You are on page 1of 5

‫الجنَّ ِة ‪َ :‬وصْ فُهَا والطَّ ِريق ال ُم َو ِّ‬

‫ص ِل إِلَيْها‬ ‫ُغ َرف َ‬


‫دكتور ‪ :‬أحمد عبد المجيد مكي‬

‫َّحمن الرَّحيم‬
‫بسم هللاِ الر ِ‬
‫ِ‬

‫الحم ُد هلل الذي يُجازي بالكثير على القليل‪ ،‬والصَّالة والسَّالم على نبينا ُمحمد وعلى آله وأصحابه‬
‫أجمعين‪ ،‬وبعد‪:‬‬
‫فإن صاحب ال ِه َّم ِة العالية والنفس الشريفة التواقة ال يرضى باألشياء الدنية الفانية‪ ،‬وإنما ِه َّمتُهُ‬
‫‪َّ " ‬‬
‫المسابقة إلى الدرجات الباقية الزاكية التي ال تفنى‪  ،‬وال يرجع عن مطلوبه ولو تَلفَ ْ‬
‫ت نفسه في طلبه‪،‬‬
‫ومن كان في هللا تَلَفه كان على هللا َخلَفه‪.‬‬
‫فأما خسيس ال ِه َّمة فاجتهاده في متابعة هواه‪ ،‬ويتكل على مجرد العفو‪ ،‬فيفوته‪ْ -‬‬
‫إن حصل له العفو‪-‬‬
‫منازل السابقين المقربين‪ ،‬قال بعض السلف‪ :‬هَبْ َّ‬
‫أن المسيء ُعفِي عنه‪ ،‬أليس قد فاته ثواب‬
‫المحسنين!!([‪.)]1‬‬
‫‪   ‬والجنَّة محلُّ خواص هللا وأوليائه‪ ،‬فيها فوق ما يخطر بالبال أو يدور في الخيال‪ ،‬وقد َّخص َ‬
‫َّص‬
‫علماء الحديث أبوابا في كتبهم لوصف الجنة ونعيمها‪ ،‬كما خَ َّ‬
‫صها العلماء بالتأليف منذ زمن بعيد كابن‬
‫أبي الدنيا(ت‪281 :‬هـ)‪ ،‬و أبي نعيم األصبهاني(ت‪430 :‬هـ)‪ ،‬وضياء الدين المقدسي(ت‪643 :‬هـ)‪،‬‬
‫وابن قيم الجوزية (ت‪751 :‬هـ) في كتابه ‪ :‬حادي األرواح إلى بالد األفراح‪.‬‬
‫بعض ما جاء في ُغ َرف الجنَّة والطرق ال ُم َوصِّ لة إِلَيْها‪،‬‬
‫َ‬ ‫وها أنا أذكر في هذا المقام ‪-‬بعون هللا وتوفيقه‪-‬‬
‫جعلنا هللا من أهلها‪.‬‬

‫أواًل ‪َ -‬وصْ فُ ُغ َرف الجنة‪:‬‬


‫‪  ‬كلمة ( ُغرْ فة) مفرد‪ ،‬جمعها ُغرُفات و ُغرْ فات و ُغ َرف‪.‬‬
‫‪   ‬و ُغ َرف الجنة‪ :‬منازل عالية ودرجة رفيعة‪ ،‬وهي‪ِ -‬م ْن حسنها وبهائها وصفائها‪ -‬يرى ظاهرها من‬
‫باطنها وباطنها من ظاهرها‪ ،‬فهي شفافة ال يحتجب من فيها‪ ،‬وال يخفى عنها من خارجها‪ .‬كما أنها‬
‫عالية‪ ،‬ومن علوها وارتفاعها‪ ،‬أنها تُ َرى كما يُ َرى الكوكب الغارب في األفق الذي ال تكاد تناله‬
‫األبصار‪.‬‬
‫‪ ‬وقد ورد ذكر ال ُغ َرف في القران الكريم في قوله تعالى‪{ :‬أُولَئِ َ‬
‫ك يُجْ َزوْ نَ ْال ُغرْ فَةَ بِ َما َ‬
‫صبَرُوا}‪ ،‬وقوله‪:‬‬
‫ت َءا ِمنُونَ }‪ ،‬وقوله سبحانه‪{ :‬لَنُبَ ِّوئَنَّهُ ْم ِمنَ ْال َجنَّ ِة ُغ َرفًا}‪ ،‬وقوله تعالى‪ { :‬لَ ِك ِن الَّ ِذينَ‬
‫{ َوهُ ْم فِي ْال ُغ ُرفَا ِ‬
‫ف َم ْبنِيَّةٌ تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَا األ ْنهَارُ}‪.‬‬ ‫اتَّقَوْ ا َربَّهُ ْم لَهُ ْم ُغ َر ٌ‬
‫ف ِم ْن فَوْ قِهَا ُغ َر ٌ‬
‫قال ابن القيم(ت‪751 :‬هـ) ‪  ‬تعليقا على هذه اآلية الكريمة ‪ :‬أخبر تعالى أنها غرف فوق غرف‪ ،‬وأنها‬
‫مبنية بناء حقيقة ‪ ،‬لئال تتوهم النفوس أن ذلك تمثيل‪ ،‬وأنه ليس هناك بناء‪ ،‬بل تتصور النفوس غرفا‬
‫مبنية كالعاللي ‪ ،‬بعضها فوق بعض ‪ ،‬حتى كأنها يُ ْنظر إليها عيانا‪ ،‬ومبنية صفة للغرف األولى‬
‫والثانية‪ ،‬أي لهم منازل مرتفعة‪ ،‬وفوقها منازل أرفع منها([‪.)]2‬‬

‫ثانيًا‪ -‬الطَّ ِريق ال ُم َوصِّ ِل إِلى ُغ َرف الجنة ‪:‬‬


‫اأْل َ ْسبَاب الموصلة إِلى ُغ َرف الجنة كثيرة‪ ،‬أكتفي بما ورد في قول رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪:-‬‬
‫أعرابي فقال‪ :‬لمن هي يا‬
‫ٌّ‬ ‫«إن في الجنة ُغ َرفا ً تُ َرى ظُهُو ُرهَا ِم ْن بُطُونِهَا‪ ،‬وبُطُونُهَا ِم ْن ظُه ِ‬
‫ُورهَا ‪ ،‬فقام‬ ‫َّ‬
‫أطاب الكال َم‪ ،‬وأطع َم الطعا َم‪ ،‬وصلى بالليل والناسُ نيام»([‪.)]3‬‬
‫َ‬ ‫رسول هللا؟ قال‪ :‬لِ َم ْن‬
‫أن ال َعطف بِال َواو في هذا الحديث يقتضي ا ْشتِ َراط اجتماع األمور‬
‫وقد أشار اإلمام المناوي إلى َّ‬
‫المذكورة ([‪.)]4‬‬

‫أوال‪ :‬إطعام الطعام‪:‬‬


‫اهتم أصحاب الكتب الصحاح والمسانيد بهذه المسألة ووضعواـ لها بابا في كتبهم‪ ،‬حيث بوب اإلمام‬
‫ض َي هَّللا ُ َع ْنهُ َما‪ ،‬أَ َّن‬ ‫البخاري "باب إِ ْ‬
‫ط َعا ُم الطَّ َع ِام ِمنَ ِ‬
‫اإل ْسالَ ِم"‪ ،‬وذكر تحته حديث َع ْب ِد هَّللا ِ ب ِْن َع ْم ٍرو َر ِ‬
‫اإل ْسالَ ِم خَ ْيرٌ(أي أعمال اإلسالم أكثر نفعا) ؟ قَا َل‪« :‬تُ ْ‬
‫ط ِع ُم‬ ‫صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َسلَّ َم‪ :‬أَيُّ ِ‬
‫َر ُجاًل َسأ َ َل النَّبِ َّي َ‬
‫ُ‬
‫ف»([‪.)]5‬‬ ‫الطَّ َعا َم‪َ ،‬وتَ ْق َرأ ال َّسالَ َم َعلَى َم ْن َع َر ْفتَ َو َم ْن لَ ْم تَع ِ‬
‫ْر ْ‬
‫* وقد جعله هللا في كتابه من األسباب الموجبة للجنة ونعيمها‪ ،‬قال هللا عز وجل‪َ { :‬وي ْ‬
‫ُط ِع ُمونَ الطَّ َعا َم‬
‫َعلَى ُحبِّ ِه ِم ْس ِكينًا َويَتِي ًما َوأَ ِسيرًا‪ ،‬إِنَّ َما نُ ْ‬
‫ط ِع ُم ُك ْم لِ َوجْ ِه هَّللا ِ اَل نُ ِري ُد ِم ْن ُك ْم َجزَا ًء َواَل ُش ُكو ًرا} [اإلنسان‪8 :‬‬
‫‪.]9 -‬‬
‫س َو ُم َجا ِه ُد في تفسير (على ُحبِّ ِه)‪ :‬أي على قِلَّتِ ِه َو ُحبِّ ِه ْم إِيَّاهُ َو َش ْه َوتِ ِه ْم لَهُ‪ .‬وقيل‪ :‬على حُبِّ‬
‫قال ابْنُ َعبَّا ٍ‬
‫ط َع ِام الطَّ َع ِام‪ .‬وكان ال َّربِي ُع بن ُخثَيْم إِ َذا َجا َءهُ السَّائِ ُل قال‪ :‬أَ ْ‬
‫ط ِع ُموهُ ُس َّكرًا فَإِ َّن‬ ‫هَّللا ِ‪ .‬وقيل‪ :‬على حُبِّ إِ ْ‬

‫ال َّربِي َع ي ُِحبُّ ال ُّس َّك َر([‪.)]6‬‬


‫ب‬‫ط َعا َم ا ْبنَ ُع َم َر‪ ،‬فَ َدعَا َذاتَ يَوْ ٍم بِطَ َعا ِم ِه‪ ،‬وطَلَ َ‬ ‫ض ُر َ‬ ‫وروي ع َِن ال َح َس ِن البصري‪ :‬أَ َّن يَتِي ًما كان يَحْ ُ‬
‫ْاليَتِي َم فَلَ ْم يَ ِج ْدهُ‪ ،‬وجاءه بعد ما فَ َر َغ ابْنُ ُع َم َر ِم ْن طَ َعا ِم ِه فَلَ ْم يَ ِج ِد الطَّ َعا َم‪ ،‬فَ َدعَا لَهُ بِ َس ِوي ٍ‬
‫ق َو َع َس ٍل‪ ،‬فَقَا َل‪:‬‬
‫ك هَ َذا‪ ،‬فَ َوهَّللا ِ َما ُغبِ ْنتَ "([‪.)]7‬‬
‫دُونَ َ‬
‫يعني لم تفتك فرصة األكل معي‪ ،‬فلك عندي ما هو خير منه‪.‬‬
‫ق ‪ :‬طعام يصنع من دقيق الحنطة أو ال َّشعير‪ُ ،‬س ِّمي بذلك النسياقه في ْ‬
‫الحلق‪.‬‬ ‫‪ ‬وال َس ِوي ٍ‬
‫* ويتأكد إطعام الطعام للجائع والمضطر وللجيران خصوصاً‪ ،‬وأفضل أنواعه ‪ :‬اإليثار مع الحاجة‬
‫كما وصفه هللا تعالى بذلك األنصار رضي هللا عنهم فقال‪( :‬ويُؤثِرونَ على أَ ْنفُ ِسهم ولو كانَ به ْم‬
‫صةٌ) ‪ ،‬وكان بعض السلف ال يفطر إال مع اليتامى والمساكين‪ ،‬ومنهم من كان ال يأكل إال مع‬ ‫َخ َ‬
‫صا َ‬
‫ضيف له‪ ،‬ومنهم من كان يعمل األطعمة الفاخرة ثم يطعمها إخوانه الفقراء‪ ،‬واشتهى أحدهم حلواء‪،‬‬
‫صنِ َع ْ‬
‫ت له دعا بالفقراء فأكلوا‪ ،‬فقال له أهله‪ :‬أتعبتنا ولم تأكل!‪ .‬فقال‪ :‬ومن أكله غيري!‪ .‬وقال‬ ‫فلما ُ‬
‫آخر منهم ‪-‬وجرى له نحو من ذلك‪ :-‬إذا أكلته كان في الحُشِّ (بيت الخالء) ‪ ،‬وإذا أطعمته كان عند هللا‬
‫مذخوراً‪.‬‬
‫‪"   ‬وقد جمع فيه بعض العلماء المحدثين أربعين حديثا في شأن فضله‪ ،‬وفيه مع األجر‪ :‬شرف الذكر‬
‫في الدنيا‪ ،‬ومحبة العباد له‪ ،‬فإن القلوب جبلت على من أحسن إليها وعلى الثناء عليه ‪ ،‬ولذلك صار‬
‫ذكر حاتم الطائي في كل مكان‪ ،‬وضربت بجوده األمثال كل لسان‪ ،‬فمطعم الطعام فائز باألجر في‬
‫الدنيا واآلخرة‪ ،‬مع تعويض له فيما ينفقه‪ ،‬ومغفرة هللا له"([‪.)]8‬‬
‫وقد يظن ظان َّ‬
‫أن هناك تعارضا بين ما ورد في فضل إطعام الطعام‪ ،‬وبين قول النبي صلى هللا عليه‬
‫َقي"([‪.)]9‬‬ ‫احبْ إال ُم ْؤ ِمناً‪ ،‬وال يأ ُكلْ طَ َعا َم َ‬
‫ك إال ت ٌّ‬ ‫ص ِ‬‫وسلم‪" :‬ال تُ َ‬
‫‪     ‬قال اإلمام الخطابي (ت‪388 :‬هـ)‪ :‬هذا إنما جاء في طعام الدعوة دون طعام الحاجة‪ ،‬وذلك أن هللا‬
‫سبحانه قال‪َ { :‬وي ْ‬
‫ُط ِع ُمونَ الطَّ َعا َم َعلَى ُحبِّ ِه ِم ْس ِكينًا َويَتِي ًما َوأَ ِسي ًرا} [اإلنسان‪ ،]8 :‬ومعلوم أن أسراهم‬
‫كانوا كفاراً غير مؤمنين وال أتقياء‪.‬‬
‫وإنما حذر من صحبة من ليس بتقي‪ ،‬وزجر عن مخالطته ومؤاكلته‪ ،‬فإن ال ُمطاعمة توق ُع األلفةَ‬
‫والمودةَ في القلوب‪ .‬يقول‪ :‬ال تُؤالف َمن ليَس ِمن أهل التقوى والورع‪ ،‬وال تتخذه جليسا ً تُطاعمه‬
‫وتُنادمه"([‪.)]10‬‬
‫وقيل‪ :‬هذا حث على األولى واألرجح ‪ْ ،‬‬
‫وإن جاز خالفه ‪ ،‬فليس المراد من هذا الحديث حرمان غير‬
‫التقي من اإلحسان‪ْ ،‬‬
‫فإط َعام الطَّ َعام لكل أحد من ب ّر َوفَ ِ‬
‫اجر وصديق وع ّدو مطلوب‪ ،‬ألنه بِ ٌر للنفس‬
‫يطفئ حرارة الحقد والحسد وينفي مكامن الغل‪ ،‬والنبي أطعم المشركين وأعطى المؤلفة قلوبهم‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬الكالم الطيب‪:‬‬


‫المقصود بأطاب (الكالم) أي تكلم بكالم طيب‪ ،‬ويدخل فيه ‪ :‬مخاطبة الناس باللين‪ ،‬ومالطفتهم‪،‬‬
‫وطالقة الوجه معهم‪ ،‬وتجنب الغلظة والفظاظة ونحو ذلك‪.‬‬
‫وفي رواية‪ " :‬إفشاء السالم "‪ ،‬وهو داخل في لين الكالم‪ ،‬وقد وردت نصوص كثيرة في فضل طيب‬
‫الكالم ‪ ،‬منها ‪ :‬قوله تعالى‪( :‬ادف ْع بالتي ه َي أحسنُ ) ‪ ،‬وقوله‪( :‬ويد َرؤُن بالحسن ِة السيئةَ) ‪ ،‬وقوله ‪:‬‬
‫(وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسنُ ) ‪ ،‬وقوله‪( :‬وجادلهم بالتي هي أحسنُ ) ‪ ،‬وقوله سبحانه‪( :‬وقُولوا‬
‫للناس حُسناً) [البقرة‪.]83 :‬‬
‫‪   ‬قال اإلمام القرطبي (ت‪671 :‬هـ) ‪ :‬وهذا كله حض على مكارم األخالق‪ ،‬فينبغي لإلنسان أن يكون‬
‫قوله للناس لينا ‪ ،‬ووجهه منبسطا طلقا مع البر والفاجر‪ ،‬والسني والمبتدع‪ ،‬من غير مداهنة‪ ،‬ومن‬
‫غير أن يتكلم معه بكالم يظن أنه يرضي مذهبه‪ ،‬ألن هللا تعالى قال لموسى وهارون‪{ :‬فَقُوال لَهُ قَوْ ال‬
‫لَيِّنًا لَ َعلَّهُ يَتَ َذ َّك ُر أَوْ يَ ْخ َشى} [طه‪ ، ]44 :‬فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون‪ ،‬والفاجر ليس بأخبث‬
‫من فرعون‪ ،‬وقد أمرهما هللا تعالى باللين معه‪ .‬والقول اللين هو القولـ الذي ال خشونة فيه‪ ،‬فإذا كان‬
‫موسى أمر بأن يقول لفرعون قوال لينا‪ ،‬فمن دونه أحرى بأن يقتدي بذلك في خطابه و كالمه‪.‬‬
‫والنصوص المذكورة ‪ ‬دخل فيها اليهود والنصارى فكيف بالمسلم! ([‪.)]11‬‬
‫‪   ‬وربما كان معاملة الناس بالقولـ الحسن أحب إليهم من اإلحسان بإعطاء المال‪  ،‬كما قال لقمان‬
‫البنه‪ :‬يا بُن ّي! لتكن كلمتك طيبة‪ ،‬ووجهك منبسطاً‪ ،‬تكن أحب إلى الناس ممن يُعطيهم الذهب والفضة‪.‬‬
‫وروي عن ابن عمر أنه كان ينشد‪:‬‬
‫ق وكال ٌم لي ٌِّن‪.‬‬‫إن الب َّر شي ٌء هي ٌِّن ‪: ...‬وجهٌ طلي ٌ‬ ‫بُنَ َّي! ّ‬
‫ثالثا‪ :‬الصالة بالليل والناس نيام‪:‬‬
‫أي التهجد في جوف الليل حال غفلة الناس واستغراقهم في لذة النوم‪ ،‬وذلك هو وقت الصفاء وتنزل‬
‫الرحمات‪.‬‬
‫اج ِع يَ ْد ُعونَ َربَّهُ ْم خَ وْ فا ً‬
‫ض ِ‬ ‫وقد مدح هللا تعالى المتهجدين بالليل ‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬تَتَ َجافَى ُجنُوبُهُ ْم ع َِن ْال َم َ‬
‫َوطَ َمعا ً َو ِم َّما َر َز ْقنَاهُ ْم يُ ْنفِقُونَ ‪ ،‬فَال تَ ْعلَ ُم نَ ْفسٌ َما أُ ْخفِ َي لَهُ ْم ِم ْن قُ َّر ِة أَ ْعي ٍُن َجزَا ًء بِ َما َكانُوا يَ ْع َملُونَ }‬
‫ار} [آل عمران‪ ، ]17 :‬وقال سبحانه‪:‬‬ ‫[السجدة‪ ، ]17 ،16 :‬وقال تعالى‪َ { :‬و ْال ُم ْستَ ْغفِ ِرينَ بِاأْل َ ْس َح ِ‬
‫ار هُ ْم يَ ْستَ ْغفِرُونَ } [الذريات‪ ،]18 ،17 :‬وقال سبحانه‪:‬‬ ‫{ َكانُوا قَلِيالً ِمنَ اللَّي ِْل َما يَ ْه َجعُونَ ‪َ ،‬وبِاأْل َ ْس َح ِ‬
‫ت آنَا َء اللَّي ِْل َس ِ‬
‫اجداً‬ ‫{ َوالَّ ِذينَ يَبِيتُونَ لِ َربِّ ِه ْم ُسجَّداً َوقِيَاماً} [الفرقان‪ ،]64:‬وقال جل شأنه‪{ :‬أَ َّم ْن هُ َو قَانِ ٌ‬
‫َوقَائِما ً يَحْ َذ ُر اآْل ِخ َرةَ َويَرْ جُو َرحْ َمةَ َربِّ ِه قُلْ هَلْ يَ ْست َِوي الَّ ِذينَ يَ ْعلَ ُمونَ } [الزمر‪ ،]9 :‬وقال تعالى‪:‬‬
‫ط ِويالً} [االنسان‪]26:‬‬ ‫{ َو ِمنَ اللَّي ِْل فَا ْس ُج ْد لَهُ َو َسبِّحْ هُ لَ ْيالً َ‬
‫وقالت عائشة رضي هللا عنها لرجل‪« :‬ال ت َد ْع قيام الليل‪ ،‬فإن رسو َل هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬كان‬
‫ال يَ َد ُعهُ‪ ،‬وكان إِذا َم ِرض أو َك ِس َل صلى قاعداً»([‪.)]12‬‬
‫ُط الريح العاصف الورق الجاف من الشجرة‪،‬‬ ‫ُط الذنوب كما يَح ُّ‬ ‫‪    ‬وفي قيام الليل من الفوائد أنه‪ :‬يَح ُّ‬
‫وينور القبر‪ ،‬ويحسن الوجه‪ ،‬ويذهب الكسل‪ ،‬وينشط البدن‪ ،‬وترى المالئكة موضعه من السماء كما‬
‫يتراءى الكوكب الدري لنا من السماء([‪.)]13‬‬

‫* وإنما فضلت صالة الليل على صالة النهار ألنها‪:‬‬


‫‪ -‬أبلغ في اإلسرار وأقرب إلى اإلخالص‪.‬‬
‫‪ -‬وألن صالة الليل أشق على النفوس فإن الليل محل النوم والراحة من التعب بالنهار فتر ُ‬
‫ك النوم مع‬
‫ميل النفس إليه مجاهدةٌ عظيمة قال بعضهم‪ :‬أفضل األعمال ما أُكرهت عليه النفوس‪.‬‬
‫‪ -‬وألن القراءة في صالة الليل أقرب إلى التدبر فإنه تنقطع الشواغل بالليل ويحضر القلب ويتواطأ‬
‫َاشئَةَ اللَّي ِْل ِه َي أَ َش ُّد َو ْ‬
‫طئا ً َوأَ ْق َو ُم قِيالً} [المزمل‪ ]6:‬إن‬ ‫هو واللسان على الفَهم كما قال تعالى‪{ :‬إِ َّن ن ِ‬
‫ساعات الليل هي أشد موافقة للقلب مع القراءة وأصوب قواًل ‪.‬‬
‫‪ -‬وألن وقت التهجد هو وقت فتح أبواب السماء واستجابة الدعاء واستعراض حوائج السائلين‪.‬‬
‫نسأل هللا – بِ َمنِّ ِه َو َك َر ِم ِه ‪ -‬أن يرزقنا الدرجات العلى من الجنة ‪ ،‬والنعيم المقيم الذي ال يحول وال‬
‫يزول‪ ،‬اللهم آمين‪.‬‬

‫‪------------------------------------‬‬
‫([‪ )]1‬لطائف المعارف البن رجب (ص‪.)244 :‬‬
‫([‪ )]2‬حادي األرواح إلى بالد األفراح (ص‪.)142 :‬‬
‫([‪ )]3‬أخرجه أحمد (‪ ،)22905‬والترمذي (‪.)1984‬‬
‫([‪ )]4‬التيسير بشرح الجامع الصغير (‪.)325 /1‬‬
‫([‪ )]5‬أخرجه البخاري (‪ )12‬ومسلم (‪.)39‬‬
‫([‪ )]6‬تفسير القرطبي (‪.)128 /19‬‬
‫([‪ )]7‬تفسير القرطبي (‪.)129 /19‬‬
‫([‪ )]8‬التنوير شرح الجامع الصغير (‪.)538 /2‬‬
‫([‪ )]9‬أخرجه أبو داود (‪ )4832‬والترمذي (‪ )2395‬وهو حديث حسن‪.‬‬
‫([‪ )]10‬معالم السنن(‪.)115 /4‬‬
‫([‪ )]11‬تفسير القرطبي (‪.)200 /11( ، )16 /2‬‬
‫([‪ )]12‬أبو داود رقم (‪.)1307‬‬
‫([‪ )]13‬فيض القدير (‪.)351 /4‬‬

You might also like