You are on page 1of 32

‫‪Barelwis: A Critical Review‬‬

‫‪A blog surrounding the Barelwis and their beliefs‬‬

‫‪HomeAbout usAhmad Raza KhanBeliefs of the BarelwisRefutation of Hussam al-Haramayn‬‬

‫مسألة إمكان الكذب وموقف علماء ديوبند منها‬

‫‪3 Votes‬‬

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫تلخيص رسالة “جهد المقل” لشيخ الهند محمود حسن الديوبندي في مسألة إمكان الكذب‬

‫قد طلب مني بعض اإلخوة أن أكتب مقالة في موضوع ‘إمكان الكذب’‪ ،‬الذي صار معركة لآلراء في شبه القارة الهندية‪ ،‬فأحببت أن‬
‫ألخص رسالة لشيخ الهند موالنا محمود حسن الديوبندي رحمه هللا (‪ ١٣٣٩ – ١٢٦٨‬ه)‪ ،‬من أكبر علماء الهند وأجلهم في جميع العلوم‬
‫النقلية والعقلية [له ترجمة في نزهة الخواطر]‪ ،‬مسماة ب‪‘ :‬جهد المقل في تنزيه المعز المذل’‪ ،‬بسط فيها الكالم عن مسألة إمكان الكذب‪،‬‬
‫ومنشأ التنازع عنها فى الهند‪ ،‬والحق يقال‪ :‬هذه الرسالة من عجائب العلم‪ ،‬ظهر منها غزارة علم المؤلف وتبحره فى العلوم النقلية والعقلية‬
‫وال سيما علم الكالم والتوحيد‬

‫لم أقف على تاريخ تأليف كتابه هذا‪ ،‬لكن يعلم من قرائن الكتاب أنه رحمه هللا ألفه في حياة الشيخ إمداد هللا المهاجر المكي المتوفى سنة‪:‬‬
‫‪١٣١٧‬ه وبعد سنة ‪ ١٣٠٣‬ه‪ ،‬فتأليفه إذن وقع ما بين هذين التاريخين (‪ ١٣١٧ – ١٣٠٣‬ه‪ ١٨٩٩ – ١٨٨٦/‬ميالدي)‪ ،‬أعني‪ :‬قبل قرن تام‪.‬‬
‫وهو كتاب كبير يزيد على ‪ ٣٠٠‬صفحة‪ ،‬في كل صفحة حوالي ‪ ٢٥‬سطرا وفي كل سطر حوالي ‪ ١٥‬كلمة‪ .‬والكتاب صنفه مؤلفه باللغة‬
‫األردوية مع نقل العبارات التي استدل بها باللغة العربية‬

‫وقسمه إلى سبع مقدمات وثالثة أبواب‪ ،‬الباب األول في إثبات دعواه أن الكذب داخل في قدرة هللا تعالى القديمة وإنما امتنع وقوعه‬
‫وصدوره عنه لحكمة والتزامه سبحانه الصدق ال لعدم دخوله فى القدرة‪ ،‬والباب الثاني فى الجواب عن اإلعتراضات التي أوردها الخصم‬
‫على األدلة التي استدل بها المؤلف‪ ،‬والباب الثالث فى الجواب عن األدلة التي استدل بها الخصم في إثبات دعواهم أن الكذب هلل تعالى‬
‫ممتنع ذاتيا ال يشمله القدرة القديمة‪ .‬إنما اطلعت على البابين األول والثاني من الكتاب‪ ،‬ولم أقف على الباب الثالث منه‪ .‬فأقدم في هذه‬
‫العجالة تلخيص ما كتبه فى المقدمات السبع والباب األول مع بعض الزيادات من الباب الثاني‪ ،‬وأرجو أن يكون هذا كافيا في بيان ما ذهب‬
‫إليه علماء ديوبند‪ ،‬وأنهم ذهبوا إلى ما ذهبوا إليه على بصيرة وعلم‪ ،‬ال على أساس الوهم والخيال‬

‫مقدمة المؤلف‬
‫بين المؤلف (شيخ الهند رحمه هللا) في مقدمة الكتاب منشأ الخالف في هذه المسألة‪ ،‬وهو أن العالمة المنطقي فضل حق الخيرآبادي (‬
‫‪ ١٢٨٩ – ١٢١٢‬ه) ألف كتابا في ‘إبطال إمكان النظير’‪ ،‬صنفه ردا على جملة كتبها الشيخ المجاهد الشاه محمد إسماعيل الدهلوي الشهيد‬
‫(‪ ١٢٤٦ – ١١٩٣‬ه) في كتابه ‘تقوية اإليمان’ – وهي قوله‪(( :‬وشأن ملك الملوك هذا أنه لو شاء لخلق في لحظة واحدة بكلمة ‘كن’ مئات‬
‫آالف من األنبياء واألولياء والجن والمالئكة مثل جبرئل عليه السالم ومحمد صلى هللا عليه وسلم))* ‪ ،-‬فرد على هذا الكالم العالمة‬
‫المذكور بأنه ال يمكن وجود نظير لسيدنا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وليس في قدرة هللا تعالى إيجاد مثل محمد صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫فأجاب عن رده هذا الشيخ إسماعيل الدهلوي‪ ،‬وأثبت اإلمكان الذاتي لوجود نظير رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأثبت شمول قدرة هللا‬
‫تعالى إيجاده مع اإلمتناع لغيره‪ ،‬وبما أن الخيرآبادي ذكر مسألة استحالة الكذب على هللا تعالى استطرادا‪ ،‬أجاب الدهلوي بأن هذه‬
‫اإلستحالة ليست لعدم دخوله فى القدرة القديمة كما زعمه الخيرآبادي‪ ،‬بل هي نتيجة احتراز هللا جل وعال من مثل هذا القبيح‪ ،‬وذكر دليلين‬
‫عقليين على دعواه هذا – سأذكرهما بعد إن شاء هللا‪ .‬فعندما نشر كالمه هذا أخذ مخالفوه فى التشنيع عليه وعلى ما قاله‪ ،‬محرفين كالمه‪،‬‬
‫حتى يتمكنوا من تنفير العوام عنه‪ .‬لما كثرت هذه الطعون فى مقالة الشاه محمد إسماعيل الدهلوي وشخصيته‪ ،‬قام تلميذه الشيخ حيدر علي‬
‫التونكي وغيره من العلماء بالدفاع عنه‪ ،‬وألفوا رسائل في هذين المسألتين – أعني‪ :‬مسألة إمكان النظير ومسألة إمكان الكذب‬

‫وبعد أن مات هذا النزاع لسنوات عديدة أحياه المولوي عبد السميع الرامپوري في مقدمة كتابه‪‘ :‬األنوار الساطعة’‪ ،‬الذي طبع في سنة‬
‫‪ ١٣٠٣‬ه‪ ،‬ورد عليه العالمة المحدث الكبير خليل أحمد السهارنپوري في كتابه ‘البراهين القاطعة’‪ ،‬وانتشر – بسبب هذه المناظرة –‬
‫الكالم في هذه المسألة بين العوام‪ ،‬وأيد علماء المنطق والفلسفة القائلين باستحالة الكذب على هللا تعالى ذاتيا‪ ،‬فصنف المولوي أحمد حسن‬
‫الپنجابي الكانپوري رسالة سماها‪‘ :‬تنزيه الرحمن’‪ ،‬أطال لسانه فيها في شأن العلماء الصالحين‪ ،‬وهذا الكتاب – أعني ‘جهد المقل في‬
‫تنزيه المعز الذل’ الذي نحن بصدد تلخيصه – صنفه مؤلفه رحمه هللا تعالى ردا على الرسالة المذكورة‪ ،‬أي‪‘ :‬تنزيه الرحمن’‪ ،‬في أوله‬
‫مقدمات تفيد في فهم المقصود‪ ،‬ثم إيراد الدالئل النقلية والعقلية في إثبات قول الشيخ إسماعيل الدهلوي رحمه هللا في باب‪ ،‬ثم الرد على‬
‫اإلعتراضات التي أوردها الخصم على هذه الدالئل في باب آخر‪ ،‬ثم الرد على ما استدلوا بها في إثبات دعواهم في باب أخير‬

‫المقدمات‬

‫المقدمة األولى‬

‫تستعمل ألفاظ ‘اإلمكان’ و’الجواز’ و’الصحة’ وأمثالها في كالم العلماء وعبارات الكتب لمعان عديدة‪ :‬كاإلمكان الذاتي واإلمكان العقلي‬
‫واإلمكان الشرعي واإلمكان العرفي‪ ،‬وكذلك ينقسم أضدادها من ‘االمتناع’ و’االستحالة’ و’عدم الجواز’ و’عدم الصحة’ إلى هذه األقسام‪ .‬قد‬
‫يكون أمر ممتنعا للغير – أي شرعا أو عادة – مع كونه ممكنا في ذاته‪ ،‬أما ما يكون ممكنا فال يكون إال ممكنا لذاته‪ .‬هذا أمر بديهي‬

‫كون األمر واجبا أو ممتنعا أو ممكنا ضرورية حاصلة لمن لم يمارس طريق اإلكتساب [كما قاله بعضهم]‪ ،‬وأما كون هذا الحكم ذاتيا أو‬
‫شرعا أو عرفا فليس بضرورية‪ .‬فعلى هذا يجب تعيين النوع المراد من لفظ ‘الممكن’ أو ‘المستحيل’ أو ‘الواجب‬

‫القضية مركبة من أمرين‪ :‬الموضوع – وهو الشيء المبحوث عنه أو الموصوف – والمحمول – وهو الحكم أو الوصف‪ .‬إذا كان‬
‫المحمول عين الموضوع أو الموضوع جزء منه أو هو الزم ذات الموضوع كان الحمل فى القضية إيجابيا واجبا ضروريا في حد ذاته‪.‬‬
‫مثال األول (أي‪ :‬المحمول عين الموضوع)‪ :‬اإلنسان إنسان‪ ،‬ومثال الثاني (أي‪ :‬الموضوع جزء المحمول)‪ :‬اإلنسان حيوان‪ ،‬ومثال الثالث‬
‫(أي‪ :‬المحمول الزم ذات الموضوع)‪ :‬األربعة زوج‪ .‬ويكون أضداد هذه القضايا سلبيا مستحيال لذاتها‪ ،‬أي‪ :‬اإلنسان ليس بإنسان‪ ،‬اإلنسان‬
‫ليس بحيوان‪ ،‬واألربعة فرد‪ .‬أما ما سوى هذه المواد الثالثة‪ ،‬فهو ممكن في ذاته‪ ،‬وإن كان فيها السلب ألمر عارضي فهو مستحيل لغيره‪،‬‬
‫وإن كان فيها اإليجاب ألمر عارضي فهو واجب لغيره‬

‫أما في ذات الواجب تبارك وتعالى‪ :‬إذا كان الحمل في قضية ما يقتضي سلب الذات أو سلب الصفات الحقيقية الذاتية الالزمة للذات فال‬
‫شك في كون هذه القضية ممتنعا لذاتها‬

‫يظهر من هذا التقرير أن قضية‪(( :‬المطيع يعاقب)) وقضية‪(( :‬المشرك يغفر)) ليستا ممتنعتين لذاتيهما‪ ،‬فإنه ليس بين المحمول‬
‫والموضوع فى القضيتين إقتضاء ذاتي وليس بينهما تنافر ذاتي‪ ،‬وإنما ورد السلب فيهما من الخارج‪ .‬فقول أحد‪(( :‬زيد المشرك مغفور‬
‫له)) أو‪(( :‬أبو جهل مؤمن)) أو‪(( :‬قد بعث نبي بعد الرسول صلى هللا عليه وسلم)) مما هو خالف العلم‪ ،‬ليس بين المحمول والموضوع‬
‫تخالف ذاتي‪ ،‬فال يحكم عليها بكونها ممتنعا بالذات – بل بالغير‪ .‬إنه أمر بديهي أن قول أحد‪ :‬المشرك مغفور له ليس مثل قول‬
‫آخر‪:‬األربعة فرد‬

‫المقدمة الثانية‬

‫يستعمل لفظ ‘االستطاعة’ ولفظ ‘القدرة’ في كالم العلماء لمعنيين‪ :‬أحدهما‪ :‬الصفة القديمة التي تضاد العجز‪ ،‬وهي تشمل جميع الممكنات‬
‫حتى ما يمتنع لغيره‪ ،‬وثانيهما‪ :‬التقدير ومقتضى اإلرادة والحكمة‪ ،‬وهذا ال يشمل الممكنات التي تمتنع لغيرها‬

‫قال صاحب ‘التلويح’‪(( :‬فإن قيل القدرة أيضا شاملة لجميع الممكنات فينبغي أن يقع بقوله‪ :‬أنت طالق في قدرة هللا تعالى‪ ،‬أجيب بأنها‬
‫بمعنى تقدير هللا تعالى فيصير من قبيل المشيئة واإلرادة)) انتهى‬

‫وقال المال خسرو في حاشيته على التلويح‪(( :‬فإذا عرفت هذا فاعلم أن القدرة تستعمل تارة بمعنى الصفة القديمة وتارة بمعنى التقدير…‬
‫بالتخفيف والتشديد‪ ،‬وكذا قوله تعالى‪ :‬قدرناها من الغابرين‪ ،‬والقدرة بالمعنى األول ال يوصف الباري بضدها وهو ظاهر‪ ،‬وبالمعنى الثاني‬
‫يوصف به وبضده)) انتهى‬

‫وقال ابن الهمام رحمه هللا‪(( :‬وال يلزم القدرة ألن المراد منها ههنا التقدير وقد يقدر شيئا وقد ال يقدره‪ ،‬حتى لو أراد حقيقة قدرته تعالى‬
‫تقع فى الحال‪ ،‬كذا فى الكافي))‪ .‬ونقل هذه العبارة فى الدر المختار ورد المحتار وغيرهما‬

‫قال القاضي البيضاوي تحت قوله تعالى حاكيا عن الحواريين‪(( :‬هل يستطيع ربك))‪(( :‬قيل‪ :‬هذه اإلستطاعة على ما يقتضيه الحكمة‬
‫واإلرادة ال على ما يقتضيه القدرة)) انتهى‬

‫وقال الرازي تحت قوله تعالى‪(( :‬فقدرناها فنعم القادرون))‪(( :‬إنه من القدرة‪ ،‬أي‪ :‬فقدرنا على خلقه وتصويره كيف شئنا وأردنا إلخ)) ثم‬
‫قال‪(( :‬ثالثا‪ :‬إن تفسير القدرة بالقضاء‪ ،‬ورابعا‪ :‬فظن أن لن نقدر عليه‪ ،‬فظن أن لن نفعل)) انتهى‬
‫قال الشيخ ابن حجر الهيتمي في تفيسر قول حجة اإلسالم الغزالي ((ليس فى اإلمكان أبدع مما كان))‪(( :‬حاصل الجواب عن كالم الغزالي‬
‫المذكور‪ :‬أن إرادة هللا سبحانه وتعالى لما تعلقت بإيجاد هذا العالم وأوجده وقضا ببقاء بعضه إلى غاية وبقاء بعضه ال إلى غاية وهو الجنة‬
‫والنار كان ذلك مانعا من تعلق القدرة اإللهية بإعدام جميع هذا العالم‪ ،‬ألن القدرة ال تتعلق إال بالممكن‪ ،‬وإعدام ذلك غير ممكن ال لذاته بل‬
‫لما تعلق به مما ذكرناه إلخ)) انتهى‬

‫وبناء على هذا التفصيل يمكن لنا رفع التعارض الذي يظهر في كالم بعض العلماء‪ ،‬فقد قال الفخر الرازي في تفسير‪(( :‬هل يستطيع‬
‫ربك))‪(( :‬وأما على قولنا فهو محمول على أن هللا تعالى هل قضى بذلك وهل علم وقوعه فإنه إن لم يقض به ولم يعلم وقوعه كان ذلك‬
‫محاال غير مقدور ألن خالف المعلوم غير مقدور)) انتهى‬

‫وقد ذهب بعض المعتزلة إلى ظاهر هذا الكالم كما في ‘شرح المواقف’ وغيره أنهم قالوا‪(( :‬إن هللا ال يقدر على ما أخبر بعدمه أو علم‬
‫بعدمه واإلنسان قادر عليه)) انتهى‬

‫والرازي نفسه قال في مواضع من تفسيره أن خالف المعلوم داخل في قدرة هللا تعالى‪ ،‬فطريقة رفع التعارض هنا هو بقولنا‪ :‬مراده‬
‫بالمقدور ما هو المراد أو ما هو مقدر في علمه تعالى‬

‫المقدمة الثالثة‬

‫صفات هللا تعالى على ثالثة أنواع‬

‫‪ .١‬الحقيقية المحضة كالحياة والوجود‬

‫‪ .٢‬الحقيقية ذات إضافة كالعلم والقدرة‬

‫‪ .٣‬اإلضافية المحضة كالمعية والقبلية وأمثالهما‪ ،‬وعند األشعرية‪ :‬الخالقية والرازقية وأمثالهما‬

‫فأما النوع األول من الصفات فليس لهذه الصفات تعلق من حيث ذواتها بشيء آخر‪ ،‬وأما النوع الثالث فلهذه الصفات تعلق من حيث ذواتها‬
‫بشيء آخر‬

‫ال يقع تغير ما فى الصفات األولى إذ هي عين ذات هللا‪ ،‬أما صفة من صفات النوع الثاني فال يقع تغير في مبدئها وقد يتغير تعلقاتها‪ ،‬وأما‬
‫صفة من صفات النوع الثالث فال مانع من التغير فيها‬
‫قال في شرح المواقف‪(( :‬الصفات على ثالثة أقسام‪ :‬حقيقية محضة كالسواد والبياض والوجود والحياة وحقيقية ذات إضافة كالعلم والقدرة‬
‫وإضافية محضة كالمعية والقبلية وفي عدادها الصفات السلبية وال يجوز بالنسبة إلى ذاته تعالى التغير فى القسم األول مطلقا ويجوز فى‬
‫القسم الثالث مطلقا وأما الثاني فإنه ال يجوز التغير فيه نفسه ويجوز في تعلقه)) انتهى‬

‫وفيه أيضا‪(( :‬قال اآلمدي‪ :‬ذهب الشيخ األشعري وعامة األصحاب إلى أن الصفات منها ما هي عين الموصوف كالوجود ومنها ما هي‬
‫غيره وهي كل صفة أمكن مفارقتها عن الموصوف كصفات األفعال من كونه خالقا ورازقا ومنها ما ال عين وال غير إلخ)) انتهى‬

‫قال المحقق الدواني في بحث عدم قيام الحوادث بذات هللا تعالى‪(( :‬المراد من الحوادث ههنا الصفة الحقيقية وأما الصفات اإلضافية‬
‫والسلبية فيجوز التغير والتبديل فيها فى الجملة كخالقية زيد وعدم خالقيته وذلك ألن التبدل فيها إنما يتغير ما أضيف إليه ال يتغير ما في‬
‫ذاته كما إذا انقلب الشيء من يمينك إلى يسارك وأنت ساكن غير متغير والصفات الحقيقية التي يلزمها اإلضافة إنما يتغير تعلقاتها دون‬
‫نفسها‪ ،‬ال يقال‪ :‬هذا الدليل جار فى اإلضافات والسلوب مع تخلف المدعى عنه ألنا نقول‪ :‬ال يتم جريان الدليل فيها كلها فإن مثل إيجاد‬
‫العالم وخالقية زيد ليس من صفات الكمال حتى يكون الخلو عنها فى األزل نقصا إلخ)) انتهى‬

‫فثبت من هذه النقول أن صفات هللا تعالى على أقسام‪ ،‬ولكل قسم حكم على حدة‪ ،‬فال يحكم على جميع الصفات بحكم نوع منها‬

‫الصفات الفعلية هي الصفات التي تدل على فعل وأثر‪ ،‬وإطالقها يدل على حدوث عمل كخلق ورزق وإحياء وإماتة وتصوير وغفران‬
‫الذنوب وحكمة وغير ذلك‪ ،‬وقد اختلف فيها السادات األشاعرة والسادات الماتريدية كثرهم هللا تعالى‪ .‬اعتبر األشاعرة كال من هذه الصفات‬
‫حادثا ومتغيرا وعده الماتريدية قديما أزليا‪ .‬فقال المال علي القارئ‪(( :‬فمذهب الماتريدية أنها قديمة ومذهب األشاعرة أنها حادثة)) وفى‬
‫المسامرة شرح المسايرة‪(( :‬ألنهم قائلون بأن صفات األفعال حادثة ألنها عبارة عن تعلقات القدرة والتعلقات حادثة)) انتهى‬

‫وعلى الرغم من هذا اإلختالف‪ ،‬اتفق األشاعرة والماتريدية على أن مبدأ صفات األفعال قديم‪ ،‬وهو عند األشاعرة‪ :‬القدرة‪ ،‬وعند‬
‫الماتريدية‪ :‬التكوين‪ .‬قال المال علي القارئ في شرح الفقه األكبر‪(( :‬فالتخليق والترزيق واإلبداع والصنع وغير ذلك من صفات الفعل‬
‫كاإلحياء واإلفناء واإلنبات واإلنماء وتصوير األشياء والكل داخل تحت صفة التكوين…فاألولى أن يقال أن مرجع الكل إلى التكوين فإنه‬
‫إن تعلق بالحياة يسمى إحياء وبالموت إماتة وبالصورة تصوير إلى غير ذلك فالكل تكوين وإنما الخصوص بخصوصيات المتعلقات))‬
‫انتهى‬

‫وقال ابن الهمام اإلمام فى المسايرة‪(( :‬والمراد بها صفات تدل على التأثير لها أسماء غير اسم القدرة باعتبار أسماء آثارها والكل يجمعها‬
‫اسم التكوين)) وقال بالنسبة لمذهب األشاعرة‪(( :‬واألشاعرة يقولون ليست صفة التكوين على فصوله أي تفاصيله سوى صفة القدرة‬
‫باعتبار تعلقها بمتعلق خاص فالتخليق هو القدرة باعتبار تعلقها بالمخلوق والترزيق تعلقها بإيصال الرزق)) انتهى‬

‫فاالختالف إذن لفظي‪ :‬اعتبر الماتريدية الصفات الفعلية قديمة باعتبار مرجعها ومبدئها وعدها األشاعرة حادثة باعتبار تعلقاتها الخاصة‬

‫نقل اإلمام الطحاوي عن اإلمام أبي حنيفة وصاحبيه‪(( :‬كما أنه محيى الموتى استحق هذا اإلسم قبل إحيائهم كذلك استحق اسم الخالق قبل‬
‫إنشاءهم‪ ،‬ذلك بأنه على كل شيء قدير))‪ ،‬وهذه الجملة األخيرة تدل على كون الصفات الفعلية قديمة من حيث مبدؤها‪ .‬قال فى المسايرة‬
‫بعد نقل هذه العبارة‪(( :‬فأفاد أن معنى الخالق قبل الخلق واستحقاق اسمه أي االسم الذي هو الخالق فى األصل بسبب قيام قدرته تعالى‬
‫عليه أي على الخلق فاسم الخالق والحال أنه ال مخلوق فى األزل لمن له قدرة الخلق فى األزل‪ ،‬وهذا هو ما تقوله األشاعرة ال خالف وهللا‬
‫الموفق)) انتهى‬

‫فبناء على قول اإلمام أبي حنيفة ال خالف بين األشاعرة والماتريدية فى المسألة‪ .‬فقال المال علي القارئ‪(( :‬النزاع لفظي عند أرباب‬
‫التدقيق كما تبين عند التحقيق إلخ)) انتهى‬

‫الحاصل أن الماتريدية جعلوا التكوين فى النوع الثاني من الصفات‪ ،‬واألشاعرة جعلوه فى النوع الثالث‪ .‬يمكن لنا أن نعبر عن النوعين‬
‫األخيرين من الصفات بتعبير آخر‪ ،‬وهو أن الصفات اإلضافية نوعان‪ :‬منها ما هي إضافية محضة كالقبلية ومنها ما هي إضافية ذات‬
‫مبدء‪ ،‬والتغير في كل منهما ممكن‬

‫فثبت أن الصفات الفعلية وإن كانت مبدءها – القدرة أو التكوين – قديم‪ ،‬لكنها من حيث كونها موقوفة على ظهور بعض األفعال التي هي‬
‫التعلقات الخاصة واإلضافات لهذا المبدأ‪ :‬هي حادثة ومتغيرة ال محالة‪ .‬مثال‪ :‬إذا قلنا‪ :‬إن هللا صانع العالم‪ ،‬فإن تحقق صنع العالم حادث‬
‫وإن كان مبدء هذا الصفة قديم‪ .‬فتحقق صفات األفعال الخاصة كاإلعطاء والمنع واإلضرار واإلحياء واإلماتة حادث‬

‫وعقيدة أهل السنة والجماعة أن الصفات الكمالية كالقدرة والعلم خارجة عن القدرة اإللهية‪ ،‬أما إصدار األفعال القبيحة التي تخالف العدل‬
‫(كتعذيب الشخص بذنب غيره) والحكمة (كالسفه والعبث) وأمثالهما فهي في قدرة هللا تعالى مع أن وقوعها ممتنع‪ .‬أما األفعال التي تقتضي‬
‫التغير فى الذات أو الصفات الكمالية الحقيقية كاألكل والشرب والحركة واإلنتقال وغيرها فهي ممتنعة ذاتيا ال محالة‪ ،‬فإن محل وقوعها‬
‫ذات البارئ تعالى الذي ليس قابال لمثل هذه األفعال فإنه ليس جسما‪ ،‬ومحل وقوع األفعال كالسفه والعبث والظلم بمعنى وضع الشيء في‬
‫غير محله فمحل وقوعها غير ذاته تعالى‪ ،‬وال تقتضي تغيرا في ذاته وال في صفاته الحقيقية‪ ،‬فهي من الممكنات في نفسها‬

‫ليس العدل والحكمة من الصفات الذاتية الحقيقية‪ ،‬بل هي من الصفات الفعلية اإلضافية‪ ،‬فخالف العدل والحكمة أيضا من الصفات الفعلية‪.‬‬
‫قال في مسلم الثبوت‪(( :‬السفه والعبث من صفات األفعال)) انتهى‬

‫النقص فى األفعال – وهو المراد بقولنا‪ :‬األفعال القبيحة – كالسفه والظلم والعبث ليس مثل النقص فى الصفات الذاتية كالجهل بمعنى عدم‬
‫العلم والعجز والنسيان‪ .‬استحالة األول ليس لعدم دخوله في قدرة هللا تعالى‪ ،‬واستحالة الثاني لعدم دخوله فى القدرة‪ .‬والنظامية من المعتزلة‬
‫لم يفرقوا بين هذين القسمين فقالوا بأن األفعال القبيحة ليست تحت القدرة أيضا كالنقص فى الصفات الذاتية‪ .‬الصفات الذاتية الحقيقية أزلية‬
‫غير متغيرة قائمة بذات الواجب تعالى – وهي الصفات التي يقال فيها أنها ليست عين الذات وال غيرها‪ ،‬والصفات اإلضافية الفعلية ليست‬
‫كذلك‪ .‬ففي بعض كتب الكالم‪(( :‬ومنها ما هي غيره وهي كل صفة أمكن مفارقتها عن الموصوف كصفات األفعال من كونها خالقا‬
‫ورازقا)) انتهى‬

‫وفرق آخر هو أن الصفات الذاتية الحقيقية الوجودية تختلف حقائقها وكنهها من حقائق هذه الصفات بالنسبة إلى العباد كما يختلف كنه ذات‬
‫البارئ تعالى من كنه ذوات الخلق‪ ،‬ولكن هذا االختالف فى الحقيقة ال يتحقق فى الصفات الفعلية والصفات السلبية‪ .‬فحقيقة ومفهوم علم هللا‬
‫تعالى وقدرته وكالمه وأمثالها مخالفة من حقيقة هذه الصفات فى العباد‪ ،‬ال اشتراك فى معنى وذاتيات هذه الصفات في شيء‪ ،‬إنما‬
‫االشتراك في شيء اعتباري أو إضافي‬

‫في شرح العقائد‪(( :‬فإن أوصافه من العلم والقدرة وغير ذلك أجل وأعلى مما فى المخلوقات بحيث ال مناسبة بينهما‪ ،‬قال فى البداية‪ :‬إن‬
‫العلم منا موجود وعرض وعلم محدت وجائز الوجود ومتحدد في كل زمان فلو أثبتنا العلم صفة هلل تعالى لكان موجودا وصفة قديمة‬
‫وواجب الوجود ودائما من األزل إلى األبد‪ ،‬فال يماثل علم الخلق بوجه من الوجوه)) وقال محشيه‪(( :‬حتى إن االشتراك منها لفظي))‬
‫انتهى‬

‫أما الصفات الفعلية والسلبية ال مخالفة بين هذه الصفات في حق هللا تعالى وفي حق العباد‪ ،‬فإن هذه الصفات ليست عين ذات هللا وليس‬
‫قائمة به‪ ،‬بل منفصل عنه‪ ،‬وما هو منفصل عن ذات الواجب حادث وممكن‪ ،‬فليس هناك سبب إلثبات الفرق بين هذه الصفات وصفات‬
‫الممكنات‬

‫فقول المتكلمين‪(( :‬ليس بعرض وال جسم وال جوهر وال محدود وال معدود وال منتهاة وال متبعض وال متركب وال ضد له وال مثل له وال‬
‫ند له))‪ ،‬معنى هذه الكلمات في حق هللا تعالى مثل معناها في حق العباد‪ ،‬فقالوا أنه ليس بعرض ((ألنه ال يقوم بذاته بل يفققر إلى محل‬
‫يقوم به)) وليس بجسم ((ألن الجسم مركب فيحتاج إلى الجزء))‪ ،‬وهذه المعاني هي نفس معاني هذه األلفاظ بالنسبة للخلق أيضا‬

‫وكذا فى الصفات الفعلية‪ ،‬كالحكمة – التي هي ترك ما ال ينبغي وفعل ما ينبغي – واإلنتقام والصدق والعفو والمنع واإلضرار‪ ،‬معنى هذه‬
‫الصفات بالنسبة للخالق مثل معناها بالنسبة للخلق‪ ،‬وتفسير ‘الصفات الدالة على األفعال’ فى ‘التفسير الكبير’ للرازي وغيره كاف في إثبات‬
‫دعوانا هذه‬

‫وبناء على هذا الفرق يطلق على العبد أنه متكلم سميع بصير مريد وال يطلق عليه أنه محي مميت خالق محدث‪ ،‬فإن األول مختلف الحقيقة‬
‫والكنه فال حرج في استعمال نفس األلفاظ‪ ،‬والثاني متحد الحقيقة والكنه فال يجوز إطالقها على الخلق‬

‫والصدق – كما سيأتي – من صفات األفعال‪ ،‬بل من إضافات صفة من صفات األفعال‪ ،‬وحقيقته بالنسبة إلى الخالق مثل حقيقته بالنسبة‬
‫إلى الخلق‪ ،‬وهو كون الكالم مطابقا للواقع‪ ،‬وكذا معنى الكذب – الذي هو ضد الصدق – بالنسبة إلى الخالق نفس معنى الكذب بالنسبة إلى‬
‫الخلق – وهو كون الكالم غير مطابق للواقع‬

‫وظاهر أن الكذب والعبث والظلم‪ ،‬بل األكل والشرب واإلنتقال والسكون وأمثالها‪ ،‬التي نفيناها عن هللا تبارك وتعالى‪ ،‬وننزهه عنها‪ ،‬نحمل‬
‫معاني هذه الكلمات على ما هو المراد عند إطالقها على الممكنات‬

‫المقدمة الرابعة‬

‫يستعمل أهل السنة والجماعة لفظ ‘الكالم’ هلل سبحانه وتعالى لمعنيين بطريق اإلشتراك اللفظي أو اإلشتراك المعنوي أو الحقيقة والمجاز‬
‫‪ .١‬أحدهما‪ :‬الصفة الحقيقية التي هي واحدة بسيطة قائمة بالذات ليس منفصال عنه‪ ،‬وهذا هو الكالم النفسي‬

‫‪ .٢‬والثاني‪ :‬الكالم المنزل على الرسل الذي هو معجز متحدى به مركب من الحروف‪ ،‬وهذا هو الكالم اللفظي‬

‫وبما أن األول واحد بسيط ال مجال للصدق والكذب فيه في حد ذاته فإنه ليس بإنشاء وال خبر‪ ،‬وإنما يوصف تعلقاته بهذه األوصاف‬

‫قال في شرح المواقف‪(( :‬كالمه تعالى واحدة عندنا لما مر فى القدرة‪ ،‬وأما انقسامه إلى األمر والنهي والخبر واإلستفهام والنداء فإنما هو‬
‫بحسب التعلق‪ ،‬فذاك المعنى الواحد باعتبار تعلقه بشيء مخصوص يكون خبرا وباعتبار تعلقه بشيء آخر أو على وجه آخر يكون أمرا‬
‫وكذا الحال فى البواقي)) انتهى‬

‫قال في شرح العقائد‪(( :‬إنه صفة واحدة تكثر بالنسبة إلى األمر والنهي والخبر باختالف التعلقات)) انتهى‬

‫وهذه العبارة موجودة في شرح الفقه األكبر أيضا‪ .‬قال فى المقاصد‪(( :‬المذهب أن كالمه األزلي واحد يتكثر بحسب التعلق)) انتهى‬

‫قال فى المسامرة شرح المسايرة‪(( :‬إنما هي أنواع اعتبارية تحصل له بحسب تعلقه باألشياء فذلك المعنى الواحد باعتبار تعلقه بشيء على‬
‫وجه مخصوص يكون خبرا وباعتبار تعلقه بشيء آخر أو على وجه آخر يكون أمرا وكذا الحال فى البواقي)) انتهى‬

‫فثبت أن الكالم النفسي ليس خبرا وال إنشاء في حد ذاته‪ ،‬فالصدق والكذب فيه ال يتصور‪ ،‬إنما جاء مجال الصدق والكذب بعد تعلقه بخبر‬
‫ما‬

‫‪.‬وقد اختلف علماء الكالم في أن هذا التعلق‪ ،‬هل هو حادث أو قديم؟ وسيأتي وجه التطبيق بين هذين القولون بإذناهلل تعالى‬

‫أما عبد هللا بن سعيد بن القطان وأتباعه فيقولون إنه حادث‪ ،‬والجمهور على أنه قديم‪ .‬قال في شرح العقائد‪(( :‬وإنما يصير أحد تلك األقسام‬
‫عند التعلقات وذلك فيما ال يزال وأما فى األزل فال انقسام أصال)) وقال بعضهم في تفسيره‪(( :‬هذا مذهب بعض األشاعرة)) انتهى‬

‫قال العالمة الجلبي‪(( :‬وهو عبد هللا بن سعيد القطان وجماعة من المتقدمين‪ ،‬قالوا‪ :‬إن كالمه تعالى صفة واحدة ال تعدد فيه أصال‪ ،‬إنما‬
‫العدد بحسب التعلقات الحادثة بحسب حدوث التعلقات)) انتهى‬
‫وفي مسلم الثبوت‪(( :‬إعلم أن األشاعرة كلهم متفقون على أن كالمه فى األزل واحدة لكن جمهورهم على أن ذلك الواحد باعتبار تعلقه‬
‫بشيء على وجه مخصوص يكون خبرا وباعتبار تعلقه بشيء آخر وعلى وجه آخر يكون أمرا إلى غير ذلك فهو فى األزل متصف بقسم‬
‫من األقسام بحسب التعلقات‪ ،‬وأما ابن سعيد فمع قوله بوحدته فى األزل يقول إنه ليس متصفا بشيء من األقسام فى األزل وإنما يصير‬
‫أحدها فيما ال يزال)) انتهى‬

‫وقال المحقق الدواني‪(( :‬فنقول‪ :‬كالم هللا تعالى هو الكلمات التي رتبها هللا تعالى في علمه األزلي بصفة األزلية التي هي مبدأ تأليفها‬
‫وترتيبها‪ ،‬وهذه الصفة قديمة وتلك الكلمات المرتبة أيضا بحسب وجودها العلمي أزلية…وليس كالم هللا تعالى إال ما رتبه هللا تعالى بنفسه‬
‫من غير واسطة والكلمات ال تعاقب بينها فى الوجود العلمي حتى يلزم حدوثها وإنما التعاقب بينها فى الوجود الخارجي‪ ،‬وهو بحسب هذا‬
‫الوجود كالم لفظي‪ ،‬وهذا الوجه سالم عما يلزم المذاهب المنقولة إلخ)) انتهى‬

‫فعلى هذا‪ ،‬إنما يعتبر التعلقات قديمة بإعتبار وجودها فى العلم األزلي القديم‪ ،‬أما باعتبار وجودها فى الخارج فهي حادثة‬

‫قال فى المسامرة وفي شرح الفقه األكبر‪(( :‬والجواب أن إخبار هللا تعالى ال يتصف أزال بالماضي والحال والمستقبل…وإنما يتصف بذلك‬
‫فيما ال يزال بحسب التعلقات‪ ،‬فيقال‪ :‬قام بذات هللا تعالى إخبار عن إرسال نوح مطلقا‪ ،‬وذلك اإلخبار موجود أزال باق أبدا‪ ،‬قبل االرسال‬
‫كانت العبارة الدالة عليه إنا نرسل وبعد اإلرسال إنا أرسلنا‪ ،‬فالتغير في لفظ الخبر ال فى اإلخبار القائم بالذات‪ ،‬وهذا كما نقول في علمه‬
‫تعالى أنه قائم بذاته تعالى أزال العلم بأن نوحا مرسل وهذا العلم باق أبدا قبل وجوده علم أنه سيوجد ويرسل وبعد وجوده علم بذلك العلم‬
‫أنه وجد وأرسل‪ ،‬والتغير فى المعلوم ال فى العلم كما مر فى الكالم على العلم واإلرادة)) انتهى‬

‫فكالم هللا تعالى – إذن – خال عن التعينات والتعلقات فى ما لم يزل‪ ،‬وإنما التبس ببعض التعينات فيما ال يزال بسبب تعلقات خاصة‪ .‬وهذا‬
‫كالعلم‪ :‬العلم ال تغير فيه أصال‪ ،‬إنما التغير فيما يتعلق به العلم أي‪ :‬المعلوم‪ ،‬الذي وجوده العلمي قديم ووجوده الخارجي حادث‬

‫وقال مجدد األلف الثاني اإلمام أحمد السرهندي‪(( :‬صفة العلم له تعالى صفة قديمة بسيطة حقيقية ال يتطرق إليها تعدد وتكثر أصال ولو‬
‫باعتبار تعدد التعلقات ألن هناك انكشاف واحد بسيط انكشفت به المعلومات األزلية األبدية وعلم به جميع األشياء بأحوالها المتناسبة‬
‫والمتضادة وكلياتها وجزئياتها مع األوقات المخصوصة بكل واحد منها في آن واحد على وجه يعلم زيدا مثال في ذلك اآلن موجودا‬
‫ومعدوما وجنينا وصبيا وشابا وشيخا وحيا وميتا وقائما وقاعدا ومستندا ومضطجعا وضاحكا وباكيا ومتلذذا ومتألما وعزيزا وذليال وفى‬
‫البرزخ وفى الحشر وفى الجنة وفى التلذذات فيكون تعدد التعلق أيضا مفقودا في ذلك الموطن فإن تعدد التعلقات يستدعي تعدد اآلنات‬
‫وتكثر األزمنة وليس ثمة إال آن واحد بسيط من األزل إلى األبد ال تعدد فيه أصال إذ ال يجري عليه تعالى زمان وال تقدم وال تأخر فإذا‬
‫أثبتنا لعلمه تعالى تعلقا بالمعلومات يكون ذلك تعلق واحد ويصير به متعلقا بجميع المعلومات وذلك التعلق أيضا مجهول الكيفية ومنزه عن‬
‫المثال والكيف كصفة العلم)) المكتوبات‪ ،‬ج‪ ١‬مكتوب‪٢٦٦ :‬‬

‫واإلعتراضات التي وردت على قول عبد هللا بن سعيد قد أجيب عنها في كتب الكالم كالمقاصد وغيره‪ .‬قال بحر العلوم عن قول ابن‬
‫القطان‪(( :‬وقد رأيت في كتب بعض المحدثين أنهم حكموا بكون هذا الرأي مختارا)) انتهى‬

‫وقد صرح كثير من محققي علماء الكالم أن تعلقات الصفات الحقيقية كاإلرادة والقدرة حادثة‪ .‬قال في شرح المواقف‪(( :‬فصفة العلم قديمة‬
‫واحدة غير متناهية ذاتا بمعنى سلب التناهي وغير متناهية تعلقا بمعنى إثبات الالتناهي في تعلقه بالفعل‪ ،‬واإلرادة أيضا كذلك لكن تعلقها‬
‫غير متناه بالقوة كما فى القدرة‪ ،‬على هذا فقس إلخ)) انتهى‬

‫قال في شرح المقاصد‪(( :‬وجوابها أن الكالم وإن كان أزليا لكن تعلقاته باألشخاص واألفعال حادثة بإرادة من هللا تعالى واختيار)) انتهى‬

‫والذي يهمنا في هذا الموضع إنما هو قولنا‪ :‬أن الكالم النفسي الذي هو صفة حقيقية بسيطة متعال في حد ذاته عن الخبر واإلنشاء‪ ،‬ال‬
‫احتمال للكذب والصدق فيه‪ ،‬إنما جاء احتمال اإلنشائية والخبرية بعد التباسه بالتعلقات العارضة والتعينات المتأخرة‬

‫على هذا‪ :‬إذا قال أحدهم أن الكالم النفسي ممتنع الكذب إنما مراده أن الكذب غير متصور فى الكالم النفسي لبساطته ووحدته وعدم تعلقه‬
‫في حد ذاته وعدم تصور المطابقة فيه للواقع وعدم المطابقة‪ .‬وليس مرادهم أنه بعد تسليم اإلمكان العقلي يمتنع الكذب فيه ذاتيا ألن الصدق‬
‫فيه واجب وضروري‪ ،‬بل‪ :‬الصدق فيه أيضا غير متصور‪ .‬مثال‪ :‬إذا قال أحد أنه يشترط لتحقق الكذب كالم تام‪ ،‬ويمتنع الكذب فى‬
‫المفردات المحضة‪ ،‬فمنشأ االمتناع هو عدم تصور الكذب‪ ،‬ال أن الصدق فيه واجب وضروري‬

‫وأما قولهم بأن الصدق في كالمه واجب فإنما مرادهم به ما يتعلق به الكالم النفسي‪ ،‬ال الكالم النفسي بالمعنى المذكور في حد ذاته‪.‬‬
‫فالحاصل‪ :‬وصف الكالم بالصدق منزلة نازلة وعدم اتصافه بالصدق والكذب منزلة قادمة‬

‫ثم‪ :‬لفظ ‘الكالم النفسي’ مستعمل لمعنيين في كالم العلماء‪ :‬أحدهما‪ :‬مبدأ الكالم ومنشأه قائم بذات الواجب تعالى‪ ،‬قديم وأزلي‪ ،‬وهذا مثل‬
‫الصفات الذاتية األخرى كالعلم والقدرة واإلرادة ونحو ذلك‪ ،‬فكما أن مبدء اإلنكشاف هو صفة العلم ومبدء ظهور األثر هو صفة القدرة‪،‬‬
‫فكذلك مبدء التكلم هو الكالم النفسي‪ ،‬وكل من هذه الصفات قديم قائم بذات الواجب ال عين الذات وال غيره؛ والثاني‪ :‬مدلول الكالم اللفظي‬
‫ومراده اللغوي أو الوضعي‪ ،‬وقد يطلق عليه لفظ‪ :‬العلم‬

‫ومثال ذلك أن لإلنسان مبدءا وقوة لتكلمه الخارجي‪ ،‬وإذا أراد أن يلفظ كلمات لتعبير معنى بذريعة تلك القوة فقد يوجد – قبل تكلمه – ذلك‬
‫المعنى في علمه‪ .‬فكل من المبدء والعلم موجودان قبل التكلم الخارجي‬

‫فالمعنى األول للكالم النفسي قديم كجميع الصفات الحقيقية‪ ،‬والمعنى الثاني له إنما هو قديم باعتبار وجوده العلمي‪ ،‬فإن المعنى األول‬
‫يتوقف وجوده على صفة قديمة أزلية في ذات البارئ تعالى مسمى ب’الكالم’‪ ،‬والمعنى الثاني ال يتوقف على مثل هذه الصفة في حد ذاته‪.‬‬
‫والكالم اللفظي يتوقف على كل من هذين المعنيين للكالم النفسي ويدل على كل منهما‬

‫فكما أنه يجب لتحقق اإلنكشاف كل من العلم الحقيقي والمعلوم ولظهور األثر كل من القدرة القديمة الحقيقية والمقدورات‪ ،‬فكذلك يتوقف‬
‫الكالم اللفظي على الكالم النفسي بكلي معنيه‪ :‬مبدء الكالم ومدلول اللفظ‪ .‬وكما أن العلم يطلق على مبدء اإلنكشاف الذي هو قديم في‬
‫وجوده الخارجي وكذلك يطلق على المعلوم الذي من متعلقاته ما هو حادث في وجوده الخارجي‪ ،‬فكذلك الكالم النفسي الذي مبدؤه قديم من‬
‫حيث وجوده الخارجي‪ ،‬وأما مدلول األلفاظ فوجوده الخارجي حادث وهو قديم باعتبار وجوده العلمي‬
‫قال المحقق الدواني في شرح العقائد الجاللي‪(( :‬إذا تمهد ذلك فنقول‪ :‬كالم هللا تعالى هو الكلمات التي رتبها هللا تعالى في علمه األزلي‬
‫بصفته األزلي الذي هو مبدء تأليفها وترتيبها‪ ،‬وهذه الصفة قديمة‪ ،‬وتلك الكلمات المرتبة أيضا بحسب وجودها العلمي أزلي‪ ،‬بل الكلمات‬
‫والكالم مطلقا كسائر الممكنات أزلية بحسب وجودها العلمي‪ ،‬وليس كالم هللا تعالى إال ما رتبه هللا تعالى بنفسه من غير واسطة‪ ،‬والكلمات‬
‫ال تعاقب بينهما فى الوجود العلمي حتى يلزم حدوثها وإنما التعاقب بينهما فى الوجود الخارجي‪ ،‬وهو بحسب هذا الوجود كالم نفسي))‬
‫انتهى‬

‫فأشار بقوله‪(( :‬صفته األزلي الذي هو مبدء تأليفها وترتيبها‪ ،‬وهذه الصفة قديمة)) إلى المعنى األول للكالم النفسي‪ ،‬وأشار بقوله‪(( :‬إذا‬
‫تمهد ذلك فنقول‪ :‬كالم هللا تعالى هو الكلمات التي رتبها هللا تعالى في علمه األزلي)) وبقوله‪(( :‬وليس كالم هللا تعالى إال ما رتبه هللا تعالى‬
‫بنفسه من غير واسطة)) إلى المعنى الثاني له‪ .‬وقد أقر العالمة الشهاب الخفاجي كالم المحقق هذا في حاشيته على تفسير البيضاوي‬

‫وقال الدواني‪(( :‬مبدأ الكالم النفسي فينا صفة تمكن بها من نظم الحروف وترتيبها على ما ينطبق على المقصود‪ ،‬وهي صفة ضد الخرس‬
‫مبدأ للكالم النفسي إلخ)) انتهى‬

‫وقال موالنا بحر العلوم في شرح سلم العلوم‪(( :‬إال أنه يشكل بالكالم فإنه صفة قائمة قطعا من دون ارتياب‪ ،‬فيلزم استكمال الباري عز‬
‫وجل سبحانه‪ ،‬لكن الحق غير خاف‪ ،‬فإن هناك أمرين‪ :‬أحدهما به يقدر على تأليف الكالم ويقابله الخرس‪ ،‬واآلخر صفة الكالم القائم‬
‫ويقابله السكوت‪ ،‬فاألمر األول صفة مكملة للذات وهو نفس ذاته‪ ،‬والصفة األخرى متفرعة عن األولى‪ ،‬وهي تابعة لها‪ ،‬واستحالة‬
‫االستكمال إنما هي فى الصفات األولى الذاتية‪ ،‬فتأمل فيه فإنه موضع تأمل)) انتهى‬

‫وقال اإلمام السرهندي‪(( :‬وكذلك كالمه تعالى واحد بسيط وهو تعالى متكلم بهذا الكالم الواحد فى األزل إلى األبد‪ ،‬فإن أمر أمرا فناش من‬
‫هناك وإن نهيا فناش أيضا من هناك وإن إعالما فمأخوذ أيضا من هناك وإن استعالما فمن هناك وإن تمنيا فمستفادا من هناك وإن ترجيا‬
‫فمن هناك أيضا)) المكتوب رقم ‪ ٢٦٦‬من الجزء األول للمكتوبات‬

‫وفى التلويح ما يدل على كون الكالم النفسي مبدء الكالم‪(( :‬وهي صفة قديمة منافية للسكوت واآلفة ليست من جنس الحروف واألصوات‪،‬‬
‫ال يختلف إلى األمر والنهي واإلخبار وال يتعلق بالماضي والحال واالستقبال إال بحسب التعلقات واإلضافات‪ ،‬كالعلم والقدرة‪ ،‬وهذا الكالم‬
‫اللفظي الحادث المؤلف من األصوات والحروف القائمة بمحالها يسمى كالم هللا تعالى والقرآن على معنى أنه عبارة عن ذلك المعنى‬
‫القديم)) انتهى‬

‫قال العالمة الجلبي‪(( :‬قوله‪ :‬عبارة عن ذلك المعنى القديم‪ ،‬قيل‪ :‬معنى كونه عبارة عنه أنه دال عليه عقال داللة األثر على المؤثر وعلى‬
‫مبدئه‪ ،‬فإن النطق الظاهري فى اإلنسان كما يدل على مبدء له‪ ،‬يغاير العلم والقدرة واإلرادة كذلك الكالم اللفظي فى البارئ تعالى يدل على‬
‫مبدء يغاير سائر الصفات)) انتهى‬

‫قال المال خسرو في شرح التلويح‪(( :‬أقول‪ :‬ليس معنى كونه عبارة عنه أنه عينه كما قال بعد هذا‪ :‬أن القرآن عبارة عن هذا المؤلف‬
‫المخصوص والنحو عبارة عن القواعد المخصوصة‪ ،‬وذلك ظاهر وال أنه دال عليه بالوضع ألن المدلول الوضعي له هو المعاني‬
‫الوضعية الحادثة‪ ،‬بل معناه أنه دال عليه عقال‪ ،‬وداللة األثر على مبدئه فإن النطق الظاهر فى اإلنسان كما يدل على مبدء له يغاير العلم‬
‫والقدرة واإلرادة كذلك فى الباري تعالى يدل الكالم اللغظي على مبدء له يغاير سائر الصفات)) انتهى‬
‫أما عن المعنى الثاني للكالم النفسي‪ ،‬قال في شرح المواقف‪(( :‬فإذن هو أي المعنى النفسي الذي يعبر عنه بصيغة الخبر صفة ثالثة))‬
‫انتهى‬

‫وقال في شرح المواقف‪(( :‬فإذن هو أي المعنى النفسي الذي يعبر عنه بصيغة الخبر صفة ثالثة)) انتهى‬

‫وقال الجلبي‪(( :‬وال يخفى أن المفهوم من عامة كلماتهم هو أن النفسي مدلول اللفظي‪ ،‬وإن كان ال يخلو عن اإلشكال)) انتهى‬

‫قال في شرح المقاصد‪(( :‬الوجه الثاني أن من يورد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو إخبار أو استخبار أو غير ذلك سيجد في نفسه معاني ثم‬
‫يعبر عنها باأللفاظ التي تسميها بالكالم الحسي‪ ،‬فالمعنى الذي يجده في نفسه ويدور في خلده وال يختلف باختالف العبارت بحسب‬
‫األوضاع واإلصطالحات ويقصد المتكلم حصوله في نفس السامع ليجري على موجبها هو الذي نسميه كالم النفس وحديثها)) وهذه عبارة‬
‫صريحة في كون الكالم النفسي بمعناه الثانية‬

‫قال اإلمام السرهندي‪(( :‬والقرآن كالم هللا تعالى أنزل علي نبينا عليه وعلى آله الصالة والسالم‪ ،‬متلبسا بلباس الحرف والصوت وأمر به‬
‫عباده ونهاهم‪ ،‬فكما نحن نظهر كالمنا النفسي بتوسط الفم واللسان في لباس الحروف واألصوات نورد به مقاصدنا الخفية في منصة‬
‫الظهور كذلك الحق سبحانه أظهر كالمه النفسي لعباده في لباس الحرف الصوت بقدرته الكاملة بال توسط فم ولسان وأجلى أوامره‬
‫ونواهيه الخفية في ضمن الحرف والصوت على منصة الظهور فكال قسمي الكالم كالم الحق جل وعال يعنى النفسي واللفظي)) انتهى‬

‫إنما هو المعنى الثاني للكالم النفسي الذي يلتبس بالصوت والحرف‪ ،‬كيف يتصور التباس المعنى األول بالحرف والصوت؟ والمعنى األول‬
‫إنما هو سبب اإللتباس أو معطى اإللتباس ال ما يلتبس‬

‫في كتب الكالم‪(( :‬ألن كل من يأمر وينهى ويخبر يجد من نفسه معنى ثم يدل عليه بالعبارة أو الكتابة أو اإلشارة )) وفى الشعر المشهور‪:‬‬
‫((إن الكالم لفى الفؤاد إلخ))‪ ،‬وقال سيدنا عمر رضي هللا عنه‪(( :‬زورت في نفسي مقالة))‪ ،‬وقال أهل العرف‪(( :‬إن في نفسي كالما أريد‬
‫أن أذكره لك))‪ .‬هذا كله ينطبق على المعنى الثاني للكالم النفسي‬

‫وقول بعض أهل السنة أن الكالم النفسي ضروري الصدق يدل على المعنى الثاني للكالم النفسي‪ ،‬فإن وصف الصدق ال يتأتى فى المعنى‬
‫األول للكالم النفسي – أي مبدء التكلم – وإنما يتحقق فى المعنى الثاني الذي هو مدلول الكالم اللفظي‪ .‬وقول أهل السنة أن الكالم النفسي‬
‫‪.‬ال عين الذات وال غيره يدل على المعنى األول للكالم النفسي‪ ،‬فإنه بديهي أن مدلول اللفظ كالمعلومات مغاير ومنفصل عن الذات‬

‫وبعد هذا التفصيل‪ ،‬ينكشف كثير مما أشكل على الناس‪ .‬فمما اختلفوا فيه هو‪ :‬هل داللة الكالم اللفظي على الكالم النفسي‪ :‬عقلي أو‬
‫وضعي؟ فيظهر من التقرير السابق أن داللته على المعنى األول للكالم النفسي عقلي – داللة األثر على المؤثر – كما يدل أفعال هللا تعالى‬
‫على قدرته‪ ،‬وداللته على المعنى الثاني منه وضعي‬
‫قال المولوي عبد الحكيم في حاشية العقايد الجاللي‪(( :‬فالكالم اللفظي دال على النفسي الذي هو المعاني داللة الموضوع على الموضوع‬
‫له وعلى مبدئه داللة األثر على المؤثر)) وهذه عبارة صريحة في إثبات التقرير السابق‬

‫فيجب على من دخل في هذا البحث أن يعين مراده من الكالم النفسي‪ :‬أهو مبدء التكلم أو مدلول الكالم اللفظي؟‬

‫زعمت المعتزلة أنه لو اعتبر خبر هللا تعالى أزليا للزم الكذب في خبره‪ ،‬فقال شارح المقاصد في جوابه‪(( :‬والجواب أن كالمه فى األزل‬
‫ال يتصف بالماضي والحال واإلستقبال لعدم الزمان وإنما يتصف بذلك فيما ال يزال بحسب التعلقات وحدوث األزمنة واألوقات)) ثم قال‪:‬‬
‫((وتحقيق هذا مع القول بأن األزلي مدلول اللفظي عسير جدا‪ ،‬وكذا القول بأن المتصف بالمضي وغيره إنما هو اللفظ الحادث دون المعنى‬
‫القديم))‪ .‬وهنا أيضا لو استحضر هذا التفصيل بين المعنيين للكالم النفسي لصار العسر المذكور يسيرا‪ ،‬فإن الذي وصف الكالم اللفظي‬
‫فقط بالمضي وغيره ونفاه عن الكالم النفسي فمراده المعنى األول للكالم النفسي‪ ،‬ومعنى كونه مدلول اللفظ إنما هو مدلول عقلي ال‬
‫وضعي‪ .‬نعم‪ ،‬لو حمل على المدلول الوضعي ألشكل األمر‬

‫وكذلك ينكشف كثير من المشكالت بالتفصيل المذكور كما ال يخفى على الماهر‬

‫وأما بالنسبة لتعلقات الكالم النفسي فقد كان فيها إجمال‪ ،‬واآلن انجلى األمر‪ ،‬فإن تعلقات الكالم النفسي بمعناه األول تكون كتعلق العلم‬
‫بالمعلومات وتعلق القدرة بالمقدورات‪ ،‬وأما بالمنعى الثاني فمتعلقات الكالم النفسي كتعلق المدلوالت الوضعية بدالالتها‪ .‬وقد ظهر بهذا‬
‫التفصيل وجه اإلختالف الذي وقع بين عبد هللا بن سعيد وبين الجمهور‪ ،‬فإن عبد هللا بن سعيد قال بحدوث التعلقات على المعنى األول‬
‫للكالم النفسي‪ ،‬والجمهور قالوا بقدم التعلقات على المعنى الثاني للكالم النفسي باعتبار وجودها فى العلم األزلي‪ .‬وهذا الطريق في بيان‬
‫مذهب عبد هللا بن سعيد أحسن وأخصر مما ذكر في مسلم الثبوت وشرح المواقف وشرح المقاصد‬

‫يظهر جليا أن كل ما قرر سابقا مستفاد ومأخوذ من كالم األكابر والعلماء المعتبرين‪ ،‬فإن من عباراتهم ما تدل على المعنى األول للكالم‬
‫النفسي ومنها ما تدل على المعنى الثاني ومنها ما تدل على كلي المعنيين‬

‫قد يطلق صفة الدال على المدلول‪ ،‬كما فى المقاصد وغيره‪(( :‬وإجراء صفة الدال على المدلول شائع مثل سمعت هذا لمعنى وكتبته‬
‫وقرأته))‪ ،‬وكذا يطلق ‘كالم هللا’ على الكالم اللفظي كما يطلق على الكالم النفسي بمعنيه‬

‫يقال‪(( :‬سمعت علم زيد)) و‪(( :‬شاهدت فقه بكر)) و‪(( :‬رأيت سرور زيد)) وإنما المسموع والمشاهد أثر هذه األمور ال أعيانها‬

‫لو قال أحد أن الكالم النفسي بمعنى مدلول اللفظ الوضعي صفة قديمة قائمة بنفس البارئ تعالى باعتبار وجوده الخارجي فهذا ال يصح‪،‬‬
‫ألن مدلول اللفظ حادث باعتبار وجوده الخارجي‬
‫ومدلول اللفظ الوضعي إنما سمي ‘الكالم النفسي’ ألنه مدلول اللفظي كما أن الكالم النفسي الحقيقي القائم بذات هللا تعالى مدلول اللفظ أيضا‬
‫بداللة عقلية ال وضعية‪ ،‬وبما أن هذه المدلوالت لها وجود فى العلم باألزل تسمى بهذا اإلعتبار ‘الكالم النفسي’ أيضا‬

‫فيجب على الخصم أن يعينوا ما هو مرادهم ب’الكالم النفسي’ ثم بيان‪ :‬هل امتناع الكذب فيه ذاتي أو ال؟ هل يدل الكالم اللفظي عليه بداللة‬
‫وضعية أو بداللة عقلية؟ ومن أي وجه يجب انطباق الصدق والكذب بين النفسي واللفظي؟ ومن غير بيان هذه األمور ال قيمة لزعمهم أن‬
‫الكذب فى الكالم اللفظي محال لذاته بناء على كونه منطبقا على الكالم النفسي‬

‫]حذفت تلخيص المقدمة الخامسة فإنه ليس فيها كبير فائدة[‬

‫المقدمة السادسة‬

‫الصدق والكذب فى الكالم اللفظي مندرجان في صفات األفعال‪ ،‬وال يندرجان فى الصفات الذاتية الحقيقية‪ ،‬فكما أن الحكمة والعدل والعبث‬
‫والسفه من صفات األفعال فكذلك الصدق والكذب فى الكالم اللفظي من الصفات الفعلية عقال ونقال‪ .‬وهذا ألن الصدق والكذب صفة الكالم‬
‫اللفظي الذي هو حادث ومخلوق عند جمهور أهل السنة‪ ،‬وسيأتي تحقيقه [وهذا فى الباب الثاني من الكتاب الذي لم أتقدم بتلخيصه لطوله‪،‬‬
‫تعرض فيه المصنف لقول القاضي عضد اإليجي فى المسألة وكالم غيره من المحققين]‪ ،‬وذهب الخصم كصاحب ‘تنزيه الرحمن’ إلى أن‬
‫الكالم اللفظي قديم وقائم بذات البارئ‪ ،‬وإن سلم قدمه يجب أن تكون تعلقاته حادثة‪ ،‬وبما أن الصدق والكذب من تعلقاته الحادثة التي هي‬
‫تحت قدرة هللا تعالى لزم اندراجهما فى الصفات الفعلية‬

‫قال في شرح المواقف‪(( :‬يمتنع عليه الكذب اتفاقا‪ ،‬أما عند المعتزلة فلوجهين‪ :‬األول أنه أي الكذب فى الكالم الذي هو عندهم من قبيل‬
‫األفعال دون الصفات قبيح وهو سبحانه ال يفعل القبيح‪ ،‬وهو بناء على أصلهم في إثبات حكم العقل بحسن األفعال وقبحها مقيسة إلى هللا‬
‫وستعرف بطالنه)) انتهى‬

‫والمعتزلة إنما يقولون بالكالم اللفظي‪ ،‬وال يقولون بالكالم النفسي القائم بذات هللا تعالى‪ ،‬فالكالم اللفظي عندنا أيضا من الصفات الفعلية‬

‫المقدمة السابعة‬

‫هناك فرق كبير بين القدرة على القبائح وصدور القبائح‪ .‬صدور القبائح من هللا تعالى محال عند أهل السنة والجماعة ولكن هي داخلة في‬
‫قدرة هللا تعالى كسائر الممكنات‪ ،‬وال فساد في عدها مما يدخل في عموم قدرة هللا تعالى‪ ،‬وإنما الفساد في صدورها‪ ،‬بل في نفيها من قدرة‬
‫هللا تعالى مخالفة لشمول قدرة هللا لجميع الممكنات‪ .‬ذكر في كتب العقائد‪(( :‬قدرته تعالى يعم سائر الممكنات)) و‪(( :‬كل ممكن مقدور))‬
‫انتهى‬

‫وفي صورة دخول القبائح – كالسفه والعبث الظلم بمعنى وضع الشيء في غير محله – في قدرة هللا تعالى ليس فيها ما يقتضي امتناعا‬
‫ذاتيا من األسباب التي فصلت فى المقدمة األولى‪ ،‬فكيف يخرج األفعال القبيحة من قدرة هللا تعالى؟ نعم‪ ،‬األوصاف التي تقتضي انفكاك‬
‫الذات عن نفسه أو عن لوازمه هي من المستحيالت ذاتا كاألكل والشرب وأمثالهما‪ ،‬وهي خارجة من القدرة القديمة‬

‫والحاصل‪ :‬القول بشمول قدرة هللا تعالى للقبائح وأن صدورها ممكن في نفسه هو مذهب أهل السنة‪ ،‬ولكن يمتنع صدورها بمانع خارجي‬
‫فال يتحقق أبدا‬

‫قال في شرح المطالع‪(( :‬فالمانع من صدوره عنه تعالى وهو عدم الداعية واإلرادة إلى صدوره حاصل‪ ،‬ال أن القدرة عنه زايلة‪ ،‬فهو قادر‬
‫على القبيح إال أنه لم يصدر عنه بعدم إرادة منه إلى صدوره‪ ،‬ال أنه ليس بقادر عليه)) انتهى‬

‫وال يقاس ضد العلم وضد القدرة أي‪ :‬الحهل والعجز على األفعال القبيحة كما هو ظاهر‬

‫وبالتالي‪ :‬ال يوصف موصوف بصفة حتى يقوم تلك الصفة به حقيقة‪ ،‬حاء في كتب الكالم القول ب‪(( :‬ضرورة امتناع إثبات المشتق‬
‫للشيء من غير قيام مأخذ اإلشتقاق به))‪ ،‬فال يوصف أحد بالكذب بمجرد قدرته عليه‪ ،‬وإال لزم وصف األنبياء واألولياء – نعوذ باهلل‬
‫تعالى – بالقبائح! ولزم وصف الكفار والفجار باألفعال الحسنة‬

‫واآلن – بإذن هللا تعالى – نعين محل الخالف بيننا – مؤيدي الشاه إسماعيل الشهيد عليه الرحمة في هذه المسألة – وبين المخالفين‪ .‬كلنا‬
‫متفقون على أن هللا متكلم‪ ،‬أما كيفة تكلمه وحقيقته فهذا شيء آخر‪ .‬وكلنا متفقون على أن عقد الكالم اللفظي وإصداره تحت قدرة هللا‬
‫تعالى‪ .‬ولكن جاء فى القرن الثالث عشر جماعة من العلماء قالوا بأن عقد جملة مخالفة للواقع وتنزيله خارج عن قدرة هللا القديمة‪ ،‬ففي‬
‫حالة قيام زيد يقدر هللا تعالى على تأليف جملة‪(( :‬زيد قائم)) وتنزيله‪ ،‬وأما في حالة قعوده‪ ،‬فتأليف مثل هذا الكالم وتنزيله خارج من‬
‫قدرته‪ ،‬وليس ذات البارئ تعالى قادرا على أن يخبر بمثل هذا الكالم المخالف للواقع‬

‫وقال جماعة من العلماء – موافقة ألهل السنة والجماعة – أنه قادر مختار فى الحالتين‪ ،‬لكن ال يتحقق فيه إرادة الكذب أو اإلخبار بما هو‬
‫خالف الواقع‪ ،‬فال يقع أبدا‪ .‬فلو تصورنا – على سبيل الفرض – أن آدم عليه السالم لم يأكل من الشجرة أو فرعون لم يدعى الربوبية‪،‬‬
‫يكون عقد كالم‪(( :‬عصى آدم ربه)) وكالم‪(( :‬فقال أنا ربكم األعلى)) وتنزيلهما في قدرة هللا تعالى كما هو فى الواقع‪ ،‬إال أن تحقق إصدار‬
‫مثل هذا ممتنع لتمام صدقه تعالى وحكمته ومقتضى تقدسه ورحمته‪ .‬كل ما وقع منه أو يقع ضروري الصدق‪ ،‬لو توقف أحد في تصديق‬
‫شيئ من كالمه الحتمال عدم الصدق فيه فهو زنديق وملحد وخارج من دائرة اإلسالم‬

‫فالحاصل أن الجميع متفقون على وجوب الصدق وامتناع الكذب‪ ،‬وإنما اختلفوا في سببه‪ ،‬فجاء موالنا الشاه إسماعيل الدهلوي وأتباعه إلى‬
‫أن وجوب الصدق وامتناع الكذب مبنيان على إرادة هللا واختياره فإنه تعالى يلتزم الصدق ويحترز من الكذب‪ ،‬وجاء مخالفوهم إلى أنهما‬
‫مبنيان على عدم القدرة على الكذب‪ ،‬فوجوب الصدق عندهم إنما هو لعجزه عن الكذب‬

‫والمستدل على كون الكذب فى الكالم اللفظي ممتنعا ذاتيا إما أن يستدل بالدالئل النقلية أو الدالئل العقلية‪ .‬فلو استدل بالدالئل النقلية فمعلوم‬
‫من المقدمة األولى أن مجرد لفظ ‘الممتنع’ و’محال’ وأمثالهما غير كاف في إثبات ما يدعيه‪ ،‬فإنه يحتمل امتناعا غير ذاتي‬
‫ولو استدل بالدالئل العقلية فيجب عليه أن يبين وجه لزوم الكذب فى الكالم اللفظي لنقص في ذات هللا تعالى أو صفاته الذاتية‪ ،‬ولو لم‬
‫يتطرق دليله إلى هذا األمر ال يتم استدالله‬

‫وليس حكم النقص فى الصفات الذاتية مثل حكم النقص فى الصفات الفعلية كما سبق‪ ،‬ويجب أن يعين المخالف الذي يستدل على امتناع‬
‫الكذب فى الكالم اللفظي ذاتيا بكونه منطبقا على الكالم النفسي‪ ،‬ما هو مراده بالكالم النفسي؟ وما وجه امتناع الكذب فيه؟ ويالحظ اللبيب‬
‫المنصف أن مع مراعاة جميع هذه األمور يبطل أكثر ما يستدلون به‬

‫الباب األول‬

‫يجب علينا أن نتبع فى األمور االعتقادية‪ :‬اآليات القرآنية واألحاديث النبوية وإجماع الصحابة واألكابر‪ ،‬وببركة اتباعهم نجد أن العقل‬
‫السليم موافق لكالمهم‪ ،‬وال نرسل العقل كما أرسله المعتزلة محرفين لكالم هللا والرسول صلى هللا عليه وسلم واألكابر‪ ،‬فجعلوا العقل‬
‫المجرد أصال فى العقيدة وخاصة في باب اإللهيات وجعلوا النصوص تابعة لعقلهم‪ .‬وأهل الحق جعلوا النصوص أصال والعقل تابعا لها‬

‫فمثال‪ :‬يعلم من النصوص الصريحة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة أن هللا وحده خالق الممكنات الموجودة كلها‪ ،‬حتى الشر‪ ،‬وزعمت‬
‫المعتزلة اعراضا عن هذا اإلجماع أنه يلزم من هذا القول عدم صحة تكليف العبد في أفعاله اإلختيارية فإنه ليس خالقا ألفعاله‪ ،‬فجعلوا‬
‫العبد خالقا ألفعاله اإلختيارية‪ ،‬وقالوا بأنه يلزم من مخالفتهم وصف هللا بعدم العدل والحكمة والرحمة‪ ،‬وقالوا‪(( :‬إن العبد لو لم يكن مختارا‬
‫يقبح تكليفه))‪ .‬فيأولون – بل يحرفون – كالم هللا تعالى ويعرضون عن أقوال الصحابة وإجماعهم وأقوال السلف‪ .‬واعتقادهم هذا يلزم‬
‫كون العبد شريكا هلل فى الخلق‪ ،‬ففروا – على زعهمهم – من مشكلة ودخلوا في مشكلة أكبر منها‪ ،‬وبتعبير آخر‪ :‬فروا من المطر وقاموا‬
‫تحت الميزاب‪ .‬وجواب أهل السنة هو أن العبد يصح تكليفه فى األمور اإلختيارية بناء على دخل إرادته وكسبه فيها وإن لم يكن خالقا لها‪.‬‬
‫قال فى المسايرة وغيرها‪(( :‬فالتحقيق أن عقابه إنما هو على مخالفته مختارا غير مجبور فإن تعلق اإلرادة بالمعصية لم يوجبها منه ولم‬
‫يسلب اختياره فيها ولم يجبره على فعلها)) انتهى‬

‫ومثال آخر أنه ال يجب على هللا أن يثيب العبد المطيع وال أن يعذب العبد المسيئ‪ ،‬فإنه هو المختار ويفعل ما يشاء‪ ،‬فيمكن له – في نفسه‬
‫– أن يعذب المطيع ويثيب المسيئ‪ ،‬ولكن ال يفعل هذا بناء على كرمه وحكمته وصدقه وعدله‪ .‬قال في شرح المقاصد‪(( :‬الثواب فضل من‬
‫هللا تعالى والعقاب عدل من غير وجوب عليه وال استحقاق من عبد خالفا للمعتزلة إال أن الخلف فى الوعد نقص ال يجوز أن ينسب إلى‬
‫هللا تعالى فيثيب المطيع البتة انجازا لوعده)) انتهى‬

‫والقول بخالفه يعارضه صريح النصوص من قوله تعالى‪(( :‬إن هللا على كل شيء قدير)) و‪(( :‬ال يسئل عما يفعل وهم يسئلون)) و‪:‬‬
‫((خالق كل شيء)) و‪(( :‬يفعل ما يشاء))‪ .‬وال يلزم من دخول شيء في قدرة هللا تعالى وقوعه‪ .‬واستدل المعتزلة الذين يقولون بعدم دخول‬
‫مثل هذا في قدرة هللا بما قال في شرح المقاصد‪(( :‬الثالث اآليات واألحاديث الواردة في تحقيق الثواب والعقاب يوم الجزاء فلو لم يجب‬
‫وجاز العدم لزم الخلف والكذب)) وأجاب فيه بقوله‪(( :‬ورد بأن غايته الوقوع البتة وهو ال يستلزم الوجوب على هللا وال استحقاق من العبد‬
‫على ما هو المدعى))‪ ،‬فوعد هللا وخبره إنما يدالن على وقوعه ال على كون خالفه غير مقدور له‬
‫وأهل السنة يقولون بعموم قدرة هللا مع تنزهه من وقوع القبائح‪ .‬لو دل قوله تعالى‪(( :‬إن هللا على كل شيء قدير)) و‪(( :‬ال يسئل عما يفعل‬
‫وهم يسئلون)) و‪(( :‬خالق كل شيء)) و‪(( :‬يفعل ما يشاء)) على عموم القدرة وشمولها للقبائح‪ ،‬فإنه دل قوله‪(( :‬وما خلقنا السموات‬
‫واألرض وما بينهما باطال)) و‪(( :‬ربنا ما خلقت هذا باطال)) و‪(( :‬وما خلقنا السموات واألرض وما بينهما العبين)) و‪(( :‬أفحسبتم أنما‬
‫خلقناكم عبثا)) و‪(( :‬وما هللا يريد ظلما للعباد)) و‪(( :‬إنه ال يحب الفساد)) على عدم تحققها منه‬

‫والمعتزلة المتبعون للنظام (النظامية) قالوا بعدم دخول القابئح – كالظلم والعبث والباطل والعبث – في قدرة هللا‪ ،‬والمزدارية – فرقة‬
‫أخرى من المعتزلة – على طرف آخر‪ ،‬قالوا بأنه ال مانع من وقوع مثل هذه القبائح فتحققها أيضا ممكن! وأهل السنة والجماعة‬
‫متوسطون بين هذين الطرفين‬

‫واألنبياء المعصومون من المعاصي المحفوظون عنه قادرون على فعل المعاصي‪ ،‬وهذا يدل على كمال أفضليتهم‪ ،‬وإال يجب كون‬
‫األشجار واألحجار أفضل منهم من هذا الوجه فإنها ال تقدر على فعل المعاصي أصال! وهذا باطل البداهة‪ .‬وكون خواص البشر أفضل من‬
‫خواص المالئكة هو من هذا الوجه‪ .‬ولو كان القدرة على القبائح سببا للنقص كما زعمت الخصم لينعكس األمر‪ .‬فالحاصل أن القدرة على‬
‫القبائح من الكمال كما أن االحتراز منها أيضا من الكمال والفضيلة‪ .‬ونتيجة األمر هو أن المعتزلة إنما يثبتون كمال عدل هللا وينفون كمال‬
‫قدرته‪ ،‬وأهل السنة يثبتون الكمال في كليهما‪ .‬إنما زلت المعتزلة ألنهم لم يفرقوا بين القدرة على القبائح وبين صدورها منه‪ .‬قال في شرح‬
‫المواقف‪(( :‬وأيضا فاإلجماع منعقد على أنهم أي األنبياء مكلفون بترك الذنوب مثابون به ولو كان الذنب ممتنعا عنه لما كان األمر كذلك‬
‫إذ ال تكليف بترك الممتنع وال ثواب عليه لما عرفت آنفا)) انتهى‬

‫واآلن نلفت أنظارنا إلى المسألة التي نحن بصددها‪ .‬فقول من قال بأن تأليف جملة تخالف الواقع وتنزيله على العباد إخبارا بما ال يطابق‬
‫الواقع ليس تحت قدرة هللا تعالى فهذا قول يخالفه العقل السلم‪ ،‬فإنه ليس فيه ما يقتضي اإلمتناع الذاتي وال يصير الممكن بالذات ممتنعا‬
‫بالذات بمجرد العوارض واإلضافات‪ ،‬وبالتالي قد ثبت شمول قدرة هللا لجميع الممكنات‪ .‬فالقائلون بعدم دخوله فى القدرة سلكوا مسلك‬
‫المعتزلة في هذه المسألة‪ ،‬وخالفوا إجماع أهل السنة أنه ال يجب على هللا شيء‪ .‬وأهل السنة سلكوا مسلكا بين المزدارية القائلين بإمكان‬
‫تحقق فعلية الكذب والنظامية القائلين بعدم دخوله في قدرة البارئ تعالى‪ ،‬فنفوا عن هللا الجبر – العجز عن اإلخبار بما يخالف الواقع –‬
‫والنقصان أو القبح – فعلية الكذب‪ ،‬وسلكوا مسلكا متوسطا معتدال‬

‫أما أدلة أهل السنة فهي النصوص القطعية الصريحة‪(( :‬إن هللا على كل شيء قدير)) و‪(( :‬يفعل ما يريد)) و‪(( :‬خالق كل شيء)) و‪:‬‬
‫((فعال لما يريد)) انتهى‬

‫وعلماء الكالم المعتبرون أيدوا هذا المسلك بإدخالهم جميع الممكنات في قدرة هللا تعالى‪ .‬قال فى المقاصد وغيره‪(( :‬ألن المقتضي للقادرية‬
‫هو الذات والمصحح للمقدورية هو اإلمكان‪ ،‬وال تمايز قبل الوجود يخصص البعض‪ ،‬واألولى التمسك بمثل‪ :‬وهللا على كل شيء قدير))‬
‫انتهى‬

‫قال العالمة الدواني في شرح العقائد‪(( :‬وال بد للمكن على تقدير وجود من اإلنتهاء إلى الواجب‪ ،‬وقد ثبت أنه فاعل باإلختيار‪ ،‬فيكون‬
‫قادرا عليه‪ ،‬ألن العجز عن البعض نقص وهو على هللا تعالى محال مع أن النصوص ناطقة بعموم القدرة‪ ،‬كقوله تعالى‪ :‬وهو على كل‬
‫شيء قدير)) انتهى‬
‫قال في شرح المقاصد‪(( :‬فاألولى التمسك بالنصوص الدالة على شمول قدرته مثل‪ :‬وهللا على كل شيء قدير)) انتهى‬

‫قال العلماء‪(( :‬واعلم أن المخالفين في هذا األصل‪ ،‬أعني عموم قدرته تعالى للممكنات كلها – وهو أعظم األصول – فرق متعددة))‪ ،‬وفي‬
‫شرح المقاصد‪(( :‬ومنهم النظام وأتباعه القائلون بأنه ال يقدر على خلق الجهل والكذب والظلم وسائر القبائح‪ ،‬إذ لو كان خلقها مقدورا له‬
‫لجاز صدوره عنه والالزم باطل إلفضائه إلى السفه إن كان عالما بقبح ذلك وباسغنائه عنه وإلى الجهل إن لم يكن عالما‪ ،‬والجواب‪ :‬ال‬
‫نسلم قبح شيء بالنسبة إليه تعالى‪ ،‬كيف وهو تصرف في ملكه‪ ،‬ولو سلم‪ :‬فالقدرة عليه ال تنافي امتناع صدوره عنه نظرا إلى وجود‬
‫الصارف وعدم الداعي وإن كان ممكنا في نفسه)) انتهى‬

‫ومعنى الظلم هنا ليس هو التصرف في ملك الغير والجهل ليس هو ضد العلم‪ .‬ال ينبغي لقارئ هذه العبارة أن يفهم منه أن مثل هذا الظلم‬
‫ومثل هذا الجهل في قدرة هللا تعالى – والعياذ باهلل‪ .‬معنى الظلم هنا هو وضع الشيء في غير محله والجهل هو ضد الحكمة والحلم‪.‬‬
‫والبيان فيما يلي‬

‫قال صاحب منهاج السنة‪(( :‬والقول الثاني أن الظلم مقدور وهللا تعالى منزه عنه وهذا قول الجمهور من المثبتين للقدرة ونفاته‪ ،‬وهو قول‬
‫كثير من النظار المثبتة للقدر كالكرامية وغيرهم وكثير من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهو قول القاضي أبي‬
‫حازم واالقاضي أبي يعلى وغيرهما‪ ،‬وهذا كتعذيب اإلنسان بذنب غيره)) انتهى‬

‫قال العالمة الشهاب الخفاجي في تفسير قول هللا تعالى‪(( :‬إن هللا ال يظلم مثقال ذرة))‪(( :‬قال المحقق‪ :‬هو ال يفعل الظلم لمنافاته الحكمة ال‬
‫القدرة ألن الظاهر من قولنا‪ :‬فالن ال يفعل كذا فى األفعال التي هي اختيارية في نفسها أنه تركه باختياره‪ ،‬والقادر على الترك قادر على‬
‫الفعل إلخ)) انتهى‬

‫فالظلم الذي يقع تحت قدرة هللا عند الجمهور هو وضع الشيء في غير محله كما مثله بقوله‪ :‬تعذيب اإلنسان بذنب غيره‬

‫أما الظلم بمعنى التصرف في ملك الغير فال يمكن بالنسبة إلى هللا ذاتيا كما هو ظاهر جدا‪ ،‬فإن هللا تعالى ال يخرج من ملكه شيء‪ .‬قال‬
‫المحقق الدواني في شرح العقائد‪(( :‬والظلم قد يقال على التصرف في ملك الغير وهذا المعنى محال في حقه تعالى ألن الكل ملكه فله‬
‫التصرف فيه كما يشاء‪ ،‬وعلى وضع الشيء في غير موضعه‪ ،‬وهللا تعالى أحكم الحاكمين وأعلم العالمين وأقدر القادرين فكل ما وضعه‬
‫في موضع يكون ذلك أحسن المواضع بالنسبة إليه وإن خفي وجه حسنه علينا))‪ ،‬فعلى المعنى األول ال يتحقق محل الظلم بالنسبة إلى هللا‬
‫فيمتنع عقال وذاتا‪ ،‬وعلى المعنى الثاني يتحقق محله فيمكن بالذات وإن امتنع بالغير‬

‫وورد لفظ الجهل بالمعنى المذكور فى التنزيل‪(( :‬قال‪ :‬إنكم قوم تجهلون)) وقال‪(( :‬ولكني أراكم قوما تجهلون)) قال البيضاوي‪(( :‬تسفهون‬
‫عليهم بأن تدعوهم أراذل))‪ .‬وجاء فى الحديث‪(( :‬وإن جهل على أحدكم جاهل وهو صائم فليقل‪ :‬إني صائم))‪ .‬ومعنى الجهل هنا مثل الشتم‬
‫والضرب والطعن‪ .‬قال شراح الحديث‪(( :‬الجهل كما يطلق على مقابل العلم كذلك يطلق على مقابل الحلم))‪ .‬قال الخفاجي في حاشية‬
‫البيضاوي‪(( :‬فيكون الجهل بمعنى آخر وهو الجناية على الغير وفعل ما يشق عليه قوال أو فعال‪ ،‬وهو معنى شائع كقوله‪ :‬أال ال يجهلن أحد‬
‫علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا)) انتهى‬
‫أما شبهات النظامية فتندفع بقولنا‪ :‬إن هذه األشياء ممكنة بالذات وممتنعة بالغير‬

‫وبالتالي‪ ،‬قال علماء األصول أن التخصيص في نص عام من نصوص الشريعة لو كان بطريق العقل يكون هو بمنزلة اإلستثناء‪ ،‬فال‬
‫يصح التخصيص بعده بالقياس‪ .‬قال فى التوضيح‪(( :‬فإن المخصص إذا كان هو العقل ونحوه فهو في حكم اإلستثناء على ما يأتي وال‬
‫يورث شبهة إلخ)) قال فى التلويح‪(( :‬فإن كان المخصص هو العقل كان العام قطعيا فى الباقي لعدم مورث الشبهة إلخ))‪ ،‬فلما خرج من‬
‫اآلية ((خالق كل شيء)) ذات هللا وصفاته بالبداهة وخرج من قوله‪(( :‬إن هللا على كل شيء قدير)) الممتنعات بالذات كاألكل والشرب‬
‫بالبداهة‪ ،‬بقي النص بعد هذا التخصيص على عمومه وقطعيته‬

‫فالكذب – كخالف العدل – داخل في قدرة هللا‪ ،‬فإنه داخل في عموم قول هللا‪(( :‬إن هللا على كل شيء قدير))‪ ،‬وهو ليس مثل األكل‬
‫والشرب كما سبق‪ .‬فكما أن تعذيب المطيع داخل في قدرته تعالى ولكن يمتنع لمانع‪ ،‬فكذلك تأليف جملة تخالف الواقع داخل في قدرته وإن‬
‫امتنع صدوره لمانع‬

‫قال في شرح المواقف‪(( :‬الرابعة النظام ومتبعوه قالوا‪ :‬ال يقدر على الفعل القبيح‪ ،‬ألنه مع العلم بقبحه سفه ودونه جهل وكالهما نقص‬
‫ننزهه تعالى عنه‪ ،‬والجواب أنه ال قبح بالنسبة إليه فإن الكل ملكه فله أن يتصرف فيه على أي وجه أراد‪ ،‬وإن سلم قبح الفعل بالنسبة إليه‬
‫فغايته عدم الفعل بوجود الصارف عنه وهو القبح وذلك ال ينفى القدرة عليه)) انتهى‬

‫فالقبائح التي أخرجتها المعتزلة من قدرة هللا تعالى ال نسلم أوال كونها قبيحا بالنسبة إلى هللا فإن القبح إنما يتحقق بالنسبة إلى منفعة العباد‬
‫ومصلحتهم‪ ،‬وبسبب هذه المصلحة يحترز عنها هللا تعالى اختيارا وإرادة ال جبرا وعجزا‬

‫والكذب وإظهار المعجزة على يد الكاذب سواء فى القبح كما فسره بعضهم‪ .‬وقال في شرح المقاصد‪(( :‬ظهور المعجزة على يد الكاذب‬
‫ألي غرض فرض وإن جاز عقال على شمول قدرة هللا‪ ،‬فهو ممتنع عادة معلوم اإلنتفاء قطعا كما هو حكم سائر العاديات)) انتهى‬

‫قال في شرح الصحائف‪(( :‬قلت‪ :‬إن فعل القبيح من غير حاجة محال‪ ،‬فإن أردت أنه محال لذاته فذلك غير مسلم ألنا نعلم ضرورة أن ذلك‬
‫الفعل ال يقتضى عدمه لذاته‪ ،‬بل نعلم أن نسبة وجوده وعدمه إلى ذاته واحدة‪ ،‬وإن أردت أنه محال ألن هللا تعالى قادر حكيم ال يريد أن‬
‫يفعل مثل ذلك الفعل‪ ،‬فذلك مسلم‪ ،‬لكن ذلك ال يوجب انتفاء القدرة عليه‪ ،‬بل تركه بقدرته وإرادته)) انتهى‬

‫هذا نص صريح في إثبات دعوانا‪ .‬قال في بعض الحواشي‪(( :‬قالوا‪ :‬إن الخلف فى الوعيد ال يعد نقصا بل يعد كرما يمدح به الباري‬
‫تعالى‪ ،‬بخالف الخلف فى الوعد فإنه يعد نقصا يجب تنزيه هللا تعالى عنه إذا الخلف بالكرم ال يليق بالكريم القادر عليه‪ ،‬والحق أن الخلف‬
‫جائز عقال مطلقا‪ ،‬لكنه غير واقع بالكتاب والسنة واإلجماع)) انتهى‬

‫فالخلف جائز عقال‪ ،‬والخلف من أفراد الكذب كما هو ظاهر‪ .‬وقال صاحب منهاج السنة‪(( :‬اعلم أن هللا تعالى لما قال في كتابه العظيم‪ :‬إن‬
‫هللا ال يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها اآلية‪ ،‬وقال الجمهور أن الظلم مقدور‪ ،‬فكان الجمهور قالوا‪ :‬إن خلف الوعد جائز ممكن‬
‫وإن كان هللا ال يخلف وعده أبدا دائما ألنه حكيم كريم ورحمته غالبة على غضبه)) انتهى‬
‫قال فى المسامرة شرح المسايرة‪(( :‬إذ ال شك في أن سلب القدرة عما ذكر من الظلم والسفه والكذب هو مذهب المعتزلة وأما ثبوتها أي‬
‫القدرة على ما ذكر ثم اإلمتناع عن متعلقها اختيارا بمذهب أي فهو بمذهب األشاعرة أليق منه بمذهب المعتزلة‪ ،‬وال يخفى أن هذا األليق‬
‫أدخل فى التنزيه أيضا‪ ،‬إذا ال شك في أن اإلمتناع عنها أي عن المذكورات من الظلم والسفه والكذب من باب التنزيهات عما ال يليق‬
‫بجناب قدسه تعالى‪ ،‬فيسبر بالبناء المفعول‪ ،‬أي‪ :‬يختبر العقل في أن أي الفصلين أبلغ فى التنزيه عن الفحشاء؟ أهو القدرة عليه أي على ما‬
‫ذكر من األمور الثالثة مع اإلمتناع أي امتناعه تعالى عنه مختارا لذلك ال اإلمتناع أو اإلمتناع عنه لعمد القدرة عليه‪ ،‬فيجب القول بأدخل‬
‫القولين فى التنزيه وهو القول األليق بمذهب األشاعرة)) انتهى‬

‫هذه العبارة صريحة في إثبات الدعوى‪ ،‬بل يعتبر قول المخالفين مذهب المعتزلة‪ ،‬وأيد هذه العبارة فى التحرير وشرحه التقرير‪(( :‬وذكر‬
‫فى المسايرة بطريق اإلشارة فى الجملة أن الثاني أي أنه يقدر وال يفعل قطعا أدخل فى التنزيه)) انتهى‬

‫قال القاضي عضد الدين في شرح مختصر األصول‪(( :‬وقد يقال‪ :‬إن امتناع الفعل لقيام صارف عن القبيح ال ينفى اإلختيار)) ثم قال‪:‬‬
‫((الجواب عن األول‪ :‬ال نسلم امتناع إظهار المعجزة على يد الكاذب والكذب على هللا تعالى امتناعا عقليا‪ ،‬وإن كنا نجزم بعدمه ألنهما من‬
‫الممكنات وقدرته شاملة)) وهذا نص صريح في إثبات الدعوى‬

‫زعمت المعتزلة أنه لو لم يكن الحسن والقبح عقليين لما امتنع الكذب ولجاز إظهار المعجزة على يد الكاذب فال يمكن إثبات النبوة‪ ،‬فأجاب‬
‫عن هذه الشبهة في مسلم الثبوت هكذا‪(( :‬وقد يجاب بأنا ال نسلم امتناع الكذب على هللا تعالى وامتناع إظهار المعجزة على يد الكاذب‬
‫امتناعا عقليا ألنهما من الممكنات‪ ،‬وقدرته شاملة‪ ،‬ولو سلم اإلمتناع فال نسلم أن انتفاء القبح العقلي يستلزم انتفاؤه لجواز أن يمتنع لمدرك‬
‫آخر وهو العادة‪ ،‬إذا ال يلزم من انتفاء دليل معين انتفاء العلم بالمدلول‪ ،‬وال يخفى ضعفهما)) انتهى‬

‫أما قول المصنف بضعف الجوابين فليس مراده ضعف مضمونهما‪ ،‬بل مراده بضعفهما هو إيرادهما جوابا عن شبهة المعتزلة‪ ،‬والدليل‬
‫على أن هذا هو المراد‪ :‬تأييد صاحب المسلم القول باإلمكان الذاتي للكذب في موضع آخر من كتابه‪ .‬قال في بحث التكليف‪(( :‬وأما‬
‫الصوري بأن يتلفظ بصيغة األمر ويقول‪ :‬أوجد المحال‪ ،‬وآت باجتماع النقيضين فما هو إال كقولك‪ :‬إجتماع النقيضين واقع‪ ،‬وإنما قيل‬
‫امتناعه لمدرك آخر لو تم لتم))‪ .‬وبيان المراد بهذه العبارة كالتالي‬

‫قال بعض األشاعرة‪ :‬يمكن هلل عز وجل تكليف العبد بما ال يطاق‪ ،‬وقال الماتريدية ومحققو األشاعرة أنه ليس بممكن‪ .‬ودليل القائلين بعدم‬
‫إمكانه كما فسره صاحب المسلم أنه إذا كان الطلب من آمر حقيقيا – بأنه فى الحقيقة يريد تحقق ذلك المأمور به من المأمور – فيجب‬
‫تصور وقوع هذا األمر في ذهن اآلمر‪ ،‬والممتنع بالذات غير متصور الوقوع لآلمر العليم‪ ،‬فال يأمر بمثله‪ .‬فأجاب القائلون بإمكانه‪ :‬ال‬
‫يجب تصور اآلمر تحقق وقوع المأمور به‪ ،‬إنما يجب التلفظ بمثل‪ :‬أوجد المحال أو‪ :‬آت باجمتاع النقيضين‪ .‬فأجاب صاحب المسلم عن‬
‫هذه الشبهة بما نقلنا عنه‪(( :‬وأما الصوري بأن يتلفظ بصيغة األمر ويقول‪ :‬أوجد المحال‪ ،‬وآت باجتماع النقيضين فما هو إال كقولك‪:‬‬
‫إجتماع النقيضين واقع‪ ،‬وإنما قيل امتناعه لمدرك آخر لو تم لتم)) أي‪ :‬قولنا بعدم إمكان تكليف العبد ما ال يطاق مبني على كون الطلب‬
‫طلبا حقيقيا‪ ،‬أما الطلب الصوري بأن ال يطلب اآلمر فى الحقيقة تحقق ذلك المأمور به من المأمور فهو جائز بالذات‪ ،‬وما هو إال كقول‪:‬‬
‫((إجتماع النقيضين واقع)) من غير اعتقاد حقيقة الكالم [وهو عين الكذب]‪ .‬فالتلفظ بمثل هذا الكالم من غير اعتقاد حقيقته ممكن‪ .‬فقال‬
‫محشي مسلم الثبوت‪(( :‬فإن اإلخبار حقيقة غير صحيح وإن كان التلفظ به صحيحا))‪ ،‬ولكن ال يليق مثل هذا التلفظ ألحكم الحاكمين‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫((وإنما قيل امتناعه لمدرك آخر لو تم لتم))‪ ،‬وهذا المدرك اآلخر هو تنزه هللا عن السفه وما يخالف الصدق والعدل والحكمة‬
‫هذا‪ ،‬وقال في شرح المواقف‪(( :‬النظامية أصحاب إبراهيم بن سيار النظام وهو من شياطين القدرية‪ ،‬طالع كتب الفالسفة‪ ،‬وخلط كالمه‬
‫بكالم المعتزلة‪ ،‬قالوا‪ :‬ال يقدر أن يفعل بعباده فى الدنيا ما ال صالح لهم فيه‪ ،‬وال يقدر أن يزيد فى اآلخرة أو أن ينقص من ثواب وعقاب‬
‫ألهل الجنة والنار‪ ،‬توهموا أن تنزيهه تعالى من الشرور والقابئح ال يكون إال بسلب قدرته عليها‪ ،‬فهم في ذلك كمن هرب من المطر إلى‬
‫الميزاب)) انتهى‬

‫قال في شرح المواقف‪(( :‬وأما العقاب ففيه بحثان‪ :‬األول‪ :‬أوجب جميع المعتزلة والخوارج عقاب صاحب الكبيرة إذا مات بال توبة ولم‬
‫يجوزوا أن يعفو هللا عنه بوجهين األول‪ :‬أنه تعالى أوعد بالعقاب على الكبائر وأخبر به أي بالعقاب عليها‪ ،‬فلو لم يعاقب على الكبيرة وعفا‬
‫لزم الخلف في وعيده والكذب في خبره وإنه محال؛ والجواب‪ :‬غايته وقوع العقاب فأين وجوب العقاب الذي كالمنا فيه إذ ال شبهة في أن‬
‫عدم الوجوب مع الوقوع ال يستلزم خلفا وال كذبا‪ ،‬ال يقال‪ :‬إنه يستلزم حوازهما وهو أيضا محال ألنا نقول‪ :‬استحالته ممنوعة‪ ،‬كيف وهما‬
‫من الممكنات التي تشملهما قدرته تعالى))‪ ،‬وهذا نص صريح واضح‬

‫قال األصفهاني في شرح الطوالع‪(( :‬وقال النظام أنه تعالى ال يقدر على خلق القبح ألن فعل القبيح محال والمحال غير مقدور‪ ،‬أما أن فعل‬
‫القبيح محال فألنه يدل على جهل الفاعل وحاجته وهما محاالن على هللا تعالى‪ ،‬والمؤدي إلى المحال محال‪ ،‬وأما أن المحال غير مقدور‬
‫فألن المقدور هو الذي يصح إيجاده وذلك يستدعي صحة الوجود‪ ،‬والممتنع ليس له صحة الوجود‪ .‬وجوابه‪ :‬أنه ال قبيح بالنسبة إلى هللا‬
‫تعالى‪ ،‬وإن سلم أن القبيح قبيح مطلقا ولكن المانع من فعله متحقق ال أن القدرة زائلة ألن القبيح حينئذ يكون محاال لغيره والمحال لغيره‬
‫ممكن لذاته مقدور فكونه مقدورا ال ينافي كونه محاال لغيره)) انتهى‬

‫قال في طوالع الرومي‪(( :‬جوابه أنه ال قبيح بالنسبة إليه ألنه مالك األمور كلها وإن سلم أن القبيح قبيح مطلقا وبالنسبة إليه أيضا فالمانع‬
‫من صدوره عنه تعالى وهو عدم الداعية واإلرادة إلى صدوره حاصل ال أن القدرة عنه زائلة‪ ،‬فهو قادر على القبيح إال أنه لم يصدر عنه‬
‫لعدم إرادة منه إلى صدوره ال أنه ليس بقادر عليه)) انتهى‬

‫قال في شرح التجريد لألصفهاني‪(( :‬وكالمه تعالى صادق ألن الكذب قبيح ال يجوز على هللا تعالى ألنه حكيم والحكيم ال يصدر عنه‬
‫القبيح))‪ ،‬فاالستحالة بسبب حكمته وال يلزم من هذا عدم دخوله فى القدرة‬

‫والكذب وإن كان ممكنا في نفسه لكنه محال – ال محالة – بالغير‪ .‬قال في شرح المقاصد‪(( :‬فإن قيل‪ :‬التمسك بالكتاب والسنة يتوقف على‬
‫العلم بصدق كالم هللا تعالى وكالم الرسول عليه السالم وداللة المعجزة وهذا ال يتأتى مع القوم بأنه خالق كل شيء حتى الشرور والقبائح‬
‫وأنه ال يقبح منه التلبيس والتدليس والكذب وإظهار المعجزة على يد الكاذب ونحو ذلك مما يقدح في وجوب صدق كالمه وثبوت النبوة‬
‫وداللة المعجزات‪ ،‬قلنا‪ :‬العلم بانتفاء تلك القوادح وإن كانت ممكنة في نفسها من العاديات الملحقة بالضروريات)) انتهى‬

‫قال فى المواقف‪(( :‬الرابع‪ :‬لو لم يقبح من الكذب وإظهار المعجزة عند الكاذب لم تثبت النبوة‪ ،‬قلنا‪ :‬ربما يمكن الشيء ويقطع بعدم وقوعه‬
‫كسائر العاديات)) انتهى‬

‫قال في شرح المواقف‪(( :‬والجواب أن اإلمكان العقلي ال ينافي الجزم بعدم الوقوع أصال كسائر العاديات)) انتهى‬
‫قال فيه أيضا‪(( :‬والجواب أن مدرك امتناع الكذب منه تعالى عندنا ليس هو قبحه العقلي حتى يلزم من انتفاء قبحه أن ال يعلم امتناعه منه‪،‬‬
‫إذ يجوز أن يكون له مدرك آخر وقد تقدم هذا في مباحث كونه تعالى متكلما وداللة المعجزة على صدق المدعي عادية فال يتوقف على‬
‫امتناع الكذب كما في سائر العلوم العادية التي ليست نقائضها ممتنعة‪ ،‬فنحن نجزم بصدق من ظهرت المعجزة على يده مع أن كذبه ممكن‬
‫في نفسه‪،‬فال يلزم التباس)) انتهى‬

‫قال فيه أيضا‪(( :‬الخامس أنه ال يلزم من تصديق هللا إياه صدقه إال إذا علم استحالة الكذب على هللا تعالى)) ثم أجاب‪(( :‬الجواب اإلجمالي‬
‫ما قررناه غير مرة أي مرارا من أن التجويزات العقلية ال ينافى العلم العادي كما فى المحسوسات)) انتهى‬

‫وهذه عبارات صريحة في إثبات دعوانا بحمد هللا تعالى‪ .‬ونقل أخيرا عبارة للمحقق الدواني للفائدة‬

‫قال المحقق الدواني في شرح العقائد في تأييد قول أهل السنة‪(( :‬وال يجب عليه شيء))‪(( :‬ألن الواجب إما عبارة عما يستحق تاركه الذم‬
‫كما قال بعض المعتزلة أو عما تركه مخل بالحكمة كما قاله بعض آخر أو ما قرر هللا تعالى على نفسه أن يفعله وال يتركه وإن كان تركه‬
‫جائزا كما اختاره بعض الصوفية والمتكلمين كما يشعر به ظواهر اآليات واألحاديث مثل قوله تعالى ثم إن علينا حسابهم وقوله عليه‬
‫السالم حاكيا عن هللا يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي واألول باطل ألنه تعالى هو المالك على اإلطالق وله التصرف في ملكه كيف‬
‫يشاء فال يتوجه إليه الذم أصال على فعل من األفعال بل هو المحمود في كل أفعاله وكذا الثاني ال نسلم إجماال بأن جميع أفعاله تتضمن‬
‫الحكم والمصالح وال يحيط علمنا بحكمته والمصلحة فيه على أن التزام رعاية الحكمة والمصلحة ال يجب عليه تعالى‪ ،‬ال يسئل عما يفعل‬
‫وهم يسئلون‪ ،‬وكذا الثالث ألنه إن قيل بامتناع صدور خالفه عنه تعالى فهو ينافي ما صرح به في تعريفه من جواز الترك وإن لم يقل به‬
‫فأين معنى الوجوب إذ حينئذ يكون محصله أن هللا تعالى ال يتركه على طريق جري العادة وذلك ليس من الوجوب في شيء بل يكون‬
‫إطالق الوجوب مجرد اصطالح)) انتهى كالمه‬

‫‪.‬فانظر قوله‪ :‬التزام رعاية الحكمة والمصلحة ال يجب عليه تعالى‬

‫وأما الدالئل العقلية إلثبات دعوانا فهي كالتالي‬

‫‪ .١‬يستطيع أكثر الناس تأليف كالم غير مطابق للواقع وإلقائه على المخاطب‪ ،‬فالقول بأن هللا ال يقدر على مثل هذا يلزم القول بأن اإلنسان‬
‫أقدر من هللا من هذا الوجه‪ ،‬وهو باطل بالبداهة‪ .‬قاله الشيخ إسماعيل الشهيد في رده على العالمة فضل حق الخيرآبادي‬

‫‪ .٢‬الكمال والفضيلة إنما في االحتراز عن الشيء القبيح باالختيار واإلرادة ال عجزا وجبرا‪ ،‬وإال يجب مدح الجامدات النتفاء الكذب عنهم‪.‬‬
‫قاله الشيخ إسماعيل الشهيد أيضا‬

‫‪ .٣‬الصدق ليس عين ذات هللا وال من صفاته الذاتية الحقيقية‪ ،‬وليس فى القول بضده ما يقتضي سلب ذات هللا عن حقيقته أو سلبه عن‬
‫لوازمه‬
‫‪ .٤‬الصدق والكذب من صفات الكالم اللفظي الذي هو مخلوق وحادث‪ ،‬وكل مخلوق مقدور هلل تعالى‪ ،‬فالصدق والكذب إذن في قدرته‪.‬‬
‫واتصاف المتكلم بالصدق والكذب إنما هو اتصاف إضافي‪ ،‬بل هو إضافة أمر إضافي! فإن الصدق والكذب ليسا من صفات الكالم نفسه‪،‬‬
‫فكيف يكونان من صفات ذات المتكلم؟! الكالم إنما يكون صادقا أو كاذبا باعتبار مطابقته للواقع أو عدم مطابقته له‪ ،‬وهذا أمر إضافي‪.‬‬
‫وبناء على هذا قد يكون كالم في حالة صدق ويكون نفس ذلك الكالم كذب في حالة أخرى‪ .‬وإنما يوصف المتكلم بأنه صادق أو كاذب‬
‫بسبب تلفظه مثل هذا الكالم‬

‫الباب الثاني‬

‫الباب الثاني من الكتاب طويل جدا‪ ،‬ولكن ألخص منه بعض مباحث مهمة‬

‫المبحث األول‬

‫قال المحقق الدواني‪(( :‬قلت‪ :‬الكذب نقص والنقص عليه تعالى محال فال يكون من الممكنات وال يشمله القدرة كما ال يشمل القدرة سائر‬
‫وجوه النقص عليه تعالى كالجهل والعجز ونفي صفة الكالم وغيرها من الصفات الكمالية)) انتهى‬

‫هذا أصرح العبارات تفيد الخصم‪ ،‬وليس لهم عبارة أقوى منها‪ ،‬ولكن عندنا ال يذهب المحقق الدواني إلى اإلمتناع الذاتي للكذب (كما هو‬
‫ظاهر العبارة)‪ ،‬والبيان فيما يلي‬

‫ذكر في شرح العقائد الجاللي وفي شرح المواقف وغيرهما أن صاحب الكبيرة الذي مات قبل التوبة يجب على هللا تعذيبه عند المعتزلة‬
‫والخوارج وال يقدر على العفو عنهم‪ ،‬وقال أهل السنة‪ :‬ليس بواجب عليه‪ ،‬بل قد يتحقق العفو عنه فليس ممتنعا بالغير أيضا‬

‫فأجاب المعتزلة‪ :‬قد أخبر هللا في كثير من اآليات أنه يعذب صاحب الكبيرة‪ ،‬فيجب تعذيبه‪ ،‬وإال يلزم الكذب والخلف في وعيده‬

‫وأجاب في شرح المواقف وشرح المقاصد وغيرهما عنه بأن استداللهم هذا غايته وجوب وقوع العذاب ال وجوبه على هللا تعالى وامتناع‬
‫العفو على ما هو دعواهم‪ ،‬فإنه ال تالزم بين عدم الوجوب وعدم الفعلية‬

‫وزاد في شرح المواقف أنه بقي شبهة الخلف والكذب فإنه إذا قلنا بعدم وجوب العذاب سلمنا إمكان الكذب والخلف‪ ،‬فقال‪(( :‬نقول‬
‫استحالتهما ممنوعة‪ ،‬كيف وهما من الممكنات التي يشملها قدرته تعالى)) انتهى‬

‫وقال المحقق الدواني عن قول شارح المواقف هذا‪(( :‬قلت‪ :‬الكذب نقص والنقص عليه تعالى محال فال يكون من الممكنات وال يشمله قدرة‬
‫هللا تعالى كما ال يشمل القدرة سائر وجوه النقص عليه تعالى كالجهل والعجز ونفي صفة الكالم وغيرها من الصفات الكمالية)) انتهى‬
‫وقول المحقق هذا مبني على مشكلة في قول شارح المواقف‪ ،‬وهو أن أهل السنة لم يقل بإمكان العفو عن صاحب الكبيرة بالذات فقط‪ ،‬بل‬
‫قالوا بإمكانه تحققا وفعال أيضا‪ ،‬فقول شارح المواقف هذا يلزم منه – على قول أهل السنة – وقوع الكذب وصدوره عنه‪ ،‬وهو باطل‬
‫قطعا‪ ،‬والقول بأن ((عدم الوجوب مع الوقوع ال يستلزم الخلف)) ال يستقيم على مذهب أهل السنة في مسألة العفو عن صاحب الكبيرة‪ .‬فقد‬
‫يتوهم قارئ كالم شارح المواقف أن كالمه‪(( :‬وهما من الممكنات التي يشملها قدرته تعالى)) هو فى اإلمكان الوقوعي ال اإلمكان الذاتي‪،‬‬
‫بناء على مذهب أهل السنة فى المسألة‪ ،‬فرد عليه المحقق الدواني بقوله‪(( :‬فال يكون من الممكنات وال يشمله القدرة))‪ ،‬أي‪ :‬فال يكون‬
‫وقوع الخلف والكذب وصدورهما عنه من الممكنات بالفعل‪ ،‬أما قوله‪(( :‬وال يشمله القدرة)) فهو كالم ظاهره مشكل‪ ،‬ولنا أن نحمله على‬
‫القدرة بمعنى التقدير واإلرادة وإن كان هذا الحمل بعيدا‪ .‬ويدل على كون هذا هو مراد الدواني ما قاله بعد هذه العبارة‪ ،‬وهو الجواب‬
‫الصحيح عن إلزام المعتزلة‪(( :‬بل الوجه في الجواب ما أشرنا إليه سابقا من أن الوعد والوعيد مشروطتان بقيود وشروط معلومة من‬
‫النصوص فيجوز التخلف بسبب انتفاء بعض تلك الشروط)) انتهى‬

‫والحق أن جواب الدواني وجواب شارح المواقف كليهما صحيح في موضعهما‪ ،‬فجواب شرح المواقف جواب إلزامي‪ ،‬أي‪ :‬هذا غاية‬
‫استداللكم أنه يوجب وقوع العذاب ال عدم القدرة على العفو‪ ،‬وليس جوابه هذا مبنيا على قول أهل السنة فى المسألة‪ ،‬فمراده باإلمكان هو‬
‫اإلمكان الذاتي والمقدورية ال اإلمكان الوقوعي‪ ،‬وأما قول المحقق الدواني فهو جواب تحقيقي ومبني على ما هو قول أهل السنة فى‬
‫المسألة‬

‫قال في شرح المقاصد‪(( :‬الثالث‪ :‬اآليات واألحاديث الواردة في تحقق الثواب والعقاب يوم الجزاء فلو لم يجب وجاز العدم لزم الخلف‬
‫والكذب‪ ،‬ورد بأن غايته الوقوع البتة‪ ،‬وهو ال يستزلم الوجوب على هللا واالستحقاق من العبد على ما هو المدعى‪ ،‬هذا والمذهب جواز‬
‫الخلف فى الوعيد بأن ال يقع العذاب‪ ،‬وحينئذ يتأكد اإلشكال)) انتهى‬

‫وتأكد اإلشكال الذي ذكره هو لزوم وقوع الكذب والخلف وهما ال يجوز‪ ،‬فهذا هو اإلشكال الذي أراد الدواني حله والجواب عنه‪ .‬أما‬
‫النقص الذي ذكره المحقق فهو النقص أو القبح فى األفعال‪ ،‬وقد سبق أن القبح فى األفعال ممكن بالذات وممتنع بالغير‬

‫المبحث الثاني‬

‫اعترض الخصم على الدليل األول من الدالئل العقلية – وهو إلزام الخصم بالقول بأن اإلنسان أقدر من هللا – أنه يلزم على هذا الدليل‬
‫القول بأن هللا تعالى يقدر على األكل والشرب إلخ فإن اإلنسان يقدر عليها‪ .‬والجواب عن هذا اإلعتراض أن األكل والشرب وأمثالهما من‬
‫خواص األجسام ومن لوازم الممكنات‪ ،‬وصدورها ال يتصور بغير الجسمية‪ ،‬فصدور مثل هذه األفعال يلزم تغيرا كبيرا في ذات هللا‬
‫وصفاته الذاتية‪ ،‬وهذا ممتنع بالذات كما تقدم‪ .‬وبالتالي‪ :‬ليس فعل األكل وغيره بالنسبة إلى هللا مثل فعل األكل وغيره بالنسبة إلى الخلق‪،‬‬
‫فإن ذات البارئ تعالى ليس محال لألكل والشرب وغيرهما‪ ،‬وليس في قدرة الخلق أيضا أن يجعلوا ما ليس بجسم آكال شاربا‪ .‬أما الكذب‬
‫بالنسبة إلى الخالق وبالنسبة إلى الخلق فليس بينهما مخالفة‪ ،‬فإن الكالم اللفظي ال فرق في حقيقته بالنسبة إلى الخالق وبالنسبة إلى‬
‫المخلوق‪ .‬نعم‪ ،‬كيفية التكلم يخالف‪ ،‬ولكن ال يخالف حقيقة الكالم اللفظي‪ .‬فعلى هذا يكون ما يتركب منه الكالم نفس الشيء‪ :‬أي‪ :‬حروف‬
‫الهجاء واأللفاظ الوضعية‬

‫قال العالمة الجلبي‪(( :‬إنا نعلم بالضرورة أن من علم شيئا أمكن له أن يخبر عنه ال على ما هو عليه))‪ ،‬وهذا يدل على أنه ال فرق بين‬
‫حقيقة كالم هللا اللفظي وحقيقة كالم اإلنسان اللفظي‪ ،‬وإال لما صح هذا القياس‪ .‬ثم قال الجلبي‪(( :‬أجيب عنه بأن قوله من علم شيئا إلخ‬
‫ممنوع ودعوى الضرورة غير مسموعة إذ ليس الكالم فى الصدق والكذب اللفظيين حتى يمكنه ذلك بل فى النفسانيين))‪ ،‬فهذا يدل على‬
‫أنه ال فرق بين صدق الكالم اللفظي وكذبه بالنسبة إلى الخالق وبالنسبة إلى الخلق‪ ،‬وإنما الفرق فى الكالم النفسي‬

‫المبحث الثالث‬

‫اعترض الخصم على الدليل الثاني من الدالئل العقلية – وهو أنه إنما يصح التمدح على ترك الشيء القبيح إذا كان باإلختيار واإلرادة –‬
‫بأن هللا يقول‪(( :‬ال تأخذه سنة وال نوم)) وهذا بناء على عدم القدرة كما يتفق عليه الجميع‪ .‬والجواب عنه أن الصفات السلبية إما هو فى‬
‫الذات أو فى الصفات أو فى األفعال‪ ،‬فالتمدح يصح فى القسمين األولين بانتفاء القدرة من وجه ال فى القسم الثالث‪ .‬قال أحد المحققين‪:‬‬
‫((الحق أن امتناع الشيء ال يمنع التمدح بنفيه إذا كان من صفات النقص‪ ،‬بل اإلمتناع يدل على كمال المدح‪ ،‬فإنه إذا كان من المنفي من‬
‫صفات النقص فكلما كان النفي أقوى كان التمدح أقوى))‪ .‬وليس معنى هذا الكالم أنه يصح التمدح من اإلنتفاء المحض مطلقا‪ ،‬بل إذا كان‬
‫يدل على أمر آخر‪ ،‬أما في قوله‪(( :‬ال تأخذه سنة وال نوم))‪ ،‬فالمدح فيه من جهة كون هللا تعالى سميعا بصيرا في جميع األحيان وكل‬
‫األزمان كما قاله الرازي في تفسيره‪ ،‬وإال يجب مدح الجامدات بعدم السنة والنوم! قال الرازي‪(( :‬نقول‪ :‬إن النفي يمتنع أن يكون سببا‬
‫لحصول المدح والثناء وذلك ألن النفي المحض والعدم الصرف ال يكون موجبا للمدح والثناء والعلم به ضروري بل إذا كان النفي دليال‬
‫على حصول صفة))‪ ،‬وقال أيضا‪(( :‬إن تمدح الشيء بالشيء ال يصح إال إذا كان صالحا لضده وقادرا عليه))‪ ،‬وهذا صريح في تأييد‬
‫الدليل الذي اعترضوا عليه‬

‫المبحث الرابع‬

‫استدل الخصم على امتناع الكذب فى الكالم اللفظي بانطباقه على الكالم النفسي‪ ،‬وبما أن الصدق فيه واجب ضروري فهو واجب‬
‫ضروري فى الكالم اللفظي‪ .‬قد تقدم اإلشارة إلى الجواب عن هذا االستدالل‪ ،‬وهو أنه إن كان مرادهم بالكالم النفسي هنا الكالم القائم بذات‬
‫هللا تعالى فال يصح انطباق الكالم اللفظي عليه من حيث الصدق والكذب فإنه ال يتصور الصدق والكذب فيه كما تقدم‪ ،‬وإن كان مرادهم به‬
‫مدلوالت اللفظ فيصح انطباق الكالم اللفظي عليه من حيث الصدق والكذب‪ ،‬ويصح أيضا قولهم بأن الكذب فيه ممتنع‪ ،‬ولكن ال دليل على‬
‫كون هذا اإلمتناع بسبب عدم دخوله فى القدرة كما هو دعواهم‬

‫————————————————‬

‫هذا آخر ما أردت تلخيصه من كتاب ‘جهد المقل’ للشيخ اإلمام موالنا محمود حسن الديوبندي رحمه هللا تعالى‪ .‬ولم أستوعب جميع مباحث‬
‫الكتاب اعراضا عن اإلطالة‪ ،‬ولم أتعرض للباب الثالث من الكتاب ألنني لم أطلع عليه‪ ،‬ولم ألخص المباحث التي قمت بتلخيصها كما هو‬
‫ينبغي وكما هو حقه لقلة بضاعتي فى اللغة العربية وفى العلوم الشرعية‪ ،‬ولكن أرجو أن يكون هذا العمل المتواضع كافيا في بيان مذهب‬
‫علماء الديوبند في هذه المسألة المتنازعة فيها‪ ،‬والمؤلف الذي قمنا بلتخيص تأليفه هو أول خريج دار العلوم ديوبند على اإلطالق‬

‫قاله في سياق الرد على الظن الفاسد الذي يتخيله بعض الناس بالنسبة للشفاعة عند هللا من أنها ‘شفاعة الوجاهة’‪ ،‬أي‪ :‬من الخلق من *‬
‫حصل على منزلة عند هللا تعالى تجبره هذه المنزلة على قمع غضبه وغفران العاصي المشفوع له الذي يستحق العذاب في نفس األمر‪،‬‬
‫وهذا اإلعتقاد عن الشفاعة ال يصح‪ ،‬فإنه ال غالب على أمر هللا تعالى‪ ،‬فهذا هو سياق ذكره هذه الجملة‬
About these ads

Related

Refutation of the False Allegation against Shaykh al-Thanawi [Arabic]

In "Arabic refutations"

Juhd al-Muqill of Shaykh al-Hind Mawlana Mahmud Hasan Deobandi

In "Imkan al-Kadhib"

Detailed Arabic Refutation of Barelwis

In "Ahmad Raza Khan"

This entry was posted on Thursday, October 22nd, 2015 at 7:35 am and is filed under Arabic
refutations, Barelwis, Refutations, Shah Isma'il, Takfir. You can follow any responses to this
entry through the RSS 2.0 feed. You can leave a response, or trackback from your own site.

Post navigation« Previous PostNext Post »

Leave a Reply

Enter your comment here...

ANTI-BARELWIS

RECENT POSTS

Imkan al-Kadhib and non-Deobandis

Nur and Bashar explained

‫مفهوم البدعة فى الشرع‬


‫براءة الشيخ إسماعيل الدهلوي من القول بكون تعظيم القبور شركا أكبر‬

‫مسألة إمكان الكذب وموقف علماء ديوبند منها‬

Search

CATEGORIES

Absurd Stuff

Accusations against Deobandi Scholars

Ahmad Raza Khan

Ahmad Yar Khan

Aqidah of the Barelwis

Arabic refutations

Arabic scholars

Ashraf Ali Thanwi

Barelwis

Books

Differences between Barelwis and Others

Distortions

Fabricated Fatwa of Raza Khan

GF Haddad

Hadir Nadir

Hatred towards Deobandis

Hussam al-Haramayn

Ilm al-Ghayb

Imkan al-Kadhib

Innovations

Istighathah
Khalil Ahmad Saharanpuri

Knowledge of the Hour

Milad

Mujaddid Alf Thani

Mukhtar al-kull

Munawwar Ateeq Rizwi

Na'im al-Din Muradabadi

Nur and Bashar

Pir Karam Shah

Praise of Deobandis

Preamble To Faith

Qasim Nanotwi

Rashid Ahmad Gangohi

Refutations

Shah Isma'il

Shirk

Takfir

Umar Icharwi

ARCHIVES

March 2016

February 2016

October 2015

September 2015

April 2015

March 2015

February 2015
December 2014

August 2014

July 2014

May 2014

April 2014

January 2014

December 2013

November 2013

October 2013

September 2013

August 2013

July 2013

June 2013

May 2013

April 2013

February 2013

January 2013

December 2012

November 2012

October 2012

September 2012

August 2012

July 2012

June 2012

May 2012

April 2012
March 2012

February 2012

January 2012

December 2011

November 2011

October 2011

September 2011

August 2011

July 2011

May 2011

April 2011

March 2011

February 2011

January 2011

December 2010

November 2010

October 2010

BLOGROLL

Ahle Haq

Ahmad Rida Unmasked

Ahsan al-Ulum

Allamah Sarfraz

Barelwi Fitna

Bawariq al-Ghayb

Deoband.org

Haq Char Yar


Mawlana Sawati

Pearls of Elders

Raza Khani Mazhab

Response to Hussam al-Haramayn

SunniDefense

Zarbe Mumin

TOP POSTS & PAGES

Imkan al-Kadhib and non-Deobandis

Ahmad Raza Khan

Barelwis are Wahhabis - Shaykh Nuh Keller

About us

Ruling on seeking help from the Creation

Ahmad Rida Khans insulting remarks about Sayyida Aisha

Basic Differences between Deobandis (Ahlus Sunnah) and Barelwis (Ahlul Bid'ah)

A Reply to Preamble to Faith

‫مسألة إمكان الكذب وموقف علماء ديوبند منها‬

Juhd al-Muqill of Shaykh al-Hind Mawlana Mahmud Hasan Deobandi

META

Register

Log in

Entries RSS

Comments RSS

WordPress.com

The Contempt Theme.

Blog at WordPress.com.

Follow
Follow “Barelwis: A Critical Review”

Get every new post delivered to your Inbox.

Join 79 other followers

Enter your email address

Sign me up

Build a website with WordPress.com

You might also like