Professional Documents
Culture Documents
رﺎض
اﻹﻧﺴﺎن
اﻹﻧﺴﺎن
دراﺳﺔ ﰲ اﻟﻨﻮع واﻟﺤﻀﺎرة
ﺗﺄﻟﻴﻒ
ﻣﺤﻤﺪ رﻳﺎض
اﻹﻧﺴﺎن
ﻣﺤﻤﺪ رﻳﺎض
7 إﻫﺪاء
9 ﻛﻠﻤﺎت ﻫﺎﻣﺴﺔ
11 ﻣﻘﺪﻣﺔ
15 ﺗﺤﺪﻳﺚ املﻌﻠﻮﻣﺎت ﻋﻦ ﺗﻄﻮر اﻹﻧﺴﺎن
19 ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
75 ﻣﺪﺧﻞ إﱃ دراﺳﺔ اﻹﻧﺴﺎن
6
إﻫﺪاء
ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻇﻬﺮ اﻟﻨﻮع اﻟﺒﴩي ،ﻓﺈﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻌﺮف اﻟﺨﺒﺰ وﻻ املﻼﺑﺲ ،وﻛﺎن اﻹﻧﺴﺎن
ﻳﺴري ﻋﲆ ﻗﺪﻣﻴﻪ وﻳﺪﻳﻪ وﻳﺄﻛﻞ اﻷﻋﺸﺎب ﺑﻔﻤﻪ ﻛﻤﺎ ﻳﻔﻌﻞ اﻟﺤﻴﻮان ،وﻳﴩب ﻣﻦ
ﻣﺎء اﻷﻧﻬﺎر.
ﻧﺺ ﺳﻮﻣﺮي ﻗﺪﻳﻢ
ﻣﺮت ﻓﻜﺮة ﻧﺸﺄة اﻹﻧﺴﺎن ﻋﻨﺪ املﴫﻳني اﻟﻘﺪﻣﺎء ﺑﻌﺪة ﻣﺮاﺣﻞ ،ﻳﺒﺪو أن أوﻟﻬﺎ ﻛﺎن اﻻﻋﺘﻘﺎد
ﺑﺄن اﻹﻧﺴﺎن ﻫﻮ ﺳﻠﻴﻞ اﻵﻟﻬﺔ .وﰲ ﺣﻮاﱄ ﺑﺪاﻳﺔ اﻷﻟﻒ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ﺳﺎد املﻴﺘﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
املﴫﻳﺔ أن اﻹﻧﺴﺎن ﻗﺪ ﻧﺸﺄ ﻋﻦ دﻣﻮع اﻹﻟﻪ »رع« ،وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ أﺻﺒﺢ اﻻﻋﺘﻘﺎد أن اﻹﻟﻪ
»ﺧﻨﻮم« ﻳﺸﻜﻞ اﻟﻨﺎس واﺣﺪًا ﺑﻌﺪ اﻵﺧﺮ ﻣﻦ اﻟﻄني.
ﻫﺬا اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺎﻹﻧﺴﺎن ،ﻧﺸﺄﺗﻪ وﺗﻄﻮره — ﻛﻤﺎ ﺗﻮﺿﺤﻬﺎ أﻓﻜﺎر اﻟﴩق اﻟﻘﺪﻳﻢ — ﻻ
ﺗﻤﺜﻞ ﺑﺪاﻳﺎت ﻫﺬا اﻟﻔﻜﺮ ،ﺑﻞ ﻟﻌﻞ اﻹﻧﺴﺎن ﺑﺪأ ﻳﺘﻌﺠﺐ ﻣﻦ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻨﺬ أن ﻇﻬﺮ ﻋﲆ اﻷرض،
وﺑﺪأ ﻳﺸﻖ ﻃﺮﻳﻘﻪ ﻟﻠﺴﻴﻄﺮة ﻋﲆ اﻷرض وﺳﻴﺎدﺗﻬﺎ .وﻗﺼﺔ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺬي وﺟﺪ آﺛﺎر أﻗﺪام
أراد أن ﻳﺘﺘﺒﻌﻬﺎ ﻟﻴﻌﺮف ﺻﺎﺣﺒﻬﺎ ،واﻧﺘﻬﻰ ﺑﻪ اﻷﻣﺮ إﱃ أن ﻳﺪرك أﻧﻬﺎ أﻗﺪاﻣﻪ ﻫﻮ ،ﻫﻲ ﰲ
اﻟﻮاﻗﻊ رﻣﺰ ملﺪى ﻣﺎ ﻳﺠﻬﻠﻪ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ ،ورﻏﺒﺘﻪ املﺘﺄﺻﻠﺔ ﰲ اﺳﺘﻜﺸﺎف املﺠﻬﻮل
ﺑﺎﻟﺘﻘﴢ واملﻐﺎﻣﺮة واﻟﺒﺤﺚ واﻟﺪراﺳﺔ.
ً
واﻹﻧﺴﺎن ﻫﻮ أﻛﺜﺮ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ ﻋﲆ ﻛﻮﻛﺒﻨﺎ اﻷرﴈ ﻏﻤﻮﺿﺎ؛ ﻟﺘﻔﺮده اﻟﻔﻜﺮي ﺑني
ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺪب ﻋﲆ ﺳﻄﺢ اﻷرض أو ﺗَ ْﺴﺒَﺢ ﰲ ﻣﺴﻄﺤﺎت املﺎء ،وﻫﻮ ﺑﺮﻏﻢ ذﻟﻚ
أﺣﺪث ﻣﻦ ﻇﻬﺮ إﱃ اﻟﻮﺟﻮد اﻷرﴈ .ﻓﻌﻤﺮ اﻷرض ﻳﱰاوح ﺑني أرﺑﻌﺔ وﺳﺘﺔ ﻣﻠﻴﺎرات ﻣﻦ
اﻟﺴﻨني ،واﻟﺪﻳﺪان ﻋﻤﺮت اﻟﱰﺑﺔ ﻣﻨﺬ ٤٥٠ﻣﻠﻴﻮن ﺳﻨﺔ ،وﻇﻬﺮت اﻷﺳﻤﺎك ﻏري ذات اﻟﻔﻚ
ﻣﻨﺬ ٤٠٠ﻣﻠﻴﻮن ﺳﻨﺔ ،وﻋﻤﺮ اﻟﻌﻘﺮب ٣٥٠ﻣﻠﻴﻮﻧًﺎ ،واﻷﺳﻤﺎك ذات اﻟﻬﻴﻜﻞ اﻟﻌﻈﻤﻲ ٣٠٠
اﻹﻧﺴﺎن
12
ﻣﻘﺪﻣﺔ
أو اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ أو املﻌﻨﻮﻳﺔ واﻟﻔﻜﺮﻳﺔ .وﻧﺤﻦ اﻟﻴﻮم ﻧﺤﺘﻔﻆ ﰲ داﺧﻠﻨﺎ اﻟﺤﻀﺎري ﺑﺘﺠﺎرب
املﻠﻴﻮن ﺳﻨﺔ املﺎﺿﻴﺔ :ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﺗﺠﺎرب ﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻟﻮﻗﻮف املﻨﺘﺼﺐ ﻋﲆ اﻟﻘﺪﻣني ،وﻧﻤﺮ
ﺑﻬﺎ ﴎاﻋً ﺎ ﻟﻴﺼﺒﺢ ﰲ إﻣﻜﺎﻧﻨﺎ اﻵن أن ﻧﻨﺘﻘﻞ ﺑﴪﻋﺔ ﻫﺎﺋﻠﺔ ﻣﻦ ﻣﻜﺎن إﱃ آﺧﺮ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺘﻘﺪم
ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ إﻧﺘﺎج وﺳﺎﺋﻞ اﻟﻨﻘﻞ .وﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﻧﺤﺘﻔﻆ ﺑﺘﺠﺎرب وﻣﺤﺎوﻻت اﻟﻨﻄﻖ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ
دون أن ﻧﻘﻒ ﻋﻨﺪﻫﺎ ،ﺑﻞ ﻧﻤﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﴎاﻋً ﺎ ﻟﻨﺘﻌﻠﻢ أو ﻧﻜﺘﺐ رواﺋﻊ اﻷدب.
وإذا ﻛﺎن اﻹﻧﺴﺎن ﻛﺎﺋﻨًﺎ ﻋﻀﻮﻳٍّﺎ ،ﻓﺈن اﻟﺤﻀﺎرة ﻫﻲ اﻷﺧﺮى ﻛﺎﺋﻦ ﻋﻀﻮي ﺗﻨﺒﻊ ﻣﻦ
اﻟﻮاﻗﻊ وﺗﻌﻴﺶ ﻋﻠﻴﻪ وﺗﺘﻐﺬى ﺑﺎﻟﻮراﺛﺔ وﺗﻨﻤﻮ ﺑﺎﻟﺘﺠﺮﺑﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ،وﺗﺴﺘﺠﻴﺐ ﻟﻜﺎﻓﺔ أﻧﻮاع
املﺆﺛﺮات اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ اﻟﻨﺎﺑﻌﺔ ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻊ ،واﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ اﻟﻘﺎدﻣﺔ ﻣﻦ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﺣﻀﺎري آﺧﺮ.
وﻳﱰﺗﺐ ﻋﲆ ذﻟﻚ أن ﺗﺜﺮي اﻟﺤﻀﺎرات أو ﺗﺘﻔﺎﻋﻞ وﺗﺬوب ،أو ﺗﺘﺸﻜﻞ ﰲ ﺻﻮرة ﺟﺪﻳﺪة ،أو
ﺗﺮﻓﺾ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻓﺘﻨﻌﺰل وﺗﺬﺑﻞ ﺛﻢ ﺗﻤﻮت ﻣﻊ ﻣﺠﺘﻤﻌﻬﺎ.
ً
وﻷن اﻟﺤﻀﺎرة ﻛﺎﺋﻦ ﻋﻀﻮي ﻣﺴﺘﺠﻴﺐ ﻟﻜﻞ املﺆﺛﺮات ،ﻓﺈﻧﻬﺎ أﺧﺬت أﺷﻜﺎﻻ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ
ﻋﻨﺪ املﺠﺘﻤﻌﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ .ﻟﻘﺪ أدى ﺗﻔﺎوت اﻟﻈﺮوف اﻟﺨﺎﺻﺔ ﻟﻜﻞ ﻣﺠﺘﻤﻊ — ﺳﻮاء ﻛﺎﻧﺖ
ﻇﺮوﻓﺎ ﻣﻜﺎﻧﻴﺔ أو زﻣﺎﻧﻴﺔ أو ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ — إﱃ ﺗﻔﺎوت ﻛﺒري ﰲ أﻧﻮاع اﻟﺤﻀﺎرات وأﺷﻜﺎﻟﻬﺎ: ً
ﺑﻌﻀﻬﺎ أﺧﺬ ﻳﺘﺠﻤﺪ ﻟﻔﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ ،واﻟﺒﻌﺾ ﻳﻨﻤﻮ ﺑﴪﻋﺔ ﻟﻔﱰة ﻣﺎ ،واﻟﺒﻌﺾ اﻵﺧﺮ ﻳﻨﺼﻬﺮ
وﻳﺬوب ﰲ ﺣﻀﺎرات ﻣﺘﻮﺳﻌﺔ ،أو ﻳﻤﻮت وﻳﻨﻘﺮض .ﻟﻘﺪ أدى ﻛﻞ ﻫﺬا إﱃ أن ﻳﻐﻄﻲ ﺳﻄﺢ
اﻷرض املﺴﻜﻮن ﻟﻮﺣﺔ ﻣﻦ اﻟﻔﺴﻴﻔﺴﺎء اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،ﺗﺤﺎول اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ أن ﺗﻐﺰوﻫﺎ
ﻛﻠﻬﺎ وﺗﺴﻴﻄﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻨﺬ ﺑﺪاﻳﺔ ﻫﺬا اﻟﻘﺮن.
ﻫﺬا ﻫﻮ إرﺛﻨﺎ اﻟﺤﻀﺎري اﻟﺤﺎﱄ.
إن اﻻﺧﺘﻼف اﻟﺴﻼﱄ واﻟﺤﻀﺎري ﻣﻨﺬ اﻟﻘﺪم ،ﻗﺪ أدى إﱃ ﺗﺼﻨﻴﻒ ﻧﺴﺒﻲ ﻣﻮﺣﺪ ﻋﻨﺪ
ﻛﻞ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ — ﰲ املﺎﴈ وﰲ اﻟﺤﺎﴐ :ﻫﻨﺎك »اﻟﻨﺎس« وﻫﻢ ﺑﻨﻮ ﺟﻠﺪﺗﻲ وﻣﺠﺘﻤﻌﻲ
وﻟﻐﺘﻲ وﺣﻀﺎرﺗﻲ أﻧﺎ ،وﻫﻨﺎك »اﻟﻨﺎس ﻏريﻧﺎ« وﻫﻢ ﻏريﻧﺎ ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻌﺎت واﻟﺤﻀﺎرات .وﻟﻘﺪ
ﻛﺎن »اﻟﻨﺎس ﻏريﻧﺎ« داﺋﻤً ﺎ ﻣﺜﺎر اﻟﺘﻌﺠﺐ واﻻﺳﺘﻐﺮاب ﻋﻨﺪ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻣﻦ »اﻟﻨﺎس« ،وﻣﺜﺎر ﻓﺤﺺ
وﺗﻤﺤﻴﺺ ﻋﻨﺪ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﻣﻦ »اﻟﻨﺎس« ،وﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﺪاﻳﺔ دراﺳﺔ اﻹﻧﺴﺎن.
واﻵن ﻣﺎذا ﻳﻔﻌﻞ ﻋﻠﻢ اﻹﻧﺴﺎن »اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ« ﰲ ﻫﺬا اﻟﺨﻀﻢ ﻣﻦ اﻟﻨﺎس واﻟﺤﻀﺎرات.
إﻧﻪ ﺑﺎﺧﺘﺼﺎر ﺷﺪﻳﺪ ﻳﻘﻮم ﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﻔﻌﻠﻪ ﰲ املﺎﴈ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﻣﻦ »اﻟﻨﺎس« — ﺗﺤﺮي ﻃﺒﻴﻌﺔ
اﻹﻧﺴﺎن وﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﻀﺎرات — وﻟﻜﻦ ﻋﲆ أﺳﺲ ﻋﻠﻤﻴﺔ ﻣﻨﻬﺠﻴﺔ .وﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب اﻟﺬي ﺑني
أﻳﺪﻳﻨﺎ اﻟﻴﻮم ﻳﻔﻌﻞ ﻫﻮ اﻵﺧﺮ ﻣﺎ ﻓﻌﻠﻪ اﻷﻗﺪﻣﻮن واملﺤﺪﺛﻮن .إﻧﻪ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ملﺰﻳﺪ ﻣﻦ املﻌﺮﻓﺔ ﻋﻦ
اﻹﻧﺴﺎن؛ ﻛﻲ ﻳﻌﻄﻴﻨﺎ ﻗﺪ ًرا ﻣﻦ املﻌﻠﻮﻣﺎت ﺗﺴﺎﻋﺪﻧﺎ ﻋﲆ اﺗﺨﺎذ املﻮاﻗﻒ اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﻣﻦ ﻗﻀﺎﻳﺎ
13
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﺘﻐري اﻟﺤﻀﺎري ﰲ ﻋﺎملﻨﺎ املﻌﺎﴏ اﻟﺬي ﻗﴫت ﻓﻴﻪ املﺴﺎﻓﺎت إﱃ اﻟﺤﺪ اﻟﺰﻣﻨﻲ اﻷدﻧﻰ،
وزادت ﻓﻴﻪ ﺗﻔﺎﻋﻼت املﺠﺘﻤﻊ اﻟﻌﺎملﻲ ﻛﺘﻤﻬﻴﺪ ﻟﻮﺣﺪة ﺣﻀﺎرﻳﺔ ذات أداء ﻧﺴﻌﻰ إﱃ ﺗﻨﺎﺳﻘﻪ
واﻧﺴﺠﺎﻣﻪ.
ﻣﺤﻤﺪ رﻳﺎض
14
ﲢﺪﻳﺚ اﳌﻌﻠﻮﻣﺎت ﻋﻦ ﺗﻄﻮر اﻹﻧﺴﺎن
ﻣﺮت ٤١ﺳﻨﺔ ﻋﲆ ﺻﺪور اﻟﻄﺒﻌﺔ اﻷوﱃ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﻲ املﻌﻨﻮن» :اﻹﻧﺴﺎن :دراﺳﺔ ﰲ اﻟﻨﻮع
واﻟﺤﻀﺎرة« )دار اﻟﻨﻬﻀﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ – ﺑريوت ،(١٩٧٢وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﺎﻹﻃﺎر اﻟﻌﺎم ﻟﻠﺘﻄﻮر
اﻟﺒﴩي ﻣﺎ زال ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ،ﺑﻤﻌﻨﻰ أن ﺑﻌﺾ أﻧﻮاع وﻓﺮوع ﺳﻼﻻت ﺑﴩﻳﺔ أو ﺷﺒﻴﻬﺔ ﺑﻬﺎ
أو ﺳﺎﺑﻘﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻗﺪ ﺗﻄﻮرت ،وأﺧﺮى ﺗﻮﻗﻔﺖ ﻋﻨﺪ ﺳﺪ ﺑﻴﺌﻲ أو دﻳﻤﻮﺟﺮاﰲ ﻳﺤﻴﻠﻬﺎ إﱃ ﻧﻮع
ﻣﻨﻘﺮض ،أو ﻋﲆ اﻷﻗﻞ اﺷﺘﺒﻚ ﺟﻴﻨﻴٍّﺎ ﰲ ﻓﱰة ﻣﺎ ﻣﻊ ﻧﻮع آﺧﺮ ﻧﺘﺞ ﻋﻨﻪ ﺧﻂ ﺗﻄﻮري ﺟﺪﻳﺪ،
ﺗﺸﱰك ﻓﻴﻪ املﻮرﺛﺎت ﺑﻨﺴﺐ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ.
وملﺎ ﻛﺎن اﻟﻜﺘﺎب ﻳﻌﺎﻟﺞ ﻣﻮﺿﻮﻋني؛ اﻷول :ﻋﻦ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺴﻼﱄ ﻟﻺﻧﺴﺎن ،واﻟﺜﺎﻧﻲ :ﻋﻦ
اﻟﺤﻀﺎرة واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ وﺗﻨﻈﻴﻢ املﺠﺘﻤﻊ .ﻓﻘﺪ رﻏﺒﺖ أن ﻳﻜﻮن ﻧﴩ اﻟﻜﺘﺎب ﰲ ﻣﺠﻠﺪﻳﻦ ﺗﺴﻬﻞ
ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﻣﺠﻠﺪ واﺣﺪ ﻣﻦ ٦٠٠ﺻﻔﺤﺔ. ﻗﺮاءﺗﻬﻤﺎ ً
ً
ﻣﻀﺎﻓﺎ إﻟﻴﻪ ﺑﻌﺾ ﴩ ﰲ ،١٩٧٢ ﻫﺬا إذن اﻟﻘﺴﻢ اﻷول ﻣﻦ ﻛﺘﺎب اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺬي ﻧ ُ ِ َ
املﻌﻠﻮﻣﺎت اﻟﺠﺪﻳﺪة اﻟﻨﺎﺟﻤﺔ ﻋﻦ ﺗﺮاﻛﻢ املﻜﺘﺸﻔﺎت اﻟﺤﻔﺮﻳﺔ ﻋﻦ اﻹﻧﺴﺎن وأﺷﺒﺎه اﻹﻧﺴﺎن
ﺧﻼل اﻟﻌﻘﻮد اﻷرﺑﻌﺔ املﺎﺿﻴﺔ .ﻋﻤﺮ اﻹﻧﺴﺎن وأﺷﺒﺎﻫﻪ ﰲ املﺘﻮﺳﻂ ﻻ ﻳﺰﻳﺪ ﻋﻦ ﺛﻼﺛﺔ إﱃ أرﺑﻌﺔ
ﻣﻼﻳني ﺳﻨﺔ ،وﻫﻲ ﻓﱰة ﺿﺌﻴﻠﺔ ﺟﺪٍّا ﻣﻦ ﻋﻤﺮ ﻛﻮﻛﺒﻨﺎ اﻷرﴈ اﻟﺬي ﻧﻌﻴﺶ ﻋﻠﻴﻪ وﻧﺘﺸﺎرك
ﻓﻴﻪ ﻣﻊ ﻛﻞ أﺷﻜﺎل اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻨﺒﺎﺗﻴﺔ واﻟﺤﻴﻮاﻧﻴﺔ واﻟﺒﺤﺮﻳﺔ واملﻴﻜﺮوﺑﻴﺔ ،اﻟﺘﻲ ﺑﺪأت ﻣﻨﺬ ﻧﺤﻮ
أﻳﻀﺎ ﻣﺪة زﻣﻨﻴﺔ ﻗﺼرية ﻣﻦ ﻋﻤﺮ اﻷرض اﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﺗﺘﺠﺎوز ٦٠٠–٥٠٠ﻣﻠﻴﻮن ﺳﻨﺔ ،وﻫﻲ ً
أرﺑﻌﺔ ﻣﻠﻴﺎرات وﻧﺼﻒ املﻠﻴﺎر ﻣﻤﺎ ﻧﻌﺪ ﻣﻦ اﻟﺴﻨني.
ملﺎذا اﺧﱰت أن ﺗﻜﻮن اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﺑﺎﻟﺠﺎﻧﺐ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﻣﻦ ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻹﻧﺴﺎن؟ ﻫﻮ ﻣﻮﺿﻮع
ﻓﻴﻪ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻻﻟﺘﺒﺎس ،ﻗﺪ ﻳﺒﺪو أن ﻣﻠﺨﺼﻪ ﻣﻌﺮﻛﺔ ﺑني ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﺨﻠﻖ وﺑني اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ
ﻟﺘﻔﺴري اﻟﻈﻮاﻫﺮ .واﻷﻣﺮ ﻏري ذﻟﻚ ،واملﻌﺮﻛﺔ ﻣﻔﺘﻌﻠﺔ ﻣﻨﺬ ﻗﺮن ،ﺗﺜﻮر وﺗﺨﺒﻮ ﻛﻠﻤﺎ ﻇﻬﺮ ﻛﺸﻒ
ﻋﻠﻤﻲ ﺟﺪﻳﺪ؛ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺠﺪد ﻋﲆ اﻟﻔﻮر ﻧﻘﺪه وﻧﻘﻀﻪ ﻣﻦ أﺻﺤﺎب اﻟﺮأي اﻵﺧﺮ.
اﻹﻧﺴﺎن
ملﺎذا؟
أي إﻧﺴﺎن ﻋﺎﱄ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ أو ﻣﺤﺪودﻫﺎ ﻫﻮ داﺋﻤً ﺎ رﺑﻴﺐ أﻓﻜﺎر ﺳﺎﺑﻘﺔ أو ﻣﺴﺒﻘﺔ ﻣﺘﺪاﺧﻠﺔ
ﰲ ﻧﺴﻴﺞ ﺛﻘﺎﻓﺔ ﻣﺠﺘﻤﻌﻪ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺗﻠﻘﺎﺋﻴﺔ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﻬﻮ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳﺮﻓﺾ ﻟﻠﻮﻫﻠﺔ اﻷوﱃ أﻓﻜﺎ ًرا
أﺧﺮى ﻗﺪ ﺗﺒﺪو ﻣﻌﺎرﺿﺔ أو ﻣﻐﺎﻳﺮة ملﺎ ﻟﺪﻳﻪ ﻣﻦ ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ ﺟﺎﻫﺰة؛ ﻓﺘﻜﻮن ردة اﻟﻔﻌﻞ اﻷوﱃ
ً
ﻣﺼﺪﻗﺎ ﻟﻬﺎ رﻓﺾ اﻟﺠﺪﻳﺪ دﻓﺎﻋً ﺎ ﻋﻦ ﻣﻮﺟﻮداﺗﻪ اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ،ﺳﻮاء ﻛﺎن ﻳﻌﺮف دﻗﺎﺋﻘﻬﺎ أو
ً
ﺧﺎﺻﺔ ﻣﻤﺎرﺳﺔ ،واﻷﻛﺜﺮ اﻟﺬي ﻳﺠﻌﻠﻪ ﰲ ﺻﻔﻮف اﻷﻏﻠﺒﻴﺔً ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ اﻷﻛﺜﺮ ﺷﻴﻮﻋً ﺎ واﻷﻛﺜﺮ
إذا ارﺗﺒﻄﺖ ﺑﻤﺬاﻫﺐ وﻋﻘﺎﺋﺪ إﻳﻤﺎﻧﻴﺔ …
وﻣﻦ ﺑني أﻛﺜﺮ اﻷﻓﻜﺎر املﺴﺒﻘﺔ املﺘﺪاوﻟﺔ :اﻟﺘﻌﺎرض ﺑني أﻓﻜﺎر اﻟﺨﻠﻖ ،وأﻓﻜﺎر ﻧﻈﺮﻳﺎت
اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺘﺪرﻳﺠﻲ ﻟﻺﻧﺴﺎن .ﺣﻴﻨﻤﺎ دﺧﻠﺖ اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ﻣﺠﺎل اﻟﻔﻜﺮ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﻣﻨﺬ ﻧﺤﻮ ﻗﺮن
وﻧﺼﻒ اﻟﻘﺮن ،ﺑﺎدرت ﻛﻞ اﻷدﻳﺎن — وﺑﺨﺎﺻﺔ اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ اﻟﺮﺳﻮﻟﻴﺔ — إﱃ ﻧﻔﻴﻬﺎ ،ﺑﺎﻋﺘﺒﺎر
ﻣﺎ ورد أن اﻟﺨﻠﻖ اﻹﻟﻬﻲ ﻟﻺﻧﺴﺎن ﺗﻢ ﻣﺮة واﺣﺪة وﺑﻬﺪف واﺣﺪ :ﺣﻴﺎة دﻧﻴﻮﻳﺔ ﻋﲆ اﻷرض؛
ﻛﺎﺧﺘﺒﺎر واﻣﺘﺤﺎن ﻳﺆدي ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ إﱃ اﻟﺤﻴﺎة اﻵﺧﺮة اﻟﺪاﺋﻤﺔ ،أو ﻋﻘﺎب أﺑﺪي ﻋﲆ أﻋﻤﺎل
ﺿﺪ ﴍﻋﺔ اﻟﺤﻴﺎة.
ﻣﺜﻼ ﻣﻦ املﻴﻼد إﱃ اﻟﻮﻓﺎة ﻛﻈﺎﻫﺮة ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ؟! وﻟﻜﻦ ﻫﻞ اﻷدﻳﺎن ﺗﻨﻔﻲ اﻟﺘﻐري واﻟﺘﺪرج ً
ﻫﻞ ﺗﻨﻔﻲ ﺗﻐﻴري اﻟﻨﺎس ﻟﻌﺎداﺗﻬﻢ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ املﺸﻴﻨﺔ ﻛﺎﻟﺮق أو وأد اﻟﺒﻨﺎت؟! وأﺷﻴﺎء أﺧﺮى
ﻛﺜرية ﺣﻀﺖ اﻷدﻳﺎن ﻋﲆ ﺗﻐﻴريﻫﺎ ﻣﺮة واﺣﺪة أو ﺑﺎﻟﺘﺪرﻳﺞ .املﻨﻬﻲ ﻋﻨﻪ ﻳﺘﻨﺎول أﺻﻮل
اﻹﻳﻤﺎن ﺑﺎﻟﺨﺎﻟﻖ .وﻷن ﻧﻔﻲ اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ﺟﺎء ﻛﺎﻟﺮﻋﺪ اﻟﻘﺎﺻﻒ دون ﺗﻤﺤﻴﺺ ﻣﻄﻠﻮب ،ﺑﻞ
ﻣﺜﻼ ﺑﺴﺎﻃﺔ اﻟﺠﻤﻠﺔ اﻻﺳﺘﻨﻜﺎرﻳﺔ ﺣﻮل اﻟﻘﺮد ﺗﺄت ﺑﻬﺎ اﻟﺒﺤﻮث؛ ًأﻳﻀﺎ ﺑﺈﺿﺎﻓﺎت ﺷﻌﺒﻴﺔ ﻟﻢ ِ ً
ﻛﺠﺪ ﻣﺒﺎﴍ ﻟﻺﻧﺴﺎن! ﺟﻤﻠﺔ ﺑﺴﻴﻄﺔ ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻛﻘﺼﻒ املﺪﻓﻊ ﻻ ﻳﺬر وﻻ ﻳﺮﺣﻢ ،ﻓﻤﻦ ذا اﻟﺬي
ﻳﺮﺗﴤ ﻫﺬا اﻟﻨﺴﺐ ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻛﺎن أﻗﺒﺢ ﻣﻦ ﻗﺮد ،ﻛﻤﺎ وﺻﻒ اﻟﺸﺎﻋﺮ ﺑﺸﺎر ﺑﻦ ﺑﺮد ﻧﻔﺴﻪ
ﰲ إﺣﺪى ﻫﺠﺎﺋﻴﺎﺗﻪ؟! ﻟﻬﺬا أﺻﺒﺤﺖ ﻫﻨﺎك ﺣﺴﺎﺳﻴﺔ ﺷﺪﻳﺪة ملﻮﺿﻮع ﺗﻄﻮر اﻟﺒﴩ ،ﺑﺮﻏﻢ
وﺟﻮد ﻓﻜﺮ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﻜﻤﻲ واﻟﻜﻴﻔﻲ ﰲ املﻨﻬﺞ اﻟﻌﻘﻼﻧﻲ املﻌﻤﲇ واﻟﺘﻨﻈريي.
إذا أُﺧِ َﺬ ِت اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ إﻋﻤﺎل ﻟﻠﻌﻘﻞ؛ ﻓﻠﻴﺲ ﻣﻌﻨﻰ ﻫﺬا ﻧﻔﻴًﺎ ﻟﻺﻳﻤﺎن أو ﺟﻬﺎﻟﺔ
ً
ﺗﻘﺒﻼ وإﻗﻨﺎﻋً ﺎ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻣﺘﻤﻤﺔ ﺑﻪ .رﺑﻤﺎ اﻟﴚء اﻟﻮاﺿﺢ ﰲ ﻫﺬا املﻮﻗﻒ أن ﻓﻜﺮة اﻟﺨﻠﻖ أﻛﺜﺮ
ﻟﻺﻳﻤﺎن .ﻓﺎﻟﺨﻠﻖ ﻣﺤﻜﻢ ﻣﻦ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﻟﻠﻨﻬﺎﻳﺔ ﺑﻬﺪف وﻏﺮض واﺣﺪ ،ﻫﻮ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﺨﻠﻮد
ﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻵﺧﺮة .أﻣﺎ اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ﻓﻬﻲ ﺗﺒﺪو ﻛﻬﺪف ﻣﻌﺮﰲ ﻳﻘﻮم ﻋﲆ ﻣﻨﻬﺞ اﻟﺒﺤﺚ اﻟﻌﻠﻤﻲ،
ﻨﻔﻰ ﺑﻨﺘﺎﺋﺞ اﻟﺒﺤﻮث ،وﻫﻲ ﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﻟﻴﺴﺖ وﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻟﺪﻳﻪ ﻣﻦ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻗﺪ ﺗﺘﺄﻛﺪ أو ﺗُ َ
ﻧﻘﻴﺾ اﻟﺨﻠﻖ.
16
ﺗﺤﺪﻳﺚ املﻌﻠﻮﻣﺎت ﻋﻦ ﺗﻄﻮر اﻹﻧﺴﺎن
ً
ﺷﻜﻼ؛ ﻓﺎﻹﻳﻤﺎن ﺟﻤﻠﺔ واﺣﺪة ﻣﺘﻜﺎﻣﻠﺔ ﻣﻊ اﻟﻌﻘﻴﺪة، اﻟﻔﺮق إذن ﻫﻮ ﰲ اﻟﺪﻟﻴﻞ اﻟﻨﻬﺎﺋﻲ
وﻣﻊ اﻟﺮﻏﺒﺔ اﻟﺠﺎرﻓﺔ ﻟﻠﻨﻔﺲ اﻟﺒﴩﻳﺔ أن ﺗﺤﻴﺎ ﻣﺮة أﺧﺮى ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ ﻓﻨﺎء اﻟﺠﺴﻢ اﻟﺒﴩي
ﻋﲆ اﻷرض .ﺣﺐ اﻟﺤﻴﺎة ﻣﺘﻤﻢ ﻟﻠﺤﻴﺎة ،وإﻻ اﻧﺘﻬﺖ اﻟﺤﻴﺎة إذا اﺳﺘﻌﺠﻞ اﻟﻨﺎس اﻵﺧﺮة .ﺣﺘﻰ
ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﺣﻴﺎة ﺷﺨﺺ ﺗﻌﺴﺔ ﻋﲆ اﻷرض ،ﻳﻈﻞ ﻫﻨﺎك أﻣﻞ ﰲ ﺗﻌﻮﻳﺾ اﻵﺧﺮة .وﻷن أي
ﺑﺤﺚ ﻣﻨﺸﻐﻞ ﺑﺘﺤﺼﻴﻞ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻣﺤﺪدة؛ ﻓﺈن أي ﺑﺤﺚ ﻧﻈﺮي أو ﻋﻠﻤﻲ أو ﺗﻄﺒﻴﻘﻲ ﻻ ﻳﺘﻄﺮق
إﱃ ﻣﻀﺎﻣني داﺧﻞ ﻋﻠﻢ اﻟﻐﻴﺐ اﻟﺬي ﻻ ﻳﻌﺮﻓﻪ ﺳﻮى ﱠ
ﻋﻼم اﻟﻐﻴﻮب.
ﻓﻬﻼ ﻧﺴﺘﻔﻴﺪ ﻣﻌﺮﻓﻴٍّﺎ وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻟﻜ ﱟﻞ ﺷﺄن ،ﺣﺴﺐ ﺗﺪرﻳﺐ وﺗﺄﻫﻴﻞ ﻃﺎﻗﺎﺗﻪ اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﱠ
ً
ﻣﺮوﻧﺔ أو ﺟﻤﻮدًا؟!
ﻟﻴﺴﺖ ﻫﺬه اﻷﺳﻄﺮ اﻋﺘﺬارﻳﺔ ،ﺑﻞ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻟﻠﻔﻬﻢ :ﻣﻦ ﻧﺤﻦ؟ وﻛﻴﻒ أﺻﺒﺤﻨﺎ؟ وﻣﺎذا
ﻧﺘﻮﻗﻊ ﻟﻠﺒﴩﻳﺔ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴٍّﺎ وﻓﻜﺮﻳٍّﺎ؟ ﻷن اﻟﺠﺴﻢ وﻫﻴﺎﻛﻠﻪ اﻟﻌﻈﻤﻴﺔ ﻫﻲ ﺑﺎﻷﺳﺎس واﺣﺪة
أﺻﺎﺑﻬﺎ ﻧﻤﻮ ﻫﻨﺎ وﺿﻤﻮر ﻫﻨﺎك ،ﺣﺴﺐ اﻻﺳﺘﺨﺪام املﺘﻮاﻓﻖ ﻣﻊ ﻣﻨﺎﺳﻴﺐ اﻟﺤﻴﺎة املﺘﻐرية،
ﻣﻊ اﻻﺳﺘﻌﺎﻧﺔ ﺑﻤﺴﺎﻋﺪات ﺗﻘﻨﻴﺔ ﻧﺒﺘﻜﺮﻫﺎ ﻟﺘﻴﺴري اﻟﺤﻴﺎة ﻣﻨﺬ أن دﺑﺖ ﻓﻴﻨﺎ اﻟﺤﻴﺎة.
ﻣﺤﻤﺪ رﻳﺎض
اﻟﻘﺎﻫﺮة ﰲ ٢٠١٣ / ١١ / ٥
17
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤﲑ اﻷرض
20
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
ﻣﻼﺣﻈﺔ ﴐورﻳﺔ :اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﺗﺄرﻳﺦ ﺣﻔﺮﻳﺎت اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻘﺪﻳﻢ ،ﻫﻲ ﻗﻴﻢ ﻋﺎﺋﻤﺔ ﺑني
ﺗﺎرﻳﺨني ﻣﺘﺒﺎﻋﺪﻳﻦ ،ﺑﻤﻌﻨﻰ أن ﻋﻤﺮ ﺣﻔﺮﻳﺔ أو ﺳﻼﻟﺔ ﻣﺎ ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﻋﲆ اﻟﺤﺪ اﻷﻋﲆ أو
اﻷدﻧﻰ ،إذا ﻛﺎن اﻟﺘﺄرﻳﺦ اﺳﺘﺪﻻﻟﻴٍّﺎ ﺑﺸﻮاﻫﺪ اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻟﺠﻴﻮﻟﻮﺟﻲ أو اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻲ املﺼﺎﺣﺐ
ﻟﻠﺤﻔﺮﻳﺎت أو اﻷﺛﺮ .أﻣﺎ إذا ﻛﺎن اﻟﺘﺄرﻳﺦ ﻗﺪ ﺗﺤﺪﱠد ﺑﻮﺳﻴﻠﺔ رادﻳﻮ ﻛﺮﺑﻮن ١٤أو ﺑﻮﺗﺎﺳﻴﻮم
أرﺟﻮن ﻟﻠﺤﻔﺮﻳﺎت املﻮﻏﻠﺔ ﰲ اﻟﻘﺪم؛ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺼﺒﺢ ﻗﺮﻳﺒًﺎ ﻣﻦ اﻟﺼﺤﺔ ﻣﻊ ﻓﺮوق ﻣﻌﺮوﻓﺔ أزﻳﺪ
أو أﻗﻞ ﺑﻨﺴﺒﺔ ﺿﺌﻴﻠﺔ.
Elwyn L. )اﻟﺸﻜﻞ (2ﻳﻠﺨﺺ ﻧﺘﻴﺠﺔ أﺑﺤﺎث اﻟﺒﺎﻟﻴﻮﻧﺘﻮﻟﻮﺟﻲ اﻷﻣﺮﻳﻜﻲ إﻳﻠﻮﻳﻦ ﺳﻴﻤﻮﻧﺰ
Simonsﰲ ﺟﺒﻞ اﻟﻘﻄﺮاﻧﻲ ﺷﻤﺎل ﺑﺤرية ﻗﺎرون ﰲ اﻟﻔﻴﻮم.
ﻫﻨﺎك اﺗﻔﺎق ﺑني اﻟﺒﺎﻟﻴﻮﻧﺘﻮﻟﻮﺟﻴني ﻋﲆ أن ﻣﻘﺪﻣﺎت ﻋﺎﺋﻠﺔ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺎت اﻟﻬﻮﻣﻴﻨﻮﻳﺪﻳﺎ
Hominoideaﺗﻠﺘﻘﻲ ﺑﻤﺠﻤﻮﻋﺔ ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ دراﻳﻮﺑﺜﻴﻜﺲ ،Dryopithecusﻣﻮﺟﻮدة ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ
وأوروﺑﺎ وآﺳﻴﺎ ﻣﻨﺬ أﻗﺪم ﻣﻦ ٢٠ﻣﻠﻴﻮن ﺳﻨﺔ .ﻟﻜﻦ ﻛﺸﻮف اﻟﻔﻴﻮم أﺛﺒﺖ ﻗﺪﻣﻬﺎ ﻣﻨﺬ
ﻴﻒ إﱃ ذﻟﻚ ﻛﺸﻮف اﻷوﻟﻴﺠﻮﺳني اﻷﻋﲆ ﺑﺎﺳﻢ اﻟﻘﺮد املﴫي ،Aegyptopithecusﺛﻢ أ ُ ِﺿ َ
أﺧﺮى ﰲ ذات املﻨﻄﻘﺔ ﺑﺘﺎرﻳﺦ أﻗﺪم ﻳﺼﻞ إﱃ ﻧﺤﻮ ٣٤ﻣﻠﻴﻮﻧًﺎ ﺑﺎﺳﻢ ﺑﺮوﺑﻠﻴﻮﺑﻴﺜﻜﺲ
) Propliopithecusﻧﴩ ﺳﻴﻤﻮﻧﺰ أﺑﺤﺎﺛﻪ ١٩٦٧ﺑﺎﺳﻢ أﻗﺪم ﻗﺮد و ١٩٨٧وﺟﻮه ﺟﺪﻳﺪة
ﻟﻠﻘﺮد املﴫي(.
وﻛﻤﺎ ﻳﻈﻬﺮ ﻣﻦ اﻟﺸﻜﻞ أن اﻟﱪوﺑﻠﻴﻮﺑﺜﻜﺲ ﺗﻄﻮﱠر إﱃ اﻟﻘﺮد املﴫي ﰲ ﺑﻀﻌﺔ ﻣﻼﻳني
ﻋﻄ َﻲ ﺑﻌﺾ اﻟﺼﻔﺎت املﻜﻮﻧﺔ ﻟﻠﺮﺋﻴﺴﻴﺎت ،وﺑﻌﺾ ﻣﻦ اﻟﺴﻨني ،وﺑﻌﺪ ١٥ﻣﻠﻴﻮن ﺳﻨﺔ أ ُ ِ
21
اﻹﻧﺴﺎن
٢٠٠٠٠٠٠
١٠٠٠٠٠٠
٥٠٠٠٠٠
١٠٠٠٠٠
٥٠٠٠٠
١٠٠٠٠
ﻣﺮﺗﻔﻌﺔ – ﻣﻨﺨﻔﻀﺔ
املﻨﺎخ ﻏري ﻣﺆﻛﺪ
Wurm
Gunz
اﻟﺤﺎﱄ
Mindel
Riss
وﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
ﺟﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
ﺑﻮﺗﺎﺳﻴﻮم
ﻛﺮﺑﻮن
اﺳﺘﺪﻻﱄ
ﺗﺎرﻳﺦ
ﺑﺸﻮاﻫﺪ
أرﺟﻮن
رادﻳﻮ
ﺗﺎرﻳﺦ
ﺗﺎرﻳﺦ
اﺷﺒﺎه اﻹﻧﺴﺎن واﻷوﺳﱰاﻟﻮﺑﺜﻜﻴﻨﻴﺎ
اﻟﻬﻮﻣﻮﻧﻴﺪا اﻟﺤﻔﺮﻳﺎت
وﻣﻘﺪﻣﺎت ﻫﻮﻣﻮ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻮاﻗﻒ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ
ﺣﻴﺎة اﻟﻜﻬﻮف
ﺑﻼﻳﻮﺳﺘﻮﺳني
اﻹﻧﺴﺎن املﻌﺎﴏ
et-Tabun es-Skul
اﻟﺒﻠﻴﻮﺳني
)(Java
South Africa
Neanderthals
Swartkrana
Cromagnon
Choukoutlen
Swanscombe
ﻫﻮﻟﻮﺳني
وﺳﻼﻻﺗﺔ
Heidelberg
Steinheim
)(Peking
Africa
East
ﻓﱰة ﺟﻠﻴﺪﻳﺔ
ﻓﱰة دفء ﺑني اﻟﺠﻠﻴﺪﻳﺔ
) (2-1ﺳﻼﻻت اﻹﻧﺴﺎن املﻨﻘﺮﺿﺔ واملﻌﺎﴏة ﻣﻨﺬ ﻧﺤﻮ ﺛﻼﺛﺔ ﻣﻼﻳني ﺳﻨﺔ إﱃ اﻵن
22
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
Les pongidés
Les pongidés sont connus depuis l’oligocéne supérieur du
Fayoum avec le genre Aegyptopithecus dont un cráne a été
Découvert par Simons. De la taille du gibbon et arboricole
gorille
chimpanzé homme
orang-outan
0
Homo erectus
Austratopisbecus
Afrique
5
PLIOCENE
10
Dryopitbecus
MIOCENE
Sivapitbecus 20
Asic
?
Dryopithecus
Dryopitbecus
Europe
25
Dryopitbecus
(Proconsul)
Afrique 30
OLIGOCENE
Aegyptopitbecus
Afrique
Propliopitbecus
Fayoum 35
23
اﻹﻧﺴﺎن
Peking
Olduvai
Bed IV
1
Homo erectus
Olduvai olduvai
Bed I, lower II Homo erectus
Swartkrans Java
zone
2
Homo Habilis
olduvai
Sterkfontein
Years
zone
3
Australopithecus
South Africa
Million
4
400 500 600 700 800 900 1000 1100
24
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
ﺷﻜﻞ 4
أو أﺣﺪث ﻣﻨﻪ .ﻛﻤﺎ أﻧﻪ اﻷﻛﺜﺮ ﺗﻮزﻋً ﺎ ﺑني اﻟﻘﺎرات اﻟﺜﻼث :أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وآﺳﻴﺎ )ﺟﺎوة
واﻟﺼني( وأوروﺑﺎ )ﻫﺎﻳﺪﻟﱪج(.
25
اﻹﻧﺴﺎن
26
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
ﻳﺤﺮم ﺑﺈﻃﻼق .وﺑﺮﻏﻢ ﻗﻠﺔ أﻋﺪاد اﻟﻨﺎس ﰲ ﺗﻠﻚ اﻷزﻣﺎن؛ ﻓﻘﺪ ﻳﺤﺪث ﺗﻐري ﺑﻴﺌﻲ أﴎﻋﻪ زﻟﺰاﱄ
ﺑﺮﻛﺎﻧﻲ أو ﴏاع ﺑﴩي ﺑﺄﻧﻮاﻋﻪ ﻋﲆ أرض ﺟﻴﺪة ،وأﺑﻄﺌُﻪ ﺗﻐري ﻣﻨﺎﺧﻲ ،وﻛﻠﻬﺎ ﻣﻤﺎ ﻳﻮﺟﺐ
ﻋﲆ اﻟﻨﺎس اﻟﻬﺠﺮة ﻷﻣﺎﻛﻦ أﺧﺮى .ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﺴﺒﺐ اﻷول ﰲ اﻧﺘﺸﺎر اﻟﺒﴩ ﰲ
ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻛﺜرية ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ رﻏﻢ ﻗﻠﺘﻬﻢ اﻟﻌﺪدﻳﺔ ،أو إﱃ ﻓﻨﺎء ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ واﻧﻘﺮاض ﺳﻼﻟﺔ .وﻋﲆ
اﻷﻏﻠﺐ ﻟﻢ ﺗﻮﺟﺪ ﺗﺠﻤﻌﺎت ﺑﴩﻳﺔ ﻛﺒرية ،ﺑﻞ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﺎدة ﻋﺪة أﴎ — ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﻌﺎم ﻷﻧﻮاع
اﻷﴎة — ﻻ ﺗﺘﻌﺪى ﺑﻀﻊ ﻋﴩات ،وذﻟﻚ ﻟﺘﺄﻣني ﻣﺠﺎل واﺳﻊ ﻟﺘﺠﻮاﻟﻬﻢ اﻟﻐﺬاﺋﻲ ﰲ ﻣﺴﺎﺣﺔ
ﻛﺒرية.
وﻣﻦ املﻔﻴﺪ أن ﻧﺆﻛﺪ ﻫﻨﺎ أن ﺗﻘﺴﻴﻢ اﻟﻌﻤﻞ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ ﻛﺎن ﻳﺘﻢ ﻋﲆ أﺳﺎس
اﻟﺠﻨﺲ؛ ﻓﺎﻟﺮﺟﺎل ﺗﺨﺎﻃﺮ ﰲ اﻟﺼﻴﺪ ﻣﻮاﺳﻢ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ ﻣﻘﺮ اﻹﻗﺎﻣﺔ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﺠﻤﻊ اﻹﻧﺎث
اﻷﻏﺬﻳﺔ اﻟﻨﺒﺎﺗﻴﺔ ،ﻓﺘﺘﺤﺮك ﰲ أﻣﺎﻛﻦ ﻗﺮﻳﺒﺔ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺄﻣﻮﻧﺔ .اﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻨﺒﺎت آﻻف
اﻟﺴﻨني ،ﻫﻮ واﺣﺪ ﻣﻦ اﻷﺳﺲ اﻟﺘﻲ ﻗﺎﻣﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ ﻣﻌﺎرف ﺗﻘﻨﻴﺔ اﺳﺘﺰراع ﻣﺤﺎﺻﻴﻞ
ﻣﻔﻀﻠﺔ ،وﻣﻦ ﺛﻢ اﻟﻨﻘﻠﺔ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻹﻧﺘﺎﺟﻴﺔ اﻷوﱃ ﰲ ﻋﴫ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻨﻴﻮﻟﻴﺘﻴﺔ )اﻟﺤﺠﺮي
اﻟﺤﺪﻳﺚ(.
ﻣﻠﺨﺺ ﺣﻀﺎرات اﻟﺒﺎﻟﻴﻮﻟﻴﺘﻲ.
27
اﻹﻧﺴﺎن
ﺗﺄﺗﻲ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺣﻀﺎرات املﻴﺰوﻟﻴﺘﻲ )اﻟﺤﺠﺮي اﻷوﺳﻂ( ،وﻫﻲ ﰲ أوروﺑﺎ اﻟﺤﻀﺎرﺗني
أزﻳﻞ وﺗﺎردﻧﻮا ،وﰲ ﺷﻤﺎل أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ اﻟﻜﺒﺴﻴﺔ أو اﻟﻘﻔﺼﻴﺔ ،وﰲ ﺷﻤﺎل أوروﺑﺎ ﺣﻀﺎرة
ﻣﺎﺟﻠﻤﻮس .وﻛﻠﻬﺎ ﺗﺘﻤﻴﺰ ﺑﺈﻧﺘﺎج أدوات ﺣﺠﺮﻳﺔ ﺻﻐرية )ﻣﺎﻳﻜﺮو ﻟﻴﺚ( ،ﻣﻊ ﺑﺪاﻳﺎت ﺻﻨﺎﻋﺔ
اﻟﻔﺨﺎر واﺳﺘﺨﺪم اﻟﻘﻮس واﻟﺴﻬﻢ واﺳﺘﺌﻨﺎس اﻟﻜﻠﺐ .ﻋﻤﺮت ﻫﺬه اﻟﺤﻀﺎرات ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﺣﺘﻰ
28
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
ﻏﻄﺎءات اﻟﺠﻠﻴﺪ
ﺗﻨﺪرا
ﻏﺎﺑﺎت ﻣﺨﺮوﻃﻴﺔ
ﻏﺎﺑﺎت ﻧﻔﻀﻴﺔ
ﺷﺒﻪ ﺻﺤﺮاوﻳﺔ
ﺷﻜﻞ 5
ﻣﻦ املﻔﻴﺪ ﻫﻨﺎ إﺿﺎﻓﺔ ﻧﺒﺬة ﻋﻦ أﻫﻤﻴﺔ اﻟﻔﺨﺎر وﻣﺎ ﺗﻼه ﻣﻦ ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻟﺒﻮرﺳﻮﻻن »اﻟﺼﻴﻨﻲ«
واﻟﺴرياﻣﻴﻚ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ ،ﻓﻜﻠﻬﺎ ﻣﺴﺘﻤﺪة ﻣﻦ أﻧﻮاع ﻣﻦ اﻟﱰﺑﺎت اﻟﻄﻔﻠﻴﺔ »اﻟﻄني« ﺳﻮاء أرﺳﺒﺖ
ﺑﻔﻌﻞ املﻴﺎه أو اﻟﻬﻮاء .ﻗﺒﻞ اﻟﻔﺨﺎر ﻛﺎن اﻹﻧﺴﺎن ﻳﺼﻨﻊ آﻧﻴﺔ ﻣﺠﻮﻓﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺎرة ،ﻟﻜﻦ
اﻛﺘﺸﺎف إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻟﻔﺨﺎر ﻛﻨﻮع أرق ﻣﻦ اﻷوﻋﻴﺔ ﻛﺄﻧﻪ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﺣﺠﺎرة ﺻﻨﺎﻋﻴﺔ.
ً
ﻓﻀﻼ ﻋﻦ وﺑﺮﻏﻢ ﻗﺎﺑﻠﻴﺘﻬﺎ ﻟﻠﻜﴪ اﻟﴪﻳﻊ؛ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗﻔﻲ ﺑﺄﻏﺮاض اﻟﻄﻬﻲ وﺣﻔﻆ اﻟﺴﻮاﺋﻞ،
29
اﻹﻧﺴﺎن
إﻣﻜﺎن ﺗﻌﻮﻳﻀﻬﺎ ﻟﻜﺜﺮة وﺳﻬﻮﻟﺔ اﻹﻧﺘﺎج وﺗﻮاﺟﺪ ﻣﺎدﺗﻪ .ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻵﻧﻴﺔ اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ أدوم ،وﻟﻜﻦ
ﺻﻨﺎﻋﺘﻬﺎ ﺷﺎﻗﺔ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻻ ﺗﻨﺘﺞ ﺑﻜﺜﺮة .ﻫﻮ ﰲ ذﻟﻚ أﻗﺮب إﱃ ﺻﻮرة ﻣﺸﺎﺑﻬﺔ ﻟﻠﺒﻨﺎء ﺑﺎﻟﺤﺠﺮ
واﻟﺒﻨﺎء ﺑﺎﻟﻄﻮب اﻟﻨﻴﺊ أو املﺤﺮوق اﻟﺬي ﻫﻮ ً
أﻳﻀﺎ ﻣﺸﺘﻖ ﻣﻦ اﻟﻄني.
ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻟﻔﺨﺎر ﻳﺘﻢ ﺗﺸﻜﻴﻠﻬﺎ ﻳﺪوﻳٍّﺎ ،وأول ﻣﺎ ﻧﻌﺮﻓﻪ ﻣﻦ ﻓﺨﺎر ﻳﻌﻮد
أﺳﺎﺳﺎ ﺑﺤﻀﺎرة اﻟﺰراﻋﺔ اﻟﻨﻴﻮﻟﻴﻨﻴﺔ .وﻣﻊ اﻛﺘﺸﺎفً إﱃ ﻧﺤﻮ ٦٥٠٠ﺳﻨﺔ ﻣﻀﺖ ﻣﺮﺗﺒ ً
ﻄﺎ
ﻣﺒﺪأ اﻟﻌﺠﻠﺔ اﻟﺪوارة ﻃﺒﻖ املﴫﻳﻮن املﺒﺪأ ﻋﲆ ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻟﻔﺨﺎر ﺣﻮاﱄ ٣٠٠٠ق.م؛ ﻣﻤﺎ ﺳﻬﻞ
أﺿﻌﺎﻓﺎ ﻛﺜرية ﺑﺎﻟﻘﻴﺎس إﱃ اﻹﻧﺘﺎج اﻟﻴﺪوي .ﻛﺬﻟﻚ ﺳﺎﻋﺪت ﻋﺠﻠﺔ اﻟﻔﺨﺎر ﻋﲆً اﻹﻧﺘﺎج اﻟﻜﻤﻲ
ﺗﺤﺴني اﻟﺘﺸﻜﻴﻞ ﰲ أﺣﺠﺎم ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻷﻏﺮاض ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ؛ ﻣﺜﻞ :ﺣﻔﻆ املﺎء ،أو اﻟﺴﻮاﺋﻞ ،أو
ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ذﻟﻚ ﺗﻔﻨﻦ اﻟﺼﺎﻧﻊ ﰲ إﺿﺎﻓﺔ أﻟﻮان ورﺳﻮم ً اﻟﺘﺨﺰﻳﻦ اﻟﺠﺎف ﻟﻠﺤﺒﻮب أو ﻏريﻫﺎ.
ﺗﺰﻳﻦ إﻧﺘﺎﺟﻪ ،ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺗﻮﻗﻴﻊ اﻟﺼﺎﻧﻊ أو اﻟﻔﻨﺎن .وﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﻔﺨﺎر وأﻟﻮاﻧﻪ وزﻳﻨﺘﻪ اﺳﺘﻄﺎع
اﻟﻌﻠﻤﺎء ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻓﱰات ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ﻣﻦ دراﺳﺔ »ﺷﻘﻒ« اﻟﻔﺨﺎر ﰲ املﻨﺎﻃﻖ املﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﺑﻞ وﺗﺤﺪﻳﺪ
اﻧﺘﺸﺎرﻫﺎ أو ﺗﻮﻗﻔﻬﺎ ﻟﺤﻠﻮل ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺑﴩﻳﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﻟﻬﺎ أﻓﻀﻠﻴﺎت ﰲ ﺷﻜﻞ واﺳﺘﺨﺪام
املﻨﺘﺠﺎت اﻟﻔﺨﺎرﻳﺔ .ﻓﻜﺄن ﻫﺬا اﻟﺸﻘﻒ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ وﺛﻴﻘﺔ ﻣﻜﺘﻮﺑﺔ ﻋﲆ ﺑﺮدﻳﺔ أو ﻣﻨﻘﻮﺷﺔ ﻋﲆ
ﺟﺪران أﺑﻨﻴﺔ ﺗﺮاﺛﻴﺔ؛ ﻛﺎملﻌﺎﺑﺪ وﺑﻴﻮت اﻟﻌﺒﺎدة .ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل دراﺳﺔ ﻓﺨﺎر ﺣﻀﺎرة
ﻛﻨﻮﺳﻮس ﰲ ﺟﺰﻳﺮة ﻛﺮﻳﺖ ﻧﺤﻮ ٢٥٠٠ق.م ،أﺛﺒﺘﺖ أﻧﻪ ﺷﻜﻞ ﻋﲆ ﻧﻤﺎذج ﻓﺨﺎرﻳﺔ ﻣﴫﻳﺔ
أﺗﻰ ﺑﻬﺎ ﺗﺠﺎر وﺑﺤﺎرة ﻓﻴﻨﻴﻘﻴﻮن ﻛﺴﻠﻌﺔ ﺗﺠﺎرﻳﺔ ذات ﻗﻴﻤﺔ ﻫﺎﻣﺔ ﻟﺤﻴﺎة اﻷﻓﺮاد واملﺠﺘﻤﻌﺎت.
ﺗﻐري اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ ﻣﺴﺘﻬﻠﻚ ﻹﻧﺘﺎج اﻟﺒﻴﺌﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ )ﺻﻴﺪ ،وﺳﻤﺎﻛﺔ ،وﺟﻤﻊ ﺛﻤﺎر، •
وﺑﺬور ﻧﺒﺎﺗﻴﺔ( ،إﱃ ﻗﻴﺎﻣﻪ ﺑﻌﻤﻠﻴﺔ اﻹﻧﺘﺎج اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺖ ﺑﺎﻛﺘﺸﺎف ﺗﻘﻨﻴﺔ اﻟﺰراﻋﺔ وﻃﺮق
اﺳﺘﺌﻨﺎس اﻟﺤﻴﻮان املﺮﻏﻮب.
30
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
أﻳﻀﺎ ﻣﺮاﺣﻞ ﺳﻜﻨﻴﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﺴﻜﻦ املﺘﻨﻘﻞ أو املﻬﺰوز أو اﻟﻜﻬﻮف ،إﱃ وﻓﻴﻪ ً •
ﻣﺴﻜﻦ داﺋﻢ ﰲ اﻟﻘﺮى اﻟﺰراﻋﻴﺔ ،ﺑﺪﻳﻞ اﻟﺠﺮي وراء اﻟﺼﻴﺪ ﰲ ﻣﻌﺴﻜﺮات ﻟﻴﺴﺖ
ُﻨﻘﻞ ﻣﻊ اﻟﺤﺮﻛﺔ؛ ﻛﺎﻟﺨﻴﺎم ﻟﺪى ﺑﺎدﻳﺔ اﻟﻌﺮب ،أو اﻟﻴﻮرت ﻟﺪى داﺋﻤﺔ ،وﺑﻌﻀﻬﺎ ﻳ َ
اﻟﱰك واملﻐﻮل ،أو اﻟﺘﻴﺒﻲ ﺑني اﻟﻬﻨﻮد اﻟﺤﻤﺮ .ﺧﺎﻣﺔ ﺑﻨﺎء املﺴﻜﻦ ﻣﺤﻠﻴﺔ أﻏﻠﺒﻬﺎ
ﺳﻬﻞ اﻟﺘﻨﺎول ﻣﻦ اﻟﻄني :ﻛﺎﻟﻄﻮف ،أو ﻗﻮاﻟﺐ ﻣﺠﻔﻔﺔ ،أو اﻟﺤﺠﺎرة ،أو اﻷﺧﺸﺎب؛
ﺣﺴﺐ إﻳﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ املﻜﺎن.
اﻷﻣﺮ اﻷﻛﺜﺮ أﻫﻤﻴﺔ ﻫﻮ ﻇﻬﻮر املﻠﻜﻴﺔ اﻟﻔﺮدﻳﺔ ،ﺑﺪﻳﻞ املﻠﻜﻴﺔ اﻟﺠﻤﺎﻋﻴﺔ ﻟﻠﻘﺒﻴﻠﺔ •
واﻟﻌﺸرية ،وﻣﺎ أﺣﺎط ﻫﺬه املﻠﻜﻴﺔ اﻟﻔﺮدﻳﺔ ﻣﻦ ﻗﻮاﻧني ﺣ ﱠﻮ َﻟﺖ اﻷرض إﱃ ﺳﻠﻌﺔ
ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﻮراﺛﺔ واﻟﺒﻴﻊ واﻟﺮﻫﻦ واﻟﺘﺒﺎدل واﻏﺘﺼﺎب اﻷﻗﻮﻳﺎء أو اﻟﺤﻜﺎم .وملﺎ ﻟﻢ
ﻳﻜﻦ ﺑﺎﻹﻣﻜﺎن ﻧﻘﻞ اﻟﺤﻘﻮل أو إﺧﻔﺎؤﻫﺎ ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﰲ املﺎﴈ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺠﻤﺎﻋني
واﻟﺼﻴﺎدﻳﻦ؛ ﻓﻘﺪ ﻧﺸﺄ ﻧﻮع ﻣﻦ ﺗﺒﺎدل املﺼﻠﺤﺔ ﺑني اﻟﻔﻼح واﻟﻔﺎرس أو املﻠﻚ ،أن
ﻳﺤﻤﻴﻪ ﻣﻘﺎﺑﻞ ﺧﻀﻮﻋﻪ ﻟﻪ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻧﺸﺄت ﻗﻮاﻧني أﺧﺮى ﺣﻮل اﻟﺮﻗﻴﻖ واﻟﻌﻤﻞ
ﻓﻀﻼ ﻋﻦ أﻧﻈﻤﺔ اﻷﻣﻦ ﻣﻦ ﴍﻃﺔ وﺟﻴﺶ ،ﻫﻲ ﰲ ً املﺠﺎﻧﻲ ملﻦ ﻳﺤﻮز اﻟﻌﺒﻴﺪ،
اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﺗﻌﻤﻞ ﻟﺼﺎﻟﺢ ﻧﻈﺎم ﻟﻠﺪوﻟﺔ ﻋﲆ ﺣﺴﺎب اﻟﻔﻼﺣني وﻏريﻫﻢ ﻣﻦ اﻟﻘﺎﺋﻤني
ﺑﻌﻤﻠﻴﺎت اﻹﻧﺘﺎج.
ﺗﲆ ذﻟﻚ ﻇﻬﻮر املﺪﻳﻨﺔ ﺑﺤﻀﺎرﺗﻬﺎ ،وﻣﻦ ﺛﻢ اﻟﱰاﻛﻴﺐ املﺘﺸﺎﺑﻜﺔ ﻟﻠﺪوﻟﺔ واﻟﻮﻃﻦ، •
وﻏريه ﻣﻦ اﻟﺘﻨﻈﻴﻤﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻔﻞ اﺳﺘﻤﺮار اﻟﺴﻴﻄﺮة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ واﻟﺤﻮﻛﻤﺔ
اﻹﻧﺘﺎﺟﻴﺔ ،ﻣﻊ اﻧﻘﺴﺎم املﺠﺘﻤﻊ إﱃ ﻃﺒﻘﺎت اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﺧﻼل ﻣﻨﻈﻮﻣﺎت
املﻠﻜﻴﺔ اﻟﻮراﺛﻴﺔ واﻹﻗﻄﺎع واﻟﺮأﺳﻤﺎﻟﻴﺔ واﻻﺷﱰاﻛﻴﺔ أو اﻻﺳﺘﺒﺪادﻳﺔ واﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ،
وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ اﻟﺘﻨﻈري واﻟﺘﻄﺒﻴﻖ إﱃ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺷﺎﺋﻊ ﻟﺪﻳﻨﺎ اﻵن ﻣﻦ ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت؛
ﻛﺎﻟﺘﺨﻄﻴﻂ واﻟﺘﻨﻤﻴﺔ ،اﻟﺘﻲ أﺻﺒﺤﺖ ﻣﻜﻮﻧًﺎ أﺳﺎﺳﻴٍّﺎ ﰲ ﺑريوﻗﺮاﻃﻴﺔ ﺣﻀﺎرة املﺪﻳﻨﺔ
وﺳﻴﺎﺳﺘﻬﺎ.
أﻳﻀﺎ ﺗﺮاث ﺣﻀﺎري ﻣﺎدي راﺋﻊ ،أﻗﺪم ﻣﺎ ﻳﻤﺜﻠﻪ ﺑﺼﻮرﺗﻪ اﻟﺒﺎﻗﻴﺔ وﰲ اﻟﻬﻮﻟﻮﺳني ً •
أﻫﺮاﻣﺎت ﻋﴫ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ اﻟﻔﺮﻋﻮﻧﻴﺔ ﻣﻨﺬ ﻧﺤﻮ ٤٥٠٠ﺳﻨﺔ ﻣﻀﺖ.
31
اﻹﻧﺴﺎن
وﻣﻦ أﻫﻢ ﻣﺎ أﻧﺘﺠﻪ اﻟﻬﻮﻟﻮﺳني ﻇﻬﻮر ﺻﻨﺎﻋﺎت اﻷدوات واﻵﻻت ﻣﻦ املﻌﺎدن، •
ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻷدوات اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ؛ ﻓﻈﻬﺮت ﻋﺼﻮر اﻟﻨﺤﺎس واﻟﱪوﻧﺰ واﻟﺤﺪﻳﺪ ﻋﲆ اﻟﺘﻮاﱄ ً
،Chalcolithic, Bronze and Iron Agesﺛﻢ ﺟﺎء ﻋﴫ اﻟﻮرق واﻟﻮﺛﺎﺋﻖ ،وأﺧريًا
ﻋﴫ املﻌﻠﻮﻣﺎﺗﻴﺔ واﻟﻜﻮﻣﺒﻴﻮﺗﻴﺔ واﻹﻧﱰﻧﺖ اﻟﺬي ﻧﻌﻴﺶ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻪ اﻵن Internet,
.Informatics & Computing
ﰲ ﻛﻞ ﻫﺬه املﺘﻐريات ﺗﺴﺤﺐ املﺪﻳﻨﺔ ﺛﻘﺎﻓﺔ اﻟﺮﻳﻒ إﱃ ﻋﺎﻟﻢ وﻇﺎﺋﻒ ﺧﺪﻣﻴﺔ ﻣﺘﺰاﻳﺪة ﺑﺼﻮرة
ﻃﺎﻏﻴﺔ ﻋﲆ ﺣﺴﺎب وﻇﺎﺋﻒ اﻹﻧﺘﺎج اﻟﺬي ﻏﺰﺗﻪ اﻵﻟﻴﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻷﻳﺪي اﻟﺒﴩﻳﺔ اﻟﻌﺎﻣﻠﺔ …
ﻓﻬﻞ ﻧﺤﻦ ﺑﺼﺪد ﻣﺘﻐري ﺳﻮﺳﻴﻮ-ﻣﺎدي ﺿﺨﻢ ﻳﺆﻫﻠﻨﺎ ﺗﺪرﻳﺠﻴٍّﺎ أو ﺑﺨﺒﻄﺔ ﻋﻨﻴﻔﺔ ،إﱃ
ﻃﺮﻳﻖ أﺣﺎدي اﻻﺗﺠﺎه ﻳﻨﺰﻟﻖ ﺑﺎﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ إﱃ ﻋﺎﻟﻢ روﺑﻮﺗﻲ ﻣُﻌَ ﻈﻢ ﻣﺘﺤﻮﻛﻢ وﺑﴩي ﺗﺎﺑﻊ
ﻣﻬﻤﺶ؟
32
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
ﺣﺪث ﺑﺼﻮرة ﻋﺎﻣﺔ؛ ﻓﺈن ﻟﺪﻳﻨﺎ ﺛﻼث ﻣﺮاﺣﻞ ﺗﻐﻴري أﺳﺎﺳﻴﺔ ﻃﻮال املﻼﻳني اﻟﺜﻼﺛﺔ املﺎﺿﻴﺔ،
ﻣﻠﺨﺼﻬﺎ ﻛﺎﻵﺗﻲ:
ﺣﻴﻨﻤﺎ اﻛﺘﺸﻒ ﻳﻮﺟني دﻳﺒﻮا ﺣﻔﺮﻳﺔ إﻧﺴﺎن ﺟﺎوة ﻋﺎم ،١٨٩١ﻃﻠﺐ ﻣﻦ أﺳﺘﺎذه ﻋﺎﻟﻢ
اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ إرﻧﺴﺖ ﻫِ ﻜِﻞ 1ﺗﻮﺻﻴﻔﻪ وﺗﺮﺗﻴﺒﻪ ﰲ اﻟﺘﻄﻮر ،ﻓﺄﻃﻠﻖ ﻋﻠﻴﻪ اﺳﻢ )اﻟﻘﺮد اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ
،(Australopithecusﺑﺎﻋﺘﺒﺎر أن ﻣﻮاﺻﻔﺎت ﺣﻔﺮﻳﺎت ﻫﺬا اﻟﻨﻮع أﻗﺮب ﻟﻠﻘﺮدة ،وﻟﻜﻨﻬﺎ
ﻟﻴﺴﺖ ﻗﺮدة .وﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك اﻟﺘﺒﺎس ﺣﻮل أن اﻹﻧﺴﺎن واﻟﻘﺮدة اﻟﻌﻠﻴﺎ — أي
اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺎت اﻷرﺑﻌﺔ )اﻟﺠﻴﺒﻮن ،واﻷوراﻧﺞ أوﺗﺎن ،واﻟﺸﻤﺒﺎﻧﺰي ،واﻟﻐﻮرﻳﻼ( — ﻧﺸﺌﻮا ﻣﻊ
ﺑﺪاﻳﺎت اﻟﺒﴩ ﰲ ﺣﻠﻘﺔ ﻣﻔﻘﻮدة ﻣﻨﺬ ١٥±ﻣﻠﻴﻮن ﺳﻨﺔ أو أﻗﻞ أو أﻛﺜﺮ.
ً
ﻫﺪﻓﺎ ﻗﺪر ﻣﺎ وﻣﻊ ﺗﺰاﻳﺪ املﻌﺮﻓﺔ واﻟﻜﺸﻮف اﻟﺤﻔﺮﻳﺔ ،ﻟﻢ ﺗَﻌُ ﺪ اﻟﺤﻠﻘﺔ املﻔﻘﻮدة
ﻛﺎن اﻟﻬﺪف ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ .وأي ﺑﻘﺎﻳﺎ ﻣﻦ ﺣﻀﺎرة ﻣﺎدﻳﺔ ﻣﻊ اﻟﺒﻨﻴﺔ
اﻟﺠﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ-اﻹﻳﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ املﺼﺎﺣﺒﺔ ﻟﻠﺤﻔﺮﻳﺎت؛ ﺑﺎﺧﺘﺼﺎر ﺟﻴﻮ-أرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻣﻨﻄﻘﺔ
اﻟﺤﻔﺮﻳﺔ ،ﻋ ﱠﻠﻨﺎ ﻧﻌﺮف ﻛﻴﻒ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻌﻴﺸﻮن ﺣﻴﺎﺗﻬﻢ وﻣﺴﺒﺒﺎت اﻟﺘﻐﻴري ﰲ ﺻﻔﺔ ﻣﺎ ﻣﻦ
اﻟﺠﺴﻢ ،ﻛﻄﻮل اﻟﺬراع أو ﻣﻮﻗﻊ اﻹﺑﻬﺎم ﰲ اﻟﻴﺪ؛ ﻟﻬﺬا أﺻﺒﺢ ﻟﺪﻳﻨﺎ ﻣﺼﻄﻠﺢ آﺧﺮ ﻳﺒﻌﺪﻧﺎ
ﻋﻦ اﻟﻘﺮدة؛ وﻫﻮ اﻟﺴﺎﺑﻘﻮن ﻋﲆ اﻟﺒﴩ Plesianthropus ،أو ﻣﺼﻄﻠﺢ ﻣﺎ ﻗﺒﻞ اﻟﺒﴩ
،Der Vormenschﻳﺼﻒ أﻗﺪم اﻟﺤﻔﺮﻳﺎت ﻛﻤﻘﺪﻣﺎت ﻟﺘﻜﻮﻳﻦ اﻹﻧﺴﺎن .وﻣﻦ ﺑني ﻫﺬه
اﻟﺤﻔﺮﻳﺎت ﻣﻦ ﻧﺎل ﺷﻬﺮة ﺷﻌﺒﻴﺔ واﺳﻌﺔ؛ ﻛﺎﻟﺨﺎﻟﺔ »ﻟﻮﳼ« )اﻛﺘُ ِﺸ َﻔ ْﺖ ١٩٧٤ﰲ ﻫﺎدر
– ﴍق إﺛﻴﻮﺑﻴﺎ( ،واﻟﺴﻴﺪة ﺑﻠﺰ Plesرﻏﻢ أن اﻟﺴﻴﺪة ﺑﻠﺰ ﻣﻦ ﻣﻮاﻟﻴﺪ ﺷﱰﻛﻔﻮﻧﺘني ﺑﺠﻨﻮب
أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﻣﻨﺬ ﻧﺤﻮ ﻣﻠﻴﻮﻧﻲ ﺳﻨﺔ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﻨﺘﻤﻲ اﻟﺨﺎﻟﺔ ﻟﻮﳼ إﱃ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ،A. afarensisﻧﺴﺒﺔ
إﱃ إﻗﻠﻴﻢ اﻷﻓﺎر ﰲ ﴍق إﺛﻴﻮﺑﻴﺎ ﻣﻨﺬ ﻧﺤﻮ ٣٫٢ﻣﻼﻳني ﺳﻨﺔ .ﺗﺘﺼﻒ ﻫﺬه املﺠﻤﻮﻋﺔ ﺑﺼﻐﺮ
ﺣﺠﻢ املﺦ إﱃ ﻧﺤﻮ ٤٠٠ﺳﻢ ﻣﻜﻌﺐ؛ أي أﻗﻞ ﻣﻦ ﺛﻠﺚ ﺣﺠﻢ املﺦ ﺑني ﺳﻼﻻﺗﻨﺎ املﻌﺎﴏة،
أﻳﻀﺎ ﺻﻐري ،وﻛﺎن اﻟﻮزن ﻧﺤﻮ ٣٠ﻛﻴﻠﻮﺟﺮاﻣً ﺎ ﻟﻠﻔﺮد ،وﺗﺮاوح ﻃﻮل اﻟﻘﺎﻣﺔ ﻣﻦ اﻟﺠﺴﻢ ً
:Ernst Haeckel 1834–1919 1ﻫﻮ أﺣﺪ اﻟﺜﻼﺛﺔ اﻟﻜﺒﺎر ﰲ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﺟﺎن ﺑﺎﺗﻴﺴﺖ ﻻﻣﺎرك
،١٨٢٩–١٧٤٤وﺗﺸﺎرﻟﺰ داروﻳﻦ ١٨٨٢–١٨٠٩واﻟﺜﻼﺛﺔ ﺗﻄﻮرﻳﻮن ،وإن ﻛﺎن ﻟﻜﻞ آراء ﰲ ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﻐﻴري
أو اﻻﻧﺘﺨﺎب اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ وﺗﺄﺛري اﻟﺒﻴﺌﺔ.
33
اﻹﻧﺴﺎن
ﻣﱰ واﺣﺪ إﱃ ﻣﱰ وﺛُﻠﺚ املﱰ ،ﻛﻤﺎ أن ﻃﻮل اﻟﺬراﻋني وﻗﴫ اﻟﺴﺎﻗني ﺑﻘﻴﺘﺎ ﻛﺼﻔﺎت وراﺛﻴﺔ
ﻗﺪﻳﻤﺔ ﻟﻬﺬا اﻟﻨﻮع؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻧﺎﻓﻌﺔ ﰲ ﺣﻴﺎة ﺗﺴﻠﻖ اﻷﺷﺠﺎر وﺟﻤﻊ اﻟﺜﻤﺎر واﻟﺒﺬور اﻟﺘﻲ
ﺗﻌﺎﻳﺸﺖ ﻣﻌﻬﺎ ﻫﺬه اﻟﺴﻼﻻت املﻨﻘﺮﺿﺔ .ﺗﻐريت ﺗﻠﻚ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﻮراﺛﻴﺔ ﻋﻨﺪ اﻷﻧﻮاع اﻟﺒﴩﻳﺔ
اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﰲ اﺗﺠﺎه ﻃﻮل اﻟﺴﺎق وﻗﴫ اﻟﺬراع ،ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺻﻨﻌﻮا أدوات ﺣﻴﺎﺗﻴﺔ ﻟﻠﺼﻴﺪ أو اﻟﺪﻓﺎع.
ﻟﻴﻼ ،وﻟﻜﻦﺧﻮﻓﺎ ﻣﻦ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت املﻔﱰﺳﺔ ً ً وﻋﲆ اﻷﻏﻠﺐ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺴﻜﻨﻮن ﰲ اﻷﺷﺠﺎر
أﻳﻀﺎ ﻣﺨﺎﻃﺮ ﻣﻊ اﻟﻄﻴﻮر اﻟﺠﺎرﺣﺔ اﻟﻜﺒرية .ﺑﻌﺾ ﻫﺬه املﺠﻤﻮﻋﺔ اﺗﺠﻬﺖ إﱃ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ً
ﺑﺴﻄﺔ ﰲ اﻟﺠﺴﻢ واﻟﻄﻮل ،ﻛﺎﻟﺤﻔﺮﻳﺎت اﻹﺛﻴﻮﺑﻴﺔ A. aethiopicusاﻟﺘﻲ ﺗﻤﻴﺰت ﺑﻄﻮل
ﻧﺤﻮ ١٧٠ﺳﻢ وﺗﺮﻛﻴﺐ ﻋﻀﲇ ﻗﻮي ﻣﻨﺬ ﻧﺤﻮ ٢٫٤ﻣﻠﻴﻮن ﺳﻨﺔ .وﻣﻦ ﺑني ﺣﻔﺮﻳﺎت أواﺧﺮ
ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ﻫﻮﻣﻮ َﻫﺒﻴﻠﺲ H. habilis؛ ﺑﻤﻌﻨﻰ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺬي ﻳﻌﻤﻞ ﻛﺜريًا ﺑﻴﺪﻳﻪ ،ﻋُ ﺜِﺮ ﻋﲆ
ﺣﻔﺮﻳﺎﺗﻪ ﰲ ﺗﻨﺰاﻧﻴﺎ وﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،وﻳﻌﻮد إﱃ اﻟﻔﱰة ﻣﻦ ٢٫٤إﱃ ١٫٤ﻣﻠﻴﻮن ﺳﻨﺔ ،وﻟﻌﻠﻪ
ﻛﺎن ﰲ اﺗﺠﺎه ﺗﻄﻮري إﱃ املﺮﺣﻠﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ،وإن ﺑﻘﻴﺖ ﺻﻔﺎﺗﻪ اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ ﺿﻤﻦ أﺷﺒﺎه اﻟﺒﴩ.
ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ٤٠٠ﻟﺪى ﻣﻌﻈﻢ ﺟﻨﺲ اﻟﻘﺮد اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ ،إﻻ وﺑﺮﻏﻢ زﻳﺎدة ﺣﺠﻢ املﺦ إﱃ ٦٠٠ﺳﻢ ً ٣
أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻌﻴﺶ ﰲ اﻷﺷﺠﺎر وﻳﺼﻌﺐ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴري ﻋﲆ ﻗﺪﻣني ﻣﺴﺎﻓﺔ ﻛﺒرية.
ﻇﻠﺖ املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻷوﱃ ﻣﻦ أﺷﺒﺎه اﻟﺒﴩ ﺗﻘﺒﻊ ﰲ ﻣﻮاﻃﻦ ﻣﺤﺪودة ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وﻟﻢ
ﺗﻐﺎدرﻫﺎ ،وﺣﺴﺐ املﻌﻠﻮﻣﺎت اﻟﺮاﻫﻨﺔ؛ ﻓﺈن ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻣﻦ إﻗﻠﻴﻢ اﻟﻜﻴﺐ ﰲ ﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ
وأﺧﺮى ﺣﻮل اﻷﺧﺪود اﻷﻓﺮﻳﻘﻲ اﻟﴩﻗﻲ ﻣﻦ ﺗﻨﺰاﻧﻴﺎ إﱃ إﺛﻴﻮﺑﻴﺎ ،ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﻈﻬﺮ ﻟﻨﺎ اﻷﻛﺜﺮ
ﻛﺜﺎﻓﺔ واﻷﻗﺪم زﻣﺎﻧًﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺗﻮاﺟﺪ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﺤﻔﺮﻳﺎت اﻟﻌﻈﻤﻴﺔ ﻷﺷﺒﺎه اﻟﺒﴩ ﻣﻨﺬ ﻧﺤﻮ
ﺛﻼﺛﺔ ﻣﻼﻳني ﻣﻦ اﻟﺴﻨني .واﻷﻏﻠﺐ أن ذﻟﻚ اﻟﱰﻛﻴﺰ املﻜﺎﻧﻲ ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﻮﺟﻮد املﺘﺨﺼﺼني،
ﻓﻀﻼ ﻋﻦ أن ﻣﻴﺰاﻧﻴﺎت اﻟﺒﺤﻮث اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﺑﺎﻫﻈﺔ اﻟﺘﻜﻠﻔﺔ .وﻣﺎ ﺟﺮى ﻣﻦ ﺑﺤﻮث أو ﻣﺎ ﻳﺰال ً
ﻗﺎﺋﻤً ﺎ ﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل ،إﻧﻤﺎ ﻳﺘﻢ ﻋﲆ اﻷﻏﻠﺐ ﺑﺄﻣﻮال ﻣﺆﺳﺴﺎت وﺧﱪات ﻋﻠﻤﻴﺔ أﺟﻨﺒﻴﺔ ﰲ ﺻﻮرة
ﺑﻌﺜﺎت ﻋﻠﻤﻴﺔ وﻣﻮاﺳﻢ ﻋﻤﻞ ﻣﺤﺪدة .زاد اﻟﻮﻋﻲ ﺑﺄﻫﻤﻴﺔ ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺎت اﻵن ،وﻟﻜﻦ اﻹﻧﻔﺎق
ﻋﲆ اﻷﺣﻴﺎء ﺑﺪل اﻹﻧﻔﺎق ﻋﲆ رﻣﻴﻢ اﻟﻌﻈﺎم ﰲ دول أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ اﻟﻔﻘرية ،ﻫﻮ ﻓﻜﺮ ﻋﻤﲇ ﺣﻮل
اﻷوﻟﻮﻳﺎت ،وإن ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن ﺑﻘﺪر ﺣﺘﻰ ﻻ ﺗﻨﺴﺤﺐ اﻟﺸﻌﻮب ﻣﻦ ﺑﺤﻮث ﺗﺮاﺛﻬﺎ.
ورﺑﻤﺎ ﻧﺴﺘﺜﻨﻲ ﺣﺎﻻت ﻣﺜﻞ ﺣﻜﻮﻣﺔ ﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺰال ﺗﺴري ﺑﺨﻄﻰ اﻟﺪﻓﻊ
اﻟﺴﺎﺑﻖ أﻳﺎم دوﻟﺔ اﻟﻌﻨﴫﻳﺔ .وﻟﺪﻳﻨﺎ ﰲ ﻣﴫ ﻛﻮادر وإﻧﻔﺎﻗﺎت ﻋﲆ اﻟﺒﺤﻮث اﻷﺛﺮﻳﺔ ،ﻟﻜﻨﻬﺎ
ﺗﻘﻊ داﺋﻤً ﺎ ﺗﺤﺖ ﺗﺄﺛري ﻋﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرة املﴫﻳﺔ اﻟﺮاﺋﻌﺔ ،ﰲ ﺣني ﻧﺴﺘﻌني ﺑﺎﻟﴩاﻛﺔ
ﻣﻊ اﻟﺒﻌﺜﺎت اﻷوروﺑﻴﺔ واﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻬﺘﻢ ﺑﺪراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرات املﴫﻳﺔ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻋﲆ
اﻟﻔﺮﻋﻮﻧﻴﺔ ،وﻟﻮﻻ ﺗﻠﻚ املﺸﺎرﻛﺔ ملﺎ ﺧﺮﺟﻨﺎ ﺑﻨﺘﺎﺋﺞ دراﺳﻴﺔ ﺟﻴﺪة ﰲ ﺗﺄﺻﻴﻞ أﺻﻮﻟﻨﺎ
34
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ .وﰲ ﻇﻞ ﻇﺮوﻓﻨﺎ املﺎدﻳﺔ واﻟﺮﻛﻮد اﻻﻗﺘﺼﺎدي ،أﺻﺒﺤﺖ ﻣﻮازﻧﺔ وزارة اﻵﺛﺎر
أﻗﻞ ﻣﻤﺎ ﻳﺠﺐ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻳﺤﺪث ﺗﻘﺼري ﺗُﻨﻬَ ﺐ ﻣﻌﻪ أﺻﻮﻟﻨﺎ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ!
ﻫﻨﺎك ﺣﻔﺮﻳﺎت ﻛﺜرية ﻷﺷﺒﺎه اﻹﻧﺴﺎن ﺗﺘﻌﺪد ﻓﻴﻬﺎ أﺳﻤﺎء أﻧﻮاع ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﻗﻠﻴﻠﺔ أو
ﻧﺎدرة ،وﻟﻜﻦ إدراﺟﻬﺎ ﰲ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﴐوري ،ﻟﻌﻞ ﻣﻜﺎﻧﺘﻬﺎ ﰲ ﺧﻂ اﻟﺘﻄﻮر ﺗﺘﺄﻛﺪ ﺑﺎﻛﺘﺸﺎﻓﺎت
ﺟﺪﻳﺪة .ﺑﻌﺾ ﻣﻨﻬﺎ ﻣُﺪوﱠن ﰲ اﻟﺸﻜﻞ املﻠﺤﻖ ﺑﺎﺳﻢ :ﻣﻨﻈﻮﻣﺔ ﺗﻄﻮر اﻹﻧﺴﺎن ،وﻛﺬﻟﻚ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ
املﺨﺘﺎرة ﻣﻦ ﺣﻔﺮﻳﺎت اﻹﻧﺴﺎن .ﻣﻦ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﻧﺬﻛﺮ ﺣﻔﺮﻳﺔ ﺑﺤﺮ اﻟﻐﺰال )ﻣﻜﺎن اﻟﺤﻔﺮﻳﺔ ﻳﻘﻊ ﰲ
ﺗﺸﺎد ،وﻟﻴﺴﺖ ﰲ اﻟﺴﻮدان اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ( .A. Bahrelghazali
وﻗﺪ ﺗﺤﻔﻆ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻜﺘﺸﻔﻬﺎ ﻣﺎﻳﻜﻞ ﺑﺮوﻧﺖ ﰲ ١٩٩٥وﻗﺪر ﻋﻤﺮﻫﺎ ٣٫٥ﻣﻼﻳني ﺳﻨﺔ،
ﻟﻜﻦ ﺣﻮﻟﻬﺎ ﺑﻌﺾ اﻟﺸﻜﻮك ،ورﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮن ﻣﻬﻤﺔ ﺗﻔﺘﺢ ﻧﺎﻓﺬة ﺟﺪﻳﺪة ﰲ اﻟﺘﻄﻮر؛ وذﻟﻚ ﻟﻨﺪرة
ﺣﻔﺮﻳﺎت اﻹﻧﺴﺎن ﰲ اﻟﺼﺤﺮاء اﻟﻜﱪى ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ.
أﻳﻀﺎ ﺣﻔﺮﻳﺔ أﺧﺮى أﻗﺪم ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ »ﺗﻮﻣﺎي« ،اﺳﻤﻬﺎ اﻟﻌﻠﻤﻲ» :ﺣﻔﺮﻳﺔ اﻟﺴﺎﺣﻞ وﰲ ﺗﺸﺎد ً
أﻧﺜﺮوﺑﻮس اﻟﺘﺸﺎدﻳﺔ« ،ﻫﺬه ﺗﺴﻤﻴﺔ ﻏري ﻣﻮﻓﻘﺔ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﺒﻌﺪ إﱃ اﻟﺸﻤﺎل ﻛﺜريًا ﻋﻦ إﻗﻠﻴﻢ
اﻟﺴﺎﺣﻞ ﰲ ﻏﺮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،وﻗﺪ اﻛﺘﺸﻔﺘﻬﺎ ﰲ ٢٠٠١ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ أﺟﺎﻧﺐ ﻣﻊ ﺑﺎﺣﺜني أﻓﺮﻳﻘﻴني،
وﻗﺪﱢر ﻋﻤﺮﻫﺎ ﺑﺴﺒﻌﺔ ﻣﻼﻳني ﺳﻨﺔ … إذا ﺻﺢ ﺗﻘﺪﻳﺮ اﻟﻌﻤﺮ ﺗﺼﺒﺢ ﻫﻲ أﻗﺪم ﺣﻔﺮﻳﺎت أﺷﺒﺎه ُ
اﻟﺒﴩ ،ﻓﻬﻞ ﻧﺪﺧﻞ ﺑﻤﻘﺪﻣﺎت اﻟﺒﴩ إﱃ اﻟﺒﻼﻳﻮﺳني آﺧﺮ ﻋﺼﻮر اﻟﺰﻣﻦ اﻟﺜﺎﻟﺚ؟
وﰲ ﺗﻨﺰاﻧﻴﺎ ،اﻛﺘﺸﻔﺖ ﻣﺎري ﻟﻴﻜﻲ ﺣﻔﺮﻳﺔ ُ ١٩٥٩ﺳﻤﱢ ﻴ َْﺖ ﺣﻔﺮﻳﺔ اﻟﺰﻧﺞ ،واﻻﺳﻢ اﻟﻌﻠﻤﻲ:
ﺑﺎراﻧﺜﺮوﺑﻮس ﺑﻮازاي ،وﻋﻤﺮﻫﺎ ١٫٨ﻣﻠﻴﻮن ﺳﻨﺔ .وإﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﻣﺎ ﺳﺒﻖ ذﻛﺮه ،ﻫﻨﺎك ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ
أﻳﻀﺎ إﱃ أﺷﺒﺎه اﻟﺒﴩ ،وﺗُﺴﻤﱠ ﻰ ﺑﺎﻟﻘﻮي أو ﻣﻦ ﺣﻔﺮﻳﺎت ﻫﻴﺎﻛﻞ ﻋﻈﻤﻴﺔ ﺿﺨﺎم ﺗﻨﺘﻤﻲ ً
اﻟﻀﺨﻢ ﺑﺎﺳﻢ rubustusأو Paranthropus؛ ﻣﺜﻞ A. aethiopicus, A. boisei :ﻣﻦ
ﴍق أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وإﺛﻴﻮﺑﻴﺎ و A. africanus, A. rubustusﻣﻦ ﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ.
وﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،ﻓﺈن اﻟﺤﻔﺮﻳﺎت اﻟﺜﻼث اﻵﺗﻴﺔ ﻫﻲ ﻣﺜﺎر ﺟﺪل ﺣﻮل ﺻﻠﺘﻬﻢ ﺑﺨﻂ اﻟﺘﻄﻮر،
ً
ﺧﺎﺻﺔ أم ﻫﻢ أﻧﻮاع ﻣﻦ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺎت املﻨﻘﺮﺿﺔ ،أم ﰲ ﻣﻜﺎن وﺳﻂ ﻣﻦ ﺑني اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺎت واﻟﺒﴩ،
وأن اﻷﻋﻤﺎر املﻌﻄﺎة ﻣﻮﻏﻠﺔ ﰲ اﻟﻘﺪم.
٧ﻣﻼﻳني ﺳﻨﺔ .Sahelanthropus tchadensis
٥٫٧ﻣﻼﻳني .Orririn tugensis
٥٫٦ﻣﻼﻳني .Ardipithecus Kadabba
اﻟﺨﻼﺻﺔ أن أﺷﺒﺎه اﻹﻧﺴﺎن ﰲ ﻣﻌﻈﻤﻬﻢ ﻋﻤﺮوا ﻧﺤﻮ ﻣﻠﻴﻮﻧﻲ ﺳﻨﺔ ﺑني ﻧﺤﻮ ٤إﱃ
١٫٨ﻣﻠﻴﻮن ﺳﻨﺔ ﻣﻀﺖ؛ ﺣﻴﺚ اﻧﻘﺮض ﻣﻌﻈﻤﻬﻢ وﺑﺎدوا ،أو ﻋﲆ أﺣﺴﻦ اﻟﻔﺮوض ﺣﺪﺛﺖ
ﻟﺒﻌﻀﻬﻢ ﻣﺘﻐريات أدت إﱃ املﺴﺎﻋﺪة ﰲ ﻇﻬﻮر ﻧﻮع ﺟﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎن.
35
اﻹﻧﺴﺎن
وﺑﻬﺬه املﻨﺎﺳﺒﺔ ،ﻓﺈن ﻫﻨﺎك ﻣﺎ ﻳﻤﻴﺰ ﺗﻄﻮر اﻟﺴﻼﻻت واﻷﻧﻮاع ﰲ اﺗﺠﺎه اﻟﺘﺤﺴني ،ﻣﻦ
أﻫﻤﻬﺎ:
) (١اﻟﻮﻗﻮف واﻟﺴري ﻋﲆ ﻗﺪﻣني ﻟﻴﺴﺖ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺑﺴﻴﻄﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﺻﺤﺒﻬﺎ ﻋﲆ زﻣﻦ ﻛﺒري
ً
ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﺘﻐريات ﰲ ﻋﻈﺎم اﻟﺤﻮض؛ ﻛﻲ ﻳُﻌ َ
ﻄﻰ اﻟﺘﻮازن املﻄﻠﻮب ﻟﻠﺴري واﻟﺠﺮي،
املﻔﺎﺻﻞ وﻣﻮاﺿﻌﻬﺎ ،وﻃﻮل اﻟﺴﺎق ،وﺗﺮﻛﻴﺒﺔ ﻋﻈﺎم اﻟﻘﺪم؛ ﻟﺘﺘﺤﻤﻞ ﺛﻘﻞ اﻟﺠﺴﻢ ،وﺗﺮﻛﻴﺒﺔ
ً
وﻗﻮﻓﺎ اﻟﻌﻤﻮد اﻟﻔﻘﺮي اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﺗﺤﻤﻞ اﻟﺠﻤﺠﻤﺔ اﻟﺜﻘﻴﻠﺔ ﰲ أوﺿﺎع اﻟﺠﺴﻢ املﺨﺘﻠﻔﺔ
وﻗﻌﻮدًا … إﻟﺦ.
٣
) (٢زﻳﺎدة ﺣﺠﻢ املﺦ إﱃ ﻣﺘﻮﺳﻂ ١٣٥٠ﺳﻢ ،ﻫﻮ إﺿﺎﻓﺔ ﴐورﻳﺔ ﺗﺒﻠﻎ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ
ﺿﻌﻒ ﻣﺦ اﻟﺸﻤﺒﺎﻧﺰي أو اﻟﻐﻮرﻳﻼ .ﻟﻴﺴﺖ املﺴﺄﻟﺔ زﻳﺎدة اﻟﺤﺠﻢ ،ﺑﻞ ﻧﻤﻮ أﺟﺰاء املﺦ
اﻟﺠﺎﻧﺒﻴﺔ واﻷﻣﺎﻣﻴﺔ ،ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﺮاﻛﺰ اﻟﺘﺤﻜﻢ واﻟﻠﻐﺔ واﻟﺬاﻛﺮة … إﻟﺦ .ﺑﻌﺾ اﻟﻌﻠﻤﺎء
ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ اﻟﻐﺬاءﻳﺮﺟﻊ ﻛﱪ ﺣﺠﻢ املﺦ إﱃ ﺗﻨﺎول اﻟﻠﺤﻮم ﻟﻺﻧﺴﺎن اﻟﺤﻔﺮي ً
اﻟﻨﺒﺎﺗﻲ .وﰲ رأي آﺧﺮ أن ﻃﻬﻲ اﻷﻃﻌﻤﺔ ﻫﻮ ﻋﺎﻣﻞ آﺧﺮ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻳﺴﻬﻞ أﻛﻞ اﻟﻠﺤﻮم واﻟﺒﺬور
اﻟﻨﺎﺷﻔﺔ.
) (٣ﺗﺤﺮﻳﺮ اﻟﻴﺪﻳﻦ ﻣﻦ اﻟﻮﻗﻮف واملﴚ أﻋﻄﻰ اﻧﻄﻼﻗﺔ ﻛﱪى ﰲ ﺗﻨﺎول اﻷﺷﻴﺎء وﺻﻨﺎﻋﺔ
اﻷدوات؛ ﻣﻤﺎ أدى إﱃ وﺻﻒ اﻹﻧﺴﺎن ﺑﺄﻧﻪ اﻟﺼﺎﻧﻊ .Homo faber
املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺒﴩﻳﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﻧﻄﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﺼﻄﻠﺢ إﻧﺴﺎن ،Homoوإن ﻟﻢ ﻳﺤﺪث
ﺣﺘﻰ اﻵن اﺗﻔﺎق ﻋﲆ ﺗﻔﺼﻴﻼت ﻛﺜرية ﺗﻤﻜﻦ اﻟﺒﺎﺣﺜني ﻣﻦ إﺿﺎﻓﺔ ﻣﺼﻄﻠﺢ إﻧﺴﺎن إﱃ أي
ﻧﻮع ﺣﻔﺮي .ﻟﻜﻦ ﻟﺪﻳﻨﺎ اﺗﻔﺎق ﺑﻮﺟﻪ ﻋﺎم وﺗﻔﺼﻴﲇ ﻋﲆ أن »ﻫﻮﻣﻮ إﻳﺮﻳﻜﺘﻮس Homo
«Erectus؛ أي اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻮاﻗﻒ ﻋﲆ ﻗﺪﻣني ،ﻫﻮ أﻫﻢ ﻧﻮع ﰲ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﻄﻮر
اﻟﺒﴩي .وﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻟﻴﺲ اﻟﻮﻗﻮف ﻫﻲ اﻟﺼﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻴﺰه؛ ﻓﻘﺪ ﺳﺒﻘﻪ إﱃ اﻟﻮﻗﻮف أﻧﻮاع
ﻣﻦ أﺷﺒﺎه اﻟﺒﴩ ،ﻟﻜﻦ اﻟﺬي ﻳﻤﻴﺰه ﻛﱪ ﺣﺠﻢ املﺦ اﻟﺬي ﻳﺼﻞ إﱃ ﻣﺎ ﺑني ١٠٠٠–٨٠٠ﺳﻢ
ﻣﻜﻌﺐ — ﻣﺎ زال أﻗﻞ ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﺎﱄ ﺑﻤﺘﻮﺳﻂ ﻧﺤﻮ ١٤٠٠–١٣٠٠ﺳﻢ ،٣وﻃﻮل اﻟﻘﺎﻣﺔ
اﻟﺘﻲ ﺑﻠﻐﺖ ١٧٥ﺳﻢ ،واﻟﱰﻛﻴﺐ اﻟﻌﻀﲇ وأﺷﻴﺎء أﺧﺮى ﻛﺜرية رﺑﻤﺎ ﻗﺎرﺑﺖ ﻋﲆ ﻣﻮاﺻﻔﺎت
ﺳﻼﻻﺗﻨﺎ اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ.
36
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
ﻋﺎش ﻫﺬا اﻹﻧﺴﺎن ﻧﺤﻮ ﻣﻠﻴﻮﻧﻲ ﺳﻨﺔ ﰲ أﻣﺎﻛﻦ ﻛﺜرية ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وآﺧﺮ اﻧﻘﺮاض
ملﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻨﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻨﺬ ١٢أﻟﻒ ﺳﻨﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻋُ ِﺮف ﺑﺎﺳﻢ أﻗﺰام ﺟﺰﻳﺮة ﻓﻠﻮرس ﰲ ﴍق
أﻳﻀﺎ اﻟﺒﺸﻤﻦ ﰲ ﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﺳﻼﻻت إﻧﺪوﻧﻴﺴﻴﺎ .واﻷﻏﻠﺐ أن أﻗﺰام أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وآﺳﻴﺎ ،ورﺑﻤﺎ ً
ﺗﻔﺮﻋﺖ ﻋﻦ ﻫﻮﻣﻮ إﻳﺮﻳﻜﺘﻮس ﰲ ﻣﺮاﺣﻞ ﻣﻦ ﺗﺎرﻳﺨﻪ اﻟﻄﻮﻳﻞ .ﻛﻤﺎ ﻳُﺮﺟﱠ ﺢ أن ﺗﻜﻮن ﺣﻔﺮﻳﺎت
إﻧﺴﺎن دﻣﺎﻧﻴﴘ ﰲ ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ ﺟﻮرﺟﻴﺎ اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ ﺑﺎﻟﻘﻮﻗﺎز ،ﻫﻲ اﻷﺧﺮى إﺣﺪى ﺗﻔﺮﻳﻌﺎﺗﻪ،
ﻋﻤﻼﻗﺎ أﺿﺨﻢ ﻣﻦ ﺳﻼﻻﺗﻨﺎ ،وإن ﻛﺎن ﺣﺠﻢ ﻣﺨﻪ ً وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﻨﻘﻴﺾ؛ ﻷن دﻣﺎﻧﻴﴘ ﻛﺎن
ﻛﻄﻔﻞ ﺻﻐري.
اﻟﺨﻼﺻﺔ أن ﻫﻮﻣﻮ إﻳﺮﻳﻜﺘﻮس ﻛﺎن ﻋﺎملﻲ اﻻﻧﺘﺸﺎر — ﻟﻴﺲ ﻋﺪدًا وﻟﻜﻦ ﺗﻮزﻳﻌً ﺎ ﻋﲆ
اﻟﻘﺎرات اﻟﺜﻼث :أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وآﺳﻴﺎ وأوروﺑﺎ — ﻷﻧﻪ اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﺗﺠﺮأ ﻋﲆ اﻟﻌﺒﻮر ﻣﻦ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ،
وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﺑﺪاﻳﺎت ﺗﻌﻤري اﻟﻌﺎﻟﻢ.
ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﺳﺎﻋﺪه ﻋﲆ اﻻﻧﺘﺸﺎر ﻇﺮوف ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ،رﺑﻤﺎ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻣﺘﻐريات ﻣﻨﺎﺧﻴﺔ داﺧﻞ
أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،وﻟﻜﻦ اﻷوﺿﺢ اﻵن أن اﻟﻌﺒﻮر ﻛﺎن ﻳﺤﺪث أﺛﻨﺎء ﻓﱰات اﻟﺠﻠﻴﺪ ﰲ اﻟﺒﻼﻳﺴﺘﻮﺳني،
ﺣني ﺗﺘﻜﺪس ﻛﻤﻴﺎت ﻛﺒرية ﻣﻦ ﻣﻴﺎه اﻟﺒﺤﺎر واملﺤﻴﻄﺎت ﰲ ﻏﻄﺎءات ﺟﻠﻴﺪﻳﺔ ﻫﺎﺋﻠﺔ املﺴﺎﺣﺔ
واﻟﺴﻤﻚ ﻓﻮق ﺷﻤﺎل ووﺳﻂ آﺳﻴﺎ وأوروﺑﺎ وأﻣﺮﻳﻜﺎُ .ﻗ ﱢﺪ َر ْت ﻣﺴﺎﺣﺔ اﻟﻐﻄﺎءات اﻟﺠﻠﻴﺪﻳﺔ
ﻣﺎ ﺑني ٣٠إﱃ ٤٠ﻣﻠﻴﻮن ﻛﻴﻠﻮﻣﱰ ﻣﺮﺑﻊ ﰲ ﻛﻞ ﻓﱰة ﺟﻠﻴﺪﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﻔﱰات اﻷرﺑﻌﺔ ﻟﻠﻌﴫ
اﻟﺠﻠﻴﺪي اﻷﺧري اﻟﺬي اﻧﺘﻬﻰ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﻨﺬ ﻧﺤﻮ ١٥أﻟﻒ ﺳﻨﺔ .وﻟﻜﻲ ﻧﺪرك ﺿﺨﺎﻣﺔ ﻫﺬه
املﺴﺎﺣﺔ ،ﻳﻜﻔﻲ أن ﻧﻌﺮف أن ﻣﺴﺎﺣﺔ ﻗﺎرة أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﺑﺄﻛﻤﻠﻬﺎ ﻫﻲ ٣٠ﻣﻠﻴﻮن ﻛﻴﻠﻮﻣﱰ ﻣﺮﺑﻊ.
وﻳﱰﺗﺐ ﻋﲆ اﻧﺴﺤﺎب ﺗﻠﻚ املﻴﺎه وﺗﺠﻤﺪﻫﺎ اﻧﺨﻔﺎض ﻣﻨﺴﻮب ﺳﻄﺢ اﻟﺒﺤﺎر ﻣﺎﺋﺔ ﻣﱰ أو
أﻛﺜﺮ ،ﺗﺼﺒﺢ ﻣﻌﻪ املﻀﺎﻳﻖ واﻟﺒﻮاﻏﻴﺰ اﻟﺘﻲ ﻧﻌﺮﻓﻬﺎ اﻵن أراﴈ ﺟﺎﻓﺔ ،ﺗﺸﻜﻞ ﺟﺴﻮ ًرا ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ
ﻋﺮﻳﻀﺔ اﻻﺗﺴﺎع ،ﺗﻨﺘﻘﻞ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻬﻢ اﻹﻧﺴﺎنً .
ﻣﺜﻼ اﻟﺒﺤﺮ اﻷﺣﻤﺮ ﻛﺎن أﻗﻞ ﻣﻦ
ﻧﺼﻒ ﻣﺴﻄﺤﻪ اﻟﺤﺎﱄ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﺧﻠﻴﺠﺎ اﻟﺴﻮﻳﺲ واﻟﻌﻘﺒﺔ وﻻ ﻣﻀﻴﻖ ﺑﺎب املﻨﺪب
وﻻ ﺟﺰر اﻟﺒﺤﺮ .ﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﺑﺮزخ ﺑﺮي ﺑﺪل ﻣﻀﻴﻖ ﺟﺒﻞ ﻃﺎرق ،وﰲ ﻓﱰة ﻣﺎ ارﺗﺒﻄﺖ
ﺗﻮﻧﺲ ﺑﺈﻳﻄﺎﻟﻴﺎ وأﺻﺒﺢ اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ ﺑﺤريﺗﺎن ﻣﻨﻔﺼﻠﺘﺎن ،وﺑﺎملﺜﻞ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﻣﻀﺎﻳﻖ
اﻟﺒﻮﺳﻔﻮر واﻟﺪردﻧﻴﻞ .وﻛﺎن اﻟﺒﺤﺮ اﻷﺳﻮد ﺑﺤرية ﻣﺘﻮﺳﻄﺔ اﻻﺗﺴﺎع ،واﻟﺠﺰء اﻟﺸﻤﺎﱄ ﻣﻨﻪ
أﻳﻀﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻨﺎك اﻟﺨﻠﻴﺞ اﻟﻌﺮﺑﻲ ،ﻓﺎﺑﺘﺪاء ﻣﻦ أرﺿﺎ ﻣﺘﺼﻠﺔ ﺑﺴﻬﻮل أوﻛﺮاﻧﻴﺎً . ﻛﺎﻧﺖ ً
أرﺿﺎ ﻳﺮﺑﻂ اﻟﺠﺰﻳﺮة اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ وإﻳﺮان .ﺣﺪث ﻣﺜﻞ ذﻟﻚ ﰲ ﻣﻀﻴﻖ ﻫﺮﻣﺰ إﱃ اﻟﻌﺮاق ﻛﺎن أﻏﻠﺒﻪ ً
ﺟﴪا أرﺿﻴٍّﺎ ﻛﺒريًا ﻳﺮﺑﻂ ﺳﻴﺒريﻳﺎ وأﻻﺳﻜﺎ وأﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ،
ً ﻛﻞ ﺟﻬﺎت اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وﺑﺨﺎﺻﺔ
ﻋﱪت ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت املﻐﻮل اﻟﺬﻳﻦ ﻋﻤﺮوا اﻷﻣﺮﻳﻜﺘني ﻓﻘﻂ ﻣﻨﺬ ﻧﺤﻮ ٢٠أﻟﻒ ﺳﻨﺔ.
37
اﻹﻧﺴﺎن
ﻛﺬﻟﻚ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ إﻧﺪوﻧﻴﺴﻴﺎ ﺟﺰ ًرا ،ﺑﻞ ﻣﻌﻈﻤﻬﺎ ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎملﻼﻳﻮ وآﺳﻴﺎ ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻏﻴﻨﻴﺎ اﻟﺠﺪﻳﺪة
وأﺳﱰاﻟﻴﺎ ﻣﺘﺼﻠﺘني ﰲ ﻛﺘﻠﺔ أرﺿﻴﺔ ﻛﺒرية.
ﻓﻮق ﻫﺬه اﻟﺠﺴﻮر اﻟﱪﻳﺔ ﻋﱪ ﻫﻮﻣﻮ إﻳﺮﻳﻜﺘﻮس ﻣﻨﺬ ﻧﺤﻮ ٧٠٠أﻟﻒ ﺳﻨﺔ إﱃ آﺳﻴﺎ
اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ واﻟﴩﻗﻴﺔ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ ﺛﻼﺟﺎت اﻟﺘﺒﺖ واﻟﻬﻴﻤﺎﻻﻳﺎ ،وأﻏﻠﺐ اﻟﺤﻔﺮﻳﺎت اﻟﺒﴩﻳﺔ اﻟﺘﻲ
َت ﰲ اﻟﺼني وﺟﺎوة ﺗﻌﻮد إﱃ ﻫﺠﺮات ﻫﺬا اﻹﻧﺴﺎن؛ ﻣﺜﻞ إﻧﺴﺎن اﻟﺼني أو ﺑﻜني و ُِﺟﺪ ْ
)ﺣﻔﺮﻳﺎت ﺷﻮﻛﻮﺗني وﻧﻬﻮاﻧﻮ ﻗﺮب ﺑﻜني( ،أو إﻧﺴﺎن ﺟﺎوة )ﺣﻔﺮﻳﺎت ﺗﺮﻳﻨﻴﻞ وﺳﻮﻟﻮ ،أو
ﻧﺠﺎﻧﺪوﻧﺞ وﻣﻮدﺟﻮﻛريﺗﻮ ،وﻛﻠﻬﺎ ﰲ ﻏﺮب ﺟﺰﻳﺮة ﺟﺎوة( ،ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن إﻧﺴﺎن ﺳﻮﻟﻮ وﺣﻔﺮﻳﺎت
وادﺟﺎك ﺧﻄﻮة أدت إﱃ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﺷﻌﺐ اﻷﺳﱰاﻟﻴني اﻷﺻﻠﻴني.
وﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻘﻮﻗﺎز واﻷﻧﺎﺿﻮل ﻋﱪ ﻫﻮﻣﻮ إﻳﺮﻳﻜﺘﻮس إﱃ أوروﺑﺎ اﻟﴩﻗﻴﺔ واﻟﺒﻠﻘﺎن،
أﻳﻀﺎ ﻣﻨﺬ ﻧﺤﻮ ٧٠٠أﻟﻒ ﺳﻨﺔ .وأﺷﻬﺮ ﺣﻔﺮﻳﺎﺗﻪ ﻫﻨﺎ — ورﺑﻤﺎ ﺛﻢ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ إﱃ إﻗﻠﻴﻢ اﻟﺮاﻳﻦ ً
أﻗﺪﻣﻬﺎ — ﻫﻮ اﻟﺤﻔﺮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻋُ ﺜِﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﰲ ١٩٠٧ﻗﺮﻳﺒًﺎ ﻣﻦ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻫﺎﻳﺪﻟﱪج اﻷملﺎﻧﻴﺔ،
وﺗُﺴﻤﱠ ﻰ ﻓﻚ ﻣﺎور Mauer؛ وﻟﻬﺬا ﻳُﻄ َﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ أﺣﻴﺎﻧًﺎ :إﻧﺴﺎن ﻫﺎﻳﺪﻟﱪج.
وﻋﲆ اﻷﻏﻠﺐ ﻓﺈن ﻫﻮﻣﻮ إﻳﺮﻳﻜﺘﻮس ﻗﺪ ﺳﺒﻖ وأن ﻋﱪ ﻋﲆ اﻟﺠﴪ اﻟﱪي ﻟﺠﺒﻞ ﻃﺎرق
ﻣﻦ ﻣﻮاﻃﻨﻪ ﰲ ﺷﻤﺎل أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ إﱃ إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ ﻣﻨﺬ ٨٠٠أﻟﻒ ﺳﻨﺔ؛ ﺣﻴﺚ اﻛﺘُ ِﺸ َﻔ ْﺖ ﻣﺆﺧ ًﺮا ﰲ
٢٠٠٨ﺣﻔﺮﻳﺎت أﺗﺎﺑﻮﻳﺮﻛﺎ ﰲ ﺷﻤﺎل إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ.
ﻗﻠﻘﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ملﻮﻗﻒ ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻔﺮﻳﺎت إﱃ أﻳﻦ ﺗﻨﺘﻤﻲ؛ ﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل ﻣﺎ زال اﻟﻮﺿﻊ ً
اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻮاﻗﻒ أم أﺷﺒﺎه اﻟﺒﴩ؟ ﻣﻦ أﻫﻤﻬﺎ:
ﻫﻮﻣﻮﻫﺒﻴﻠﻴﺲ ) H. Habilis (١٩٧٣ﻣﻦ ﴍق وﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وﻫﻮﻣﻮ رودﻟﻒ
H. rudolfensisﻣﻦ ﺷﻤﺎل ﻛﻴﻨﻴﺎ وﺟﻨﻮب إﺛﻴﻮﺑﻴﺎ ﺣﻮل ﺑﺤرية ﺗﺮﻛﺎﻧﺎ )ﻛﺎﻧﺖ ﰲ املﺎﴈ
أﻳﻀﺎ ﻣﻦﺗُﺴﻤﱠ ﻰ ﺑﺤرية رودﻟﻒ( ،ﻫﻮﻣﻮ إرﺟﺎﺳﱰ H. ergaster؛ أي اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻨﺸﻂ ،وﻫﻮ ً
ﴍق أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،وﺑﻌﺾ ﺻﻔﺎﺗﻪ اﻟﻌﻈﻤﻴﺔ ﺗﻜﺎد ﺗﺘﺸﺎﺑﻪ ﻣﻊ إﻧﺴﺎن ﻫﺎﻳﺪﻟﱪج.
ﻫﺬا اﻟﺘﻮﺳﻊ ﰲ ﻣﻮاﻃﻦ ﻫﻮﻣﻮ إﻳﺮﻳﻜﺘﻮس أدى ﺑﺪون ﺷﻚ إﱃ ﺗﻐريات ﻣﺤﺴﻮﺳﺔ ﰲ
وأﻳﻀﺎ ﻣﻦ املﺮﺟﺢ أدت إﱃ ﺗﻐريات ﰲ ﻣﻤﺎرﺳﺔ اﻷﺷﻴﺎء ،أو اﺑﺘﻜﺎر أدوات ً اﻟﻬﻴﻜﻞ اﻟﻌﻈﻤﻲ،
ﻣﺴﺎﻋﺪة ﻟﺴﺪ اﻟﻨﻘﺺ ﺣﺴﺐ ﺑﻴﺌﺔ املﻜﺎن .ﻳﱰﺗﺐ ﻋﲆ ﻛﻞ ﻫﺬا وﻏريه اﺗﺠﺎﻫﺎت ﺧﻄﻮط
ﺗﻄﻮرﻳﺔ ﰲ ﻣﻮﺿﻮع ﻣﺤﺪد ﻣﻦ اﻟﻬﻴﻜﻞ اﻟﻌﻈﻤﻲ؛ ﻣﺜﻞ :اﻟﺠﻤﺠﻤﺔ ،وﺣﺠﻢ ﺗﺠﻮﻳﻒ املﺦ ،أو
اﻟﻴﺪ اﻟﺒﴩﻳﺔ ،أو ﺗﻘﻮﱡس اﻟﺴﻠﺴﻠﺔ اﻟﻌﻈﻤﻴﺔ ﻟﻠﻌﻤﻮد اﻟﻔﻘﺮي؛ ﻛﻲ ﺗﺘﺤﻤﻞ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﻼﺋﻤﺔ
وزن اﻟﺠﻤﺠﻤﺔ اﻟﺜﻘﻴﻠﺔ وﺗﺮﻛﻴﺒﺔ اﻟﻘﻔﺺ اﻟﺼﺪري ،وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎن ﻣﻮﺿﻊ إﺑﻬﺎم اﻟﻘﺪم أﻣ ًﺮا
ﻣﻬﻤٍّ ﺎ ﰲ إﻣﻜﺎن اﻟﺴري املﺘﺰن.
38
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
ﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل ﻣﻦ اﻟﺘﻼؤم اﻟﺠﺴﻤﺎﻧﻲ ﻹﻳﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺎت ﺣﻴﺎﺗﻴﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﺗﱪز ﻟﺪﻳﻨﺎ ﺣﺎﻟﺔ
أﻗﺰام ﺟﺰﻳﺮة ﻓﻠﻮرﻳﺲ ﰲ إﻧﺪوﻧﻴﺴﻴﺎ اﻟﺬﻳﻦ اﻧﻘﺮﺿﻮا ﻣﻦ ﻧﺤﻮ ١٢أﻟﻒ ﺳﻨﺔ .ﰲ ﻓﱰة ﻣﺎ
ﻛﺎن اﻻﻋﺘﻘﺎد أن اﻷﻗﺰام ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وﺟﻨﻮب ﴍق آﺳﻴﺎ ﻫﻢ ﺳﻼﻟﺔ ﻣﺘﺪﻫﻮرة ،ﻟﻜﻦ اﻟﺪراﺳﺎت
ً
وﻃﻮﻻ ،وﺑﺨﺎﺻﺔ أﻗﺰام اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﺗﺮى أﻧﻬﻢ ﻧﺸﺌﻮا ﻛﺴﻼﻟﺔ ﻟﻬﺎ ﻣﻮاﺻﻔﺎت ﺧﺎﺻﺔ ﺣﺠﻤً ﺎ
أﻳﻀﺎ اﻟﺨﻮﻳﺰان )ﺑُﺸﻤﻦ ﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وﻧﺎﻣﻴﺒﻴﺎ( ،واﻟﺴﺆال :ﻫﻞ ﻫﻢ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،ورﺑﻤﺎ ﻣﺜﻠﻬﻢ ً
ﺳﻼﻟﺔ ﻓﺮﻋﻴﺔ ﻣﻦ ﻫﻮﻣﻮ إﻳﺮﻳﻜﺘﻮس ﻧﺸﺄت ﻟﻈﺮوف ﺧﺎﺻﺔ واﻣﺘﺰﺟﺖ ﺑﺴﻼﻟﺔ أﻗﺪم ﻣﻦ
أﺷﺒﺎه اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺪﻳﺪة؟ ﺣﺎﻟﺔ أﻗﺰام ﻓﻠﻮرﻳﺲ رﺑﻤﺎ ﻳﻨﻄﺒﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ذﻟﻚ ﺧﻼل آﻻف اﻟﺴﻨني،
أﺻﻼ ﻣﻦ اﻹﻳﺮﻳﻜﻮﺗﺲ ،وﻟﻜﻦ اﻟﻌﺰﻟﺔ ﰲ اﻟﺠﺰﻳﺮة ﻣﻊ ﺗﺨﺼﺺ ﻏﺬاﺋﻲ ﻣﺤﺪود ً أو رﺑﻤﺎ ﻫﻢ
أدى إﱃ اﺗﺠﺎه ﺻﻐﺮ اﻟﺠﺴﻢ اﻟﺬي ﺗﻜﻔﻴﻪ ﻛﻤﻴﺔ ﺻﻐرية ﻣﻦ اﻟﻐﺬاء ﻟﻠﺒﻘﺎء واﻟﺘﻜﺎﺛﺮ ﰲ ﻛﻬﻮف
اﻟﺠﺰﻳﺮة اﻟﺘﻲ اﻛﺘﺸﻒ ﻓﻴﻬﺎ ﺣﻔﺮﻳﺎﺗﻪ ،واﻟﺘﻲ ﺗﺒني ﻣﻦ دراﺳﺘﻬﺎ أﻧﻪ ﻋﺎش ﰲ اﻟﻔﱰة ﺑني ٩٥
أﻟﻔﺎ .ﺳﺒﺐ اﻻﻧﻘﺮاض ﻏري ﻣﻌﺮوف ،وﻟﻜﻦ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﻫﻨﺎك ارﺗﺒﺎط ﺑني اﺳﺘﻴﻄﺎن إﱃ ً ١٢
ﺳﻼﻟﺔ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ ﺟﺰﻳﺮة ﻓﻠﻮرس ﺣﻮاﱄ ذﻟﻚ اﻟﺘﺎرﻳﺦ .ﻓﻬﻞ أﺑﺎدوا اﻷﻗﺰام؟ اﻷرﺟﺢ
أﻧﻬﻢ ﻗﻄﻌﻮا اﻷﺷﺠﺎر ملﻤﺎرﺳﺔ اﻟﺰراﻋﺔ ،وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﺗﻐريت اﻟﺒﻴﺌﺔ وﻓﻘﺪ اﻷﻗﺰام ﻣﺼﺎدر ﻏﺬاﺋﻬﻢ
ﻓﺎﻧﻘﺮﺿﻮا.
ﻣﻮﺿﻮع ﻓﻠﻮرﻳﺲ ﻫﻮ ﻛﺸﻒ ﻣﻌﺮﰲ ﺟﺪﻳﺪ ،ﻟﻜﻨﻪ ﻳﻮﻟﺪ أﺳﺌﻠﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ إﺟﺎﺑﺎت ،وﻳُﻌﻠﻤﻨﺎ
أن ﻫﻨﺎك اﻟﻜﺜري ﻻ ﻧﻌﺮﻓﻪ ﰲ أرﻛﺎن اﻷرض وﻋﻦ ﺳﻜﺎﻧﻬﺎ!
اﻟﺘﻜﻴﻒ اﻟﺠﺴﺪي ﺑﻄﻲء؛ وﻟﻬﺬا ﻓﺈن اﻷﴎع واﻷﺟﺪى — ﻛﺎن وﻻ ﻳﺰال — ﻫﻮ اﺑﺘﻜﺎر
أدوات ووﺳﺎﺋﻞ أﺣﺴﻦ أداء ملﺰﻳﺪ اﻟﻌﻄﺎء ،وﺑﻼ ﺷﻚ ﻓﺈن أﺣﺴﻦ اﻻﺑﺘﻜﺎرات ﻛﺎن وﻣﺎ زال
اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﻲ أﻛﺜﺮ ﻣﻨﻪ ﻓﺮدﻳٍّﺎ ،وإن ﻛﻨﺎ ﻻ ﻧﻐﻤﻂ ﻟﻠﺮﻳﺎدة ﺣﻘﻬﺎ .ملﺎذا؟
ﺿﻌﻴﻒ ﻛﺄﻓﺮاد ﻗﻮيﱞ ﻛﻤﺠﻤﻮﻋﺎت .ﻗﻮﺗﻪ اﻟﻌﻀﻠﻴﺔ أو ﻗﺪرﺗﻪ وﻣﺮوﻧﺘﻪ ٌ اﻹﻧﺴﺎن ﰲ ﺗﻜﻮﻳﻨﻪ
ﻋﲆ اﻟﺠﺮي واﻟﺘﺴﻠﻖ وﺗﺮﻛﻴﺒﺔ أﺳﻨﺎﻧﻪ وأﴐاﺳﻪ ،أﻗﻞ ﻗﺪرة ﻣﻦ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت اﻟﺼﻴﺎدة وﻣﻦ
اﻟﻄﺮاﺋﺪ ﻣﻌً ﺎ .ﺑﻞ رﺑﻤﺎ ﻛﺎن وﻗﻮﻓﻪ ﻣﻨﺘﺼﺒًﺎ ﻋﲆ اﻟﻘﺪﻣني ﺗﻮﺟﻪ إﱃ ﺿﻌﻒ ﻣﻘﺎﺑﻞ اﻟﺤﺮﻛﺔ
اﻷﻗﻮى واﻷﴎع ﻋﲆ أرﺑﻊ؛ ﻓﺘﺠﻮﻳﻒ اﻟﺒﻄﻦ وأﺟﻬﺰة اﻟﺘﻨﻔﺲ واﻟﻬﻀﻢ ودورﺗﻪ اﻟﺪﻣﻮﻳﺔ،
ً
وﺗﻌﻠﻘﺎ أﻓﻘﻴٍّﺎ ﺑﺎﻟﻌﻤﻮد اﻟﻔﻘﺮي ﻟﺪى اﻟﻮﻗﻮف ﻋﲆ أرﺑﻊ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻟﺘﻌﻠﻖ اﻟﺮأﳼ ً
ﺗﻮاﻓﻘﺎ رﺑﻤﺎ أﻛﺜﺮ
ﻟﻸﺟﻬﺰة ﻟﻴﺴﺖ أﺣﺴﻦ ﺣﺎﻻت اﻷوﺿﺎع اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﻮﻗﻮف ﻋﲆ اﻟﻘﺪﻣني .وﻟﻜﻦ
ﻣﻘﺎﺑﻞ ﻫﺬا اﻟﻀﻌﻒ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻲ؛ ﻓﺈن ﺗﺤﺮﻳﺮ اﻟﻴﺪﻳﻦ ﻣﻦ املﺴﺎﻫﻤﺔ ﰲ ﺣﺮﻛﺔ اﻟﺴري واﻟﺠﺮي
إﱃ املﺴﺎﻫﻤﺔ ﰲ اﻟﺪﻓﺎع أو اﻟﻬﺠﻮم ﺑﺎﺳﺘﺨﺪام اﻟﻘﺪرة ﻋﲆ رﻣﻲ ﻣﻘﺬوﻓﺎت ﻣﻦ ﺧﺸﺐ أو
ﻋﻈﺎم أو ﺣﺠﺎرة أو ﺣﺮﺑﺔ ،ﻫﻲ ﻋﻤﻮد ﺧﺸﺒﻲ ُر ﱢﻛﺐ ﻋﲆ رأﺳﻪ ﻧﺼﻞ ﺣﺠﺮي ﻣﺸﻄﻮف
39
اﻹﻧﺴﺎن
ﻣﺪﺑﺐ ،ذو ﻗﺪرة ﻋﲆ اﺧﱰاق ﺟﻠﻮد اﻟﺤﻴﻮان أو اﻹﻧﺴﺎن اﻵﺧﺮ؛ ﻫﻲ ﻗﺪرة ﻣﻜﻨﺖ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ
ﺗﻄﻮﻳﺮ ﻗﺪراﺗﻪ ﻣﻦ ﺿﻌﻒ إﱃ ﻗﻮة .ﻫﺬا إﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﺘﺄﻛﻴﺪ اﻟﻨﻔﺴﺎﻧﻲ ﻋﲆ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﻲ؛
ﻷن اﻟﺘﺠﻤﻊ ﻳﺒﺚ اﻟﺸﺠﺎﻋﺔ وﻳﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ إﺗﻤﺎم اﻷﻋﻤﺎل .ﺗﺤﻮل ﺑﻌﺾ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﻲ اﻵن إﱃ
ﻋﻤﻞ إﻧﺴﺎﻧﻲ ﻛﺎﻹﺳﻌﺎف ،أو اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻦ ﺣﻘﻮق اﻷﻏﻠﺒﻴﺔ اﻟﻀﻌﻴﻔﺔ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴٍّﺎ واﻗﺘﺼﺎدﻳٍّﺎ ،أو
ﻣﺴﺎﻋﺪة املﻌﻮﻗني أو ﺣﻘﻮق املﺮأة … إﻟﺦ .ﻫﻲ أﻋﻤﺎل ﻣﻌﻈﻤﻬﺎ ﺗﻄﻮﻋﻲ ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﻫﺪف ﺗﻐﻴري
اﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻳﻮاﻛﺐ ﻣﺘﻐريات املﺠﺘﻤﻊ املﻌﺎﴏ اﻟﴪﻳﻌﺔ ،ﻟﻜﻦ ﺗﻘﻒ دون ﺗﺤﻘﻴﻘﻬﺎ اﻋﺘﻴﺎدات
وﻣﻤﺎرﺳﺎت ﺳﺎﻟﻔﺔ ﺗﺤﺘﺎج ﺟﻬﺪًا ﻟﺘﺼﺒﺢ أﻛﺜﺮ ﻣﺮوﻧﺔ.
ﻻ ﺷﻚ ﰲ أن ﻣﺎ ﻳﺤﺪث ﻣﺠﺘﻤﻌﻴٍّﺎ ﰲ ﺗﺎرﻳﺨﻨﺎ اﻵن ،ﻛﺎن ﻳﺤﺪث ﺑﺼﻮرة ﻣﺎ ﰲ املﺎﴈ
ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻣﻘﺎوﻣﺔ ﻣﺴﺘﺤﺪﺛﺎت اﻷﻣﻮر ،وإن اﺧﺘﻠﻔﺖ أﻋﺪاد اﻟﻨﺎس وأﻋﻤﺎرﻫﻢ ،وﺳﻜﻦ املﺪن
اﻟﺘﻲ ﺗﺤﴩ ﰲ أﺟﻮاﻓﻬﺎ ﻣﻼﻳني اﻟﻨﺎس ﻣﺘﻨﺎﻗﻀني ﰲ أﺷﻜﺎل وﻣﻀﺎﻣني اﻟﺤﻴﺎة .ﺻﺤﻴﺢ أن
أﻳﻀﺎ ﰲ ﻣﺆﺳﺴﺎت وﻫﻴﺌﺎت رﺳﻤﻴﺔ ،أو ﺧﺎﺻﺔ ﰲ ﺗﺮاﺗﺐ اﻟﻌﻤﻞ ﰲ ﻋﴫﻧﺎ ﻫﻮ ﻋﻤﻞ ﺟﻤﺎﻋﻲ ً
ﺑريوﻗﺮاﻃﻲ ﻣﻌﺮوف .ﻟﻜﻦ اﻟﻔﺮق أن اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﻲ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﻛﺎن ﴐورة ﺣﻴﺎة ﺗﻌﻢ ﻓﺎﺋﺪﺗﻪ
ﻣﺜﻼ أﻧﺼﺒﺔ اﻟﻠﺤﻢ ﻣﻦ ﺣﻴﻮان ﺗﻢ اﺻﻄﻴﺎده ﻋﲆ ﺟﻤﻴﻊ املﺸﱰﻛني ﺑﴚء ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻌﺪاﻟﺔ — ً
— ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﺘﻮزع ﻧﺘﺎﺋﺞ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﺠﻤﺎﻋﻴﺔ ﰲ املﺆﺳﺴﺎت اﻵن ﺑﻘﺪر ﻣﺤﺪد وﻣﻠﺰم ﻟﻠﻔﺮد ﻋﲆ
ً
ﻋﺎﻃﻼ! ﻧﺤﻮ ﺗﻮﺻﻴﻒ وﻇﻴﻔﺘﻪ ،وإﻻ أﺻﺒﺢ
ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ ﺑﺘﻔﺮﻳﻌﺎﺗﻪ اﻟﺴﻼﻟﻴﺔ اﻟﻜﺜرية املﻨﻘﺮﺿﺔ واملﻌﺎﴏة ،وﻛﻠﻤﺎ اﻗﱰﺑﻨﺎ ﻣﻦ
ﻋﴫﻧﺎ زادت اﻟﻜﺸﻮف ،وﻣﻌﻬﺎ ﺗﺰﻳﺪ اﺣﺘﻤﺎﻻت ﻋﺪم اﻻﺗﻔﺎق ﺑني اﻟﻌﻠﻤﺎء ﻋﲆ وﺿﻊ اﻟﺤﻔﺮﻳﺔ
ﺗﺄرﻳﺨﺎ ،وﻣﻦ ﺛﻢ إﱃ أي ﺟﻨﺲ أو ﻧﻮع ﺗﻨﺘﻤﻲ اﻟﺤﻔﺮﻳﺔ.ً
وﻟﺪﻳﻨﺎ ً
أﻳﻀﺎ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﻬﺎﻣﺔ ،ﻣﻨﻬﺎ (١) :ﻛﻴﻒ ﺑﺪأ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ؟ ) (٢ﻣﺸﻜﻠﺔ
اﻟﻨﻴﺪرﺗﺎل (٣) .اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ املﻨﻘﺮض (٤) .اﻧﺘﺸﺎر وﺗﻮزﻳﻊ ﺳﻼﻻت اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﺪﻳﺚ
املﻌﺎﴏ ﻋﲆ أﻗﺎﻟﻴﻢ اﻷرض.
ﺣﻮل ﻛﻴﻔﻴﺔ ﺑﺪء اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ ﻫﻨﺎك ﻧﻈﺮﻳﺘﺎن؛ أوﻟﻬﻤﺎ :ﻫﻞ ﻫﻮ ﺗﻄﻮر ﻣﺴﺘﻘﻞ ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﻮاﻗﻒ؟ وإذا ﻛﺎن اﻷﻣﺮ ﻛﺬﻟﻚ ﻓﺄﻳﻦ ﺣﺪث اﻟﺘﻄﻮر؟ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ أم آﺳﻴﺎ أم أوروﺑﺎ؟ واﻟﺜﺎﻧﻴﺔ
40
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
ﻣﻮاز
أﻧﻪ ﺗﻄﻮر ﻋﻦ ﻫﻮﻣﻮ ﻫﺒﻴﻠﻴﺲ .وﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻳﺼﺒﺢ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻮاﻗﻒ ﺧﻂ ﺗﻄﻮري ٍ
ﻄﺎ ﺑﺨﻂ ﻫﺒﻴﻠﻴﺲ — وﻫﻲ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻻ ﺗﺠﺪ ﺗﺄﻳﻴﺪًا ﻛﺒريًا ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء؛ ﺣﻴﺚ إن وﻟﻴﺲ ﻣﺮﺗﺒ ً
اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻮاﻗﻒ أﺣﺪث ﺗﻄﻮ ًرا ﻣﻦ ﻫﺒﻴﻠﻴﺲ وﺣﺠﻢ ﻣﺨﻪ أﻛﱪ ﻛﺜريًا ،وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﻓﻬﻮ أﻛﺜﺮ ً
ﻗﺒﻮﻻ
ﻛﺠﺪ ﻟﺨﻂ اﻟﺘﻄﻮر إﱃ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ ﺑﻔﻀﻞ اﻧﺘﺸﺎره ﻋﺎملﻴٍّﺎ ،وﻣﺎ أدى إﻟﻴﻪ اﻻﻧﺘﺸﺎر ﻣﻦ
ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﻫﺬا ،ﻓﺈن ﻫﺒﻴﻠﻴﺲ ﻛﺎن ﻻ ﻳﺰال ﰲ ً ﻣﺘﻐريات ﻓﺮﻋﻴﺔ وﺟﻴﻨﻴﺔ ﰲ املﻨﺎﻃﻖ املﺨﺘﻠﻔﺔ.
ﺻﻮرة أﺷﺒﺎه اﻟﺒﴩ ،وﺑﺨﺎﺻﺔ ﺳﺎﻗﻴﻪ اﻟﺼﻐريﺗني ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺗﺴﺎﻋﺪه ﻋﲆ اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻣﺴﺎﻓﺎت
ﻃﻮﻳﻠﺔ ،ﻛﻤﺎ أن أدواﺗﻪ اﻟﺘﻲ ﻳﺼﻨﻌﻬﺎ أﻗﻞ ﺗﻄﻮ ًرا ﻣﻦ أدوات اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻮاﻗﻒ.
ﺳﻬﻼ ،وﻟﻜﻨﻪ أﻗﺮب ﻟﻮاﻗﻊ ً وﺑﺎملﺜﻞ ،ﻓﺈن اﻻﺳﺘﺪﻻل ﻋﲆ ﺻﺤﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻷوﱃ ﻟﻴﺲ
ﻣﺜﻼ ﰲ اﻟﺠﻠﻴﻞ اﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻲ وﰲ ﻃﺎﺑﻮن اﻷﻣﻮر .ﻓﻠﺪﻳﻨﺎ ﻣﺆﻛﺪًا ﺳﻼﻻت ﺧﻠﻴﻄﺔ ﺑني ﻧﻮﻋني ً
أﻟﻔﺎ ﰲ ﺟﺒﻞ اﻟﻜﺮﻣﻞ ﻗﺮب ﺣﻴﻔﺎ( ،ﻓﻬﻞ ﻛﺎن وﺳﺨﻮل )ﻣﻨﺬ ً ٨٠ُ ) ١٢٠أﻟﻒ ﺳﻨﺔ ﻣﻀﺖ(،
اﻟﺨﻠﻂ ﻣﺮة أم ﻟﻌﺪة أﺟﻴﺎل إﱃ أن ﺗﺜﺒﺖ ﺻﻔﺎت ﺟﺪﻳﺪة .ﺑﻤﻌﻨﻰ ﻣﺎ و ُِﺟ َﺪ ﻫﻨﺎك ﻣﻦ ﺣﻔﺮﻳﺎت
ﺧﻠﻴﻄﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻧﺘﺎج اﻟﺘﻘﺎء ﺳﻼﻟﺘني؛ ﻓﺘﻠﻚ ﰲ اﻟﺠﻠﻴﻞ ﺗﻨﺘﻤﻲ إﱃ ﺳﻼﻟﺔ اﻟﻨﻴﺎﻧﺪرﺗﺎل ،واﻟﺜﺎﻧﻴﺔ
إﻣﺎ أﻧﻬﺎ ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻮاﻗﻒ أو اﻟﻌﺎﻗﻞ ،ﺳﻮاء ﰲ ﺣﻔﺮﻳﺔ ﺟﺒﻞ ﻗﻔﺰة أو ﺳﺨﻮل اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺘﻤﻲ
إﱃ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ .ﻓﻬﻞ ﺣﺪث اﻟﺘﺪاﺧﻞ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻣﺮة واﺣﺪة ،ﺛﻢ ﺗﻮﻗﻔﺖ املﺸﺎرﻛﺔ ﻷﺳﺒﺎب ﻗﺪ
ﺗﻜﻮن ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺗﺰاﺣﻢ ﻋﲆ املﻮارد أدت إﱃ ﻋﺪاء أو اﺑﺘﻌﺎد ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻨﻬﻤﺎ؟ ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﺣﻔﺮﻳﺔ
ﺳﻮاﻧﺲ ﻛﻮﻣﺐ ﰲ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ أو ﺟﻤﺠﻤﺔ ﺷﺘﺎﻳﻨﻬﺎﻳﻢ ﰲ أملﺎﻧﻴﺎ دﻻﺋﻞ ﻋﲆ اﻟﺘﻄﻮر املﺴﺘﻘﻞ ﰲ
ُﺆﺳﺲ ﻋﲆ ﻗﺪم ﻋﻤﺮ اﻟﺤﻔﺮﻳﺘني ،ﻓﻬﻤﺎ ﻣﻌً ﺎ ﺑني ﺳﻼﻟﺔ ﻫﺎﻳﺪﻟﱪج أوروﺑﺎ ،ﻟﻜﻦ اﻻﻋﱰاض ﻳ ﱠ
املﻨﺘﻤﻴﺔ إﱃ أواﺧﺮ ﻋﴫ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻮاﻗﻒ وﺑني اﻟﻨﻴﺪرﺗﺎل )ﺷﺘﺎﻳﻨﻬﺎﻳﻢ ﺗﻌﻮد إﱃ ٢٥٠أﻟﻒ
ﺳﻨﺔ ،وﺳﻮاﻧﺲ ﻛﻮﻣﺐ رﺑﻤﺎ إﱃ ﻧﺤﻮ ٤٠٠أﻟﻒ ﺳﻨﺔ(.
اﻟﺴﺆال املﻄﺮوح :ﻫﻞ ﻳﻌﻨﻲ اﻟﻘﺪم ﺗﻮﻗﻒ اﻟﺘﻐﻴري اﻟﺒﻄﻲء ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻣﺘﻐريات ﺑﻴﺌﻴﺔ
وﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻣﻌً ﺎ؟ ﻻ ﺷﻚ ﰲ أن ﺣﺠﻢ ﺗﺠﻮﻳﻒ املﺦ ﻗﺪ ﻧﻤﺎ ﺑﺒﻂء ﺧﻼل ﻋﴩات آﻻف اﻟﺴﻨني.
وﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل ﻳﺮﺑﻂ ﺑﻌﺾ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني ﺑني اﻹﻛﺜﺎر ﻣﻦ أﻛﻞ اﻟﻠﺤﻮم وﻧﻤﻮ املﺦ؛ ﺑﻤﻌﻨﻰ
أن اﻹﻧﺴﺎن ﰲ ﺗﻠﻚ اﻷزﻣﺎن اﻟﺴﺤﻴﻘﺔ ﻗﺪ ﻃﻮر ﻃﺮق اﺻﻄﻴﺎد اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ،وﻣﻦ ﺛﻢ أدﺧﻞ
ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻧﺘﻈﺎر ﻧﺼﻴﺐ اﻟﻔﺘﺎت ﺑﻌﺪ أن اﻟﻠﺤﻮم ﰲ ﻗﺎﺋﻤﺔ ﻏﺬاﺋﻪ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻷﻃﻌﻤﺔ اﻟﻨﺒﺎﺗﻴﺔ ً
ﺗﺄﻛﻞ اﻟﻀﻮاري ،ﻓﻼ ﺷﻚ ﰲ أن ﺑﺮوﺗني اﻟﻠﺤﻮم ﻳﻌﻄﻲ ﻃﺎﻗﺎت أﻛﱪ ﺟﺴﻤﻴﺔ وذﻫﻨﻴﺔ .ﻋﲆ
أي اﻟﺤﺎﻻت ،ﻫﺬا وﻏريه ﻣﻦ اﻷﺳﺌﻠﺔ ﻣﻔﻴﺪة ﰲ اﻟﺘﻌﺮف ﻋﲆ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﺗﻐري اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ ﻛﺎﺋﻦ
ﺿﻌﻴﻒ إﱃ ﺻﻴﺎد ﺻﺎﻧﻊ أدوات وﻣﺸﺎرك ﰲ ﺧﻄﻂ ﻣﻨﻈﻤﺔ ﻟﺼﻴﺪ ﺣﻴﻮاﻧﺎت ﻛﺒرية ﺟﻤﺎﻋﻴٍّﺎ.
41
اﻹﻧﺴﺎن
ﰱ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﻫﺎدار ﻋﲆ ﻧﻬﺮ ﻫﻮاش اﻷدﻧﻰ وﻋﻤﺮﻫﺎ ﺑني ٣اﱃ ٣,٩ﻣﻼﻳني Dicke Überaugenwülste,
vorspringendendes Gesicht
ﺳﻨﺔ ﻣﻀﺖ .ﺣﺠﻢ ﺻﻐري ﻧﺤﻮ ٥٠٠–٤٠٠ﺳﻨﺘﻴﻤﱰ ﻣﻜﻌﺐ. Hirnvolumen 400 bis 500
Kubilkzentimeter
ﻫﻮﻣﻮ أرﻳﻜﺘﻮس »اﻷﻧﺴﺎن اﻟﻮاﻗﻒ« ﻳﻤﺘﺪ ﻋﻤﺮه ﺑني ﻣﻠﻴﻮن إﱄ
Homo erectus:
١,٨ﻣﻠﻴﻮن ﺳﻨﺔ .ﺣﺠﻢ ﺗﺠﻮﻳﻒ املﺦ ﻛﺒري ﻳﺒﻠﻎ ﻧﺤﻮ أﻟﻒ ﺳﻨﺘﻴﻤﱰ ﻣﻜﻌﺐ. Überaugenwulst vor 3,9 bis 3
ﻧﻈﺮا ً ﻻﻧﺘﺸﺎره ﰱ ﻗﺎرات اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ أﺻﺒﺢ ﻟﻬﺬا اﻟﻨﻮع أﻫﻤﻴﺔ ﻛﺒرية ﰱ Hirnvolumen 800 bis 1000 Millionen Jahren
Kubikzentimeter
دراﺳﺔ ﺳﻠﺴﻠﺔ اﻟﻬﻮﻣﻴﻨﻴﻨﻲ اﻟﺒﴩﻳﺔ.
اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ اﻟﺬى ﺗﻨﺤﺪر ﻣﻨﺔ اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺒﴩﻳﺔ املﻌﺎﴏة رﺑﻤﺎ ﻣﻊ vor 100000 Jahren
bis heute
ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻻﺧﺘﻼط اﻟﺠﻴﻨﻲ ﻣﻊ ﺳﺎﺑﻘﻴﻪ ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ اﻟﺒﺎﺋﺪ .أﻫﻢ ﻣﺎ ﻳﻤﻴﺰه اﻟﺠﺒﻬﺔ
اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ ﻏري املﻨﺤﺪرة ﻟﻠﺨﻠﻒ وﻋﺪم وﺟﻮد ﻋﻈﺎم ﺑﺎرزة ﻓﻮق اﻟﺤﺎﺟﺒني وﺣﺠﻢ
املﺦ ﻛﺒري ١٤٠٠–١١٠ﺳﻢ؛ ﻣﻤﺎ ﺳﺎﻋﺪ ﻋﲆ ﻧﺸﺄة اﻟﻠﻐﺔ وﺗﻄﻮر ﻗﺪراﺗﻪ اﻟﺬﻫﻨﻴﺔ.
Homo sapiens:
ﺗﻤﺜﻞ اﻟﻬﻴﺎﻛﻞ اﻟﻌﻈﻤﻴﺔ اﻟﺜﻼﺛﺔ اﺧﺘﻼﻓﺎت اﻷﻧﻮاع اﻟﺒﴩﻳﺔ ﰱ ﺗﻄﻮرﻫﺎ .اﻷول ﻣﻦ اﻟﻴﺴﺎر kein Brauenwulst,
hohe stirn für gewachsens
ﻫﻮﻣﻮ أرﻳﻜﺘﻮس واﻷوﺳﻂ اﻟﻨﻮع اﻷﻓﺎري ﻫﻮ اﻷﻗﺪم واﻷﺻﻐﺮ ﺣﺠﻤﺎ ً ووزﻧﺎ ً و ذﻫﻨﻴﺔ. Großhirn, Hirnvolumen
وﻗﺪ أﺻﺒﺢ ﻣﺸﻬﻮ ًرا ﻷن إﺣﺪى اﻟﺤﻔﺮﻳﺎت ﻷﻧﺜﻰ أﻃﻠِﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﺳﻢ »ﻟﻮﳼ«. 1100 bis 1400
Kubikzentimeter
وإﱃ اﻟﻴﻤني ﻫﻴﻜﻞ ﻫﻮﻣﻮ ﺳﺎﺑني اﻟﺬى ﻳﻤﺜﻞ ﺳﻼﻻﺗﻨﺎ املﻌﺎﴏة.
“Das Gehirn dieser Wesen war Homo erectus
Groß wie das eines einjährigen
Kindes”, erklärt Alan Walker. Er Australopithecus Homo sapiens
War dabei, als man den Jungen afarensis
Von Turkana fand
ﰲ ﻋﺎﻣﻪ اﻷول وﻫﻮ ﻣﻦ ﻧﻮع أرﻳﻜﺘﻮس اﻟﻀﺨﻢ املﺴﻤﻰ إرﺟﺎﺳﱰ
أي اﻟﻨﺸﻂ وﺣﺠﻢ ﻣﺨﻪ ﻣﺮﺗني أﻛﱪ ﻣﻦ ﻧﻮع اﻷﻓﺎري.
Der Brustkorb glich dem Eines Homo sapiens
اﻟﻘﻔﺺ اﻟﺼﺪري ﺷﺒﻴﻪ ﺑﺎﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﺎﱄ.
Die Hüften waren schmaler als
Bei anderen Hominiden und
Machten den Homo erectus zu Einem schnellen Läufer
ﻋﻈﺎم اﻟﺤﻮض ﻋﻨﺪ أرﻳﻜﺘﻮس أﺿﻴﻖ ﻧﺴﺒﻴًﺎ وﻟﻜﻦ ﺗﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ ﴎﻋﺔ املﴚ واﻟﺠﺮي.
Mit kräftigen Knochen
Konnte er ein anstrengendes
Leben durchstehen
ﻋﻈﺎﻣﻪ اﻟﻘﻮﻳﺔ ﺗﺠﻌﻠﻪ ﻳﺘﺤﻤﻞ اﻟﺼﻌﺎب،
ﻃﻮل اﻟﻘﺎﻣﺔ ١٨٠ﺳﻢ واﻟﻨﺤﺎﻓﺔ ﺗﺠﻌﻠﻪ ﻗﺎد ًرا ﻋﲆ اﻟﻌﺮق ﰱ اﻟﺒﻴﺌﺔ اﻟﺮﻃﺒﺔ.
Bei 1,80 Meter Größeund
Schlankem Körperbau hatte der
Homo erectus eine große Körperoberfläche
Zum Schwitzen—in den Tropen ein Vorteil
ﺷﻜﻞ 6
ﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻛﺜﺮة اﻷﺳﺌﻠﺔ ،ﻓﺈن ﻣﺎ ﻟﺪﻳﻨﺎ اﻵن ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻣﻦ اﻟﺤﻔﺮﻳﺎت ﺗﺆﻛﺪ وﺟﻮد
اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ ﻣﻨﺘﴩًا ﰲ أرﺟﺎء ﻛﺜرية ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﻣﻌﻈﻤﻬﺎ أﺻﺒﺢ ﺑﺎﺋﺪًا ،وﻟﻢ ﻳَﺒ َْﻖ
ﻣﻨﻬﺎ إﻻ ﻣﺎ ﺗﻔﺮع وﺗﻄﻮﱠر ﻋﻨﻬﺎ ،ﻣﻜﻮﻧًﺎ ﺳﻼﻻت اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﺪﻳﺚ اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ .ﻻ ﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا أن
ﺳﻼﻟﺔ ﻣﺎ أﺑﺎدت أﺧﺮى أﻗﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻗﻮ ًة أو ﺗﻨﻈﻴﻤً ﺎ؛ ﻓﻔﻲ اﻟﻮاﻗﻊ أن أرض اﻟﻘﺎرات اﻟﺜﻼﺛﺔ
42
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ ﻓﻀﺎء إﻳﻜﻮﻟﻮﺟﻴٍّﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻤﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺒﴩﻳﺔ اﻟﺘﻲ رﺑﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺒﻠﻎ
ﺑﺎﻟﻜﺎد املﻠﻴﻮن ﻋﺪدًا ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ آﻧﺬاك؛ ﻧﻈ ًﺮا ﻟﻸﺧﻄﺎر اﻟﻜﺜرية أو ﻧﻀﻮب ﻣﻮرد ﻏﺬاﺋﻲ أو
أﻣﺮاض ﺑﻴﺌﻴﺔ رﺑﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻌﻬﺎ ﻣﺘﻮﺳﻄﺎت اﻷﻋﻤﺎر ﰲ اﻟﻌﴩﻳﻨﺎت أو أواﺋﻞ اﻟﺜﻼﺛﻴﻨﺎت ﻋﲆ
أﺣﺴﻦ اﻟﻔﺮوض .ﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ،ﻓﺎﻷرض رﺣﺒﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻋﺪا ﺗﻔﻀﻴﻞ ﺟﻤﺎﻋﺔ اﻟﺒﻘﺎء؛ ﺣﻴﺚ ﺗﺄﻗﻠﻤﺖ
ﻋﲆ ﺑﻴﺌﺔ وﻣﺼﺎدر ﻏﺬاء ﺗﻬﻴﺄت ﻟﻬﺎ ﺑﺘﻘﻨﻴﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﰲ اﻟﺠﻤﻊ واﻟﺼﻴﺪ .رﺑﻤﺎ ﺣﻴﻨﺌﺬ ﻳﺤﺪث
ﺻﺪام أو رﺑﻤﺎ اﻟﺘﺸﺎرك ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﺗﴪب اﻟﺠﻴﻨﺎت اﻟﻮراﺛﻴﺔ ﻟﻠﺨﻠﻴﻂ اﻟﺬي ﻳﺼﺒﺢ ﺗﺪرﻳﺠﻴٍّﺎ ذا
ﻣﻮاﺻﻔﺎت ﺗُ ﱢ
ﺆﻫﻞ ﻟﻨﻤﻮ ﺳﻼﻟﺔ ﺟﺪﻳﺪة.
43
اﻹﻧﺴﺎن
وﺗﺮﻛﻴﺐ اﻟﺠﺴﻢ املﻜﺘﻨﺰ واﻷﻧﻒ اﻟﻄﻮﻳﻞ ﻛﺎﻧﺖ أﻛﺜﺮ ﺗﻼؤﻣً ﺎ ﻣﻊ أﺟﻮاء اﻟﱪودة ﺷﺒﻪ اﻟﻘﻄﺒﻴﺔ
ﻣﺜﻞ اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ.
ﺻﻨ ﱢ َﻔ ْﺖ إﱃ أرﺑﻊ ﻣﺮاﺣﻞ
ﻋﺎش اﻟﻨﻴﺎﻧﺪرﺗﺎل ﺧﻼل اﻟﺤﻘﺒﺔ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ املﻮﺳﺘريﻳﺔ اﻟﺘﻲ ُ
ﺣﺴﺐ ﺗﻘﻨﻴﺔ ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻷدوات اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ ،وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﻓﺎﻟﺴﺆال ﻳﻄﺮح ﻧﻔﺴﻪ :ﻫﻞ ﻫﻲ أرﺑﻊ
ﺟﻤﺎﻋﺎت أو ﻋﺸﺎﺋﺮ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ زﻣﻨًﺎ وﺗﻘﻨﻴﺔ؟ ﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى :ﻫﻞ املﺸﻜﻠﺔ ﺗﻘﻨﻴﺔ ﺑﺤﺘﺔ أم أﻧﻬﺎ
ﺗﺪاﺧﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﺑﴩﻳﺔ ﺑﺘﻘﻨﻴﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ؟
وﺳﺆال آﺧﺮ :ﻫﻞ ﻛﺎن ﻟﺪى اﻟﻨﻴﺎﻧﺪرﺗﺎل ﻟﻐﺔ ﻣﺘﻜﺎﻣﻠﺔ أم ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺻﻮﺗﻴﺎت؟ ﺑﻌﺾ
اﻟﺪارﺳني ﻳﺮون أﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻟﻐﺔ ﻣﺘﻜﺎﻣﻠﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻗﺪ ﻳﻨﻔﻲ ذﻟﻚ أن ﻫﺬه اﻟﺴﻼﻟﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺪﻓﻦ
ﻣﻮﺗﺎﻫﺎ ﰲ ﻣﻘﺎﺑﺮ وﻃﻘﻮس وﺷﻌﺎﺋﺮ ورﺑﻤﺎ أﺿﺎﺣﻲ ﻣﻊ أدوات املﻴﺖ ،وأﻧﻬﺎ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ
ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﻴﺶ ﺣﻴﺎة ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت ،ﺑﺮﻏﻢ أن اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﻗﺪ ﻻ ﺗﺰﻳﺪ ﻋﻦ ﻣﺎﺋﺔ ﻓﺮد أو ﺑﻀﻊ أﴎ
أﻳﻀﺎ اﻟﺘﺨﺎﻃﺐ ﺑﻠﻐﺔ ﻣﻔﻬﻮﻣﺔ ﻟﻠﺠﻤﻴﻊ. ﻣﻌً ﺎ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﺴﺘﻮﺟﺐ ً
اﻷﺳﺌﻠﺔ ﻻ ﺗﻜﻒ ﺣﻮل اﻟﻨﻴﺎﻧﺪرﺗﺎل ،ﻣﺜﻞ اﻧﻘﺮاﺿﻪ ﻓﺠﺄة ﺑﻌﺪ ﻇﻬﻮر ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ أﺧﺮى
ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ اﻟﺒﺎﺋﺪ ،وﺑﺨﺎﺻﺔ ﻇﻬﻮر ﺳﻼﻟﺔ اﻟﻜﺮوﻣﺎﻧﻴﻮن ﻣﻨﺬ ﺣﻮاﱄ ٤٠أﻟﻒ ﺳﻨﺔ،
ﻓﻬﻞ ﺗﻌﺎﻳﺸﺎ ﻣﻌً ﺎ ﺧﻤﺴﺔ أو ﻋﴩة آﻻف ﺳﻨﺔ ،أم أن اﻟﺠﺪد أﺑﺎدوا اﻷﻗﻞ ﺗﻄﻮ ًرا؟ ﻓﻜﺮة
اﻹﺑﺎدة ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻏري واردة؛ ﻷن أوروﺑﺎ وﻏريﻫﺎ ﻛﺎﻧﺖ أرض ﺷﺒﻪ ﺧﺎﻟﻴﺔ ،ﻓﻼ اﻟﻨﻴﺎﻧﺪرﺗﺎل وﻻ
اﻟﻜﺮوﻣﺎﻧﻴﻮن ﺑﺄﻋﺪاد ﻏﻔرية ﻛﻲ ﻳﺘﻨﺎﺣﺮوا ﻋﲆ اﻷرض .ﻛﻤﺎ أﻧﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺎ ﰲ ذات ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﺼﻴﺪ
ً
ﺗﺨﻠﻔﺎ ،ﻛﻤﺎ ﺣﺪث واﻟﺠﻤﻊ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ؛ ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﺗﻀﻄﺮ واﺣﺪة إﱃ إزاﺣﺔ اﻷﺧﺮى اﻷﻛﺜﺮ
ً
وﻓﻀﻼ ﺣني أﺑﺎد اﻷوروﺑﻴﻮن ﻫﻨﻮد أﻣﺮﻳﻜﺎ ﻻﺧﺘﻼف ﻣﻨﺎﺳﻴﺒﻬﻢ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ واﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ.
ﻋﻦ ﻫﺬا ﻓﺈن ﻧﻴﺎﻧﺪرﺗﺎل أوروﺑﺎ ﰲ ﻋﴫ اﻟﺠﻠﻴﺪ ﺗﺨﺼﺺ ﰲ ﺻﻴﺪ اﻟﺮﻧﺔ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻧﺘﴩت
ﺟﻤﺎﻋﺎت اﻟﻜﺮوﻣﺎﻧﻴﻮن وﻏريﻫﻢ ﰲ ﻣﻨﺎخ أﺣﺴﻦ ً
ﻗﻠﻴﻼ وأﻛﺜﺮ ﺗﻨﻮﻋً ﺎ ﰲ ﺣﻴﻮاﻧﺎت اﻟﺼﻴﺪ ،وﰲ
ﺷﻤﺎﻻ ﻣﻊ اﻧﻘﺸﺎع اﻟﺠﻠﻴﺪ ،ﻓﻬﻞ ﺗﺒﻌﻬﺎ اﻟﻨﻴﺎﻧﺪرﺗﺎل ً ذات اﻟﻮﻗﺖ ﻗﻠﺖ أﻋﺪاد اﻟﺮﻧﺔ وزﺣﻔﺖ
ﺷﻤﺎﻻ أم ﻻﺣﻘﻪ اﻟﺠﻮع ﰲ أﻣﺎﻛﻨﻪ؟ ﻫﻞ ﻛﺎن ذﻟﻚ واﺣﺪًا ﻣﻦ أﺳﺒﺎب أﺧﺮى أدت إﱃ اﻧﻘﺮاض ً
ﺳﻼﻟﺔ ﻧﻴﺎﻧﺪرﺗﺎل؟
اﻟﺮاﺟﺢ أن ﻣﻌﻈﻢ اﻟﻨﻴﺎﻧﺪرﺗﺎل ﻛﺎﻧﻮا ﺿﺤﻴﺔ اﻟﺘﺨﺼﺺ ﺧﻼل اﻟﻌﴫ اﻟﺠﻠﻴﺪي ،وﻟﻜﻦ
ﺑﺎملﻘﺎﺑﻞ ﻓﺈن آراء أﺧﺮى ﺗﺮى أن اﻟﺘﻌﺎﻳﺶ املﺸﱰك ﻟﺒﻀﻌﺔ آﻻف اﻟﺴﻨني ﻛﺎن ﻟﻪ ﺑﻌﺾ اﻷﺛﺮ
ﰲ ﺗﺒﺎدل اﻟﺠﻴﻨﺎت ﻣﻊ ﻏريﻫﻢ؛ ﻣﻤﺎ أدى إﱃ ﻇﻬﻮر ﺳﻼﻻت ﺟﺪﻳﺪة ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ.
44
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
45
اﻹﻧﺴﺎن
Chauvet-Höhle Côa-Tal
Cro-Magnon Wadi Kubbaniya
Geißenklösterle Hohlenstein Willandra Lakes
Blombos Höhle 16 Müñgo Lake Stadel vogelherd
Meshyristsch
100 90 80 70 60 50 40 30 20 10 heute
Dolní Vèstonice Altamira
Tausend Jahre vor heute
Paviov Lascaux Niaux
Sungir Mas-d’Azil Dschebel Sahaba
Abrigo do Lagar Velho
ﻓﻨﻮن اﻟﺮﺳﻢ ﰱ ﺣﻴﺎة اﻟﻜﻬﻮف
ﻣﻔﺘﺎح اﻻﻟﻮان
اﻟﻌﻤﻮد اﻷﻳﴪ اﻟﻌﻤﻮد اﻷﻳﻤﻦ
ﻏﺎﺑﺎت ﺻﺤﺎرى
ﺳﻔﺎﻧﺎ ﺗﻨﺪرا
أراض ﻋﺸﺒﻴﺔ ﺟﻠﻴﺪ
ﻣﻮاﺿﻴﻊ اﻟﻜﻬﻮف اﺳﺘﺒﺲ ﺷﺠريى
ﺷﻜﻞ :7اﻟﻔﻦ ﺟﺎء ﻣﻊ اﻟﱪودة )ﻗﺒﻞ ٢٠أﻟﻒ ﺳﻨﺔ ﺑﻠﻎ ﺟﻠﻴﺪ اﻟﻌﴫ اﻷﺧري أﻗﴡ ﺣﺪوده،
وﺗﺤﺖ وﻃﺄة اﻟﱪودة أﺻﺒﺢ اﻟﻨﺎس أﻛﺜﺮ ﺣﺴﺎﺳﻴﺔ ﺑﻘﺪراﺗﻬﻢ اﻟﻔﻨﻴﺔ اﻟﺨﻼﻗﺔ؛ ﻓﺄﺑﺪﻋﻮا اﻟﺮﺳﻢ
ﻋﲆ ﺟﺪران اﻟﻜﻬﻮف اﻟﺘﻲ ﻳﻌﻴﺸﻮن ﻓﻴﻬﺎ ،وﺑﺨﺎﺻﺔ ﰲ إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ وﻓﺮﻧﺴﺎ(.
اﻟﻌﻤﻮد اﻟﻌﺮﴈ أﻋﻼ اﻟﺨﺮﻳﻄﺔ ﻣﻘﻴﺎس زﻣﻨﻲ ﺑﻌﴩات آﻻف اﻟﺴﻨني وﻣﻮﻗﻊ ﻣﻮاﺿﻊ اﻟﻜﻬﻮف.
ﻻﺣﻆ وﺟﻮد ﻣﻮﻗﻊ وادي اﻟﻜﻮﺑﺎﻧﻴﺔ ﰲ ﻣﴫ ﻗﺮب أﺳﻮان.
اﻟﺘﻲ أﺻﺎﺑﺘﻬﺎ ،واملﻼﺣﻆ أن ﻛﺜريًا ﻣﻦ ﺗﻠﻚ املﺼﻮرات ُر ِﺳﻤَ ْﺖ ﰲ ﻣﻤﺮات ﺿﻴﻘﺔ أو ﻧﻬﺎﻳﺔ
ﺗﺸﻌﻴﺒﺔ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻗﺪس اﻷﻗﺪاس؛ ﺑﻤﻌﻨﻰ أﻧﻬﺎ ُر ِﺳﻤَ ْﺖ ﻟﻴﺲ ﻟﻠﻔﺮﺟﺔ ﺑﻞ ﻟﻮازع اﻟﺒﻘﺎء ،رﺑﻤﺎ
ﺑﺘﺄﺛري ﺷﺎﻣﺎن ﻛﺎﻫﻦ أو ﻛﺒري اﻟﺴﻦ ﻳﻠﻘﻲ ﺗﻌﻮﻳﺬة ﻣﻦ أﺟﻞ ﺣﻆ ﺳﻌﻴﺪ.
ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻓﻨﻮن اﻟﻜﻬﻮف ﻫﻲ املﻤﻴﺰة ﻟﺘﻠﻚ اﻟﻔﱰة ) ٣٤إﱃ ١٢أﻟﻒ ﺳﻨﺔ ﻣﻀﺖ( ،ﺑﻞ
أﻳﻀﺎ ﻋﻤﻞ ﺗﻤﺎﺛﻴﻞ ﻟﻠﻤﺮأة أﺷﻬﺮﻫﺎ ﻓﻴﻨﻮس ﻓﻴﻠﻠﻨﺪورف ﰲ اﻟﻨﻤﺴﺎ ﻣﻦ ﻋﴩات ﰲ أﻣﺎﻛﻦ ً
أﻳﻀﺎ اﺳﺘﺪﻋﺎء ﺳﺤﺮي ﻟﻠﺠﻨﺲ واﻟﺨﺼﻮﺑﺔ ﻫﺪﻓﻪ اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ اﻟﺒﻘﺎء. أﺧﺮى ،وﻫﻲ ً
46
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
ﺷﻜﻞ :8ﻣﻦ ﺻﻮر ﻛﻬﻒ وادي ﺻﻮرة – اﻟﻌﻮﻳﻨﺎت اﻟﺠﻠﻒ اﻟﻜﺒري ﻣﴫ.
أﻓﻜﺎر اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﻨﻘﻴﺔ ﻫﻲ ﺟﻮﻫﺮ ﺧﺮاﻓﺎت اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻌﻨﴫﻳﺔ؛ ﻷﻧﻪ ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ أن اﻷﻧﻮاع
اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻟﻢ ﺗﺘﻨﺎﺳﻞ ﻣﻦ ﻓﺮاغ ،ﺑﻞ ﻣﻦ ﺳﺎﺑﻘﻴﻬﺎ ﺑﻌﺪ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﺘﻐريات ﺟﺴﺪﻳﺔ وﻋﻘﻠﻴﺔ.
واﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻻ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ ذﻟﻚ .اﻟﺮاﺟﺢ أن ﻧﺸﺄﺗﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ً
أﻳﻀﺎ ،رﺑﻤﺎ ﻣﻨﺬ
٨٠أﻟﻒ ﺳﻨﺔ ﻣﻀﺖ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻏﺰا ﺑﻘﻴﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ ،رﺑﻤﺎ ﻣﻨﺬ ٤٠أﻟﻒ ﺳﻨﺔ ،وأﺧريًا ﻏﺰا
اﻷﻣﺮﻳﻜﺘني ﻣﻨﺬ ﻧﺤﻮ ٢٠أﻟﻒ ﺳﻨﺔ ﻣﻀﺖ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻳﻜﻮن أول ﻣﻦ ﻳﻌﱪ إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ
ﻣﻦ ﻛﻞ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﺒﴩ.
47
اﻹﻧﺴﺎن
ﰲ ﺑﻴﺌﺎﺗﻪ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﺑﺪأ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻳﺘﺨﺼﺺ ﰲ ﺑﻌﺾ ﻣﻈﺎﻫﺮه اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ ﺑني
ﻃﻮل أو ﻗﴫ اﻟﻘﺎﻣﺔ ،وﻣﻘﻄﻊ اﻟﺸﻌﺮ ،وﻟﻮن اﻟﺒﴩة واﻟﺸﻌﺮ ،واﻟﻨﺴﺒﺔ اﻟﺮأﺳﻴﺔ ﺑني اﻟﻌﺮﻳﺾ
واﻟﻄﻮﻳﻞ … إﻟﺦ ،وﻫﻮ ﻣﺎ أدى إﱃ اﻟﺘﻘﺴﻴﻢ اﻟﺜﻼﺛﻲ اﻟﻌﺎم :ﻗﻮﻗﺎزي أو أﺑﻴﺾ ،وﻣﻐﻮﱄ أو
أﻳﻀﺎ ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻟﺘﺨﺼﺺ املﻜﺎﻧﻲأﺻﻔﺮ ،وزﻧﺠﻲ أو أﺳﻮد .وﰲ داﺧﻞ ﻛﻞ ﻗﺴﻢ ﺳﻼﻻت ﻓﺮﻋﻴﺔ ً
واﻻﺧﺘﻼط ﺑني ﻧﻮﻋني أو أﻛﺜﺮ ﻣﺮة أو ﻣﺮات ،ﻧﺸﺄ ﻣﻌﻬﺎ ﺻﻔﺎت أﺧﺮى ﻣﻤﻴﺰة ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ
اﻟﻮارد ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ ﻣﻦ اﻟﻘﺴﻢ اﻷول ﻣﻦ ﻃﺒﻌﺎت اﻟﻜﺘﺎب اﻷﺻﲇ ﻋﻦ اﻹﻧﺴﺎن ،وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ
ﻟﺴﻨﺎ ﰲ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ ﺗﻜﺮار اﻟﻜﻼم ﺣﻴﺚ ﻟﻢ ﻳﻄﺮأ ﻛﺜريًا ﻋﲆ اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ أو اﻟﻔﺮﻋﻴﺔ.
ﻛﻞ ﻣﺎ ﺳﺒﻖ ﻣﻦ ﺳﻼﻻت وﺣﻔﺮﻳﺎت وﺣﻀﺎرات ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺤﺪث ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﺑﻘﺎراﺗﻪ اﻟﺜﻼث،
ﻓﻤﺘﻰ وﻛﻴﻒ ﻋﻤﺮ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻷﻣﺮﻳﻜﻲ؟
ﻛﻞ اﻟﺤﻔﺮﻳﺎت اﻟﺒﴩﻳﺔ اﻟﻌﻈﻤﻴﺔ واﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻋُ ِﺜ َﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺗﻌﻮد إﱃ ﺳﻼﻟﺔ اﻹﻧﺴﺎن
أﻟﻔﺎ ﻋﲆ أﻗﴡ ﺗﻘﺪﻳﺮ ،ﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﻔﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ .ﻣﻌﻨﻰ ذﻟﻚ أﻧﻪ ﻗﺒﻞ ٢٠إﱃ ً ٣٠
اﻟﺒﺎﺋﺪ ﺑﺄﻧﻮاﻋﻪ املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻗﺪ ﻋﱪ إﱃ أﻣﺮﻳﻜﺎ .ﺑﻞ املﺆﻛﺪ أن اﻟﻌﺒﻮر ﻗﺪ ﺗﻢ ﰲ ﺧﻼل اﻧﺨﻔﺎض
ﻣﻨﺴﻮب اﻟﺒﺤﺮ ،وﺗﻜﻮﱡن ﺟﴪ أرﴈ ﻛﺒري ﺑني ﺳﻴﺒريﻳﺎ وأﻻﺳﻜﺎ ﻓﻮق ﻣﻀﻴﻖ ﺑريﻧﺞ اﻟﺤﺎﱄ،
48
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
اﻟﺤﺠﺮي اﻷوﺳﻂ
اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ ﺛﻢ اﻟﺤﺠﺮي
اﻟﺤﺪﻳﺚ
اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ
اﻷﻋﲆ رﺳﻮم
٤ اﻟﻜﻬﻮف ١٠٠
إﻧﺴﺎن ﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل املﻮﺳﺘريﻳﺔ
٢٠٠
٣
اﻷﺷﻮﻟﻴﺔ
٣٠٠
ﺟﻤﺠﻤﺔ ﺳﻮاﻧﺲ ﻛﻮﻣﺐ ﻓﺌﻮس ﺣﺠﺮﻳﺔ
ﻳﺪوﻳﺔ ﻣﺤﺴﻨﺔ
٤٠٠
إﻧﺴﺎن ﺟﺎوة وﺑﻜني
٢
أﺑﻔﻴﻞ ٥٠٠
أدوات ﺣﺠﺮﻳﺔ ﻛﺒرية
١ ﻏري ﻣﺘﻘﻨﺔ ٦٠٠
ﻓﱰات دﻓﻴﺌﺔ
٤ ٣ ٢ ١اﻟﻌﺼﻮر اﻟﺠﻠﻴﺪﻳﺔ
ﺷﻜﻞ 10
وأن اﻻﻧﺘﻘﺎل رﺑﻤﺎ ﺗﻢ ﰲ ﻣﻮﺟﺎت أﺣﺪﺛﺘﻬﺎ ﻣﻮﺟﺔ اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻮد إﱃ ﻣﺎ ﺑني ٨–٥آﻻف
ﺳﻨﺔ ،وﻣﺎ زال ﺑﻌﺾ ﻣﻦ اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ﻳﻌﻴﺸﻮن ﰲ اﻟﻄﺮف اﻟﴩﻗﻲ اﻷﻗﴡ ﻣﻦ ﺳﻴﺒريﻳﺎ .ﺳﻬﻮل
ﺷﻤﺎل أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻘﻊ ﺗﺤﺖ ﻏﻄﺎء وﺳﻜﻨﺴﻮن اﻟﺠﻠﻴﺪي املﻌﺎﴏ ﻟﺠﻠﻴﺪ ﻓريم ﰲ
أوروﺑﺎ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎن اﻟﺠﻠﻴﺪ ﻳﻐﻄﻲ ﺟﺒﺎل أﻻﺳﻜﺎ وﻛﻨﺪا اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ .وﺑني اﻟﺠﻠﻴﺪﻳﻦ ﺣﻴﺚ ﻳﺠﺮي
ﻧﻬﺮ ﻣﺎﻛﻨﺰي ،ﻛﺎن ﻳﻮﺟﺪ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﻤﺮ ﻣﻔﺘﻮح وﺳﺎﻟﻚ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺗﺮاﺟﻊ اﻟﺠﻠﻴﺪ أو ﻣﻐﻠﻖ
49
اﻹﻧﺴﺎن
ﻻﻣﺘﺪاده .وﻳﺮى ﻋﻠﻤﺎء أن ﻃﺮﻳﻖ املﻬﺎﺟﺮﻳﻦ اﻵﺳﻴﻮﻳني ﻣﻦ أﻻﺳﻜﺎ ﺻﻌﻮدًا ﻣﻦ ﻧﻬﺮ ﻳﻮﻛﻦ
إﱃ ﻣﺎﻛﻨﺰي ،وﻣﻦ ﺛﻢ إﱃ اﻟﺴﻬﻮل اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ اﻟﻮﺳﻄﻰ اﻟﺨﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﺠﻠﻴﺪ .ﻻ ﺷﻚ أن ﻣﺜﻞ
ذﻟﻚ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﺗﻜﺘﻨﻔﻪ ﻣﺼﺎﻋﺐ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﻐﺬاء ﰲ ﻫﺬه اﻟﺒﻴﺌﺔ اﻟﺠﻠﻴﺪﻳﺔ ،وﻻ ﻳﻮﺟﺪ دﻟﻴﻞ
ﻋﲆ ﺻﺤﺔ ﻫﺬه اﻟﻔﺮﺿﻴﺔ ،ﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﺒﺪو ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ .رأي آﺧﺮ ﻳﻔﱰض أن ﺗﻌﻤري أﻣﺮﻳﻜﺎ ﺗﺄﺧﺮ
إﱃ اﻧﻘﺸﺎع اﻟﺠﻠﻴﺪ ،ﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ﻳﻌﻄﻲ ﻋﴩة آﻻف ﺳﻨﺔ ﻓﻘﻂ ﻟﺘﻌﻤري اﻷﻣﺮﻳﻜﺘني ،وﻫﻮ ﻏﺎﻟﺒًﺎ
أراض ﺗﻌﻄﻲ ﻏري ﻣﻤﻜﻦ ﻟﻬﺠﺮات ﺗﺴري ﻋﲆ اﻷﻗﺪام ﰲ ﺑﻴﺌﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﻏري ﻣﻌﺮوف أﻳﻦ ﺗﻜﻮن ٍ
ﻓﺮص إﻗﺎﻣﺔ ﺣﻴﺎة ﻣﻘﺒﻮﻟﺔ.
50
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
ﻫﻨﺎك اﻟﻄﺮﻳﻖ اﻟﺴﺎﺣﲇ ﻣﻦ أﻻﺳﻜﺎ إﱃ ﻛﺎﻟﻴﻔﻮرﻧﻴﺎ ،وﻫﻮ ﻣﲇء ﺑﺎﻟﺠﺰر اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ
اﻻﻧﺘﻘﺎل ﻣﻌﻬﺎ ﺟﻨﻮﺑًﺎ ﻣﻦ أﻻﺳﻜﺎ ،ﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﻄﺮﻳﻖ ﺗﻐﻠﻘﻪ ﺳﻠﺴﻠﺔ ﺟﺒﺎل اﻟﻜﺎﺳﻜﻴﺪ واﻟﺮوﻛﻲ
ﺑﻄﻮل ﻛﻨﺪا واﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة .ﻧﻌﻢ؛ ﻟﻘﺪ ﺳﻜﻨﻪ ﺑﻌﺾ املﻬﺎﺟﺮﻳﻦ ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻇﻠﻮا ﰲ أﻣﺎﻛﻨﻬﻢ
املﺤﺪودة اﻟﺴﺎﺣﻠﻴﺔ ﺣﺘﻰ اﻵن ،وﺑﺨﺎﺻﺔ ﰲ ﻛﻮﻟﻮﻣﺒﻴﺎ اﻟﱪﻳﻄﺎﻧﻴﺔ.
أﺧﻄﺄ ﻛﻮﻟﻮﻣﺒﺲ ﺣني وﺻﻞ ﺟﺰر اﻟﺴﺎﺣﻞ اﻟﴩﻗﻲ اﻷﻣﺮﻳﻜﻲ ﻣﻌﺘﻘﺪًا أﻧﻪ وﺻﻞ إﱃ
آﺳﻴﺎ؛ ﻓﺄﻃﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﻬﻨﻮد اﻟﺤﻤﺮ ،وإﱃ اﻵن ﻫﺬه اﻟﺘﺴﻤﻴﺔ ﻟﺼﻴﻘﺔ ﺑﺎﻟﺒﺎﻗني ﻣﻦ ﺳﻜﺎن
ً
أﺻﻼ ﻣﻦ اﻟﺴﻼﻟﺔ املﻐﻮﻟﻴﺔ َت إﱃ »أﻣﺮﻳﻨﺪ« .Amrindﻫﺆﻻء ﻫﻢ أﻣﺮﻳﻜﺎ ﻟﻶن ،وإن ْ
اﺧﺘُ ِﴫ ْ
اﻟﺘﻲ ﺗﺴﻜﻦ ﺷﻤﺎل آﺳﻴﺎ ،وﺗﻀﻢ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﺳﻼﻟﻴﺔ ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ اﻟﺴﻴﺒريﻳني اﻟﻘﺪﻣﺎء؛
ﻫﻢ ﺧﻠﻴﻂ ﻣﻐﻮﱄ ﻗﻮﻗﺎزي ﻗﺪﻳﻢ ﻳﻈﻬﺮ أﺛﺮﻫﻢ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻷﻳﻨﻮ ﻣﻦ ﺳﻜﺎن ﺟﺰﻳﺮة ﻫﻮﻛﺎﻳﺪو
اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ .ﻟﻬﺬا ﺗﺘﻨﻮع اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺠﺴﻤﻴﺔ واﻟﻠﻮﻧﻴﺔ ﺑني اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ زادت ﺑﺎﻟﻌﺰﻟﺔ ﺑﻀﻌﺔ آﻻف
اﻟﺴﻨني ﰲ ﻣﺴﺎﺣﺎت ﻛﺒرية وأﻋﺪاد ﻗﻠﻴﻠﺔ ﺗﻌﻴﺶ ﻋﲆ اﻟﺼﻴﺪ ﺟﻠﺒﺖ ﻣﻌﻬﺎ اﺧﺘﻼﻓﺎت ﻟﻐﻮﻳﺔ
ﻛﺜرية .وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﻬﻨﺎك ﺻﻔﺎت ﺳﻼﻟﻴﺔ ﺟﺎﻣﻌﺔ ،ﻣﻨﻬﺎ اﻧﺤﺮاف اﻟﻌني ،ﺑﺮﻏﻢ ﻋﺪم وﺟﻮد
اﻟﻄﻴﺔ املﻐﻮﻟﻴﺔ املﺸﻬﻮرة ﰲ آﺳﻴﺎ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻗﻠﺔ واﺿﺤﺔ ﰲ ﺷﻌﺮ اﻟﺬﻗﻦ وﺳﻴﺎدة ﺷﻌﺮ اﻟﺮأس
ً
ﺧﻔﻴﻔﺎ ،واﻟﻨﺴﺒﺔ اﻟﺮأﺳﻴﺔ املﺘﻮﺳﻄﺔ ﺑني اﻟﺮأس اﻟﻄﻮﻳﻞ واﻟﻌﺮﻳﺾ اﻷﺳﻮد املﺴﺘﻘﻴﻢ أو املﻤﻮج
٣
ﻣﻊ ﺣﺠﻢ املﺦ املﻌﺘﺎد ١٤٥٠ﺳﻢ ،وﺗﱰاوح ﻣﺘﻮﺳﻄﺎت ﻃﻮل اﻟﻘﺎﻣﺔ ﺑني اﻟﻘﺼرية ١٥٥ﺳﻢ
ﺑني ﻫﻨﻮد ﻣﻴﺸﻴﺠﺎن إﱃ اﻟﻄﻮﻳﻞ ١٧٥–١٧٢ﺳﻢ ﺑني ﻗﺒﺎﺋﻞ اﻟﺒﻴﻤﺎ واﻟﺴﻮ.
ﺗﺘﻔﻖ آراء اﻟﻌﻠﻤﺎء ﻋﲆ أن اﻟﻬﺠﺮات اﻵﺳﻴﻮﻳﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻣﻮﺟﺎت ﻣﺘﺘﺎﻟﻴﺔ أو
ﻣﺘﺒﺎﻋﺪة ﺣﺴﺐ ﻇﺮوف إﻳﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺤﻴﺎة ﰲ ﺷﻤﺎل آﺳﻴﺎ ﻋﱪ ﻣﻀﻴﻖ ﺑريﻧﺞ ،ﺳﻮاء ﻛﺎن
ﺟﴪا ﺑﺮﻳٍّﺎ ﻣﻨﺬ ٣٠أﻟﻒ ﺳﻨﺔ ،أو ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ اﻧﺘﻘﺎل ﺑﺎﻟﻘﻮارب ﻣﺴﺎﻓﺎت ﻣﺤﺪودة إﱃ أﻻﺳﻜﺎ، ً
وﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺟﺰر أﻟﻮﺷﺎن ،وﻛﻞ ﻣﻮﺟﺔ ﻫﺠﺮة ﺗﺪﻓﻊ ﺳﺎﺑﻘﺘﻬﺎ إﱃ داﺧﻞ اﻟﻘﺎرة إﱃ اﻛﺘﻤﺎل
ﺗﻌﻤري أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ واﻟﻮﺳﻄﻰ واﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ ،ﻋﲆ ﻣﺴﺎر ﻧﺤﻮ ٢٥–٢٠أﻟﻒ ﺳﻨﺔ ،آﺧﺮﻫﺎ
دﺧﻮل اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ﻣﻨﺬ ﻧﺤﻮ ٥±آﻻف ﺳﻨﺔ ،ﻛﻤﺎ أﺳﻠﻔﻨﺎ.
ﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻛﻞ ﻣﻮﺟﺎت اﻟﻬﺠﺮة ﻣﻦ اﻟﺼﻴﺎدﻳﻦ واﻟﺠﻤﺎﻋني ،وملﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻌﻬﻢ
ﺣﻴﻮاﻧﺎت رﻛﻮب أو ﺟﺮ ،ﻓﻘﺪ ﺑﺮﻋﻮا ﰲ اﻟﺼﻴﺪ واﻗﺘﻔﺎء اﻷﺛﺮ ﺑﺸﻜﻞ ﻛﺒري .اﻟﺤﺼﺎن دﺧﻞ ﻣﻊ
اﻷوروﺑﻴني ﺑﻌﺪ ١٥٠٠م ،وﴎﻋﺎن ﻣﺎ ﻓﺎق اﻟﻬﻨﻮد رﻛﻮب اﻟﺨﻴﻞ ﻛﺄﺣﺴﻦ ﻣﻦ اﻷوروﺑﻴني .ﰲ
اﻟﺼﻨﺎﻋﺎت اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ اﺧﺘﻠﻒ اﻟﻬﻨﻮد ﰲ ﺳﻬﻮل اﻟﴩق ﻋﻦ أوﻟﺌﻚ ﰲ ﻏﺮب ﺟﺒﺎل اﻟﺮوﻛﻲ ،وﻋﻦ
أوﻟﺌﻚ ﰲ ﻛﻨﺪا .وأﻛﺜﺮ اﻻﺧﺘﻼف ﻛﺎن ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺼﻨﺎﻋﺔ رأس اﻟﺤﺮﺑﺔ ﻗﺒﻞ أن ﻳﺪﺧﻞ اﻟﻘﻮس
واﻟﺴﻬﻢ ،وأﺷﻬﺮﻫﺎ ﺗﻠﻚ اﻟﺮءوس املﻨﺘﺠﺔ ﰲ ﻣﻮﻗﻊ »ﻓﻮﻟﺴﻮم« اﻷﺛﺮي ﰲ ﻧﻴﻮ ﻣﻜﺴﻴﻜﻮ اﻟﺘﻲ
51
اﻹﻧﺴﺎن
ُﻗﺪﱢر ﻋﻤﺮﻫﺎ ﺑ ١٥أﻟﻒ ﺳﻨﺔ ﺑﻮﺳﻴﻠﺔ ﻛﺮﺑﻮن .١٤وﻫﻨﺎك ﺣﻀﺎرة أﻗﺪم ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻨﺘﴩة ﰲ
ﴍق اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة وﻛﺎﻟﻴﻔﻮرﻧﻴﺎ ﺑﺎﺳﻢ »ﺣﻀﺎرة ﻛﻠﻮﻓﻴﺲ« ،ﻟﻜﻦ ﻓﻮﻟﺴﻮم أﺣﺪث وأﺣﺴﻦ
ﺗﻘﻨﻴٍّﺎ.
ﺳﻜﺎن اﻟﺴﻬﻮل ﻣﻌﻈﻤﻬﻢ ﺻﻴﺎدون ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺳﻜﺎن ﻏﺮب اﻟﺮوﻛﻲ ﺟﻤﺎﻋﻮن أﻛﺜﺮ ﻣﻦ
ﺻﻴﺎدﻳﻦ ،وﻣﻦ ﺑني أدواﺗﻬﻢ ﺣﺠﺮ ﻃﺤﻦ اﻟﺒﺬور »رﺣﻰ« ،وﰲ ﺳﺎﺣﻞ ﻛﻨﺪا اﻟﺒﺎﺳﻴﻔﻴﻜﻲ
ﺟﻤﺎﻋﺎت ﺻﻴﺪ اﻷﺳﻤﺎك اﻟﺸﻬرية ﺑﺤﻔﻼت اﻟﺒﻮﺗﻼﺗﺶ اﻟﺘﻲ ﺗُﻮ ﱠزع ﻓﻴﻬﺎ ﺛﺮوة اﻷﻏﻨﻴﺎء ﺣﺘﻰ ﻻ
ﺗُﺸ ﱢﻜﻞ اﻧﻘﺴﺎﻣً ﺎ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴٍّﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻟﻮ ﺗﺮاﻛﻤﺖ.
ﰲ ﻧﻴﻮ ﻣﻜﺴﻴﻜﻮ ﻇﻬﺮت ﺣﻀﺎرة ﺻﻨﺎع اﻟﺴﻼل ﺣﻮاﱄ ٣٠٠م ،إﱃ ٧٠٠–٥٠٠م اﻟﺘﻲ
ﺗﺄﺳﺴﺖ ﻋﲆ زراﻋﺔ اﻟﺬرة ،وﻟﻢ ﻳﻌﺮﻓﻮا اﻟﻔﺨﺎر ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ؛ ﻟﻬﺬا أﻧﺘﺠﻮا اﻟﺴﻼل املﺘﺨﺼﺼﺔ
وﻋﺮﻓﻮا اﻟﻘﻮس واﻟﺴﻬﻢ وﻗﺎذف اﻟﺮﻣﺢ .ﺟﺎءت ﺑﻌﺪﻫﻢ ﺣﻀﺎرة اﻟﺒﻮﻳﺒﻠﻮ اﻟﺰراﻋﻴﺔ ﻣﻦ ٧٠٠م،
وﻛﻠﻤﺔ ﺑﻮﻳﺒﻠﻮ ﺗﻌﻨﻲ اﻟﺒﻴﺖ اﻟﺤﺠﺮي ﰲ ﻗﺮى ﻋﺪﻳﺪة ﰲ ﻧﻴﻮﻣﻜﺴﻴﻜﻮ وأرﻳﺰوﻧﺎ.
ﺣﻀﺎرات أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻮﺳﻄﻰ اﺧﺘﻠﻔﺖ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻦ أﻗﺮﺑﺎﺋﻬﻢ ﰲ اﻟﺸﻤﺎل ﻟﻴﺲ ﻓﻘﻂ ﰲ
أﻳﻀﺎ ﰲ اﻟﱰﻛﻴﺒﺔ اﻟﺴﻼﻟﻴﺔ؛ اﻛﺘﺸﺎف اﻟﺰراﻋﺔ وﻣﻤﺎرﺳﺘﻬﺎ ﻛﻨﺸﺎط اﻗﺘﺼﺎدي أﺳﺎﳼ ،ﺑﻞ ً
ﺣﻴﺚ ﻳﺴﻮد اﻟﺮأس اﻟﻌﺮﻳﺾ ،واﻟﺒﴩة أﻣﻴﻞ إﱃ اﻟﺴﻤﺮة ،وﻓﻮق ذﻟﻚ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻧﻈﻢ ﻣﻠﻜﻴﺔ
دﻳﻨﻴﺔ ﻳﺴﻮدﻫﺎ املﻌﺒﺪ واﻟﺮؤى املﺴﺘﻘﺒﻠﻴﺔ اﻷﺳﻄﻮرﻳﺔ ﻋﻨﺪ ﻣﻤﻠﻜﺔ اﻷزﺗﻚ ﰲ وﺳﻂ املﻜﺴﻴﻚ
اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻘﻮم ﻋﲆ اﻟﻘﻮة اﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ ﻣﻨﺬ ١٣٠٠م ،واﺳﺘﺴﻠﻤﺖ ﻟﻸﺳﺒﺎن ١٥١١م .وﰲ
ﺟﻨﻮب املﻜﺴﻴﻚ وﻫﻨﺪوراس ﻛﺎن اﺗﺤﺎد ﻣﺪن ﺷﻌﺐ وﺣﻀﺎرة املﺎﻳﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻴﺰت ﺑﺒﻨﺎء
اﻷﻫﺮاﻣﺎت املﺪرﺟﺔ واملﻌﺎﺑﺪ ﻓﻮﻗﻬﺎ ،ﻛﻤﺎ اﺷﺘﻬﺮوا ﺑﱪاﻋﺔ ﰲ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ،وأﻧﺘﺠﻮا ﺗﻘﻮﻳﻢ املﺎﻳﺎ
اﻟﺸﻤﴘ ،وﻛﺎن ﻟﺪﻳﻬﻢ ﻧﻈﺎم ﻛﺘﺎﺑﺔ ﻣﺘﻜﺎﻣﻞ .اﺳﺘﻤﺮت ﺣﻀﺎرة املﺎﻳﺎ ﻧﺤﻮ ﻋﴩة ﻗﺮون،
واﻧﺘﻬﺖ ﰲ أواﺋﻞ ق١٦م ﺑﻮﺻﻮل اﻹﺳﺒﺎن .وﰲ ﺑريو ﻧﺸﺄت ﺣﻀﺎرة اﻹﻧﻜﺎ اﻟﺘﻲ اﻣﺘﺪت
ﺣﺘﻰ ﺷﻤﻠﺖ ﻣﺴﺎﺣﺔ ﻛﺒرية ﻣﻦ ﺑريو اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ ،وﺗﻤﻴﺰت ﺑﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻢ اﺷﱰاﻛﻲ ﻣﻠﻜﻲ
ﺛﻴﻮﻗﺮاﻃﻲ ،وﺑﻨﺎء اﻟﻄﺮق اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ ﺑﻄﻮل اﻟﺒﻼد؛ ﻷن ﻫﺬه اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ ﻟﻢ ﺗﺒﺘﻜﺮ ﻧﻈﺎم
ﻛﺘﺎﺑﺔ ،ﻓﺎﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻫﻨﺎ ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﺗﺘﺎﺑﻊ املﻠﻮك .اﻟﺮاﺟﺢ أﻧﻬﺎ ﻧﺸﺄت ﻧﺤﻮ ١٢٠٠م واﺗﺴﻌﺖ
ﺗﺪرﻳﺠﻴٍّﺎ ،ﺛﻢ ﻓﺠﺄة ﰲ ١٤٤٠اﻣﺘﺪت املﻤﻠﻜﺔ اﻟﻀﺨﻤﺔ ﻣﻦ إﻛﻮادور إﱃ ﺳﺎﻧﺘﻴﺎﺟﻮ ﰲ ﺷﻴﲇ،
وﰲ ١٥٣٢دﺧﻞ اﻹﺳﺒﺎن وأﻧﻬﻮا ﻣﻤﻠﻜﺔ ﻛﺒرية ﺑﻜﺜري ﻣﻦ املﻐﺎﻣﺮة واﻟﺪﻫﺎء واﻟﻐﺪر.
ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك أﺑﺤﺎث ﻛﺜرية ﺣﻮل ﻧﺸﺄة اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ
اﻟﻮﺳﻄﻰ ،اﻗﱰﺣﺖ أﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻨﺸﺄ ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ﰲ ﻋﺰﻟﺘﻬﺎ ،وﺑﺨﺎﺻﺔ ﻣﻌﺎرف اﻟﺰراﻋﺔ وإﻧﺸﺎء
أﻧﻈﻤﺔ ﺣﻀﺎرﻳﺔ دﻳﻨﻴﺔ ،ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺗﻜﺮار ملﺎ ﺣﺪث ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﻣﺘﺄﺧﺮة ﻋﻨﻬﻢ ﺑﻔﺎرق زﻣﻨﻲ
52
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
53
اﻹﻧﺴﺎن
ﻳﺒﻠﻎ أﻟﻔﻲ ﺳﻨﺔ أو أﻛﺜﺮ .ﻣﻦ اﻟﻄﺮق املﻘﱰﺣﺔ أن ﻓﻴﻨﻴﻘﻴﻲ ﻗﺮﻃﺎج ﰲ ﺷﻤﺎل أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ — وﻫﻢ
ﻣﻼﺣﻮن ﺟﺎﺑﻮا اﻷﻃﻠﻨﻄﻲ إﱃ أﻳﺮﻟﻨﺪا — رﺑﻤﺎ أﺑﺤﺮوا ﻏﺮﺑًﺎ إﱃ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻮﺳﻄﻰ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪام
اﻟﺘﻴﺎرات اﻟﺒﺤﺮﻳﺔ ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ ﻛﻮملﺒﺲ ﺑﻌﺪﻫﻢ ﺑﺄﻟﻒ وﺧﻤﺴﻤﺎﺋﺔ ﺳﻨﺔ ،واﻗﱰح اﻷﺳﺘﺎذ روﺑﺮت
ً
ﻣﻄﺮوﻗﺎ ﻓﻮن ﻫﺎﻳﻨﻲ ﺟﻠﺪرن اﻟﻨﻤﺴﺎوي ﰲ اﻟﺨﻤﺴﻴﻨﺎت املﺎﺿﻴﺔ أن ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺒﺎﺳﻴﻔﻴﻚ ﻛﺎن
ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﺑﺤﺎرة ﺟﻨﻮب اﻟﺼني )ﺣﻴﺚ ﻛﺎﻧﺖ ﺣﻀﺎرة دوﻧﺞ-ﺻﻮن اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻮد ﻟﻌﴫ اﻟﱪوﻧﺰ(
إﱃ اﻟﺠﺰر اﻟﻌﺪﻳﺪة اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻸ املﺤﻴﻂ إﱃ ﺳﻮاﺣﻞ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻮﺳﻄﻰ ،وﻣﻦ ﺛﻢ اﻧﺘﻘﻠﺖ ﺑﻌﺾ
ﻋﻨﺎﴏ ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﴩق اﻟﻘﺪﻳﻢ إﻟﻴﻬﺎ.
ٍّ
ﻣﺴﺘﻘﻼ ﻣﺮات ﰲ ﻋﲆ أي اﻟﺤﺎﻻت ،ﻓﺈﻧﻪ ﻣﻌﺮوف أن ﺷﻴﺌًﺎ ﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻨﺸﺄ
أﻣﺎﻛﻦ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ .اﻟﺰراﻋﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﻛﺬﻟﻚ ﺑني ﺟﻤﺎﻋﺎت اﻟﺠﻤﻊ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺮاﻗﺒﻮن اﻟﻨﺒﺎﺗﺎت
وﻧﻤﻮﻫﺎ … إﻟﺦ .اﻟﺘﺸﺎﺑﻪ ﺑني أﻫﺮاﻣﺎت املﺎﻳﺎ واﻟﺰﻳﺠﻮارات اﻟﺴﻮﻣﺮي وأﻫﺮاﻣﺎت ﻣﴫ ،أﻧﻬﺎ
أﺑﻨﻴﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ ﰲ ﻣﺤﻴﻂ ﺳﻬﲇ ،رﺑﻤﺎ ﻟﺬﻟﻚ اﻟﻌﻠﻮ ارﺗﺒﺎط ﺑﺎﻟﺴﻤﺎء ،وإﱃ اﻵن ﻳﺆﻛﺪ املﺨﺘﺼﻮن
أن ﺣﻀﺎرات أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻌﻠﻴﺎ ذات ﻧﺸﺄة ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ.
54
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
اﻟﺬﻳﻦ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮن ﻧﻘﻞ ﺣﻘﻮﻟﻬﻢ ،وﺑﺨﺎﺻﺔ ﰲ اﻟﻮدﻳﺎن اﻟﻨﻬﺮﻳﺔ .أﻣﺎ اﻟﺰراع ﰲ اﻟﺴﻬﻮل
املﻄرية ،ﻓﻴﻤﻜﻦ أن ﻳﻬﺎﺟﺮوا إﱃ أرض ﺟﺪﻳﺪة .ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻫﺬا ﻋﲆ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ وﻗﻴﻤﺔ
اﻷرض ﰲ اﻟﻮدﻳﺎن اﻟﻨﻬﺮﻳﺔ؛ ﻗﻴﻤﺔ اﻷرض ارﺗﻔﻌﺖ إﱃ ﺳﻘﻒ املﻠﻜﻴﺔ ﻟﻸﻓﺮاد املﻨﺘﺠني ،ﺑﻴﻨﻤﺎ
ُﺴﺘﻨﻔﺮ ﻛﻞ أﻋﻀﺎء اﻟﻌﺸرية ﻟﻠﻌﻤﻞﰲ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻟﻌﺸﺎﺋﺮي ﻗﻴﻤﺔ اﻷرض ﺟﻤﺎﻋﻴﺔ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻳ َ
واﻟﺪﻓﺎع واﻟﻬﺠﺮة ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﰲ ﻧﻈﺎم ﻣﺠﺘﻤﻊ املﻠﻜﻴﺔ اﻟﻔﺮدﻳﺔ ﻳﺤﺘﺎج اﻷﻣﺮ إﱃ ﻇﻬﻮر ﺗﻨﻈﻴﻢ
ﺗُﺴ ﱠﻠﻢ ﻟﻪ ﺳﻠﻄﺔ اﻟﺤﻤﺎﻳﺔ ﻣﻘﺎﺑﻞ ﺟﺒﺎﻳﺔ .ﺗﻨﺎﻣﺖ اﻟﺴﻠﻄﺔ إﱃ ﻧﻈﺎم دوﻟﺔ املﺪﻳﻨﺔ ،وﻣﻦ ﺛﻢ دوﻟﺔ
إﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﻫﺮﻣﻴﺔ اﻟﺴﻠﻄﺔ.
ﻫﻜﺬا ﺗﺤﻮﻟﺖ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﴩﻳﺔ إﱃ ﻣﺠﺘﻤﻌني أﺳﺎﺳﻴني :اﻟﺰراع ﺑﻨﻈﺎم اﻟﺪوﻟﺔ،
واﻟﺮﻋﺎة ﺑﻨﻈﺎم اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ .اﺣﺘﻴﺎﺟﻬﻤﺎ إﱃ ﺑﻌﺾ ﰲ ﺗﺒﺎدل إﻧﺘﺎج ﻛﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻛﺎن ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﺳﻠﻤﻴٍّﺎ
ﻣﻌﻈﻢ اﻷوﻗﺎت ،ﺑﻞ ﰲ ﺣﺎﻻت اﻟﻘﺤﻂ املﺴﺘﻤﺮ ﻗﺪ ﻳﻠﺠﺄ اﻟﺮﻋﺎة إﱃ اﻻﺳﺘﻘﺮار ﺟﻮار اﻟﺰراع؛
ﻟﻴﺼﺒﺤﻮا ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻣﻤﺎرﺳني ﻟﻠﻔﻼﺣﺔ .أو ﻗﺪ ﻳﻠﺠﺌﻮن إﱃ اﻹﻏﺎرة ﻋﲆ اﻟﺪول ﰲ ﻏﺰوات
ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻣﺪﻣﺮ ﻟﻔﱰات ،إﱃ أن ﻳﺮﻛﻨﻮا ﻟﻠﻬﺪوء داﺧﻞ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ ﻛﺤﻜﺎم أو ﺟﻨﻮد؛ ﻟﺘﺒﺪأ دورة
ﺟﺪﻳﺪة ﻣﻦ إﻏﺎرات وﻫﺠﺮات اﻟﺮﻋﺎة.
ﻃﺎغ ﻟﻠﻤﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺒﴩﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺴﻤﻴﻬﺎ اﻟﻬﻨﺪو-أوروﺑﻴﺔ ﻣﻦ أﻛﱪ ﺗﻠﻚ اﻷﺣﺪاث ﺗﺤﺮك ٍ
اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳُﻄ َﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ أﺣﻴﺎﻧًﺎ اﻵرﻳني ،ﻟﻜﻦ اﻟﺘﺴﻤﻴﺔ ﺳﻘﻄﺖ ملﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻋﻨﴫﻳﺔ ﻣﺘﺸﺪدة
ﻗﺪ ﺗﺼﻞ ﻟﺤﺪ ﻋﻘﻴﺪة ﻣﺬﻫﺒﻴﺔ .ﺗﺤﺮك ﻫﺆﻻء اﻟﺮﻋﺎة ﺑﻘﻮﺗﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﺨﻴﺎﻟﺔ املﻘﺎﺗﻠﺔ ﻣﻦ ﻣﺮاﻛﺰﻫﻢ
ﰲ وﺳﻂ آﺳﻴﺎ ﺑني ﺟﺒﺎل أﻟﺘﺎي واﻟﻘﻮﻗﺎز ﰲ اﻷﻟﻒ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ق.م ﻏﺰوا اﻟﺴﻨﺪ واﻟﻬﻨﺪ ﰲ ﻣﻮﺟﺎت
ﻣﺘﻌﺪدة ،ﻓﺪﻣﺮوا ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﺣﻀﺎرة ﻫﺎراﺑﺎ – ﻣﻮﻫﺎﻧﺠﺪارو ﻋﲆ ﻧﻬﺮ اﻟﺴﻨﺪ ،وﻏﺰت ﺟﻤﺎﻋﺎت
ﻣﻨﻬﻢ ﻫﻀﺒﺔ إﻳﺮان ،ﻧﻌﺮﻓﻬﻢ ﺑﺄﺳﻤﺎء ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ :املﻴﺪﻳﻮن ،واﻟﺒﺎرﺛﻴﻮن ،واﻟﻔﺮس .وﺑﻘﻴﺎدﺗﻬﻢ
وأداﺗﻬﻢ اﻟﺤﺮﺑﻴﺔ ،وﺑﺨﺎﺻﺔ اﻟﻔﺮﺳﺎن واﻟﻌﺮﺑﺔ املﻘﺎﺗﻠﺔ — وﻫﻮ ﺳﻼح وﺗﻜﺘﻴﻚ ﺣﺮﺑﻲ ﻻ ﺗﻌﺮﻓﻪ
ﺟﻴﻮش دول اﻟﺤﻀﺎرة ﰲ اﻟﻌﺮاق وﻣﴫ — ﻓﺎﺟﺘﺎﺣﻮا ﻣﴫ ﻓﻴﻤﺎ ﻋُ ِﺮف ﺑﺎﺳﻢ اﻟﻬﻜﺴﻮس
ﺑﻤﻌﻨﻰ ﻣﻠﻮك اﻟﺮﻋﺎة .وﺣني ﻛﻮﱠن ﻫﻨﺪو أوروﺑﻴﻮن ﻣﻤﻠﻜﺔ املﻴﺘﺎﻧﻲ ﰲ ﺷﻤﺎل اﻟﺸﺎم واﻟﻌﺮاق،
أو ﻣﻤﻠﻜﺔ اﻟﺤﻴﺜﻴني ﰲ اﻷﻧﺎﺿﻮل؛ اﺷﺘﺒﻜﺖ ﻣﻌﻬﻢ ﻣﴫ — ﺗﺤﺘﻤﺲ ورﻣﺴﻴﺲ — ﰲ ﺣﺮوب
أﻳﻀﺎ ﻋﲆ أوروﺑﺎ ﻣﻦ اﻟﺒﻠﻘﺎن وﺳﻬﻮل ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻋﲆ اﻣﺘﻼك ﺑﻼد اﻟﺸﺎم .أﻏﺎر اﻟﻬﻨﺪو أوروﺑﻴني ً
روﺳﻴﺎ ،واﻧﺘﴩوا ﻣﻜﻮﻧني ﺟﻤﺎﻋﺎت إﺛﻨﻴﺔ ﻛﺒرية ،ﻛﺎﻟﺠﺮﻣﺎن واﻟﻜﻠﺖ واﻟﺴﻼف … إﻟﺦ .إﺣﺪى
أﻫﻢ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ أن ﺗﻀﺎﻏﻂ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﻬﺠﺮات اﻟﻜﺒرية ﻟﻠﺸﻌﻮب ﺗُﺤﺪث ﻗﻠﻘﻠﺔ ﰲ اﻟﱰاﻛﻴﺐ
اﻟﺴﻜﺎﻧﻴﺔ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺰﺣﺰح ﻫﻲ اﻷﺧﺮى ﰲ ﻣﺠﺎﻻت ﺑﻌﻴﺪة ،ﻓﺘﻀﻐﻂ ﻋﲆ ﺟﻤﺎﻋﺎت
أﺧﺮى ،ﻓﺘﺘﻐري اﻟﺼﻮر اﻟﺴﻜﺎﻧﻴﺔ ﰲ أﻣﺎﻛﻦ ﻛﺜرية ﻣﺒﺎﴍة وﻏري ﻣﺒﺎﴍة.
55
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﺴﻼﻻت
اﻟﺒﻴﻀﺎء اﻟﺼﻔﺮاء ﺛﻼﺟﺎت آﺧﺮ
اﻟﺴﻮداء اﻟﻘﺰﻣﻴﺔ ﻋﴫ ﺟﻠﻴﺪي
آﺳﻴﻮﻳﻮن ﻗﺪﻣﺎء ﺑﺸﻤﻦ ﻫﻮﺗﻔﻮت اﻧﺘﺸﺎر اﻟﺴﻼﻟﺔ
وﻫﻨﻮد ﺣﻤﺮ أﺳﱰاﻟﻴﻮن ﺣﺘﻰ ق١٠م
ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ املﻴﻼدي ﺣﺪﺛﺖ أزﻣﺔ أﺧﺮى ﺑﺎﻧﻄﻼق ﺟﻤﺎﻋﺎت ﺗﺮﻛﻴﺔ اﻟﻠﻐﺔ ﺑﺎﺳﻢ
اﻟﻬﻮن واﻵﻓﺎر؛ ﻣﻦ ﻣﻨﻐﻮﻟﻴﺎ ﰲ اﺗﺠﺎه اﻟﺼني ووﺳﻂ آﺳﻴﺎ إﱃ اﻟﻬﻨﺪ وإﻳﺮان ،وﻋﱪ روﺳﻴﺎ
إﱃ ﻓﺮﻧﺴﺎ .وﻟﻮﻻ ﻣﻮت أﺗﻴﻼ زﻋﻴﻢ اﻟﻬﻮن؛ ﻟﻜﺎﻧﺖ ﺻﻮرة ﺳﻜﺎن أوروﺑﺎ ﻗﺪ ﺗﻐريت ﻛﺜريًا.
ﺿﻐﻄﺖ اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻋﲆ اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ اﻟﺴﻼﻓﻴﺔ واﻟﺠﺮﻣﺎﻧﻴﺔ ﰲ وﺳﻂ أوروﺑﺎ؛ ﻣﻤﺎ أدى ﺑﺎﻟﻘﻮط إﱃ
اﻟﺘﺤﺮك ﺿﺪ روﻣﺎ وﺗﺪﻣريﻫﺎ ﻋﺎم ٤١٠م.
وﻣﺎ ﺑني اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ واﻟﺜﺎﻣﻦ ﺗﺤﺮك اﻟﺠﺮﻣﺎن ﻣﻦ إﺳﻜﻨﺪﻧﺎﻓﻴﺎ واﻟﺒﻠﻄﻴﻖ إﱃ أملﺎﻧﻴﺎ
وﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ وﻓﺮﻧﺴﺎ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﺤﺮك اﻟﺴﻼف إﱃ اﻟﺒﻠﻄﻴﻖ وﺑﻮﻟﻨﺪا واﻟﺒﻠﻘﺎن ،ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻬﻢ اﻟﺒﻠﻐﺎر
واﻟﴫب واﻟﻜﺮوات .وﰲ اﻟﻘﺮﻧني اﻟﺘﺎﺳﻊ واﻟﻌﺎﴍ اﻣﺘﺪت ﻏﺰوات ﻣﺘﻘﻄﻌﺔ ﻟﻠﻤﺴﻠﻤني ﺑ ٍّﺮا
56
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
وﺑﺤ ًﺮا ،ﻣﻦ ﺻﻘﻠﻴﺔ إﱃ ﺟﻨﻮب إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ وﺣﻮض اﻟﺮون ﰲ ﺟﻨﻮب ﻓﺮﻧﺴﺎ .وﻏﺰا اﻟﻔﺎﻳﻜﻨﺞ
اﻹﺳﻜﻨﺪﻧﺎﻓﻴﻮن ﺑﺤ ًﺮا ﻛﺎﻓﺔ ﺳﻮاﺣﻞ أوروﺑﺎ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ واﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ اﻟﻐﺮﺑﻲ .ﻛﻤﺎ وﻓﺪت
ﻫﺠﺮة آﺳﻴﻮﻳﺔ إﱃ وﺳﻂ أوروﺑﺎ ﻣﻦ املﺠﻴﺎر واﻟﻔﻦ ،اﺳﺘﻘﺮوا ﰲ ﺳﻬﻮل املﺠﺮ اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ وﰲ
ﻓﻨﻠﻨﺪا.
وﻛﺎن اﻟﻘﺮﻧﺎن ١٢٠٠إﱃ ١٤٠٠ﻫﻤﺎ ﺑﺤﻖ اﻟﻔﱰة املﻐﻮﻟﻴﺔ ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ آﺳﻴﺎ وأوروﺑﺎ
واﻟﴩق اﻷوﺳﻂ ،ﺑﺪأ ﻣﻦ ﺟﻨﻜﻴﺰ ﺧﺎن إﱃ أﺣﻔﺎده ﺑﺎﺣﺘﻼل اﻟﺼني ووﺳﻂ آﺳﻴﺎ وإﺳﻘﺎط
ﺧﻼﻓﺔ ﺑﻐﺪاد واﺣﺘﻼل روﺳﻴﺎ وأﻛﺮاﻧﻴﺎ .وﻟﻮﻻ ﺗﺼﺪي املﻤﺎﻟﻴﻚ ﰲ ﻣﻌﺮﻛﺔ ﻋني ﺟﺎﻟﻮت ،ﻟﻜﺎن
املﺪ املﻐﻮﱄ دﺧﻞ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وﺳﻴﻄﺮ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﲆ دول اﻹﺳﻼم ﺑﺎﺗﺨﺎذه ﻣﴫ ﻗﺎﻋﺪة ﻗﻮﻳﺔ ﻟﻼﻣﺘﺪاد
إﱃ ﺷﻤﺎل أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ.
ﻋني ﺟﺎﻟﻮت ﻟﻢ ﺗﻜﻦ إﺣﺪى ﻛﱪﻳﺎت املﻌﺎرك ،ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺣﺎﺳﻤﺔ ﰲ ﻇﻞ ﻇﺮوﻓﻬﺎ؛
ﻓﻘﺪ أﻏﴣ املﻐﻮل اﻟﻄﺮف ﻋﻦ ﻣﴫ ﻻﻧﺸﻐﺎﻟﻬﻢ ﺑﺘﺜﺒﻴﺖ أﻧﻔﺴﻬﻢ ﰲ إﻳﺮان ووﺳﻂ وﻏﺮب
آﺳﻴﺎ ،وﻫﻲ ﺗﺸﺎﺑﻪ ﻣﻌﺮﻛﺔ ﺗﻮر-ﺑﻮاﺗﻴﻪ ﰲ ٧٣٢م .ﺑني املﺴﻠﻤني اﻟﻘﺎدﻣني ﻟﺘﻮﱢﻫﻢ ﻣﻦ ﻓﺘﺢ
إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ ) (٧١١ﺑﻘﻴﺎدة ﻋﺒﺪ اﻟﺮﺣﻤﻦ اﻟﻐﺎﻓﻘﻲ ،وﺑني دوﻟﺔ اﻟﻔﺮاﻧﻚ )اﻟﻔﺮﻧﺠﺔ( ﺑﻘﻴﺎدة ﺷﺎرل
ﻣﺎرﺗﻞ .ﻫﻲ اﻷﺧﺮى ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻣﻦ ﻛﱪﻳﺎت املﻌﺎرك ،ﻟﻜﻦ املﺴﻠﻤني ﻟﻢ ﻳﻌﺎودوا اﻟﺰﺣﻒ ﻋﲆ
ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻻﻧﺸﻐﺎﻟﻬﻢ ﺑﺘﺜﺒﻴﺖ ﻣﻠﻜﻬﻢ ﰲ إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ واﻟﱪﺗﻐﺎل ،وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﺗﻐري اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﰲ ﻛﻠﺘﺎ
57
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﺤﺎﻟﺘني :ﻧﺠﺖ أوروﺑﺎ وﺑﻘﻴﺖ ﻣﺴﻴﺤﻴﺔ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻧﺠﺖ دوﻟﺔ املﻤﺎﻟﻴﻚ ﰲ ﻣﴫ واﻟﺸﺎم وﺑﻘﻲ
اﻹﺳﻼم ،ﺑﻞ أﺳﻠﻢ ﻣﻐﻮل وﺳﻂ وﻏﺮب آﺳﻴﺎ.
ﻫﺬه ﺑﻌﺾ ﻧﻤﺎذج ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﺘﻌﻤري ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﺑﻌﻀﻪ ﻫﺠﺮات ﺷﻌﻮب ،واﻵﺧﺮ
ﺑﻨﺎء ﺗﺮﻛﻴﺒﺔ ﺳﻜﺎﻧﻴﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﻧﺘﻴﺠﺔ اﺟﺘﻴﺎح ﻋﺴﻜﺮي .ﻟﻜﻦ أﻛﱪ ﻫﺠﺮة ﺣﺪﺛﺖ ﺑﻌﺪ اﻟﻜﺸﻮف
اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ اﻟﻜﱪى إﱃ اﻟﻌﻮاﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﰲ اﻷﻣﺮﻳﻜﺘني وأﺳﱰاﻟﻴﺎ وﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ .وإذا ﻛﺎﻧﺖ
ﺟﺤﺎﻓﻞ املﻐﻮل واﻟﱰك ﺗُﻌَ ﱡﺪ ﺑﻌﴩات اﻵﻻف؛ ﻓﺈن اﻟﻬﺠﺮة إﱃ اﻷﻣﺮﻳﻜﺘني ُﻗ ﱢﺪ َر ْت ﰲ ﺧﻤﺴﺔ
ﻗﺮون ﺑﻨﺤﻮ ﻣﺎﺋﺔ ﻣﻠﻴﻮن ﻣﻦ أوروﺑﺎ ،إﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﻧﺤﻮ ﻋﴩﻳﻦ ﻣﻠﻴﻮﻧًﺎ ِﺳ ُ
ﻴﻘﻮا ﻋﺒﻴﺪًا ﻣﻦ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ
رﻏﻢ أﻧﻔﻬﻢ.
58
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
أﻟﺴﻜﺎ
ﺟﺮﻳﻨﻼﻧﺪ
١٤ آﺳﻴﺎ
أورﺑــﺎ ١٦ ١٥ ٢٩
٣٠
١٨ ١٧ ٢٠ ١٣ ٣١
١٩ ٢٨
٩ ١٢ ٢٧ ٣٢
١٠ ٢٣ ٢٦ ٣٣
١١ ٢٥
٢٢ ٢٤
٢١
٨
أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ
٦ ٧٥
٤
٣
٢
اﻟﱪازﻳﻞ ١ ٣٤ ٣٧
٣٥ ٣٦ ٣٨
٣٩
٠١ أﺳﱰاﻟﻴﺎ
ﺷﻜﻞ 15
اﻧﺘﴩت ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﻣﻨﺬ ﻗﺮاﺑﺔ ﺧﻤﺴﺔ آﻻف ﺳﻨﺔ ﻓﻘﻂ — ﺑﻤﻌﻨﻰ أﻧﻬﺎ ﺣﺪﻳﺜﺔ ﰲ ﺗﻌﻤري
ﻫﻮاﻣﺶ اﻟﺼﺤﺮاء اﻟﻜﱪى اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ واﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ ﺑﻘﺒﺎﺋﻞ رﻋﻮﻳﺔ ﻋﺮﺑﻴﺔ أو ﺧﻠﻴﻄﺔ ﻣﻦ اﻟﱪﺑﺮ
واﻟﻄﻮارق ،وﺑﻌﻀﻬﻢ اﺳﺘﻘﺮ ﰲ اﻟﻮاﺣﺎت أو ﺣﻴﺚ ﺗﺘﻮﻓﺮ املﻴﺎه ﰲ ﺟﺒﺎل ﺗﺒﺴﺘﻲ وﻫﻀﺎب
اﻟﺤﺠﺎر وآﻳﺮ.
إذن؛ ﻓﻔﻲ ﺧﻼل املﻠﻴﻮن ﺳﻨﺔ اﻷﺧرية ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺼﺤﺮاء اﻟﻜﱪى ﺗﺘﺄرﺟﺢ ﺑني ﺑﻴﺌﺔ ﺟﺎﻓﺔ
ﺻﺤﺮاوﻳﺔ ،وﺑني ﺑﻴﺌﺔ ﻣﻌﺘﺪﻟﺔ ﻛﺜرية اﻷﻧﻬﺎر اﻟﺼﻐرية ﻛﺜرية اﻟﻌﺸﺐ ،واﻟﺴﻔﺎﻧﺎ اﻟﺸﺠﺮﻳﺔ
59
اﻹﻧﺴﺎن
Fundstellen früher
Hominiden in Afrika 2
1
ﺗﺼﻨﻴﻒ اﻷﻧﻮاع 2 Name der Fundstätte
إﻧﺴﺎن Homo
ﻗﺮد ﺟﻨﻮﺑﻲ ﻗﻮي Robuste Australopithecinen
اﻟﻘﺮد اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ Australopithecinen
ﻗﺮد أرﴈ Ardipithecus
3
16 ﺷﻜﻞ
رﺑﻤﺎ ﻛﺎن أﻛﱪﻫﺎ ﺑﺤرية ﺗﺸﺎد اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻤﺘﺪ،ﻣﻠﻴﺌﺔ ﺑﺒﺤريات ﺻﻐرية أو ﻛﺒرية
أﻧﻮاع اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺬي ﻳﺴﻜﻨﻬﺎ ﰲ ﻇﻞ آﻻف اﻟﺴﻨني.ﰲ ﻣﺴﺎﺣﺔ أﺿﻌﺎف أﺿﻌﺎﻓﻬﺎ اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ
ً وﻫﻢ، ﻫﻢ ﺻﻴﺎدو أﻧﻮاع ﻣﻦ اﻷﻳﺎﺋﻞ واﻟﺰراف وﻛﺒﺎش اﻟﺠﺒﻞ … إﻟﺦ،اﻟﺠﻴﺪة
أﻳﻀﺎ ﺟﺎﻣﻌﻮ
ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺴﻜﻨﻮن ﻗﺮﻳﺒًﺎ ﻣﻦ ﻣﺠﺮى ﻣﺎﺋﻲ.اﻟﺜﻤﺎر واﻟﻨﺒﺎﺗﺎت واﻟﺒﺬور اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻤﻮ ﻃﺒﻴﻌﻴٍّﺎ
.أو ﺑﺤرية ﺣﻴﺚ ﺗﺄﺗﻲ اﻟﻄﺮاﺋﺪ
ﻫﺬه املﻌﻠﻮﻣﺎت ﺳﺠﻠﻬﺎ أوﻟﺌﻚ اﻟﺴﻜﺎن اﻟﻘﺪﻣﺎء ﰲ ﺳﺠﻼت ﺗﺼﻮﻳﺮﻳﺔ ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ ﰲ
وﻣﺜﻠﻪ، ﻛﻤﺎ ﻫﻮ وارد ﰲ أودﻳﺔ اﻟﺠﻠﻒ اﻟﻜﺒري ﰲ أﻗﴡ ﺟﻨﻮب ﻏﺮب ﻣﴫ،اﻟﻜﻬﻮف واملﻐﺎرات
ﻛﻤﺎ.ﻣﺴﺠﻞ ﰲ ﻛﻬﻮف أﺧﺮى ﻣﺜﻞ ﻛﻬﻒ اﻟﺠﺎرة إﱃ اﻟﺠﻨﻮب اﻟﴩﻗﻲ ﻣﻦ اﻟﻮاﺣﺔ اﻟﺒﺤﺮﻳﺔ
ﺻﻮرت رﺳﻮﻣً ﺎ ﰲ ﻛﻬﻒ ﺻﺨﺮي أﺳﻔﻞ ﺟﺒﻞ ﻛﺮوﺳﻜﻮ أﺛﻨﺎء دراﺳﺘﻲ ﻟﻠﻨﻮﺑﺔ ﻗﺒﻞ اﻟﺘﻬﺠري
. وإردي … إﻟﺦ، وإﻧﺪي، ﻣﺜﻞ ذﻟﻚ ﰲ ﺟﺒﺎل ﺗﺒﺴﺘﻲ١٩٦٣-١٩٦٢ ﰲ
60
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
وﺑﻤﺎ أن اﻟﺘﻐري املﻨﺎﺧﻲ ﻟﻠﺼﺤﺮاء اﻟﻜﱪى ﻗﺪ ﺣﺪث ﺗﻜﺮا ًرا ﻣﻊ ﺗﻐريات ﻣﻤﺎﺛﻠﺔ ﰲ
أوروﺑﺎ ،ﻓﺈن ﺻﻴﱠﺎدِي اﻟﺼﺤﺮاء اﻟﻜﱪى ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻬﺎﺟﺮون إﱃ ﻣﻨﺎﻃﻖ أﻛﺜﺮ ﻗﺎﺑﻠﻴﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎة؛ ً
ﻣﺜﻼ
ﺿﻔﺎف ﻧﻬﺮ داﺋﻢ ﻛﺎﻟﻨﻴﻞ أو ﻳﻌﱪون إﱃ أوروﺑﺎ ،وﻫﻨﺎك ﻳﻤﺎرﺳﻮن ﻣﺎ درﺟﻮا ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﺻﻴﺪ
وﺗﺴﺠﻴﻞ ﺗﺼﻮﻳﺮي ﻟﺤﻴﺎﺗﻬﻢ وﺣﻴﻮاﻧﺎت اﻟﺒﻴﺌﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﰲ ﻛﻬﻮف أوروﺑﺎ.
ﻟﻬﺬا ﻳﺆﻛﺪ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء أن ﺗﻌﻤري أوروﺑﺎ ﰲ اﻷﻏﻠﺐ ﻛﺎن ﻳﺄﺗﻲ ﻣﻦ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﰲ ﻇﻞ
أﻳﻀﺎ ﻫﺠﺮة ﻣﻌﺎﻛﺴﺔ ﻇﺮوف ﻣﻨﺎﺧﻴﺔ ﻗﺎﺳﻴﺔ ﰲ اﻟﺼﺤﺮاء اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ ،ورﺑﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ً
ﻣﻦ أوروﺑﺎ إﱃ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ إذا ﺳﺎءت أﺣﻮال أوروﺑﺎ ﰲ ﻓﱰة أو ﻋﴫ ﺟﻠﻴﺪي .ﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى
إن اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وأوروﺑﺎ ﻛﺎﻧﺖ داﺋﻤﺔ ،ﺳﻮاء ﻛﺎن اﻹﻧﺴﺎن ﻫﻮﻣﻮ إﻳﺮﻛﺘﻮس وﻋﴫ
اﻟﺤﻀﺎرة اﻷﺷﻮﻟﻴﺔ ،أو إﻧﺴﺎن ﻧﻴﺎﻧﺪرﺗﺎل واﻟﺤﻀﺎرة املﻮﺳﺘريﻳﺔ ،أو اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ اﻟﺒﺎﺋﺪ
واﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﺪﻳﺚ ﰲ ﻋﴫ ﺣﻀﺎرة اﻟﺤﺠﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ.
وﻻ ﺷﻚ ﰲ أن وﺟﻬﺔ اﻟﻨﻈﺮ ﻫﺬه ﺳﻮف ﺗﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ ﻣﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺪراﺳﺎت أو إﻋﺎدة اﻟﻨﻈﺮ
ﰲ ﻣﺪى اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني ﺿﺦ اﻟﺼﺤﺮاء اﻟﻜﱪى ﻟﻠﺒﴩ إﱃ أوروﺑﺎ ﰲ ﻓﱰات ﻣﺘﻌﺪدة.
61
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﺴﻮدان إﱃ ﻗﺮب إدﻓﻮ؛ ﻓﺄﻋﻄﺎﻫﻢ ﺳﻤﺮة اﻟﺒﴩة دون أن ﻳﺆﺛﺮ ﻛﺜري ﻋﲆ اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻟﺴﻼﱄ
أﻳﻀﺎ ﺑﺬات اﻟﻬﺠﺮات اﻟﺘﻲ اﻟﺠﺴﻤﻲ .وﻫﺆﻻء ﻫﻢ أﺟﺪاد املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻨﻮﺑﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺄﺛﺮت ً
دﺧﻠﺖ ﻣﴫ ﻣﻦ اﻟﺸﻤﺎل واﻟﴩق واﻟﻐﺮب.
ﻫﺬا املﺰﻳﺞ اﻟﺜﻼﺛﻲ أﺻﺒﺢ اﻷﺳﺎس اﻟﺴﻼﱄ ﻟﻠﻤﴫﻳني ،ﻟﻜﻦ ﻃﻮال اﻟﻌﺼﻮر اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ
ﻣﺜﻼ ﻣﻦ ﻋﺮاض اﻟﺮءوس اﻟﻘﺎدﻣني ﻣﻦ ﻫﻀﺎب اﻟﺸﺎم وﻣﺎ ﺑﻌﺪﻫﺎ؛ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﺿﻐﻮط ً
أوﻻ ﻋﲆ ﺳﻜﺎن اﻟﺪﻟﺘﺎ وﺗﺪرﻳﺠﻴٍّﺎ ﻋﲆ ﺳﻜﺎن اﻟﻮادي ،ﺛﻢ ﻋﺎدت اﻟﻨﺴﺒﺔ اﻟﺮأﺳﻴﺔ ﻓﺄﺛﺮوا ً
اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ ﺗﻤﻴﺰ ﻛﻞ اﻟﺴﻜﺎن ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ .دﺧﻠﺖ ﻣﴫ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻣﻌﻈﻤﻬﺎ ﻣﻦ ﺳﻼﻟﺔ اﻟﺒﺤﺮ
املﺘﻮﺳﻂ ﺳﻮاء إﻏﺮﻳﻖ وروﻣﺎن وﻋﺮب وﺑﺮﺑﺮ ﻓﻠﻢ ﻳﺆﺛﺮوا ﻛﺜريًا؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻣﻤﺎﺛﻠﻮن ﺳﻼﻟﺔ وإن
اﺧﺘﻠﻔﻮا ﺣﻀﺎر ًة وﻣﺠﺘﻤﻌً ﺎ .وإﱃ ﺟﺎﻧﺐ ذﻟﻚ دﺧﻠﺖ ﻣﴫ ﺳﻼﻻت أﺧﺮى أﻫﻤﻬﺎ اﻟﱰك
ﺼﻮا ﺗﻤﺎﻣً ﺎ؛واﻟﴩﻛﺲ واﻷرﻣﻦ ،وﻫﺆﻻء ﻛﺎن ﻟﻬﻢ ﺗﺄﺛري ﻣﺤﺪود ﰲ ﻃﺒﻘﺎت املﺠﺘﻤﻊ إﱃ أن اﻣﺘُ ﱡ
ﻓﺄﺻﺒﺢ ﻟﺪﻳﻨﺎ ﺷﻌﺐ ﺧﻠﻴﻂ ﻟﻜﻨﻪ ﻣﺘﺤﺪ .ملﺎذا؟
إذا ﻋﺪﻧﺎ ﻣﺮة أﺧﺮى إﱃ اﻟﻈﺮوف اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،ﻓﺴﻮف ﻧﺠﺪ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﲆ اﻟﻮﺣﺪة اﻟﻜﺎﻣﻨﺔ
ﺑني املﴫﻳني ،ﺑﻐﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ اﻟﻠﻮن واﻟﺪﻳﻦ واﻟﻔﻘﺮ واﻟﻐﻨﻰ .ﻓﺎﻟﻨﻴﻞ ﰲ ﻣﴫ ﻧﻬﺮ واﺣﺪ
ﻓﻴﺎف ﻗﻔﺎر ملﺪى ٍ ﻳﺠﻤﻊ اﻟﻜﻞ وﻳﺆﻣﻦ اﺣﺘﻴﺎﺟﺎﺗﻬﻢ اﻟﺤﻴﺎﺗﻴﺔ ﺑﺼﻮرة أو أﺧﺮى ،وﺣﻮل اﻟﻨﻴﻞ
ﺑﻌﻴﺪ .ﻗﺪ ﻳﻤﺎﺛﻠﻨﺎ اﻟﻌﺮاق ﰲ أﻧﻪ ﻳﻘﻊ ﰲ وادي اﻟﻔﺮات واﻟﺪﺟﻠﺔ ﺑني اﻟﺼﺤﺮاء واﻟﺠﺒﺎل ،ﻟﻜﻨﻬﻤﺎ
ﻗﺮﻳﺒﻮ اﻟﺘﺄﺛري ﻋﲆ اﻟﻌﺮاق؛ ﻓﺎﻟﺒﺪاوة ﻗﻮﻳﺔ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻫﻲ ﰲ ﻣﴫ ﻣﺤﺪودة ،وﺳﻜﺎن اﻟﺠﺒﺎل ﻣﻦ
اﻷﻛﺮاد واﻹﻳﺮاﻧﻴني ﺟﺰءٌ ﻣﺘﻤﻢ وﻣﺨﺘﻠﻒ اﻟﺘﺄﺛري واﻟﺘﺄﺛﺮ ،وﻟﻴﺲ ﻟﺪﻳﻨﺎ ﰲ ﻣﴫ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه
املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ اﻟﻠﻐﺔ ،اﻟﻠﻬﻢ إﻻ ﰲ ﺣﺪود ﻣﺤﺪودة .وأﺧريًا ﻳﻨﻘﺴﻢ اﻟﻌﺮاق ﻣﺬﻫﺒﻴٍّﺎ ً
ﺳﻨﺔ
أﻳﻀﺎ ﻏري ﻣﻮﺟﻮد إﻻ ﰲ اﻻﺧﺘﻼف اﻹﺳﻼﻣﻲ اﻟﻘﺒﻄﻲ اﻟﺬي اﺳﺘﻤﺮ ﻣﺌﺎت اﻟﺴﻨني ً
وﺷﻴﻌﺔ ،وﻫﻮ ً
ﻻ ﻳﻮﻗﻈﻪ ﺳﻮى ﻣﻦ ﻳﺘﻤﻨﻰ اﻟﻔﺮﻗﺔ ﻟﻠﺸﻌﺐ.
اﻟﺨﻼﺻﺔ أن اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻟﺤﺎﱄ ﻫﻮ ﻗﺪﻳﻢ ﻣﻊ ﺑﻌﺾ اﻹﺿﺎﻓﺎت ،ﺑﺤﻜﻢ ﻣﻮﻗﻊ ﻣﴫ ﺑني
ﴍق وﻏﺮب اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻌﺮﺑﻲ ،وأن ﻟﻠﻨﻴﻞ دو ًرا ﺣﻴﻮﻳٍّﺎ ﰲ اﻟﺘﻮﺟﻪ اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ إﱃ اﻟﺴﻮدان ودول
ﺣﻮض اﻟﻨﻴﻞ ،وأن اﻟﺴﺎﺣﻞ اﻟﺸﻤﺎﱄ ﻛﺎن ﻟﻪ ﻣﻦ اﻟﻘﺪم دور آﺧﺮ ﰲ ﻋﻼﻗﺔ ﻣﴫ ﺑﺪول اﻟﺒﺤﺮ
املﺘﻮﺳﻂ اﻟﴩﻗﻲ .ﻛﻞ ﻫﺬه اﻟﻌﻼﻗﺎت ﻛﺎن ﻟﻬﺎ ﻣﺮدود ﰲ اﻟﺨﻠﻄﺔ اﻟﺴﻼﻟﻴﺔ املﴫﻳﺔ.
62
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
63
اﻹﻧﺴﺎن
) (1-6ﻣﻼﺣﻈﺎت
املﻴﻮﺳني واﻟﺒﻠﻴﻮﺳني :ﻫﻤﺎ آﺧﺮ ﻋﺼﻮر اﻟﺰﻣﻦ اﻟﺠﻴﻮﻟﻮﺟﻲ اﻟﺜﺎﻟﺚ اﻟﺬي اﻣﺘﺪ ﻟﻨﺤﻮ ٦٠
ﻣﻠﻴﻮن ﺳﻨﺔ.
اﻟﺰﻣﻦ اﻟﺠﻴﻮﻟﻮﺟﻲ اﻟﺮاﺑﻊ ﻳﺸﻤﻞ اﻟﺒﻼﻳﻮﺳﺘﻮﺳني واﻟﻬﻮﻟﻮﺳني اﻟﺬي ﻧﺤﻦ ﻓﻴﻪ اﻵن،
وﻋﻤﺮﻫﻤﺎ ﻣﻌً ﺎ ﻧﺤﻮ ٢٫٥ﻣﻠﻴﻮن ﺳﻨﺔ.
اﻟﺒﺎﻟﻴﻮﻟﻴﺘﻲ :اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي ﺑﺄﻗﺴﺎﻣﻪ اﻷﺳﻔﻞ واﻷوﺳﻂ واﻷﻋﲆ ،وﻫﻮ ﺗﻘﺴﻴﻢ ﻳﻌﺘﻤﺪ
أﺳﺎﺳﺎ ﻋﲆ اﻟﺤﺠﺮ ﻛﺨﺎﻣﺔ أﺳﺎﺳﻴﺔ اﺳﺘﺨﺪﻣﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن ﰲ ﺻﻨﺎﻋﺔ أدواﺗﻪ املﺴﺎﻋﺪة ﻋﲆ ً
ﺣﻴﺎﺗﻪ ،وﺑﺨﺎﺻﺔ ﰲ اﻟﺼﻴﺪ واﻟﻄﺮق وﻋﻤﻞ املﻜﺎﺷﻂ واﻟﺤﻮاف املﺴﻨﻨﺔ … إﻟﺦ.
وﻣﻌﻈﻤﻬﺎ ﻧﺴﻤﻴﻬﺎ ﻓﺌﻮس ﻳﺪوﻳﺔ ﺗﻄﻮرت إﱃ أﺷﻜﺎل دﻗﻴﻘﺔ ﻣﻦ اﻷﺷﻜﺎل اﻷوﱃ
ﻛﺒرية اﻟﺤﺠﻢ .وﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل رﺑﻤﺎ اﺳﺘﺨﺪم ﻗﺒﻞ أو أﺛﻨﺎء ذﻟﻚ أدوات ﺧﺸﺒﻴﺔ ﻣﻦ
أﻓﺮع اﻷﺷﺠﺎر أو ﻋﻈﻤﻴﺔ ﻣﻦ ﻗﺮون ﺣﻴﻮاﻧﺎت اﻟﺼﻴﺪ وﻋﻈﺎﻣﻬﺎ اﻟﻜﺒرية ،وﻋﻤﻞ املﺨﺎرز
أﻳﻀﺎ اﻟﺤﴡ ﻣﻦ ﻋﻈﺎﻣﻬﺎ اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ ﻟﺘﺸﻐﻴﻞ اﻟﺠﻠﻮد … إﻟﺦ .ﻛﻤﺎ اﺳﺘﺨﺪم ﰲ أواﺋﻠﻪ ً
ﺑﺄﺷﻜﺎﻟﻬﺎ وأﺣﺠﺎﻣﻬﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ .ﻟﻜﻦ اﻷدوات اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺑﻘﻴﺖ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻫﻠﻜﺖ
ﻣﻌﻈﻢ اﻟﺨﺎﻣﺎت اﻷﺧﺮى ،وﻣﻦ ﺛﻢ أﺻﺒﺢ اﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﺑﺄﻧﻮاع ﺻﻘﻠﻪ ﻟﻠﺤﺠﺎرة رﻣ ًﺰا ﻟﺘﻐري
اﻹﻧﺴﺎن وأﺷﺒﺎﻫﻪ إﱃ أول ﻣﺮاﺣﻠﻪ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،ﻛﺼﺎﻧﻊ أدوات ﺗﻮﻓﺮ اﺣﺘﻴﺎﺟﺎﺗﻪ وﺗﺰﻳﺪ
ﻗﺪراﺗﻪ اﻟﻔﺴﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ واﻟﻐﺬاﺋﻴﺔ.
املﻴﺰوﻟﻴﺘﻲ :ﻣﺮﺣﻠﺔ ﺣﺠﺮﻳﺔ ﻣﺘﻮﺳﻄﺔ ﺑني اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ واﻟﺤﺪﻳﺚ ،ورﺑﻤﺎ ﻣﺮت ﺑﻬﺎ
ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت أو ﺗﻌﺪﺗﻬﺎ إﱃ اﻟﻨﻴﻮﻟﻴﺘﻲ؛ أي اﻟﺤﺠﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ اﻟﺬي ﺑﺪأ ﺑﺘﺤﻮل
64
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
اﻟﻨﺎس ﻣﻦ ﻣﺴﺘﻬﻠﻚ ﻟﻠﻐﺬاء اﻟﺬي ﺗﻘﺪﻣﻪ اﻟﺒﻴﺌﺔ ،إﱃ ﻣﻨﺘﺞ ﻟﻠﻐﺬاء ﰲ ﺻﻮرﺗني :اﻟﺰراﻋﺔ،
ﻣﺸﻜﻼ ﺑﺬﻟﻚ أول ﺛﻮرة اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﺳﺘﻤﺮت ﻣﻊ اﺳﺘﺨﺪامً واﺳﺘﺌﻨﺎس ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت.
املﻌﺎدن ﻣﻦ اﻟﻨﺤﺎس إﱃ اﻟﱪوﻧﺰ واﻟﺤﺪﻳﺪ ،إﱃ ﺗﻜﺎﻣﻞ اﻟﺜﻮرة اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ »ﻋﴫ اﻟﺼﻨﺎﻋﺔ«
ﻣﻨﺬ ﻧﺤﻮ ٣٠٠ﺳﻨﺔ ﻓﻘﻂ.
ﻣﺎري ﻟﻴﻜﻲ ﻻﻳﺘﻮﱄ – ﺗﺎﻧﺰاﻧﻴﺎ ١٩٧٦ ٣٫٧ﻣﻼﻳني ﻻﻳﺘﻮﱄ )أﺛﺮ ﻗﺪم ﻋﲆ ﺻﺨﺮ
ﺑﺮﻛﺎﻧﻲ(
Laetoli footprints,
Bipedal hominid
65
اﻹﻧﺴﺎن
روﺑﺮت ﺑﺮوم ﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ١٩٤٧ ٢٫٠٤–٠٫٥٨ STS 14, 71 & 52
) ٣ﺣﻔﺮﻳﺎت(
Australopithecus
africanus
66
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
67
اﻹﻧﺴﺎن
68
ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض
69
اﻹﻧﺴﺎن
70
ﺷﻜﻞ 18
ﺷﻜﻞ :19ﻣﻠﺨﺺ ) (١ﻟﺤﻔﺮﻳﺎت ﺗﻄﻮر ﻋﺎﺋﻠﺔ اﻟﻬﻮﻣﻮﻧﻴﺪﻳﺎ ً
ﻧﻘﻼ ﻋﻦ ﻣﺠﻠﺔ »ﺗﺎﻳﻢ« ﻋﺪد
أﻏﺴﻄﺲ .١٩٩٩
ﺷﻜﻞ 20
ﻣﺪﺧﻞ إﱃ دراﺳﺔ اﻹﻧﺴﺎن
ﻗﺎل أوﺟﺴﺘني » :Augustineإن اﻹﻧﺴﺎن ﻳﺘﻌﺠﺐ ﻣﻦ اﻟﺒﺤﺮ املﺎﺋﺞ واملﺎء املﻨﺪﻓﻊ وﻣﻨﻈﺮ
اﻟﺴﺤﺐ وأﺷﻜﺎﻟﻬﺎ ،وﻧﴘ أن أﻛﺜﺮ اﻟﻌﺠﺎﺋﺐ دﻋﻮة ﻟﻠﻌﺠﺐ ﻫﻮ اﻹﻧﺴﺎن ﻧﻔﺴﻪ1 «.
واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﻠﻤﺴﻬﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺘﻌﺒري ﺗﱪر دراﺳﺔ اﻹﻧﺴﺎن .ﻓﻜﻠﻤﺔ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
ﻛﺒﺔ ﻣﺴﺘﻤﺪة ﻣﻦ اﻟﻠﻐﺔ اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ،اﻟﻘﺴﻢ اﻷول ﻣﻨﻬﺎ أﻧﱰوﺑﻮس Anthropos ﻛﻠﻤﺔ ﻣُﺮ ﱠ
ﺑﻤﻌﻨﻰ إﻧﺴﺎن ،وﻟﻮﺟﻴﺎ Logiaﺑﻤﻌﻨﻰ دراﺳﺔ .ﻓﺎﻹﻧﺴﺎن أﻋﻈﻢ ﻋﺠﺎﺋﺐ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻳﺴﺘﺤﻖ
دراﺳﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﺑﻪ ،ﺣﺘﻰ وﻟﻮ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺔ ﺳﻮى ﻣﺠﺮد إﺷﺒﺎع اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ
اﻟﻐﻮص ﰲ أﻋﻤﺎق اﻟﻌﻘﻞ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ .وﻟﻜﻦ دراﺳﺔ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻫﺬا ،ﻓﻬﻲ ﰲ
اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺗﺆدي إﱃ زﻳﺎدة ﻣﻌﻠﻮﻣﺎﺗﻨﺎ ﻋﻦ اﻹﻧﺴﺎن ،وﻳﱰﺗﺐ ﻋﻠﻴﻬﺎ زﻳﺎدة اﻟﻘﻮة اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻜﻨﻨﺎ
ﻣﻦ ﻓﻬﻢ اﻟﻘﻮى اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ واﻟﻮراﺛﻴﺔ ﻟﺪى اﻹﻧﺴﺎن وﺿﺒﻄﻬﺎ إن أﻣﻜﻦ ،ﻛﻤﺎ ﺗﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ
ﺗﺸﻜﻴﻞ ﺣﻀﺎرة وﻣﺠﺘﻤﻊ اﻹﻧﺴﺎن .وﻫﻜﺬا ﻓﺈن اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ أداة ﻓﻌﺎﻟﺔ ﰲ ﻳﺪ اﻹﻧﺴﺎن؛
ﻷﻧﻬﺎ ﺗﺆدي إﱃ ﻓﻬﻢ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻹﻧﺴﺎن وﻣﺤﺎوﻟﺔ إﻳﺠﺎد أﺳﺲ ﻋﻠﻤﻴﺔ وﻣﻨﻬﺠﻴﺔ ﻟﻔﻬﻢ ﻣﺸﻜﻼﺗﻪ
.Hoebel. E.A. “Man in the Primitive World” New York 1958, P. 1 1
اﻹﻧﺴﺎن
ً
اﺗﻔﺎﻗﺎ ﻣﻊ ﻛﻢ اﻟﻈﺮوف اﻟﺒﻴﺌﻴﺔ واﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ. وﺗﻄﻮﻳﺮ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎﺗﻪ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ أﻛﺜﺮ
واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أﻧﻪ ﻻ ﻏﻨﻰ ﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻮم اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻋﻦ ﻧﺘﺎﺋﺞ اﻟﺪراﺳﺔ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ.
ﻟﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻣﻮﺿﻮﻋً ﺎ ﻳﺮﴈ وﻳﴪ ﺣﺐ اﻻﺳﺘﻄﻼع ﻋﻨﺪ املﺜﻘﻔني ،وﻟﻘﺪ
ﻇﻞ ﻟﻔﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻣﻮﺿﻮﻋً ﺎ ﻣﺤﺒﺒًﺎ ﻋﻨﺪ ﻣﺤﺒﱢﻲ ﻏﺮاﺋﺐ اﻷﻣﻮر .ﻓﺈن اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺼﻒ
اﻟﻌﺎدات اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ واﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ واﻟﺴﻠﻮﻛﻴﺎت اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واﻟﺴﺤﺮﻳﺔ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ
وأﺷﻜﺎل اﻟﻔﻨﻮن املﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﺗﺠﺪ ﰲ ﻧﻔﺲ اﻟﺼﻐري واﻟﻜﺒري ﻫﻮى ﻣﺆﻛﺪ .وﻻ ﺷﻚ ﰲ أن اﺗﺼﺎل
اﻟﻌﺎﻟﻢ املﻌﺮوف ﺑﺎﻟﻌﻮاﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ وأﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وآﺳﻴﺎ ﺑﻌﺪ ﻋﴫ اﻟﻜﺸﻮف ،ﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪ
ﻋﲆ ﻧﻤﻮ ﻏﺰﻳﺮ ﰲ ﻣﻌﻠﻮﻣﺎﺗﻨﺎ ﻋﻦ اﻟﻜﻢ اﻟﺤﻀﺎري واﻟﺜﻘﺎﰲ واﻟﻌﻘﻴﺪي واﻟﻔﻨﻲ ﺗﻀﻤﻨﺘﻬﺎ
ﻛﺘﺎﺑﺎت املﺴﺘﻜﺸﻔني ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻔﱰة ،وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺗﺤﺘﻮي ﻋﲆ
ﻣﺼﺎدر ﺟﻴﺪة ﻟﻸﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ.
َ
ﻟﻜﻦ ﻧﻀﻮج اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻛﻌﻠﻢ ،وﺗﻄﻮر ﻣﻨﺎﻫﺞ اﻟﺒﺤﺚ وأﺳﺎﻟﻴﺐ اﻟﺘﺤﻠﻴﻞ وﺗَﻘﺪﱡﻣﻬﺎ،
وإن ﺳﺎﻋﺪ ﻋﲆ ﺗﺨﺼﺺ اﻟﻌﻠﻢ أﻛﺜﺮ وأﻛﺜﺮ ،إﻻ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺴﻠﺐ ﻣﻨﻪ ﺟﺎذﺑﻴﺘﻪ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ اﻟﺬاﺗﻴﺔ
ﰲ ﻛﻮﻧﻪ ﺑﺤﺜًﺎ ﰲ اﻹﻧﺴﺎن .وﻟﻘﺪ أدت اﻟﻜﺸﻮف اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﰲ ﻣﻴﺪان ﻣﺎ ﻗﺒﻞ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﺳﻮاء ﻣﻨﻬﺎ
ﻛﺸﻮف اﻟﻬﻴﺎﻛﻞ اﻟﺤﻔﺮﻳﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎن وﻃﻼﺋﻌﻪ ،أو اﻟﻜﺸﻮف اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺘﻄﻮر ﻣﻌﺎرف اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ واﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ ،أدت إﱃ إﻃﺎﻟﺔ ﻫﺎﺋﻠﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻧﻌﺮﻓﻪ ﻋﻦ ﺗﺎرﻳﺦ اﻹﻧﺴﺎن وﺣﻀﺎرﺗﻪ
ووﺿﻊ اﻹﻧﺴﺎن املﻌﺎﴏ ﰲ ﻣﺤﻠﻪ ﰲ ﺗﺼﻨﻴﻒ اﻟﺤﻴﺎة ﻋﲆ اﻷرض ،وأﻋﻄﺎﻧﺎ أدﻟﺔ ﺑﺎﻫﺮة ﻋﲆ
اﻟﻄﺎﻗﺔ اﻟﺨﻼﻗﺔ واملﺒﺪﻋﺔ ﻋﻨﺪ ﻛﻞ اﻟﻨﺎس ﻋﱪ ﻣﺌﺎت اﻵﻻف ﻣﻦ اﻟﺴﻨني.
وﻛﺬﻟﻚ أدت ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻮﺻﻒ وﺗﺼﻨﻴﻒ اﻹﻧﺴﺎن ﻛﻜﺎﺋﻦ ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻲ
)اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ — ﻋﻠﻢ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ( ﺑﺎﻻﺷﱰاك ﻣﻊ اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ
إﱃ ﻣﻨﺎﻫﻀﺔ اﻻﻋﺘﻘﺎدات اﻟﺴﺎﺋﺪة اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﺘﻤﻴﻴﺰ اﻟﻌﻨﴫي وﻣﻤﺎرﺳﺎﺗﻪ .ﻛﺬﻟﻚ ﺳﺎﻋﺪ
اﻟﺘﻘﺪم ﰲ ﻣﻨﺎﻫﺞ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ اﻟﺴﻠﻮك واملﻌﺘﻘﺪات واﻟﻠﻐﺔ واﻟﻔﻦ ﺑني ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﺣﻀﺎرﻳﺔ
ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻋﲆ اﻟﺘﻘﺪم ﰲ ﻣﺠﺎل إدراك اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ واﻟﺤﻀﺎرة واﻟﻨﻈﻢ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ واﻟﺘﻄﻮر
اﻟﺬي اﻧﺘﺎﺑﻬﺎ ،وﻣﻦ دراﺳﺔ اﻟﻨﻈﻢ واﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻜﻢ املﺠﺘﻤﻌﺎت دراﺳﺔ ﻣﻘﺎرﻧﺔ وﻇﻴﻔﻴﺔ
أﻣﻜﻦ اﺳﺘﺨﺮاج ﻋﺪة أﻧﻤﺎط ﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺘﻐري اﻟﺤﻀﺎري.
وﰲ ﻋﺎملﻨﺎ املﻌﺎﴏ ﺷﺪﻳﺪ اﻟﺘﺸﺎﺑﻚ واﻻﺣﺘﻜﺎك أﺻﺒﺤﺖ اﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ إﻋﻄﺎء دروس
ﰲ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﰲ اﻟﻜﻠﻴﺎت واﻟﺠﺎﻣﻌﺎت واملﺪارس ﺷﺪﻳﺪة اﻹﻟﺤﺎح ،وذﻟﻚ ﺑﻌﺪ أن ﺗﺒني
ﻟﻠﻌﻠﻤﺎء واملﺪرﺳني ﻣﺪى اﻟﻔﺎﺋﺪة اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﱰﺗﺐ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻹملﺎم ﺑﻬﺬا اﻟﻌﻠﻢ ﻛﺘﻤﻬﻴﺪ ﻟﻌﺪد
ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻮم اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ،وﺧﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﱪاﻣﺞ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ اﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻴﺔ واﻟﺘﺨﻄﻴﻂ اﻻﻗﺘﺼﺎدي
76
ﻣﺪﺧﻞ إﱃ دراﺳﺔ اﻹﻧﺴﺎن
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻋﻠﻢ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻘﻠﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻤﻊ ﺑني اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ واﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ،
ﻓﺎﻹﻧﺴﺎن ﺟﺰء ﻣﻤﺎ ﻧﺴﻤﻴﻪ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ؛ أي اﻟﻘﻮى اﻟﺘﻲ ﺗﺨﻠﻖ ﻣﻈﺎﻫﺮ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺎدﻳﺔ.
وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈن اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻈﻬﺮ ﻃﺒﻴﻌﻲ؛ ﻷﻧﻪ ﺟﺰء ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻌﻀﻮي املﺎدي ،وﻷﻧﻪ ﻧﻮع
ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻲ ﻣﻦ أﻧﻮاع املﻤﻠﻜﺔ اﻟﺤﻴﻮاﻧﻴﺔ ،وﺗﺎرﻳﺦ ﻧﻤﻮه وﺗﻄﻮره ﻛﻨﻮع ﻣﻦ أﻧﻮاع اﻟﺤﻴﺎة
أﺻﺒﺢ ﺟﺰءًا ﻫﺎﻣٍّ ﺎ ﻣﻦ ﻋﻠﻮم اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ؛ ﻟﺬﻟﻚ ﻧﺮى املﺘﺎﺣﻒ اﻟﺪوﻟﻴﺔ ﻟﻠﺘﺎرﻳﺦ
اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﺗﺤﺘﻮي ﻋﲆ ﻗﺴﻢ ﺧﺎص ﺑﺎﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ،ﺗﻌﺮض ﻓﻴﻪ ﻟﺘﺎرﻳﺦ وﺗﻄﻮر اﻹﻧﺴﺎن
ﻛﻜﺎﺋﻦ ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻲ.
وﻟﻜﻦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﺠﺮد ﻛﻮﻧﻬﺎ دراﺳﺔ ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎن،
ﻓﻬﻲ ﺗﺘﻨﺎول دراﺳﺔ اﻹﻧﺴﺎن وﻛﻞ أﻋﻤﺎﻟﻪ .ﻓﺎﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺑﻤﻌﻨﺎﻫﺎ اﻟﻜﺎﻣﻞ ﻋﻠﻢ ﻳﺪرس
اﻟﺴﻼﻻت واﻟﻌﺎدات واﻹﻧﺘﺎج اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ أﻳٍّﺎ ﻛﺎن؛ وﻟﻬﺬا ﻓﺈن اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻹﻧﺘﺎج املﺎدي
واﻟﻔﻜﺮي واﻟﺪﻳﻨﻲ واﻟﻔﻨﻲ واﻟﻌﺎدات واﻟﻨﻈﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،ﺗﺠﻌﻞ ﻣﻦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻋﻠﻤً ﺎ
ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻮم اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ.
واﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻋﻠﻢ ﻗﺪﻳﻢ وﺣﺪﻳﺚ ﰲ آن واﺣﺪ ،ﻓﻬﻮ ﻗﺪﻳﻢ ﻷن املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﻬﺘﻢ
ﺑﻬﺎ ﺗﻨﺎوﻟﻬﺎ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻜﺘﱠﺎب اﻟﻘﺪﻣﺎء ﺑﺎﻟﺒﺤﺚ واﻟﺪراﺳﺔ ،وﻛﺎن ﻏﺎﻟﺒﻴﺘﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ؛
وﻟﻬﺬا ﻧﺠﺪ ﻛﺜريًا ﻣﻦ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﻋﻠﻢ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ،وﻣﻦ أﻫﻤﻬﺎ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ وﻓﻜﺮة اﻹﻟﻪ
واﻟﺘﻤﺎﻳﺰ واﻻﺧﺘﻼف اﻟﺤﻀﺎري ،وﺗﻘﺴﻴﻢ املﺠﺘﻤﻊ إﱃ ﻃﺒﻘﺎت وﺳﻼﻻت ﻗﺪ اﻗﱰﻧﺖ ﺑﺄﺑﺤﺎث
اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ وﺑﺎﻟﺼﺒﻐﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ .وﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل ،أُد ِْرﺟَ ْﺖ ﻫﺬه املﺒﺎﺣﺚ ﰲ املﺎﴈ ﺗﺤﺖ
راﻳﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻣﺘﺒﻌً ﺎ ﰲ ﻛﻞ اﻟﻌﻠﻮم ﻋﻨﺪ ﺑﺪاﻳﺔ ﻧﺸﺄﺗﻬﺎ.
وﻳﺠﺐ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﻼﺣﻆ أن آﺛﺎر ﻫﺬه اﻟﺼﺒﻐﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ملﻮﺿﻮﻋﺎت اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
ﻟﻦ ﺗﻨﺪﺛﺮ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ .ﻓﻼ زاﻟﺖ ﻫﻨﺎك ﺑﻌﺾ ﺑﻘﺎﻳﺎﻫﺎ ،ﺧﺎﺻﺔ ﻋﻨﺪ ﺑﺪاﻳﺔ اﻧﺴﻼخ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ
اﻟﺪراﺳﺔ وﻇﻬﻮره ﰲ ﺻﻮرة ﻋﻠﻢ ﻣﺴﺘﻘﻞ ﰲ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺪﻳﺚ.
77
اﻹﻧﺴﺎن
78
ﻣﺪﺧﻞ إﱃ دراﺳﺔ اﻹﻧﺴﺎن
اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ Ethnologieدون اﻟﻔﺮوع اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻞ ﻓﻴﻬﺎ ﺗﻌﺪد املﺪاﺧﻞ إﱃ اﻟﺤﺪ
اﻷدﻧﻰ املﺘﺒﻊ ﰲ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺻﺤﺔ اﻟﻜﺜري ﻣﻤﺎ ﺟﺎء ﰲ ﻛﻼم
اﻷﺳﺘﺎذ راد ﻛﻠﻴﻒ ﺑﺮاون؛ إﻻ أﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﻮاﻓﻖ ﻋﲆ ﻣﺠﻤﻮع ﻛﻼﻣﻪ ،وﺧﺎﺻﺔ ﻣﺎ أﻛﺪه ﻣﻦ
اﺳﺘﺤﺎﻟﺔ اﻟﺘﻮﻓﻴﻖ ﰲ ﻣﻨﺎﻫﺞ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺒﻌﻬﺎ املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ.
ﻫﺬه اﻟﺸﻌﺒﺔ ﻣﻦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ — أي اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ — ﺗﺴﺘﻤﺪ أﺻﻮﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﻮﺿﻮع
واﺣﺪ ،وﻫﻮ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﰲ ﺷﺘﻰ ﺻﻮرﻫﺎ .وﺗﻌﺪد املﻨﺎﻫﺞ وﺗﻀﺎرب املﺪاﺧﻞ ﻟﻴﺲ
ﻛﻠﻪ ﺗﻨﺎﻓ ًﺮا ﰲ ﺻﻮرة ﻓﻮﺿﻮﻳﺔ .ﺑﻞ إن ﻧﻈﺮة ﻣﺤﺎﻳﺪة ﻗﺪ ﺗﻮﺿﺢ ﻟﻨﺎ أن ﻫﺬه اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت
ﺗﻌﻄﻴﻨﺎ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﺑﻴﺎﻧﺎت ﻣﱰاﺑﻄﺔ ﻳﻌﺘﻤﺪ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﺒﻌﺾ ،وﻳﻤﻜﻦ اﺳﺘﻐﻼﻟﻬﺎ ﻹﻋﻄﺎء
ﺗﻔﺴريات ﻣﻔﻴﺪة ﻟﺤﻴﺎة املﺠﺘﻤﻌﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ وﺟﻬﺎت ﻧﻈﺮ ﻣﺘﻌﺪدة؛ إﻣﺎ ﻫﻲ ذات أﺑﻌﺎد
ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ،وإﻣﺎ ذات أﻋﻤﺎق ﺗﻔﴪ ﻧﻮع اﻟﺒﻨﺎء اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ وﺗﺮاﺑﻄﻪ .ﻓﻬﺬه املﻨﺎﻫﺞ املﺨﺘﻠﻔﺔ
ً
ﻣﻄﻠﻘﺎ. إذن ﻣﻜﻤﻠﺔ ﻟﺒﻌﻀﻬﺎ اﻟﺒﻌﺾ ﰲ ﺣﺪود ﻣﻌﻴﻨﺔ ،وﻟﻴﺴﺖ ﻣﺘﻀﺎرﺑﺔ ﺗﻀﺎرﺑًﺎ
وأﻗﺴﺎم اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﻼ ﺷﻚ ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﻣﻮﺿﻮﻋً ﺎ واﺣﺪًا ،ﻛﻤﺎ ﻳﺪل
ﻋﲆ ذﻟﻚ اﻟﺒﻴﺎن اﻟﺬي ﺻﺪر ﻋﻦ أﻫﺪاف إﻧﺸﺎء اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ ﰲ ﺑﺎرﻳﺲ
ﺳﻨﺔ .١٨٣٩أﻫﻢ ﻣﺎ ورد ﰲ ﻫﺬا اﻟﺒﻴﺎن ﻣﺎ ﻳﲇ:
79
اﻹﻧﺴﺎن
أو اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﺴﺎﻣﻴﺔ أو اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﻜﻠﺘﻴﺔ Celticأو اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﺠﺮﻣﺎﻧﻴﺔ .ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺘﻜﻠﻤﻮن ﻋﻦ
ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺴﻼﻻت اﻟﻮﻫﻤﻴﺔ وﻳﺨﻠﻄﻮن ﻓﻴﻬﺎ ﺑني اﻟﺸﻌﺐ واﻟﻠﻐﺔ ،وﻻ ﻳﻈﻬﺮ ﻓﻴﻬﺎ أدﻧﻰ
ارﺗﺒﺎط ﺑﻤﻔﻬﻮم اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻲ .وﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ﻛﺎن داﻋﻴًﺎ ﻣﻦ دواﻋﻲ اﻟﻌﴫ اﻟﺬي ﻛﺎﻧﺖ
ﻓﻴﻪ اﻟﺤﻀﺎرات املﺨﺘﻠﻔﺔ ﺗُﻔﻬَ ﻢ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺧﻠﻖ ﺳﻼﻻت ﻣﻌﻴﻨﺔ .ﺑﻌﺒﺎرة أوﺿﺢ ﺣﻴﻨﻤﺎ
ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻌﻨﴫﻳﺔ ﰲ ﺑﺪاﻳﺔ ﺗﱪﻋﻤﻬﺎ اﻟﺤﺪﻳﺚ.
وﻗﺪ ﺑﻠﻐﺖ ﻫﺬه اﻵراء اﻟﺬروة ﻋﻨﺪ اﻟﻜﻮﻧﺖ ﺟﻮﺑﻴﻨﻮ Gobineauﰲ ﻣﻘﺎل ﺑﺎﺳﻢ Essei
» sur l’inegalitê des Racesﻣﻘﺎل ﰲ ﻋﺪم ﺗﺴﺎوي اﻟﺴﻼﻻت« ﺳﻨﺔ ،١٧٥٥وﰲ ﻣﻘﺎل آﺧﺮ
ﴩ ﰲ ﺳﻨﺔ ١٨٩٩ﺑﻌﻨﻮان des 19 jahrhundert ﻟﻸﺳﺘﺎذ ﺗﺸﻤﱪﻟني Chamberlainﻧ ُ ِ َ
» Grundlagenأﺳﺲ اﻟﻘﺮن .«١٩
ﻫﺬه اﻵراء اﻟﻌﻨﴫﻳﺔ ﻣﺎ زاﻟﺖ ﺗﺮوح وﺗﺠﻲء ﰲ أذﻫﺎن اﻟﻨﺎس ،وأﻇﻨﻨﺎ ﻧﻌﺮف ملﺎذا
اﺳﺘُ ْﺨﺪِﻣَ ْﺖ وملﺎذا ﺗُﺜﺎر ﻣﻦ آن ﻵﺧﺮ ،وﻧﻌﻮد إﱃ املﻮﺿﻮع اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻓﻨﻘﻮل :إن ﻣﻔﻬﻮم
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﻮاﺳﻊ ﻟﻪ ﺟﺬور ﻋﻤﻴﻘﺔ ﰲ ﺗﺮاث اﻟﻘﺮن ١٨وأواﺋﻞ اﻟﻘﺮن .١٩وﻳﺘﻤﺜﻞ
ﻫﺬا اﻟﱰاث ﰲ ﺗﻠﻚ املﻔﻬﻮﻣﺎت اﻟﺨﺎﻃﺌﺔ ﻋﻦ اﻟﺴﻼﻟﺔ واﻟﺸﻌﻮب اﻟﺘﻲ ﺳﺒﻖ ذﻛﺮﻫﺎ وأﺻﺒﺤﺖ
ﺣﺎﻓ ًﺰا ﻟﻨﺸﺄة ﻋﻠﻤﻴﺔ ﻟﻸﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ املﻌﺎﴏة4 .
وﻧﺤﻦ ﰲ ﻫﺬا ﻻ ﻧﻘﻒ ﻣﻮﻗﻒ اﻟﺬي ﻳﺆﻧﺐ ﻋﻠﻢ اﻟﻔﻠﻚ؛ ﻷﻧﻪ اﺳﺘﻔﺎد ﰲ املﺎﴈ ﻣﻦ ﺣﺎﻓﺰ
ﻣﻌني ﻫﻮ اﻟﺘﻨﺠﻴﻢ واملﻨﺠﻤني ،وﺣﻴﻨﻤﺎ ﻧﺘﻜﻠﻢ اﻟﻴﻮم ﻋﻦ ﻫﺬه املﻌﻠﻮﻣﺎت اﻟﺨﺎﻃﺌﺔ ،ﻓﻨﺤﻦ
ﻧﺘﻜﻠﻢ ﻋﻦ ﺗﺎرﻳﺦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ،وﻻ ﻳﺠﺐ أن ﻧﻬﻤﻞ أﺻﻮل ﻫﺬا اﻟﻌﻠﻢ .وﻳﺘﻀﺢ ﻫﺬا ﺣﻴﻨﻤﺎ
ﻧﺒﺪأ ﺑﺘﺼﻔﺢ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﻀﺨﻢ اﻟﺬي ﺑﺪأ ﺑﻪ ﻗﺮن ﻣﻦ اﻷﺑﺤﺎث اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺘﻜﻠﻢ
ﺑﺎﻷملﺎﻧﻴﺔ .ذﻟﻚ ﻫﻮ ﺑﺤﺚ اﻷﺳﺘﺎذ ﺗﻴﻮدور ﻓﺎﻳﺘﺰ — Theodor Waitzأﺳﺘﺎذ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ وﻋﻠﻢ
اﻟﻨﻔﺲ ﰲ ﺟﺎﻣﻌﺔ ﻣﺎرﺑﻮرج — املﺴﻤﻰ أﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺸﻌﻮب اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ Anthropologie
ﴩ ،der Naturvoelkerاملﻨﺸﻮر ﰲ ٦أﺟﺰاء ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻟﻴﺒﺰﻳﺞ ﺑني ١٨٥٨و ،١٨٧٢ﻗﺪ ﻧ ُ ِ َ
أول أﺟﺰاء ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب اﻟﻀﺨﻢ ﺑﻌﺪ ٣أﻋﻮام ﻣﻦ ﻧﴩ ﺑﺤﺚ اﻟﻜﻮﻧﺖ ﺟﻮﺑﻴﻨﻮ ،اﻟﺬي أﴍﻧﺎ
ﺳﺎﺑﻘﺎ ،وﺑﻌﺪ ﺧﻤﺴﺔ أﻋﻮام ﻣﻦ ﺑﺤﺚ آﺧﺮ ﻟﻸﺳﺘﺎذ أﺟﺎﺳﻴﺘﺰ Agassizاﻟﺬي أﻋﻠﻦ ً إﻟﻴﻪ
ﻓﻴﻪ وﺟﻮد ﺛﻤﺎﻧﻴﺔ أﻧﻮاع ﻣﻦ اﻟﺴﻼﻻت؛ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻟﻪ أﺻﻮل ﻗﺎﺋﻤﺔ ﺑﺬاﺗﻬﺎ .وﻗﺪ ﻧﺎﻟﺖ ﻫﺬه
اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻌﻨﴫﻳﺔ ﺣﻈﻮة ﺷﻌﺒﻴﺔ ،وﺧﺎﺻﺔ ﰲ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﺪواﺋﺮ ﰲ اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة؛
Heine-Geldern. R., “One Hundred years of ethnological theory in the German-speaking 4
.countries,” in “Conference on the History of Anthropology”, New York 1962
80
ﻣﺪﺧﻞ إﱃ دراﺳﺔ اﻹﻧﺴﺎن
ﻓﻘﺪ ﻇﻬﺮت وﻛﺄﻧﻬﺎ ﺗﱪﻳﺮ ﻻﺳﱰﻗﺎق اﻟﺰﻧﻮج وإﺑﺎدة اﻷﻣريﻧﺪ )اﻟﻬﻨﻮد اﻟﺤﻤﺮ( .وﻗﺪ وﺟﻪ
اﻷﺳﺘﺎذ »ﻓﺎﻳﺘﺰ« ﻫﺠﻮﻣﻪ ﺿﺪ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻌﻨﴫﻳﺔ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺘﺎرﻳﺦ املﺒﻜﺮ ،وﻫﺬا واﺿﺢ ﻣﻦ
ﻋﻨﻮان اﻟﺠﺰء اﻷول ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﻪ» :ﺑﺤﺚ ﰲ وﺣﺪة اﻷﻧﻮاع اﻟﺒﴩﻳﺔ واﻟﻮﺿﻊ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﻟﻺﻧﺴﺎن«
Ueber die Einheit des Menschengeschlechtes und den Naturzustand des
.Menschen
81
اﻹﻧﺴﺎن
Physical ) (٢ﻣﻴﺪان دراﺳﺔ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎن — ﻋﻠﻢ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ
:Anthropology
ﻳﺪرس ﻫﺬا اﻟﺠﺎﻧﺐ ﻣﻦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﺘﻐريات اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺑني ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت اﻹﻧﺴﺎن ﰲ
أﻗﺎﻟﻴﻢ اﻷرض اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ ﻋﲆ أﺳﺎس ﺗﴩﻳﺤﻲ ،وﺑﺎملﻘﺎرﻧﺔ ﻣﻊ اﻟﻬﻴﺎﻛﻞ املﻮﺟﻮدة ﰲ املﻘﺎﺑﺮ
اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ زﻣﻨﻴٍّﺎ .وﻳﺆدي ذﻟﻚ إﱃ ﺗﺼﻨﻴﻔﺎت ﻟﻠﺒﴩ ﻋﲆ أﺳﺲ دراﺳﺔ ﻗﻴﺎﺳﻴﺔ وﻣﻮرﻓﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
ﻟﺼﻔﺎت ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ دراﺳﺔ اﻟﻮراﺛﺔ .وﻳُﻼﺣَ ﻆ أﻧﻪ ﻳﺠﺐ اﺗﺨﺎذ اﻟﺤﺬر
ﺧﺎﺻﺔ ﻣﻊ اﺳﺘﺨﺪام ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت ﻳﺸﻴﻊ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ ﺑﻤﻔﺎﻫﻴﻢ ﺗﻨﻄﻮي ﻋﲆ اﻟﺘﻌﺼﺐ أو ً
ﺑﻤﻌﺎن ﺗﻀﻔﻲ ﻋﲆ ﺳﻼﻟﺔ ﺻﻔﺎت ﺳﻴﺎدﻳﺔ وأﺧﺮى ﺻﻔﺎت ﺗﺨﻠﻔﻴﺔ .ﻣﺜﻞ اﺻﻄﻼح ﻧﻮردي ٍ
أو زﻧﺠﻲ ،وﺑﺬﻟﻚ أﺻﺒﺤﺖ إﺣﺪى ﻣﻬﺎم ﻫﺬا اﻟﻘﺴﻢ ﻣﻦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ دﺣﺾ ورﻓﺾ ﻫﺬه
اﻷﺷﻜﺎل ﻣﻦ أﺷﺒﺎه اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ اﻟﺘﻌﺼﺒﻴﺔ.
واﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ ﺗﺪرس اﻹﻧﺴﺎن ﻛﻜﺎﺋﻦ ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻲ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ
ﺗﻜﻮﻳﻨﻪ اﻟﺠﺴﺪي ،وﺗﻄﻮره ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻟﻮراﺛﺔ وﺑﻮاﺳﻄﺔ ﺳﻼﻻﺗﻪ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ واﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،ودراﺳﺔ
ﺗﻮزﻳﻊ اﻟﺴﻼﻻت ﻋﲆ ﻇﻬﺮ اﻷرض.
وﻗﺪ أﺛﺒﺘﺖ اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﰲ ﻫﺬا املﻴﺪان أن اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺒﴩﻳﺔ اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ ﺗﻨﺘﻤﻲ إﱃ
ﻧﻮع ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻲ واﺣﺪ ،ﻫﻮ ﻣﺎ ﻧﺴﻤﻴﻪ »اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ«.
وﻟﻜﻦ ﻣﻊ ذﻟﻚ ،أي وﺣﺪة اﻟﻨﻮع املﻌﺎﴏ ،ﻓﺈن اﻷﻣﺮ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻛﺬﻟﻚ ﺧﻼل اﻟﻔﱰة اﻟﺘﻲ
ﻋﺎﺷﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن وأﺷﺒﺎﻫﻪ ﻋﲆ اﻷرض؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك أﻧﻮاع ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎن وأﺷﺒﺎه
أﺷﻜﺎﻻ وﺳﻼﻻتً اﻹﻧﺴﺎن ﺗﺼﺎرع ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺤﻴﺎة .واﻟﻴﻮم ﻧﺠﺪ ﻣﻦ ﺳﻼﻟﺔ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ
ﻓﺮﻋﻴﺔ ﻋﺪﻳﺪة ﺗﻜﻮﱢن ﻣﺎ ﻧﻌﺮﻓﻪ اﻵن ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﺳﻼﻟﻴﺔ ﻋﲆ ﻇﻬﺮ اﻷرض .وﻳﺨﺘﺺ ﻋﻠﻢ
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﺑﺪراﺳﺔ ﻫﺬه املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻟﺘﺤﺪﻳﺪ ﺻﻔﺎﺗﻬﺎ املﺸﱰﻛﺔ اﻟﺘﻲ
ﺗﺆﻟﻒ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن املﻌﺎﴏ؛ ﻫﺬا ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ .وﺣﻴﻨﻤﺎ ﺗﺒﺪأ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ
دراﺳﺔ اﻹﻧﺴﺎن ﰲ ﻣﺎ ﻗﺒﻞ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ،ﻓﺈن ﻣﺼﺪرﻫﺎ اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻫﻮ اﻟﻬﻴﺎﻛﻞ اﻟﻌﻈﻤﻴﺔ اﻟﺤﻔﺮﻳﺔ،
ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﻋﺪد ﺿﺌﻴﻞ ﻣﻦ املﻮﻣﻴﺎءات ﻣﻌﻈﻤﻬﺎ راﺟﻊ إﱃ ﺗﺎرﻳﺦ ﺣﺪﻳﺚ ﺟﺪٍّا ﺑﺎملﻘﺎرﻧﺔ
ﺑﺘﺎرﻳﺦ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ.
وﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل ﻳﺄﻣﻞ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﻮن اﻟﺴﻮﻓﻴﺖ اﻟﻌﺜﻮر ﻳﻮﻣً ﺎ ﻣﻦ اﻷﻳﺎم ﻋﲆ إﻧﺴﺎن
ﻛﺎﻣﻼ ﺑﻠﺤﻤﻪ وﺷﺤﻤﻪ وﻋﻈﻤﻪ وﺷﻌﺮه ،ﻋﲆ ﻏﺮار ﺗﻠﻚ اﻟﻜﺸﻮف اﻟﺘﻲ أدت ً ﻣﺎ ﻗﺒﻞ اﻟﺘﺎرﻳﺦ
ﻇﺎ ﺑﻜﺎﻣﻠﻪ ﺗﺤﺖ ﺛﻠﻮج ﺳﻴﺒريﻳﺎ .وإﱃ أن إﱃ اﻟﻌﺜﻮر ﻋﲆ ﺣﻴﻮان املﺎﻣﻮث اﻟﺼﻮﰲ ﻣﺤﻔﻮ ً
ﻮﻓﻖ إﱃ ذﻟﻚ ﻓﻌﲆ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني اﻻﻛﺘﻔﺎء ﺑﻤﺼﺎدرﻫﻢ اﻟﺮاﻫﻨﺔ ،وﻫﻲ اﻟﻬﻴﺎﻛﻞ اﻟﻌﻈﻤﻴﺔ ﻧُ ﱠ
82
ﻣﺪﺧﻞ إﱃ دراﺳﺔ اﻹﻧﺴﺎن
83
اﻹﻧﺴﺎن
اﻹﻧﺴﺎن ملﺌﺎت اﻵﻻف ﻣﻦ اﻟﺴﻨني ﻣﻮﺿﻮع ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺎت .وﺗﺘﻢ ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺎت ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ
اﻟﺘﻨﻘﻴﺐ وﻛﺸﻒ ﻣﺨﻠﻔﺎت اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ ﻟﻔﻬﻢ ﺗﻄﻮر وﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﻘﺪﻣﺎء ،وﰲ ﺑﻌﺾ
اﻷﺣﻴﺎن ﻓﻬﻢ ﺑﻌﺾ ﻋﻘﺎﺋﺪﻫﻢ وﻋﺎداﺗﻬﻢ .وﻗﺪ أدت دراﺳﺔ اﻷدوات اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ إﱃ ﺗﺼﻨﻴﻒ
ﻣﻌﻈﻢ ﺗﺎرﻳﺦ اﻹﻧﺴﺎن ﰲ ﻋﺼﻮر ﺣﺠﺮﻳﺔ ﻳﻤﺜﻞ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﺗﻄﻮ ًرا ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴٍّﺎ ﻣﻠﺤﻮ ً
ﻇﺎ،
وﻳﺴﺘﻔﻴﺪ ﻋﻠﻢ ﻣﺎ ﻗﺒﻞ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﰲ ﺗﺼﻨﻴﻔﻪ ﻟﻠﺘﺘﺎﺑﻊ اﻟﺤﻀﺎري ﺑﺎﻟﺪراﺳﺎت اﻟﺠﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
ﻟﺘﺤﺪﻳﺪ ﻋﻤﺮ اﻟﻄﺒﻘﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻮﺟﺪ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺨﻠﻔﺎت اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ.
) (٢اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ :Linguistics
ﻳﻘﻮم اﻟﺪارﺳﻮن ﻟﻬﺬا املﻴﺪان ﺑﻮﺻﻒ وﺗﺴﺠﻴﻞ وﺗﺤﻠﻴﻞ اﻟﺼﻮﺗﻴﺎت واملﻔﺮدات واﻟﻨﺤﻮ
واﻟﱰﻛﻴﺐ اﻟﻠﻐﻮي ﻟﻌﺪد ﻣﻦ اﻟﻠﻐﺎت ﻗﺪ ﻳﺒﻠﻎ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ٢٧٠٠ﻟﻐﺔ ،وﻫﻢ ﻳﻘﺪﻣﻮن ﻣﻘﺎرﻧﺎت
ملﻤﻴﺰات ﻫﺬه اﻟﻠﻐﺎت ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﻋﻼﻗﺎت ﺑني اﻟﻠﻐﺎت واﻟﺘﻐري اﻟﻠﻐﻮي ﰲ املﺎﴈ،
أﻳﻀﺎ ﻣﺤﺎوﻻت ﻟﺘﺤﺪﻳﺪ اﻟﻌﻮاﻣﻞ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻟﺘﻲ أدت إﱃ ﻫﺬه اﻟﺘﻐريات. وﻫﻨﺎك ً
وﻻ ﻳﻘﺘﴫ ﻋﻤﻞ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني اﻟﻠﻐﻮﻳني ﻋﲆ اﻟﻠﻐﺎت املﻜﺘﻮﺑﺔ ،ﺑﻞ ﻳﺮﻛﺰون ً
أﻳﻀﺎ
ﻋﲆ اﻟﻠﻐﺎت ﻏري املﻜﺘﻮﺑﺔ ﺑني اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ذات اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ.
) (٣اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ )ﻋﻠﻢ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﻀﺎري( ،اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ Cultural An-
:thropology, Ethnologie
اﻻﺧﺘﻼف اﻟﺮﺋﻴﴘ ﺑني اﻹﻧﺴﺎن وﺑﻘﻴﺔ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت ﻫﻮ اﻟﺤﻀﺎرة .واﻟﺤﻀﺎرة ﻳﻤﻜﻦ
ﻨﻘﻞ ﻣﻦ ﺟﻴﻞ إﱃ آﺧﺮ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻣﺴﺘﻘﻞ ﻮﺻﻒ ﺑﺄﻧﻬﺎ اﻟﻮراﺛﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُ َ أن ﺗُ َ
ﻏري اﻟﻨﻘﻞ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻲ ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻟﺨﻼﻳﺎ اﻟﺬي ﻳﻤﻴﺰ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت .وﻳُﺴﻤﱠ ﻰ أﺧﺼﺎﺋﻴﻮ ﻫﺬا
املﻴﺪان :اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني اﻟﺤﻀﺎرﻳني – اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴني – اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني –
اﻹﺛﻨﻮﺟﺮاﻓﻴني ،ﺣﺴﺐ ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ املﺪارس اﻟﺘﻲ ﻳﻨﺘﻤﻮن إﻟﻴﻬﺎ ﰲ أوروﺑﺎ وأﻣﺮﻳﻜﺎ .وﻣﻬﻤﺘﻬﻢ
اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ — ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺪارﺳﻬﻢ — وﺻﻒ وﺗﺤﻠﻴﻞ ﻫﺬا اﻟﻜﻢ اﻟﻬﺎﺋﻞ املﺘﻐري املﺨﺘﻠﻒ
ﻣﻦ اﻟﻌﺎدات وأﺷﻜﺎل اﻟﺤﻴﺎة اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ وﻣﺤﺎوﻟﺔ ﺗﻔﺴريه ،وﺧﺎﺻﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ذات
اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴٍّﺎ.
ﻟﻬﺬا ﻳﺪرس ﻫﺆﻻء اﻷﺧﺼﺎﺋﻴﻮن اﻟﺤﻴﺎة أو اﻟﺠﻮاﻧﺐ املﺎدﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﻀﺎرة ،وأﺷﻜﺎل
اﻟﺤﻴﺎة اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ،وﺗﻨﻈﻴﻢ املﺠﺘﻤﻊ ،وﺷﻜﻞ اﻷﴎة ،واﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻟﻌﺸﺎﺋﺮي واﻟﻘﺒﲇ،
واﻟﺠﻤﻌﻴﺎت اﻟﴪﻳﺔ واﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ،وﻧﻈﺎم اﻟﺤﻜﻢ ،واﻟﻨﻈﻢ اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ ،واﻟﻌﻘﺎﺋﺪ واﻟﻔﻨﻮن ،وﻏري
ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﻨﺸﺎط واﻟﺴﻠﻮك اﻟﺤﻀﺎري .وﻗﺪ أدت دراﺳﺎت ﻫﺬا املﻴﺪان إﱃ إﻇﻬﺎر ﺗﻨﻮﻋﺎت
ﻫﺎﺋﻠﺔ ﰲ اﻷﻧﻤﺎط اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ،وﻣﻦ ﺛﻢ اﻹﻣﻜﺎﻧﺎت اﻟﻌﺪﻳﺪة واملﺮوﻧﺔ
اﻟﻜﺒرية ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ.
84
ﻣﺪﺧﻞ إﱃ دراﺳﺔ اﻹﻧﺴﺎن
إﺛﻨﻮﺟﺮاﻓﻴﺎ إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
)وﺻﻒ ﺣﻀﺎرة ﻣﻔﺮدة( )دراﺳﺔ ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرة
ودراﺳﺔ املﺸﻜﻼت اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ(
)ب( إﻧﺠﻠﱰا
اﻹﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ
ً
اﺧﺘﻼﻓﺎ ﺟﻮﻫﺮﻳٍّﺎ وﻳﺘﻀﺢ ﻣﻦ ﺗﻘﺴﻴﻢ اﻷﺳﺘﺎذ ﻫﺮﺳﻜﻮﻓﻴﺘﺲ 5املﻮﺿﺢ أﻋﻼه أن ﻫﻨﺎك
ﻄﺎ ﺑني ﻣﻀﻤﻮن اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﰲ اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة وإﻧﺠﻠﱰا ،ﻛﻤﺎ أن ﻫﻨﺎك ﺧﻠ ً
ﰲ اﺳﺘﺨﺪام أﺳﻤﺎء ﻓﺮوع ﻫﺬا اﻟﻘﺴﻢ ﻣﻦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ .ﻓﺎﻷﻣريﻛﻴﻮن ﻳﺼﻔﻮن دراﺳﺎت
اﻟﺤﻀﺎرة املﻔﺮدة؛ ﻣﺜﻞ :دراﺳﺔ ﺣﻀﺎرة ﻗﺒﻴﻠﺔ اﻟﺰوﻧﻲ ﻣﻦ ﻗﺒﺎﺋﻞ اﻟﻬﻨﻮد اﻟﺤﻤﺮ ،أو اﻟﺪاﻫﻮﻣﻲ
ﻣﻦ ﻗﺒﺎﺋﻞ ﻏﺮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،أو ﺑﺎﺑﻮا ﰲ ﺟﺰﻳﺮة ﻧﻴﻮﺟﻴﻨﻲ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻴﻼﻧﻴﺰﻳﺎ ﰲ اﻟﴩق
اﻷﻗﴡ ،ﻳﺼﻔﻮﻧﻬﺎ ﺑﺄﻧﻬﺎ دراﺳﺔ إﺛﻨﻮﻏﺮاﻓﻴﺔ .ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺨﺼﺼﻮن ﻛﻠﻤﺔ إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻟﺪراﺳﺔ
85
اﻹﻧﺴﺎن
أﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
)ﻋﻠﻢ اﻹﻧﺴﺎن(
وﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ ﺗﻨﻘﺴﻢ وﺗﺘﻌﺪد ﻣﻴﺎدﻳﻦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ،وﻣﻨﺎﻫﺞ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ ﻛﻞ
ﻣﻴﺪان ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻻﺧﺘﻼف ﻣﻮﺿﻮع اﻟﺒﺤﺚ ،وﺗﺮﺗﺒﻂ ﻣﻨﺎﻫﺞ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ املﻴﺪاﻧني اﻷول واﻟﺜﺎﻧﻲ
.Hoebel E. A., “Man in the Primitive World” New York, 1949, P. 6 6
86
ﻣﺪﺧﻞ إﱃ دراﺳﺔ اﻹﻧﺴﺎن
ﻷن اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻋﻠﻢ اﻹﻧﺴﺎن ،ﻓﺈن ذﻟﻚ ﻗﺪ أدى ﺑﻬﺎ إﱃ اﺳﺘﺨﺪاﻣﺎت ﻟﻐﻮﻳﺔ ﻟﻬﺎ ﻧﻈري
ﰲ اﻟﻠﻐﺎت اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ .ﻟﻜﻦ ﻫﺬه املﺼﻄﻠﺤﺎت ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ذاﺗﻪ إﺣﺪى ﻣﺸﻜﻼت اﻟﻌﻠﻢ؛ ﻷن ﻟﻬﺎ
ً
ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﰲ اﻻﺳﺘﺨﺪاﻣﺎت اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ ﻏري ﻣﺎ ﻳﺮﻳﺪه ﻟﻬﺎ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻲ،
أﻧﻬﺎ ﺗُﺴﺘﺨﺪَم أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﰲ ﻋﻠﻮم أﺧﺮى ﺑﻤﻔﺎﻫﻴﻢ أﺧﺮى .وﻣﻦ اﻷﻣﺜﻠﺔ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت:
ﺟﻨﺲ – ﺳﻼﻟﺔ – ﺑﺪاﺋﻲ – ﺟﻨﺲ ﻣﺘﺨﻠﻒ – ﺳﻼﻟﺔ أﺻﻠﻴﺔ – ﺣﻀﺎري – ﻏري ﻣﺘﺤﴬ
– ﺑﺮﺑﺮي – ﺑﺮﺑﺮﻳﺔ – اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ – اﻟﺴﺤﺮ – اﻟﺠﻤﻌﻴﺎت اﻟﴪﻳﺔ – اﻟﻌﺸرية –
اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ – اﻟﺪوﻟﺔ – اﻟﺰﻋﻴﻢ – املﻠﻜﻴﺔ – املﺪﻧﻴﺔ – اﻟﺤﻀﺎرة – اﻟﻄﻮﻃﻢ – اﻟﺮوح – اﻷرواح
– اﻟﺒﺪو .ﻫﺬه ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت ﻻ ﻏﻨﻰ ﻋﻦ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ ،ﻟﻜﻦ ﻻ ﺑﺪ ﻣﻦ ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻣﻌﺎﻧﻴﻬﺎ داﺧﻞ
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺧﺸﻴﺔ اﻧﺘﻘﺎل املﻔﻬﻮم إﱃ ﻏري ﻣﺎ ﻳُﺮاد.
87
اﻹﻧﺴﺎن
وﻋﲆ ﻫﺬا ﻓﺎﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻛﻌﻠﻢ ﺗﺤﺎول اﺳﺘﺨﻼص ﻗﻮاﻋﺪ ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ واﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺗﺼﻒ
وﺗﺪرس اﻟﻌﻤﻠﻴﺎت واﻻﺗﺠﺎﻫﺎت اﻟﺴﺎﺋﺪة ﰲ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ وﻣﺎ ﻗﺒﻞ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ،وﻟﻜﻲ
أوﻻ وﺻﻔﻴﺔ وزﻣﻨﻴﺔ وﻣﻠﺘﺰﻣﺔ ﺑﺎﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﻟﻠﺤﺼﻮل ﺗﺤﻘﻖ ذﻟﻚ ﻳﺠﺐ أن ﺗﻜﻮن اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ً
ﻋﲆ ﻣﻌﻄﻴﺎت ﻳﻤﻜﻦ ﻋﲆ أﺳﺎﺳﻬﺎ إﺟﺮاء اﻟﺘﻌﻤﻴﻤﺎت واﺳﺘﺨﻼص اﻟﻘﻮاﻋﺪ.
ﻟﻜﻦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻟﻢ ﺗﺼﻞ ﺑﻌﺪ إﻻ إﱃ ﻋﺪد ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﻘﻮاﻋﺪ ،وﻟﻢ ﺗﺘﻤﻜﻦ إﻻ ﻓﻴﻤﺎ
ﻧﺪر ﻣﻦ أن ﺗﻌﻄﻲ ﻫﺬه اﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻟﺼﻮرة اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ،واﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ اﻟﻘﻮاﻋﺪ واﻟﻘﻮاﻧني ﻋﺎد ًة
أﻣﺮ ﺳﻬﻞ ﺑﺴﻴﻂ إذا ﻛﺎن ﻫﻨﺎك دراﺳﺎت ﻋﺪﻳﺪة ﻣﺘﺸﺎﺑﻬﺔ ﻟﻈﺎﻫﺮة ﻣﻌﻴﻨﺔ ،ﺑﺤﻴﺚ ﻳﻤﻜﻦ
ﻟﻠﺒﺎﺣﺚ أن ﻳﻬﻤﻞ اﻟﺴﻠﻮك اﻟﻔﺮدي املﺨﺘﻠﻒ أو اﻟﺤﺎﻻت اﻟﺸﺎذة اﻟﻘﻠﻴﻠﺔ أو ﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ
ُﻌﱪ ﻋﻦ اﻟﺴﻠﻮك اﻟﻌﺎم اﻟﺬي ﻳُﻤﺎ َرس ِﻣ ْﻦ ﻗِ ﺒَﻞ اﻟﻜﺘﻠﺔ اﻟﻜﺒرية
اﻟﺘﻔﺼﻴﻼت؛ ﻟﻜﻲ ﻳﻤﻜﻨﻪ أن ﻳ ﱢ
ﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﰲ ﻣﻮﻗﻒ ﻣﺸﺎﺑﻪ.
وذﻟﻚ ﻫﻮ ﻋني ﻣﺎ ﻳﻔﻌﻠﻪ اﻟﻜﻴﻤﻴﺎﺋﻲ أو اﻟﻔﺰﻳﺎﺋﻲ أو اﻟﺒﻜﱰﻳﻮﻟﻮﺟﻲ ،ﻓﻬﺆﻻء ﻳﺼﻔﻮن
اﻟﺴﻠﻮك اﻟﻌﺎم ﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻮﺣﺪات ،واﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺘﻲ ﻳﻀﻌﻮﻧﻬﺎ ﻣﺎ ﻫﻲ إﻻ ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺘﻘﺮﻳﺐ
اﻹﺣﺼﺎﺋﻲ.
وﻻ ﺷﻚ أن اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﻗﻮاﻧني وﻗﻮاﻋﺪ ﺗﺼﺒﺢ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺻﻌﺒﺔ ﺣني ﺗﺼﺒﺢ اﻟﻈﺎﻫﺮات
املﺴﺠﻠﺔ ﻗﻠﻴﻠﺔ ﻋﺪدﻳٍّﺎ ،وﻣﻠﺘﺰﻣﺔ ﺑﻮﻗﺖ وﻣﻜﺎن وﻇﺮوف ﻣﻌﻴﻨﺔ ،وﻣﻠﻴﺌﺔ ﺑﺘﺴﺠﻴﻞ اﻟﺘﻔﺼﻴﻼت
اﻟﺸﺎذة اﻟﺘﻲ ﺗﻬﻢ اﻟﺒﺎﺣﺚ أﺛﻨﺎء اﻟﺒﺤﺚ .وﺗﺰداد اﻟﺼﻌﻮﺑﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺘﻌﺬر ﻋﲆ اﻟﺒﺎﺣﺚ ﻋﺰل
ﻣﺸﺎﻋﺮه اﻟﺨﺎﺻﺔ أو ﺗﺤﻴﺰاﺗﻪ؛ أي أﻻ ﻳﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻣﻮﺿﻮﻋﻴٍّﺎ إزاء اﻟﻈﺎﻫﺮات
املﺴﺠﻠﺔ ،وﻫﺬه ﻫﻲ إﺣﺪى اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺼﺤﺐ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺎت.
88
ﻣﺪﺧﻞ إﱃ دراﺳﺔ اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ وﺑني اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ واﺿﺤﺔ؛ ﻷن اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎن ﻫﻲ
ﰲ ﺟﻮﻫﺮﻫﺎ دراﺳﺔ ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ.
اﻟﺒﺎﻟﻴﻮﻧﺘﻮﻟﻮﺟﻴﺎ Palaeontologie
وﻣﻌﻨﺎﻫﺎ اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺟﺪٍّا .وﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺔ ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺐ ﻛﺒري ﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ ﻟﻠﺘﻌﺮف
ﻋﲆ ﺳﻄﺢ اﻷرض ﰲ اﻟﻌﺼﻮر املﺨﺘﻠﻔﺔ ،وﻋﲆ اﻷﺣﻮال اﻹﻳﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ Ecologyﰲ ﺗﻠﻚ
اﻟﻌﺼﻮر ،وﻫﻲ اﻟﺘﻼؤم ﺑني اﻹﻧﺴﺎن واملﺤﻴﻂ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ املﻜﻮن ﻣﻦ ﺗﻼؤﻣﺎت أﺧﺮى ﻫﻲ:
اﻟﺘﴩﻳﺢ
وﻋﻼﻗﺔ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺑﻌﻠﻢ اﻟﺘﴩﻳﺢ ﻗﻮﻳﺔ ﺟﺪٍّا؛ ﻷﻧﻬﻤﺎ ﻳﻌﺎﻟﺠﺎن ﻋﺪدًا ﻣﻦ املﺸﻜﻼت
أﺳﺎﺳﺎ ﻳﺪرس اﻹﻧﺴﺎن وﻳﺤﻠﻞ اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت اﻟﺴﻼﻟﻴﺔ ﻟﺪرﺟﺔً املﺸﱰﻛﺔ .ﻓﻌﻠﻢ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
أﺻﺒﺢ ﻣﻌﻬﺎ ﺗﺪرﻳﺲ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻳﺘﻢ داﺧﻞ أﻗﺴﺎم اﻟﺘﴩﻳﺢ ﺑﻜﻠﻴﺎت اﻟﻄﺐ،
وﻗﺪ ﻗﻴﻞ ﻋﻦ ﺻﺪق إن أﺣﺪًا ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻪ أن ﻳﺘﺨﺼﺺ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻔﺮع ﻣﻦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ دون
ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺟﻴﺪة ﺑﺎﻟﺘﴩﻳﺢ ،وزﻳﺪ ﻋﲆ ذﻟﻚ أن اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻲ ﺑﺤﺎﺟﺔ ﻟﻴﺲ ﻓﻘﻂ إﱃ دراﺳﺔ
اﻟﺘﴩﻳﺢ ،وﻟﻜﻦ ً
أﻳﻀﺎ اﻹملﺎم ﺑﺒﻘﻴﺔ ﻓﺮوع اﻟﻄﺐ اﻟﻌﺎﻣﺔ.
89
اﻹﻧﺴﺎن
) (2-6اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑﻌﻠﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎع
ﻻ ﺷﻚ أن دﺧﻮل اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻣﻴﺪان اﻟﺒﺤﺚ ﰲ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ واﻟﱰﺗﻴﺐ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻳﻘﺮب
اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎع .ﻓﺎﻟﻘﻮل إن دراﺳﺔ أﻧﻤﺎط وأﻧﻮاع اﻟﻨﻈﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻫﻲ
إﺣﺪى أﺷﻜﺎل اﻟﺤﻀﺎرة ،وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﺗﻘﻊ ﺿﻤﻦ داﺋﺮة اﺧﺘﺼﺎص اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ،ﻻ ﻳﻐري ﻫﺬا
اﻟﻘﻮل ﻣﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﻮاﻗﻌﺔ ،وﻫﻲ أن ﻫﻨﺎك ﻋﻠﻤني اﺟﺘﻤﺎﻋﻴني :اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ وﻋﻠﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎع،
وﻳﻘﻮﻣﺎن ﺑﺪراﺳﺔ ﻣﻮﺿﻮع واﺣﺪ.
واﻟﻔﺎﺻﻞ اﻟﺸﺎﺋﻊ ﺑني اﻟﻌﻠﻤني ﻳﻘﻮل إن اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻫﻲ ﻋﻠﻢ اﻟﺤﻀﺎرة ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻋﻠﻢ
اﻻﺟﺘﻤﺎع ﻳﺨﺘﺺ ﺑﺎملﺠﺘﻤﻊ .وﻫﺬا اﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﺑني اﻟﻌﻠﻤني ﻳﺆدي ﰲ رأي اﻷﺳﺘﺎذ وﻳﻠﻤﺰ Emilio
7 Willemsإﱃ ﻓﺼﻞ ﺧﺎﻃﺊ ،ﻛﻤﺎ ﻳﺆدي إﱃ اﻟﺨﻄﺄ ﰲ ﻓﻬﻢ ﻣﻨﺎﻫﺞ وﻫﺪف اﻟﻌﻠﻤني ،ﻓﻬﻤﺎ
ﻣﻌً ﺎ — ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﻓﻴﻠﻤﺰ — ﻳﺪرﺳﺎن املﺠﺘﻤﻊ ﻋﲆ أﺳﺎس أﻧﻪ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﻈﻢ اﻟﺘﻲ
ﺗﻨﻈﻢ ﻋﻼﻗﺎت اﻷﻓﺮاد .وﻟﻜﻨﻨﺎ إذا ﻧﻈﺮﻧﺎ إﱃ اﻟﻌﻠﻤني ﻧﻈﺮة ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ
ﻛﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻣﺎ ﻳﻤﻴﺰ اﻵﺧﺮ ،وأﻫﻢ أوﺟﻪ اﻻﺧﺘﻼف ﻫﻲ:
) (١اﺧﺘﻼف اﻟﻨﺸﺄة.
Willems, E., “Ethnologie” in “Soziologie” Fisher Lexikon ed. R., Koenig, Frankfurt, 1958. 7
.P. 53
90
ﻣﺪﺧﻞ إﱃ دراﺳﺔ اﻹﻧﺴﺎن
ﻫﻨﺎك ﻋﻼﻗﺔ واﻗﱰاب ﻛﺒري ﺑني اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ وﻋﻠﻢ اﻟﻨﻔﺲ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ .ذﻟﻚ أن دراﺳﺔ
اﻻرﺗﺒﺎﻃﺎت ﺑني اﻟﺤﻀﺎرة واﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻗﺪ أﺻﺒﺤﺖ ﻣﻨﻬﺞ ﻋﺪد ﻻ ﺑﺄس ﺑﻪ ﻣﻦ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني،
ً
اﺗﺠﺎﻫﺎ ﺟﺪﻳﺪًا ﻟﺪراﺳﺔ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﺗﺤﺖ ﺗﺄﺛري أﺷﻜﺎل ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻣﻤﺎ ﺧﻠﻖ
91
اﻹﻧﺴﺎن
ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ،ودراﺳﺔ اﻟﻨﻮاﺣﻲ اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﺘﻐري اﻟﺤﻀﺎري ﻣﻦ
ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى.
اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑﺎﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺎ
ﻻ ﺷﻚ أن ﻋﻼﻗﺔ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ،ﺑﻞ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺑﻤﺠﻤﻮﻋﻬﺎ ﺑﺎﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺎ ﻋﻼﻗﺔ وﺛﻴﻘﺔ ،ﺑﻞ
إن ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴني اﻟﻘﺪﻣﺎء ﻗﺪ ﻛﺘﺒﻮا ﰲ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﻫﻲ اﻵن ﺗﺨﺼﺺ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ.
وﻻ أدل ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻣﻦ أﺑﺤﺎث ﻋﺪد اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴني اﻟﻌﻈﺎم؛ ﻣﺜﻞ :ﻓﺮﻳﺪرﻳﻚ راﺗﺰل Frederich
،Ratzelإدوارد ﻫﺎن .Eduard Hahn
وﻗﺪ أدى ذﻟﻚ ،وﺧﺎﺻﺔ ﻛﺘﺎﺑﺎت اﻷﺳﺘﺎذ ،Ratzelإﱃ ﺧﻠﻖ ﺗﺨﺼﺺ ﰲ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺎ
ﺑﺎﺳﻢ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺎ اﻟﺒﴩﻳﺔ واﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﺟﻐﺮاﻓﻴﺎ — Anthropogeographieوﺗﻬﺪف ﻫﺬه
92
ﻣﺪﺧﻞ إﱃ دراﺳﺔ اﻹﻧﺴﺎن
أﺻﺒﺢ ﻫﻨﺎك اﺗﺠﺎه ﻣﺘﺰاﻳﺪ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني إﱃ ارﺗﺒﺎﻃﺎت أﻛﺜﺮ ﺑﺎﻟﻌﻠﻮم اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ .وﻟﻘﺪ وﺿﺤﺖ أﻫﻤﻴﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎد ﺑﻌﺪ أن زادت ﺣﺎﺟﺔ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني إﱃ ارﺗﺒﺎﻃﺎت
أﻛﺜﺮ ﻟﺪراﺳﺔ وﺗﺴﺠﻴﻞ اﻟﻨﻈﺎم اﻻﻗﺘﺼﺎدي ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﺪرﺳﻮﻧﻬﺎ .وﻛﺬﻟﻚ أﺻﺒﺢ ﻫﻨﺎك
ﻋﺪد ﻣﻦ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳني املﻬﺘﻤني ﺑﺎﻟﻨﻈﻢ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻛﺘﺸﺎف اﻟﻄﺮق اﻟﻌﺪﻳﺪة اﻟﺘﻲ
ﻛﺎن اﻹﻧﺴﺎن ﻳﺤﻞ ﺑﻬﺎ ﻣﺸﻜﻼﺗﻪ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ،وﻣﻦ ﺛﻢ اﺳﺘﻔﺎد ﻋﻠﻢ اﻻﻗﺘﺼﺎد اﺳﺘﻔﺎدة
واﺿﺤﺔ ﻣﻦ ﻧﺘﺎﺋﺞ اﻟﺪراﺳﺎت اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﰲ ﻣﺠﺎل دراﺳﺔ اﻟﻨﻈﻢ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ .وﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ
أﺧﺮى أدت اﻟﺪراﺳﺎت اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ إﱃ زﻳﺎدة املﻌﺮﻓﺔ ﻋﻦ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻨﻈﻢ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ وﺗﻌﺪدﻫﺎ،
وزادت ﻣﻦ ﻣﻌﻠﻮﻣﺎﺗﻨﺎ ﺑﺪﻗﺎﺋﻖ وﻃﺒﻴﻌﺔ وﻣﻌﻨﻰ ووﻇﻴﻔﺔ أﺷﻜﺎل اﻟﺤﻜﻢ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت
اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ.
93
اﻹﻧﺴﺎن
وﻫﻜﺬا ﻳﺘﻀﺢ ﻟﻨﺎ ﻛﻴﻒ ﺗﻤﺪ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻋﻠﻤً ﺎ ﻛﺎﻟﺴﻴﺎﺳﺔ واﻟﺤﻜﻢ ﺑﻤﻌﻠﻮﻣﺎت ﻻ ﻣﺜﻴﻞ
ﻟﻬﺎ داﺧﻞ ﻣﻨﺎﻫﺠﻪ اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻈﻬﺮ ﰲ ﺳﻴﺎق وﺻﻴﺎﻏﺔ اﻟﺪﺳﺎﺗري واﻟﺘﴩﻳﻌﺎت واﻟﻘﻮاﻧني
اﻷوروﺑﻴﺔ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻏري اﻷوروﺑﻴﺔ .وﺗﻮﺿﺢ ﻟﻨﺎ ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺎت ﺗﻌﺪد أﻋﻤﺎق اﻟﺘﻔﻜري
اﻟﺒﴩي ﰲ َﺳ ﱢﻦ اﻟﻘﻮاﻧني واﻟﺘﴩﻳﻌﺎت ﺑﻤﺎ ﻳﺘﻔﻖ وﺣﻀﺎرة املﺠﺘﻤﻊ؛ ﻣﻤﺎ ﻗﺪ ﻳﺴﺎﻋﺪ اﻟﺴﺎﺳﺔ
املﻌﺎﴏﻳﻦ ﻋﲆ ﻓﻬﻢ أﻋﻤﻖ ملﺸﻜﻼت املﺠﺘﻤﻌﺎت املﺘﺨﻠﻔﺔ ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴٍّﺎ وﻳﺸﺠﻌﻬﻢ ﻋﲆ ﻋﺪم
ﻓﺮض ﻗﻮاﻧني ﺣﺪﻳﺜﺔ ﺑﺪون ﻣﱪر ،واﻟﱰوي ﰲ ﻓﺮض ﻫﺬه اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺠﺪﻳﺪة.
94
ﻣﺪﺧﻞ إﱃ دراﺳﺔ اﻹﻧﺴﺎن
وﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺘﺺ ﺑﺪراﺳﺔ املﺂﺛﺮ اﻷدﺑﻴﺔ ،ﻧﺠﺪ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ﻳﻘﻮم ﺑﺎﻟﺪراﺳﺔ ﺣﺴﺐ ﺧﻄﺔ
دراﺳﺔ اﻵداب ﻋﺎﻣﺔ؛ أي دراﺳﺔ ﻣﺸﻜﻼت اﻷﺳﻠﻮب واﻟﺘﺴﻠﺴﻞ اﻟﻘﺼﴢ واﻟﻌﻘﺪة اﻟﺘﻲ
ﻳﺪور ﺣﻮﻟﻬﺎ اﻹﻧﺘﺎج اﻷدﺑﻲ وﻃﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﺸﻮﻳﻖ واﻹﺛﺎرة وﺷﺪ اﻷﻋﺼﺎب اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮد إﱃ ﻗﻤﺔ
اﻟﻘﻄﻌﺔ اﻷدﺑﻴﺔ .ﻛﺬﻟﻚ دراﺳﺎت ﻣﺸﻜﻼت اﻟﺘﻐﻴري واﻟﺘﺒﺪﻳﻞ ﰲ اﻟﻘﺼﺔ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﺗﻨﺘﻘﻞ ﻣﻦ
ﺷﻌﺐ إﱃ آﺧﺮ ،ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﻣﻦ ﺗﻐري اﻷﺳﻠﻮب ﺣﺴﺐ اﻟﺬوق اﻷدﺑﻲ ﻟﻠﺸﻌﻮب املﺨﺘﻠﻔﺔ.
وأﺧريًا ﺗﺄﺗﻲ دراﺳﺔ ﻣﺸﻜﻠﺔ أﺻﻞ اﻟﻘﺼﺔ وﻣﺼﺪرﻫﺎ واﻧﺘﺸﺎرﻫﺎ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻳﺘﺠﻤﻊ ﻟﺪى
اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ﻣﺼﺪر ﺟﺪﻳﺪ ﻟﺪراﺳﺔ اﻟﻌﻼﻗﺎت واﻟﻬﺠﺮات اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ .وﺗﺤﺖ ﻫﺬا اﻧﻄﻮت
أﺧريًا دراﺳﺔ »اﻟﻨﻜﺘﺔ« ،وﺧﺎﺻﺔ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗﺸري إﱃ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ ﻟﺘﻔﻬﱡ ﻢ ﻛﺜري ﻣﻦ
دﻗﺎﺋﻖ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻔﺮدﻳﺔ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت.
وﺛﻤﺔ ﺣﻘﻞ آﺧﺮ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺪراﺳﺔ ،ﻫﻮ املﻮﺳﻴﻘﻰ املﻘﺎرﻧﺔ أو املﻮﺳﻴﻘﻮﻟﻮﺟﻴﺔ،
وﻫﻲ إﺣﺪى اﻟﺤﻘﻮل اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﺪأ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ﻳﻬﺘﻢ ﺑﻬﺎ .ﻓﻜﻞ اﻟﺸﻌﻮب ﺗﺼﻮغ
املﻮﺳﻴﻘﻰ ﺣﺴﺐ ﻗﻮاﻋﺪ وأﺻﻮل ﻣﺮﻋﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ املﺆﻟﻒ املﻮﺳﻴﻘﻲ ﻻ ﻳﺪرس ﻫﺬه اﻟﻘﻮاﻋﺪ
أﺛﻨﺎء إﻧﺸﺎﺋﻪ ﻟﻠﻘﻄﻌﺔ املﻮﺳﻴﻘﻴﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﻔﻌﻞ ﻛﻞ اﻟﻨﺎس ﺣني ﻳﺘﻜﻠﻤﻮن؛ ﻓﻬﻢ ﻻ ﻳﺒﺤﺜﻮن
ﻋﻦ اﻷﺟﺮوﻣﻴﺔ )اﻟﻘﻮاﻋﺪ( ﻗﺒﻞ ﻛﻞ ﻟﻔﻈﺔ أو ﺟﻤﻠﺔ ﺗﻨﻄﻠﻖ ﺑﻬﺎ أﻟﺴﻨﺘﻬﻢ .وذﻟﻚ ﻷن املﺘﻜﻠﻢ
واملﻮﺳﻴﻘﻲ )املﺆﻟﻒ( ﰲ اﻟﺤﺎﻟﺘني ﻳﻨﺸﺊ ﻣﺎ ﻳﻔﻌﻠﻪ ﻋﲆ ﺿﻮء اﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻟﺮاﺳﺒﺔ ﰲ اﻟﻌﻘﻞ
اﻟﺒﺎﻃﻦ ،وﺗﺴﺠﻴﻞ ﻣﻮﺳﻴﻘﻰ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻳﻌﻄﻴﻨﺎ أداة ﻃﻴﺒﺔ ﻟﺪراﺳﺔ واﺧﺘﺒﺎر اﻻﺳﺘﻘﺮار اﻟﺤﻀﺎري
واﻟﻔﺮدﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻈﻬﺮ أﺛﻨﺎء اﻟﻘﻴﺎم ﺑﺎﻷداء املﻮﺳﻴﻘﻲ وإﻋﺎدة اﻟﻠﺤﻦ )اﻟﺘﻠﺤني( ﻋﲆ أﻧﻐﺎم
ﻗﺪﻳﻤﺔ ﰲ ﻣﺤﻴﻂ ﺣﻀﺎري ﺟﺪﻳﺪ أو ﻣﺘﻐري .وﻻ ﺷﻚ أن ﻫﺬه اﻷﻧﻐﺎم ﺗﻘﺪم ﻟﻠﻤﺆﻟﻒ املﻮﺳﻴﻘﻲ
إﻳﺤﺎءات وإﻟﻬﺎﻣﺎت ﺟﺪﻳﺪة؛ ﻣﺜﻞ :ﺳﱰاﻓﻨﺴﻜﻲ وﺗﺄﺛﺮه ﺑﻤﻮﺳﻴﻘﻰ اﻟﻬﻨﻮد اﻟﺤﻤﺮ واﻟﺠﺎز
اﻷﻣﺮﻳﻜﻲ واﻟﺘﺄﺛري اﻷﻓﺮﻳﻘﻲ ﻋﻠﻴﻪ ،وﺳﻴﺪ دروﻳﺶ واﻷﻧﻐﺎم اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ اﻟﺸﺎﺋﻌﺔ ﰲ ﻣﴫ.
95
اﻟﻘﺴﻢ اﻷول
ﺗﻨﺘﻤﻲ ﻛﻞ اﻷﻧﻮاع اﻟﺤﻴﺔ ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﰲ وﻗﺘﻨﺎ اﻟﺮاﻫﻦ إﱃ ﻧﻮع ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻲ واﺣﺪ ،ﻫﻮ
ﻣﺎ ﻧﺴﻤﻴﻪ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ ،وﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﻷﻣﺮ ﺧﻼل اﻟﻔﱰة اﻟﺘﻲ ﻋﺎﺷﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن
وأﺷﺒﺎﻫﻪ ﻋﲆ اﻷرض؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﰲ املﺎﴈ أﻧﻮاع ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎن وأﺷﺒﺎه اﻹﻧﺴﺎن
ﺗﺼﺎرع اﻟﻈﺮوف اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺤﻴﺎة .واﻟﻴﻮم ﺗﺤﺘﻞ اﻷرض ﺳﻼﻟﺔ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ
اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻘﺴﻢ إﱃ ﺳﻼﻻت ﻓﺮﻋﻴﺔ ﻋﺪﻳﺪة ﺗﻜﻮن ﻣﺎ ﻧﻌﺮﻓﻪ اﻵن ﻣﻦ املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺴﻼﻟﻴﺔ
اﻟﻔﺮﻋﻴﺔ واﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ .وﻳﺪرس ﻋﻠﻢ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻫﺬه املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ
ﻟﺘﺤﺪﻳﺪ ﺻﻔﺎﺗﻬﺎ املﺸﱰﻛﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺆﻟﻒ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن املﻌﺎﴏ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻳﺪرس
املﻤﻴﺰات اﻟﺨﺎﺻﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻔﺮد ﺑﻬﺎ ﻛﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺳﻼﻟﻴﺔ ﻋﻦ اﻷﺧﺮى ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﺛﺎﻧﻴﺔ ،وﻳﻬﺘﻢ
ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﺛﺎﻟﺜﺔ ﺑﺪراﺳﺔ ﺗﻄﻮر اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻨﺬ ﻧﺸﺄﺗﻪ ﺣﺘﻰ اﻟﻴﻮم.
وﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﺒﺪأ ﻫﺬا اﻟﻌﻠﻢ ﺑﺪراﺳﺔ اﻹﻧﺴﺎن ﰲ ﻣﺎ ﻗﺒﻞ اﻟﺘﺎرﻳﺦ؛ ﻓﺈن ﻣﺼﺪره اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻫﻮ
اﻟﻬﻴﺎﻛﻞ اﻟﻌﻈﻤﻴﺔ ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ املﻮﻣﻴﺎء ،ﻣﻌﻈﻤﻬﺎ راﺟﻊ إﱃ ﺗﺎرﻳﺦ ﺣﺪﻳﺚ ﺟﺪٍّا
ﺑﺎملﻘﺎرﻧﺔ ﺑﺘﺎرﻳﺦ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﻔﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ .وﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل ﻳﺄﻣﻞ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﻮن اﻟﺴﻮﻓﻴﺖ
ﻛﺎﻣﻼ ﻣﺪﻓﻮﻧًﺎ ﰲ ﺟﻠﻴﺪ ﺳﻴﺒريﻳﺎ،
ً اﻟﻌﺜﻮر ﻋﲆ إﻧﺴﺎن ﻣﺎ ﻗﺒﻞ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﺑﻠﺤﻤﻪ وﻋﻈﻤﻪ وﺷﻌﺮه
وﻟﻜﻦ إﱃ أن ﻧﺼﻞ إﱃ ﻫﺬا اﻟﻜﺸﻒ ﻓﻌﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﻘﻨﻊ ﺑﺎملﺨﻠﻔﺎت اﻟﻌﻈﻤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺠﺪﻫﺎ ﻫﻨﺎ
وﻫﻨﺎك ﰲ أﺟﺰاء ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻄﻤﻮرة ﰲ ﺣﻔﺮﻳﺎت ﻓﻴﻀﻴﺔ أو ﻣﺘﺤﺠﺮة.
وﺑﻤﺎ أن ﻫﺬا اﻟﻔﺮع ﻣﻦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻳُﻌﻨَﻰ ﺑﺪراﺳﺔ اﻹﻧﺴﺎن ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴٍّﺎ؛ ﻓﺈن أول
ﻣﺎ ﻳﺠﺐ أن ﻧﻌﺎﻟﺠﻪ ﻫﻮ ﻣﻮﺿﻮع اﻟﺴﻼﻟﺔ؛ ﻷن ﻫﺪف ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺔ ﻫﻮ ﺗﺼﻨﻴﻒ اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﻘﺪﻳﻢ أو املﻌﺎﴏ ﰲ ﺳﻼﻻت .ﻓﻤﺎذا ﺗﻌﻨﻲ ﻛﻠﻤﺔ ﺳﻼﻟﺔ؟
اﻹﻧﺴﺎن
ﻣﺴﺘﻘﻼ ،ﻛﺎن اﺧﺘﻼف املﻈﺎﻫﺮ ٍّ ﰲ املﺎﴈ ﻗﺒﻞ أن ﺗﺼﺒﺢ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻋﻠﻤً ﺎ
ﻣﺠﺎﻻ ﻟﻠﻜﻼم اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ ﻋﻠﻮم اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ؛ ذﻟﻚ أن ﺗﻐﺎﻳﺮ ً اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ ﻟﻠﻨﺎس
اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺒﴩﻳﺔ واﺿﺢ ﺑني ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ وأﺧﺮى ﰲ اﻟﻠﻮن أو ﺷﻜﻞ اﻟﺸﻌﺮ أو ﻟﻮن اﻟﻌني أو
ﻃﻮل اﻟﻘﺎﻣﺔ أو ﺷﻜﻞ اﻷﻧﻒ ،وﻣﺎ إﱃ ذﻟﻚ ﻣﻦ املﻤﻴﺰات اﻟﻈﺎﻫﺮﻳﺔ ﻟﻠﻤﺠﻤﻮﻋﺎت اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ.
وﺑﻌﺪ أن اﻧﻔﺼﻞ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع وأﺻﺒﺢ ﻋﻠﻤً ﺎ ﻗﺎﺋﻤً ﺎ ﺑﺬاﺗﻪ ﻟﻪ ﻣﻨﺎﻫﺠﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﻛﺎن
املﺘﻮﻗﻊ أن ﻳﻌﻄﻲ اﻟﻌﻠﻢ ﺗﻔﺴريًا واﺿﺤً ﺎ ملﺼﻄﻠﺢ اﻟﺴﻼﻟﺔ ،إﻻ أن ﻛﻠﻤﺔ ﺳﻼﻟﺔ ﻣﺎ زاﻟﺖ أﻣ ًﺮا
ً
ﻏﺎﻣﻀﺎ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻌﻠﻤﺎء.
واملﻼﺣﻆ أن ﻛﻠﻤﺔ ﺳﻼﻟﺔ ﻗﺪ ﻧﺸﺄت ﻗﺒﻞ أي ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻋﻠﻤﻲ ﺳﺎﺑﻖ؛ ﻓﻘﺪ ﻻﺣﻆ اﻟﻨﺎس
ﻣﻨﺬ اﻟﻘﺪم اﺧﺘﻼﻓﺎت ﺑني اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻴﺰ ﺑني املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺒﴩﻳﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ ،وﻟﻜﻦ
اﻟﻨﺎس ﻟﻢ ﻳﻬﺘﻤﻮا ﺑﺪراﺳﺔ ﻫﺬه اﻟﺨﻼﻓﺎت ،ﺑﻞ إن ﻛﻞ ﻣﺎ ﺗﻄﺮق إﱃ ذﻫﻨﻬﻢ ﻫﻮ ﻫﺬا اﻟﺴﺆال:
ﻫﻞ ﻫﻨﺎك ﺗﻌﺪد ﰲ اﻷﻧﻮاع؟ وﻳﻼﺣﻆ أن ﻣﻮﺿﻮع وﺣﺪة أﺻﻞ اﻹﻧﺴﺎن اﻗﱰن ﻣﻦ ٢٠٠٠
ﺳﻨﺔ أو أﻛﺜﺮ ﺑﻔﻜﺮة اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ ﻋﻦ أﺻﻞ اﻹﻧﺴﺎن .ﻓﺎﻟﺪﻳﺎﻧﺎت اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ اﻟﺜﻼث اﺗﻔﻘﺖ ﻓﻴﻤﺎ
ﺑﻴﻨﻬﺎ ﻋﲆ أﺻﻞ واﺣﺪ ﻟﻺﻧﺴﺎن )آدم وﺣﻮاء( ،وﻗﺪ دﻋﺎ ﻫﺬا اﻟﺘﺄﻛﻴﺪ اﻟﺪﻳﻨﻲ اﻟﻜﺜريﻳﻦ إﱃ
اﻟﱰدد ﰲ ﻣﺨﺎﻟﻔﺔ ﻫﺬا اﻟﻨﺺ اﻟﺪﻳﻨﻲ اﻟﴫﻳﺢ؛ ﻣﻤﺎ ﺟﻌﻞ اﻟﻨﺎس ﻣﺘﺤﻴﺰﻳﻦ — ﺳﻮاء أرادوا
أو ﻟﻢ ﻳﺮﻳﺪوا — ﻟﻔﻜﺮة اﻷﺻﻞ اﻟﻮاﺣﺪ ﻟﻺﻧﺴﺎن.
وﻟﻜﻨﻨﺎ ﻧﻼﺣﻆ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ ،وﺧﺎﺻﺔ ﺑﻌﺪ اﻟﺘﻤﺮد ﻋﲆ ﻗﻴﻮد اﻟﺪﻳﻦ ﰲ أوروﺑﺎ ،وﻋﲆ
اﻷﺧﺺ ﻣﺮة أﺧﺮى ﺑﻌﺪ اﻻﺳﺘﻌﻤﺎر اﻷوروﺑﻲ ﻟﻘﺎرات اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺠﻬﻮﻟﺔ ﻣﻦ أﻣﺮﻳﻜﺎ وأﺳﱰاﻟﻴﺎ
إﱃ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،ﻧﻼﺣﻆ أن ﺑﻌﺾ اﻟﻜﺘﱠﺎب ﻗﺪ ﺣﺎوﻟﻮا ﺗﺪﻋﻴﻢ ﻓﻜﺮة وﺟﻮد ﻋﺪة أﺻﻮل ﻟﻺﻧﺴﺎﻧﻴﺔ،
ﻛﺎﻣﻼ ﻋﻦ اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﺰﻧﺠﻴﺔ ً ً
اﺧﺘﻼﻓﺎ ﺑﻤﻌﻨﻰ أن اﻟﺴﻼﻻت اﻷوروﺑﻴﺔ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﰲ أﺻﻠﻬﺎ
واملﻐﻮﻟﻴﺔ .وﻧﻼﺣﻆ أن ﻫﺬا اﻻﺗﺠﺎه ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﰲ ﺑﺪاﻳﺘﻪ ﻣﻮﺿﻮﻋً ﺎ ﻋﻠﻤﻴٍّﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻛﺎن ﻣﻦ
أﺟﻞ ﺗﻐﻠﺐ وﺗﺪﻋﻴﻢ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﺳﻴﺎدة اﻟﺮﺟﻞ اﻷﺑﻴﺾ وﺗﱪﻳ ًﺮا ﻹﺑﺎدة أو اﺳﱰﻗﺎق اﻷﺳﱰاﻟﻴني
اﻷﺻﻠﻴني واﻟﺘﺴﻤﺎﻧﻴني أو اﻟﻬﻨﻮد اﻟﺤﻤﺮ »اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ« Amerindواﻟﺰﻧﻮج اﻷﻓﺮﻳﻘﻴني.
وﰲ أواﺋﻞ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ﻋﺎدت ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻣﺮة ﺛﺎﻧﻴﺔ إﱃ اﻟﻈﻬﻮر ﰲ ﺻﻮرة ﺷﺒﻪ
ﻋﻠﻤﻴﺔ أﺧﺬت ﺷﻜﻞ ﺷﻜﻮك ،ﻳﻌﻠﻦ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻌﺾ اﻟﻌﻠﻤﺎء أﻧﻬﻢ ﻳﻈﻨﻮن أن اﻟﺴﻼﻟﺔ املﻐﻮﻟﻴﺔ ذات
أﺻﻞ ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﺈﻧﺴﺎن ﺑﻜني ،Sinanthropos Pekinensisوأن اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﺰﻧﺠﻴﺔ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ
ﺑﺈﻧﺴﺎن ﺟﺎوة .ﻫﺬه اﻟﺸﻜﻮك ﺳﺎورت اﻟﺬﻳﻦ اﻛﺘﺸﻔﻮا ﻫﺬه اﻟﺤﻔﺮﻳﺎت ،وﺧﺎﺻﺔ اﻷﺳﺘﺎذ
ﻓﺮاﻧﺰ ﻓﺎﻳﺪن راﻳﺦ Franz Weidenreichاﻟﺬي ﻗﺎل :إن ﰲ إﻧﺴﺎن ﺑﻜني ﺑﻌﺾ املﻤﻴﺰات
اﻟﺘﻲ ﺗﺸﺎﺑﻪ ﻣﻤﻴﺰات اﻟﺴﻼﻟﺔ املﻐﻮﻟﻴﺔ املﻌﺎﴏة ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﺮأي ُﻗﻮ ِﺑﻞ ﺑﻬﺠﻮم ﺷﺪﻳﺪ ﻣﻦ
ﺟﺎﻧﺐ اﻟﻌﻠﻤﺎء املﺤﻨﻜني واﻟﺤﻜﻤﺎء.
100
ﻧﻮع اﻟﺴﻼﻟﺔ وﺗﻄﻮر ﻧﻮع اﻹﻧﺴﺎن
وأﺧريًا ،ﻳﻈﻬﺮ ﻟﻨﺎ اﻷﺳﺘﺎذ املﻌﺎﴏ ﻛﺎرﻟﺘﻮن ﺳﺘﻴﻔﻨﺲ ﻛﻮون 1ﺑﻨﻈﺮﻳﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﻧﴩﻫﺎ
ﰲ ،١٩٦٢وﰲ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ﻳﻌﺪل Coonﻋﻦ ﺟﻤﻴﻊ آراﺋﻪ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ وﻳﻌﻠﻦ ﻓﻜﺮة أﺻﻮل
ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ اﻹﻧﺴﺎن املﻌﺎﴏ ،وﻳﺮى أن ﻫﻨﺎك ﺧﻤﺴﺔ أﺻﻮل ﻟﺨﻤﺲ ﺳﻼﻻت ﺗﺤﺘﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ
اﻟﻴﻮم ،وﻫﻲ:
) (١اﻷﺳﱰاﻟﻴﻮن أو اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﻮن) :ﺟﻨﻮب (Australﻫﺆﻻء ﻧﺸﺌﻮا ﰲ ﺟﺰﻳﺮة ﺟﺎوة
أﺻﻼ واﻷرض اﻵﺳﻴﻮﻳﺔ املﺠﺎورة ﻟﺠﺎوة ،وأﺻﻠﻬﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻳﺮﺟﻊ إﱃ إﻧﺴﺎن ﺟﺎوة ،ﺛﻢ ً
ﺗﻄﻮروا ﻋﲆ ﻣﺮ اﻟﺰﻣﻦ إﱃ أن أﺻﺒﺤﻮا ﺳﻜﺎن أﺳﱰاﻟﻴﺎ اﻷﺻﻠﻴني وﺳﻜﺎن ﺑﺎﺑﻮا Papua
)اﻟﺠﺰء اﻷوﺳﻂ واﻟﴩﻗﻲ ﻣﻦ ﻏﻴﻨﻴﺎ اﻟﺠﺪﻳﺪة( واملﻴﻼﻧﻴﺰﻳني وأﻗﺰام ﺟﻨﻮب ﴍﻗﻲ آﺳﻴﺎ؛
ﻗﺒﺎﺋﻞ اﻷﻳﻴﺘﺎ ﰲ ﺟﺰﻳﺮة ﻟﻮزون ﰲ ﺷﻤﺎل اﻟﻔﻠﺒني ،واﻟﺴﻤﺎﻧﺞ ﰲ أواﺳﻂ ﺷﺒﻪ ﺟﺰﻳﺮة املﻼﻳﻮ،
واﻷﻧﺪﻣﺎﻧﻴﻮن ﰲ ﺟﺰر أﻧﺪﻣﺎن ﰲ ﺧﻠﻴﺞ اﻟﺒﻨﺠﺎل.
وﻳُﻀﺎف إﱃ ﻫﺬه املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ اﻷﺻﻞ ﺑﻌﺾ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﺳﻼﻟﻴﺔ ﺗﺴﻜﻦ ﺟﻨﻮب
اﻟﻬﻨﺪ؛ ﻣﺜﻞ ﺗﺎﻣﻴﲇ .Tamili
ً
) (٢املﻐﻮل :وﻫﺆﻻء ﻧﺸﺌﻮا أﺻﻼ ﰲ اﻟﺼني ﻣﻨﺤﺪرﻳﻦ ﻋﻦ إﻧﺴﺎن ﺑﻜني ،وﺑﻤﺮور اﻟﻮﻗﺖ
أﻳﻀﺎ إﱃ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ ،واﻧﺘﴩوا ﰲ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺘﻲ ﻳﻨﺘﴩ ﻓﻴﻬﺎ املﻐﻮل اﻟﻴﻮم: ﺗﻄﻮروا ً
ﴍق آﺳﻴﺎ وﺷﻤﺎﻟﻬﺎ ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻵﻳﻨﻮ Ainuاﻟﺬﻳﻦ ﻳﻌﻴﺸﻮن ﰲ ﺟﺰﻳﺮة ﻫﻮﻛﺎﻳﺪو
ﰲ ﺷﻤﺎل اﻟﻴﺎﺑﺎن ،وﺟﺰﻳﺮة ﺳﺨﺎﻟني اﻟﺴﻮﻓﻴﺘﻴﺔ إﱃ اﻟﺸﻤﺎل ﻣﻨﻬﺎ .ﻛﻤﺎ ﻳﻤﺘﺪ املﻐﻮل ً
أﻳﻀﺎ ﰲ
أﻳﻀﺎ اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ واﻷﻣﺮﻧﺪ ﰲ اﻷﻣﺮﻳﻜﺘني. ﺑﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳﺎ ،وﻳﻨﺘﻤﻲ إﻟﻴﻬﻢ ً
) (٣اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳﻮن :وﻫﺆﻻء ﻧﺸﺌﻮا ﰲ ﻣﻜﺎن ﻣﺎ ﰲ ﻏﺮب آﺳﻴﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻣﻼﻣﺤﻬﻢ ﻋﲆ ﻣﺎ
ﻫﻲ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺘﻲ ﻧﺴﻤﻴﻬﺎ اﻟﻴﻮم اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳﺔ.
وﻳﻮاﺻﻞ ﻛﻮون ﻛﻼﻣﻪ ،ﻓﻴﻘﻮل :ﻣﻨﺬ ٢٥٠أﻟﻒ ﺳﻨﺔ )!( ﺗﻄﻮر ﺑﻌﻀﻬﻢ إﱃ ﺻﻮرة
اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ اﻷوروﺑﻲ اﻟﺤﺎﱄ ،وﻣﻦ ﻫﺆﻻء ﺗﺴﻠﺴﻞ اﻷوروﺑﻴﻮن وﺗﺸﻌﺒﺎﺗﻬﻢ ﻋﱪ اﻟﺒﺤﺎر
أﻳﻀﺎ ﰲ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ ،وﻳﻌﻮد إﻟﻴﻬﻢ ﻣﻌﻈﻢ إﱃ أﻗﺮﺑﺎﺋﻬﻢ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴني وﻏريﻫﻢ ،ﻛﻤﺎ اﻧﺘﴩوا ً
اﺣﺘﻤﺎﻻ ﻗﻮﻳٍّﺎ أن ﻳﻜﻮن اﻵﻳﻨﻮ ﻣﻨﻬﻢ ً
أﻳﻀﺎ. ً ﺳﻜﺎن اﻟﻬﻨﺪ ،ﻛﻤﺎ أن ﻫﻨﺎك
) (٤ﺳﻼﻟﺔ اﻟﺮأس :Capoidsوﻫﺆﻻء ﰲ ﻧﻈﺮ ﻛﻮون ﻳﻜﻮﻧﻮن ﺳﻼﻟﺔ ﻗﺎﺋﻤﺔ ﺑﺬاﺗﻬﺎ
وﴍﻗﺎ وﺗﻄﻮرت إﱃ ﻣﺎ ﻧﻌﺮﻓﻪ اﻟﻴﻮم اﻟﺒﻮﺷﻤﻦً ﻋﱪت إﱃ ﺷﻤﺎل أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،ﺛﻢ دﻓﻌﺖ ﺟﻨﻮﺑًﺎ
واﻟﻬﻮﺗﻨﺘﻮث ﺑﺠﻨﻮب ﻏﺮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ.
101
اﻹﻧﺴﺎن
2ﺗﻌﺮض ﻛﻮون ﻟﻨﻘﺪ ﻻذع ﻣﻦ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻷﺧﺼﺎﺋﻴني ﻧﺬﻛﺮ ﻣﻨﻬﻢ (١) :ﺗﻴﻮدوﺳﻴﺲ دوﺑﺰاﻧﺴﻜﻲ اﻟﺬي
ﻣﺴﺘﻘﻼ ﺧﻤﺲ ﻣﺮات اﺣﺘﻤﺎل ﺷﺪﻳﺪ اﻟﻀﺂﻟﺔ Vanishingly ٍّ ﻗﺎل» :اﺣﺘﻤﺎل أن اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ ﻗﺪ ﺗﻄﻮر
.Smallوﻻ ﺷﻚ أن اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ ﻧﻮع ﺷﺪﻳﺪ اﻟﺘﻨﻮع ،ﻟﻜﻦ درﺟﺔ اﻻﺧﺘﻼف ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺼﻞ إﱃ ﻣﺮﺗﺒﺔ
ﺗﻜﻮﻳﻦ أﻧﻮاع ﺟﺪﻳﺪة …« ) (٢ﺟﻮزﻳﻒ ﺑريدﺳﻞ اﻟﺬي ﻗﺎل ﺑﻌﺪ اﻟﺪراﺳﺔ …» :إن ٪٢ﻓﻘﻂ ﻣﻦ اﻷﺳﱰاﻟﻴني
ﻳﺘﺼﻔﻮن ﺑﺎﻟﺼﻔﺎت اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ ﺣﺴﺐ ﺗﺼﻨﻴﻒ ﻛﻮون … ﻛﺬﻟﻚ ﻛﺜري ﻣﻦ املﻘﺎﻳﻴﺲ اﻟﻮﺟﻬﻴﺔ اﻟﺘﻲ اﺑﺘﻜﺮﻫﺎ
ﻛﻮون ﻟﺘﺪﻋﻴﻢ رأﻳﻪ ﻗﺪ أ ُ ِﳼء ﺗﻄﺒﻴﻘﻬﺎ ،وإن ﺗﻄﺒﻴﻘﻬﺎ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻳﺆدي إﱃ ﺗﺸﺎﺑﻪ ﻛﺒري ﻟﻨﻔﺲ املﻘﺎﻳﻴﺲ ﻋﲆ
اﻟﺴﻼﻟﺔ املﻨﻔﺼﻠﺔ اﻟﺘﻲ ذﻛﺮﻫﺎ ﻛﻮون ،ﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﺨﱰ ﻣﻦ اﻟﺘﻄﺒﻴﻖ إﻻ ﻣﺎ ﻳﺆﻳﺪ وﻳﺪﻋﻢ ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ اﻟﺠﺪﻳﺪة —
أي اﺳﺘﺨﺪام اﻷدﻟﺔ ﺣﺴﺐ اﺧﺘﻴﺎره — وﻫﻮ ﺑﺬﻟﻚ ﻟﻴﺲ ﺧﺎﺿﻌً ﺎ ﻟﻠﻤﻮﺿﻮﻋﻴﺔ (٣) «.راﻟﻒ ﺑﻴﻠﺰ وﻫﺎري
ﻫﻮﺟﺮ ﻳﺆﻛﺪان أن ﻣﻨﻬﺞ ﻛﻮون ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﺻﺤﻴﺤً ﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎن ﻳﻌﺎﻟﺞ أﻧﻮاﻋً ﺎ ﻣﻨﻔﺼﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة،
ﻟﻜﻨﻪ ﻧﴘ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻷﺻﻠﻴﺔ ﰲ أﻧﻪ ﻳﻮاﺟﻪ ﺧﻤﺲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻣﻦ ﻧﻮع واﺣﺪ وﻟﻴﺲ ﺧﻤﺴﺔ أﻧﻮاع .ارﺟﻊ إﱃ:
(1) Dobzhansky, T. “Possibility that Homo Sapiens evolved independently Five Times is
Vanishingly Small” in “Current Anthropology”, Oct 1963, (2) Birdsell, I. B., “The Origin
of Human Races” in “Quarterly Review of Biology” June 1963, (3) Beals, R. & H. Hoijer,
.“An Introduction to Anthropology” 3d. ed. New York 1967
102
ﻧﻮع اﻟﺴﻼﻟﺔ وﺗﻄﻮر ﻧﻮع اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﺒﻌﺾ اﻵﺧﺮ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﺟﻨﺴﻴﺔ أو ﺷﻌﻮﺑًﺎ أو ﻗﺒﺎﺋﻞ .ﻫﺬه اﻟﺪرﺟﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ
ﻳﺠﺐ ﻋﲆ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻲ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ دراﺳﺘﻬﺎ ﻟﻴﻤﻴﺰ ﻣﻜﻮﻧﺎت اﻟﺨﻠﻴﻂ — أي اﻷﺻﻮل اﻟﺘﻲ
ﻧﺸﺄ ﻋﻨﻬﺎ ﻫﺬا اﻟﺨﻠﻴﻂ.
وﻛﺬﻟﻚ ﻧﺸﺄ ﰲ اﻟﻘﺮن املﺎﴈ ﺑﻌﺾ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻌﺘﻘﺪون ﰲ أﺛﺮ ﻣﺒﺎﴍ ﻟﻈﺮوف اﻟﺒﻴﺌﺔ
اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻋﲆ اﻟﺴﻼﻻت وﺗﻨﻮﻋﻬﺎ ،وﻗﺪ اﺧﺘﺺ املﻨﺎخ ﺑﺎﻫﺘﻤﺎم اﻟﻜﺜريﻳﻦ .وﰲ ﻣﻘﺎﺑﻞ ﻫﺆﻻء
ﻧ َ ِﺠ ُﺪ ﺟﻤﺎﻋﺔ أﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﺪارﺳني ﺗﻨﺎﻗﺾ ﻫﺬا املﻮﻗﻒ ،وﺗﻨﻔﻲ أي أﺛﺮ ﻟﻠﻈﺮوف اﻟﺒﻴﺌﻴﺔ ﻋﲆ
اﻟﺴﻼﻻت.
واﻟﻮاﻗﻊ أﻧﻨﺎ ﻧﺮى أن املﻮﻗﻒ ﰲ اﻟﻘﺮن املﺎﴈ ﻗﺪ ﺗﻀﺎﻋﻔﺖ ﺗﻌﻘﻴﺪاﺗﻪ ﻟﺴﺒﺐ آﺧﺮ،
ﻫﻮ أن اﻟﺒﺎﺣﺜني ﻣﻦ ﻣﺆﻳﺪي أو ﻣﻌﺎرﴈ آﺛﺎر اﻟﺒﻴﺌﺔ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻟﺪﻳﻬﻢ ﻓﻜﺮة واﺿﺤﺔ ﻋﻦ
اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت اﻷﺻﻴﻠﺔ ﺑني اﻟﺴﻼﻻت ،وﺗﻤﻴﻴﺰﻫﺎ ﻋﻦ اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت اﻷﺧﺮى ﻏري اﻷﺻﻴﻠﺔ .وﻣﻦ
اﻷﻣﺜﻠﺔ ﻋﲆ ذﻟﻚ أن اﻟﺒﺎﺣﺜني اﻟﻘﺪﻣﺎء ﻛﺎﻧﻮا ﻻ ﻳﻌﺘﻘﺪون ﰲ اﻟﻮراﺛﺔ ﻛﻌﻤﻞ ﺣﺎﺳﻢ ﰲ ﻧﻘﻞ
اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ ،ﺑﻞ إﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻔﴪون ﺑﻌﺾ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ آﺛﺎر ﻣﺒﺎﴍة
ﻟﻠﺒﻴﺌﺔ ،ﻣﺜﻞ رأي ﻟﻮرﻧﺲ ﻋﻦ ﻓﺮﻃﺤﺔ أﻧﻒ اﻟﺰﻧﻮج اﻟﺬي أرﺟﻌﻪ إﱃ ﻃﺮﻳﻘﺔ اﻷﻣﻬﺎت ﰲ ﺣﻤﻞ
أﻃﻔﺎﻟﻬﻦ ،وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﻧﻔﻰ أن اﻷﻧﻒ اﻟﻌﺮﻳﺾ ﻟﺪى اﻟﺰﻧﺠﻲ ﺻﻔﺔ أﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﺰﻧﻮج ،ﻛﻤﺎ أن
ﺑﺎﻓﻮن Buffonﻗﺪ وﺻﻒ ﺑﻌﺾ اﻟﺘﺸﻮﻳﻬﺎت املﺘﻌﻤﺪة ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺻﻔﺎت ﺟﻨﺴﻴﺔ أﺳﺎﺳﻴﺔ.
واﻟﻮاﺿﺢ أن ﻫﺬه املﻔﻬﻮﻣﺎت ﻟﻜﻠﻤﺔ ﺳﻼﻟﺔ ﻛﻠﻬﺎ ﺗﺸري إﱃ ﺻﻔﺎت وﻣﻤﻴﺰات ﺟﺴﺪﻳﺔ وراﺛﻴﺔ،
ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻐﻴريﻫﺎ ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﻋﻮاﻣﻞ اﻟﺒﻴﺌﺔ.
وﻓﻜﺮة ﺗﻘﺴﻴﻢ اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﺒﴩﻳﺔ إﱃ ﺳﻼﻻت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻋﲆ أﺳﺎس وراﺛﻲ ﻳﻘﻮم ﻋﺎد ًة
ﻋﲆ اﻟﻔﺮض اﻟﺘﺎﱄ :إذا ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﻓﺮد ﻣﺎ ﻳﺤﻤﻞ ﻣﻮرﺛﺔ ﺑﴩة ﺳﻮداء ً
ﻣﺜﻼ؛ ﻓﺈﻧﻪ ﻻ ﺑﺪ
وأن ﻫﺬا اﻟﻔﺮد ﻳﺮﺗﺒﻂ أوﺛﻖ اﻻرﺗﺒﺎط — ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻟﻮراﺛﺔ — ﺑﻜﻞ اﻷﻓﺮاد اﻵﺧﺮﻳﻦ اﻟﺬﻳﻦ
ﻳﺤﻤﻠﻮن ﻣﺜﻞ ﻫﺬه املﻮرﺛﺔ ،وﻳﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ اﻷﺷﺨﺎص اﻟﺬﻳﻦ ﻻ ﻳﺤﻤﻠﻮﻧﻬﺎ ،وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺸري
إﱃ ﻇﻬﻮر اﻟﺸﻌﺮ اﻟﺰﻧﺠﻲ ﺑني اﻟﻨﺮوﻳﺠﻴني ﻟﻠﺘﺪﻟﻴﻞ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻻﻓﱰاض.
ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﻟﻼﺧﺘﻴﺎر اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ أﺛﺮ ﻛﺒري ﰲ ﺧﻠﻖ ﻇﺮوف وﻣﻤﻴﺰات ﺑﴩﻳﺔ ﻣﺘﻤﺎﺛﻠﺔ ﰲ
ﱢ
وﺑﻐﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ اﻟﻮراﺛﺔ ،وﺑﻨﺎء ﻋﲆ ذﻟﻚ؛ ﻓﺈﻧﻪ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،وﺑني ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ.
ﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﻣﻦ املﻤﻜﻦ أن ﻧﻔﴪ ﻧﺸﻮء اﻟﺼﻔﺎت املﺘﺸﺎﺑﻬﺔ اﻟﺰﻧﺠﻴﺔ واﻷﺳﱰاﻟﻴﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺘﺺ
ﺑﻜﺜﺎﻓﺔ اﻟﺠﺴﻴﻤﺎت املﻠﻮﱠﻧﺔ ﰲ اﻟﺠﻠﺪ ،ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺗﻄﻮر ﻣﺴﺘﻘﻞ ﰲ ﻛﻞ ﻣﻦ اﻟﺤﺎﻟﺘني ﻧﺘﻴﺠﺔ
ﻟﻈﺮوف اﻻﺧﺘﻴﺎر اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﰲ ﻣﻨﺎﺧﺎت ﺣﺎرة ،واﻟﻮاﻗﻊ أﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ أن ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻻت ﻗﺪ
ﺣﺪﺛﺖ ً
ﻓﻌﻼ.
103
اﻹﻧﺴﺎن
104
ﻧﻮع اﻟﺴﻼﻟﺔ وﺗﻄﻮر ﻧﻮع اﻹﻧﺴﺎن
ﰲ اﻟﻔﱰة اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪدت ﰲ اﻟﻜﺘﺎب املﻘﺪس ﻟﻌﻤﺮ اﻹﻧﺴﺎن وﻫﻲ ٦٠٠٠ﺳﻨﺔ؛ ﻟﻬﺬا ﻛﺎن
اﻟﺒﺎﺣﺜﻮن ﻣﻀﻄﺮﻳﻦ إﱃ ﺗﻔﺴري اﻟﺘﻐﺎﻳﺮ اﻟﺠﺴﺪي ﻟﻠﺴﻼﻻت ﻋﲆ أﺳﺎس ﺻﺪف وﺣﻮادث
ﻓﻌﻼ أي ﻣﻤﻴﺰات ﺑﴩﻳﺔ ﻧﺘﺠﺖ ﻋﻦ وآﺛﺎر ﺑﻴﺌﻴﺔ ﻣﺒﺎﴍة .وﻳﺠﺐ أن ﻧﻌﺮف أﻧﻪ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ً
ﻋﻮاﻣﻞ ﺑﻴﺌﻴﺔ ﻣﺒﺎﴍة وﴎﻳﻌﺔ .ﺻﺤﻴﺢ أن ﻫﻨﺎك ﺑﻌﺾ اﻟﺘﻐريات املﺴﺠﻠﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻟﺘﻐري
املﻜﺎﻧﻲ ،ﻣﺜﻞ أﺑﺤﺎث ﺷﺎﺑريو 3اﻟﺘﻲ أﺛﺒﺘﺖ زﻳﺎدة ﰲ ﻃﻮل ﻗﺎﻣﺔ املﻐﻮل املﻬﺎﺟﺮﻳﻦ ﺑﺎملﻘﺎرﻧﺔ
ً
إﻃﻼﻗﺎ أن ﻣﻊ أﺻﻮﻟﻬﻢ ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻘﻬﻢ اﻷﺻﻠﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﺘﻐري ﻣﺤﺪود ،وﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻘﻮل
ﻫﺆﻻء ﻗﺪ اﻧﻔﺼﻠﻮا ﻋﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎﺗﻬﻢ اﻷﺻﻠﻴﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﰲ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ )ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻘﻮل
أﻧﻬﻢ أﺻﺒﺤﻮا ﻏري ﻣﻐﻮل(.
وﻫﻜﺬا ﻧﺮى ﰲ املﺆﻟﻔﺎت اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ أن ﻫﻨﺎك ﻣﺎ ﻳﺆﻛﺪ ﻋﺪم اﻻﺳﺘﻘﺮار املﺤﺪود ﰲ ﺑﻌﺾ
ً
ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻠﻈﺮوف اﻟﺒﻴﺌﻴﺔ ،إﻻ أن ﻫﺬا ﻻ ﻳﺆدي ﺑﺎﻟﺒﺎﺣﺜني إﱃ اﻟﻘﻮل أن ﻫﺬا اﻟﺘﻐري اﻟﺼﻔﺎت
ﻳﺆدي إﱃ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﺳﻼﻻت ﺟﺪﻳﺪة ،وﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ﻓﺈن ﻫﻨﺎك ﻓﻮارق ﺟﻮﻫﺮﻳﺔ ﺑني اﻟﺮأﻳني
اﻟﻘﺪﻳﻢ واﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﻣﺪى أﺛﺮ اﻟﺒﻴﺌﺔ املﺒﺎﴍ ﻋﲆ املﻤﻴﺰات اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ.
وﻋﲆ أي ﺣﺎل ،ﻓﺈن ﻋﺪم اﻻﺳﺘﻘﺮار ﻫﺬا ﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ ﻗﺪ أدى إﱃ
ﻣﻮاﻗﻒ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﺑني اﻟﻌﻠﻤﺎء .ﻓﺒﻌﻀﻬﻢ ﻳﺘﻄﺮف إﱃ ﺣﺪ اﻟﻘﻮل أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻟﻠﺼﻔﺎت اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ
املﻌﺘﺎدة أي ﻓﺎﺋﺪة ﺣني اﻟﻜﻼم ﻋﻦ ﻋﻼﻗﺎت وارﺗﺒﺎﻃﺎت اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت واﻟﺴﻼﻻت؛ ﻷن ﻫﺬه
اﻟﺼﻔﺎت ﻏري ﺛﺎﺑﺘﺔ ،واﻟﺒﻌﺾ اﻵﺧﺮ ﻳﺮى أن ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﻐري ﺛﺎﻧﻮي اﻷﻫﻤﻴﺔ ،وﺑﻌﺾ
اﻟﻌﻠﻤﺎء ﻳﻠﺠﺌﻮن إﱃ اﺳﺘﺨﺪام اﻷﻗﺴﺎم اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ اﻟﻜﱪى — ﻛﺎﻷﺳﻮد واﻷﺑﻴﺾ — ﻋﲆ أﻧﻬﺎ
ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﺛﺎﺑﺘﺔ .واﻟﺒﻌﺾ ﻟﺠﺄ إﱃ اﻟﻘﻮل ﺑﺎﺳﺘﺒﻌﺎد ﺑﻌﺾ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ واﺳﺘﺒﻘﺎء
اﻟﺒﻌﺾ اﻵﺧﺮ ﻋﲆ أﺳﺎس اﻟﺴﻴﺊ واﻟﺠﻴﺪ ،ﻣﺜﻞ اﺳﺘﺒﻌﺎد اﻟﻘﺎﻣﺔ ﻛﺼﻔﺔ ﺳﻴﺌﺔ؛ ﻧﻈ ًﺮا ﻟﺘﻐﺎﻳﺮﻫﺎ
ﻛﻤﺎ أوﺿﺢ ﺷﺎﺑريو ﰲ ﺣﺎﻟﺔ املﻐﻮل املﻬﺎﺟﺮﻳﻦ .وﻟﻜﻨﻨﺎ ﻧﺠﺪ أن ﺗﺄﻛﻴﺪات ﺷﺎﺑريو اﻟﺨﺎﺻﺔ
ﺑﺎﻟﺘﻐري املﺤﺪود ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ أﺑﺤﺎث ﻣﻮراﻧﺖ ﻋﲆ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰ ) (١٩٤٩وﻛﻴﻞ ) (١٩٣٩ﻋﲆ
اﻟﻨﺮوﻳﺠﻴني ،ﺗﺜﺒﺖ أن اﻟﻘﺎﻣﺔ ﻟﻴﺴﺖ ً
ﻓﻌﻼ ﺻﻔﺔ ﺳﻴﺌﺔ.
وﻋﲆ اﻟﻌﻤﻮم ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺮى أﻧﻪ ﻣﺎ زاﻟﺖ ﻫﻨﺎك ﺷﻜﻮك ﺣﻮل اﻟﺘﻐري اﻟﴪﻳﻊ ﻟﻠﺼﻔﺎت؛ ﻣﻤﺎ
ﻳﺪﻋﻮ إﱃ دراﺳﺘﻬﺎ دراﺳﺔ أﻋﻤﻖ.
105
اﻹﻧﺴﺎن
ﻇﻬﺮت ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﺑني اﻟﻄﺒﻴﻌﻴني ﰲ اﻟﻘﺮن املﺎﴈ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن ،وﻛﺎن ﺑﺮوﻛﺎ
أﺟﻨﺎﺳﺎ ﻧﻘﻴﺔ ﺑﻞ ﺳﻼﻻت ﺧﻠﻴﻄﺔ. ً Brocaوﺗﻮﺑﻴﻨﺎر أول ﻣﻦ ﻧﺎدوا ﺑﺄن اﻷوروﺑﻴني ﻟﻴﺴﻮا
وﰲ ﻋﺪة اﻟﺴﻨﻮات اﻟﻌﴩ اﻷوﱃ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻘﺮن ،رأى اﻟﺒﻌﺾ أﻧﻪ ﻻ ﺑﺪ ﻣﻦ اﻻﺳﺘﻌﺎﻧﺔ ﺑﻌﻠﻢ
ﻨﻘﻞ ﺑﺎﻟﻮراﺛﺔ ﻋﲆ أﺳﺎس اﻟﻘﺎﻧﻮن »املﻨﺪﱄ« اﻟﻮراﺛﺔ ،ورأى اﻟﺒﻌﺾ أن اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺴﻼﻟﻴﺔ ﺗُ َ
اﻟﺒﺴﻴﻂ؛ وﺗﺒﻌً ﺎ ﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ ﻓﺼﻞ وﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﺼﻔﺎت املﺮﻛﺒﺔ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ .وﻣﻦ ﺛﻢ ﻛﺎﻧﺖ
آراء ﺗﺸﻴﻜﺎﻧﻮﻓﺴﻜﻲ ١٩٢٨ Czekanowskiوداﻓﻨﺒﻮرت ١٩٢٩ Davenportﻋﻦ ﴐورة
اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ اﻟﻌﻨﴫﻳﻦ أو اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺘﻲ اﺷﱰﻛﺖ ﰲ ﺗﻜﻮﻳﻦ أي ﺧﻠﻴﻂ )اﻟﺨﻠﻴﻂ إذن ﻋﺒﺎرة
ﻋﻦ اﺷﱰاك ﺳﻼﻟﺘني أو أﻛﺜﺮ(.
وﻗﺪ ارﺗﺒﻂ ﺑﺬﻟﻚ اﻟﺮأي اﻟﻘﺎﺋﻞ إن اﻟﺘﻬﺠني واﻻﺧﺘﻼط ﻳﻨﺘﺞ ﻋﻨﻪ ﻧﻮع ﺟﺪﻳﺪ ﻳﺼﺒﺢ
ﺑﺪوره ﺛﺎﺑﺖ اﻟﺼﻔﺎت ،وﻳﻤﻜﻦ ﺑﺬﻟﻚ ﺗﺴﻤﻴﺘﻪ ﺳﻼﻟﺔ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻛﺎﺗﺮﻓﻴﺞ Quatrefages
أول اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني اﻟﺬﻳﻦ ﻧﺎدوا ﺑﻬﺬه اﻟﻔﻜﺮة ،وﻗﺪ أﻛﺪ ﺗﺸﻴﻜﺎﻧﻮﻓﺴﻜﻲ وﺟﻮد ﺳﻼﻻت
ﺧﻠﻴﻄﺔ )وﻟﻴﺲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﺧﻠﻴﻄﺔ( ﺗﻨﺸﺄ ﻋﻦ اﺧﺘﻼط وﺗﻬﺠني ﺳﻼﻻت رﺋﻴﺴﻴﺔ .وﻗﺪ أﻋﺮب
أﻳﻀﺎ ) (١٩٢٤وﻗﺎل ﺑﻮﺟﻮد »ﺳﻼﻻت ﺛﺎﻧﻮﻳﺔ« ﻫﺎدون Haddonﻋﻦ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻻﻋﺘﻘﺎد ً
ﺗﻨﺠﻢ ﻋﻦ اﺧﺘﻼط ﺳﻼﻟﺘني أو أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ،ﻋﲆ ﴍط أن ﺗﺴﻨﺢ ﻓﺮﺻﺔ
اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﺜﺎﻧﻮﻳﺔ أن ﺗﺜﺒﺖ ﻓﻴﻬﺎ وﺗﺴﺘﻘﺮ ﺻﻔﺎﺗﻬﺎ اﻟﺠﺪﻳﺪة ،وﻫﺬه اﻟﻔﺮﺻﺔ ﺗﺘﻮﻓﺮ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ
واﺣﺪة ﻫﻲ اﻻﻧﻌﺰال اﻟﺠﻐﺮاﰲ.
وﻗﺪ ﻛﺴﺒﺖ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﺗﺄﻳﻴﺪ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء اﻟﺤﺎﻟﻴني 4 ،ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺘﺺ ﺑﺄن زﻧﻮج
أﻣﺮﻳﻜﺎ ﻗﺪ أﺻﺒﺤﻮا — أو ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ إﱃ أن ﻳﺼﺒﺤﻮا — ﺳﻼﻟﺔ ﺟﺪﻳﺪة؛ ﻧﻈ ًﺮا ﻟﻼﺧﺘﻼط
ً
اﻋﱰاﻓﺎ ﺑﺄن اﻟﺘﻬﺠني واﻟﺘﻬﺠني اﻟﻜﺜري ،وأﺻﺒﺢ ﻣﻦ اﻟﺴﻬﻞ أن ﻧﺠﺪ ﰲ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت اﻟﺠﺪﻳﺪة
ﻳﺆدي إﱃ ﺻﻔﺎت ﺳﻼﻟﻴﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﺛﺎﺑﺘﺔ.
وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﺄﻳﻴﺪ؛ ﻓﺈن املﻮﺿﻮع ﻣﺎ زال أﻣ ًﺮا ﻧﻈﺮﻳٍّﺎ ﺑﺤﺘًﺎ ،وﻧﺠﺪ
ﺧﻼﻓﺎت وﻣﺼﺎﻋﺐ ﺷﺪﻳﺪة أﺛﻨﺎء اﻟﺒﺤﺚ اﻟﻌﻤﲇ ﻟﺘﺤﺪﻳﺪ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺑﻌﺾ املﺠﻤﻮﻋﺎت وﻣﻮﻗﻔﻬﺎ
ﻣﻦ اﻟﺴﻼﻻت اﻟﻌﺎﻣﺔ ،وﻫﺬا ﻣﺎ ﺳﻨﺒﺤﺜﻪ ﰲ اﻟﻨﻘﻄﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ.
Coon, C. S., M. Garn, & J. B. Bridsell, “Races, a study of Race Formation” Springfield, 4
.1950
106
ﻧﻮع اﻟﺴﻼﻟﺔ وﺗﻄﻮر ﻧﻮع اﻹﻧﺴﺎن
إن ﻫﻨﺎك اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺠﺪل وﻋﺪم اﻻﺗﻔﺎق ﺣﻮل ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻣﻮﻗﻒ ﺑﻌﺾ اﻟﺴﻼﻻت واﻟﺠﻤﺎﻋﺎت
اﻟﺨﻠﻴﻄﺔ .ﰲ املﺎﴈ ﻛﺎن ﻳُﻄ َﻠﻖ ﻋﲆ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت :ﺟﻤﺎﻋﺎت ﻣﺨﺘﻠﻄﺔ أو ﻣﺘﺤﻮﻟﺔ
،Metamorphicوﻟﻜﻦ ﻧﺮى اﻵن وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ ﺟﺪﻳﺪة ﺗﺮﺗﺒﻂ ﺑﻔﻜﺮة اﻷﻧﻤﺎط أو اﻟﻨﻤﺎذج
أو اﻷﻧﻮاع املﺮﻛﺒﺔ أو املﺠﻤﻌﺔ ،Synthetic typesوذﻟﻚ ﻟﺘﺴﻬﻴﻞ ﺗﺼﻨﻴﻒ املﺠﻤﻮﻋﺎت أو
ُﺘﻔﻖ ﺑﻌﺪ ﻋﲆ ﺗﺤﺪﻳﺪ أﺻﻮل ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﻬﺠني اﻟﺘﻲ أدت إﱃ ﻧﺸﻮءﻫﺎ .وﻳﺮى اﻟﺸﻌﻮب اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳ َ
ﻓﺎﻟﻮا (١٩٣٢) Valloisأن ﻫﻨﺎك ﺟﻤﺎﻋﺎت ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﺴﻤﻴﻬﺎ ﺟﻤﺎﻋﺎت ﻣﺎ زاﻟﺖ ﻣﻮﺣﺪة ﻟﻢ
ﺗﻨﻔﺼﻞ ،Undifferentiatedﻣﺜﻞ ﺑﻌﺾ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻹﺛﻴﻮﺑﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳ ﱠ
ُﻔﻀﻞ ﻟﻬﺎ ﻫﺬا اﻻﺳﻢ
ﻋﲆ اﻟﻘﻮل أﻧﻬﺎ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺗﻬﺠني ﺑﺴﻴﻂ ﺑني اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺒﻴﻀﺎء واﻟﺴﻮداء .وﻗﺪ واﻓﻖ ﻫﺎدون
أﻳﻀﺎ ﻧﻤﺎذج ﻟﻢ ﺗﻨﻔﺼﻞ .ﻛﺬﻟﻚ ﻋﲆ أن اﻟﻨﻤﺎذج واﻟﺠﻤﺎﻋﺎت املﺘﻮﺳﻄﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ً
رأى ﻓﻠري (١٩٣٧) Fleureأﻧﻪ ﻳﻮﺟﺪ ﺑني اﻹﻧﺠﻠﻴﺰ ﻧﻮع ﺳﺎﺑﻖ ﻻﻧﻔﺼﺎل اﻟﻨﻮﻋني اﻟﺴﺎﺋﺪﻳﻦ
ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ؛ وﻫﻤﺎ :اﻟﻄﻮﻳﻞ اﻷﺷﻘﺮ ﻃﻮﻳﻞ اﻟﺮأس ،واﻟﻘﺼري ﻃﻮﻳﻞ اﻟﺮأس اﻟﺒﻨﻲ اﻟﺸﻌﺮ .وﻋﲆ أي
ﺣﺎل ،ﻓﺈن ﻋﻠﻢ اﻟﻮراﺛﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺑﻮﺿﻌﻪ اﻟﺤﺎﱄ أن ﻳﺴﺎﻋﺪ ﻛﺜريًا ﻋﲆ ﺣﻞ ﻣﻌﻀﻠﺔ اﻟﺴﻼﻻت
املﻬﺠﻨﺔ وﺗﺤﺪﻳﺪ أﺻﻮﻟﻬﺎ ،وأن ﻳﻀﻊ ﺑﺬﻟﻚ ﺣﺪٍّا ﻟﻮﺟﻬﺎت اﻟﻨﻈﺮ املﺘﻀﺎرﺑﺔ ﻫﺬه.
أﻣﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺘﺺ ﺑﺎملﺠﻤﻮﻋﺎت ﻏري املﺼﻨﻔﺔ؛ ﻓﺈﻧﻬﺎ — ﻛﻤﺎ ﻳﺘﻀﺢ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎت ﻣﻌﻈﻢ
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني — ﺗﺨﺮج ﻋﻦ ﻧﻄﺎق اﻟﺴﻼﻻت املﻬﺠﻨﺔ واﻟﻨﻤﺎذج املﺘﻮﺳﻄﺔ .وﻗﺪ ﻧﺸﺄ
ﻋﻦ وﺟﻮد ﺗﻠﻚ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﺼﻌﺐ ﺗﺼﻨﻴﻔﻬﺎ ﺑﻌﺾ اﻵراء اﻟﺘﻲ ﺗﺼﻒ ﺑﺎﻟﺨﻄﺄ ﻓﻜﺮة
ﻓﻌﻼ ﺑﻌﺾ اﻟﻌﻠﻤﺎء ﺗﺸﻜﻴﻞ ﺗﺼﻨﻴﻒ ﻛﻞ املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺒﴩﻳﺔ ﰲ ﻣﻜﺎن ﻣﺤﺪود .وﻗﺪ ﺣﺎول ً
ﺗﺼﻨﻴﻒ ﻋﺎم ﻳﺤﺪد ﻣﺮﻛﺰ وﻋﻼﻗﺔ ﻛﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺑﴩﻳﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك داﺋﻤً ﺎ ﺟﻤﺎﻋﺎت
ﻣﺸﻜﻮك ﻓﻴﻬﺎ .وﻗﺪ أﺧﺬ ﺑﻬﺬا اﻟﺮأي اﻟﺠﺪﻳﺪ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء ،إﻣﺎ ﻟﻘﻠﺔ اﻟﺒﺤﻮث ﻋﻦ ﺑﻌﺾ
اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت )وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﻓﺈﻧﻪ ﺳﻴﻤﻜﻦ اﻟﻘﻴﺎم ﺑﺎﻟﺘﺼﻨﻴﻒ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ( ،وإﻣﺎ ﻷﻧﻪ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ أي
ﻓﺮﺻﺔ ﻟﺘﺸﻜﻴﻞ أﺳﺲ ﺗﺼﻨﻴﻒ ﺗﺸﺘﻤﻞ ﻋﲆ ﻛﻞ املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺒﴩﻳﺔ.
ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺒﺪأ ﺑﺎﻟﻘﻮل أن ﻛﻠﻤﺔ ﺳﻼﻟﺔ ﺗﻌﻨﻲ — ﻋﲆ اﻟﻔﻮر — ﺗﺠﻤﻴﻌً ﺎ ﻟﺼﻔﺎت اﻷﻓﺮاد.
وﻳﺒﺪو أن ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻛﺎﻧﺖ راﺋﺪ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴني اﻟﻘﺪﻣﺎء ﰲ ﺗﻘﺴﻴﻤﺎﺗﻬﻢ ﻟﻠﻨﻮع اﻟﺒﴩي،
رﻏﻤً ﺎ ﻋﻦ أﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ واﺿﺤﺔ اﻟﻮﺿﻮح اﻟﺘﺎم .ﻛﻤﺎ أن ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﻮن ﻛﺎﻧﻮا
107
اﻹﻧﺴﺎن
ﻳﻄﺒﻘﻮﻧﻬﺎ أﺛﻨﺎء دراﺳﺘﻬﻢ؛ إذ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺼﻨﻔﻮن اﻷﻓﺮاد ﺣﺴﺐ ﺑﻌﺾ ﻣﻤﻴﺰات أو ﺻﻔﺎت
ﺑﺪﻻ ﻣﻦ دراﺳﺔ اﻷﻓﺮاد ﻋﲆ أﺳﺎس ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻣﺘﻜﺎﻣﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت ﻣﺜﻞ ﻓﻮن ﻳﺨﺘﺎروﻧﻬﺎً ،
أﻳﻀﺎ ﻛﺎن راﺋﺪ اﻟﺒﻌﺾ ﰲ ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻣﻌﻨﻰ »اﻟﺴﻼﻟﺔ«؛ إﻳﻜﺸﺘﺪ .١٩٣٦وﻳﺒﺪو أن ذﻟﻚ املﻔﻬﻮم ً
ﻓﻘﺪ ذﻛﺮ ﻛﺎﺗﺮﻓﻴﺞ )» :(١٨٥٩ﻣﺠﻤﻮع اﻷﺷﺨﺎص املﺘﺸﺎﺑﻬني ﻳﻜﻮﱢن اﻟﺴﻼﻟﺔ «.وﻛﺬﻟﻚ ﻗﺎل
زاﻟﺮ » (١٩٣١) Sallerارﺗﺒﺎط ﺑني ﺻﻔﺎت ﻣﻮروﺛﺔ ذات ﺗﻐﺎﻳﺮ ﻣﻌني … ﻳﺘﻤﻴﺰ ﺑﻬﺎ أﻓﺮاد
ﺳﻼﻟﺔ ﻋﻦ اﻟﺴﻼﻻت اﻷﺧﺮى «.وﻣﺎرﺗﻦ » (١٩٢٨) Martinأن اﻷﻓﺮاد اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻨﺘﻤﻮن إﱃ
ﺟﻨﺲ ﻣﻌني ﻣﺸﱰﻛﻮن ﻣﻌً ﺎ ﰲ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺴﻼﻟﻴﺔ ،وﻣﺠﻤﻮع ﻫﺬه اﻟﺼﻔﺎت ﻫﻮ ﻣﺎ
ﻳﻤﻴﺰﻫﻢ ﻋﻦ ﻏريﻫﻢ ﻣﻦ املﺠﻤﻮﻋﺎت«.
وﻛﺬﻟﻚ ﻧﻼﺣﻆ ﻧﻔﺲ املﺒﺪأ ﰲ ﺗﻌﺮﻳﻒ اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﺬي ﻗﺪﻣﺘﻪ اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
املﻠﻜﻴﺔ ﰲ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ » ١٩٣٦أن اﻟﺼﻔﺎت اﻟﻮراﺛﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻴﺰ ﺳﻼﻟﺔ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻄﺒﻖ ﻋﲆ
ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻷﻓﺮاد اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻘﻊ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺒﺤﺚ ،ﻋﲆ أﻻ ﺗﻜﻮن ﺻﻔﺎت ﺑﺎﺛﻮﻟﻮﺟﻴﺔ «.وﻟﻜﻦ أﺻﺪرت
ﺗﻌﺮﻳﻔﺎ آﺧﺮ ﻳﻌﻜﺲ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ ﻣﻐﺎﻳﺮة» :اﻟﺴﻼﻟﺔ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺗﺸﱰك ﰲ ً اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ
ﻋﺪد ﻏري ﻣﺤﺪد ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﻮراﺛﻴﺔ ﺗﺘﻤﻴﺰ ﺑﻪ ﻣﻦ ﻏريﻫﺎ ﻣﻦ املﺠﻤﻮﻋﺎت«.
وﺗﺮﺗﺒﻂ ﻫﺬه املﺸﻜﻠﺔ ﺑﺎملﺘﻮﺳﻂ اﻟﻘﻴﺎﳼ »اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻣﱰي« اﻟﺬي ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﻗﻴﻢ
ﻗﻴﺎﺳﻴﺔ ﻣﻄﻠﻘﺔ ﻣﺘﻔﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ .وﻋﲆ أي ﺣﺎل ،ﻓﺈن ﻓﻜﺮة اﻟﺴﻼﻟﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ارﺗﺒﺎط ﺻﻔﺎت
ﻣﻌﻴﻨﺔ ﺗﺘﻜﺮر ﰲ ﻛﻞ ﻓﺮد ﻋﲆ ﺣﺪة ،ﻟﻢ ﺗﻨﻔﺼﻞ ﻋﻦ ﻓﻜﺮة اﻟﺴﻼﻟﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺑﴩﻳﺔ
ﺗﺘﺤﺪد ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﺻﻔﺎت ﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﴬوري أن ﺗﺮﺗﺒﻂ ﺑﻨﻔﺲ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻋﲆ ﻛﻞ ﻓﺮد ﻋﲆ
ﺣﺪة.
وﺧﻼﺻﺔ ﻫﺬه اﻵراء املﺘﻌﺪدة ﺗﻌﻮد ﺑﻨﺎ ﻣﺮة أﺧﺮى إﱃ ﻃﺮح اﻟﺴﺆال :ﻣﺎ ﻫﻲ اﻟﺴﻼﻟﺔ؟
إن ﺣﻘﺎﺋﻖ اﻻﺧﺘﻼف اﻟﺠﺴﺪي واملﻤﻴﺰات اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻟﻠﺒﴩ ﻻ ﺷﻚ ﻛﺜرية ،وﺗﺪﻋﻮ
اﻹﻧﺴﺎن إﱃ اﻟﻜﻼم ﻋﻦ ﺟﻤﺎﻋﺎت ﺑﴩﻳﺔ ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﻮا ﻣﻨﻔﺼﻠني ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻦ ﺑﻌﺾ .وﻟﻜﻨﻨﺎ
ﻧﺠﺪ اﻵن — وﺑﻌﺪ اﻟﺒﺤﻮث اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ اﻟﻜﺜرية — أن املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻻ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ
ﻫﺎﺋﻼ ،وأﻧﻪ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺠﺪ ﻣﻤﻴﺰات ﺟﺴﺪﻳﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ داﺧﻞ املﺠﻤﻮﻋﺔ ً ً
اﺧﺘﻼﻓﺎ ﺑﻌﻀﻬﺎ
ﻆ أﺧريًا ﻣﻦ وﺟﻮد اﻟﺸﻌﺮ اﻟﺼﻮﰲ ﺑني ﺑﻌﺾ اﻟﻮاﺣﺪة .وﻣﻦ أﻫﻢ اﻷﻣﺜﻠﺔ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻣﺎ ﻟُﻮﺣِ َ
اﻟﻨﺮوﻳﺠﻴني ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺸﻌﺮ ﺧﺎص ﺑﺎملﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺴﻼﻟﻴﺔ اﻟﺘﻲ
ﻧﺴﻤﻴﻬﺎ اﻟﺰﻧﻮج .وﻻ ﺷﻚ أن وﺟﻮد ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺸﻌﺮ ﺑني اﻟﻨﺮوﻳﺠﻴني ﻫﻮ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺘﻐري
ُﻣ َﻮ ﱢرﺛﺔ واﺣﺪة ،وﺑﺬﻟﻚ ﻓﻬﻮ ﻳﻨﺘﻘﻞ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺑﺴﻴﻄﺔ ﻣﻦ اﻷب إﱃ اﻻﺑﻦ ،وﻫﻨﺎك ﻣﺜﺎل آﺧﺮ
أن اﻟﺒﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳني ﻳﻈﻬﺮ ﻓﻴﻬﻢ ارﺗﺒﺎط ﺑني اﻟﺼﻔﺎت واملﻤﻴﺰات اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎملﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺒﴩﻳﺔ
اﻟﺜﻼث اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ :اﻟﻘﻮﻗﺎزي ،واﻟﺰﻧﺠﻲ ،واملﻐﻮﱄ.
108
ﻧﻮع اﻟﺴﻼﻟﺔ وﺗﻄﻮر ﻧﻮع اﻹﻧﺴﺎن
وﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﻧﺠﺪ اﺧﺘﻼﻓﺎت ﻣﻠﺤﻮﻇﺔ ﺑني املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻜﱪى ،واﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﻫﺬه
اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت ﻳﺘﺤﺪد ﺑﻮاﺳﻄﺔ املﻮ ﱢرﺛﺎت — أي ﺗﺤﺪﻳﺪ وراﺛﻲ داﺧﲇ .ﻛﻤﺎ ﻳﺒﺪو أن ﺑﻌﺾ ﻫﺬه
ﻆ أن ﺑﻌﺾ املﻤﻴﺰات اﻟﻬﺎﻣﺔ،اﻟﺨﻼﻓﺎت ﻧﺎﺟﻢ ﻋﻦ ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻻﺧﺘﻴﺎر اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻟُﻮﺣِ َ
ﻣﺜﻞ ﻃﻮل اﻟﻘﺎﻣﺔ ،ﺗﺘﺄﺛﺮ ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻟﺒﻴﺌﺔ ،وﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺘﻌﺪل ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﻠﺤﻮﻇﺔ ﰲ ﺟﻴﻞ أو
ﺟﻴﻠني5 .
ﻓﺈذا ﻋﺮﻓﻨﺎ ﻛﻞ ﻫﺬا ﻓﺈﻧﻪ ﻻ ﺑﺪ ﻟﻨﺎ وأن ﻧﺘﺴﺎءل :ﻣﺎ ﻣﻌﻨﻰ ﺳﻼﻟﺔ؟ وﻫﺬا اﻟﺴﺆال ﻳﻔﱰض
أو ﻳﻔﺮض وﺟﻮد اﻟﺴﻼﻟﺔ ﻛﴚء ﻗﺎﺋﻢ ً
ﻓﻌﻼ؛ ﻷﻧﻪ ﺗﻮﺟﺪ ﻛﻠﻤﺔ أو ﻷﻧﻪ ﻳﻮﺟﺪ اﺻﻄﻼح ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ
اﻟﺴﻼﻟﺔ .واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أﻧﻨﺎ إذا ﺗﺼﻔﺤﻨﺎ ﻋﺪة ﻗﻮاﻣﻴﺲ ﻓﺈﻧﻨﺎ ﺳﻨﺠﺪ ﻣﻌﺎﻧﻲ ﻛﺜرية ﻟﻜﻠﻤﺔ اﻟﺴﻼﻟﺔ
،Raceوﻛﺬﻟﻚ إذا ﺗﺼﻔﺤﻨﺎ ﻛﺘﺒًﺎ أو ﺑﺤﻮﺛًﺎ ﻣﺘﺨﺼﺼﺔ؛ ﻓﺈﻧﻨﺎ ﺳﻨﺠﺪ ً
أﻳﻀﺎ ﻋﺪدًا ﻣﻦ املﻌﺎﻧﻲ
ملﻔﻬﻮم اﻟﺴﻼﻟﺔ.
وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﺈن ﻟﻜﻞ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺘﻌﺮﻳﻔﺎت ﻣﺴﺒﺒﺎﺗﻪ ،وﻧﺠﺪ اﻟﺒﻌﺾ أﺛﻨﺎء اﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ
ﻟﻠﻤﺼﻄﻠﺢ ﻳﺸري إﱃ أﺷﻜﺎل ﺑﴩﻳﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻣﺜﻞ اﺧﺘﻼف اﻟﺰﻧﺠﻲ
واﻷوروﺑﻲ )رﻏﻢ وﺟﻮد درﺟﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﺗﻤﺘﺰج ﻓﻴﻬﺎ ﻫﺬه اﻟﺼﻔﺎت( ،أو رﺑﻤﺎ ﻳﺸري إﱃ
ﻣﺜﻼ ،أو رﺑﻤﺎ ﻳﺸري اﻟﺒﻌﺾ إﱃ اﺧﺘﻼﻓﺎت اﺧﺘﻼﻓﺎت ﻛﺎﻟﺘﻲ ﺗُﻮﺟَ ﺪ ﺑني اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻲ واﻟﻨﺮوﻳﺠﻲ ً
ﺑني اﻟﺠﻨﺴﻴﺎت؛ ﻣﺜﻞ :أﻣﺮﻳﻜﻲ ،وإﻳﻄﺎﱄ.
5ﻛﺎن ﻓﺮاﻧﺰ ﺑﻮاس أﺣﺪ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني اﻟﻘﻼﺋﻞ اﻟﺬﻳﻦ اﻫﺘﻤﻮا ﺑﻬﺬا املﻮﺿﻮع ،وﻗﺎم ﺑﻌﺪة دراﺳﺎت
ﻣﻄﻮﻟﺔ ﻟﺤﺴﺎب إدارة اﻟﻬﺠﺮة اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﻋﻦ املﻬﺎﺟﺮﻳﻦ اﻟﻘﺎدﻣني إﱃ أﻣﺮﻳﻜﺎ وﻣﻘﺎرﻧﺘﻬﻢ ﺑﺄﺑﻨﺎﺋﻬﻢ ،واﻧﺘﻬﻰ
إﱃ أن ﺗﻐريات ﻛﺜرية ﻗﺪ ﺣﺪﺛﺖ ﰲ اﻟﻘﺎﻣﺔ وﺷﻜﻞ اﻟﺮأس ،وﻟﻜﻦ آراء ﺑﻮاس ﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل ﻗﺪ ُﻫ ِ
ﻮﺟﻤَ ْﺖ
ﰲ ﺣﻴﻨﻬﺎ )اﻟﻌﴩات اﻷوﱃ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻘﺮن( .اﻧﻈﺮBoas, F., “Race Language and Culture”, New :
).York 1940, PP. 60–88 (2. Ed. 1956
109
اﻹﻧﺴﺎن
أن ﻧﻌﺰل وﻧﻤﻴﺰ ﺟﻤﺎﻋﺎت أو أﻓﺮادًا ﻣﻌﻴﻨني ﻳﻤﺜﻠﻮن اﻟﺴﻼﻟﺔ ﰲ أﻧﻘﻰ درﺟﺎﺗﻬﺎ .ﻓﺎﻟﺴﻼﻟﺔ
ﻓﻜﺮة ﻣﻄﻠﻘﺔ ،وﻫﻲ ﻓﻜﺮة اﻻﺳﺘﻤﺮار داﺧﻞ ﻋﺪم اﻻﺳﺘﻤﺮار أو ﻓﻜﺮة اﻟﻮﺣﺪة داﺧﻞ اﻟﺘﻔﺮق.
وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻨﺎ ﻗﺪ ﻧﺠﺪ أﻓﺮادًا ﻗﻠﻴﻠني ﺟﺪٍّا ﻳﻤﺜﻠﻮن اﻟﻨﻤﺎذج اﻟﻨﻘﻴﺔ اﻟﻘﻴﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﺴﻼﻟﺔ
إﻻ أن ﻛﻠﻤﺔ اﻟﺴﻼﻟﺔ ﻣﺎ زاﻟﺖ ﻗﺎﺋﻤﺔ وﻣﺴﺘﺨﺪﻣﺔ ﻟﺪﻳﻨﺎ .وﻛﺬﻟﻚ ﻧﺠﺪ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر ﰲ
أﺑﺤﺎث اﻟﺮوس؛ ﻣﺜﻞ ﻓﻮرﺑﻴﻒ ،Vorobieffوﻣﻨﺪس ﻛﻮرﻳﺎ ،Mendes Correaوﻧﺴﺘﻮرخ
.Nesturkhوﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن اﻻﻋﺘﻘﺎد ﺑﺄن اﻟﺴﻼﻟﺔ ﻓﻜﺮة ﻣﻄﻠﻘﺔ ﻗﺪ ﺷﺎع اﻵن ،إﻻ أن
ذﻟﻚ اﻻﻋﺘﻘﺎد ﻟﻢ ﻳﺤﻞ ﻣﺤﻞ اﻻﻋﺘﻘﺎد ﺑﺄن اﻟﺴﻼﻟﺔ ﺗﻈﻬﺮ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﰲ ﺷﻜﻞ ارﺗﺒﺎﻃﺎت
اﻟﺼﻔﺎت ﰲ اﻷﻓﺮاد .وﻟﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﻐﺮﻳﺐ أن ﻧﺮى أن اﻻﻋﺘﻘﺎدﻳﻦ ﻳﻈﻬﺮان أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﰲ آراء
اﻟﻜﺎﺗﺐ اﻟﻮاﺣﺪ ،وﻋﲆ أي اﻟﺤﺎﻻت ﻓﺈن ﻓﻜﺮة اﻟﺴﻼﻟﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﳾء ﻣﻄﻠﻖ ﻗﺪ ﺳﺒﻘﺖ
ﺗﺎرﻳﺨﻴٍّﺎ ﻓﻜﺮة اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﻘﻴﺎﺳﻴﺔ ،وﻫﺬه ﺗﻌﻨﻲ أن اﻟﺴﻼﻟﺔ ﺗﺘﺤﺪد ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ واﻟﺘﻄﺒﻴﻖ ﺑﻌﺪ
ﺻﻔﺎت ﻣﻌﻴﻨﺔ .ورﻏﻤً ﺎ ﻋﻦ اﻟﺨﻼﻓﺎت اﻟﺸﺪﻳﺪة ﰲ املﻨﺎﻫﺞ ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ أن اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني ﻻ
ﻳﺨﺘﻠﻔﻮن ﻛﺜريًا ﰲ ﻋﺪد اﻟﺴﻼﻻت ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وذﻟﻚ راﺟﻊ إﱃ أﻧﻬﻢ — أرادوا أم ﻟﻢ ﻳﺮﻳﺪوا
— ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻮن اﻟﺼﻔﺔ اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ أو اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ ﻟﻠﺴﻼﻟﺔ ،وذﻟﻚ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﺠﻤﻊ ﻋﺪد ﻣﻦ
اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ ﰲ أﻗﺎﻟﻴﻢ ﺟﻐﺮاﻓﻴﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ،وأﻛﱪ دﻟﻴﻞ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻋﺪم اﻻﺧﺘﻼف اﻟﻜﺒري
ﰲ ﻋﺪد اﻟﺴﻼﻻت وﺗﺤﺪﻳﺪﻫﺎ ﺗﺤﺪﻳﺪًا إﻗﻠﻴﻤﻴٍّﺎ.
وﻋﲆ ﻫﺬا ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﺨﻠﺺ إﱃ أن اﻟﺴﻼﻟﺔ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﺗﺠﻤﻴﻊ ﻟﻌﺪد ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت
اﻟﻘﻴﺎﺳﻴﺔ واﻟﻮراﺛﻴﺔ ،وأن ﻫﺬا اﻟﺘﺠﻤﻴﻊ ﻣﺆﻗﺖ وﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﺄﻗﺎﻟﻴﻢ ﺟﻐﺮاﻓﻴﺔ.
اﻹﻧﺴﺎن املﻌﺎﴏ — ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻌﺮوف وﻛﻤﺎ ﻳﺘﻀﺢ ﻣﻦ اﻷﺷﻜﺎل املﺮﻓﻘﺔ ،3-1 ،2-1 ،1-1
— 4-1ﻫﻮ ﻧﻮع ﺛﺎﻧﻮي ﻣﻦ ﻧﻮع اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ املﺘﻔﺮع ﻋﻦ ﺟﻨﺲ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﻦ ﻋﺎﺋﻠﺔ
اﻟﻬﻮﻣﻴﻨﻴﺪﻳﺎ ﻋﻦ رﺗﺒﺔ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺎت ﻋﻦ ﻃﺒﻘﺔ اﻟﺜﺪﻳﻴﺎت ﻋﻦ ﻓﺼﻴﻠﺔ اﻟﻔﻘﺎرﻳﺎت .وﻳﻮﺿﺢ
اﻟﺮﺳﻢ اﻟﺘﺨﻄﻴﻄﻲ اﻟﺘﺎﱄ ﻫﺬه اﻟﻨﺴﺒﺔ:
110
ﻧﻮع اﻟﺴﻼﻟﺔ وﺗﻄﻮر ﻧﻮع اﻹﻧﺴﺎن
وﻻ ﺷﻚ أن أﻫﻢ ﻇﺎﻫﺮة ﻣﻴﺰت اﻹﻧﺴﺎن ﻋﻦ ﺑﻘﻴﺔ املﻤﻠﻜﺔ اﻟﺤﻴﻮاﻧﻴﺔ ،واﻟﺘﻲ أدت إﱃ
اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ارﺗﻘﺎﺋﻪ اﻟﻔﻜﺮي ،ﻫﻲ وﻗﻮﻓﻪ ﻋﲆ ﻗﺪﻣﻴﻪ ،ﺗﺎر ًﻛﺎ ﻟﺪﻳﻪ ﺣﺮﻳﺔ اﻟﺘﴫف واﻟﺤﺮﻛﺔ
وﺣﻘﻴﻘﺔ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﻹﻧﺴﺎن ﻫﻮ أول ﻣﻦ ﺳﺎر ﻋﲆ ﻗﺪﻣﻴﻪ ،ﻓﻔﻲ اﻟﺰﻣﻦ ً املﺴﺘﻘﻠﺔ ﻋﻦ اﻟﺴري.
اﻟﺠﻴﻮﻟﻮﺟﻲ اﻟﺜﺎﻧﻲ — أي ﻗﺒﻞ ﻇﻬﻮر اﻹﻧﺴﺎن ﺑﻨﺤﻮ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ٧٠ﻣﻠﻴﻮن ﺳﻨﺔ — ﺳﺎرت
اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت اﻟﻀﺨﻤﺔ املﻌﺮوﻓﺔ ﺑﺎﺳﻢ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺪﻳﻨﺎﺻﻮرات Dinosauriaﻋﲆ ﻗﺪﻣﻴﻬﺎ،
ﻟﻜﻦ اﻷﻳﺪي ﻛﺎﻧﺖ ﺟﺰءًا ﻋﺎﺟ ًﺰا .وﻗﺪ ﻗﺎل أﺣﺪ اﻟﻜﺘﱠﺎب ﻋﻦ ﺣﻖ:
إن اﻹﻧﺴﺎن ﻳﻘﻒ وﺣﺪه )ﰲ ﺗﺮﺗﻴﺒﻪ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة(؛ ﻷﻧﻪ اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﻳﻘﻒ ﻋﲆ
ﻗﺪﻣﻴﻪ .Man Stands alone because he alone Stands
وﻗﺪ أدى ﺗﺨﻠﺺ اﻷﻳﺪي ﻣﻦ املﺴﺎﻫﻤﺔ ﰲ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺣﺮﻛﺔ اﻹﻧﺴﺎن إﱃ ﺗﺨﺼﻴﺺ اﻷﻳﺪي
ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻳﺼﻨﻌﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن ،وأﻫﻤﻬﺎ اﻷدوات واﻵﻻت اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻄﻴﻪ
ﻗﺪرات أﻋﻈﻢ ﻣﻦ ﻗﺪراﺗﻪ اﻟﻌﻀﻠﻴﺔ ،وأﻋﻈﻢ ﻣﻦ أي ﻗﺪرات ﺟﺴﻤﻴﺔ ﻷي ﻛﺎﺋﻦ ﺣﻲ ﻋﲆ ﻇﻬﺮ
اﻷرض.
ً
ﻣﺘﺨﺼﺼﺎ ﰲ ﺻﻔﺎﺗﻪ اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ ﻣﺜﻞ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ،ﺑﻞ إن ﻛﻞ واﻹﻧﺴﺎن ﻟﻴﺲ
ﺻﻔﺎﺗﻪ ﻋﺎﻣﺔ .ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻳﺤﺘﻮي ﻓﻢ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﲆ ﻗﻮاﻃﻊ وأﻧﻴﺎب وﴐوس ﺗﻤﻜﻨﻪ
ﻣﻦ اﻟﻘﻄﻊ واﻟﺘﻤﺰﻳﻖ واﻟﻄﺤﻦ ،ﻋﲆ ﻋﻜﺲ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺨﺼﺼﺖ إﻣﺎ ﰲ اﻟﻄﺤﻦ
ﻓﺄﺻﺒﺤﺖ ﻧﺒﺎﺗﻴﺔ ،وإﻣﺎ ﰲ اﻟﺘﻤﺰﻳﻖ واﻟﻘﻄﻊ ﻓﺄﺻﺒﺤﺖ ﻣﻦ رﺗﺒﺔ آﻛﻠﺔ اﻟﻠﺤﻮم .وﺑﺬﻟﻚ ﻳﻤﻜﻦ
ﻟﻺﻧﺴﺎن أن ﻳﻌﻴﺶ ﻋﲆ اﻟﻐﺬاء اﻟﻨﺒﺎﺗﻲ واﻟﺤﻴﻮاﻧﻲ ﻣﻌً ﺎ ،وﻫﻲ ﺻﻔﺔ ﻋﻤﻮﻣﻴﺔ ﻋﲆ ﻋﻜﺲ
ﺗﺨﺼﺺ ﺑﻘﻴﺔ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺤﻴﻮان.
111
اﻹﻧﺴﺎن
اﻷﺳﻤﺎك اﻟﻌﻈﻤﻴﺔ
اﻟﺰواﺣﻒ
اﻟﻜﺮﻳﺘﺎﳼ أﺳﻤﺎك ﻏري ذات ﻓﻚ
اﻟﺠﻮراﳼ
اﻟﻜﺮﻳﺘﺎﳼ
اﻷﻣﻔﻴﺒﻴﺎت
اﻟﱪﻣﻲ
اﻟﺪﻳﻔﻮﻧﻲ
اﻟﺴﻴﻠﻮري
ﺗﻄﻮر اﻟﺤﻴﺎة ﻣﻦ اﻷوردوﻓﻴﴚ ﺣﺘﻰ اﻟﺤﺪﻳﺚ
أوردوﻓﻴﴚ
ﺷﻜﻞ 1-1
وﻛﺬﻟﻚ ﻓﺎﻹﻧﺴﺎن ﻗﻮي ﺟﻨﺴﻴٍّﺎ؛ إذ ﻻ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﻤﻮﺳﻢ اﻟﺘﻨﺎﺳﻞ ﻣﺜﻞ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﺤﻴﻮان ،ﺑﻞ
ﻋﲆ اﻟﻌﻜﺲ ﻧﺠﺪ أن اﻟﺮﻏﺒﺔ اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ ﻋﻨﺪه داﺋﻤﺔ ﻋﲆ ﻣﺪار اﻟﺴﻨﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻠﻴﺲ ﺛﻤﺔ ﺧﻄﺮ
ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ أن ﻳﺘﺨﺼﺺ ﰲ ﺻﻔﺔ ﺟﺴﺪﻳﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ،وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﻻ ﻳﻘﻒ ﺗﻄﻮره ﻋﻨﺪ ﺣﺪ
ﻣﻌني ﻳﺼﺒﺢ أﺳريًا ﻟﻪ ﻣﺜﻞ ﺗﺨﺼﺺ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ﰲ ﻣﻨﺎﺧﺎت ﻣﻌﻴﻨﺔ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻌﻤﺮ ﻛﻞ
ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﻌﺎﻟﻢ )ﻣﺜﺎل اﻟﺘﺨﺼﺼﺎت اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ :اﻟﺠﺴﻢ اﻷﺳﻄﻮاﻧﻲ ﻟﻸﺣﻴﺎء اﻟﺒﺤﺮﻳﺔ ،ﺧﺮﻃﻮم
اﻟﻔﻴﻞ ،رﻗﺒﺔ اﻟﺰراﻓﺔ ،اﻟﻐﻄﺎء اﻟﺜﻘﻴﻞ ﻟﻠﺴﻠﺤﻔﺎة أو اﻟﺘﻤﺴﺎح … إﻟﺦ(.
وﻗﺪ ذﻛﺮﻧﺎ أن وﻗﻮف اﻹﻧﺴﺎن ﻋﲆ ﻗﺪﻣﻴﻪ ﻗﺪ ﻣ ﱠﻜﻦ ﻳﺪﻳﻪ ﻟﻠﻘﻴﺎم ﺑﺄﻋﻤﺎل أﺧﺮى،
ً
وﺧﺎﺻﺔ ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻷدوات؛ وﻟﻬﺬا ﻓﺈن اﻟﺼﻔﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎن اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻴﺰه ﻋﻦ اﻟﺤﻴﻮان ﻫﻲ
أﻧﻪ »ﺻﺎﻧﻊ أدوات« .وﺻﺤﻴﺢ أن ﺑﻌﺾ اﻟﻘﺮدة اﻟﻌﻠﻴﺎ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﺴﺘﺨﺪم ﻋﺼﻴٍّﺎ أو
112
ﻧﻮع اﻟﺴﻼﻟﺔ وﺗﻄﻮر ﻧﻮع اﻹﻧﺴﺎن
ﻗﺮدة
اﻟﱪوﺳﻴﻤﻴﺎن اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻘﺮدة اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ اﻟﺘﺎرﻳﺦ
اﻟﺠﻴﻮﻟﻮﺟﻲ
اﻟﺤﺪﻳﺚ
اﻟﺒﻠﻴﻮﺳﺘﻮﻳﻦ
اﻟﺒﻠﻴﻮﺳني
)ب( )ﺟ( )د( )ﻫ( املﻴﻮﺳني
٥ ٤
٣ ٢
أوﻟﻴﺠﻮﺳني
إﻳﻮﺳني
)أ( )أ(
ﻳﺎﻟﺒﻴﻮﺳني
١
6ﻟُﻮﺣِ ﻆ أن ﺑﻌﺾ اﻟﺸﻤﺒﺎﻧﺰي ﰲ اﻷﴎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺴﺘﺨﺪم ﺑﻌﺾ اﻷدوات املﻌﻘﺪة ،واﻟﺸﻤﺒﺎﻧﺰي اﻟﻄﻠﻴﻖ
ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺴﺘﺨﺪم ﻋﺼﺎ ﻳﺒﻠﻠﻬﺎ ﺑﻠﻌﺎﺑﻪ وﻳُﺪﺧﻠﻬﺎ ﺟﺤﻮر اﻟﻨﻤﻞ وﻳﺴﺤﺒﻬﺎ ﺑﻤﺎ ﻋﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﻤﻞ ﻟﻴﺄﻛﻠﻪ
ﺷﻜﻼ ﻣﺤﺒﺒًﺎ ﻣﻦ اﻟﻌﴢ ،وأﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺷﻜﻞ ﻋﺎم ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻪً وﻳﻜﺮر اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ .ﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أن ﻟﻜﻞ ﺷﻤﺒﺎﻧﺰي
اﻟﻜﻞ.
Beals, R., & H. Hoijer “An Introducation to Anthropology” Macmillan, New York 1967,
.P. 58
113
اﻹﻧﺴﺎن
واﻟﺼﻔﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻴﺰ اﻹﻧﺴﺎن ﻫﻲ اﻟﻘﺪرة ﻋﲆ اﻟﺘﻔﻜري اﻟﻐﺮﻳﺰي وﻏري اﻟﻐﺮﻳﺰي،
واﻟﻨﻘﻞ واملﺤﺎﻛﺎة واﻟﺘﻮارث اﻟﻔﻜﺮي واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ،وﻫﺬه ﻫﻲ أﻋﲆ ﺻﻔﺎت ﻣﻮﺟﻮدة ﰲ املﻤﻠﻜﺔ
اﻟﺤﻴﻮاﻧﻴﺔ.
وﺗﻠﺘﻘﻲ ﻛﻞ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻴﺰ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﻦ اﻟﺤﻴﻮان ﰲ املﺦ ،وﻣﺦ اﻹﻧﺴﺎن ﻛﺒري
ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺤﺠﻢ اﻹﻧﺴﺎن ووزﻧﻪ ،ﺑﻞ إن ﻣﺦ اﻹﻧﺴﺎن ﻫﻮ اﻟﺮاﺑﻊ ﰲ اﻟﻮزن ﰲ ﻋﺎﻟﻢ اﻷﺣﻴﺎء
ﻛﻠﻪ .أﻛﱪ ﺣﺠﻢ ﻫﻮ ﻣﺦ اﻟﺤﻮت اﻟﺬي ﻳﺒﻠﻎ ٦٠٠٠ﺳﻨﺘﻴﻤﱰ ﻣﻜﻌﺐ ،ﺛﻢ اﻟﻔﻴﻞ ٥٠٠٠ﺳﻢ ،٣
ﺛﻢ ﺑﻌﺾ أﻧﻮاع اﻟﺤﻴﺘﺎن اﻟﺼﻐرية واﻟﺪراﻓﻴﻞ وﻏريﻫﺎ ١٨٠٠ﺳﻢ ،٣ﺛﻢ اﻹﻧﺴﺎن ﺑﻤﺘﻮﺳﻂ
١٤٥٠ﺳﻢ ،٣ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺒﻠﻎ املﺦ ﻋﻨﺪ أﻗﺮب اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺎت إﱃ اﻹﻧﺴﺎن ٥٠٠ﺳﻢ ٣ﻋﻨﺪ اﻟﻐﻮرﻳﻼ،
٤٠٤ﺳﻢ ٣ﻋﻨﺪ اﻟﺸﻤﺒﺎﻧﺰي٣٩٥ ،ﺳﻢ ٣ﻋﻨﺪ اﻷوراﻧﺞ أوﺗﺎن ،و١٢٨ﺳﻢ ٣ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻴﺒﻮن.
وﻟﻴﺴﺖ املﺴﺄﻟﺔ ﻣﺠﺮد اﻟﺤﺠﻢ ،ﺑﻞ إن ﺑﻨﺴﺒﺔ ﺣﺠﻢ املﺦ إﱃ وزن اﻟﻜﺎﺋﻦ ﻧﺠﺪ أن
اﻹﻧﺴﺎن ﻳﺘﻔﻮق ﻋﲆ أﻗﺮب ﻣﻨﺎﻓﺲ ﻟﻪ ،وﻫﻮ اﻟﻐﻮرﻳﻼ — ﺑﺴﺘﺔ أﺿﻌﺎف.
ﺟﺪول ﻳﻮﺿﺢ ﻋﻤﺮ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﺠﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ.
اﻟﺰﻣﻦ اﻟﺠﻴﻮﻟﻮﺟﻲ اﻟﻌﴫ اﻟﺠﻴﻮﻟﻮﺟﻲ اﻟﻌﻤﺮ ﺑﻤﻠﻴﻮن ﺳﻨﺔ اﻟﺸﻜﻞ اﻷﺳﺎﳼ ﻟﻠﺤﻴﺎة
١١٫٠ اﻟﺒﻠﻴﻮﺳني
١٦٫٠ املﻴﻮﺳني
ﻋﴫ اﻟﺜﺪﻳﻴﺎت ١١٫٠ اﻷوﻟﻴﺠﻮﺳني اﻟﺰﻣﻦ اﻟﺜﺎﻟﺚ
١٩٫٠ اﻹﻳﻮﺳني
١٧٫٠ اﻟﺒﻠﻴﻮﺳني
واﻵن ِﻟﻨ َ َﺮ ﻛﻴﻒ ﺗﻄﻮﱠر اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ أﺻﻮﻟﻪ اﻷوﱃ اﻟﺘﻲ ﺗﺮﺟﻊ إﱃ ﻋﴫ اﻷوﻟﻴﺠﻮﺳني
— أي :إﱃ ﺣﻮاﱄ ٣٠ﻣﻠﻴﻮن ﺳﻨﺔ ﻣﻀﺖ .ﻓﻔﻲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻷوﻟﻴﺠﻮﺳني ﺑﺪأ ﺷﻜﻞ ﺟﺪﻳﺪ ﻣﻦ
أﺷﻜﺎل اﻟﺤﻴﺎة ﻳﺘﻄﻮر ﻋﻦ رﺗﺒﺔ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺎت ،وﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﺸﻜﻞ اﻟﺤﻴﻮاﻧﻲ اﻟﺠﺪﻳﺪ اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ
أن ﻧﺴﻤﻴﻪ ﻋﺎﺋﻠﺔ اﻟﻬﻮﻣﻴﻨﻴﺪﻳﺎﻧﻴﺔ ) Hominidaeراﺟﻊ أﺷﻜﺎل (4-1 ،3-1 ،2-1ﺗﻔﺮﻋﺖ
114
ﻧﻮع اﻟﺴﻼﻟﺔ وﺗﻄﻮر ﻧﻮع اﻹﻧﺴﺎن
٦
د أ ب ﺟ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ
٥ ﻣﻠﻴﻮن ﺳﻨﺔ ﺑﻼﻳﻮﺳﺘﻮﺳني
٤
اﻟﻘﺮدة ٣ ﺧﻂ ﺑﻼﻳﻮﺳني
٢ ﻣﺮﺣﻠﺔ
اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﺘﻄﻮر ﻋﴩة ﻣﻼﻳني
١ اﻟﺘﺄﻧﺴﻦ اﻟﺒﴩي ﺳﻨﺔ
٤٠٠أﻟﻒ
ﺳﻨﺔ
درﻳﻮﺑﺘﻜﺲ ﺟﻴﻮﺳني ﺧﻤﺴﺔ
ﻋﴩ ﻣﻠﻴﻮن
ﺳﻨﺔ
ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺑﺮوﻛﻮﻧﺴﻮل
أﺻﻮل اﻹﻧﺴﺎن واﻟﻘﺮدة اﻟﻌﻠﻴﺎ ،وﻻ ﻧﻌﺮف ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﻴﻒ ﻛﺎن ﺷﻜﻞ ﻫﺬا اﻷﺻﻞ ،ﻟﻜﻨﻪ رﺑﻤﺎ
ﺷﺎﺑﻪ أﺣﺪ أﺷﻜﺎل اﻟﻨﺴﺎﻧﻴﺲ واﻟﻘﺮدة اﻟﺘﻲ ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ ﻟﻴﻤﻨﻮﺑﺜﻜﺲ Limnopithecusواﻟﺬي
َت ﺣﻔﺮﻳﺎﺗﻪ ﰲ ﴍق أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ )ﻛﻴﻨﻴﺎ( .وأﻗﺪم اﻷدﻟﺔ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻻﺗﺠﺎه ﻋُ ِﺜ َﺮ ﻋﻠﻴﻪ ﰲو ُِﺟﺪ ْ
ﺣﻔﺮﺗني ﻣﻦ ﻋﴫ اﻷﻟﻴﺠﻮﺳني ﰲ ﻣﴫ )اﻟﻔﻴﻮم( :وﻫﻤﺎ ﺑﺎراﺑﺜﻜﺲ Parapithecusاﻟﺬي
ُﻌﺘﱪ ﻣﻦ أﺻﻮل ﻳُﻌَ ﱡﺪ أﺻﻞ ﻗﺮدة اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ ،وﺑﺮﺑﻠﻴﻮﺑﺜﻜﺲ ،Propliopithecusوﻫﻮ ﻳ َ
اﻟﻬﻮﻣﻴﻨﻴﺪﻳﺎﻧﻴﺔ ،وﻫﻤﺎ ﺑﺬﻟﻚ أﻗﺪم ﻣﻦ اﻟﻠﻴﻤﻨﻮﺑﺜﻜﺲ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﰲ إﻣﻜﺎن ﻫﺬا اﻟﻘﺮد أن
ﻳﻌﻴﺶ ﻋﲆ اﻷﺷﺠﺎر وﻳﺴري ﺑﺼﻌﻮﺑﺔ ملﺴﺎﻓﺎت ﻗﺼرية ﻋﲆ اﻷرض .وﰲ املﻴﻮﺳني ﺑﺪأ اﻟﺠﻮ
ﻳﻤﻴﻞ ﻟﻠﱪودة؛ ﻣﻤﺎ اﺿﻄﺮ ﺑﻌﺾ اﻟﻠﻴﻤﻨﻮﺑﺜﻜﺲ إﱃ اﻟﻨﺰول إﱃ اﻷرض ﻟﺠﻤﻊ اﻟﻐﺬاء ﺑﻌﺪ أن
115
اﻹﻧﺴﺎن
إﻧﺴﺎن ﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل
إﻧﺴﺎن رودﻳﺴﻴﺎ
إﻧﺴﺎن ﺳﻮﻟﻮ
ﻌﻠﻴﺎ(
)اﻟﻘﺮ ﺠﻴﺪﻳﺎ
اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻮاﻗﻒ
)ﺑﺜﻜﺎ ﻧﺴﱰوﺑﺲ(
دة اﻟ
اﻟﻴﻮﻧ
اﻟﻘﺮد اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ
)أورﻳﻮﺑﺜﻜﺲ(
اﻟ ﻬ
ﻮﻫﻮ
ﻳﻨﺪﻳﺎ
أورﻳﻮﺑﺜﻜﺲ
درﻳﻮﺑﺜﻜﺲ
ﺑﺮوﻛﺴﻮﻧﺴﻮل
ﻮن
اﻟﻬﻮﻣﻮﻳﻨﺪﻳﺎﺑﻨني
ﻴﺒ اﻟﺠ
ﱃ ﻮر إ اﻟ
ﺘﻄ ﺘﻄﻮ
اﻟ
ﺮﻗ اﻟﻌﺎﻟ ر إﱃ
ﻢ اﻟﻘﺪ دة
ﻟﻴﻤﻨﻮﺑﺜﻜﺲ ﻳﻢ
ﻗ ﱠﻞ ﻣﺤﺼﻮل اﻟﺸﺠﺮ ،وزاد اﻟﻌﺸﺐ واﻟﺤﺸﺎﺋﺶ ﻋﲆ ﺣﺴﺎب اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺸﺠﺮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺒﺎﻋﺪت
أﺷﺠﺎرﻫﺎ.
وﻗﺪ ﺗﻤﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﻔﺮع اﻟﺬي ﻧﺰل إﱃ اﻷرض ﻣﻦ اﻻﺳﺘﻤﺮار ﰲ اﻟﺴري ﻋﲆ ﻗﺪﻣﻴﻪ ،وﻛﻮن
ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ أﺻﻮل اﻹﻧﺴﺎن .واملﺘﻔﻖ ﻋﻠﻴﻪ أﻧﻪ ﰲ أواﺋﻞ املﻴﻮﺳني — ﻣﻨﺬ ﺣﻮاﱄ ٢٥ﻣﻠﻴﻮن
ﺳﻨﺔ — ﺣﺪث اﻧﻘﺴﺎم ﺑني ﻫﺬه اﻟﻘﺮدة اﻟﺘﻲ ﺳﺎرت ﻋﲆ اﻷرض ،أدى إﱃ ﺗﻜﻮﻳﻦ:
ً
اﻟﺘﺼﺎﻗﺎ ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة ً
اﻧﻔﺼﺎﻻ ،وأﻛﺜﺮﻫﺎ ) (١أﺻﻮل اﻟﺠﻴﺒﻮن؛ وﻫﻮ أﻗﺪم اﻟﻘﺮدة اﻟﻌﻠﻴﺎ
اﻟﺸﺠﺮﻳﺔ ،وأﻗﻠﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺣﺠﻢ املﺦ.
) (٢أﺻﻮل ﻋﺎﺋﻠﺔ اﻟﻬﻮﻣﻴﻨﻴﺪﻳﺎ ﰲ ﺷﻜﻞ ﻣﻦ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺎت ﻳُﻌ َﺮف ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ ﺑﺠﻨﺲ ﺑﺮوﻛﻮﻧﺴﻮل
Proconsulاﻟﺬي ﺗﺸﻌﺐ إﱃ ﻧﻮﻋني ﻣﻌﺮوﻓني؛ ﻫﻤﺎ) :أ( اﻟﱪوﻛﻮﻧﺴﻮل ﺑﻨﻮﻋﻴﺔ اﻟﻜﺒري
)ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن أﺻﻞ اﻟﻐﻮرﻳﻼ( ،واﻟﺼﻐري )اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن أﺻﻞ اﻟﺸﻤﺒﺎﻧﺰي(.
116
ﻧﻮع اﻟﺴﻼﻟﺔ وﺗﻄﻮر ﻧﻮع اﻹﻧﺴﺎن
)ب( درﻳﻮﺑﺜﻜﺲ ﺑﺄﻧﻮاﻋﻪ املﺨﺘﻠﻔﺔ ،وﻫﻮ أﺣﺪث ﻣﻦ اﻟﱪوﻛﻮﻧﺴﻮل )أواﺧﺮ املﻴﻮﺳني( ،وﻗﺪ
و ُِﺟﺪ ﻛﺜري ﻣﻦ ﺣﻔﺮﻳﺎﺗﻪ ﰲ ﺗﻼل ﺳﻴﻔﺎﻟﻴﻚ ﰲ اﻟﻬﻨﺪ ،وﻗﻠﻴﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وأوروﺑﺎ.
وإﺟﻤﺎع اﻵراء ﻫﻮ أن ﻗﺮد اﻟﺪرﻳﻮﺑﺜﻜﺲ ﻫﻮ أﻗﺮب ﻣﺎ ﻟﺪﻳﻨﺎ ﻣﻦ ﺣﻔﺮﻳﺎت ﻷﺻﻮل اﻟﺘﺸﻌﺐ ﰲ
ﻋﺎﺋﻠﺔ اﻟﻬﻮﻣﻴﻨﻴﺪﻳﺎ إﱃ ﺧﻄﻰ اﻟﺘﻄﻮر :اﻟﻘﺮدة اﻟﻌﻠﻴﺎ واﻹﻧﺴﺎن .أﻣﺎ ﺣﻔﺮﻳﺔ أورﻳﻮﺑﺜﻜﺲ اﻟﺘﻲ
َت ﰲ ﺷﻤﺎل إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ؛ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻻ ﺗُﻌَ ﺪ اﻵن ﺟﺰءًا ﻣﻦ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﻌﺎم ﰲ اﻟﺨﻂ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ،ﺑﻞ
و ُِﺟﺪ ْ
ﺟﻨﺲ ﺗﻄﻮر وﺣﺪه ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ املﺴﺘﻨﻘﻌﺎت واﻟﻐﺎﺑﺎت ﰲ أواﺧﺮ املﻴﻮﺳني واﻧﻘﺮض.
ﺷﻤﺒﺎﻧﺰي ﺑﺮوﻛﻮﻧﺴﻮل
أورﻳﻮﺑﺘﻜﺲ اﻹﻧﺴﺎن
وﻟﻔﱰة ﺣﻮاﱄ ﻋﴩﻳﻦ ﻣﻠﻴﻮن ﺳﻨﺔ ﺑﻌﺪ ﻛﺸﻮف أواﺧﺮ املﻴﻮﺳني ﻻ ﻧﺠﺪ ﺣﻔﺮﻳﺎت،
ﻟﻜﻦ ﻻ ﺷﻚ أن ﻋﺎﺋﻠﺔ اﻟﻬﻮﻣﻴﻨﻴﺪﻳﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺘﻄﻮر ﰲ ﻫﺬه اﻟﻔﱰة اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ .ﺛﻢ ﻧﺠﺪ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ
ﺣﻔﺮﻳﺎت ﻃﻼﺋﻊ اﻹﻧﺴﺎن ،وأﻛﺜﺮ ﻫﺬه اﻟﻄﻼﺋﻊ ﺑﺪاﻳﺔ وأﻗﻞ اﻗﱰاﺑًﺎ ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎن ﻫﻲ ﺣﻔﺮﻳﺎت
اﻟﻘﺮد اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ Australopitheceniaاﻟﺬي و ُِﺟ َﺪ ﰲ ﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﰲ أواﺧﺮ اﻟﺒﻠﻴﻮﺳني
117
اﻹﻧﺴﺎن
ﻣﻦ املﺸﻜﻼت اﻟﻬﺎﻣﺔ ﰲ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺗﺎرﻳﺦ ﺗﻄﻮر اﻟﺴﻼﻻت املﻌﺎﴏة ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﻌﺎﻗﻞ ﻣﻦ أﺻﻮﻟﻬﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ .وﻧﻈ ًﺮا ﻟﻌﺪم ﻛﻔﺎﻳﺔ اﻷدﻟﺔ اﻟﺤﻔﺮﻳﺔ؛ ﻓﺈن ﻫﻨﺎك ﺗﻀﺎرﺑًﺎ ﻛﺒريًا
ﰲ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع .ﻓﻬﻞ ﺗﻄﻮرت اﻟﺴﻼﻻت املﻌﺎﴏة ﻋﻦ إﻧﺴﺎن ﻧﻴﺎﻧﺪرﺗﺎل أم ﻋﻦ اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﻮاﻗﻒ ،أم ﻋﻨﻬﻤﺎ ﻣﻌً ﺎ ،أم ﻧﺸﺄ ﻧﺸﺄة ﻣﻨﻔﺼﻠﺔ ﻋﻨﻬﻤﺎ؟
وﻻ ﻧﺮﻳﺪ أن ﻧﺪﺧﻞ ﰲ ﻣﺘﺎﻫﺎت ﻛﺜرية .ﻟﻘﺪ ﻛﺎن اﻟﺮأي إﱃ أواﺧﺮ اﻟﺨﻤﺴﻴﻨﻴﺎت ﻳﺴﺘﺒﻌﺪ
أن ﻳﻜﻮن اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ ﻗﺪ ﻧﺸﺄ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺗﻄﻮر ملﺠﻤﻮﻋﺔ ﻧﻴﺎﻧﺪرﺗﺎل ،ﺑﻞ ﻛﺎن أﻗﺮب إﱃ
اﺳﺘﺒﻌﺎد ﻫﺬه املﺠﻤﻮﻋﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻧﻮع ﻣﻦ ﺟﻨﺲ ﻹﻧﺴﺎن ﻧﺸﺄ ﻣﻮازﻳًﺎ ﻟﺨﻂ اﻟﺘﻄﻮر اﻷﺳﺎﳼ
ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻮاﻗﻒ إﱃ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ .ﻟﻜﻦ املﺆﺗﻤﺮ اﻟﺬي ﻋُ ﻘِ َﺪ ﰲ ﻋﺎم ١٩٦٢ﰲ ﺑﻮرج
ﻓﺎرﺗﻨﺸﺘﺎﻳﻦ ﺑﺎﻟﻨﻤﺴﺎ ﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺒﴩي وﺗﺼﻨﻴﻔﻪ ،ﻗﺪ اﻧﺘﻬﻰ إﱃ اﻋﺘﺒﺎر ﻧﻴﺎﻧﺪرﺗﺎل
ﻣﻨﻔﺼﻼ ﻣﻦ ﺟﻨﺲ اﻹﻧﺴﺎن ،وأﻧﻪ ﻗﺪ اﻧﻘﺮض أو اﻧﺪﻣﺞ ﻣﻊ ً ﻧﻮﻋً ﺎ ﻓﺮﻋﻴٍّﺎ ،وﻟﻴﺲ ﻧﻮﻋً ﺎ
ﻣﻘﺪﻣﺎت اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ ﺣﺴﺐ اﻷﻣﺎﻛﻦ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ.
وﺗﺘﻔﻖ اﻵراء اﻵن ﻋﲆ أن اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ ﻫﻮ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻧﻮع ﻣﺘﻌﺪد املﻮرﻓﻮﻟﻮﺟﻴﺔ،
ﻣﺘﻌﺪد اﻟﻨﻤﻂ ،ﺗﻄﻮﱠر ﺑﺼﻔﺔ ﻣﺴﺘﻤﺮة ﺧﻼل اﻟﺰﻣﻦ ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻮاﻗﻒ.
118
ﻧﻮع اﻟﺴﻼﻟﺔ وﺗﻄﻮر ﻧﻮع اﻹﻧﺴﺎن
ﻟﻜﻦ ﻫﻨﺎك اﺗﺠﺎﻫني ﻟﺘﻔﺴري ﺗﻄﻮره؛ اﻻﺗﺠﺎه اﻷول :أﻧﻪ ﺗﻄﻮر ﻋﻦ إﺣﺪى املﺠﻤﻮﻋﺎت
اﻟﺒﴩﻳﺔ اﻟﺘﺎﺑﻌﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎن اﻟﻮاﻗﻒ ،املﻨﻌﺰﻟﺔ ﺟﻐﺮاﻓﻴٍّﺎ ،ﺛﻢ اﻧﺘﴩ وﻗﴣ ﻋﲆ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت
ﻣﺘﻤﺜﻼ ﰲ ﺣﺠﻢ املﺦً اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻮاﻗﻒ ﺑﻤﺎ ﻳﺴﺘﺤﻮذ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ درﺟﺔ أﻋﲆ ﰲ ﺻﻔﺎت اﻟﺒﻘﺎء
اﻟﻜﺒري )وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ اﻓﱰاض درﺟﺔ ذﻛﺎء أﻋﲆ( واﺑﺘﻜﺎرات ﻟﻸدوات أﺣﺴﻦ ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻮاﻗﻒ.
وﻣﻦ أﻛﱪ ﻣﺆﻳﺪي ﻫﺬا اﻻﺗﺠﺎه ﺑريدﺳﻞ ،وﻳُﺴﻤﱠ ﻰ ﻫﺬا اﻻﺗﺠﺎه اﻷﺻﻞ اﻟﺸﻘﻲ أو اﻟﺠﺰﺋﻲ
cladogenetic؛ ﻷن ﺟﺰءًا واﺣﺪًا ﺗﻄﻮر.
أﻣﺎ اﻻﺗﺠﺎه اﻟﺜﺎﻧﻲ — وﻫﻮ اﻷﺣﺪث — ﻓﻴﻘﻮل إن اﻟﺘﻄﻮر ﻗﺪ ﴎى ﻋﲆ ﻛﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت
اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻮاﻗﻒ ،ﺑﺤﻴﺚ ﺗﺤﻮل إﱃ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﺗﺒﺎدل اﻟﺠﻴﻨﺎت أو املﻮ ﱢرﺛﺎت
واﻟﻬﺠﺮة املﺴﺘﻤﺮة واﻟﺘﻌﺪﻳﻼت املﻼﺋﻤﺔ ﻷﻣﺎﻛﻦ اﻟﻬﺠﺮة اﻟﺠﺪﻳﺪة واﻟﻄﻔﺮات اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪث
ﻓﻴﻬﺎ .وﻳُﺴﻤﱠ ﻰ ﻫﺬا اﻻﺗﺠﺎه ﺑﺎﻷﺻﻞ اﻟﻜﲇ anageletic؛ ﻷن ﻛﻞ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻮاﻗﻒ ﻗﺪ ﺗﻄﻮر
ﺑﺪرﺟﺎت ﻣﺘﻔﺎوﺗﺔ ﻣﺘﺒﺎدﻟﺔ .وﻣﻦ أﻛﱪ ﻣﺆﻳﺪي ﻫﺬا اﻻﺗﺠﺎه دوﺑﺰاﻧﺴﻜﻲ7 .
Dobzhansky, T., “Manking Evolving: The Evolution of the Human species” New Haven, 7
.1962
119
اﻹﻧﺴﺎن
وﺑﺮﻏﻢ ﻣﺎ ﺗﺒﺪو ﻋﻠﻴﻪ ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر ﻣﻦ ﻗﻮة ،إﻻ أن اﻟﺘﺸﻜﻚ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺪاﺧﻠﻨﺎ إذا ﻣﺎ
ﻋﺎﻣﻼ ﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺐ ﻛﺒري ﻣﻦ اﻟﺨﻄﻮرة .ﻓﻨﻈﺎم اﻻﻏﱰاب ﰲ اﻟﺰواج Exogamy ً أﺿﻔﻨﺎ
ﻫﻮ ﻧﻈﺎم ﻗﺪﻳﻢ ﻟﺘﺠﻨﺐ اﻟﺘﺰاوج ﺑﺎملﺤﺮﻣﺎت ،incest tabooوإن ﻛﺎﻧﺖ ﺑﻌﺾ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت
ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﻗﺪ ﺳﻤﺤﺖ ﺑﺎملﺤﺮﻣﺎت ،إﻻ أن اﻟﺘﻘﺴﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ واﻟﺪﻳﻨﻲ ﴎﻋﺎن ﻣﺎ ﻳﻔﺮض
اﻻﻏﱰاب ﻋﲆ أﺑﺴﻂ املﺠﺘﻤﻌﺎت ،وﻫﺬا أﻣﺮ ﻧﻼﺣﻈﻪ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ املﻌﺎﴏة ﰲ
ﺣﻮض اﻷﻣﺎزون اﻟﺬي ﻳﺤﺪث ﻓﻴﻪ اﻻﻏﱰاب ﰲ اﻟﺰواج ﺣﺘﻰ وﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺰوﺟﺔ ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ
ﻟﻐﻮﻳﺔ أﺧﺮى ،وﻻ ﺷﻚ أن ﻫﺬا ﻳﴪع ﺑﻌﻤﻠﻴﺔ ﺗﺒﺎدل اﻟﺠﻴﻨﺎت وﻳﻀﻤﻦ ﺗﻄﻮ ًرا ﻋﺎﻣٍّ ﺎ ﻣﺸﱰ ًﻛﺎ
ﰲ اﻟﺴﻼﻻت املﺨﺘﻠﻔﺔ .وﻟﻴﺲ اﻟﺰواج وﺣﺪه ﻫﻮ اﻟﻌﺎﻣﻞ اﻷﺳﺎﳼ ،وإﻻ ﺳﺎر ﺗﺒﺎدل اﻟﺠﻴﻨﺎت
أﻳﻀﺎ اﻟﺘﺤﺮﻛﺎت اﻟﻘﺒﻠﻴﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ ﰲ ﺻﻮرة ﻏﺰوات وأﴎ وﺳﺒﻲ ﺑﺒﻂء ﺷﺪﻳﺪ ،ﻟﻜﻦ ﻫﻨﺎك ً
وﻫﺠﺮات ﺗﺆدي إﱃ ﺗﺪاﻓﻊ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻣﻦ أﻣﺎﻛﻨﻬﺎ إﱃ أﻣﺎﻛﻦ ﻏريﻫﺎ ﰲ ﺣﺮﻛﺔ ﺗﻜﺎد ﻻ ﺗﺘﻮﻗﻒ
ً
وﺧﺎﺻﺔ ﻏﺰوات وﻫﺠﺮات اﻟﺮﻋﺎة.
وﻻ ﺷﻚ أن ﻓﻜﺮة اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺸﺎﻣﻞ أو اﻟﻜﲇ أﻛﺜﺮ ﻗﻮة ﻣﻦ اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ،وﻳﺸﺒﻪ
ﻣﺠﺎر ﻋﺪﻳﺪة ﺻﻐرية،
ٍ دوﺑﺰاﻧﺴﻜﻲ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺒﴩي ﺑﻨﻬﺮ واﺣﺪ ﻛﺒري ﻛﺜري اﻻﻧﺤﻨﺎءات ﺗﻮازﻳﻪ
وﻗﺪ ﻳﺤﺪث أن ﻳﺒﺘﻌﺪ ﻣﺠﺮى ﺻﻐري وﻳﻨﺘﻬﻲ إﱃ اﻟﻔﻨﺎء ،ﻟﻜﻦ اﻟﻐﺎﻟﺒﻴﺔ ﺗﻠﺘﺤﻢ وﺗﻔﱰق ﻋﻦ
اﻟﻨﻬﺮ اﻟﻜﺒري ﰲ ﺻﻮرة ﻣﺘﻜﺮرة .وﺗﻤﺜﻞ ﻫﺬه املﺠﺎري اﻟﺼﻐرية اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺸﺄ ﰲ ﻇﻞ
ﻇﺮوف ﺧﺎﺻﺔ ،ﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﻨﺪﻣﺞ ﻣﻊ اﻟﺘﻴﺎر اﻟﻜﺒري ذي اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺴﻼﻟﻴﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ .وﺑﻌﺒﺎرة
أﺧﺮى :ﻓﺈن اﻟﺴﻼﻟﺔ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﺗﻴﺎر ﻣﺆﻗﺖ ﻳﺬوب ﰲ اﻟﺘﻴﺎر اﻟﻌﺎم ﻟﻠﺘﻄﻮر اﻟﺒﴩي.
وﻳﺆﻛﺪ اﻷﺳﺘﺎذ اﻟﺴﻮﻓﻴﺘﻲ ﻧﺴﺘﻮرخ أن ﺳﻼﻻت اﻹﻧﺴﺎن ﻫﻲ ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ8 .
ﻓﻼ ﺷﻚ أن اﻟﺒﻴﺌﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻛﺎن ﻟﻬﺎ أﺛﺮ ﻛﺒري ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎن ،ﺧﺎﺻﺔ ﰲ ﻣﺮاﺣﻞ ﺗﻄﻮره
اﻷوﱃ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ ،وﻛﺎن اﻟﺘﺄﺛري واﺿﺤً ﺎ ﻋﲆ ﻋﺪد ﻣﻦ املﻈﺎﻫﺮ ﻣﺜﻞ ﻟﻮن
اﻟﺒﴩة .ﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎﻧﺖ ﻃﺮﻳﻘﺔ اﻟﺤﻴﺎة ﻟﻬﺎ أﺛﺮﻫﺎ اﻟﻮاﺿﺢ ﻋﲆ ﺗﻄﻮر اﻹﻧﺴﺎن :ﺗﻘﺪﻣﻪ أو
اﻧﻘﺮاض ﺳﻼﻟﺘﻪ .وﻫﺬه وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ ﻣﻌﺎرﺿﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻟﻮﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ اﻟﻌﻠﻤﺎء اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻌﺘﻘﺪون
أن ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻟﺴﻼﻻت ﺟﺎء ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺘﻐﺎﻳﺮ ﺗﺮﺗﻴﺐ وﺗﻌﺎدل ﻣﻮرﺛﺎت ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺘﻐري Genes
»ﻣﻮرﺛﺎت«.
ﻓﺤﻴﻨﻤﺎ اﻧﺘﴩت اﻟﺴﻼﻻت ﻋﱪ اﻟﻈﺮوف اﻟﺒﻴﺌﻴﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻛﺎن ﻟﺬﻟﻚ وﻻ ﺑﺪ أﺛﺮ ﻓﻌﺎل،
وﻟﻜﻨﻪ ﻻ ﻳﺼﻞ إﱃ أﺛﺮ اﻟﺒﻴﺌﺔ ﻋﲆ ﺳﻼﻻت اﻟﺤﻴﻮان؛ وذﻟﻚ ﻷن اﻹﻧﺴﺎن اﺧﺘﻠﻒ ً
ﻛﻴﻔﺎ ﻋﻦ
120
ﻧﻮع اﻟﺴﻼﻟﺔ وﺗﻄﻮر ﻧﻮع اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﺤﻴﻮان ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻣﻌﺎرﺿﺘﻪ اﻟﺪاﺋﻤﺔ ﻟﻠﺒﻴﺌﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻌﻴﺶ ﻓﻴﻬﺎ ،ﻋﲆ ﻋﻜﺲ اﻟﺤﻴﻮان اﻟﺬي
ﻳﺮﻏﺐ ﰲ اﻹﺑﻘﺎء ﻋﲆ ﻣﻈﺎﻫﺮ اﻟﺒﻴﺌﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻴﻒ وﺗﺄﻗﻠﻢ ﺣﻴﺎﻟﻬﺎ .وﻗﺪ ﻋﺎرض اﻹﻧﺴﺎن ﺑﻴﺌﺘﻪ
ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﻲ ﻣﻦ أﺟﻞ ﺗﻐﻴري ﻣﻈﺎﻫﺮﻫﺎ ﻟﺼﺎﻟﺤﻪ اﻟﺨﺎص.
وﻳﻌﺘﻘﺪ اﻟﻌﻠﻤﺎء اﻟﺴﻮﻓﻴﺖ أن اﻹﻧﺴﺎن ﰲ ﺑﺪاﻳﺘﻪ ﻛﺎن ﻳﻤﺘﻠﻚ ﻋﺪدًا ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺘﻲ
ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺘﻜﻴﻒ وﺗﺘﺄﻗﻠﻢ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬه اﻟﺼﻔﺎت ﻗﺪ ﻗ ﱠﻠ ْﺖ أﻫﻤﻴﺘﻬﺎ ﺛﻢ ُﻓﻘِ ﺪ ْ
َت ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻧﺘﻴﺠﺔ
ﻟﺰﻳﺎدة اﻟﺪور اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ اﻹﻳﺠﺎﺑﻲ ﰲ ﺗﻬﻴﺌﺔ اﻟﻈﺮوف اﻟﺒﻴﺌﻴﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎة رﻏﻢ اﺧﺘﻼﻓﻬﺎ .وﻫﻜﺬا
ﻓﺈن ﻗﻮاﻧني اﻻﺧﺘﻴﺎر اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ،وإن ﻛﺎن ﻟﻬﺎ دورﻫﺎ ﰲ ﺑﺪاﻳﺔ ﻋﴫ اﻹﻧﺴﺎن ،إﻻ أﻧﻬﺎ
أﺻﺒﺤﺖ ﻏري ذات ﻗﻴﻤﺔ ﺑﻌﺪ اﻟﺠﻬﺪ اﻹﻳﺠﺎﺑﻲ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ.
وﻛﺎن اﻧﻌﺰال اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺒﴩﻳﺔ ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﰲ ﺑﻴﺌﺎت ﺟﻐﺮاﻓﻴﺔ ﻣﺘﻐﺎﻳﺮة ذا أﻫﻤﻴﺔ ﻛﱪى،
وﻟﻜﻦ زﻳﺎدة اﻟﺴﻜﺎن وﻧﻤﻮ اﻻﺗﺼﺎﻻت اﻟﺒﴩﻳﺔ أدى إﱃ اﺧﺘﻼط اﻟﺴﻼﻻت .وﻳﺮى ﻋﺪد ﻣﻦ
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني أن اﻻﻧﻌﺰال ﺛﻢ اﻻﺗﺼﺎل واﻻﺧﺘﻼط ﻗﺪ ﺣﺪﺛﺎ ﻋﺪة ﻣﺮات ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﺒﴩﻳﺔ،
وﻋﲆ ﻓﱰات زﻣﻨﻴﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ،وﰲ ﻛﻞ ﻣﺮة ﻳﺰداد ﻓﻴﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن وﻳﺨﺘﻠﻂ ﺗﺴﺘﻘﺮ املﻤﻴﺰات
اﻟﺴﻼﻟﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ،إﱃ أن ﻇﻬﺮ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻓﻌﻤﱠ ﺮ ﺳﻄﺢ اﻷرض ﺟﻤﻴﻌً ﺎ.
ورﻏﻢ أن ﻋﺪدًا ﻣﻦ اﻟﻈﺮوف اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ )اﻟﺠﺒﺎل اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ – اﻟﺼﺤﺎري – اﻟﻐﺎﺑﺎت
اﻟﻜﺜﻴﻔﺔ( ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻮاﺋﻖ أﻣﺎم ﻫﺠﺮات اﻹﻧﺴﺎن؛ إﻻ أﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻤﻨﻊ اﻟﻬﺠﺮات ﻋﱪﻫﺎ .وﻫﻜﺬا ﻧﺠﺪ
أن اﻟﻌﺰﻟﺔ – اﻟﻬﺠﺮة – زﻳﺎدة اﻟﺴﻜﺎن – اﻻﺧﺘﻼط اﻟﺴﻼﱄ ﻣﻦ اﻟﻌﻮاﻣﻞ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ اﻟﺘﻲ
ﺣﺪﺛﺖ ﻓﺮادى وﻣﺸﱰﻛﺔ وأدت إﱃ ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻟﺴﻼﻻت املﻌﺎﴏة.
ﻗﺪ ﻳُﻘﺎل إن اﻟﺴﻼﻻت ﻗﺪ اﺳﺘﻘﺮت ﻋﲆ ﺻﻔﺎت ﺛﺎﺑﺘﺔ ﻣﻨﺬ ﻓﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ .ﻟﻜﻦ دراﺳﺔ اﻟﺴﻼﻻت
ﻟﻴﺴﺖ ﻗﺪﻳﻤﺔ؛ وﻟﻬﺬا ﻻ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻧﻌﺮف ﻣﺎذا ﻳﺤﺪث ﻣﻦ ﺗﻄﻮر ﰲ اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ،
وﻳﻜﻔﻲ أن ﻧﻌﺮف أن اﻟﻘﺮون اﻷرﺑﻌﺔ املﺎﺿﻴﺔ — ﻣﻨﺬ اﻟﻜﺸﻮف اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ اﻟﻜﱪى — ﻗﺪ
أدت إﱃ ﻫﺠﺮات واﺳﻌﺔ وﺑﺄﻋﺪاد ﻛﺒرية إﱃ ﺑﻴﺌﺎت ﺟﺪﻳﺪة ،وﻣﻌﻠﻮﻣﺎﺗﻨﺎ ﻋﻦ ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﻄﻮر
ﻫﺬه ﻣﺎ زاﻟﺖ ﻫﺎﻣﺸﻴﺔ .وﻟﻜﻦ اﻟﺤﺮﻛﺔ املﺴﺘﻤﺮة ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻋﱪ اﻟﺤﺪود اﻟﺪوﻟﻴﺔ ،وﻣﻦ اﻟﺮﻳﻒ
إﱃ املﺪﻳﻨﺔ ﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪت ﺑﺪون ﺷﻚ ﻋﲆ ﴎﻋﺔ اﻧﺘﻘﺎل اﻟﺠﻴﻨﺎت ﻋﱪ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء ﻣﻨﺎﻃﻖ
ﻣﺤﺪودة ﻣﻌﺰوﻟﺔ .وﺑﻤﺎ أن اﻹﻧﺴﺎن ﻳﺴﻌﻰ إﱃ اﻟﺘﺤﻜﻢ ﰲ ﺑﻴﺌﺘﻪ ،ﻓﺈﻧﻪ ﺑﺴﻌﻴﻪ ﻫﺬا إﻧﻤﺎ
ﻳﺆدي — ﺑﺪرﺟﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ — إﱃ ﺗﻐري ﻧﻤﻂ اﻻﻧﺘﺨﺎب اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ.
121
اﻹﻧﺴﺎن
وﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ذﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﺘﻘﺪم اﻟﻄﺒﻲ املﻠﺤﻮظ ﰲ أرﺟﺎء اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪ ﻋﲆ ﺗﻨﺎﻗﺺ
أﻳﻀﺎ ﻋﲆ أو اﺧﺘﻔﺎء ﺟﻴﻨﺎت أﻣﺮاض ﻣﻌﻴﻨﺔ ،ﻓﻠﻢ ﺗَﻌُ ْﺪ ﺗُﻮ ﱠرث ﺑﺎﻟﴬورة ،وﻟﻜﻨﻪ ﺳﺎﻋﺪ ً
ﻇﻬﻮر ﺟﻴﻨﺎت أﻣﺮاض ﺟﺪﻳﺪة ﻟﻠﺒﻴﺌﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة .وﻗﺪ ﻳﺘﺴﺎءل ﺑﻌﺾ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني :أﻟﻢ
ﻳَﺤِ ﻦ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻳﺠﺐ ﻓﻴﻪ اﻟﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ اﻟﺠﻴﻨﺎت اﻟﻀﺎرة؟ وﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ﻳﺴﺘﺪﻋﻲ ﺗﻌﻘﻴﻤً ﺎ
إﺟﺒﺎرﻳٍّﺎ ﻟﺤﺎﻣﲇ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺠﻴﻨﺎت؛ ﻓﻬﻞ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺘﻢ ذﻟﻚ ﺑﺮﺿﺎء املﺠﺘﻤﻊ؟
أﻳﻀﺎ ﻟﻈﺮوفوﻟﻴﺴﺖ اﻟﺠﻴﻨﺎت ﺧﺎﺿﻌﺔ ﻓﻘﻂ ﻟﻐﺰو اﻟﻄﺐ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،ﺑﻞ إﻧﻬﺎ ﺗﺨﻀﻊ ً
املﻨﺎخ واﻟﺮﻳﻒ واملﺪﻳﻨﺔ واﻻﺧﺘﻼﻓﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﻌﺎدات اﻟﻐﺬاﺋﻴﺔ ،وﻏري ذﻟﻚ ﻛﺜري ﻣﻤﺎ
ﺗﻌﻤﻞ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻪ اﻟﺠﻴﻨﺎت ﻣﻦ أﺟﻞ اﺳﺘﻤﺮار اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺒﴩي.
وﺧﻼﺻﺔ اﻟﻘﻮل أن اﻧﻬﻴﺎر أﺳﻮار اﻟﻌﺰﻟﺔ ،وزﻳﺎدة أﻋﺪاد اﻟﻨﺎس ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،واﻻﺧﺘﻼط
املﺘﺰاﻳﺪ ﻣﻨﺬ اﻟﻘﺮون اﻷرﺑﻌﺔ املﺎﺿﻴﺔ ﻗﺪ أﺻﺒﺢ ﻳﺆﻫﻞ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ اﻟﺤﺎﱄ إﱃ ﺗﻄﻮر ﴎﻳﻊ
ﺟﺪٍّا .وﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ﻓﺈن زﻳﺎدة ﻗﺪرة اﻹﻧﺴﺎن ﻋﲆ اﻟﺘﻜﻴﻒ ﺗﺆدي إﱃ ﺗﻮﺳﻴﻊ اﺣﺘﻤﺎﻻﺗﻪ
ﻟﻠﺘﻄﻮر اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻲ.
وﻳﻘﻮل اﻷﺳﺘﺎذ واﺷﺒﻮرن » 9 :Washburnإﻧﻨﺎ ﻧﻌﺮف أن اﻟﺬﻛﺎء أو ﻃﻮل اﻷﻋﻤﺎر أو
اﻟﺴﻌﺎدة ﻻ ﺗﺘﺤﻘﻖ إﻻ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﻨﻈﺎم اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻷي ﻣﺠﺘﻤﻊ .إن اﻟﻨﻈﺎم اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ )ﺑﻤﺎ
ﻓﻴﻪ( ﻳﻐري ﻣﻦ أﻧﻮاع اﻟﺠﻴﻨﺎت .ﻟﻜﻨﻨﺎ ﻻ ﻧﻌﺮف ﻣﺠﺘﻤﻌً ﺎ ﺑﺪأ ﰲ اﻟﺘﻌﺮف ﻋﲆ اﻟﻘﺪرات اﻟﺠﻴﻨﻴﺔ
ﻷﻓﺮاده .إﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﺰال ﺑﺪاﺋﻴني ﻧﻌﻴﺶ ﻋﲆ ﻋﺎدات ﻗﺪﻳﻤﺔ وﺳﻂ ﺗﻘﺪم ﻋﻠﻤﻲ .إن اﻟﺴﻼﻻت
أﻳﻀﺎﻫﻲ ﺧﻠﻖ املﺎﴈ ،وﻫﻲ ﻟﻴﺴﺖ ﺳﻮى آﺛﺎر دراﺳﺔ ﻟﻈﺮوف ﻟﻢ ﺗَﻌُ ْﺪ ﻗﺎﺋﻤﺔ ،واﻟﻌﻨﴫﻳﺔ ً
ﺑﺎل ﻻ ﻳﺪﻋﻤﻪ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ .وﻗﺪ ﻻ ﻧﻌﺮف ﺗﻔﺴري ﺷﻜﻞ وﺟﻪ املﻐﻮﱄ … وﻟﻜﻨﻨﺎ ﻧﻌﺮف أﺛﺮ ٍ
ﻓﻮاﺋﺪ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ واﻟﺘﻘﺪم اﻻﻗﺘﺼﺎدي ،وﻧﻌﺮف أن ﺛﻤﻦ اﻟﺘﻌﺼﺐ اﻟﻌﻨﴫي ﻫﻮ املﻮت ،واﻟﻴﺄس،
واﻟﻜﺮاﻫﻴﺔ«.
.Washburn, S. L., “The Study of Man” in “American Anthropologist”, 1963, P. 531 9
122
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ
ﺗﺼﻨﻴﻒ اﻟﺴﻼﻻت
ﺑﻞ ﻻ زاﻟﺖ ﺗﻜﻮن ﺟﺰءًا ﻣﻬﻤٍّ ﺎ ﻣﻦ اﻟﺪراﺳﺔ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﺗﺤﻈﻰ ﺑﺪور ﻫﺎم ﰲ ﺣﻴﺎة
اﻟﺸﻌﻮب ﺣﺘﻰ اﻟﻴﻮم ،وﻫﻲ اﻷﺳﺎس اﻟﺬي ﺗﺪور ﺣﻮﻟﻪ املﻌﺘﻘﺪات اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﻋﻦ اﺧﺘﻼف
اﻟﺴﻼﻻت.
وﻗﺪ ﻛﺎن اﻟﻠﻮن — وﺑﺨﺎﺻﺔ ﻟﻮن اﻟﺒﴩة — ﻣﻦ أﻫﻢ اﻟﺘﻌﺮﻳﻔﺎت ،وﻣﺎ زاﻟﺖ ﻛﺬﻟﻚ ﰲ
اﻟﺘﻔﺮﻳﻖ ﺑني اﻟﺴﻼﻻت ،وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎن ﻟﻮن اﻟﺸﻌﺮ وﻟﻮن اﻟﻌني وﺷﻜﻠﻬﺎ وﺷﻜﻞ اﻷﻧﻒ؛ ذﻟﻚ
أن ﻣﻦ اﺳﻮ ﱠد ﺟﻠﺪه ﻳُﻌ ﱠﺮف ﺷﻌﺒﻴٍّﺎ ﺑﺄﻧﻪ زﻧﺠﻲ ،وﻟﻜﻨﻨﺎ ﻧﻌﺮف أن ﻫﻨﺎك ُﺳﻤﺮ اﻟﺒﴩة أو
ُﺳﻮدﻫﺎ ﻣﻤﻦ ﻳﻨﺘﻤﻮن إﱃ املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳﺔ أو اﻟﺒﻴﻀﺎء ،وﻛﻞ ﻣﻦ ﻟﻪ أﻧﻒ ﺿﺨﻢ ﻣﺤﺪب
ﻳُﻌ ﱠﺮف ﺷﻌﺒﻴٍّﺎ ﺑﺄﻧﻪ ﻳﻬﻮدي .واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أن ﻫﺬا اﻷﻧﻒ ﺻﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺘﻲ ﻣﻴﺰت أﺟﺪاد
اﻷرﻣﻦ ،وﻣﺎ زاﻟﺖ ﺗﻤﻴﺰﻫﻢ ،وﻗﺪ أدى اﺧﺘﻼط اﻷرﻣﻦ وأﺟﺪادﻫﻢ ﻗﺪﻳﻤً ﺎ ﻣﻊ ﺷﻌﻮب اﻟﻠﻴﻔﺎﻧﺖ
إﱃ أن ﺗﺼﺒﺢ ﻫﺬه اﻟﺸﻌﻮب ،ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻔﻴﻨﻴﻘﻲ واﻟﻌﱪي واملﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺴﻜﻦ ﻫﺬه
املﻨﻄﻘﺔ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ ذات أﻧﻒ ﺿﺨﻢ.
وﺳﻮف ﻧﺘﻨﺎول اﻵن ﰲ ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺔ املﻮﺟﺰة ﺑﻌﺾ املﻤﻴﺰات اﻟﺴﻼﻟﻴﺔ اﻟﻘﺎﺳﻴﺔ
واملﻮرﻓﻮﻟﻮﺟﻴﺔ.
) (1-1اﻟﺸﻌﺮ
وﻳ ﱠ
ُﻘﺴﻢ إﱃ ﺛﻼث ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت رﺋﻴﺴﻴﺔ ﺣﺴﺐ املﻘﻄﻊ اﻟﻌﺮﴈ:
) (١اﻟﺸﻌﺮ اﻟﺼﻮﰲ :وﻣﻘﻄﻌﻪ اﻟﻌﺮﴈ ﻣﺴﺘﻄﻴﻞ ﺟﺪٍّا إﱃ درﺟﺔ اﻟﺘﺒﻄﻂ ،وﰲ اﻟﺤﺎﻻت
اﻟﻘﺼﻮى ﻳﻈﻬﺮ اﻟﺸﻌﺮ املﻔﻠﻔﻞ ﺗﻠﺘﻒ اﻟﺸﻌﺮة ﺣﻮل ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻛﻠﻤﺎ ﻧﻤﺖ ،وﺗﱰك ﻓﺮاﻏﺎت
ﻇﺎﻫﺮة ﰲ ﺟﻠﺪ اﻟﺮأس .وﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺸﻌﺮ ﻳﻈﻬﺮ ﺑني اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺰﻧﺠﻴﺔ ﰲ ﺑﺎﺑﻮا
وﻣﻴﻼﻧريﻳﺎ ،وﻳﻈﻬﺮ اﻟﺸﻌﺮ املﻔﻠﻔﻞ ﻋﻨﺪ أﻗﺰام املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺤﺎرة ﰲ ﺟﻨﻮب ﴍق آﺳﻴﺎ وﻏﺎﺑﺎت
اﻟﻜﻨﻐﻮ ،وﺑني ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺒﻮﺷﻤﻦ ﰲ ﺟﻨﻮب ﻏﺮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ.
) (٢اﻟﺸﻌﺮ املﺴﺘﻘﻴﻢ أو املﺮﺳﻞ :وﻫﺬا ﻳﺘﻤﻴﺰ ﺑﻤﻘﻄﻌﻪ املﺴﺘﺪﻳﺮ وﻳﻈﻬﺮ ﰲ آﺳﻴﺎ
املﻐﻮﻟﻴﺔ وﻋﻨﺪ اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ )اﻟﻬﻨﻮد اﻟﺤﻤﺮ ﰲ اﻷﻣﺮﻳﻜﺘني(.
) (٣اﻟﺸﻌﺮ املﻤﻮج :وﻣﻘﻄﻌﻪ ﺑﻴﻀﺎوي ﻳﱰاوح ﺑني اﻟﻘﻄﺎع املﺒﻄﻂ واملﺴﺘﺪﻳﺮ — أي
إﻧﻪ ﻳﺠﻤﻊ ﺑني ﻛﻞ اﻟﺪرﺟﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻤﻊ ﺑني اﻻﺳﺘﺪارة واﻻﺳﺘﻄﺎﻟﺔ — وﻳﻈﻬﺮ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع
ﻣﻦ اﻟﺸﻌﺮ ﻋﻨﺪ ﺳﻜﺎن املﻨﻄﻘﺔ املﻤﺘﺪة ﺑني اﻟﻬﻨﺪ وﺳﻜﻨﺪﻧﺎﻓﻴﺎ ،وﺑني ﻣﻮرﻳﺘﺎﻧﻴﺎ وﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ؛
أي ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳﺔ.
124
ﺗﺼﻨﻴﻒ اﻟﺴﻼﻻت
ﻟﻮن اﻟﺸﻌﺮ
ﻻ ﻳﺪل ﻟﻮن اﻟﺸﻌﺮ ﻋﲆ ﳾء ﻣﻌني ،ﻓﻐﺎﻟﺒﻴﺔ اﻟﺸﻌﺮ ﰲ ﺑﻼد اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺨﺘﻠﻔﺔ ﺗﻤﻴﻞ إﱃ
اﻟﺴﻮاد .أﻣﺎ اﻟﺸﻘﺮة ﺑﺪرﺟﺎﺗﻬﺎ املﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﻓﻴﺘﺤﺪد ﺗﻮزﻳﻌﻬﺎ ﺑﻤﻨﺎﻃﻖ ﻣﺮﻛﺰة ﺑﺸﻤﺎل أوروﺑﺎ،
ﻛﻤﺎ ﻳﻈﻬﺮ اﻟﺸﻌﺮ اﻷﺣﻤﺮ ﻋﻨﺪ ﻋﺪد ﻣﻦ املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺴﻼﻟﻴﺔ داﺧﻞ اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳني واملﻐﻮﻟﻴني
أﻳﻀﺎ ﻋﻨﺪ ﺑﻌﺾ اﻟﻴﻬﻮد وﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻣﻦ ﻏﺮب ﰲ ﻓﻨﻠﻨﺪا وﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﺒﻠﻄﻴﻖ ،وﻳﻈﻬﺮ ً
آﺳﻴﺎ.
ﺷﻌﺮ اﻟﻮﺟﻪ
ﻳﺮﺗﺒﻂ ذﻟﻚ ﰲ ﻏﺎﻟﺐ اﻷﺣﻴﺎن ﺑﻨﻮع ﺷﻌﺮ اﻟﺮأس .ﻓﺄﻛﺜﺮ أﺻﺤﺎب اﻟﺸﻌﺮ املﻤﻮﱠج ﻫﻢ أﻛﺜﺮ
اﻟﺴﻼﻻت ﻏﺰارة ﰲ ﺷﻌﺮ اﻟﺠﺴﻢ واﻟﻮﺟﻪ ،أﻣﺎ أﺻﺤﺎب اﻟﺸﻌﺮ اﻟﺼﻮﰲ ﻓﻬﻢ أﻗﻞ ﺳﻼﻻت
اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﻧﻤﻮ ﺷﻌﺮ اﻟﻮﺟﻪ واﻟﺠﺴﺪ .وﺗُﻌَ ﱡﺪ ﻇﺎﻫﺮة ﻛﺜﺮة ﺷﻌﺮ اﻟﻮﺟﻪ واﻟﺠﺴﺪ
ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت املﺘﺨﻠﻔﺔ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻗﻠﺔ ﻫﺬا اﻟﺸﻌﺮ أو ﻋﺪم وﺟﻮده ﺻﻔﺔ ﻣﻦ ﺻﻔﺎت اﻟﱰﻗﻲ
اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻲ ﻋﻦ اﻷﺻﻮل اﻷوﱃ ﻟﻺﻧﺴﺎن ،وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﻓﺈن اﻟﺰﻧﻮج ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴٍّﺎ — وﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ
ﻓﻘﻂ — أﻛﺜﺮ ﺗﻘﺪﻣً ﺎ ﻣﻦ اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳني ،واﻟﻮاﺿﺢ أن اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳني ﻗﺪ اﺣﺘﻔﻈﻮا ﺑﻬﺬه اﻟﺼﻔﺔ؛
ﻟﻜﺜﺮة ﺳﻜﻨﺎﻫﻢ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺒﺎردة ،وﻟﻮ أن ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺤﺠﺔ ﻻ ﺗﺼﻤﺪ أﻣﺎم ﻣﻘﺎرﻧﺘﻬﻢ ﺑﻌﺪد
ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ املﻐﻮﻟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺳﻜﻨﺖ ﻣﻨﺎﻃﻖ أﻛﺜﺮ ﺑﺮودة ﻣﻦ أوﻃﺎن اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳني .ﻛﺬﻟﻚ ﻟُﻮﺣِ َ
ﻆ
أن اﻟﺼﻠﻊ ﻳﺘﻨﺎﺳﺐ ﻋﻤﻮﻣً ﺎ ﺗﻨﺎﺳﺒًﺎ ﻃﺮدﻳٍّﺎ ﻣﻊ ﻏﺰارة ﺷﻌﺮ اﻟﻮﺟﻪ أو اﻟﺠﺴﻢ؛ وﻟﻬﺬا ﻳﻘﻞ أو
ﻳﻨﺪر اﻟﺼﻠﻊ ﻟﺪى اﻟﺰﻧﻮج ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻳﻨﺪر ً
أﻳﻀﺎ ﺑني اﻟﻨﺴﺎء.
) (2-1اﻟﻘﺎﻣﺔ
ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻤﺎ ﻧﺴﻤﻌﻪ داﺋﻤً ﺎ ﰲ أوﺳﺎط اﻟﻨﺎس ﻋﻦ ﻗﴫ أو ﻃﻮل اﻟﻘﺎﻣﺔ؛ إﻻ أن اﺧﺘﻼف
ﻣﻌﻈﻢ ﺳﻜﺎن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻻ ﻳﺘﺠﺎوز ﺑﻀﻌﺔ ﺳﻨﺘﻴﻤﱰات ،إذا اﺳﺘﺜﻨﻴﻨﺎ اﻟﺘﻄﺮف ﰲ اﻟﻄﻮل أو
اﻟﻘﴫ ،ﻓﻤﻌﻈﻢ ﺳﻜﺎن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑني املﻘﻴﺎﺳني ١٦٥و١٧٥ﺳﻢ ،واﻷﻗﻠﻴﺔ اﻟﻀﺌﻴﻠﺔ ﺗﻘﻊ أﻋﲆ
أو دون ﻫﺬﻳﻦ املﻘﻴﺎﺳني .واﻟﻮاﻗﻊ أن ﻣﻌﺪﻻت اﻟﻘﺎﻣﺔ ﺑني اﻟﺴﻼﻻت املﺨﺘﻠﻔﺔ ﺗﱰﻛﺰ ﺣﻮل
١٦٥ﺳﻢ ﻣﻊ زﻳﺎدة أو ﻧﻘﺼﺎن ٥ﺳﻢ دون أو أﻋﲆ ﻫﺬا املﻘﻴﺎس .وﻗﺪ اﺗﻔﻖ اﻟﻌﻠﻤﺎء ﻋﲆ أن
125
اﻹﻧﺴﺎن
ﻄﺎ ﺑني اﻟﻘﺎﻣﺔ وﻣﺴﺘﻮى املﻌﻴﺸﺔ ،وﺑﺎﻟﺬات وﻳﻘﻮل ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء :إن ﻫﻨﺎك ﺗﺮاﺑ ً
اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﻐﺬاﺋﻴﺔ .وﺑﻨﺎء ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻘﻮل ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻃﺎﺋﻔﺔ اﻟﻨﺒﻼء واﻷﻏﻨﻴﺎء أﻃﻮل ﻗﺎﻣﺔ ﻣﻦ
اﻟﻔﻘﺮاء ،وﻛﺬﻟﻚ ﻗﻴﻞ إن ﺳﻜﺎن ﻏﺮﺑﻲ أوروﺑﺎ أﻃﻮل ﻣﻦ ﺳﻜﺎن ﴍق أوروﺑﺎ .ﻛﻤﺎ ﻳُﻘﺎل
أﻳﻀﺎ إن اﻟﻘﺎﻣﺔ ﰲ أوروﺑﺎ واﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة واﻟﻴﺎﺑﺎن زاد ﻣﻦ ٢إﱃ ٥ﺳﻢ ﰲ ﺛﻼﺛﺔ أﺟﻴﺎلً
أﻳﻀﺎ إن املﻨﺎﻃﻖ املﻜﺸﻮﻓﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻞ ﻓﻴﻬﺎ اﻷﺷﺠﺎرﻟﺘﺤﺴﻦ ﺣﺎﻟﺔ املﻌﻴﺸﺔ واﻟﻐﺬاء ،وﻗﻴﻞ ً
أﻳﻀﺎ إن ﺗﺄﺧﺮ ﺳﻦ اﻟﺒﻠﻮغ ﻳﻌﻄﻲ ﻓﺮﺻﺔ واﻟﻐﺎﺑﺎت ﺗﺆدي إﱃ ﻃﻮل ﻗﺎﻣﺔ ﺳﻜﺎﻧﻬﺎ ،وﻗﻴﻞ ً
ﻟﻜﻲ ﺗﻨﻤﻮ اﻟﻘﺎﻣﺔ اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ.
وﻻ ﺷﻚ أن ﻫﺬه اﻷﻗﻮال ﻣﺤﺎوﻻت ﻟﺮﺑﻂ ﻋﺪة ﻇﻮاﻫﺮ ﻣﺤﻠﻴﺔ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺎﻟﺒﻌﺾ اﻵﺧﺮ
ﻗﺪ ﻻ ﺗﻜﻮن ﻫﻨﺎك ﺑﻴﻨﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺮواﺑﻂ ﺳﻮى اﻟﺼﺪﻓﺔ .ﻣﺜﺎل ذﻟﻚ أن اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ﻳﻌﻴﺸﻮن ﰲ
ﺑﻴﺌﺔ ﻣﻜﺸﻮﻓﺔ ﻻ ﻳﻨﻤﻮ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺸﺠﺮ ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﺎﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ﻗﺼﺎر اﻟﻘﺎﻣﺔ .واﻟﺴﺎﻣﻴﻮن ﰲ
املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺼﺤﺮاوﻳﺔ ﻳﻌﻴﺸﻮن ً
أﻳﻀﺎ ﰲ ﺑﻴﺌﺔ ﻣﻜﺸﻮﻓﺔ ﺟﺪٍّا أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺑﻴﺌﺔ اﻟﻨﻮردﻳني ﺳﻜﺎن
اﻟﻐﺎﺑﺎت اﻟﻨﻔﻀﻴﺔ ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﻤﻌﺪل ﻃﻮل اﻟﻘﺎﻣﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﻨﻮردﻳني أﻃﻮل ،وﻗﺒﺎﺋﻞ اﻟﺒﺎﻧﺘﻮ
ﺗﻌﻴﺶ داﺧﻞ ﻧﻄﺎق اﻟﻐﺎﺑﺎت املﺪارﻳﺔ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،وﻫﻢ أﻃﻮل ﻗﺎﻣﺔ ﻣﻦ اﻷﻟﺒﻴني ﺳﻜﺎن ﺳﻬﻮل
أوﻛﺮاﻧﻴﺎ وروﺳﻴﺎ .أﻣﺎ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ اﻟﻐﺬاء ،ﻓﻴﻜﻔﻲ اﻟﺪﻻﻟﺔ ﻋﲆ ﺧﻄﺄ اﻟﻘﻮل اﻟﺴﺎﺑﻖ ذﻛﺮه أن
اﻷﺗﺮاك ﰲ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ ﻇﻠﻮا ﻗﺮوﻧًﺎ ﺣﻜﺎﻣً ﺎ ﻣﻨﻌﻤني ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﻬﻢ ﻋﺎد ًة أﻗﴫ ﻗﺎﻣﺔ
ﻣﻦ اﻟﺸﻌﻮب اﻟﺘﻲ ﺧﻀﻌﺖ ﻟﻬﻢ ﻣﺜﻞ اﻟﻠﺒﻨﺎﻧﻴني أو املﴫﻳني .ﻛﺬﻟﻚ ﻧﺠﺪ أن أﻃﻮل ﺳﻜﺎن
اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺟﻤﺎﻋﺎت ﻣﻦ أﻧﺼﺎف اﻟﺤﺎﻣﻴني ،ﻣﺜﻞ اﻟﱰﻛﺎﻧﺎ واملﺎزاي ،وﻫﻲ ﻗﺒﺎﺋﻞ ﺗﻌﻴﺶ ﰲ ﺷﻤﺎل
ﻏﺮب وﻏﺮب ﻛﻴﻨﻴﺎ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻗﺒﺎﺋﻞ ﻧﻴﻠﻴﺔ ،ﻣﺜﻞ اﻟﺒﺎري واﻟﻠﻮﺗﻮﻛﺎ واﻟﺪﻧﻜﺎ واﻟﻨﻮﻳﺮ واﻟﺸﻠﻚ
ﰲ اﻟﺴﻮدان اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ ،وﺳﻜﺎن ﺑﺎﺗﺎﺟﻮﻧﻴﻨﺎ ﰲ ﺟﻨﻮب اﻷرﺟﻨﺘني ،وﻛﺜري ﻣﻦ ﺳﻜﺎن اﻟﻨﺮوﻳﺞ
126
ﺗﺼﻨﻴﻒ اﻟﺴﻼﻻت
واﻟﺴﻮﻳﺪ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﻬﺆﻻء اﻟﺴﻜﺎن أﻗﻞ رﻓﺎﻫﻴﺔ ﰲ اﻟﻐﺬاء ﻣﻦ ﺳﻜﺎن اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ وﻏﺮب
أوروﺑﺎ وأﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ.
ﺆﺧﺬ ﻋﲆ ﻧﻘﺎط ﻣﻌﻴﻨﺔ .ﻓﻄﻮل اﻟﺮأس ﻳُﻘﺎس ﻣﻦ وﻫﺬه ﺗﺴﺎوي ﻧﺴﺒﺔ اﻟﻌﺮض إﱃ اﻟﻄﻮل وﺗُ َ
ﻧﻘﻄﺔ أﻋﲆ ﺟﺬر اﻷﻧﻒ إﱃ ﻧﻘﻄﺔ اﻟﻘﺰال )ﻧﻘﻄﺔ ﻣﺆﺧﺮ اﻟﺮأس(.
ً
ﺗﻄﺮﻓﺎ ﰲ اﻟﺨﺎرج ﻓﻮق اﻷذﻧني .وﻻ ﺗﻌﱪ وﻳُﻘﺎس ﻋﺮض اﻟﺮأس ﺑني أﻗﴡ ﻧﻘﻄﺘني
ﻌﱪ ﻋﻦ ﻧﺴﺒﺔ اﻟﻄﻮل ﻟﻠﻌﺮض. اﻟﻨﺴﺒﺔ اﻟﺮأﺳﻴﺔ ﻋﻦ رأس ﻃﻮﻳﻞ أو ﻗﺼري اﻟﻄﻮل ،وإﻧﻤﺎ ﺗُ ﱢ
وﻗﺪ اﺗﻔﻖ اﻟﻌﻠﻤﺎء ﻋﲆ اﻟﻨﺴﺐ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ:
127
اﻹﻧﺴﺎن
ً
اﺗﺠﺎﻫﺎ ﻋﺎﻣٍّ ﺎ ﻏري ﻣﻌﺮوف ﺳﺒﺒﻪ ،وﻫﺬا اﻻﺗﺠﺎه ﻫﻮ ﺗﻐﻠﺐ أﻳﻀﺎ أن ﻫﻨﺎكوﻧﻼﺣﻆ ً
اﻟﺮأس اﻟﻌﺮﻳﺾ ﻋﲆ اﻟﺮأس اﻟﻄﻮﻳﻞ ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ وﻣﺘﺒﺎﻋﺪة ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻳﻮﺿﺢ
اﻟﺠﺪول اﻟﺘﺎﱄ ﻫﺬه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ1 :
وﻳُﻼﺣَ ﻆ ارﺗﺒﺎط ﺑني ازدﻳﺎد اﺳﺘﺪارة اﻟﺮأس وﺑني اﻟﺒﻨﻴﺔ اﻟﺜﻘﻴﻠﺔ؛ أي ذات اﻟﻌﻈﺎم
ﻣﻴﻼ إﱃ ﻋﺮض اﻟﺮأس ﰲ اﻟﺪﻟﺘﺎ ﻣﺮﺗﺒ ً
ﻄﺎ ﺑﺒﻨﻴﺔ اﻟﻌﺮﻳﻀﺔ .وﻗﺪ ﻻﺣﻆ اﻟﺪﻛﺘﻮر اﻟﺒﻄﺮاوي ً
أﺛﻘﻞ ﻣﻦ ﺑﻨﻴﺔ اﻟﺼﻌﻴﺪي اﻷﻛﺜﺮ ً
ﻃﻮﻻ واﻷﻛﺜﺮ ﻧﺤﻮﻟﺔ.
وﻳﺘﺼﻞ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ اﻟﺮأﺳﻴﺔ دراﺳﺔ ﻗﺒﻮ اﻟﺠﻤﺠﻤﺔ وﺣﺠﻢ املﺦ ،وﻣﺘﻮﺳﻂ ﺣﺠﻢ املﺦ
ﻋﻨﺪ اﻟﺬﻛﻮر ١٤٥٠ﺳﻨﺘﻴﻤﱰًا ﻣﻜﻌﺒًﺎ ،وﻋﻨﺪ اﻟﻨﺴﺎء ١٣٠٠ﺳﻢ .٣ﻟﻜﻦ ﻫﻨﺎك اﺧﺘﻼﻓﺎت ﺑني
املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺴﻼﻟﻴﺔ ﺗﺼﻞ ﺑﺤﺠﻢ املﺦ إﱃ ﻣﺎ ﺑني ١١٠٠و١٥٠٠ﺳﻢ .٣ﻛﻤﺎ ﻳﺨﺘﻠﻒ اﻷﻓﺮاد
ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﻢ داﺧﻞ اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﻮاﺣﺪة ﺑﺎﻻرﺗﺒﺎط ﺑﻘﺎﻣﺘﻬﻢ وﺣﺠﻢ اﻟﺠﺴﺪ.
وﻛﺬﻟﻚ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻟﺮأس ﺷﻜﻞ اﻟﺠﺒﻬﺔ ،ﻫﻞ ﻫﻲ ﻣﱰاﺟﻌﺔ إﱃ اﻟﺨﻠﻒ أم رأﺳﻴﺔ أم ﻣﻤﺘﺪة
ﻟﻸﻣﺎم.
ً 1
ﻧﻘﻼ ﻋﻦ.Krocber, A. L., “Anthropology” New York. 1948 :
128
ﺗﺼﻨﻴﻒ اﻟﺴﻼﻻت
اﻟﻮﺟﻪ
ﻫﻨﺎك ﻧﺴﺒﺘﺎن :اﻟﻮﺟﻪ اﻷﻋﲆ )اﻟﻄﻮل ﻣﻦ ﺟﺬر اﻷﻧﻒ إﱃ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﺬﻗﻦ ،واﻟﻌﺮض ﺑني ﻋﻈﻤﺘﻲ
اﻟﻮﺟﻨﺘني( .وﺗﺆدي ﻫﺬه اﻟﻨﺴﺐ إﱃ وﺟﻪ ﻋﺮﻳﺾ )أﻗﻞ ﻣﻦ ،(٨٥وﻣﺘﻮﺳﻂ )،(٨٨–٨٥
وﺿﻴﻖ )أﻋﲆ ﻣﻦ .(٨٨وﺗﺮﺗﺒﻂ ً
أﻳﻀﺎ ﺑﺎﻟﻮﺟﻪ دراﺳﺔ ﺗﺮاﺟﻊ ﻋﻈﻤﺔ اﻟﺬﻗﻦ أو ﺑﺮوزﻫﺎ
وﻋﺮﺿﻬﺎ أو اﻧﺘﻬﺎﺋﻬﺎ ﺑﺼﻮرة ﻣﺪﺑﺒﺔ ،وﻛﺬﻟﻚ دراﺳﺔ ﻇﺎﻫﺮة ﺑﺮوز اﻟﻔﻚ اﻷﻋﲆ.
اﻷﻧﻒ
ﻣﻦ اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﻬﺎﻣﺔ ﺷﻜﻞ اﻷﻧﻒ وﻧﺴﺒﺘﻪ .اﻟﻨﺴﺐ اﻷﻧﻔﻴﺔ ﺗُﻘﺎس ﺑﻄﻮل اﻷﻧﻒ ﻣﻦ ﻧﻘﻄﺔ
اﻟﺠﺬر إﱃ ﻧﻬﺎﻳﺔ أرﻧﺒﺔ اﻷﻧﻒ ،واﻟﻌﺮض ﻳُﻘﺎس ﺑني ﺟﺎﻧﺒﻲ أرﻧﺒﺔ اﻷﻧﻒ .واﻷﻧﻒ اﻟﻀﻴﻖ
ﻫﻮ ﻣﺎ ﺗﻘﻞ ﻧﺴﺒﺘﻪ ﻋﻦ ،٧٠واملﺘﻮﺳﻂ ،٨٤–٧٠واﻟﻌﺮﻳﺾ أﻋﲆ ﻣﻦ .٨٤وﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻷﻧﻒ
ﺷﻜﻠﻪ :ﺑﺎرز أم أﻓﻄﺲ ﺿﺨﻢ أم دﻗﻴﻖ .ﻛﻤﺎ أن ﻟﻌﻈﻤﺔ اﻷﻧﻒ ﺛﻼﺛﺔ أﺷﻜﺎل :املﺴﺘﻘﻴﻤﺔ،
واملﺤﺪﺑﺔ واملﻘﻌﺮة ،وﻗﺪ ﻳﺤﺪث اﻣﺘﺰاج ﺑني ﺷﻜﻠني ﻣﻦ ﻫﺬه اﻷﺷﻜﺎل اﻟﺜﻼﺛﺔ.
اﻟﻌني
ﺆﺧﺬ ﻓﻘﻂ ﻋﲆ ﻣﺤﺠﺮ اﻟﻌني .وﺷﻜﻞ اﻟﻌني ﻋﻼﻣﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﻟﻬﺎ ﻗﻴﺎﺳﺎت ،إﻧﻤﺎ اﻟﻘﻴﺎﺳﺎت ﺗُ َ
ﺳﻼﻟﻴﺔ ﻣﻬﻤﺔ ،ﻓﻬﻲ ﻟﻮزﻳﺔ أو ﺷﺒﻪ ﻣﺴﺘﺪﻳﺮة أو ﻣﻨﺤﺮﻓﺔ .واﻻﻧﺤﺮاف املﻐﻮﱄ ﻫﻮ أﺷﻬﺮ
أﺷﻜﺎل اﻻﻧﺤﺮاف ،وﻳﺮﺟﻊ إﱃ وﺟﻮد ﻃﻴﺘني ﺳﻤﻴﻜﺘني ﻟﻠﺠﻔﻦ اﻷﻋﲆ ﻣﻦ املﻨﻄﻘﺔ اﻟﻘﺮﻳﺒﺔ
ﻣﻦ اﻷﻧﻒ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﺆدي إﱃ ﺑﻘﺎء اﻟﺠﻔﻦ اﻷﻋﲆ ﻫﺎﺑ ً
ﻄﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺠﺰء ﻣﻦ اﻟﻌني ،ﻓﻴﻌﻄﻲ ﻟﻠﻌني
اﻟﺸﻜﻞ املﻨﺤﺮف.
وﻫﻨﺎك إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ذﻟﻚ ﻣﻈﺎﻫﺮ أﺧﺮى ﻟﻠﺪراﺳﺔ ،ﻣﺜﻞ اﻟﺸﻔﺘني واﻷذن ،وﺗﻜﻮﻳﻦ اﻟﺠﺴﺪ
واﻟﻘﺎﻣﺔ اﻟﺠﺎﻟﺴﺔ ،وﻃﻮل اﻷﻃﺮاف وﺷﻜﻞ اﻟﺠﺰع وﻣﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺪم وﻏري ذﻟﻚ.
ﺗﻤﺜﻞ ﻓﺼﺎﺋﻞ اﻟﺪم أﻫﻤﻴﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ ﺗﻌني اﻟﺴﻼﻻت واﻷﺟﻨﺎس .ﻟﻜﻦ ﻫﺬه اﻷﻫﻤﻴﺔ
ﻟﻴﺴﺖ راﺟﻌﺔ إﱃ أن ﻧﺘﺎﺋﺞ اﻟﺒﺤﺚ ﻗﺪ أﺛﺒﺘﺖ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻔﻴﺪًا ﰲ ﺗﺼﻨﻴﻒ اﻟﺴﻼﻻت ،ﻛﻤﺎ ﺳﻴﺘﻀﺢ
ذﻟﻚ ﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ .إﻧﻤﺎ أﻫﻤﻴﺔ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺪم ﺗﺮﺟﻊ إﱃ ﺷﻴﻮع اﺳﺘﺨﺪام اﻟﺪم ﰲ املﺼﻄﻠﺤﺎت
129
اﻹﻧﺴﺎن
ﻓﻤﺜﻼ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك اﻋﺘﻘﺎد ﺑﺄن ً اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ﻟﻜﻞ اﻟﺸﻌﻮب دﻻﻟﺔ ﻋﲆ أﺻﻞ ذي ﻋﺮاﻗﺔ أو وﺿﺎﻋﺔ.
اﻟﻨﺒﻼء واملﻠﻮك ﺗﺠﺮي ﰲ ﻋﺮوﻗﻬﻢ اﻟﺪﻣﺎء اﻟﺰرﻗﺎء ،Sangre azul-Blue bloodوأﺻﻞ ﻫﺬا
اﻻﻋﺘﻘﺎد اﻟﺨﺎﻃﺊ ﺟﺎء ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻟﺘﺰاوج اﻟﺪاﺧﲇ املﺴﺘﻤﺮ ﻟﺒﻌﺾ ﻋﺎﺋﻼت إﻗﻠﻴﻢ ﻛﺎﺳﺘﻴﻠﻴﺎ ﰲ
إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ .ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻷﴎ ذات ﺑﴩة ﺑﻴﻀﺎء وﻋﺮوﻗﻬﺎ واﺿﺤﺔ اﻟﺰرﻗﺔ؛ ﻣﻤﺎ ﻣﻴﺰﻫﺎ ﻋﻦ
ﺑﻘﻴﺔ ﺳﻜﺎن اﻹﻗﻠﻴﻢ ﺳﻤﺮ اﻟﺒﴩة .ﻟﻜﻦ املﻌﺮوف اﻵن أن اﻟﻌﺮوق اﻟﺘﻲ ﺗﺠﺮي ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺪﻣﺎء
ﺑﻴﻀﺎء ،وأن اﻟﺪﻣﺎء ﺣﻤﺮاء .أﻣﺎ اﻟﻠﻮن اﻷزرق اﻟﺬي ﻳﺒﺪو ،ﻓريﺟﻊ إﱃ اﻧﻜﺴﺎر اﻟﻀﻮء ﻋﲆ
أﻧﺴﺠﺔ اﻟﺠﻠﺪ.
واﻟﺪم ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﻣﺮﻛﺐ ﻣﻦ اﻟﻜﺮات اﻟﺤﻤﺮاء واﻟﺒﻴﻀﺎء واﻟﺒﻼزﻣﺎ ،وﻫﻮ
ﻳﻜﻮن ﻋﺎد ًة ٪٨ﻣﻦ وزن اﻟﺠﺴﻢ ،وأﻫﻤﻴﺔ اﻟﺪم ﻣﻌﺮوﻓﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎة .ﻟﻜﻦ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت
اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ واﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻗﺪ رﺑﻄﺖ ﺑني اﻟﺪم واﻟﺤﻴﺎة ﻣﻌً ﺎ .وﺗﺤﺮم ﺑﻌﺾ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت وﻣﻌﻈﻢ
اﻟﺪﻳﺎﻧﺎت واﻟﻘﻮاﻧني اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﴍبَ اﻟﺪﻣﺎء ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻧﺠﺪ ﺑﻌﺾ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﺗﺴﻤﺢ ﺑﺬﻟﻚ ﻛﺮﻣﺰ
ﻻﻣﺘﺼﺎص ﺻﻔﺎت إﻧﺴﺎن آﺧﺮ ،أو ﺣﻴﻮان ﻣﻌني.
ً
وﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻸﻫﻤﻴﺔ اﻟﻮاﺿﺤﺔ ﻟﻠﺪم واﻟﺤﻴﺎة ،ﻓﺈﻧﻪ ﻗﺪ ﺻﺎر ﻣﺮﺗﺒﻄﺎ ﺑﺎﻟﺜﺄر أو ﺗﻮﺛﻴﻖ اﺗﻔﺎق
ً
ﻣﺴﺒﻘﺎ ﻫﻮ رﻣﺰ اﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺑني اﻟﻔﺮد وأﻗﺎرﺑﻪ ،وﻳﺮﻣﺰ أﺣﻴﺎﻧًﺎ أو أﺧﻮة .ﻛﻤﺎ أﻧﻪ
إﱃ ﺣﻞ املﻨﺎزﻋﺎت ﺑني ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻷﻗﺎرب ﺑﺎﻟﻘﻮل» :اﻟﺪم ﻻ ﻳﺘﺤﻮﱠل إﱃ ﻣﺎء «.وﻫﻨﺎك ﻋﴩات
املﻌﺘﻘﺪات اﻟﺘﻲ ﺗﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻟﺪﻣﺎء.
وﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻳُﺮﻣَ ﺰ إﱃ اﻷﺷﺨﺎص املﻬﺠﻨني ﻧﺘﻴﺠﺔ زواج ﻣﻦ ﺳﻼﻟﺘني أو ﻣﺠﻤﻮﻋﺘني
ﻣﺨﺘﻠﻔﺘني ﻋﲆ أﻧﻬﻢ »ﻧﺼﻒ دم … ﻗﻮﻗﺎزي« ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل .ﻫﺬه املﻌﺘﻘﺪات وﻏريﻫﺎ
أﻳﻀﺎ — ﺷﻌﺒﻴٍّﺎ — ﰲ اﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻋﲆ ﻧﻘﺎء ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻣﻌﻴﻨﺔ أو اﻧﺘﻤﺎءات ﺳﻼﻟﻴﺔ إﱃ ﺗُﺴﺘﺨﺪَم ً
ﺟﻤﺎﻋﺎت ﻣﻌﻴﻨﺔ — ﺑﺮﻏﻢ أن ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﻻ ﺗﻜﻮﱢن ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ أي ﻧﻘﺎء ﺳﻼﱄ ﻛﻤﺎ
ﺳﺒﻖ أن أوﺿﺤﻨﺎ.
وﻗﺪ أدى ﺷﻴﻮع ﻫﺬه املﻌﺘﻘﺪات إﱃ دراﺳﺔ ﻋﻠﻤﻴﺔ ﻟﻔﺼﺎﺋﻞ اﻟﺪﻣﺎء ﻋﻨﺪ املﺠﻤﻮﻋﺎت
اﻟﺒﴩﻳﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ.
وأول ﻣﺎ ﻳﺠﺐ اﻟﺘﻨﺒﻴﻪ ﻟﻪ أن اﻟﺪﻣﺎء وﻓﺼﺎﺋﻠﻬﺎ وﺻﻔﺎﺗﻬﺎ اﻟﻮراﺛﻴﺔ ،ﻟﻴﺴﺖ ﻣﻦ ﺑني
ﻗﺎﺋﻤﺔ املﻤﻴﺰات اﻟﻔﻴﺴﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ ﰲ ﺗﺼﻨﻴﻒ اﻟﻨﺎس ،ﻟﻜﻨﻬﺎ دراﺳﺔ
ملﻤﻴﺰات ﺗﺮﻛﻴﺐ اﻟﻜﺮات اﻟﺒﻴﻀﺎء ﰲ اﻟﺪﻣﺎء ،وﻫﻲ ﺑﺬﻟﻚ ﺻﻔﺎت وراﺛﻴﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ.
130
ﺗﺼﻨﻴﻒ اﻟﺴﻼﻻت
٪٢٠−١٥ ٪٥−٠
٪٢٥−٢٠ ٪١٠−٥
٪٣٠−٢٥ ٪١٥−١٠
ﺷﻜﻞ :1-2ﺗﻮزﻳﻊ اﻟﻨﺴﺐ املﺌﻮﻳﺔ ﻟﻔﺼﻴﻠﺔ اﻟﺪم Bﻗﺒﻞ ﻫﺠﺮة اﻷوروﺑﻴني إﱃ اﻟﻌﻮاﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪة
ﻧﻘﻼ ﻋﻦMourant, A, E., “The Distribution of Human Blood groups” Oxford : ً
.1954
وﻗﺪ اﻧﺘﻬﺖ دراﺳﺎت اﻟﺪم إﱃ املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﺗُﻌ َﺮف ﺑﺎﺳﻢ ،ABOوﻫﻲ أرﺑﻊ
ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ،AB – O – B – Aوﻛﻠﻬﺎ ﺗﺮﻣﺰ إﱃ ﺛﻼﺛﺔ ﺟﻴﻨﺎت ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﺘﻔﺎﻋﻠﺔ ﻳُﺮﻣَ ﺰ إﻟﻴﻬﺎ
ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺘﺎﱄ A. à. a :أو ﰲ أﺣﻴﺎن p. q. r.وﻗﺪ أدت اﻟﺪراﺳﺔ ﻟﻨﻈﺎم ABOإﱃ ﻣﺎ ﻳﲇ:
)أ( ﻓﺼﻴﻠﺔ اﻟﺪم :Aأﻋﲆ ﻧﺴﺒﺔ ﻟﻠﻤﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻤﻞ ﻫﺬه اﻟﻔﺼﻴﻠﺔ ﺗُﻮﺟَ ﺪ ﰲ
أﺳﱰاﻟﻴﺎ ﺑني اﻷﺳﱰاﻟﻴني اﻷﺻﻠﻴني ﰲ ﻧﺎﺣﻴﺔ ،وﺑني ﻗﺒﺎﺋﻞ اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﰲ اﻟﺴﺎﺣﻞ اﻟﺸﻤﺎﱄ
اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻣﻦ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ .وﺗﻘﻞ ﻓﺼﻴﻠﺔ اﻟﺪم Aﺑﴪﻋﺔ ﰲ ﴍق أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ
واﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺨﻔﺾ ﻓﻴﻬﺎ ﻧﺴﺒﺔ ﻫﺬه اﻟﻔﺼﻴﻠﺔ إﱃ أﻗﻞ ﻧﺴﺒﺔ ﻣﻮﺟﻮدة ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﰲ
أوروﺑﺎ ﺗﺮﺗﻔﻊ ﻧﺴﺒﺔ Aإﱃ أﻋﻼﻫﺎ ﰲ ﻻﺑﻼﻧﺪ ﰲ ﺷﻤﺎل ﺳﻜﻨﺪﻧﺎﻓﻴﺎ ،وﺗﻨﺨﻔﺾ إﱃ أﻗﺼﺎﻫﺎ
ﺑني اﻟﺒﺎﺳﻚ ﰲ ﺟﻨﻮب ﻏﺮب ﻓﺮﻧﺴﺎ وﺷﻤﺎل إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ ،ﻛﻤﺎ ﺗﻨﺨﻔﺾ ﺑﺸﺪة ً
أﻳﻀﺎ ﰲ أﻳﺴﻠﻨﺪا
وأﻳﺮﻟﻨﺪا واﺳﻜﺘﻠﻨﺪا ،وﺑﻌﺾ ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ )ﺻﻘﻠﻴﺔ وﴎدﻳﻨﻴﺎ واﻟﻴﻮﻧﺎن(.
131
اﻹﻧﺴﺎن
)ب( ﻓﺼﻴﻠﺔ اﻟﺪم :Bﺗﻈﻬﺮ ﻫﺬه اﻟﻔﺼﻴﻠﺔ ﰲ آﺳﻴﺎ ﺑﻜﺜﺮة .ﻓﻬﻲ ﻋﺎﻟﻴﺔ اﻟﻨﺴﺒﺔ ﰲ ﴍق
ووﺳﻂ اﻟﻘﺎرة ،وﰲ ﺷﻤﺎل اﻟﻬﻨﺪ واﻟﻬﻨﺪ اﻟﺼﻴﻨﻴﺔ وﺟﺰﻳﺮة ﺑﻮرﻳﻨﻮ وﻣﺪﻏﺸﻘﺮ .وﺗﻨﺨﻔﺾ
ﻧﺴﺒﺔ ﺣﺎﻣﲇ ﻓﺼﻴﻠﺔ اﻟﺪم Bﰲ ﺷﻤﺎل وﻏﺮب آﺳﻴﺎ ﺑﴪﻋﺔ ،ﻛﻤﺎ ﺗﻨﺨﻔﺾ ﺑﺸﺪة ﰲ أﺳﱰاﻟﻴﺎ
وأوروﺑﺎ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ .وأﻗﻞ ﻧﺴﺒﺔ ﰲ أوروﺑﺎ ﻫﻲ ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﺒﺎﺳﻚ وﺟﺒﺎل اﻟﱪاﻧﺲ ،وﺑني اﻟﻼب ﰲ
ﺷﻤﺎل ﺳﻜﻨﺪﻧﺎﻓﻴﺎ .أﻣﺎ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﻓﻨﺴﺒﺔ ﻫﺬه اﻟﻔﺼﻴﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﺪﻣﺎء ﻣﺘﻮﺳﻄﺔ ،ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء ﺷﻤﺎل
اﻟﻘﺎرة وﴍﻗﻬﺎ .وﻳﺘﺸﺎﺑﻪ اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﰲ اﻷﻣﺮﻳﻜﺘني ﻣﻊ اﻷﺳﱰاﻟﻴني اﻷﺻﻠﻴني ﰲ اﻻﻧﺨﻔﺎض
اﻟﺸﺪﻳﺪ ﰲ ﻇﻬﻮر ﻫﺬه اﻟﻔﺼﻴﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﺪﻣﺎء ﺑني اﻟﺴﻜﺎن )راﺟﻊ ﺷﻜﻞ .(1-2
)ﺟ( ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺪم :Oﺗﺮﺗﻔﻊ ﻫﺬه اﻟﻔﺼﻴﻠﺔ ﺑني اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﰲ اﻷﻣﺮﻳﻜﺘني ،وﰲ أوروﺑﺎ
ﻳﺮﺗﻔﻊ وﺟﻮد ﻫﺬه اﻟﻔﺼﻴﻠﺔ ﰲ اﻟﺸﻤﺎل اﻟﻐﺮﺑﻲ )اﺳﻜﺘﻠﻨﺪا وإﻳﺮﻟﻨﺪا وأﻳﺴﻠﻨﺪا( ،وﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ
اﻟﺒﺎﺳﻚ وﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻞ ﻓﻴﻬﺎ ﻇﻬﻮر ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺪم .Aوﻗﺪ دﻟﺖ دراﺳﺎت
املﻮﻣﻴﺎءات اﻟﻔﺮﻋﻮﻧﻴﺔ ﻋﲆ ارﺗﻔﺎع ﻛﺒري ﰲ وﺟﻮد ﻫﺬه اﻟﻔﺼﻴﻠﺔ ).(٪٧٥
وﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻇﻬﻮر ﻫﺬه اﻟﻔﺼﺎﺋﻞ املﺨﺘﻠﻔﺔ ﰲ أﻣﺎﻛﻦ ﺟﻐﺮاﻓﻴﺔ ﻣﺘﻤﺎﻳﺰة ،إﻻ أن اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ
اﻟﻨﻬﺎﺋﻴﺔ ،وﺣﺴﺐ ﻣﻌﻠﻮﻣﺎﺗﻨﺎ اﻟﺮاﻫﻨﺔ؛ ﻫﻲ أن ﻫﺬه اﻟﻔﺼﺎﺋﻞ ﻻ ﺗﻤﻴﺰ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﺳﻼﻟﻴﺔ
ﻣﻌﻴﻨﺔ ،إﻧﻤﺎ ﺗﺸﱰك اﻟﺴﻼﻻت ﰲ وﺟﻮدﻫﺎ ﺑﻨﺴﺐ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ؛ ﻣﻤﺎ ﻻ ﻳﻌﻄﻲ ﻓﺼﺎﺋﻞ اﻟﺪم ﺻﻔﺔ
اﻟﺘﻤﻴﻴﺰ اﻟﺴﻼﱄ.
وﻳﻮﺿﺢ اﻟﺠﺪول اﻵﺗﻲ ﻫﺬا اﻻﺷﱰاك ﺑني ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺒﴩ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻔﺼﺎﺋﻞ:
AB ﻓﺼﻴﻠﺔ B ﻓﺼﻴﻠﺔ A ﻓﺼﻴﻠﺔ O ﻋﺪد اﻷﺷﺨﺎص ﻓﺼﻴﻠﺔ املﻜﺎن
132
ﺗﺼﻨﻴﻒ اﻟﺴﻼﻻت
AB ﻓﺼﻴﻠﺔ B ﻓﺼﻴﻠﺔ A ﻓﺼﻴﻠﺔ O ﻋﺪد اﻷﺷﺨﺎص ﻓﺼﻴﻠﺔ املﻜﺎن
133
اﻹﻧﺴﺎن
AB ﻓﺼﻴﻠﺔ B ﻓﺼﻴﻠﺔ A ﻓﺼﻴﻠﺔ O ﻋﺪد اﻷﺷﺨﺎص ﻓﺼﻴﻠﺔ املﻜﺎن
* .Beals, R. & H. Hoijer, “An Introduction To Anthropology”, New York 1967, P. 198
وﺧﻼﺻﺔ اﻟﻘﻮل إن ﻗﻴﻤﺔ ﻓﺼﺎﺋﻞ اﻟﺪم ﰲ ﺗﺼﻨﻴﻒ اﻟﺴﻼﻻت ﻣﺤﺪودة ﺟﺪٍّا ،وﻟﻜﻦ
ﻗﻴﻤﺔ ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺔ ﰲ اﻟﻨﻮاﺣﻲ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ وﺗﺤﺴني اﻟﻨﺴﻞ أﺻﺒﺤﺖ ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺐ ﻛﺒري ﻣﻦ
اﻷﻫﻤﻴﺔ .وﻗﺪ أﻣﻜﻦ ﻟﻌﻠﻤﺎء اﻟﻮراﺛﺔ أن ﻳﺠﺪوا أﻧﻮاﻋً ﺎ ﻋﺪﻳﺪة ﻣﻦ اﻟﺠﻴﻨﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻄﻲ ﻓﺼﺎﺋﻞ
،A1 A2 A3 A4وإن ﻟﻢ ﻳﻐري ﻫﺬا ﻣﻦ اﻟﺼﻮرة اﻷﺻﻠﻴﺔ ﻟﻨﻈﺎم ﻓﺼﺎﺋﻞ اﻟﺪم .ABD
وﻗﺪ وﺟﺪ اﻟﺒﺎﺣﺜﻮن ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت دم أﺧﺮى ،ﻧﺬﻛﺮ ﻣﻨﻬﺎ ) MNاﻟﺘﻲ أﺻﺒﺤﺖ ﺑﻔﻀﻞ
اﻟﻜﺸﻮف اﻟﺠﺪﻳﺪة ،(MNSSوﻣﺠﻤﻮﻋﺔ أﺧﺮى ﺷﺪﻳﺪة اﻟﺘﻌﻘﻴﺪ ﻫﻲ ”،RH “Rhesus group
وﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ” Le “Lewisو Pو Kellوﻏريﻫﺎ ﻛﺜري .وإﱃ اﻵن أﻣﻜﻦ ﻓﺼﻞ ٤٣٢٠٠ﻧﻮع ﻣﻦ
134
ﺗﺼﻨﻴﻒ اﻟﺴﻼﻻت
أﻧﻮاع اﻟﺪم ،واملﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺪﻣﻮﻳﺔ ﺗﺘﺰاﻳﺪ ﺑﺼﻔﺔ ﻣﺴﺘﻤﺮة وﴎﻳﻌﺔ ،وﻛﻠﻬﺎ — ﻛﻤﺎ ﻗﻠﻨﺎ —
أﺻﺒﺤﺖ ﺣﻴﻮﻳﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ اﺣﺘﻤﺎﻻت ﺗﺨﻠﻴﺺ اﻟﺬﻛﺮ ﻣﻦ ﺑﻌﺾ اﻟﻌﻴﻮب اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺠﻢ ﻋﻨﻬﺎ
ﺣﺎﻻت ﺷﺎذة ﰲ اﻷﻃﻔﺎل ،وﻳُﻘﺎل إﻧﻪ ﺳﻮف ﻳﻤﻜﻦ ﰲ املﺴﺘﻘﺒﻞ أن ﻳﺘﻌﺮف ﻋﲆ اﻟﺸﺨﺺ
ﻣﻦ ﻧﻮع دﻣﻪ ،ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻧﻔﻌﻞ ﰲ ﺗﺸﺨﻴﺺ ﺑﺼﻤﺎت اﻷﺻﺎﺑﻊ.
135
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ
ﻟﻘﺪ ﺻﺎدف اﻹﻧﺴﺎن ﰲ ﺗﻄﻮره ﻣﻨﺬ أﻗﺪم ﻣﻘﺪﻣﺎﺗﻪ ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﺎ ﻣﻦ املﻨﺎخ واﻟﻈﺮوف اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ
املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻛﺜريًا ﻋﻤﺎ ﻧﻌﺮﻓﻪ وﻧﻌﻴﺸﻪ ﻋﲆ ﺳﻄﺢ اﻟﻜﺮة اﻷرﺿﻴﺔ .ذﻟﻚ أن أﻗﺪم ﺣﻔﺮﻳﺎﺗﻨﺎ
ﻣﻨﺬ ﺑﺪاﻳﺎت ﻋﺎﺋﻠﺔ اﻟﻬﻮﻣﻴﻨﻴﺪﻳﺎ ﻗﺪ ﻋﺎﴏت ﻣﺎ ﻧﻌﺮﻓﻪ ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ ﺑﺎﺳﻢ اﻟﻌﴫ اﻟﺠﻠﻴﺪي اﻟﺬي
ﺷﻐﻞ ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﻋﴫ اﻟﺒﻠﻴﻮﺳني اﻷﻋﲆ وﻛﻞ ﻋﴫ اﻟﺒﻠﻴﻮﺳﺘﻮﺳني .وﻗﺪ ﺧﻠﻒ ﻟﻨﺎ ﻫﺬا
اﻟﻌﴫ اﻟﺠﻠﻴﺪي ،ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ذﺑﺬﺑﺎت ﻫﺎﺋﻠﺔ ،آﺛﺎ ًرا ﻋﲆ ﺳﻄﺢ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻜﺮة
اﻷرﺿﻴﺔ ،ﺟﺎءت ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻘﺼﻮدة ملﺴﺎﻋﺪﺗﻨﺎ ﰲ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ ﺗﺎرﻳﺦ ﻣﺤﻔﻮر ﻟﻠﻤﻠﻴﻮن
ﻓﻌﻼ أن ﻧﻌﺮف اﻟﴚء اﻟﻜﺜري ﻋﻦ ﺳﻨﺔ املﺎﺿﻴﺔ .وﺑﻔﻀﻞ ﻫﺬه اﻵﺛﺎر املﻮرﻓﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،أﻣﻜﻨﻨﺎ ً
ً
ﻋﺎﻣﺔ. اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺬي ﺣﺪث ﻟﻌﺎﺋﻠﺔ اﻟﻬﻮﻣﻴﻨﻴﺪﻳﺎ وﻣﻘﺪﻣﺎت اﻹﻧﺴﺎن واﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﻔﺮي
وﻟﻬﺬا ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺒﺪأ دراﺳﺔ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﻔﺮي ﺑﻨﺒﺬة ﺻﻐرية ﻋﻦ اﻟﻌﴫ اﻟﺠﻠﻴﺪي ﰲ
اﻟﺒﻠﻴﻮﺳﺘﻮﺳني؛ ﻟﻜﻲ ﻧﺘﺎﺑﻊ ﺗﻄﻮر ﺣﻔﺮﻳﺎت اﻹﻧﺴﺎن وﻣﺎ ﻃﺮأ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺟﻤﻮد أو ﺗﻘﺪم ﻋﲆ
املﻘﻴﺎس اﻟﺰﻣﻨﻲ.
ﻛﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﻔﺮي ﻗﺪ ﺗﺮك ﻟﻨﺎ ﺑﻌﺾ ﻣﺨﻠﻔﺎت ﺣﻀﺎرﻳﺔ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﻣﺨﻠﻔﺎﺗﻪ
اﻟﻌﻈﻤﻴﺔ ،وﺑﺪراﺳﺔ ﻫﺬه املﺨﻠﻔﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴني وﻋﻠﻤﺎء ﻣﺎ ﻗﺒﻞ
أﻳﻀﺎ أﻣﺎم ﻋﺎﻣﻞ ﻫﺎم ﰲ ﺗﺤﺪﻳﺪ أﻋﻤﺎر املﺨﻠﻔﺎت اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ.اﻟﺘﺎرﻳﺦ ،ﻧﺠﺪ أﻧﻔﺴﻨﺎ ً
واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أن اﻟﺘﻔﺎﻋﻞ ﺑني ﻣﺨﻠﻔﺎت ﻋﴫ اﻟﺠﻠﻴﺪ املﻮرﻓﻮﻟﻮﺟﻴﺔ واﻵﺛﺎر اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ
ﻟﻺﻧﺴﺎن اﻟﺒﺎﺋﺪ ﻳﺘﻔﺎﻋﻼن ﻣﻌً ﺎ ،وﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﻤﺎ ﻣﻌً ﺎ املﻮرﻓﻮﻟﻮﺟﻲ واﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻲ ﻟﺘﺜﺒﺖ
دﻗﻴﻘﺎ ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﰲ اﻟﺘﺄرﻳﺦ )اﺳﺘﺨﺪام ً ً
ﺗﺄرﻳﺨﺎ ﺗﺄرﻳﺦ ﻫﺬا اﻟﻌﴫ
دراﺳﺔ ﺑﻘﺎﻳﺎ ﻏﺎزات وﺗﻜﻮﻳﻨﺎت اﻟﻜﺮﺑﻮن واﻷرﺟﻮن-ﺑﻮﺗﺎﺳﻴﻮم ﰲ املﺨﻠﻔﺎت ملﻌﺮﻓﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺦ
املﻘﺮب ﺟﺪٍّا ﻟﻌﻤﺮ املﺨﻠﻔﺎت واﻟﺤﻔﺮﻳﺎت ﻓﻴﻤﺎ ﻳُﻌ َﺮف ﺑﺎﻻﺳﻢ املﻨﻬﺠﻲ رادﻳﻮ ﻛﺮﺑﻮن ،١٤
أرﺟﻮن-ﺑﻮﺗﺎﺳﻴﻮم( .Radio-Carbon 14 or C14, Potassuim-argon
اﻹﻧﺴﺎن
أﻳﻀﺎ ﰲ إﻋﻄﺎء ﻓﻜﺮة ﴎﻳﻌﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ وﻟﻬﺬه اﻷﺳﺒﺎب ﻓﺈﻧﻨﺎ ﺳﻨﺒﺪأ ً
املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻊ اﻟﻔﱰات اﻟﺠﻠﻴﺪﻳﺔ ﻗﺒﻞ أن ﻧﺘﻜﻠﻢ ﻋﻦ ﺣﻔﺮﻳﺎت اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺒﺎﺋﺪ.
138
اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﻔﺮي ﻧﻮﻋً ﺎ وﺣﻀﺎر ًة
Beals, R, & H. Noijer, “An Introduction to Anthro- ﺷﻜﻞ :1-3ﻣﺠﻤﻊ وﻣﻌﺪل ﻋﻦ:
.pology” New York 1967, PP. 72–76
Heberer, G., “Palacanthropololgie” in “Anthropologic” Fiecher Leyikon Frank-
furt 1959, PP. 125–128. Jacobs, M, & B. J. Secrn, “General Anthropology” New
.York 1952, PP. 19–23, 91
وﻗﺪ ﺗﻜﺮرت ﻫﺬه اﻟﺼﻮرة أرﺑﻊ ﻣﺮات ﺧﻼل اﻟﺒﻠﻴﻮﺳﱰﺳني ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ذﺑﺬﺑﺎت
ﺻﻐرية ﻧﺴﺒﻴٍّﺎ وﻋﺪﻳﺪة.
وﺗﻜﺮار اﻟﻌﴫ اﻟﺠﻠﻴﺪي ،ﻣﻊ دراﺳﺔ آﺛﺎره ،ﻗﺪ أدى إﱃ إﻋﻄﺎء ﻓﱰات اﻟﺠﻠﻴﺪ واﻟﺠﻔﺎف
ﺑني اﻟﺠﻠﻴﺪﻳﻦ أﺳﻤﺎء ﺧﺎﺻﺔ .وأﻛﺜﺮ أﺳﻤﺎء اﻟﺠﻠﻴﺪ ﺷﻴﻮﻋً ﺎ ﰲ أوروﺑﺎ ﻫﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗﺼﻒ
ﻟﻨﺎ ﻋﺼﻮر اﻟﺠﻠﻴﺪ ﰲ ﺟﺒﺎل اﻷﻟﺐ ،وﺗُﺴﻤﱠ ﻰ ﺑﻔﱰات ﺟﻠﻴﺪ ﺟﻨﺰ ،Guenzﻣﻨﺪل ،Mindel
139
اﻹﻧﺴﺎن
رس ،Rissﻓريم .Wuermوﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ اﻟﻔﱰات اﻟﺠﻠﻴﺪﻳﺔ املﻘﺎﺑﻠﺔ :ﺟﺮﳼ
،Jerseyﻛﺎﻧﺰاس ،Kansanإﻟﻴﻨﻮي ،Illinoianوﺳﻜﻨﺴﻮن .Wisconsinوﻓﻴﻤﺎ ﺑني
اﻟﻔﱰات اﻟﺠﻠﻴﺪﻳﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﻓﱰات دفء ﻣﱰاوﺣﺔ ﰲ اﻟﻄﻮل ،وﺗُﺴﻤﱠ ﻰ ﺑﺎﺳﻢ ﻓﱰﺗﻲ اﻟﺠﻠﻴﺪ
)ﻣﺜﻼ ﻓﱰة دفء ﺟﻨﺰ-ﻣﻨﺪل(. ً اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ واﻟﻼﺣﻘﺔ
ﻄﻬﺎ اﻟﺠﻠﻴﺪ ﺗﻤﻴﺰت ﺑﻔﱰات أﻣﻄﺎر ﻏﺰﻳﺮة وأﻣﻄﺎر ﻗﻠﻴﻠﺔ أو وﰲ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳﻐ ﱢ
ﺟﻔﺎف ﰲ ﻣﻘﺎﺑﻞ ﻓﱰات اﻟﺠﻠﻴﺪ واﻟﺪفء .وﻳﻮﺿﺢ اﻟﺠﺪول اﻟﺘﺎﱄ ﻫﺬه اﻟﻔﱰات دون ﺣﺎﺟﺔ
إﱃ ﺗﻌﻠﻴﻖ آﺧﺮ.
140
اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﻔﺮي ﻧﻮﻋً ﺎ وﺣﻀﺎر ًة
ﺗﻤﺖ ﻛﺸﻮف ﻫﺬه املﺠﻤﻮﻋﺔ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺘﺴﻤﻴﺔ :اﻟﻘﺮد اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ،
وﻗﺪ ﻛﺎن أول ﻛﺸﻒ ﻫﻮ ذﻟﻚ اﻟﺬي وﺟﺪه راﻳﻤﻮﻧﺪ دارت R. Dartﰲ »ﺗﺎوﻧﺠﺰ« ﻗﺮب
»ﻛﻤﱪﱄ« ﻋﺎم ،١٩٢٥وﺗﻠﺖ ذﻟﻚ ﻛﺸﻮف أﺧﺮى ﻣﻌﻈﻤﻬﺎ ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﺑﺮوم R. Broomﰲ
أواﺋﻞ اﻟﺨﻤﺴﻴﻨﺎت.
وﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺮﺗﺐ ﻫﺬه اﻟﻜﺸﻮف اﻟﻌﺪﻳﺪة ﰲ ﻧﻮﻋني رﺋﻴﺴﻴني:
141
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﻘﻮل أن اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﺻﻔﺎﺗﻪ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ إﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ،وإن ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺌﺎت اﻟﻜﺸﻮف ﻣﻦ ﻋﻈﺎم
ﻣﻌﺘﺪﻻ ﺑﻌﺾ اﻟﻮﻗﺖ وﻟﻴﺲ ﻛﻞ اﻟﻮﻗﺖ. ً اﻟﺤﻮض واﻟﺴﺎق ﺗﺆﻛﺪ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺴري
وﻗﺪ ﺛﺎر ﺟﺪل ﻛﺒري ﺣﻮل ﻣﻜﺎن ﻫﺬه اﻟﺤﻔﺮﻳﺎت ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻬﻮﻣﻴﻨﺪﻳﺎ ،وﺗﺮاوﺣﺖ اﻵراء
ﺑني ﺟﻌﻠﻪ ﺗﻄﻮ ًرا ﻓﺮﻋﻴٍّﺎ ﺟﻤﺪ واﻧﻘﺮض ،وﺑني إدﺧﺎﻟﻪ ﺿﻤﻦ ﺧﻂ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﻌﺎم .وﻗﺪ و ُِﺟﺪ ْ
َت
أدوات ﺣﺠﺮﻳﺔ وﺣﺼﻮﻳﺔ ﻋﻨﺪ ﺑﻌﺾ ﻣﺨﻠﻔﺎت ﻫﺬا اﻟﻜﺎﺋﻦ؛ ﻣﻤﺎ أﻋﻄﻰ املﺆﻳﺪﻳﻦ ﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺘﻪ
ﻛﺸﻮﻓﺎ أﺧﺮى ﰲ »أوﻟﺪﻓﺎي« ﺑﴩق أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وﰲ اﻟﱰﻧﺴﻔﺎل ،أﺛﺒﺘﺖ وﺟﻮد ً ﺣﺠﺔ ﻗﻮﻳﺔ .وﻟﻜﻦ
ﺳﻼﻟﺔ أﻛﺜﺮ ﺗﻘﺪﻣً ﺎ ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ ﺗﺎﻻﻧﱰوﺑﻮس ،Telanthroposﻳﺮﺟﺢ ﻣﻜﺘﺸﻔﻮﻫﺎ أﻧﻬﺎ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ
ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺴﺘﺨﺪم اﻷدوات اﻟﺤﺼﻮﻳﺔ ﰲ اﺻﻄﻴﺎدﻫﺎ اﻟﻘﺮد اﻷﻓﺮﻳﻘﻲ — أي إﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻘﻊ ﺗﺤﺖ
ﻃﺎﺋﻠﺔ اﻟﺼﻴﺪ وﻟﻴﺲ ﻫﻮ اﻟﺼﻴﺎد.
وﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻤﺎ ﺗﻌﻄﻴﻪ ﺻﻔﺎﺗﻪ اﻟﻌﻈﻤﻴﺔ ﻣﻦ دﻻﺋﻞ ﻋﲆ إﻧﺴﺎﻧﻴﺘﻪ؛ ﻓﺈن اﻟﻘﺮد اﻷﻓﺮﻳﻘﻲ ﻟﻦ
ﻳُﻘﺒَﻞ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻣﻦ ﻃﻼﺋﻊ اﻹﻧﺴﺎن ،إﻻ إذا أﻣﻜﻦ إﺛﺒﺎت أﻧﻪ ﻛﺎن ﺻﺎﻧﻌً ﺎ وﻣﺴﺘﺨﺪﻣً ﺎ
ﻟﻸدوات1 .
1أﻋﺮب ﻫﺬا اﻟﺮأي ﻛﻞ ﻣﻦ.Boule, M. & H. Valois, “Fossil Man” New York 1957 :
142
اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﻔﺮي ﻧﻮﻋً ﺎ وﺣﻀﺎر ًة
وأﻧﻪ ﻛﺎن ﻓﺮﻳﺴﺔ ﻟﺼﻴﺎدﻳﻦ آﺧﺮﻳﻦ .وﺗﺪﻋﻢ ﻫﺬا اﻻﺗﺠﺎه ﻛﺸﻮف ﺟﺪﻳﺪة ﰲ املﻨﻄﻘﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ
ملﺠﻤﻮﻋﺔ ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ ﻣﺎ ﻗﺒﻞ إﻧﺴﺎن اﻟﺰﻧﺞ Prezinjanthroposأﻗﺮب إﱃ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﻮاﻗﻒ اﻟﺬي ﺳﻨﻌﺎﻟﺠﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ .وﻣﻊ ﻛﺜﺮة ﻛﺸﻮف ﻫﺬه اﻟﺤﻔﺮﻳﺎت ُﺳﻤﱢ ﻴَﺖ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻘﺎدر
Homohabilisاﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﺼﻨﻊ اﻷدوات وﻳﺼﻄﺎد اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت املﻮﺟﻮدة ﰲ
اﻟﺒﻴﺌﺔ.
وﻫﻨﺎك ﻛﺸﻮف أﺧﺮى ﰲ ﴍق أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﺗُﺼﻨﱠﻒ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ ﺿﻤﻦ اﻟﻘﺮد اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ؛
ﻒ ﻗﺮب ﺑﺤرية إﻳﺎﳼ ،واﻟﻔﻚ اﻷﺳﻔﻞ اﻟﺬي و ُِﺟ َﺪ ﻗﺮب ﺑﺤرية ﻣﺜﻞ اﻟﻔﻚ اﻷﻋﲆ اﻟﺬي اﻛﺘُ ِﺸ َ
ﻓﻜﺘﻮرﻳﺎ؛ وﻳُﺴﻤﱠ ﻰ :ﻓﻚ ﻛﺎﻧﺎم ،اﻟﺬي ﻳﺪور ﺣﻮل ﻋﻤﺮه ﺟﺪل ﻛﺜري؛ ﻧﺘﻴﺠﺔ ملﺎ أﺻﺎب اﻟﻔﻚ
ﻣﻦ ﻣﺮض وﻋﻄﺐ.
وﰲ ﻋﺎم ١٩٦١ﻋُ ِﺜ َﺮ ﰲ ﺷﻤﺎل ﴍﻗﻲ ﺗﺸﺎد ﻋﲆ ﺟﻤﺠﻤﺔ ﻣﻦ ﻧﻮع اﻟﻘﺮد اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ
أﻳﻀﺎ إﱃ ﻓﱰة ﻓﻴﻼ ﻓﺮاﻧﺶ ،ﻣﺜﻠﻬﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﻣﺜﻞ ﺣﻔﺮﻳﺎت أوﻟﺪﻓﺎي .وﰲ وادي أﻳﻀﺎ ،ﺗﻌﻮد ًً
أﻳﻀﺎ ﻋﲆ ﺑﻘﺎﻳﺎ ﺟﻤﺠﻤﺔ وأﺣﺪ أﻧﻴﺎب اﻟﻔﻚ ،ﺗﺮﺟﻊ إﱃ ﻓﱰة ﻣﻤﺎﺛﻠﺔ اﻷﺑﻴﺾ ﺑﺎﻷردن ﻋُ ِﺜ َﺮ ً
أﻳﻀﺎ ﻋﲆ أدوات ﻣﻦ اﻟﺤﴡ ﻣﺸﺎﺑﻬﺔ ملﺎ و ُِﺟ َﺪ ﻋﻨﺪ ﺣﻔﺮﻳﺔ ﻟﻠﻘﺮد اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ ،وﻋُ ِﺜ َﺮ ﺑﺠﻮارﻫﺎ ً
وأﻳﻀﺎ ﻋﲆ ﻋﻈﺎم ﺣﻴﻮاﻧﺎت وﻃﻴﻮر وأﺳﻤﺎك ،وﻛﻠﻬﺎ ﺗﺮﺟﻊ إﱃ اﻟﺒﻠﻴﻮﺳﺘﻮﺳني ً إﻧﺴﺎن اﻟﺰﻧﺞ،
اﻷدﻧﻰ.
وﰲ ﺟﻨﻮب ﴍق آﺳﻴﺎ ﻋُ ِﺜ َﺮ ﻣﻨﺬ ﻓﱰة ﻋﲆ أﺟﺰاء ﻣﻦ ﻓﻜني ﺳﻔﻠﻴني ،ﻛﺎﻧﺎ ﻳُﺴﻤﱠ ﻴﺎن ﺑﺎﺳﻢ
إﻧﺴﺎن ﺟﺎوة اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻟﻌﻤﻼق .Meganthropos Paleojavanicusوﻗﺪ أدت اﻟﺪراﺳﺎت
اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ إﱃ اﻋﺘﺒﺎر أﺻﺤﺎب ﻫﺬﻳﻦ اﻟﻔﻜني ﻣﻦ ﻗﺎﺋﻤﺔ اﻟﻘﺮد اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ ،ﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ إﻣﻜﺎن
اﻻﺧﺘﻼف ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻠﺒﻌﺪ اﻟﺠﻐﺮاﰲ.
وﻫﻜﺬا ﻧﺠﺪ أن أﻓﻜﺎرﻧﺎ ﻋﻦ اﻟﻘﺮد اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ ﻗﺪ ﺑﺪأت ﺗﺘﻌﺪل ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻟﻜﺸﻮف واﻟﺪراﺳﺎت
اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ ،وﻳﺒﺪو أن اﻟﻘﺮد اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ ﻫﻮ أﺣﺪ ﻓﺮوع ﻋﺎﺋﻠﺔ اﻟﻬﻮﻣﻴﻨﻴﺪﻳﺎ ،ﻟﻜﻨﻪ اﺗﺠﻪ ﰲ ﺗﻄﻮره
اﺗﺠﺎﻫﺎ ﻣﻮازﻳًﺎ وﺟﻤﺪ ﻋﻨﺪ ﺣﺪود ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﻄﻮر ،ﺑﺮﻏﻢ اﻧﺘﺸﺎره ﻣﻦ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ إﱃ ﻣﻨﺎﻃﻖ ً
ﻣﺜﻼ :ﻫﻞ ﻛﺎن ﻛﺎﺋﻨًﺎ ﻧﺒﺎﺗﻴٍّﺎ ﻛﻤﺎ ﺗﺪل
أﺧﺮى ﰲ آﺳﻴﺎ ،ﺛﻢ اﻧﻘﺮض ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻇﺮوف ﻛﺜرية؛ ﻣﻨﻬﺎ ً
دراﺳﺔ إﻧﺴﺎن اﻟﺰﻧﺞ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻌﻴﺶ إﱃ ﺟﻮاره اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻘﺎدر آﻛﻞ اﻟﻠﺤﻢ؟
143
اﻹﻧﺴﺎن
ﺗﺪل ﻛﻞ ﺣﻔﺮﻳﺎت اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻮاﻗﻒ ﻋﲆ أﻧﻪ أﻛﺜﺮ ﺗﻘﺪﻣً ﺎ ﻣﻦ اﻟﻘﺮد اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ ﰲ اﻟﺼﻔﺎت
اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ،وأول ﻛﺸﻮف ﻫﺬه اﻟﺤﻔﺮﻳﺎت ﻛﺎﻧﺖ ﰲ وادي ﻧﻬﺮ ﺳﻮﻟﻮ ﻗﺮب ﻗﺮﻳﺔ ﺗﺮﻧﻴﻞ
ﺑﺠﺰﻳﺮة ﺟﺎوة .وﻗﺪ ﻛﺸﻒ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ اﻟﻬﻮﻟﻨﺪي دﻳﺒﻮا ،E. Duboisﻋﺎم ،١٨٩١ﻋﻦ
ﻋﺪد ﻣﻦ ﻋﻈﺎم اﻟﻬﻮﻣﻴﻨﻴﺪﻳﺎ؛ ﻣﻨﻬﺎ ﻗﺒﻮ ﺟﻤﺠﻤﺔ ،وﺟﺰء ﻣﻦ اﻟﻔﻚ اﻷﺳﻔﻞ ،وﺛﻼﺛﺔ أﴐاس
وﻋﻈﻤﺔ ﻓﺨﺬ ،وﺳﻤﺎﻫﺎ ﺑﺎﺳﻢ اﻟﻘﺮد — اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻮاﻗﻒ .وﻟﻜﻦ اﻟﻜﺸﻮف اﻷﺧﺮى ﰲ اﻟﺼني
) (١٩٢٩وﺟﺎوة ) (١٩٤١–١٩٣٦ﻗﺪ أﻋﻄﺘﻨﺎ ﻣﻌﻠﻮﻣﺎت ﻗﻴﻤﺔ ﻋﻦ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻮاﻗﻒ .ورﻏﻢ
أن ﺻﻔﺔ اﻟﻮﻗﻮف املﻌﺘﺪل ﻟﻴﺴﺖ ﺧﺎﺻﺔ ﺑﻬﺬه اﻟﺤﻔﺮﻳﺎت — ﻓﺎﻟﻘﺮد اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ واﻹﻧﺴﺎن
اﻟﻌﺎﻗﻞ ﻳﺸﱰﻛﺎن ﻣﻌً ﺎ ﻓﻴﻬﺎ — إﻻ أن اﻟﺘﺴﻤﻴﺔ ﻗﺪ ﺗﺼﺢ ﻟﻜﻮﻧﻬﺎ أول اﻟﺨﻂ املﺴﺘﻤﺮ ﰲ
اﻟﺘﻄﻮر إﱃ اﻹﻧﺴﺎن املﻌﺎﴏ ،وﻫﻲ ﺑﺬﻟﻚ أﺣﺴﻦ ﻣﻦ اﻗﱰاح ﺗﺴﻤﻴﺘﻪ ﺑﺎﻹﻧﺴﺎن اﻟﺼﺎﻧﻊ
.Homo faberوأﻫﻢ أﻧﻮاع ﻫﺬا اﻟﻨﻮع اﻟﺒﴩي ﻫﻤﺎ :إﻧﺴﺎن ﺟﺎوة ،وإﻧﺴﺎن اﻟﺼني أو
ﺑﻜني.
ﺗﻌﻮد اﻟﺤﻔﺮﻳﺎت اﻟﺘﻲ اﻛﺘﺸﻔﻬﺎ دﻳﺒﻮا إﱃ اﻟﺒﻠﻴﻮﺳﺘﻮﺳني اﻷوﺳﻂ .وﻗﺪ ﻋُ ِﺜ َﺮ ﰲ املﻨﻄﻘﺔ ذاﺗﻬﺎ
ﻋﲆ ﺟﻤﺎﺟﻢ أﺧﺮى ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﻬﻨﺎك ﺛﻼﺛﺔ ﻛﺸﻮف أُﻋْ ِﻄﻴ َْﺖ أرﻗﺎﻣً ﺎ ﺣﺴﺐ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻜﺸﻒ
ﻟﻠﺘﻔﺮﻳﻖ ﺑﻴﻨﻬﺎ )ﺟﺎوة .(٣ ،٢ ،١أﻣﺎ ﺟﺎوة ) ٤ﻓﻚ أﺳﻔﻞ ﺳﻤﻴﻚ( ،ﻓﻴﻌﻮد ﻛﻤﺎ أﺳﻠﻔﻨﺎ إﱃ
ﻧﻮع اﻟﻘﺮد اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ )ﻋُ ِﺜ َﺮ ﻋﻠﻴﻪ ﰲ ﻃﺒﻘﺎت أﺳﻔﻞ ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻘﺎت اﻟﺘﻲ و ُِﺟ َﺪ ﻓﻴﻬﺎ ﺟﺎوة ،١
أﻳﻀﺎ ﻋﲆ ﺣﻔﺮﻳﺎت ﻣﻤﺎﺛﻠﺔ ﻟﺠﺎوة ،٤وإن ُﺳﻤﱢ ﻴ َْﺖ ،(٣ ،٢وﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﻣﻮدﺟﻮ ﻛريﺗﺎ ﻋُ ِﺜ َﺮ ً
إﻧﺴﺎن ﻣﻮدﺟﻮ ﻛري ﺗﻨﺴﻴﺰ.
وﺗﺪل دراﺳﺔ ﺟﺎوة ) (١ﻋﲆ أن ﺳﻌﺔ املﺦ ٩٠٠ﺳﻢ ﻣﻜﻌﺐ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺟﺎوة
ﻄﺎ ﻳﱰاوح ﺑني ٧٥٠و٨١٥ﺳﻢ ﻣﻜﻌﺒًﺎ .وﺗﺪل اﻟﺪراﺳﺎت ﻋﲆ أن ﻧﻤﻮ ) (٢ﺗﻌﻄﻲ ﻣﺘﻮﺳ ً
اﻟﺠﺰء اﻷﻣﺎﻣﻲ ﻣﻦ املﺦ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﺴﺎوﻳًﺎ ﻟﻺﻧﺴﺎن اﻟﺤﺎﱄ ،ﻛﻤﺎ أن ﻋﻈﺎم اﻟﺠﻤﺠﻤﺔ أﻛﺜﺮ
ﺳﻤﺎﻛﺔ ،ﻓﺈن ٪١٦ﻣﻦ ﻃﻮل اﻟﺠﻤﺠﻤﺔ ﻣﻜﻮن ﻣﻦ اﻟﻌﻈﺎم ،ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻟﻨﺴﺒﺔ ٪٤إﱃ ٪٦ﻋﻨﺪ
اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﺎﱄ.
وﻗﺒﻮ اﻟﺠﻤﺠﻤﺔ ﻣﺒﻄﻂ ﻋﲆ ﻋﻜﺲ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﺎﱄ ،وﻣﻨﺤﺪر ﺑﺸﺪة إﱃ اﻟﺨﻠﻒ ،ﻛﻤﺎ
أن ﻋﻈﺎم اﻟﺤﺎﺟﺐ ﺑﺎرزة ﺑﺸﺪة ﻏري ﻣﺄﻟﻮﻓﺔ وﻣﺴﺘﻤﺮة ﻓﻮق ﺟﺬر اﻷﻧﻒ ،وﻋﻈﻤﺔ اﻟﺴﺎﺑﻖ
ﻣﺴﺘﻘﻴﻤﺔ وﻃﻮﻳﻠﺔ وﻧﺤﻴﻔﺔ؛ ﻣﻤﺎ أﺛﺎر ﺟﺪل ﺣﻮل ﻋﻼﻗﺘﻬﺎ ﺑﺎﻟﺠﻤﺠﻤﺔ.
144
اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﻔﺮي ﻧﻮﻋً ﺎ وﺣﻀﺎر ًة
إﻧﺴﺎن ﺟﺎوة
إﻧﺴﺎن ﺑﻜني
وﻟﻢ ﻳُﻌﺜَﺮ ﺣﺘﻰ اﻵن ﻋﲆ آﺛﺎر وﻣﺨﻠﻔﺎت ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺤﻔﺮﻳﺎت ﺟﺎوة ،وإن ﻛﺎن
دﻟﻴﻼ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺼﻨﻊ أدوات؛ ﻷن اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺤﻔﺮﻳﺎت اﻷﻗﺪم و ُِﺟﺪ ْ
َت ً ذﻟﻚ ﻻ ﻳ َ
ُﺆﺧﺬ
ﻣﺼﺤﻮﺑﺔ ﺑﺄدوات ﺣﺼﻮﻳﺔ وﺷﻈﺎﻳﺎ ﺣﺠﺮﻳﺔ.
وﰲ وادي ﺳﻮﻟﻮ — ﺑﺎﻟﻘﺮب ﻣﻦ ﻧﺠﺎﻧﺪوﻧﺞ — ﻋُ ِﺜ َﺮ ﻋﲆ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺒﻘﺎﻳﺎ اﻟﻌﻈﻤﻴﺔ
ُﺳﻤﱢ ﻴ َْﺖ ﺑﺈﻧﺴﺎن ﺳﻮﻟﻮ أو ﻧﺠﺎﻧﺪوﻧﺞ ،وﰲ رأي اﻟﺒﻌﺾ أن إﻧﺴﺎن ﺳﻮﻟﻮ ﻫﻮ ﺗﻄﻮر أو ﺑﻘﺎﻳﺎ
ﻣﺘﻄﻮرة ﻹﻧﺴﺎن ﺟﺎوة .وﻗﺪ و ُِﺟﺪَت اﻟﺠﻤﺎﺟﻢ ﻛﻠﻬﺎ ﻣﻘﻠﻮﺑﺔ ﻋﲆ اﻟﻘﺒﻮ ،ﻛﻤﺎ أن ﻋﻈﺎم اﻟﻮﺟﻪ
ﻗﺪ أ ُ ِزﻳ َﻠ ْﺖ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﺑﺼﻮرة ﺗُﺬ ﱢﻛﺮ ﺑﺼﻴﱠﺎدِي اﻟﺮءوس املﻌﺎﴏﻳﻦ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳ ُْﺨ ِﺮﺟﻮن املﺦ ﻣﻦ
اﻟﺠﻤﺠﻤﺔ.
145
اﻹﻧﺴﺎن
ﻣﺨﺎ ﺣﺠﻤﻪ ١٠٣٥ﺳﻢ ﻣﻜﻌﺒًﺎ، وأﺻﻐﺮ ﺟﻤﺠﻤﺔ ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺳﻮﻟﻮ ،ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺤﻤﻞ ٍّ
وﻫﻮ رﻗﻢ أﻛﱪ ﺑﻜﺜري ﻣﻦ أي ﻣﻦ ﻛﺸﻮﻓﺎت ﺟﺎوة ،وأﻛﱪ اﻟﺠﻤﺎﺟﻢ ١٣٠٠ﺳﻢ ﻣﻜﻌﺐ ،ﻟﻜﻦ
ﺷﻜﻞ اﻟﺠﻤﺠﻤﺔ ﻣﺸﺎﺑﻪ ﻹﻧﺴﺎن ﺟﺎوة.
َت ﻣﻊ ُ
وﻛﺬﻟﻚ ﻋﻈﻤﺔ اﻟﺴﺎق ﺣﺪﻳﺜﺔ ﻣﺜﻞ إﻧﺴﺎن ﺟﺎوة ،وﻟﻢ ﺗﺪ َرس اﻷدوات اﻟﺘﻲ و ُِﺟﺪ ْ
ﺣﻔﺮﻳﺎت ﺳﻮﻟﻮ ،ﻟﻜﻦ اﻟﻮﺻﻒ املﺒﺪﺋﻲ ﻫﻮ أﻧﻬﺎ ﺗﺸﺒﻪ أدوات اﻟﺤﻀﺎرة املﻮﺳﺘريﻳﺔ اﻷوروﺑﻴﺔ،
َت ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺑﺪاﻳﺎت اﻟﺒﻠﻴﻮﺳﺘﻮﺳني اﻷﻋﲆ .وﻣﻦ ﺛﻢ ﻳﻔﺼﻞ ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑني واﻟﻄﺒﻘﺎت اﻟﺘﻲ و ُِﺟﺪ ْ
ﺣﻔﺮﻳﺎت ﺗﺮﻧﻴﻞ ﺣﻮاﱄ ٤٠٠أﻟﻒ ﺳﻨﺔ.
وﻳﻌﺘﻘﺪ ﻓﺎﻳﺪﻧﺮاﻳﺦ وﻛﻮون أن إﻧﺴﺎن ﺳﻮﻟﻮ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﺗﻄﻮر ﻟﺴﻼﻟﺔ ﺟﺎوة ،ﺑﺮﻏﻢ
ﺑﻂء ﻣﻈﺎﻫﺮ ﻫﺬا اﻟﺘﻄﻮر ،إﻻ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺘﺺ ﺑﺤﺠﻢ املﺦ .ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﻓﺎﻟﻮا إن ﺳﻮﻟﻮ ﻟﻴﺲ إﻻ
ﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل ﻫﺎﻣﺸﻴٍّﺎ ،أﻣﺎ ﻟﻮﺟﺮوس ﻛﻼرك ﻓﻴ ُِﺸري إﱃ ﻣﺸﻜﻠﺔ إﻧﺴﺎن رودﻳﺴﻴﺎ املﻤﺎﺛﻠﺔ وﻳﺆﻛﺪ
أﻧﻨﺎ أﻣﺎم ﻣﺸﻜﻼت ﻟﻢ ﻧﺠﺪ ﻟﻬﺎ ٍّ
ﺣﻼ.
وﻳﻌﺘﻘﺪ ﻓﺎﻳﺪﻧﺮاﻳﺦ وﻛﻮون أن إﻧﺴﺎن ﺳﻮﻟﻮ ﺧﻄﻮة ﻣﻦ ﺧﻄﻮات ﺟﺎوة ،وأن ﺣﻔﺮﻳﺎت
أﻳﻀﺎ( ﺧﻄﻮة أﺧﺮى أﻛﺜﺮ ﺗﻘﺪﻣً ﺎ ﻣﻦ ﺳﻮﻟﻮ ،وأن اﻻﺗﺠﺎه ﰲ ﻫﺬا اﻟﺘﻄﻮر وادﺟﺎك )ﰲ ﺟﺎوة ً
ﻳﺸري إﱃ اﻷﺳﱰاﻟﻴني اﻷﺻﻠﻴني اﻟﺤﺎﻟﻴني.
ﺷﺨﺼﺎ ﰲ ﻛﻬﻒ ﺑﺎﻟﻘﺮب ﻣﻦ ﻗﺮﻳﺔ ً ﰲ ﻋﺎم ،١٩٢٩اﻛﺘُ ِﺸ َﻔ ْﺖ ﺑﻘﺎﻳﺎ ﻋﻈﻤﻴﺔ ﻷﻛﺜﺮ ﻣﻦ أرﺑﻌني
ﺷﻮﻛﻮﺗني ﻏري اﻟﺒﻌﻴﺪة ﻋﻦ ﺑﻜني ،واﻟﻜﺸﻮف اﻷﺧﺮى ﰲ اﻟﺼني ﻗﺪ ﺟﻌﻠﺘﻨﺎ ﻧﻌﺮف أﻧﻨﺎ أﻣﺎم
ﺳﻼﻟﺔ أﺧﺮى ﻣﻦ ﺳﻼﻻت اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻮاﻗﻒ ﺗﺨﺘﻠﻒ داﺧﻞ اﻹﻃﺎر اﻟﻌﺎم ﻟﻬﺬا اﻟﻨﻮع.
وأﻫﻢ أوﺟﻪ اﻻﺧﺘﻼف ﻫﻲ :ارﺗﻔﺎع ﻗﺒﻮ اﻟﺠﻤﺠﻤﺔ وﻋﺪم اﻧﺤﺪار اﻟﺠﺒﻬﺔ ﺑﺎﻟﺼﻮرة اﻟﺘﻲ
ﻋﻠﻴﻬﺎ إﻧﺴﺎن ﺟﺎوة ،ﻛﺬﻟﻚ ﻋﻈﺎم اﻟﺤﺎﺟﺒني ﻟﻴﺴﺖ ﺛﻘﻴﻠﺔ وﻟﻴﺴﺖ ﺑﺎرزة .وﻧﺴﺒﺔ اﻟﺠﻤﺠﻤﺔ
ﻋﺮﺿﺎ ﻣﻦ ﺟﻤﺠﻤﺔ ﺟﺎوة ،وﺣﺠﻢ املﺦ ﻳﱰاوح ﺑني ٨٥٠و١٣٠٠ﺳﻢ ﻣﻜﻌﺐ ً ٧٢؛ أي أﻛﺜﺮ
ﺑﻤﺘﻮﺳﻂ ١٠٧٥ﺳﻢ ﻣﻜﻌﺒًﺎ؛ أي أﻋﲆ ﺑﻤﺎﺋﺔ ﺳﻨﺘﻴﻤﱰ ﻣﻜﻌﺐ ﻋﻦ إﻧﺴﺎن ﺟﺎوة .واﻟﻮﺟﻪ
ﻋﺎﻣﺔ ﻏري ﺑﺎرز إﱃ اﻷﻣﺎم ﺑﺪرﺟﺔ ﻛﺒرية ،وﻣﺮﺟﻊ اﻟﱪوز ﻫﻨﺎ إﱃ ﺑﺮوز اﻟﻔﻚ اﻷﻋﲆ وﻟﻴﺲ
اﻟﻮﺟﻪ ﻛﻜﻞ ،واﻟﻔﻜﺎن ﻛﺒريان وﺛﻘﻴﻼن ،واﻷﴐاس واﻷﺳﻨﺎن ﻛﺒرية وﻣﺘﺒﺎﻋﺪة ،وﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ
ﺻﻔﺎﺗﻬﺎ ﺗﻘﱰب ﻣﻦ اﻟﻘﺮد اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ وﺗﺒﺘﻌﺪ ﻋﻦ ﺟﺎوة ،وﻋﻈﺎم اﻟﺴﺎﻋﺪ ﻣﺸﺎﺑﻬﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎن
َت أدواتاﻟﺤﺪﻳﺚ ،وﻻ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻛﺜريًا ﻋﻦ ﻋﻈﺎم اﻟﺴﺎق ﻋﻨﺪ إﻧﺴﺎن ﺟﺎوة ،وﰲ اﻟﻜﻬﻒ و ُِﺟﺪ ْ
ﻣﻦ اﻟﺤﴡ املﺸﻄﻮف وﻏريه ﻣﻦ اﻷﺣﺠﺎر ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﻐﺎﻳﺮة ملﺎ ﰲ أوروﺑﺎ ،ﻛﻤﺎ و ُِﺟﺪ ْ
َت ﺑﻘﺎﻳﺎ
146
اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﻔﺮي ﻧﻮﻋً ﺎ وﺣﻀﺎر ًة
ﻓﺤﻢ ﻧﺒﺎﺗﻲ وﻋﻈﺎم ﻣﺘﻔﺤﻤﺔ وﺑﻘﺎﻳﺎ أﻓﺮان ﻗﺪﻳﻤﺔ .وﻛﻠﻬﺎ ﺗﺜﺒﺖ أن إﻧﺴﺎن اﻟﺼني ﻛﺎن ﻳﻌﺮف
اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻨﺎر ،وأﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺄﻛﻞ اﻟﻨﺒﺎﺗﺎت واﻟﻠﺤﻮم )ﺑﻘﺎﻳﺎ ﻋﻈﺎم ﺣﻴﻮاﻧﻴﺔ( ،وﺗﺆﻛﺪ دراﺳﺔ
أﺳﻨﺎﻧﻪ ﻫﺬه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .ﻛﻤﺎ أن اﻧﻜﺴﺎر اﻟﺠﻤﺎﺟﻢ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ واﺣﺪة ﺗﺸري ً
أﻳﻀﺎ إﱃ ﻋﺎدة أﻛﻞ
ﻟﺤﻮم اﻟﺒﴩ ﺑﺼﻮرة أو أﺧﺮى )ﻏﺬاء أو ﺿﺤﺎﻳﺎ ﺑﴩﻳﺔ ﻷﻏﺮاض دﻳﻨﻴﺔ أو ﺳﺤﺮﻳﺔ(.
إﻧﺴﺎن ﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل
وﻗﺪ ﻧﻔﻰ اﻟﺒﻌﺾ أن ﻳﻜﻮن إﻧﺴﺎن اﻟﺼني ﻗﺪ ﺣﺎز ﻋﲆ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﻘﺪم اﻟﺤﻀﺎري؛
ﻣﺜﻞ اﻛﺘﺸﺎف اﻟﻨﺎر .ﻟﻜﻦ اﻷﺑﺤﺎث اﻟﺠﺪﻳﺪة ﰲ أوﻟﺪﻓﺎي وﺗﺮﻧﻔني ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﻗﺪ أﺛﺒﺘﺖ
أﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﺠﺪ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﺑﴩﻳﺔ ﰲ اﻟﺒﻠﻴﻮﺳﺘﻮﺳني اﻷوﺳﻂ ﺑﺪون ﺣﻀﺎرة ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻳﺴﻘﻂ
اﻻﻋﱰاض؛ ﺣﻴﺚ إن ﺣﻔﺮﻳﺎت ﺷﻮﻛﺘني وﻏريﻫﺎ ﺗﻌﻮد إﱃ ﺗﻠﻚ اﻟﻔﱰة اﻟﺰﻣﻨﻴﺔ.
وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﻗﺼﺔ ﺣﻮل ﺑﻌﺾ اﻷﺳﻨﺎن اﻟﻀﺨﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺠﺎوز ﺿﻌﻒ ﺣﺠﻢ
َت ﰲ اﻟﺼني ،وﻗﺪ ﺳﻤﻰ اﻷﺳﻨﺎن اﻟﻌﺎدﻳﺔ ،ﺑﻞ أﻛﱪ ﻣﻦ ﴐوس اﻟﺠﻮرﻳﻼ ،واﻟﺘﻲ و ُِﺟﺪ ْ
ﻣﻜﺘﺸﻔﻬﺎ )ﻓﻮن ﻛﻮﻧﺠﺰ ﻓﺎﻟﺪ( أﺻﺤﺎبَ ﻫﺬه اﻷﺳﻨﺎن اﻟﻀﺨﻤﺔ ﺑﺴﻼﻟﺔ اﻟﻘﺮد اﻟﻌﻤﻼق
.Gigantipithecus Blackiﻟﻜﻦ اﻟﻌﺎﻟِﻢ اﻟﺼﻴﻨﻲ — W. C. Peiاﻟﺬي ﻋﺎون ﻛﺜريًا ﰲ
ﺣﻔﺮﻳﺎت ﺷﻮﻛﻮﺗني — ﻗﺪ أﻛﺪ — ﺑﻌﺪ اﻛﺘﺸﺎف ﺣﺪﻳﺚ ﻟﻔﻚ أﺳﻔﻞ — أن ﻫﺬه اﻟﺴﻼﻟﺔ
ﻟﻴﺴﺖ إﻻ ﻟﻘﺮد ﻫﺎﺋﻞ اﻟﺤﺠﻢ ﻛﺎن ﻳﻌﻴﺶ ﰲ اﻟﺒﻠﻴﻮﺳﺘﻮﺳني اﻷوﺳﻂ ،ورﺑﻤﺎ اﻷدﻧﻰ.
147
اﻹﻧﺴﺎن
ﻳﺸﺘﻤﻞ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻋﲆ ﻋﺪة ﺳﻼﻻت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،وﺗﻤﺜﻞ ﺳﻼﻟﺔ ﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻷﻛﱪ ﻣﻦ
ﻫﺬه اﻟﺴﻼﻻت ،وﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻘﺴﻤﻬﺎ ﺗﺎرﻳﺨﻴٍّﺎ إﱃ ﺛﻼث ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت (١) :ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﺎ ﻗﺒﻞ
ﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل (٢) .ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل اﻟﻜﻼﺳﻴﻜﻴﺔ (٣) .ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﺎ ﺑﻌﺪ ﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل.
ﻗﺒﻞ اﻟﻜﺸﻮف اﻟﺠﺪﻳﺪة ،واﻟﻮﺳﺎﺋﻞ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻷﻋﻤﺎر ،ﻛﺎن اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻬﻴﺎﻛﻞ
ﻨﺴﺐ إﱃ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل .وﻟﻜﻦ اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت اﻟﻌﻈﻤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﻮﺟَ ﺪ ﰲ أوروﺑﺎ ﺑﺎﻟﺬات ﻻ ﺗُ َ
ً
أﺻﻼ ﺑﻔﱰة ﺟﻠﻴﺪ ﻓريم، اﻟﺘﻲ ﻇﻬﺮت ﻗﺪ أدت إﱃ اﻛﺘﺸﺎف أن ﻧﻤﻂ اﻟﻨﻴﻨﺪرﺗﺎل ﻣﺮﺗﺒﻂ
ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻣﺎ ﺳﺒﻖ ذﻟﻚ ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﺗﻌﻮد إﱃ ﻓﱰة دفء رس-ﻓريم ،وإﱃ ﺣﻀﺎرات أﻗﺪم
ﻣﻦ املﻮﺳﺘريﻳﺔ.
وﻣﻦ أﻫﻢ اﻻﻛﺘﺸﺎﻓﺎت ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺴﺎﺑﻘني ﻋﲆ اﻟﻨﻴﻨﺪرﺗﺎل — أو اﻟﻨﻴﻨﺪرﺗﺎﻟﻴني
املﺒﻜﺮﻳﻦ — ﺣﻔﺮﻳﺎت ﺷﺘﺎﻳﻨﻬﺎﻳﻢ ) ،(١٩٣٣ﺳﻮاﻧﺴﻜﻮﻣﺐ ) (١٩٣٦-١٩٣٥ﻓﻮﻧﺘﺸﻔﺎد
148
اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﻔﺮي ﻧﻮﻋً ﺎ وﺣﻀﺎر ًة
َت ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺤﻀﺎرات املﻮﺳﱰﻳﺔ املﺒﻜﺮة أو ﺑﺤﻀﺎرات أﻗﺪم ﻣﻦ ) ،(١٩٤٧وﻛﻠﻬﺎ و ُِﺟﺪ ْ
ذﻟﻚ.
َت ﻋﲆ رﺻﻴﻒ ١٠٠ﻗﺪم ﻟﻨﻬﺮ وأﻗﺪم ﻫﺬه اﻟﺤﻔﺮﻳﺎت ﻫﻲ ﺳﻮاﻧﺴﻜﻮﻣﺐ اﻟﺘﻲ و ُِﺟﺪ ْ
اﻟﺘﻴﻤﺰ ،وﺗﻌﻮد إﱃ أواﺋﻞ اﻟﺤﻀﺎرة اﻷﺷﻴﻠﻴﺔ اﻟﻮﺳﻄﻰ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﻌﻮد ﺟﻤﺠﻤﺔ ﺷﺘﺎﻳﻨﻬﺎﻳﻢ
إﱃ اﻷﺷﻴﻠﻴﺔ املﺘﺄﺧﺮة ،وﻓﻮﻧﺘﺸﻔﺎد إﱃ ﻣﺎ ﻗﺒﻞ املﻮﺳﺘريﻳﺔ .وﺻﻔﺎت ﻫﺬه اﻟﺒﻘﺎﻳﺎ اﻟﻌﻈﻤﻴﺔ
ﺗﻌﻮد ﺑﻬﻢ إﱃ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ دون ﺗﻤﻴﻴﺰ ﻛﺜري ﺳﻮى ﺻﻐﺮ ﺣﺠﻢ املﺦ ً
ﻗﻠﻴﻼ )ﺷﺘﺎﻳﻨﻬﺎﻳﻢ
١١٠٠ﺳﻢ ﻣﻜﻌﺐ( .وﻫﻨﺎك ﺣﻔﺮﻳﺎت أﺧﺮى ﻣﻤﺎﺛﻠﺔ ﰲ إﻳﺮﻧﺠﺰورف وﻛﺮﺑﻴﻨﺎ ﺗﻌﻮد إﱃ
اﻟﺤﻀﺎرة اﻷﺷﻴﻠﻴﺔ ،وﺣﺠﻢ املﺦ ﻛﺒري )١٤٥٠ﺳﻢ ﻣﻜﻌﺒًﺎ ﻋﻨﺪ أﻳﺮﻧﺠﺴﺪورف( ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﻤﺜﻞ
ﺟﻤﺎﺟﻢ ﻛﺮاﺑﻴﻨﺎ )ﻳﻮﺟﺴﻼﻓﻴﺎ( أول ﺣﻔﺮﻳﺎت ﻋﺮﻳﻀﺔ اﻟﺮأس )ﻧﺴﺒﺔ اﻟﺠﻤﺠﻤﺔ .(٨٤
َت ﻟﻬﺬه اﻟﺴﻼﻟﺔ ﺗﺮﺟﻊ إﱃ ﻋﺎم ١٨٥٦ﰲ ﺧﺎﻧﻖ وادي ﻧﻴﺎﻧﺪر ﻗﺮب أول ﺣﻔﺮﻳﺔ و ُِﺟﺪ ْ
دﺳﻠﺪورف ،وﻟﻜﻦ ﺳﺒﻖ أن ﻋُ ِﺜ َﺮ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻋﲆ ﺟﻤﺠﻤﺔ ﰲ ﺟﺒﻞ ﻃﺎرق ،١٨٤٨وﻟﻢ ﺗﺘﻀﺢ
أﻫﻤﻴﺘﻬﺎ إﻻ ﺑﻌﺪ اﻛﺘﺸﺎﻓﺎت وادي ﻧﻴﺎﻧﺪر ،وﻣﻨﻄﻘﺔ ﺳﺒﺎي ﰲ ﺑﻠﺠﻴﻜﺎ .١٨٨٧
وإﻧﺴﺎن ﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل أﻗﻞ ﰲ اﻟﻄﻮل ﻣﻦ ﻣﺘﻮﺳﻂ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﺎﱄ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻣﺘﻮﺳﻂ ﻃﻮﻟﻪ
١٦٥–١٦٠ﺳﻨﺘﻴﻤﱰًا ،ﻛﻤﺎ أن ﺗﻘﻮﻳﺲ ﺳﺎﻗﻴﻪ ﻳﺪل ﻋﲆ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺴري ﻣﻨﺤﻨﻴًﺎ إﱃ اﻷﻣﺎم
ﺑﻌﺾ اﻟﴚء.
وﻋﻈﺎم إﻧﺴﺎن ﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل ﻛﻠﻬﺎ ﺳﻤﻴﻜﺔ ﺛﻘﻴﻠﺔ ،وﻻ ﺑﺪ أن ﻗﺪرﺗﻪ اﻟﻌﻀﻠﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺎﺋﻠﺔ؛
ﻗﻠﻴﻼ ﻓﻮق ﻫﺬهاﻟﺼﺪر ﻛﺎن ﻛﺒري اﻻﺗﺴﺎع واﻟﺮﻗﺒﺔ ﺿﺨﻤﺔ ﻗﻮﻳﺔ ،واﻟﺮأس ﻳﻤﻴﻞ إﱃ اﻷﻣﺎم ً
اﻟﺮﻗﺒﺔ اﻟﺴﻤﻴﻜﺔ.
أﻣﺎ اﻟﺮأس ﻓﻜﺎن ﺿﺨﻤً ﺎ ﻛﺬﻟﻚ ،وﺣﺠﻢ املﺦ ﻳﱰاوح ﺑني ١٣٠٠و١٦٠٠ﺳﻢ ﻣﻜﻌﺐ
ً
ﻣﻨﺨﻔﻀﺎ، ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺬﻛﻮر ،وﻫﻮ ﺣﺠﻢ أﻛﱪ ً
ﻗﻠﻴﻼ ﻣﻦ اﻷوروﺑﻲ اﻟﺤﺎﱄ .ﻟﻜﻦ ﻗﺒﻮ اﻟﺮأس ﻛﺎن
واﻟﺠﺒﻬﺔ ﺷﺪﻳﺪة اﻻﻧﺤﺪار إﱃ اﻟﺨﻠﻒ ،وﻋﻈﺎم ﻣﺎ ﻓﻮق اﻟﺤﺎﺟﺒني ﺑﺎرزة وﻣﺴﺘﻤﺮة ،وﺑﺬﻟﻚ
ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻌﻴﻨﺎن ﺗﻄﻼن ﻣﻦ داﺧﻞ ﺗﺠﻮﻳﻒ ﻳﺰﻳﺪه ً
ﻋﻤﻘﺎ ﻫﺬا اﻟﱪوز اﻟﻌﻈﻤﻲ ﻓﻮﻗﻬﻤﺎ .واﻟﻮﺟﻪ
ﻛﺎن ﻛﺒريًا وأﻣﻴﻞ إﱃ اﻟﻄﻮل ،وﺗﺠﻮﻳﻒ اﻟﻌني واﺳﻊ واﻷﻧﻒ ﻛﺒري ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﱪوز واﻻﺗﺴﺎع.
اﻟﻔﻜﺎن ﺑﺎرزان ،وإن ﻳﻜﻦ ﺑﺮوزﻫﻤﺎ ﻟﻴﺲ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﱪوز اﻟﻔﻜﻲ ﻟﺪى اﻷﺳﱰاﻟﻴني واﻟﺰﻧﻮج
املﻌﺎﴏﻳﻦ .ﻋﻈﻤﺔ اﻟﺬﻗﻦ ﺻﻐرية وﻣﱰاﺟﻌﺔ ﺑﺸﺪة إﱃ اﻟﺨﻠﻒ.
وﻗﺪ ﺗﺘﺸﺎﺑﻪ ﻓﻠﻄﺤﺔ ﻗﺒﻮ اﻟﺠﻤﺠﻤﺔ ﻋﻨﺪ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻮاﻗﻒ وﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل ،ﻟﻜﻦ اﻟﺠﻤﺠﻤﺔ
ﻋﺎﻣﺔ ﻛﺎﻧﺖ واﺳﻌﺔ وﻣﻤﺘﺪة إﱃ اﻟﺨﻠﻒ ﻛﺜريًا ﻋﻨﺪ اﻟﻨﻴﻨﺪرﺗﺎل .أﻣﺎ اﻹﻧﺴﺎن املﻌﺎﴏ ،ﻓﺈن
149
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﺠﻤﺠﻤﺔ ﺗﺮﺗﻔﻊ إﱃ أﻋﲆ ﻛﺜريًا؛ ﻣﻤﺎ ﻳﻌﻄﻲ اﻟﻔﺮق ﺑني اﻣﺘﺪاد ﺟﻤﺠﻤﺔ ﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل وارﺗﻔﺎع
ﺟﻤﺠﻤﺔ اﻹﻧﺴﺎن املﻌﺎﴏ.
ﻣﺘﺨﺼﺼﺎ ،وﻣﻦ ﻣﻈﺎﻫﺮ ﺗﺨﺼﺼﻪ ﺗﻘﻮﱡس ﻋﻈﺎم اﻟﻔﺨﺬ ً وﻟﻘﺪ ﻛﺎن إﻧﺴﺎن ﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل
ﺑﺪرﺟﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ ﻧﺠﺪﻫﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﻘﺮدة اﻟﻌﻠﻴﺎ.
وﻟﻘﺪ ﻋﺎش إﻧﺴﺎن ﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل ﰲ ﺧﻼل ﻋﴫ ﺟﻠﻴﺪ ﻓريم؛ ﻣﻤﺎ أدى ﺑﻪ إﱃ اﻟﺘﺨﺼﺺ
اﻟﺸﺪﻳﺪ ﰲ ﺗﻜﻮﻳﻨﻪ اﻟﺠﺴﺪي واﻟﻌﻈﻤﻲ ملﻮاﺟﻬﺔ املﻨﺎخ ﻏري املﻼﺋﻢ ،وأدى ذﻟﻚ إﱃ اﺗﺠﺎه ﻧﺤﻮ
150
اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﻔﺮي ﻧﻮﻋً ﺎ وﺣﻀﺎر ًة
ﻫﻨﺎك ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﺑﴩﻳﺔ ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ اﻟﺘﻲ ﻋﺎﺷﺖ ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﻟﻜﻦ ﻳﺮﺑﻄﻬﺎ
ﺑﺈﻧﺴﺎن ﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل َﺷﺒَﻪ ﻛﺒري.
ﰲ ﻓﻠﺴﻄني ،وﰲ ﺟﺒﻞ اﻟﻜﺮﻣﻞ ﻋُ ِﺜ َﺮ ﰲ ﻛﻬﻔﻲ ﻃﺎﺑﻮن وﺳﺨﻮل ،ﻋﲆ ﻋﺪة ﺑﻘﺎﻳﺎ ﻋﻈﻤﻴﺔ،
وﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﻳُﻌﺜَﺮ ﻋﲆ ﺟﻤﺠﻤﺔ ﻛﺎﻣﻠﺔ .وﺗﺮﺟﻊ ﻫﺬه اﻟﺒﻘﺎﻳﺎ اﻟﺤﻔﺮﻳﺔ إﱃ أواﺧﺮ اﻟﺒﻠﻴﻮﺳﺘﻮﺳني
اﻷﻋﲆ ،وإن ﺗﻜﻦ دراﺳﺔ ﺑﻌﺾ املﺨﻠﻔﺎت ﺑﻮاﺳﻄﺔ »ﻛﺮﺑﻮن «١٤ﻗﺪ أﺛﺒﺘﺖ أن ﻋﻤﺮ
ﻣﺨﻠﻔﺎت ﻃﺎﺑﻮن ﺣﻮاﱄ ٤٠٠٠٠ﺳﻨﺔ وﺳﺨﻮل ﺣﻮاﱄ ً ٣٥
أﻟﻔﺎ ،وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك آراء ﺗﺸري
إﱃ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻜﺮﻣﻞ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻣﺮﺣﻠﺔ وﺳﻂ ﺑني اﻟﻨﻴﻨﺪرﺗﺎل واﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﺪﻳﺚ .ﻟﻜﻦ
اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﺗﺆﻛﺪ أن ﺳﻜﺎن ﺳﺨﻮل ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﺧﻠﻴﻂ ﻣﻦ اﻟﻨﻴﻨﺪرﺗﺎل وأﻧﻮاع ﺣﺪﻳﺜﺔ
ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎن ،وﺗﻮاﺟﺪﻫﻤﺎ ﻣﻌً ﺎ ﻳﺆﻛﺪ أن ﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل ﻟﻴﺲ إﻻ ﻧﻮﻋً ﺎ ﻓﺮﻋﻴٍّﺎ ﻧﺸﺄ ﻷﺳﺒﺎب ﺧﺎﺻﺔ
وﺗﺪاﺧﻞ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻣﻊ ﻏريه ﻣﻦ اﻟﺴﻼﻻت ،وﺧﺎﺻﺔ اﻟﻜﺮوﻣﺎﻧﻴﻮن.
وﰲ ﺷﺎﻧﻴﺪار ﺑﺸﻤﺎل اﻟﻌﺮاق ﻋُ ِﺜ َﺮ ﰲ أﻋﻮام ١٩٦٠ ،١٩٥٧ ،١٩٥٣ﻋﲆ ﻋﺪة ﻫﻴﺎﻛﻞ،
أﺛﺒﺘﺖ وﺳﻴﻠﺔ »ﻛﺮﺑﻮن «١٤أن أﻋﻤﺎرﻫﺎ ﻛﻠﻬﺎ ﺣﻮاﱄ ٤٥أﻟﻒ ﻋﺎم ،وﻟﻢ ﺗُﺪ َرس اﻟﻬﻴﺎﻛﻞ
ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ اﻟﻜﻔﺎﻳﺔ ،ﻟﻜﻦ ﻣﻌﻈﻤﻬﺎ ﻳﺸﺒﻪ اﻟﻨﻴﻨﺪرﺗﺎل اﻟﻜﻼﺳﻴﻜﻲ ،وﻗﺮﻳﺐ اﻟﺸﺒﻪ ﺑﻬﻴﺎﻛﻞ ﻛﻬﻒ
ﺳﺨﻮل ﰲ اﻟﻜﺮﻣﻞ ،ﺑﺮﻏﻢ اﻟﻔﺎرق اﻟﺰﻣﻨﻲ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ.
151
اﻹﻧﺴﺎن
َت ﺑﻌﺾ ﺑﻘﺎﻳﺎ ﻏري ﻛﺎﻣﻠﺔ ﰲ اﻷﻧﺎﺿﻮل وإﻳﺮان واﻻﺗﺤﺎد اﻟﺴﻮﻓﻴﺘﻲ وإﻗﻠﻴﻢ وﻗﺪ و ُِﺟﺪ ْ
َت ﻣﻨﻄﻘﺘﺎن ﻟﺤﻔﺮﻳﺎت ﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل أو ﺷﺒﻴﻬﺔ ﺑﻬﺎ؛ ﻛﻮاﻧﺠﺘﻮن ﰲ اﻟﺼني ،وﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ و ُِﺟﺪ ْ
أوﻻﻫﻤﺎ ﰲ ﻛﻬﻒ ﻫﻮاﻓﺘﻴﺤﻪ ﰲ ﺑﺮﻗﺔ ﺗﺸﺒﻪ ﺻﻔﺎت ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺟﺒﻞ اﻟﻜﺮﻣﻞ ،وﻋﻤﺮﻫﺎ ٣٨أﻟﻒ
ﺳﻨﺔ )ﺣﺴﺐ ﺗﻘﺮﻳﺮ ﻛﺮﺑﻮن ،(١٤واﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﰲ ﺟﺒﻞ أرﻫﻮد ﻗﺮب اﻟﺪار اﻟﺒﻴﻀﺎء واﻟﺠﻤﺠﻤﺔ
َت ﺗﻘﱰب ﻛﺜريًا ﻣﻦ ﻧﻤﻂ اﻟﻨﻴﻨﺪرﺗﺎل اﻟﻜﻼﺳﻴﻜﻲ. اﻟﺘﻲ و ُِﺟﺪ ْ
ووﺟﻮد ﻧﻤﻂ ﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل ﻛﻼﺳﻴﻜﻲ ﰲ ﺷﺎﻧﻴﺪار وﺟﺒﻞ أرﻫﻮد ﻳﻘﻴﻢ ﻋﻘﺒﺎت ﻛﺒرية أﻣﺎم
اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﺎﺋﺪة ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ،وﻫﻲ أن اﻟﺴﺎﺑﻘني ﻋﲆ اﻟﻨﻴﻨﺪرﺗﺎل ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻤﺜﻠﻮن ﺳﻼﻻت
ﻏري ﻣﺘﺨﺼﺼﺔ اﺳﺘﻤﺮت ﰲ ﺗﻄﻮرﻫﺎ إﱃ اﻹﻧﺴﺎن املﻌﺎﴏ .أﻣﺎ اﻟﻨﻴﻨﺪرﺗﺎل اﻟﻜﻼﺳﻴﻜﻲ ﻓﻘﺪ
وﺗﺨﺼﺺ ﻟﻴﺘﻜﻴﻒ ﻣﻊ اﻟﻈﺮوف املﻨﺎﺧﻴﺔ اﻟﻘﺎﺳﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺻﺎدﻓﺘﻪ ﰲ ﻋﺰﻟﺘﻪ ﺧﻼل ﱠ ﺗﻌﺪﱠل
أﻳﻀﺎ اﻟﻮﺿﻊ اﻟﺼﺤﻴﺢ ﻹﻧﺴﺎن ﺳﻮﻟﻮ ورودﻳﺴﻴﺎ؛ ﻫﻞ ﻫﻤﺎ ﺟﻠﻴﺪ ﻓريم .وﻳ ﱢ
ُﻌﻘﺪ اﻟﺼﻮرة ً
ﺗﻄﻮرا ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻮاﻗﻒ إﱃ إﻧﺴﺎن ﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل ﰲ املﻨﺎﻃﻖ املﺪارﻳﺔ املﻨﻌﺰﻟﺔ؟
وﺧﻼﺻﺔ اﻟﻘﻮل أن إﻧﺴﺎن ﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل ﻗﺪ اﺧﺘﻔﻰ ﰲ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻷﻋﲆ؛
ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻻﺧﺘﻼط واﻟﺘﻬﺠني ﺑﺴﻼﻻت أﺧﺮى .وﺗﺆﻛﺪ ﻫﺬه اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ — إﱃ ﺟﺎﻧﺐ أدﻟﺔ ﺟﺒﻞ
اﻟﻜﺮﻣﻞ — ﺳﻼﻻت ﺑﺮون Brunnوﺑﺮدﻣﻮﺳﺖ ) Predmostﰲ ﺗﺸﻴﻜﻮﺳﻠﻮﻓﺎﻛﻴﺎ اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ(
اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻮﻧﺖ ﻣﻦ اﺧﺘﻼط ﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل وﻛﺮوﻣﺎﻧﻴﻮن.
ﺗﺘﻨ ﱠﻮع ﻫﺬه املﺠﻤﻮﻋﺔ ﺑﻜﺜﺮة ﻛﺒرية؛ وﻟﻬﺬا ﻓﺈﻧﻨﺎ ﺳﻮف ﻧﺬﻛﺮ أﻫﻤﻬﺎ .ﰲ أوروﺑﺎ ﻛﺎن
أﻛﺜﺮ ﻫﺬه اﻟﺴﻼﻻت ﺷﻴﻮﻋً ﺎ ﺳﻼﻟﺔ ﻛﺮوﻣﺎﻧﻴﻮن ،Cro-Magnonﻟﺪرﺟﺔ أن ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ ﻣﺎ
ﻳُﻌﺜَﺮ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﺣﻔﺮﻳﺎت ﺗﺮﺟﻊ إﱃ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻷﻋﲆ واﻟﺤﺠﺮي اﻷوﺳﻂ،
ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ ﻛﺮوﻣﺎﻧﻴﻮن .ﻟﻜﻦ ﻛﺮوﻣﺎﻧﻴﻮن ﻛﺎن ﻳﻌﻴﺶ ﺧﻼل ﻓﱰة اﻟﺤﻀﺎرة اﻷورﻧﻴﺎﺳﻴﺔ —
أي أواﺋﻞ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻷﻋﲆ — وﻫﻨﺎك إﱃ ﺟﺎﻧﺒﻪ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ أﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﺴﻼﻻت:
ﺳﻼﻟﺔ ﺟﺮﻳﻤﺎﻟﺪي ،Grimaldiوﻛﺎﻧﺖ ً
أﻳﻀﺎ ﺗﻌﻴﺶ ﰲ أواﺋﻞ اﻟﻔﱰة اﻷورﻧﻴﺎﺳﻴﺔ ،وإﻟﻴﻬﺎ
ُﻨﺴﺐ أﺻﻞ اﻟﺰﻧﻮج املﻌﺎﴏﻳﻦ ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳ َ
ُﻨﺴﺐ إﱃ اﻟﻜﺮوﻣﺎﻧﻴﻮن أﺻﻞ اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳني، ﻛﺎن ﻳ َ
وإﱃ اﻟﺸﺎﻧﺴﻠﻴﺪ Chanceladeأﺻﻞ املﻐﻮل .وﻗﺪ ﻋﺎﺷﺖ ﺳﻼﻻت ﺑﺮون وﺑﺮدﻣﻮﺳﺖ وﻛﻮم
ﻛﺎﺑﻞ ﰲ ﻓﱰة اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺴﻮﻟﻴﱰﻳﺔ ،أﻣﺎ ﺳﻼﻟﺔ اﻟﺸﺎﻧﺴﻠﻴﺪ؛ ﻓﻘﺪ ﻇﻬﺮت ﺧﻼل اﻟﺤﻀﺎرة
املﺠﺪﻟﻴﻨﻴﺔ ،وأﺧريًا ﺳﻼﻟﺔ اﻷوﻓﻨﺖ ofnetاﻟﺘﻲ ﻋﺎﴏت ﺣﻀﺎرة اﻟﺤﺠﺮي اﻷوﺳﻂ )راﺟﻊ
اﻟﺠﺪول .(1-3
152
اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﻔﺮي ﻧﻮﻋً ﺎ وﺣﻀﺎر ًة
وأﺷﻬﺮ ﻫﺬه املﺠﻤﻮﻋﺔ ﻫﻲ ﺳﻼﻟﺔ ﻛﺮوﻣﺎﻧﻴﻮن اﻟﺘﻲ اﻛﺘُ ِﺸ َﻔ ْﺖ ﻷول ﻣﺮة ﰲ وادي
اﻟﺪوردﻧﻲ ﺑﻔﺮﻧﺴﺎ ﺳﻨﺔ ،١٨٦٨وﺗﻮاﻟﺖ اﻻﻛﺘﺸﺎﻓﺎت ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ.
واﻟﻜﺮوﻣﺎﻧﻴﻮن ﻳﺘﻤﻴﺰ ﺑﺠﻤﺠﻤﺔ ﺿﺨﻤﺔ )ﺣﺠﻢ املﺦ ١٦٦٠ﺳﻢ ﻣﻜﻌﺒًﺎ( ،ذات ﻧﺴﺒﺔ رأﺳﻴﺔ
ﻃﻮﻳﻠﺔ ) ،(٧٥وﺟﺒﻬﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ ﻋﺮﻳﻀﺔ ،وﻋﻈﺎم ﻣﺎ ﻓﻮق اﻟﺤﺎﺟﺐ ﻣﻮﺟﻮدة ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻏري ﺑﺎرزة،
واﻟﻮﺟﻪ ﻗﺼري ﻏري ﻣﺘﻨﺎﺳﻖ )ﻫﺬه اﻟﻈﺎﻫﺮة ﻣﻮﺟﻮدة ﻋﻨﺪ ﺑﻌﺾ اﻷوروﺑﻴني وﻋﻨﺪ اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ
اﻟﺤﺎﻟﻴني( ،واﻷﻧﻒ ﺿﻴﻖ ﺑﺎرز واﻟﻔﻚ ﻛﺒري ،وﻋﻈﻤﺔ اﻟﺬﻗﻦ ﻗﻮﻳﺔ اﻟﱰﻛﻴﺐ .اﻟﻘﺎﻣﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ
)١٨٠ﺳﻢ( ،وﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ﻛﺎن ﻗﻮي اﻟﻌﻀﻼت ،واﻻﺧﺘﻼﻓﺎت ﻣﺤﺪودة ﺑني ﺳﻼﻟﺔ اﻟﻜﺮوﻣﺎﻧﻴﻮن
وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺘﻲ ذﻛﺮﻧﺎﻫﺎ وأﻛﺜﺮﻫﺎ وﺿﻮﺣً ﺎ ﻃﻮل اﻟﻘﺎﻣﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﻜﺮوﻣﺎﻧﻴﻮن.
وﰲ آﺳﻴﺎ ﻋُ ﺜِﺮ ﻋﲆ ﺣﻔﺮﻳﺎت ﻟﻺﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ ﰲ أﻣﺎﻛﻦ ﻣﺘﻔﺮﻗﺔ .ﻓﻔﻲ اﻟﺼني ﻋُ ِﺜ َﺮ
ﺗﻮﺿﺢ ارﺗﺒﺎﻃﺎت ﺑﺄﺷﻜﺎل ﻣﻐﻮﻟﻴﺔ وإﺳﻜﻴﻤﻮﻳﺔ ﻣﻌﺎﴏة، ﻋﲆ ﺑﻘﺎﻳﺎ ﻋﻈﻤﻴﺔ ﰲ ﺷﻮﻛﻮﺗني ﱢ
وﰲ ﺟﺎوة ﻧﺠﺪ ﺣﻔﺮﻳﺎت إﻧﺴﺎن ﺳﻮﻟﻮ وإﻧﺴﺎن واد ﺟﺎك ،واﻷﺧري أﻛﺜﺮ ﺗﻘﺪﻣً ﺎ ﰲ ﺻﻔﺎﺗﻪ
َتﻋﻦ إﻧﺴﺎن ﺳﻮﻟﻮ ،ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﺑﺼﻔﺎﺗﻪ ﻃﻠﻴﻌﺔ اﻷﺳﱰاﻟﻴني املﻌﺎﴏﻳﻦ ،وﰲ ﺑﻮرﻳﻨﻮ و ُِﺟﺪ ْ
ﺟﻤﺠﻤﺔ ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﻧﻴﺎ Niahﻗﺮﻳﺒﺔ اﻟﺸﺒﻪ ﰲ ﻛﻞ ﺗﻔﺼﻴﻼﺗﻬﺎ ﻣﻦ املﻴﻼﻧﻴﺰﻳني اﻟﺤﺎﻟﻴني
ﰲ ﻏﻴﻨﻴﺎ اﻟﺠﺪﻳﺪة ،وﰲ أﺳﱰاﻟﻴﺎ ﻋُ ِﺜ َﺮ ﰲ ﺗﻠﺠﺎي وﻛﻴﻠﻮر ﻋﲆ ﻫﻴﺎﻛﻞ وﺟﻤﺎﺟﻢ ﻗﺮﻳﺒﺔ اﻟﺸﺒﻪ
ﺑﺎﻷﺳﱰاﻟﻴني اﻟﺤﺎﻟﻴني.
أﻣﺎ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﻓﺈن اﻟﺼﻮرة — رﻏﻢ اﻟﻜﺸﻮف اﻟﻌﺪﻳﺪة — ﻏري واﺿﺤﺔ .ﻓﺈﻧﺴﺎن
رودﻳﺴﻴﺎ اﻟﺬي ﻋُ ِﺜ َﺮ ﻋﻠﻴﻪ ﺳﻨﺔ ١٩٢١ﻣﻦ ﻣﻨﺎﺟﻢ اﻟﺰﻧﻚ ﰲ ﺑﺮوﻛﻦ ﻫﻴﻞ ﻣﺎ زال ﻣﺸﻜﻠﺔ.
ﻓﺎﻟﺠﻤﺠﻤﺔ ﺳﻤﻴﻜﺔ وﺑﺪاﺋﻴﺔ ،وﺣﺠﻢ املﺦ ١٣٠٠ﺳﻢ ﻣﻜﻌﺐ ،وﻋﻈﺎم اﻟﺴﺎق ﺣﺪﻳﺜﺔ )وﻟﻮ
أن ﻫﺬه ﻟﻢ ﺗَﻌُ ْﺪ ﻣﺸﻜﻠﺔ؛ ﻷن اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺤﻔﺮﻳﺎت اﻷﻗﺪم ﻋﻬﺪًا ﺗﺮﺗﺒﻂ ﻣﻌﻬﻤﺎ ﻋﻈﺎم
ﺳﺎق ﺣﺪﻳﺜﺔ( .وﻋﻈﺎم ﻣﺎ ﻓﻮق اﻟﺤﺎﺟﺒني ﺿﺨﻤﺔ ﺑﺼﻮرة ﻏري ﻣﻌﻬﻮدة ،وﻗﺒﻮ اﻟﺠﻤﺠﻤﺔ
ﻣﻨﺨﻔﺾ وﺟﺪراﻧﻪ ﺳﻤﻴﻜﺔ ﺟﺪٍّا ،واﻟﺠﺒﻬﺔ ﻣﻨﺤﺪرة ﺑﺸﺪة ،وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ
اﻟﺨﺸﻨﺔ .ﻟﻜﻦ اﻷﺳﻨﺎن ﺣﺪﻳﺜﺔ وإن ﺗﻜﻦ ﻣﺮﻳﻀﺔ ﺟﺪٍّا ،وﻋﻈﻤﺔ اﻟﺮﻛﺒﺔ اﻟﻴﴪى ﺗﺸري إﱃ
اﻟﺘﻬﺎﺑﺎت روﻣﺎﺗﺰﻣﻴﺔ ،وﻃﻮل اﻟﻘﺎﻣﺔ ﻳﻘﺎرب ﻣﻦ اﻟﻜﺮوﻣﺎﻧﻴﻮن )١٧٧ﺳﻢ( ووزﻧﻪ ﰲ ﺣﺪود
٩٠ﻛﻴﻠﻮﺟﺮاﻣً ﺎ.
وﺻﻌﻮﺑﺔ املﻮﻗﻒ اﻟﻨﺎﺟﻢ ﻋﻦ ارﺗﺒﺎط ﻣﻈﺎﻫﺮ ﻋﺪﻳﺪة ﺑﺪاﺋﻴﺔ وﺣﺪﻳﺜﺔ ،ﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪ ﻋﲆ
ﺣﻠﻬﺎ ﻧﺴﺒﻴٍّﺎ اﻛﺘﺸﺎﻓﺎت ﺳﺎﻟﺪﻧﻬﺎ Saldanhaﻗﺮب ﻛﻴﺒﺘﺎون .١٩٥٣ﻓﺎﻟﺠﻤﺠﻤﺔ ﺗﺸﺒﻪ
ﺟﻤﺠﻤﺔ رودﻳﺴﻴﺎ ،ﻟﻜﻦ ﻋﻈﺎم اﻟﺤﺎﺟﺒني ﻟﻴﺴﺎ ﻋﲆ ذﻟﻚ اﻟﻨﺤﻮ ﻣﻦ اﻟﻀﺨﺎﻣﺔ .وﻳﻌﻮد ﺗﺎرﻳﺦ
ُﻌﺘﻘﺪ أن إﻧﺴﺎن رودﻳﺴﻴﺎ ﻳﻌﻮد إﱃ ﺗﺎرﻳﺦ ﺳﺎﻟﺪﻧﻬﺎ إﱃ أواﺋﻞ اﻟﺒﻠﻴﻮﺳﺘﻮﺳني اﻷﻋﲆ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻳ َ
153
اﻹﻧﺴﺎن
ﻗﻠﻴﻼ ،وﻛﺎن ﻳ َ
ُﻌﺘﻘﺪ أن إﻧﺴﺎن رودﻳﺴﻴﺎ ﻧﻮع ﻣﺘﻐﺎﻳﺮ ﻣﻦ اﻟﻨﻴﻨﺪرﺗﺎل ،ﻟﻜﻦ ﻣﺸﺎﺑﻪ أو أﺣﺪث ً
اﻻﺗﺠﺎه اﻵن وﺑﻌﺪ ﻛﺸﻒ ﺳﺎﻟﺪﻧﻬﺎ وﻏريه )ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ إﻳﺎﳼ :ﻧﺠﺎرﻧﺴﻴﺲ ،(Njarensisأﻧﻪ
ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﻴﺶ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﰲ أواﺧﺮ اﻟﺒﻠﻴﻮﺳﺘﻮﺳني ﺳﻼﻟﺔ ﺷﺎذة ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ.
وﻳﻘﱰح ﺑﻌﺾ اﻟﺒﺎﺣﺜني أن إﻧﺴﺎن ﻧﺠﺎرﻧﺴﻴﺲ ﻣﻦ ﻃﻼﺋﻊ اﻟﺒﺸﻤﻦ ،وأن ﻛﺸﻮﻓﺎت
ﺳﻨﺠﺎ ﰲ اﻟﺴﻮدان ،وﺑﻮﺳﻜﻮب ﰲ اﻟﱰﻧﺴﻔﺎل ،وﻛﻬﻒ ﺟﺎﻣﺒﻞ ﰲ ﻛﻴﻨﻴﺎ ،ﻣﻦ ﻃﻼﺋﻊ اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳني
ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،ﺑﺤﻜﻢ اﻟﻮﺟﻪ ﻏري اﻟﺒﺎرز وﺑﺮوز ﻋﻈﻤﺘﻲ اﻷﻧﻒ واﻟﺬﻗﻦ .أﻣﺎ ﻣﻘﺪﻣﺎت اﻟﺰﻧﻮج،
ﻓﺎﻟﺒﻌﺾ ﻳﺮﺑﻄﻬﺎ ﺑﺎﻟﺤﻔﺮﻳﺎت املﻴﺰوﻟﻴﺘﻴﺔ )اﻟﺤﺠﺮي اﻷوﺳﻂ( ﰲ ﺷﻬﻴﻨﺎب ﻗﺮب اﻟﺨﺮﻃﻮم،
واﻟﺒﻌﺾ ﻳﺮﺑﻄﻬﺎ ﺑﺤﻔﺮﻳﺎت ﺳﱪﻧﺠﺒﻮك ﰲ اﻟﱰﻧﺴﻔﺎل .ﻟﻜﻦ املﻌﺘﻘﺪ أن أواﺋﻞ ﻇﻬﻮر اﻟﺰﻧﻮج
ﰲ ﴍق أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ واﻟﺴﻮدان ﻗﺪ ﺳﺒﻘﻪ ﻣﻘﺪﻣﺎت اﻟﺒﺸﻤﺎﻧﻴني )ﺣﻔﺮﻳﺎت ﺳﻨﺠﺎ وﻛﺎﻧﺠﺎرا(
وﻣﻘﺪﻣﺎت اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳني )ﻛﻬﻒ ﺟﺎﻣﺒﻞ وأوﻟﺪﻓﺎي(.
وأﺧريًا ،ﻧﻼﺣﻆ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳُﻌﺜَﺮ ﺣﺘﻰ اﻵن ﻋﲆ ﺣﻔﺮﻳﺎت ﰲ اﻟﻘﺎرة اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ؛ ﻷن املﻌﱪ
اﻷرﴈ ﻋﱪ ﻣﻀﻴﻖ ﺑريﻧﺞ اﻟﺤﺎﱄ ،ﻟﻢ ﻳﻈﻬﺮ إﻻ ﻣﻨﺬ ٣٠أﻟﻒ ﺳﻨﺔ أو رﺑﻤﺎ أﻗﻞ ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ
إﱃ وﺟﻮد ﺗﻜﻮﻳﻨﺎت ﺟﻠﻴﺪ وﺳﻜﻨﺲ اﻷﺧري ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﻐﻄﻲ اﻟﺠﺰء
اﻟﺸﻤﺎﱄ ﻣﻦ أﻣﺮﻳﻜﺎ ،وﻳﺴﺪ اﻟﻄﺮﻗﺎت أﻣﺎم اﻟﻬﺠﺮات اﻟﺘﻲ ﺗﻌﱪ ﻣﻀﻴﻖ ﺑريﻧﺞ ﻗﺎدﻣﺔ ﻣﻦ
آﺳﻴﺎ ،وﻟﻮ أن ﻫﺬا ﻻ ﻳﻤﻨﻊ ﺣﺪوث ﻫﺠﺮات أﺳﺒﻖ ﻣﻦ ذﻟﻚ ،ﻟﻢ ﻧﺘﻌﺮف ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺣﺘﻰ اﻵن.
154
اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﻔﺮي ﻧﻮﻋً ﺎ وﺣﻀﺎر ًة
ﻣﺮت ﻋﴩات اﻵﻻف ﻣﻦ اﻟﺴﻨني ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎن وﻫﻮ ﻳﺴﺘﺨﺪم اﻷدوات اﻟﺘﻲ ﺗﺒﲆ ﺑﴪﻋﺔ،
أﻳﻀﺎﻟﻜﻨﻪ أﺧﺬ ﻳﺘﻌﻠﻢ ﺗﺪرﻳﺠﻴٍّﺎ ﻓﻦ اﺳﺘﺨﺪام اﻷﺣﺠﺎر وأﻧﻮاﻋﻬﺎ ،وأﺧﺬ ﻧﻈﺮه — وﻳﺪاه ً
— ﺗﺴﺘﺠﻴﺐ ﻻﺣﺘﻴﺎﺟﺎﺗﻪ ،ﻓﺘﻌﻠﻢ ﻛﻴﻒ ﻳﺮﺑﻂ ﺑني اﻟﻨﻈﺮ وﻗﺬف اﻟﺤﺠﺮ ،وزادت ﺗﺪرﻳﺠﻴٍّﺎ
ﻣﻌﻠﻮﻣﺎﺗﻪ ﻋﻦ ﻣﺪى ﺗﺄﺛري ﺷﻜﻞ اﻟﺤﺠﺮ وﺣﺠﻤﻪ وﺣﺪ اﻟﺤﺠﺮ وﺟﺴﻤﻪ ،وأﺧﺬ ﻳﺰﻳﺪ ﻣﻦ
اﺳﺘﺨﺪام اﻟﺼﻮان وﻳﺸﻜﻠﻪ ،وأﺧﺬ ﻳﺴﺘﺨﺪم اﻟﺤﺠﺎرة اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﻃﺒﻘﺎت أو ﻣﺜﻞ
اﻟﺰﺟﺎج؛ ﻟﺴﻬﻮﻟﺔ ﺷﻄﻔﻬﺎ ،وﻻ ﻳﺴﺘﺨﺪم اﻟﺤﺠﺎرة اﻟﺒﻠﻮرﻳﺔ اﻟﱰﻛﻴﺐ .وﰲ أواﺧﺮ اﻟﺒﻠﻴﻮﺳني
َت ﰲ أوروﺑﺎوأواﺋﻞ اﻟﺒﻠﻴﻮﺳﺘﻮﺳني ﺑﺪأ ﻳﺴﺘﻌﻤﻞ اﻟﺤﺠﺮ ﻟﻠﺸﻄﻒ واﻟﻘﻄﻊ .وﻣﻊ ذﻟﻚ و ُِﺟﺪ ْ
ﻣﻨﺬ املﻴﻮﺳني أﻧﻮاع ردﻳﺌﺔ اﻟﺼﻨﻊ ﻣﻦ اﻟﺼﻮان املﺸﻄﻮف ،وﻗﺪ ُﺳﻤﱢ ﻴ َْﺖ ﻫﺬه اﻟﺤﻀﺎرة
ﺑﺎﻹﻳﻠﻴﻮﺗﻴﺔ أو ﻓﺠﺮ اﻟﺤﺠﺮ ،وﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻋﻨﺪﻧﺎ دﻟﻴﻞ ﻋﲆ أن ﺷﻄﻔﻬﺎ ﺗﻢ ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﻣﻘﺪﻣﺎت
اﻹﻧﺴﺎن ،ﺑﻞ رﺑﻤﺎ ُﺷ ِﻄ َﻔ ْﺖ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﺗﻘﻊ ﺷﺠﺮة أو ﺗﻄﺆﻫﺎ أﻗﺪام ﺣﻴﻮاﻧﺎت ﺛﻘﻴﻠﺔ اﻟﻮزن ،ﺛﻢ
اﺳﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﻣﻘﺪﻣﺎت اﻹﻧﺴﺎن ،واﻟﻐﺎﻟﺐ ﻫﻮ أن اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ ﻛﺎن ﻣﻦ أﺟﻞ ﺗﺸﻄﻴﺐ اﻷﺧﺸﺎب
واﻟﻌﻈﺎم اﻟﺘﻲ ﺗُﺴﺘﺨﺪَم ﻛﺄدوات.
155
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﺸﻞ واﻷﺷﻴﻞ إﱃ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻷﺳﻔﻞ ،وﺗﻤﺜﻞ املﻮﺳﺘريﻳﺔ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻷوﺳﻂ،
واﻷورﻧﻴﺎﺳﻴﺔ واﻟﺴﻮﻟﻴﱰﻳﺔ واملﺠﺪﻟﻴﻨﻴﺔ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻷﻋﲆ )راﺟﻊ ﺷﻜﻞ .(1-3
َت ﺻﻨﺎﻋﺘﺎن ﺣﺠﺮﻳﺘﺎن ﻣﺘﺰاﻣﻨﺘﺎن ﺑﺪأت ﻣﻦ اﻟﻔﱰة وﰲ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻷﺳﻔﻞ و ُِﺟﺪ ْ
اﻷوﱃ ﺑني اﻟﺠﻠﻴﺪﻳﺔ إﱃ اﻟﻔﱰة اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ﺑني اﻟﺠﻠﻴﺪﻳﺔ .واﻟﺼﻨﺎﻋﺔ اﻷوﱃ ﻫﻲ ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻟﻨﻮاة
ذات اﻟﻮﺟﻬني ،واﻟﺜﺎﻧﻴﺔ اﻟﺸﻈﺎﻳﺎ اﻟﻜﺒرية .وﰲ ﻓﺮﻧﺴﺎ ُﺳﻤﱢ ﻴَﺖ اﻟﻔﺄس اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ املﺸﻄﻮﻓﺔ
ﻣﻦ اﻟﻮﺟﻬني ﺑﺎﺳﻢ أﺑﻔﻴﻞ ،وﺗَﻌُ ﻮد ﻫﺬه اﻟﺤﻀﺎرة إﱃ ﻓﱰة دفء ﺟﻨﺰ ﻣﻨﺪل ،وإﱃ ﺟﺎﻧﺒﻪ
ﺗﻮﺟﺪ ﺻﻨﺎﻋﺔ ﺷﻈﺎﻳﺎ ﻛﺴﻜﺎﻛني وﻣﻘﺎﻃﻊ .واﻟﺤﻀﺎرة اﻷﺷﻴﻠﻴﺔ ﺗﻤﺜﻞ ﺗﻄﻮ ًرا أدق ﰲ اﻟﺸﻄﻒ
وﺗﻤﺘﺪ إﱃ ﻓﱰة رس ﻓريم ،وﰲ ﻓﱰة ﻣﻨﺪل رس ﺗﻮﺟﺪ ﺷﻈﺎﻳﺎ ﻛﺒرية ﻣﺸﻄﻮﻓﺔ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ
واﺣﺪ ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ ﻛﻼﻛﺘﻮﻧﻴﺔ ،وﺗﻄﻮرت إﱃ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻠﻔﺎﻟﻮازﻳﺔ اﺑﺘﺪاء ﻣﻦ ﻣﻨﺘﺼﻒ ﻣﻨﺪل رس
إﱃ ﻓﱰة ﻓريم.
وﻗﺪ د ﱠﻟ ْﺖ أﺑﺤﺎث ﺣﻔﺮﻳﺎت إﻧﺴﺎن اﻟﺼني ﰲ ﻓﱰة ﻣﻨﺪل رس ،ﻋﲆ أن اﻹﻧﺴﺎن ﻗﺪ
ﻋﺮف اﻟﻨﺎر ﻣﻨﺬ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ،وأول اﺳﺘﺨﺪام ﻟﻠﻨﺎر — ﻛﻤﺎ ﻧﻌﺮﻓﻪ ﺣﺘﻰ اﻵن — ﻛﺎن ﰲ ﻓﱰة
رس ﻓريم ﰲ أوروﺑﺎ.
وﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻘﻮل إﻧﻪ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻷدوات اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ ﻻ ﺑﺪ أن اﻹﻧﺴﺎن ﻗﺪ اﺳﺘﺨﺪم أﻳﻀﺎً
أدوات ﻣﻦ ﻣﻮاد ﻫﺎﻟﻜﺔ ﻛﺎﻷﺧﺸﺎب واﻟﻌﻈﺎم ،ﻟﻜﻦ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ دﻟﻴﻞ ﻋﲆ ذﻟﻚ .وﺗﻈﻬﺮ اﻟﻌﻈﺎم
ﺑﺼﻮرة ﻫﺎﺋﻠﺔ ﰲ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻷوﺳﻂ.
أﻣﺎ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻷوﺳﻂ ﻓﺒﺪأ ﻣﻦ اﻟﻘﺴﻢ اﻷﺧري ﻣﻦ ﻓﱰة رس ﻓريم ،واﻧﺘﻬﻰ
ﻣﻨﺬ ٦٠أﻟﻒ ﺳﻨﺔ ﻣﻀﺖ ،وﻓﻴﻪ ﺣﺪث ﺗﻘﺪم ﰲ اﻟﺼﻨﺎﻋﺔ اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ :اﻟﺸﻈﺎﻳﺎ واﻟﻨﻮاة.
وﻧﺠﺪ أﺷﻜﺎل اﻟﺤﻀﺎرة املﻮﺳﺘريﻳﺔ ﰲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن ﻣﻦ ﻏﺮب أوروﺑﺎ ﺣﺘﻰ اﻟﺼني ،وﰲ اﻟﻬﻨﺪ
وﻣﻌﻈﻢ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وﻏﺮب أوروﺑﺎ ﻧﺠﺪ ﺣﻀﺎرة ﻣﺰاﻣﻨﺔ ﻫﻲ اﻟﻠﻔﺎﻟﻮازﻳﺔ اﻟﻌﻠﻴﺎ ،وﻗﺪ أﺛﺮت
ﻫﺎﺗﺎن اﻟﺤﻀﺎرﺗﺎن ﰲ ﺑﻌﻀﻬﻤﺎ واﺷﱰﻛﺘﺎ ﻣﻌً ﺎ وﺗﺪاﺧﻠﺘﺎ ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،وﻓﻴﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ
ﻄﻒ ﺑﻤﻬﺎرة؛ إﻣﺎ ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻟﻄﺮق أو ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻟﻀﻐﻂ ﺑﺄداة ﻣﺪﺑﺒﺔ. ﺣﺎﻓﺎت اﻟﺸﻈﺎﻳﺎ ﺗُﺸ َ
وﰲ ﻫﺬا اﻟﻌﴫ ذي املﻬﺎرة اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ ﺑﺪأت ﺗﻈﻬﺮ ﻟﻨﺎ ﺑﻌﺾ املﻌﺘﻘﺪات ،وﻣﻦ أﻫﻤﻬﺎ ﻇﻬﻮر
املﻘﺎﺑﺮ وﻣﺎ ﻳﺘﺒﻌﻬﺎ ﻣﻨﺎ اﻻﻋﺘﻘﺎد ﺑﺎﻟﻘﻮى ﻓﻮق اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ واﻟﺤﻴﺎة اﻵﺧﺮة .وﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﻫﺬه
املﻌﺘﻘﺪات أﻗﺪم ﻣﻦ ذﻟﻚ ،ﻟﻜﻨﻨﺎ ﺣﺘﻰ اﻵن ﻻ ﻧﻌﺮف ذﻟﻚ ﺑﺎﻟﺪﻗﺔ.
أﻣﺎ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻷﻋﲆ ﻓﺘﺘﻤﺜﻞ ﻓﻴﻪ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺜﻼث اﻟﺴﺎﺑﻖ ذﻛﺮﻫﺎ ،وﻳﺒﺪو أن
اﻷورﻧﻴﺎﺳﻴﺔ وﺻﻠﺖ إﱃ ﻏﺮب أوروﺑﺎ ﻛﻬﺠﺮة ﻣﻦ اﻟﴩق ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻗﺪ ﻻ ﺗﻈﻬﺮ اﻟﺤﻀﺎرﺗﺎن
وﺑﺪﻻ ﻣﻨﻬﺎ ﻳﻮﺟﺪ اﻟﺠﺮاﻓﻴﺘﻲ اﻟﴩﻗﻲ ً اﻟﺴﻮﻟﻴﱰﻳﺔ واملﺠﺪﻟﻴﻨﻴﺔ ﰲ وﺳﻂ وﴍق أوروﺑﺎ،
156
اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﻔﺮي ﻧﻮﻋً ﺎ وﺣﻀﺎر ًة
،Gravettiوﻣﻦ ﺑﻌﺪه اﻟﻬﻤﺒﻮرﺟﻲ ﰲ ﺷﻤﺎل أملﺎﻧﻴﺎ ،ورﺑﻤﺎ ﺑﺪأت اﻷورﻧﻴﺎﺳﻴﺔ ﻣﻨﺬ ٦٠أﻟﻒ
أﻟﻔﺎ ﺣﺘﻰ ﻋﴩة آﻻف ﺳﻨﺔ ﻣﻀﺖ. أﻟﻔﺎ ،واملﺠﺪﻟﻴﻨﻴﺔ ﻣﻦ ً ٥٠
ﺳﻨﺔ ،واﻟﺴﻮﻟﻴﱰﻳﺔ ﻣﻦ ً ٥٥
ﺼﻘﻞ ﺑﺎﻟﻀﻐﻂ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻌﻈﺎم — ورﺑﻤﺎ اﻟﻌﺎج وﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﻀﺎرات ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻨﺼﺎل ﺗُ َ
— ﻳُﺴﺘﺨﺪَم ﻛﻘﻨﺎة ﻟﻠﺴﻬﺎم واﻟﺤﺮاب ذات اﻟﻨﺼﺎل اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ .ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻌﻈﺎم اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ
ﺗُﺴﺘﺨﺪَم ﻛﺈﺑﺮة اﻟﺨﻴﺎﻃﺔ اﻵن ﻟﻌﻤﻞ املﻼﺑﺲ ،وﻧﺸﺄ اﻟﻘﻮس واﻟﺴﻬﻢ ﺧﻼل اﻟﻔﱰة اﻷﺧرية
ﻣﻦ ذﻟﻚ اﻟﻌﴫ ،وﺗﻤﻴﱠﺰ اﻟﻌﴫ ﺑﺎﻟﻨﻘﺶ ﻋﲆ اﻟﺤﺠﺮ ،وﺑﺎﺳﺘﺨﺪام اﻷﻟﻮان ﺑﺼﻮرة ﻓﻨﻴﺔ
ﻣﺒﺪﻋﺔ ﻟﺘﺼﻮﻳﺮ ﻣﻨﺎﻇﺮ ﻣﻦ اﻟﺼﻴﺪ ﻣﻦ املﺠﺪﻟﻴﻨﻲ ) ٢٥–٢٠أﻟﻒ ﺳﻨﺔ( ،وﻛﺬﻟﻚ ﺻﻨﺎﻋﺔ
ﺗﻤﺎﺛﻴﻞ ﺻﻐرية ﻋﺎﺟﻴﺔ وﺣﺠﺮﻳﺔ واﻟﺤﻔﺮ ﻋﲆ اﻟﻌﻈﺎم واﻟﻌﺎج ،وﺗﻤﺎﺛﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﻄني.
اﺳﺘﻐﺮق ﻋﺪة آﻻف ﻣﻦ اﻟﺴﻨني ﺑﻌﺪ اﻟﺤﻀﺎرة املﺠﺪﻟﻴﻨﻴﺔ ،وﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻘﻮل إﻧﻪ ﺣﺪث ﺑني
١٣و ٨آﻻف ﺳﻨﺔ ق.م ،وﺗﻤﻴﺰت ﻫﺬه اﻟﺤﻀﺎرة ﺑﺪﻗﺔ اﻟﺘﺸﻄﻴﺐ واﻟﺼﻘﻞ وﺑﺼﻐﺮ ﺣﺠﻢ
اﻷدوات اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ ﺻﻐ ًﺮا ﻛﺒريًا؛ ﻣﻤﺎ دﻋﺎ إﱃ ﺗﺴﻤﻴﺘﻬﺎ Microlithsأو اﻷدوات اﻟﻘﺰﻣﻴﺔ.
ﻛﺬﻟﻚ ﻋُ ِﺜ َﺮ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻔﺮﻳﺎت ﰲ اﻟﺪاﻧﻤﺮك ﻋﲆ زﺣﺎﻓﺎت وأدوات ﺧﺸﺒﻴﺔ ،وﰲ ﺣﻔﺮﻳﺎت
أﺧﺮى ﻋُ ِﺜ َﺮ ﻋﲆ ﻋﺪد ﻛﺒري ﻣﻦ اﻟﺤﴡ ا ُملﻠﻮﱠن وﺑﻌﺾ اﻟﻌﻈﺎم؛ وﻟﻬﺬا ﻓﺈن ﺗﻜﺘﻴﻚ اﻟﺤﻀﺎرة
املﺠﺪﻟﻴﻨﻴﺔ ﻗﺪ ﻓﺎﻗﻪ ﺗﻜﺘﻴﻚ ﻫﺬه اﻟﺤﻀﺎرة ﺑﻤﺮاﺣﻞ ،وﻻ ﺷﻚ أن ﺗﻘﺪﻣً ﺎ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴٍّﺎ ﻗﺪ ﺣﺪث
أﻳﻀﺎ ﰲ ﺣﻴﺎة املﺠﺘﻤﻊ؛ ﻣﻤﺎ ﺳﺎﻋﺪ ﻋﲆ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﻣﻘﺪﻣﺎت اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ً
ﺑﻘﻔﺰﺗﻬﺎ اﻟﻜﱪى ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ،وذﻟﻚ ﺑﺎﺧﱰاﻋﻬﺎ اﻟﺰراﻋﺔ.
ﺗﺪل اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﻨﺒﺎﺗﻴﺔ وﻏريﻫﺎ ﻋﲆ أﻧﻪ ﺑﺮﻏﻢ إﻣﻜﺎن ﺑﺪاﻳﺔ اﻟﺰراﻋﺔ ﰲ اﻟﻬﻨﺪ ﺑﻮاﺳﻄﺔ زراﻋﺔ
املﻮز املﻘﻄﻮع ،إﻻ أن اﻟﺰراﻋﺔ ﺑﻤﻔﻬﻮﻣﻬﺎ ﻗﺪ اﻛﺘُ ِﺸ َﻔ ْﺖ ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ أو ﻣﻨﺎﻃﻖ داﺧﻞ املﺴﺎﺣﺔ
املﻤﺘﺪة ﺑني اﻟﻘﻮﻗﺎز واﻟﻬﻨﺪ وﻣﴫ ﰲ ﺷﻜﻞ ﻣﺜﻠﺚ ﻛﺒري ،ﻓﻬﻨﺎ ﻧﻮع أو أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻷﻋﺸﺎب
واﻟﺤﺒﻮب اﻟﺠﺒﻠﻴﺔ اﻟﱪﻳﺔ ﻣﺜﻞ اﻟﻘﻤﺢ أو اﻟﺸﻌري ً
أﻳﻀﺎ ،وﻫﻲ ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ أول املﺤﺎﺻﻴﻞ اﻟﺘﻲ
َت .وﻗﺪ اﻧﺘﴩ ﺗﻜﺘﻴﻚ اﺧﺘﻴﺎر وﺗﺮﺑﻴﺔ اﻟﺒﺬور املﻨﺘﺠﺔ ﻟﻠﺤﺒﻮب ﻣﻦ اﻟﺤﺒﻮب ﺑُ ِﺬ َر ْت وﺣُ ِﺼﺪ ْ
اﻟﱪﻳﺔ ﺑﴪﻋﺔ؛ ﻣﻤﺎ أدى إﱃ دﺧﻮل ﻣﺤﺎﺻﻴﻞ ﺟﺪﻳﺪة ﰲ داﺋﺮة اﻟﺰراﻋﺔ اﻟﺒﴩﻳﺔ ،وﻛﺎن ﻣﻦ
157
اﻹﻧﺴﺎن
أﻫﻤﻬﺎ :اﻟﺪﺧﻦ ،واﻷرز )ﺑﻤﺎ اﺳﺘُﺌﻨِﺲ ﰲ إﻧﺪوﻧﻴﺴﻴﺎ( ،واﻟﻜﺮﻧﺐ ،واﻟﻠﻔﺖ ،واﻟﺒﺎزﻻء ،واﻟﺠﺰر،
واﻟﺒﻨﺠﺮ )اﻟﺸﻤﻨﺪر( ،واﻟﺨﺲ ،واﻟﺒﺼﻞ ،وﻓﻮل اﻟﺼﻮﻳﺎ ،واﻟﺨﻮخ ،واﻟﻜﺮز ،واﻟﻜﺮﻓﺲ،
واﻟﻌﻨﺐ ،واملﺸﻤﺶ ،واﻟﺰﻳﺘﻮن ،واﻟﺘني ،واﻟﺒﻠﺢ ،واﻟﺒﻄﻴﺦ ،واﻟﺨﻴﺎر ،اﻟﱪﺗﻘﺎل .ﻛﻤﺎ اﺳﺘُﺌْﻨِﺲ
اﻟﻘﻄﻦ واﻟﺘﻴﻞ ﻟﻠﻐﺰل واﻟﻨﺴﻴﺞ ،ﻫﺬا إﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﻘﻤﺢ واﻟﺸﻌري.
ﺑﻌﺪ اﺳﺘﺌﻨﺎس اﻟﻨﺒﺎت ﰲ ﻏﺮب آﺳﻴﺎ ﺑﻔﱰة ﺗﱰاوح ﺑني ٤آﻻف و ٨آﻻف ﺳﻨﺔ ،ﺑﺪأ
ﻇﻬﻮر اﻟﺰراﻋﺔ ﰲ أودﻳﺔ اﻷﻧﺪﻳﺰ وﻫﻀﺎﺑﻪ ﰲ ﺑريو وﻛﻮملﺒﻴﺎ ،وﻫﻨﺎ اﺳﺘُﺌْﻨِﺲ ﻧﻮ ٌع ﻣﻦ
اﻟﺤﺒﻮب اﻟﱪﻳﺔ ﻟﻴﻨﺘﺞ اﻟﺬرة وﻧﻮ ٌع ﻣﻦ اﻟﺠﺬور ﻟﻴﻨﺘﺞ اﻟﺒﻄﺎﻃﺲ ،وﰲ أﻣﺎزوﻧﻴﺎ املﺎﻧﻴﻮك
أو اﻟﻜﺎﺳﺎﻓﺎ ،وأﺻﺒﺤﺖ اﻟﻔﺎﺻﻮﻟﻴﺎ إﺣﺪى أﻫﻢ ﻣﺤﺎﺻﻴﻞ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻮﺳﻄﻰ .وﻳﺮﺟﻊ ﺗﺎرﻳﺦ
اﻟﺰراﻋﺔ ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ ﺑني ٤٠٠٠و٢٠٠٠ق.م ،وﰲ اﻷﻟﻒ ﻋﺎم اﻟﻼﺣﻘﺔ ﻟﻜﺸﻒ اﻟﺰراﻋﺔ ،دﺧﻠﺖ
ﻗﺎﺋﻤﺔ املﺰروﻋﺎت اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﻋﴩات املﺤﺎﺻﻴﻞ؛ ﻣﻨﻬﺎ اﻟﺒﻄﺎﻃﺎ واﻟﻔﻠﻔﻞ واﻟﻘﺮع واﻟﻄﻤﺎﻃﻢ
واﻷﻧﺎﻧﺎس واﻟﻜﺎﻛﺎو واﻟﺘﺒﻎ واﻟﻘﻄﻦ ،وﻣﻌﻈﻢ ﻫﺬه املﺤﺎﺻﻴﻞ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ
وﻣﺘﻌﺪدة ﺑﺪرﺟﺔ ﻗﺪ ﻻ ﺗﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ ﺗﺼﻮر ﻧﺸﺄة اﻟﺰراﻋﺔ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻧﺘﺸﺎر ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ
اﻟﻘﺪﻳﻢ ﻋﱪ اﻟﺒﺎﺳﻴﻔﻴﻚ.
وﻳﺘﻤﻴﺰ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ ﺑﺈﺗﻘﺎن ﻋﻈﻴﻢ ﻟﺸﻄﻒ وﺻﻘﻞ اﻷدوات اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ ،واﺳﺘﺨﺪام
ﺧﺎﻣﺎت ﺣﺠﺮﻳﺔ ﺻﻠﺒﺔ ﻛﺄدوات ﻗﻄﻊ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺤﺪث ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ،وﻗﺪ اﻧﺘﴩ ﺑﴪﻋﺔ
اﺳﺘﺨﺪام ﻫﺬه اﻷدوات اﻟﻘﺎﻃﻌﺔ ﰲ أرﺟﺎء اﻟﻌﺎﻟﻢ ،ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء ﺗﺴﻤﺎﻧﻴﺎ ،وأدى وﺟﻮدﻫﺎ إﱃ
ﻧﺸﺄة ﺣِ َﺮف ﻋﺎﻟﻴﺔ اﻟﺘﺨﺼﺺ ﻛﺎﻟﻨﺠﺎرة اﻟﺘﻲ أدت ﺑﺪورﻫﺎ إﱃ ﺑﻨﺎء ﺑﻴﻮت أﺣﺴﻦ وﻗﻮارب
وأﺳﻠﺤﺔ وﻏري ذﻟﻚ .وﻗﺪ ﺳﻬﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﺨﺼﺺ ﻇﻬﻮر أدوات إﻧﺘﺎﺟﻴﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ اﻟﻘﻴﻤﺔ ﰲ
أواﺧﺮ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ؛ أﻫﻤﻬﺎ املﺤﺮاث واﻟﻌﺠﻠﺔ ،وﻟﻬﻤﺎ ﻣﺎ ﻟﻬﻤﺎ ﻣﻦ دور ﻫﺎم ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ
ﺣﺘﻰ اﻟﻴﻮم.
158
اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﻔﺮي ﻧﻮﻋً ﺎ وﺣﻀﺎر ًة
اﻟﻔﺨﺎر
أﻳﻀﺎ ،وﻳﺒﺪو أﻧﻬﺎ اﻛﺘُ ِﺸ َﻔ ْﺖ ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ﰲ اﻛﺘُ ِﺸ َﻔ ْﺖ ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻟﻔﺨﺎر ﰲ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ ً
أﻣﺎﻛﻦ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ واﻟﺤﺪﻳﺚ ،وﻟﻮ أن ﻓﺨﺎر اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﻟﻢ ﻳُﺼﻨَﻊ ﺑﻮاﺳﻄﺔ
ﻋﺠﻠﺔ أو دوﻻب اﻟﻔﺨﺎر اﻟﺬي ﺗﻤﻴﱠ َﺰ ﺑﻪ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ .وﺗﺮﺟﻊ ﻣﻘﺪﻣﺎت ﺻﻨﻊ اﻟﻔﺨﺎر إﱃ
اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻷﻋﲆ ،ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎن اﻷورﻧﻴﺎﺳﻴﻮن ﻳﺼﻨﻌﻮن آﻧﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﻄني ،ﻟﻜﻦ اﻟﻔﺨﺎر
ﺑﻤﻴﺰاﺗﻪ ﻟﻢ ﻳﻈﻬﺮ إﻻ ﰲ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻣﻊ اﻟﺰراﻋﺔ .وﻗﺪ اﻛﺘُ ِﺸ َﻔ ْﺖ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺑ ﱢﻞ اﻟﻄني ﻗﺒﻞ
ﺣﺮﻗﻪ وﺗﻠﻮﻳﻨﻪ وزﺧﺮﻓﺘﻪ ﺑﺄﺷﻜﺎل ﻫﻨﺪﺳﻴﺔ ﰲ أواﺋﻞ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ ﰲ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ،
وﻟﻢ ﺗُﺸﻴﱠﺪ أﻓﺮان اﻟﺤﺮق املﻌﺮوﻓﺔ إﻻ ﺧﻼل اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺪﻳﺪي )١٠٠٠ق.م ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ( ،وﻗﺪ
ﺳﺎﻋﺪت اﻷﻓﺮان ﻋﲆ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺻﻘﻞ اﻟﻔﺨﺎر )املﻴﻨﺎ( ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻠﺤﺮارة اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ ،وﺳﺎﻋﺪ ذﻟﻚ ﻋﲆ
ﺳ ﱢﺪ املﺴﺎم وﺻﻨﻊ آﻧﻴﺔ ﺣﻔﻆ ﻋﻈﻴﻤﺔ اﻟﻘﻴﻤﺔ ﺗﻤﻨﻊ اﻟﺘﺒﺨﺮ واﻟﺘﴪب.
اﻟﻨﺴﻴﺞ
ﺗﻌﻮد ﻣﻘﺪﻣﺎت اﻟﻨﺴﻴﺞ إﱃ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻷﻋﲆ :ﻏﺰل ﺑﻌﺾ ﺻﻮف املﺎﻋﺰ أو اﻷﻏﻨﺎم
أو اﻟﻜﻼب ﰲ ﺧﻴﻮط ﺧﺸﻨﺔ ﺳﻤﻴﻜﺔ وﻧﺴﺠﻬﺎ ﻟﻌﻤﻞ أﺣﺰﻣﺔ أو أﻋﺼﺒﺔ ﻟﻠﺮأس أو ﺑﻄﺎﻃني
ﺧﺸﻨﺔ .وﻣﻦ املﺤﺘﻤﻞ إذن أﻧﻪ ﻗﺒﻞ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﻣﻐﺰل وﻧﻮل ﻣﻦ ﻧﻮع
ﺑﺪاﺋﻲ وﺑﺴﻴﻂ ﺟﺪٍّا ،وﻟﻜﻦ اﻟﺪﻓﻌﺔ اﻟﻘﻮﻳﺔ اﻟﺘﺨﺼﺺ ﰲ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ ،وزراﻋﺔ اﻟﻘﻄﻦ
واﻟﻘﻨﺐ واﻟﺘﻴﻞ ﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪت ﻋﲆ ﺗﻄﻮر املﻐﺰل واﻟﻨﻮل؛ ﻣﻤﺎ أدى إﱃ ﺗﻐريات ﻛﻤﻴﺔ وﻧﻮﻋﻴﺔ ﰲ
ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻟﻨﺴﻴﺞ ﻋﻨﺪ اﻟﺰراع ،وﻋﻨﺪ اﻟﺮﻋﺎة ﻛﺎﻧﺖ اﻷﺻﻮاف ﻫﻲ ﺧﺎﻣﺔ اﻟﻨﺴﻴﺞ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﰲ
ﻣﺴﺎﺣﺎت ﻛﺒرية ﻣﻦ آﺳﻴﺎ.
159
اﻹﻧﺴﺎن
ﻟﻬﺬا ﺗﺨﺼﺺ ﰲ ﻣﴫ ﺻﻨﺎع ﻣﻌﺎدن أﻧﺘﺠﻮا وأﻋﻄﻮا اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻛﺜريًا ﻣﻦ املﻌﺎرف اﻟﺨﺎﺻﺔ
ﺑﺎملﻌﺪن.
ﴎﻋﺎن ﻣﺎ ﺗﻌﻠﻢ ﺻﺎﻧﻌﻮ املﻌﺎدن ﰲ ﻣﴫ واﻟﴩق اﻷوﺳﻂ ﻃﺮﻳﻘﺔ اﺳﺘﺨﻼص ﻣﻌﺪن آﺧﺮ
ﻏري اﻟﻨﺤﺎس؛ وﻫﻮ اﻟﻘﺼﺪﻳﺮ ،وﺑﺎﺳﺘﺨﺪام ﺧﻠﻴﻂ ﻧﺴﺒﺘﻪ ٩ﻧﺤﺎس وواﺣﺪ ﻗﺼﺪﻳﺮ أﻧﺘﺠﻮا
اﻟﱪوﻧﺰ ﻣﻨﺬ ٣٠٠٠ق.م ﰲ ﻣﴫ .وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺑﻘﻠﻴﻞ ﰲ اﻟﻌﺮاق ﺛﻢ اﻟﻬﻨﺪ ،وﻫﻜﺬا دﺧﻞ اﻟﴩق
اﻷوﺳﻂ ﻋﴫ اﻟﱪوﻧﺰ ﻣﻦ ١٠٠٠–٣٠٠٠ق.م ،ودﺧﻞ اﻟﱪوﻧﺰ ﰲ ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻷدوات اﻟﻘﺎﻃﻌﺔ
اﻟﺤﺎدة وﺣﻞ ﻣﺤﻞ اﻟﺤﺠﺎرة ﺗﺪرﻳﺠﻴٍّﺎ ،وﺗﻘﺪﻣﺖ ﺑﺬﻟﻚ ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻟﺘﺠﺎرة وﺑﻨﺎء اﻟﻘﻮارب
واﻟﻌﺠﻼت واﻟﻌﺮﺑﺎت واﻷﺳﻠﺤﺔ وﻏري ذﻟﻚ ﻛﺜري.
وﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﻟﻢ ﻳُﻌ َﺮف اﻟﱪوﻧﺰ إﻻ ﰲ ﻣﺮاﺣﻠﻪ اﻷوﱃ ﻓﻘﻂ ﰲ ﺑريو.
ﺗﺒﻊ اﻟﱪوﻧﺰ وﺳﺎﺋﻞ ﺻﻬﺮ املﻌﺎدن اﻷﺧﺮى ،وﻟﻜﻦ اﻟﱪوﻧﺰ ﻇﻞ ﺳﺎﺋﺪًا ﰲ اﻟﴩق اﻷدﻧﻰ إﱃ
١٤٠٠ق.م ،وﰲ ﻣﴫ إﱃ١٢٠٠ق.م ،ﺣني دﺧﻞ اﻟﺤﺪﻳﺪ ﰲ اﻟﺼﻨﺎﻋﺔ .وﻣﻦ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ
اﻧﺘﴩ اﻟﺤﺪﻳﺪ إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻷﻓﺮﻳﻘﻲ واﻵﺳﻴﻮي ،وﻻ زﻟﻨﺎ ﻧﻌﻴﺶ اﻵن ﰲ ﻋﴫ املﻌﺎدن ،وإن
ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك اﺗﺠﺎﻫﺎت ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ﻧﺤﻮ اﺳﺘﺨﺪام ﺧﺎﻣﺎت ﺻﻨﺎﻋﻴﺔ ﻻ وﺟﻮد ﻟﻬﺎ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ،
ﻣﺜﻞ اﻟﺒﻼﺳﺘﻴﻚ )اﻟﻠﺪاﺋﻦ( ،ﻓﻬﻞ ﺳﻨﺼﻞ إﱃ ﻋﴫ اﻟﺒﻼﺳﺘﻴﻚ؟ وﺑﻬﺬه املﻨﺎﺳﺒﺔ ،وﻟﻜﺜﺮة
اﺳﺘﺨﺪاﻣﻨﺎ ﻟﻸوراق ﰲ ﺧﻼﱄ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ )ﻛﻞ ﳾء ﻳﺘﻢ ﺑﺎﻷوراق ﻣﻦ ﺷﻬﺎدة ﻗﻴﺪ املﻴﻼد
إﱃ ﺷﻬﺎدة اﻟﻮﻓﺎة(؛ ﻓﺈن اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻲ اﻟﻨﻤﺴﺎوي ﺑﺘﻴﻮﻧﻲ Pitioniﻳﻘﱰح — ﺑﴚء
ﻣﻦ اﻟﺪﻋﺎﺑﺔ — أن ﻧﺴﻤﻲ ﻋﴫﻧﺎ اﻟﺤﺎﱄ ﻋﴫ اﻟﻮرق !Papierikum
160
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ
اﻟﺴﻼﻻت اﳌﻌﺎﴏة
وﻗﺪ ﺑﺪأ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ اﻟﺴﻮﻳﺪي ﻟﻴﻨﺎﻳﻮس –١٧٠٧) Carolus Von Linnaeus
(١٧٧٨ﺑﺘﺼﻨﻴﻒ اﻟﺤﻴﺎة ﻋﲆ أﺳﺲ ﻣﺎ زاﻟﺖ ﻣﺘﺒﻌﺔ ﻟﺪى اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴني ﺣﺘﻰ اﻵن :اﻟﻔﺮﻗﺔ أو
اﻟﻔﺼﻴﻠﺔ – اﻟﺮﺗﺒﺔ – اﻟﻄﺒﻘﺔ – اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ – اﻟﺠﻨﺲ – اﻟﻨﻮع .وﺣﺴﺐ ﺗﺼﻨﻴﻔﻪ ﺗﻌﺮف أﺷﻜﺎل
اﻟﺤﻴﺎة ﺑﺎﻟﻔﺼﻴﻠﺔ واﻟﻨﻮع ،وﺑﻘﺪوم ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺪراوﻳﻨﻴﺔ ﺛﺒﺘﺖ ﺗﺼﻨﻴﻔﺎت ﻟﻴﻨﺎﻳﻮس؛
ﻷﻧﻬﺎ ﺗﺘﻔﻖ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﻊ ﻓﻜﺮة اﻟﺘﻄﻮر.
وﻗﺪ أﻋﻄﻰ ﻟﻴﻨﺎﻳﻮس اﺳﻢ اﻹﻧﺴﺎن Homoﻟﻜﻞ اﻟﺴﻼﻻت املﻌﺎﴏة ،ﺛﻢ أﺗﺒﻌﻬﺎ ﺑﻌﺪ
دراﺳﺔ أﻋﻤﻖ ﺑﺎﻻﺳﻢ »اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ«؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻛﻠﻬﺎ ﺳﻼﻻت ﻓﺮﻋﻴﺔ ﻟﻨﻮع واﺣﺪ ،وﻣﻨﺬ ذﻟﻚ
اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻟﻢ ﻳﺨﺮج واﺣﺪ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء ﻋﻦ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة اﻷﺻﻴﻠﺔ — إﻻ ﻓﻴﻤﺎ ﻧﺪر.
أﻳﻀﺎ ﺑﴚء َت ًوﻓﻜﺮة اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﻨﻘﻴﺔ ﺳﺒﻖ أن ﻋﺎﻟﺠﻨﺎﻫﺎ ﺑﴚء ﻣﻦ اﻟﺘﻔﺼﻴﻞ ،ﻛﻤﺎ ﻧُﻘِ ﺪ ْ
ﻣﻦ اﻟﺘﻔﺼﻴﻞ ،وﻟﻌﻞ أﺣﺪث ﻧﻘ ٍﺪ ﻟﻬﺎ ﻫﻮ اﻟﻨﻘﺪ اﻟﺬي ﻗﺪﻣﻪ »ﺟﺎرن« 1 ،ﺣﻴﻨﻤﺎ أﻛﺪ أن اﻟﺸﻌﺮ
اﻷﺷﻘﺮ واﻟﻌﻴﻮن اﻟﺰرﻗﺎء ﻟﻴﺴﺖ ﺑﺮاﻫني ﻋﲆ اﻷﺻﻞ اﻟﻨﻮردي ،وﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻣﺎ ﻳﺪل ﻋﲆ ﻋﺪم
ﺟﺪوى ﻓﻜﺮة اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﻨﻘﻴﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ أن ﻳُﻮ َﻟﺪ ﻷب واﺣﺪ ﺛﻼﺛﺔ أﻃﻔﺎل ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳُﺼﻨﱠﻒ
ﻛﻞ ﻣﻨﻬﻢ إﱃ ﺳﻼﻟﺔ ﻧﻮردﻳﺔ وأﻟﺒﻴﺔ ووﺳﻴﻄﺔ )ﺑﺤﺮ ﻣﺘﻮﺳﻂ(.
وﻟﻘﺪ ﻇﻬﺮت ﻓﻜﺮة اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﻨﻘﻴﺔ ﻣﺮة أﺧﺮى ﺑﺼﻮرة اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﻨﻤﻄﻴﺔ اﻟﺘﻲ دﻋﺎ إﻟﻴﻬﺎ
»ﻫﻮﺗﻦ« 2 ،وﻫﻲ ﺳﻼﻟﺔ ﺗُﻘﺪﱠم ﻋﲆ أﺳﺎس إﺣﺼﺎﺋﻲ ﴏف ﻟﻠﺼﻔﺎت اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻣﱰﻳﺔ ،ﺑﻐﺾ
ً
ﻋﺎﻣﺔ، اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ اﻟﻮراﺛﺔ وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ املﺆﺛﺮات اﻟﺘﻲ ﺗﺆدي إﱃ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﻣﺘﻌﺪدة اﻟﻨﻤﻂ ﻟﻠﺴﻜﺎن
ﻄﺎ واﺣﺪًا ﻟﻜﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ .وﻗﺪ أﺣﻴﺎ ﻛﺎرﻟﺘﻮن ﻛﻮون ﻫﺬه اﻟﻨﻤﻄﻴﺔ ﻣﺮة أﺧﺮى، وﻟﻴﺲ ﻧﻤ ً
ﻓﺼ ْﻠﻨﺎ ﰲ ﺻﻔﺤﺎت ﺳﺎﺑﻘﺔ3 . وﻟﻜﻦ أﻓﻜﺎره اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻟﻢ ﺗَ ْﻠ َﻖ ﺳﻮى اﻟﺮﻓﺾ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺎ ﱠ
وﻧﻈ ًﺮا ﻹﺳﺎءة اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺼﻒ ﺗﺼﻨﻴﻒ اﻹﻧﺴﺎن )ﺳﻼﻟﺔ
– أﻧﻮاع – أﺷﻜﺎل – ﻋﻨﺎﴏ – ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﺳﻼﻟﻴﺔ – ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﺳﻜﺎﻧﻴﺔ … إﻟﺦ( ﻓﺈن
ﺑﻌﺾ اﻵراء ﺗﺮى أﻧﻪ ﻗﺪ آن اﻷوان ﻟﻜﻲ ﻧﻠﻐﻲ ﻓﻜﺮة اﻟﺴﻼﻟﺔ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﺈن ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻵراء
ﻓﻌﻼ ﺻﻔﺎت وراﺛﻴﺔ وﺻﻔﺎت ﺗﺮى ﴐورة ﺑﻘﺎء ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة؛ ﻟﺴﺒﺐ ﺑﺴﻴﻂ ﻫﻮ أن ﻫﻨﺎك ً
ﻌﱪ ﻋﻦ ﻣﺘﻮﺳﻂ ﻋﺎم ﻟﻠﻤﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻛ ﱟﻞ ﰲ أﻗﺎﻟﻴﻤﻬﺎ. ﻗﻴﺎﺳﻴﺔ ﺗُ ﱢ
162
اﻟﺴﻼﻻت املﻌﺎﴏة
وﻟﻌ ﱠﻞ اﻻﺗﻔﺎق اﻟﻌﺎم ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ ﻫﻮ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﺴﻼﻟﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻓﻜﺮة
ﻣﻄﻠﻘﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻓﻜﺮة ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺗُﻘﺎس ﺑﻬﺎ ﺻﻔﺎت اﻟﻨﺎس ﻋﲆ أﺳﺎس ﻋﺪة ﻣﺴﺘﻮﻳﺎت ﻣﻜﺎﻧﻴﺔ،
وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﻬﻨﺎك اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ واﻟﺴﻼﻟﺔ اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ،واﻟﺴﻼﻟﺔ املﺤﻠﻴﺔ أو املﻜﺎﻧﻴﺔ.
واﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ ﻫﻲ أوﺳﻊ ﻫﺬه اﻟﺴﻼﻻت ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻻﻧﺘﺸﺎر املﻜﺎﻧﻲ ﰲ ﻋﺪة
أﻗﺎﻟﻴﻢ ﺟﻐﺮاﻓﻴﺔ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻗﻠﻴﻠﺔ اﻟﻌﺪد ،وﺗﺘﻤﻴﺰ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﺳﻼﻻت ﻋﺎﻣﺔ اﻟﺼﻔﺎت .وﻗﺪ
ﺳﺎﻋﺪ ﻋﲆ ﺗﻜﻮﻳﻨﻬﺎ ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﻋﻮاﻣﻞ ﺣﺠﺰ ﺟﻐﺮاﻓﻴﺔ ﻣﻨﻌﺖ ﺗﴪب ﺟﻴﻨﺎت وراﺛﻴﺔ إﱃ اﻟﺤﺪ
اﻷدﻧﻰ ﻣﻦ ﻧﻄﺎق ﺟﻐﺮاﰲ إﱃ آﺧﺮ .وﻫﺬه اﻟﻌﻮاﻣﻞ اﻟﺤﺎﺟﺰة ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﺻﺤﺎري ﺷﺎﺳﻌﺔ أو
ً
ﺟﺒﺎﻻ وﻋﺮة أو ﻣﺤﻴﻄﺎت ﻓﺎﺻﻠﺔ.
)(٤ )(١
)(٥ )(٢
)(٦ )(٣
ﺷﻜﻞ :1-4ﺗﻮزﻳﻊ اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﺣﻮاﱄ اﻷﻟﻒ اﻟﺮاﺑﻌﺔ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد (١) :اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳﺔ.
) (٢اﻟﺴﻼﻟﺔ املﻐﻮﻟﻴﺔ (٣) .اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﺰﻧﺠﻴﺔ (٤) ،ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﻄﺮد واﻟﻬﺠﺮة (٥) .ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﺠﺬب.
) (٦اﺗﺠﺎه اﻟﻬﺠﺮات.
163
اﻹﻧﺴﺎن
)(٤ )(١
)(٥ )(٢
)(٣
ﺷﻜﻞ :2-4ﺗﻮزﻳﻊ اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﰲ ﺑﺪاﻳﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ (١) :اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳﺔ.
) (٢اﻟﺴﻼﻟﺔ املﻐﻮﻟﻴﺔ (٣) .اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﺰﻧﺠﻴﺔ (٤) .ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﻄﺮد واﻟﻬﺠﺮة (٥) .اﺗﺠﺎه اﻟﻬﺠﺮات.
أﻣﺎ اﻟﺴﻼﻻت اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﻓﻬﻲ أﻗﻞ اﻧﺘﺸﺎ ًرا ﻣﻦ اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ ،وﺗﺘﺴﻢ ﺑﺼﻔﺎت
ﻣﺘﺸﺎﺑﻬﺔ ﻛﺜريًا ﻋﻤﺎ ﻧﺠﺪه ﰲ اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ ،وﻫﻲ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﺳﻼﻻت ﺛﺎﻧﻮﻳﺔ ﻟﻠﺴﻼﻻت
اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ ،ﻧﺸﺄت ﺻﻔﺎﺗﻬﺎ املﺘﺸﺎﺑﻬﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻌﻮاﻣﻞ ﺣﺠﺰ ﺟﻐﺮاﻓﻴﺔ ﻣﺤﺪودة اﻟﻨﻔﻮذ،
وﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻠﺘﺰاوج اﻟﺪاﺧﲇ )داﺧﻞ اﻹﻗﻠﻴﻢ( ﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ .وﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺴﻼﻻت اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ
ﻧﺠﺪﻫﺎ اﻵن ﰲ املﻨﺎﻃﻖ املﻨﻌﺰﻟﺔ ﻛﺎﻟﺒﻮﺷﻤﻦ واﻷﻧﺪﻣﺎن واﻹﺳﻜﻴﻤﻮ واﻷﻗﺰام ،إﱃ ﺟﺎﻧﺐ أﻗﺴﺎم
اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ.
وأﺧريًا ،ﻓﺈن اﻟﺴﻼﻟﺔ املﺤﻠﻴﺔ أو املﻜﺎﻧﻴﺔ ﺗﺤﺘﻞ أﻣﺎﻛﻦ ﻣﺤﺪودة ﺟﺪٍّا ﻣﻦ ﺳﻄﺢ اﻷرض؛
ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻻﺳﺘﻤﺮار اﻟﺘﺰاوج داﺧﻞ املﻜﺎن اﻟﺠﻐﺮاﰲ املﺤﺪود .وﻣﻦ ﺛﻢ ﺗﻨﺸﺄ ﺑﻌﺾ ﺻﻔﺎت
وراﺛﻴﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﺑﺬﻟﻚ املﻜﺎن ﺗﺠﻌﻞ ﻟﻠﺴﻜﺎن ﺻﻔﺎت ﻣﺘﺸﺎﺑﻬﺔ ﺗﻔﺼﻠﻬﻢ — ﰲ ﺣﺪود ﺿﻴﻘﺔ
— ﻋﻦ ﺻﻔﺎت اﻟﺴﻜﺎن ﰲ املﻜﺎن املﺠﺎور .وﻣﺜﻞ ﻫﺬا ﻗﺪ ﻟُﻮﺣِ ﻆ ﰲ اﻷﻣﺎﻛﻦ اﻟﻜﺜﻴﻔﺔ اﻟﺴﻜﺎن
164
اﻟﺴﻼﻻت املﻌﺎﴏة
ﻛﺎملﺪن واﻷﻗﺎﻟﻴﻢ اﻟﺼﻐرية املﺘﻤﻴﺰة ﺑﻈﺮوف ﺧﺎﺻﺔ واملﻨﺎﻃﻖ اﻟﺮﻳﻔﻴﺔ املﺰدﺣﻤﺔ ،وﻋﻨﺪ
اﻟﻌﺸﺎﺋﺮ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺎرس اﻟﺘﺰاوج داﺧﻞ اﻟﻌﺸرية ﻣﺜﻞ اﻟﻌﺸﺎﺋﺮ املﻠﻜﻴﺔ ﺑني اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ.
وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻋﺎﻣﻞ اﻟﺘﺰاوج داﺧﻞ املﻜﺎن ﻫﻮ اﻟﻌﺎﻣﻞ اﻷﺳﺎﳼ ﰲ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺴﻼﻻت
املﺤﻠﻴﺔ ،وﻟﻴﺲ ﻟﻠﻌﻮاﻣﻞ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ دور ﻣﻠﺤﻮظ ﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل؛ وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈن ﻋﺪد ﻫﺬه
اﻟﺴﻼﻻت — إن ﺻﺢ املﺼﻄﻠﺢ — ﻛﺒري ﺟﺪٍّا ﺑﺎملﻘﺎرﻧﺔ ﺑﺎﻟﺴﻼﻻت اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ،
وﻗﻴﻤﺘﻪ ﻻ ﺗﻈﻬﺮ إﻻ ﰲ اﻟﺪراﺳﺎت اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺘﻔﺼﻴﻠﻴﺔ.
ً
وﺗﺪاوﻻ ﰲ ً
دراﺳﺔ وﻟﻬﺬه اﻷﺳﺒﺎب ﻓﺈن اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ ﻫﻲ أﻛﺜﺮ اﻟﺴﻼﻻت
اﻟﺘﺼﻨﻴﻔﺎت اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎن املﻌﺎﴏ ﻋﲆ ﻇﻬﺮ اﻷرض ،وﻗﺪ ﺗﻈﻬﺮ ﻣﻦ ﺣني إﱃ آﺧﺮ أﻫﻤﻴﺔ
دراﺳﺔ اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ أو اﻹﺷﺎرة إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻧﺘﻤﺎﺋﻬﺎ إﱃ إﺣﺪى اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ
أو درﺟﺔ اﻧﻔﺼﺎﻟﻬﺎ ﻋﻨﻬﺎ.
ﻫﻨﺎك ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻗﻠﺔ ﻋﺪد اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ اﺧﺘﻼﻓﺎت ﻛﺜرية ﺑني اﻟﺒﺎﺣﺜني ﻋﲆ
ﻋﺪدﻫﺎ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﱰاوح ﰲ املﺠﻤﻮع ﺑني ﺛﻼث ﺳﻼﻻت وﻋﴩ ﺳﻼﻻت.
وأﻛﺜﺮ اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ ﺷﻴﻮﻋً ﺎ ﻫﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﺴﻢ اﻹﻧﺴﺎن املﻌﺎﴏ إﱃ ﻗﻮﻗﺎزي
وﻣﻐﻮﱄ وزﻧﺠﻲ ،ﻋﲆ أﺳﺎس اﺧﺘﻼف واﺿﺢ ﰲ ﻟﻮن اﻟﺒﴩة وﺷﻜﻞ اﻟﺸﻌﺮ ،وﺻﻔﺎت أﺧﺮى
ﺟﻮﻫﺮﻳﺔ ﰲ اﻟﺘﻜﻮﻳﻦ اﻟﺠﺴﺪي وﺷﻜﻞ اﻟﻮﺟﻪ واﻟﺮأس .وﻟﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﺗﻔﺼﻴﻼت أﺧﺮى ﻋﻨﺪ
ﺑﻌﺾ املﺠﻤﻮﻋﺎت ﺗﺠﻌﻞ اﻟﻜﺜريﻳﻦ ﻣﻦ أﺻﺤﺎب ﻫﺬا اﻟﺘﻘﺴﻴﻢ ﻳﺒﺤﺜﻮن ﻋﻦ أﻣﺎﻛﻦ ﻣﺘﻮﺳﻄﺔ
ﻟﺒﻌﺾ املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺴﻼﻟﻴﺔ داﺧﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﺼﻨﻴﻒ اﻟﺜﻼﺛﻲ؛ ﻣﺜﻞ اﻟﺒﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳني واﻟﻔﻴﺪا )ﺟﻨﻮب
اﻟﻬﻨﺪ( واﻷﺳﱰاﻟﻴني اﻷﺻﻠﻴني واﻟﺒﺸﻤﻦ )ﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ( واﻷﻳﻨﻮ )ﺷﻤﺎل اﻟﻴﺎﺑﺎن(.
وﻫﺬه املﺠﻤﻮﻋﺎت ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻄﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺳﻼﻻت إﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﻟﻠﺴﻼﻻت اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ.
ﻓﺎﻟﺒﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳﻮن ﺳﻼﻟﺔ إﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﻟﻠﻤﻐﻮل ،واﻟﻔﻴﺪا واﻷﻳﻨﻮ ﺳﻼﻻت ﻗﻮﻗﺎزﻳﺔ إﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ،واﻟﺒﺸﻤﻦ
واﻷﻗﺰام ﺳﻼﻻت إﻗﻠﻴﻤﻴﺔ زﻧﺠﻴﺔ .أﻣﺎ اﻷﺳﱰاﻟﻴﻮن ﻓﺄﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻳﻠﺤﻘﻮن ﺑﺎﻟﺰﻧﻮج وأﺣﻴﺎﻧًﺎ
ﺑﺎﻟﻘﻮﻗﺎزﻳني ،ﺑﻨﺎءً ﻋﲆ ﺗﻐﻠﻴﺐ ﺻﻔﺎت ﻋﲆ أﺧﺮى.
165
اﻹﻧﺴﺎن
ﻗﺴﻤﻮا ﺳﻼﻻت اﻹﻧﺴﺎن املﻌﺎﴏ إﱃ وﻟﻜﻦ ﻋﺪدًا ﻣﻦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني ﻗﺪﻳﻤً ﺎ وﺣﺪﻳﺜًﺎ ﱠ
ﻋﺪد أﻛﱪ ،وﻟﺴﻨﺎ ﻧﺮﻳﺪ اﻹﺷﺎرة إﱃ اﻷﻗﺴﺎم اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ؛ ﻟﻘﴫ املﻘﺎم ،وﻷن ﺑﻌﻀﻬﺎ اﺳﺘُ ْﺨﺪِم
ﺟﺰﺋﻴٍّﺎ ﰲ اﻟﺘﻘﺴﻴﻤﺎت اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ.
ﺛﻼﺛﺔ ﻣﻦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني املﻌﺎﴏﻳﻦ؛ ﻫﻢ :ﻛﻮون ،ﺟﺎرن ،ﺑريدﺳﻞ4 . ٌ وﻳ ﱢ
ُﻘﺴﻢ
اﻟﺴﻼﻻت املﻌﺎﴏة إﱃ ﺳﺖ ﺳﻼﻻت؛ ﻫﻲ (١) :املﻐﻮل (٢) .اﻟﺒﻴﺾ (٣) .اﻟﺰﻧﻮج.
) (٤اﻷﺳﱰاﻟﻴﻮن (٥) .اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ (٦) .اﻟﺒﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳﻮن.
وﻫﺬا اﻟﺘﻘﺴﻴﻢ ﻗﺪ اﺷﺘﻤﻞ ﻋﲆ ﺗﺴﻤﻴﺔ اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳني ﺑﻠﻮن ﺑﴩﺗﻬﻢ اﻟﺒﻴﻀﺎء ،ووﺿﻊ
اﻟﺴﻼﻻت اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ )ﻣﻦ (٦–٤ﰲ ﺻﻮرة ﺳﻼﻻت ﺟﻐﺮاﻓﻴﺔ رﺋﻴﺴﻴﺔ.
وﻛﺬﻟﻚ ﻳﻘﺴﻢ اﻟﻌﺎملﺎن اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺎن ﺟﺎﻛﻮﺑﺲ وﺷﱰن 5اﻟﺴﻼﻻت املﻌﺎﴏة إﱃ
إﺣﺪى ﻋﴩة ﺳﻼﻟﺔ رﺋﻴﺴﺔ؛ ﻫﻲ (١) :اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳﻮن (٢) .املﻐﻮل (٣) .زﻧﻮج أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ.
) (٤املﻴﻼﻧﻴﺰﻳﻮن (٥) .املﻴﻜﺮوﻧﻴﺰﻳﻮن واﻟﺒﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳﻮن (٦) .أﻗﺰام اﻟﻜﻨﻐﻮ (٧) .أﻗﺰام اﻟﴩق
اﻷﻗﴡ (٨) .اﻷﺳﱰاﻟﻴﻮن (٩) .اﻟﺒﺸﻤﻦ واﻟﻬﻮﺗﻨﺘﻮت (١٠) .اﻟﻔﻴﺪا (١١) .اﻷﻳﻨﻮ.
وﰲ ﻫﺬا اﻟﺘﻘﺴﻴﻢ ﻻ ﺗﺰال ﺗﻈﻬﺮ اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ اﻟﻜﱪى ،وإن ﻛﺎن املﺆﻟﻔﺎن
ﻗﺪ ﻓﺼﻼ ﺑني اﻟﺰﻧﻮج اﻟﻐﺮﺑﻴني )أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ( واﻟﴩﻗﻴني )ﻣﻴﻼﻧﻴﺰﻳﺎ( .ﻛﻤﺎ أﻧﻬﻤﺎ ﻗﺪ أﺿﺎﻓﺎ
اﻟﺴﻼﻻت اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ) (١١–٥إﱃ ﻗﺎﺋﻤﺔ اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ.
وﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺘﻲ ﺗﺆدي ﺑﺎﻟﺒﺎﺣﺜني إﱃ ﺗﻌﺪاد ﺳﻼﻻت رﺋﻴﺴﻴﺔ ،ﻓﺈن اﻷﻣﺮ
اﻟﻮاﻗﻊ ﻫﻮ أن اﻟﺴﻼﻻت اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ أو اﻟﻔﺮﻋﻴﺔ ﺗﺸﱰك ﰲ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت ﻣﻊ اﻟﺴﻼﻻت
اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ اﻟﺜﻼث اﻟﻜﱪى ،ﻳﺠﻌﻞ ﻣﻌﻈﻢ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني ﻳﺪرﺳﻮﻧﻬﺎ داﺧﻞ اﻟﺘﻘﺴﻴﻢ اﻟﺜﻼﺛﻲ.
وﻓﻴﻤﺎ ﻳﲇ دراﺳﺔ ﻣﻮﺟﺰة ﻟﻠﺴﻼﻻت اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ وأﻗﺴﺎﻣﻬﺎ اﻟﻔﺮﻋﻴﺔ )اﻧﻈﺮ ﺷﻜﻞ .(4-4
Coon, C. S., S. M. Garn & J. B. Birdsell, “Races, A Study of the Prablems of Race 4
.Formation” Springfield, 1950
.Jacobs, M. & B. Stern, “General Anthropology” New York 1963 5
166
اﻟﺴﻼﻻت املﻌﺎﴏة
ﺑﺮﻏﻢ اﻟﻜﻴﺎن املﻨﻔﺼﻞ ﻟﻜﻞ ﺳﻼﻟﺔ ﻋﲆ ﺣﺪة؛ إﻻ أن ﺗﻮزﻳﻌﻬﺎ اﻟﻌﺪدي واﻟﺠﻐﺮاﰲ ﻳﺨﺘﻠﻒ
ً
اﺧﺘﻼﻓﺎ ﻛﺒريًا ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﺎ .ﻓﺎﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳﺔ ﻫﻲ أﻛﺜﺮ اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺜﻼث ﻋﺪدًا ،وﺗﻨﺘﴩ ﰲ
ﻛﻞ ﻗﺎرات اﻟﻌﺎﻟﻢ دون اﺳﺘﺜﻨﺎء؛ ﻓﻬﻲ ﻗﺪﻳﻤﺔ ﰲ ﻛﻞ ﻣﻦ أوروﺑﺎ وآﺳﻴﺎ وأﻓﺮﻳﻘﻴﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ،
واﻧﺘﴩت ﺑﻌﺪ اﻟﻜﺸﻮف اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ اﻟﻜﱪى ﻟﺘﺴﺘﻮﻃﻦ وﺗﻜﻮﱢن ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ ﺳﻜﺎن اﻷﻣﺮﻳﻜﺘني
وأﺳﱰاﻟﻴﺎ ،ﻛﻤﺎ أﺻﺒﺢ ﻟﻬﺎ ﺟﻴﻮب ﻛﺜرية ﰲ ﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وﰲ ﺳﻴﺒريﻳﺎ .وﺗﻜﻮن اﻟﺴﻼﻟﺔ
اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳﺔ ﺣﻮاﱄ ٪٥٢ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮع ﺳﻜﺎن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺮاﻫﻦ )أي ﺣﻮاﱄ ١٩٠٠
ﻣﻠﻴﻮن ﺷﺨﺺ ﺣﺴﺐ أرﻗﺎم .(١٩٧٠
وﺗﲇ اﻟﺴﻼﻟﺔ املﻐﻮﻟﻴﺔ اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳني ﻋﺪدًا؛ ﻓﺄﻋﻀﺎء ﻫﺬه اﻟﺴﻼﻟﺔ ﻳﺒﻠﻐﻮن ﺣﻮاﱄ ١٣٠٠
ً
أﺳﺎﺳﺎ ﻣﻠﻴﻮن ﺷﺨﺺ ﺑﻨﺴﺒﺔ ﺣﻮاﱄ ٪٣٧ﻣﻦ ﺳﻜﺎن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻟﺴﻨﺔ ،١٩٧٠وﻫﻢ ﻳﺘﻮزﻋﻮن
ﰲ آﺳﻴﺎ اﻟﴩﻗﻴﺔ واﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ اﻟﴩﻗﻴﺔ واﻷﻣﺮﻳﻜﺘني .أﻣﺎ اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﺰﻧﺠﻴﺔ ﻓﻬﻲ أﻗﻞ اﻟﺴﻼﻻت
ﻋﺪدًا )ﺣﻮاﱄ ٤٠٠ﻣﻠﻴﻮن ﺷﺨﺺ ﺑﻨﺴﺒﺔ ﺣﻮاﱄ ٪١٢ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮع ﺳﻜﺎن اﻟﻌﺎﻟﻢ( ﻣﻮزﻋني
أﺳﺎﺳﺎ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وﺟﻨﻮب ﴍﻗﻲ آﺳﻴﺎ ،وﺑﺄﻋﺪاد ﻗﻠﻴﻠﺔ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ؛ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺘﺠﺎرة ً
اﻟﺮﻗﻴﻖ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ.
وﻓﻴﻤﺎ ﻳﲇ ﺗﻮزﻳﻊ ﺗﻘﺮﻳﺒﻲ ﻷﻋﻀﺎء ﻫﺬه اﻟﺴﻼﻻت ﺟﻐﺮاﻓﻴٍّﺎ ﺑﻤﻼﻳني اﻷﺷﺨﺎص )اﻷرﻗﺎم
ﻟﺴﻨﺔ :(١٩٧٠
167
اﻹﻧﺴﺎن
) (١ﻟﻮن اﻟﺒﴩة :ﻳﱰاوح ﺑﺸﺪة ﺣﺴﺐ املﻮﻗﻊ اﻟﺠﻐﺮاﰲ ﺑني اﻟﺸﻘﺮة واﻟﺒﻴﺎض ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ
اﻟﺒﻠﻄﻴﻖ وﺷﻤﺎل ﻏﺮب أوروﺑﺎ ،إﱃ اﻟﺒﻨﻲ اﻟﺪاﻛﻦ ﰲ اﻟﻬﻨﺪ وإﺛﻴﻮﺑﻴﺎ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈن اﻟﺘﺴﻤﻴﺔ
»ﺑﻴﻀﺎء« ﻏري ﺳﻠﻴﻤﺔ.
) (٢اﻟﺸﻌﺮ :ﻳﱰاوح ﺑني املﺮﺳﻞ واملﺠﻌﺪ ،وﻟﻜﻦ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳني ذوو ﺷﻌﺮ ﻣﻤﻮج.
ﻳﱰاوح ﻟﻮن اﻟﺸﻌﺮ ً
أﻳﻀﺎ ﺑني اﻟﺸﻘﺮة واﻟﺤﻤﺮة ﰲ ﺷﻤﺎل أوروﺑﺎ ،واﻟﺒﻨﻲ ﺑﺪرﺟﺎﺗﻪ املﺨﺘﻠﻔﺔ
ﰲ وﺳﻂ أوروﺑﺎ وﺣﻮض اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ ،واﻷﺳﻮد ﰲ ﺑﻘﻴﺔ ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳني ﰲ آﺳﻴﺎ
وأﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،وﺷﻌﺮ اﻟﺠﺴﺪ ﻛﺜﻴﻒ ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ،وإن ﻛﺎن ﻳﻘﻞ ﻣﻦ اﻟﺸﻤﺎل ﰲ اﺗﺠﺎه اﻟﺠﻨﻮب.
) (٣اﻷﻧﻒ :ﻳﺘﻐري ﺷﻜﻞ اﻷﻧﻒ ﺑني اﻟﱪوز اﻟﻮاﺿﺢ واﻟﺪﻗﺔ املﺘﻨﺎﻫﻴﺔ ،واﻷﻧﻒ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻪ
ذو ﻧﺴﺒﺔ ﺿﻴﻘﺔ ،ﻣﻊ وﺿﻮح ﺑﺮوزه ﰲ اﻟﻮﺟﻪ ،وﻳﱰاوح ﺷﻜﻞ ﻗﺼﺒﺔ اﻷﻧﻒ ﺑني اﻻﺳﺘﻘﺎﻣﺔ ﰲ
ﻣﻌﻈﻢ اﻷوروﺑﻴني واﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ وآﺳﻴﺎ ،وﺑني اﻟﺘﺤﺪب ﻋﻨﺪ املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻷرﻣﻨﻴﺔ واﻷﻧﺎﺿﻮﻟﻴﺔ
وﴍق اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ وﺑﻌﺾ ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﺨﻠﻴﺞ اﻟﻌﺮﺑﻲ ،وﰲ أﺣﻴﺎن ﺗﺼﺒﺢ ﻗﺼﺒﺔ اﻷﻧﻒ
ﻣﻘﻌﺮة ﻋﻨﺪ ﺑﻌﺾ اﻷوروﺑﻴني.
) (٤اﻟﺸﻔﺎه :ﻣﻌﻈﻤﻬﺎ رﻗﻴﻘﺔ إﱃ ﻣﺘﻮﺳﻄﺔ ،وﻗﺪ ﺗﺼﺒﺢ ﻗﺮﻳﺒﺔ ﻣﻦ اﻟﻐﻠﻴﻈﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن
اﻷﻓﺮﻳﻘﻲ.
) (٥اﻟﻨﺴﺒﺔ اﻟﺮأﺳﻴﺔ وﺷﻜﻞ اﻟﺮأس :ﺗﱰاوح ﺑني ﻧﺴﺒﺔ رأﺳﻴﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ وﻣﺘﻮﺳﻄﺔ ،ﻟﻜﻦ
اﺗﺠﺎﻫﺎ إﱃ زﻳﺎدة ﻋﺮض اﻟﺮأس ﻋﻤﺎ ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺤﺎل ﰲ املﺎﴈ 6 ،ﻛﻤﺎً اﻟﻮاﺿﺢ أن ﻫﻨﺎك
أن ﻫﻨﺎك ﻗﺴﻤً ﺎ ﻣﻦ اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳني ﻳﺘﻤﻴﺰ ﺑﻌﺮض اﻟﺮأس ﰲ وﺳﻂ وﴍق أوروﺑﺎ وﺟﻨﻮﺑﻬﺎ
اﻟﴩﻗﻲ.
) (٦اﻟﻌني :ﻋﻨﺪ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳني ﻓﺘﺤﺔ اﻟﻌني ﻃﻮﻳﻠﺔ وأﻓﻘﻴﺔ ،وﻳﻨﺪر أن ﺗﻜﻮن
ﻣﻨﺤﺮﻓﺔ ،وﰲ ﺣﺎﻟﺔ اﻧﺤﺮاف اﻟﻌني ﻓﺈن اﻻﻧﺤﺮاف ﻳﻜﻮن ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ
6ﺗﺪل ﻋﲆ ذﻟﻚ دراﺳﺎت رﻳﺒﲇ وﻛﻮون وﻛﺮﻳﱪ وﻏريﻫﻢ ﻣﻦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني؛ ﺣﻴﺚ و ُِﺟﺪ أن ﻧﺴﺒﺔ اﻟﺮأس
اﻟﻌﺮﻳﺾ ﰲ أوروﺑﺎ ﰲ ﺗﺰاﻳﺪ ﻣﺴﺘﻤﺮ ﻣﻨﺬ ﻓﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ )زادت اﻟﻨﺴﺒﺔ ﻣﻦ ٪٣إﱃ ٪١٣ﰲ اﻟﺴﻮﻳﺪ ،وﻣﻦ
٪٩إﱃ ٣٨ﺑﺎملﺌﺔ ﰲ ﺟﺰﻳﺮة ﻛﺮﻳﺖ( ،وﻛﺬﻟﻚ ﻻﺣﻆ اﻟﺒﻄﺮاوي ﰲ دراﺳﺎﺗﻪ ملﴫ ارﺗﻔﺎع ﻧﺴﺒﺔ اﻟﺮأس
أﻳﻀﺎ — ﺑﺪرﺟﺎت أﻗﻞ — ﰲ اﻟﺼﻌﻴﺪ.اﻟﻌﺮﻳﺾ ﰲ اﻟﺪﻟﺘﺎ ،وأن ﻫﺬا اﻻﺗﺠﺎه ﻳﻮﺟﺪ ً
168
اﻟﺴﻼﻻت املﻌﺎﴏة
ﻧﺎﺣﻴﺔ اﻷﻧﻒ — أي ﻋﻜﺲ اﻻﻧﺤﺮاف ﻋﻨﺪ املﻐﻮل .وﻃﻴﺔ اﻟﻌني ﺗﺴري ﻣﻮازﻳﺔ ﻟﻨﻬﺎﻳﺔ اﻟﺠﻔﻦ
ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ،وﻻ ﺗﺘﺪﱃ ﻓﻮق ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﺠﻔﻦ إﻻ ﰲ أﺣﻮال ﻧﺎدرة ﺟﺪٍّا.
) (٧اﻟﻘﺎﻣﺔ :ﺗﺨﺘﻠﻒ اﻟﻘﺎﻣﺔ ﻛﺜريًا ﺑني اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳني ،وﻟﻜﻦ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﰲ املﺠﻤﻮع
ﻗﺎﻣﺔ ﻗﺼرية ﺟﺪٍّا أو ﻃﻮﻳﻠﺔ ﺟﺪٍّا.
) (١ﺗﻘﺴﻴﻢ أﺷﲇ ﻣﻮﻧﺘﺎج (١٩٤٥) 7اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳني إﱃ ﺛﻤﺎﻧﻲ ﺳﻼﻻت ﻓﺮﻋﻴﺔ؛ ﻫﻲ :اﻟﻨﻮردي
– اﻷﻟﺒﻲ – اﻟﻮﺳﻴﻂ )ﺑﺤﺮ ﻣﺘﻮﺳﻂ( – اﻟﺪﻳﻨﺎري – اﻷرﻣﻨﻲ – اﻟﺒﻠﻄﻲ اﻟﴩﻗﻲ – اﻟﻬﻨﺪي
اﻟﴩﻗﻲ – اﻟﺒﻮﻟﻴﻨﻴﺰي.
) (٢ﺗﻘﺴﻴﻢ ﻛﺮوﺟﻤﺎن (١٩٤٥) 8اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳني إﱃ ﺧﻤﺲ ﺳﻼﻻت ﻓﺮﻋﻴﺔ؛ ﻫﻲ :اﻟﻨﻮردي
– اﻷﻟﺒﻲ – اﻟﻮﺳﻴﻂ – اﻟﺪﻳﻨﺎري – اﻷرﻣﻨﻲ.
) (٣ﺗﻘﺴﻴﻢ ﻛﻮون (١٩٣٩) 9اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳني إﱃ :ﻧﻮردي – أﻟﺒﻲ – اﻟﻮﺳﻴﻂ اﻷﻃﻠﻨﻄﻲ –
اﻟﻮﺳﻴﻂ اﻷﺻﲇ – اﻟﻮﺳﻴﻂ اﻹﻳﺮاﻧﻲ أﻓﻐﺎﻧﻲ.
) (٤ﺗﻘﺴﻴﻢ ﻛﻮون وﺟﺎرن وﺑريدﺳﻞ (١٩٥٠) 10اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳني إﱃ :اﻟﻨﻮردي – اﻷﻟﺒﻲ –
اﻟﻮﺳﻴﻂ – أوروﺑﻴﻲ اﻟﺸﻤﺎل اﻟﻐﺮﺑﻲ – أوروﺑﻴﻲ اﻟﺸﻤﺎل اﻟﴩﻗﻲ – اﻟﻼب – اﻟﻬﻨﻮد –
اﻷﻳﻨﻮ.
.Ashley Motagu, M. F., “An Introduction to Physical Anthropology” New York 1945 7
Krogman, W. M. “The concept of Race” in “The Science of Man in the World Crisis” ed. 8
.Ralph Linton, New York, 1945
.Coon, C. S., “The Races of Europe” New York, 1939 9
Coon, C. S., S. M. Garn, & J. B. Birdsell, “Races, A Study of the Problems of Race 10
.Formation” Springfield, 1950
169
اﻹﻧﺴﺎن
) (٥ﺗﻘﺴﻴﻢ ﺑﻴﻠﺰ وﻫﻮﺟﺮ (١٩٥٩) 11اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳني إﱃ :اﻷﻟﺒﻴني – اﻹﻳﺮاﻧﻴني اﻟﻮﺳﻴﻂ
– اﻟﺸﻤﺎﻟﻴني اﻟﻐﺮﺑﻴني – اﻟﺸﻤﺎﻟﻴني اﻟﴩﻗﻴني .وﻳﻀﻴﻒ املﺆﻟﻔﺎن إﱃ ذﻟﻚ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ
اﻟﺴﻼﻻت املﻨﻌﺰﻟﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺗﺤﺘﻤﻞ أن ﺗﻜﻮن ﺳﻼﻻت ﻗﻮﻗﺎزﻳﺔ ﻋﺘﻴﻘﺔ؛ ﻫﻲ :اﻷﻳﻨﻮ –
اﻷﺳﱰاﻟﻴﻮن اﻷﺻﻠﻴﻮن – اﻟﻔﻴﺪا – اﻟﺪراﻓﻴﺪﻳﻮن.
ﻳﺆﻛﺪ أن ﻫﺬا اﻟﺘﺒﻄﻂ وﺑﺮوز اﻷﻧﻒ ﻫﻮ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻌﺎدات ﺣﻤﻞ اﻷﻃﻔﺎل ﰲ املﻬﺪ ،وﻧﺘﻴﺠﺔ
.Beals, R. & H. Hoiger, “An Introduction to Anthropology”, New York, 1st. ed. 1959 11
Coon, C. S., “The Mountains of the Giants: A Racial and Cultural Study of the North 12
.Albanian Ghegs”, Peabody Museum, Harvard Univ. No. 3, 1958
170
اﻟﺴﻼﻻت املﻌﺎﴏة
ِﺾ ﰲ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ ﻟﻌﺎدات ﻏﺬاﺋﻴﺔ وﻏري ذﻟﻚ ،وﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﻔﺴري املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻲ اﻟﺒﺴﻴﻂ ﻗﺪ ُرﻓ َ
اﻷﺣﻮال.
وﺗﻄﻠﻖ اﻟﺘﺴﻤﻴﺎت اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻋﲆ اﻷﻟﺒﻴني ﰲ ﻫﻀﺎب ﻏﺮب آﺳﻴﺎ اﺳﻢ اﻷرﻣﻦ أو اﻹﻳﺮاﻧﻲ
أو اﻹﻳﺮاﻧﻲ أﻓﻐﺎﻧﻲ .وﻳﺘﻤﻴﺰون ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﺑﺎﻷﻧﻒ اﻟﻀﺨﻢ املﺤﺪب واﺗﺠﺎه ﺷﺪﻳﺪ إﱃ اﻟﻨﺴﺒﺔ
اﻟﺮأﺳﻴﺔ اﻟﻌﺮﻳﻀﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻛﻮون ﻳﻀﻌﻬﻢ ﻛﺠﺰء ﻣﻦ ﺳﻼﻟﺔ اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ املﺘﺨﺼﺼﺔ.
ﻘﺴﻢ إﱃ ﺳﻼﻻت إﻗﻠﻴﻤﻴﺔ وأﺧريًا ﻓﺈن اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﻨﻮردﻳﺔ ﻗﺪ ﻇ ﱠﻠ ْﺖ ﻓﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ دون أن ﺗُ ﱠ
أو ﺛﺎﻧﻮﻳﺔ؛ وذﻟﻚ ﻟﻜﺜﺮة ﻣﺎ ُﻛﺘِﺐَ ﻋﻦ اﻟﻨﻮردﻳني وﻛﺜﺮة ﻣﺎ ﻛِﻴ َﻞ ﻟﻬﻢ ﻣﻦ املﺪﻳﺢ واﻟﺜﻨﺎء ﻋﲆ
ً
ﺛﻘﺎﻓﺔ ،وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻤﺎ أﻧﻬﻢ ﺑﻨﺎة ﺣﻀﺎرة ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،وأﻧﻬﻢ أﻛﺜﺮ اﻟﺴﻼﻻت ذﻛﺎءً وأﻛﺜﺮﻫﻢ
اﻣﺘﻸت ﺑﻪ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻌﻨﴫﻳﺔ اﻟﺘﻲ رﺑﻄﺘﻬﻢ ﺑﺎﻵرﻳﺔ واﻵرﻳني .وﻟﺘﺠﻨﺐ ذﻛﺮ ﻛﻠﻤﺔ ﻧﻮردي
ﻳﻠﺠﺄ اﻟﻜﺜريون إﱃ اﺳﻢ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴني اﻟﻐﺮﺑﻴني ،ﻟﻠﺪﻻﻟﺔ ﻋﲆ اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻨﻄﺎق.
وﻣﻨﺬ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ ﻫﺎﺟﺮت ﺳﻼﻻت إﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﻋﺪﻳﺪة إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ .ﻓﻔﻲ
ﻧﻴﻮزﻳﻠﻨﺪا وأﺳﱰاﻟﻴﺎ ﻛﺜري ﻣﻦ أوروﺑﻴﻲ اﻟﺸﻤﺎل اﻟﴩﻗﻲ ،وﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ﻣﻬﺎﺟﺮون
ﻣﻦ ﻛﻞ اﻟﺴﻼﻻت اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳﺔ ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ اﻟﺰﻧﻮج واملﻐﻮل ،وﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ
ﻛﺎن ﻣﻌﻈﻢ املﻬﺎﺟﺮﻳﻦ ﻣﻦ اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﻮﺳﻴﻄﺔ اﻟﺬﻳﻦ اﺧﺘﻠﻄﻮا ﺑﺎﻷﻣﺮﻳﻨﺪ واﻟﺰﻧﻮج .وﻛﻞ
ﻫﺬه اﻟﻬﺠﺮات ﰲ أﻗﺎﻟﻴﻢ ﺟﺪﻳﺪة ﻗﺪ ﺗﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ ﺧﻠﻖ ﺳﻼﻻت إﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﺗُﻀﺎف إﱃ
اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳني أو إﱃ ﻗﺎﺋﻤﺔ اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺨﻠﻴﻄﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة.
وﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ أﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ اﺧﺘﻼﻓﺎت ﻛﺒرية داﺧﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ ﺑني ﺟﻨﻮب
أوروﺑﺎ وﺷﻤﺎل أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ واﻟﺠﺰﻳﺮة اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ،ﻛﻤﺎ أن ﻟﻮن اﻟﺒﴩة ﻳﺼﺒﺢ داﻛﻨًﺎ ﻋﻨﺪ ﺳﻜﺎن
اﻟﻘﺮن اﻷﻓﺮﻳﻘﻲ واﻟﻬﻨﺪ .واﻟﺮاﺟﺢ أن اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﻮﺳﻄﻰ ﺣني دﺧﻠﺖ اﻟﻬﻨﺪ ﻣﻦ ﻣﻤﺮات
اﻟﺸﻤﺎل اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻗﺪ اﺧﺘﻠﻄﺖ ﻣﻊ اﻟﻔﻴﺪا واﻟﺪراﻓﻴﺪﻳني — ﺳﻜﺎن اﻟﻬﻨﺪ اﻷﺻﻠﻴني ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ
إﱃ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت أﺧﺮى .وﻳُﻀﺎف إﱃ ذﻟﻚ أن اﻟﺘﻘﺴﻴﻢ اﻟﻄﺒﺎﻗﻲ اﻟﻬﻨﺪي ﻗﺪ أدى إﱃ اﻟﺤﺪ
ﻣﻦ اﻧﺘﺸﺎر ﺟﻴﻨﺎت اﻟﻮراﺛﺔ ﻣﻦ ﻃﺒﻘﺔ إﱃ أﺧﺮى؛ ﻣﻤﺎ ﺳﺎﻋﺪ ﻋﲆ ﻧﺸﺄة ﺳﻼﻻت ﻣﺤﻠﻴﺔ
أو ﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﺟﻨﺒًﺎ إﱃ ﺟﻨﺐ ﰲ ﻧﻔﺲ املﻨﻄﻘﺔ .أﻣﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻨﻮردﻳني ﻓﺈن ﻣﻈﺎﻫﺮ اﻟﺴﻼﻟﺔ
اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﺗﺨﺘﻠﻂ ﻛﺜريًا ﺑﺎﻷﻟﺒﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﺠﻨﻮب )ﻫﻀﺎب وﺳﻂ أوروﺑﺎ( وﻣﻦ اﻟﴩق )ﺳﻼف
ﴍق أوروﺑﺎ(.
171
اﻟﻘﻮﻗﺎزي املﻐﻮﱄ اﻟﺰﻧﺠﻲ
اﻟﺮأس
و
اﻟﻮﺟﺔ
اﻷﻧﻒ
اﻟﺸﻔﺎه
اﻟﻌني
اﻟﺸﻌﺮ
ﺗﻨﻘﺴﻢ ﻫﺬه اﻟﺴﻼﻟﺔ إﱃ اﻟﺴﻼﻻت اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ :ﻣﻐﻮل اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ ،ﻣﻐﻮل اﻟﻌﺎﻟﻢ
اﻟﺠﺪﻳﺪ ،ﻣﻐﻮل املﺤﻴﻂ اﻟﻬﺎدي.
وﻳﻨﻘﺴﻢ ﻣﻐﻮل اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ — اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻤﺘﺪون ﻣﻦ اﻟﻨﻄﺎق اﻟﻘﻄﺒﻲ ﰲ ﺳﻴﺒريﻳﺎ إﱃ
ﺟﻨﻮب ﴍق آﺳﻴﺎ — إﱃ ﺳﻼﻻت إﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﻫﻲ (١) :املﻐﻮل اﻟﻘﺪﻣﺎء (٢) .اﻟﺼﻴﻨﻴﻮن أو
ﻣﻐﻮل اﻟﴩق (٣) .ﻣﻐﻮل ﺟﻨﻮب ﴍق آﺳﻴﺎ أو املﺎﻟﻴﺰﻳﻮن (٤) .اﻟﺘﺒﻴﺘﻴﻮن اﻹﻧﺪوﻧﻴﺴﻴﻮن
أو ﻣﻐﻮل اﻟﻮﺳﻂ.
واملﻐﻮل اﻟﻘﺪﻣﺎء ﻳﻜﻮﱢﻧﻮن ﺳﻜﺎن املﻨﺎﻃﻖ اﻟﻘﻄﺒﻴﺔ واﻟﺒﺎردة ﰲ ﺷﻤﺎل آﺳﻴﺎ ،وﺗﺘﻀﺢ
ﻓﻴﻬﻢ اﻟﻄﻴﺔ املﻐﻮﻟﻴﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻏريﻫﻢ ﻣﻦ املﻐﻮل ،واﻟﻮﺟﻪ ﻣﻨﺒﺴﻂ دون ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﱪوز .أﻣﺎ
ً
ﺗﻄﺮﻓﺎ ﰲ ﻇﻬﻮر اﻟﻄﻴﺔ املﻐﻮﻟﻴﺔ ،وأﻗﻞ ﺗﺄﻗﻠﻤً ﺎ ﻋﲆ اﻟﱪودة اﻟﺸﺪﻳﺪة، ﻣﻐﻮل اﻟﴩق ﻓﻬﻢ أﻗﻞ
وﻳﺘﻜﻮن ﻫﺆﻻء ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ ﻣﻦ ﻋﺪة ﻣﺌﺎت املﻼﻳني ﻣﻦ اﻟﺴﻜﺎن ﰲ اﻟﺼني وﻛﻮرﻳﺎ واﻟﻴﺎﺑﺎن .وﻻ
ﺷﻚ أن اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ﺗﻜﻮﱠﻧﻮا ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻫﺠﺮة املﻐﻮل ﻋﱪ املﻀﺎﻳﻖ اﻟﺘﻲ ﺗﻔﺼﻞ اﻟﺠﺰر اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﻋﻦ
اﻷرض اﻵﺳﻴﻮﻳﺔ ﰲ اﻟﺼني وﻛﻮرﻳﺎ ،ﺛﻢ اﺧﺘﻠﻄﻮا ﺑﻤﺠﻤﻮﻋﺔ اﻷﻳﻨﻮ ﺳﻜﺎن اﻟﻴﺎﺑﺎن اﻟﻘﺪﻣﺎء.
وﻳﺸﺘﻤﻞ ﻣﻐﻮل ﺟﻨﻮب ﴍق آﺳﻴﺎ ﻋﲆ ﻋﺪد ﻛﺒري ﻣﻦ اﻟﺴﻜﺎن ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺷﺒﻪ ﺟﺰﻳﺮة
اﻟﻬﻨﺪ اﻟﺼﻴﻨﻴﺔ وﺟﺰر إﻧﺪوﻧﺴﻴﺎ ،وﻫﻢ ﻳﺘﺪرﺟﻮن ﰲ ﺻﻔﺎﺗﻬﻢ ﺑني ﻣﻐﻮل اﻟﴩق وﻣﻐﻮل
أﻳﻀﺎ ﰲ اﻷﺟﺰاء اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﻣﻦ إﻧﺪوﻧﻴﺴﻴﺎ وﺑﺮﻣﺎ واﻟﺘﺒﺖ ،وﻫﺆﻻء أﻛﺜﺮ اﻟﻮﺳﻂ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻈﻬﺮون ً
دﻛﻨﺔ ﰲ ﻟﻮن اﻟﺒﴩة ﻣﻦ ﻏريﻫﻢ ﻣﻦ املﻐﻮل ﺑﺤﻜﻢ ﻣﻜﺎﻧﻬﻢ اﻟﺠﻐﺮاﰲ ،وﻻ ﺗﻈﻬﺮ ﻓﻴﻬﻢ اﻟﻄﻴﺔ
املﻐﻮﻟﻴﺔ إﻻ ﰲ أﻋﺪاد ﻗﻠﻴﻠﺔ.
واملﺮﺟﺢ أن ﺗﻌﺎﻗﺐ ﻫﺠﺮات املﻐﻮل إﱃ ﺟﻨﻮب ﴍق آﺳﻴﺎ ﻛﺎن ﻋﲆ ﺣﺴﺎب اﻷﻗﺰام
اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻌﻴﺸﻮن ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﻌﺰﻟﺔ اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ )ﺟﺰر أﻧﺪﻣﺎن ،وﻏﺎﺑﺎت املﻼﻳﻮ ،واملﻨﺎﻃﻖ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ
ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺒني( ،وﻋﲆ ﺣﺴﺎب اﻷﺳﱰاﻟﻴني اﻟﺬﻳﻦ ﻫﺎﺟﺮوا ﺟﻨﻮﺑًﺎ إﱃ أﺳﱰاﻟﻴﺎ أو اﻧﺪﻣﺠﻮا ﺗﻤﺎﻣً ﺎ
ﻣﻊ املﻐﻮل اﻟﻮاﻓﺪﻳﻦ .وﺗﺘﻀﺢ ﻫﺬه اﻷﻣﻮر ﻣﻦ دراﺳﺔ اﻟﺘﺒﺎﻳﻦ ﺑني ﺳﻜﺎن داﺧﻠﻴﺔ اﻟﺠﺰر
اﻹﻧﺪوﻧﻴﺴﻴﺔ وﺳﻮاﺣﻠﻬﺎ ،ﻓﺴﻜﺎن اﻟﺪاﺧﻞ أﻛﺜﺮ دﻛﻨﺔ ﰲ ﻟﻮن اﻟﺒﴩة ﻣﻦ ﺳﻜﺎن اﻟﺴﻮاﺣﻞ
اﻟﺘﻲ اﺣﺘﻠﻬﺎ املﻐﻮل املﻬﺎﺟﺮون ،ﻛﻤﺎ أن ﺳﻜﺎن اﻟﺪاﺧﻞ ﻳﺘﻤﻴﺰون ﺑﺸﻌﺮ ﻣﻤﻮج — وﻫﻮ
ﺻﻔﺔ ﻣﻤﻴﺰة ﻟﻸﺳﱰاﻟﻴني — ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺷﻌﺮ ﺳﻜﺎن اﻟﺴﻮاﺣﻞ ﻣﺮﺳﻞ ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ املﻐﻮﱄ .وﻳﻤﻜﻦ
أن ﺗﺆدي ﺑﻨﺎ ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺔ إﱃ ﺗﺼﻮر أن اﻟﺴﻜﺎن اﻟﻘﺪاﻣﻰ ﻗﺪ دﺧﻠﻮا إﱃ أﻣﺎﻛﻦ اﻟﻌﺰﻟﺔ
وﺗﺮﻛﻮا املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺴﺎﺣﻠﻴﺔ اﻟﻐﻨﻴﺔ ﻟﻠﻤﻬﺎﺟﺮﻳﻦ ﻣﻦ املﻐﻮل.
175
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﱰك إﱃ املﺠﻤﻮﻋﺔ املﻐﻮﻟﻴﺔ ،ﻟﻜﻦ ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻟﺒﺎﺣﺜني وﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن ﻳُﻀﺎف ﱡ
ﻳﻌﺪوﻧﻬﻢ ﺳﻼﻟﺔ ﺧﻠﻴﻄﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳني واملﻐﻮل.
ُﻘﺴﻤﻮن إﱃ ﻗﺴﻤني :اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﻬﺎﻣﺸﻴني، واﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﻫﻢ ﻣﻐﻮل اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ ،وﻳ ﱠ
وأﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﻮﺳﻂ .واﻷﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﻬﺎﻣﺸﻴﻮن ﻫﻢ ﻛﻞ ﺳﻜﺎن اﻷﻣﺮﻳﻜﺘني ﻏري اﻟﺰراﻋﻴني ،وﻳﺘﻤﻴﺰون
ﺑﺮأس ﻃﻮﻳﻞ وﻣﻼﻣﺢ ﻣﻐﻮﻟﻴﺔ .أﻣﺎ أﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﻮﺳﻂ ﻓﻬﻢ أوﻟﺌﻚ اﻟﺬﻳﻦ ﻋﺮﻓﻮا اﻟﺰراﻋﺔ ﻣﻦ
املﻜﺴﻴﻚ ﺣﺘﻰ ﻫﻀﺎب اﻷﻧﺪﻳﺰ ﰲ ﺑريو وﺑﻮﻟﻴﻔﻴﺎ ،وﻫﻢ ﻳﺘﺼﻔﻮن ﺑﺮأس ﻋﺮﻳﺾ وﻣﻼﻣﺢ أﻗﻞ
ﻣﻐﻮﻟﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﻬﺎﻣﺸﻴني.
واملﺮﺟﺢ أن اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﻟﻢ ﻳﻌﱪوا ﻣﻀﻴﻖ ﺑريﻧﺞ ﻗﺎدﻣني ﻣﻦ آﺳﻴﺎ إﻻ ﺑﻌﺪ اﻷﻟﻒ اﻷرﺑﻌني
ﻗﺒﻞ املﻴﻼد؛ أي ﺧﻼل اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻷﻋﲆ ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺗﻘﺪم ﺗﻜﻨﻴﻜﻲ ﻛﺒري ﺳﺎﻋﺪ
ﻋﲆ اﺳﺘﻨﺒﺎط وﺳﺎﺋﻞ ﻟﻠﺤﻴﺎة ﰲ اﻷرض اﻟﺠﺪﻳﺪة ،وإن ﻟﻢ ﻳﺸﺘﻤﻞ ﻋﲆ ﻣﻌﺎرف اﻟﺰراﻋﺔ اﻟﺘﻲ
اﻛﺘُ ِﺸ َﻔ ْﺖ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﺑﻜﺜري.
أﻳﻀﺎ أن ﺑﻌﺾ اﻷﻳﻨﻮ وﺑﻌﺾ اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳني ﻗﺪ اﺷﱰﻛﻮا ﻣﻊ املﻐﻮل ﰲ ﺗﻌﻤري واملﺮﺟﺢ ً
أﻣﺮﻳﻜﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺷﺒﻪ ﺟﺰﻳﺮة ﺗﺸﻮﻛﴚ ﰲ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻵﺳﻴﻮي ﻣﻦ ﻣﻀﻴﻖ ﺑريﻧﺞ .وﻳﺒﺪو أن
املﻬﺎﺟﺮﻳﻦ ﻗﺪ اﺳﺘﻘﺮوا ﰲ أﻻﺳﻜﺎ ﻓﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ ،ﺛﻢ زﺣﻔﻮا ﺻﻌﻮدًا ﻣﻊ ﻧﻬ َﺮيْ ﻳﻮﻛﻦ وﻣﺎﻛﻨﺰي
ﺣﻮاﱄ ﺳﻨﺔ ٢٠٠٠٠أو ١٨٠٠٠ق.م ،ﺑﻌﺪ اﻧﻘﺸﺎع اﻟﺠﻠﻴﺪ ﻋﻦ ﺷﻤﺎل أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ.
أﻣﺎ ﻫﺠﺮة املﻐﻮل ﻋﱪ ﺟﺰر املﺤﻴﻂ اﻟﺒﺎﺳﻴﻔﻴﻜﻲ إﱃ أﻣﺮﻳﻜﺎ ،ﻓﻐﺎﻟﺒًﺎ ﻗﺪ ﺣﺪﺛﺖ ﺑﺎﻟﺼﺪﻓﺔ
وﺑﺄﻋﺪاد ﻗﻠﻴﻠﺔ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻌﻪ اﻟﺘﻐﺎﴈ ﻋﻦ دورﻫﺎ ﰲ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﺳﻜﺎن أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻘﺪﻣﺎء .ﻟﻜﻦ
ﻟﻌﻠﻬﺎ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ أﺗﺖ ﺑﺎﻟﺰراﻋﺔ وﻣﻌﺎرﻓﻬﺎ إﱃ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻮﺳﻄﻰ ،وﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل اﺧﺘﻼف
ﺷﺪﻳﺪ ﺑني اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني اﻟﺘﻄﻮرﻳني اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻌﺘﻘﺪون أن ﺑﺎﻹﻣﻜﺎن ﻧﺸﺄة اﻟﺰراﻋﺔ ﻣﺤﻠﻴٍّﺎ،
وﺑني أﺻﺤﺎب ﻧﻈﺮﻳﺎت اﻻﻧﺘﻘﺎل اﻟﺤﻀﺎري اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻌﺘﻘﺪون أن اﻟﺰراﻋﺔ ﻧﺸﺄت ﰲ ﻣﻜﺎن
واﺣﺪ ،وﻣﻨﻪ اﻧﺘﻘﻠﺖ إﱃ أرﻛﺎن اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻷرﺑﻌﺔ .وﻋﲆ اﻟﻌﻤﻮم ﻓﺈن اﻟﺮأي ﻗﺪ اﺳﺘﻘﺮ ﻋﲆ أن
املﻐﻮل ﻗﺪ اﻧﺘﻘﻠﻮا ﻣﻦ آﺳﻴﺎ إﱃ أﻣﺮﻳﻜﺎ ﰲ ﺻﻮرة ﻋﺪة ﻣﻮﺟﺎت ﻣﻦ اﻟﻬﺠﺮات ،وأن ﻫﺬه
املﻮﺟﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻫﻲ املﺴﺌﻮﻟﺔ ﻋﻦ اﺧﺘﻼف املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ ﻋﻨﺪ اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ،وآﺧﺮ ﻫﺬه
املﻮﺟﺎت ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻤﺜﻞ ﰲ ﻫﺠﺮة اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﻄﺒﻲ اﻷﻣﺮﻳﻜﻲ ،وﻟﻢ ﻳﺘﺴﻊ ﻟﻬﻢ
أﻳﻀﺎ ﻳﺮﺟﻊ إﱃ اﻟﺘﻨﻘﻞ اﻟﻮﻗﺖ ﺑَﻌْ ُﺪ ﻟﻜﻲ ﺗﻨﻘﺴﻢ ﻟﻐﺔ اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ إﱃ ﻋﺪة ﻟﻐﺎت ،وﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ً
واﻻﺣﺘﻜﺎك املﺴﺘﻤﺮ ﺑني اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ﺧﻼل اﻟﺸﺘﺎء اﻟﻄﻮﻳﻞ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ ﺗﺜﺒﻴﺖ اﻟﻠﻐﺔ
اﻟﻮاﺣﺪة.
176
اﻟﺴﻼﻻت املﻌﺎﴏة
وأﺧريًا ،ﻓﺈن ﻣﻐﻮل املﺤﻴﻂ اﻟﻬﺎدي ﻗﺪ ﺗﻜﻮﱠﻧﻮا ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻫﺠﺮات ﻋﺪﻳﺪة ﺻﻐرية ﻣﻦ
ﻣﻐﻮل ﴍق آﺳﻴﺎ وﻣﻐﻮل ﺟﻨﻮب ﴍق آﺳﻴﺎ ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ زﻧﻮج ﻣﻴﻼﻧﻴﺰﻳﺎ .وﻓﻴﻤﺎ ﻳﲇ
ﺟﺪول ﻳﻠﺨﺺ أﻫﻢ ﺻﻔﺎت اﻟﺴﻼﻟﺔ املﻐﻮﻟﻴﺔ ﻣﻮ ﱠزﻋً ﺎ ﻋﲆ ﺳﻼﻻﺗﻬﺎ اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ:
وﺑﺮﻏﻢ اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت ﰲ اﻟﺴﻼﻻت اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ املﻐﻮﻟﻴﺔ إﻻ أﻧﻪ واﺿﺢ أﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﺼﻞ إﱃ ﻣﺮﺗﺒﺔ
اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت ﰲ اﻟﺴﻼﻻت اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﻟﻠﻘﻮﻗﺎزﻳني ،ورﺑﻤﺎ ﻳﺮﺟﻊ ذﻟﻚ إﱃ ﺗﺤﺪد اﻟﻮﻃﻦ املﻐﻮﱄ
ﰲ أﻗﺎﻟﻴﻢ ﻣﺘﺸﺎﺑﻬﺔ ﰲ آﺳﻴﺎ وﺣﻮل املﺤﻴﻂ اﻟﻬﺎدي ﻋﺎﻣﺔ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺘﺒﻌﺜﺮ اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳﻮن ﻣﻦ
ﺷﻤﺎل أوروﺑﺎ إﱃ اﻟﻬﻨﺪ وإﱃ ﴍق أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ داﺧﻞ أﻗﺎﻟﻴﻢ ﺗﻘﻮم ﻓﻴﻬﺎ ﻋﺪة ﺣﻮاﺟﺰ ﺟﻐﺮاﻓﻴﺔ
)اﻟﺒﺤﺎر واﻟﺠﺒﺎل واﻟﺼﺤﺎري( ،وﺗﺤﺘﻚ أوﻃﺎﻧﻬﻢ ﺑﺎملﻐﻮل ﰲ اﻟﴩق واﻟﺰﻧﻮج ﰲ اﻟﺠﻨﻮب؛
177
اﻹﻧﺴﺎن
ﻣﻤﺎ ﻳﺆدي إﱃ ﺗﺒﺎدل اﻟﺠﻴﻨﺎت واﺧﺘﻼف اﻟﺴﻼﻻت اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ واملﺤﻠﻴﺔ ﰲ ﻫﻮاﻣﺶ اﻟﻮﻃﻦ
اﻟﻘﻮﻗﺎزي اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ واﻟﴩﻗﻴﺔ.
178
اﻟﺴﻼﻻت املﻌﺎﴏة
179
اﻹﻧﺴﺎن
ﻛﻼ ﻣﻦ اﻷﻗﺰام واﻟﺒﺸﻤﻦ واﻷﺳﱰاﻟﻴني اﻷﺻﻠﻴني ﻟﻬﻢ وﻳﺘﻀﺢ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺼﻔﺎت أن ٍّ
ﺻﻔﺎت ﺧﺎﺻﺔ ﻛﺜرية :ﻗﺰﻣﻴﺔ اﻟﻘﺎﻣﺔ ﻋﻨﺪ اﻷﻗﺰام ﻣﻊ ﻣﻴﻞ إﱃ ﻋﺮض اﻟﺮأس ،وﻗﴫ
اﻟﻘﺎﻣﺔ ﺟﺪٍّا ﻋﻦ اﻟﺒﺸﻤﻦ ﻣﻊ اﻟﺸﻌﺮ املﻔﻠﻔﻞ واﻟﺒﴩة املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻋﻦ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﺰﻧﻮج ،وﻃﻴﺔ
اﻟﻌني اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ )اﻟﺘﻲ ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ أﺣﻴﺎﻧًﺎ اﻟﻄﻴﺔ اﻟﻬﻮﺗﻨﺘﻮﺗﻴﺔ؛ ﻧﺴﺒﺔ إﱃ أﻗﺮﺑﺎﺋﻬﻢ اﻟﻬﻮﺗﻨﺘﻮت(،
واﻟﺸﻌﺮ املﻤﻮج ﻋﻨﺪ اﻷﺳﱰاﻟﻴني إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﻏﺰارة ﺷﻌﺮ اﻟﺠﺴﺪ واﻟﻮﺟﻪ ﻧﺴﺒﻴٍّﺎ ،وﺑﺮوز ﻋﻈﺎم
اﻟﺤﺎﺟﺒني ﺑﺸﺪة .ﻛﻞ ﻫﺬه ﺗﺠﻌﻞ ﻛﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﻫﺬه املﺠﻤﻮﻋﺎت ﺳﻼﻻت إﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﻗﺎﺋﻤﺔ
ﺑﺬاﺗﻬﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﺴﻼﻻت اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﻟﻠﺰﻧﻮج .وﻟﻌﻞ ﺳﺒﺐ ذﻟﻚ ﻫﻮ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﻄﻮﻳﻞ
داﺧﻞ أﻗﺎﻟﻴﻢ ﻋﺰﻟﺔ ﺟﻐﺮاﻓﻴﺔ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺮاﻫﻦ؛ ﻓﻘﺪ ﻇﻞ اﻷﺳﱰاﻟﻴﻮن ﻗﺎﺑﻌني ﰲ ﻗﺎرﺗﻬﻢ
ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ اﻻﺗﺼﺎل ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺨﺎرﺟﻲ ،ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء ﺑﻌﺾ اﻻﺗﺼﺎﻻت اﻟﺘﻲ ﺣﺪﺛﺖ ﻣﻊ أﻗﺮب
ﺟﺰﻳﺮة ﻟﻬﻢ :ﻏﻴﻨﻴﺎ اﻟﺠﺪﻳﺪة؛ ﻣﺎ أدى إﱃ ﺗﴪب ﻣﺆﺛﺮات زﻧﺠﻴﺔ ﻛﺜرية .واﻟﺒﺸﻤﻦ ﻣﻨﻌﺰﻟﻮن
اﻵن ﰲ ﺻﺤﺎري ﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،ﻟﻜﻨﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﰲ املﺎﴈ ﻳﺤﺘﻠﻮن ﻣﻌﻈﻢ املﻨﻄﻘﺔ اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ
ﻣﻦ ﻫﻀﺒﺔ اﻟﺒﺤريات اﻟﻨﻴﻠﻴﺔ إﱃ اﻟﺠﻨﻮب .ﻓﻬﻞ ﺗﺄﺛﺮوا ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ أو أﺧﺮى ﺑﻤﺆﺛﺮات ﻣﻐﻮﻟﻴﺔ
ﻗﺎدﻣﺔ ﻣﻦ اﻟﺒﺤﺮ؟ وﻧﺤﻦ ﻧﻌﻠﻢ أن املﻐﻮل ﰲ ﻫﺠﺮاﺗﻬﻢ ﻗﺪ وﺻﻠﻮا إﱃ ﺟﺰﻳﺮة ﻣﺪﻏﺸﻘﺮ،
ﻄﺎ واﺿﺤً ﺎ ﻣﻊ زﻧﻮج ﻫﺬه اﻟﺠﺰﻳﺮة .وأﺧريًا ﻓﺈن اﻷﻗﺰام ﻳﻌﻴﺸﻮن وﻫﻢ ﻳﻜﻮﱢﻧﻮن اﻵن ﺧﻠﻴ ً
داﺧﻞ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﻜﺜﻴﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻐﺎﺑﺎت اﻻﺳﺘﻮاﺋﻴﺔ ﰲ ﺣﻮض اﻟﻜﻨﻐﻮ ،وﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻋﻼﻗﺎﺗﻬﻢ
ﻗﻮﻳﺔ ﺑﺎﻟﺰﻧﻮج املﺠﺎورﻳﻦ إﻻ ﺑﻌﺪ أن ﺑﺪأ اﻟﺰﻧﻮج ﻳﺰﺣﻔﻮن ﺟﻨﻮﺑًﺎ داﺧﻞ اﻟﻐﺎﺑﺎت ﻣﺴﻠﺤني
ً
)وﺧﺎﺻﺔ ﺑﺎﻗﺘﺼﺎد زراﻋﻲ ،وﰲ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻤﺜﻞ ﻣﻌﺎﺑﺮ ﻟﻠﺰﻧﻮج املﺘﺠﻬني ﺟﻨﻮﺑًﺎ
180
اﻟﺴﻼﻻت املﻌﺎﴏة
181
اﻹﻧﺴﺎن
ﻛﻠﻴﻤﻚ ﻫﻮ أﺣﺪ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني اﻟﺒﻮﻟﻨﺪﻳني املﻌﺮوﻓني ،وﻗﺪ ﻋﻤﻞ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺤﻘﻞ ﻣﻊ اﻷﺳﺘﺎذ
اﻟﺒﻮﻟﻨﺪي املﺸﻬﻮر ﺗﺸﻴﻜﺎﻧﻮﻓﺴﻜﻲ .واﻟﺨﺮﻳﻄﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺤﻦ ﺑﺼﺪدﻫﺎ ﻗﺪ ﻻ ﺗﻜﻮن دﻗﻴﻘﺔ،
وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﻘﺪم ﺻﻮرة ﻛﺎﻣﻠﺔ ﰲ أﺑﺴﻂ إﻃﺎر ﻟﻔﻜﺮة اﻟﺘﻮزﻳﻊ اﻟﺴﻼﱄ ﻋﲆ ﺳﻄﺢ اﻟﻌﺎﻟﻢ
أﻳﻀﺎ ﺗﻌﻄﻲ ﻟﻠﻤﺪﻗﻖ ﺻﻮرة واﺿﺤﺔ ﻋﻦ أﻧﻪ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﺣﺪود ﺑﺎملﻌﻨﻰ املﻔﻬﻮم اﻟﻘﺪﻳﻢ ،وﻫﻲ ً
ﻟﻠﺴﻼﻻت ،وإﻧﻤﺎ ﺗﻮﺟﺪ ﻧﻄﺎﻗﺎت ﻋﺮﻳﻀﺔ ﻳﺤﺪث ﻓﻴﻬﺎ ﺗﺄﺛري ﻣﺰدوج ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻗﺪ
ً
ﺗﻤﺜﻴﻼ ﻟﺴﻼﻟﺔ إﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﻣﺎ ،وﻫﻲ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﺴﻤﻴﻬﺎ املﺮﻛﺰ اﻟﺮﺋﻴﴘ أو ﻣﻮﻃﻦ ﺗﻜﻮن أﻛﺜﺮ
اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ — أو ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺗﻮﻃﻨﻬﺎ.
وﺑﺎﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﺨﺮﻳﻄﺔ ﻧﺠﺪ املﻮاﻃﻦ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ ﻟﻠﺴﻼﻻت اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﻋﲆ ﻫﺬا
اﻟﻨﺤﻮ:
ً
أوﻻ :ﻣﻮاﻃﻦ اﻟﺴﻼﻻت اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳﺔ
) (١ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﺒﻠﻄﻴﻖ وإﺳﻜﻨﺪﻧﺎﻓﻴﺎ وﺷﻤﺎل أملﺎﻧﻴﺎ ،وﻛﻞ ﺷﻮاﻃﺊ ﺑﺤﺮ اﻟﺸﻤﺎل اﻷوروﺑﻴﺔ
واﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ،ﻫﻲ ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﺘﻮﻃﻦ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻠﻨﻮردﻳني أو اﻟﺸﻤﺎﻟﻴني اﻟﻐﺮﺑﻴني.
) (٢ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﻘﻮﻗﺎز واﻷﻧﺎﺿﻮل وﺷﻤﺎل إﻳﺮان ﻫﻲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺗﻮﻃﻦ اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ
اﻷرﻣﻨﻴﺔ.
182
اﻟﺴﻼﻻت املﻌﺎﴏة
) (٣ﻣﻨﺎﻃﻖ إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ واﻟﺠﺰﻳﺮة اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ وﺳﻬﻞ اﻟﻬﻨﺪوﺳﺘﺎن واﻟﺼﻮﻣﺎل ،ﻫﻲ ﻣﻨﺎﻃﻖ
اﻟﺘﻮﻃﻦ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ملﺠﻤﻮﻋﺎت ﻣﺘﻤﺎﻳﺰة ﻣﻦ اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﻮﺳﻴﻄﺔ ،وﻫﻲ ﺑﺎﻟﱰﺗﻴﺐ :اﻟﻮﺳﻄﻴﺔ
اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ،اﻟﻮﺳﻄﻴﺔ اﻟﴩﻗﻴﺔ ،واﻟﻬﻨﺪﻳﺔ ،واﻟﻜﻮﺷﻴﺔ أو اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ اﻟﴩﻗﻴﺔ.
وﻓﻴﻤﺎ ﺑني ﻫﺬه املﻮاﻃﻦ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﺗﺘﺪاﺧﻞ املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺴﻼﻟﻴﺔ؛ ﻓﻮﺳﻂ أوروﺑﺎ ﺗﻈﻬﺮ
ﻓﻴﻪ ﺗﺄﺛريات ﻣﺸﱰﻛﺔ ﻟﻠﻨﻮردﻳني واﻷﻟﺒﻴني وأﻋﻀﺎء اﻟﻮﺳﻴﻄﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ،واﻟﻬﻀﺒﺔ اﻹﻳﺮاﻧﻴﺔ
اﻷﻓﻐﺎﻧﻴﺔ ﺗﻈﻬﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﺗﺄﺛريات اﻟﻮﺳﻴﻄﺔ اﻟﴩﻗﻴﺔ ﺑﺎﻷﻟﺒﻴﺔ ،واﻟﻬﻀﺒﺔ اﻟﺤﺒﺸﻴﺔ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ
اﻟﻮﺳﻴﻄﺔ اﻟﴩﻗﻴﺔ ﻣﻊ ﺗﺄﺛريات ﻛﻮﺷﻴﺔ ،وﻳﻌﻄﻲ ﻛﻠﻴﻤﻴﻚ ملﻨﻄﻘﺔ اﻟﺘﻌﻘﻴﺪ اﻟﺴﻼﱄ واﻟﻠﻐﻮي
واﻟﺤﻀﺎري ﰲ ﺟﻨﻮب اﻟﻬﻨﺪ )ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﻔﻴﺪا واﻟﺪراﻓﻴﺪﻳني واﻟﺘﺎﻣﲇ( ﻣﺆﺛﺮات ﺳﻼﻟﻴﺔ ﻫﻨﺪﻳﺔ
وﻛﻮﺷﻴﺔ ،وﻟﻴﺲ ﻣﻌﻨﻰ ذﻟﻚ اﻓﱰاض ﻫﺠﺮة ﻛﻮﺷﻴﺔ إﱃ اﻟﻬﻨﺪ ،وﻟﻜﻦ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺮاﻋﻲ وﺟﻮد
ﺻﻼت ﻣﺴﺘﻤﺮة ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﺒﺤﺮ اﻟﻌﺮﺑﻲ ﺑني اﻟﺼﻮﻣﺎل وﺟﻨﻮب اﻟﺠﺰﻳﺮة اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ وﺳﺎﺣﻞ
اﻟﻬﻨﺪ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻣﻨﺬ أﻗﺪم اﻟﻌﺼﻮر املﻌﺮوﻓﺔ؛ ﻣﻤﺎ ﻗﺪ ﻳﱰﺗﺐ ﻋﻠﻴﻪ اﻧﺘﻘﺎل ﻣﺆﺛﺮات ﺳﻼﻟﻴﺔ
ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻟﻮراﺛﺔ ،أو أن ﺗﻜﻮن ﻫﺬه املﻨﻄﻘﺔ ﻛﻜﻞ ﻣﻬﺪًا ﻗﺪﻳﻤً ﺎ ﻟﺴﻼﻟﺔ إﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﻋﺘﻴﻘﺔ ﺗﺮاﻛﺒﺖ
ﻓﻮﻗﻬﺎ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت املﻬﺎﺟﺮﻳﻦ ﻣﻦ اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﻮﺳﻴﻄﺔ ﻣﻨﺬ اﻟﻌﴫ اﻟﻨﻴﻮﻟﻴﺘﻲ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻻ ﻳﺰال
ملﺆﺛﺮات املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻌﺘﻴﻘﺔ ﺗﺄﺛريات ﻣﺘﺸﺎﺑﻬﺔ ﰲ اﻟﺼﻔﺎت ملﺮﻛﺐ اﻟﻜﻮﳾ واﻟﻬﻨﺪي اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ
اﻟﺤﺎﱄ ،وﻻ ﻳﻤﻨﻊ ﻫﺬا أو ذاك ﻣﻦ اﻟﺘﻔﺴريات أن ﺗﺸﱰك ﻛﻞ اﻟﻌﻮاﻣﻞ ﺳﺎﺑﻘﺔ اﻟﺬﻛﺮ ﰲ إﻇﻬﺎر
اﻟﺘﺸﺎﺑﻪ املﻠﺤﻮظ.
ﻳﻌﻄﻴﻨﺎ ﻛﻠﻴﻤﻴﻚ اﻟﺼني اﻟﴩﻗﻴﺔ وﻛﻮرﻳﺎ وﺟﻨﻮب اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻛﻤﻨﻄﻘﺔ ﺗﻮﻃﻦ ﻟﻠﺼﻔﺎت اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ
ﻟﻠﻤﻐﻮل اﻟﴩﻗﻴني ،وﻣﻨﻄﻘﺔ ﻣﻨﻐﻮﻟﻴﺎ — اﻟﺘﺒﺖ — ﻛﺎزاﻛﺴﺘﺎن ﻛﻤﻨﻄﻘﺔ ﺗﻮﻃﻦ ملﻐﻮل اﻟﻮﺳﻂ،
وﻣﻨﻄﻘﺔ اﻷوب واﻟﻴﻨﴘ اﻷدﻧﻰ ﻛﻤﻨﻄﻘﺔ ﺗﻮﻃﻦ ملﻐﻮل اﻟﺸﻤﺎل أو اﻟﻘﺪﻣﺎء .وﻓﻴﻤﺎ ﺑني ﻫﺬه
املﻨﺎﻃﻖ ﺗﻈﻬﺮ ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﺘﺄﺛريات املﺘﺒﺎدﻟﺔ؛ ﻓﻔﻲ ﻧﻄﺎق ﻫﻼﱄ ﻳﺤﻴﻂ ﺑﺎﻟﺼني اﻟﴩﻗﻴﺔ وﻳﻤﺘﺪ
ﻣﻦ ﻣﻨﺸﻮرﻳﺎ إﱃ اﻟﺘﺒﺖ اﻟﴩﻗﻴﺔ وﺑﺮﻣﺎ وﻓﻴﺘﻨﺎم ،ﺗﻈﻬﺮ اﻟﺼﻔﺎت اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﻤﻐﻮل اﻟﴩﻗﻴني
ﻣﺘﺄﺛﺮة ﺑﺼﻔﺎت ﻣﻐﻮل اﻟﻮﺳﻂ.
وﰲ ﺳﻴﺒريﻳﺎ ﻳﻤﺘﺪ ﻧﻔﻮذ املﻐﻮل اﻟﺸﻤﺎﻟﻴني ﻣﻊ ﺗﺄﺛريات ﻣﻦ ﻣﻐﻮل اﻟﻮﺳﻂ ﰲ ﻛﻞ
ﻣﻦ ﺳﻴﺒريﻳﺎ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ واﻟﴩﻗﻴﺔ ،وﺗﺄﺛريات ﻣﻦ ﻣﻐﻮل اﻟﴩق ﰲ ﺷﻤﺎل ﴍق ﺳﻴﺒريﻳﺎ،
وﺗﻈﻬﺮ ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻷﻳﻨﻮ ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻛﻤﻨﻄﻘﺔ ﻋﺰﻟﺔ ﺗﻌﻠﻮﻫﺎ ﺗﺄﺛريات ﻣﻐﻮل اﻟﺸﻤﺎل ،وﰲ ﻣﺎﻟﻴﺰﻳﺎ
183
اﻹﻧﺴﺎن
وإﻧﺪوﻧﻴﺴﻴﺎ ﻳﻈﻬﺮ ﻣﻐﻮل اﻟﻮﺳﻂ ﻣﻊ ﺗﺄﺛريات ﻣﻦ ﻣﻐﻮل اﻟﴩق ،ﻣﻜﻮﻧﺔ ﻣﻐﻮل ﻣﺎﻟﻴﺰﻳﺎ
ﻛﺴﻼﻟﺔ إﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﻳُﻀﺎف إﻟﻴﻬﺎ ﺗﺄﺛريات ﻗﺪﻳﻤﺔ ﻣﻦ اﻷﺳﱰاﻟﻴني.
184
اﻟﺴﻼﻻت املﻌﺎﴏة
ﺷﻜﻞ 5-4
اﻟﺠﺪﻳﺪة ،وﺗﻔﺎﻋﻞ اﻟﺒﻴﺌﺔ واﻟﺘﻬﺠني اﻟﻮراﺛﻲ ﻛﺒري اﻟﺤﺠﻢ ﻳﺆدي إﱃ ﻓﺮص ﻋﺪﻳﺪة وﻣﺨﺘﻠﻔﺔ
ﰲ اﻷﻗﺎﻟﻴﻢ املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﺘﻜﻮﻳﻦ اﺗﺠﺎﻫﺎت ﺳﻼﻟﻴﺔ ﺟﺪﻳﺪة .وﻟﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ اﻟﺘﺤﻘﻖ ﻣﻦ اﺗﺠﺎه
ﻳﻨﻘﺾ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺘﻬﺠني أﻛﺜﺮ ﻣﻦ أرﺑﻌﺔ ﻗﺮون،
ِ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺴﻼﱄ وﻣﺪاه ﺣﺘﻰ اﻵن؛ ﻷﻧﻪ ﻟﻢ
ﺗﻘﻞ ﻛﺜريًا إذا ﻣﺎ ﻋﺮﻓﻨﺎ أن اﻟﺘﻬﺠني اﻟﺤﺮ ﺑني املﺴﺘﻮﻃﻨني ﻣﻦ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻟﻢ ﻳﺘﻢ
ﻣﻨﺬ ﻋﴫ اﻻﺳﺘﻴﻄﺎن اﻷول .ﻓﻔﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﻔﱰة ﻛﺎن اﻟﺘﻬﺠني ﻳﺘﻢ داﺧﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﺘﺸﺎﺑﻬﺔ؛
ﻣﺜﻼ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺴﺘﻮﻃﻨﻮن ﺑﺠﻮار ﺑﻌﻀﻬﻢ ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺑﺤرية ﻧﻈ ًﺮا ﻷن اﻟﻮاﻓﺪﻳﻦ ﻣﻦ اﻟﺴﻮﻳﺪ ً
ﻣﺘﺸﺠﺎن اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﰲ اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة.
185
اﻹﻧﺴﺎن
ﻆ ﰲ اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة ﺧﺎﺻﺔ — ﺣﻴﺚ ﺗﻜﺎﺛﻒ املﻬﺎﺟﺮون ﻋﺪدًا وﺳﻜﻨًﺎ — وﻟﻜﻦ ﻟُﻮﺣِ َ
اﺧﺘﻼﻓﺎت واﺿﺤﺔ ﺑني ﺳﻼﻟﺔ املﺴﺘﻮﻃﻨني وﺑني أﺻﻮﻟﻬﻢ اﻷوروﺑﻴﺔ .ﻓﺎﻟﻨﺴﻞ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﻏﺎﻟﺒًﺎ
أﻃﻮل ﻣﻦ اﻵﺑﺎء ،ﻛﻤﺎ ﺗﻈﻬﺮ ﺗﻐريات ﻣﺤﺴﻮﺳﺔ ﰲ ﺷﻜﻞ اﻟﺮأس ،وﻻ ﻳﻤﻜﻦ رد ﻫﺬه اﻟﺘﻐريات
أﻳﻀﺎ أن ﺗﺤﺴﻦ اﻟﻐﺬاء ﰲ أوروﺑﺎ ﻗﺪ إﱃ اﻟﺒﻴﺌﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة وﺣﺪﻫﺎ .وﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل ﻧﻠﺤﻆ ً
أدى إﱃ زﻳﺎدة ﰲ ﻃﻮل ﻗﺎﻣﺔ اﻟﻨﺴﻞ اﻟﺠﺪﻳﺪ ،وﻻ ﻧﺠﺪ اﻟﺰﻳﺎدة ﰲ ﻃﻮل اﻟﻘﺎﻣﺔ ﻣﻮﺣﺪة
ﰲ ﻛﻞ أﻧﺤﺎء اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة ،ﺑﻞ إن املﻼﺣﻆ ارﺗﻔﺎع ﻧﺴﺒﺔ اﻟﺰﻳﺎدة ﰲ اﻟﻐﺮب واﻟﺠﻨﻮب
اﻟﻐﺮﺑﻲ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﴩق واﻟﺸﻤﺎل اﻟﴩﻗﻲ .ﻓﻬﻞ ﻳﻌﻮد ذﻟﻚ إﱃ ﺗﻜﺎﺛﻒ اﻷﺻﻞ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰي
أو اﻟﻨﻮردي ﰲ اﻟﺸﻤﺎل واﻟﴩق ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺘﻢ اﻟﺘﻬﺠني ﺑﺼﻮرة ﺗﺘﺴﻢ ﺑﺤﺮﻳﺔ أوﺳﻊ ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ
اﻟﻐﺮب ﺣﺪﻳﺜﺔ اﻟﻨﻬﻀﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ؟
ﻫﻨﺎك أﺳﺌﻠﺔ ﻛﺜرية ﻻ ﻧﺠﺪ ﻟﻬﺎ ﺟﻮاﺑًﺎ ،وﻗﺪ ﻻ ﻧﺠﺪ ﻟﻬﺎ ﺟﻮاﺑًﺎ إﻻ ﺑﻌﺪ اﻧﻘﻀﺎء ﻋﺪة
أﺟﻴﺎل أﺧﺮى .ﻟﻜﻦ اﻟﺬي ﻳﻬﻤﻨﺎ ﰲ وﻗﺘﻨﺎ ﻫﺬا ﻫﻮ ﺗﺴﺠﻴﻞ ﻣﺎ ﻳﻘﻊ ﺗﺤﺖ أﻋﻴﻨﻨﺎ.
وﻓﻴﻤﺎ ﻳﲇ ﻧﻘﺪم دراﺳﺔ ﴎﻳﻌﺔ ﻷﻫﻢ اﻟﺴﻼﻻت املﻬﺠﻨﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة:
ً
أوﻻ :ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺳﻜﺎن أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ
ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ املﻬﺎﺟﺮﻳﻦ إﱃ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ﻗﺪﻣﻮا ﻣﻦ ﺳﻼﻻت ﻗﻮﻗﺎزﻳﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﺆدي إﱃ
ﺗﻔﺎﻋﻞ اﻟﻮراﺛﺔ ﺑني اﻟﻨﻮردﻳني واﻷﻟﺒﻴني وأﻋﻀﺎء ﺳﻼﻟﺔ اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ )اﻟﻮﺳﻴﻄﺔ( ،وﻛﺬﻟﻚ
ﺗﺪاﺧﻞ ﻣﻊ ﻫﺬا وﺟﻮد اﻟﺰﻧﻮج واﻵﺳﻴﻮﻳني واﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺘﻤﻴﻴﺰ اﻟﺴﻼﱄ واﻟﻠﻮﻧﻲ ﻗﺪ
ﻗﻠﻞ ﻛﺜريًا ﻣﻦ ﻧﺸﺄة ﺧﻠﻴﻂ ﺑني اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ اﻟﻜﱪى .وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﺈن اﻻﺧﺘﻼط ﻣﻊ
اﻵﺳﻴﻮﻳني واﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﰲ اﻟﻐﺮب ﻗﺪ ﺣﺪث وﻳﺤﺪث ﻣﻦ ﻓﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ ،وأدى إﱃ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﺧﻠﻴﻂ
ﻣﺸﺎﺑﻪ — وﻟﻜﻦ ﺑﺪرﺟﺔ أﻗﻞ — ﻟﺬﻟﻚ اﻟﺨﻠﻴﻂ ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ اﻟﺬي ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ ﻻدﻳﻨﻮس أو
ﻣﺴﺘﻴﺰوس .ﻛﻤﺎ أن اﻟﻌﻼﻗﺎت ﻏري اﻟﴩﻋﻴﺔ ﺑني اﻟﺒﻴﺾ اﻟﺰﻧﻮج ﻗﺪ أدت إﱃ ﺗﴪب ﺟﻴﻨﺎت
وراﺛﺔ زﻧﺠﻴﺔ إﱃ اﻟﺒﻴﺾ وﺑﻴﻀﺎء إﱃ اﻟﺰﻧﻮج .واﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳُﺪ َرﺟﻮا ﺗﺤﺖ
راﻳﺔ اﻟﺒﻴﺾ ﻣﻦ اﻟﺰﻧﻮج اﻧﺴ ﱡﻠﻮا داﺧﻞ املﺠﺘﻤﻊ اﻷﺑﻴﺾ دون أن ﻳﻼﺣﻈﻬﻢ أﺣﺪ ،وﺳﻨﻮﺿﺢ
ذﻟﻚ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ.
186
اﻟﺴﻼﻻت املﻌﺎﴏة
ﻣﻦ املﻌﺮوف أن ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻷوروﺑﻴني اﻟﺬﻳﻦ ﻋﻤﺮوا أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ ﻛﺎﻧﻮا ﻣﻦ اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﻮﺳﻴﻄﺔ
اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ )إﺳﺒﺎن وﺑﺮﺗﻐﺎﻟﻴﻮن( ،وﻟﻜﻦ ﻋﺪدﻫﻢ ﻛﺎن أﺣﻴﺎﻧًﺎ أﻗﻞ ﻣﻦ أﻋﺪاد اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ واﻟﺰﻧﻮج
اﻟﺬﻳﻦ ﺟُ ﻠِﺒﻮا ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﻌﻤﻞ ﰲ املﺰارع اﻟﻮاﺳﻌﺔ ،وﺗﺮﺗﺐ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﺣﺪوث اﺧﺘﻼﻃﺎت ﻛﺜرية
ﰲ اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت اﻟﺜﻼﺛﺔ :ﺑني اﻟﺒﻴﺾ واﻟﺰﻧﻮج واﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ،وﰲ أﻣﺎﻛﻦ ﻟﻢ ﺗَﻌُ ْﺪ ﻫﻨﺎك ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت
زﻧﺠﻴﺔ أو أﻣﺮﻳﻨﺪﻳﺔ .وﻣﻦ أﻫﻢ اﻷﻣﺜﻠﺔ اﻷرﺟﻨﺘني اﻟﺘﻲ ﺗﻢ ﻓﻴﻬﺎ اﻻﺧﺘﻼط ﺑﺤﻴﺚ ﻟﻢ ﻳَﻌُ ْﺪ ﻫﻨﺎك
زﻧﻮج ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ،ﺑﺮﻏﻢ أﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا أﻛﺜﺮ ﻋﺪدًا ﻣﻦ اﻷوروﺑﻴني ﰲ املﺎﴈ.
وﻗﺪ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك داﻓﻊ ﻟﻠﺰﻧﻮج أن ﻳﺨﺘﻠﻄﻮا ﺑﺄﻋﺪاد ﻛﺒرية ﺑﺎﻷﻣﺮﻳﻨﺪ؛ ﻷن اﻟﻘﻮاﻧني ﻛﺎﻧﺖ
ﺗﺤﺮم اﺳﱰﻗﺎق اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ وﺳﻼﻟﺘﻬﻢ .وﻋﲆ أي ﺣﺎل ﻻ ﺗﺰال ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﻜﺎرﻳﺒﻲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت
زﻧﺠﻴﺔ ﻛﺒرية ﻣﺜﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﺟﺰﻳﺮة ﻫﺎﻳﺘﻲ.
وﻳُﻄ َﻠﻖ اﺳﻢ ﻣﺴﺘﻴﺰوس Mestizosﻋﲆ املﻬﺠﻨني ﰲ املﻜﺴﻴﻚ وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ دول أﻣﺮﻳﻜﺎ،
ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳُﺴﺘﺨﺪَم ﻣﺼﻄﻠﺢ ﻻدﻳﻨﻮس Ladinosﰲ ﺟﻮاﺗﻴﻤﺎﻻ ،وﻳﺸﻴﻊ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﺳﻢ املﺴﺘﻴﺰو
ﰲ ﺑﻌﺾ دول أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ اﺳﺘﺨﺪام ﻣﺼﻄﻠﺢ ﺧﻼﳼ .Cholos
وﻧﻈ ًﺮا ﻻﺳﺘﻤﺮار اﻟﻬﺠﺮة اﻷوروﺑﻴﺔ إﱃ ﺑﻌﺾ أﺟﺰاء ﻣﻦ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ ﻛﺎﻷرﺟﻨﺘني
وأوروﺟﻮاي؛ ﻓﺈن ﺗﻜﻮﻳﻦ ﺳﻼﻻت ﺧﻼﺳﻴﺔ ﺑﺼﻔﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ أﻗﺮب ﻣﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻫﻨﺎك
اﺗﺠﺎه ﻋﺎم ﻟﺘﻜﻮﻳﻦ ﺳﻼﻟﺔ ﺧﻼﺳﻴﺔ واﺣﺪة.
187
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺨﺎﻣﺲ
اﻻﺿﻄﻬﺎد اﻟﻌﻨﴫي
دراﺳﺔ ﺗﻄﺒﻴﻘﻴﺔ أﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻋﻦ اﻟﻴﻬﻮد واﻟﺰﻧﻮج اﻷﻣﺮﻳﻜﻴني
اﻟﺘﻤﻴﻴﺰ واﻻﺿﻄﻬﺎد ﺑني املﺠﻤﻮﻋﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ راﺟﻊ ﰲ اﻷﺻﻞ إﱃ اﺧﺘﻼﻓﺎت ﺳﻼﻟﻴﺔ ﻇﺎﻫﺮة،
وأﻫﻢ ﻫﺬه اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت اﻟﻠﻮن واﻟﺴﺤﻨﺔ ،وﻫﻮ ﻛﺬﻟﻚ ﻣﻮﺿﻮع ﻗﺪﻳﻢ ﻟﻢ ﺗَﻨْﺞُ ﻣﻨﻪ اﻟﺪول
اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ذات اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ؛ ﻣﺜﻞ ﻣﺪن اﻹﻏﺮﻳﻖ واﻟﺪوﻟﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ ،ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك
أﻳﻀﺎ ﺗﻤﻴﻴﺰ ﻋﻨﴫي ﰲ ﻣﴫ اﻟﻔﺮﻋﻮﻧﻴﺔ وﺣﻀﺎرات اﻟﻌﺮاق اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ. ً
أﻣﺎ اﻻﺿﻄﻬﺎد اﻟﻌﻨﴫي اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻓﺄﺻﻠﻪ أوروﺑﻲ ،وﻳﺮﺟﻊ إﱃ ﻓﱰة ﻣﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﻜﺸﻮف
اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ اﻟﻜﱪى ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻋﴩ؛ ﻓﻘﺪ وﺟﺪ اﻷوروﺑﻴﻮن أﻧﻔﺴﻬﻢ وﺟﻬً ﺎ ﻟﻮﺟﻪ ﻣﻊ
ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻋﺪﻳﺪة ﻣﻦ اﻟﺒﴩ املﺨﺘﻠﻔني ﻋﻨﻬﻢ ﰲ ﻟﻮن اﻟﺒﴩة وﺷﻜﻞ اﻟﻮﺟﻪ وﻧﻮع اﻟﺸﻌﺮ
… وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت املﻮرﻓﻮﻟﻮﺟﻴﺔ .وﻟﻜﻦ اﻷﻣﺮ ﻟﻢ ﻳﻘﻒ ﻋﻨﺪ ﻫﺬا اﻟﺤﺪ ،ﺑﻞ إن
اﻷوروﺑﻴني واﺟﻬﻮا ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت ﻏﺮﻳﺒﺔ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ واﻟﺴﻴﺎﳼ واﻟﺪﻳﻨﻲ ،وأﻗﻞ ﻣﻨﻬﻢ
ً
ﺗﺨﻠﻔﺎ ﺑﻴﻨًﺎ ﰲ ﻛﻞ وﺳﺎﺋﻞ اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ. ﻛﺜريًا ﰲ ﻣﺴﺘﻮى اﻹﻧﺘﺎج ،وﻣﺨﺘﻠﻔني ﻋﻨﻬﻢ
ﻫﺬه اﻟﻔﻮارق اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ واﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ املﺎدﻳﺔ ﻣﺠﺘﻤﻌﺔ ،أوﺟﺪت ﻋﻨﺪ اﻷوروﺑﻴني ﰲ
ً
وإﺣﺴﺎﺳﺎ ﺑﺎﻟﺮﻓﻌﺔ ،وﺑﺄﻧﻬﻢ ﺑﻨﺎة اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ املﺘﻘﺪﻣﺔ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﻢ ﺷﻌﻮ ًرا ﺑﺎﻟﻘﻮة
وأﺻﺤﺎب اﻟﻔﻜﺮ املﺘﻘﺪم .وﺗﻀﺨﻢ ﻫﺬا اﻹﺣﺴﺎس ﺑﺸﺪة ﺣﻴﻨﻤﺎ أﻣﻜﻦ اﺳﱰﻗﺎق أو إﺑﺎدة
اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺸﻌﻮب .وﻋﲆ اﻹﺛﺮ ﻇﻬﺮت ﻧﻈﺮﻳﺎت ﻋﺪة ﻛﻠﻬﺎ ﺗﺆﻛﺪ ﺳﻴﺎدة اﻟﺮﺟﻞ اﻷﺑﻴﺾ،
ﻮﺟﻤَ ْﺖ ﺗﻠﻚ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت وﻧُﻘِ ﺪ ْ
َت ﻋﻠﻤﻴٍّﺎ وﻟﻢ ﻳَﺒ َْﻖ ﻣﻨﻬﺎ ﳾء ﻳُﺬ َﻛﺮ ،ﺳﻮى ﺟﺪل ﻋﻠﻤﻲ — وﻗﺪ ُﻫ ِ
ﻣﻦ ﺣني إﱃ آﺧﺮ — ﻣﺪﻋﻢ ﺑﺄدﻟﺔ أو ﻧﻈﺮات ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ .وﻟﻘﺪ ﻗﺎم اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﻮن ﺑﺎﻟﺠﻬﺪ
اﻷﻛﱪ ﰲ رﻓﺾ وﻧﻘﺪ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻌﻨﴫﻳﺔ ﻛﺄﻓﺮاد أو ﻫﻴﺌﺎت ﻣﻨﺬ اﻟﻘﺮن املﺎﴈ .وﻛﺬﻟﻚ
اﻹﻧﺴﺎن
اﺳﺘﻔﺎدت اﻷﻣﻢ املﺘﺤﺪة ﻣﻦ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني ﰲ أواﺋﻞ ﻋﻬﺪﻫﺎ ،ﻓﻨﴩت ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻣﻦ
اﻟﺒﺤﻮث واﻟﺪراﺳﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻮﺿﺢ ﻣﺰاﻋﻢ اﻟﻌﻨﴫﻳني وﺗﺪﺣﻀﻬﺎ ﺑﺎﻷدﻟﺔ واﻟﱪاﻫني .واﻟﻐﺮض
اﻟﻨﻬﺎﺋﻲ ﻣﻦ أﻋﻤﺎل اﻷﻣﻢ املﺘﺤﺪة ﻫﻮ اﻟﻘﻀﺎء ﻋﲆ آﺧﺮ ﺻﻮر اﻟﺘﻤﻴﻴﺰ اﻟﻌﻨﴫي ﰲ ﺷﺘﻰ
أﺷﻜﺎﻟﻪ ﺑﺈذاﻋﺔ ﻫﺬه اﻷﺑﺤﺎث اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ.
وﺑﺮﻏﻢ ﻛﻞ ﻫﺬا ﻓﺈن اﻟﺘﻤﻴﻴﺰ اﻟﻌﻨﴫي ﻻ ﻳﺰال ﻳُﻤﺎ َرس ﰲ ﺟﻬﺎت ﻋﺪﻳﺪة ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ،
وﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ أﻗﻄﺎر اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﻋﲆ وﺟﻪ ﺧﺎص ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﻣﺎ ﻳﺠﺮي ﻣﻦ ﺑﺮﺑﺮﻳﺔ
ﻋﻨﴫﻳﺔ ﰲ ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ ﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﺟﻨﻮب اﻟﺰﻣﺒﻴﺰي ﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ.
وﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻘﺴﻢ أﺷﻜﺎل اﻟﺘﻤﻴﻴﺰ واﻻﺿﻄﻬﺎد ﰲ اﻟﻔﱰة اﻷﺧرية إﱃ:
) (١ﺗﻌﺼﺐ واﺿﻄﻬﺎد ﻟﻮﻧﻲ وﺳﻼﱄ :ﻣﻦ أوﺿﺢ اﻷﻣﺜﻠﺔ ﻋﻠﻴﻪ اﺿﻄﻬﺎد اﻟﺰﻧﻮج ﰲ
اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة وﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ ﻋﺎﻣﺔ ،وإن ﻛﺎن اﻻﺿﻄﻬﺎد ﰲ اﻟﺒﻼد اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ أﻗﻞ
ﺿﺠﻴﺠً ﺎ ﻣﻦ اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة؛ ﻷن اﻟﻼﺗني — ﺑﺮﻏﻢ اﻟﻘﻮاﻧني — أﻛﺜﺮ ﺗﺴﺎﻣﺤً ﺎ ﻣﻦ اﻟﺴﻜﺎن
أﻳﻀﺎ ﺗﻌﺼﺐ ﻟﻮﻧﻲ وﺳﻼﱄ ﺑني اﻟﻴﻬﻮد اﻷوروﺑﻴني اﻟﺒﻴﺾ ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ،وﻫﻨﺎك ً
واﻟﻴﻬﻮد اﻟﺴﻮد واﻟﴩﻗﻴني ﰲ ﻓﻠﺴﻄني.
ً
اﺧﺘﻼﻓﺎ وﻳﺒﻠﻎ اﻻﺿﻄﻬﺎد اﻟﻠﻮﻧﻲ واﻟﺴﻼﱄ ﻗﻤﺘﻪ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﺨﺘﻠﻒ
ﺟﺬرﻳٍّﺎ ﻋﻤﺎ ﻫﻮ واﻗﻊ ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ .ﻓﻔﻲ أﻣﺮﻳﻜﺎ ﻫﻨﺎك أﻏﻠﺒﻴﺔ ﺑﻴﻀﺎء ﺗﻀﻄﻬﺪ
اﺟﺘﻤﺎﻋﻴٍّﺎ واﻗﺘﺼﺎدﻳٍّﺎ أﻗﻠﻴﺔ ﺳﻮداء ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻻ ﻳﻤﻨﻊ ﻣﻦ أن اﻟﺤﺮﻳﺎت ﻣﻜﻔﻮﻟﺔ ﻟﻠﺠﻤﻴﻊ
ﰲ اﻟﺪﺳﺘﻮر .أﻣﺎ ﰲ ﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﻓﺈن اﻷﻗﻠﻴﺔ اﻟﺒﻴﻀﺎء ﺗﺤﻜﻢ وﺗﻀﻄﻬﺪ اﻷﻏﻠﺒﻴﺔ اﻟﺴﻮداء؛
وﻟﻬﺬا ﻓﺈن إﺣﻜﺎم اﻻﺿﻄﻬﺎد ﻳﺘﻄﻠﺐ ﺣﻜﻤً ﺎ دﻛﺘﺎﺗﻮرﻳٍّﺎ ﺷﺪﻳﺪ اﻟﻌﻨﻒ ﻳﻤﺎرس ﺗﻄﺒﻴﻖ ﻣﺎ
ﻳﺴﻤﻴﻪ ﺑﺤﻮاﺟﺰ آﻣﻨﺔ ﺑﺎﻟﻴﺪ اﻟﺤﺪﻳﺪﻳﺔ .وﻣﻦ ﺛﻢ ،ﻓﺈن أي ﻛﻼم ﻋﻦ اﻟﺤﺮﻳﺎت اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻟﺰﻧﻮج
ﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﻏري ﻣﺴﻤﻮح ﺑﻪ ،ﻻ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ اﻟﺰﻧﻮج وﻻ ﺣﺘﻰ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ اﻟﺒﻴﺾ أﻧﻔﺴﻬﻢ،
ﻧﺎﻫﻴﻚ ﻋﻦ ﺣﺮﻳﺎت ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻣﻨﺼﻮص ﻋﻠﻴﻬﺎ ﰲ اﻟﺪﺳﺘﻮر ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﰲ اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة.
) (٢ﺗﻌﺼﺐ واﺿﻄﻬﺎد دﻳﻨﻲ وﺣﻀﺎري :وﻳﺘﻀﺢ ﻫﺬا ﺑﺼﻮرة أﻗﻞ وﺣﺸﻴﺔ ﰲ
ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻻﺿﻄﻬﺎد اﻟﺴﻼﱄ ﰲ اﻟﺒﻼد اﻟﺘﻲ ﺗﻮﺟﺪ ﻓﻴﻬﺎ أﻗﻠﻴﺎت دﻳﻨﻴﺔ أو ﻟﻐﻮﻳﺔ
أو ﺣﻀﺎرﻳﺔ ،وﻫﻲ ﻛﺜرية وﺗﺸﻤﻞ ﺑﻼدًا ﻣﺘﻘﺪﻣﺔ؛ ﻣﻦ ذﻟﻚ :اﻟﺘﻌﺼﺐ ﺑني اﻟﻜﺎﺛﻮﻟﻴﻚ
واﻟﱪوﺗﺴﺘﺎﻧﺖ ﰲ أوروﺑﺎ وأﻣﺮﻳﻜﺎ .وﺑﻼدًا ﻧﺎﻣﻴﺔ؛ ﻣﺜﻞ :اﻟﺘﻌﺼﺐ ﺑني اﻟﻬﻨﺪوس واملﺴﻠﻤني
ﰲ اﻟﻬﻨﺪ ،أو املﺴﻠﻤني واﻟﻬﻴﺌﺎت اﻟﺘﺒﺸريﻳﺔ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ .وﻛﺬﻟﻚ ﺗﻌﺼﺐ أﻗﻠﻴﺎت ﺣﻀﺎرﻳﺔ
ﻟﻐﻮﻳﺔ؛ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﰲ ﻳﻮﺟﻮﺳﻼﻓﻴﺎ ﺑني اﻟﻜﺮوات واﻟﴫب ،وﺗﻌﺼﺐ اﻟﻴﻬﻮد اﻷوروﺑﻴني
ﺿﺪ اﻟﻴﻬﻮد اﻟﴩﻗﻴني ﰲ ﻓﻠﺴﻄني.
190
اﻻﺿﻄﻬﺎد اﻟﻌﻨﴫي
191
اﻹﻧﺴﺎن
وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺟﺎءت ﻓﱰة ﺳﻴﺌﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻴﻬﻮد ،ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﴩ ﺣﺘﻰ
َت ﺣﺮﻳﺎت اﻟﻴﻬﻮد ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻛﺜرية ﻣﻦ أوروﺑﺎ أواﺧﺮ اﻟﻘﺮن املﺎﴈ وأواﺋﻞ اﻟﺤﺎﱄ؛ ﻓﻘﺪ ﺣُ ﱢﺪد ْ
ِ
املﺨﺘﻠﻔﺔ اﻟﻴﻬﻮ َد ﻋﲆ اﻟﺴﻜﻨﻰ ﰲ ﺣﻲ ﻣﻌني اﻟﺪول
ِ ُ
ﺳﻠﻄﺎت )دون ﺗﺮﺗﻴﺐ ﻣﺴﺒﻖ( ،وأﺟﱪت
ﺑﺎملﺪﻳﻨﺔ ﻳُﻄ َﻠﻖ ﻋﻠﻴﻪ :ﻏﻴﺘﻮ Ghettoأو ﺣﺎرة اﻟﻴﻬﻮد ،Judengasseوﺣﺮﻣﺖ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻣﻠﻜﻴﺔ
اﻷراﴈ اﻟﺰراﻋﻴﺔ .وﺑﺬﻟﻚ ﺗﺮﻛﺰ اﻟﻴﻬﻮد ﰲ املﺪن ﺑﻮﺟﻪ ﻋﺎم.
ورﻏﻢ أن ﺗﺤﺪﻳﺪ ﺣﺮﻳﺎت اﻟﻴﻬﻮد ﻗﺪ ﻗﴣ ﻋﲆ إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ اﻟﺘﺰاوج واﻻﺧﺘﻼط ﺑﻐري اﻟﻴﻬﻮد،
إﻻ أن أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ١٥ﻗﺮﻧًﺎ ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻳﺔ واﻻﺧﺘﻼط اﻟﺴﺎﺑﻖ ﻋﲆ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﴩ ﻗﺪ ﺟﻌﻠﺖ
اﻟﻴﻬﻮد ﺟﺰءًا ﻣﻦ اﻟﺴﻼﻻت اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻴﺶ ﻣﻌﻬﺎ .وﺑﺠﺎﻧﺐ ذﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﻘﺮون اﻟﺜﻤﺎﻧﻴﺔ ﻣﻦ
ﺗﺤﺪﻳﺪ إﻗﺎﻣﺔ اﻟﻴﻬﻮد ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻛﻠﻬﺎ ﻣﺴﺘﻤﺮة ﻣﻜﺎﻧًﺎ وزﻣﺎﻧًﺎ .ﻓﻔﻲ ﺑﻌﺾ اﻷﻣﺎﻛﻦ ﻛﺎن ﻳﺤﺪث
ﺗﺸﺪد ﻟﻔﱰة ﻣﺎ ﺛﻢ ﻳﺨﻒ اﻟﺘﺸﺪد ،وﰲ أﻣﺎﻛﻦ أﺧﺮى ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﺗﺸﺪد ﻟﻔﱰة ﻣﺎ ،وﻫﻜﺬا.
ً
إﻃﻼﻗﺎ ﻓﺼﻼت اﻟﻴﻬﻮد ﺑﺎﻟﺸﻌﻮب — وإن ﺗﺤﺪدت — إﻻ أﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻨﻘﻄﻊ ،وﻟﻢ ﻳﻤﻨﻊ ذﻟﻚ
ﺧﺮوج ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﻴﻬﻮد إﱃ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ ودﺧﻮل ﻣﺴﻴﺤﻴني إﱃ اﻟﻴﻬﻮدﻳﺔ .وﰲ اﻟﻮﻗﺖ
ﻧﻔﺴﻪ ﻓﺈن ﻳﻬﻮد اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﻟﻢ ﺗُﺤﺠَ ﺐ ﻋﻨﻬﻢ ﺣﺮﻳﺎﺗﻬﻢ ،ﺑﻞ ﺗﻤﺘﻌﻮا ﺑﻨﻔﻮذ ﻋﻈﻴﻢ
وﺣﺮﻳﺔ واﺳﻌﺔ ﰲ أﺟﺰاء ﻛﺜرية ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﺠﺰء ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،ﰲ ﺣني أن زﻣﻼءﻫﻢ ﰲ اﻟﺪﻳﻦ ﰲ
أوروﺑﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻌﻴﺸﻮن ﰲ ﻇﻞ اﻟﻐﻴﺘﻮ؛ أي ﰲ أﻣﺎﻛﻦ ﻣﻌﺰوﻟﺔ.
وﻋﲆ أي ﺣﺎل ،ﻓﺈن ﺣﺮﻛﺔ اﻟﻴﻬﻮد وﺗﻮﻃﻨﻬﻢ واﻣﺘﺰاﺟﻬﻢ ﺑﺸﻌﻮب ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﻗﺪ ﻧﻔﻰ
ﻋﻨﻬﻢ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻓﻜﺮة ﻛﻮﻧﻬﻢ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ أﻋﻀﺎء ﺳﻼﻟﺔ واﺣﺪة ،وإﻻ ﻷﺻﺒﺢ ﻫﻨﺎك ﺳﻼﻟﺔ إﺳﻼﻣﻴﺔ
وﺳﻼﻟﺔ أرﺛﻮذﻛﺴﻴﺔ أو ﻛﺎﺛﻮﻟﻴﻜﻴﺔ … إﻟﺦ.
ﻓﻴﻬﻮد اﻟﺤﺒﺸﺔ )اﻟﻔﻼﺷﺎ( ﻻ ﻳﺨﺘﻠﻔﻮن ﻋﻦ اﻷﺣﺒﺎش ﰲ ﳾء ﻣﻦ ﺻﻔﺎﺗﻬﻢ اﻟﺴﻼﻟﻴﺔ:
اﻟﻠﻮن وﺷﻜﻞ اﻟﺸﻌﺮ واﻟﻘﺎﻣﺔ … إﻟﺦ ،واﻻﺧﺘﻼف اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻫﻮ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ ،ورﺑﻤﺎ ﻣﻤﺎرﺳﺎت
اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ،وﺑﺎملﺜﻞ ﻻ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻳﻬﻮد أملﺎﻧﻴﺎ ﻋﻦ اﻷملﺎن ،وﻳﻬﻮد اﻟﺼني ﻋﻦ اﻟﺼﻴﻨﻴني.
أﻣﺎ ﺗﺤﺪب اﻷﻧﻒ ،أو ﻣﺎ ﻳُﻄ َﻠﻖ ﻋﻠﻴﻪ ﺧﻄﺄ »اﻷﻧﻒ اﻟﻴﻬﻮدي« ،ﻓﻬﻮ ﺻﻔﺔ ﺳﻼﻟﻴﺔ ﻟﻴﺴﺖ
ﺧﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﻴﻬﻮد ،ﺑﻞ ﻳﺸﺎرﻛﻬﻢ ﻓﻴﻬﺎ ﺳﻜﺎن ﴍق املﺘﻮﺳﻂ ﺑﻨﺴﺐ ﻣﺘﺴﺎوﻳﺔ ﰲ ﻇﻬﻮره ﺑني
اﻟﺴﻜﺎن .ﻛﻤﺎ أن ﻫﺬا اﻷﻧﻒ ﻟﻴﺲ »ﺳﺎﻣﻴٍّﺎ« ﰲ اﻷﺻﻞ ،إﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺗﺄﺛري ﻣﻦ اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻷرﻣﻨﻴﺔ
ﻋﲆ ﴍﻗﻲ املﺘﻮﺳﻂ وأﺟﺰاء ﻛﺜرية ﻣﻦ ﴍق وﺟﻨﻮب اﻟﺠﺰﻳﺮة اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ.
وإذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻘﻮﻣﻴﺔ ﻟﻠﻴﻬﻮد ﻫﻲ اﻟﻌﱪﻳﺔ؛ ﻓﺈن اﻟﻴﻬﻮد ﰲ أوروﺑﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻗﺪ اﺳﺘﻐﻨﻮا
ف ﺑﺎﺳﻢ ﻟﻐﺔ اﻟﻴﺪﻳﺶ ،Yidish, Jiddischوﻫﻲ ﻟﻴﺴﺖ ﻟﻐﺔ ﻋﻨﻬﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ وﺗﻜﻠﻤﻮا ﺑﻤﺎ ﻋُ ِﺮ َ
أﺻﻼ ﰲ اﻟﻘﺴﻢً ﺳﺎﻣﻴﺔ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق .ﺑﻞ ﻫﻲ إﺣﺪى ﻟﻬﺠﺎت اﻟﻠﻐﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ اﻟﻌﻠﻴﺎ ،ﻧﺸﺄت
192
اﻻﺿﻄﻬﺎد اﻟﻌﻨﴫي
اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻣﻦ وﺳﻂ أملﺎﻧﻴﺎ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ،وﻗﺪ اﺳﺘﺨﺪﻣﻬﺎ اﻟﻴﻬﻮد وأﺿﺎﻓﻮا إﻟﻴﻬﺎ ﺑﻌﺾ
املﻔﺮدات اﻟﺴﺎﻣﻴﺔ.
وﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻹﺗﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻟﻘﻮل أن ﻫﻨﺎك ﺣﻀﺎرة ﻳﻬﻮدﻳﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﻴﻬﻮد
ﻣﻨﺬ اﻟﻌﴫ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻲ ﺣﺘﻰ اﻟﻴﻮم ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻘﻮل أن ﻫﻨﺎك ﺑﻌﺾ املﻤﻴﺰات
ﻴﻔ ْﺖ إﻟﻴﻬﺎ ﺑﻌﺾاﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺸﺄت ﻋﻦ ﻣﻌﻴﺸﺔ اﻟﻴﻬﻮد ﰲ إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ واﻟﺘﻲ أ ُ ِﺿ َ
ﻣﻤﻴﺰات اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﱰﻛﻴﺔ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﺑﻌﺪ ﻋﺎم ،١٤٩٢ﻋﲆ أﺛﺮ ﻃﺮد اﻟﻴﻬﻮد ﻣﻦ
إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ املﺴﻴﺤﻴﺔ واﻟﺘﺠﺎﺋﻬﻢ إﱃ رﺣﺎب اﻟﺴﻠﻄﻨﺔ اﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻴﺔ.
ﻛﺬﻟﻚ ﻻ ﺑﺪ وأﻧﻬﻢ ﻗﺪ اﻛﺘﺴﺒﻮا ﺑﻌﺾ اﻟﱰاث ﺧﻼل ﻋﺰﻟﺘﻬﻢ ﰲ أﺣﻴﺎء اﻟﻴﻬﻮد داﺧﻞ
ﻣﺪن أوروﺑﺎ اﻟﻮﺳﻄﻰ واﻟﴩﻗﻴﺔ ﻟﻌﺪة ﻗﺮون.
وﺑﺮﻏﻢ ﻫﺬا ﻓﺈن اﺧﺘﻼف اﻟﻴﻬﻮد ﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﻢ أﻣﺮ ﻣﺘﻔﻖ ﻋﻠﻴﻪ .ﻓﻴﻬﻮد املﻐﺮب
ﻳﺨﺘﻠﻔﻮن ﰲ اﻟﻜﻢ اﻟﺤﻀﺎري ﺑﻼ ﺟﺪال ﻋﻦ ﻳﻬﻮد أملﺎﻧﻴﺎ أو ﻳﻬﻮد اﻟﺤﺒﺸﺔ ،وﰲ اﻟﺒﻼد
اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ اﻟﻜﱪى ﻣﺜﻞ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ وأﻣﺮﻳﻜﺎ ﻧﺠﺪ أن ﺣﺮﻳﺔ اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻗﺪ أدت إﱃ
اﻧﺪﺛﺎر ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ املﻈﺎﻫﺮ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﺴﻤﻴﻬﺎ ﻳﻬﻮدﻳﺔ.
واﻟﺘﺴﺎﻧﺪ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﺑني اﻟﻴﻬﻮد ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻳﺮﺟﻊ ﻏﺎﻟﺒًﺎ إﱃ رد ﻓﻌﻞ
ﻟﻼﺿﻄﻬﺎد اﻟﺬي ﻇﻞ اﻟﻴﻬﻮد ﻳﻘﻌﻮن ﺗﺤﺖ وﻃﺄﺗﻪ ﰲ دول أوروﺑﺎ ﻟﻔﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈن
اﻟﺘﻀﺎﻣﻦ واﻟﺘﺴﺎﻧﺪ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻛﺎﻧﺎ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻟﺘﺄﻛﻴﺪ اﻟﺬات اﻟﻴﻬﻮدﻳﺔ ،وﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﺪول اﻟﺘﻲ
ﺗﺘﻤﻴﺰ ﺑﺎﻟﺘﺴﺎﻣﺢ اﻟﺪﻳﻨﻲ — ﻛﻐﺎﻟﺒﻴﺔ دول اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻹﺳﻼﻣﻲ — أو اﻟﺪول اﻟﺪﻳﻤﻮﻗﺮاﻃﻴﺔ؛ ﻓﺈن
ﺗﺄﻛﻴﺪ اﻟﺬات اﻟﻴﻬﻮدﻳﺔ ﻻ ﻳﺠﺪ ﻟﻪ ﺻﺪًى ﻛﺒريًا ﰲ أوﺳﺎط اﻟﻴﻬﻮد.
وﻟﻘﺪ ﻗﻴﻞ إن ﻣﺴﺘﻮى اﻟﺬﻛﺎء ﺑني اﻟﻴﻬﻮد ﻣﺮﺗﻔﻊ .وﻟﻜﻦ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﻘﻮل ﻻ ﻳﻤﻜﻦ إﻗﺮاره
ﻋﻠﻤﻴٍّﺎ؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮن ﺟﺰءًا ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴٍّﺎ ﻣﻦ ﺷﻌﻮب ﻋﺎﺷﻮا وﺳﻄﻬﺎ ،وإذا ﺛﺒﺖ ً
ﻓﻌﻼ ﻣﺎ ﻳُﻘﺎل،
ﺿ ْﺖ ﻋﲆ اﻟﻴﻬﻮد ﻓﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ .وﻻ ﻓﻼ ﺑﺪ أن ﺗﻔﺴريه ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار ﺣﻴﺎة املﺪﻳﻨﺔ اﻟﺘﻲ ُﻓ ِﺮ َ
ﺷﻚ أن ﺣﻴﺎة املﺪﻳﻨﺔ ﻣﻦ اﻟﺪواﻓﻊ اﻟﻬﺎﻣﺔ ﻧﺤﻮ زﻳﺎدة اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ واﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ،واﻻﺗﺠﺎه
ﻧﺤﻮ اﻟﺘﻔﻮق اﻟﺤﺮﰲ واملﻬﻨﻲ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى.
وﻟﻘﺪ أﺛﺒﺖ وﺟﻮد ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﻳﻬﻮد اﻟﻌﺎﻟﻢ ﰲ ﻓﻠﺴﻄني ﰲ اﻟﻔﱰة اﻷﺧرية ﻟﻠﻴﻬﻮد
أﻧﻔﺴﻬﻢ ،أﻧﻪ ﻻ ﻣﺠﺎل ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ﻟﺼﺤﺔ املﺰاﻋﻢ اﻟﻘﺎﺋﻠﺔ ﺑﻮﺟﻮد ﺳﻼﻟﺔ ﻳﻬﻮدﻳﺔ واﺣﺪة.
ﻓﺈن اﻟﺘﻤﻴﻴﺰ اﻟﻌﻨﴫي اﻟﺬي ﻳﻈﻬﺮ ﺑني ﻳﻬﻮد أوروﺑﺎ وﻳﻬﻮد اﻟﴩق داﺧﻞ ﻓﻠﺴﻄني ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ،
ﻃ ِﺮدوا ﻣﻦ ﻓﻠﺴﻄني ﻣﺆﺧ ًﺮا؛ ﻟﻬﻲ واملﺮارة اﻟﺘﻲ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﻬﺎ اﻟﻴﻬﻮد اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﻮن اﻟﺴﻮد اﻟﺬﻳﻦ ُ
أﺑﻠﻎ ﺗﻌﺒري ﻋﻦ ﻓﺸﻞ وﺳﻘﻮط ادﻋﺎء اﻷﺻﻞ اﻟﺴﻼﱄ اﻟﻮاﺣﺪ ﻟﻜﺎﻓﺔ ﻳﻬﻮد اﻷرض.
193
اﻹﻧﺴﺎن
إن اﻻﺿﻄﻬﺎد اﻟﻠﻮﻧﻲ ﰲ اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﻣﻮﺟﻪ إﱃ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻫﻮ ﻏري أﺑﻴﺾ اﻟﺒﴩة
ﻗﻮﻗﺎزي اﻟﺘﻘﺎﻃﻴﻊ ،وﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى :ﻣﻮﺟﻪ ﺿﺪ اﻟﺰﻧﻮج واملﻐﻮل )اﻵﺳﻴﻮﻳني املﻬﺎﺟﺮﻳﻦ
ﺣﺪﻳﺜًﺎ ﻣﻦ اﻟﺼني واﻟﻴﺎﺑﺎن( واﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ،وﻣﻮﺟﻪ أﻳﻀﺎ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺿﺪ ﺳﻼﻟﺔ اﻹﺳﺒﺎن .وﺑﺮﻏﻢ
ﻫﺬه اﻟﻌﻤﻮﻣﻴﺔ إﻻ أﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ أن اﻻﺿﻄﻬﺎد اﻟﻠﻮﻧﻲ ﻣﻮﺟﻪ ﺗﻮﺟﻴﻬً ﺎ ﻣﺮﻛ ًﺰا ﺿﺪ اﻟﺰﻧﻮج ،وذﻟﻚ
ﻷﺳﺒﺎب ﻛﺜرية ﻋﲆ رأﺳﻬﺎ أن اﻟﺰﻧﻮج اﻷﻣﺮﻳﻜﻴني ﻳﻜﻮﻧﻮن أﻗﻠﻴﺔ ﻋﺪدﻳﺔ ﺿﺨﻤﺔ ﻗﺪ ﺗﺼﻞ
إﱃ ﺣﻮاﱄ ٢٥ﻣﻠﻴﻮن ﺷﺨﺺ 1 ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻏريﻫﻢ ﻣﻦ املﻐﻮل ﻻ ﻳﻜﻮﻧﻮن ﺳﻮى أﻗﻠﻴﺎت ﻗﻠﻴﻠﺔ
اﻟﻌﺪد .وإﱃ ﺟﺎﻧﺐ ذﻟﻚ ﻓﺈن زﻧﻮج أﻣﺮﻳﻜﺎ ﻣﻨﺘﴩون ﰲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن ﻣﻦ اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة …
ﺑﺮﻏﻢ ﺗﺮﻛﺰﻫﻢ اﻟﻜﺒري ﰲ اﻟﺠﻨﻮب واﻟﺠﻨﻮب اﻟﴩﻗﻲ .أﻣﺎ اﻵﺳﻴﻮﻳﻮن واﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﻓﻴﱰﻛﺰون ﰲ
املﺪن أو ﻣﻌﺎزل ﻣﺤﺪودة ﰲ ﻏﺮب اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻣﺸﻜﻠﺘﻬﻢ ﻣﺤﺪودة ،وﻻ
ﺗﻈﻬﺮ إﻻ ملﻦ ﺟﺎورﻫﻢ ﻣﻦ اﻟﺒﻴﺾ ﻓﻘﻂ .وﻓﻮق ﻫﺬا ﻓﺈن ﺗﺎرﻳﺦ ﻛﻔﺎح اﻟﺰﻧﻮج ،واﻟﺤﺮب
اﻷﻫﻠﻴﺔ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ،واﻟﺤﺮﻳﺎت اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺪﺳﺘﻮرﻳﺔ ،واﺗﺠﺎه اﻟﺰﻧﻮج إﱃ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ واﻟﺘﻌﻠﻴﻢ،
وﻣﻨﺎﻓﺴﺘﻬﻢ ﻟﻠﺒﻴﺾ ﰲ ﻣﺠﺎﻻت ﻛﺜرية ﻣﻦ اﻷﻋﻤﺎل؛ ﻛﻞ ﻫﺬه ﻋﻮاﻣﻞ اﺣﺘﻜﺎك ﻳﻮﻣﻴﺔ ﺗﺜري
ﻣﺸﻜﻠﺔ اﻟﻠﻮن ﺑﺼﻔﺔ ﻣﺴﺘﻤﺮة.
أﺻﻼ ﻣﻦ ﺳﺎﺣﻞ ﻏﺎﻧﺔ ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮا ﰲ ً وﻏﺎﻟﺒﻴﺔ زﻧﻮج اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة ﻫﻢ
ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﻢ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺣﻀﺎرﻳﺔ أو ﻟﻐﻮﻳﺔ واﺣﺪة .ﻓﺎﻟﻐﺎﻟﺒﻴﺔ اﻟﻜﱪى ﻣﻨﻬﻢ ﺟﺎءت ﻣﻦ ﻣﻨﺎﻃﻖ
ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻓﻴﻬﺎ ﻧﻈﻢ اﻟﺤﻜﻢ واﻻﻗﺘﺼﺎد واﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ واملﻮاﻫﺐ اﻟﻔﻨﻴﺔ ،وﺑﺮﻏﻢ ذﻟﻚ
ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﺠﺎﻧﺐ اﻟﺼﻮاب إذا ﻗﻠﻨﺎ إﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﺄﺗﻮا ﻣﻦ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﺗﺘﺴﻢ ﺑﺎﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ،ﺑﻞ
إن ﺳﺎﺣﻞ ﻏﺎﻧﺔ ﰲ أﺟﺰاء ﻛﺜرية ﻣﻨﻪ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ ﻣﻦ أﻋﲆ ﻣﺎ وﺻﻠﺖ إﻟﻴﻪ اﻟﺤﻀﺎرات
اﻟﺰﻧﺠﻴﺔ ﰲ ﻧﻮاﺣﻲ اﻻﻗﺘﺼﺎد اﻟﺰراﻋﻲ واﻟﺘﺠﺎرة ﻣﻊ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻹﺳﻼﻣﻲ إﱃ ﺷﻤﺎﻟﻪ .ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ
إﱃ ﺗﻄﻮﻳﺮ ﻧﻈﻢ دﻳﻨﻴﺔ وﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﻣﻌﻘﺪة ،وﻧﺒﻮغ ﻓﻨﻲ ﻋﻈﻴﻢ .وﻳﻜﻔﻲ أن ﻧﺬﻛﺮ اﺳﻢ ﻣﻤﻠﻜﺔ
اﻷﺷﺎﻧﺘﻲ أو ﻣﻤﻠﻜﺔ اﻟﻴﻮرﺑﺎ أو ﻣﻤﻠﻜﺔ اﻟﺒﺎﻛﻮﻧﺠﻮ أو ﻣﺪﻳﻨﺔ إﻳﻔﻲ أو ﺑﻨني؛ ﻟﻜﻲ ﺗﻨﺘﻘﻞ إﱃ
أذﻫﺎﻧﻨﺎ ﺻﻮرة واﺿﺤﺔ ﻋﻦ ﺣﻀﺎرات وﻓﻨﻮن زﻧﺠﻴﺔ راﺋﻌﺔ .وﺑﻌﺒﺎرة ﻗﺼرية ﻓﺈن اﻟﺰﻧﻮج
1ﺗﺪل إﺣﺼﺎءات اﻟﺴﻜﺎن ﻋﲆ أن ﻋﺪد اﻟﺰﻧﻮج ﰲ اﻟﻮﻻﻳﺎت ﻗﺪ ﺗﺰاﻳﺪ ﻣﻦ ﻗﺮاﺑﺔ ١٩ﻣﻠﻴﻮﻧًﺎ ﻋﺎم ١٩٦٠
إﱃ ٢٢٣٥٠٠٠٠ﺷﺨﺺ ﻋﺎم ،١٩٦٨وأﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺘﺰاﻳﺪون ﺑﻨﺴﺒﺔ ١٩٥٠ ٪٣٫٣اﻧﺨﻔﻀﺖ إﱃ ٪٣٫٢
١٩٦٠ﰲ ﻣﻘﺎﺑﻞ ٪٢٫٢٧ ،٪٢٫٣ﻟﻨﺴﺒﺔ ﺗﺰاﻳﺪ اﻟﺒﻴﺾ ﰲ اﻟﺴﻨﺘني املﺬﻛﻮرﺗني.
194
اﻻﺿﻄﻬﺎد اﻟﻌﻨﴫي
اﻟﺬﻳﻦ ﺟﻲء ﺑﻬﻢ ﻣﻜﺒﻠني ﺑﺎﻷﻏﻼل إﱃ ﺳﻮاﺣﻞ أﻣﺮﻳﻜﺎ ،ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮا أﻗﻞ ﻣﻦ ﺳﺎدﺗﻬﻢ اﻟﺒﻴﺾ
ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻨﻮاﺣﻲ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ.
وﰲ ﻣﻌﻈﻢ ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﺮﻗﻴﻖ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ،ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺜﻮرات ﺗﻘﻮم ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺘﺤﺮر
واﻻﺳﺘﻘﻼل .وﻗﺪ ﻧﺠﺢ اﻟﺮﻗﻴﻖ ﰲ اﻟﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ اﻟﺮق ﰲ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺸﻜﻠﻮن
ﻓﻴﻬﺎ ﻗﻮة ﻋﺪدﻳﺔ ﻛﺒرية؛ ﻣﺜﻞ ﺟﻴﺎﻧﺎ وﻫﺎﻳﺘﻲ وﺑﻌﺾ ﺟﺰر اﻟﺒﺤﺮ اﻟﻜﺎرﻳﺒﻲ اﻷﺧﺮى ،وﻟﻜﻦ
اﻹﻗﺎﻣﺔ املﺴﺘﻤﺮة ﻟﻌﺪة ﻗﺮون ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﻗﺪ أدت إﱃ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ اﻟﺨﻄرية اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ:
ً
ﻋﺎﻣﻼ ﻣﺴﺎﻋﺪًا ﻋﲆ ﺗﺴﺎﻧﺪ اﻟﺰﻧﻮج؛ ) (١ﻓﻘﺪان اﻟﻠﻐﺔ اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ اﻷﺻﻠﻴﺔ ،وﻫﺬه رﺑﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ
أﺻﻼ ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮا ﻳﺘﻜﻠﻤﻮن ﻟﻐﺔ أﻓﺮﻳﻘﻴﺔ واﺣﺪة ،ﺑﻞ ﻟﻐﺎت ﻋﺪﻳﺪة ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻷﻧﻬﻢ ً
ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈن اﺷﱰاﻛﻬﻢ ﰲ ﻟﻐﺔ اﻷﺳﻴﺎد :اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ أو اﻹﺳﺒﺎﻧﻴﺔ أو اﻟﱪﺗﻐﺎﻟﻴﺔ ﰲ
املﻨﺎﻃﻖ املﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪ ﻋﲆ إﻳﺠﺎد ﺗﻔﺎﻫﻢ ﴎﻳﻊ ﺑﻴﻨﻬﻢ ،وأﻋﺎد ﺻﻴﺎﻏﺔ ﺗﺮاﺛﻬﻢ املﺨﺘﻠﻒ
ﰲ ﺗﺮاث ﻣﺠﻤﻊ.
) (٢ﻓﻘﺪان ﺟﺰء ﻛﺒري ﻣﻨﻬﻢ ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻟﺘﺰاوج واﻻﺧﺘﻼط اﻟﴩﻋﻲ وﻏري اﻟﴩﻋﻲ ﻣﻊ ﻛﺎﻓﺔ
اﻷوروﺑﻴني ،وﻣﻊ اﻟﱪﺗﻐﺎﻟﻴني ﺑﻮﺟﻪ ﺧﺎص ،واﻹﺳﺒﺎن ﺑﺪرﺟﺔ أﻗﻞ .وﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ﺳﺎﻋﺪ ﻋﲆ
ﻗﻴﺎم ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺳﻜﺎﻧﻴﺔ وﺳﻴﻄﺔ اﻟﺼﻔﺎت ﺑني اﻟﺰﻧﻮج واﻷوروﺑﻴني أﺻﺒﺢ ﻟﻬﺎ ﻛﻴﺎﻧﻬﺎ املﺴﺘﻘﻞ
ﰲ ﺑﻌﺾ املﻨﺎﻃﻖ ،وﻛﻴﺎن ﻣﺰﻋﺰع ﰲ أﺣﻴﺎن أﺧﺮى؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻻ ﻳُﻘﺒَﻠﻮن ﰲ وﺳﻂ وﻣﺤﻴﻂ
اﻷوروﺑﻴني واﻟﺰﻧﻮج ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ.
وﻗﺪ ﻛﺎن أول ﻋﻬﺪ اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة ﺑﺎﻟﺮﻗﻴﻖ ﻋﺎم ،١٦١٩ﺣﻴﻨﻤﺎ وﺻﻠﺖ أول »ﺷﺤﻨﺔ«
رﻗﻴﻖ إﱃ وﻻﻳﺔ ﻓﺮﺟﻴﻨﻴﺎ ،وﻣﻨﺬ ذﻟﻚ اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﺳﺘﻤﺮ ﻗﺪوم اﻟﺮﻗﻴﻖ إﱃ اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة ﺧﻼل
ﻗﺮﻧني وﻧﺼﻒ اﻟﻘﺮن ،وﰲ ﺧﻼل ﺗﻠﻚ اﻟﻔﱰة اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ املﺮأة اﻟﺰﻧﺠﻴﺔ ﻗﺎدرة ﻋﲆ أن
ﺗﻨﺴﺐ أﺑﻨﺎءﻫﺎ ﻏري اﻟﴩﻋﻴني إﱃ اﻟﺴﺎدة اﻟﺒﻴﺾ ،وﺗﺮﺗﺐ ﻋﲆ ذﻟﻚ أن اﻻﺧﺘﻼط واﻟﺘﻬﺠني
ﻏري اﻟﴩﻋﻲ ﻗﺪ ﺳﺎر ﺑﴪﻋﺔ ﻛﺒرية )ﻃﺎملﺎ أﻧﻪ ﻻ ﻳﺆدي إﱃ ﻣﺸﺎﻛﻞ ﻗﺎﻧﻮﻧﻴﺔ أو ﻣﺼﺎﻋﺐ
اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ( ،وﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪ ذﻟﻚ ﻋﲆ إﻋﻄﺎء ﻧﺴﺐ ﻛﺒرية ﻣﻦ ﺟﻴﻨﺎت اﻟﻮراﺛﺔ اﻷوروﺑﻴﺔ إﱃ ﺟﻤﻴﻊ
اﻟﺰﻧﻮج.
وﰲ ﺧﻼل املﺎﺋﺔ ﺳﻨﺔ املﺎﺿﻴﺔ — أي ﺑﻌﺪ ﺗﺤﺮﻳﺮ اﻟﺮﻗﻴﻖ — ﺣﺪث ﺗﻨﺎﻗﺺ واﺿﺢ ﰲ
اﻻﻧﺪﻣﺎج واﻻﺧﺘﻼط ﻏري اﻟﴩﻋﻲ ﺑني اﻟﺒﻴﺾ واﻟﺰﻧﻮج ،وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﺘﻮﻗﻒ ،وﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪ ﻫﺬا
اﻟﺘﻨﺎﻗﺾ ﰲ اﻻﺧﺘﻼط ،ﻣﻊ ارﺗﻔﺎع ﻣﺴﺘﻮى املﻌﻴﺸﺔ اﻟﺰﻧﺠﻲ ﺑﻮﺟﻪ ﻋﺎم — ﺑﺎﻟﻘﻴﺎس إﱃ ﻣﺎ
ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ — وإﻃﻼق ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻳﺎت )ﻛﺜري ﻣﻨﻬﺎ ﻧﻈﺮي وﺑﻌﻴﺪ ﻋﻦ اﻟﺘﻨﻔﻴﺬ،
195
اﻹﻧﺴﺎن
ﺣﺘﻰ ﰲ دور اﻟﻌﺒﺎدة( ،ﺳﺎﻋﺪ ﻋﲆ ﺗﻨﺎﻗﺺ ﰲ ﺗﺒﺎدل املﻮ ﱢرﺛﺎت ﺑني اﻟﺒﻴﺾ واﻟﺰﻧﻮج ،وﻟﻜﻦ
ذﻟﻚ ﺟﺎء ﻣﺘﺄﺧ ًﺮا.
وﻟﻴﺴﺖ ﻫﻨﺎك ﻣﻦ أدﻟﺔ أﻛﺜﺮ ﻗﻮة ﻋﲆ أن اﻟﺰﻧﻮج ﻗﺪ ﺗﺄﺛﺮوا إﱃ ﺣﺪ ﺑﻌﻴﺪ ﺑﺎﻻﺧﺘﻼط
اﻟﺴﻼﱄ ﻣﻊ اﻷوروﺑﻴني ،ﻣﻦ أن أﻗﻠﻴﺔ ﺿﺌﻴﻠﺔ ﻣﻦ زﻧﻮج اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة اﻟﻴﻮم ﻗﺎدرة ﻋﲆ
اﻟﺘﺪﻟﻴﻞ ﻋﲆ أﺻﻮﻟﻬﺎ اﻟﺰﻧﺠﻴﺔ اﻟﺨﺎﻟﺼﺔ ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﺷﺠﺮة اﻟﻨﺴﺐ ﻣﻦ أول ﺟﺪ وﺻﻞ ﻛﺮﻗﻴﻖ
إﱃ أﻣﺮﻳﻜﺎ ،وذﻟﻚ ﺑﺮﻏﻢ ﻋﺪم ﺟﺪوى ﺷﺠﺮة اﻟﻨﺴﺐ ﰲ اﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﻣﻦ اﻷﺑﻮة اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ .ﻓﻬﻲ
ﰲ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻷﺣﻮال ﺗﺪل ﻋﲆ اﻷﺑﻮة اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ.
وﺗﺨﺘﻠﻒ ﺗﻘﺪﻳﺮات اﻷﺧﺼﺎﺋﻴني ﰲ ﻋﺪد أوﻟﺌﻚ اﻟﺰﻧﻮج اﻟﺨﻠﺺ أو اﻷﻧﻘﻴﺎء ﺑني ٪٣
و ٪٣٠ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮع زﻧﻮج اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة اﻟﺤﺎﻟﻴني .أﻣﺎ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﺰﻧﻮج ،وﻫﻢ ﻳﺸﻜﻠﻮن ٪٧٠
ﻋﲆ أدﻧﻰ ﺗﻘﺪﻳﺮ؛ ﻓﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﺴﻼﻟﻴﺔ ﺧﻠﻴﻂ وﻫﺠني ﺑﻨﺴﺐ ﻣﺘﻐﺎﻳﺮة ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻣﻦ
ﺟﻴﻨﺎت أوروﺑﻴﺔ ﻗﻠﻴﻠﺔ وزﻧﺠﻴﺔ ﻛﺜرية ،إﱃ ﺟﻴﻨﺎت أوروﺑﻴﺔ ﻛﺒرية وزﻧﺠﻴﺔ ﻗﻠﻴﻠﺔ ،وﻛﺬﻟﻚ
اﺧﺘﻠﻄﺖ ﻋﺪة ﻣﻼﻳني ﻣﻦ اﻟﺰﻧﻮج ﺑﺎﻷﻣﺮﻳﻨﺪ .وﺧﻼﺻﺔ اﻟﻘﻮل أن زﻧﻮج اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة ﻗﺪ
أﺻﺒﺤﻮا ﻣﺨﺘﻠﻔني ﰲ ﺻﻔﺎت ﻋﺪﻳﺪة ﻋﻦ زﻧﻮج أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ.
وﻫﻨﺎك ﻋﺪد ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺤﺪﻳﺪه ﻣﻦ ﻧﺘﺎج اﻟﺘﻬﺠني اﻷوروﺑﻲ اﻟﺰﻧﺠﻲ اﻟﺬﻳﻦ اﻧﺴﻠﺨﻮا أو
اﻧﺴ ﱡﻠﻮا ﻋﻦ املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺰﻧﺠﻴﺔ ﺑﻌﺪ ﻋﺎم ،١٨٧٠وﺗﻤﻜﻨﻮا ﻫﻢ وﻧﺴﻠﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﺘﴪب داﺧﻞ
املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺒﻴﻀﺎء واﻟﺘﺤﺮك اﻟﺤﺮ واﻟﺘﺰاوج داﺧﻞ ﻫﺬه املﺠﻤﻮﻋﺔ ،ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﻣﻦ ﻓﺮص
ﻣﺘﻜﺎﻓﺌﺔ ﰲ اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ واﻷﻋﻤﺎل واﻟﺘﻌﻠﻴﻢ واﻹﺳﻜﺎن واملﻤﺎرﺳﺎت اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ .وﻻ ﺷﻚ أن ﺗﴪب
ﻫﺆﻻء داﺧﻞ املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺒﻴﻀﺎء ﻗﺪ أدى إﱃ ﺗﴪب ﻣﻤﺎﺛﻞ ﻟﺠﻴﻨﺎت زﻧﺠﻴﺔ ﻟﻠﺪرﺟﺔ اﻟﺘﻲ
ﻧﺘﻮﻗﻊ ﻣﻌﻬﺎ وﺟﻮد ﻋﺪة ﻣﻼﻳني ﻣﻦ اﻟﺒﻴﺾ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴني اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺤﻤﻠﻮن ﻧﺴﺒًﺎ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ
املﻮرﺛﺎت اﻟﺰﻧﺠﻴﺔ ،ﻻ ﻳﺸﻌﺮون ﺑﻬﺎ ،وﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻗﻴﺎﺳﻬﺎ ﺑﺄي ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻣﻌﺮوﻓﺔ ﻟﻠﻌﻠﻢ ﺣﺘﻰ
اﻟﻴﻮم.
ﺗﻮﻗﻒ اﻟﺰواج اﻟﴩﻋﻲ وﻏري اﻟﴩﻋﻲ ﺑني اﻟﺰﻧﻮج واﻟﺒﻴﺾ ،وإﺣﺴﺎس ﻛﻞ ﻣﻦ ﻟﻜﻦ ﱡ
ﻓﻌﻼ إﱃ ﺑﻂء ﻣﻠﺤﻮظ ﰲ ﺗﴪب إﺣﺴﺎﺳﺎ ﻣﺘﺰاﻳﺪًا ﺑﺬاﺗﻴﺘﻪ وﻛﻴﻨﻮﻧﻴﺘﻪ ﻗﺪ أدى ً
ً املﺠﻤﻮﻋﺘني
اﻟﺠﻴﻨﺎت املﺘﺒﺎدﻟﺔ ﺑني املﺠﻤﻮﻋﺘني .وﻋﲆ أﺳﺎس اﺳﺘﻤﺮار اﻟﻮﺿﻊ اﻟﺤﺎﱄ اﻟﺬي ﻳﻮاﺟﻪ ﻓﻴﻪ
اﻟﺰﻧﻮج واﻟﺒﻴﺾ ﺑﻌﻀﻬﻤﺎ ﺑﴚء ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻌﺪاء؛ ﻓﺈن املﺘﻮﻗﻊ أﻻ ﻳﺤﺪث ﺗﻐﻴري أﺳﺎﳼ
ﰲ اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻟﺴﻼﱄ اﻟﺤﺎﱄ ﻟﻠﺰﻧﻮج واﻟﺒﻴﺾ ﻟﻔﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻗﺎدﻣﺔ .أﻣﺎ إذا اﻧﻬﺎرت اﻟﺴﻼﻟﻴﺔ
اﻟﺬاﺗﻴﺔ؛ ﻓﻬﻨﺎك اﺣﺘﻤﺎل ﻛﺒري ﻟﺤﺪوث ﺗﻐريات ﺑﺪرﺟﺔ أﴎع ﰲ اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻟﺴﻼﱄ اﻟﺤﺎﱄ،
وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﻬﻨﺎك اﺣﺘﻤﺎل ﻟﺘﺰاﻳﺪ ﻣﻠﺤﻮظ ﰲ ﺑﴩة ذات ﻟﻮن أﻗﻞ دﻛﻨﺔ ﻣﻤﺎ ﻫﻮ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻮﺿﻊ
اﻟﺤﺎﱄ ﺑني اﻟﺰﻧﻮج؛ وذﻟﻚ ﻷﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳَﻌُ ﻮدوا ُﺳﻮد اﻟﺒﴩة ﺑﺎﻟﺪرﺟﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﻌﺮﻓﻬﺎ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ.
196
اﻻﺿﻄﻬﺎد اﻟﻌﻨﴫي
وﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ واﻟﻠﻐﻮﻳﺔ ،ﻓﺈن زﻧﻮج اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة ﻗﺪ اﻧﻔﺼﻠﻮا ﺗﻤﺎﻣً ﺎ
ﻋﻦ اﻟﺤﻀﺎرات اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ .ﻓﺎﻻرﺗﺒﺎﻃﺎت اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ ﻣﻊ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﻗﺪ أﺻﺒﺤﺖ ﻗﻠﻴﻠﺔ وﻧﺎدرة،
ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء ﺑﻌﺾ اﻟﺼﻮﺗﻴﺎت اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ اﻟﺘﻲ أﺛﺮت ﻋﲆ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻧﻄﻖ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ﰲ اﻟﺠﻨﻮب
اﻷﻣﺮﻳﻜﻲ اﻟﺰراﻋﻲ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﻴﺾ واﻟﺰﻧﻮج ﻋﲆ اﻟﺴﻮاء .أﻣﺎ ﻛﺎﻓﺔ اﻷﺷﻜﺎل اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻓﻠﻢ
ﻳﻌﺪ ﻟﻬﺎ ﺻﻠﺔ ﺑﺎﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،وأﺻﺒﺤﺖ اﻷدوات واﻵﻻت اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ
اﻟﺰﻧﻮج ﻣﻨﺬ ﻗﺪوﻣﻬﻢ إﱃ اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة ﻣﻦ اﻹﻧﺘﺎج اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻲ اﻷوروﺑﻲ اﻟﺼﻨﺎﻋﻲ.
وﻛﺬﻟﻚ اﺧﺘﻔﺖ ﻛﻞ أوﺟﻪ اﻟﻨﻈﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ ﻣﻦ ﺗﻨﻈﻴﻢ ﻋﺸﺎﺋﺮي أو ﻃﻤﻮﺣﻲ
أو ﻧﻈﻢ زواج وﻧﻈﻢ ﺣﻜﻢ أو درﺟﺎت ﻗﺮاﺑﺔ .أﻣﺎ اﻟﻨﻈﻢ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واﻟﻄﻘﻮس؛ ﻓﻘﺪ ﺗﺤﻮﻟﺖ
أﻳﻀﺎ إنﺑﺮﻣﺘﻬﺎ إﱃ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻣﻊ ﺑﻌﺾ ﺑﻘﺎﻳﺎ ﻣﻦ اﻟﻄﻘﻮس واملﻌﺘﻘﺪات اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،وﻳُﻘﺎل ً
أﺻﻼ ﻣﻦ اﻷﻏﺎﻧﻲ اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ،ﻣﻊ ً أﻏﺎﻧﻲ اﻟﺰﻧﻮج اﻟﺰراﻋﻴني وﻣﻮﺳﻴﻘﺎﻫﻢ ﻣﺴﺘﻤﺪة
إﺿﺎﻓﺎت ﺧﻼﻗﺔ ﰲ اﻟﺸﻌﺮ واملﻮﺳﻴﻘﻰ ﺟﺎءت ﺗﻌﺒريًا ﻋﻦ ﺣﻴﺎة اﻟﺮق واﻻﺳﺘﻌﺒﺎد ،وﻣﻦ ﺛﻢ
ﻧﺸﺄت اﻟﺼﻴﻐﺔ املﻮﺳﻴﻘﻴﺔ اﻟﺰﻧﺠﻴﺔ اﻟﺸﺎﺋﻌﺔ .وﻻ ﺷﻚ أن اﺳﺘﺨﺪام إﻣﻜﺎﻧﺎت اﻟﺼﻮت اﻟﺰﻧﺠﻲ
ﰲ اﻟﻐﻨﺎء ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺰﻧﺠﻴﺔ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ املﻌﺮوﻓﺔ ،إﻧﻤﺎ ﻫﻲ إﻣﻜﺎﻧﺎت ﺻﻮﺗﻴﺔ أﻓﺮﻳﻘﻴﺔ أﺻﻴﻠﺔ
ﻣﻊ ﺑﻌﺾ إﺿﺎﻓﺎت ﻣﻦ ﻣﺼﺎدر ﻛﺜرية ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ .وﻗﺪ اﺧﺘﻔﺖ ﻋﺒﻘﺮﻳﺔ اﻟﺰﻧﻮج اﻟﻔﻨﻴﺔ
ً
اﺧﺘﻼﻓﺎ ﺑﻴﻨًﺎ ﻋﻦ ﰲ اﻟﻔﻨﻮن اﻟﺘﺸﻜﻴﻠﻴﺔ ﺗﺤﺖ ﺣﻴﺎة اﻟﺮق ،ﻛﻤﺎ أن اﻟﺮﻗﺺ اﻟﺰﻧﺠﻲ ﻳﺨﺘﻠﻒ
اﻟﺮﻗﺺ اﻷﻓﺮﻳﻘﻲ .وﻋﲆ اﻟﻌﻤﻮم ﻓﺈن اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ اﻷﺻﻮل اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ اﻟﴫﻓﺔ ﰲ
ﻳﻨﺘﻪ إﱃ إﺛﺒﺎت وﺟﻮدﻫﺎ ﺑﻜﺜﺮةﺣﻀﺎرة اﻟﺰﻧﻮج ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ — ﻣﻦ اﻟﻨﻮاﺣﻲ اﻟﻔﻨﻴﺔ — ﻟﻢ ِ
ﺷﺎﺋﻌﺔ ،وإﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﺑﻘﺎﻳﺎ ﻣﻌﺪﻟﺔ ﻣﻨﺬ ﻋﻬﺪ اﻟﺮق.
ﻛﺬﻟﻚ ﻳُﻘﺎل إن ﺑﻂء اﻟﺰﻧﺠﻲ ﰲ ﺣﺮﻛﺘﻪ وﰲ ﻣﺸﺎﻋﺮه إﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﺴﺘﻤﺪ ﻣﻦ أﺻﻮل
أﻓﺮﻳﻘﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ اﻟﻮاﻗﻊ أﻧﻪ ﻣﺴﺘﻤﺪ ﻣﻦ ﻋﻬﺪ اﻟﺮق ،ﺣني ﻛﺎن اﻟﺒﻂء ﰲ اﻟﻌﻤﻞ واﻹﻧﺘﺎج ﻫﻮ ﻛﻞ
ﺳﻼح اﻻﺣﺘﺠﺎج اﻟﺬي ﻳﻤﻠﻜﻪ اﻟﺮﻗﻴﻖ إزاء اﻟﻄﻐﻴﺎن اﻷﺑﻴﺾ .وﻳﺆﻳﺪ ذﻟﻚ أﻧﻪ ﺣﻴﻨﻤﺎ أﺻﺒﺢ
ﻣﻼ ًﻛﺎ زراﻋﻴني ،أو ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﻤﺘﻠﻜﻮن أو ﻳﻌﻤﻠﻮن ﺑﻤﺆﺳﺴﺎت ﺗﺠﺎرﻳﺔ وﺻﻨﺎﻋﻴﺔ ،ﻧﺮى اﻟﺰﻧﻮج ﱠ
ﺷﺎﻣﻼ ﰲ إﻳﻘﺎع ﺣﺮﻛﺘﻬﻢ اﻟﺘﻲ أﺻﺒﺤﺖ ﴎﻳﻌﺔ وﻣﺘﺠﺎوﺑﺔ ﻣﻊ ﻇﺮوف اﻟﻌﴫ. ً ﺗﻐريًا
وﺑﺎملﻘﺎرﻧﺔ ﻧﺠﺪ أن زﻧﻮج أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ ﻻ ﻳﺰاﻟﻮن ﻳﺤﺘﻔﻈﻮن ﺑﻨﺴﺐ أﻛﱪ ﻣﻦ اﻟﺒﻘﺎﻳﺎ
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ ،ﰲ ﻣﻈﺎﻫﺮ اﻟﻠﻐﺔ واﻟﺪﻳﻦ واﻟﻄﻘﻮس واﻟﺴﺤﺮ واملﻮﺳﻴﻘﻰ واﻟﺮﻗﺺ
واملﻌﺘﻘﺪات اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ .وﻟﻌﻞ ذﻟﻚ راﺟﻊ إﱃ أن زﻧﻮج اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة ﻋﺎﺷﻮا ﻣﻊ اﻟﺮق ﻓﱰة
أﻃﻮل ،وإﱃ أﻧﻬﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮن أﻗﻠﻴﺔ وﺳﻂ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴني؛ ﻣﻤﺎ ﻳﺆدي ﺑﻬﻢ إﱃ ﴐورة اﻟﺘﻤﺜﻴﻞ
اﻟﺤﻀﺎري ملﻜﻮﻧﺎت ﺣﻀﺎرة اﻷﻏﻠﺒﻴﺔ .ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﺰﻧﻮج ﰲ ﺑﻌﺾ ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﻜﺎرﻳﺒﻲ أﻏﻠﺒﻴﺔ
197
اﻹﻧﺴﺎن
ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ﻣﻦ ﻓﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ )ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ ﻫﺎﻳﺘﻲ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل( .وﺳﺘﻈﻞ ﻣﺸﻜﻠﺔ زﻧﻮج
ً
ﺣﺴﺎﺳﺎ وﺧﻄريًا إﱃ أن ﺗﻨﺒﻊ اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ اﻟﺘﺠﺎﻧﺲ اﻟﺤﻀﺎري اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة ﻣﻮﺿﻮﻋً ﺎ
اﻟﺬي ﺳﻮف ﻳﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ اﻟﺘﺠﺎﻧﺲ اﻟﺴﻼﱄ.
وﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻫﺬا اﻟﻔﺼﻞ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﺬﻛﺮ أﻫﻢ أﺳﻤﺎء وأﺑﺤﺎث أﺻﺤﺎب اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻌﻨﴫﻳﺔ؛
ﻟﻜﻲ ﻳﻤﻜﻦ اﻻﺳﺘﻤﺘﺎع ﺑﻘﺮاءة ﻣﺎ ﻛﺘﺐ ﰲ وﻗﺖ ﻣﺒﻜﺮ ،وﺑﺘﻮﺟﻴﻪ ﻣﺴﺒﻖ ﻋﻦ ﻣﺰاﻋﻢ اﻟﺴﻴﺎدة
اﻟﺴﻼﻟﻴﺔ اﻟﺘﻲ رﻓﻀﻬﺎ وﻳﺮﻓﻀﻬﺎ اﻟﻌﻠﻢ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﻋﻨﺪه ﻣﻦ ﻣﻨﺎﻫﺞ.
(1) Boulainvilliers, Comte de, “Histoire de l’ancien Gouvernement de la
France” paris, 1727.
وﻫﺬا اﻟﺒﺤﺚ ﻫﻮ ﺷﻴﺦ اﻟﻌﻨﴫﻳﺔ ،وﻫﻮ أول ﺑﺤﺚ ﻣﻨﺘﻈﻢ ﻣﺪﻋﻢ ،وأﺻﺒﺢ ﻟﻪ ﻧﻔﻮذ ﻛﺒري
ﻟﻔﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻋﲆ اﻟﺘﻔﻜري اﻟﻌﻨﴫي .وﻳﺆﻛﺪ ﺟﻮﺑﻴﻨﻮ أن اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﺳﺘﻈﻞ ﻛﺬﻟﻚ ﻣﻬﻤﺎ
اﺣﺘﻜﺖ واﺗﺼﻠﺖ ﺑﻤﺠﻤﻮﻋﺎت أرﻗﻰ؛ ﻷن اﻟﺤﻀﺎرات ﰲ ﻧﻈﺮه ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺨﺘﻠﻂ وﺗﻬﺠﻦ،
وأن اﻹﻣﻜﺎﻧﻴﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة ﻟﻼرﺗﻘﺎء ﻫﻲ أن ﺗﺄﺗﻲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ أﺻﻮل ﻧﺒﻴﻠﺔ ﻟﺘﺨﻠﻖ اﻟﱰﻗﻲ.
وﻳﻨﺘﻬﻲ ﺟﻮﺑﻴﻨﻮ إﱃ أن دراﺳﺎﺗﻪ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ وﻏريﻫﺎ ﺗﺸري إﱃ أن أوروﺑﻴﻲ اﻟﺸﻤﺎل اﻟﻐﺮﺑﻲ
— اﻟﻨﻮردﻳني ﺑﺼﻔﺔ ﺧﺎﺻﺔ — ﻳﻤﺘﻠﻜﻮن اﻻﻣﺘﻴﺎز اﻷﻗﴡ ﺑني ﺳﺎﺋﺮ ﺷﻌﻮب اﻷرض.
(3) Klemm, G., “Allgemeine Cultur-Geschichte der Menschheit”,
Leipzig 1843.
ُﻘﺴﻢ ﻛﻠﻴﻢ اﻟﻌﺎﻟ َﻢ إﱃ ﻗﺴﻤني :إﻳﺠﺎﺑﻲ وﻧﺸﻂ = ذﻛﻮرة ،ﺳﻠﺒﻲ = أﻧﻮﺛﺔ ،وﰲ ﻧﻈﺮه
ﻳ ﱢ
أﻧﻪ ﻻ ﺑﺪ وأن ﻳﺤﺪث ﺗﺰاوج ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺼﺎﻟﺢ اﻟﻌﺎم .واﻟﺸﻌﻮب اﻹﻳﺠﺎﺑﻴﺔ ﻫﻲ اﻷوروﺑﻴﺔ
واﻟﺠﺮﻣﺎﻧﻴﺔ واﻟﱰﻛﻴﺔ واﻟﻌﺮﺑﻴﺔ واﻟﻔﺎرﺳﻴﺔ ﺑﻮﺟﻪ ﺧﺎص ،وﻳﺠﺐ أن ﺗﺤﻜﻢ ﻫﺬه اﻟﺸﻌﻮب
اﻟﺴﻠﺒﻴﺔ ﻛﺎملﻐﻮل واﻟﺰﻧﻮج .وﰲ ﻧﻈﺮه أن دﻛﻨﺔ اﻟﺒﴩة وﺷﻜﻞ اﻟﺠﻤﺠﻤﺔ ﻫﻤﺎ رﻣﺰ اﻟﺴﻠﺒﻴﺔ،
198
اﻻﺿﻄﻬﺎد اﻟﻌﻨﴫي
وﻳﻘﻮل إن اﻟﺸﻌﻮب اﻟﺴﻠﺒﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻨﺘﴩ ﰲ أﺟﺰاء اﻟﻌﺎﻟﻢ ،ﻟﻜﻦ اﻟﺸﻌﻮب اﻟﻨﺸﻄﺔ اﻟﺘﻲ
ﻧﺸﺄت ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﻬﻤﻼﻳﺎ اﻧﺘﴩت وأﺻﺒﺤﺖ ﺳﻼﻻت اﻟﺴﻴﺎدة.
(4) Carus, C. G., “System der Phisiologie” Leipzig 1847.
ﻳﺤﺎول ﻛﺎرل ﺟﻮﺳﺘﺎف ﻛﺎروس أن ﻳﺆﻛﺪ دﻋﻮة ﻛﻠﻴﻢ ،ﻓﻴﻘﻮل إن ﺳﻼﻻت اﻟﻌﺎﻟﻢ
ﺗﺴﺎوي اﻟﻨﻬﺎر واﻟﻠﻴﻞ واﻟﻔﺠﺮ واﻟﻐﺴﻖ ،وﻫﻲ ﺗﺴﺎوي ﺑﺎﻟﱰﺗﻴﺐ اﻷوروﺑﻴني ،اﻟﺰﻧﻮج،
املﻐﻮل ،اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ .وأن ﺣﺠﻢ املﺦ ﻫﻮ أﻛﱪ ﻣﺎ ﻳﻜﻮن ﻋﻨﺪ اﻟﺒﻴﺾ وأﻗﻞ ﻣﺎ ﻳﻜﻮن ﻋﻨﺪ اﻟﺰﻧﻮج،
وﻳﻤﺜﻞ ﻣﺮﺣﻠﺔ وﺳﻄﻰ ﻋﻨﺪ املﻐﻮل واﻷﻣﺮﻳﻨﺪ .وﻳﺨﻄﺊ ﻛﺜريًا ﺑني اﻟﺴﻼﻟﺔ واﻟﺸﻌﺐ ،وﻳﻌﻄﻲ
ﻟﺒﻌﺾ اﻟﺸﻌﻮب ﺻﻔﺎت ﺷﺎﻋﺮﻳﺔ ﻓﻴﻘﻮل :اﻟﻬﻨﻮد ﺧﺎﻟﻘﻮ اﻟﺤﻖ ،املﴫﻳﻮن ﺧﺎﻟﻘﻮ اﻟﺠﻤﺎل،
واﻟﻴﻬﻮد ﺧﺎﻟﻘﻮ اﻟﺤﺐ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ.
(5) Morton, Samuel, “Crania Americana” Philadelphia 1839.
ﻳﻌﻄﻲ ﻣﻮرﺗﻮن ﺻﻔﺎت ﻟﻠﺸﻌﻮب ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺳﻼﻻت :اﻟﻘﻮﻗﺎزﻳﻮن أﻛﺜﺮ ﻗﺪرة ﻋﻘﻠﻴﺔ
ﺑني اﻟﺴﻼﻻت ،املﻐﻮل ﻏري ﻋﺒﺎﻗﺮة وﻫﻢ ﻣﻘﻠﺪون ،املﺎﻟﻴﺰﻳﻮن ﻧﺸﻴﻄﻮن ﺑﺤﺮﻳﻮن ﻣﻐﺎﻣﺮون،
اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﻮن ﻣﺤﺒﻮن ﻟﻠﺤﺮب وﻳﻤﻴﻠﻮن ﻟﻠﻘﺴﻮة وﻣﻨﺎﻫﻀﻮن ﻟﻠﺜﻘﺎﻓﺔ ،اﻟﺰﻧﻮج ﻣﺮﺣﻮن وﻣﺮﻧﻮن
وﻛﺜري ﻣﻨﻬﻢ ﻳﻤﺜﻠﻮن أﻛﺜﺮ اﻟﺸﻌﻮب اﻧﺤﻄﺎ ً
ﻃﺎ ،اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ﻳﻌﻴﺸﻮن ﰲ ﻋﻘﻠﻴﺔ اﻟﻄﻔﻮﻟﺔ داﺋﻤً ﺎ.
(6) Nott, J. C. & G. R. Gliddon, “Types of Mankind” Philadelphia 1854.
أﻫﻢ ﻣﺎ ﻳﺆﻛﺪه اﻟﻜﺎﺗﺒﺎن ﻫﻮ اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻦ اﻟﺮق ﻋﲆ أﻧﻪ ﻧﻈﺎم ﴐوري ،وﻳﺸﺪدان ﻋﲆ
ً
أﺻﻮﻻ واﺣﺪة ﺑﻞ ﻣﺘﻌﺪدة؛ ﻛﺘﱪﻳﺮ ﻻﺳﱰﻗﺎق اﻟﺰﻧﻮج. أن أﺻﻮل اﻹﻧﺴﺎن املﻌﺎﴏ ﻟﻴﺴﺖ
(7) Chamberlain, H. S., “Die Grundlagen des Neunzehnten Jharhun-
derts” Munich 1901.
ﻳﺆﻛﺪ ﻟﻮﺛﺮوب ﺳﺘﻮدارد أن ﻛﻞ ﺳﻼﻟﺔ ﻫﻲ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺗﻄﻮر ﻃﻮﻳﻞ ،وأﻧﻬﺎ ﺗﺆدي إﱃ ﻗﺪرات
ﺧﺎﺻﺔ ﺗﺼﻨﻊ ﻣﻦ اﻟﺴﻼﻟﺔ ﻣﺎ ﻫﻲ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ وﺿﻊ وإﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ،وﻫﺬه اﻟﻘﺪرات اﻟﺨﺎﺻﺔ
199
اﻹﻧﺴﺎن
)اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻀﺢ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﺴﻼﻻت ذات اﻟﺴﻴﺎدة( ﻏري ﻣﺴﺘﻘﺮة ،وأﻧﻬﺎ ﺗﻤﺎﺛﻞ اﻟﺼﻔﺎت
اﻟﻜﺎﻣﻨﺔ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ …
وﰲ ﻣﻘﺎﺑﻞ ﻫﺬه اﻵراء اﻟﻌﻨﴫﻳﺔ ﻧﺬﻛﺮ أن ﻛﺜريﻳﻦ ﻣﻦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺪرﺳﻮن
ً
إﻃﻼﻗﺎ أي ﻧﺰﻋﺔ ﻋﻨﴫﻳﺔ؛ ﻛﻞ أﺷﻜﺎل اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت اﻟﺴﻼﻟﻴﺔ واﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،ﻟﻢ ﺗﻈﻬﺮ ﻟﺪﻳﻬﻢ
ﻣﻤﺎ ﻳﺪل ﻋﲆ أﺻﺎﻟﺔ اﻟﻌﻠﻢ ﻋﻨﺪﻫﻢ ،وﻣﻦ ﺑني اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني اﻟﻌﻈﺎم ﻧﺬﻛﺮ:
)(1 Fischer, Eugen, “Das Problem der Rassenkreuzung” Berlin 1913.
)(2 Waitz, T., “Introduction to Anthropology” London 1863.
)(3 Morgan, L., “Ancient Society” New York 1878.
)(4 Tylor, E. B., “Primtive Culture” New York 1874.
200
اﻟﻘﺴﻢ اﻟﺜﺎﻧﻲ
اﳊﻀﺎرة
ﻣﻔﻬﻮﻣﻬﺎ وﻣﻴﺪاﻧﻬﺎ
ﺗﺪور ﺣﻮل اﺳﻢ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺬي ﻳﺪرس اﻟﺤﻀﺎرة ﻛﺜريٌ ﻣﻦ املﺸﻜﻼت واملﻔﺎرﻗﺎت .وأﺳﺎس
ﻫﺬه املﺸﻜﻼت ﻳﺮﺟﻊ إﱃ ﺳﺒﺒني؛ أوﻟﻬﻤﺎ :ﺳﻮء اﺳﺘﺨﺪام ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت وﻣﺴﻤﻴﺎت ﻧﺎﺟﻤﺔ
ﻋﻦ اﺳﺘﺨﺪاﻣﺎت ﻣﺴﺒﻘﺔ ﻋﺎﻣﺔ املﺪﻟﻮل ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻠﻐﺎت .وﻫﺬه اﻻﺳﺘﺨﺪاﻣﺎت ﻗﺪ ﺗﻜﻮن
ﻋﺎرﺿﺔ ﰲ اﻟﻌﻠﻮم أو أﺳﺎﺳﻴﺔ ،أو اﺻ ُ
ﻄﻠِﺢ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ املﺘﺨﺼﺼني ﰲ اﻟﻌﻠﻮم اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ،
وﻗﺪ ﺗﻜﻮن ذاﺋﻌﺔ ﺷﺎﺋﻌﺔ ﰲ اﻻﺳﺘﺨﺪاﻣﺎت اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺸﻌﻮب واﻟﻠﻐﺎت ،وﺑﺬﻟﻚ
ﺗﻘﱰن ﺑﻤﻔﺎﻫﻴﻢ ﻋﺎﻣﺔ وﻏﺎﻣﻀﺔ ﻣﻌً ﺎ .أﻣﺎ اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺜﺎﻧﻲ :ﻓﻬﻮ ﻳُﺮﺟﻊ اﻻﺧﺘﻼف ﻋﲆ ﺗﺴﻤﻴﺔ
ﻣﺴﺒﻘﺎ ﺑﻤﻨﻬﺞ وﻣﻔﻬﻮم ﺧﺎص ملﺪرﺳﺔ ﻣﺎ ﻣﻦ ﻣﺪارس دراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرة. ً اﻟﻌﻠﻢ إﱃ ارﺗﺒﺎﻃﻪ
واﺳﻢ املﻮﺿﻮع اﻟﺬي ﺗﺪور ﺣﻮﻟﻪ اﻟﺪراﺳﺔ ﻫﻮ »اﻟﺤﻀﺎرة« اﻟﺘﻲ ﺗﻘﺎﺑﻞ ﰲ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ
Cultureوﰲ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ،Kulturوﻫﻨﺎك ﻣﺼﻄﻠﺢ آﺧﺮ ﻣﺸﺎﺑﻪ ﻛﺜريًا ملﺼﻄﻠﺢ اﻟﺤﻀﺎرة
ﻫﻮ »املﺪﻧﻴﺔ« اﻟﺬي ﻳﻘﺎﺑﻞ ،Civilizationوﻣﺼﻄﻠﺢ ﺛﺎﻟﺚ ﻫﻮ »اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ« Hoch
.Kulturen, High Culture
اﻹﻧﺴﺎن
وﻫﺬه املﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﺜﻼﺛﺔ ﻣﺘﺸﺎﺑﻬﺔ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ اﻟﻨﻮع أو اﻟﻜﻴﻒ ،ﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻣﻦ
أﻳﻀﺎ اﺧﺘﻼط ﻛﺒري ﰲ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ ﺑﺎﻟﺘﺒﺎدل دون ﺗﺤﺪﻳﺪ ﺣﻴﺚ اﻟﻜﻢ واﻟﻌﻤﺮ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻳﺤﺪث ً
ﰲ ﻋﻠﻮم إﻧﺴﺎﻧﻴﺔ أﺧﺮى.
واﻟﺤﻀﺎرة Cultureﻫﻲ أﻋﻢ وأﺷﻤﻞ ﻫﺬه املﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﺜﻼﺛﺔ ،وﻛﻤﺎ ﺳﻨﻌﺮف ﻓﻴﻤﺎ
ﺑﻌﺪ ﺗﺘﻨﺎول اﻟﺤﻀﺎرة ﻛﻞ ﳾء ﻣﻦ املﻨﺘﺠﺎت اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ املﺎدﻳﺔ واﻟﻔﻜﺮﻳﺔ واملﻌﻨﻮﻳﺔ ﺑﺎﻟﺪراﺳﺔ
ﺳﻮاء ﻛﺎن ذﻟﻚ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ملﺠﺘﻤﻌﺎت ﻗﺪﻳﻤﺔ أو ﺣﺪﻳﺜﺔ ،ﻣﺘﺨﻠﻔﺔ أو ﻣﺘﻘﺪﻣﺔ ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴٍّﺎ ،ﺑﺎﺋﺪة
ﺑﻤﻌﺎن ﻋﺪﻳﺪة ﻣﻦ اﻟﺰراﻋﺔ إﱃ
ٍ أو ﻣﻌﺎﴏة .واﻷﺻﻞ ﰲ اﻟﻜﻠﻤﺔ ﻫﻮ اﻷﺻﻞ اﻟﻼﺗﻴﻨﻲ Cultura
اﻟﱰﺑﻴﺔ اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ إﱃ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻘﻮاﻧني واﻷﻧﻤﺎط اﻟﺴﻠﻮﻛﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻴﺶ ﻋﻠﻴﻬﺎ املﺠﺘﻤﻌﺎت.
واﻟﺤﻀﺎرة ﰲ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﺤﴬ ،واﻟﺤﴬ ﻋﻜﺲ اﻟﺘﺒﺪي واﻟﺒﺎدﻳﺔ ،وﻫﻲ ﺑﺬﻟﻚ — ﻣﻦ
اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﺤﺮﻓﻴﺔ — ﻣﻔﻬﻮم ﻣﺤﺪود ﺑﺎﻟﺰراﻋﺔ واﻻﺳﺘﻘﺮار ،وﻟﻜﻨﻨﺎ إذا أﺧﺬﻧﺎ ﻫﺬا املﺼﻄﻠﺢ
ﺑﻤﻔﻬﻮم واﺳﻊ ﻣﺴﺘﻨﺒﻂ ﻣﻦ اﻻﺳﺘﻘﺮار ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻗﺪ ﻧﺼﻞ إﱃ ﻣﻴﺪان اﻟﻨﻈﻢ املﺎدﻳﺔ واملﻌﻨﻮﻳﺔ
أﻳﻀﺎ ﻳﻘﺘﴫ ﻋﲆ املﺠﺘﻤﻌﺎت واﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎملﺠﺘﻤﻌﺎت املﺴﺘﻘﺮة ،وﻫﻮ ﻛﻤﺎ ﻧﺮى ً
املﺴﺘﻘﺮة ،وﻳُﺴﺘﺜﻨَﻰ ﻣﻦ ذﻟﻚ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺒﺎدﻳﺔ ﻣﻦ رﻋﺎة وﺻﻴﺎدﻳﻦ.
وﻟﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﻧﻘﻄﺔ ﻫﺎﻣﺔ ﰲ اﻻﺳﺘﺨﺪاﻣﺎت اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ؛ ﺗﻠﻚ ﻫﻲ أن املﺼﻄﻠﺤﺎت ﻳﺘﻐري
ﻣﻔﻬﻮﻣﻬﺎ ﺑﺘﻐري اﻟﺰﻣﻦ ،وﻫﺬا املﺒﺪأ ﻳﻌﻜﺲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺘﻐريات اﻟﺘﻲ ﺗﻄﺮأ ﻋﲆ املﺠﺘﻤﻊ ﻣﻦ
اﻟﻨﻮاﺣﻲ املﺎدﻳﺔ واملﻌﻨﻮﻳﺔ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻻ ﺑﺪ ﻟﻠﻜﻠﻤﺎت واملﺼﻄﻠﺤﺎت أن ﺗﺘﻐري ﻣﻔﺎﻫﻴﻤﻬﺎ إﱃ
املﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﺸﺎﺋﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺼﻄﻠﺢ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﺟﻤﻬﺮة اﻟﻨﺎس .ﻓﺈذا ﻛﺎن ﻣﻔﻬﻮم اﻟﺤﻀﺎرة
ُﻌﱪﰲ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ واﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻗﺪ ﺑﺪأ ﺑﺎملﻔﻬﻮم اﻟﺰراﻋﻲ؛ ﻓﺈﻧﻪ اﻵن ﻗﺪ ﺷﺎع واﺳﺘُﺨﺪِم ملﻔﻬﻮم ﻳ ﱢ
ﻋﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻨﻈﻢ واﻟﻘﻮاﻧني واملﻨﺘﺠﺎت املﺎدﻳﺔ واملﻌﻨﻮﻳﺔ ﻷي ﻣﺠﺘﻤﻊ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈﻧﻨﺎ
ﻧﺮﺟﺢ اﺳﺘﺨﺪام »اﻟﺤﻀﺎرة« ﰲ ﻫﺬا املﻌﻨﻰ ﻋﲆ أي ﻣﺼﻄﻠﺢ آﺧﺮ.
ً
ﺑﺪﻳﻼ وﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل ﻳﺘﺒﻨﱠﻰ ﻋﻠﻤﺎء اﻻﺟﺘﻤﺎع ﰲ ﻣﴫ اﺳﺘﺨﺪام ﻣﺼﻄﻠﺢ »اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ«
ﻟﻠﺤﻀﺎرة ،وﺑﺮﻏﻢ أن اﻟﱰﺑﻴﺔ واﻟﺘﺜﻘﻴﻒ واردﺗﺎن ملﻌﻨﻰ Culturaﰲ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ واﻟﻠﻐﺎت
اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،إﻻ أن اﻟﻠﻐﺎت اﻟﺠﺮﻣﺎﻧﻴﺔ ﺗﺴﺘﺨﺪم ﻣﺼﻄﻠﺤً ﺎ آﺧﺮ ﻫﻮ Bildungﺑﻤﻌﻨﻰ
اﻟﺘﻨﺸﺌﺔ واﻟﺘﺸﻜﻴﻞ واﻟﺘﺜﻘﻴﻒ ،وﻛﺬﻟﻚ ﺷﺎع اﺳﺘﺨﺪام »ﺛﻘﺎﻓﺔ« ﰲ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ واﻟﺤﺪﻳﺜﺔ
ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺮادف ﻟﻸملﺎﻧﻴﺔ .وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻣﺼﻄﻠﺢ »ﺛﻘﺎﻓﺔ« واﻟﺼﻔﺔ »ﺛﻘﺎﰲ« و»ﺛﻘﺎﻓﻴﺔ«
ﻣﺤﺪودة املﻌﻨﻰ ﺟﺪٍّا ﺑﺎﻟﻘﻴﺎس إﱃ ﺷﻤﻮل ﻛﻠﻤﺔ »اﻟﺤﻀﺎرة« .ﻓﺎﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﺑﻤﻌﻨﺎﻫﺎ اﻟﻌﺮﺑﻲ
أﻳﻀﺎ ﺗﺼﻒ اﻟﺸﺎﺋﻊ اﻵن ﻗﺎﴏة ﻋﲆ ﻋﺪد ﻣﺤﺪود ﻣﻦ اﻟﻨﺎس واﺳﻌﻲ اﻻﻃﻼع ،وﻫﻲ ﺑﺬﻟﻚ ً
ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ أﻧﻮاع املﻬﺎرة اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﻬﻲ ﺗﺰداد ﺗﺤﺪدًا ﰲ ﻣﻔﻬﻮﻣﻬﺎ ﻋﻦ ﻣﺼﻄﻠﺢ
اﻟﺤﻀﺎرة واﻟﺤﴬي ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎن ﻣﻔﻬﻮﻣﻬﻤﺎ ﰲ املﺎﴈ.
204
اﻟﺤﻀﺎرة
وﻫﻨﺎك ﻣﺼﻄﻠﺢ »ﻣﺪﻧﻴﺔ« ،واﻷﺻﻞ ﻓﻴﻪ ﰲ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻣﺸﺘﻖ ﻣﻦ املﺪﻳﻨﺔ وﺣﻴﺎة املﺪن،
وﻛﺬﻟﻚ اﻷﺻﻞ اﻟﻼﺗﻴﻨﻲ ﻣﺸﺘﻖ ﻣﻦ Civitatﺑﻤﻌﻨﻰ ﻣﺪﻳﻨﺔ ،وﻣﻨﻬﺎ ﺳﺎﻛﻦ املﺪﻳﻨﺔ ،Civilis
أﺳﺎﺳﺎ ﻫﻮ وﺻﻒ ﺳﻜﺎن ﻣﺪﻳﻨﺔ روﻣﺎ؛ ﻷﻧﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻬﻢ ﺣﻘﻮق وﺣﺮﻳﺎت ً واملﻘﺼﻮد ﺑﺬﻟﻚ
ﺟﻌﻠﺘﻬﻢ ﻳﺨﺘﻠﻔﻮن ﻋﻦ ﺳﻜﺎن ﺑﻘﻴﺔ اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻛﺎﻧﺖ »ﻣﻮاﻃﻨﻴﺔ« روﻣﺎ
رﻣ ًﺰا ﻋﲆ أﺷﻴﺎء ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻛﺜرية ﻣﻦ ﺑﻴﻨﻬﺎ اﻟﺮﺧﺎء واﻟﱰف واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ وﺣﺮﻳﺔ اﻟﺘﻌﺒري واﻟﺤﺮﻳﺔ
اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻟﻠﻔﺮد .وﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻧﻈﻢ وﻗﻮاﻧني وﻋﺎدات ﺗﻤﻴﺰ أﻫﻞ روﻣﺎ ﻋﻦ ﻏريﻫﻢ ،وﻣﻮاﻃﻨﻴﺔ
روﻣﺎ — أو املﺪﻳﻨﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ — ﺗﻤﺜﻞ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻣﺎ ﻣﻦ ﻣﺮاﺣﻞ اﻟﺤﻀﺎرة ،وﻫﻲ ﺑﺼﻔﺎﺗﻬﺎ
ﺗﻤﺜﻞ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻣﺘﻄﻮرة زاﻫﻴﺔ وزاﻫﺮة وزاﺧﺮة ﺑﻜﺎﻓﺔ أﺷﻜﺎل اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ واملﻌﻨﻮﻳﺔ؛
ً
ﻋﺎﻣﺔ، وﻟﻬﺬا ﻓﺈن ﻛﻠﻤﺔ »ﻣﺪﻧﻴﺔ« ﺑﺨﻠﻔﻴﺘﻬﺎ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ﻫﺬه ﻗﺪ اﺧﺘﺼﻬﺎ ﻋﻠﻤﺎء اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺎت
ﺧﺎﺻﺔ ،ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗﺸﻜﻞ ﺟﺰءًا ﻻ ﻳﺘﺠﺰأ ﻣﻦ اﻟﺤﻀﺎرة ،وإن زاد ﻛﻤٍّ ﺎ ﰲ ﺷﺘﻰً وﻋﻠﻤﺎء اﻟﺤﻀﺎرة
أﺷﻜﺎﻟﻪ .واملﺘﻔﻖ ﻋﻠﻴﻪ أن املﺪﻧﻴﺔ ﻫﻲ ﻓﱰات ﻋﺎرﺿﺔ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرة ﺗﺘﻤﻴﺰ ﺑﺰﻳﺎدة ﻫﺎﺋﻠﺔ ﰲ ﻛﻢ
ﻣﺸﺘﻤﻠﻬﺎ وﻣﺤﺘﻮاﻫﺎ وﺗﻌﻘﺪ وﺗﺮﻛﺐ ﻧﻤﻄﻴﺘﻬﺎ ،ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻻ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ ﺣﻀﺎرة ﻏري املﺪﻧﻴني؛
ﻛﻼ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻳﺸﺘﻤﻞ ﻋﲆ ﻃﺮاﺋﻖ وﺧﺼﺎﺋﺺ ﻟﻠﺤﻴﺎة املﺪﻧﻴﺔ واملﻌﻨﻮﻳﺔ. ﻷن ٍّ
واملﺪﻧﻴﺔ ﺻﻔﺔ ﻋﺎرﺿﺔ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرة؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﺗﺮاﻛﻤﺎت ﻛﻤﻴﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرة ﰲ
ﻣﻨﻄﻘﺔ ﻣﺎ ﻟﻈﺮوف اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ وﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ،وﻻ ﺗﻠﺒﺚ أن ﺗﺰول وﺗﺘﺪﻫﻮر ﻷﺳﺒﺎب اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
أﻳﻀﺎ .ﻓﺎملﺪﻧﻴﺔ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻗﺪ ﺗﱪﻋﻤﺖ ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﰲ ﻋﺼﻮر واﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ وﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ً
ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ وﻷزﻣﺎن ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﺛﻢ اﺿﻤﺤﻠﺖ وذوت ،وﻗﺪ ﺗﻌﻮد ﻣﺮة أﺧﺮى ﰲ املﻜﺎن ﻧﻔﺴﻪ
ﻷﺳﺒﺎب أﺧﺮى ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻇﺎﻫﺮﻳٍّﺎ ،وإن ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻷﺳﺒﺎب ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻘﻴﻢ ﻣﺪﻧﻴﺔ دون
وﺟﻮد ﻣﻘﻮﻣﺎت ﻛﺎﻣﻨﺔ ﰲ املﻨﻄﻘﺔ.
وﻣﺪﻧﻴﺎت اﻟﻌﺎﻟﻢ املﻌﺮوﻓﺔ ﻋﻨﺪ ﻋﺎﻣﺔ اﻟﻨﺎس ﻫﻲ :املﴫﻳﺔ اﻟﻔﺮﻋﻮﻧﻴﺔ ،واﻟﻌﺮاﻗﻴﺔ
اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،واﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ،واﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ ،واﻟﺒﻐﺪادﻳﺔ اﻟﻌﺒﺎﺳﻴﺔ ،واملﴫﻳﺔ اﻟﻔﺎﻃﻤﻴﺔ — املﻤﻠﻮﻛﻴﺔ،
ﻄﺎ ﻧﺘﻴﺠﺔ ملﻮاﻗﻌﻬﺎ واﻷﻧﺪﻟﺴﻴﺔ ،واﻷوروﺑﻴﺔ اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ .وﻫﻨﺎك ﻣﺪﻧﻴﺎت ﺗﺤﺘﻞ ﻣﻜﺎﻧًﺎ وﺳ ً
اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ أو ﻟﺘﺤﺪد دﻋﺎﺋﻤﻬﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻋﲆ أﺳﺲ ﺿﻴﻘﺔ ﻛﺎﻟﺘﺠﺎرة .وﻋﲆ رأس ﻫﺬه
املﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ املﺪﻧﻴﺎت ،اﻟﻔﻴﻨﻴﻘﻴﺔ واﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﺣﻀﺎرة أﻛﺴﻮم اﻟﺤﺒﺸﻴﺔ.
ً
ﺗﻔﺎﻋﻼ ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴٍّﺎ ﻣﺜﻤ ًﺮا ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺸﺒﻪ اﻟﺪورة اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ؛ وﻫﺬه املﺪﻧﻴﺎت ﻗﺪ ﺗﻔﺎﻋﻠﺖ ﻣﻊ ﺑﻌﻀﻬﺎ
وذﻟﻚ ﻷﻧﻬﺎ ﻛﻠﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﺘﻘﺎء واﺣﺘﻜﺎك ﻣﺴﺘﻤﺮ ﺣﻮل اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ وﻗﺮﺑﻪ،
وﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﺴﻤﻴﻪ ﺑﺤﺮ املﺪﻧﻴﺔ اﻷﻋﻈﻢ .وﻫﻨﺎك ﻣﺪﻧﻴﺎت أﺧﺮى ﻛﺒرية أﺛﺮت ﰲ
ﻣﻨﺎﻃﻖ ﺟﻐﺮاﻓﻴﺔ ﻣﺤﺪودة ،ﻣﺜﻞ ﻣﺪﻧﻴﺔ اﻟﺼني اﻟﺘﻲ اﻗﺘﴫت ﻋﲆ ﴍق آﺳﻴﺎ ،وﻋﺎﻟﻢ املﺤﻴﻂ
205
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﺒﺎﺳﻴﻔﻴﻜﻲ ،واملﺪﻧﻴﺔ اﻟﻬﻨﺪﻳﺔ اﻟﺘﻲ أﺛﺮت ﰲ ﺷﺒﻪ اﻟﻘﺎرة اﻟﻬﻨﺪﻳﺔ وﺟﻨﻮب ﴍق آﺳﻴﺎ.
ً
ﻋﺎﻣﺔ ﻣﻴﺪاﻧًﺎ ﻟﺘﺄﺛريات ﻣﺪﻧﻴﺎت اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ واﻟﻬﻨﺪ واﻟﺼني وﻛﺎن ﻋﺎﻟﻢ املﺤﻴﻂ اﻟﻬﻨﺪي
ﺑﺪرﺟﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﰲ أزﻣﺎن ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ.
ﻣﺜﻼ ﻛﻠﻤﺔ اﻟﺤﻀﺎرة اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ، وﰲ أﺣﻴﺎن ﻣﺤﺪودة ﻳُﻄ َﻠﻖ ﻋﲆ ﻣﺪﻧﻴﺔ اﻹﻏﺮﻳﻖ ً
واملﻘﺼﻮد ﺑﻬﺎ املﻈﺎﻫﺮ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺰاﻫﺮة ﰲ ﻓﱰة ازدﻫﺎر املﺪﻧﻴﺔ اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻳُﻄ َﻠﻖ
ﻋﲆ املﺪﻧﻴﺔ املﴫﻳﺔ اﻟﺤﻀﺎرة املﴫﻳﺔ ،واﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ … وﻫﻜﺬا ،وﻫﺬا اﻻﺳﺘﺨﺪام
ﺧﺎﺻﺔ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻪ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﺘﺎرﻳﺦً راﺟﻊ إﱃ ﻋﺪم ﺗﺤﺪد املﻌﻨﻰ املﻘﺼﻮد ﺑﺎملﺼﻄﻠﺢ —
واﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ.
وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﺈن ﻣﺼﻄﻠﺢ »اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﻠﻴﺎ« ﻗﺪ ﻧﺸﺄ ﰲ وﻗﺖ ﻏري ﺑﻌﻴﺪ ،ﻟﻠﺘﻤﻴﻴﺰ
ﺑني اﻻزدﻫﺎر اﻟﺤﻀﺎري اﻟﻘﺪﻳﻢ ﻟﺒﻌﺾ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺘﻲ ﻋﺎﺷﺖ ﰲ ﻧﻄﺎق ﺟﻐﺮاﰲ ﺿﻴﻖ
إﱃ ﻣﺘﻮﺳﻂ؛ ﻣﺜﻞ :اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺴﻮﻣﺮﻳﺔ ،أو اﻟﻔﺮﻋﻮﻧﻴﺔ ،أو اﻟﻔﻴﻨﻴﻘﻴﺔ ،أو اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ .وﺑني
ﺣﻀﺎرة ﻫﺬه املﻨﺎﻃﻖ ﰲ ﺑﻘﻴﺔ ﻓﱰات ﺣﻴﺎﺗﻬﺎ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻟﻠﺘﻤﻴﻴﺰ ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑني »املﺪﻧﻴﺔ« اﻟﺘﻲ
ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗُﻄ َﻠﻖ ﻋﲆ ﺣﻀﺎرة ﻣﺰدﻫﺮة ﺷﺎﻣﻠﺔ ملﺴﺎﺣﺔ ﻛﺒرية ﻛﺎﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ،
واملﺪﻧﻴﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ،واملﺪﻧﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ أو اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ.
وﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻤﴤ ﺑﺎملﻨﺎﻗﺸﺔ إﱃ أﺑﻌﺪ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻟﻀﻴﻖ املﻘﺎم ،وﻟﻜﻦ اﻟﺨﻼﺻﺔ ﻳﻤﻜﻦ
أن ﺗُﺮﺗﱠﺐ ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺘﺎﱄ:
ً
ﺷﻤﻮﻻ ملﺎ ﻳﻘﺼﺪه اﻟﺪارﺳﻮن ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻌﺎت ) (١اﻟﺤﻀﺎرة :ﻫﻲ أﻛﺜﺮ املﺼﻄﻠﺤﺎت
اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﰲ ﺷﺘﻰ ﺻﻮرﻫﺎ ،وﻫﻲ اﻟﺸﻖ اﻟﺜﺎﻧﻲ اﻟﺪاﺋﻢ اﻟﻮﺟﻮد ﻷي ﺗﺠﻤﻊ إﻧﺴﺎﻧﻲ.
) (٢اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ :ﻣﻔﻬﻮم ﻗﺎﴏ ﻋﲆ ﻧﻮﻋﻴﺔ ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻣﻌﻨﻮﻳﺔ ،وﻋﲆ ﻋﺪد ﻣﺤﺪود ﻣﻦ أﻓﺮاد
املﺠﺘﻤﻊ.
) (٣املﺪﻧﻴﺔ :ﺗﺼﻒ ﻣﺮﺣﻠﺔ زﻣﻨﻴﺔ زاﻫﺮة ﻣﻦ ﻣﺮاﺣﻞ اﻟﺤﻀﺎرة ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﺗﻨﺘﴩ ﻋﲆ ﻣﺴﺎﺣﺔ
إﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﻛﺒرية ،وﻫﻲ ﺑﺬﻟﻚ ﻟﻴﺴﺖ ﺻﻔﺔ ﺣﻀﺎرﻳﺔ داﺋﻤﺔ.
) (٤اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﻠﻴﺎ :ﺗﺼﻒ املﺪﻧﻴﺎت اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،وﻏﺎﻟﺒًﺎ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗﻈﻬﺮ ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ
ﺟﻐﺮاﻓﻴﺔ ﻣﺤﺪودة.
206
اﻟﺤﻀﺎرة
أﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ أم إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ؟
واﻟﻌﻠﻢ اﻟﺬي ﻳﻘﻮم ﺑﺎﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻌﺎت اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻳﺨﺘﻠﻒ اﺳﻤﻪ ﻛﺜريًا ﺑني
املﺪارس املﺘﺨﺼﺼﺔ ،وﺳﺒﺐ اﻻﺧﺘﻼف اﻷول راﺟﻊ إﱃ اﺧﺘﻼف إﺳﻨﺎد اﻟﻌﻠﻢ إﱃ املﺴﻨﺪ
إﻟﻴﻪ :ﻫﻞ ﻫﻮ اﻹﻧﺴﺎن أم اﻟﺸﻌﺐ؟ ﻓﻜﻠﻤﺔ أﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻲ ﻣﺴﺘﻤﺪة ﻣﻦ اﻷﺻﻞ اﻹﻏﺮﻳﻘﻲ
Anthroposﺑﻤﻌﻨﻰ إﻧﺴﺎن ،وﻛﻠﻤﺔ إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ﻣﺴﺘﻤﺪة ﻣﻦ اﻷﺻﻠني اﻟﻼﺗﻴﻨﻲ واﻹﻏﺮﻳﻘﻲ
Ethnosﺑﻤﻌﻨﻰ ﺷﻌﺐ أو ﺳﻼﻟﺔ أو أﻣﺔ .واﻟﻔﺮق ﺑني اﻹﺳﻨﺎدﻳﻦ ﰲ واﻗﻊ اﻷﻣﺮ — وﻣﻦ
اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ — ﻟﻴﺲ أﻣ ًﺮا ﺧﻄريًا؛ ﻷﻧﻬﻤﺎ ﻳﺴﻨﺪان دراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرة إﱃ اﻹﻧﺴﺎن )ﺑﺼﻴﻐﺔ
اﻟﺠﻤﻊ( أو اﻟﺸﻌﺐ .وﻗﺪ اﻧﺘﴩت ﻛﻠﻤﺔ أﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻲ ﰲ اﻟﻠﻐﺎت اﻷﻧﺠﻠﻮﺳﺎﻛﺴﻮﻧﻴﺔ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ
ﺷﺎع اﺳﺘﺨﺪام إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻠﻐﺎت اﻷوروﺑﻴﺔ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ واﻟﺠﺮﻣﺎﻧﻴﺔ.
أﻣﺎ اﻻﺧﺘﻼف اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻓريﺟﻊ إﱃ اﺧﺘﻼف ﻣﻨﺎﻫﺞ املﺪارس ،وﺳﻮف ﻧﻌﻮد إﱃ ﻫﺬه
اﻟﻨﻘﻄﺔ ﺑﺪراﺳﺔ ﺗﻔﺼﻴﻠﻴﺔ ﻟﺘﺎرﻳﺦ ﺗﻄﻮر املﺪارس اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ واﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ
ﺗﻜﻔﻲ اﻹﺷﺎرة ﻫﻨﺎ إﱃ أن اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني اﻹﻧﺠﻠﻴﺰ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻮن ﻣﺼﻄﻠﺢ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺗﺮﻛﻴﺰ ﻣﻌﻈﻢ أﺑﺤﺎﺛﻬﻢ ﻋﲆ ﺟﻮاﻧﺐ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ،
وﻋﲆ رأﺳﻬﺎ ﻧﻈﻢ اﻟﻘﺮاﺑﺔ واﻟﺰواج .أﻣﺎ ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ ﻓﻴﺸﻴﻊ اﺳﺘﺨﺪام ﻣﺼﻄﻠﺢ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ؛ وذﻟﻚ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺘﻌﺪد ﻣﻴﺎدﻳﻦ اﻟﺪراﺳﺔ وﻛﺜﺮﺗﻬﺎ ﰲ ﻣﻮﺿﻮع اﻟﺤﻀﺎرة .أﻣﺎ ﰲ
ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻓﻴُﺴﺘﺨﺪَم ﻣﺼﻄﻠﺢ إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻣﻊ ﺗﺸﺪﻳﺪ ﻋﲆ املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ واﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﰲ
أﻳﻀﺎ إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ وﺗﺮﺟﻤﺘﻬﺎ املﻮﺿﻮع اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ واﻟﺤﻀﺎري .وﰲ املﻨﻄﻘﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﺗُﺴﺘﺨﺪَم ً
اﻷملﺎﻧﻴﺔ اﻟﺤﺮﻓﻴﺔ — Voelkerkundeﻋﻠﻢ اﻟﺸﻌﻮب — وﺗﺘﻌﺪد اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت ﰲ املﺪارس
اﻷملﺎﻧﻴﺔ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ؛ ﻓﻤﻦ اﻫﺘﻤﺎﻣﺎت ﺑﺎﻟﻨﻮاﺣﻲ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ إﱃ اﻫﺘﻤﺎﻣﺎت ﺑﺎﻟﻨﻮاﺣﻲ
املﺎدﻳﺔ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرة ،واﺗﺠﺎه ﺟﺪﻳﺪ ﻧﺴﺒﻴٍّﺎ ﰲ اﻟﺪراﺳﺎت املﻴﺪاﻧﻴﺔ املﺘﻌﺪدة اﻻﺗﺠﺎه.
وﰲ ﻣﴫ ﺗﺘﻨﻮع اﻟﺘﺴﻤﻴﺎت ،ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻛﻠﻬﺎ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎملﺪرﺳﺔ اﻷﻧﺠﻠﻮﺳﺎﻛﺴﻮﻧﻴﺔ،
ﻓﺎﻟﺒﻌﺾ ﻳﺴﻤﻴﻬﺎ أﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،واﻟﺒﻌﺾ أﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺛﻘﺎﻓﻴﺔ ،وﻟﻌﻞ اﻟﻘﻠﺔ
ﻃﺎ ﺑﻤﻔﻬﻮم وﺗﺴﻬﻴﻼ واﺧﺘﺼﺎ ًرا ،وﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ارﺗﺒﺎ ً
ً ﺗﺴﻤﻴﻬﺎ أﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺣﻀﺎرﻳﺔ.
دراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرة ﻟﺪى اﻟﺸﻌﻮب واملﺠﺘﻤﻌﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ،أرﺟﻮ أن ﻳﺸﻴﻊ اﺳﺘﺨﺪام اﺻﻄﻼح
ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﺳﺘﺨﺪام ﻣﺼﻄﻠﺢ ﻣﺰدوج ،وﻟﻜﻦ اﻟﺬي ﻳﻬﻢ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻷﻣﺮ ﻫﻮ اﻻﺗﻔﺎق إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ً
ﻋﲆ املﻀﻤﻮن :دراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرة ﺑﻌﻨﺎﴏﻫﺎ املﺎدﻳﺔ واملﻌﻨﻮﻳﺔ وﻏري املﺎدﻳﺔ ،ﰲ ارﺗﺒﺎط واﺿﺢ
ﺑﺎﻟﺘﻔﺎﻋﻼت اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرة ،واﻟﺘﻔﺎﻋﻼت اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ ﻣﻊ اﻟﺤﻀﺎرات اﻷﺧﺮى املﺠﺎورة
وﻏري املﺠﺎورة.
207
اﻹﻧﺴﺎن
اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ واﻹﺛﻨﻮﺟﺮاﻓﻴﺎ
إن آﺧﺮ اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت ﻋﲆ اﻟﺘﺴﻤﻴﺎت ﻫﻮ اﻻﺧﺘﻼف ﺑني ﻣﺎ ﻳُﺬ َﻛﺮ ﰲ ﺑﻌﺾ املﺪارس ﻋﲆ
أﻧﻪ ﻣﻮﺿﻮع إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ )أو أﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻲ ﺣﻀﺎري أو اﺟﺘﻤﺎﻋﻲ( وﺑني اﻹﺛﻨﻮﺟﺮاﻓﻴﺎ
،Ethnographyوﻗﺪ ﻗِ ﻴ َﻞ ﻛﺜريًا إن املﻮﺿﻮﻋني ﻫﻤﺎ ﻓﺮﻋﺎن ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﺤﻀﺎرة ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا
اﻟﺘﻘﺴﻴﻢ اﺻﻄﻨﺎﻋﻲ ﰲ رأي ﺑﻌﺾ اﻟﻌﻠﻤﺎء ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻗﺪ ﻳﺆدي إﱃ ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ ﺧﺎﻃﺌﺔ.
ﺻﺤﻴﺢ أن املﻌﻨﻰ اﻟﺤﺮﰲ ﻹﺛﻨﻮﺟﺮاﻓﻴﺎ ﻫﻮ ﻋﻠﻢ وﺻﻒ اﻟﺸﻌﻮب ،ﻟﻜﻦ اﻟﻘﻮل ﺑﺄن
اﻹﺛﻨﻮﺟﺮاﻓﻴﺎ ﺗﻘﻒ ﻋﻨﺪ ﺣﺪ وﺻﻒ وﺗﺴﺠﻴﻞ املﻈﺎﻫﺮ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻟﺤﻀﺎرة ﻣﻔﺮدة ،وأن
اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺗﻘﻮم ﺑﻌﻤﻠﻴﺔ املﻘﺎرﻧﺔ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ واﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ ﻟﻴﺲ أﻣ ًﺮا ﺻﺤﻴﺤً ﺎ .ﻓﺈن
اﻟﻌﻤﻠﻴﺘني ﻳﻘﻮم ﺑﻬﻤﺎ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ﻣﻌً ﺎ؛ ذﻟﻚ ﻷﻧﻬﻤﺎ ﻛ ﱞﻞ ﻣﺘﻜﺎﻣﻞ .ﻓﺎﻟﻮﺻﻒ واﻟﺘﺴﺠﻴﻞ ﻟﻴﺲ
إﻻ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﰲ دراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرة املﻔﺮدة ،ﻳﻠﻴﻬﺎ ﺗﺤﻠﻴﻞ ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﻮﺻﻔﻴﺔ ودراﺳﺔ
ﻋﻨﺎﴏﻫﺎ دراﺳﺔ ﻣﻘﺎرﻧﺔ .واﻟﻘﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻷﺑﺤﺎث — وﺧﺎﺻﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ — ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻘﻒ ﻋﻨﺪ ﺣﺪ
اﻟﻮﺻﻒ إذا ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻛﺎﺗﺒﻬﺎ إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴٍّﺎ ﻣﺪرﺑًﺎ ،وﻫﻲ ﻋﲆ أي ﺣﺎل ﺗﺼﺒﺢ ﺧﺎﻣﺔ ﻟﻺﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ
ﻋﻨﺪ اﻟﺪراﺳﺎت املﻘﺎرﻧﺔ واﻟﺘﻨﻈري اﻟﺤﻀﺎري.
واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أن ﻛﻞ املﻮﻧﻮﺟﺮاﻓﺎت Monographاﻟﺘﻲ ﺗﻘﺪم ﻟﻠﻘﺎرئ دراﺳﺔ ﺷﺎﻣﻠﺔ
ﻋﻦ ﺣﻀﺎرة ﻣﻔﺮدة ،ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ أﺑﺤﺎث ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﺗﺘﻨﺎول ﺟﺎﻧﺒﻲ اﻟﻮﺻﻒ واﻟﺘﺤﻠﻴﻞ ﻣﻌً ﺎ.
ﻓﻔﻲ ﻛﻞ ﻣﻮﻧﻮﺟﺮاف ﺗﻔﺼﻞ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻋﻦ ﻣﺤﻴﻄﻬﺎ؛ ﻛﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻌﺎﻟﺠﺘﻬﺎ
دراﺳﻴٍّﺎ ،ﺛﻢ ﻳُﻌﺎد اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻟﻜﲇ ﻟﻠﻌﻨﺎﴏ ﻣﺮة أﺧﺮى؛ ﻟﺘﻮﺿﻴﺢ ﺗﻔﺎﻋﻼﺗﻬﺎ اﻟﺤﻴﺔ داﺧﻞ
أﻳﻀﺎ ﺑﻌﺾ اﻟﺪراﺳﺎت املﻘﺎرﻧﺔ داﺧﻞ املﻮﻧﻮﺟﺮاف اﻹﻃﺎر اﻟﺤﻀﺎري .وﰲ أﺣﻴﺎن ﻛﺜرية ﺗﺘﻢ ً
ﻟﺘﻮﺿﻴﺢ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرة اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻊ ﺗﺤﺖ اﻟﺒﺤﺚ.
وﻋﲆ ﻫﺬا ﻳﺘﻀﺢ ﻟﻨﺎ أن أي دراﺳﺔ ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرات ،أو ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﻟﻌﻨﴫ ﺣﻀﺎري،
أوﻻ — وﻗﺒﻞ ﻛﻞ ﳾء — ﻋﲆ اﻟﺪراﺳﺎت اﻹﺛﻨﻮﺟﺮاﻓﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﻜﻮﱢن ﻳﺠﺐ أن ﺗﻜﻮن ﻗﺎﺋﻤﺔ ً
املﻮﻧﻮﺟﺮاﻓﺎت ﻣﺼﺪرﻫﺎ اﻷﺳﺎﳼ.
وﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﻼﺣﻆ أن ﻛﺘﺎﺑﺔ املﻮﻧﻮﺟﺮاف ﳾء واﻟﺪراﺳﺔ املﻘﺎرﻧﺔ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرة ﳾء
ً
أﺳﺎﺳﺎ ﻣﻦ اﻟﺪراﺳﺔ املﻴﺪاﻧﻴﺔ ،ﰲ ﺣني أن اﻟﺪراﺳﺔ املﻘﺎرﻧﺔ آﺧﺮ؛ ذﻟﻚ أن املﻮﻧﻮﺟﺮاف ﻳُﺴﺘﻤَ ﺪ
ﺗُﺴﺘﻤَ ﺪ ﻣﻦ وﺟﻮد ﻋﺪد ﻣﻦ املﻮﻧﻮﺟﺮاﻓﺎت واﻟﺪراﺳﺎت اﻹﺛﻨﻮﺟﺮاﻓﻴﺔ .وﻻ ﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا أن ﻫﻨﺎك
ﻣﺘﺨﺼﺼني ﰲ اﻟﺪراﺳﺎت اﻹﺛﻨﻮﺟﺮاﻓﻴﺔ وآﺧﺮﻳﻦ ﰲ اﻟﺪراﺳﺎت اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،ﻓﺎﻟﻮاﻗﻊ أﻧﻪ ﻻ
ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺘﻜﻮن اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ وﻳﺘﺒﻠﻮر إﻻ ﺑﻌﺪ أن ﻳﻜﻮن ﻗﺪ ﻧﺰل إﱃ ﻣﻴﺪان اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ
ﻃﺮﻓﺎ ﻣﻦ واﻗﻊ اﻟﺤﻀﺎرة ﻗﺒﻞ أن ﻳﺤﺎول ﺗﻨﻈري ﻣﺸﻜﻼﺗﻬﺎ، ً ﻣﺮة أو ﻣﺮات؛ ﺣﺘﻰ ﻳﺘﻔﻬﻢ
208
اﻟﺤﻀﺎرة
وﻣﺮة أﺧﺮى ﻻ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻔﻬﻢ ﻣﻦ ذﻟﻚ أن اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ وﺣﺪه ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﻘﻮم ﺑﻤﺸﻜﻠﺔ
اﻟﺘﻨﻈري .ﻓﻔﻲ أﺣﻴﺎن ﻛﺜرية ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺗﻨﻈري ﺑﺎملﻌﻨﻰ املﻔﻬﻮم ،إﻧﻤﺎ ﻣﺤﺎوﻻت ﻣﻨﻬﺠﻴﺔ ﰲ
اﻟﺪراﺳﺔ املﻴﺪاﻧﻴﺔ أو اﻟﺪراﺳﺔ املﻘﺎرﻧﺔ ،أو ﻧﻘﺪ أو ﺑﻨﺎء ﻟﻨﻈﺮﻳﺎت إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺳﺎﺋﺪة ،وإن
ﻓﻌﻼ ﺑﻤﺤﺎوﻻت ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺟﻴﺪة — ﰲ وﻗﺘﻬﺎ — ﻟﻠﻤﻔﻬﻮم ﻛﺎن ﺑﻌﺾ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني ﻗﺪ ﻗﺎﻣﻮا ً
واملﺸﻜﻼت واﻟﻮﻇﺎﺋﻒ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ — ﻛﻤﺎ ﺳﻴﺄﺗﻲ ذﻛﺮه ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ.
209
اﻹﻧﺴﺎن
210
اﻟﺤﻀﺎرة
ﻣﺸﱰك أﺣﻴﺎﻧًﺎ ،ﻓﻼ ﺑﺪ ﻣﻦ وﺟﻮد ﺑﻌﺾ اﻟﺘﺪاﺧﻞ ﺑني ﻫﺬه املﻮﺿﻮﻋﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ؛ ﻷن
اﻟﻨﺴﻴﺞ اﻟﺤﻀﺎري ﻛ ﱞﻞ ﻣﺘﻜﺎﻣﻞ وﻣﺘﻔﺎﻋﻞ.
واﻟﺨﻼﺻﺔ أن ﻣﻴﺪان اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻫﻮ دراﺳﺔ ﻣﺎﻫﻴﺔ اﻟﺤﻀﺎرات وﻋﻨﺎﴏﻫﺎ وﺗﺮﻛﻴﺒﻬﺎ
ووﻇﻴﻔﺘﻬﺎ وﻋﻤﻠﻴﺎﺗﻬﺎ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ .ﻓﻬﻮ إذن دراﺳﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎة اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرة واﻟﻘﻮى
املﺤﺮﻛﺔ ﻟﻮﺟﻮدﻫﺎ وﻧﻤﻮﻫﺎ واﺳﺘﻤﺮارﻫﺎ وﺗﻐريﻫﺎ ،وإذا ﻛﺎن اﻷﻣﺮ ﻛﺬﻟﻚ ﻓﻤﺎ ﻫﻲ اﻟﺤﻀﺎرة؟
211
اﻹﻧﺴﺎن
ً
اﺧﺘﻼﻓﺎ ﻛﺒريًا ﰲ اﻟﺴﻠﻮك اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﰲ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ واﻟﻨﺘﻴﺠﺔ اﻟﻨﻬﺎﺋﻴﺔ ﻟﻜﻞ ﻫﺬا أﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ
ً
املﻈﺎﻫﺮ واملﻤﺎرﺳﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ .ﻓﻨﻈﻢ اﻟﻨﺸﺎط اﻻﻗﺘﺼﺎدي ﺗﺨﺘﻠﻒ اﺧﺘﻼﻓﺎ ﺑﻴﻨًﺎ ﰲ داﺧﻞ
اﻟﺒﻴﺌﺔ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ اﻟﻮاﺣﺪة؛ ﻣﺜﻞ ﻣﻤﺎرﺳﺔ اﻟﺰﻧﻮج ﻟﻠﺰراﻋﺔ واﻷﻗﺰام ﻟﻠﺼﻴﺪ دون اﻟﺰراﻋﺔ
ﻫﺎﺋﻼ ﺑني أﻛﻞ اﻟﻠﺤﻮم واﻷﺳﻤﺎك ً ً
اﺧﺘﻼﻓﺎ داﺧﻞ ﻏﺎﺑﺎت ﺣﻮض اﻟﻜﻨﻐﻮ .واﻟﻐﺬاء ﻳﺨﺘﻠﻒ
اﻟﻨﻴﺌﺔ ﻋﻨﺪ اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ،واﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ اﻟﺤﻠﻴﺐ واﻟﺪم ﻋﻨﺪ املﺎزاي ﰲ ﴍق أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ .وﺗﺨﺘﻠﻒ
ﻋﺎدات املﻠﺒﺲ ﻣﻦ اﻟﻌﺮي اﻟﻜﺎﻣﻞ أو ﺷﺒﻪ اﻟﻜﺎﻣﻞ ﻋﻨﺪ ﻛﺜري ﻣﻦ ﺳﻜﺎن املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺤﺎرة
أﻳﻀﺎ )اﻟﺒﺎﺟﻨﺪا ﰲ ﴍق ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،إﱃ املﻠﺒﺲ اﻟﻜﺎﻣﻞ ﻋﻨﺪ ﺑﻌﺾ ﺳﻜﺎن املﻨﻄﻘﺔ اﻟﺤﺎرة ً
ً
أﺷﻜﺎﻻ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ( ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈن اﻧﻌﻜﺎس آﺛﺎر اﻟﺒﻴﺌﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻴﺲ ﻣﻠﺰﻣً ﺎ ﻟﻠﻨﺎس أن ﻳﺘﺨﺬوا
ﻣﺘﻘﺎرﺑﺔ .وإﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﻫﺬا ﻓﺈن اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت ﰲ أﻧﻈﻤﺔ املﺠﺘﻤﻊ واﻟﻘﺮاﺑﺔ واﻟﺰواج واﻟﻌﻘﺎﺋﺪ
واﻟﻔﻨﻮن واﻟﺰﻳﻨﺔ واملﺴﻜﻦ؛ ﻛﻠﻬﺎ ﺗﻌﱪ ﻋﻦ ﻣﺪى ﺷﺪة اﻟﺘﻔﺎوت ﰲ اﻟﱰﻛﻴﺒﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ
اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻋﲆ اﻟﺒﻌﺪﻳﻦ املﻜﺎﻧﻲ واﻟﺰﻣﺎﻧﻲ.
وﻳﺘﻌﻠﻢ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻨﺬ ﻃﻔﻮﻟﺘﻪ ﻛﻞ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻮﱢن ﺣﻀﺎرة املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻨﺘﻤﻲ
إﻟﻴﻬﺎ :ﻳﺘﻌﻠﻢ اﻷﻛﻞ واﻟﻠﻐﺔ وﻛﻞ ﳾء ﻳﺆﻫﻠﻪ ﻟﻜﻲ ﻳﺴﻠﻚ اﻟﺴﻠﻮك املﻌﺘﺎد داﺧﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ.
وأﻫﻢ ﻣﺎ ﻳﺘﻌﻠﻤﻪ ﻫﻮ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻜﻨﻪ ﻣﻦ اﻟﺘﻌﺮف ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ ﻋﲆ ﻛﻞ وﺳﺎﺋﻞ اﻟﺤﻴﺎة ﺣﺴﺐ
اﻟﻨﻤﻂ اﻟﺴﺎﺋﺪ ﰲ املﺠﺘﻤﻊ .واﻟﻠﻐﺔ ووﺳﺎﺋﻞ اﻟﺤﻴﺎة املﺘﻔﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻫﻲ أﻫﻢ ﻣﺎ ﻳﻤﻴﺰ املﺠﺘﻤﻊ
اﻟﺒﴩي ﻋﻦ اﻟﺘﺠﻤﻊ اﻟﺬي ﺗﻌﻴﺶ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻪ أﻧﻮاع اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ.
وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈن اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺗﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﺤﻀﺎرة ،وﺗﺪرﺳﻬﺎ ،ﻋﲆ أﻧﻬﺎ:
ً
أوﻻ :وﺳﺎﺋﻞ اﻟﺤﻴﺎة أو إﻋﺪاد اﻷﻓﺮاد ﻟﻠﺤﻴﺎة داﺧﻞ املﺠﺘﻤﻌﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ.
ﺛﺎﻧﻴًﺎ :ﻧﻤﻂ اﻟﺴﻠﻮك اﻟﺨﺎص ﺑﺎملﺠﺘﻤﻌﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ.
1ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻫﺎﺟﺮت ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻴﺎﻛﻮت اﻟﱰﻛﻤﺎﻧﻴﺔ ﻣﻦ وﺳﻂ آﺳﻴﺎ إﱃ ﺣﻮض ﻧﻬﺮ ﻟﻴﻨﺎ ﰲ ﺳﻴﺒريﻳﺎ
اﻟﴩﻗﻴﺔ ﻣﻨﺬ ﺣﻮاﱄ أﻟﻒ ﻣﻦ اﻟﺴﻨني ،وﻧﻘﻠﺖ ﻣﻌﻬﺎ رﻋﻲ اﻷﺑﻘﺎر ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻔﻌﻞ ﰲ وﺳﻂ آﺳﻴﺎ ،ﺑﺮﻏﻢ
اﺧﺘﻼف ﻇﺮوف ﺳﻴﺒريﻳﺎ املﻨﺎﺧﻴﺔ واﻹﻳﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،وأﺿﺎﻓﻮا إﱃ اﻷﺑﻘﺎر ﺗﺮﺑﻴﺔ اﻟﺮﻧﺔ اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺳﻜﺎن
ﺳﻴﺒريﻳﺎ ﻗﺪ ﺗﻌﻠﻤﻮا ﻃﺮﻳﻘﺔ اﺳﺘﺌﻨﺎﺳﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ.
212
اﻟﺤﻀﺎرة
ﺛﺎﻟﺜًﺎ :وﺳﺎﺋﻞ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻴﺰ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺮﺑﻂ ﺑﻴﻨﻬﺎ درﺟﺎت ﻣﻦ
اﻟﺘﻔﺎﻋﻞ واﻻﺗﺼﺎل.
راﺑﻌً ﺎ :وﺳﺎﺋﻞ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻴﺰ ﻣﻜﻮﻧﺎت ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻛﺒري ﻣﻨﻈﻢ؛ ﻣﺜﻞ :املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ،
أو اﻷﻗﻠﻴﺎت ،أو اﻟﻄﺒﻘﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ اﻟﻘﻮاﻟﺐ )ﻛﻄﺒﻘﺎت اﻟﻬﻨﺪ( ،أو اﻟﻄﺒﻘﺎت
اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ.
وﺑﺮﻏﻢ ﻫﺬا اﻟﺘﻌﺪد ﰲ أﺷﻜﺎل اﻟﺤﻀﺎرة ،ﻓﻬﻲ ﰲ ﺟﻮﻫﺮﻫﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗُﻌ ﱠﺮف ﺗﻌﺮﻳﻔﺎت
ﻋﺎﻣﺔ وﺗﻔﺼﻴﻠﻴﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ ﻛﺜريون ﻣﻦ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني.
وﻗﺪ ﻛﺎن ﺟﻮﺳﺘﺎف ﻛﻠﻴﻢ (١٨٤٣) 2ﻣﻦ أواﺋﻞ اﻟﺬﻳﻦ ﻋ ﱠﺮﻓﻮا اﻟﺤﻀﺎرة ﺑﺄﻧﻬﺎ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ
… اﻟﻌﺎدات واملﻌﻠﻮﻣﺎت واملﻬﺎرات واﻟﺤﻴﺎة اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ واﻟﻌﺎﻣﺔ ﺧﻼل اﻟﺴﻠﻢ واﻟﺤﺮب،
واﻟﺪﻳﺎﻧﺔ واﻟﻌﻠﻮم واﻟﻔﻨﻮن … وﺗﻈﻬﺮ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻧﻘﻞ ﺗﺠﺎرب املﺎﴈ إﱃ اﻟﺠﻴﻞ اﻟﺠﺪﻳﺪ.
ً
وﺷﻤﻮﻻ ،ﻫﻮ اﻟﺘﻌﺮﻳﻒ اﻟﺬي ذﻛﺮه وأﺷﻬﺮ ﺗﻌﺮﻳﻔﺎت اﻟﺤﻀﺎرة وأﻛﺜﺮﻫﺎ اﺧﺘﺼﺎ ًرا
ﺗﻴﻠﻮر 3 :أﻧﻬﺎ ذﻟﻚ اﻟﻜﻞ املﺮﻛﺐ اﻟﺬي ﻳﺤﺘﻮي ﻋﲆ املﻌﺮﻓﺔ واملﻌﺘﻘﺪ واﻟﻔﻦ واﻟﺨﻠﻘﻴﺎت
واﻟﻘﺎﻧﻮن واﻟﻌﺎدة ،وﻛﻞ ﻗﺪرات واﻋﺘﻴﺎدات أﺧﺮى ﻳﻜﺘﺴﺒﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن ﻛﻌﻀﻮ ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻊ.
وﻋﺮف ﻛﺮﻳﱪ وﻛﻠﻜﻬﻮن 4اﻟﺤﻀﺎرة ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ )اﻟﺘﻘﻠﻴﺪ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ(
ﻧﻤﻄﻴﺔ أو اﻋﺘﻴﺎدﻳﺔ )اﻟﻘﻮاﻋﺪ واﻟﻘﻮاﻧني واملﺜﻞ( ،وﻧﻔﺴﻴﺔ )اﻟﺘﻼؤم واﻟﺘﻌﻠﻴﻢ واﻟﻌﺎدة(
وأﺻﻮﻟﻴﺔ )اﻷدوات واﻵﻻت – اﻷﻓﻜﺎر – اﻟﺮﻣﻮز(.
أﻣﺎ ﻓﻠﻬﻠﻢ ﺷﻤﻴﺖ 5 W. Schmidtﻓريى أن اﻟﺤﻀﺎرة ﺗﺘﻜﻮن ﰲ أﺳﺎﺳﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺘﺸﻜﻴﻞ
اﻟﺪاﺧﲇ ﻟﻠﺮوح اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ،وﺗﻨﻌﻜﺲ ﰲ أﺷﻜﺎﻟﻬﺎ اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻻرﺗﺒﺎط اﻟﺮوح ﺑﺎﻟﺠﺴﺪ
)أي إن اﻟﺤﻀﺎرة ﻫﻲ املﻈﻬﺮ املﺎدي ﻟﻠﺘﺸﻜﻴﻞ اﻟﺮوﺣﻲ(.
وﻳﻘﻮل ﻓﺮاﻧﺰ ﺑﻮاس 6 :F. Boasإن اﻟﺤﻀﺎرة ﻫﻲ اﻟﻜﻢ املﺘﻜﺎﻣﻞ ﻟﻸﻓﻌﺎل واﻟﻨﺸﺎﻃﺎت
اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ واﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻴﺰ اﻟﺴﻠﻮك اﻟﺠﻤﺎﻋﻲ واﻟﻔﺮدي ﻟﻸﻓﺮاد اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻜﻮﻧﻮن ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ
213
اﻹﻧﺴﺎن
) (١اﻟﺤﻀﺎرة ﻫﻲ اﻟﻜﻢ اﻟﻨﻬﺎﺋﻲ ﻟﻠﻤﻌﺘﻘﺪات واملﻌﺮﻓﺔ واﻟﻘﻴﻢ واﻷﻫﺪاف اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻮﱢن ﺣﻴﺎة
ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻣﺎ ،واﺳﺘﻤﺮار ﻫﺬه املﻘﻮﻣﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪ واﻟﻘﻴﻢ ،وﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى
ﻓﺎﻟﺤﻀﺎرة ﳾء ﻳُﺘﻌ ﱠﻠﻢ.
) (٢اﻟﺤﻀﺎرة ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﻣﻘﻮﻣﺎت ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ وﻧﻔﺴﻴﺔ وﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ،وﻣﻌﻨﻰ ﻫﺬا أن
اﻟﺤﻀﺎرة ﺗﻨﺒﻊ ﻋﻦ اﻟﻜﻴﻨﻮﻧﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ املﺎدﻳﺔ اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ.
) (٣اﻟﺤﻀﺎرة ﺑﻨﺎء ﻣﻨﺘﻈﻢ ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،ﻋﲆ أﺳﺎس ﻣﺒﺎدئ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﺗﺆدي إﱃ
ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻟﻨﻤﻂ اﻟﺤﻀﺎري .وﺗﺨﺘﻠﻒ اﻟﺤﻀﺎرات ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﻟﻴﺲ ﻓﻘﻂ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻣﺤﺘﻮاﻫﺎ،
أﻳﻀﺎ .واﻟﺤﻀﺎرة ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻋﻨﺎﴏ ،ﻟﻜﻨﻬﺎ ﺑﻨﺎء وﻟﻜﻦ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺗﺮﻛﻴﺒﻬﺎ وﺗﻜﺎﻣﻠﻬﺎ ً
ﻣﺘﻜﺎﻣﻞ ﺗﱰاﺑﻂ داﺧﻠﻪ املﻜﻮﻧﺎت واﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ.
) (٤ﺗﺘﻜﻮن اﻟﺤﻀﺎرة ﻣﻦ ﻋﺪة أﻗﺴﺎم؛ ﻫﻲ :اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ ،واﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ،
واﻟﺪﻳﺎﻧﺔ ،واﻟﻨﻈﺮة اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎة .وﻫﺬه اﻷﻗﺴﺎم ﺗﺘﻔﺎﻋﻞ ﻣﻌً ﺎ وﺗُﻮَﺟﱠ ﻪ ﺗﻮﺟﻴﻬً ﺎ ﻣﻌﻴﻨًﺎ ﺣﺴﺐ
ﻣﺒﺪأ اﻟﺒﻨﺎء اﻟﺤﻀﺎري اﻟﺴﺎﺋﺪ.
) (٥اﻟﺤﻀﺎرة ﻋﻤﻠﻴﺔ دﻳﻨﺎﻣﻴﺔ ﻗﻮاﻫﺎ اﻟﺪاﻓﻌﺔ اﻟﺘﻔﺎﻋﻞ ﺑني املﺤﺎﻓﻈﺔ واﻟﺘﺠﺪﻳﺪ ،وﺗﺨﺘﻠﻒ
ﻗﻮة أﺣﺪ ﻫﺬﻳﻦ اﻟﻌﺎﻣﻠني ﺣﺴﺐ اﻟﺰﻣﻦ واملﻜﺎن واﻟﻈﺎﻫﺮات اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ واﻟﺘﺄﺛري اﻟﺨﺎرﺟﻲ،
.Herakovits, M., “Man and His Works”, New York 1948 7
214
اﻟﺤﻀﺎرة
ﻟﺘﻌﺪد ﻧﻮاﺣﻲ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،أﺻﺒﺢ اﻟﻜﺜريون ﻳﻄﻠﻘﻮن ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻋﻠﻢ
ﺗﻘﻴﻴﻢ اﻹﻧﺴﺎن وﺗﻘﺴﻴﻤﻪ ﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ .وﻟﻘﺪ ﺗﻠﻘﻰ ﻫﺬا اﻟﻌﻠﻢ دﻓﻌﺘﻪ اﻟﻜﱪى ﺑﻌﺪ اﻟﻜﺸﻮف
اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ اﻟﻜﱪى ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ وﻣﺎ ﺑﻌﺪه .وﻗﺪ أدت اﻟﻨﻈﻢ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﰲ ﺷﺘﻰ
أﺷﻜﺎﻟﻬﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻷوروﺑﻴﺔ ﰲ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻷﺣﻮال ،إﱃ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﻜﺸﻒ
ودراﺳﺔ ﻫﺬا اﻻﺧﺘﻼف اﻟﺤﻀﺎري .وﻟﻘﺪ ﻇﻬﺮ ذﻟﻚ ﺟﻠﻴٍّﺎ ﰲ ﺻﻮرة املﻮﻧﻮﺟﺮاﻓﺎت اﻟﻌﺪﻳﺪة
اﻟﺘﻲ ﻳﻌﺎﻟﺞ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻗﺒﻴﻠﺔ أو ﻣﺠﺘﻤﻌً ﺎ ﻣُﻌَ ﻴﱠﻨًﺎ .وﻗﺪ ﻣﻴﺰت ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺎت املﻮﻧﻮﺟﺮاﻓﻴﺔ
اﻟﻔﱰة اﻷوﱃ ﰲ اﻟﺪراﺳﺎت اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،وﻣﺎ زاﻟﺖ ﺣﺘﻰ اﻵن ﺗﻤﺜﻞ ﺣﺠﺮ اﻟﺰاوﻳﺔ ﰲ اﻟﺪراﺳﺎت
اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ.
وﻣﻊ ﺗﻘﺪم ﻣﻨﺎﻫﺞ اﻟﺪراﺳﺔ وﺗﻄﻮر املﻌﺮﻓﺔ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،أﺻﺒﺤﺖ ﻫﻨﺎك ﻋﺪة أﻗﺴﺎم أو
ﺣﻘﻮل رﺋﻴﺴﻴﺔ ﰲ اﻟﺒﺤﺚ اﻟﺤﻀﺎري .ﻟﻜﻦ ﻫﺬه اﻟﺤﻘﻮل ﻣﱰاﺑﻄﺔ ﺑﺮﺑﺎط اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺸﺎﻣﻞ.
215
اﻹﻧﺴﺎن
ﻳﺪرس ﻫﺬا اﻟﺤﻘﻞ ﻛﻞ أﺷﻜﺎل اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ ﰲ ﺻﻮرة وﺻﻒ وﺗﺤﻠﻴﻞ ﻛﻞ املﻨﺘﺠﺎت
املﺎدﻳﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرة :أﻧﻮاع املﺴﻜﻦ وﻣﻮاد ﺑﻨﺎﺋﻪ ،وﺷﻜﻞ اﻟﺘﺠﻤﻊ اﻟﺴﻜﻨﻲ ،واملﺨﺎزن واملﺒﺎﻧﻲ،
أو اﻷﻣﺎﻛﻦ املﺨﺼﺼﺔ ﻟﻠﺤﻴﻮان املﺴﺘﺄﻧﺲ ،دراﺳﺔ اﻟﻐﺬاء وأﺷﻜﺎﻟﻪ وﻣﺼﺎدره وﻃﺮق ﻃﻬﻮه
وﺗﻨﺎوﻟﻪ ،دراﺳﺔ أدوات اﻹﻧﺘﺎج ،دراﺳﺔ أدوات اﻟﺰﻳﻨﺔ واﻟﻔﻨﻮن املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﺰﻳﻨﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ
)ﺗﺼﻔﻴﻒ اﻟﺸﻌﺮ ،اﻟﻨﻘﻮش املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻋﲆ اﻟﻮﺟﻪ واﻟﺠﺴﻢ وأﻧﻮاﻋﻬﺎ واﻷﺻﺒﺎغ واﻟﻌﻘﻮد
واﻷﺳﺎور اﻟﺘﻲ ﺗُﻠﺒَﺲ ﰲ املﻌﺎﺻﻢ واﻟﺰﻧﻮد واﻷرﺟﻞ( إﱃ زﻳﻨﺔ املﺴﻜﻦ ،ﻧﻮع اﻷﺛﺎث املﺴﺘﺨﺪم
وﺷﻜﻞ املﻮﻗﺪ وآﻧﻴﺔ اﻟﻄﺒﺦ ،اﻟﻔﻨﻮن اﻟﺘﺸﻜﻴﻠﻴﺔ وﺧﺎﻣﺎت اﻟﺘﻤﺎﺛﻴﻞ واﻷﻗﻨﻌﺔ ،أﺷﻜﺎل اﻟﺜﻴﺎب
وﺧﺎﻣﺎﺗﻬﺎ وﻣﺼﺎدرﻫﺎ .ﻛﻤﺎ ﻳﺸﺘﻤﻞ ﻫﺬا اﻟﺤﻘﻞ ﻋﲆ دراﺳﺔ أدوات وأﻣﺎﻛﻦ ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻷدوات
واﻵﻻت املﺴﺘﺨﺪﻣﺔ :ﻋﺠﻠﺔ )دوﻻب( اﻟﻔﺨﺎر و»ﻣﺼﻨﻊ« ﺻﻬﺮ اﻟﺤﺪﻳﺪ أو اﻟﻨﺤﺎس ﻟﺼﻨﻊ
أدوات اﻟﺰراﻋﺔ واﻷﺳﻠﺤﺔ .وأﺧريًا ﻳﺪرس ﻫﺬا اﻟﺤﻘﻞ املﺴﺘﺤﴬات اﻟﻄﺒﻴﺔ وأﻧﻮاع اﻷﻋﺸﺎب
املﺴﺘﺨﺪﻣﺔ وﻃﺮق ﺗﺤﻀريﻫﺎ.
ﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺨﺘﻠﻂ اﻷﻣﺮ ﺑني اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ واﻟﻨﻈﺎم اﻻﻗﺘﺼﺎدي ،ﻟﻜﻦ ﻣﻴﺪان اﻟﻨﻈﻢ
اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻣﺤﺪود ﺑﺸﻜﻞ أو أﺷﻜﺎل اﻟﻨﺸﺎط اﻻﻗﺘﺼﺎدي اﻟﺬي ﻳﻤﺎرﺳﻪ املﺠﺘﻤﻊ ﻣﻦ
ﺻﻴﺪ ﺑﺮي ،وﺟﻤﻊ ﻟﻺﻧﺘﺎج اﻟﻨﺒﺎﺗﻲ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ،وﺻﻴﺪ اﻷﺳﻤﺎك ،واﻟﺰراﻋﺔ اﻷوﻟﻴﺔ أو املﺘﻨﻘﻠﺔ،
واﻟﺰراﻋﺔ اﻟﺪاﺋﻤﺔ ،وزراﻋﺔ اﻟﺤﺪاﺋﻖ ،ورﻋﻲ اﻟﺤﻴﻮان ،واﻟﺤﺮف اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ اﻟﻴﺪوﻳﺔ واﻵﻟﻴﺔ.
وﺗﻤﺘﺪ اﻟﺪراﺳﺔ ﰲ ﻫﺬا املﻴﺪان إﱃ دراﺳﺔ ﻧﻮﻋﻴﺔ اﻹﻧﺘﺎج :اﻛﺘﻔﺎء ذاﺗﻲ أو إﻧﺘﺎج ﻟﻠﺘﺒﺎدل أو
اﻟﺘﺴﻮﻳﻖ .وﻣﻦ ﺛﻢ ،ﻓﺈن ﻫﺪف اﻹﻧﺘﺎج ﻳﺤﺪد ﻛﺜﺎﻓﺔ اﻟﻨﺸﺎط اﻻﻗﺘﺼﺎدي ،وﻳﺮﺗﺒﻂ ذﻟﻚ ﺑﻨﻮع
اﻟﺤﻀﺎرة وأﻧﻈﻤﺘﻬﺎ اﻟﺴﺎﺋﺪة ،وﻛﺬﻟﻚ ﺗُﺪ َرس ﻫﻨﺎ أﻧﻮاع اﻟﺘﺒﺎدل اﻹﻧﺘﺎﺟﻲ ﻣﻦ املﻘﺎﻳﻀﺔ إﱃ
اﻟﺘﺠﺎرة اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ )ﰲ ﺷﺘﻰ أﺷﻜﺎل اﻟﻨﻘﺪ( وأﺷﻜﺎل ووﺳﺎﺋﻞ اﻟﻨﻘﻞ.
أﻳﻀﺎ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﻗﺘﺼﺎدي ﰲ ﺗﻘﺴﻴﻢ اﻟﻌﻤﻞ ﺑني اﻟﺠﻨﺴني ،وﻛﺬﻟﻚ وﻳﺪرس ﻫﻨﺎ ً
ﺗﺼﻨﻴﻒ اﻟﻌﻤﻞ ﺑني ﻃﺒﻘﺎت اﻟﺴﻦ اﻟﺘﻲ ﻳﻨﻘﺴﻢ إﻟﻴﻬﺎ املﺠﺘﻤﻊ ،ﰲ ﺻﻮرة دورة ﻧﺸﺎط
ﺗﻨﺘﻬﻲ ﺑﺘﻔﺮغ ﻛﺒﺎر اﻟﺴﻦ ﻟﻠﺤﻜﻤﺔ واﻟﺤﻜﻢ ،وﺗﻌﻠﻴﻢ ﺷﺒﺎب املﺠﺘﻤﻊ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﺎﻣﺔ ﰲ
ﺻﻮرة ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﻘﻴﻤﺔ واملﻮاﻗﻒ اﻟﻨﻤﻄﻴﺔ ﻟﻠﺴﻠﻮك .وﻳﻌﻄﻲ ذﻟﻚ ﰲ ﺷﻜﻞ ﺗﺎرﻳﺨﻲ ﻳﴪد
ﺣﻮادث ﻗﺪﻳﻤﺔ ﻧﺴﺘﺨﺮج ﻣﻨﻬﺎ اﻟﻌﱪات واﻟﻘﻴﻢ .وأﺧريًا ﻳﺘﻨﺎول ﻫﺬا اﻟﻘﺴﻢ ﺗﻮزﻳﻊ اﻟﺜﺮوة
216
اﻟﺤﻀﺎرة
ﻋﲆ أﻓﺮاد املﺠﺘﻤﻊ ،وﻳﺪرس ﻫﻨﺎ ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻟﻄﺒﻘﺎت اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ أو اﻷﺳﻄﻮرﻳﺔ اﻟﻘﺎﻟﺐ )ﻋﺸﺎﺋﺮ
اﻟﺤﻜﺎم أو ﻋﺸﺎﺋﺮ رﺟﺎل اﻟﺪﻳﻦ( ،وﺗﻜﻮﻳﻦ اﻟﻄﺒﻘﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ.
اﻟﻨﻈﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ
ﺗﻘﻮم اﻟﺪراﺳﺔ ﻫﻨﺎ ﻋﲆ أﺳﺎس ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻓﻬﻢ اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ واﻟﻌﻮاﻣﻞ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﺄﺳﺲ
ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻫﺬا اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ .وﻫﻨﺎ ﻋﺪة ﻣﺪاﺧﻞ ﻣﻦ أﻫﻤﻬﺎ دراﺳﺔ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻟﻌﺸﺎﺋﺮي
وﻧﻈﻢ اﻟﻘﺮاﺑﺔ ودورﻫﺎ ﰲ ﺗﺤﺪﻳﺪ أﻧﻤﺎط اﻟﺴﻠﻮك اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ اﻟﻌﺎم :اﻟﺰواج ،واﻟﺒﻨﻮة،
واﻟﻄﻼق .وﺗﻈﻬﺮ اﻟﻨﻤﻄﻴﺔ ﰲ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﺘﴩﻳﻌﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺮﺑﻂ اﻟﻨﺎس وﺗﻘﻴﺪﻫﻢ ﺑﺎﻟﺴﻠﻮك
اﻟﻌﺎم واملﻌﺎﻣﻼت وﻏريﻫﺎ ﻣﻤﺎ ﻧﺴﻤﻴﻪ اﻟﻌﺎدات واﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ ،وأﺷﻜﺎل اﻷﴎة ،وﻧﻈﻢ اﻟﺘﻘﺎﴈ،
وﻧﻈﻢ اﻟﺤﻜﻢ اﻹداري واﻟﺴﻴﺎﳼ ،وﻃﺒﻘﺎت اﻟﺴﻦ ،وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﺘﻨﻈﻴﻤﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ،
وﻛﺬﻟﻚ ﻧﻈﻢ اﻟﱰﺑﻴﺔ واﻟﺘﻨﺸﺌﺔ واﻟﺸﺨﺼﻴﺔ واﻟﻘﻴﻢ.
وﻣﻦ ﺑني أوﺟﻪ اﻟﺪراﺳﺔ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺤﻘﻞ دراﺳﺔ املﻌﺘﻘﺪات اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واملﻤﺎرﺳﺎت اﻟﻄﻘﺴﻴﺔ
وﻋﺎﻟﻢ ﻣﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،وﻣﻦ ﺛﻢ دراﺳﺔ ﻃﺒﻘﺔ أو ﻋﺸرية رﺟﺎل اﻟﺪﻳﻦ وأﻧﻤﺎط اﻟﺴﺤﺮ
واﻟﺘﻄﺒﻴﺐ واﻟﻜﺎﺋﻨﺎت ﻏري املﺮﺋﻴﺔ ﻣﻦ أرواح ﺧرية وﴍﻳﺮة ،وﻧﻈﺎم اﻟﺪﻓﻦ وﻃﻘﻮﺳﻪ ،وأﺷﻜﺎل
أﻳﻀﺎ ﻣﻮﺿﻮع اﻟﻨﻈﺎم املﻠﻜﻲ املﻘﺪس اﻟﺬي ﻳﻌﺘﱪ املﻘﺎﺑﺮ واملﻌﺎﺑﺪ .وﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل ﻳﺪﺧﻞ ً
املﻠﻮك ﺳﻼﻟﺔ ﻣﺨﺘﺎرة ﺗﺤﻞ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺮوح اﻟﻬﺎدﻳﺔ ﻟﺒﻄﻞ أو إﻟﻪ أو ﻧﺼﻒ إﻟﻪ املﺠﺘﻤﻊ ،وﻣﻦ
ﺛﻢ ﻓﺎملﻠﻚ ﻳﺤﻜﻢ ﺑﺎﻟﺤﻖ اﻹﻟﻬﻲ ،وﻫﻮ ﺑﺬﻟﻚ اﻟﺤﺎﻛﻢ اﻟﺰﻣﻨﻲ واﻟﺮوﺣﻲ ﻣﻌً ﺎ .وﻫﺬا املﺒﺪأ
ﻛﺎن ﺷﺎﺋﻌً ﺎ ﻣﻦ أﻗﺪم اﻟﻌﺼﻮر ﺣﺘﻰ اﻟﻴﻮم ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ وﰲ أوروﺑﺎ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر
اﻟﻮﺳﻄﻰ وﺣﺘﻰ اﻟﺜﻮرة اﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ ،وﻣﺎ زال ﻣﻮﺟﻮدًا ﻋﻨﺪ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﰲ
أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ.
ﺣﻘﻞ اﻟﻔﻨﻮن
وﻫﻮ اﻟﺤﻘﻞ اﻟﺬي ﻳﺘﻨﺎول دراﺳﺔ اﻷﻟﻌﺎب ،واﻟﻠﻌﺐ ،واﻟﻔﻨﻮن اﻟﺘﺸﻜﻴﻠﻴﺔ ،واﻟﻨﺤﺖ ،واﻟﺘﻄﻌﻴﻢ،
واﻟﺘﻠﻮﻳﻦ ،واﻟﻬﻨﺪﺳﺔ املﻌﻤﺎرﻳﺔ ،واملﻮﺳﻴﻘﻰ ،واﻟﻘﺼﺔ ،واﻟﺸﻌﺮ ،واﻟﺮﻗﺺ ،واﻟﻐﻨﺎء ،واملﴪح،
ً
ﻣﺘﺨﺼﺼﺎ إﻻ أﻧﻪ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻺﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ً
ﻋﺎﻣﺔ .وﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﻟﻠﻔﻮﻟﻜﻠﻮر ﻋﻠﻤً ﺎ واﻟﻔﻮﻟﻜﻠﻮر
ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺐ ﻛﺒري ﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻌﻄﻲ اﻟﺒﺎﺣﺚ وﺳﻴﻠﺔ ﻫﺎﻣﺔ ﻟﻠﺘﻨﻘﻴﺐ داﺧﻞ املﺠﺘﻤﻊ
ﺗﺎرﻳﺨﻴٍّﺎ ،وﻳﻌﻄﻴﻪ اﻧﻌﻜﺎﺳﺎت أﻧﻤﺎط اﻟﺤﻀﺎرة ﻋﲆ املﻤﺎرﺳﺎت اﻟﻔﻌﻠﻴﺔ ﰲ اﻷوﻗﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ.
217
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﺤﻘﻞ اﻟﺘﻄﺒﻴﻘﻲ
وﻫﻮ أﺣﺪث ﻓﺮوع اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،وﻗﺪ ﻇﻬﺮ ﻛﺎﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ملﺤﺎوﻟﺔ ﺗﻄﺒﻴﻖ املﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ
ﻋﲆ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺮ ﺑﻔﱰات اﻧﺘﻘﺎل ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻣﻦ أﻧﻤﺎﻃﻬﺎ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ إﱃ اﻷﻧﻤﺎط واﻟﻘﻴﻢ
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ املﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻟﺼﻨﺎﻋﺔ؛ وذﻟﻚ ﻣﻦ أﺟﻞ ﺿﻤﺎن ﻗﺪر ﻣﻦ ﺻﺤﺔ اﻻﻧﺘﻘﺎل اﻟﺤﻀﺎري
دون ﺣﺪوث ﻣﺂﳼ اﻟﻀﻴﺎع ﺑني اﻟﻘﻴﻢ واملﻜﻮﻧﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ واﻟﺠﺪﻳﺪة.
ﻫﺬه ﻫﻲ اﻟﺤﻘﻮل اﻟﻜﱪى ﰲ اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻌﻤﻞ ﻓﻴﻬﺎ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﻮن ،وﻋﻠﻴﻨﺎ
أن ﻧﻼﺣﻆ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺮاﻫﻦ إﻻ اﻟﻘﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮن أن
ﺷﺎﻣﻼ ﺑﻜﻞ ﻫﺬه اﻷﻗﺴﺎم اﻟﻜﱪى .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﰲ املﺎﴈ ﺑﻌﺾ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني ً ﻳﻠﻤﻮا إملﺎﻣً ﺎ
اﻟﻘﺎدرﻳﻦ ﻋﲆ ذﻟﻚ ،وﻟﻜﻦ ﻛﻢ املﻌﻠﻮﻣﺎت اﻟﺮاﻫﻨﺔ واملﻨﺎﻫﺞ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﺟﻌﻞ ﻫﻨﺎك ﺗﺨﺼﺼﺎت
ﺑني املﺘﺨﺼﺼني ﰲ اﻟﺤﻀﺎرة ،وأﺣﺪث ﻫﺬه اﻟﺘﺨﺼﺼﺎت اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ،إﱃ
ﺟﺎﻧﺐ اﻟﺘﺨﺼﺺ اﻟﻠﻐﻮي اﻟﻘﺪﻳﻢ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻻ ﺑﺪ أن ﻳﻜﻮن اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ﻣﻠﻤٍّ ﺎ إملﺎﻣً ﺎ ﺟﻴﺪًا
ُﺆﺧﺬ ﻋﲆ ﺑﻜﻞ ﻧﻮاﺣﻲ اﻟﺤﻀﺎرة ﻗﺒﻞ أن ﻳﻤﻴﻞ إﱃ ﺗﺨﺼﺺ ﻣﻌني ،وﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﻌﻴﺐ اﻟﺬي ﻳ َ
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻟﱪﻳﻄﺎﻧﻴﺔ املﻌﺎﴏة ،وﻫﻮ ﻋﻴﺐ ﻳﺘﻼﻓﺎه ﺑﻌﺾ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰ ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ،
وﺗﻼﻓﺎه اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﻮن ﺑﺘﻌﺪد وﻏﻨﻰ املﻨﺎﻫﺞ واملﺬاﻫﺐ واﻟﺪراﺳﺎت املﻴﺪاﻧﻴﺔ اﻟﻌﺪﻳﺪة ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ
اﻷﻣﺮﻳﻜﻲ وﻋﺎﻟﻢ املﺤﻴﻂ اﻟﻬﺎدي.
واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أن اﻟﺘﺨﺼﺺ ﻟﻢ ﻳﻘﺘﴫ ﻓﻘﻂ ﻋﲆ اﻷﺷﺨﺎص ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎد أن ﻳﺼﺒﺢ
ﺳﻤﺔ ﻣﻦ ﺳﻤﺎت املﺪارس اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ .وﰲ ﻣﻘﺎﺑﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﺨﺼﺺ اﻟﺸﺪﻳﺪ اﻟﺬي ﻳﻬﺪد
وﺣﺪة ﻋﻠﻢ اﻟﺤﻀﺎرة ،ﻧﺠﺪ ﻋﺪدًا ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء ﻳﺪﻋﻮن إﱃ اﻟﺘﻘﻠﻴﻞ ﻣﻦ املﻐﺎﻻة ﰲ اﻟﺘﺨﺼﺺ.
ﻣﺜﺎل ذﻟﻚ دوﺟﻼس ﺗﺎﻳﻠﻮر (١٩٥٢) D. Taylorاﻟﺬي أوﺿﺢ أﺧﻄﺎر دﻋﻮة ﺑﺮﺗﺸﺎرد
Evans-Pritchardﺑﺎﻟﺘﺨﺼﺺ اﻟﻜﺎﻣﻞ ﰲ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻟﱪﻳﻄﺎﻧﻴﺔً ،
ﻗﺎﺋﻼ
إن ﻫﺬه اﻟﺪﻋﻮة ﻗﺪ ﺗﺆدي إﱃ اﻧﻔﺼﺎل ﺗﺨﺼﺼﺎت أﺧﺮى ﻣﻤﺎ ﻳﺆدي إﱃ اﻧﻬﻴﺎر اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ
اﻟﺘﻜﺎﻣﻠﻴﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرة ،وﻗﺪ ﻳﺆدي إﱃ ﻇﻬﻮر أﺳﻤﺎء ﻛﺜرية؛ ﻣﺜﻞ :ﻋﻠﻢ اﻟﺤﻀﺎرة املﻘﺎرن ،ﻋﻠﻢ
ً
ﺗﺨﺼﺼﺎ؛ اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ املﻘﺎرن ،ﻋﻠﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎع املﻘﺎرن .ورﺑﻤﺎ ﻇﻬﺮت أﺳﻤﺎء أﺧﺮى أﻛﺜﺮ
ﻣﺜﻞ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ أو اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ.
218
اﻟﺤﻀﺎرة
ﴩ ﺑﻌﺪ وﻓﺎﺗﻪ ﺑﻘﻠﻴﻞ ،أن اﻟﻌﻠﻮم وﻗﺪ أوﺿﺢ اﻷﺳﺘﺎذ ﻫﺮﺳﻜﻮﻓﺘﺰ 8ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ اﻟﺬي ﻧ ُ ِ َ
ﺗﻨﻘﺴﻢ إﱃ :ﻋﻠﻮم ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ،واﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺎت ،وﻋﻠﻮم اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ .وأن اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻻ ﺗﻨﺤﴫ
ﰲ واﺣﺪ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻷﻗﺴﺎم ،ﺑﻞ ﺗﺸﺘﻤﻞ ﻋﻠﻴﻬﺎ؛ ﻷن اﻹﻧﺴﺎن ﻛﺎﺋﻦ ﻣﺘﻌﺪد اﻟﻮﺟﻮه ،واﻟﻌﻠﻤﺎء
اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺪرﺳﻮن اﻹﻧﺴﺎن ﻳﺠﺐ أن ﻳﻄﺮﺣﻮا ﺟﺎﻧﺒًﺎ اﻟﺤﺪود املﺘﻔﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ وأﻗﺴﺎﻣﻬﺎ،
وﻋﻠﻴﻬﻢ أن ﻳﺘﺎﺑﻌﻮا دراﺳﺔ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎﺗﻬﻢ داﺧﻞ أي ﻗﺴﻢ ﻣﻨﻬﺎ.
أﺳﺎﺳﺎ ﻣﻮﺿﻮع دراﺳﺔً وﻟﺘﻮﺿﻴﺢ ذﻟﻚ ﻳﻘﻮل ﻫﺮﺳﻜﻮﻓﺘﺰ إن اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ
ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،ﻟﻜﻦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻲ ﻣﻀﻄﺮ إﱃ أن ﻳﺤﺴﺐ ﺣﺴﺎب اﻟﺘﻘﻠﻴﺪ واﻟﺤﻀﺎرة ملﻌﺮﻓﺔ
أﻳﻀﺎ أن ﻳﺪرسﺗﺄﺛري ﻧﻤﻂ اﻻﺧﺘﻴﺎر ﰲ اﻟﺰواج واﻟﻐﺬاء ﻋﲆ اﻟﻮراﺛﺔ واﻟﻔﺴﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ،وﻋﻠﻴﻪ ً
اﻟﺒﻴﺌﺔ وﻳﻘﺎﺑﻞ ﺑﺬﻟﻚ ﻣﺸﻜﻼت ﺗﻮاﺟﻪ اﻟﺠﻐﺮاﰲ اﻟﺒﴩي .وﺣني ﻳﺪرس اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻲ ﻟﻐﺔ
أﻳﻀﺎ داﺋﺮة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺎت؛ ﻷﻧﻪ ﻣﻀﻄﺮ ﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل إﱃ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﺎ؛ ﻓﺈن ﻋﻤﻠﻪ ﻳﺪﺧﻞ ً
دراﺳﺔ اﻷﺳﻄﻮرة واﻟﺨﺮاﻓﺔ ﻟﻬﺬه املﺠﻤﻮﻋﺔ ،وﻳﺴﺠﻞ ﻣﻮﺳﻴﻘﺎﻫﺎ ،وﻳﺤﻠﻞ ﻓﻨﻮﻧﻬﺎ وﻳﻔﻬﻢ
ﻓﻠﺴﻔﺘﻬﺎ .ﻟﻜﻦ اﻟﺒﺎﺣﺚ ﻧﻔﺴﻪ ﻳﺼﺒﺢ ﺑﺎﺣﺜًﺎ ﰲ اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﺪرس وﻳﺤﻠﻞ
اﻟﻘﺮاﺑﺔ واﻻﻗﺘﺼﺎد واﻟﺤﻜﻢ واﻟﺪﻳﺎﻧﺔ واﻟﻔﻨﻮن.
وﻳﺘﻀﺢ ﻣﻦ ﻫﺬا ﻣﺪى اﻻﺧﺘﻼف اﻟﺸﺪﻳﺪ ﺑني دﻋﻮة اﻻﻧﻔﺼﺎل واﻟﺪﻋﻮة إﱃ اﻟﺘﺠﻤﻴﻊ،
وﻻ ﺷﻚ أن اﻟﺤﻀﺎرة ﺑﻤﻜﻮﻧﺎﺗﻬﺎ ﻛ ﱞﻢ ﻣﺘﻜﺎﻣﻞ ،وإن ﻛﺎﻧﺖ دراﺳﺘﻬﺎ ﺗﻘﺘﴤ أن ﻧﻔﺼﻞ
ﻫﺪﻓﺎ ﻧﻬﺎﺋﻴٍّﺎ ،ﺑﻞ ً
ﻫﺪﻓﺎ ﺟﺰﺋﻴٍّﺎ ﻣﻦ أﺟﻞ ﻓﻬﻢ أﻋﻤﻖ، ﺣﻘﻮﻟﻬﺎ وﻣﻴﺎدﻳﻨﻬﺎ .وﻳﺠﺐ أﻻ ﻳﻜﻮن ذﻟﻚ ً
ﻳﻌﻮد ﺑﻌﺪه اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻟﺪراﳼ إﱃ اﻟﺘﺠﻤﻴﻊ واﻟﺸﻤﻮل.
219
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ
وﻫﻨﺎك أﻗﺴﺎم أﺧﺮى ﻟﻠﻤﻮﺿﻮع اﻻﻗﺘﺼﺎدي ﻣﻦ زواﻳﺎ أﺧﺮى ،ﻣﺜﻞ زاوﻳﺔ اﻹﻧﺘﺎج
واﻻﺳﺘﻬﻼك أو ﻏري ذﻟﻚ ،ﻟﻜﻦ ﻳﻜﻔﻴﻨﺎ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺘﻘﺴﻴﻢ اﻟﺴﺎﺑﻖ وﺻﻔﻪ .ﻛﺬﻟﻚ ﻳﻤﻜﻦ
اﺗﺨﺎذ ﻋﻨﺎﴏ ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻟﺘﺼﻨﻴﻒ اﻟﺤﻀﺎرات ،ﻣﺜﻞ اﺗﺨﺎذ اﻟﻨﺴﺐ اﻷﻣﻮي واﻷﺑﻮي أو ﺑﻘﺎﻳﺎ
اﻟﻨﻈﺎم اﻷﻣﻮي ،أو ﺗﺼﻨﻴﻒ ﻋﲆ أﺳﺎس ﻧﻮع املﻌﺘﻘﺪات اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﰲ إﻟﻪ ﺳﻤﺎوي أو ﻋﺪد
ﻣﻦ اﻵﻟﻬﺔ اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ أو ﻋﺪد ﻣﻦ اﻷرواح املﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﻤﻈﺎﻫﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .وﺑﺮﻏﻢ أﻧﻪ ﺗﻮﺟﺪ
ﺗﺼﻨﻴﻔﺎت ﻻ ﺣﴫ ﻟﻬﺎ ﻟﻐﻨﻰ وﺗﻌﺪد اﻷﻧﻤﺎط اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،ﻓﺈن أﻛﺜﺮ ﻫﺬه اﻟﺘﻘﺴﻴﻤﺎت ﺷﻴﻮﻋً ﺎ
ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﻘﻮم ﻋﲆ اﻷﺳﺲ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ.
وﻓﻴﻤﺎ ﻳﲇ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻹﻋﻄﺎء اﻟﺴﻤﺎت املﺸﱰﻛﺔ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻷﻧﻮاع اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ
اﻟﺜﻼث :اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ،واﻟﻌﻠﻴﺎ ،واﻟﺸﻌﺒﻴﺔ.
ً
أﺳﺎﺳﺎ واﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ — أو ﻋﲆ اﻷﺻﺢ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ — ﺗﻘﻮم
ﻋﲆ اﻟﺠﻤﻊ واﻹﻧﺘﺎج اﻟﺒﺴﻴﻂ اﻟﺰراﻋﻲ واﻟﺮﻋﻮي .أﻣﺎ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ ﻓﺘﻘﻮم
ﻋﲆ أﺳﺎس اﻹﻧﺘﺎج اﻟﺒﺴﻴﻂ أو اﻟﺘﺠﺎري ،وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ ﻋﲆ ﺻﻮرة اﻹﻧﺘﺎج اﻟﺘﺠﺎري املﺮﻛﺐ
املﻌﺎﴏ؛ ﻻﺧﺘﻼف اﻟﻔﺎرق اﻟﺰﻣﻨﻲ وأﺛﺮه ﰲ املﻮاﺻﻼت واﻟﻨﻘﻞ .وأﺧريًا ﻓﺈن ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ
اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﺗﻤﻴﺰ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻹﻧﺘﺎج اﻟﺘﺠﺎري املﺮﻛﺐ — أي املﺠﻤﻮﻋﺎت املﻌﺎﴏة
اﻷوروﺑﻴﺔ واﻷوروﺑﻴﺔ اﻷﺻﻞ ،ﻛﻤﺎ ﻧﺠﺪﻫﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻬﺪًا ﻟﻠﺤﻀﺎرات
أﻳﻀﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻘﺴﻢ إﱃ ﻃﺒﻘﺘني اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،وأﺧريًا ﻧﺠﺪﻫﺎ ً
ﻣﺘﻤﺎﻳﺰﺗني :اﻟﺤﻜﺎم أو رﺟﺎل اﻟﺪﻳﻦ أو ﻫﻤﺎ ﻣﻌً ﺎ ،وﻃﺒﻘﺔ اﻟﺮﻋﻴﺔ أو اﻟﺸﻌﺐ اﻟﺬي ﺗﻌﱪ
ﺣﻀﺎرﺗﻪ ﻋﻦ اﻟﻨﻤﻂ اﻟﺤﻀﺎري اﻟﺴﺎﺑﻖ ﻋﲆ ﻏﺰو املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ .وﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ،ﻓﺈن
اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﻫﻲ أﻛﺜﺮ اﻟﺤﻀﺎرات ﺷﻴﻮﻋً ﺎ؛ ﻷﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪﻫﺎ ﰲ ﺳﺎﺋﺮ أﺷﻜﺎل اﻟﺤﻀﺎرات
وﻛﺎﻓﺔ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﻋﲆ اﻷﺳﺲ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ .ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﻘﺘﴫ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ
ﻋﲆ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻏري ﻣﻌﺎﴏة ،ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻬﺎ آﺛﺎر ﻓﻌﺎﻟﺔ ﰲ ﻧﴩ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ
وﺗﻮزﻳﻌﻬﺎ ﻋﲆ أﺟﺰاء ﻛﺜرية ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وﻻ ﺗﺰال ﺑﻌﺾ ﻫﺬه اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﺗﻌﻤﻞ
ﻛﺨﻠﻔﻴﺔ ﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻷوروﺑﻴﺔ واﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ اﻟﺮاﻫﻨﺔ .ﻛﻤﺎ أن ﺑﻌﺾ
اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﻌﻠﻴﺎ ﻗﺪ اﻧﺘﻘﻠﺖ إﱃ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ،وﻻ ﺗﺰال واﺿﺤﺔ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ
ً
وﺧﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺒﻌﺾ املﻜﻮﻧﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﺤﻜﺎم ﻣﺠﺎﻻت اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ،
ﻋﻨﺪ اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ اﻟﺮاﻫﻨﺔ.
222
اﻷﻧﻮاع اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرات
) (١اﻋﺘﻤﺎد واﺿﺢ ﻋﲆ اﻟﺒﻴﺌﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ واﻟﻈﺮوف اﻹﻳﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺘﻲ
ﺗﻤﺎرس اﻗﺘﺼﺎدﻳﺎت ﺟﻤﻊ اﻟﻨﺘﺎج اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ دون ﺗﺪﺧﻞ ﰲ إﻧﺘﺎﺟﻪ؛ ﻣﺜﻞ :ﺟﻤﻊ اﻟﺜﻤﺎر
واﻟﺒﺬور اﻟﻨﺒﺎﺗﻴﺔ ،وﺻﻴﺪ اﻟﱪ واﻟﺒﺤﺮ .أﻣﺎ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻴﺶ ﻋﲆ اﻹﻧﺘﺎج اﻟﺒﺴﻴﻂ
ﻄ ْﺖ ﺧﻄﻮة ﻛﺒرية إﱃ اﻷﻣﺎم ﰲ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﺤﺮر ﻣﻦ )اﻟﺰراﻋﺔ املﺘﻨﻘﻠﺔ واﻟﺮﻋﻲ( ،ﻓﺈﻧﻬﺎ َﺧ َ
اﻟﺴﻴﻄﺮة اﻟﺸﺪﻳﺪة ﻟﻠﻈﺮوف اﻟﺒﻴﺌﻴﺔ ﻋﲆ أﺷﻜﺎل اﻹﻧﺘﺎج.
) (٢ﻟﻨﻮع اﻻﻗﺘﺼﺎد اﻟﺴﺎﺋﺪ وﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻹﻧﺘﺎج آﺛﺎر ﻛﺒرية ﻋﲆ اﻟﻌﻼﻗﺎت ﺑني اﻟﺠﻨﺴني
ﰲ ﻣﺠﺎل ﺗﻘﺴﻴﻢ اﻟﻌﻤﻞ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ؛ ﻓﺎﻟﺰراﻋﺔ ﺗﺼﺒﺢ ﻣﻦ ﻧﺼﻴﺐ املﺮأة ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺘﻲ
ﻳﻤﺎرس ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺮﺟﺎل اﻟﺼﻴﺪ أو اﻟﺮﻋﻲ ،وﺟﻤﻊ اﻟﺜﻤﺎر ﻳﺼﺒﺢ ﻣﻦ ﻧﺼﻴﺐ املﺮأة ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﺎﻋني
واﻟﺼﻴﺎدﻳﻦ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻋﺪم ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﺰراﻋﺔ .وﰲ ﺣﺎﻟﺔ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺰراﻋﻴﺔ اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ دون
اﻟﺮﻋﻲ ﻳﻘﻊ ﻋﺐء اﻟﺰراﻋﺔ ﻋﲆ اﻟﺮﺟﺎل ،وﺗﻘﻮم اﻟﻨﺴﺎء ﺑﺰراﻋﺔ »ﺣﺪﻳﻘﺔ ﻣﻄﺒﺦ« ﺑﺠﻮار
املﺴﻜﻦ أو ﺧﻠﻔﻪ ،وﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺰراﻋﻴﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﺗﻘﻮم اﻟﻨﺴﺎء ً
أﻳﻀﺎ ﺑﺎﻟﺘﺠﺎرة اﻟﺼﻐرية ﰲ
223
اﻹﻧﺴﺎن
ﻓﺎﺋﺾ إﻧﺘﺎﺟﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﺪﻳﻘﺘﻬﺎ وﻣﻦ اﻟﺒﻴﺾ ،وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﻄﻴﻮر املﻨﺰﻟﻴﺔ أو ﺑﻌﺾ اﻟﺤِ َﺮف
اﻟﻴﺪوﻳﺔ املﻨﺰﻟﻴﺔ .وﻳﺘﻀﺢ ﻣﻦ ذﻟﻚ أن اﻟﺮﺟﺎل ﻳﻘﻮﻣﻮن ﺑﺎﻟﻨﺸﺎط اﻟﺬي ﻳﺘﻄﻠﺐ اﻻﺑﺘﻌﺎد ﻋﻦ
املﺴﻜﻦ )اﻟﺼﻴﺪ اﻟﱪي أو اﻟﺒﺤﺮي – زراﻋﺔ اﻟﺤﻘﻮل – رﻋﻲ اﻟﺤﻴﻮان( ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﺨﺘﺺ املﺮأة
داﺋﻤً ﺎ ﺑﻨﺸﺎط اﻗﺘﺼﺎدي ﰲ اﻟﺠﻮار اﻟﺴﻜﻨﻲ.
) (٣ﺗﻨﻘﺴﻢ ﻫﺬه اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت إﱃ أﻗﺴﺎم ﻋﲆ أﺳﺎس ﻗﺮاﺑﺔ اﻟﺪم أو ﻗﺮاﺑﺔ املﻜﺎن املﺤﲇ،
وأﻛﺜﺮ اﻷﻗﺴﺎم ﺷﻴﻮﻋً ﺎ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻨﺴﺐ ،Lineageواﻟﻌﺎﺋﻠﺔ Familyﺑﺄﺷﻜﺎﻟﻬﺎ املﺨﺘﻠﻔﺔ،
واﻟﻌﺸرية clanﺑﺎرﺗﺒﺎﻃﺎﺗﻬﺎ املﺤﻠﻴﺔ أو اﻧﺘﺸﺎرﻫﺎ املﻜﺎﻧﻲ .ﻛﺬﻟﻚ ﺗُ ﱠ
ﻘﺴﻢ املﺠﻤﻮﻋﺔ املﺤﻠﻴﺔ إﱃ
أﻗﺴﺎم أﺧﺮى ﻣﻦ أﺟﻞ أﻏﺮاض ﺗﻨﻈﻴﻤﻴﺔ ﰲ أﺷﻜﺎل اﻟﺤﻴﺎة :اﻟﺠﻤﻌﻴﺎت اﻟﴪﻳﺔ )ﺗﻘﻮم ﻫﺬه
اﻟﺠﻤﻌﻴﺎت ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻷﻏﺮاض ﻃﻘﺴﻴﺔ أو ﺧريﻳﺔ( ﻃﺒﻘﺎت اﻟﺴﻦ ،Age gradesأو ﺟﻤﻌﻴﺎت
أﺳﺎﺳﺎ ﻣﻦ أﺟﻞ ﺗﻘﺴﻴﻢ اﻟﻌﻤﻞً ﻣﻬﻨﻴﺔ ﺗﻀﻢ اﻟﻌﺎﻣﻠني ﰲ ﻣﻬﻨﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ،وﻃﺒﻘﺎت اﻟﺴﻦ ﺗﻘﻮم
ﺑني ﻓﺌﺎت اﻟﺴﻦ املﺨﺘﻠﻔﺔ ،وأوﺳﻊ ﻧﻈﻢ اﻟﺘﻘﺴﻴﻢ اﻧﺘﺸﺎ ًرا ﻧﻈﻢ ﻗﺮاﺑﺔ اﻟﺪم ،وﺗﺘﺼﻒ ﻫﺬه
اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﺑﺎﺣﱰام ﺷﺪﻳﺪ ﻟﺸﺨﺼﻴﺔ اﻟﻔﺮد ،وﻫﺬا اﻻﺣﱰام ﻳﺠﺪ دﻋﺎﻣﺘﻪ ﰲ ﻗﻮة رواﺑﻂ اﻟﺪم.
ﻛﺎﻧﺖ ﺑﻌﺾ اﻵراء املﺎﺿﻴﺔ ﺗﻌﺘﻘﺪ أن املﺠﺘﻤﻊ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﻗﺪ ﻣﺮ ﺑﻤﺮﺣﻠﺔ ﻟﻴﺲ ﻓﻴﻬﺎ
ﻟﻠﻔﺮدﻳﺔ واﻟﺸﺨﺼﻴﺔ؛ أي دور ﻫﺎم ،ﺑﻞ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﺷﻌﻮر ﺟﻤﺎﻋﻲ وﺷﺨﺼﻴﺔ ﺟﻤﺎﻋﻴﺔ،
وﻟﻜﻦ اﻟﻜﺜريﻳﻦ ﻣﻦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني املﺤﺪﺛني ﻳﻨﺎﻗﻀﻮن ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة وﻳﻮﺟﻬﻮن إﻟﻴﻬﺎ
ﻣﻌﺎرﺿﺔ ﺷﺪﻳﺪة ،وﻫﻢ ﻳﻌﺘﻘﺪون أﻧﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻓﺮدﻳﺔ ﻟﻜﻞ ﻓﺮد ،ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻓﻴﻤﺎ
ﺑﻴﻨﻬﺎ ﻛﺎﺧﺘﻼف اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺮاﻫﻦ ،وذﻟﻚ ﺑﺮﻏﻢ اﻟﺸﻌﻮر اﻟﻘﻮي ﻋﻨﺪ ﻛﻞ ﺷﺨﺺ
ﺑﺄﻫﻤﻴﺔ اﻧﻄﻮاﺋﻪ ﺗﺤﺖ ﻟﻮاء اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ.
) (٤ﻳﻨﺒﻨﻲ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻟﺴﻴﺎﳼ ﻟﻬﺬه اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﻋﲆ أﺳﺎس اﻟﻘﺮاﺑﺔ إﱃ اﻷﴎة أو املﺠﻤﻮﻋﺔ
أو اﻟﻌﺸرية اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﻗﻮة اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻟﻠﺤﺎﻛﻢ ،وﻳﺘﻤﻴﺰ اﻟﺤﻜﻢ ﺑﺄﻧﻪ وراﺛﻲ
واﻧﺘﺨﺎﺑﻲ ﰲ آن واﺣﺪ ،وراﺛﻲ داﺧﻞ اﻟﺒﻴﺖ اﻟﺤﺎﻛﻢ ﻣﻦ اﻷب إﱃ اﻻﺑﻦ أو اﻷخ إﱃ اﻷخ أو إﱃ
اﻟﻌﻢ واﺑﻦ اﻟﻌﻢ ،واﻧﺘﺨﺎﺑﻲ ﻷن اﻟﺰﻋﻤﺎء املﺤﻠﻴني ﻳﺸﱰﻛﻮن ﰲ ﺗﺮﺟﻴﺢ ﻛﻔﺔ أﺣﺪ املﺮﺷﺤني
ﻣﻦ ﺑني ﻣﻦ ﻳﺸﻤﻠﻬﻢ ﻗﺎﻧﻮن اﻟﻮراﺛﺔ ملﻨﺼﺐ اﻟﺰﻋﺎﻣﺔ املﺤﻠﻴﺔ أو زﻋﺎﻣﺔ اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ أو اﻟﺸﻌﺐ.
وﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺴﻮد ﻓﻴﻬﺎ ﻧﻈﺎم املﻠﻜﻴﺔ املﻘﺪس ﻳﺘﻢ ﺗﺮﺷﻴﺢ اﻟﺰﻋﻤﺎء ﻷﺣﺪ اﻟﺼﺎﻟﺤني
ﻟﻠﻮراﺛﺔ ،ﺛﻢ ﺗُﺴﺘﺨﺎر اﻵﻟﻬﺔ ﻟﺘﻨﻌﻢ ﺑﺮﺿﺎﻫﺎ ﻋﲆ املﺮﺷﺢ اﻟﺠﺪﻳﺪ .وﺑﻬﺬا ﻓﺈن ﻋﻨﴫًا ﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ
224
اﻷﻧﻮاع اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرات
ﺟﺪﻳﺪًا ﻳﺪﺧﻞ ﰲ اﻟﺒﻨﺎء اﻟﺴﻴﺎﳼ — اﻵﻟﻬﺔ — وذﻟﻚ ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﻘﺪﺳﻴﺔ ﺷﺨﺼﻴﺔ اﻟﺰﻋﻴﻢ أو
املﻠﻚ1 .
وﺗﺘﻤﻴﺰ ﻫﺬه اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﺑﻌﺪم وﺟﻮد ﺗﻨﻈﻴﻤﺎت ﻃﺒﻘﻴﺔ رأﺳﻴﺔ ﰲ املﺠﺘﻤﻊ — أي إن
اﻟﻨﺎس ﻛﻠﻬﻢ ﺳﻮاﺳﻴﺔ ،واﻻﺳﺘﺜﻨﺎء اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻧﺠﺪه ﻋﻨﺪ ﺑﻌﺾ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت املﺘﻘﺪﻣﺔ ﻣﻦ اﻟﺸﻌﻮب
اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ؛ ﺣﻴﺚ ﺗﻮﺟﺪ ﻃﺒﻘﺔ اﻟﺤﻜﺎم أو رﺟﺎل اﻟﺪﻳﻦ واﻟﺤﻜﺎم ﻣﻌً ﺎ ،وﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم اﻟﻄﺒﻘﻲ
ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﻐﺰو أو ﻫﺠﺮات ﻳﱰﺗﺐ ﻋﻠﻴﻬﺎ أن ﻳﺼﺒﺢ اﻟﻐﺰاة أو املﻬﺎﺟﺮون ﻫﻢ اﻟﺤﻜﺎم ورﺟﺎل
اﻟﺪﻳﻦ ﻣﻌً ﺎ أو أﺣﺪﻫﻤﺎ ﻓﻘﻂ.
ً
ﻛﺬﻟﻚ ﻧﻼﺣﻆ أن اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺴﻴﺎﳼ ﻋﺎﻣﺔ ﺿﻌﻴﻒ اﻟﻈﻬﻮر ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻴﺶ
ﻋﲆ ﺟﻤﻊ اﻟﻐﺬاء واﻟﺼﻴﺪ ،ﻣﺜﻞ أﻗﺰام ﺣﻮض اﻟﻜﻨﻐﻮ .ﻓﺎملﺠﺘﻤﻊ اﻟﺪاﺋﻢ ﺻﻐري اﻟﻌﺪد،
واﻟﺰﻋﺎﻣﺔ ﻣﻮزﻋﺔ ﻋﲆ ﻛﺒﺎر اﻟﺴﻦ أو ﻗﻴﺎدة ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﺼﻴﺪ اﻟﻜﺒري أو اﻻﻧﺘﻘﺎل ﻣﻦ ﻣﻌﺴﻜﺮ
إﱃ آﺧﺮ .وﻓﻴﻤﺎ ﻋﺪا ذﻟﻚ ﻻ ﻳﻈﻬﺮ ﻟﻠﺒﻨﺎء اﻟﺴﻴﺎﳼ دور واﺿﺢ ﻋﻨﺪﻫﻢ.
وﻋﲆ أي ﺣﺎل ،ﻓﻔﻲ اﻟﻮﺳﻊ أن ﻧﻠﺨﺺ اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺴﻴﺎﳼ ﻋﻨﺪ املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ
ﻋﺎﻣﺔ ﺑﺄﻧﻪ دﻳﻤﻮﻗﺮاﻃﻲ — ﻣﻊ اﺳﺘﺜﻨﺎء اﻟﺤﻜﻢ اﻷﺗﻮﻗﺮاﻃﻲ اﻟﻄﺒﻘﻲ ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺘﻲ ً
ارﺗﺒﻂ ﻧﻈﺎﻣﻬﺎ اﻟﺴﻴﺎﳼ ﺑﻬﺠﺮات أو ﻏﺰوات ﺧﺎرﺟﻴﺔ .وﰲ ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻲ ﻧﺠﺪ
أن ﻣﻜﺎﻧﺔ ﻛﺒﺎر اﻟﺴﻦ — ﺑﺤﻜﻢ ﺗﺠﺮﺑﺘﻬﻢ اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ ﰲ ﺷﺘﻰ أﺷﻜﺎل اﻟﺤﻴﺎة — ﺗﺮﻓﻊ أﻗﺪارﻫﻢ
ﰲ املﺠﺘﻤﻊ إﱃ ﻣﻜﺎﻧﺔ املﺠﻠﺲ اﻻﺳﺘﺸﺎري اﻟﺴﻴﺎﳼ ،وﺗﺮﻓﻌﻬﻢ ﰲ اﻟﱰﺗﻴﺐ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
واﻟﺪﻳﻨﻲ إﱃ ﻣﺮاﻛﺰ ﻣﺮﻣﻮﻗﺔ داﺧﻞ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ واﻟﺒﻨﺎء اﻟﺤﻀﺎري .وﻟﻌﻞ ﺗﺒﺠﻴﻞ ﻣﺸﺎﻳﺦ اﻟﺒﺪو
ﰲ اﻟﺼﺤﺎري اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ ﺧري دﻟﻴﻞ ﻋﲆ اﻟﻨﻤﻂ اﻟﺪﻳﻤﻮﻗﺮاﻃﻲ ﻟﻠﺤﻜﻢ ﰲ املﺎﴈ.
) (٥ﻳﺘﻢ ﺗﻌﻠﻢ ﺣﻀﺎرة املﺠﺘﻤﻊ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻷﺳﺎﻃري واﻟﻘﺼﺺ واﻷﺷﻌﺎر واﻷﻏﺎﻧﻲ اﻟﺘﻲ
ﺗﺮوي ﺗﺎرﻳﺦ املﺠﺘﻤﻊ وﻋﺎداﺗﻪ وﻗﻮاﻧﻴﻨﻪ ،وﻳﺘﻢ ذﻟﻚ ﰲ ﻣﺴﺎء ﻣﻌﻈﻢ اﻷﻳﺎم .وﻋﻨﺪ اﻟﻜﺜري
ﻣﻦ ﻫﺬه املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻣﻜﺎن أو ﻣﻘﺮ — ﻣﺒﻨﻲ أو ﻏري ﻣﺒﻨﻲ — ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳُﻄ َﻠﻖ ﻋﻠﻴﻪ »ﻧﺎدي
اﻟﺮﺟﺎل« أو ﺑﻴﺖ اﻟﺮﺟﺎل ،ﻳﺠﺘﻤﻊ ﻓﻴﻪ ﻛﺒﺎر اﻟﺴﻦ ﺑﺎﻟﺸﺒﺎب ﻣﻦ أﺟﻞ إﻋﻄﺎﺋﻬﻢ ﺗﺎرﻳﺦ
1ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻤﺜﻞ اﻟﺸﻠﻚ ﰲ اﻟﺴﻮدان اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺴﻴﺎﳼ ﺧري ﺗﻤﺜﻴﻞ ﺣﺘﻰ وﻗﺘﻨﺎ اﻟﺮاﻫﻦ.
ﻟﻼﺳﺘﺰادةHofmayer, W., “Die Schilluk” Wien 1925. :
Riad, M., “The Divine Kingship of the Shilluk and its Origin” Archiv fuer Voelk-
erkunde, wien 1960.
Seligman, C. G., “Pagan Tribes of the Nilotic Sudan” London 1932.
225
اﻹﻧﺴﺎن
وﻋﺎدات املﺠﺘﻤﻊ ﰲ ﺻﻮرة ﻗﺼﺼﻴﺔ أو ﺗﺠﺎرب ﻛﺒﺎر اﻟﺴﻦ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﰲ املﻮاﻗﻒ املﺨﺘﻠﻔﺔ:
ﰲ اﻟﺤﺮﻓﺔ واﻟﻨﺸﺎط اﻻﻗﺘﺼﺎدي ،ﺗﻌﻠﻢ ﻗﺮاءة املﻈﺎﻫﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻼﺳﺘﻔﺎدة ﻣﻦ اﻟﻈﺮوف
املﻮاﺗﻴﺔ؛ ﺗﺮﺑﺔ ﺟﻴﺪة ﻟﻠﺰراﻋﺔ ،ﻣﻜﺎن ﻣﻤﺘﺎز ﻟﻠﺼﻴﺪ ،ﻗﺮاءة اﻟﺴﺤﺐ املﺤﻤﻠﺔ ﺑﺎﻷﻣﻄﺎر
وﺗﺘﺒﻌﻬﺎ إﱃ أﻣﺎﻛﻦ ﺳﻘﻮط املﻄﺮ املﺤﺘﻤﻠﺔ وﻗﻴﺎدة اﻟﻘﻄﻴﻊ إﻟﻴﻬﺎ ،أﻧﻮاع اﻟﺜﻤﺎر املﺤﺮﻣﺔ،
ﻋﻼﻗﺎت املﺠﺘﻤﻊ ﺑﺎﻟﺠريان ،ﻣﺸﺎﻛﻞ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ املﻴﺎه ،ﺣﻜﺎﻳﺎت ﻋﻦ اﻷﻣﺮاض وأﻋﺮاﺿﻬﺎ
وﺗﻄﺒﻴﺒﻬﺎ ﺑﺎﻷﻋﺸﺎب أو اﻟﻄﻘﻮس اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ،ﻋﺎدات اﻟﺰواج وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ املﺸﻜﻼت.
وﻋﻨﺪ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺴﻢ ﺑﺘﻨﻈﻴﻢ ﻃﺒﻘﺎت ﻟﻠﺴﻦ ،ﺗﺘﻌﻠﻢ ﻛﻞ ﻃﺒﻘﺔ ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻘﺔ
اﻷﻋﲆ ﻣﻨﻬﺎ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ دﻗﺎﺋﻖ اﻟﺤﻴﺎة املﻄﻠﻮﺑﺔ ﻣﻨﻬﺎ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﺤﻞ دورﻫﺎ ﻟﻠﱰﻗﻲ إﱃ اﻟﻄﺒﻘﺔ
اﻷﻋﲆ ﺑﻤﺴﺌﻮﻟﻴﺎﺗﻬﺎ املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻛﻤٍّ ﺎ وﻧﻮﻋً ﺎ ﻋﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﻋﺮﻓﺘﻬﺎ وﻣﺎرﺳﺘﻬﺎ.
) (٦اﻟﻨﻈﺎم اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻲ ﻋﻨﺪ ﻫﺬه املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ إﱃ أﺧﺮى ﺣﺴﺐ درﺟﺔ
اﻟﺘﻜﺎﺛﻒ اﻟﺴﻜﻨﻲ واﻟﻨﻤﻂ اﻟﺤﻀﺎري اﻟﺴﺎﺋﺪ .ﻓﻌﻨﺪ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻳﺼﺒﺢ ملﺠﻠﺲ
ﻛﺒﺎر اﻟﺴﻦ وﻇﻴﻔﺔ ﺗﻨﻔﻴﺬ اﻟﻘﺎﻧﻮن وﻣﻌﺎﻗﺒﺔ اﻟﺨﺎرﺟني ﻋﻦ أﻧﻤﺎط اﻟﺴﻠﻮك اﻟﻘﺒﻠﻴﺔ ،وﰲ
املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻮن ﺷﻌﻮﺑًﺎ ﻣﺜﻞ ﻣﺠﺘﻤﻊ اﻟﺰاﻧﺪي ﰲ ﺟﻨﻮب اﻟﺴﻮدان وﺷﻤﺎل اﻟﻜﻨﻐﻮ،
ﺗﻮﺟﺪ ﻣﺤﺎﻛﻢ ﻣﺤﻠﻴﺔ وﻣﺤﺎﻛﻢ ﻣﺮﻛﺰﻳﺔ وﻣﺤﻜﻤﺔ ﻋﻠﻴﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﺰﻋﻴﻢ اﻷﻛﱪ.
ﻋﺎﻣﺔ ﺑﻮﺟﻮد ﻗﺎﻧﻮن اﻟﺜﺄر ،وإن ﻛﺎن ﺗﻄﺒﻴﻘﻪ ﻳﺘﺼﻒ ﺑﺎملﺮوﻧﺔ ً وﺗﺘﻤﻴﺰ ﻫﺬه اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت
اﻟﺸﺪﻳﺪة وﻳﱰاوح ﺑني ﺗﻄﺒﻴﻖ ﻣﺒﺪأ اﻟﻌني ﺑﺎﻟﻌني ،وﺑني اﻟﺘﻌﻮﻳﺾ ﺑﺸﺨﺺ ﻣﻤﺎﺛﻞ ﻟﻠﻘﺘﻴﻞ
أو اﻟﺘﻌﻮﻳﺾ ﺑﻤﻘﺎﺑﻞ ﻣﺎدي )أﺑﻘﺎر أو إﺑﻞ … إﻟﺦ( .وﻫﻨﺎك اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﺘﻲ ﻻ
ﻳﺬﻫﺐ املﺘﺨﺎﺻﻤﻮن ﻓﻴﻬﺎ إﱃ اﻟﻘﻀﺎء ،ﺑﻞ ﺗﺤﻞ ﻣﺤﻠﻴٍّﺎ؛ ﻷن ﻫﻨﺎك ﻧﺴﺒﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﻌﻮﻳﺾ ﺗﺬﻫﺐ
إﱃ اﻟﻘﺎﴈ.
) (٧ﻫﻨﺎك ﺗﺮﻛﻴﺰ ﺷﺪﻳﺪ اﺟﺘﻤﺎﻋﻲ وﺣﻀﺎري ﺣﻮل اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ وﻧﻈﻤﻬﺎ وﻛﻞ ﻣﺎ ﺗﻌﻨﻴﻪ ﰲ
ﻣﻈﺎﻫﺮ اﻟﺤﻴﺎة وﻃﺮاﺋﻘﻬﺎ ،وﺑﺬﻟﻚ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﱰﻛﻴﺰ اﻟﺬاﺗﻲ Ethno-centerismاﻟﺘﻲ
ﻌﺘﱪ ﻛﻞ ﳾء ﺧﺎرج اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ وﺣﻀﺎرﺗﻬﺎ ﻏﺮﻳﺒًﺎ وأﺟﻨﺒﻴٍّﺎ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ ،ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ أﻋﻀﺎء اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ ﺗُ َ
املﺠﺎورة .وﻗﺪ ﻳﺮﺟﻊ ﻫﺬا اﻟﱰﻛﻴﺰ اﻟﺸﺪﻳﺪ إﱃ اﻟﻌﺰﻟﺔ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ ﻧﻈ ًﺮا ﻟﻘﻠﺔ ﻋﺪد اﻟﺴﻜﺎن
ﻋﺎﻣﺔ ،وﻟﻼﺣﺘﻴﺎج إﱃ ﻣﺴﺎﺣﺎت ﻛﺒرية ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺘﺤﺮك اﻻﻗﺘﺼﺎدي. ً
) (٨ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ Voelker gedaken pre-
logicalاﻟﺘﻲ ﻣﻴﺰﻫﻢ ﺑﻬﺎ ﺑﻌﺾ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني اﻟﻔﺮﻧﺴﻴني )ﻟﻴﻔﻲ ﺑﺮﻳﻞ (Levy-Bruhl
واﻷملﺎن )ﺑﺎﺳﺘﻴﺎن (A. Bastian؛ وذﻟﻚ ﻷﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﺠﺪ اﺧﺘﻼﻓﺎت ﺟﻮﻫﺮﻳﺔ ﺑني ﻫﺬه اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت
وﺑني اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ذات اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺘﺺ ﺑﺎﻟﺘﻄﻮر اﻟﺮوﺣﻲ واملﻌﻨﻮي ،وإﻧﻤﺎ
226
اﻷﻧﻮاع اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرات
ﺗﻮﺟﺪ ﻓﻮارق ﻛﻤﻴﺔ — ﺑﻤﻌﻨﻰ أن ﻫﻨﺎك ﺗﻔﻜريًا وﻣﻌﻨﻮﻳﺔ وروﺣﻴﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﺠﻤﺎﻋﺎت
اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ.
ﻳﺮﺗﺒﻂ اﻟﺘﻔﻜري ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺪاﺋﻴني ﺑﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺘﺨﻴﻼت ،وﺗﺼﺒﺢ اﻟﺘﺠﺎرب — أﻳٍّﺎ ﻛﺎﻧﺖ
— ﻣﺼﺪ ًرا أﺳﺎﺳﻴٍّﺎ ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻢ واملﻌﺮﻓﺔ .أﻣﺎ ﻣﺎ ﻏﻤﺾ ﻓﻬﻤﻪ وﺗﻌﴪ ﺗﻔﺴريه ﻣﻦ املﻈﺎﻫﺮ
ُﻔﴪ ﻋﲆ أﺳﺲ أﺳﻄﻮرﻳﺔ أو دﻳﻨﻴﺔ ﻏﻴﺒﻴﺔ ،أو ﻋﲆ أﺳﺎس ﻗﻮى اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻓﻴُﻨ َ
ﻈﺮ إﻟﻴﻪ وﻳ ﱠ
ﺳﺤﺮﻳﺔ )ﻣﺜﻞ ﻓﻜﺮة ﺻﻨﻊ املﻄﺮ ،واﻷﻓﻜﺎر اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة وﺗﻜﻮﻳﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ(.
واﻟﻮاﻗﻊ أﻧﻪ إذا ﺧﻼ اﻟﺘﻔﻜري ﻣﻦ ﻣﺒﺪأ اﻟﺴﺒﺒﻴﺔ؛ ﻓﺈﻧﻪ وﻻ ﺷﻚ ﻳﺆدي إﱃ اﺧﺘﻔﺎء اﻟﻨﻈﻢ
اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ واﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻋﺎﻣﺔ ،وﻟﻮ ﻛﺎن اﻷﻣﺮ ﻛﺬﻟﻚ ﻟﺘﻮﻗﻒ اﻟﺒﺪاﺋﻴﻮن ﻋﻦ اﻟﺘﻘﺪم،
وﻟﻜﻨﻨﺎ ﻧﻌﺮف أن اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻻﻛﺘﺸﺎﻓﺎت واﻻﺧﱰاﻋﺎت اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ اﻟﺘﻲ ُ
ﻃ ﱢﻮ َر ْت وﺑُﻨِﻴ َْﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ
ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎت اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ ﻗﺪ ﺗﻤﺖ ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ،وﻫﺬا ﰲ ﺣﺪ ذاﺗﻪ
ﻛﺎف ﻟﻠﺘﺪﻟﻴﻞ ﻋﲆ وﺟﻮد اﻟﺘﻔﻜري املﻨﻄﻘﻲ ﻟﺪﻳﻬﻢ ﻣﻨﺬ اﻟﻘﺪم .وﻫﻨﺎك ﻣﺜﺎل ﻻ ﻳﻤﻜﻦ إﻧﻜﺎره ٍ
ﻟﻠﺘﺪﻟﻴﻞ ﻋﲆ ﻋﺪم ﺻﺤﺔ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﻌﻘﻠﻴﺔ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻟﻠﻤﻨﻄﻖ ،ﻓﺎﻟﺴﺤﺮ ﰲ ﻣﻤﺎرﺳﺘﻪ
ﻣﺎ ﻫﻮ إﻻ اﻧﻌﻜﺎس ﻟﻔﻜﺮة اﻟﺴﺒﺒﻴﺔ؛ وﻫﻲ ﻗﺎﻧﻮن ﻣﻦ ﺑني ﻗﻮاﻧني املﻨﻄﻖ.
) (٩ﺗﺘﻤﻴﺰ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﺑﻨﻈﺮة دﻳﻨﻴﺔ ﻟﻸﺷﻴﺎء واﻟﺘﻌﺎﻣﻼت ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻃﺎﻫﺮة أو
دﻧﺴﺔ ،ﻓﺎﻟﺪﻳﺎﻧﺔ واﻟﺴﺤﺮ ﻳﺘﻌﻤﻘﺎن وﻳﺘﻐﻠﻐﻼن ﰲ ﻛﻞ ﻧﻮاﺣﻲ اﻟﺤﻴﺎة وﻣﻈﺎﻫﺮﻫﺎ .وﰲ ﻧﻈﺮ
ﺗﻠﻚ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﺗﻜﻮن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ واﻟﺤﻀﺎرة وﺣﺪة ﻣﺘﻜﺎﻣﻠﺔ ،وﻫﺬه اﻟﻮﺣﺪة املﺘﻜﺎﻣﻠﺔ ﺗﻌﻄﻲ
ﻋﻤﻘﺎ ﺟﺪﻳﺪًا ،وﺗﺆﻛﺪ أن ﻛﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺧﺎرﺟﻲ أﻣﺮ ﻟﻠﱰﻛﻴﺰ واﻟﺘﻤﺮﻛﺰ ﺣﻮل اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ أو اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ً
ﻏﺮﻳﺐ ﻋﻦ اﻟﻜﻴﺎن اﻟﺤﻀﺎري.
) (١٠ﻋﻨﺪ ﻛﻞ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻋﺎدة ﺷﺨﺼﻴﺔ ﺗﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻟﻘﻮى اﻟﺮوﺣﻴﺔ اﻟﻌﻠﻴﺎ وﺗﺮﺑﻄﻬﻢ ﺑﻬﺎ ،وﻣﺜﻞ
ﻫﺬه اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ — ﻣﺆﺳﺲ اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ ﻏﺎﻟﺒًﺎ — ﻳﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ أﻋﻀﺎء املﺠﺘﻤﻊ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺣﺎﻣﻴﺔ
ﺣﻤﻰ اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ ،وﻋﻠﻴﻬﻢ أن ﻳﺘﻌﻠﻘﻮا ﺑﻬﺎ ﻟﻜﻲ ﺗﻨﻘﺬﻫﻢ ﻣﻦ اﻷﺣﺪاث واملﺨﺎﻃﺮ .وﺷﺨﺼﻴﺔ
اﻟﺒﻄﻞ ﻧﺼﻒ املﻘﺪس ﻫﺬه ﺗﺘﻤﻴﺰ ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻴﺔ اﻟﻌﻤﻞ ﺑﻄﺎﻗﺎﺗﻬﺎ اﻟﺮوﺣﻴﺔ ﺑﺎملﺸﺎرﻛﺔ ﻣﻊ اﻟﻌﺎﻟﻢ
ﻏري املﺤﺴﻮس ﻣﻦ أﺟﻞ ﺣﻤﺎﻳﺔ أﻋﻀﺎء اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ.
) (١١ﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن املﻴﺰة املﺸﱰﻛﺔ ﻟﻬﺬه اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﻫﻲ ﻋﺪم وﺟﻮد اﻷﺑﺠﺪﻳﺔ ،إﻻ أن
ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻃﻮر ﺑﻌﺾ اﻟﺮﻣﻮز واﻟﺼﻮر ذات املﻌﺎﻧﻲ .ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻋﲆ أي ﺣﺎل ﻻ ﺗﺼﻞ إﱃ ﻣﺴﺘﻮى
اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ.
وﺗﻨﺘﴩ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ اﻧﺘﺸﺎ ًرا واﺳﻌً ﺎ ﰲ ﻗﺎرات اﻟﻌﺎﻟﻢ ،ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻛﻠﻬﺎ ﺗﺒﻌﺪ ﻛﺜريًا
ﻋﻦ ﻧﻄﺎﻗﻲ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﰲ اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ وﺟﻨﻮب ﻏﺮب آﺳﻴﺎ وﴍق آﺳﻴﺎ،
227
اﻹﻧﺴﺎن
ً
أﺳﺎﺳﺎ ﰲ اﻟﻌﺮوض املﻌﺘﺪﻟﺔ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ وﻋﻦ ﻧﻄﺎق اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ املﺘﻤﺮﻛﺰ
ﻣﻦ أوروﺑﺎ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ واﻟﻮﺳﻄﻰ إﱃ اﻻﺗﺤﺎد اﻟﺴﻮﻓﻴﺘﻲ واﻟﻴﺎﺑﺎن ،وﻋﱪ املﺤﻴﻂ اﻟﻬﺎدي إﱃ
اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة وﺟﻨﻮب ﻛﻨﺪا.
228
اﻷﻧﻮاع اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرات
229
اﻹﻧﺴﺎن
أﺳﺎﺳﺎ ﻗﺒﻞ أو ﻗﺒﻴﻞ ﺑﺪاﻳﺔ ﻋﻬﺪ اﻷﴎات )ﺣﻮاﱄ اﻷﻟﻒ اﻟﺮاﺑﻌﺔ ﻗﺒﻞ ً ﺣﺪث ذﻟﻚ ﰲ ﻣﴫ
املﻴﻼد( ،ﺛﻢ ﺗﻢ ﻛﺸﻒ اﻟﺤﺪﻳﺪ ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ آﺳﻴﺎ اﻟﺼﻐﺮى ﺣﻮاﱄ اﻷﻟﻒ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد،
وﺣﻞ ﻣﺤﻞ اﻟﻨﺤﺎس ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﰲ اﻻﺳﺘﺨﺪاﻣﺎت اﻟﺘﻲ ﻳُﺮاد ﻟﻬﺎ ﻋﻤﺮ أﻃﻮل وﺻﻼﺑﺔ أﺷﺪ.
وﻟﻢ ﺗﻜﻦ املﻌﺎدن وﺣﺪﻫﺎ ﻫﻲ ﻛﻞ إﺿﺎﻓﺎت اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ إﱃ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﺎملﻴﺔ —
وﻫﻲ ﰲ ﺣﺪ ذاﺗﻬﺎ دﻓﻌﺔ ﻗﻮﻳﺔ إﱃ اﻷﻣﺎم ﻻ ﺗﺰال اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺗﻌﻴﺶ ﻋﻠﻴﻬﺎ وﺗﺘﻤﺘﻊ ﺑﻤﻤﻴﺰاﺗﻬﺎ.
وﻟﻜﻦ أﺻﺤﺎب اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ ﻗﺪ ﻃﻮروا وﺗﻘﺪﻣﻮا ﺑﺼﻨﺎﻋﺔ اﻟﻔﺨﺎر وأﻧﺘﺠﻮا أﻧﻮاﻋً ﺎ راﻗﻴﺔ
ﻣﻦ اﻟﺨﺰف ،وﻛﺬﻟﻚ ﻗﺪﻣﻮا ﻟﻺﻧﺴﺎﻧﻴﺔ أﻛﱪ ﻣﺴﺎﻫﻤﺔ ﰲ وﺳﺎﺋﻞ اﻟﻨﻘﻞ ﺑﺎﺧﱰاع ﻣﴫي
ﻗﺪﻳﻢ ﰲ ﻣﺠﺎل ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻟﺴﻔﻦ واﻟﻘﻮارب .ﻓﺈﱃ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ﻛﺎن اﻟﻨﻘﻞ املﺎﺋﻲ ﻳﺘﻢ ﺑﻮاﺳﻄﺔ
اﻷرﻣﺎث )ﺗﺠﻤﻴﻊ أﺧﺸﺎب ﰲ ﺻﻮرة ﺳﻄﺢ ﻋﺎﺋﻢ( أو اﻟﻘﻮارب املﺤﻔﻮرة ﻣﻦ ﻗﻄﻌﺔ واﺣﺪة
ﻣﻦ ﺟﺬوع اﻷﺷﺠﺎر ،ﻟﻜﻦ املﴫﻳني — ﺣﺴﺐ املﻌﻠﻮﻣﺎت اﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺮاﻫﻨﺔ — ﻛﺎﻧﻮا
أول ﻣﻦ ﺻﻨﻊ اﻟﻘﺎرب ﻣﻦ رﺑﻂ أﻟﻮاح ﻣﻦ اﻷﺧﺸﺎب إﱃ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﰲ ﺻﻮرة ﺟﺎﻧﺒني ﻳﻠﺘﻘﻴﺎن
ﰲ أﺳﻔﻞ اﻟﻘﺎرب ﰲ زاوﻳﺔ ﺣﺎدة ،وﻛﺬﻟﻚ أﺿﺎف املﴫﻳﻮن إﱃ اﻟﻘﻮارب ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﴩاع
واﻟﺪﻓﺔ .وﻇﻞ ﻣﺒﺪأ املﻼﺣﺔ املﴫي ﻫﺬا ﻗﺎﺋﻤً ﺎ ﻃﻮال ﻋﺪة آﻻف ﻣﻦ اﻟﺴﻨني ،ﺣﺘﻰ ﺗﻢ ﺻﻨﻊ
اﻟﺴﻔﻦ اﻟﺤﺪﻳﺪﻳﺔ وآﻟﺔ اﻟﺪﻓﻊ اﻟﺒﺨﺎرﻳﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن املﺎﴈ.
ﻛﺬﻟﻚ ﻗﺪم أﺻﺤﺎب اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﺒﺪأ آﺧﺮ ﻫﺎﻣٍّ ﺎ ﰲ دﻧﻴﺎ اﻟﻨﻘﻞ اﻟﱪي؛
ﻃ ﱢﻮ َر ْت إﱃ إﺿﺎﻓﺔ إﻃﺎرذﻟﻚ ﻫﻮ اﻛﺘﺸﺎف اﻟﻌﺠﻠﺔ )اﻟﺪوﻻب( املﺼﻨﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺨﺸﺐ ،ﺛﻢ ُ
ﺣﺪﻳﺪي إﱃ ﻣﺤﻴﻄﻬﺎ اﻟﺨﺎرﺟﻲ ﻹﻃﺎﻟﺔ ﻋﻤﺮﻫﺎ ،وﻣﺎ زال ﻣﺒﺪأ اﻟﻌﺠﻠﺔ ﻗﺎﺋﻤً ﺎ ﺣﺘﻰ اﻟﻴﻮم
ﰲ ﻛﺎﻓﺔ وﺳﺎﺋﻞ اﻟﻨﻘﻞ — ﺣﺘﻰ ﰲ اﻟﻄﺎﺋﺮات .وﻣﺒﺪأ اﻟﻌﺠﻠﺔ :ﻧﻘﻞ ﺣﺮﻛﺔ أﻓﻘﻴﺔ إﱃ ﺣﺮﻛﺔ
أﻳﻀﺎ ﰲ ﻛﺎﻓﺔ أﺷﻜﺎل اﻟﺼﻨﺎﻋﺔ ،وﰲ ﻧﻘﻞ ورﻓﻊ اﻷﺛﻘﺎل اﻟﻀﺨﻤﺔ داﺋﺮﻳﺔ ،ﻗﺪ دﺧﻞ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ ً
ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻟﺮاﻓﻌﺔ )اﻟﻮﻧﺶ(.
أﻳﻀﺎ ﻣﺒﺪأ اﻟﺘﺒﺎدل وﻗﺪ أﺿﺎف أﺻﺤﺎب اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ إﱃ اﻟﺤﻀﺎرة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ً
اﻟﺘﺠﺎري ﻋﲆ ﻧﻄﺎق واﺳﻊ .ﺻﺤﻴﺢ أن اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﺗﻤﺎرس اﻟﺘﺒﺎدل واملﻘﺎﻳﻀﺔ إﻻ
أن ذﻟﻚ ﻛﺎن داﺋﻤً ﺎ وﻣﺎ زال ﻋﲆ ﻧﻄﺎق ﻣﺤﺪود وﻳﺤﺪث داﺋﻤً ﺎ ﰲ اﻟﺠﻮار املﻜﺎﻧﻲ ،وﻧﺎد ًرا
ً
أﺳﺎﺳﺎ ﻣﺎ ﻳﺘﻌﺪاه إﱃ إﻗﻠﻴﻢ ﺟﻐﺮاﰲ ﺑﻌﻴﺪ .أﻣﺎ اﻟﺘﺠﺎرة ﰲ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ ﻓﻘﺪ ﻧﺸﺄت
ﻋﲆ ﻣﺒﺪأ اﻟﺘﺨﺼﺺ اﻹﻧﺘﺎﺟﻲ ،وﻧﻤﻮ وﺳﺎﺋﻞ اﻟﻨﻘﻞ املﺎﺋﻲ واﻟﺒﺤﺮي واﻟﱪي ،واﺣﺘﻴﺎﺟﺎت
ﻣﺘﺰاﻳﺪة ﻟﺴﺎﻛﻨﻲ املﺪن وﻃﺒﻘﺔ اﻟﺤﻜﺎم إﱃ ﻣﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻜﻤﺎﻟﻴﺎت .وﺑﺬﻟﻚ ﻧﺸﺄ ﻧﻤﻂ ﺟﺪﻳﺪ ﰲ
أﻳﻀﺎ ﺑﺘﺠﺎرة واﺳﻌﺔ ﻧﻬﺮﻳﺔ وﺑﺤﺮﻳﺔ ﻣﻦ ﻣﴫ إﱃ ﻋﻼﻗﺎت اﻟﻌﺎﻟﻢ ذو اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ ﺑﺪأ ً
ﺑﻼد اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ اﻟﴩﻗﻲ ،وإﱃ اﻟﺒﺤﺮ اﻷﺣﻤﺮ وﻋﺎﻟﻢ املﺤﻴﻂ اﻟﻬﻨﺪي ،وأﻓﺮﻳﻘﻴﺎ املﺪارﻳﺔ.
230
اﻷﻧﻮاع اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرات
وﻛﺬﻟﻚ ﻧﺸﺄت ﺗﺠﺎرة واﺳﻌﺔ ﺑني ﺣﻀﺎرات ﻣﺎ ﺑني اﻟﻨﻬﺮﻳﻦ ﺑﺎﻟﻄﺮق اﻟﺒﺤﺮﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﺨﻠﻴﺞ
اﻟﻌﺮﺑﻲ وﻋﺎﻟﻢ املﺤﻴﻂ اﻟﻬﻨﺪي ،وﺑﺎﻟﻄﺮق اﻟﱪﻳﺔ ﻋﱪ ﻫﻀﺎب إﻳﺮان ووﺳﻂ آﺳﻴﺎ ،إﱃ ﺳﺎﺣﻞ
اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ اﻟﴩﻗﻲ .وﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﻨﻈﻢ اﻟﺘﺠﺎرﻳﺔ اﻟﻌﺎملﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ املﻘﺎﻳﻀﺔ واﻟﺘﺒﺎدل
واﻟﻌﻤﻠﺔ ﻫﻲ اﻷﺳﺲ املﺨﺘﻠﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻢ ﺑﻮاﺳﻄﺘﻬﺎ اﻟﺘﺠﺎرة.
وﻗﺪ ﺗﺮﺗﺐ ﻋﲆ اﺗﺴﺎع آﻓﺎق اﻟﺘﺠﺎرة اﻧﺘﺸﺎر واﺳﻊ ﻟﺒﻌﺾ اﻟﻨﻈﻢ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﻌﻠﻴﺎ؛
ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻻﺗﺼﺎل واﻻﺣﺘﻜﺎك املﺴﺘﻤﺮ ﻓﻴﻤﺎ ﺑني ﻣﺮاﻛﺰ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ،وﺑﻴﻨﻬﺎ
وﺑني اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى.
ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻠﻈﺮوف املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻜﻞ ﻣﻦ ﻣﺮاﻛﺰ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ ﰲ ﻋﻼﻗﺎت اﻟﻨﺎس ﺑﺎﻷرض،
وﻋﻼﻗﺎت املﻜﺎن ﻟﻜﻞ ﻣﺮﻛﺰ ،ﺗﻤﻴﺰت اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ ﺑﻌﺪد ﻣﻦ اﻷﻧﻮاع ﻧﻮﺟﺰﻫﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﲇ:
)أ( اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ املﺘﻜﺎﻣﻠﺔ :ﺗﺘﻤﺜﻞ ﰲ ﺣﻀﺎرة ﻣﴫ وﺳﻮﻣﺮ وﺑﺎﺑﻞ وﻏريﻫﻤﺎ ﻣﻦ
ﺣﻀﺎرات ﻣﺎ ﺑني اﻟﻨﻬﺮﻳﻦ ،وﺣﻀﺎرة اﻟﺼني ،واﻟﺴﻨﺪ اﻷدﻧﻰ .وﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﺗﻮﺟﺪ
ﺣﻀﺎرات اﻷزﺗﻚ ﰲ وﺳﻂ املﻜﺴﻴﻚ واملﺎﻳﺎ ﰲ ﺷﺒﻪ ﺟﺰﻳﺮة ﻳﻮﻛﺘﺎن وﻫﻨﺪوراس ،واﻹﻧﻜﺎ ﰲ
ﺟﺒﻞ اﻷﻧﺪﻳﺰ ﰲ ﺑريو ﻋﲆ وﺟﻪ ﺧﺎص .وﺣﺘﻰ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻔﺌﺔ ﻧﺠﺪ اﺧﺘﻼﻓﺎت واﺿﺤﺔ ،ﻓﺄﻛﻤﻞ
ﻫﺬه اﻟﺤﻀﺎرات ﻫﻲ ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ ﻓﻴﻤﺎ ﺑني اﻟﻨﻴﻞ واﻟﻔﺮات .وﻗﺪ ﻧﺸﺄ ﻋﻦ ﻣﻮاﻗﻊ
اﻟﺤﻀﺎرات ﰲ ﻫﺬا اﻹﻗﻠﻴﻢ اﻟﺘﻘﺎء ﻣﺴﺘﻤﺮ وﻏﻨًﻰ ﻛﺒري ﰲ املﻨﺘﺠﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﰲ ﺻﻮرة
ﻣﺜﻠﺚ ﺣﻀﺎري ﻛﺒري ﺗﺮﺗﻜﺰ رءوﺳﻪ اﻟﺜﻼﺛﺔ ﻋﲆ ﻣﴫ واﻟﻔﺮات وآﺳﻴﺎ اﻟﺼﻐﺮى ،وﰲ ﻗﻠﺐ
ﻫﺬا املﺜﻠﺚ وﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻓﻴﻪ ،ﻧﺸﺄت ﺣﻀﺎرات ﻋﻠﻴﺎ ﻣﺘﺨﺼﺼﺔ ﰲ
اﻟﻨﻘﻞ واﻟﺘﺠﺎرة ﻋﲆ رأﺳﻬﺎ اﻟﺤﻀﺎرﺗﺎن اﻟﻔﻴﻨﻴﻘﻴﺔ واﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ.
أﻳﻀﺎ وﻻ ﺷﻚ ﺣﻀﺎرة ﻣﺘﻜﺎﻣﻠﺔ ﻣﻦ وﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺘﺺ ﺑﺎﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺼﻴﻨﻴﺔ ،ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ً
ﺣﻴﺚ اﺗﺴﺎع آﻓﺎﻗﻬﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﰲ ﺳﻬﻮل اﻟﺼني اﻟﺨﺼﺒﺔ ،واﺗﺴﺎع ﻣﻌﺎﻣﻼﺗﻬﺎ اﻟﺘﺠﺎرﻳﺔ
اﻟﺒﺤﺮﻳﺔ ﰲ ﺟﻨﻮب آﺳﻴﺎ وﺟﻨﻮﺑﻬﺎ اﻟﴩﻗﻲ ،وﻣﻌﺎﻣﻼﺗﻬﺎ اﻟﺘﺠﺎرﻳﺔ اﻟﱪﻳﺔ ﻋﱪ وﺳﻂ آﺳﻴﺎ
إﱃ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ وﴍق أوروﺑﺎ ،وﻋﱪ املﺤﻴﻂ اﻟﻬﺎدي إﱃ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺠﺰر اﻟﻌﺪﻳﺪة ﰲ
ﺑﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳﺎ وﻣﻴﻜﺮوﻧﻴﺰﻳﺎ.
أﻣﺎ ﻣﻌﻠﻮﻣﺎﺗﻨﺎ ﻋﻦ اﺗﺼﺎﻻت ﺣﻀﺎرة اﻟﺴﻨﺪ اﻷدﻧﻰ )ﻣﻮﻫﺎﻧﺠﻮ-دارو( ﻓﻤﺎ زاﻟﺖ ﻗﻠﻴﻠﺔ،
ﻟﻜﻨﻬﺎ — ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻣﻮﻗﻌﻬﺎ وإﻣﻜﺎﻧﺎﺗﻬﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ — ﺗﺮﺗﻜﺰ ﻋﲆ ﻗﺎﻋﺪة اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻣﺘﻴﻨﺔ
231
اﻹﻧﺴﺎن
ﺗﻜﻮﻧﻬﺎ ﺳﻬﻮل اﻟﻬﻨﺪ واﻟﺴﻨﺪ ،وﻋﻼﻗﺎت ﺑﺮﻳﺔ ﻣﺴﺘﻤﺮة ﻋﱪ املﻤﺮات اﻟﺠﺒﻠﻴﺔ ،إﱃ ﻫﻀﺎب
إﻳﺮان وﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ ،وإﱃ اﻟﺸﻤﺎل ﰲ اﺗﺠﺎه وﺳﻂ آﺳﻴﺎ.
وﺣﻀﺎرات اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ أﺣﺪث ﺑﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ اﻟﺬﻛﺮ ،وﻗﺎﻣﺖ
ﰲ ﻋﺰﻟﺔ ﺟﻐﺮاﻓﻴﺔ ﺣﺘﻰ ﺗﻢ ﻛﺸﻔﻬﺎ ﻣﻨﺬ أرﺑﻌﺔ ﻗﺮون .وﻟﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﻣﻦ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني ﻣﻦ
ﻳﻌﺘﻘﺪ أن ﻫﺬه اﻟﺤﻀﺎرات ﻗﺪ اﺗﺼﻠﺖ ﻣﺮة أو ﻋﺪة ﻣﺮات ﺑﺤﻀﺎرات آﺳﻴﺎ ﻋﱪ ﺟﺰر املﺤﻴﻂ
اﻟﻬﺎدي اﻟﺒﺤﺮﻳﺔ اﻟﺘﻮﺟﻴﻪ 2 ،وﻻ ﺗﺰال ﻫﻨﺎك ﺑﻌﺾ اﻵراء اﻟﺘﻲ ﺗﺆﻛﺪ — دون دﻟﻴﻞ ﻣﺆﻛﺪ —
وﺟﻮد اﺗﺼﺎﻻت ﺑﺤﺮﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﻋﱪ املﺤﻴﻂ اﻷﻃﻠﻨﻄﻲ.
)ب( اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﺜﺎﻧﻮﻳﺔ أو املﺘﱪﺑﺮة :ﺗﻮﺟﺪ ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﺑﻌﻴﺪة ﻋﻦ ﻣﺮاﻛﺰ
أﻳﻀﺎ ﻣﻨﻬﺎ ﰲ ﺻﻮرة ﻫﺠﺮات اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ،واﻟﻐﺎﻟﺐ أﻧﻬﺎ اﺳﺘﻤﺪت أﺻﻮﻟﻬﺎ ً
أو ﻧﻘﻞ ﺣﻀﺎري ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻻﺣﺘﻜﺎك واﻟﺘﺠﺎرة .وأﺳﺎس ﻫﺬه اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺰراﻋﺔ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻗﺪ
أﻳﻀﺎ ﺑﺼﻐﺮ ﻻ ﺗﻜﻮن زراﻋﺔ املﺤﺮاث ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻈﺮوف اﻟﱰﺑﺔ .وﺗﺘﺼﻒ ﻫﺬه اﻟﺤﻀﺎرات ً
رﻗﻌﺔ اﻷرض اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻴﺶ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﺎﻟﻘﻴﺎس إﱃ ﻣﺴﺎﺣﺔ اﻷرض اﻟﻜﺒرية ﰲ اﻟﺤﻀﺎرات
اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ .وﺗﻮﺟﺪ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺜﺎﻧﻮﻳﺔ ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﻣﺜﻞ ﺣﻀﺎرات اﻟﺰﻧﻮج
اﻟﻌﻠﻴﺎ ﰲ ﻏﺮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ )اﻷﺷﺎﻧﺘﻲ واﻟﻴﻮرﺑﺎ واﻟﺒﻨني واﻟﺪاﻫﻮﻣﻲ( ،وﻛﺬﻟﻚ ﰲ ﺑﻌﺾ ﻣﻨﺎﻃﻖ
أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ اﻟﴩﻗﻴﺔ :اﻟﺸﻠﻚ ﰲ ﺟﻨﻮب اﻟﺴﻮدان ،واﻟﺰاﻧﺪي ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺗﻘﺴﻴﻢ املﻴﺎه ﺑني اﻟﻜﻨﻐﻮ
واﻟﻨﻴﻞ ،واﻟﺒﺎﺟﻨﺪا ﰲ أوﻏﻨﺪا .ﻛﺬﻟﻚ ﺗﻮﺟﺪ ﰲ ﺑﻌﺾ ﻣﻨﺎﻃﻖ آﺳﻴﺎ اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ ،ﻣﺜﻞ ﺣﻀﺎرات
اﻟﺪراﻓﻴﺪﻳني ﰲ ﺟﻨﻮب اﻟﻬﻨﺪ وﺳﻴﻼن وﺣﻀﺎرات أﻟﺘﺎي ﰲ ﺗﺎﻳﻼﻧﺪ.
وﻳُﻼﺣَ ﻆ ﰲ املﺠﻤﻮع أن ﻫﺬه اﻟﺤﻀﺎرات أﺣﺪث ﺑﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ املﺘﻜﺎﻣﻠﺔ.
)ﺟ( ﺣﻀﺎرات ﺑﻬﺎ ﺑﻌﺾ ﻣﻦ ﻋﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ :وﻫﻲ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﺗﻘﻊ ﻋﲆ
املﻌﺎﺑﺮ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ أو ﻧﻬﺎﻳﺎت ﻃﺮق اﻟﺘﺠﺎرة ﺑني اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ؛ وﻟﻬﺬا ﺗﺄﺛﺮت ﺑﻌﺾ
ﻴﻔ ْﺖ إﱃ ﻣﺮﻛﺒﺎﺗﻬﺎ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ .ﻣﺜﺎل ذﻟﻚ ﺣﻀﺎرة اﻟﴚء ﺑﻌﻨﺎﴏ ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻋﻠﻴﺎ أ ُ ِﺿ َ
ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،أﻛﺪ اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﻮن اﻟﱪﻳﻄﺎﻧﻴﻮن أن ﺣﻀﺎرات أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻌﻠﻴﺎ ﻗﺪﻣﺖ ﻣﻦ ﻣﴫ .اﻧﻈﺮ: 2
232
اﻷﻧﻮاع اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرات
) (3-3ﺗﺘﻤﻴﺰ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ ﺑﺘﻘﺴﻴﻢ داﺧﲇ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ ﻳﻔﺮق ﺑني اﻟﻄﺒﻘﺔ
اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ واﻟﻌﻠﻴﺎ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ،واﻟﺸﻌﺐ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺛﺎﻧﻴﺔ
)أ( ﻣﻤﻴﺰات اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ :ﻫﻲ اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﺤﺎﻣﻠﺔ ﻟﺸﻜﻞ اﻟﺤﻴﺎة ﰲ اﻟﺤﻀﺎرات
اﻟﻌﻠﻴﺎ ،وﻫﻲ ﺑﺎﻟﴬورة ﺻﻐرية اﻟﻌﺪد ،وﺗﺆﻫﻠﻬﺎ ﻇﺮوﻓﻬﺎ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ إﱃ ﻗﻴﺎدة
اﻟﺸﻌﺐ .وأﻋﻀﺎء ﻫﺬه اﻟﻄﺒﻘﺔ ﻻ ﻳﻘﻮﻣﻮن ﺑﺄﻋﻤﺎل إﻧﺘﺎﺟﻴﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﻐﺬاء ،ﺑﻞ ﻳﻜﻮﻧﻮن
ﻃﺒﻘﺔ ﻛﺒﺎر املﻼك ،وﻳﱰﺗﺐ ﻋﲆ ﻫﺬا ﺗﻤﻴﻴﺰ اﺟﺘﻤﺎﻋﻲ واﺿﺢ ،ﺑﻤﻘﺘﻀﺎه ﺗﺘﺒﻮأ ﻫﺬه اﻟﻄﺒﻘﺔ
املﺮاﻛﺰ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻷوﱃ.
)ب( ﻣﻤﻴﺰات اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﺪﻧﻴﺎ أو اﻟﺸﻌﺐ :ﻳﻜﻮﻧﻮن اﻟﻜﺘﻠﺔ اﻟﺴﻜﺎﻧﻴﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻛﻤﺎ
ﻳﻜﻮﻧﻮن املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﰲ اﻟﻨﺸﺎط اﻻﻗﺘﺼﺎدي واﻹﻧﺘﺎج اﻟﻐﺬاﺋﻲ ﻟﻜﺎﻓﺔ اﻟﺴﻜﺎن ﺑﻤﺎ ﰲ
ذﻟﻚ اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﻌﻠﻴﺎ ،وﺗﺘﻤﻴﺰ ﻫﺬه املﺠﻤﻮﻋﺔ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﺗﺤﺘﻔﻆ ﺑﺒﻘﺎﻳﺎ ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻗﺪﻳﻤﺔ وﻣﻤﺎرﺳﺎت
وﻋﺎدات ﺑﺪاﺋﻴﺔ ﻣﻄﻌﻤﺔ ﺑﺎﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﻘﺎدﻣﺔ إﻟﻴﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﻌﻠﻴﺎ.
وﰲ داﺧﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﻘﺴﻴﻢ اﻟﺜﻨﺎﺋﻲ ﺗﻮﺟﺪ ً
أﻳﻀﺎ أﻗﺴﺎم أﺧﺮى ﻣﺮﺗﺒﺔ ﺗﺮﺗﻴﺒًﺎ ﺗﺼﺎﻋﺪﻳٍّﺎ
ﰲ ﺻﻮرة ﻃﺒﻘﺎت أﻛﺜﺮ ﺗﺤﺪﻳﺪًا ،أو ﺻﻮرة ﻃﺒﻘﻴﺔ ﻣﻬﻨﻴﺔ .ﻓﺎﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ أو اﻟﻌﻠﻴﺎ أو
اﻟﻨﺒﻼء ﺗﻨﻘﺴﻢ إﱃ ﻋﺪة ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،ﻋﲆ رأﺳﻬﺎ اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ املﻠﻜﻴﺔ وأﻋﻀﺎؤﻫﺎ اﻟﺬﻳﻦ
ﻳﺘﺪرﺟﻮن ﰲ درﺟﺎت اﻟﻨﺒﺎﻟﺔ ﺣﺴﺐ ﻗﺮﺑﻬﻢ أو ﺑُﻌﺪﻫﻢ ﻣﻨﻬﺎ ،وﺗﺘﻐري درﺟﺎت اﻟﻨﺒﺎﻟﺔ ﺑﺘﻐري
اﻷﴎة اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ أو املﻠﻚ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻷﺣﻴﺎن — إذا ﻟﻢ ﺗﻜﻦ اﻟﻮراﺛﺔ ﻣﻦ اﻷب إﱃ اﻻﺑﻦ
ﻗﺎﻧﻮﻧًﺎ ﻣﻠﺰﻣً ﺎ .وﻳُﻼﺣَ ﻆ أن اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﺗﻘﺎﻟﻴﺪ وﻋﺎدات اﻟﻨﺒﻼء ﺗﻨﺰل إﱃ أﺳﻔﻞ ﻟﻴﻤﺎرﺳﻬﺎ
233
اﻹﻧﺴﺎن
ﺑﻄﺮق ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ أﺑﻨﺎء وأﻋﻀﺎء اﻟﻄﺒﻘﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻮﺟﺪ أﺳﻔﻞ اﻟﻨﺒﻼء ،وﻗﺪ ذﻫﺐ اﻟﺒﻌﺾ إﱃ
أﺑﻌﺎد ﻛﺜرية ﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل3 .
وﻋﲆ ﻋﻜﺲ اﻟﻨﻈﺎم اﻟﻄﺒﺎﻗﻲ ﰲ اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ،ﺗﺘﻤﺘﻊ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺸﻌﺐ ﺑﻨﻈﺎم
دﻳﻤﻮﻗﺮاﻃﻲ ﻏري ﻃﺒﺎﻗﻲ إﻻ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﺗﻤﻴﺰ اﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻣﺤﺪود ﻟﺰﻋﻤﺎء اﻟﻘﺮﻳﺔ ورﺟﺎل اﻟﺪﻳﻦ
املﺤﻠﻴني .واﻟﻮﻇﺎﺋﻒ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﻗﺎﴏة ﻋﲆ ﻃﺒﻘﺔ اﻟﺤﻜﺎم ،ﺑﻞ ﻧﺠﺪ ﺑﻌﺾ املﻮﻇﻔني ﻣﻦ
ﺑﻌﻀﺎ ﻣﻦ رﺟﺎل اﻟﺪﻳﻦ ﻣﻦ ﻏري ﻃﺒﻘﺔ اﻟﻨﺒﻼء ً
أﻳﻀﺎ ،ﺑﺮﻏﻢ ً اﻟﺸﻌﺐ ،وﰲ أﺣﻴﺎن ﻧﺠﺪ ً
أﻳﻀﺎ
اﻫﺘﻤﺎم اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ﺑﺎﻟﻮﻇﺎﺋﻒ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واﺣﺘﻜﺎرﻫﻢ ﻟﻬﺎ؛ ملﺎ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ أﻫﻤﻴﺔ ﰲ ﺣﻴﺎة
اﻟﺸﻌﺐ وﺗﻮﺟﻴﻬﻪ.
ﻳﺆدي اﻟﺘﻄﻮر ﰲ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ إﱃ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﻧﻈﺎم اﻟﺪوﻟﺔ ﰲ أﺣﻴﺎن ﻛﺜرية ،وﺗﻨﺸﺄ
ﻧﻈﺮﻳﺎت اﻟﺪوﻟﺔ ﻣﻊ أﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ذات ﺗﻮﺟﻴﻪ ﻣﻌني وﺗﺎرﻳﺦ ﻣﻌني ﰲ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻣﺮاﺣﻞ اﻟﺘﻄﻮر
اﻟﺤﻀﺎري اﻟﻌﺎﱄ ،وﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ﻳﻘﻮم ﻧﻈﺎم اﻟﺤﻜﻢ ﻋﲆ أﺳﺎس اﻟﺤﻜﻢ املﺮﻛﺰي اﻟﺬي ﺗﺨﺘﺺ
ﺑﻪ اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ،وﻟﻌﻞ أﻇﻬﺮ ﻧﻈﻢ اﻟﺤﻜﻢ ﰲ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ﻫﻮ اﻟﻨﻈﺎم املﻠﻜﻲ ﺑﺪرﺟﺎت
ﻣﺘﻔﺎوﺗﺔ ﻣﻦ املﻠﻜﻴﺔ اﻻﻧﺘﺨﺎﺑﻴﺔ إﱃ اﻟﻮراﺛﻴﺔ .وﻣﻦ أﻫﻢ ﻣﺒﺎدئ اﻟﻨﻈﻢ املﻠﻜﻴﺔ أن اﻟﺘﻘﻠﻴﺪ
اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ واﻟﺪﻳﻨﻲ ﻳﻌﻄﻲ ﻟﻠﻤﻠﻚ ﺻﻔﺎت ﻓﻮق ﺻﻔﺎت اﻟﺒﴩ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،وﻫﻮ ﺑﺬﻟﻚ ﻳﻜﻮن
اﻟﺰﻋﻴﻢ اﻟﺰﻣﻨﻲ واﻟﺪﻳﻨﻲ ،وﻳﺼﺒﺢ اﻟﻮﺳﻴﻂ ﺑني اﻟﻘﻮى ﻓﻮق اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ وﺑني اﻟﺮﻋﻴﺔ.
وﻟﻬﺬا ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن ﻫﺬا املﻠﻚ املﻘﺪس ﻣﺘﻤﺘﻌً ﺎ ﺑﻘﻮى ﺟﺴﺪﻳﺔ وﻋﻘﻠﻴﺔ ﻏري ﻣﺸﻜﻮك
ﻣﻘﺪﺳﺎ ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﻻ ً ﻓﻴﻬﺎ .ﻓﺈذا ﻣﺎ ﺿﻌﻒ اﻟﺠﺴﺪ ُﻗﺘِﻞ املﻠﻚ ً
ﻗﺘﻼ
ﻋﻘﺎب ﻋﻠﻴﻬﻢ إذا ﻣﺎ ﻗﺘﻠﻮا املﻠﻚ ،ﺑﻨﺎءً ﻋﲆ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﻈﻮاﻫﺮ واﻻﺳﺘﺸﺎرات ﻣﻊ ﺑﻌﺾ اﻟﺰﻋﻤﺎء.
وﺗﺮﺗﺒﻂ ﻇﺎﻫﺮة اﻟﻘﺘﻞ املﻘﺪس ﺑﻔﻜﺮة ﺣﻠﻮل روح ﺑﻄﻞ اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ ﰲ ﺟﺴﺪ املﻠﻚ اﻟﺤﺎﻛﻢ ،وﻫﺬه
اﻟﺮوح اﻟﺘﻲ ﺗﺮﻋﻰ اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ ،ﻓﺈذا ﻣﺎ أﺻﺎب اﻟﺠﺴﺪ ﻣﺮض أو وﻫﻦ؛ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺨﴙ أن ﺗﻬﺠﺮ
اﻟﺮوح ﻫﺬا اﻟﺠﺴﺪ ﺑﻼ رﺟﻌﺔ ،وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﻻ ﺗﻌﻮد إﱃ رﻋﺎﻳﺔ اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ ﻣﻦ اﻷﻣﺮاض واﻷوﺑﺌﺔ وﻻ
234
اﻷﻧﻮاع اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرات
ً
ﻣﻘﺪﺳﺎ إﱃ ﻣﺴﺎﻋﺪﺗﻬﻢ ﰲ اﻟﺤﺮب ﺿﺪ أﻋﺪاﺋﻬﻢ؛ وﻟﻬﺬا ﻳُﻘﺘَﻞ املﻠﻚ )ﺑﻤﻌﺮﻓﺘﻪ ورﺿﺎه( ً
ﻗﺘﻼ
)ﺑﻄﺮق ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ( ﻟﻜﻲ ﻳﺘﻬﻴﺄ ﻟﻠﺮوح ﺟﺴﺪ ﺻﺤﻴﺢ .وﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم ﺷﺎﺋﻊ ﺑني ﺑﻌﺾ
اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ ﺑﺪرﺟﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﻣﺜﻞ اﻟﺸﻠﻚ واﻟﺪﻧﻜﺎ ﰲ اﻟﺴﻮدان اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ ،واﻟﻜﺎﻓﺎ ﰲ
ﺟﻨﻮب إﺛﻴﻮﺑﻴﺎ ،واﻟﺠﻮﻛﺮن ﰲ ﺷﻤﺎل ﴍق ﻧﻴﺠريﻳﺎ ،واﻟﻴﻮرﺑﺎ واﻟﺪاﻫﻮﻣﻲ واﻷﺷﺎﻧﺘﻲ ﻋﲆ
ﻃﻮل ﺳﺎﺣﻞ ﺧﻠﻴﺞ ﻏﺎﻧﺎ ﰲ ﻏﺮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،وﺑﻌﺾ ﻣﻤﺎﻟﻚ اﻟﺒﺎﻧﺘﻮ واﻟﺰوﻟﻮ ﰲ ﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ،
وﻋﻨﺪ اﻟﺒﺎﻛﻮﻧﺠﻮ ﰲ ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ زاﺋريي اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ .وﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ أن ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم ﻟﻢ ﻳَﻌُ ْﺪ ﻗﺎﺋﻤً ﺎ
ﺑﺼﻮرﺗﻪ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻬﺎ إﱃ ﺣﻮاﱄ ﻧﺼﻒ ﻗﺮن ﻣﴣ ،ﺑﻌﺪ اﻻﺗﺼﺎﻻت اﻟﻜﺜرية ﻣﻊ اﻟﻌﻨﺎﴏ
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ ،واﻟﻨﻈﻢ اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﺧﻼل ﻋﻬﺪ اﻻﺳﺘﻌﻤﺎر اﻷوروﺑﻲ ﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺎ.
وﻗﺪﻳﻤً ﺎ ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم املﻘﺪس ﺷﺎﺋﻌً ﺎ )ﺑﺼﻮرة ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ( ﰲ ﺑﻌﺾ ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﺤﻀﺎرات
اﻟﻌﻠﻴﺎ ،وإن ﻟﻢ ﻧﺘﺄﻛﺪ ﺣﺘﻰ اﻵن ﻣﻦ وﺟﻮده ﰲ ﻣﴫ ﻣﻨﺬ ﺑﺪاﻳﺔ ﻋﴫ اﻷﴎات ،وﻟﻌﻠﻪ ﻛﺎن
ﻣﻮﺟﻮدًا ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ،أو ﻟﻌﻞ ﻗﺼﺔ أوزورﻳﺲ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﺑﻘﻴﺔ ﻣﻦ ﺑﻘﺎﻳﺎ اﻟﺘﻨﺎﻓﺲ ﻋﲆ اﻟﺤﻜﻢ
واﻟﻘﺘﻞ املﻘﺪس ﻓﻴﻤﺎ ﻗﺒﻞ اﻷﴎات ﰲ ﻣﴫ4 .
وﺑﺮﻏﻢ ﻧﻘﺺ اﻷدﻟﺔ املﺒﺎﴍة ﻋﲆ اﻟﻘﺘﻞ املﻘﺪس ،إﻻ أن اﺗﺠﺎه اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني ﻫﻮ
إﱃ إرﺟﺎع اﻟﻨﻈﺎم املﻠﻜﻲ املﻘﺪس إﱃ أﺻﻞ ﻣﴫي .وأﻛﺜﺮ اﻵراء ﺗﺮﺟﺢ اﻧﺘﺸﺎره ً
أوﻻ
إﱃ اﻟﺠﻨﻮب؛ ﺣﻴﺚ ﻧﺸﺄت ﻣﻤﻠﻜﺔ ﻧﺒﺎﺗﺎ وﻣﺮوي ﰲ إﻗﻠﻴﻢ اﻟﻨﻮﺑﺔ وﺷﻤﺎل اﻟﺴﻮدان —
وﻫﻤﺎ ﻣﻤﻠﻜﺘﺎن ﻣﺘﻤﴫﺗﺎن ﰲ ﻛﻞ ﳾء ﻣﻦ ﻋﻨﺎﴏﻫﻤﺎ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ وﻧﻈﺎﻣﻬﻤﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدي
واﻟﺴﻴﺎﳼ .وﺑﻌﺪ اﻧﻬﻴﺎر ﻣﻤﻠﻜﺔ ﻣﺮوي ﰲ ﺣﺪود اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ املﻴﻼدي ،اﻧﺘﴩت ﻫﺠﺮات
ﻣﺮوﻳﺔ ﺣﺎﻣﻠﺔ ﻟﺒﻌﺾ أﻓﻜﺎر اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺴﻴﺎﳼ اﻟﻘﺪﻳﻢ )ﺑﻌﺪ أن ﻓﻘﺪ ﻛﺜريًا ﻣﻦ ﻓﻠﺴﻔﺘﻪ
وأﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺘﻪ( ﻋﱪ اﻟﻘﺎرة اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ ﻏﺮﺑًﺎ )ﺑﻄﺮﻳﻖ اﻟﺴﻔﺎﻧﺎ إﱃ ﻏﺮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ( وﺟﻨﻮﺑًﺎ
)ﺑﻄﺮﻳﻖ ﻫﻀﺒﺔ اﻟﺒﺤريات إﱃ ﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وﺟﻨﻮب ﺣﻮض اﻟﻜﻨﻐﻮ(.
أﻳﻀﺎ اﻟﻨﻈﺎم املﻠﻜﻲ اﻟﻌﺴﻜﺮي ،وﺧﺎﺻﺔ ﰲ وإﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﻨﻈﺎم املﻠﻜﻲ املﻘﺪس ﻇﻬﺮ ً
ﻣﻤﺎﻟﻚ آﺷﻮر وﺑﺎﺑﻞ ،وﺗﻄﻮر ﻋﻨﻪ ﻧﻈﺎم اﻟﺤﻜﻢ اﻟﻮراﺛﻲ املﺴﺘﺒﺪ ﰲ درﺟﺎﺗﻪ املﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﺛﻢ
ﺗﻄﻮر إﱃ ﻧﻈﺎم اﻧﺘﺨﺎب املﻠﻮك ﻣﻦ ﺑني ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻷﻣﺮاء اﻹﻗﻄﺎﻋﻴني .وﻗﺪ ﻛﺎن ذﻟﻚ ﻳﺤﺪث
4ﻛﺘﺐ ﻛﺜريون ﻣﻦ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني ﺣﻮل ﻣﻮﺿﻮع املﻠﻜﻴﺔ املﻘﺪﺳﺔ وأﺻﻠﻪ واﻧﺘﺸﺎره ﺑﻮﺻﻔﻪ ﻋﻨﴫًا ﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ
ﻣﻤﻴ ًﺰا ،واﻷﺳﻤﺎء اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻺﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني ﻣﺘﻌﺪدة ،ﻋﲆ رأﺳﻬﺎ :ﺳﻠﻴﺠﻤﺎن ،وﻫﻨﺮي ﻓﺮاﻧﻜﻔﻮرت ،ووﻳﻠﺴﻮن،
ﺷﻤﻮﻻ ﻫﻮ ﺳري ﺟﻴﻤﺲ ﻓﺮﻳﺰر ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ املﺸﻬﻮر »اﻟﻐﺼﻦ ً وﻓﻠﻨﺪرز ﺑﱰي .ﻟﻜﻦ أﻛﺜﺮ ﻫﺆﻻء اﻟﺒﺎﺣﺜني
اﻟﺬﻫﺒﻲ«.Frazer. J, “The Golden Bough” London 1922 (1 ed. 1890) .
235
اﻹﻧﺴﺎن
أﻳﻀﺎ ﰲ ﻣﴫ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﰲ ﻓﱰات ﺿﻌﻒ اﻟﺪوﻟﺔ وﻧﻈﺎم اﻟﺤﻜﻢ املﻘﺪس ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن داﺋﻤً ﺎ ً
ﻳﻠﺠﺄ إﱃ إﻋﻼن ﻛﻬﻨﻮﺗﻲ ﺑﺄن املﻠﻚ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﺳﻠﻴﻞ اﻵﻟﻬﺔ ً
أﻳﻀﺎ.
ﺑﻌﻀﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﻈﻢ اﻟﺪﻳﻤﻮﻗﺮاﻃﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖوإﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﻨﻈﻢ املﻠﻜﻴﺔ اﻷوﺗﻮﻗﺮاﻃﻴﺔ ،ﻧﺠﺪ أن ً
ﺗﺴﻮد ﰲ أﻗﺎﻟﻴﻢ اﻟﺪوﻟﺔ ﰲ ﺻﻮرة اﻟﺤﻜﻢ املﺤﲇ ،ﻛﻌﺎﻣﻞ ﻣﺨﻔﻒ ﻟﻮﻃﺄة اﻟﺤﻜﻢ املﺮﻛﺰي .ﻟﻜﻦ
اﻟﺮﺋﺎﺳﺎت املﺤﻠﻴﺔ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻘﻊ ﰲ ﻳﺪ أﻓﺮاد ﻣﻦ أﻋﻀﺎء اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ
ﻹﻣﻜﺎن إﺣﻜﺎم رﻗﺎﺑﺘﻬﻢ ﻋﲆ ﻛﻞ أﺟﺰاء اﻟﺪوﻟﺔ.
وﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﻌﻤﻮم ﻳﺘﻤﻴﺰ ﻧﻈﺎم اﻟﺤﻜﻢ ﺑﻈﻬﻮر اﻟﺘﻨﺎﻓﺲ ﺑني اﻟﻨﻈﺎﻣني املﺮﻛﺰي اﻟﺬي
ﻳﻤﺜﻠﻪ املﻠﻚ أو اﻷﴎة املﺎﻟﻜﺔ ،واﻟﻼﻣﺮﻛﺰي اﻟﺬي ﻳﺪاﻓﻊ ﻋﻨﻪ اﻷﻣﺮاء املﺤﻠﻴﻮن ،إﱃ ﺟﺎﻧﺐ
اﻟﺘﻨﺎﻓﺲ اﻟﺬي ﻳﺤﺪث ﺑني أﻣﺮاء اﻷﴎة املﺎﻟﻜﺔ ﺑﻐﻴﺔ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ اﻟﻌﺮش .وﰲ أﻏﻠﺐ اﻟﺤﺎﻻت
وﺛﻴﻘﺎ ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ذﻟﻚ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﰲ ﻣﴫ ً ﻳﺮﺗﺒﻂ ﻧﻈﺎم اﻟﺤﻜﻢ املﻠﻜﻲ ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ ارﺗﺒﺎ ً
ﻃﺎ
وﺣﻀﺎرات اﻟﴩق اﻟﻘﺪﻳﻢ.
وﻗﺪ ﺗﻤﻴﺰت ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ ﺑﻨﻈﻢ ﺣﻜﻢ دﻳﻤﻮﻗﺮاﻃﻴﺔ ﴏﻓﺔ ،وﻛﺎن ذﻟﻚ
واﺿﺤً ﺎ ﰲ ﺑﻌﺾ املﺪن اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ وﻋﲆ اﻷﺧﺺ أﺛﻴﻨﺎ ،وﰲ ﺑﻌﺾ أوﻗﺎت اﻟﺤﻜﻢ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻲ
ﰲ روﻣﺎ .ﻟﻜﻦ اﻟﺪﻳﻤﻮﻗﺮاﻃﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻗﺎﴏة ﻋﲆ ﻃﺒﻘﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻫﻲ ﻃﺒﻘﺔ اﻷﺣﺮار؛ أي ﺳﻜﺎن
اﻟﺒﻼد ﻣﻦ أﺻﻞ إﻏﺮﻳﻘﻲ أو روﻣﺎﻧﻲ ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﻮا ﻓﻘﺮاء ﺟﻬﻼء ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺑﻘﻴﺔ ﺳﻜﺎن املﺪﻳﻨﺔ
أرﻗﺎء ﻏري أﺣﺮار ﻻ ﻳﻤﺎرﺳﻮن أي دور ﰲ اﻟﺤﻜﻢ واﻟﺪﻳﻤﻮﻗﺮاﻃﻴﺔ .واملﻼﺣﻆ أن ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم
اﻟﺪﻳﻤﻮﻗﺮاﻃﻲ ﻛﺎن ﻳﺴﺘﻨﺪ إﱃ دﻋﺎﻣﺔ اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ أﺳﺎﺳﻴﺔ؛ ﻫﻲ ﻧﻈﺎم اﻟﻌﺒﻴﺪ )ﻣﻦ أي ﺟﻨﺴﻴﺔ
أﺧﺮى ﻏري اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ملﺪن اﻟﻴﻮﻧﺎن اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،وﻏري اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺮوﻣﺎ( اﻟﺬﻳﻦ
ﻛﺎﻧﻮا ﻣﻦ أﴎى اﻟﺤﺮب أو أﺳﻼب اﻟﻐﺰو واﻟﻨﻬﺐ اﻟﺒﺤﺮي ،أو اﻟﺬﻳﻦ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮن أن
ﻳﻮﻓﻮا دﻳﻮﻧﻬﻢ .وﻗﺪ ﺑﻠﻐﺖ ﻧﺴﺒﺔ اﻟﻌﺒﻴﺪ إﱃ ﻣﺠﻤﻮع ﺳﻜﺎن املﺪن ﰲ أﺣﻴﺎن ﻛﺜرية إﱃ ،٪٨٠
أﻣﺎ اﻟﻨﺴﺒﺔ اﻟﺒﺎﻗﻴﺔ ﻓﺘﻤﺜﻞ اﻷﺣﺮار اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻤﺎرﺳﻮن اﻟﺤﻜﻢ اﻟﺪﻳﻤﻮﻗﺮاﻃﻲ.
ﻳﻨﻌﻜﺲ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺘﻤﻴﺰ ﺑﻪ اﻷﴎ اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ﻣﻦ ﻣﻤﻴﺰات ﰲ ﺻﻮرة ﺣﻴﺎة اﻟﻘﺼﻮر واﻟﺮﻣﻮز
واملﺤﺮﻣﺎت واﻟﺤﺮﻳﻢ ،وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ وﺳﺎﺋﻞ اﻟﺮﻓﺎﻫﻴﺔ واﻟﱰف اﻟﻨﺎدرة املﺜﺎل .وﻗﺪ ﻫﻴﺄت
ﻫﺬه اﻟﺤﻴﺎة املﱰﻓﺔ ﻓﺮﺻﺔ ﻻ ﻧﻈري ﻟﻬﺎ ﻣﻦ أﺟﻞ ﻧﻤﻮ اﻟﻔﻨﻮن املﻌﻤﺎرﻳﺔ ،واﻟﻨﺤﺖ واﻟﺘﺸﻜﻴﻞ
واﻟﺰﺧﺮﻓﺔ ،واﻟﺤﺮف اﻟﻴﺪوﻳﺔ اﻟﺮاﻗﻴﺔ ﻣﻦ ﺧﺰف وزﺟﺎج وﻣﺼﻮﻏﺎت ﻣﻦ املﻌﺎدن واﻟﺠﻮاﻫﺮ
236
اﻷﻧﻮاع اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرات
اﻟﻨﺎدرة .وﻣﻌﻈﻢ ﻫﺬه املﻨﺘﺠﺎت اﻟﻔﻨﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗُﻘﺪﱠر ﺑﺜﻤﻦ ﻗﺪ وﺻﻠﺖ إﻟﻴﻨﺎ ،وﻻ ﺗﺰال ﺗﻌﺎﻳﺸﻨﺎ
ﰲ ﻣﺘﺎﺣﻒ ﺧﺎﺻﺔ أو ﻣﺘﺎﺣﻒ اﻟﻔﻨﻮن ﰲ ﻣﻌﻈﻢ املﺪن اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﻌﺎﴏ.
237
اﻹﻧﺴﺎن
ﻗﻮﻳﺔ ﺗﻀﻢ إﱃ ﻧﻔﻮذﻫﺎ اﻟﻘﺮى املﺠﺎورة ،واﻻﺣﺘﻤﺎل اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻟﺜﺎﻧﻲ؛ وﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﻔﴪ
اﻟﺪوﻟﺔ ذات املﺴﺎﺣﺔ اﻟﻜﺒرية ﺑﺄﻧﻬﺎ ﻧﺠﻤﺖ ﻋﻦ اﻟﴫاع ﺑني ﺑﻌﺾ دول املﺪﻳﻨﺔ املﺘﺠﺎورة،
وﻳﻨﺘﻬﻲ اﻟﴫاع ملﺼﻠﺤﺔ ﻣﺪﻳﻨﺔ واﺣﺪة ﺗﺴﻴﻄﺮ ﻋﲆ املﺪن اﻷﺧﺮى وﻛﻞ اﻟﻘﺮى اﻟﺘﺎﺑﻌﺔ ﻟﻬﺎ.
وﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺪوﻟﺔ ﻻ ﺗﺰال ﺗﺒﺪو ﺻﻔﺎت ﻣﻤﻴﺰة ملﺪن وأﻗﺴﺎم اﻟﺪوﻟﺔ؛ ﻧﺘﻴﺠﺔ ملﺎ ﻛﺎن ﻟﻬﺎ
ﻣﻦ ﻇﺮوف ﺧﺎﺻﺔ ﺣﻀﺎرﻳﺔ وﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﺳﺎﺑﻘﺔ.
وأﺧريًا ،ﻧﺄﺗﻲ إﱃ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﰲ ﺑﻨﺎء اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻜﺒرية اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻌﺪى ﰲ ﻧﻔﻮذﻫﺎ اﻟﺴﻴﺎﳼ
إﻗﻠﻴﻤﻬﺎ اﻟﺠﻐﺮاﰲ املﺤﺪود ،وﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ﺗﻨﺸﺄ ﻋﻦ ﻗﻮى اﻟﺘﺠﻤﻴﻊ اﻟﺘﻲ ﺣﺪﺛﺖ ﰲ اﻻﺣﺘﻤﺎل
اﻟﺜﺎﻟﺚ؛ إذ ﺗﻨﺸﻂ ﻫﺬه اﻟﻘﻮى ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺘﻮﺳﻊ وﺗﻘﻠﻴﻞ اﻟﻔﻮارق داﺧﻞ اﻹﻗﻠﻴﻢ ﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ،
وﺗﻮﺟﻴﻪ اﻟﻨﺸﺎط اﻻﻗﺘﺼﺎدي إﱃ اﻗﺘﺼﺎد ﻣﺮﻛﺰي ﻣﺨﻄﻂ ،وﺗﺘﻢ ﻫﺬه اﻷﻋﻤﺎل ﺑﺎﻟﻘﻮة واﻟﻐﺰو
وإﺧﻀﺎع اﻟﺜﻮرات اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺸﺐ ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﺑﺎﻟﻘﻮة ،وﻧﻔﻲ اﻟﺰﻋﻤﺎء املﺤﻠﻴني أو اﺳﺘﻤﺎﻟﺘﻬﻢ
ﺑﺒﻌﺾ املﻜﺎﺳﺐ واﻟﺤﻘﻮق واﻟﺰﻳﺠﺎت وإﺳﻜﺎﻧﻬﻢ اﻟﻌﺎﺻﻤﺔ املﺮﻛﺰﻳﺔ؛ ﻟﻜﻲ ﻳﺼﺒﺤﻮا ﺗﺤﺖ
اﻟﺮﻗﺎﺑﺔ املﺒﺎﴍة .وﻛﺬﻟﻚ ﺗﺒﻨﻲ اﻟﺪوﻟﺔ ﻃﺮق ﻣﻮاﺻﻼت ﺳﻬﻠﺔ ﻹﻣﻜﺎن اﻟﺘﻜﺎﻣﻞ اﻻﻗﺘﺼﺎدي
وإﺣﻜﺎم اﻹﴍاف ﻋﲆ أﺟﺰاء اﻟﺪوﻟﺔ ،وﻧﴩ ﻟﻐﺔ املﻨﻄﻘﺔ اﻷﺻﻠﻴﺔ أو ﻟﻬﺠﺔ املﺪﻳﻨﺔ اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ،
ودﻳﺎﻧﺔ املﺪﻳﻨﺔ اﻟﻌﺎﺻﻤﺔ وآﻟﻬﺘﻬﺎ ،ﻣﻊ إﺿﺎﻓﺔ آﻟﻬﺔ اﻷﻗﺎﻟﻴﻢ اﻷﺧﺮى إﱃ ﻣﺠﻤﻊ اﻵﻟﻬﺔ ﰲ
ﺗﺮﺗﻴﺐ ﻃﺒﺎﻗﻲ.
وﺗﺪل اﻟﺪراﺳﺎت اﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻋﲆ أن ﺣﻀﺎرات ﻣﺎ ﺑني اﻟﻨﻬﺮﻳﻦ اﻟﻌﻠﻴﺎ ﻗﺪ
أﺳﺎﺳﺎ ﻋﲆ ﻣﺪﻳﻨﺔ املﻌﺒﺪ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺣﺪث اﻻﺣﺘﻤﺎل اﻟﺜﺎﻧﻲ ﰲ ﻣﴫ؛ أي ﻣﺪﻳﻨﺔ اﻟﺤﻜﻢ، ً ﻧﺸﺄت
وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎﻧﺖ املﺪﻳﻨﺔ اﻟﺪوﻟﺔ ﻫﻲ أﺳﺎس اﻟﺤﻀﺎرات اﻷﺧﺮى اﻟﻌﻠﻴﺎ ﰲ اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ:
اﻟﻔﻴﻨﻴﻘﻴﺔ ،واﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ،واﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ.
ﻟﻜﻦ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﺗﻮﻗﻔﺖ ﻓﻴﻪ اﻟﺪوﻟﺔ ﻋﻨﺪ ﺣﺪ املﺪﻳﻨﺔ ﰲ ﻛﻞ ﻣﻦ اﻟﺤﻀﺎرﺗني
اﻟﻔﻴﻨﻴﻘﻴﺔ واﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ )إﱃ أن ﺟﺎء ﻋﻬﺪ ﺗﻮﺳﻊ املﻘﺪوﻧﻴني ﻟﻔﱰة ﻣﺤﺪودة ﻣﻦ اﻟﺰﻣﻦ( ،ﻓﺈن
دوﻟﺔ املﺪﻳﻨﺔ ﴎﻋﺎن ﻣﺎ ﻋﱪت ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ إﱃ دوﻟﺔ اﻹﻗﻠﻴﻢ ﺛﻢ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻜﺒرية ﰲ ﻛﻞ
ﻣﻦ ﻣﴫ وروﻣﺎ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻧﻤﺖ دول ﻛﱪى ﻋﲆ أﺳﺎس دوﻟﺔ املﺪﻳﻨﺔ ﰲ اﻟﻌﺮاق واﻷﻧﺎﺿﻮل
ً
ﻃﻮﻳﻼ وﻟﻢ ﺗﺴﺘﻘﺮ داﺧﻠﻴٍّﺎ؛ )اﻷﺷﻮرﻳﻮن واﻟﺒﺎﺑﻠﻴﻮن واﻟﺤﻴﺜﻴﻮن( ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬه اﻟﺪول ﻟﻢ ﺗَﻌِ ْﺶ
دوﻻ ﻋﺴﻜﺮﻳﺔ ﻳﻌﱰﻳﻬﺎ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻨﺰاﻋﺎت اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ ﻟﻌﺪم إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ اﻟﺘﻮﺣﻴﺪ ﻷﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ً
اﻟﻜﺎﻣﻞ ﻟﺪول املﺪﻳﻨﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ.
وﻻ ﺷﻚ أن اﺳﺘﻤﺮار اﻟﺪوﻟﺔ ﻟﻔﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻳﻌﻄﻲ ﻟﻠﺴﻜﺎن ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻗﻮﻣﻴﺔ ﻣﻮﺣﺪة
ﻃﻮﻳﻼ ،وﻫﺬه — ﺣﺘﻰ اﻵن — أﻋﲆ ﻣﺮاﺣﻞ اﻟﺪوﻟﺔ :اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻘﻮﻣﻴﺔ .وﻗﻠﺔ ﻣﻦ ً ﻳﺮﺗﺒﻄﻮن ﺑﻬﺎ
238
اﻷﻧﻮاع اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرات
اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ اﺳﺘﻄﺎﻋﺖ أن ﺗﺼﻞ إﱃ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻘﻮﻣﻴﺔ ،وﻣﴫ
ﻫﻲ املﺜﻞ اﻟﺮﺋﻴﴘ اﻟﺬي ﻳﻌﻄﻴﻪ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻋﲆ ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻘﻮﻣﻴﺔ ﻟﻔﱰة اﺳﺘﻤﺮار ﺣﻀﺎرﻳﺔ
ﻣﺬﻫﻠﺔ .ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺤﺪث ذﻟﻚ ﻟﻔﱰات ﻣﺤﺪودة ﰲ ﻏريﻫﺎ ﻣﻦ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،وﻟﻌﻞ ذﻟﻚ
راﺟﻊ إﱃ ﻣﻮﻗﻊ ﻣﴫ وﻋﻼﻗﺎﺗﻬﺎ املﻜﺎﻧﻴﺔ وﺣﻤﺎﻳﺘﻬﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ وﻣﺮﻛﺰﻳﺔ اﻟﺤﻜﻢ ،واﻟﻌﻤﻞ
اﻟﺠﻤﺎﻋﻲ املﻠﺰم ﻟﻠﻜﻞ ﻣﻦ أﺟﻞ ﺗﺄﻣني وﺳﻼﻣﺔ اﻟﻨﺸﺎط اﻻﻗﺘﺼﺎدي )ﻧﻈﺎم اﻟﺮي وﺣﻔﺮ اﻟﱰع
– ﻧﻈﺎم اﻟﺘﻌﺪﻳﻦ واﻟﺼﻨﺎﻋﺔ( ﰲ ﻇﻞ ﺣﻜﻢ ﻣﻠﻜﻲ إﻟﻬﻲ وراﺛﻲ ﻣﺴﺘﻘﺮ ،وﻧﻈﺎم اﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
ﻫﺮﻣﻲ ﺷﺪﻳﺪ اﻟﺘﻜﺎﻣﻞ .ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺘﺠﺎرة واﻟﻔﺮدﻳﺔ املﺤﻠﻴﺔ ﻟﻸﻗﺎﻟﻴﻢ واملﺪن املﺴﺘﻘﻠﺔ
أو ﺷﺒﻪ املﺴﺘﻘﻠﺔ واﻻﻧﻔﺘﺎح املﻜﺎﻧﻲ ﻋﲆ ﻣﺼﺎدر ﻏﺰو ﻣﺴﺘﻤﺮ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﺒﺎدﻳﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ
واﻟﻔﺎرﺳﻴﺔ ،ﺳﺒﺒًﺎ ﻣﻦ أﺳﺒﺎب ﻋﺪم اﻟﻮﺻﻮل إﱃ اﻟﻮﺣﺪة واﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻘﻮﻣﻴﺔ ﰲ ﺣﻀﺎرات ﻣﺎ
ﺑني اﻟﻨﻬﺮﻳﻦ إﻻ ﻟﻔﱰات ﻣﺤﺪودة5 .
أﴎا ﻣﺤﻠﻴﺔ ﻧﺎﺷﺌﺔ ﻣﻦ داﺧﻞ اﻟﺪوﻟﺔ — ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﰲ ﻫﺬه اﻷﴎ اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ إﻣﺎ أن ﺗﻜﻮن ً
ﻣﻌﻈﻢ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ ﰲ اﻟﴩق اﻟﻘﺪﻳﻢ — وإﻣﺎ أن ﺗﻜﻮن اﻷﴎة اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ﻣﻦ أﺻﻮل
أﺟﻨﺒﻴﺔ ﺟﺎءت ﻣﻊ ﻏﺰو ﻋﺴﻜﺮي ﺗﻘﻮم ﺑﻪ ﺟﻤﺎﻋﺎت ﺑﺎدﻳﺔ ،أو أﴎة ﺣﺎﻛﻤﺔ أﺟﻨﺒﻴﺔ ﺗﻘﻴﻤﻬﺎ
ﺣﻀﺎرة ﻋﻠﻴﺎ ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﻧﻔﻮذﻫﺎ داﺧﻞ ﻧﻄﺎق ﺣﻀﺎري آﺧﺮ؛ ﻣﺜﻞ :أﴎ اﻟﺴﻠﻮﻗﻴني واﻟﺒﻄﺎملﺔ
أﻳﻀﺎ ﻧﺎﺟﻤﺔ ﻋﻦ ﻫﺠﺮات ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻋﻠﻴﺎ اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ﰲ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ وﻣﴫ .وﻗﺪ ﺗﻜﻮن ً
إﱃ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﺣﻀﺎرﻳﺔ أﻗﻞ ﺗﻘﺪﻣً ﺎ؛ ﻣﺜﻞ ﻣﻤﺎﻟﻚ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ اﻟﺰﻧﺠﻴﺔ.
5ﻣﻦ اﻟﺪراﺳﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ اﻟﺠﻴﺪة ﰲ ﺗﺮﻛﻴﺐ املﺠﺘﻤﻌﺎت ذات اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ ،راﺟﻊ ﺻﻔﺤﺎت
٥٨–٥١ﻣﻦ ﻛﺘﺎبParsons, T., “Societies, Evolutionary and comparative prespectives” :
.Printice-Hall, London 1966
إﱃ ﺟﺎﻧﺐ أﺣﺪ اﻟﻌﻤﺪ ﰲ دراﺳﺎت اﻟﴩق اﻟﻘﺪﻳﻢFrankfort, H., “Kingship and the Gods” :
.Chicago, 1948
239
اﻹﻧﺴﺎن
240
اﻷﻧﻮاع اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرات
اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻨﺸﺄة اﻟﻜﻮن واﻟﺨﻠﻖ وﺧﺎﺻﺔ ﻋﻨﺪ اﻹﻏﺮﻳﻖ اﻟﻘﺪﻣﺎء؛ ﺣﻴﺚ ﻧﺠﺪ أن املﺎء
ﻫﻮ اﻟﻌﻨﴫ اﻷزﱄ اﻟﺬي ﻧﺸﺄت ﻋﻨﻪ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﺤﻴﺎة .وﻟﻜﻦ ﺑﻌﺪ ﻧﻤﻮ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ
ﻇﻬﺮت أﻓﻜﺎر ﺟﺪﻳﺪة ﺗﻨﻌﻜﺲ ﰲ ﻓﻠﺴﻔﺔ أﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ ﰲ ﺻﻮرة ﻋﺎﻟﻢ املﺜﻞ ﻋﻨﺪ
أﻓﻼﻃﻮن ،وﰲ ﺻﻮرة املﺤﺮك اﻷول ﻋﻨﺪ أرﺳﻄﻮ.
) (١ﻣﻔﻬﻮم اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﻫﻮ أﻧﻬﺎ اﻟﻮﺣﺪة اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺘﺎﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺜﻞ املﻀﻤﻮن
اﻟﺤﻀﺎري اﻟﻌﺎم ﻟﻠﺸﻌﺐ داﺧﻞ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ ﺗﻤﻴﻴ ًﺰا ﻟﻬﺎ ﻋﻦ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﺘﻲ
ﺗﻤﺜﻠﻬﺎ اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ،واﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﺗﻤﺜﻞ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﺑﻘﺎﻳﺎ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ داﺧﻞ
اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ أو اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻋﲆ ﺣﺪ ﺳﻮاء.
أﻳﻀﺎ ﺑﻘﺎﻳﺎ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻮﻧﺖ ﻣﻨﻬﺎ ) (٢ﰲ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﻧﺠﺪ ً
اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ؛ وﻟﻬﺬا ﻓﺈن اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﺗﺘﻜﻮن ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻣﻦ ﻧﺘﺎج اﻟﻜﺜري ﻣﻦ
اﻻﺧﺘﻼط واﻻﺣﺘﻜﺎك واﻻﺗﺼﺎل اﻟﺤﻀﺎري ﰲ ﻣﺨﺘﻠﻒ اﻟﺪرﺟﺎت وﻣﺨﺘﻠﻒ اﻟﻌﺼﻮر.
) (٣ﺗﺘﻤﻴﺰ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﺗﺘﺄﺛﺮ ﺑﺪرﺟﺎت ﻣﺘﻔﺎوﺗﺔ ﺑﺎﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﺘﻲ
ﺗﻤﺜﻠﻬﺎ ﻃﺒﻘﺔ اﻟﺤﻜﺎم .وﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺼﺒﺢ ﺟﺰءًا ﻣﻦ اﻟﺤﻀﺎرة
أﺻﻼ ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﻛﻢ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﻠﻴﺎ ،ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ ﺑﺎﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ً اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ،واﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ
املﺘﺪﻫﻮرة .وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺘﻌﺮف ﻋﲆ ﺑﻘﺎﻳﺎ ﻫﺬه اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ املﺘﺪﻫﻮرة ﰲ املﻨﺎﻃﻖ
اﻟﺮﻳﻔﻴﺔ اﻟﺒﻌﻴﺪة ﻋﻦ ﻣﺮاﻛﺰ اﻹﺷﻌﺎع ﻟﻠﺤﻀﺎرة اﻟﻌﻠﻴﺎ؛ أي ﺑﻌﻴﺪة ﻋﻦ ﻋﻮاﺻﻢ اﻟﺪول اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ،
وﻫﺬا ﻻ ﻳﻌﻨﻲ أن اﻟﻄﺒﻘﺎت اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﻌﻮاﺻﻢ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺜﻞ اﻟﺤﻀﺎرة ﻻ ﺗﺘﻠﻘﻰ
أﻳﻀﺎ ﺗﺘﻠﻘﺎﻫﺎ وﺗﻄﻮرﻫﺎ ﺣﺴﺐ أوﺿﺎﻋﻬﺎ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﻫﺬه اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،ﺑﻞ اﻟﻮاﻗﻊ أﻧﻬﺎ ً
ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺗﺨﺎﻟﻒ ﺗﻄﻮر ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﻌﻨﺎﴏ املﺘﺪﻫﻮرة ﰲ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺰراﻋﻴﺔ أو املﻨﺎﻃﻖ
اﻟﺒﻌﻴﺪة ﻋﻦ ﻣﺮاﻛﺰ اﻹﺷﻌﺎع اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرة اﻟﻌﻠﻴﺎ.
) (٤وﻳﺤﺪث اﻻﻧﺼﻬﺎر اﻟﺤﻀﺎري ﺑني اﻟﻄﺒﻘﺎت اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﻠﻴﺎ وﻓﻖ
ﺗﻨﻈﻴﻤﺎت ﺗﴩف ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ؛ ﻣﺜﻞ اﻟﺘﻨﻈﻴﻤﺎت اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ واملﻬﻨﻴﺔ ،إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﺳﻴﺎدة ﻟﻐﺔ
أو ﻟﻬﺠﺔ اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ودﻳﺎﻧﺘﻬﺎ ﻋﲆ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﻠﻬﺠﺎت واﻟﺪﻳﺎﻧﺎت اﻟﺸﺎﺋﻌﺔ ﺑني اﻟﻄﺒﻘﺎت
اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ.
) (٥وﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻷﺧﺮى ﻧﺠﺪ أن ﺑﻌﺾ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﺗﺘﴪب إﱃ
أﻋﲆ ،وﺗﺼﺒﺢ ﺟﺰءًا ﻣﻦ املﻀﻤﻮن اﻟﺤﻀﺎري ﻟﻠﻄﺒﻘﺔ اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ .ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻧﺠﺪ أن
241
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻔﺮﺿﻬﺎ اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ذات اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﻠﻴﺎ ﺗﺘﺄﺛﺮ ﺑﻌﺾ اﻟﴚء ﺑﺎﻟﺪﻳﺎﻧﺎت
واملﻌﺘﻘﺪات اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ،وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﻳﺪﺧﻠﻬﺎ ﺑﻌﺾ املﻌﺘﻘﺪات اﻟﺘﻲ ﻳﻄﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ املﺘﻌﻠﻤﻮن
واملﺤﺎﻓﻈﻮن اﺳﻢ ﺧﺮاﻓﺎت أو »ﺧﺰﻋﺒﻼت« ،ﻣﺜﻞ اﻻﻋﺘﻘﺎد اﻟﺸﺪﻳﺪ ﰲ ﻧﻔﻮذ وﻗﻮة ﺑﻌﺾ
اﻷوﻟﻴﺎء واﻟﻘﺪﻳﺴني .ﻫﺬه املﻌﺘﻘﺪات ﺗﺼﺒﺢ ﺷﻴﺌًﺎ ﻏري ﻣﻔﻬﻮم؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺟﺰء ﻣﻦ دﻳﺎﻧﺔ ﺗﺴﺘﻤﺪ
أﺻﻮﻟﻬﺎ ﻣﻦ املﻌﺘﻘﺪات واﻟﺪﻳﺎﻧﺎت اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،وﻗﺪ ﻧﺴﻴﺖ أﺻﻮﻟﻬﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،وﻓﻘﺪت ارﺗﺒﺎﻃﺎﺗﻬﺎ
املﻌﻨﻮﻳﺔ ،وﻟﻢ ﻳَﺒ َْﻖ ﻣﻨﻬﺎ ﺳﻮى اﻟﺘﻘﻠﻴﺪ وﺣﻜﻢ اﻟﻌﺎدة؛ أي إن املﻨﻄﻖ اﻷﺻﲇ أو املﻘﻮﻣﺎت اﻟﺘﻲ
ﺗﻔﴪ ﻫﺬه اﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ واﻟﻌﺎدات ﻗﺪ ﻧ ُ ِﺴﻴ َْﺖ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺘﻘﺎدم اﻟﻌﻬﺪ ﻋﻠﻴﻬﺎ وﻟﺪﺧﻮل وﺳﻴﺎدة
وﺳﻴﻄﺮة اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ،وﻟﻜﻦ اﻷﻓﻌﺎل وﻧﺘﺎﺋﺞ ﺗﻠﻚ املﻘﻮﻣﺎت ﺗﻈﻞ ﻋﺎﻟﻘﺔ ﺑﺎﻷذﻫﺎن ،وﻣﻦ
ﺛﻢ ﺗُﻤﺎ َرس ﻋﲆ أﻧﻬﺎ اﻋﺘﻘﺎد وﻋﻘﻴﺪة دون أي ﺗﻔﺴري ﻣﻨﻄﻘﻲ داﺧﻞ إﻃﺎر اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة.
وﻣﻦ أﻣﺜﻠﺔ ذﻟﻚ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ واﻟﻌﻘﺎﺋﺪ واﻷﻋﻤﺎل املﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ اﻹﻧﺠﺎب
ﰲ ﻣﴫ ،ﻣﺜﻞ زﻳﺎرة ﺑﻌﺾ املﻨﺎﻃﻖ اﻷﺛﺮﻳﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،وﻣﺜﻞ اﻻﺳﺘﺤﻤﺎم ﰲ ﻣﺎء اﻟﻨﻴﻞ ﺑﻌﺪ
اﻟﻘﻴﺎم ﺑﻌﺪد ﻣﻦ اﻟﺰﻳﺎرات ﻷﺛﺮ ﻣﻌني .وﺑﻼ ﺷﻚ ﻻ ﻳﻌﺮف املﻤﺎرﺳﻮن ﻟﻬﺬه اﻟﻄﻘﻮس أﻧﻬﺎ
اﻧﻌﻜﺎس ﻻرﺗﺒﺎط ﻗﺪﻳﻢ ﺑني اﻷرض اﻟﺴﻮداء وﺑني إﻟﻪ اﻟﺨﺼﺐ واﻟﻨﻤﺎء »أوزورﻳﺲ« اﻟﺬي
ﻛﺎن ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻷﺣﻴﺎن ﻳُﻤﺜﱠﻞ ﻋﲆ أﻧﻪ إﻟﻪ اﻟﻨﻴﻞ وﻣﺴﺒﺐ اﻟﻔﻴﻀﺎن اﻟﺴﻨﻮي.
أﺻﻼ ﻋﻨﴫًا ﻣﻦ اﻟﺤﻀﺎرة ً ) (٦ﻧﺠﺪ أن اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﻌﺘﻘﺪات اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ
اﻟﻌﻠﻴﺎ ﻻ ﻳﻘﺘﴫ ﺗﻮزﻳﻌﻬﺎ اﻟﺠﻐﺮاﰲ ﻋﲆ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﺤﻠﻴﺔ أو داﺧﻞ ﺣﺪود دوﻟﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ،
ﺑﻞ ﻳﺘﻌﺪاﻫﺎ إﱃ ﻣﻨﺎﻃﻖ وأﻗﺎﻟﻴﻢ ﺟﻐﺮاﻓﻴﺔ ﺑﻌﻴﺪة .وﻳﺮﺟﻊ ذﻟﻚ إﱃ ﺗﺸﺎﺑﻚ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ
وﻫﺠﺮاﺗﻬﺎ ﺧﺎرج اﻟﺤﺪود اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ،أو ﺧﺎرج اﻟﻨﻔﻮذ اﻟﺠﻐﺮاﰲ ﻟﻠﺤﻀﺎرة إﱃ ﻣﻨﺎﻃﻖ
أﺧﺮى .ﻣﺜﺎل ذﻟﻚ :املﻤﺎرﺳﺔ اﻟﻄﻘﺴﻴﺔ ملﺎ ﻳُﻌ َﺮف ﰲ ﻣﴫ ﺑﺎﺳﻢ »اﻟﺰار« ،ﻓﻮﺟﻮده ﻻ ﻳﻘﺘﴫ
ﻋﲆ ﻣﴫ ،وإﻧﻤﺎ ﻳﻈﻬﺮ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﺒﻼد اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ ﰲ اﻟﺤﺒﺸﺔ واﻟﺴﻮدان وﺗﻮﻧﺲ وﺷﻤﺎل
ﻧﻴﺠريﻳﺎ ،وﻟﻌﻞ املﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺒﺤﻮث اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻳﺆدي إﱃ اﻛﺘﺸﺎف ﻃﻘﻮس اﻟﺰار ﰲ ﻋﺪد
آﺧﺮ ﻣﻦ اﻷﻗﺎﻟﻴﻢ اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ.
) (٧دراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ — ﺑﺮﻏﻢ أﻧﻬﺎ دراﺳﺔ ﻓﻮﻟﻜﻠﻮرﻳﺔ — إﻻ أن ﻫﻨﺎك
ارﺗﺒﺎﻃﺎت ﰲ اﻟﺪراﺳﺔ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻧﺘﻜﻠﻢ ﻋﻦ ﻣﺪﻟﻮل ﻫﺬه املﻈﺎﻫﺮ اﻟﻔﻮﻟﻜﻠﻮرﻳﺔ.
وﻫﺬا اﻻرﺗﺒﺎط ﻳﺄﺗﻲ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺪراﺳﺔ املﻘﺎرﻧﺔ ﺑني ﺑﻌﺾ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ
اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ،وﺑني ﻋﻨﺎﴏ ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻟﺒﻌﺾ املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ .ﻣﻦ أﻣﺜﻠﺔ ذﻟﻚ أن ﻋﻠﻢ
اﻟﻔﻮﻟﻜﻠﻮر ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﺪرس ﺑﺎﻟﺘﻔﺼﻴﻞ ﻋﻨﴫًا ﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ ﻣﺜﻞ ﻟﺒﺲ اﻷﻗﻨﻌﺔ ﰲ اﻟﺤﻔﻼت
اﻟﺘﻨﻜﺮﻳﺔ اﻟﺮاﻫﻨﺔ ﰲ أوروﺑﺎ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻻ ﻳﺼﻞ إﱃ ﺗﻔﺴري ﻟﻬﺬه اﻟﻌﺎدة إﻻ ﺑﻌﺪ إﺟﺮاء
242
اﻷﻧﻮاع اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرات
دراﺳﺎت أﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﻟﻌﻨﴫ اﻟﻘﻨﺎع ووﻇﻴﻔﺘﻪ وﺗﻄﻮره وارﺗﺒﺎﻃﻪ ﺑﺒﻘﻴﺔ اﻟﻌﻨﺎﴏ
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻷﺧﺮى ﻋﻨﺪ ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻣﺜﻞ ﻏﺮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،وذﻟﻚ ﻣﺮﺟﻌﻪ إﱃ
ﻣﺎ ﺳﺒﻖ أن ذﻛﺮﻧﺎه؛ وﻫﻮ أن اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﺗﻤﺜﻞ ﺑﻘﺎﻳﺎ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻣﻊ ﺑﻌﺾ
اﻟﺘﻐﻴري .ﻣﺜﺎل آﺧﺮ ﺳﺒﻖ أن ذﻛﺮﻧﺎه ﻫﻮ دراﺳﺔ »اﻟﺰار« ،ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺔ ﻻ ﻳﺠﺐ أن ﺗﻘﺘﴫ
ﻋﲆ ﺗﺤﻠﻴﻞ »اﻟﺰار« ﰲ ﻣﴫ أو ﺗﻮﻧﺲ أو اﻟﺴﻮدان؛ ﺑﻞ ﻳﺠﺐ أن ﻧﻘﺎرﻧﻬﺎ ﺑﻄﻘﻮس اﻟﻄﺐ
واﻟﺴﺤﺮ ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﰲ ﺟﻨﻮب اﻟﺴﻮدان أو إﺛﻴﻮﺑﻴﺎ ،وﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ
أن ﻧﺼﻞ إﱃ ﻣﻔﻬﻮم ﻫﺬه املﻤﺎرﺳﺔ اﻟﺮاﻫﻨﺔ ﰲ اﻷﻣﺎﻛﻦ اﻟﺒﻌﻴﺪة ﻋﲆ ﺿﻮء وﻇﻴﻔﺘﻬﺎ داﺧﻞ
اﻟﻨﻤﻂ اﻟﺤﻀﺎري اﻟﻌﺎم ﻟﻠﺤﻀﺎرة اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ.
) (5ﺧﺘﺎم
ﻫﻜﺬا ﻧﺮى أن اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺗﻘﻮم ﺑﺪراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرة ﺑﻤﻌﻨﺎﻫﺎ اﻟﻮاﺳﻊ ﰲ أي ﺻﻮرة ﻛﺎﻧﺖ،
وﻋﲆ املﺴﺘﻮﻳﺎت اﻟﺰﻣﻨﻴﺔ املﻤﻜﻨﺔ ،وﻻ ﺷﻚ أن املﻮﺿﻮع اﻷول ﰲ اﻟﺪراﺳﺔ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻣﺎ
زال ﻫﻮ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ،وﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺣﺘﻰ اﻵن أي ﻋﻠﻢ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻳﻘﻮم ﺑﻬﺬه
املﻬﻤﺔ ﺳﻮى اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ أو اﻷﻧﺜﺮوﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء ﺑﻌﺾ اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﻄﺒﻴﺔ أو
اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ أو اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺎ اﻟﺒﴩﻳﺔ ،وﻛﻠﻬﺎ ﺗﻤﺲ املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻣﻦ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ ﻣﻌﻴﻨﺔ
وﻣﺤﺪودة.
وﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺘﺺ ﺑﺎﻟﺪراﺳﺎت اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ واﻟﺤﺪﻳﺜﺔ واﻟﺸﻌﺒﻴﺔ؛
ﻓﺈن اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺤﻞ ﻣﺤﻞ اﻟﻌﻠﻮم املﺘﺨﺼﺼﺔ )اﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ،اﻻﺟﺘﻤﺎع
اﻟﻔﻮﻟﻜﻠﻮر ﻋﲆ اﻟﱰﺗﻴﺐ( .ﻟﻜﻦ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺗﺪرس ﻫﺬه اﻷﻧﻮاع ﻣﻦ اﻟﺤﻀﺎرات؛ ً
أوﻻ ﻟﻜﻮﻧﻬﺎ
ﻋﺎﻣﺔ — وﻋﲆ أي ﻣﺴﺘﻮى ً ﺟﺰءًا ﻣﻦ اﻟﺤﻀﺎرة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ،وﺛﺎﻧﻴًﺎ ،وﻫﻮ اﻷﻫﻢ؛ ﻷن اﻟﺤﻀﺎرات
زﻣﻨﻲ — ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﰲ ﻋﺰﻟﺔ ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻬﺎ ،ﺑﻞ ﺗﺄﺛﺮت ﺑﺸﺪة ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﺎ ،وﻻ ﻳﺰال ﺑﻌﻀﻬﺎ
ﻳﺤﻤﻞ ﻛﺜريًا ﻣﻦ ﺳﻤﺎت وﺻﻔﺎت اﻟﺒﻌﺾ اﻵﺧﺮ .وﻟﻘﺪ أﺻﺒﺤﺖ اﻟﺪراﺳﺔ املﻘﺎرﻧﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرات
اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﺗﺴﺘﺪﻋﻲ ﴐورة اﻟﺒﺤﺚ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ واﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ
اﻟﺘﻔﺴري اﻷرﺟﺢ ﻟﻠﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ وﺗﺎرﻳﺨﻬﺎ وﻣﻨﺸﺄﻫﺎ ،وﺗﺤﺮي اﻟﻄﺮق اﻟﺘﻲ ﺗﺪاﺧﻠﺖ
ﺑﻬﺎ اﻟﺤﻀﺎرات وﺗﻜﻴﻔﺖ ﺑﻬﺎ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﰲ املﺠﻤﻌﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ.
243
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ
ﺗﻮاﺟﻪ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﺸﻜﻼت اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺆﺛﺮ ﻛﺜريًا ﰲ ﻣﻨﻬﺞ اﻟﺪراﺳﺔ،
واﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﻔﻬﻢ اﻟﺼﺤﻴﺢ ﻟﻠﻤﺸﻜﻼت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ .واﻟﺘﻨﻈري ﰲ اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ
ﻳﺸﺘﻤﻞ ﻋﲆ ﻣﻮﺿﻮﻋني أﺳﺎﺳﻴني (١) :ﻣﻔﻬﻮم ﻋﺪد ﻣﻦ املﺼﻄﻠﺤﺎت ذات اﻟﺪﻻﻟﺔ ﰲ اﻟﺘﻨﻈري.
ً
ﻓﺼﻼ ﺗﻌﺴﻔﻴٍّﺎ؛ ) (٢ﻣﻨﺎﻫﺞ وﻣﺪارس اﻟﺒﺤﺚ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ اﻟﻌﺎم .واﻟﻔﺼﻞ ﺑني املﻮﺿﻮﻋني
ُ
وﺛﻴﻘﺎ ،ﻓﻬﻨﺎك ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ املﺼﻄﻠﺤﺎت ﺗﺴﺘﺨﺪَم ﰲ ً ﻷن ﻛﻼﻫﻤﺎ ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻵﺧﺮ ارﺗﺒﺎ ً
ﻃﺎ
املﺪارس املﺨﺘﻠﻔﺔ ،وﻟﻜﻦ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺬي أﺟﺮﻳﻨﺎه ﻳﺮﺗﺒﻂ ﻓﻘﻂ ﺑﺎﻟﺘﻮﺿﻴﺢ اﻟﺪراﳼ.
وﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﺗُﻌَ ﺪ ﺑﺎﻵﻻف ،ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎن ﻋﺪد املﺠﺘﻤﻊ ﺻﻐريًا ،وﻳﻜﻔﻲ
ﻟﻠﺘﺪﻟﻴﻞ ﻋﲆ ذﻟﻚ أن ﻧﻌﻴﺪ إﱃ اﻷذﻫﺎن أن ﻋﻨﺎﴏ اﻟﻠﻐﺔ ﻣﺘﻌﺪدة ﺟﺪٍّا ،وﻫﻲ ﺗﺒﺪأ ﻣﻦ
اﻟﺘﺨﺎﻃﺐ اﻟﻌﺎدي إﱃ اﻟﻔﺼﺎﺣﺔ ،وﻣﻦ اﻟﺸﻌﺮ إﱃ اﻷدب اﻟﺸﻌﺒﻲ واﻟﺪﻋﺎﺑﺔ واﻟﻨﻜﺎت.
واﻟﻌﻨﺎﴏ املﺎدﻳﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرة ﻋﺪﻳﺪة ﻓﻮق ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﺘﺼﻮر ،ﻓﺈن ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻟﴚء
اﻟﻮاﺣﺪ ﺑﻄﺮﻳﻘﺘني أو أﻛﺜﺮ ﺗﺴﺘﺪﻋﻲ ﺗﻜﻨﻴ ًﻜﺎ ﻣﻌﻴﻨًﺎ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈن اﻟﴚء اﻟﻮاﺣﺪ ﺗﺘﻨﺎوﻟﻪ
ﻋﺪة ﻋﻨﺎﴏ ﺣﻀﺎرﻳﺔ ،وﻛﺬﻟﻚ املﻮﺳﻴﻘﻰ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﻋﻨﺎﴏ ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻋﺪﻳﺪة .وﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ
ذاﺗﻪ وﺑﺼﻮرة أﻛﱪ ﺗﺘﻜﻮن املﻌﺘﻘﺪات واملﻤﺎرﺳﺎت اﻟﻄﻘﺴﻴﺔ واﻟﻨﻈﻢ اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ،
وﻃﻘﻮس اﻟﺰواج ،ﻣﻦ ﻋﴩات املﺌﺎت ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈن أي ﻣﺠﺘﻤﻊ —
ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎن ﺑﺪاﺋﻴٍّﺎ — ﻳﻤﺘﻠﻚ آﻻف اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،وﻟﻜﺜﺮة ﻫﺬه اﻟﻌﻨﺎﴏ أو اﻟﺼﻔﺎت
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ؛ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﺨﻀﻊ ﻟﻺﺣﺼﺎء أو اﻟﻌﺪد ﺣﺘﻰ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ أﻋﻀﺎء املﺠﺘﻤﻊ.
وﻫﺬه اﻵﻻف ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻻ ﺗﻘﻮم ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻬﺎ ،وﻻ ﺗﺘﻀﺎرب
وﻇﺎﺋﻔﻬﺎ واﺳﺘﺨﺪاﻣﺎﺗﻬﺎ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق .ﻓﻜﻤﺎ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ أﻳﻮن واﺣﺪ ﻣﺴﺘﻘﻞ وﻻ ﻧﻴﻮﺗﺮون
واﺣﺪ ﻗﺎﺋﻢ ﺑﺬاﺗﻪ ،ﻛﺬﻟﻚ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻋﻨﴫ ﺣﻀﺎري ﻗﺎﺋﻢ ﺑﺬاﺗﻪ .إﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﻳﻜﻮﱢن ﻣﻊ ﻏريه ﺑﻨﺎءً
أو ﻧﺴﻴﺠً ﺎ ﺷﺪﻳﺪ اﻟﱰاﺑﻂ واﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ ﺑﻌﻀﻪ.
وأﻫﻢ وﻇﻴﻔﺔ ﻟﻺﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ — أو اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ أو اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ أو
اﻹﺛﻨﻮﺟﺮاﻓﻴﺎ — ﻫﻲ ﻓﺤﺺ ودراﺳﺔ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ وﻣﺘﻔﺎﻋﻠﺔ ﰲ اﻟﺰﻣﺎن
واملﻜﺎن ،وﺗﺤﻠﻴﻞ ﺳﻠﻮك ﻫﺬه اﻟﻌﻨﺎﴏ ﰲ وﻇﺎﺋﻔﻬﺎ املﺨﺘﻠﻔﺔ .وﻣﻌﻨﻰ ﻫﺬا أن اﻟﺪراﺳﺔ
ﻔﺼﻞ اﻟﻌﻨﺎﴏ وﺗﺪرﺳﻬﺎ وﺗُﻌِ ﻴﺪ ﺗﺮﻛﻴﺒﻬﺎ وﺗﺪرس ﺗﻔﺎﻋﻼﺗﻬﺎ ،ﻛﻞ ذﻟﻚ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﺗُ ﱢ
اﻟﺰﻣﺎن؛ أي ﰲ دراﺳﺔ ﺗﻄﻮر وﻧﻤﻮ أو ﺗﻘﻬﻘﺮ اﻟﻌﻨﺎﴏ ،وﰲ املﻜﺎن؛ أي دراﺳﺔ اﻷوﺿﺎع
اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ واﻟﻌﻼﻗﺎت املﻜﺎﻧﻴﺔ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻌﺎت وﺗﻔﺎﻋﻠﻬﺎ ﻣﻊ ﺑﻌﻀﻬﺎ .وﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ،ﻓﺈن
دراﺳﺔ ﻋﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرة ﺗﺴﺘﺪﻋﻲ (١) :اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ (٢) .اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ.
) (٣اﻟﺪراﺳﺔ املﻜﺎﻧﻴﺔ )اﻟﻨﻘﻞ واﻻﻧﺘﺸﺎر اﻟﺤﻀﺎري( .وﻗﺪ أوﺿﺤﺖ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺎت
أن اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﺗﺘﻔﺎﻋﻞ وﺗﱰاﺑﻂ ﻣﻌً ﺎ ﰲ أﺷﻜﺎل ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻳﺴﻤﻴﻬﺎ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﻮن
واﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﻮن املﺠﻤﻌﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ واﻟﻘﻮاﻟﺐ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،وﺳﻮف ﻧﻌﻮد إﱃ ﻫﺬا
املﻮﺿﻮع ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ.
واﻟﺬي ﻳﻬﻤﻨﺎ ﻫﻨﺎ ﻫﻮ أن ﻧﻘﺮر أن اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺠﺮد دراﺳﺔ ﻟﻠﻤﺤﺘﻮى اﻟﺤﻀﺎري
املﺘﻜﻮن ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ واﻟﺼﻔﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ،وﻟﻴﺴﺖ ﻓﻘﻂ دراﺳﺔ اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻟﺤﻀﺎري ﻟﻬﺬه
أﻳﻀﺎ أن ﺗﺪرس اﻟﻌﻼﻗﺎت املﺘﻌﺪدةاﻟﻌﻨﺎﴏ وﻻ وﻇﻴﻔﺘﻬﺎ داﺧﻞ املﺠﺘﻤﻊ ﻓﻘﻂ .وﻟﻜﻦ ﻳﺠﺐ ً
246
ﺑﻌﺾ ﻣﺸﻜﻼت اﻟﺘﻨﻈري اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ
ﺑني املﺠﺘﻤﻌﺎت ﰲ اﻟﺰﻣﺎن واملﻜﺎن ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈن اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ دراﺳﺔ ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ﺟﻐﺮاﻓﻴﺔ
اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ وﻧﻔﺴﻴﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرة.
وﻟﻘﺪ رﻓﺾ ﺑﻌﺾ اﻟﻨﻈﺮﻳني اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ واﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ ،ورﻓﺾ آﺧﺮون
اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ووﻇﻴﻔﺘﻬﺎ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺆﻛﺪ اﻟﺒﻌﺾ أﻫﻤﻴﺔ اﻟﻨﻮاﺣﻲ اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ وﻳﻌﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ
اﻟﺼﻔﺎت اﻟﻐﺎﻟﺒﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻴﺰ ﺣﻀﺎرة ﻣﺎ ،وﻳﻔﻌﻞ ذﻟﻚ ﻋﺪد آﺧﺮ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﱰﻛﻴﺐ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
ﻓﻘﻂ.
وﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﺮﻓﺾ أو اﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻋﲆ ﻧﺎﺣﻴﺔ واﺣﺪة ﻣﻦ اﻟﻨﻮاﺣﻲ واﻟﺼﻔﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ،
ﻟﻴﺲ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ إﻻ ﻧﻈﺮة ﺟﺰﺋﻴﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرة .ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻳﴘء ﻛﺜريًا إﱃ اﻟﻌﻠﻢ إذا ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ
املﺪارس ﺷﺪﻳﺪة اﻟﺘﺤﺰب ﻵراﺋﻬﺎ وﻧﻈﺮﻳﺎﺗﻬﺎ.
إن اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ أو ﻣﺮادﻓﺎﺗﻬﺎ ﰲ املﺪارس املﺨﺘﻠﻔﺔ ،أو ﻣﺠﺮد اﺳﻢ اﻟﺤﻀﺎرة ،ﻫﻲ ﻋﻠﻢ
ﻳﻘﻮم ﺑﻤﻬﻤﺔ دراﺳﺔ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻛﺎﻓﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ وﺟﻮدﻫﺎ وأﺻﻮﻟﻬﺎ واﻟﺘﻐريات اﻟﺘﻲ
ﺗﻄﺮأ ﻋﻠﻴﻬﺎ وﻋﻼﻗﺎﺗﻬﺎ املﺘﺒﺎدﻟﺔ .وﻟﻴﺲ املﻘﺼﻮد ﺑﻬﺬا إﻋﻄﺎء ﺗﻌﺮﻳﻒ ﻟﻠﻌﻠﻢ؛ ﻓﺎﻟﺘﻌﺮﻳﻔﺎت
ﻛﺜرية ،وﻟﻜﻦ اﻟﻬﺪف ﻫﻮ ﺗﻮﺿﻴﺢ ﻣﺪى اﻟﺸﻤﻮل اﻟﺬي ﻳﺠﺐ أن ﺗﺘﺴﻢ ﺑﻪ اﻟﺪراﺳﺔ
اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،وﻟﻴﺲ اﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻋﲆ زاوﻳﺔ واﺣﺪة ﻣﻦ اﻟﺰواﻳﺎ ﻓﻘﻂ.
وﺳﻮاء ﻛﺎن اﻟﺪارﺳﻮن ﻟﻠﺤﻀﺎرة ﻣﻦ أﻧﺼﺎر ﻣﺪرﺳﺔ أو أﺧﺮى ﻣﻦ املﺪارس
اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺣﴫ ووﺻﻒ وﺗﻌﺪاد ﻛﻞ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ملﺠﺘﻤﻊ
ﻣﺎ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈﻧﻪ ﻗﺪ ﻧﺸﺄت أﻓﻜﺎر ﻋﺪﻳﺪة ﻟﺘﺠﻤﻴﻊ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت واﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ
املﺘﻔﺎﻋﻠﺔ واملﺘﺸﺎﺑﻜﺔ ﺗﺤﺖ ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت ﻣﺠﻤﻌﺔ ﻟﻮﺻﻒ اﻟﻌﻨﺎﴏ وﺗﻤﻴﻴﺰﻫﺎ .وﻣﻦ ﺛﻢ ﻧﺸﺄت
ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت ﻋﺪﻳﺪة ﻛﺎﻟﻘﻮاﻟﺐ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ أو اﻷﻧﻤﺎط اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ أو املﺠﻤﻊ اﻟﺤﻀﺎري
أو اﻟﺪاﺋﺮة اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ أو اﻹﻗﻠﻴﻢ اﻟﺤﻀﺎري ،ﻛﻤﺎ ﻧﺸﺄت ﺑﻌﺾ ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت ﺗﺤﺪد ﺷﻜﻞ
وﻧﻤﻮ ﻫﺬه اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ أو اﻟﻘﻮاﻟﺐ أو اﻷﻧﻤﺎط أو املﺠﻤﻌﺎت … إﻟﺦ ،ﻓﻬﻨﺎك
اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ واﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ واﻟﻨﻔﺴﻴﺔ واﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ واﻟﱰﻛﻴﺒﻴﺔ واﻟﺘﺤﻀريﻳﺔ ،وﻛﻞ ﻫﺬه اﻟﻄﺎﺋﻔﺔ
ﻌﱪ ﻋﻦ ﻣﺪارس إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ. ﻣﻦ املﺼﻄﻠﺤﺎت ﺗُ ﱢ
وﻓﻴﻤﺎ ﻳﲇ ﺳﻨﺪرس ﺑﻌﺾ املﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﻬﺎﻣﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺘﺠﻤﻴﻊ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ
ﰲ ﻣﺠﻤﻌﺎت ﻣﻌﻴﻨﺔ.
247
اﻹﻧﺴﺎن
ﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا املﺼﻄﻠﺢ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻛﺒرية ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻴﺰ ﻣﺠﺘﻤﻌً ﺎ ﻣﺎ أو
ﻋﺪة ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت داﺧﻞ ﻛﻤﻪ اﻟﺤﻀﺎري ،أو ﺗﻤﻴﺰ ﻃﺎﺋﻔﺔ ﻣﺎ داﺧﻞ املﺠﺘﻤﻊ .ﻣﺜﺎل ذﻟﻚ:
ﺻﻔﺎت رﻋﻲ اﻷﺑﻘﺎر ﻋﻨﺪ اﻟﻨﻴﻠﻴني ﰲ ﺟﻨﻮب اﻟﺴﻮدان أو ﻋﻨﺪ اﻟﺮﻋﺎة ﰲ ﴍق أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ،
ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗُﺠﻤَ ﻊ ﻟﺘﺼﺒﺢ ﻣُﺠﻤﻊ رﻋﻲ اﻷﺑﻘﺎر أو ﻣﺠﻤﻊ اﻟﺮﻋﻲ ﻋﻨﺪ اﻟﻨﻴﻠﻴني ،وﻳﻨﻄﻮي
ﺗﺤﺖ ﻫﺬا املﺠﻤﻊ ﻋﺪد ﻛﺒري ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺪﺧﻞ إﱃ اﻟﺬﻫﻦ ﻣﺮة واﺣﺪة.
ﻣﺜﻼ :ﺗﻨﻈﻴﻢ املﺠﺘﻤﻊ إﱃ رﻋﻮي )رﺟﺎل( وزراﻋﻲ )ﻧﺴﺎء( ،وﺗﻨﻈﻴﻢ اﻟﺮﺟﺎل إﱃ ﻃﺒﻘﺎت ً
أو درﺟﺎت اﻟﺴﻦ ﻟﺘﺤﺪﻳﺪ اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻟﻜﻞ ﻃﺒﻘﺔ ﺳﻦ ،وﻧﻈﺎم ﺑﻨﺎء
اﻟﻘﺮﻳﺔ ووﺿﻊ اﻟﺤﻈرية اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻸﺑﻘﺎر داﺧﻞ اﻟﻘﺮﻳﺔ أو وﺳﻄﻬﺎ ،ﻧﻈﺎم إﻫﺪاء ﺛﻮر إﱃ
اﻻﺑﻦ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﻤﺮ ﺑﻄﻘﻮس اﻟﺒﻠﻮغ واﻻرﺗﺒﺎط اﻟﻌﺎﻃﻔﻲ ﺑني اﻟﺸﺎب واﻟﺜﻮر ،ﻧﻈﺎم اﻟﺘﻨﻘﻞ
ﺑﺎملﺎﺷﻴﺔ إﱃ ﻣﻌﺴﻜﺮات اﻟﺮﻋﻲ املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻛﻤﺎ ﺗﺤﺪده دورة املﻨﺎخ اﻟﺴﻨﻮﻳﺔ ،ﻧﻈﺎم اﻷﺿﺎﺣﻲ
ﻣﻦ املﺎﺷﻴﺔ :ﻣﺘﻰ وﻛﻴﻒ وﰲ أي املﻨﺎﺳﺒﺎت؟ ﻧﻈﺎم اﻟﺰﻳﺠﺎت واملﺎﺷﻴﺔ )املﻬﻮر( اﻟﺘﻘﻴﻴﻢ
اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻟﻠﺸﺨﺺ ﺣﺴﺐ ﺛﺮوﺗﻪ ﻣﻦ رءوس املﺎﺷﻴﺔ .ﻧﻈﺎم املﺤﺎﻛﻢ واملﺎﺷﻴﺔ )اﻟﻐﺮاﻣﺎت
أﻏﺎن وﻗﺼﺺ وأﺳﺎﻃري .وﻏري ذﻟﻚ ٍ واﻟﺘﻌﻮﻳﻀﺎت( .دور املﺎﺷﻴﺔ ﰲ اﻷدب اﻟﺸﻌﺒﻲ ﻣﻦ
ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ املﺘﺸﺎﺑﻜﺔ واملﻨﻄﻮﻳﺔ ﺗﺤﺖ ﻣﺼﻄﻠﺢ »ﻣﺠﻤﻊ اﻟﺮﻋﻲ ﰲ ﴍق أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ«.
ﺧﺎﺻﺎ ﺑﻘﺒﻴﻠﺔ واﺣﺪة أو ﺑﺸﻌﺐٍّ وﻫﻨﺎك أﻣﺜﻠﺔ ﻛﺜرية ﺣﺘﻰ ﻳﻜﻮن »املﺠﻤﻊ« اﻟﺤﻀﺎري
واﺣﺪ .ﻓﻬﻨﺎك املﺠﻤﻊ اﻟﺤﻀﺎري ﻟﻨﻈﺎم املﻠﻜﻴﺔ املﻘﺪﺳﺔ اﻟﺬي ﻳﻨﻄﻮي ﺗﺤﺘﻪ ﻋﺪد ﻛﺒري ﻣﻦ
اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،وﻣﻨﻬﺎ — ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻻ اﻟﺤﴫ :وﺟﻮد ﻗﺒﻴﻠﺔ أو ﻋﺸرية ﻣﻠﻜﻴﺔ،
ﻣﺒﺪأ اﻟﺒﻄﻞ اﻷﺳﻄﻮري أو اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ذو اﻟﺼﻔﺎت ﺷﺒﻪ اﻹﻟﻬﻴﺔ ،ﻧﻈﺎم ﺣﻠﻮل روح اﻟﺒﻄﻞ
ﻣﻘﺪﺳﺎ ﰲ ﺣﺎﻻت ﻣﻌﺮوﻓﺔ ،ﻧﻈﺎم ﻋﺪم ﺗﻌﺮﻳﺾ ً ﰲ املﻠﻮك اﻟﺤﺎﻛﻤني ،ﻧﻈﺎم ﻗﺘﻞ املﻠﻚ ً
ﻗﺘﻼ
املﻠﻚ ﻟﻠﻘﺘﻞ اﻟﻌﻨﻴﻒ ﰲ ﺣﺮب أو ﺛﻮرة.
وﰲ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺸﻌﻮب واﻟﺪول املﻌﺎﴏة ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻘﻮل إن ﻫﻨﺎك ﻣﺠﻤﻌﺎت ﺣﻀﺎرﻳﺔ
ﻣﺜﻼ :املﺠﻤﻊ اﻟﺤﻀﺎريﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﻣﻌﻈﻤﻬﺎ ﻳﻠﺘﻘﻲ ﻋﻨﺪ اﻟﻄﺒﻘﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔً .
ﻟﻠﻔﻘﺮاء ﻳﺸﺘﻤﻞ ﻋﲆ ﻋﺪد ﻛﺒري ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،ﺑﻌﻀﻬﺎ :اﻟﻔﻘﺮ املﺎدي ﰲ اﻟﺪﺧﻞ
واملﺴﻜﻦ ،ﻗﻠﺔ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ إﻻ ﻓﻴﻤﺎ ﻧﺪر ،ﻋﺪم ﺗﻜﺎﻓﺆ اﻟﻔﺮص ﰲ اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ اﻟﺤﻜﻮﻣﻴﺔ وﻏري
اﻟﺤﻜﻮﻣﻴﺔ )وﺧﺎﺻﺔ اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ اﻟﻌﻠﻴﺎ( ،ﻛﺜﺮة اﻻﻋﺘﻘﺎدات ﺑﻌﻮاﻟﻢ ﻣﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،ﻣﻮاﻗﻒ
اﻟﻔﻘﺮاء اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ واﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ،املﻮاﺟﻬﺔ املﺤﺪودة ﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻔﻜﺮ واﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ،ﻣﻤﺎرﺳﺔ
اﻷﻋﻤﺎل اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻄﻠﺐ ﺟﻬﺪًا ﺟﺴﻤﺎﻧﻴٍّﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﺠﻬﺪ اﻟﺬﻫﻨﻲ )وﻫﺬا ﻻ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﻄﺎﻗﺎت
248
ﺑﻌﺾ ﻣﺸﻜﻼت اﻟﺘﻨﻈري اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ
ذﻛﺎء أﻋﲆ ﻋﻨﺪ ﻏري اﻟﻔﻘﺮاء ،ﺑﻞ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﻀﻌﻒ اﻹﻣﻜﺎﻧﺎت اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻛﺘﺴﺎب ﻣﺎ ﻧﺴﻤﻴﻪ
ً
ﻓﻀﻼ ﻋﻦ وﺟﻮد ﻗﻴﻢ ﺑﺎﻟﺬﻛﺎء ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ وﻣﻤﺎرﺳﺎت اﻟﺤﻴﺎة ﰲ ﺻﻮرﻫﺎ املﺨﺘﻠﻔﺔ( ،ﻫﺬا
ﺧﺎﺻﺔ ﺗﺠﺎه املﻮاﻗﻒ اﻟﺨﺎﺻﺔ.
ﻫﻮ ﺑﻌﺒﺎرة وﺟﻴﺰة ﺗﺠﻤﻴﻊ إﻗﻠﻴﻤﻲ ملﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﻀﺎرات ﰲ ﻣﺠﺎل ﺟﻐﺮاﰲ واﺣﺪ.
وﺗﺘﺒﺎدل داﺧﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﺠﻤﻴﻊ اﻹﻗﻠﻴﻤﻲ — ﻋﲆ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ املﺴﺘﻮى اﻟﺰﻣﻨﻲ — ﻋﻼﻗﺎت وﻋﻨﺎﴏ
ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﺑﺮﻏﻢ اﻻﺧﺘﻼف ﺑني ﻣﻜﻮﻧﺎت اﻟﺤﻀﺎرة املﻔﺮدة .وﻟﻘﺪ ﻃﺒﻘﺖ اﻷﻗﺎﻟﻴﻢ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ
ﻋﲆ أﻣﺮﻳﻨﺪ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني اﻷﻣﺮﻳﻜﻴني ﻣﺜﻞ وﻳﺴﻠﺮ
وﻛﺮوﻳﱪ ،وﻗﺴﻢ ﻫﺮﺳﻜﻮﻓﺘﺲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ إﱃ أﻗﺎﻟﻴﻢ ﺣﻀﺎرﻳﺔ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻓﻌﻞ راﻟﻒ ﻟﻨﺘﻮن
R. Lintonﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ملﺪﻏﺸﻘﺮ ،وأﺧريًا ﺑﻴﻜﻮن وﻧﺎرول Bacon & Narrollﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻵﺳﻴﺎ
)اﻧﻈﺮ اﻟﺸﻜﻠني .(2-3 ،1-3
ﻟﻜﻦ ﻛﻼرك وﻳﺴﻠﺮ ﻫﻮ أول ﻣﻦ اﺳﺘﺨﺪم ﻣﺼﻄﻠﺢ املﻨﻄﻘﺔ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ 1 ،وﻛﺬﻟﻚ
اﺳﺘﺨﺪم ﻣﺼﻄﻠﺤً ﺎ آﺧﺮ ﻫﻮ ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﻌﻤﺮ Age Areaﻛﻤﺪﺧﻞ ﺗﺎرﻳﺨﻲ ﻟﻠﻤﻨﺎﻃﻖ
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،وﻗﺪ ﻗﺎل ﻛﺮوﻳﱪ إن ﻓﻜﺮة املﻨﻄﻘﺔ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻣﻌﺮوﻓﺔ ﰲ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
ﻣﻦ ﻓﱰة ﺑﻌﻴﺪة ،وإﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗُﺴﺘﺨﺪَم ً
أﻳﻀﺎ ﰲ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ،وﻟﻜﻦ ﺑﺼﻮرة ﺿﻤﻨﻴﺔ ﻗﺒﻞ
أن ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ وﻳﺴﻠﺮ ﺑﺼﻮرة واﺿﺤﺔ .وﻳﻘﻮل اﻟﺒﻌﺾ إن اﻟﻔﻜﺮة ﻧﺒﻌﺖ ﻋﻨﺪ وﻳﺴﻠﺮ ﺣﻴﻨﻤﺎ
ﻛﺎن أﻣﻴﻨًﺎ ﻟﻠﻤﺘﺤﻒ اﻷﻣﺮﻳﻜﻲ ﻟﻠﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ،وﻛﺎن ﻋﻤﻠﻪ ﻳﻘﺘﴤ ﺗﺼﻨﻴﻒ املﻌﺮوﺿﺎت
ً
ﺗﺼﻨﻴﻔﺎ ﺟﻐﺮاﻓﻴٍّﺎ أو إﻗﻠﻴﻤﻴٍّﺎ. واملﻮﺿﻮﻋﺎت
وﻣﻠﺨﺺ آراء وﻳﺴﻠﺮ ﻫﻲ:
)أ( أن ﻋﺪدًا ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﺗﻤﻴﻞ إﱃ اﻟﺘﺠﻤﻊ ﰲ أﻗﺎﻟﻴﻢ ﻣﻌﻴﻨﺔ ،وأن ﰲ
اﻷﻣﺮﻳﻜﺘني ١٥إﻗﻠﻴﻤً ﺎ ﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ ،ﻣﻦ أﻫﻤﻬﺎ إﻗﻠﻴﻢ اﻟﺴﻬﻮل )أﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﺴﻬﻮل( وإﻗﻠﻴﻢ
اﻟﺴﺎﺣﻞ اﻟﺸﻤﺎﱄ اﻟﻐﺮﺑﻲ ،وإﻗﻠﻴﻢ اﻟﺠﻨﻮب اﻟﻐﺮﺑﻲ )اﻟﺬي ﻳﻤﺘﺪ إﱃ املﻜﺴﻴﻚ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ
وﻛﺎﻟﻴﻔﻮرﻧﻴﺎ( وإﻗﻠﻴﻢ اﻟﻐﺎﺑﺎت املﺪارﻳﺔ ﰲ اﻟﱪازﻳﻞ ،وإﻗﻠﻴﻢ ﺑﺘﺎﺟﻮﻧﻴﺎ وإﻗﻠﻴﻢ اﻟﺴﺎﺣﻞ اﻟﻐﺮﺑﻲ
ﻷﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ )ﻣﻦ أﻛﻮادور ﺣﺘﻰ أواﺳﻂ ﺷﻴﲇ( وﻳﺴﻤﻴﻪ أﺣﻴﺎﻧًﺎ إﻗﻠﻴﻢ اﻷﻧﺪﻳﺰ.
249
اﻹﻧﺴﺎن
)ب( أن ﻗﺒﺎﺋﻞ اﻹﻗﻠﻴﻢ اﻟﺤﻀﺎري — ﺑﺮﻏﻢ ﻋﺪم ﺗﺸﺎﺑﻬﻬﺎ املﻄﻠﻖ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرة — إﻻ أﻧﻬﺎ
ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ ﺗﻤﺘﻠﻚ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻴﺰ اﻹﻗﻠﻴﻢ.
ً
وﺧﺎﺻﺔ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻴﺶ ﰲ وﺳﻂ املﻨﻄﻘﺔ )ﺟ( أن ﺑﻌﺾ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ،
ﺟﻐﺮاﻓﻴٍّﺎ ،ﺗﻤﺘﻠﻚ ﰲ ﻣﻜﻮﻧﺎﺗﻬﺎ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻛﻞ ﻋﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرة ﻟﻺﻗﻠﻴﻢ اﻟﺤﻀﺎري ،وﻣﻦ ﺛﻢ
ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻄﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ املﻤﺜﻠﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻟﺤﻀﺎرة املﻨﻄﻘﺔ.
)د( ﻛﻠﻤﺎ اﺑﺘﻌﺪﻧﺎ ﻋﻦ ﻣﺮﻛﺰ اﻹﻗﻠﻴﻢ ﺗﺒﺪأ ﺑﻌﺾ اﻟﻌﻨﺎﴏ املﻤﻴﺰة ﻟﺤﻀﺎرة اﻹﻗﻠﻴﻢ ﰲ
اﻻﺧﺘﻔﺎء.
)ﻫ( اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻴﺶ ﰲ أﻃﺮاف اﻹﻗﻠﻴﻢ اﻟﺠﻐﺮاﰲ ﺗﺘﻤﻴﺰ ﺑﺨﻠﻴﻂ ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻟﻺﻗﻠﻴﻢ اﻟﺤﻀﺎري اﻟﺬي ﺗﻨﺘﻤﻲ إﻟﻴﻪ واﻹﻗﻠﻴﻢ املﺠﺎور.
ﻓﻤﺜﻼ ﰲ اﻹﻗﻠﻴﻢ اﻟﺤﻀﺎري ﻟﻠﺴﻬﻮل اﻟﻜﱪى )أﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﺴﻬﻮل( ﻳﻌﺪد وﻳﺴﻠﺮ ﺗﺠﻤﻌً ﺎ ً
ﻣﻦ ﺣﻮاﱄ ﻋﴩﻳﻦ ﻋﻨﴫًا ﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ ﻳﻜﻮﱢن املﻴﺰات اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻟﻺﻗﻠﻴﻢ ،وﻣﻦ أﻫﻢ ﻫﺬه اﻟﻌﻨﺎﴏ
ﺻﻴﺪ اﻟﺒﻴﺴﻮن )ﻧﻮع ﻣﻦ املﺎﺷﻴﺔ اﻟﻜﺒرية( واﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﻠﻴﻪ ﰲ اﻟﻐﺬاء ،وﻋﻤﻞ أوﻋﻴﺔ ﻣﻦ ﺟﻠﺪه،
وﻋﺪم وﺟﻮد اﻟﺰراﻋﺔ .وﰲ أﻃﺮاف ﻫﺬا اﻹﻗﻠﻴﻢ ﻧﺠﺪ ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﺗﺴﺘﺨﺪم اﻟﻔﺨﺎر ﰲ
ﻋﻤﻞ اﻷوﻋﻴﺔ ﺑﺪل اﻟﺠﻠﺪ ،وﺗﻘﻮم ﺑﺎﻟﺰراﻋﺔ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﺼﻴﺪ ،وﺗﺒﻨﻲ ﺑﻴﻮﺗًﺎ ﻣﻦ اﻟﻄني ً
ﺑﺪﻻ
ﻣﻦ اﻟﺨﻴﺎم.
وﻗﺪ رﺑﻂ وﻳﺴﻠﺮ ﻫﺬه اﻷﻗﺎﻟﻴﻢ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﺑﻔﻜﺮة اﻟﻌﻤﺮ ،ﻓﻘﺎل إن اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ
ﺗﻤﻴﻞ إﱃ اﻻﻧﺘﺸﺎر ﻣﻦ املﺮﻛﺰ ﰲ ﻛﺎﻓﺔ اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت ﺑﺪرﺟﺔ ﻣﺘﺴﺎوﻳﺔ ،وإن اﻻﻧﺘﺸﺎر اﻟﻜﺎﻣﻞ
دﻟﻴﻼ ﻋﲆ ﻗﺪﻣﻪ ،ﺑﺎملﻘﺎرﻧﺔ ﺑﻌﻨﴫ ﺣﻀﺎري ﻟﻌﻨﴫ ﺣﻀﺎري ﰲ ﻛﺎﻓﺔ أرﺟﺎء اﻹﻗﻠﻴﻢ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ً
آﺧﺮ ﻟﻢ ﻳﺸﻤﻞ اﻧﺘﺸﺎره ﻛﻞ اﻹﻗﻠﻴﻢ .وﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ﻓﺈن اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺠﺪﻫﺎ
ﻣﺸﱰﻛﺔ ﰲ أﻃﺮاف اﻹﻗﻠﻴﻢ ووﺳﻄﻪ ﺗﻤﺜﻞ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻷوﱃ ﰲ اﻹﻗﻠﻴﻢ اﻟﺤﻀﺎري،
وإن اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﻧﺠﺪﻫﺎ ﰲ اﻟﻮﺳﻂ ﺗﻤﺜﻞ أﻋﻤﺎ ًرا أﻗﻞ .وﻟﻘﺪ ﻫﺎﺟﻢ اﻟﻜﺜريون
ﻓﻜﺮة ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﺤﻀﺎرة وإﻋﺎدة ﺗﺮﻛﻴﺒﻪ ﺑﻬﺬه اﻟﺼﻮرة ﻷﺳﺒﺎب ﻋﺪة ،ﻋﲆ رأﺳﻬﺎ أن اﻟﻌﻨﺎﴏ
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻻ ﺗﻨﺘﴩ ﻣﻦ ﻣﺮاﻛﺰﻫﺎ ﺑﻨﻔﺲ اﻟﻨﺴﺒﺔ ﰲ ﻛﺎﻓﺔ اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت إﻻ ﻓﻴﻤﺎ ﻧﺪر .ﻓﺎﻟﻌﻮاﻣﻞ
اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻗﺪ ﺗﻌﺮﻗﻞ ﻫﺬا اﻻﻧﺘﺸﺎر ﰲ اﺗﺠﺎه ﻣﻌني أو ﺗﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ اﻻﻧﺘﺸﺎر
ﺑﴪﻋﺔ ﰲ اﺗﺠﺎه آﺧﺮ ،ﻛﻤﺎ ﻳﺤﺪث ﻋﲆ ﻃﻮل اﻟﻄﺮق اﻟﺘﺠﺎرﻳﺔ .وﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﻗﺪ ﻻ
ﺗﻨﺘﴩ زراﻋﺔ املﻄﺮ ﰲ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺠﺎﻓﺔ إﻻ إذا دﺧﻠﺖ اﻟﺤﻀﺎرة ﻣﺠﻤﻌﺎت ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﺗﻌﺮف
اﻟﺰراﻋﺔ ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻟﺮي اﻟﺼﻨﺎﻋﻲ.
250
ﺑﻌﺾ ﻣﺸﻜﻼت اﻟﺘﻨﻈري اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ
ﺷﻜﻞ (١) :1-3اﻟﺨﻮﻳﺰان) :أ( اﻟﺒﺸﻤﻦ) .ب( اﻟﻬﻮﺗﻨﺘﻮت (٢) .ﻣﻨﻄﻘﺔ رﻋﻲ اﻷﺑﻘﺎر ﰲ
ﴍق أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ (٣) .اﻟﻘﺮن اﻷﻓﺮﻳﻘﻲ (٤) .اﻟﻜﻨﻐﻮ (٥) .ﺳﺎﺣﻞ ﻏﺎﻧﺔ (٦) .اﻟﺴﻮدان اﻟﻐﺮﺑﻲ.
) (٧اﻟﺴﻮدان اﻟﴩﻗﻲ (٨) .اﻟﺼﺤﺮاء اﻟﻜﱪى (٩) .ﻣﴫ .ﻣﻼﺣﻈﺔ :ﺗﺮك ﻫﺮﺳﻜﻮﻓﺘﺲ ﻣﻨﻄﻘﺔ
ﺷﻤﺎل أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﺧﺎرﺟً ﺎ ﻋﻦ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎر ارﺗﺒﺎﻃﻪ اﻟﺤﻀﺎري ﺑﻤﻨﻄﻘﺔ اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ
اﻷوروﺑﻲ واﻵﺳﻴﻮي.
وﻛﺬﻟﻚ ﻓﺈن املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻻ ﺗﻘﺒﻞ ﻛﺎﻓﺔ املﺠﻤﻌﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﻘﺎدﻣﺔ إﻟﻴﻬﻢ ،ﺑﻞ إن
ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺗﻘﺒﻞ اﻻﻧﺘﺸﺎر اﻟﺤﻀﺎري ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺠﺎل ﻛﺒري ﻟﻼﺧﺘﻴﺎر ،وﻋﻤﻠﻴﺔ اﻻﻧﺘﺸﺎر اﻟﺤﻀﺎري —
ﺑﺎﺧﺘﺼﺎر — ﻟﻴﺴﺖ ﻋﻤﻠﻴﺔ آﻟﻴﺔ ،ﺑﻞ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﺑﺼﻮرة واﺳﻌﺔ ﰲ درﺟﺔ ﺗﻘﺒﻠﻬﺎ ﺑني املﺠﺘﻤﻌﺎت
املﺨﺘﻠﻔﺔ.
وﻳﱰﺗﺐ ﻋﲆ ذﻟﻚ أن اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني ﻗﺪ ﻳﻘﺒﻠﻮن ﻓﻜﺮة اﻹﻗﻠﻴﻢ اﻟﺤﻀﺎري ﻛﻔﻜﺮة
ﺗﺼﻨﻴﻔﻴﺔ ﺟﻴﺪة ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻻ ﺗﻨﻄﺒﻖ ﺗﻤﺎم اﻻﻧﻄﺒﺎق ﻋﲆ اﻷﻗﺎﻟﻴﻢ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ املﻌﻘﺪة ﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ
ﻛﺈﻗﻠﻴﻢ اﻟﺴﺎﺣﻞ اﻟﺸﻤﺎﱄ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻷﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ،أو إﻗﻠﻴﻢ ﺳﺎﺣﻞ ﻏﺎﻧﺔ ،أو إﻗﻠﻴﻢ اﻟﺴﻮدان
251
اﻹﻧﺴﺎن
املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ
Kroeber, A.L., ﰱ اﻻﻣﺮﻳﻜﺘني ﺣﺴﺐ
”“Anthropology
NewYork 1923, P. 337 ﺗﻘﺴﻴﻢ ﻛﺮﻳﱪ ١٩٢٣
ﺷﻜﻞ 2-3
252
ﺑﻌﺾ ﻣﺸﻜﻼت اﻟﺘﻨﻈري اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ
ﻫﺬا ﻣﺼﻄﻠﺢ ﺧﺎص ﺑﺎملﺪرﺳﺔ اﻟﻨﻤﺴﺎوﻳﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ،وﻣﺪرﺳﺔ ﻓﻴﻴﻨﺎ اﻟﻨﻤﺴﺎوﻳﺔ ﻋﲆ وﺟﻪ
ﺧﺎص ،وﻗﺪ ﻛﺎن أول ﻣﻦ اﺳﺘﺨﺪﻣﻪ ﻟﻴﻮ ﻓﺮوﺑﻴﻨﻴﻮس 2ﰲ دراﺳﺘﻪ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺎ
ﻷوﺷﻴﻨﻴﺎ ﰲ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻣﻨﻪ ﻟﺘﻮزﻳﻊ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﺟﻐﺮاﻓﻴٍّﺎ.
ﻟﻜﻦ ﻓﺮﺗﺰ ﺟﺮاﻳﺒﻨﺮ F. Graebnerاملﺆرخ اﻷملﺎﻧﻲ اﻟﺬي أﺻﺒﺢ ﻣﺆﺳﺲ املﺪرﺳﺔ
اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ﰲ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ،وﺑﺮﻧﻬﺎرد أﻧﻜﺮﻣﺎن B. Ankermannاﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ اﻷملﺎﻧﻲ ،أﻟﻘﻴﺎ
ﺑﺤﺜني ﰲ ﻋﺎم ،١٩٠٤ﰲ اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﰲ ﺑﺮﻟني .ﻛﺎن ﻛﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ
ﻣﻌﻨﻮﻧًﺎ ﺑﺎﺳﻢ »اﻟﺪواﺋﺮ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ واﻟﻄﺒﻘﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻷوﺷﻴﻨﺎ« )ﺟﺮاﻳﺒﻨﺮ( ،و»اﻟﺪواﺋﺮ
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ واﻟﻄﺒﻘﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ« )أﻧﻜﺮﻣﺎن( .وأﺧﺬ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻛﺜريون ﻣﻦ
اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني ﰲ أملﺎﻧﻴﺎ واﻟﻨﻤﺴﺎ ﻫﺬا املﺼﻄﻠﺢ — ﻧﺬﻛﺮ ﻣﻨﻬﻢ ﰲ أملﺎﻧﻴﺎ ﻓﻮي ،W. Foy
ﻟﻴﺒﺰ Julius Lipsوزوﺟﺘﻪ ،وﺑﺎول ﻟﻴﺰر ،P. Leserوﰲ اﻟﻨﻤﺴﺎ ﻛﺎن أﻛﱪ ﻣﺆﻳﺪي اﻟﺪواﺋﺮ
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،واﻟﺬي زاد ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻋﻨﺪه اﻟﻜﺜري ﻫﻮ اﻷب ﻓﻠﻬﻠﻢ ﺷﻤﻴﺖ W. Schmidtاﻟﺬي
أﺻﺒﺤﺖ املﺪرﺳﺔ ﺗُﻌ َﺮف ﺑﺎﺳﻤﻪ ،وﻛﺬﻟﻚ اﻷب ﻓﻠﻬﻠﻢ ﻛﻮﺑﺮز ،W. Koppersواﻷﺳﺘﺎذ ﻳﻮﺳﻒ
.Frobenius, L., “Die Kulturformen Ozeaniens”, Petermanns Mitteilungen, vol. 46, 1900 2
253
اﻹﻧﺴﺎن
254
ﺑﻌﺾ ﻣﺸﻜﻼت اﻟﺘﻨﻈري اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ
ً
وﺧﺎﺻﺔ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ وﻟﻘﺪ اﻧﺘﺎب ﻓﻜﺮة اﻟﺪاﺋﺮة اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺘﻌﺪﻳﻞ واﻟﻨﻘﺪ،
ﺑﻌﺾ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني ﰲ ﻣﺪرﺳﺔ ﻓﻴﻴﻨﺎ ،وﺟﺎء اﻟﻨﻘﺪ ﺑﻌﺪ ﻇﻬﻮر اﻟﻜﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﺪراﺳﺎت
اﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ واﻟﺤﻔﺎﺋﺮ ﻣﻨﺬ أن ﺑﺪأ ﺟﺮاﻳﺒﻨﺮ اﻟﻔﻜﺮة ﰲ أول ﻫﺬا اﻟﻘﺮن ،وﻛﺎن ﻣﻦ أﺑﺮز
ً
ﺗﺄرﻳﺨﺎ ﻟﻔﻜﺮة اﻟﺪاﺋﺮة املﻌﱰﺿني روﺑﺮت ﻫﺎﻳﻨﻲ ﺟﻠﺪرن ،وﻛﻮﺑﺮز اﻟﺬي ﻛﺘﺐ ﰲ ١٩٥٩
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻣﺒﻴﻨًﺎ ﺣﺴﻨﺎﺗﻬﺎ وﻣﺂﺧﺬﻫﺎ وﻧﻘﺪﻫﺎ.
وﺑﺮﻏﻢ ذﻟﻚ ﻓﺈن ﻓﻜﺮة اﻟﺪاﺋﺮة اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ — ﻣﻊ ﻋﺪم املﻐﺎﻻة اﻟﺘﻲ ﻇﻬﺮت ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎت
ﺷﻤﻴﺖ — ﻗﺪ أﻋﻄﺖ ﻟﻺﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻣﺠﺎﻻت واﺳﻌﺔ ﻟﻠﺘﻨﻈري ﰲ ﻓﱰة ﻣﺮﺣﻠﻴﺔ ﻣﻦ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻜﺮ
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻲ ،وﺷﺤﺬت اﻟﻬﻤﻢ ﺳﻮاءً ﺑﺎﻟﻨﻘﺪ أو اﻹﺿﺎﻓﺔ .وﻫﻲ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ
ﺗﺮﻛﻴﺐ ﻧﻈﺮي ملﺠﻤﻌﺎت ﺣﻀﺎرﻳﺔ ،وﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺼﺒﺢ إﺣﺪى أدوات اﻟﻔﻜﺮ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ﰲ
اﻟﺘﻨﻈري ،ﻣﺜﻠﻬﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﻣﺜﻞ املﺠﻤﻊ اﻟﺤﻀﺎري واﻹﻗﻠﻴﻢ اﻟﺤﻀﺎري5 .
وﻫﻜﺬا ﻓﺈن ﻫﺬه اﻟﱰﻛﻴﺒﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺜﻼﺛﺔ :املﺠﻤﻊ اﻟﺤﻀﺎري – اﻹﻗﻠﻴﻢ اﻟﺤﻀﺎري
– اﻟﺪاﺋﺮة اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،ﺑﺮﻏﻢ اﺧﺘﻼف أﻫﺪاﻓﻬﺎ اﻟﻨﻬﺎﺋﻴﺔ ،ﻓﺈﻧﻬﺎ ﰲ أﺳﺎﺳﻬﺎ ﻣﺘﺸﺎﺑﻬﺔ ﻛﻤﺤﺎوﻟﺔ
ﺗﺼﻨﻴﻒ ﻟﻠﺤﻀﺎرات أﻗﻞ ﻋﺪدًا ﻣﻦ اﻟﺤﻀﺎرات املﻔﺮدة اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﺤﴫﻫﺎ اﻟﻌﺪ ﻋﲆ ﺳﻄﺢ
اﻷرض .واﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻣﺤﺘﺎﺟﺔ إﱃ ﻫﺬا اﻟﺘﺼﻨﻴﻒ اﻟﻌﺎم ،ﺷﺄﻧﻬﺎ ﺷﺄن ﺑﻘﻴﺔ اﻟﻌﻠﻮم اﻷﺧﺮى
ﻗﺒﻞ اﻟﺘﻔﺮﻳﻊ واﻟﺘﻔﺼﻴﻞ.
5ﻳﻌﺘﻘﺪ ﻣﺮدوك أن املﺪرﺳﺔ اﻟﻨﻤﺴﺎوﻳﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﻗﺪ أﺿﺎﻓﺖ ﻛﺜريًا إﱃ اﻟﺘﻜﺎﻣﻞ اﻟﺤﻀﺎري ،ﺑﻐﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ
ﺑﻌﺾ املﺒﺎﻟﻐﺎت ،وذﻟﻚ ﺑﺎﻟﻘﻴﺎس إﱃ املﺪرﺳﺔ اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ .راﺟﻊMurdock, G., P., “Social :
.Structure”, New York, 2ed., 1965, pp. 191-2
255
اﻹﻧﺴﺎن
ﺷﺎﻣﻼ ﻟﺴﻠﻮك اﻷﻓﺮاد ً املﺘﻔﺎﻋﻞ ﻟﻠﻈﺎﻫﺮات اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن اﻟﻘﺎﻟﺐ
ً
ﺗﺠﺎه اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ .وﻫﻜﺬا ﺗﺨﺘﻠﻒ اﺳﺘﺨﺪاﻣﺎت اﻟﻘﻮاﻟﺐ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﺧﺘﻼﻓﺎ ﻛﺒريًا،
ﻓﺎﻟﻘﺎﻟﺐ أو اﻟﻨﻤﻂ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻣﺜﺎﻟﻴٍّﺎ وﻋﺎملﻴٍّﺎ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻳﺼﺒﺢ ﻣﺜﻠﻪ ﰲ ذﻟﻚ ﻣﺜﻞ دراﺳﺔ
اﻟﻘﻴﻢ .Value
وﻳﺴﺘﺨﺪم ﻛﻼرك وﻳﺴﻠﺮ اﻟﻘﺎﻟﺐ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻗﺎﻟﺐ أو ﻧﻤﻂ ﺣﻀﺎري ﻋﺎملﻲ Universal
Pattern؛ ﻣﺜﻞ اﻟﻠﻐﺔ واﻟﻔﻦ واﻟﺪﻳﺎﻧﺔ واﻟﺤﺮب واملﻠﻜﻴﺔ وﻏري ذﻟﻚ ،وﻟﻜﻦ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻻﺳﺘﺨﺪام
ﻳﺠﻌﻞ اﻟﻘﺎﻟﺐ اﻟﺤﻀﺎري ﻏﺎﻣﺾ املﻔﻬﻮم ،ورﺑﻤﺎ ﻗﺮب ذﻟﻚ املﻔﻬﻮم ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺨﺎﺻﺔ
ﺑﻤﺼﻄﻠﺢ اﻷﻓﻜﺎر اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ Elementargedankenاﻟﺘﻲ ﻋﱪ ﻋﻨﻬﺎ أدوﻟﻒ ﺑﺎﺳﺘﻴﺎن
اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ اﻷملﺎﻧﻲ ﰲ أواﺧﺮ اﻟﻘﺮن املﺎﴈ.
وﻳﺴﺘﺨﺪم ﻛﺮوﻳﱪ ،A. Kroeberاﻟﻘﺎﻟﺐ اﻷﺻﻮﱄ ،Systematic Patternوﻫﻮ ﰲ
رأﻳﻪ ﻳﻀﻢ ﻣﻈﺎﻫﺮ ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ،ﻣﺜﻞ زراﻋﺔ املﺤﺮاث أو اﻟﻮﺣﺪاﻧﻴﺔ ﰲ اﻟﺪﻳﺎﻧﺎت اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ
أو اﻟﺤﺮوف اﻷﺑﺠﺪﻳﺔ ،وﻫﺬه املﻜﻮﻧﺎت اﻷﺻﻮﻟﻴﺔ ﺗﻘﻒ ﺗﺤﺖ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﰲ ﻋﻼﻗﺎﺗﻬﺎ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ؛
أي إن ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻳﱰﺗﺐ ﻋﲆ اﻟﺒﻌﺾ اﻵﺧﺮ .وﻳﻘﻮل ﻛﺮوﻳﱪ إن ﻫﺬه اﻟﻘﻮاﻟﺐ ﺗﻨﺒﻊ ﻣﻦ أﺻﻮل
ﻣﻌﻴﻨﺔ واﻧﺘﴩت ﻋﻨﻬﺎ.
ً ﱠ
وﻟﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﻧﻘﺪًا ﺟﻮﻫﺮﻳٍّﺎ ﻳُﻮﺟﱠ ﻪ إﱃ اﻟﻘﻮاﻟﺐ اﻷﺻﻮﻟﻴﺔ؛ ﻓﺎﻟﻮﺣﺪاﻧﻴﺔ ﻣﺜﻼ ﻟﻴﺴﺖ ﻗﺎﻟﺒًﺎ،
ﺑﻞ ﻫﻲ ﻓﻜﺮة أو ﻗﻴﻤﺔ .أﻣﺎ اﻟﻘﺎﻟﺐ ﻓﻬﻮ :ﻛﻴﻒ ﻳﻔﻬﻤﻬﺎ املﻌﺘﻨﻘﻮن ﻟﻠﻮﺣﺪاﻧﻴﺔ؟ وﻛﻴﻒ
ﻳﺘﴫﻓﻮن إزاء ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة؟ وﻣﻦ ﺛﻢ ﻳﻨﺸﺄ ﻗﺎﻟﺐ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ أو اﻟﺒﻠﻘﺎن ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ
املﺜﺎل.
ﻌﱪ ﻋﻦ ُ
وﻗﺪ اﺳﺘﺨﺪﻣﺖ روث ﺑﻨﺪﻳﻜﺖ — اﻟﻌﺎملﺔ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ — ﻓﻜﺮة اﻟﻘﺎﻟﺐ ،ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺗ ﱢ
وﺻﻒ ﺷﺎﻣﻞ ﻟﻠﺤﻀﺎرة املﻔﺮدة .ورﺑﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﻨﺪﻳﻜﺖ أول ﻣﻦ اﺳﺘﺨﺪم اﻟﻘﺎﻟﺐ اﻟﺤﻀﺎري
ﻓﻤﺜﻼ ﰲً ﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل ،وﻟﻜﻨﻬﺎ أﻋﻄﺖ اﻧﻄﺒﺎﻋﺎت ﺳﻴﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻟﻠﻘﻮاﻟﺐ اﻟﺘﻲ وﺻﻔﺘﻬﺎ.
ﻛﺘﺎﺑﻬﺎ املﺸﻬﻮر »اﻟﻘﻮاﻟﺐ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ« 6 ،ﻧﺠﺪﻫﺎ ﺗﻌﻄﻲ اﻟﻘﻮاﻟﺐ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ:
أﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﺴﻬﻮل = دﻳﻮﻧﻴﴘ = Dionysianﻧﺸﻂ ذو روح ﻓﺮدﻳﺔ – ﺷﻌﻮر ﺷﺪﻳﺪ
ﺑﺎﻟﺬات ،ﻣﺤﺐ ﻟﻠﻌﺮاك واﻟﺘﺪﻣري واﻟﺤﺮوب.
أﻣﺮﻳﻨﺪ ﺑﻮﻳﺒﻠﻮ = أﺑﻮﻟﻮﻧﻲ = = Appollonianﻫﺎدئ – ﺟﻤﺎﻋﻲ اﻟﺮوح واﻟﺘﻔﻜري –
ﻣﺘﺸﻜﻚ – رﺳﻤﻲ – ﻏري ﻣﻴﺎل ﻟﻠﻌﺮاك – ﻣﺘﻮﺳﻂ ﻏري ﻣﺘﻄﺮف.
256
ﺑﻌﺾ ﻣﺸﻜﻼت اﻟﺘﻨﻈري اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ
Kluckhon, C., “Patterning in Navaho Culture” in “Language, Culture and Personality” 7
.ed. L. Spier, Menasha, Wisconsin, 1941
257
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﺤﻀﺎري ﻟﻠﻤﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺪرﺳﻬﺎ .إن إﺳﻘﺎط ذاﺗﻴﺔ اﻟﺒﺎﺣﺚ ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع ،ﻫﻲ
ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ املﺸﻜﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻮم ﺣﻮﻟﻬﺎ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺠﺪل واملﻌﺎرﺿﺔ ﰲ اﻟﺘﻨﻈري اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ.
وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻘﺴﻢ اﻟﻘﺎﻟﺐ اﻟﺤﻀﺎري إﱃ ﻗﺴﻤني — ﻣﺘﻔﻘني ﰲ ذﻟﻚ ﻣﻊ آراء ﻛﻠﻜﻬﻮن:
) (١اﻟﻘﺎﻟﺐ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ = :Patternوﻫﻮ ﺑﺬﻟﻚ اﻟﺬي ﻳﻌﱪ ﻋﻦ ﺳﻠﻮك اﻷﻓﺮاد ﰲ ﻣﻮاﺟﻬﺔ
اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﴫﻳﺤﺔ ،وﻫﻮ ﺑﺬﻟﻚ ﻳﺴﺎوي اﻻﺧﺘﻼف ﺑني اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ )اﻟﻘﺎﻟﺐ(
واﻟﺘﻄﺒﻴﻖ )اﻟﺴﻠﻮك(.
) (٢اﻟﻨﻤﻂ اﻟﺤﻀﺎري = :Normوﻫﻮ اﻟﻘﺎﻟﺐ املﺜﺎﱄ اﻟﺬي ﻳﻠﺘﺰم اﻟﻨﺎس ﺑﺘﻨﻔﻴﺬه ﺑﺤﻜﻢ
اﻟﻌﺎدة واﻻﻋﺘﻴﺎد .وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻘﻮل إن اﻟﻨﻤﻂ ﺛﺎﺑﺖ وﻣﺤﺎﻓﻆ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻟﻘﺎﻟﺐ ﻣﺮن .إن
ﻃﺮاﺋﻖ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺘﻲ ﺗﺼﻔﻬﺎ اﻟﺤﻀﺎرة ﻷﻓﺮادﻫﺎ ﻻ ﺗﻌﻨﻲ أن ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻻﻟﺘﺰام ﺑﻬﺎ ﺣﺮﻓﻴٍّﺎ،
ﺑﻞ ﻫﻲ ﻣﺠﺮد ﺗﻮﺟﻴﻬﺎت ﻋﺎﻣﺔ ﻟﻠﺴﻠﻮك اﻟﻔﺮدي اﻟﺬي ﻳﺘﺤﺮك داﺧﻠﻬﺎ ﺑﴚء ﻣﻦ املﺮوﻧﺔ،
وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈن ﻫﻨﺎك ﺗﻐﺎﻳﺮات ﻛﺜرية ﻟﻠﺴﻠﻮك اﻟﻔﺮدي ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻻ ﺑﺪ وأن ﺗﻘﻊ ﺿﻤﻦ املﺴﻤﻮح
ﻣﺨﺎﻟﻔﺎ ﻟﻠﻨﻤﻂ اﻟﺤﻀﺎري ﰲً ﺑﻪ ،وإﻻ ﺧﺮج اﻟﺴﻠﻮك ﻋﻦ اﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻟﻌﺎﻣﺔ املﺮﻋﻴﺔ ،وأﺻﺒﺢ
ﻋﻨﴫ ﻣﺎ ﻣﻦ ﻋﻨﺎﴏه .ﻓﺈذا ﻗﻠﻨﺎ — ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل — إن اﻟﻘﺎﻟﺐ اﻟﺴﻠﻮﻛﻲ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ
اﻟﻌﺮﺑﻲ ﻳﻘﺮر ﴐورة اﺣﱰام ﻛﺒﺎر اﻟﺴﻦ ﻋﻨﺪ ﻣﺨﺎﻃﺒﺘﻬﻢ ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ أن ﻫﺬا اﻻﺣﱰام ﻳﺄﺧﺬ
واﻗﻔﺎ أﻣﺎم ﻛﺒﺎر اﻟﺴﻦ ،وﺑني ﻣﺠﺮد ﻣﺨﺎﻃﺒﺘﻬﻢ ﺑﻮﺻﻔﻬﻢ ﺣﺪودًا واﺳﻌﺔ ﺗﱰاوح ﺑني اﻟﺒﻘﺎء ً
ﻄﺎ ﻋﻨﺪ ﺑﻌﺾ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﻳﺤﺮم ﰲ ﻣﺮﺣﻠﺔ أو درﺟﺔ »اﻟﻌﻢ« أو »اﻟﺨﺎل« .وﺑﺎملﺜﻞ ﻧﺠﺪ ﻧﻤ ً
املﻮاﺟﻬﺔ واﻟﺤﺪﻳﺚ ﺑني أم اﻟﺰوﺟﺔ وزوج اﺑﻨﺘﻬﺎ ،ﻓﺈن ﻫﺬا اﻟﺘﺤﺮﻳﻢ اﻟﻨﻤﻄﻲ ﻳﱰاوح ﺑني
اﻟﺨﺮوج ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﻦ املﺴﻜﻦ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﺗﻜﻮن أم اﻟﺰوﺟﺔ ﻣﻮﺟﻮدة ،وﺑني ﺗﺒﺎدل اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻣﻦ وراء
ﺟﺪار أو ﺑﺎب أو ﺳﺎﺗﺮ.
وﻋﲆ ﻫﺬا ﻓﺈن اﻟﻘﺎﻟﺐ اﻟﺤﻀﺎري ﻳُﺮاﻋَ ﻰ ﺑﺼﻔﺔ ﻣﺴﺘﻤﺮة ،وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ ﻟﻪ ﻧﻤﻮذج ﻣﺜﺎﱄ
ﻳُﺤﺘﺬَى ﺑﺼﻔﺔ داﺋﻤﺔ ،وﺣﺘﻰ ﰲ اﻟﻘﻮاﻟﺐ اﻟﺴﻠﻮﻛﻴﺔ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻳﺨﺘﻠﻒ اﻻﺣﱰام اﻟﺬي ﻳﻌﻄﻲ
ﻷﺣﺪ اﻷوﻟﻴﺎء أو املﺰارات ﺑني ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ اﻟﺘﻘﺪﻳﺲ وﺑني اﻻﺣﱰام اﻟﻌﺎﺑﺮ.
أﻣﺎ اﻟﻨﻤﻂ املﺜﺎﱄ ،ﻓﻬﻮ ذﻟﻚ اﻟﺬي ﻳﺮاﻋﻴﻪ اﻟﻨﺎس ﺑﺪﻗﺔ ﺗﺎﻣﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك اﺗﻔﺎق
ﺳﺎﺋﺪ وﻋﺎم ﺑني أﻋﻀﺎء املﺠﺘﻤﻊ ﻋﻠﻴﻪ .وﻋﲆ ﻫﺬا ﻳﺼﺒﺢ اﻟﺰواج ﻣﻦ املﺤﺮﻣﺎت ﻧﻤ ً
ﻄﺎ ﻣﺜﺎﻟﻴٍّﺎ،
ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﺼﺒﺢ اﻟﺨﻴﺎﻧﺔ ﻗﺎﻟﺒًﺎ ﺳﻠﻮﻛﻴٍّﺎ ﻳﱰاوح ﻋﻨﺪ ﺑﻌﺾ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﺑني ﻗﺘﻞ اﻟﺰوﺟﺔ أو ﻗﺘﻞ
ﻣﺮﺗﻜﺐ اﻟﺨﻴﺎﻧﺔ أو ﻗﺘﻠﻬﻤﺎ ﻣﻌً ﺎ ،وﺑني إرﺟﺎع اﻟﺰوﺟﺔ اﻟﺨﺎﺋﻨﺔ إﱃ ذوﻳﻬﺎ وﺗﺤﺼﻴﻞ ﻣﺎ أﺧﺬوه
ﻣﻦ ﺻﺪاق ،أو اﻟﺘﻐﺎﴈ ﻋﻦ اﻟﺠﺮﻳﻤﺔ واﻻﻛﺘﻔﺎء ﺑﻌﻘﺎب ﺑﺪﻧﻲ أو ﻣﻌﻨﻮي.
258
ﺑﻌﺾ ﻣﺸﻜﻼت اﻟﺘﻨﻈري اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ
وﻛﺬﻟﻚ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺘﺤﻮل ﻋﲆ ﻣﺮ اﻟﺰﻣﻦ ﻧﻤﻂ ﻣﺜﺎﱄ إﱃ ﻗﺎﻟﺐ ﺳﻠﻮﻛﻲ .ﻣﺜﺎل ذﻟﻚ :أن
ﻄﺎ ﻣﺜﺎﻟﻴٍّﺎ ﻋﻨﺪ ﺑﻌﺾ اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ واﻟﺒﺠﺔ ﰲ اﻟﺴﻮدان اﻟﺰواج ﻣﻦ ﺑﻨﺖ اﻟﻌﻢ ﻛﺎن ﻧﻤ ً
اﻟﴩﻗﻲ ،ﻟﻜﻨﻪ ﺗﺤﻮل إﱃ ﻗﺎﻟﺐ ﺳﻠﻮﻛﻲ ﰲ اﻟﻔﱰة اﻷﺧرية ﻳﱰاوح ﻓﻴﻪ اﻟﺴﻠﻮك ﺑني زواج ﺑﻨﺖ
ﻓﻌﻼ وﻣﺠﺮد اﻻﻋﱰاض اﻟﺸﻜﲇ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻖ اﺑﻦ اﻟﻌﻢ ﺣني ﻳﻄﻠﺐ ﻳﺪﻫﺎ ﺷﺨﺺ اﻟﻌﻢ ً
ﻏﺮﻳﺐ ،وﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻳﻌﻄﻲ ﻣﻮاﻓﻘﺘﻪ ﻋﲆ زواﺟﻬﺎ.
ً
ﻋﺎﻣﺔ إﱃ دراﺳﺔ اﻷﻧﻤﺎط املﺜﺎﻟﻴﺔ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﻤﺜﻞ ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ وﻳﻤﻴﻞ اﻟﺪارﺳﻮن ﻟﻠﺤﻀﺎرة
اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﻌﺎﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻠﺘﺰم ﺑﻬﺎ أﻓﺮاد املﺠﺘﻤﻊ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﱰﻛﻮن اﻟﻘﻮاﻟﺐ اﻟﺴﻠﻮﻛﻴﺔ ﺟﺎﻧﺒًﺎ؛ ﻷن
ﻣﺠﺎﻻت اﻟﺘﻔﺎﻋﻞ ﻣﻌﻬﺎ ﻣﺘﻌﺪدة ،وﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ اﻟﺘﴫف اﻟﻔﺮدي ﰲ ﺣﺪود ﻣﻌﻴﻨﺔ .ﻟﻜﻦ ﻣﻦ
املﺴﺘﺤﺴﻦ أن ﻳُﺪ َرس اﻟﻘﺎﻟﺐ اﻟﺴﻠﻮﻛﻲ اﻟﺬي ﻳﻀﻌﻪ املﺠﺘﻤﻊ ﻟﻠﺘﴫف إزاء ﻣﻮﻗﻒ ﻣﻌني،
وﺗُﺪ َرس ﻣﻌﻪ درﺟﺎت اﻟﺘﴫف اﻟﺴﻠﻮﻛﻴﺔ اﻟﻔﺮدﻳﺔ ﻛﺤﺎﻻت دراﺳﻴﺔ .وﻻ ﺷﻚ أن اﻟﺘﻔﺮﻳﻖ
ً
ﻋﺎﻣﺔ ﺑني اﻟﻨﻤﻂ املﺜﺎﱄ واﻟﺴﻠﻮﻛﻲ ﺗﻔﺮﻳﻖ ﻓﻴﻪ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻻﺻﻄﻨﺎع اﻟﻨﻈﺮي؛ ﻓﺎملﻔﺮوض
أن اﻟﻨﻤﻂ اﻟﺤﻀﺎري ﻳﻔﺮض اﻻﻟﺘﺰام ﺑﻪ ﺳﻠﻮﻛﻴٍّﺎ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳﺘﻄﻮر ﻣﻊ ﺗﻄﻮر ﺑﻌﺾ املﻜﻮﻧﺎت
اﻟﺨﺎﺻﺔ أو اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرة؛ ﻓﻴﺼﺒﺢ اﻻﻟﺘﺰام ﺑﻪ أﻣ ًﺮا ﺻﻌﺒًﺎ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻳﺘﺤﻮل إﱃ ﻗﺎﻟﺐ
ﻣﺮﻏﻮب ،ﻟﻜﻨﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﻠﺰﻣً ﺎ ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﰲ املﺎﴈ.
وﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل ﻳﺼﺢ ﻟﻨﺎ أن ﻧﺼﻒ اﻷﻧﻤﺎط اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻄﻮرت ﰲ ﻇﻞ اﻟﺘﻄﻮر
اﻟﻌﺎم ﺑﺄﻧﻬﺎ أﺻﺒﺤﺖ ﻗﻮاﻟﺐ ﺿﻤﻨﻴﺔ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻷﻧﻤﺎط املﻠﺰﻣﺔ ﺑﺘﴫﻓﺎت ﻣﻌﻴﻨﺔ ﰲ وﻗﺖ
اﻟﺪراﺳﺔ ﺑﺄﻧﻬﺎ أﻧﻤﺎط ﴏﻳﺤﺔ ،وﻳﺼﺒﺢ اﻟﻔﺮق إذن ﺑني اﻟﻨﻤﻂ اﻟﴫﻳﺢ واﻟﻀﻤﻨﻲ )أو
املﺜﺎﱄ واﻟﺴﻠﻮﻛﻲ( ﻫﻮ اﻟﻔﺮق ﺑني اﻟﺤﺎﴐ واملﺎﴈ ،وﺑﻘﺎء اﻟﻨﻤﻂ املﺎﴈ )اﻟﻀﻤﻨﻲ –
اﻟﺴﻠﻮﻛﻲ( ﰲ املﻤﺎرﺳﺎت اﻟﺤﺎﴐة ﻳﻌﻨﻲ أن اﻻﻧﺘﻘﺎل اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ﻟﻴﺲ ﺑﻌﻴﺪ اﻟﻌﻬﺪ ،وأن
املﺮوﻧﺔ ﰲ ﺗﻄﺒﻴﻘﻪ ﺗﻌﻜﺲ رﻏﺒﺔ اﻟﺠﻴﻞ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﰲ اﻹﺑﻘﺎء ﻋﲆ ﺑﻌﺾ أﻧﻤﺎط ﻛﺎﻧﺖ ﴏﻳﺤﺔ
ﰲ ﻋﴫه أو ﻋﴫ أﺳﻼﻓﻪ.
وﻣﻦ ﺧﻼل اﻷﻧﻤﺎط اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻺﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني دراﺳﺔ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﴫاع
ﺑني ﻋﺎﻣﲇ اﻟﺪﻓﻊ اﻟﺤﻀﺎري :املﺤﺎﻓﻈﺔ واﻟﺘﺠﺪﻳﺪ .وﻻ ﻳﻌﱪ ذﻟﻚ ﺑﺎﻟﴬورة ﻋﻦ ﴏاع
أﻳﻀﺎ اﻟﺘﺪﺧﻞ اﻟﺤﻀﺎري املﻤﺎرﺳﺎت اﻟﺴﻠﻮﻛﻴﺔ ﻟﻸﺟﻴﺎل املﺘﻌﺎﻗﺒﺔ ﻓﻘﻂ ،وإﻧﻤﺎ ﻗﺪ ﻳﻌﻜﺲ ً
ﻷﻧﻤﺎط ﺣﻀﺎرﻳﺔ واﻓﺪة ﻣﻦ اﻟﺨﺎرج .وﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ،إن دراﺳﺔ اﻟﻨﻤﻂ اﻟﺤﻀﺎري ﺗﺴﺎﻋﺪ
اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ﻋﲆ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻟﻠﻨﻤﻂ اﻟﺤﻀﺎري داﺧﻞ اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻟﺤﻀﺎري
اﻟﻌﺎم ،وﺗﻌﻄﻲ ﻟﻠﺒﺎﺣﺜني أدﻟﺔ ﻋﲆ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺤﻀﺎري اﻟﺪاﺧﲇ ﺑﺘﺄﺛريات اﻟﻨﻤﻮ املﺤﲇ أو
اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﻮاﻓﺪة ﻣﻦ اﻟﺨﺎرج.
259
اﻹﻧﺴﺎن
ﻋﲆ ﻋﻜﺲ اﻟﻘﻮاﻟﺐ واﻷﻧﻤﺎط اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،ﻧﺠﺪ أن ﺑﻌﺾ اﻟﻜﺘﱠﺎب ﻗﺪ ﻣﺎﻟﻮا ﰲ املﺎﴈ
واﻟﺤﺎﴐ إﱃ أن ﻣﺎ ﻳﻤﻴﺰ اﻟﺤﻀﺎرات ﻫﻮ أﻓﻜﺎر أو ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﻋﺎﻣﺔ ،وأﺷﻬﺮ اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺘﺒﻮا ﰲ
املﺎﴈ ﻫﻮ أدوﻟﻒ ﺑﺎﺳﺘﻴﺎن (١٩٠٥–١٨٢٦) A. Bastianاﻟﻄﺒﻴﺐ اﻷملﺎﻧﻲ ،اﻟﺬي ﺗﺤﻮﻟﺖ
اﻫﺘﻤﺎﻣﺎﺗﻪ إﱃ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻧﺘﻴﺠﺔ أﺳﻔﺎره اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﺪأت ﺑﺮﺣﻠﺔ إﱃ ﺟﺰر املﺤﻴﻂ اﻟﻬﺎدي
ﻛﻄﺒﻴﺐ ﺳﻔﻴﻨﺔ ) ،(١٨٥١وﺗﺒﻌﻬﺎ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺑﺮﺣﻼت دراﺳﻴﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ إﱃ ﻣﴫ واﻟﱪازﻳﻞ
واملﺤﻴﻂ اﻟﻬﺎدي وﻣﺎت ﰲ رﺣﻠﺔ ﰲ ﺟﺰﻳﺮة ﺗﺮﻧﻴﺪاد ،وﻗﺪ ﻧﴩ ﻛﺜريًا ﻣﻦ رﺣﻼﺗﻪ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ،
وﻫﻲ ﺗﻜﻮن ﻣﺮاﺟﻊ ﻗﻴﻤﺔ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎن ﻟﺠﻬﻮده اﻟﻔﻀﻞ ﰲ إﻧﺸﺎء ﻣﺘﺤﻒ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﰲ
ﺑﺮﻟني ﻋﺎم .١٨٦٦وﰲ ﻋﺎم ١٨٦٠ﻧﴩ أﻫﻢ ﻛﺘﺒﻪ املﻨﻬﺠﻴﺔ ﺑﻌﻨﻮان »اﻹﻧﺴﺎن ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ:
دراﺳﺔ ﻟﺘﺄﺳﻴﺲ ﻧﻈﺮة ﻋﺎملﻴﺔ ﺳﻴﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ« 8 ،وﻗﺪ ﺳﺎﻫﻢ ﺑﺎﺳﺘﻴﺎن ﺑﻤﺠﻬﻮد ﻛﺒري ﰲ ﺗﻮﺟﻴﻪ
اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻷملﺎﻧﻴﺔ إﱃ اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺤﻘﻠﻴﺔ ﺑﺪل اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ،وﻟﻜﻦ اﺳﻤﻪ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ
اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺑﻔﻜﺮﺗﻪ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ،وﻫﻲ وﺟﻮد ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ أو اﻷوﻟﻴﺔ ﺑني
ﻛﻞ اﻟﺒﴩ .Elementargedanken
وﻳﻘﻮل ﺑﺎﺳﺘﻴﺎن :إن اﻟﻮﺣﺪة اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻗﺪ أدت إﱃ أن ﺗﻨﺸﺄ اﻟﺤﻀﺎرات
املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻛﻠﻬﺎ ﻧﺸﺄ ًة ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ﻋﲆ ﺧﻄﻮط ﻧﻤﻮ وﺗﻄﻮر ﻣﺘﺸﺎﺑﻬﺔ ،وﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﻌﻨﻴﻪ
ﺑﺎﻷﻓﻜﺎر اﻷوﻟﻴﺔ .ﻟﻜﻦ ﺗﺄﻛﻴﺪ ﺑﺎﺳﺘﻴﺎن ﺑﺎﺳﺘﻘﻼل ﻧﺸﺄة وﻧﻤﻮ ﻛﻞ ﺣﻀﺎرة ﻻ ﻳﺠﺪ ﺗﺄﻳﻴﺪًا
ﻛﺜريًا ،وﻗﺪ ﻳُﻘﺎل إن ﺑﺎﺳﺘﻴﺎن ﻛﺎن ﻣﻦ أﻧﺼﺎر اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺘﻄﻮر ﻋﺎد ًة ﻳﻌﻮد إﱃ أﺻﻞ
واﺣﺪ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ واﺿﺢ ﰲ ﻧﻈﺮﻳﺔ داروﻳﻦ وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،وﰲ اﻟﻮاﻗﻊ إن
أﻓﻜﺎر ﺑﺎﺳﺘﻴﺎن ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻜﺲ اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ.
وﻳﻤﺜﻞ ﻣﻮرﻳﺲ أوﺑﻠﺮ 9 M. Oplerﻣﻦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني اﻷﻣﺮﻳﻜﻴني اﻻﺗﺠﺎه إﱃ ﻓﻜﺮة
املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﻌﺎﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻴﺰ اﻟﺤﻀﺎرات .وﻳﻘﻮل :إن »املﻮﺿﻮع« ﻳُﻌ َﺮف ﺑﺄﺷﻜﺎﻟﻪ املﻌﱪة
ﻋﻨﻪ )وﻫﻲ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺗﺸﺎﺑﻪ اﻟﻘﻮاﻟﺐ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ( ،وﻻ ﻳﺘﻨﺎول دراﺳﺔ ﻃﺮق اﻟﺴﻠﻮك
ﻛﻤﺎ ﻻﺣﻈﻨﺎ ﰲ دراﺳﺔ اﻟﻘﻮاﻟﺐ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ .وﻣﻦ أﻣﺜﻠﺔ »املﻮﺿﻮﻋﺎت« اﻟﺘﻲ ﻳﺮاﻫﺎ أوﺑﻠﺮ
260
ﺑﻌﺾ ﻣﺸﻜﻼت اﻟﺘﻨﻈري اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ
أن اﻟﺮﺟﺎل أﻋﲆ ﻣﻦ اﻟﻨﺴﺎء ﻣﻦ اﻟﻨﻮاﺣﻲ اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ واﻟﻌﻘﻠﻴﺔ واﻟﺨﻠﻘﻴﺔ )ﻣﻮﺿﻮع ﻋﻨﺪ
أﺑﺎﳾ ﺷريﻳﻜﻮا( .وﺗﺨﺘﻠﻒ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت أوﺑﻠﺮ ﻋﻦ ﻗﻮاﻟﺐ ﺑﻨﺪﻳﻜﺖ ﰲ أﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﺼﻒ ﻛﻞ
اﻟﻜﻢ اﻟﺤﻀﺎري ملﺠﻤﻮﻋﺔ ﺑﴩﻳﺔ ،وإن ﻛﺎن ﰲ اﻹﻣﻜﺎن أن ﻳﺼﻒ »ﻣﻮﺿﻮع« ﻛﻞ اﻟﺤﻀﺎرة
ﻋﻨﺪ ﺑﻌﺾ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ،ﻣﺜﻞ ﻣﻮﺿﻮع :أن ﻃﻮل اﻟﻌﻤﺮ وﺑﻠﻮغ ﺷﻴﺨﻮﺧﺔ ﻛﺒرية ﻫﺪف ﻣﻬﻢ
)ﺷريﻳﻜﻮا( ،وﻳﺮﺑﻂ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺒﺪأ ﻣﻦ املﻴﻼد
وﻛﺎﻓﺔ اﻟﻄﻘﻮس اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﺰواج ،وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت ،وﺗﻨﺘﻬﻲ ﺑﺎﻟﻮﻓﺎة.
261
اﻹﻧﺴﺎن
262
ﺑﻌﺾ ﻣﺸﻜﻼت اﻟﺘﻨﻈري اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ
ﻟﻠﺘﻐري ﻣﻦ اﻟﺪاﺧﻞ وﻣﻦ اﻟﺨﺎرج ﺑﺼﻔﺔ ﻣﺴﺘﻤﺮة ،ﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ﻛﺎن ﻳﺤﺪث داﺋﻤً ﺎ ﰲ املﺎﴈ
ﺑﺪرﺟﺎت ﻣﺤﺪودة ،وﻛﺎن اﻟﺘﻐري ﻳﺴري ﺑﺒﻂء ﺷﺪﻳﺪ ﻳﺆدي إﱃ أن ﻳﺄﺧﺬ اﻟﺘﻐري ﻣﺠﺮاه
ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺻﺤﻴﺔ ﻻ ﺗﺆﺛﺮ ﻛﺜريًا ﻋﲆ ﺳﻼﻣﺔ املﺠﺘﻤﻊ — إﻻ ﰲ أﺣﻮال اﻟﻐﺰو املﺪﻣﺮ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ
ﺟﻤﺎﻋﺔ ﺣﻀﺎرﻳﺔ أﺧﺮى.
وﻣﻊ ﺗﻘﺪم ﺣﻀﺎرة اﻟﻌﴫ اﻟﺼﻨﺎﻋﻲ إﱃ أﻃﺮاف اﻷرض ،أﺻﺒﺤﺖ ﻫﻨﺎك ﻣﺸﻜﻼت
ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﺷﺪﻳﺪة اﻹﻟﺤﺎح ﰲ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻏري اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﻧُﻘِ َﻠ ْﺖ ﺑﴪﻋﺔ
إﱃ اﻗﺘﺼﺎدﻳﺎت وﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎت اﻟﻌﴫ اﻟﺼﻨﺎﻋﻲ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﺒﻨﺎء اﻟﺤﻀﺎري ﻣﺎ زال ﻏري
ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﻬﺬا اﻟﻨﻮع اﻟﺠﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻨﺸﺎط املﺎدي اﻟﺤﻀﺎري .وﻋﲆ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻋﺐء ﺿﺨﻢ
ﰲ وﻗﺖ ﻗﺼري؛ ﻋﻠﻴﻬﺎ أن ﺗﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ اﻧﺘﻘﺎل ﺑﻘﻴﺔ اﻟﺒﻨﺎء اﻟﺤﻀﺎري إﱃ ﺑﻨﺎء ﻣﺘﺠﺎوب ﻣﻊ
ﻇﺮوف اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ واﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة .وﻳﺰﻳﺪ ﻣﻦ ﺻﻌﻮﺑﺔ املﻮﻗﻒ أن اﻟﺘﻐري
اﻟﺤﻀﺎري ﰲ ﻏري ﻗﻄﺎﻋﺎت اﻻﻗﺘﺼﺎد — ﺑﻄﺒﻴﻌﺘﻪ — أﺑﻄﺄ ﻛﺜريًا وﻳﺤﺘﺎج إﱃ وﻗﺖ ﻃﻮﻳﻞ.
وﺑﺮﻏﻢ ﻛﻞ ﻫﺬه املﺼﺎﻋﺐ ﻓﺎملﺸﻜﻠﺔ ﻗﺎﺋﻤﺔ ،وﻻ ﺑﺪ ﻟﻠﻌﻠﻢ ﻣﻦ اﻹﺳﻬﺎم ﻓﻴﻬﺎ ﺑﺎﻟﻘﺪر املﻤﻜﻦ
ﻹﻧﻘﺎذ اﻟﺤﻀﺎرات ﻣﻦ اﻟﺘﻔﻜﻚ وﺗﺮك أﻋﺪاد ﻫﺎﺋﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﺒﴩ ﰲ ﻓﻮﴇ وﺿﻴﺎع ﺣﻀﺎري.
وﺗﺮﺗﺒﻂ اﻟﺘﻄﺒﻴﻘﻴﺔ ﰲ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺑﺪراﺳﺔ ﻣﻮﺿﻮﻋني ﻣﻬﻤني؛ ﻫﻤﺎ (١) :اﻟﺘﻐري
اﻟﺤﻀﺎري ،و) (٢اﻟﺘﻜﺎﻣﻞ اﻟﺤﻀﺎري .Integrationوﻣﻮﺿﻮع اﻟﺘﻐري اﻟﺤﻀﺎري ﻳﻨﻘﺴﻢ
إﱃ ﻗﺴﻤني؛ أوﻟﻬﻤﺎ :ﺣﺪوث ﺗﻐريات ﰲ املﻜﻮﻧﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺗﺤﺴﻴﻨﺎت أو إﺿﺎﻓﺎت
ﺣﻀﺎرﻳﺔ ،واﻟﺜﺎﻧﻲ :دﺧﻮل اﺳﺘﺤﺪاﺛﺎت ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﺪاﺧﻞ )ﻛﺎﻻﺧﱰاﻋﺎت ﰲ اﻟﺤﻀﺎرة
املﺎدﻳﺔ واﻟﻨﻈﻢ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ،أو اﺳﺘﺤﺪاﺛﺎت داﺧﻠﻴﺔ ﰲ اﻟﻨﻈﻢ واﻟﻘﻮاﻧني واﻟﻌﻘﺎﺋﺪ( ،أو
)أﻳﻀﺎ اﺳﺘﺤﺪاﺛﺎت ﻣﺎدﻳﺔ وﻏري ﻣﺎدﻳﺔ( ،واﻷﺧرية ﻳﻤﺜﻠﻬﺎ اﻟﻨﻘﻞ واﻻﺣﺘﻜﺎك ً ﻣﻦ اﻟﺨﺎرج
اﻟﺤﻀﺎري.
وﻋﻮاﻣﻞ اﻟﺘﻐﻴري اﻟﺤﻀﺎري ﺗﱰﺗﺐ ﻋﲆ ﻋﺪد ﻣﻦ املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﺤﻀﺎرة
املﺘﻐرية ﻋﲆ رأﺳﻬﺎ:
) (١أﺳﺲ اﻟﺤﻀﺎرة اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ :ﺟﻤﺎﻋﺎت ﺗﻌﻴﺶ ﻋﲆ اﻟﺼﻴﺪ أو اﻟﺰراﻋﺔ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ أو
اﻟﻜﺜﻴﻔﺔ.
) (٢اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ ﻹﻗﻠﻴﻢ اﻟﺤﻀﺎرة املﺘﻐرية ،وﻧﻘﺼﺪ ﺑﻪ اﻹﻣﻜﺎﻧﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ اﻟﺘﻲ
ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ اﻷرض أن ﺗﻘﺪﻣﻬﺎ ﰲ اﻟﻨﻮاﺣﻲ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻧﻘﺼﺪ ﺑﻪ اﻟﻌﻼﻗﺎت املﻜﺎﻧﻴﺔ ﻟﻺﻗﻠﻴﻢ
وﻣﺪى اﻻﺣﺘﻜﺎك واﻟﻨﻘﻞ اﻟﺤﻀﺎري أو ﺗﻌﺮض اﻹﻗﻠﻴﻢ ﻟﻠﻬﺠﺮات واملﺆﺛﺮات اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ.
) (٣اﻟﻌﻮاﻣﻞ اﻟﺪﻳﻤﻮﺟﺮاﻓﻴﺔ :ﻋﺪد اﻟﺴﻜﺎن ﰲ اﻟﺤﻀﺎرة املﺘﻐرية وﺗﻮزﻳﻌﻬﻢ داﺧﻞ اﻹﻗﻠﻴﻢ
ﰲ ﺻﻮرة ﻣﺘﻜﺎﺛﻔﺔ أو ﻣﺒﻌﺜﺮة ووﺳﺎﺋﻞ اﻻﺗﺼﺎل ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﻢ.
263
اﻹﻧﺴﺎن
وﻋﲆ اﻟﻌﻤﻮم ،ﻓﺈن اﻟﺘﻐري اﻟﺤﻀﺎري — ﻛﻤﺎ ﺗﻌﺮﻓﻪ اﻟﺪراﺳﺎت اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﻜﺜرية —
ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺑﻄﻴﺌﺔ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ ،ﻛﻤﺎ أن اﻟﺘﻐري ﻳﺤﺪث ﺑﺪرﺟﺎت ﻣﺘﻔﺎوﺗﺔ داﺧﻞ أﻋﻀﺎء اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ
اﻟﻮاﺣﺪة ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻠﺘﻨﻈﻴﻢ اﻟﻄﺒﺎﻗﻲ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ اﻻﻗﺘﺼﺎدي أو ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻟﻌﺰﻟﺔ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ ﻟﺒﻌﺾ
أﺟﺰاء املﺠﺘﻤﻊ ،وﻷﺳﺒﺎب أﺧﺮى.
أﻣﺎ اﻟﺘﻜﺎﻣﻞ اﻟﺤﻀﺎري ﻓﻬﻮ:
) (١ﻋﻤﻠﻴﺔ إدﺧﺎل واﻣﺘﺼﺎص ﻋﻨﺎﴏ ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﺟﺪﻳﺪة وﺗﺒﻨﻴﻬﺎ داﺧﻞ اﻟﺒﻨﺎء
اﻟﺤﻀﺎري أو املﺠﻤﻌﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،وﺗﺪﺧﻞ ﻛﺠﺰء ﻣﻦ ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﻐري اﻟﺤﻀﺎري أو
اﻟﺘﺤﻀري ) Accultrationوﻫﻨﺎ ﺗﺠﺪر اﻹﺷﺎرة إﱃ اﺧﺘﻼف ﻫﺬا املﺼﻄﻠﺢ ﻋﻦ ﻣﺼﻄﻠﺢ
Encultrationاﻟﺬي ﻳﺴﺎوي ﻋﻤﻠﻴﺔ إدﺧﺎل ﻓﺮد أو ﺟﻤﺎﻋﺔ إﱃ ﻣﺮﻛﺐ ﺣﻀﺎري ﺑﺎﻟﺘﻌﻠﻴﻢ
أو ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻟﻄﻘﻮس ،ﻣﺜﻞ ﻋﻀﻮﻳﺔ اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ اﻟﴪﻳﺔ(.
) (٢وﻛﺬﻟﻚ ﻳﻌﻨﻲ ﻣﺼﻄﻠﺢ اﻟﺘﻜﺎﻣﻞ اﻟﺤﻀﺎري أن اﻟﺤﻀﺎرة ﻗﺪ ﺑﻠﻐﺖ درﺟﺔ ﻣﻦ
اﻟﺘﻮازن ﺑﻌﺪ أن ﺗﻢ إدﻣﺎج ﻋﻨﴫ ﺣﻀﺎري أو أﻛﺜﺮ داﺧﻞ ﺑﻨﺎﺋﻬﺎ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﺈن ﻫﺬه ﺣﺎﻟﺔ
ﻧﺎدرة ﻻ ﺗﺤﺪث إﻻ ﺧﻼل ﻋﺰﻟﺔ ﺷﺪﻳﺪة؛ ﻓﺎﻟﺤﻀﺎرات داﺋﻤﺔ اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﺘﻜﺎﻣﻞ
املﺴﺘﻤﺮة.
264
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ
اﳌﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻵن أن ﻧﻌﺮض ﺑﺈﻳﺠﺎز ملﺪارس اﻟﻔﻜﺮ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺑﻌﺪ أن ﻋﺮﻓﻨﺎ اﻟﻜﺜري ﻋﻦ ﻣﺸﻜﻠﺔ
اﻟﺤﻀﺎرة وأﻧﻮاﻋﻬﺎ وﺑﻌﺾ ﻣﺸﻜﻼت اﻟﺘﻨﻈري ،وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻘﻮل إن املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﰲ
اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﺗﻨﺤﴫ ﰲ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ واﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ واﻟﻨﻔﺴﻴﺔ واﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ
واﻟﺘﺤﻀريﻳﺔ ،وذﻟﻚ ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ اﻻﺗﺠﺎه اﻟﻌﻤﲇ اﻟﺬي ﻳﻨﺤﻮ داﺋﻤً ﺎ ﻧﺤﻮ املﻮﻧﻮﺟﺮاﻓﻴﺔ وﻳﺒﻌﺪ
ﻛﺜريًا ﻋﻦ ﻣﺸﺎﻛﻞ اﻟﺘﻨﻈري.
وﻟﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت ﻧﺎﺟﻤﺔ ﻋﻦ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻷﺻﻮل اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر
ﻣﻨﻄﻠﻘﺎ ﰲ ﻣﻮﻧﻮﺟﺮاﻓﺎت ﻋﴫ اﻟﻜﺸﻮف اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ ً اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ واﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ،ووﺟﺪت ﻟﻬﺎ
ً
اﻟﻜﱪى ،وارﺗﺒﻄﺖ ﻛﻞ ﻫﺬه اﻷﻋﻤﺎل أوﻻ ﺑﻤﺸﻜﻠﺔ اﻟﺘﻔﺮﻳﻖ اﻟﺴﻼﱄ ،ﺛﻢ اﻧﻔﺼﻠﺖ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
ﻋﻦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ .وﺑﺪأت ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﺘﻨﻈري ﰲ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺑني ﻣﺒﺪأﻳﻦ أو وﺟﻬﺘﻲ ﻧﻈﺮ
رﺋﻴﺴﻴﺘني ﺗﺼﺎرﻋﺘﺎ ﺑﺼﻔﺔ ﻣﺴﺘﻤﺮة ،وﻫﺬان ﻫﻤﺎ اﻷﺻﻞ اﻟﻮاﺣﺪ أو املﺘﻌﺪد ﻟﻈﻬﻮر املﺠﻤﻌﺎت
واﻟﺼﻔﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ .وﻟﻘﺪ ُﺳﻤﱢ َﻲ املﺒﺪأ اﻷول ﺑﺎﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ ُ ،Diffusion
وﺳﻤﱢ ﻲ اﻟﺜﺎﻧﻲ
ﺑﺎﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ املﺤﻠﻴﺔ Evolutionوﻳﺠﺐ ﺑﺎدئ ذي ﺑﺪء أن ﻧﻮﺿﺢ أن اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ﻫﻨﺎ ﻟﻴﺴﺖ
ﻣﻤﺎﺛﻠﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻟﻠﺘﻄﻮرﻳﺔ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﺪأﻫﺎ داروﻳﻦ ﰲ ﺗﻄﻮر اﻷﻧﻮاع ﻋﲆ ﻇﻬﺮ
اﻟﻜﺮة اﻷرﺿﻴﺔ .ﻓﺎﻟﺪاروﻳﻨﻴﺔ ﺗﻌﻮد ﺑﺎﻷﻧﻮاع إﱃ أﺻﻮل واﺣﺪة ﻣﺸﱰﻛﺔ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﺗﻌﻮد ﺑﺎﻟﻈﺎﻫﺮة اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ املﺘﺸﺎﺑﻬﺔ إﱃ ﻧﺸﺄة ﻣﺘﻌﺪدة ﰲ أﻣﺎﻛﻦ ﺟﻐﺮاﻓﻴﺔ
وﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺪﻗﺔ :ﺗﻮازي اﻟﻨﺸﺄة .Parallels
أﻣﺎ اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﻮن ﻓﻜﺎﻧﻮا أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻣﻦ املﻐﺎﻟني ﰲ اﻟﺘﻄﻮر )ﻋﲆ اﻟﺼﻮرة اﻟﺪاروﻳﻨﻴﺔ( ﺑﺘﻤﺴﻜﻬﻢ
ﺑﺎﻷﺻﻞ اﻟﻮاﺣﺪ ﻟﻠﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻈﺎﻫﺮات اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ — وﻣﻦ ﺛﻢ اﻻﻧﺘﺸﺎر ﻣﻦ ﻣﺮﻛﺰ واﺣﺪ إﱃ
ﺑﻘﻴﺔ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ.
اﻹﻧﺴﺎن
وﻣﻬﻤﺎ ﻗﻴﻞ ﻋﻦ ﻫﺬﻳﻦ املﺒﺪأﻳﻦ ،ﻓﺈﻧﻬﻤﺎ ﻳُﺴﺘﺨﺪَﻣﺎن ﺑﻜﺜﺮة ﻋﻨﺪ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني
اﺳﺘﺨﺪاﻣً ﺎ ﺿﻤﻨﻴٍّﺎ أو ﴏﻳﺤً ﺎ ،وإن ﻛﺎن اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﻮن ﰲ املﺎﴈ ﻳﻤﻴﻠﻮن إﱃ واﺣﺪ ﻣﻦ
ﻣﻴﻼ واﺿﺤً ﺎ ،إﻻ أن اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني املﺤﺪﺛني ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻮﻧﻬﻤﺎ ﻣﻌً ﺎ ﺣﺴﺐ اﻟﻈﺮوف املﺒﺪأﻳﻦ ً
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ.
وﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﻇﻬﻮر املﺪارس واملﻨﺎﻫﺞ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ أﻣ ًﺮا ﻏري ﻣﻔﺎﺟﺊ ،ﺑﻞ ﺳﺒﻘﻪ
دراﺳﺎت ﻋﺪﻳﺪة ﻣﻨﺬ أﻗﺪم ﻋﺼﻮر اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﻛﻤﺎ ﺳﻨﺤﺎول ﺗﻮﺿﻴﺤﻪ ﰲ املﺮاﺣﻞ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ:
ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ،ﻧﺠﺪ أواﺋﻞ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻋﻨﺪ اﻹﻏﺮﻳﻖ ،وﻟﻮ أﻧﻨﺎ
ﻧﺮﺟﺢ وﺟﻮد ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ وﻛﺘﺎﺑﺎت ﰲ املﻮﺿﻮع اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ﰲ ﻋﺼﻮر ﺳﺎﺑﻘﺔ ،ﻏري أﻧﻨﺎ ﻧﺤﺘﺎج
إﱃ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺘﻌﻤﻖ ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ وأرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺷﻌﻮب اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،وﻋﲆ اﻷﺧﺺ
ﰲ ﻣﴫ واﻟﻌﺮاق وﻓﻴﻨﻴﻘﻴﺎ .وﰲ ﻣﴫ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻧﺠﺪ أول إﺷﺎرات إﱃ املﻮﺿﻮع اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ
ﰲ اﻟﺘﻤﻴﻴﺰ اﻟﺬي أﻋﻄﺎه املﴫﻳﻮن ﻟﻠﻤﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ املﺠﺎورة ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻟﺮﺳﻮم املﻠﻮﻧﺔ
ﻋﲆ اﻟﺠﺪران؛ ﻓﻘﺪ أﻋﻄﻮا ﻟﻠﻐﺮﺑﻴني )اﻟﻠﻴﺒﻴني( اﻟﺒﴩة اﻟﺒﻴﻀﺎء واﻟﻌﻴﻮن اﻟﺰرق واﻟﺸﻌﺮ
املﻤﻮج وﻟﻠﻨﻮﺑﻴني اﻟﺒﴩة اﻟﺴﻮداء واﻟﺸﻌﺮ اﻟﺼﻮﰲ ،وﻟﻶﺳﻴﻮﻳني اﻟﻠﻮن اﻷﺑﻴﺾ واﻷﻧﻒ
املﺤﺪب واﻟﺬﻗﻦ اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ ،وأﻋﻄﻮا ﻷﻧﻔﺴﻬﻢ اﻟﻠﻮن اﻷﺣﻤﺮ ﻣﻊ ﺑﻌﺾ املﻤﻴﺰات اﻟﻮﺟﻬﻴﺔ
واﻟﺬﻗﻦ اﻟﺤﻠﻴﻘﺔ .وﻻ ﺷﻚ ﰲ أﻧﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﺗﻔﺴريات ﻛﺜرية ﻟﻼرﺗﺒﺎﻃﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻋﻨﺪ
ﻫﺆﻻء اﻟﺠريان ﰲ ﺷﻜﻞ ﺗﺼﻔﻴﻒ اﻟﺸﻌﺮ وﰲ املﻠﺒﺲ واﻷﺳﻠﺤﺔ واﻟﺜﺮوة اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ )أﻏﻨﺎم
وﻣﺎﺷﻴﺔ وزراﻋﺔ ﺣﺒﻮب( وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ املﻤﻴﺰات اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ املﺎدﻳﺔ واﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻟﻠﺸﻌﻮب
أﻳﻀﺎ ﰲ أﻧﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﻛﺘﺎﺑﺎت وﻗﺼﺺ ﺷﻌﺒﻴﺔ ﻋﻦ ﺑﻌﺾ املﻤﺎرﺳﺎت املﺠﺎورة .وﻻ ﺷﻚ ً
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ املﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﻬﺆﻻء اﻟﺠريان .ﻟﻜﻦ اﻷﻣﺮ ﻳﺤﺘﺎج — ﻛﻤﺎ ﻗﻠﺖ — إﱃ
اﺳﺘﺨﺮاج ذﻟﻚ ﻛﻠﻪ ﻣﻦ ﺳﺠﻼت اﻟﺘﺼﻮﻳﺮ واﻟﻜﺘﺎﺑﺔ املﴫﻳﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،وﻟﻌﻞ ذﻟﻚ ﻳﺤﺪث
ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ؛ ﻟﻴﺲ ﻓﻘﻂ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ملﴫ ،وﻟﻜﻦ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرات اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ اﻷﺧﺮى ً
أﻳﻀﺎ.
وإذا ﻋﺪﻧﺎ إﱃ اﻟﺤﻀﺎرة اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ﺣﻴﺚ ﺗﺘﻮاﻓﺮ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت واﻟﺴﺠﻼت اﻟﺘﻲ وﺻﻠﺖ
إﻟﻴﻨﺎ ،واﻟﺘﻲ د ُِر َﺳ ْﺖ دراﺳﺔ ﻛﺎﻓﻴﺔ ،ﻧﺠﺪ أن ﺑﺪاﻳﺔ املﻮﺿﻮع اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ﻗﺪ ﺳﺠﻠﻪ املﺆرخ
املﺸﻬﻮر ﻫريودوت ﰲ ﺣﻮاﱄ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد .وإذا ﻛﺎن ﻫﺬا املﻔﻜﺮ اﻟﻔﺬ ﻳُﻌَ ﱡﺪ
266
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
أﻳﻀﺎ »أﺑﻮ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ« .ﻓﻜﺘﺎﺑﺎﺗﻪ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ﺗﺰﺧﺮ ﺑﺬﻛﺮ »أﺑﺎ اﻟﺘﺎرﻳﺦ«؛ ﻓﺈﻧﻪ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ً
اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻟﻠﺸﻌﻮب اﻟﺘﻲ زارﻫﺎ وﺳﺠﻞ ﻋﻨﻬﺎ ﻣﻼﺣﻈﺎﺗﻪ .وﻟﻌﻞ ﻣﻴﺰة ﻫريودوت
ﻗﻠﻴﻼ ،ﻓﺄﻋﻄﺎﻧﺎ ﺧﺎﻣﺔ ﺟﻴﺪة ملﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﻌﺾ اﻟﻌﺎدات ﻈﺮ ً أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺴﺠﻞ ﻛﺜريًا وﻳُﻨ ﱢ
واﻟﻄﻘﻮس واﻻﺣﺘﻔﺎﻻت ﰲ ﻫﺬا اﻟﺘﺎرﻳﺦ املﺒﻜﺮ ،وﺳﻨﺮى أن ﻣﻼﺣﻈﺎﺗﻪ ﻋﻦ ﺷﻌﺐ ﻟﻴﻜﻴﺎ
Lyciaﰲ آﺳﻴﺎ اﻟﺼﻐﺮى ﻗﺪ أﺛﺎرت ﻓﻜﺮة إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻫﺎﺋﻠﺔ ﰲ ﺗﻄﻮر ﻣﺮاﺣﻞ اﻷﴎة ﻣﻦ
اﻟﻨﺴﺐ اﻷﻣﻮي إﱃ اﻟﻨﺴﺐ اﻷﺑﻮي.
وﰲ اﻟﻘﺮن ﻧﻔﺴﻪ ﻧﺠﺪ أﺣﺪ املﻔﻜﺮﻳﻦ اﻹﻏﺮﻳﻖ ﻳﺤﺎول أن ﻳُﺼﻨﱢﻒ ﺷﻌﻮب اﻷرض
ﺑﺎﺳﺘﺨﺪام اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻹﻳﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ واﻟﻨﻔﺴﻴﺔ .ذﻟﻚ ﻫﻮ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف أﺑﻘﺮاط Hippokrates
)٣٣٧–٤٦٠ق.م( املﻌﺮوف ﺑ »أﺑﻮ اﻟﻄﺐ« .وﻳﻬﺘﻢ أﺑﻘﺮاط )وﻳﺴﻤﻴﻪ اﻟﻌﺮب ﺑﻘﺮاط(
ﺑﻨﻔﺴﻴﺎت اﻟﺸﻌﻮب ﻋﲆ ﺿﻮء اﻟﻌﻮاﻣﻞ املﻨﺎﺧﻴﺔ ،ﻓﻴﻘﺴﻢ اﻟﻨﺎس إﱃ ﺷﻌﻮب اﻟﻌﺮوض
اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ واﻟﻌﺮوض اﻟﻮﺳﻄﻰ واﻟﻌﺮوض اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻳﻘﺴﻢ املﺆرخ اﻹﻏﺮﻳﻘﻲ
دﻳﻜﺎﻳﺮخ Dicaearchusاملﺴﻴﻨﻲ )٣٢٠ق.م( اﻟﺸﻌﻮب إﱃ ﺛﻼث ﻣﺮاﺣﻞ ﺣﻀﺎرﻳﺔ ،ﻫﻲ
اﻟﺼﻴﺪ واﻟﺮﻋﻲ واﻟﺰراﻋﺔ ،وﻳﺄﺧﺬ ﻋﻨﻪ اﻻﻗﺘﺼﺎدي اﻹﻧﺠﻠﻴﺰي آدم ﺳﻤﻴﺚ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ ﻫﺬا
اﻟﺘﻘﺴﻴﻢ.
وﻓﻴﻤﺎ ﺑني اﻟﻘﺮن اﻷول واﻟﺜﺎﻧﻲ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ﻳﻘﺴﻢ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻵﺳﻴﻮي اﻟﻬﻠﻨﺴﺘﻲ
ﺑﻮﺳﻴﺪون Poseidoniusاﻟﺸﻌﻮب إﱃ ﻣﺮاﺣﻞ ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،وذﻟﻚ ﺑﻨﺎءً ﻋﲆ أﺳﻔﺎره
ﻣﻮﻧﻮﺟﺮاﻓﺎ ﺟﻴﺪًا ﻋﻦ اﻟﻜﻠﺘﻴني ،وﻳﻀﻊ ﻷول ﻣﺮة ﻣﺼﻄﻠﺢ »اﻟﺸﻌﻮب ً اﻟﻌﺪﻳﺪة ،وﻳﻜﺘﺐ
اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ« )أي اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ( ،وﻳﻤﺜﻞ ﺳﻜﺎن ﺷﻤﺎل أوروﺑﺎ — ﰲ وﻗﺘﻪ — ﺑﺎﻟﺸﻌﻮب اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ.
ﻛﺬﻟﻚ ﻧﺠﺪه ﻳﻌﻄﻲ ﺻﻔﺎت ﺳﻴﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻟﻠﺸﻌﻮب ،ﻓﻴﻘﻮل :إن ﺳﻜﺎن اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ ﻳﻤﻴﻠﻮن
إﱃ اﺳﺘﺨﺪام املﻨﻄﻖ ،وإن ﻃﺎﻗﺎﺗﻬﻢ اﻟﺮوﺣﻴﺔ ﻛﺒرية ،وإﻧﻬﻢ ﻧﺘﺎﺋﺞ املﺪﻧﻴﺔ واﻟﻐﺮاﺋﺰ ﻣﻌً ﺎ.
أﻣﺎ ﺳﻜﺎن اﻟﺸﻤﺎل ﻓﻴﺼﻔﻬﻢ ﺑﺎﻹﻗﺪام واﻟﺸﺠﺎﻋﺔ واﻟﻐﻀﺐ املﺠﻨﻮن واﻟﻌﻮاﻃﻒ املﺤﻤﻮﻣﺔ
واﻟﺸﻬﻮة.
أﻣﺎ ﻟﻮﻛﺮﻳﺖ ) Lukretusاﻟﻘﺮن اﻷول ﻗﺒﻞ املﻴﻼد( ،ﻓﻬﻮ ﻏﺎﻟﺒًﺎ أول اﻟﻨﻈﺮﻳني اﻟﻘﺪﻣﺎء،
وﻛﺎن أﻫﻢ ﻣﺎ أﺿﺎﻓﻪ ﻫﻮ ﻣﺮاﺣﻞ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ :اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﺘﻴﻘﺔ = اﻟﺤﻀﺎرات
اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ ،ﺛﻢ اﻛﺘﺸﺎف اﻟﻨﺎر ﻛﻤﺮﺣﻠﺔ ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻫﺎﻣﺔ وﺣﻀﺎرات اﻟﻨﺤﺎس ﺛﻢ اﻟﱪوﻧﺰ وأﺧريًا
أﻳﻀﺎ ﻧﺠﺪ ﻛﺘﺎﺑﺎت ﺳﱰاﺑﻮ Strabonاﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ ﺣﻀﺎرة ﻋﴫ اﻟﺤﺪﻳﺪ .وﰲ اﻟﻘﺮن اﻷول ً
اﻟﻨﺎﺟﻤﺔ ﻋﻦ رﺣﻼت ﻛﺜرية وﻣﺸﺎﻫﺪات وﻣﻼﺣﻈﺎت دﻗﻴﻘﺔ ،وﻳﺤﺎول ﺳﱰاﺑﻮ أن ﻳﻮﺿﺢ آﺛﺎر
اﻟﻌﻮاﻣﻞ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ واملﻨﺎﺧﻴﺔ ﻋﲆ ﺷﻜﻞ اﻟﺤﻀﺎرات وﺗﻄﻮرﻫﺎ.
267
اﻹﻧﺴﺎن
وﻫﻨﺎك ﻛﺘﺎب آﺧﺮون ﰲ اﻟﻔﱰة اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ واﻟﻌﴫ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻲ ،ﻟﻜﻨﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﻀﻴﻔﻮا ﺟﺪﻳﺪًا إﱃ
املﻮﺿﻮع اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ .ﺛﻢ ﺗﺄﺗﻲ اﻟﻔﱰة اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﺑﺮﺣﱠ ﺎﻟﺘﻬﺎ وﺟﻐﺮاﻓﻴﻴﻬﺎ وﻣﺆرﺧﻴﻬﺎ اﻟﻌﻈﺎم
اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻮﺟﺪ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻬﻢ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﻮاد اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،وﻫﻢ ﰲ ذﻟﻚ ﻳﺸﺎﺑﻬﻮن ﻫريودوت
وﺳﱰاﺑﻮ ﻋﲆ وﺟﻪ ﺧﺎص .وﻣﺎ زاﻟﺖ ﻫﺬه اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت ﻣﺼﺪ ًرا ﻋﻈﻴﻤً ﺎ ﻟﻢ ﺗﺘﻨﺎوﻟﻪ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﺑﺎﻟﺪرس ﻛﻤﺎ ﻳﺠﺐ ،وإن ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺠﺪ ﺻﺪًى واﺳﻌً ﺎ ﻟﻺﺛﻨﻮﺟﺮاﻓﻴني واﻟﺤﻀﺎرﻳني
اﻟﺴﻮﻓﻴﺖ ،ﺑﺤﻜﻢ أن اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻗﺪ ﺗﻜﻠﻤﺖ ﻛﺜريًا ﻋﻦ ﺷﻌﻮب وﺳﻂ آﺳﻴﺎ
أﻳﻀﺎ ﻛﺘﺎﺑﺎت ﻫﺎﻣﺔ ﻋﻦ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،ﻋﲆ رأﺳﻬﺎ ﻛﺘﺎﺑﺎت اﺑﻦ واﻟﻘﻮﻗﺎز واﻟﻬﻨﺪ .ﻟﻜﻦ ﻫﻨﺎك ً
ﺑﻄﻮﻃﺔ واملﺴﻌﻮدي وﻛﺘﺎب املﻐﺮب .وﻟﻌﻞ أﻫﻢ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﰲ املﻮﺿﻮع اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ
اﻟﻨﻈﺮي ﻫﻲ ﻛﺘﺎﺑﺎت اﺑﻦ ﺧﻠﺪون اﻹﺛﻨﻮﺟﺮاﻓﻴﺔ واﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﻌﻈﻴﻤﺔ .وﻗﺪ رﻛﺰ اﺑﻦ ﺧﻠﺪون
ﻛﺜريًا ﰲ »ﻣﻘﺪﻣﺘﻪ« ﻋﲆ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﺑني اﻟﺤﴬ واﻟﺒﺪاوة ،وأﻫﻤﻴﺔ
اﻟﺒﺪو ودورﻫﻢ ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻌﺎم واﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﺤﻀﺎري ﻋﲆ وﺟﻪ ﺧﺎص .وﻣﻬﻤﺎ ﻗﻴﻞ ﻋﻦ
ﻣﺴﺖ إﺣﺪى أﻫﻢ ﺗﺤﻴﺰ اﺑﻦ ﺧﻠﺪون ﺿﺪ اﻟﺒﺪو؛ ﻓﺈن ﻓﻠﺴﻔﺘﻪ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻣﻤﺘﺎزة ،وﻗﺪ ﱠ
ﻣﺮاﺣﻞ اﻟﺒﻨﺎء اﻟﺤﻀﺎري ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺎف ﻣﻨﺬ اﻟﻘﺮن اﻟﺮاﺑﻊ ﻋﴩ املﻴﻼدي .وﻗﺪ ﻧﻘﻞ
اﻷوروﺑﻴﻮن اﻟﻜﺜري ﻋﻦ اﺑﻦ ﺧﻠﺪون ،وﻟﻜﻦ ﻻ ﺷﻚ ﰲ أن ﻫﻨﺎك ﻛﺘﺎﺑﺎت أﺧﺮى ﻣﻤﺎﺛﻠﺔ ﻟﻢ
ﺗُﺴ ﱠﻠﻂ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻷﺿﻮاء ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ اﻟﻜﻔﺎﻳﺔ.
268
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
J. Lafitau, “Moeurs des Sauvages Ameriquaines Comparé aux Moeurs des Premiers 1
.Temps”, Paris, 1724
269
اﻹﻧﺴﺎن
وﻗﺪ أﺛﺎرت ﻛﺘﺎﺑﺎت اﻟﺮﺣﺎﻟﺔ واﻟﺪارﺳني ردود ﻓﻌﻞ ﻛﺜرية ﺑني اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ واملﻔﻜﺮﻳﻦ
اﻟﻨﻈﺮﻳني اﻷوروﺑﻴني ،وﻗﺪ ﺗﺒﻠﻮر رد اﻟﻔﻌﻞ ﺑﺼﻮر ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻛﺎدت أن ﺗﱰﻛﺰ ﰲ
ﻓﺮﻧﺴﺎ .ﻓﻬﻨﺎ ﻧﺠﺪ دراﺳﺎت ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﻳﻘﻮم ﺑﻬﺎ دي ﺑﺮوس C. de Brossesﻋﻦ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ
املﴫﻳﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ودﻳﺎﻧﺎت اﻟﺰﻧﻮج ﰲ ﻏﺮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ) ،(١٧٦٠وﻣﻮﻧﺘﺴﻜﻴﻮ Montesquieu
ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ »روح اﻟﻘﻮاﻧني« ) (١٧٤٨اﻟﺬي ﻳﺮﻛﺰ ﻓﻴﻪ ﻋﲆ أﺛﺮ املﻨﺎخ ﻋﲆ اﻻﻗﺘﺼﺎد واﻟﻨﻈﻢ
اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ وﻧﻔﺴﻴﺔ اﻟﺸﻌﻮب .وﻟﻜﻦ رد اﻟﻔﻌﻞ ﻗﺪ ﺗﺒﻠﻮر ﺑﺼﻮرة ﺷﺪﻳﺪة اﻟﺘﺄﺛري ﰲ ﻋﻮدة
اﻟﻔﻜﺮ إﱃ »دوﻟﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« أو »املﺪﻳﻨﺔ اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ« ﻛﻤﺎ أوﺿﺤﻪ ﻛﺘﺎب ﺟﺎن ﺟﺎك روﺳﻮ J. J.
» Rousseauاﻟﻌﻘﺪ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ« ) ،(١٧٥٦ﺑﻌﺪ أن اﺳﺘﻮﻋﺐ ﻛﺘﺎﺑﺎت ﻻﻓﻴﺘﻮ وﻗﺮأ ﻣﻦ ﺑني
ﺳﻄﻮره ﻣﺎ دﻓﻌﻪ إﱃ اﻻﺗﺠﺎه اﻟﺘﺤﺮري اﻟﺬي و ُِﺟﺪ ﺻﺪاه ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ ﰲ ﺷﻌﺎرات »اﻹﺧﺎء
واﻟﺤﺮﻳﺔ واملﺴﺎواة« اﻟﺘﻲ ﻣﻴﺰت اﻟﺜﻮرة اﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ .وﻋﲆ ﻋﻜﺲ روﺳﻮ ﻧﺠﺪ ﻓﻮﻟﺘري ﻳﻨﺎدي
ﺑﺄن اﻟﻌﻘﻞ ﻫﻮ أﺳﺎس ﻛﻞ ﺗﻘﺪم ،وأﻧﻪ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ »اﻟﺠﻨﺔ« اﻟﺘﻲ دﻋﺎ إﻟﻴﻬﺎ روﺳﻮ ﰲ ﺣﻴﺎة
اﻟﺒﺪاﺋﻴني.
وﰲ أملﺎﻧﻴﺎ ﻛﺎن رد اﻟﻔﻌﻞ ﻣﺮﻛ ًﺰا ﰲ ﻳﻮﻫﺎن ﺟﻮﺗﻔﺮﻳﺪ ﻫﺮدر –١٧٤٤) J. G. Herder
(١٨٠٣اﻟﺬي ﻛﺘﺐ ﻋﻦ اﻟﺸﻌﻮب واﻟﺮوح اﻟﻔﺮدﻳﺔ واﻟﺘﻄﻮر اﻟﺤﻀﺎري املﺤﲇ ،وﻛﺘﺐ
ﺟﻮﺳﺘﺎف ﻫﻮﺟﻮ (١٧٩٩) G. Hugoﻋﻦ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺤﻀﺎري ﻣﻦ اﻟﺠﻤﺎﻋني إﱃ اﻟﺴﻤﺎﻛني
ُﻌﺘﱪ ﻫﻮﺟﻮ ﻣﺆﺳﺲ املﺪرﺳﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ﰲ واﻟﺼﻴﺎدﻳﻦ ﺛﻢ اﻟﺰراع واﻟﺮﻋﺎة واﻟﺤﺮﻓﻴني .وﻳ َ
ﺗﻄﻮر اﻟﻘﻮاﻧني ،وﻣﻦ ﺑني اﻷﺳﻤﺎء اﻟﻼﻣﻌﺔ :اﻟﺒﺎﺣﺜﻮن اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﻮن اﻷملﺎن ﻳﻮﻫﺎن رﻳﻨﻬﻮﻟﺪ
ﻓﻮرﺳﱰ Fursterواﺑﻨﻪ ﺟﻴﻮرج ﻓﻮرﺳﱰ ،اﻟﻠﺬان اﺷﱰﻛﺎ ﰲ رﺣﻼت اﻟﻜﺎﺑﺘﻦ ﻛﻮك ﰲ اﻟﺒﺤﺎر
اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ وﺗريادﻟﻔﻮﻳﺠﻮ ،وﻛﺎﻧﺖ أﺑﺤﺎﺛﻬﻤﺎ ﺗﻨﺼﺐﱡ ﻋﲆ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻷﺳﺌﻠﺔ :ﻣﺎ ﻫﻲ اﻟﺘﻼؤﻣﺎت
اﻟﺒﴩﻳﺔ واﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺪاﺋﻴني؟ وﻣﺎ ﻫﻲ ﺗﺠﺎرﺑﻬﻢ وآراؤﻫﻢ؟ وﻣﺎ ﻫﻲ إﻣﻜﺎﻧﺎت ﺗﻄﻮرﻫﻢ
إﱃ املﺪﻧﻴﺔ؟ ﻣﺎ ﻫﻲ أوﺟﻪ اﻟﺘﻔﺮﻳﻖ اﻟﺘﴩﻳﺤﻲ واﻟﻔﺴﻴﻮﻟﻮﺟﻲ واﻟﺨﻠﻘﻲ ﺑني اﻟﺴﻼﻻت
واﻟﺸﻌﻮب؟ وﻣﺎ ﻫﻲ ﻣﻘﺎﻳﻴﺲ ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺔ؟ وأﺧريًا ،ﻣﺎ ﻫﻮ اﻟﺸﻌﺐ؟ وﺧﻼﺻﺔ أﺑﺤﺎث
ﻓﻮرﺳﱰ اﻷب واﻻﺑﻦ أن ﻫﻨﺎك ﺛﻼث ﻣﺮاﺣﻞ ﺣﻀﺎرﻳﺔ؛ ﻫﻲ :اﻟﻮﺣﺸﻴﺔ واﻟﱪﺑﺮﻳﺔ واملﺪﻧﻴﺔ،
ﺗﻤﺎﺛﻞ ﻣﺮاﺣﻞ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﻔﺮدي ﻣﻦ اﻟﻄﻔﻮﻟﺔ إﱃ اﻟﺒﻠﻮغ إﱃ اﻟﻨﻀﻮج.
أﻣﺎ ﰲ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎد أن ﻳﻘﺘﴫ رد اﻟﻔﻌﻞ ﻟﻠﻜﺸﻮف اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ ﻋﲆ اﻻﻗﺘﺼﺎدي
اﻹﻧﺠﻠﻴﺰي املﻌﺮوف آدم ﺳﻤﻴﺚ A. Smithاﻟﺬي ﻣﻴﺰ ﺛﻼث ﻣﺮاﺣﻞ ﻣﺸﺎﺑﻬﺔ ملﺎ ﻓﻌﻞ
اﻹﻏﺮﻳﻘﻲ اﻟﻘﺪﻳﻢ دﻳﻜﺎﻳﺮخ :اﻟﺼﻴﺪ – اﻟﺮﻋﻲ – اﻟﺰراﻋﺔ.
270
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
271
اﻹﻧﺴﺎن
وﰲ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻧﻤﺖ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻋﻠﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎع اﻟﺬي ﺑﺪأه ﻷول ﻣﺮة أوﺟﺴﺖ ﻛﻮﻧﺖ
َت ﺑني ١٨٤٢–١٨٣٠ﺑﺎﺳﻢ Cours de Philosophie A. Comteﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ اﻟﺘﻲ ﻧ ُ ِﴩ ْ
،positiveوﰲ ﻫﺬه اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت أﻃﻠﻖ ﻛﻮﻧﺖ اﺳﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎع ﻷول ﻣﺮة ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻮم.
وﻟﻜﻦ أﻛﱪ ﺧﻄﻮة ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻧﻔﺼﺎل اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺟﺎء ﰲ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻋﺎم ،١٨٣٩ﺣﻴﻨﻤﺎ
أﻧﺸﺄت اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﰲ ﺑﺎرﻳﺲ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺠﻬﻮد ﻛﺜرية ﻛﺎن ﻋﲆ رأﺳﻬﺎ إدوارد
W. Edwardاﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰي املﻘﻴﻢ ﰲ ﻓﺮﻧﺴﺎ ،واﻟﺬي ﺗﺄﺛﺮ ﻛﺜريًا ﺑﺎملﺆرخ
اﻟﻔﺮﻧﴘ .Thierryوﻫﺬه ﻫﻲ أول ﺟﻤﻌﻴﺔ ﻋﻠﻤﻴﺔ ﺗﺤﻤﻞ اﺳﻢ إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ،ﺑﺮﻏﻢ أﻧﻪ ﺳﺒﻘﻬﺎ
ﺑﺴﻨﺔ واﺣﺪة إﻧﺸﺎء ﺟﻤﻌﻴﺔ ﺣﻤﺎﻳﺔ اﻷﻫﺎﱄ اﻷﺻﻠﻴني ﰲ ﻟﻨﺪن ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ
أﻳﻀﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻮﺟﻪاﻹﻧﺴﺎﻧﻴني ،وﺑﺮﻏﻢ اﻫﺘﻤﺎم اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ اﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ ﺑﻤﺸﻜﻠﺔ اﻟﺴﻼﻟﺔ ،إﻻ أﻧﻬﺎ ً
ﻣﺰﻳﺪًا ﻣﻦ اﻻﻫﺘﻤﺎم إﱃ اﻟﻨﻮاﺣﻲ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﻠﻐﻮﻳﺔ2 .
وﻗﺪ ﻛﺎن ﻹﻧﺸﺎء اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ آﺛﺎرﻫﺎ ﻋﲆ اﻟﺪول اﻷﺧﺮى؛ ﻓﻔﻲ ١٨٤٣-١٨٤٢
ﻧﺸﺌﺖ اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﰲ ﻧﻴﻮﻳﻮرك واﻟﺠﻤﻌﻴﺔ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﰲ ﻟﻨﺪن ،وﻗﺪ ﺳﺒﻖ أُ ِ
ذﻟﻚ إﻧﺸﺎء ﺟﻤﻌﻴﺔ ﺣﻤﺎﻳﺔ اﻷﻫﻠﻴني اﻷﺻﻠﻴني ﻋﺎم ١٨٣٧ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﻫﻮدﺟﻜني
،Hodgkinوﻛﺎن واﺣﺪًا ﻣﻦ اﻟﻜﻮﻳﻜﺮز اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺤﺎرﺑﻮن اﻟﺮق .وﰲ ﻫﺬه اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ ﻇﻬﺮ
ﺗﻴﺎران :اﻟﺘﺒﺸريي واﻟﻌﻠﻤﻲ؛ ﻣﻤﺎ أدى إﱃ ﴏاع ﺷﺪﻳﺪ اﻧﺘﻬﻰ إﱃ أن أﺳﺲ ﻫﻮدﺟﻜني
اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ .وﻇﻠﺖ ﻫﺬه اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ إﱃ أن ﺗﺤﻮﻟﺖ ﻋﺎم ١٨٦٣إﱃ
اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ.
2اﻗﺮأ ﻋﻦ أﻫﺪاف اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ ﰲ ]ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺣﻮل ﺗﻌﻤري اﻷرض – ﻫﺠﺮات اﻟﺸﻌﻮب وﺑﺪاﻳﺎت ﺗﻌﻤري اﻟﻌﺎﻟﻢ[.
272
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
وﰲ أملﺎﻧﻴﺎ ﺑﺪأ ﺗﻴﻮدور ﻓﺎﻳﺘﺰ T. Waitzاﻟﺪراﺳﺎت اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،وذﻟﻚ
ﺑﺮﻏﻢ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺴﺘﺨﺪم داﺋﻤً ﺎ ﻣﺼﻄﻠﺢ أﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ،إﻻ أن ﻛﻞ ﻣﺎ ﻛﺘﺒﻪ ﻛﺎن ﻋﻦ اﻟﺤﻀﺎرة
واﻟﺘﻄﻮر اﻟﺤﻀﺎري ﻟﻠﺸﻌﻮب اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ أو ﺷﻌﻮب اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .وﻗﺪ أﻛﺪ ﻓﺎﻳﺘﺰ ﰲ اﻟﺠﺰء اﻷول
ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﻪ »أﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺸﻌﻮب اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ« اﻟﺬي ﺻﺪر ﻋﺎم ) ١٨٥٨ﻗﺒﻞ ﺳﻨﺔ واﺣﺪة
ﻣﻦ ﻧﴩ ﻛﺘﺎب »أﺻﻞ اﻷﻧﻮاع« ﻟﺪاروﻳﻦ( ،أن اﺧﺘﻼف اﻟﺸﻌﻮب ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﻳﺮﺟﻊ إﱃ ﺗﺄﺛري
ﺧﺎﺻﺔ ،وإﱃ ﻧﻮع اﻟﻐﺬاء وﻃﺮﻳﻘﺔ اﻟﺤﻴﺎة ،وإﱃ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺤﻀﺎري ً ً
ﻋﺎﻣﺔ واملﻨﺎخ اﻟﺒﻴﺌﺔ
أﻳﻀﺎ أن دراﺳﺔ اﻟﻠﻐﺎت ﺗﻌﻄﻲ ﻟﻠﺒﺎﺣﺜني ً
أﺳﺴﺎ أﻓﻀﻞ، وأﺧريًا إﱃ اﻟﻄﻔﺮات .وﻛﺎن ﻳﻌﺘﻘﺪ ً
ﰲ دراﺳﺔ اﻟﺸﻌﻮب واﺧﺘﻼﻓﻬﺎ ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻬﺎ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﻌﻄﻴﻪ اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ دراﺳﺔ ﺷﻜﻞ اﻟﺮأس.
وﻟﻜﻨﻪ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺼﺪد ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻗﺪ ﺗﺨﻠﺺ ﻣﻦ اﻟﺨﻠﻂ ﺑني اﻟﺴﻼﻟﺔ واﻟﻠﻐﺔ ،ﻓﻜﺎن ﻳﻌﺘﱪ اﻟﱰك
واﻟﻬﻨﻐﺎرﻳني ﻣﻦ ﺳﻼﻻت ﻏري اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﺒﻴﻀﺎء؛ ﻷن ﻟﻐﺎﺗﻬﻢ ﻟﻴﺴﺖ ﺟﺰءًا ﻣﻦ املﺠﻤﻮﻋﺔ
اﻟﻬﻨﺪو-أوروﺑﻴﺔ.
وﻳﺆﻛﺪ ﻓﺎﻳﺘﺰ أن ﻛﻞ اﻟﺸﻌﻮب ﻗﺪ ﺑﺪأت ﻣﻦ درﺟﺔ اﻟﺼﻔﺮ :اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﺑﺪون
ﺣﻀﺎرة ،وﻳﺘﺴﺎءل ﻋﻦ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﺣﺪوث اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت اﻟﻜﺒرية ﰲ ﺣﻀﺎرات اﻟﻨﺎس ،وﻳﻌﻮد
ﻟﻴﺆﻛﺪ أن ﻣﺮد ﻫﺬه اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت ﻻ ﻳﺮﺟﻊ إﱃ ﻫﺒﺎت أو ﻗﺪرات ﻋﻘﻠﻴﺔ؛ ﻓﻬﺬه ﻣﺘﺴﺎوﻳﺔ ﻋﻨﺪ
ﻛﻞ اﻟﻨﺎس ،وﻟﻜﻦ اﻟﻔﺮوق ﰲ رأﻳﻪ ﻗﺪ ﻧﺠﻤﺖ ﻋﻦ اﺧﺘﻼف اﻟﻔﺮص اﻟﺘﻲ ﻫﻴﺄﺗﻬﺎ اﻟﻈﺮوف
ً
وﺧﺎﺻﺔ املﻨﺎخ واملﻮﻗﻊ اﻟﺠﻐﺮاﰲ واﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ. اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ،
وﻛﺬﻟﻚ ﺗﻨﺎول ﻓﺎﻳﺘﺰ ﻣﻮﺿﻮﻋً ﺎ ﺷﺎﺋ ًﻜﺎ ،ﻻ ﻳﺰال ﻛﺬﻟﻚ ﺣﺘﻰ اﻵن :ﻣﺒﺪأ اﻻﻧﺘﺸﺎر أو
اﻟﻨﺸﺄة املﺴﺘﻘﻠﺔ ﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ املﺘﺸﺎﺑﻬﺔ ،وﻗﺪ ﺗﻜﻠﻢ ﻋﻦ ﻇﺎﻫﺮة ﺣﻀﺎرﻳﺔ
ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ 3 Couvadeاﻟﺘﻲ ﺗﻈﻬﺮ ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻣﺘﻔﺮﻗﺔ ﻣﺘﺒﺎﻋﺪة :أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ – اﻟﺒﺎﺳﻚ ﰲ ﺷﻤﺎل
إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ – ﰲ اﻷﻧﺎﺿﻮل اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ – ﰲ إﻧﺪوﻧﻴﺴﻴﺎ – وﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ .وﻻ ﻳﺤﺎول ﻓﺎﻳﺘﺰ
» 3اﻟﻜﻮﻓﺎده« ﺑﺎﺧﺘﺼﺎر ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﺗﻘﻠﻴﺪ اﻷب ﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻛﺎت واﻟﺘﻘﻠﺼﺎت واﻵﻻم اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪث ﻟﻸم
ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻀﻊ ﻣﻮﻟﻮدﻫﺎ ،وﺗُﺴﻤﱠ ﻰ أﺣﻴﺎﻧًﺎ »ﻣﻬﺪ اﻟﺮﺟﻞ«؛ ﻷن اﻷب ﻳﻨﺎم ﰲ ﴎﻳﺮ ﰲ ﻏﺮﻓﺔ أﺧﺮى ﰲ وﻗﺖ
اﻟﻮﻻدة وﻗﺒﻠﻬﺎ ﺑﻔﱰة ،وﻳﺮاﻋﻲ ﺑﻌﺾ املﺤﺮﻣﺎت ملﺴﺎﻋﺪة اﻷم ﻋﲆ اﻟﻮﻻدة ،وﻋﲆ اﻷب أن ﻳﺮاﻋﻲ أﻻ ﻳُﺼﺎب
ﺑﺠﺮاح أو أﻣﺮاض ﺧﻼل ﺗﻠﻚ اﻟﻔﱰة ﻟﻜﻲ ﻳُﻮ َﻟﺪ اﻟﻄﻔﻞ ﺳﻠﻴﻤً ﺎ ،وإﻻ أ ُ ِﺻﻴﺐَ اﻟﻄﻔﻞ ﺑﻬﺎ )ﻗﻮى اﻟﺴﺤﺮ
اﻟﺘﻌﺎﻃﻔﻲ .(Sympathetic Magicوﺑﻌﺾ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت ﺗﻘﻮل إن ﻫﺬه املﻤﺎرﺳﺎت ﻫﻲ ﺗﻌﺒري ﻋﻦ املﺸﺎرﻛﺔ
ﰲ اﻷﺑﻮة ،وﻧﻈﺮﻳﺎت أﺧﺮى ﺗﻘﻮل إن اﻷب ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ ﻣﻦ اﻟﺘﴫف املﻤﺎﺛﻞ ﻟﻸم إﻧﻤﺎ ﻳﴫف ﻋﻨﻬﺎ
اﻷرواح اﻟﴩﻳﺮة وﻳﺮﻛﺰﻫﺎ ﻋﲆ ﻧﻔﺴﻪ ،ﻓﺘﻨﺠﻮ اﻷم ووﻟﻴﺪﻫﺎ ﻣﻦ اﻷذى املﻨﺘﻈﺮ.
273
اﻹﻧﺴﺎن
ﺗﻔﺴري ﻇﻬﻮر ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﻈﺎﻫﺮات اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳﻘﺒﻠﻬﺎ ﻛﺄﻣﺮ واﻗﻊ — وإن ﻛﺎن
اﺗﺠﺎﻫﻪ إﱃ ﺗﺄﻳﻴﺪ ﻣﺒﺪأ اﻟﻨﺸﺄة املﺴﺘﻘﻠﺔ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻷﺣﻴﺎن أﻛﱪ ﻣﻦ ﺗﺄﻳﻴﺪه ﻟﻔﻜﺮة اﻷﺻﻞ
اﻟﻮاﺣﺪ .وﻋﲆ أي ﺣﺎل ﻓﺈن اﺗﺠﺎﻫﺎت ﻓﺎﻳﺘﺰ ﻋﲆ اﻟﻌﻤﻮم ﻛﺎﻧﺖ ﺣﻜﻴﻤﺔ ﻟﻨﻘﺺ املﻌﻠﻮﻣﺎت
ﺧﺎﺻﺔ ،وﻟﻜﻨﻨﺎ ﻧﺠﺪه ﻳﻤﻴﻞ إﱃ ﻣﺒﺪأً ً
ﻋﺎﻣﺔ ،وﻟﻨﻘﺺ دراﺳﺎت ﻣﺎ ﻗﺒﻞ اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
اﻻﻧﺘﺸﺎر ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﻌﺎﻟﺞ املﺘﺸﺎﺑﻬﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﻜﱪى ،ﻛﺎملﺘﺸﺎﺑﻬﺎت ﺑني أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ
وﺳﻴﺒريﻳﺎ واﻟﻬﻨﺪ وﺑﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳﺎ .وﻳﺆﻛﺪ أن اﻟﺘﺸﺎﺑﻪ ﰲ ﻧﻈﺎم ﺗﻘﺴﻴﻢ اﻟﺴﻨﺔ ﻋﻨﺪ اﻵﺳﻴﻮﻳني
واملﻜﺴﻴﻜﻴني — ﻛﻤﺎ درﺳﻬﺎ ﻫﻤﺒﻮﻟﺖ ﻣﻦ ﻗﺒﻠﻪ — ﺗﻌﻮد إﱃ ﻣﺒﺪأ اﻻﻧﺘﺸﺎر اﻟﺤﻀﺎري ،وﻻ
ﻳﻤﻜﻦ ﺑﺤﺎل اﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﻣﻨﻔﺼﻠﺔ اﻟﻨﺸﺄة .وﻫﻮ ﻳﺮى أن اﻻﻧﺘﺸﺎر اﻟﺤﻀﺎري ﻗﺪ ﺗﻢ ﻣﻦ آﺳﻴﺎ
ﻋﱪ ﻣﻀﻴﻖ ﺑريﻧﺞ إﱃ أﻣﺮﻳﻜﺎ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻻ ﻳﻨﻔﻲ اﺣﺘﻤﺎل اﻻﻧﺘﺸﺎر ﻋﱪ ﺟﺰر املﺤﻴﻂ اﻟﻬﺎدي
ﻣﺒﺎﴍ ًة إﱃ املﻜﺴﻴﻚ.
وﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل ،ﻓﺈن اﻟﻜﺜري ﻣﻤﺎ ﻛﺘﺒﻪ ﻓﺎﻳﺘﺰ ﰲ ﻣﺠﻠﺪاﺗﻪ اﻟﺴﺘﺔ ﻋﻦ اﻟﺸﻌﻮب اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ 4
ﻗﺪ ﺗﻘﺎدم ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻌﻬﺪ ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻷﺑﺤﺎث اﻟﻌﺪﻳﺪة ﰲ ﻛﺎﻓﺔ املﻴﺎدﻳﻦ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﻘﺮن اﻟﺬي
ﻳﻔﺮق ﺑﻴﻨﻨﺎ وﺑﻴﻨﻪ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﺮواد اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني اﻟﻌﻈﺎم ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ،
ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﰲ أﻏﻠﺐ اﻷﺣﻴﺎن ﻳﺘﻤﻴﺰ ﺑﺎﻟﺤﻜﻤﺔ وﻋﺪم اﻟﺘﺤﻴﺰ ،وﻛﺎن ﻟﺘﺄﻛﻴﺪه ﻋﲆ دور اﻟﻌﻮاﻣﻞ
ً
ﻋﺎﻣﺔ ،واﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ واﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ﰲ ﻧﻤﻮ اﻟﺤﻀﺎرات أﺛ ٌﺮ واﺿﺢ ﰲ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
ً
ﺧﺎﺻﺔ. اﻷملﺎن
وﺑﺮﻏﻢ أﻫﻤﻴﺔ ﻓﺎﻳﺘﺰ ﰲ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ؛ إﻻ أن دوره ﰲ إﻧﺸﺎء ﻛﺮﳼ ﺧﺎص ﺑﻬﺬا اﻟﻌﻠﻢ
ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻛﺒريًا ،وﻗﺪ ﻛﺎن اﻟﻔﻀﻞ ﰲ ذﻟﻚ ﻳﺮﺟﻊ إﱃ أﺳﺘﺎذ أملﺎﻧﻲ آﺧﺮ ﻫﻮ أدوﻟﻒ ﺑﺎﺳﺘﻴﺎن
أﻳﻀﺎ 5ﺑﻌﺪ ﺳﻨﺘني ﻣﻦ ﻇﻬﻮر A. Bastianاﻟﺬي ﻧﴩ أول ﻛﺘﺒﻪ ﰲ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﰲ ﻟﻴﺒﺰﻳﺞ ً
ً
اﺧﺘﻼﻓﺎ ﻛﺒريًا ،ﻓﻬﻮ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻧﺎدى أول أﺟﺰاء ﻛﺘﺎب ﻓﺎﻳﺘﺰ .وﻳﺨﺘﻠﻒ دور ﺑﺎﺳﺘﻴﺎن ﻋﻦ ﻓﺎﻳﺘﺰ
ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ،ﺑﴬورة اﻹﻛﺜﺎر ﻣﻦ اﻷﺑﺤﺎث املﻴﺪاﻧﻴﺔ ﺑني اﻟﺸﻌﻮب اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ً
وﻫﻮ اﻟﺬي ﻛﺎﻓﺢ ﺣﺘﻰ أﺳﺲ ﻛﺮﳼ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﰲ ﺟﺎﻣﻌﺔ ﺑﺮﻟني ﻋﺎم ،١٨٦٩ﻛﻤﺎ أﺳﺲ
املﺘﺤﻒ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ اﻷملﺎﻧﻲ ﻋﺎم ١٨٨٦ﰲ ﺑﺮﻟني ،وﻛﺎن أﻛﱪ ﻣﺘﺤﻒ ﻣﻦ ﻧﻮﻋﻪ ﻟﻔﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ.
وﻟﻜﻦ أﻫﻤﻴﺔ ﺑﺎﺳﺘﻴﺎن ﻟﻴﺴﺖ ﰲ ﻧﻈﺮﻳﺎﺗﻪ اﻟﺘﻲ ﺳﺒﻖ أن ﻧﺎﻗﺸﻨﺎ أﺳﺴﻬﺎ ،إﻧﻤﺎ دوره اﻷﺳﺎﳼ
ﻳﱰﻛﺰ ﰲ أﻧﻪ اﺳﺘﻄﺎع ﺑﺸﺨﺼﻴﺘﻪ اﻟﻘﻮﻳﺔ أن ﻳﻔﺼﻞ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﺑني اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ واﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
274
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
ﻛﺎﻣﻼ ﺑﺘﺄﺳﻴﺲ ﻛﺮﳼ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ واملﺘﺤﻒ وإﻧﺸﺎء اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﰲ ﺑﺮﻟني ً ً
ﻓﺼﻼ
أﻳﻀﺎ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎن ﻟﺮﺣﻼت ﺑﺎﺳﺘﻴﺎن وﻣﻨﺸﻮراﺗﻪ اﻟﻜﺜرية ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺪور ﰲ ﻋﺎم ً ١٨٦٩
ﺗﺪﻋﻴﻢ اﺳﺘﻘﻼل اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﰲ أملﺎﻧﻴﺎ.
وﺑﻐﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ ﺑﻌﺾ ﻣﺸﻜﻼت اﻟﺘﻨﻈري اﻟﺘﻲ ﻧﺎدى ﺑﻬﺎ ﺑﺎﺳﺘﻴﺎن واﻟﺘﻲ ﺳﺒﻖ ﱢ
ﻧﻘﺪﻫﺎ ،ﻣﺜﻞ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ وﻋﻘﻠﻴﺔ اﻟﺸﻌﻮب؛ ﻛﺎن ﺑﺎﺳﺘﻴﺎن ﻳﻤﻴﻞ إﱃ ﻣﺒﺪأ اﻷﺻﻞ املﺴﺘﻘﻞ
أﻳﻀﺎ ﰲﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﺘﺸﺎﺑﻬﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﰲ ﻧﻈﺮة ﺗﻄﻮرﻳﺔ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ .ﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﺮﻓﺾ ً
ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن ﻣﺒﺪأ اﻻﻧﺘﺸﺎر اﻟﺤﻀﺎري ،ﻓﻔﻲ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻳُﺮﺟﻊ ﺑﺎﺳﺘﻴﺎن املﻈﺎﻫﺮ
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ إﱃ ﻧﻤﻮ ﻣﺤﲇ ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﻌﻮاﻣﻞ اﻟﺒﻴﺌﺔ واملﻨﺎخ ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﻬﻮ ﻳﻌﱰف ﺑﺘﺄﺛريات
اﻻﺣﺘﻜﺎك اﻟﺤﻀﺎري واملﺒﺪأ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ﻣﻦ ﻣﻌﺎﻟﺠﺘﻪ ﻟﻸﻗﺎﻟﻴﻢ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرات اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ.
وﻗﺪ ﺣﺎول ﺑﺎﺳﺘﻴﺎن ﻛﺜريًا أن ﻳﺪﺧﻞ ﻣﺒﺪأ اﻟﺘﺄﺛريات اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﻛﻌﺎﻣﻞ ﺷﺪﻳﺪ اﻟﺘﺄﺛري ﰲ اﻟﻨﻤﻮ
اﻟﺤﻀﺎري املﺤﲇ .وأﻛﱪ ﻣﺎ ﻳﻌﻴﺐ ﺑﺎﺳﺘﻴﺎن ﻫﻮ أن ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ اﻷﺳﻠﻮب ﺷﺪﻳﺪة
اﻟﺘﻌﻘﻴﺪ ﻗﻠﻴﻠﺔ اﻟﻮﺿﻮح ،إﱃ ﺣﺪ أن اﻟﻜﺜريﻳﻦ ﻣﻦ اﻷملﺎن وﺟﺪوا ﺻﻌﻮﺑﺔ ﺷﺪﻳﺪة ﰲ ﻣﺘﺎﺑﻌﺔ
ﺗﺴﻠﺴﻠﻪ اﻟﻔﻜﺮي.
وﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻏﺮﻗﺖ ﻓﻴﻪ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﰲ أﻓﻜﺎر ﺑﺎﺳﺘﻴﺎن اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ودراﺳﺎﺗﻪ
املﻴﺪاﻧﻴﺔ اﻟﻌﺪﻳﺪة اﻟﻘﻴﱢﻤﺔ ،ﻓﺈن ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ وأﻣﺮﻳﻜﺎ ﻛﺎﻧﺘﺎ ﻋﲆ ﻋﺘﺒﺔ اﻟﺘﻨﻈري اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ اﻟﻌﻈﻴﻢ
ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﻣﻮرﺟﺎن وﺗﻴﻠﻮر ،وﻟﻜﻦ ﻇﻬﺮ ﻗﺒﻠﻬﻤﺎ ﺑﻘﻠﻴﻞ ﰲ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﻛﺘﺎبٌ أﺛﺎر ﻣﺸﻜﻠﺔ
رﺋﻴﺴﻴﺔ ﰲ اﻟﺘﻨﻈري اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ﻣﺎ زاﻟﺖ ﻟﻬﺎ ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ ﺣﺘﻰ اﻵن .ذﻟﻚ ﻫﻮ ﻛﺘﺎب »ﺣﻖ اﻷم
«Das Mutterrechtاﻟﺬي ﻧﴩه ﺑﺎﺧﻮﻓﻦ J. J. Bachofenﻋﺎم ١٨٦١؛ أي ﺑﻌﺪ ﺳﻨﺔ
ﻣﻦ ﻧﴩ ﻛﺘﺎب ﺑﺎﺳﺘﻴﺎن اﻵﻧﻒ اﻟﺬﻛﺮ ،وﰲ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ﻳﻀﻊ ﺑﺎﺧﻮﻓﻦ ﺗﺘﺎﺑﻌً ﺎ زﻣﻨﻴٍّﺎ ﻟﻨﻈﻢ
اﻟﺰواج واﻷﴎة واملرياث واﻟﱰﻛﻴﺐ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ .وﺧﻼﺻﺔ آراﺋﻪ ﻫﻲ أﻧﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﻋﺪة
ﻣﺮاﺣﻞ :أﻗﺪﻣﻬﺎ ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﺸﻴﻮع ﰲ اﻟﺰواج ،Hetaerismus-Promiscuityﺗﻠﻴﻬﺎ ﻣﺮﺣﻠﺔ
ﺛﻮرة املﺮأة ﻋﲆ ﻫﺬه اﻷوﺿﺎع وﺗﺄﺳﻴﺴﻬﺎ ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﻨﻈﺎم اﻷﻣﻮي Matriarchateاﻟﺬي ﺗﺜﺒﺖ
ﻓﻴﻪ ﺻﻼت اﻷم ﺑﺎﻷﺑﻨﺎء ،وﻳﺴﻤﻴﻬﺎ ﺑﺎﺧﻮﻓﻦ املﺮﺣﻠﺔ اﻷﻣﺎزوﻧﻴﺔ ) Amazonentumﺳﻴﺎدة
املﺮأة( .وﻳﺮﺑﻂ ﺑﺎﺧﻮﻓﻦ ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم ﺑﻤﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ :اﻷﴎة اﻷﻣﻮﻳﺔ،
واﻟﻨﺴﺐ اﻷﻣﻮي ،واﻹرث اﻷﻣﻮي ،وﻧﻈﻢ دﻳﻨﻴﺔ ﺗﺴﻴﻄﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ إﻟﻬﺔ اﻷرض وﺗﻘﻮم ﻓﻴﻬﺎ
اﻟﻨﺴﺎء ﺑﺪور رﺋﻴﴘ ﰲ اﻟﻨﻈﺎم اﻟﻜﻬﻨﻮﺗﻲ ،ﻋﺎدات وﻃﻘﻮس اﻟﺨﺼﻮﺑﺔ .وأﺧريًا ،ﻳﺴﻴﻄﺮ
اﻟﻘﻤﺮ )ﺑﺼﻴﻐﺔ املﺆﻧﺚ( ﻋﲆ اﻟﺸﻤﺲ .ﺛﻢ ﺗﺄﺗﻲ املﺮﺣﻠﺔ اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ﺣﻴﺚ ﺗﺴﻘﻂ وﻇﻴﻔﺔ املﺮأة
اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ واﻟﺪﻳﻨﻴﺔ وﻳﺤﻞ ﻣﺤﻠﻬﺎ اﻟﻨﻈﺎم اﻷﺑﻮي .Patriarchateوﺗﻈﻬﺮ ﰲ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ
275
اﻹﻧﺴﺎن
اﻷﴎة اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ وﺗﺴﻴﻄﺮ آﻟﻬﺔ اﻟﺴﻤﺎء ﻋﲆ إﻟﻬﺎت اﻷرض ،واﻟﺸﻤﺲ ﻋﲆ اﻟﻘﻤﺮ .وﻟﻜﻦ
ﺑﻘﺎﻳﺎ اﻟﻨﻈﺎم اﻷﻣﻮي ﻻ ﺗﺰال ﺗﻈﻬﺮ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻛﻨﻈﺎم وراﺛﺔ اﺑﻦ اﻷﺧﺖ
ﻟﻠﺨﺎل وﻧﻈﺎم »اﻟﻜﻮﻓﺎده« اﻟﺴﺎﺑﻖ ذﻛﺮه ،وﻧﻈﺎم اﻟﺰواج اﻷﻣﻮي املﻜﺎن … إﻟﺦ.
وﻻ ﺷﻚ ﰲ أن املﺮاﺣﻞ اﻟﺜﻼث ﺗﺮﻛﻴﺐ ﻧﻈﺮي ﺑﺤﺖ وﺧﺎﺻﺔ املﺮﺣﻠﺔ اﻷوﱃ ،وﻗﺪ
اﻋﺘﻤﺪ ﺑﺎﺧﻮﻓﻦ ﻛﺜريًا ﻋﲆ ﻛﺘﺎﺑﺎت ﻫريودوت ﻋﻦ اﻟﻨﻈﺎم اﻷﻣﻮي ﻋﻨﺪ أﻫﻞ ﻟﻴﻜﻴﺎ ﰲ آﺳﻴﺎ
اﻟﺼﻐﺮى .وﻋﲆ أي ﺣﺎل ،ﻓﺈن ﺑﺎﺧﻮﻓﻦ ﻗﺪ أﺛﺎر ﻣﻮﺿﻮﻋً ﺎ إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴٍّﺎ ﻫﺎﻣٍّ ﺎ ﺳﻮف ﻳﻈﻞ
ﻳﺘﻜﺮر ﻋﻨﺪ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني اﻟﻘﺪﻣﺎء واملﺤﺪﺛني ﰲ دراﺳﺎﺗﻬﻢ املﻮﻧﻮﺟﺮاﻓﻴﺔ .إن اﻷب
ﻻﻓﻴﺘﻮ ﺳﺒﻖ ﺑﺎﺧﻮﻓﻦ ﰲ دراﺳﺔ اﻟﻨﻈﺎم اﻷﻣﻮي ﻋﻨﺪ ﺑﻌﺾ ﺳﻜﺎن أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ )ﻋﲆ
ﻧﺤﻮ ﻣﺎ أوﺿﺤﻨﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ( ،وﻟﻜﻦ ﻫﻨﺎك اﺧﺘﻼف ﺑني ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ ﻻﻓﻴﺘﻮ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ املﺤﻀﺔ
ﻟﻬﺬه اﻟﻈﺎﻫﺮة اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ وﻣﻌﺎﻟﺠﺔ ﺑﺎﺧﻮﻓﻦ اﻟﻨﺎﺑﻌﺔ ﻋﻦ وﻇﻴﻔﺔ اﻟﻨﻈﺎم اﻷﻣﻮي ودوره ﰲ
اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ.
وﰲ أملﺎﻧﻴﺎ ﻧﺠﺪ أﺧريًا اﻟﺠﻐﺮاﰲ اﻷملﺎﻧﻲ املﺸﻬﻮر ﻓﺮدرﻳﻚ راﺗﺰل F. Ratzelاﻟﺬي
ﺗﺤﻮل إﱃ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ،وﺧﻠﺺ ﻫﺬا اﻟﻌﻠﻢ ﻣﻦ اﻟﺮﻛﻮد اﻟﺬي ﺣﻞ ﺑﻪ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻧﴩ ﻛﺘﺎﺑﻪ »ﻋﻠﻢ
اﻟﺸﻌﻮب .(١٨٨٨–١٨٨٥) «Voelkerkundeوﻗﺪ أﻛﺪ راﺗﺰل ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﺒﺎدئ
واﻵراء اﻟﺠﺪﻳﺪة اﻟﺘﻲ ﺗﱰﻛﺰ ﻛﻠﻬﺎ ﺣﻮل أﻫﻤﻴﺔ اﻻﺗﺼﺎﻻت واﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﺑني اﻟﺸﻌﻮب
ودورﻫﺎ ﰲ اﻟﻨﻤﻮ اﻟﺤﻀﺎري .وﻗﺪ أﺛﺮ راﺗﺰل ﻛﺜريًا ﰲ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻷملﺎﻧﻴﺔ إﱃ أواﺋﻞ اﻟﻘﺮن
وﺧﺎﺻﺔ ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﺗﻠﻤﻴﺬﻳﻦ ﻣﻦ ﺗﻼﻣﺬﺗﻪ؛ ﻫﻤﺎ :ﻫﺎﻳﻨﺮﻳﺦ ﺷﻮرﺗﺰ H. Schurtz ً اﻟﻌﴩﻳﻦ،
ووﻟﻴﻮ ﻓﺮوﺑﻴﻨﻴﻮس .L. Frobenius
وﰲ ﻫﺬا اﻟﻮﻗﺖ ﻧﺠﺪ ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ وﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ ﻋﺎملني ﻣﻦ ﻛﺒﺎر اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني ،ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن
ﻓﻌﻼ ﻣﻦ ﺑﻨﺎة اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ؛ ﻫﺬان اﻟﻌﺎملﺎن ﻫﻤﺎ ﻟﻮﻳﺲ ﻣﻮرﺟﺎن ﻧﻘﻮل ﻋﻨﻬﻤﺎ إﻧﻬﻤﺎ ً
وإدوارد ﺗﻴﻠﻮر.
أﻣﺎ ﻟﻮﻳﺲ ﻣﻮرﺟﺎن (١٨٨١–١٨١٨) L. Morganﻓﻬﻮ ﻗﺎﻧﻮﻧﻲ أﻣﺮﻳﻜﻲ ﺗﺄﺛﺮ ﻛﺜريًا
ﺑﻜﺘﺎب ﺣﻖ اﻷم وأﺑﺤﺎث ﻻﻓﻴﺘﻮ ،وﻗﺎم ﺑﻨﻔﺴﻪ ﺑﺪراﺳﺔ واﺳﻌﺔ ﺑني أﻣﺮﻳﻨﺪ اﻹﻳﺮوﻛﻮﻳﺰ
وﻏريﻫﻢ ﻣﻦ ﺳﻜﺎن اﻟﺸﻤﺎل اﻟﴩﻗﻲ اﻷﻣﺮﻳﻜﻲ ،وﻗﺪ ﺑﺪأ ﻣﻨﺸﻮراﺗﻪ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻣﺒﻜ ًﺮا .ﻓﻔﻲ
ﻣﻮﻧﻮﺟﺮاﻓﺎ ﻣﻤﺘﺎ ًزا ﺑﺎﺳﻢ »ﻋﺼﺒﺔ اﻹﻳﺮوﻛﻮﻳﺰ« League of the Ho-Dé-No-ً ١٨٥١ﻧﴩ
،Sau-Nee or Iroquoisوﻗﺪ أﺑﺮز ﻣﻮرﺟﺎن ﰲ ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﻜﺒرية املﺒﻜﺮة اﻟﻨﻈﺎم
اﻷﻣﻮي .وﺣﻴﻨﻤﺎ ﻧ ُ ِﴩ ﻛﺘﺎب ﺑﺎﺧﻮﻓﻦ ﺑﻌﺪ ﻋﴩ ﺳﻨﻮات ،ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﻣﺸﺎرﻛﺔ ﻓﻌﻠﻴﺔ ﰲ آراء
ﻣﻮرﺟﺎن وﺑﺎﺧﻮﻓﻦ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ دور ووﻇﻴﻔﺔ اﻟﻨﻈﺎم اﻷﻣﻮي ﰲ اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ.
276
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
وﻛﺎن اﻫﺘﻤﺎم ﻣﻮرﺟﺎن ﺑﻨﻈﻢ اﻟﻘﺮاﺑﺔ واﻟﻨﻈﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻛﺒريًا ،ﻓﻘﺎم
ﺑﺮﺣﻼت واﺳﻌﺔ ﺑني اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ،وأﺗﺒﻊ ذﻟﻚ ﺑﺈرﺳﺎل أﺳﺌﻠﺔ إﱃ ﻛﺜري ﻣﻦ املﺒﴩﻳﻦ ﰲ أﻧﺤﺎء
اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺒﺪاﺋﻲ ﻋﻦ ﻧﻈﻢ اﻟﻘﺮاﺑﺔ واﻟﺘﻨﻈﻴﻤﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻟﻠﻘﺒﺎﺋﻞ اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻮﻣﻮن ﺑﺎﻟﺘﺒﺸري
ﺑﻴﻨﻬﺎ .وإﱃ ﺟﺎﻧﺐ ذﻟﻚ اﺳﺘﻮﻋﺐ ﻣﻮرﺟﺎن ﻛﺘﺎب اﻟﺴري ﻫﻨﺮي ﻣني ﻋﻦ »اﻟﻘﺎﻧﻮن اﻟﻘﺪﻳﻢ«
اﻟﺬي ﻧ ُ ِﴩ ﻋﺎم .١٨٦١وﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻜﻞ ﻫﺬه املﻌﻠﻮﻣﺎت واﻷﺑﺤﺎث أﺧﺮج ﻣﻮرﺟﺎن ﻣﻮﺳﻮﻋﺘﻪ
َت ﻋﺎم ١٨٧١ﺑﺎﺳﻢ »ﻧﻈﻢ اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﺪﻣﻮﻳﺔ وﺻﻼت اﻟﻘﺮﺑﻰ Systems اﻟﻀﺨﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﻧ ُ ِﴩ ْ
،«of Consanguinity and Affinity of the Human Familyوأﺧريًا أﺻﺪر ﻣﻮرﺟﺎن
ﻛﺘﺎﺑﻪ ذا اﻟﺸﻬﺮة اﻟﻌﺎملﻴﺔ »املﺠﺘﻤﻊ اﻟﻘﺪﻳﻢ «Ancient Societyﻋﺎم .١٨٧٨
وﻗﺪ أﺳﻬﻢ ﻣﻮرﺟﺎن ﰲ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺒﻨﺎء اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ﰲ ﻣﺠﺎل اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
وﻧﻈﻢ اﻟﻘﺮاﺑﺔ ،وﻛﺎن أول ﻣﻦ اﻛﺘﺸﻒ ﻧﻈﺎم اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﻄﺒﺎﻗﻲ ،Classificatory system
وﻫﻮ ذﻟﻚ اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺬي ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ ﺑﻤﻘﺘﻀﺎه ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻷﻗﺎرب ﺑﺎﺻﻄﻼح ﺗﺼﻨﻴﻔﻲ واﺣﺪ:
ﻣﺜﻼ اﻷب وأﺧﻮة اﻷب وأﺑﻨﺎء ﻋﻤﻮﻣﺘﻪ ﻳُﺴﻤﱠ ﻮن ﺟﻤﻴﻌً ﺎ »أب« ،واﻷم وأﺧﻮات اﻷم ﻳُﺴﻤﱠ ني ً
»أم« ،وأﺑﻨﺎء اﻟﻌﻢ ﻳﺼﺒﺤﻮن »إﺧﻮة« … وﻫﻜﺬا .وﻗﺪ وﺟﺪ ﻣﻮرﺟﺎن ﰲ ﻫﺎواي ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم
ﻣﻤﺜﻼ أﺣﺴﻦ ﺗﻤﺜﻴﻞ ،وﺑﻤﻘﺘﻀﺎه ﻳﺼﺒﺢ اﻟﺠﻴﻞ اﻷﻋﲆ أﺑًﺎ أو أﻣٍّ ﺎ ،واﻟﺠﻴﻞ اﻷدﻧﻰ أﺧﻮة ً
وأﺧﻮات ،وﺳﻤﺎه ﻣﻮرﺟﺎن ﺑﻨﻮع اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﻬﺎواﺋﻴﺔ )ﻧﺴﺒﺔ إﱃ ﺟﺰﻳﺮة ﻫﺎواي( ،وﻛﺬﻟﻚ ﺳﻤﻰ
ﻣﻮرﺟﺎن ﻧﻈﺎم اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﺸﺎﺋﻊ ﰲ أوروﺑﺎ وﻏريﻫﺎ ﺑﺎﺳﻢ اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﻮﺻﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺼﻒ ﻓﻴﻬﺎ
ً
دﻗﻴﻘﺎ )اﻟﻌﻢ – اﻟﺨﺎل – اﻟﺨﺎﻟﺔ – اﻟﻌﻤﺔ – ً
وﺻﻔﺎ املﺼﻄﻠﺤﺎت ﻗﺮاﺑﺔ اﻟﺸﺨﺺ إﱃ آﺧﺮﻳﻦ
اﺑﻦ اﻟﻌﻢ – اﺑﻦ اﻟﺨﺎل … وﻫﻜﺬا(.
أﻳﻀﺎ ﺑﺈﺿﺎﻓﺎت ﻗﻴﱢﻤﺔ ﰲ دراﺳﺔ ﻧﻈﺎم اﻟﺰواج اﻻﻏﱰاﺑﻲ Exogamy وﻗﺎم ﻣﻮرﺟﺎن ً
وﺗﻨﻈﻴﻢ اﻟﻌﺸﺎﺋﺮ.
وﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ اﻟﺘﻨﻈري اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ وﺟﺪ ﻣﻮرﺟﺎن أن ﻧﻤﻂ اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﻬﺎواﺋﻲ ﻫﻮ اﻟﺪﻟﻴﻞ
املﺎدي ﻋﲆ وﺟﻮد ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﺸﻴﻮع ﰲ اﻟﺰواج اﻟﺘﻲ أﻋﻠﻨﻬﺎ ﺑﺎﺧﻮﻓﻦ ،واﺳﺘﻨﺘﺞ أن ﻧﻈﺎم اﻟﺰواج
ﰲ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ﻛﺎن زواﺟً ﺎ ﺟﻤﺎﻋﻴٍّﺎ :ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺮﺟﺎل ﺗﺘﺰوج ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﺴﺎء ،ﺛﻢ
ﺗﺤﻮل إﱃ ﻧﻈﺎم اﻟﺰواج اﻷﻣﻮي )زوﺟﺎن وﻧﺴﺐ أﻣﻮي( ،ﺛﻢ اﻟﻨﻈﺎم اﻷﺑﻮي )رﺟﻞ وﻋﺪة
زوﺟﺎت( ،وأﺧريًا اﻟﺰواج اﻷﺑﻮي اﻟﻮﺣﺪوي )زوج وزوﺟﺔ وﻧﺴﺐ أﺑﻮي( ،وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﺧري
ﻣﺎ ﻗﺪﻣﻪ ﻣﻮرﺟﺎن ﻫﻮ رﺑﻂ أﻧﻤﺎط اﻟﻘﺮاﺑﺔ ﺑﺸﻜﻞ اﻟﺰواج وﻧﻤﻂ اﻷﴎة.
وﻗﺪ ﺗﻼ ذﻟﻚ ﻋﻨﺪ ﻣﻮرﺟﺎن اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻟﻌﺎم اﻟﺘﻄﻮري ﻟﻠﻨﻈﻢ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﻌﺎملﻴﺔ ،ﻛﻤﺎ
ورد ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ املﺠﺘﻤﻊ اﻟﻘﺪﻳﻢ .وﻳﻤﻴﺰ ﻣﻮرﺟﺎن ﻋﺪة ﻣﺮاﺣﻞ أﻗﺪﻣﻬﺎ اﻟﻮﺣﺸﻴﺔ ،Savagery
277
اﻹﻧﺴﺎن
وﻓﻴﻬﺎ ﺛﻼث ﻣﺮاﺣﻞ ﻓﺮﻋﻴﺔ ،وﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﱪﺑﺮﻳﺔ ،Barbarismوﺗﺘﻤﻴﺰ ﺑﺜﻼث ﻣﺮاﺣﻞ ﻓﺮﻋﻴﺔ
ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﺧﱰاع اﻟﻔﺨﺎر وﺑﺎﺳﺘﺌﻨﺎس اﻟﺤﻴﻮان ﺛﻢ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﺰراﻋﺔ ،وأﺧريًا ﻣﺮﺣﻠﺔ املﺪﻧﻴﺔ
Civilisationاﻟﺘﻲ ﺗﺒﺪأ ﺑﻤﻌﺮﻓﺔ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ وﺗﺘﻤﻴﺰ ﺑﻨﺸﺄة املﻠﻜﻴﺔ اﻟﻔﺮدﻳﺔ واﻟﺰواج اﻟﻮﺣﺪوي.
وﻳﺮى ﻣﻮرﺟﺎن أن اﻻﻧﺘﻘﺎل ﻣﻦ ﻣﺮﺣﻠﺔ إﱃ أﺧﺮى ﻗﺪ ﺗﻢ ﺑﻨﺎءً ﻋﲆ ﻛﺸﻮف ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
ﻫﺎﻣﺔ ،وإﱃ ﻣﻮرﺟﺎن ﻳﺮﺟﻊ اﻟﻔﻀﻞ ﰲ إﻋﻼن وﺗﺄﻛﻴﺪ اﻟﱰاﺑﻂ واﻟﺘﻔﺎﻋﻞ ﺑني ﻧﻈﻢ اﻟﺤﺼﻮل
ﻋﲆ اﻟﻐﺬاء ،واﻟﻨﻈﻢ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ،واﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ،واﻟﱰﻛﻴﺐ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ،واﻟﻨﻈﻢ اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ.
وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ملﻮرﺟﺎن ﺟَ َﻠﺪ ﻋﲆ ﺗﻔﺴري اﻟﻨﻈﻢ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻟﻠﻘﺒﺎﺋﻞ املﺨﺘﻠﻔﺔ ،وﻗﺪ وﺻﻔﻬﺎ ﺑﺄﻧﻬﺎ
دﻳﺎﻧﺎت ﺷﺎذة وﻏري ﻣﻔﻬﻮﻣﺔ إﱃ ﺣﺪ ﻛﺒري.
وﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺘﺺ ﺑﻤﺒﺪأ اﻟﺘﻄﻮر املﺤﲇ واﻻﻧﺘﺸﺎر ،ﻧﺠﺪه ﻻ ﻳﻬﺘﻢ ﺑﺄي ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻛﺜريًا إﻻ
ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﻄﺮأ ﺷﻜﻞ ﻣﻦ اﻷﺷﻜﺎل املﺘﺸﺎﺑﻬﺔ ﺑني اﻟﺤﻀﺎرات ،ﺣﻴﻨﺌ ٍﺬ ﻳﻠﺠﺄ إﱃ اﻷﺻﻞ اﻟﻮاﺣﺪ
واﻟﻬﺠﺮة اﻟﺒﴩﻳﺔ ،ﻛﺘﻔﺴريه ارﺗﺒﺎط أﺻﻮل اﻟﺰوﻟﻮ )ﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ( واﻟﺘﺎﻣﻴﲇ )ﺟﻨﻮب
اﻟﻬﻨﺪ( واﻟﻬﺎواﺋﻴني واﻷﻳﺮوﻛﻮﻳﺰ ﰲ املﺎﴈ اﻟﺒﻌﻴﺪ ﻹﻳﺠﺎد ﺳﺒﺐ ﻻﻧﺘﺸﺎر ﻧﻔﺲ ﻧﻈﻢ اﻟﻘﺮاﺑﺔ
اﻟﻄﺒﻘﻴﺔ.
ﺮﺟﻢ ﻛﺘﺎب »املﺠﺘﻤﻊ اﻟﻘﺪﻳﻢ« إﱃ ﻟﻐﺎت ﻛﺜرية ،وذاع ﺻﻴﺘﻪ واﻧﺘﴩ ﺑﻜﺜﺮة، وﻟﻘﺪ ﺗُ ِ
واﺳﺘﺨﺪﻣﻪ ﻓﺮدرﻳﻚ إﻧﺠﻠﺰ 6 F. Engelsوﻛﺎرل ﻣﺎرﻛﺲ ﰲ ﺗﺪﻋﻴﻢ ﻧﻈﺮﻳﺔ املﺎدﻳﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ
املﺎرﻛﺴﻴﺔ.
أﻣﺎ إدوارد ﺗﻴﻠﻮر (١٩١٧–١٨٣٢) E. Tylorﻓﻬﻮ ﺛﺎﻧﻲ ﺑﻨﺎة اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ،
ﺣﺎﺻﻼ ﻋﲆ ﺷﻬﺎدة ً وﻗﺪ ﺑﺪأ ﺣﻴﺎﺗﻪ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﺑﺮﺣﻠﺔ إﱃ املﻜﺴﻴﻚ ﻋﺎم ،١٨٥٦وﻟﻢ ﻳﻜﻦ
ﺟﺎﻣﻌﻴﺔ ،إﻻ أﻧﻪ ﻛﺎن رﺋﻴﺲ ﻣﺘﺤﻒ اﻟﺠﺎﻣﻌﺔ ﰲ أﻛﺴﻔﻮرد ،و ُﻣﻨِﺢ ﻟﻘﺐ أﺳﺘﺎذ ﻋﺎم ١٨٩٦
ﺑﻌﺪ أن ﺣﺼﻞ ﻋﲆ ﺷﻬﺮة ﻋﺎملﻴﺔ ﰲ ﻣﻴﺪان اﻟﺒﺤﺚ اﻟﻌﻠﻤﻲ .وﻟﻢ ﻳﻘﻢ ﺗﻴﻠﻮر ﺑﺮﺣﻼت أو
دراﺳﺎت ﻣﻴﺪاﻧﻴﺔ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ﻣﺜﻞ ﻣﻮرﺟﺎن ،ﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن دﻗﻴﻖ املﻼﺣﻈﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺪرس ﺑﻌﺾ
اﻷﺷﻴﺎء ﻋﻨﺪ اﻟﺼﻨﺎع ،ﻣﺜﻞ دراﺳﺔ ﻓﻦ اﻟﺨﻴﺎﻃﺔ أو ﺳﻠﺦ اﻟﺠﻠﻮد ﻋﻨﺪ اﻟﻘﺼﺎﺑني .وﻟﻢ ﻳﻜﻦ
ﺗﻴﻠﻮر ﻳﻨﻈﺮ إﱃ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻣﻦ زاوﻳﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ،وﻟﻢ ﻳﺘﺨﺼﺺ ﰲ اﺗﺠﺎه ﻣﻌني ﻣﺜﻞ ﺑﻌﺾ
)ﻣﺜﻼ ﺟﻴﻤﺲ ﻓﺮﻳﺰر وأﻧﺪروﻻﻧﺞ ﺗﺨﺼﺼﺎ ﰲ اﻟﻔﻮﻟﻜﻠﻮر واﻟﺪﻳﺎﻧﺎت ،وﺗﺨﺼﺺ ً زﻣﻼﺋﻪ
6اﻋﺘﻤﺪ إﻧﺠﻠﺰ ﻋﲆ ﻣﺮاﺣﻞ ﻣﻮرﺟﺎن ﰲ ﺗﻔﺴري اﻟﺘﻄﻮر اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ اﻻﻗﺘﺼﺎدي اﻟﻌﺎملﻲ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ املﺸﻬﻮر:
»أﺻﻞ اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ واملﻠﻜﻴﺔ اﻟﻔﺮدﻳﺔ واﻟﺪوﻟﺔ« )اﻟﻄﺒﻌﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ F. Engels, “Origin of Family, .(١٨٨٤
”.Private Property and State
278
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
279
اﻹﻧﺴﺎن
وﻋﲆ ﻫﺬا ﻳﻌﺘﻘﺪ ﺗﻴﻠﻮر أن ﻣﺒﺪأ اﻻرﺗﺒﺎط Adhesionﺑني ﺑﻌﺾ املﻈﺎﻫﺮ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻫﻮ أﺳﺎس ﺗﻔﺴري ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﻈﻮاﻫﺮ دون ﺣﺎﺟﺔ إﱃ ﻣﺒﺪأ اﻷﺻﻞ اﻟﻮاﺣﺪ ،وﻗﺪ
ﺣﺎول أن ﻳﻄﺒﻖ ﻫﺬا املﺒﺪأ ﻋﲆ أﺳﺲ إﺣﺼﺎﺋﻴﺔ ﻓﻴﻘﻮل :ﻣﺎ ﻫﻮ ﺗﻜﺮار اﻟﺘﺤﺮﻳﻢ اﻟﺨﺎص ﺑﺄم
اﻟﺰوﺟﺔ ﰲ ﺣﺎﻻت اﻟﺰواج اﻷﻣﻲ املﻜﺎن؟ أي ﻣﺎ ﻫﻲ درﺟﺔ اﻻرﺗﺒﺎط ﺑني اﻟﻈﺎﻫﺮة واملﺠﻤﻊ
اﻟﺤﻀﺎري.
وﻣﺠﻤﻮع أﻓﻜﺎر ﺗﻴﻠﻮر ﺗﻀﻌﻪ ﰲ ﻣﺼﺎف أﻧﺼﺎر اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ :ﻣﻦ أﺳﻔﻞ إﱃ
أﻋﲆ ،وﻣﻦ اﻟﺒﺴﻴﻂ إﱃ املﺮﻛﺐ ،وﻣﻦ اﻟﻼﻣﻌﻘﻮل إﱃ املﻌﻘﻮل 7 ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈﻧﻪ أ ﱠرخ ﻟﻠﻨﻈﻢ
ﺗﺄرﻳﺨﺎ ﺗﻄﻮرﻳٍّﺎ ،ﻓﺎﻟﻨﻈﺎم اﻷﻣﻮي أﻗﺪم ﻣﻦ اﻟﻨﻈﺎم اﻷﺑﻮي ،وﻃﻘﻮس اﻟﻜﻮﻓﺎدهً اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ
ً
— ﻣﻬﺪ اﻟﺮﺟﻞ — )املﺸﺎر إﻟﻴﻬﺎ آﻧﻔﺎ( ﻣﺮﺣﻠﺔ وﺳﻂ ﰲ اﻟﺘﻄﻮر ﺗﺨﺘﻠﻂ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻨﻈﻢ اﻷﻣﻮﻳﺔ
واﻷﺑﻮﻳﺔ .وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈن ﺑﻘﺎء ﻃﻘﻮس اﻟﻜﻮﻓﺎده داﺧﻞ اﻟﻨﻈﺎم اﻷﺑﻮي ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ »ﺑﻘﺎﻳﺎ
«Survivalﺣﻀﺎرﻳﺔ ﺗﺸري إﱃ ﺷﻜﻞ ﺣﻀﺎري ﻗﺪﻳﻢ .واملﻼﺣﻆ أن ﺗﻴﻠﻮر ﰲ ﺗﺼﻮﻳﺮه
ﻟﻠﺘﻄﻮر اﻟﺤﻀﺎري ﻗﺪ ارﺗﺒﻂ ﺑﺸﺪة ﺑﺂراء ﺑﺎﺳﺘﻴﺎن ﰲ اﻟﺘﻄﻮر املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻲ اﻟﺒﺴﻴﻂ ،وﻣﻦ
ﺛﻢ ﻓﱪﻏﻢ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ اﻟﻘﻴﱢﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻮﺻﻞ إﻟﻴﻬﺎ ﻓﺈن ﺗﻴﻠﻮر ﻗﺪ ﻃﻐﻰ ﻋﻠﻴﻪ اﻻﻋﺘﻘﺎد ﺑﺄن ﺗﻔﻜري
اﻹﻧﺴﺎن ورﻏﺒﺎﺗﻪ وﻧﺸﺎﻃﻪ ﺗﺘﻔﻖ ﻣﻊ ﻗﻮاﻧني ﻣﺤﺪدة ﻛﺘﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺤﻜﻢ ﰲ ﺣﺮﻛﺔ اﻷﻣﻮاج
وﻧﻤﻮ اﻟﻨﺒﺎت واﻟﺤﻴﻮان ،وﺑﺬﻟﻚ أﻟﻐﻰ ﺗﻴﻠﻮر اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ وﺑﺴﻄﻬﺎ ﰲ ﺗﻄﻮر ﺑﺴﻴﻂ،
وﻫﻮ — ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ — ﻻ ﻳﺤﺲ ﺑﻮﺟﻮد ﻣﺸﻜﻼت ﻣﻌﻴﻨﺔ ﰲ ﺗﺤﺪﻳﺪ ﺗﺪرج اﻟﻌﻘﺎﺋﺪ
واﻟﻌﺎدات.
وﻣﻦ اﻷﻣﺜﻠﺔ ﻋﲆ اﻟﻨﻈﺮة اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ﻋﻨﺪ ﺗﻴﻠﻮر :ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻹﺣﻴﺎء )إﻋﻄﺎء ﺷﻜﻞ اﻟﺤﻴﺎة
ﻷﺷﻜﺎل ﺟﺎﻣﺪة أو ﻏري ﻣﺪرﻛﺔ إدرا ًﻛﺎ ﻋﻘﻠﻴٍّﺎ( ،Animisimوﻫﻲ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺘﻲ أﺳﺴﻬﺎ
ﺗﻴﻠﻮر ﻟﺘﻔﺴري اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ وﺗﻄﻮرﻫﺎ اﻟﻌﺎملﻲ .ﻟﻘﺪ ﺑﺪأت اﻟﺪﻳﺎﻧﺎت ﻋﻨﺪه ﺑﺎﻻﻋﺘﻘﺎد ﰲ اﻷرواح اﻟﺘﻲ
ﻳﺴﺘﺤﻴﻴﻬﺎ ﰲ أﺷﻜﺎل ﺷﺘﻰ ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،ﺛﻢ ﺗﻄﻮرت إﱃ أرواح اﻟﺴﻠﻒ ﺛﻢ إﱃ ﻓﻜﺮة
اﻹﻟﻪ اﻟﻌﺎﱄ ﰲ املﺪﻧﻴﺔ ،وﺗﺒﺪو ﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ وﺗﺠﺪ ﺗﺄﻳﻴﺪًا ﻛﺒريًا ﻟﻬﺬا اﻟﺴﺒﺐ.
وﻓﻴﻤﺎ ﺑني اﻟﻌﻤﻼﻗني ﻣﻮرﺟﺎن وﺗﻴﻠﻮر ﻧﺠﺪ ﻋﺪدًا ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني املﻌﺎﴏﻳﻦ
ﻟﻬﻤﺎ ،ﻋﲆ رأﺳﻬﻢ ﺳري ﻫﻨﺮي ﻣني (١٨٨٨–١٨٢٢) H. J. S. Maineأﺳﺘﺎذ اﻟﻘﺎﻧﻮن
ﰲ ﻛﻤﱪدج اﻟﺬي ﻧﴩ ﰲ ١٨٦١ﻛﺘﺎﺑﻪ »اﻟﻘﺎﻧﻮن اﻟﻘﺪﻳﻢ ،«Ancient Lawوﺑﺬﻟﻚ ﻓﻬﻮ
7ﻳﻌﱰف ﺗﻴﻠﻮر ﺑﻮﺟﻮد رﻛﻮد وارﺗﺪاد ﺣﻀﺎري ﰲ أﺣﻴﺎن ﻛﺜرية ،ﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ﻻ ﻳﻤﺜﻞ ﺷﻴﺌًﺎ ﺧﻄريًا ﰲ
اﻟﺼﻮرة اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻟﻠﺘﻄﻮر اﻟﺤﻀﺎري ﻣﻦ أﺳﻔﻞ إﱃ أﻋﲆ.
280
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
ﻣﺆﺳﺲ ﻋﻠﻢ اﻟﻘﺎﻧﻮن املﻘﺎرن ،وﺑﺮﻏﻢ أﻧﻪ ﻋﺎش ﻣﻮﺟﺔ اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ﰲ أوﺟﻬﺎ؛ إﻻ أﻧﻪ رﻓﺾ
اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ وأﻛﺪ دور اﻻﻧﺘﺸﺎر اﻟﺤﻀﺎري ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﺎملﻴﺔ .أﻣﺎ ﻣﺎﻛﻠﻴﻨﺎن
،(١٨٨١–١٨٢٧) J. F. Mclenanﻓﻜﺎن ﻣﻦ أﻧﺼﺎر اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ،وﻧﴩ أﺑﺤﺎﺛﻪ ﰲ ﻛﺘﺎب
ﺑﺎﺳﻢ »دراﺳﺎت ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻘﺪﻳﻢ« ﻋﺎم ،١٨٧٦وﻓﻴﻪ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ آراء ﻣﻮرﺟﺎن وﺗﻴﻠﻮر،
وﻟﻜﻦ ﻣﺎﻛﻠﻴﻨﺎن ﻫﻮ اﻟﺬي اﻛﺘﺸﻒ اﻟﺘﻔﺮﻳﻖ ﺑني اﻟﺰواج املﻐﱰب واﻟﺰواج اﻟﺪاﺧﲇ واﻟﺰواج
ﺑﺎﻟﺨﻄﻒ ،ودراﺳﺘﻪ ﻟﻠﻨﻈﺎم اﻟﻄﻮﻃﻤﻲ Totemismﻋﲆ أﻧﻪ ﻧﻈﺎم اﺟﺘﻤﺎﻋﻲ أﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻲ
واﺳﻊ اﻻﻧﺘﺸﺎر .وﻳﺠﻲء ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻫﺮﺑﺮت ﺳﺒﻨﴪ H. Spencerاﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰي
املﺸﻬﻮر ) ،(١٩٠٣–١٨٢٠وﻗﺪ ﻣﻴﺰ ﺑني اﻟﻨﻤﻮ املﺤﲇ ﻟﻠﺤﻀﺎرة Developmentواﻟﺘﻄﻮر
اﻟﻌﺎم ﻟﻠﺤﻀﺎرات :Evolutionوﻫﻮ ﻳﺮى أن اﻟﻨﻤﻮ املﺤﲇ راﺟﻊ إﱃ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﻔﺮدﻳﺔ
ﻟﻸﺷﺨﺎص )وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ ﻟﻴﱪاﻟﻴﺔ( ،وأن اﻟﺘﻄﻮر راﺟﻊ إﱃ ﻋﻮاﻣﻞ ﺧﺎرﺟﻴﺔ ﺑﻴﺌﻴﺔ وﺣﻀﺎرﻳﺔ.
ﺑﻌﺪ اﻟﻄﻔﺮة اﻟﺘﻲ ﺣﺪﺛﺖ ﰲ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ واﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،وﺗﺠﻤﻊ ﻋﺪد ﻛﺒري ﻣﻦ
املﻌﻠﻮﻣﺎت ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ واﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﺎم ﺑﻬﺎ رواد اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ؛ ﻧﺠﺪ أﻧﻪ ﻗﺪ
أﺻﺒﺢ واﺿﺤً ﺎ ﻣﻨﺬ ﺑﺪاﻳﺔ ﻫﺬا اﻟﻘﺮن وﺟﻮد ﻋﺪة اﺗﺠﺎﻫﺎت ﰲ اﻟﺪراﺳﺔ ارﺗﺒﻄﺖ ﺑﻬﺎ ﻋﺪة
ﻣﺪارس إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،وﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻠﺨﺺ ﻫﺬه اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت ﰲ أرﺑﻌﺔ اﺗﺠﺎﻫﺎت ﻫﻲ :اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ،
اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ،اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ ،اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ أو اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ،وأﺧريًا اﻟﺘﺤﻀريﻳﺔ.
أﻗﺪم ﻫﺬه اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت ﻫﻮ اﻻﺗﺠﺎه اﻟﺘﻄﻮري Cultural Evolutionاﻟﺬي ﻇﻬﺮ واﺿﺤً ﺎ وﺟﻠﻴٍّﺎ
ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺎت اﻟﺮواد اﻷوﱃ ،وﻋﲆ اﻷﺧﺺ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎت ﻣﻮرﺟﺎن وﺗﻴﻠﻮر وﺑﺎﺳﺘﻴﺎن .وﻻ
ﺷﻚ أن ذﻟﻚ اﻻﺗﺠﺎه ﻗﺪ ﻇﻬﺮ وﻧﻤﺎ ﺑﺘﺄﺛري ﻇﻬﻮر ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺪاروﻳﻨﻴﺔ ،اﻟﺘﻲ أﺛﺮت
ﻛﺜريًا ﻋﲆ أﻏﻠﺒﻴﺔ اﻟﻌﻠﻮم واملﻌﺎرف اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﰲ أواﺧﺮ اﻟﻘﺮن املﺎﴈ وأواﺋﻞ اﻟﻘﺮن اﻟﺤﺎﱄ.
ﻄﺎ ﻣﺘﺼﺎﻋﺪًا ﻣﻦ وﻣﻠﺨﺺ آراء اﻟﺘﻄﻮرﻳني ﻫﻮ أن ﺗﺎرﻳﺦ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ واﻟﺤﻀﺎرة ﻳﻤﺜﻞ ﺧ ٍّ
اﻟﻌﺎدات واﻟﻌﻘﺎﺋﺪ واﻟﺘﻨﻈﻴﻤﺎت واﻷدوات واﻵﻻت واﻷﻓﻜﺎر ،وأن ذﻟﻚ اﻟﺨﻂ املﺘﺼﺎﻋﺪ اﻟﺒﺴﻴﻂ
ﻣﻦ أﺳﻔﻞ إﱃ أﻋﲆ ﻣﺘﺸﺎﺑﻪ ﰲ أﺟﺰاء اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻟﻮﺣﺪة اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎن ﰲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن
وزﻣﺎن .وﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل ﻧﻼﺣﻆ أن ﻛﻞ اﻟﺘﻄﻮرﻳني ﻗﺪ رﻓﻀﻮا ﺑﺸﺪة ﻓﻜﺮة اﺧﺘﻼف اﻟﻘﺪرات
281
اﻹﻧﺴﺎن
اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ راﺟﻌﺔ إﱃ اﺧﺘﻼﻓﺎت وراﺛﻴﺔ ﺳﻼﻟﻴﺔ .وﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ،ﻛﺎن اﻟﺘﻄﻮرﻳﻮن
ﻣﻦ أﺷﺪ ﻣﻨﺎﻫﴤ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻌﻨﴫﻳﺔ .وﻟﻘﺪ أوﺿﺢ ﻛﻞ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني اﻟﺘﻄﻮرﻳني ﻓﻜﺮة
اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺒﺴﻴﻂ ﻫﺬه ،ﻋﲆ أﺳﺎس أن املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺒﴩﻳﺔ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ املﻌﺎﴏة ﺗﻤﺜﻞ املﺮاﺣﻞ
اﻷوﱃ ﻟﻠﺘﻄﻮر اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ،ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻣﺎ زاﻟﺖ ﺗﻌﺎﴏﻧﺎ ﰲ ﻋﺎملﻨﺎ اﻟﺮاﻫﻦ ،وﻛﺬﻟﻚ اﻋﺘﻘﺪ اﻟﺘﻄﻮرﻳﻮن
أن وﺟﻮد ﺑﻌﺾ »اﻟﺒﻘﺎﻳﺎ« اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ Survivalsﻋﻨﺪ ﻛﻞ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻫﻲ ﺗﻌﺒري ودﻟﻴﻞ ﻋﲆ
أن ﻫﺬه املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻗﺪ ﻣﺮت ﺑﻤﺮاﺣﻞ ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﺳﺎﺑﻘﺔ.
وﻟﻘﺪ وُﺟﱢ ﻪ ﻧﻘﺪ ﺷﺪﻳﺪ إﱃ ﻓﻜﺮة اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ،ﻛﻤﺎ أﺛﺒﺘﺖ اﻟﺪراﺳﺎت اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
اﻟﻼﺣﻘﺔ أن اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻨﻘﻞ اﻟﺤﻀﺎري ﺑني اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻻﻧﺘﺸﺎر واﻟﻬﺠﺮة
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ واﻟﺒﴩﻳﺔ ﻗﺪ أﺳﻬﻢ ﺑﺼﻮرة أﻛﱪ ﰲ ﺗﻄﻮر اﻟﺤﻀﺎرات ﻋﻤﺎ اﻋﺘﻘﺪ اﻟﺘﻄﻮرﻳﻮن
اﻷول .ﻛﺬﻟﻚ ﻓﺈن املﻨﻬﺞ املﻘﺎرن اﻟﺬي أﻛﺪ ﻋﻠﻴﻪ ﺗﻴﻠﻮر ﰲ ﺗﺄﻛﻴﺪه ﻟﻠﺘﻄﻮر اﻟﺒﺴﻴﻂ ،ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ
دراﺳﺔ ﻟﻌﻨﺎﴏ ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻏري ﻣﱰاﺑﻄﺔ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺠﺐ أن ﻧﺪرس ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ
ﻛﻮﺳﺎﺋﻞ ﻣﱰاﺑﻄﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎة ﻋﻨﺪ أي ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺑﴩﻳﺔ .ﻓﺎﻟﺤﻀﺎرة ﻟﻴﺴﺖ ﺗﺠﻤﻴﻌً ﺎ ﻟﻌﻨﺎﴏ
ﻣﻔﺮدة ،ﺑﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺘﻔﺎﻋﻼت واﻟﱰاﺑﻄﺎت ﺑني ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ.
ﻮﺟﻤَ ْﺖ ﻓﻜﺮة املﺮاﺣﻞ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ اﻟﺘﻲ ذﻛﺮﻫﺎ ﻟﻮﻳﺲ ﻣﻮرﺟﺎن ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻣﺮاﺣﻞ وﻛﺬﻟﻚ ُﻫ ِ
ﻣﻔﺘﻌﻠﺔ وﻧﻈﺮﻳﺔ ،وﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻣﺎ ﻳﺆﻳﺪﻫﺎ ﻣﻦ اﻷدﻟﺔ اﻟﻮاﻗﻌﻴﺔ .وﺑﺮﻏﻢ اﻟﻨﻘﺪ اﻟﺬي ﻳُﻮﺟﱠ ﻪ إﱃ
اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ؛ ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ ﻋﺪدًا ﻣﻦ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني ﻻ ﻳﺰاﻟﻮن ﻣﻦ أﻧﺼﺎر ﻫﺬه املﺪرﺳﺔ ،ﻣﻊ
ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺘﻌﺪﻳﻞ واﻟﺘﻄﻮﻳﺮ ،وﻋﲆ رأس ﻫﺆﻻء ﻟﺰﱄ ﻫﻮاﻳﺖ اﻟﺬي ﻳﺆﻛﺪ أن ﱠ
ﻧﻘﺎد اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ
ﻗﺪ ﺧﻠﻄﻮا ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑني اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﺤﻀﺎري ﻟﻠﻨﺎس ،ﻛﻤﺎ ﻳﺴﺘﺒﻌﺪ ﻫﻮاﻳﺖ دراﺳﺔ اﻟﺴﻠﻮك
اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﻛﻤﻮﺿﻮع اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،وﻳﻄﺎﻟﺐ ﺑﺄن ﺗﺨﻀﻊ اﻟﺤﻀﺎرة ﻟﺪراﺳﺔ ﻋﻠﻢ
وﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﻫﺬا ﻓﺈن اﻟﺘﻄﻮرﻳني ﻟﻢ ً ﺣﻀﺎري Culturologyوﻟﻴﺲ ﺳﻠﻮﻛﻴٍّﺎ أو ﻧﻔﺴﻴٍّﺎ8 .
ً
ﻣﺘﻄﺮﻓﺎ )ﻣﺜﻞ ﻓﻜﺮة ﻳﺮﻓﻀﻮا ﻓﻜﺮة اﻻﻧﺘﺸﺎر اﻟﺤﻀﺎري .ﻓﻤﻮرﺟﺎن أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻳﺼﺒﺢ اﻧﺘﺸﺎرﻳٍّﺎ
.White, L., “The Science of Culture: a Study of Man and Civilization” New York 1949 8
White, L., “Kroeber’s Configurations of Culture Growth”, Am. Anthropologist, 1946,
.pp. 78–93
White, L., “Diffusion vs. Evolution: An Anti-Evolutionist Fallacy” Am. Anthropologist
.1945, pp 84
–White, L., “Energy and the Evolution of Culture” Am. Anthropologist, 1943, pp 33
.348
282
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
اﻟﺮﺑﻂ ﺑني اﻟﻨﺴﺐ اﻷﻣﻮي ﰲ أﻣﺎﻛﻦ ﺟﻐﺮاﻓﻴﺔ ﻣﺘﺒﺎﻋﺪة ،ﺑﻐﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ اﻟﻌﻼﻗﺎت املﻜﺎﻧﻴﺔ(،
أﻳﻀﺎ ﻻ ﻳﺮﻓﺾ اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ املﻮاﻗﻒ .وﻳﺆﻛﺪ ﻟﺰﱄ ﻫﻮاﻳﺖ ) (١٩٤٥أن وﺗﻴﻠﻮر ً
اﻟﺘﻄﻮرﻳني ﻟﻢ ﻳﺮﻓﻀﻮا اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ﻻ ﺗﺴﺄل ملﺎذا ﺗﺘﻐري اﻟﺤﻀﺎرات؛ ﻓﻬﻮ
ﻣﺠﺎل اﻟﺘﺎرﻳﺦ ،وإﻧﻤﺎ ﺗﺴﺄل ﻛﻴﻒ ﻳﺘﻢ اﻟﺘﻐري اﻟﺤﻀﺎري؟
وﻟﺰﱄ ﻫﻮاﻳﺖ ﰲ ﻣﻮﻗﻔﻪ اﻷﺳﺎﳼ ﻳﺒﺪو ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎن ﻳﻌﻴﺪ ﺻﻴﺎﻏﺔ آراء ﻟﻮﻳﺲ ﻣﻮرﺟﺎن
وﻣﺮاﺣﻠﻪ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،ﻋﲆ أﺳﺎس اﻟﺘﻘﺪم اﻟﻌﻠﻤﻲ وﻣﺎ وﺻﻠﻪ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺮاﻫﻦ ﻣﻦ ﻣﻌﻠﻮﻣﺎت
ﻫﺎﺋﻠﺔ ﻋﻦ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ واﻟﺒﺎﺋﺪة واﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،إﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﺪراﺳﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ
ﰲ اﻟﻨﻮاﺣﻲ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ وﻣﺠﻤﻞ اﻟﻨﻮاﺣﻲ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ.
ﻳﻌﻴﺪ ﻫﻮاﻳﺖ ﻓﻜﺮة املﺮاﺣﻞ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻗﻮة داﻓﻌﺔ ﻣﺤﺮﻛﺔ ﻟﻠﺘﻄﻮر؛ ﻫﻲ
اﻟﻄﺎﻗﺔ .ﻓﻌﻬﺪ اﻟﻮﺣﺸﻴﺔ ﻳﺘﻤﻴﺰ ﺑﺄن اﻹﻧﺴﺎن ﻛﺎن ﻳﻌﻴﺶ ﻋﲆ ﻃﺎﻗﺘﻪ اﻟﻌﻀﻠﻴﺔ ﻓﻘﻂ :ﺟﻤﻊ
اﻟﻐﺬاء اﻟﻨﺒﺎﺗﻲ واﻟﺼﻴﺪ اﻟﱪي واﻟﺴﻤﺎﻛﺔ .وﺣﻴﻨﻤﺎ اﺳﺘﺄﻧﺲ اﻟﻨﺒﺎت واﻟﺤﻴﻮان اﺳﺘﻄﺎع أن
ﻳﺤﺼﻞ ﻋﲆ ﻃﺎﻗﺔ أﻋﲆ ﻣﻦ ﻃﺎﻗﺘﻪ اﻟﻌﻀﻠﻴﺔ ،وأن ﻳﺘﺤﻜﻢ ﰲ ﻃﺎﻗﺔ اﻹﻧﺒﺎت ً
ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻻﻋﺘﻤﺎد
ﻋﲆ اﻟﻄﺎﻗﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻠﻨﻤﻮ اﻟﻨﺒﺎﺗﻲ ،وﻫﻜﺬا ﻓﺈن زﻳﺎدة اﻟﻄﺎﻗﺔ ﻗﺪ أدت إﱃ اﻧﺘﻘﺎل اﻹﻧﺴﺎن
ﻣﻦ ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﻮﺣﺸﻴﺔ إﱃ اﻟﱪﺑﺮﻳﺔ .وﻫﻨﺎ ﻳﺮى ﻫﻮاﻳﺖ أن ﻫﻨﺎك ﺟﻤﺎﻋﺎت ﻇﻠﺖ ﰲ ﻣﺮﺣﻠﺔ
اﻟﻮﺣﺸﻴﺔ ،ﺣﺘﻰ ﺑﺮﻏﻢ اﻧﺘﻘﺎل اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ إﱃ ﻣﺮﺣﻠﺔ املﺪﻧﻴﺔ املﻌﺎﴏة .واﻷﻫﻤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻌﻠﻘﻬﺎ
ﻫﻮاﻳﺖ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻫﻲ أن املﺮاﺣﻞ اﻟﺘﻲ ﻳﺬﻛﺮﻫﺎ ﻻ ﺗﻤﺜﻞ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻣﺤﺪدة ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ،ﻟﻜﻨﻬﺎ
ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻣﻦ ﻣﺮاﺣﻞ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺤﻀﺎري ﻧﺠﺪﻫﺎ ﻣﺘﻤﺜﻠﺔ ﰲ أي ﻓﱰة ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ﻗﺪﻳﻤﺔ أو
ﻣﻌﺎﴏة ﺣﺴﺐ اﻟﻈﺮوف اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ .وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻫﻮاﻳﺖ ﻳﻨﻔﻲ ﻓﻜﺮة املﺮﺣﻠﺔ ﻣﻦ
اﻟﺤﺘﻤﻴﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ وﻳﺠﻌﻠﻬﺎ ﻣﻤﻜﻨﺔ ﰲ أي ﻓﱰة زﻣﻨﻴﺔ ،وﻫﺬا ﺑﺪون ﺷﻚ إﺿﺎﻓﺔ ﺗﻮﺿﻴﺤﻴﺔ
ً
ﻋﺎﻣﺔ. ملﻮﻗﻒ اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ
وﻛﺬﻟﻚ ﻳﻀﻴﻒ ﻫﻮاﻳﺖ» :أن اﻟﺘﻄﻮر اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻳﻨﺠﻢ ﻋﻦ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ،وﻟﻜﻦ
ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻓﻴﻪ اﻷﻧﻈﻤﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻋﲆ اﻟﺸﻜﻞ اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻲ اﻟﺬي أوﺟﺪﻫﺎ؛
ﻓﺈﻧﻪ ﻻ ﺷﻚ أن اﻷﻧﻈﻤﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺑﺪورﻫﺎ ﺗﺘﺤﻜﻢ ﰲ ﺗﺸﻐﻴﻞ اﻷﻧﻈﻤﺔ اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺘﻲ
ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﻠﻴﻬﺎ .وﻋﲆ ﻫﺬا ﻓﺎﻟﻌﻼﻗﺔ ﻣﺸﱰﻛﺔ ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﺑﺎﻟﴬورة ﻣﺘﺴﺎوﻳﺔ اﻟﻔﻌﺎﻟﻴﺔ ﰲ
اﻟﺘﺄﺛري واﻟﺘﺄﺛﺮ؛ ﻓﻘﺪ ﻳﺆدي ﻧﻈﺎم اﺟﺘﻤﺎﻋﻲ إﱃ ﺗﻨﻤﻴﺔ وﺗﺸﻐﻴﻞ ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺘﻪ أو ﻗﺪ ﻳﺸﻞ
ﻫﺬا اﻟﺘﺸﻐﻴﻞ وﻳﺒﻄﺊ ﺳريه أو ﻳﺨﻨﻘﻪ 9 «.وﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﻔﺮض اﻟﻨﻈﺎم اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻗﻴﻮدًا ﻋﲆ
White, L. A., “Energy and the Evolution of Culture” Am. Anthropologist, 1943, pp. 9
.347-348
283
اﻹﻧﺴﺎن
ﻧﻤﻮ اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ،ﻓﺈن اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺤﻀﺎري ﻳﺘﻮﻗﻒ ،وﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺠﺪﻳﺪ اﻟﺘﻄﻮر إﻻ
ﺑﺎﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ ﻣﺼﺪر ﺟﺪﻳﺪ ﻟﻠﻄﺎﻗﺔ ﺑﺎﻟﺤﺠﻢ اﻟﺬي ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﻄﻴﺢ ﺑﺎﻟﻨﻈﺎم اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
اﻟﺬي ﻳﻘﻴﺪ اﻟﻨﻤﻮ اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻲ .وﻳﻨﺠﻢ ﻋﻦ اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻧﻈﺎم ﺟﺪﻳﺪ ﻳﺘﻨﺎﺳﺐ
ﻣﻊ ﻧﻤﻮه ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻳﺘﺤﺮك ﻣﻮﻛﺐ اﻟﺤﻀﺎرة ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ .وﻟﻌﻞ أوﺿﺢ ﻣﺜﺎل ملﺎ ﻳﺸري إﻟﻴﻪ
ﻫﻮاﻳﺖ ﻫﻮ اﻟﺜﻮرة اﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ أو اﻟﺜﻮرة اﻟﺒﻠﺸﻔﻴﺔ ،وﻛﻼﻫﻤﺎ ﻣﺆرخ ﺑﻤﺎ ﻻ ﻳﺪع ﻟﻠﺸﻚ ،وﻟﻌﻞ
اﻟﺪراﺳﺎت اﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ واﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺗﻌﻴﺪ ﺗﺄﻛﻴﺪ
ﻫﺬا اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻟﺘﻄﻮري ﻟﻠﺤﻀﺎرة ﰲ املﺎﴈ.
وﺑﻐﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ أﺧﻄﺎء اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ وﻣﻐﺎﻻة اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﰲ اﺳﺘﺒﻌﺎد
اﻟﻌﺎﻣﻞ اﻟﻨﻔﴘ ﰲ اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ؛ ﻓﺈن اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ﻗﺪ أﻋﻄﺖ ﻟﻺﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻋﺪدًا ﻣﻦ
اﻟﻨﻘﺎط اﻟﻬﺎﻣﺔ ﰲ املﻨﻬﺞ وﰲ ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻟﻌﻠﻢ؛ ذﻟﻚ أن أﺑﺤﺎث اﻟﺘﻄﻮرﻳني ﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪت ﻋﲆ
ﺗﻄﻮﻳﺮ وﺗﺤﺪﻳﺪ ﻣﻔﻬﻮم ﻣﺼﻄﻠﺢ »اﻟﺤﻀﺎرة« ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﺬي ﻧﻔﻬﻤﻪ ﻣﻨﻬﺎ اﻵن ،ﻛﻤﺎ ﺳﺎﻫﻤﺖ
ﻓﺼﻼ واﺿﺤً ﺎ ﺑﻌﺪ أن ﻛﺎن اﻟﻠﺒﺲ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎً ﰲ ﻓﺼﻞ ﻣﺼﻄﻠﺤﻲ »اﻟﺤﻀﺎرة« و»اﻟﺴﻼﻟﺔ«
ﻗﺎﺋﻤً ﺎ ﺑﺼﻔﺔ ﻣﺴﺘﻤﺮة .ﻛﺬﻟﻚ أﻋﻄﻰ اﻟﺘﻄﻮرﻳﻮن ﻟﻺﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني اﻷﻗﺴﺎم املﺨﺘﻠﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻜﻮن
ﻣﻨﻬﺎ اﻟﺤﻀﺎرة ،واﻟﺘﻲ ﻧﺴﻤﻴﻬﺎ اﻵن املﻈﺎﻫﺮ أو اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،واﺗﻀﺤﺖ ﻣﻦ ﺣﻘﻮل
دراﺳﺎﺗﻬﻢ أﻫﻤﻴﺔ دراﺳﺔ ﻫﺬه اﻟﻌﻨﺎﴏ وﻣﺸﻜﻼﺗﻬﺎ ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻬﺎ اﻟﺒﻌﺾ ،وأﺧريًا
ﻓﺈﻧﻬﻢ ً
أﻳﻀﺎ ﻗﺪ أﻋﻄﻮا ﻟﻺﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻣﻔﻬﻮم »اﻻﺳﺘﻤﺮار« ﰲ اﻟﺤﻀﺎرة واﻟﻨﻤﻮ املﺴﺘﻤﺮ املﻨﺘﻈﻢ
ﻟﻠﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ.
وﻻ ﺷﻚ أن اﻻﺗﺠﺎه اﻟﺘﻄﻮري ﰲ اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ أﻣﺮ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ إﻧﻜﺎره ،ﻓﻐري واﻗﻌﻲ
أن ﻧﻨﻜﺮ وﺟﻮد ﻣﺮاﺣﻞ أو ﻃﺒﻘﺎت ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ﺳﺎﺑﻘﺔ داﺧﻞ اﻟﺤﻀﺎرة ،وﺧﺎﺻﺔ ﰲ اﻟﺠﺎﻧﺐ
املﺎدي ﻣﻦ املﻨﺘﺠﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ؛ ﺣﻴﺚ ﺗﻈﻬﺮ أﺷﻜﺎل ﻗﺪﻳﻤﺔ وﺣﺪﻳﺜﺔ ﻣﻦ اﻹﻧﺘﺎج ﺗﻌﱪ ﻋﻦ
ﺗﻄﻮر واﺿﺢ .وﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻳﻌﱰف ﻓﻴﻪ ﻛﺜريون ﻣﻦ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني اﻷﻣﺮﻳﻜﻴني وﺑﻌﺾ
اﻷوروﺑﻴني ﺑﻬﺬه اﻟﺼﻮرة ﻣﻦ اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ﰲ املﺠﺎل املﺎدي ﻣﻦ اﻟﺤﻀﺎرة ،ﻧﺠﺪﻫﻢ ﻳﺘﺴﺎءﻟﻮن
ﰲ ﺗﺸﻜﻚ :وﻣﺎ ﻗﻴﻤﺔ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ ﺻﻮرة ﺗﻄﻮرﻳﺔ ﰲ ﻧﻈﺎم اﻟﻨﺴﺐ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل؟!
ﻣﺎ ﻫﻲ أﻫﻤﻴﺔ أن ﻧﻌﺮف أن ﻧﻈﺎم اﻟﻨﺴﺐ اﻷﻣﻮي ﻛﺎن ﺳﺎﺋﺪًا ﰲ املﺎﴈ ،ﺛﻢ ﺗﻄﻮر اﻟﻨﺴﺐ
اﻷﺑﻮي؟! وﺑﻐﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ اﻟﻘﻴﻤﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ املﻌﻠﻘﺔ ﻋﲆ ﻣﻌﺮﻓﺔ أﺷﻜﺎل اﻟﻨﺴﺐ أو ﻧﻈﻢ
اﻟﺰواج أو أﺷﻜﺎل اﻟﻌﻘﺎﺋﺪ ﰲ املﺎﴈ؛ ﻓﺈن اﻋﱰاﺿﺎت ﻫﺆﻻء اﻟﻌﻠﻤﺎء ﻏري ﻣﻔﻬﻮﻣﺔ ﻋﻠﻤﻴٍّﺎ.
وﺑﻤﺎ أن اﻟﺤﻀﺎرة ﻛ ﱞﻞ ﻣﺘﻔﺎﻋﻞ ﻣﱰاﺑﻂ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﺘﻔﻖ ﻋﻠﻴﻪ ،ﻓﻜﻴﻒ ﻧﻮاﻓﻖ اﻟﺘﻄﻮرﻳني ﺣﻴﻨﻤﺎ
ﻳﻄﺒﻘﻮن ﻣﻨﻬﺠﻬﻢ ﰲ اﻟﺠﻮاﻧﺐ املﺎدﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﻀﺎرة وﻧﻌﺎرﺿﻬﻢ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﺘﺘﺒﻌﻮن اﻟﻨﻈﻢ
284
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺑﺎﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ؟! وﻓﻮق ذﻟﻚ :أﻟﻴﺲ ﻧﻤﻂ اﻟﻨﺴﺐ أو ﺷﻜﻞ اﻷﴎة ﻣﺮﺗﺒ ً
ﻄﺎ
ﺑﻤﺠﻤﻮﻋﺔ ﻛﺒرية ﻣﻦ اﻟﻘﻮاﻧني واﻻﻋﺘﻴﺎدات اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،ﻣﺜﻞ ﻧﻈﺎم اﻟﻮراﺛﺔ وﻗﻮاﻧني املﻠﻜﻴﺔ
واﻟﻨﻈﻢ اﻟﻘﻀﺎﺋﻴﺔ ﻣﻦ ﺑني أﺷﻴﺎء أﺧﺮى ﻛﺜرية؟
واﻟﺮاﺟﺢ أن ﻛﺜريﻳﻦ ﻣﻦ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني ﰲ أوروﺑﺎ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ وﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ ،ﻗﺪ ﺗﻜﻮﻧﺖ ﻟﺪﻳﻬﻢ
ﺣﺴﺎﺳﻴﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﺗﺠﺎه اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ﺑﻌﺪ أن أﺻﺒﺤﺖ ﻫﺬه اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﺟﺰءًا ﻻ ﻳﺘﺠﺰأ
ﻣﻦ املﺎرﻛﺴﻴﺔ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ واﻟﻨﻈﺮة املﺎدﻳﺔ ﻟﻸﺷﻴﺎء ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﺛﺎﻧﻴﺔ .وﻣﻦ ﺛﻢ ﻛﺎن اﻟﻬﺠﻮم
ﻋﲆ اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ﻻ ﻳﻌﻨﻲ اﻟﻬﺠﻮم ﻋﲆ املﻨﻬﺞ ﻫﺠﻮﻣً ﺎ ﺑﻨﱠﺎءً ،وإﻧﻤﺎ ﻫﺠﻮم ﺗﻘﻠﻴﺪي ﻳﺮﻓﺾ ﻓﻜﺮة
اﻟﺘﻄﻮر ﺑﺮﻏﻢ ﺛﺒﺎت ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﺣﺘﻰ اﻵن 10 .ﺻﺤﻴﺢ أن اﻟﻜﺜري ﻣﻤﺎ ﻗﺎﻟﻪ اﻟﺘﻄﻮرﻳﻮن اﻷُوَل
ﻟﻢ ﻳَﻌُ ْﺪ ﺻﺎﻟﺤً ﺎ ﺑﻌﺪ ﺗﻘﺪم اﻟﺪراﺳﺎت واﻟﻜﺸﻮف اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﰲ ﻣﻴﺎدﻳﻦ اﻟﻌﻠﻮم اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ
املﺒﺪأ اﻟﺘﻄﻮري ﻗﺎﺋﻢ ،وﻫﻮ أوﺿﺢ ﻣﺎ ﻳﻜﻮن ﰲ اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻟﻠﻌﺼﻮر اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ
ﻟﻠﺘﺎرﻳﺦ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻻﺳﺘﻤﺮار اﻟﻜﺸﻮف اﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻋﺪﻳﺪة ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وﻋﲆ رأس
ﻋﻠﻤﺎء ﻣﺎ ﻗﺒﻞ اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺪاﻓﻌﻮن ﻋﻦ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺤﻀﺎري ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ :اﻷﺳﺘﺎذ
ﺟﻮردون ﺗﺸﺎﻳﻠﺪ11 .
ﺑﺪأ ﻫﺬا اﻻﺗﺠﺎه ﺑﺎﻟﺪراﺳﺎت اﻟﺘﻲ ﻗﺪﱠﻣَ ﻬﺎ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻨﻔﴘ ﺳﻴﺠﻤﻮﻧﺪ ﻓﺮوﻳﺪ ،S. Freudوأﺿﺎف
إﻟﻴﻬﺎ روﻫﺎﻳﻢ Roheimاﻟﻜﺜري ﺑﺪراﺳﺎﺗﻪ ﻋﻦ اﻷﺳﱰاﻟﻴني اﻷﺻﻠﻴني ،وﻟﻢ ﻳﺆﺳﺲ ﻓﺮوﻳﺪ
ﻣﺪرﺳﺔ ﺗﺤﻠﻴﻞ ﻧﻔﴘ ﰲ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ،ﻟﻜﻨﻪ ﺣﺎول أن ﻳﻔﴪ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺸﻜﻞ اﻟﺤﻀﺎري
ﻋﲆ ﺿﻮء اﻟﻔﱰة اﻷوﱃ ﻟﻠﻄﻔﻮﻟﺔ ،وﻣﺎ ﻳﱰﺗﺐ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﺷﺨﺼﻴﺔ اﻟﻔﺮد .واﻟﻌﻘﺪة
اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﰲ أﺑﺤﺎث ﻓﺮوﻳﺪ ﻫﻲ »ﻋﻘﺪة أودﻳﺐ« اﻟﺘﻲ ﻳﻌﱪ ﺑﻬﺎ ﻋﻦ اﻟﻜﺮه واﻟﺤﻘﺪ اﻟﺬي ﻳُ ِﻜﻨﱡﻪ
10ﻣﻠﻔﻴﻞ ﻫﺮﺳﻜﻮﻓﺘﺲ ﻣﻦ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني اﻷﻣﺮﻳﻜﻴني اﻟﺬﻳﻦ ﻇﻠﻮا ﺣﺘﻰ وﻓﺎﺗﻬﻢ ﻳﻌﺎرﺿﻮن اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ،وﻣﻊ
ذﻟﻚ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻌﱰف ﺑﺄن اﻟﻨﺰاع ﻛﺎن ﻣﻮﺟﻬً ﺎ إﱃ ﻛﻠﻤﺔ اﻟﺘﻄﻮر ﻗﺒﻞ أن ﻳُﻮﺟﱠ ﻪ إﱃ املﻨﻬﺞ» :ﻣﻦ املﺆﺳﻒ أن
دراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرة ﻗﺪ وﻗﻌﺖ ﰲ ﻣﺄزق ﺟﺪﱄ ﺗﺮﻛﺰ ﺣﻮل ﻛﻠﻤﺔ »اﻟﺘﻄﻮر« .ﻫﺬا اﻻﺳﺘﺨﺪام ﻗﺪ ﺗﺤﻮﱠل ﰲ
ﺑﺪﻻ ﻣﻦ أن ﻳﺼﺒﺢ أداة ﻟﻠﺒﺤﺚ« .وﰲ اﻟﻔﻘﺮة ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻳﻌﻮد ﻫﺮﺳﻜﻮﻓﺘﺲ أﻏﻠﺐ اﻷﺣﻴﺎن إﱃ ﴏﺧﺔ ﺣﺮب ً
ً
إﱃ ﺗﺠﺎﻫﻞ ﻟﻮﻳﺲ ﻣﻮرﺟﺎن وﻳﺆﻛﺪ أن إدوارد ﺗﻴﻠﻮر ﻛﺎن ﻣﻌﺘﺪﻻ ﰲ ﺗﻄﻮرﻳﺘﻪ .اﻧﻈﺮHerskovits, M., :
.“Cultural Anthropology”, New York 1964, pp 441-2
.Gordon V. Childe, “Social Evolution” London 1951 11
285
اﻹﻧﺴﺎن
اﻻﺑﻦ ﻷﺑﻴﻪ ﻣﻨﺬ اﻟﻄﻔﻮﻟﺔ وﰲ ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﺒﻠﻮغ .وﻗﺪ ﻧﴩ ﻓﺮوﻳﺪ ﻋﺎم ١٩١٣ﻛﺘﺎﺑﻪ املﺸﻬﻮر
»اﻟﻄﻮﻃﻢ واملﺤﺮم ،«Totem and Tabooاﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻌﺪه املﺤﺎوﻟﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة ﻣﻦ
ﻋﺎﻣﺔ ،وﰲ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ﺧﻼﺻﺔ ﻵراءً ﺟﺎﻧﺐ ﻓﺮوﻳﺪ ﰲ اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ واﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
ﻓﺮوﻳﺪ ﻋﻦ ﻧﺸﺄة اﻟﻌﻘﺎﺋﺪ واﻷدﻳﺎن ،ﻓﻬﻮ ﻳﻔﱰض وﺟﻮد ﺟﻤﺎﻋﺔ ﺑﺪاﺋﻴﺔ ﺗﻌﻴﺶ ﺗﺤﺖ ﺳﻄﻮة
ﻗﺎس ﻳﺤﺘﻜﺮ ﻛﻞ ﻧﺴﺎء املﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻤﺎ أدى ﺑﺎﻟﺸﺒﺎن إﱃ اﻻﻧﺤﺮاف ،ﺛﻢ أدى ﺑﻬﻢ اﻟﺤﻘﺪ أب ٍ
إﱃ اﻟﺘﺠﻤﻊ وﻗﺘﻠﻪ ﺳﻮﻳٍّﺎ ،وﺗﱰك اﻟﺠﺮﻳﻤﺔ ﰲ ﻧﻔﻮس اﻷﺑﻨﺎء ﺷﻌﻮ ًرا ﺑﺎﻟﺠﺮم ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻨﺎﺳﻴﻪ،
وﻣﻦ ﺧﻼل إﻟﺤﺎح اﻟﺠﺮﻳﻤﺔ وﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻟﺘﻄﻬﺮ ﻣﻨﻬﺎ ﻳﺮوي ﻓﺮوﻳﺪ اﻟﻘﻮى اﻟﺪاﻓﻌﺔ ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ
اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ وﺗﻄﻮر اﻷدﻳﺎن.
وﺑﺮﻏﻢ أن ﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﻜﺘﺎب اﻟﺬي ﻳﺤﺘﻮي ﻋﲆ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﺎدة اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻣﻦ ﺑني ﻣﺎ
ﻮﺟﻢ ﺑﺸﺪة و ُرﻓِﺾ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻣﺎﻟﻴﻨﻮﻓﺴﻜﻲ ﻛﺘﺒﻪ ﻓﺮوﻳﺪ ،إﻻ أﻧﻪ ُﻫ ِ
— اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ اﻟﱪﻳﻄﺎﻧﻲ — أﻛﺜﺮ ﻣﻦ وﺟﱠ ﻪ اﻟﻨﻘﺪ إﱃ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب .ﻓﻌﻘﺪة أودﻳﺐ
ﺗﻔﱰض اﻟﻌﺪاء ﺑني اﻻﺑﻦ واﻷب ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﰲ املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻴﺶ ﻋﲆ أﺳﺎس اﻟﻨﺴﺐ
اﻷﻣﻮي ﻳﺠﺪ ﻣﺎﻟﻴﻨﻮﻓﺴﻜﻲ ﻋﺪاء اﻷﺑﻨﺎء ﻣﻮﺟﻬً ﺎ إﱃ اﻟﺨﺎل 12 ،وﰲ ﻫﺬه املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻳﺼﺒﺢ
اﻟﺨﺎل اﻷب اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ .وﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ﻓﺈن اﻟﻌﺪاء ﻳﻜﻮن ﻣﻮﺟﻬً ﺎ إﱃ اﻷب اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻲ أو
اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﺗﺴﻘﻂ أﺳﺲ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻓﺮوﻳﺪ؛ ﻷن اﻟﻌﺪاء ﻋﻨﺪ ﻓﺮوﻳﺪ ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻟﺠﻨﺲ،
وﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻷم واﻟﺨﺎل )اﻷب اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ(.
وﻟﻬﺬا ﻓﺈن اﻟﻨﻘﺪ اﻷﺳﺎﳼ اﻟﺬي وُﺟﱢ ﻪ إﱃ ﻣﺪرﺳﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻞ اﻟﻨﻔﴘ ،ﻫﻲ أﻧﻬﺎ ﻗﺎﻣﺖ ﻋﲆ
أﺳﺎس ﻣﻤﺎرﺳﺎت واﻋﺘﻴﺎدات اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﻛﻤﺎ وﺟﺪﻫﺎ ودرﺳﻬﺎ ﻓﺮوﻳﺪ ،وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﻻ
ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻄﺒﻴﻘﻬﺎ ﻋﲆ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻏري اﻷوروﺑﻴﺔ .وﻛﺬﻟﻚ ﺗﻮﺟﻪ اﻧﺘﻘﺎدات ﻛﺜرية إﱃ اﺳﺘﺨﺪام
ﻣﻨﻬﺞ رور ﺷﺎخ ﰲ اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪث ﻋﲆ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ؛ ﻷﻧﻪ ً
أﻳﻀﺎ
ﻳُﺒﻨَﻰ ﻋﲆ أﺳﺎس ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﻮﺟﻮد ﰲ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ.
وﺑﺮﻏﻢ ذﻟﻚ ﻓﺈن اﻻﺗﺠﺎه اﻟﻨﻔﴘ ﰲ اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻳﺠﺪ ً
ﺗﻘﺒﻼ واﺿﺤً ﺎ ﻳﻨﻌﻜﺲ ﰲ
اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻮم ﺑﻬﺎ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني ﻋﻦ ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﻄﻔﻮﻟﺔ ،وﺗﻜﻮﻳﻦ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ،
وﺗﺤﻠﻴﻞ اﻷﺣﻼم ،وﺗﺤﻠﻴﻞ ﻣﻄﻮل ﻟﻠﺘﺎرﻳﺦ اﻟﺸﺨﴢ )اﻟﱰاﺟﻢ( Autobiographyﻟﻌﺪد ﻣﻦ
أﻋﻀﺎء اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ،وﻛﻠﻬﺎ اﺗﺠﺎﻫﺎت ﺟﺪﻳﺪة ﰲ اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ .ﻟﻜﻦ اﻟﺨﻄﻮرة
اﻟﻮﺣﻴﺪة ﻫﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻤﻦ ﰲ أن ﺗﺴﺠﻴﻞ وﺗﺤﻠﻴﻞ ﻛﻞ ﻫﺬه املﻈﺎﻫﺮ ﻳﺘﻢ ﻋﲆ أﺳﺲ
.Malinowski, B., “The Father in Primitive Psychology”. New York 1927 12
286
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
وﻣﻨﺎﻫﺞ ﻣﺴﺘﻤﺪة ﻣﻦ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈن ﺑﻌﺾ املﻈﺎﻫﺮ اﻟﺘﻲ ﺗُﺴﺠﱠ ﻞ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن
ﻟﻬﺎ أﻫﻤﻴﺘﻬﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﺪارﺳني ،وﻫﻲ ﰲ واﻗﻊ اﻷﻣﺮ ﻣﻈﺎﻫﺮ ﻋﺎرﺿﺔ ﻟﻴﺲ ﻟﻬﺎ ﻫﺬه اﻷﻫﻤﻴﺔ ﻋﻨﺪ
اﻟﺒﺪاﺋﻴني أو ﻏري اﻷوروﺑﻴني .وﻣﻦ اﻷﻣﺜﻠﺔ ﻋﲆ ذﻟﻚ أن ﱄ-آن-ﳾ Li-An-Chiاﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ
اﻟﺼﻴﻨﻲ — ﺑﺤﻜﻢ ﺻﻔﺎﺗﻪ اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ املﻐﻮﻟﻴﺔ املﺸﺎﺑﻬﺔ ﻟﻸﻣﺮﻳﻨﺪ — اﺳﺘﻄﺎع أن ﻳﺤﺼﻞ
ﻋﲆ ﺻﻮرة ﻣﻐﺎﻳﺮة ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻟﻠﺼﻮرة اﻟﺘﻲ أﻋﻄﺎﻫﺎ »اﻟﺰوﻧﻲ ) «Zoniﻣﻦ ﻗﺒﺎﺋﻞ ﺟﻨﻮب ﻏﺮب
اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة( ﻟﻠﺪارﺳني اﻷﻣﺮﻳﻜﻴني13 .
.Herskovits, M., “Cultural Anthropology”. New York 1964. Pp. 339-400 13
287
اﻹﻧﺴﺎن
إن اﻻﺗﺠﺎه إﱃ دراﺳﺔ اﻟﻮﻇﻴﻔﺔ داﺧﻞ اﻟﺤﻀﺎرة اﺗﺠﺎه ﻋﺎم ﻗﺪﻳﻤً ﺎ وﺣﺪﻳﺜًﺎ ،واﻟﻐﺮض
اﻷﺳﺎﳼ ﻣﻦ اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرة ﻫﻮ إﻳﺠﺎد اﻟﺮواﺑﻂ املﺨﺘﻠﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺸﻜﻞ
وﺗﺘﻔﺎﻋﻞ ﻣﻌﻬﺎ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻋﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرة ،وﻗﺪ ﻗﺎم ﻋﺪد ﻣﻦ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني ﺑﻬﺬه املﻬﻤﺔ
اﺗﺠﺎﻫﺎ ذا ﺻﻔﺎت ﺧﺎﺻﺔ ﰲ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ .وﻣﻦ أﻣﺜﻠﺔً ﻗﺒﻞ أن ﺗﺼﺒﺢ اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ
ذﻟﻚ أﺑﺤﺎث رﻳﻔﺮز ) W. H. Riversأﺣﺪ رواد اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﱪﻳﻄﺎﻧﻴﺔ( ﻋﲆ املﻴﻼﻧﻴﺰﻳني
) .(١٩١٤ ،١٩٠٦وﻗﺪ ﺣﺎول رﻳﻔﺮز أن ﻳﺮﺑﻂ املﻴﻼﻧﻴﺰﻳني ﺑﺎﻟﺤﻀﺎرات املﺤﻴﻄﺔ ﻣﺘﺘﺒﻌً ﺎ
اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ ﰲ ﻣﻔﺮدات اﻟﺤﻀﺎرة.
ﻟﻜﻦ اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ اﻟﱪﻳﻄﺎﻧﻴﺔ ﺑﺪأت ﺑﻤﻘﺎﻻت ﻋﺪة ﻛﺘﺒﻬﺎ ﺑﺮوﻧﺴﻼف ﻣﺎﻟﻴﻨﻮﻓﺴﻜﻲ
،B. Malinowskiﻛﺎن أوﻟﻬﺎ ﻋﺎم ١٩٢٦ﰲ داﺋﺮة املﻌﺎرف اﻟﱪﻳﻄﺎﻧﻴﺔ ،واﺧﺘﺘﻤﻬﺎ ﺑﻜﺘﺎﺑﻪ ﻋﻦ
ﺷﻜﻼً ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﺤﻀﺎرة ﻋﺎم 14 .١٩٤٤وﰲ ﺳﻨﺔ ١٩٣٥ﺑﺪأت اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ اﻟﱪﻳﻄﺎﻧﻴﺔ ﺗﺘﺨﺬ
ﻣﺘﻜﺎﻣﻼ ﰲ ﺻﻮرة ﻣﻘﺎل ﻧﴩه راد ﻛﻠﻴﻒ ﺑﺮاون 15 .A. R. Radcliffe-Brownً ﻧﻈﺮﻳٍّﺎ
وﻣﻦ ﺧﻼل أﺑﺤﺎث ﻣﺎﻟﻴﻨﻮﻓﺴﻜﻲ ﻋﻦ ﻣﻨﻄﻘﺔ املﺤﻴﻂ اﻟﺒﺎﺳﻴﻔﻴﻜﻲ ﺑﺪت ﻟﻪ اﻟﺤﻀﺎرة
ﰲ ﺻﻮرة ﻛﻢ ﺣﻲ ﻣﺘﻔﺎﻋﻞ ،وأﺧﺬ ﻳﺘﻀﺢ ﻟﻪ أن ﻟﻜﻞ وﺣﺪة وﻣﻈﻬﺮ ﻣﻦ ﻣﻈﺎﻫﺮ اﻟﺤﻀﺎرة
ﻣﻌﻨًﻰ وﻣﻔﻬﻮﻣً ﺎ ﻣﻦ ﺧﻼل وﻇﻴﻔﺘﻪ وﻋﻼﻗﺘﻪ ﺑﺒﻘﻴﺔ املﻈﺎﻫﺮ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻷﺧﺮى .واﻧﺘﻬﻰ
ﻣﺎﻟﻴﻨﻮﻓﺴﻜﻲ إﱃ أن ﻫﻨﺎك ﻋﺪدًا ﻣﻦ اﻻﺣﺘﻴﺎﺟﺎت اﻟﻔﺮدﻳﺔ ﰲ ﻣﻘﺎﺑﻠﻬﺎ اﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ
اﻟﺤﻀﺎرة .وﻗﺪ ﻋﺪﱠد ﺳﺒﻌﺔ اﺣﺘﻴﺎﺟﺎت أﺳﺎﺳﻴﺔ ﻣﻦ أﻫﻤﻬﺎ :اﻟﺘﻜﺎﺛﺮ واﻷﻣﺎن واﻟﺤﺮﻛﺔ واﻟﻨﻤﻮ،
وﰲ ﻣﻘﺎﺑﻠﻬﺎ اﺳﺘﺠﺎﺑﺎت اﻟﺤﻀﺎرة :ﻧﻈﺎم اﻟﻘﺮاﺑﺔ واﻟﺤﻤﺎﻳﺔ واﻟﻨﺸﺎط واﻟﺘﺪرﻳﺐ .وﻫﻨﺎك
ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻻﺣﺘﻴﺎﺟﺎت اﻷﺧﺮى ﻳﺴﻤﻴﻬﺎ ﻣﺎﻟﻴﻨﻮﻓﺴﻜﻲ املﻠﺰﻣﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،وﻳﻘﺎﺑﻠﻬﺎ
أﻳﻀﺎ .ﻣﺜﺎل ذﻟﻚ :أن اﻷدوات واﻟﺴﻠﻊ املﻨﺘﺠﺔ ﻳﺠﺐ أن ﺗُﻨﺘَﺞ وﺗُﺴﺘﺨﺪَم
اﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ﺣﻀﺎرﻳﺔ ً
وﺗُﺼﺎن وﺗُﺠﺪﱠد ﺑﻮاﺳﻄﺔ إﻧﺘﺎج ﺟﺪﻳﺪ .إن ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ املﻠﺰﻣﺎت ﻫﺬه ﻳﻘﺎﺑﻠﻬﺎ ﰲ اﻻﺳﺘﺠﺎﺑﺔ
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﻗﺘﺼﺎدي ،وﺑﺎملﺜﻞ ﺗﺴﺘﺠﻴﺐ اﻟﺤﻀﺎرة ﺑﺎﻟﻀﻮاﺑﻂ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ملﻘﺎﺑﻠﺔ
Malinowski, B., “A Scientific Theory of Culture and Other Essays” Univ. North Carolina 14
.Press, 1944
وﻗﺪ Radcliffe-Brown, A. R., “On the Concept of Function in Social Science” 1936. 15
“Structure and Function in Primitive أُﻋِ ﻴ َﺪ ﻧﴩ ﻫﺬا املﻘﺎل ﻣﻊ إﺿﺎﻓﺎت ﺻﻐرية ﰲ ﻛﺘﺎب ﺑﺎﺳﻢ:
.Society” London 1952
288
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
ﻣﻠﺰﻣﺎت ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻣﻦ ﻧﻮع آﺧﺮ؛ ﻛﺎﻟﺴﻠﻮك اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﰲ ﻣﻴﺎدﻳﻦ اﻟﻌﺎدات واﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ واﻟﻘﻮاﻧني،
وﻛﺬﻟﻚ ﺗﺴﺘﺠﻴﺐ ملﺠﻤﻮﻋﺎت أﺧﺮى ﻣﻦ املﻠﺰﻣﺎت ﺑﺎﻟﺘﻌﻠﻴﻢ واﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻟﺴﻴﺎﳼ.
ﻣﺘﻜﺎﻣﻼ ﻣﺴﺘﻤﺪٍّا ﻣﺒﺎﴍ ًة
ً وﻋﻨﺪ راد ﻛﻠﻴﻒ ﺑﺮاون ﻧﺠﺪ اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ ﺗﺄﺧﺬ ﻃﺎﺑﻌً ﺎ ﻧﻈﺮﻳٍّﺎ
ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻔﺮﻧﴘ إﻣﻴﻞ دﻳﺮﻛﻬﺎﻳﻢ .وﻳﻘﻮل ﺑﺮاون :إن اﻟﻮﻇﻴﻔﺔ ﻫﻲ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻠﻨﺸﺎط،
وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﻬﻲ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻣﺴﺘﻤﺮة .وﻳﺮى أن ﻣﻔﻬﻮم اﻟﻮﻇﻴﻔﺔ ﻳﺘﻀﻤﻦ اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ،
وأن ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﻮﻇﻴﻔﺔ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرة ﺗﺆدي إﱃ املﺤﺎﻓﻈﺔ ﻋﲆ اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻟﺤﻀﺎري وﺗﺴﺎﻋﺪ
ﻋﲆ اﺳﺘﻤﺮارﻳﺔ اﻟﺤﻀﺎرة .وﻳﻨﺘﻬﻲ ﺑﺮاون إﱃ ﻓﻜﺮة اﻟﻮﺣﺪة اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ ،وﻫﻲ ﻓﻜﺮة ﻧﻈﺮﻳﺔ
ﺑﺤﺘﺔ .وﻳﺮى ﺑﺮاون أن ﻧﺘﺎﺋﺞ اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ ﺗﻨﺘﻬﻲ إﱃ أن درﺟﺔ اﻟﻮﺣﺪة اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ ﺑني
اﻟﺘﻜﺎﻣﻞ واﻟﺘﻌﺎرض ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻫﻲ املﻘﻴﺎس املﻮﺿﻮﻋﻲ ﰲ اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ.
وأﻫﻢ ﻣﺎ رﻛﺰ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺮاون ﰲ اﻻﺗﺠﺎه اﻟﻮﻇﻴﻔﻲ ﻫﻮ (١) :أن اﻟﱰﻛﻴﺐ ﻣﻌﺎدل وﻣﺮﺗﺒﻂ
ﺑﺎﻟﻮﻇﻴﻔﺔ (٢) .ﻓﻜﺮة اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﰲ ﻣﻘﺎﺑﻞ ﻓﻜﺮة اﻻﺣﺘﻴﺎﺟﺎت اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻋﻨﺪ
ﻣﺎﻟﻴﻨﻮﻓﺴﻜﻲ؛ ﻓﺎﻟﻮﻇﻴﻔﺔ ﻋﻨﺪ ﻣﺎﻟﻴﻨﻮﻓﺴﻜﻲ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﺣﺘﻴﺎج اﻟﻔﺮد ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻫﻲ ﻋﻨﺪ ﺑﺮاون
ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﺣﺘﻴﺎﺟﺎت املﺠﺘﻤﻊ.
وﻗﺪ ﻟﺨﺺ ﻓﻮرﺗﺲ ﰲ ﻣﻘﺎﻟﻪ ﻋﻦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ أﺳﺲ املﺪرﺳﺔ اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ
اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ﺑﻘﻮﻟﻪ …» :وﻛﻞ ﻋﺎدة )أو ﻧﻈﺎم( ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎن ﺗﺎرﻳﺨﻬﺎ ،ﻟﻬﺎ ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ ووﻇﻴﻔﺘﻬﺎ
ﰲ ﻋﻼﻗﺎﺗﻬﺎ ﺑﺎﻟﻨﻈﺎم اﻟﻌﺎم .وﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى :إن »اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ« ﻫﻲ وﺳﻴﻠﺔ ﻟﻠﺘﻮﺻﻞ إﱃ ﻧﺘﺎﺋﺞ
ﺧﺎﺻﺔ وﺟﻤﺎﻋﻴﺔ ﰲ ﺣﺪود رﺳﻤﺘﻬﺎ اﻟﺒﻴﺌﺔ وأﺣﺪاث اﻟﺘﺎرﻳﺦ واﻟﱰﻛﻴﺐ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻲ ﻟﻺﻧﺴﺎن
واﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ إﻗﺎﻣﺔ ﺣﻴﺎة اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻣﻨﻈﻤﺔ .وﻳﻨﺘﺞ ﻋﻦ ذﻟﻚ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻓﻬﻢ ﻋﺎدة ﻣﺎ ﻓﻬﻤً ﺎ
ً
ﻛﺎﻣﻼ ،إﻻ ﺧﻼل ﻧﺸﺎﻃﻬﺎ وﻋﻼﻗﺎت اﻷﻓﺮاد واملﺠﻤﻮﻋﺎت16 «.
Fortes, M., “Social Anthropology” in A. E. Heath “Scientific Thought in the Twentieth 16
.Century” London 1951, p. 340
289
اﻹﻧﺴﺎن
أن ﻫﺬه اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ ﺗﻜﻮﱢن »اﻟﺤﻀﺎرة ﻛﻠﻬﺎ ملﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﺎ ﻣﱪزة ﰲ إﻃﺎر ﻧﻈﺮي 17 «.ﻻ ﻳﻮاﻓﻘﻪ
ﻋﻠﻴﻪ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني.
وﻟﻘﺪ أوﺟﺪ ﺑﺮاون اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺸﺒﻪ ﺑني اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ واﻟﻮﻇﺎﺋﻒ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ،
وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈن املﺠﺎل املﻨﺎﺳﺐ ﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرة ﻛﺠﻬﺎز ﻋﻀﻮي ﻫﻮ دراﺳﺔ اﻟﱰﻛﻴﺐ،
وﻟﻴﺲ دراﺳﺔ ﻧﻤﻮ أو ﺗﻄﻮر اﻟﺤﻀﺎرة .ﻓﺈن ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ ﻛﺬﻟﻚ؛ ﺗﴩﻳﺢ وﻓﺴﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺑﺮﻓﻀﻬﺎ املﻄﻠﻖ واﻟﴫﻳﺢ ﻟﻜﻞ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ واﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ﺗﺼﺒﺢ ﻋﻠﻤً ﺎ
ﻧﺎﻗﺼﺎ؛ ﻷن ﻋﻠﻢ اﻟﺤﻴﻮان أو اﻟﻨﺒﺎت ﻻ ﻳﻘﺘﴫ ﻋﲆ اﻟﺘﴩﻳﺢ ووﻇﺎﺋﻒ اﻷﻋﻀﺎء ﻓﻘﻂ، ً
ﺑﻞ ﻳﺪرس اﻷﺻﻮل وﻋﻮاﻣﻞ اﻟﻨﻤﻮ .واملﻼﺣﻆ أن ﻛﻞ اﻟﻮﻇﻴﻔﻴني ﻗﺪ ﺗﺮﻛﻮا ﺟﺎﻧﺒًﺎ اﻷﺻﻮل
اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ أو اﻟﺘﻐريات اﻟﺘﻲ ﺗﻄﺮأ ﻋﲆ املﺠﺘﻤﻊ أو اﻟﻌﻼﻗﺎت املﺘﺒﺎدﻟﺔ ﺑني اﻟﺤﻀﺎرات ،وﺑﺬﻟﻚ
ﻓﺈن دراﺳﺎﺗﻬﻢ — ﺑﺮﻏﻢ ﺟﻮدﺗﻬﺎ — ﻟﻴﺴﺖ إﻻ ﻗﻄﺎﻋﺎت ﰲ اﻟﺤﻀﺎرة ،وﻻ ﺗﺸﻤﻞ اﻟﺤﻀﺎرة
ﻛﻜﻞ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﻄﺮح ﺟﺎﻧﺒًﺎ ﻣﺸﻜﻼت اﻟﺘﻐري اﻟﺤﻀﺎري واﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ واﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ.
واﻟﻮاﺿﺢ أن اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺒﺘﻌﺪ ﻛﺜريًا ﻋﻦ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ وﺗﺘﺠﻪ ﺑﺸﺪة إﱃ ﻣﺎ ﺗﺴﻤﻴﻪ
»اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ« .وﻳﻈﻬﺮ ذﻟﻚ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺎت راد ﻛﻠﻴﻒ ﺑﺮاون املﺘﺄﺧﺮة 18 ،وﻣﻦ اﺗﺠﺎﻫﺎت
ﻓريث وﺗﺎﻟﻜﻮت ﺑﺎرﺳﻮﻧﺰ وﻏريﻫﻢ .وﻗﺪ أﺛﺎر ذﻟﻚ اﻻﺗﺠﺎه ﻫﺠﻮﻣً ﺎ ﻋﲆ املﺪرﺳﺔ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ
ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني ﰲ أوروﺑﺎ وأﻣﺮﻳﻜﺎ .وﻣﻦ أﻣﺜﻠﺔ ذﻟﻚ ﻣﻘﺎل ﻣﺮدوك 19اﻟﺬي
أﺛﺎر ﻋﺪة ﻧﻘﺎط ،ﻣﻨﻬﺎ أن ﻫﺬه املﺪرﺳﺔ ﻧﺎد ًرا ﻣﺎ ﺗﺴﺘﻔﻴﺪ ﺑﻤﺆﻟﻔﺎت اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ أو
اﻷوروﺑﻴﺔ ،ﺑﻞ ﺗﺘﻘﻮﻗﻊ ﻋﲆ ﻧﻔﺴﻬﺎ وﻧﻈﺮﻳﺘﻬﺎ ،وأﻧﻬﺎ ﻣﺪرﺳﺔ ﻏري ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ﰲ ﻣﻮﻗﻔﻬﺎ؛ ﻷﻧﻬﺎ
ﺗﻘﴫ ﻫﻤﻬﺎ ﻋﲆ ﺑﺤﺚ اﻟﺘﻔﺎﻋﻼت اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ ﰲ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﻘﻠﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺪرﺳﻬﺎ املﺪرﺳﺔ،
290
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
وﻳُ َﺮ ﱡد ذﻟﻚ إﱃ ﻣﻮﻗﻒ ﺑﺮاون ﻣﻨﺬ أواﺳﻂ ﺛﻼﺛﻴﻨﺎت ﻫﺬا اﻟﻘﺮن .ﻛﻤﺎ ﻳُﻼﺣَ ﻆ أن ﻫﺬه املﺪرﺳﺔ
ﻻ ﺗﻬﺘﻢ ﺑﺎﻟﻨﻮاﺣﻲ اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﺑﺮﻏﻢ أن أﺣﺪ ﻣﺆﺳﺴﻴﻬﺎ — ﻣﺎﻟﻴﻨﻮﻓﺴﻜﻲ — ﻗﺪ ﺑﺤﺚ ﻛﺜريًا ﰲ
ﻋﻼﻗﺎت اﻷﻓﺮاد واملﺠﺘﻤﻊ ،وﻳﻬﺎﺟﻢ ﻣﺮدوك رأي ﺑﺮاون اﻟﻘﺎﺋﻞ ﺑﺈﻣﻜﺎن اﻟﺘﻮﺻﻞ إﱃ ﻗﻮاﻧني
ﻋﺎملﻴﺔ ﺗﺨﻀﻊ ﻟﻬﺎ املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻘﺒﻠﻴﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ دراﺳﺔ دءوﺑﺔ ﻟﻌﺪد ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت،
ﻮﺿﻊ ﰲ ﺻﻒ واﺣﺪ ﻣﻊ ﻋﻠﻤﺎء وﻳﺨﻠﺺ ﻣﺮدوك إﱃ اﻟﻘﻮل ﺑﺄن ﻫﺬه املﺪرﺳﺔ ﻳﺠﺐ أن ﺗُ َ
اﻻﺟﺘﻤﺎع ﰲ ﻋﴩﻳﻨﺎت ﻫﺬا اﻟﻘﺮن.
وﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻨﻘﺪ ،وﻟﺘﻄﻮر وﺻﻘﻞ املﺒﺎدئ واملﻨﺎﻫﺞ ،واملﺆﺗﻤﺮات اﻟﺪوﻟﻴﺔ،
وﻋﻮاﻣﻞ أﺧﺮى ﻛﺜرية؛ ﻧﺠﺪ أن املﺪرﺳﺔ اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ ﻗﺪ ﻗﻠﻠﺖ ﻛﺜريًا ﻣﻦ ﺗﻄﺮﻓﻬﺎ ،وﻳﺘﻀﺢ
ذﻟﻚ ﺟﻠﻴٍّﺎ ﻣﻦ ﻣﻘﺎل راﻳﻤﻮﻧﺪ ﻓريث R. Firthﻋﻦ اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ ﻋﺎم ١٩٥٥؛ إذ ﻳﻘﻮل إن ﻛﻠﻤﺔ
اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ ﻟﻢ ﺗﻌﺪ ﺗﻈﻬﺮ ﻛﺜريًا ﰲ اﻵوﻧﺔ اﻷﺧرية ،وإن ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺗﺘﻀﻤﻦ
أﺑﺤﺎﺛًﺎ ﻋﻦ املﻨﻬﺞ اﻟﻮﻇﻴﻔﻲ» .وﻗﺪ ﻇﻬﺮ ﰲ اﻟﻔﱰة اﻷﺧرية )أواﺋﻞ اﻟﺨﻤﺴﻴﻨﺎت( ﻧﻘﺺ ﰲ
اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺈﻋﺎدة اﻟﻨﻈﺮ ﰲ ﻣﻔﻬﻮم »اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ« ،وإن ﻛﺎن ﻫﻨﺎك اﺳﺘﻌﺪاد ﻻﺳﺘﺨﺪام اﻷﻓﻜﺎر
اﻟﺘﻲ ﻃﻮرﺗﻬﺎ »اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ« ،إﻣﺎ ﻣﻊ اﺳﺘﺨﺪام املﺼﻄﻠﺢ »اﻟﻮﻇﻴﻔﻲ« أو ﻋﺪم اﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ
… وﻳﺒﺪو أن اﻟﻨﻘﺎش ﻗﺪ ﺗﻌﺪى املﻌﺎرك اﻟﻠﻔﻈﻴﺔ املﺠﺪﺑﺔ ﻋﻦ ﻣﻌﻨﻰ اﻟﻮﻇﻴﻔﺔ إﱃ ﺗﻜﻮﻳﻦ
ﺻﻘﻼ وﻣﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ﺗﺴﺘﺨﺪم أﻓﻜﺎر »اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ« أو ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ً اﻗﱰاﺣﺎت واﻓﱰاﺿﺎت أﻛﺜﺮ
روﺣﻬﺎ20 «.
ﻛﺬﻟﻚ أﻋﺮب إﻳﻔﺎﻧﺰ ﺑﺮﺗﺸﺎرد ﻋﻦ اﻋﺘﻘﺎده ﺑﴬورة وﺟﻮد ﻣﺪﺧﻞ ﺗﺎرﻳﺨﻲ ﰲ اﻟﺪراﺳﺔ
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ 21 ،وﺑﺎملﺜﻞ ﻳﻈﻬﺮ ذﻟﻚ ﰲ أﺑﺤﺎث ﺷﺎﺑريا اﻷﺧرية ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﺠﺪ أن املﺪﺧﻞ
اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ملﺠﻤﻮﻋﺔ ﻗﺒﺎﺋﻞ ﺗﺴﻮاﻧﺎ )ﰲ دوﻟﺔ ﺑﺮﺗﺴﻮاﻧﺎ ﺑﺠﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ( اﻟﺘﻲ ﻳﺪرﺳﻬﺎ
ﴐوري ﻟﻔﻬﻢ وﺟﻮد ﺗﺮﻛﻴﺒﺎت ﻃﺒﺎﻗﻴﺔ ﺛﻼﺛﺔ ﰲ ﻫﺬا املﺠﺘﻤﻊ22 .
291
اﻹﻧﺴﺎن
ﻫﺬا املﺒﺪأ ﻫﻮ أﻛﺜﺮ املﺒﺎدئ اﻧﺘﺸﺎ ًرا ﰲ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻔﻜﺮ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ﻣﻨﺬ أواﺋﻞ ﻫﺬا
اﻟﻘﺮن ﺣﺘﻰ اﻵن ،وﻷﻧﻪ ﻣﺒﺪأ ﻣﻘﺒﻮل ﻓﻘﺪ ﺗﻌﺪدت ﺻﻮرة اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ ﺑني اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني
ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺗﻌﺪدًا ﻛﺒريًا ارﺗﺒﻂ ﺑﺎملﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ .ﻓﺎﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ ﰲ ﻋﻤﻮﻣﻴﺎﺗﻬﺎ
ﺗﺤﺎول إﻳﺠﺎد ﺣﻠﻘﺎت ﻟﺮﺑﻂ اﻟﺤﻀﺎرات ﻣﻌً ﺎ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺗﻔﺎﻋﻠﻬﺎ ﰲ املﻜﺎن اﻟﺠﻐﺮاﰲ ،وﻋﲆ
اﻟﺒﻌﺪ اﻟﺰﻣﻨﻲ .وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈن اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ ﺗﺪﻳﻦ ً
أﻳﻀﺎ ﺑﺎملﺒﺪأ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ﰲ ﻋﻼﻗﺎت اﻟﺤﻀﺎرات
أﻳﻀﺎ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﺳﻌﻲ ﻋﻨﺪ اﻟﻜﺜريﻳﻦ ﻣﻦ أﺻﺤﺎب املﺒﺪأ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺎﻟﺒﻌﺾ اﻵﺧﺮ؛ وﻟﻬﺬا ً
اﻻﻧﺘﺸﺎري ﰲ اﻟﺤﻀﺎرة إﱃ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻛﺘﺎﺑﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﺤﻀﺎري ﻟﻠﻨﺎس ،وﻫﺬه ﻫﻲ اﻟﻨﻘﻄﺔ
اﻟﺘﻲ ﺗﺠﺎﻫﻠﻬﺎ أﺻﺤﺎب اﻻﺗﺠﺎه اﻟﻨﻔﴘ ﰲ ﺧﻼل ﺗﺤﻴﺰﻫﻢ ﻟﻔﻜﺮة أن اﻟﺪواﻓﻊ واﺣﺪة ﻋﻨﺪ ﻛﻞ
اﻟﻨﺎس ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺎﻟﱰﻛﻴﺒﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﺗﻨﺒﻊ ﻣﻦ داﺧﻞ اﻟﻨﺎس دون إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﺗﻠﻘﻲ دواﻓﻊ
أﺧﺮى ﺧﺎرﺟﻴﺔ .وﻛﺬﻟﻚ ﺗﺠﺎﻫﻞ اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﻮن اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﺤﻀﺎري ﻟﻠﻨﺎس ﻣﻌﺘﻤﺪﻳﻦ ﻋﲆ ﻓﻜﺮة
أن اﻟﺪواﻓﻊ ﺗﻨﺰع إﱃ اﻻﺧﺘﻼف ﻋﻨﺪ اﻟﻨﺎس ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﺗﺨﺘﻠﻒ ً
أﻳﻀﺎ اﻟﱰﻛﻴﺒﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ
دون إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﺗﻠﻘﻲ دواﻓﻊ ﺧﺎرﺟﻴﺔ.
وﻧﻈ ًﺮا ﻟﻜﺜﺮة اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ واﺧﺘﻼف ﻣﺪارﺳﻬﺎ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ؛ ﻓﺈﻧﻨﺎ ﺳﻨﺤﺎول أن
ﻧﺮﻛﺰ اﻟﺪراﺳﺔ ﰲ ﻋﺪد ﻣﻦ املﺪارس ،ﻫﻲ:
) (١املﺪرﺳﺔ املﴫﻳﺔ أو املﺪرﺳﺔ اﻟﺸﻤﺴﻴﺔ ،وﻫﻲ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ اﺗﺠﺎه أﺳﺴﻪ ﺑﻌﺾ اﻟﻌﻠﻤﺎء
اﻹﻧﺠﻠﻴﺰ.
) (٢ﻣﺪرﺳﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﺤﻀﺎري أو املﺪرﺳﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ اﻟﻨﻤﺴﺎوﻳﺔ ،وﻗﺪ اﺷﺘُ ِﻬ َﺮ ْت ﰲ أواﺳﻂ
ﻫﺬا اﻟﻘﺮن ﺑﺎﺳﻢ ﻣﺪرﺳﺔ ﻓﻴﻴﻨﺎ.
) (٣اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ ﻋﻨﺪ ﺑﻌﺾ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني ﺧﺎرج أملﺎﻧﻴﺎ واﻟﻨﻤﺴﺎ.
ً
أوﻻ :املﺪرﺳﺔ املﴫﻳﺔ
وﺗُﺴﻤﱠ ﻰ أﺣﻴﺎﻧًﺎ املﺪرﺳﺔ اﻟﺸﻤﺴﻴﺔ Heliolithic Schoolﻧﺴﺒﺔ إﱃ إﻟﻪ اﻟﺸﻤﺲ املﴫي،
وﻗﺪ ﺑﺪأ ﻫﺬا اﻻﺗﺠﺎه اﻻﻧﺘﺸﺎري اﻟﺴري ﺟﺮاﻓﺘﻮن إﻟﻴﻮت ﺳﻤﻴﺚ G. Elliot Smithأﺳﺘﺎذ
اﻟﺘﴩﻳﺢ املﻌﺮوف ،وﻗﺪ ﻗﺎده ﺗﴩﻳﺢ املﺦ إﱃ دراﺳﺔ املﻮﻣﻴﺎءات املﴫﻳﺔ ﰲ ﻣﺴﺘﺸﻔﻰ
»اﻟﻘﴫ اﻟﻌﻴﻨﻲ« ﰲ اﻟﻘﺎﻫﺮة ﰲ أواﺋﻞ ﻫﺬا اﻟﻘﺮن ،وﻗﺪ أدى ﺑﻪ اﻷﻣﺮ إﱃ دراﺳﺔ اﻟﻌﺎدات
اﻟﺠﻨﺎﺋﺰﻳﺔ ﰲ ﻣﴫ اﻟﻔﺮﻋﻮﻧﻴﺔ ،ﻛﻤﺎ ﺗﺄﺛﺮ ﺑﺸﺪة ﺑﺎﻟﺤﻀﺎرة املﴫﻳﺔ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ .وﺑﻌﺪ
292
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
23اﻋﺘﻘﺪ املﴫﻳﻮن اﻟﻘﺪﻣﺎء أن ﻣﻼﻣﺴﺔ اﻟﺠﺴﻢ ﻟﻠﻤﻌﺎدن اﻟﻨﻔﻴﺴﺔ ﺗﻌﻄﻲ ﻟﻠﺠﺴﻢ ﻗﻮة اﻟﺤﻴﺎة ،وﺑﺮﻏﻢ أن
اﻟﺬﻫﺐ وﻏريه ﰲ ﺻﻮرة أﺳﺎور وﻋﻘﻮد وﻣﺎ إﱃ ذﻟﻚ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﺤﲇ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻧﻘﻮد ﻣﺠﻤﺪة ،إﻻ أﻧﻨﺎ ﻧﺮى
أن املﴫﻳﺎت — وﺧﺎﺻﺔ ﺑﻨﺎت اﻟﺒﻠﺪ ﰲ املﺪن ،وﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻟﺮﻳﻔﻴﺎت — إﱃ اﻵن ﻳﻤﺎرﺳﻦ ﻟﺒﺲ ﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء
ﺑﺼﻔﺔ ﻣﺴﺘﻤﺮة ﻛﻨﻮع ﻣﻦ اﻻﺳﺘﻤﺮار اﻟﺤﻀﺎري دون ﻣﻌﺮﻓﺔ أﺻﻮل اﻟﻌﺎدة .ﻛﺬﻟﻚ ﺗﺪل دراﺳﺘﻨﺎ املﻴﺪاﻧﻴﺔ
ﰲ اﻟﺪﻟﺘﺎ ﻋﲆ أن ﻫﻨﺎك اﻋﺘﻘﺎدات ﺣﺎﻟﻴﺔ ﰲ أن اﻟﻶﻟﺊ — ﺑﺎﺳﺘﺨﺪام ﻃﻘﴘ ﻣﻌني — ﺗﺴﺎﻋﺪ اﻟﻌﺎﻗﺮات ﻋﲆ
اﻹﻧﺠﺎب — أي إﻧﻬﺎ ﻣﺎﻧﺤﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎة ،وﻫﺬا ﰲ ﺣﺪ ذاﺗﻪ اﺳﺘﻤﺮار واﺿﺢ ملﻔﺎﻫﻴﻢ ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻣﴣ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻋﺪة
آﻻف ﻣﻦ اﻟﺴﻨني دون ﺗﻐﻴري.
293
اﻹﻧﺴﺎن
ﻣﺠﺎﻻ ﻛﺒريًا ﻟﻨﻤﻮ اﻟﺤﻀﺎرات ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ ﻋﻨﺎﴏﻫﺎ ،وﺗﻜﺎد أنً ﻣﴫ ،وﻟﻢ ﺗﱰك
ﺗﺤﺮم اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﰲ أﺟﺰاء اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻷﺧﺮى )ﻏري ﻣﴫ( ﻣﻦ إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ اﻹﺑﺪاع واﻻﺧﱰاع .ﻛﺬﻟﻚ
ﻳﻬﺎﺟﻢ ﺟﻮردون ﺗﺸﺎﻳﻠﺪ ﻓﻜﺮة اﻟﺴﺒﻖ اﻟﺤﻀﺎري املﴫي ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻋﲆ أن املﴫﻳني ﻗﺪ
اﺳﺘﻌﺎروا ﻓﻜﺮة اﺳﺘﺨﺪام املﻌﺎدن ﻣﻦ أﺻﻮل آﺳﻴﻮﻳﺔ ،ﺑﺮﻏﻢ أﻧﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﺪﻳﻬﻢ ﻛﻞ اﻟﻔﺮﺻﺔ
ﻻﻛﺘﺸﺎف أﴎار ﺻﻬﺮ املﻌﺎدن واﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ24 .
ﺷﻜﻞ 1-4
وﻻ ﺗﻤﺜﻞ املﺪرﺳﺔ املﴫﻳﺔ اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ املﺘﻄﺮﻓﺔ وﺣﺪﻫﺎ ،ﺑﻞ ﻫﻨﺎك ﻣﺪرﺳﺔ أﺧﺮى ﻋﲆ
رأﺳﻬﺎ ﻓﻴﻨﻜﻠﺮ وﻫﻮﻛﺎرت وﺑﺮﻳﺪوود 25ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﺘﻨﻖ ﻓﻜﺮة أن ﺳﻮﻣﺮ وﺑﺎﺑﻞ )ﰲ ﺟﻨﻮب
اﻟﻌﺮاق( ﻛﺎﻧﺖ املﺼﺪر اﻟﻨﻬﺎﺋﻲ ﻟﻠﺤﻀﺎرة ،وﻣﻨﻬﺎ اﻧﺘﴩت إﱃ ﻣﴫ وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ أﺟﺰاء
.Childe, G., V., “Social Evolution” London 1951 pp. 24-25 24
25ﻳﻌﺘﻘﺪ ﺑﺮﻳﺪوود أن اﻟﺤﻀﺎرات املﴫﻳﺔ وﺣﻀﺎرة ﻫﺎراﺑﺎ ﰲ اﻟﺴﻨﺪ ﻗﺪ أﺧﺬت أﺻﻮﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﺼﺪر واﺣﺪ،
ﻫﻮ ﺣﻀﺎرات ﻣﺎ ﺑني اﻟﻨﻬﺮﻳﻦ .وﻫﻮ ﻳﻌﺘﻘﺪ أن اﻟﺘﻐريات ﰲ اﻹﻧﺘﺎج ﻣﻦ اﻟﺠﻤﻊ إﱃ اﻟﺰراﻋﺔ واﺳﺘﺌﻨﺎس
اﻟﺤﻴﻮان — اﻟﺘﻲ ﺣﺪﺛﺖ ﻓﺠﺄة ﺣﻮاﱄ ٦٠٠٠ق.م — ﻟﻢ ﺗﺆ ﱢد وﺣﺪﻫﺎ إﱃ ﻧﺸﺄة اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ ،ﺑﻞ إن ذﻟﻚ
294
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺒﺎﺣﺜني ﰲ اﻟﺤﻀﺎرة ﻋﲆ رأﺳﻬﺎ ﻟﻮرد راﺟﻼن
اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﺘﻘﺪ أن املﺼﺪر اﻷﺳﺎﳼ ﻟﻠﺤﻀﺎرة ﻛﺎن ﰲ ﻣﻜﺎن ﻣﺎ ﻏري ﻣﻌﺮوف اﻵن
!terra incongnitaوﻳﺬﻫﺐ راﺟﻼن ﰲ ﺗﻄﺮﻓﻪ ﺑﻌﻴﺪًا ،ﻓﻴﻘﻮل :إن اﻟﺸﻌﻮب اﻟﻮﺣﺸﻴﺔ
)اﺻﻄﻼح ﻋﲆ اﻟﺒﺪاﺋﻴني( ﻟﻢ ﺗﺨﱰع أو ﺗﻜﺘﺸﻒ أي ﳾء 26 .وﻫﻜﺬا ﻳﺒﻠﻎ اﻟﺘﻄﺮف أﺷﺪه
ﻋﺎﻣﺔ ﺑﺎﻋﺘﻘﺎدﻫﺎ أن ﺷﻌﺒًﺎ ﻣﺨﺘﺎ ًرا )راﺟﻼن( أو ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻣﻦ ً ﻋﻨﺪ اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ
اﻷﺣﺪاث واملﺼﺎدﻓﺎت اﻟﺴﻌﻴﺪة ،أدت إﱃ ﻗﻴﺎم املﺪﻧﻴﺔ ﰲ ﻣﴫ )إﻟﻴﻮت ﺳﻤﻴﺚ( ﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪت
ﻋﲆ أن ﺗﻨﴩ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻻﺧﱰاﻋﺎت واﻻﻛﺘﺸﺎﻓﺎت ﺑني ﺷﻌﻮب اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﺗﺨﺮﺟﻬﻢ
ﻣﻦ ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﻮﺣﺸﻴﺔ املﺠﺮدة ﻣﻦ اﻻﺧﱰاع واﻟﺘﻘﺪم ،وﻗﺪ أدت ﻫﺬه اﻻﻓﱰاﺿﺎت اﻟﻐﻴﺒﻴﺔ أو
املﺘﻄﺮﻓﺔ إﱃ ﺟﻤﻮد ﻫﺬه اﻷﻧﻮاع ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ وﻋﻘﻤﻬﺎ وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﻓﺸﻠﻬﺎ وﺳﻘﻮﻃﻬﺎ.
وﺑﺮﻏﻢ اﻧﺘﻬﺎء ﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ املﻐﺎﻟﻴﺔ ،إﻻ أن أﻧﻮاﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ املﺤﺪودة
ﻣﺎ زاﻟﺖ ﻗﺎﺋﻤﺔ ﰲ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﺪراﺳﺎت اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ املﻌﺎﴏة ،وﻛﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﺑﻌﺾ اﻟﻜﺸﻮف
اﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﺗﺆدي إﱃ إﻋﺎدة اﻟﻨﻈﺮ ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻵراء اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ.
وﻣﻦ أﻫﻢ اﻷﻣﺜﻠﺔ ﻋﲆ ذﻟﻚ اﻟﻜﺸﻮف اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺣﻀﺎرة »املﺎﻳﺎ« ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ
ﻒ ﻣﺆﺧ ًﺮا ﺗﺤﺖ ﻫﺮم ﻣﻌﺒﺪ »ﺑﺎﻟﻨﻚ «Palenqueﺣﺠﺮة دﻓﻦ ﻣﻐﻠﻘﺔ اﻟﻮﺳﻄﻰ .ﻟﻘﺪ اﻛﺘُ ِﺸ َ
و ُِﺟ َﺪ ﻓﻴﻬﺎ ﺗﺎﺑﻮت ﺣﺠﺮي .وﻳﻘﻮل إﻳﻜﻬﻮﻟﻢ» :ﻫﺬا ﻛﺸﻒ ﻣﺜري ﻟﻴﺲ ﻓﻘﻂ ﻟﻐﺮاﺑﺔ ﺑﻨﺎء ﻫﺮم
أﻳﻀﺎ ﻟﺮوﻋﺔ أﺷﻜﺎل ﻣﻌﺒﺪ ﻓﻮق ﻣﻘﱪة — وإن ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ذﻟﻚ ﻫﻮ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة — وإﻧﻤﺎ ً
اﻟﺤﻔﺮ اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ واﻷﺷﻴﺎء املﺼﻨﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻷﺣﺠﺎر اﻟﻜﺮﻳﻤﺔ … وإن ﻫﺬا ﻟﻴﻀﻴﻒ ﻛﺜريًا إﱃ
ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻓﻨﻮن ﺑﺎﻟﻨﻚ اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺑﺪون ﺷﻚ أﻛﺜﺮ ﻓﻨﻮن اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ دﻗﺔ ورﻗﺔ«27 .
ووﺟﻮد »ﻫﺮم ﻣﻌﺒﺪ« ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ ﻫﻮ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻘﱪة أو ﻫﺮم ﻣﻘﺎم ﻓﻮق ﻣﻘﱪة،
إﻧﻤﺎ ﻳﺪﻋﻮ ﺑﺸﺪة إﱃ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ اﻷﻫﺮاﻣﺎت املﴫﻳﺔ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﻋﲆ أﺳﺎس ﻣﻤﺎﺛﻞ ،وﺣﻴﻨﻤﺎ
ﻮﺟﻤَ ﺖ اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ اﻧﺼﺐ اﻟﻬﺠﻮم ﻋﲆ أن اﻟﺸﻜﻞ وﺣﺪه ﻟﻴﺲ ﻣﺪﻋﺎة ُﻫ ِ
اﺳﺘﺪﻋﻰ ﺗﻄﻮ ًرا اﺟﺘﻤﺎﻋﻴٍّﺎ ﺳﻴﺎﺳﻴٍّﺎ ﺧﻠﻘﻴٍّﺎ دﻳﻨﻴٍّﺎ ﺳﺎﻋﺪ ﻋﲆ ﺗﻜﺎﻣﻞ اﻟﺴﻜﺎن املﺘﺰاﻳﺪﻳﻦ ﻋﺪدﻳٍّﺎ ﰲ إﻃﺎر ﻣﺪﻧﻲ
ﺣﻀﺎريBraidwood, R. J., “The Near East and the Foundations for Civilization” Oregon .
.State system of Higher Education, Eugene, Ore., 1952
26ﻟﻮرد راﺟﻼن ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ ١٩٣٩ How Came Civilizationص … ١٧٠ﻋﻦ ﺟﻮردون ﺗﺸﺎﻳﻠﺪ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ
آﻧﻔﺎ ١٩٥١ص.٢٥-٢٤ املﺬﻛﻮر ً
Ekholm, G. F., “News World Culture History” in “Current Anthropology” ed. 27
.W. L. Thomas, Uni. Chicago Press 1956, p. 104
295
اﻹﻧﺴﺎن
ﻹﻳﺠﺎد ﺻﻼت ﺣﻀﺎرﻳﺔ اﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ ﺑني ﻣﴫ اﻟﻔﺮﻋﻮﻧﻴﺔ وأﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻮﺳﻄﻰ ،ﺑﻞ ﻻ ﺑﺪ أن
ﻳﺤﺴﺐ ﺣﺴﺎب اﻟﻮﻇﻴﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻮم ﻣﻦ أﺟﻠﻬﺎ اﻟﺒﻨﺎء .وﺑﻬﺬا اﻟﻜﺸﻒ ﻳﺰول ﺟﺰء ﻣﻦ اﻟﻬﺠﻮم
ﻋﲆ املﺪرﺳﺔ املﴫﻳﺔ .ﻓﺈذا ﻛﺎن اﻟﻬﺮم املﴫي ﻣﻘﱪة ﻣﻠﻜﻴﺔ ،ﻓﺈن ﺑﻌﺾ أﻫﺮاﻣﺎت أﻣﺮﻳﻜﺎ
أﻳﻀﺎ ﻣﻘﺎﺑﺮ ﻣﻤﺎﺛﻠﺔ ﺗﺴﺘﺨﺪم اﻟﺘﻮاﺑﻴﺖ اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ وﺗﻀﻊ ﰲ ﺣﺠﺮة اﻟﺪﻓﻦ اﻟﻜﺜري ﻛﺎﻧﺖ ً
ﻣﻦ اﻟﻜﻨﻮز اﻟﻔﻨﻴﺔ .ﻳﺒﻘﻰ أن اﻟﻬﺮم اﻷﻣﺮﻳﻜﻲ ﻛﺎن ﻳُﺴﺘﺨﺪَم ً
أﻳﻀﺎ ﻛﻤﻌﺒﺪ ،وﻟﻜﻦ املﻌﺎﺑﺪ
اﻟﺠﻨﺎﺋﺰﻳﺔ ﰲ ﻣﴫ ﻛﺎﻧﺖ ﺗُﻘﺎم إﱃ ﺟﻮار اﻷﻫﺮام وﻟﻴﺲ ﻓﻮﻗﻬﺎ .ﻓﻬﻞ ﻳﺴﻤﺢ اﻟﻨﻘﻞ اﻟﺤﻀﺎري
ﻋﲆ أﺑﻌﺎد زﻣﻨﻴﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ )ﺗﺎرﻳﺦ اﻷﻫﺮاﻣﺎت املﴫﻳﺔ ﻳﻌﻮد إﱃ ﺣﻮاﱄ ﻧﻬﺎﻳﺎت اﻷﻟﻒ اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ
ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗُﺆ ﱠرخ ﺑﻌﺾ آﺛﺎر املﺎﻳﺎ ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﻣﻨﻬﺞ ﻛﺮﺑﻮن ١٤إﱃ ﺣﻮاﱄ ﺳﻨﺔ ٤٥٠
ﻣﻴﻼدﻳﺔ ﺑﺰﻳﺎدة أو ﻧﻘﺺ ١١٠ﺳﻨﻮات(28 .
ِﻀ ْﺖ ﻓﻴﻪ آراء املﺪرﺳﺔ املﴫﻳﺔ ،ﺗﻌﻴﺪ ﻣﻦواﻟﻌﻮدة إﱃ اﻟﺸﻜﻮك ﰲ اﻟﻬﺠﻮم اﻟﺬي ُرﻓ َ
ﺟﺪﻳﺪ اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ إﻋﺎدة ﺗﻘﻴﻴﻢ املﺪرﺳﺔ املﴫﻳﺔ ﻋﲆ أﺿﻮاء ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ )اﻟﺪﻳﻦ – اﻟﺘﻘﻮﻳﻢ
ً
ﺧﺎﺻﺔ وأن ﻫﻨﺎك ﺗﺸﺎﺑﻬً ﺎ ﻛﺒريًا ﰲ اﻟﺸﻜﻞ ﺑني ﻋﺪد اﻟﺴﻨﻮي – اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻟﺴﻴﺎﳼ … إﻟﺦ(،
ﻣﻦ املﻨﺘﺠﺎت املﺎدﻳﺔ :ﻓﻨﻮن املﺎﻳﺎ ورﺳﻮﻣﻬﻢ اﻟﺘﻲ ﺗﺸﺒﻪ ﰲ ﻛﺜري اﻟﺮﺳﻮم املﴫﻳﺔ ﰲ ﻣﺒﺪأ
رﺳﻢ اﻟﻘﻮارب ورﻣﺰ املﺎء وﺗﺼﻮﻳﺮ اﻷﺷﺠﺎر ،وﻛﺬﻟﻚ اﻟﺘﺸﺎﺑﻪ اﻟﻐﺮﻳﺐ ﺑني إﻟﻪ اﻟﺬرة ﻋﻨﺪ
املﺎﻳﺎ ،واﻟﺼﻘﺮ اﻟﺬي ﻳﻮﺟﺪ ﻓﻮق رأﺳﻪ ،وﺑﻌﺾ ﺗﻤﺎﺛﻴﻞ املﻠﻮك املﴫﻳﺔ ﻣﻊ ﺻﻘﺮ ﺣﻮرﻳﺲ.
إن اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ﰲ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﺗﻌﻮد إﱃ أواﺧﺮ اﻟﻘﺮن املﺎﴈ ﻛﺮد ﻓﻌﻞ
ﺷﺪﻳﺪ ﺿﺪ اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ املﺘﻄﺮﻓﺔ ،وﺿﺪ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻌﺪﻳﺪة اﻟﺘﻲ ﻗﺪﻣﻬﺎ أدوﻟﻒ ﺑﺎﺳﺘﻴﺎن ،وأﻏﺮق
ﺑﻬﺎ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﰲ أملﺎﻧﻴﺎ ملﺪة ﺟﻴﻞ ﺑﺄﻛﻤﻠﻪ .وﻗﺪ ﺑﺪأت ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر واﻻﺗﺠﺎﻫﺎت اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ
ﰲ اﻟﻈﻬﻮر ﺑني اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴني اﻟﺒﴩﻳني اﻷملﺎن ،أﻣﺜﺎل ﻓﺮدرﻳﻚ راﺗﺰل وإدوارد ﻫﺎن ،E. Hahn
وﻗﺪ وﺻﻞ ﻫﺬان اﻟﺒﺎﺣﺜﺎن — ﻣﻨﻔﺼﻠني — ﰲ ١٨٩١إﱃ أن اﻟﺰراﻋﺔ ﻗﺪ اﻋﺘﻤﺪت ﻋﲆ
ﻣﺒﺪأﻳﻦ :اﻟﻔﺄس أو املﺤﺮاث ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈن ﻫﻨﺎك اﺧﺘﻼﻓﺎت ﺟﺬرﻳﺔ ﺑني ز ﱠراع اﻟﻔﺄس وزراع
املﺤﺮاث .ﻛﺬﻟﻚ أﻋﻠﻦ »ﻫﺎن« أن اﺳﺘﺌﻨﺎس اﻟﺤﻴﻮان ﺟﺎء ﺑﻌﺪ اﻛﺘﺸﺎف زراﻋﺔ اﻟﻔﺄس ،ورﻏﻢ
296
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
اﻋﺘﻘﺎده ﺑﺈﻣﻜﺎن اﻛﺘﺸﺎف زراﻋﺔ اﻟﻔﺄس ﻋﺪة ﻣﺮات ﰲ أﺟﺰاء اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺨﺘﻠﻔﺔ ،إﻻ أﻧﻪ أﻛﺪ أن
زراﻋﺔ املﺤﺮاث واﺳﺘﺌﻨﺎس اﻟﺤﻴﻮان واﻛﺘﺸﺎف ﻣﺒﺪأ اﻟﻌﺠﻠﺔ ،ﻗﺪ ﺗﻤﺖ ﻛﻠﻬﺎ ﰲ اﻟﴩق اﻷدﻧﻰ
اﻟﻘﺪﻳﻢ ،ﺛﻢ اﻧﺘﴩت ﻣﻨﻪ إﱃ ﺑﻘﻴﺔ أﺟﺰاء اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻗﺪ أﺻﺒﺤﺖ ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر اﻵن أﻓﻜﺎ ًرا
ﺑﺪﻳﻬﻴﺔ ﻧﻌﺘﻨﻘﻬﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﻣﻌﺮوﻓﺔ ،ﺑﺮﻏﻢ أن اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻴﻬﺎ ﻛﺎن ﺣﺪﻳﺜًﺎ ﺟﺪٍّا
ﻳﻤﺾ ﻋﻠﻴﻪ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ٨٠ﻋﺎﻣً ﺎ.
ﻟﻢ ِ
وﻗﺪ اﺷﱰك اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ اﻷملﺎﻧﻲ ﻫﺎﻳﻨﺮﻳﺦ ﺷﻮرﺗﺰ H. Schurtzﺑﻤﺴﺎﻫﻤﺔ واﺿﺤﺔ
وﻛﺒرية ﰲ إدﺧﺎل اﻟﻔﻜﺮ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ إﱃ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻷملﺎﻧﻴﺔ املﺒﻜﺮة .ﻓﻔﻲ ﺳﻨﺔ ١٨٩٥
ﻧﴩ ﺑﺤﺜًﺎ ﻋﻦ »زﻳﻨﺔ اﻟﻌني واملﺸﻜﻼت املﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﻬﺎ« ﻋﻨﺪ ﺳﻜﺎن ﺳﺎﺣﻞ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﱄ
اﻟﻐﺮﺑﻲ ،ورﺑﻂ ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑني اﻷﺷﻜﺎل املﻮﺟﻮدة ﰲ إﻧﺪوﻧﻴﺴﻴﺎ وﻣﻴﻼﻧﻴﺰﻳﺎ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻛﺎن أول
إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ﰲ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻳﻜﺘﺐ ﻋﻦ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﺑني اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ واﻟﺠﺪﻳﺪ
ﻋﱪ املﺤﻴﻂ اﻟﻬﺎدي ،وﻧﻈ ًﺮا ﻷﻧﻪ ﻛﺎن ﺑﺤﺜًﺎ ﻣﺒﻜ ًﺮا ﻓﻘﺪ ﻧ ُ ِﻈﺮ إﻟﻴﻪ ﻋﲆ أﻧﻪ أﻣﺮ ﻏﺮﻳﺐ وﻟﻢ
ﻗﺒﻮﻻ ﰲ وﻗﺘﻪ .وﰲ ﺳﻨﺔ ١٩٠٢ﻧﴩ ﺷﻮرﺗﺰ ﻛﺘﺎﺑﻪ ﻋﻦ »ﻃﺒﻘﺎت اﻟﺴﻦ وﻋﺼﺐ اﻟﺮﺟﺎل ﻳَ ْﻠ َﻖ ً
أﻳﻀﺎ ﻷول ﻣﺮة «Alterklassen und Männerbündeوﻓﻴﻪ ﻳﻮﺟﻪ ﻧﻈﺮ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ — ً
— إﱃ ﻣﺸﻜﻼت ﻟﻢ ﺗَﻤَ ﱠﺲ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﺗﻨﻈﻴﻤﺎت ﻣﺠﺘﻤﻊ اﻟﺮﺟﺎل ،ﻣﺜﻞ ﺑﻴﺖ اﻟﺮﺟﺎل أو ﻧﺎدي
اﻟﺮﺟﺎل ،واﻟﺠﻤﻌﻴﺎت اﻟﴪﻳﺔ — وﻃﺒﻘﺎت اﻟﺴﻦ … إﻟﺦ.
ﻃﻮﻳﻼ ﰲ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻷملﺎﻧﻴﺔً وﻟﻜﻦ دور ﻟﻴﻮ ﻓﺮوﺑﻴﻨﻴﻮس L. Frobeniusﻛﺎن
اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ،ﻓﻔﻲ ﺳﻨﺔ ١٨٩٥ﻳﺒﺪأ ﻓﺮوﺑﻴﻨﻴﻮس ﺑﻔﻜﺮة ﺟﺮﻳﺌﺔ ﻻﻧﺘﻘﺎل اﻟﺤﻀﺎرات ﻋﱪ
املﺤﻴﻄﺎت :اﻧﺘﺸﺎر ﺣﻀﺎري ﺑني إﻧﺪوﻧﻴﺴﻴﺎ وأﻓﺮﻳﻘﻴﺎ .وﰲ ﺳﻨﺔ ١٨٩٨ﻳﻄﻮر اﻟﻔﻜﺮة ﰲ
ﻛﺘﺎﺑﻪ »أﺻﻞ اﻟﺤﻀﺎرات اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ« “Der Ursprung der Afrikanischen Kulturen”,
.Berlin 1894
وﻗﺪ ﺣﺎول أن ﻳﺜﺒﺖ ﻓﻴﻪ وﺟﻮد داﺋﺮة ﺣﻀﺎرﻳﺔ Kulturkreiseﻣﺎﻟﻴﺰﻳﺔ زﻧﺠﻴﺔ ﰲ
ﻏﺮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻨﻔﻮذ إﻧﺪوﻧﻴﴘ ﺣﻀﺎري ُﻗﺪﱢم ﰲ ﺻﻮرة ﻣﻮﺟﺔ ﺣﻀﺎرﻳﺔ إﱃ اﻟﺴﺎﺣﻞ
اﻟﴩﻗﻲ ﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،ﺛﻢ ﻋﱪت اﻟﻘﺎرة إﱃ ﻏﺮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﺣﻴﺚ ﻻ ﺗﺰال ﺑﻘﺎﻳﺎﻫﺎ ﻣﻮﺟﻮدة ،ﺑﻴﻨﻤﺎ
ﻃ ِﻤ َﺴ ْﺖ آﺛﺎرﻫﺎ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﰲ ﴍق اﻟﻘﺎرة ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﻫﺠﺮات اﻟﺒﺎﻧﺘﻮ واﻟﺤﺎﻣﻴني ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ. ُ
وﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎن ﻟﻬﺬا اﻟﺮأي ﻣﻦ وﺟﺎﻫﺔ ﺗﺪﻋﻮ ﺑﻌﺾ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني اﻷﻣﺮﻳﻜﻴني املﻌﺎﴏﻳﻦ
ﻣﺜﻞ ﻣﺮدوك وﻫﺎﺗﻮن إﱃ ﺗﺄﻳﻴﺪه ،ﻓﺈن اﻟﺬي ﻳﻬﻤﻨﺎ ﻫﻨﺎ ﻫﻮ أن ﻓﺮوﺑﻴﻨﻴﻮس ﻛﺎن أول
إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ﻳﻔﴪ اﻟﻌﻼﻗﺎت املﺘﺸﺎﺑﻬﺔ ﺑﺎﻟﻬﺠﺮة ﺣﺘﻰ ﻋﲆ ﻣﺒﻌﺪة آﻻف اﻟﻜﻴﻠﻮﻣﱰات ،وﻻ ﻳﻠﺠﺄ
إﱃ اﻷﻓﻜﺎر ﻏري املﻠﻤﻮﺳﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻠﺠﺄ إﻟﻴﻬﺎ آﺧﺮون ﻟﺘﻔﺴري اﻟﺘﺸﺎﺑﻪ اﻟﺤﻀﺎري .وﻛﺎن ﻣﻌﻈﻢ
297
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﺴﺎﺑﻘني ﻳﻘﻮﻟﻮن إن اﻟﻮﺣﺪة اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﻟﻠﻨﺎس أو ﻟﻠﺸﻌﻮب ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺆدي إﱃ ﻫﺬا اﻟﺘﺸﺎﺑﻪ.
ﻛﺬﻟﻚ ﻷول ﻣﺮة ﻳﺪﺧﻞ ﻓﺮوﺑﻴﻨﻴﻮس ﻣﺼﻄﻠﺢ »اﻟﺪاﺋﺮة اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ« إﱃ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ،وﻫﻮ
املﺼﻄﻠﺢ اﻟﺬي ﺗﺒﻨﺎه ﻣﻦ ﺑﻌﺪه ﺟﺮاﻳﺒﻨﺮ واملﺪرﺳﺔ اﻟﻨﻤﺴﺎوﻳﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻓﺮوﺑﻴﻨﻴﻮس ﻳﻌﻮد
ﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ إﱃ ﺗﺮك ﻫﺬا املﺼﻄﻠﺢ وﻳﺴﻤﻲ اﺗﺠﺎﻫﻪ املﺘﺄﺧﺮ ﺑﺎﺳﻢ »املﻮرﻓﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ
،«Kulturmorphologieوﻳﺘﺒﻌﻪ ﰲ ذﻟﻚ ﺧﻠﻔﻪ ﰲ ﻣﺪرﺳﺘﻪ ﻳﻨﺴﻦ ،Ad. e. Jensenوﻻ
ﺗﺰال ﻣﺪرﺳﺔ »ﻓﺮوﺑﻴﻨﻴﻮس-ﻳﻨﺴﻦ« ﻣﺪرﺳﺔ اﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ،ﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﻤﻴﻞ اﻵن إﱃ دراﺳﺔ
اﻷﻓﻜﺎر واﻷﺳﺎﻃري واﻟﻄﻘﻮس ﻣﻊ اﺗﺠﺎه ﻧﻔﺴﺎﻧﻲ.
أﻣﺎ املﺪرﺳﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ اﻟﻨﻤﺴﺎوﻳﺔ أو اﻟﺘﻲ ﻳُﻄ َﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﺪرﺳﺔ ﻓﻴﻴﻨﺎ Wiener
أﻳﻀﺎ ﺑﺎﺳﻢ ﻣﺪرﺳﺔ اﻟﺪواﺋﺮ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ Kulturkreiseأو ﻣﺪرﺳﺔ ،Schuleﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗُﻌ َﺮف ً
اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﺤﻀﺎري .Kulturhistorisch
وﻗﺪ ﺑﺪأت ﻫﺬه املﺪرﺳﺔ ﺑﺄﺑﺤﺎث ﻓﺮﺗﺰ ﺟﺮاﻳﺒﻨﺮ F. Graebnerاملﺆرخ اﻷملﺎﻧﻲ ،ﻓﻔﻲ
ﺳﻨﺔ ١٩٠٤ﻗﺪم ﺟﺮاﻳﺒﻨﺮ ﻣﺤﺎﴐة أﻣﺎم اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ واﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺑﱪﻟني،
َت ﰲ املﺠﻠﺔ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺑﺎﺳﻢ »اﻟﺪواﺋﺮ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ واﻟﻄﺒﻘﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﰲ أوﺷﻴﻨﻴﺎ« )ﻧ ُ ِﴩ ْ
اﻟﱪﻟﻴﻨﻴﺔ ﰲ ﺳﻨﺔ .(١٩٠٥
وﻗﺪ اﺳﺘﺨﺪم ﺟﺮاﻳﺒﻨﺮ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺒﺤﺚ ﻣﻨﻬﺞ ﻓﺮوﺑﻴﻨﻴﻮس ﰲ ﺑﺤﺚ ﺳﺎﺑﻖ )ﰲ ﺳﻨﺔ
ﻣﻘﺎﻻ ﻋﻦ اﻟﺘﺘﺎﺑﻊ اﻟﺰﻣﻨﻲ ﻟﻠﺤﻀﺎرات ﰲ أوﺷﻴﻨﻴﺎ ﻋﲆ أﺳﺎس ً ،١٩٠٠ﻧﴩ ﻓﺮوﺑﻴﻨﻴﻮس
اﻟﺘﻮزﻳﻊ اﻟﺠﻐﺮاﰲ ﻟﻌﺪد ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ( .وﻟﻜﻦ ﺟﺮاﻳﺒﻨﺮ اﺳﺘﺨﺪم ﻋﺪدًا ﻛﺒريًا ﻣﻦ
اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻟﻜﻲ ﻳﺪﻋﻢ اﻟﺪواﺋﺮ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﻋﻨﻬﺎ دﻋﻤً ﺎ إﺣﺼﺎﺋﻴٍّﺎ ﻛﻤﻴٍّﺎ،
وﺑﺎﺳﺘﺨﺪام اﻟﺘﻮزﻳﻊ اﻟﺠﻐﺮاﰲ ﺣﺎول أن ﻳﻜﺘﺸﻒ أي اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺮﺗﺒﻂ ﻣﻌً ﺎ
ﰲ ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻟﺪاﺋﺮة اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،وﺑﺎﺳﺘﺨﺪام اﻟﺘﺘﺎﺑﻊ اﻟﺰﻣﻨﻲ ﻟﻬﺬه اﻟﺪواﺋﺮ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ وﺻﻞ
ﺟﺮاﻳﺒﻨﺮ إﱃ ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻟﻄﺒﻘﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،وﻳﺨﻠﺺ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﱰﻛﻴﺐ إﱃ ﺗﺮﺗﻴﺐ اﻟﺘﺘﺎﺑﻊ
اﻟﺰﻣﻨﻲ ﻟﻠﺪواﺋﺮ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ واﻧﺘﺸﺎرﻫﺎ ﰲ أﺳﱰاﻟﻴﺎ وﺟﺰر املﺤﻴﻂ اﻟﻬﺎدي29 .
298
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
ﻋﻬﺪًا ﺟﺪﻳﺪًا ﰲ اﻟﻔﻜﺮ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ،وذﻟﻚ ﺑﻐﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ اﻟﻨﻘﺪ اﻟﺬي ﻗِ ﻴ َﻞ ﻓﻴﻬﺎ؛ إذ ﻋﻠﻴﻨﺎ
أن ﻧﻼﺣﻆ أن ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺠﺪﻳﺪة إﻧﻤﺎ ﻧﺸﺄت ﻣﺒﻜﺮة ﺟﺪٍّا ﻗﺒﻞ ﻧﺸﺄة اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ
واﻟﻘﻮاﻟﺐ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ واﻟﺘﻜﺎﻣﻞ اﻟﺤﻀﺎري ،وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ املﺸﻜﻼت اﻟﺘﻲ ﺗﻈﻬﺮ اﻵن )ﺑﻌﺪ
أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻧﺼﻒ ﻗﺮن( ﰲ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ املﻌﺎﴏة.
30
وﰲ ﺳﻨﺔ ١٩١١ﻳﻨﴩ ﺟﺮاﻳﺒﻨﺮ ﻛﺘﺎﺑﻪ ﻋﻦ املﻨﻬﺞ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ،وﻳﻌﻄﻲ ﻓﻴﻪ أﺳﺲ
املﺪرﺳﺔ ﻣﻊ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺤﺬر واﻟﺘﺤﻔﻆ .وﻳﺸﺘﻤﻞ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب املﻨﻬﺠﻲ ﻋﲆ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻷﻗﺴﺎم
املﻤﺘﺎزة ﰲ اﻟﺪراﺳﺔ املﻨﻬﺠﻴﺔ :ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ املﻘﺎﻳﻴﺲ اﻟﺘﻲ ﺗﻠﺰم اﻟﺒﺎﺣﺚ ﰲ اﻟﺤﻘﻞ واملﻜﺘﺐ
ﻟﻜﻲ ﻳﺤﺮص ﻋﲆ اﻟﺤﺬر واملﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ،ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺘﺺ ﺑﺎملﺼﺎدر اﻹﺛﻨﻮﺟﺮاﻓﻴﺔ واﻷﺷﺨﺎص
اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺪﻟﻮن ﺑﺎملﻌﻠﻮﻣﺎت ﻋﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺘﻬﻢ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻘﺎﻳﻴﺲ ﻳﺴﻤﻴﻬﺎ
ﻣﻘﺎﻳﻴﺲ اﻟﺸﻜﻞ واﻟﻌﺪد وﻫﻲ ﺧﺎﺻﺔ ﺑﻤﻨﻬﺞ اﻟﺪراﺳﺔ اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ واﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﻋﲆ
املﺘﺸﺎﺑﻬﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ :ﻫﻞ ﻫﺬه املﺘﺸﺎﺑﻬﺎت ﻋﺪﻳﺪة؟ وﻣﺎ ﻫﻮ ﺗﺮاﺑﻂ ﻫﺬه املﺘﺸﺎﺑﻬﺎت
ﻣﻄﻮﻻ ﻋﻦ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ً ﺑﺒﻘﻴﺔ اﻟﺒﻨﺎء اﻟﺤﻀﺎري؟ 31وﰲ ﺳﻨﺔ ١٩٢٣ﻳﻜﺘﺐ ﺟﺮاﻳﺒﻨﺮ ﺑﺤﺜًﺎ
ﻛﻘﺴﻢ ﻣﻦ ﻛﺘﺎب »اﻟﺤﻀﺎرة املﻌﺎﴏة« ،وﻫﺬا اﻟﺒﺤﺚ رﺑﻤﺎ ﻛﺎن أﺣﺴﻦ ﻣﺎ ﻛﺘﺒﻪ ﺟﺮاﻳﺒﻨﺮ ﰲ
اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ؛ ﻓﻬﻮ ﻳﻜﺘﺐ ﻣﻦ وﺟﻬﺔ اﻟﻨﻈﺮ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﺤﻀﺎري ،وﺗﺨﺘﻔﻲ اﻟﺪواﺋﺮ
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻣﻦ اﺳﺘﺨﺪاﻣﺎﺗﻪ )إﻻ ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ أوﺷﻴﻨﻴﺎ واملﺤﻴﻂ اﻟﻬﺎدي( ،وﺗﺼﺒﺢ ﻫﺬه اﻟﺪواﺋﺮ
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻣﺠﺮد ﺣﻀﺎرات32 .
299
اﻹﻧﺴﺎن
ﻓﻴﻴﻨﺎ( ،وﻟﻜﻦ ﻣﻘﺎﻻﺗﻪ اﻷوﱃ ) (١٩١٠–١٩٠٦ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ﺑﺎملﻨﻬﺞ اﻟﺬي
اﺑﺘﻜﺮه ﺟﺮاﻳﺒﻨﺮ ،ﺑﻞ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻳﺘﻬﻤﻪ ﺑﻌﺾ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني 33ﺑﺄﻧﻪ ﻛﺎن — دون ﻋﻠﻢ — واﻗﻌً ﺎ
ﺗﺤﺖ ﺗﺄﺛري املﺪرﺳﺔ اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ،وﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﺗﺤﻮل ﺗﻤﺎﻣً ﺎ إﱃ اﻟﺪواﺋﺮ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ واملﻨﻬﺞ
اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ﺑﻌﺪ أن اﺳﺘﻮﻋﺐ »ﻣﻨﻬﺞ« ﺟﺮاﻳﺒﻨﺮ ) .(١٩١١وﻗﺪ ﻏري ﺷﻤﻴﺖ أﺳﻤﺎء اﻟﺪواﺋﺮ
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺠﺮاﻳﺒﻨﺎرﻳﺔ إﱃ أﺳﻤﺎء ﻳﺮﺗﻀﻴﻬﺎ )ﻟﻜﻨﻬﺎ ﰲ ﻧﻈﺮ اﻷﺳﺘﺎذ ﻫﺎﻳﻨﻲ ﺟﻴﻠﺪرن ﺗﻌﱪ
ﻋﻦ ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﺘﻄﻮرﻳني ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ(34 .
Lowie, R. H. “The History of Ethnological Theory” New York, 1937. And, Heine- 33
Geldern, R. “One Hundred Years of Ethnological Theory in the German Speaking Coun-
.tries” New York 1962
ﻏري ﺷﻤﻴﺖ أﺳﻤﺎء اﻟﺪواﺋﺮ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺘﻲ اﺑﺘﻜﺮﻫﺎ ﺟﺮاﻳﺒﻨﺮ ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺘﺎﱄ :اﻟﺪاﺋﺮة اﻟﻄﻮﻃﻤﻴﺔ 34ﱠ
أﺻﺒﺤﺖ ﻋﻨﺪ ﺷﻤﻴﺖ داﺋﺮة اﻟﺰواج اﻻﻏﱰاﺑﻲ اﻷﺑﻮي ،واﻟﺪاﺋﺮة اﻟﺸﻘﻴﺔ Moietyأﺻﺒﺤﺖ ﻋﻨﺪ ﺷﻤﻴﺖ داﺋﺮة
اﻟﺰواج اﻻﻏﱰاﺑﻲ اﻷﻣﻮي ،وداﺋﺮة اﻟﻘﻮس املﻴﻼﻧﻴﺰي أﺻﺒﺤﺖ اﻟﺪاﺋﺮة اﻷﻣﻮﻳﺔ اﻟﺤﺮة ،واﻟﺪاﺋﺮة اﻟﺒﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳﺔ
أﺻﺒﺤﺖ اﻟﺪاﺋﺮة اﻷﺑﻮﻳﺔ اﻟﺤﺮة.
.Schmidt, W., & W. Koppers, “voelker und Kulturen” Re-geusburg, 1924 35
300
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
وﻗﺪ ﻧﴩ ﻓﻴﻠﻬﻠﻢ ﺷﻤﻴﺖ أﺑﺤﺎﺛًﺎ ﻛﺜرية ،ﻟﻜﻦ ﻛﺘﺎﺑﻪ ﻋﻦ املﻨﻬﺞ )وﻫﻮ ﺑﻤﺴﺎﻋﺪات ﻣﻦ
ﺮﺟﻢ إﱃ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ﻋﺎم ،١٩٣٩ ﻛﻮﺑﺮز ﰲ ﺑﻌﺾ ﻓﺼﻮﻟﻪ( اﻟﺬي ﺻﺪر ﰲ 37 ١٩٣٦وﺗُ ِ
ﻳﻠﺨﺺ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ املﺪرﺳﺔ اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ ،وإن ﻛﺎن ﻳﺮﻛﺰ ﻛﺜريًا ﻋﲆ
ﻓﻜﺮة اﻟﺪاﺋﺮة اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ )اﻟﺘﻲ ﻋﺪل ﻋﻨﻬﺎ ﻛﻮﺑﺮز وﻛﺘﺐ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻬﺎ ﰲ اﺳﺘﻌﺮاﺿﻪ اﻟﻘﻴﻢ ﻋﺎم
38 .(١٩٥٩
Hancar, F., “Stand und Historische Bedeutung der Pferdezucht Mittelasiens im I. 36
Jahrtausend v. Chr.” Wiener Beitraege zur Kulturgeschichte und Linguistik, vol. I/x, Wien
.1952 pp. 466–511
Jettmar, K., “Die Anfaenge der Rentierzucht”, anthropos, vol. 48, pp. 737–759, Fri-
.bourg 1952
”Jettmar, K., “Les plus anciennes civilizations d’éleveurs des steppes d’Asie centrale
.Cahiers d’Histoire Mondiale, vol. I. No. 4, pp. 760–783, Paris 1954
Zeuner. F. E., “Domestication of Animals” pp. 327–352 in C. Singer et al. “History of
.Technology”, vol. I, “From Early Times to the Fall of Ancient Empires”, Oxford 1954
.Schmidt, W., “Handbuch der Kulturhistorishen Ethnologie” Muenster 1936 37
وﻗﺪ ﺗﺮﺟﻤﻪ إﱃ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ S. A. Sieberﺑﻌﻨﻮان The Culture Historical Method of Ethnology
ﰲ ﻧﻴﻮﻳﻮرك .١٩٣٩
Koppers, W., “Grundsaetziliches und Geschichtliches zur ethnologischen Kul- 38
turkreislechre” in “Beitraege Oesterreichs zur Erforschung der Vergangenheit …” Wein,
.Horn 1959, pp. 110–126
301
اﻹﻧﺴﺎن
أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻻﺣﺘﻴﺎﺟﺎت اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ اﻟﻬﺎﻣﺔ ﺗﺘﻴﺢ ﺣﺪوث ﺗﻌﻮﻳﺾ ﻣﻦ ﺣﻀﺎرة أﺧﺮى .وﻛﻠﻤﺎ
زاد ﻋﺪد ﻋﻨﺎﴏ اﻟﺘﻌﻮﻳﺾ ﺗﻘﻞ ﻫﺬه اﻟﺤﻀﺎرة ﻋﻦ أن ﺗﻜﻮن داﺋﺮة ﺣﻀﺎرﻳﺔ )ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ(39 ،
واﻟﺪاﺋﺮة اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﺗﻤﺘﺪ ﰲ إﻗﻠﻴﻢ ﺟﻐﺮاﰲ ﻛﺒري ﺑﺤﻴﺚ ﺗﺸﺘﻤﻞ ﻋﲆ ﻋﺪة ﺷﻌﻮب أو ﻗﺒﺎﺋﻞ.
وﻳﻘﻮل ﺷﻤﻴﺖ» :إن ﻛﻞ ﻣﻔﺮدات اﻟﺤﻀﺎرة ﰲ اﻟﺪاﺋﺮة اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻣﺘﻤﺎﺳﻜﺔ ﺗﻤﺎﺳ ًﻜﺎ ﻋﻀﻮﻳٍّﺎ
وﻟﻴﺴﺖ ﻣﺠﺮد ارﺗﺒﺎﻃﺎت ﺗﻠﻘﺎﺋﻴﺔ ،وﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﺗﺴﻴﻄﺮ واﺣﺪة ﻣﻦ ﻣﻈﺎﻫﺮ اﻟﺤﻀﺎرة ﰲ اﻟﺪاﺋﺮة
ﻓﻤﺜﻼ اﻟﻨﺴﺐ اﻷﻣﻮي ً ﻋﲆ ﺑﻘﻴﺔ املﻈﺎﻫﺮ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﺗﺪﻣﻎ ﻫﺬه املﻈﺎﻫﺮ ﺑﺼﺒﻐﺘﻬﺎ اﻟﺨﺎﺻﺔ40 «.
ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻤﻞ ﰲ اﻟﺰراﻋﺔ ،واﻟﻨﺴﺐ اﻷﺑﻮي ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻟﺮﻋﺎة ،واﻟﺠﻤﺎﻋﺎت
اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺎرس اﻟﻨﺴﺐ اﻷﻣﻮي ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﺗﻌﺒﺪ اﻟﻘﻤﺮ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ إﻟﻪ اﻟﺴﻤﺎء ﻫﻮ اﻹﻟﻪ املﺴﻴﻄﺮ ﻋﻨﺪ
اﻟﺮﻋﺎة ،وإﻟﻪ اﻟﺸﻤﺲ ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﻄﻮﻃﻤﻴﺔ اﻷﺑﻮﻳﺔ اﻟﻨﺴﺐ.
وﻻ ﺷﻚ أن ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺪواﺋﺮ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﺑﺎﺗﺴﺎع رﻗﻌﺘﻬﺎ املﻜﺎﻧﻴﺔ ،وﺗﻌﻘﺪ ﻣﺮﻛﺒﺎﺗﻬﺎ
ً
ﻃﻮﻳﻼ ﻟﻜﻲ ﺗﻨﺒﻨﻲ وﺗﻤﺘﺪ ﻣﻜﺎﻧﻴٍّﺎ .وﺗﺒﻌً ﺎ ﻟﻠﻤﻘﻴﺎس اﻟﺰﻣﻨﻲ ﻻ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،ﺗﺴﺘﻐﺮق زﻣﻨًﺎ
ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺘﻜﻮن ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺪواﺋﺮ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ املﺮﻛﺒﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈن أﻫﻢ ﻧﻘﺪ ﻳُﻮﺟﱠ ﻪ إﻟﻴﻬﺎ ﻫﻮ
أﻧﻬﺎ ﺗﺮﻛﻴﺐ ﻧﻈﺮي أﻛﺜﺮ ﻣﻨﻬﺎ ﺗﺮﻛﻴﺐ واﻗﻌﻲ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻛﻞ ﻣﻦ ﺟﺮاﻳﺒﻨﺮ وﺷﻤﻴﺖ ﻳﺒﺤﺚ
ُﺆﺳﺲ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﻬﺠﺮة واﻻﻧﺘﺸﺎر اﻟﺤﻀﺎري أﻛﺜﺮ ﻋﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻳ ﱠ
ﻣﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺗﺮاﺑﻂ واﻗﻌﻲ ﺑني اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ وﻛﻢ اﻟﺤﻀﺎرة .ﻛﺬﻟﻚ ﻓﺈن
ﺟﺮاﻳﺒﻨﺮ وﺷﻤﻴﺖ ﻟﻢ ﻳﺄﺧﺬا ﺑﻌني اﻻﻋﺘﺒﺎر ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻷﺑﻌﺎد املﻜﺎﻧﻴﺔ اﻟﺸﺎﺳﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻔﺼﻞ ﺑني
املﺘﺸﺎﺑﻬﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،وﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﻟﻢ ﻳﺪﺧﻼ اﻟﻔﺎرق اﻟﺰﻣﻨﻲ ﺑني اﻟﺤﻀﺎرات اﻻﻋﺘﺒﺎر
اﻟﺪﻗﻴﻖ ،إﻧﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﺘﺸﺎﺑﻪ ﺑني اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺮاﺋﺪ اﻷﺳﺎﳼ ﰲ اﻟﺘﻄﺒﻴﻖ.
وﻣﺠﻤﻞ اﻟﻘﻮل ﻫﻮ أن ﺷﻤﻴﺖ أﻛﺜﺮ ﻧﺰﻋﺔ إﱃ اﻟﺘﻄﺮف ﻣﻦ ﺟﺮاﻳﺒﻨﺮ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻇﻞ إﱃ
ﺗﺨﲆ ﺟﺮاﻳﺒﻨﺮ )ﰲ ﻓﱰة ﻧﻬﺎﻳﺔ وﻗﺘﻪ ﰲ ﻋﺎم ١٩٥٤ﻳﻜﺘﺐ ﻋﻦ اﻟﺪواﺋﺮ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﱠ
ﺳﺎﺑﻘﺔ( ﻋﻦ ﺗﻌﺼﺒﻪ ﻟﻬﺬا اﻟﺸﻜﻞ ﰲ اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻟﺤﻀﺎري .وإذا ﻛﺎن ﺷﻤﻴﺖ ﻗﺪ ﻓﺸﻞ ﰲ ﻫﺬا
اﻻﺗﺠﺎه؛ ﻓﺈﻧﻪ ﻛﺎن ﺻﺎﺣﺐ ﻓﻀﻞ ﻛﺒري ﰲ ﻧﻮاﺣﻲ دراﺳﻴﺔ وﻋﻤﻠﻴﺔ أﺧﺮى41 .
.Schmidt, W., “The Culture Historical Method of Ethnology”, New York 1939, p. 176 39
.Ibid, p. 179 40
41ﻛﺎن أﻫﻢ ﻣﺎ ﻳﺘﻤﻴﺰ ﺑﻪ ﺷﻤﻴﺖ — ﰲ أﺑﺤﺎﺛﻪ وﺑني زﻣﻼﺋﻪ — ﺳﻌﺔ اﻻﻃﻼع واﻟﺘﺤﺮي اﻟﺪﻗﻴﻖ ﻟﻠﻤﺼﺎدر
اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﺷﻤﻴﺖ ﻳﺪﻓﻊ ﺗﻼﻣﻴﺬه ﻟﻠﺪراﺳﺔ اﻟﺤﻘﻠﻴﺔ وﻳﻨﻈﻤﻬﺎ ﻟﻬﻢ ﺑﺼﻔﺔ ﻣﺴﺘﻤﺮةً .
ﻣﺜﻼ ﻫﻮ اﻟﺬي
دﻓﻊ ﻛﻮﺑﺮز وﻣﺎرﺗﻦ ﺟﻮزﻳﻨﺪه إﱃ دراﺳﺔ ﻗﺒﻴﻠﺔ اﻟﻴﺎﻣﺎﻧﺎ ﰲ ﺗﻴريادﻟﻔﻮﻳﺠﻮ ﰲ أواﺋﻞ ﻫﺬا اﻟﻘﺮن .وﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ
302
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
وﺑﺮﻏﻢ ﺷﻴﻮع اﺳﻢ ﻣﺪرﺳﺔ ﻓﻴﻴﻨﺎ ﻋﲆ ﻣﺪرﺳﺔ اﻟﺪواﺋﺮ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،إﻻ أﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺨﻄﺄ أن
ﻧﻌﻤﻢ ﻫﺬا اﻻﺳﻢ ﻋﲆ ﻛﻞ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني اﻟﺬﻳﻦ ﻋﻤﻠﻮا ﰲ ﻣﻌﻬﺪ ﻓﻴﻴﻨﺎ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ،وﰲ املﺘﺤﻒ
اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ .ﻓﻠﻘﺪ ﻛﺎن اﻷب ﻛﻮﺑﺮز ﻳﺘﺸﻜﻚ ﻣﻨﺬ ﻓﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ ﰲ ﺟﺪوى اﻟﺘﻤﺴﻚ ﺑﺎﻟﺪواﺋﺮ
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻛﻤﻨﻬﺞ ﺑﺤﺚ ،وإن ﻇﻞ ﻣﺘﻤﺴ ًﻜﺎ ﺑﺎﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﺤﻀﺎري واﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ إﱃ آﺧﺮ وﻗﺘﻪ.
ً
ﻣﻌﺎرﺿﺎ ﻣﻨﺬ اﻟﺒﺪاﻳﺔ وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎن روﺑﺮت ﻓﻮن ﻫﺎﻳﻨﻲ ﺟﻠﺪرن R. von Heine-Geldern
وﺧﺎﺻﺔ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ً ﻟﻠﺪواﺋﺮ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،ﻟﻜﻨﻪ ﻣﻦ أﺷﺪ املﺘﻤﺴﻜني ﺑﺎﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ،
ﻋﱪ املﺤﻴﻂ اﻟﻬﺎدي إﱃ أﻣﺮﻳﻜﺎ ،وﻫﻮ ﰲ ﻫﺬا أﻣﻴﻞ إﱃ اﺳﺘﺨﺪام اﻟﺪراﺳﺎت اﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
واﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ 42 ،وﻛﺬﻟﻚ ﻳﻨﺤﻮ ﻳﻮﺳﻒ ﻫﻜﻞ J. Haekelﻣﻨﺤً ﻰ ﺗﺎرﻳﺨﻴٍّﺎ اﻧﺘﺸﺎرﻳٍّﺎ ﺑﻌﻴﺪًا
ﻋﻦ اﻟﺪواﺋﺮ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ 43 .أﻣﺎ ﻓﺎﻟﱰ ﻫريﺷﱪج W. Hirschberg؛ ﻓﻘﺪ ﻛﻮﱠن ﻣﻨﺬ ﺑﻀﻊ
ﺳﻨﻮات ﻣﺪرﺳﺔ ﺻﻐرية ﺗﻨﺤﻮ ﻧﺤﻮ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﺸﻌﻮب 44 Ethnohistorischﻣﺴﺘﻤﺪٍّا أﺻﻮﻟﻪ
ﻣﻦ ﺟﺮﻳﺒﻨﺮ وآراء ﻛﻮﺑﺮز اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،ﻣﺘﻐﺎﺿﻴًﺎ ﺑﺬﻟﻚ ﻋﻦ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻧﻔﻮذ ﺷﻤﻴﺖ ،واﻫﺘﻢ اﻫﺘﻤﺎﻣً ﺎ
ﻣﺘﺰاﻳﺪًا ﺑﺎﻷﺑﺤﺎث املﻴﺪاﻧﻴﺔ وﺑﺎﻟﺘﻘﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﺘﻨﻈري اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ واملﻌﺎرك اﻟﻠﻔﻈﻴﺔ ﻟﻠﻤﺪارس
املﺨﺘﻠﻔﺔ.
أﺧﺮى ﻓﺈن دراﺳﺔ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ ﰲ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻗﺪ وﺟﺪت ﰲ ﺷﻤﻴﺖ اﻟﺸﺨﺺ املﻼﺋﻢ .وﻗﺪ ﻛﺘﺐ ﺷﻤﻴﺖ ﻛﺘﺎﺑﻪ
اﻟﺬي ﻳﻘﻒ أﻣﺎﻣﻪ ﻛﻞ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني ﺑﺎﺣﱰام ﺷﺪﻳﺪ ﰲ ١٢ﺟﺰء ﺑﺎﺳﻢ أﺻﻞ ﻓﻜﺮة اﻹﻟﻪ Der Ursprung
der Gottesideeﻓﻴﻤﺎ ﺑني ،١٩٥٤–١٩١٢وﻳﻬﺎﺟﻢ ﻧﻈﺮﻳﺔ »اﻻﺳﺘﺤﻴﺎء« ﻋﻨﺪ ﺗﻴﻠﻮر ،وﻳﺮى أن ﻣﻌﻈﻢ
اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﺘﻘﺪ ﰲ إﻟﻪ أﻋﲆ ﻗﺒﻞ أﻓﻜﺎر اﻷرواح وﻏريﻫﺎ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻳﺤﺎول أن ﻳﻨﺘﻬﻲ إﱃ أن
ﻓﻜﺮة ﷲ اﻟﻮاﺣﺪ ﻓﻜﺮة أزﻟﻴﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﺸﻌﻮب» ،وأن ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة وﺣﻲ ﻣﻦ ﷲ ﻗﺒﻞ أن ﻳﻨﺰل اﻹﻧﺴﺎن إﱃ
اﻷرض) «.ﻛﻮﺑﺮز .Koppers, W., “Der Urmensch und Sein Weltbild”, Wien, 1949 .(١٩٤٩
Heine-Geldern, R. “Die asiatische Herkunft der Sued-Amerikanischen Metalltechnik”, 42
.Paideuma, Frankfurt/M, vol. 5, 1954, pp. 347–423
Haekel, J., “Neue Beitraege zur Kulturschichtung Brasiliens” Anthropos, vol. 47, 43
pp. 963–991, vol. 47, pp. 105–157, 1952-1953. Haekel, J., “Zum Problem des Mut-
terrechtes”, Paideuma, Mitteilungen zur Kulturkunde, Frankfurt/M, vol. v. No. 6, pp.
.298–322, No. 7/8 pp. 481–508., 1953-1954
44ﺳﺎﻫﻢ ﻫريﺷﱪج ﰲ اﻟﺴﻨﻮات اﻷﺧرية ﺑﺎﻹﴍاف ﻋﲆ ﻣﺠﻠﺔ ﺗﺼﺪر ﻣﻦ املﻌﻬﺪ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ﰲ ﻓﻴﻴﻨﺎ ﺗﺤﻤﻞ
اﺳﻢ اﻻﺗﺠﺎه اﻟﺠﺪﻳﺪ اﻟﺬي ﻳﺴﻌﻰ إﻟﻴﻪ .Wiener Ethnohistorischen Blaetter
303
اﻹﻧﺴﺎن
) (١ﺣﻴﺚ إن اﻟﺤﻀﺎرة واﻹﻧﺴﺎن )ﻣﻨﺬ ﻧﺸﺄﺗﻪ( ﻣﺘﺰاﻣﻨﺎن ،ﻓﺈن اﻟﺘﺎرﻳﺦ — ﺑﺄوﺳﻊ
ﻣﻌﺎﻧﻴﻪ — ﻳﺸﺘﻤﻞ ﻋﲆ ﻛﻞ اﻟﻔﱰة اﻟﺘﻲ ﻇﻬﺮ ﻓﻴﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﲆ اﻷرض ﺣﺘﻰ اﻟﻴﻮم.
ﺑﺎﺣﺚ — ﻗﺪﻳﻤً ﺎ وﺣﺪﻳﺜًﺎ — أن اﻻﻧﺘﺸﺎر اﻟﺤﻀﺎري ودرﺟﺔ اﻧﺘﻘﺎﻟﻪ ٍ ) (٢ﻻ ﻳﻨﻜﺮ أي
وﺗﻘﺒﻠﻪ ﺣﻘﻴﻘﺔ واﻗﻌﺔ.
) (٣إن اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ ﻣﺒﺪأ ﻫﺎم ﰲ اﻟﺪراﺳﺎت اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ودراﺳﺎت ﻣﺎ ﻗﺒﻞ اﻟﺘﺎرﻳﺦ،
وﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻨﻘﺺ اﻟﻮﺛﺎﺋﻖ املﻜﺘﻮﺑﺔ ،ﻓﺈن اﻷﻣﺮ ﻳﺤﺘﺎج إﱃ دراﺳﺎت ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﻟﻠﺼﻔﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ
ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﻌﻮاﻣﻞ املﻜﺎﻧﻴﺔ واﻟﺰﻣﻨﻴﺔ واﻟﺴﺒﺒﻴﺔ.
) (٤ﻳﺠﺐ أن ﻳﺴﺘﺨﺪم اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﻮن ﻣﻘﻴﺎس اﻟﺸﻜﻞ واﻟﻌﺪد املﻌﺮوف ﻋﻦ املﻨﻬﺞ
اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ )اﻟﺬي أ ﱠﻛﺪه ﻛﻞ ﻣﻦ ﺟﺮاﻳﺒﻨﺮ وﺷﻤﻴﺖ وﻛﻮﺑﺮز( ،وﻻ ﺷ ﱠﻚ أن ﻫﺬا املﻨﻬﺞ ﻟﻦ
ﻳﺆدي إﱃ ﺗﺎرﻳﺦ ﻣﻤﺎﺛﻞ ملﺎ ﻧﺠﺪه ﰲ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ .ﻓﺎﻟﻌﻨﴫ اﻟﺤﻀﺎري ﻫﻨﺎ
دﻟﻴﻼ ﻗﺎﺋﻤً ﺎ ﻋﲆ اﻟﺼﻼت ،ﻛﻤﺎ أن ﻫﺬا اﻟﺪﻟﻴﻞ ﻳﺰداد ﻗﻮة ﻧﺘﻴﺠﺔ ملﺪى ﺗﺮاﺑﻂ اﻟﻌﻨﴫﻳﻤﺜﻞ ً
اﻟﺤﻀﺎري ﺑﺒﻘﻴﺔ اﻟﺤﻀﺎرة .وﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻬﻤﻞ ﻫﺬه اﻷدﻟﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻣﺠﺮد إﺷﺎرات ،ﺑﻞ
إﻧﻬﺎ ﺗﻤﺜﻞ ﺟﺰءًا ﻣﻦ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ.
) (٥اﻻﻧﺘﺸﺎر اﻟﺤﻀﺎري ﻻ ﻳﻤﺜﱢﻞ ﻛﻞ أﺣﺪاث اﻟﺘﺎرﻳﺦ ،ﻓﺪراﺳﺔ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻻ
ﺗﺤﻞ ﻣﺤﻞ اﻟﻮﺛﺎﺋﻖ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ،ﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﻌﻄﻲ إﺿﺎﻓﺎت ﻫﺎﻣﺔ ﰲ ﻫﺬا اﻻﺗﺠﺎه اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ،وﰲ
ﺣﺎﻟﺔ ﻧﻘﺺ اﻟﻮﺛﺎﺋﻖ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ — ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻋﻨﺪ دراﺳﺔ ﻣﺎ ﻗﺒﻞ اﻟﺘﺎرﻳﺦ واﻟﺠﻤﺎﻋﺎت
اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ — ﻳﺼﺒﺢ ﻣﻦ ﻏري املﻌﻘﻮل أن ﻧﻤﺘﻨﻊ ﻋﻦ ﺗﻔﺴري اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﰲ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
واﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ.
) (٦ﺗﻘﻮم اﻟﺪراﺳﺎت اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ ﻋﲆ املﺘﺸﺎﺑﻬﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،وﺣﺘﻰ ﰲ اﻟﺤﺎﻻت اﻟﺘﻲ ﻻ
ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺘﺄﻛﺪ ﻣﻦ وﺟﻮد ارﺗﺒﺎﻃﺎت وﻫﺠﺮات ﺑني املﺘﺸﺎﺑﻬﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،ﻓﻼ ﺷ ﱠﻚ
أن ﺗﺄﻛﻴﺪﻧﺎ ﺑﺄن اﻟﻈﺎﻫﺮﺗني املﺘﺸﺎﺑﻬﺘني ﻗﺪ ﻧﺸﺄﺗﺎ ﻧﺸﺄة ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ﻳﺼﺒﺢ ﻏري ﻣﻘﺒﻮل؛ ﻷﻧﻪ
304
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
ً
ﺗﺤﻘﻘﺎ ﻣﻦ اﻻرﺗﺒﺎﻃﺎت اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ،وﻋﲆ اﻟﻌﻤﻮم ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﱰك اﻟﺒﺎب ﻳﻔﱰض ﺷﻴﺌًﺎ أﺑﻌﺪ
دون اﺗﺨﺎذ ﻗﺮار.
) (٧إن اﻻﻧﺘﺸﺎر واﻟﻨﻘﻞ واﻟﺘﻘﺒﻞ ﻻ ﺗﺴري ﻛﻠﻬﺎ ﺣﺴﺐ ﻗﻮاﻋﺪ ﻣﻌﻴﻨﺔ ،ﻓﻬﻨﺎك داﺋﻤً ﺎ ﻓﺮﺻﺔ
ﻣﺘﻌﺪدة ﻟﻠﻘﺒﻮل أو اﻟﺘﻌﺪﻳﻞ ،وﻫﻲ ﻓﺮﺻﺔ اﻻﺧﺘﻴﺎر اﻟﺤﺮ ﻋﻨﺪ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت.
) (٨ﻳﱰﺗﺐ ﻋﲆ ذﻟﻚ أن ﻛﻞ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ ﺣﺎﻻت اﻻﻧﺘﺸﺎر اﻟﺤﻀﺎري ﻳﺠﺐ أن ﺗُﻌﺎ َﻟﺞ ﻗﺎﺋﻤﺔ
ﺑﺬاﺗﻬﺎ وﺣﺴﺐ ﻇﺮوﻓﻬﺎ.
وﺻﻔﻮة اﻟﻘﻮل أﻧﻪ ﺑﺮﻏﻢ اﻧﺘﻬﺎء ﻓﻜﺮة اﻟﺪاﺋﺮة اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،ﻓﺈﻧﻬﺎ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ
وﺳﻴﻠﺔ وﻣﻨﻬﺠً ﺎ أدق وأﺣﺴﻦ ﻣﻦ أﻓﻜﺎر اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳني اﻟﱪﻳﻄﺎﻧﻴني اﻷُوَل ،اﻟﺬﻳﻦ ﻟﻢ ﻳﻌﻄﻮا
ﻟﻺﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺳﻮى ﻓﻜﺮة ﺑﺪون ﻣﻨﻬﺞ .وﻛﺬﻟﻚ ﻳُﻀﺎف إﱃ ﺣﺴﻨﺎت اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﻋﺎﻣﺔ
واﻟﻨﻤﺴﺎوﻳﺔ ﺧﺎﺻﺔ ،اﻟﺘﺪﻗﻴﻖ اﻟﺸﺪﻳﺪ ﰲ املﺼﺎدر واملﺮاﺟﻊ ،واﻻﺗﺠﺎه إﱃ اﻟﺪراﺳﺎت املﻴﺪاﻧﻴﺔ
ﺑﺼﻮرة أﺳﺎﺳﻴﺔ ،وﻛﺜﺮة اﻟﺘﻮﺛﻴﻖ ﰲ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ.
وﻟﻘﺪ ﺣﺪث ﺧﻠﻂ ﻋﻨﺪ اﻟﻮﻇﻴﻔﻴني — وﺧﺎﺻﺔ ﻋﻨﺪ ﺑﺮوﻧﺴﻼف ﻣﺎﻟﻴﻨﻮﻓﺴﻜﻲ — ﺑني
أﻧﻮاع وﻣﺪارس اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳني 46 ،وﻟﻌﻞ ذﻟﻚ اﻟﺨﻠﻂ ﻫﻮ اﻟﺬي أدى ﺑﺎﻟﻮﻇﻴﻔﻴني إﱃ اﻻﺑﺘﻌﺎد
ﻟﻔﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻋﻦ اﻟﻨﻈﺮة اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ وﺟﻤﻮد اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ﻋﻨﺪ
ﺣﺪود ﻣﻌﻴﻨﺔ.
46ﺧﻠﻂ ﻣﺎﻟﻴﻨﻮﻓﺴﻜﻲ ﺑني ﺟﺮاﻳﺒﻨﺮ وﺑﻮاس ،وﺑني ﻛﺮوﻳﱪ وﺷﻤﻴﺖ ،ﺑﺮﻏﻢ اﻟﻔﻮارق اﻟﻜﺒرية اﻟﺘﻲ ﺗﻔﺼﻞ
ﺑني ﺑﻮاس وﻛﺮوﻳﱪ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ وﺟﺮاﻳﺒﻨﺮ وﺷﻤﻴﺖ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى .وﻳﺮى ﻫﺮﺳﻜﻮﻓﺘﺰ أن اﻟﻔﻮارق ﻛﺎﻧﺖ
ﺿﻌﻴﻔﺔ ﺑني اﻟﻮﻇﻴﻔﻴني واﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﺠﻴني اﻷﻣﺮﻳﻜﻴني ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻫﻲ واﺳﻌﺔ ﺑني اﻷﻣﺮﻳﻜﻴني واﻻﻧﺘﺸﺎرﻳني اﻷملﺎن
واﻟﻨﻤﺴﺎوﻳني .ارﺟﻊ إﱃ.Herskovits, M., “Cultural Anthropology” New York 1964, p. 462 :
305
اﻹﻧﺴﺎن
ﻟﻴﻮﺿﺢ ﺗﻄﻮر ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻟﺴﻴﺎﳼ ،وﻫﻨﺎك ﱢ وﻓﻴﻪ ﻳﺴﺘﻔﻴﺪ ﻛﺜريًا ﻣﻦ املﺎدة اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ
أﻳﻀﺎ دراﺳﺎت ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ﻳﻘﺪﻣﻬﺎ ﻛﺮﻳﺴﺘﻮﻓﺮ ﻓﻮن ﻓريﻳﺮ -ﻫﺎﻳﻤﻨﺪورف وﻏريه ﻛﺜريون. ً
306
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
51ﻧﴩ املﺘﺤﻒ اﻷﻣﺮﻳﻜﻲ ﻟﻠﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﻫﺬه اﻷﺑﺤﺎث ﰲ أﺟﺰاء ﺑﺪأت ﻋﺎم .١٩٠٨
Goldenweiser, A., “Recent Trends in American Anthropology”, Am. Anthropologist, 52
.vol. 43, No. 2. 1941, p. 156
Beals, R. & H. Hoijer, “An Introduction to Anthropology”. 3 ed. New York 1967, pp. 53
.713–715
307
اﻹﻧﺴﺎن
C. Wissler أﻣﱠ ﺎ اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ اﻟﻮاﺿﺤﺔ ،ﻓﺘﻈﻬﺮ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎت ﻛﻼرك وﻳﺴﻠﺮ
اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎملﻨﺎﻃﻖ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ وﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﻌﻤﺮ اﻟﺘﻲ ﻋﺎﻟﺠﻨﺎﻫﺎ ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻖ .وﻳﺮى
ﻓﻠﻬﻠﻢ ﺷﻤﻴﺖ أن املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻻ ﺗﺤﻞ ﻣﺤﻞ اﻟﺪواﺋﺮ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﻤﺜﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت
ﻣﻦ اﻟﺤﻀﺎرات املﺨﺘﻠﻔﺔ وﺟﺪت »اﻟﻴﻮم« ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ دون أن ﻳﻜﻮن ﻫﻨﺎك اﻟﺘﺰام
ﺑﺎرﺗﺒﺎط ﻋﻀﻮي داﺋﻢ ﺑني ﻫﺬه اﻟﺤﻀﺎرات املﺨﺘﻠﻔﺔ .وﻳﺨﻠﺺ ﺷﻤﻴﺖ إﱃ أن املﻨﺎﻃﻖ
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻻ ﺗﻤﺜﻞ ﻣﻨﻬﺠً ﺎ ﺗﺎرﻳﺨﻴٍّﺎ ﺻﺤﻴﺤً ﺎ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﻤﻜﺎن وزﻣﺎن ﻣﻌﻴﻨني54 ،
وﺑﺮﻏﻢ ﻧﻘﺪ ﺷﻤﻴﺖ ﻓﺈن املﻨﻄﻘﺔ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﰲ ﺟﻮﻫﺮﻫﺎ ﻓﻜﺮة ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺗﻌﱪ ﻋﻦ اﻻﻧﺘﺸﺎر
اﻟﺤﻀﺎري ،وإن ﻛﺎن ذﻟﻚ ﺿﻤﻦ ﻣﻜﺎن ﻣﺤﺪود .وﻳﻤﻴﻞ أﻟﻔﺮﻳﺪ ﻛﺮوﻳﱪ A. Kroeberإﱃ
اﻻﺗﺠﺎه اﻻﻧﺘﺸﺎري ﰲ ﺻﻮرة املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻣﻌﺪﻟﺔ ﻋﻦ وﻳﺴﻠﺮ ،وﻳﺘﻔﻖ ﻣﻊ ﺷﻤﻴﺖ ﰲ
أﺳﺎﺳﺎ ﻟﺪراﺳﺔ اﻻﺣﺘﻜﺎﻛﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﰲ زﻣﻦ وﻣﻜﺎن ً أن ﻫﺬه املﻨﺎﻃﻖ وإن ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻜﻮﱢن
ﻣﻌﻴﻨني ،ﱠإﻻ أﻧﻪ ﻳﻨﻘﺼﻬﺎ ﻋﺎﻣﻞ واﺣﺪ ﻟﺘﺼﺒﺢ ﻣﻨﻬﺠً ﺎ ﺗﺎرﻳﺨﻴٍّﺎ؛ ﻫﻮ دراﺳﺔ اﻟﺘﺘﺎﺑﻊ اﻟﺰﻣﻨﻲ
ﻟﻠﺤﻀﺎرات .وﻗﺪ ﺗﺴﺎﻋﺪ ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﻌﻤﺮ ] Age areaراﺟﻊ اﻟﻘﺴﻢ اﻟﺜﺎﻧﻲ – اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ:
ﺑﻌﺾ ﻣﺸﻜﻼت اﻟﺘﻨﻈري اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ[ ﻋﲆ إﻳﺠﺎد ﺗﺘﺎﺑﻊ زﻣﻨﻲ ﻟﻠﺤﻀﺎرة ،وﻟﻜﻦ املﻨﻬﺞ ﰲ
ﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻳﻜﺎد أن ﻳﻜﻮن ﻣﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴٍّﺎ آﻟﻴٍّﺎ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻻﻧﺘﺸﺎر ﻟﻴﺲ ﻛﺬﻟﻚ ،ﺑﻞ ﻳﻤﻴﻞ إﱃ
اﻟﻈﻬﻮر أو ﻋﺪم اﻻﻧﺘﺸﺎر ﺣﺴﺐ اﻟﻈﺮوف واملﻼﺑﺴﺎت املﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺘﻘﺒﻞ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ
اﻟﻮاﻓﺪة.
واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أن اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ ﺑني اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ — ﻛﻤﺎ ﻗﻠﻨﺎ —
ﻟﻢ ﺗﻈﻬﺮ ﰲ ﺻﻮرة ﻣﻨﻬﺠﻴﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺗﺄﺛريات ﻋﺪﻳﺪة ،ﻧﺬﻛﺮ ﻣﻨﻬﺎ ﺗﺄﺛري ﺑﻮاس ﻋﲆ ﺑﺪاﻳﺎت
ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺎت ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻣﻴﺪان اﻟﺪراﺳﺎت املﻴﺪاﻧﻴﺔ ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ ﻛﺎن ﺑﺴﻴ ً
ﻄﺎ
ﻣﻌﻘﺪ؛ ﻓﺎﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﰲ ﻣﻌﻈﻤﻬﻢ ﻣﻦ ﺟﺎﻣﻌﻲ اﻟﻐﺬاء وﻗﻠﻴﻠﻮن ﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﺰ ﱠراع ،ﻛﻤﺎ أن ﻏري ﱠ
ري ﻣﻨﻬﻢ ،وﻃﺮدﻫﻢ ﻣﻦ ﻣﻮاﻃﻨﻬﻢ اﻟﺪراﺳﺔ ﺗﻤﺖ ﰲ ﻓﱰة ﺗﺪﻫﻮر اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﺑﻌﺪ إﺑﺎدة ﺟﺰءٍ ﻛﺒ ٍ
ﺼ ْﺖ ﻟﻬﻢ. ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻟﻐﺰو واﻟﺘﻮﺳﻊ اﻻﺳﺘﻴﻄﺎﻧﻲ اﻷﺑﻴﺾ ،واﻧﻌﺰال اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﰲ ﻣﻌﺎزل ُﺧ ﱢ
ﺼ َ
وﻟﻬﺬا ﻓﺈن أﻫﻢ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻋﻨﺪ اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﻛﺎﻧﺖ وﻣﺎ زاﻟﺖ اﻟﺘﻐري اﻟﺤﻀﺎري ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺗﻐري
أﺳﺲ اﻟﻨﻈﺎم اﻻﻗﺘﺼﺎدي ،وﻧﺘﻴﺠﺔ اﻻﺣﺘﻜﺎك ﺑﺎﻟﺤﻀﺎرة واﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻷوروﺑﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ،
وﻧﺘﻴﺠﺔ اﺿﻄﻬﺎدﻫﻢ ﻋﻨﴫﻳٍّﺎ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈن ﻣﻌﻈﻢ اﻟﺪراﺳﺎت اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ
Sehmidt, W, “The Culture Historical Method of Ethnology” tran. S. A. Seiber, New 54
.York 1939, pp. 189
308
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
ﻗﺪ اﻧﻌﻜﺴﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻫﺬه املﺆﺛﺮات ،ﻓﺎﺻﻄﺒﻐﺖ ﺑﺪراﺳﺔ اﻟﺘﻐري اﻟﺤﻀﺎري ،وﺑﻌﺪت ﻋﻦ
املﺸﻜﻼت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻠﻌﺐ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﺤﻀﺎري واﻻﻧﺘﺸﺎر اﻟﺤﻀﺎري
دو ًرا ﻛﺒريًا .وذﻟﻚ ﻋﲆ ﻋﻜﺲ املﺸﻜﻼت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ املﻌﻘﺪة اﻟﺘﻲ ﻳﺠﺪﻫﺎ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﻮن ﰲ
دراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرات اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ أو اﻵﺳﻴﻮﻳﺔ ﺑﻮﺟﻪ ﺧﺎص .ﻓﺎﻟﺘﻔﺎﻋﻼت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻫﻨﺎ ﻋﲆ
أﺷﺪﻫﺎ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻮﺟﻮد اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ واﻟﻄﺮق اﻟﺘﺠﺎرﻳﺔ واﺳﺘﻤﺮار اﻟﻌﻼﻗﺎت املﻜﺎﻧﻴﺔ
وﻗﻠﺔ ﻓﺮص اﻟﻌﺰﻟﺔ ﱠإﻻ ﻓﻴﻤﺎ ﻧﺪر )اﻟﺒﺸﻤﻦ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ ،واﻷﻧﺪﻣﺎن وﺑﻌﺾ اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ
ﰲ ﻏﺎﺑﺎت اﻟﻬﻨﺪ اﻟﺼﻴﻨﻴﺔ وإﻧﺪوﻧﻴﺴﻴﺎ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻗﺒﺎﺋﻞ أﺳﱰاﻟﻴﺎ وﺗﺴﻤﺎﻧﻴﺎ ،ﻛﺎﻧﺖ
ﺗﻜﻮﱢن أﻛﺜﺮ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﻋﺰﻟﺔ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ( .وﺣﺘﻰ اﻷﻗﺰام ﰲ ﻏﺎﺑﺎت وﺳﻂ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ —
اﻟﺬﻳﻦ اﻋﺘﱪﺗﻬﻢ ﻣﺪرﺳﺔ ﻓﻴﻴﻨﺎ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﰲ أواﺋﻞ ﻋﻬﺪﻫﺎ ﺟﺰءًا ﻣﻦ اﻟﺪاﺋﺮة اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ
اﻷزﻟﻴﺔ — ﻛﺎﻧﻮا ﰲ اﺧﺘﻼط واﺣﺘﻜﺎك داﺋﻢ ﻣﻊ ﺟرياﻧﻬﻢ اﻟﺰﻧﻮج.
309
اﻹﻧﺴﺎن
ﺑﻮﺟﻪ ﺧﺎص .وﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل ﻧﺠﺪ ٍ اﻟﺤﻀﺎري اﻟﻐﺮﺑﻲ اﻟﺼﻨﺎﻋﻲ ﻋﺎﻣﺔ وﺟﻮاﻧﺒﻪ املﺎدﻳﺔ
اﺗﺠﺎﻫني ﻣﺨﺘﻠﻔني ﰲ اﻟﻬﺪف ،ﻟﻜﻨﻬﻤﺎ ﻳﺸﱰﻛﺎن ﻣﻌً ﺎ ﰲ اﻟﺪراﺳﺔ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرات
ﻏري اﻷوروﺑﻴﺔ املﻬﺪدة ﺑﺎﻟﻔﻨﺎء واﻟﺘﻐري اﻟﺸﺎﻣﻞ ،ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﺘﺤﻀري اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ
اﻟﻘﻮﻳﺔ .اﻻﺗﺠﺎه اﻷول واﻷﻗﺪم ﻫﻮ اﺳﺘﺨﺪام ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻮﻣﺎت واﻹدارات ﰲ املﺴﺘﻌﻤﺮات
)ﺧﺎﺻﺔ اﻟﱪﻳﻄﺎﻧﻴﺔ( اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻟﻺﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني واﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني ﻟﺪراﺳﺔ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ
أﻳﻀﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺣﻜﻮﻣﺔ اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة ﻣﻦ أﺟﻞ إﻗﺎﻣﺔ ﺣﻜﻢ ﻏري ﻣﺒﺎﴍ .وﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل ً
ﺗﺪرس اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﰲ ﻣﻌﺎزﻟﻬﻢ ﻟﻠﻐﺮض ﻧﻔﺴﻪ وإن ﻟﻢ ﺗﻜﻦ املﺴﺄﻟﺔ ذات أﻫﻤﻴﺔ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﻛﻤﺎ
ﻛﺎﻧﺖ ﰲ املﺴﺘﻌﻤﺮات اﻷوروﺑﻴﺔ ﻋﺎﻣﺔ .واﻟﻬﺪف اﻟﴫﻳﺢ ﻣﻦ وراء ذﻟﻚ ﻫﻮ املﺤﺎﻓﻈﺔ ﻋﲆ
ﺣﻀﺎرات اﻟﺒﺪاﺋﻴني ﻣﻦ اﻟﺘﻐري اﻟﻌﻨﻴﻒ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﺑﻌﺪ اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﻗﺪ أﺛﺒﺘﺖ أن اﻟﻬﺪف
اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻛﺎن ﻳﻜﻤﻦ ﰲ ﺗﻮﻃﻴﺪ اﻟﺤﻜﻢ اﻻﺳﺘﻌﻤﺎري ﺑﺎﻟﻌﺰﻟﺔ وﺗﻮﻗﻴﻒ اﻟﻌﻤﻠﻴﺎت اﻟﺘﺤﻀريﻳﺔ
ﺧﺎﺻﺔ إذا ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻟﻌﻤﻠﻴﺎت ﺗﺄﺗﻲ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ ﺣﻀﺎرة ً اﻟﺘﻠﻘﺎﺋﻴﺔ ملﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت،
ﻏري ﻣﺮﻏﻮﺑﺔ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ اﻻﺳﺘﻌﻤﺎرﻳﺔ.
واﻟﺤﺎﻻت اﻟﺘﻲ ﺗﺸري إﱃ ذﻟﻚ ﻛﺜرية ﰲ اﻟﻬﻨﺪ وأﺟﺰاء ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻌﺮﺑﻲ وﻏﺮب
آﺳﻴﺎ وأﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﻛﻜﻞ ،وﻗﺪ أدى ذﻟﻚ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن إﱃ ﺗﺨﻮف أو ﺣﺘﻰ إﱃ »ﻋﻘﺪة
ﻋﺎﻣﺔ؛ ﻻﻋﺘﻘﺎدﻫﻢ أﻧﻬﻢ ﻳﺠﻤﻌﻮن ﻣﻦ ً ﻧﻔﺴﻴﺔ« ﻋﻨﺪ ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻜﻮﻣﺎت ﻣﻦ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني
اﻟﺸﻌﺐ ﻣﻌﻠﻮﻣﺎت ﺧﻄرية ﻷﻏﺮاض ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ 55 .وأﻛﱪ ﻣﺜﺎل ﻋﲆ اﻟﺤﻜﻮﻣﺎت اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ
ﺗﺴﺘﺨﺪم اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ﰲ اﻟﺴﻮدان اﻟﺘﻲ اﺳﺘﺨﺪﻣﺖ ﻋﺪدًا ﻣﻦ
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني اﻹﻧﺠﻠﻴﺰ اﻟﻜﺒﺎر ﻋﲆ رأﺳﻬﻢ »ﺳﻠﻴﺠﻤﺎن «C. C. Seligmanﰲ أواﺧﺮ
اﻟﻌﴩﻳﻨﺎت ﻟﺪراﺳﺔ ﺟﻨﻮب اﻟﺴﻮدان ﻋﺎﻣﺔ ،و»إﻳﻔﺎﻧﺰ ﺑﺮﺗﺸﺎرد «E. Evans-Pritchardﰲ
أواﺳﻂ اﻟﺜﻼﺛﻴﻨﺎت ﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺰاﻧﺪي ﺛﻢ اﻟﻨﻮﻳﺮ ﰲ ﺟﻨﻮب اﻟﺴﻮدان ،و»ﻧﺎدل «S. F. Nadel
ﰲ أواﺋﻞ اﻷرﺑﻌﻴﻨﺎت ﻟﺪراﺳﺔ ﻗﺒﺎﺋﻞ اﻟﻨﻮﺑﺎ ﰲ ﺟﻨﻮب اﻟﺴﻮدان ً
أﻳﻀﺎ .وﻻ ﺷ ﱠﻚ أن اﻟﺪراﺳﺎت
اﻟﺘﻲ ﻧ ُ ِﴩت ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺬﻟﻚ ﻣﺎ زاﻟﺖ دراﺳﺎت ﻣﻮﻧﻮﺟﺮاﻓﻴﺔ ﻗﻴﱢﻤﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺎت
Kim 55ﻳﺴﻤﱢ ﻲ ﺑﻌﺾ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني ﻫﺬه اﻟﻌﻘﺪة اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺑﺎﺳﻢ »ﻋﻘﺪة ﻛﻴﻢ«؛ ﻧﺴﺒﺔ إﱃ ﻗﺼﺔ
اﻟﺘﻲ ﻛﺘﺒﻬﺎ رودﻳﺎرد ﻛﺒﻠﻨﺞ — اﻟﻜﺎﺗﺐ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰي اﻟﺬي ُوﻟِ َﺪ ﰲ اﻟﻬﻨﺪ وﻧﴩ ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ ﺿﻤﻦ ﻛﺘﺒﻪ
وأﺷﻌﺎره اﻟﻌﺪﻳﺪة — ﰲ أواﺋﻞ ﻫﺬا اﻟﻘﺮن .وﺧﻼﺻﺔ اﻟﻘﺼﺔ أن ﺷﺎﺑٍّﺎ ﻳﻌﻤﻞ ﻟﺤﺴﺎب املﺨﺎﺑﺮات اﻟﱪﻳﻄﺎﻧﻴﺔ
ﻳﺘﺨﻔﻰ ﰲ ﺻﻮرة أﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻲ .وﻗﺪ ﺗﻌﺮض ﻣﺆﻟﻒ ﻫﺬا ﱠ ﺿﺪ اﻟﺘﺠﺴﺲ ﰲ ﺷﻤﺎل اﻟﻬﻨﺪ )اﻟﺘﺒﺖ وﻏريﻫﺎ(
اﻟﻜﺘﺎب ﻟﻬﺬه »اﻟﻌﻘﺪة« أﺛﻨﺎء إﺟﺮاء أﺑﺤﺎﺛﻪ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﰲ ﺟﻨﻮب اﻟﺴﻮدان ﻋﺎم .١٩٥٤
310
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
املﺘﻌﺪدة ﻗﺪ أدت إﱃ وﻗﻒ ﺗﻴﺎر اﻟﺘﺤﻀري اﻟﻌﺮﺑﻲ )اﻟﺬي ﻛﺎن ﺳﺎﺋﺪًا ﻟﻔﱰة ﻻ ﺑﺄس ﺑﻬﺎ(
واﻟﻘﺎدم ﻣﻦ ﺳﻜﺎن اﻟﺴﻮدان اﻟﺸﻤﺎﱄ واﻷوﺳﻂ ،وذﻟﻚ ﺑﺘﺤﺮﻳﻢ دﺧﻮل اﻟﻌﺮب اﻟﺴﻮداﻧﻴني
إﱃ اﻟﺠﻨﻮب ،وﺗﺮك املﻨﻄﻘﺔ اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ ﰲ إﻃﺎر ﺣﻜﻢ ﻣﺤﲇ ﺗﺴﻴﻄﺮ ﻋﲆ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻓﻴﻪ
ﻗﺴﻤﺖ اﻟﺴﻮدان اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ إﱃ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻧﻔﻮذ ﻛﺎﺛﻮﻟﻴﻜﻴﺔ اﻟﺒﻌﺜﺎت اﻟﺘﺒﺸريﻳﺔ اﻷوروﺑﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﱠ
وﺑﺮوﺗﺴﺘﺎﻧﺘﻴﺔ ،وﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻛﺎن اﻟﻨﺰاع ﻳﺸﺐﱡ ﺑني اﻟﻜﻨﻴﺴﺘني ﻋﲆ رﻋﺎﻳﺎ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ .واﻟﻨﺘﻴﺠﺔ
اﻟﻨﻬﺎﺋﻴﺔ ﻟﻬﺬه اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ:
) (١ﺗﺮك اﻟﺴﻮدان اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ ﻛﻨﻮع ﻣﻦ املﺘﺤﻒ اﻟﺤﻲ ﻟﺤﻀﺎرات ﻗﺪﻳﻤﺔ ﻋُ ِﺰ َﻟ ْﺖ ﻋﻦ
ﻋﻼﻗﺎﺗﻬﺎ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ )ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ(.
) (٢ﺗﺪﻋﻴﻢ ﻋﻮاﻣﻞ اﻟﻔﺼﻞ ﺑني ﺳﻜﺎن اﻟﺴﻮدان اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ وﺑﻘﻴﺔ ﺳﻜﺎن اﻟﺴﻮدان ﺑﻌﺪد
ﻣﻦ ﺷﻜﻠﻴﺎت اﻟﺘﻮﺟﻴﻪ اﻟﺘﺤﻀريي ﺷﺪﻳﺪ اﻟﻐﺮاﺑﺔ )أوروﺑﻲ ﻋﻨﴫي( ﺑﺎﻟﻘﻴﺎس إﱃ ﺗﻴﺎر
اﻟﺘﺤﻀري اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ )أﻓﺮﻳﻘﻲ ﻋﺮﺑﻲ(.
) (٣ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻇﻬﺮت ﺣﺮﻛﺔ اﻟﺠﻨﻮب اﻟﺘﻲ ﺗﻬﺪف إﱃ ﻓﺼﻞ اﻟﺴﻮدان اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ ﻣﻨﺬ
ﺧﺮوج اﻹﻧﺠﻠﻴﺰ ﻣﻦ اﻟﺴﻮدان ،واﻟﺘﻲ ﺗﻐﺬﱢﻳﻬﺎ ﺗﻴﺎرات ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﺧﺎرﺟﻴﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،واﻟﺤﺎﻻت
ﻣﻤﺎﺛﻠﺔ وﻣﺘﻜﺮرة؛ ﻣﺜﻞ اﻟﻬﻨﺪ وﺑﺎﻛﺴﺘﺎن ،وﻣﺜﻞ ﺣﺮﻛﺔ اﻹﻳﺒﻮ )ﺑﻴﺎﻓﺮا( ﰲ اﻻﻧﻔﺼﺎل ﻋﻦ ﺑﻘﻴﺔ
ﻧﻴﺠريﻳﺎ.
واﻻﺗﺠﺎه اﻟﺜﺎﻧﻲ ﰲ دراﺳﺔ اﻟﺘﻐري اﻟﺤﻀﺎري :ﻫﻮ ذﻟﻚ اﻟﺬي ﺳﻌﺖ ﻟﻪ ﻣﺪرﺳﺔ ﻓﻴﻴﻨﺎ
اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﰲ أواﺋﻞ اﻟﺨﻤﺴﻴﻨﺎت ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻘﺮن؛ ﻓﻘﺪ اﻫﺘﻢ اﻷﺳﺘﺎذ اﻟﺮاﺣﻞ روﺑﺮت ﻓﻮن
ﻫﺎﻳﻨﻲ-ﺟﻠﺪرن ﺑﺈﻧﺸﺎء ﻟﺠﻨﺔ دوﻟﻴﺔ وﻣﺠﻠﺔ ﻋﻠﻤﻴﺔ ﻟﻨﴩ أﺑﺤﺎث أو ﻣﺆﴍات ﻷﺑﺤﺎث ﻋﻦ
اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻬﺪدﻫﺎ ﺗﻴﺎرات ﺗﺤﻀريﻳﺔ ﻏﺮﺑﻴﺔ ﻋﻨﻴﻔﺔ ﺗﺆدي ﺑﻬﺎ ﺑﴪﻋﺔ .وﻗﺪ ﺗﻜﻠﻠﺖ
ﻫﺬه املﺴﺎﻋﻲ ﺑﺎﻟﻨﺠﺎح ﺣﻴﻨﻤﺎ ﺧﺼﺼﺖ ﻟﻬﺎ ﻫﻴﺌﺔ »اﻟﻴﻮﻧﺴﻜﻮ« اﻟﺪوﻟﻴﺔ ﻣﻴﺰاﻧﻴﺔ ﻣﺤﺪودة
ﻟﻠﻨﴩ واﻟﺒﺤﺚ .وﻗﺪ ﻋُ ِﺮﻓﺖ ﻫﺬه اﻟﻠﺠﻨﺔ ﺑﺎﺳﻢ »اﻟﻠﺠﻨﺔ اﻟﺪوﻟﻴﺔ ﻟﻠﻤﺸﻜﻼت اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
اﻟﻌﺎﺟﻠﺔ«.
وﻫﻜﺬا ﺗﻘﻮم اﻟﻠﺠﻨﺔ ﺑﺎملﺴﺎﻋﺪة ﻋﲆ اﻟﺘﻌﺮف ﻋﲆ ﻣﺸﻜﻼت اﻟﺘﺤﻀري اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ دون أن
ﻳﻜﻮن ﻣﻦ وراﺋﻬﺎ أﻫﺪاف ﻣﻌﻴﻨﺔ ﺳﻮى؛ ً
أوﻻ :ﺧﺪﻣﺔ اﻟﻌﻠﻢ .ﺛﺎﻧﻴًﺎ :ﺧﺪﻣﺔ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺘﻲ
ﺗﻘﻊ ﺗﺤﺖ ﺗﺄﺛري ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﺘﺤﻀري ﺑﺎملﺴﺎﻋﺪة اﻟﺪراﺳﻴﺔ ﻋﲆ ﺗﺨﻄﻲ ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﺘﻐﻴري ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ
ﺻﺤﻴﺔ )إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﻜﻮﻣﺎت ﻣﺴﺘﻌﺪة ﻟﺘﻄﺒﻴﻖ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه املﺴﺎﻋﺪات اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ(.
وﺑﻐﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ أﻫﺪاف اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﺘﺤﻀريﻳﺔ ،ﻓﺈن ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺎت أو ﺗﻠﻚ ﻗﺪ
ﺳﺎﻋﺪت ﺑﺪون ﺷﻚ ﻋﲆ ﻏﻨﻰ ﻛﺒري ﰲ املﺎدة اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،ﻛﻤﺎ ﺳﺎﻋﺪت ً
أﻳﻀﺎ
311
اﻹﻧﺴﺎن
ﻋﲆ ﻇﻬﻮر اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﰲ املﻮﺿﻮع اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ،ﻛﺬﻟﻚ أوﺿﺤﺖ أن
درﺟﺔ اﻟﺘﻐري ﰲ اﻟﻘﻄﺎع املﺎدي ﻣﻦ اﻟﺤﻀﺎرة أﴎع ﺑﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻨﻮاﺣﻲ ﻏري املﺎدﻳﺔ .وﰲ
اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ أوﺿﺤﺖ ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺎت أن اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ ﻻ
ﺗﺠﺪ ﺗﻘﺒ ًﱡﻼ ﻣﺘﺸﺎﺑﻬً ﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ،وذﻟﻚ ﺑﺘﺄﺛري املﺪى اﻟﻮاﺳﻊ ﻟﻼﺧﺘﻴﺎر ﻋﻨﺪ
املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ،وﺑﺬﻟﻚ أﺻﺒﺢ ﻟﺪى اﻟﻌﻠﻢ ﻣﺎدة ﻛﺒرية ﻋﻦ ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﻐري اﻟﺤﻀﺎري
ري ﻣﻦ
أﻳﻀﺎ ﻋﲆ ﺷﺨﺼﻴﺔ اﻟﻔﺮد .وﻗﺪ أدﱠى ﻫﺬا ﻛﻠﻪ إﱃ ﻛﺜ ٍ وﺗﻜﺎﻣﻞ اﻟﺤﻀﺎرات ،ودور ذﻟﻚ ً
اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت اﻟﺘﺤﻀريﻳﺔ ﻋﻨﺪ ﻋﻠﻤﺎء وﺑﺎﺣﺜﻲ اﻟﺤﻀﺎرة ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ ،ﺑﺤﻴﺚ أﺻﺒﺢ ﻣﻦ املﺘﻌﺬر
أن ﻧﺠﺪ ﻣﺪرﺳﺔ واﺣﺪة أو ﻣﺪارس واﺿﺤﺔ ﺑﺎملﻌﻨﻰ املﻔﻬﻮم ﰲ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ
املﻌﺎﴏة ،ﺑﺮﻏﻢ أﻧﻬﺎ اﻵن أﻧﺸﻂ اﻟﻬﻴﺌﺎت اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ وأﻏﻨﺎﻫﺎ وأﻏﺰرﻫﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﺪراﺳﺎت
اﻟﺘﻔﺼﻴﻠﻴﺔ ﰲ اﻟﻔﱰة اﻷﺧرية ﻣﻦ ﺗﺎرﻳﺦ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ.
وﻟﻘﺪ ﻇﻬﺮت ﺑﻌﺾ اﻵراء اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ دراﺳﺔ املﺠﺘﻤﻌﺎت املﺘﻐرية دون
اﻋﺘﺒﺎر ﻟﺘﺄﺛﺮﻫﺎ ﺑﻌﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﺤﻀري .وﻗﺪ ﻳﺒﺪو ﻫﺬا ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻣﻤﻜﻨًﺎ ،ﻟﻜﻨﻪ ﰲ واﻗﻊ
ﺧﺎﺻﺔ ﺧﻼل اﻟﻔﱰة اﻷﺧرية اﻟﺘﻲ ﻳﺤﺪث ً اﻷﻣﺮ ﻣﺴﺘﺤﻴﻞ؛ ﻓﺎﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﻻ ﺗﻌﻴﺶ ﰲ ﻋﺰﻟﺔ،
ﻓﻴﻬﺎ اﻻﺗﺼﺎل اﻟﺤﻀﺎري ﺑﻮﺳﺎﺋﻞ ﺣﺪﻳﺜﺔ )اﻟﺮادﻳﻮ – اﻟﺘﻠﻔﺰﻳﻮن( دون أن ﻳﻜﻮن ﻫﻨﺎك
اﺗﺼﺎل ﻣﺎدي ﺑني اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت.
وﺳﻊ ﻛﺜريٌ ﻣﻦ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني اﻷﻣﺮﻳﻜﻴني ﺣﻘﻞ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺑﺎﺗﺠﺎﻫﺎﺗﻬﻢ وﻟﻘﺪ ﱠ
إﱃ دراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرة املﻌﺎﴏة ﰲ أوروﺑﺎ وآﺳﻴﺎ وأﻣﺮﻳﻜﺎ .وأﻫﻢ املﻴﺎدﻳﻦ ﻫﻨﺎ دراﺳﺔ اﻟﺮﻳﻒ
ً
وﺧﺎﺻﺔ ﺗﻠﻚ املﺪن اﻟﺘﻲ ﺗﻮﺟﺪ ﻓﻴﻬﺎ ﻛﻤﺠﻤﻮﻋﺔ ﺣﻀﺎرﻳﺔ ودراﺳﺔ املﺪن املﺘﻐرية ﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ،
ً
أﻗﻠﻴﺎت ﻟﻮﻧﻴﺔ ﻛﺎﻟﺰﻧﻮج .وﺳﻌﻰ ﺑﻌﺾ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني أﻳﻀﺎ إﱃ دراﺳﺔ ﺣﻀﺎرة أﻣﻢ ﺣﺪﻳﺜﺔ،
ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻠﺖ روث ﺑﻨﺪﻳﻜﺖ ﻋﺎم ١٩٤٦ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻧﴩت ﻛﺘﺎﺑﻬﺎ The Chrysanthemum and
.the Sword; Patterns of Japanese cultureﻛﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻻﺗﺠﺎه إﱃ دراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرات
اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ دراﺳﺔ إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻗﺪ أﺧﺬ ﻳﻈﻬﺮ ﺑﺼﻮرة واﺿﺤﺔ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎت اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني
اﻷملﺎن واﻟﻨﻤﺴﺎوﻳني واﻟﻔﺮﻧﺴﻴني واﻷﻣﺮﻳﻜﻴني ﺑﺎﻻرﺗﺒﺎط ﺑﺎﻟﺪراﺳﺎت اﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻟﻬﺬه
اﻟﺤﻀﺎرات ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ واﻟﺠﺪﻳﺪ ﻋﲆ اﻟﺴﻮاء.
312
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
) (3ﺧﺎﺗﻤﺔ
ﻟﻘﺪ رأﻳﻨﺎ ﰲ اﻟﻌﺮض اﻟﺴﺎﺑﻖ أن اﺗﺠﺎﻫﺎت اﻟﻔﻜﺮ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻣﻨﺬ ﺑﺪاﻳﺔ ﻫﺬا اﻟﻘﺮن ﻗﺪ
ﺑﺪأت ﺑﺪاﻳﺔ ﺗﻄﻮرﻳﺔ ﰲ املﺠﺎل اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻟﻺﻧﺴﺎن ،ﺗﺤﺎول أن ﺗﺠﺪ ﻋﻨﺪ ﻛﻞ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت
اﻹﻧﺴﺎن ﻗﻮاﻋﺪ أﺳﺎﺳﻴﺔ واﺣﺪة ﻳُﺒﻨَﻰ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺤﻀﺎري .وﻻ ﺷ ﱠﻚ أن املﺪرﺳﺔ
اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ﺑﺘﺄﻛﻴﺪﻫﺎ ﻋﲆ ﻣﺒﺪأ وﺣﺪة اﻟﻨﻮع اﻟﺒﴩي ﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ إﻧﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺆﻛﺪ ذﻟﻚ ﰲ
وﺟﻪ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻌﻨﴫﻳﺔ املﻐﺎﻟﻴﺔ ﰲ اﻟﺘﻔﺮﻳﻖ ﺑني ﺳﻼﻻت وﺣﻀﺎرات اﻹﻧﺴﺎن .وﻋﲆ
ﻧﺤﻮ ﻣﻤﺎﺛﻞ ،ﺣﺎول ﻓﺮوﻳﺪ — واﻻﺗﺠﺎه اﻟﻨﻔﴘ — ﺗﻮﺣﻴﺪ اﻷﺳﺲ اﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ﻋﻨﺪ ﻛﻞ
املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﴩﻳﺔ ﺑﺈرﺟﺎع اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺤﻀﺎري إﱃ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻷﺻﻮل املﺸﱰﻛﺔ .وﺑﺬﻟﻚ ﻟﻢ
ﺗﻜﻦ املﺪرﺳﺔ اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﻫﻲ اﻷﺧﺮى ﻏري ﺗﻌﺒري ﻋﻦ اﻟﺘﻜﺎﻓﺆ اﻟﺒﴩي ﰲ ﺟﺬوره وأﺻﻮﻟﻪ.
وﺗﻼﻓﻴًﺎ ﻟﻠﻨﻘﺺ اﻟﺬي ﻇﻬﺮ ﻣﻦ املﺪرﺳﺘني اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ واﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﻧﺠﺪ املﺪرﺳﺔ اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ
اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺗﺤﺎول أن ﺗﺨﺼﺺ ﻣﺼﺪ ًرا واﺣﺪًا ﻟﻠﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﻌﻠﻴﺎ ،وﺑﺮﻏﻢ
ﻫﺬا اﻟﺘﺨﺼﻴﺺ ﻓﺈن ﻣﺠﺮد ﺗﻘﺒﱡﻞ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻷﺧﺮى ملﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﻌﻨﺎﴏ املﻬﺎﺟﺮة دﻟﻴﻞ
ﻋﲆ ﺗﺴﺎوي اﻟﺒﴩ ﰲ ﻗﺪرﺗﻬﻢ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬه املﻐﺎﻻة ﻗﺪ أدﱠت إﱃ رﻓﺾ ﻣﺒﺎﴍ
ﻵراء ﻫﺬه املﺪرﺳﺔ .أﻣﱠ ﺎ املﺪارس اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ اﻷﺧﺮى ﻓﻼ ﺗﻤﻴﻞ إﱃ ﺗﺨﺼﻴﺺ ﻣﺼﺪر واﺣﺪ
ﻟﻜﺎﻓﺔ ﻣﺠﻤﻊ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﻠﻴﺎ ،ﺑﻞ ﺗﺮى أن ﻫﻨﺎك ﻣﺼﺎدر ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻠﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﺗﻨﺘﴩ ﰲ أﻗﺎﻟﻴﻢ ﻣﺤﺪودة أو أﻗﺎﻟﻴﻢ واﺳﻌﺔ .وﻣﻬﻤﺎ ﻳﻜﻦ اﻷﻣﺮ ﻓﺈن ﻛﺎﻓﺔ املﺪارس
اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ وﻧﺘﺎﺋﺞ اﻟﺪراﺳﺎت اﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ واﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ﺗﺸري إﱃ ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ
ﻛﻤﺼﺪر ﻣﻮﺣﱠ ﺪ ﻟﻌﺪد ﻣﻦ ﻣﺮﻛﺒﺎت اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ املﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻟﺰراﻋﺔ واﺳﺘﺌﻨﺎس اﻟﺤﻴﻮان
وﺗﺸﻐﻴﻞ املﻌﺎدن ،اﻧﺘﴩت ﻣﻨﻪ إﱃ ﺑﻘﻴﺔ أﺟﺰاء اﻟﻌﺎﻟﻢ .وأﺧريًا ﻧﺠﺪ اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ
ري ﻣﻦ املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ واﻟﺘﺤﻀريﻳﺔ واﻟﻨﻔﺴﻴﺔ واﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ ﺗﻈﻬﺮ ﰲ ﻛﺜ ٍ
اﻷﻧﺠﻠﻮﺳﺎﻛﺴﻮﻧﻴﺔ واﻷوروﺑﻴﺔ.
وﺑﺮﻏﻢ أن اﻟﺮﻓﺾ أو املﻌﺎرﺿﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻮاﺟﻪ املﻨﻬﺞ ﺗﻠﻮ املﻨﻬﺞ ،وأن اﻟﺮﻓﺾ ﻛﺎن
ﻳﺆدي أﺣﻴﺎﻧًﺎ إﱃ ﺗﻜﻮﻳﻦ اﺗﺠﺎه آﺧﺮ ،ﱠإﻻ أﻧﻨﺎ ﻧﺮى ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ دﻋﻮات ﻛﺜرية ﻟﺘﺨﻔﻴﻒ
ﺣﺪة اﻟﻨﺰاع املﻨﻬﺠﻲ؛ ﻓﺎﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ﻟﻢ ﻳ ُْﻘ َﺾ ﻋﻠﻴﻬﺎ 56 ،ﺑﻞ ﺗﺠﺪ داﺋﻤً ﺎ أﻧﺼﺎ ًرا ﻳﻌﺪﱢﻟﻮﻧﻬﺎ ً
وﻓﻘﺎ
56ﻳﻤﺜﻞ روﺑﺮت ﻟﻮي واﺣﺪًا ﻣﻦ أﺷﺪ ﻣﻌﺎرﴈ اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳﻘﻮل :إن اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ﻟﻢ ﺗَﻤ ْ
ُﺖ،
وواﺟﺒﻨﺎ أن ﻧﺤﺪدﻫﺎ ﺑﺪﻗﺔ أﻛﱪ ،ﻛﻤﺎ ﻳﻌﺘﻘﺪ أﻧﻪ رﺑﻤﺎ أﻣﻜﻦ ﺗﻌﻴني ﻣﺮاﺣﻞ ﺣﻀﺎرﻳﺔ وﺗﻄﻮر ﺣﻀﺎري ﻓﻴﻤﺎ
ﺑﻌﺪ .راﺟﻊ.Lowie, R. “The History of Ethnological Theory” New York, 1937, p. 27 :
313
اﻹﻧﺴﺎن
ﻟﻨﺘﺎﺋﺞ اﻟﺒﺤﻮث اﻟﺠﺪﻳﺪة .واﻻﻧﺘﺸﺎرﻳﺔ اﻟﻮﺣﺪاﻧﻴﺔ اﻷﺻﻞ )املﻐﺎﻟﻴﺔ( ﻗﺪ ﺗﺠﺪ ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ أدﻟﺔ
أﻳﻀﺎ ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻟﻜﺸﻮف اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ واﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﻋﲆ ﺻﺤﺔ ﺑﻌﺾ وﺟﻬﺎت ﻧﻈﺮﻫﺎً ،
اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ .واﻻﺗﺠﺎه اﻟﻮﻇﻴﻔﻲ اﻟﻀﻴﻖ ﻛﻤﺎ ﻋﺮﻓﺘﻪ املﺪرﺳﺔ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ﰲ اﻟﻨﺼﻒ اﻷول ﻣﻦ
ﻫﺬا اﻟﻘﺮن ،ﻗﺪ ﺑﺪأ ﻳﻨﻔﺘﺢ ﻋﲆ ﻣﻬﺎم أﺧﺮى ﻟﻺﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ املﻴﺪان اﻟﻮﻇﻴﻔﻲ املﻨﺤﴫ
ﰲ ﻧﻈﻢ اﻟﻘﺮاﺑﺔ ﻋﻨﺪ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ،وﰲ اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ إﻋﺎدات ﻛﺜرية
ﻟﻮﺟﻬﺎت اﻟﻨﻈﺮ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ،واﻻﺗﺠﺎه اﻟﺘﻄﺒﻴﻘﻲ أﺻﺒﺢ ﻳﺠﺪ ﺗﺄﻳﻴﺪًا ﻣﺘﺰاﻳﺪًا — ﻟﻴﺲ ﻗﺎﴏًا
أﻳﻀﺎ إﱃ دراﺳﺎت ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻐﺮﺑﻴﺔﻓﻘﻂ ﻋﲆ دراﺳﺔ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ — ﺑﻞ ﺗﻌﺪﱠاه ً
اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ املﻌﺎﴏة؛ ﻛﻞ ﻫﺬا ﻳﺪل ﻋﲆ ﺣﻴﻮﻳﺔ واﺿﺤﺔ ﰲ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت واملﺪارس
اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ .وﻻ ﺷ ﱠﻚ أن ﻫﺬه اﻟﺤﻴﻮﻳﺔ وﺗﺠﺪﻳﺪ ﻧﺸﺎط اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ وﺗﻄﻮﻳﺮﻫﺎ
راﺟ ٌﻊ إﱃ ﻛﺜﺮة اﻻﺗﺼﺎل ﺑني إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﱢﻲ وأﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﱢﻲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﰲ ﺻﻮرة املﺆﺗﻤﺮات
اﻟﺪوﻟﻴﺔ واملﺤﻠﻴﺔ وﻛﺜﺮة املﻨﺸﻮرات اﻟﺪورﻳﺔ واملﺠﻠﺪات اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺘﻮي ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﺣﻠﻘﺎت
ﺑﺤﺚ ﺣﻮل ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻳﺸﺎرك ﻓﻴﻬﺎ ﻛﺘﱠﺎب ﻣﺘﻌﺪدون ،وﻛﺜﺮة اﻻﺗﺠﺎه إﱃ اﻟﺪراﺳﺎت
املﻴﺪاﻧﻴﺔ ،ووﺟﻮد ﺑﻌﺾ اﻟﻬﻴﺌﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺎﻋﺪ ﰲ ﺗﻤﻮﻳﻞ اﻟﺪراﺳﺎت املﻴﺪاﻧﻴﺔ أو ﻧﴩ اﻷﺑﺤﺎث
وﺳﻬﻮﻟﺔ اﻻﻧﺘﻘﺎل.
وﺧﻼﺻﺔ اﻟﻘﻮل أن اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت أو ﻣﻨﺎﻫﺞ املﺪارس املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻗﺪ أﺻﺒﺤﺖ
ﺷﺎﺋﻌﺔ اﻻﺳﺘﺨﺪام ﰲ املﻴﺪان أو ﰲ اﻟﺘﻨﻈري ﺑﺼﻮرة أو أﺧﺮى دون أن ﺗﺜري اﻟﺠﺪل اﻟﻌﻨﻴﻒ؛
ﻓﺈن اﻻﺗﺠﺎه اﻟﺴﺎﺋﺪ اﻵن — ﺑﻌﺪ ازدﻳﺎد ﻋﻼﻗﺔ اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﺑﺎﻻﺟﺘﻤﺎع وﻣﺎ ﻗﺒﻞ
اﻟﺘﺎرﻳﺦ وﺗﻔﺘﺢ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻋﲆ ﻣﻴﺎدﻳﻦ أﺧﺮى ﰲ اﻟﺪراﺳﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ — أن اﻟﺪراﺳﺔ
ملﺠﺘﻤﻊ ﻣﺎ ﻳﺠﺐ أن ﺗﻘﻮم ﺑﺎﻻﺳﺘﻨﺎد إﱃ أي اﺗﺠﺎه أو ﻣﻨﻬﺞ ﻳﺨﺪم دراﺳﺔ ﻫﺬا
ٍ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
املﺠﺘﻤﻊ .ﻓﻘﻴﻤﺔ اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﻨﻬﺎﺋﻴﺔ ﻷيﱢ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻳﺠﺐ أن ﺗﺘﻌﺪى اﻟﺤﺪود اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ املﺤﺪدة
ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﻣﻨﻬﺞ ﻣﻌني إﱃ ﻣﻨﻬﺞ أو ﻣﻨﺎﻫﺞ أﺧﺮى ﻟﻜﻲ ﺗﺼﺒﺢ ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺔ ﻣﺘﻜﺎﻣﻠﺔ ،وﻫﺬا
ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻌﱪ ﻋﻨﻪ ﺑﻌﺾ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني اﻷﻣﺮﻳﻜﻴني ﺑﻘﻮﻟﻬﻢ :إن ﻟﻜﻞ ﺣﻀﺎرة ﺗﻨﺎﺳﺒًﺎ ﻣﻌﻴﱠﻨًﺎ
)= اﻟﺘﻨﺎﺳﺐ اﻟﺤﻀﺎري (cultural relativismﻳﺆدي إﱃ ﻣﻨﻬﺞ ﻣﻌني ﰲ دراﺳﺘﻬﺎ.
وﻣﻬﻤﺎ ﺑﺪا ﰲ ﻫﺬا اﻻﺗﺠﺎه اﻟﺘﻨﺎﺳﺒﻲ ﻣﻦ ﺗﻔﻜﻴﻚ ﻟﻠﻤﻨﺎﻫﺞ وأﻫﺪاف اﻟﺒﺤﺚ ،وﺻﻌﻮﺑﺔ
اﻟﺘﻌﻤﻴﻢ ﻋﲆ املﺠﺎل اﻟﻌﺎملﻲ؛ ﻓﺈﻧﻪ ﻻ ﺷ ﱠﻚ ﰲ وﺟﻮد ﻋﺪدٍ ﻣﻦ اﻟﻀﻮاﺑﻂ ﺗﻤﻨﻊ اﻻﻧﺤﺮاف إﱃ
ﻓﻮﴇ اﺳﺘﻘﻼﻟﻴﺔ .وﻣﻦ أﻫﻢ ﻫﺬه اﻟﻀﻮاﺑﻂ:
) (١أن ﻫﻨﺎك ﻋﺪدًا ﻣﻦ اﻟﺘﺸﺎﺑﻪ اﻟﺸﻜﲇ ﻟﻌﺪدٍ ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﺑني ﻛﻞ اﻟﺤﻀﺎرات
ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ درﺟﺔ اﺧﺘﻼﻓﻬﺎ وﺗﺒﺎﻋﺪﻫﺎ ،وﻫﺬه ﺗﻜﻮن ﺣﻘﺎﺋﻖ اﻟﺘﺸﺎﺑﻪ اﻟﻌﺎملﻲ ﻟﻺﻧﺴﺎن
314
املﺪارس اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
واﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺒﴩﻳﺔ .ﻣﻦ ﺑني ﻫﺬه املﺘﺸﺎﺑﻬﺎت اﻟﺸﻜﻠﻴﺔ وﺟﻮد ﻗﻮاﻋﺪ ﺧﻠﻘﻴﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ
أﻳﻀﺎ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ذﻟﻚ ﻣﺘﺸﺎﺑﻬﺎت ﻋﺎملﻴﺔوﻣﻘﺎﻳﻴﺲ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻟﻠﺘﻤﺘﻊ ﺑﺎﻟﺠﻤﺎل واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،وﻫﻨﺎك ً
ﰲ املﻀﻤﻮن ﻣﺜﻞ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﺠﻤﻊ اﻟﺒﴩي ﰲ ﺻﻮرة ﻣﺠﺘﻤﻊ ،وﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﻗﺘﺼﺎدي
ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ ،وﺣﻘﻴﻘﺔ اﻻﻧﻘﺴﺎم اﻟﺠﻨﴘ واﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻟﺠﻨﺴني وﺗﻘﺴﻴﻤﺎت اﻟﻌﻤﻞ ،وﺣﻘﻴﻘﺔ
اﻟﻄﻤﻮح اﻟﻔﺮدي أو ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﻄﻤﻮح ﻋﲆ ﻣﺴﺘﻮى املﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﺑني أﺷﻴﺎء أﺧﺮى ﻣﺘﺸﺎﺑﻬﺔ
ﻣﺜﻞ املﻌﺘﻘﺪات اﻟﻐﻴﺒﻴﺔ واﻟﺪﻳﻨﻴﺔ.
) (٢أن اﻟﺤﻀﺎرات ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﺳﺎﻛﻨﺔ ﺟﺎﻣﺪة ،ﺑﻞ ﻫﻲ داﺋﻤﺔ اﻟﺘﻐري ﰲ ﺻﻮرة
ﻛﻤﻴﺔ ﻣﺘﺰاﻳﺪة ،وﺑﴪﻋﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﺣﺴﺐ درﺟﺔ اﻟﻨﻤﻮ اﻟﺤﻀﺎري وﻣﺼﺪر ﻫﺬا اﻟﻨﻤﻮ :ﻣﻦ
اﻟﺪاﺧﻞ أو ﻣﻦ اﻟﺨﺎرج .وﻣﻬﻤﺎ اﻧﺘﺎب ﻫﺬا اﻟﺘﻐري ﻣﻦ ﺗﻮﻗﻒ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻋﺰﻟﺔ ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ أو
ﻣﻔﺮوﺿﺔ؛ ﻓﺈن ﻫﺬا ﻻ ﻳﻤﺜﻞ ﺳﻮى ﻣﺮﺣﻠﺔ زﻣﻨﻴﺔ ﻣﺤﺪدة ﺗﻌﻮد ﺑﻌﺪﻫﺎ أﺷﻜﺎل اﻟﺘﻐري اﻟﻜﻤﻴﺔ
واﻟﻜﻴﻔﻴﺔ إﱃ اﻟﻈﻬﻮر .وﻣﻦ ﺛﻢ ،ﻓﺈن ﺣﺪود اﻟﺪراﺳﺔ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ — ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻏﺎﻣﻀﺔ
املﻨﻬﺞ — ﻟﻦ ﺗﺨﺮج ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻋﻦ ﻣﺒﺪأﻳﻦ :اﻟﻨﻤﻮ اﻟﺤﻀﺎري اﻟﺬاﺗﻲ واﻟﻨﻤﻮ اﻟﺤﻀﺎري
ﺑﺪواﻓﻊ ﺧﺎرﺟﻴﺔ .وﻣﻌﻨﻰ ذﻟﻚ أن اﻟﺪراﺳﺔ ﻟﻦ ﺗﺘﻌﺪى — ﰲ ﺟﻮﻫﺮﻫﺎ — املﻨﻬﺠني اﻟﺘﻄﻮري
واﻻﻧﺘﺸﺎري ﺑﺄوﺳﻊ ﻣﻌﺎﻧﻴﻬﻤﺎ.
) (٣أن ﺗﻔﺴري اﻟﻨﻤﻮ واﻟﺘﻐري اﻟﺤﻀﺎري )أو اﻟﺘﻮﻗﻒ ﰲ أﻗﴡ ﻣﺮاﺣﻞ اﻟﺘﻄﺮف( ﻳﺠﺐ
أن ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ أدوات ﻣﻌﻴﻨﺔ .وﻫﺬه اﻷدوات ﻫﻲ اﻟﻌﻮاﻣﻞ اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﻟﻠﻔﺮد واملﺠﺘﻤﻊ ،ووﻇﻴﻔﺔ
اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻟﺤﻀﺎري واﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ داﺧﻞ ﻫﺬا اﻟﱰﻛﻴﺐ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﺗﺘﻢ دراﺳﺔ ﻋﻤﻠﻴﺔ
اﻟﺘﻐري اﻟﺤﻀﺎري ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ اﻟﺒﻌﺪ اﻟﺰﻣﻨﻲ )اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ(.
315
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺨﺎﻣﺲ
1
اﻟﻠﻐﺔ إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
ﰲ ﻛﺘﺎب ﻋﻦ اﻹﻧﺴﺎن ﻛﻜﺎﺋﻦ ﺣﻀﺎري ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺘﻢ اﻟﺪراﺳﺔ ﱠإﻻ ﺑﻤﻌﺮﻓﺔ ﳾء ﻣﻮﺟﺰ ﻋﻦ
ً
ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ذﻟﻚ اﻟﻠﻐﺔ .ﻓﺎﻟﻠﻐﺔ ﻫﻲ أﺣﺪ اﻟﺮﻣﻮز اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺘﻠﺊ ﺑﻬﺎ اﻟﺤﻀﺎرات اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ،وﻫﻲ
أﻫﻢ اﻟﺮﻣﻮز اﻟﺘﺠﺮﻳﺪﻳﺔ اﻟﺘﻲ اﺑﺘﻜﺮﻫﺎ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ أﺟﻞ إﻳﺠﺎد وﺳﻴﻠﺔ ﺗﺴﻬﻞ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻛﻌﻀﻮ
ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻊ .وﻧﺤﻦ ﻧﻠﻤﺲ ﻫﺬه اﻟﺼﻌﻮﺑﺔ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻧﺮى أﻧﻔﺴﻨﺎ وﺳﻂ أﻓﺮاد ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ
ﻟﻐﻮﻳﺔ أﺧﺮى ﻻ ﻧﻌﺮﻓﻬﺎ ،وﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻨﺎ أن ﻧﺘﻌﺎﻳﺶ ﻣﻊ ﻫﺬه املﺠﻤﻮﻋﺔ ﱠإﻻ إذا ﺗﻌﻠﻤﻨﺎ ً
ﺑﻌﻀﺎ
ﻣﻦ ﻟﻐﺘﻬﺎ .واملﻮﺿﻮع اﻟﻠﻐﻮي ﻻ ﻳﺤﺘﻮي ﻓﻘﻂ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻟﻨﻔﻌﻲ ،ﻓﺎﻟﻠﻐﺔ وﺳﻴﻠﺔ ﻧﻔﻊ
أﻛﱪ ،ﻓﻬﻲ ﻻزﻣﺔ ﻟﻠﻨﻘﻞ واﻟﻮراﺛﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،وﻟﻴﺲ ﺛﻤﺔ ﺗﻌﻤﻴﻢ ﻷﻫﻤﻴﺔ اﻟﻠﻐﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ذﻟﻚ.
ﻓﺎﻟﻠﻐﺔ — ﻛﻤﺎ ﻗﺎل إدوارد ﺳﺎﺑري — E. Sapierﻋﻤﻞ ﺿﺨﻢ ﻻ ﺷﻌﻮري ﻣﻦ إﻧﺘﺎج
اﻷﺟﻴﺎل املﺘﻌﺎﻗﺒﺔ ،وﻫﻲ ﺑﺬﻟﻚ ﺟﺰءٌ ﻫﺎ ﱞم ﻣﻦ اﻟﺤﻀﺎرة ﻻ ﻳﺴﺎﻋﺪ اﻟﻨﺎس ﻋﲆ اﺳﺘﻤﺮار
ﺗﺠﺎرﺑﻬﻢ واﻹﻓﺎدة ﻣﻦ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻫﺬه اﻟﺘﺠﺎرب ﻓﻘﻂ ،ﺑﻞ ﻳﺴﺎﻋﺪﻫﻢ ﻋﲆ املﺸﺎرﻛﺔ — ودون
ﺗﺤﻤﻞ ﻋﻨﺎء اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ — ﰲ ﺗﺠﺎرب أﻋﻀﺎء املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺒﴩﻳﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ ﰲ املﺎﴈ أو
اﻟﺤﺎﴐ .واﻟﺤﻀﺎرة ﻛﻜﻞ ﺗﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ ﻣﻔﻬﻮﻣﺎت ﻣﺸﱰﻛﺔ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻳﺼﺒﺢ ﻣﻈﻬﺮﻫﺎ اﻟﻠﻐﻮي
.Ethnolinguistics 1
اﻹﻧﺴﺎن
أﻛﺜﺮ أﺟﺰاﺋﻬﺎ أﻫﻤﻴﺔ وﴐورة .وﻳﻠﺨﺺ ﺳﺎﺑري ﻫﺬا املﻌﻨﻰ ﺑﻘﻮﻟﻪ :إن اﻟﻠﻐﺔ ﻻ ﺗﻘﻒ وﺣﺪﻫﺎ
ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ اﻟﺘﺠﺎرب املﺒﺎﴍة أو ﺗﺴري ﻣﻮازﻳﺔ ﻟﻬﺎ ،ﺑﻞ ﺗﺘﺨﻠﻠﻬﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ2 .
وﻟﻘﺪ أﺻﺒﺤﺖ دراﺳﺔ اﻟﻠﻐﺔ ﻋﻠﻤً ﺎ وﻋﻠﻮﻣً ﺎ ﻣﺘﺨﺼﺼﺔ ،ﻟﻜﻨﻨﺎ ﻧﺪرﺳﻬﺎ ﻫﻨﺎ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ
أﺟﻞ اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ ،ﺑﻞ ﻷﻧﻬﺎ ﺟﺰء ﻣﻦ اﻟﺤﻀﺎرة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻛﻤﺎ ﻳﺪل ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻋﻨﻮان
ﻫﺬا اﻟﻔﺼﻞ .وﻳﺘﻔﻖ ﺑﻌﺾ دارﳼ اﻟﻠﻐﺔ ﻋﲆ أن اﻟﻠﻐﺔ وﺳﻴﻠﺔ ﻟﻨﻘﻞ اﻷﻓﻜﺎر ﺑني اﻟﻨﺎس،
وﰲ ﻫﺬا ﻳﻘﻮل ﻫﻨﺮي ﺳﻮﻳﺖ » :H. Sweetاﻟﻠﻐﺔ ﻫﻲ اﻟﺘﻌﺒري ﻋﻦ اﻷﻓﻜﺎر ﺑﻮﺳﺎﻃﺔ اﻷﺻﻮات
اﻟﻜﻼﻣﻴﺔ املﺆﺗﻠﻔﺔ ﰲ ﻛﻠﻤﺎت «.وﻳﻘﻮل إدوارد ﺳﺎﺑري» :إن اﻟﻠﻐﺔ وﺳﻴﻠﺔ إﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺧﺎﻟﺼﺔ
وﻏري ﻏﺮﻳﺰﻳﺔ ﻟﺘﻮﺻﻴﻞ اﻷﻓﻜﺎر واﻻﻧﻔﻌﺎﻻت )اﻟﻌﻮاﻃﻒ( واﻟﺮﻏﺒﺎت ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻧﻈﺎم ﻣﻦ
اﻟﺮﻣﻮز اﻟﺘﻲ ﺗﺼﺪر ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ إرادﻳﺔ … إن اﻟﻠﻐﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻫﻲ ﺑﻨﺎء ،ﻫﻲ ﰲ ﻫﻴﺌﺘﻬﺎ اﻟﺒﺎﻃﻨﺔ
ﻗﺎﻟﺐ اﻟﻔﻜﺮ «.وﻛﺬﻟﻚ ﻳﻘﻮل ﺟﻴﻔﻮﻧﺰ » :Jevonsإن اﻟﻠﻐﺔ ﺗﺆدي ﺛﻼﺛﺔ أﻏﺮاض؛ ﻓﻬﻲ:
) (١وﺳﻴﻠﺔ ﻟﻠﺘﻮﺻﻴﻞ (٢) .إﻧﻬﺎ ﻋﻮن آﱄ ﻟﻠﺘﻔﻜري (٣) .إﻧﻬﺎ وﺳﻴﻠﺔ ﻟﻠﺘﺴﺠﻴﻞ …« وﻟﻜﻦ
ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ أﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء ﺗﻌﺎرض ﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮة إﱃ اﻟﻠﻐﺔ وﺗﺼﻔﻬﺎ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﺗﻌﻄﻲ اﻟﻠﻐﺔ
ﺗﺼﻮﻳ ًﺮا ذا ﻣﻔﻬﻮم ﻋﻘﲇ ﺑﺤﺖ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻫﻲ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻛﺬﻟﻚ ﰲ ﻧﺸﺄﺗﻬﺎ اﻷوﱃ .وﻧﻘﻄﺔ اﻟﻬﺠﻮم
ﻳﺸﻨﱡﻬﺎ أوﺗﻮ ﻳﺴﱪﺳﻦ O. Jespersenﺗﱰﻛﺰ ﰲ أن ﻣﻨﺸﺄ اﻟﻠﻐﺔ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ اﻟﺘﻲ ُ
ﻓﻘﻂ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺘﻔﺎﻫﻢ وﺗﻮﺻﻴﻞ اﻷﻓﻜﺎر ﺑني اﻟﻨﺎس .وﻛﺬﻟﻚ ﻳﻌﱰض ﻣﺤﻤﻮد اﻟﺴﻌﺮان ﻋﲆ
ري ﻣﻦ اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ
ﺗﺨﺼﻴﺺ ﻣﻨﺸﺄ اﻟﻠﻐﺔ ﺑﻮﺳﻴﻠﺔ اﻟﺘﻮﺻﻴﻞ ،وﻫﻮ ﻳﺮى أن اﻟﻠﻐﺎت ﻣﻠﻴﺌﺔ ﺑﺎﻟﻜﺜ ِ
ﻧﻘﻼ إﱃ ﺷﺨﺺ آﺧﺮ ﻛﻤﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﻜﻼﻣﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻨﻘﻞ ﻣﻌﻨﻰ ﻣﺤﺪدًا ،أو ﻻ ﺗﻌﻨﻲ ً
اﻟﻌﺒﺎدة واﻟﺪﻋﺎء واﻟﺘﺤﻴﺔ واملﻨﺎﺟﺎة اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ 3 .وﻳﻌﱰض ﺑﺮوﻧﻮﺳﻼف ﻣﺎﻟﻴﻨﻮﻓﺴﻜﻲ ﻋﲆ
ﻫﺬه اﻟﻮﻇﻴﻔﺔ ﻟﻠﻐﺔ وﻳﻘﻮل» :إن اﻟﻠﻐﺔ ﰲ اﺳﺘﺨﺪاﻣﺎﺗﻬﺎ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﺗﻘﻮم ﺑﻮﻇﻴﻔﺔ اﻟﺤﻠﻘﺔ ﰲ
اﻟﻨﺸﺎط اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ املﻨﺘﻈﻢ ﻛﺠﺰء ﻣﻦ اﻟﺴﻠﻮك ،إﻧﻬﺎ ﴐب ﻣﻦ اﻟﻌﻤﻞ وﻟﻴﺴﺖ أداة ﻋﺎﻛﺴﺔ
ﻟﻠﻔﻜﺮ 4 «.وﻟﻜﻦ ﻣﺎﻟﻴﻨﻮﻓﺴﻜﻲ ﻳﻌﻮد إﱃ اﻟﻘﻮل» :إن اﻟﻜﻼم ﻫﻮ اﻟﻮﺳﻴﻠﺔ اﻟﴬورﻳﺔ ﻟﻠﺘﺸﺎرك،
2آراء إدوارد ﺳﺎﺑري اﻟﻮاردة ﻫﻨﺎ واملﻨﻘﻮﻟﺔ ﻋﻦ ﻛﺘﺎﺑﻪ »اﻟﻠﻐﺔ« ﻧﻴﻮﻳﻮرك ،١٩٢١وﻣﻘﺎﻟﺔ »اﻟﻠﻐﺔ« ﰲ داﺋﺮة
ﻣﻌﺎرف اﻟﻌﻠﻮم اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ) (١٩٣٣ﻋﻦ ﻣﻘﺎل ﻟﻬﺎري ﻫﻮﻳﺠﺮ ﺑﺎﺳﻢHoijer, H, “The Relation of :
.Language to Culture” in “Anthropology Today”, ed. A. Kroeber, Chicago 1953
3ملﺮاﺟﻌﺔ آراء ﺳﻮﻳﺖ ،ﺟﻴﻔﻮﻧﺰ ،ﻳﺴﱪﺳﻦ ،اﻟﻮاردة ﻫﻨﺎ ارﺟﻊ إﱃ :اﻟﺴﻌﺮان ،ﻣﺤﻤﻮد» ،اﻟﻠﻐﺔ واملﺠﺘﻤﻊ:
رأي وﻣﻨﻬﺞ« اﻟﻄﺒﻌﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ-املﻌﺎرف ،اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ ،١٩٦٣ﺻﻔﺤﺎت .٢٤–١١
4اﻟﺴﻌﺮان ،ﻣﺤﻤﻮد ،املﺮﺟﻊ اﻟﺴﺎﺑﻖ ص ١٧وص.٢٠
318
اﻟﻠﻐﺔ إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
إﻧﻪ اﻵﻟﺔ اﻟﻔﺮﻳﺪة اﻟﺘﻲ ﻻ ﻏﻨﻰ ﻋﻨﻬﺎ ﻟﺨﻠﻖ رواﺑﻂ اﻟﻠﺤﻈﺔ؛ ﻫﺬه اﻟﺮواﺑﻂ اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺤﻴﻞ
ﺑﺪوﻧﻬﺎ ﻗﻴﺎم اﻟﻌﻤﻞ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ املﻮﺣﺪ5 «.
وﺳﻮاء ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺮأي أو ذاك ،ﻓﺈن اﻟﺮاﺟﺢ أن اﻟﻠﻐﺔ ﺗﻘﻮم ﰲ ﺟﻮﻫﺮﻫﺎ ﻹﻳﺠﺎد
اﻟﺮواﺑﻂ اﻟﴬورﻳﺔ ﺑني أﻓﺮاد املﺠﺘﻤﻊ ﻣﻦ أﺟﻞ ﺗﻴﺴري ﺣﻴﺎة ﺟﻤﺎﻋﻴﺔ .وﻗﺪ ﻣﺮت دراﺳﺔ
اﻟﻠﻐﺔ ﺑﻤﺮﺣﻠﺔ اﻟﺘﺄﺛﺮ ﺑﺎﻟﻔﻜﺮ اﻟﺘﻄﻮري اﻟﺪاروﻳﻨﻲ ﺧﻼل اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ،ﻣﺜﻠﻬﺎ ﰲ ذﻟﻚ
ﻣﺜﻞ اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ،وﰲ ﺧﻼل ﺗﻠﻚ اﻟﻔﱰة ﻇﻬﺮ رواد اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ اﻟﻜﺒﺎر ﻣﻦ
ﺑني اﻷملﺎن ﻋﲆ وﺟﻪ ﺧﺎص ،واﻟﻔﺮﻧﺴﻴني واﻷﻣﺮﻳﻜﻴني ﺑﻮﺟﻪ ﻋﺎم .وﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ﺣﺪث
رد ﻓﻌﻞ ﺑني اﻟﺪارﺳني ﻟﻠﻐﺔ ﺗﺠﺎه املﻨﻬﺞ اﻟﺘﻄﻮري واﺗﺠﻬﻮا أﻛﺜﺮ إﱃ املﻨﻬﺞ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ6 .
أﻣﱠ ﺎ ﻛﻴﻒ ﺗﻄﻮرت اﻟﻠﻐﺔ ﻓﻬﻮ أﻣﺮ ﺻﻌﺐٌ وﺷﺎﺋﻚ ،ﻓﺎﻟﻠﻐﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺜﻞ اﻟﺒﻘﺎﻳﺎ اﻟﻌﻈﻤﻴﺔ
ﻟﻬﻴﻜﻞ اﻹﻧﺴﺎن أو ﻣﺨﻠﻔﺎﺗﻪ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻣﻦ أﺑﻨﻴﺔ وأدوات ،وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﻌﺜﺮ
ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺒﺎﺣﺚ ﰲ ﺣﻔﺮﻳﺎت ﻣﺎ ﻗﺒﻞ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ،ﻟﻜﻦ اﻟﺪراﺳﺎت اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ )اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ(
واﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﻌﻄﻴﻨﺎ ً
دﻟﻴﻼ اﺳﺘﻘﺮاﺋﻴٍّﺎ ﻋﲆ أن اﻟﻠﻐﺔ ﻗﺪﻳﻤﺔ؛ ذﻟﻚ أن دراﺳﺔ
ﺣﺠﻢ املﺦ ﻋﻨﺪ ﺣﻔﺮﻳﺎت اﻹﻧﺴﺎن وﻃﻼﺋﻌﻪ اﻷوﱃ ﻗﺪ أﺛﺒﺘﺖ أن ﺣﺠﻢ ﺣﻔﺮﻳﺔ ﻣﺎ )ﻣﺜﻞ اﻟﻘﺮد
اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ( ﻻ ﻳﻤ ﱢﻜﻨﻪ ﻣﻦ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﻟﻐﺔ ﻣﺎ ،وﻛﺬﻟﻚ ﺗﺪل اﻟﺪراﺳﺎت اﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻣﻦ
اﻟﺮاﺟﺢ أن ﻳﻜﻮن ﻋﻨﺪ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﻔﺮي اﻟﺬي ﺛﺒﺖ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺼﻨﻊ أدوات ﺣﺠﺮﻳﺔ ﻧﻮ ٌع
ﻣﺎ ﻣﻦ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﺒﻨﻰ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺗﻘﻠﻴﺪ ﺻﻨﺎﻋﺔ ﻫﺬه اﻷدوات اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ 7 .وأﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻫﺬا ﻻ
ﻣﺘﺒﻠﻮر ﻋﻦ ﻧﺸﺄة اﻟﻠﻐﺔ؛ ذﻟﻚ أن ﺗﺎرﻳﺦ أﻗﺪم
ٍ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﻣﻌﻠﻮﻣﺎﺗﻨﺎ املﻌﺎﴏة أن ﺗﻤﺪﻧﺎ ﺑﴚءٍ
اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت ﻟﻠﻐﺔ ﻣﺎ ﻻ ﻳﺰﻳﺪ ﻋﻦ اﻷﻟﻒ اﻟﺮاﺑﻌﺔ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد )ﺣﻀﺎرات ﻣﴫ واﻟﻌﺮاق( ،وأن
أﻗﺪم ﻛﺘﺎﺑﺔ ﻟﻠﻐﺔ ﻫﻨﺪو-أوروﺑﻴﺔ )اﻟﺤﻴﺜﻴﺔ( ﺗﻌﻮد إﱃ ١٤٠٠ق.م ،وأن أﻗﺪم ﻛﺘﺎﺑﺔ ﻟﻠﻐﺔ
اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ﺗﻌﻮد إﱃ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ أو اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻣﻦ املﻴﻼدي.
319
اﻹﻧﺴﺎن
320
اﻟﻠﻐﺔ إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
ﻋﻦ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺼﻮﺗﻴﺎت املﺤﻠﻴﺔ .وﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻳﺒﺪأ اﻟﺘﻘﺎرب اﻟﻠﻐﻮي وﻳﻨﻤﻮ ﺑﻨﻤﻮ ﻋﺪد أﻋﻀﺎء
املﺠﺘﻤﻊ؛ وﻟﻬﺬا ﻓﺈن آﻻف اﻟﺘﻐريات ﻗﺪ ﺣﺪﺛﺖ ﻋﻦ اﻟﻠﻐﺔ ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ اﻻﻫﺘﺪاء إﱃ
أﺻﻮﻟﻬﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ .وﻻ ﺷ ﱠﻚ أن اﻟﻠﻐﺔ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ ﻗﺪﻳﻤً ﺎ وﺣﺪﻳﺜًﺎ ﻛﺎﻧﺖ وﻣﺎ زاﻟﺖ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻓﻴﻤﺎ
ﺑﻴﻨﻬﺎ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﻌﱪ ﻋﻦ اﻧﻌﻜﺎﺳﺎت ﻟﻠﻈﺮوف اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ واﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻌﻴﺸﻬﺎ اﻟﻨﺎس.
وﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن اﻟﺼﻮرة اﻟﺘﻲ ﻗﺪﱠﻣﻨﺎﻫﺎ ﺻﻮرة ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ ،ﱠإﻻ أﻧﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﺑﺎﻟﴬورة
ﺻﺤﻴﺤﺔ .وﻣﻬﻤﺎ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ أﻣﺮ؛ ﻓﺈﻧﻪ ﻣﻤﺎ ﻻ ﺷ ﱠﻚ ﻓﻴﻪ أن اﻟﺒﺤﺚ ﰲ أﺻﻮل اﻟﻠﻐﺎت ﻳﻜﻮﱢن
ﺟﺎﻧﺒًﺎ ﻣﻦ اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ ،ﻟﻜﻨﻪ ﻟﻴﺲ ﻛﻞ اﻟﺪراﺳﺔ ،وﻟﻴﺲ أﻫﻢ أﺟﺰاﺋﻬﺎ ،ﻓﺎﻟﺠﺰء اﻷﻫﻢ ﻫﻮ
دراﺳﺔ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ اﻟﺪﻳﻨﺎﻣﻴﺔ ﰲ اﻟﺘﻐري اﻟﻠﻐﻮي وﻟﻴﺲ ﺗﻘﴢ اﻟﺨﺎﻣﺎت اﻷوﻟﻴﺔ ﻟﻠﻐﺔ.
321
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﻜﱪى أﻣﺜﻠﺔ ﻋﲆ ذﻟﻚ .ﻓﺈذا أﺧﺬﻧﺎ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ ﻓﻴﻬﺎ ﻟﻐﺔ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ املﻮﺣﺪة
)ﻣﻊ اﺧﺘﻼﻓﺎت ﰲ اﻷﺳﻠﻮب واﻻﺳﺘﺨﺪاﻣﺎت اﻟﻠﻔﻈﻴﺔ ﺗﺮﺟﻊ إﱃ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ واملﻜﺎﻧﻴﺔ
املﺨﺘﻠﻔﺔ( ،ﺛﻢ ﻧﺠﺪ اﻟﻠﻐﺎت أو اﻟﻠﻬﺠﺎت اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ،ﻓﺸﺘﱠﺎن ﻣﺎ ﺑني اﻟﻠﻬﺠﺔ اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﰲ اﻟﻌﺮاق
322
اﻟﻠﻐﺔ إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
وﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﰲ املﻐﺮب ،أو ﺑني اﻟﻠﻬﺠﺔ املﴫﻳﺔ واﻟﻠﻬﺠﺔ اﻟﺸﺎﻣﻴﺔ ،وﰲ داﺧﻞ ﻫﺬه اﻟﻠﻬﺠﺎت
اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﻟﻐﺎت أو ﻟﻬﺠﺎت ﻋﺎﻣﻴﺔ ﻣﺤﻠﻴﺔ ﻛﺜرية.
وﻛﺬﻟﻚ اﻟﺤﺎل ﰲ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ املﺴﺘﺨﺪﻣﺔ ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ،ﻓﻮارق إﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﻛﺜرية ﺑني
اﻟﻮﻻﻳﺎت اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ اﻟﴩﻗﻴﺔ ﰲ اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة وﺑني اﻟﺠﻨﻮب أو اﻟﺠﻨﻮب اﻟﻐﺮﺑﻲ ،وﻟﻐﺎت
وﻟﻬﺠﺎت ﻋﺎﻣﻴﺔ ﺗﻜﺎد أن ﺗﻤﻴﱢ َﺰ ﻛﻞ وﻻﻳﺔ ﻋﲆ ﺣﺪة .وﰲ إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﺗﺨﺘﻠﻒ اﻟﻠﻐﺎت أو اﻟﻠﻬﺠﺎت
اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﻛﺜريًا ﰲ اﻟﺠﻨﻮب ﻋﻨﻬﺎ ﰲ ﺗﻮﺳﻜﺎﻧﻴﺎ ،وﻋﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﰲ ﺳﺎﻓﻮي ،أو ﰲ ﺻﻘﻠﻴﺔ ،أو
ﰲ ﻛﺎﻟﱪﻳﺎ أو ﴎدﻳﻨﺎ.
وإذا ﺗﺮﻛﻨﺎ ﻫﺬه اﻟﺘﻔﺮﻳﻌﺎت ﺟﺎﻧﺒًﺎ ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻠﻐﺎت اﻟﻌﺎملﻴﺔ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ
املﻌﺎﴏة ﺗﺘﻮزع ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻹﻗﻠﻴﻤﻲ اﻟﺘﺎﱄ )اﻧﻈﺮ اﻟﺨﺮﻳﻄﺔ رﻗﻢ :(1-5
أوﻻ :ﰲ وﺳﻂ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﺗﻤﺘﺪ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻠﻐﺎت ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ ﻟﻐﺎت أورال-أﻟﺘﺎي، ً
وﺗﺸﺘﻤﻞ ﻋﲆ اﻟﱰﻛﻴﺔ واﻟﻔﻴﻨﻮ-أوﺟﺮﻳﺔ ،وﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﻟﻐﺎت ﺳ ﱠﻜﺎن ﺷﻤﺎل أوروﺑﺎ وآﺳﻴﺎ.
وﺗﺤﺘﻞ ﻫﺬه املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ ﻣﺜﻠﺜًﺎ ﻛﺒريًا رأﺳﻪ ﰲ اﻟﺠﻨﻮب ﺗﻤﺜﻠﻪ ﺗﺮﻛﺴﺘﺎن اﻟﺴﻮﻓﻴﺘﻴﺔ
واﻟﺼﻴﻨﻴﺔ ،وﺗﺮﺗﻜﺰ ﻗﺎﻋﺪة ﻫﺬا املﺜﻠﺚ ﻋﲆ املﺤﻴﻂ املﺘﺠﻤﺪ اﻟﺸﻤﺎﱄ ﻓﻴﻤﺎ ﺑني ﺷﻤﺎل
إﺳﻜﻨﺪﻧﺎﻓﻴﺎ وﻓﻨﻠﻨﺪا ﰲ اﻟﻐﺮب إﱃ ﺣﻮض ﻧﻬﺮ ﻟﻴﻨﺎ ﰲ ﺳﻴﺒريﻳﺎ اﻟﴩﻗﻴﺔ ﰲ اﻟﴩق .وﻟﻬﺬه
املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻣﻨﻌﺰﻟﺔ ﰲ اﻟﻐﺮب ﻳﻤﺜﻠﻬﺎ ﺷﻌﺒَﺎ ﺗﺮﻛﻴﺎ واملﺠﺮ.
ﺛﺎﻧﻴًﺎ :إﱃ اﻟﻐﺮب ﻣﻦ املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ وإﱃ اﻟﺠﻨﻮب ﻣﻨﻬﺎ ﺗﻤﺘﺪ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻟﻐﻮﻳﺔ ﺿﺨﻤﺔ
ً
)ﺳﺎﺑﻘﺎ اﻟﻬﻨﺪو-آرﻳﺔ( ،وﺗﺸﺘﻤﻞ ﻫﺬه ﻣﻦ اﻟﻠﻐﺎت اﻟﺘﻲ ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻬﻨﺪو-أوروﺑﻴﺔ
املﺠﻤﻮﻋﺔ ﻋﲆ اﻟﻠﻐﺎت اﻷوروﺑﻴﺔ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ ،وﺗﻤﺘﺪ ﰲ إﻳﺮان وأﻓﻐﺎﻧﺴﺘﺎن وﻣﻌﻈﻢ اﻟﻬﻨﺪ،
ﻛﻤﺎ أﺻﺒﺤﺖ ﺗﻤﺘﺪ ﻋﱪ اﻷﻃﻠﻨﻄﻲ إﱃ اﻷﻣﺮﻳﻜﺘني وأﺳﱰاﻟﻴﺎ وﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ.
ﺛﺎﻟﺜًﺎ :إﱃ اﻟﺠﻨﻮب ﻣﻦ املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻬﻨﺪو-أوروﺑﻴﺔ ﺗﻤﺘﺪ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻠﻐﺎت اﻟﺴﺎﻣﻴﺔ-اﻟﺤﺎﻣﻴﺔ
ﰲ ﻣﺴﺎﺣﺔ ﻛﺒرية ﻣﻦ ﻏﺮب آﺳﻴﺎ وﺷﻤﺎل أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ إﱃ ﺣﺪود اﻟﺴﻔﺎﻧﺎ اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ ،وﺗﺸﺘﻤﻞ
أﻳﻀﺎ ﻋﲆ اﻟﻘﺮن اﻷﻓﺮﻳﻘﻲ. ً
راﺑﻌً ﺎ :إﱃ اﻟﴩق واﻟﺠﻨﻮب اﻟﴩﻗﻲ ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ أورال-أﻟﺘﺎي ﺗﻤﺘﺪ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻠﻐﺎت
املﻐﻮﻟﻴﺔ-اﻟﺼﻴﻨﻴﺔ ﰲ ﻣﺴﺎﺣﺔ ﻫﺎﺋﻠﺔ ﰲ ﴍق آﺳﻴﺎ وﺟﻨﻮﺑﻬﺎ اﻟﴩﻗﻲ.
ً
ﺧﺎﻣﺴﺎ :ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻣﺘﻔﺮﻗﺔ ﻣﻦ اﻟﻠﻐﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ املﺪارﻳﺔ واﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ ،وﰲ ﺟﺰر
املﺤﻴﻂ اﻟﺒﺎﺳﻴﻔﻴﻜﻲ وإﻧﺪوﻧﻴﺴﻴﺎ.
وﻣﺸﻜﻠﺔ ﻧﺸﺄة ﻫﺬه اﻟﻠﻐﺎت واﻧﺘﺸﺎرﻫﺎ ﻣﺎ زاﻟﺖ ﻣﺸﻜﻠﺔ ﺟﻮﻫﺮﻳﺔ ،وأﻛﺜﺮ املﺠﻤﻮﻋﺎت
اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ اﻟﺘﻲ د ُِرﺳﺖ دراﺳﺔ ﻛﺎﻓﻴﺔ ﻫﻲ املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻬﻨﺪو-أوروﺑﻴﺔ ،واﻟﺮأي اﻟﻐﺎﻟﺐ أن
323
اﻹﻧﺴﺎن
)(٢ )(١
ﻫ أ
و ب
وأ ﺟ
ز د
دأ
دب
دﺟ
324
اﻟﻠﻐﺔ إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
ﺑﺮﻏﻢ اﻧﺘﻤﺎء ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻟﻠﻐﺎت اﻷوروﺑﻴﺔ إﱃ ﻋﺎﺋﻠﺔ اﻟﻠﻐﺎت اﻟﻬﻨﺪو-أوروﺑﻴﺔ ،ﱠإﻻ أن ﻫﻨﺎك
ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻟﻐﻮﻳﺔ أﺧﺮى ﻻ ﺗﻨﺘﻤﻲ إﱃ ﻫﺬه اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ ،أو ﻏري ﻣﻌﺮوف أﺻﻮﻟﻬﺎ .ﻓﻬﻨﺎك
أوﻻ :ﻟﻐﺎت أورال-أﻟﺘﺎي اﻟﺘﻲ ذﻛﺮﻧﺎﻫﺎ ،وﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﻟﻐﺎت اﻟﻼب ،اﻟﻔﻦ ،إﺳﺘﻮﻧﻴﺎ ،ﻛﺎرﻳﻠﻴﺎ،ً
ﺑﺮﻣﻴﺎن ،ﻣﻮردوﻓني ،وﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻟﻐﻮﻳﺔ أﺻﻐﺮ ﰲ ﺷﻤﺎل اﻻﺗﺤﺎد اﻟﺴﻮﻓﻴﺘﻲ .وﺗﺮﺗﺒﻂ ﻫﺬه
اﻟﻠﻐﺎت اﻷوروﺑﻴﺔ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ﺑﻠﻐﺔ املﺠﺮ ﻓﻴﻤﺎ ﻳُﻌ َﺮف ﺑﺎﺳﻢ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻔﻴﻨﻮ-أوﺟﺮﻳﺔ .وإﱃ
ﺟﺎﻧﺐ ذﻟﻚ ﻓﻬﻨﺎك ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻷﺗﺮاك اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻌﻴﺸﻮن ﰲ ﺟﻨﻮب ﴍق أوروﺑﺎ )ﺣﺪود
ﺗﺮﻛﻴﺎ اﻷوروﺑﻴﺔ( ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ أﺗﺮاك اﻟﺪاﻧﻮب اﻷدﻧﻰ )اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎﻧﻮا ﻳُﺴﻤﱠ ﻮن ﻃﻮﻧﺎﻟﲇ(
واﻟﺬﻳﻦ رﺣﻞ ﺟﺰء ﻣﻨﻬﻢ إﱃ ﺗﺮﻛﻴﺎ.
وﻫﻨﺎك ﺛﺎﻧﻴًﺎ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻠﻐﺎت املﺸﻜﻮك ﰲ اﻧﺘﻤﺎءاﺗﻬﺎ ،ﻣﺜﺎل ذﻟﻚ ﻟﻐﺔ اﻟﺒﺎﺳﻚ ﰲ
أﻳﻀﺎ ﺣﻮل ﻗﻮة ﺟﻨﻮب ﻓﺮﻧﺴﺎ وﺷﻤﺎل إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ ،وﻛﺬﻟﻚ اﻷﻟﺒﺎﻧﻴﺔ ﰲ اﻟﺒﻠﻘﺎن ،وﻫﻨﺎك ﺷﻜﻮك ً
اﻧﺘﻤﺎء اﻟﻠﻐﺎت اﻟﻜﻠﺘﻴﺔ إﱃ املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻬﻨﺪو-أوروﺑﻴﺔ .وﺗﻤﺜﻞ اﻟﻜﻠﺘﻴﺔ ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ ﻟﻐﺎت اﻟﻮﻳﻠﺶ
)وﻳﻠﺰ( وﺟﻴﻠﻚ ) Gaelicﰲ اﺳﻜﺘﻠﻨﺪا وﻧﻮع ﻣﻨﻪ ﰲ أﻳﺮﻟﻨﺪا( واﻟﻜﻮرﻧﻴﺶ )ﺟﻨﻮب ﻏﺮب
إﻧﺠﻠﱰا( وﻗﺪ اﻧﻘﺮﺿﺖ اﻷﺧرية ﺗﻤﺎﻣً ﺎ.
325
اﻹﻧﺴﺎن
326
اﻟﻠﻐﺔ إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
وﻳﻤﺜﻠﻬﺎ أﺣﺴﻦ ﺗﻤﺜﻴﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻴﺎﻛﻮت ﰲ ﺣﻮض ﻧﻬﺮ ﻟﻴﻨﺎ اﻷوﺳﻂ ،ﻛﻤﺎ ﺗﻤﺘﺪ ﰲ ﺷﻤﺎل
ﺳﻴﺒريﻳﺎ ﺑني اﻟﺴﺎﻣﻮﻳﻴﺪ وﻏريﻫﻢ ﻣﻦ اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ.
) (٤املﺠﻤﻮﻋﺎت املﻐﻮﻟﻴﺔ-اﻟﺼﻴﻨﻴﺔ :وﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﻋﺪة ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻟﻐﻮﻳﺔ ،أﻛﱪﻫﺎ
اﻟﺼﻴﻨﻴﺔ-اﻟﺘﺒﺘﻴﺔ )ﺑﻠﻬﺠﺎت وﻟﻐﺎت ﻣﺘﻌﺪدة( ،وﺗﺸﺘﻤﻞ ﻋﲆ ﻟﻐﺎت اﻟﺼني واﻟﺘﺒﺖ وﺑﺮﻣﺎ
وﺗﺎﻳﻼﻧﺪ ،وﻋﺪد آﺧﺮ ﻣﻦ اﻟﻠﻐﺎت ﻏري اﻟﻜﺒرية.
وﻫﻨﺎك ً
أﻳﻀﺎ اﻟﻠﻐﺎت املﻐﻮﻟﻴﺔ اﻷﺻﻠﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﺑﻬﺎ ﻋﺪد ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﰲ اﻟﻮﻗﺖ
اﻟﺤﺎﴐ رﻏﻢ ﺷﻬﺮﺗﻬﺎ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ .وﺗﻈﻬﺮ املﻐﻮﻟﻴﺔ ﰲ ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ ﻣﻨﻐﻮﻟﻴﺎ ،وﺑني ﻗﺒﺎﺋﻞ
ﻣﺘﻔﺮﻗﺔ ﰲ وﺳﻂ آﺳﻴﺎ إﱃ اﻟﻔﻮﻟﺠﺎ )ﴍﻗﻲ روﺳﻴﺎ اﻷوروﺑﻴﺔ( ،ﻛﻤﺎ ﺗﻈﻬﺮ ﰲ ﻣﻨﺸﻮرﻳﺎ
وﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺘﻨﺠﻮس ﻓﻴﻤﺎ ﺑني ﻧﻬﺮ آﻣﻮر وﻧﻬﺮ اﻟﻴﻨﴘ ﰲ ﺳﻴﺒريﻳﺎ.
وإﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﻫﺬه املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻫﻨﺎك ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻟﻐﻮﻳﺔ ﻣﺘﻔﺮﻗﺔ ﻏري ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ
أو ﻣﺸﻜﻮك ﰲ أﺻﻮﻟﻬﺎ وارﺗﺒﺎﻃﺎﺗﻬﺎ ﺑﺎملﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ ﺳﺎﺑﻘﺔ اﻟﺬﻛﺮ .ﻓﻬﻨﺎك ﰲ ﺟﻨﻮب
ﴍﻗﻲ آﺳﻴﺎ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻠﻐﺎت اﻟﺘﻲ ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ أوﺳﱰوﻧﻴﺰﻳﺎ أو اﻟﻠﻐﺎت املﺎﻟﻴﺰﻳﺔ-اﻟﺒﻮﻟﻴﻨﺰﻳﺔ،
وﺗﺸﺘﻤﻞ ﻋﲆ :ﻟﻐﺎت ﻣﺎﻟﻴﺰﻳﺎ وإﻧﺪوﻧﻴﺴﻴﺎ )ﻟﻐﺎت ﻋﺪﻳﺪة أﻫﻤﻬﺎ ﻟﻐﺔ ﺟﺎوة( ،وﻟﻐﺎت اﻟﻔﻠﺒني
)اﻟﻠﻐﺔ اﻟﺮﺳﻤﻴﺔ ﻟﻬﺎ ﺗﺎﺟﺎﻟﻮج( ،وﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻟﻐﻮﻳﺔ ﰲ ﻣﻜﺮوﻧﻴﺰﻳﺎ وﻣﻴﻼﻧﻴﺰﻳﺎ وﺑﻮﻟﻴﻴﻨﺰﻳﺎ،
ووﺳﻂ ﻣﺪﻏﺸﻘﺮ ،وﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻟﻐﺎت ﺑﺎﺑﻮا )ﻏﻴﻨﻴﺎ اﻟﺠﺪﻳﺪة( ،وﻟﻐﺎت اﻷﺳﱰاﻟﻴني اﻷﺻﻠﻴني
واﻟﺘﺴﻤﺎﻧﻴني اﻟﺬﻳﻦ اﻧﻘﺮﺿﻮا.
وﻳﺒﺪو أن ﻟﻐﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻏري ﻣﺘﺼﻠﺔ ﺑﺎملﻐﻮﻟﻴني وﻛﺬﻟﻚ ﻛﻮرﻳﺎ ،وﰲ ﺷﻤﺎل اﻟﻴﺎﺑﺎن
وﺳﺨﺎﻟني ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻟﻐﺔ اﻷﻳﻨﻮ املﻨﻔﺼﻠﺔ ﻫﻲ اﻷﺧﺮى ،وﰲ ﺷﻤﺎل ﴍق ﺳﻴﺒريﻳﺎ ﺗﻮﺟﺪ
ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻠﻐﺎت املﻨﻔﺼﻠﺔ ﺗﺘﻜﻠﻤﻬﺎ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻗﺒﻠﻴﺔ ﺻﻐرية اﻟﻌﺪد ﻣﺜﻞ اﻟﺘﺸﻮﻛﴚ
واﻟﻜﻮرﻳﺎك واﻟﻜﻤﺘﺸﺪال.
أﻣﱠ ﺎ ﰲ ﺟﻨﻮب اﻟﻬﻨﺪ ،ﻓﺘﻮﺟﺪ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻟﻐﻮﻳﺔ ﻋﺪﻳﺪة :أﻛﱪﻫﺎ اﻟﺪراﻓﻴﺪﻳﺔ )ﺗﺸﺘﻤﻞ
ﻋﲆ ﻟﻐﺎت اﻟﺘﺎﻣﻴﻞ واملﺎﻻﻳﻼم واﻟﺘﻠﺠﻮ( .وﻋﲆ ﺳﻔﻮح اﻟﻬﻤﻼﻳﺎ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻟﻐﻮﻳﺔ ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ ﻣﻮﻧﺪا
)ﻣﻨﻬﺎ أو ﻣﻨﻔﺼﻠﺔ ﻋﻨﻬﺎ ﻟﻐﺔ ﺑﻮروﺷﺎﺳﻜﻲ اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ( ،ﺛﻢ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻮن ﺧﻤري Mon
Khmerاﻟﺘﻲ ﺗﻈﻬﺮ ﰲ ﻓﻴﺘﻨﺎم وﻛﻤﺒﻮدﻳﺎ وﺑﻌﺾ املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ﰲ ﺑﺮﻣﺎ.
327
اﻹﻧﺴﺎن
328
اﻟﻠﻐﺔ إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
329
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﻜﺜري ﻣﻦ دول أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ أو اﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ ﻟﻐﺔ رﺳﻤﻴﺔ ﻟﻬﺎ )ﺣﺴﺐ ﻧﻮع اﻻﺳﺘﻌﻤﺎر
اﻟﺴﺎﺑﻖ( .وﻛﺬﻟﻚ ﺗﺒﺤﺚ ﺑﻌﺾ اﻟﺪول ﻋﻦ ﻟﻐﺎت ﻛﺒرية ﺗﺘﻌﺎﻣﻞ ﺑﻬﺎ ،ﻣﺜﻞ رﻏﺒﺔ اﻟﺼﻮﻣﺎل ﰲ
اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ،وﻣﺤﺎوﻻت اﺳﺘﺨﺪام اﻟﺴﻮاﺣﻠﻴﺔ ﻛﻠﻐﺔ رﺳﻤﻴﺔ ﰲ ﺑﻌﺾ دول ﴍق
أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،وﻋﲆ اﻷﺧﺺ ﺗﻨﺰاﻧﻴﺎ.
وﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﻌﻤﻮم ،ﻓﺈن اﻧﺘﺸﺎر ﺑﻌﺾ اﻟﻠﻐﺎت اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻫﻮ دﻟﻴﻞ ﻋﲆ أﻧﻪ
ﺟﺰء ﻣﻦ ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻧﺘﺸﺎر اﻷﻧﻤﺎط اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻟﻬﺬه اﻟﻠﻐﺎت ،ﻓﻬﻮ ﰲ ﺣﺪ ذاﺗﻪ ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻧﺘﺸﺎر
ﺣﻀﺎري .وﻗﺪ ﺣﺪث ذﻟﻚ ﰲ املﺎﴈ ﻛﺜريًا؛ ﻣﺜﻞ :اﻧﺘﺸﺎر اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ،وﺣﺮوف اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ
اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﰲ ﺑﻌﺾ املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ )اﻹﻳﺮاﻧﻲ أﻓﻐﺎﻧﻲ ،اﻟﱰﻛﻲ ﰲ آﺳﻴﺎ ،وﻛﻞ
ﺷﻤﺎل أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ( .واملﻼﺣﻆ ﰲ ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻻﻧﺘﺸﺎر اﻟﻠﻐﻮي اﻟﺤﻀﺎري أن املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻊ
أﻳﻀﺎ ﻋﲆ ﻫﺠﺮة ﺑﴩﻳﺔ ﺗﺤﺖ ﺗﺄﺛري ﻣﺒﺎﴍ ﻟﻠﺤﻀﺎرة اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،ﺑﺤﻴﺚ ﻳﺸﺘﻤﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﺄﺛري ً
وﻛﺘﺎﺑﺔ وﺗﱰك ﻟﻐﺘﻬﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻛﻤﺎ ﺣﺪث ﰲ ﻏﺮب ً ملﺪة ﻃﻮﻳﻠﺔ ،ﺗﺘﺒﻨﻰ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻛﻼﻣً ﺎ
آﺳﻴﺎ وﺷﻤﺎل أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،أو ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ ﻛﻤﺎ ﺣﺪث ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ .أﻣﱠ ﺎ املﺠﺘﻤﻌﺎت
اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻊ ﺗﺤﺖ ﺗﺄﺛري اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻟﻔﱰة أو ﺑﺪون ﻫﺠﺮات ﺑﴩﻳﺔ ﻛﺒرية اﻟﻌﺪد؛
ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻗﺪ ﺗﺴﺘﺨﺪم ﺣﺮوف اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺘﻠﻚ اﻟﺤﻀﺎرة دون أن ﺗﻐري ﻟﻐﺘﻬﺎ اﻷﺻﻠﻴﺔ،
أﻳﻀﺎ ﻋﻨﺪ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ وﻗﺪ ﺣﺪث ذﻟﻚ ﻋﻨﺪ اﻟﻔﺮس واﻟﱰﻛﻤﺎن ،وﺣﺪث ً
ﻟﺪﻳﻬﺎ ﺣﺮوف ﻟﻠﻜﺘﺎﺑﺔ؛ ﻣﺜﻞ ﺑﻌﺾ ﻟﻐﺎت وﺳﻂ آﺳﻴﺎ واﻟﻘﻮﻗﺎز اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﺨﺪم اﻟﺤﺮوف
ري ﻣﻦ اﻟﻠﻐﺎت اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ اﻟﺴﻼﻓﻴﺔ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺔ ﻟﻐﺘﻬﺎ ،وﻣﻦ املﺤﺘﻤﻞ ﺣﺪوث ذﻟﻚ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻜﺜ ٍ
ﻏري املﻜﺘﻮﺑﺔ .وﻟﻜﻦ ﻻ ﺷ ﱠﻚ ﰲ أن ﻫﻨﺎك ﻋﻮاﻣﻞ أﺧﺮى ﻛﺜرية ﺗﻠﻌﺐ دورﻫﺎ ﰲ ﻗﺒﻮل أو
رﻓﺾ ﻟﻐﺔ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺠﺪﻳﺪة أو ﺣﺮوﻓﻬﺎ اﻟﻬﺠﺎﺋﻴﺔ ﻏري ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ذﻛﺮﻧﺎﻫﺎ ،وﻋﲆ رأس ﻫﺬه
أﻳﻀﺎ اﻟﻌﻼﻗﺎتاﻟﻌﻮاﻣﻞ :اﻟﺨﻠﻔﻴﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ،واﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ واﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ،ورﺑﻤﺎ ً
اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ واﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ،واﻟﺘﻜﻮﻳﻦ اﻟﻨﻔﴘ ،وﺷﺨﺼﻴﺔ اﻟﺸﻌﻮب .ﻣﺜﺎل ذﻟﻚ أن ﻋﺰﻟﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎن
اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ — واﻟﺘﻲ أﻛﺪﺗﻬﺎ اﻟﻌﻘﺎﺋﺪ واﻟﺘﻨﻈﻴﻤﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﺧﻼل
أرﺿﺎ وﻓﻜ ًﺮا وروﺣً ﺎ — ﻗﺪ أدﱠت إﱃ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﺣﺮﺻﺎ ﻋﲆ ﻧﻘﺎء اﻟﻴﺎﺑﺎن ً ً ﻣﻌﻈﻢ ﺗﺎرﻳﺨﻬﺎ
ﻳﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ .وﺣﻴﻨﻤﺎ اﻧﺘﻘﻠﺖ اﻟﻴﺎﺑﺎن إﱃ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ ﺑﴪﻋﺔ وﻗﻮة ﰲ أواﺋﻞ ﻫﺬا
اﻟﻘﺮن ،وﺑﺮﻏﻢ اﺣﺘﻴﺎﺟﻬﺎ إﱃ ﺣﺮوف ﻛﺘﺎﺑﺔ أﺳﻬﻞ ﻣﻦ اﻟﺤﺮوف اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﻛﻲ ﻳﻤ ﱢﻜﻨﻬﺎ أن
أﻳﻀﺎ ﻛﻞ املﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ املﺠﺮدة واﻟﺘﻄﺒﻴﻘﻴﺔ — وﻛﻠﻬﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻬﺎ ﻧﻈري ﰲ ﺗﻨﻘﻞ ً
اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ — ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻇﻠﺖ ﻣﺤﺎﻓﻈﺔ ﻋﲆ ﻟﻐﺘﻬﺎ وﻋﲆ أﺑﺠﺪﻳﺘﻬﺎ.
330
اﻟﻠﻐﺔ إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
331
اﻹﻧﺴﺎن
أﺳﻔﻞ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﻠﻐﺎت ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﰲ ﻏﻨﺎﻫﺎ أو ﻓﻘﺮﻫﺎ اﻟﻨﺴﺒﻲ ﰲ
ﻧﻮاح ﻣﻦ اﻟﺘﻌﺒري اﻟﺤﻀﺎري؛ ﻓﺎﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﰲ اﻟﺠﺎﻫﻠﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻏﻨﻴﺔ ﰲ ﻣﱰادﻓﺎتﻧﺎﺣﻴﺔ أو ٍ
ﺧﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﺤﻤﺎﺳﺔ واملﺪﻳﺢ واﻟﻐﺰل واﻟﻬﺠﺎء ،ﺛﻢ أﺻﺒﺤﺖ ﺑﻌﺪ ﻧﺰول اﻟﻘﺮآن اﻟﻜﺮﻳﻢ ﻏﻨﻴﺔ ﰲ
ﻧﻮاح ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻛﺜرية ﻋﲆ رأﺳﻬﺎ اﻟﺪﻳﻦ واﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ واﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻲ ،ﺛﻢ زاد ﻏﻨﻰ اﻟﻠﻐﺔ ٍ
ﰲ اﻟﻨﻮاﺣﻲ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﺑﻌﺪ اﻻﻣﺘﺰاج اﻟﺤﻀﺎري ﺑني اﻟﻌﺮب واﻟﻔﺮس واﻟﻴﻮﻧﺎن واﻟﻬﻨﻮد .وﺗﺘﻘﺒﻞ
اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﰲ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺎﱄ اﻟﻜﺜريَ ﻣﻦ املﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ املﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻟﺤﻀﺎرة
ري ﻣﻦ
اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ ،وﻛﺬﻟﻚ اﻟﻠﻐﺎت ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ ﺗﻔﺘﻘﺮ إﱃ اﻟﻜﺜ ِ
أﻳﻀﺎ ﺗﺤﺘﺎج إﱃ ﻣﺰﻳﺪاملﻔﺮدات ﰲ ﺟﻮاﻧﺒﻬﺎ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ املﺎدﻳﺔ واﻟﻌﻠﻤﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،وﻟﻌﻠﻬﺎ ً
ﻣﻦ املﻔﺮدات ﰲ اﻟﻨﻮاﺣﻲ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ إذا ﻣﺎ ﺗﻘﺒﻠﺖ دﻳﺎﻧﺔ ﺟﺪﻳﺪة.
332
اﻟﻠﻐﺔ إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ،أو اﻟﺸني أو اﻟﺨﺎء ﻋﻨﺪ اﻟﻠﻬﺠﺎت اﻷملﺎﻧﻴﺔ ،وﻻ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﻫﺬا ﺑﺄي ﺗﻜﻮﻳﻦ ﺟﺴﺪي أو
ﺳﻼﱄ ،ﺑﻞ إﻧﻪ ﻣﺠﺮد اﻋﺘﻴﺎد ﻋﲆ اﻟﻨﻄﻖ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻌﻠﻤﻪ.
وﻫﻨﺎك ﺑﻌﺾ اﻟﻠﻐﺎت — ﻛﺎﻟﻌﺮﺑﻴﺔ — اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﺨﺪم املﺜﻨﱠﻰ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻟﻐﺎت أﺧﺮى
ﺗﺴﺘﺨﺪم املﻔﺮد واﻟﺠﻤﻊ ﻓﻘﻂ ،وﻟﻐﺎت ﺗﺴﺘﺨﺪم ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت وﺿﻤﺎﺋﺮ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻠﻤﺨﺎﻃﺐ
ﻓﻴﻤﺎ إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻌﻼﻗﺔ رﺳﻤﻴﺔ أو ودﻳﺔ ،أو ﺿﻤري اﻟﺠﻤﻊ ﻻﺣﱰام املﺨﺎﻃﺐ ،أو ﺿﻤري
اﻟﻐﺎﺋﺐ ً
أﻳﻀﺎ زﻳﺎدة ﰲ اﻟﺘﺒﺠﻴﻞ واﻻﺣﱰام ،ﻛﻤﺎ ﰲ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﺑﺪرﺟﺔ ﻣﻔﺮﻃﺔ.
وأﺧريًا ﻓﺈن اﻟﻠﻐﺔ — ﺑﺤﻜﻢ ﺗﻐريﻫﺎ اﻟﺪاﺋﻢ وزﻳﺎدة املﻨﺘﺠﺎت اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرة
اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص — ﻗﺪ أﺻﺒﺤﺖ ﺗﻀﻢ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﻔﺮدات واملﺼﻄﻠﺤﺎت
املﺘﺨﺼﺼﺔ ،وﻳﺼﻌﺐ اﻵن ﻋﲆ اﻟﺸﺨﺺ اﻟﻮاﺣﺪ أن ﻳﻠﻢ ﺑﺄﻃﺮاف ﻟﻐﺘﻪ دون اﻻﺳﺘﻌﺎﻧﺔ
ﺑﺎملﻌﺎﺟﻢ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻳﺴﻬﻞ ﻋﲆ اﻟﻔﺮد اﻹملﺎم ﺑﻐﺎﻟﺒﻴﺔ ﻣﻔﺮدات اﻟﻠﻐﺔ؛
ﻷن اﻟﺘﺨﺼﺺ اﻟﺸﺪﻳﺪ ﻟﻢ ﻳﻐ ُﺰﻫﺎ ﺑﻌﺪ .ﺻﺤﻴﺢ أن ﻫﻨﺎك ﻣﻔﺮدات ﻛﺜرية ﰲ ﻟﻐﺎت املﺠﺘﻤﻌﺎت
ﻏري اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺼﻒ ﺑﺎﻟﺪﻗﺔ ﻣﻈﺎﻫﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻌﻴﺸﻮن ﻓﻴﻬﺎ ،ﻣﺜﻞ ﻣﺌﺎت املﻔﺮدات
اﻟﺘﻲ ﻳﺤﺪد ﻛﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻣﻈﻬ ًﺮا ﻣﻌﻴﱠﻨًﺎ ﻣﻦ ﻣﻈﺎﻫﺮ اﻟﺘﻜﻮﻳﻦ اﻟﺮﻣﲇ أو اﻟﺼﺨﺮي ﻋﻨﺪ ﺑﺪو
اﻟﺼﺤﺮاء ،وﻋﴩات املﻔﺮدات اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪد ﻋﻨﺪ اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ أﺷﻜﺎل اﻟﺴﻄﻮح اﻟﺠﻠﻴﺪﻳﺔ اﻟﻌﺪﻳﺪة
ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ درﺟﺔ اﻻﺧﺘﻼف ﺑﺴﻴﻄﺔ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻋﻨﺪ ﻏريﻫﻢ ﻻ ﻧﺠﺪ ﻏري ﻣﻔﺮدات ﺗﺠﻤﻴﻌﻴﺔ ﻣﺜﻞ
اﻟﺼﺤﺮاء أو اﻟﻜﺜﺒﺎن أو اﻟﺠﻠﻴﺪ .وﻟﻜﻦ ﻛﻞ ﺑﺪوي أو ﻛﻞ إﺳﻜﻴﻤﻮي ﻳﻌﺮف ﻫﺬه املﺼﻄﻠﺤﺎت
ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺜﺮت؛ ﻷن ﻟﻬﺎ دﻻﻻت ﺧﺎﺻﺔ ﰲ اﻟﺼﻴﺪ أو اﻟﺮﻋﻲ أو اﻟﺘﻨﻘﻞ واﻟﱰﺣﺎل ،وﺑﺪون ﻫﺬه
املﻌﺮﻓﺔ ﻳﻀﻴﻊ اﻟﺸﺨﺺ ﰲ ﻣﺘﺎﻫﺎت ﻗﺎﺣﻠﺔ ﻣﻬﻠﻜﺔ ،وﻳﺮﺟﻊ ذﻟﻚ — ﻛﻤﺎ ﺳﻨﻌﺮف ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ
— إﱃ أن اﻟﻔﺮد )أو ﻋﺪد ﻗﻠﻴﻞ ﺟﺪٍّا ﻣﻦ اﻷﻓﺮاد( ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮن أن ﻳﻜﻮﱢﻧﻮا وﺣﺪة اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
ﻛﺎﻣﻠﺔ ،أﻣﱠ ﺎ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت ذات اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ ،ﻓﺈن اﻟﺘﺨﺼﺺ ﰲ اﻟﻨﺸﺎط اﻟﺤﺮﰲ ﻗﺪ أدى
إﱃ ﺗﺨﺼﺼﺎت ﻟﻐﻮﻳﺔ ﻻ ﻳﻔﻬﻤﻬﺎ ﺳﻮى أﺑﻨﺎء اﻟﺤﺮﻓﺔ ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﻜﻞ أﺷﻜﺎل اﻟﺤﺮف واملﻬﻦ
ﻻ ﺑ ﱠﺪ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ أن ﺗﱰاﺑﻂ ﻟﺘﻜﻮن وﺣﺪة اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻣﺘﻜﺎﻣﻠﺔ ﻳﻌﻴﺶ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ املﺠﺘﻤﻊ ،وﻣﻦ
ﺛﻢ أﺻﺒﺢ ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ ﻋﲆ اﻷﻓﺮاد ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت املﻌﻘﺪة اﻹملﺎم ﺑﻜﻞ املﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ
ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻌﻬﻢ.
333
اﻹﻧﺴﺎن
) (5اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ
ﺣﺪﻳﺚ ﺟﺪٍّا ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻹﻧﺴﺎن .ﺻﺤﻴﺢ أن اﻹﻧﺴﺎن ٌ ﺑﺮﻏﻢ ﻗﺪم اﻟﻠﻐﺎت ،ﻓﺈن ﻛﺘﺎﺑﺔ اﻟﻠﻐﺔ أﻣ ٌﺮ
ﰲ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻷﻋﲆ — وﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ اﻷﻣﻴﺔ — ﻗﺎم ﺑﺎﻟﺘﺼﻮﻳﺮ
واﻟﻨﻘﺶ ﻋﲆ ﺟﺪران اﻟﻜﻬﻮف واﻟﺤﻮاﺋﻂ اﻟﺼﺨﺮﻳﺔ ،ﱠإﻻ أن ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺘﺴﺠﻴﻞ ﻟﻠﺤﻈﺔ
ُﻌﺘﱪ ﺑﺪاﻳﺔ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ .وﺣﺘﻰ ﺣﻴﻨﻤﺎ اﺳﺘﻘﺮ اﻹﻧﺴﺎن ﻛﻤﺰارع ﰲ اﻟﻌﴫ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳ َ
اﻟﺤﺠﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻄﻮﱢر أﺑﺠﺪﻳﺔ ﻟﻠﻜﺘﺎﺑﺔ ،ﻓﻠﻢ ﺗﻜﻦ اﻟﻈﺮوف داﻓﻌﺔ إﱃ ﻫﺬا
اﻟﻜﺸﻒ ،وﻗﺪ ﺳﻤﺤﺖ اﻟﻈﺮوف ﺑﺎﻻﺗﺠﺎه ﻧﺤﻮ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﰲ اﻷﻟﻒ اﻟﺮاﺑﻌﺔ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد )ورﺑﻤﺎ
ﻗﻠﻴﻼ( ﰲ ﻣﴫ 9 ،ﻛﻤﺎ ﺳﻤﺤﺖ ﻇﺮوف أﺧﺮى ﺑﺄن ﻳﻜﺘﺸﻒ ﺷﻌﺐ املﺎﻳﺎ ﰲ أﺑﻌﺪ ﻣﻦ ذﻟﻚ ً
)ﻣﺴﺘﻘﻼ ﻋﻦ ﻏريه ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺒﺪو ﺣﺘﻰ اﻵن( ﰲ ﺣﻮاﱄ ٍّ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻮﺳﻄﻰ أن ﻳﺨﱰع اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ
اﻷﻟﻒ اﻷوﱃ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد.
واﻟﻈﺮوف اﻟﺘﻲ ﺗﺪﻋﻮ ﻻﺧﱰاع اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﻋﺪﻳﺪة ،وﻗﺪ ﺗﺘﻔﺎﻋﻞ ﻛﻠﻬﺎ ﻣﺮة واﺣﺪة ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ
ﻛﻤﴫ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،أو ﻳﺘﻔﺎﻋﻞ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﰲ إﻳﺠﺎد اﻟﺮﻏﺒﺔ ﻟﻠﺘﺪوﻳﻦ ،وﻋﲆ رأس ﻫﺬه اﻟﻈﺮوف
اﻻﺣﺘﻴﺎج إﱃ اﻟﺘﺪوﻳﻦ واﻟﺘﺴﺠﻴﻞ ﻟﻜﻲ ﻻ ﻳﻨﴗ اﻹﻧﺴﺎن .واملﺘﻔﻖ ﻋﻠﻴﻪ أن ﻧﻤﻮ اﻟﺘﺠﺎرة
اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ واﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ ﰲ املﺠﺘﻤﻊ املﴫي اﻟﻘﺪﻳﻢ — ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻧﻘﺴﺎم املﺠﺘﻤﻊ إﱃ ﺗﺨﺼﺺ
إﻧﺘﺎﺟﻲ ﰲ اﻟﺰراﻋﺔ واﻟﺤﻜﻢ واﻟﺠﻴﺶ واﻹدارة واﻟﻨﻤﻮ اﻟﺪﻳﻨﻲ وﻗﻴﺎم وﻇﺎﺋﻒ اﻟﺨﺪﻣﺎت —
وﻧﻤﻮ ﻃﺒﻘﺔ رﺟﺎل اﻟﺪﻳﻦ ﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪ ﻋﲆ ﻇﻬﻮر ﻓﻜﺮة اﻟﺘﺪوﻳﻦ واﻟﺘﺴﺠﻴﻞ ،وأﻫﻤﻴﺔ اﻟﺘﺴﺠﻴﻞ
ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺘﺠﺎرة واﻟﺘﺠﺎر ﻏﻨﻴﺔ ﻋﻦ اﻟﺘﻌﺮﻳﻒ .أﻣﱠ ﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺮﺟﺎل اﻟﺪﻳﻦ ﻓﺈن املﺴﺄﻟﺔ ﻛﺎﻧﺖ
أﻳﻀﺎ ﻟﴬورة ﻛﺘﺎﺑﺔ اﻟﻨﺼﻮص اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ وﺣﻔﻈﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻀﻴﺎع ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ أن ﺟﻮﻫﺮﻳﺔ ً
ﻋﺒﺎدة اﻟﺸﻤﺲ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ واﻟﺤﺪﻳﺜﺔ )آﻣﻮن ،ورع( ﻗﺪ اﺿﻄﺮت رﺟﺎل اﻟﺪﻳﻦ إﱃ اﻹﺑﺪاع
ﰲ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت واﻟﻔﻠﻚ واﻟﺤﺴﺎب ﻟﺘﺤﺪﻳﺪ ورﺻﺪ اﻟﺸﻤﺲ وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﺠﻮم واﻟﻜﻮاﻛﺐ.
وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺤﻜﻢ ،ﻓﺈن اﻟﺘﺪوﻳﻦ ﻛﺎن ﴐورﻳٍّﺎ ﻟﻘﻴﺎس ﻣﻴﺎه اﻟﻔﻴﻀﺎن ،وﺗﺴﺠﻴﻞ ﻣﺴﺎﺣﺔ
اﻟﺰراﻋﺔ ،وﺗﻘﺪﻳﺮ اﻟﴬاﺋﺐ ،وﺗﻘﺪﻳﺮ ﻣﻴﺰاﻧﻴﺔ اﻹدارة واﻟﺠﻴﺶ ،وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ أﻋﻤﺎل اﻟﺪوﻟﺔ،
واﺷﱰاك ﻫﺬه اﻟﻈﺮوف ﻣﺠﺘﻤﻌﺔ ﻗﺪ أدى إﱃ اﺧﱰاع اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﻣﺒ ﱢﻜ ًﺮا ﰲ ﻣﴫ .وﻳﺒﺪو أن
ٍّ
ﻣﺴﺘﻘﻼ اﻟﺨﻂ املﺴﻤﺎري اﻟﺬي اﻛﺘُ ِﺸﻒ ﰲ ﺣﻀﺎرات اﻟﻌﺮاق اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻛﺎن ﻫﻮ اﻵﺧﺮ اﺧﱰاﻋً ﺎ
ﰲ ﻓﱰة ﻣﻌﺎﴏة ﻟﻨﺸﺄة اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﰲ ﻣﴫ ،وﰲ اﻟﺼني ﺑﺪأت اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﺣﻮاﱄ ٢٠٠٠ق.م.
Montet, 9ﻳﻌﻮد اﻷﺳﺘﺎذ ﺑﻴري ﻣﻮﻧﺘﻴﻪ — ﻋﺎﻟﻢ املﴫﻳﺎت — ﺑﺎﻟﻜﺘﺎﺑﺔ املﴫﻳﺔ إﱃ ﻋﴫ اﻟﻨﺤﺎس .اﻧﻈﺮ:
.P., “Eternal Egypt”, English trans., Mentor, New York, 1968, p. 237
334
اﻟﻠﻐﺔ إﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
وأول ﺷﻜﻞ ﻟﻠﻜﺘﺎﺑﺔ ﻛﺎن ذﻟﻚ اﻟﻨﻮع اﻟﺬي ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ اﻟﺨﻂ اﻟﺘﺼﻮﻳﺮي — ideograph
أي إن اﻟﺼﻮرة ﺗﻌﱪ ﻋﻦ ﻛﻠﻤﺔ أو ﻣﻮرﻓﻴﻢ ،ﺛﻢ ﺗﻄﻮرت اﻟﺼﻮرة إﱃ ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺮﻣﺰ املﺼﻮر،
وﺗﺤﻮﱠل ﻫﺬا إﱃ اﻟﺘﻌﺒري ﻋﻦ ﺟﺰء ﻣﻦ اﻟﻜﻠﻤﺔ ،ﺛﻢ أﺻﺒﺤﺖ ﻫﻨﺎك رﻣﻮز ﺧﺎﻟﺼﺔ ﺗﺮﻣﺰ
ﺣﺮوﻓﺎ ﻣﺘﺤﺮﻛﺔ( .وﻳﺮى ﻋﻠﻤﺎء املﴫﻳﺎت أن ً إﱃ اﻟﺤﺮوف اﻟﺴﺎﻛﻨﺔ )ﻟﻢ ﻳﻄﻮﱢر املﴫﻳﻮن
اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ اﻟﻬريوﻏﻠﻴﻔﻴﺔ — ﺑﺮﻣﻮزﻫﺎ املﺼﻮرة — ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻣﺠﺮد ﺻﻮرة ﺗﻨﻘﻞ إﱃ اﻟﻨﺎﻇﺮ ﻣﻌﻨﻰ
ﻓﻘﻂ ،ﺑﻞ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻫﺬا ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻨﻘﻞ ﻟﻪ »ﻓﻮﻧﻴﻢ«؛ أي ﻟﻔﻈﺔ ﺻﻮﺗﻴﺔ ،وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﻓﻬﻲ ﻟﻴﺴﺖ
ﺻﻮ ًرا ﻣﺤﺪودة املﻌﻨﻰ ،ﺑﻞ ﺣﺮﻛﺎت ﺻﻮﺗﻴﺔ — أي ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺤﺮوف اﻟﻬﺠﺎﺋﻴﺔ — ﱠ
وإﻻ ملﺎ
ﺗﻄﻮرت اﻟﻬريوﻏﻠﻴﻔﻴﺔ ﻛﺘﻌﺒري ﻻ ﻧﻬﺎﺋﻲ ﻟﻠﻜﻼم .وﺑﺮﻏﻢ أن اﻟﻜﺎﺗﺐ املﴫي ﻗﺪ ﻃﻮﱠر ﺑﻌﺪ
ذﻟﻚ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ اﻟﻬرياﻃﻴﻘﻴﺔ )٢٠٠٠ق.م( ﻟﻠﻜﺘﺎﺑﺔ ﺑﺎﻟﻘﻠﻢ ﻋﲆ ورق اﻟﱪدي ،ﺛﻢ اﻟﺪﻳﻤﻮﻃﻴﻘﻴﺔ
)ﺣﻮاﱄ ٧٠٠ق.م( ﻟﻠﻜﺘﺎﺑﺔ اﻟﻌﺎدﻳﺔ ﺑﻌﺪ أن ﺗﺤﻮﻟﺖ اﻟﻬرياﻃﻴﻘﻴﺔ إﱃ ﻛﺘﺎﺑﺔ اﻟﻄﻘﻮس اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ
واﻟﺸﺌﻮن اﻟﺮﺳﻤﻴﺔ ،ﰲ ﺻﻮر ﻫﺠﺎﺋﻴﺔ )ً ٢٠
ﺣﺮﻓﺎ ﻫﺠﺎﺋﻴٍّﺎ ﺳﺎﻛﻨًﺎ(؛ ﱠإﻻ أن اﻟﻬريوﻏﻠﻴﻔﻴﺔ ﻇﻠﺖ
ﱠ
واملﺴﻼت ،ملﺎ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﺰاﻳﺎ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﺴﺠﱠ ﻞ ﺑﻬﺎ اﻷﺷﻴﺎء ﻋﲆ املﻌﺎﺑﺪ واملﻘﺎﺑﺮ واﻟﺘﻤﺎﺛﻴﻞ
ﻓﻨﻴﺔ راﺋﻌﺔ ،وﻣﺎ ارﺗﺒﻂ ﺑني املﴫﻳني وﺑﻴﻨﻬﺎ ﻣﻦ رواﺑﻂ ﻗﻮﻣﻴﺔ وﻋﺎﻃﻔﻴﺔ.
وﰲ رأس ﺷﻤﺮ )ﻓﻴﻨﻴﻘﻴﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ( اﻛﺘُ ِﺸ َﻔ ْﺖ رﺳﺎﺋﻞ ﺗَﻌُ ﻮد إﱃ أواﺋﻞ اﻷﻟﻒ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻗﺒﻞ
املﻴﻼد ﺑﺨﻂ ﻣﺴﻤﺎري ﻣﻌﺪﱠل ،وأﺧﺮى ﺑﺮﻣﻮز ﻫﺠﺎﺋﻴﺔ ﻣﻌﺪﱠﻟﺔ ﻋﻦ اﻟﻬريوﻏﻠﻴﻔﻴﺔ املﴫﻳﺔ
ﺣﺮﻓﺎ 10 ،وﻗﺪ اﺳﺘﻌﺎرﻫﺎ ً )ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻟﺨﻂ اﻟﺴﻴﻨﺎﺋﻲ؛ ﻧﺴﺒﺔ إﱃ ﺳﻴﻨﺎء( ﻣﻜﻮﱠﻧﺔ ﻣﻦ ٢٢
اﻹﻏﺮﻳﻖ ﺛﻢ اﻟﺮوﻣﺎن ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ.
وﻟﻘﺪ ﻇ ﱠﻠﺖ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﻗﺎﴏة ﻋﲆ ﻃﺒﻘﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﱠﺎب؛ وﻟﻬﺬا ﻟﻢ ﺗﺸﻊ ﻛﺜريًا ﺑني
اﻟﻨﺎس ،وﻛﺬﻟﻚ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻠﻜﺘﺎﺑﺔ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻷوﻗﺎت — وﺣﺘﻰ ﺑﻌﺪ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ اﻷوروﺑﻴﺔ —
أﺛ ٌﺮ واﺿﺢٌ ﰲ املﻔﺮدات واملﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ اﻟﻨﺎس ﰲ ﻛﻼﻣﻬﻢ اﻟﻌﺎدي .وﻟﻜﻦ
ري ﻣﻦﻻ ﺷ ﱠﻚ أن ﺗﺴﺠﻴﻞ اﻟﻠﻐﺎت ﻛﺘﺎﺑﺔ ﻗﺪ ﺣﻔﻆ اﻟﻠﻐﺔ ﻣﻦ اﻟﻀﻴﺎع ،وﺳﺎﻋﺪ ﻋﲆ ﺑﻘﺎء ﻛﺜ ٍ
املﻮرﻓﻴﻤﺎت اﻟﺘﻲ ﻳُﻀﺎف إﻟﻴﻬﺎ وﺗﺘﺠﺪد ﻣﻌﺎﻧﻴﻬﺎ ﻣﻊ ﺗﻄﻮر اﻟﺰﻣﻦ .وﻣﻊ اﻧﺘﺸﺎر اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ
ﰲ أوروﺑﺎ ﺛﻢ ﰲ أﻧﺤﺎء ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،ﻧﺠﺪ ﻟﻠﻜﺘﺎﺑﺔ أﺛ ًﺮا واﺿﺤً ﺎ ﻋﲆ ﻟﻐﺔ اﻟﺘﺨﺎﻃﺐ
ري ﻣﻦ اﻟﻠﻐﺎت إﱃ اﻟﺘﻘﺎرب ﺑني ﻟﻐﺔ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ وﻟﻐﺔ اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ،وأﺻﺒﺢ ﻫﻨﺎك اﺗﺠﺎﻫﺎت ﻋﻨﺪ ﻛﺜ ٍ
اﻟﺘﺨﺎﻃﺐ.
Cottrell, L., “The Concise Encyclopedia of Archaeology”, Hutchinson, London, 1970, 10
.p. 299
335
اﻹﻧﺴﺎن
وإﱃ ﺟﺎﻧﺐ ذﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ واﻟﺘﺴﺠﻴﻞ ﻛﺎن ﻟﻬﻤﺎ دورﻫﻤﺎ اﻟﺤﻴﻮي ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻨﻤﻮ
اﻟﻌﻠﻮم ﻛﺎﻓﺔ ،ﻓﻠﻢ ﺗﻌﺪ اﻟﺘﺠﺎرب واﻟﺨﱪات اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﺗُﻨﴗ وﺗُﻬﻤَ ﻞ وﻳُﻌﺎد ﻛﺸﻔﻬﺎ ،ﺑﻞ إن
ُﻨﻲ ﺑﻮاﺳﻄﺘﻬﺎ ﴏح اﻟﻌﻠﻮم ﺟﻤﻴﻌً ﺎ .وﻟﻘﺪ أﺻﺒﺢ ﻋﴫﻧﺎ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﻛﺎﻧﺖ املﺎدة اﻟﺨﺎم اﻟﺘﻲ ﺑ َ
ً
ﺧﺎﺻﺔ ﺑﻌﺪ ﺗﺴﻬﻴﻼت اﻟﻄﺒﺎﻋﺔ واﻟﻨﴩ واﻟﻨﻘﻞ ،وﻻ ﺷ ﱠﻚ اﻟﺤﺎﱄ ﻫﻮ ﻋﴫ اﻟﺘﺴﺠﻴﻞ اﻟﺪاﺋﻢ،
أن ﻫﺬا اﻟﺘﻘﺎرب ﺑني أﺟﺰاء اﻟﻌﺎﻟﻢ وﺗﻌﻠﻢ ﻟﻐﺎت ﻋﺪﻳﺪة إﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻘﻮﻣﻴﺔ ﻗﺪ أدﱠى إﱃ
اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ ﻣﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺘﻘﺎرب ﺑﺈﻧﺸﺎء ﻟﻐﺔ دوﻟﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﺪوﻟﻴﺔ اﻷوﱃ — اﻹﺳﱪاﻧﺘﻮ
— Esprantoﻟﻢ ﺗَ ْﻠ َﻖ ﻧﺠﺎﺣً ﺎ ﺣﺘﻰ اﻵن ،وﻫﻨﺎك اﺗﺠﺎﻫﺎت إﱃ أن ﺗﺼﺒﺢ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ﻟﻐﺔ
دوﻟﻴﺔ )وﻫﻲ ﻟﻐﺔ اﻟﺘﺠﺎرة اﻟﺪوﻟﻴﺔ ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ( ،ﻟﻜﻦ اﻟﻨﺰﻋﺎت اﻟﻘﻮﻣﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳﺘﻐﻠﺐ ﻋﻠﻴﻬﺎ
اﻟﻌﺎﻟﻢ إﱃ اﻵن ﺳﻮف ﺗﺆﺧﺮ وﺻﻮل اﻟﻌﺎﻟﻢ إﱃ ﻟﻐﺔ دوﻟﻴﺔ ﻳﺮﺗﻀﻴﻬﺎ اﻟﺠﻤﻴﻊ.
336
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎدس
اﳊﻀﺎرة اﳌﺎدﻳﺔ
ﻣﻦ املﻌﺮوف أن اﻹﻧﺴﺎن ﻗﺪ ﺑﺪأ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺑﺎﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﻐﺬاء ﺑﺄﺑﺴﻂ اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ وأﻛﺜﺮﻫﺎ
أﻳﻀﺎ ﻳﺴﺘﺨﺪم ﻗﻮﺗﻪﺷﻴﻮﻋً ﺎ ووﺿﻮﺣً ﺎ ،وﻫﺬه ﻫﻲ اﻷﺧﺸﺎب واﻟﻌﻈﺎم واﻟﺤﺠﺎرة .وﻗﺪ ﻛﺎن ً
اﻟﻌﻀﻠﻴﺔ ﻛﻄﺎﻗﺔ أﺳﺎﺳﻴﺔ ﰲ اﻟﺪﻓﻊ ،إﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﻄﺎﻗﺔ املﻀﺎﻓﺔ ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﻗﺎذف اﻟﺮﻣﺢ أو
اﻟﻮﺗﺮ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ اﺳﺘﺨﺪام اﻟﺴﻬﻢ )اﻧﻈﺮ ﺷﻜﻞ .(1-6
واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أن اﻹﻧﺴﺎن إﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﺳﺘﺨﺪام ﻃﺎﻗﺘﻪ اﻟﻌﻀﻠﻴﺔ ﻛﺎن ﻳﺼﻨﻊ ﺑﻌﺾ أدواﺗﻪ
ﰲ ﺻﻮرة آﻻت ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺴﺘﺨﺪم ﺑﻌﺾ اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ واملﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ ،ﻟﻜﻦ املﺤ ﱢﺮك أو
أﻳﻀﺎ اﻟﻄﺎﻗﺔ اﻟﻌﻀﻠﻴﺔ .واﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻄﺎﻗﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤ ﱢﺮك اﺳﺘﺨﺪام ﻫﺬه اﻟﻘﻮاﻧني ﻛﺎﻧﺖ ً
املﺒﺎدئ املﺴﺘﺨﺪﻣﺔ ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ ﰲ اﻵﻻت ﻣﺎ ﻫﻲ ﱠإﻻ ﻣﺒﺎدئ ﻋﺮﻓﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻘﺪﻳﻢ ،ﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ
ﻳﻜﺘﺸﻒ ﻃﺎﻗﺔ ﻣﺤﺮﻛﺔ ﻏري ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ؛ وﻟﻬﺬا ﻛﺎن ﺗﺸﻐﻴﻞ ﻫﺬه اﻵﻻت ﻣﺤﺪودًا ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ
اﻟﺪﻓﻊ املﺤﺪود ﻟﻌﻀﻼت اﻹﻧﺴﺎن أو اﻟﺤﻴﻮان.
وﻣﻦ ﺑني ﻫﺬه اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ اﻟﺘﻲ اﺳﺘﺨﺪﻣﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن ﻃﺎﻗﺔ اﻟﺠﺎذﺑﻴﺔ ﰲ ﺻﻮرة
اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻔﺄس اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ أو اﻟﻬﺎون ،ﻓﻬﻮ ﻳﺮﻓﻊ ﻫﺬا اﻟﺜﻘﻞ وﻳﱰﻛﻪ ﻳﻬﻮي ﺑﻘﻮة اﻟﺠﺎذﺑﻴﺔ،
وﻗﺪ اﺳﺘﺨﺪم ﻃﺎﻗﺔ اﻟﺤﻤﻞ ﻟﻠﻤﻴﺎه ﰲ اﻟﻨﻘﻞ ﰲ ﺻﻮرة اﻷرﻣﺎث )اﻟﻄﻮف( ،أو اﻟﻘﻮارب
املﺤﻔﻮرة ﻣﻦ ﺟﺬوع اﻟﺸﺠﺮ ،أو اﻟﻘﻮارب املﺼﻨﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺠﻠﺪ ﻋﲆ ﻫﻴﻜﻞ ﻣﻦ اﻟﺨﺸﺐ أو
338
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
)(١
)(٢
)(٥ )(٣
)(٤
) (٤أ
)(٦
)(٧
)(٨
ﺷﻜﻞ :1-6ﺑﻌﺾ أدوات اﻟﻄﺮق واﻟﺮﻣﻲ (١) :ﻣﻄﺮﻗﺔ ﺣﺠﺮﻳﺔ ذات ﻣﻘﺒﺾ ﺧﺸﺒﻲ )أﺳﱰاﻟﻴﺎ(.
) (٢ﺑﻮﻣﺮاﻧﺞ أﺳﱰاﻟﻴﺔ (٣) .ﻋﺼﺎ رﻣﻲ أﻣﺮﻳﻜﻴﺔ )ﻫﻮﺑﻲ( (٤) .ﻗﺎذف اﻟﺮﻣﺢ )إﺳﻜﻴﻤﻮ(.
)» (٤أ« رﺳﻢ ﺗﺨﻄﻴﻄﻲ ﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﺳﺘﺨﺪام ﻗﺎذف اﻟﺮﻣﺢ (٥) .ﺑﻮﻻ ) Bolaﻣﻘﻼع ﻃﺎﺋﺮ ﻟﺼﻴﺪ
اﻟﻄﻴﻮر( )إﺳﻜﻴﻤﻮ( (٦) .ﻣﻘﻼع ﻋﺎدي )أوﻧﺎ ﰲ ﺟﺰﻳﺮة ﺗﻴريادﻟﻔﻮﻳﺠﻮ( (٧) .اﻟﻘﻮس املﺮﻛﺐ
)إﺳﻜﻴﻤﻮ( (٨) .اﻟﻘﻮس اﻟﺒﺴﻴﻂ )أﻣﺮﻳﻨﺪ(.
اﻟﺒﺎﻣﺒﻮ ،ﻟﻜﻦ اﺳﺘﺨﺪام ﻃﺎﻗﺔ اﻟﺮﻳﺎح ﺟﺎء ﻣﺘﺄﺧ ًﺮا ﺟﺪٍّا .ﻛﺬﻟﻚ اﺳﺘﺨﺪم اﻟﺒﺪاﺋﻴﻮن ﻋﺼﺎ
اﻟﺮﻣﻲ ذات اﻟﺜﻘﻞ ﰲ أﺣﺪ أﻃﺮاﻓﻬﺎ )ﺑﺎﻧﺘﻮ ﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ( ﻣﻄﺒﱢﻘني ﺑﺬﻟﻚ ﻣﺒﺪأﻳﻦ :اﻟﺤﺮﻛﺔ
339
اﻹﻧﺴﺎن
املﺒﺎﴍة )ﻃﺎﻗﺔ دﻓﻊ ﻋﻀﻠﻴﺔ( وﺑني اﻟﺠﺎذﺑﻴﺔ )اﻟﺜﻘﻞ املﺜﺒﺖ(؛ ﻣﻤﺎ ﻳﺆدي إﱃ زﻳﺎدة ﻃﺎﻗﺔ
اﻟﴬب.
وﻗﺪ اﺳﺘﺨﺪم اﻹﻧﺴﺎن ﻃﺎﻗﺔ ﻣﻀﺎﻓﺔ إﱃ ﻃﺎﻗﺘﻪ اﻟﻌﻀﻠﻴﺔ ﻹﻋﻄﺎء ﻣﺪى أﻃﻮل وﻗﻮة
أﻛﱪ ﻟﻠﻘﺬﻳﻔﺔ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﺗﺼﻴﺐ اﻟﻬﺪف ،وﻳﺘﻤﺜﻞ ﻫﺬا ﺧري ﺗﻤﺜﻴﻞ ﰲ ﻗﺎذف اﻟﺮﻣﺢ واﺳﺘﺨﺪام
اﻟﻘﻮس واﻟﻮﺗﺮ املﺮﺗﺪ ،وﻣﻦ أﺟﻞ زﻳﺎدة ﺗﻮﺟﻴﻪ اﻟﺴﻬﻢ أو اﻟﺮﻣﺢ اﺳﺘﺨﺪم اﻟﺮﻳﺶ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ
اﻟﺴﻬﻢ.
وﻛﺬﻟﻚ ﺣﻮﱠل اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻨﺬ اﻟﻘﺪم اﻟﺤﺮﻛﺔ املﺒﺎﴍة إﱃ ﺣﺮﻛﺔ داﺋﺮﻳﺔ ﺣﻴﻨﻤﺎ اﺳﺘﺨﺪم
اﻟﻘﻮس واﻟﻮﺗﺮ ﻟﻠﺤﻔﺮ ﻋﲆ اﻟﺨﺸﺐ أو ﻹﺷﻌﺎل اﻟﻨﺎر ،وﻗﺪ ﺗﻢ ذﻟﻚ ﺑﺘﺜﺒﻴﺖ ﻋﺼﺎ ﻣﺪﺑﺒﺔ ﻳﺮﺑﻂ
إﻟﻴﻬﺎ اﻟﻮﺗﺮ ﺛﻢ ﻳﺤ ﱢﺮك اﻟﻘﻮس ﻓﻴﺤﺪث ﺣﺮﻛﺔ داﺋﺮﻳﺔ ﻟﻠﻌﺼﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺘ ﱡﻚ ﺑﺎﻟﺨﺸﺐ املﺜﺒﱠﺘﺔ
إﻟﻴﻪ ،ﻓﱰﺗﻔﻊ درﺟﺔ اﻟﺤﺮارة؛ ﻣﻤﺎ ﻳﺆدي إﱃ إﺷﻌﺎل اﻟﻨﺎر.
وﻛﺬﻟﻚ ﺣﻮﱠل اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﺮﻛﺔ املﺒﺎﴍة إﱃ داﺋﺮﻳﺔ ﺣﻴﻨﻤﺎ اﺳﺘﺨﺪم املﻐﺰل اﻟﺒﺪاﺋﻲ،
وﻫﻮ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﺧﻴﻂ ﻳُﺜﺒﱠﺖ إﱃ ﻃﺮﻓﻪ ﺛﻘﻞ ،وﻗﺪ اﺳﺘﺨﺪم اﻟﺒﺪاﺋﻴﻮن ً
أﻳﻀﺎ ﻗﺎﻧﻮن اﻟﺮواﻓﻊ
ﰲ ﺻﻮرة اﻟﻔﺦ اﻟﺬي ﻳﺄﺧﺬ ﺻﻮرة أﻧﺸﻮﻃﺔ ،وﻳُﺜﺒﱠﺖ ﻃﺮﻓﻪ اﻟﺤﺮ ﰲ وﺗﺪ أو ﺷﺠﺮة .وﻣﻦ
ﻫﺬا ﻳﺘﻀﺢ ﻟﻨﺎ أن اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺪاﺋﻴني ﻛﺎﻧﺖ ﻏﻨﻴﺔ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪاﻣﺎت ﻛﺜرية ﻟﻌﺪدٍ ﻣﻦ
اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺘﻲ ﻧﻌﺮﻓﻬﺎ اﻵن ،ﻟﻜﻦ اﻗﺘﺼﺎرﻫﻢ ﻋﲆ اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻄﺎﻗﺔ اﻟﻌﻀﻠﻴﺔ ﺟﻌﻞ إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ
اﻟﺘﻘﺪم ﻣﺤﺪودة ،ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻟﻄﺎﻗﺔ ﻏري اﻟﺤﻴﺔ ﺗﻌﻄﻲ اﻹﻧﺴﺎن اﺣﺘﻤﺎﻻت وإﻣﻜﺎﻧﺎت واﺳﻌﺔ
ﻟﻠﺘﻘﺪم ﰲ اﻹﻧﺘﺎج ﻣﻊ ﺟﻬﺪ ﻋﻀﲇ ﻣﺘﻨﺎﻗﺺ.
340
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
وإﺟﻤﺎع اﻵراء ﻫﻮ أن اﻹﻧﺴﺎن اﺳﺘﺨﺪم اﻟﻨﺎر ﻗﺒﻞ أن ﻳﻜﺘﺸﻒ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺻﻨﻌﻬﺎ ﺑﻌﴩات
اﻵﻻف ﻣﻦ اﻟﺴﻨني ،وذﻟﻚ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪام ﻣﺼﺎدر اﻟﻨﺎر اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ :اﻟﻨﻴﺎزك ،وﺣﺮاﺋﻖ اﻟﻐﺎﺑﺎت
واﻟﺤﺸﺎﺋﺶ ،واﻟﱪاﻛني .ﻋﲆ أن أﺻﻮل اﻛﺘﺸﺎف اﻟﻨﺎر ﻗﺪ ُﻓﻘِ ﺪ ْ
َت ﻟِﻘِ ﺪ َِﻣﻬﺎ املﺘﻨﺎﻫﻲ ﻣﻤﺎ
ﻳﺪﻋﻮﻫﻢ إﱃ ﺗﺄﺻﻴﻠﻬﺎ أﺳﻄﻮرﻳٍّﺎ .وﺗﺪﱠﻋﻲ أﺳﺎﻃري اﻹﻏﺮﻳﻖ ﴎﻗﺔ اﻟﻨﺎر ﻣﻦ ﻋﻨﺪ اﻵﻟﻬﺔ ،وﻣﺎ
زاﻟﺖ اﻟﻨﺎر ﻋﻨﺪ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺒﺪاﺋﻴني — وﻛﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻨﺪ إﻧﺴﺎن اﻟﻌﺼﻮر اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ — ﻣﺪﻋﺎة
ﻟﻠﺨﻮف واﻟﺮﻫﺒﺔ واﻟﻘﻮى اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ1 .
وﻟﻘﺪ ﺳﺎﻋﺪت اﻟﻨﺎر ﻋﲆ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺘﻘﺪم اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ :ﺻﻬﺮ املﻌﺎدن ،ﺗﻄﻬري اﻷراﴈ
ﻣﻦ اﻟﻐﺎﺑﺎت واﻟﺤﺸﺎﺋﺶ ﻹﻋﺪاد اﻷرض ﻟﻠﺰراﻋﺔ ،ﺗﻐﻴري ﻃﻌﺎم اﻹﻧﺴﺎن وإدﺧﺎل اﻟﻜﺜري ﻣﻦ
املﻮاد ﺿﻤﻦ ﻗﺎﺋﻤﺔ اﻟﻐﺬاء ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﰲ اﻹﻣﻜﺎن ﺗﻨﺎوﻟﻬﺎ ﻟﻮﻻ ﻣﻌﺎﻟﺠﺘﻬﺎ ﺑﺎﻟﻄﻬﻮ .وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ
ﻣﻌﻨﻰ ﻫﺬا أن ﻛﻞ اﻟﺸﻌﻮب — ﺑﺮﻏﻢ ﻣﻌﺮﻓﺘﻬﺎ ﻟﻠﻨﺎر — ﺗﻄﻬﻮ ﻃﻌﺎﻣﻬﺎ؛ ﻓﺎﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ﻛﺜريًا
ﻣﺎ ﻳﺄﻛﻠﻮن اﻟﻠﺤﻮم ﻧﻴﺌﺔ ﺑﺮﻏﻢ ﻣﻌﺮﻓﺘﻬﻢ ﺑﻄﺮق إﺷﻌﺎل اﻟﻨﺎر.
وﻛﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻣﺒﺪأ اﻟﻘﻮس واﻟﻮﺗﺮ املﺮﺗﺪ ،واﻟﺮواﻓﻊ ،وﻏريﻫﻤﺎ ﻣﻦ املﻨﺘﺠﺎت املﺎدﻳﺔ
ﻟﻠﺤﻀﺎرات ﻏري ﻣﻌﺮوﻓﺔ أﺻﻮﻟﻬﺎ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺪﻗﺔ ،ﻓﻘﺪ ﻇﻬﺮ اﻟﺴﻬﻢ واﻟﻘﻮس ﻷول ﻣﺮة
ﰲ ﺣﻀﺎرات اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻷﻋﲆ ﰲ ﺷﻤﺎل أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وإﺳﺒﺎﻧﻴﺎ ،وﰲ اﻟﻔﱰة ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻇﻬﺮ
ﻗﺎذف اﻟﺮﻣﺢ ﰲ اﻟﺴﻬﻮل اﻟﺼﻐرية اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻴﻂ ﺑﺸﻤﺎل اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ ،واﻣﺘﺪ اﻟﻘﻮس
ﺷﻤﺎﻻ ﻓﻮﺻﻞ ﺷﻤﺎل أوروﺑﺎ ﰲ ﺣﻀﺎرات اﻟﺤﺠﺮي اﻷوﺳﻂ )املﻴﺰوﻟﻴﺘﻲ( ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺳﺒﻖ ً
ﻗﺎذف اﻟﺮﻣﺢ ﻇﻬﻮر اﻟﻘﻮس ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ 2 .وأول ﻇﻬﻮر اﻟﺰﺣﺎﻓﺎت اﻟﺠﻠﻴﺪﻳﺔ ﻛﺎن ﰲ
اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻷوﺳﻂ ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﺪاﻧﻤﺮك وإﺳﻜﻨﺪﻧﺎﻓﻴﺎ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻋُ ِﺜ َﺮ ﰲ املﻨﻄﻘﺔ ذاﺗﻬﺎ
واﻟﻌﴫ ذاﺗﻪ ﻋﲆ أدوات ﻧﺠﺎرة ﻛﺎﻣﻠﺔ )ﺣﺠﺮﻳﺔ ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل( ،وأول اﺳﺘﺨﺪام ملﺒﺪأ
اﻟﻘﻮس ﰲ اﻟﺤﻔﺮ ،وﺑﺪاﻳﺎت آﻧﻴﺔ ﻓﺨﺎرﻳﺔ.
وﻟﻜﻦ اﻟﻔﺨﺎر ﻟﻢ ﻳُﻌ َﺮف ﰲ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ ﱠإﻻ ﰲ اﻟﻨﻴﻮﻟﻴﺘﻲ )اﻟﺤﺠﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ( ،وﻫﻮ
اﻟﻔﺨﺎر ﻣﻦ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ إﱃ أوروﺑﺎ ،أم ﻇﻬﺮ ﱠ ﻣﺰاﻣﻦ ﻟﻠﻤﻴﻮﻟﻴﺘﻲ ﰲ أوروﺑﺎ ،ﻓﻬﻞ اﻧﺘﻘﻞ
ﻒ اﻟﻔﺨﺎر ﰲ ﻛﻞ ﻣﻦ املﻨﻄﻘﺘني أﻧﻪ اﻛﺘُ ِﺸ َ ﰲ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻛﺎﻛﺘﺸﺎف ﻣﺴﺘﻘﻞ؟ وﺗﺮﺟﺢ أﺷﻜﺎل ﱠ
1ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺎﺟﻨﺪا )أوﻏﻨﺪا( ﺗﻈﻞ اﻟﻨﺎر املﻘﺪﺳﺔ ﻣﺸﺘﻌﻠﺔ ﻃﻮال ﺣﻜﻢ املﻠﻚ ،ﻓﺈذا ﻣﺎت ﺗُﺨﻤَ ﺪ اﻟﻨﺎر ،وﺗﺼﺒﺢ
ﻫﺬه ﻋﻼﻣﺔ ﻟﻠﻨﺎس ﻋﲆ أن املﻠﻚ ﻗﺪ ﻣﺎت ،وﺗُﺸﻌَ ﻞ ﻧﺎر ﺟﺪﻳﺪة ﻋﻨﺪ ﺗﻮﱄ اﻟﻌﺮش ﻣﻠﻚ آﺧﺮ.
.Childe, G.V., “Social Evolution” Fontana. London 1963, pp. 77-78 2
341
اﻹﻧﺴﺎن
342
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،ﻣﺜﻞ ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻟﻮرق واﻟﺒﺎرود واﻟﺒﻮﺻﻠﺔ اﻟﺒﺤﺮﻳﺔ واﻟﻄﺒﺎﻋﺔ .وﻛﻞ ﻫﺬه املﻨﺘﺠﺎت
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ — ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء ﺣﺮوف اﻟﻄﺒﺎﻋﺔ — ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ إﻋﺎدة ﺻﻘﻞ ملﻨﺘﺠﺎت ﻗﺪﻳﻤﺔ
اﻧﺘﴩت إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ واﻟﻌﺎﻟﻢ اﻹﺳﻼﻣﻲ ،وﺗﺼﻨﻴﻊ ﻫﺬه املﻨﺘﺠﺎت
ﺑﺨﺎﻣﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ .أﻣﱠ ﺎ اﻟﻄﺒﺎﻋﺔ ،ﻓﺮﻏﻢ ﻗِ ﺪَﻣﻬﺎ ﰲ اﻟﺼني ،ﱠإﻻ أﻧﻬﺎ ﰲ أوروﺑﺎ ﻛﺎﻧﺖ إﻋﺎدة
اﺧﱰاع دون اﻧﺘﺸﺎر ﺣﻀﺎري )ﺣﺴﺐ ﻣﻌﻠﻮﻣﺎﺗﻨﺎ اﻟﺮاﻫﻨﺔ( ،وﻓﻴﻤﺎ ﻋﺪا ذﻟﻚ ﻓﺈن ﻛﺎﻓﺔ
أﺷﻜﺎل اﻟﺘﻘﺪم ﰲ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ ﻗﺪ ﺑُﻨﻴَﺖ ﻋﲆ ﻣﻌﺎرف ﻗﺪﻳﻤﺔ )ﻛﺎﻟﺤﺪﻳﺪ واﻟﺼﻠﺐ(،
وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﻣﻦ اﺧﱰاع أوروﺑﻲ ذي ﻗﻴﻤﺔ ﻋﺎملﻴﺔ ﺳﻮى اﻛﺘﺸﺎف ﻣﺼﺎدر اﻟﻄﺎﻗﺔ ﻏري
اﻟﺤﻴﺔ :اﻟﺒﺨﺎر ،وﻏﺮﻓﺔ اﻻﺣﱰاق اﻟﺪاﺧﲇ ،واﻟﻜﻬﺮﺑﺎء ،واﻟﻄﺎﻗﺔ اﻟﻨﻮوﻳﺔ .وﻻ ﺷ ﱠﻚ أن ﻫﺬه
اﻻﻛﺘﺸﺎﻓﺎت ﰲ ﻣﺠﺎل اﻟﻄﺎﻗﺔ ﻗﺪ ﻗﻔﺰت ﺑﺎﻹﻧﺴﺎن ﻗﻔﺰات ﴎﻳﻌﺔ ﺟﺪٍّا ﰲ ﺷﻜﻞ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ
أﻳﻀﺎ ﺗﺄﺛريﻫﺎ ﻋﲆ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻟﺤﻀﺎري اﻟﻐﺮﺑﻲ. املﺎدﻳﺔ ،وﻛﺎن ﻟﻬﺎ ً
وﻓﻴﻤﺎ ﻳﲇ ﺳﻮف ﻧﻌﺎﻟﺞ ﺑﻌﺾ اﻟﺠﻮاﻧﺐ املﺎدﻳﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرة ﰲ ﺻﻮرة ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت
رﺋﻴﺴﻴﺔ؛ ﻫﻲ :املﻌﺎدن ،واﻟﻔﺨﺎر ،واملﻼﺑﺲ ،واملﺴﺎﻛﻦ ،واﻟﻨﻘﻞ.
) (1-3املﻌﺎدن
ﻛﻴﻒ اﻛﺘﺸﻒ اﻹﻧﺴﺎن املﻌﺎدن؟
املﺤرية ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻜﺸﻮف أن ﻧﻌﺮف اﻟﻮﺳﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ اﻫﺘﺪى ﺑﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن إﱃ ﱢ ﻣﻦ املﺸﺎﻛﻞ
ﻓﺮق ﻛﺒريٌ وﺷﺎﺳ ٌﻊ ﺑني ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻹﻧﺴﺎن اﺳﺘﺨﺪام اﻟﺤﺠﺎرة املﻌﺎدن .ﻓﻼ ﺷ ﱠﻚ ﰲ أﻧﻪ ﻳﻮﺟﺪ ٌ
ﰲ ﺗﺸﻜﻴﻞ أدواﺗﻪ اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ املﻌﺮوﻓﺔ وﺑني اﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ ﻟﻠﻤﻌﺎدن ﻟﺘﺸﻜﻴﻞ ﻫﺬه اﻷدوات.
ﻓﺎﻟﺘﻜﻮﻳﻦ اﻟﺤﺠﺮي — ﺑﺸﺘﻰ أﺷﻜﺎﻟﻪ — ﻣﻮﺟﻮد ﰲ ﻣﻌﻈﻢ اﻷﻣﺎﻛﻦ ،وﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻛﺎن اﻹﻧﺴﺎن
ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺮ ﻟﺼﻨﻊ أدواﺗﻪ ،ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺑﺪون ﺷ ﱟﻚ أﻛﺜﺮ اﻷﻧﻮاع ﺷﻴﻮﻋً ﺎ
ٍ أﻧﻮاع
ٍ ﻗﺪ اﻋﺘﺎد ﻋﲆ
ﻟﺴﻬﻮﻟﺔ ﺗﺸﻜﻴﻠﻬﺎ وﻃﺮﻗﻬﺎ .ﻫﺬه ﻫﻲ أﻧﻮاع اﻟﺤﺠﺮ اﻟﺠريي اﻟﺴﻬﻠﺔ اﻟﺘﺸﻜﻴﻞ واﻟﺸﻄﻒ
ﻄﺮق ،وﻟﻢ ﻳﺴﺘﺨﺪم اﻹﻧﺴﺎن اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻟﺤﺠﺮي أﻳﻀﺎ ﺳﻬﻞ اﻟﺸﻄﻒ ﺑﺎﻟ ﱠ واﻟﺼﻮان ،وﻫﻮ ً
اﻟﺼﻌﺐ اﻟﺘﺸﻜﻴﻞ ﻣﺜﻞ اﻟﺠﺮاﻧﻴﺖ ،وﺑﻬﺬا ﻓﺈن ﺧﺎﻣﺔ اﻷدوات اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ واﺳﻌﺔ اﻻﻧﺘﺸﺎر،
وﻓﻀﻼ ﻋﻦ ذﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﺨﺎﻣﺔ اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ واﻷداة اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ املﻨﺘﺠﺔ ﻳﻤﺘﺎن إﱃ ﺑﻌﻀﻬﻤﺎ ﰲ ً
ﻳﻘﺘﺾ اﻷﻣﺮ اﻟﻘﻴﺎم ﺑﻌﻤﻠﻴﺎت ِ ﻛﺎﻓﺔ اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻟﺪاﺧﲇ واملﻈﻬﺮ اﻟﺨﺎرﺟﻲ ﻋﺪا اﻟﺸﻜﻞ؛ إذ ﻟﻢ
ﺷﻜﻞ
ٍ ﺗﺤﻮﻳﻞ ﻛﻴﻤﻴﺎﺋﻴﺔ أو إذاﺑﺔ ،أو ﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﻌﻤﻠﻴﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺆدي ﺑﺎﻷداة املﻌﺪﻧﻴﺔ إﱃ
ﺷﺪﻳﺪ اﻟﺘﻐﺎﻳﺮ ﰲ املﻈﻬﺮ واﻟﱰﻛﻴﺐ ﻋﻦ ﺧﺎﻣﺔ املﻌﺪن ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .وﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ
343
اﻹﻧﺴﺎن
ذﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﺨﺎﻣﺎت املﻌﺪﻧﻴﺔ أﻗﻞ اﻧﺘﺸﺎ ًرا ﻣﻦ اﻟﺨﺎﻣﺎت اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ )اﻟﻨﺴﺒﺔ ﻫﻨﺎ ﻟﻴﺴﺖ إﱃ
اﻟﱰﻛﻴﺐ؛ ﻷن اﻟﺤﺠﺎرة ﺗﺮﻛﻴﺐ ﻣﻌﺪﻧﻲ ﻫﻲ اﻷﺧﺮى( ،وﻫﻲ ﻛﺬﻟﻚ ﻻ ﺗﻈﻬﺮ واﺿﺤﺔ ﻟﻠﻌني
ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺧﺎﻣﺔ ﻣﻌﺪﻧﻴﺔ ،ﺑﻞ ﻻ ﺑ ﱠﺪ ﻟﻌني ﻣﺪرﺑﺔ أن ﺗﻌﺮف أن ﺗﺮﻛﻴﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳﺤﺘﻮي ﻋﲆ ﺧﺎﻣﺔ
ً
ﻣﺘﺪاﺧﻼ ﻣﻌﺪن ﻣﺎ؛ ذﻟﻚ أﻧﻪ ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء ﺣﺎﻻت ﺷﺎذة ﻓﺈن املﻌﺪن ﰲ ﺣﺎﻟﺘﻪ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻳﻮﺟﺪ
أﻳﻀﺎ ﻻ ﻳﻈﻬﺮ ﻟﻨﺎ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ﱠإﻻ ﺑﻌﺪ إﺟﺮاء ﻣﻊ ﺗﺮﻛﻴﺒﺎت ﺣﺠﺮﻳﺔ ﻣﺘﻨﻮﻋﺔ ،وﻫﻮ ً
اﻟﻔﺤﻮص ﰲ املﺨﺘﱪات.
ﻓﺎﻟﺴﺆال إذن ﻫﻮ ﻛﻴﻒ ﺗﻌ ﱠﺮف اﻹﻧﺴﺎن — ﺑﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺘﻪ اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ — ﻋﲆ اﻟﺘﻜﻮﻳﻦ
اﻟﺼﺪﻓﺔ وﺣﺪه ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ املﻌﺪﻧﻲ ﰲ ﺻﻮرﺗﻪ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ؟ وﻟﻴﺲ ﺛﻤﺔ ﺷ ﱟﻚ ﰲ أن ﻋﺎﻣﻞ ﱡ
ﻣﻘﺪرة اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﻋﲆ اﺳﺘﻴﻌﺎب اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﺗﻠﻮ اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ،ﻫﻲ اﻟﺘﻲ أدت إﱃ اﻛﺘﺸﺎف
ﻋﻨﺎﴏ املﻌﺎدن داﺧﻞ اﻟﺘﻜﻮﻳﻨﺎت اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ.
ﻓﺎﻹﻧﺴﺎن ﻛﺎن داﺋﻢ اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ اﻟﺤﺠﺎرة اﻟﻼزﻣﺔ ﻷدواﺗﻪ ،وﻫﻮ ﻳﻌﺮف ﺑﺎﻟﺘﺠﺮﺑﺔ أن
ﻫﻨﺎك ﻣﻜﻮﱢﻧﺎت أو ﻋﻨﺎﴏ ﻏﺮﻳﺒﺔ ﺗﺘﺪﺧﻞ ﻣﻊ ﺑﻌﺾ أﻧﻮاع اﻟﺤﺠﺎرة؛ ﻣﻤﺎ ﻗﺪ ﻳﺴﺒﺐ ﻋﺪم
ﺻﻼﺣﻴﺔ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺎرة أو ذاك ﻟﻠﺘﺸﻜﻴﻞ ﰲ ﺻﻮرة اﻷدوات املﺮﻏﻮﺑﺔ ،وﺑﺎﻟﺘﺠﺮﺑﺔ
ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن ،ﺑﻞ ﻳﻄﺮﺣﻬﺎ ﺟﺎﻧﺒًﺎ.
إﱃ ﻫﻨﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﺘﺨﻴﻞ أن اﻹﻧﺴﺎن ﻗﺪ ﻋﺮف أﻧﻮاع اﻟﺤﺠﺎرة ﻏري اﻟﺼﺎﻟﺤﺔ ﻟﺼﻨﻊ
اﻷدوات اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ ،ملﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻋﻴﻮب :ﺑﻌﻀﻬﺎ ذو ﺗﻜﻮﻳﻨﺎت رﻣﻠﻴﺔ وﺑﻌﻀﻬﺎ ﻣﲇء ﺑﺎﻟﻌﻴﻮب،
أﻳﻀﺎ ﻏري ﻗﺎﺑﻞوﺑﻌﻀﻬﺎ ﻏري ﻗﺎﺑﻞ ﻟﻠﺘﺸﻜﻴﻞ ،وﺑﻌﻀﻬﺎ ﺗﺘﺪاﺧﻞ ﻓﻴﻪ ﺗﻜﻮﻳﻨﺎت ﺗﺠﻌﻠﻪ ً
ﻟﻠﺘﺸﻜﻴﻞ ،وﻻ ﺷﻚ أن ﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﺬي ﺣﺪث :ﺑﺎﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﻟﻌﴩات اﻵﻻف ﻣﻦ اﻟﺴﻨني اﺳﺘﻄﺎع
أوﻻ: ً
ﺗﺼﻨﻴﻔﺎ ﻧﻮﻋﻴٍّﺎ ﻋﲆ ﻋﺪة أﺳﺲ ﻧﻔﻌﻴﺔ؛ ً اﻹﻧﺴﺎن أن ﻳﺼﻨﱢﻒ أﻧﻮاع اﻟﺘﻜﻮﻳﻦ اﻟﺼﺨﺮي
اﻟﺤﺠﺎرة اﻟﺼﺎﻟﺤﺔ ﻟﻠﺘﺸﻜﻴﻞ ،وﺛﺎﻧﻴًﺎ :اﻟﺤﺠﺎرة ﻏري اﻟﺼﺎﻟﺤﺔ ،وﻟﻜ ﱟﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﺳﺒﺐ ﻳﺠﻌﻠﻬﺎ
ﻏري ﺻﺎﻟﺤﺔ.
ﻟﻘﺪ ﻋﺮف اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻌﺎدن ﻧﻘﻴﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،ﻛﺘﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺨﻠﻒ ﻋﻦ اﻟﻨﻴﺎزك اﻟﺴﺎﻗﻄﺔ ،ﻟﻜﻦ
ﺗﻮزﻳﻌﻬﺎ ﻛﺎن ﻋﺸﻮاﺋﻴٍّﺎ وﻛﻤﻴﺘﻬﺎ ﻣﺤﺪودة ،ورﺑﻤﺎ ﻟﻢ ﻳﻌﺮف اﻹﻧﺴﺎن اﻹﻓﺎدة ﺑﻬﺎ ﱠإﻻ ﺑﻌﺪ
ﻓﺮوﺿﺎ ﻛﺜرية ﺗﺆدي إﱃ اﻟﺼﺪﻓﺔً أن ﺗﻌﻠﻢ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺗﺸﻐﻴﻞ املﻌﺎدن .وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻔﱰض
اﻟﺴﻌﻴﺪة اﻟﺘﻲ ﺗﻮ ﱠﻟﺪ ﻋﻨﻬﺎ ﻋﻠﻢ املﻌﺎدن ،وإﻣﻜﺎن اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ ﻛﺨﺎﻣﺔ ﻹﻧﺘﺎج اﻷدوات ،وﻟﻌ ﱠﻠﻨﻲ
أﻓﱰض أن اﻹﻧﺴﺎن ﻗﺪ اﻛﺘﺸﻒ املﻌﺪن ﻳﻨﺼﻬﺮ وﻳﺴﻴﻞ ﻣﻦ ﺑﻌﺾ ﺣﺠﺎرة اﻟﻔﺮن اﻟﺬي
ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻪ املﺠﺘﻤﻊ املﺴﺘﻘﺮ )ﻟﻜﺎﻓﺔ أﻏﺮاض املﺠﺘﻤﻊ املﺴﺘﻘﺮ؛ ﻧﻈ ًﺮا ﻷﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﺴﻬﻞ
ﻃﻠِﺒﺖ ،ﺑﻞ اﻟﻐﺎﻟﺐ أﻧﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﻧﺎر داﺋﻤﺔ ﻗﺪر أو ﰲ ﻣﺘﻨﺎول اﻟﻴﺪ أن ﺗُ َ
ﻮﻗﺪ اﻟﻨﺎر ﻛﻠﻤﺎ ُ
344
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
اﻹﻣﻜﺎن( .وﻧﻘﻮل ﻣﺠﺘﻤﻌً ﺎ ﻣﺴﺘﻘ ٍّﺮا؛ ﻷن املﺠﺘﻤﻌﺎت املﺘﻨﻘﻠﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻟﺪﻳﻬﺎ ﻓﺮن
ً
ﻓﻀﻼ ﻋﻦ أن اﻛﺘﺸﺎف املﻌﺎدن ﻗﺪ ﺗﻢ ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ أو أﻓﺮان ﻣﺒﻨﻴﺔ أو ﻣﺤﻔﻮرة ﰲ اﻷرض ،ﻫﺬا
اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ )ﺣﺴﺐ املﻌﻠﻮﻣﺎت اﻟﺮاﻫﻨﺔ(؛ أي ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت ﻣﺴﺘﻘﺮة ﺗﻌﻴﺶ ﻋﲆ
اﻟﺰراﻋﺔ.
345
اﻹﻧﺴﺎن
)(١
)(٤
)(٢
)(٥
)(٣
ﺷﻜﻞ :2-6أﻧﻮاع اﻟﻜﻮر اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ )ﻣﻨﻔﺎخ اﻟﻬﻮاء( (١) :و) (٢ﻣﻨﻔﺎخ أﻛﻮردﻳﻮن (٣) .ﻣﻨﻔﺎخ
ﺑﺴﺘﻮن (٤) .و) (٥ﻣﻨﻔﺎخ ﺟﻠﺪي ﻓﺨﺎري.
اﻻﺳﺘﺨﺪام ،وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻧﺸﺄ ﻓﻨﺎﻧﻮن ﻟﺼﻴﺎﻏﺔ املﺠﻮﻫﺮات ،وآﺧﺮون ﻟﻌﻤﻞ اﻷﺳﻠﺤﺔ ،وﻏريﻫﻢ
ﻟﻌﻤﻞ اﻷدوات اﻟﻘﺎﻃﻌﺔ وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ اﺣﺘﻴﺎﺟﺎت املﻨﺰل ،وﻏري ذﻟﻚ ﻛﺜري .وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎن اﻟﺘﻌﺪﻳﻦ
ﺣﺎﻓ ًﺰا ﻣﻦ ﺑني ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺣﻮاﻓﺰ أﺧﺮى ﻟﻼﻧﺘﻘﺎل واﻻﺣﺘﻜﺎك اﻟﺤﻀﺎري ﺑني اﻟﺸﻌﻮب،
ﻓﺎملﻌﺪن ﻛﻤﺎ ﻗﻠﻨﺎ ﻟﻴﺲ ﺷﺎﺋﻊ اﻻﻧﺘﺸﺎر ﻛﺎﻟﺤﺠﺎرة ،وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻛﺎن اﻟﺤﺼﻮل ﻋﻠﻴﻪ ﻳﺘﻄﻠﺐ
346
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
اﻻﻧﺘﻘﺎل إﱃ أﻣﺎﻛﻦ وﺟﻮده املﺤﺪودة ،وﻗﺪ أدﱠى اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ اﻟﻨﺤﺎس واﻟﺬﻫﺐ إﱃ ﺗﻜﻮﻳﻦ
ﺑﻌﺜﺎت ﻣﴫﻳﺔ ﻟﻠﺘﻌﺪﻳﻦ ﰲ ﻣﺪن ﺗﻌﺪﻳﻦ داﺋﻤﺔ ﰲ ﺷﺒﻪ ﺟﺰﻳﺮة ﺳﻴﻨﺎء واﻟﺼﺤﺮاء اﻟﴩﻗﻴﺔ
املﴫﻳﺔ واﻟﺴﻮداﻧﻴﺔ ،وإﻗﻠﻴﻢ اﻟﻨﻮﺑﺔ واﻟﺴﻮدان اﻟﺸﻤﺎﱄ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎن ﻟﻠﻌﺮب ﰲ اﻟﻘﺮن
اﻟﻌﺎﴍ املﻴﻼدي وﻣﺎ ﺑﻌﺪه دو ٌر ﻫﺎ ﱞم ﰲ ﻧﻘﻞ اﻟﺤﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﴍق أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ إﱃ اﻟﻬﻨﺪ؛ ﺣﻴﺚ
ﻛﺎن ﻫﻨﺎ ﺗﻘﻠﻴﺪ ﺣﺮﰲ ذو ﺷﻬﺮة ﻋﺎملﻴﺔ ﰲ ﺗﺸﻐﻴﻞ اﻟﺤﺪﻳﺪ واملﻌﺎدن ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺘني :اﻟﺠﻮدة،
واﻟﺬوق اﻟﻔﻨﻲ3 .
3ﻛﺘﺐ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴني اﻟﻌﺮب ﻋﻦ ﻫﺬه اﻟﺘﺠﺎرة ﰲ اﻟﺤﺪﻳﺪ واﻟﺬﻫﺐ ،وأﺣﺴﻦ ﻣﻦ ﻛﺘﺐ ﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل
ﻛﻞ ﻣﻦ املﺴﻌﻮدي »ﻣﺮوج اﻟﺬﻫﺐ« اﻟﺬي ﻛﺘﺐ ﰲ ﻣﻨﺘﺼﻒ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﺎﴍ املﻴﻼدي ،واﻹدرﻳﴘ »ﻧﺰﻫﺔ
املﺸﺘﺎق« اﻟﺬي ﻛﺘﺐ ﰲ ﻣﻨﺘﺼﻒ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﴩ املﻴﻼدي.
347
اﻹﻧﺴﺎن
ﻟﻸدوات؛ ﻓﺎﻟﻨﺪرة ﺗﺠﻌﻞ اﻷدوات املﻌﺪﻧﻴﺔ ﻗﺎﴏة ﻋﲆ ﻋﺪد ﻣﺤﺪود ﻣﻦ اﻷدوات ﻛﻤﺎ ﺗﺠﻌﻞ
أﺳﻌﺎرﻫﺎ ﻋﺎﻟﻴﺔ .وﻟﻴﻮﻧﺔ املﻌﺎدن املﺒﻜﺮة — وﺧﺎﺻﺔ اﻟﻨﺤﺎس — ﺟﻌﻠﻬﺎ ﻻ ﺗﺤﻞ ﻣﺤﻞ
ﺻﻼﺑﺔ ﰲ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ،ﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺗﺸﻜﻴﻞ اﻷدوات ً اﻷدوات اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ اﻷﻛﺜﺮ
املﻌﺪﻧﻴﺔ أﻗﻞ ﺟﻮدة ﻣﻦ اﻷدوات اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤ ﱠﺮس اﻟﻨﺎس ﻋﻠﻴﻬﺎ آﻻف اﻟﺴﻨني.
ﻟﻬﺬا ﻛﻠﻪ ﻳﺠﺐ ﱠأﻻ ﻧﺘﻮﻗﻊ أن اﻟﻨﺎس ﻗﺪ ﺗﺮﻛﻮا اﻷدوات اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ ﺑﻤﺠﺮد ﻇﻬﻮر املﻌﺪن،
وﺑﺎملﺜﻞ ﻧﺠﺪ ﺗﺒﺎﻃ ًﺆا ﰲ اﺳﺘﺨﺪام املﻌﺎدن اﻷﺧﺮى اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻛﻠﻤﺎ اﻛﺘُ ِﺸﻔﺖ ،وﻳﻈﻞ اﻟﻨﺎس
ﻋﲆ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﻢ ﻟﻠﻤﻌﺪن اﻟﺴﺎﺑﻖ إﱃ أن ﺗﺘﻢ دﻗﺔ ﺻﻨﻌﻪ وﺗﻈﻬﺮ ﻓﻮاﺋﺪه ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻤﻌﺪن
اﻟﺴﺎﺑﻖ .وﻫﺬه اﻟﻈﺎﻫﺮة واﺿﺤﺔ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ وﰲ ﻛﻞ اﻟﺤﻀﺎرات ،ارﺗﻔﺎع أﺳﻌﺎر
املﻨﺘﺞ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﰲ ﺑﺪاﻳﺘﻪ ،وإﺣﺠﺎم اﻟﺴﻮق ﻋﻦ ﻃﻠﺒﻪ ﻟﻔﱰة ﺣﺘﻰ ﻳﻨﺘﴩ أﻛﺜﺮ وﺗﺘﺤﺴﻦ
ﺻﻔﺎﺗﻪ ،وﺗﻘﻞ أﺳﻌﺎره ،وﻳﻜﻮن ﻓﻴﻪ ﻣﻦ املﺰاﻳﺎ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻠﻤﻨﺘﺞ اﻟﺴﺎﺑﻖ ﻋﻠﻴﻪ.
وﻗﺪ ﺣﺪث ذﻟﻚ ﰲ ﻣﴫ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ؛ إذ ﺑﻌﺪ أن ﺷﺎع اﺳﺘﺨﺪام اﻟﱪوﻧﺰ ﻟﻔﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ،
ﻇ ﱡﻠﻮا ﻋﲆ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﻢ ﻟﻪ ﺣﺘﻰ ﺑﻌﺪ ﻇﻬﻮر اﻟﺤﺪﻳﺪ ﰲ ﻓﻠﺴﻄني واﻟﺒﻼد املﺠﺎورة اﻵﺳﻴﻮﻳﺔ،
وﻟﻢ ﻳﺘﻘﺒﻠﻮا اﻷدوات اﻟﺤﺪﻳﺪﻳﺔ ﱠإﻻ ﺑﻌﺪ ﻣﺮور ﻣﺎ ﻳﻘﺮب ﻣﻦ ﺧﻤﺴﻤﺎﺋﺔ ﺳﻨﺔ ﻋﲆ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ
ﰲ اﻷﻧﺎﺿﻮل واﻟﴩق اﻷوﺳﻂ اﻵﺳﻴﻮي.
واﻟﻨﺤﺎس ﻫﻮ أول املﻌﺎدن اﻟﺘﻲ ﻋﺮﻓﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن ﰲ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ ،وﻟﻌ ﱠﻞ ﺗﺎرﻳﺦ
اﻟﻨﺤﺎس ﻳﺮﺟﻊ إﱃ ﺣﻮاﱄ ٤٠٠٠ق.م ،أو ﻟﻌﻠﻪ أﻗﺪم ﻣﻦ ذﻟﻚ ﺑﻘﻠﻴﻞ .وﻛﺬﻟﻚ ﻋُ ِﺮف اﻟﺬﻫﺐ
ﻣﺒ ﱢﻜ ًﺮا ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ اﻟﺤﺪﻳﺪ اﻟﻨﻘﻲ اﻟﺬي ﻳﻮﺟﺪ ﻋﲆ ﺳﻄﺢ اﻷرض ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺴﻘﻮط اﻟﻨﻴﺎزك.
وﻫﺬه املﻌﺎدن ﻛﺎﻧﺖ ﺗُﻄ َﺮق ﻋﲆ اﻟﺒﺎرد وﻳُﺼﺎغ ﻣﻨﻬﺎ أدوات زﻳﻨﺔ ﻣﺤﺪودة ،ﻛﻤﺎ ﺗﺪل ﻋﲆ
ذﻟﻚ ﻣﻨﺘﺠﺎت أﺻﺤﺎب ﺣﻀﺎرة اﻟﺒﺪاري ﰲ ﻣﴫ )ﰲ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ ﺣﻮاﱄ –٤٥٠٠
٥٠٠٠ق.م( ﻟﻜﻦ ﻫﺬه املﻌﺎدن )ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء اﻟﺤﺪﻳﺪ( ﻏري ﺻﺎﻟﺤﺔ ﻻﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ ﻛﺄدوات ﻗﺎﻃﻌﺔ
ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻴﻮﻧﺘﻬﺎ.
وﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻻ ﻳﺒﺪأ ﻋﻬﺪ املﻌﺎدن ﱠإﻻ ﺑﻌﺪ ﻣﺎ ﺗ ﱠﻢ ﻟﻺﻧﺴﺎن ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻛﻞ ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
ﻃ ُﺮق اﻟﺼﻬﺮ واﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﺨﺎم اﻟﻨﻘﻲ ،وﻃﺮق اﻟﺼﺐ ﻋﲆ ً
وﺧﺎﺻﺔ ُ ﺗﺸﻐﻴﻞ املﻌﺎدن،
اﻟﻘﻮاﻟﺐ ،وﻓﻮق ﻫﺬا ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻟﺴﺒﺎﺋﻚ .وﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻫﺬه املﻌﺎرف ﻣﻌً ﺎ ﻟﻢ ﺗﻈﻬﺮ ﱠإﻻ ﻣﺘﺄﺧﺮة،
أﻳﻀﺎ ﰲ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ ﺑﻌﺪ ٣٥٠٠ق.م. وﻳﻘﺪﱢر اﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﻮن أن ذﻟﻚ ﺗﻢ ً
ً
ﻧﺤﺎﺳﺎ و٪١٠ وﻗﺪ ﻛﺎن اﻟﱪوﻧﺰ ﻫﻮ أول ﺳﺒﻴﻜﺔ ﻳﺼﻨﻌﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن ،وﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ ٪٩٠
ﻗﺼﺪﻳ ًﺮا .وﻟﻮ أن ﻫﻨﺎك ﻧﻮﻋً ﺎ آﺧﺮ ﻣﻦ اﻟﱪوﻧﺰ ﻇﻬﺮ ﰲ ﺣﻀﺎرة اﻟﺴﻨﺪ ،وﻳﺘﻜﻮن ﻣﻦ
ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﻘﺼﺪﻳﺮ .وﻗﺪ ﻋُ ِﺮف اﻟﻨﺤﺎس ﺛﻢ اﻟﱪوﻧﺰ ﰲ ﻣﴫ ﺣﻮاﱄ اﻟﻨﺤﺎس واﻟﺨﺎرﺻني ً
348
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
)(٤ )(١
)(٥ )(٢
)(٦ )(٣
ﺷﻜﻞ :3-6اﻧﺘﺸﺎر ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﻨﺤﺎس (١) :ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﻨﺸﺄة ﺣﻮاﱄ ٤٠٠٠إﱃ ٣٠٠٠ق.م.
) (٢دﺧﻮل اﻟﻨﺤﺎس ﻣﻦ ٣٠٠٠إﱃ ٢٧٥٠ق.م (٣) .دﺧﻮل اﻟﻨﺤﺎس ﻣﻦ ٢٧٥٠إﱃ ٢٢٥٠ق.م.
) (٤دﺧﻮل اﻟﻨﺤﺎس ﻣﻦ ٢٢٥٠إﱃ ١٥٠٠ق.م .اﻧﺘﺸﺎر ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﱪوﻧﺰ (١) :ﻣﻨﻄﻘﺔ
اﻧﺘﺸﺎر اﻟﱪوﻧﺰ ﻣﻦ ١٨٥٠–٣٠٠٠ق.م (٢) .ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻧﺘﺸﺎر اﻟﱪوﻧﺰ ﻣﻦ ١٦٠٠–١٨٥٠ق.م.
349
اﻹﻧﺴﺎن
)(٣ )(١
)(٤ )(٢
ﺷﻜﻞ :4-6اﻧﺘﺸﺎر ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺪ (١) :ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﻨﺸﺄة ﻣﻦ ١٠٠٠–١٤٠٠ق.م (٢) ،دﺧﻮل
اﻟﺤﺪﻳﺪ ﻣﻦ ١٠٠٠إﱃ ٨٢٥ق.م (٣) .دﺧﻮل اﻟﺤﺪﻳﺪ ﻣﻦ ٨٢٥إﱃ ٦٧٠ق.م (٤) .دﺧﻮل
اﻟﺤﺪﻳﺪ ﺑﻌﺪ ٦٧٠ق.م.
وﻟﻢ ﻳﻨﺘﴩ اﻟﱪوﻧﺰ — وﻻ اﻟﻨﺤﺎس ﻣﻦ ﻗﺒﻠﻪ — ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ املﺪارﻳﺔ ،وﻻ ﺟﻨﻮب ﴍق
آﺳﻴﺎ ،وﻻ أوﺷﻴﻨﻴﺎ.
أﻣﱠ ﺎ اﻟﺤﺪﻳﺪ ﻓﻘﺪ ﺟﺎء ﻣﺘﺄﺧ ًﺮا ﺟﺪٍّا ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻨﺤﺎس واﻟﱪوﻧﺰ ،ﺑﺮﻏﻢ أﻧﻪ أﺳﻬﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ
ﰲ املﻌﺎﻟﺠﺔ ،وﻻ ﻳﺤﺘﺎج إﱃ ﺣﺮارة ﻋﺎﻟﻴﺔ ﰲ اﻟﺼﻬﺮ ﻣﺜﻞ اﻟﻨﺤﺎس )اﻟﻨﺤﺎس ﻳﺤﺘﺎج إﱃ
٨٠٠–٧٠٠درﺟﺔ ﻣﺌﻮﻳﺔ( .وﻗﺪ ﻇﻬﺮ اﻟﺤﺪﻳﺪ ﻷول ﻣﺮة ﺑني اﻟﺤﻴﺜﻴني ﰲ اﻷﻧﺎﺿﻮل ﺣﻮاﱄ
١٥٠٠ق.م ،وﻣﻨﻬﺎ اﻧﺘﴩ ﺑﴪﻋﺔ إﱃ ﻛﻞ ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ اﻵﺳﻴﻮي واﻟﻴﻮﻧﺎن،
ﻄﺎﻫﻤﺎ ﰲ ﺣﻮاﱄ ١٠٠٠ق.م ،ودﺧﻞ اﻟﺤﺪﻳﺪ إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ووﺳﻂ أوروﺑﺎ ﺣﻮاﱄ ٧٥٠ق.م، ﻓﻐ ﱠ
وﻛﺬﻟﻚ ﰲ ﻣﴫ واﻟﺴﻨﺪ ﰲ ﻧﻔﺲ اﻟﻔﱰة ،وﻟﻢ ﻳﺪﺧﻞ اﻟﺤﺪﻳﺪ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ ﱠإﻻ ﺣﻮاﱄ ٤٠٠ق.م
350
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
ﻃﺒﻘﺔ اﻟﺤﺪادﻳﻦ
وﺑﺮﻏﻢ اﻧﺘﺸﺎر ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ املﻌﺎدن وﻗﺪﻣﻬﺎ اﻟﻨﺴﺒﻲ ،ﱠإﻻ أن اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺼﻴﺪ
واﻟﺠﻤﻊ ،وﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺰ ﱠراع املﺘﻨﻘﻠني املﻨﻌﺰﻟﺔ ،ﻻ ﺗﻌﺮف ﺻﻨﺎﻋﺔ املﻌﺎدن .أﻣﱠ ﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت
اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ املﻌﺎﴏة اﻟﺘﻲ ﺗﻌﺮف اﻟﺤﺪﻳﺪ ،ﻓﺈن ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻟﺤﺪﻳﺪ ﺗﻘﻮم ﺑﻪ ﻃﺒﻘﺔ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ
ري ﻣﻦ ﺟﻬﺎت أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ املﺪارﻳﺔ ﻳﻜﻮﱢن اﻟﺤﺪادون ﻋﺸرية ﻣﺘﺨﺼﺼﺔ ﰲ اﻟﺤﺪادة ،وﰲ ﻛﺜ ٍ
ﻈﺮ إﱃ اﻟﺤﺪﱠادﻳﻦ ﻋﲆ أﻧﻬﻢ ﻃﺒﻘﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﺗﺘﺰاوج داﺧﻠﻴٍّﺎ .ﺑﻞ ﰲ ﺑﻌﺾ ﻫﺬه املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻳُﻨ َ
دﻧﻴﺎ أو ﻃﺒﻘﺔ ﻣﺤﺘﻘﺮة ﻳﺤ ﱠﺮم اﻟﺘﺰاوج ﻣﻌﻬﺎ ،وﻟﻴﺲ ﻟﻬﺬا ﺗﻔﺴري ﻇﺎﻫﺮ ﺣﺘﻰ اﻵن ،ﺳﻮى
اﻻﻧﻔﺼﺎل املﻜﺎﻧﻲ واﻟﺤﺮﰲ ﺑني اﻟﺤﺪادﻳﻦ واملﺠﺘﻤﻊ ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ أن اﻟﺤﺪادة ﻣﻬﻨﺔ ﻟﻬﺎ
أﴎارﻫﺎ اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻌﺮﻓﻬﺎ ﻏريﻫﻢ.
ً
ﺗﺨﺼﺼﺎ ﻛﺎﻣﻼ ﰲ ﻧﺸﺎﻃﻬﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدي ﰲ ً واﻟﺤﺪادون ﻫﻢ أول ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺗﺨﺼﺼﺖ
ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﺤﺮف ،وﻟﻌ ﱠﻞ ذﻟﻚ راﺟﻊ إﱃ أن ﻋﻤﻠﻬﻢ ﻳﺴﺘﻮﻋﺐ ﻛﻞ اﻟﻮﻗﺖ ،وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻳﺒﺘﻌﺪون
ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻦ ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻹﻧﺘﺎج اﻟﺰراﻋﻲ أو اﻟﺮﻋﻮي اﻟﺬي ﻳﻤﺎرﺳﻪ املﺠﺘﻤﻊ ،وﻳﻨﻘﺴﻢ املﺸﺘﻐﻠﻮن
ﻣﻜﺎن داﺋﻢ ﻋﻨﺪ اﻟﻔﺮن
ٍ ﺑﺼﻨﺎﻋﺔ اﻟﺤﺪﻳﺪ إﱃ ﻓﺌﺘني :اﻷوﱃ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﺘﺨﺼﺼﺔ وﻣﺴﺘﻘﺮة ﰲ
»املﺼﻨﻊ« ،وﺗﻘﻮم ﺑﻌﻤﻠﻴﺔ ﺻﻬﺮ اﻟﺨﺎﻣﺎت وﺻﻨﻊ اﻟﻘﻀﺒﺎن اﻟﺤﺪﻳﺪﻳﺔ ،وﻫﺆﻻء ﻳﻤﻜﻦ أن
أﻳﻀﺎ ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﺘﺨﺼﺼﺔ ﻧﺴﻤﻴﻬﻢ ﺻﻨﱠﺎع اﻟﺤﺪﻳﺪ .أﻣﱠ ﺎ اﻟﻔﺌﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗﺘﻜﻮن ً
ﻣﻦ اﻟﺤﺪﱠادﻳﻦ اﻟﺠﻮﱠاﻟني اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺸﱰون ﻗﻀﺒﺎن اﻟﺤﺪﻳﺪ ﻣﻦ »املﺼﻨﻊ« ،وﻳﺮﺗﺎدون اﻟﻘﺮى
ﻓﻴﺼﻨﻌﻮن اﻷدوات املﺮﻏﻮﺑﺔ ﺑﺎﻟﻄﺮق واﻟﺘﺸﻜﻴﻞ أو اﻟﺼﻬﺮ واﻟﺼﺐ ﰲ ﻗﻮاﻟﺐ.
351
اﻹﻧﺴﺎن
وﻛﻞ ﻓﺌﺔ ﻣﻦ ﻫﺎﺗني اﻟﻔﺌﺘني ﻣﻨﻌﺰﻟﺔ ﻋﻦ املﺠﺘﻤﻊ اﻟﺬي ﺗﻌﻴﺶ ﻣﻌﻪ ،ﻓﺎﻟﻔﺌﺔ اﻷوﱃ
ﺗﻘﻴﻢ ﻋﻨﺪ اﻟﻔﺮن ،وﻫﻮ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻳُﻘﺎم ﻋﻨﺪ ﻣﺼﺎدر اﻟﺨﺎﻣﺎت ،وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻓﻬﻮ ﺑﻌﻴﺪ ﻋﻦ ﻣﻨﺎﻃﻖ
اﻻﺳﺘﻘﺮار اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ ،وﻻ ﻳﺤﺪث ﺑﻴﻨﻬﻢ وﺑني أﻋﻀﺎء املﺠﺘﻤﻊ ﺗﻌﺎﻣﻞ ﻣﺒﺎﴍ ،واﻟﻔﺌﺔ
ﻣﻜﺎن واﺣﺪ ،ﺑﻞ ﺗﺘﻨﻘﻞ ﺑني ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﺮى )داﺧﻞٍ اﻟﺠﻮاﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﺪﱠادﻳﻦ ﻻ ﺗﻘﻴﻢ ﰲ
ﻧﻄﺎق إﻗﻠﻴﻤﻲ ﻣﺤﺪد ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل( ،وﻳﺮﺟﻊ ﺗﺠﻮاﻟﻬﻢ إﱃ أن اﻟﻄﻠﺐ ﻋﲆ أدواﺗﻬﻢ ﻟﻴﺲ
ﻣﺴﺘﻤ ٍّﺮا أو ﻳﻮﻣﻴٍّﺎ ،ﺑﺤﻜﻢ أن اﻷدوات اﻟﺤﺪﻳﺪﻳﺔ ﻻ ﺗﺒﲆ ﺑﴪﻋﺔ .وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻓﻬﻢ ﻳ َ
ُﻌﺘﱪون ﻏﺮﺑﺎء
ﻋﲆ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻘﺮوﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﱰددون ﻋﻠﻴﻬﺎ ،وﻻ ﻳﺤﺪث ﻣﻌﻬﻢ ﻏري ﻋﻼﻗﺎت اﻟﻌﻤﻞ ،وﻟﻌﻞ
ﻫﺬا اﻟﺘﺒﺎﻋﺪ املﻜﺎﻧﻲ واﻟﺤﺮﰲ ﻛﺎن ﻟﻪ اﻧﻌﻜﺎس ﰲ ﺻﻮرة اﻟﺘﺒﺎﻋﺪ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﺑني املﺠﺘﻤﻊ
واﻟﺤﺪﱠادﻳﻦ ﺑﺮﻏﻢ اﺣﺘﻴﺎج ﻛﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻟﻶﺧﺮ.
وﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻫﻲ ﻧﻘﻴﺾ ﺟﻤﺎﻋﺔ أﺧﺮى ﻣﺘﺨﺼﺼﺔ ﺣﺮﻓﻴٍّﺎ اﻟﻔﺨﺮاﻧﻴﺔ )املﺸﺘﻐﻠﻮن
اﻟﻔﺨﺎر( ،ﻓﻬﺆﻻء ﻳﺸﺎرﻛﻮن املﺠﺘﻤﻊ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻪ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﺑﺤﻜﻢ أن ﺧﺎﻣﺔ ﱠ
اﻟﻔﺨﺎر ﺑﺼﻨﺎﻋﺔ ﱠ
ﻣﻮﺟﻮدة داﺧﻞ اﻷرض اﻟﺰراﻋﻴﺔ .وإﱃ ﺟﺎﻧﺐ ذﻟﻚ ﻓﺈن اﺣﺘﻴﺎج املﺠﺘﻤﻊ ﻟﻬﻢ ﻣﺴﺘﻤﺮ وﻳﻮﻣﻲ؛
اﻟﻔﺨﺎر ﻗﺎﺑﻞ ﻟﻠﻜﴪ ﺑﴪﻋﺔ ،وﻗﺪ ﺗﺮﺗﺐ ﻋﲆ ذﻟﻚ أن ﻛﺜريﻳﻦ ﻣﻦ »اﻟﻔﺨﺮاﻧﻴﺔ« ﻳﻤﺘﻠﻜﻮن ﻷن ﱠ
أرﺿﺎ زراﻋﻴﺔ أو ﻳﻤﺎرﺳﻮن اﻟﺰراﻋﺔ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻳﻜﻮن ﻟﻬﻢ ﻧﺸﺎط ﻣﺰدوج ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﺈﻧﻪ ً
ﰲ ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻳﻜﻮﱢن اﻟﺤﺪﱠادون واﻟﻔﺨﺎرﻧﻴﺔ ﻃﺒﻘﺎت أو ﺑﺪﻧﺎت )ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻧﺴﺐ(
ﻣﻨﻔﺼﻠﺔ ﻋﻦ ﺑﻘﻴﺔ املﺠﺘﻤﻊ4 .
ﱠ
اﻟﻔﺨﺎر )(2-3
ً
اﻛﺘﺸﺎﻓﺎ ﻫﺎﻣٍّ ﺎ ﻣﻦ اﻻﻛﺘﺸﺎﻓﺎت اﻟﺘﻲ ﺳﺎﻋﺪت ﻛﺜريًا ﻋﲆ اﻟﺘﻘﺪﱡم اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ، ﱠ
اﻟﻔﺨﺎر ﻳﻜﻮﱢن
ً
أﺳﺎﺳﺎ ﻣﻊ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺰراﻋﻴﺔ ﰲ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ ﰲ واﻻﺣﺘﻴﺎج إﱃ ﱠ
اﻟﻔﺨﺎر ﻇﻬﺮ
اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ ،وﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﻇﻬﺮ ﰲ أواﺧﺮ اﻟﻌﴫ املﻴﺰوﻟﻴﺘﻲ )اﻟﺤﺠﺮي اﻷوﺳﻂ(
ﰲ أوروﺑﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ،ﰲ ﺣﻀﺎرة أرﺗﺒﻮل ) Ertebolleاﻟﺪاﻧﻤﺮك( ،وﻫﺬه ﻟﻴﺴﺖ ﺣﻀﺎرة
4ﰲ اﻟﺼﻌﻴﺪ اﻷﻋﲆ ﰲ ﻣﴫ ﺗﻮﺟﺪ ﺛﻼث ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻧﺴﺐ ،ﻛﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﺗﺘﺰاوج داﺧﻠﻴٍّﺎ وﻻ ﺗﺘﺰاوج ﻣﻊ
ﺑﻘﻴﺔ املﺠﺘﻤﻊ .وﻫﺬه ﻫﻲ ﺑﺪﻧﺔ اﻟﻔﺨﺮاﻧﻴﺔ ،ﺑﺪﻧﺔ اﻟﺤﺪادﻳﻦ ،ﺑﺪﻧﺔ اﻟﻐﺠﺮ )اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻘﻮﻣﻮن ﺑﻤﻬﻨﺔ اﻟﻔﻨﺎﻧني
املﺘﺠﻮﻟني ﰲ أﻏﻠﺐ اﻷﺣﻴﺎن( .راﺟﻊ ﻛﻮﺛﺮ ﻋﺒﺪ اﻟﺮﺳﻮل» ،اﺳﺘﻘﺮار اﻟﺒﺪو ﰲ ﺟﻬﺎت اﻟﺼﻌﻴﺪ« ،ﻣﺤﺎﴐات
اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ املﴫﻳﺔ ،اﻟﻘﺎﻫﺮة .١٩٦٠
352
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
زراﻋﻴﺔ ،إﻧﻤﺎ ﺟﻤﺎﻋﺎت ﻣﺴﺘﻘﺮة ﺗﻤﺎرس اﻟﺼﻴﺪ واﻟﺠﻤﻊ ﻣﻊ ﺗﺮﻛﻴﺰ ﺷﺪﻳﺪ ﻋﲆ اﻟﺴﻤﺎﻛﺔ.
وﻗﺪ ﻇ ﱠﻠﺖ اﻟﺴﻤﺎﻛﺔ ﺗﻜﻮﱢن رﻛﻨًﺎ أﺳﺎﺳﻴٍّﺎ ﰲ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﻐﺬاء ،ﺣﺘﻰ ﺑﻌﺪ أن اﻧﺘﻘﻞ ﻫﺆﻻء
أﺳﺎﺳﺎ ﻣﻊ اﻟﺰ ﱠراع ،وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻣﻊ ً ﱠ
اﻟﻔﺨﺎر ﻳﻈﻬﺮ اﻟﺴ ﱠﻜﺎن إﱃ اﻟﺰراﻋﺔ ،وﻋﲆ أي ﺣﺎل ﻓﺈن
ﺟﻤﺎﻋﺎت اﻟﺼﻴﺪ املﺴﺘﻘﺮة.
وﻧﻈ ًﺮا ﻷن اﻟﺰ ﱠراع أﺻﺒﺤﻮا ﰲ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ أوﻋﻴﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﺗﺤﻔﻆ املﺤﺼﻮل ﻓﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ
ﺗﻜﻔﻲ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﺴﻨﺔ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻻ ﺑ ﱠﺪ ﻣﻦ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ وﺳﻴﻠﺔ ﺗﻤﻨﻊ ﻓﺴﺎد املﺤﺼﻮل .ورﺑﻤﺎ
أوﻻ ﰲ ﺻﻮرة ﺣﻔﻆ اﻟﺤﺒﻮب ﺑﺎﻟﻄني اﻟﺬي ﻳﺠﻤﺪ ﺑﻌﺪ ﺗﺨﻠﺼﻪ ﻣﻦ اﻟﺮﻃﻮﺑﺔ، ﱠ
اﻟﻔﺨﺎر ً ﺑﺪأ
وﻣﻦ ﺛﻢ ﻳﺤﻔﻆ اﻟﺤﺒﻮب ﻣﻦ اﻟﺘﻌﺮض ﻟﻠﻬﻮاء .وﻟﻌ ﱠﻞ اﻷوﻋﻴﺔ اﻟﻔﺨﺎرﻳﺔ اﻷوﱃ ﻛﺎﻧﺖ ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ
اﻟﺴﻼل ﺗُﺤﺎط ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺑﺎﻟﻄني ،وﺗُﱰَك ﰲ اﻟﻬﻮاء ﻟﺘﺠﻒ ﺛﻢ ﻳُﺤ َﺮق اﻟﻮﻋﺎء وﺗﺤﱰق ﻣﻌﻪ
ﻴﻒ إﱃ اﻟﻄني اﻟﺴﻠﺔ اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ .ﻟﻜﻦ ﻫﺬه ﻛﺎﻧﺖ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻣﻜ ﱢﻠﻔﺔ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ واﻟﺠﻬﺪ ،ﺛﻢ أ ُ ِﺿ َ
اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻘﺶ ﻟﻜﻲ ﻳﻌﻄﻴﻪ ﺻﻼﺑﺔ ﻣﺆﻗﺘﺔ ﺣﺘﻰ ﻳﺘﺨﺬ اﻟﺸﻜﻞ املﻄﻠﻮب .وﻟﻜﻦ اﻟﻘﺶ
ﻳﺆدي إﱃ ﻇﻬﻮر اﻟﻌﻴﻮب ﰲ ﺟﺪار اﻟﻮﻋﺎء اﻟﻄﻴﻨﻲ؛ وﻟﻬﺬا ﴎﻋﺎن ﻣﺎ ﻋُ ﺪِل ﻋﻦ إﺿﺎﻓﺘﻪ،
وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎﻧﺖ ﺗُﻀﺎف ﺧﺎﻣﺎت أﺧﺮى ﻣﺜﻞ اﻟﺮﻣﻞ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻳﺆدي إﱃ ﻣﺴﺎﻣﻴﺔ ﻛﺒرية ﰲ
اﻟﻮﻋﺎء.
وﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﻛﻞ أﺷﻜﺎل اﻟﻄني ﺻﺎﻟﺤﺔ ﻟﺘﺸﻜﻴﻞ أوﻋﻴﺔ ﻃﻴﻨﻴﺔ ،ﱠإﻻ أﻧﻬﺎ ﺗﺨﺘﻠﻒ
ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﰲ ﻣﺪى ﻣﺴﺎﻣﻴﺘﻬﺎ وﺻﻼﺑﺘﻬﺎ وﻋﺪم ﺗﻌﺮﺿﻬﺎ ﻟﻠﻌﻴﻮب واﻟﺸﻘﻮق؛ وﻟﻬﺬا ﻓﺈن
اﻟﻔﺨﺎر اﻟﺬي ﺗﻄﻮر ﺑﻌﺪ ﺗﺠﺎرب ﻛﺜرية )ﺧﻼل أواﺧﺮ اﻟﺤﺠﺮي اﻷوﺳﻂ وأواﺋﻞ اﻟﺤﺠﺮي ﱠ
اﻟﻔﺨﺎر .وﻗﺪ اﺗﻀﺢ أن ﻫﻨﺎك أﻧﻮاﻋً ﺎ ﻣﻦ ﱠ أﻳﻀﺎ ﺑﻤﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻌﺎرف ﻋﻦاﻟﺤﺪﻳﺚ( ،اﻧﺘﻬﺖ ً
اﻟﻄني اﻟﺘﻲ ﺗﺼﻠﺢ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻏريﻫﺎ ﻟﻌﻤﻞ اﻟﻔﺨﺎر اﻟﺠﻴﺪ ،وأﺻﻠﺢ أﻧﻮاع اﻟﻄني ﻫﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ
ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ اﻟﺴﻠﻴﻜﺎ وأوﻛﺴﻴﺪ اﻷﻟﻮﻣﻨﻴﻮم ،وﻟﻜﻦ اﺧﺘﻼف اﻟﻨﺴﺐ ﰲ ﺗﺮﻛﻴﺐ اﻟﻄني ﻳﺆدي إﱃ
اﺧﺘﻼف ﺑني املﺮوﻧﺔ ﰲ اﻟﺘﺸﻜﻴﻞ وﺑني اﻟﻠﺰوﺟﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺼﻌﺐ ﻣﻌﻬﺎ اﻟﺘﺸﻜﻴﻞ؛ وﻟﻬﺬا ﻛﺎﻧﺖ
ﱠ
اﻟﻔﺨﺎر اﻟﻘﺪﻳﻢ، ﺗُﻀﺎف إﱃ اﻟﻄني ﻣﻮاد أﺧﺮى؛ ﻣﺜﻞ :اﻟﺮﻣﺎل اﻟﻨﺎﻋﻤﺔ ،واملﻴﻜﺎ ،وﻣﺴﺤﻮق
واﻟﻜﻮارﺗﺰ ،واﻟﻔﻠﺴﺒﺎر … إﻟﺦ.
وﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﻛﺘﺸﺎف أﻧﻮاع اﻟﻄني اﻟﺠﻴﱢﺪة املﻼﺋﻤﺔ ﻫﻮ ﻛﻞ ﳾء ﰲ ﻋﻤﻠﻴﺎت ﺻﻨﻊ اﻷدوات
اﻟﻔﺨﺎرﻳﺔ .ﻓﻔﻲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﻛﺎن اﻟﻄني املﻌﺪ ﻟﻠﺼﻨﺎﻋﺔ ﻳُﺸ ﱠﻜﻞ ﺑﺎﻟﻴﺪ ،وﻟﻜﻲ ﻻ ﻳﺤﺪث اﺧﺘﻼف ﱠ
واﺿﺢ ﰲ أﺟﺰاءٍ
ٍ ٍ
ﺿﻌﻒ ﰲ ﺿﻐﻂ اﻟﻴﺪ ﻣﻦ ﻣﻮﺿﻊ إﱃ آﺧﺮ ﰲ ﺟﺴﻢ اﻟﻮﻋﺎء؛ ﻣﻤﺎ ﻳﺆدي إﱃ
ﻣﻨﻪ ،ﻓﻘﺪ اﺑﺘﻜﺮت ﺑﻌﺾ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺟﺪﻳﺪة :ﺗﺸﻜﻴﻞ اﻟﻄني ﰲ ﺻﻮرة ﺣﺒﺎل ﻃﻮﻳﻠﺔ
ﻟﻔﺎت ﻓﻮق ﻣﺘﻔﺎوﺗﺔ اﻟﺴﻤﺎﻛﺔ ﺣﺴﺐ اﻟﻄﻠﺐ ،ﺛﻢ ﺗُﺴﺘﺨﺪَم ﻫﺬه اﻟﺤﺒﺎل اﻟﻄﻴﻨﻴﺔ ﰲ ﺻﻮرة ﱠ
353
اﻹﻧﺴﺎن
ﺑﻌﻀﻬﺎ ﰲ ﺷﻜﻞ ﺣﻠﺰوﻧﻲ ،وﺑﻌﺪﻣﺎ ﻳﺄﺧﺬ اﻟﻮﻋﺎء اﻟﺸﻜﻞ املﻄﻠﻮب ﻳُﺤَ ﱡﻚ ﺳﻄﺤﻪ اﻟﺪاﺧﲇ
ﺑﺄداة ﻛﺸﻂ ﺣﺠﺮﻳﺔ ﺣﺘﻰ ﻳﻠﺘﺼﻖ اﻟﺴﻄﺢ وﻳﺼﺒﺢ ﻧﺎﻋﻤً ﺎ وﺧﺎﻟﻴًﺎ ﻣﻦ أي ﻧﺘﻮءات .وﻗﺪ
ﻛﻨﻮع ﻣﻦ ٍ أﻳﻀﺎ أو ﻳُﱰَك ﻛﻠﻪ أو ﺟﺰءٍ ﻣﻨﻪ ﰲ ﺻﻮرة ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻔﺎﺋﻒ ﻳُﻨﻌﱠ ﻢ اﻟﺴﻄﺢ اﻟﺨﺎرﺟﻲ ً
أﻳﻀﺎاﻟﺰﻳﻨﺔ ،وﻳُﺴﻤﱠ ﻰ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع »ﻓﺨﺎر اﻟﺤﺒﺎل ،«Sehnurkeramikوﻟﻜﻦ ﻫﺬه اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ً
ﻛﺎﻧﺖ ﻳﺪوﻳﺔ ﺑﺤﺘﺔ.
ً
وﻟﻜﻦ اﻟﺜﻮرة اﻟﻜﺒرية ﰲ ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻟﻔﺨﺎر ﺣﺪﺛﺖ أﻳﻀﺎ ﰲ ﻣﴫ ،رﺑﻤﺎ ﰲ اﻷﻟﻒ اﻟﺮاﺑﻌﺔ
اﻟﻔﺨﺎر ،وﻫﻲ ﻋﺒﺎرة ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ،ﺗﻠﻚ اﻟﺜﻮرة ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺣﺪﺛﺖ ﺑﻌﺪ اﻛﺘﺸﺎف ﻋﺠﻠﺔ »دوﻻب« ﱠ
ﻋﻦ ﻗﺮص ﻣﺴﺘﺪﻳﺮ أو ﺷﺒﻪ ﻣﺴﺘﺪﻳﺮ ،ﻣﻦ اﻟﺨﺸﺐ أو ﻣﺎدة أﺧﺮى ﺧﻔﻴﻔﺔ وﻗﻮﻳﺔ اﻻﺣﺘﻤﺎل،
ﻳﺪور ﺣﻮل ﻣﺤﻮر ﻣﺜﺒﱠﺖ إﱃ ﻣﺤﺮك ﻳﺪوي أو ﻳُﺤ ﱠﺮك ﺑﺎﻟﻘﺪم ،وﺗﺘﻴﺢ ﻫﺬه اﻟﺤﺮﻛﺔ املﺴﺘﻤﺮة
اﻟﻘﺮص ِ ﻮﺿﻊ ﻋﲆ ﻟﻠﻘﺮص اﻟﻔﺮﺻﺔ ﻹﻣﻜﺎﻧﻴﺔ اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻴﺪﻳﻦ ﻣﻌً ﺎ ﰲ ﺗﺸﻜﻴﻞ اﻟﺨﺎﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُ َ
ﰲ ﻫﻴﺌﺔ ﻛﺘﻠﺔ ﻃﻴﻨﻴﺔ ،ﻛﻤﺎ ﺗﻤ ﱢﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ ﺻﻮرة وﻋﺎء أﻛﺜﺮ اﺳﺘﺪارة ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺗﺞ
ﻋﻦ اﻟﺘﺸﻜﻴﻞ اﻟﻴﺪوي ،وأﻫﻤﻴﺔ اﻟﻌﺠﻠﺔ — ﻓﻮق ذﻟﻚ — ﻫﻲ إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ اﻹﻧﺘﺎج اﻟﴪﻳﻊ واﻟﺠﻴﺪ
اﻟﻔﺨﺎر ﻣﻦ ﺻﻨﺎﻋﺔ ﻳﺪوﻳﺔ ﻣﻨﺘﴩة ﰲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن ،إﱃ ﺻﻨﺎﻋﺔ ﱠ آن واﺣﺪ .وﻋﲆ ﻫﺬا اﻧﺘﻘﻞﰲ ٍ
ﻳُﺴﺘﺨﺪَم ﻓﻴﻬﺎ أﺣﺪ املﺒﺎدئ املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ ﰲ اﻟﺘﺸﻜﻴﻞ واﻹﻧﺘﺎج ﺑﺎﻟﺠﻤﻠﺔ ،وﻣﻦ ﺛﻢ أﺻﺒﺤﺖ
ﻫﻨﺎك أﻣﺎﻛﻦ ﻣﺤﺪدة ﻹﻧﺘﺎج ﱠ
اﻟﻔﺨﺎر ﻫﻲ املﺼﻨﻊ.
أﻳﻀﺎ اﻟﻔﺨﺎر وإﻣﻜﺎﻧﻴﺔ اﻹﻧﺘﺎج ﺑﺎﻟﺠﻤﻠﺔ ،أن ﺗﻄﻮرت ً ﱠ وﻗﺪ ﺗﺮﺗﱠﺐَ ﻋﲆ ﻇﻬﻮر ﻋﺠﻠﺔ
اﻟﻔﺨﺎر ،وﺧﺎﺻﺔ اﻟﻔﺮن اﻟﺬي ﺗُﺤ َﺮق ﻓﻴﻪ املﻨﺘﺠﺎت ،وﻫﻜﺬا ﺑُﻨِﻴ َْﺖ إﱃ ﺟﻮار ﱠ ﺑﻘﻴﺔ ﻋﻤﻠﻴﺎت
ﺣﻔﺮ ﰲ اﻷرض ،ﺛﻢ ٍ »املﺼﻨﻊ« أﻓﺮان ﻛﺒرية ﻛﺎﻧﺖ ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ أﻓﺮاﻧًﺎ ﻣﻔﺘﻮﺣﺔ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ
أﺻﺒﺤﺖ أﻓﺮاﻧًﺎ ﻣﻘﻔﻠﺔ ﻣﺸﻴﱠﺪة ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﺟﺪران ﺗﻌﻠﻮ ﻋﻦ ﺳﻄﺢ اﻷرض وﺗﺤﻴﻂ ﺑﺎﻟﺤﻔﺮ؛
وذﻟﻚ ﻟﻺﴎاع ﺑﻌﻤﻠﻴﺔ اﻻﺣﱰاق.
اﻟﻔﺨﺎر ،اﻗﺘﴣ اﻷﻣﺮ أن ﺗﻈﻬﺮ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﱠ وﺑﻨﺎء ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺘﻜﺎﻣﻞ ﰲ ﻣﻌﺎرف
ﻣﻦ املﺘﺨﺼﺼني ﰲ ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻟﻔﺨﺎر :اﻟﻔﺨﺮاﻧﻴﺔ ،ﺗﻌﻴﺶ ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار ﻣﻊ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻨﺎس
املﺴﺘﻘﺮﻳﻦ ،وﺗﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻌﻬﻢ ﻳﻮﻣﻴٍّﺎ؛ وﻟﻬﺬا ﺗﺼﺒﺢ ﻛﺎﻟﺤﺪﱠادﻳﻦ ﻃﺒﻘﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﻛﻤﺎ أﴍﻧﺎ ﻣﻦ
ﻗﺒﻞ ،وﻻ ﻳﻨﻔﻲ ﻫﺬا أن اﻟﻔﺨﺮاﻧﻴﺔ ﰲ ﺑﻌﺾ املﻨﺎﻃﻖ ﻳﻜﻮﱢﻧﻮن ﺑﺪﻧﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﺗﺘﺰاوج داﺧﻠﻴٍّﺎ
)ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻧﺴﺐ(.
وﻗﺪ اﻧﺘﴩت ﻋﺠﻠﺔ اﻟﻔﺨﺎر اﻧﺘﺸﺎ ًرا واﺳﻌً ﺎ ﰲ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ ﰲ اﻷﻟﻒ اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ﻗﺒﻞ
املﻴﻼد ،وﻳﺒﺪو أﻧﻬﺎ ارﺗﺒﻄﺖ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﺑﺼﻨﺎﻋﺔ اﻟﱪوﻧﺰ .واملﻼﺣﻆ أن اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻌﺮف
أﻳﻀﺎ ،وإن ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﺮف اﻟﻔﺨﺎر ﱠ
اﻟﻔﺨﺎر ً املﻌﺎدن ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ ﻻ ﺗﻌﺮف ﻋﺠﻠﺔ
354
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
ِ
اﻟﺤﺪوث ً
اﻛﺘﺸﺎﻓﺎ ﻛﺜريَ ﱠ
اﻟﻔﺨﺎر اﻟﻴﺪوي ﻛﺎن اﻟﻴﺪوي .وﻫﻜﺬا ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻧﻘﻮل إن ﻋﻤﻞ
اﻟﻔﺨﺎر ﱠ ً
وﺧﺎﺻﺔ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺎرس اﻟﺰراﻋﺔ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻋﺠﻠﺔ ﺑني اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت املﺴﺘﻘﺮة،
اﻛﺘﺸﺎف ﺣﺪث ﻣﺮة واﺣﺪة ﰲ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻓﻬﻲ ﺗﻤﺜﻞ اﻧﺘﺸﺎ ًرا ﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ ،ﻣﺜﻠﻬﺎ
ﰲ ذﻟﻚ ﻣﺜﻞ املﻌﺎدن واﻟﻜﺘﺎﺑﺔ.
ً
أﺷﻜﺎﻻ اﻟﻔﺨﺎر أن املﻨﺘﺠﺎت اﻟﻔﺨﺎرﻳﺔ ﺗﺄﺧﺬﱠ وﻟﻌﻞ ﻣﻦ أﻫﻢ أﺳﺒﺎب ﴎﻋﺔ ﺻﻨﺎﻋﺔ
وﻓﻀﻼ ً ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﺣﺴﺐ اﻟﺮﻏﺒﺔ واﻟﺘﺸﻜﻴﻞ ،وﺑﺬﻟﻚ ﺗﻔﻮﻗﺖ ﻋﲆ اﻷوﻋﻴﺔ اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ،
ﻋﻦ ذﻟﻚ ﻳﻤ ِﻜﻦ ﻧﻘﻠﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﻜﺎن إﱃ آﺧﺮ .ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎن ﺣﻔﻆ اﻟﺤﺒﻮب ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻳﺘﻢ ﰲ ٍ
ﺣﻔﺮ
ﻄﻰ ﺑﺎﻟﻄني واﻟﺤﺠﺎرة ،وﻫﻲ ﺑﺬﻟﻚ ﻣﺨﺎزن ﺛﺎﺑﺘﺔ وﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻷرض ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﰲ اﻷرض ﺗُﻐ ﱠ
أﻣﻜﻦ ﺣﻔﻆ اﻟﺤﺒﻮب داﺧﻞ املﺴﺎﻛﻦ ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻷوﻋﻴﺔ ﱠ
اﻟﻔﺨﺎرﻳﺔ.
اﻟﻔﺨﺎر اﻟﻜﺜريَ ﻣﻦ اﻟﺰﺧﺎرف ،ﺣﺘﻰ أﺻﺒﺢ ﻓﻨٍّﺎ ﻣﻦ وﻗﺪ اﺳﺘﻄﺎع اﻟﺼﻨﱠﺎع أن ﻳﻀﻴﻔﻮا إﱃ ﱠ
ﻓﻨﻮن ﻫﺬه املﺠﺘﻤﻌﺎت ،وﻛﺎن ﻣﻦ أﻫﻢ اﻟﺰﺧﺎرف اﻟﺸﻜﻞ اﻟﻌﺎم ﻟﻶﻧﻴﺔ :ﻣﺴﺘﻄﻴﻠﺔ ،أﺳﻄﻮاﻧﻴﺔ
ذات ﻓﺘﺤﺔ ﺿﻴﻘﺔ أو رﻗﺒﺔ ﻧﺤﻴﻔﺔ ،ﻃﻮﻳﻠﺔ أو ﻗﺼرية ﺳﻤﻴﻜﺔ ﰲ ﺟﺰءٍ ﻣﻨﻬﺎ ،ذات ﻳﺪ واﺣﺪة
أو اﺛﻨﺘني ،أو ﻻ ﻳﺪ ﻟﻬﺎ ،وﻛﺎن ﻫﻨﺎك إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ذﻟﻚ اﻟﺘﻠﻮﻳﻦ اﻟﻌﺎم :أﺑﻴﺾ أو ﻣﺸﻮب ﺑﺤﻤﺮة
أو أﺳﻤﺮ أو أﺳﻮد ،وﻛﺎن ذﻟﻚ ﻳﺘﻢ أﺛﻨﺎء ﺣﺮق اﻵﻧﻴﺔ ،ﻓﺎﻟﻠﻮن اﻷﺑﻴﺾ أو املﺸﻮب ﺑﺎﻟﺤﻤﺮة
ُﺤﺼﻞ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺄن ﻳُﻀﺎف إﱃ اﻟﻨﺎر ُﺤﺼﻞ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﻧﻮع اﻟﻄني املﺴﺘﺨﺪم ،واﻟﻠﻮن اﻷﺳﻮد ﻳ َ ﻳ َ
ﺑﻌﺾ اﻷﺧﺸﺎب أو اﻷﻋﺸﺎب املﺒﻠﻠﺔ أو روث املﺎﺷﻴﺔ املﺠﻔﻒ .وﻳﺆدي اﺣﱰاق ﻫﺬه املﻮاد إﱃ
ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻟﻜﺮﺑﻮن اﻟﺬي ﻳﻠﺘﺼﻖ ﺑﺎﻵﻧﻴﺔ أﺛﻨﺎء ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺣﺮﻗﻬﺎ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺰﺧﺎرف ﺗﺄﺧﺬ
ﺷﻜﻞ رﺳﻮم أو ﺧﻄﻮط ﻣﺤﻔﻮرة ﰲ اﻹﻧﺎء اﻟﻔﺨﺎري ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ املﺮﻏﻮﺑﺔ ﻗﺒﻞ ﺗﺠﻔﻴﻔﻪ ﰲ
أﻳﻀﺎ ﺟﻌﻞ ﻓﺘﺤﺔ اﻹﻧﺎء ﻣﺜﻞ اﻟﺰﻫﺮة اﻟﻬﻮاء وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﻗﺒﻞ ﺣﺮﻗﻪ ،وﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺘﻌﺪى ذﻟﻚ ً
املﺘﻔﺘﺤﺔ ،أو إﺿﺎﻓﺔ »ﻛﻮرﻧﻴﺶ« ﻣﺰﺧ َﺮف إﱃ اﻟﺠﺪار اﻟﺨﺎرﺟﻲ ﻟﻺﻧﺎء ﻗﺒﻞ ﺣﺮﻗﻪ.
أﻳﻀﺎ ﻓﻜﺮة إﺿﺎﻓﺔ ﺧﺎم وﻟﻜﻲ ﻳﻜﻮن اﻹﻧﺎء ﻏري ﻣﺴﺎﻣﻲ اﻛﺘُ ِﺸﻔﺖ ﰲ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ ً
أﻳﻀﺎ أن اﻟﺰﺟﺎج إﻟﻴﻪ ﻗﺒﻞ ﺣﺮﻗﻪ ،ﻓﻴﻌﻄﻴﻪ ذﻟﻚ ﻃﺒﻘﺔ »املﻴﻨﺎ« اﻟﻼﻣﻌﺔ املﻌﺮوﻓﺔ ،وﻳﻤﻜﻦ ً
ﻳُﻀﺎف إﱃ ﻫﺬه اﻟﻄﺒﻘﺔ ﺑﻌﺾ اﻷﻟﻮان املﺮﻏﻮﺑﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻄﻲ اﻹﻧﺎء أﻟﻮاﻧﻪ اﻟﺰاﻫﻴﺔ املﻌﺮوﻓﺔ.
رﻗﻴﻖ ﺟﺪٍّا ،ﻳُﺼﻨَﻊ ﻣﻦ اﻟﻜﺎرﻟني
ٌ وﺑﻬﺬه املﻨﺎﺳﺒﺔ ﻓﺈن ﻋﻤﻞ اﻟﺼﻴﻨﻲ — وﻫﻮ ﰲ أﺳﺎﺳﻪ ﱠ
ﻓﺨﺎر
اﻟﻨﻘﻲ ،وﻳُﺤ َﺮق ﰲ أﻓﺮان ذات درﺟﺎت ﺣﺮارة ﻣﺮﺗﻔﻌﺔ — ﻟﻢ ﻳُﻌ َﺮف ﱠإﻻ ﰲ اﻟﺼني ﻓﻘﻂ،
وﻣﻨﻬﺎ اﻧﺘﴩ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ إﱃ أوروﺑﺎ.
إن اﻟﺰﺧﺎرف املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻸوﻋﻴﺔ واﻵﻧﻴﺔ اﻟﻔﺨﺎرﻳﺔ — إﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﺠﻤﺎﻟﻴﺔ
واﻟﻔﻨﻴﺔ — ﻛﺎن ﻟﻬﺎ ﻧﻔ ٌﻊ آﺧ ُﺮ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺤﻀﺎرات اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ .ﻓﺎﻟﻐﺎﻟﺐ أن ﻛﻞ
355
اﻹﻧﺴﺎن
ﱠٌ
ﻣﻌني أو ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺣﻀﺎرﻳﺔ — أو ﻓﱰة ﺣﻀﺎرﻳﺔ — ﻛﺎن ﻳﺴﻴﻄﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻧﻤﻂ أو ﻗﺎﻟﺐٌ
ﻋﺪة أﻧﻤﺎط ﻣﺤﺪودة ﻣﻦ اﻟﺰﺧﺎرف :اﻟﺸﻜﻞ اﻟﺨﺎرﺟﻲ واﻟﺰﻳﻨﺔ املﻀﺎﻓﺔ إﱃ اﻟﻔﺨﺎر أو
ﺑﺎﻟﺘﻠﻮﻳﻦ ،وﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪ ذﻟﻚ ﻋﻠﻤﺎء ﻣﺎ ﻗﺒﻞ اﻟﺘﺎرﻳﺦ واﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟني ﻋﲆ ﺗﻤﻴﻴﺰ اﻟﺤﻀﺎرات،
اﻟﻔﺨﺎرﻳﺔ ،وﻗﺪ أُﻋْ ِﻄﻴَﺖ
ﱠ ﺑﻨﻮع أو أﻧﻮاع ﻣﻨﺘﺠﺎﺗﻬﺎ
ٍ وﺗﺘﺒﻊ اﻟﻬﺠﺮات اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ واﻟﺒﴩﻳﺔ
ﻟﺒﻌﺾ اﻟﺤﻀﺎرات أﺳﻤﺎء ﻣﺸﺘﻘﺔ ﻣﻦ ﺷﻜﻞ أو زﺧﺮف ﱠ
اﻟﻔﺨﺎر اﻟﺬي ﺗﻤﻴﱠﺰت ﺑﻪ5 .
وﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪ اﻟﻔﺨﺎر ﻋﲆ اﻟﺘﻘﺪم ﰲ ﻣﺠﺎﻻت ﺷﺘﻰ ،ﻓﺈﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﺣﻔﻆ اﻟﺤﺒﻮب واملﻴﺎه
أﻳﻀﺎ ﻟﺤﻔﻆ اﻟﺤﻠﻴﺐ وﻏريه ﻣﻦ اﻟﺴﻮاﺋﻞ اﻷﺧﺮى ،واﺳﺘُﺨﺪِم ﰲ ﻃﻬﻮ اﺳﺘُﺨﺪِم ﻓﺨﺎر املﻴﻨﺎء ً
ﺴﺨﻦ ﻗﺒﻞ ذﻟﻚ ﺑﻮاﺳﻄﺔ إﺳﻘﺎط اﻟﺤﺠﺎرة اﻟﺴﺎﺧﻨﺔ اﻟﻄﻌﺎم وﺗﺴﺨني املﻴﺎه ،وﻛﺎﻧﺖ املﻴﺎه ﺗُ ﱠ
ﰲ اﻟﻮﻋﺎء اﻟﺤﺠﺮي أو اﻟﺠﻠﺪي اﻟﺬي ﻳﺤﺘﻮي ﻋﲆ املﻴﺎه أو اﻟﺴﻮاﺋﻞ املﺮاد ﺗﺴﺨﻴﻨﻬﺎ) ،وﻗﺪ
ﱢ
ﻳﺴﺨﻨﻪ اﻟﺘﻴﺎر ﻋﺎدت ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة إﱃ اﻟﻈﻬﻮر ﰲ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪام ﺟﻬﺎز ﻣﻌﺪﻧﻲ
ُﺪﱃ ﰲ املﺎء ﻟﺮﻓﻊ درﺟﺔ ﺣﺮارﺗﻪ( .وﻟﻢ ﺗﻘﺘﴫ ﻣﻨﺎﻓﻊ ﱠ
اﻟﻔﺨﺎر ﻋﲆ آﻧﻴﺔ اﻟﻄﺒﺦ اﻟﻜﻬﺮﺑﺎﺋﻲ وﻳ ﱠ
واﻟﺤﻔﻆ ،ﺑﻞ إن ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻷﻧﺎﺑﻴﺐ ﰲ املﺎﴈ وﰲ اﻟﺤﺎﴐ ﺗُﺼﻨَﻊ ﻣﻦ أﻧﻮاع ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ
ﱠ
اﻟﻔﺨﺎر املﺘﺸﻌﺒﺔ إﻳﺼﺎل ﺗﻴﺎر اﻟﻔﺨﺎر .وﻗﺪ أﻣﻜﻦ — ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل — ﺑﻮاﺳﻄﺔ أﻧﺎﺑﻴﺐ
اﻟﻬﻮاء املﺴﺘﻤﺮ ﻣﻦ ﻣﻨﻔﺎخ اﻟﻬﻮاء )اﻟﻜﻮر( ﰲ اﺗﺠﺎه اﻟﺤﺪﻳﺪ املﻨﺼﻬﺮ )راﺟﻊ ﺷﻜﻞ ،(2-6
وﻛﺬﻟﻚ اﺷﱰك اﻟﻔﺨﺎر ﻣﻊ اﻷوﻋﻴﺔ اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ ﰲ ﺻﻨﻊ »ﻗﻨﺪﻳﻞ« اﻟﺰﻳﺖ ﻟﻺﺿﺎءة ،وﰲ املﺎﴈ
اﻟﻔﺨﺎر ﻟﺪﻓﻦ املﻮﺗﻰ .وﺑﺮﻏﻢ دﺧﻮل اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎﱠ ﻛﺎﻧﺖ ﺗُﺼﻨَﻊ ﺑﻌﺾ اﻟﺘﻮاﺑﻴﺖ ﻣﻦ
ﻋﴫ املﻌﺎدن ﻣﻨﺬ ﻓﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ ،إﻻ أن ﱠ
اﻟﻔﺨﺎر ﻟﻢ ﻳ َ
ُﻘﺾ ﻋﻠﻴﻪ ﺣﺘﻰ اﻵن؛ ﻓﻬﻮ ﺷﺎﺋ ُﻊ اﻻﻧﺘﺸﺎر
ﻋﻨﺪ ﻛﺜريﻳﻦ ﻣﻦ اﻟﺮﻳﻔﻴني ﻣﻦ أﺟﻞ اﺳﺘﺨﺪاﻣﺎت ﻣﻌﻴﻨﺔ ﰲ اﻟﺤﻔﻆ واﻟﻄﻬﻮ ،وﻫﻮ ﻛﺬﻟﻚ
ﺷﺎﺋ ُﻊ اﻻﺳﺘﺨﺪام ﻟﺮﺧﺺ أﺳﻌﺎره ﺑﺎﻟﻘﻴﺎس إﱃ اﻟﺼﻴﻨﻲ واملﻌﺎدن ،وﻓﻮق ذﻟﻚ ﻫﻨﺎك أﻧﻮاع
ﻣﻦ اﻟﻔﺨﺎر اﻟﺮاﻗﻲ Ceramicأﺻﺒﺤﺖ ﺳﻠﻌً ﺎ ﻓﻨﻴﺔ ﺗﺘﺨﺼﺺ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻣﺜﻞ
املﺠﺮ.
5ﻣﺜﻞ ﺣﻀﺎرة ﺑﻴﻜﺮ Beakerاﻟﺘﻲ اﻧﺘﴩت ﻣﻦ إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ إﱃ وﺳﻂ وﻏﺮب أوروﺑﺎ ﰲ اﻷﻟﻒ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ق.م،
ﻣﺴﺎو ﻟﻘﻄﺮه،
ٍ وﺣﻀﺎرة ﺑﻞ ﺑﻴﻜﺮ Bell-Beakerاﻟﺘﻲ اﻧﺘﴩت ﰲ اﻟﺪاﻧﻮب .وﻳﺘﻤﻴﺰ اﻟﻮﻋﺎء ﺑﺄن ﻃﻮﻟﻪ
وﻫﻮ وﻋﺎءٌ ﺷﺒﻴﻪ ﺑﺎﻟﺠﺮس ،وﺣﻀﺎرة ﺑﻴﻜﺮ املﺨﻄﻄﺔ Zoned-Beakerأو ﺑﻴﻜﺮ اﻟﻨﻄﺎﻗﻲ اﻟﺘﻲ اﻧﺘﴩت ﰲ
اﻟﺮاﻳﻦ ،وﻛﺎن ﻃﻮل اﻟﻮﻋﺎء أﻛﱪ ﻣﻦ ﻃﻮل اﻟﻘﻄﺮ ،وﺗﻤﻴﱠ َﺰت ﺑﺎﻟﺨﺸﻮﻧﺔ وﻋﺪم اﻟﺮﻗﺔ ،وﻛﺬﻟﻚ ﺣﻀﺎرة ﻓﺨﺎر
اﻟﺤﺒﺎل اﻟﺘﻲ ﺳﺒﻖ أن أﴍﻧﺎ إﻟﻴﻬﺎ.
356
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
357
اﻹﻧﺴﺎن
ﻣﻦ ﺑﻴﻨﻬﺎ اﻷوﻧﺎ ،Onaواﻟﻴﺎﻫﺎﺟﺎن ،Yahaganواملﻨﺎخ ﻫﻨﺎك ﻗﻄﺒﻲ ﺷﺪﻳﺪ اﻟﱪودة ﻛﺜري
اﻟﺜﻠﻮج واﻷﻣﻄﺎر واﻟﺮﻳﺎح اﻟﻌﺎﺻﻔﺔ ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻧﺠﺪ اﻷوﻧﺎ ﻳﻠﺒﺴﻮن ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ اﻟﻌﺒﺎءات
اﻟﻜﺒرية املﺼﻨﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﺟﻠﻮد اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت اﻟﺒﺤﺮﻳﺔ ،أﻣﱠ ﺎ اﻟﻴﺎﻫﺎﺟﺎن ﻓﻴﻠﺒﺴﻮن ً
ﻟﺒﺎﺳﺎ ﺻﻐريًا
ﻣﻦ ﺟﻠﻮد اﻟﻔﻘﻤﺎت اﻟﺒﺤﺮﻳﺔ ،وﻳُﻘﺎل إﻧﻬﻢ ﺣﻴﻨﻤﺎ اﺣﺘ ﱡﻜﻮا ﺑﺎﻷوروﺑﻴني وﻧﻘﻠﻮا ﻋﻨﻬﻢ املﻼﺑﺲ
اﻟﺼﻮﻓﻴﺔ ﺳﺎءت ﺻﺤﺘﻬﻢ ﻛﺜريًا ،وﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ﻟﻴﺲ اﻟﺴﺒﺐ اﻟﻮﺣﻴﺪ ،ﺑﻞ إن اﻷﻣﺮاض اﻟﺘﻲ
ﺟﻠﺒﻬﺎ اﻷوروﺑﻴﻮن ﻗﺪ ﻗﻀﺖ ﻋﲆ ﻣﻌﻈﻢ ﺳﻜﺎن ﻫﺬه اﻟﺠﺰﻳﺮة ،ﻓﺎﻟﻴﺎﻣﻨﺎ اﻧﻘﺮﺿﻮا وﺗﻨﺎﻗﺺ
أﻋﺪاد اﻷوﻧﺎ )اﻟﺬﻳﻦ ﻳُﻄ َﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﻢ أﺣﻴﺎﻧًﺎ اﺳﻢ ﺳﻠﻜﻨﺎم( ﻣﻦ ٥٠٠٠–٤٠٠٠ﺷﺨﺺ ﰲ ﺳﻨﺔ
أﻳﻀﺎ ﻛﻴﻒ أن دور ﺷﺨﺼﺎ ﻋﺎم !١٩٣٨وﻳﻮﺿﺢ ﻫﺬا املﺜﺎل ً ً ١٨٨٠إﱃ أن أﺻﺒﺤﻮا ٢٦
اﻻﻋﺘﻴﺎد اﻟﺤﻀﺎري أﻗﻮى ﻣﻦ وﻇﻴﻔﺔ املﻼﺑﺲ .وﻛﺬﻟﻚ ﻳﺮﺗﺪي املﺴﻠﻤﻮن ﻣﻦ زﻧﻮج أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ
اﻟﺠﻠﺒﺎب واﻟﻌﻤﺎﻣﺔ أو ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻬﻬﺎ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻟﻮﺛﻨﻴﻮن ﻣﻦ ﻧﻔﺲ اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ ﻳﺴريون ﻋﺮاﻳﺎ أو ﺷﺒﻪ
ﻛﺎﻣﻼ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻣﻦ ﺟﺎورﻫﻢ ﻣﻦ اﻟﻨﻴﻠﻴني ﻻ ﻳﻌﺮﻓﻮن املﻼﺑﺲ.ً ﻋﺮاﻳﺎ ،وﻳﺮﺗﺪي اﻟﺒﺎﺟﻨﺪا ً
ﻟﺒﺎﺳﺎ
واملﺜﺎل اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻳﻮﺿﺢ ﻟﻨﺎ أن املﻼﺑﺲ ﻻ ﺗﻌﻨﻲ ﻣﺎ ﺗﻌﻨﻴﻪ ﻋﻨﺪﻧﺎ ﰲ ﻣﻔﺎﻫﻴﻤﻨﺎ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ
اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ أو اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ،وأن اﻟﻌﺮي ﻛﺬﻟﻚ ذو ﻣﻔﻬﻮم ﻣﺨﺘﻠﻒ ،ﻓﻔﻲ أواﺋﻞ ﻫﺬا اﻟﻘﺮن ﻛﺎن
اﻟﺮﺣﱠ ﺎﻟﺔ ﻓﻮن ﻧﻮرد ﺗﺸﻴﻠﺪ ﻳﺰور ﻗﺒﻴﻠﺔ ﺑﻮﺗﻮﻛﻮدو ﰲ ﻏﺎﺑﺎت اﻷﻣﺎزون ،وﺑﻌﺪ ﺣﻮار ﻃﻮﻳﻞ
ﻣﻊ إﺣﺪى ﺳﻴﱢﺪات ﻫﺬه اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ اﺳﺘﻄﺎع أن ﻳﻘﻨﻌﻬﺎ ﺑﺄن ﺗﺒﻴﻊ ﻟﻪ اﻷﻗﺮاص اﻟﺨﺸﺒﻴﺔ اﻟﻜﺒرية
اﻟﺘﻲ ﻳﻀﻌﻬﺎ أﻋﻀﺎء ﻫﺬه اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ ﰲ اﻵذان واﻟﺸﻔﺎه .وﺣﻴﻨﻤﺎ ﺧﻠﻌﺖ ﻫﺬه »اﻟﺰﻳﻨﺔ« ﺷﻌﺮت
ﺑﺨﺠﻞ ﺷﺪﻳ ٍﺪ وﺟﺮت ﻣﺨﺘﻔﻴﺔ ﰲ اﻟﻐﺎﺑﺔ ،وذﻟﻚ ﺑﺮﻏﻢ أﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﺎرﻳﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ .ﻓﺎﻟﺨﺠﻞ ﻫﻨﺎ
ٍ
ﻃﺎ ﺑني ﻓﻀﻼ ﻋﻦ أن ﻫﻨﺎك ارﺗﺒﺎ ً
ً ﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﺄﻧﻬﺎ »ﺗﻌ ﱠﺮت« ﺑﺨﻠﻌﻬﺎ ﻫﺬه اﻷﻗﺮاص اﻟﺨﺸﺒﻴﺔ،
اﻟﺒﻮﺗﻮﻛﻮدو ﻛﺸﺨﺺ وﺑﻴﻨﻪ ﺑﺼﻔﺘﻪ ﻳﻠﺒﺲ ﻫﺬه اﻷﻗﺮاص اﻟﺨﺸﺒﻴﺔ.
اﺗﺠﺎﻫﺎ ﻋﺎﻣٍّ ﺎ إﱃ أن ﻳﻜﻮن ﻣﻦ ﺑني وﻇﺎﺋﻒ املﻼﺑﺲ ً وﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﻌﻤﻮم ،ﻓﺈن ﻫﻨﺎك
ﺗﻐﻄﻴﺔ اﻟﻌﻮرات ،وﻫﻨﺎك ﻋﴩات اﻷﻣﺜﻠﺔ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﺑني اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻠﺒﺲ أﻧﻮاﻋً ﺎ
ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ املﺂزر )ﻣﺌﺰرة ،ﻧ ُ ْﻘﺒَﺔ = ﺗﻨﻮرة ﻗﺼرية ﺗﺘﺪﱃ ﻣﻦ اﻟﻮﺳﻂ( ﻣﺼﻨﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﺶ
أو اﻟﺨﺮز واﻷﺻﺪاف أو ﻧﺴﻴﺞ ﺑﺪاﺋﻲ أو اﻟﺠﻠﺪ ،ﺗﻐﻄﻲ اﻟﺠﺰء اﻷﻣﺎﻣﻲ أو اﻟﺠﺰﺋني اﻷﻣﺎﻣﻲ
ﻳﻔﴪﻫﺎ واﻟﺨﻠﻔﻲ .وﻗﺪ ﺣﺎول ﺑﻌﺾ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني اﻟﻘﺪﻣﺎء — ﻣﺜﻞ ﺗﻴﻮدور ﻓﺎﻳﺘﺰ — أن ﱢ
ﺑﺄﻧﻬﺎ ﺗﻤﻨﻊ اﻟﻌني اﻟﴩﻳﺮة ﻋﻦ اﻷﻋﻀﺎء اﻟﺘﻨﺎﺳﻠﻴﺔ؛ أي إن اﻟﻮﻇﻴﻔﺔ ﻫﻨﺎ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻟﺴﺤﺮ،
وﻟﻜﻦ ذﻟﻚ اﻟﺘﻔﺴري ﻻ ﻳﻨﻄﺒﻖ ﻋﲆ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻌﺮف املﻼﺑﺲ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،وﻣﻊ ذﻟﻚ
ﻣﻤﺎﺛﻼ ﻟﻼﻋﺘﻴﺎدات اﻟﺴﻠﻮﻛﻴﺔ واﻟﺨﻠﻘﻴﺔً ﺗﻌﺘﻘﺪ ﰲ وﺟﻮد اﻟﻌني اﻟﴩﻳﺮة .وﻗﺪ ﻳﻜﻮن اﻟﺴﺒﺐ
ﰲ ﺣﻀﺎرﺗﻨﺎ املﻌﺎﴏة ،وﻟﻜﻦ اﻟﻌُ ﺮي ﻋﻨﺪ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻟﺒﺪاﺋﻴني ﻻ ﻳﻌﻨﻲ اﻟﺠﻨﺲ ،ﻓﻠﻴﺲ ﻫﻨﺎك
358
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
ﻋﻜﺲ ذﻟﻚ وﺗﻔﺮض ﻋﻘﻮﺑﺎت ارﺗﺒﺎط ﺑني اﻻﺛﻨني إﻻ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﺗﻨﺺ اﻋﺘﻴﺎدات ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻣﺎ ﻋﲆ ِ
ﻋﲆ اﻟﻌﺮي ،وﺑﺬﻟﻚ ﻳﺼﺒﺢ اﻟﺘﻌﺮي ﺟﺮﻳﻤﺔ ﺳﻠﻮﻛﻴﺔ .ﻓﺎﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ﻳﻠﺒﺴﻮن رداء اﻟﻔﺮاء وﻏﻄﺎء
اﻟﺮأس واﻟﺤﺬاء ،وﺑﺬﻟﻚ ﻳﺘﻐﻄﻰ اﻟﻮاﺣﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻗﻤﺔ رأﺳﻪ إﱃ أﺧﻤﺺ ﻗﺪﻣﻴﻪ ،وﻟﻜﻨﻪ
ﺑﻤﺠﺮد أن ﻳﺪﺧﻞ ﻣﺴﻜﻨﻪ ﻳﺘﻌﺮى ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﺣﺘﻰ ﺑﺮﻏﻢ وﺟﻮد ﻏﺮﺑﺎء؛ ﻷﻧﻬﻢ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻳﺘﻌ ﱠﺮون
داﺧﻞ املﺴﻜﻦ :اﻟﻀﻴﻮف وأﺻﺤﺎب اﻟﺒﻴﻮت.
وﻛﻤﺎ ﻗﻠﻨﺎ ﻟﻴﺲ املﻠﺒﺲ ﻋﻨﺪ ﻛﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﻫﻮ ﻣﺎ ﺗﻌﻨﻴﻪ ﻫﺬه اﻟﻜﻠﻤﺔ ﻣﻦ ﻣﻌﻨﻰ ﺿﻴﻖ
ﰲ ﻣﻤﺎرﺳﺘﻨﺎ اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ؛ ﻓﱪﻏﻢ أن اﻟﺘﺠﺮد ﻣﻦ املﻼﺑﺲ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻋُ ﺮﻳًﺎ ﻋﻨﺪﻧﺎ ،ﱠإﻻ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻛﺬﻟﻚ
ﻋﻨﺪ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت ﺑﺪاﺋﻴﺔ ﻛﺜرية؛ ﻓﻌﻨﺪ اﻷﺳﱰاﻟﻴني اﻷﺻﻠﻴني ﻻ ﺗﻜﻮن املﺮأة ﻋﺎرﻳﺔ ﱠإﻻ إذا ﺧﻠﻌﺖ
ﻋﻘﺪ اﻟﺨﺮز اﻟﺬي ﺗﻠﺒﺴﻪ ﺣﻮل ﻋﻨﻘﻬﺎ .واﻟﻌُ ﺮي ﻋﻨﺪ ﻛﺜريﻳﻦ ﻫﻮ أن ﻳﺘﻌﺮى املﺮء ﻋﻦ اﻟﻌﻘﺪ أو
اﻟﻘﺮط أو اﻷﻗﺮاط اﻟﺨﺸﺒﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻮﺿﻊ ﰲ اﻷﻧﻒ أو اﻟﺸﻔﺎه أو اﻵذان .وﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﻋُ ﺮي
ﻋﻨﺪ املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺎرس اﻟﻮﺷﻢ أو ﺗﺼﺒﻎ اﻟﺠﺴﻢ ﺑﺄﻟﻮان ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ أو ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺎرس
»ﺗﺸﻠﻴﺦ« اﻟﺠﻠﺪ ﰲ اﻟﻮﺟﻪ واﻟﺠﺴﻢ )اﻟﺘﺸﻠﻴﺦ ﻫﻮ ﻗﻄﻊ اﻟﺠﻠﺪ ﺑﺎﻟﺴﻜني ﰲ أﺷﻜﺎل ﻣﺘﻌﺎرف
ً
»ﻣﻠﺒﺴﺎ« وﻣﺎ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻋﻨﺪ ﻛﻞ ﻗﺒﻴﻠﺔ ﻋﲆ ﺣﺪة( .وﻋﲆ ﻫﺬا ﻓﺈن اﻟﻔﻮارق ﻫﻲ ﺑني ﻣﺎ ﻧﻌﺘﱪه
ﻧﻌﺘﱪه »زﻳﻨﺔ« — وإن ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻔﻮارق واﺿﺤﺔ ﻟﺪﻳﻨﺎ — ﻓﻬﻲ ﺻﻌﺒﺔ اﻟﺘﺤﺪﻳﺪ وﻏري واﺿﺤﺔ
ً
إﺟﻤﺎﻻ إن ﻣﻔﻬﻮم »اﻟﺰﻳﻨﺔ« أﻋ ﱡﻢ ﻣﻦ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺤﻀﺎرات أﺧﺮى ﻛﺜرية .وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻘﻮل
»املﻼﺑﺲ« ،ﺑﺤﻜﻢ أن ﺟﺰءًا ﻣﻦ وﻇﻴﻔﺔ املﻼﺑﺲ ﻫﻮ اﻟﺘﺰﻳﻦ.
وﻟﻴﺴﺖ اﻟﺰﻳﻨﺔ — ﰲ ﻣﻔﻬﻮﻣﻬﺎ اﻟﻌﺎم — ﻗﺎﴏ ًة ﻓﻘﻂ ﻋﲆ اﻟﻮﻇﻴﻔﺔ اﻟﺠﻤﺎﻟﻴﺔ ،ﻓﻬﻲ
إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ذﻟﻚ ﺗﻘﻮم ﺑﻮﻇﻴﻔﺔ رﻣﺰﻳﺔ ،واملﺜﺎل اﻟﺬي ﺳﺒﻖ أن ذﻛﺮﻧﺎه ﻋﻦ اﻟﺒﻮﺗﻮﻛﻮدو ﻳﻮﺿﺢ
ﻮﺿﻊ ﰲ اﻵذان واﻟﺸﻔﺎه ﺗﺮﻣﺰ إﱃ اﻟﺒﻮﺗﻮﻛﻮدو، ذﻟﻚ ﺑﺠﻼءٍ ﺗﺎمﱟ .ﻓﺎﻷﻗﺮاص اﻟﺨﺸﺒﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُ َ
وﺑﺪوﻧﻬﺎ ﻳﻔﻘﺪ اﻟﺸﺨﺺ ﻫﻮﻳﺘﻪ ،وأﺷﻜﺎل اﻟﺘﺸﻠﻴﺦ أو اﻟﻮﺷﻢ ﻫﻲ ﻛﺬﻟﻚ ﻋﻼﻣﺎت رﻣﺰﻳﺔ
ﻮﺿﻊ ﻓﻴﻪ ﺻﻮرة اﻟﺸﺨﺺ ﻋﲆ اﻟﻬﻮﻳﺔ اﻟﻘﺒﻠﻴﺔ ﻟﻠﺸﺨﺺ )ﻣﺜﻞ ﺟﻮاز اﻟﺴﻔﺮ اﻟﺤﺎﱄ اﻟﺬي ﺗُ َ
وﺗﺨﺘﻤﻪ اﻟﺪوﻟﺔ ﺑﺨﺎﺗﻤﻬﺎ( .وﺑﺎملﺜﻞ أﺷﻜﺎل اﻟﻌﻘﻮد واﻷﺳﺎور واﻷﻗﺮاط وﻃﺮﻳﻘﺔ ﺗﺼﻔﻴﻒ
اﻟﺸﻌﺮ ،ﻛﻠﻬﺎ رﻣﻮز ﻋﲆ اﻟﻬﻮﻳﺔ ،وﺑﻌﺾ اﻹﺿﺎﻓﺎت ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﺷﻜﺎل ﻣﻦ اﻟﺰﻳﻨﺔ ﺗﺮﻣﺰ
ﻛﺬﻟﻚ إﱃ املﺮﻛﺰ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ .وﻣﻦ أﻫﻢ اﻷﻣﺜﻠﺔ رﻳﺸﺔ اﻟﺰﻋﻴﻢ اﻟﻘﺒﲇ ﻋﻨﺪ اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ،وأﻧﻮاع
اﻷوﺳﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻨﺤﻬﺎ اﻟﺪول اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،واﻟﺘﻴﺠﺎن املﻠﻜﻴﺔ .وﰲ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ
واﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻧﺠﺪ أن أﻧﻮاﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻟﺰﻳﻨﺔ أو املﻠﺒﺲ ﻟﻴﺴﺖ ﺳﻮى رﻣﺰ ﻋﲆ ﻣﻬﻨﺔ اﻟﻔﺮد .ﻓﺎﻟﺠﻨﻮد
ﻟﻬﻢ ﻣﻼﺑﺲ ﻣﻌﻴﻨﺔ ،وﻛﺬﻟﻚ اﻟﺒﺤﱠ ﺎرة واﻟﻄﻴﱠﺎرون ،واﻟﻌﻤﱠ ﺎل ﻟﻬﻢ ﻣﻼﺑﺲ ﻋﻤﻞ ﻣﻌﻴﻨﺔ ،وﻛﺬﻟﻚ
اﻷﻃﺒﺎء واملﻤﺮﺿﺎت وأﺳﺎﺗﺬة اﻟﺠﺎﻣﻌﺎت واﻟﻘﻀﺎة ورﺟﺎل اﻟﺪﻳﻦ .ﺑﻞ إن ﻣﻼﺑﺲ ﻣﻌﻴﻨﺔ
359
اﻹﻧﺴﺎن
360
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
ﰲ ﺣﻮض ﻧﻬﺮ ﻣﺎﻛﻨﺰي ،وﻫﻢ ﺻﻴﱠﺎدو ﺣﻴﻮان اﻟﻜﺎرﻳﺒﻮ )اﻟﻘﺮﻳﺐ اﻟﺸﺒﻪ ﺑﺎﻟﺮﻧﺔ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ
اﻟﻘﺪﻳﻢ( .واملﻼﺑﺲ ﻋﻨﺪ ﻫﺬه اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ املﻐﻮﻟﻴﺔ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﰲ ﺷﻤﺎل آﺳﻴﺎ وأﻣﺮﻳﻜﺎ ،ﻣﺼﻨﻮﻋﺔ ﻣﻦ
اﻟﻔﺮاء ،وﺧﺎﺻﺔ ﻓﺮاء اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت اﻟﺼﻐرية ،وﻟﻌ ﱠﻞ ﻫﺬا ﻗﺪ اﻗﺘﴣ اﻟﺨﻴﺎﻃﺔ ﻟﺮﺑﻂ ﻫﺬه اﻟﻘﻄﻊ
ﻔﺼﻞ املﻼﺑﺲ ﺑﺈﺣﻜﺎ ٍم ﺷﺪﻳ ٍﺪ ﻋﲆ اﻟﺠﺴﻢ ،وﺑﺤﻴﺚ ﻳﺼﺒﺢ اﻟﻔﺮاء ﻣﻦ اﻟﺼﻐرية ﻣﻌً ﺎ .وﺗُ ﱠ
اﻟﺪاﺧﻞ ﻟﻴُﻌﻄﻲ اﻟﺪفء املﻄﻠﻮب ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳُﺰﻳﱠﻦ اﻟﺠﻠﺪ ﻣﻦ اﻟﺨﺎرج ﺑﺮﺳﻮم وأﺑﻠﻴﻜﺎت ﺟﻤﻴﻠﺔ.
ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ أردﻳﺔ ﻣﺨﻴﻄﺔ ً
أﻳﻀﺎ ٌ وﻫﻨﺎك إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﻫﺬه املﻼﺑﺲ املﺨﻴﻄﺔ أﻧﻮا ٌع
ﺗﺄﺧﺬ ﺻﻮرة اﻟﺮوب أو اﻟﺠﻠﺒﺎب ،وﺗُﺼﻨَﻊ ﻣﻦ اﻟﺠﻠﻮد ،وﺗُﻀﺎف إﻟﻴﻬﺎ أﺑﻠﻴﻜﺎت ﻣﻦ اﻟﺨﺮز
واﻟﺼﺪف ،وﺗﻜﻮﱢن ﻣﻼﺑﺲ ﻛﺜريﻳﻦ ﻣﻦ اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﰲ اﻟﺴﻬﻮل اﻟﻮﺳﻄﻰ أﻧﻮاﻋً ﺎ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ ﻫﺬه
اﻟﻌﺒﺎءات .وﺣﻴﻨﻤﺎ دﺧﻞ اﻷوروﺑﻴﻮن اﺳﺘﺒﺪﻟﻮا ﺑﻬﺎ ﻣﻼﺣﻒ ﻣﻦ اﻟﺼﻮف اﻷوروﺑﻲ املﻨﺴﻮج،
وأﺻﺒﺤﺖ ﻫﺬه املﻼﺣﻒ ﻣﻨﺬ ذﻟﻚ اﻟﺤني رﻣ ًﺰا ﻋﲆ اﻟﺴﻜﺎن اﻷﺻﻠﻴني رﻏﻢ أﻧﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ً
أﺻﻼ
ﻣﻦ إﻧﺘﺎﺟﻬﻢ.
َ ُ
وﺗﺘﻌﺪد اﻟﺨﺎﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺼﻨﻊ ﻣﻨﻬﺎ املﻼﺑﺲ أو املﻼﺣﻒ واﻟﻌﺒﺎءات ﺣﺴﺐ ﻇﺮوف اﻟﺒﻴﺌﺔ
وﻣﺼﺎدر اﻟﺨﺎﻣﺔ ،وﺗﻤﺜﱢﻞ اﻟﺠﻠﻮد واﻟﻔﺮاء اﻟﺨﺎﻣﺔ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﰲ ﺻﻨﻊ املﻼﺑﺲ املﺨﻴﻄﺔ ﰲ
املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ اﻟﺒﺎردة .وملﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺠﻠﻮد ﻟﻴﺴﺖ ﺻﺎﻟﺤﺔ ﻟﻼﺳﺘﺨﺪام ﺑﺪون ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ،
ﻓﺈن ﺳﻜﺎن ﻫﺬه املﻨﺎﻃﻖ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻌﺎﻟﺠﻮﻧﻬﺎ ﺑﻄﺮﻗﻬﻢ اﻟﺨﺎﺻﺔ ،وأول أﺷﻜﺎل املﻌﺎﻟﺠﺔ ﻫﻲ
ﻛﺸﻂ اﻟﺠﻠﺪ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺑﻘﺎﻳﺎه اﻟﺪﻫﻨﻴﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،ﺛﻢ ﻃﺮﻗﻪ ﱡ
ودﻗﻪ ﺟﻴﱢﺪًا ﻟﻜﻲ ﻳﺼﺒﺢ ﻃﺮﻳٍّﺎ ﻣﺮﻧًﺎ،
وﺗﺴﺘﺨﺪم اﻟﺰﻳﻮت واﻟﻨﺨﺎع اﻟﺤﻴﻮاﻧﻲ ﰲ إﻋﺪاد اﻟﺠﻠﻮد أﺛﻨﺎء ﻃﺮﻗﻬﺎ ﻟﻜﻲ ﺗﺰﻳﺪ ﻣﻦ ﻃﺮاوﺗﻬﺎ.
أﻣﱠ ﺎ دﺑﺎﻏﺔ اﻟﺠﻠﻮد ﺑﻮاﺳﻄﺔ املﻮاد اﻟﻨﺒﺎﺗﻴﺔ ،ﻓﻠﻢ ﺗُﻌ َﺮف ﻟﺪﻳﻬﻢ ،وﻻ ﺷ ﱠﻚ أن اﻟﺠﻠﻮد املﻌﺎﻟﺠﺔ
ﺑﻬﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻳﺠﺐ أن ﺗُﻌﺎ َﻟﺞ ﺑني اﻟﺤني واﻟﺤني ﺑﺎﻟﺰﻳﻮت واﻟﺪﻫﻮن ﻟﻜﻲ ﺗﻈﻞ ﻃﺮﻳﺔ
وﻣﺮﻧﺔ.
وﻳﻤﺜﱢﻞ اﻟﻠﺒﺎد Feltاﻟﺨﺎﻣﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﰲ ﻋﻤﻞ املﻼﺑﺲ ،وﻃﺮﻳﻘﺔ ﻋﻤﻞ اﻟﻠﺒﺎد ﺗﺘﻢ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ
ﻒ اﻟﺤﺼري ﺑﻘﻮة ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﻋﺪد ﻣﻦ ﺗﺠﻤﻴﻊ اﻟﺼﻮف اﻟﺤﻴﻮاﻧﻲ ﻋﲆ ﺣﺼري ،ﺛﻢ ﻳُﺒ ﱠﻠﻞ وﻳُ َﻠ ﱡ
اﻟﻨﺴﺎء ،ﺛﻢ ﻳُﻄ َﺮق ﺟﻴﱢﺪًا وﻳُﻌﺎد ﻟﻔﻪ ،وﺗُﻜ ﱠﺮر اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ إﱃ أن ﻳﺘﻤﺎﺳﻚ اﻟﺼﻮف وﻳﺼﺒﺢ ﻗﻄﻌﺔ
ﻧﺴﻴﺞ واﺣﺪة .واﻟﻠﺒﺎد ﺧﺎﻣﺔ ﺟﻴﺪة ﻷﻧﻪ ﻳﺠﻠﺐ اﻟﺪفء ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﺧﻔﻴﻒ اﻟﻮزن ،وﻳُﺼﻨَﻊ ﻣﻨﻪ
أﻳﻀﺎ اﻷﺣﺬﻳﺔ اﻟﺨﻔﻴﻔﺔ اﻟﺘﻲ اﺷﺘﻬﺮت ﻋﻦ اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﺑﺎﺳﻢ »ﻣﻮﻛﺎﺳﺎن« ،وﻳﺮﺟﺢ املﺨﺘﺼﻮن ً
أن اﻟﻠﺒﺎد ﻗﺪ ﻧﺸﺄ ﰲ اﻟﺼني ﺛﻢ اﻧﺘﻘﻞ إﱃ ﺳﻴﱪﻳﺎ.
واﻟﺨﺎﻣﺔ اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ﰲ ﺻﻨﺎﻋﺔ املﻼﺑﺲ ﻫﻲ اﻟﺼﻮف اﻟﺤﻴﻮاﻧﻲ ﺑﻌﺪ ﻏﺰﻟﻪ وﻧﺴﺠﻪ ،وﻳﻤﻜﻦ
أوﻻ ﻣﻦ اﻟﻜﻼب )ﻣﻦ ﺑني اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت املﺴﺘﺄﻧﺴﺔ( ،ﺛﻢ ﺗﺄﺗﻲ ﺑﻌﺪ أن ﻳﻜﻮن اﻟﺼﻮف ﻗﺪ اﺳﺘُ ِﻤ ﱠﺪ ً
361
اﻹﻧﺴﺎن
ذﻟﻚ أﻧﻮاع اﻟﺼﻮف املﺨﺘﻠﻔﺔ ﺣﺴﺐ ﻧﻮع اﻟﺤﻴﻮان اﻟﺴﺎﺋﺪ .وﻣﻌﻈﻢ املﻨﺴﻮﺟﺎت اﻟﺼﻮﻓﻴﺔ
اﻟﺸﺎﺋﻌﺔ ﻣﺴﺘﻤﺪة ﻣﻦ ﺻﻮف اﻷﻏﻨﺎم ،وﺑﻌﻀﻬﺎ ﻣﻦ أﺻﻮاف املﺎﻋﺰ .وﻗﺪ ﻇﻬﺮ اﻟﺼﻮف
املﻨﺴﻮج ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﰲ ﺧﻼل اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ.
أﻣﱠ ﺎ املﻼﺑﺲ املﺼﻨﻮﻋﺔ ﻣﻦ أﺻﻮل ﻧﺒﺎﺗﻴﺔ ﻓﻜﺜرية ،أﻗﺪﻣﻬﺎ وأﻗﻠﻬﺎ ﺗﻨﻮﻋً ﺎ ﻫﻮ اﺳﺘﺨﺪام
اﻟﻌﺸﺐ ﰲ ﻋﻤﻞ املﺂزر ﰲ ﺟﺰر املﺤﻴﻂ اﻟﻬﺎدي ،وﻫﺬه املﺄزر ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ أﻋﺸﺎب ﺑﺼﻮرﺗﻬﺎ
م ﻳ َُﺸ ﱡﺪ إﱃ اﻟﺨﴫ .أﻣﱠ ﺎ ﻧﺴﻴﺞ ﻟﺤﺎء اﻟﺸﺠﺮ Bark cloth اﻟﻌﺎدﻳﺔ ،ﺗُﺠﻤَ ﻊ وﺗُﺮﺑَﻂ إﱃ ﺣﺰا ٍ
ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﺷﺎﺋﻌً ﺎ ﰲ املﻨﺎﻃﻖ املﺪارﻳﺔ وﺧﺎﺻﺔ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وﺟﻨﻮب ﴍق آﺳﻴﺎ .وﻃﺮﻳﻘﺔ ﺻﻨﻌﻪ
ﻮﺿﻊ ﺛﻼث ﻃﺒﻘﺎت ﻓﻮق ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺗﺘﻠﺨﺺ ﰲ ﻧﺰع ﻃﺒﻘﺎت ﻣﻦ ﻟﺤﺎء أﺷﺠﺎر ﻣﻌﻴﻨﺔ ،ﺛﻢ ﺗُ َ
ﺑﺤﻴﺚ ﻳﻜﻮن اﺗﺠﺎه ﻧﺴﻴﺞ اﻟﻠﺤﺎء ﰲ اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻣﻐﺎﻳ ًﺮا ﻟﻠﻄﺒﻘﺘني اﻟﺴﻔﲆ واﻟﻌﻠﻴﺎ،
ً
رﻗﻴﻘﺎ وﻳُﺒ ﱠﻠﻞ اﻟﻠﺤﺎء ﺛﻢ ﻳُﻄ َﺮق ﺑﺸﺪ ٍة ﺣﺘﻰ ﺗﻠﺘﺤﻢ اﻷﻧﺴﺠﺔ وﺗﺘﺪاﺧﻞ ،وﻳُﺼﺒﺢ اﻟﻨﺴﻴﺞ
و ُﻣﺘﱠ ِﺴﻌً ﺎ ،وﺗُﺼﻤَ ﻎ ﻗﻄﻊ اﻟﻨﺴﻴﺞ إﱃ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻟﻠﺤﺼﻮل ﻋﲆ ﻗﻄﻌﺔ ﻧﺴﻴﺞ ﻛﺒرية
ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﺼﻴﻠﻬﺎ ،وﻧﻈ ًﺮا ﻷن ﻫﺬا اﻟﻨﺴﻴﺞ ﻏري ﺻﺎﻟﺢ ﻟﻠﻘﺺ واﻟﺘﻔﺼﻴﻞ ﻟﻘﻠﺔ ﻣﺮوﻧﺘﻪ ،ﻓﺈﻧﻪ
ﻳُﺴﺘﺨﺪَم ﻋﺎد ًة ﰲ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺤﺎرة ﰲ ﺻﻮرة ﻣﻠﺤﻔﺔ ﻛﺒرية.
أﻣﱠ ﺎ اﻷﻧﺴﺠﺔ اﻟﻨﺒﺎﺗﻴﺔ املﻨﺘﴩة ﻋﺎملﻴٍّﺎ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ ﻓﻬﻲ املﻨﺴﻮﺟﺎت اﻟﻘﻄﻨﻴﺔ
ﱟ
ﺧﺎص، واﻟﻜﺘﱠﺎﻧﻴﺔ ،وﺗﺘﻄﻠﺐ ﻫﺬه املﻨﺴﻮﺟﺎت املﻌﺎﻟﺠﺔ ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻟﻐﺰل واﻟﻨﺴﺞ ﰲ ٍ
ﻧﻮل
وﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻗﺪ ﻧﺒﻌﺖ ﻣﻦ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻋﻤﻞ اﻟﺴﻼل ،ﻟﻜﻦ اﻟﻔﺎرق ﻫﻮ أن ﺧﻴﻮط اﻟﻐﺰل دﻗﻴﻘﺔ،
وﻟﻴﺲ ﻟﻬﺎ ﻗﻮا ٌم ﺛﺎﺑﺖ ﻛﺨﺎﻣﺔ اﻟﺴﻼل ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﺗﻄﻠﺒﺖ وﺟﻮد اﻟﻨﻮل .ورﻏﻢ أن اﻟﻐﺰل
ﻣﻌﺮوف ﰲ ﺟﻬﺎت اﻟﻌﺎﻟﻢ ﱠإﻻ أن اﻟﻨﺴﺞ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻛﺬﻟﻚ ،وﻟﻘﺪ ﻋُ ِﺮف اﻟﻨﻮل ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ
اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ واﻟﴩق اﻷوﺳﻂ واﻟﻬﻨﺪ ﻣﻨﺬ ﻓﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ ،وﻋُ ِﺮف ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻮﺳﻄﻰ ﺑني
٧٠٠–٦٠٠ﻣﻴﻼدﻳﺔ ،وﻟﻘﺪ ﺣﺪﺛﺖ ﺗﻄﻮرات ﻛﺜرية ﻋﲆ اﻟﻨﻮل اﻟﻴﺪوي وﻻ ﻳﺰال ﻟﻪ أﺷﻜﺎل
ﻛﺜرية إﱃ أن دﺧﻞ اﻟﻨﻮل اﻵﱄ املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻲ ﻣﺠﺎل اﻹﻧﺘﺎج.
362
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
ﻛﺜرية ﻣﻦ ﻏﻄﺎء اﻟﺮأس ،وﻟﻜﻦ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻷﻣﻴﺔ ﺗﺴري ﻋﺎرﻳﺔ اﻟﺮأس ،وﺗﺤﻞ أﺷﻜﺎل
وﺧﺎﺻﺔ ﺣﻴﺚ ﻻ ﻳﻜﻮن املﻨﺎخً ري ﻣﻦ اﻟﺒﺪاﺋﻴني ﻣﺤﻞ ﻏﻄﺎء اﻟﺮأس،
ﺗﺼﻔﻴﻒ اﻟﺸﻌﺮ ﻋﻨﺪ ﻛﺜ ٍ
ً
ﻣﺘﻄﺮﻓﺎ ﰲ اﻟﱪودة أو اﻟﺤﺮارة.
أﻣﱠ ﺎ اﻟﻨﻌﺎل واﻷﺣﺬﻳﺔ ﻓﻬﻲ أﻫ ﱡﻢ ﻛﺜريًا ﻣﻦ ﻏﻄﺎء اﻟﺮأس ﻣﻦ ﺣﻴﺚ وﻇﻴﻔﺔ اﻟﺤﻤﺎﻳﺔ اﻟﺘﻲ
ﺗﻌﻄﻴﻬﺎ ﻟﺘﺄﻣني ﺣﺮﻛﺔ اﻷﻓﺮاد ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﺈن املﻨﺎﻃﻖ املﻄرية اﻟﺤﺎرة ﻳﺴﻮدﻫﺎ اﻟﺤﻔﺎء؛
ﻧﻮع ﻣﻦ اﻷﺣﺬﻳﺔ ﺳﻮف ﻳﺆدي إﱃ ﺑﻠﻞ اﻷﻗﺪام ﻟﻔﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ .أﻣﱠ ﺎ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺒﺎردة ﻷن أي ٍ
اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻌﺮض ﻟﻐﻄﺎءات اﻟﺠﻠﻴﺪ ﺧﻼل اﻟﺸﺘﺎء ،ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗﺤﺘﱢﻢ اﻧﺘﻌﺎل أﺣﺬﻳﺔ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ﺳﻤﻴﻜﺔ
ﻃﻮﻳﻠﺔ ،ﺑﺤﻴﺚ ﺗﻐﻄﻲ ﺟﺰءًا ﻣﻦ اﻟﺴﺎق ،وﺗُﺼﻨَﻊ ﻫﺬه اﻷﺣﺬﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﺠﻠﺪ واﻟﻔﺮاء ﺑﺤﻴﺚ
ﻳﻜﻮن اﻟﻔﺮاء إﱃ اﻟﺪاﺧﻞ .وﻣﻦ املﻌﺘﻘﺪ أن ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻷﺣﺬﻳﺔ ﻗﺪ ﺻﻨﻌﻪ ﺳﻜﺎن
آﺳﻴﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ،واﻧﺘﻘﻞ ﻣﻦ ﻫﻨﺎك إﱃ اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ﰲ ﺷﻤﺎل أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ .وﻫﻨﺎك ً
أﻳﻀﺎ
أﻧﻮا ٌع ﻣﻦ اﻷﺣﺬﻳﺔ اﻟﺨﻔﻴﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﺼﻨَﻊ ﻣﻦ اﻟﻠﺒﺎد ﻋﻦ اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﰲ ﺷﻤﺎل أﻣﺮﻳﻜﺎ ،وﺗُﺴﻤﱠ ﻰ
»ﻣﻮﻛﺎﺳﺎن« ،وﻗﺪ اﻧﺘﻘﻠﺖ أﻧﻮاع اﻷﺣﺬﻳﺔ إﱃ أوروﺑﺎ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻻﻧﺘﺸﺎر ﺣﻀﺎري ﻣﻦ ﺷﻌﻮب
ﻋﺼﻮر ﻻﺣﻘﺔ ،واﻧﺘﴩ اﻟﺤﺬاء ٍ اﻟﺼﻴﺪ ﻣﻦ »اﻟﻔﻦ« اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﻴﺶ ﰲ ﺷﻤﺎل أوروﺑﺎ ﰲ
ﺟﻬﺎت ﻛﺜرية ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﻌﺪ اﻟﻜﺸﻮف اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ واﻟﺘﻮﺳﻊ اﻷوروﺑﻲ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺧﻼل ٍ ﰲ
اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ إﱃ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺮاﻫﻦ.
أﻳﻀﺎ أﻧﻮاع ﻣﻦ اﻟﻨﻌﺎل املﺤﻠﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮم ﺑﻮﻇﻴﻔﺔ وﻗﺎﻳﺔ اﻟﻘﺪم أﺛﻨﺎءوﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ً
أﺻﻼ ﻣﻦ ﻓﻜﺮة املﴚ .ﻓﻔﻲ ﻣﴫ واﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ ﻧﺸﺄ اﻟﺼﻨﺪل ،وﻓﻜﺮة اﻟﺼﻨﺪل ﻣﺴﺘﻤﺪﱠة ً
ﺻﻨﻊ اﻟﺴﻼل واﻟﻨﺴﻴﺞ ،وﺑﺮﻏﻢ اﺧﺘﻼف ﺧﺎﻣﺔ وﺷﻜﻞ اﻟﺠﻠﺪ املﺘﺪاﺧﻞ ﱠإﻻ أﻧﻪ ﻛﺎن وﻣﺎ زال
ﻄﺎ ﺑﺎﻟﻄﻘﺲ اﻟﺤﺎر اﻟﻘﻠﻴﻞ اﻟﺮﻃﻮﺑﺔ .وﻛﺬﻟﻚ ﻫﻨﺎك أﻧﻮاع ﻣﻦ اﻟﻨﻌﺎل اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﻣﺮﺗﺒ ً
اﻟﺒﺪو ﻟﻠﺘﺤﺮك ﻓﻮق اﻟﺮﻣﺎل ،وأﻧﻮاع أﺧﺮى ﻋﻨﺪ رﻋﺎة اﻟﺠﺒﺎل )ﻣﺜﻞ ﻧﻌﺎل اﻟﱪﺑﺮ ﰲ ﺷﻤﺎل
أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ( ،وﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ ﺗﻌﺪﱠت اﻷﺣﺬﻳﺔ واﻟﻨﻌﺎل وﻇﻴﻔﺔ اﻟﺤﻤﺎﻳﺔ ،ﺣﺘﻰ أﺻﺒﺤﺖ ً
أﻳﻀﺎ
ﺟﺰءًا ﻣﻦ اﻹﻧﺘﺎج اﻟﺠﻤﺎﱄ ﻟﻠﻤﻼﺑﺲ واﻟﻘﺒﻌﺎت ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﺗﺘﻌﺪد اﻷﺷﻜﺎل وﺗﺘﻐري »املﻮﺿﺎت«
ﺑﴪﻋﺔ ﰲ املﻼﺑﺲ ﻛﺎﻓﺔ.
363
اﻹﻧﺴﺎن
ﻋﺎﻣﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺪاﺋﻴني واملﺘﻘﺪﻣني ﻋﲆ ﺣ ﱟﺪ ﺳﻮاء ،ﻓﺄﺻﺒﺢ اﻟﺮأس رﻣ ًﺰا ﻋﲆ ً أﻫﻤﻴﺔ اﻟﺮأس
اﻟﻌﺰة واﻟﻔﺨﺮ أو ﻋﲆ املﺬﻟﺔ واﻟﺴﻘﻮط ﰲ املﻤﺎرﺳﺎت اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ ﻟﻠﺸﻌﻮب ﰲ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻷﺣﻮال،
ﻄﻰ ﻟﻠﻮﺟﻪ أو اﻟﻌﻴﻮن واﻟﺸﻔﺎه … إﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺠﻤﺎﻟﻴﺔ واﻟﻔﻨﻴﺔ واﻟﻌﺎﻃﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﻌ َ
إﻟﺦ.
وإذا ﻛﺎن اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺰﻳﻨﺔ اﻟﺮأس واﻟﻮﺟﻪ ﻋﻨﺪ اﻟﺮﺟﺎل ﻗﺪ ﻗ ﱠﻞ ﻛﺜريًا ﰲ اﻟﺤﻀﺎرات
اﻟﻌﻠﻴﺎ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺑﺮزت املﺮأة واﺣﺘﻠﺖ اﻟﺼﺪارة ﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل ،ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ذﻟﻚ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻋﻨﺪ
اﻟﺸﻌﻮب اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ واملﻌﺎﴏة .وﺑﺮﻏﻢ أﻧﻨﻲ ﻟﺴﺖ ﺗﻄﻮرﻳٍّﺎ ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﺤﺮﰲ ،ﱠإﻻ أﻧﻨﻲ
أﻋﺘﻘﺪ أن ﻫﺬا اﻟﺘﻐري ﰲ زﻳﻨﺔ اﻟﺮﺟﺎل ﺳﺒﺒﻪ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺤﻀﺎري ﻣﻦ ﻣﺮﺣﻠﺔ املﺠﺘﻤﻊ اﻷﻣﻮي
إﱃ اﻟﺴﻴﺎدة اﻷﺑﻮﻳﺔ )ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﻮﺣﺸﻴﺔ إﱃ اﻟﱪﺑﺮﻳﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﺘﻄﻮرﻳني(.
ﻓﻔﻲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ واملﺠﺘﻤﻌﺎت اﻷﻣﻮﻳﺔ اﻋﺘﻤﺪ اﻟﺮﺟﺎل ﻛﺜريًا ﻋﲆ اﻟﺘﺰﻳﻦ ﻻﻛﺘﺴﺎب
ري ﻣﻦ اﻹﻧﺎث ،وﻟﻜﻨﻨﺎ ﻻ ﺟﺎذﺑﻴﺔ أﻛﱪ أﻣﺎم اﻟﻔﺘﻴﺎت ،وﰲ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺤﻴﻮان ﻧﺠﺪ اﻟﺬﻛﻮر أﺟﻤﻞ ﺑﻜﺜ ٍ
ﺟﺪل ﻋﻘﻴ ٍﻢ ،وﻻ ﻧﺮﻳﺪ أن ﻧﻀﻊ اﻹﻧﺴﺎن ﰲ ﺻﻮرة ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﻴﻮان. ﻧﺮﻳﺪ أن ﻧﺪﺧﻞ ﰲ ٍ
واﻟﺨﻼﺻﺔ أن اﻷب ﰲ ﻧﻈﺎم املﺠﺘﻤﻊ اﻷﻣﻮي ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻪ وﻷﴎﺗﻪ اﻟﺘﻲ ﻳﻜﻮﱢﻧﻬﺎ اﺳﺘﻘﻼل
اﻗﺘﺼﺎدي ،ﺑﻞ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﻴﺎدة ﻣﻌﻄﺎة ملﺠﻤﻮﻋﺔ ﻧﺴﺐ اﻟﺮﺣﻢ ،وﺣﻴﻨﻤﺎ ﺗﺤﻮﱠل املﺠﺘﻤﻊ إﱃ
ﺳﻴﺎدة اﻷب ﰲ اﻟﻨﻈﺎم اﻷﺑﻮي أﺻﺒﺢ ﻟﻸﴎة اﺳﺘﻘﻼﻟﻬﺎ وﻛﻴﺎﻧﻬﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدي داﺧﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ
أﻳﻀﺎ إﱃ ﻧﻈﺎم ﺗﻌﺪد اﻟﺰوﺟﺎت ،وﺑﺬﻟﻚ أﺻﺒﺢ ﻧﺴﺐ اﻟﻌﺼﺐ .ﻛﻤﺎ أدى اﻟﻨﻈﺎم اﻷﺑﻮي ً
ﺗﻐري ﰲ ﻣﻔﻬﻮمﻟﻠﺮﺟﻞ أﻫﻤﻴﺔ أﻛﱪ ﻣﻦ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻪ ﰲ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ؛ ﻣﻤﺎ ﺗﺮﺗﺐ ﻋﻠﻴﻪ ﱡ
ﺧﺎﺻ ًﺔ ﻟﻜﻲ
ﱠ اﻟﺰﻳﻨﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺬﻛﻮر .وﻋﲆ اﻟﻌﻜﺲ ،أﺻﺒﺢ اﻫﺘﻤﺎم املﺮأة ﺑﺰﻳﻨﺘﻬﺎ ﴐور ًة
ﺗﻜﻮن أﻛﺜﺮ ﺟﺎذﺑﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ ﺗﻐري ﻧﻤﻂ وﻣﻔﻬﻮم اﻟﺰﻳﻨﺔ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻮ ﻛﻞ ﳾء؛ ﻓﺈن ﻋﺪدًا ﻣﻦ
ً
وﺧﺎﺻﺔ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻗﺪ ﻃﻮﱠر ﻋﺪدًا ﻛﺒريًا ﻣﻦ املﻔﺎﻫﻴﻢ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻷﺑﻮﻳﺔ،
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ املﺘﻄﺮﻓﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺘﺺ ﺑﺴﻴﺎدة اﻷب وﺳﻴﻄﺮﺗﻪ اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ
ﻋﲆ أﻋﻀﺎء أﴎﺗﻪ؛ ﺑﺤﻴﺚ أﺻﺒﺢ اﻷب ﻫﻮ املﺤﻮر اﻟﺬي ﻳﺪور ﺣﻮﻟﻪ اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ.
ري ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ اﻷﺑﻮﻳﺔ املﻌﺎﴏة ﻻ ﻧﺠﺪ ﻫﺬه اﻟﺴﻴﻄﺮة املﺘﻄﺮﻓﺔ وﰲ ﻋﺪدٍ ﻛﺒ ٍ
ﻟﻸب ،وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻳﺤﺪث ﺗﻐري ﻣﺸﺎﺑﻪ ملﺎ ﺣﺪث ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،وﻣﺎ
زﻟﻨﺎ ﻧﺠﺪ اﻟﺮﺟﺎل ﰲ ﻫﺬه املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻳﺘﺰﻳﻨﻮن ،وﻟﻌ ﱠﻞ ذﻟﻚ راﺟ ٌﻊ إﱃ أن اﻻﻧﺘﻘﺎل اﻟﺘﺎم إﱃ
ﺳﻴﻄﺮة اﻷب ﻟﻢ ﻳﺤﺪث ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،ﻓﺎﻟﻜﺜريُ ﻣﻦ ﻫﺬه املﺠﺘﻤﻌﺎت ﺗﻤﺎرس ﻧﻈﺎم زواج أﻣﻮي
املﻜﺎن أو ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﺧﻼل اﻟﻔﱰة اﻷوﱃ ﻣﻦ اﻟﺰواج.
وﻋﲆ أي اﻟﺤﺎﻻت ،ﻓﺈن زوال اﻟﺘﻄﺮف ﰲ ﺳﻴﻄﺮة اﻷب وﻧﻤﻮ املﺴﺎواة ﺑني اﻟﺠﻨﺴني
ﺑﻘﺪر ﻣﻌني؛ ﻓﺎﻟﺸﻮارب ﻛﺎﻧﺖ ٍ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ﻗﺪ أدﱠى إﱃ إﻋﺎدة اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺰﻳﻨﺔ اﻟﺮﺟﺎل
364
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
رﻣ ًﺰا ﻟﻠﺮﺟﻮﻟﺔ ﰲ ﻓﱰة ،وﻛﺬﻟﻚ أﺷﻜﺎل اﻟﻠﺤﻴﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﺛﻢ أﺻﺒﺢ اﻟﻮﺟﻪ اﻟﺤﻠﻴﻖ ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ
اﻟﺰﻳﻨﺔ ،ﺑﺮﻏﻢ أن ذﻟﻚ ﻳﻘ ﱢﺮب اﻟﺮﺟﺎل ﻣﻦ اﻟﻨﺴﺎء .وﻧﺤﻦ ﻧﻌﺎﴏ اﻵن ﻓﱰة ﺗﻘﺎرب ﺷﺪﻳﺪ ﺑني
اﻟﺠﻨﺴني ﰲ زﻳﻨﺔ اﻟﺮأس واملﻼﺑﺲ ،وﻟﻌ ﱠﻞ ﻫﺬا ﺳﺒﺒﻪ اﻻﺳﺘﻘﻼل اﻻﻗﺘﺼﺎدي اﻟﺬي ﺑﺪأت املﺮأة
ﺗﺘﻤﺘﻊ ﺑﻪ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﻌﻮد ﺑﺎﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻣﺮة أﺧﺮى إﱃ ﻋﺪم ﻇﻬﻮر اﻟﺪور اﻻﻗﺘﺼﺎدي
ﺑﺪور ﺣﺎﺳ ٍﻢ ﰲ اﻷﴎة ،وإن اﺧﺘﻠﻒ ﺗﺮﻛﻴﺐ اﻷﴎة ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻤﱠ ﺎ ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻪ ﰲ اﻟﻨﻈﺎم ٍ ﻟﻠﺮﺟﻞ
اﻷﻣﻮي.
وﻳﺤﺘﻞ ﺗﺼﻔﻴﻒ اﻟﺸﻌﺮ أﻫﻤﻴﺔ ﻛﱪى ﻋﻨﺪ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻨﺬ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ ،وﻟﻌﻞ
اﻟﺘﻤﺎﺛﻴﻞ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﻋُ ﺜِﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻨﺬ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻷﻋﲆ ،وﺧﺎﺻﺔ ﺗﻤﺜﺎل ﻓﻴﻨﻮس
ﻓﻴﻠﻨﺪورف Venus of Willendorfاﻟﺬي ﻳﺮﺟﻊ إﱃ ﺣﻮاﱄ ﻋﴩﻳﻦ أﻟﻒ ﺳﻨﺔ ﻣﻀﺖ
)اﻟﺤﻀﺎرة اﻷورﻧﻴﺎﺳﻴﺔ( ،وﰲ ﻫﺬا اﻟﺘﻤﺜﺎل أﻋﻄﻰ املﺜﱠﺎل اﻫﺘﻤﺎﻣً ﺎ واﺿﺤً ﺎ ﻟﺘﺼﻔﻴﻒ اﻟﺸﻌﺮ
ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي أدﻣﺞ ﻓﻴﻪ ﻣﻤﻴﺰات اﻟﻮﺟﻪ .وﺗﺼﻔﻴﻒ اﻟﺸﻌﺮ ﻣﺎ زال أﻣ ًﺮا ﺷﺎﺋﻌً ﺎ ﺑني اﻟﺒﺪاﺋﻴني
املﻌﺎﴏﻳﻦ وﺑني أﻋﻀﺎء اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﺮاﻫﻨﺔ.
وإﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻷﻫﻤﻴﺔ اﻟﺠﻤﺎﻟﻴﺔ ﻟﻄﺮق ﺗﺼﻔﻴﻒ اﻟﺸﻌﺮ ،ﻓﺈن ﻟﺸﻜﻞ اﻟﺸﻌﺮ وﻃﺮﻳﻘﺔ
ري ﻣﻦ اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وأﻣﺮﻳﻜﺎ ﻗﺼﻪ وﺗﺼﻔﻴﻔﻪ وﻇﻴﻔﺔ ﺣﻀﺎرﻳﺔ؛ ﻓﻌﻨﺪ اﻟﻜﺜ ٍ
ﻧﺠﺪ أن اﻷﻃﻔﺎل ﻳﺤﻠﻘﻮن ﺷﻌﺮ اﻟﺮأس ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء ﺧﺼﻠﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ،وﻳﺪل ﻣﻜﺎن اﻟﺨﺼﻠﺔ
أﺣﻴﺎن ﻛﺜرية ﻋﲆ ﻋﺸرية اﻟﻄﻔﻞ ،وﻋﻨﺪ اﻟﺒﻠﻮغ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳُﱰَك اﻟﺸﻌﺮ ٍ وﻃﺮﻳﻘﺔ ﻋﻘﺼﻬﺎ ﰲ
أﻳﻀﺎ .ﻓﻌﻨﺪ ﻗﺒﺎﺋﻞ أوﻣﺎﻫﺎ )أﻣﺮﻳﻨﺪ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ( ﻳُﺤ َﻠﻖ رأس اﻟﺮﺟﻞ ﻳﻨﻤﻮ أو ﻳُﺤ َﻠﻖ ً
ﻂ واﺣ ٍﺪ ﻣﻦ اﻟﺸﻌﺮ ﰲ أﻋﲆ اﻟﺮأس ﻣﻦ اﻟﺠﺒﻬﺔ إﱃ ﻣﺆﺧﺮ اﻟﺮأس .وﻋﻨﺪ أﻃﻔﺎﻟﻨﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﺪا ﺧ ﱟ
ﻣﻌﻘﻮﺻﺎ ﰲ ﺷﻜﻞ اﻟﻀﻔﺎﺋﺮ املﻌﺮوﻓﺔ ،وﺑﻌﺪ ً ً
ﻣﺮﺳﻼ أو املﻌﺎﴏﻳﻦ ﺗﱰك اﻟﺒﻨﺎت ﺷﻌﺮﻫﺎ
أن ﺗﺼﺒﺢ ﺷﺎﺑﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺼﻔﻒ ﺷﻌﺮﻫﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﺤﻼق ،وﰲ ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت املﻌﺎﴏة
ﻄﻲ ﺷﻌﺮﻫﺎ .وﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﺗﺼﻔﻴﻒ اﻟﺸﻌﺮ ﻋﻨﺪ ﺗﺼﻔﻒ اﻟﻔﺘﺎة ﺷﻌﺮﻫﺎ ،وﺣﻴﻨﻤﺎ ﺗﺘﺰوج ﺗﻐ ﱢ
اﻟﺒﺪاﺋﻴني دﻻﻟﺔ ﻋﲆ ﻣﺮﻛﺰ اﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻣﻌني ،وﻋﻨﺪ زﻧﻮج اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ ﻳﺴﻌﻰ
اﻟﺰﻧﻮج إﱃ ﻓﺮد اﻟﺸﻌﺮ وإزاﻟﺔ اﻟﺘﺠﻌﺪات اﻟﺸﺪﻳﺪة؛ ﻷن اﻟﺸﻌﺮ املﺴﺘﻘﻴﻢ أو املﻤﻮج )ﻋﻨﺪ
اﻟﺒﻴﺾ( رﻣﺰ إﱃ املﺮﻛﺰ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ اﻷﻋﲆ .وﻃﺮق ﺗﺼﻔﻴﻒ اﻟﺸﻌﺮ ﻛﺜرية وﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﺨﻴﺎل
واﻻﺑﺘﻜﺎر أن ﻳﺠﻌﻠﻬﺎ ﻻ ﻣﺘﻨﺎﻫﻴﺔ .وﻋﻨﺪ زﻧﻮج أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وﻣﻴﻼﻧﻴﺰﻳﺎ ﻳُﻀﺎف إﱃ اﻟﺸﻌﺮ ﻣﻮاد
أﺣﻴﺎن ﻛﺜرية ﺗُﺴﺘﺨﺪَم اﻟﺤﻤﺮة وروث املﺎﺷﻴﺔ ﻟﻬﺬا ٍ أﺧﺮى ﻟﺘﺜﺒﻴﺖ اﻟﺸﻜﻞ اﻟﺠﺪﻳﺪ .وﰲ
اﻟﻐﺮض ،وﻟﺼﻌﻮﺑﺔ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺘﺸﻜﻴﻞ ﻓﺈن ﻛﺜريﻳﻦ ﻣﻦ اﻟﺒﺪاﺋﻴني ﻳﻨﺎﻣﻮن ﻣﻨﺒﻄﺤني
ﺧﻮﻓﺎ ﻣﻦ ﺗﺸﻮﻳﻪ ﺷﻜﻞ اﻟﺸﻌﺮ ،واﺧﱰع ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ املﺴﺎﻧﺪ ﻟﻠﺮﻗﺒﺔ ً
أﻳﻀﺎ ﻋﲆ ﺑﻄﻮﻧﻬﻢ ً
365
اﻹﻧﺴﺎن
ﻟﻠﻐﺮض ﻧﻔﺴﻪ؛ إذ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻨﺎﻣﻮن ﻋﲆ ﻇﻬﻮرﻫﻢ .وﻟﻘﺪ اﺷﺘﻬﺮ املﴫﻳﻮن اﻟﻘﺪﻣﺎء ﺑﺎﻟﻀﻔﺎﺋﺮ
اﻟﻜﺜرية اﻟﺮﻓﻴﻌﺔ .وﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ ﻧﺠﺪ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﻀﻔﺎﺋﺮ ﺳﻤﺔ ﻣﻤﻴﺰة ﻟﻨﺴﺎء واﺣﺔ
أﻳﻀﺎ —ﺳﻴﻮة واﻟﱪﺑﺮ ،واﻟﻜﺜريﻳﻦ ﻣﻦ ﻋﺮب اﻟﺴﻮدان اﻟﺸﻤﺎﱄ واﻷوﺳﻂ ،وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ً
ﻣﻊ وﺟﻮد اﻷدﻟﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ — أن ﻧﺘﺘﺒﻊ ﻃﺮق ﺗﺼﻔﻴﻒ اﻟﺸﻌﺮ واﻧﺘﻘﺎل ﻫﺬه اﻟﻄﺮق ﻣﻦ
ﻣﻜﺎن إﱃ آﺧﺮ ﻋﲆ املﺴﺘﻮى اﻟﺰﻣﻨﻲ.
وﺗﻤﺜﻞ ﻣﺴﺎﺣﻴﻖ اﻟﺘﺠﻤﻴﻞ واﻟﻌﻄﻮر )اﻟﻜﻮزﻣﺎﺗﻴﻚ( ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻛﺒرية ﻣﻦ اﻻﺑﺘﻜﺎرات
اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺑﻐﻴﺔ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﻣﺴﺘﻮى ﺟﻤﺎﱄ ﻣﻌني ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﺑﻌﺾ اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ اﻟﺘﻲ
ﺗﺮﺗﺒﻂ ﺑﻬﺬه املﺴﺎﺣﻴﻖ ،وﻫﻲ ﺷﺎﺋﻌﺔ اﻻﺳﺘﺨﺪام ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺪاﺋﻴني واملﺘﻘﺪﻣني ً
أﻳﻀﺎ6 .
6ﺗﺪل اﻷرﻗﺎم ﻋﲆ أن اﻷﻣﺮﻳﻜﺎن ﻳﻨﻔﻘﻮن ﰲ اﻟﺴﻨﺔ اﻟﻮاﺣﺪة ﻣﺎ ﻳﻘﺮب ﻣﻦ ٧٠٠ﻣﻠﻴﻮن دوﻻر ﻋﲆ أدوات
ووﺳﺎﺋﻞ وﻣﻮاد اﻟﺘﺠﻤﻴﻞ.
366
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
ﻳﻐري اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ ﺷﺨﺺ ﻋﺎدي ﻣﺘﻤﺎﺛﻞ ﻣﻊ ﻏريه واﻻﺣﺘﻔﺎﻻت اﻟﺮﺳﻤﻴﺔ .واﻟﺘﻠﻮﻳﻦ ﻋﺎد ًة ﱢ
ﻣﻤﻴﺰ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻠﻮﻳﻦ .وﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻳﻠﻮﱢن املﺤﺎرﺑﻮن أﺟﺴﺎﻣﻬﻢ ﺑﺄﻟﻮان ﻣﻌﻴﻨﺔ، ٍ ﺷﺨﺺ
ٍ إﱃ
ﻃﺎ ﺑﻘﻮى ﺳﺤﺮﻳﺔ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻣﻦ املﻌﺘﻘﺪ أن اﻟﻐﺮض ﻣﻨﻪ ﺗﻘﻮﻳﺔ واملﻌﺘﻘﺪ أن ﻟﻬﺬا ارﺗﺒﺎ ً
ﻣﻌﻨﻮﻳﺎت املﺤﺎرب واﻹﻗﻼل ﻣﻦ ﻣﺨﺎوﻓﻪ ،وﻟﻴﺲ ﻹﻧﺰال اﻟﺮﻋﺐ ﰲ ﻗﻠﺐ اﻟﻌﺪو .وﻋﲆ ﻫﺬا
ﻓﺈن ﻟﻸﻟﻮان واملﺴﺎﺣﻴﻖ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺪاﺋﻴني وﻇﻴﻔﺔ رﻣﺰﻳﺔ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ اﻟﺠﻤﺎﻟﻴﺔ.
واملﺸﻜﻠﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﰲ ﺗﻠﻮﻳﻦ اﻟﻮﺟﻪ واﻟﺠﺴﻢ أن اﻟﺘﻠﻮﻳﻦ وﺳﻴﻠﺔ ﻏري ﺛﺎﺑﺘﺔ )وﻟﻮ أن
ذﻟﻚ ﻳﺘﻔﻖ ﻣﻊ اﻟﺘﻐريات املﺴﺘﻤﺮة ﰲ اﻷﻟﻮان واﻷﺻﺒﺎغ ﻋﻨﺪ ﻧﺴﺎء املﺠﺘﻤﻌﺎت املﻌﺎﴏة(.
وﻟﻬﺬا ﻇﻬﺮت ﻓﻜﺮة اﻟﻮﺷﻢ .Tatooingواﻟﻮﺷﻢ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ وﺧﺰ اﻟﺠﻠﺪ ﺑﺈﺑﺮ ﺗﺤﻤﻞ اﻟﻠﻮن
املﻄﻠﻮب — ﻏﺎﻟﺒًﺎ اﻷﺳﻮد أو اﻷزرق — وﻳﺘﺨﺬ اﻟﻮﺷﻢ ﻧﻤﺎذج ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ دواﺋﺮ ﻛﺎﻣﻠﺔ أو
ﻣﺘﻘﺎﻃﻌﺔ وﻳُﻌﻤَ ﻞ ﻋﲆ اﻟﻮﺟﻪ واﻟﺠﺴﺪ .وأﺷﻬﺮ ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﻮﺷﻢ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ ﺗﱰﻛﺰ ﰲ
ً
وﺧﺎﺻﺔ ﺑني املﺂؤري ﰲ ﻧﻴﻮزﻳﻠﻨﺪا ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻛﺎن ﺷﺎﺋﻌً ﺎ إﱃ ﻓﱰة ﻏري ﺑﻌﻴﺪة ﻋﻨﺪ ﺑﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳﺎ،
دﻗﻴﻘﺎ وﻳﻤﺘﺪ ﻋﲆ ﻣﺴﺎﺣﺔ ﻛﺒرية ﻣﻦ اﻟﺠﺴﻢ واﻷﻃﺮاف د ﱠل ً اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني .وﻛﻠﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﻮﺷﻢ
ذﻟﻚ ﻋﲆ ﻣﺮﻛﺰ اﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻣﺮﻣﻮق .وﻣﺎ زال اﻟﻮﺷﻢ ﻳُﻤﺎ َرس ﻋﻨﺪ اﻷﻣﻴني واﻟﻔﻘﺮاء واﻟﺒﺤﱠ ﺎرة
واﻟﺠﻨﻮد ﰲ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ املﻌﺎﴏة ،ﻟﻜﻨﻪ ﻳﻘﺘﴫ ﻋﺎد ًة ﻋﲆ ﺟﺰءٍ ﻣﻦ اﻟﺠﺴﻢ واﻟﻮﺟﻪ؛
ﻣﺜﻞ اﻟﺴﺎﻋﺪ واﻟﻮﺟﻨﺘني أو اﻟﻈﻬﺮ أو اﻟﺼﺪر .وﻣﻔﻬﻮم ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﻮﺷﻢ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ
اﻟﺤﺎﴐ ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻟﺮﺟﻮﻟﺔ واﻟﺸﺪة ،وﻟﻜﻨﻪ أﺻﺒﺢ »ﻣﻮﺿﺔ« ﻋﺘﻴﻘﺔ ﻣﺜرية ﻟﻠﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻨﻜﺎت
واﻟﺴﺨﺮﻳﺔ.
وإن ﻛﺎن اﻟﻮﺷﻢ ﻳﺤﻞ ﻣﺸﻜﻠﺔ ﺛﺒﺎت اﻟﻠﻮن ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺴﻤﺮاء واﻟﺒﻴﻀﺎء ،ﱠإﻻ أﻧﻪ
ﻟﻴﺲ ﻛﺬﻟﻚ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺴﻼﻟﺔ اﻟﺰﻧﺠﻴﺔ؛ ﺣﻴﺚ ﻻ ﻳﻈﻬﺮ ﻟﻮن اﻟﻮﺷﻢ ﻋﲆ اﻟﺠﻠﺪ اﻷﺳﻮد .وﻟﻬﺬا
ﻇﻬﺮت ﻋﻨﺪ ﻫﺆﻻء وﺳﻴﻠﺔ أﺧﺮى ﻫﻲ اﻟﺘﺸﻠﻴﺦ ،Sacrificationوﻫﻮ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ إﺣﺪاث
ﺑﺪﻻ ﻣﻦ وﺧﺰه ﺑﺎﻹﺑﺮ .وﻟﻜﻲ ﻻ ﻳﻠﺘﺤﻢ اﻟﺠﻠﺪ وﻹﺑﻘﺎء اﻷﺛﺮ اﻟﻮاﺿﺢ املﻄﻠﻮب؛ ﻗﻄﻊ ﰲ اﻟﺠﻠﺪ ً
ﻓﺈن اﻟﺠﺮح ﻳُﺪﻋَ ﻚ ﺑﻤﻮاد ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﺜﻞ اﻟﺮﻣﺎد ﻛﻲ ﻳﻈﻞ اﻟﺠﻠﺪ ﻣﻔﺘﻮﺣً ﺎ ﺑﻌﺪ أن ﻳﻨﺪﻣﻞ اﻟﺠﺮح.
ﻃﺎ ﻣﺘﻮازﻳﺔ ﻋﲆ ﻃﺎ ﻣﺘﻮازﻳﺔ أو ﻧﻘﺎ ً
وﻫﻨﺎك أﺷﻜﺎل ﻛﺜرية ﻣﻦ اﻟﺘﺸﻠﻴﺦ ،ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻳﺄﺧﺬ ﺧﻄﻮ ً
اﻟﺼﺪر واﻟﺠﺒﻬﺔ واﻟﻈﻬﺮ واﻟﻮﺟﻪ ،وﻳﻜﻮن اﻟﺘﺸﻠﻴﺦ ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﻃﻘﻮس اﻟﺒﻠﻮغ ﻋﻨﺪ اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ
اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ ،وﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺼﺒﺢ اﻟﺸﺎب ﻋﻀﻮًا ﰲ املﺠﺘﻤﻊ ﱠإﻻ إذا ﻣ ﱠﺮ ﺑﻬﺬه اﻟﻄﻘﻮس )ﺑﺮﻏﻢ
أﻧﻬﺎ ﻣﺆملﺔ( ،ﻛﻤﺎ أن ﺷﻜﻞ اﻟﺸﻠﻮخ ﻟﻪ وﻇﻴﻔﺔ إﻋﻄﺎء اﻟﺘﺒﻌﻴﺔ اﻟﻘﺒﻠﻴﺔ ﻟﻠﻔﺮد .وﰲ أوروﺑﺎ
ﰲ اﻟﻘﺮون املﺎﺿﻴﺔ ﻛﺎن ﻟﻠﺠﺮوح واﻟﻨﺪوب اﻟﻨﺎﺟﻤﺔ ﻋﻦ ﻣﻌﺎرك املﺒﺎرزة ﺑﺎﻟﺴﻴﻮف أﻫﻤﻴﺔ
ﺧﺎﺻﺔ؛ ﺣﻴﺚ إﻧﻬﺎ ﺗﺮﻣﺰ إﱃ اﻟﺸﺠﺎﻋﺔ واﻟﺒﺴﺎﻟﺔ واﻟﻔﺮوﺳﻴﺔ .وﻗﺪ اﺳﺘﺨﺪم ﺑﻌﺾ اﻟﺸﺒﱠﺎن
367
اﻹﻧﺴﺎن
اﻷملﺎن ﰲ املﺎﴈ ﻫﺬا اﻟﺮﻣﺰ ،ﻓﻜﺎﻧﻮا ﻳﺠﺮﺣﻮن أﻧﻔﺴﻬﻢ ﺑﻤﻮﳻ ﺛﻢ ﻳﺪﻋﻜﻮن اﻟﺠﺮح ﺑﺎملﻠﺢ ﻛﻲ
ﻳﻈﻞ اﻟﻨﺪب واﺿﺤً ﺎ ،وﻗﺪ ﻛﺎن ﻟﻬﺬا اﻹﺟﺮاء )ﻧﻮ ٌع ﻣﻦ اﻟﺘﺸﻠﻴﺦ( ﺟﺎذﺑﻴﺔ ﺟﻨﺴﻴﺔ ﻧﺎﺟﺤﺔ.
وإﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﻫﺬه اﻷﺷﻜﺎل ﻣﻦ اﻟﺰﻳﻨﺔ )املﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻟﺠﺴﻢ واﻟﻮﺟﻪ( ،ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻮﺟﺪ ً
أﻳﻀﺎ
أﻧﻮاع ﻋﺪﻳﺪة ﻣﻦ اﻟﺰﻳﻨﺔ املﻀﺎﻓﺔ إﱃ اﻟﺠﺴﻢ .وﻣﻦ أوﺿﺢ ﻫﺬه اﻟﺰﻳﻨﺔ املﻀﺎﻓﺔ :اﻷﻗﺮاط،
واﻟﻌﻘﻮد ،واﻷﺳﺎور ،وﻋﻘﻮد اﻟﺨﴫ .وﻫﺬه اﻷﺷﻜﺎل ﻣﻦ اﻟﺰﻳﻨﺔ ﺗُﺼﻨَﻊ ﻣﻦ ﺧﺎﻣﺎت ﻣﺘﻌﺪدة:
اﻟﺨﺸﺐ – اﻟﻌﻈﺎم – اﻷﺻﺪاف – اﻟﺨﺮز – املﻌﺎدن )ﻧﺤﺎس – ﻓﻀﺔ – ذﻫﺐ – أملﺎس(.
ُﻮﺿﻊ ﰲ اﻷﻧﻒ )ﻋﻨﺪ أﺣﺪ ﺟﻨﺎﺣﻲ ﻓﺘﺤﺔ وﻣﺎ زال ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺪاﺋﻴني أﻧﻮا ٌع ﻣﻦ اﻟﺨﺰام ﻳ َ
ﻋﴢ ﺻﻐري ٌة أو ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﻈﺎم أوﱞ اﻷﻧﻒ أو اﻟﻔﺎﺻﻞ ﺑني اﻟﻔﺘﺤﺘني( ،وﻳُﺴﺘﺨﺪَم ﻓﻴﻪ
أﻳﻀﺎ اﻟﻔﺘﺤﺎت أو اﻟﺜﻘﻮب اﻟﺘﻲ ﺗُﺼﻨَﻊ ﰲ اﻵذان أو اﻟﺸﻔﺔ ﻟﻮﺿﻊ
ﺣﻠﻘﺎت ﻣﻌﺪﻧﻴﺔ ،وﻫﻨﺎك ً
أﻗﺮاص ﻣﻦ اﻟﺨﺸﺐ ﺻﻐرية أو ﻛﺒرية )ﺗﺼﻞ أﺣﻴﺎﻧًﺎ إﱃ ٢٠–١٥ﺳﻢ( ،وﻳﺆدي ذﻟﻚ إﱃ
إﻃﺎﻟﺔ ﻛﺒرية ﻟﻸذن أو اﻟﺸﻔﺎه .وﻗﺪ ﻛﺎن اﺧﱰاع اﻷﻗﺮاط اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﺨﺪم اﻟﻀﻐﻂ )ﺑﻮاﺳﻄﺔ
زﻧﱪك أو ﻣﺴﻤﺎر »ﻗﻼووظ«( ﰲ اﻟﻔﱰة اﻷﺧرية أﺛﺮه ﰲ إﻋﻔﺎء اﻟﺒﻨﺎت ﻣﻦ إﺣﺪاث اﻟﺜﻘﺐ
اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي ﰲ اﻷذن .وإﱃ ﺟﺎﻧﺐ ذﻟﻚ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك أﺷﻜﺎل ﻣﻦ اﻟﺘﺸﻮﻳﻬﺎت اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ املﺘﻌﻤﺪة
ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻟﻘﻴﻤﺔ اﻟﺠﻤﺎﻟﻴﺔ أو ﺑﻄﻘﻮس اﻟﺒﻠﻮغ .ﻣﺜﺎل ذﻟﻚ إﻃﺎﻟﺔ اﻟﺮأس ﻣﻨﺬ اﻟﻄﻔﻮﻟﺔ ،أو
املﺤﺎﻓﻈﺔ ﻋﲆ ﺣﺠﻢ ﺻﻐري ﻟﻸﻗﺪام ،أو اﻟﺨﺘﺎن ،أو إﺳﻘﺎط اﻷﺳﻨﺎن اﻷﻣﺎﻣﻴﺔ أو ﺑﺮدﻫﺎ
ﺑﺤﻴﺚ ﺗﺼﺒﺢ ﻣﺪﺑﺒﺔ ،أو ﺗﺴﻮﻳﺪ اﻷﺳﻨﺎن ﺑﺼﻔﺔ ﻣﺴﺘﻤﺮة )ﻋﻨﺪ اﻟﺒﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳني(؛ ﻷن اﻷﺳﻨﺎن
اﻟﺒﻴﻀﺎء ﻗﺒﻴﺤﺔ وﺗﺸﺒﻪ أﺳﻨﺎن اﻟﻜﻼب .وﻫﻜﺬا ﺗﺘﻌﺪد وﺗﺨﺘﻠﻒ وﺳﺎﺋﻞ املﻠﺒﺲ واﻟﺰﻳﻨﺔ ﻋﻨﺪ
ً
اﺧﺘﻼﻓﺎ واﺳﻌً ﺎ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻻﺧﺘﻼف اﻟﻘﻴﻢ اﻟﺠﻤﺎﻟﻴﺔ ،واﺧﺘﻼف اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ املﺠﺘﻤﻌﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ
وﺗﻄﻮر اﻻﺑﺘﻜﺎرات ﻋﻨﺪ اﻟﺤﻀﺎرات املﺨﺘﻠﻔﺔ.
) (4-3املﺴﻜﻦ
املﺴﻜﻦ واﺣﺘﻴﺎﺟﺎت اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ واﻟﺨﻠﻘﻴﺔ
ﻣﴣ ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎن ﻗﺮاﺑﺔ ﻣﻠﻴﻮن ﺳﻨﺔ ﻋﲆ ﺳﻄﺢ اﻟﻜﺮة اﻷرﺿﻴﺔ ،وﰲ ﺧﻼل ﻫﺬه اﻟﻔﱰة
اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ اﺳﺘﻄﺎع أن ﻳﺘﻘﺪم ﻛﺜريًا ﰲ ﻣﺠﺎﻻت ﻋﺪﻳﺪة ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة املﺎدﻳﺔ واملﻌﻨﻮﻳﺔ واﻟﻔﻜﺮﻳﺔ.
ﻟﻘﺪ اﺳﺘﻄﺎع أن ﻳﻄﻮﱢر ﻃﺎﻗﺘﻪ ﻣﻦ اﻟﻄﺎﻗﺔ اﻟﻌﻀﻠﻴﺔ إﱃ اﻟﻄﺎﻗﺔ اﻟﻨﻮوﻳﺔ ،وأن ﻳﻤ ﱠﺪ ﻣﺠﺎل
ﻧﻔﻮذه اﻟﻔﻌﱠ ﺎل ﻣﻦ ﻣﺮﻣﻰ اﻟﺤﺠﺮ إﱃ اﻟﻜﻮاﻛﺐ وﻓﻀﺎء اﻟﻜﻮن .واﺳﺘﻄﺎع أن ﻳﺘﻐﻠﺐ ﻋﲆ اﻟﻜﺜ ِ
ري
ﺣﻘﻮل ﻻ ﻧﻬﺎﺋﻴﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ
ٍ ﻣﻦ املﺸﻜﻼت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺑﺎﻟﺘﻨﻈﻴﻢ واﻟﺘﻘﻨني ،وأن ﻳﻤ ﱠﺪ أﻓﻜﺎره إﱃ
368
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
369
اﻹﻧﺴﺎن
أو إﱃ ﺑﻨﺎء ﻣﺄوى ﻳﻜﻔﻲ ﻣﺘﻄﻠﺒﺎت اﻷﻣﺎن ﺿﺪ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ واﻷﻋﺪاء ﻣﻌً ﺎ .وﻗﺪ ﻇﻬﺮ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا
ﻜﺮا ﻧﺴﺒﻴٍّﺎ ،وﻟﻌﻠﻪ ﻳﺮﺟﻊ إﱃ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻷﻋﲆ7 .
املﺴﻜﻦ ﻣﺒ ﱢ ً
ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﺣﺴﺐ ﻧﻮع ٍ ﻓﺈذا ﻣﺎ وﺻﻞ اﻹﻧﺴﺎن إﱃ ﻫﺬا اﻟﺸﻜﻞ ﻣﻦ اﻟﺴﻜﻦ املﺸﻴﱠﺪ ﺑﻤﻮادٍ
اﻟﺤﻀﺎرة وﻧﻮع اﻟﺨﺎﻣﺔ اﻟﺴﺎﺋﺪة؛ ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﺠﺪ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ اﻟﺘﺎرﻳﺦ املﺒﻜﺮ أي ﺗﻘﺪم ﻣﻠﺤﻮظ
ﰲ ﺟﻮﻫﺮ املﺴﻜﻦ :ﺟﺪران وﺳﻘﻒ ﰲ ﺻﻮرة ﻣﺮﺑﻊ أو ﻣﺴﺘﻄﻴﻞ ،ﻟﻜﻦ اﻟﺤﻮاﺋﻂ املﺴﺘﺪﻳﺮ
أو اﻟﺒﻴﻀﺎوﻳﺔ ﻛﺎﻧﺖ أﺳﺒﻖ ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ؛ ﻷن ﻓﻜﺮة اﻟﺘﻼﺣﻢ ﺑني ﺟﺪارﻳﻦ ﻳﺴريان ﰲ اﺗﺠﺎﻫني
ﻣﺨﺘﻠﻔني ﻓﻜﺮة أﻋﲆ ﻧﺴﺒﻴٍّﺎ .ﻓﻬﺬا املﺒﺪأ اﻟﺠﻮﻫﺮي ﻳﻜﻔﻲ اﻻﺣﺘﻴﺎج املﻄﻠﻮب ﻗﺪﻳﻤً ﺎ وﺣﺪﻳﺜًﺎ،
أﻳﻀﺎ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﻜﻔﻲ وﺣﺘﻰ ﺟﻮﻫﺮ أﻧﻮاع اﻷﺛﺎث ﻟﻢ ﻳﺘﻐري :املﻘﻌﺪ أو اﻟﴪﻳﺮ أو املﻮاﺋﺪ ،وذﻟﻚ ً
اﻻﺣﺘﻴﺎﺟﺎت اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎن ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﺮاﺣﺔ واﻻﺳﱰﺧﺎء .وﻟﻌ ﱠﻠﻨﺎ ﻧﻀﻴﻒ إﱃ ذﻟﻚ
أﻳﻀﺎ ﻋﺎﻣﻞ اﻟﻮراﺛﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ؛ ﻓﺈن اﻹﻧﺴﺎن ﻳﻘﴤ ﻓﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ ﰲ ﻣﺴﻜﻦ واﻟﺪﻳﻪ وﻳﻌﺘﺎد ً
ﻋﲆ ﻣﺨﻄﻂ اﻟﺴﻜﻦ واﻷﺛﺎث اﻋﺘﻴﺎدًا ﻳﺼﻌﺐ ﺗﻐﻴريه ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈن اﻟﺘﻄﻮر ﰲ ﻧﻮع املﺴﻜﻦ
وﻣﺨﻄﻄﻪ ﺗﻄﻮر ﺑﻄﻲء ﺟﺪٍّا ،ﻓﻬﻨﺎك ﺣﺠﺮات ﻟﻠﻨﻮم وﺣﺠﺮات ﻟﻼﺟﺘﻤﺎع .واﻟﴚء اﻟﺠﺪﻳﺪ
ﻛﻐﺮف ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ 8 .وﺣﺘﻰ ﻫﺬه اﻹﺿﺎﻓﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ — ٍ ﻴﻒ ﻫﻮ املﻄﺒﺦ واﻟﺤﻤﱠ ﺎماﻟﺬي أ ُ ِﺿ َ
وﺧﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻤﻄﺒﺦ — ﻳﻤﻜﻦ اﻻﺳﺘﻐﻨﺎء ﻋﻨﻬﺎ ﺣﺪﻳﺜًﺎ ﻟﻜﺜﺮة اﻷﻣﺎﻛﻦ اﻟﻌﺎﻣﺔ واﻟﺨﺎﺻﺔ
اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮم ﺑﻮﻇﻴﻔﺔ ﺗﻘﺪﻳﻢ اﻟﻐﺬاء .وﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل ﻳﺠﺐ أن ﻧﻼﺣﻆ أن اﻧﺘﺸﺎر املﻄﺎﺑﺦ
واﻟﺤﻤﺎﻣﺎت داﺧﻞ اﻟﺒﻴﻮت ﻗﺪ ارﺗﺒﻂ ﻛﺜريًا ﺑﺪﺧﻮل املﻴﺎه اﻟﺠﺎرﻳﺔ إﱃ املﺴﺎﻛﻦ ،وﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم
7د ﱠﻟﺖ اﻟﺪراﺳﺎت اﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺴﻮﻓﻴﺘﻴﺔ ﻋﲆ وﺟﻮد ﻣﺠﻤﻌﺎت ﺳﻜﻨﻴﺔ ﻛﺜرية ﻣﻦ املﺴﺎﻛﻦ املﺒﻨﻴﺔ ﺗﺮﺟﻊ
إﱃ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻷﻋﲆ .وﻫﻨﺎك ﻧﻮﻋﺎن ﻣﻦ ﻫﺬه املﺴﺎﻛﻦ؛ اﻷول :أﻛﻮاخ ﺻﻐرية ﻗﻴﺎﺳﺎﺗﻬﺎ ٤٫٥ × ٥٫٥
أﻣﺘﺎر ،واﻟﺜﺎﻧﻲ :ﻣﺴﺎﻛﻦ ﻣﺠﻤﻌﺔ ﻗﻴﺎﺳﺎﺗﻬﺎ ٥٫٦ × ٣٫٤أﻣﺘﺎر ﺗﺤﺘﻮي ﻋﲆ ﺛﻤﺎﻧﻴﺔ ﻣﻮاﻗﺪ ،وﻟﻌﻠﻬﺎ ﻣﺴﺎﻛﻦ
ﻋﺸرية ﺑﺄﻛﻤﻠﻬﺎ .راﺟﻊ.Childe, G. V., “Social Evolution”, London, Fontana, 1963, p. 79 :
8ﻛﺎن املﻄﺒﺦ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ وﻋﻨﺪ ﻛﺜ ٍ
ري ﻣﻦ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻣﻮﻗﺪًا ﺟﻤﺎﻋﻴٍّﺎ ،وﰲ ﺧﻼل اﻟﻌﺼﻮر
اﻟﻮﺳﻄﻰ وﰲ املﺪن اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻛﺎن املﻄﺒﺦ ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﺣﺠﺮة اﻻﺟﺘﻤﺎع ﰲ املﺴﻜﻦ )ﺣﺠﺮة اﻟﺠﻠﻮس( ،وﻛﺎن
ﻣﺠﺮد ﻣﻮﻗﺪ ﻳﻌﻄﻲ اﻟﺪفء وﻳُﻄﻬَ ﻰ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻄﻌﺎم ،وﻫﻮ ﻣﺎ زال ﻛﺬﻟﻚ ﰲ اﻟﺮﻳﻒ ﰲ أﻧﺤﺎء اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻛﺬﻟﻚ
ﻋﺎد املﻄﺒﺦ ﰲ اﻷﺑﻨﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﰲ املﺪن اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص ،وﻣﺪن اﻟﺪول املﺘﻘﺪﻣﺔ ﻋﺎﻣﺔ ،ﻋﺎد
إﱃ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﺟﺰء ﻣﻦ ﺣﺠﺮة اﻻﺟﺘﻤﺎع ،أﻣﱠ ﺎ اﻟﺤﻤﺎم اﻟﺨﺎص ﺑﺎملﺴﻜﻦ ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻪ وﺟﻮد ﱠإﻻ ﰲ أواﺧﺮ اﻟﻘﺮن
املﺎﴈ وأواﺋﻞ اﻟﻘﺮن اﻟﺤﺎﱄ ،وﻣﺎ زاﻟﺖ ﻛﺜريٌ ﻣﻦ اﻷﺑﻨﻴﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﰲ املﺪن اﻷوروﺑﻴﺔ ﻣﺜﻞ ﺑﺎرﻳﺲ وﻓﻴﻴﻨﺎ
ﺗﺨﻠﻮ ﻣﻦ ﺣﻤﱠ ﺎﻣﺎت ﺧﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﺸﻘﻖ ،أﻣﱠ ﺎ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ واﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ وﻣﻌﻈﻢ اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ ،ﻓﻘﺪ
ﻛﺎن اﻟﺤﻤﱠ ﺎم ﴐورﻳٍّﺎ وإن ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻮﺟﻮدًا ﱠإﻻ ﻋﻨﺪ ﻗﺼﻮر اﻷﻏﻨﻴﺎء.
370
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
ﻣﻦ إﻣﺪاد املﺒﺎﻧﻲ ﺑﺎملﻴﺎه ﻗﺪ ﻇﻬﺮ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺑﻮاﺳﻄﺔ أﻧﺎﺑﻴﺐ ﱠ
ﻓﺨﺎرﻳﺔ،
ﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ﻛﺎن ﻗﺎﴏً ا ﻋﲆ املﺒﺎﻧﻲ اﻟﻌﺎﻣﺔ أو ﻣﺒﺎﻧﻲ املﻠﻮك واﻟﻨﺒﻼء واﻷﻏﻨﻴﺎء ،وﰲ اﻟﻮﻗﺖ
ﻧﻔﺴﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ذﻟﻚ ﻳﻜﻮن ﺷﺒﻜﺔ ﻣﻴﺎه ،إﻧﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﻜﻞ ٍ
ﺑﻴﺖ ﻋﲆ ﺣﺪة.
وﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻧﻘﻮل إن ﺷﻜﻞ املﺴﻜﻦ ﰲ ﺟﻮﻫﺮه ﻟﻢ ﻳﺤﺪث ﻟﻪ ﺗﻐري
ﺟﺬري؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻜﻔﻲ اﻻﺣﺘﻴﺎﺟﺎت املﺎدﻳﺔ وﻣﻌﻈﻢ اﻻﺣﺘﻴﺎﺟﺎت اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎن.
371
اﻹﻧﺴﺎن
ﻧﻌﱪ ﻋﻦ ذﻟﻚ ﺑﺄن »اﻟﺨﺼﻮﺻﻴﺔ« املﺠﺘﻤﻊ ﻓﻴﻤﺎ ﻋﺪا ذﻟﻚ ﻣﻨﻔﺘﺤﺔ ﻋﲆ ﺑﻌﻀﻬﺎ ،وﻳﻤﻜﻦ أن ﱢ
ﺗﻜﻮن ﺟﺰءًا ﻣﻜﺎﻧﻴٍّﺎ ﺻﻐريًا داﺧﻞ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺘﺸﺎرﻛﻴﺔ.
وﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﺠﺰء اﻟﺨﺎص ﻗﺪ ﺗﻀﺨﻢ ﺑﺤﻴﺚ أﺻﺒﺢ ﻳﺸﻤﻞ ﻛﻞ املﺴﻜﻦ اﺑﺘﺪاءً ﻣﻦ ﻧﻤﻮ
اﻟﻨﻈﺎم اﻷﺑﻮي وﻧﻈﺎم ﺗﻌﺪد اﻟﺰوﺟﺎت ،وأﺻﺒﺢ املﺴﻜﻦ ﻣﻤﻠﻜﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﺣﺪودﻫﺎ ﺑﺎب أو
ﺑﻮاﺑﺔ ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﻠﻴﺎ ،أو ﺳﻮر ﻣﻦ اﻟﻨﺒﺎت اﻟﺸﻮﻛﻲ أو اﻟﻄني واﻟﺒﻮص ﰲ
املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻷﺑﻮﻳﺔ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ .وﻗﺪ ورﺛﺖ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم اﻷﺑﻮي وﻫﺬا اﻟﻨﻤﻂ
ﻣﻦ اﻟﺴﻜﻦ ،ﺣﺘﻰ ﺑﺮﻏﻢ ﺳﻘﻮط ﺟﻮﻫﺮه وأﺳﺎﺳﻪ :ﻧﻈﺎم ﺗﻌﺪد اﻟﺰوﺟﺎت.
ﻟﻜﻨﻨﺎ ﻧﺠﺪ ﺑﻌﺾ اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت اﻟﺠﺪﻳﺪة اﻟﺘﻲ ﺗﻐﺰو ﻓﻜﺮة اﻟﺨﺼﻮﺻﻴﺔ ﰲ أﻛﺜﺮ املﺠﺘﻤﻌﺎت
اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ ﺗﻘﺪﱡﻣً ﺎ ،ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﺑﺪأ ﻳﺤﺪث ﺗﻐري ﴎﻳﻊ ﰲ ﻧﻤﻂ اﻟﺤﻴﺎة اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ
ﰲ اﻟﻀﻮاﺣﻲ املﺪﻳﻨﻴﺔ ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ ،ﻓﻔﻲ ﻫﺬه اﻟﻀﻮاﺣﻲ ﻳﺤﺘﻞ املﺴﻜﻦ ﺟﺰءًا ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ
املﺤﻴﻄﺔ ،وﻳﺼﺒﺢ ﺑﺎب اﻟﺴﻜﻦ ﻣﻔﺘﻮﺣً ﺎ داﺋﻤً ﺎ ﰲ وﺟﻪ ﻛﻞ ﻗﺎد ٍم ﻣﻦ اﻟﺠريان .وﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ
ﻧﺠﺪ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻀﻮاﺣﻲ املﺪﻳﻨﻴﺔ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت ﻣﻨﻔﺘﺤﺔ ﻋﲆ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﰲ
أﺣﻴﺎن ﻛﺜرية ﺗﻌﺪﱠت ﻫﺬه اﻟﺘﺸﺎرﻛﻴﺔ اﻟﺤﺪود إﱃ ٍ ﺷﺘﱠﻰ أﺷﻜﺎل اﻟﺤﻴﺎة اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ )وﰲ
ً
ﻣﻨﻐﻠﻘﺎ أﻣﺎم اﻟﻐﺮﺑﺎء اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻟﺠﻨﺴني( ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا املﺠﺘﻤﻊ املﻨﻔﺘﺢ ﻋﲆ ﺑﻌﻀﻪ ﻳﺼﺒﺢ
ﻣﺜﺎﻻ ﻗﺮﻳﺐ اﻟﺸﺒﻪ ﺑﺎملﺴﻜﻦ اﻟﻄﻮﻳﻞ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﻀﻢ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل .أﻟﻴﺲ ﻫﺬا ً
ﻧﺴﺐ واﺣﺪة ﻳﻨﻔﺘﺢ ﻋﲆ ﻧﻔﺴﻪ وﻳﻨﻐﻠﻖ أﻣﺎم اﻟﻐﺮﺑﺎء؟! واﻟﻔﺮق ﻫﻨﺎ أن املﺠﺘﻤﻊ اﻟﺤﺪﻳﺚ
ﰲ اﻟﻀﺎﺣﻴﺔ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﻻ ﻳﺴﻜﻦ ﺑﻴﺘًﺎ واﺣﺪًا ،وﻳﺘﻜﻮن ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻣﻦ ﻋﻼﻗﺔ املﻜﺎن ﻻ ﻋﻼﻗﺔ
اﻟﻨﺴﺐ.
ﻓﺎﻟﻐﺎﻟﺐ إذن أن ﻓﻜﺮة »اﻟﺨﺼﻮﺻﻴﺔ« ﻗﺪ ﻧﺒﻌﺖ ﻣﻦ ﺗﺸﻜﻴﻞ ﺣﻀﺎري ﻣﺘﻜﺎﻣﻞ ،ﺗﻔﺎﻋﻠﺖ
ﻓﻴﻪ ﺳﻠﻄﺔ اﻷب واملﻠﻜﻴﺔ اﻟﻔﺮدﻳﺔ ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ »ﻣﻠﻜﻴﺔ« اﻟﻨﺴﺎء ﰲ ﺻﻮرة ﺗﻌﺪد اﻟﺰوﺟﺎت ،وأن
ﻫﺬا اﻟﺘﺸﻜﻴﻞ اﻟﺤﻀﺎري ﻗﺪ ﺑﺪأ ﻳﺘﻐري ﺑﺎﺳﺘﻘﻼل املﺮأة اﻗﺘﺼﺎدﻳٍّﺎ واﺟﺘﻤﺎﻋﻴٍّﺎ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت
املﺘﻘﺪﻣﺔ اﻟﺮاﻫﻨﺔ ،وﻋﻮدة اﻟﺠﻨﺴني إﱃ املﺴﺎواة اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﺎﺋﺪة ﻗﺒﻞ ﻧﻤﻮ ﺳﻠﻄﺔ اﻷب.
ﻄﺎ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴٍّﺎ ﺳﺎﺋﺪًا ،ﺣﺘﻰ وﻟﻮ وﻟﻘﺪ أﺻﺒﺢ ذﻟﻚ اﻟﺘﻜﺎﻓﺆ واﻟﺘﺴﺎوي ﺑني اﻟﺮﺟﻞ واملﺮأة ﻧﻤ ً
ﻟﻢ ﺗﻜﻦ املﺮأة ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ اﻗﺘﺼﺎدﻳٍّﺎ.
وﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻬﺬا اﻟﺘﻄﻮر؛ ﻓﺈن املﺴﻜﻦ ﻗﺪ ﻋﺎد ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ إﱃ اﻻﻧﻔﺘﺎح ،وﻋﺎدت
»اﻟﺨﺼﻮﺻﻴﺔ« ﺗﺤﺘﻞ رﻛﻨًﺎ ﺻﻐريًا ﻣﻦ وﻇﻴﻔﺔ املﻨﺰل .وﻳﺆدي ﻫﺬا اﻻﺗﺠﺎه اﻟﺠﺪﻳﺪ ً
أﻳﻀﺎ
إﱃ إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﺳﻘﻮط ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﻛﺎن املﺴﻜﻦ ﻳﻘﺪﱢﻣﻬﺎ ﻟﺮب اﻷﴎة
وأﻋﻀﺎﺋﻬﺎ ،وﺧﺎﺻﺔ إﻋﺪاد اﻟﻐﺬاء .وﻗﺪ أدت ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺘﻐﺎﻳﺮات اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﰲ
372
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
املﺠﺘﻤﻊ املﻌﻘﺪ ﰲ ﻣﺪن املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ ﺑﺒﻌﺾ ﻣﺨﻄﻄﻲ اﻟﻐﺪ — وﺧﺎﺻﺔ ﻣﻦ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني
— إﱃ اﻟﺘﺼﻮر ﺑﺄن ﻧﻈﺎم املﺴﺎﻛﻦ اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ )ﰲ ﺗﻠﻚ املﺪن اﻟﻜﱪى( ﺳﻮف ﻳﺘﻐري وﻳﺘﺨﺬ
ﻃﺎﺑﻌً ﺎ »ﻓﻨﺪﻗﻴٍّﺎ« أﻛﺜﺮ ﻣﻨﻪ »ﻣﻨﺰﻟﻴٍّﺎ« .وﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل ،ﻳﻨﻈﺮ ﻫﺆﻻء املﺨﻄﻄﻮن إﱃ املﻮﺿﻮع
ﻣﻦ زواﻳﺎ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ أﻫﻤﻬﺎ اﻟﺰاوﻳﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﺗﺠﻤﻴﻊ اﻟﺨﺪﻣﺎت املﻨﺰﻟﻴﺔ
املﺘﻌﺪدة ،وﺑﺬﻟﻚ ﺗﻘﻞ ﻧﺴﺒﺔ ﻛﺒرية ﻣﻦ اﻟﻔﺎﻗﺪ واﻟﻬﺪر اﻟﺤﺎﱄ ﰲ اﻟﺠﻬﺪ واملﺎل واﻟﺨﺪﻣﺎت
أﻳﻀﺎ زاوﻳﺔ أﺧﺮى ﻫﺎﻣﺔ ﻫﻲ ﺣﻞ ﻣﺸﻜﻠﺔﻣﻦ ﺟ ﱠﺮاء وﺟﻮد وﺣﺪات ﺳﻜﻨﻴﺔ ﺧﺎﺻﺔ ،وﻫﻨﺎك ً
اﻹﺳﻜﺎن اﻟﻀﺨﻤﺔ ﰲ املﺪن اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ اﻟﻜﺒرية ،ﻓﻬﻞ ﻳﻌﻨﻲ ذﻟﻚ أﻧﻨﺎ ﺳﻮف ﻧﻌﻮد ﻣﺮة أﺧﺮى
ﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻀﺎرات إﱃ ﻓﻜﺮة اﻟﺒﻴﺖ اﻟﻄﻮﻳﻞ ،وﻟﻜﻨﻪ ﰲ ﻫﺬه املﺮة ﺳﻴﺼﺒﺢ اﻟﺒﻴﺖ اﻟﺮأﳼ؟
وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻌﻤﻢ اﻟﺘﺴﺎؤل ﻣﺮة أﺧﺮى ﻓﻨﻘﻮل — ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل اﻟﺪﻳﺎﻟﻜﺘﻴﻜﻴﻮن — ﻫﻞ اﻟﺘﻄﻮر
ﰲ ﺑﻌﺾ أﺷﻜﺎل اﻟﺤﻀﺎرة ﻳﺴري ﰲ ﺷﻜﻞ ﺣﻠﺰوﻧﻲ ﻣﻦ أﺳﻔﻞ إﱃ أﻋﲆ؟
373
اﻹﻧﺴﺎن
وﻣﻨﺬ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻇﻬﺮت اﻟﺒﻴﻮت املﺒﻨﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﻄني ا ُملﻘﻮﱠى ﺑﺎﻟﺒﻮص أو
ﻣﻦ اﻟﻠ ِﺒﻦ )اﻟﻄﻮب ﻏري املﺤﺮوق( أو ﻣﻦ اﻟﻄﻮب .ﻛﺬﻟﻚ ﺷﺎع اﺳﺘﺨﺪام اﻟﺤﺠﺎرة ﰲ ﺑﻨﺎء
املﺴﺎﻛﻦ — ﺳﻮاء ﰲ ﺑﻴﻮت اﻟﺤﻔﺮ أو اﻟﺒﻴﻮت املﻘﺎﻣﺔ ﻓﻮق ﺳﻄﺢ اﻷرض .وﻣﻊ ﻇﻬﻮر اﻟﺒﻴﻮت
أﻳﻀﺎ ﺗﻄﻮ ًرا ﻳﺤﺪث ﻋﻨﺪ أوﻟﺌﻚاملﺴﺘﻘﺮة املﺒﻨﻴﺔ ﺑﺄﻧﻮاع اﻟﻄﻮب املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﺰ ﱠراع ،ﻧﺠﺪ ً
اﻟﺬﻳﻦ أﺻﺒﺢ اﻟﺮﻋﻲ املﺘﻨﻘﻞ ﺣﺮﻓﺘﻬﻢ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ،ﻓﻌﻨﺪ ﻫﺆﻻء ﻳﺼﺒﺢ املﺴﻜﻦ
ﻣﺘﻨﻘﻼ — أي ﻳُﺼﻨَﻊ ﻣﻦ ﻣﺎدة ﻳﻤﻜﻦ ﻧﻘﻠﻬﺎ ﻣﻊ ﺗﻨﻘﻠﻬﻢ — ﺳﻌﻴًﺎ وراء اﻟﻌﺸﺐ ً ً
أﻳﻀﺎ
واملﺎء .وﺑﺬﻟﻚ ﻇﻬﺮت أﻧﻮاع اﻟﺨﻴﺎم املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ ﺧﻴﺎم اﻟﺸﻌﺮ اﻟﺘﻲ ﻧﻌﺮﻓﻬﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺪو
ﰲ اﻟﺼﺤﺮاء اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ إﱃ ﺧﻴﺎم املﻐﻮل واﻟﱰﻛﻤﺎن اﻟﻀﺨﻤﺔ املﺼﻨﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻠﺒﺎد
واملﺴﻤﱠ ﺎة »ﻳﻮرت ،«Yurtوﻫﻲ أﻋﻈﻢ ﻣﺴﻜﻦ ﻣﺘﻨﻘﻞ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ املﺴﺎﺣﺔ واﻻرﺗﻔﺎع واﻟﺰﻳﻨﺔ
املﻀﺎﻓﺔ إﻟﻴﻬﺎ .وﻫﻨﺎك ﻧﻈريٌ ﻟﻬﺎ وﻟﻜﻨﻪ أﺻﻐﺮ ،ﻫﻲ اﻟﺨﻴﻤﺔ اﻟﺠﻠﺪﻳﺔ ﻋﻨﺪ ﺑﻌﺾ اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﰲ
أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ،وﺗُﺴﻤﱠ ﻰ »ﺗﻴﺒﻲ .«Tipi
وﻟﻢ ﺗﺨﺘﻠﻒ املﺴﺎﻛﻦ ﰲ ﺷﻜﻠﻬﺎ وارﺗﺒﺎﻃﻬﺎ ﺑﻨﻮع اﻟﻨﻈﺎم اﻻﻗﺘﺼﺎدي اﻟﺴﺎﺋﺪ ﻓﻘﻂ،
أﻳﻀﺎ ﰲ ﻣﺎدة ﺑﻨﺎﺋﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻻرﺗﺒﺎط ﺑﺎﻟﺨﺎﻣﺎت املﺘﺎﺣﺔ ﰲ اﻟﺒﻴﺌﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﺑﻞ اﺧﺘﻠﻔﺖ ً
ﻧﻘﺴﻢ املﺴﺎﻛﻦ ﻋﺎﻣﺔ إﱃ ﻗﺴﻤني ﻣﻦ ﺣﻴﺚ وإﻣﻜﺎﻧﺎت اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺒﴩﻳﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻳﻤﻜﻦ أن ﱢ
ﺗﻔﺎﻋﻞ :ﺧﺎﻣﺔ اﻟﺒﻨﺎء ،واﻹﻣﻜﺎﻧﺎت اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ .اﻟﻘﺴﻢ اﻷول :ﻫﻮ املﺴﻜﻦ املﺼﻨﻮع ﻣﻦ
اﻟﺨﺎﻣﺎت اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،واﻟﺜﺎﻧﻲ :ﻫﻮ املﺼﻨﻮع ﻣﻦ ﺧﺎﻣﺎت اﺻﻄﻨﺎﻋﻴﺔ .واﻟﻨﻮع اﻷول :ﻫﻮ
املﺴﺎﻛﻦ املﺼﻨﻮﻋﺔ ﻣﻦ أﻓﺮع اﻟﺸﺠﺮ واﻷﺧﺸﺎب واﻟﺤﺠﺎرة واﻟﻄني ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻤﺜﻞ املﺴﻜﻦ
املﺼﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﻠ ِﺒﻦ واﻟﻄﻮب واﻷﺳﻤﻨﺖ اﻟﻨﻮع اﻟﺜﺎﻧﻲ .وﰲ املﺠﻤﻮع ﻳﻤﺜﻞ اﻟﻔﺮع اﻷول اﻟﺨﺎﻣﺔ
ﺗﺪاﺧﻼ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ ،ﺑﻞ ﻋﻮدة ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن إﱃ اﺳﺘﺨﺪام ً اﻷﻗﺪم ،وﻟﻜﻦ ﻫﻨﺎك
اﻟﺨﺎﻣﺔ اﻷﻗﺪم ﻣﻦ أﺟﻞ أﺷﻜﺎل ﺟﻤﺎﻟﻴﺔ ﻣﺮﻏﻮﺑﺔ أو ﻣﻦ أﺟﻞ ﺑﻌﺾ اﻻﺳﺘﺨﺪاﻣﺎت اﻟﺨﺎﺻﺔ؛
ﻣﺜﻼ :ﺑﻴﻮت »وﺷﺎﻟﻴﻬﺎت« اﻟﺮﻋﺎة ﰲ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺠﺒﻠﻴﺔ اﻟﻌﻠﻴﺎ املﺼﻨﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺮ واﻟﺨﺸﺐ، ً
أو »ﺷﺎﻟﻴﻬﺎت« املﺼﺎﻳﻒ اﻟﺘﻲ ﺗُﺼﻨَﻊ ﻣﻦ ﺧﺎﻣﺎت ﺧﺸﺒﻴﺔ وﺟﺪاﺋﻞ اﻟﻘﺶ ،أو »ﺷﺎﻟﻴﻬﺎت«
اﻟﺼﻴﺪ اﻟﺨﺸﺒﻴﺔ ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﻐﺎﺑﺎت .ﻛﺬﻟﻚ ﻻ ﻳﻌﻨﻲ اﺳﺘﺨﺪام اﻟﺨﺎﻣﺎت اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ أو
ً
ﻓﺮوﻗﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﺘﺨﻠﻒ واﻟﺘﻘﺪم ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺘني اﻟﺠﻤﺎﻟﻴﺔ واﻟﻨﻔﻌﻴﺔ، اﻻﺻﻄﻨﺎﻋﻴﺔ أن ﻫﻨﺎك
ﺑﻞ ﻧﺠﺪ أﺣﻴﺎﻧًﺎ اﻟﻜﺜريَ ﻣﻦ املﺴﺎﻛﻦ املﺼﻨﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺨﺎﻣﺎت اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺪاﺋﻴني ﺟﻤﻴﻠﺔ
وﺧﺎﺻﺔ إذا ﻛﺎﻧﺖ املﺎدة اﻟﺨﺎم ﻃﻴﻌﺔ اﻟﺘﺸﻜﻴﻞ ﻣﺜﻞ اﻟﺨﺸﺐ ً اﻟﺘﺼﻤﻴﻢ وﻓﻨﻴﺔ اﻟﺘﻨﻔﻴﺬ،
املﺤﻔﻮر واملﻨﻘﻮر وا ُملﻄﻌﱠ ﻢ ﺑﺎملﻌﺎدن .واﻷﻣﺜﻠﺔ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻛﺜرية؛ ﻣﺜﻞ ﻣﺴﺎﻛﻦ اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﰲ
اﻟﺴﺎﺣﻞ اﻟﺸﻤﺎﱄ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻷﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ أﺣﺴﻦ ﺗﻠﻚ املﺴﺎﻛﻦ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﻮﺟﺪ ﰲ
374
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
ً
ﺧﺎﺻﺔ .وﰲ أﺣﻴﺎن ﻛﺜرية ﺗﺼﺒﺢ اﻟﺒﻴﻮت املﺼﻨﻮﻋﺔ ً
ﻋﺎﻣﺔ ،وإﻧﺪوﻧﻴﺴﻴﺎ وﺳﻮﻣﻄﺮة ﺑﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳﺎ
ً
ﺷﻜﻼ ﻣﻦ املﺴﺎﻛﻦ اﻷﺧﺮى ،وﻟﻜﻦ املﻴﺰة اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻠﺨﺎﻣﺎت ﻣﻦ ﺧﺎﻣﺎت ﻣﺼﻨﻌﺔ أﻗﺒﺢ
ً
وﺧﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻄﻮب واﻷﺳﻤﻨﺖ. املﺼﻨﱠﻌﺔ ﻫﻮ إﻣﻜﺎن ﺗﻌﺪد اﻟﻄﻮاﺑﻖ،
375
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﻄني ﻋﻨﺪ اﻟﺤﻘﻮل وﻣﻌﺴﻜﺮات اﻟﺮﻋﺎة أﺛﻨﺎء ﻣﻮﺳﻢ املﻄﺮ ﺧﻼل اﻟﺼﻴﻒ ،وﻛﺬﻟﻚ اﻟﺤﺎل
ﻋﻨﺪ رﻋﺎة اﻟﺒﻘﺮ ﰲ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺠﺒﻠﻴﺔ ﰲ أوروﺑﺎ وآﺳﻴﺎ اﻟﻮﺳﻄﻰ واﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ،ﻧﺠﺪ ﻣﺴﺎﻛﻦ اﻟﻘﺮﻳﺔ
اﻟﺪاﺋﻤﺔ ﰲ ﺑﻄﻮن اﻷودﻳﺔ وأﻛﻮاخ اﻟﺮﻋﺎة املﺘﻨﺎﺛﺮة ﰲ اﻟﺴﻔﻮح اﻟﻌﻠﻴﺎ ﻟﻠﺠﺒﺎل اﻟﺘﻲ ﺗُﺴﺘﺨﺪَم
ﻓﻘﻂ ﺧﻼل اﻟﺼﻴﻒ .وﺧﻼﺻﺔ اﻟﻘﻮل أن اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ أو املﺘﻘﺪﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺎرس ﺣﻴﺎة
اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻗﻮاﻣﻬﺎ اﻟﱰﺣﺎل )ﺻﻴﺪ أو رﻋﻲ( ﺗﺒﻌً ﺎ ﻟﻔﺼﻮل اﻟﺴﻨﺔ )ﺷﺘﺎء وﺻﻴﻒ أو ﻣﻄﺮ
وﺟﻔﺎف( ﺗﻤﺘﻠﻚ ﻋﺎد ًة أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻧﻮع ﻣﻦ املﺴﺎﻛﻦ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﰲ ﺧﺎﻣﺘﻬﺎ ووﻇﻴﻔﺘﻬﺎ
وﺧﻄﺘﻬﺎ ﺑﺎﻻرﺗﺒﺎط املﺤﻜﻢ ﻣﻊ اﺣﺘﻴﺎﺟﺎت اﻟﺘﻨﻘﻞ.
أﻣﱠ ﺎ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت املﺴﺘﻘﺮة )زراﻋﻴﺔ أو ﺻﻨﺎﻋﻴﺔ( ﻓﺎﻟﻐﺎﻟﺐ أن ﻟﻬﺎ ﻧﻮﻋً ﺎ واﺣﺪًا ﻣﻦ املﺴﺎﻛﻦ
أﻳﻀﺎ ﺑﺎﻟﻮﻇﻴﻔﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ .وﺑﺎﺧﺘﺼﺎر ،ﻧﺠﺪ أن ﻣﺴﻜﻦ اﻟﺮﻳﻔﻲ ﻋﺒﺎرة ﻳﺮﺗﺒﻂ ً
ﻋﻦ ﻣﺠﻤﻊ ﻳﺤﺘﻞ اﻟﻘﺴﻢ اﻷﻛﱪ ﻣﻨﻪ ﻣﺨﺎزن املﺤﺼﻮل وﻣﺄوى اﻟﺤﻴﻮان وﻣﺨﺰن اﻷدوات
واﻵﻻت املﺴﺘﺨﺪﻣﺔ ﰲ اﻟﺰراﻋﺔ ،أﻣﱠ ﺎ اﻟﻘﺴﻢ اﻷﺻﻐﺮ ﻓﻬﻮ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻣﺄوى اﻷﴎة ،ﺑﻴﻨﻤﺎ
املﺴﻜﻦ ﰲ املﺪﻳﻨﺔ — رﻣﺰ اﻻﻗﺘﺼﺎد اﻟﺼﻨﺎﻋﻲ اﻟﺘﺠﺎري — ﻻ ﻳﻀﻢ ﺑني ﺟﺪراﻧﻪ ﺳﻮى
ﻣﺄوى اﻷﴎة ،ﻓﻬﻨﺎك اﻧﻔﺼﺎل ﺣﻘﻴﻘﻲ ﺑني املﺴﻜﻦ وﻣﻜﺎن اﻟﻌﻤﻞ ﻋﲆ اﻟﻌﻜﺲ ﻣﻦ املﺴﻜﻦ
اﻟﺮﻳﻔﻲ اﻟﺬي ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺑﻴﻨﻪ وﺑني اﻟﺤﻘﻞ ﻓﺎﺻﻞ واﺿﺢ ﻟﻠﺪرﺟﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﻌﺘﱪﻫﻤﺎ ﻣﻌً ﺎ اﻣﺘﺪادًا
واﺣﺪًا ﻟﴚءٍ واﺣﺪ :اﻟﺤﻘﻞ وﻳﺴﺎوي ﻣﻜﺎن إﻧﺘﺎج اﻟﺨﺎﻣﺔ ،واملﻨﺰل وﻳﺴﺎوي ﻣﻜﺎن إﻋﺪاد
ﻫﺬه اﻟﺨﺎﻣﺔ اﻟﺰراﻋﻴﺔ )املﺼﻨﻊ اﻟﺰراﻋﻲ ﺑﺄﺳﻠﻮب اﺳﺘﻌﺎري(.
وﻟﻘﺪ ﺳﺒﻘﺖ اﻹﺷﺎرة إﱃ اﻻرﺗﺒﺎط ﺑني املﺴﻜﻦ واﻟﻨﻈﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻟﺴﺎﺋﺪة ،وﺑﻌﺒﺎرة
أﺧﺮى ﻓﺈن املﺴﻜﻦ ﻳﺘﻜﻴﻒ ﰲ ﺧﻄﺘﻪ ﺗﺒﻌً ﺎ ﻟﻨﻮﻋني ﻣﻦ اﻟﻀﻮاﺑﻂ :اﻻﻗﺘﺼﺎد ،واﻟﻨﻈﻢ
اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ .وﻻ ﻧﻌﻨﻲ ﺑﺎﻟﻨﻈﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻣﺠﻤﻠﻬﺎ ،ﺑﻞ ﻧﺨﺼﺺ ﻣﻨﻬﺎ ﻓﻘﻂ ﺷﻜﻞ اﻟﺘﺠﻤﻊ
اﻷوﱄ 9 :ﻋﺸرية أو أﴎة ﻣﻤﺘﺪة أو أﴎة ﻧﻮوﻳﺔ )اﻟﺰوﺟﺎن وأوﻻدﻫﻤﺎ(؛ ﻷن املﺴﻜﻦ ﻫﻮ
اﻻﺣﺘﻴﺎج املﺒﺎﴍ ﻟﻬﺬا اﻟﺘﺠﻤﻊ اﻷوﱄ ،واﻻﺳﺘﺠﺎﺑﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ملﺸﻜﻠﺔ املﺄوى ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻪ.
وﺛﻴﻘﺎ ﺑﺎﻟﻨﻈﺎم اﻻﻗﺘﺼﺎدي اﻟﺴﺎﺋﺪ ،وﻛﺎن ﻃﺎ ً وﻟﻜﻦ ﱠملﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺘﺠﻤﻌﺎت اﻷوﻟﻴﺔ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ارﺗﺒﺎ ً
ﻣﻌﱰﻓﺎ ﺑﻪ ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﺳﻮف ﻧﺠﺪ أﺷﻜﺎل املﺴﻜﻦ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ اﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ً اﻟﺘﻔﺎﻋﻞ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ أﻣ ًﺮا
9ﻳﻨﻘﺴﻢ املﺠﺘﻤﻊ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ إﱃ ﻗﺴﻤني؛ اﻟﺘﺠﻤﻊ اﻷوﱄ أو اﻷﺳﺎﳼ :وﻳﺸﺘﻤﻞ ﻋﲆ اﻟﻮﺣﺪة اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﰲ
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ ،وﻫﻲ اﻷﴎة أو اﻟﻌﺸرية أو اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ .واﻟﺘﺠﻤﻊ اﻟﺜﺎﻧﻮي أو اﻟﺜﺎﻧﻲ :وﻳﺸﺘﻤﻞ ﻋﲆ املﺠﺘﻤﻊ ،ﺳﻮاء
ﻛﺎن ﻣﺘﻜﻮﻧًﺎ ﻣﻦ ﻋﺪة ﻋﺸﺎﺋﺮ ﰲ ﺻﻮرة ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻗﺒﲇ ،أو ﻋﺪة ﻗﺒﺎﺋﻞ ﰲ ﺻﻮرة ﺷﻌﺐ ،أو ﻋﺪة ﺗﺠﻤﻌﺎت
إﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﰲ ﺻﻮرة دوﻟﺔ.
376
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
ﻟﻬﺬﻳﻦ اﻟﻌﺎﻣﻠني ﻣﻌً ﺎ :اﻟﻨﻤﻂ اﻻﻗﺘﺼﺎدي واﻟﺘﺠﻤﻊ اﻷوﱄ ،واﻟﻔﺼﻞ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻻ ﻣﱪر ﻟﻪ ﺳﻮى
اﻹﻳﻀﺎح ﻓﻘﻂ.
ﻋﲆ أي ﺣﺎل ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ أﺷﻜﺎل املﺴﺎﻛﻦ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﺗﺒﻌً ﺎ ﻻﺧﺘﻼف ﺷﻜﻞ اﻟﺘﺠﻤﻊ اﻷوﱄ،
ﻓﻔﻲ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻟﻘﺎﺋﻢ ﻋﲆ اﻷﴎ اﻟﻨﻮوﻳﺔ ﻳﺼﺒﺢ املﺴﻜﻦ ﻣﺤﺪود املﺴﺎﺣﺔ ،وﻫﻮ ﺑﺬﻟﻚ أﺻﻠﺢ
أﺷﻜﺎل اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻟﻠﺴﻜﻦ املﺪﻳﻨﻲ ،وﺣﺘﻰ ﰲ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻷﺑﻮي اﻟﻘﺎﺋﻢ ﻋﲆ ﺗﻌﺪد
أﺣﻴﺎن ﻛﺜري ٍة ﻳﺼﺒﺢ اﻟﺤﺪ اﻷدﻧﻰ ﻏﺮﻓﺔ واﺣﺪة
ٍ أﻳﻀﺎ ﻣﺴﺎﻛﻦ ﻣﻔﺮدة .ﻓﻔﻲ اﻟﺰوﺟﺎت ﻧﺠﺪ ً
ﻛﻮﺧﺎ واﺣﺪًا ﻟﻜﻞ زوﺟﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ،وﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ﻓﺈن ﰲ املﺪن ،أو ﻳﺼﺒﺢ ً
اﻷﴎة اﻟﻨﻮوﻳﺔ ﺗﺸﻐﻞ ﺳﻜﻨًﺎ ﻣﻨﻔﺮدًا ﻻ ﺗﺸﺎرﻛﻬﺎ ﻓﻴﻪ أﴎة أﺧﺮى ،ﺳﻮاء ﻛﺎن املﺠﺘﻤﻊ ﺑﺪاﺋﻴٍّﺎ
أو ﻣﺘﻘﺪﻣً ﺎ.
أﻣﱠ ﺎ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﺗﻜﻮن اﻷﴎة املﻤﺘﺪة ﻫﻲ أﺳﺎس اﻟﺘﺠﻤﻴﻊ اﻷوﱄ ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ اﻟﺴﻤﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ
ﻟﻠﻤﺴﻜﻦ ﻫﻲ اﻻﺗﺴﺎع ،ﺑﺤﻴﺚ ﻳﺸﻤﻞ ﻋﺪة اﻷﴎ اﻟﺘﻲ ﻳﻜﻮﱢﻧﻬﺎ ﻫﺬا اﻟﺘﺠﻤﻴﻊ .واﻟﻐﺎﻟﺐ ﰲ ﻣﺜﻞ
أﺧﺎ أﻛﱪ — ﻫﺬا اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ أن ﻳﻜﻮن أﺑﻮﻳٍّﺎ ،ﻳﺴﻴﻄﺮ ﻓﻴﻪ اﻷب اﻟﻜﺒري — ﺳﻮاء ﻛﺎن أﺑًﺎ أو ً
ﻋﲆ اﻷﴎة املﻤﺘﺪة املﺘﻜﻮﻧﺔ ﻣﻦ ﻋﺪة أﴎ ﻧﻮوﻳﺔ أﺑﻮﻳﺔ ﺳﻴﻄﺮة اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻣﻌً ﺎ.
أﻳﻀﺎ ﻧﺠﺪ اﻟﺤﺪ اﻷدﻧﻰ ﻟﻜﻞ أﴎة ﻧﻮوﻳﺔ ﻏﺮﻓﺔ واﺣﺪة داﺧﻞ املﺠﻤﻊ اﻟﺴﻜﻨﻲ ،وﻧﺤﻦ وﻫﻨﺎ ً
ﻻ ﻧﻌﺮف ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﺎ إذا ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ ﻳﺴﻤﺢ ﺑﺘﻌﺪد اﻟﺰوﺟﺎت ،ﻟﻜﻦ اﺣﺘﻤﺎل
ذﻟﻚ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻧﻔﻴﻪ.
وﻫﻨﺎك أﻧﻮاع أﺧﺮى ﻣﻦ اﻷﴎ املﻤﺘﺪة ﺗﺘﻜﻮن داﺧﻞ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻷﻣﻮي ،وﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ
إﻃﻼﻗﺎ ،ﻛﻤﺎ أن اﻟﺤﻴﺎة داﺧﻞ ﻫﺬا املﺠﻤﻊ اﻟﺴﻜﻨﻲ ﺗﺼﺒﺢ ً ﻻ ﻧﺠﺪ ﻓﺮﺻﺔ ﻟﺘﻌﺪد اﻟﺰوﺟﺎت
أﻛﺜﺮ ﺗﺸﺎرﻛﻴﺔ ﻣﻤﺎ ﰲ ﻧﻈﺎم اﻷﴎة املﻤﺘﺪة اﻷﺑﻮﻳﺔ؛ ﻷن اﻟﺰوﺟﺎت إﺧﻮة أو ﺑﻨﺎت أﺧﻮات،
ﻫﻦ ﰲ اﻟﻨﻈﺎم اﻷﺑﻮي ﻏﺮﻳﺒﺎت ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻬﻦ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻨﺸﺐ ﺑﻴﻨﻬﻦ ﻧﺰا ٌع ﰲ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﱠ
ﺗﻮزﻳﻊ اﺧﺘﺼﺎﺻﺎت اﻟﻌﻤﻞ ،وﻧﻈﺎم اﻷﴎة املﻤﺘﺪة اﻷﻣﻮﻳﺔ أﻛﺜﺮ ﺷﻴﻮﻋً ﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺘﻲ
ﺗﻌﻴﺶ ﻋﲆ اﻟﺼﻴﺪ ،وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻓﺈن أﻛﺜﺮ اﻟﺒﻴﻮت اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ ﺷﻴﻮﻋً ﺎ ﻫﻲ ﻣﺴﺎﻛﻦ ﻫﺬه اﻟﺘﺠﻤﻌﺎت،
ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻷﴎة املﻤﺘﺪة اﻷﺑﻮﻳﺔ ﻏﺎﻟﺒًﺎ زراﻋﻴﺔ أو رﻋﻮﻳﺔ ﻣﺴﺘﻘﺮة ﺗﻌﻴﺶ ﰲ ﻣﺴﺎﻛﻦ ﻣﺒﻨﻴﺔ ﻣﻦ
اﻟﻠ ِﺒﻦ أو اﻟﻄﻮب ،أو ﺗﺠﻤﻌﺎت ﻣﻦ اﻷﻛﻮاخ املﺮﺗﺒﻄﺔ ﻣﻌً ﺎ ﺑﺴﻴﺎج .وﻧﻈ ًﺮا ﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﻐﺎﻟﺐ
أن اﻷﴎة املﻤﺘﺪة ﺗﺴﺘﺨﺪم ﻣﻮﻗﺪًا واﺣﺪًا ﻟﻠﻄﻬﻮ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗُﻮﺟَ ﺪ ﻋﺪة ﻣﻮاﻗﺪ — ﻋﺎدة — ﻋﻨﺪ
اﻷﴎة املﻤﺘﺪة اﻷﺑﻮﻳﺔ ،وﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل ﺗﻮﺟﺪ ﰲ ﻣﺴﺎﻛﻦ اﻷﴎة اﻟﻨﻮوﻳﺔ ﻣﻮاﻗﺪ ﺧﺎﺻﺔ.
وﻳﺮﺗﺒﻂ ﺷﻜﻞ اﻟﺘﺠﻤﻊ اﻟﺴﻜﻨﻲ ﻟﻠﻤﺴﺎﻛﻦ ﺑﻌﺪد ﻣﻦ اﻟﻈﺮوف اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
ﺷﻜﻼ ﻣﺘﺠﻤﻌً ﺎ ﰲ ﺻﻮرة ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺒﻴﻮت ً واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﺒﻴﺌﻴﺔ ،ﻋﺎد ًة ﺗﺄﺧﺬ املﺴﺎﻛﻦ
377
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻷﻣﻮﻳﺔ ،وﰲ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﺤﺎﻻت ﺗﺘﺠﻤﻊ اﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ﰲ ﻗﺮى أو ﻗﺮﻳﺔ
واﺣﺪة أو ﺟﺰءٍ ﻣﻦ ﻗﺮﻳﺔ واﺣﺪة ،ﺳﻮاء ﻛﺎﻧﺖ أﻣﻮﻳﺔ أو أﺑﻮﻳﺔ ،واﻟﺘﺠﻤﻊ ﰲ ﺻﻮرة ﻗﺮﻳﺔ
— وإن ﻛﺎن اﻟﺤﻜﻢ اﻟﺸﺎﺋﻊ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ملﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻘﺮاﺑﺔ — ﱠإﻻ أﻧﻪ ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻟﻈﺮوف
اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ،ﻓﺎملﻨﺎﻃﻖ ذات اﻟﻮﻓﺮة ﺗﺴﻤﺢ ﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﺠﻤﻊ ،ﺳﻮاء ﻛﺎﻧﺖ وﻓﺮة اﻟﺼﻴﺪ
أو اﻟﺴﻤﺎﻛﺔ أو املﺮاﻋﻲ وﻣﺼﺎدر املﺎء أو اﻟﺰراﻋﺔ .وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺗﺪﻋﻮ اﻟﻮﻓﺮة اﻟﺸﺪﻳﺪة ملﺼﺎدر
ً
ﺧﺎﺻﺔ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺴﻤﱠ ﺎﻛني واﻟﺼﻴﱠﺎدﻳﻦ ،ﻟﻜﻦ اﻻﺣﺘﻴﺎج ﻣﻴﺎه اﻟﴩب إﱃ ﺗﺒﻌﺜﺮ املﺴﺎﻛﻦ،
ﻟﻠﻌﻤﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﻲ ﰲ اﻟﻨﺸﺎط اﻻﻗﺘﺼﺎدي ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﻋﺎﻣﻞ اﻟﺤﻤﺎﻳﺔ ﻳﺆﺛﺮ ﻣﺮة أﺧﺮى ﻣﺆدﻳٍّﺎ
إﱃ اﻟﺘﺠﻤﻴﻊ اﻟﺴﻜﻨﻲ ﰲ ﺻﻮرة ﺑﺪﻧﺎت أو ﻋﺸﺎﺋﺮ ﻣﺤﺪودة اﻟﻌﺪد .وﻛﺬﻟﻚ ﺗﺪﻋﻮ ﻇﺮوف
اﻟﺠﻔﺎف أو اﻟﱪد اﻟﺸﺘﻮي إﱃ اﻟﺘﺠﻤﻊ اﻟﺴﻜﻨﻲ ﰲ اﻷﻣﺎﻛﻦ اﻟﺘﻲ ﺗﺆﻣﻦ املﻴﺎه أو اﻟﺪفء.
وﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل ،ﻓﺈن اﻷﻧﻤﺎط اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﻋﲆ أﺳﺎس اﻹﻧﺘﺎج املﺘﺨﺼﺺ
واﻟﺘﺒﺎدل واﻟﺘﺠﺎرة — اﻟﺰراﻋﺔ اﻟﻜﺜﻴﻔﺔ واﻟﺼﻨﺎﻋﺔ — ﺗﺆدي إﱃ ﺗﻜﺎﺛﻒ اﻟﺴﻜﻦ ﰲ ﻗﺮى
ﺑﻐﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﻘﺮاﺑﺔ واﻟﺘﺠﻤﻊ اﻷوﱄ ﻟﻠﻨﺎس. ﻛﺒرية أو ﻣﺪن ،ﱢ
) (١اﻟﻜﻬﻮف :ﻗﻠﻨﺎ إن أﻗﺪم أﺷﻜﺎل املﺴﻜﻦ املﻌﺮوﻓﺔ ﻟﺪﻳﻨﺎ ﻫﻮ اﻟﻜﻬﻒ .وﻟﻮ أن ذﻟﻚ
ﻻ ﻳﻤﻨﻊ أن ﺗﻜﻮن ﻫﻨﺎك أﻧﻤﺎط ﺳﻜﻨﻴﺔ ﺳﺎﺑﻘﺔ ﻣﻦ ﻣﻮاد ﻫﺎﻟﻜﺔ ﻟﻢ ﺗﺼﻞ إﻟﻴﻨﺎ ،وإذا ﻛﺎﻧﺖ
ﻄﺎ ﺳﻜﻨﻴٍّﺎ ﻗﺪﻳﻤً ﺎ ،ﱠإﻻ أن ﺑﻌﺾ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﻣﺎ زاﻟﺖ ﺗﺴﺘﺨﺪم اﻟﻜﻬﻮف ﻛﻤﻘﺮ اﻟﻜﻬﻮف ﻧﻤ ً
ﻟﻠﺴﻜﻦ ،وﺧﺎﺻﺔ ﰲ إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك اﻋﺘﻘﺎد ﺳﺎﺑﻖ — ﻣﺼﺪره اﻻﺗﺠﺎه اﻟﻨﻔﴘ ﰲ
اﻟﺘﻔﺴري — ﻳﻘﻮل إن اﻟﻜﻬﻒ ﺑﺘﺪاﺧﻠﻪ ﰲ ﺑﻄﻦ اﻟﺠﺒﻞ وﺑﻤﻨﺤﻪ اﻷﻣﺎن ﻟﻠﻨﺎس ﻳﺸﺎﺑﻪ ﻛﺜريًا
اﻷﻣﺎن اﻟﺬي ﻳﻌﺮﻓﻪ اﻟﻨﺎس ﻋﻦ اﻷﺟﻨﺔ ﰲ اﻷرﺣﺎم .وﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ،ﻳﻘﻮل ﻫﺬا اﻻﻋﺘﻘﺎد إن
اﻟﻨﺎس اﻟﺘﺠﺌﻮا إﱃ اﻟﻜﻬﻮف ﺑﺪاﻓﻊ ﻧﻔﺴﺎﻧﻲ ﻏﺮﻳﺰي وﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻲ ،ﻟﻜﻦ ذﻟﻚ اﻟﺘﻔﺴري ﻟﻴﺲ
ﺻﺤﻴﺤً ﺎ ،ﻓﻔﻲ ﺣني ﺗﻜﻮن ﺑﻄﻮن اﻷﻣﻬﺎت املﺄوى املﺜﺎﱄ ﻟﻸﺟﻨﺔ ،ﻓﺈن اﻟﻜﻬﻮف ﻏري ذﻟﻚ
ﻟﻸﺳﺒﺎب اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ) :أ( ﻋﺪد اﻟﻜﻬﻮف املﻼﺋﻤﺔ ﻟﻠﺴﻜﻦ ﻗﻠﻴﻠﺔ ،وﻋﺪد اﻟﻨﺎس داﺋﻤً ﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ
ﺗُﻘﺪﱢﻣﻪ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻣﻦ ﻛﻬﻮف ﺻﺎﻟﺤﺔ) .ب( ﻗﺪ ﺗﻜﻮن اﻟﻜﻬﻮف املﻼﺋﻤﺔ ﻟﻠﺴﻜﻦ ﺑﻌﻴﺪة ﻋﻦ
ﻣﺼﺎدر ﻣﻴﺎه اﻟﴩب أو ﻣﺼﺎدر اﻟﺼﻴﺪ اﻟﻐﻨﻴﺔ) .ﺟ( إن اﻟﻜﻬﻒ ﻏري ﻣﺘﺤﺮك واﻻرﺗﺒﺎط
ﺑﻪ ﻳﺆدي إﱃ وﻗﻒ ﺗﺤﺮﻛﺎت اﻟﺼﻴﱠﺎدﻳﻦ) .د( ﰲ اﻟﻜﻬﻮف ﻋﺪ ٌد ﻣﻦ املﺸﺎﻛﻞ ﻋﲆ رأﺳﻬﺎ
ﻣﺸﻜﻠﺔ اﻟﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ اﻟﻨﻔﺎﻳﺎت) .ﻫ( وأﺧريًا ﻓﺈن ﻣﻌﻈﻢ اﻟﻜﻬﻮف رﻃﺒﺔ ﺗﺆدي إﱃ ﺣﺪوث
378
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
اﻟﺘﻌﻔﻦ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ،وﺗﺼﻴﺐ اﻟﺴﻜﺎن ﺑﺎﻟﺮوﻣﺎﺗﻴﺰم وﻏريه ﻣﻦ اﻷﻣﺮاض .وﺑﺮﻏﻢ ذﻟﻚ ﻓﺈن اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﻘﺪﻳﻢ ﻗﺪ ﺳﻜﻦ اﻟﻜﻬﻮف ﻛﻤﻠﺠﺄ ﺟﻴﺪ ﺿﺪ اﻟﱪودة اﻟﺸﺪﻳﺪة ،وﺧﺎﺻﺔ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﺠﻠﻴﺪﻳﺔ
ﰲ أوروﺑﺎ .وﻗﺪ ﺗﺮك ﻟﻨﺎ ذﻟﻚ ﺛﺮوة ﻋﻈﻴﻤﺔ أرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ وأﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ وإﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،ﺑﻞ
أﻳﻀﺎ .ﻓﺪراﺳﺔ املﺨﻠﻔﺎت اﻟﻌﻈﻤﻴﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎن وﺣﻴﻮاﻧﺎت اﻟﺼﻴﺪ ،وﻣﺨﻠﻔﺎﺗﻪ اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ، وﻓﻨﻴﺔ ً
وﻧﻘﻮﺷﻪ ورﺳﻮﻣﻪ ﻋﲆ ﺟﺪران اﻟﻜﻬﻮف واﻟﺤﻮاﺋﻂ اﻟﺼﺨﺮﻳﺔ؛ ﻛﻠﻬﺎ أﻋﻄﺘﻨﺎ ﻣﻌﻠﻮﻣﺎت ﻗﻴﱢﻤﺔ
ﻋﻦ ﻧﻮع اﻹﻧﺴﺎن وﺷﻜﻞ اﻻﻗﺘﺼﺎد وﺗﻘﺪﻣﻪ اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ﰲ ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻷدوات واﻷﺳﻠﺤﺔ
وﺷﻜﻞ اﻟﺒﻴﺌﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ وأﻧﻮاع اﻟﺤﻴﻮان وﻃﺮق اﻟﺼﻴﺪ.
ﱢ
وﻟﻜﻦ اﻹﻧﺴﺎن ﺑﺎﺿﻄﺮاره ﻟﻠﺘﺠﻮل وراء اﻟﺼﻴﺪ ،ﻛﺎن ﻳﻔﻀﻞ اﻟﺴﻜﻦ ﰲ املﻨﺎﻃﻖ
ً
اﺗﺠﺎﻫﺎ ﻗﻮﻳٍّﺎ ﻳﺪﻋﻮ إﱃ اﻻﻋﺘﻘﺎد ﺑﺄﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻠﺠﺄ إﱃ اﻷﺷﺠﺎر املﻔﺘﻮﺣﺔ؛ وﻟﻬﺬا ﻓﺈن ﻫﻨﺎك
ﻣﺤﻼ ﻟﻠﻨﻮم ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﻋﺪة ﻓﺮوع ﻳﻤﺪﻫﺎ ﺑني اﻷﻏﺼﺎن اﻟﻘﻮﻳﺔ ،وﻳﺮﺗﺒﻂ ٍّ ﺑﻌﺪ أن ﻳﻘﻴﻢ ﻟﻪ
ٍّ
ﻣﺤﻼ ﻟﻠﻨﻮم وﻋﺪم ﻫﺬا اﻻﺗﺠﺎه ﺑﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻌﺮوف ﻋﻦ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺎت ﻣﻦ اﺧﺘﻴﺎرﻫﺎ اﻷﺷﺠﺎر
اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ اﻟﻜﻬﻮف .ﻛﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﻜﻬﻮف ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﻈﻠﻤﺔ ،وﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﻃﺒﻊ اﻹﻧﺴﺎن ﺣﺘﻰ اﻵن
أن ﻳﻠﺠﺄ إﱃ اﻷﻣﺎﻛﻦ املﻈﻠﻤﺔ ﱠإﻻ ﰲ ﺣﺎﻻت ﺧﺎﺻﺔ )اﻧﻈﺮ ﺷﻜﻞ .(5-6
) (٢ﻣﺼﺪات اﻟﺮﻳﺎح :ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻫﻮ أﺑﺴﻂ أﺷﻜﺎل املﺴﺎﻛﻦ املﺼﻨﻮﻋﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﻌﺮﻓﻬﺎ ﻋﻨﺪ
ﻄﻰ ﺑﻠﺤﺎء اﻷﺷﺠﺎر املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ املﻌﺎﴏة ،وﻫﻮ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ إﻃﺎر ﻣﻦ اﻷﻏﺼﺎن ﻳُﻐ ﱠ
ُﻮﺿﻊ ﰲ ﺻﻮرة ﻣﺎﺋﻠﺔ ﺑﺎﻻﺳﺘﻨﺎد إﱃ واﺟﻬﺔ ﺣﺎﺋﻂ ﺻﺨﺮي ،أو ﰲ ﺻﻮرة ﻗﻮس وأوراﻗﻬﺎ ،وﻳ َ
أﻳﻀﺎ ﻣﻦ اﻟﺠﻠﺪ .وﻳﺤﻤﻲ ﻄﻰ ﺑﺎﻷﻋﺸﺎب ،وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻳُﺼﻨَﻊ ً ﻛﺒري ﻳُﻘﺎم ﺗﺤﺖ اﻷﺷﺠﺎر وﻳُﻐ ﱠ
ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ املﺴﺎﻛﻦ — اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﻜﻴﻜﻬﺎ وﺣﻤﻠﻬﺎ وﻧﻘﻠﻬﺎ — اﻟﻨﺎس ﻣﻦ اﻷﻣﻄﺎر أو
اﻟﺮﻳﺎح .وﻣﺎ زال ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﺷﺎﺋﻌً ﺎ ﺑني اﻟﺒﺸﻤﻦ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ ،وﻋﻨﺪ اﻷروﻧﺘﺎ ﻣﻦ
ﻗﺒﺎﺋﻞ أﺳﱰاﻟﻴﺎ وأﻗﺰام املﻼﻳﻮ.
أﺷﻜﺎﻻ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻷﻛﻮاخ .وأﺑﺴﻂ أﺷﻜﺎل ً ) (٣اﻷﻛﻮاخ :ﻳﺴﺘﺨﺪم ﻣﻌﻈﻢ اﻟﺒﺪاﺋﻴني
اﻟﻜﻮخ ﻳﺘﺨﺬ ﺻﻮرة ﻗﺒﱠﺔ ﻣﻦ اﻷﻏﻀﺎن واﻷوراق واﻷﻋﺸﺎب ﻣﻘﺎﻣﺔ ﻓﻮق إﻃﺎر ﻣﻦ اﻟﺨﺸﺐ
أو اﻟﻐﺎب ،وﻧﻮع آﺧﺮ ﻫﻮ ذﻟﻚ اﻟﻜﻮخ اﻟﺨﺸﺒﻲ املﻜﻮﱠن ﻣﻦ أﻋﻤﺪة ﺧﺸﺒﻴﺔ ،وﻳﻨﺘﻬﻲ ﺑﺴﻘﻒ
ﻗﻤﻌﻲ اﻟﺸﻜﻞ ،وﻗﺪ ﻳُﻀﺎف إﻟﻴﻪ اﻟﻄني ﰲ ﺟﺰﺋﻪ اﻷﺳﻔﻞ واﻷﻋﺸﺎب واﻷﻏﺼﺎن ﰲ اﻟﺠﺰء
اﻷﻋﲆ .وﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻷﻛﻮاخ ﻗﻤﻌﻴﺔ اﻟﺸﻜﻞ ﻟﺘﺠﻨﺐ ﺗﺮاﻛﻢ ﻣﻴﺎه املﻄﺮ وﺗﺄﻣني اﻧﺰﻻﻗﻬﺎ ﺧﺎرج
اﻟﻜﻮخ ،وﻫﻨﺎك أﻛﻮاخ ﺗُﺼﻨَﻊ ﻛﻠﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺨﺸﺐ وﻟﺤﺎء اﻟﺸﺠﺮ ،ﻛﺘﻠﻚ اﻷﻛﻮاخ اﻟﺸﺎﺋﻌﺔ ﰲ
أﻳﻀﺎ ذات ﺳﻄﻮح ﻣﻨﺤﺪرة .وﰲ ﺑﻌﺾ املﻨﺎﻃﻖ — ﺟﻨﻮب ﴍق آﺳﻴﺎ وﺑﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳﺎ ،وﻫﻲ ً
ﺮﻓﻊ املﺴﺎﻛﻦ ﻛﻠﻬﺎ ﻋﲆ وﺧﺎﺻﺔ ﻋﻨﺪ ﺟﻤﺎﻋﺎت اﻟﺼﻴﺪ واﻟﺴﻤﺎﻛﺔ ﰲ اﻟﻨﻄﺎق اﻻﺳﺘﻮاﺋﻲ — ﺗُ َ ً
379
اﻹﻧﺴﺎن
)ﺟ(
)أ(
)أ(
ﺣﺎﺋﻂ ﺻﻨﺎﻋﻲ
)ﻛﻮم ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺎرة(
)ب(
)ب(
٦ ٥ ٤
)أ(
)ب(
ﻓﻨﺎء
ﻣﺴﻜﻦ ﻣﻨﻄﻘﺔ
380
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
أﻋﻤﺪة ﺧﺸﺒﻴﺔ ﺗُﺪ ﱡَق ﻓﻮق ﻣﻴﺎه ﻣﺴﺘﻨﻘﻊ ،وذﻟﻚ ﺗﺠﻨﱡﺒًﺎ ﻟﺮﻃﻮﺑﺔ اﻷرض املﺴﺘﻤﺮة ،وﻹﻋﻄﺎء
أﻣﺎن أﻛﺜﺮ ﺿﺪ اﻟﺤﻴﻮان املﻔﱰس .وﻣﺴﺎﻛﻦ املﻴﻼﻧﻴﺰﻳني ﻣﻌﻈﻤﻬﺎ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ،وﺗﺨﺘﻠﻒ
ﺧﺎﻣﺔ اﻷﻛﻮاخ ﺣﺴﺐ املﺼﺪر اﻟﺮﺋﻴﴘ املﻮﺟﻮد ﰲ اﻹﻗﻠﻴﻢ ،وﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ﻳُﻀﺎف اﻟﻄني إﱃ
اﻟﺤﻮاﺋﻂ إذا ﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﻟﺒﻴﺖ ﻣﺼﻨﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻟﺨﺸﺐ أو ﻟﺤﺎء اﻟﺸﺠﺮ ،وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺗُﻘﺎم ﺟﺪران
اﻷﻛﻮاخ ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺎرة وﻳُﻘﺎم ﻓﻮﻗﻬﺎ اﻟﺴﻄﺢ املﻨﺤﺪر.
َ ُ
) (٤اﻟﺨﻴﺎم :وﻫﺬه ﻛﻤﺎ ﻗﻠﻨﺎ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻟﺮﻋﺎة املﺘﻨﻘﻠني ،وﺗﺼﻨﻊ ﻣﻦ ﺷﻌﺮ أو ﺟﻠﻮد
اﻟﺤﻴﻮان اﻟﺮﺋﻴﴘ اﻟﺬي ﺗﺮﻋﺎه املﺠﻤﻮﻋﺔ ،ﻛﻤﺎ أن ﺑﻌﺾ اﻟﺼﻴﺎدﻳﻦ ﰲ آﺳﻴﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ وأﻣﺮﻳﻜﺎ
اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ﻳﺼﻨﻌﻮن اﻟﺨﻴﺎم ﻟﻜﺜﺮة ﺗﺠﻮاﻟﻬﻢ وراء اﻟﺼﻴﺪ.
) (٥ﺑﻴﻮت اﻟﺤُ َﻔﺮ :وﻫﺬه املﺴﺎﻛﻦ ﺗﺴﺘﻐﻞ ﺣﻔ ًﺮا ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ﰲ اﻷرض ،أو ﺗﺤﻔﺮ اﻷرض
إﱃ اﻟﻌﻤﻖ املﻄﻠﻮب ،واملﻴﺰة اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻫﻲ أن ﺟﺪران اﻟﺤﻔﺮة ﺗﻜﻮن ﺳﻨﺪًا ﻗﻮﻳٍّﺎ ﻟﻠﺠﺪار
اﻟﺬي ﻳﺒﻨﻴﻪ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ أﻋﻤﺪة اﻟﺨﺸﺐ أو اﻟﺤﺠﺎرة .وﰲ ﺧﻼل اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻷوﺳﻂ
ٍ
ﺿﺤﻠﺔ ﰲ ﻓﺮﻧﺴﺎ )ﺣﻮاﱄ ١٤أﻟﻒ ﺳﻨﺔ ﻣﻀﺖ( ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺴﺎﻛﻦ اﻟﺤﻔﺮ ﻫﺬه ﺗُﺒﻨﻰ ﰲ ٍ
ﺣﻔﺮ
ﻄﻰ ﺑﺒﻨﺎء ﻗﺒﺎﺑﻲ اﻟﺸﻜﻞ ،وﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ املﺴﺎﻛﻦ ﻣﺎ زال ﺷﺎﺋﻌً ﺎ ﰲ اﻟﻨﻄﺎق اﻟﺸﻤﺎﱄوﺗُﻐ ﱠ
ﻣﻦ آﺳﻴﺎ وأﻣﺮﻳﻜﺎ .ﻓﻔﻲ اﻟﺴﺎﺣﻞ اﻟﺸﻤﺎﱄ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻷﻣﺮﻳﻜﺎ ﺗﻜﻮن ﻫﺬه املﺴﺎﻛﻦ ﻏﺎﻃﺴﺔ ﰲ
ﻄﻰ ﺑﻌﺪأﺧﺸﺎب ﻗﻮﻳﺔ ،وﺗُﻐ ﱠ
ٍ ﻄﻰ اﻟﺤﻔﺮة ﺑﺠﺬوع ﺣﻔﺮ إﱃ ﻋﻤﻖ ﺣﻮاﱄ ٢٫٥ﻣﱰ ،ﺛﻢ ﺗُﻐ ﱠ
ذﻟﻚ ﺑﻄﺒﻘﺔ ﻣﻦ اﻟﻄني ،وﻳﺘﺨﺬ اﻟﺴﻘﻒ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻪ اﻟﺸﻜﻞ اﻟﻘﻤﻌﻲ أو اﻟﺴﻄﻮح املﻨﺤﺮة،
وﻳُﱰَك وﺳﻂ اﻟﺴﻄﺢ ﻣﻔﺘﻮﺣً ﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﺑﺤﻴﺚ ﻳﺨﺪم ﻏﺮﺿني :اﻟﺘﻬﻮﻳﺔ وﻓﺘﺤﺔ اﻟﺪﺧﺎن ،وﺑﺎب
املﺴﻜﻦ .وﻟﺬﻟﻚ ﻳﻮﺟﺪ ﺳ ﱠﻠﻢ ﺧﺸﺒﻲ ﻣﺜﺒﱠﺖ إﱃ ﻫﺬه اﻟﻔﺘﺤﺔ ،واملﺴﻜﻦ ﺑﺬﻟﻚ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﺣﺠﺮة
واﺣﺪة ﻣﺴﺘﺪﻳﺮة أو ﺑﻴﻀﺎوﻳﺔ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ،وﻳﺒﻠﻎ ﻗﻄﺮﻫﺎ ﺣﻮاﱄ ٥٫٥أﻣﺘﺎر .وﻧﺠﺪ ﻋﻨﺪ ﺻﻴﱠﺎدي
أﻳﻀﺎ ﻣﺴﺎﻛﻦ اﻟﺤﻔﺮ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻧﺼﻒ ﻏﺎﻃﺴﺔ ،وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺗﺴﺘﻨﺪ إﱃ ﺣﺎﺋﻂ ﺷﻤﺎل ﺳﻴﺒريﻳﺎ ً
ﺻﺨﺮي ﻣﻦ إﺣﺪى ﺟﻬﺎﺗﻬﺎ ،واملﺪﺧﻞ ً
أﻳﻀﺎ ﻣﻦ أﻋﲆ .وﻻ ﺷ ﱠﻚ ﰲ أن ﻫﺬا اﻟﻨﻤﻂ ﻣﻦ املﺴﺎﻛﻦ
ﻫﻮ اﺳﺘﻤﺮار ﻟﻨﻮع املﺴﺎﻛﻦ ﰲ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي ،واﻧﺘﻘﻞ ﻣﻦ آﺳﻴﺎ إﱃ أﻣﺮﻳﻨﺪ أﻣﺮﻳﻜﺎ.
أﻳﻀﺎ ﻣﺴﺎﻛﻦ ﺣﺠﺮﻳﺔ أو ﻣﻦ ﻋﻈﺎم اﻟﺤﻮت واﻟﺤﺠﺎرة ،ﻣﻊ ﻣﻤﺮ ﻃﻮﻳﻞ وﻳﺒﻨﻲ اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ً
) ٣أﻣﺘﺎر( ﻣﻨﺨﻔﺾ أﺷﺒﻪ ﺑﺎﻟﻨﻔﻖ ،وﻳُﻌ ﱠﻠﻖ ﻋﻨﺪ املﺪﺧﻞ ﺳﺘﺎر ﻣﻦ اﻟﺠﻠﺪ ﻟﻴﻘﻲ اﻟﺪاﺧﻞ ﻣﻦ
اﻟﱪد اﻟﻘﺎرس ﰲ اﻟﺨﺎرج.
) (٦ﻣﺴﺎﻛﻦ اﻟﻄﻮب :ﺗُﺸﻴﱠﺪ إﻣﱠ ﺎ ﻣﻦ اﻟﻠ ِﺒﻦ أو اﻟﻄﻮب املﺤﺮوق ،وﻫﻲ ﻋﻜﺲ ﺑﻴﻮت
اﻟﺤُ َﻔﺮ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻣﺸﻴﱠﺪة ﻓﻮق ﺳﻄﺢ اﻷرض ،وﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ املﺴﺎﻛﻦ ﺷﺎﺋﻊ ،وﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺮﺗﻔﻊ
إﱃ ﻋﺪة ﻃﻮاﺑﻖ ،وﻣﺴﺎﻛﻦ أﻣﺮﻳﻨﺪ »اﻟﺒﻮﻳﺒﻠﻮ ) «Puebloﰲ ﺟﻨﻮب ﻏﺮب اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة(
381
اﻹﻧﺴﺎن
ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻣﺴﺎﻛﻦ ﺟﻤﺎﻋﻴﺔ ﺗﺮﺗﻔﻊ إﱃ ﺧﻤﺴﺔ ﻃﻮاﺑﻖ ،وﺗﺘﺄﻟﻒ ﻣﻦ ﺷﻘﻖ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ .واﻟﻮاﺟﻬﺔ
اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ ،وﻟﻴﺴﺖ ﺑﻬﺎ ﻓﺘﺤﺎت ﻟﻠﻤﺴﺎﻛﻦ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﻌﻄﻴﻬﺎ ﺻﻮرة اﻟﻘﻼع ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﻄﻞ
أﻳﻀﺎ ﻣﻦ أﻋﲆ ﻣﺜﻞ املﺴﺎﻛﻦ ﻋﲆ ﻣﻴﺪان داﺧﲇ واﺳﻊ .واﻟﻐﺮﻳﺐ أن أﺑﻮاب ﻫﺬه املﺴﺎﻛﻦ ً
ﺑﻴﻮت اﻟﺤُ َﻔﺮ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈن املﻨﻈﺮ اﻟﻌﺎم ﻣﻦ املﻴﺪان اﻟﺪاﺧﲇ ﻫﻮ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻷﺑﻨﻴﺔ املﱰاﺟﻌﺔ
إﱃ اﻟﺨﻠﻒ ﻛﻠﻤﺎ ارﺗﻔﻌﺖ .وﻫﺬا املﺠﻤﻊ اﻟﻜﺒري املﺘﻼﺻﻖ ﻣﻦ املﺴﺎﻛﻦ ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ »ﺑﻮﻳﺒﻠﻮ« ،وﻣﻦ
ﺛ ﱠﻢ أُﻃﻠِﻖ ﻋﲆ اﻟﺴﻜﺎن ﻫﺬا اﻻﺳﻢ ،وﻳﻜﻮﱢن اﻟﺒﻮﻳﺒﻠﻮ ﺗﺠﻤﻌً ﺎ ﻟﺤﻴﺎة ﻣﺸﱰﻛﺔ ﺗﻌﺎوﻧﻴﺔ ،وﻟﻮ
اﺗﺠﺎﻫﺎ ﺣﺪﻳﺜًﺎ ﺑﺘﺄﺛري اﻻﺣﺘﻜﺎك
ً أن اﻻﺗﺠﺎه إﱃ ﺑﻨﺎء ﻣﺴﺎﻛﻦ ﻣﻨﻌﺰﻟﺔ وﺗﻔﻜﻴﻚ اﻟﺒﻮﻳﺒﻠﻮ ﻛﺎن
اﻟﺤﻀﺎري ﻣﻊ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴني.
) (٧املﺴﺎﻛﻦ املﺸﱰﻛﺔ :ﻫﺬا ﻧﻮع آﺧﺮ ﻏري اﻟﺒﻮﻳﺒﻠﻮ ،وﻫﻮ اﻟﺬي ﻧﺴﻤﱢ ﻴﻪ اﻟﺒﻴﺖ اﻟﻄﻮﻳﻞ،
وﺑﺪاﻳﺎت ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ املﺴﻜﻦ ﻗﺪﻳﻤﺔ ﺗﺮﺟﻊ إﱃ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻷﻋﲆ ،وﻫﻮ
ﻣﻮﺟﻮد ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ ﰲ ﻏﺎﺑﺎت اﻷﻣﺎزون وﻣﻌﻈﻢ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ وﻏﻴﻨﻴﺎ اﻟﺠﺪﻳﺪة ،وﻛﺜري ﻣﻦ
ﺟﺰر املﺤﻴﻂ اﻟﻬﺎدي ،وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎن ﺷﺎﺋﻌً ﺎ ﻋﻨﺪ اﻹﻳﺮوﻛﻮﻳﺰ ،وﻗﺪ وﺻﻔﻪ ﻟﻮﻳﺲ ﻣﻮرﺟﺎن
دﻗﻴﻘﺎ ،وﻣﻌﻈﻢ ﻫﺬه اﻟﺒﻴﻮت اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ ﺗﺴﻴﻄﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺘﻨﻈﻴﻤﺎت اﻷﻣﻮﻳﺔ.ً ً
وﺻﻔﺎ
ً
أﺷﻜﺎﻻ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ املﺴﺎﻛﻦ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺰراﻋﻴﺔ اﻟﻜﺜﻴﻔﺔ وﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ ﻧﺠﺪ
وﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﻠﻴﺎ ﻋﺎﻣﺔ .وﻣﻌﻈﻢ ﻫﺬه املﺴﺎﻛﻦ ﻣﺒﻨﻴﺔ ﺑﺎﻟﻄﻮب اﻟﻠﺒﻦ أو املﺤﺮوق
ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ اﻷﺳﻤﻨﺖ ،وﻟﻜﻦ ﰲ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺠﺒﻠﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻮﻓﺮ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺤﺠﺎرة ﻳُﺒﻨَﻰ اﻟﺒﻴﺖ
ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺮ .وﻫﻨﺎك دراﺳﺎت ﻣﻤﺘﻌﺔ وﺧﺮاﺋﻂ ﺗﻮزﻳﻌﻴﺔ ﻷﺷﻜﺎل اﻟﺒﻴﻮت اﻟﺮﻳﻔﻴﺔ ووﻇﺎﺋﻔﻬﺎ
وﺧﻄﺘﻬﺎ ﰲ أوروﺑﺎ ،ﻛﻤﺎ ﺗﺘﻨﺎول ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺎت أﻟﻮان اﻟﺒﻴﻮت اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ وأﺷﻜﺎل املﻮاﻗﺪ،
وﻳﺴﺘﻔﻴﺪ ﻣﻦ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺔ ﻋﻠﻢ اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ Volkskundeوﻫﻮ ﻗﺮﻳﺐ اﻟﺸﺒﻪ
ﺑﺎﻟﺪراﺳﺎت اﻟﻔﻮﻟﻜﻠﻮرﻳﺔ ،وﺗﻜﻮﱢن ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺎت ﺧﺎﻣﺔ ﻃﻴﺒﺔ ﻟﻠﺪراﺳﺎت اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت املﺘﻘﺪﻣﺔ املﻌﺎﴏة.
) (5-3اﻟﻨﻘﻞ
ﺑﺮﻏﻢ أن وﻇﻴﻔﺔ اﻟﻨﻘﻞ ﺟﺰءٌ ﻻ ﻳﺘﺠﺰأ ﻣﻦ اﻷﻧﻈﻤﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ وأﻧﻤﺎط اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﻐﺬاء،
ﱠإﻻ أﻧﻨﺎ ﺳﻨﺪرﺳﻪ ﻫﻨﺎ دراﺳﺔ ﻣﻮﺟﺰة ﻛﺠﺰءٍ ﻣﻦ اﻹﻧﺘﺎج اﻟﺤﻀﺎري املﺎدي ﺑﺤﻜﻢ ارﺗﺒﺎﻃﻪ
ﺑﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻹﻧﺘﺎج ،واﻷﻫﻤﻴﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﻨﻘﻞ ﻫﻲ أﻧﻪ اﻟﻮﺳﻴﻠﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة ﺑني اﻹﻧﺘﺎج ﺑﺸﺘﱠﻰ
ﻄﺎ ﻓﻘﻂ ﺑﺈﻧﺘﺎج اﻟﺴﻠﻊ اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ واﻗﺘﺼﺎدﻳﺎتأﺷﻜﺎﻟﻪ وﺑني اﻻﺳﺘﻬﻼك .وﻗﺪ ﻳﺒﺪو ذﻟﻚ ﻣﺮﺗﺒ ً
382
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
اﻟﺴﻮق ،وﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ﻻ ﻳﻤﺜﻞ ﺳﻮى ﻣﺮﺣﻠﺔ ﺣﺪﻳﺜﺔ ﻧﺴﺒﻴٍّﺎ ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ
ﻫﻨﺎك ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار ﴐورة ﻟﻠﻨﻘﻞ ﺣﺘﻰ ﰲ أﺑﺴﻂ أﺷﻜﺎل اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺒﺎﺋﺪة واملﻌﺎﴏة.
ﻓﺎﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻴﺶ ﻋﲆ ﺟﻤﻊ اﻟﻨﺒﺎت واﻟﺼﻴﺪ أو اﻟﺴﻤﺎﻛﺔ ﺗﺤﺘﺎج إﱃ وﺳﻴﻠﺔ ﻣﺎ
ﻣﻦ اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ ﻟﻨﻘﻞ ﻣﺎ ﺗﺠﻤﻌﻪ أو ﺗﺼﻄﺎده إﱃ ﻣﻜﺎن اﻻﺳﺘﻬﻼك :املﻌﺴﻜﺮ املﺘﻨﻘﻞ أو اﻟﻘﺮﻳﺔ
اﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ،وﻻ ﻧﺘﺼﻮر أن اﻹﻧﺴﺎن ﻛﺎن ﻳﺄﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺠﻤﻌﻪ أو ﻳﺼﻄﺎده ﰲ املﻜﺎن املﺒﺎﴍ ﻟﻠﺠﻤﻊ
أو اﻟﺼﻴﺪ ،ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎن ﻋﺪد ﻋﺼﺒﺔ اﻟﺼﻴﺪ أو اﻟﺠﻤﻊ ﺻﻐريًا ،ﻓﻬﺬه اﻟﻌﺼﺒﺔ ﺗﻀﻢ اﻷﻃﻔﺎل
وﻛﺒﺎر اﻟﺴﻦ ،وﻫﺆﻻء ﻻ ﻳﺘﺤﺮﻛﻮن ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ .ﻛﻤﺎ أن اﻟﺠﻤﻊ واﻟﺼﻴﺪ ﻟﻴﺲ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻳﻮﻣﻴﺔ
داﺋﻤﺔ ،وﻟﻴﺴﺖ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺗﻠﻘﺎﺋﻴﺔ ،ﺑﻞ ﻫﻲ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻣﻨﻈﻤﺔ ﺗﺘﻢ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ ﺑني اﻟﺤني واﻟﺤني،
وﻛﺬﻟﻚ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻛﻞ ﺑﻴﺌﺔ ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ أو ﻛﻞ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﻣﺤﻠﻴﺔ ﺗﻔﺘﺢ أﺑﻮاﺑﻬﺎ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻣﺨﺎزن داﺋﻤﺔ
ﻳﻤ ﱡﺪ اﻹﻧﺴﺎن ﻳﺪه إﻟﻴﻬﺎ ﻟﻴﺤﺼﻞ ﻋﲆ ﻏﺬاﺋﻪ ،ﺑﻞ إن ﻣﺎ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻣﻦ ﻏﺬاء ﻳﺤﺘﺎج إﱃ ﻋﻨﺎء
وﺟﻬﺪ ﻛﺒري ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ اﻹﻧﺴﺎن ﻟﻜﻲ ﻳﺤﺼﻞ ﻋﻠﻴﻪ ،ﻛﻤﺎ أن ﻫﻨﺎك ﻣﻮاﺳﻢ ﻟﻺﻧﺒﺎت واﻹﺛﻤﺎر،
وﻣﻮاﺳﻢ ﻟﻈﻬﻮر اﻟﺤﻴﻮان واﻷﺳﻤﺎك ﺑﻜﺜﺮة ،وﻣﻮاﺳﻢ ﺗﻬﺎﺟﺮ ﻓﻴﻬﺎ أﻋﺪاد اﻟﺤﻴﻮان ﻣﻦ ﻣﻜﺎن
إﱃ آﺧﺮ ﺣﺴﺐ إﻳﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺤﻴﺎة واﻻﺣﺘﻴﺎﺟﺎت اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻟﻠﺤﻴﻮان واﻹﻧﺴﺎن واﻷﺳﻤﺎك،
وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻓﺈن ﻫﻨﺎك ﺗﻨﻈﻴﻤً ﺎ ﻣﺤﺪدًا داﺧﻞ ﻫﺬه املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻟﻠﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﻐﺬاء.
ﻣﻦ ﻫﺬا ﻛﻠﻪ ،ﻳﺘﻀﺢ ﻟﻨﺎ أن اﻹﻧﺴﺎن ﻛﺎن ﻣﺤﺘﺎﺟً ﺎ ﻟﻠﻨﻘﻞ ﻟﺴﺒﺒني رﺋﻴﺴﻴني؛ اﻷول:
إﻃﻌﺎم اﻷﻃﻔﺎل وﻛﺒﺎر اﻟﺴﻦ وﺗﻮﻓري اﺣﺘﻴﺎﺟﺎﺗﻬﻢ اﻟﻐﺬاﺋﻴﺔ ﺑﺼﻔﺔ ﻣﺴﺘﻤﺮة ،واﻟﺜﺎﻧﻲ :ﻣﺮﺗﺒﻂ
ﺑﺎﻟﻈﺮوف اﻹﻳﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﺪﻋﻲ ﻧﻘﻞ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ وﻓﺮة اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﰲ ﻣﻮاﺳﻤﻬﺎ إﱃ
املﻌﺴﻜﺮ ﻟﺘﺄﻣني اﻟﻐﺬاء ﻟﻠﺠﻤﻴﻊ .وﻫﺬا ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺤﺪث داﺧﻞ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ املﻌﺎﴏة ﻣﻊ
اﺳﺘﺜﻨﺎء ﺣﺎﻟﺘني؛ اﻷوﱃ :ﻋﻨﺪ اﻟﺴﻤﱠ ﺎﻛني ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﻮﻓﺮة اﻟﺪاﺋﻤﺔ ،واﻟﺜﺎﻧﻴﺔ :ﻋﻨﺪ اﻟﺼﻴﱠﺎدﻳﻦ
ﰲ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ ﺻﻴ ٍﺪ ﻛﺒري .وﰲ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻷوﱃ ﻧﺠﺪ اﻟﺴﻤﱠ ﺎﻛني ﻗﺪ اﺳﺘﻘﺮوا ﰲ ﻗﺮى
داﺋﻤﺔ ﻛﺒرية أو ﺻﻐرية ﻗﺮب ﻣﺼﺪر اﻟﺴﻤﻚ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻻ ﺗﻈﻬﺮ اﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ اﻟﻨﻘﻞ ﺑﺼﻮرة
واﺿﺤﺔ ،وﰲ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻳﻨﺘﻘﻞ املﻌﺴﻜﺮ ﺑﺄﻃﻔﺎﻟﻪ وﻛﺒﺎره املﺴﻨني إﱃ ﻣﻜﺎن اﻟﺤﻴﻮان
اﻟﻜﺒري اﻟﺬي ﺗﻢ اﺻﻄﻴﺎده وﻳﺘﻌﺬر ﻧﻘﻠﻪ ،ﻣﺜﻞ اﻟﻔﻴﻞ ﻋﻨﺪ اﻷﻗﺰام ﰲ ﺣﻮض اﻟﻜﻨﻐﻮ ،واﻟﺰراف
ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺸﻤﻦ ﰲ ﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ .ﻳﻨﺘﻘﻞ املﻌﺴﻜﺮ وﻳﻘﻴﻢ ﺑﻀﻌﺔ أﻳﺎم إﱃ أن ﻳﺄﺗﻲ ﻋﲆ ﻣﻌﻈﻢ
أﻳﻀﺎ ﺑﺘﺪﺧني وﺗﺠﻔﻴﻒ ﺑﻌﺾ اﻟﻠﺤﻮم ﻫﺬا »املﺨﺰن« اﻟﻜﺒري ﻣﻦ اﻟﻠﺤﻢ ،ﻟﻜﻦ املﺠﺘﻤﻊ ﻳﻘﻮم ً
وﻳﻨﻘﻠﻬﺎ ﻣﻌﻪ ﻟﺘﻜﻮن ذﺧرية ﻏﺬاﺋﻴﺔ ﻟﻸﻳﺎم اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ.
وﺗﺨﺘﻠﻒ وﺳﺎﺋﻞ اﻟﻨﻘﻞ ﻛﺜريًا ﺑني اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻤﻴﱢﺰ ﺛﻼث
ﻣﺮاﺣﻞ ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﰲ ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﻨﻘﻞ ،ﻫﻲ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻟﺘﻄﻮر اﻟﺤﻀﺎري ﻣﻦ
383
اﻹﻧﺴﺎن
ﻧﺎﺣﻴﺔ واﻟﻈﺮوف اﻹﻳﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﺛﺎﻧﻴﺔ .وﻫﺬه املﺮاﺣﻞ اﻟﺜﻼث ﰲ اﻟﻨﻘﻞ ﻫﻲ :ﻣﺮﺣﻠﺔ
اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻄﺎﻗﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ – ﻣﺮﺣﻠﺔ اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻄﺎﻗﺔ اﻟﺤﻴﻮاﻧﻴﺔ – ﻣﺮﺣﻠﺔ اﺳﺘﺨﺪام
اﻟﻄﺎﻗﺔ ﻏري اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ.
384
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
)(٢
)(١
)(٣
)(٤
)(٦
)(٧ )(٥
)(٨
)(١٠
)(٩
)(١١
385
اﻹﻧﺴﺎن
وﻋﲆ ﻫﺬا ﺗﻌﺪدت اﻻﺑﺘﻜﺎرات اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺘﺤﺴني ﻗﺪرة اﻹﻧﺴﺎن ﻋﲆ اﻟﺤﻤﻞ أو اﻟﺠﺮ ،وﻣﻌﻬﺎ
ﺗﻌﺪدت اﻻﺑﺘﻜﺎرات اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺼﻨﺎﻋﺔ اﻷوﻋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻤﻞ ﻓﻴﻬﺎ اﻷﺷﻴﺎء املﺮاد ﻧﻘﻠﻬﺎ ،ﻛﺎﻟﺜﻤﺎر
أو اﻟﺠﺬور اﻟﻨﺒﺎﺗﻴﺔ أو اﻟﻠﺤﻮم أو املﻴﺎه ،وﻛﺎن أﺣﺴﻦ ﻣﺎ اﺑﺘﻜﺮه اﻹﻧﺴﺎن ﻟﺬﻟﻚ ﻫﻮ اﻟﺴﻼل
ﻷﻧﻬﺎ ﻣﺼﻨﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺨﺎﻣﺔ اﻟﻨﺒﺎﺗﻴﺔ اﻟﺸﺎﺋﻌﺔ اﻟﻮﺟﻮد ﰲ اﻟﺒﻴﺌﺔ ،وﻷﻧﻬﺎ أﺧﻒ وﻋﺎء ﻳﻤﻜﻦ
اﻟﺤﺼﻮل ﻋﻠﻴﻪ ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ إﻣﻜﺎن اﻟﺘﺤﻜﻢ ﰲ ﺣﺠﻤﻪ ﺧﻼل ﺻﻨﻌﻪ.
وﻣﻦ اﻟﺒﺪﻳﻬﻲ اﻟﻘﻮل أن أﺣﺪ أﻫﻢ وﺳﺎﺋﻞ اﻻﻧﺘﻘﺎل ﻋﻨﺪ اﻹﻧﺴﺎن ﻫﻮ أن ﻳﻨﺘﻌﻞ ﻣﺎ
ﻳﺴﺎﻋﺪه ﻋﲆ اﻟﺤﺮﻛﺔ ،ﺧﺎﺻﺔ ﰲ اﻟﻈﺮوف اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ اﻟﻘﺎﺳﻴﺔ .وﻟﻘﺪ ﺳﺒﻖ أن أوﺿﺤﻨﺎ ذﻟﻚ
ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻜﻠﻤﻨﺎ ﻋﻦ املﻼﺑﺲ واﻷﺣﺬﻳﺔ ،وﻟﻜﻨﻨﺎ ﻧﻮد أن ﻧﺸﺪد ﻫﻨﺎ ﻋﲆ أﻫﻤﻴﺔ ﺣﺬاء اﻟﺠﻠﻴﺪ أو
ﺣﺬاء اﻟﺜﻠﺞ ) Snowshoeاﻧﻈﺮ ﺷﻜﻞ 6-6رﻗﻢ ،(٩وﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪ اﺑﺘﻜﺎر ﻫﺬا اﻟﺤﺬاء اﻹﻧﺴﺎن
ﻋﲆ ارﺗﻴﺎد املﻨﺎﻃﻖ اﻟﻘﻄﺒﻴﺔ أو املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺘﻲ ﻳﻐﻄﻴﻬﺎ اﻟﺠﻠﻴﺪ ﺷﺘﺎءً .وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ املﺘﺼﻮر
أن ﻳﺘﻮﻏﻞ اﻹﻧﺴﺎن إﱃ اﻟﺘﻨﺪرا ،وأن ﻳﻤﺎرس ﺻﻴﺪ اﻟﺤﻴﻮان ﰲ اﻟﺘﻨﺪرا واﻟﻐﺎﺑﺎت املﺨﺮوﻃﻴﺔ
اﻟﺴﻴﺒريﻳﺔ واﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﺑﺪون ﻫﺬا اﻟﺤﺬاء ،وﻫﺬا ﻟﻴﺲ ﺑﺤﺬاء ﺑﺎملﻌﻨﻰ املﻔﻬﻮم ،إﻧﻤﺎ ﻫﻮ إﻃﺎر
ﻣﻦ اﻟﺨﺸﺐ اﻟﺬي ﻳﺴﻬﻞ ﺛﻨﻴﻪ ﰲ ﺻﻮرة داﺋﺮﻳﺔ أو ﺑﻴﻀﺎوﻳﺔ ،وﺗُﺜﺒﱠﺖ إﻟﻴﻪ ﺷﺒﻜﺔ ﻣﻦ اﻟﺠﻠﻮد
واﻟﺤﺒﺎل ﺛﻢ ﻳُﺜﺒﱠﺖ ﰲ ﺣﺬاء اﻹﻧﺴﺎن .وﻫﻮ ﺑﺬﻟﻚ ﻳﺨﺪم ﻏﺮﺿني؛ اﻷول :ﴎﻋﺔ اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻓﻮق
اﻟﺠﻠﻴﺪ اﻟﺼﻠﺐ ،واﻟﺜﺎﻧﻲ :ﻣﻨﻊ ﺗﻌﻤﱡ ﻖ اﻟﻘﺪم ﻛﺜريًا ﰲ اﻟﺜﻠﻮج اﻟﻬﺸﺔ )وﻫﻮ ﺑﺬﻟﻚ ﻳﺸﺒﻪ وﻇﻴﻔﺔ
ﻒ اﻟﺠﻤﻞ ﰲ اﻟﺮﻣﺎل اﻟﻨﺎﻋﻤﺔ( .وأﻏﻠﺐ اﻟﻈﻦ أن ﺣﺬاء اﻟﺜﻠﺞ ﻫﺬا ﻗﺪ اﻛﺘُ ِﺸﻒ ﰲ ﺷﻤﺎل ُﺧ ﱢ
آﺳﻴﺎ وأوروﺑﺎ واﻧﺘﻘﻞ ﻛﻬﺠﺮة ﺣﻀﺎرﻳﺔ إﱃ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ.
اﻟﺰﻻﺟﺎت Skiاﻟﺨﺸﺒﻴﺔ اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺘﻤﻜﻦ ﻛﺬﻟﻚ ﻃﻮﱠر ﺳﻜﺎن ﺷﻤﺎل أوروآﺳﻴﺎ ﱠ
ﻣﻦ اﻟﺴري اﻟﴪﻳﻊ ﻋﲆ املﺴﻄﺤﺎت اﻟﺠﻠﻴﺪﻳﺔ ﰲ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻤﻴﺰ ﺑﺘﺴﺎﻗﻂ ﺛﻠﺠﻲ
واﻟﺰﻻﺟﺎت ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻗﻄﻌﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﺨﺸﺐ ﻗﻠﻴﻠﺔ اﻟﻌﺮض ﺗُﺜﺒﱠﺖ إﱃ اﻟﻘﺪم، ﱠ ﻛﺜﻴﻒ.
ﱠ
وﻳﻤﻜﻦ ﻟﺮاﻋﻲ اﻟﺮﻧﺔ أن ﻳﺘﺎﺑﻊ ﺳري اﻟﻘﻄﻴﻊ أﺛﻨﺎء اﻟﻬﺠﺮة املﻮﺳﻤﻴﺔ ،ﻣﻊ ﺣﻤﻞ ﻋﲆ ﻇﻬﺮه
ملﺴﺎﻓﺔ ﻗﺪ ﺗﺰﻳﺪ ﻋﲆ ﻣﺎﺋﺔ ﻛﻴﻠﻮﻣﱰ ﰲ اﻟﻴﻮم اﻟﻮاﺣﺪ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪام اﻟﺰﻻﺟﺎت.
386
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
ﰲ ﺗﺤﺪﻳﺪ أﻧﻮاع اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺼﻠﺢ ﻟﻠﻨﻘﻞ :اﻟﺮﻧﺔ واﻟﻜﻼب ﰲ اﻟﻨﻄﺎق اﻟﺸﻤﺎﱄ اﻟﺒﺎرد،
اﻟﺨﻴﻮل ﰲ اﻟﻨﻄﺎق اﻟﻌﺸﺒﻲ املﻌﺘﺪل ،اﻟﺒﻐﺎل ﰲ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺠﺒﻠﻴﺔ واﻟﻮﻋﺮة ،اﻹﺑﻞ ﰲ اﻟﻨﻄﺎق
اﻟﺠﺎف ،واﻷﺑﻘﺎر ﰲ ﻧﻄﺎق اﻟﺤﺸﺎﺋﺶ املﺪارﻳﺔ .وﻧﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻧﻀﻴﻒ إﻟﻴﻬﺎ اﻟﺠﺎﻣﻮس واﻟﻔِ ﻴَﻠﺔ
ﰲ املﻨﻄﻘﺔ املﻮﺳﻤﻴﺔ ﻣﻦ آﺳﻴﺎ ،واﻟﻼﻣﺎ )ﺟﻤﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ( ﰲ اﻷﻧﺪﻳﺰ.
واﻻﺧﺘﻼﻓﺎت واﺿﺤﺔ ﺑني ﻛﻞ ﺣﻴﻮان وآﺧﺮ ﰲ ﻃﺎﻗﺘﻪ وﻗﺪرﺗﻪ ﻋﲆ اﻟﺤﻤﻞ أو اﻟﺠﺮ أو
ﻫﻤﺎ ﻣﻌً ﺎ ،وﻟﻜﻦ املﺠﺘﻤﻌﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ اﺳﺘﻔﺎدت ﻣﻦ اﻟﺤﻴﻮان اﻟﺮﺋﻴﴘ ﰲ ﺑﻴﺌﺘﻬﺎ ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ
املﻼﺋﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺧﺪﻣﺖ أﻏﺮاﺿﻬﺎ ﰲ اﻟﻨﻘﻞ .وﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﻷﻧﻮاع اﻟﺤﻴﻮان اﻧﻌﻜﺎس ﻋﲆ اﻟﱰﻛﻴﺐ
اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ واﻟﺴﻴﺎﳼ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻌﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ )ﻣﺜﻞ ﻣﺠﺘﻤﻊ رﻋﺎة اﻟﺨﻴﻞ اﻟﻘﺎﺋﻢ ﻋﲆ أﺳﺎس
اﻟﻘﻴﺎدة اﻟﻘﻮﻳﺔ واﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻟﻌﺴﻜﺮي واﻟﻐﺰو واﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﴪﻳﻌﺔ ،إﱃ ﺟﺎﻧﺐ إﻳﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
اﻟﺴﻬﻮب واﻹﺳﺘﺒﺲ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل( .وﻟﻘﺪ ﺳﺎﻋﺪ اﻟﻨﻘﻞ ﺑﻮاﺳﻄﺔ
اﻟﺤﻴﻮان ﻋﲆ زﻳﺎدة ﻛﻤﻴﺔ اﻟﺴﻠﻊ املﻨﻘﻮﻟﺔ ،وﺧﺎﺻﺔ ﰲ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺰراﻋﻴﺔ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻬﺎ د ﱠﻟﺖ إﱃ
ً
وﺧﺎﺻﺔ ﰲ زﻳﺎدة اﻻﺗﺼﺎل واﻻﺣﺘﻜﺎك ﺑني اﻟﺸﻌﻮب ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﺠﺎرة واﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﴪﻳﻌﺔ،
ﺻﻮرة اﻟﻘﻮاﻓﻞ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗَﻌْ ُﱪ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﻣﻦ أﻗﺼﺎه ﰲ اﻟﺼني إﱃ أﻗﺼﺎه ﰲ اﻟﴩق
اﻷوﺳﻂ وأوروﺑﺎ ،وﻣﻦ اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺪاري اﻷﻓﺮﻳﻘﻲ .وﻻ ﺷ ﱠﻚ أن اﻛﺘﺸﺎف
أﻳﻀﺎ ﻃﺎﻗﺔ اﻟﺤﻴﻮان ﰲ ﻧﻘﻞ ﻛﻤﻴﺎت أﻛﱪ ﻣﻦ اﻟﺤﻤﻮﻟﺔ ﻣﺒﺪأ اﻟﻌﺠﻠﺔ )اﻟﺪوﻻب( ﻗﺪ رﻓﻊ ً
ﻧﻘﻼ ﴎﻳﻌً ﺎ ،ﻟﻜﻦ اﻟﻌﺮﺑﺎت ﻟﻢ ﺗﺤﻞ ﻣﺤﻞ اﻟﻘﻮاﻓﻞ اﻟﺘﺠﺎرﻳﺔ ﰲ اﻟﺘﺠﺎرﻳﺔ أو اﻷﺷﺨﺎص ً
اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ اﻟﺤﻴﻮان ﻛﺄداة ﺣﻤﻞ وﻟﻴﺲ ﻛﻮﺳﻴﻠﺔ ﻟﻠﺠﺮ ،وﻣﻊ
ذﻟﻚ ﻓﻘﺪ ﺳﺎﻋﺪت اﻟﻌﺮﺑﺎت ﻋﲆ ﻧﺤﻮ اﻟﺘﺠﺎرات اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ واملﺤﻠﻴﺔ ،وﻋﲆ ﻫﺠﺮة اﻟﺸﻌﻮب،
وﺧﺎﺻﺔ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﺣﻴﻨﻤﺎ اﺳﺘﻮﻃﻦ اﻷوروﺑﻴﻮن أﻣﺮﻳﻜﺎ .وﻣﺎ زال ﻣﺒﺪأ اﻟﻌﺠﻠﺔ ﻗﺎﺋﻤً ﺎ
ﺣﺘﻰ اﻵن ،وأﺻﺒﺢ ﺟﺰءًا ﺑﺪﻳﻬﻴٍّﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺎة اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ واملﻌﺎﴏة ﺑﺮﻏﻢ
ﻴﻒ إﱃ اﻟﻘﺮص اﻟﺨﺸﺒﻲ ﺣﻠﻘﺔ ﻃﻮﱢر إﱃ أن أ ُ ِﺿ َ
ﺣﺪاﺛﺘﻪ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ ،ﻓﻘﺪ اﻛﺘُ ِﺸﻒ ﻫﺬا املﺒﺪأ و ُ
ﺣﺪﻳﺪﻳﺔ ﺗﻌﻄﻴﻪ ﻣﺘﺎﻧﺔ وﻋﻤ ًﺮا أﻃﻮل ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ )اﻷﻧﺎﺿﻮل واﻟﴩق اﻷوﺳﻂ
اﻟﻌﺮﺑﻲ( ﰲ ﺣﺪود اﻷﻟﻒ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد.
وﻟﻘﺪ ﻃﻮﱠر اﻹﻧﺴﺎن ﻋﺪدًا ﻣﻦ اﻻﺑﺘﻜﺎرات ﻟﺮﻓﻊ إﻣﻜﺎﻧﻴﺎت اﻟﺤﻴﻮان ﰲ اﻟﻨﻘﻞ .وﺗﺨﺘﻠﻒ
ﻫﺬه اﻻﺑﺘﻜﺎرات ﺑﺎﺧﺘﻼف اﺳﺘﺨﺪام اﻟﺤﻴﻮان :ﻟﻠﺤﻤﻞ أو ﻟﻠﺠﺮ ،وﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺘﺺ ﺑﺎﺑﺘﻜﺎرات
اﻟﺤﻤﻞ ﻧﺠﺪ املﺒﺎدئ ﻧﻔﺴﻬﺎ اﻟﺘﻲ ﻃﻮﱠرﻫﺎ اﻹﻧﺴﺎن ﻟﻨﻔﺴﻪ ﻟﻜﻲ ﻳﺰﻳﺪ ﻣﻦ ﻃﺎﻗﺘﻪ ﰲ اﻟﻨﻘﻞ،
ﻮﺿﻊ ﻋﲆ ﻇﻬﺮ اﻟﺤﻴﻮان ﻳُﺜﺒﱠﺖ اﻟﻌﴢ املﺘﻮازﻳﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﺗﺮﻛﻴﺒﺔ ﺧﺸﺒﻴﺔ ﺗُ َ ﱡ وأﻫﻤﱡ ﻬﺎ اﻟﻌﺼﺎ أو
إﻟﻴﻬﺎ أوﻋﻴﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﺠﺪاﺋﻞ أو اﻟﺴﻼل .وزاد ﻋﻠﻴﻬﺎ إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﺗﺜﺒﻴﺖ »اﻟﻬﻮدج« ﻋﲆ ﻇﻬﺮ
387
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت اﻟﻘﻮﻳﺔ ﻣﺜﻞ اﻹﺑﻞ واﻟﻔِ ﻴَﻠﺔ ﺑﻌﺪ أن ﻛﺎن ﻳُﺤﻤَ ﻞ ﻋﲆ أﻛﺘﺎف ﻋﺪد ﻣﻦ اﻷﺷﺨﺎص.
اﻟﺒﻘﺎرة اﻟﻌﺮب ﰲ اﻟﺴﻮدان اﻟﺜريان ﻟﺤﻤﻞ ﻫﻮدج ﻣﺸﺎﺑﻪ ﻟﺬﻟﻚ اﻟﺬي ﻛﺎن ﺷﺎﺋﻌً ﺎ وﻳﺴﺘﺨﺪم ﱠ
ﺑﻄﺮق ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ .أﻣﱠ ﺎ
ٍ ً
ﺗﻌﺪﻳﻼ ﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ ﻻﺳﺘﺨﺪام اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻺﺑﻞ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻧﺮى
ﱠ
اﻟﺰﺣﺎﻓﺎت ﻣﻨﺬ ﻓﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ ﰲ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺠﻠﻴﺪﻳﺔ، ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻻﺑﺘﻜﺎرات اﻟﺠﺮ ،ﻓﻘﺪ اﺳﺘُ ْﺨﺪِﻣﺖ
وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻄﺎﻗﺔ املﺴﺘﺨﺪﻣﺔ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻫﻲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻜﻼب ،أو اﻟﺮﻧﺔ ﺑﻌﺪ اﺳﺘﺌﻨﺎﺳﻬﺎ .ﻛﺬﻟﻚ
اﺳﺘُﺨﺪِم اﻟﺤﻴﻮان ﻟﺠﺮ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺜﻘﻴﻠﺔ ﻋﲆ ﻣﺘﻮازﻳني ﻣﻦ اﻟﺨﺸﺐ ،وأﺧريًا اﺳﺘُﺨﺪِم اﻟﺤﻴﻮان
ﰲ ﺟ ﱢﺮ اﻟﻌﺮﺑﺎت ،واﻟﻌﺮﺑﺔ ﰲ ﺣﺪ ذاﺗﻬﺎ اﺑﺘﻜﺎر ﺣﻀﺎري ﻗﻴﱢﻢ ﺗﻄﻠﺐ ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻣﺘﻘﺪﻣﺔ
أﻟﻮاح ﻣﻦ اﻟﺨﺸﺐ ﻣﻌً ﺎ ﰲ ﻫﻴﺌﺔ وﻋﺎء ﻛﺒري ،ﺛﻢ إﺿﺎﻓﺔ ﻣﺤﻮر إﱃ اﻟﻌﺮﺑﺔ ﺗﺪور ﻋﻠﻴﻪ ٍ ﻟﺮﺑﻂ
اﻟﻌﺠﻠﺔ.
388
اﻟﺤﻀﺎرة املﺎدﻳﺔ
ﺗَﻌْ ُﱪ اﻟﺒﺤﺎر املﺤﻴﻄﺔ ﺑﻤﴫ ،وﺑﺮﻏﻢ أن اﻟﺘﺠﺪﻳﻒ ﺑﻮاﺳﻄﺔ املﺠﺎذﻳﻒ ﻛﺎن أﺳﺎس اﻟﺪﻓﻊ ملﺜﻞ
ﻫﺬه اﻟﻘﻮارب اﻟﻜﺒرية ،ﱠإﻻ أن اﻟﺮﺳﻮم املﴫﻳﺔ املﻠﻮﻧﺔ ﻋﲆ »اﻟﻔﺎزات« اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻮد إﱃ ﻣﺎ ﻗﺒﻴﻞ
٣٠٠٠ق.م ﺗﻀﻴﻒ ﴍاﻋً ﺎ إﱃ اﻟﻘﻮارب .وﻗﺪ ﻇﻠﺖ املﻼﺣﺔ اﻟﺒﺤﺮﻳﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرات
اﻟﻌﻠﻴﺎ آﻻف اﻟﺴﻨني ﻋﲆ اﻷﺳﺲ اﻟﺘﻲ ﻃﻮﱠرﻫﺎ املﴫﻳﻮن ،رﻏﻢ أن املﴫﻳني ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮا ﻣﻦ
ﺷﻌﻮب اﻟﺒﺤﺮ ،ﻟﻜﻦ ﻻ ﺷ ﱠﻚ أن اﻟﻨﻴﻞ ﻛﺎن ﻣﺪرﺳﺔ ﻣﻤﺘﺎزة ﻟﻼﻫﺘﻤﺎم ﺑﺎملﻼﺣﺔ؛ ﻷﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻤﺜﱢﻞ
ﴍﻳﺎن اﻟﻨﻘﻞ اﻟﺮﺋﻴﴘ ﻃﻮل اﻟﺴﻨﺔ ،ﻛﻤﺎ أن اﻟﻔﻴﻀﺎن اﻟﺴﻨﻮي واﻣﺘﻼء اﻟﺤﻴﺎض ﺑﺎملﻴﺎه ﻛﺎن
ﻣﻜﺎن إﱃ آﺧﺮ .وﻟﻢ ﻳﺤﺪث ﺗﻄﻮر ﰲ ٍ ﻳﻀﻄﺮ اﻟﺴﻜﺎن إﱃ اﻻﺳﺘﻌﺎﻧﺔ ﺑﺎﻟﻘﻮارب ﻟﻼﻧﺘﻘﺎل ﻣﻦ
املﻼﺣﺔ إﱃ اﻟﺴﻔﻦ اﻟﻜﺒرية املﺘﻌﺪدة اﻷﴍﻋﺔ ﱠإﻻ ﺣﻮاﱄ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻜﺸﻮف اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ اﻟﻜﱪى
ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻋﴩ املﻴﻼدي ،وذﻟﻚ ﺑﺮﻏﻢ اﻟﺸﻬﺮة واﻟﻨﺸﺎط اﻟﺒﺤﺮي ﻟﻌﺪدٍ ﻣﻦ ﺷﻌﻮب
اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ ذات اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﻠﻴﺎ :اﻟﻔﻴﻨﻴﻘﻴني ،واﻹﻏﺮﻳﻖ ،واﻟﺮوﻣﺎن.
وﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻗﻮة املﻴﺎه ﰲ ﺣﻤﻞ اﻟﻘﻮارب ﺑﻤﺨﺘﻠﻒ أﺷﻜﺎﻟﻬﺎ ،أو ﻗﻮة ﺟﺮﻳﺎن املﺎء ﰲ اﻷﻧﻬﺎر
ﻫﻲ وﺣﺪﻫﺎ اﻟﻄﺎﻗﺔ ﻏري اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺘﻲ اﺳﺘﺨﺪﻣﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﺒ ﱢﻜ ًﺮا ،ﺑﻞ ﻋﺮف املﴫﻳﻮن
أﻳﻀﺎ — ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ — اﺳﺘﺨﺪام اﻟﴩاع ﻟﺘﺴﺨري ﻃﺎﻗﺔ اﻟﺮﻳﺎح ﻣﻨﺬ ﻓﱰة ﻣﺒ ﱢﻜﺮة ً
أﻳﻀﺎ، ً
ﻟﻜﻦ اﺳﺘﺨﺪام اﻟﴩاع ﻛﺎن ﻳﻤﺜﱢﻞ اﺳﺘﺨﺪام ﻃﺎﻗﺔ ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ﺧﻄﺮة ﰲ ﺣﺎﻻت اﻟﻌﻮاﺻﻒ
ً
وﺧﺎﺻﺔ واﻷﻋﺎﺻري؛ وﻟﻬﺬا ﻟﻢ ﻳﻠﺠﺄ اﻹﻧﺴﺎن إﱃ اﺳﺘﺨﺪام اﻟﺮﻳﺎح ﱠإﻻ ﰲ أوﻗﺎت ﻣﺤﺪودة،
ﺑﻌﺪ أن ﻛﱪ ﺣﺠﻢ اﻟﻘﻮارب .وﻣﻌﻈﻢ اﻟﺒﺪاﺋﻴني إﱃ اﻵن ﻻ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻮن اﻟﺮﻳﺎح وﻳﻔﻀﻠﻮن
اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻄﺎﻗﺔ اﻟﻌﻀﻠﻴﺔ ﰲ اﻟﺘﺠﺪﻳﻒ.
وﻗﺪ ﺗﻤﻜﻦ ﺳﻜﺎن ﺑﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳﺎ وﻣﻴﻼﻧﻴﺰﻳﺎ وﻣﻴﻜﺮوﻧﻴﺰﻳﺎ ﻣﻦ ﺗﻄﻮﻳﺮ ﻓﻜﺮة اﻟﻘﺎرب ﻟﻜﻲ
ﻳﻤ ﱢﻜﻨﻬﻢ ﻣﻦ اﻻﻧﺘﻘﺎل داﺧﻞ املﺤﻴﻂ ﺑني آﻻف اﻟﺠﺰر اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻮﱢن ﺑﻴﺌﺎﺗﻬﻢ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ ،وﻣﻦ
ﺛ ﱠﻢ ﺗﻈﻬﺮ ﻟﻨﺎ ﰲ املﺤﻴﻂ اﻟﻬﺎدي اﻟﻘﻮارب ذات اﻟﻌﻮﱠاﻣﺔ ) Outriggerاﻧﻈﺮ ﺷﻜﻞ ،(6-6
وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻳﻜﻮن ﻟﻠﻘﺎرب ﻋﻮاﻣﺘﺎن ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺒﻴﻪ ،ﻛﺬﻟﻚ ﻳﻤﻜﻦ رﺑﻂ ﻗﺎرﺑني إﱃ ﺑﻌﻀﻬﻤﺎ ﺑﻮاﺳﻄﺔ
اﻷﺧﺸﺎب ﻛﻤﺎ ﻳﻈﻬﺮ ﺑني ﺳﻜﺎن ﺑﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳﺎ وﻣﻴﻼﻧﻴﺰﻳﺎ وﻳُﺴﻤﱠ ﻰ اﻟﻘﺎرب املﺰدوج ،وﺳﻮاء ﻛﺎن
ﻫﺬا اﻟﺸﻜﻞ أو ذاك ﻣﻦ ﻗﻮارب اﻟﻌﻮاﻣﺎت ﻓﺈن اﻟﻐﺮض اﻷﺳﺎﳼ ﻫﻮ ﻣﻨﻊ اﻧﻘﻼب اﻟﻘﺎرب أو
اﻟﺘﻘﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﺣﺘﻤﺎﻻت اﻻﻧﻘﻼب ﺧﻼل اﻟﻌﻮاﺻﻒ واﻷﻣﻮاج ،ﻛﻤﺎ ﺳﺎﻋﺪ ﻋﲆ إﺿﺎﻓﺔ اﻟﴩاع إﱃ
ﺑﻌﺾ ﻫﺬه اﻟﻘﻮارب ،وﺑﺎﻟﺬات ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻘﺎرب املﺰدوج اﻟﺬي ﻳﺘﺤﻤﻞ ﺑﻨﺎء ﺻﺎري اﻟﴩاع.
وﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﻌﻤﻮم ﻛﺎن اﻹﻧﺴﺎن ﰲ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ ﻟﻠﻨﻘﻞ املﺎﺋﻲ ﻳﺘﺤﻜﻢ ﰲ ﺳري اﻟﻘﺎرب إﻣﱠ ﺎ
ُﺪﻓﻊ ﰲ املﺎءﺑﺎﻟﺠﻬﺪ اﻟﻌﻀﲇ ﰲ ﺻﻮرة اﻟﺘﺠﺪﻳﻒ ،أو اﺳﺘﺨﺪام املﺰارق )ﻋﻤﻮد ﻣﻦ اﻟﺨﺸﺐ ﻳ َ
إﱃ أن ﻳﺼﻞ إﱃ اﻟﻘﺎع ،وﻻ ﻳُﺴﺘﺨﺪَم ﱠإﻻ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ املﻴﺎه اﻟﻀﺤﻠﺔ( ،وإﻣﱠ ﺎ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪام اﻟﴩع
واﻟﺪﻓﺔ )اﻟﺴﻜﺎن( وﺑﺬﻟﻚ ﻛﺎن ﻳﺴﺘﺨﺪم ﻃﺎﻗﺔ ﻏري ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻟﺘﺤﺮﻳﻚ اﻟﻘﺎرب ﰲ املﺎء.
389
اﻹﻧﺴﺎن
وﻳﻮﺿﺢ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻨﻘﻞ املﺎﺋﻲ ﻛﻴﻒ أن ﻋﻨﴫًا ﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ ﻗﺪ اﺷﱰك ﰲ ﺗﻄﻮﻳﺮه ﻋﺪ ٌد
ﻛﺒريٌ ﻣﻦ اﻟﺸﻌﻮب ،رﻏﻢ أﻧﻪ ﻧﺸﺄ ﻧﺸﺄة ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ﰲ ﻋﴩات املﻨﺎﻃﻖ ﻋﲆ ﺳﻄﺢ اﻷرض،
وﻫﺬه اﻟﻨﺸﺄة املﺴﺘﻘﻠﺔ املﺘﻌﺪدة ﻻﺳﺘﺨﺪام املﺎء ﰲ اﻟﻨﻘﻞ واﻻﻧﺘﻘﺎل ﺗﻌﻠﻞ ﺳﺒﺐ اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت
اﻟﺸﺎﺳﻌﺔ ﰲ أﺷﻜﺎل وﻣﺎدة »اﻟﻄﻮف« أو »اﻟﻘﺎرب املﺤﻔﻮر« أو »اﻟﻘﺎرب اﻟﺠﻠﺪي« أو
»اﻟﻘﺎرب اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ« .ﺛﻢ ﻳﺄﺗﻲ دور اﻻﺑﺘﻜﺎر ﻓﻴﻀﻴﻒ املﴫﻳﻮن اﻟﻘﺪﻣﺎء اﻟﴩاع إﱃ اﻟﻘﺎرب،
وﺗﺘﺒﻨﻰ ﺷﻌﻮب اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ ﻫﺬا اﻟﺸﻜﻞ ،وﻳﻈﻞ املﺠﺬاف اﻷﺳﺎس ﰲ ﺗﺴﻴري اﻟﻘﺎرب أو
أﻳﻀﺎ ،وﺗﺼﺒﺢ املﻼﺣﺔ اﻟﺼﻴﻨﻴﺔ ﻣﺘﻄﻮرة ﰲ اﻟﺒﺤﺎر اﻟﺴﻔﻴﻨﺔ ،وﰲ ﴍق آﺳﻴﺎ ﻳﻈﻬﺮ اﻟﴩاع ً
اﻟﴩﻗﻴﺔ واملﺤﻴﻂ اﻟﻬﻨﺪي واﻟﻬﺎدي ﻋﲆ اﻟﺴﻮاء ،وﻳﺄﺗﻲ اﻟﻌﺮب ﺑﺴﻔﻨﻬﻢ اﻟﴩاﻋﻴﺔ املﻄﻮرة،
ﻧﻘﻼ ﻋﻦ اﻟﺼني .وأﺧريًا ﻳﺄﺗﻲ دور أوروﺑﺎ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔأﻳﻀﺎ ﻣﺒﺪأ اﻟﺒﻮﺻﻠﺔ اﻟﺒﺤﺮﻳﺔ ً
وﻳﻄﻮﱢرون ً
ﻓﺘﺄﺧﺬ ﻋﻦ اﻟﻌﺮب وﺷﻌﻮب اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ وﺗﻄﻮﱢر اﻟﺴﻔﻦ واﻟﺒﻮﺻﻠﺔ ،وﺑﺬﻟﻚ ﺗﻨﺸﻂ املﻼﺣﺔ
اﻷوروﺑﻴﺔ وﺗﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﺘﻮﻏﻞ ﰲ ﻣﻴﺎه ﻟﻢ ﻳﻄﺮﻗﻬﺎ أﺣﺪ )أو ﻟﻢ ﻳﱰدد ﻋﻠﻴﻬﺎ أﺣﺪ ﺑﺤﻴﺚ
ﺗﺼﺒﺢ ﻣﻌﺮوﻓﺔ( ،وﺗﺘﻢ ﻛﺸﻮف املﺤﻴﻂ اﻷﻃﻠﻨﻄﻲ واﻷﻣﺮﻳﻜﺘني وأﻓﺮﻳﻘﻴﺎ اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ .وأﺧريًا
ُﻌﺘﱪ اﺳﺘﺨﺪام اﻟﺒﺨﺎر ﺛﻢ آﻻت اﻟﺪﻳﺰل واملﺤﺮﻛﺎت ﰲ اﻟﺴﻔﻦ ﺣﺪﺛًﺎ ﻗﺮﻳﺐَ اﻟﻌﻬ ِﺪ ﺟﺪٍّا ،ﻓﺈن
ﻳ َ
ﺑﺪاﻳﺔ اﺳﺘﺨﺪام اﻟﺒﺨﺎر دون ﴍاع ﺣﺪﺛﺖ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻘﺮن املﺎﴈ ﻓﻘﻂ.
وﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺗﻌﺪد أﺷﻜﺎل اﻟﻨﻘﻞ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ وﺳﻴﺎدة اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻄﺎﻗﺔ ﻏري
اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،ﱠإﻻ أن اﻟﻨﻘﻞ ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻹﻧﺴﺎن أو اﻟﺤﻴﻮان أو اﻟﻘﻮارب اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻣﺎ زال ﺷﺎﺋﻌً ﺎ
ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻛﺜرية ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺒﺪاﺋﻲ ،ﻛﺬﻟﻚ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﻼﺣﻆ أن اﻟﻄﺎﻗﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﰲ اﻟﻨﻘﻞ
ﻣﺎ زاﻟﺖ ﻣﺴﺘﺨﺪﻣﺔ ﺣﺘﻰ ﰲ أﻛﺜﺮ املﻨﺎﻃﻖ ﺗﻘﺪﱡﻣً ﺎ ،ﻓﺎﻟﻌﻤﺎﻟﺔ اﻟﻴﺪوﻳﺔ ﻣﻮﺟﻮدة وﻗﺎﺋﻤﺔ ﰲ
ﻄﺎت اﻟﺴﻜﻚ اﻟﺤﺪﻳﺪﻳﺔ ،واﻷﺳﻮاق اﻟﻜﱪى ﰲ املﺪن .وﻋﲆ ذﻟﻚ، املﻮاﻧﺊ ،واملﻄﺎرات ،وﻣﺤ ﱠ
ﻓﺈن اﻟﻨﻘﻞ ﻣﺎ زال ﻳُﺴﺘﺨﺪَم ﰲ ﻛﻞ ﻣﺎ اﺑﺘﻜﺮه اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ وﺳﺎﺋﻞ ﻣﻨﺬ اﻟﻘﺪم ،وﻻ ﻳﺠﺐ أن
ﱠ
ﻧﻈﻦ أن اﻹﻧﺴﺎن ﻛﺎن ﻳﻨﺤﱢ ﻲ ﺟﺎﻧﺒًﺎ وﺳﻴﻠﺔ ﻧﻘﻞ ﻗﺪﻳﻤﺔ ﺑﻤﺠﺮد اﺑﺘﻜﺎره وﺳﻴﻠﺔ ﺟﺪﻳﺪة.
390
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ
1
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
أو ﻓﺌﺎت اﻷﻋﻤﺎر ،وﺑﺬﻟﻚ ﻳﺤﺪث ﺗﺨﺼﺺ أو ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ اﻟﺘﺨﺼﺺ اﻹﻧﺘﺎﺟﻲ ﰲ ﺻﻮرة
وﻇﺎﺋﻒ ﻣﻌﻴﻨﺔ واﺿﺤﺔ وﻣﺤﺪدة .وﻳﺪﺧﻞ ﺿﻤﻦ ﻫﺬه اﻟﱰﺗﻴﺒﺎت ﰲ املﺠﺘﻤﻊ أﺷﻜﺎل ﻣﻠﻜﻴﺔ
اﻷرض واﻟﺤﻴﺎزة ،وارﺗﺒﺎط ذﻟﻚ ﺑﻨﻮع اﻟﺰراﻋﺔ؛ ﺑﺤﻴﺚ ﻳﺴﻮد ﻧﻮع ﻣﻦ املﻠﻜﻴﺔ أو اﻟﺤﻴﺎزة
ﻳﺆدي إﱃ أﺣﺴﻦ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺠﻬﺪ اﻻﻗﺘﺼﺎدي املﺒﺬول .وﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ ،ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ
أن ﻧﻘﻮل ﺑﺎﺧﺘﺼﺎر ﺷﺪﻳﺪ :إن اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻫﻲ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﻓﻌﻞ اﻟﴚء ﻹﻋﻄﺎء أﺣﺴﻦ
ﻫﺪر ﰲ اﻟﺠﻬﺪ واملﻨﺘﺞ.
اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﻣﻊ أﻗﻞ ٍ
392
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
اﻟﺘﻄﻮر اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﺎملﻴﺔ .وﻧﻈ ًﺮا ﻻرﺗﺒﺎط اﻟﻨﻈﻢ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﺑﺎﻟﺘﻨﻈﻴﻤﺎت
اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﰲ ﺻﻮرة داﺋﻤﺔ اﻟﺘﻔﺎﻋﻞ ،ﻓﺈن اﻷﻧﻤﺎط اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻛﺎﻧﺖ وﻣﺎ زاﻟﺖ
أﺳﺎﺳﺎ ﻣﻦ اﻷﺳﺲ اﻟﻘﻮﻳﺔ اﻟﺘﻲ اﻋﺘﻤﺪ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺘﻄﻮرﻳﻮن ﰲ ﻓﻜﺮة املﺮاﺣﻞ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻋﺎﻣﺔ: ً
اﻟﻮﺣﺸﻴﺔ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻗﺘﺼﺎد اﻟﺠﻤﻊ واﻟﺼﻴﺪ ،اﻟﱪﺑﺮﻳﺔ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﻨﻈﺎم اﻟﺰراﻋﺔ واﻟﺮﻋﻲ،
ﻮﺟﻤَ ْﺖ أﻓﻜﺎر املﺪرﺳﺔ اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ واملﺪﻧﻴﺔ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﻨﻈﺎم اﻻﻗﺘﺼﺎد اﻟﺤﺪﻳﺚ ،وﺣﻴﻨﻤﺎ ُﻫ ِ
أﻳﻀﺎ ﻓﻜﺮة املﺮاﺣﻞ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ .وﻻ ﺷ ﱠﻚ ﰲ أن اﻷﺳﺎس اﻟﺬي اﻋﺘﻤﺪ ﻋﻠﻴﻪ ﻮﺟﻤَ ْﺖ ًُﻫ ِ
ﻣﻌﺎرﺿﻮ املﺮاﺣﻞ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ﻫﻮ أﺳﺎس ﺳﻠﻴﻢ ﻗﺎﺋﻢ ﻋﲆ ﻛﺜﺮة املﻌﻠﻮﻣﺎت اﻟﺘﻲ
ﺗﺠﻤﻌﺖ ﻟﺪﻳﻨﺎ ﻋﻦ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ،ﺑﻌﺪ ﻣﺮور أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺳﺒﻌني ﻋﺎﻣً ﺎ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺎت
اﻟﺘﻄﻮرﻳني اﻷول .ﻓﺎﻻﺧﺘﻼﻓﺎت اﻟﺘﻔﺼﻴﻠﻴﺔ واﺿﺤﺔ ﺑني ﺷﻜﻞ وآﺧﺮ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻻﻗﺘﺼﺎد
اﻟﺒﺪاﺋﻲ ،ﻛﻤﺎ أن اﻟﻌﻤﻠﻴﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ داﺧﻞ اﻷﻧﻤﺎط اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ،اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻤﻞ ﻋﲆ
ﺑﻘﺎء أو ﺗﻮازن اﻻﻗﺘﺼﺎد واملﺠﺘﻤﻊ ،أو اﻟﺘﻲ ﺗﺆدي إﱃ ﺗﻄﻮﻳﺮ أﺷﻜﺎل اﻻﻗﺘﺼﺎد واملﺠﺘﻤﻊ؛
أﻳﻀﺎ ﻣﻌﺮوﻓﺔ ﻟﺪﻳﻨﺎ ﻟﻜﺜﺮة اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺑني املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﺑﺼﻮرة ﻗﺪ أﺻﺒﺤﺖ ً
ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻣﻮﺟﻮدة أو ﻣﺘﺎﺣﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﺘﻄﻮرﻳني اﻷول.
وﺑﺮﻏﻢ ﻫﺬا اﻟﻜﻢ اﻟﺘﻔﺼﻴﲇ ﻣﻦ املﻌﻠﻮﻣﺎت ﻋﻦ أﺷﻜﺎل اﻻﻗﺘﺼﺎد اﻟﺒﺪاﺋﻲ وأﻧﻤﺎط
دﻳﻨﺎﻣﻴﺔ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ،ﱠإﻻ أﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﺮى ﻣﱪ ًرا ﻟﺮﻓﺾ اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺘﺼﻨﻴﻔﻴﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ ،وﻻ
ﻧﺮى ﻣﱪ ًرا ﻟﺮﻓﺾ ﻓﻜﺮة اﻟﺘﻄﻮر املﺮﺣﲇ ﻟﻸﻧﻤﺎط اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ،ﻓﻬﺬه اﻟﺘﺼﻨﻴﻔﺎت ﻗﺎﺋﻤﺔ ﰲ
وﻗﺘﻨﺎ اﻟﺮاﻫﻦ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻋﻤﻠﻴﺔ املﺮﺣﻠﻴﺔ ﻗﺎﺋﻤﺔ ﺗﺤﺖ أﻋﻴﻨﻨﺎ .ﻓﺎﻟﺘﺤﻮل ﻣﻦ اﻻﻗﺘﺼﺎد اﻟﺒﺴﻴﻂ
إﱃ املﻌﻘﺪ أﻣ ٌﺮ ﻻ ﻳﻨﻜﺮه أﺣﺪ ﰲ املﺎﴈ أو اﻟﺤﺎﴐ ،وﻟﻌﻞ اﻟﻬﺠﻮم ﻋﲆ اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
ﻫﻮ أﺿﻌﻒ ﻧﻘﺎط اﻟﻬﺠﻮم ﻋﲆ ﻓﻜﺮة اﻟﺘﻄﻮرﻳني اﻟﺤﻀﺎرﻳني ﻋﺎﻣﺔ.
وﻟﻴﺲ ﻣﻌﻨﻰ املﺮﺣﻠﻴﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﺣﺘﻤﻴﺔ ﻣﺮور املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻛﻠﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﺮﺣﻠﺔ إﱃ
أﺧﺮى ﺑﺎﻟﱰﺗﻴﺐ .ﻟﻘﺪ ﺣﺪث ذﻟﻚ ﰲ املﺎﴈ ﺣﻴﻨﻤﺎ اﻧﺘﻘﻞ أﺻﺤﺎب اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ ﻣﻦ
اﻟﺠﻤﻊ واﻟﺼﻴﺪ إﱃ اﻟﺰراﻋﺔ واﻟﺮﻋﻲ اﻟﺒﺴﻴﻂ إﱃ اﻟﺰراﻋﺔ واﻟﺮﻋﻲ املﻮﺟﱠ ﻪ إﱃ اﻟﺴﻮق ،وﻛﺬﻟﻚ
اﻧﺘﻘﻞ ﺳﻜﺎن أوروﺑﺎ ﻣﻦ اﻟﺠﻤﻊ إﱃ اﻟﺰراﻋﺔ إﱃ اﻟﺼﻨﺎﻋﺔ ،وﻟﻜﻦ اﻻﺗﺼﺎل ﺑني اﻟﺤﻀﺎرة
اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ واملﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﺗﺆدي ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ إﱃ اﻻﻧﺘﻘﺎل ﻣﺒﺎﴍة إﱃ ﺑﻌﺾ
أﺷﻜﺎل اﻻﻗﺘﺼﺎد اﻟﺤﺪﻳﺚ دﻓﻌﺔ واﺣﺪة.
ُ ُ
وﻛﺬﻟﻚ ﻟﻴﺲ ﻣﻌﻨﻰ املﺮﺣﻠﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ أن ﺗﻨﺤﱠ ﻰ املﺮﺣﻠﺔ اﻷوﱃ ﺟﺎﻧﺒًﺎ ،وﺗﱰَك ﻧﻬﺎﺋﻴٍّﺎ
ﺑﻤﺠﺮد اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ أﻋﲆ ،ﻓﻼ ﺷ ﱠﻚ أن اﻻﻧﺘﻘﺎل ﻻ ﻳﺤﺪث ﻓﺠﺄة ،وﻳﻈﻞ
اﻻﺷﱰاك ﺑني اﻟﻨﻈﺎﻣني ﻣﺴﺘﻤ ٍّﺮا ﻟﻔﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ إﱃ أن ﻳﺼﺒﺢ اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺠﺪﻳﺪ ﻫﻮ اﻟﻨﻤﻂ
393
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﺴﺎﺋﺪ ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﺗﻈﻞ ﻫﻨﺎك ﺟﻤﺎﻋﺎت ﺗﻤﺎرس أﺷﻜﺎل اﻻﻗﺘﺼﺎد اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،وﻳﺤﺪث ﺗﻄﻮر
ﻣﻠﺤﻮظ ﰲ ﻫﺬه اﻷﺷﻜﺎل ﻳﺘﻨﺎﺳﺐ ﻣﻊ ﻫﺬا اﻟﺘﻄﻮر وﻣﺎ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺗﻘﺪم ﰲ ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ
أﺷﻜﺎﻻ ﻣﻦ اﻗﺘﺼﺎدﻳﺎت اﻟﺠﻤﻊ ﻣﻄﻮرة وﻣﻤﺎرﺳﺔ ﰲ املﺠﺘﻤﻊ ً اﻹﻧﺘﺎج؛ وﻟﻬﺬا ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ
اﻟﺼﻨﺎﻋﻲ املﺘﻘﺪم .ﻓﻘﺪ ﺗﻄﻮرت ﺣﺮﻓﺔ ﱢ
اﻟﺴﻤﺎﻛﺔ ﺗﻄﻮ ًرا ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴٍّﺎ ﻛﺒريًا ﺑﺤﻴﺚ ﺗﻜﻮن اﻵن
إﺣﺪى ﺣﺮف اﻹﻧﺘﺎج واﻻﻗﺘﺼﺎد املﺮﻛﺐ ،ﺑﺮﻏﻢ أﻧﻬﺎ ﰲ أﺳﺎﺳﻬﺎ ﺣﺮﻓﺔ ﺟﻤﻊ ،ﻛﺬﻟﻚ ﺗﻤﺎرس
اﻷﴎ اﻷوروﺑﻴﺔ ﺟﻤﻊ اﻟﺜﻤﺎر اﻟﱪﻳﺔ ﰲ اﻟﻌﻄﻼت اﻷﺳﺒﻮﻋﻴﺔ ﰲ ﻣﻮاﺳﻢ اﻹﻧﺒﺎت ﻟﺘﻌﻤﻞ ﻣﻨﻬﺎ
املﺮﺑﻴﺎت ،وﺗﺤﻮﻟﺖ ﺣﺮﻓﺔ اﻟﺮﻋﻲ اﻟﺒﺪاﺋﻲ إﱃ ﺣﺮﻓﺔ ﺗﺮﺑﻴﺔ اﻟﺤﻴﻮان ﰲ ﻣﺰارع ﻋﻠﻤﻴﺔ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ
ﺑﺈﻧﺘﺎج اﻟﺴﻮق.
وﰲ ﺑﺪاﻳﺔ اﻟﺘﻔﻜري اﻟﺘﻄﻮري ﻛﺎن اﻻﻋﺘﻘﺎد اﻟﺴﺎﺋﺪ أن اﻟﻨﻈﻢ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻗﺪ ﺗﻄﻮرت
ﱠ
وﻓﺼﻠﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺠﻤﻊ إﱃ اﻟﺰراﻋﺔ ﺛﻢ اﻟﺮﻋﻲ ،وﻇﻠﺖ ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر ﺳﺎﺋﺪة إﱃ أن ﻃﻮﱠرﻫﺎ
اﻟﺠﻐﺮاﰲ واﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻲ اﻷملﺎﻧﻲ إدوارد ﻫﺎن E. Hahnاﻟﺬي أﻋﻠﻦ ﰲ ﺳﻨﺔ ١٨٩١أن املﺮاﺣﻞ
ﻳﺠﺐ أن ﺗﱰﺗﺐ ﻋﲆ أﺳﺎس أن اﻟﺰراﻋﺔ ﺗﻨﻘﺴﻢ إﱃ ﻗﺴﻤني ﻣﺨﺘﻠﻔني ﻛﻞ اﻻﺧﺘﻼف ﰲ
اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ واﻹﻧﺘﺎج وﺷﻜﻞ املﺠﺘﻤﻊ .ﻫﺬان ﻫﻤﺎ زراﻋﺔ اﻟﻔﺄس Hoe cultivationوزراﻋﺔ
املﺤﺮاث ،Plough cultivationواﻟﻨﻮع اﻷول ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ اﻟﺰراﻋﺔ اﻟﻴﺪوﻳﺔ أو اﻟﺰراﻋﺔ
اﻷوﻟﻴﺔ أو اﻟﺰراﻋﺔ املﺘﻨﻘﻠﺔ أو اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ،أﻣﱠ ﺎ اﻟﻨﻮع اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻓﻴﺴﺘﺪﻋﻲ وﺟﻮد اﻟﺤﻴﻮان ﻟﺠﺮ
املﺤﺮاث ،وﻫﻮ ﺑﺬﻟﻚ ﺗﻜﻨﻴﻚ ﺟﺪﻳﺪ ﻳﺮﻓﻊ وﻳﺠﺪد ﺧﺼﻮﺑﺔ اﻷرض وﻳﺆدي إﱃ اﺳﺘﻘﺮار
اﻟﺤﻘﻮل واملﺴﺎﻛﻦ.
وﻋﲆ ﻫﺬا اﻷﺳﺎس أﻋﻠﻦ »ﻫﺎن« أن املﺮاﺣﻞ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﱰﺗﺐ ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ
اﻟﺘﺎﱄ :ﺟﻤﻊ وﺻﻴﺪ ← زراﻋﺔ ﻳﺪوﻳﺔ ← اﺳﺘﺌﻨﺎس اﻟﺤﻴﻮان ← زراﻋﺔ املﺤﺮاث .وﻳﺮى أن
زراﻋﺔ اﻟﻔﺄس أﻣﻜﻦ اﻛﺘﺸﺎﻓﻬﺎ ﻋﺪة ﻣﺮات ﰲ أﻣﺎﻛﻦ ﻣﻨﻔﺼﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،ﱠإﻻ أن زراﻋﺔ
املﺤﺮاث واﺳﺘﺌﻨﺎس اﻟﺤﻴﻮان ﻗﺪ اﻛﺘُ ِﺸﻔﺎ ﻣﻌً ﺎ ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ ،واﻧﺘﴩا ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ
إﱃ ﺑﻘﻴﺔ أﺟﺰاء اﻟﻌﺎﻟﻢ.
394
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
395
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﻨﻈﺎم اﻻﻗﺘﺼﺎدي املﺮﻛﺐ ﻗﺎﺋﻢ ﻋﲆ ﴎﻋﺔ اﻟﺘﻐري ،ﻓﺈن اﻟﺤﺮﻛﺔ داﺧﻞ اﻟﻄﺒﻘﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ
ﻃﺎ ﺣﺮﻛﺔ داﺋﻤﺔ ﻋﲆ ﻋﻜﺲ اﻟﻄﺒﻘﺎت وﻣﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﺠﺎﻣﺪة .ﻓﻤﻬﻤﺎ ﺻﻌﻮدًا وﻫﺒﻮ ً
ﻛﺎن ﻧﺸﺎط اﻹﻧﺴﺎن ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻣﻘﻴﱠﺪ ﺑﻨﺴﺐ دﻣﻮي أو ﻃﺒﻘﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ
ﺗﺨﻄﻴﻪ ﱠإﻻ ﺑﺎﻟﻬﺠﺮة أو اﻟﺜﻮرة ،وﻛﻠﺘﺎﻫﻤﺎ ﻏري ﺷﺎﺋﻌﺔ ﰲ ﺗﻠﻚ املﺠﺘﻤﻌﺎت ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺆدي
اﻟﻨﺸﺎط اﻟﻔﺮدي ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻻﻗﺘﺼﺎد املﺮﻛﺐ إﱃ ﺗﺤﺮك اﻷﻓﺮاد داﺧﻞ اﻟﻄﺒﻘﺎت دون ﻗﻴﺪ
اﺗﺠﺎﻫﺎ إﱃ ﺗﺜﺒﻴﺖ اﻟﻄﺒﻘﺎت اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻟﻄﻮل ﺑﻘﺎﺋﻬﺎ ،وﻣﻦ ﺛﻢً ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻲ ﺛﺎﺑﺖ ،وﻟﻜﻨﻨﺎ ﻧﺠﺪ
ﺗُﺘﺎح ﻷﻓﺮاد اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﻌﻠﻴﺎ ُﻓ َﺮص أﻛﺜﺮ ﰲ اﻟﺒﻘﺎء ﰲ أﻋﲆ املﺠﺘﻤﻊ ،وﻧﺎد ًرا ﻣﺎ ﺗﺴﻨﺢ اﻟﻔﺮﺻﺔ
ﻷﻓﺮاد اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﻔﻘرية أن ﺗﺘﺴﻠﻖ اﻟﺴﻠﻢ إﱃ أﻋﲆ ﺑﺤﻜﻢ ُﻗﻮَى اﻟﺘﺜﺒﻴﺖ اﻟﺘﻲ ﺗﺼﻨﻊ ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ
اﻟﻘﻴﻮد اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻴﺔ ﻟﻜﻞ ﻃﺒﻘﺔ.
وﻳﺘﻤﻴﺰ اﻻﻗﺘﺼﺎد املﺮﻛﺐ ﺑﺄﻧﻪ ﻳﻘﻮم ﻋﲆ أﺳﺎس اﺳﺘﺨﺪام ﻛﻞ اﻟﺨﺎﻣﺎت اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ
وﻣﻨﺘﺠﺎت اﻻﻗﺘﺼﺎد اﻷوﱄ )اﻟﺰراﻋﺔ وﺗﺮﺑﻴﺔ اﻟﺤﻴﻮان( ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻣﺠﺮد ﺧﺎﻣﺔ ،ﺛﻢ ﻳﻘﻮم
ﺑﺘﺤﻮﻳﻠﻬﺎ ﻋﲆ ﻋﺪة ﻣﺮاﺣﻞ ﻣﺮﻛﺒﺔ ،ﻟﺪرﺟﺔ أن اﻹﻧﺘﺎج ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻳﺘﺨﺬ ﺻﻮ ًرا ﺑﻌﻴﺪة ﻛﻞ
اﻟﺒﻌﺪ ﻋﻦ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺨﺎم اﻷﺻﲇ ،وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻳﺆدي ﻫﺬا اﻟﻨﻤﻂ إﱃ إﻧﺸﺎء ﺷﺒﻜﺔ ﻣﻌﻘﺪة اﻟﻨﺴﻴﺞ
ﺗﺸﻤﻞ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ أﻓﺮاد املﺠﺘﻤﻊ املﻨﺘﺠني ﰲ ﻧﻈﺎم ﻣﺤﻜﻢ ﻳُﺮﺑَﻂ ﻓﻴﻪ املﻨﺘﺞ اﻷوﱠﱄ واملﻨﺘﺞ
اﻟﺼﻨﺎﻋﻲ ووﺳﺎﺋﻞ اﻟﻨﻘﻞ واﻷﺳﻮاق وﻛﺎﻓﺔ ﻧﺸﺎﻃﺎت اﻟﺨﺪﻣﺎت ،وﺑﺬﻟﻚ ﻳﺪﺧﻞ ﻛﻞ اﻟﻨﺎس
ﺿﻤﻦ داﺋﺮة اﻟﻨﻔﻮذ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ؛ ﻷن اﻟﻨﺸﺎط اﻻﻗﺘﺼﺎدي ﺑﻬﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻳﺴﺘﻐﺮق ﻣﻌﻈﻢ
وﻗﺖ اﻟﻨﺎس ،ﻫﺬا اﻟﻨﺸﺎط اﻻﻗﺘﺼﺎدي املﻜﺜﻒ ﻳﻔﱰق ﺑﺸﺪة ﻋﻦ اﻷﻧﻈﻤﺔ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﰲ أﻧﻪ ﻟﻢ
ﻳَﻌُ ﺪ ﻗﺎﺋﻤً ﺎ ملﺠﺮد إﺷﺒﺎع اﻟﺤﺎﺟﻴﺎت اﻟﴬورﻳﺔ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ ،ﺑﻞ ﺗﻌﺪﱠى ذﻟﻚ إﱃ ﻓﺮض ﻣﺒﺘﻜﺮات
ﺟﺪﻳﺪة ﺗﺘﺤﻮل ﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ إﱃ ﺣﺎﺟﺎت ﴐورﻳﺔ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻟﻢ ﺗَﻌُ ﺪ اﻟﻜﻤﺎﻟﻴﺎت ﺛﺎﺑﺘﺔ ﺟﺎﻣﺪة
ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﰲ املﺎﴈ ،ﺑﻞ أﺻﺒﺤﺖ اﻟﻜﻤﺎﻟﻴﺎت ﺗﻌﺒريًا وﻗﺘﻴٍّﺎ ﺻﻐريًا ملﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ املﻨﺘﺠﺎت
ﺗﺘﺤﻮل ﺑﴪﻋﺔ إﱃ اﺣﺘﻴﺎﺟﺎت ،وﺑﺬﻟﻚ ﺗﺤﻮل اﻟﻨﻈﺎم اﻻﻗﺘﺼﺎدي املﺮﻛﺐ إﱃ ﻃﺎﻗﺔ أﻋﲆ ﰲ
أﺣﻴﺎن ﻛﺜرية ﻣﻦ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ،ﺑﻞ وﺗﻘﻮم ﺑﻘﻴﺎدة ﻫﺬا اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ وﺗﺸﻜﻠﻪ ،وﻫﺬا ﻋﻜﺲ
ﻣﺎ ﻛﺎن ﺳﺎﺋﺪًا ﻣﻦ ﺗﻮازن ﺗﺎم ﺑني املﺠﺘﻤﻊ وﻧﻈﺎﻣﻪ اﻻﻗﺘﺼﺎدي .وﺗﺮﺗﺐ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻇﻬﻮر
اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺪور اﻻﻗﺘﺼﺎد ﰲ ﺗﺤﺮﻳﻚ اﻟﺘﺎرﻳﺦ وﺗﻮﺟﻴﻬﻪ.
وﺑﻐﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ اﻟﺠﺪال ﰲ أﻫﻤﻴﺔ اﻟﻨﻈﺎم اﻻﻗﺘﺼﺎدي املﺮﻛﺐ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ،
ري ﻣﻦ
ﻓﺈن واﺣﺪًا ﻣﻦ أﺧﻄﺮ ﻣﺸﺎﻛﻞ ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم ﻫﻮ أﻧﻪ ﺷﺪﻳﺪ اﻟﺤﺴﺎﺳﻴﺔ واﻻﻫﺘﺰاز ﻟﻜﺜ ٍ
اﻟﻄﻮارئ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪث ﺑني اﻟﺤني واﻵﺧﺮ ،ﻣﺜﻞ اﻷزﻣﺎت اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ .وﺗﻔﺴري ﻫﺬه اﻟﻄﻮارئ
أﻣ ٌﺮ ﻳﻄﻮل ﴍﺣﻪ ،وﻟﻢ ﻳﺘﻮﺻﻞ إﱃ ﺗﻔﺴري ﻳﺮﺗﻀﻴﻪ اﻟﺠﻤﻴﻊ ،ﻟﻜﻦ اﻟﺬي ﻳﻬﻤﱡ ﻨﺎ ﻫﻮ أن ﻫﺬه
396
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
اﻟﻄﻮارئ ﺗﻨﺠﻢ ﻋﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺘني ﻣﻦ اﻷﺳﺒﺎب؛ أوﻻﻫﻤﺎ :اﻟﻌﻮاﻣﻞ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺆﺛﺮ ﻋﲆ
ذﺑﺬﺑﺔ اﻹﻧﺘﺎج اﻷوﱄ وإﻧﺘﺎج املﻌﺎدن ،وﻗﺪ أﺻﺒﺢ ﰲ اﻹﻣﻜﺎن ﺗﺪارك آﺛﺎرﻫﺎ ﺑﻘﺪر ﻻ ﺑﺄس
ﺑﻪ .أﻣﱠ ﺎ املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻓﻬﻲ اﻟﻌﻮاﻣﻞ اﻟﺒﴩﻳﺔ املﺘﻌﺪدة واملﺘﺸﺎﺑﻜﺔ ﺑﺼﻮرة ﻳﺘﻌﺬر ﻣﻌﻬﺎ
ً
ﺷﻜﻼ ﺗﺪارك اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ املﱰﺗﺒﺔ ﻋﲆ أي ﻗﺼﻮر ﻳﺤﺪث ﰲ ﺟﺎﻧﺐ واﺣﺪ؛ ﻷن ﺻﺪاه ﻳﺘﻌﺪد
وﻳﺴري ﰲ ﻃﺮق ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻴﺆﺛﺮ ﻋﲆ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺒﴩﻳﺔ ﰲ اﻹﻧﺘﺎجً .
ﻣﺜﻼ ﺗﺄﺛري اﻟﻌﻤﺎﻟﺔ
ﻋﲆ رأس املﺎل أو اﻟﻌﻜﺲ ﻳﻤﺜﻞ ﻃﺮﻓني ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺒﴩﻳﺔ ،وﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﺗﺤﺪث
ً
اﺧﺘﻼﻓﺎ ﻏري ﻣﻌﺮوف اﻟﺴﺒﺐ أﺻﺪاء ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻷي اﺿﻄﺮاب ﰲ ﻋﻼﻗﺎﺗﻬﻤﺎ .وﺗﺨﺘﻠﻒ اﻷﺻﺪاء
واﻟﻜﻢ ﰲ اﻟﻨﻮاﺣﻲ اﻟﺒﴩﻳﺔ اﻷﺧﺮى ،ﻛﺤﺮﻛﺔ اﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﰲ اﻷوراق املﺎﻟﻴﺔ ،وﻗﻮة اﻟﻨﻘﺪ ،وﻣﻮﻗﻒ
اﻟﻨﻘﺪ اﻟﻌﺎملﻲ ،وﺣﺮﻛﺔ اﻟﺴﻮق واﻟﺘﺠﺎرة ،ﻣﻦ ﺑني أﺷﻴﺎء أﺧﺮى ﻛﺜرية ﺗﺘﺪاﺧﻞ ﺑني ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ
اﻟﻌﻮاﻣﻞ اﻟﺒﴩﻳﺔ.
وﻓﻴﻤﺎ ﺑني اﻟﺮواج واﻟﻜﺴﺎد ،واﻟﻌﻤﺎﻟﺔ واﻟﺒﻄﺎﻟﺔ ،واﻟﺴﻠﻢ واﻟﺤﺮب ،واﻻﺳﺘﺜﻤﺎرات
واﻟﻀﻐﻮط اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ،واﺣﺘﻜﺎرﻳﺔ رأس املﺎل واﻟﺘﺄﻣﻴﻢ ،ﻓﻴﻤﺎ ﺑني ﻛﻞ ﻫﺬه املﺘﻨﺎﻗﻀﺎت
ري ﻏريﻫﺎ ،أﺻﺒﺢ املﺠﺘﻤﻊ املﻌﺎﴏ أﻗﻞ ﺛﺒﺎﺗًﺎ وأﻛﺜﺮ اﻫﺘﺰا ًزا ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ؛ ﻷن
وﻛﺜ ٍ
اﻟﺘﻮازن ُﻓﻘِ ﺪ ﺑني اﻻﻗﺘﺼﺎد واملﺠﺘﻤﻊ ،ﻓﻘﺪ ﺳﺒﻖ اﻻﻗﺘﺼﺎد اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ وﺗﺮﺗﺐ ﻋﲆ
ذﻟﻚ ﻫﻮة زﻣﻨﻴﺔ ﻛﺒرية وﻫﻮة ﺗﻨﻈﻴﻤﻴﺔ أﻛﱪ.
إن ﻣﻘﺪﻣﺎت ﻫﺬا اﻟﺘﺨﻠﻒ ﺑني اﻟﻨﻈﺎﻣني اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ واﻻﻗﺘﺼﺎدي ﻗﺪ ﺑﺪأت ﺑﺎﺗﺠﺎه
ﺑﺪﻻ ﻣﻦ إﺷﺒﺎع اﻟﺤﺎﺟﺔ اﻟﴬورﻳﺔ؛ أي إن املﻘﺪﻣﺎت ﺗﻌﻮد إﱃ وﺟﻮد ﻓﺎﺋﺾ اﻹﻧﺘﺎج إﱃ اﻟﺴﻮق ً
وﺧﺎﺻﺔ ﺑﻌﺪ اﻛﺘﺸﺎف زراﻋﺔ املﺤﺮاث واﺳﺘﺨﺪام اﻟﻄﺎﻗﺎت املﻀﺎﻓﺔ )ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ً اﻹﻧﺘﺎج،
– ﺣﻴﻮاﻧﻴﺔ – وﻏري ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ( ،وﻟﻜﻦ اﻟﻔﻮارق اﻟﻜﱪى ﺑني ﺷﻜﻞ اﻻﻗﺘﺼﺎد واﻟﱰﻛﻴﺐ
اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻗﺪ ﺣﺪث ﺑﻌﺪ أن أﺻﺒﺢ ﻓﺎﺋﺾ اﻹﻧﺘﺎج ﻳﻜﻮﱢن اﺳﺘﺜﻤﺎ ًرا ﺟﺪﻳﺪًا ﻹﻧﺘﺎج ﻓﺎﺋﺾ
أﻛﱪ.
ﻓﻔﻲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ذات اﻹﻧﺘﺎج اﻟﻔﺎﺋﺾ ،ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﻋﴩات اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ اﻟﺘﻲ
ﻣﺜﻼ ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﺟﺰر اﺑﺘﻜﺮﻫﺎ املﺠﺘﻤﻊ ﻟﺘﺪﻣري ﻫﺬا اﻟﻔﺎﺋﺾ ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻳﺼﺒﺢ ﻗﻮة ﻣﻀﺎﻓﺔً .
ﻫﱪﻳﺪز اﻟﺠﺪﻳﺪة )ﻗﺮب أﺳﱰاﻟﻴﺎ( ﻳﺸﺘﺪ اﻟﻨﺸﺎط اﻻﻗﺘﺼﺎدي اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ وﻳﺘﻜﺎﺛﻒ ﺣﻮل
ﻣﻠﻜﻴﺔ اﻟﺨﻨﺎزﻳﺮ ،وﻫﻨﺎك ﻋﴩات اﻷﻧﻈﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺪور ﺣﻮل اﻟﺨﻨﺎزﻳﺮ :ﺗﺴﻠﻴﻒ اﻟﺨﻨﺎزﻳﺮ،
ﺗﺒﺎدل اﻟﺨﻨﺎزﻳﺮ ،ﻓﻮاﺋﺪ ﻋﲆ اﻟﺨﻨﺎزﻳﺮ املﻘﱰﺿﺔ .وﻟﻜﻦ ﻳﺤﺪث ﰲ ﺣﻔﻞ ﻃﻘﴘ ﻳُﻘﺎم ﻛﻞ
ﺑﻀﻊ ﺳﻨﻮات أن ﻳﻘﴤ اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻋﲆ ﺧﻨﺎزﻳﺮﻫﻢ ﺑﺬﺑﺤﻬﺎ وإﻗﺎﻣﺔ املﺂدب ﻷﻳﺎ ٍم ﻃﻮﻳﻠﺔ ،وﻋﲆ
ﻗﺪر ﻣﺎ ﻳُﻘﺪﱢم اﻟﺸﺨﺺ ﻣﻦ ﺧﻨﺎزﻳﺮ ﺗﻜﻮن ﻣﻜﺎﻧﺘﻪ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ أو ﻣﻨﺨﻔﻀﺔ .وﻋﻨﺪ
397
اﻹﻧﺴﺎن
ري ﻣﻦ ﺳﻜﺎن ﻣﻴﻼﻧﻴﺰﻳﺎ اﻟﺰراﻋﻴني ﻳﻘﻮم ﻛﻞ ﺷﺨﺺ ﺑﻮﺿﻊ ﺟﺰء ﻣﻦ املﺤﺼﻮل اﻟﺠﺪﻳﺪ اﻟﻜﺜ ِ
ﻣﻦ اﻟﻴﺎم )ﻧﺒﺎت درﻧﻲ ﻛﺎﻟﺒﻄﺎﻃﺎ( أﻣﺎم ﺑﻴﺖ اﻟﺰﻋﻴﻢ ،وﻳﱰاﻛﻢ ﻫﺮم اﻟﻴﺎم أﻣﺎم اﻟﺒﻴﺖ ،ﺛﻢ
ﻳﻌﻄﺐ وﻳﻔﺴﺪ ،ﻟﻜﻦ ﻛﻠﻤﺎ ﻛﱪ اﻟﻬﺮم اﻟﻨﺒﺎﺗﻲ ﻛﺎن ذﻟﻚ ﻣﺪﻋﺎة ﻟﻔﺨﺮ اﻟﻌﺸرية ﻛﻜﻞ ،وﺑني
ﺳﻜﺎن اﻟﺴﺎﺣﻞ اﻟﺸﻤﺎﱄ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻷﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ؛ ﻣﺜﻞ :اﻟﻬﺎﻳﻴﺪا ،واﻟﺘﻠﻨﺠﺖ ،واﻟﻜﻮاﻛﻴﻮﺗﻞ
ري
ﺟﺎﻧﺐ ﻛﺒ ٍ
ٍ ﻳُﻘﺎم ﺣﻔﻞ ﻛﻞ ﺑﻀﻊ ﺳﻨﻮات ،أو ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺰﻳﺪ ﺛﺮوة اﻟﺸﺨﺺ ،ﻳﺘﻢ ﻓﻴﻪ ﺗﺪﻣري
ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺜﺮوة ،وﻳُﻌ َﺮف ﻫﺬا اﻟﺤﻔﻞ ﺑﺎﺳﻢ ﺑﻮﺗﻼﺗﺶ .Potlatch
ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﻋﻤﺎل — وإن اﺗﺨﺬت ﺻﻮرة ﻃﻘﺴﻴﺔ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ — ﱠإﻻ أﻧﻬﺎ ﺗﻌﻜﺲ
اﻟﺮﻗﺎﺑﺔ واﻹﴍاف اﻟﺤﻀﺎري واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻋﲆ ﻧﻤﻮ اﻟﺜﺮوة وﻣﻨﻌﻬﺎ ﻣﻦ أن ﺗﺘﻄﻮر إﱃ ﻗﻮة
اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ،وﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺮﻗﺎﺑﺔ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻧﺴﻤﻴﻪ »ﺗﺴﻮﻳﺔ« ﻟﻠﺘﻨﺎﻗﻀﺎت اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ.
أﻳﻀﺎ ﰲ ﺻﻮرة وﰲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه »اﻟﺘﺴﻮﻳﺔ« ﺗﺤﺪث ً
اﻟﺒﺬخ واﻹﻧﻔﺎق اﻟﻮاﺳﻊ ﻟﻠﺜﺮوة ،واﻟﺘﻤﺘﻊ ﺑﻤﺒﺎﻫﺞ اﻟﺤﻴﺎة ،واﻟﺘﻄﻠﻊ إﱃ ﻣﻜﺎﻧﺔ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ
ﻣﺮﻣﻮﻗﺔ .ﻟﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﺣﺪود ﻟﱰاﻛﻢ اﻟﺜﻮرة ،ﻟﻜﻨﻬﺎ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﻀﺎرات ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺣﺪودًا
اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻓﻘﻂ ،ﺑﻞ ﺣﺪودًا ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻣﻌً ﺎ ،ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻨﺎك اﺳﺘﺜﻤﺎر ﺑﺎملﻌﻨﻰ
املﻔﻬﻮم ﻣﻦ اﻻﺳﺘﺜﻤﺎر اﻟﺤﺪﻳﺚ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﻟﺤ ﱠﻜﺎم ﻳﱰﻛﻮن اﻷﺷﺨﺎص ﻳﺜﺮون ﻓﻮق
املﺴﺘﻮى اﻟﺬي ﻳﻜﻮﻧﻮن ﻣﻌﻪ ﺧﻄ ًﺮا ﻋﲆ ﻧﻔﻮذﻫﻢ اﻟﺴﻴﺎﳼ أو اﻟﺪﻳﻨﻲ أو ﻫﻤﺎ ﻣﻌً ﺎ .وﰲ
اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ ﺗﻘﻮم اﻟﴬاﺋﺐ اﻟﺘﺼﺎﻋﺪﻳﺔ ﺑﺪور اﻹﴍاف ﻋﲆ ﺗﺮاﻛﻢ اﻟﺜﺮوة ،ﻟﻜﻨﻨﺎ ﻧﻼﺣﻆ
ً
اﺧﺘﻼﻓﺎ ﺟﺬرﻳٍّﺎ ﺑني ﻧﻮع »اﻟﺘﺴﻮﻳﺔ« اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ وﺗﻠﻚ ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ
واملﻌﺎﴏة .ﻓﺎﻷوﱃ ﺗﺆدي إﱃ إﻧﻔﺎق ﻛﺎﻣﻞ ﻟﻠﺜﺮوة املﱰاﻛﻤﺔ ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﺗﺆدي إﱃ إﻧﻔﺎق
ﺟﺰﺋﻲ .و»اﻟﺘﺴﻮﻳﺔ« اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﺗﺆدي إﱃ ﻣﺮﻛﺰ اﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻓﻘﻂ ﺑﻴﻨﻤﺎ »اﻹﴍاف« اﻟﺤﺎﱄ ﻳﱰك
ﻟﻠﺜﺮوة املﱰاﻛﻤﺔ ﻗﻮﺗﻬﺎ وﻳﻀﻴﻒ ً
أﻳﻀﺎ إﱃ املﺮﻛﺰ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ.
وأﻳٍّﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺘﻔﺼﻴﻼت واﻟﻔﺮوق ﻓﺈن اﻟﻌﺮض اﻟﺤﺎﱄ ﻳﻬﺪف إﱃ ﺑﻴﺎن اﻟﻔﺮوق ﺑني
اﻷﻧﻈﻤﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﻷوﻟﻴﺔ واملﺮﻛﺒﺔ وﺗﺄﺛريﻫﺎ ﻋﲆ اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ،وﻳﺘﻀﺢ ﻫﺬا اﻟﺘﺄﺛري
ﺑﺼﻮرة ﻗﺎﻃﻌﺔ ﰲ اﻟﺸﻜﻞ اﻟﻨﻬﺎﺋﻲ اﻟﺬي ﻳﺘﺨﺬه ﺗﺄﺛري اﻟﻨﻈﺎم اﻻﻗﺘﺼﺎدي ﻋﲆ اﻟﺘﺴﺎﻧﺪ
واﻟﱰاﺑﻂ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﰲ ﻛﺎﻓﺔ ﻣﺴﺘﻮﻳﺎﺗﻪ ،ﻓﻨﻈﻢ اﻻﻗﺘﺼﺎد اﻷوﻟﻴﺔ ﺑﺘﻮازﻧﻬﺎ ﻣﻊ اﻟﱰﻛﻴﺐ
اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻻ ﺗﺆدي إﱃ ﻇﻬﻮر ﻣﺼﺎﻟﺢ ﻓﻮق ﻣﺼﺎﻟﺢ املﺠﺘﻤﻊ :ﻋﺸرية أو ﻗﺒﻴﻠﺔ .وﺑﺬﻟﻚ
ﻳﻈﻞ ﺟﻤﻴﻊ أﻋﻀﺎء املﺠﺘﻤﻊ ﻣﺘﻤﺘﻌني ﺑﻮﻻء ﻋﺎم ﻳﺸﺎرك ﻓﻴﻪ اﻟﺠﻤﻴﻊ :زﻋﻤﺎء ورﻋﻴﺔ ،أﻏﻨﻴﺎء
وﻓﻘﺮاء .وﺗﺆدي ﻋﻤﻠﻴﺔ »اﻟﺘﺴﻮﻳﺔ« إﱃ إﻳﺠﺎد رواﺑﻂ ﻛﺜﻴﻔﺔ ﺑني ﻛﻞ اﻷﻓﺮاد ﻓﻮق رواﺑﻂ
اﻟﻘﺮاﺑﺔ.
398
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
٥ ١
٦ ٢
٧ ٣
٤
أﻣﱠ ﺎ ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﻠﻴﺎ ﻓﺈن ﺛﻘﻞ ﻛﻔﺔ اﻟﻨﻈﻢ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻋﲆ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﻨﻈﻢ
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﻳﺆدي إﱃ ﻇﻬﻮر ﻣﺮﺣﻠﺔ ﺗﺠﺮﻳﺪﻳﺔ ﺗﺮﺗﻔﻊ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺼﺎﻟﺢ اﻻﻗﺘﺼﺎد ﻓﻮق اﻟﱰاﺑﻂ
واﻟﺘﺴﺎﻧﺪ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻷﺑﻨﺎء املﺠﺘﻤﻊ اﻟﻮاﺣﺪ ،وﺗﺼﺒﺢ ﻫﻨﺎك ﺗﻌﺎﻃﻔﺎت ﻓﻮق اﻟﻘﻮﻣﻴﺔ اﻟﻌﺎدﻳﺔ
ﺑني ﻗﻄﺎﻋﺎت ﻣﻤﺜﲇ اﻟﻘﻮى اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻋﱪ اﻟﺤﺪود ،وإن ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ً
أﻳﻀﺎ ﺣﺪود ﻟﻬﺬا
اﻟﺘﻌﺎﻃﻒ ﺗﻨﺘﻬﻲ إﱃ اﻟﺤﺮوب ﰲ اﻟﺤﺎﻻت اﻟﻘﺼﻮى ﻣﻦ اﻟﺘﻌﺎرض.
399
اﻹﻧﺴﺎن
ﻣﻦ اﻟﺜﺎﺑﺖ أن ﺣﺮﻓﺔ اﻟﺠﻤﻊ واﻻﻟﺘﻘﺎط واﻟﺼﻴﺪ واﻟﺴﻤﺎﻛﺔ ﺗﻤﺜﻞ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ أﻗﺪم ﻣﺎ ﻋﺮف
اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ ﺣِ َﺮف ﻟﻠﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﻐﺬاء .وﻻ ﺷ ﱠﻚ أن ﻛﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﻗﺪ ﻣﺮت ﺑﻬﺬه املﺮﺣﻠﺔ
ﻗﺪﻳﻤً ﺎ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈن املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻴﺶ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ ﻋﲆ اﻟﺼﻴﺪ واﻟﺠﻤﻊ ﺗﻌﻄﻴﻨﺎ
ﺻﻮرة واﺿﺤﺔ — ﰲ اﻟﺨﻄﻮط اﻟﻌﺮﻳﻀﺔ وﻟﻴﺲ ﰲ اﻟﺘﻔﺼﻴﻼت — ﻋﻦ اﻟﺸﻜﻞ اﻟﺬي ﻛﺎن
ﺳﺎﺋﺪًا ﺑني إﻧﺴﺎن اﻟﻌﺼﻮر اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ ﻟﻠﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﻐﺬاء واﺳﺘﻤﺮار اﻟﺤﻴﺎة.
ﻫﺎﺋﻼ ﰲ اﻟﻨﻮع اﻟﺮﺋﻴﴘ اﻟﺬي ﻳُﻤﺎ َرس، ً وﻧﻈ ًﺮا ﻟﺘﻨﻮع أﺷﻜﺎل ﻫﺬه اﻟﺤﺮﻓﺔ ﺗﻨﻮﻋً ﺎ
وﰲ ﺗﻜﻨﻴﻚ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﻐﺬاء؛ ﻓﻘﺪ أﺻﺒﺢ ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ إﻋﻄﺎء اﺳﻢ ﻣﻮﺣﺪ ﻳﺸﺘﻤﻞ ﻋﲆ
اﻷﺷﻜﺎل املﺨﺘﻠﻔﺔ ،وإن ﻛﺎن اﻻﺗﻔﺎق ﻗﺪ ﺳﺎد ﻋﲆ ﺗﺴﻤﻴﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﻫﻲ »اﻟﺠﻤﻊ« أو »ﺟﻤﻊ
اﻟﻐﺬاء«؛ وذﻟﻚ ﻷن أﻫﻢ ﻣﺎ ﻳﺠﻤﻊ ﻫﺬه اﻷﺷﻜﺎل املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﺮف ﻫﻮ أن اﻟﻐﺬاء ﻳﺠﻤﻊ
أﻳﻀﺎ اﻗﱰح اﻟﺒﻌﺾ ﺗﺴﻤﻴﺔ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ دون ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻹﻧﺘﺎﺟﻪ؛ وﻟﻬﺬا ً
اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻴﺶ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻻﻗﺘﺼﺎد ﺑﺎﺳﻢ »ﺷﻌﻮب اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« أو »اﻟﺸﻌﻮب اﻟﺘﻲ
ﺗﻌﻴﺶ ﻋﲆ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« ،وﻗﺪ ﺷﺎﻋﺖ ﻫﺬه اﻟﺘﺴﻤﻴﺔ ﻛﺜريًا ﰲ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﻣﻘﺎﺑﻞ »ﺟﻤﱠ ﺎﻋﻮ
اﻟﻐﺬاء« ﰲ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت اﻷﻧﺠﻠﻮﺳﺎﻛﺴﻮﻧﻴﺔ.
وﺳﻮاء ﻛﺎن ﻫﺬا اﻻﺻﻄﻼح أو ذﻟﻚ ﻓﺈن أﻫﻢ ﻣﺎ ﻳﺘﻤﻴﺰ ﺑﻪ ﻫﺆﻻء اﻟﺠﻤﺎﻋني ،ﻫﻮ أﻧﻬﻢ
ﻳﻌﻴﺸﻮن داﺧﻞ اﻟﻈﺮوف اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ دون إدﺧﺎل ﺗﻐﻴري ﻣﺘﻌﻤﺪ ﻋﲆ ﺷﻜﻞ اﻟﺒﻴﺌﺔ ،ﻓﺎملﺤﺎﻓﻈﺔ
ﻋﲆ اﻟﺒﻴﺌﺔ ﻳﻌﻄﻲ اﻟﻨﺎس ﻧﻮع اﻟﻐﺬاء اﻟﺬي اﻋﺘﺎدوه ،وﻟﻜﻦ ﺑﺮﻏﻢ ذﻟﻚ ﻓﺈن ﻣﺠﺮد ﻧﺸﺎط
اﻹﻧﺴﺎن ﰲ ﻫﺬا اﻻﺗﺠﺎه اﻟﺘﺠﻤﻴﻌﻲ ﻗﺪ أدى إﱃ اﻧﻘﺮاض ﺑﻌﺾ أﻧﻮاع اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺘﻲ ﻳﴪﻓﻮن
ﰲ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ ﻛﻤﺎدة أﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﻐﺬاء ،وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻳﺤﺪث ﺗﻐري ﰲ إﻳﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ
رﻏﻢ إرادة اﻟﻨﺎس ،وﺗﻘﻮم أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺑﻌﺾ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺜﺎﻗﺒﺔ — ﻣﻦ ﻗﺒﻞ رﺟﺎل اﻟﺪﻳﻦ أو اﻟﺰﻋﻤﺎء
— ﺑﺎملﺤﺎﻓﻈﺔ ﻋﲆ ﺑﻌﺾ املﺼﺎدر املﻬﺪدة ﺑﺎﻟﺘﻨﺎﻗﺺ اﻟﴪﻳﻊ ﰲ ﺻﻮرة إﻋﻼن ﺗﺤﺮﻳﻢ
Tabooدﻳﻨﻲ ﻋﲆ ﺻﻴﺪ ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺤﻴﻮان أو اﻷﺳﻤﺎك أو ﻛﺜﺮة اﺳﺘﺨﺪام ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﻨﺒﺎت،
وﻳﺘﻢ ذﻟﻚ اﻟﺘﺤﺮﻳﻢ ﻟﻔﱰة ﻗﺪ ﺗﻤﺘﺪ إﱃ ﺟﻴﻞ أو ﺗﻤﺘﺪ إﱃ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ذﻟﻚ؛ ﺣﺘﻰ ﻳﻨﴗ اﻟﻨﺎس
أﺻﻞ اﻟﺘﺤﺮﻳﻢ وﻳﺘﺤﻮل اﻟﺘﺤﺮﻳﻢ إﱃ ﺟﺰءٍ ﻣﻦ اﻟﻄﻘﻮس اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻛﺜﺮة ﺻﻴﺪ اﻟﺤﻴﻮان
أو ﺟﻤﻊ اﻟﻨﺒﺎت املﻌني ﺗﺆدي إﻣﱠ ﺎ إﱃ ﻫﺠﺮة اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ وراء ﻣﺼﺪر اﻟﻐﺬاء ،أو ﺗﺤﻮل اﻹﻧﺴﺎن
ﻧﻮع آﺧﺮ ﻣﻦ اﻟﻐﺬاء اﻟﻨﺒﺎﺗﻲ واﻟﺤﻴﻮاﻧﻲ.
إﱃ ٍ
ﺗﺨﺼﺼﺎ ﺑني اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻋﲆ أﺳﺎس ً وﻧﻈ ًﺮا ﻟﺘﻨﻮع اﻟﺤﺮﻓﺔ ،ﻓﺈن ﻫﻨﺎك
اﻻﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ﻟﻨﻮع اﻟﺒﻴﺌﺔ ،ﻓﺎﻟﺒﺸﻤﻦ ﺗﺨﺼﺼﻮا ﰲ ﺻﻴﺪ اﻟﺤﻴﻮان اﻟﻜﺒري ،وأﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﺴﺎﺣﻞ
400
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
اﻟﺸﻤﺎﱄ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻷﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ﺗﺨﺼﺼﻮا ﰲ ﺻﻴﺪ اﻷﺳﻤﺎك ،وأﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﺴﻬﻮل اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ
اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﺗﺨﺼﺼﻮا ﰲ ﺻﻴﺪ اﻟﺒﻴﺴﻮن )اﻟﺠﺎﻣﻮس اﻟﱪي( ،وأﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﺴﻬﻮل اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ
اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﺗﺨﺼﺼﻮا ﰲ ﺻﻴﺪ اﻟﻜﺎرﻳﺒﻮ ،واﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ﺗﺨﺼﺼﻮا ﰲ ﺻﻴﺪ اﻷﺣﻴﺎء اﻟﺒﺤﺮﻳﺔ،
وﺳﻜﺎن ﺷﻤﺎل آﺳﻴﺎ ﺗﺨﺼﺼﻮا ﰲ ﺻﻴﺪ اﻟﺮﻧﺔ ،وأﻗﺰام أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﺗﺨﺼﺼﻮا ﰲ ﺻﻴﺪ اﻟﻔﻴﻞ .وﻻ
ﺷ ﱠﻚ أن اﻟﻔﻮارق ﻛﺒرية ﺑني املﺘﺨﺼﺼني ،ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل :اﻟﻔﻮارق ﻛﺒرية ﺑني اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ
اﻟﺬي ﻳﻌﻴﺸﻮن ﻋﲆ ﻟﺤﻮم اﻟﺒﺤﺮ واﻟﺒﺸﻤﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻌﻴﺸﻮن ﻋﲆ ﻟﺤﻮم اﻟﺰراف واﻟﺘﻴﺎﺗﻞ،
أﺳﺎﺳﺎ ﻋﲆ ﺟﻤﻊ اﻟﻨﺒﺎﺗﺎت .وﻳﺆدي ﻣﺜﻞ ﻫﺬا ً واﻟﺴﻤﺎﻧﺞ )وﺳﻂ املﻼﻳﻮ( اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻌﻴﺸﻮن
ُ
أﻳﻀﺎ إﱃ اﺧﺘﻼﻓﺎت ﻛﺒرية ﰲ ﻧﻮع اﻷدوات واﻷﺳﻠﺤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﺨﺪَم ﻟﺠﻤﻊ اﻟﻐﺬاء، اﻟﺘﺨﺼﺺ ً
واﺧﺘﻼﻓﺎت أﺧﺮى ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺈﻳﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﻨﺒﺎت واﻟﺤﻴﻮان ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﺗﻨﺘﻈﻢ ﻛﻞ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﰲ
ﺗﺮﻛﻴﺐ اﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻳﺘﻔﻖ ﻣﻊ اﻟﻈﺮوف اﻟﺒﻴﺌﻴﺔ ،وﺗﺘﺤﺪد ﺣﺮﻛﺔ اﻟﻨﺎس وﻫﺠﺮاﺗﻬﻢ املﻮﺳﻤﻴﺔ
ﺗﺒﻌً ﺎ ﻟﻬﺬه اﻟﻈﺮوف.
ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﻐﺬاء ﻻ وﺟﻮد ﻟﻬﺎ ﱠإﻻ ﻧﻈﺮﻳٍّﺎ ،ﻓﻼ ﺗﻮﺟﺪ ودرﺟﺔ اﻟﺘﺨﺼﺺ اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﰲ ٍ
ﻧﻮع واﺣ ٍﺪ ﻣﻦ اﻟﻐﺬاء ،إﻧﻤﺎ
ﺟﻤﺎﻋﺔ واﺣﺪة ﻧﻌﺮﻓﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﻌﺎﴏﻳﻨﺎ اﻟﺒﺪاﺋﻴني ﻳﻌﻴﺸﻮن ﻋﲆ ٍ
ﻣﺎ ﻗﻠﻨﺎه ﻋﻦ اﻟﺘﺨﺼﺺ ﻟﻴﺲ ﺳﻮى ﻣﺠﺮد ﺻﻔﺔ ﻟﻠﻨﻮع اﻟﺮﺋﻴﴘ ﻟﻠﻐﺬاء ،وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك
ﻣﺘﺨﺼﺼﺎ ﻓﻘﻂ ﰲ ﺟﻤﻊ اﻟﻐﺬاء اﻟﻨﺒﺎﺗﻲ ،وﺗﺮﺗﺒﻂ ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر ً أﻓﻜﺎر ﺗﻘﻮل إن اﻹﻧﺴﺎن ﺑﺪأ
ﺑﺤﻴﺎة اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺎت ﻣﻦ اﻟﻐﻮرﻳﻼ واﻟﺸﻤﺒﺎﻧﺰي … إﻟﺦ ،ﻟﻜﻦ اﻟﻐﺎﻟﺐ أن اﻹﻧﺴﺎن ﺑﺪأ ﻛﻤﺎ
ﻫﻮ اﻵن؛ أي ﻣﺘﻌﺪد املﺬاﻗﺎت — آﻛﻞ ﻧﺒﺎﺗﻲ وﺣﻴﻮاﻧﻲ ﻣﻌً ﺎ — وﻫﻲ ﺻﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت
اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻴﱢﺰ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﻦ ﺑﻘﻴﺔ املﻤﻠﻜﺔ اﻟﺤﻴﻮاﻧﻴﺔ .ﻋﲆ أي ﺣﺎل ،رﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﺣﺎل
اﻹﻧﺴﺎن ﻛﺬﻟﻚ ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ؛ ﻷن اﺻﻄﻴﺎد اﻟﺤﻴﻮان — ﺣﺘﻰ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت اﻟﺼﻐرية — ﻳﺤﺘﺎج
ﻃﻮﻳﻼ ﻣﻊ اﻹﻧﺴﺎن، ً ﻧﻮع ﻣﻦ اﻷدوات واﻻﺑﺘﻜﺎرات .وﻻ ﺷ ﱠﻚ أن ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ﻟﻢ ﺗَﻌِ ْﺶ
إﱃ ٍ
ﺑﺴﺒﺐ ﻛﱪ ﺣﺠﻢ ﻣﺨﻪ ،وإﻣﻜﺎﻧﻪ اﺳﺘﺨﺪام ﻳﺪﻳﻪ ﰲ ﺻﻨﻊ اﻷدوات أو اﻹﻣﺴﺎك ﺑﺒﻌﺾ ﻣﺎ ﰲ
اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻣﻦ أﺣﺠﺎر وأﺧﺸﺎب وﻋﻈﺎم ورﻣﻴﻬﺎ ﺗﺠﺎه اﻟﺤﻴﻮان اﻟﺬي ﻳﺮﻳﺪ ﺻﻴﺪه.
ورﻏﻢ أﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ ﺟﻤﺎﻋﺎت ﻣﻌﺎﴏة ﺗﻤﻴﻞ إﱃ اﻻﻋﺘﻤﺎد ﺑﺸﻜﻞ أﻛﺜﺮ ﻋﲆ اﻟﻐﺬاء اﻟﻨﺒﺎﺗﻲ
اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﻣﺜﻞ اﻟﺴﻤﺎﻧﺞ أو ﺑﻌﺾ ﺳﻜﺎن أﻣﺎزوﻧﻴﺎ ،ﱠإﻻ أن ذﻟﻚ ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﻘﻠﺔ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺤﻴﻮاﻧﻴﺔ
اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﺻﻴﺪﻫﺎ ،وﻏﻨﻰ اﻷﻗﺎﻟﻴﻢ ﺑﺎﻟﺜﺮوة اﻟﻐﺬاﺋﻴﺔ اﻟﻨﺒﺎﺗﻴﺔ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﺈن ﻫﺬه اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت
ﺗﻤﺎرس ﺻﻴﺪ اﻟﻄﻴﻮر واﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت اﻟﺼﻐرية ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﻗﺼﺒﺔ اﻟﻨﻔﺦ )ﺑﻨﺪﻗﻴﺔ اﻟﻨﻔﺦ(؛ وﻫﻲ
ُﻮﺿﻊ داﺧﻠﻬﺎ ﺳﻬ ٌﻢ ﺻﻐري )ﻣﺴﻤﻢ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺗﺴﻤﻴﻤً ﺎ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻗﺼﺒﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ﺗُﺠﻮﱠف ﺟﻴﺪًا وﻳ َ
ﺧﻔﻴﻔﺎ( ،ﺛﻢ ﻳﻨﻔﺦ اﻟﺸﺨﺺ ﰲ ﻃﺮف اﻟﻘﺼﺒﺔ ﻓﻴﻨﻄﻠﻖ اﻟﺴﻬﻢ ﰲ اﺗﺠﺎه اﻟﻬﺪف ﺑﺪون ً
401
اﻹﻧﺴﺎن
ﺿﻮﺿﺎء ،ﻛﺬﻟﻚ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻮن ﺑﻌﺾ أﻧﻮاع اﻟﺸﺒﺎك اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ .وﻋﲆ ﻧﻘﻴﺾ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻧﺠﺪ
أﺳﺎﺳﺎ ﻋﲆ اﻟﻠﺤﻮم ﻣﻦ اﻟﺼﻴﺪ اﻟﺒﺤﺮي )اﻟﻔﻘﻤﺎت وﻓﻴﻞ وﻋﺠﻞ ً اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻌﻴﺸﻮن
وﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﺼﻴﺪ اﻟﱪي )اﻟﻜﺎرﻳﺒﻮ( ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻳﻘﻮﻣﻮنٍ اﻟﺒﺤﺮ واﻟﺤﻴﺘﺎن واﻷﺳﻤﺎك(،
ﺑﺠﻤﻊ اﻟﻨﺒﺎﺗﺎت واﻟﺰﻫﻮر واﻟﺜﻤﺎر اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺒﺖ ﺧﻼل ﻣﻮﺳﻢ اﻟﺼﻴﻒ اﻟﻘﺼري ،وﻋﲆ ﻫﺬا
اﻟﻨﺤﻮ ﻧﺠﺪ ﻫﻨﺎك — ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ درﺟﺔ اﻟﺘﺨﺼﺺ — ﻣﻮارد إﺿﺎﻓﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﻐﺬاء إﱃ ﺟﺎﻧﺐ
اﻟﻐﺬاء اﻟﺮﺋﻴﴘ؛ إذ ﻳﻘﻮم ﺟﻤﱠ ﺎﻋﻮ اﻟﺜﻤﺎر واﻟﻐﺬاء اﻟﻨﺒﺎﺗﻲ ﺑﺒﻌﺾ اﻟﺼﻴﺪ ،وﻳﺠﻤﻊ اﻟﺼﻴﺎدون
واﻟﺴﻤﺎﻛﻮن ﺑﻌﺾ اﻟﻐﺬاء اﻟﻨﺒﺎﺗﻲ.
وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻘﺴﻢ ﺟﻤﺎﻋﻲ اﻟﻐﺬاء إﱃ ﻗﺴﻤني رﺋﻴﺴﻴني؛ ﻫﻤﺎ :ﺟﺎﻣﻌﻮ اﻟﻐﺬاء،
أﺳﺎﺳﺎ إﱃ ﺟﻤﻊ اﻟﻐﺬاء اﻟﻨﺒﺎﺗﻲ ﻣﻊ اﻟﻘﻠﻴﻞ ﻣﻦ ً واﻟﺼﻴﺎدون .واﻟﻘﺴﻢ اﻷول ﻳﺴﺘﻨﺪ
أﺳﺎﺳﺎ ﰲ اﻟﺼﻴﺪ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ً اﻟﺼﻴﺪ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻟﻘﺴﻢ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻳﻀﻢ ﺟﻤﺎﻋﺎت ﻣﺘﺨﺼﺼﺔ
ﺟﻤﻊ ﺑﻌﺾ اﻟﻐﺬاء اﻟﻨﺒﺎﺗﻲ .وﻳﻤﺜﻞ اﻟﻨﻮع اﻷول :اﻟﺴﻤﺎﻧﺞ ،وﺳﻜﺎن ﺟﺰر أﻧﺪﻣﺎن ﰲ ﺧﻠﻴﺞ
اﻟﺒﻨﻐﺎل ،واﻷﺳﱰاﻟﻴﻮن ،واﻟﺘﺴﻤﺎﻧﻴﻮن ،وﺑﻌﺾ ﺳﻜﺎن أﻣﺎزوﻧﻴﺎ ،وﺑﻌﺾ اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﻣﺜﻞ ﻗﺒﺎﺋﻞ
ﻛﺎﻟﻴﻔﻮرﻧﻴﺎ واﻟﺤﻮض اﻟﻌﻈﻴﻢ وﻋﲆ اﻷﺧﺺ ﻗﺒﻴﻠﺔ اﻟﺸﻮﺷﻮﻧﻲ .ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻤﺜﻞ اﻟﺼﻴﺎدﻳﻦ:
اﻟﺒﺸﻤﻦ ،واﻷﻗﺰام ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،واﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ،وأﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﺸﻤﺎل ،واﻟﺴﻬﻮل اﻟﻌﻈﻤﻰ ،واﻟﺴﺎﺣﻞ
اﻟﺸﻤﺎﱄ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ،وﺳﻜﺎن ﺗﻴريا دﻟﻔﻮﻳﺠﻮ ﰲ أﻗﴡ ﺟﻨﻮب أﻣﺮﻳﻜﺎ
اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ ،واﻟﻘﺒﺎﺋﻞ اﻟﺴﻴﺒريﻳﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ ﰲ اﻟﺸﻤﺎل واﻟﴩق اﻷﻗﴡ ﰲ اﻻﺗﺤﺎد اﻟﺴﻮﻓﻴﺘﻲ.
وﻳﺘﻨﻘﻞ ﺟﺎﻣﻌﻮ اﻟﻐﺬاء ﻛﺜريًا وراء اﻟﻨﺒﺎﺗﺎت واﻟﺠﺬور ،وﻳُﻌ َﺮف اﻟﺬﻳﻦ ﻣﻦ دأﺑﻬﻢ ﺣﻔﺮ
اﻷرض وراء اﻟﺠﺬور ﺑﺎﺳﻢ »اﻟﺤﻔﺎرﻳﻦ« ،ﻣﺜﻞ اﻟﺸﻮﺷﻮﻧﻲ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺄﻛﻠﻮن ﻣﺎ ﻳﺰﻳﺪ ﻋﻦ ﻣﺎﺋﺔ
ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺒﺬور واﻟﺜﻤﺎر واﻟﺠﺬور .واﻷداة اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﰲ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﻐﺬاء
ﻫﻲ ﻋﺼﺎ اﻟﺤﻔﺮ املﺪﺑﺒﺔ ﻣﻦ أﺣﺪ ﻃﺮﻓﻴﻬﺎ ،إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﻧﻮع ﻣﻦ املﻀﺎرب اﻟﺨﺸﺒﻴﺔ ﻟﴬب
اﻷﻋﺸﺎب واﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﺒﺬور اﻟﺘﻲ ﺗُﺠﻤَ ﻊ ﰲ اﻟﺴﻼل .ﻛﺬﻟﻚ ﻳﺄﻛﻞ ﺟﺎﻣﻌﻮ اﻟﻐﺬاء اﻟﻜﺜري
ً
ﺧﻔﻴﻔﺎ ﺛﻢ ﺗُﻄﺤَ ﻦ ﻣﻦ اﻟﺤﴩات ﻣﺜﻞ ﻓﺮس اﻟﻨﺒﻲ واﻟﻨﻤﻞ ،وﺗُﺤﻤﱠ ﺮ ﻫﺬه اﻟﺤﴩات ﺗﺤﻤريًا
أﺣﻴﺎن ﻛﺜري ٍة ﻳُﻀﺎف
ٍ وﺗُﻌﺠَ ﻦ وﺗُﺼﻨَﻊ ﻣﻨﻬﺎ ﻓﻄﺎﺋﺮ ﻟﻜﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻣﺬاق ﺣﺴﺐ ﻧﻮع اﻟﺤﴩة ،وﰲ
اﻟﺠﺮاد إﱃ ﻣﺎﺋﺪة ﻫﺆﻻء اﻟﻨﺎس ،وﺗُﺼﺎد اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت اﻟﻘﺎرﺿﺔ اﻟﺼﻐرية ﻛﺎﻷراﻧﺐ ﺑﺎﻟﻔﺨﻮخ
أﻳﻀﺎ ﺑﺼﻴﺪ اﻟﻐﺰال ،وﰲ ﻛﻞ اﻟﺤﺎﻻت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ أو ﺑﺎملﻄﺎردة ،وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻳﻘﻮم ﻫﺆﻻء اﻟﺠﻤﺎع ً
ﻳﻘﻮم اﻟﺼﻴﺎد ﺑﺘﻌﻘﺐ ﻓﺮﻳﺴﺘﻪ ملﺴﺎﻓﺎت ﻃﻮﻳﻠﺔ ،وﻗﺪ ﻳﺴﺘﻐﺮق ﺗﻌﻘﺒﻪ ﻟﻬﺎ )ﺑﺎﻗﺘﻔﺎء أﺛﺮ
أﻗﺪاﻣﻬﺎ( ﻳﻮﻣني ﺣﺘﻰ ﺗﺴﻘﻂ اﻟﻔﺮﻳﺴﺔ ﻣﻦ اﻹﻋﻴﺎء .وﻏﺎﻟﺒﺎ ﻣﺎ ﺗﺆﻛﻞ اﻟﻠﺤﻮم ﻧﻴﺌﺔ ،وﺑﻌﺾ
اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﻣﺜﻞ اﻟﺒﺸﻤﻦ واﻷﻗﺰام ﻳﺸﻮون اﻟﻠﺤﻢ — أو ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﺟﺰءًا ﻣﻨﻪ — ﻋﲆ اﻟﻨﺎر.
402
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
أﻣﱠ ﺎ اﻟﺼﻴﱠﺎدون ،ﻓﺈﻧﻬﻢ ﺑﺮﻏﻢ اﻋﺘﻤﺎدﻫﻢ ﻋﲆ اﻟﻐﺬاء اﻟﻨﺒﺎﺗﻲ اﻟﻴﻮﻣﻲ ،ﱠإﻻ أﻧﻬﻢ ﻳﻤﻴﻠﻮن
أﻛﻞ اﻟﻠﺤﻮم .وﺻﻴ ُﺪ اﻟﺤﻴﻮان ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺘﻢ ﺑﺪون ﺳﻼح ﱠإﻻ ﰲ ﺣﺎﻻت ﺧﺎﺻﺔ، داﺋﻤً ﺎ إﱃ ِ
وذﻟﻚ ﺑﺪﻓﻊ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ﺻﻮب ﻫﺎوﻳﺔ ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﻔﻌﻞ إﻧﺴﺎن اﻟﻌﺼﻮر اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ .وﰲ اﻟﻮﻗﺖ
اﻟﺤﺎﴐ ﻻ ﻳﺘﻢ اﻟﺼﻴﺪ ﺑﺪون أﺳﻠﺤﺔ ﻫﺠﻮﻣﻴﺔ ﻟﻠﺮﻣﻲ واﻟﻘﺬف واﻟﻄﻌﻦ واﻟﴬب ﺑﻮاﺳﻄﺔ
اﻟﻘﴘ واﻟﺴﻬﺎم واﻟﺤﺮاب واﻟﺴﻜﺎﻛني واﻟﻌﴢ واﻟﻔﺌﻮس املﺮﺗﺪة وﻏري املﺮﺗﺪة ،إﱃ ﺟﺎﻧﺐ
أﺣﻴﺎن ﻛﺜري ٍة ﺗﻘﻮم اﻟﻜﻼب ﺑﻤﺴﺎﻋﺪة
ٍ وﺳﺎﺋﻞ أﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﻔﺨﻮخ واﻟﺤﻔﺮ واﻟﺴﻤﻮم .وﰲ
ﻓﻌﱠ ﺎﻟﺔ ﰲ اﻟﺼﻴﺪ ،ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻋﻨﺪ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﺼﻴﺎدﻳﻦ ،وﺧﺎﺻﺔ ﺳﻜﺎن ﺗﻴريا دﻟﻔﻮﻳﺠﻮ
واﻹﺳﻜﻴﻤﻮ .ورﻏﻢ أن أﺣﺴﻦ أﺳﻠﺤﺔ اﻟﺼﻴﺪ اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ ﻫﻲ اﻟﻘﴘ واﻟﺴﻬﺎم ﱠإﻻ أﻧﻬﺎ ﺣﺪﻳﺜﺔ
ﻧﺴﺒﻴٍّﺎ؛ إذ ﻟﻢ ﺗﻈﻬﺮ ﱠإﻻ ﰲ أواﺧﺮ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻷﻋﲆ أو ﰲ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ؛
وﻟﻬﺬا ﻓﺈن إﻧﺴﺎن ﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل ﻛﺎن ﻳﺴﺘﺨﺪم اﻟﺮﻣﺎح واﻟﻌﴢ واﻟﺤﺠﺎرة ﻓﻘﻂ .وﻧﻈ ًﺮا ملﻴﺰة
اﻟﺴﻬﻢ ﻓﺈﻧﻪ ﻣﻨﺬ اﻛﺘﺸﺎﻓﻪ اﻧﺘﴩ ﺑﴪﻋﺔ ﰲ ﺳﺎﺋﺮ أرﺟﺎء اﻷرض ،وﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻪ اﻟﺼﻴﺎدون
ﺑﻤﻬﺎرة ﻓﺎﺋﻘﺔ ،وﻫﻢ ﻳﻀﻴﻔﻮن إﱃ ﻫﺬه املﻬﺎرة اﻟﺘﻨﻜﺮ ﰲ ﺷﻜﻞ اﻟﻔﺮﻳﺴﺔ ﻟﻜﻲ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﺴﻠﻞ
داﺧﻞ اﻟﻘﻄﻴﻊ واﻟﺘﺼﻮﻳﺐ اﻟﺪﻗﻴﻖ ﻋﻦ ﻗﺮب .وﻳﺸﺘﻬﺮ اﻟﺒﺸﻤﻦ ﺑﺘﻘﻠﻴﺪ اﻟﺰراف ،وﻛﺎن أﻣﺮﻳﻨﺪ
اﻟﺸﺎﻳني ﻳﺼﻄﺎدون اﻟﻨﺴﻮر وﻫﻲ ﻣﺤﻠﻘﺔ ﻋﻦ ﻗﺮب ،وﻛﺎن اﻟﻔﺮد ﻣﻨﻬﻢ ﻳﺨﺘﺒﺊ ﰲ ﺣﻔﺮة
وﺳﻂ اﻷﻋﺸﺎب ﺛﻢ ﻳﻠ ﱢﻮح ﺑﺒﻂء ﺑﻘﻄﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﻤﺎش ﺣﺘﻰ ﻳﺴﱰﻋﻲ اﻧﺘﺒﺎه اﻟﻨﴪ ﻓﻴﺤ ﱢﻠﻖ
ﻫﺎﺑ ً
ﻄﺎ.
وﰲ اﻟﻌﺎدة ﻧﺠﺪ أن ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﺼﻴﺪ اﻟﻜﺒري — ﻛﺎﻟﺰراف ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺸﻤﻦ أو اﻟﻔﻴﻠﺔ ﻋﻨﺪ
اﻷﻗﺰام أو اﻟﺤﻮت ﻋﻨﺪ اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ — ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺟﻤﺎﻋﻴﺔ ،وﺗﺤﺘﺎج إﱃ ﺗﻨﻈﻴﻢ ودﻗﺔ ﰲ اﻟﺘﻨﻔﻴﺬ
ﻣﻊ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺸﺠﺎﻋﺔ واﻹﻗﺪام .وملﺎ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك داﺋﻤً ﺎ ﺿﺤﺎﻳﺎ ﺧﻼل ﻫﺬه اﻟﻌﻤﻠﻴﺎت
اﻟﻜﺒرية؛ ﻓﺈن ﻫﺬه اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻗﺪ اﻗﱰﻧﺖ ﺑﻄﻘﻮس دﻳﻨﻴﺔ وﺳﺤﺮﻳﺔ ﻟﺘﻌﻄﻲ اﻟﺼﻴﺎدﻳﻦ اﻟﺸﺠﺎﻋﺔ
واﻟﻨﺠﺎح ،وﺗﺘﺤﻮل ﺑﻌﺾ ﻫﺬه اﻟﻄﻘﻮس إﱃ ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ واﻟﻌﺒﺎدة ،ﻛﻌﺒﺎدة اﻟﺤﻮت ﻋﻨﺪ
اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ﻗﺒﻞ اﻟﺒﺪء ﰲ اﻟﺼﻴﺪ.
وﺗﻘﺴﻴﻢ اﻟﻌﻤﻞ ﻋﻨﺪ ﺟﺎﻣﻌﻲ اﻟﻐﺬاء ﻋﺎﻣﺔ ﻳﻘﻮم ﻋﲆ أﺳﺎس اﻟﺠﻨﺲ ،وﺗﻘﻮم اﻟﻨﺴﺎء
ﺑﻌﻤﻠﻴﺎت اﻟﺠﻤﻊ اﻟﻘﺮﻳﺒﺔ ﻣﻦ املﻌﺴﻜﺮ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻟﺼﻴﺪ داﺋﻤً ﺎ ﻣﻦ اﺧﺘﺼﺎص اﻟﺮﺟﺎل؛ ملﺎ ﻳﺘﻄﻠﺒﻪ
ﻣﻦ ﺟﻬﺪ وﻛﻔﺎءة ﻋﻀﻠﻴﺔ .وﺑﺮﻏﻢ ﺣﻴﺎة اﻟﱰﺣﻞ ﻋﻨﺪ ﺟﻤﺎﻋﻲ اﻟﻐﺬاء إﻻ أﻧﻬﻢ ﻻ ﻳﻬﻴﻤﻮن
دون ﺣﺪود ﻣﻌﻴﻨﺔ ﺗﻔﺼﻞ ﺑﻴﻨﻬﻢ وﺑني ﺟرياﻧﻬﻢ ،ﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﺘﺤﺪﻳﺪ ﻟﻴﺲ ﺛﺎﺑﺘًﺎ ،ﺑﻞ ﻳﺘﻐري
ﺣﺴﺐ ﻗﻮة اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﻋﺪدﻳٍّﺎ.
وﰲ املﻨﺎﻃﻖ ذات اﻟﺼﻴﺪ اﻟﻮﻓري ﻧﺠﺪ اﻟﺴﻜﺎن ﻳﺴﺘﻘﺮون ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺸﺒﻪ اﻟﻘﺮى ،وﺧﺎﺻﺔ
ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻷوﻟﺌﻚ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻤﺎرﺳﻮن ﺻﻴﺪ اﻷﺳﻤﺎك.
403
اﻹﻧﺴﺎن
) (١إن إﻧﺘﺎﺟﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﻐﺬاء ﻫﻮ ﻣﻦ اﻟﻀﺂﻟﺔ وﻋﺪم اﻟﺜﺒﺎت ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻳﻌﻄﻲ ﻓﺎﺋﺾ إﻧﺘﺎج
إﻃﻼﻗﺎ ،وﻳﱰﺗﺐ ﻋﲆ ذﻟﻚ أﻧﻪ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﻧﻘﻮد أو أﺳﻮاق ،ﻛﻤﺎ أن اﻟﺘﺒﺎدل ﻳﺘﻢ ﰲ ﺻﻮرة ﻫﺪاﻳﺎ. ً
أﺣﻴﺎن ﻗﻠﻴﻠﺔ ﻳﺘﻢ اﻟﺘﺒﺎدل ﺑني اﻟﺼﻴﺎدﻳﻦ واﻟﺰ ﱠراع املﺠﺎورﻳﻦ ،وﺧﺎﺻﺔ ﰲ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺘﻲ
ٍ وﰲ
ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻓﻴﻬﺎ ﻟﻠﺰراع ﺳﻴﻄﺮة ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﻏري ﻣﺒﺎﴍة ﻋﲆ اﻟﺼﻴﺎدﻳﻦ ﻣﺜﻞ اﻟﺘﺠﺎرة
اﻟﺼﺎﻣﺘﺔ ﺑني اﻷﻗﺰام واملﺰارﻋني ﻣﻦ اﻟﺰﻧﻮج واﻟﺒﺎﻧﺘﻮ املﺠﺎورﻳﻦ ﻟﻬﻢ ﰲ وﺳﻂ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ.
) (٢ﻋﺪد اﻟﺴﻜﺎن داﺋﻤً ﺎ ﻗﻠﻴﻞ وﻣﻨﺘﴩ ﻋﲆ ﻣﺴﺎﺣﺔ واﺳﻌﺔ ﻟﻜﻲ ﻳﺴﻬﻞ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺘﻨﻘﻞ
وﺟﻤﻊ اﻟﻐﺬاء؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈﻧﻬﻢ ﺑﺪو ﻣﺘﺤﺮﻛﻮن ﺑﺼﻔﺔ ﻣﺴﺘﻤﺮة ﺣﺴﺐ ﻣﻮاﺳﻢ اﻹﻧﺒﺎت وﻛﻤﻴﺔ
اﻟﻨﺒﺎت واﻟﺤﻴﻮان.
) (٣ﻳﺘﻜﻮن اﻟﺘﺠﻤﻊ اﻷوﱄ ﻟﻬﺬه اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﻣﻦ وﺣﺪات ﺻﻐرية ﻣﻦ ﺑﻀﻊ أﴎ ﻗﺪ ﻻ
ﻗﻠﻴﻠﺔ ﻧﺠﺪ ﺗﺠﻤﻌﺎت ﺗﺼﻞ ٍ أﺣﻴﺎن
ٍ ً
ﺷﺨﺼﺎ ،وﰲ ﻳﺰﻳﺪ ﻋﺪد أﻋﻀﺎﺋﻬﺎ ﻋﻦ أرﺑﻌني إﱃ ﺧﻤﺴني
إﱃ ﺑﻀﻊ ﻣﺌﺎت ﻣﻦ اﻷﺷﺨﺎص ،وﻳﺤﺪث ﻫﺬا اﻟﺘﺠﻤﻊ اﻟﻜﺒري ﻣﺆﻗﺘًﺎ وﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﻐﻨﻰ
اﻟﻨﺴﺒﻲ أﺛﻨﺎء ﻓﱰة ﻣﻦ اﻟﺠﻔﺎف أو ﺗﺒﻌً ﺎ ﻟﱰﻛﺰ اﻟﺤﻴﻮان ﰲ ﻣﻮﺳﻢ ﻣﻌني ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ.
) (٤ﺗﺒﻌً ﺎ ﻟﻠﻌﺪد اﻟﻘﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻷﺷﺨﺎص اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻜﻮﻧﻮن اﻟﻮﺣﺪات ،وﺗﺒﻌً ﺎ ﻻﻧﺘﺸﺎر
املﺠﻤﻮﻋﺎت واﻟﻌﺼﺐ ﻋﲆ ﻣﺴﺎﺣﺎت واﺳﻌﺔ ﻣﻦ اﻷرض؛ ﻓﺈن اﻟﺠﻤﱠ ﺎﻋني ﻟﻢ ﻳﻜﻮﱢﻧﻮا ﺗﺠﻤﻌً ﺎ
ﺳﻴﺎﺳﻴٍّﺎ ﺑﺼﻮرة ﻣﻦ اﻟﺼﻮر ،وﺗﻨﻈﻴﻢ اﻟﺤﻴﺎة اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻳﺴري وﻓﻖ أﺳﺲ
دﻳﻤﻮﻗﺮاﻃﻴﺔ ﴏﻓﺔ ،ﻳﺘﻮﱃ ﻓﻴﻬﺎ ﻛﺒﺎر اﻟﺴﻦ رﺋﺎﺳﺔ املﺠﻤﻮﻋﺔ أو اﻟﻌﺼﺒﺔ ،وﺣﺘﻰ ﻫﺬه
اﻟﺮﺋﺎﺳﺔ ﻻ ﺗﻈﻬﺮ ﱠإﻻ ﰲ ﻓﱰات ﻣﺤﺪدة ﺧﺎﺻﺔ ﻋﻨﺪ ﺗﻨﻈﻴﻢ اﻟﺼﻴﺪ اﻟﻜﺒري اﻟﺬي ﻳﺪﻋﻮ إﱃ
رﺳﻢ ﺧﻄﺔ واﺷﱰاك اﻷﻋﻀﺎء اﻟﻘﺎدرﻳﻦ ﻋﲆ اﻟﻌﻤﻞ.
) (٥ﰲ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻷﺣﻮال ﻳﺘﻢ ﺗﻮزﻳﻊ اﻟﻐﺬاء اﻟﺬي ﻳﺤﺼﻞ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺮﺟﺎل ﻣﻦ اﻟﺼﻴﺪ واﻟﻨﺴﺎء
أﺣﻴﺎن
ٍ ﻣﻦ ﺟﻤﻊ اﻟﺜﻤﺎر ﻋﲆ أﻋﻀﺎء اﻟﻌﺼﺒﺔ ﻹﺷﺒﺎع اﺣﺘﻴﺎﺟﺎت اﻟﻐﺬاء ﻟﻠﺠﻤﻴﻊ ،وﻟﻜﻦ ﰲ
ﻗﻠﻴﻠﺔ ﻳﻜﻮن اﺳﺘﻬﻼك اﻟﻐﺬاء ﻓﺮدﻳٍّﺎ ،ﺧﺎﺻﺔ إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺒﻴﺌﺔ ﻏﻨﻴﺔ واﻟﻌﻤﻞ اﻹﻧﺘﺎﺟﻲ ﻓﺮدي.
) (٦وﻳﺘﺒﻊ ﻫﺬا اﻟﺸﻜﻞ ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ،أﻧﻪ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ادﻋﺎءات ﻣﻠﻜﻴﺔ ﻋﲆ أي
ﺟﺰءٍ ﻣﻦ اﻷرض ،ﻓﻜﻞ اﻷرض ﻣﻠﻚ ﻣﺸﺎع ﻟﻠﺠﻤﻴﻊ ﻳﻤﺎرﺳﻮن ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺠﻤﻊ واﻟﺼﻴﺪ ،وﰲ
ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻷﺣﻮال ﺗﺼﺒﺢ أدوات اﻹﻧﺘﺎج — ﻛﺎﻟﺮﻣﺢ أو اﻟﺴﻬﻢ واﻟﻘﻮس — ﻣﻠﻜﻴﺔ ﻓﺮدﻳﺔ ،وﰲ
أﺣﻴﺎن ﻛﺜرية ﻗﺪ ﻻ ﺗﺼﺒﺢ ﻛﺬﻟﻚ ،وﻳﱰﺗﺐ ﻋﲆ ﻫﺬا أﻧﻪ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﻓﺮوق اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺑني اﻷﻓﺮاد.
404
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
أﻣﱠ ﺎ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺼﻴﺎدﻳﻦ املﺴﺘﻘﺮﻳﻦ ،وﺧﺎﺻﺔ اﻟﺴﻤﱠ ﺎﻛني ،ﻓﺘﻔﱰق ﻋﻦ اﻟﺠﻤﱠ ﺎﻋني ﰲ
اﻟﻨﻘﺎط اﻟﻬﺎﻣﺔ اﻵﺗﻴﺔ:
) (١ﰲ اﻟﻌﺎدة ﻧﺠﺪ ﻋﺪدًا ﻛﺒريًا ﻣﻦ اﻟﺴﻜﺎن ﻳﺰﻳﺪون أﺿﻌﺎف املﺮات ﻋﻦ أﻋﺪاد اﻟﺠﻤﺎﻋني.
) (٢ﻧﻈ ًﺮا ﻟﻮﻓﺮة اﻟﺼﻴﺪ ،وﺧﺎﺻﺔ ﻋﻨﺪ أوﻟﺌﻚ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻌﻴﺸﻮن ﻋﲆ ﺻﻴﺪ اﻷﺳﻤﺎك؛ ﻓﺈﻧﻨﺎ
ﻧﺠﺪ املﺠﺘﻤﻊ ﻳﻨﻘﺴﻢ إﱃ ﻋﺪة ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت ﻓﺮدﻳﺔ ﻣﺴﺘﻘﺮة .وﰲ اﻟﻌﺎدة ﻗﺪ ﻻ ﻳﺰﻳﺪ أﻋﻀﺎء
ﺷﺨﺼﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻫﻨﺎك داﺋﻤً ﺎ ﻗﺮﻳﺔ ﻣﺮﻛﺰﻳﺔ )ﻳﺘﺠﻤﻊ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺴﻮق ً ﻫﺬه اﻟﻘﺮى ﻋﻦ ﺧﻤﺴني
واﻟﺮﺋﺎﺳﺔ( ﻳﺘﻌﺪى ﺳﻜﺎﻧﻬﺎ اﻟﺪاﺋﻤﻮن ﺑﻀﻊ ﻣﺌﺎت اﻷﺷﺨﺎص .وﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﻘﺮى املﺮﻛﺰﻳﺔ
ﺑني أﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﺴﻮاﺣﻞ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﻷﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ﻗﺪ ﻳﺼﻞ اﻟﻌﺪد إﱃ ﻣﺎ ﺑني أﻟﻒ
وأﻟﻔني ﻣﻦ اﻟﺴﻜﺎن.
أﻳﻀﺎ ﻋﲆ ﺣﺴﺐ اﻟﺠﻨﺲ ،وﻳﻘﻮم اﻟﺮﺟﺎل داﺋﻤً ﺎ ﺑﺼﻴﺪ اﻷﺳﻤﺎك ) (٣ﺗﻘﺴﻴﻢ اﻟﻌﻤﻞ ﻳﺘﻢ ً
ﻈﻢ ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﺼﻴﺪ ﺑﻮاﺳﻄﺔ زﻋﻴﻢ وراﺛﻲ، واﻟﺤﻴﻮان ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﺠﻤﻊ اﻟﻨﺴﺎء اﻟﻐﺬاء اﻟﻨﺒﺎﺗﻲ ،وﺗُﻨ ﱠ
رﺟﻼ أو اﻣﺮأ ًة ﺣﺴﺐ ﻧﻮع اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ اﻟﺴﺎﺋﺪ .وﰲ ﻋﻤﻠﻴﺎت ﺳﻮاء ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺰﻋﻴﻢ ً
اﻟﺼﻴﺪ اﻟﻜﺒرية ﻻ ﺗﺘﺤﺮك ﻛﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ،ﺑﻞ املﺘﺨﺼﺼﻮن ﰲ اﻟﺼﻴﺪ ﻓﻘﻂ ،وﻳﻈﻞ اﻟﺒﺎﻗﻮن
ﻣﻦ أﻋﻀﺎء املﺠﺘﻤﻊ ﰲ اﻟﻘﺮﻳﺔ ﺑﺼﻔﺔ داﺋﻤﺔ .وﻫﺬه اﻟﺤﺮﻛﺔ ﺧﺎرج اﻟﻘﺮﻳﺔ ﻻ ﺗﺤﺪث ﱠإﻻ ﰲ
ﻣﻮاﺳﻢ ﻣﻌﻴﻨﺔ ،وﻓﻴﻤﺎ ﻋﺪا ذﻟﻚ ﻳﺤﺪث اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺼﻴﺪ واﻟﺠﻤﻊ اﻟﻔﺮدي ﺑﺼﻔﺔ ﻣﺴﺘﻤﺮة.
) (٤ﺗﻮزﻳﻊ إﻧﺘﺎج اﻟﺼﻴﺪ اﻟﻜﺒري ﻻ ﻳﺘﻢ ﻋﲆ أﻋﻀﺎء املﺠﺘﻤﻊ ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﰲ اﻟﺤﺎﻻت اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ،
ُﻘﺴﻢ إﱃ أﻧﺼﺒﺔ ﻏري ﻣﺘﺴﺎوﻳﺔ ،ﻓﺎﻟﺰﻋﻤﺎء واﻷﻏﻨﻴﺎء ﺑﺎﻟﻮراﺛﺔ ﻳﺤﺼﻠﻮن ﻋﲆ ﺑﻞ إن اﻟﺼﻴﺪ ﻳ ﱠ
أﻧﺼﺒﺔ أﻛﱪ ،وﻳُﻮ ﱠزع اﻟﺒﺎﻗﻲ ﻋﲆ اﻟﺠﻤﻴﻊ؛ وذﻟﻚ ﻷن اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﺸﱰﻛني ﰲ اﻟﺼﻴﺪ اﻟﻜﺒري
ﻳﻘﻮﻣﻮن ﺑﺎﻟﻌﻤﻞ ﰲ ﺻﻮرة ﺷﺒﻴﻬﺔ ﺑﺎﻟﺘﺠﻨﻴﺪ ﻟﺤﺴﺎب اﻟﺰﻋﻤﺎء واﻟﻨﺒﻼء.
) (٥ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﺼﻴﺪ واﻟﺠﻤﻊ اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ أﻋﻤﺎل ﻓﺮدﻳﺔ ﻳُﺴﺘﻬ َﻠﻚ ﻧﺎﺗﺠﻬﺎ
ﺑﻌﻀﺎ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻨﺎﺗﺞ ﻳﺬﻫﺐ إﱃ اﻟﺰﻋﻤﺎء ﰲ ﺻﻮرة ﻫﺪاﻳﺎ ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﻣﻨﺘﺠﻴﻬﺎ وأﴎﻫﻢ ،ﱠإﻻ أن ً
رﻣﺰﻳﺔ.
) (٦ﻫﻨﺎك ﺑﻌﺾ اﻟﺘﺨﺼﺺ اﻹﻧﺘﺎﺟﻲ ﻓﻮق ﺗﻘﺴﻴﻢ اﻟﻌﻤﻞ ﻋﲆ أﺳﺎس اﻟﺠﻨﺲ ،ﻓﻬﻨﺎك
ﺑﻌﺾ اﻟﺮﻗﻴﻖ اﻟﺬي ﻳﺤﺪث ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻟﺤﺮوب ﺑني اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ،وﻫﺆﻻء اﻟﺮﻗﻴﻖ ﻳُﺴﺘﺨﺪَﻣﻮن
أﺳﺎﺳﺎ ﰲ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﻴﺪوﻳﺔ؛ ﻛﺼﻨﺎﻋﺔ اﻟﻘﻮارب واﻟﺴﻼل واﻟﻨﺴﻴﺞ واﻟﺤﻔﺮ ﻋﲆ اﻟﺨﺸﺐ .وﻗﺪ ً
ﺗﻮﺳﻊ ﺑﻌﺾ أﻣﺮاء اﻟﺴﺎﺣﻞ اﻟﺸﻤﺎﱄ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﰲ اﻟﺤﺮوب ﻟﻠﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﺮﻗﻴﻖ ﺑﻌﺪ أن ﱠ
ﺗﻤﻠﻜﻮا اﻟﺒﻨﺎدق اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،وزادت ﺑﺬﻟﻚ ﻣﻘﺪرﺗﻬﻢ اﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ ﻛﺜريًا ﻋﻦ اﻷﺳﻠﺤﺔ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ.
وﻗﺪ ﻛﺎن ﻫﺬا واﺣﺪًا ﻣﻦ أﻧﻮاع اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﺤﻀريﻳﺔ ذات اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ اﻟﺴﻴﺌﺔ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻷﻣﺮﻳﻜﻲ،
405
اﻹﻧﺴﺎن
406
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
املﺘﻜﺮرة .وﺑﺬﻟﻚ ﻓﻘﺪت ﻫﺬه اﻟﺤﻔﻼت اﻟﻄﻘﺴﻴﺔ ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ اﻟﻨﻤﻄﻴﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺘﻐري اﻟﻘﻮاﻟﺐ
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ.
) (١٠ﻧﻈ ًﺮا ﻻﺳﺘﻘﺮار ﻫﺬه اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ،ﻓﺈن ﻧﻈﺎم اﻟﺴﻜﻦ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻛﺜريًا ﻋﻦ اﻟﺼﻴﺎدﻳﻦ
ً
ﻃﻮﻳﻼ؛ ﻛﺎﻟﺒﻴﻮت اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ أو اﻟﺨﺸﺒﻴﺔ اﻟﺮﺣﻞ ،ﻓﺎملﺴﺎﻛﻦ ﻫﻨﺎ ﻣﺒﻨﻴﺔ ﻣﻦ ﻣﻮاد ﺗﺘﺤﻤﻞ وﻗﺘًﺎ
ﻋﻨﺪ أﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﺴﺎﺣﻞ اﻟﺸﻤﺎﱄ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻷﻣﺮﻳﻜﺎ ،أو اﻷﻛﻮاخ اﻟﻜﺒرية ﻋﻨﺪ ﺻﻴﱠﺎدي اﻷﺳﻤﺎك ﰲ
ﺟﺰر املﺤﻴﻂ اﻟﻬﺎدي ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻣﺴﺎﻛﻦ اﻟﺼﻴﺎدﻳﻦ املﺘﻨﻘﻠني ﺑﺴﻴﻄﺔ ﺗﺘﻜﻮن ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﻦ ﻣﺼﺪﱠات
اﻟﺮﻳﺎح ﻋﻨﺪ اﻷﻗﺰام اﻟﺬﻳﻦ اﺳﺘﻘﺮوا ﰲ ﻏﺎﺑﺎت ﺟﺎﺑﻮن وﺟﻨﻮب اﻟﻜﻤﺮون .أو ﻗﺪ ﺗﺘﻌﺪد أﺷﻜﺎل
املﺴﻜﻦ ﺗﺒﻌً ﺎ ﻟﻠﻈﺮوف املﻨﺎﺧﻴﺔ واﻹﻳﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﻋﻨﺪ اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ وﺻﻴﱠﺎدي ﺳﻴﺒريﻳﺎ
اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ.
أﻣﱠ ﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺘﺺ ﺑﺎﻟﺘﻨﻈﻴﻤﺎت اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ،ﻓﺈن ﻫﻨﺎك اﺧﺘﻼﻓﺎت
ﻛﺒرية ﺑني اﻟﺠﻤﱠ ﺎﻋني واﻟﺼﻴﱠﺎدﻳﻦ ،ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﻣﺒﺎﴍة ﺑﺎﻟﻨﻈﻢ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ،واﻟﺒﻌﺾ
ً
ﺧﺎﺻﺔ. ً
ﻋﺎﻣﺔ أو اﻻﺣﺘﻜﺎك اﻟﺤﻀﺎري اﻵﺧﺮ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻟﱰﻛﻴﺐ اﻟﺤﻀﺎري
وﻋﲆ ﻫﺬا ،وﺑﺮﻏﻢ اﻟﺘﺸﺎﺑﻪ اﻟﻌﺎم ﰲ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺘﻲ ذﻛﺮﻧﺎﻫﺎ ،ﻫﻨﺎك اﺧﺘﻼﻓﺎت ﺟﻤﱠ ﺔ ﰲ
ﺷﻜﻞ اﻟﺤﺮﻓﺔ ﺑني ﺟﺎﻣﻌﻲ اﻟﻐﺬاء ً
ﻋﺎﻣﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ ﻧﺠﺪه ﺑني املﺰارﻋني اﻟﺒﺪاﺋﻴني .وﻟﻌ ﱠﻞ اﻟﺴﺒﺐ
ﰲ ذﻟﻚ راﺟﻊ إﱃ اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت اﻟﻜﺒرية ﺑني ﺑﻴﺌﺎت اﻟﺠﻤﺎﻋني ﰲ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﻘﻄﺒﻴﺔ أو اﻻﺳﺘﻮاﺋﻴﺔ
أو اﻟﺼﺤﺮاوﻳﺔ ،وﻣﺎ ﻳﱰﺗﺐ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻣﻦ ﻣﻮارد ﻣﺘﺎﺣﺔ وﻓرية أو ﻓﻘرية ،ﺳﻬﻠﺔ أو ﺻﻌﺒﺔ
املﻨﺎل ،وﻳﺮﺟﻊ ﻛﺬﻟﻚ إﱃ ﻣﺪى اﻟﻌﺰﻟﺔ واﻻﺣﺘﻜﺎك ﺑﺠﻤﺎﻋﺎت أﺧﺮى ذات أﻧﻈﻤﺔ ﻣﺸﺎﺑﻬﺔ أو
ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،وﻣﺎ ﻳﱰﺗﺐ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻣﻦ ﺗﻘﺪم ﰲ ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻹﻧﺘﺎج وأدوات ﻟﻺﻧﺘﺎج ﺗﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ
اﺳﺘﻐﻼل املﺼﺎدر اﻟﻐﺬاﺋﻴﺔ أو ﺗﻘﻮم ﻋﻘﺒﺔ ﰲ ﺗﻌﺪد اﺳﺘﻐﻼل ﻫﺬه املﻮارد ﻛﻤٍّ ﺎ وﻧﻮﻋً ﺎ.
407
اﻹﻧﺴﺎن
408
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
ﻣﺜﻼ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻗﴣ ﺑﺈﴎاﻓﻪ اﻟﺸﺪﻳﺪ — ﻣﻨﺬ اﻟﻌﺼﻮر ﻏري املﻔﻴﺪة ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻪ ﻛﺎﻟﺬﺋﺎب ً
اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ — ﻋﲆ أﻧﻮاع أﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﺤﻴﻮان املﺤﺒﺐ ﻟﻠﺼﻴﺪ أو اﻟﺤﻴﻮان املﻌﺎدي ﻟﻮﺟﻮد
اﻹﻧﺴﺎن.
وﻻ ﻳﻘﺘﴫ أﺛﺮ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻻﻗﺘﺼﺎد ﻋﲆ »اﺳﺘﺌﻨﺎس «Humanizationاملﻨﻈﺮ
اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ اﻟﻌﺎم ﻟﻸرض ،وﻟﻜﻨﻪ أدى إﱃ إﻋﺎدة ﺗﻨﻈﻴﻢ املﺠﺘﻤﻊ ﺗﻨﻈﻴﻤً ﺎ ﻳﺘﻔﻖ ﻣﻊ ﻣﻮﺳﻤﻴﺔ
املﺤﺼﻮل اﻟﻨﺒﺎﺗﻲ واﻟﺘﻨﺎﺳﻞ اﻟﺤﻴﻮاﻧﻲ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻇﻬﺮت ﻓﻜﺮة اﻟﺘﺨﺰﻳﻦ اﻟﻐﺬاﺋﻲ وﻃﻘﻮس
املﺤﺼﻮل اﻟﺠﺪﻳﺪ .وﰲ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﻮﻓرية اﻹﻧﺘﺎج أﺻﺒﺢ ﻫﻨﺎك ﻓﺎﺋﺾ إﻧﺘﺎﺟﻲ ﻛﺒري دﻋﺎ إﱃ
ﻧﺸﺄة ﻧﻈﺎم ﻣﺴﺘﻤﺮ ﻟﻠﺘﺒﺎدل واﻟﺘﺴﻮﻳﻖ ،ﻛﻤﺎ أدﱠى ﻓﺎﺋﺾ اﻹﻧﺘﺎج وﺗﺮاﻛﻢ اﻟﺜﺮوة إﱃ ﺗﻨﻮﻳﻊ
اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻟﻄﺒﻘﻲ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ ﺣﺴﺐ املﻜﺎﻧﺔ املﺎدﻳﺔ اﻟﻮراﺛﻴﺔ .وﻣﻊ ﻫﺬا ﻛﻠﻪ ،ﻇﻬﺮ اﻟﺘﺨﺼﺺ
اﻹﻧﺘﺎﺟﻲ ،وﺳﺎﻋﺪ ذﻟﻚ ﻋﲆ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ﰲ أدوات اﻹﻧﺘﺎج ،وزادت ﻗﺪرات اﻟﻨﺎس
ﻋﲆ اﻟﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ آﺛﺎر اﻟﺘﺤﻜﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ،وﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﺑﺪأت دورة اﻟﺘﻔﺎﻋﻞ املﺘﺒﺎدل ﺑني
اﻟﺒﻴﺌﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ واﻟﺤﻀﺎرة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ.
409
اﻹﻧﺴﺎن
إﻧﺴﺎن ﻧﻴﻨﺪرﺗﺎل اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻗﺪ ﺗﺨﺼﺼﺖ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﰲ ﺣﻴﺎة اﻷﺟﻮاء واﻟﺒﻴﺌﺔ اﻟﺠﻠﻴﺪﻳﺔ اﻷوروﺑﻴﺔ.
وﻗﺪ ﻛﻮﱠﻧﺖ اﻟﺒﻴﺌﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﺟﻨﺔ ﻟﺼﻴﺎدي اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻷﻋﲆ ،ﻓﺎﻧﺘﴩوا اﻧﺘﺸﺎ ًرا
ً
إﴎاﻓﺎ واﺳﻌً ﺎ ﰲ أرﺟﺎء أوروﺑﺎ اﻟﻮﺳﻄﻰ واﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﺣﺘﻰ ﺣﺪود إﺳﻜﻨﺪﻧﺎﻓﻴﺎ ،وأﴎﻓﻮا
ﺷﺪﻳﺪًا ﰲ ﺻﻴﺪ اﻟﺤﻴﻮان اﻟﻜﺒري .وﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ذﻟﻚ ،ﻳﺒﺪو أﻧﻬﻢ ﺗﺨﺼﺼﻮا ﰲ ﺻﻴﺪ أﻧﻮاع
ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﻴﻮان ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ؛ ﻓﻔﻲ ﻛﻬﻮف أوﻛﺮاﻧﻴﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﺮﺟﻊ إﱃ اﻟﺤﻀﺎرة
اﻷورﻧﻴﺎﺳﻴﺔ ﻛﺎن ٪٩٩ﻣﻦ اﻟﻌﻈﺎم املﻮﺟﻮدة ﻟﺤﻴﻮان اﻟﺼﻴﺪ ﻫﻲ ﻋﻈﺎم اﻟﺪﺑﺒﺔ ،وﰲ ﺣﻀﺎرة
ﻓﱰة »اﻟﺠﺮاﻓﻴﺘﻲ «Gravettiﰲ ﺟﻨﻮب روﺳﻴﺎ ووﺳﻂ وﻏﺮب أوروﺑﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﻌﻈﺎم
املﻜﺘﺸﻔﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﻮان املﺎﻣﻮث 2 ،وﰲ ﺣﻔﺎﺋﺮ ﺳﻮﻟﻴﱰﻳﻪ ﰲ ﺣﻮض اﻟﺪوردوﻧﻲ )ﻏﺮب ﻓﺮﻧﺴﺎ(
َت ﺑﻘﺎﻳﺎ ﻋﻈﻤﻴﺔ ملﺎﺋﺔ أﻟﻒ ﺣﺼﺎن 3 .وﻳﺒﺪو أن ذﻟﻚ اﻹﴎاف ﻗﺪ ارﺗﺒﻂ ﺑﺎﻧﺘﺸﺎر اﻟﻘﴘ و ُِﺟﺪ ْ
واﻟﺴﻬﺎم ﰲ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻷﻋﲆ ﰲ إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ ،واﻧﺘﻘﺎﻟﻪ ﺗﺪرﻳﺠﻴٍّﺎ إﱃ وﺳﻂ أوروﺑﺎ
وﺷﻤﺎﻟﻬﺎ ﰲ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻷوﺳﻂ ،وﻗﺪ أﻋﻄﻰ ﻫﺬا اﻟﺴﻼح ﻟﻺﻧﺴﺎن ﻃﺎﻗﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﰲ
اﻟﺼﻴﺪ أﺣﺴﻦ ﻣﻦ ﻗﺎذف اﻟﺮﻣﺢ )وﻫﻮ أﻗﺪم ﰲ اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ وأوروﺑﺎ ﻣﻦ اﻟﺴﻬﻢ(.
وﻗﺪ أدى ﻧﻘﺺ اﻟﺤﻴﻮان ﰲ ﺧﻼل اﻟﻔﱰة اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ،وﺧﺎﺻﺔ ﰲ اﻟﻌﴫ
اﻟﺤﺠﺮي اﻷوﺳﻂ )ﺣﻀﺎرﺗﺎ ﻣﺎﺟﻠﻤﻮس Magelmoseوأرﺗﺒﻮل Ertebolleﺣﻮاﱄ اﻟﻔﱰة
ﺑني ٦٨٠٠إﱃ ٥٠٠٠ق.م ﰲ أوروﺑﺎ اﻟﻮﺳﻄﻰ واﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ( ،إﱃ اﺳﺘﻘﺮار اﻟﺴﻜﺎن وﺗﺠﻤﻌﻬﻢ
ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻧﺘﺸﺎرﻫﻢ ،وﺗﺤﻮﱡل اﻫﺘﻤﺎم اﻟﻨﺎس ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻔﱰة إﱃ ﺻﻴﺪ اﻷﺳﻤﺎك ﻗﺮب اﻷﻧﻬﺎر ً
واملﺴﺘﻨﻘﻌﺎت وﺳﻮاﺣﻞ اﻟﺒﺤﺎر .وﺣﻔﺎﺋﺮ ﻫﺬه اﻟﻔﱰة ﻏﻨﻴﺔ ﺑﺄﻧﻮاع اﻟﺸﺒﺎك وﺣﺮاب ﺻﻴﺪ
اﻟﺸﺺ ﱢ اﻷﺳﻤﺎك واﻟﻬﺎرﺑﻮن )رﻣﺢ ﻣﺴﻨﻦ ﻟﺼﻴﺪ اﻷﺳﻤﺎك ً
أﻳﻀﺎ( ،وﻛﺬﻟﻚ ﻧﺠﺪ أﻗﺪم أﻧﻮاع
ﻟﺼﻴﺪ اﻷﺳﻤﺎك .وﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﺬﻟﻚ ً
أﻳﻀﺎ أواﺋﻞ اﻟﻘﻮارب املﺤﻔﻮرة وأدوات ﻧﺠﺎرة ﻛﺎﻣﻠﺔ )ﺣﺠﺮﻳﺔ
ﻃﺒﻌً ﺎ( ،وﻋﲆ ﻋﻜﺲ املﺪاﻓﻦ املﺘﻨﺎﺛﺮة ﰲ ﻋﺼﻮر ﺻﻴﺪ اﻟﱪ ﻧﺠﺪ ﻣﺪاﻓﻦ ﻣﺘﺠﻤﻌﺔ ﰲ ﻫﺬه
اﻟﻔﱰة اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﻌﻄﻴﻨﺎ ﺻﻮرة ﻃﻴﺒﺔ ﻋﻦ اﺳﺘﻘﺮار اﻟﺴﻜﺎن ﰲ ﺗﺠﻤﻌﺎت أو ﻗﺮى
2املﺎﻣﻮث ﻫﻮ أﻛﺜﺮ ﺣﻴﻮاﻧﺎت ﻣﺎ ﻗﺒﻞ اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﺘﻲ ﻧﻌﺮﻓﻬﺎ ،وﻛﺎن أﺷﺒﻪ ﺑﺎﻟﻔﻴﻞ اﻟﻬﻨﺪي ،وﻟﻜﻦ ﻟﻪ ﺷﻌﺮ
ﺻﻮﰲ ﻃﻮﻳﻞ ﺳﻤﻴﻚ وأﻧﻴﺎب ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻣﻘﻮﺳﺔ ﺑﺪرﺟﺔ أﻛﱪ ﻣﻦ اﻟﻔﻴﻞ اﻟﺤﺎﱄ ،ﻛﺬﻟﻚ ﻓﺈن ارﺗﻔﺎﻋﻪ ﻛﺎن
ً
ﻧﻄﺎﻗﺎ ﻗﻄﺒﻴٍّﺎ ﺧﻼل اﻟﻌﴫ اﻟﺠﻠﻴﺪي ﻣﻦ ﺟﻨﻮب ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ إﱃ اﻟﺴﻬﻞ ﻳﺒﻠﻎ ﺣﻮاﱄ ٤٫٥أﻣﺘﺎر ،وﻛﺎن ﻳﻤﻸ
اﻷوروﺑﻲ إﱃ ﺳﻴﺒريﻳﺎ ،وﻗﺪ ﻋُ ﺜِﺮ ﻋﲆ ﻣﺎﻣﻮث ﻣﺘﺠﻤﺪ ﺑﻜﻞ ﺻﻔﺎﺗﻪ اﻟﺠﻠﺪﻳﺔ وﺷﻌﺮه وﻟﺤﻤﻪ ﺗﺤﺖ ﺟﻠﻴﺪ
ﺳﻴﺒريﻳﺎ ،وﻛﺄﻧﻪ ﻣﺎت ﻟﺘﻮﱢه ،ﻟﺪرﺟﺔ أن اﻟﻜﻼب ﻗﺪ ﻧﻬﺸﺖ ﻟﺤﻤﻪ ،ﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ ﻟﻘﻲ ﺣﺘﻔﻪ ﰲ ﺣﻔﺮة
ﺟﻠﻴﺪﻳﺔ ﻣﻨﺬ ﻗﺮاﺑﺔ ﻋﴩﻳﻦ أﻟﻒ ﺳﻨﺔ.
.Childe, G. V., “Social Evolution” Fontana, London, 1963, p. 78 3
410
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
ﻛﺒرية ﻧﺴﺒﻴٍّﺎ ﺑﻌﺪ أن أﺻﺒﺤﺖ اﻟﺤﺮﻓﺔ ﻻ ﺗﺴﺘﺪﻋﻲ اﻟﺘﻨﻘﻞ .وﻋﲆ ﻫﺬا ،ﻓﺈن ﱡ
ﺗﻐريًا ﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ
ﻫﺎﻣٍّ ﺎ ﻗﺪ ﺣﺪث ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺗﻐري إﻳﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺤﻴﻮان واﻟﻐﺬاء4 .
أﻣﱠ ﺎ ﰲ ﻏﺮب آﺳﻴﺎ وﺷﻤﺎل أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﻓﺈن ﺣﻠﻮل اﻟﺠﻔﺎف ﻣﺤﻞ اﻷﻣﻄﺎر ﻗﺪ أدى ﺑﺒﻌﺾ
اﻟﺴﻜﺎن إﱃ اﻟﻬﺠﺮة ،وأﺧﺬ اﻟﺒﺎﻗﻮن ﻳﺘﺠﻤﻌﻮن ﺣﻮل ﻣﺼﺎدر املﺎء اﻟﺪاﺋﻤﺔ ﰲ اﻟﻮاﺣﺎت وﻋﻨﺪ
اﺗﺠﺎﻫﺎ إﱃ ﺗﺮﻛﺰ ﺳﻜﺎﻧﻲ ﰲ اﻟﻨﻄﺎق اﻟﺠﺎف ً اﻟﻴﻨﺎﺑﻴﻊ أو املﺠﺎري اﻟﻨﻬﺮﻳﺔ .وﺑﺬﻟﻚ ﻧﺠﺪ ً
أﻳﻀﺎ
ﻣﻤﺎﺛﻼ ﻟﻠﱰﻛﺰ اﻟﺴﻜﺎﻧﻲ ﺧﻼل اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻷوﺳﻂ ﰲ أوروﺑﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬه اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ً
ﻛﺎﻧﺖ أﺳﺒﻖ ﺑﻜﺜري ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺎف ،ﻟﻌﻠﻬﺎ ﺗﻌﻮد إﱃ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ١٢أﻟﻒ ﺳﻨﺔ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد.
واﻟﺬي ﻳﻬﻤﱡ ﻨﺎ ﻫﻮ أن ﺗﻐري اﻟﺒﻴﺌﺔ ﰲ ﻫﺎﺗني املﻨﻄﻘﺘني ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻗﺪ أدﱠى إﱃ اﻗﱰاب
اﻟﻨﺎس ﻛﺜريًا ﻣﻦ ﻣﻈﺎﻫﺮ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻨﺒﺎﺗﻴﺔ ﻋﲆ وﺟﻪ ﺧﺎص ،ﻓﺤﻴﺎة اﻟﺼﻴﺪ املﺘﻨﻘﻞ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻘﻠﻞ
ً
أﺳﺎﺳﺎ ﻣﻦ ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻫﺘﻤﺎﻣﺎت اﻟﻨﺎس ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة اﻟﻨﺒﺎﺗﻴﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻻﻧﻜﺒﺎب ﻋﲆ اﻟﻐﺬاء املﻜﻮﱠن
اﻟﻠﺤﻢ.
وﻣﺜﻞ ذﻟﻚ — ﻻ ﺷ ﱠﻚ — ﻗﺪ ﺣﺪث ﰲ ﴍق آﺳﻴﺎ وﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ ،ﻟﻜﻦ ﻣﻌﻠﻮﻣﺎﺗﻨﺎ
دﻗﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻷوروﺑﺎ وﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ ،وﻳﺮى اﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ أﻛﺜﺮ اﺗﱢﺴﺎﻋً ﺎ وأﻛﺜﺮ ً
أﻳﻀﺎ ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ ﺑﻌﺾ اﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴني اﻷﻣﺮﻳﻜﻴني أن اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺎﻟﻨﺒﺎت ﻗﺪ ﺑﺪأ ﻳﻈﻬﺮ ً
اﻟﻮﺳﻄﻰ ﰲ ﺣﻮاﱄ اﻷﻟﻒ اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد.
وﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﻌﻤﻮم ،ﻓﺈن اﻟﺘﻐريات اﻹﻳﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﺗﻈﻬﺮ ﺑﺼﻮرة واﺿﺤﺔ ﰲ وﺟﻮد
ﻛﺜري ﻣﻦ اﻷدوات اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻄﺤﻦ أو ﺳﺤﻖ اﻟﺤﺒﻮب ﰲ ﻛﺎﻓﺔ ﺣﻀﺎرات اﻟﺤﺠﺮي
اﻷوﺳﻂ اﻷوروﺑﻲ ،وﺧﺎﺻﺔ ﰲ ﺣﻀﺎرﺗﻲ أزﻳﻞ )ﻓﺮﻧﺴﺎ( وﺗﺎردﻧﻮاز ) 5إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ – ﻓﺮﻧﺴﺎ –
وﺳﻂ أوروﺑﺎ( ،وﻛﺬﻟﻚ ﰲ ﺑﻮاﻛري اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ ﰲ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ )اﻟﺤﻀﺎرة
اﻟﻨﺎﺗﻮﻓﻴﺔ ﰲ ﺳﻔﻮح ﺟﺒﻞ اﻟﻜﺮﻣﻞ ﺑﻔﻠﺴﻄني ﻋﲆ وﺟﻪ ﺧﺎص واﻟﺘﻲ ﺗﻌﻮد إﱃ ﺣﻮاﱄ
4ﻣﻤﺎ ﻳﺪل ﻋﲆ أن اﻟﺘﻐري اﻻﻗﺘﺼﺎدي ﰲ اﻟﺤﺮﻓﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻪ آﺛﺎر ﺣﻀﺎرﻳﺔ أﺑﻌﺪ ﻣﻦ ﻣﺠﺮد اﻻﺳﺘﻘﺮار
واﻟﺘﺠﻤﻊ اﻟﺴﻜﻨﻲ ،أن اﻹﻧﺴﺎن أﺻﺒﺢ ﻳﺪﻓﻦ ﺷﺺ اﻟﺼﻴﺪ ﻣﻊ املﻮﺗﻰ ،ﺑﻌﺪ أن ﻛﺎن اﻟﻘﻮس واﻟﺤﺮﺑﺔ وﻗﺎذف
اﻟﺮﻣﺢ ﻳ َ
ُﺪﻓﻦ ﰲ ﻣﻘﺎﺑﺮ ﺻﻴﺎدي اﻟﱪ.
5ﺣﻀﺎرة ﺗﺎردﻧﻮاز ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻣﻮﺟﺘني ﻣﻦ اﻟﻬﺠﺮات اﻟﺘﻲ ﻗﺪﻣﺖ ﻣﻦ ﺷﻤﺎل أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ إﱃ إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ وﻏﺮب
أوروﺑﺎ ﺣﺘﻰ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ ،وﻗﺪ ﻳﺆدي ﻫﺬا ﺑﻨﺎ إﱃ أن ﻧﺮد أﺻﻞ اﻟﺘﻐري اﻻﻗﺘﺼﺎدي إﱃ ﺟﻤﻊ اﻟﻨﺒﺎﺗﺎت واﻟﻐﺬاء
اﻟﻨﺒﺎﺗﻲ ﰲ أوروﺑﺎ إﱃ اﻧﺘﺸﺎر ﺣﻀﺎري ﻣﻦ اﻟﻨﻄﺎق اﻟﺠﺎف ﻛﻤﻘﺪﻣﺔ ﻻﻧﺘﺸﺎر اﻟﺰراﻋﺔ ً
أﻳﻀﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﻄﺎق
اﻟﺠﺎف.
411
اﻹﻧﺴﺎن
ﻗﻠﻴﻼ( ﻧﺠﺪ ٨٠٠٠ق.م ،وﰲ ﺣﻔﺎﺋﺮ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﻛﺮدﺳﺘﺎن اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻮد إﱃ ﻓﱰة ﻣﺸﺎﺑﻬﺔ أو أﻗﺪم ً
أﻳﻀﺎ ﻣﻨﺎﺟﻞ )ﴍﴍة( ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷدوات اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ ﻟﺴﺤﻖ اﻟﺤﺒﻮب ،وأﻛﺜﺮ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻧﺠﺪ ً
ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺮ ذات أﺳﻨﺎن ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺮ اﻟﺼﻮﱠان ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ اﻟﻬﺎون واملﺪق اﻟﺤﺠﺮﻳني.
وﻟﻴﺴﺖ ﻫﺬه ﺳﻮى أدﻟﺔ ﻋﲆ أن اﻟﻄﻌﺎم اﻟﻨﺒﺎﺗﻲ ﻗﺪ اﺣﺘ ﱠﻞ اﻟﺼﺪارة — أو ﻋﲆ اﻷﻗﻞ
— ﺑﺪأ ﻳﻈﻬﺮ ﻛﻐﺬاءٍ داﺋ ٍﻢ ،ﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻟﻴﺲ ﺑﺪﻟﻴﻞ ﻋﲆ أن أﺻﺤﺎب ﻫﺬه اﻟﺤﻀﺎرات ﻛﺎﻧﻮا
ﻳﻤﺎرﺳﻮن اﻟﺰراﻋﺔ ،ﺑﻞ إن إﺟﻤﺎع اﻵراء ﻫﻮ أن ﻫﺆﻻء اﻟﻨﺎس ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺤﺼﺪون أﻧﻮاﻋً ﺎ ﻏري
ﻣﻌﺮوﻓﺔ ﻣﻦ اﻷﻋﺸﺎب واﻟﺤﺒﻮب اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻤﻮ ﻃﺒﻴﻌﻴٍّﺎ ﻛﺎﻟﻘﻤﺢ أو اﻟﺸﻌري اﻟﱪﱢي.
وﰲ ﻓﱰة ﻻﺣﻘﺔ اﻛﺘُ ِﺸﻒ ﺑني ﺣﻔﺎﺋﺮ اﻟﻔﻴﻮم )ﻣﴫ( وﺳﻴﺎﻟﻚ )إﻳﺮان( ﻣﻨﺎﺟﻞ ذات
ﻣﻘﺒﺾ ﺧﺸﺒﻲ وأﺳﻨﺎن ﺻﻮﱠاﻧﻴﺔ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻋُ ﺜِﺮ ﰲ ﺣﻔﺎﺋﺮ اﻟﻔﻴﻮم ﻋﲆ ﺣﺒﻮب ﻻ ﺗﻤﺖ ﺑﺼﻠﺔ
إﱃ اﻟﺸﻌري اﻟﱪي ،وﻳﺒﺪو أن اﻟﻔﻴﻮﻣﻴني ﻗﺪ ﻃﻮﱠروا اﻟﺰراﻋﺔ ﺑﺎﻟﺘﻬﺠني ،وﻫﻨﺎك ﺗﺸﺎﺑﻪ ﺑني
اﻟﺸﻌري اﻟﺬي و ُِﺟﺪ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﻔﺮﻳﺎت واﻟﺸﻌري اﻟﺬي ﻳُﺰ َرع ﰲ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻣﻦ ﺷﻤﺎل
أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺮاﻫﻦ6 .
وﺗﻌﻄﻴﻨﺎ ﺣﻔﺮﻳﺎت اﻟﻔﻴﻮم ﺗﺘﺎﺑﻌً ﺎ زﻣﻨﻴٍّﺎ ﺟﻴﺪًا ﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺤﻀﺎري ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ
اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ ،ﻣﺜﻠﻬﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﻣﺜﻞ ﺣﻔﺮﻳﺎت أرﻳﺤﺎ ﰲ ﻓﻠﺴﻄني .ﻓﻔﻲ ﺣﻔﺎﺋﺮ اﻟﻔﻴﻮم اﻟﺘﻲ
ﺗﻌﻮد إﱃ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ واﻷوﺳﻂ ﻧﺠﺪ اﻟﻨﺎس ﻳﻨﺘﴩون ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت ﻛﺜرية
ﺻﻐرية اﻟﻌﺪد ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﺮﻛﺰ اﻟﺴﻜﺎن ﰲ ﻗﺮى ﻣﺴﺘﻘﺮة ﻛﺒرية اﻟﺴﻜﺎن ﻋﲆ ﺷﻮاﻃﺊ ﺑﺤرية
ﻣﻮرس )ﻗﺎرون اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ( ﺧﻼل اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ.
وﺑﺮﻏﻢ أن اﻟﺰراﻋﺔ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﻗﺪ اﻛﺘُ ِﺸ َﻔ ْﺖ ﰲ أﻣﺎﻛﻦ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ
دون اﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ اﻧﺘﺸﺎر ﺣﻀﺎري ،ﱠإﻻ أن ﻣﺎ ﻋﻨﺪﻧﺎ ﻣﻦ اﻷدﻟﺔ ﻳﺆﻛﺪ أن اﻟﺰراﻋﺔ ﰲ ﺑﺪاﻳﺎﺗﻬﺎ
أﻳﻀﺎ ﻣﺮةﻗﺪ اﻧﺘﴩت ﻣﻦ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ ﰲ اﺗﺠﺎﻫﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻗﺪ ﺣﺪث ذﻟﻚ ً
أﺧﺮى ﺣﻴﻨﻤﺎ اﻛﺘُ ِﺸ َﻔ ْﺖ زراﻋﺔ املﺤﺮاث ﰲ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ )راﺟﻊ اﻟﺨﺮﻳﻄﺘني رﻗﻢ 2-7
و.(3-7
وﺗﻘﻮم ﻓﻜﺮة إﻣﻜﺎن ﻧﺸﺄة اﻟﺰراﻋﺔ ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ﰲ ﻋﺪة أﻣﺎﻛﻦ ﻣﻨﻔﺼﻠﺔ ﻛﺎﻟﺼني أو أﻣﺮﻳﻜﺎ
ﻋﲆ أﺳﺲ ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ وﻋﻤﻠﻴﺔ .ﻓﺤﻴﺎة اﻻﺳﺘﻘﺮار واﻻﻟﺘﺼﺎق ﺑﺠﻤﻊ اﻟﻐﺬاء اﻟﻨﺒﺎﺗﻲ ﻳﻤﻜﻦ أن
ﺗﺆدي ﻣﺮا ًرا إﱃ إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﻧﺸﺄة اﻟﺰراﻋﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ املﻼﺣﻈﺔ واﻟﺘﺠﺮﺑﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻗِ ﻴ َﻞ ﰲ
Cottrell, L., “The Concise Encyclopedia of Archaeology”, Hutchinson, London, 1970, 6
.pp. 360-361
412
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
ﻫﻦ اﻟﻠﻮاﺗﻲ اﻛﺘﺸﻔﻦ اﻟﺰراﻋﺔ ﺑﺤﻜﻢ أن ﺟﻤﻊ اﻟﻐﺬاء اﻟﻨﺒﺎﺗﻲ إﺣﺪىأﺣﻴﺎن ﻛﺜرية إن اﻟﻨﺴﺎء ﱠ
وﻇﺎﺋﻔﻬﻦ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻟﺼﻴﺪ ﺣﺮﻓﺔ اﻟﺮﺟﺎل ،وﻧﺤﻦ ﻻ ﻧﺸﻚ ﰲ أن اﻛﺘﺸﺎف اﻟﺰراﻋﺔ ﻛﺎن ً
ﻓﻌﻼ ﱠ
»ﺣﺎدﺛﺔ« ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ،ﻟﻜﻦ ﻫﻞ ﺗﻜﺮرت ﻣﺜﻞ ﻫﺬه »اﻟﺤﺎدﺛﺔ« أم أﻧﻬﺎ ﻣﻦ اﻷﺣﺪاث اﻟﺘﻲ ﻻ
ً
اﻛﺘﺸﺎﻓﺎ ﻣﻌﻴﻨًﺎ ﻛﺎن ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺘﻜﺮر ﻛﺘﺸﻐﻴﻞ املﻌﺎدن واﻛﺘﺸﺎف ﻃﺎﻗﺔ اﻟﺒﺨﺎر؟ وﺑﺮﻏﻢ أن
ﻳﺤﺪث ﰲ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﻜﺎن ،ﱠإﻻ أﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪه ﻳﺤﺪث داﺋﻤً ﺎ ﰲ ﻣﻜﺎن واﺣﺪ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺘﺠﻤﻊ ﻋﺪة
ﻇﺮوف ﻗﺪ ﻻ ﻳﻜﻮن ﻟﻬﺎ ﻣﺜﻞ اﻟﱰﻛﻴﺐ املﺆدي إﱃ ﻇﻬﻮر اﻻﻛﺘﺸﺎف ﰲ أي ﻣﻜﺎن آﺧﺮ.
وﻳﺠﺐ أن ﻧﱰك ﻣﻮﺿﻮع اﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺔ ازدواج اﻟﻨﺸﺄة ﻋﻨﺪ ﻫﺬا اﻟﺤﺪ ،ﻓﺎﻟﺒﺎب ﻣﺎ زال
ﻣﻔﺘﻮﺣً ﺎ ملﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻜﺸﻮف واﻟﺘﺄرﻳﺦ واﻟﺘﻨﻈري ،وذﻟﻚ أن ﻣﻮﺿﻮع ﻧﺸﺄة اﻟﺰراﻋﺔ ﰲ أﺻﻮﻟﻬﺎ
أﻳﻀﺎ إﱃ ﻣﺰﻳ ٍﺪ ﻣﻦ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ اﻷوﱃ ﻻ ﻳﺤﺘﺎج ﻓﻘﻂ إﱃ اﻟﺪراﺳﺔ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،ﺑﻞ ﻳﺤﺘﺎج ً
ﻋﻠﻮم إﻳﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺤﻴﺎة .وﻫﺬه ﺗﻨﻄﻮي ﻋﲆ دراﺳﺎت ﻛﺜرية دﻗﻴﻘﺔ ﰲ املﻨﺎخ واﻟﱰﺑﺔ وﻧﻮع
اﻟﻨﺒﺎت واﻟﺤﻴﻮان ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﺤﻔﺎﺋﺮ ﻟﺘﻘﴢ اﻟﺸﻜﻞ اﻹﻳﻜﻮﻟﻮﺟﻲ اﻟﺴﺎﺋﺪ ﰲ املﻨﻄﻘﺔ ﰲ
اﻟﻔﱰة اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ املﻌﻴﻨﺔ .ﻛﻤﺎ ﺗﻘﺘﴤ اﻟﺪراﺳﺔ ً
أﻳﻀﺎ ﻣﺰﻳﺪًا ﻣﻦ اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ اﻟﺠﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ،
ﻓﻀﻼ ﻋﻦ اﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ واﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺎ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ واﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺘﺄرﻳﺨﻴﺔ ﻟﻠﺤﻔﺮﻳﺎت ﺑﻮاﺳﻄﺔ ً
ً
وﺧﺎﺻﺔ ﺑﻮاﺳﻄﺔ »ﻛﺮﺑﻮن ) «١٤وإن ﻛﺎن ﻣﺮﺗﻔﻊ اﻟﺘﻜﻠﻔﺔ(. اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ،
وأﻳٍّﺎ ﻛﺎن اﻻﺧﺘﻼف اﻟﺮاﻫﻦ ﺑني اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني ﻋﲆ أﺻﻞ اﻟﺰراﻋﺔ ،ﻓﺈن اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ اﻟﺘﻲ
ﻟﺪﻳﻨﺎ ﺗﺸري إﱃ أن »ﺣﺎدﺛﺔ« ﻛﺸﻒ اﻟﺰراﻋﺔ ﻗﺪ ﺣﺪﺛﺖ ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ .وﻳﻌﻄﻴﻨﺎ
ﻗِ َﺪ ُم اﻟﺰراﻋﺔ ﰲ ﻫﺬه املﻨﻄﻘﺔ ﺑﺎﻟﻘﻴﺎس إﱃ أي ﻣﻨﻄﻘﺔ أﺧﺮى دﻟﻴ َﻞ إﺛﺒﺎت ﻗﻮﻳٍّﺎ ﻋﲆ أن
ﻇﻬﻮر اﻟﺰراﻋﺔ ﰲ ﺑﻘﻴﺔ أﺟﺰاء اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻗﺪ ﺣﺪث ﰲ ﺻﻮرة اﻧﺘﺸﺎر ﺣﻀﺎري ﺑﻐﺾ اﻟﻨﻈﺮ
ﻋﻦ اﻷﺑﻌﺎد واﻟﻌﻘﺒﺎت ،ﻣﺜﻠﻪ ﰲ ذﻟﻚ ﻣﺜﻞ اﻟﺒﺨﺎر وأﺷﻜﺎل اﻟﻄﺎﻗﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ.
ﻓﻘﺪ ﻋُ ﺜِﺮ ﰲ أرﻳﺤﺎ ﻋﲆ ﺑﻘﺎﻳﺎ ﻗﺮﻳﺔ زراﻋﻴﺔ أ ﱠرﺧﻬﺎ »ﻛﺮﺑﻮن «١٤ﺑﺴﺒﻌﺔ آﻻف ﺳﻨﺔ
أﻳﻀﺎ ﰲ املﻨﻄﻘﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻋﲆ ﺑﻘﺎﻳﺎ ﺣﻀﺎرة ﺗﺮﺟﻊ إﱃ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ،وﻋُ ﺜِﺮ ً
أﻳﻀﺎ ﻋﲆ أناﻷوﺳﻂ ،ﺳﺎﺑﻘﺔ ﻋﲆ اﻟﺰراﻋﺔ ﺑﺤﻮاﱄ ٨٠٠ﺳﻨﺔ .وﺗﺪل ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻫﺬه اﻟﺤﻔﺮﻳﺎت ً
اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺬي ﺳﻜﻦ أرﻳﺤﺎ ﻗﺪ اﺳﺘﻄﺎع أن ﻳﺘﻄﻮر ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺮي اﻷوﺳﻂ ﻟﻠﺤﺠﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ
ﰲ ﺧﻼل اﻷﻟﻒ اﻟﺜﺎﻣﻨﺔ ق.م.
ﻛﺬﻟﻚ د ﱠﻟﺖ أﺑﺤﺎث اﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴني ﰲ ﻛﺮدﺳﺘﺎن ﻋﲆ وﺟﻮد ﻣﺠﺘﻤﻌني زراﻋﻴني؛ أﺣﺪﻫﻤﺎ
ﰲ ﺟﺎرﻣﻮ ﺑﻜﺮدﺳﺘﺎن اﻟﻌﺮاﻗﻴﺔ ،واﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﰲ ﺗﻴﺒﻪ زارب Tepe Sarabﰲ ﻛﺮدﺳﺘﺎن اﻹﻳﺮاﻧﻴﺔ.
واملﻌﺘﻘﺪ أن ﺳﻜﺎن ﻫﺎﺗني املﻨﻄﻘﺘني ﻋﺎﺷﻮا ﺑني ٦٥٠٠و٧٠٠٠ق.م ،وﻛﺎن ﺳﻜﺎن ﺟﺎرﻣﻮ
ﻗﺪ اﺳﺘﺄﻧﺴﻮا اﻟﺤﻴﻮان وزرﻋﻮا اﻟﺸﻌري وﻧﻮﻋني ﻣﻦ أﻧﻮاع اﻟﻘﻤﺢ ،واملﺆﻛﺪ أﻧﻬﻢ اﺳﺘﺄﻧﺴﻮا
املﺎﻋﺰ ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ اﺣﺘﻤﺎل ﺗﻤ ﱡﻜﻨﻬﻢ ﻣﻦ اﺳﺘﺌﻨﺎس اﻟﺤﺼﺎن واﻟﻜﻠﺐ واملﺎﺷﻴﺔ.
413
اﻹﻧﺴﺎن
٣ ١
٤ ٢
414
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
اﺧﱰﻋَ ِﺖ اﻟﺰراﻋﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻫﺠﺮة إﱃ أﻣﺮﻳﻜﺎ ،أم اﻛﺘُ ِﺸ َﻔ ْﺖ ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ﻋﻦ اﻟﴩق ﻫﻞ ُ ِ
اﻷوﺳﻂ؟ ﻻ ﺷ ﱠﻚ أن اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺰراﻋﻴﺔ ﻗﺪ ﻫﺎﺟﺮت ﺑﴪﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ إﱃ اﻟﴩق.
ﻓﻘﺒﻞ ٣٣٠٠ق.م وﺻﻠﺖ ﺑﻠﻮﺧﺴﺘﺎن ،ﻓﻬﻞ ﺗﻮﻗﻔﺖ ﻋﻨﺪ اﻟﺴﻨﺪ أم اﻣﺘﺪت ﻋﱪ ﻫﻀﺎب وﺳﻂ
آﺳﻴﺎ؟ وﰲ اﻟﺼني وﺟﻨﻮب ﴍق آﺳﻴﺎ اﻛﺘُ ِﺸ َﻔﺖ اﻟﺰراﻋﺔ ﺣﻮاﱄ ٥٠٠٠ق.م ،ﻓﻬﻞ وﺻﻠﺖ
ٍّ
ﻣﺴﺘﻘﻼ؟ وأﻳﻦ ً
اﻛﺘﺸﺎﻓﺎ اﻟﺰراﻋﺔ ﻫﻨﺎك ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﻫﺠﺮة ﻣﻦ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ ،أم ﻛﺎن ذﻟﻚ
ﻛﺎن؟ ﻫﻞ ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺧﻠﻴﺞ اﻟﺒﻨﺠﺎل أم ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺑﺤﺮ اﻟﺼني اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ؟ ﻫﻞ ﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا ﻣﻨﻄﻘﺔ
اﻛﺘﺸﺎف ﺛﺎﻟﺜﺔ ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ﺑﺠﻮار اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ وأﻣﺮﻳﻜﺎ؟
إن ﻣﻌﻠﻮﻣﺎﺗﻨﺎ اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ ﻣﺎ زاﻟﺖ أﻗ ﱠﻞ ﻛﺜريًا ﻣﻦ ﺟﻬﻠﻨﺎ ﺑﺎﻟﻜﺜري ﻣﻤﺎ ﺣﺪث ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ
اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ﻟﻢ ﻳﻤﻨﻊ ﺑﻌﺾ اﻟﻜﺘﱠﺎب ﻣﻦ ﺗﺄﻳﻴﺪ ﻧﻈﺮﻳﺔ أو أﺧﺮى ﻣﺜﻞ C. O. Sauer
اﻟﺬي ﺗﻤﺴﻚ — دون دﻟﻴﻞ — ﺑﺴﺒﻖ اﻟﴩق اﻷﻗﴡ ﰲ اﻟﺰراﻋﺔ ،واﻧﺘﺸﺎرﻫﺎ ﻣﻦ املﻨﻄﻘﺔ إﱃ
ﻏريﻫﺎ ﻣﻦ ﺑﻘﺎع اﻟﻌﺎﻟﻢ.
وﻣﻊ ذﻟﻚ — وﺣﺴﺐ ﻣﻌﻠﻮﻣﺎﺗﻨﺎ اﻟﺮاﻫﻨﺔ — ﻓﺈﻧﻪ ﻻ ﺷ ﱠﻚ أن اﻟﺰراﻋﺔ ﻗﺪ ﻋُ ِﺮﻓﺖ ﰲ
اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ ﺣﻮاﱄ ٧٠٠٠ق.م ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎن ﻣﻌﻈﻢ ﺳﻜﺎن اﻟﻌﺎﻟﻢ آﻧﺬاك ﻳﻌﻴﺸﻮن ﻋﲆ
اﻟﺼﻴﺪ واﻟﺠﻤﻊ ،وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻓﺈن اﻧﺘﺸﺎر اﻟﻨﻴﻮﻟﻴﺘﻴني ﺑﺤﻀﺎرﺗﻬﻢ واﻗﺘﺼﺎدﻫﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﻛﺎن ﻳﺘﱠﺒﻊ
ﻃﺮﻗﺎ ﻣﻌﻴﻨﺔ اﺳﺘﻄﺎع ﺟﻤﻬﻮر اﻟﺒﺎﺣﺜني أن ﻳﺘﻔﻘﻮا ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺤﺬر واﻟﱰوي، ً
وﺑﻌﺪ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻻﻛﺘﺸﺎﻓﺎت اﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﰲ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ وأوروﺑﺎ وأﻓﺮﻳﻘﻴﺎ.
ﰲ ﻣﴫ أﻛﺪت اﻷﺑﺤﺎث اﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ وﺟﻮد اﻟﺤﺒﻮب املﺰروﻋﺔ ﰲ اﻟﻔﻴﻮم ﺣﻮاﱄ
٥٠٠٠ق.م ،وﻣﻨﻬﺎ ﺑﺪأت اﻟﻬﺠﺮة ﺟﻨﻮﺑًﺎ ﻋﲆ ﻃﻮل ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻨﻴﻞ ،ﻓﻮﺻﻠﺖ اﻟﺴﻮدان ﺣﻮاﱄ
٣٥٠٠ق.م ،وﻛﻴﻨﻴﺎ ﺣﻮاﱄ ٣٠٠٠ق.م.
وﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ اﻧﺘﴩت اﻟﺜﻮرة اﻟﺰراﻋﻴﺔ ﰲ أوروﺑﺎ ،وﻛﺎن اﻟﺪاﻧﻮب واﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ
اﻟﻄﺮﻳﻘني اﻟﻠﺬﻳﻦ ﻋﱪﺗﻬﻤﺎ اﻟﺜﻮرة اﻟﺰراﻋﻴﺔ إﱃ اﻟﻐﺮب؛ ﻓﻘﺪ اﻧﺘﻘﻠﺖ اﻟﺰراﻋﺔ ﺣﺴﺐ رأي
ﻓﺎراﻧﻴﺎك 7ﻣﻦ ﻣﴫ إﱃ ﻛﺮﻳﺖ ،وﻋﲆ ﻃﻮل اﻟﺴﺎﺣﻞ اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ ﻟﻠﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ إﱃ ﺻﻘﻠﻴﺔ،
ً
ﺷﻤﺎﻻ إﱃ وﺷﻤﺎل أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،وﺟﺒﻞ ﻃﺎرق ،وﻋﱪ اﻟﺒﻮﻏﺎز إﱃ ﻏﺮب أوروﺑﺎ .وﻣﻦ ﺻﻘﻠﻴﺔ
اﻟﺮﻳﻔريا ،وﻣﻨﻬﺎ إﱃ أﻋﺎﱄ اﻟﺮاﻳﻦ ووﺳﻂ ﻓﺮﻧﺴﺎ وﻏﺮﺑﻬﺎ ،وﻣﻦ ﻛﺮﻳﺖ إﱃ اﻟﻴﻮﻧﺎن ،وﻣﻨﻬﺎ إﱃ
ﺟﻨﻮب إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ،وﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى إﱃ ﻣﻘﺪوﻧﻴﺎ ﺛﻢ اﻟﺪاﻧﻮب اﻷوﺳﻂ ،وﻣﻦ ﻫﻨﺎك
415
اﻹﻧﺴﺎن
إﱃ ﺑﻮﻟﻨﺪا وأملﺎﻧﻴﺎ وﺗﺸﻴﻜﻮﺳﻠﻮﻓﺎﻛﻴﺎ وﺷﻤﺎل إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ،وﻛﺬﻟﻚ اﻧﺘﻘﻠﺖ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺰراﻋﻴﺔ
ﻣﻦ اﻷﻧﺎﺿﻮل ﻋﱪ اﻟﺒﺴﻔﻮر ﻋﲆ ﻃﻮل ﺳﺎﺣﻞ اﻟﺒﺤﺮ اﻷﺳﻮد اﻟﻐﺮﺑﻲ إﱃ أوﻛﺮاﻧﻴﺎ ،وﻣﺼﺪر
ﺛﺎﻟﺚ :ﻗﱪص إﱃ ﻛﺮﻳﺖ ﺛﻢ اﻟﻴﻮﻧﺎن.
وﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ اﻧﺘﴩت اﻟﺰراﻋﺔ ﰲ أوروﺑﺎ ﺣﺘﻰ ﺟﻨﻮب اﻟﺴﻮﻳﺪ ﰲ اﻟﻔﱰة ﺑني ٤٥٠٠
و٢٠٠٠ق.م ،ﺛﻢ ﻋﱪت ﺑﺤﺮ املﺎﻧﺶ إﱃ إﻧﺠﻠﱰا ،وﻟﻢ ﺗﺤﻞ ١٥٠٠ق.م ﱠإﻻ وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺰراﻋﺔ
ﺳﺎﺋﺪة ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﺤﺮﻓﺔ رﺋﻴﺴﻴﺔ ﰲ ﻛﻞ أوروﺑﺎ ﻣﺎ ﻋﺪا اﻷﻗﺎﻟﻴﻢ اﻟﻘﻄﺒﻴﺔ وﻧﻄﺎق اﻟﻐﺎﺑﺎت
املﺨﺮوﻃﻴﺔ ﰲ ﺷﻤﺎل إﺳﻜﻨﺪﻧﺎﻓﻴﺎ واﻻﺗﺤﺎد اﻟﺴﻮﻓﻴﺘﻲ؛ ﺣﻴﺚ ﻇﻞ اﻹﻧﺴﺎن ﻳﻤﺎرس اﻟﺼﻴﺪ
إﱃ ﻓﱰة ﻗﺮﻳﺒﺔ ﺟﺪٍّا )اﻟﻘﺮن اﻟﺤﺎﱄ( .وﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ اﻧﺘﴩت اﻟﺰراﻋﺔ اﻧﺘﺸﺎ ًرا ﻣﺤﺪودًا
ﻣﻦ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻮﺳﻄﻰ إﱃ ﴍق اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة وإﱃ ﺣﻮض اﻷﻣﺎزون ،وﻟﻢ ﻳُﻘﺪﱠر ﻟﻠﺰراﻋﺔ
اﻻﻧﺘﺸﺎر ﰲ ﻛﻞ اﻷﻣﺮﻳﻜﺘني وﰲ أﺳﱰاﻟﻴﺎ وﺳﻴﺒريﻳﺎ ،ﱠإﻻ ﺑﻌﺪ ﻓﱰة اﻟﺘﻮﺳﻊ اﻷوروﺑﻲ ﺑﻌﺪ
اﻟﻜﺸﻮف اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ اﻟﻜﱪى ﰲ اﻟﻘﺮﻧني اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ واﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ.
416
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
ﺗﺒني اﻹﻧﺴﺎن أن ﰲ وﺳﻌﻪ اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻘﻮة اﻟﻌﻀﻠﻴﺔ ﻟﻠﺬراع اﻟﺘﻲ ﺗﴬب اﻟﻔﺄس .وﴎﻋﺎن ﻣﺎ ﱠ
ً
ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﺳﺘﺨﺪام اﻹﻧﺴﺎن ،ﺧﺎﺻﺔ وأن اﺳﺘﺌﻨﺎس اﻟﻘﻮة اﻟﻌﻀﻠﻴﺔ ﻟﻠﺤﻴﻮان ﻟﺠ ﱢﺮ املﺤﺮاث ً
اﻟﺤﻴﻮان ﻛﺎن ﻗﺪ ﺗﻢ ﰲ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ ﰲ وﻗﺖ ﻣﺒ ﱢﻜﺮ ﻣﺰاﻣﻦ أو ﻻﺣﻖ ﻻﺳﺘﺌﻨﺎس اﻟﻨﺒﺎت.
) (٣أن ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺠﻔﺎف ﰲ ﻣﻨﺎخ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻘﻠﻞ ﻣﻦ ﻓﺮص اﻧﺘﻘﺎل اﻟﺰراﻋﺔ
ﻣﻦ اﻟﺤﻘﻞ املﻨﻬﻚ إﱃ ﺣﻘﻞ ﺟﺪﻳﺪ ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ زﻳﺎدة ﻋﺪد اﻟﺴﻜﺎن ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻠﻮﻓﺮة اﻟﻐﺬاﺋﻴﺔ
ﻃﺮاد،اﻟﺘﻲ ﻧﺠﻤﺖ ﻋﻦ اﻟﺰراﻋﺔ .وﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ،ﻓﺈن زﻳﺎدة ﻋﺪد اﻟﺴﻜﺎن اﻟﺰراﻋﻴني ﺑﺎ ﱢ
واملﻨﺎخ اﻟﺠﺎف ﰲ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ ،ﻗﺪ أوﺟﺪ ﻣﺸﻜﻠﺔ اﻟﻀﻐﻂ ﻋﲆ اﻷراﴈ اﻟﻘﻠﻴﻠﺔ اﻟﺼﺎﻟﺤﺔ
ﻟﻠﺰراﻋﺔ ،وأﻟﺰم اﻟﺴﻜﺎن ﺑﺎﻻﺳﺘﻘﺮار ﻓﻴﻬﺎ ،وﻣﻦ ﺛﻢ اﺿﻄﺮ اﻹﻧﺴﺎن إﱃ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ ﺗﻮﺳﻴﻊ
اﻹﻧﺘﺎج رأﺳﻴٍّﺎ .وﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪ املﺤﺮاث ﻋﲆ ذﻟﻚ ﺑﺘﺠﺪﻳﺪ ﺧﺼﺐ اﻟﱰﺑﺔ ﻛﻤﺎ ذﻛﺮﻧﺎ ،وﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ
إﱃ ذﻟﻚ ﻋﺮف اﻹﻧﺴﺎن ﺗﺠﺮﻳﺒﻴٍّﺎ أن روث املﺎﺷﻴﺔ املﺴﺘﺨﺪﻣﺔ ﰲ ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﺤﻘﻞ ﻳﺰﻳﺪ ً
أﻳﻀﺎ
ﻣﻦ ﺧﺼﺐ اﻟﱰﺑﺔ.
417
اﻹﻧﺴﺎن
)أ(
)ب(
وﻟﻘﺪ دﺧﻞ ﻋﲆ املﺤﺮاث ﺗﻄﻮر ﺗﻜﻨﻴﻜﻲ ﻛﺒري ﰲ اﻟﺨﻤﺴﺔ آﻻف ﺳﻨﺔ املﺎﺿﻴﺔ ،وأﺻﺒﺤﺖ
ﻫﻨﺎك أﻧﻮاع ﻋﺪﻳﺪة ﻣﻦ املﺤﺮاث اﻟﺬي ﻳﺠﺮه اﻟﺤﻴﻮان ﰲ أوروﺑﺎ واﻟﴩق اﻷوﺳﻂ واﻟﴩق
اﻷﻗﴡ8 .
.Riad, M., “Native Plough in Egypt” Bul. Egyptian Geographical Society, Cairo 1960 8
418
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
ﻓﺎرﻗﺎ ﻛﺒريًا ﺑني اﻟﻨﺒﺎﺗﺎت املﺰروﻋﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﺣﺘﻜﺎرﻳﺔ اﻷﺻﻞ أو ﺗﻮزع ً ) (١إن ﻫﻨﺎك
اﻷﺻﻮل واﻟﺒﺪاﺋﻞ املﺸﺎﺑﻬﺔ .ﻓﻤﺠﻤﻮﻋﺔ املﻜﻴﱢﻔﺎت واملﻜﴪات ،وﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻧﺒﺎﺗﺎت اﻟﺰﻳﻮت،
وﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻌﻄﺮﻳﺎت واملﺘﺒﱢﻼت ،ﺗﻮﺿﺢ اﺣﺘﻜﺎ ًرا ﻟﻺﻗﻠﻴﻢ املﺪاري ﰲ أﺻﻮل ﻧﺸﺄﺗﻬﺎ .وﻣﺎ
زاﻟﺖ ﻫﺬه املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻨﺒﺎﺗﻴﺔ ﺗﻜﻮﱢن اﺣﺘﻜﺎ ًرا إﻧﺘﺎﺟﻴٍّﺎ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ ﻟﻺﻗﻠﻴﻢ املﺪاري،
وﻳﺮﺗﺒﻂ ذﻟﻚ ﺑﺪون ﺷﻚ ﺑﺘﻜﻴﻒ اﻟﻨﺒﺎت ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻟﻠﻈﺮوف املﻨﺎﺧﻴﺔ واﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ .أﻣﱠ ﺎ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ
اﻟﺤﺒﻮب واﻟﺨﴬوات واﻟﻔﻮاﻛﻪ واﻷﻟﻴﺎف ،ﻓﺘﻤﺜﻞ ﺗﻮزﻋً ﺎ إﻗﻠﻴﻤﻴٍّﺎ واﺳﻌً ﺎ ،ﻫﻲ أو ﺑﺪاﺋﻠﻬﺎ ،ﻣﻦ
ﺣﻴﺚ أﺻﻮل اﻟﻨﺸﺄة.
) (٢ﻣﻦ ﺣﺴﻦ اﻟﺤﻆ أن املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻨﺒﺎﺗﻴﺔ اﻟﻮاﺳﻌﺔ اﻻﻧﺘﺸﺎر ﻫﻲ ﻧﻔﺴﻬﺎ — أو أﻏﻠﺒﻴﺘﻬﺎ
— اﻟﺘﻲ ﻛ ﱠﻮﻧَﺖ اﻟﻐﺬاء اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ اﻟﻨﺒﺎﺗﻲ اﻷﺳﺎﳼ :اﻟﺤﺒﻮب ،واﻟﺨﴬوات ،واﻟﻔﻮاﻛﻪ .وﻛﺬﻟﻚ
419
اﻹﻧﺴﺎن
٦ ١
٧ ٢
٨ ٣
٩ ٤
١٠ ٥
١١
ﻛﺎن ﻟﺘﻌﺪد أﺻﻮل ﻧﺒﺎﺗﺎت اﻷﻟﻴﺎف أﺛ ٌﺮ ﰲ ﺗﻌﺪد أﺷﻜﺎل ﺧﺎﻣﺎت املﻼﺑﺲ ﰲ املﻨﺎﻃﻖ املﺨﺘﻠﻔﺔ.
ً
اﻧﺘﻘﺎﻻ أﻣﱠ ﺎ اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻨﺒﺎﺗﺎت اﻟﻌﻄﺮﻳﺔ واملﺘﺒﻼت أو املﻜﻴﱢﻔﺎت وﻧﺒﺎﺗﺎت اﻟﺰﻳﻮت ،ﻓﻜﻠﻬﺎ ﺗﻤﺜﻞ
ﻄﺎ ﺑﻐﺬاء اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﻌﻠﻴﺎ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرات ﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ ﰲ ﻣﺬاق اﻟﻐﺬاء اﻷﺳﺎﳼ ،وﻗﺪ ﻇ ﱠﻞ ﺑﺬﻟﻚ ﻣﺮﺗﺒ ً
اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ .وﻣﻦ ﺛﻢ ،ﻓﺈن دﺧﻮﻟﻪ ﰲ اﻟﻐﺬاء اﻟﺸﻌﺒﻲ ﻗﺪ ﺣﺪث ﻣﺘﺄﺧ ًﺮا ﺟﺪٍّا — ﰲ اﻟﻌﴫ
اﻟﺤﺪﻳﺚ — ﺑﻌﺪ أن ﺗﻤﻜﻦ اﻟﻨﻘﻞ اﻟﻜﺒري اﻟﺤﺠﻢ )وﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص اﻟﺴﻔﻦ اﻟﺘﺠﺎرﻳﺔ
اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ( وﻧﻤﻮ اﻟﺘﺠﺎرة اﻟﻌﺎملﻴﺔ ﻣﻦ ﺧﻔﺾ أﺳﻌﺎر ﻫﺬه اﻟﺴﻠﻊ املﺪارﻳﺔ.
) (٣ﻻ ﺗﺰال اﻟﺤﺒﻮب واﻟﺨﴬوات اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﺗﻜﻮن أﺳﺎس اﻟﻐﺬاء ﰲ أﻗﺎﻟﻴﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ
املﺨﺘﻠﻔﺔ :اﻷرز ﰲ ﴍق وﺟﻨﻮب آﺳﻴﺎ ،اﻟﺪﺧﻦ واﻟﴪﻏﻢ واﻟﻔﻮﻧﻴﻮ وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ أﻧﻮاع اﻟﺬرة
420
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
اﻟﺤﺒﺸﺔ وﻫﻀﺎب
أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻮﺳﻄﻰ
اﻟﺼني اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ
ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﱪازﻳﻞ
اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ
اﻟﺴﻨﺪ-اﻟﻘﻮﻗﺎز
ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻷﻧﺪﻳﺰ
ﴍق أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ
ﻏﺮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ
ﺟﻨﻮب ﴍق
ﺟﺰر اﻟﻬﻨﺪ
اﻟﴩﻗﻴﺔ
اﺳﻢ اﻟﻨﺒﺎت
اﻟﻬﻨﺪ
آﺳﻴﺎ
١١ ١٠ ٩ ٨ ٧ ٦ ٥ ٤ ٣ ٢ ١ رﻗﻢ اﻹﻗﻠﻴﻢ ﰲ اﻟﺨﺮﻳﻄﺔ رﻗﻢ )(٢٩
اﻟﺤﺒﻮب:
Soft wheats اﻟﻘﻤﺢ اﻟﻠني
Hard wheats اﻟﻘﻤﺢ اﻟﺼﻠﺐ
Barleys اﻟﺸﻌري
Rye اﻟﺸﻴﻠﻢ )ﺧﺮﻃﺎل – ﺟﻮدار(
Oats اﻟﺸﻮﻓﺎن )ﻗﺮﻃﻤﺎن(
Millets اﻟﺪﺧﻦ أﻧﻮاع ﻛﺜرية ﻣﻦ
Sorghums اﻟﴪﻏﻢ اﻟﺬرة اﻟﺮﻓﻴﻌﺔ
Maizes اﻟﺬرة )اﻟﺸﺎﻣﻴﺔ-أﻣﺮﻳﻜﻴﺔ(
Rices اﻷرز
اﻟﺨﴬوات:
Beans ﻓﻮل وﻓﺎﺻﻮﻟﻴﺎ
Peas ﺑﺎزﻻء
Spinagh ﺳﺒﺎﻧﺦ
Squashes ﻛﻮﺳﺔ
Pumpkins ﻗﺮع
Gourds ﻗﺮع )زﺟﺎﺟﻲ اﻟﺸﻜﻞ ،ﻋﺴﲇ(
Okras ﺑﺎﻣﻴﺎ
Tomatoes ﻃﻤﺎﻃﻢ
Eggplants ﺑﺎذﻧﺠﺎن
Cabbages ﻛﺮﻧﺐ
Cauliflower ﻗﺮﻧﺒﻴﻂ )ﻗﻨﺒﻴﻂ(
Lentils ﻋﺪس
Onions ﺑﺼﻞ
Turnips ﻟﻔﺖ
Radishes ﻓﺠﻞ
Lettuces ﺧﺲ
Carrots ﺟﺰر
Grams ﺣﻤﺺ
Celeries ﻛﺮﻓﺲ
Asparagus ﻫﻠﻴﻮن
Cucumbers ﺧﻴﺎر
Taros-Colocasia ﻗﻠﻘﺎس
Yams ﻳﺎم أوﻣﺎﻧﻴﻮك أوﺗﺎﺑﻴﻮﻛﺎ
Beets ﺑﻨﺠﺮ )ﺷﻤﻨﺪر(
Sweet Potatoes ﺑﻄﺎﻃﺎ
Potatoes ﺑﻄﺎﻃﺲ
ﺷﻜﻞ 5-7
اﻟﺮﻓﻴﻌﺔ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ املﺪارﻳﺔ وأﺟﺰاء ﻛﺜرية ﻣﻦ اﻟﻬﻨﺪ ،اﻟﻘﻤﺢ ﰲ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ املﻌﺘﺪﻟﺔ
ذات اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ.
ورﻏﻢ اﻧﺘﻘﺎل اﻟﻘﻤﺢ إﱃ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻣﺘﻌﺪدة ،ﱠإﻻ أن أﻛﱪ ﻫﺠﺮة ﻧﺒﺎﺗﻴﺔ ﰲ ﻣﻀﻤﺎر اﻟﺤﺒﻮب
اﻟﻐﺬاﺋﻴﺔ ﺗﻤﺜﻠﻬﺎ اﻟﺬرة اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ اﻷﺻﻞ اﻟﺘﻲ وَﺟَ ﺪ ْ
َت ﻟﻬﺎ ﰲ أﺟﺰاء ﻛﺜرية ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ
421
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﺤﺒﺸﺔ وﻫﻀﺎب
أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻮﺳﻄﻰ
ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﱪازﻳﻞ
اﻟﺼني اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ
ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻷﻧﺪﻳﺰ
اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ
اﻟﺴﻨﺪ-اﻟﻘﻮﻗﺎز
ﴍق أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ
ﻏﺮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ
ﺟﻨﻮب ﴍق
ﺟﺰر اﻟﻬﻨﺪ
اﻟﴩﻗﻴﺔ
اﺳﻢ اﻟﻨﺒﺎت
اﻟﻬﻨﺪ
آﺳﻴﺎ
١١ ١٠ ٩ ٨ ٧ ٦ ٥ ٤ ٣ ٢ ١ رﻗﻢ اﻹﻗﻠﻴﻢ ﰲ اﻟﺨﺮﻳﻄﺔ رﻗﻢ )(٢٩
اﻟﻔﻮاﻛﺔ:
Citrus املﻮاﻟﺢ
Grapes اﻟﻜﺮوم
Apples اﻟﺘﻔﺎح
Peaches اﻟﺨﻮخ
Pears اﻟﻜﻤﺜﺮى
Plums اﻟﱪﻗﻮق واﻷﺟﺎص
Apricots املﺸﻤﺶ
Pomegranates اﻟﺮﻣﺎن
Cherries اﻟﻜﺮز
Mangoes املﺎﻧﺠﻮ
Pineapples اﻷﻧﺎﻧﺎس
Papayas اﻟﺒﺎﺑﺎز
Bananas املﻮز
)(٢ اﻟﺘني
Figs
Olives اﻟﺰﻳﺘﻮن
)(١ Dates )(٢ )(١ اﻟﺒﻠﺢ
)berries (Mul, Straw اﻟﻮﺷﻨﺎت
Melons اﻟﺸﻤﺎم
Tamarind ﺗﻤﺮ ﻫﻨﺪى
Carobs ﺧﺮوب
Kola ﻛﻮﻻ
)(١) (٢ )(٢ )(١
اﻟﻌﻄﺮﻳﺎت واملﺘﺒﻼت:
)Clove (Eugenias ﻗﺮﻧﻔﻞ
Amaranths ﻗﻄﻒ
Pandanuses ﻛﺎزي
Gingers زﻧﺠﺒﻴﻞ
Cardamom ﺣﺒﻬﺎن )ﺣﺐ ﻫﺎل(
Turmeric ﻋﺼﻔﺮ )ﻛﺮﻛﻢ – زﻋﻔﺮان(
Garlic ﻓﻠﻔﻞ
Peppers ﺛﻮم
Rhubarb راوﻧﺪ
Brinjals ﺑريﻧﺠﺎل
Mustards ﻣﺴﻄﺮدة )ﺧﺮدل(
ﻧﺒﺎت اﻷﻟﻴﺎف:
Cottons ﻗﻄﻦ
Flax ﻛﺘﺎن
Hemp ﻗﻨﺐ
Kapok ﻗﺎﺑﻮق )اﻟﻘﻄﻦ اﻟﻜﺎذب(
Jute ﺟﻮت
Rubber ﻣﻄﺎط
ﺷﻜﻞ 6-7
422
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
اﻟﺤﺒﺸﺔ وﻫﻀﺎب
أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻮﺳﻄﻰ
اﻟﺼني اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ
ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﱪازﻳﻞ
اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ
اﻟﺴﻨﺪ-اﻟﻘﻮﻗﺎز
ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻷﻧﺪﻳﺰ
ﴍق أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ
ﻏﺮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ
ﺟﻨﻮب ﴍق
ﺟﺰر اﻟﻬﻨﺪ
اﻟﴩﻗﻴﺔ
اﻟﻬﻨﺪ
آﺳﻴﺎ
اﺳﻢ اﻟﻨﺒﺎت
١١ ١٠ ٩ ٨ ٧ ٦ ٥ ٤ ٣ ٢ ١ رﻗﻢ اﻹﻗﻠﻴﻢ ﰲ اﻟﺨﺮﻳﻄﺔ رﻗﻢ )(٢٩
ﻧﺒﺎﺗﺎت اﻟﺰﻳﻮت:
Sesames ﺳﻤﺴﻢ
Oil palms ﻧﺨﻴﻞ اﻟﺰﻳﺖ
Sun flower ﻋﺒﺎد اﻟﺸﻤﺲ
Lotus ﻟﻮﺗﺲ
Castor beans ﻓﺮوع
Soy beans ﻓﻮل اﻟﺼﻮﻳﺎ
Tung oils زﻳﺖ اﻟﺘﻨﺞ
Peanuts ﻓﻮل ﺳﻮداﻧﻲ
املﻜﻴﻔﺎت واملﻜﴪات:
Teas ﺷﺎي
Coffees ﺑﻦ
Cacao ﻛﺎﻛﺎو
Tobaccos ﺗﺒﻎ
Poppies ﺧﺸﺨﺎش
Sugarcanes ﻗﺼﺐ اﻟﺴﻜﺮ
Sugarbeat ﺑﻨﺠﺮ اﻟﺴﻜﺮ
Walnuts ﺟﻮز
Almonds ﻟﻮز
Pistachio ﻓﺴﺘﻖ
Chestnut ﻛﺴﺘﻨﺎء
Cashewnut ﻓﻮل ﻛﺎﺷﻴﻮ
Coconuts ﺟﻮز ﻫﻨﺪ
ﺷﻜﻞ 7-7
واﻟﻘﺪﻳﻢ ﻣﻴﺪاﻧًﺎ واﺳﻌً ﺎ ﻟﻠﺰراﻋﺔ واﻻﻧﺘﺸﺎر ﰲ ﻇﺮوف ﻣﻨﺎﺧﻴﺔ ﻣﺘﻨﺎﻗﻀﺔ .ﻓﺎﻟﺬرة ﺗُﺰ َرع ﰲ
املﻨﺎﻃﻖ املﻌﺘﺪﻟﺔ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ )ﺣﻮض اﻟﺪاﻧﻮب ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل( ،وﺗُﺰرع ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻣﻮﺳﻤﻴﺔ
)اﻟﻬﻨﺪ( ،وﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ اﺳﺘﻮاﺋﻴﺔ )ﻏﺮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ(.
ري ﻣﻦ اﻟﺨﴬوات ،ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻧﺘﴩت وﺑﺎملﺜﻞ ،ﻧﺠﺪ ً
أﻳﻀﺎ ﺗﻮزﻋً ﺎ إﻗﻠﻴﻤﻴٍّﺎ ﻣﺤﺪودًا ﻟﻜﺜ ٍ
اﻟﻄﻤﺎﻃﻢ واﻟﻜﻮﺳﺔ ﻣﻦ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻮﺳﻄﻰ إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ ،واﻧﺘﴩت اﻟﺴﺒﺎﻧﺦ ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ
اﻟﻘﺪﻳﻢ إﱃ أﺟﺰاء ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ ،ورﻏﻢ أن اﻟﺒﻄﺎﻃﺲ ﻗﺪ اﻧﺘﴩت ﰲ ﺻﻮرة
423
اﻹﻧﺴﺎن
ﻫﺠﺮة واﺳﻌﺔ ﻣﻦ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ )ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻷﻧﺪﻳﺰ( إﱃ املﻨﺎﻃﻖ املﻌﺘﺪﻟﺔ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ،
ﱠإﻻ أن اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﻛﺎن ﻣﻠﻴﺌًﺎ ﺑﻨﺒﺎﺗﺎت درﻧﻴﺔ ﻛﺜرية ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻘﻪ املﺪارﻳﺔ .وﰲ ﻣﻘﺎﺑﻞ
اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﺤﺎﺻﻴﻞ اﻟﻬﺎﻣﺔ اﻟﺘﻲ أﻋﻄﺎﻫﺎ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ )اﻟﺬرة ،اﻟﻄﻤﺎﻃﻢ،
اﻟﺒﻄﺎﻃﺲ ،اﻟﻜﺎﻛﺎو ،اﻟﺘﺒﻎ ،املﻄﺎط(؛ ﻓﺈن اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﻗﺪ أﻋﻄﻰ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ
اﻟﻔﻮاﻛﻪ )اﻟﺘﻔﺎح ،اﻟﺨﻮخ ،املﺸﻤﺶ ،اﻟﻜﻤﺜﺮى ،اﻷﺟﺎص( واﻟﻘﻤﺢ واﻷرز واﻟﺒﻨﺠﺮ )اﻟﺸﻤﻨﺪر(،
واﻟﺒﻦ وﻗﺼﺐ اﻟﺴﻜﺮ .وﻻ ﺷ ﱠﻚ ﰲ أن املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻷﺧرية ﻣﻦ اﻟﻨﺒﺎت ﻫﻲ ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺐ ﻛﺒري ﻣﻦ
اﻷﻫﻤﻴﺔ ﰲ اﻟﻐﺬاء واﻟﺘﺠﺎرة اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ.
) (٤ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﺗﻘﻴﻴﻢ ﻣﻨﺎﻃﻖ اﺳﺘﺌﻨﺎس اﻟﻨﺒﺎت اﻹﺣﺪى ﻋﴩة املﻌﻄﺎة ﰲ اﻟﺠﺪول،
ﻧﺠﺪ أن اﻹﻗﻠﻴﻢ اﻟﺜﺎﻧﻲ — املﻤﺘﺪ ﻣﻦ اﻟﺴﻨﺪ إﱃ اﻟﻬﻀﺒﺔ اﻹﻳﺮاﻧﻴﺔ اﻷﻓﻐﺎﻧﻴﺔ وﻣﻌﻈﻢ اﻟﻌﺮاق
واﻟﻘﻮﻗﺎز — ﻫﻮ أﻫﻤﻬﺎ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ،ﻳﻠﻴﻪ اﻹﻗﻠﻴﻢ اﻟﺴﺎدس اﻟﺬي ﻳﻀﻢ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﻬﻨﺪ .ﻓﻤﻦ
ﺑني ٩٤ﻧﺒﺎﺗًﺎ ﻳﻌﻄﻴﻪ اﻟﺠﺪول ﻧﺠﺪ اﻟﺜﻠﺚ ) ٣١ﻧﺒﺎﺗًﺎ( ﻗﺪ اﺳﺘُﺆﻧ َِﺴ ْﺖ ﰲ إﻗﻠﻴﻢ اﻟﺴﻨﺪ-اﻟﻘﻮﻗﺎز،
و ٢٠ﻧﺒﺎﺗًﺎ ﰲ إﻗﻠﻴﻢ اﻟﻬﻨﺪ .وأﻗﻞ اﻷﻗﺎﻟﻴﻢ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻷﻧﺪﻳﺰ؛ وذﻟﻚ ﻟﻈﺮوﻓﻬﺎ املﻨﺎﺧﻴﺔ
املﺘﻄﺮﻓﺔ )ﺟﻔﺎف وﺑﺮد ﺷﺪﻳﺪ(.
ً
) (٥وﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ اﻟﻘﻴﻤﺔ اﻻﺣﺘﻜﺎرﻳﺔ ﻷﺻﻮل اﻟﻨﺒﺎﺗﺎت ﻧﺠﺪ أﻳﻀﺎ إﻗﻠﻴﻢ اﻟﺴﻨﺪ-اﻟﻘﻮﻗﺎز
ﻳﱰأس اﻷﻗﺎﻟﻴﻢ اﻷﺧﺮى .ﻓﻤﻦ ﺑني ٥٥ﻧﺒﺎﺗًﺎ اﺣﺘﻜﺎرﻳٍّﺎ )اﺳﺘُ ْﺆﻧ َِﺲ ﻣﺮة واﺣﺪة ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ
واﺣﺪة ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،ﺛﻢ اﻧﺘﴩ ﻣﻨﻬﺎ إﱃ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ( ﻧﺠﺪ إﻗﻠﻴﻢ اﻟﺴﻨﺪ-اﻟﻘﻮﻗﺎز ﻳﺤﺘﻜﺮ أﺻﻮل
١٦ﻧﻮﻋً ﺎ ﻧﺒﺎﺗﻴٍّﺎ ،وﻳﻠﻴﻪ ﰲ اﻟﱰﺗﻴﺐ إﻗﻠﻴﻢ اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ ﺑﺎﺣﺘﻜﺎره أﺻﻮل ﺗﺴﻌﺔ أﻧﻮاع ﻣﻦ
اﻟﻨﺒﺎت .وﻛﺎﻧﺖ أﻗﻞ املﻨﺎﻃﻖ ﻫﻲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﻏﺮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ اﻟﺘﻲ اﺣﺘﻜﺮت أﺻﻮل اﻟﻜﻮﻻ وﻧﺨﻴﻞ
اﻟﺰﻳﺖ ﻓﻘﻂ.
) (٦أﻣﱠ ﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻷﻫﻤﻴﺔ اﻟﺘﺠﺎرﻳﺔ املﻌﺎﴏة ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ إﻗﻠﻴﻢ اﻟﱪازﻳﻞ ﻗﺪ ﺳﺎﻫﻢ ﰲ
ﻧﺸﺄة ﻋﺪد ﻛﺒري ﻣﻦ املﺤﺎﺻﻴﻞ اﻟﺘﺠﺎرﻳﺔ )ﻓﻮل ﺳﻮداﻧﻲ ،ﻛﺎﻛﺎو ،ﺗﺒﻎ ،ﻣﻄﺎط( ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺳﺎﻫﻢ
ﴍق أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﺑﺎﻟﺒﻦ ،وﺟﻨﻮب ﴍق آﺳﻴﺎ ﺑﺎﻟﺸﺎي ،وإﻗﻠﻴﻢ اﻟﺴﻨﺪ-اﻟﻘﻮﻗﺎز ﺑﺎﻟﻘﻤﺢ ،وأﻣﺮﻳﻜﺎ
اﻟﻮﺳﻄﻰ ﺑﺎﻟﺬرة.
424
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
وﻗﺎﻳﺔ املﺤﺼﻮل ﻣﻦ اﻟﺤﻴﻮان ﻣﻦ ﺑني أﺷﻴﺎء ﻛﺜرية أﺧﺮى( ،ﻛﺬﻟﻚ ﺗﺴﺘﻠﺰم اﻟﺰراﻋﺔ ﺣﻔﻆ
اﻟﻐﺬاء واﺑﺘﻜﺎر اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ املﺘﻌﺪدة ﻣﻦ أﺟﻞ ذﻟﻚ .أﻣﱠ ﺎ اﻟﺠﻤﺎﻋﻮن واﻟﺼﻴﺎدون ﻓﻼ ﻳﻘﻮﻣﻮن
ﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﻋﻤﺎل ،ﺑﻞ ﻛﻞ ﻧﺸﺎﻃﻬﻢ ﻫﻮ اﻹﻓﺎدة ﻣﻤﺎ ﺗﻌﻄﻴﻪ اﻟﺒﻴﺌﺔ .وﻻ ﻳﻘﺘﴫ اﻷﻣﺮ ﻋﲆ
ﻓﺮوق ﻛﺜرية ﺑني ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺰ ﱠراع واﻟﺠﻤﺎﻋني ﰲ اﻟﻨﻮاﺣﻲ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ
ٍ ذﻟﻚ ،ﺑﻞ ﻳﺘﻌﺪاه إﱃ
واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ واﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ.
وﺑني املﺰارﻋني — ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ — اﺧﺘﻼف واﺿﺢ ﰲ ﻣﻤﺎرﺳﺔ اﻟﺰراﻋﺔ ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﻋﺼﺎ
اﻟﺤﻔﺮ أو اﻟﻔﺄس ،أو اﺳﺘﺨﺪام املﺤﺮاث .ورﻏﻢ أن ﻫﻨﺎك ﻋﺪدًا ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت املﺸﱰﻛﺔ ﰲ
ﺷﻜﻞ اﻟﺤﻴﺎة اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﻟﻬﻴﻜﻠﻴﺔ ،ﱠإﻻ أن ﻫﻨﺎك اﺧﺘﻼﻓﺎت ﻛﺒرية ﺑني زراﻋﺔ اﻟﻔﺄس —
أو اﻟﺰراﻋﺔ اﻷوﻟﻴﺔ — وﺑني زراﻋﺔ املﺤﺮاث .وﻓﻴﻤﺎ ﻳﲇ ﺳﻨﻮﺿﺢ املﻤﻴﺰات اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻟﻬﺬﻳﻦ
اﻟﻨﻮﻋني ﻣﻦ اﻟﺰراﻋﺔ.
) (١ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳُﻄ َﻠﻖ ﻋﺪة أﺳﻤﺎء ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺰراﻋﺔ ،ﻣﻨﻬﺎ زراﻋﺔ اﻟﻔﺄس أو
اﻟﺰراﻋﺔ املﺘﻨﻘﻠﺔ أو اﻟﻴﺪوﻳﺔ أو اﻷوﻟﻴﺔ … إﻟﺦ ,وﻟﻜﻦ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻷﺳﻤﺎء ﺟﺎﻧﺐ ﻛﺒري ﻣﻦ
ً
ﺷﻤﻮﻻ؛ ﻷن اﻹﻧﺴﺎن ﻫﻮ اﻟﺼﻮاب ،وﻟﻜﻦ ﻟﻌﻞ اﻟﺰراﻋﺔ اﻟﻴﺪوﻳﺔ أو اﻷوﻟﻴﺔ ﻫﻲ أﻛﺜﺮ اﻷﺳﻤﺎء
ﻃﺎﻗﺔ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﻮﺣﻴﺪة.
) (٢اﻟﺼﻔﺔ اﻟﻐﺎﻟﺒﺔ ﻟﻠﺰراﻋﺔ اﻟﻴﺪوﻳﺔ ﻫﻲ اﻟﺘﻨﻘﻞ ﻣﻦ ﻗﻄﻌﺔ أرض إﱃ أﺧﺮى ﻛﻠﻤﺎ
ﺟﻬﺪت اﻟﻘﻄﻌﺔ اﻷوﱃ .وﺗﺨﺘﻠﻒ ﻗﺪرة اﻷرض ﰲ ﺗﺤﻤﻠﻬﺎ ﻟﻺﻧﺘﺎج ﻋﺪة ﺳﻨﻮات ﻣﺘﺘﺎﻟﻴﺔ، أُ ِ
وﻟﻜﻦ املﺘﻮﺳﻂ اﻟﺤﺎﱄ ﰲ املﻨﺎﻃﻖ املﺪارﻳﺔ ﻳﱰاوح ﻣﺎ ﺑني ٦–٣ﺳﻨﻮات ،وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻳﺨﺘﺎر
أﺣﻴﺎن ﻛﺜرية ﻳﻌﻮد املﺰارع إﱃ
ٍ املﺰارع ﻗﻄﻌﺔ أرض أﺧﺮى ﻟﻠﺰراﻋﺔ ﺑﻀﻊ ﺳﻨﻮات ،وﰲ
اﺳﺘﺨﺪام ﻗﻄﻌﺔ اﻷرض اﻷوﱃ ﻣﺮة ﺛﺎﻧﻴﺔ أو ﺛﺎﻟﺜﺔ ﻋﲆ أﻛﺜﺮ ﺗﻘﺪﻳﺮ؛ ذﻟﻚ أن ﺗﻄﻬري اﻷرض
ﺑﺼﻔﺔ ﻣﺴﺘﻤﺮة ﻣﻦ اﻷﺷﺠﺎر واﻷﻋﺸﺎب وﺗﻌﺮﺿﻬﺎ ﻟﻸﻣﻄﺎر اﻟﺴﺎﻗﻄﺔ ﻳﺆدي إﱃ اﻹﴐار
ﺑﺎﻟﱰﺑﺔ أو إزاﻟﺘﻬﺎ ﺑﻌﺪ ﻓﱰة ﻣﻦ اﺳﺘﻐﻼﻟﻬﺎ .وﻟﻢ ﻳﻜﺘﺸﻒ املﺰارﻋﻮن اﻟﺒﺪاﺋﻴﻮن وﺳﻴﻠﺔ
ﻟﺘﺠﺪﻳﺪ ﺧﺼﻮﺑﺔ اﻟﱰﺑﺔ ﱠإﻻ ﺗﺤﺖ ﺗﺄﺛري ﺣﻀﺎري ﺧﺎرﺟﻲ ،وﺑﺮﻏﻢ اﻟﺘﻨﻘﻞ اﻟﺪاﺋﻢ ﻟﻠﻤﺰارع
ﻓﻬﻨﺎك ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺰراﻋﻴﺔ اﻟﻴﺪوﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗﻤﺎرس اﻻﻧﺘﻘﺎل ﻣﻦ ﻣﺰرﻋﺔ إﱃ أﺧﺮى
ﱠإﻻ ﰲ أﺣﻮال ﻧﺎدرة ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺗﺠﺪد ﺧﺼﻮﺑﺔ اﻟﱰﺑﺔ املﺴﺘﻤﺮ ﰲ داﻻت اﻷﻧﻬﺎر أو اﻷودﻳﺔ
أراض ﻳﻤﻜﻦ اﻻﻧﺘﻘﺎل
اﻟﻔﻴﻀﻴﺔ .ﻛﺬﻟﻚ ﻟﻢ ﺗﻨﺘﻘﻞ ﺑﻌﺾ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺰراﻋﻴﺔ ﻟﻌﺪم وﺟﻮد ٍ
425
اﻹﻧﺴﺎن
)(٢ )(١
) (٣أ
) (٣أ
ﺿﻤﻦ ﻧﻄﺎﻗﻬﺎ ﻟﺴﺒﺐ أو آﺧﺮ )ﻛﺜﺮة اﻟﺴﻜﺎن أو ﻟﻈﺮوف ﻣﻨﺎﺧﻴﺔ ﻣﺤﺪدة( .وﻣﻦ أﻣﺜﻠﺔ
اﻟﺘﻐﻠﺐ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﻘﺺ ﰲ املﻮارد أن اﻟﻬﻮﺑﻲ ) Hopiﻣﻦ أﻣﺮﻳﻨﺪ ﺟﻨﻮب ﻏﺮب اﻟﻮﻻﻳﺎت
املﺘﺤﺪة( ﻛﺎﻧﻮا ﰲ ﺑﻴﺌﺘﻬﻢ ﺷﺒﻪ اﻟﺠﺎﻓﺔ ﻳﱰﻛﻮن ﻣﺴﺎﻓﺎت واﺳﻌﺔ ﺑني ﻛﻞ ﺑﺬرة وأﺧﺮى ﺑﻐﻴﺔ
ﻋﺪم إﺟﻬﺎد اﻟﱰﺑﺔ ﰲ ﺳﻨﻮات ﻗﻠﻴﻠﺔ.
واﻟﻐﺎﻟﺐ إذن أن اﻟﺘﻨﻘﻞ ﻳﺤﺪث ﰲ املﻨﺎﻃﻖ املﻄرية اﻟﻘﻠﻴﻠﺔ اﻟﺴﻜﺎن ﻛﻐﺎﻟﺒﻴﺔ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ
املﺪارﻳﺔ وأﻣﺰوﻧﻴﺎ )ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ( ،وﻛﺬﻟﻚ ﰲ داﺧﻠﻴﺔ اﻟﻬﻨﺪ اﻟﺼﻴﻨﻴﺔ )ﺑني أﺳﺎم
وﻛﻤﺒﻮدﻳﺎ( ،وﻛﺜري ﻣﻦ داﺧﻠﻴﺔ ﺟﺰر إﻧﺪوﻧﻴﺴﻴﺎ واﻟﻔﻠﺒني )ﺧﺎﺻﺔ ﺟﺰﻳﺮﺗﻲ ﺑﻮرﻧﻴﻮ وﻏﻴﻨﻴﺎ
اﻟﺠﺪﻳﺪة(.
426
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
) (٣ﻳﺴﺘﺨﺪم ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺰراع اﻟﻴﺪوﻳني اﻟﻄﺎﻗﺔ اﻟﻌﻀﻠﻴﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ،وﺗﺨﺘﻠﻒ أداة ﺣﻔﺮ
أﺷﻜﺎﻻ ﻛﺜرية ﻣﻦ ﻋﴢ اﻟﺤﻔﺮ ،وﻫﻲ ً اﻷرض ﰲ اﻟﻨﻮع واﻟﺸﻜﻞ .وﻗﺪ اﺳﺘﺨﺪم اﻹﻧﺴﺎن
ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ ﻋﴢ ﺧﺸﺒﻴﺔ ذات ﻃﺮف ﻣﺪﺑﺐ ،ﻗﺪ ﻳُﻀﺎف إﻟﻴﻪ ﺛﻘﻞ ﺣﺠﺮي ﰲ أﻋﻼه أو
ﻳُﺮﺑَﻂ إﻟﻴﻪ ﺑﺮوز ﺧﺸﺒﻲ ﻗﺮب أﺳﻔﻠﻪ ﻟﻴﺴﺘﺨﺪم ﻣﻮﻃﺊ ﻗﺪم ملﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻀﻐﻂ )راﺟﻊ
ﺷﻜﻞ .(8-7وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻇﻬﺮت ﻣﻌﺎرف اﻟﺤﺪﻳﺪ أﺻﺒﺢ اﻟﻔﺄس وﺳﻴﻠﺔ ﺟﻴﺪة ﻟﻠﺰراﻋﺔ ،ﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ
ﻳﺤﻞ ﻣﺤﻞ ﻋﺼﺎ اﻟﺤﻔﺮ ﰲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن .وﺗﺨﺘﻠﻒ أﺷﻜﺎل اﻟﻔﺌﻮس ﻛﺜريًا؛ ﻓﻬﻨﺎك ﻓﺌﻮس ذات
ﻣﻘﺎﺑﺾ ﻗﺼرية وأﺧﺮى ذات ﻣﻘﺎﺑﺾ ﻃﻮﻳﻠﺔ )ﺗﺰﻳﺪ ﻋﻦ املﱰ أو املﱰﻳﻦ( .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك
ﻓﺌﻮس ﺣﺠﺮﻳﺔ ذات ﻣﻘﺎﺑﺾ ﺧﺸﺒﻴﺔ )راﺟﻊ ﺷﻜﻞ ،(1-6وﻟﻜﻦ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ ﰲ اﻟﺰراﻋﺔ ﻟﻢ
ﻳﻜﻦ واﺿﺤً ﺎ ،رﺑﻤﺎ ﻷن ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ ﻛﺄداة زراﻋﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻗﻠﻴﻠﺔ.
) (٤أﻣﱠ ﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ املﺤﺎﺻﻴﻞ املﺰروﻋﺔ ،ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗﻨﻘﺴﻢ إﱃ ﻧﻮﻋني أﺳﺎﺳﻴني؛ أوﻟﻬﻤﺎ:
اﻟﺤﺒﻮب ﰲ املﻨﺎﻃﻖ املﻌﺘﺪﻟﺔ واﻟﺴﻔﺎﻧﺎ املﺪارﻳﺔ ،واﻟﺜﺎﻧﻲ :اﻟﺪرﻧﻴﺎت ﰲ اﻟﻨﻄﺎق اﻻﺳﺘﻮاﺋﻲ
اﻟﻐﺎﺑﻲ .وﻗﺪ ﻛﺎن اﻟﻘﻤﺢ واﻟﺸﻌري ﻫﻮ أﻫﻢ ﻣﺤﺎﺻﻴﻞ زراع اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ ﰲ
اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ وﻏﺮب آﺳﻴﺎ وأوروﺑﺎ واﻟﺼني اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ،وأﺻﺒﺢ اﻟﺸﻴﻠﻢ واﻟﺸﻮﻓﺎن ﻫﻮ
املﺤﺼﻮل اﻷﺳﺎﳼ ﰲ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺒﺎردة اﻷوروﺑﻴﺔ واﻵﺳﻴﻮﻳﺔ ،وﻛﺎن اﻟﺪﺧﻦ )اﻟﺪرة اﻟﺮﻓﻴﻌﺔ(
ﺳﺎﺋﺪًا ﺑﺄﻧﻮاﻋﻪ اﻟﻌﺪﻳﺪة ﰲ اﻟﻨﻄﺎق املﻮﺳﻤﻲ واﻟﺴﻔﺎﻧﺎ ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ ،واﻟﺬرة اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ
ﺳﺎﺋﺪة ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻮﺳﻄﻰ ،وﰲ اﻟﻨﻄﺎق اﻻﺳﺘﻮاﺋﻲ اﻟﺤﺎر ﻣﻦ آﺳﻴﺎ وأﻓﺮﻳﻘﻴﺎ واﻟﱪازﻳﻞ
ﻛﺎﻧﺖ أﻧﻮاع ﻣﻦ اﻟﺪرﻧﻴﺎت ﺳﺎﺋﺪة :اﻟﺒﻄﺎﻃﺎ واملﺎﻧﻴﻮك ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ ،واﻟﻴﺎم واﻟﻘﻠﻘﺎس
ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻻﺳﺘﻮاﺋﻲ.
) (٥وملﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺪرﻧﻴﺎت ﺗﺸﺘﻤﻞ ﻋﲆ ﻋﺪة ﻣﺤﺎﺻﻴﻞ ﰲ اﻟﺴﻨﺔ )ﻷن ﻣﻌﻈﻢ أﺷﻬﺮ اﻟﺴﻨﺔ
ﺻﺎﻟﺤﺔ ﻟﻠﻨﻤﻮ واﻹﻧﻀﺎج(؛ ﻓﺈن ز ﱠراع اﻟﺪرﻧﻴﺎت ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮا ﺑﺤﺎﺟﺔ إﱃ ﺗﺨﺰﻳﻦ املﺤﺼﻮل
ﻟﻔﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﺴﻨﺔ .أﻣﱠ ﺎ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت زراﻋﺔ اﻟﺤﺒﻮب ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﺤﺎﺟﺔ إﱃ أدوات ﺗﺨﺰﻳﻦ
ﻣﺴﺘﻤﺮ؛ ﻷن املﺤﺼﻮل ﻓﺼﲇ.
ري ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﺗﺼﺒﺢ اﻟﺰراﻋﺔ) (٦ﻻ ﺗﻘﴤ اﻟﺰراﻋﺔ ﻋﲆ ﺣﺮﻓﺔ اﻟﺠﻤﻊ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،ﻓﻔﻲ ﻛﺜ ٍ
ﻣﻬﻨﺔ املﺮأة ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻘﻮم اﻟﺮﺟﺎل ﺑﺎﻟﺼﻴﺪ .وﰲ ﺑﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳﺎ ﺗُﻌَ ﱡﺪ ﻣﻬﻨﺔ ﺻﻴﺪ اﻷﺳﻤﺎك أﻛﺜﺮ ً
ﻗﻴﻤﺔ
واﺣﱰاﻣً ﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺮﺟﺎل ﻣﻦ اﻟﺰراﻋﺔ .وﻗﺪ ﺗﻄﻮرت ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة إﱃ أن أﺻﺒﺢ اﻟﺮؤﺳﺎء
اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﻮن ﰲ ﺑﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳﺎ ﻳﺸﺎرﻛﻮن ﰲ ﺑﻌﺾ ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﺴﻤﺎﻛﺔ اﻟﻄﻘﺴﻴﺔ وﻟﻴﺲ ﻟﻬﻢ أدﻧﻰ
ﺻﻠﺔ ﺑﺎﻟﻌﻤﻠﻴﺎت اﻟﺰراﻋﻴﺔ.
وﻟﻜﻦ ﰲ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺰراﻋﻴﺔ ﻳﻘﻮم ﻋﺐء اﻟﺰراﻋﺔ ﻋﲆ اﻟﺮﺟﺎل ،ﻣﺜﻞ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ
ﻣﻨﺎﻃﻖ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ املﺪارﻳﺔ؛ ﺣﻴﺚ ﻳﺸﺎرك اﻟﺰﻋﻴﻢ ﰲ ﻃﻘﻮس أول ﺣﺼﺎد .وﰲ ﻫﺬه املﺠﺘﻤﻌﺎت
427
اﻹﻧﺴﺎن
ﻳﺼﺒﺢ اﻟﺼﻴﺪ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺛﺎﻧﻮﻳﺔ ﻳﻘﻮم ﺑﻬﺎ ﻣﺘﺨﺼﺼﻮن ﰲ اﻟﺼﻴﺪ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﰲ ﺑﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳﺎ وﻏريﻫﺎ
ﻧﺠﺪ ﻣﺼﺪر اﻟﺼﻴﺪ وﻓريًا وﻣﻮارد اﻟﺰراﻋﺔ ﻣﺤﺪودة ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻛﺎن اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺎﻟﺼﻴﺪ ﻛﺤﺮﻓﺔ
اﻟﺮﺟﺎل .وﰲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺰراﻋﺔ اﻟﴫﻓﺔ ﻧﺠﺪ ﻧﻮﻋني ﻣﻦ املﺰارع :اﻟﺤﻘﻞ اﻟﻜﺒري اﻟﺬي ﻳُﺰ َرع
ﻓﻴﻪ املﺤﺼﻮل اﻟﺮﺋﻴﴘ ،وﻫﻮ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﺑﻌﻴﺪ ﻋﻦ اﻟﻘﺮﻳﺔ ،وﻳﺘﻮﱃ اﻟﺮﺟﺎل اﻟﻌﻤﻞ ﻓﻴﻪ .ﺛﻢ ﻫﻨﺎك
ﻣﺰرﻋﺔ املﻄﺒﺦ؛ وﻫﻲ ﻣﺰرﻋﺔ ﺻﻐرية ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﺗﻤﺘﺪ وراء املﺴﺎﻛﻦ أو ﺑﺠﻮار اﻟﻘﺮﻳﺔ ﻣﺒﺎﴍة،
وﺗُﺰ َرع ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺤﺎﺻﻴﻞ إﺿﺎﻓﻴﺔ ﰲ ﻣﺴﺎﺣﺎت ﺻﻐرية ﻟﺘﻐﻄﻴﺔ ﻏﺬاء اﻟﺒﻴﺖ ،وﺗﻘﻮم املﺮأة
ﺑﺎﻟﻌﻤﻞ ﰲ ﻫﺬه املﺰرﻋﺔ اﻟﺼﻐرية ،وﻗﺪ ﺗﺘﴫف ﰲ إﻧﺘﺎﺟﻬﺎ إذا ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﺳﻮق ﻗﺮﻳﺒﺔ.
ً
ﻣﻘﻴﺎﺳﺎ ﻟﻪ ،ﻓﺎﻟﻌﻤﻞ اﻟﻜﺒري وﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ ،ﻧﺠﺪ أن ﺗﻘﺴﻴﻢ اﻟﻌﻤﻞ ﻳﺘﺨﺬ داﺋﻤً ﺎ ﻣﻦ اﻟﺠﻨﺲ
اﻟﺒﻌﻴﺪ ﻋﻦ املﺴﻜﻦ ﻫﻮ ﻣﻦ اﺧﺘﺼﺎص اﻟﺮﺟﺎل ﻏﺎﻟﺒًﺎ.
) (٧ﻛﻞ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺰراﻋﺔ اﻟﻴﺪوﻳﺔ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت ﻣﺴﺘﻘﺮة ﰲ ﻗﺮى ذات ﻣﺴﺎﻛﻦ ﺛﺎﺑﺘﺔ
ﻣﺒﻨﻴﺔ ﺑﺎﻟﺨﺎﻣﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ املﺘﻮﻓﺮة ﰲ املﻜﺎن ،وﺣﺘﻰ أوﻟﺌﻚ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻨﺘﻘﻠﻮن ﻣﻊ ﻣﺰارﻋﻬﻢ
ﻳﺒﻨﻮن ﺑﻴﻮﺗًﺎ ﺛﺎﺑﺘﺔ ،ﺗُﻬﺠَ ﺮ إذا ﻛﺎن اﻟﺤﻘﻞ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﺑﻌﻴﺪًا أو ﺗﻈﻞ ﻣﺴﻜﻮﻧﺔ إذا ﻛﺎن اﻟﺤﻘﻞ
اﻟﺠﺪﻳﺪ ﺿﻤﻦ ﻧﻄﺎق اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ﻟﻠﺮﺟﺎل ،وﺣﻴﻨﻤﺎ ﺗُﻬﺠَ ﺮ اﻟﻘﺮﻳﺔ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻻ ﺗُﻬﺪَم ﺑﻞ
ﺗُﱰَك ﻛﻤﺎ ﻫﻲ ،ﺣﺘﻰ ﻳﻤﻜﻦ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ ﻣﻊ ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻹﺻﻼﺣﺎت ﰲ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﻌﻮدة إﱃ اﻟﺤﻘﻞ
اﻟﻘﺪﻳﻢ.
) (٨ﺗﻤﺘﻠﻚ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺰراﻋﻴﺔ ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻴﻮان اﻟﺼﻐري )املﺎﻋﺰ واﻷﻏﻨﺎم(،
وﻟﻜﻦ اﻟﻔﺎﺋﺪة ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ﻣﺤﺪودة ،وﺗﻜﺎد ﺗﻘﺘﴫ ﻋﲆ اﻷﻟﺒﺎن واﻟﺼﻮف واﻟﺠﻠﻮد،
أﻣﱠ ﺎ اﻟﻠﺤﻮم ﻓﻐﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﺗُﺆ َﻛﻞ ﰲ اﻷﺿﺎﺣﻲ واملﻨﺎﺳﺒﺎت اﻟﻄﻘﺴﻴﺔ .وﰲ ﺳﻔﺎﻧﺎ ﴍق أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ
واﻟﺴﻮدان ﻳﻤﺘﻠﻚ ﺑﻌﺾ املﺰارﻋني أﻋﺪادًا ﻛﺒرية ﻣﻦ اﻷﺑﻘﺎر ذات اﻟﻘﻴﻤﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ املﺤﺪودة،
وﻟﻜﻦ ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻛﺒرية ﻟﺪرﺟﺔ أن ﺗﻘﺴﻴﻢ اﻟﻌﻤﻞ ﻳﻌﻄﻲ ﻟﻠﺮﺟﻞ ﻣﻬﻨﺔ رﻋﺎﻳﺔ املﺎﺷﻴﺔ
وﻳﱰك اﻟﺰراﻋﺔ ﻟﻠﻨﺴﺎء.
) (٩ﺗﺘﻔﺎوت املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺰراﻋﻴﺔ ﻛﺜريًا ﰲ اﻟﺤِ َﺮف واﻟﺼﻨﺎﻋﺎت اﻟﻴﺪوﻳﺔ ﺑني اﻷدوات
اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ واﻟﺨﺸﺒﻴﺔ اﻟﺮدﻳﺌﺔ ﻟﺪى ﻗﺒﺎﺋﻞ اﻟﺒﻮرو ﰲ أﻣﺰوﻧﻴﺎ ،وﺑني أﻋﻤﺎل اﻟﺒﻨﺎء وﺗﺸﻐﻴﻞ
املﻌﺎدن واﻟﻨﺴﻴﺞ املﺘﻄﻮر ﻟﺪى ﻗﺒﺎﺋﻞ ﻏﺮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ أو ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻹﻧﻜﺎ واملﺎﻳﺎ ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ.
وﻻ ﺷ ﱠﻚ أن ﺳﺒﺐ ﺗﻄﻮر ﺑﻌﺾ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺰراﻋﻴﺔ اﻟﻴﺪوﻳﺔ راﺟﻊ إﱃ ﺗﺄﺛري ﺣﻀﺎري
ﺑﺎﻟﻔﺨﺎر ،ﻧﺠﺪ ﻛﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺰراﻋﻴﺔ ﺗﻌﺮف ﺻﻨﺎﻋﺔ ﱠ
اﻟﻔﺨﺎر ﱠ ﺧﺎرﺟﻲ ﻗﺪﻳﻢ .وﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺘﺺ
اﻟﻴﺪوﻳﺔ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻻ ﺗﻈﻬﺮ ﻋﺠﻠﺔ اﻟﻔﺨﺎر ﱠإﻻ ﻋﻨﺪ زراع املﺤﺮاث ،وﻻ ﻧﻌﺮف ﺳﺒﺒًﺎ ﻻﻧﺘﺸﺎر
ﻣﺜﻼ ﰲ ﻏﺮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﻳﻌﺮﻓﻮن اﻟﻨﻮل ،وﰲ ﴍق ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﻨﺴﻴﺞ وﺗﻔﻀﻴﻠﻪ ﻋﲆ ﻧﻮع آﺧﺮ؛ ً
428
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ اﺳﺘﻤﺮ اﺳﺘﺨﺪام ﻟﺤﺎء اﻟﺸﺠﺮ ﺑﺮﻏﻢ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻨﻮل .ﻛﺬﻟﻚ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ املﻌﺮوف ﺳﺒﺐ
اﻧﺘﺸﺎر اﻟﺤﺪﻳﺪ ﺑني املﺰارﻋني اﻟﻴﺪوﻳني ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻟﻢ ﻳﻌﺮﻓﻮا اﻟﻨﺤﺎس واﻟﱪوﻧﺰ ﱠإﻻ ﺑﻌﺪ اﻻﺣﺘﻜﺎك
اﻷوروﺑﻲ ،وﻫﺬا ﻋﻜﺲ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﻌﺎم ﰲ اﺳﺘﺨﺪام املﻌﺎدن ﻛﻤﺎ ﻋﺮﻓﻨﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ.
ً
اﺧﺘﻼﻓﺎ ﻛﺒريًا ﰲ ﻋﺪد أﻋﻀﺎء املﺠﺘﻤﻊ ،ﻓﻬﻨﺎك ﺟﻤﺎﻋﺎت ) (١٠ﺗﺨﺘﻠﻒ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺰراﻋﻴﺔ
زراﻋﻴﺔ أﻗﻞ ﻋﺪدًا ﻣﻦ ﺟﻤﺎﻋﺎت اﻟﺼﻴﺪ اﻟﻐﻨﻴﺔ؛ ﻣﺜﻞ :اﻟﻔﺎﻧﺞ )ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ ﺟﺎﺑﻮن ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ
اﻟﻮﺳﻄﻰ( ،واﻟﻴﻮﻣﺎ ) Yumaﰲ وادي ﻛﻮﻟﻮرادو ﰲ ﺟﻨﻮب ﻏﺮب اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة( ،ﻛﻤﺎ أن
ﻫﻨﺎك ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت زراﻋﻴﺔ ﺿﺨﻤﺔ اﻷﻋﺪاد؛ ﻣﺜﻞ :اﻟﻴﻮرﺑﺎ واﻷﺷﺎﻧﺘﻲ ﰲ ﻏﺮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ اﻟﺘﻲ
ﺗُﻌَ ﱡﺪ ﺑﺎملﻼﻳني.
) (١١ﻣﻠﻜﻴﺔ اﻷرض ﻋﻨﺪ املﺰارﻋني اﻟﻴﺪوﻳني ﻣﻠﻜﻴﺔ ﺟﻤﺎﻋﻴﺔ؛ ﻓﺎملﻠﻜﻴﺔ اﻟﻔﺮدﻳﺔ ﻟﻴﺲ ﻟﻬﺎ
أﻫﻤﻴﺔ ،ﺣﻴﺚ إن املﺰارع ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﺗﻨﺘﻘﻞ ﺑﻌﺪ إﺟﻬﺎد اﻟﱰﺑﺔ .وﻣﻦ ﺛﻢ ،ﻓﺈن اﻷﻫﻤﻴﺔ املﻌﻠﻘﺔ
ﻋﲆ اﻷرض ﻻ ﺗﻈﻬﺮ ﻓﻘﻂ ﱠإﻻ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ اﺳﺘﻐﻼﻟﻬﺎ املﺆﻗﺖ ﻟﺴﻨني ﻣﺤﺪودة ،وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻫﻨﺎك
ﺣﻴﺎزات ﻻ ﻣﻠﻜﻴﺎت ،ﺑﻤﻌﻨﻰ أن اﻷرض ﺗﺼﺒﺢ ﻟﺤﺎﺋﺰﻫﺎ ﻃﺎملﺎ ﻛﺎن ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ .وﻧﻈ ًﺮا ﻷن
اﻟﺠﻤﻴﻊ ﰲ اﺣﺘﻴﺎج داﺋﻢ إﱃ أرض ﺟﺪﻳﺪة ،ﻓﺈن ﻧﻈﺎم املﻠﻜﻴﺔ اﻟﺠﻤﺎﻋﻴﺔ ﻟﻠﻘﺒﻴﻠﺔ ﻛﺎن أﻛﺜﺮ
ً
اﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ﻟﻠﺤﺮﻛﺔ اﻟﺪاﺋﻤﺔ ﻟﻠﺤﻘﻮل واملﺰارع9 . اﻟﻨﻈﻢ اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ اﻟﻘﺒﻠﻴﺔ
َﺳﺒ ََﻖ أن ذﻛﺮﻧﺎ أن زراﻋﺔ املﺤﺮاث ﻫﻲ زﻳﺎدة َﻛﻤﻴﱠﺔ ﰲ اﻹﻧﺘﺎج اﻟﺰراﻋﻲ اﻟﻴﺪوي ﺑﻮاﺳﻄﺔ
اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻄﺎﻗﺔ اﻟﻌﻀﻠﻴﺔ ﻟﻠﺤﻴﻮان ،ﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ﻗﺪ أدﱠى إﱃ ﱡ
ﺗﻐريات ﺟﺬرﻳﺔ ﰲ ﻧﻮﻋﻴﺔ اﻟﺰراﻋﺔ
ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﺳﺘﻘﺮار اﻟﺤﻘﻮل وﺗﺠﺪﻳﺪ ﺧﺼﻮﺑﺔ اﻷرض .وﻗﺪ ﺗﺮﺗﺐ ﻋﲆ ذﻟﻚ أن زراﻋﺔ املﺤﺮاث
ﻗﺪ اﺧﺘﻠﻔﺖ ﻋﻦ اﻟﺰراﻋﺔ اﻟﻴﺪوﻳﺔ ﰲ اﻟﻨﻘﺎط اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ:
) (١أﺻﺒﺤﺖ اﻷرض ذات ﻗﻴﻤﺔ أﻋﲆ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺘﺠﺪد ﺧﺼﻮﺑﺘﻬﺎ وﻻﺳﺘﻘﺮار اﻟﺤﻘﻮل.
ً
وﺧﺎﺻﺔ ﰲ ) (٢أﺻﺒﺢ ﰲ اﻹﻣﻜﺎن إﻧﺘﺎج أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﺤﺼﻮل ﰲ ﻇﺮوف اﻟﺮي اﻟﺼﻨﺎﻋﻲ،
اﻷودﻳﺔ اﻟﻔﻴﻀﻴﺔ.
9ﻟﻼﺳﺘﺰادة ﻋﻦ ﻣﻮﺿﻮع ﻣﻠﻜﻴﺔ اﻷرض؛ راﺟﻊ :ﻣﺤﻤﺪ رﻳﺎض »اﻟﺰراﻋﺔ واﻟﺘﻨﻤﻴﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ
ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ« اﻟﺒﺤﻮث اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ،ﴍﻛﺔ اﻟﻨﴫ ﻟﻠﺘﺼﺪﻳﺮ واﻻﺳﺘرياد ،اﻟﻘﺎﻫﺮة ،١٩٧١ﺻﻔﺤﺎت .٧٦–٦٦
429
اﻹﻧﺴﺎن
) (٣أﺻﺒﺢ ﰲ إﻣﻜﺎن اﻷرض إﻋﻄﺎء ﻏﺬاء أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺣﺎﺟﺔ اﻻﺳﺘﻬﻼك اﻟﺬاﺗﻲ.
) (٤ﻓﺎﺋﺾ اﻹﻧﺘﺎج اﻟﺰراﻋﻲ ﻳﺴﻤﺢ ﺑ) :أ( ﺗﺮاﻛﻢ اﻟﺜﺮوة) .ب( ﻧﻈﺎم ﺗﺴﻮﻳﻖ ﻣﻨﺘﻈﻢ.
)ﺟ( إﻣﻜﺎن ﺗﻮﻓري اﻟﻐﺬاء ﻟﻌﺪد ﻛﺒري ﻣﻦ اﻟﺴﻜﺎن ﻏري اﻟﺰراﻋﻴني اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺘﺨﺼﺼﻮن ﰲ ﻣﻬﻦ
وﺣﺮف أﺧﺮى .وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈن ﻓﺎﺋﺾ اﻹﻧﺘﺎج اﻟﺰراﻋﻲ ﻳﻌﻄﻲ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻌﺎت أﺳﺲ اﻟﺘﻘﺪم
اﻻﻗﺘﺼﺎدي وأﺳﺲ ﺑﻨﺎء اﻟﺪوﻟﺔ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﰲ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ.
ﻣﺘﻤﺜﻼ ﰲ اﻟﺮق أو ﻧﻈﺎم ً ) (٥أدى ﻫﺬا إﱃ ﻇﻬﻮر ﻗﻴﻤﺔ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺮﺧﻴﺺ ﰲ اﻟﺰراﻋﺔ،
رﻗﻴﻖ اﻷرض )ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ذﻟﻚ ﺳﺎﺋﺪًا ﺧﻼل ﻓﱰات اﻹﻗﻄﺎع(.
) (٦ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻜﻞ ﻫﺬا ﺗﺤﻮﻟﺖ اﻷرض ﻣﻦ ﺣﻴﺎزة إﱃ ﻣﻠﻜﻴﺔ ﻓﺮدﻳﺔ ،وأﺻﺒﺤﺖ ﺑﺬﻟﻚ ﺳﻠﻌﺔ
ﻗﻴﻤﺔ ﺑﻌﺪ أن ﻛﺎﻧﺖ ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ ﻻ ﺗﻈﻬﺮ ﱠإﻻ ﻣﻦ ﺧﻼل إﻧﺘﺎﺟﻬﺎ .وﻗﺪ ﺗﺮﺗﺐ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻇﻬﻮر
ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎملﻠﻜﻴﺔ ،واﻟﺤﻴﺎزة ،واﻟﻮراﺛﺔ ،واﻟﺒﻴﻊ ،واﻟﺮﻫﻦ ،واﻟﺘﺄﺟري.
) (٧ﺗﺘﻤﻴﺰ زراﻋﺔ املﺤﺮاث ﺑﺄﻧﻬﺎ ﺗﻘﱰن ﺑﻌﺪد ﻣﻦ املﻌﺎرف اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ
أﻋﲆ ﻣﻦ زراﻋﺎت اﻟﻔﺄس وﻋﺼﺎ اﻟﺤﻔﺮ .وﺗﺘﻤﺜﻞ ﻫﺬه املﻌﺎرف ﰲ) :أ( املﺤﺮاث ﻧﻔﺴﻪ ﺗﻜﻨﻴﻚ
أﻋﲆ ﻣﻦ اﻟﻔﺄس) .ب( ﻧﻈﺎم اﻟﺮي اﻟﺼﻨﺎﻋﻲ ﺑﺸﻖ اﻟﻘﻨﻮات واملﺼﺎرف) .ﺟ( ووﺳﺎﺋﻞ رﻓﻊ
املﻴﺎه إﱃ اﻟﺤﻘﻞ )اﻟﺴﺎﻗﻴﺔ ،واﻟﻄﻨﺒﻮر ،واﻟﺸﺎدوف ،واﻷﻫﻮﺳﺔ ،واﻟﻘﻨﺎﻃﺮ ،وأﺧريًا اﻟﺴﺪود(.
)د( ﻇﻬﻮر أﻫﻤﻴﺔ اﻟﺤﻴﻮان ﰲ اﻟﻌﻤﻠﻴﺎت اﻟﺰراﻋﻴﺔ :ﺟﺮ املﺤﺮاث وﻏريه ﻣﻦ أدوات إﻋﺪاد
اﻷرض وﺗﺴﻮﻳﺘﻬﺎ وﺗﻘﺴﻴﻤﻬﺎ ﻟﻠﺰراﻋﺔ ،رﻓﻊ املﻴﺎه إﱃ اﻟﺤﻘﻮل ،ﺑﺬر اﻟﺤﺒﻮب ودرﺳﻬﺎ ،وأﺧريًا
أﻳﻀﺎ ﻛﻤﺼﺪر ﻟﻸﻟﺒﺎن واﻟﺠﺒﻦ واﻟﺰﺑﺪ وﻛﻤﺼﺪر ﻟﻠﺤﻢ. ﺗﻈﻬﺮ أﻫﻤﻴﺔ اﻟﺤﻴﻮان ً
وﻟﻜﻦ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﱠأﻻ ﻧﻌﺘﻘﺪ أن وﺟﻮد املﺤﺮاث ﻳﻌﻨﻲ ﻛﻞ ﻫﺬه اﻟﺘﻄﻮرات ،ﻓﻬﻨﺎك ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻻ
ﺗﺴﺘﺨﺪم املﺤﺮاث ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻃﻮﱠرت ﻧﻈﻤً ﺎ ﻣﺸﺎﺑﻬﺔ ﰲ ﻗﻴﻤﺔ اﻷرض املﻐﻠﺔ وأﻫﻤﻴﺔ اﺳﺘﺨﺪام
اﻟﺤﻴﻮان ،ﻓﻔﻲ ﻫﻀﺎب ﺟﻨﻮب ﴍق آﺳﻴﺎ وﺟﻨﻮب اﻟﺼني وﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻣﺪرﺟﺎت اﻷرز
ﻳﺼﻌﺐ ﺗﺸﻐﻴﻞ املﺤﺮاث ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺰراﻋﻲ ﻣﺘﻄﻮر ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ذﻛﺮﻧﺎﻫﺎ.
ﻣﻦ اﻟﺜﺎﺑﺖ أن اﻟﻜﻠﺐ ﻛﺎن أول ﺣﻴﻮان اﺳﺘﺄﻧﺴﻪ اﻹﻧﺴﺎن ،وﻛﺎن ذﻟﻚ ﰲ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي
اﻷوﺳﻂ ،وﻟﻄﻮل ﺗﻼؤم اﻹﻧﺴﺎن واﻟﻜﻠﺐ ﻳُﻘﺎل أﺣﻴﺎﻧًﺎ إن اﻟﻜﻠﺐ اﺳﺘﺄﻧﺲ إﱃ اﻹﻧﺴﺎن ،وأﻳٍّﺎ
ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻛﺎن ﻟﻪ ﻓﻀﻞ اﻟﺴﺒﻖ ،ﻓﺈن اﻹﻧﺴﺎن واﻟﻜﻠﺐ ﻗﺪ أﻓﺎدا ﻣﻦ ﺗﻼزﻣﻬﻤﺎ إﻓﺎدة ﻛﺎﻣﻠﺔ؛ ﻓﻘﺪ
ً
رﻓﻴﻘﺎ ﻣﻤﺘﺎ ًزا ﰲ اﻟﺼﻴﺪ واﻟﺤﺮاﺳﺔ ،ﺳﻮاء ﺣﺼﻞ اﻟﻜﻠﺐ ﻋﲆ ﻏﺬاء ﺛﺎﺑﺖ ،وﻛﺴﺐ اﻹﻧﺴﺎن
430
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
ﻛﺎن ذﻟﻚ ﰲ ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﺼﻴﺪ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ أو ﰲ ﺑﻘﻴﺔ املﺮاﺣﻞ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ اﻷﺧﺮى.
أﻣﱠ ﺎ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت املﺴﺘﺄﻧﺴﺔ ﻓﻘﺪ ﻇﻬﺮت اﺑﺘﺪاءً ﻣﻦ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ؛ أي ﻣﻊ أو
ﺑﻌﺪ اﻟﺰراﻋﺔ10 .
10ﻟﻢ ﻳُﻌﺜَﺮ ﺣﺘﻰ اﻵن ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﺪل ﻋﲆ اﻣﺘﻼك ﻣﺰارﻋﻲ أرﻳﺤﺎ ﻟﻠﺤﻴﻮان رﻏﻢ أﻧﻬﻢ أول ﻣﻦ ﻋﺮﻓﻮا اﻟﺰراﻋﺔ.
وﺑﻬﺬه املﻨﺎﺳﺒﺔ ﻳﺠﺐ أن ﻧﻌﻠﻢ أن أرﻳﺤﺎ ﻫﻲ إﺣﺪى »اﻟﺼﺪف« اﻷرﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،ﻓﻘﺪ ﺗﻜﻮن ﻫﻨﺎك ﻣﻨﺎﻃﻖ
أﻗﺪم ﻣﻨﻬﺎ ﰲ اﻟﺰراﻋﺔ ،وﻟﻜﻨﻨﺎ ﻟﻢ ﻧﻌﺜﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺣﺘﻰ اﻵن.
431
اﻹﻧﺴﺎن
اﻻﺧﺘﻴﺎر اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺤﻴﻮان .ﻓﻬﻮ ﻳﻘﺘﻞ اﻟﺤﻴﻮان اﻟﺬي ﻳﻬﺪد أﻣﻨﻪ ،وﺑﺬﻟﻚ ﺗﻨﻘﺮض
ﻷﻧﻮاع ﺧﺎﺻﺔ
ٍ أﻧﻮاع ﻛﺜرية ﻣﻦ اﻟﺤﻴﻮان آﻛﻞ اﻟﻠﺤﻮم ،وﻳﺨﺼﺺ ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻴﻮان اﻟﺬي ﻳﺮﺑﻴﻪ
ﻣﻦ اﻻﺳﺘﺨﺪاﻣﺎت ﺧﻼل ﺣﻴﺎﺗﻪ ،ﺛﻢ ﻳﺴﺘﻔﻴﺪ ﻣﻨﻪ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻛﻤﺼﺪر ﻟﻠﺤﻢ .وﺑﻬﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ
أدى اﻹﻧﺴﺎن إﱃ ﺗﻜﺎﺛﺮ أﻧﻮاع ﻣﻦ اﻟﺤﻴﻮان ،وأﺑﺎد أﻧﻮاﻋً ﺎ أﺧﺮى ،وﻫﺠﱠ ﻦ أﻧﻮاﻋً ﺎ ﻟﻠﺤﺼﻮل ﻋﲆ
ﻓﺎﺋﺪة أﻛﱪ :ﰲ اﻟﻠﺤﻢ أو اﻷﻟﺒﺎن أو اﻟﺠﻠﻮد أو اﻷﺻﻮاف.
وﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ ﻳﻜﻮن اﻹﻧﺴﺎن ﻗﺪ أﺿﺎف إﱃ ﺗﻐﻴري املﻨﻈﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﻟﻸرض )ﺑﻮاﺳﻄﺔ
اﻟﺰراﻋﺔ( ﺗﻐﻴريًا آﺧﺮ ﰲ اﻟﺘﻜﻮﻳﻦ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻲ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﰲ املﺎﴈ ﻓﻌﻞ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﺜﻞ ﻫﺬا
اﻟﺘﻐﻴري ﺑﺼﻮرة ﻣﴪﻓﺔ؛ ﻣﻤﺎ أدى إﱃ إﺣﺪاث أﴐار ﺑﺎﻟﻐﺔ ﺑﺎملﻜﻮﱢﻧﺎت اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎة
أﺣﻴﺎن
ٍ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،وﺧﺎﺻﺔ اﻟﱰﺑﺔ .ﻓﺎﻗﺘﻼع اﻷﺷﺠﺎر وﺗﻌﺮﻳﺾ اﻟﱰﺑﺔ ﻟﻸﻣﻄﺎر ﻳﺆدي ﰲ
ﻛﺜري ٍة إﱃ ﺿﻌﻒ اﻟﱰﺑﺔ أو إزاﻟﺘﻬﺎ أو ﺗﻤﻠﻴﺤﻬﺎ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎن ﻟﻠﺮﻋﻲ املﻔﺮط )ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻛﺜﺮة
اﻟﺤﻴﻮان( آﺛﺎر ﺳﻴﺌﺔ ﻋﲆ اﻟﱰﺑﺔ وإﺟﻬﺎدﻫﺎ؛ إذ أدت إﱃ ﺗﺤﻮﻳﻞ ﻣﺴﺎﺣﺎت ﻣﻦ اﻷراﴈ
أراض ﻗﺎﺣﻠﺔ 11 .وﻋﲆ أي ﺣﺎل ،ﻓﺈن اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻳﺤﺎول إﺻﻼح ﻣﺎ أﻓﺴﺪه اﻟﻌﺸﺒﻴﺔ إﱃ ٍ
اﻹﻧﺴﺎن.
وأﻗﺪم ﻣﺎ ﻧﻌﺮﻓﻪ ﻋﻦ اﺳﺘﺌﻨﺎس اﻟﺤﻴﻮان — ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء اﻟﻜﻠﺐ — ﻫﻮ ﺣﻔﺮﻳﺎت ﺟﺎرﻣﻮ
وزاراب ﰲ ﻛﺮدﺳﺘﺎن؛ ﺣﻴﺚ ﻧﺠﺪ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت ﺗﻌﻴﺶ ﻋﲆ رﻋﻲ املﺎﻋﺰ ﰲ ﺣﺪود اﻷﻟﻒ اﻟﺴﺎﺑﻌﺔ
ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ،وﺗﻘﻮم ﺑﺎﻟﺘﻨﻘﻞ ﺑني ﺑﻄﻮن اﻷودﻳﺔ ﺷﺘﺎءً )ﺣﻴﺚ ﺗﻮﺟﺪ اﻟﻘﺮى اﻟﺜﺎﺑﺘﺔ( واﻟﺴﻔﻮح
ﺻﻴﻔﺎ )ﺣﻴﺚ ﺗﻮﺟﺪ ﻣﻌﺴﻜﺮات اﻟﺮﻋﺎة اﻟﻌﻠﻴﺎ( ،وﻛﺬﻟﻚ ﻳﺒﺪو أن اﺳﺘﺌﻨﺎس ً اﻟﻌﻠﻴﺎ ﻟﻠﺠﺒﺎل
اﻟﺤﻤﺎر ﻗﺪ ﺗﻢ ﰲ ﻓﱰة ﺑﻌﻴﺪة ،ﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﺎﻟﻴﺔ ﻻﺳﺘﺌﻨﺎس املﺎﻋﺰ واﻷﻏﻨﺎم .واﻟﺤﻤﺎر ﺣﻴﻮان أﺻﻴﻞ
ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺷﻤﺎل ﴍق أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﻟﺤﻤﺎر ﻣﻔﻴﺪًا ﻛﺤﻴﻮان ﻟﺒﻦ أو ﻟﺤﻢ )ﻗﺪ ﻳﻜﻮن
ذﻟﻚ ﻫﻮ ﺣﻜﻤﻨﺎ اﻟﺤﺎﱄ( ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﻣﻔﻴﺪًا ﻛﺤﻴﻮان ﺣﻤﻞ ﺛﻢ ﻛﺤﻴﻮان ﻟﻠﺠﺮ .وﻗﺪ اﺳﺘُﺨﺪِم
ﻟﺠﺮ املﺤﺮاث ﰲ ﻓﱰة ﻻﺣﻘﺔ ﰲ ﺳﻬﻮل اﻟﻌﺮاق ،وﰲ ﺟﺮ اﻟﻌﺮﺑﺎت ﺣﻮاﱄ ٣٠٠٠ق.م ،وﻛﺬﻟﻚ
اﺳﺘُﺨﺪِم اﻟﺜﻮر ﰲ اﻟﺠﺮ ﻟﻔﱰة أﺳﺒﻖ ﻣﻦ ذﻟﻚ ،ﻟﻜﻨﻨﺎ ﻻ ﻧﻌﺮف ﺑﺎﻟﻀﺒﻂ ﻣﺘﻰ ﻛﺎن ذﻟﻚ،
وﺣﻴﻨﻤﺎ اﺳﺘُﺆﻧِﺲ اﻟﺤﺼﺎن اﺳﺘُﺨﺪِم ً
أﻳﻀﺎ ﰲ اﻟﺠﺮ.
وﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ،ﺗﻢ اﺳﺘﺌﻨﺎس اﻟﺤﺼﺎن ﻣﺘﺄﺧ ًﺮا ﻋﻦ املﺎﺷﻴﺔ واﻟﺤﻤري ،ﻛﻤﺎ أن اﻷدﻟﺔ اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ
ﺗﺸري إﱃ أن ذﻟﻚ ﻗﺪ ﺗﻢ ﰲ ﺗﺮﻛﺴﺘﺎن ،وﰲ املﻨﻄﻘﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻋُ ﺜِﺮ ﻋﲆ ﻋﻈﺎم اﻟﺠﻤﻞ ،وﻟﻮ
11ﺗﺤﻮﱠﻟﺖ ﻣﺴﺎﺣﺎت ﻛﺜرية ﻣﻦ ﺷﻤﺎل أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ إﱃ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻗﺎﺣﻠﺔ ﺑﻌﺪ دﺧﻮل اﻟﺠﻤﻞ ﺑﻜﺜﺮة إﱃ ﻫﺬه
املﻨﺎﻃﻖ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺤﺎدي ﻋﴩ.
432
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
أﻧﻪ ﻋُ ﺜِﺮ ﰲ ﻣﴫ ﻋﲆ ﻧﻤﻮذج ﻟﻠﺠﻤﻞ ﻳﺮﺟﻊ إﱃ ﺣﻮاﱄ ٣٠٠٠ق.م وﺑﺮﻏﻢ ذﻟﻚ ،ﻓﺈن اﻟﺠﻤﻞ
إﻃﻼﻗﺎ ،وﻟﻌﻞ ذﻟﻚ راﺟﻊ إﱃ واﺣﺪ ﻣﻦ اﻓﱰاﺿني ً ﻻ ﻳﻈﻬﺮ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﰲ اﻟﺮﺳﻮم املﴫﻳﺔ
ُﺮﺳﻢ )وﻟﻜﻦ اﻟﺤﻤﺎر ﻛﺎن ﻣﺘﻌﺎرﺿني؛ أوﻟﻬﻤﺎ :أن ﻳﻜﻮن اﻟﺠﻤﻞ ﻣﻦ اﻟﺸﻴﻮع ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻳ َ
ﺷﺎﺋﻌً ﺎ وﺗﻌﺪد رﺳﻤﻪ( .واﻟﺜﺎﻧﻲ :أن ﻳﻜﻮن ﻗﺪ دﺧﻞ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﻣﺘﺄﺧ ًﺮا ﺟﺪٍّا )ﺣﻮاﱄ أواﺧﺮ
اﻷﻟﻒ اﻷوﱃ ق.م( ،واﻻﻓﱰاض اﻟﺜﺎﻧﻲ أﻛﺜﺮ ً
ﻗﺒﻮﻻ.
وﺗﺘﻔﻖ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻵراء ﻋﲆ أن اﻟﺤﺼﺎن ﻟﻢ ﻳُﺴﺘﺨﺪَم ﻟﻠﺮﻛﻮب إﻻ ﰲ ﺣﺪود أﻟﻒ
ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺷﺎع اﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ ﰲ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ ﻟﺠﺮ اﻟﻌﺮﺑﺎت ﻗﺒﻞ ٢٠٠٠ق.م ،وﻟﻢ
ﺗُﺴﺘﺨﺪَم اﻟﺨﻴﻮل ﰲ ﻣﴫ إﻻ ﺑﻌﺪ أن أدﺧﻠﻬﺎ اﻟﻬﻜﺴﻮس ﺣﻮاﱄ ١٦٥٠ق.م وﻗﺪ ﻋُ ِﺜ َﺮ ﻋﲆ
ﴎج ﰲ ﺣﻔﺮﻳﺎت ﻣﻮﻫﺎﻧﺠﻮ-دارو ،ﻫﺎراﺑﺎ )اﻟﺴﻨﺪ( وﻟﻜﻦ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ دﻟﻴﻞ ﻋﲆ أﻧﻪ اﺳﺘُﺨﺪِم
ﻟﻠﺤﺼﺎن ،ﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن اﻟﺤﻤري واﻟﺠﻤﺎل ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻣﻌﺮوﻓﺔ ﰲ اﻟﻬﻨﺪ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ .وﻛﻞ ﻣﺎ
ﻧﻌﺮﻓﻪ ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ ﻫﻮ أن ﺳﻜﺎن ﺳﻜﻴﺰﻳﺎ ﰲ ﺟﻨﻮب روﺳﻴﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺮﻋﻮن اﻟﺨﻴﻮل وﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻮﻧﻬﺎ
ﻟﻸﻟﺒﺎن وﻟﻠﺮﻛﻮب ،وأن ﻏﺰواﺗﻬﻢ اﻟﴪﻳﻌﺔ ﺿﺪ اﻷﺷﻮرﻳني واﻷوروﺑﻴني ﰲ ﺣﻮاﱄ ﻣﻨﺘﺼﻒ
اﻷﻟﻒ اﻷوﱃ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ﻗﺪ أﻋﻄﺖ أﻋﺪاءﻫﻢ ﻓﻜﺮة رﻛﻮب اﻟﺨﻴﻞ واﻟﻔﺮوﺳﻴﺔ.
وأﻳٍّﺎ ﻛﺎن اﻟﺤﺎل ،ﻓﻼ ﺷﻚ أﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﻌﺮف ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺪﻗﺔ ﺗﺎرﻳﺦ اﺳﺘﺌﻨﺎس اﻟﻜﺜري
ﻣﻦ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ،وﻟﻜﻦ اﻟﴚء اﻟﺬي ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻧﺆﻛﺪه ﻫﻮ أن اﻹﻧﺴﺎن اﺳﺘﻄﺎع ﰲ اﻟﻌﴫ
اﻟﺤﺠﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ أن ﻳﻌﺮف ﻓﻦ اﺳﺘﺌﻨﺎس اﻟﺤﻴﻮان ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﻣﺎ — ﻟﻌﻠﻬﺎ اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ
— وﻣﻊ اﻧﺘﺸﺎر ﻫﺬا اﻟﻔﻦ إﱃ ﻣﻨﺎﻃﻖ أﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﺳﺘﻄﺎع اﻹﻧﺴﺎن أن ﻳﺴﺘﺄﻧﺲ
ﱟ
ﻛﻔﻦ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ اﺳﺘﺌﻨﺎﺳﻬﺎ ﰲ اﻷﻗﺎﻟﻴﻢ املﺨﺘﻠﻔﺔ .ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﺜﻞ اﻟﺰراﻋﺔ ،ﻓﺈﻧﻬﺎ
ﻋُ ِﺮ َﻓ ْﺖ ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺛﻢ اﻧﺘﴩت إﱃ املﻨﺎﻃﻖ اﻷﺧﺮى ،وﻣﻊ اﻧﺘﺸﺎرﻫﺎ أﺻﺒﺢ اﻹﻧﺴﺎن ﻗﺎد ًرا ﻋﲆ
اﺳﺘﻨﺒﺎت أﻧﻮاع اﻟﻨﺒﺎت اﻟﱪي املﻮﺟﻮد ﰲ ﺑﻴﺌﺎﺗﻪ املﺨﺘﻠﻔﺔ )اﻧﻈﺮ اﻟﺨﺮﻳﻄﺔ رﻗﻢ .(9-7
وﻋﲆ أي ﺣﺎل ،ﻓﺈن اﻹﻧﺴﺎن ﰲ ﺧﻼل اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻗﺪ اﺳﺘﺄﻧﺲ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ
اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت املﻌﺮوﻓﺔ ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ ﻛﺤﻴﻮاﻧﺎت ﺗﺮﺑﻴﺔ ورﻋﻲ ،وﻟﻢ ﻳﺤﻞ ﻣﻨﺘﺼﻒ اﻷﻟﻒ اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ
)٢٥٠٠ق.م( ﺣﺘﻰ ﻛﺎن اﻹﻧﺴﺎن ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻳﻌﺮف اﺳﺘﺌﻨﺎس اﻟﻜﻠﺐ واﻟﻘﻂ واﻟﺪواﺟﻦ
واﻟﺤﻤﺎم واملﺎﻋﺰ واﻟﺨﺮاف واﻷﺑﻘﺎر واﻟﺤﻤري واﻟﺨﻴﻞ واﻹﺑﻞ واﻟﺮﻧﺔ واﻟﻼﻣﺎ )أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ(
واﻟﻔﻴﻞ )اﻟﻬﻨﺪ وﺟﻨﻮب ﴍق آﺳﻴﺎ( .وﻳﻀﻴﻒ اﻹﻧﺴﺎن ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ ﺗﺮﺑﻴﺔ أﻧﻮاع ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ
ﻣﻦ ﺣﻴﻮان اﻟﻔﺮاء اﻟﺼﻐري ﰲ ﻛﻞ ﻣﻦ ﺷﻤﺎل اﻻﺗﺤﺎد اﻟﺴﻮﻓﻴﺘﻲ وﻛﻨﺪا.
ً
ﻛﺎﻣﻼ، وﻣﻦ ﺑني ﻛﻞ ﻫﺬه اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ﻧﺠﺪ اﻟﻜﻠﺐ واﻟﺤﻤﺎم اﻟﻠﺬﻳﻦ أﺻﺒﺤﺎ اﺳﺘﺌﻨﺎﺳﻬﻤﺎ
ﺑﺤﻴﺚ ﻳﻨﺪر أن ﻳﺮﺟﻌﺎ إﱃ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﱪﻳﺔ ﱠإﻻ ﰲ أﻗﴡ اﻟﻈﺮوف — ﻛﺄن ﻳﻬﺎﺟﺮ اﻹﻧﺴﺎن أو
433
اﻹﻧﺴﺎن
٣ ١
٤ ٢
ﻳﻨﻘﺮض 12 .أﻣﱠ ﺎ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت اﻷﺧﺮى ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻣﺎ زاﻟﺖ ﺗﻤﺘﻠﻚ »روﺣﻬﺎ« اﻟﱪﻳﺔ ،وﻳﻤﻜﻦ أن
ﺗﻨﻄﻠﻖ وﺗﻌﻴﺶ ﺑﻤﻔﺮدﻫﺎ ﻟﻮﻻ أن اﺳﺘﺌﻨﺎﺳﻬﺎ ﻳﺘﻢ ﻣﻨﺬ وﻻدﺗﻬﺎ .وﺑﺮﻏﻢ ذﻟﻚ ،ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻗﺎﺑﻠﺔ
ً
ﺟﻤﺎﻻ أو ً
ﺧﻴﻮﻻ أو ً
ﻣﺎﺷﻴﺔ أو ﻟﻠﺤﻴﺎة اﻟﱪﻳﺔ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﺗﺴﻨﺢ ﻟﻬﺎ اﻟﻔﺮﺻﺔ ﺳﻮاء ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺎﻋ ًﺰا أو
ﺣﻤريًا .وﻣﺎ زال اﻟﻘﻂ — ﺑﺮﻏﻢ ﻃﻮل ﻓﱰة اﺳﺘﺌﻨﺎﺳﻪ — ﻳﻈﻬﺮ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﻈﺎﻫﺮ اﻟﱪﻳﺔ
داﺧﻞ اﻟﺒﻴﻮت )ﻛﺎﻗﺘﻨﺎص اﻟﺪواﺟﻦ أو ﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ املﺄﻛﻮﻻت املﻌﺪﱠة(؛ وﻟﻬﺬا ﻓﺈن ﺗﺮﺑﻴﺔ
اﻟﻘﻂ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻟﺼﺎﻟﺢ اﻟﻘﻂ أﻛﺜﺮ ﻣﻨﻬﺎ ﻟﺼﺎﻟﺢ اﻹﻧﺴﺎن إذا اﺳﺘﺜﻨﻴﻨﺎ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻌﺎﻃﻔﻴﺔ ﻋﻨﺪ
اﻹﻧﺴﺎن.
12ﺗﺤﻮﻟﺖ اﻟﻜﻼب إﱃ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﱪﻳﺔ ﺑﻌﺪ أن ﻫﺎﺟﺮ ﺳﻜﺎن اﻟﻨﻮﺑﺔ املﴫﻳﺔ ﰲ أواﺋﻞ اﻟﺴﺘﻴﻨﺎت ﻧﺘﻴﺠﺔ
ﻟﺘﻜﻮﻳﻦ ﺑﺤرية اﻟﺴﺪ اﻟﻌﺎﱄ.
434
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
اﻟﴩق اﻷوﺳﻂ وﺳﻂ أوروآﺳﻴﺎ ﺟﻨﻮب وﴍق آﺳﻴﺎ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻮﺳﻄﻰ وﺑريو اﻟﺤﻴﻮان
435
اﻹﻧﺴﺎن
) (١إن ﺣﺮﻓﺔ اﻟﺮﻋﻲ ﻛﻨﻈﺎم اﻗﺘﺼﺎدي أﺳﺎﳼ ﻟﻌﺪد ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻌﺎت ،ﻟﻢ ﻳﻨ ُﻢ وﻳﻈﻬﺮ
ﺑﻮﺿﻮح ﱠإﻻ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ؛ ذﻟﻚ أن ﺗﺮﺑﻴﺔ أﻧﻮاع اﻟﻼﻣﺎ ﰲ ﺟﺒﺎل اﻷﻧﺪﻳﺰ ﻛﺎن ﺟﺰءًا ﻣﻦ
اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺰراﻋﻲ ،وﻟﻢ ﻳﺤﺪث أن ﺗﺤﻮﻟﺖ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ إﱃ ﻧﻈﺎم اﻗﺘﺼﺎدي ﻗﻮاﻣﻪ
اﻟﻮﺣﻴﺪ رﻋﻲ ﻫﺬا اﻟﺤﻴﻮان ،ﻟﻜﻦ ﺑﻌﺾ اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﺗﺤﻮﱠﻟﻮا إﱃ ﺗﺮﺑﻴﺔ اﻟﺤﻴﻮان ﺑﴪﻋﺔ ﺑﻌﺪ
وﺻﻮل اﻟﺤﺼﺎن واﻷﻏﻨﺎم ﻣﻊ اﻻﺳﺘﻴﻄﺎن اﻷوروﺑﻲ ،وﻣﻦ أﻣﺜﻠﺔ ذﻟﻚ ﺗﺤﻮل اﻟﻨﺎﻓﺎﻫﻮ إﱃ
رﻋﻲ اﻷﻏﻨﺎم ﻛﻨﻈﺎم ﻣﻨﻘﻮل ﻋﻦ اﻹﺳﺒﺎن.
) (٢ﻳﺮﺗﺒﻂ اﻟﺮﻋﻲ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﺑﺄﻗﺎﻟﻴﻢ ﺟﻐﺮاﻓﻴﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ؛ ﻷن اﻟﺮﻋﺎة ﻳﺮﺗﺒﻄﻮن ﺑﺒﻴﺌﺔ
ﺣﻴﻮان اﻟﺮﻋﻲ ،وﺗﻤﺘﺪ ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﺮﻋﺎة اﻵن ﰲ ﻧﻄﺎق ﻣﺘﻘﻄﻊ ﻣﻦ اﻟﺘﻨﺪرا اﻷوروآﺳﻴﻮﻳﺔ إﱃ
ﺳﻔﺎﻧﺎ ﴍق أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،وﻳﻨﻘﺴﻢ ﻫﺬا اﻟﻨﻄﺎق إﱃ ﻋﺪة ﻣﻨﺎﻃﻖ ﰲ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻧﻮع ﻣﻌني ﻣﻦ
ﺣﻴﻮان اﻟﱰﺑﻴﺔ؛ ﰲ اﻟﺘﻨﺪرا ﻧﺠﺪ رﻋﺎة اﻟﺮﻧﺔ ﰲ ﺷﻤﺎل أوروﺑﺎ وﺳﻴﺒريﻳﺎ ،وﰲ ﺳﻬﻮل اﻷﺳﺘﺒﺲ
ﰲ وﺳﻂ آﺳﻴﺎ ﻣﻦ ﺟﺒﺎل أﻟﺘﺎي إﱃ ﻧﻬﺮ اﻟﻔﻮﻟﺠﺎ ﻳﻤﺘﺪ ﻧﻄﺎق رﻋﺎة اﻟﺨﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﻘﻮزاق.
وﻗﺪ ﺗﺤﻮل اﻟﻜﺜري ﻣﻨﻬﻢ إﱃ ﺣﻴﺎة ﻣﺴﺘﻘﺮة ﻗﻮاﻣﻬﺎ اﻟﺰراﻋﺔ أو اﻟﺮﻋﻲ اﻟﻌﻠﻤﻲ اﻟﺤﺪﻳﺚ،
وﰲ ﻣﻨﻐﻮﻟﻴﺎ واﻟﻬﻀﺒﺔ اﻹﻳﺮاﻧﻴﺔ اﻷﻓﻐﺎﻧﻴﺔ وﺳﻨﻜﻴﺎﻧﺞ ﻳﻮﺟﺪ ﻧﻄﺎق رﻋﻲ اﻹﺑﻞ اﻟﺒﻜﺘريﻳﺔ،
وﰲ اﻟﺘﺒﺖ ﻧﻄﺎق رﻋﻲ اﻟﻴﺎك ،وﰲ ﺟﻨﻮب ﻏﺮب آﺳﻴﺎ واﻟﺼﺤﺮاء اﻟﻜﱪى ﻳﻤﺘﺪ ﻧﻄﺎق ﻫﺎﺋﻞ
ﻗﻠﻴﻞ اﻟﺴﻜﺎن ﻣﻦ رﻋﺎة اﻹﺑﻞ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺨﺘﻠﻔﻮن ﻛﺜريًا ﻓﻴﻤﺎ ﺑني ﺑﺪو اﻟﺠﺰﻳﺮة اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ
وﻃﻮارق ﺟﺒﺎل اﻟﺤﺠﺎز ،وﰲ ﻧﻄﺎق اﻟﺴﻔﺎﻧﺎ اﻟﺴﻮداﻧﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﺴﻨﻐﺎل إﱃ اﻟﻨﻴﻞ ،وﰲ ﴍق
أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﺣﺘﻰ ﴍق إﻗﻠﻴﻢ اﻟﻜﺎب ﰲ ﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﻳﻤﺘﺪ رﻋﻲ اﻷﺑﻘﺎر .وأﺧريًا ،ﻳﻮﺟﺪ ﻧﻄﺎق
آﺧﺮ ﻟﺮﻋﻲ اﻷﺑﻘﺎر ﰲ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺠﺒﻠﻴﺔ املﻤﺘﺪة ﻣﻦ ﺟﺒﺎل اﻷﻟﺐ إﱃ ﺟﺒﺎل ﻛﺮدﺳﺘﺎن.
436
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
) (٣أﻫﻢ ﻣﺎ ﻳﻤﻴﺰ اﻟﺮﻋﺎة ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻫﻮ أن ﺣﻴﺎﺗﻬﻢ ﺗﻨﺘﻈﻢ ﰲ ﻫﺠﺮة ﻣﻮﺳﻤﻴﺔ ﺗﺒﻌً ﺎ ﻟﻬﺠﺮة
اﻟﺤﻴﻮان ووراء اﺣﺘﻴﺎﺟﺎﺗﻪ ﻣﻦ املﺎء واﻟﻜﻸ ،وﺗُﺴﻤﱠ ﻰ ﻇﺎﻫﺮة اﻟﺘﻨﻘﻞ ﻫﺬه ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ ﺑﺎﺳﻢ
ً
اﻟﺘﺼﺎﻗﺎ ﺑﺤﺮﻛﺔ اﻟﺮﻋﺎة ﰲ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺠﺒﻠﻴﺔ ،Transhumanceوإن ﻛﺎن ﻫﺬا املﺼﻄﻠﺢ أﻛﺜﺮ
ﺻﻴﻔﺎ .أﻣﱠ ﺎ اﻟﺮﻋﺎة اﻵﺧﺮون ﻓﻴﻤﺎرﺳﻮن ً ﺑني ﺑﻄﻮن اﻷودﻳﺔ ﺷﺘﺎءً وﺳﻔﻮح اﻟﺠﺒﺎل اﻟﻌﻠﻴﺎ
اﻟﻬﺠﺮة اﻟﻔﺼﻠﻴﺔ أﻓﻘﻴٍّﺎ؛ أي ﻋﲆ ﻣﺴﺎﺣﺔ ﻣﻦ اﻷرض ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﻛﺒرية أو ﺻﻐرية ﺣﺴﺐ ﻧﻮع
ً
ﻋﺎﻣﺔ اﻟﺤﻴﻮان واﻟﺒﻴﺌﺔ .وأﻃﻮل ﺣﺮﻛﺎت اﻟﻬﺠﺮة اﻟﻔﺼﻠﻴﺔ ﻫﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻮم ﺑﻬﺎ رﻋﺎة اﻹﺑﻞ
ً
ﺟﻔﺎﻓﺎ. ﺧﺎﺻﺔ؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻳﻌﻴﺸﻮن ﰲ أﻛﺜﺮ ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﻨﻄﺎق اﻟﺠﺎف ً واﻟﻌﺮﺑﻴﺔ
) (٤ﻳﱰﺗﺐ ﻋﲆ ﺷﻜﻞ اﻟﻬﺠﺮة املﻮﺳﻤﻴﺔ ﻫﺬه أن ﺣﻴﺎة اﻻﺳﺘﻘﺮار ﻋﻨﺪ اﻟﺮﻋﺎة ﻏري
ﻣﻮﺟﻮدة ﱠإﻻ ﰲ ﺣﺎﻻت ﺧﺎﺻﺔ؛ ﻓﺮﻋﺎة اﻟﺒﻘﺮ ﰲ ﻧﻄﺎق اﻟﺴﻔﺎﻧﺎ اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ ﻳﻘﻮﻣﻮن ﻏﺎﻟﺒًﺎ
أﻳﻀﺎ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﱰﺗﺐ ﻋﻠﻴﻪ إﻗﺎﻣﺔ ﻣﺴﺎﻛﻦ ﺛﺎﺑﺘﺔ .وﻟﻬﺬا ﻳﻨﻘﺴﻢ املﺠﺘﻤﻊ أﺛﻨﺎء ﺑﺎﻟﺰراﻋﺔ اﻟﻴﺪوﻳﺔ ً
ﻣﻮﺳﻢ اﻟﻬﺠﺮة إﱃ ﻗﺴﻤني :ﻃﺒﻘﺔ اﻟﺸﺒﺎب )ﻃﺒﻘﺔ اﻟﺮﻋﺎة( ﺗﻘﻮم ﺑﺎﻟﺤﺮﻛﺔ املﻮﺳﻤﻴﺔ ﻣﻊ
اﻷﺑﻘﺎر ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﻈﻞ ﺑﻘﻴﺔ املﺠﺘﻤﻊ ﰲ اﻟﻘﺮى اﻟﺰراﻋﻴﺔ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻻ ﻳﺘﺤﺮك ﻛﻞ ﻣﺠﺘﻤﻊ رﻋﺎة
اﻟﺒﻘﺮ ﰲ اﻟﻨﻄﺎق اﻟﺠﺒﲇ اﻷﻟﺒﻲ ،ﺑﻞ ﺗﻈﻞ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ املﺠﺘﻤﻊ ﻣﻘﻴﻤﺔ ﰲ اﻟﻘﺮى اﻟﺪاﺋﻤﺔ ﰲ اﻷودﻳﺔ،
ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺼﻌﺪ اﻟﺮﻋﺎة ﻓﻘﻂ ﻣﻊ اﻟﺤﻴﻮان إﱃ أﻋﺎﱄ اﻟﺠﺒﺎل .وﰲ ﺣﺎﻟﺔ رﻋﺎة اﻟﺒﻘﺮ اﻷﻓﺮﻳﻘﻴني
ﻧﺠﺪ أن اﻟﺮﻋﺎة ﻳﻘﻴﻤﻮن ﻣﻌﺴﻜﺮات ﻣﺘﺤﺮﻛﺔ أﺛﻨﺎء ﺣﺮﻛﺘﻬﻢ اﻟﻔﺼﻠﻴﺔ ﻣﻊ اﻟﺤﻴﻮان ،أﻣﱠ ﺎ ﻋﻨﺪ
أﻛﻮاﺧﺎ وﺑﻴﻮﺗًﺎ داﺋﻤﺔ ﰲ أﻋﺎﱄ اﻟﺠﺒﺎل ﻳﻨﺘﻘﻞ إﻟﻴﻬﺎ ً رﻋﺎة اﻟﺒﻘﺮ ﰲ اﻟﻨﻄﺎق اﻷﻟﺒﻲ ﻓﺈن ﻫﻨﺎك
اﻟﺮﻋﺎة دون أن ﻳﻨﻘﻠﻮا ﻣﻌﻬﻢ ﻣﺴﺎﻛﻦ ﻣﺆﻗﺘﺔ .وﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻻت ،ﻓﺈن اﻟﻐﺎﻟﺒﻴﺔ اﻷﺧﺮى
ﻣﻦ اﻟﺮﻋﺎة ﺗﻨﻘﻞ ﻣﻌﻬﺎ ﻣﺴﺎﻛﻦ ﺳﻬﻠﺔ اﻟﻨﻘﻞ ،وﻣﻌﻈﻤﻬﺎ أﻧﻮاع وأﺷﻜﺎل ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﺨﻴﺎم،
وﰲ أﺣﻴﺎن ﻛﺜرية ﺗﺼﺒﺢ ﻫﺬه اﻟﺨﻴﺎم املﺴﺎﻛﻦ املﻔﻀﻠﺔ ﻟﻠﺮﻋﺎة — ﺳﻮاء ﰲ ﻣﻮﺳﻢ اﻟﻬﺠﺮة
أو ﰲ ﻣﻮﺳﻢ اﻻﺳﺘﻘﺮار — ﻣﺜﻞ ﺧﻴﺎم اﻟﺒﺪو ،وﻳُﻮ ﱢرث اﻟﻘﻮزاق واملﻐﻮل.
) (٥ﻣﻌﻈﻢ اﻟﺮﻋﺎة ﻳﻌﺮﻓﻮن اﻟﺰراﻋﺔ ،وﻗﻠﺔ ﻣﻨﻬﻢ ﻻ ﺗﻌﺮﻓﻬﺎ وﻻ ﺗﻤﺎرﺳﻬﺎ ﻣﺜﻞ اﻟﻬﻮﺗﻨﺘﻮت
)رﻋﺎة اﻟﺒﻘﺮ( ﰲ ﻧﺎﻣﺒﻴﺎ ،ورﻋﺎة اﻟﺮﻧﺔ )ﻟﻘﺴﻮة املﻨﺎخ وﻗﴫ ﻣﻮﺳﻢ اﻟﻨﺒﺎت( .ﻟﻜﻦ ﻫﻨﺎك
ﻣﻦ اﻟﺮﻋﺎة ﻣﻦ ﻳﻌﺮف اﻟﺰراﻋﺔ وﻳﺴﺘﻨﻜﻒ ﻣﻦ ﻣﻤﺎرﺳﺘﻬﺎ؛ وﻟﻬﺬا ﻧﺸﺄ ﻧﻮع ﻣﻦ ﻧﻈﺎم اﻟﺮق
ﻳﺘﻮﱃ اﻟﺰراﻋﺔ ﺑﻤﻘﺘﻀﺎه ﻫﺆﻻء اﻟﺮﻗﻴﻖ أو ﻫﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻘﺒﻠﻮن ﺣﻤﺎﻳﺔ اﻟﺮﻋﺎة اﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ
ﻟﻬﻢ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻈﻞ اﻟﺮﻋﺎة ﺳﺎدة ﻋﲆ اﻹﻗﻠﻴﻢ .ﻣﺜﻞ ذﻟﻚ اﻟﺘﻜﻮﻳﻦ اﻟﻄﺒﻘﻲ املﻬﻨﻲ ﻣﻮﺟﻮد ﺑني
اﻟﻄﻮارق ﰲ ﻫﻀﺒﺔ اﻟﺤﺠﺎر أو ﺑني ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت رﻋﺎة اﻟﺒﻘﺮ ﻣﻦ اﻟﺒﺎﻫﻴﻤﺎ واﻟﻮاﺗﻮﺗﴘ واﻷﻧﻜﻮﱄ
ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺟﻨﻮب أوﻏﻨﺪا ورواﻧﺪا وأﻃﺮاف ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ زاﺋريي )اﻟﻜﻨﻐﻮ( اﻟﴩﻗﻴﺔ ،اﻟﺬﻳﻦ
ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺴﺘﻐﻠﻮن ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺒﺎﻧﺘﻮ ﰲ اﻟﺰراﻋﺔ .وﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ ﻳﻘﻴﻢ ﻛﺜريون ﻣﻦ اﻟﺮﻋﺎة
437
اﻹﻧﺴﺎن
ﻣﻦ أﻧﻔﺴﻬﻢ أرﺳﺘﻮﻗﺮاﻃﻴﺔ ﻋﺴﻜﺮﻳﺔ ﺣﺎﻛﻤﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺰراع .وﻳﺮﺟﻊ ذﻟﻚ إﱃ ﺗﻔﻮﻗﻬﻢ ﰲ
اﻟﺤﺮﻛﺔ واﻟﺘﻨﻈﻴﻢ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ املﺰارﻋﻮن ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻣﺴﺘﻘﺮ ذو ﺗﻜﻮﻳﻦ ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻹﻧﺘﺎج اﻟﺰراﻋﻲ
اﻟﺜﺎﺑﺖ ،وﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻘﻴﻢ ﻧﻈﺎﻣً ﺎ ﻋﺴﻜﺮﻳٍّﺎ ﱠإﻻ إذا ﺗﻔﺮغ أﻓﺮاد ﻣﻨﻪ ﻟﻬﺬه املﻬﻨﺔ.
) (٦رﻏﻢ أن املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﺮﻋﻮﻳﺔ ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ وﺗُﻌ َﺮف ﺑﺎﺳﻢ ﺣﻴﻮان واﺣﺪ ﻛﺮﻋﺎة اﻟﺨﻴﻞ ،ﱠإﻻ
أن ذﻟﻚ ﻻ ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻬﻢ ﻻ ﻳﻤﺘﻠﻜﻮن ﺣﻴﻮاﻧﺎت أﺧﺮى .واﻟﻐﺎﻟﺐ أﻧﻪ ﺗﻮﺟﺪ داﺋﻤً ﺎ أﻋﺪاد ﻛﺒرية
ﻣﻦ اﻟﺤﻴﻮان اﻟﺼﻐري ،وﻋﲆ اﻷﺧﺺ املﺎﻋﺰ واﻷﻏﻨﺎم ،ﱠإﻻ ﰲ ﺣﺎﻻت اﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻴﺔ ﺣﻴﺚ ﻻ ﺗﺴﻤﺢ
اﻟﻈﺮوف اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻛﻨﻄﺎق رﻋﺎة اﻟﺮﻧﺔ ،وﻳﺠﻤﻊ رﻋﺎة اﻟﺨﻴﻞ إﱃ املﺎﻋﺰ واﻷﻏﻨﺎم اﻷﺑﻘﺎر
أﻳﻀﺎ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈﻧﻬﻢ أﻛﺜﺮ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺮﻋﻮﻳﺔ ﻏﻨًﻰ ووﻓﺮ ًة وﺗﻨﻮﻋً ﺎ.ً
) (٧ﰲ أﺣﻴﺎن ﻛﺜرية ،دﺧﻞ اﻟﺤﺼﺎن إﱃ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻋﺪد ﻛﺒري ﻣﻦ اﻟﺮﻋﺎة ،ﻋﺪا ﻣﻨﻄﻘﺔ رﻋﺎة
اﻟﺮﻧﺔ ورﻋﺎة ﴍق أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وﺟﻨﻮب اﻟﺴﻮدان .ودور اﻟﺤﺼﺎن ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه املﻨﺎﻃﻖ دور
ﻋﺴﻜﺮي ﺑﺤﺖ؛ ﻷﻧﻪ أﴎع ﺣﺮﻛﺔ ﻣﻦ اﻹﺑﻞ أو ﺑﻘﺮ اﻟﺴﻔﺎﻧﺎ اﻟﺴﻮداﻧﻴﺔ ،وﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻛﺎن
ﻳﺤﺘﻔﻆ ﺑﺄﻋﺪاد ﻣﻦ اﻟﺨﻴﻮل رﻏﻢ اﻟﺘﻜﺎﻟﻴﻒ اﻟﺒﺎﻫﻈﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻄﻠﺒﻬﺎ ذﻟﻚ؛ ﻷﻧﻬﺎ دﻟﻴﻞ ﻋﲆ
املﻜﺎﻧﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﻘﻮة واﻟﻨﺒﺎﻟﺔ.
ري ﻣﻦ اﻷﺣﻴﺎن ،ﻳﻐري اﻟﺮﻋﺎة ﺣﺮﻓﺘﻬﻢ ﻣﻀﻄﺮﻳﻦ ،وﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳﺤﱰﻓﻮن اﻟﺰراﻋﺔ، ) (٨ﰲ ﻛﺜ ٍ
ﻟﻜﻦ ﺑﻌﺾ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﺗﻤﺎرس ﺣﺮﻓﺔ اﻟﺮﻋﻲ ﺣﺘﻰ ﰲ ﻇﺮوف إﻳﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻏري ﻣﻼﺋﻤﺔ.
وأﺷﻬﺮ اﻷﻣﺜﻠﺔ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻗﺒﻴﻠﺔ اﻟﻴﺎﻛﻮت اﻟﱰﻛﻤﺎﻧﻴﺔ اﻷﺻﻞ اﻟﺘﻲ ﻧﺰﺣﺖ إﱃ ﺳﻴﺒريﻳﺎ اﻟﴩﻗﻴﺔ
ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﺎﴍ أو اﻟﺤﺎدي ﻋﴩ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻠﻘﻠﻘﻠﺔ اﻟﺘﻲ أﺣﺪﺛﻬﺎ اﻧﺘﺸﺎر املﻐﻮل وﻏﺰواﺗﻬﻢ
ﰲ وﺳﻂ آﺳﻴﺎ واﻟﺼني .وﰲ ﻣﻮاﻃﻨﻬﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪة ،ﻇﻞ اﻟﻴﺎﻛﻮت ﻋﲆ رﻋﻲ اﻟﺨﻴﻞ ﺑﺮﻏﻢ أن
ﻛﻞ اﻟﻈﺮوف ﻏري ﻣﻼﺋﻤﺔ ،وﻫﻢ ﻳﺠﻬﺪون أﻧﻔﺴﻬﻢ ﻛﺜريًا ﰲ املﺤﺎﻓﻈﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ وﻳﺒﻨﻮن ﻟﻬﺎ
اﻹﺳﻄﺒﻼت ﻟﺤﻤﺎﻳﺘﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﱪد اﻟﻘﺎرس ،وﻳﺤﺼﺪون ﻣﺤﺎﺻﻴﻞ ﻋﺸﺒﻴﺔ ﴎﻳﻌﺔ اﻟﻨﻀﺞ
أﻳﻀﺎ أﻛﻞ اﻟﺴﻤﻚ .وﻗﺪ أﺿﺎف اﻟﻴﺎﻛﻮت اﻟﺮﻧﺔ إﱃ ﺣﻴﻮان اﻟﱰﺑﻴﺔ، ﻟﻐﺬاء اﻟﺨﻴﻞ ،وﻳﻌﻠﻤﻮﻧﻬﺎ ً
وﻛﺬﻟﻚ أﺧﺬوا ﻳﺮﺑﻮن اﻷﺑﻘﺎر وﻳﴪﺟﻮﻧﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻔﻌﻠﻮن ﻣﻊ اﻟﺨﻴﻮل ،وﰲ اﻟﻮﻗﺖ
أﻳﻀﺎ ﺑﺎﻟﺰراﻋﺔ ﺗﺤﺖ ﺗﺄﺛري اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﻟﺴﻮﻓﻴﺘﻴﺔ ،ﻟﻜﻨﻬﻢ ﻣﺎ اﻟﺤﺎﴐ ﻳﻘﻮﻣﻮن ً
زاﻟﻮا ﻳﻜﻨﻮن ﻟﻠﺨﻴﻞ ﻛﻞ اﻟﺘﻘﺪﻳﺮ واملﺸﺎﻋﺮ اﻟﻌﺎﻃﻔﻴﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ.
) (٩ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻗﺪ ﺗﺮﻋﻰ ﺣﻴﻮاﻧًﺎ واﺣﺪًا ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ ﺑني ﻫﺬه
املﺠﺘﻤﻌﺎت اﺧﺘﻼﻓﺎت ﻛﺒرية ﰲ ﻣﺪى اﻹﻓﺎدة ﻣﻦ اﻟﺤﻴﻮان ،ﻓﺮﻋﺎة اﻟﺒﻘﺮ ﻣﻦ اﻟﻌﺮب ﰲ ﻧﻄﺎق
اﻟﺴﻔﺎﻧﺎ اﻟﺴﻮداﻧﻴﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﻮن ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻦ اﻟﻨﻴﻠﻴني وﻏريﻫﻢ ﻣﻦ رﻋﺎة اﻟﺒﻘﺮ اﻟﻮﺛﻨﻴني .ﻓﺒﻴﻨﻤﺎ
اﻟﻌﺮب اﻟﺒﻘﺎرة ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻮن اﻟﺤﻴﻮان ﻟﻠﻨﻘﻞ وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻟﻠﺮﻛﻮب ﻻ ﻧﺠﺪ ﻣﺜﻞ ذﻟﻚ ﻋﻨﺪ اﻟﻨﻴﻠﻴني،
438
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
439
اﻹﻧﺴﺎن
املﻄﻠﻮﺑﺔ وﺑﺴﺎﻃﺔ ﻫﺪف اﻹﻧﺘﺎج ،وﻫﻮ ﺗﻠﺒﻴﺔ اﺣﺘﻴﺎﺟﺎت اﻟﻐﺬاء ﺑﺎﻟﻄﺮق املﺘﻌﺎرف ﻋﻠﻴﻬﺎ
ﻋﻨﺪ ﻛﻞ ﺣﻀﺎرة ﻋﲆ ﺣﺪة .إن اﻟﻜﺜري ﻣﻦ أدوات اﻹﻧﺘﺎج اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻫﻲ ﰲ ﺣﺪ ذاﺗﻬﺎ اﺑﺘﻜﺎر
ﻋﻈﻴﻢ ﻣﺘﻼﺋﻢ أﺷﺪ اﻟﺘﻼؤم ﻣﻊ اﻟﻈﺮوف اﻟﺒﻴﺌﻴﺔ ،ﱠإﻻ أن ﻛﻞ أﺷﻜﺎل اﻹﻧﺘﺎج ﺗﺴري ﺑﻮاﺳﻄﺔ
ﻃﺎﻗﺔ اﻹﻧﺴﺎن أو اﻟﺤﻴﻮان اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،وﻫﻲ ﻛﻤﺎ ﻋﺮﻓﻨﺎ ذات ﺟﻬﺪ ﻣﺤﺪود .وﻣﻦ ﺛﻢ ﻻ
ﺑ ﱠﺪ وأن ﻳﻜﻮن اﻹﻧﺘﺎج ﻣﺤﺪودًا وﻣﺘﻜﺎﻓﺌًﺎ ﻣﻊ اﻟﻘﻮة اﻟﻌﺪدﻳﺔ ﻟﻠﻌﻤﺎﻟﺔ اﻟﺒﴩﻳﺔ أو اﻟﺤﻴﻮاﻧﻴﺔ
أﻳﻀﺎ ﻟﻢ ﺗﻨﺸﺄ اﻗﺘﺼﺎدﻳﺎتﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ وﻣﻊ اﺣﺘﻴﺎﺟﺎت املﺠﺘﻤﻊ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى؛ وﻟﻬﺬا ً
اﻟﺴﻮق اﻟﻜﺒرية ﻛﻤﺎ ﻫﻮ واﻗﻊ اﻷﻣﺮ اﻟﺤﺎﱄ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻨﺎك اﻋﺘﻤﺎد ﻣﺘﺒﺎدل ﺑني ﻣﺠﺘﻤﻊ
وآﺧﺮ ﱠإﻻ ﰲ اﻟﻜﻤﺎﻟﻴﺎت ،وﻗﺪ ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﻮﺿﻊ ﺳﺎﺋﺪًا ﰲ ﻛﻞ ﺟﻬﺎت اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻗﺒﻞ اﻟﺜﻮرة
اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ.
وﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻟﻜﻔﺎﻳﺔ اﻟﺬاﺗﻴﺔ ﻟﻜﻞ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻧﻈﺎم ﺗﻘﺴﻴﻢ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺬي ﻛﺎن
ﻳﻘﻮم ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار ﻋﲆ أﺳﺎﺳني :اﻟﺠﻨﺲ ،واﻟﺴﻦ .وﻗﺪ رأﻳﻨﺎ أن ﺗﻘﺴﻴﻢ اﻟﻌﻤﻞ ﻋﲆ أﺳﺎس
اﻟﺠﻨﺲ ﺗﻘﺴﻴﻢ واﺿﺢ وﺑﺴﻴﻂ :ﻳﺨﺘﺺ اﻟﺮﺟﺎل ﺑﻜﻞ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﺘﻲ ﺗﻘﺘﴤ ﺟﻬﺪًا ﻋﻀﻠﻴٍّﺎ
وﺑﻌﺪًا ﻣﻜﺎﻧﻴٍّﺎ ﻋﻦ اﻟﻘﺮﻳﺔ أو املﻌﺴﻜﺮ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﻘﻮم املﺮأة ﺑﺎﻟﻨﺸﺎط اﻻﻗﺘﺼﺎدي اﻟﻘﺮﻳﺐ ﻣﻦ
املﺴﻜﻦ .أﻣﱠ ﺎ ﺗﻘﺴﻴﻢ اﻟﻌﻤﻞ ﻋﲆ أﺳﺎس درﺟﺎت اﻟﺴﻦ ،ﻓﻴﺘﻀﺢ ﰲ ﺣﻴﺎة اﻟﺮﻋﺎة واملﺰارﻋني
ﺑﺼﻮرة أﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ ﻧﺠﺪه ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﱠ ﺎﻋني .ﻫﺬا وﻣﺎ زال ﺗﻘﺴﻴﻢ اﻟﻌﻤﻞ ﰲ أﺷﻜﺎل اﻻﻗﺘﺼﺎد
اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻗﺎﺋﻤً ﺎ ﻋﲆ ﻫﺬﻳﻦ اﻷﺳﺎﺳني ،ﻓﻨﺎد ًرا ﻣﺎ ﺗﻘﻮم املﺮأة ﺑﺄﻋﻤﺎل اﻟﺘﻌﺪﻳﻦ أو اﻟﺼﻨﺎﻋﺎت
ً
ﺗﺠﻮاﻻ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ املﺪﻳﻨﺔ أو اﻟﻘﺮﻳﺔ، اﻟﺜﻘﻴﻠﺔ أو اﻟﺨﻄﺮة ،وﻗﻠﻤﺎ ﺗﻘﻮم ﺑﺄﻋﻤﺎل ﺗﻘﺘﴤ
وﻛﺬﻟﻚ ﻫﻨﺎك ﺗﻘﺴﻴﻢ ﻟﻠﻌﻤﻞ ﻋﲆ أﺳﺎس ﻓﺌﺎت اﻟﺴﻦ ،وإن ﻛﺎﻧﺖ ﻓﱰة اﻹﻧﺘﺎج ﻋﻨﺪﻧﺎ ﻗﺪ
ﻃﺎﻟﺖ إﱃ ﺳﻦ اﻟﺴﺘني أو أﻛﺜﺮ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﺮﺟﺎل ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻳﺘﺤﻮﻟﻮن إﱃ
أﻳﻀﺎﻣﺠﺘﻤﻊ ﻛﺒﺎر اﻟﺴﻦ واﻟﺤﻜﻤﺎء ﰲ ﻧﺤﻮ اﻷرﺑﻌني ﻣﻦ اﻟﻌﻤﺮ .وﻻ ﺷ ﱠﻚ أن ذﻟﻚ ﻳﺮﺗﺒﻂ ً
ﺑﻤﺘﻮﺳﻂ اﻟﻌﻤﺮ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻗﺼريًا ﰲ املﺎﴈ ﺑﺎﻟﻘﻴﺎس إﱃ ﻣﺘﻮﺳﻂ اﻟﻌﻤﺮ اﻟﺤﺎﱄ.
وﺑﺮﻏﻢ اﻟﺘﺸﺎﺑﻪ ﰲ أﺳﺲ ﺗﻘﺴﻴﻢ اﻟﻌﻤﻞ ﺑني املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ واﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،ﱠإﻻ
ﻓﺎرﻗﺎ ﺟﻮﻫﺮﻳٍّﺎ ﻳﻔﺼﻞ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ .ذﻟﻚ ﻫﻮ ﻣﻮﺿﻮع اﻟﺘﺨﺼﺺ؛ ﻓﻔﻲ املﺠﺘﻤﻌﺎت ً أن ﻫﻨﺎك
اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻳﻌﺮف اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﺮﻓﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺟﻴﺪة — ﺳﻮاء ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺠﻤﻊ أو
اﻟﺼﻴﺪ أو اﻟﺰراﻋﺔ أو اﻟﺮﻋﻲ — ﻓﺠﻤﻴﻊ اﻷﻓﺮاد ﻳﺘﻌﻠﻤﻮن ﰲ ﻣﺪرﺳﺔ واﺣﺪة ﻫﻲ املﺸﺎﻫﺪة
واﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﻣﻨﺬ اﻟﻄﻔﻮﻟﺔ واملﻤﺎرﺳﺔ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻣﻨﺬ اﻟﺒﻠﻮغ .وﻳﱰﺗﺐ ﻋﲆ ذﻟﻚ أن ﺟﻤﻴﻊ اﻷﻓﺮاد
ﻳﻌﺮﻓﻮن أﺻﻮل املﻬﻨﺔ وأﴎارﻫﺎ ﺑﺎﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ،وﻳُﺜﺮون ﻫﺬه املﻌﺮﻓﺔ ﺑﺎﻻﺳﺘﻤﺎع ﰲ ﻣﻌﻈﻢ
اﻷﻣﺴﻴﺎت إﱃ ﺗﺠﺎرب ﻛﺒﺎر اﻟﺴﻦ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت أو اﻷﻧﺪﻳﺔ؛ وﻟﻬﺬا ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﺗﻤﺎﻳﺰ
440
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
ﻛﺒري ﺑني اﻟﻔﺮد واﻵﺧﺮ ﰲ أداء اﻟﻌﻤﻞ اﻻﻗﺘﺼﺎدي .وﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﻫﻨﺎك ﻓﻮارق ﺑﺴﻴﻄﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ
ﻟﺤﺬق ﺷﺨﺺ ﻣﻌني أو ﺗﺠﺮﺑﺔ آﺧﺮ ،ﻟﻜﻦ ﻫﺬه اﻟﻔﻮارق ﴎﻋﺎن ﻣﺎ ﺗﺰول؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﺸﻴﻊ
ﻓﻮر ﺣﺪوﺛﻬﺎ وﻳﺘﻌﻠﻤﻬﺎ اﻵﺧﺮون ﰲ اﺟﺘﻤﺎﻋﺎت اﻷﻣﺴﻴﺎت.
وﻳﱰﺗﺐ ﻋﲆ ﻫﺬا أن ﻛﻞ ﻓﺮد ﻳﺼﺒﺢ وﺣﺪة ﻋﻤﻞ اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻣﺘﻜﺎﻣﻠﺔ .وﺑﺮﻏﻢ ذﻟﻚ،
ﻓﺈن ﺑﻌﺾ أﺷﻜﺎل اﻟﻨﺸﺎط اﻻﻗﺘﺼﺎدي ﺗﺪﻋﻮ إﱃ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﻲ :ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﺼﻴﺪ
اﻟﻜﺒري ،ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﻬﺠﺮة واﻟﺘﻨﻘﻞ املﻮﺳﻤﻲ ﺑﺤﻴﻮان اﻟﺮﻋﻲ ،ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﻨﻔري )اﺳﺘﻨﻔﺎر
أﻋﻀﺎء املﺠﺘﻤﻊ اﻟﻌﺎﻣﻠني( ﻣﻦ أﺟﻞ إﻋﺪاد اﻟﺤﻘﻮل اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻟﻠﺰراﻋﺔ اﻟﻴﺪوﻳﺔ ﺑﻘﻄﻊ
اﻷﺷﺠﺎر وﺣﺮق اﻷﻋﺸﺎب اﻟﱪﻳﺔ وﺗﺨﻄﻴﻂ اﻟﺤﻘﻮل أو اﻟﺒﺬار وﺟﻨﻲ املﺤﺼﻮل.
وﻫﺬه اﻷﺷﻜﺎل ﻣﻦ اﻟﻌﻤﻞ اﻻﻗﺘﺼﺎدي ﺗﺨﺘﻠﻒ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻦ ﺷﻜﻞ اﻟﻌﻤﻞ ﺷﺪﻳﺪ
اﻟﺘﺨﺼﺺ ﰲ املﺠﺘﻤﻊ املﻌﺎﴏ ،ﻓﻜﻞ ﻓﺮد ﻳﺘﻌﻠﻢ ﻣﻬﻨﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ وﻳﺘﻌﺬر ﻋﻠﻴﻪ اﻻﻧﺘﻘﺎل ﻣﻦ
ﻣﻬﻨﺔ إﱃ أﺧﺮى ﱠإﻻ ﺑﺎﻟﺘﻌﻠﻢ .وﻣﻦ ﺛﻢ ،ﻓﺈن اﻟﺘﺨﺼﺺ اﻻﻗﺘﺼﺎدي ﰲ املﺠﺘﻤﻊ اﻟﺤﺪﻳﺚ
ﻳﻌﻠﻮ ﻋﲆ ﺑﻘﻴﺔ اﻷﺷﻜﺎل اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﰲ إﻳﺠﺎد اﻟﱰاﺑﻂ ﺑني أﻓﺮاد املﺠﺘﻤﻊ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻓﻬﻮ
ﺗﺮاﺑﻂ ﺟﱪي ﻳﺆدي إﱃ ﺣﺪوث املﻨﺎزﻋﺎت واﻟﺸﻘﺎق داﺧﻞ املﺠﺘﻤﻊ ،وﻳﺆدي ً
أﻳﻀﺎ إﱃ
اﻟﺜﻮرات اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،وﻫﻮ أﻣ ٌﺮ ﻏري ﻣﻌﺮوف داﺧﻞ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ.
ﻓﺎﻟﻨﺰاﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪث داﺧﻞ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻻ ﺗﻘﻮم ﻷﺳﺒﺎب اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻓﻘﻂ،
إﻧﻤﺎ ﺗﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻟﻌﺼﺒﻴﺔ اﻟﺪﻣﻮﻳﺔ )اﻟﻌﺸﺎﺋﺮﻳﺔ وﻣﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻨﺴﺐ واملﻜﺎن( ،وﻻ ﺗﺆدي إﱃ
ﻣﻜﺎن آﺧﺮ.
ٍ ٍ
ﺛﻮرات ،إﻧﻤﺎ إﱃ اﻧﻘﺴﺎم املﺠﺘﻤﻊ إﱃ ﻗﺴﻤني؛ واﺣﺪ ﻳﺒﻘﻰ واﻵﺧﺮ ﻳﻨﺴﺤﺐ إﱃ
وﻗﺪ ﺗﻜﺮر ذﻟﻚ ﰲ ﺻﻮرة اﻟﻬﺠﺮات اﻟﻘﺒﻠﻴﺔ اﻟﻌﺪﻳﺪة اﻟﺘﻲ ﻋﻤﱠ ﺮت اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل،
ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﻫﺠﺮات أﺧﺮى ﻣﺮدﱡﻫﺎ زﻳﺎدة اﻟﺴﻜﺎن ﻋﻦ املﻮارد املﺘﺎﺣﺔ ﰲ اﻹﻗﻠﻴﻢ ،ﻟﻜﻨﻨﺎ ﻟﻢ
ﻓﺮض رأي ﻋﲆ آﺧﺮ أو ﺗﺤﻜﻢ ﻧﻌﺮف أن ﻧﺰاﻋﺎت داﺧﻞ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻗﺪ أدﱠت إﱃ ِ
ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ وﺗﺴﻠﻄﻬﺎ ﻋﲆ أﺧﺮى ﱠإﻻ ﰲ ﺣﺎﻻت اﻟﻐﺰو وﻓﺮض ﺣﻜﻢ أرﺳﺘﻮﻗﺮاﻃﻲ ﺑﻮاﺳﻄﺔ
اﻟﻐﺰاة.
ﺛﺎﻧﻴًﺎ» :ﺗﺮﻛﻴﺐ وﻋﻀﻮﻳﺔ اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ املﻨﺘﺠﺔ« :ﻗﻠﻨﺎ إﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺗﺨﺼﺺ إﻧﺘﺎﺟﻲ ﺑني أﻓﺮاد
املﺠﺘﻤﻊ ﺳﻮى اﻟﺘﺨﺼﺺ املﺒﻨﻲ ﻋﲆ اﻟﺠﻨﺲ واﻟﺴﻦ ،وﺣﺘﻰ اﻟﺘﺨﺼﺺ ﻻ ﻳﻜﻮﱢن ﻃﺒﻘﺎت
ﻋﻤﻞ ﰲ ﺳﺎﺋﺮ أﻧﺤﺎء اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ أو اﻟﻌﺸرية ،ﺑﻞ ﻫﻮ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﻓﻘﻂ ﺑﺎﻟﺠﻤﺎﻋﺔ املﺤﻠﻴﺔ ،ﺳﻮاء
ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻧﺴﺐ أو ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻜﺎن )ﻗﺮﻳﺔ(؛ وﻟﻬﺬا ﻓﺈن ﺗﻨﻈﻴﻤﺎت اﻟﻘﺮاﺑﺔ واملﻜﺎن
اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻫﻲ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺗﻨﻈﻴﻤﺎت اﻟﻌﻤﻞ.
وﻋﲆ ﻫﺬا ،ﻓﺈن ﻟﻠﺘﻨﻈﻴﻤﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ — أﴎة أو أﴎة ﻣﻤﺘﺪة أو ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻧﺴﺐ
وﻗﺮاﺑﺔ أو ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻜﺎن — ﻋﺪة وﻇﺎﺋﻒ :اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،ودﻳﻨﻴﺔ ،وﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ،واﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ.
441
اﻹﻧﺴﺎن
وﻛﻞ ﻫﺬه اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ ﻣﱰاﺑﻄﺔ ﻣﻌً ﺎ ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻓﺼﻠﻬﺎ ﱠإﻻ ﻟﻐﺮض اﻟﺪراﺳﺔ ﻓﻘﻂ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ
ً
اﻧﻔﺼﺎﻻ واﺿﺤً ﺎ ﺑني اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ واﻟﺴﻴﺎﳼ ﻧﺠﺪ ﰲ أﺷﻜﺎل اﻻﻗﺘﺼﺎد اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ
واﻻﻗﺘﺼﺎدي.
وﻳﱰﺗﺐ ﻋﲆ اﻟﱰاﺑﻂ اﻟﺤﻴﻮي ﺑني وﻇﺎﺋﻒ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ اﻻﻗﺘﺼﺎدي ﰲ
املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻋﺪة اﺧﺘﻼﻓﺎت ﺟﻮﻫﺮﻳﺔ ﻋﻦ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﻗﺘﺼﺎدي اﻟﺤﺪﻳﺚ ،ﻓﻼ
ﺗﻮﺟﺪ ﺳﻮق ﻟﻠﻌﻤﻞ وﻻ ﻋﻤﻞ أﺟري ،وﻳﺤﻞ ﻣﺤﻞ ذﻟﻚ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﻲ ﻏري اﻻﺧﺘﻴﺎري
آﻧﻔﺎ .ﻳﱰﺗﺐ ﻋﲆ ﻋﺪم وﺟﻮد ﻓﺼﻠﻨﺎ ً
ﺑني أﻋﻀﺎء اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺎ ﱠ
ﺳﻮق ﻟﻠﻌﻤﻞ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ رأس ﻣﺎل إﻧﺘﺎﺟﻲ ﻳﺴﺘﺜﻤﺮ ﰲ اﻟﻌﻤﻞ اﻷﺟري ،وﻻ رأس ﻣﺎل
أﻳﻀﺎ ﻣﺤﺪودة .وﺑﺮﻏﻢ وﺟﻮد ﺗﺴﻮﻳﻘﻲ؛ ﻷن ﻓﺎﺋﺾ اﻹﻧﺘﺎج ﻣﺤﺪود ووﺳﺎﺋﻞ اﻟﻨﻘﻞ ً
ﻧﻈﺎم ﻟﻠﺮق أو ﻣﺎ ﻳﺸﺎﺑﻬﻪ ﰲ ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ،ﱠإﻻ أن اﻟﻌﻤﺎﻟﺔ املﻄﻠﻮﺑﺔ ﻣﻦ
اﻟﺮﻗﻴﻖ ﻣﺤﺪودة ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ أدوات اﻹﻧﺘﺎج وﻣﺤﺪودة ﺑﺈﻋﺎﻟﺔ ﻣﻼك اﻟﺮﻗﻴﻖ )ﻏﺎﻟﺒًﺎ اﻟﺮؤﺳﺎء،
واﻟﺰﻋﻤﺎء ،أو اﻟﺮﻋﺎة( ،وﻣﺤﺪودة ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺴﻮق اﻻﺳﺘﻬﻼﻛﻲ اﻟﺼﻐري ،وﻋﺪم وﺟﻮد
اﺳﺘﺜﻤﺎرات ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﺤﺪﻳﺚ.
ﺛﺎﻟﺜًﺎ» :ﻧﻈﻢ ووﺳﺎﺋﻞ اﻟﺘﺒﺎدل وﻓﻜﺮة اﻟﻨﻘﻮد« :إن ﺗﻘﺪﻳﺮ ﺗﻜﺎﻟﻴﻒ اﻹﻧﺘﺎج ﻏري ذات ﻣﻮﺿﻮع
ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻨﻈﻢ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ،وﻳﺰﻳﺪ ﻣﻦ ﻏﻤﻮض ﻓﻜﺮة ﺗﻘﻴﻴﻢ اﻹﻧﺘﺎج واﻷرﺑﺎح
ﰲ اﻟﺘﺒﺎدل ﻋﺪم وﺟﻮد ﻓﻜﺮة اﻟﻨﻘﻮد ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﺬي ﻧﻌﺮﻓﻪ ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ أو ﻋﺮﻓﺘﻪ اﻟﺤﻀﺎرات
اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ؛ ﻓﺎﻟﺘﺒﺎدل ﺑني أﺷﻜﺎل اﻹﻧﺘﺎج واملﺠﺘﻤﻌﺎت ﻳﺤﺪث ﻟﻠﻤﻨﻔﻌﺔ وﻟﻴﺲ ﻟﻠﺮﺑﺢ،
واﻟﺘﺠﺎرة اﻟﺼﺎﻣﺘﺔ 13اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪث ﺑني ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت دﻟﻴﻞ ﻋﲆ ذﻟﻚ .ﻟﻜﻦ ﻣﻌﻈﻢ
اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻗﺪ اﺑﺘﻜﺮت ﻗﻴﻤﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻟﻠﺘﺒﺎدل :ﰲ ﻣﻴﻼﻧﻴﺰﻳﺎ أﻧﻴﺎب اﻟﺨﻨﺰﻳﺮ،
وﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ أﺻﺪاف ﻣﻌﻴﻨﺔ ،Cowrie shellوﺣﺒﻮب اﻟﻜﺎﻛﺎو ﻋﻨﺪ اﻷزﺗﻚ )املﻜﺴﻴﻚ(،
وأﺻﺪاف أو أﻗﺮاص ﺣﺠﺮﻳﺔ ﺿﺨﻤﺔ ﻣﺜﻞ أﺣﺠﺎر اﻟﺮﺣﻰ ﻋﻨﺪ ﺳﻜﺎن ﺑﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳﺎ.
13أﺷﻬﺮ أﻣﺜﻠﺔ اﻟﺘﺠﺎرة اﻟﺼﺎﻣﺘﺔ ﻫﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪث ﺑني أﻗﺰام وﺳﻂ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وﺟرياﻧﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﺰﻧﻮج
واﻟﺒﺎﻧﺘﻮ .ﻓﺈذا أراد اﻷﻗﺰام ﺗﺒﺎدل املﻨﻔﻌﺔ ﻣﻊ اﻟﺰﻧﻮج املﺠﺎورﻳﻦ؛ ﻓﺈن اﻟﻘﺰم ﻳﻀﻊ ﺣﻴﻮان ﺻﻴﺪ أو أﻛﺜﺮ
ﺑﻌﻀﺎ ﻣﻦ املﺤﺼﻮل ،ﻓﺈذا ﺟﺎء اﻟﻴﻮم اﻟﺜﺎﻧﻲ وﻟﻢ ﻳﺤﻤﻞ اﻟﻘﺰم ً ﰲ ﺣﻘﻞ أﺣﺪ اﻟﺰﻧﻮج ،وﻳﻀﻊ اﻟﺰﻧﺠﻲ
املﺤﺼﻮل ﻳﺰﻳﺪ اﻟﺰﻧﺠﻲ اﻟﻜﻤﻴﺔ أو ﻳﺄﺧﺬ ﻣﺤﺼﻮﻟﻪ إذا ﻟﻢ ﺗﻜﻦ اﻟﺼﻔﻘﺔ ﺗﻌﺠﺒﻪ .وﺗﺤﺪث ﻫﺬه اﻟﺘﺠﺎرة
اﻟﺼﺎﻣﺘﺔ ﺧﻼل اﻟﻠﻴﻞ ودون أن ﻳﻠﺘﻘﻲ اﻟﻄﺮﻓﺎن ﱠإﻻ ﻧﺎد ًرا.
442
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
وﻟﻜﻦ ﻫﺬه ﻟﻴﺴﺖ ﻧﻘﻮدًا ﺑﺎملﻌﻨﻰ املﻔﻬﻮم؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﻜﻮﱢن دورة ﺗﻌﺎﻣﻞ ﻣﺜﻞ اﻟﻨﻘﻮد،
ﺑﻞ دورة ﻣﺤﺪودة .ﻓﻬﻨﺎك ﺗﺒﺎدل ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﻐﺬاء ،وﻧﻮع آﺧﺮ ﻣﻦ اﻟﺘﺒﺎدل ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻌﺘﻘﺪ
أﻧﻪ ﻛﻤﺎﻟﻴﺎت ،وﺛﺎﻟﺚ ﺧﺎص ﺑﺎﻟﺘﺒﺎدل ﺑني اﻟﻨﺒﻼء واﻟﺰﻋﻤﺎء وأﺻﺤﺎب املﺮاﻛﺰ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ
ﻓﻤﺜﻼ ﻧﺠﺪ ﻋﻨﺪ ﻗﺒﺎﺋﻞ اﻟﺘﻴﻒ Tivﰲ وﺳﻂ ﻧﻴﺠريﻳﺎ ﻫﺬه اﻷﺷﻜﺎل ً ﰲ اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ أو اﻟﻌﺸرية.
املﺘﻌﺪدة ﻟﻠﺘﺒﺎدل :اﻟﻐﺬاء ﻳﺒﺎدل اﻟﻐﺬاء )ﻟﺤﻮم أو دواﺟﻦ أو أﻟﺒﺎن ﻣﻘﺎﺑﻞ ﻣﺤﺎﺻﻴﻞ
ﻌﺘﱪ ﻗﻀﺒﺎنأﻳﻀﺎ أن ﻳﺤﺪث ﺗﺒﺎدل ﺑني اﻟﻐﺬاء وﻗﻀﺒﺎن اﻟﻨﺤﺎس ،وﺗُ َ ﻧﺒﺎﺗﻴﺔ( .وﻳﻤﻜﻦ ً
اﻟﻨﺤﺎس ﰲ اﻟﺘﺒﺎدل ﻋﺎﻟﻴﺔ اﻟﻘﻴﻤﺔ ﻛﺎﻟﻨﺴﺎء أو اﻟﺮﻗﻴﻖ ،وﻋﻨﺪ ﻗﺒﺎﺋﻞ اﻟﻨﻴﻠﻴني ﰲ اﻟﺴﻮدان
ﻣﺜﻼ اﻟﺒﻘﺮة ﺗﻌﺎدل ﻋﺪدًا ﻣﻌﻴﻨًﺎ ﻣﻦ
اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ ﻫﻨﺎك ﻗﻴﻤﺔ ﻟﻜﻞ ﺷﻜﻞ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻹﻧﺘﺎج؛ ً
اﻟﺨﺮاف أو ﻋﺪدًا آﺧﺮ ﻣﻦ املﺎﻋﺰ أو ﻋﺪدًا ﻣﻦ اﻟﺮﻣﺎح واﻟﻘﻮارب املﺼﻨﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﱪدي أو
اﻟﻘﻮارب املﺤﻔﻮرة.
ﻃﻮﱢرت أﺷﻜﺎ ٌل ﻣﻦ اﻟﻨﻘﻮد ،ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﺘﺤﻮل إﱃ وﰲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت زراﻋﺔ املﺤﺮاث ُ
وﺧﺎﺻﺔ ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت زراﻋﺔ املﺤﺮاثً ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﻨﻘﺪ واﻟﻌﻤﻠﺔ ﱠإﻻ ﰲ ﺣﺎﻻت اﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻴﺔ،
ذات اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﰲ اﻟﴩق وأوروﺑﺎ .أﻣﱠ ﺎ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺰراﻋﻴﺔ اﻟﻐﻨﻴﺔ
ذات اﻹﻧﺘﺎج اﻟﻔﺎﺋﺾ ،ﻓﻘﺪ ﻗﺎم ﻧﻈﺎم ﺗﺴﻮﻳﻘﻲ ﰲ ﺻﻮرة أﺳﻮاق أﺳﺒﻮﻋﻴﺔ ﻣﺤﻠﻴﺔ وأﺳﻮاق
ﻳﻘﺘﺾ وﺟﻮد ﴍﻛﺎت ورأﺳﻤﺎل ﺗﺴﻮﻳﻘﻲ ِ ﻣﺮﻛﺰﻳﺔ داﺋﻤﺔ أو ﻣﻮﺳﻤﻴﺔ ،ﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم ﻟﻢ
وﻣﺼﺎرف وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻤﺎ ﻧﻌﺮﻓﻪ ،ﻓﻠﻢ ﺗﻈﻬﺮ ﺗﺠﺎرة ﺟﻤﻠﺔ أو ﺗﺠﺎرات ﻣﺘﺨﺼﺼﺔ ،ﺑﻞ
إن ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻟﺘﺠﺎرة اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻘﻮم داﺋﻤً ﺎ ﻋﲆ أﺳﺎس ﺑﻴﻊ ﻛﻞ اﻟﺴﻠﻊ )ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل
ﰲ املﻨﺎﻃﻖ اﻟﺮﻳﻔﻴﺔ أو اﻷﺳﻮاق اﻟﴩﻗﻴﺔ(.
راﺑﻌً ﺎ» :ﺗﺮاﻛﻢ اﻟﺜﺮوة« :إن اﻟﺴﻠﻊ اﻹﻧﺘﺎﺟﻴﺔ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرات املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻫﻲ اﻹﻧﺴﺎن
واﻷرض ،وﰲ ﻧﻈﻢ اﻻﻗﺘﺼﺎد اﻟﺒﺴﻴﻂ ﻟﻴﺴﺖ ﻫﺬه اﻟﺴﻠﻊ ﻣﻠ ًﻜﺎ ﻓﺮدﻳٍّﺎ ﻷﺣﺪ ﱠإﻻ ﰲ أﺣﻮال
ﺷﺎذة .أﻣﱠ ﺎ أدوات اﻹﻧﺘﺎج ﻓﻬﻲ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﻠﻚ ﻟﻸﻓﺮاد ،وﻋﻨﺪ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺮﻋﻲ ﻻ ﻧﺠﺪ ﻣﻠﻜﻴﺔ
ﻟﻸراﴈ ،وﻛﺬﻟﻚ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺰراﻋﺔ اﻟﻴﺪوﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺴﻮدﻫﺎ ﻧﻈﺎم اﻟﺤﻴﺎزة ،ﻳﻜﻮن ﻣﻦ ﺣﻖ
اﻟﺰﻋﻴﻢ املﺤﲇ إﻋﺎدة ﺗﻮزﻳﻊ اﻟﺤﻴﺎزات ﰲ ﺣﺎﻻت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻧﻈﺎم اﻟﻘﺮاﺑﺔ وﻣﺠﻤﻮﻋﺎت
اﻟﻨﺴﺐ ﻛﺜريًا ﻣﺎ ﺗﺘﺪﺧﻞ ً
أﻳﻀﺎ ﰲ ﺗﻮزﻳﻊ اﻟﺤﻴﺎزات اﻟﺰراﻋﻴﺔ .أﻣﱠ ﺎ اﻟﺠﻬﺪ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﰲ
اﻟﻌﻤﻞ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺘﻢ ﻣﻦ أﺟﻞ ﺗﺄدﻳﺔ اﻟﻌﻤﻞ املﻄﻠﻮب ،وﻟﻴﺲ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﻣﺴﺘﻮى
أﻣﺜﻞ وإﻧﺘﺎج أﻛﺜﺮ ،ﱠإﻻ إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻈﺮوف اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻗﺪ ﺗﺪﺧﻠﺖ ﰲ ﻣﻮﺳﻢ ﻣﺎ ﻟﺰﻳﺎدة
اﻹﻧﺘﺎج اﻟﺰراﻋﻲ أو ﻧﻤﻮ ﻋﺸﺐ أﻏﻨﻰ وأوﻓﺮ ﰲ املﺮاﻋﻲ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﱰﺗﺐ ﻋﻠﻴﻪ وﻓﺮة ﻏﺬاء
ﺣﻴﻮان اﻟﺮﻋﻲ.
443
اﻹﻧﺴﺎن
ﻛﻞ ﻫﺬه اﻟﻈﺮوف — ﰲ داﺧﻞ اﻹﻃﺎر اﻟﺤﻀﺎري اﻟﻌﺎم اﻟﺒﺴﻴﻂ — ﺗﺠﻌﻞ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ
اﻹﻧﺘﺎج واﻟﻌﻤﻞ اﻹﻧﺘﺎﺟﻲ وأدوات اﻹﻧﺘﺎج أﻣﻮ ًرا ﻣﱰاﺑﻄﺔ ﻣﻌً ﺎ ،ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﺗﺰﻳﺪ أو ﺗﻨﻘﺺ
ﻋﻦ اﺣﺘﻴﺎﺟﺎت املﺠﺘﻤﻊ ﱠإﻻ ﺑﺘﺪﺧﻞ اﻟﻈﺮوف اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ أو اﻟﺒﴩﻳﺔ )ﺣﺮوب وﻏﺰوات
وﺗﺪﻣري( .وﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل ،ﻳﺆدي ﻫﺬا إﱃ ﺗﻮازن إﻧﺘﺎﺟﻲ ،ﻟﻜﻨﻪ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﺛﺒﺎت أو
رﻛﻮد ﰲ اﻹﻧﺘﺎج ﺣﺴﺐ ﺗﻌﺮﻳﻔﺎﺗﻨﺎ اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ .وﻋﲆ أي ﺣﺎل ،ﻓﺈن ﻫﺬا اﻟﺘﻮازن ﻻ ﻳﺆدي إﱃ
ﺗﻜﻮﻳﻦ رأس ﻣﺎل ﻳُﻌﺎد اﺳﺘﺜﻤﺎره ﻣﻦ ﻗِ ﺒَﻞ أﻓﺮاد ﻣﻌﻴﻨني .وﻟﻜﻦ ﰲ ﺣﺎﻻت ﻛﺜرية ﻧﺠﺪ ﻋﻨﺪ
املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ اﺗﺠﺎﻫﺎت إﱃ ﺗﺮاﻛﻢ اﻟﺜﺮوة وﻣﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻹﻧﺘﺎج .وﻛﻤﺎ ﺳﺒﻖ أن ذﻛﺮﻧﺎ
ﻓﺈن اﻷﻧﻈﻤﺔ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ملﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﻗﺪ اﺑﺘﻜﺮت وﺳﺎﺋﻞ ﻣﺘﻨﻮﻋﺔ ﻟﺘﺪﻣري ﻫﺬه
اﻟﺜﺮوة املﱰاﻛﻤﺔ ﰲ ﻣﻘﺎﺑﻞ ﺗﻌﻮﻳﺾ اﺟﺘﻤﺎﻋﻲ وﺗﻘﺪﻳﺮي ،وﻣﻌﻈﻢ ﻫﺬه اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ ﻹﻋﺎدة
ﺗﻮزﻳﻊ اﻟﺜﺮوة املﱰاﻛﻤﺔ ﺗﺘﺨﺬ ﺷﻜﻞ اﻟﺤﻔﻼت اﻟﻄﻘﺴﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﺒﻌﺜَﺮ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺜﺮوة املﺠﻤﻮﻋﺔ
ﻋﲆ ﻣﻌﻈﻢ أﻓﺮاد املﺠﺘﻤﻊ .وﻻ ﺷ ﱠﻚ أن ﻫﺬه اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ ﻟﻴﺴﺖ ﺳﻮى ﻧﻮع ﻣﻦ اﻹﴍاف
اﻟﺤﻀﺎري واملﺤﺎﻓﻈﺔ ﻋﲆ اﻟﺘﻮازن اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ اﻻﻗﺘﺼﺎدي داﺧﻞ املﺠﺘﻤﻊ وﻣﻨﻊ ﺗﻜﻮن
ﻃﺒﻘﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﻋﲆ أﺳﺲ اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﺳﺘﻐﻼﻟﻴﺔ.
444
اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
اﻟﺘﻐري ﰲ ﻣﻜﻮﱢن ﺣﻀﺎري ،وأﴎﻋﺖ ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻻﺣﺘﻜﺎك واﻻﻧﺘﺸﺎر اﻟﺤﻀﺎري ﺑﻬﺬا اﻟﺘﻐﻴري؛
ﻓﺈن املﺠﺘﻤﻊ ﻳﻈﻞ ﻳﻌﺎﻧﻲ ﻣﻦ ﻋﺪم ﺗﻮازن ﺣﻀﺎري ﻟﻔﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻗﺪ ﺗﻘﴤ ﻋﲆ ﺗﻜﺎﻣﻠﻪ
اﻟﺤﻀﺎري وﺗﺆدي إﱃ ﺗﻔﺘﺘﻪ .وﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﺬي ﺣﺪث ﺣﻴﻨﻤﺎ اﺣﺘ ﱠﻜﺖ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ
ﺑﺎﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﰲ ﻣﺨﺘﻠﻒ املﻨﺎﻃﻖ ،ﻓﺎﻟﻜﺜريُ ﻗﺪ ُﻗﴤَ ﻋﻠﻴﻪ اﺳﺘﺨﺪاﻣﺎت ﺣﻀﺎرﻳﺔ
ﻏﺮﻳﺒﺔ ﻋﻨﻪ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ؛ ﻣﺜﻞ ﺗﻌﺎﻃﻲ اﻟﺨﻤﻮر اﻷوروﺑﻴﺔ اﻟﺘﻲ أﻫﻠﻜﺖ أﻋﺪادًا ﻏﻔرية ﻣﻦ اﻟﺒﺪاﺋﻴني
وﺧﺎﺻﺔ ﻣﻦ اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ،ﻛﺬﻟﻚ اﻧﺘﻘﺎل أﻣﺮاض اﻷوروﺑﻴني إﱃ اﻟﺒﺪاﺋﻴني ﻗﺪ ﺣﺼﺪﺗﻬﻢ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ، ً
ﻋﺎﻣﻼ ﺛﺎﻟﺜًﺎ ﰲ ﻣﺰﻳ ٍﺪ ﻣﻦ اﻟﻔﻮﴇ ً وﻓﻮق ﻫﺬا ﻛﺎن اﺳﺘﺨﺪام اﻷﺳﻠﺤﺔ اﻟﻨﺎرﻳﺔ اﻷوروﺑﻴﺔ
واﻟﺘﻔﺘﻴﺖ واﻹﺑﺎدة ﻟﻠﻌﻨﺎﴏ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻧﺰاﻋﻬﺎ ﻣﻊ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪام ﻫﺬه اﻷﺳﻠﺤﺔ،
وﻧﺘﻴﺠﺔ اﺳﺘﺨﺪام اﻷوروﺑﻴني ﻟﻬﺬه اﻷﺳﻠﺤﺔ ﺿﺪﻫﻢ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ.
وﺣﺘﻰ ﺣﺎﻻت اﻻﺣﺘﻜﺎك اﻷوروﺑﻲ املﺴﺎﻟﻢ — ﻛﺎﺣﺘﻜﺎك اﻟﻜﻨﺪﻳني ﺑﺎﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ
اﻟﺤﺎﴐ — ﻧﺠﻢ ﻋﻨﻪ ﺗﺪﻣري ﺟﻮﻫﺮي ﰲ أﺳﺲ ﺣﻀﺎرة اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ اﻟﺬﻳﻦ أﺻﺒﺤﻮا اﻵن
ﻋﺎﻟﺔ ﻋﲆ ﻣﺮاﻛﺰ اﻟﺨﺪﻣﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ وﻣﺮاﻛﺰ اﻹﻋﺎﺷﺔ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﻢ ﻳﻌﻴﺸﻮن ﻛﺎﻟﻌﺠﺰةً ،
اﻟﻜﻨﺪﻳﺔ ،وأﺻﺒﺢ ﻧﺸﺎﻃﻬﻢ اﻻﻗﺘﺼﺎدي ﻣﺤﺪودًا ،ﺑﻞ ﺗﺤﻮل ﺑﻌﻀﻬﻢ إﱃ ﻧﺤﺖ ﺗﻤﺎﺛﻴﻞ ﺻﻐرية
ﻣﻦ اﻷﺣﺠﺎر وﺑﻴﻌﻬﺎ ﻛﺴﻠﻌﺔ ﺳﻴﺎﺣﻴﺔ .وﰲ ذﻟﻚ ﻗﻀﺎء ﺗﺪرﻳﺠﻲ ﻋﲆ اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ
إﱃ ﻣﻨﺎﻋﺘﻬﻢ املﺤﺪودة ﺿﺪ اﻷﻣﺮاض اﻷوروﺑﻴﺔ ،أﻣﱠ ﺎ ﺻﻴﺎدو اﻟﺮﻧﺔ ﰲ ﺷﻤﺎل ﺳﻴﺒريﻳﺎ ﻓﻠﻢ
ﺣﺎﻓﺰ ﺟﺪﻳ ٍﺪ
ٍ ﻧﻮع ﺟﺪﻳ ٍﺪ ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻓﺔ أو ﻳﻼﻗﻮا ﻣﺜﻞ ﻫﺬا املﺼري اﻟﻌﺎﺟﺰ ﻋﻦ اﻷﺧﺬ ﺑﻬﻢ إﱃ ٍ
ﻟﺘﺸﺠﻴﻌﻬﻢ ﻋﲆ ﺗﻄﻮﻳﺮ ﺗﻜﻨﻴﻚ ﺣﺮﻓﺘﻬﻢ .ﻓﺎﻟﻜﺜريون ﻣﻦ ﻫﺆﻻء اﻟﺼﻴﺎدﻳﻦ اﻟﻘﻄﺒﻴني ﻗﺪ
أﺻﺒﺤﺖ ﺗﺴﺘﻘﻄﺒﻬﻢ املﺪن اﻟﺘﻌﺪﻳﻨﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﰲ اﻟﺸﻤﺎل اﻟﺴﻮﻓﻴﺘﻲ ،وﺗﺴﺘﻘﻄﺒﻬﻢ ﺑﻌﺾ
ﻣﴩوﻋﺎت املﺪن اﻟﺘﻌﺪﻳﻨﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﰲ اﻟﺸﻤﺎل اﻟﺴﻮﻓﻴﺘﻲ ،وﺗﺴﺘﻘﻄﺒﻬﻢ ﺑﻌﺾ ﻣﴩوﻋﺎت
اﻟﺰراﻋﺔ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ اﻟﺴﻮﻓﻴﺘﻴﺔ )ﻛﻤﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻴﺎﻛﻮت( أو ﻣﺰارع ﺗﺮﺑﻴﺔ ﺣﻴﻮان اﻟﻔﺮاء أو اﻟﺮﻧﺔ.
وﻟﻴﺴﺖ ﻫﺬه ﺳﻮى أﻣﺜﻠﺔ ﻣﺤﺪودة ﻋﻦ ﻗﻀﻴﺔ اﻟﺘﻐري اﻻﻗﺘﺼﺎدي اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻟﻠﺒﺪاﺋﻴني
ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻻﺣﺘﻜﺎك ﺑﺎﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ ،ﻓﻬﻨﺎك ﻋﴩات اﻷﻣﺜﻠﺔ ﰲ اﻟﻨﻄﺎق املﺪاري اﻷﻣﺮﻳﻜﻲ
ً
ﺻﺎرﺧﺎ ﺑني واﻷﻓﺮﻳﻘﻲ واﻵﺳﻴﻮي ،وﻟﻘﺪ أﺻﺒﺢ اﻟﺘﻨﺎﻗﺾ داﺧﻞ ﻫﺬه املﻨﺎﻃﻖ املﺪارﻳﺔ
ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻣﺤﺪودة دﺧﻠﺘﻬﺎ أﻧﻈﻤﺔ اﻹﻧﺘﺎج اﻷوروﺑﻲ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﰲ ﺻﻮرة ﺗﻌﺪﻳﻦ أو زراﻋﺔ
املﺤﺎﺻﻴﻞ اﻟﺘﺠﺎرﻳﺔ ،وﺑني ﻣﺤﻴﻂ ﻛﺒري ﻣﻦ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺄﺛﺮت ﻫﺎﻣﺸﻴٍّﺎ ﺑﻬﺬا
اﻻﺣﺘﻜﺎك .ﻓﺸﺘﱠﺎن ﺑني ﺣﻴﺎة اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ داﺧﻞ ﺟﺰﻳﺮة ﺑﻮرﻧﻴﻮ وﺑني اﻟﺤﻴﺎة ﰲ ﺑﻌﺾ
ﺳﻮاﺣﻞ ﺑﻮرﻳﻨﻮ ﺣﻴﺚ ﺗُﺰ َرع املﺤﺎﺻﻴﻞ اﻟﺘﺠﺎرﻳﺔ .وﺷﺘﱠﺎن ﺑني اﻟﺮﻛﻮد اﻟﺤﻀﺎري ﻟﺴﻜﺎن
ﺗﻼل ﺧﺎﳼ وﺑني اﻟﻮدﻳﺎن اﻟﻘﺮﻳﺒﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺰرع اﻟﺸﺎي ﰲ أﺳﺎم ،وﺷﺘﱠﺎن ﺑني زراع اﻟﻜﺎﻛﺎو
ﰲ ﺟﻨﻮب ﻏﺎﻧﺎ واﻟﻘﺒﺎﺋﻞ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﰲ ﺷﻤﺎل ﻏﺎﻧﺎ.
445
اﻹﻧﺴﺎن
14ﻛﺘﻄﺒﻴﻖ ﻟﻬﺬه املﺸﻜﻠﺔ ،راﺟﻊ :ﻣﺤﻤﺪ رﻳﺎض »اﻟﺰراﻋﺔ واﻟﺘﻐﻴري اﻻﻗﺘﺼﺎدي واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ«،
ﴍﻛﺔ اﻟﻨﴫ ﻟﻠﺘﺼﺪﻳﺮ واﻻﺳﺘرياد ،اﻟﻘﺎﻫﺮة .١٩٧١
446
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻣﻦ
1
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﲈﻋﻲ
اﻹﻧﺴﺎن واملﺠﺘﻤﻊ
ﻻ ﺟﺪال ﰲ أن اﻹﻧﺴﺎن واملﺠﺘﻤﻊ ﺷﻘﺎن ﻟﴚءٍ واﺣﺪ .ﻓﻼ ﻳﻮﺟﺪ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﺑﺪون أﻓﺮاد ،وﻻ
ﺗﺠﻤﻊ ﻣﺎ .وﺑﺼﻮر ٍة ﻋﺎﻣﺔ ،ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻧﻘﺮر أﻧﻪ ﻻ ﺑﺪ ﻣﻦ
ٍ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ اﻷﻓﺮاد أن ﻳﻌﻴﺸﻮا دون
وﺟﻮد ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت ﺗﱰاﺑﻂ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﻔﺮدﻳﺔ وﺗﻨﺘﻈﻢ .وﺑﺮﻏﻢ اﻋﱰاﻓﻨﺎ ﺑﻮﺟﻮد املﺠﺘﻤﻊ،
ﻓﺈن اﻟﺠﺪل ﻛﺜري ﺑني اﻟﻌﻠﻤﺎء ﻋﲆ ﻣﺎﻫﻴﺘﻪ :ﻫﻞ ﻫﻮ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﻋﻀﻮي ﺑﺤﺖ ،أم ﻫﻞ ﻫﻮ »أﻧﺎ«
ﺣﻘﺎ وﺟﻮد ﻓﻌﲇ ،أم ﻻ وﺟﻮد ﻟﻪ ﺗﺸﺎرﻛﻴﺔ أو ﻋﻼﻗﺔ »أﻧﺎ-ﻧﺤﻦ«؟ وﻣﻌﻨﻰ ذﻟﻚ :ﻫﻞ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ ٍّ
إﻻ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻷﻓﺮاد اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻜﻮﻧﻮن املﺠﺘﻤﻊ؟ وﺗﺠﻨﺒًﺎ ﻟﻠﻜﺜري ﻣﻦ املﻮاﻗﻒ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ،ﻳﻜﻔﻴﻨﺎ
أن ﻧﻘﻮل ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ إن اﻹﻧﺴﺎن ﻳﺤﺘﻮي ﻋﲆ اﻟﺤﻴﺎة اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،وإن اﻟﺘﺠﻤﻊ ﻋﻨﺪ اﻹﻧﺴﺎن
ﺟﺰء ﺟﻮﻫﺮي ﻣﻨﻪ .وﺑﺬﻟﻚ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻧﱪر اﻟﻘﻮل املﺄﺛﻮر» :اﻹﻧﺴﺎن ﻣﺪﻧﻲ )اﺟﺘﻤﺎﻋﻲ(
ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ «.ﻓﻜﻞ ﻓﺮد ﻳﻘﻮم ﺑﺪور ﻣﻌني ﰲ ﺷﺘﻰ أﺷﻜﺎل اﻟﺤﻴﺎة املﺎدﻳﺔ وﻏري املﺎدﻳﺔ ،وﺑﺬﻟﻚ
ﻳﻌﻄﻲ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ وﺟﻮده ،ﻟﻜﻦ اﻹﻧﺴﺎن ﻳﺴﺘﻤﺪ اﻟﻌﻮن واملﺴﺎﻋﺪة ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻊ ﻛﻲ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ
أن ﻳﻌﻴﺶ وﻳﺆدي دوره.
وﻋﲆ ﻫﺬا ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻨﻈﺮ إﱃ املﺠﺘﻤﻊ ﻋﲆ أﻧﻪ ﺗﺮﻛﻴﺐ ﻓﻮق اﻹﻧﺴﺎن ،وﻋﲆ أﻧﻪ ﺗﻤﺜﻴﻞ
ﻟﻺﻧﺴﺎن ﰲ ﻧﻤﻂ ﻣﺎدي ﻣﺆﺳﺲ ﻋﲆ ﺻﻔﺔ ﺟﻮﻫﺮﻳﺔ ﻣﻦ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻹﻧﺴﺎن؛ ﻫﻲ اﻟﺘﺠﻤﻊ.
وﻟﻜﻲ ﺗﺘﺤﺪد وﺗﺘﻨﺎﺳﻖ ﻋﻼﻗﺎت اﻷﻓﺮاد ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ املﺠﺘﻤﻊ ﻳﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﻋﺪد ﻣﻦ
اﻟﱰﻛﻴﺒﺎت واﻟﺘﻨﻈﻴﻤﺎت ﺗﺄﺧﺬ ﺻﻮرة اﻷﻧﻤﺎط واﻟﻘﻮاﻟﺐ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،وﻳﻌﻄﻲ اﻟﱰﻛﻴﺐ
اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ اﻟﺸﻜﻞ اﻟﻌﺎم واﻟﻨﻈﺎم اﻟﺪاﺋﻢ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ ،وﻫﻮ ﺑﺬﻟﻚ ﺛﺎﺑﺖ ﻏري ﻣﺘﻄﻮر إﻻ ﻋﲆ
ﻓﱰات زﻣﻨﻴﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ .أﻣﺎ اﻟﺘﻨﻈﻴﻤﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،ﻓﻬﻲ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ اﻟﻘﻮاﻟﺐ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﺤﻘﻖ ﻣﻦ
ﺧﻼﻟﻬﺎ ﺗﻄﺒﻴﻖ ﻗﻮاﻋﺪ وﺷﻜﻞ اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻳﺘﺴﻢ
ﺑﺎﻟﺪﻳﻨﺎﻣﻴﺔ واﻟﺘﻄﻮر.
وﻳﺸﺘﻤﻞ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻋﲆ ﻋﺪد ﻛﺒري ﻣﻦ اﻷﻧﻤﺎط واﻟﻘﻮاﻟﺐ اﻟﺜﺎﺑﺘﺔ واﻟﺪﻳﻨﺎﻣﻴﺔ،
وﻣﻦ أﻫﻢ أﺷﻜﺎل اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ:
) (١اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻟﺠﻨﺴني :وﺗﺸﺘﻤﻞ ﻋﲆ ﻋﻼﻗﺎت ﻋﺪﻳﺪة؛ ﻣﻨﻬﺎ ﺗﻘﺴﻴﻢ اﻟﻌﻤﻞ ،ووﻇﻴﻔﺔ
ودور اﻟﺮﺟﻞ واملﺮأة ﰲ املﺠﺘﻤﻊ .ﻛﺬﻟﻚ ﺗﺸﺘﻤﻞ ﻋﲆ ﺗﻨﻈﻴﻢ اﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ ،ﻧﻈﺎم اﻟﺰواج
وأﻧﻈﻤﺔ اﻟﻘﺮاﺑﺔ وﻧﻮع اﻷﴎة.
) (٢ﻋﻼﻗﺎت املﻜﺎن وﻋﻼﻗﺎت اﻟﺪم ﰲ ﺗﻜﻮﻳﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﺘﺠﻤﻌﺎت املﺤﻠﻴﺔ؛ ﻛﺎﻟﺒﺪﻧﺔ
واﻟﻌﺸرية واﻟﻘﺒﻴﻠﺔ.
) (٣ﻃﺒﻘﺎت اﻟﺴﻦ وﺗﻘﺴﻴﻢ املﺠﺘﻤﻊ إﱃ وﻇﺎﺋﻒ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻟﺴﻦ ،وﺗﻜﻮﻳﻦ
اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ واﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ.
) (٤املﻌﺘﻘﺪات اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ وﺗﻜﻮﻳﻦ ﻫﻴﺌﺔ رﺟﺎل اﻟﺪﻳﻦ ،وﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻘﻮاﻟﺐ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ
اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﻄﻘﻮس املﺨﺘﻠﻔﺔ ﰲ ﺣﻴﺎة اﻷﻓﺮاد.
448
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
.Murdock, G. P., “Social Structure” Macmillan Free Press, New York 1966, PP 263-264 2
449
اﻹﻧﺴﺎن
450
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
ﺑﺠﺰر ﺑﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳﺎ ﻳﺤﺮم ﻋﲆ اﻷﻣريات ﻣﺎ ﻳُﺴﻤَ ﺢ ﺑﻪ ﻟﺮﻓﻴﻘﺎﺗﻬﻦ ﻛﻞ ﻟﻴﻠﺔ ،وإﻻ ﺗﻌﺮﺿﻦ ﻟﻠﻘﺘﻞ
أو اﻟﻔﻀﻴﺤﺔ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﺄﺗﻲ اﻟﻴﻮم اﻟﺬي ﺗُﺰوﱠج ﻓﻴﻪ ﻻﺑﻦ زﻋﻴ ٍﻢ آﺧﺮ.
ً
إﻃﻼﻗﺎ ﺑﻔﻜﺮة اﻟﻌﻔﺔ وﻳﺘﻀﺢ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻷﻣﺜﻠﺔ أن اﻟﺰواج ﻋﻨﺪ ﺑﻌﺾ اﻟﺒﺪاﺋﻴني ﻻ ﻳﺮﺗﺒﻂ
واﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ واﻟﺤﺐ اﻟﺮوﻣﺎﻧﴘ ،ﻛﴩوط أﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﺰواج ﻋﻨﺪ ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ ﺣﻀﺎراﺗﻨﺎ
اﻟﻌﻠﻴﺎ؛ ﻓﺈﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ أي ﺷﻌﻮر ﺑﺎﻟﺬﻧﺐ ﻟﻠﻤﻌﺎﴍة ﻗﺒﻞ اﻟﺰواج .ﺑﻞ ﰲ ﺑﻌﺾ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت
اﻟﺴﻔﺎﻧﺎ اﻟﺴﻮداﻧﻴﺔ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﺰوج أن ﻳﺘﻬﻢ زوﺟﺘﻪ اﻟﻌﻔﻴﻔﺔ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﻏري ﺟﻤﻴﻠﺔ أو
أﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻣﺮﻏﻮﺑﺔ ﻣﻦ أي ﻣﻦ ﺷﺒﺎب املﺠﺘﻤﻊ ﻗﺒﻞ اﻟﺰواج ﻷﺳﺒﺎب ﻣﺘﻌﺪدة ،وﰲ ﻫﺬه
اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻳﻘﻮل اﻟﺰوج ﻟﺰوﺟﺘﻪ :ﻟﻢ ﻳَ َﺮ وﺟﻬﻚ ﺳﻮاي واﻟﺬﺑﺎب!
أﻳﻀﺎ دور اﻟﺘﺤﺪﻳﺪ اﻻﻗﺘﺼﺎدي ﰲ ﻓﺮض أﺷﻜﺎل ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻛﺬﻟﻚ ﻳﺘﻀﺢ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻷﻣﺜﻠﺔ ً
ﻣﻦ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ ﻗﺒﻞ اﻟﺰواج ﻋﻨﺪ اﻷﻏﻨﻴﺎء واﻟﻔﻘﺮاء ،وﻋﻨﺪ اﻟﺤﻜﺎم وأﺑﻨﺎء اﻟﺸﻌﺐ .وإﱃ
ﺟﺎﻧﺐ دور اﻻﻗﺘﺼﺎد ﻧﺠﺪ ﻟﻠﻤﻌﺘﻘﺪات اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ دو ًرا ﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﺤﺎﻻت ،ﰲ أﺷﻜﺎل اﻟﻌﻼﻗﺔ
ﺑني اﻟﺠﻨﺴني .ﻓﻤﻦ اﻟﺸﺎﺋﻊ ﰲ ﺑﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳﺎ أن ﻫﻨﺎك ﻗﻮى روﺣﻴﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻋﻨﺪ اﻷﻣريات ﺗﺠﻌﻞ
ري ﺧﻄﺮ ﻋﲆ ﺣﻴﺎة اﻟﺸﺒﺎب ﻣﻦ ﻋﺎﻣﺔ اﻟﺸﻌﺐ .وﻣﺜﻞ ذﻟﻚ ﻧﺠﺪه ﺷﺎﺋﻌً ﺎ ﻣﻌﺎﴍﺗﻬﻦ ذات ﺗﺄﺛ ٍ
أﻳﻀﺎ ﻋﻨﺪ اﻹﻧﻜﺎ ﰲ ﺑريو .ﻛﺬﻟﻚ ﺗﺤﺘﻢ ﺑﻌﺾ اﻟﻄﻘﻮس اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ وﺟﻮد ﺑﻌﺾ اﻟﻌﻔﻴﻔﺎت، ً
ري ﻣﻦ اﻟﺸﻌﻮب ،ﻟﻜﻦ ﻫﺬه اﻟﺮﻫﺒﻨﺔ وﻣﻦ ﺛﻢ ﺗﻈﻬﺮ ﻓﻜﺮة اﻟﺮﻫﺒﻨﺔ ﻋﻨﺪ اﻹﻧﺎث ﻣﺒﻜﺮة ﻋﻨﺪ ﻛﺜ ٍ
ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﺗﻜﻮن ﻣﺆﻗﺘﺔ وﻟﻴﺴﺖ داﺋﻤﺔ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻋﻨﺪ ﺑﻌﺾ اﻟﻄﻮاﺋﻒ املﺴﻴﺤﻴﺔ .وﰲ
اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ،ﺗﻌﺘﻘﺪ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺸﻌﻮب اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ أن املﺮأة ﺗﺤﻤﻞ ﻃﺎﻗﺎت ﺧﻔﻴﺔ ،ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﺧﻄﺮة
وذات ﻧﺘﺎﺋﺞ ﺳﻴﺌﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻘﻮى اﻟﺮوﺣﻴﺔ ﻟﻠﺮﺟﺎل اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻌﻤﻠﻮن ﰲ ﻗﻄﺎع اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺒﺪاﺋﻲ،
وﻣﻦ ﺛﻢ ﻧﺠﺪ اﻟﻜﺜريﻳﻦ ﻣﻦ ﻫﺆﻻء ﻳﻤﻴﻠﻮن إﱃ اﻟﺮﻫﺒﻨﺔ اﻟﺪاﺋﻤﺔ ،ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﻫﺬا ﻫﻮ ﺟﺬور
اﻟﺮﻫﺒﻨﺔ ﰲ اﻟﺪﻳﺎﻧﺎت اﻟﻌﻠﻴﺎ.
وﻓﻴﻤﺎ ﺑني ﻣﻤﺎرﺳﺎت املﻌﺎﴍة اﻟﺤﺮة ﻗﺒﻞ اﻟﺰواج وﺑني أﻓﻜﺎر اﻟﺮﻫﺒﻨﺔ ،ﻧﺠﺪ درﺟﺎت
ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﻼﻗﺎت ﺑني اﻟﺠﻨﺴني ﻋﻨﺪ اﻟﺤﻀﺎرات واملﺠﺘﻤﻌﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ .وﻋﲆ وﺟﻪ
اﻟﺘﻌﻤﻴﻢ ،ﻓﺈن ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺘﻄﻠﺐ اﻟﻌﻔﺔ ﻋﻨﺪ املﺮأة ﻗﺒﻞ اﻟﺰواج ،وﺗﻠﺢ
ﻋﲆ أﻫﻤﻴﺔ اﻟﻌﻔﺔ ﻛﺜريًا ،ﺑﻴﻨﻤﺎ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﺗﺘﺨﺬ ﻣﻮاﻗﻒ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ أﻗﻞ ﺗﺸﺪدًا ﻣﻦ
ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﻠﻴﺎ.
451
اﻹﻧﺴﺎن
ﻧﻼﺣﻆ ﰲ ﻛﻞ املﺠﺘﻤﻌﺎت أﻧﻮاﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻟﺘﺤﺮﻳﻢ ﻋﲆ اﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ ﺑني أﻓﺮاد ﻣﻌﻴﻨني ،وﰲ
أﻧﻮاع
ٍ اﻟﻐﺎﻟﺐ ﻳﻨﻄﺒﻖ ﻫﺬا اﻟﺘﺤﺮﻳﻢ ﻋﲆ ﻛﻞ ﻣﻦ ﺗﺮﺑﻄﻬﻢ اﻟﺤﻀﺎرة ﺑﻌﻀﻬﻢ ﺑﺒﻌﺾ ﺑﻨﻮع أو
ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﺮاﺑﺔ .وﺑﺮﻏﻢ وﺟﻮد ﻧﻈﺎم املﺤﺎرم ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺨﺘﻠﻔﺔ ،إﻻ أن ﻫﺬا
اﻟﻨﻈﺎم ﻟﻴﺲ ﻏﺮﻳﺰﻳٍّﺎ ﻛﻤﺎ ادﻋﻰ ﺑﻌﺾ اﻟﻜﺘﺎب ،إﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺣﻀﺎري ﺑﺤﺖ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﺘﻘﻨﻴﻨﺎت
املﺠﺘﻤﻊ ﻓﻘﻂ .وﻣﻦ ﺛﻢ ﺗﻮﺟﺪ ﻧﺼﻮص ﰲ ﻛﻞ اﻟﺤﻀﺎرات ﺗﺤﺪد املﺤﺎرم ،وﻟﻮ ﻛﺎن اﻷﻣﺮ
ﴏاﺣﺔ .ﻛﺬﻟﻚ ﻧﺠﺪ أن ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺴﻤﺢ ً ﻏﺮﻳﺰﻳٍّﺎ ملﺎ دﻋﺎ ذﻟﻚ إﱃ اﻟﻨﺺ ﻋﻠﻴﻪ
ﺑﺰواج اﻹﺧﻮة — ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﺷﺎﺋﻌً ﺎ ﺑني اﻷﴎ املﺎﻟﻜﺔ ﰲ ﻣﴫ اﻟﻔﺮﻋﻮﻧﻴﺔ وﺟﺰر ﻫﺎواي وﰲ
ﺣﻀﺎرة اﻹﻧﻜﺎ .ﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﺴﻤﺎح ﻛﺎن ﻳُﻄﺒﱠﻖ ﻓﻘﻂ ﻋﲆ أﻋﻀﺎء اﻷﴎة اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ،وﻫﻮ ﻧﺎﺟﻢ
ﻋﻦ أﻓﻜﺎر اﻟﻘﺪاﺳﺔ واﻷﺻﻮل اﻹﻟﻬﻴﺔ ﻟﻬﺬه اﻷﴎ املﺎﻟﻜﺔ.
وﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﺘﻮأﻣني أن ﻳﻤﺎرﺳﺎ ﻋﻼﻗﺔ ﺟﻨﺴﻴﺔ ﰲ ﺟﺰﻳﺮة ﺑﺎﱄ
)إﻧﺪوﻧﻴﺴﻴﺎ( ﺑﺎﻋﺘﺒﺎر أﻧﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺎ ﺟﻨﻴﻨًﺎ واﺣﺪًا ،وﻟﻜﻦ ﻻ ﺑﺪ ﻣﻦ ﺣﻔﻠﺔ ﻃﻘﺴﻴﺔ ﻟﻠﺘﻄﻬري إذا
ﺣﺪﺛﺖ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه املﻌﺎﴍة ﺑني اﻟﺘﻮأم وأﺧﺘﻪ ،ﺑﻞ اﻟﺴﻤﺎح ﻟﻬﻤﺎ ﺑﺤﻴﺎة زواﺟﻴﺔ ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ وﺳﻂ
املﺠﺘﻤﻊ ،وذﻟﻚ ﻋﻠﻤً ﺎ ﺑﺄن اﻟﻘﻮاﻧني اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﰲ ﺑﺎﱄ ﺗﻤﻨﻊ زواج اﻹﺧﻮة ﻣﻨﻌً ﺎ ﺑﺎﺗٍّﺎ .وﺗﺴﻤﺢ
ﻣﻨﺰل
ٍ ﻗﺒﻴﻠﺔ »ﻻﻣﺖ «Lametﰲ اﻟﻬﻨﺪ اﻟﺼﻴﻨﻴﺔ ﺑﺰواج اﻹﺧﻮة إذا ﻛﺎن ﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻗﺪ ﻧﺸﺄ ﰲ
ﻣﺨﺘﻠﻒ؛ أي ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺴﻤﺎح ﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺰواج ﺑﺎﻋﺘﺒﺎر أﻧﻬﻤﺎ ﻣﺨﺘﻠﻔﺎن اﺟﺘﻤﺎﻋﻴٍّﺎ ﺑﺤﻜﻢ
اﻟﻨﺸﺄة املﻨﻔﺼﻠﺔ ،وﻟﻌﻞ ﻫﺬا ﻳﻮﺿﺢ ﻗﻮة اﻷﺑﻮة اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻓﻮق ﻗﻮة اﻷﺑﻮة اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ.
أﻳﻀﺎ إن اﻷﻳﻨﻮ )ﰲ ﺷﻤﺎل اﻟﻴﺎﺑﺎن( ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺴﻤﺤﻮن ﺑﺰواج اﻹﺧﻮة ،وﰲ ﻣﻘﺎﺑﻞ ذﻟﻚ وﻳُﻘﺎل ً
ﻧﺠﺪ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﺗﺤﺪد ﺑﺸﺪة ووﺿﻮح أﻧﻮاع املﺤﺎرم ﰲ ﻋﻼﻗﺎت اﻟﺠﻨﺲ ،وﻳﺒﻠﻎ
اﻹﺳﻼم درﺟﺔ ﻛﺒرية ﰲ اﻟﺘﺤﺮﻳﻢ ﻟﻴﺸﻤﻞ أﺧﻮة اﻟﺮﺿﺎﻋﺔ ً
أﻳﻀﺎ.
وﻏﺎﻟﺒﻴﺔ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﺗﺤﺮم املﻌﺎﴍة واﻟﺰواج ﺑني أﻋﻀﺎء اﻷﴎة اﻟﻮاﺣﺪة وﻋﺪد ﻣﻦ
اﻷﻗﺎرب ﻛﺎﻟﻌﻢ واﻟﺨﺎل واﻟﻌﻤﺔ واﻟﺨﺎﻟﺔ ،وﻟﻜﻦ إذا اﻧﻄﺒﻖ ﻫﺬا ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﲆ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺘﻲ
ﺗﻤﺎرس اﻟﻨﻈﺎم اﻟﻮﺻﻔﻲ ﰲ اﻟﻘﺮاﺑﺔ )ﻣﺜﻞ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﻠﻴﺎ املﻌﺎﴏة( ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ
ﻫﺬه اﻟﻘﻮاﻋﺪ ﺗﺨﺘﻠﻒ وﺗﺘﺴﻊ ﻛﺜريًا ﻋﻨﺪ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت ﻧﻈﺎم اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﺘﺼﻨﻴﻔﻲ أو اﻟﻄﺒﻘﻲ
)ﻃﺒﻘﺔ اﻵﺑﺎء – ﻃﺒﻘﺔ اﻷﺑﻨﺎء – ﻃﺒﻘﺔ اﻷﺟﺪاد … إﻟﺦ(؛ وﻟﻬﺬا ﻓﺈن ﻛﻠﻤﺔ أﺧﺖ أو أم ﺗﺨﺘﻠﻒ
ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﻮﺻﻔﻴﺔ واﻟﻄﺒﻘﻴﺔ .ﻓﻔﻲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﺗﺼﺒﺢ ﻓﻴﻪ اﻷﺧﺖ
»اﻟﻮﺻﻔﻴﺔ« ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻣﺤﺪدة ،ﻧﺠﺪ اﻷﺧﺖ »اﻟﻄﺒﻘﻴﺔ« ﺗﻨﻄﺒﻖ ﻋﲆ ﻋﺪد ﻛﺒري ،وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ
ﻳﺸﻤﻞ اﻟﺘﺤﺮﻳﻢ ﻋﺪدًا ﻛﺒريًا ﻣﻦ اﻟﺒﻨﺎت .وﻧﻈ ًﺮا ﻟﻬﺬا اﻟﺸﻤﻮل ﰲ اﻟﺘﺤﺮﻳﻢ ،ﻧﺮى ﺑﻌﺾ
452
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
املﺠﺘﻤﻌﺎت ﺗﻠﺠﺄ إﱃ ﺗﻨﻈﻴﻢ ﻗﺮاﺑﻲ ﻃﺒﻘﻲ أﻛﺜﺮ ﺗﺤﺪدًا ،ﻳﺤﺮم ﺑﻤﻘﺘﻀﺎه اﻟﺰواج ﺑني أﺑﻨﺎء
اﻟﻌﻢ واﻟﺨﺎﻟﺔ )اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ أو املﺘﻮازﻧﺔ (Parallel-cousinﺑﺎﻋﺘﺒﺎر أن اﻟﻌﻢ واﻟﺨﺎﻟﺔ
ﻣﻦ ﻧﻔﺲ ﺟﻨﺲ اﻷب واﻷم ﻋﲆ اﻟﺘﻮاﱄ ،وﺑﻬﺬا ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺰواج ﻣﻦ ﺑﻨﺖ اﻟﺨﺎل وﺑﻨﺖ اﻟﻌﻤﺔ
)اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﺠﺰﺋﻴﺔ أو املﺘﻘﺎﻃﻌﺔ (Cross-cousinﺑﺎﻋﺘﺒﺎر أﻧﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﺟﻨﺴني ﻣﺨﺎﻟﻔني
ﻟﺠﻨﺲ اﻷم واﻷب ﻋﲆ اﻟﺘﻮاﱄ ،وﰲ ﻣﻘﺎﺑﻞ ذﻟﻚ ﻧﺠﺪ ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﺗﺤﺒﺬ زواج ﺑﻨﺖ
اﻟﻌﻢ ،ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻋﻨﺪ اﻟﻌﺮب.
وﺗﻮﺿﺢ ﻫﺬه اﻷﻣﺜﻠﺔ اﻟﻘﻠﻴﻠﺔ وﺟﻮد ﻧﻈﻢ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻠﻤﺤﺎرم ﻋﻨﺪ اﻟﺤﻀﺎرات املﺨﺘﻠﻔﺔ،
ﻟﻜﻦ اﺧﺘﻼﻓﻬﺎ ﻋﻨﺪ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻳﺆﻛﺪ ﻣﺮة أﺧﺮى أﻧﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻧﻈﺎﻣً ﺎ ﻏﺮﻳﺰﻳٍّﺎ ﻛﻤﺎ ﻗﺎل روﺑﺮت
ﻟﻮي وﻏريه ،ﺑﻞ ﻧﻈﺎم ﺣﻀﺎري ﺑﺤﺖ؛ ﻓﻤﺎ ﺗﺤﺮﻣﻪ ﺣﻀﺎرة ﺗﺴﻤﺢ ﺑﻪ ﺣﻀﺎرة أﺧﺮى .وﻟﻘﺪ
ﺣﺎول اﻟﻜﺜريون ﻣﻦ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني أن ﻳﻔﴪوا ﻇﺎﻫﺮة املﺤﺎرم ﻋﲆ أﺳﺲ ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺑﺤﺘﺔ؛
ﻓﻘﺪ ذﻛﺮ ﻟﻮﻳﺲ ﻣﻮرﺟﺎن ووﺳﱰ ﻣﺎرك أن اﻟﺴﺒﺐ راﺟﻊ إﱃ ﺿﻌﻒ اﻟﻨﺴﻞ ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ
اﻟﱰﺑﻴﺔ واﻟﻨﺸﺄة املﺸﱰﻛﺔ ،وﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻟﻢ ﻳﺜﺒﺖ ﺑﻌ ُﺪ أن ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺰواج ﻳﺆدي
إﱃ ﺿﻌﻒ اﻟﻨﺴﻞ إﻻ ﰲ اﻷﺣﻮال املﺮﺿﻴﺔ .ﻓﺈذا اﻓﱰﺿﻨﺎ أن ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ ﻣﻠﻮك ﻣﴫ اﻟﻔﺮﻋﻮﻧﻴﺔ
واﻟﺒﻄﻠﻤﻴﺔ ﻛﺎﻧﻮا ﻧﺴﻞ زواج اﻹﺧﻮة ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻟﻢ ﻧ َ َﺮ أي ﺿﻌﻒ ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻲ أو ذﻫﻨﻲ ﻋﻨﺪ ﻫﺆﻻء
املﻠﻮك3 .
3ﻫﻨﺎك ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺸﻜﻮك ﺣﻮل زواج اﻹﺧﻮة ﻋﻨﺪ ﻣﻠﻮك ﻣﴫ اﻟﻔﺮﻋﻮﻧﻴﺔ ،وﻳﺮى ﺑﻌﺾ اﻟﺒﺎﺣﺜني أن
اﻟﺰواج ﻛﺎن ﻳﺘﻢ ﻓﻘﻂ ﺑني اﻹﺧﻮة ﻏري اﻷﺷﻘﺎء وﻟﻴﺲ ﺑني اﻹﺧﻮة اﻷﺷﻘﺎء.
453
اﻹﻧﺴﺎن
ﻫﺬا ﻫﻮ أﻛﺜﺮ أﻧﻤﺎط اﻟﺰواج ﺷﻴﻮﻋً ﺎ؛ ﻓﻘﺪ ﺗﺮﺗﺐ ﻋﲆ وﺟﻮد ﻧﻈﺎم املﺤﺎرم وﻧﻈﺎم اﻟﻘﺮاﺑﺔ
اﻟﻄﺒﺎﻗﻴﺔ أن ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ املﺠﺘﻤﻌﺎت ذات اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻟﻌﺸﺎﺋﺮي Clanوﻣﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻨﺴﺐ Lineage
)ﻣﻬﻤﺎ اﺧﺘﻠﻒ ﺣﺠﻤﻬﺎ( ﺗﻤﺎرس ﻧﻈﺎم اﻻﻏﱰاب ﰲ اﻟﺰواج؛ أي إن اﻷﻓﺮاد ﻻ ﻳﺘﺰوﺟﻮن ﻣﻦ
داﺧﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺘﻬﻢ ،ﺑﻞ ﻳﺒﺤﺜﻮن ﻋﻦ زوﺟﺔ ﺧﺎرج ﻫﺬه املﺠﻤﻮﻋﺔ .وﻋﻨﺪ ﻫﺬه املﺠﺘﻤﻌﺎت
ﻧﺠﺪ — ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻻﺳﺘﻤﺮار اﻟﺰواج اﻻﻏﱰاﺑﻲ — ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻣﺤﻠﻴﺔ أو ﻗﺮاﺑﻴﺔ ﺗﺘﺒﺎدل اﻟﺰوﺟﺎت
ﻄﺎ :أن ﺗﻌﻄﻲ املﺠﻤﻮﻋﺔ »أ« زوﺟﺎت املﺠﻤﻮﻋﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﺑﺤﻴﺚ ﻳﻜﺎد أن ﻳﺼﺒﺢ ذﻟﻚ ﻧﻤ ً
»ب« وﺑﺎﻟﻌﻜﺲ .وﻧﻈ ًﺮا ﻟﺬﻟﻚ اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻻﺳﺘﻤﺮارﻳﺔ رأى اﻷﺳﺘﺎذ ﻛﻠﻮد ﻟﻴﻔﻲ ﺳﱰوس أن
ﻣﻜﻤﻼ ﻟﻌﻤﻠﻴﺎت اﻟﺘﺒﺎدل املﺴﺘﻤﺮة ﻟﻠﺴﻠﻊ ﺑني ﻣﺠﻤﻮﻋﺘني أو ﻗﺒﻴﻠﺘني4 ،ً ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم ﻗﺪ ﻧﺸﺄ
ً
وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺮى أن اﻟﺰوﺟﺎت أﻳﻀﺎ ﻛﺎﻧﺖ إﺣﺪى ﺳﻠﻊ اﻟﺘﺒﺎدل ﺑني اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ.
ﻣﻮﺿﻮع
ٍ وﻗﺪ اﻧﺘﻘﺪ ﻫﺬا اﻟﺮأي ﻋﲆ أﻧﻪ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻣﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ ﺑﺴﻴﻄﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻨﻄﺒﻖ ﻋﲆ
ﻫﺎم ﻣﻦ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﺤﻴﺎة ﻣﺜﻞ اﺧﺘﻴﺎر اﻟﺰوﺟﺔ ،ﻛﻤﺎ أن ﺳﻌﻲ ﺳﱰوس املﺴﺘﻤﺮ ﻟﻠﺘﻨﻈري
اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ وﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ أﻧﻤﺎط ﻋﺎملﻴﺔ ﺗﻌﺮﺿﻪ داﺋﻤً ﺎ ﻟﻠﻨﻘﺪ5 .
أوﻻ ﻳﺴﺎﻋﺪ املﺠﺘﻤﻊ ﻋﲆ ﺗﺠﻨﺐ اﻟﻮﻗﻮع وﻟﻠﺰواج اﻻﻏﱰاﺑﻲ ﻋﺪة ﻣﻤﻴﺰات ﻫﺎﻣﺔ ،ﻓﻬﻮ ً
ﰲ زواج املﺤﺎرم ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻳﺆدي إﱃ ﺗﻮﺳﻴﻊ اﻟﺮواﺑﻂ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺑني أﻗﺴﺎم املﺠﺘﻤﻊ اﻟﻜﺒري،
وﻳﺆدي إﱃ ﺗﻘﻮﻳﺔ اﻟﻮﺣﺪات اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺳﻴﺎﺳﻴٍّﺎ واﻗﺘﺼﺎدﻳٍّﺎ وﻋﺴﻜﺮﻳٍّﺎ .وﺗﺴﺎﻋﺪ ﺣﺎﻻت
اﻟﺰواج اﻻﻏﱰاﺑﻲ ﻣﻦ ﺧﺎرج اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ أو ﻣﻦ ﺧﺎرج املﻜﺎن اﻟﺠﻐﺮاﰲ املﺤﺪد ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ ﻋﲆ
اﻻﻧﺘﺸﺎر اﻟﺤﻀﺎري ﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ.
454
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
وﻗﺪ ﻗﺎم اﻷﺳﺘﺎذ ﻣﺮدوك ﺑﺪراﺳﺔ ١٧٥ﻣﺠﺘﻤﻌً ﺎ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺴﺐ
ﺟﺎﻧﺐ واﺣﺪ ﻣﻦ اﻟﻮاﻟﺪﻳﻦ ) Unilinealﻧﺴﺐ أﺑﻮي أو أﻣﻮي( ﻣﻦ أﺟﻞ ﺗﺤﺮي ٍ اﻟﻨﺴﺐ ﰲ
اﻟﺰواج اﻻﻏﱰاﺑﻲ إﺣﺼﺎﺋﻴٍّﺎ .وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﻛﻤﺎ ﻳﻠﺨﺼﻬﺎ اﻟﺠﺪول اﻟﺘﺎﱄ6 :
.Murdock, G. P., “Social Structure” Macmillan Free Press, New York, 1966, p. 49 6
455
اﻹﻧﺴﺎن
ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺰواج ﻫﻮ ﻋﻜﺲ اﻻﻏﱰاب؛ ﺑﻤﻌﻨﻰ أن اﻟﺰواج ﻳﺘﻢ داﺧﻞ املﺠﻤﻮﻋﺔ وﻟﻴﺲ
ﻄﺎ ﻟﻨﻈﺎمﺧﺎرﺟﻬﺎ .وﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل ،ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت ﺗﺘﺨﺬ اﻹﺿﻮاء واﻻﻏﱰاب ﻣﻌً ﺎ ﻧﻤ ً
اﻟﺰواج ،إﻻ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ اﻧﺘﻘﺎل ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻹﺿﻮاء إﱃ اﻟﻨﻈﺎم اﻻﻏﱰاﺑﻲ .وﺗﺘﻀﺢ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ
ﻋﻨﺪ ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ املﻌﺎﴏة؛ ﺣﻴﺚ ﻳﻤﺎرس املﺜﻘﻔﻮن وأﺑﻨﺎء اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﻌﻠﻴﺎ
ﻧﻈﺎم اﻻﻏﱰاب ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺘﺒﻊ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻟﺴﻜﺎن ﻧﻈﺎم اﻹﺿﻮاء ﻛﻘﺎﻟﺐ زواﺟﻲ ﻣﻔﻀﻞ .وﻻ ﻳﺠﺐ
أن ﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا أن اﻻﻏﱰاب أﻓﻀﻞ ﻣﻦ اﻹﺿﻮاء أو ﻳﻤﺜﻞ ﻣﺮﺣﻠﺔ أﻋﲆ ،ﺑﻞ إن اﻹﺿﻮاء ﻗﺪ ﻧﺸﺄ
ﰲ ﻇﻞ ﻇﺮوف ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺪﻋﻮ إﱃ ﺗﻤﺎﺳﻚ أﻋﻀﺎء املﺠﺘﻤﻊ ﺗﻤﺎﺳ ًﻜﺎ ﺷﺪﻳﺪًا ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﺤﺎل
ﻋﻨﺪ اﻟﻌﺸﺎﺋﺮ واﻟﺒﻄﻮن اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺤﻔﺎظ ﻋﲆ ﻛﻴﻨﻮﻧﺔ اﻟﻌﺸرية أو اﻷﻗﺴﺎم اﻷدﻧﻰ
ﻣﻨﻬﺎ ﰲ ﺗﺤﺮﻛﺎﺗﻬﺎ اﻟﺮﻋﻮﻳﺔ املﺴﺘﻤﺮة وﰲ ﻧﺰاﻋﺎﺗﻬﺎ اﻟﺪاﺋﻤﺔ وﺣﺮوﺑﻬﺎ اﻟﻜﺜرية ﻋﲆ املﺮﻋﻰ
وﻣﺼﺎدر املﺎء.
وﻟﺴﻨﺎ ﻧﺮﻳﺪ أن ﻧﻐﺎﱄ ﻛﺜريًا ﰲ ﺗﻮﺿﻴﺢ أﺛﺮ اﻟﻨﺸﺎط اﻻﻗﺘﺼﺎدي ﻋﲆ ﺗﻘﺴﻴﻢ املﺠﺘﻤﻊ
اﻟﺒﺪوي اﻟﻌﺮﺑﻲ ،وﻟﻜﻦ واﻗﻊ اﻷﻣﺮ أن ﻇﺮوف اﻟﺠﻔﺎف وﻗﻠﺔ ﻣﺼﺎدر املﺎء واملﺮﻋﻰ ﻗﺪ
ﻄﺎ ﺑﺘﺠﻤﻊ ﺻﻐري؛ ﻟﻜﻲ ﻳﺴﻬﻞ اﻟﺘﺤﺮك، أدت إﱃ أن ﻳﺼﺒﺢ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻷﺳﺎﳼ اﻟﺒﺪوي ﻣﺮﺗﺒ ً
وﻟﺘﺠﻨﺐ ﺗﻌﻘﻴﺪات اﻟﻘﻴﺎدة ملﺠﺘﻤﻊ ﻣﺘﺤﺮك ﻛﺒري اﻟﻌﺪد ﰲ ﺑﻴﺌﺔ ﻓﻘرية .وﻟﻬﺬا ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ
اﻟﻮﺣﺪات اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﺒﺪو ﻻ ﺗﺰﻳﺪ ﻋﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻧﺴﺐ ﻣﺒﺎﴍة ﻻ ﺗﺘﻌﺪى ﰲ ﻋﻤﻘﻬﺎ ﺛﻼﺛﺔ
456
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
7 .Lineage أو أرﺑﻌﺔ أﺟﻴﺎل ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﺴﻤﻴﻬﺎ »ﻋﺸرية« ،أو »آل« ،أو »ﺑﻨﻲ« ،أو »ﺑﺪﻧﺔ«
وﺗﻨﻘﺴﻢ اﻟﺒﺪﻧﺎت ﺑﴪﻋﺔ ﻛﻠﻤﺎ زاد ﻋﻤﺮﻫﺎ وﻛﺜﺮ ﻋﺪدﻫﺎ؛ وﻟﻬﺬا ﻓﺈن زواج »ﺑﻨﺖ اﻟﻌﻢ« ﻛﺎن
ﻄﺎ ﴐورﻳٍّﺎ ملﺰﻳﺪ ﻣﻦ وﺣﺪة املﺠﺘﻤﻊ اﻷﺳﺎﳼ وﺗﻤﺎﺳﻜﻪ. ﻧﻤ ً
وﻗﺪ ﻟُﻮﺣِ ﻆ أن اﻟﱰاﺧﻲ ﻳﻨﺘﺎب ﻧﻈﺎم اﻹﺿﻮاء اﻟﻌﺮﺑﻲ ﺑﻌﺪ أن ﻳﺴﺘﻘﺮ اﻟﺒﺪو ،وﻗﺪ ﻳﺤﻞ
ﻣﺤﻠﻪ أو ﻳﻜﻤﻠﻪ اﺗﺨﺎذ زوﺟﺎت ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت أﺧﺮى ﻣﺴﺘﻘﺮة ﰲ املﻜﺎن أو اﻟﺠﻮار —
أﻳﻀﺎ ﻹﻳﺠﺎد ﺗﺮاﺑﻂ ﺳﻴﺎﳼ ملﺠﻤﻮﻋﺔ املﻜﺎن املﺴﺘﻘﺮة .وﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪ ﻧﻈﺎم ﺗﻌﺪد اﻟﺰوﺟﺎت ﻋﲆ ً
إﻣﻜﺎن ﻣﻤﺎرﺳﺔ اﻹﺿﻮاء واﻻﻏﱰاب ﻣﻌً ﺎ ﺣﺴﺐ اﻟﻈﺮوف اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﻟﺴﺎﺋﺪة ،واﻷوﺿﺎع
اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ املﺮﻏﻮﺑﺔ ﰲ ﺣﻴﻨﻬﺎ .وﻗﺪ ﺣﺪث ذﻟﻚ ﻛﺜريًا ﺣﻴﻨﻤﺎ اﻧﺘﴩ اﻟﻌﺮب ﻣﻊ
اﻹﺳﻼم ﰲ رﺑﻮع اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﻣﻦ اﻟﱰﻛﺴﺘﺎن إﱃ زﻧﺠﺒﺎر وﻣﻦ ﺳﻮﻣﻄﺮه إﱃ اﻟﺴﻨﻐﺎل.
وﻣﺮة أﺧﺮى ،ﻳﺆﻛﺪ ﻧﻈﺎم زواج »ﺑﻨﺖ اﻟﻌﻢ« أن ﻓﻜﺮة املﺤﺎرم ﻟﻴﺴﺖ ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ وﻻ ﻏﺮﻳﺰﻳﺔ،
ﻛﻤﺎ أﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﻈﻬﺮ ﺗﺠﻨﺒًﺎ ﻟﻠﺰواج ﻣﻦ ﺷﺎب وﻓﺘﺎة ﻳﻨﺸﺂن ﻣﻌً ﺎ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻓﻜﺮة ﻗﺎﺋﻤﺔ ﻋﲆ ﻣﺎ
ﺗﻨﺺ ﻋﻠﻴﻪ ﺣﻀﺎرة املﺠﺘﻤﻊ ﻓﻘﻂ.
وﻻ ﻳﻤﺜﻞ اﻟﺒﺪو ﻧﻈﺎم اﻹﺿﻮاء وﺣﺪﻫﻢ ،وإن ﻛﺎﻧﻮا أﺷﻬﺮ ﻣﻦ ﻣﺎرﺳﻮا ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم
اﻟﺰواﺟﻲ ﻏري اﻻﻏﱰاﺑﻲ .ﻓﻬﻨﺎك ﻋﺪد ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﺗﻤﺎرس ﻧﻈﺎﻣً ﺎ ﻟﻠﺰواج اﻟﺪاﺧﲇ اﻟﻌﺎم؛
أي داﺧﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ أو اﻟﺴﻼﻟﻴﺔ أو اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ أو اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ .ﻓﻔﻲ املﺠﺘﻤﻊ اﻟﻜﺒري
املﺘﻌﺪد اﻟﻠﻐﺔ أو اﻟﺪﻳﻦ أو اﻟﺴﻼﻟﺔ ﻧﺠﺪ ﺗﺰاوﺟً ﺎ داﺧﻠﻴٍّﺎ ﺿﻤﻦ املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻄﺎﺋﻔﻴﺔ ،ﺳﻮاء
ﻣﺜﻼ ﻋﻨﺪ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت ﻏﺮب أوﻏﻨﺪا وﴍق اﻟﻜﻨﻐﻮ ﻛﺎن ذﻟﻚ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻌﻠﻴﺎ أو اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔً .
ﻧﺠﺪ اﻟﻮاﺗﻮﺗﴘ )اﻟﺮﻋﺎة( واﻟﺒﺎﻫﻮﺗﻮ أو اﻟﺒﺎﺋريو )اﻟﺰراع( واﻟﺒﺎﺗﻮا )اﻟﺠﻤﺎع واﻟﺼﻴﺎدون(،
وﻟﻜﻞ ﻣﻦ ﻫﺬه املﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻄﺎﺋﻔﻴﺔ ﺻﻔﺎﺗﻬﺎ اﻟﺴﻼﻟﻴﺔ واﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ :اﻟﻮاﺗﻮﺗﴘ
ﻣﻦ أﺻﻞ ﺳﻼﻟﺔ ﻛﻮﺷﻴﺔ )ﺣﺎﻣﻴﺔ( وﻳﻜﻮﻧﻮن اﻷرﺳﺘﻘﺮاﻃﻴﺔ اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ،واﻟﺒﺎﻫﻮﺗﻮ ﻣﻦ أﺻﻞ
زﻧﻮج اﻟﺒﺎﻧﺘﻮ وﻳﻜﻮﻧﻮن ﻣﻊ اﻟﺒﺎﺗﻮا اﻷﻗﺰام ﻃﺒﻘﺔ املﺤﻜﻮﻣني؛ وﻟﻬﺬا ﻧﺠﺪ أن ﻧﻤﻂ اﻟﺰواج
7ﺑﺮﻏﻢ أن اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﺗﺠﻤﻌﺎت ﻛﺒرية ﺗﻨﻘﺴﻢ إﱃ ﺑﻄﻮن وأﻓﺨﺎذ وﻋﺸﺎﺋﺮ وﺑﺪﻧﺎت ،إﻻ أن
ﺗﺮﻛﻴﺒﻬﺎ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻧﻈﺮي ودور اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ اﻟﺴﻴﺎﳼ واﻻﻗﺘﺼﺎدي ﻟﻢ ﻳﻈﻬﺮ إﻻ ﻓﻴﻤﺎ ﻧﺪر .وﻳﺆﻛﺪ ذﻟﻚ أن ﻣﻔﻬﻮم
اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ واﻟﻌﺸرية ﻣﺘﺪاﺧﻞ وﻏري ﻣﺤﺪد ،وأن ﻣﺼﻄﻠﺢ »ﺑﻨﻲ« أﻛﺜﺮ وﺿﻮﺣً ﺎ وﺗﺤﺪدًا وﻳﻌﻄﻴﻨﺎ ﻋﲆ اﻟﻔﻮر
أﻫﻤﻴﺔ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻨﺴﺐ ﰲ اﻟﺘﻜﻮﻳﻦ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ اﻟﺒﺪوي اﻟﻌﺮﺑﻲ.
457
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﺴﺎﺋﺪ ﰲ ﻫﺬا املﺠﺘﻤﻊ املﺮﻛﺐ ﻫﻮ اﻟﺰواج اﻟﺪاﺧﲇ ﰲ ﻛﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻋﲆ ﺣﺪة .وﻗﺪ ﻧﺠﺪ ﻓﺮدًا
ﻣﻦ ﻓﻘﺮاء اﻟﻮاﺗﻮﺗﴘ ﻳﺘﺰوج اﻣﺮأة ﻣﻦ اﻟﺒﺎﻫﻮﺗﻮ ،ﻟﻜﻨﻨﺎ ﻻ ﻧﺠﺪ ﺗﺰواﺟً ﺎ ﻣﺸﱰ ًﻛﺎ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق
ﺑني اﻟﻮاﺗﻮﺗﴘ أو اﻟﺒﺎﻫﻮﺗﻮ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ وﺑني اﻟﺒﺎﺗﻮا ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﺛﺎﻧﻴﺔ .وﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻌﻠﻴﺎ
املﻌﺎﴏة ﻧﺠﺪ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻟﺰﻳﺠﺎت داﺧﻞ اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﻟﻮاﺣﺪة.
أﻳﻀﺎ ﺗﺰواﺟً ﺎ داﺧﻠﻴٍّﺎ ﰲ ﻛﻞ ﻃﺒﻘﺔ ﻋﲆ ﺣﺪة .وﺑﺮﻏﻢ وﰲ املﺠﺘﻤﻊ اﻟﻄﺒﺎﻗﻲ اﻟﻬﻨﺪي ﻧﺠﺪ ً
اﻟﺪﺳﺘﻮر اﻟﻬﻨﺪي اﻟﺤﺪﻳﺚ إﻻ أن ﻓﻜﺮة اﻟﺰواج ﻋﱪ اﻟﻄﺒﻘﺎت ﻻ ﺗﺰال ﻏري ﻣﻘﺒﻮﻟﺔ ﺑني اﻟﻐﺎﻟﺒﻴﺔ
أﻳﻀﺎ ﻳﺤﺪث ﻋﻨﺪ أﺻﺤﺎب ﺑﻌﺾ املﻬﻦ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺴﺎﺣﻘﺔ ﻣﻦ اﻟﻬﻨﻮد ،وﻣﺜﻞ ذﻟﻚ ً
اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ أو اﻟﺰراﻋﻴﺔ .وﻣﻦ أﺷﻬﺮ املﺠﻤﻮﻋﺎت املﺘﺰاوﺟﺔ داﺧﻠﻴٍّﺎ ﻃﺒﻘﺔ اﻟﺤﺪادﻳﻦ ،وأﺣﻴﺎﻧًﺎ
أﻳﻀﺎ .ﻟﻜﻦ أﺷﻬﺮ اﻷﻣﺜﻠﺔ ﻋﲆ اﻟﺘﺰاوج اﻟﺪاﺧﲇ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ واﺳﻌﺔ اﻻﻧﺘﺸﺎر ﰲ اﻟﻔﺨﺎرﻳﻦ ً
آﺳﻴﺎ وأﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وأوروﺑﺎ ﻫﻲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻐﺠﺮ )أو اﻟﻨﱠﻮَر( .Gypsy
وﻋﲆ ﻫﺬا ،ﻓﺈن اﻹﺿﻮاء أو اﻟﺰواج اﻟﺪاﺧﲇ ﻳﺘﺨﺬ ﻃﺎﺑﻌني؛ أوﻟﻬﻤﺎ ﺷﺪﻳﺪ اﻟﺘﺤﺪﻳﺪ
ﺑﻤﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻘﺮاﺑﺔ املﺒﺎﴍة ،ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﰲ ﻧﻈﺎم زواج ﺑﻨﺖ اﻟﻌﻢ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﺴﻤﻴﻪ
اﻹﺿﻮاء ،وﺛﺎﻧﻴﻬﻤﺎ ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻟﺘﻜﻮﻳﻦ املﺮﻛﺐ ﻣﻦ ﻓﺌﺎت أو ﻃﻮاﺋﻒ أو ﻃﺒﻘﺎت داﺧﻞ املﺠﺘﻤﻊ،
وﻫﻮ ﰲ ﻣﺪﻟﻮﻟﻪ أوﺳﻊ ﻣﺪى ﻣﻦ اﻹﺿﻮاء ﺑﺤﻴﺚ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن زواﺟً ﺎ اﻏﱰاﺑﻴٍّﺎ داﺧﻞ اﻟﻔﺌﺔ أو
اﻟﻄﺒﻘﺔ ،ﻟﻜﻨﻪ داﺧﲇ ﺿﻤﻦ إﻃﺎرﻫﺎ وﻻ ﻳﺘﻌﺪى ﺣﺪود ﻫﺬه اﻟﻔﺌﺔ.
ﻫﻨﺎك أﻧﻮاع ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﺰواج اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪدﻫﺎ املﺠﺘﻤﻌﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﻋﲆ رأﺳﻬﺎ زواج اﻷﻗﺎرب
وزواج اﻟﻮراﺛﺔ ،وﻣﺠﻤﻮﻋﺔ أﺧﺮى ﻣﻦ ﻗﻮاﻟﺐ اﻟﺰواج :اﻟﺨﻄﻒ ،واﻟﺘﺒﻨﻲ ،واﻟﻬﺮب ،واﻟﺨﺪﻣﺔ
… إﻟﺦ.
ﻳﺮﺗﺒﻂ ﻫﺬا اﻟﻘﺎﻟﺐ ﺑﺎﻟﺰواج ﺑني أﺑﻨﺎء اﻟﻌﻤﻮﻣﺔ أو اﻟﺨﺌﻮﻟﺔ ،وﻧﺎد ًرا ﻣﺎ ﻧﺠﺪ ﻣﺠﺘﻤﻌً ﺎ ﻳﻤﺎرس
اﻟﻨﻮﻋني ﻣﻌً ﺎ ،ﺑﻞ ﻳﺘﺨﺬ ﻣﻦ أﺣﺪﻫﻤﺎ ﻗﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺮﻋﻴٍّﺎ :زواج أﺑﻨﺎء اﻟﻌﻤﻮﻣﺔ أو اﻟﺨﺌﻮﻟﺔ ﺣﺴﺐ
ﻧﻮع املﺠﺘﻤﻌﺎت أﺣﺎدﻳﺔ اﻟﻨﺴﺐ )اﻟﺘﻲ ﺗﺴﻠﺴﻞ اﻟﻘﺮاﺑﺔ ﰲ ﺟﺎﻧﺐ واﺣﺪ :اﻷب أو اﻷم(؛ وﻟﻬﺬا
458
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
وﻳُﻼﺣَ ﻆ أن اﻟﻨﻮﻋني اﻷول واﻟﺜﺎﻧﻲ ﻳﻤﺜﻼن زواﺟً ﺎ إﺿﻮاﺋﻴٍّﺎ ،واﻟﺜﺎﻟﺚ واﻟﺮاﺑﻊ زواﺟً ﺎ
اﻏﱰاﺑﻴٍّﺎ .ﻛﻤﺎ ﻳُﻼﺣَ ﻆ أن زواج ﺑﻨﺖ اﻟﻌﻢ واﻟﺨﺎﻟﺔ ﻣﺤﺪود ﺑﻤﺠﺘﻤﻌﺎت ﻣﻌﻴﻨﺔ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻣﻌﻈﻢ
اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﺗﻤﺎرس اﻟﻨﻮﻋني اﻟﺜﺎﻟﺚ واﻟﺮاﺑﻊ ،وذﻟﻚ اﻧﺴﺠﺎﻣً ﺎ ﻣﻊ ﻣﺎ ذﻛﺮﻧﺎه ﻣﻦ
ﺷﻴﻮع اﻟﺰواج اﻻﻏﱰاﺑﻲ .وﰲ اﻟﺤﺎﻟﺘني اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ واﻟﺮاﺑﻌﺔ ﻳﺠﺐ أن ﻧﻼﺣﻆ ً
أﻳﻀﺎ أن أﺑﻨﺎء اﻟﻌﻤﺔ
واﻟﺨﺎل ﻻ ﻳﺼﺒﺤﻮن أﻗﺎرب ﺑﺎملﻌﻨﻰ املﻔﻬﻮم ﻋﻨﺪﻧﺎ ،إﻧﻤﺎ ﻫﻢ ﻏﺮﺑﺎء ﺑﺤﻜﻢ ﻧﻮع اﻟﻨﺴﺐ؛
وﻟﻬﺬا ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ ﻫﺬه اﻟﻌﻼﻗﺔ زواج ﺗﻘﺎﻃﻊ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﻌﱪ ﺣﺪود اﻟﻨﺴﺐ.
أﻳﻀﺎ أن ﻧﺘﺄﻛﺪ ﻣﺎ إذا ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﻘﺎﻟﺐ: وﰲ ﻫﺬه اﻷﻧﻮاع ﻣﻦ اﻟﺰواج ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻴﻨﺎ ً
)أ( ﺷﺪﻳﺪ املﺮاﻋﺎة واﻟﺘﻄﺒﻴﻖ .أو )ب( ﻳﻤﺜﻞ ﻧﻮع اﻟﺰواج املﻔﻀﻞ واملﺤﺒﺐ .أو )ﺟ( ﻳﻤﺜﻞ
ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﺴﻤﻮﺣً ﺎ ﺑﻪ ﺑني أﻧﻮاع أﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﺰواج .وﻟﻜﻲ ﻧﻔﻬﻢ ذﻟﻚ ﻳﺠﺐ أن ﻧﺮﺑﻄﻪ ﺑﻨﻈﻢ
اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﺴﺎﺋﺪة وﺷﻜﻞ اﻟﺘﺴﻠﺴﻞ واﻹرث.
وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺮى ﰲ زواج اﻷﻗﺎرب دواﻓﻊ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻳﺘﻐﻠﺐ ﺑﻬﺎ املﺠﺘﻤﻊ ﻋﲆ ﻋﺪد ﻣﻦ
اﻟﻌﻘﺒﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻟﺴﺎﺋﺪة .وﻣﻦ ﺑني ﻫﺬه اﻟﺪواﻓﻊ ﻣﺎ ﻳﲇ:
) (١اﻟﺰواج ﻣﻦ أﺷﺨﺎص ﻣﻌﺮوﻓني ﻣﻨﺬ ﻧﻌﻮﻣﺔ أﻇﻔﺎرﻫﻢ؛ ﻣﻤﺎ ﻗﺪ ﻳﻮﺛﻖ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﺑﺮواﺑﻂ
اﻟﺤﺐ ،وﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ذﻟﻚ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن زواج اﻷﻗﺎرب ﻧﺎﺟﻤً ﺎ ﻋﻦ اﻟﺨﻮف ﻣﻦ اﻻرﺗﺒﺎط اﻟﺰوﺟﻲ
ﺑﺄﺷﺨﺎص ﻣﻦ ﺧﺎرج اﻟﻘﺮاﺑﺔ.
) (٢ﺗﺠﻨﺐ أو ﺗﻘﻠﻴﻞ اﻟﺘﺎﺑﻮ )املﺤﺮم( ﻋﲆ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻟﺰوج واﻟﺰوﺟﺔ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ
واﻟﺤﻤﻮ واﻟﺤﻤﺎة ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى؛ ذﻟﻚ ﻷن اﻟﺤﻤﺎ واﻟﺤﻤﺎة ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻫﻤﺎ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ
ﻋﻢ وﻋﻤﺔ أو ﺧﺎل وﺧﺎﻟﺔ .ﻓﺎﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﻘﺮاﺑﻴﺔ أﺳﺒﻖ ﻣﻦ اﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺠﻢ ﻋﻦ اﻟﺰواج ﺑﻌﺪ
ذﻟﻚ.
) (٣ﺗﺄﻛﻴﺪ ﺑﻘﺎء اﻹرث واملﻠﻜﻴﺔ واﻟﻘﻮة اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ داﺧﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻘﺮاﺑﺔ.
459
اﻹﻧﺴﺎن
) (٤زواج اﻟﺘﻘﺎﻃﻊ )اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﺠﺰﺋﻴﺔ( ﻳﺴﻬﻞ ﻋﲆ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺼﻐرية ﻋﺪم اﻟﻮﻗﻮع ﰲ
زواج املﺤﺎرم.
)(٢ )(١
)أ( )أ(
)ب(
)ب(
)ﺟ(
)(٣
)د( )ﺟ(
460
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
وﻫﻨﺎك ﻣﺤﺎوﻻت ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني ﻟﺘﻔﺴري ﻇﺎﻫﺮة اﻟﺰواج املﺘﻘﺎﻃﻊ ،ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻛﻠﻬﺎ
ﻣﺜﻼ ﺑني ﺑﻌﺾ اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﰲ ﻛﺎﻟﻴﻔﻮرﻧﻴﺎ اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻛﺎن ﺗﻘﻮم ﺑﺎﻻﺳﺘﻨﺎد إﱃ دراﺳﺎت ﻣﺤﻠﻴﺔً .
أﻳﻀﺎ اﺑﻨﺔ أﺧﻲ زوﺟﺘﻪ ،ﻟﻜﻨﻪ ﻳﺘﻨﺎزل ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﺤﻖ إﱃ اﺑﻨﻪ ،وﻣﻦ ﻣﻦ ﺣﻖ اﻟﺰوج أن ﻳﺘﺰوج ً
ﺛﻢ ﻳﻨﺸﺄ ﻧﻈﺎم زواج اﺑﻨﺔ اﻟﺨﺎل .وﻋﻨﺪ اﻟﺒﺎﻧﺘﻮ اﻟﺠﻨﻮﺑﻴني )ﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ( ﻳﺤﻖ ﻟﻠﺮﺟﻞ
ﻮﻓﻴَﺖ اﻟﺰوﺟﺔ ،ﻛﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺘﻌﻮﻳﺾ ﻋﻦ اﻟﺜﻤﻦ اﻟﺬي اﻟﺘﺰوج ﻣﻦ اﺑﻨﺔ أﺧﻲ زوﺟﺘﻪ إذا ﻣﺎ ﺗُ ﱢ
دﻓﻌﻪ ﻋﻨﺪ زواﺟﻪ )اﻟﺼﺪاق( ،وﺣﺘﻰ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﻤﻮت اﻟﺰوج ﻳﻤﻜﻦ ﻻﺑﻨﻪ أن ﻳﻄﺎﻟﺐ ﺑﺎﺑﻨﺔ ﺧﺎﻟﻪ
ﻛﻨﻮع ﻣﻦ زواج اﻟﻮراﺛﺔ ،وﺗﻤﺜﻞ ﻫﺎﺗﺎن اﻟﺤﺎﻟﺘﺎن ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻟﺘﻔﺴري ﻧﺸﺄة زواج ﺑﻨﺖ اﻟﺨﺎل
ُﻔﴪ ﰲ ﻏﺎﻟﺐ اﻷﺣﻴﺎن ﺑﻨﻈﺎم ﻋﻨﺪ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻷﻣﻮﻳﺔ اﻟﻨﺴﺐ .أﻣﺎ ﻇﻬﻮر زواج ﺑﻨﺖ اﻟﻌﻤﺔ ﻓﻴ ﱠ
اﻟﺘﺴﻠﺴﻞ اﻟﻘﺮاﺑﻲ اﻟﺜﻨﺎﺋﻲ Dual System؛ أي ﺣﺴﺎب اﻟﻘﺮاﺑﺔ ﰲ ﺟﺎﻧﺒﻲ اﻷب واﻷم ﻣﻌً ﺎ،
وﻣﻦ ﺛﻢ ﻳﺼﺒﺢ ﻟﻠﺸﺨﺺ اﻟﺤﻖ ﰲ زواج اﺑﻨﺔ ﻋﻤﺘﻪ أو اﺑﻨﺔ ﺧﺎﻟﻪ ﻛﻨﻮع ﻣﻦ ﺗﺠﻨﺐ زواج
املﺤﺎرم )ﺑﻨﺖ ﻋﻤﻪ وﺑﻨﺖ ﺧﺎﻟﻪ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ( .وﺑﺮﻏﻢ ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ ﻫﺬه املﺤﺎوﻟﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ،
إﻻ أن ﻧﻈﺎم اﻟﻘﺮاﺑﺔ املﺰدوج ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺷﺎﺋﻌً ﺎ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ )اﻧﻈﺮ ﺷﻜﻞ .(1-8
أﻣﺎ ﻧﻈﺎم زواج اﺑﻨﺔ اﻟﻌﻢ ،ﻓﻘﺪ ﺳﺒﻖ أن ﴍﺣﻨﺎه ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ]اﻧﻈﺮ اﻟﻘﺴﻢ اﻟﺜﺎﻧﻲ – اﻟﻔﺼﻞ
اﻟﺜﺎﻣﻦ :اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ – أﻧﻤﺎط اﻟﺰواج – اﻹﺿﻮاء واﻟﺘﺰاوج اﻟﺪاﺧﲇ[.
وﻳﻨﺘﴩ اﻟﺰواج اﻟﺘﻘﺎﻃﻌﻲ ﻋﻨﺪ ﻋﺪد ﻛﺒري ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﰲ أﺳﱰاﻟﻴﺎ وﻣﻴﻼﻧﻴﺰﻳﺎ
وﻣﻨﺎﻃﻖ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ آﺳﻴﺎ وﻏﺎﻟﺒﻴﺔ زﻧﻮج أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،ﻋﺪا إﻗﻠﻴﻢ اﻟﺴﻮدان وﺟﺰر ﺑﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳﺎ.
وﻋﻨﺪ اﻟﺪراﻓﻴﺪﻳني ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺘﻢ اﻟﺰواج ﺑني اﺑﻨﺔ اﻟﻌﻤﺔ أو اﻟﺨﺎل دون ﺗﻔﻀﻴﻞ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ
ﺗﺤﺪد ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت أﺧﺮى ﻧﻮع اﻟﻘﺮاﺑﺔ املﻔﻀﻠﺔ ،ﻓﺰواج اﺑﻨﺔ اﻟﻌﻤﺔ ﺷﺎﺋﻊ ﺑني اﻟﱰوﺑﺮﻳﺎﻧﺪ
)ﻣﻴﻼﻧﻴﺰﻳﺎ( واﻟﻬﺎﻳﻴﺪا ﻣﻦ أﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﺴﺎﺣﻞ اﻟﻜﻨﺪي اﻟﻐﺮﺑﻲ ،وﻳﻔﻀﻞ اﻟﺘﺴﻤﺸﻴﺎن )ﻣﻦ أﻣﺮﻳﻨﺪ
اﻟﺴﺎﺣﻞ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻟﻜﻨﺪا وﺟريان اﻟﻬﺎﻳﻴﺪا( اﻟﺰواج ﻣﻦ اﺑﻨﺔ اﻟﺨﺎل ،وﻳُﺴﻤﱠ ﻰ ﺗﻔﻀﻴﻞ اﻟﺰواج
ﻣﻦ اﺑﻨﺔ اﻟﺨﺎل ﻓﻘﻂ أو اﺑﻨﺔ اﻟﻌﻤﺔ ﻓﻘﻂ ﺑﺎﻟﺰواج املﺘﻘﺎﻃﻊ ﻏري املﺘﻨﺎﺳﺐ ،Asymmetrical
وﻳُﺴﻤﱠ ﻰ اﻟﺴﻤﺎح ﺑﺰواج اﺑﻨﺔ اﻟﺨﺎل أو اﻟﻌﻤﺔ دون ﺗﻔﻀﻴﻞ ﺑﺎﻟﺰواج املﺘﻘﺎﻃﻊ املﺘﻨﺎﺳﺐ
.Symmetrical
وﻻ ﻳﻘﺘﴫ زواج اﻷﻗﺎرب ﻋﲆ زواج أﺑﻨﺎء اﻟﻌﻤﻮﻣﺔ واﻟﺨﺌﻮﻟﺔ ﻓﻘﻂ ،إﻧﻤﺎ ﻳﺘﻌﺪاه ﰲ
أﺣﻴﺎن ﻣﻌﻴﻨﺔ إﱃ أﻧﻮاع ﻣﻦ اﻟﺰواج ﺑني ﺟﻴﻠني ﻣﺨﺘﻠﻔني ﻣﻦ اﻷﻗﺮﺑﺎء .ﻣﺜﺎل ذﻟﻚ :زواج
اﻟﺨﺎل ﻣﻦ اﺑﻨﺔ أﺧﺘﻪ ،أو زواج اﻟﻌﻤﺔ ﻣﻦ اﺑﻦ أﺧﻴﻬﺎ ،أو أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ذﻟﻚ زواج اﻟﺸﺨﺺ
ﺑﺤﻔﻴﺪة أﺧﺘﻪ أو زواج اﻟﺸﺨﺺ ﺑﺄﺧﺖ ﺟﺪه ،وﻫﻮ ﺑﺬﻟﻚ زواج ﺑني ﻃﺒﻘﺔ اﻷﺣﻔﺎد واﻷﺟﺪاد.
وﻻ ﺗﻮﺟﺪ أﺳﺒﺎب واﺿﺤﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﺗُﺨﺪَم ﻛﺘﻔﺴري ملﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺰواج اﻟﺸﺎذ ،ﺑﻞ إن ﻛﻞ ﺣﺎﻟﺔ
461
اﻹﻧﺴﺎن
ﻔﴪ ﻋﲆ ﺿﻮء اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﺤﻀﺎري ﻟﻜﻞ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻳﻤﺎرس ﻫﺬه اﻷﻧﻮاع ﻣﻦ ﻗﺎﺋﻤﺔ ﺑﺬاﺗﻬﺎ وﺗُ ﱠ
أﻳﻀﺎ ﻋﲆ ﺗﻔﺴري زواج أﺑﻨﺎء اﻟﻌﻤﻮﻣﺔ أو اﻟﺨﺌﻮﻟﺔ؛ ﺑﺤﻴﺚاﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺰواﺟﻴﺔ .وﻳﻨﻄﺒﻖ ﻫﺬا ً
إﻧﻪ ﻻ ﻳﻜﺎد ﻳُﻮﺟَ ﺪ ﺗﻔﺴري واﺣﺪ ﻋﺎملﻲ اﻟﺘﻄﺒﻴﻖ ،ورﺑﻤﺎ ﻳﺮﺟﻊ ذﻟﻚ إﱃ أن ﻛﻞ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻳﻨﻈﻢ
اﻟﺰواج ﺑﻄﺮﻳﻘﺘﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ وﻻ ﻳﱰﻛﻪ ﺣ ٍّﺮا ،ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء ﻣﺠﺘﻤﻌﺎﺗﻨﺎ اﻟﻌﻠﻴﺎ املﻌﺎﴏة اﻟﺘﻲ ﻻ
ﺗﻀﻊ ﺳﻮى ﻗﻴﻮد ﻣﺤﺪودة ﻋﲆ ﺗﻨﻈﻴﻢ اﻟﺰواج.
أﻳﻀﺎ اﻟﺰواج اﻟﺘﻌﻮﻳﴤ أو اﻻﺳﺘﻤﺮاري أو اﻟﻮراﺛﻲ ،وﻫﻮ ﻳﺤﺪث ﻫﻨﺎ وﻳﻤﻜﻦ أن ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ ً
ﺑني وارث اﻟﺰوج وزوﺟﺘﻪ .وﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﻫﺬا اﻟﻮرﻳﺚ ً
أﺧﺎ أﺻﻐﺮ أو اﺑﻨًﺎ أو ﺣﻔﻴﺪًا ،وﺑﺬﻟﻚ
ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ ً
أﻳﻀﺎ زواﺟً ﺎ ﺑﺎﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﺘﺼﺎﻫﺮﻳﺔ Affinal؛ ﻷﻧﻪ ﻳﺆدي إﱃ اﺳﺘﻤﺮار ﻋﻼﻗﺔ
اﻟﺘﺼﺎﻫﺮ ﺣﺘﻰ ﺑﻌﺪ وﻓﺎة املﺴﺒﺐ اﻷول ﻟﻬﺬا اﻟﺘﺼﺎﻫﺮ ،وﻳُﺒﻘﻲ ﻋﲆ اﻷﻃﻔﺎل اﻟﻨﺎﺗﺠني ﻋﻦ
اﻟﺰواج اﻷول داﺧﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺰوج املﺘﻮﰱ .وﻳﻨﻘﺴﻢ زواج اﻟﻮراﺛﺔ إﱃ ﺛﻼﺛﺔ أﻗﺴﺎم :زواج
اﻷرﻣﻠﺔ ﺑﻮرﻳﺚ زوﺟﻬﺎ ،زواج اﻟﺸﺨﺺ ﺑﺸﻘﻴﻘﺔ زوﺟﺘﻪ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﺗﺘﻮﰱ وزواج أرﻣﻠﺔ اﻟﺸﻘﻴﻖ
ً
ﻣﺴﺒﻘﺎ.
)(١
)(٢
)(٤ )(٣
462
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
)(١
)(٤
)(٢
)(٣
زواج اﻷرﻣﻠﺔ ﺑﻮرﻳﺚ زوﺟﻬﺎ :Levirateوﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ زواج اﻟﻮراﺛﺔ ﻫﻮ أﻛﺜﺮ اﻷﻧﻮاع
ﺷﻴﻮﻋً ﺎ ﻋﻨﺪ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ،وﻳﻈﻬﺮ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻋﻨﺪ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت ﻋﻠﻴﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻻ
ﻳﻜﻮن ﻋﺎﻣﻞ اﻟﻮراﺛﺔ واﺿﺤً ﺎ ،ﺑﻞ اﻟﻐﺮض ﻫﻮ املﺤﺎﻓﻈﺔ ﻋﲆ اﻷوﻻد اﻟﺬﻳﻦ أﻧﺠﺒﻮا ﻣﻦ
ﻗﺒﻞ .وﻗﺪ ﻣﺎرس اﻟﻴﻬﻮد واﻹﻧﻜﺎ وﻏريﻫﻢ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺰواج ،ﻟﻜﻨﻪ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺪاﺋﻴني
ُﻌﺘﱪ زواﺟً ﺎ ﺑﺎﻟﻮراﺛﺔ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﺗﺤﻮﻳﻪ اﻟﻜﻠﻤﺔ ﻣﻦ ﻣﻌﻨﻰ؛ إذ إن اﻟﺰوﺟﺔ أو اﻟﺰوﺟﺎت ﺗُﻌَ ﱡﺪ
ﻳ َ
ﺟﺰءًا ﻣﻦ املرياث.
وﺗﻨﺺ ﻗﻮاﻧني ﻛﻞ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻋﲆ اﻟﻮرﻳﺚ .ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﺗﻨﺺ ﻋﲆ أﻧﻪ أﺧﻮ
اﻟﺰوج املﺘﻮﰱ ﺳﻮاءً ﻛﺎن اﻟﻜﺒري أو اﻟﺼﻐري .وﰲ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻷﺧرية ﻳﺼﺒﺢ ذﻟﻚ Jonior
،Levirateوﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ ﻳﺮث اﻻﺑﻦ أﺑﺎه ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﺰوﺟﺎت )ﻋﺪا أﻣﻪ ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ
اﻟﺤﺎل( ،ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻤﺎرس ﻋﻨﺪ اﻟﻨﻴﻠﻴني .وﻛﺎن اﻹﻧﻜﺎ ﻳﻮرﺛﻮن ﻛﻞ اﻟﺰوﺟﺎت ﻋﺪا اﻟﺰوﺟﺔ
اﻷوﱃ.
وﺗﺨﺘﻠﻒ ﻣﻮاﻗﻒ املﺠﻤﻮﻋﺎت ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم .ﻋﻨﺪ اﻟﻜﻮﻣﺎﻧﴚ )أﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﻮﻻﻳﺎت
املﺘﺤﺪة( ﻳﺴﺘﻮﱄ اﻟﻮرﻳﺚ ﻋﲆ ﺗﻌﻮﻳﺾ إذا أرادت اﻟﺰوﺟﺔ املﻮروﺛﺔ أن ﺗﺘﺰوج ﻏريه ،وﻋﻨﺪ
ﺟﻤﺎﻋﺎت أﺧﺮى ﻧﺠﺪ اﻟﺰوﺟﺔ املﻮروﺛﺔ ﺗﺬﻫﺐ ﻟﻠﻮرﻳﺚ ﺳﻮاءً رﴈ أم أﺑﻰ .وملﺎ ﻛﺎن ﻧﻈﺎم
463
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﺰواج ﺑﺎﻟﻮراﺛﺔ ﻳﺄﺗﻲ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﻜﻮن اﻟﻮرﻳﺚ ﻣﺘﺰوﺟً ﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ،ﻓﺈن اﻟﺪول اﻟﺘﻲ ﺗﻌﺎرض
ﻣﺒﺪأ ﺗﻌﺪد اﻟﺰوﺟﺎت ،ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ ،ﺗﺠﱪ اﻟﻮرﻳﺚ ﻋﲆ ﻃﻼق زوﺟﺘﻪ اﻷوﱃ
ﻟﻴﺘﺰوج ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ورﺛﻬﺎ ،ﺑﻐﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ املﻮاﻗﻒ اﻟﻌﺎﻃﻔﻴﺔ.
وﰲ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻷﺣﻮال ﻻ ﻳﻜﻮن ﻫﻨﺎك ﻋﻨﺪ زواج اﻟﻮراﺛﺔ ﺣﻔﻞ زواج ﺑﺎملﻌﻨﻰ املﻔﻬﻮم؛
ﻷن اﻟﺰوﺟﺔ ﺳﺘﻜﻮن ﻛﻤﺎ ﻫﻲ داﺧﻞ ﺑﻴﺘﻬﺎ .وﰲ أﺣﻴﺎن ﻛﺜرية ،ﻳﻈﻞ املﺠﺘﻤﻊ وزوﺟﻬﺎ
اﻟﺠﺪﻳﺪ ﻳﻨﻈﺮان إﻟﻴﻬﺎ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ زوﺟﺔ املﺘﻮﰱ ،ﻟﺪرﺟﺔ أن أوﻻدﻫﺎ ﻣﻦ زوﺟﻬﺎ اﻟﺠﺪﻳﺪ
ُﻨﺴﺒﻮن إﱃ اﻷب املﺘﻮﰱ وﻟﻴﺲ ﻟﻸب اﻟﻔﻌﲇ .وﻻ ﺷﻚ ﰲ أن ﰲ ﺧﻠﻔﻴﺔ ﻫﺬه اﻟﻌﺎدات ﻓﻜﺮة ﻳ َ
ﻋﺒﺎدة أرواح اﻟﺴﻠﻒ.
وﻣﻦ ﺑني أﺳﺒﺎب ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺰواج (١) :ﺗﺄﻣني اﻟﺰوﺟﺔ وأوﻻدﻫﺎ وﺑﻘﺎؤﻫﻢ ﰲ
ﻛﻨﻒ اﻟﻌﻢ (٢) .إﺑﻘﺎء اﻟﻌﻼﻗﺎت واﻟﻮاﺟﺒﺎت ﺑني ﻋﺎﺋﻠﺘني ﻣﺘﺼﺎﻫﺮﺗني (٣) .اﻟﺰواج ﺑﻬﺬه
ﻈﺮ إﻟﻴﻪ ﻋﲆ أﻧﻪ راﺑﻄﺔ ﺑني ﺷﺨﺼني ،ﺑﻞ ﺑني املﺠﻤﻮﻋﺘني اﻟﻠﺘني ﻳﻨﺘﻤﻲ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻻ ﻳُﻨ َ
أﻳﻀﺎ اﻟﺼﺪاق املﺪﻓﻮعإﻟﻴﻬﻤﺎ ﻛﻞ ﻣﻦ اﻟﺰوج واﻟﺰوﺟﺔ (٤) .ﻳﺘﺪﺧﻞ ﰲ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع ً
ﻟﻠﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﺰوﺟﺔ .ﻓﻔﻲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ،ﻻ ﻳﻜﻮن اﻟﺰوج ﻫﻮ وﺣﺪه اﻟﺬي دﻓﻊ اﻟﺼﺪاق ،ﺑﻞ
ﻳﻌﺎوﻧﻪ ﰲ ذﻟﻚ أﴎﺗﻪ وأﻗﺎرﺑﻪ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻳﺼﺒﺢ ﻷﴎة املﺘﻮﰱ ﻣﺼﺎﻟﺢ ﻣﺎدﻳﺔ ﰲ اﻟﺰوﺟﺔ
ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﻤﻮت زوﺟﻬﺎ؛ وﻟﻬﺬا ﺗﺒﻘﻰ داﺧﻞ اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ.
أﻳﻀﺎ زواج ﺗﻌﻮﻳﴤ أو اﻣﺘﺪادي؛ اﻟﺰواج ﺑﺸﻘﻴﻘﺔ اﻟﺰوﺟﺔ املﺘﻮﻓﺎة :Sororateوﻫﻮ ً
ﻷﻧﻪ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ اﻣﺘﺪاد ﻟﺰواج اﻟﺸﺨﺺ ﺑﺰوﺟﺘﻪ املﺘﻮﻓﺎة .وﻳﺘﺪﺧﻞ ﰲ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع
أﻳﻀﺎ اﻟﺼﺪاق املﺪﻓﻮع ﻣﻦ ﻗﺒﻞ؛ إذ إن ﺷﻘﻴﻘﺔ اﻟﺰوﺟﺔ ﺳﺘﻜﻮن اﺳﺘﻴﻔﺎء ﻟﻠﺼﺪاق اﻷول. ً
وﻳﺨﺘﻠﻒ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺰواج ﻋﻦ ﻧﻈﺎم ﺗﻌﺪد اﻟﺰوﺟﺎت اﻟﺸﻘﻴﻘﺎت ،ﰲ أﻧﻪ ﻻ ﻳﺘﻢ إﻻ
ﺑﻮﻓﺎة اﻟﺰوﺟﺔ اﻷوﱃ ،وﻻ ﻳﺒﻴﺢ اﻟﺠﻤﻊ ﺑني ﺷﻘﻴﻘﺘني ﻋﲆ ﻗﻴﺪ اﻟﺤﻴﺎة.
وﻫﻨﺎك أﻧﻈﻤﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﺗﻨﺺ ﻋﻠﻴﻬﺎ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﰲ ﺣﺎﻻت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﻫﻲ اﻣﺘﺪاد ﻟﻬﺬا
اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺘﻌﻮﻳﴤ .ﻓﻘﺪ ﻳﺤﺪث أﻻ ﻳﻜﻮن ﻟﻠﺰوﺟﺔ املﺘﻮﻓﺎة ﺷﻘﻴﻘﺔ .وﻫﻨﺎ ﻳﺼﺒﺢ ﻣﻦ ﺣﻖ
اﻟﺰوج أن ﻳﺘﺰوج اﺑﻨﺔ ﺷﻘﻴﻘﻬﺎ — أي إن اﻟﻔﺘﺎة ﺗﻀﻄﺮ ﻷن ﺗﺘﺰوج زوج ﻋﻤﺘﻬﺎ.
وﻛﺬﻟﻚ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﺸﺨﺺ أن ﻳﺘﺰوج ﻋﻤﺔ زوﺟﺘﻪ املﺘﻮﻓﺎة إذا ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﺰوﺟﺘﻪ
ﺷﻘﻴﻘﺎت ،ﻋﲆ ﴍط أن ﺗﻜﻮن ﻫﺬه اﻟﻌﻤﺔ أرﻣﻠﺔ أو ﻟﻢ ﺗﺘﺰوج ﺑﻌﺪ .وﰲ اﻟﺤﺎﻻت اﻟﻘﺼﻮى
ﻳُﻄ ﱢﻠﻖ ﺷﻘﻴﻖ اﻟﺰوﺟﺔ املﺘﻮﻓﺎة زوﺟﺘﻪ ﻟﻴﻌﻄﻴﻬﺎ إﱃ زوج ﺷﻘﻴﻘﺘﻪ ،وﻫﺬا أﻣﺮ ﺷﺎﺋﻊ ﰲ
أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ اﻟﺰﻧﺠﻴﺔ .وﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﻘﺼﻮى ﻧﺠﺪﻫﺎ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ وراﺛﺔ اﻷرﻣﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ
ﻟﺰوﺟﻬﺎ املﺘﻮﰱ ﺷﻘﻴﻖ أو اﺑﻦ ،ﻓﻬﻲ ﺗﺼﺒﺢ ﻣﻦ ﺣﻖ اﺑﻦ أﺧﺖ زوﺟﻬﺎ؛ أي إن اﻟﺸﺨﺺ
ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻳﺘﺰوج زوﺟﺔ ﺧﺎﻟﻪ ﺑﻮﺻﻔﻪ ورﻳﺜًﺎ ﻟﻬﺬا اﻟﺨﺎل )اﻧﻈﺮ ﺷﻜﲇ .(3-8 ،2-8
464
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
ﻣﺴﺒﻘﺎ :Anticipatory Levirateﻳﺘﻢ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺰواج ً زواج أرﻣﻠﺔ اﻟﺸﻘﻴﻖ
ﻮﰲ ﺑﻌﺪ .ﻓﺒﺎﻋﺘﺒﺎر أن اﻟﺰوﺟﺔ ﺳﺘﺌﻮل ﺑﺎملرياث إﱃ ﺷﻘﻴﻖدون أن ﻳﻜﻮن اﻟﺰوج ﻗﺪ ﺗُ ﱢ
ﻏري ﻣﺘﺰوج ،ﻓﺈن اﻟﺰوج ﻳﺴﻤﺢ ﺑﻌﻼﻗﺎت ﺟﻨﺴﻴﺔ ﺑني زوﺟﺘﻪ وﺷﻘﻴﻘﻪ ﻏري املﺘﺰوج،
ﻋﲆ اﻋﺘﺒﺎر أﻧﻪ ﺳﻮف ﻳﻜﻮن ﻟﻪ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺤﻖ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﺘﺰوج ﻫﺬا اﻟﺸﻘﻴﻖ .وﻳﺸﻴﻊ ﻫﺬا
اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ املﻔﺘﻮﺣﺔ ﺑني اﻟﺸﻘﻴﻘني وزوﺟﺔ أﺣﺪﻫﻤﺎ أو ﻛﻠﻴﻬﻤﺎ ﺑني ﻛﺜري
ﻣﻦ اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ — وﺧﺎﺻﺔ ﻗﺒﻴﻠﺔ اﻟﺸﻮﺷﻮﻧﻲ — وﻳﻨﺎدي اﻟﺸﺨﺺ زوﺟﺔ ﺷﻘﻴﻘﻪ ﺑﻠﻘﺐ
»زوﺟﺔ« ،ﺑﺎﻋﺘﺒﺎر أﻧﻬﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺌﻮل إﻟﻴﻪ ﺑﻌﺪ وﻓﺎة ﺷﻘﻴﻘﻪ .وﺑﻬﺬا ﻧﺼﻞ إﱃ وﺿﻊ
ﻗﺮﻳﺐ ﻣﻦ ﻧﻈﺎم ﺗﻌﺪد اﻷزواج.
465
اﻹﻧﺴﺎن
أﺣﺪ أﻧﻮاع اﻟﺰواج ،ورﺑﻤﺎ ﻧﺸﺄ ﻣﻊ اﻟﻐﺰوات واﻟﺤﺮوب ﺑني املﺠﺘﻤﻌﺎت .وﻻ ﺗﺰال ﻣﻌﺮﻓﺘﻨﺎ
ﻗﴪا ووﺿﻊ أوﻻدﻫﺎ داﺧﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻷب. ﻄﻒ ً ﻗﻠﻴﻠﺔ ﺑﺎﻟﻮﺿﻊ اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻲ ﻟﻠﺰوﺟﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﺨ َ
ﻫﻞ ﻟﻬﺎ وﻷوﻻدﻫﺎ ﻧﻔﺲ اﻟﺤﻘﻮق أم ﻳُﻨ َ
ﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﻧﻈﺮة أﻗﻞ ﻣﻦ اﻟﺰوﺟﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻢ زواﺟﻬﺎ
ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻟﻌﺎدات املﺮﻋﻴﺔ ﰲ املﺠﺘﻤﻊ؟
ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻌﺘﱪ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺰواج ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﺻﻤﺎم أﻣﻦ داﺧﻞ ﺗﺮﺗﻴﺒﺎت اﻟﺰواج اﻻﻋﺘﻴﺎدﻳﺔ
ﰲ ﻛﺎﻓﺔ املﺠﺘﻤﻌﺎت ،وﻫﻮ ﺑﺬﻟﻚ ﻧﻮع ﻣﻘﺒﻮل ﻣﻦ اﻟﺰواج؛ ﻷن اﻋﺘﻴﺎدات اﻟﺰواج ﻗﺪ ﺗﻜﻮن
ﺻﺎرﻣﺔ ،ﺑﺤﻴﺚ ﻳﺆدي ﺗﻨﻔﻴﺬﻫﺎ اﻟﺤﺮﰲ إﱃ اﻧﻔﺠﺎر داﺧﲇ ﰲ املﺠﺘﻤﻊ .ﻓﺎﻟﺰواج ﻣﲇء ﺑﻜﺜري
ﻣﻦ اﻟﻌﻘﺒﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﻀﻌﻬﺎ املﺠﺘﻤﻊ ،ﻣﺜﻞ املﺤﺎرم واﻻﻏﱰاب أو اﻹﺿﻮاء ،وﻓﻮق ﻛﻞ ﻫﺬا
اﻟﻮﺿﻊ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻟﻸﴎ واﻟﻌﺎﺋﻼت .وﻻ ﺑﺪ أن ﻳﺤﺪث ﺑني أﻓﺮاد ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻊ ﺻﺪام ﺑني
اﻟﻌﻮاﻃﻒ واملﻮاﻧﻊ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،ﺣﻴﻨﺌ ٍﺬ ﻳﺘﻢ اﻻﺗﻔﺎق ﻋﲆ ﻫﺮوب اﻟﻔﺘﺎة ﻣﻊ اﻟﺸﺎب — ﻏﺎﻟﺒًﺎ
ﺑﻌﻠﻢ اﻵﺑﺎء ﺑﻄﺮﻳﻖ ﻏري ﻣﺒﺎﴍ .وﻳﻈﻞ ﺑﻌﺾ اﻷﻗﺎرب ﻋﲆ ﺻﻠﺔ ﺑﺎﻷﴎة اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻟﺘﺴﻬﻴﻞ
ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ أو ﺑﺄﺧﺮى ،إﱃ أن ﻳﺘﻢ اﻻﻋﱰاف ﺑﺎﻟﺰواج ﺑﻮﺳﺎﺋﻞ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﻣﻨﻬﺎ ﺗﺒﺎدلٍ ﺣﻴﺎﺗﻬﺎ
اﻟﻬﺪاﻳﺎ ﺑني أﴎﺗﻲ اﻟﻔﺘﺎة واﻟﻔﺘﻰ.
ﻄﺎ ﻋﻨﺪ ﻣﻌﻈﻢ ﺳﻜﺎن وﻟﻜﺜﺮة اﻟﺘﻌﻘﻴﺪات ﰲ اﻟﺰواج ﻳﻜﺎد ﻳﺼﺒﺢ اﻟﺰواج ﺑﺎﻟﻬﺮب ﻧﻤ ً
ﺑﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳﺎ وأﺳﱰاﻟﻴﺎ ،وﻟﻌﻞ ذﻟﻚ راﺟﻊ — ﰲ ﺑﻌﺾ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت ﻣﻴﻼﻧﻴﺰﻳﺎ وﺑﻮﻟﻴﻨريﻳﺎ — إﱃ
ﺗﺤﻜﻢ ﻛﺒﺎر اﻟﺴﻦ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،وﺗﻌﺪد زوﺟﺎﺗﻬﻢ ،ورﻏﺒﺘﻬﻢ ﻣﻊ ﻣﻘﺪرﺗﻬﻢ ﻋﲆ
اﻟﺘﺰوج ﻣﻦ أي ﻓﺘﺎة .وﻣﻦ ﺛﻢ ﻛﺎن ﻻ ﺑﺪ ﻣﻦ ﻧﺸﺄة ﻧﻈﺎم اﻟﺰواج ﺑﺎﻟﻬﺮب ﺣﺘﻰ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﻐﻠﺐ
ﻋﲆ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺘﺤﺪﻳﺪات واﻟﺘﺤﺪﻳﺎت أﻣﺎم اﻟﺸﺒﺎب ،واملﺘﻮﻗﻊ أن ﻳﺴﺎﻋﺪﻫﻢ ﻋﲆ اﻟﻬﺮب رﺟﻞ
اﻟﻄﺐ )ﻋﺮاف املﺠﺘﻤﻊ( .وﻫﻨﺎك ﻣﻠﺠﺄ إذا وﺻﻞ إﻟﻴﻪ اﻟﻬﺎرﺑﺎن ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺘﻌﺮﺿﺎ ﻓﻴﻪ
ﻟﻸذى ،وﻟﻜﻦ إذا ﻟﺤﻘﻬﻤﺎ املﻄﺎردون ﻓﺈﻧﻬﻤﺎ ﻗﺪ ﻳُﺼﺎﺑﺎ ﺑﺠﺮوح وإﺻﺎﺑﺎت ﻗﺪ ﺗﺆدي إﱃ
ﻣﻮﺗﻬﻤﺎ أو ﻣﻮت أﺣﺪﻫﻤﺎ ،وﰲ إﻣﻜﺎن اﻟﻠﺬﻳﻦ اﺳﺘﻄﺎﻋﺎ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ املﻠﺠﺄ اﻟﻌﻮدة ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ
إﱃ املﺠﺘﻤﻊ ﺣﻴﺚ ﻳُﻌﱰَف ﺑﻬﻤﺎ زوﺟني أﻣﺎم اﻟﺠﻤﻴﻊ.
466
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
ﻳﺮﺗﺒﻂ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺰواج ﺑﻨﻮع اﻟﺰواج ﻣﻘﺎﺑﻞ اﻟﺼﺪاق ،ﻟﻜﻨﻪ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻋﻨﻪ ﰲ أن اﻟﺸﺎب
املﺘﻘﺪم ﻳﻘﻮم ﺑﺎﻟﻌﻤﻞ ﻟﺼﺎﻟﺢ ﺣﻤﺎه ﻣﺪة ﻣﺤﺪدة ﻗﺒﻞ أن ﻳﺘﺰوج اﻟﻔﺘﺎة ،وﺑﺬﻟﻚ ﻻ ﻳﻜﻮن ﻫﻨﺎ
ً
ﺻﺪاﻗﺎ ﻣﺎدﻳٍّﺎ .وإﱃ ﺟﺎﻧﺐ ذﻟﻚ ،ﻓﻠﻌ ﱠﻞ ﻣﻦ ﻓﻮاﺋﺪه أن ﻳﺘﻌﺮف اﻟﺸﺎب ﻋﲆ زوﺟﺔ ﻗﺪ دﻓﻊ
املﺴﺘﻘﺒﻞ ،وأن ﻳﺘﻌﺮف ﻋﻠﻴﻪ أﻫﻠﻬﺎ ﻋﻦ ﻗﺮب ،ﻗﺒﻞ أن ﻳﺄﺧﺬ اﺑﻨﺘﻬﻢ وﻳﺮﺣﻞ ﺑﻬﺎ إﱃ ﻣﻜﺎن
ذوﻳﻪ .وﰲ ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻳﻈﻞ اﻟﺰوج ﻣﻘﻴﻤً ﺎ ﻣﻊ أﻫﻞ زوﺟﺘﻪ وﻳﻘﻮم ﺑﺎﻟﺨﺪﻣﺔ ﻟﺼﺎﻟﺢ
أﴎة اﻟﺰوﺟﺔ ﻋﲆ اﻟﺪوام أو إﱃ أن ﻳُﻮ َﻟﺪ ﻟﻪ ﻃﻔﻞ .وﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه املﺠﺘﻤﻌﺎت ﺗﺼﺒﺢ اﻟﺒﻨﺎت
ﻣﺤﺒﺒﺎت إﱃ أﺑﻴﻬﻦ؛ ﻷﻧﻬﻦ ﺑﺰواﺟﻬﻦ ﰲ املﺴﺘﻘﺒﻞ ﺳﻮف ﻳﺠﻠﺒﻦ ﻟﻪ ﻋﻤﺎﻟﺔ دون أﺟﺮ .وﰲ ﻫﺬا
ﻛﺎن ﻳُﻘﺎل إن اﻟﺰواج ﺑﺎﻟﺨﺪﻣﺔ ﻛﺎن ﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﻤﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻨﺴﺐ اﻷﻣﻮي .وﻟﻜﻦ ذﻟﻚ اﻟﺰواج
ﻟﻴﺲ ﻗﺎﴏً ا ﻋﲆ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه املﺠﻤﻮﻋﺎت؛ ﻓﺎﻟﺴﺎﻣﻴﻮن اﻟﻘﺪﻣﺎء ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻤﺎرﺳﻮن ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ
اﻟﺰواج ﻣﻊ ﺗﻨﻈﻴﻤﺎﺗﻬﻢ اﻷﺑﻮﻳﺔ .وﻗﺪ ﺧﺪم ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻳﻌﻘﻮب ﺣﻤﺎه ﺳﺒﻊ ﺳﻨﻮات ﻟﻜﻲ ﻳﺘﺰوج
ٍ
ﺳﻨﻮات أﺧﺮى ﻟﻜﻲ ﻳﺘﺰوج أﺧﺘﻬﺎ. راﺷﻴﻞ ،وﺳﺒﻊ
وﺗﻤﺎرس ﻗﺒﺎﺋﻞ ﺷﻤﺎل ﴍق ﺳﻴﺒريﻳﺎ )اﻟﺘﺸﻮﻛﴚ واﻟﻜﻮرﻳﺎك( زواج اﻟﺨﺪﻣﺔ .وﻗﺪ
ﻟُﻮﺣِ ﻆ ارﺗﺒﺎط زواج اﻟﺨﺪﻣﺔ ﺑﺎملﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺎرس اﻟﺰواج اﻟﺮﺣﻤﻲ )اﻷﻣﻮي( املﻜﺎن،
وﻟﻢ ﻳﻮﺟﺪ ﻟﻪ أﺛﺮ ﻋﻨﺪ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺰواج اﻟﻌﺼﺒﻲ )اﻷﺑﻮي( املﻜﺎن ،وﻗﺪ دﻟﺖ دراﺳﺔ اﻷﺳﺘﺎذ
ٍ
ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺮدوك )ﺳﺎﺑﻘﺔ اﻟﺬﻛﺮ( أن ﺣﻮاﱄ ٪١٥ﻣﻦ ٢٤١ﻣﺠﺘﻤﻌً ﺎ ﺗﻤﺎرس زواج اﻟﺨﺪﻣﺔ
أو أﺧﺮى.
ﰲ إﻧﺪوﻧﻴﺴﻴﺎ واﻟﻴﺎﺑﺎن ﻳﻤﻜﻦ ﻷﴎة ﻟﻢ ﺗﻨﺠﺐ أﺑﻨﺎء أن ﺗﺘﺒﻨﻰ ﺷﺎﺑٍّﺎ ﻳﺼﺒﺢ اﺑﻨًﺎ ﻟﻬﺎ وﺗُﺰوﱢﺟﻪ
ﻣﻦ إﺣﺪى ﺑﻨﺎﺗﻬﺎ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻳﺼﺒﺢ اﻷوﻻد أﺑﻨﺎء اﻷﴎة؛ ﻷن اﻷب ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻗﺪ أﺻﺒﺢ اﺑﻨًﺎ
ﻟﻸﴎة .وﻫﺬا ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل ﻣﻮﻗﻒ ﻣﻌﻘﺪ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ زواج ﺑﺎملﺤﺎرم .ﻓﻬﻮ — ﻛﺎﺑﻦ
أﻃﻔﺎﻻ ﻳﺮﺗﺒﻄﻮن ﺑﻨﺴﺐ اﻷﴎة ﻷﻧﻪ ً ﻣﺘﺒﻨﱠﻰ — ﻳﺘﺰوج ﻣﻦ ﺷﻘﻴﻘﺘﻪ ﺑﺎﻟﺘﺒﻨﻲ ،وﻳﻨﺠﺐ ﻣﻨﻬﺎ
»اﺑﻦ« اﻟﺤﻤﺎة!
ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل ،ﻳﺠﺐ أن ﻧﻐﺾ اﻟﻄﺮف ﻋﻦ املﻨﻄﻖ وﻧﻜﺘﻔﻲ ﺑﺄن ﻣﺜﻞ ﻫﺬه املﻤﺎرﺳﺔ
ﺗﺤﻞ ﻣﺸﻜﻼت ﻛﺜرية.
467
اﻹﻧﺴﺎن
ﻳﺘﻢ ﻫﺬا اﻟﺰواج ﺑﻐﻴﺔ املﺤﺎﻓﻈﺔ ﻋﲆ ﺑﻘﺎء املﺮﻛﺰ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ واﻟﺜﺮوة ﻟﺸﺨﺺ ﻟﻴﺲ ﻟﻪ أﺑﻨﺎء
ﻓﻤﺜﻼ ﻋﻨﺪ اﻟﻜﻮاﻛﻴﻮﺗﻞ )اﻟﺴﺎﺣﻞ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻟﻜﻨﺪا( ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﺰﻋﻴﻢ أن ﻳﻮرث ً ﻳﻤﻜﻨﻪ ﺗﻮرﻳﺜﻬﻢ.
زﻋﺎﻣﺘﻪ إﻻ إﱃ ﺣﻔﻴﺪه ﻣﻦ إﺣﺪى ﺑﻨﺎﺗﻪ — أي ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻮرث اﺑﻨﻪ أو اﺑﻦ اﺑﻨﻪ —
ﻓﺈذا ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻠﺰﻋﻴﻢ ﺑﻨﺎت ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺤﺪث ﺗﺰاوج ﻧﻈﺮي )ﺑﻤﻼﻣﺴﺔ اﻷﻳﺪي أو اﻷرﺟﻞ
أو اﻟﺠﻨﺐ( ﺑني اﻟﺰﻋﻴﻢ أو اﺑﻦ اﻟﺰﻋﻴﻢ وﺷﺨﺺ آﺧﺮ ﺑﺤﻴﺚ ﻳﺼﺒﺢ ﻫﺬا اﻟﺸﺨﺺ ﻛﺄﻧﻪ
زوج ﻻﺑﻨﺔ اﻟﺰﻋﻴﻢ ،ﺛﻢ ﻳﺘﺰوج ﻫﺬا اﻟﺸﺨﺺ ﻣﻦ ﻓﺘﺎة وﻳﻨﺠﺐ ﻣﻨﻬﺎ أﺑﻨﺎء ﻳﺼﺒﺤﻮن أﺣﻔﺎدًا
ﻟﻠﺰﻋﻴﻢ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﺗﻨﺘﻘﻞ اﻟﺰﻋﺎﻣﺔ إﱃ اﻟﺤﻔﻴﺪ .وﻋﻨﺪ اﻟﻨﻮﻳﺮ واﻟﻨﻴﻠﻴني ﰲ اﻟﺴﻮدان اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ
ﻮﰲ دون أن ﻳﺘﺰوج أو ﻳﻨﺠﺐ ،وﺗﺼﺒﺢ ﺷﻘﻴﻖ ﻟﻪ ﺗُ ﱢ
ٍ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﺸﺨﺺ أن ﻳﺘﺰوج ﻋﻦ روح
اﻟﺰوﺟﺔ ﻧﻈﺮﻳٍّﺎ زوﺟﺔ اﻟﺸﻘﻴﻖ املﺘﻮﰱ واﻷوﻻد أوﻻده؛ وذﻟﻚ ً
أﻳﻀﺎ ﻟﻺﺑﻘﺎء ﻋﲆ اﺳﻢ املﺘﻮﰱ
)ﻋﺒﺎدة روح اﻟﺴﻠﻒ( .وﻳُﺴﻤﱠ ﻰ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺰواج »اﻟﺰواج اﻟﺸﺒﺤﻲ«.
وﻛﺬﻟﻚ ﻋﻨﺪ اﻟﻨﻮﻳﺮ ﻳﻤﻜﻦ ﻻﻣﺮأة ﻋﺎﻗﺮ أن ﻳﺼﺒﻎ ﻋﻠﻴﻬﺎ املﺠﺘﻤﻊ ﺻﺒﻐﺔ اﻟﺮﺟﺎل ،ﺛﻢ
ﻣﻤﺜﻼ ﻟﻬﺎ ﺑﺼﻔﺘﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺬﻛﻮر ،وﻳﺠﺐ أن ً ﺗﻘﻮم ﺑﺘﺰوﻳﺞ ﺷﺎب وﻓﺘﺎة ﻋﲆ أن ﻳﻜﻮن اﻟﺸﺎب
ٍّ
ﺧﺎﺻﺎ ﺑﻬﺎ )ﺑﻪ ﻧﻈﺮﻳٍّﺎ(. ﺆﺳﺲ ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻧﺴﺐ ﻣﻦ اﻷﺑﻨﺎء واﻷﺣﻔﺎد ﺗُ ﱠ
ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻧﺠﺪ أن اﻟﺰواج اﻟﺠﻤﺎﻋﻲ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺠﻨﺴني ﺗﺘﺰوج
وﺗﻘﻴﻢ ﻣﻌً ﺎ ﻋﻼﻗﺎت ﴍﻋﻴﺔ ﺑني اﻟﻜﻞ ،وﻫﺬا ﻳﺴﺎوي ﻧﻈﺎﻣَ ْﻲ ﺗﻌﺪد اﻟﺰوﺟﺎت واﻷزواج ﻣﻌً ﺎ.
وﻳﺘﺸﻜﻚ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺒﺎﺣﺜني ﰲ وﺟﻮد ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺰواج ﰲ املﺎﴈ أو اﻟﺤﺎﴐ ،وﻗﺪ ﻇﻬﺮ
ﻛﻤﺮﺣﻠﺔ ﻣﻦ ﻣﺮاﺣﻞ اﻟﺰواج ﺑني ﻧﻈﺮﻳﺎت اﻟﺘﻄﻮرﻳني ،ﺑﺎﺳﻢ ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﺸﻴﻮع ،وﻛﻞ ﻣﺎ ﻟﺪﻳﻨﺎ
ﻣﻦ ﺣﺎﻻت ﻗﺪ ﻻ ﺗﺼﻞ إﱃ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ اﻟﺠﻤﺎﻋﻴﺔ .ﻓﻌﻨﺪ ﺑﻌﺾ اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ اﻷﺳﱰاﻟﻴﺔ ﻳﺤﺪث
ٍ
أوﻗﺎت ﻣﻌﻴﻨﺔ ،ﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﺗﻔﺎق ﺑني ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﺮﺟﺎل ﻋﲆ ﺗﺒﺎدل اﻟﻌﻼﻗﺔ ﻣﻊ اﻟﺰوﺟﺎت ﰲ
ﻧﻮع ﻏري اﻟﺰواج اﻟﺠﻤﺎﻋﻲ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻘﻴﻢ ﻋﻼﻗﺎت ﺑني زوج وزوﺟﺔ أﺧﺮى؛ أي إن ﻫﻨﺎك زواﺟً ﺎ
أﺣﺎدﻳٍّﺎ ﺳﺒﻖ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﻌﻼﻗﺎت املﺒﺎﺣﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ.
وﻫﻨﺎك أﻧﻮاع أﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﺤﻘﻮق اﻟﺘﻲ ﺗُﻤﻨَﺢ ﻟﺒﻌﺾ اﻷﺷﺨﺎص واﻷﻗﺎرب ﻹﻗﺎﻣﺔ
ﻋﻼﻗﺎت ﻣﻊ زوﺟﺔ واﺣﺪ ﻣﻨﻬﻢ ،وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﻋﻼﻗﺎت ﻣﺘﺒﺎدﻟﺔ ﺑني اﻷزواج واﻷﻗﺎرب وزوﺟﺎﺗﻬﻢ؛
ﻓﻔﻲ وﺳﻂ أﺳﱰاﻟﻴﺎ ﻣﻦ ﺣﻖ اﻷﻗﺎرب ﻣﻌﺎﴍة زوﺟﺔ ﻗﺮﻳﺒﻬﻢ ،وﰲ ﻫﺎواي ﻣﻦ ﺣﻖ اﻹﺧﻮة
468
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
ﻣﻌﺎﴍة زوﺟﺔ أﺧﻴﻬﻢ وﻣﻦ ﺣﻖ اﻟﺰوج ﻣﻌﺎﴍة أﺧﻮات زوﺟﺘﻪ ،وﻋﻨﺪ اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ
أن ﻧﺴﻤﻴﻪ ﻋﻼﻗﺎت اﻟﺰﻳﺎرة؛ وﻫﻮ ﻧﻈﺎم ﺑﻤﻘﺘﻀﺎه ﻳﺘﺒﺎدل اﻷزواج زوﺟﺎﺗﻬﻢ ﻋﻨﺪ زﻳﺎراﺗﻬﻢ
ﻟﺒﻌﻀﻬﻢ اﻟﺒﻌﺾ ،وﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺆدي إﱃ ﻋﻼﻗﺔ ﺟﻤﺎﻋﻴﺔ إذا ﺗﺰاورت ﻋﺪة أﴎ
وﺑﻴﺖ واﺣﺪ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺸﺎﺋﻊ أن ﻳﻘﺪم اﻟﺰوج زوﺟﺘﻪ ﻟﻠﻀﻴﻒ اﻟﺰاﺋﺮ. ٍ ﻣﻌً ﺎ ﰲ ٍ
وﻗﺖ واﺣﺪ
وﻫﻨﺎك ﻣﺤﺎوﻻت ﻟﺘﻔﺴري ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم ،ﻣﻨﻬﺎ ﻃﻮل اﻷﺳﻔﺎر اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻮم ﺑﻬﺎ اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ﺧﻼل
اﻟﺸﺘﺎء أو أﺛﻨﺎء ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﺼﻴﺪ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﺆدي إﱃ ﺗﺮك زوﺟﺘﻪ ﻓﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ واﺿﻄﺮاره ﻟﻺﻗﺎﻣﺔ
ﻋﻨﺪ آﺧﺮﻳﻦ ﻓﱰات ﻣﺤﺪودة أو ﻃﻮﻳﻠﺔ.
وﻟﻘﺪ أﺻﺒﺢ ذﻟﻚ اﻟﻨﻈﺎم ﺗﻘﻠﻴﺪًا ﻋﻨﺪ اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ؛ ﻣﻤﺎ دﻋﺎ ﺑﻌﺾ اﻟﺒﺎﺣﺜني إﱃ ﺗﻔﺴريه
ﺿﻴﻒ آﺧﺮ ،وﻟﻜﻦ ﻻ ﺷﻚ ﰲ أن ﻫﺬا ٍ ﺑﻜﺮم اﻟﻀﻴﺎﻓﺔ ﻷﻧﻪ ﻳﺘﻌﺪى أﻋﻀﺎء اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ إﱃ أي
اﻟﻜﺮم ﻣﺒﻨﻲ ﻋﲆ أﺳﺒﺎب ﻣﺎدﻳﺔ ﻋﲆ رأﺳﻬﺎ ﻗﺴﻮة اﻟﻈﺮوف اﻟﺒﻴﺌﻴﺔ؛ ﻣﻤﺎ أدى إﱃ اﻻﻟﺘﺰام
أﻳﻀﺎ أن ﻣﺜﻞﺑﻤﺒﺪأ اﻟﻀﻴﺎﻓﺔ اﻟﻜﺎﻣﻞ ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻟﺠﻨﺴني .وﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺪرك ً
ﻫﺬه اﻟﻈﺮوف ﺧﺎﺻﺔ ﻓﻘﻂ ﺑﻤﻨﻄﻘﺔ اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ،وﻫﻲ ﻇﺮوف ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ وﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻣﻌً ﺎ؛ ﻷن
اﻟﻈﺮوف اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ اﻟﻘﺎﺳﻴﺔ — ﻛﺎﻟﻨﻄﺎق اﻟﺼﺤﺮاوي — ﻟﻢ ﺗﺆ ﱢد ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺪو إﱃ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه
اﻟﺨﺼﺎﺋﺺ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ.
469
اﻹﻧﺴﺎن
470
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
) (١اﻷﴎة املﺒﺎﴍة ﻟﻠﻌﺮوس ٨ :رءوس ﻟﻸب ٣ ،رءوس ﻟﻸم ٧ ،رءوس ﻟﻸخ اﻟﺸﻘﻴﻖ،
رأﺳﺎ — أو ﻧﺼﻒ رأﺳﺎن ﻷخ ﻏري ﺷﻘﻴﻖ ﻟﻠﻌﺮوس .وﺑﺬﻟﻚ ﻳﺼﺒﺢ ﻧﺼﻴﺐ اﻷﴎة ً ٢٠
اﻟﺼﺪاق.
) (٢أﻗﺎرب أﺑﻲ اﻟﻌﺮوس ٤ :رءوس ﻟﻌﻢ اﻟﻌﺮوس )ﺷﻘﻴﻖ اﻷب( ،رأﺳﺎن ﻟﻠﻌﻢ اﻟﺼﻐري
اﻟﺸﻘﻴﻖ ٣ ،رءوس ﻟﻠﻌﻢ ﻏري اﻟﺸﻘﻴﻖ ،ورأس ﻟﻌﻤﺔ اﻟﻌﺮوس .وﺑﺬﻟﻚ ﺗﻨﺎل ﻫﺬه املﺠﻤﻮﻋﺔ
رﺑﻊ اﻟﺼﺪاق.
) (٣أﻗﺎرب أم اﻟﻌﺮوس ٤ :رءوس ﻟﻠﺨﺎل اﻷﻛﱪ )ﺷﻘﻴﻖ اﻷم( ،رأﺳﺎن ﻟﻠﺨﺎل اﻷﺻﻐﺮ،
٣رءوس ﻟﻠﺨﺎل ﻏري اﻟﺸﻘﻴﻖ ،رأس ﻟﻠﺨﺎﻟﺔ .وﺑﺬﻟﻚ ﺗﻨﺎل ﻫﺬه املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺮﺑﻊ املﺘﺒﻘﻲ ﻣﻦ
اﻟﺼﺪاق.
أﻳﻀﺎ ﺑﻌﺾ اﻟﻬﺪاﻳﺎ ﻣﻦ أﴎة وﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ذﻟﻚ ،ﻓﺈن اﻷﻗﺎرب اﻵﺧﺮﻳﻦ ﻳﻨﺎﻟﻮن ً
أﻳﻀﺎ ﻋﻨﺪ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻨﻴﻠﻴني وﻗﺒﺎﺋﻞ أﻓﺮﻳﻘﻴﺔاﻟﻌﺮﻳﺲ .وﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻧﺠﺪﻫﺎ ﺷﺎﺋﻌﺔ ً
أﺧﺮى.
وﻟﻴﺲ اﻟﺼﺪاق وﺣﺪه ﻫﻮ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺘﺤﻤﻠﻪ اﻟﻌﺮﻳﺲ ﰲ ﻧﻈﺎم اﻟﺰواج ﻣﻘﺎﺑﻞ اﻟﺼﺪاق،
ﺑﻞ إن ﺗﺒﺎدل اﻟﻬﺪاﻳﺎ ﻳﺴﺒﻖ اﻟﺼﺪاق .وﻗﺒﻮل ﻫﺬه اﻟﻬﺪاﻳﺎ ﻳﻤﻜﻦ اﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ إﻋﻼن
ﻟﻠﺨﻄﻮﺑﺔ .وﻫﺬه اﻟﻬﺪاﻳﺎ ﻣﺘﻌﺪدة ،وﻗﺪ ﻻ ﺗُﻘﺪﱠم ﻟﻸب أو اﻷم ،إﻧﻤﺎ ﺗُﻘﺪﱠم إﱃ ﺑﻌﺾ اﻷﻗﺎرب
وﺧﺎﺻﺔ أﺧﺎ اﻟﻌﺮوس .وﺑﻤﻔﻬﻮم آﺧﺮ ،ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻘﻮل إن ﺗﻘﺪﻳﻢ اﻟﻬﺪاﻳﺎ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ
ً
ﻣﻮﻗﻔﺎ إﻳﺠﺎﺑﻴٍّﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﻨﻈﺮ ﺟﺪﻳٍّﺎ ﰲ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ »اﻟﺮﺷﻮة« ﻷﻗﺎرب اﻟﻌﺮوس ﻛﻲ ﻳﺘﺨﺬوا
ﻣﻮﺿﻮع اﻟﺰواج .ﻓﺎﻟﻬﺪاﻳﺎ اﻷوﻟﻴﺔ ﺗﻤﻬﺪ اﻟﻄﺮﻳﻖ وﺗﺬﻟﻞ اﻟﻌﻘﺒﺎت أﻣﺎم اﻟﺰواج ،ﺛﻢ ﻳﺄﺗﻲ
اﻟﺼﺪاق ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻓﻴﺼﺒﺢ اﻟﺰواج ﻣﻠﺰﻣً ﺎ ﻷﻫﻞ اﻟﻌﺮوس.
وﻫﻜﺬا ﻳﺘﻀﺢ ﻟﻨﺎ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺔ املﻮﺟﺰة ﻟﻘﻮاﻟﺐ اﻟﺰواج وأﻧﻮاﻋﻪ أن اﻟﺰواج،
وﺧﺎﺻﺔ ﻋﻨﺪ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻟﻴﺲ أﻣ ًﺮا ﻳﺨﺺ اﻟﻔﺘﻰ واﻟﻔﺘﺎة ،ﺑﻞ ﻳﻬﻢ املﺠﺘﻤﻊ ﻛﻜﻞ،
وﻷﻫﻞ اﻟﻌﺮوﺳني ﻣﺼﺎﻟﺢ ﻣﺒﺎﴍة ﰲ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﺗﺮﺗﻴﺒﺎت اﻟﺰواج واﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﻨﺎﺟﻤﺔ ﻋﻨﻪ.
وﺑﻐﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ املﺼﺎﻟﺢ املﺎدﻳﺔ ﻷﴎ اﻟﺰوﺟني ،ﻓﺈن اﻟﺰواج ﰲ ﻣﻔﻬﻮﻣﻪ اﻷﺳﺎﳼ ﻋﻨﺪ
اﻟﺒﺪاﺋﻴني ﻳُﺸ ﱢﻜﻞ ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻟﺘﺂﻟﻒ واﻟﺘﺤﺎﻟﻒ ﺑني ﻣﺠﻤﻮﻋﺘني ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻘﺮاﺑﺔ ،وأن
اﻟﺰوﺟني ﻟﻴﺴﺎ ﺳﻮى »وﺻﻠﺔ« ﻣﺒﺎﴍة ﰲ ﻫﺬا اﻟﺘﺤﺎﻟﻒ.
471
اﻹﻧﺴﺎن
472
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
وﻟﻴﺴﺖ ﻫﺬه اﻷﻧﻮاع ﻣﻦ اﻹﻗﺎﻣﺔ ﺛﺎﺑﺘﺔ ﻋﲆ اﻟﺪوام ،ﺑﻞ ﻳﺤﺪث ﺗﻐري ﰲ اﻹﻗﺎﻣﺔ ﺣﺴﺐ
اﻟﻈﺮوف املﺨﺘﻠﻔﺔ .ﻛﻤﺎ أن ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﺗﻨﺺ ﻋﲆ إﻗﺎﻣﺔ ﻣﺒﺪأﻳﺔ ﻋﻨﺪ أﻫﻞ اﻟﺰوج أو
اﻟﺰوﺟﺔ ﻟﻔﱰة ﻣﻌﻴﻨﺔ أو ﻟﺤني اﻹﻧﺠﺎب اﻷول ،ﺛﻢ ﺗﻨﺘﻘﻞ اﻷﴎة إﱃ املﻜﺎن اﻵﺧﺮ .وﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ
ﻧﺠﺪ اﺣﺘﻤﺎل ﺗﻐﻴري املﻜﺎن ﻳﺘﻢ ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺘﺎﱄ:
إﻗﺎﻣﺔ رﺣﻤﻴﺔ ← ﻋﺼﺒﻴﺔ ،إﻗﺎﻣﺔ رﺣﻤﻴﺔ ← ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ،إﻗﺎﻣﺔ رﺣﻤﻴﺔ ← ﺧﺌﻮﻟﻴﺔ ،إﻗﺎﻣﺔ
ﻋﺼﺒﻴﺔ ← ﺧﺌﻮﻟﻴﺔ.
) (5اﻟﻄﻼق
وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺨﺘﺘﻢ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع ﺑﺄن اﻟﻄﻼق ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺪاﺋﻴني ﻟﻴﺲ أﻣ ًﺮا ﺻﻌﺒًﺎ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل
ﻋﻨﺪ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ املﺠﺘﻤﻌﺎت ذات اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﻠﻴﺎ ،وﻫﻨﺎك ﻋﴩات اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺆدي
إﱃ اﻟﻄﻼق؛ ﻣﻨﻬﺎ اﻟﺘﻄري أو ﻛﺜﺮة وﻓﻴﺎت اﻷﻃﻔﺎل أو ﻋﻼﻗﺎت اﻟﺴﺒﺎب املﺴﺘﻤﺮة ،وﻟﻜﻦ ﻋﺪم
أﺣﻮال ﻛﺜرية ﻳﻄﻠﻖ اﻟﺰوج زوﺟﺘﻪ ،وﻟﻜﻦ دراﺳﺎت اﻷﺳﺘﺎذ ٍ اﻹﻧﺠﺎب ﻋﲆ رأس اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ .وﰲ
أﻳﻀﺎ ﰲ ﻋﺪد ﻻ ﺑﺄس ﺑﻪ ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻌﺎت. ﻣﺮدوك ﻗﺪ دﻟﺖ ﻋﲆ أن ﻟﻠﻤﺮأة ﺣﻖ اﻟﻄﻼق ً
وﺑﻐﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ املﺸﻜﻼت املﺎدﻳﺔ املﻌﻘﺪة املﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻟﻄﻼق ﻋﻨﺪ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت زواج ﱢ
اﻟﺼﺪاق ،ﻓﺈن اﻟﻄﻼق ﻻ ﻳﺨﻠﻒ وراءه ﻣﺸﺎﻛﻞ ﻋﺎﻃﻔﻴﺔ .ﻓﻔﻲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ،ﻳﺬﻫﺐ اﻷﺑﻨﺎء ﻣﻊ اﻷم،
وﻳﺼﺒﺢ اﻟﺰوج اﻟﺠﺪﻳﺪ أﺑًﺎ ﻟﻸوﻻد اﻟﺴﺎﺑﻘني ،وﻫﺬا ﻳﺆﻛﺪ ﻣﺮ ًة أﺧﺮى ﻗﻮة اﻷﺑﻮة اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ.
واملﺮأة املﻄﻠﻘﺔ ﻻ ﺗﻜﻮن ﻣﺸﻜﻠﺔ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﺘﺰوج ﻣﺮ ًة أﺧﺮى ،وﻻ ﻳﻜﺎد
ﻳﻮﺟﺪ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﺑﺪاﺋﻲ ﻳﻌﺎﻧﻲ ﻣﻦ وﺟﻮد ﻓﺘﻴﺎت أو ﻣﻄﻠﻘﺎت ﻏري ﻣﺘﺰوﺟﺎت.
وﻋﻨﺪ ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻻ ﻳﺤﺪث ﻃﻼق ،ﺑﻞ ﺗُ َﻔ ﱡﺾ ﻋﻼﻗﺔ اﻟﺰواج ﺑﺨﻄﻒ أو ﴎﻗﺔ
اﻟﺰوﺟﺔ ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﺣﺒﻴﺐ ﺳﺎﺑﻖ .ﻋﻨﺪ اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ﻳﻘﺘﻞ اﻟﺤﺒﻴﺐ اﻟﺰوج ﺛﻢ ﻳﴪق اﻟﺰوﺟﺔ
وﻳﺘﺰوﺟﻬﺎ .أﻣﺎ إذا ﴎﻗﻬﺎ دون أن ﻳﻘﺘﻞ اﻟﺰوج ،ﻓﻐﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳﺒﺤﺚ ﻋﻨﻪ اﻟﺰوج املﺨﺪوع
وﻳﻘﺘﻠﻪ .وﻋﻨﺪ ﻛﺜريﻳﻦ ﻣﻦ اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ﺗﺨﻄﻒ اﻟﻌﺸﺎﺋﺮ زوﺟﺎت رﺟﺎل
اﻟﻌﺸﺎﺋﺮ اﻷﺧﺮى وﺗﺘﺰوﺟﻬﻦ ﰲ ﺣﻔﻼت ﺻﺎﺧﺒﺔ ،ﻗﺪ ﻳﺸﺎرك ﻓﻴﻬﺎ رﺟﺎل اﻟﻌﺸرية اﻟﺘﻲ
ﺧﻄﻔﺖ ﻣﻨﻬﻢ اﻟﺰوﺟﺔ ،دون أن ﻳﻜﻮن ﻫﺬا ﻣﺪﻋﺎة ﻟﻠﺤﺮب .وﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺨﻄﻒ ﻳﻮاﻓﻖ
ﻋﻠﻴﻪ املﺠﺘﻤﻊ ،إﻻ إذا ﻛﺎن اﻟﺨﺎﻃﻒ ﻟﻪ ﻋﻼﻗﺔ ﺳﺎﺑﻘﺔ ﺑﺎﻟﺰوﺟﺔ املﺨﻄﻮﻓﺔ ﻗﺒﻞ زواﺟﻬﺎ.
473
اﻹﻧﺴﺎن
) (6اﻷﴎة
ﻧﻈ ًﺮا ﻟﺜﺒﺎت ﻧﻈﺎم اﻷﴎة ﻟﻔﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ ،ﻓﺈن ﻣﻔﻬﻮﻣﻬﺎ ﻗﺪ ﻳﺒﺪو واﺿﺤً ﺎ وﺑﺴﻴ ً
ﻄﺎ .ﻟﻜﻦ
اﻷﻣﺮ ﻟﻴﺲ ﻛﺬﻟﻚ .إن اﻷﴎة — ﰲ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ واﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻋﲆ اﻟﺴﻮاء — ﺗﻜﻮن املﺤﻮر
اﻷﺳﺎﳼ ﻟﺘﻨﻈﻴﻢ املﺠﺘﻤﻊ ،وﻫﻲ ﺑﺬﻟﻚ اﻟﻘﺎﻋﺪة اﻟﺘﻲ ﻳﻨﺒﻨﻲ ﻋﻠﻴﻬﺎ أي ﻣﺠﺘﻤﻊ وﺗﺮﻛﻴﺒﺎﺗﻪ
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ وﻋﲆ رأﺳﻬﺎ ﻧﻈﻢ اﻟﻘﺮاﺑﺔ .وﻧﻈ ًﺮا ﻟﺸﻴﻮع ﻧﻈﺎم اﻷﴎة ﺑﺄﻧﻤﺎﻃﻬﺎ
املﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﻓﺈن املﻌﺘﻘﺪ ﺣﺘﻰ اﻵن أن اﻷﴎة ﻧﻈﺎم ﻋﺎملﻲ .ﻟﻜﻨﻬﺎ — ﻛﺄي ﻧﻈﺎم ﺣﻀﺎري
آﺧﺮ — ﻟﻴﺴﺖ ﺛﺎﺑﺘﺔ ،ﺑﻞ ﻳﻌﱰﻳﻬﺎ اﻟﺘﻐري ﰲ املﻀﻤﻮن واﻟﺸﻜﻞ .وﺗﺤﺘﻮي اﻷﴎة ﰲ أﺳﺎﺳﻬﺎ
ﻋﲆ ﺛﻼﺛﺔ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﻣﺘﺪاﺧﻠﺔ؛ ﻫﻲ (١) :اﻟﺮاﺑﻄﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻤﻊ ذﻛ ًﺮا وأﻧﺜﻰ ﺑﺮﺑﺎط املﻌﺎﴍة
وﻧﻈﻢ ﻫﺬه اﻟﺮاﺑﻄﺔ وﻣﺪى اﺳﺘﻤﺮارﻫﺎ ،وﻫﻨﺎ ﺗﻈﻬﺮ ﻛﺎﻓﺔ أﺷﻜﺎل اﻟﺰواج ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺎ أﺳﻠﻔﻨﺎ.
) (٢اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻟﺪاﺧﲇ ﻟﻸﴎة ،ﺑﻤﻌﻨﻰ دور ﻛﻞ ﻓﺮد ﻓﻴﻬﺎ ووﺿﻌﻪ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ واﻟﺨﻠﻘﻲ
واﻟﻮﻇﻴﻔﻲ (٣) .وﺿﻊ اﻷﴎة ووﻇﻴﻔﺘﻬﺎ داﺧﻞ إﻃﺎر املﺠﺘﻤﻊ ﻛﻜﻞ .وﻓﻴﻤﺎ ﻳﲇ اﻷﻧﻤﺎط
اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻸﴎة:
وإﺣﺼﺎﺋﻴﺔ .ﻓﻔﻲ املﺠﺘﻤﻊ اﻟﻮاﺣﺪ ﻳﺠﺐ أن ﻧُﻔ ﱢﺮق ﺑني ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﺴﻤﻮح وﺑني ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣُﻤﺎ َرس
ً
ﺿﺌﻴﻼ ﺟﺪٍّا ﻣﻦ املﺴﻠﻤني ﻓﻌﻼ .ﻓﺎملﺠﺘﻤﻌﺎت اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﺗُ ِﺠﻴﺰ ﺗﻌﺪﱡد اﻟﺰوﺟﺎت ،وﻟﻜﻦ ﻋﺪدًا
ً
ﻳﻤﺎرﺳﻮن ﻫﺬا اﻟﺤﻖ ﻷﺳﺒﺎب اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ واﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻣﻌً ﺎ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻧﺪرس ﻣﺠﺘﻤﻌً ﺎ
8ﻣﻦ ﺑني ٢٣٨ﻣﺠﺘﻤﻌً ﺎ وﺟﺪ اﻷﺳﺘﺎذ ﻣﺮدوك ٤٣ﻣﺠﺘﻤﻌً ﺎ ﻳﺮاﻋﻲ أﺣﺎدﻳﺔ اﻟﺰواج ،و ١٩٣ﻣﺠﺘﻤﻌً ﺎ ﻳﺴﻤﺢ
ﺑﺘﻌﺪد اﻟﺰوﺟﺎت ،وﻣﺠﺘﻤﻌَ ْني ﻳﺴﻤﺤﺎن ﺑﺘﻌﺪد اﻷزواج .راﺟﻊMurdock, G. P., “Social Structure” :
.Macmillan, Free Press, New York 1966, p. 28
474
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
أن ﻧﺠﻴﺐ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺘﺴﺎؤﻻت :ﻫﻞ أﺣﺎدﻳﺔ اﻟﺰواج ﻫﻮ اﻟﻨﻈﺎم اﻟﻮﺣﻴﺪ؟ أم ﻫﻞ ﻫﻮ اﻟﻨﻈﺎم
املﻔﻀﻞ؟ ﻫﻞ ﻫﻨﺎك أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻧﻈﺎم؟ وﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﺪى ﻣﻤﺎرﺳﺘﻪ ﺑﻨﺴﺐ ﺗﻘﺮﻳﺒﻴﺔ أو إﺣﺼﺎﺋﻴﺔ؟
وﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﻌﻤﻮم ،ﻧﻼﺣﻆ أن ﻧﻈﺎم اﻟﺰواج اﻷﺣﺎدي ﻏري ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﻨﻈﻢ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ أو
ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﺷﺎﺋﻊ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺪاﺋﻴني وأﺻﺤﺎب اﻟﺤﻀﺎرات املﻌﺎﴏة ﻋﲆ ﺣ ﱟﺪ ﺳﻮاء،
وإن ﻛﺎﻧﺖ ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت املﻌﺎﴏة ﺗﻤﻨﻊ ﺗﻌﺪد اﻟﺰوﺟﺎت ﺑﻘﻮة اﻟﻘﺎﻧﻮن .ﻛﺬﻟﻚ ﻧﻼﺣﻆ
أن اﻟﺰواج اﻷﺣﺎدي ﺷﺎﺋﻊ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻷﻣﻮﻳﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺷﻴﻮﻋﻪ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻷﺑﻮﻳﺔ،
ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ذﻟﻚ ﻳﻈﻬﺮ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻌﻘﺎﺋﺪ اﻟﻮﺿﻌﻴﺔ اﻷﺳﻄﻮرﻳﺔ؛ ﺣﻴﺚ ﺗﻈﻬﺮ ﺑﺪاﻳﺔ ً وﻫﻮ
املﺠﺘﻤﻊ ﻣﻦ ﺗﺰاوج ﺷﺨﺼني ،ﻛﻤﺎ ﻳﻈﻬﺮ ﰲ اﻟﻌﻘﺎﺋﺪ واﻟﺪﻳﺎﻧﺎت اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ )آدم وﺣﻮاء(،
وأﺧريًا ﻳﺮﺗﺒﻂ ﻫﺬا اﻟﺰواج ﺑﻨﻈﺎم اﻟﺰواج اﻟﺤﺮ ﻏري املﻘﻴﺪ ﺑﻨﻤﻂ اﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻣﺤﺪد وﻣﻠﺰم
ﺑﺰواج ﻣﻌني.
وﺗﺘﻜﻮﱠن اﻷﴎة اﻷﺣﺎدﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﺰوﺟني وأﺑﻨﺎﺋﻬﻤﺎ ،وﻗﺪ ﻳﻘﻴﻢ ﻣﻌﻬﻢ ﻗﺮﻳﺐ أو أﻛﺜﺮ.
وﰲ اﻋﺘﻘﺎد اﻟﻜﺜريﻳﻦ ﻣﻦ اﻟﺒﺎﺣﺜني أن اﻟﺰوﺟني دون أﻃﻔﺎل ﻻ ﻳﻜﻮﻧﺎن أﴎة .وأﻫﻢ
ﻣﻤﻴﺰات اﻷﴎة اﻷﺣﺎدﻳﺔ ﻣﺎ ﻳﲇ (١) :وﺟﻮد اﻟﺮﻛﻦ اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻲ ﻛﺄﺳﺎس ﻟﻠﻤﻌﺎﴍة ﺑني
اﻟﺰوﺟني (٢) .ﺗﻜﻮﻳﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ وﺛﻴﻘﺔ اﻟﺼﻠﺔ ﻣﺆﺳﺴﺔ ﻋﲆ ﻋﻼﻗﺔ اﻵﺑﺎء واﻷﺑﻨﺎء ﺣﺴﺐ
اﻷﻧﻤﺎط واﻟﻘﻮاﻟﺐ اﻟﺴﺎﺋﺪة )أﺑﻮة اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ أو ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ( (٣) .ﺳﻜﻦ ﻣﺸﱰك ﻷﻋﻀﺎء
ﻫﺬه املﺠﻤﻮﻋﺔ (٤) .ﻣﺸﺎرﻛﺔ ﺟﻤﻴﻊ اﻷﻋﻀﺎء اﻟﺒﺎﻟﻐني ﰲ اﻷﴎة ﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
ﻟﻸﴎة (٥) .اﻟﱰﺑﻴﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻸﻃﻔﺎل (٦) .ﰲ ﻣﻌﻈﻢ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ واﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻻ
ﺗﻜﻮن اﻷﴎة اﻷﺣﺎدﻳﺔ ﻣﻨﻌﺰﻟﺔ ،ﺑﻞ ﺗﺼﺒﺢ ﻋﻀﻮًا ﰲ ﻧﻈﺎم ﻗﺮاﺑﻲ واﺟﺘﻤﺎﻋﻲ واﺳﻊ .أﻣﺎ ﰲ
املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ ،ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗﻜﻮن وﺣﺪة ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ.
وﺗﺸﺘﻤﻞ اﻷﴎة اﻷﺣﺎدﻳﺔ ﻋﲆ ﺟﻴﻠني :اﻵﺑﺎء ،واﻷﺑﻨﺎء .وﻋﲆ ﺛﻤﺎﻧﻲ ﻋﻼﻗﺎت ﻣﺘﺒﺎدﻟﺔ؛
ﻫﻲ:
ﻋﻼﻗﺔ اﻷب ﻣﻊ (١) :اﻟﺰوﺟﺔ (٢) .اﻻﺑﻦ (٣) .اﻻﺑﻨﺔ. )أ(
ﻋﻼﻗﺔ اﻷم ﻣﻊ (٤) :اﻻﺑﻦ (٥) .اﻻﺑﻨﺔ. )ب(
ﻋﻼﻗﺔ اﻷخ اﻷﻛﱪ ﻣﻊ (٦) :اﻷخ اﻷﺻﻐﺮ (٧) .اﻹﺧﻮة اﻟﺒﻨﺎت. )ﺟ(
ﻋﻼﻗﺔ اﻷﺧﺖ اﻟﻜﱪى ﻣﻊ (٨) :ﺷﻘﻴﻘﺎﺗﻬﺎ. )د(
وﺗﻜﻮن ﻫﺬه اﻟﻌﻼﻗﺔ أﺳﺲ ﻧﻈﻢ اﻟﻘﺮاﺑﺔ واﻟﺒﻨﺎء اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ،وﺗﻮﺟﺪ ﺑني ﻛﻞ ﻓﺮد
ﻋﻼﻗﺎت ﻣﺘﺒﺎدﻟﺔ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻋﺎﻃﻔﻴﺔ وأﺧﻼﻗﻴﺔ .وﻋﻼﻗﺔ اﻟﺠﻨﺲ ﰲ اﻷﴎة ﻗﺎﴏة
475
اﻹﻧﺴﺎن
ﻋﲆ اﻷب واﻷم ﻓﻘﻂ ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﺗﺨﻀﻊ ﺑﻌﺾ اﻟﻘﻴﻮد
ﻋﻠﻴﻬﺎ :ﻓﺘﺼﺒﺢ ﻫﺬه اﻟﻌﻼﻗﺔ ﻣﻤﻨﻮﻋﺔ وﻣﺤﺮﻣﺔ )ﺗﺎﺑﻮ( ﰲ أوﻗﺎت ﻣﻌﻴﻨﺔ :اﻟﺤﻴﺾ ،واﻟﺤﻤﻞ،
واﻟﺮﺿﺎﻋﺔ .وﻟﻌﻞ أﺣﺪ أﺳﺒﺎب ﺗﻌﺪد اﻟﺰوﺟﺎت ﻋﻨﺪ أﺻﺤﺎب اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻫﻮ ﻃﻮل
اﻟﻔﱰات اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺮم ﻓﻴﻬﺎ املﻌﺎﴍة اﻟﺰوﺟﻴﺔ.
وﰲ ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻧﺠﺪ ﴐورة ﻗﻴﺎم ﻋﻼﻗﺎت ﺟﻨﺴﻴﺔ ﺑني اﻟﺰوﺟﺔ وﺷﺨﺺ
ﻣﺜﻼ ﻋﻨﺪ ﻗﺒﻴﻠﺔ ﺑﺎﻧﺎرو Banaroﰲ ﺷﻤﺎل ﻏﻴﻨﻴﺎ آﺧﺮ ﻗﺒﻞ ﻋﻼﻗﺔ املﻌﺎﴍة اﻟﺰوﺟﻴﺔ اﻟﺤﻘﺔً .
ﺷﺨﺼﺎ ﻣﻦ أﺻﺪﻗﺎء ً اﻟﺠﺪﻳﺪة )إﻳﺮﻳﺎن( ﻻ ﻳﺴﻤﺢ ﻟﻠﺰوﺟني ﺑﺎملﻌﺎﴍة ﻗﺒﻞ أن ﺗﻌﺎﴍ اﻟﺰوﺟﺔ
ﻃﻔﻼ .وﻗﺪﻳﻤً ﺎ ،ﻛﺎن ا ُملﺘﺒَﻊ ﺑني ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺰراﻋﻴني ﰲ
ً أﻗﺎرب واﻟﺪ اﻟﻌﺮﻳﺲ ،وﺗﻨﺠﺐ ﻣﻨﻪ
ً
أﻃﻔﺎﻻ ﴍق أوروﺑﺎ ،أن ﻳﻌﻘﺪ اﻷب ﻻﺑﻨﻪ اﻟﺼﻐري ﻋﲆ ﻓﺘﺎة ﺑﺎﻟﻐﺔ ،وﻳﻌﺎﴍﻫﺎ وﻳﻨﺠﺐ ﻣﻨﻬﺎ
ﺣﺘﻰ ﻳﻜﱪ اﻻﺑﻦ وﻳﻘﻮم ﺑﻮاﺟﺒﺎﺗﻪ اﻟﺰوﺟﻴﺔ ﻣﻊ زوﺟﺘﻪ 9 ،وﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﻨﺎدرة ﺗﻨﺒﻊ
ﻣﻦ ﺗﻀﺨﻢ دور اﻷب ﰲ ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻷﴎة واﻟﻌﺎﺋﻠﺔ .وﻳﺮى اﻷﺳﺘﺎذ ﻣﺮدوك أن ﻣﻦ اﻟﺨﻄﺄ
اﻻﻋﺘﻘﺎد ﺑﺄن ﻓﻜﺮة اﻟﺰواج ﺗﺘﺄﺳﺲ ﻋﲆ اﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ ﺑني اﻟﺰوﺟني ،وﻗﺪ أوﺿﺢ ﻣﺮدوك
إﺣﺼﺎﺋﻴٍّﺎ أن اﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗُﺸﺒَﻊ ﺧﺎرج اﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﺰواﺟﻴﺔ ،وذﻟﻚ ﺑﺴﻤﺎح ﻣﻦ
املﺠﺘﻤﻊ ،ﻗﺒﻞ اﻟﺰواج وﺧﻼﻟﻪ )اﻧﻈﺮ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻣﻦ :اﻟﻌﻼﻗﺎت ﺑني اﻟﺠﻨﺴني( .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ
ﻣﻦ أﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﺄﺧﺬ ﻫﺬه اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﺤﺴﺎﺳﺔ إﺣﺼﺎﺋﻴٍّﺎ ﻟﺘﻌﻘﺪ املﻔﺎﻫﻴﻢ واملﻮاﻗﻒ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ؛
ﻓﺈن اﻻﺗﻔﺎق ﺳﺎﺋﺪ ﺑني اﻟﺒﺎﺣﺜني ﻋﲆ أن اﻟﺰواج واﻟﺠﻨﺲ ﻋﻨﺪ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻻ
ﻳﺮﺗﺒﻄﺎن ذﻟﻚ اﻻرﺗﺒﺎط اﻟﻌﻀﻮي ﻛﻤﺎ ﻧﻔﻬﻤﻪ ﻧﺤﻦ ،وﻻ ﻳﺘﺄﺳﺲ أﺣﺪﻫﻤﺎ ﻋﲆ اﻵﺧﺮ.
وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﺠﻨﺲ ﻟﻴﺲ املﺤﺮك اﻷول ﻟﻠﺰواج ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺪاﺋﻴني ،وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﻟﻴﺲ أﺳﺎس
ﻗﻴﺎم اﻷﴎة .ﺑﻞ إن اﻷﺳﺎس اﻟﺬي ﺗﻨﺒﻨﻲ ﻋﻠﻴﻪ اﻷﴎة ﰲ ﺟﻮﻫﺮﻫﺎ ﻫﻮ اﻟﺘﻌﺎون اﻻﻗﺘﺼﺎدي،
وﺑﺮﻏﻢ ﺣﺪوث اﻟﺘﻌﺎون اﻻﻗﺘﺼﺎدي ﺑني أﻋﻀﺎء املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ،ﻓﺈن اﻷﴎة ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ
ﺗﻜﻮن اﻟﺘﺠﻤﻊ اﻟﺘﻌﺎوﻧﻲ املﺜﺎﱄ ،وﻳﻘﻮم ﻫﺬا اﻟﺘﺠﻤﻊ املﺜﺎﱄ ﻋﲆ (١) :اﻟﺤﺎﺟﺔ اﻟﺒﺤﺘﺔ ﻟﻠﺘﻌﺎون
ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﻄﻌﺎم وﺗﺄﻣﻴﻨﻪ ﻟﻠﺰوﺟني واﻷﻃﻔﺎل .وﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺪاﻓﻊ ﻣﻮﺟﻮد ﻋﲆ
ﺻﻮرة أوﺳﻊ ﻣﻦ اﻟﺘﻌﺎون ﺑني أﻋﻀﺎء املﺠﺘﻤﻊ ،وﻳﻤﻜﻦ ﻧﻈﺮﻳٍّﺎ أن ﻳﺆدي ﻫﺬا اﻟﺘﻌﺎون
ﺑني أﻋﻀﺎء املﺠﺘﻤﻊ إﱃ إﺷﺒﺎع ﻛﻞ اﻻﺣﺘﻴﺎﺟﺎت ،ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻬﺎ رﻋﺎﻳﺔ اﻷﻃﻔﺎل دون اﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ
ﻧﺸﺄة اﻷﴎة (٢) .ﻟﻜﻦ اﻟﺘﻌﺎون ﺑني أﻋﻀﺎء اﻷﴎة ﻳﺼﺒﺢ ﺗﻘﺴﻴﻢ ﻋﻤﻞ إﺟﺒﺎري ،وﻟﻴﺲ
اﺧﺘﻴﺎري؛ وذﻟﻚ راﺟﻊ إﱃ أن اﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺸﺄ ﻋﻦ اﻟﺰواج ﺗُﻮﺛﱠﻖ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴٍّﺎ )ورﺑﻤﺎ دﻳﻨﻴٍّﺎ
.Murdock, G. P., Social Structure Macmillan, Free Press, New York 1966, P. 5 9
476
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
أﻳﻀﺎ( ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ وﺟﻮد اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺜﻤﺎﻧﻲ ﺑني أﻓﺮاد اﻷﴎة — اﻟﺘﻲ أﴍﻧﺎ إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ً
ﻗﺒﻞ — وﻫﻲ ﻋﻼﻗﺎت ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﻛﻠﻬﺎ ﺳﻮى ﺟﺰﺋﻴٍّﺎ ﺑني أﻓﺮاد املﺠﺘﻤﻊ.
وﻻ ﺗﻘﺘﴫ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ داﺧﻞ اﻷﴎة ﻋﲆ اﻟﺘﻌﺎون ﺑني اﻷب واﻷم ،ﺑﻞ
أﻳﻀﺎ .ﻓﻔﻲ املﺮاﺣﻞ اﻷوﱃ ﻳﻌﻤﻞ اﻟﺰوﺟني ﻣﻦ أﺟﻞ ﺗﻨﺸﺌﺔ أﻃﻔﺎﻟﻬﻤﺎ، ﺗﺘﻌﺪاﻫﺎ إﱃ اﻷﺑﻨﺎء ً
وﰲ ﻣﻘﺎﺑﻞ ذﻟﻚ ﻳﻌﻤﻞ اﻷﺑﻨﺎء ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﻜﱪون ﻣﻦ أﺟﻞ واﻟﺪﻳﻬﻤﺎ .وﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻮﺿﺢ دورة
ﻫﺬه اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ داﺧﻞ اﻷﴎة ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺘﺎﱄ:
وإﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻛﺴﺒﺐ ﻣﻦ أﺳﺒﺎب ﻧﺸﻮء اﻷﴎة ،ﻓﺈن ﻫﻨﺎك ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ
أﺧﺮى ﻣﻦ اﻷﺳﺒﺎب املﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺒﻂء اﻟﻨﻤﻮ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻲ واﻟﺤﻀﺎري ﻋﻨﺪ أﻃﻔﺎل اﻹﻧﺴﺎن —
ﻋﲆ ﻋﻜﺲ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﻮﺟﻮد ﰲ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻷﺧﺮى .ﻓﺎﻟﻨﻤﻮ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻲ اﻟﺒﻄﻲء
ﻟﻸﻃﻔﺎل ﻳﺆدي إﱃ ﴐورة إﻳﺠﺎد ﻧﻈﺎم ﻳﻤﻜﻦ ﺑﻤﻘﺘﻀﺎه رﻋﺎﻳﺔ اﻷﻃﻔﺎل ،ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺘَ ْﻲ
ﺗﻮﻓري اﻟﻐﺬاء واﻟﺤﻤﺎﻳﺔ ﺿﺪ اﻷﻣﺮاض واﻷﺧﻄﺎر اﻷﺧﺮى .وﻟﻬﺬا ﻓﺈن ﺟﺎﻧﺒًﺎ ﻣﻦ ﻧﺸﺎط
املﺮأة ﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﺘﻨﺸﺌﺔ اﻷﻃﻔﺎل ﻟﻔﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﺆدي إﱃ ﻋﻼﻗﺎت ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ وﻋﺎﻃﻔﻴﺔ ﺑني
اﻷﻃﻔﺎل واﻷﻣﻬﺎت .وﻟﻌﻞ ﻫﺬا ﻫﻮ أﺣﺪ أﻫﻢ اﻟﺪواﻓﻊ ﻟﻘﻴﺎم ﻧﻈﺎم اﻟﻨﺴﺐ اﻷﻣﻮي وﻧﺸﺄﺗﻪ
املﺒﻜﺮة ﻋﻦ ﻧﻈﺎم اﻟﻨﺴﺐ اﻷﺑﻮي .وﰲ ﺧﻼل ﻓﱰة اﻟﻄﻔﻮﻟﺔ اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ ﻳﺘﻌﻠﻢ اﻷﺑﻨﺎء اﻟﻨﻈﺎم
اﻟﺤﻀﺎري ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ ،وﻣﻊ ﺗﻌﻘﺪ اﻟﻨﻈﻢ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ وﺗﺨﺼﺼﻬﺎ ﻧﺠﺪ ﻓﱰة اﻟﺘﻌﻠﻢ ﺗﺰداد
ﻛﺜريًا ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﻠﻴﺎ ﻋﻨﻬﺎ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ.
وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻠﺨﺺ ﻣﻬﺎم وواﺟﺒﺎت اﻷﴎة اﻷﺣﺎدﻳﺔ ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺘﺎﱄ:
) (١ﺗﻨﻈﻴﻢ ﻟﻠﺤﻴﺎة اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ (٢) .ﺗﺠﻤﻊ ﺗﻌﺎوﻧﻲ اﻗﺘﺼﺎدي ﻣﺜﺎﱄ (٣) .ﺗﻨﺸﺌﺔ اﻷﻃﻔﺎل
ً
ﻋﺎﻣﺔ إﻧﻪ ﺑﺪون املﻬﻤﺘني اﻷوﱃ ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴٍّﺎ (٤) .ﺗﻌﻠﻴﻢ اﻷﻃﻔﺎل ﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ .وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻘﻮل
واﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻣﺠﺘﻤﻊ ،وﺑﺪون املﻬﻤﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﺗﺘﻌﺬر اﻟﺤﻴﺎة ،وﺑﺪون املﻬﻤﺔ اﻷﺧرية ﻻ
ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻟﺤﻀﺎرة وﺗﻄﻮﻳﺮﻫﺎ .وﺑﺮﻏﻢ ﻫﺬه اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﺸﺎﺋﻌﺔ واملﻨﻄﻘﻴﺔ ،إﻻ أﻧﻨﺎ ﻧﻌﺘﻘﺪ
أن ﻫﺬا ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺘﺒﺴﻴﻂ واﻟﺘﻌﻤﻴﻢ .ﻓﺎﻟﺤﻀﺎرات واملﺠﺘﻤﻌﺎت ﻣﻠﻴﺌﺔ ﺑﻨﻈﻢ ﻛﺜرية ﺗﺨﺘﻠﻒ
477
اﻹﻧﺴﺎن
ﻋﻦ ﻧﻈﺎم اﻷﴎة اﻷﺣﺎدﻳﺔ ،وﻛﻠﻬﺎ ﺗﺸﺒﻊ املﻬﺎم اﻷرﺑﻊ اﻟﺴﺎﻟﻔﺔ اﻟﺬﻛﺮ ،ﻛﻤﺎ ﺳﻨﺮى ﻣﻦ أﻧﻮاع
اﻷﴎ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ.
ﺗﻜﻮﱢن اﻷﴎة اﻷﺣﺎدﻳﺔ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﺴﻤﻴﻪ اﺳﺘﻌﺎرﻳٍّﺎ ﺑﺎﻟﺨﻠﻴﺔ اﻷوﻟﻴﺔ .وﻫﺬا اﻟﻨﻤﻂ ﻣﻦ
اﻷﴎة ﺷﺎﺋﻊ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ ﺑﺼﻮرة أو أﺧﺮى ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ
ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻷﺧﺮى اﻟﻌﻠﻴﺎ واﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻟﺨﻠﻴﺔ اﻷوﻟﻴﺔ داﺋﻤً ﺎ ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﺗﺠﻤﻊ
ﻋﺪة ﺧﻼﻳﺎ ﺗﻜﻮن أﻧﻮاﻋً ﺎ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻷﴎ املﺮﻛﺒﺔ .وأﻫﻢ اﻷﺷﻜﺎل اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻟﻸﴎ املﺮﻛﺒﺔ:
اﻷﴎة املﻤﺘﺪة ،واﻷﴎة املﺘﻌﺪدة اﻟﺰوﺟﺎت ،واﻷﴎة املﺘﻌﺪدة اﻷزواج.
ﺗﺘﻜﻮن اﻷﴎة املﻤﺘﺪة ﻣﻦ ﻋﺪة أﴎ أﺣﺎدﻳﺔ ﺗﺮﺗﺒﻂ ﻣﻌً ﺎ ﺑﺮﺑﺎط اﻟﺘﺴﻠﺴﻞ اﻟﻘﺮاﺑﻲ اﻷﻣﻮي
أو اﻷﺑﻮي ،وﺗﻌﻴﺶ ﻣﻌً ﺎ ﰲ ﻣﺴﻜﻦ واﺣﺪ .وﺑﻬﺬا ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻄﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﺳﻢ »اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ«
املﻮﺣﺪة املﺴﻜﻦ ،وﺗﱰﻛﺐ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﴎة ﻣﻦ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺟﻴﻠني :ﺟﻴﻞ اﻷﺟﺪاد ،وﺟﻴﻞ اﻵﺑﺎء،
أﻳﻀﺎ .وﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﴬوري أن ﺗﻜﻮن اﻟﺨﻼﻳﺎ اﻷﴎﻳﺔ وﺟﻴﻞ اﻷﺣﻔﺎد .وﻗﺪ ﺗﺰﻳﺪ ﻋﻦ ذﻟﻚ ً
اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻮن اﻷﴎة املﻤﺘﺪة أﺣﺎدﻳﺔ اﻟﺰواج؛ ﻓﻔﻲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻨﺴﺐ اﻷﺑﻮي ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن
أﴎا ﻣﺘﻌﺪدة اﻟﺰوﺟﺎت ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻨﺴﺐ اﻷﻣﻮي ﻧﺠﺪﻫﺎ أﺣﺎدﻳﺔ اﻟﺰواج. اﻟﺨﻼﻳﺎ ً
وﻳﻘﺮر ﺷﻜﻞ ﻫﺬه اﻟﺨﻼﻳﺎ ﻧﻮع املﺴﻜﻦ :ﻋﺼﺒﻲ Virilocalأو رﺣﻤﻲ .Uxorilocalﻓﻔﻲ
ﻧﻮع املﺴﻜﻦ اﻷول ﻳﺒﻘﻰ اﻷﺑﻨﺎء وﻳﺤﴬون زوﺟﺎﺗﻬﻢ إﱃ ﺑﻴﺖ اﻷب ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﰲ اﻟﻨﻮع اﻟﺜﺎﻧﻲ
ﺗﺒﻘﻰ اﻟﻔﺘﻴﺎت وﻳﻘﻴﻢ ﻣﻌﻬﻦ أزواﺟﻬﻦ ،وﰲ ﻛﻠﺘﺎ اﻟﺤﺎﻟﺘني ﻧﺠﺪ أن املﺴﻜﻦ ﺑﻴﺖ ﻛﺒري ﻳﺘﺴﻊ
ﻟﻸﺟﻴﺎل املﺘﻌﺎﻗﺒﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻴﺶ ﻣﻌً ﺎ .واملﺴﻜﻦ اﻟﻄﻮﻳﻞ )اﻧﻈﺮ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻣﻦ :املﺴﻜﻦ( ،ﻫﻮ
ﻣﻜﺎن ﺳﻜﻦ ﻟﻸﴎة املﻤﺘﺪة اﻷﻣﻮﻳﺔ ﻏﺎﻟﺒًﺎ .وﻟﻜﻦ ﻫﻨﺎك ً
أﻳﻀﺎ املﺴﺎﻛﻦ املﺠﻤﻌﺔ اﻷﺑﻮﻳﺔ اﻟﺘﻲ
ﻧﻄﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ »ﺑﻴﺖ اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ« واﻟﺬي ﻳﺄوي ً
أﻳﻀﺎ اﻷﺑﻨﺎء املﺘﺰوﺟني.
وأﻫﻢ ﻣﺎ ﻳﻤﻴﺰ اﻷﴎ املﻤﺘﺪة أو اﻟﻌﺎﺋﻼت اﻟﻜﺒرية املﻮﺣﺪة املﺴﻜﻦ ،ﻫﻮ ﺧﻀﻮﻋﻬﺎ
اﻗﺘﺼﺎدﻳٍّﺎ ﻟﻠﺠﺪ أو اﻷخ اﻟﻜﺒري اﻟﺬي ﻳﺘﴫف ﰲ ﻛﻞ دﺧﻞ أو ﻧﺸﺎط أﻓﺮاد ﻫﺬه اﻟﺨﻼﻳﺎ
املﺘﻌﺪدة .وﻛﺬﻟﻚ ﺗﺴﻴﻄﺮ ﰲ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻷﻣﻮي اﻟﺠﺪة أو اﻷﺧﺖ اﻟﻜﱪى ﻋﲆ أﺷﻜﺎل اﻟﻨﺸﺎط
اﻻﻗﺘﺼﺎدي ﻟﻸﴎ اﻷﺣﺎدﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻮن أﴎﺗﻬﺎ املﻤﺘﺪة .وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ
478
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
اﻷﴎي املﺮﻛﺐ ﻳﻠﻐﻲ إﺣﺪى ﻣﻬﺎم اﻷﴎة اﻷﺣﺎدﻳﺔ ،وﻫﻮ اﻟﺘﻌﺎون اﻻﻗﺘﺼﺎدي املﺴﺘﻘﻞ،
وﻳﺠﻌﻠﻬﺎ ﻣﻌﺘﻤﺪة ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﲆ اﻟﺘﻌﺎون اﻻﻗﺘﺼﺎدي ﻟﻌﺪد أﻛﱪ ﻣﻦ أﻓﺮاد اﻷﴎ اﻷﺣﺎدﻳﺔ .وﻻ
ﺷﻚ ﰲ أن ﺗﻨﺸﺌﺔ اﻷﻃﻔﺎل ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴٍّﺎ وﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ ﺗﺼﺒﺢ ﺟﺰﺋﻴٍّﺎ ﻣﻦ ﻣﻬﺎم اﻷﴎة اﻷﺣﺎدﻳﺔ،
وﻳﺸﺎرك ﻣﺠﺘﻤﻊ اﻷﴎة املﻤﺘﺪة ﰲ ﻫﺬه املﻬﺎم ﺑﺪور ﻛﺒري ،وﺑﺬﻟﻚ ﺗﻨﺤﴫ ﻣﻬﺎم اﻷﴎة
اﻷﺣﺎدﻳﺔ ﻫﻨﺎ ﰲ اﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ ﺑني اﻟﺰوﺟني.
وﻳﺴﻤﺢ ﻧﻈﺎم اﻷﴎة املﻤﺘﺪة ﺑﻨﺸﺄة اﻟﻨﻈﺎم اﻷﺑﻮي املﺘﺴﻠﻂ )أو اﻟﺴﻠﻄﻮي(
Patriarcalأو اﻷﻣﻮي املﺘﺴﻠﻂ ،ﺑﺤﻜﻢ أن رﺋﻴﺲ اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ ﻳﺠﻤﻊ ﰲ ﻳﺪﻳﻪ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻟﺴﻠﻄﺎت
اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﺳﻠﻄﺎت أﺧﺮى اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ وﻗﺎﻧﻮﻧﻴﺔ ﺑﺤﻜﻢ ﻋﻼﻗﺎت اﻷب أو اﻷخ
اﻷﻛﱪ ﺑﺎﻷﺑﻨﺎء واﻹﺧﻮة اﻷﺻﻐﺮ .وﻫﻮ ﺑﺬﻟﻚ ﻳﻜﻮن ﺳﻠﻄﺔ وﻗﻮة ﻟﻬﺎ ﺧﻄﺮﻫﺎ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت
اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ أو اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ،وﺧﺎﺻﺔ ﰲ ﺷﻜﻞ اﻟﱰﻛﻴﺐ واﻻﺗﺠﺎﻫﺎت اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ.
479
اﻹﻧﺴﺎن
ﻓﻤﺜﻼ ﺷﻨﻘﺖ زوﺟﺔ ﻣﻦ ً ﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا أﻧﻪ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﻏرية ،إﻧﻤﺎ ﺗﻈﻬﺮ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﰲ ﺻﻮر ﻓﺮدﻳﺔ.
اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﺸﺎﻳني ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺑﻌﺪ أن ﺗﺰوج زوﺟﻬﺎ اﻣﺮأة أﺧﺮى ،وﻛﺎن رد اﻟﻔﻌﻞ ﻋﻨﺪ ﺟﺪة ﻫﺬه
اﻟﺰوﺟﺔ أﻧﻬﺎ وﺻﻔﺘﻬﺎ ﺑﺎﻟﺴﺨﻒ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺷﻨﻘﺖ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻣﻦ أﺟﻞ ﻣﻮﺿﻮع ﺗﺎﻓﻪ!
وﻟﺘﺠﻨﺐ اﻟﻐرية ﻧﺠﺪ ﻋﺪدًا ﻛﺒريًا ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﺗﻤﺎرس اﻟﺰواج ﻣﻦ ﻋﺪة ﺷﻘﻴﻘﺎت،
وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ ،Sororal Polygygnyﻓﺎﻷﺧﻮات ﻳﻌﺮﻓﻦ ﺑﻌﻀﻬﻦ ﺟﻴﺪًا ،وﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻻ ﺗﻘﻮم
ﺑﻴﻨﻬﻦ ﻣﻨﺎﻓﺴﺔ ﺟﻨﺴﻴﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ إرﺿﺎء اﻟﺰوج — ﻋﲆ ﻋﻜﺲ ﺗﻌﺪد اﻟﺰوﺟﺎت اﻟﻐﺮﻳﺒﺎت
ﻣﺴﺒﻘﺎ ﻟﻌﺎدة اﻟﺰواج ﺑﺸﻘﻴﻘﺔ ً ً
ﺗﻄﺒﻴﻘﺎ ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻬﻦ .وﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻷﴎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن
اﻟﺰوﺟﺔ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﺗُ ﱠ
ﺘﻮﰱ )زواج اﻟﻮراﺛﺔ(.
وﻻ ﺗﻮﺟﺪ أﺳﺒﺎب ﻣﺤﺪدة ﻟﻨﺸﺄة اﻷﴎة املﺘﻌﺪدة اﻟﺰوﺟﺎت ،ﻟﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ
اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺘﻲ ﺗﻈﻬﺮ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ .وﻣﻦ ﺑني ﻫﺬه اﻷﺳﺒﺎب ﻣﺎ ﺳﺒﻖ ذﻛﺮه ﻣﻦ
ﻓﺮض ﻣﺤﺎرم ﻋﲆ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ ﻣﻊ اﻟﺰوﺟﺔ ﺧﻼل اﻟﺤﻤﻞ وأﺛﻨﺎء اﻟﺮﺿﺎﻋﺔ ،وﻟﻜﻦ
ﻳﺒﺪو أن اﻷﺳﺒﺎب اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﺗﺄﺗﻲ ﰲ ﻣﻘﺪﻣﺔ اﻟﺪواﻓﻊ ﻟﻨﺸﺄة ﺗﻌﺪد اﻟﺰوﺟﺎت؛ ﻓﻘﺪ ﻟﻮﺣﻆ
ﻃﺎ ﺑﻨﻤﻂ اﻷﴎة املﺘﻌﺪدة اﻟﺰوﺟﺎت ﰲ ﻣﻌﻈﻢ ﻛﺜريًا أن اﻷﻏﻨﻴﺎء ﻫﻢ أﻛﺜﺮ اﻟﻨﺎس ارﺗﺒﺎ ً
أﻳﻀﺎ أن اﻷﴎة املﺘﻌﺪدة اﻟﺰوﺟﺎت ﻋﺎد ًة أﻏﻨﻰ ﻣﻦ اﻷﴎ أﺣﺎدﻳﺔ ﻆ ً املﺠﺘﻤﻌﺎت ،ﻛﻤﺎ ﻟُﻮﺣِ َ
اﻟﺰوﺟﺔ ﻷن ﻃﺎﻗﺔ اﻟﻌﻤﻞ أﻛﱪ .ﻓﻤﻦ املﻌﺮوف أن اﻟﻄﺎﻗﺔ اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻫﻲ اﻷﺳﺎس اﻟﺬي ﻳﺮﺗﻜﺰ
ﻋﻠﻴﻪ زﻳﺎدة اﻹﻧﺘﺎج ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ .وملﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻨﺴﺎء ﺟﺰءًا ﻫﺎﻣٍّ ﺎ ﻣﻦ اﻟﻄﺎﻗﺔ
اﻹﻧﺘﺎﺟﻴﺔ )اﻟﺰراﻋﺔ اﻟﻘﺮﻳﺒﺔ ﻣﻦ املﺴﻜﻦ ،وإﻧﺘﺎج ﻓﺎﺋﺾ إﻧﺘﺎﺟﻲ ﺑﺴﻴﻂ ﻟﻠﺘﺴﻮﻳﻖ املﺤﲇ؛
ﻣﺜﻞ :اﻟﺪواﺟﻦ ،واﻟﺒﻴﺾ ،واﻷﻟﺒﺎن … إﻟﺦ( ،ﻓﺈن ﻛﺜﺮة اﻟﺰوﺟﺎت ﺗﺆدﱢي إﱃ رﺧﺎء ﻋﺎم ﻟﻠﺒﻴﺖ
واﻷﴎة اﻟﺘﻲ ﻳﺴﻴﻄﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺰوج — ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺰوج ﻓﻘريًا ﰲ ﺑﺪاﻳﺔ ﺣﻴﺎﺗﻪ
أﻳﻀﺎ ﻛﺜﺮة اﻷوﻻد ،وﻣﻦ ﺛﻢ اﻟﺰوﺟﻴﺔ .وﻳﺠﺐ أن ﻧﻀﻴﻒ إﱃ ذﻟﻚ أن ﺗﻌﺪد اﻟﺰوﺟﺎت ﻳﻌﻨﻲ ً
ﻛﺜﺮة اﻷﻳﺪي املﻨﺘﺠﺔ ،وﺑﻬﺬا ﻓﺈن ﺗﻌﺪد اﻟﺰوﺟﺎت ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻌﺪه ﻧﻈﺎﻣً ﺎ اﻗﺘﺼﺎدﻳٍّﺎ ﻣﺜﺎﻟﻴٍّﺎ
أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻧﻤﻂ اﻟﺰواج اﻷﺣﺎدي )ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل ﰲ أﻧﻤﺎط اﻟﺤﻴﺎة واﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ اﻟﺘﻲ
ﺗُﺴﺘﺨﺪَم ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻄﺎﻗﺔ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﰲ اﻹﻧﺘﺎج(.
وﻣﻤﺎ ﻳﺆﻛﺪ أﻫﻤﻴﺔ اﻟﺪور اﻻﻗﺘﺼﺎدي ﰲ ﻧﺸﺄة أو ﺗﻮﺳﻊ ﻧﻈﺎم ﺗﻌﺪد اﻟﺰوﺟﺎت،
ذﻟﻚ اﻟﺘﻐﻴري اﻟﺬي ﻃﺮأ ﻋﲆ أﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﺴﻬﻮل ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ﺑﻌﺪ ﺑﺪاﻳﺎت اﻻﺳﺘﻴﻄﺎن
اﻷوروﺑﻲ .ﻓﺤﻴﻨﻤﺎ أﺻﺒﺤﺖ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻷوروﺑﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﰲ ﺣﺎﺟﺔ ﻣﺘﺰاﻳﺪة إﱃ اﻟﺠﻠﻮد
املﺪﺑﻮﻏﺔ ،اﻧﺘﴩ ﻧﻤﻂ ﺗﻌﺪد اﻟﺰوﺟﺎت واﺗﺴﻊ ﺑني ﻫﺆﻻء اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ؛ ﻷن دﺑﺎﻏﺔ اﻟﺠﻠﻮد ﻛﺎﻧﺖ
ﻣﻬﻨﺔ ﻧﺴﺎﺋﻴﺔ ﻋﻨﺪﻫﻢ .وﺑﺎﺧﺘﺼﺎر ،ﺣﺎول ﻛﻞ ﺷﺨﺺ أن ﻳﺜﺮي ﺑﺎﻗﺘﻨﺎء )ﺗﺰوج( أﻛﱪ ﻋﺪد
ﻣﻤﻜﻦ ﻣﻦ أدوات اﻹﻧﺘﺎج )اﻟﻨﺴﺎء( ﻟﻬﺬه اﻟﺴﻠﻌﺔ اﻟﺮاﺋﺠﺔ.
480
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
وﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل ،ﻫﻨﺎك أﺳﺒﺎب أﺧﺮى ﻟﺘﻌﺪد اﻟﺰوﺟﺎت؛ ﻣﻨﻬﺎ :ﻋﻘﻢ املﺮأة ،وﺳﻴﺎدة
اﻷب ،واﻟﺮﻏﺒﺎت اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ ،واملﺮﻛﺰ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ املﱰﺗﺐ ﻋﲆ ﻛﺜﺮة ﻋﺪد اﻟﺰوﺟﺎت .وﻫﻮ أﻣﺮ
ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻟﺜﺮوة واﻟﻘﻮة اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻗﺒﻞ أو ﺑﻌﺪ اﻟﺰواج املﺘﻌﺪد.
وﻳﺤﺎول اﻹﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﻮن ﰲ أوروﺑﺎ وأﻣﺮﻳﻜﺎ أن ﻳﺆﻛﺪوا أن ﻧﻈﺎم ﺗﻌﺪد اﻟﺰوﺟﺎت
ﻟﻴﺲ إﻻ زواﺟً ﺎ أﺣﺎدﻳٍّﺎ ﰲ أﺳﺎﺳﻪ؛ ﻓﻜﻞ زوﺟﺔ ﺗﻜﻮﱢن ﻣﻊ اﻟﺰوج أﴎة أﺣﺎدﻳﺔ .وﻻ ﺷﻚ
ﰲ أن ﻫﺬا اﻟﺘﻔﺴري ﻳﺴﺘﻨﺪ إﱃ ﻋﺪم ﻗﺪرة ﻫﺆﻻء اﻟﺪارﺳني ﻋﲆ ﻓﻬﻢ اﻟﺰواج املﺘﻌﺪد؛ ﻷن
ﻣﺠﺘﻤﻌﺎﺗﻬﻢ أﺣﺎدﻳﺔ اﻷﴎة ﻣﻨﺬ ﻓﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ ،وﻫﻢ ﻟﺬﻟﻚ ﻳﺤﺎوﻟﻮن ﺗﱪﻳﺮ اﻷﴎة ﻣﺘﻌﺪدة
اﻟﺰوﺟﺎت ﺑﺄﻧﻬﺎ ﰲ ﺟﻮﻫﺮﻫﺎ ﺗﺠﻤﻊ ﻟﻌﺪة أﴎ أﺣﺎدﻳﺔ ،وﻟﻜﻦ اﻟﻮاﻗﻊ ﻏري ذﻟﻚ .ﺻﺤﻴﺢ
أن ﻛﻞ زوﺟﺔ ﰲ اﻷﴎة املﺘﻌﺪدة اﻟﺰوﺟﺎت ﺗﻜﻮﱢن ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ اﻷﴎة اﻷﺣﺎدﻳﺔ ﻧﻈﺮﻳٍّﺎ ،ﻟﻜﻦ
ً
وﻓﻀﻼ ﻋﻦ ارﺗﺒﺎط وﺗﺸﺎﺑﻚ ﻛﻞ اﻟﺰوﺟﺎت ﻣﻌً ﺎ ﰲ زوج واﺣﺪ ﻳﻬﺪم ﻓﻜﺮة اﻷﴎة اﻷﺣﺎدﻳﺔ،
ذﻟﻚ ﻓﺈن اﻷﴎة املﺘﻌﺪدة اﻟﺰوﺟﺎت ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﺧﻠﻴﺔ واﺣﺪة ﻣﺘﺸﺎﺑﻜﺔ وﻣﱰاﺑﻄﺔ اﻗﺘﺼﺎدﻳٍّﺎ
واﺟﺘﻤﺎﻋﻴٍّﺎ وﻣﻜﺎﻧﻴٍّﺎ )املﺴﻜﻦ املﺸﱰك( ،وﻫﺬه ﻛﻠﻬﺎ أﺷﻴﺎء ﺗﻠﻐﻲ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻓﻜﺮة اﻷﴎة املﺮﻛﺒﺔ
ﻋﺎﻣﺔ — ﺗﻌﺪد اﻟﺰوﺟﺎت أو اﻷزواج — ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ أﴎ أﺣﺎدﻳﺔ .ﻓﺎﻟﺤﻘﻴﻘﺔ إذن أن اﻷﴎة ً
املﺮﻛﺒﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﺗﺠﻤﻊ ﻟﻠﺨﻠﻴﺔ اﻟﺰوﺟﻴﺔ »اﻷوﻟﻴﺔ« )اﻷﴎة اﻷﺣﺎدﻳﺔ( — ﻛﻤﺎ ﻳﺤﻠﻮ
ﻟﻬﺆﻻء اﻟﺒﺎﺣﺜني أن ﻳﺼﻔﻮﻫﺎ — وإﻧﻤﺎ ﻫﻲ — ﺑﺘﻌﺪد زوﺟﺎﺗﻬﺎ أو أزواﺟﻬﺎ — ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ
ﻣﺜﺎﻻ ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ :ﻛﻞ اﻷﺷﻴﺎء ﺗﺘﻜﻮن ﰲ أﺳﺎﺳﻬﺎ ﺧﻠﻴﺔ واﺣﺪة .وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﴬب ً
ﻣﻦ ذرات ،ﻟﻜﻦ ﺑﻨﺎء ﻫﺬه اﻟﺬرات ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻏﻴﺎب إﻟﻜﱰون أو زﻳﺎدة ﺑﻮزﻳﱰون؛ ﻣﻤﺎ
ﻳﺆدي إﱃ ﻋﻨﺎﴏ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﰲ ﻛﻞ ﺻﻔﺎﺗﻬﺎ ووﻇﺎﺋﻔﻬﺎ .ﻓﺎﻟﺤﺪﻳﺪ ﻏري اﻟﺬﻫﺐ ،وﻛﺬﻟﻚ
اﻷﴎة املﺮﻛﺒﺔ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﺗﺮﻛﻴﺐ ﺣﻀﺎري ﻣﺘﻜﺎﻣﻞ ،وﻻ ﻳﺘﻜﻮن ﻣﻦ أﴎ أﺣﺎدﻳﺔ ﻣﺘﻌﺪدة؛
ﻷن اﻷﺧرية ﺑﺪورﻫﺎ ﺗﺮﻛﻴﺐ ﺣﻀﺎري آﺧﺮ ﻣﺘﻜﺎﻣﻞ.
481
اﻹﻧﺴﺎن
اﻷزواج إﺧﻮة ﻏﺎﻟﺒًﺎ ،وﺑﻌﺾ اﻟﻜﺘﺎب ﻳﺮى أن اﻷخ اﻷﻛﱪ ﻫﻮ اﻟﺰوج اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ،وأن ﺑﻘﻴﺔ
اﻹﺧﻮة ﻟﻬﻢ ﻓﻘﻂ ﺣﺮﻳﺔ اﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ واﻟﺤﻴﺎة ﻣﻌً ﺎ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻳﺼﺒﺢ ﻫﺆﻻء اﻹﺧﻮة أزواﺟً ﺎ
ﺛﺎﻧﻮﻳني ،Cicisbeismوﻟﻜﻦ إذا ﻛﺎن اﻷﻣﺮ ﻛﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﺗﻌﺪد اﻷزواج ﻳﺼﺒﺢ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ
ﺗﻌﺪد ﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﴪﻳﺮ Polykoityﻓﻘﻂ .وﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ﻏري ﺻﺤﻴﺢ ،ﻓﱪﻏﻢ أن ﻟﻠﺰوج اﻷول
ﻷخ
ﺣﻘﻮق اﻟﺒﻨﻮة ،إﻻ أن ﻫﺬه اﻟﺤﻘﻮق ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺴﺘﻤﺮة ﻃﻮال اﻟﺤﻴﺎة .ﻓﻌﻨﺪ اﻟﺘﻮدا ﻳﻤﻜﻦ ٍ
أﺻﻐﺮ أن ﻳﻘﻮم ﺑﻄﻘﻮس ﻣﻌﻴﻨﺔ ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ »إﻫﺪاء اﻟﻘﻮس« ،وﺑﺬﻟﻚ ﻳﺼﺒﺢ اﻷب اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
ﻟﻠﻄﻔﻞ اﻟﺘﺎﱄ أو ﻟﻠﻄﻔﻠني اﻟﺘﺎﻟﻴني ،وﺗﺘﻜﺮر ﻫﺬه اﻟﻄﻘﻮس ﺑﻌﺪد اﻹﺧﻮة اﻷزواج ﻛﻞ ﻓﱰة
زﻣﻨﻴﺔ ﻟﻴﺲ ﻟﻬﺎ ﺗﻮﻗﻴﺖ ﻣﺤﺪد .وﻳ َُﻘﻮدﻧﺎ ﻫﺬا ﻣﺮ ًة أﺧﺮى إﱃ اﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﺑﺄن اﻷﺑﻮة اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ
ﻋﻨﺪ ﻋﺪد ﻛﺒري ﻣﻦ اﻟﺒﺪاﺋﻴني أﻫﻢ ﺑﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﺑﻮة اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ.
وﻟﻢ ﻳُﻌ َﺮف ﺑَﻌْ ُﺪ ﺳﺒﺐ أو ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻷﺳﺒﺎب ﺗﺆدي إﱃ ﻧﻈﺎم اﻷﴎة املﺘﻌﺪدة
اﻷزواج ،وﻟﻜﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن ﻫﻨﺎك أﺳﺒﺎﺑًﺎ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﰲ ﻛﻞ ﺣﺎﻟﺔ ﻋﲆ ﺣﺪة .ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﻔﻘﺮ
اﻻﻗﺘﺼﺎدي ﻫﻮ واﺣﺪًا ﻣﻦ أﻫﻢ اﻷﺳﺒﺎب ﻋﻨﺪ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت :اﻟﺘﺒﺖ ،وﺟﻨﻮب اﻟﻬﻨﺪ،
وﺑﻌﺾ ﻗﺒﺎﺋﻞ ﴍق أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ .وﺣﻴﺚ ﻧﺠﺪ ﻓﻘﺮ اﻟﺒﻴﺌﺔ ﻫﻮ املﺴﺌﻮل ﻋﻦ ﺗﻌﺪد اﻷزواج ﰲ
اﻟﺘﺒﺖ )إذ ﻳﺘﻌﺬﱠر ﻋﲆ اﻟﺸﺨﺺ اﻟﻮاﺣﺪ أن ﻳﻌﻮل زوﺟﺘﻪ وأوﻻده — وﻣﻦ ﺛﻢ ﻻ ﺑﺪ ﻣﻦ
اﺷﱰاك ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﺮﺟﺎل ﻟﻠﻘﻴﺎم ﺑﻬﺬه املﻬﻤﺔ( ﻧﺠﺪ ﻛﺜﺎﻓﺔ اﻟﺴﻜﺎن وﻗﻠﺔ املﻮارد ﻋﻨﺪ اﻟﺘﻮدا
ً
ﻣﺴﺌﻮﻻ ﻣﺴﺌﻮﻟﺔ ﻋﻦ ﺗﻀﺎﻣﻦ ﻋﺪة إﺧﻮة ﰲ اﻟﺰواج ﻣﻦ ﻓﺘﺎة واﺣﺪة ،وﻧﺠﺪ ارﺗﻔﺎع املﻬﻮر
ﻋﻦ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﴎة ﻋﻨﺪ ﻓﻘﺮاء اﻟﺒﺎﻫﻴﻤﺎ واﻟﺒﺎﻧﻴﻜﻮﱄ ﰲ ﴍق أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ )ﺣﻴﺚ ﻳﺴﺎﻋﺪ ﻋﺪد
ﻣﻦ اﻹﺧﻮة أﺧﺎﻫﻢ ﻋﲆ ﺗﺠﻤﻴﻊ املﻬﺮ املﻄﻠﻮب ،وﻳﺼﺒﺢ ﻟﻬﻢ ﺣﻖ ﰲ اﻟﺰوﺟﺔ ﺣﺘﻰ ﺗﺤﻤﻞ
ﻓﺘﻌﻴﺶ ﻣﻊ زوﺟﻬﺎ وﻳﺼﺒﺢ ﻫﻮ اﻷب اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻟﻜﻞ اﻷﻃﻔﺎل(.
وﻣﻦ ﺑني اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺘﻲ ُﻗﺪﱢﻣَ ْﺖ ﻟﺘﻔﺴري ﻫﺬه اﻷﴎة ﻋﻨﺪ ﺳﻜﺎن اﻟﺘﺒﺖ وﺑﻌﺾ اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ
ﻋﺎدة ﻗﺘﻞ املﻮاﻟﻴﺪ ﻣﻦ اﻹﻧﺎث .وﺑﺮﻏﻢ ﻣﻤﺎرﺳﺔ ﻫﺬه اﻟﻌﺎدة؛ إﻻ أن ﺗﻘﺪﻳﺮات اﻟﺴﻜﺎن ﰲ
ﻮﺿﺢ زﻳﺎدة ﻋﺪد اﻟﺮﺟﺎل ﻋﲆ اﻟﻨﺴﺎء ﺑﺎﻟﺼﻮرة اﻟﺘﻲ ﻗﺪ اﻟﺘﺒﺖ أو ﻋﻨﺪ اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ﻟﻢ ﺗُ ﱢ
ﻧﺘﺼﻮرﻫﺎ .ﺑﻞ أﺛﺒﺘﺖ ﺑﻌﺾ اﻟﺪراﺳﺎت اﻹﺣﺼﺎﺋﻴﺔ أن ﻋﺪد اﻟﻨﺴﺎء ﻳﺰﻳﺪ ﻋﻦ ﻋﺪد اﻟﺮﺟﺎل ﰲ
ﻛﻞ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ .وﻣﻦ ﺛﻢ ،ﻓﺈن ﻫﺬا اﻟﺴﺒﺐ ﻟﻢ ﻳَﻌُ ْﺪ ﻟﻪ وﺟﺎﻫﺘﻪ املﺎﺿﻴﺔ ،ﺧﺎﺻﺔ
إذا ﻋﺮﻓﻨﺎ أن وأد اﻟﺒﻨﺎت ﺑني ﻋﺮب اﻟﺠﺎﻫﻠﻴﺔ ﻟﻢ ﻳﺆ ﱢد إﱃ ٍ
ﻧﻤﻂ ﻣﺎ ﻣﻦ أﻧﻤﺎط ﺗﻌﺪد اﻷزواج.
وﻟﻘﺪ د ﱠﻟﺖ اﻟﺪراﺳﺎت اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﻌﺪﻳﺪة ﻋﻦ أﻣﺮﻳﻨﺪ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ﻋﲆ وﺟﻮد
ﻧﻈﺎم اﻷﴎة املﺘﻌﺪدة اﻷزواج ﻋﻨﺪ ﻋﺪد ﻛﺒري ﻣﻦ أﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﺴﻬﻮل واﻟﻬﻀﺎب اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ .وﻳﺮى
482
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
.Hoebel, A., “Man in the Primitive World” Mc Grâw, New York 1958, P. 328 10
483
اﻹﻧﺴﺎن
484
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ اﻷﺧﻮﻳﺔ ا ُملﺮ ﱠﻛﺒﺔ :Fraternal Familyﻗﺒﻴﻠﺔ ﺑﻮﺑﻮ Boboﻣﻦ زراع ﺛﻨﻴﺔ اﻟﻨﻴﺠﺮ
ﻣﺴﻜﻦ واﺣﺪ
ٍ ﰲ ﻏﺮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ .ﺗﺘﻜﻮن اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ ﻣﻦ ﻋﺪة إﺧﻮة ﻣﻊ زوﺟﺎﺗﻬﻢ وأﺑﻨﺎﺋﻬﻢ ﰲ
ﻛﺒري ،وﻟﻜﻞ أﴎة أﺣﺎدﻳﺔ ﻣﻜﺎن ﺧﺎص ﻓﻴﻪ :اﻟﺮﺋﺎﺳﺔ ﻟﻸخ اﻷﻛﱪ اﻟﺬي ﻳﻨﻈﻢ اﻟﻌﻤﻞ
اﻟﺰراﻋﻲ وﻳﻮزﻋﻪ ﻋﲆ أﻋﻀﺎء اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ ،وزوﺟﺘﻪ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗُﻌِ ﱡﺪ اﻟﻐﺬاء ﻟﻠﺠﻤﻴﻊ .ﻛﻤﺎ ﻳﺘﻘﺒﻞ
املﻬﻮر اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺒﻨﺎﺗﻪ وﺑﻨﺎت إﺧﻮﺗﻪ وأﺣﻔﺎده ،وﻫﻮ اﻟﻘﺎﴈ واﻟﺤﺎﻛﻢ داﺧﻞ اﻟﺒﻴﺖ ،ﻛﻤﺎ
أﻧﻪ ﻫﻮ ﻛﺎﻫﻦ املﺠﻤﻮﻋﺔ املﺴﺌﻮل ﻋﻦ ﻃﻘﻮس ﻋﺒﺎدة اﻟﺴﻠﻒ ،وﻳﻜﻮن إﺧﻮﺗﻪ املﺠﻠﺲ
اﻻﺳﺘﺸﺎري ﻟﻠﻌﺎﺋﻠﺔ .ورﻳﺜﻪ ﻫﻮ اﻷخ اﻟﺬي ﻳﻠﻴﻪ ﰲ اﻟﻌﻤﺮ؛ وﺑﻬﺬا ﻓﺈن ﻫﺬه اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ ﻋﺒﺎرة
ﻋﻦ ﺗﺠﻤﻊ أ ُ َﴎ أﺣﺎدﻳﺔ ﻋﺼﺒﻴﺔ املﻜﺎن .ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﺰدﺣﻢ املﻜﺎن ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺆﺳﺲ ﺑﻌﺾ
اﻹﺧﻮة ﺑﻴﺘًﺎ ﺟﺪﻳﺪًا وﻋﺎﺋﻠﺔ ﺟﺪﻳﺪة؛ إذن أﺳﺲ ﻫﺬه اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ ﻫﻲ ﻋﻼﻗﺔ اﻷخ ← اﻷخ ﻣﻊ
ﻣﺒﺪأ اﺣﱰام اﻟﺴﻦ.
ﻋﺎﺋﻠﺔ اﻟﺨﺎل اﻷﻛﱪ :Sororal-Fraternal Familyﻗﺒﻴﻠﺔ ﺟﺎو Jaoﰲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﻧﻴﺎﺳﺎ
ﺑﴩق أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ .ﺗﺘﻜﻮن اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﺸﻘﻴﻘﺎت املﺘﺰوﺟﺎت وأﺑﻨﺎﺋﻬﻦ ﰲ ﻣﺴﻜﻦ ﻛﺒري ﻣﻊ
ﺷﻘﻴﻘﻬﻦ اﻷﻛﱪ وزوﺟﺘﻪ ،أﻣﺎ أزواج اﻟﺸﻘﻴﻘﺎت ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻳﺄﺗﻮن ﻟﻠﺰﻳﺎرة ﺑني اﻟﺤني واﻵﺧﺮ
]اﻧﻈﺮ اﻟﻘﺴﻢ اﻟﺜﺎﻧﻲ – اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻣﻦ :اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻹﺟﺘﻤﺎﻋﻲ – اﻷﴎة – زواج اﻟﺰﻳﺎرة[.
واملﻼﺣﻆ أن اﻷزواج ﻳﺮﺗﺒﻄﻮن ﻋﺎﻃﻔﻴٍّﺎ ﺑﺒﻴﺖ أﺧﻮاﺗﻬﻦ ،وﻟﻴﺲ ﺑﺎﻟﺒﻴﺖ اﻟﺬي ﻳﻮﺟﺪ ﻓﻴﻪ
أﺑﻨﺎؤﻫﻢ وزوﺟﺎﺗﻬﻢ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﺈن اﻷﺑﻨﺎء ﻳﺮﺗﺒﻄﻮن ﻋﺎﻃﻔﻴٍّﺎ ﺑﺄﻣﻬﺎﺗﻬﻢ وأﺧﻮاﻟﻬﻢ .وﻟﻬﺬا
ﻓﺈن ﻣﺴﺌﻮﻟﻴﺔ ﺗﻨﺸﺌﺔ اﻷﺑﻨﺎء ﺗﻘﻊ ﻋﲆ ﻋﺎﺗﻖ اﻟﺨﺎل ،ورﺋﺎﺳﺔ اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﰲ ﻳﺪ اﻟﺨﺎل،
أﻳﻀﺎ .وﺑﻬﺬا ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ أﻧﻔﺴﻨﺎ أﻣﺎم ﺗﺮﻛﻴﺐ أﴎي ﻳﺠﻤﻊ وﺗﺼﺒﺢ زوﺟﺘﻪ رﺋﻴﺴﺔ اﻟﺒﻴﺖ ً
وأﴎا أﺣﺎدﻳﺔ رﺣﻤﻴﺔ
ً أﴎة أﺣﺎدﻳﺔ )أو ﻣﺘﻌﺪدة اﻟﺰوﺟﺎت( ﻋﺼﺒﻴﺔ املﻜﺎن )أﴎة اﻟﺨﺎل(،
املﻜﺎن )اﻟﺸﻘﻴﻘﺎت وأﺑﻨﺎؤﻫﻦ( ﻣﻊ زواج زﻳﺎرة )اﻧﻈﺮ ﺷﻜﻞ .(4-8
اﻷﴎة املﺮﻛﺒﺔ اﻷﻣﻮﻳﺔ :Matriacral familyﻗﺒﻴﻠﺔ اﻟﺰوﻧﻲ Zuniﻣﻦ أﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﺒﻮﻳﺒﻠﻮ
ﰲ ﺟﻨﻮب ﻏﺮب اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة ،ز ﱠراع ﻣﺴﺘﻘﺮون .ﺗﺘﻜﻮن ﻫﺬه اﻷﴎة ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ
ﻣﻦ اﻟﺸﻘﻴﻘﺎت وأزواﺟﻬﻦ وأوﻻدﻫﻦ وأﺣﻔﺎدﻫﻦ ،وﻫﻲ أﴎة أﻣﻮﻳﺔ رﺣﻤﻴﺔ املﻜﺎن ،ﺗﻜﻮن
وﺣﺪة اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﺗﺤﺖ رﺋﺎﺳﺔ »املﻌﻠﻤﺔ« ،وﻫﻲ إﻣﱠ ﺎ اﻟﺠﺪة أو اﻷﺧﺖ اﻟﻜﱪى .ﻳُﻌَ ﱡﺪ اﻷزواج
ﻏﺮﺑﺎء ﻋﻦ اﻷﴎة ،وﻫﻢ ﺑﺪورﻫﻢ ﻳﺮﺗﺒﻄﻮن ﻋﺎﻃﻔﻴٍّﺎ ﺑﺒﻴﺖ أﻣﻬﺎﺗﻬﻢ ،وﻳﺼﺒﺤﻮن اﻵﺑﺎء
اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴني ﻷوﻻد ﺷﻘﻴﻘﺎﺗﻬﻢ )دور اﻟﺨﺎل( ،ﻟﻜﻨﻬﻢ اﻵﺑﺎء اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴني ﻷﺑﻨﺎﺋﻬﻢ؛ ﻟﺬﻟﻚ
ﻳﻘﻴﻢ ﻣﻊ زوﺟﺘﻪ وﻳﻌﻤﻞ ﰲ ﺣﻘﻞ اﻷﴎة اﻷﻣﻮﻳﺔ )اﻧﻈﺮ ﺷﻜﻞ .(5-8
485
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﺨﺎل
ﺣﺪود اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ
ﺷﻜﻞ 4-8
ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ ﺗﺘﻌﺪد أﺷﻜﺎل اﻷﴎ واﻟﻌﺎﺋﻼت ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وﺗﺘﻨﻮع ﺗﻨﻮﻋً ﺎ ﻛﺒريًا؛ ﻣﻤﺎ
ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﺆﻛﺪ ﻣﺮة أﺧﺮى أن ﻣﺠﺎﻻت اﻻﺧﺘﻴﺎر اﻟﺤﻀﺎري ﻋﻨﺪ اﻹﻧﺴﺎن واﺳﻌﺔ وﻣﺘﻨﻮﻋﺔ،
486
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
ﺷﻜﻞ 5-8
وﺗﻨﻔﻲ ﻓﻜﺮة أن ﻧﻮﻋً ﺎ واﺣﺪًا ﻓﻘﻂ ﻣﻦ أﻧﻮاع اﻷﴎ أو ﻋﻼﻗﺔ واﺣﺪة ﻣﻦ أﻧﻮاع اﻟﻌﻼﻗﺎت ﺑني
اﻟﺠﻨﺴني ،ﻫﻲ اﻟﻘﺎﻋﺪة اﻟﻐﺮﻳﺰﻳﺔ أو اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻋﻨﺪ اﻹﻧﺴﺎن ،وﻣﺎ ﻋﺪاه ﻣﻦ اﻷﻧﻮاع واﻷﺷﻜﺎل
ﺷﺬوذ ﻋﻦ ﻫﺬه اﻟﻘﺎﻋﺪة.
وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﺷﻜﻞ اﻟﱰاﺑﻂ ﺑني اﻟﺮﺟﻞ واملﺮأة واﻷﺑﻨﺎء ﺧﺎﺿﻊ ﻟﻠﺘﻐري واﻟﺘﻄﻮر ﺑﺎﻻرﺗﺒﺎط
ﺑﺎﻟﺒﻨﺎء اﻟﺤﻀﺎري اﻟﻌﺎم ،واﻟﱰﻛﻴﺒﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﺑﺼﻔﺔ ﺧﺎﺻﺔ ،وﻫﻲ اﻟﱰﻛﻴﺒﺎت
اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻴﺪ ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار ﺻﻴﺎﻏﺔ وﺗﺸﻜﻴﻞ ﺣﻴﺎة املﺠﺘﻤﻌﺎت وﺗﻨﻈﻴﻤﺎﺗﻬﺎ.
ﺑﻨﺎءً ﻋﲆ ﻣﺎ رأﻳﻨﺎه ﻣﻦ ﺗﻌﺪد أﺷﻜﺎل اﻷﴎ وﻣﺎ ﻳﱰﺗﺐ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ اﻷﺷﻜﺎل املﺨﺘﻠﻔﺔ ﰲ
اﻟﻨﺴﺐ ،ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻛﺬﻟﻚ ﻧﻈﻢ ﻗﺮاﺑﺔ اﻷﺷﺨﺎص ﺑﻌﻀﻬﻢ إﱃ ﺑﻌﺾ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ
ً
اﺧﺘﻼﻓﺎ ﻛﺒريًا .وﻧﻈﻢ اﻟﻘﺮاﺑﺔ ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺐ ﻛﺒري ﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺤﻴﺎة املﺠﺘﻤﻌﺎت؛ ﻓﻤﻦ
ﺧﻼﻟﻬﺎ ﻳﺘﻀﺢ املﺮﻛﺰ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻟﻸﺷﺨﺎص اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻤﺘﻮن ﻟﺒﻌﻀﻬﻢ اﻟﺒﻌﺾ ﺑﺄﻧﻮاع اﻟﺼﻼت
487
اﻹﻧﺴﺎن
اﻷﺧﺖ اﻟﻜﱪى
رﺋﺎﺳﺔ اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ ﻷﺑﻲ اﻟﺒﻨﺎت
ﺣﺪود اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ
ﺷﻜﻞ 6-8
املﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻳﱰﺗﺐ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺗﺤﺪﻳﺪ اﻟﻌﻼﻗﺎت واﻟﻮاﺟﺒﺎت واملﻤﻴﺰات املﺘﺒﺎدﻟﺔ ﺑني اﻷﺷﺨﺎص
ذوي اﻟﻌﻼﻗﺔ.
وﺷﻜﻞ اﻷﴎة ﻫﻮ واﺣﺪ ﻣﻦ أﻫﻢ اﻟﻌﻨﺎﴏ ﰲ ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻋﻼﻗﺎت اﻟﻘﺮاﺑﺔ ﺑني اﻷب واﻷﺑﻨﺎء
واﻷﺣﻔﺎد واﻹﺧﻮة واﻷﺧﻮات ،وﻛﺬﻟﻚ ﺗﻨﺒﻊ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺰواج أﺷﻜﺎل أﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﺘﻲ
ﺗﺮﺑﻂ اﻟﺰوج ﺑﺄﺻﻬﺎره وأﻧﺴﺒﺎﺋﻪ ،وﺗﺮﺑﻂ اﻷﺑﻨﺎء ﺑﺄﴎة اﻷب أو اﻷم أو ﺑﻬﻤﺎ ﻣﻌً ﺎ.
وﻟﻬﺬا ﻓﺈن ﻫﻨﺎك ﻧﻮﻋني أﺳﺎﺳﻴني ﻣﻦ أﻧﻮاع اﻟﻘﺮاﺑﺔ؛ اﻷول :ﻫﻮ اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﺪﻣﻮﻳﺔ،
واﻟﺜﺎﻧﻲ :ﻫﻮ ﻗﺮاﺑﺔ اﻟﺘﺼﺎﻫﺮ .واﻟﻨﻮع اﻷول ﻳﻨﻘﺴﻢ إﱃ ﻧﻮﻋني ﺛﺎﻧﻮﻳني؛ ﻫﻤﺎ) :أ( اﻟﻘﺮاﺑﺔ
اﻟﺪﻣﻮﻳﺔ املﺒﺎﴍة ،وﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﻧﺠﺪﻫﺎ ﺑني اﻷب واﻷم واﻷﺑﻨﺎء واﻷﺣﻔﺎد) .ب( اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﺪﻣﻮﻳﺔ
اﻟﺠﺎﻧﺒﻴﺔ ،وﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﻧﺠﺪﻫﺎ ﰲ ﺻﻴﻐﺔ اﻟﻌﻢ واﻟﻌﻤﺔ واﻟﺨﺎل واﻟﺨﺎﻟﺔ وأﺑﻨﺎء اﻟﻌﻤﻮﻣﺔ
واﻟﺨﺌﻮﻟﺔ .أﻣﺎ اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﺘﺼﺎﻫﺮﻳﺔ ﻓﺘﺘﺤﺪد ﺑﻨﺎءً ﻋﲆ ﻧﻤﻂ اﻷﴎة اﻟﺴﺎﺋﺪ وﻧﻮع ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت
اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﺴﺎﺋﺪة.
488
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
وﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﺸﺎﺋﻊ ﺑني اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني اﻟﻘﺪﻣﺎء ﺳﻬﻮﻟﺔ اﻟﻔﺼﻞ ﺑني ﻫﺬﻳﻦ اﻟﻨﻮﻋني،
ﻟﻜﻦ اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﺘﻔﺼﻴﻠﻴﺔ اﻟﻌﺪﻳﺪة ﻗﺪ أوﺿﺤﺖ أن ﻫﻨﺎك ﻋﺪم وﺿﻮح املﺼﻄﻠﺤﺎت ﻋﻨﺪ
ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت ،وأﺧﺮى ﺗﺴﺘﺨﺪم اﻟﻨﻮﻋني ﻣﻌً ﺎ ،وﺛﺎﻟﺜﺔ ﺗﻤﺜﻞ ﻣﺮاﺣﻞ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﺑني ﻫﺬﻳﻦ
اﻟﻨﻮﻋني .وﻣﻦ اﻷدﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﻧ َ ُﺴﻮﻗﻬﺎ ﻋﲆ ذﻟﻚ أن املﺠﺘﻤﻊ اﻟﺮﻳﻔﻲ املﴫي ﻳﻄﻠﻖ ﻋﲆ اﻟﻌﻢ
ﻣﺼﻄﻠﺢ أب ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻳﻌﺮف ﻓﻴﻪ ﻫﺬا املﺠﺘﻤﻊ ﻧﻮع اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺼﻒ اﻟﻌﻢ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ،
وﻛﺬﻟﻚ ﻳﻄﻠﻖ ﻋﲆ اﻟﺤﻤﻲ )اﻟﺤﻤﻮ( أﺑًﺎ ،واﻟﺤﻤﺎة أُﻣٍّ ﺎ ﺗﺠﺎو ًزا .وﻳُﻄ َﻠﻖ ﻣﺼﻄﻠﺢ ﺧﺎﻟﺔ ﻋﲆ
ﻛﺜريات ﻣﻦ اﻟﺴﻴﺪات ﻣﻦ ﻃﺒﻘﺔ ﻋﻤﺮ اﻷم ،ﺑﻐﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ وﺟﻮد ﻋﻼﻗﺔ ﻗﺮاﺑﺔ ﻓﻌﻠﻴﺔ.
وﻛﺜري ﻣﻦ ﻫﺬه اﻷﻣﺜﻠﺔ ﻣﻦ اﻻﺳﺘﺨﺪاﻣﺎت ﻏري املﺤﺪدة ملﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﻘﺮاﺑﺔ ﻣﻮﺟﻮد ﻋﻨﺪ أﻛﺜﺮ
املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺘﺰاﻣً ﺎ ﺑﻨﻈﺎم اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﻮﺻﻔﻴﺔ ،ﻛﺎملﺠﺘﻤﻊ اﻟﻌﺮﺑﻲ واملﺠﺘﻤﻊ اﻷوروﺑﻲ واﻟﻐﺮﺑﻲ
ﻋﺎﻣﺔ.
وﺗﻘﻮم ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﻘﺮاﺑﺔ ﻋﻨﺪ املﺠﺘﻤﻌﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻋﲆ اﻷﺳﺲ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ:
489
اﻹﻧﺴﺎن
وﻳﻤﻜﻦ ﺣﺴﺐ ﻫﺬا املﺒﺪأ ﺗﻄﺒﻴﻖ اﻟﻨﻈﺎﻣني اﻟﻮﺻﻔﻲ واﻟﻄﺒﻘﻲ ﰲ ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﻘﺮاﺑﺔ؛
ً
ﻓﻤﺜﻼ اﻟﻌﻢ واﻟﺨﺎﻟﺔ ﻳﺼﺒﺤﺎن أﺑًﺎ وأﻣٍّ ﺎ.
) (٢ﻣﺒﺪأ اﻟﺠﻨﺲ :وﻫﺬا ﻳﺘﺒﻊ اﻟﺘﻔﺮﻳﻖ ﺑني اﻷﻗﺎرب ﺣﺴﺐ اﻟﺠﻨﺲ.
) (٣ﻣﺒﺪأ املﺼﺎﻫﺮة :وﻫﺬا ﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻟﺰواج وأﻧﻤﺎﻃﻪ ،وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻳﺼﺢ اﻟﺘﻐﺎﴈ ﻋﻦ وﺻﻒ
ﻗﺮاﺑﺔ ﺑﻌﺾ اﻷﺻﻬﺎر ،ﻓﻴُﻘﺎل :ﻋﻢ ﻟﺰوج اﻟﻌﻤﺔ أو اﻟﺨﺎﻟﺔ.
ُﻮﺿﺢ اﻟﺘﺴﻠﺴﻞ اﻟﻘﺮاﺑﻲ املﺒﺎﴍ أو اﻟﺠﺎﻧﺒﻲ. ُﻔﺼﻞ وﻳ ﱢ
) (٤ﻣﺒﺪأ ﺧﻂ اﻟﻨﺴﺐ :وﻫﻮ ﻳ ﱢ
ﻣﺜﺎل ذﻟﻚ أن اﻟﺠﺪ واﻷب واﻻﺑﻦ ﺗﺴﻠﺴﻞ ﻗﺮاﺑﻲ ﻣﺒﺎﴍ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻟﻌﻢ واﻟﺨﺎل واﻟﻌﻤﺔ واﻟﺨﺎﻟﺔ
وأﺑﻨﺎؤﻫﻢ ﺗﺴﻠﺴﻞ ﻗﺮاﺑﻲ ﺟﺎﻧﺒﻲ .وﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﻬﺬا ً
أﻳﻀﺎ ﻣﺒﺪأ اﻟﺘﺸﻌﻴﺐ ﻟﺘﻤﻴﻴﺰ اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﻘﺮﻳﺒﺔ
واﻟﺒﻌﻴﺪة.
) (٥ﻣﺒﺪأ اﻟﺘﺒﺎدﻟﻴﺔ :وﺑﻤﻘﺘﻀﺎه ﻳﻨﺎدي اﻟﺸﺨﺺ ﻣﻦ ﺟﻴﻞ أﻋﲆ ﻗﺮﻳﺒﻪ ﰲ ﺟﻴﻞ أدﻧﻰ
ﺑﻨﻔﺲ اﻟﻠﻘﺐ ،ﻣﺜﺎل ذﻟﻚ أن ﻳﻨﺎدي اﻟﺠﺪ ﺣﻔﻴﺪه ﺑ »ﺟﺪو« ،أو اﻟﻌﻢ اﺑﻦ أﺧﻴﻪ ﺑ »ﻋﻤﻮ« …
إﻟﺦ .وﻋﲆ ﻋﻜﺲ ذﻟﻚ ﻧﺠﺪ أن ﻣﺒﺪأ اﻟﺴﻦ ﻳُﺮاﻋﻰ ﻋﻨﺪ ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻟﻠﺘﻤﻴﻴﺰ ﺑني اﻷخ
اﻷﻛﱪ واﻷﺻﻐﺮ.
أﻳﻀﺎ اﻻﻋﺘﺒﺎرات اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻜﻞوإﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﻫﺬه املﺒﺎدئ ﻫﻨﺎك ً
ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻟﻐﻮﻳﺔ ﰲ اﺳﺘﺨﺪاﻣﺎت أﻟﻔﺎظ اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ ،وﻣﻦ اﻷﻣﺜﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻮﺿﺢ ذﻟﻚ
ﺧري ﺗﻮﺿﻴﺢ ﻣﺎ ﻧﺠﺪه ﻣﻦ ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﺸﺎﺋﻌﺔ ﻋﻨﺪ ﻗﺒﻴﻠﺔ اﻟﻜﻮﻣﺎﻧﴚ )ﻣﻦ أﻣﺮﻳﻨﺪ
أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ( ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺘﺎﱄ:
) (١اﻟﻌﻢ ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ »أب« واﻟﺨﺎﻟﺔ ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ »أم«؛ وذﻟﻚ ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﻨﻈﺎم زواج أﺧﻲ اﻟﺰوج ﻣﻦ
زوﺟﺔ أﺧﻴﻪ وﻧﻈﺎم زواج اﻟﺰوج ﻣﻦ أﺧﺖ زوﺟﺘﻪ.
) (٢زوﺟﺔ اﻷخ ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ زوﺟﺔ ،وأوﻻد اﻷخ ﻳُﺴﻤﱠ ﻮن أﺑﻨﺎء ،وذﻟﻚ ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﻨﻈﺎم زواج
زوﺟﺔ اﻷخ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ وﻓﺎة اﻷﺧري.
ﻋﺪﻳﻼ ،وﻛﺬﻟﻚ ﺗُﺴﻤﱢ ﻲ
ً ) (٣ﻋﺪﻳﻞ اﻟﺰوج )زوج أﺧﺖ اﻟﺰوﺟﺔ( ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ »أخ« وﻟﻴﺲ
اﻟﺴﻴﺪة زوج أﺧﺘﻬﺎ ﺑﺎﺳﻢ أخ ،وﻳﺮﺗﺒﻂ ذﻟﻚ ﺑﻨﻈﺎم املﺘﺒﺎدل ،وﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻻت ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻧﺠﺪ
ﻣﺒﺪأ ﻃﺒﻘﺔ اﻟﻌﻤﺮ ﻳﻠﻌﺐ دو ًرا واﺿﺤً ﺎ ﰲ إﻋﻄﺎء ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت ﻗﺮاﺑﺔ ﻃﺒﻘﻴﺔ .وأﺧريًا ،ﻓﺈن
ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻣﺎ ،ﻛﺄن ﻳﺘﻐري
ٍ ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﻘﺮاﺑﺔ ﺧﺎﺿﻌﺔ ﻟﻠﺘﻐريات اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻄﺮأ ﻋﲆ
ﻧﻤﻂ اﻟﺰواج ﻣﻦ اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺮﺣﻤﻲ املﻜﺎن إﱃ اﻟﻌﺼﺒﻲ املﻜﺎن ،أو ﺗﺘﻐري اﻷﴎة ﻣﻦ أﻣﻮﻣﺔ إﱃ
أﺑﻮﻳﺔ.
490
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
وﺑﻨﺎءً ﻋﲆ اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﻜﺜرية ﰲ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع أﻣﻜﻦ اﺳﺘﺨﻼص ﻋﺪد ﻣﻦ أﻧﻤﺎط اﻟﻘﺮاﺑﺔ
اﻟﺴﺎﺋﺪة ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ 11 ،وﻓﻴﻤﺎ ﻳﲇ دراﺳﺔ ﻣﻮﺟﺰة ﻟﻸﻧﻤﺎط اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻠﻘﺮاﺑﺔ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ:
اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻹﺳﻜﻴﻤﺎوﻳﺔ :ﰲ ﻫﺬا اﻟﻨﻤﻂ ﻻ ﺗﻤﻴﺰ ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت ﺧﺎﺻﺔ ﺑني اﻟﻌﻢ واﻟﺨﺎل
واﻟﺨﺎﻟﺔ واﻟﻌﻤﺔ ،ﺑﻞ ﻳُﻄ َﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻋﻢ أو ﻋﻤﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺗﻤﻴﻴﺰ ﺑني أﺑﻨﺎء
اﻟﻌﻤﻮﻣﺔ واﻟﺨﺌﻮﻟﺔ وأﺑﻨﺎء اﻟﻌﻤﺎت واﻟﺨﺎﻻت — أي ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺗﻤﻴﻴﺰ ﺑني اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ
)أﺑﻨﺎء اﻟﻌﻢ واﻟﺨﺎﻟﺔ( واﻟﻘﺮاﺑﺔ املﺘﻘﺎﻃﻌﺔ )أﺑﻨﺎء اﻟﺨﺎل واﻟﻌﻤﺔ( ،وﻳﺴﻮد ﻫﺬا اﻟﻨﻤﻂ ﻋﻨﺪ
املﺠﺘﻤﻌﺎت ذات اﻷﴎ اﻷﺣﺎدﻳﺔ اﻟﺰوﺟﺔ .وﺣﻴﺚ ﺗﺼﺒﺢ اﻷﴎة اﻟﻨﻮوﻳﺔ املﻜﻮن اﻷﺳﺎﳼ ﰲ
اﻟﺒﻨﺎء اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ،ﻓﻼ ﺗﻈﻬﺮ أﺷﻜﺎل ﺑﻨﻮﻳﺔ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ أﺧﺮى ﻛﺎﻟﻌﺸﺎﺋﺮ واﻟﻘﺒﺎﺋﻞ .وﻳﻈﻬﺮ
ﻫﺬا اﻟﻨﻤﻂ ﺑني اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ وﻗﺒﺎﺋﻞ اﻟﺮﻋﺎة واﻟﺼﻴﺎدﻳﻦ ﰲ ﺷﻤﺎل ﺳﻴﺒريﻳﺎ وأوروﺑﺎ اﻟﻘﻄﺒﻴﺔ
)اﻟﻼب( ،ﻛﻤﺎ ﻳﻈﻬﺮ ً
أﻳﻀﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﺴﻠﻜﻨﺎم ﰲ ﺗﻴريا ،وﻟﻔﻮﻳﺠﻮ ،وأﻗﺰام ﺟﺰر أﻧﺪﻣﺎن ،وأﻗﺰام
اﻟﺴﻤﺎﻧﺞ ﰲ املﻼﻳﻮ .إن أﻛﺜﺮ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺒﻊ ﻫﺬا اﻟﻨﻤﻂ ﻣﻦ اﻟﻘﺮاﺑﺔ ﻋﺪدًا ﰲ اﻟﻮﻗﺖ
اﻟﺤﺎﴐ ،ﻫﻢ أﺻﺤﺎب اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ ﻣﻦ اﻷوروﺑﻴني واﻷوروﺑﻴﻲ اﻷﺻﻞ.
ﻧﻤﻂ ﻫﺎواي :وﰲ ﻫﺬا اﻟﻨﻤﻂ ﻳُﻄ َﻠﻖ ﻋﲆ ﻛﻞ اﻷﻗﺎرب ﻣﻦ ﺟﻴﻞ اﻟﻮاﻟﺪﻳﻦ أب وأم ،وﻋﲆ
أﺑﻨﺎﺋﻬﻢ وﺑﻨﺎﺗﻬﻢ إﺧﻮة ،وﻋﲆ أﺣﻔﺎدﻫﻢ أﺑﻨﺎء .وﺑﻌﺒﺎر ٍة أﺧﺮى ،ﻓﺈن ﻣﺒﺪأ ﻃﺒﻘﺔ اﻟﻌﻤﺮ
ﻳﻠﻌﺐ دوره ﰲ ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻧﻮع اﻟﻘﺮاﺑﺔ ،وﻳﻨﺘﴩ ﻫﺬا اﻟﻨﻤﻂ ﰲ ﺟﺰر ﺑﻮﻟﻴﻨﻴﺰﻳﺎ وﺑﻌﺾ ﻗﺒﺎﺋﻞ
اﻟﻔﻠﺒني وأﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﺴﻬﻮل وأﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﺴﺎﺣﻞ اﻟﺸﻤﺎﱄ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻷﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ،وﻣﺠﻤﻮﻋﺔ
ﺷﻌﻮب اﻹﻧﻜﺎ ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ ،وﻗﺒﻴﻠﺔ اﻟﺴﻴﺎﻣﺎﻧﺎ ﰲ ﺗﻴريا وﻟﻔﻮﻳﺠﻮ )ﺧﻠﻴﻂ ﺑني اﻟﻨﻤﻂ
اﻹﺳﻜﻴﻤﺎوي واﻟﻬﻮاﺋﻲ( .وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﻨﻤﻂ اﻟﻬﻮاﺋﻲ ﻳﻨﺘﴩ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ املﺤﻴﻂ اﻟﻬﺎدي.
ﻧﻤﻂ اﻹﻳﺮوﻛﻮﻳﺰ واﻟﺪاﻛﻮﺗﺎ :ﻫﻨﺎ ﻣﺼﻄﻠﺢ ﻗﺮاﺑﻲ واﺣﺪ ﻷﺑﻨﺎء اﻟﻌﻤﺔ واﻟﺨﺎل )ﻗﺮاﺑﺔ
ﻣﺘﻘﺎﻃﻌﺔ( ،أﻣﺎ أﺑﻨﺎء اﻟﻌﻢ واﻟﺨﺎﻟﺔ ﻓﻬﻢ إﺧﻮة وأﺧﻮات .وﻋﻨﺪ اﻹﻳﺮوﻛﻮﻳﺰ ﻧﺠﺪ ﻣﺼﻄﻠﺤً ﺎ
واﺣﺪًا ﻟﻸم واﻟﺨﺎﻟﺔ واﻟﻌﻤﺔ ،وﻧﺠﺪ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ﻣﺼﻄﻠﺤً ﺎ واﺣﺪًا ﻟﻸم واﻟﺨﺎﻟﺔ
وﻣﺼﻄﻠﺤً ﺎ آﺧﺮ ﻟﻠﻌﻤﺔ .أﻣﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﺪاﻛﻮﺗﺎ ﻓﻬﻨﺎك ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت ﻗﺮاﺑﻴﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻜ ﱟﻞ ﻣﻦ
491
اﻹﻧﺴﺎن
اﻷم واﻟﺨﺎﻟﺔ واﻟﻌﻤﺔ .وأﺳﺒﺎب ﻫﺬا اﻻﺧﺘﻼف راﺟﻌﺔ إﱃ أن اﻹﻳﺮوﻛﻮﻳﺰ ﻳﻤﺎرﺳﻮن زواﺟً ﺎ
أﴎا أﻣﻮﻳﺔ ﻣﺮﻛﺒﺔ ﻣﻊ زواج أﺣﺎدي وﻳﻠﺘﺰﻣﻮن ﺑﺎﻟﻨﺴﺐ رﺣﻤﻲ اﻹﻗﺎﻣﺔ ،وﻳﻜﻮﻧﻮن ً
اﻷﻣﻮي .أﻣﺎ اﻟﺪاﻛﻮﺗﺎ ﻓﻬﻢ ﻳﻤﺎرﺳﻮن زواﺟً ﺎ ﻋﺼﺒﻲ اﻹﻗﺎﻣﺔ ،وﻳﻜﻮﻧﻮن ً
أﴎا أﺑﻮﻳﺔ ﻣﺮﻛﺒﺔ
ﻣﻊ ﻧﺴﺐ أﺑﻮي وزواج أﺣﺎدي أو ﻣﺘﻌﺪد اﻟﺰوﺟﺎت .وﻳﻨﺘﴩ ﻧﻤﻂ اﻹﻳﺮوﻛﻮﻳﺰ ﺑني
اﻹﻳﺮوﻛﻮﻳﺰ واﻟﻬﻮرون ﻣﻦ أﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﺸﻤﺎل اﻟﴩﻗﻲ ،وﻳﻈﻬﺮ ﻋﻨﺪ ﻗﺒﻴﻠﺔ ﻣﻴﻨﺎﻧﺞ ﻛﺎﺑﺎو
ﰲ ﺳﻮﻣﻄﺮة ،وﰲ املﻼﻳﻮ وﺟﻨﻮب ﻏﺮب اﻟﻬﻨﺪ )ﻗﺒﻴﻠﺔ ﻧﺎﻳﺎر( وﻋﺪد ﻣﻦ ﻗﺒﺎﺋﻞ ﻣﻴﻼﻧﻴﺰﻳﺎ،
وأﺳﱰاﻟﻴﺎ ،وأﻓﺮﻳﻘﻴﺎ .أﻣﺎ ﻧﻤﻂ اﻟﺪاﻛﻮﺗﺎ ﻓﻮاﺳﻊ اﻻﻧﺘﺸﺎر ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وأوﺷﻴﻨﻴﺎ وﻛﺜري ﻣﻦ
اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ.
ﻧﻤﻂ ﻛﺮو :Crowﰲ ﻫﺬا اﻟﻨﻤﻂ ﻧﺠﺪ ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻷﺑﻨﺎء اﻟﺨﺎل وأﺑﻨﺎء اﻟﻌﻤﺔ،
وﻛﺬﻟﻚ ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻷﺑﻨﺎء اﻟﻌﻢ وأﺑﻨﺎء اﻟﺨﺎﻟﺔ ،وﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﻳُﻄ َﻠﻖ ﻋﲆ اﻷب
واﻟﻌﻢ ﻣﺼﻄﻠﺢ واﺣﺪ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻋﲆ اﻷم واﻟﺨﺎﻟﺔ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗُﻮﺟَ ﺪ ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت ﺧﺎﺻﺔ ﻟﻜ ﱟﻞ
أﻳﻀﺎ ﻋﲆ ﻛﻞﻣﻦ اﻟﺨﺎل واﻟﻌﻤﺔ .وﻻ ﻳﻌﻨﻲ ﻣﺼﻄﻠﺢ »أب« اﻷب واﻟﻌﻢ ﻓﻘﻂ ،ﺑﻞ ﻳُﻄ َﻠﻖ ً
ﻣﺜﻼ اﺑﻦ ﺧﺎﻟﺔ أو ﺧﺎل اﻷب .وﻛﺬﻟﻚ ﻳﻌﻨﻲ ﻣﺼﻄﻠﺢ »أم« ﻛﻞ ﻗﺮﻳﺐ ﻟﻸب ﻣﻦ ﺟﻬﺔ أﻣﻪً ،
ﺳﻴﺪة ﻣﺘﺰوﺟﺔ ﻣﻦ أي ﻗﺮﻳﺐ ﻣﻦ أﻗﺎرب اﻷب ﻣﻦ ﺟﻬﺔ أﻣﻪ — أي زوﺟﺔ ﻣﻦ ﻳﻤﻜﻦ أن
ﻳُﻄ َﻠﻖ ﻋﻠﻴﻪ »أب« .وﻫﺬا ﻧﺎﺟﻢ ﻋﻦ أن اﻟﻜﺮو )أﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﺴﻬﻮل( ﻳﻨﺘﻈﻤﻮن اﺟﺘﻤﺎﻋﻴٍّﺎ ﰲ
ﻋﺸﺎﺋﺮ أﻣﻮﻳﺔ ﺗﻤﺎرس اﻹﻗﺎﻣﺔ اﻟﺮﺣﻤﻴﺔ املﻜﺎن ﻣﻊ اﻟﺰواج اﻷﺣﺎدي.
وﻳﺘﻤﻴﺰ ﻧﻤﻂ اﻟﻜﺮو ﺑﺄن ﻫﻨﺎك ﺗﺼﻌﻴﺪًا ﻟﺒﻌﺾ اﻷﻗﺎرب ﻣﻦ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻋﻤﺮ إﱃ ﻣﺮﺣﻠﺔ
ﻃﺎ ﺑﺒﻌﺾ اﻷﻗﺎرب إﱃ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻋﻤﺮ أدﻧﻰ .ﻓﻌﻨﺪﻫﻢ ﺑﻨﺖ اﻟﻌﻤﺔ أﻋﲆ ،وﻳﻘﺎﺑﻞ ذﻟﻚ ﻫﺒﻮ ً
ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ ﻋﻤﺔ ،واﺑﻦ اﻟﻌﻤﺔ ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ أﺑًﺎ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳُﻄ َﻠﻖ ﻋﲆ اﻟﺨﺎل أخ أﻛﱪ ،وﺗُﺴﻤﱠ ﻰ زوﺟﺔ
اﻟﺨﺎل :زوﺟﺔ ،وأﺑﻨﺎء اﻟﺨﺎل :أﺑﻨﺎء .ﻓﺎﻟﻌﻤﺔ وأﺑﻨﺎؤﻫﺎ ﻳﺼﻌﺪون ً
ﺟﻴﻼ ﺑﺄﻛﻤﻠﻪ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻬﺒﻂ
ﺟﻴﻼ إﱃ أدﻧﻰ .واﻟﻬﺒﻮط ﺑﺎﻟﺨﺎل ﻧﺎﺟﻢ ﻋﻦ اﻻﺣﺘﻤﺎل اﻟﻘﺎﺋﻢ ﻋﻨﺪ اﻟﻜﺮو اﻟﺨﺎل وأﺑﻨﺎؤه ً
ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻴﺔ زواج اﻟﺸﺨﺺ ﻣﻦ زوﺟﺔ ﺧﺎﻟﻪ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ وﻓﺎة اﻟﺨﺎل ،أﻣﺎ ﺗﺼﻌﻴﺪ أﺑﻨﺎء اﻟﻌﻤﺔ
ﻓﺘﻔﺴريه ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﻤﻀﺎﻋﻔﺔ اﻟﺒﻌﺪ اﻟﻘﺮاﺑﻲ ﻣﻊ أﻗﺎرب اﻷب ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺷﻘﻴﻘﺎﺗﻪ؛ ﻷن اﻷب
ﺧﺎﻻ ﻷﺑﻨﺎء أﺧﺘﻪ ،وﻳﻨﻄﺒﻖ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﺒﺪأ ﺗﻬﺒﻴﻂ اﻟﺨﺎل إﱃ ﺟﻴﻞ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻳﺼﺒﺢ ً
أدﻧﻰ )اﻧﻈﺮ ﺷﻜﻞ ،(7-8وﻳﻨﺘﴩ ﻧﻤﻂ اﻟﻜﺮو اﻟﻘﺮاﺑﻲ ﺑني أﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﺠﻨﻮب اﻟﴩﻗﻲ
ﻣﻦ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ وﺑﻌﺾ ﻋﺸﺎﺋﺮ ﻗﺒﺎﺋﻞ اﻟﺴﻮ ،Siouxوﺑني أﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﺒﻴﻮﺑﻠﻮ ،وﺑﻌﺾ
ﻗﺒﺎﺋﻞ ﻓﻨﺰوﻳﻼ وﴍق اﻟﱪازﻳﻞ وﺑﻌﺾ ﻣﻨﺎﻃﻖ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وأوﺷﻴﻨﻴﺎ.
492
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
ﻧﻤﻂ أوﻣﺎﻫﺎ :وﻫﻮ ﻋﻜﺲ ﻧﻤﻂ اﻟﻜﺮو اﻟﻘﺮاﺑﻲ ،ﻓﻬﻨﺎ ﻧﺠﺪ ﻣﺼﻄﻠﺤً ﺎ واﺣﺪًا ﻟﻸم واﻟﺨﺎﻟﺔ
وﺑﻨﺖ اﻟﺨﺎل؛ أي ﺗﺼﻌﻴﺪ ﻟﻠﺨﺎل واﺑﻦ اﻟﺨﺎل .وﰲ ﻣﻘﺎﺑﻞ ذﻟﻚ ﻧﺠﺪ ﻫﺒﻮ ً
ﻃﺎ ﻟﻠﻌﻤﺔ وﺟﻴﻠﻬﺎ.
وﻟﻌﻞ ذﻟﻚ راﺟﻊ إﱃ ﻣﻤﺎرﺳﺔ اﻟﻨﺴﺐ اﻷﺑﻮي وﺗﻜﻮﻳﻦ ﻋﺸﺎﺋﺮ ﻋﺼﺒﻴﺔ املﻜﺎن ﺑﺤﻴﺚ
ﻳﺼﺒﺢ اﻟﺨﺎل وﻧﺴﻠﻪ أﻗﺎرب ﺑﻌﻴﺪﻳﻦ) ،اﻧﻈﺮ ﺷﻜﻞ ،(8-8وﻳﻨﺘﴩ ﻫﺬا اﻟﻨﻤﻂ ﻛﺜريًا ﰲ
أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وﻋﻨﺪ ﻗﺒﺎﺋﻞ اﻟﺴﻮ ﻣﻦ اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ.
اﻟﻨﻤﻂ اﻟﺴﻮداﻧﻲ :وﻫﻮ ﻋﻜﺲ اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﻬﺎواﺋﻴﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ — أي إﻧﻪ ﻧﻤﻂ ﻗﺮاﺑﻲ وﺻﻔﻲ
ﻟﻜﻞ ﺷﻜﻞ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﻘﺮاﺑﺔ :ﻋﻢ – ﻋﻤﺔ – ﺧﺎل – ﺧﺎﻟﺔ – اﺑﻦ ﻋﻢ – اﺑﻦ ﺧﺎل …
إﻟﺦ ،وﻫﻮ ﺷﺎﺋﻊ اﻻﻧﺘﺸﺎر ﻋﻨﺪ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻷﺑﻮﻳﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﺜﻞ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ واﻟﻜﺜري
ﻣﻦ ﻗﺒﺎﺋﻞ اﻟﻨﻄﺎق اﻟﺴﻮداﻧﻲ ﻣﻦ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ.
اﻷﻧﺎ
)(٢ )(١
)ب( )أ(
ﻫﺬه ﻫﻲ أﻫﻢ أﻧﻤﺎط اﻟﻘﺮاﺑﺔ ،وﻫﺬا ﻫﻮ ﻫﻴﻜﻠﻬﺎ اﻟﺮﺋﻴﴘ؛ ﺑﻤﻌﻨﻰ أن ﻫﻨﺎك ﺗﻐﺎﻳﺮات
ﻋﺪﻳﺪة ﻟﻜﻞ ﻧﻤﻂ ﰲ أﻣﺎﻛﻦ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،أو ﺣﺘﻰ ﻋﻨﺪ اﻟﻌﺸﺎﺋﺮ املﺘﻘﺎرﺑﺔ ،ﺑﺤﻴﺚ ﻧﺠﺪ ً
ﻣﺜﻼ ﺑﻌﺾ
ٍ
ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﺎ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﻘﺮاﺑﺔ ﻣﻦ أﻧﻤﺎط أوﻣﺎﻫﺎ وداﻛﻮﺗﺎ واﻟﺴﻮدان ﻣﺸﱰﻛﺔ ﻣﻌً ﺎ ﻋﻨﺪ
ً
أﺷﻜﺎﻻ ﻗﺮاﺑﻴﺔ ﺗﻨﺘﻤﻲ إﱃ اﻹﻳﺮوﻛﻴﺰ واﻟﻜﺮو ﻣﻌً ﺎ ﻋﻨﺪ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻨﺴﺐ اﻷﺑﻮي ،أو
أﺣﻴﺎن أﺧﺮى ﺑﻌﺾ ﺻﻔﺎت ﻗﺮاﺑﻴﺔ ﺗﺸﱰك ٍ أﻣﻮي اﻟﻨﺴﺐ أو رﺣﻤﻲ اﻹﻗﺎﻣﺔ .ﻛﻤﺎ ﻧﺠﺪ ﰲ
493
اﻹﻧﺴﺎن
ﻓﻴﻬﺎ أﻧﻤﺎط ﻣﺘﻨﺎﻗﻀﺔ؛ ﻣﺜﻞ :ﻫﺎواﺋﻲ ،واﻹﺳﻜﻴﻤﻮ أو داﻛﻮﺗﺎ ،واﻹﻳﺮوﻛﻴﺰ .وﻗﺪ ﻳﺤﺪث ذﻟﻚ
ﻋﻨﺪ ﻃﺒﻘﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ داﺧﻞ اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ اﻟﻮاﺣﺪة ،وذﻟﻚ راﺟﻊ إﱃ اﺧﺘﻼف اﻷﺻﻮل اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ﰲ
ﺗﻜﻮﻳﻦ ﻃﺒﻘﺎت اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ أو اﻟﺸﻌﺐ .وﻛﻤﺎ ﺳﺒﻖ ذﻛﺮه ﻓﺈن ﻫﺬه اﻷﻧﻤﺎط ﻟﻴﺴﺖ ﺟﺎﻣﺪة ،ﺑﻞ
ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﺘﻐﻴري واﻟﺘﺒﺪﻳﻞ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻠﺘﻐري اﻟﺤﻀﺎري املﺴﺘﻤﺮ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﺆﺛﺮ ﻋﲆ ﻋﻼﻗﺎت اﻷﺟﻴﺎل
واﻷﻧﺴﺎب ﺑﺼﻔﺔ ﻣﺴﺘﻤﺮة.
494
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
)ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻋﻨﺪ اﻟﺮوﻣﺎن( وﺑني ﻋﺪم وﺟﻮد ﺳﻠﻄﺔ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق .وﻳُﻼﺣَ ﻆ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ
املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ وﺟﻮد وﺷﺎﺋﺞ وﻋﻼﻗﺎت ﻗﻮﻳﺔ ﺑني اﻻﺑﻦ واﻷم ،أو ﺑني اﻟﺒﻨﺖ واﻷب
أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﻌﻼﻗﺎت املﻘﺎﺑﻠﺔ.
ﻋﻼﻗﺔ اﻷﺧﻮة :ﻳُﻼﺣَ ﻆ وﺟﻮد ﻋﻼﻗﺔ اﺣﱰام ﻣﺘﺒﺎدل ﺑني اﻷخ وأﺧﺘﻪ ،ﺧﺎﺻﺔ ﺑﻌﺪ ﻃﻘﻮس
اﻟﺒﻠﻮغ؛ ﺣﻴﺚ ﻧﺠﺪ ﺗﺒﺎﻋﺪًا ﻛﺒريًا ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﺗﺠﻨﺒًﺎ ﻟﻠﻤﺤﺎرم .أﻣﺎ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻷﺧﻮة ﻣﻦ ﻧﻔﺲ
اﻟﺠﻨﺲ ،ﻓﻬﻲ ﻋﻼﻗﺔ اﻟﺮﻓﻘﺎء اﻟﻘﻮﻳﺔ ﻣﻊ اﺣﱰام ﻛﺒري ﻟﻠﺴﻦ.
ﻋﻼﻗﺔ اﻟﺰوج واﻟﺰوﺟﺔ :ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﺗﻜﻮن ﻋﻼﻗﺔ رﺳﻤﻴﺔ؛ ﻷن اﻟﺰواج ﻋﺎد ًة ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ
ﺗﺮﺗﻴﺒﺎت ﺗﺤﺪث ﺑني ﻋﺎﺋﻠﺘني ،وﻧﺎد ًرا ﻣﺎ ﻳﻜﻮن ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻋﻼﻗﺔ ﻋﺎﻃﻔﻴﺔ .وﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت
اﻟﺘﻲ ﺗﺴﻮدﻫﺎ اﻟﺘﻨﻈﻴﻤﺎت اﻟﻌﺸﺎﺋﺮﻳﺔ ﻧﺠﺪ اﻟﱰاﺑﻂ اﻟﻘﺮاﺑﻲ أﻗﻮى أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻣﻦ ﻋﻼﻗﺎت
أﺣﻴﺎن أﺧﺮى ،ﻗﺪ ﺗﺘﺤﻮل اﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﺰوﺟﻴﺔ ﺗﺪرﻳﺠﻴٍّﺎ إﱃ ﻋﻼﻗﺔ ﻋﺪاء أو
ٍ اﻟﺰواج .وﰲ
اﻧﻔﺼﺎل ﺗﺎم ﰲ املﺄﻛﻞ واﻟﻨﻮم ،وﺗﻘﺘﴫ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﻋﲆ اﻟﴬورﻳﺎت ﻓﻘﻂ.
ٍ
ﻋﻼﻗﺔ اﻟﻌﻤﻮﻣﺔ واﻟﺨﺌﻮﻟﺔ :ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻷﺑﻮﻳﺔ ،ﻧﺠﺪ اﻟﻌﻢ ﻳُﻌﺎﻣَ ﻞ ﻣﻌﺎﻣﻠﺔ اﻷب ،وﻻ
ﻳﺼﺒﺢ ﻟﻠﺨﺎل ﻣﺜﻞ ﺳﻠﻄﺔ اﻷب .أﻣﺎ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻷﻣﻮﻳﺔ ﻓﺈن ﺳﻠﻄﺔ اﻟﺨﺎل ﺗﺘﻌﺎﻇﻢ
وﺗﺼﺒﺢ أﻛﱪ ﻣﻦ ﺳﻠﻄﺔ اﻷب ﻋﲆ اﻷﺑﻨﺎء ،وﻻ ﻳﺼﺒﺢ ﻟﻠﻌﻢ أي ﺳﻠﻄﺔ ﻋﲆ أﺑﻨﺎء أﺧﻴﻪ ،وﻟﻜﻦ
أﻳﻀﺎ ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت أﻣﻮﻳﺔ اﻟﻨﺴﺐ .وﰲ ﻋﺪد ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﺗﻮﻗري اﻟﺨﺎل ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻮﺟﺪ ً
ﺗﺼﺒﺢ اﻟﻌﻼﻗﺔ وﺛﻴﻘﺔ ﺑني اﻟﺨﺎل وأﺑﻨﺎء أﺧﺘﻪ ﻟﺘﺒﻠﻎ ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﺼﺪاﻗﺔ واملﻌﺎوﻧﺔ ،وﺗﻨﺸﺄ
ﺑني اﻟﻄﺮﻓني ﻋﻼﻗﺔ أﻗﺮب ﻣﺎ ﺗﻜﻮن إﱃ اﻟﺘﺂﺧﻲ ﺗﻨﺘﻔﻲ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﺮﺳﻤﻴﺔ .وﻋﻨﺪ
ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﺗﻨﺸﺄ ﻋﻼﻗﺔ وﻃﻴﺪة ﺑني اﻟﻌﻤﺔ وأﺑﻨﺎء أﺧﻴﻬﺎ ﺗﺼﻞ إﱃ إﻟﻐﺎء اﻟﺮﺳﻤﻴﺎت
ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن ،وﺗﺼﻞ إﱃ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﺳﻠﻄﺔ ﻟﻠﻌﻤﺔ ﻋﲆ أﺑﻨﺎء أﺧﻴﻬﺎ ﻣﻤﺎﺛﻠﺔ ﻟﺴﻠﻄﺔ اﻷم
أﺣﻴﺎن أﺧﺮى )ﺑﻌﺾ ﻗﺒﺎﺋﻞ ﻣﻴﻼﻧﻴﺰﻳﺎ(.
ٍ ﰲ
ﻋﻼﻗﺔ اﻷﺟﺪاد واﻷﺣﻔﺎد :ﰲ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻧﺠﺪ ﻋﻼﻗﺎت اﻟﺘﻌﺎﻃﻒ واﻟﻮد واﻟﺤﻤﺎﻳﺔ
واملﺴﺎﻋﺪة ﺗﻤﻴﺰ اﻻرﺗﺒﺎﻃﺎت ﺑني اﻷﺟﺪاد وأﺣﻔﺎدﻫﻢ ،وﻣﻦ اﻷﻣﺜﻠﺔ ﻋﲆ وﺟﻮد ﻫﺬا اﻟﺘﻌﺎﻃﻒ
رﻏﻢ اﻟﺒﻌﺪ اﻟﺰﻣﻨﻲ أن ﺑﻌﺾ اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ ﺗﺴﻤﻲ اﻟﺸﻤﺲ »اﻟﺠﺪ«؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻗﺪﻳﻤﺔ وﺑﻌﻴﺪة ﻟﻜﻦ
أﺛﺮﻫﺎ اﻟﻄﻴﺐ ﻣﺤﺴﻮس ﰲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن ،وﻛﺬﻟﻚ ﺗﺴﻤﻲ ﻗﺒﺎﺋﻞ اﻟﺪاﻛﻮﺗﺎ ﻣﻦ اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ اﻟﻮﺟﻮد
اﻷﻋﻈﻢ ﺑﺎﺳﻢ »اﻟﺠﺪ«.
ﻋﻼﻗﺔ أﺑﻨﺎء اﻟﻌﻤﻮﻣﺔ واﻟﺨﺌﻮﻟﺔ :ﺗﺘﺤﺪد ﻫﺬه اﻟﻌﻼﻗﺔ ﻋﲆ أﺳﺎس ﺗﺼﻨﻴﻒ ﻧﻤﻂ اﻟﻘﺮاﺑﺔ
اﻟﺴﺎﺋﺪة ﻋﻨﺪ املﺠﺘﻤﻊ .وﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ،ﻧﺠﺪ أﻓﺮاد اﻟﻘﺮاﺑﺔ املﺘﻮازﻳﺔ )أﺑﻨﺎء اﻟﻌﻢ وأﺑﻨﺎء اﻟﺨﺎﻟﺔ(
495
اﻹﻧﺴﺎن
ﻳُﻌﺎﻣَ ﻠﻮن ﻣﻌﺎﻣﻠﺔ اﻹﺧﻮة واﻷﺧﻮات ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻧﺠﺪ ﻋﻼﻗﺔ ﻣﺘﺒﺎﻋﺪة ﻣﻊ أﻓﺮاد اﻟﻘﺮاﺑﺔ املﺘﻘﺎﻃﻌﺔ
)أﺑﻨﺎء اﻟﻌﻤﺔ واﻟﺨﺎل( ،وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺰواج ﻣﻦ ﻫﺆﻻء اﻷﻓﺮاد.
ٍ
ﻣﺘﻐريات ﻛﺜرية ﺗﱰاوح ﻋﻨﺪ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﻣﻊ اﻷﺣﻤﺎء واﻟﺤﻤﻮات :ﺗﺨﻀﻊ ﻫﺬه اﻟﻌﻼﻗﺔ إﱃ
املﺠﺘﻤﻌﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ﺑني اﻻﺣﱰام واﻟﺘﺒﺠﻴﻞ ،أو اﻟﻜﺮه ورﻓﺾ إﻗﺎﻣﺔ أي ﻋﻼﻗﺔ ﻣﻊ
اﻷﺻﻬﺎر .وﻗﺪ ﻗﺎم اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻲ اﻷﻣﺮﻳﻜﻲ أداﻣﺴﻮن ﻫﻮﻳﺒﻞ ﺑﺪراﺳﺔ ﺗﺤﻠﻴﻠﻴﺔ ملﺎﺋﺔ
ﺣﺎﻟﺔ ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻧﺘﺎﺋﺞ اﻟﺪراﺳﺔ ﻣﻔﻴﺪة وﻣﻤﺘﻌﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﻼﻗﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﻨﻔﺴﻴﺔ
ﻣﻊ اﻷﺻﻬﺎر .وﻗﺪ وﺟﺪ ﻫﻮﻳﺒﻞ أن ٪٩٤ﻣﻦ اﻟﻨﻜﺎت واملﻠﺢ ﻣﻮﺟﻬﺔ ﺿﺪ اﻟﺤﻤﺎة ،وأن
ﺛﻠﺜﻲ اﻟﺮﺟﺎل ﻳﺘﻤﻨﻮن ﻣﻮت اﻟﺤﻤﺎة ،وأن ﺛﻠﺜﻲ اﻟﺤﻤﻮات ﻗﺪ أﻋﺮﺑﺖ ﻋﻦ ﻋﻼﻗﺔ ﻋﺪاﺋﻴﺔ
ﺗﺠﺎه أزواج ﺑﻨﺎﺗﻬﻦ أو زوﺟﺎت أﺑﻨﺎﺋﻬﻦ ،ﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎن ٪٢٠ﻣﻦ اﻟﺤﺎﻻت ﻳﺮﻓﻀﻮن وﺟﻮد
ﺣﻤﺎﺗﻬﻢ ﻣﻌﻬﻢ .وﻻ ﺷﻚ ﰲ أن اﻟﻨﻜﺎت واملﻠﺢ ﻫﻲ ﺻﻤﺎم أﻣﻦ ﺿﺪ ﻋﻼﻗﺔ اﻟﻌﺪاء اﻟﺘﻲ
ﻳﺸﻌﺮ ﺑﻬﺎ اﻟﺸﺨﺺ ﺗﺠﺎه ﺣﻤﺎﺗﻪ.
وﻟﻴﺲ ﻣﻦ املﺴﺘﻐﺮب أن ﺗﻜﻮن اﻷوﺿﺎع ﻣﻤﺎﺛﻠﺔ ﻛﺬﻟﻚ ﻋﻨﺪ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺎرس
اﻻﻏﱰاب ﰲ اﻟﺰواج؛ ﻷن اﻟﺰوج ﻋﺎد ًة ﻫﻮ ﻋﻀﻮ ﺟﻤﺎﻋﺔ أﺧﺮى .ﻛﻤﺎ أن اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻷم
واﺑﻨﺘﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻘﻮة ﺑﺤﻴﺚ ﺗﺰﻳﺪ ﻣﻦ ﻋﻼﻗﺎت اﻟﻌﺪاء ﻣﻊ زوج اﻟﺒﻨﺖ ،وﻳﺰداد املﻮﻗﻒ ﺳﻮءًا
إذا ﻛﺎﻧﺖ إﻗﺎﻣﺔ اﻷﴎة رﺣﻤﻴﺔ املﻜﺎن؛ أي :ﻋﻨﺪ ﻋﺎﺋﻠﺔ اﻟﺰوﺟﺔ أو ﰲ ﻣﺴﻜﻨﻬﺎ .وﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه
اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻧﺠﺪ »ﺗﺎﺑﻮ« ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺗﺤﺮﻳﻢ أي ﻋﻼﻗﺔ — ﺣﺘﻰ وﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻛﻼﻣﻴﺔ — ﻣﻊ اﻟﺤﻤﺎة،
أﺣﻴﺎن أﺧﺮى ﻳﺨﻒ ﻫﺬا اﻟﺘﺤﺮﻳﻢ إﱃ إﻣﻜﺎن اﻟﺘﺤﺎدث ﻣﻦ وراء ﺣﺎﺋﻂ أو ﺳﺎﺗﺮ .أﻣﺎٍ وﰲ
ﻋﻼﻗﺔ اﻷﺻﻬﺎر اﻷﺧﺮى؛ ﻣﺜﻞ :ﻋﻼﻗﺔ اﻟﺰوج ﺑﺤﻤﺎه ،أو اﻟﺰوﺟﺔ ﺑﺤﻤﺎﺗﻬﺎ وﺣﻤﺎﻫﺎ ،ﻓﻬﻲ أﻗﻞ
ﻋﺪاءً ،وﻻ ﻳﻮﺟﺪ »ﺗﺎﺑﻮ« ﻣﻤﺎﺛﻞ ﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﺰوج ﺑﺤﻤﺎﺗﻪ.
496
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
ﺗﻘﻊ اﻷﴎة ﰲ أول ﻗﺎﺋﻤﺔ اﻷﺷﻜﺎل اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻮن اﻟﺒﻨﺎء اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ،وﻻ ﻳﺠﺐ أن ﻳُﻔﻬَ ﻢ ﻣﻦ ﻫﺬا
اﻷﴎة ﺑﻤﻌﻨﺎﻫﺎ اﻟﺬي ﻧﻤﺎرﺳﻪ ،ﺑﻞ أي ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﺘﻜﻮﻳﻦ اﻟﺬي ﻳﺮﺑﻂ ﻓﺮدﻳﻦ ﻣﻦ اﻟﺠﻨﺴني
ﻣﻊ ذرﻳﺘﻬﻤﺎ ﺑﺼﻔﺔ داﺋﻤﺔ أو ﻣﺆﻗﺘﺔ وﰲ ﺗﺠﻤﻊ ﻧﻮوي أو ﺗﺸﺎرﻛﻲ ﻛﻤﺎ ﺳﺒﻖ ﴍﺣﻪ.
ً
اﺧﺘﻼﻓﺎ وﻳﱰﺗﺐ ﻋﲆ اﻷﴎة ﺑﻬﺬا املﻌﻨﻰ اﻟﻮاﺳﻊ ﻋﻼﻗﺎت ﻧﺴﺐ ﻟﻠﻔﺮد ،وﺗﺨﺘﻠﻒ املﺠﺘﻤﻌﺎت
ُﺤﺴﺐ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻨﺴﺐ ﻣﺘﻌﺪدًا Bilateral descent؛ أي ﺑﻴﱢﻨًﺎ ﰲ أﻧﺴﺎﺑﻬﺎ ،ﻓﻬﻨﺎك ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت ﻳ َ
ﻳﻨﺘﺴﺐ اﻟﻔﺮد ﻟﻜﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ أﺑﻴﻪ وأﻣﻪ اﻟﻘﺮاﺑﻴﺔ .وﻫﻨﺎك ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت أﺧﺮى ﺗﻤﺎرس ﻧﺴﺒًﺎ
أﺣﺎدﻳٍّﺎ :Unilineal descentﺧﻂ اﻷب ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻷﺑﻮﻳﺔ ،أو ﺧﻂ اﻷم ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت
اﻷﻣﻮﻳﺔ.
وﻣﺠﺘﻤﻌﺎت أﺧﺮى ﺗﺤﺪد اﻟﻨﺴﺐ ﻋﲆ أﺳﺎس اﻟﺠﻨﺲ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻳﺘﺒﻊ اﻷﺑﻨﺎء ﺧﻂ اﻟﻨﺴﺐ
اﻷﺑﻮي واﻟﺒﻨﺎت ﺧﻂ اﻟﻨﺴﺐ اﻷﻣﻮي ،أو ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت ﺗﻤﺎرس اﻟﻨﺴﺐ املﺰدوج Double
descentﺑﻤﻌﻨﻰ اﻻﻧﺘﺴﺎب إﱃ ﺧﻂ اﻟﺬﻛﻮرة ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻷب وﺧﻂ اﻷﻧﻮﺛﺔ ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ
اﻷم .وﰲ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﻨﺴﺐ املﺘﻌﺪد ﻳﺼﺒﺢ ﻟﻠﻔﺮد أرﺑﻌﺔ أﺟﺪاد؛ ﻫﻢ :ﺟﺪ وﺟﺪة أﺑﻴﻪ وأﻣﻪ .ﺑﻴﻨﻤﺎ
ﰲ اﻟﺤﺎﻻت اﻷﺧﺮى ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻳﺼﺒﺢ ﻟﻠﻔﺮد ﺟﺪ واﺣﺪ وﺟﺪة واﺣﺪة )ﻟﻸب أو اﻷم أو ﺟﺪ ﻣﻦ
ﻧﺎﺣﻴﺔ اﻷب وﺟﺪة ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ اﻷم( .وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻘﻴﺲ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻧﺴﺐ اﻷﻗﺮﺑﺎء اﻵﺧﺮﻳﻦ إﱃ
اﻟﻔﺮد ،ﻓﻔﻲ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻷوﱃ ﻳﺼﺒﺢ ﻟﻠﻔﺮد اﻟﻮاﺣﺪ أﻋﻤﺎم ،وﻋﻤﺎت ،وﺧﺎﻻت ،وأﺧﻮال ،وأﺑﻨﺎء
ﻋﻤﻮﻣﺔ وﺧﺌﻮﻟﺔ … إﻟﺦ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﰲ اﻟﺤﺎﻻت اﻷﺧﺮى ﺗﺘﺤﺪد ﻗﺮاﺑﺔ اﻟﻔﺮد إﱃ اﻷﺷﺨﺎص اﻵﺧﺮﻳﻦ
ﺣﺴﺐ ﻧﻤﻂ اﻟﻘﺮاﺑﺔ وﺣﺴﺎب اﻟﻨﺴﺒﺔ.
وﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ ﻣﻦ اﻟﺘﺴﻠﺴﻞ اﻟﻘﺮاﺑﻲ واﻟﻨﺴﺐ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻨﺴﺐ ،Lineage
اﻟﺘﻲ ﺗُﻌَ ﱡﺪ اﻟﺮﻛﻦ اﻷﺳﺎﳼ ﰲ ﺑﻨﺎء املﺠﺘﻤﻊ اﻟﺒﺪاﺋﻲ .وأﻳٍّﺎ ﻛﺎن اﻟﻨﺴﺐ ﻣﺘﻌﺪدًا أو أﺣﺎدﻳٍّﺎ
ﻓﺈن اﻟﻨﺴﺒﺔ ﻋﺎد ًة ﺗﺮﺗﺒﻂ إﻣﺎ ﺑﻌﺎﺋﻠﺔ اﻷب أو اﻷم ،وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻨﺴﺐ إﻣﺎ أﺑﻮﻳﺔ
Patrilineal lineageأو ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻧﺴﺐ أﻣﻮﻳﺔ .matrilineal lineageوﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻨﺴﺐ
ﻋﺎد ًة ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ وﺣﺪة اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻣﺤﺪودة اﻹﻗﺎﻣﺔ ﺑﻤﻜﺎن ﻣﺤﲇ واﺣﺪ ،وﻧﺎد ًرا ﻣﺎ ﺗﻮﺟﺪ
12ﻳﻄﻠﻖ اﻷﺳﺘﺎذ أﺣﻤﺪ أﺑﻮ زﻳﺪ )اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،املﻌﺎرف اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ (١٩٦٠ﻣﺼﻄﻠﺢ
ﺑﺪﻧﺔ ﻋﲆ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻨﺴﺐ ،وﻫﻮ اﺻﻄﻼح ﺟﻴﺪ ﻟﻮﻻ اﺧﺘﻼف اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﰲ ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﺒﺪﻧﺔ واﻟﻌﺸرية
ً
اﺧﺘﻼﻓﺎ ﻛﺒريًا. واﻟﻘﺒﻴﻠﺔ
497
اﻹﻧﺴﺎن
ﻣﺒﻌﺜﺮة ﻋﲆ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﻜﺎن .وﺗﺘﻜﻮن ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻨﺴﺐ ﻋﺎد ًة ﻣﻦ ﺧﻤﺴﺔ إﱃ ﺳﺘﺔ أﺟﻴﺎل،
أﻳﻀﺎ أن ﺗﻨﻔﺼﻞ وﻟﻮ أن ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻗﺪ ﻳﺼﻞ ﰲ ﺣﺎﻻت ﻧﺎدرة إﱃ ﻋﴩة أﺟﻴﺎل .وﰲ اﻟﻌﺎدة ً
ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻨﺴﺐ ﺑﻌﺪ ﻫﺬه اﻷﺟﻴﺎل اﻟﺨﻤﺴﺔ أو اﻟﺴﺘﺔ إﱃ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻧﺴﺐ ﻣﺘﻌﺪدة ﺟﺪﻳﺪة،
أﻣﺎ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻨﺴﺐ ذات اﻷﺟﻴﺎل اﻟﻜﺜرية ﻓﺈﻧﻬﺎ ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ﻗﺪ ﻻ ﺗﺼﺒﺢ ﺗﻌﺒريًا ﺣﻘﻴﻘﻴٍّﺎ ﻋﻦ
ﻏﺎﻣﻀﺎ وﻏري ﻣﺤﺪد ً ارﺗﺒﺎﻃﺎت ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ دﻣﻮﻳﺔ؛ إذ ﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻳﺼﺒﺢ اﻻﻧﺘﻤﺎء إﱃ اﻟﺠﺪ اﻟﻜﺒري
ﺗﻤﺎﻣً ﺎ .وﺗﻤﺎرس ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻨﺴﺐ اﻟﺰواج اﻻﻏﱰاﺑﻲ ،وﻟﻬﺎ ارﺗﺒﺎﻃﺎت اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
ﺑﺤﻴﺚ ﻳﺼﺒﺢ أﻓﺮاد ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻨﺴﺐ ﻣﻠﺘﺰﻣني ﺑﺎﻟﺘﻌﺎون اﻟﻔﻌﲇ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ أوﺟﻪ اﻟﻨﺸﺎط
اﻻﻗﺘﺼﺎدي ،وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻨﺴﺐ ﻫﻲ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻣﺆﺳﺴﺔ اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ
ﻣﺒﻨﻴﺔ ﻋﲆ وﺷﺎﺋﺞ اﻟﻨﺴﺐ اﻟﺪﻣﻮي .وﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺰداد ﻣﺘﺎﻧﺔ اﻟﺮواﺑﻂ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻨﺴﺐ ﻣﻦ
ﺧﻼل اﻟﺘﻘﺎﺋﻬﺎ ﺣﻮل راﺑﻄﺔ أﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،أو ﻣﻌﻨﻮﻳﺔ ،أو ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ،أو دﻳﻨﻴﺔ؛ ﻣﺜﻞ ﻣﻤﺎرﺳﺔ
ﻋﺒﺎدة اﻷﺟﺪاد .Ancestor cult
وﻳﻜﺘﺴﺐ اﻟﻔﺮد ﺗﻠﻘﺎﺋﻴٍّﺎ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻋﻀﻮﻳﺘﻪ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻨﺴﺐ ﻛﺎﻓﺔ ﺣﻘﻮﻗﻪ وواﺟﺒﺎﺗﻪ
وﻣﻜﺎﻧﺘﻪ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻋﲆ املﺴﺘﻮى املﺤﲇ أو ﻋﲆ ﻣﺴﺘﻮى اﻟﻌﺸرية واﻟﻘﺒﻴﻠﺔ،
وذﻟﻚ ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﺳﺘﻤﺮارﻳﺔ ودﻳﻤﻮﻣﺔ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻨﺴﺐ ﻛﺘﺠﻤﻴﻊ ﻣﺤﲇ أﻛﺜﺮ وأﺷﻤﻞ ﻣﻦ
اﻷﴎة واﻟﻌﺎﺋﻠﺔ ،وﺑﻮاﺳﻄﺘﻬﺎ ﺗﺘﺤﺪد اﻟﺤﻴﺎزة واملﻠﻜﻴﺔ وﺗُﻮ ﱠرث ﺟﻤﺎﻋﻴٍّﺎ ،وﻛﺬﻟﻚ اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ
اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﻘﻴﺎدﻳﺔ واﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ واﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واﻷﻟﻘﺎب املﺨﺘﻠﻔﺔ.
498
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
وﻳﺤﺪث ﻫﺬا اﻻﻧﻀﻤﺎم ﻷﺳﺒﺎب ﻛﺜرية ،ﻣﻨﻬﺎ اﻟﻐﺰو أو اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ ﺗﺪﻋﻴﻢ اﻟﻌﺸرية ﻋﺪدﻳٍّﺎ
ﺑﻘﺒﻮل ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻧﺴﺐ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ داﺧﻠﻬﺎ.
إن ﺑﻌﺾ اﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ذات ﺗﻨﻈﻴﻢ أﻣﻮي واﻟﺒﻌﺾ اﻵﺧﺮ ﻋﺸﺎﺋﺮ أﺑﻮﻳﺔ ،ﺣﺴﺐ ﻧﻤﻂ
اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﺴﺎﺋﺪ ،وﻟﻜﻦ ﻳﺠﺐ أن ﻧﻼﺣﻆ داﺋﻤً ﺎ أن اﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ﺗﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎملﺠﺘﻤﻌﺎت ذات اﻟﻨﺴﺐ
اﻷﺣﺎدي ،ﻛﺬﻟﻚ ﻧﺠﺪ أن اﻟﻐﺎﻟﺒﻴﺔ اﻟﺴﺎﺣﻘﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ﺗﻤﺎرس اﻟﺰواج اﻻﻏﱰاﺑﻲ ،وﻟﻌﻞ
اﻻﺳﺘﺜﻨﺎء اﻟﺮﺋﻴﴘ ﻫﻮ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻟﻌﺸﺎﺋﺮي اﻟﻌﺮﺑﻲ اﻟﺬي ﻳﻤﺎرس اﻟﺰواج اﻟﺪاﺧﲇ .وﻋﲆ
وﺟﻪ اﻟﻌﻤﻮم ،ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻨﻘﺮض اﻟﻌﺸﺎﺋﺮ وﺗﻨﺸﺄ ﻋﺸﺎﺋﺮ ﺟﺪﻳﺪة ﰲ املﻨﺎﻃﻖ ذات اﻟﻜﺜﺎﻓﺔ
اﻟﺴﻜﺎﻧﻴﺔ املﻨﺨﻔﻀﺔ واملﻮارد املﺤﺪودة ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﻌﻤﺮ اﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ املﻮارد اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
اﻟﻐﻨﻴﺔ واﻷﻋﺪاد اﻟﺴﻜﺎﻧﻴﺔ اﻟﻜﺒرية ،وﻳﺮﺟﻊ ذﻟﻚ إﱃ أن اﻟﺘﺰاوج ﻣﻦ ﺧﺎرج اﻟﻌﺸرية ﻗﺪ ﻳﺆدي
إﱃ اﻧﻘﺮاض ذرﻳﺔ اﻟﺮﺟﺎل ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﺘﺰوج اﻟﻨﺴﺎء ﻣﻦ أﻋﻀﺎء ﻋﺸﺎﺋﺮ أﺧﺮى.
وﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺎرس اﻗﺘﺼﺎدﻳﺎت اﻟﺠﻤﻊ ﻧﺠﺪ اﻧﺘﺸﺎ ًرا واﺳﻌً ﺎ ﻷﻋﻀﺎء املﺠﺘﻤﻊ
ﻋﲆ ﻣﺴﺎﺣﺎت واﺳﻌﺔ ﻣﻦ اﻷرض ،وﰲ داﺧﻞ ﻫﺬه املﺴﺎﺣﺎت اﻟﻮاﺳﻌﺔ ﻧﺠﺪ ﺗﻨﻈﻴﻤﺎت
املﺠﺘﻤﻊ ﺗﻘﻮم ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻋﲆ أﺳﺎس ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻨﺴﺐ ﻗﻠﻴﻠﺔ اﻟﻌﺪد ﻟﻔﻘﺮ املﻮارد أو ﻟﺘﺨﻠﻒ
ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻹﻧﺘﺎج؛ وﻟﻬﺬا ﻓﺈن دور اﻟﻌﺸرية ﻋﻨﺪ ﻫﺬه املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻣﺤﺪود .وﻋﲆ ﻋﻜﺲ
ذﻟﻚ ،ﻧﺠﺪ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻟﻌﺸﺎﺋﺮي ﻳﻜﻮن اﻟﺮﻛﻴﺰة اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﰲ اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ اﻟﺰراﻋﻴﺔ واﻟﺮﻋﻮﻳﺔ؛
ﺣﻴﺚ ﺗﺸﺘﺪ اﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ ﺗﺴﺎﻧﺪ وﺗﻌﺎﺿﺪ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻛﺒرية ﻣﻦ اﻟﻨﺎس — أﻛﱪ ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ
اﻟﻨﺴﺐ — ﻟﻠﺪﻓﺎع ﻋﻦ ﻣﺼﺎﻟﺢ املﺠﺘﻤﻊ وأرﺿﻪ وﻣﺠﺎﻟﻪ اﻟﺤﻴﻮي ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﺗﻈﻬﺮ اﻟﺘﻨﻈﻴﻤﺎت
اﻟﻌﺸﺎﺋﺮﻳﺔ ﻛﴬورة ﺣﻴﻮﻳﺔ ﻟﺒﻘﺎء املﺠﺘﻤﻊ.
واملﻔﺮوض ﻧﻈﺮﻳٍّﺎ أن اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ Tribeﻫﻲ اﻟﺘﺠﻤﻴﻊ اﻟﻨﻬﺎﺋﻲ ﻟﻌﺪد ﻣﻦ اﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ﺗﻨﺤﺪر
ﻣﻦ أﺻﻞ واﺣﺪ ﺑﻌﻴﺪ ،إﻻ أﻧﻪ ﺗﻮﺟﺪ ﻋﻨﺪ ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﺗﻨﻈﻴﻤﺎت أﺧﺮى ﺗﺘﻮﺳﻂ ﺑني
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻟﻌﺸﺎﺋﺮي واﻟﻘﺒﲇ .ﻓﻔﻲ ﺣﺎﻻت اﻧﻘﺴﺎم املﺠﺘﻤﻊ إﱃ ﻋﺸريﺗني ﻛﺒريﺗني ﺗﻤﺎرﺳﺎن
اﻟﺸ ﱢﻘﻲ أو اﻟﻨﺼﻔﻲ ) moietyﻣﻦ اﻟﻜﻠﻤﺔ اﻻﻏﱰاب ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳُﻄ َﻠﻖ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ املﺠﺘﻤﻊ ﱢ
اﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ = moitiéﻧﺼﻒ( .وﰲ ﺣﺎﻟﺔ اﺷﱰاك ﻋﺪد ﻣﻦ ﻋﺸﺎﺋﺮ اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ ﰲ ﻣﺼﺎﻟﺢ ﻣﻌﻴﻨﺔ،
ﻓﺈن ﻫﺬه اﻟﻌﺸﺎﺋﺮ املﺘﺸﺎرﻛﺔ ﻳُﻄ َﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻷﺧﻮﻳﺔ أو اﻟﺰﻣﺮة اﻷﺧﻮﻳﺔ ،phratries
وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺤﺪث أن ﻧﺠﺪ ﻗﺒﻴﻠﺔ واﺣﺪة ﺗﻨﻘﺴﻢ إﱃ ﺷﻘني ،وﻋﺪة ﺗﺠﻤﻌﺎت أﺧﻮﻳﺔ وﻋﺪد
أﻛﱪ ﻣﻦ اﻟﻌﺸﺎﺋﺮ .وﺑﺮﻏﻢ ذﻟﻚ ،ﻓﺈن ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺘﻜﻮﻳﻨﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ )ﻗﺒﻴﻠﺔ – ﺷﻖ – زﻣﺮة
أﺧﻮﻳﺔ( ﻻ ﺗﻠﻌﺐ دو ًرا ﺧﻄريًا ﰲ ﺣﻴﺎة املﺠﺘﻤﻊ إﻻ ﰲ ﺣﺎﻻت ﻗﻠﻴﻠﺔ ﻛﺎﻟﺤﺮب أو اﻻﻧﻘﺴﺎﻣﺎت
اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ ،وﻓﻴﻤﺎ ﻋﺪا ذﻟﻚ ﺗﻈﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻨﺴﺐ أو اﻟﻌﺸرية ﺣﺠﺮ اﻟﺰاوﻳﺔ ﰲ اﻟﺘﻜﻮﻳﻦ
اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ اﻟﺬي ﻳﻌﻠﻮ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻟﻌﺎﺋﲇ واﻷﴎي.
499
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﻄﻮﻃﻤﻴﺔ واﻟﻌﺸرية
ﻃﺎ واﺿﺤً ﺎ ﺑني اﻟﻄﻮﻃﻤﻴﺔ Totemismواﻟﺘﻨﻈﻴﻢ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺪراﺳﺎت ﻧﺠﺪ ارﺗﺒﺎ ً
اﻟﻌﺸﺎﺋﺮي .وأﻛﺜﺮ املﻌﺎﻧﻲ ﺷﻴﻮﻋً ﺎ ﻟﻠﻄﻮﻃﻤﻴﺔ ﻫﻲ اﻋﺘﻘﺎد ﻋﺸري ٍة ﻣﺎ ﺑﺄن ﻣﺆﺳﺴﻬﺎ )ﻃﻮﻃﻤﻬﺎ(
ﻛﺎن أﺣﺪ املﻈﺎﻫﺮ ﻏري اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ أو ﻣﻈﻬ ًﺮا ﻣﻦ املﻈﺎﻫﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﰲ ﻣﺤﻴﻂ اﻟﻌﺸرية اﻟﺒﻴﺌﻲ؛
وﻟﻬﺬا ﻧﺠﺪ أﺳﻤﺎء اﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻟﻄﻮاﻃﻢ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﺘﻘﺪ أﻧﻪ ﺳﺒﺐ وﺟﻮدﻫﺎ وﺑﻘﺎﺋﻬﺎ؛
ﻣﺜﻼ :ﻋﺸرية اﻟﻘﻂ أو اﻷﺳﺪ أو ﻧﻮع ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻨﺒﺎت أو اﻟﻄﻴﻮر أو اﻷﺳﻤﺎك أو روح ﻣﻦ ً
ﺑﺎﻃﻦ اﻷرض أو اﻟﺒﺤﺮ أو اﻟﻨﻬﺮ أو ﻣﻦ اﻟﺴﻤﺎء ﻧﺰﻟﺖ وﺗﺰاوﺟﺖ ﻣﻊ واﺣﺪة ﻣﻦ اﻟﻨﺴﺎء.
ﻣﻜﺎن ﻣﻌني ،وﻟﻌﻞ ﻟﻪ رﻣﻮ ًزا أو ﺷﻮاﻫﺪ أو
ٍ وﻳﺮﺗﺒﻂ اﻟﻄﻮﻃﻢ ﻋﺎد ًة ﺑﺎﺣﺘﻔﺎل ﻃﻘﴘ ﰲ
أﴐﺣﺔ ﰲ ﻣﻜﺎن أو ﻋﺪة أﻣﺎﻛﻦ ،وﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ﻳﺤﺮم ﻋﲆ أﻋﻀﺎء اﻟﻌﺸرية ﺻﻴﺪ اﻟﺤﻴﻮان
أو اﻟﻄﺎﺋﺮ ،أو ﻗﻄﻊ اﻟﻨﺒﺎت اﻟﺬي ﻳﻜﻮن ﻃﻮﻃﻢ اﻟﻌﺸرية ،أو اﺳﺘﺨﺪام ﻓﺮاﺋﻪ أو رﻳﺸﻪ أو
أوراﻗﻪ .وﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻳُﻌﺰى ﻟﻠﻄﻮﻃﻢ ﻗﻮى ﻓﻮق ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ﺗﺴﺎﻋﺪ أﻋﻀﺎء املﺠﺘﻤﻊ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻬﻢ،
وﺑﺬﻟﻚ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن اﻟﻄﻮﻃﻢ راﻋﻲ املﺠﺘﻤﻊ.
رﻏﻢ أن اﻟﻐﺎﻟﺒﻴﺔ ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ذات اﻻﻗﺘﺼﺎد اﻟﺒﺴﻴﻂ ﺗﻤﺎرس ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن
ﻧﺴﻤﻴﻪ ﺑﻜﻞ اﻟﺘﻄﺒﻴﻘﺎت اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻟﻠﺮوح اﻟﺪﻳﻤﻮﻗﺮاﻃﻴﺔ ﺑني ﻛﻞ اﻷﺷﺨﺎص ،إﻻ أن ﰲ ﺑﻌﺾ
ﻣﻦ ﻫﺬه املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻳﻈﻬﺮ ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺘﻔﺮﻗﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻮﺟﻮد ﻃﺒﻘﺔ ﺣﺎﻛﻤﺔ .وﺑﻌﺒﺎر ٍة أﺧﺮى:
إن اﻟﱰﺗﻴﺐ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻋﻨﺪ ﻫﺆﻻء ﻳﺄﺗﻲ ﺑﺤﻜﻢ املﻮﻟﺪ ﻓﻘﻂ .ﻟﻜﻦ اﻷﻓﺮاد ﻻ ﻳﺘﺴﺎوون ﺗﻤﺎﻣً ﺎ
ﰲ ﻛﻞ ﳾء ،ﻓﺎﻟﺘﻮأم ﻗﺪ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻛﺜريًا ﻋﻦ ﺷﻘﻴﻘﻪ ﰲ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ أو اﻟﺸﺠﺎﻋﺔ أو أي ﻗﺪرات
ذﻫﻨﻴﺔ أو ﻳﺪوﻳﺔ ﻣﻜﺘﺴﺒﺔ .وﻫﺬا اﻻﺧﺘﻼف ﺑني اﻷﻓﺮاد ﻳﺆدي إﱃ ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﱰﺗﻴﺐ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
ﻟﻸﺷﺨﺎص ،وﻟﻜﻨﻪ ﻻ ﻳﺼﻞ إﱃ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﻃﺒﻘﺎت إﻻ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﺗﻄﻮر أﺷﻜﺎل اﻻﻗﺘﺼﺎد
اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ إﱃ أﻧﻤﺎط اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻳﺸﻴﻊ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﺪم اﻟﺘﻜﺎﻓﺆ ﺑني اﻷﻓﺮاد.
500
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
اﻟﻄﺒﻘﺎت Classes
أدى ﺗﻄﻮر ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ أدوات اﻹﻧﺘﺎج ﰲ أواﺧﺮ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻷﻋﲆ إﱃ ﻇﻬﻮر
ﺑﻌﺾ ﻓﺎﺋﺾ اﻹﻧﺘﺎج ،وﻫﺬا ﻗﺪ أدى ﺑﺪوره إﱃ ﺑﺪاﻳﺔ ﻇﻬﻮر ﻋﺪم اﻟﺘﻜﺎﻓﺆ اﻻﻗﺘﺼﺎدي ﺑني
اﻷﻓﺮاد .وﻣﻦ ﺛﻢ ،ﺑﺪأت ﺑﺬور اﻟﻄﺒﻘﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ املﻌﺘﻤﺪة ﻋﲆ أﺳﺲ اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ،وﻳﻤﻜﻦ
أن ﻧﻘﻮل إﻧﻪ ﺑﺮﻏﻢ ﺑﻌﺾ اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت ﺑني اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴني ﻋﲆ ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻣﻔﻬﻮم ﻟﻠﻄﺒﻘﺔ
اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ )ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت ﻋﲆ ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﻄﻮﻃﻢ واﻟﻌﺸرية … إﻟﺦ(
إﻻ أن ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ ﻫﺆﻻء اﻟﻌﻠﻤﺎء ﻗﺪ اﺗﻔﻘﻮا ﻋﲆ أن املﻔﻬﻮم اﻟﺬي ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻪ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﻮن ﻟﻠﻄﺒﻘﺔ
ﻫﻮ أﻛﺜﺮ املﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﺘﻲ ﺗﺆدي إﱃ ﺗﺤﺪﻳﺪ اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ .وﻋﲆ ﺿﻮء ﻫﺬا اﻟﺘﺤﺪﻳﺪ ،ﻓﺈن
اﻟﻄﺒﻘﺔ ﻫﻲ ﺟﺰء ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻊ أو اﻟﺴﻜﺎن ﻳﺘﺤﺪد ﻧﻤﻂ ﻋﻼﻗﺎﺗﻪ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺑﻤﻠﻜﻴﺘﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ
ﻟﻐﺎﻟﺒﻴﺔ املﻮارد اﻹﻧﺘﺎﺟﻴﺔ ،أو ﻫﻲ ﺟﺰء ﻣﻦ اﻟﺴﻜﺎن )ﻣﺜﻞ اﻟﻌﺎﻣﻞ اﻷﺟري( ﺗﺘﺤﺪد ﻋﻼﻗﺎﺗﻪ
ﺑﺎرﺗﺒﺎﻃﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻊ ﻣﻼك ﻫﺬه املﻮارد.
وﻟﻬﺬا ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﺠﺪ ﻃﺒﻘﺎت ﺑﻬﺬا املﻌﻨﻰ ﻋﻨﺪ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺎرس ﺟﻤﻊ اﻟﻐﺬاء أو
اﻟﺰراﻋﺔ اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ؛ ﻷن وﺳﺎﺋﻞ اﻹﻧﺘﺎج وﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺘﻪ ﻻ ﺗﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﻃﺒﻘﺎت اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
واﺿﺤﺔ ،ﻛﻤﺎ أن املﻮارد اﻹﻧﺘﺎﺟﻴﺔ ﻋﻨﺪﻫﻢ ﻣﻠﻚ ﻣﺸﺎع ﻟﻜﻞ أﻋﻀﺎء املﺠﺘﻤﻊً .
ﻓﻤﺜﻼ ﻳﻤﺘﻠﻚ ﻓﺮد
ﻣﻦ اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ زﺣﺎﻓﺔ وﺧﻤﺴﺔ ﻛﻼب وﺛﻼﺛﺔ ﻫﺎرﺑﻮﻧﺎت )اﻟﺮﻣﺎح املﺴﻨﻨﺔ( وزوﺟﺔ واﺣﺪة،
ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻤﺘﻠﻚ ﻓﺮد آﺧﺮ ﺿﻌﻒ ﻣﺎ ﻳﻤﺘﻠﻜﻪ اﻷول ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻻ ﻳﺆدي إﱃ ﺗﻐﻴري اﻗﺘﺼﺎدي
ﺟﺬري ﺑني اﻟﺸﺨﺼني؛ ﻷن املﻮرد اﻹﻧﺘﺎﺟﻲ اﻷﺳﺎﳼ ﻣﻠﻚ ﻣﺸﺎع ﻟﻠﻜﻞ .وﺑﺮﻏﻢ ﺗﻘﺪﻳﺮ
املﺠﺘﻤﻊ ﻟﺸﺠﺎﻋﺔ ﺷﺨﺺ أو ﻣﻬﺎرﺗﻪ اﻟﻔﻨﻴﺔ ﺑﺎﻟﻘﻴﺎس إﱃ ﻛﺴﻞ ﺷﺨﺺ آﺧﺮ ،إﻻ أن ذﻟﻚ
ﻻ ﻳﺘﻌﺪى اﻟﺘﻘﺪﻳﺮ إﱃ اﻟﺘﻜﻮﻳﻦ اﻟﻄﺒﻘﻲ؛ وﻟﻬﺬا ﻓﺈن ﻣﺠﺘﻤﻌً ﺎ ﻛﺎﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ﻳﻤﺜﻞ املﺠﺘﻤﻌﺎت
ٍ
ﻟﺼﻔﺎت ﺧﺎﺻﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﺪﻳﻤﻮﻗﺮاﻃﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺘﻘﻲ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻄﺒﻘﺎت ﺑﺮﻏﻢ ﺗﻘﺪﻳﺮﻫﻢ اﻟﻌﻈﻴﻢ
ﺑﻌﺾ اﻷﻓﺮاد 14 ،واﻟﺴﺒﺐ اﻷﺳﺎﳼ ﻳﻜﻤﻦ ﰲ املﻠﻜﻴﺔ املﺸﺎع ﻷراﴈ ﺻﻴﺪ ﺣﻴﻮان اﻟﻜﺎرﻳﺒﻮ.
وﻋﲆ ﻋﻜﺲ املﺠﺘﻤﻊ اﻹﺳﻜﻴﻤﺎوي ،ﻧﺠﺪ ﻫﻨﺎك ﺟﺬو ًرا اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻟﻠﺘﻔﺮﻗﺔ ﺑني اﻷﺷﺨﺎص ﰲ
14ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن ﻳﺼﺒﺢ ﻓﺮد ﻣﻦ اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ﻗﻮي اﻟﻨﻔﻮذ ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻣﺘﻼﻛﻪ ﻟﻌﺪد ﻛﺒري ﻣﻦ املﻤﺘﻠﻜﺎت
ً
ﻣﺮﻣﻮﻗﺎ أو اﻟﻔﺮدﻳﺔ )اﻟﺰﺣﺎﻓﺎت ،أو اﻟﻜﻼب ،أو املﻼﺑﺲ ،أو اﻟﺤﺮاب … إﻟﺦ( ،وﻳﺼﺒﺢ ﻫﺬا اﻟﺸﺨﺺ
ﻣﺤﺴﻮدًا ،وﻟﻜﻨﻪ ﻻ ﻳﺼﺒﺢ ﻋﻀﻮًا ﰲ ﻃﺒﻘﺔ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ أﻋﲆ؛ ﻷﻧﻪ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﻣﻘﻮﻣﺎت اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﺟﻮﻫﺮﻳﺔ
ﻟﺘﻜﻮﻳﻦ ﻫﺬه اﻟﻄﺒﻘﺎت.
501
اﻹﻧﺴﺎن
ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺴﺎﺣﻞ اﻟﺸﻤﺎﱄ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻷﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ﺗﺘﻤﺜﻞ ﰲ اﻣﺘﻼك ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﺮﻗﻴﻖ أو
اﻣﺘﻼك ﻣﻨﺎﻃﻖ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻟﺼﻴﺪ ﺳﻤﻚ اﻟﺴﻠﻤﻮن ،أو ﻗﻨﺺ اﻟﺤﻴﻮان ،أو ﺟﻤﻊ اﻷﺻﻮاف.
وﻛﺎن ﺗﻮزﻳﻊ املﻨﺘﺠﺎت ﻏري ﻣﺘﻜﺎﻓﺊ؛ ﻷن اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﻌﻠﻴﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺴﺘﺤﻮذ ﻋﲆ اﻟﻘﺴﻢ
اﻷﻛﱪ ﻣﻨﻬﺎ ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻣﺘﻼﻛﻬﺎ ملﻮارد اﻟﺜﺮوة ،وﻗﺪ أدى ﻫﺬا إﱃ ﻧﺸﺄة ﻃﺒﻘﺔ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
وراﺛﻴﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﻬﺎﻳﻴﺪا أو اﻟﺘﻠﻨﺠﺖ ﺗﺘﻤﺜﻞ ﰲ زﻋﻤﺎء اﻟﻘﺮى وأﻗﺮﺑﺎﺋﻬﻢ ،وﻃﺒﻘﺔ ﻣﻦ اﻟﻔﻘﺮاء
ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﻋﺎﻣﺔ اﻟﺸﻌﺐ ،وﻃﺒﻘﺔ ﻣﻦ اﻟﺮﻗﻴﻖ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻠﻐﺰوات واﻷﴎ.
وﰲ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻴﺶ ﻋﲆ اﻟﺰراﻋﺔ واﻟﺮﻋﻲ ﻧﺠﺪ ﻣﻠﻜﻴﺔ ﺧﺎﺻﺔ
ﻟﻠﻤﻮارد اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ،ﻟﻜﻨﻬﺎ ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ﻣﻠﻜﻴﺔ ﺟﻤﺎﻋﻴﺔ ﻟﻠﻄﺒﻘﺔ اﻟﻌﻠﻴﺎ أو ﻟﻌﺸرية أو
ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻧﺴﺐ .وﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﻧﺠﺪ ﻃﺒﻘﺎت وراﺛﻴﺔ ﻋﻨﺪ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء اﻟﺒﺸﻤﻦ
واﻷﻗﺰام ،وﻛﺬﻟﻚ ﻧﺠﺪ ﻃﺒﻘﺎت وراﺛﻴﺔ ﻋﻨﺪ اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﰲ املﻜﺴﻴﻚ وﺟﺒﺎل اﻷﻧﺪﻳﺰ .ﻟﻜﻨﻨﺎ ﻧﺠﺪ
أن ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻟﻄﺒﻘﺎت ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﺗﻤﺜﻞ ً
أﻳﻀﺎ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻟﺴﻜﺎن ﰲ املﺠﺘﻤﻊ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻷﻗﻠﻴﺔ ﺗﺘﻤﺜﻞ
ﰲ ﺟﻤﺎﻋﺎت ﺗﻤﺎرس ﺣﺮﻓﺔ أﺧﺮى ﻏري اﻟﺤﺮﻓﺔ اﻟﺴﺎﺋﺪة .وﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﺗﺘﻜﻮن ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ
اﻟﺴﻜﺎن ﻋﻨﺪ ﻗﺒﺎﺋﻞ اﻟﻨﻴﻠﻴني ﰲ ﺟﻨﻮب اﻟﺴﻮدان ﻣﻦ اﻟﺮﻋﺎة املﺰارﻋني اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻤﻠﻜﻮن اﻷرض
ﺟﻤﺎﻋﻴٍّﺎ ﰲ ﺻﻮرة ﻣﻠﻜﻴﺔ اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ واﻟﻌﺸرية وﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻨﺴﺐ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ أﻗﻠﻴﺔ اﻟﺴﻜﺎن ﻳﻤﺎرﺳﻮن
اﻟﺴﻤﺎﻛﺔ أو ﻳﻨﺘﻈﻤﻮن ﰲ ﺑﺪﻧﺔ اﻟﺤﺪادﻳﻦ .وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻴﺴﺖ
ﻗﺎﴏة ﻋﲆ ﻋﺪد ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﺴﻜﺎن ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﰲ اﻟﻄﺒﻘﺎت اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﰲ
ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﻠﻴﺎ.
502
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
ﻫﻨﺎك ﺗﻘﻴﻴﻢ ﻟﻠﻌﻤﻞ املﻨﺘﺞ ،ﻋﲆ أﺳﺎس أن ﻋﻤﻞ اﻟﺮﺟﺎل — ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﺧﻄﻮرة واﺣﺘﻤﺎﻻت
املﻮت اﻟﻌﻨﻴﻒ — أﻋﲆ ﻗﻴﻤﺔ ﻣﻦ ﻋﻤﻞ املﺮأة ،إﻧﻤﺎ ﻛﺎن ﻛﻼ اﻟﻨﻮﻋني ﻣﻦ اﻟﻌﻤﻞ ﺷﻘني
ﻣﺘﺴﺎوﻳني ﰲ اﻟﻘﻴﻤﺔ واﻟﴬورة ﻟﺤﻴﺎة املﺠﺘﻤﻊ .وﺑﻬﺬا ﻓﺈن املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﰲ اﻟﻌﴫ
ﺼﺐ ﺻﻐرية اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ ،أو ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺼﻴﺪ واﻟﺴﻤﺎﻛﺔ اﻟﺮاﻫﻨﺔ ،ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﻋُ َ
ﺣﻘﺎ ﺗﻨﺘﻔﻲ ﻓﻴﻪ ﻣﻠﻜﻴﺔ ﻣﻮارد اﻟﻐﺬاء ،وﺗﺘﺴﺎوى ﻓﻴﻪﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﺗﻤﺎرس ﺣﻜﻤً ﺎ دﻳﻤﻮﻗﺮاﻃﻴٍّﺎ ٍّ
ﻣﻜﺎﻧﺔ اﻟﺠﻨﺴني وﻗﻴﻤﺔ إﻧﺘﺎﺟﻬﻤﺎ .أﻣﺎ ﻧﺸﺄة اﻟﻨﻈﺎم املﺎﺗﺮﻳﺎرﻛﻲ ﻛﻨﻈﺎم ﺳﺎﺑﻖ ﻋﲆ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ
اﻟﺒﺎﺗﺮﻳﺎرﻛﻲ )اﻷﺑﻮي( ،ﻓﻤﺮده ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻹﻗﺎﻣﺔ اﻟﺪاﺋﻤﺔ ﻟﻠﻤﺮأة ﰲ املﺤﻠﺔ أو ﺣﻮﻟﻬﺎ )ﻋﻜﺲ
ﺗﺮﺣﻞ اﻟﺮﺟﺎل ﻛﺜريًا( ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ اﻋﺘﺒﺎرات ﺣﻀﺎرﻳﺔ أﺧﺮى ﻋﲆ رأﺳﻬﺎ ﻧﺴﺒﺔ اﻷﺑﻨﺎء إﱃ
أﻣﻬﺎﺗﻬﻢ وﻣﺠﺘﻤﻊ اﻷﻣﻬﺎت :اﻷم اﻟﻜﺒرية )اﻟﺠﺪة أو اﻟﺨﺎﻟﺔ اﻟﻜﱪى( +اﻟﺨﺎل )راﺟﻊ ﻓﻴﻤﺎ
ﺳﺒﻖ ﻧﻈﺎم اﻟﺰواج اﻷﻣﻮي املﻜﺎن وزواج اﻟﺰﻳﺎرة … إﻟﺦ( ،وﻟﻢ ﻳﺆ ﱢد ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم إﱃ ﺳﻴﺎدة
املﺮأة وﺗﺨﻠﻒ ﻣﺮﻛﺰ اﻟﺮﺟﻞ؛ إذ ﻟﻢ ﻳﻮﺟﺪ أي ﺷﻜﻞ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل ﻣﻠﻜﻴﺔ املﻮارد اﻟﻐﺬاﺋﻴﺔ ﰲ
ﺣﻮزة اﻟﻨﺴﺎء.
وﻟﻜﻦ ﻣﻊ ﺗﻘﺪم ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻹﻧﺘﺎج وأدوات اﻹﻧﺘﺎج ﻳﺒﺪأ اﻟﺮﺟﺎل ﰲ اﻻﺳﺘﻔﺎدة ﻣﻦ
ﺣﺮﻳﺔ اﻟﺤﺮﻛﺔ واﻟﻘﻮة اﻟﻌﻀﻠﻴﺔ ،وﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﻐﺰو واﺳﱰﻗﺎق آﺧﺮﻳﻦ ﻛﻲ ﻳﻌﻤﻠﻮا ﻟﺤﺴﺎﺑﻬﻢ،
وﺗﺒﺪأ ﻣﻊ ﻫﺬا ﻓﻜﺮة اﻣﺘﻼك ﻣﻮارد اﻟﻐﺬاء :ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﺼﻴﺪ واﻟﺴﻤﺎﻛﺔ .وﻗﺪ أدﱠى ذﻟﻚ إﱃ
رﻓﻊ ﻣﻜﺎﻧﺔ اﻟﺮﺟﺎل اﺟﺘﻤﺎﻋﻴٍّﺎ ،وﺑﺎﻟﺘﺪرﻳﺞ إﱃ ﻇﻬﻮر ﻧﻔﻮذ اﻟﺮﺟﺎل وﺑﺪاﻳﺔ ﺗﺤﻜﻤﻬﻢ ﰲ ﺣﻴﺎة
املﺠﺘﻤﻊ :اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺒﺎﺗﺮﻳﺎرﻛﻲ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻴﻪ ﻣﻦ ﻧﻈﻢ ﻗﺮاﺑﻴﺔ وزواﺟﻴﺔ ودﻳﻨﻴﺔ وﺳﻴﺎﺳﻴﺔ.
وﻗﺪ ﺗﺮﺗﺐ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﺳﻘﻮط ﻣﻜﺎﻧﺔ املﺮأة إﱃ ﻣﺠﺮد ﺳﻠﻌﺔ إﻧﺘﺎﺟﻴﺔ )ﺣﻤﻞ اﻷﻃﻔﺎل وﺗﺮﺑﻴﺘﻬﻢ(،
وﻗﺪ ﺗﻀﺎﻋﻔﺖ ﻫﺬه اﻟﺼﻮرة ﰲ املﺠﺘﻤﻊ اﻟﺰراﻋﻲ واﻟﺮﻋﻮي ،ﻣﻨﺬ ﺑﺪاﻳﺔ اﺳﺘﺌﻨﺎس اﻟﻨﺒﺎت
واﻟﺤﻴﻮان ،وﺗﻄﻮر ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻷدوات اﻟﻘﺎﻃﻌﺔ ﻣﻦ اﻷﺣﺠﺎر إﱃ املﻌﺎدن ،وﺧﺎﺻﺔ اﻟﱪوﻧﺰ
واﻟﺤﺪﻳﺪ ،وﻇﻬﻮر اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،وﻟﻢ ﺗَﻌُ ْﺪ ﻟﻠﻤﺮأة ﻗﻴﻤﺔ ﻓﻌﻠﻴﺔ ﰲ اﻹﻧﺘﺎج،
وﻇﻬﺮت اﻟﺪﻋﺎرة ﺑﻤﺨﺘﻠﻒ ﺻﻮرﻫﺎ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ،ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺷﻜﻞ ﴏﻳﺢ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل
ﴍاء املﺮأة ﻛﺴﻠﻌﺔ ﻳﺘﻘﺒﻠﻪ املﺠﺘﻤﻊ.
وﻗﺪ ﻇﻠﺖ ﻣﻜﺎﻧﺔ املﺮأة ﻣﺘﺨﻠﻔﺔ ﻛﺜريًا ﺧﻼل اﻟﻌﴫ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ﻛﻠﻪ ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء اﻟﺤﻘﻮق
اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻟﺘﻲ أﻋﻄﺎﻫﺎ اﻹﺳﻼم ﻟﻬﺎ — وﺧﺎﺻﺔ ﰲ ﺻﺪر اﻹﺳﻼم .وﻣﻊ ﺑﺪاﻳﺔ
ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ اﻷوروﺑﻴﺔ ﺑﺪأ ﻣﺮﻛﺰ املﺮأة ﰲ اﻟﺘﺤﺴﻦ ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻧﻔﺘﺎح ﺑﻌﺾ آﻓﺎق اﻟﻌﻤﻞ
أﻣﺎﻣﻬﺎ .وﻣﻊ ﻧﻤﻮ اﻟﻄﺐ واﻟﺘﻮﻟﻴﺪ ورﻋﺎﻳﺔ اﻷﻃﻔﺎل ﻟﻢ ﺗَﻌُ ﺪ اﻟﻄﻔﻮﻟﺔ ً
ﻋﺎﺋﻘﺎ أﻣﺎم ﺗﺤﺴﻦ ﻣﺮﻛﺰ
املﺮأة وﺗﻔﺘﺢ ﺷﺨﺼﻴﺘﻬﺎ.
503
اﻹﻧﺴﺎن
504
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
اﻟﻌﻀﻮﻳﺔ ﺑﺎملﻮﻟﺪ أو ﺑﺎﻻﻧﺘﻤﺎء إﱃ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻧﺴﺐ أو ﻋﺸرية ﻣﻌﻴﻨﺔ .ﻛﺬﻟﻚ ﻧﺠﺪ ﰲ ﺑﻌﺾ ﻫﺬه
املﺠﺘﻤﻌﺎت أﻧﺪﻳﺔ أو ﺟﻤﻌﻴﺎت ﺧﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺎء ،وﺗﺨﺘﻠﻒ ﻣﻬﺎم اﻷﻧﺪﻳﺔ ووﻇﺎﺋﻔﻬﺎ ﺑﺎﺧﺘﻼف
ﻧﻤﻂ اﻻﻗﺘﺼﺎد اﻟﺴﺎﺋﺪ ﻋﻨﺪ ﻛﻞ ﺟﻤﺎﻋﺔ .وﻣﻦ ﺑني املﻬﺎم املﻌﺮوﻓﺔ :املﺴﺎﻋﺪة ،واﻟﺘﻌﻠﻴﻢ،
واﻟﺨﺪﻣﺔ اﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ ،واﻟﻌﻼج ،وﺻﻨﺎﻋﺔ املﻄﺮ .وﻫﻨﺎك ﻣﻬﺎم أﺧﺮى ﻃﻘﺴﻴﺔ أو ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ،
وﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻷﺣﻴﺎن ﻳﺼﺒﺢ ﻟﻠﺠﻤﻌﻴﺔ أﻣﻼك ﺧﺎﺻﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻟﺮﺳﻮم اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻘﺎﺿﺎﻫﺎ ﻣﻦ
اﻷﻋﻀﺎء ،وﺑﺬﻟﻚ ﺗﺼﺒﺢ ﺗﻨﻈﻴﻤً ﺎ ﻗﻮﻳٍّﺎ ﻟﻪ ﻧﻔﻮذه داﺧﻞ املﺠﺘﻤﻊ .وﻗﺪ ﺗﺘﺤﻮل اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ اﻟﴪﻳﺔ
ُﺤﺴﺐ ﻟﻬﺎ ﺣﺴﺎب ﺿﺪ اﻟﺴﻠﻄﺔ اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻌﺮض ﻟﻬﺎ املﺠﺘﻤﻊ .وﻣﻦ إﱃ أداة ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﻳ َ
أﻫﻢ اﻷﻣﺜﻠﺔ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﺑﻌﺾ اﻟﺠﻤﻌﻴﺎت اﻟﴪﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺣﺎرﺑﺖ اﻻﺳﺘﻌﻤﺎر اﻷوروﺑﻲ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ.
وﻳﺘﻀﺢ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻌﺮض اﻟﴪﻳﻊ أن اﻟﺒﻨﺎء اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻟﻠﻘﺒﺎﺋﻞ واملﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻟﻴﺲ
ً
أﺳﺎﺳﺎ رواﺑﻂ اﻟﻘﺮاﺑﺔ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻄﺎ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﻌﻤﻮم ،ﺑﻞ ﺗﺘﻔﺎﻋﻞ ﻓﻴﻪأﻣ ًﺮا ﺑﺴﻴ ً
ً
ﻣﺆدﻳﺔ إﱃ ﺗﺮﻛﻴﺒﺎت ﺑﻨﻴﻮﻳﺔ ﺗﻔﺎﻋﻼ ﺷﺪﻳﺪًا ﻣﻊ اﻷوﺿﺎع اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ واﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ً
ﻋﲆ أﺳﺎس اﻹﻗﺎﻣﺔ املﺤﻠﻴﺔ واﻟﺘﺒﻌﻴﺔ اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ واﻷﺳﻄﻮرﻳﺔ واﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ملﺠﺘﻤﻊ أﻛﱪ ﻳﺘﻀﻤﻦ
ﻋﺸرية أو ﻗﺒﻴﻠﺔ أو ﺷﻌﺐ .وﺗﺸﺎرك اﻟﻈﺮوف اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ واﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺑﻨﺼﻴﺐ واﻓﺮ ﰲ
ﺗﻘﺴﻴﻢ املﺠﺘﻤﻊ إﱃ ﻃﺒﻘﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻗﺎم ﻣﻌﻈﻤﻬﺎ ﻋﲆ أﺳﺲ وراﺛﻴﺔ ﺟﺎﻣﺪة ،ﻋﲆ ﻋﻜﺲ
املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ.
وأﺧريًا ،ﻓﺈن املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﺗﻨﻘﺴﻢ ﺣﺴﺐ ﻓﺌﺎت اﻟﻌﻤﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ إﱃ ﻃﺒﻘﺎت ﺳﻦ
ﻟﻬﺎ وﻇﺎﺋﻔﻬﺎ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ،وﺣﺴﺐ اﻻﺳﺘﻌﺪادات اﻟﺬﻫﻨﻴﺔ واﻟﻨﻔﺴﻴﺔ واﻟﺨﻠﻘﻴﺔ
املﻜﺘﺴﺒﺔ إﱃ ﺗﺮﺗﻴﺐ ملﻜﺎﻧﺔ اﻷﻓﺮاد داﺧﻞ املﺠﺘﻤﻊ ،وﺣﺴﺐ ﻛ ﱟﻞ ﻣﻦ اﻟﺠﻨﺴني إﱃ ﻣﻬﺎم
ووﻇﺎﺋﻒ اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ وﺳﻴﺎﺳﻴﺔ وﺗﺮﺑﻮﻳﺔ.
505
اﻹﻧﺴﺎن
وﺑﻬﺬا ﻓﺈن اﻟﻘﺎﻧﻮن ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ،ﻋﺎملﻲ اﻟﻮﺟﻮد ﻋﻨﺪ ﻛﻞ املﺠﺘﻤﻌﺎت،
ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻧﺠﺪ أي ﻣﺠﺘﻤﻊ دون ﻗﺎﻧﻮن ﻳﻨﻈﻢ ﻛﻞ اﻟﻌﻼﻗﺎت ﺑني أﻓﺮاده ،وﻛﺬﻟﻚ ﻋﻼﻗﺎﺗﻪ
ﺑﺎملﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ.
وﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ )اﻟﻘﻨﺺ واﻟﺠﻤﻊ واﻟﺴﻤﺎﻛﺔ( ﻣﻮاﻗﻒ ﻣﻌﻘﺪة
ﺗﺴﺘﺪﻋﻲ اﻟﺘﻘﺎﴈ ﺑﻤﺜﻞ درﺟﺔ املﺠﺘﻤﻌﺎت املﺮﻛﺒﺔ )اﻟﺰراﻋﺔ واﻟﺮﻋﻲ واﻟﺼﻨﺎﻋﺔ( ،وﻳُﻀﺎف
إﱃ ذﻟﻚ أن رواﺑﻂ اﻟﻘﺮاﺑﺔ وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ ﻣﻜﻮﻧﺎت ﺑﻨﺎء املﺠﺘﻤﻊ ﺗﻮﺟﺪ ﻋﲆ ﻣﺴﺘﻮى ﻗﺮﻳﺐ
وﻓﻌﺎل ﻋﻨﺪ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻗﻠﻴﻠﺔ اﻟﻌﺪد — ﻋﲆ ﻋﻜﺲ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻛﺒرية اﻟﻌﺪد.
ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﺗﻮﺟﺪ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻗﻮاﻧني ﻣﺤﺪودة ،ﺑﺴﺒﺐ ﻗﻠﺔ اﻟﺤﻮادث واﻟﺤﺎﻻت
اﻟﺘﻲ ﻳﺨﺮق ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻔﺮد اﻟﻘﺎﻧﻮن .ﻓﻜﻞ ﻋﻀﻮ ﰲ املﺠﺘﻤﻊ املﺤﲇ ﻳﻌﺮف ﻣﺎ ﻳﻔﻌﻠﻪ اﻵﺧﺮ؛
وﻟﻬﺬا ﻓﺈن اﻟﺮأي اﻟﻌﺎم ﰲ ﻫﺬه املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻳﻤﺜﻞ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻷﻛﱪ ﻣﻦ اﻟﻘﺎﻧﻮن ،وﻫﻮ ﻳﻘﻮم
ﺑﺎﻟﺘﻨﻔﻴﺬ املﺒﺎﴍ واﻟﻔﻌﺎل ﻋﲆ ﻧﺤﻮ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﺠﻬﺎز اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻲ ذي اﻟﺸﻜﻞ املﺮﺳﻮم واﻟﻌﻼﻗﺔ
ﻏري اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻣﻊ أﺻﺤﺎب اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت املﺮﻛﺒﺔ .وﻋﲆ ﻫﺬا ﻓﺈن ﺣﻜﻢ اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ
ﻣﺜﻼ ﺿﺪ ﺷﺨﺺ ﻣﺘﻬﻢ ﺑﻘﺘﻞ آﺧﺮ ،أو أﺣﺪ رﺟﺎل ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻳ ﱠ
ُﻨﻔﺬ ﻓﻮ ًراً .
اﻟﺪﻳﻦ أو اﻟﺴﺤﺮ )ﺷﺎﻣﺎن( املﺘﻬﻢ ﺑﻘﺘﻞ آﺧﺮ ﺑﺎﻟﺴﻢ أو اﻟﺴﺤﺮ .واﻟﺘﻘﻠﻴﺪ ﻫﻨﺎ ﻫﻮ اﻟﺬي
ﻳﻠﻘﻲ اﻟﻀﻮء ﻋﲆ اﻷﺣﻜﺎم اﻟﺘﻲ ﺗﺼﺪر ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﺗﻌﺎﻟﻴﻢ أو ﻧﺼﻮص املﻴﺜﻮﻟﻮﺟﻴﺎ .أﻣﺎ
ُﺆﺧﺬ اﻟﺮأي اﻟﻌﺎم ﺑﻌﺪ املﺪاوﻻت وﺗﺤﺮي اﻟﺨﻠﻘﻴﺎت وأﺣﺪاث اﻟﺘﺎرﻳﺦﰲ املﻮاﻗﻒ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻓﻴ َ
املﻴﺜﻮﻟﻮﺟﻲ.
وﺗﺸﺒﻪ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺰراﻋﺔ اﻷوﻟﻴﺔ ﺑﻘﻴﺔ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل؛ أي ﻧﻈﺎم
ﺣﻜﻢ اﻷﻏﻠﺒﻴﺔ — اﻟﺪﻳﻤﻮﻗﺮاﻃﻴﺔ ﺑﻤﻌﻨﺎﻫﺎ اﻟﺤﺮﰲ — وﻟﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ
اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺎرس ﻣﻨﻬﺞ اﻟﺤﻜﻢ اﻷوﺗﻮﻗﺮاﻃﻲ ﻏري اﻟﺪﻳﻤﻮﻗﺮاﻃﻲ ،ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻋﻨﺪ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت
اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﰲ اﻟﺴﺎﺣﻞ اﻟﺸﻤﺎﱄ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻷﻣﺮﻳﻜﺎ .ﻫﻨﺎ ﻧﺠﺪ اﻟﻘﺎﻧﻮن واﻟﺤﻜﻢ ﰲ ﺣﻮزة اﻟﺰﻋﻴﻢ
اﻟﻐﻨﻲ :ﻫﻮ املﺪﻋﻲ واﻟﻘﺎﴈ ،وﻳﻘﻮم أﺗﺒﺎﻋﻪ ﺑﺘﻨﻔﻴﺬ أﺣﻜﺎﻣﻪ .ﻟﻜﻨﻨﺎ ﻧﺠﺪ ً
أﻳﻀﺎ املﻴﺜﻮﻟﻮﺟﻴﺎ
واﻻﺳﺘﺪﻻل ﺑﺎﻟﺤﺎﻻت اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﺗﺘﺪﺧﻞ ﻟﺘﻠﻌﺐ دورﻫﺎ ﰲ ﺗﺤﺪﻳﺪ أﺣﻜﺎم وﻧﺰوات اﻟﺰﻋﻤﺎء.
وﺣﻴﺚ إن اﻟﺰﻋﻤﺎء ﻳﺘﻘﺎﺿﻮن ﺟﺰءًا ﻣﻦ اﻟﻐﺮاﻣﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﻔﺮﺿﻮﻧﻬﺎ ﻋﲆ املﺘﺨﺎﺻﻤني ،ﻓﺈﻧﻬﻢ
ﻻ ﻳﻠﺠﺌﻮن إﱃ أﺣﻜﺎم ﺗﺨﺎﻟﻒ اﻟﺴﻠﻒ ﻛﺜريًا ،ﻓﻠﻴﺲ ﻣﻦ ﺻﺎﻟﺤﻬﻢ اﺗﺨﺎذ أﺣﻜﺎم ﻗﺎﺳﻴﺔ ﻗﺪ
ﺗﻘﻠﻞ اﻟﺘﺨﺎﺻﻢ أو ﺗﺜري ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺑﻐﻀﺎء اﻟﻨﺎس.
واﻟﻔﻮارق ﺑني ﻫﺬﻳﻦ اﻟﻨﻮﻋني ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻫﻮ أن اﻷول دﻳﻤﻮﻗﺮاﻃﻲ ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻟﺜﺎﻧﻲ
أوﺗﻮﻗﺮاﻃﻲ .وﻫﺬه اﻷوﺗﻮﻗﺮاﻃﻴﺔ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﺗﻨﺸﺄ ﻋﻦ اﻟﻐﻨﻰ واﻣﺘﻼك ﻣﺼﺎدر اﻟﺜﺮوة ﻣﻊ أو
506
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
ﺑﺪون اﻟﻮراﺛﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،واﻷﺻﻞ اﻷﺟﻨﺒﻲ أو اﻷﺳﻄﻮري ﻟﻌﺸرية اﻟﺰﻋﻤﺎء )ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻳﻤﺜﻠﻮن
ﺟﻤﺎﻋﺎت ﻏﺎزﻳﺔ ﻗﻴﺎدﻳﺔ( .وﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ اﻟﺨﻠﻘﻴﺎت اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻌﺎﻗﺐ اﻟﺸﻌﺐ
زﻋﻴﻤﻪ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﺤﻜﻢ ﻛﺘﺠﺴﻴﺪ ﻟﺮوح اﻟﺒﻄﻞ اﻷﺳﻄﻮري أو ﻧﺼﻒ اﻹﻟﻪ ،وﻛﺘﺠﺴﻴﺪ ﻟﻜﻞ ﺗﻘﺎﻟﻴﺪ
املﺠﺘﻤﻊ وﺗﺎرﻳﺨﻪ ،وﻟﻜﻦ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﺰﻋﻴ ٍﻢ آﺧﺮ أو ﻋﻀﻮ ﻣﻦ ﻋﺸرية اﻟﺤﻜﺎم أن ﻳﺘﻮﱃ ﻣﻌﺎﻗﺒﺔ
اﻟﺰﻋﻴﻢ املﺨﻄﺊ أو أن ﻳﺘﻢ ذﻟﻚ ﺑﺈﺟﻤﺎع اﻵراء ﰲ ﻋﺸرية اﻟﺰﻋﺎﻣﺔ.
وﰲ أﺣﻴﺎن ﻛﺜرية ﻳﺮﴈ اﻟﺰﻋﻴﻢ ﺑﻌﺾ اﻟﺮﻋﻴﺔ ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﺗﻮزﻳﻊ ﺟﺰء ﻣﻦ اﻟﻐﺮاﻣﺎت
ﺪﻓﻊ ﻟﻠﻤﺘﴬرﻳﻦ .وﻟﻠﺰﻋﻴﻢ ﻫﻴﺌﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﺛﺎﺑﺘﺔ ﻟﺘﻨﻔﻴﺬ اﻷﺣﻜﺎم ،وﺑﺬﻟﻚ ﺗﺨﺘﻔﻲ ﺻﻮرة اﻟﺘﻲ ﺗُ َ
اﻟﺘﻄﻮع اﻻﺧﺘﻴﺎري املﺆﻗﺖ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ أﻓﺮاد املﺠﺘﻤﻊ ﻟﻠﻘﻴﺎم ﺑﺘﻨﻔﻴﺬ اﻷﺣﻜﺎم ﰲ ﺣﺎﻟﺔ املﺠﺘﻤﻌﺎت
اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ.
وﻳﻤﺜﻞ اﻟﻘﺎﻧﻮن ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺰراﻋﺔ واﻟﺮﻋﻲ ﺗﻄﻮ ًرا آﺧﺮ ،ﻓﻬﻨﺎ ﻧﺠﺪ ﻣﺤﺎﻛﻢ داﺋﻤﺔ
وﻗﻀﺎة ﻳﻌﻴﻨﻬﻢ اﻟﺤﻜﺎم .وﺗﺘﻌﺪد ﻣﻬﺎم املﺤﺎﻛﻢ ﺑﺤﻴﺚ ﺗﺸﻤﻞ ﺗﺄﻣني اﻟﴬاﺋﺐ واﻟﺮﺳﻮم
وﺟﻤﻊ اﻟﻐﺮاﻣﺎت وﻧﺰع ﻣﻠﻜﻴﺔ املﺬﻧﺒني وﺗﻘﻠﻴﻞ أﻋﻤﺎل ﻣﺜريي اﻟﺸﻐﺐ واملﺘﺎﻋﺐ ﺿﺪ راﺣﺔ
اﻟﺤﻜﺎم اﻷﺗﻮﻗﺮاﻃﻴني وأﻣﻼﻛﻬﻢ وأوﺿﺎﻋﻬﻢ ،وﺑﺬﻟﻚ ﺗﺘﺪاﺧﻞ ﻫﻨﺎ اﻷﺷﻜﺎل اﻟﻄﺒﻘﻴﺔ واﻷوﺿﺎع
ﺗﺪاﺧﻼ ﻛﺒريًا ﰲ ﻧﻮع اﻟﻘﺎﻧﻮن وﺷﻜﻠﻪ وﻃﺮق ﺗﻨﻔﻴﺬه .وﻣﺎ زﻟﻨﺎ ﻧﻌﺎﻳﺶ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا ً اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ
اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺘﻲ ﺗُﺸ ﱠﻜﻞ ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﻣﺒﺎدئ ﻋﺎﻣﺔ ﺗﺤﻜﻢ املﺠﺘﻤﻊ ،ﺳﻮاء أﻛﺎن زراﻋﻴٍّﺎ
أم ﺻﻨﺎﻋﻴٍّﺎ.
وﻫﻨﺎك ﻓﺮوق ﺑني أﻧﻮاع اﻟﺠﺮاﺋﻢ اﻟﺘﻲ ﺗُﺮﺗ َﻜﺐ ﺿﺪ املﺠﺘﻤﻊ ،وﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗُﺮﺗ َﻜﺐ ﰲ
ﺣﻖ اﻷﻓﺮاد واﻷﻗﺎرب .وﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻧﺠﺪ ﻧﺴﺒﺔ ﺟﺮاﺋﻢ اﻟﻨﻮع اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﺎﻟﻴﺔ،
وﻳﺘﻮﱃ اﻷﻓﺮاد ﺑﺄﻧﻔﺴﻬﻢ رﻓﻊ اﻷﴐار اﻟﺘﻲ ﻟﺤﻘﺖ ﺑﻬﻢ دون اﻟﻠﺠﻮء إﱃ ﻋﻤﻞ ﺟﻤﺎﻋﻲ ﻣﻦ
أﻳﻀﺎ ﺟﺮاﺋﻢ ﻣﺤﺪودة ﺿﺪ املﺠﺘﻤﻊ ،ﻣﺜﻞ اﻻﻋﺘﺪاء ﻋﲆ ﻣﺤﺮم )ﺗﺎﺑﻮ( ﺟﺎﻧﺐ املﺠﺘﻤﻊ .وﻫﻨﺎك ً
ﻏﺬاﺋﻲ أو ﺟﻨﴘ أو دﻳﻨﻲ ،وﻫﻨﺎ ﻧﺠﺪ املﺠﺘﻤﻊ ﻛﻠﻪ ﻳﻌﺎﻗﺐ اﻟﻔﺎﻋﻞ إﻻ إذا ﻋُ ﻔِ ﻲ ﻋﻨﻪ ﻟﺠﻬﻠﻪ
أﻳﻀﺎ إﱃأو ﻻﻋﱰاﻓﻪ ﺑﺎﻟﺬﻧﺐ ،ﻣﻊ ﻣﻄﺎﻟﺒﺘﻪ ﺑﺘﻌﻮﻳﺾ أو ﺗﻄﻬﺮ .وﺗﻠﺠﺄ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ً
اﻷدﻟﺔ واﻟﺸﻬﻮد إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻘﻀﻴﺔ ﻏري واردة ﰲ اﻟﺴﻮاﺑﻖ ،أو ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺒﺖ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻮاﺳﻄﺔ
اﻟﻘﺴﻢ أو اﻻﺧﺘﺒﺎر اﻹﻟﻬﻲ ) Ordealﻛﺎملﴚ ﻋﲆ اﻟﺠﻤﺮات دون أن ﺗُﺼﺎب اﻷﻗﺪام ﺑﺎﻟﺤﺮوق
ُﺆﺧﺬﻛﺪﻟﻴﻞ ﻋﲆ اﻟﱪاءة( .وﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﻼﺣﻆ أن اﻟﻘﺴﻢ Oathﻋﻨﺪ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻻ ﻳ َ
ُﺆﺧﺬ ً
دﻟﻴﻼ ﻋﲆ اﻟﱪاءة؛ دﻟﻴﻞ ﺑﺮاءة؛ ﻷﻧﻪ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﻛﺎذﺑًﺎ ،أﻣﺎ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻓﺈﻧﻪ ﻳ َ
ﻷن اﻟﺨﻮف ﻣﻦ ﻋﻘﺎب واﻧﺘﻘﺎم اﻷرواح ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺪاﺋﻴني ﺧﻮف ﺣﻘﻴﻘﻲ وﻛﺒري.
ٍ
ﺟﺮﻳﻤﺔ ﻣﺎ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻗﻠﻴﻞ ﺟﺪٍّا ﻋﻨﺪ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ، أﻣﺎ ﺷﺄن »اﻟﻨﻴﺔ« ﻋﻨﺪ وﻗﻮع
ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻟﻪ ﰲ املﺠﺘﻤﻊ اﻟﺤﺪﻳﺚ وزﻧﻪ املﺨﻔﻒ ﻟﻠﻌﻘﺎب .ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺪاﺋﻴني أن ﻣﺎ وﻗﻊ ﻣﻦ ﺟﺮﻳﻤﺔ
507
اﻹﻧﺴﺎن
ﻣﺜﻼ — ﻗﺪ وﻗﻊ ﺑﻐﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ اﻟﻨﻴﺔ أو اﻟﺘﻌﻤﺪ ،ﻓﺎﻟﻘﺘﻞ ﻗﺪ ﺣﺮم املﺠﺘﻤﻊ — ﻛﺎﻟﻘﺘﻞ ً
ﻣﻦ ﻋﻀﻮ ،وﻳﺠﺐ اﻟﺘﻌﻮﻳﺾ ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﺠﺮم ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ أو أﺧﺮى .وﻫﻨﺎ ﻻ ﻧﺠﺪ ﻛﻞ ﺧﻄﺄ
ﻣﺘﻤﺎﺛﻞ ،ﺑﻞ إن ﻧﻮع اﻟﴬر ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﺤﺪد ﻧﻮع اﻟﻌﻘﺎب أو اﻟﻐﺮاﻣﺔ؛ ﻛﺎﻟﺪﻳﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ
ُﺆﺧﺬ ﺷﺨﺺ ﻣﻦ ﻋﺸرية اﻟﻘﺎﺗﻞ أو أﻗﺎرﺑﻪ ﻟﻴﺼﺒﺢ ﻋﻀﻮًا ﰲ ﻓﻤﺜﻼ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳ َ
ً اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ.
ﺟﻤﺎﻋﺔ اﻟﻘﺘﻴﻞ إذا ﻛﺎن اﻟﺠﺎﻧﻲ ﻣﻦ أﻋﻀﺎء املﺠﺘﻤﻊ ﻧﻔﺴﻪ .أﻣﺎ إذا ﻛﺎن اﻟﺠﺎﻧﻲ ﻣﻦ ﻣﺠﺘﻤﻊ
آﺧﺮ ﻓﺈﻧﻪ ﻳُﻘﺘَﻞ ،وﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﻌﻤﻮم ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﻌﻮﻳﺾ ﻋﻦ اﻟﻘﺘﻞ ﺣﺘﻰ وﻟﻮ ﻛﺎن اﻟﺴﺤﺮ أو
اﻟﺴﻢ ﻗﺪ اﺳﺘُﺨﺪِم ﻛﺄداة ﺳﺒﺒﺖ املﻮت.
وأﺧريًا ،ﻓﺈن ﻣﻔﻬﻮم اﻟﻌﺪاﻟﺔ ﻋﻨﺪ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻣﺎ زال ﻏري واﺿﺢ ﻟﻘﻠﺔ اﻟﺪراﺳﺔ
وﺻﻌﻮﺑﺘﻬﺎ .أﻣﺎ اﻟﻌﺪاﻟﺔ ﻛﻤﻔﻬﻮم ﻣﻄﻠﻖ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﻤﺒﺪأ
اﻟﺤﻜﻢ اﻟﺴﻴﺎﳼ اﻟﺴﺎﺋﺪ وﻣﻨﻄﻘﻪ واﻟﻘﻴﺎس ﻋﲆ اﻟﺴﻮاﺑﻖ .وﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻳﺮﺗﺒﻂ ﻓﻴﻪ
اﻟﺴﺠﻦ ﺑﺎﻟﻘﺎﻧﻮن ﰲ املﺠﺘﻤﻊ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،ﻻ ﻧﺠﺪ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه املﻤﺎرﺳﺔ ﻋﻨﺪ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ؛
ﻓﺎﻟﺸﺨﺺ ﻋﻨﺪﻫﻢ إﻣﺎ ﻣﺬﻧﺐ أو ﺑﺮيء .وﻋﻘﺎب املﺬﻧﺐ :اﻟﻘﺘﻞ أو اﻟﺪﻳﺔ أو اﻟﺘﺸﻮﻳﻪ اﻟﺠﺴﺪي.
وﻋﲆ اﻟﻌﻤﻮم — وﻣﻦ ﻣﻨﻄﻠﻖ املﻨﻄﻖ اﻟﺒﺤﺖ — ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻘﻮل إن اﻟﻌﺪاﻟﺔ ﻛﻤﻔﻬﻮم ﻣﻄﻠﻖ
ﺗُﻤﺎ َرس ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺪاﺋﻴني أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﻤﺎرﺳﺘﻬﺎ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻟﺴﻴﺎدة اﻟﺪﻳﻤﻮﻗﺮاﻃﻴﺔ
وﻗﻠﺔ اﻟﻔﻮارق اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،وملﻤﺎرﺳﺔ ﺣﻜﻢ اﻷﻏﻠﺒﻴﺔ ﻋﻨﺪ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ.
ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻨﺸﺊ اﻟﺤﻜﺎم واﻟﺰﻋﻤﺎء أﺟﻬﺰة وﺗﴩﻳﻌﺎت ﺗﻨﺒﻊ ﻣﻦ اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ املﺤﺎﻓﻈﺔ ﻋﲆ
وﺟﻮدﻫﻢ.
) (2-9اﻟﺤﻜﻢ
ﻫﻨﺎك ﺷﻜﻼن ﻟﻠﺤﻜﻢ :اﻟﺪﻳﻤﻮﻗﺮاﻃﻲ ،وﻏري اﻟﺪﻳﻤﻮﻗﺮاﻃﻲ ﺑﺄﻧﻮاﻋﻪ اﻟﻌﺪﻳﺪة .وﻳﺴﻮد اﻟﺤﻜﻢ
اﻟﺪﻳﻤﻮﻗﺮاﻃﻲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎد ،وﻳﺴﺘﻨﺪ ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ إﱃ ﺣﻜﻢ ﻛﺒﺎر اﻟﺴﻦ
Gerontocracy؛ ذﻟﻚ أن اﻻﻋﺘﻴﺎد واﻟﺘﻌﻠﻴﻢ اﻟﺤﻀﺎري ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻳﺆدﻳﺎن
ﺑﺎﻟﻨﺎس ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺼﻐرية ﻋﺪدﻳٍّﺎ إﱃ اﺗﺒﺎع ﻧﺼﺎﺋﺢ وﺗﺠﺎرب وأﺣﻜﺎم املﺠﺮﺑني وذوي
اﻟﺨﱪة ﻣﻦ اﻟﺠﻨﺴني ﻋﲆ اﻟﺴﻮاء .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻓﺈن اﻟﺼﻔﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻫﻲ ﺣﻜﻢ اﻷﻏﻠﺒﻴﺔ ﻣﻊ
ري ﻣﻦ اﻟﺤﺎﻻت ﻧﺠﺪ ﻫﻨﺎك ﺟﻤﻌً ﺎ ﺑني اﻟﻮﻇﻴﻔﺔ
زﻋﺎﻣﺔ ﻣﻨﺘﺨﺒﺔ أو ﻣﺠﻠﺲ ﻛﺒﺎر اﻟﺴﻦ ،وﰲ ﻛﺜ ٍ
اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ واﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ ﻻرﺗﺒﺎط ﺣﻴﺎة املﺠﺘﻤﻊ ﻋﻀﻮﻳٍّﺎ ﺑﺎﻟﺴﺤﺮ واﻟﺪﻳﻦ.
وﻗﺪ ﺗﻈﻬﺮ ﰲ ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ أو ﻋﺸرية ﻣﻌﻴﻨﺔ ﺗﺘﻮارث اﻟﺰﻋﺎﻣﺔ
ً
ﺳﺎﺑﻘﺎ — أﻳﻀﺎ اﻟﺠﻤﻌﻴﺎت اﻟﴪﻳﺔ ،وﻫﻲ — ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎأو اﻟﻘﻴﺎدة .وإﱃ ﺟﺎﻧﺐ ذﻟﻚ ،ﻗﺪ ﺗﻈﻬﺮ ً
508
اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ
ذات ﻋﻀﻮﻳﺔ اﺧﺘﻴﺎرﻳﺔ وزﻋﺎﻣﺔ ﻣﻨﺘﺨﺒﺔ .وﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﻌﻤﻮم ،ﻓﺈن اﻟﺰﻋﺎﻣﺔ ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﺬي
ﻧﻌﺮﻓﻪ ﻗﻠﻴﻠﺔ اﻟﻈﻬﻮر ﻛﻮﻇﻴﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﰲ ﻫﺬه املﺠﺘﻤﻌﺎت )اﻟﺠﻤﺎﻋﻮن وأﺻﺤﺎب اﻟﺰراﻋﺔ
اﻷوﻟﻴﺔ(؛ وﻫﻲ إن و ُِﺟﺪ ْ
َت ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﻄﻐﻰ ﻋﲆ ﺣﻜﻢ اﻷﻏﻠﺒﻴﺔ.
ً
أﻣﺎ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻐﻨﻴﺔ )رﻋﺎة وزراع( ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ أﺷﻜﺎﻻ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻢ ﻏري
اﻟﺪﻳﻤﻮﻗﺮاﻃﻲ ،ﻓﻬﻨﺎ ﺗﻈﻬﺮ اﻟﺰﻋﺎﻣﺔ ﺑﻤﻌﻨﺎﻫﺎ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺸﺨﺼﻴﺔ اﻟﺰﻋﻴﻢ وﻗﺪراﺗﻪ
اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ )رﻗﻴﻖ وزوﺟﺎت وﻣﻠﻜﻴﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﻟﺠﺰء ﻣﻦ ﻣﻮارد اﻟﺜﺮوة( ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﺗﺤﺼﻴﻞ
اﻟﴬاﺋﺐ واﻹﺗﺎوات واﻟﻬﺪاﻳﺎ واﻟﻐﺮاﻣﺎت اﻟﻘﻀﺎﺋﻴﺔ .وﻟﻠﺰﻋﻴﻢ ﺣﺮس ﺧﺎص ﻳﻘﻮم ﺑﺤﻤﺎﻳﺘﻪ
وﻓﺮض ﺳﻠﻄﺎﻧﻪ ،إﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﻘﻴﺎم ﺑﺎﻟﻐﺰوات اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ واﻟﺤﻤﻼت اﻟﺘﺄدﻳﺒﻴﺔ .وﻟﻸﻏﻨﻴﺎء
اﻵﺧﺮﻳﻦ وأﻗﺎرب اﻟﺰﻋﻴﻢ ﻧﻔﻮذ وﺗﺄﺛري ﻋﲆ أﺣﻜﺎم اﻟﺰﻋﻴﻢ ،وﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ﻻ ﻳﻤﻨﻊ ﻣﻦ أن ﻳﻜﻮن
اﻟﺤﻜﻢ اﻟﻨﻬﺎﺋﻲ ﺧﺎﺿﻊ ﻟﻪ .وﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻛﺒرية اﻟﻌﺪد ﻧﺠﺪ ﺻﻮرة ﻣﺼﻐﺮة ﻟﻠﺰﻋﻴﻢ اﻟﻜﺒري
ﰲ ﻛﻞ إﻗﻠﻴﻢ ﻋﲆ ﺣﺪة ،ﻓﻬﻨﺎك رؤﺳﺎء وزﻋﻤﺎء ﻣﺤﻠﻴﻮن ﻟﻬﻢ ﴍﻃﺘﻬﻢ اﻟﺨﺎﺻﺔ وﺳﻠﻄﺎﻧﻬﻢ
اﻟﻘﻀﺎﺋﻲ واﻟﺘﺄدﻳﺒﻲ .ﻟﻜﻨﻬﻢ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻳﺨﻀﻌﻮن ﻟﺠﻤﻴﻊ ﺳﻠﻄﺎت اﻟﺰﻋﻴﻢ اﻟﻜﺒري .وﻗﺪ
ﺗﻄﻮر ﻫﺬا إﱃ اﻟﻨﻈﺎم اﻹﻗﻄﺎﻋﻲ اﻟﺬي ﺳﺎد أوروﺑﺎ واﻟﴩق ﻓﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ ،إﱃ أن ﺗﻤﺖ إزاﻟﺘﻪ
ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﻧﺸﺎط املﻠﻮك اﻷوﺗﻮﻗﺮاﻃﻴني ،ﺛﻢ ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻟﺘﴩﻳﻌﺎت اﻟﻨﻴﺎﺑﻴﺔ املﻤﺜﻠﺔ ﻟﻠﺸﻌﺐ
ﺑﺼﻮرة أو أﺧﺮى.
509
اﻹﻧﺴﺎن
أﺣﻴﺎن ﻗﻠﻴﻠﺔ ﺗﻨﺪﻟﻊ اﻟﺤﺮوب ﻷﺳﺒﺎب دﻳﻨﻴﺔ أو ﻣﻌﻨﻮﻳﺔ ،وﻟﻜﻦ ٍ ﺣﻴﺎة اﻟﺮﻋﺎة واملﺰارﻋني ،وﰲ
اﻟﻐﺎﻟﺐ أن ﻟﻬﺎ ﺟﺬو ًرا اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ .واﻟﺤﺮب ﻋﻨﺪ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻣﺤﺪودة وﺿﺤﺎﻳﺎﻫﺎ
ُﺆﴎ املﻐﻠﻮﺑﻮن ،ﺑﻞ ﻳُﻘﺘَﻠﻮن ﻷن اﻹﻧﺘﺎج اﻟﻐﺬاﺋﻲ ﻣﻊ وﺳﺎﺋﻞ اﻹﻧﺘﺎج اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻣﻌﺪودة ،وﻻ ﻳ َ
ﻻ ﻳﺴﻤﺢ ﺑﺰﻳﺎدة ﺳﻜﺎﻧﻴﺔ .أﻣﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﻐﻨﻴﺔ ،ﻓﺈن أﴎى اﻟﺤﺮب ﻳﺘﺤﻮﻟﻮن إﱃ
رﻗﻴﻖ ﻳﺰﻳﺪ اﻟﻘﺪرة اﻹﻧﺘﺎﺟﻴﺔ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ أو ﻟﻠﺰﻋﻤﺎء .وﰲ ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻋﻤﻠﻴﺎت ﺻﻴﺪ
اﻟﺮءوس — ﺑﻤﻌﻨﻰ ﻗﺘﻞ اﻷﴎى واﻻﺣﺘﻔﺎظ ﺑﺮءوﺳﻬﻢ — وﻓﻴﻬﺎ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﻮاﻗﻒ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ
واﻟﺴﺤﺮﻳﺔ؛ ﺑﻤﻌﻨﻰ أن اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ رأس ﻳﻌﻨﻲ ﺣﺼﻮل اﻟﺸﺨﺺ ﻋﲆ ﻃﺎﻗﺎت ﺻﺎﺣﺐ
اﻟﺮأس .أﻣﺎ ﻋﺎدة أﻛﻞ أو ﻃﻬﻮ وأﻛﻞ ﺟﺰء ﻣﻦ أﺟﺴﺎم اﻷﻋﺪاء أو ﻇﺎﻫﺮة أﻛﻞ ﻟﺤﻮم اﻟﺒﴩ
َت — وﻫﻲ ﻇﺎﻫﺮة ﻟﻢ ﺗﺴﺠﻞ ﻋﻠﻤً ﺎ ،ﺑﺮﻏﻢ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ،ﻓﻬﻲ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻋﺎدة ﻧﺎدرة — إذا و ُِﺟﺪ ْ
ﻛﺜﺮة اﻟﻘﺼﺺ ﺣﻮﻟﻬﺎ ،وﺑﺮﻏﻢ ﺑﻌﺾ اﻷدﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺸري إﱃ ﺗﻮﺣﺶ »إﻧﺴﺎن اﻟﺼني« اﻟﻘﺪﻳﻢ.
ﻟﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﺑﻌﺾ اﻷدﻟﺔ ﻋﲆ »ﻧﻬﺶ« ﺟﺰء ﻣﻦ اﻟﺠﺴﻢ ،ﰲ ﻋﺪد ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ .وﻫﺬه
أﻳﻀﺎ ﻣﺤﺪودة ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻘﺘﲆ اﻟﺤﺮب ،ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﺪاﻓﻊ اﻷﺳﺎﳼ ﻟﻬﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ ً
ﻗﻮى ﺳﺤﺮﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﺘﻴﻞ أو ﺷﺪة اﻟﺘﺸﻔﻲ وﻟﻴﺲ اﻟﻘﺼﺪ اﻟﻐﺬاء.
510
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺘﺎﺳﻊ
اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ
ﺗﻮﺟﺪ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ واﻟﺴﺤﺮ واﻟﻔﻨﻮن ﺑﺄﺷﻜﺎل وﻣﻔﺎﻫﻴﻢ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻋﻨﺪ ﻛﻞ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻣﻬﻤﺎ
ﻆ ﺑﺪراﺳﺔ ﻣﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﺴﻴﻄﺔ أو ﻏري ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ ،ﻟﻜﻦ ﻫﺬه املﻮﺿﻮﻋﺎت ﻋﺎﻣﺔ ﻟﻢ ﺗَﺤْ َ
وﺧﺎﺻﺔ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ واﻟﺴﺤﺮ؛ وذﻟﻚ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻌﻴﺐ ﺟﻮﻫﺮي ،ﻫﻮ ﺻﻌﻮﺑﺔ ﻓﻬﻢ ً ﺑﺎﻟﻘﺪر اﻟﻜﺎﰲ،
ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻣﺎ إﱃ ﻟﻐﺔ اﻟﺒﺎﺣﺜني ﻣﻦ ٍ وﻧﻘﻞ املﻌﺎﻧﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﱪ ﻋﻨﻬﺎ املﻔﺎﻫﻴﻢ املﺠﺮدة ﻣﻦ ﻟﻐﺔ
ري ﻣﻦ املﻮﻧﻮﺟﺮاﻓﺎت ﻏري اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني .وﻣﻦ ﺛﻢ ،ﺗﻈﻬﺮ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واملﻴﺜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﰲ ﻛﺜ ٍ
ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ أو ﻣﻠﻴﺌﺔ ﺑﺎﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺠﺰﺋﻴﺎت دون اﻟﺸﻤﻮل؛ ﻣﻤﺎ ﻳﺆدي إﱃ ﻇﻬﻮرﻫﺎ ﰲ ﺻﻮر
أﻳﻀﺎ ﺳﻤﺔ ﻣﻦ ﺳﻤﺎت اﻟﻘﻄﺎع اﻟﻔﻜﺮي واﻟﺮﻣﺰي ﻣﻦ اﻟﺤﻀﺎرات، ﻣﺘﻨﺎﻗﻀﺔ .وﻟﻜﻦ ﻫﺬه ً
ﻓﻤﻦ اﻟﺼﻌﺐ ﻋﲆ ﻏري ﻣﻦ ﺗﻌﺎﻳﺶ ﻣﻊ املﺠﺘﻤﻊ ﻣﻊ ﻧﻌﻮﻣﺔ أﻇﻔﺎره أن ﻳﺪرك إدرا ًﻛﺎ ﻛﻠﻴٍّﺎ
ﻣﺸﺘﻤﻼت اﻟﺪﻳﻦ وﻃﻘﻮﺳﻪ وﻣﻌﺘﻘﺪات اﻟﺴﺤﺮ واﻟﻌﺒﺎدة .وﻋﲆ ﻫﺬا ،ﻓﺈن ﻫﺬا اﻟﻘﻄﺎع ﻣﻦ
اﻟﺤﻀﺎرة ﻳﻤﺜﻞ ﺑﺤﻖ اﻟﻘﻄﺎع اﻟﺨﺎص ﺟﺪٍّا ﻟﻜﻞ ﺣﻀﺎرة ﻋﲆ ﺣﺪة ،وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﻓﻬﻮ ﻳﻌﱪ
ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻦ اﻟﱰﻛﻴﺰ اﻟﺬاﺗﻲ )إﺗﻨﻮﺳﻨﱰﻳﺰم( ﻟﻠﺤﻀﺎرة املﻌﻨﻴﺔ ،ﻋﲆ ﻋﻜﺲ ﻗﻄﺎﻋﺎت اﻟﺤﻀﺎرة
اﻷﺧﺮى املﺎدﻳﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺘﺸﺎﺑﻪ أو ﺗﻨﻔﺘﺢ ﻋﲆ اﻟﺤﻀﺎرات اﻷﺧﺮى.
وﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻀﻴﻒ إﱃ ذﻟﻚ أن اﻟﻜﺜريﻳﻦ ﻣﻦ اﻟﺒﺎﺣﺜني اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني املﻌﺎﴏﻳﻦ
واﻟﺴﺎﺑﻘني ﻛﺎﻧﻮا — ﺑﺤﻜﻢ اﻧﺘﻤﺎﺋﻬﻢ إﱃ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ — ﻳﻨﻈﺮون إﱃ أﻓﻜﺎر اﻟﺪﻳﺎﻧﺎت
اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻧﻈﺮة ﻣﺘﻌﺎﻟﻴﺔ ،أو ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻧﻈﺮة ﻣﻦ ﻳﻌﺘﱪ اﻷﻣﻮر ﻣﻦ أﻓﻜﺎر اﻟﺠﻬﻠﺔ واﻷﻃﻔﺎل.
وﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪ ذﻟﻚ ﺑﺪون ﺷﻚ ﻋﲆ ﻋﺪم ﻓﻬﻢ أو إدراك ﻛﲇ ،وأدى ﻫﺬا اﻟﻨﻘﺺ ﺑﺒﻌﺾ اﻟﺪارﺳني
واﻟﻌﻠﻤﺎء إﱃ اﻗﱰاح ﻛﺘﺎﺑﺔ املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ واﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﺑﻠﻐﺔ املﺠﺘﻤﻊ ﻛﻤﺎ ﻫﻲ ﻟﺌﻼ ﺗُﺤﻮﱠر
وﻳُﺴﺎء ﻓﻬﻤﻬﺎ ،ﻣﻊ ﺗﻠﺨﻴﺺ ﺗﻮﺿﻴﺤﻲ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﺒﺎﺣﺚ .وﻻ ﺷﻚ ﰲ أن اﻟﺤﻞ اﻷﻣﺜﻞ
ﻫﻮ أن ﻳﺪرس اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ واﺣﺪ ﻣﻦ أﺗﺒﺎﻋﻬﺎ وﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺘﻬﺎ اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ ،وﻟﻌﻞ ذﻟﻚ ﻟﻴﺲ ﺑﺒﻌﻴﺪ
اﻹﻧﺴﺎن
وﺑﺼﻮرة ﻋﺎﻣﺔ ،ﻧﺠﺪ ﻛﻞ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﺗﻌﺘﻘﺪ ﻓﻴﻤﺎ ﻧﺴﻤﻴﻪ ﻋﺎﻟﻢ ﻣﺎ ﻓﻮق اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ
Supernaturalismﺑﺪرﺟﺎت وأﺷﻜﺎل ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،وأن ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻐﻴﺒﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﻏري ﻋﺎدي
ﻻ ﻳﺨﻀﻊ ملﻨﻄﻖ أو ﻋﻘﻞ ،وإﻧﻤﺎ ﻳﺨﻀﻊ ﻟﻠﺘﻘﺒﻞ واﻹﻳﻤﺎن اﻟﻜﺎﻣﻞ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ أﺷﻴﺎء
ﺗﺒﺪو ﻣﺘﻨﺎﻗﻀﺔ .وﻳﻘﻮم اﻟﺪﻳﻦ — ﰲ ﺻﻮره املﺨﺘﻠﻔﺔ — ﺑﺘﻨﻈﻴﻢ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻟﻨﺎس واﻟﺤﻴﺎة
اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻋﺎﻣﺔ وﺑني ﺗﻠﻚ اﻟﻘﻮى اﻟﻐﻴﺒﻴﺔ ،وﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ ﻣﺴﺎﻋﺪﺗﻬﺎ ﻣﻦ أﺟﻞ ﻧﺠﺎح
ﻧﺸﺎﻃﺎت اﻟﻨﺎس ورﻏﺒﺎﺗﻬﻢ.
وﻳﺒﺪو ﻣﻨﻄﻘﻴٍّﺎ أن اﻟﻔﻜﺮ اﻟﺪﻳﻨﻲ ﻗﺪ ﺗﺪ ﱠرج ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ أﻓﻜﺎر ﻏﻴﺒﻴﺔ
ﺑﺴﻴﻄﺔ إﱃ اﻟﺘﺠﺮﻳﺪ ﰲ اﻟﺼﻮرة اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻄﻴﻨﺎ إﻳﱠﺎﻫﺎ اﻷدﻳﺎن اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ ،وﻛﺬﻟﻚ اﻋﺘﻘﺪ ﻋﺪد
ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء ﺑﺄن اﻟﻔﻜﺮ اﻟﺪﻳﻨﻲ ﻗﺪ اﻧﺘﺎﺑﺘﻪ ﻣﺮاﺣﻞ ﻣﺘﻌﺪدة ،ﻟﻜﻦ ﻋﻠﻤﺎء آﺧﺮﻳﻦ ﻳﺮون ﻋﻜﺲ
ذﻟﻚ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ .وأﻳٍّﺎ ﻛﺎن اﻟﻮﺿﻊ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻠﻘﻲ اﻟﻀﻮء ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻘﻄﺎع ﻣﻦ اﻟﺤﻀﺎرة
ﺑﻤﻌﺎﻟﺠﺔ ﺑﻌﺾ املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ ﻣﻨﻔﺼﻠﺔ ﰲ ﺻﻮرة أﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎت ﺧﺎﺻﺔ ﻟﻬﺎ
وﺟﻮد ﰲ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ واﻟﻌﻠﻴﺎ إﱃ اﻟﻴﻮم.
ﺑﺪأ إدوارد ﺗﻴﻠﻮر ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻣﻨﺬ ﻗﺮاﺑﺔ ﻗﺮن ،وﻓﺤﻮاﻫﺎ اﻻﻋﺘﻘﺎد ﺑﻮﺟﻮد ﻛﻴﻨﻮﻧﺔ ﻏري
ﻣﻔﻬﻮﻣﺔ وﻏري ﻣﺤﺴﻮﺳﺔ ،أو ﻛﺎﺋﻨﺎت ﻏري ﻣﺎدﻳﺔ ﻗﺪ ﺗﻜﻮن أرواﺣً ﺎ أو أﺷﺒﺎﺣً ﺎ أو ﻋﻔﺎرﻳﺖ
ﻟﻠﺴﻠﻒ أو اﻟﺤﻴﻮان أو اﻟﻨﺒﺎت أو أيﱟ ﻣﻦ اﻟﺠﻤﺎد املﺤﻴﻂ )ﻧﻬﺮ – ﺑﺤرية – ﺟﺒﻞ … إﻟﺦ(.
1اﻗﺮأ ﰲ ﻗﺎﺋﻤﺔ املﺮاﺟﻊ واملﺼﺎدر أﺳﻤﺎء املﺆﻟﻔﺎت ﺣﺴﺐ اﻟﺴﻨﻮات املﺬﻛﻮرة ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت
اﻟﺨﺎﺻﺔ ﻟﻜﻞ ﻋﺎﻟﻢ ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ ﻣﻦ اﻟﻘﺴﻢ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب.
512
اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ واﻟﺴﺤﺮ واﻟﻔﻨﻮن
وأﺻﻞ ﻫﺬا اﻻﻋﺘﻘﺎد ﻣﺨﺘﻠﻒ ،وﻟﻜﻦ ﻟﻌﻠﻪ راﺟﻊ إﱃ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﻈﻮاﻫﺮ املﺎدﻳﺔ ﻏري املﻔﻬﻮﻣﺔ؛
ﻛﺎﻟﺮؤى واﻷﺣﻼم واﻟﻬﻠﻮﺳﺔ املﺆﻗﺘﺔ اﻟﻨﺎﺟﻤﺔ ﻋﻦ ﺗﺄﺛريات ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ اﻷﺳﺒﺎب .ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء
ﺗُ َﺆوﱠل ﻋﲆ أﻧﻬﺎ أﺣﺪاث روﺣﻴﺔ ﻗﺎدﻣﺔ ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ ﻏري ﻋﺎملﻨﺎ املﺤﺴﻮس .ﻛﺬﻟﻚ ﻗﺪ ﻳﺴﺘﺤﻴﻲ
اﻟﺒﺪاﺋﻲ ﰲ ﻋﻘﻠﻪ أرواﺣً ﺎ ﻟﻠﻤﺴﺘﻨﻘﻊ أو اﻟﻨﻬﺮ ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻧﻌﻜﺎﺳﺎت أﺿﻮاء ﻏﺎﻣﻀﺔ )ﻗﺪ ﻳﻜﻮن
ﻣﺼﺪرﻫﺎ أﻧﻮاﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻷﺳﻤﺎك أو اﻟﻐﺎزات املﺘﺼﺎﻋﺪة( ،أو ﻋﻔﺎرﻳﺖ ﻟﻠﻤﻮﺗﻰ ﰲ ﺻﻮرة أﺷﺒﺎح
ﺗﱰاﻗﺺ ﻋﻨﺪ اﻟﻘﺒﻮر )وﻫﻲ ﻋﺎدة ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻏﺎزات ﻣﺘﺼﺎﻋﺪة ﻧﺎﺟﻤﺔ ﻋﻦ ﺗﺤﻠﻞ ﺟﺜﺚ
املﻮﺗﻰ( ،أو أرواﺣً ﺎ ﻟﻠﺠﺒﺎل واﻟﻮدﻳﺎن ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺗﺮدد اﻟﺼﺪى.
وﻳﻘﻮل ﺗﻴﻠﻮر :إن اﻻﻋﺘﻘﺎد ﺑﺄﻧﻮاع ﻣﺘﻌﺪدة ﻣﻦ اﻷرواح ﻗﺪ أدى إﱃ ﺗﻤﻬﻴﺪ اﻟﻄﺮﻳﻖ
أﻣﺎم ﻇﻬﻮر اﻟﻔﻜﺮ اﻟﺪﻳﻨﻲ ﰲ ﻣﺮاﺣﻞ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ — ﻣﺮو ًرا ﺑﺘﻌﺪد اﻵﻟﻬﺔ إﱃ اﻹﻟﻪ اﻟﻮاﺣﺪ .وﻋﲆ
أي ﺣﺎل ،ﻓﺈن اﻹﻧﺴﺎن ﴎﻋﺎن ﻣﺎ أﺧﺬ ﻳﺼﻨﻒ اﻷرواح — ﻛﻌﺎدﺗﻪ ﰲ اﻟﺘﺼﻨﻴﻒ واﻟﻘﻴﺎس
اﻟﻨﺴﺒﻲ — إﱃ ﻧﻮﻋني :أرواح ﱢ
ﺧريَة ،وأﺧﺮى ﴍﱢ ﻳ َﺮة .وﻫﺬا ﺟﺰء ﻣﻦ اﻟﺜﻨﺎﺋﻴﺔ أو اﻻزدواﺟﻴﺔ
Dualityاﻟﺘﻲ ﺗﻤﻴﺰ اﻟﻔﻜﺮ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﻣﻨﺬ أﻗﺪم أﻳﺎﻣﻪ .وﻟﻌﻠﻬﺎ ﻣﺴﺘﻮﺣﺎة ﻣﻦ اﻟﺘﻀﺎد اﻟﺬي
ﻳﻜﻮﱢن ﺣﻴﺎﺗﻪ وﺑﻴﺌﺘﻪ :ﻟﻴﻞ وﻧﻬﺎر – أﺳﻮد وأﺑﻴﺾ – ﺣﻴﺎة وﻣﻮت – ﺧري وﴍ … إﻟﺦ.
ﱢ
اﻟﺨريَة واﻟﴩﱢ ﻳﺮة ﺗﻮﺳﻊ اﻹﻧﺴﺎن ﺗﺪرﻳﺠﻴٍّﺎ ﰲ ﻋﺎملﻪ اﻟﻐﻴﺒﻲ ،ﻓﺈﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻷرواحوﻗﺪ ﱠ
دﺧﻠﺖ أرواح اﻟﺴﻠﻒ 2واﻟﺸﻴﺎﻃني واﻟﺠﻦ .ﺛﻢ ﺗﻐريت املﻌﺘﻘﺪات ﻣﺮات أﺧﺮى ﻟﺘﻀﺨﻢ
ﺑﻌﺾ اﻷرواح إﱃ ﻛﺎﺋﻨﺎت ﻋﻈﻴﻤﺔ اﻟﻘﺪر .وﺑﺎﻟﺘﺪرﻳﺞ ﺗﺨ ﱠﻠ ْﺖ ﻫﺬه اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت ﻋﻦ املﻈﺎﻫﺮ
اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،ﻓﻠﻢ ﺗَﻌُ ْﺪ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﻨﻬﺮ أو ﺟﺒﻞ ،ﺑﻞ ارﺗﻔﻌﺖ إﱃ ﻋﺎﻟﻢ ﻋﻠﻮي ﻣﺠﺮد ،وﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه
ﺑﺪاﻳﺔ اﻟﺘﻔﻜري اﻹﻟﻬﻲ .وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ أن ﻳﱰأس إﻟﻪ ﻛﺒري ﻣﺠﻤﻊ اﻵﻟﻬﺔ
ﺳﻬﻼ أن ﺗﺨﺘﻔﻲ اﻵﻟﻬﺔ اﻷﺻﻐﺮ وﻳﺒﻘﻰ اﻹﻟﻪ اﻷﻛﱪ وﺣﺪه اﻹﻟﻪ ً املﺘﻌﺪدة ،وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻛﺎن
اﻟﻮاﺣﺪ.
ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ اﻟﺘﻲ أﻋﻠﻨﻬﺎ ﺗﻴﻠﻮر ﻟﻢ ﺗﺠﺪ ﻟﻬﺎ ﺣﺘﻰ اﻵن ﻣﻦ اﻷدﻟﺔ ﻣﺎ ﻳﺪﻋﻤﻬﺎ
أو ﻳﻨﻔﻴﻬﺎ ،وﻗﺪ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ أدﻟﺔ ﺑﻬﺬا املﻌﻨﻰ؛ ﻷن اﻟﻔﻜﺮ اﻟﺪﻳﻨﻲ ﻗﺪﻳﻢ ،وﻳﻐﺰو اﻹﻧﺴﺎن ﰲ ﻛﺜري
ﻣﻦ ﺗﴫﻓﺎﺗﻪ ﻣﻨﺬ أﻗﺪم اﻟﻌﺼﻮر ﺣﺘﻰ اﻵن .وأﻛﺜﺮ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﺑﺪاﺋﻴﺔ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ
ﺗﺘﻌﺎﻳﺶ ﻣﻊ أﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎت اﻻﺳﺘﺤﻴﺎء ﺟﻨﺒًﺎ إﱃ ﺟﻨﺐ ﻣﻊ أﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻹﻟﻪ اﻟﻮاﺣﺪ .ﻓﻬﻞ ﻫﺬا
2ﻋﺒﺎدة اﻷﺟﺪاد أو أرواح اﻟﺴﻠﻒ ﻟﻴﺴﺖ واﺳﻌﺔ اﻻﻧﺘﺸﺎر ﻋﻨﺪ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ،ﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﻈﻬﺮ ﰲ
املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺰراﻋﻴﺔ اﻟﻐﻨﻴﺔ؛ ﻣﺜﻞ :اﻟﺼني .أو ﺑني ﺑﻌﺾ ﻗﺒﺎﺋﻞ اﻟﻨﻄﺎق اﻟﺴﻮداﻧﻲ اﻷﻓﺮﻳﻘﻲ.
513
اﻹﻧﺴﺎن
ﻣﺮدﱡه إﱃ اﻻﺣﺘﻜﺎك اﻟﺤﻀﺎري ﻣﻊ ﺟﻤﺎﻋﺎت ذات دﻳﺎﻧﺔ وﺣﺪاﻧﻴﺔ؟ ﻟﻬﺬا ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺄﻛﻴﺪ ﻫﺬه
املﺮاﺣﻞ اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ ﺗﺎرﻳﺨﻴٍّﺎ.
ﻛﺬﻟﻚ ﻓﺈن أﺻﺤﺎب اﻟﺪﻳﺎﻧﺎت اﻟﻮﺣﺪاﻧﻴﺔ ﻳﻤﺎرﺳﻮن إﱃ اﻵن أﻧﻮاﻋً ﺎ ﻣﻦ املﻌﺘﻘﺪات ﰲ
أﺷﻴﺎء ﻏري ﻣﺎدﻳﺔ ذات ﻗﻮى ،وﻳﺆﻣﻨﻮن ﺑﺈﻣﻜﺎن ﺗﺴﺨريﻫﺎ ﻟﺨﺪﻣﺔ أﻏﺮاﺿﻬﻢ .ﻓﻬﻞ ﻫﺬه
ﺑﻘﺎﻳﺎ ﻣﻌﺘﻘﺪات اﻻﺳﺘﺤﻴﺎء اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،أم أن اﻹﻧﺴﺎن ﻳﻌﺘﻘﺪ ﰲ ﻛﻞ ﻫﺬه اﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎت
ً
وﺗﻔﺼﻴﻼ — ﺟﻨﺒًﺎ إﱃ ﺟﻨﺐ — ﻣﻨﺬ اﻟﺒﺪاﻳﺔ؟ ﻓﻜﻤﺎ ً
ﺟﻤﻠﺔ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ اﻻﺳﺘﺤﻴﺎﺋﻴﺔ واﻹﻟﻬﻴﺔ
ً
أﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ ﻧﻔﻲ أو ﺗﺄﻛﻴﺪ ﺻﺤﺔ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ؛ ﻓﺈﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ أﻳﻀﺎ ﻧﻔﻲ
أو ﺗﺄﻛﻴﺪ اﻷﻓﻜﺎر املﻀﺎدة — ﻣﺜﻞ آراء ﻓﻴﻠﻬﻠﻢ ﺷﻤﻴﺖ اﻟﺘﻲ ﺗﺆﻛﺪ أن ﻓﻜﺮة اﻹﻟﻪ ﻣﻮﺟﻮدة
ﻋﻨﺪ ﻛﻞ املﺠﺘﻤﻌﺎت ﻣﻨﺬ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﺑﻮﺣﻲ إﻟﻬﻲ — ﻓﺈذا ﻛﺎﻧﺖ آراء ﺷﻤﻴﺖ ﺻﺤﻴﺤﺔ ،ﻓﻠﻤﺎذا
ﻧﺠﺪ ﻣﺮاﺣﻞ ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ﻣﺜﺒﺘﺔ وﻣُﺪوﱠﻧﺔ ﺗﺘﻌﺪد ﻓﻴﻬﺎ اﻵﻟﻬﺔ؟ وملﺎذا ﻧﺠﺪ ﻗﻮى اﻻﺳﺘﺤﻴﺎء ﻋﻨﺪ
اﻟﺒﺪاﺋﻴني املﻌﺎﴏﻳﻦ أﺷ ﱠﺪ ﻓﻌﺎﻟﻴﺔ ﻋﲆ ﻣﺴﺘﻮى اﻟﺤﻴﺎة ﻣﻦ ﻓﻜﺮة إﻟﻪ ﻛﺒري ﻣﻮﺟﻮد ﻟﻜﻨﻪ ﺑﻌﻴﺪ
ﰲ اﻟﺴﻤﺎء وﻻ ﻳﺘﺤﺮك ﻟﻺﴍاف ﻋﲆ ﺣﻴﺎة اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ؟ ﻛﻞ ﻫﺬا ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﻌﺘﻘﺪ أن اﻟﺨﻮض ﰲ
ﻫﺬا املﻮﺿﻮع ﻫﻮ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ اﻟﺠﺪل املﻨﻄﻘﻲ ،وﻻ ﻳﺆدي إﱃ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﺣﺎﺳﻤﺔ؛ ﻷﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ
ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻄﻘﻮس واﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻋﻨﺪ ﺳﻜﺎن اﻟﻌﺼﻮر اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ ﻋﲆ ٍ
وﺟﻪ ُﻣ ْﺮ ٍض.
املﺎﻧﺎ Animatism-Mana
ﻫﺬا ﻣﻔﻬﻮم آﺧﺮ ﺧﺎص ﺑﺎﻟﻐﻴﺒﻴﺎت وﻣﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،ﻟﻜﻨﻪ ﻟﻴﺲ واﺳﻊ اﻻﻧﺘﺸﺎر ﻛﻤﺎ ﻫﻮ
اﻟﺤﺎل ﰲ اﻻﺳﺘﺤﻴﺎء ،واملﺎﻧﺎ ﻟﻬﺎ ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻋﻨﺪ اﻷﻣﺮﻳﻨﺪ ﰲ أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ،
ُﺸﺨﺺ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺸﻴﻊ ﻣﺼﻄﻠﺢ »ﻣﺎﻧﺎ« ﻋﻨﺪ املﻴﻼﻧﻴﺰﻳني .وﻣﻔﻬﻮم املﺎﻧﺎ أﻧﻪ ﺟﻮﻫﺮ ﻻ ﻣﺎدي ﻻ ﻳ ﱠ
ﻟﻪ ﺑﺄي رﻣﺰ أو ﳾء ﻣﻮﺟﻮد ﰲ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،وﻻ ﻳُﺮى ،وﻳﺴﻮد ﰲ ﻛﻞ ﳾء ،وﻳﻈﻬﺮ
ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺑﻌﺾ أﺷﻜﺎل اﻟﺤﻴﺎة أو اﻟﺠﻤﺎد ،وﻳﻤﻜﻦ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ أو ﺗﺮﻛﻴﺰ اﻟﺘﺤﻜﻢ
ﻓﻴﻪ ﻛﻤﺼﺪر ﻟﻘﻮى ﻋﻈﻴﻤﺔ ذات ﻧﺘﺎﺋﺞ وأﻓﻌﺎل ﻣﻌﺠﺰة وﺧﺎرﻗﺔ ،أو ﻣﺠﺮد وﺟﻮده ﻟﻴﺴﺎﻋﺪ
ﺑﻨﺠﺎح وﴎﻋﺔ .وﻫﺬا املﻔﻬﻮم ﻫﻮ ﻋﻜﺲ ٍ ﻋﲆ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ﻛﺎﻟﺼﻴﺪ أو ﻗﻄﻊ اﻷﺷﺠﺎر
اﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻻﺳﺘﺤﻴﺎﺋﻴﺔ؛ ﺣﻴﺚ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺴﻴﻄﺮة ﻋﲆ ﻋﺎﻟﻢ اﻷرواح.
ورﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮن ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻗﺪﻳﻤﺔ ﻣﺜﻞ اﻻﺳﺘﺤﻴﺎء ،وﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻣﺎ ﻳﻤﻨﻊ ﻣﻦ وﺟﻮدﻫﺎ ﺟﻨﺒًﺎ
إﱃ ﺟﻨﺐ ﻣﻊ اﻻﺳﺘﺤﻴﺎء رﻏﻢ ﺗﻌﺎرﺿﻬﺎ أﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴٍّﺎ ،ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﰲ ﻣﻴﻼﻧﻴﺰﻳﺎ.
514
اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ واﻟﺴﺤﺮ واﻟﻔﻨﻮن
ﻳﻈﻬﺮ ﺗﻌﺪد اﻵﻟﻬﺔ ﻛﻤﻌﺘﻘﺪ دﻳﻨﻲ ﺑﺼﻮرة واﺳﻌﺔ ﻋﻨﺪ ﻛﺜري ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ،
وﻟﻜﻨﻪ أﻛﺜﺮ ﺗﻘﺪﻣً ﺎ وﺗﻌﻘﺪًا ﻋﻨﺪ أﺻﺤﺎب اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﰲ ﻣﴫ
اﻟﻔﺮﻋﻮﻧﻴﺔ وﺑﺎﺑﻞ وآﺷﻮر واﻟﻴﻮﻧﺎن واﻟﺮوﻣﺎن .وﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺤﻀﺎرات ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك
ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻵﻟﻬﺔ ﻟﻠﻤﻈﺎﻫﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ :ﻛﺂﻟﻬﺔ اﻟﺒﺤﺮ واﻟﺼﺤﺮاء ،أو
ﻟﻠﻤﻈﺎﻫﺮ املﻌﻨﻮﻳﺔ :ﻛﺂﻟﻬﺔ اﻟﺨﺼﺐ واﻟﺤﺐ واملﻮت واﻟﺤﻴﺎة ،أو ﻣﻈﺎﻫﺮ ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ.
أﻳﻀﺎ آﻟﻬﺔ اﻟﴩ ،وﻳﻜﻮن ﻫﺆﻻء ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻣﺠﻤﻊ آﻟﻬﺔ ﻳﺮأﺳﻪ إﻟﻪ ﻛﺒري ،ﻟﻜﻦ وﻛﺎن ﻫﻨﺎك ً
ﻧﻔﻮذه ﻟﻴﺲ ﺣﺎﺳﻤً ﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺘﴫﻓﺎت ﻛﻞ اﻵﻟﻬﺔ اﻷﺧﺮى ،ﺑﻞ ﻳﺘﺤﺎﻳﻞ ﻋﲆ ﺗﻨﻔﻴﺬ رﻏﺒﺎﺗﻪ
ﺑﺄﺳﺎﻟﻴﺐ إﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻛﺎملﻜﺮ .وﰲ ﻣﴫ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك آﻟﻬﺔ ﻣﺤﻠﻴﺔ وآﻟﻬﺔ ﺷﻌﺒﻴﺔ وآﻟﻬﺔ رﺳﻤﻴﺔ
ﺣﻜﻮﻣﻴﺔ ﻟﻬﺎ ﻏﺎﻟﺒًﺎ اﻟﺴﻴﻄﺮة ﻋﲆ ﻣﺠﻤﻊ اﻵﻟﻬﺔ ،وﻳﺘﻐري اﻹﻟﻪ اﻷﻛﱪ ﺑﺘﻐري ﻣﻜﺎن اﻟﺤﻜﻢ
أو اﻷﴎة اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ .وﻛﺎﻧﺖ اﻵﻟﻬﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﺗﺘﻐري ﺑﺎﻟﺘﻐري اﻟﺤﻀﺎري واﻟﺸﻌﻮﺑﻲ ،ﻛﻤﺎ ﺣﺪث
ﰲ اﻟﻴﻮﻧﺎن؛ ﺣﻴﺚ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻧﻤﻴﺰ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ آﻟﻬﺔ ﻗﺪﻳﻤﺔ ﻣﻌﺎﴏة ﻟﻠﺤﻀﺎرة اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ،
وآﻟﻬﺔ أﺣﺪث ﻣﻌﺎﴏة ﻟﻠﺤﻀﺎرة اﻟﻬﻠﻴﻨﻴﺔ واﻟﻬﻠﻴﻨﺴﺘﻴﺔ .وﻗﺪ ﺗﻤﻴﺰت ﻣﺠﻤﻌﺎت اﻵﻟﻬﺔ ﰲ
إﻟﻪ ﺟﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺣﻀﺎرﻳﺔ إﱃ ﺣﻮض اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ ﺑﻌﺪم اﻟﺘﻌﺼﺐ وإﻣﻜﺎن ﺿﻢ ٍ
ﻣﺠﻤﻊ آﻟﻬﺔ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺣﻀﺎرﻳﺔ أﺧﺮى .وﻗﺪ ﺗﻄﻮر ﻻﻫﻮت ﻫﺬه اﻟﺪﻳﺎﻧﺎت وﺗﻌﻘﺪ ﺑﺤﻴﺚ ﻟﻢ
ﻳَﻌُ ْﺪ ﻳﺪرﻛﻪ ﺳﻮى أوﻟﺌﻚ اﻟﺬﻳﻦ ﻳُﺨﺘَﺎرون ﻟﻠﺘﺨﺼﺺ واﻟﺘﻌﻤﻖ ﰲ دراﺳﺘﻪ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻧﺸﺄت
ﻃﺒﻘﺔ رﺟﺎل اﻟﺪﻳﻦ .وﺑﺎرﺗﺒﺎط اﻟﺪﻳﻦ ﺑﺎﻟﺪوﻟﺔ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ اﻟﻌﻠﻴﺎ أﺻﺒﺢ ﻟﻠﺪﻳﻦ
وﻇﺎﺋﻒ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻫﺎﻣﺔ ،وﻧﺸﺄت أﺻﻮل اﻟﻨﻔﻮذ اﻟﺬي ﻣﺎرﺳﻪ رﺟﺎل اﻟﺪﻳﻦ ﻋﲆ
ﺣﻴﺎة اﻟﻨﺎس اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ،واﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ،واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ.
اﻟﻮﺣﺪاﻧﻴﺔ Monotheism
ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻗﺪ ﺗﺒﺪو ﺣﺪﻳﺜﺔ اﻟﻈﻬﻮر ،إﻻ أن ﻟﻬﺎ ﺳﻮاﺑﻖ ﺷﻜﻠﻴﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺪاﺋﻴني ﺑﺮﻏﻢ
ﻓﻤﺜﻼ ﻋﻨﺪ اﻟﻨﻴﻠﻴني ﰲ ﺟﻨﻮب اﻟﺴﻮدان وﺷﻤﺎل أوﻏﻨﺪا ،ﻧﺠﺪ ً وﺟﻮد أﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻻﺳﺘﺤﻴﺎء.
إﻟﻪ واﺣﺪ ﻛﺒري ﰲ اﻟﺴﻤﺎء ،ﻟﻜﻨﻬﻢ ﻻ ﻳﺘﻘﺮﺑﻮن إﻟﻴﻪ ﻛﺜريًا ﻋﲆ ﻋﻜﺲ ﺗﻘﺮﺑﻬﻢ اﻻﻋﺘﻘﺎد ﰲ ٍ
وﻋﺒﺎداﺗﻬﻢ وأﺿﺎﺣﻴﻬﻢ ﻟﺮوح املﻠﻚ اﻹﻟﻪ ﻣﺆﺳﺲ اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ .وﻋﲆ ﻫﺬا ﻓﺄﻧﺼﺎف اﻵﻟﻬﺔ أﻛﺜﺮ
ﻓﻌﺎﻟﻴﺔ ﻋﻦ اﻹﻟﻪ اﻟﻮاﺣﺪ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺪاﺋﻴني ،وأﻛﺜﺮ ﻗﺮﺑًﺎ ﻣﻨﻬﻢ .وﻳﺪﻋﻮﻧﺎ ﻫﺬا إﱃ اﻟﺘﺴﺎؤل ﻋﻤﺎ إذا
ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻜﺮة اﻹﻟﻪ اﻟﻮاﺣﺪ ﻋﻨﺪ أﺻﺤﺎب اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ ﻣﺸﺎﺑﻬﺔ ﻟﺘﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺪاﺋﻴني.
515
اﻹﻧﺴﺎن
ً
اﺧﺘﻼﻓﺎ وﻇﻴﻔﻴٍّﺎ ﻛﺒريًا ﺑني اﻟﻔﻜﺮﺗني؛ ﻓﻌﻨﺪ أﺻﺤﺎب اﻟﺪﻳﺎﻧﺎت اﻟﻌﻠﻴﺎ وﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻧﺠﺪ
ﻧﺠﺪ ﻟﻺﻟﻪ اﻟﻮاﺣﺪ ﻛﻞ اﻟﻘﻮى وﻷﻓﻌﺎﻟﻪ ﻛﻞ اﻟﺘﺄﺛري ﻋﲆ اﻟﻨﺎس ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ أﻧﻪ ﺧﺎﻟﻘﻬﻢ
وﻣﻤﻴﺘﻬﻢ ،وﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﺒﻌﺜﻬﻢ ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ ﰲ اﻵﺧﺮة .ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻻ ﻧﺠﺪ ﻫﺬه اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺨﻠﻘﻴﺔ
أﻳﻀﺎ ﻏري واﺿﺤﺔ، واﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ ﻋﻨﺪ إﻟﻪ اﻟﺒﺪاﺋﻴني اﻟﻮاﺣﺪ ،ﻛﻤﺎ أن ﻓﻜﺮة اﻟﺤﻴﺎة اﻷﺧﺮى ً
وﻓﻜﺮة اﻟﺨﻠﻖ ﻋﻨﺪﻫﻢ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻹﻟﻪ ﻣﺒﺎﴍ ًة ،وإﻧﻤﺎ ﻗﺪ ﺗﺮﺗﺒﻂ ﺑﻪ ﺑﻄﺮﻳﻖ اﻟﺼﺪﻓﺔ.
وﺗﺤﻞ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺼﺪف ﻣﺤﻞ اﻟﻔﻌﻞ اﻹﻟﻬﻲ ﰲ ﺧﻠﻖ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت واﻟﻨﺎس ،وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻣﺠﺮد
وﺟﻮد ﻓﻜﺮة اﻹﻟﻪ اﻟﻮاﺣﺪ اﻟﺬي ﰲ اﻟﺴﻤﺎء ﻋﻨﺪ ﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ أو اﻷﻣﻴﺔ ،ﻟﻴﺲ
دﻟﻴﻼ ﻋﲆ اﻟﺘﻮﺣﻴﺪ اﻟﻐﺮﻳﺰي أو اﻹﻟﻬﻲ ،ﻛﻤﺎ ﻳﺸري ﺑﻌﺾ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني وﻋﲆ رأﺳﻬﻢ اﻷب ً
ﻓﻴﻠﻬﻠﻢ ﺷﻤﻴﺖ ،وأﻧﺪرو ﻻﻧﺞ ،وﺑﻮل رادﻳﻦ .ﺑﻞ إن وﺟﻮد ﻫﺬا اﻹﻟﻪ ﻻ ﻳﻤﻨﻊ وﺟﻮد وﻣﻤﺎرﺳﺔ
أﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎت أﺧﺮى ﻛﺎﻻﺳﺘﺤﻴﺎء واملﺎﻧﺎ واﻟﺴﺤﺮ واﻟﻌﺮاﻓﺔ.
وإذا ﻛﺎن اﻟﺘﻄﻮرﻳﻮن ﻳﻌﺘﻘﺪون ﺑﺄن اﻟﻮﺣﺪاﻧﻴﺔ ﻫﻲ آﺧﺮ ﻣﺮاﺣﻞ اﻟﻔﻜﺮ اﻟﺪﻳﻨﻲ ،ﻓﺈن
ﻫﻨﺎك ﻋﺪدًا آﺧﺮ ﻣﻦ اﻟﺪارﺳني ﻳﻌﺘﻘﺪ أن اﻟﻮﺣﺪاﻧﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ أﺳﺒﻖ ﻋﲆ ﻓﻜﺮة ﺗﻌﺪد اﻵﻟﻬﺔ،
وأن اﻟﺘﻌﺪد ﻗﺪ ﻧﺸﺄ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺗﺠﻤﻴﻊ ﻋﺪة آﻟﻬﺔ وﺣﺪاﻧﻴﺔ ﻟﻌﺪة ﺟﻤﺎﻋﺎت ﻣﺤﻠﻴﺔ ﰲ ﺗﺠﻤﻊ
ﺳﻴﺎﳼ إﻗﻠﻴﻤﻲ أو ﰲ دوﻟﺔ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ واﺣﺪة .وﻣﺮ ًة أﺧﺮى ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻧﻘﻮل إن ﻟﻜﻞ رأي
وﺟﺎﻫﺘﻪ ،وﻟﻜﻦ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ دﻟﻴﻞ ﻣﺎدي ﺗﺎرﻳﺨﻲ ﻣﻠﻤﻮس ﻋﲆ ﺻﺤﺔ أو ﺧﻄﺄ أي ﻣﻦ ﻫﺬه
اﻵراء املﺘﻌﺎرﺿﺔ.
اﻹﻟﺤﺎد Atheism
ﻫﺬه اﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻔﻲ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ وﺟﻮد أي ﻃﺎﻗﺔ روﺣﻴﺔ ﰲ أي ﺻﻮرة ﻣﻦ اﻟﺼﻮر ،ﻫﻲ
ﻓﻜﺮة ﺣﺪﻳﺜﺔ ﻇﻬﺮت ﰲ املﺪﻧﻴﺔ اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ ﻛﻤﺎ ﻇﻬﺮت ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﰲ اﻟﻬﻨﺪ .وﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ أن
ﻧﺘﺨﻴﻞ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﺑﺪون اﻋﺘﻘﺎد ﰲ أي ﻣﻦ أﻧﻮاع اﻷرواح اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺎﻋﺪ أو ﺗﻌﺮﻗﻞ
أﻋﻤﺎﻟﻬﻢ ،وﻟﻢ ﻳﻌﺜﺮ اﻟﺒﺎﺣﺜﻮن ﺣﺘﻰ اﻵن ﻋﲆ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﺑﺪاﺋﻲ ﻳﻨﻔﻲ وﺟﻮد اﻟﻄﺎﻗﺎت واﻟﻘﻮى
ﻓﻮق اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ.
516
اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ واﻟﺴﺤﺮ واﻟﻔﻨﻮن
اﻟﺴﺤﺮ Magic
اﻟﺴﺤﺮ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺴﻠﻮك ﻣﺮﺗﺒﻂ وﻣﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ اﻋﺘﻘﺎدٍ ﻣﺎ ﰲ ﻧﻮع أو أﻧﻮاع ﻣﻦ
اﻟﻘﻮى واﻟﻄﺎﻗﺎت ﻓﻮق اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،وﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﴬوري أن ﻳﻜﻮن اﻟﺴﺤﺮ ﻣﺮﺗﺒ ً
ﻄﺎ ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ،
وﺛﻴﻘﺎ ﺑﻪ؛ ذﻟﻚ أن أﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎت اﻻﺳﺘﺤﻴﺎء ً ﺗﻮﺿﺢ ارﺗﺒﺎ ً
ﻃﺎ ﱢ وﻟﻜﻦ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺤﺎﻻت
واملﺎﻧﺎ وﺗﻌﺪﱡد اﻵﻟﻬﺔ ﻣﻠﻴﺌﺔ ﺑﺎﻟﻘﻮى اﻟﺮوﺣﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ ﻟﻠﻤﺴﺎﻋﺪة ﻋﲆ ﺗﻨﻔﻴﺬ
أﺳﺎﺳﺎ ﻃﻴﺒًﺎ ﻟﻠﻤﻤﺎرﺳﺔ اﻟﺴﺤﺮﻳﺔ ﻋﻨﺪ املﺠﺘﻤﻌﺎتً أﻋﻤﺎل ﻣﺮﻏﻮﺑﺔ — وﻫﻲ ﺑﺬﻟﻚ ﺗﻜﻮن
ً
ﺳﻬﻼ؛ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ .وﻋﲆ ﻫﺬا ،ﻓﺈن اﻟﺘﻔﺮﻳﻖ ﺑني اﻟﺪﻳﻦ واﻟﺴﺤﺮ ﻋﻨﺪ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻟﻴﺲ
ﻷﻧﻬﻤﺎ ﻳﻌﺘﻤﺪان ﻋﲆ اﻻﻋﺘﻘﺎد ﺑﻮﺟﻮد ﻗﻮى ﻓﻮق اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .ﻛﺬﻟﻚ ﻧﻼﺣﻆ أن اﻟﻜﺜريﻳﻦ ﻣﻤﻦ
ﻳﻤﺎرﺳﻮن اﻟﺴﺤﺮ ﻫﻢ ﻣﻦ رﺟﺎل اﻟﺪﻳﻦ ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﺴﺤﺮة ﰲ أوروﺑﺎ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ
ً
ﻧﺼﻮﺻﺎ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺐ املﻘﺪﺳﺔ. ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻮن
وﻳﻘﻮم اﻟﺴﺤﺮة ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﺑﻌﺪد ﻣﻦ اﻟﻄﻘﻮس ﻻﺳﺘﺠﺪاء املﺴﺎﻋﺪة املﻄﻠﻮﺑﺔ
ﻣﻦ اﻟﻘﻮى واﻷرواح ،ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﺗﻘﺪﻳﻢ اﻷﺿﺎﺣﻲ واﻟﻘﺮاﺑني .وﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن — وﺧﺎﺻﺔ
ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ وﺑﻌﺾ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺰراﻋﻴﺔ اﻟﻐﻨﻴﺔ ﰲ ﻏﺮب
أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وأﻧﺪوﻧﻴﺴﻴﺎ — ﻧﺠﺪ ﻟﺒﻌﺾ اﻷرواح واﻵﻟﻬﺔ ﻧﻬﻢ إﱃ اﻟﻘﺮاﺑني اﻟﺒﴩﻳﺔ ،ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻛﺎن
اﻟﺤﺎل ﰲ ﻣﴫ اﻟﻔﺮﻋﻮﻧﻴﺔ )ﻋﺮوس اﻟﻨﻴﻞ اﺳﱰﺿﺎءً ﻹﻟﻪ اﻟﻨﻴﻞ أن ﻳﻔﻴﺾ اﻟﻨﻬﺮ ﰲ ﻣﻮﻋﺪه(،
وﺣﻀﺎرات أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﻮﺳﻄﻰ )اﻵزﺗﻚ واﻷﻧﻜﺎ( ﻣﻦ أﺟﻞ إﻧﻘﺎذ املﺤﺼﻮل أو إﺑﻌﺎد اﻷﻋﺪاء
واﻟﻨﴫ ﻋﻠﻴﻬﻢ أو اﻟﻘﻀﺎء ﻋﲆ اﻷﻣﺮاض واﻷوﺑﺌﺔ … إﻟﺦ .وﻳﺒﺪو أن املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺴﺎﻣﻴﺔ
أﻳﻀﺎ ﺗﻘﺪﻳﻢ اﻷﺿﺎﺣﻲ اﻟﺒﴩﻳﺔ ﰲ أوﻗﺎت ﻣﻌﻴﻨﺔ ،واﺳﺘﺒﺪﻟﺖ ﻫﺬه اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻤﺎرس ً
اﻷﺿﺎﺣﻲ ﺑﺎﻟﻔﺪى — ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺎ ورد ﰲ اﻟﻜﺘﺐ املﻘﺪﺳﺔ .وﺑﺮﻏﻢ أن اﻷﺿﺎﺣﻲ اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻗﺪ
ﺗﻜﻮن ﺟﺰءًا ﻣﻦ اﻟﻌﺒﺎدات واﻟﻄﻘﻮس ،إﻻ أن ﻟﻬﺎ ذﻟﻚ املﺪﻟﻮل اﻟﺴﺤﺮي ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺤﺼﻮل
ٍ
أوﻗﺎت ﻣﻌﻴﻨﺔ. ﻋﲆ رﺿﺎء اﻷرواح أو اﻵﻟﻬﺔ أو ﻣﺴﺎﻋﺪﺗﻬﺎ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ ﰲ
ﻟﻜﻦ اﻟﻘﺮاﺑني اﻟﺴﺤﺮﻳﺔ املﻌﺘﺎدة ﺗﺘﻜﻮن ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﻦ ﺟﺰء ﻣﻦ املﺤﺼﻮل أو ﻧﻮع ﻣﻌني
ﻣﻦ اﻟﺤﻴﻮان أو اﻟﻄري ،ﻳُﻀﺤﱠ ﻰ ﺑﻬﺎ ﰲ ﺧﻠﻮة اﻟﺴﺎﺣﺮ أو ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻃﻘﴘ .وﻟﻌﻞ اﻟﻘﺮاﺑني
واﻟﻬﺪاﻳﺎ واﻟﺮﻗﺺ اﻟﻄﻘﴘ ﰲ ﻃﻘﻮس »اﻟﺰار« أو »اﻟﺒﻮري« ﰲ ﻣﴫ وﺣﻮض اﻟﻨﻴﻞ وﻣﻨﺎﻃﻖ
أﺧﺮى ﻣﻦ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ،ﻫﻲ ﺑﻘﺎﻳﺎ ﺳﺤﺮﻳﺔ دﻳﻨﻴﺔ ﻣﻠﺘﺼﻘﺔ ﺑﺎﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ اﺳﺘﺠﺪاء
اﻷرواح و»اﻟﺠﺎن« ﻷﻏﺮاض اﻟﺘﻄﺒﻴﺐ اﻟﺒﺪﻧﻲ أو اﻟﻨﻔﴘ.
وأﻳٍّﺎ ﻛﺎن اﻷﻣﺮ ،ﻓﺈن اﻟﺴﺤﺮ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻃﻘﻮس وإﺟﺮاءات ﻣﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ ،وﻳﻘﻮم ﺑﺎﻟﻌﻤﻞ
اﻟﺴﺤﺮي أوﺗﻮﻣﺎﺗﻴﻜﻴٍّﺎ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻟﻪ دراﻳﺔ ﺑﻬﺬه اﻟﻄﻘﻮس واﻹﺟﺮاءات .وﻋﲆ ﻫﺬا ﻓﺈن اﻟﺴﺤﺮ
517
اﻹﻧﺴﺎن
واﻟﺪﻳﻦ ﻫﻨﺎ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﺗﻜﻨﻴﻜني ﻣﺨﺘﻠﻔني ،وإن ﻛﺎﻧﺎ ﻳﻜﻤﻼن ﺑﻌﻀﻬﻤﺎ ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻟﺸﺨﺺ
املﻤﺎرس — وﻫﻮ ﻏﺎﻟﺒًﺎ رﺟﻞ اﻟﺪﻳﻦ واﻟﺴﺎﺣﺮ ﻣﻌً ﺎ.
وﻳﻌﺘﻘﺪ ﺟﻴﻤﺲ ﻓﺮﻳﺰر أن اﻟﺴﻠﻮك اﻟﺴﺤﺮي واﻻﻋﺘﻘﺎد ﻓﻴﻪ ﻳﺸﺎﺑﻪ اﻟﻌﻠﻢ؛ ﻷﻧﻬﻤﺎ
ﻳﻔﱰﺿﺎن أن ﺗﺴﻠﺴﻞ اﻟﺤﻮادث ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﺒﻌﻀﻪ ،وأن اﻟﺤﺪث اﻟﺴﺎﺑﻖ ﻳﺼﺒﺢ ﻣﺴﺒﺒًﺎ ﻟﻼﺣﻖ.
ﻟﻜﻦ اﻟﺴﺤﺮ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻗﺎﺋﻤﺔ إﺟﺮاﺋﻴﺔ ﺗﺘﻀﻤﻦ املﻌﺘﻘﺪ واﻟﺸﻜﻞ واﻟﺴﻠﻮك ،وﻫﻲ ﻗﺎﺋﻤﺔ ﻏري
ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﻨﻘﺪ أو اﻻﺧﺘﺒﺎر واﻟﺘﺠﺮﺑﺔ واﻟﺘﻌﺪﻳﻞ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﰲ املﻨﻬﺞ اﻟﻌﻠﻤﻲ .وإﱃ ﺟﺎﻧﺐ
ذﻟﻚ ﻓﺎﻟﺴﺤﺮ ﻻ ﻳﻌﱰف ﺑﻮﺟﻮد أدﻟﺔ ﻣﻨﺎﻫﻀﺔ ،ﺑﻞ ﻋﲆ اﻟﻌﻜﺲ ﻳﺘﻄﻠﺐ اﻗﺘﻨﺎﻋً ﺎ ﻣﺆﻣﻨًﺎ ﻻ
ﻳﻌﱰﻳﻪ اﻟﺸﻚ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻓﻬﻮ ﻋﻠﻢ دوﺟﻤﺎﺗﻴﻜﻲ ﺳﻴﺊ ﺟﺪٍّا ،ﻟﻜﻨﻪ ﻣﻘﺒﻮل ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻨﺪ املﺆﻣﻨني
ﺑﻪ.
وﻳُﻘﺪﱢم ﺗﻴﻠﻮر أرﺑﻌﺔ أﺳﺒﺎب ﻹﻳﻤﺎن اﻟﺸﻌﻮب اﻷﻣﻴﺔ ﺑﺎﻟﺴﺤﺮ ،وﻫﻲ ﰲ رأﻳﻨﺎ ً
أﻳﻀﺎ
اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺘﻲ ﺗﺪﻋﻮ أﻋﻀﺎء اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ إﱃ اﻹﻳﻤﺎن
ﻓﻌﻼ ،وﻟﻜﻦ ﻻ ﺷﻚ ﰲ أن ﺑﻘﻮى اﻟﺴﺤﺮ .اﻟﺴﺒﺐ اﻷول :ﻫﻮ أن ﺑﻌﺾ ﻧﺘﺎﺋﺞ اﻟﺴﺤﺮ ﺗﺤﺪث ً
ذﻟﻚ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ اﻟﺼﺪﻓﺔ ،واﻟﺜﺎﻧﻲ :أن اﻟﺴﺎﺣﺮ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳﺴﺘﺨﺪم اﻟﺨﺪاع واﻹﻳﺤﺎء واﻹﻳﻬﺎم
واﻟﺘﻼﻋﺐ ﺑﺎﻷﻟﻔﺎظ اﻟﻌﻤﻮﻣﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺘﻤﻞ ﻛﺎﻓﺔ اﻟﺘﺄوﻳﻼت اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ،واﻟﺴﺒﺐ اﻟﺜﺎﻟﺚ:
ُﺬﻫﻠﻮن ﻣﻦ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪث وﻳﺘﺄﺛﺮون ﺑﻬﺎ ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻳﻨﺴﻮن أن أن املﺆﻣﻨني ﺑﺎﻟﺴﺤﺮ ﻳ َ
اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺮﻏﺒﺎت أو اﻟﻄﻠﺒﺎت ﻟﻢ ﺗﺘﺤﻘﻖ .وأﺧريًا ،ﻓﺈن ﻋﺪم ﺗﺤﻘﻖ املﺮﻏﻮب واملﻄﻠﻮب
ُﻔﴪ داﺋﻤً ﺎ ﺑﻮﺟﻮد ﻗﻮى ﺳﺤﺮﻳﺔ أﺧﺮى ﻣﻀﺎدة ﺗﻌﻤﻞ ﻋﲆ ﻋﺪم إﻧﺠﺎح املﻄﻠﻮب ،وﺗﺘﻄﻠﺐ ﻳ ﱠ
أﻋﻤﺎﻻ ﺳﺤﺮﻳﺔ أﺧﺮى ﺿﺪ اﻟﺴﺤﺮ املﻀﺎد )ﺣﻠﻘﺔ ﻣﻔﺮﻏﺔ ﻣﺜﻞ اﻟﺼﻮارﻳﺦ املﻀﺎدة ﻟﻠﻤﻀﺎدة ً
وﻫﻜﺬا(.
ُﻘﺴﻢ اﻟﺴﺤﺮ إﱃ ﻗﺴﻤني؛ اﻟﺴﺤﺮ اﻟﻨﺎﻓﻊ أو املﻔﻴﺪ :وﻫﻮ ذﻟﻚ اﻟﺬي ﻳُﺴﺘﺨﺪَم وﻳﻤﻜﻦ أن ﻳ ﱠ
ﰲ املﺴﺎﻋﺪة واﻟﺘﻄﺒﻴﺐ ،وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ أﻏﺮاض ﻋﺎﻣﺔ ﻟﺼﺎﻟﺢ املﺠﺘﻤﻊ .واﻟﺴﺤﺮ اﻟﻀﺎر:
ُﻘﺼﺪ ﺑﻪ إﻟﺤﺎق اﻟﺬي ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ أﺣﻴﺎﻧًﺎ اﻟﺴﺤﺮ اﻷﺳﻮد ،Black magic/sorceryوﻫﻮ اﻟﺬي ﻳ َ
اﻟﴬر أو املﻮت ﺑﺂﺧﺮﻳﻦ ،أو ﺑﺎملﺠﺘﻤﻊ ﻛﻠﻪ .واﻟﻨﻮع اﻟﻀﺎر ﻣﻦ اﻟﺴﺤﺮ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﻌﺎﻗﺐ
ﻋﻠﻴﻪ املﺠﺘﻤﻊ ،وﻛﺎن ﻣﻨﺘﴩً ا ﻛﻤﻮﺟﺔ ﺣﻀﺎرﻳﺔ ﻋﺎﺗﻴﺔ ﰲ أوروﺑﺎ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ،وﻗﺪ
أﻳﻀﺎ ،ذﻫﺐ ﺿﺤﻴﺘﻬﺎ ﻛﺜري ﻣﻦ ﻋُ ﻮﻗِﺐ اﻟﺴﺤﺮة ﺑﺎﻟﻘﺘﻞ واﻟﺤﺮق ﰲ ﺻﻮرة ﺣﻤﻠﺔ ﻋﺎﺗﻴﺔ ً
اﻷﺑﺮﻳﺎء ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻘﺮون اﻟﻮﺳﻄﻰ وﺑﺪاﻳﺔ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ.
وﻳﻘﻮم اﻟﺴﺤﺮ ﻋﲆ ﻣﺒﺪأﻳﻦ؛ اﻷول :ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪ واملﺤﺎﻛﺎة ،وﻳُﻄ َﻠﻖ ﻋﻠﻴﻪ
Imitatve magicأو اﻟﺴﺤﺮ املﺜﲇ ،homeopathicواملﻌﺘﻘﺪ ﰲ ﻛﻠﺘﺎ اﻟﺤﺎﻟﺘني أن اﻟﺸﺒﻴﻪ
518
اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ واﻟﺴﺤﺮ واﻟﻔﻨﻮن
أو املﺜﻴﻞ ﺳﻮف ﻳﻜﻮن ﻟﻪ ﺗﺄﺛري ﻋﲆ اﻟﺸﺒﻴﻪ واملﺜﻴﻞ ،وﻣﻦ ﺛﻢ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳُﺼﻮﱠر ﺷﺨﺺ ﰲ
ُﺮﺳﻢ ﺛﻢ ﻳُﻔﻌَ ﻞ ﰲ املﺜﻴﻞ ﻣﺎ ﻳﺮاد إﺣﺪاﺛﻪ ﰲ اﻷﺻﻞ؛ ﻛﺄن ﻳُﻄﻌَ ﻦ أو ﻳُﺤ َﺮق
ﺻﻮرة ﺗﻤﺜﺎل ،أو ﻳ َ
أو ﻳﱪأ … إﻟﺦ 3 ،أو أن ﺗُﺼﻮﱠر اﻟﺴﺤﺐ ﻣﺤﻤﻠﺔ ﺑﺎملﻄﺮ ﰲ ﻣﻨﺎﻃﻖ اﻟﺠﻔﺎف ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﻔﻌﻞ
ً
ﻣﻤﺎﺛﻼ اﻟﺒﻴﻮﺑﻠﻮ .وﺑﺼﻮر ٍة أو أﺧﺮى ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن اﻟﺴﺤﺮ اﻟﺘﻌﺎﻃﻔﻲ Sympathetic
أﻳﻀﺎ ﻋﲆ أﺳﺎس أن املﺜﻴﻞ ﻳﺆﺛﺮ ﻋﲆ املﺜﻴﻞ .واﻟﻨﻮع ﻟﻬﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺴﺤﺮ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻘﻮم ً
اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻦ اﻟﺴﺤﺮ ﻫﻮ اﻻﺗﺼﺎﱄ ،contagiousوﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﻘﻮم ﻋﲆ ﻣﺒﺪأ أن ارﺗﺒﺎط ﺷﻴﺌني
أو ﺷﺨﺺ وﳾء ﻳﻤﻠﻜﻪ أو ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻪ ﻳﺆدي إﱃ ﺗﺄﺛري ﻣﺘﺒﺎدل .وﻣﻦ ﺛﻢ ،ﻓﺈن ﺣﺼﻮل
اﻟﺴﺎﺣﺮ ﻋﲆ »أﺛﺮ« )أﺗﺮ ﺑﻠﻐﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﰲ ﻣﴫ؛ أي :ﻣﻨﺪﻳﻞ ،أو ﺧﺼﻠﺔ ﺷﻌﺮ ،أو ﻣﻼﺑﺲ …
إﻟﺦ( ﻳﻤﻜﻨﻪ ﻣﻦ اﻟﺘﺄﺛري املﺮﻏﻮب ﻋﲆ اﻟﺸﺨﺺ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺤﻜﻢ اﻻﺗﺼﺎل اﻟﺴﺎﺑﻖ ﺑني اﻟﺸﺨﺺ
و»أﺛﺮه« ودوام اﻟﺘﺄﺛري ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ.
وﻳﺮى ﻣﺎﻟﻴﻨﻮﻓﺴﻜﻲ أن اﻟﺴﺤﺮ ﻳﻜﻮن ﺟﺎﻧﺒًﺎ ﻫﺎﻣٍّ ﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺎة املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ؛ ﺣﻴﺚ
ﺗﺘﺨﻠﻒ ﻛﻞ اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ — ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻄﺐ واﻟﻌﻠﻮم — وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﺴﺤﺮ
ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺪاﺋﻴني ﻟﻴﺲ ﺳﻮى أداة ﻟﻠﺘﻌﺒري ﻋﻦ اﻟﻔﻜﺮ املﺮﻏﻮب واﻟﺴﻠﻮك املﺄﻣﻮل واﻷﻣﻞ املﻨﺸﻮد،
واﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ إﻣﻜﺎن ﺗﻨﻔﻴﺬ ﻫﺬه اﻵﻣﺎل اﻟﺘﻲ ﺗﻘﴫ ﻋﻨﻬﺎ ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺘﻬﻢ املﺎدﻳﺔ ،ﺑﻤﺴﺎﻋﺪة
اﻟﻘﻮى اﻟﺨﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺮﻛﻬﺎ اﻟﻄﻘﻮس املﺮﻋﻴﺔ .وﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﻼﺣﻆ أن اﻻﻋﺘﻘﺎد ﰲ اﻟﺴﺤﺮ
ﻟﻴﺲ ﻗﺎﴏًا ﻋﲆ اﻟﺸﻌﻮب اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ،ﺑﻞ ﻳﺸﱰك ﰲ ذﻟﻚ ﻛﺜريون ﻣﻦ اﻷﻓﺮاد ﰲ اﻟﺸﻌﻮب
أﻳﻀﺎ ،وﻟﻌﻞ ﻫﺬا — ﻛﻤﺎ ﻗﻠﻨﺎ — ﺑﻘﻴﺔ ﺣﻀﺎرﻳﺔ أو ﺟﺰء ﻣﻦ ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻹﻧﺴﺎن املﺘﻘﺪﻣﺔ ً
اﻟﺤﻀﺎري وﺗﺮاﺛﻪ.
وأﺧريًا ﻓﺈن ﻫﻨﺎك ﻋﺪة ﻣﻘﺎﻳﻴﺲ ﻟﻠﺘﻔﺮﻳﻖ ﺑني اﻟﺪﻳﻦ واﻟﺴﺤﺮ ،ﺑﺮﻏﻢ ﻇﻬﻮر ﺗﺮاﺑﻄﻬﻤﺎ ﻣﻌً ﺎ.
ﻓﺎﻟﺪﻳﻦ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻪ — واﻟﻄﻘﻮس اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﺧﺎﺻﺔ — ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻋﻤﻞ ﻟﻪ أﻏﺮاض وأﻫﺪاف
اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻳﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ املﺠﺘﻤﻊ وﻳﺸﱰك ﰲ أداﺋﻬﺎ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺟﺎﻧﺐ ﻣﻦ
3أذﻛﺮ ﻣﻨﺬ اﻟﻄﻔﻮﻟﺔ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻗﺺ ورﻗﺔ ﻋﲆ ﻫﻴﺌﺔ ﺷﺨﺺ أو ﺷﻴﻄﺎن ،ﺛﻢ وﺧﺰﻫﺎ ﺑﺎﻟﺪﺑﺎﺑﻴﺲ وﺣﺮﻗﻬﺎ
ﻟﻄﻔﻞ ﺻﻐري ﰲ اﻟﻠﻴﻞ دون أن ﻳﻜﻮن ﺑﻪ ﻣﺮض
ٍ ﻛﻮﺳﻴﻠﺔ ﻟﻄﺮد اﻷرواح اﻟﴩﻳﺮة اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺒﺐ اﻟﺒﻜﺎء املﺴﺘﻤﺮ
ﻇﺎﻫﺮ.
519
اﻹﻧﺴﺎن
اﻟﺴﺤﺮ — اﻟﺴﺤﺮ اﻷﺳﻮد ﻋﲆ اﻷﻗﻞ — ﻣﺮﻫﻮب ﻳﺨﺸﺎه اﻟﻨﺎس ،وﻫﻮ ﻋﻤﻞ ﻓﺮدي ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻳﺘﻢ
ﴎا .ﻛﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻃﻘﻮس اﻟﺪﻳﻦ ﺗﺴﺘﺪﻋﻲ ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻟﺨﺸﻮع واﻹﻳﻤﺎن واﻟﺘﻘﻮى وﻻ ﺗﻨﺘﻈﺮ ٍّ
ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻣﺒﺎﴍة ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺘﻮﻗﻊ اﻟﻨﺎس ﻧﺘﺎﺋﺞ اﻟﺴﺤﺮ ﺗﻠﻘﺎﺋﻴٍّﺎ .وﻋﲆ ﻫﺬا ،ﻓﺈن ﻫﺪف اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ
ﻋﺎم وﻣﻮزع ﻋﲆ اﻟﻨﺎس ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻫﺪف اﻟﺴﺤﺮ ﻣﺤﺪود ﺑﻤﻄﻠﺐ ﻣﻌني وﻣﺤﺪد اﻷﺛﺮ ﺑﺄﻓﺮاد
ﻣﻌﻴﻨني.
وﻟﻜﻦ ﺑﻌﺾ أﺷﻜﺎل اﻟﺪﻳﻦ ﺗﺼﺒﺢ ﻣﺴﺎﺋﻞ ﻓﺮدﻳﺔ ﻻ ﺗﻬﻢ املﺠﺘﻤﻊ ﻛﺎﻟﺼﻮﻓﻴﺔ واﻟﺮﻫﺒﻨﺔ،
ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ أن اﻟﺘﻘﻮى واﺗﺒﺎع أﺻﻮل اﻟﺪﻳﻦ ﻳﻌﻮد ﺑﺎﻟﻨﻔﻊ ﻋﲆ املﻤﺎرس ،ﺑﺤﻴﺚ ﺗﻨﺘﻔﻲ
اﻟﻔﺎﺋﺪة اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻋﲆ املﺠﺘﻤﻊ ﻛﻜﻞ )ﻣﺒﺪأ املﺴﺌﻮﻟﻴﺔ اﻟﻔﺮدﻳﺔ( .وﰲ ﻣﻘﺎﺑﻞ ذﻟﻚ ،ﻧﺠﺪ ﺑﻌﺾ
أﺷﻜﺎل اﻟﺴﺤﺮ ﺟﻤﺎﻋﻴﺔ اﻟﺸﻜﻞ واملﻤﺎرﺳﺔ واﻟﻬﺪف ،ﻛﺎﻟﺴﺤﺮ اﻟﺠﻤﺎﻋﻲ Popularأو اﻟﻌﺎم
Publicاﻟﺬي ﻳﻘﺼﺪ ﻣﻤﺎرﺳﻮه املﺼﻠﺤﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻟﻠﺠﻤﺎﻋﺔ أو اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ واﻟﺬي ﻳُﻤﺎ َرس ﰲ
ﺻﻮرة ﺟﻤﺎﻋﻴﺔ.
520
اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ واﻟﺴﺤﺮ واﻟﻔﻨﻮن
وأﻳٍّﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ املﺘﺒﻌﺔ ،ﻓﺈن اﻟﻮاﺿﺢ أن اﻹﻧﺴﺎن ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻪ ﻳﻜﺮه أن ﺗﺰوره
أرواح املﻮﺗﻰ أو ﺗﺆرﻗﻪ أو ﺗﺘﺒﻌﻪ أو ﺗﺘﺒﻊ أﻋﻤﺎﻟﻪ وﺗﺘﺠﺴﺲ ﻋﻠﻴﻪ ،ﺣﺘﻰ وﻟﻮ ﻛﺎن املﻴﺖ
وﺛﻴﻖ اﻟﺼﻠﺔ أو اﻟﻘﺮﺑﻰ ﺑﻪ.
وﺗﺤﺘﻮي ﻣﻴﺜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺸﻌﻮب وأﺳﺎﻃريﻫﻢ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻮﺻﻒ ﻟﺮﺣﻼت اﻷرواح إﱃ
اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻵﺧﺮ ،أو وﺻﻒ ذﻟﻚ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻵﺧﺮ وﻃﺮق ﻣﻌﻴﺸﺔ املﻮﺗﻰ ﻓﻴﻪ .ﻟﻜﻦ اﻻﻋﺘﻘﺎد ﺑﺨﻠﻮد
اﻟﺮوح إﱃ اﻷﺑﺪ — ﻛﻤﺎ ﻗﻠﻨﺎ — ﻟﻴﺲ ﺷﺎﺋﻌً ﺎ ﺑني ﻛﻞ اﻟﻨﺎس؛ وذﻟﻚ ﺑﺮﻏﻢ ﺑﻨﺎء املﻘﺎﺑﺮ ﻣﻨﺬ
اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي .ﻓﺎﻷدﻳﺎن اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻻ ﺗﻬﺘﻢ ﻛﺜريًا ﺑﻬﺬا املﻮﺿﻮع ،وإﻧﻤﺎ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﻬﻤﻬﺎ ﻫﻮ
اﻟﻄﻘﻮس املﻌﻴﻨﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺠﺐ ﺗﺄدﻳﺘﻬﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﻮﻓﺎة أو ﺑﻌﺪﻫﺎ ﰲ ﻣﻮاﺳﻢ ﻣﻌﻴﻨﺔ أو ﻋﻨﺪ ذﻛﺮى
اﻟﻮﻓﺎة ﻛﻤﺎ ﺗﺤﺪدﻫﺎ ﺗﻘﺎﻟﻴﺪ املﺠﺘﻤﻊ .وﻋﲆ ﻫﺬا ،ﻓﺈن ﻓﻜﺮة ﺧﻠﻮد اﻟﺮوح إﱃ اﻷﺑﺪ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ
ﺑﺼﻮرة أﻛﺜﺮ ﺑﺎﻟﺤﻀﺎرات اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﰲ ﺣﻮض اﻟﺒﺤﺮ املﺘﻮﺳﻂ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص.
وأﻛﱪ ﻣﺜﺎل ﻋﲆ ذﻟﻚ أن املﴫﻳني ﻗﺪ ﺷﻐﻠﻮا ﺟﺰءًا ﻛﺒريًا ﻣﻦ ﺣﻀﺎرﺗﻬﻢ ،وﺟﺰءًا ﻛﺒريًا ﻣﻦ
ﻧﺸﺎﻃﻬﻢ وأﻓﻜﺎرﻫﻢ ﰲ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ اﻟﺨﻠﻮد ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻵﺧﺮ.
521
اﻹﻧﺴﺎن
522
اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ واﻟﺴﺤﺮ واﻟﻔﻨﻮن
ﻛﻤﺎ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻘﻮل :إن ﻧﻔﻮذ ﻃﺒﻘﺔ رﺟﺎل اﻟﺪﻳﻦ ﻗﺪ ﺑﻠﻎ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻣﺘﻨﺎﻫﻴﺔ اﻟﺼﻐﺮ ﰲ اﻟﺪول
ً
ﺧﺎﺻﺔ ،ﺑﺤﻴﺚ ﻟﻢ ﻳَﻌُ ْﺪ ﻋﻨﴫًا ﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ ﻣﺆﺛ ًﺮا .وﺗﺤ ﱠﻮ َل رﺟﺎل ً
ﻋﺎﻣﺔ واملﺎرﻛﺴﻴﺔ اﻟﻌﻠﻤﺎﻧﻴﺔ
ُ
اﻟﺪﻳﻦ إﱃ اﻟﺘﻘﻮﻗﻊ ﻋﻨﺪ ﺣﺪ اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﺪﱢﻣﻬﺎ املﺆﺳﺴﺎت اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻷﺗﺒﺎﻋﻬﺎ،
ﺧﺎﺻﺔ ﺑﻌﺪ أن أﴍﻓﺖ اﻟﺪول اﻟﻌﻠﻤﺎﻧﻴﺔ — ﺑﺼﻮر ودرﺟﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ — ﻋﲆ املﻘﻮﻣﺎت
اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻟﻠﻤﺆﺳﺴﺎت اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ.
واﻟﺨﻼﺻﺔ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺤﺪﻳﺪ اﻟﺪﻳﻦ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ ،وﻣﻦ اﻟﺨﻄﺄ أن ﻧﺄﺧﺬ ﻣﻈﻬ ًﺮا أو أﻛﺜﺮ
ﻣﻦ املﻈﺎﻫﺮ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ ِﻟﻨُﻌﻤﱢ ﻤَ ﻬﺎ ﻋﲆ ﻛﻞ اﻷدﻳﺎن؛ ﻓﻜﻞ دﻳﺎﻧﺔ ﻛ ﱞﻞ ﻣﺘﻜﺎﻣﻞ ﻣﺘﻔﺎﻋﻞ،
ﻟﻪ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻻرﺗﺒﺎﻃﺎت اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ ﺑﻤﺤﻴﻄﻪ اﻟﺤﻀﺎري .وﻻ ﺷﻚ ﰲ أن اﻟﺪﻳﻦ واﺣﺪ ﻣﻦ
اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻘﺒﻞ اﻟﺘﻐﻴري اﻟﴪﻳﻊ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻣﻊ ذﻟﻚ ﻗﺎﺑﻞ ﻟﻠﺘﻐﻴري ﻧﺘﻴﺠﺔ
وﺧﺎﺻﺔ اﻟﺠﻮاﻧﺐ اﻟﺘﻨﻈﻴﻤﻴﺔ ﰲ ً ﻇﻬﻮر ﻛﺜري ﻣﻦ املﺆﺛﺮات اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ واﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ ﰲ املﺠﺘﻤﻊ،
اﻟﺪﻳﻦ ﻻرﺗﺒﺎﻃﻬﺎ اﻟﻮﺛﻴﻖ ﺑﺎملﺠﺘﻤﻊ واﻟﺤﻀﺎرة.
اﻟﺪﻳﻦ واﻟﻔﻦ
إن اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻟﺪﻳﻦ واﻟﻔﻨﻮن ﻋﻨﺪ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻋﻼﻗﺔ ﻗﻮﻳﺔ؛ ﻣﻤﺎ ﺣﺪَا ﺑﺒﻌﺾ
اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴني إﱃ اﻋﺘﺒﺎر أﺻﻮل اﻟﻔﻦ ﻧﺎﺑﻌﺔ ﻣﻦ املﺠﺎل اﻟﺪﻳﻨﻲ واﻟﺴﺤﺮي ﻋﺎﻣﺔ ،ﻻ ﺳﻴﻤﺎ
أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻌﺘﻘﺪ أن رﺳﻮم اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻮد إﱃ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺠﺮي اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻷﻋﲆ
أﻏﺮاﺿﺎ ﺳﺤﺮﻳﺔ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺘﻤﺎﺛﻴﻞ اﻟﺘﻲ ﻳﺮﺳﻤﻬﺎ ﺳﻜﺎن ﻫﺬه اﻟﺤﻀﺎرات ً ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺨﺪم
ً
أﻏﺮاﺿﺎ ﺳﺤﺮﻳﺔ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎر أﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ أﺻﻨﺎﻣً ﺎ Fetish 4ﻟﻠﻌﺮاﻓﺔ واﻟﺘﻨﺒﺆ أو أن ﺑﻬﺎ ﻗﻮى ﺗﺨﺪم
ً
أﻏﺮاﺿﺎ دﻳﻨﻴﺔ، ﺧﺎرﻗﺔ .ﻛﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻋﺪدًا ﻛﺒريًا ﻣﻦ اﻟﻔﻨﻮن ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت املﻌﺎﴏة ﺗﺨﺪم
ٍ
ﺣﺎﻻت ﻛﺜرية. وﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺻﺤﺔ ﻫﺬا ﻓﺈن اﻟﺪﻳﻦ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ وﺣﺪه ﻣﻨﺒﻊ اﻟﻔﻨﻮن ﰲ
4اﻟﺼﻨﻢ ﺗﻤﺜﺎل ﻣﻦ ﺣﺠﺮ أو ﺧﺸﺐ أو ﻣﻌﺪن ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺰﻋﻤﻮن أن ﻋﺒﺎدﺗﻪ ﺗﻘﺮﺑﻬﻢ إﱃ ﷲ )املﻌﺠﻢ اﻟﻮﺳﻴﻂ،
ﻧﴩ ﻣﺠﻤﻊ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ،اﻟﻘﺎﻫﺮة .(١٩٦٠وﻻ ﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا أن اﻷﺻﻨﺎم ﻛﺎﻧﺖ ﺑﺎﻟﴬورة ذات أﺣﺠﺎ ٍم
ﻛﺒرية ،ﺑﻞ ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﺗﻤﺎﺛﻴﻞ ﺻﻐرية أو ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﻠﻴﻪ ﻧﻘﻮش ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻛﺎﻷزﻻم اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻋﺮب اﻟﺠﺎﻫﻠﻴﺔ
ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻮﻧﻬﺎ ﻟﻼﺳﺘﺨﺎرة .وﻛﻠﻤﺔ ﻓﻴﺘﻴﺶ Fetishأﺻﻠﻬﺎ ﺑﺮﺗﻐﺎﻟﻴﺔ Feitigoﺑﻤﻌﻨﻰ ﺟﺎﻟﺒﺔ اﻟﺤﻆ اﻟﺤﺴﻦ.
وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻔﻴﺘﻴﺶ ﺷﺎﺋﻌﺔ ﰲ ﻏﺮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وﺗﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﻓﻜﺮة أن ﻫﺬه اﻷﺻﻨﺎم ﻗﺪ ﺗﺤﻞ ﻓﻴﻬﺎ أرواح
وﻗﻮى ﺗﺠﻌﻠﻬﺎ ذات ﻗﺪرات ﺧﺎرﻗﺔ أو ﻗﻮى ﺳﺤﺮﻳﺔ ﻣﻌﺠﺰة .وﻗﺪ اﻋﺘﻘﺪ دي ﺑﺮوﺳﻴﻪ )اﻟﻘﺮن (١٨أن
اﻟﻔﻴﺘﻴﺸﻴﺔ Fetishismﺗُﻤﺜﱢﻞ أوﱃ ﻣﺮاﺣﻞ اﻟﻌﺒﺎدات إﱃ أن ﺣ ﱠﻠ ْﺖ ﻣﺤﻠﻬﺎ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺗﻴﻠﻮر ﰲ اﻻﺳﺘﺤﻴﺎء .ﻗﺪ
ﺗﺮﺟﻢ د .أﺑﻮ زﻳﺪ اﻟﻜﻠﻤﺔ ﺑ »ﺑﺪ« و»ﺑﺪود« )اﻷﺻﺢ ﺑُﺪد( ،راﺟﻊ أﺣﻤﺪ أﺑﻮ زﻳﺪ .١٩٦٠
523
اﻹﻧﺴﺎن
واﻷوﺟﻪ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﻌﺎ َﻟﺞ ﻓﻨﻴٍّﺎ ﻛﺜرية؛ ﻓﺎﻷﺳﺎﻃري ﻻ ﺗُ َﻘﺺ ﻛﺘﺎرﻳﺦ وإﻧﻤﺎ ﻛﺸﻌﺮ
ﻨﺸﺪوﻧﺜﺮ رﻓﻴﻊ ،واﻷدﻋﻴﺔ واﻟﺼﻠﻮات واﻷﻧﺎﺷﻴﺪ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واﻷذﻛﺎر ﻻ ﺗُﻘ َﺮأ ،ﺑﻞ ﺗُﺮﺗﱠﻞ وﺗُ َ
ﻨﻔﺬ اﻟﺮﻗﺼﺎت اﻟﺴﺤﺮﻳﺔ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﺗﻨﻔﻴﺬًا وﺗُﺼﺎغ ﺻﻴﺎﻏﺔ ﺷﻌﺮﻳﺔ أو ﻗﺮﻳﺒﺔ ﻣﻦ ذﻟﻚ .وﻻ ﺗُ ﱠ
آﻟﻴٍّﺎ ﺑﻞ ﺗﻘﱰن ﺑﻜﺜري ﻣﻦ اﻹﻳﻘﺎع واﻟﺘﻠﻮﻳﻦ ،واﻷﻗﻨﻌﺔ اﻟﻄﻘﺴﻴﺔ ﺗﻨﻢ ﻋﻦ املﻬﺎرة أو اﻟﻌﺒﻘﺮﻳﺔ
اﻟﻔﻨﻴﺔ ﻟﻠﺼﺎﻧﻊ .وﻳﺒﺪو أن اﻹﺟﺎدة اﻟﻔﻨﻴﺔ ﻟﻠﻄﻘﻮس املﺨﺘﻠﻔﺔ :ﺷﻌﺮ ،وأﻧﺎﺷﻴﺪ ،وﻣﻮﺳﻴﻘﻰ،
ورﻗﺺ ،وإﻳﻘﺎع ،وأﻣﺘﻌﺔ ،وﻣﻼﺑﺲ … إﻟﺦ .ﺗﺠﻌﻞ ﻟﻬﺬه اﻟﻄﻘﻮس ﺟﺎذﺑﻴﺔ ﺧﺎﺻﺔ ،وﺗﺆﺛﺮ
ﻈﺎ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ، ﻋﲆ ﺗﻌﻤﻴﻖ إﻳﻤﺎن املﻤﺎرﺳني ﻟﻌﻘﻴﺪﺗﻬﻢ .وإذا ﻛﺎن ذﻟﻚ ﻣﻼﺣ ً
أﻳﻀﺎ ﰲ اﻷدﻳﺎن اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ ،ﻓﺎﻟﺼﻼة اﻟﺨﺎﺷﻌﺔ ﰲ رﺣﺎب ﺑﺴﺎﻃﺔ املﺴﺠﺪ أو ﻓﺈﻧﻪ ﻣﻮﺟﻮد ً
زﺧﺮف اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ ﺗﺆدي إﱃ اﻧﺪﻣﺎج املﺼﻠني ﰲ ﺣﺎﻟﺔ روﺣﻴﺔ وﻧﻔﺴﻴﺔ ﻳﺼﻌﺐ ﺗﺼﻮﻳﺮﻫﺎ،
ﺑﺼﻮت ﺣﺴﻦ ﻛﻤﺎ ﻳﻔﻌﻞ ﻣﺸﺎﻫري املﻘﺮﺋني ﺗﺠﻠﺐ ﻣﺰﻳﺪًا ﻣﻦ ﻋﻤﻖ اﻹﺣﺴﺎس ٍ وﺗﻼوة اﻟﻘﺮآن
اﻟﺪﻳﻨﻲ ﻋﻨﺪ املﻨﺼﺘني ،وﻛﺬﻟﻚ ﺟﻮدة اﻟﱰاﻧﻴﻢ اﻟﻜﻨﺴﻴﺔ وﺟﻤﺎل اﻷداء اﻟﺼﻮﺗﻲ واملﻮﺳﻴﻘﻲ
ﺗﻘﻴﻢ ﰲ ﻗﻠﻮب املﺆﻣﻨني ﺟﻮٍّا ﻣﻦ اﻹﻳﻤﺎن اﻟﻌﻤﻴﻖ .وﻣﻦ املﻌﺮوف أن املﻌﺒﺪ اﻟﻔﺮﻋﻮﻧﻲ أو
اﻹﻏﺮﻳﻘﻲ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻲ ،ﻗﺪ ﺳﺎﻫﻢ ﰲ ﺗﺪﻋﻴﻢ اﻟﻔﻨﻮن املﻮﺳﻴﻘﻴﺔ واﻟﻜﻮراﻟﻴﺔ .وﻗﺪ ﻧﻘﻠﺖ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ
اﻷوروﺑﻴﺔ ﻫﺬا اﻟﱰاث ﻋﻦ اﻟﺤﻀﺎرة اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ ،وﰲ رﺣﺎب اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ ﻧﺒﻌﺖ أﺻﻮل
ﻣﺒﺎدئ ﻛﺜرية ﻣﻦ اﻟﻔﻦ اﻷوﺑﺮاﱄ واملﻮﺳﻴﻘﻲ ﺑﺄﻧﻮاﻋﻬﺎ املﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﻣﻊ اﻹﺿﺎﻓﺎت اﻟﻌﺒﻘﺮﻳﺔ
ﻟﻠﻔﻨﻮن واﻟﻨﻐﻢ اﻟﺸﻌﺒﻲ وﻋﻤﺎﻟﻘﺔ اﻟﺘﺄﻟﻴﻒ املﻮﺳﻴﻘﻲ اﻟﻜﻼﺳﻴﻜﻲ.
اﻟﻔﻨﻮن Art
ﺗﻨﺪرج ﻓﻨﻮن اﻟﺸﻌﻮب اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﺗﺤﺖ أرﺑﻌﺔ أﻗﺴﺎم ﻫﻲ :اﻟﻔﻨﻮن اﻟﺸﻔﺎﻫﻴﺔ ،واملﻮﺳﻴﻘﻰ،
واﻟﺮﻗﺺ ،واﻟﻔﻨﻮن اﻟﺘﺸﻜﻴﻠﻴﺔ .وﻻ ﺗﻜﺎد أي ﺣﻀﺎرة ﺗﺨﻠﻮ ﻣﻦ أﺣﺪ ﻫﺬه اﻷﻗﺴﺎم اﻷرﺑﻌﺔ،
وﻟﻜﻦ اﻟﻔﺮوق ﺗﺼﺒﺢ ﺷﺎﺳﻌﺔ ﺑني ﻣﺠﺘﻤﻊ وآﺧﺮ ﰲ ﻃﺮﻳﻘﺔ اﻷداء ،وﰲ اﻟﺸﻜﻞ واﻹﺧﺮاج،
وﰲ اﻟﻨﻮع واﻟﺠﻮدة ،وﰲ اﻟﺘﻮﻇﻴﻒ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻟﻬﺬه اﻟﻔﻨﻮن.
وﺗﺤﺎول اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ أن ﺗﺪرس ﻫﺬا املﻴﺪان اﻟﺤﻀﺎري اﻟﺸﺎﺳﻊ اﻵﻓﺎق دراﺳﺔ ﻋﻠﻤﻴﺔ ﰲ
ﻣﺠﺎﻻت ﺗﺤﺪﻳﺪ اﻷﺻﻮل واﻟﺘﻐريات اﻟﺘﻲ ﺗﻄﺮأ ﻋﲆ ﻣﺮ اﻟﺰﻣﻦ ،ﻛﻤﺎ ﺗﺤﺎول دراﺳﺔ املﺤﺘﻮى
اﻟﻔﻨﻲ وﻋﻨﺎﴏه وأﺳﻠﻮﺑﻪ واﻟﺸﻜﻞ اﻟﺬي ﻳﺘﺨﺬه ﻫﺬا اﻷﺳﻠﻮب ،واﻟﺪور اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻟﻠﻔﻨﻮن
أﺣﻴﺎن ﻗﻠﻴﻠﺔ إﱃ اﻟﺤﻜﻢ ﻋﲆ أﻧﻮاع
ٍ ﻛﻮﻇﻴﻔﺔ ﻣﻦ وﻇﺎﺋﻒ اﻟﺤﻀﺎرة .وﻳﻤﻴﻞ اﻹﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﻮن ﰲ
اﻟﻔﻨﻮن املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻨﻮﻋﻴﺔ ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﻢ ﻳﺘﺠﻨﺒﻮن ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﺣﻜﺎم
ﻋﲆ اﻋﺘﺒﺎر أن ﻣﺼﺪرﻫﺎ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن واﺣﺪًا ﻣﻦ املﺸﺘﻐﻠني ﺑﺎﻟﻔﻦ.
524
اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ واﻟﺴﺤﺮ واﻟﻔﻨﻮن
525
اﻹﻧﺴﺎن
وﺑﺮﻏﻢ ذﻟﻚ ﻳﺮى اﻟﻜﺜريون أن املﺮاﺣﻞ اﻟﻔﻨﻴﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﺘﻄﻮر اﻟﻔﻨﻮن ﺷﺪﻳﺪة اﻟﺘﻌﻤﻴﻢ،
وﻻ ﺗﻌﻄﻲ ﻧﺘﺎﺋﺞ دراﺳﻴﺔ ﺗﻔﺼﻴﻠﻴﺔ ﻃﻴﺒﺔ ،ﻛﻤﺎ أن ﻓﻜﺮة اﻻﻧﺘﺸﺎر اﻟﺤﻀﺎري أو اﻻﺳﺘﻌﺎرة
اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ ﰲ اﻟﻔﻦ ﻏري واردة ﰲ اﻟﻨﻈﺮة اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ .وﻧﻈ ًﺮا ﻷن اﻟﻔﻨﻮن ﻋﺎد ًة إﺑﺪاع ﺧﺎص
ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻟﻔﻨﺎن واﻟﱰاث اﻟﺴﺎﺋﺪ واﻷدوات املﺴﺘﺨﺪﻣﺔ؛ ﻓﺈن املﺮاﺣﻞ اﻟﻔﻨﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺮاﻫﺎ ﻳﻤﻜﻦ
ﻔﴪ ﺑﺎﻻرﺗﺒﺎط ﺑﺎﻟﻈﺮوف اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ واﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺴﺎﺋﺪة اﻟﺘﻲ ﻳﻌﻤﻞ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ أن ﺗُ ﱠ
اﻟﺘﻌﺒري اﻟﻔﻨﻲ ﻛﻮﻇﻴﻔﺔ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ وﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ودﻳﻨﻴﺔ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن .وﺑﻌﺒﺎر ٍة
أﺧﺮى ،ﺗﺘﻄﻮر اﻟﻔﻨﻮن ﺑﺘﺄﺛريات ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ وأﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﺪاﺧﻞ واﻟﺨﺎرج ﻣﻌً ﺎ.
وﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى ،د ﱠﻟﺖ اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺄﺳﻠﻮب اﻟﻔﻦ ﰲ اﻟﻨﺴﻴﺞ واﻟﺠﺪاﺋﻞ
)اﻟﺴﻼل ،(Basketryﻋﲆ أن املﺮاﺣﻞ اﻷوﱃ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺼﻨﺎﻋﺎت ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺗﺴﻤﺢ إﻻ ﺑﻈﻬﻮر ﱢ
أﺷﻜﺎل ﻫﻨﺪﺳﻴﺔ أو رﻣﺰﻳﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺑﺴﺎﻃﺔ ﺗﻜﻨﻴﻚ اﻟﻨﺴﻴﺞ ،ﺛﻢ ﺗﻄﻮر اﻟﺘﻜﻨﻴﻚ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ
ﺑﺤﻴﺚ أﺗﺎح ﺗﻨﻔﻴﺬ أﺷﻜﺎل واﻗﻌﻴﺔ ،وﺑﺎملﺜﻞ ﻟﻢ ﻳﺘﺤﻘﻖ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ ﻓﺨﺎر ﻧﺎﻋﻢ إﻻ ﺑﻌﺪ
ﺗﻄﻮر ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﻔﺨﺎر .وﻳﺪل ﻫﺬا ﻋﲆ أن اﻟﻮﺻﻮل إﱃ اﻷﺳﻠﻮب اﻟﻮاﻗﻌﻲ ﰲ ﺑﻌﺾ
اﻟﻔﻨﻮن ﻛﺎن ﻳﻤﺜﻞ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻣﺘﺄﺧﺮة ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻗﺼﻮر اﻟﺘﻜﻨﻴﻚ.
وﰲ اﻟﻮﺳﻊ اﻟﻘﻮل ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﻌﻤﻮم أن اﻷﺳﻠﻮب اﻟﻔﻨﻲ ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻗﺪ ﻻ
ﺗﻜﻮن ﻣﻮﺣﺪًا ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻷﺷﻜﺎل اﻟﻔﻨﻮن ﺟﻤﻴﻌً ﺎ؛ ﻓﻘﺪ ﻧﺠﺪ أﺳﻠﻮﺑًﺎ واﻗﻌﻴٍّﺎ ﺟﻨﺒًﺎ إﱃ ﺟﻨﺐ
أﺳﻠﻮب رﻣﺰي أو ﻫﻨﺪﳼ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻤﻨﺘﺠﺎت اﻟﻔﻨﻴﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ .وﻳﻌﺘﻤﺪ ذﻟﻚ ﻋﲆ ﻣﺪى ﻣﺎ
ﻣﺜﻼ( ﺑﺎﻟﻘﻴﺎس ﺣﻘﻘﻪ املﺠﺘﻤﻊ املﻌني ﻣﻦ ﺗﻘﺪم ﰲ ﺗﻜﻨﻴﻚ إﻧﺘﺎج ﻧﻮع ﻣﺎ )اﻟﻔﺨﺎر أو اﻟﻨﺴﻴﺞ ً
ﻣﺜﻼ( .وﻳﱰﺗﺐ ﻧﻮع آﺧﺮ ﻣﻦ املﻨﺘﺠﺎت اﻟﻔﻨﻴﺔ )ﻗﻠﺔ املﻌﺮﻓﺔ ﺑﺎﻷﻟﻮان أو ﺗﺸﻐﻴﻞ املﻌﺎدن ً
إﱃ ٍ
ﺑﻨﻮع آﺧﺮ )ﻳﺠﺐ أن ﻳُﻀﺎف ٍ ﺑﺈﻧﺘﺎج ﻓﻨﻲ ﻣﻌني وﺟﻤﺎﻋﺔ أﺧﺮى
ٍ ﻋﲆ ذﻟﻚ أن ﺗﺸﺘﻬﺮ ﺟﻤﺎﻋﺔ
أﻳﻀﺎ وﺟﻮد أو ﻧﺪرة اﻟﺨﺎﻣﺔ املﺴﺘﺨﺪﻣﺔ وﻣﺪى اﻟﺘﻮارث اﻟﺤﻀﺎري ﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل(. إﱃ ذﻟﻚ ً
وﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﻌﻤﻮم ،ﻓﺈن ﻣﺒﺪأ اﻻﻧﺘﺸﺎر اﻟﺤﻀﺎري ﰲ اﻟﻔﻦ أﻣﺮ ﻣﺘﻔﻖ ﻋﻠﻴﻪ ﺑني
اﻟﺪارﺳني ،وﻳﺸﺘﻤﻞ ﻋﲆ اﻧﺘﺸﺎر اﻷﺳﻠﻮب أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻧﺘﺸﺎر املﺤﺘﻮى اﻟﺬي ﺗﺪﺧﻞ ﻋﻠﻴﻪ
ﻋﻤﻠﻴﺎت ﺻﻴﺎﻏﺔ أﺧﺮى ﻧﺎﺑﻌﺔ ﻣﻦ املﻨﻄﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻠﻘﺖ اﻟﺘﺄﺛري .ﻛﻤﺎ أن ﺑﻌﺾ املﺆﺛﺮات
اﻟﻮاردة ﻣﻦ اﻟﺨﺎرج ﺗﺘﺨﺬ ﺗﻔﺴريات ﺟﺪﻳﺪة ووﻇﺎﺋﻒ ﻏري ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻬﺎ ﰲ ﻣﻨﻄﻘﺘﻬﺎ
ﻣﺜﻼ :أن ﻳﻜﻮن اﻟﺮﻣﺰ دﻳﻨﻴٍّﺎ وﻳﻨﺘﻘﻞ ﻟﻴﺼﺒﺢ رﻣ ًﺰا ﻟﻠﺤﻜﻢ أو اﻟﺸﻤﺲ … إﻟﺦ.اﻷﺻﻠﻴﺔ؛ ً
وأﺧريًا ،ﻓﺈن دور اﻟﻌﺒﻘﺮﻳﺔ ﰲ اﻟﻔﻦ دور ﻣﻌﺮوف وﻣﺘﻔﻖ ﻋﻠﻴﻪ ،وﻟﻜﻦ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ أي
ﻗﻴﺎﺳﺎت ﻟﻠﻈﺮوف اﻟﺘﻲ ﺗﺆدي إﱃ ﺗﻜﺮار ﻧﺸﺄة اﻟﻌﺒﻘﺮﻳﺔ اﻟﻔﺮدﻳﺔ ،ﻻ وراﺛﻴٍّﺎ وﻻ ﺣﻀﺎرﻳٍّﺎ.
وﻟﻌﻞ اﻷﺳﻠﻢ أن ﻧﻘﻮل إن اﻟﻌﺒﻘﺮﻳﺔ ﻫﻲ درﺟﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ اﻷﺻﺎﻟﺔ واﻻﺑﺘﻜﺎر ،ﺗﺘﻔﺘﻖ ﰲ ﻇﻞ
ﻇﺮوف ﺧﺎﺻﺔ ﻻ ﺗﺘﻜﺮر.
526
1
اﳌﺼﺎدر واﳌﺮاﺟﻊ
املﺮاﺟﻊ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ
أﺑﻮ زﻳﺪ ،أﺣﻤﺪ» :اﻟﺒﻨﺎء اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ« ،اﻟﺪار اﻟﻘﻮﻣﻴﺔ ﻟﻠﻄﺒﺎﻋﺔ واﻟﻨﴩ ،اﻟﻘﺎﻫﺮة .١٩٦٦
اﻟﺴﻌﺮان ،ﻣﺤﻤﻮد» :ﻋﻠﻢ اﻟﻠﻐﺔ« دار املﻌﺎرف ﺑﻤﴫ ،ﻓﺮع اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ.١٩٦٢ ،
اﻟﺴﻌﺮان ،ﻣﺤﻤﻮد» :اﻟﻠﻐﺔ واملﺠﺘﻤﻊ ،رأي وﻣﻨﻬﺞ« ،دار املﻌﺎرف ﺑﻤﴫ ،ﻓﺮع
اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ.١٩٦٣ ،
إﻳﻔﺎﻧﺰ ﺑﺮﺗﺸﺎرد» :اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ« ،ﺗﺮﺟﻤﺔ أﺣﻤﺪ أﺑﻮ زﻳﺪ ،ﻣﻨﺸﺄة املﻌﺎرف،
اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ .١٩٦٠
دوﺑﺰاﻧﺴﻜﻲ ،ت» :ﺗﻄﻮر اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي« ،ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻠﻴﻢ ﻣﻨﺘﴫ ،ﻓﺮاﻧﻜﻠني،
اﻟﻘﺎﻫﺮة .١٩٦٩
رزﻗﺎﻧﺔ ،إﺑﺮاﻫﻴﻢ» :اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ« ،اﻟﻨﻬﻀﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ،اﻟﻘﺎﻫﺮة .١٩٦٤
رﻳﺎض ،ﻣﺤﻤﺪ» :اﻟﻌﺒﺎﺑﺪة ،دراﺳﺔ ﰲ اﻻﻗﺘﺼﺎد اﻟﺼﺤﺮاوي« اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ املﴫﻳﺔ،
.١٩٦١
رﻳﺎض ،ﻣﺤﻤﺪ» :اﻟﺰراﻋﺔ واﻟﺘﻨﻤﻴﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ« ،اﻟﺒﺤﻮث
اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ،ﴍﻛﺔ اﻟﻨﴫ ﻟﻠﺘﺼﺪﻳﺮ واﻻﺳﺘرياد ،اﻟﻘﺎﻫﺮة .١٩٧١
.Bibliography 1
اﻹﻧﺴﺎن
،« ﻣﺴﺎﻫﻤﺔ ﰲ دراﺳﺔ إﻳﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﻨﻮﺑﺔ: »ﺳﻴﺎﻟﺔ: ﻛﻮﺛﺮ ﻋﺒﺪ اﻟﺮﺳﻮل، ﻣﺤﻤﺪ،رﻳﺎض
.١٩٦٢ اﻟﻘﺎﻫﺮة، ﺟﺎﻣﻌﺔ ﻋني ﺷﻤﺲ،ﺣﻮﻟﻴﺎت ﻛﻠﻴﺔ اﻵداب
.١٩٦٦ ﺑريوت، »ﻋﻠﻢ اﻹﻧﺴﺎن« اﻟﻌﺮﻓﺎن: ﺣﺴﻦ،ﺳﻌﻔﺎن
، اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺔ املﴫﻳﺔ،« »اﺳﺘﻘﺮار اﻟﺒﺪو ﰲ ﺟﻬﺎت اﻟﺼﻌﻴﺪ: ﻛﻮﺛﺮ،ﻋﺒﺪ اﻟﺮﺳﻮل
.١٩٦٢ اﻟﻘﺎﻫﺮة
« اﻟﺤﻀﺎرات اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ وﻓﻜﺮة اﻻﻧﺘﺸﺎر اﻟﺤﻀﺎري وﻃﺮﻗﻪ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ: ﻛﻮﺛﺮ،ﻋﺒﺪ اﻟﺮﺳﻮل
. اﻟﻘﺎﻫﺮة، ﺟﺎﻣﻌﺔ ﻋني ﺷﻤﺲ،ﺣﻮﻟﻴﺔ ﻛﻠﻴﺔ اﻟﺒﻨﺎت
.١٩٧١ ﺑريوت، »اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ« اﻟﻨﻬﻀﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ: ﻋﺎﻃﻒ،وﺻﻔﻲ
Selected Bibliography
528
املﺼﺎدر واملﺮاﺟﻊ
529
اﻹﻧﺴﺎن
530
املﺼﺎدر واملﺮاﺟﻊ
Fox News; “Climate Change may have helped wipe out Neanderthals”.
Fox, R., “Kinship and Marriage” Pelican London 1969.
Frankfort, H., “Kingship and the Gods”, Chicago 1948.
Frazer, J., “The Golden Bough” London 1922 (1st. ed 1890).
, “Totemism and Exogamy” London 1910.
Freud, S., “Totem and Taboo” New York 1938 (1st. Pub. In German 1913).
Fuerer-Haimendorf, C. von, “Culture History and Cultural Development”
in “Current Anthropology”, ed. W. L. Thomas. Chicago Univ. Press
1956.
Garn, S. M., “Human Races” Springfield, III., 1961.
Goldman, I., & H. Goldman, “First Men”, Collier New York 1962.
Goode, W., “The Family”, Foundation of Modern Sociology series,
Prentice-Hall, New Jersey 1964.
Graebner, F., “Methode der Ethnologie”. Heidelberg 1911.
Haddon, A. C., “Magic and Fetishism”, London 1906.
, “Evolution in Art”, London 1914 (1st. Pub. 1895).
Heberer, G., “Anthropologie” Fischer, Frankfort/M 1959.
Heine-Geldern, R. von, “Das Problem vorkolumbischer Beziehungen
Zwischen Alter und Neuer Welt und Seine Bedeutung fuer die All-
gemeine Kulturgeschichte” in “Anzeiger Der Oesterreichischen
Akademie der Wissenschaft”, Vol. 91, Wien 1954.
, One Hundred Years of Ethnological Theory in the German-
speaking countries”, Lecture, Conference on the History of Anthro-
pology, New York 1962.
Herskovits, M. J., “Man and His Works”, Knopf, New York 1948.
, “Economic Anthropology” Knopf, New York 1952.
, “Cultural Anthropology” Knopf, New York 1964.
Hocart, A. M., “Kingship”, Oxford 1927.
531
اﻹﻧﺴﺎن
532
املﺼﺎدر واملﺮاﺟﻊ
533
اﻹﻧﺴﺎن
Murdock, G. P., “Social Structure”, Free Press, Macmillan, New York 1965
(2nd ed).
Nadel, S. F. “The Foundations of Social Anthropology”, Cohen, London
1951.
National Geographic: 2006, Collector’s Edition No. 6.
“Die Evolution des Homo Sapiens: Wie Wir Menschen wurden”.
www.nationalgeographic.De/Anthropologie, Hamburg.
Nesturkh, M. “The Races of Mankind”, Foreign Language Pub. House,
Moscow 1963.
, “The Origin of Man”, progress Pub., Moscow, 1967.
Nougier, Louis-Rene, 1992, “Die Welt Der Hoelenmenschen” RORORO
Rowohlt Taschenbuch Verlag, Hamburg.
Parsons, T., “Societies, Evolutionary and comparative Prespectives”,
Foundations of Modern Sociology series, Prentice-Hall, New Jersey
1966.
Perry, W. J. “The Children of The Sun”, New York 1923.
Radeliffe-Brown, A. R., “Structure and Function in Primitive Society” Co-
hen, London 1952.
, & M. Fortes, “African System of Kinship and Marriage”, Oxford
1950.
R. A. I. (Royal Anthr. Inst.) “Notes and Queries on Anthropology” Rout-
ledge, London 1951 (6ed.).
Ratzel, F., “Anthropogeographie”, Stuttgart 1882.
Redfield, R., “The Primitive World and its Transformations”, Ithaca, 1953.
Riad, M., “The Divine Kingship of the Shilluk and its Origin”, Archiv fuer
Voelkerkunde, Wien 1960.
Raid, M., “Native Plough in Egypt”, Bul. Egyptian Geog. Society Cairo 1960.
, “The Ababda of Sayala-Egyptian Nubia”, Annals of the Faculty of
Arts, Ain Shams Univ., Cairo 1963.
534
املﺼﺎدر واملﺮاﺟﻊ
535
اﻹﻧﺴﺎن
536
املﺼﺎدر واملﺮاﺟﻊ
A
Adoption اﻟﺘﺒﻨﻲ
537
اﻹﻧﺴﺎن
538
املﺼﺎدر واملﺮاﺟﻊ
Aryan ً
ﺑﺪﻳﻼ ﻟﻠﻨﻮردي أو ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ آري :ﻣﺼﻄﻠﺢ اﺳﺘُﺨﺪِم ﻗﺪﻳﻤً ﺎ
اﻟﻠﻐﺎت اﻟﻬﻨﺪو أوروﺑﻴﺔ ،ﻳﻨﻄﻮي اﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ ﻋﲆ اﻟﺮوح
اﻟﻌﻨﴫﻳﺔ
B
Barter املﻘﺎﻳﻀﺔ
539
اﻹﻧﺴﺎن
Blow gun ﻗﺼﺒﺔ اﻟﻨﻔﺦ )ﻳُﺮﻣﻰ ﺑﻮاﺳﻄﺘﻬﺎ ﺳﻬﻢ ﺻﻐري ﻟﺼﻴﺪ اﻟﻄﻴﻮر ﰲ
املﻨﺎﻃﻖ املﺪارﻳﺔ ﻋﺎﻣﺔ(
Bride price, wealth املﻬﺮ – اﻟﺼﺪاق :ﻳُﺴﺘﺨﺪَم ﺣني ﻳﻘﺪم اﻟﻌﺮﻳﺲ اﻟﺼﺪاق ﻷﴎة
اﻟﺰوﺟﺔ ،ﻋﻜﺲ ﺻﺪاق اﻟﻌﺮوس ،ﻳﻘﺪﻣﻪ أﻫﻞ اﻟﻌﺮوس ﻟﻠﻌﺮﻳﺲ
C
540
املﺼﺎدر واملﺮاﺟﻊ
Charm ﺗﻌﻮﻳﺬة
Circumcision اﻟﺨﺘﺎن
Classification ﺗﺼﻨﻴﻒ
541
اﻹﻧﺴﺎن
542
املﺼﺎدر واملﺮاﺟﻊ
D
Descent, bilateral اﻟﻨﺴﺐ املﺘﻌﺪد :ﺣﺴﺎب اﻟﻨﺴﺒﺔ واﻟﻘﺮاﺑﺔ إﱃ ﻋﺎﺋﻠﺘﻲ اﻷب واﻷم
ﻣﻌً ﺎ
Divine إﻟﻬﻲ
Divorce اﻟﻄﻼق
543
اﻹﻧﺴﺎن
E
544
املﺼﺎدر واملﺮاﺟﻊ
Exchange اﻟﺘﺒﺎدل
F
545
اﻹﻧﺴﺎن
G
546
املﺼﺎدر واملﺮاﺟﻊ
H
Heredity اﻟﻮراﺛﺔ
547
اﻹﻧﺴﺎن
I
Idiograph رﻣﺰ ﻣﺼﻮر ﻳﻨﻘﻞ ﻣﻌﻨﻰ ﻛﻠﻤﺔ ﺑﺄﻛﻤﻠﻬﺎ وﻟﻴﺲ ﺻﻮﺗًﺎ ﻣﻌﻴﻨًﺎ،
ﻣﺜﻞ اﻟﺮﻣﺰ اﻟﺼﻴﻨﻲ ﺑﻤﻌﻨﻰ »ﺳﻌﻴﺪ« ﻫﻮ ﻣﺼﻮر اﻣﺮأة واﺑﻨﻬﺎ؛
ﻷن ﻋﻼﻗﺔ اﻟﻮﻟﺪ واﻷم ﻫﻲ أﻋﲆ ﻣﺮاﺣﻞ اﻟﺴﻌﺎدة ﻋﻨﺪ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪ
اﻟﺼﻴﻨﻲ اﻟﻘﺪﻳﻢ
Implements أدوات
548
املﺼﺎدر واملﺮاﺟﻊ
Instinct اﻟﻐﺮﻳﺰة
J
K
Kin أﻗﺮﺑﺎء
549
اﻹﻧﺴﺎن
L
Law اﻟﻘﺎﻧﻮن
Levirate, anticipatory اﻟﺰواج املﺴﺒﻖ ﺑﺄرﻣﻠﺔ اﻷخ = اﻟﺴﻤﺎح ﺑﻌﻼﻗﺔ ﻣﻊ زوﺟﺔ اﻷخ
ﺑﺎﻋﺘﺒﺎر أن اﻟﺰواج ﻳﺘﻢ ﺑﻌﺪ وﻓﺎة اﻷخ
550
املﺼﺎدر واملﺮاﺟﻊ
Loom ﻧﻮل
Lost wax اﻟﺸﻤﻊ املﺬاب :ﺗﻜﻨﻴﻚ ﻗﺪﻳﻢ ﻟﺼﺐ املﻌﺎدن )ﻗﻮاﻟﺐ ﺗُﺸ ﱠﻜﻞ ﻣﻦ
اﻟﺸﻤﻊ(
M
Magic اﻟﺴﺤﺮ
551
اﻹﻧﺴﺎن
552
املﺼﺎدر واملﺮاﺟﻊ
N
553
اﻹﻧﺴﺎن
O
Oath ﻗﺴﻢ
Oracle اﻟﻌﺮاﻓﺔ
P
554
املﺼﺎدر واملﺮاﺟﻊ
Pit house ﻣﺴﺎﻛﻦ اﻟﺤُ َﻔﺮ :ﻣﺴﺎﻛﻦ ﺗُﺒﻨﻰ داﺧﻞ اﻟﺤﻔﺮات اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ
وﺗُﻐﻄﻰ ﺑﺄﺳﻘﻒ
555
اﻹﻧﺴﺎن
Property املﻠﻜﻴﺔ
556
املﺼﺎدر واملﺮاﺟﻊ
Prostitution, temple or ﻧﻈﺎم اﻟﺪﻋﺎرة ﰲ املﻌﺎﺑﺪ ،ﺑﺤﻴﺚ ﺗﺼﺒﺢ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ
sacred ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﺷﻌﺎﺋﺮ املﻌﺎﺑﺪ وﺗﺬﻫﺐ اﻟﺮﺳﻮم ﻛﻘﺮﺑﺎن ﻟﻶﻟﻬﺔ
R
Religion دﻳﺎﻧﺔ
S
Sacred ﻣﻘﺪس
557
اﻹﻧﺴﺎن
Sled زﺣﺎﻓﺔ
558
املﺼﺎدر واملﺮاﺟﻊ
Society املﺠﺘﻤﻊ
Spear thrower ﻗﺎذف اﻟﺮﻣﺢ )ﻋﺼﺎ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﻌني ﺗﻌﻄﻲ ﻟﻠﺮﻣﺢ دﻓﻌﺔ ﻗﻮﻳﺔ(
Spell رﻗﻴﺔ
Spindle ﻣﻐﺰل
T
559
اﻹﻧﺴﺎن
Tatoo اﻟﻮﺷﻢ
Theology اﻟﻼﻫﻮت
Tools أدوات
U
V
Values اﻟﻘﻴﻢ
560
املﺼﺎدر واملﺮاﺟﻊ
W
Wife hospitality/lending ﻧﻈﺎم إﻋﺎرة اﻟﺰوﺟﺔ ﻟﻠﻀﻴﻒ ﻛﻨﻮع ﻣﻦ ﺷﻌﺎﺋﺮ اﻷﺧﻮة ﺑني
اﻟﺰوج وﺿﻴﻔﻪ
Y
Yiddish ﻳﺪﻳﺶ )ﻟﻐﺔ ﺟﺮﻣﺎﻧﻴﺔ ﻣﻄﻌﻤﺔ ﺑﺎﻟﻌﱪﻳﺔ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﺑﻬﺎ ﻳﻬﻮد وﺳﻂ
أوروﺑﺎ(
Z
561