسه ال يترتب
عليها .كتب الشيخ شارحاً لهذا المبدأ بقوله:
"إذا وصف الطبيب للمريض دواء يأخذ منه ملعقة قبل كل وجبة ،ودواء آخر يأخذ منه
ملعقتين بعد األكل ،ودواء ثالثاً يشتمل على حبوب وأقراص يتناول منه عدداً معيناً في
مواقيت محددة .فهل من شأن المريض أن يقول للطبيب :لماذا كان هذا قبل األكل
وذاك بعده؟ ولما أتناول من الحبوب الكبيرة ثالثاً ومن الصغيرة واحد؟
وهل تتسع مداركه ومعارفه ليشرح له الطبيب الحكمة في ذلك مفصلة ،ويقفه على
أسرار تركيب الدواء ومالءمته إلزالة الداء؟؟
وهذا بالضبط وهو ما نقوله لمن يريد أن يعرف أسرار تفاصيل العبادات -ومنها
الطهارة والغسل ،فالعبادات -كما قال اإلمام الغزالي -أدوية للقلب اإلنساني ،تشفيه من
مرض الغفلة والغرور والنسيان لحق اهلل تبارك وتعالى .ومن حق اهلل سبحانه أن
يستأثر بسر تركيب هذه األدوية الروحية ،وقد يتفضل فيطلعنا على شيء منها.
وحسب المؤمن أن يعلم أنه تعالى ال يصف لنا إال ما فيه خيرنا وصالحنا منهاَ ( .واللّهُ
ق َو ُه َو اللَّ ِط ُ
يف ال َخبِ ُير)". َيعلَ ُم ال ُمف ِس َد ِم َن ال ُمصلِ ِح)( ،أ ََال َيعلَ ُم َمن َخلَ َ
710
فيما يلي بيان بحكم وأسرار اشتملت عليها أنواع من العبادات والمعامالت ،يسوقها الشيخ من
أجل تحفيز المسلمين على الخير ،وشرح الفتاوى حتى تكون أدعى للقبول من المستفتين،
والدعوة إلى اإلسالم.
161
حكمة الزكاة
كتب الشيخ في رسالته للدكتوراه أو العالمية (فقه الزكاة) كالماً طويالً عن حكم وأهداف الزكاة
للمعطي واآلخذ والمجتمع واألمة ،مما ألخصه فيما يلي من كالمه:
"إن مهمة النقود أن تتحرك وتتداول ،فيستفيد من ورائها كل الذين يتداولونها ،وأما
اكتنازها وحبسها ،فيؤدي إلى كساد األعمال ،وانتشار البطالة ،وركود األسواق،
718
وانكماش الحركة االقتصادية بصفة عامة".
"هدف الزكاة وأثرها في المعطي... :
الزكاة تطهير من الشح ...
الزكاة تدريب على اإلنفاق والبذل ...
تخلق بأخالق اهلل ...
الزكاة شكر لنعمة اهلل ...
عالج للقلب من حب الدنيا ...
الزكاة منمية لشخصية الغني ...
الزكاة مجلبة للمحبة ...
الزكاة تطهير للمال ...
الزكاة نماء للمال ...
هدف الزكاة وأثرها في اآلخذ:
الزكاة تحرير آلخذها من ذي الحاجة ...
الزكاة تطهير من الحسد والبغضاء ...
أهداف الزكاة وأثرها في حياة المجتمع:
تشريع منظم في سبيل ضمان اجتماعي ...
الزكاة والتوجيه االقتصادي ...
162
الزكاة والمقومات الروحية لألمة :وفوق ذلك كله ،فإن للزكاة أهدافها وآثارها في تحقيق
المثل العليا التي تعيش لها األمة المسلمة ،وتعيش بها ،وفي رعاية مقوماتها الروحية
717
التي يقوم عليها بناؤها ،ويبني كيانها ،وتتميز شخصيتها".
حكمة المهر
163
" … تكريم المرأة بأن تكون هي المطلوبة ال الطالبة ،والتي يسعى إليها الرجل ،ال
التي تسعى إلى الرجل ،فهو الذي يطلب ويسعى ويبذل ،وعلى عكس األمم التي تكلف
المرأة أن تبذل هي للرجل من مالها ،أو مال أهلها ،حتى يقبل الزواج منها ...
إظهار الرجل رغبته في المرأة ومودته لها ،فهو يعطيها هذا المال نحلة منه ،أي عطية
وهدية وهبة منه ،ال ثمناً للمرأة كما يقول المتقولون ...وفي ذلك يقول القرآن بصريح
ص ُدقَاتِ ِه َّن نِحلَةً فَِإن ِطب َن لَ ُكم َعن َشي ٍء ِّمنهُ َنف ًسا فَ ُكلُوهُ َهنِ ًيئا العبارةَ ( :وآتُوا َّ
الن َساء َ
715
َّم ِر ًيئا) ."...
164
المبحث الثاني عشر:
الوقوف على الظاهر لتحقيق المقاصد
واستقرأت أن الشيخ القرضاوي يراعي مقاصد الشريعة حتى حين يقف على ظواهر النصوص
في بعض األحكام ،كالعبادات ،والمقدرات ،وبعض األحكام األخرى التي يحقق الوقوف على
الظواهر فيها مقصداً شرعياً معتب اًر.
يقف الشيخ على ظاهر النص ،حتى لو تبين له بعض الحكم واألسرار ،في قضايا العبادات
والمقدرات (العددية) التي نص عليها الشارع صراحة .كتب يقول:
"… وهذا الذي قاله الغزالي قرره قبله شيخه إمام الحرمين في كتابه ألصولي المعروف
(البرهان) وأكده بعده األصولي الحنبلي نجم الدين الطوفي في مقولته عن المصلحة،
وتقديمها على النص واإلجماع -يقصد النص الظني كما ّبينا ذلك موضعه -فقد
711
استثنى الطوفي من ذلك العبادات ،كما استثنى المقدرات الشرعية …".
والقصد من وراء هذا الوقوف على ظاهر النص في هذه الحاالت –كما ذكر الشيخ في غير
موضع -هو الوفاء بمقصد التعبد من جهة ،والحفاظ على معالم هذه الشريعة وعلى قدر من
الوحدة الثقافية بين المسلمين من جهة أخرى.
ويأخذ الشيخ أحياناً بالظاهر في بعض قضايا المعامالت حتى يحقق مقاصد شرعية معينة.
وأضرب على هذا المنهج المثال التالي وهو يتعلق ببنوك الحليب ،ومعناها أن تتبرع أمهات
الخ ِديج (أي الذي
ويحفظ بغرض إرضاع الطفل َ ويخلط ُ
شتى ببعض حليبهن الطبيعي ،ف ُيجمع ُ
165
يولد مبك اًر عن موعده ولكنه يولد تاماً) ،عن طريق الزجاجات .وهذا الطفل يحتاج -طبياً -إلى
األخوة من
ّ لما يتوفر ألمه .واإلشكال الذي يجيب عليه الشيخ هنا هو إشكال
حليب طبيعي ّ
الرضاعة بين الخديج وغيره ممن رضع من نفس الحليب .ولكن الشيخ هنا يأخذ برأي ابن حزم
الظاهري في اعتبار الرضاعة ما يحقق المعنى اللفظي فقط ،وهو التقام الثدي نفسه
وامتصاصه (وليس عن طريق الزجاجات) .والشيخ هنا يأخذ بنظر االعتبار ما يحقق حفظ
النفس لهذا الخديج ويدفع عنه الضرر .وكتب الشيخ يشرح الفتوى ،ويقول:
"… هذه األمومة التي صرح بها القرآن ال تتكون من مجرد أخذ اللبن ،بل من
االمتصاص وااللتصاق الذي يتجلى فيه حنان األمومة ،وتعلق البنوة ،وعن هذه
األمومة تتفرع األخوة من الرضاع ،فهي األصل ،والباقي تبع لها .فالواجب الوقوف
عند ألفاظ الشارع هنا ،وألفاظه كلها تتحدث عن اإلرضاع والرضاعة ،ومعنى هذه
األلفاظ في اللغة التي نزل بها القرآن وجاءت بها السنة واضح صريح ،ألنها تعني
إلقام الثدي والتقامه ،وامتصاصه ،ال مجرد االغتذاء باللبن بأي وسيلة .ويعجبني
موقف اإلمام ابن حزم هنا ،فقد وقف عند مدلول النصوص ،ولم يتعد حدودها،
فأصاب المحز ،ووفق فيما أرى الصواب ...ال نجد هنا ما يمنع من إقامة هذا النوع
712
من "بنوك الحليب" ،ما دام يحقق مصلحة شرعية معتبرة".
02القرضاوي ،يوسف" .بنوك اللنب (احلليب) .اجمللة العلمية للمجلس الفقهي ارأورويب .العدد السادس .اجمللس ارأورويب لإلفتاء والبحوث .أيرلندا.
0228م .ص 0 - 9
166
المبحث الثالث عشر:
أنواع من "الفقه الجديد" ترتبط بفقه المقاصد عند الشيخ
وهذا المبحث يقتطف من كالم الشيخ القرضاوي ما يشرح العالقة بين األنواع المختلفة من
وحث على البحث فيه ،وفقه المقاصد.
ّ "الفقه الجديد" ،الذي اقترحه الشيخ
فقه األولويات
167
والمهم هنا :التفريق بين المقاصد الثابتة والوسائل المتغيرة ،فنكون في األولى في
711
صالبة الحديد ،وفي الثانية في ليونة الحرير."...
وكتب يقول:
"ومما يدخل في [فقه األولويات] المراد :الغوص في مقاصد الشريعة ،ومعرفة أسرارها
وعللها ،وربط بعضها ببعض ،ورد فروعها إلى أصولها ،وجزئياتها إلى كلياتها ،وعدم
االكتفاء بالوقوف عند ظواهرها ،والجمود على حرفية نصوصها ...وآفة كثير ممن
اشتغلوا بعلم الدين :أنهم طفوا على السطح ،ولم ينزلوا إلى األعماق ،ألنهم لم يؤهلوا
للسباحة فيها ،والغوص في قرارها ،والتقاط آللئها ،فشغلتهم الظواهر ،عن األسرار
والمقاصد ،وألهتهم الفروع عن األصول ،وعرضوا دين اهلل وأحكام شريعته على عباده،
تفاريق متناثرة ال يجمعها جامع ،وال ترتبط بعلّة ،فظهرت الشريعة على ألسنتهم
وأقالمهم كأنها قاصرة عن تحقيق مصالح الخلق ،والقصور ليس في الشريعة ،وانما
719
هو في أفهامهم."...
وكتب يقول:
"ومن العلماء الذين عنوا بفقه األولويات ،ونقدوا المجتمع المسلم بالتفريط فيه :اإلمام
الغزالي .وهذا ظاهر في موسوعته (إحياء علوم الدين) يجدها قارئه في (أرباعه)
720
األربعة ،وفي كتبه األربعين"
وكتب يقول:
"ممن عنى بفقه األولويات نظ اًر وفك اًر وشرحاً :الداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي
رحمه اهلل ،فقد أولى هذا األمر عناية فائقة في كتبه ،وال سيما األخيرة منها ،وذلك لما
لمسه وعاناه في رحلته الدعوية من أناس ينتمون إلى اإلسالم ،والى الدعوة ،ولكنهم
قلبوا شجرة اإلسالم ،فجعلوا جذوعها األصلية فروعاً خفيفة ،وجعلوا فروعها أوراقاً تعبث
168
بها الرياح ،في حين جعلوا األوراق هي الجذوع ،التي ينبغي أن يتوجه إليها كل الفكر،
728
وكل االهتمام ،وكل العمل".
فقه الموازنات
169
المصلحة الجوهرية واألساسية على المصلحة الشكلية والهامشية .وتقدم المصلحة
المستقبلية القوية على المصلحة اآلنية الضعيفة...
وفي القسم الثاني –المفاسد والمضار -نجد أنها كذلك متفاوتة كما تفاوتت المصالح.
فالمفسدة التي تعطل ضرورياً ،غير التي تعطل حاجياً ،غير التي تعطل تحسينياً.
والمفسدة التي تضر بالمال دون المفسدة التي بالنفس ،وهذه دون التي تضر بالدين
والعقيدة .والمفاسد أو المضار متفاوتة في أحجامها وفي آثارها وأخطارها.
مضرة ومنفعة ،فال بد من الموازنة
ّ واذا اجتمع في أمر من األمور مصلحة ومفسدة ،أو
727
بينهما .والعبرة لألغلب واألكثر ،فإن لألكثر حكم الكل".
وكتب يقول:
"ولهذا ،رد اإلمام الغزالي اعتراض من يقول في هذه الصورة [في مسألة التترس] :هذا
سفك دم معصوم محرم :بأنه معارض ،ألن في الكف عنه إحالل دماء معصومة ال
حصر لها ،ونحن نعلم أن الشرع يؤثر ال ُكلي على الجزئي ،فإن حفظ أهل اإلسالم عن
اصطالم الكفار أهم في مقصود الشرع من حفظ دم مسلم واحد ،فهذا مقطوع به من
724
مقصود الشرع .وهذا -كما رأينا -مبني على فقه الموازنات".
170
ومما ينبغي لهذا الفقه أو هذا االجتهاد المنشود أن يراعيه :الرجوع واالستناد إلى
القواعد الفقهية التي أصلها الفقهاء ،استمدادا من القرآن والسنة واالستدالل منها والبناء
عليها ،وهي كثيرة ،ولها تطبيقاتها المتعددة في الجزئيات والفروعيات العملية المختلفة،
مثل :األمور بمقاصدها ...األصل في العاديات والمعامالت النظر إلى العلل
722
والمصالح ."...
ولعلي كذلك أسمح لنفسي أن أعلق هنا بناء على معيشتي بين (األقليات المسلمة) في بالد
مختلفة لفترات طويلة واهتمامي بشؤونها .فيبدو لي أن كالم الشيخ المذكور أعاله ينطبق على
الفقه -كل الفقه -وليس فقط فقه األقليات .كما يبدو لي أن استحداث فقه مخصوص يسمى
(فقه األقليات) في نظري يمثل إشكالية منهجية ،إذ أن األساس الذي يستند إليه العلماء –
ومنهم شيخنا العالمة -في أن نجعل (لألقلية) خصوصية فقهية معينة دون سائر المسلمين
ال يخرج عن العوامل التالية :أن يكون المسلمون أقلية عددية وسط أغلبية غير مسلمة ،أو أن
تكون قوانين تلك البالد غير إسالمية ،أو أن تلك األقليات تعيش خارج (ديار اإلسالم).
أما اعتبار األقلية واألكثرية ،فليس عليه من النصوص الشرعية دليل ،وليس له في الفقه أثر،
وال يترتب عليها أحكام شرعية .وأما نظام الحكم وما يتبعه من قوانين (غير إسالمية) ،فبعض
القوانين في بالد األقليات يتعارض مع الشريعة اإلسالمية وبعضها ال يتعارض ،بل قد يتوافق.
ولكن – في الواقع -الحال في (بالد األقليات) هو نفس الحال في (بالد األغلبيات) ،إذ أنه
في كل البالد على حد سواء هناك من القوانين ما يتوافق مع شريعة اإلسالم فيطبق ويحترم،
ومنها ما يتعارض فيحاول المسلمون إصالحه وتقويمه بالطرق المشروعة ،وال يختلف الحال
في ذلك بين (بالد األقليات) و(بالد األغلبيات) .وأما تقسيم العالم إلى دور ،فليس عليه نص
صريح ،وانما هو فتوى منوطة بظروفها وتقسيم تاريخي ال ينطبق على واقع الدول القومية
المعاصرة في كل الدنيا ،والتي يرتبط فيها المواطنون – مسلمون وغير مسلمين – بعقود
للمواطنة يلتزمون فيها بحقوق وواجبات معينة .أضف إلى ذلك أن األحكام الشرعية التي
171
تناولها فقه األقليات ال تختلف في الفقه بين (دار اإلسالم) و(دار العهد) – كما يصنف الشيخ
القرضاوي تلك البالد التي يعيش فيها المسلمون كأقليات.
والقصد من هذا النقد المتواضع لمفهوم (فقه األقليات) هو أال يتخذ هذا الفقه من بعض العوام
وسيلة للتحلل من القيود الشرعية بحجة أنهم أقليات ،أو أن يقوموا ببعض األعمال اإلجرامية
بحجة أنهم في (دار الحرب) .وأما الضرورة ،فهي معتبرة قطعاً ،ولكنها تقدر بقدرها في كل
األحوال.
الفقه الحضاري
172
كما أنه ال يسير وفق هوى أحد من الخلق فإن أهواءهم –مع عماها وضاللها-
ض َو َمن ِفي ِه َّن). ات َواألَر ُ َّم َاو ُ ِ
اءهم لَفَ َس َدت الس َ ق أَه َو ُ متضاربة متنافرة( :ولَ ِو اتََّب َع ال َح ُّ
َ
ولكن هذا الكون مربوط بقوانين مطردة ،وسنن ثابتة ،ال تتبدل وال تتحول كما أعلن
يال).يال َولَن تَ ِج َد لِ ُسَّن ِت اللَّ ِه تَح ِو ً
القرآن ذلك في غير آيةَ ( :فلَن تَ ِج َد لِ ُسَّن ِت اللَّ ِه تَب ِد ً
وقد تَ ّعلم المسلمون من كتاب ربهم وسنة نبيهم ،أن يحترموا هذه السنن الكونية،
721
ويطلبوا المسببات من أسبابها التي ربطها اهلل بها."...
واذا كان الشيخ قد ربط التدرج في التشريع بمقصد التيسير ،فإنه يعتبر " ُسّنة التدرج" سنة من
السنن اإللهية .كتب يقول:
"إن التدرج ُسنة من سنن اهلل في خلقه ،وشرعه ،فقد خلق اإلنسان أطوا اًر :علقة،
فمضغة ،فعظاماً ..الخ ،وخلق الدنيا في ستة أيام ،اهلل أعلم بكل يوم منها كم هو؟
وحرم المحرمات على مراحل ،وفق ُسنة التدرج ،مراعاة
كما أنه فرض الفرائض ّ
البشر ورحمة بهم .والشريعة قد اكتملت بال شك ،ولكن تطبيقها في عصرنا
لضعف َ
يحتاج إلى تهيئة واعداد لتحويل المجتمع إلى االلتزام اإلسالمي الصحيح ...ولهذا ال
مانع من التدرج في التطبيق ،رعاية لحال الناس ،واتباعاً للتوجيه النبوي الكريم( :إن
اهلل يحب الرفق في األمر كله) ،وكما نهج ذلك الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز
722
رضي اهلل عنه".
173
والى ذلك أشار القرآن منذ أربعة عشر قرناً فقالَ ( :و ِمن ُك ِّل َشي ٍء َخلَق َنا َزو َجي ِن لَ َعلَّ ُكم
ون) ...واقتضت حكمة اهلل أن يكون التكوين العضوي والنفسي للمرأة يحمل تَ َذ َّك ُر َ
عناصر الجاذبية للرجل وقابلية االنجذاب إليه .ورّكب اهلل في كل من الرجل والمرأة
شهوة غريزية فطرية قوية تسوقهما إلى التجاذب واللقاء حتى تستمر الحياة ويبقى
النوع .ومن ثَّم يرفض اإلسالم كل نظام يصادم هذه الفطرة ويعطلها ،كنظام
721
الرهبنة".
174
واألزمان واألحوال ،بل قد تختلف باختالف األشخاص .والثبات يكون في األهداف
710
والغايات والمبادئ والمنطلقات التي ترسي األسس ،وتحدد الفكرة ،وترسم الطريق".
092القرضاوي .اجمللة العلمية للمجلس الفقهي ارأورويب .خطابنا اإلسالمي يف عصر العوملة .ص22
175
خاتمة
العالمة الشيخ القرضاوي إمام مقاصدي بحق ،تعلماً وتعليماً ،وتنظي اًر وتطبيقاً ،وفك اًر وفقهاً،
وتأصيالً وتجديداً ،وكتابة وفتوى ،ودعوة وحركة – جزاه اهلل عن اإلسالم والمسلمين والعلم
وأهله خير الجزاء .وقد رأينا في هذا البحث كيف تأثر الشيخ بأئمة المقاصد من سلف هذه
األمة الذين أفردوا هذا العلم بالتأليف وأبدعوا فيه ،وكيف تأثر أيضاً بمن عاصر من العلماء
"المقاصديين" .ثم تابعنا تطور النظر المقاصدي عند الشيخ منذ كان يقتصر على دراسة الحكم
واألسرار التي تترتب على تطبيق األحكام الشرعية ،إلى مراعاة المقاصد في القياس وفي
مآالت األحكام ،إلى أن ناقش ونقد وجدد في نظريات المقاصد المعروفة ،بل وأفرد المقاصد
الشرعية بالتأليف في كتابات قيمة.
ثم استقرأنا أبعاد المقاصد ومعانيها وتقسيماتها المختلفة عند الشيخ ،وتركيزه على الفصل بين
مقاصد الخلق ومقاصد الشارع ،حتى ال يساء استغالل موضوع المقاصد لصالح أهواء
البعض .واستقرأنا أيضاً المقاصد العامة الرئيسة عند الشيخ من تيسير ،وعدل ،وتعبد ،ودعوة
إلى اهلل ،ومراعاة للفطرة التي فطر اهلل تعالى الناس عليها .كما استقرأنا أهمية دراسة المقاصد
عند الشيخ القرضاوي لفهم القرآن الكريم خاصة والشريعة اإلسالمية ككل ،وللتجديد في لغة
الخطاب اإلسالمي المعاصر وفي حركة االجتهاد المعاصر ،وألهميتها للمفتي والداعية
والمربي ،وإلرساء دعائم ثقافة الحوار والتعاون مع أهل الديانات وبين المذاهب اإلسالمية
المختلفة.
ورأينا كيف أن الفكر اإلسالمي عند الشيخ القرضاوي هو فكر مقاصدي :بدءاً من تصنيفه
للمدارس الفكرية حسب مواقفهم من مقاصد الشريعة ،إلى سمات المدرسة الوسطية التي
رسمها ،إلى فكره السياسي واالقتصادي واالجتماعي بفروعه المختلفة.
أما منهج الشيخ القرضاوي الفقهي فهو كذلك منهج مقاصدي باألساس ،من اجتهاده "اإلنشائي"
عن طريق االستصالح ،إلى اجتهاده "االنتقائي" بناء على المقاصد ،ومن أثر المناسبة على
القياس عنده ،إلى "تغير الظروف التي قيل فيها النص" ،على حد تعبيره .بل وللشيخ تعبيرات
أخرى كثيرة ذكرها في ثنايا مباحثه الفقهية هي من األهمية بمكان في مسيرة التجديد
176
المقاصدي المنشود ،منها" :التفرقة بين الوسائل المتغيرة والمقاصد الثابتة" ،و"تقسيم السنة إلى
تشريع وغير تشريع" ،و"المبالغة في سد الذرائع كالمبالغة في فتحها" ،و"إذا فتح الشارع شيئاً
بنصوصه وقواعده ،فال شيء ينبغي لنا أن نسده بآرائنا وتخوفاتنا" ،و"الرسول نفسه كان ينهج
هذا النهج في آرائه اإلدارية والسياسية والمالية ونحوها ،فيديرها وفقا للمصالح المعتبرة" ،و"نحن
ضد أن تسيطر الشكلية على البنوك اإلسالمية" ،وغير ذلك مما عرضنا .ورأينا أخي اًر كيف
أسس الشيخ حفظه اهلل ألنواع من "الفقه الجديد" ترتبط بفقه المقاصد كفقه األولويات ،وفقه
الموازنات ،وفقه األقليات المسلمة ،والفقه الحضاري ،وفقه السنن اإللهية.
إال أن حكمة اهلل عز وجل ،وطبيعة هذا الدين المتين ،ومكانة رسوله الكريم صلى اهلل عليه
ويرد ،إال الرسول الكريم صلى اهلل عليه
وسلم – كل هذا اقتضى أن يؤخذ من كالم كل أحد ّ
وسلم .وعليه ،فكل إمام كان له من اآلراء ما لم يقبله تالمذته ،رغم أنهم قد أخذوا العلم عنه،
وشبوا عن الطوق في حلقاته .ومن هذا
وتفتحت عيونهم على الحقائق الكبرى من كالمهّ ،
الباب ،سمحت لنفسي ببعض المالحظات النقدية التي ذكرتها في غضون هذا البحث،
االستقرائي التحليلي أساساً .وخالصة هذه المالحظات أن منهج الشيخ المقاصدي ال يتسق في
رأيي مع بعض ما صدر عنه من آراء وفتاوى ،كبعض تصريحاته األخيرة فيما يتعلق بقضية
السنة والشيعة مما ال يتسق -في ما يبدو لي -مع تركيزه المعروف على نقاط االتفاق بين
المذهبين وأهمها مقاصد الشريعة ،وككالمه في فقه الجهاد عن "جواز االسترقاق للمصلحة
العليا لألمة" مما ال يتسق -في ما يبدو لي -مع مقصد الحرية الذي طالما كتب عنه،
وكالنادر من فتاواه التي بنيت على حيل فقهية مما ال يتفق -في ما يبدو لي -مع ما ذكره في
هذا الباب ومن نقده لما أسماه "الشكلية" ،خاصة في البنوك اإلسالمية ،وكبعض استئناساته
في "فقه األقليات" بأحكام "دار الحرب" مما قد يساء فهمه أو استغالله من بعض المغرضين،
أصل له شيخنا.
ومما ال يتسق -في ما يبدو لي -مع مقاصد ذلك الباب من الفقه كما ّ
ولكن هذه الملحوظات المتواضعة عن شيخنا القرضاوي هي كما قال اإلمام الذهبي في ترجمة
شيخه شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمهما اهلل" :هي مغمورة في بحر علمه ...وكل أحد من األمة
فيؤخذ من قوله ويترك ،فكان ماذا؟"؛ أو كما قال ابن القيم رحمه اهلل في نفس السياق" :من
177
قواعد الشرع والحكمة أيضاً :أن من كثرت حسناته وعظمت وكان له في اإلسالم تأثير ظاهر
فإنه يحتمل له ما ال يحتمل لغيره ...والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث"؛ أو كما قال أبو
الطيب المتنبي:
فأفعاله الالتي َس َررن كثير فإن يكن الفع ُل الذي ساء واحداً
ثم إنه بدا لي ،في ختام هذا البحث ،أن فقه الشيخ وفكره كله ُيجريه مراعياً أعلى مراتب الفهم
المقاصدي ،وهي السنن اإللهية ،خاصة سنة (الحركة حول محور ثابت) التي نقلت حديثه
عنها آنفاً ،وبدا لي أن هذه هي فلسفة المقاصد عند الشيخ :فهو يتحرك مع الوسائل حول
المقاصد ،أي مع اآلليات حول األهداف ،ومع المتغيرات حول الثوابت ،ومع الظنيات حول
القطعيات ،ومع الفروع حول األصول ،ومع الجزئيات حول الكليات ،ومع الفقه حول القرآن
والسنة ،ومع الفكر حول العقيدة ،ومع الحياة حول الشريعة .وهي حركة تجري على فطرة اهلل
في خلقه ،وسننه في كونه ،وهي إذن حركة مباركة على امتداد الزمان والمكان ،إن شاء اهلل
تعالى.
178