You are on page 1of 12

‫أوضحت في مقال الأسبوع الماضي أن تقويم الفعل من الناحية الفقهية والأخلاقية‬

‫والقانونية يختلف عن معالجة الحدث‪ ،‬الذي لا يمكن تحليله وفهمه من دون سياق‬

‫مركب‪ ،‬وأن الخلط بين الحدث والفعل يول ِ ّد إشكالات عديدة كالتي نشهدها حاليا‪.‬‬

‫ساب الرسول ‪-‬صلى الله‬


‫ّ‬ ‫وبما أن فئة الناس قد استدعت الحكم الفقهي الخاص بشاتم أو‬

‫عليه وسلم‪ -‬لشرعنة فعل الذبح‪ ،‬فإن الحدث صار مناسبة لمناقشة هذه الإحالة الفقهية‬

‫التاريخية‪ ،‬الأمر الذي يعيدنا م جددا لإشكالية استدعاء فقه ما قبل الدولة في الزمن الحاضر‬

‫كما عالجته في كتابي "العنف المستباح" وغيره من دراساتي‪ .‬يعني ذلك أن مناقشتي هنا لن‬

‫تكون لحدث الرسوم؛ لأن له تعقيدات مترامية الأبعاد وطويلة الذيل‪ ،‬ولكنني سأناقش‬

‫فعل الذبح وإحالاته الفقهية فقط‪ ،‬دون أن يعني ذلك أنني أرفض اتخاذ أفعال أخرى‬

‫لمجابهة محاولات الإساءة المتكررة‪.‬‬

‫لا يمكن تجاهل الموروث الفقهي في مسائل الشأن العام لسببين على الأقل‪ :‬أولهما معرفي‪،‬‬

‫وهو أن أي موقف أو حكم يستدعي التأسيس النظري له‪ ،‬والتفاعل النقدي مع الإرث‬

‫السابق فيه‪ ،‬أو ما يسمى في اللغة القانونية بـ"السوابق القانونية"‪ ،‬وثاني السببين سياسي‪ ،‬وهو‬

‫أنه في ظل التشتت السياسي في دولة ما بعد الاستعمار ثمة دوما من يستثمر في الموروث‬

‫ورمزياته في صراعه مع هذه الدولة والأطراف الأخرى‪ ،‬ومن ثم يتحول التراث إلى مجرد‬

‫اقتباس أو شاهد لدعم وتأييد مواقف وقناعات راهنة؛ ولكن الفقه لا يؤسس ‪-‬في‬

‫الواقع‪ -‬لها‪ ،‬وإنما يتم استدعاؤه للحاجة إلى شرعيته‪.‬‬

‫ولتوضيح ذلك‪ ،‬سألخص ‪-‬في تكثيف شديد‪ -‬الجدل الفقهي حول شاتم الرسول ‪-‬صلى الله‬

‫عليه وسلم‪ -‬لبيان حجم التعقيدات‪ ،‬التي تحيط بالحكم (بل أحكام) من جهة‪ ،‬ولبيان مبلغ‬

‫ل الذي يحيط باستدعاء الفقه اليوم في وقائع منبتة الصلة عن واقع الجدل‬
‫التبسيط المخُ ِ ّ‬
‫الفقهي من جهة أخرى‪ ،‬وهذا كله من نتائج الخلط بين الحكم المجرد عن الوقائع‪ ،‬وبين‬

‫الفتوى المعينة التي تخص فعلا محددا في سياق معين‪ ،‬لأن الفتوى ستصطدم لا محالة‬

‫بتعقيدات ما أسميته في المقال السابق بالحدث‪ ،‬والحدث هنا يحيل إلى تعقيدات تنزيل‬

‫الحكم المجرد على واقع مفارق لواقع إنتاج الحكم من دون عملية اجتهاد معاصر للحدث يقوم‬

‫بهذا التنزيل‪.‬‬

‫تاريخيا‪ ،‬عالج الفقهاء أحكام سب النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬في كتبهم الفقهية العامة؛‬

‫لكن وقع إفراد المسألة بالتصنيف المستقل مع الفقيه المالكي أبي عبد الله سَ حنون (‪265‬‬

‫للهجرة)‪ ،‬ثم توسع فيها القاضي عياض المالكي (‪ 544‬للهجرة) وإن لم يُفردها‪ ،‬ثم توارد‬

‫العلماء على التصنيف فيها كما فعل ابن تيمية الحنبلي (‪ 728‬للهجرة) وتقي الدين السبكي‬

‫الشافعي (‪ 756‬للهجرة)‪ ،‬وبعض الحنفية كابن كمال باشا (‪ 940‬للهجرة) وحسام جلبي (‬

‫‪ 926‬للهجرة) وابن عابدين (‪ 1252‬للهجرة) وغيرهم‪.‬‬

‫وتشير هذه التصنيفات المتنوعة إلى التعقيدات التي تحيط بالمسألة؛ فلو كان الحكم شديد‬

‫الوضوح لما شهدنا كل هذه المناقشات المطولة حتى العصر الحديث‪ ،‬ويمكن لي ذكر سببين‬

‫رئيسين لذلك‪ :‬أولهما‪ :‬أنها كانت جزءا من الجدل الفقهي حول تحرير المذهب‪ ،‬الذي‬

‫ينتمي إليه صاحب التصنيف؛ لمعالجة خلافات قائمة في تعيين ما هو المذهب في المسألة‬

‫وتفريعاته‪ ،‬وثانيهما‪ :‬أن المسألة تجمع بين فتوى المفتي وقضاء القاضي‪ ،‬ومن ثم جاءت بعض‬

‫هذه التأليفات نتاج وقائع خاصة أثارت الجدل بين الفقهاء والسلطة وثار لأجلها بعض‬

‫العامة‪.‬‬

‫ومن اللافت أن أشهر ك ِتابين في المسألة ‪-‬وهما كتابا ابن تيمية والسبكي‪ -‬قد ُأل ِّفا بسبب‬

‫واقعتين منفصلتين كما يبدو‪ ،‬فالمسألة بحاجة إلى تدقيق تاريخي‪ ،‬حصلت أولاهما في ‪693‬‬
‫للهجرة‪ ،‬وحصلت ثانيتهما في ‪ 751‬للهجرة‪ ،.‬ويبدو أن الحكم كان محل إشكال؛ سواء لجهة‬

‫الفتوى أم لجهة القضاء في الواقعتين‪ ،‬ولذلك صنف الإمامان السابقان كتابين مفصلين في‬

‫المسألة؛ بل إن السبكي اهتم بمسألة قبول توبة الساب؛ لأنه ‪-‬وهو قاضي القضاة‪ -‬خالف‬

‫مذهبه فيها‪ ،‬وحكم بعدم قبول توبة النصراني الساب الذي أسلم‪ ،‬ثم تردد فيها‪ ،‬ثم عاد إلى‬

‫مذهبه الشافعي وهو قبول التوبة مطلقا‪ ،‬في حين أن ابن تيمية رأى عدم قبول التوبة‪.‬‬

‫ولكن لو رجعنا إلى متون الفقه العام ومصادره‪ ،‬نجد مناقشات واختلافات عديدة في‬

‫فروع المسألة وتعليلاتها‪ ،‬والآثار القانونية المترتبة عليها بخصوص عقدي الذمة والهدنة؛‬

‫ولكن من الواضح أن التصور الفقهي العام يقسمها إلى قسمين ‪-‬بحسب التوصيف الديني‬

‫سب المسلم وسب الذمي‪.‬‬


‫للساب‪ -‬وهما ّ‬
‫ّ‬ ‫والقانوني‬

‫(‪ )1‬فالقسم الأول‪ ‬وهو سب المسلم للنبي‪ ،‬صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فقد اتفق جمهور الفقهاء‬

‫على أن الساب يكفر بذلك‪ ،‬وعقوبته القتل؛ لكن حكى القاضي أبو يعلى الحنبلي (‪458‬‬

‫للهجرة) عن بعض الفقهاء أن الساب يتم التمييز فيه بين المستحل للسب وغير المستحل‬

‫(ربما سب غضبا)‪ ،‬فإن كان مستحلا كفر‪ ،‬وإن لم يكن مستحلا فَسَق فقط‪ ،‬كما أن‬

‫بعض الفقهاء من أهل العراق كان قد أفتى لهارون الرشيد فيمن سب النبي ‪-‬صلى الله‬

‫عليه وسلم‪ -‬أنه يُجلد‪ ،‬فردّ عليه الإمام مالك هذه الفتيا؛ لكن الاتجاه العام قد استقر على‬

‫ج للمسلم من دائرة الإيمان‪ ،‬وأن عقوبته القتل‪.‬‬


‫مخر ٌ‬
‫أن فعل السب ُ‬

‫اعلان‬

‫ولكن لا يكفي ذلك؛ فلا بد من تسويغ هذه العقوبة وفق الصنعة الفقهية‪ ،‬وهنا اختلف‬

‫الفقهاء‪ :‬هل هي ح ّد ٌ أم ردة ٌ؟ فالمذهب الأول‪ :‬أنها ح ّد ٌ‪ ،‬بمعنى أنها تتعلق بحق لآدمي ولا‬

‫تسقط بالتوبة إذا وصلت إلى القاضي‪ ،‬وقد ذهب إلى هذا مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق‬
‫بن راهويه والشافعي كما حكاه ابن المنذر عنهم؛ لكن أصحاب الشافعي اختلفوا فيما بينهم‬

‫في هذه المسألة‪ .‬أما المذهب الثاني فهو أنها ردة وتسقط عقوبتها بالتوبة‪ ،‬وهذا مذهب أبي‬

‫حنيفة وأصحابه‪ ،‬وسفيان الثوريّ ‪ ،‬وأهل الكوفة‪ ،‬والأوزاعيّ‪ ،‬وهو المشهور من مذهب‬

‫الشافعية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫(‪ )2‬والقسم الثاني‪ ‬وهو سب الذمي للنبي‪ ،‬صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فقد اختلف فيه فقهاء‬

‫المذاهب وناقشوا فيه ‪ 3‬مسائل‪ :‬عقوبته‪ ،‬واستتابته‪ ،‬وفي أثر السب على عقد الذمة‪.‬‬

‫أما عقوبة السب في هذه الحالة‪ ،‬فقد اختلفوا فيها على قولين‪:‬‬

‫القول الأول‪  :‬أن عقوبته حدية كالمسلم‪ ،‬وذلك أن عقد الذمة يعني أن أحكام الإسلام‬

‫وقوانينه تجري عليه‪ ،‬ومن ثم تطبق عليه الحدود والتعزيرات‪ ،‬وهو مذهب مالك وأهل‬

‫المدينة وأحمد وفقهاء الحديث؛ لكن يثور إشكال هنا في مسألة التمييز بين ما إذا كان هذا‬

‫الحد حقا لله أم لرسوله؛ فإن حقوق الله لا تطبق على الذمي (كالزنا والخمر…)‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ذا تتبعنا تطورات المذهب الحنفي‪ ،‬سنجد أنه كان ثمة محاولة للاقتراب من مذهب الجمهور‬

‫في حكم الذمي الساب من جهتين‪ :‬الأولى نوع العقوبة‪ ،‬والثانية قبول توبته إذا تاب‬

‫والقول الثاني‪ :‬أن عقوبة السب تأديبية فقط وليست حدا‪ ،‬وهو مذهب أبي حنيفة وسفيان‬

‫الثوري وأتباعهما من أهل الكوفة‪ .‬قال الحنفية لأن ما هو عليه من الشرك أعظم من‬

‫السب‪ .‬وقد جعل أبو محمد الح ُلواني (‪ 546‬للهجرة) من الحنابلة نفي عقوبة القتل محتملا‬
‫ّ‬
‫في حق الذمي‪ ،‬فقال‪" :‬يُحتمل أن لا يُقتل من سب الله ورسوله؛ إذا كان ذميا"‪ .‬وقد‬

‫نازع في عقوبة الذمي الساب أيضا بعض أئمة الشافعية كالقاضي أبي الطيب الطبري ( ‪450‬‬

‫للهجرة) وتبعه جماعة من فقهاء الشافعية كابن الصباغ وأبي إسحاق الشيرازي‪ ،‬وكأنهم لم‬

‫يروا عقوبة القتل له‪ ،‬ولذلك وجدنا عبارة ترد في كتب الشافعية تقول "ومن أصحابنا من‬

‫قال‪ :‬من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب قتله"‪ ،‬وهي تشير إلى وجود الخلاف؛‬

‫بل نص بعض الشافعية ‪-‬كابن أبي ع َص ْرون (‪ 665‬للهجرة)‪ -‬على أن عقوبة الذمي الساب‬

‫هي التعزير (التأديب) كالحنفية‪ .‬ثم جاء السبكي فانتقد هذه الأقوال محاولا نفي وجود‬

‫خلاف داخل المذهب الشافعي ليثبت أن عقوبة المسلم والذمي سواء؛ ما لم يُسلم‪.‬‬

‫وإذا تتبعنا تطورات المذهب الحنفي‪ ،‬سنجد أنه كان ثمة محاولة للاقتراب من مذهب‬

‫الجمهور في حكم الذمي الساب من جهتين‪ :‬الأولى نوع العقوبة‪ ،‬والثانية قبول توبته إذا تاب‪.‬‬

‫فلجهة العقوبة‪ ،‬فُهم من كلام بدر الدين العيني (‪ 855‬للهجرة) أنه اختار القتل‪ ،‬وإن‬

‫نازع بعض متأخري الحنفية في هذا الفهم‪ ،‬ولكن كمال الدين بن الهمام ( ‪ 861‬للهجرة)‬

‫اختار القتل مخالفا مذهبه؛ لكن أئمة المذهب لم يرتضوا ذلك منه حتى قال تلميذه قاسم ابن‬

‫قطلوبغا (‪ 879‬للهجرة) إنه لا يُعمل بأبحاث شيخه المخالفة للمذهب‪ .‬وقال ابن نُجيم (‪970‬‬

‫للهجرة) "نعم نفس المؤمن تميل إلى قول المخالف في مسألة السب؛ لكن اتباعنا للمذهب‬

‫واجب" في عدم القتل‪ .‬ثم جاء شيخ الإسلام في الدولة العثمانية أبو السعود أفندي (‬

‫‪ 982‬للهجرة) فأفتى بعقوبة القتل؛ بشرط أن يظهر أن هذا السب هو من عادة الذمي‪،‬‬

‫وعلة ذلك ‪-‬فيما يظهر من كلام ابن عابدين‪ -‬أنه في هذه الحالة يكون قد "أظهر ما هو‬

‫الغاية في التمرد وعدم الاكتراث والاستخفاف‪ ،‬واستعلى على المسلمين"‪ ،‬وهذا جا ٍر على‬

‫المذهب الحنفي حيث جعلوا المسألة من سياسات الإمام‪.‬‬


‫أما بخصوص استتابة الذمي بعد السب بحيث يأمن من العقوبة‪ ،‬فالمشهور عند المالكية أنه‬

‫يستتاب المسلم واليهودي والنصراني‪ ،‬أما الحنفية فالمسألة ‪-‬عندهم‪ -‬خاضعة للتأديب‬
‫ويقبلون توبته بلا خلاف‪ ،‬والشافعية متفقون على قبول توبته أيضا إن لم يتضمن ُ‬
‫سب ّه قذفا‬

‫للنبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فإن كان السب قذفا ووقعت منه التوبة ففيه أوجه ‪ :3‬القتل أو‬

‫الجلد أو العفو‪ ،‬ومذهب الحنابلة قريب من مذهب المالكية‪ ،‬رغم أن المشهور عن أحمد‬

‫عدم قبول توبته وعنه رواية بقبولها‪.‬‬

‫الساب‬
‫ّ‬ ‫وقد عزا الفقيه الحنفي محمد البزازي (‪ 827‬للهجرة) القول بعدم قبول توبة الذمي‬

‫إلى المذهب الحنفي‪ ،‬ولكن أئمة المذهب خطؤوه في ذلك‪ ،‬ثم عرض الشيخ أبو السعود‬

‫أفندي على السلطان سليمان القانوني الجمع بين القولين‪ :‬قبول التوبة وعدمه؛ بحسب كل‬

‫حالة على حدة‪ ،‬فإن ف ُهم من الذمي صحة التوبة يُعمل بقول الحنفية في قبول التوبة‪ ،‬وإن لم‬

‫يُفهم منه الخير يُعمل بمذهب غير الحنفية‪ ،‬وهو عدم قبولها‪ ،‬فأمر السلطان جميع قضاة‬

‫يرض ذلك‪ ،‬وقال إن قضاة‬


‫ممالكه أن يعملوا بهذا الجمع بين القولين‪ ،‬ثم جاء ابن عابدين فلم َ‬

‫السلطان سليمان قد انقرضوا‪ ،‬وإنه يجب الاحتياط ودرء الحدود بالشبهات‪ ،‬وإن‬

‫ل فيما به أَ م َر‪ ،‬لا فيما عنه نهى وزجر"‪.‬‬


‫"الانتصار للرسول مقبو ٌ‬

‫ولا يتسع المقام للتفصيل في خلافهم حول أثر السب على عقدي الهدنة والذمة؛ لكن ما‬

‫يلفت النظر هنا هو أن الحنفية لم يميزوا بين الكفر والسب بل جعلوا الكفر أشد‪ ،‬بينما ميز‬

‫الشافعية تمييزا مهما بين نوعين من السب‪ :‬الأول‪ :‬سب وانتقاص هو من صلب معتقد‬

‫الذمي‪ ،‬ومما يتدين به‪ ،‬والثاني ليس جزءا من عقيدته‪ ،‬وهدفهم في ذلك الموازنة بين‬

‫موجبات الديانة وموجبات عقد الذمة‪ ،‬ففي عقد الذمة نراهم يميزون بين نوعين من‬
‫الأفعال؛ أفعال فيها إضرار بالمسلمين بحيث يترتب عليها حقوق قانونية لآدميين‪ ،‬وبين أفعال‬

‫هي مجرد تنقيص وغضاضة من المسلمين‪ ،‬والسب يدخل في هذا الأخير‪.‬‬

‫تُظهر هذه المناقشات – التي عرضت طرفا منها فقط‪ -‬حجم الشعبوية التي أرستها النزعة‬

‫التقنية الأثرية‪ ،‬فهذه النزعة تفترض أن المسائل تُحسم بمجرد قص ولصق حديث من هنا أو‬

‫هناك‪ ،‬أو بتصور أن الحكم واضح وترفض مناقشته والخوض في تفاصيله‪ ،‬كما تُظهر خطورة‬

‫القص واللصق من كتب الفقه أيضا؛ فثمة تعقيدات تتصل بأمرين‪ :‬الأول منهج الفتوى‬

‫والاجتهاد‪ ،‬وهي مسائل تركيبية تفتقر إلى تخصص‪ ،‬والأمر الثاني‪ :‬النظام القضائي‬

‫والقانوني‪ ،‬فالمسائل العامة والمرتبطة بحقوق الناس عامة‪ ،‬سواء كانوا مسلمين أم غير‬

‫مسلمين‪ ،‬مردها إلى القضاء في الفقه الإسلامي‪.‬‬

‫وإذا كان المنهج الأثري التقني قد خرج على الأمر الأول‪ ،‬فإن جماعات العنف قد‬

‫خرجت على الأمرين معا‪ .‬فالقراءة التقنية تعزل النصوص عن دلالاتها وسياقاتها التاريخية‬

‫وتطوراتها فتجعلها صماء‪ ،‬كما أنها تتجاهل أن أي حكم فقهي يفتقر إلى تعليل وتسويغ‬

‫واستدلال لجهة الفتوى‪ ،‬ويفتقر إلى وسائل إثبات وحكم لجهة القضاء‪ ،‬وأن ذلك كله‬

‫خاضع لتصور سياسي عام ينتظم مثل هذه الأحكام العامة‪ ،‬التي كانت تتم ما قبل الدولة‬

‫في دار الإسلام ووفق قوانينها وأنظمتها الدينية والقضائية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫لا يمكن عزل هذه النقاشات عن موازين القوى والسياسة في العالمين القديم والحديث؛‬

‫بل إن فقهاء العالم القديم كانوا واعين بهذه المسألة‪ ،‬سواء على مستوى قدراتهم هم عندما‬
‫حالت السلطة بين ابن تيمية والسبكي وغيرهما في تطبيق عقوبة القتل على النصراني‪ ،‬الذي‬

‫قذف النبي صلى الله عليه وسلم مثلا‪ ،‬أم على مستوى سلطة الحكام حين افترض بعض‬

‫فقهاء الحنفية أنه لو ارتدت جماعة كبيرة عن الإسلام وعجز الإمام السياسي عن إقامة‬

‫الحدود فيهم‬

‫وإذا عدنا إلى التصور العام الذي حكم كل التفاصيل السابقة‪ ،‬سنجد أن مداره على القسمة‬

‫بين المسلم والذمي‪ ،‬وهي قسمة من تفريعات رؤية العالم القديم‪ :‬دار الإسلام ودار الكفر‬

‫(وهي إما دار حرب أو دار عهد)‪ ،‬فإن احتكمنا إلى ذلك التصور سنجد أن واقعة فرنسا‬

‫هي صورة مغايرة لأحكام المسلم والذمي (والمسلم والذمي من أهل دار الإسلام)؛ أي إنها‬

‫صورة ثالثة تتصل بدار العهد؛ لأنها تتم خارج دار الإسلام‪ ،‬وفي دولة تنتظم ضمن مواثيق‬

‫وعهود على مستويين‪ :‬الدولة الفرنسية والأفراد الذين يدخلونها بتأشيرة دخول فيقرون‬

‫بالخضوع لقوانينها‪ .‬وإذا كان هذا الخلاف الفقهي الطويل قد وقع في الذمي الذي هو من‬

‫أهل دار الإسلام وملتزم بأحكامها تجري عليها قوانينها‪ ،‬فغيره من باب أولى أن يجري فيه‬

‫الخلاف‪ ،‬خصوصا أن الحدود إنما تطبق في دار الإسلام ولا تَلزم إلا المسلم والذمي المتلزم‬

‫بأحكام الإسلام‪ ،‬والذمي لم يُسلم حتى تثبت ردته‪ ،‬فلم يبق من الخلاف السابق حول‬

‫تسويغ العقوبة إلا أنها حد‪ ،‬وهذا كله من تصرفات القضاة لا الأفراد‪.‬‬

‫وإن تجاوزنا تصورات العالم القديم (دار الإسلام ودار الكفر)‪ ،‬فسنكون أمام تصورين‪:‬‬

‫أن نحتكم إلى المنظومة السياسية القائمة ونعمل من خلال منظومتها القانونية‪ ،‬أو أن نتجاوزها‬

‫فنقع في فراغ يؤدي إلى فوضى‪ .‬فإن حاولنا تطبيق تفريعات النظام القديم (رؤية العالم)‬

‫سنكون أمام حرب مفتوحة على طريقة جماعات العنف الذين يحولون الفتوى والقضاء‬

‫والتنفيذ إلى خيارات أفراد؛ بحجة غياب القائم بأمر الله والمنفذ لشرعه‪ .‬وهذا يُظهر‬
‫التعقيدات التي تحيط بتطبيقات الجانب القانوني للفقه الإسلامي والمسائل التي تتعلق‬

‫بالشأن العام والدولي في ظل عالم اليوم ودوله‪ ،‬وهنا يظهر أحد المآزق التي يعاني منها فقه‬

‫اليوم ومتفقهته‪ ،‬وهي في الواقع مشكلة من يقتبسه أو يستعيده في غير زمنه وسياقه؛ لأنه‬

‫إنما نشأ واتسقت منظومته في زمنه حيث كان جزءا من منظومة العالم السياسي القديم‪،‬‬

‫وكان هو النظام السائد والمقبول سياسيا وقضائيا وأخلاقيا‪.‬‬

‫ولا يمكن عزل هذه النقاشات عن موازين القوى والسياسة في العالمين القديم والحديث؛‬

‫بل إن فقهاء العالم القديم كانوا واعين بهذه المسألة‪ ،‬سواء على مستوى قدراتهم هم عندما‬

‫حالت السلطة بين ابن تيمية والسبكي وغيرهما في تطبيق عقوبة القتل على النصراني‪ ،‬الذي‬

‫قذف النبي صلى الله عليه وسلم مثلا‪ ،‬أم على مستوى سلطة الحكام حين افترض بعض‬

‫فقهاء الحنفية أنه لو ارتدت جماعة كبيرة عن الإسلام وعجز الإمام السياسي عن إقامة‬

‫الحدود فيهم‪ ،‬فإنه عليه أن يعصم دماءهم وأموالهم؛ بل إن الحنفية حين استدلوا لعدم قتل‬

‫الساب ببعض الوقائع النبوية‪ ،‬التي عفا فيها النبي صلى الله عليه وسلم عمن سبه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الذمي‬

‫أجابهم الشافعية بالقول "إن ذلك كان في ضعف الإسلام‪ ،‬ولم يكن في قوته"‪ ،‬وكل هذه‬

‫الاعتبارات تكشف عن أبعاد أخرى لأحكام الشأن العام التي تتصل بالجانب القانوني‬

‫المحلي والدولي‪ ،‬سواء على مستوى فهم الحكم المجرد وتطوراته التاريخية ومستنداته‪ ،‬أم على‬

‫مستوى تنزيله ضمن منظومة سياسية وقانونية‪.‬‬

‫وإذا كانت رؤية العالم وموازين القوة (وأعبر عنها بالسياق بمعناه المركب) تفرض نفسها‬

‫على تنزيل الأحكام المجردة؛ بل وفي بعض الجدالات الفقهية بين أصحاب المذاهب كما‬

‫سبق‪ ،‬فإن ثمة مسائل منهجية تتصل ببناء الأحكام المجردة عن الوقائع‪ ،‬وتتصل بثلاث‬
‫جهات‪ :‬جهة الثبوت‪ ،‬وجهة الدلالة والتأويل‪ ،‬وجهة النسق الفقهي الكلي واندراج الحكم‬

‫وتعليلاته ضمن منظومة الفقه‪.‬‬

‫(‪ )1‬فمن جهة ثبوت الأدلة‪ ،‬فإن بعض الأدلة التي يقع الاستدلال بها لإثبات عقوبة‬

‫القتل لا تصح‪ ،‬وكان السبكي ‪-‬على سبيل المثال‪ -‬واعيا بهذه النقطة‪ ،‬ومع ذلك أوردها‬

‫وحاول أن يجيب عنها بأن الهدف هو مجرد تكثير الأدلة لا أصل الاستدلال‪.‬‬

‫(‪ )2‬ومن جهة الدلالة‪ ،‬فإن وقائع القتل التي يتم الاستدلال بها هي وقائع أعيان يجب‬

‫تحريرها بدقة‪ ،‬ولا يصلح فيها التعميم؛ فالعموم لا يدخل الأفعال بخلاف الأقوال‪ ،‬ولا‬

‫يوجد حديث قولي مرفوع يقرر هذه العقوبة‪ ،‬وكان السبكي نفسه واعيا بهذه التعقيدات‬

‫التي تحيط بالوقائع محل الاستدلال‪ ،‬وأنها تتنوع مواردها؛ فبعض الوقائع ارتكب أصحابها‬

‫جرائم مصاحبة للسب‪ ،‬وبعضها كان من مشركين محاربين ممن لم يعطهم النبي ‪-‬صلى الله‬

‫عليه وسلم‪ -‬الأمان‪ ،‬وعدد من الوقائع تم في السياق المكي وهو سياق التأسيس للدين‬

‫الجديد‪ .‬وفي الجملة لم تكن المسألة مجرد سباب لفظي أو ممارسة قولية‪ ،‬وفي مقابل وقائع‬

‫القتل ‪-‬وبعضها ثابت‪ -‬نجد أنه من الثابت أيضا أن ‪-‬النبي صلى الله عليه وسلم‪ -‬عفا عن‬

‫كثيرين ممن آذوه وشتموه قبل إسلامهم‪ ،‬وأن من خصاله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬أنه شديد‬

‫العفو والمسامحة في حقه الشخصي (دون حق الله والدعوة)‪ ،‬كما كان شديد الإشفاق على‬

‫الناس لهدايتهم‪.‬‬

‫كان من أدلة الحنفية أن رهطا من اليهود دخلوا على رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪-‬‬

‫فقالوا "السام عليك"‪ ،‬فقال‪" :‬وعليكم"‪ .‬فقالت عائشة رضي الله عنها "يا رسول الله ألم تسمع‬

‫ما قالوا؟‪ ،‬فقال قد قلت وعليكم‪ ،‬ثم قال‪ :‬مهلا يا عائشة! فإن الله يجب الرفق في الأمر‬

‫كله"‪ .‬واستدل الشافعية في المقابل بحديث أن رجلا قال لعبد الله بن عمر سمعت راهبا‬
‫يشتم رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ ،-‬فقال عبد الله لو سمعته أنا لقتلته‪ .‬إنا لم نعطه الأمان‬

‫على هذا"‪.‬‬

‫وقد حاول ابن تيمية وغيره ممن انحازوا إلى أحاديث القتل الإجابة عن الأدلة المتعارضة‪،‬‬

‫فقال ابن تيمية مثلا "كان يعفو عمن سبه أو ينتقم منه؛ تبعا للمصلحة"‪ ،‬لعله يريد مصلحة‬

‫الدعوة‪ ،‬وهذه مسألة تُخرج النقاش من دائرة الحق الشخصي والحدود أساسا‪ ،‬كما أن‬

‫الإحالة في "إن الله يحب الرفق في الأمر كله" هي إحالة إلى مسألة خلقية‪ ،‬وهي لا تقبل‬

‫النسخ‪ ،‬كما أنها مجردة عن موازين القوى والمصالح؛ وهذا شأن المسائل الخلقية؛ سواء‬

‫كانت فضائل شخصية أم تقويمات يأمر بها صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وذلك كله بخلاف المسائل‬

‫المرتبطة بمسائل الشأن العام أو بمصلحة الدعوة‪ ،‬التي يبدو أنها كانت هي الأساس في وقائع‬

‫مكية حصل فيها بالفعل قتل‪.‬‬

‫لنتأمل حديثا رواه مسلم عن سلمة بن الأكوع حين قدم النبي مع أصحابه الحديبية‪ ،‬قال‬

‫سلمة "فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة‪ ،‬واختلط بعضنا ببعض‪ ،‬أتيت شجرة فكسحت شوكها‬

‫فاضطجعت في أصلها‪ ،‬قال فأتاني ‪ 4‬من المشركين من أهل مكة‪ ،‬فجعلوا يقعون في رسول‬

‫الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فأبغضتهم‪ ،‬فتحولت إلى شجرة أخرى‪ ،‬وعلقوا سلاحهم‬

‫واضطجعوا‪ ،‬فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي‪ ،‬يا للمهاجرين‪ ،‬قُتل ابن‬

‫زنيم‪ ،‬قال فاخترطت سيفي‪ ،‬ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود‪ ،‬فأخذت سلاحهم‬

‫فجعلته ضِغثا في يدي"‪ ،‬ثم لما جيء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إليهم‪ ،‬فقال‬

‫"دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه"‪ ،‬فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وأنزل الله‬

‫(وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم)‪ ،‬وهذا‬

‫إنما وقع مع المشركين إثر اتفاق صلح‪ ،‬مما يؤكد المعنى الذي قلته سابقا من أنه كان يترفع‬
‫عن الحق الشخصي؛ فممارستهم تلك لم تَعْد ُ ألفاظا ساءت قائليها‪ ،‬ولم تمسه صلى الله عليه‬

‫وسلم‪.‬‬

‫(‪ )3‬بقيت الجهة الثالثة ‪-‬وهي الاتساق في التعليلات وفق المنظومة الفقهية‪ -‬فلا يستقيم‬

‫إثبات الحدود بالاجتهاد‪ ،‬ولم يثبت نص يوضح أن عقوبة قتل الساب هي حد من الحدود‪،‬‬

‫ولذلك وقع فيها الخلاف الفقهي‪ .‬ثم إن قلنا إنها ح ّد ٌ فهي إما ح ّد ٌ ثبت لحق الله تعالى أو‬

‫ل الذمة على‬
‫لحقّ الآدمي‪ .‬فإن كانت قد ثبتت لحق الله تعالى؛ فقد أقر الفقهاء أه َ‬

‫كفرهم‪ ،‬وفيهم من يقول إن لله ولدا ‪-‬تعالى الله عن ذلك‪-‬؛ فسب نبي مثل الادعاء بأن‬

‫لله ولدا؛ بل هو أدنى منه مرتبة‪ .‬ثم إن كانت العقوبة حدّا لله فكيف يسقطه رسول الله‬

‫في وقائع عديدة؟‪ .‬وإن كانت العقوبة قد ثبتت حدا لوجود حق لآدمي؛ فمجرد السب لا‬

‫يترتب عليه حد إلا إذا انضم إليه قذف‪ ،‬فيثبت الحد للقذف لا لمجرد السب‪.‬‬

‫في رأيي أن التعليلات السابقة للعقوبة (بغض النظر عن تحديد طبيعتها‪ :‬قتل أم تأديب) لا‬

‫تستقيم إلا على إثبات حق استثنائي للنبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ ،-‬وهو السياق الذي كتب‬

‫فيه القاضي عياض كتابه "الشفا بتعريف حقوق المصطفى"‪ ،‬ثم جاء ابن تيمية والسبكي فعللوا‬

‫العقوبة بإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وعندها سنضطر إلى الخوض مجددا في مفهوم‬

‫الإيذاء‪ ،‬وما إن كان له حقيقة أم لا‪ ،‬وفي ظني أن تعبير "الرسوم المسيئة" لا يستقيم؛ لأنها‬

‫لا تسوء إلا صاحبها‪ ،‬فهي ‪-‬في الواقع‪ -‬لا حقيقة لها سوى قصد صاحبها إلى الإساءة‪،‬‬

‫ونبي الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬لا ينال منه شيء‪ ،‬ولا يسوؤه شيء؛ فهو مبر ّء من كل‬

‫عيب‪ .‬والله أعلم‪.‬‬

You might also like