You are on page 1of 3

‫‪1‬‬

‫بورقيبة مؤلفا ؟‬

‫نورالدين الدقي‬

‫عالقة بورقيبة بالكتابة مدخل جدير باالهتمام ‪ ،‬ب النظر للكم الهائ ل من اآلث ار المكتوب ة ال تي تركه ا بحكم‬
‫اشتغاله بالص حافة ثم من موقع ه كك اتب ع ام للح زب الح ر الدس توري الجدي د ح تى ‪ . 1938‬وهي آث ار‬
‫متعددة األغراض حُررت قبل توليه الحكم ‪ ،‬وتتمثل في عشرات الرسائل والفصول الص حفية والخطب‬
‫والتصريحات و المحاضر‪ ،‬وجلها نُشر قبل ‪ 1954‬ثم أعيد نشرها مرارا وتكرارا بع د ذل ك ‪ ،‬وهي مدون ة‬
‫في حاجة إلى إعادة الق راءة والتب ويب ألنه ا تكش ف عن تط ور ه ام في المواق ف من القض ايا السياس ية‬
‫واالجتماعية والنقابية ‪.‬‬

‫بورقيبة والكتابة‬ ‫‪-1‬‬

‫لم يتسن لبورقيبة التفرغ للكتابة والنشر حسب الصيغ األكاديمية ‪ ،‬لذلك لم يضع طيلة حيات ه أي كت اب‬
‫رغم أنه كان بطريقته كاتبا قديرا ‪ ،‬إذ تسنى له منذ ‪ 1929‬أن يساهم في السجال السياسي واالجتماعي الذي‬
‫شهدته تونس خالل الثالثين ات من خالل كتابات ه في الص حافة الوطني ة باللغ ة الفرنس ية تحدي دا ‪ ،‬حيث لم‬
‫تٌعرف لبورقيبة مساهمات كثيرة باللغة العربية ‪ ،‬ولم يكن ذلك ناتجا عن جهل بهذه اللغة ‪ ،‬وإنما عن رغبة‬
‫في مخاطبة الطرف االستعماري بلغته ‪ ،‬وقد تواصلت هذه المساهمات حتى ‪ . 1938‬وهي مؤلفات تعكس‬
‫رؤيته للواقع السياس ي ولكنه ا تكش ف عن مالمح شخص يته وتوجهات ه الفكري ة و تفص ح عن نزع ة قوي ة‬
‫للجدل والحجاج ‪.‬‬

‫استعمل بورقيبة قبل وصوله للسلطة وبع دها ثالث ة س جالت لغوي ة ‪ ،‬وهي ‪ :‬اللهج ة التونس ية المهذب ة في‬
‫خطبه ومحادثاته ‪ ،‬واللغة الفرنسية كتابة ومشافهة ‪ ،‬وبدرجة أقل العربية الفصحى ‪ ،‬وح ز في نفس ه أن ه ال‬
‫يحذق االنقليزية منذ أن التقى في ‪ 1943‬بالقنص ل األم يركي ه وكر دوليت ل وص ارت ل ه ص الت بالع الم‬
‫األنقلوسكسوني‪.‬‬

‫ورغم عزوفه عن نشر الكتب وقّ ع بورقيب ة كت ابين ‪ ،‬كت اب أول عنوان ه ‪" :‬الدس تور وفرنس ا ‪ ،‬م ذكرات‬
‫ووثائق" أع ّد سنة ‪ 1937‬وعنوانه الكامل بالفرنسية ‪Le Destour et la France , Notes et documents‬‬
‫‪depuis la chute de la dictature de Peyroutan 1936-1937‬‬

‫ق ّدم له صديقه االشتراكي الفرنسي فيليسيان شالي ‪ ،‬ولم يتسن نشره وبقي حبيس المكتب ات الخاص ة ‪،‬‬
‫وهو عبارة عن مختارات من اللوائح والوثائق والمذكرات جمعها بورقيبة ثم ذيلها بمقدمة وخاتمة وعلّ ق‬
‫عليها‪ .‬وال نعلم هل وقع نقل الكتاب إلى العربية ‪ .‬ووقّع بورقيبة كتابا ثاني ا ‪ ،‬عنوان ه ‪La Tunisie et la :‬‬
‫‪France , vingt cinq ans de lutte pour une coopération libre‬‬

‫وفي االربعينات تغيّرت طرق التواصل لدى بورقيب ة حيث أص بح التراس ل والتص ريح الص حفي طريقت ه‬
‫المفضلة لتبليغ المواقف والرؤى للرأي العام ‪ ،‬ولكنه فهم أن األثر المكتوب له ت أثير معن وي ق وي ‪ ،‬ولع ل‬
‫هذا ما دعاه ‪ -‬وهو ال يزال مبعدا في فرنسا ‪ -‬إلى تكليف أعضاء الجامعة الدستورية بباريس بنشر كت اب‬
‫‪ " La Tunisie et la France , vingt cinq ans de lutte pour une coopération libre‬بين تونس‬
‫وفرنسا‪ ،‬كفاح مرير في سبيل التع اون الح ر" بب اريس في جويلي ة ‪ 1954‬؛ في ظ رف الحت في ه ب وادر‬
‫الخ روج من األزم ة بين البل دين ‪ ،‬وق د ص در الكت اب ش امال لمخت ارات وثائقي ة (مراس الت خاص ة و‬
‫‪2‬‬

‫محاضرات وتصريحات صحفية وخطب) معبّرا عن الرؤى والتصورات ال تي دأب بورقيب ة على ال دفاع‬
‫عنها بين ‪ 1929‬و‪.1954‬‬
‫أشرف على إعداد مادة الكتاب وتبويبها ثالثة من أقرب الناس إليه ‪ ،‬وهم ‪ :‬محمد المص مودي وبش ير بن‬
‫يحمد وحبيب بورقيبة االبن ‪ ،‬ووق ع التعجي ل بنش ر الكت اب في س ياق االنف راج النس بي في العالق ات م ع‬
‫فرنسا حيث جرى نق ل بورقيب ة من منف اه في جالط ة إلى جزي رة ق روا بالمحي ط األطلس ي في ‪ 22‬م اي‬
‫‪ 1954‬ثم إلى حصن الفارتي قرب منتارجيس في ‪ 17‬جويلية ‪.‬ثم ح ّل من داس ف رانس بقرط اج في م وفى‬
‫جويلية ‪ ،‬وكان ذلك منطلقا لمرحلة تقتضي تحدي د الط رف ال ذي س يكون مخ اطب فرنس ا في ح ال قبلت‬
‫بالتفاوض مع التونسيين ‪.‬‬

‫كتاب "بين تونس وفرنسا"‪ :‬الخط السياسي واأليديولوجي‬ ‫‪-2‬‬

‫يهدف الكت اب إلى ت دوين المواق ف ال تي تن درج ض من إش كالية العالق ات بين ت ونس وفرنس ا والتعري ف‬
‫بتفكير بورقيبة وتوجهاته السياسية‪ .‬والواضح أن اختيار الكتابات المدوّنة باللغة الفرنس ية دون س واها ‪،‬‬
‫يدخل في إطار ش ّد اهتمام ال رأي الع ام الفرنس ي ال ذي لم يتس ن ل ه معرف ة الرج ل إال من خالل الص ورة‬
‫النمطي ة ال تي روّج له ا اليمين الفرنس ي المتش دد ‪ ،‬بإظه اره في ش كل ال زعيم المته ور المتح الف م ع‬
‫الفاشيين والداعي إلى االلقاء بالفرنسيين بالبحر‪ .‬لذلك نرى الك اتب يخ اطب ‪،‬أوال ‪ ،‬غالة االس تعمار ال ذين‬
‫يرون في بورقيبة عدوا لدودا ثم يتوجه إلى التونسيين من جماعة الحزب الدستوري القديم وغيرهم الذين‬
‫يتهمونه بمهادنة االستعمار والعمالة لفرنسا ‪.‬‬

‫ولم تكن مخاطبة الرأي العام الفرنسي من خالل المنشورات مس تحدثة ‪ ،‬إذ س بق أن ع رّف الش اذلي خ ير‬
‫هللا ببرن امج حرك ة الش باب التونس ي في كتاب ه الحرك ة التطوري ة التونس ية ‪Le Mouvement‬‬
‫‪ évolutionniste tunisien‬الصادر سنة ‪ ، 1938‬كما وقع عرض برنامج حزب الدستور من خالل‬
‫نشر كتاب تونس الشهيدة ‪ La Tunisie martyre, ses revendications‬المنسوب للشيخ عبد العزيز‬
‫الثعالبي سنة ‪. 1920‬‬

‫ومع ذل ك يمكن أن نعت بر كت اب " بين ت ونس وفرنس ا "أول محاول ة لت دوين المرحل ة األح دث من ت اريخ‬
‫الحركة الوطنية من وجهة نظر الحزب الحر الدستوري الجدي د وانطالق ا من وث ائق زعيم ه بورقيب ة ‪ ،‬إذ‬
‫انطلق تدوين الوقائع سنة ‪ ،1933‬تاريخ التحاق بورقيبة بالعمل الحزبي ‪ ،‬ما يعني انتقاء المواق ف حس ب‬
‫هذا الخيار وعدم التعريج على المراحل التي سبقت تأسيس الحزب الدستوري الجديد ‪.‬‬

‫أما مضمون الكتاب فاقتصر على ادراج أك ثر الفص ول الص حافية والخطب تعب يرا عن تفك ير بورقيب ة ‪،‬‬
‫وكان االنطالق من ‪ 21‬فيفري ‪ 1933‬عوضا عن ‪ 1929‬تاريخ دخوله العمل الصحفي ‪ ،‬وقد علّل واض عو‬
‫الكتاب ذلك بضياع مجموعات جرائ د " ص وت التونس ي " و"الل واء التونس ي " وجري دة " الح ر" ال تي‬
‫ساهم في تحريرها ‪ ،‬وهي حجة ضعيفة ألن كتابات بورقيبة في هذه الصحف نشرت بعد ذلك ‪.‬‬

‫وعندما نتابع ه ذه الكتاب ات نالح ظ أن بورقيب ة لم يط رح تص ورات نظري ة ح ول القض ايا ال تي ش غلت‬
‫عصره مثلما فعل الثعالبي أو عالل الفاسي بالمغرب ‪ ،‬كم ا أن مواقف ه لم تس تند إلى ث وابت ايديولوجي ة أو‬
‫مذهب معروف إال إذا اعتبرنا "الفكرة القومي ة " م ذهبا قائم ا ‪ ،‬وإنم ا انبثقت من تش خيص آني للظ روف‬
‫السياسية السائدة ومنعرجات المواجهة مع الطرف المقابل ‪ ،‬ويس ترعي االنتب اه عن د دراس ة ه ذه الوث ائق‬
‫‪3‬‬

‫تالزم بعدين في شخصية الكاتب ‪ ،‬أولهما ‪ :‬النزعة االنفعالية التواقة للصدام عن د انس داد األف ق السياس ي ‪،‬‬
‫ثانيهما ‪ :‬النزعة المعتدلة القادرة على الحوار وتقديم التنازالت التي يقتضيها الموقف السياسي ‪.‬‬
‫هاجس الصورة في كتاب "بين تونس وفرنسا"‪.‬‬ ‫‪-3‬‬

‫سبق أن بيّن ا كي ف ك ان ص دور كت اب "بين ت ونس وفرنس ا" تعب يرا عن حاج ة ماس ة لرف ع اللبس ح ول‬
‫الصورة ال تي رس خت ل دى قس م من ال رأي الع ام الفرنس ي ال ذي ك ان ي رى في بورقيب ة ‪ ،‬رغم اعت دال‬
‫مواقفه ‪ ،‬شخصية صدامية تدعو إلى المواجهة المباشرة وتص فية االس تعمار ‪ ،‬وهي مفارق ة تس توجب‬
‫التوضيح ‪ ،‬فعلى قدر ما كان خطابه ملتهبا غاضبا ومنددا باالستعمار ومس اوئه ‪ ،‬داعي ا إلقح ام الجم اهير‬
‫في العم ل المي داني ‪ ،‬ك انت مواقف ه ومطالب ه معتدل ة ال ت رفض التف اوض والمص الحة ‪ .‬وه ذه حج ة‬
‫استخدمها خصومه السياسيون للتشكيك في شرعية مطالبه واتهامه بازدواجية الخط اب باعتب اره يت وخى‬
‫اللين واالعتدال في مخاطبة الرأي العام بفرنسا ويعتمد الشدة والعنف عند التوجه للتونسيين ‪.‬‬

‫من هذه الزاوية نفهم لماذا وقعت تنقية الكتاب من كل المواقف ال تي ال تخ دم ص ورة بورقيب ة المتفتح على‬
‫االخر والداعي إلى االستقالل على مراحل ‪ .‬ويسترعي االنتباه في ه ذا الس ياق أن الكت اب غيّب عنص رين‬
‫هامين ‪ ،‬هما ‪ :‬رأيه في قضية المرأة في الثالثينات و مساجالته مع االش تراكيين ‪ .‬ف المعروف بخص وص‬
‫الموضوع األول أن بورقيب ة لم يش ارك في الج دل ال ذي دار ح ول ص دور كت اب الح داد " امرأتن ا في‬
‫الشريعة والمجتمع " ووقف منه موقف الحياد خالف ا ألعض اء اللجن ة التنفيذي ة للح زب الدس توري ال ذين‬
‫نددوا تنديدا فضيعا برفيقهم األسبق الطاهر الحداد وبكتابه ‪ ،‬والمرجح أن حياد بورقيبة بخص وص الض جة‬
‫التي أثارها الكتاب يتصل بموقفه المدافع عن حمل الحج اب س نة ‪ 1929‬وال ذي عبّ ر عن ه على ص فحات‬
‫جريدة "اللواء التونسي " ‪ .‬أما عالقة بورقيبة باالشتراكيين فكانت مزدوجة ‪ ،‬إذ كان يشاكسهم في تونس ‪،‬‬
‫ويصادق بعضهم في فرنسا ‪ ،‬بل إنه كان يعتمد على عدد منهم مثل فيليسيان شالي وشارل اندري جوليان‬
‫للترويج ألفكاره ‪.‬‬

‫مقابل ذلك ركز الكتاب على العناصر التي ت برز توجه ات بورقيب ة الواقعي ة ‪ ،‬ومنه ا تعلق ه بقيم االعت دال‬
‫والرغبة في الحوار والتع اون وع دم مج اراة النزع ات العام ة إذا ق امت على العاطف ة الجامح ة ‪ ،‬وي دل‬
‫النظر في طريقة تبويب الكتاب على الحرص على رد التهم ال تي نس بها خص وم بورقيب ة ل رئيس الح زب‬
‫الدستوري الجديد ‪ ،‬وأولها ما تناقله الدستوريون الق دامى عن تخلّي ه عن فك رة االس تقالل واقتص اره على‬
‫المطالب ة باالس تقالل ال داخلي ‪ ،‬وثانيه ا اقتراب ه من دول المح ور ب دليل مراس لته لمف تي الق دس ‪ ،‬أمين‬
‫الحسيني ‪ ،‬صديق ألمانيا النازية‪ .‬لذلك جاءت المختارات الوثائقية معبّرة عن الرؤى والتصورات التي دأب‬
‫بورقيبة على الدفاع عنها ‪ ،‬من ذلك موقفه المتحفظ من دول المحور خالل الحرب العالمي ة الثاني ة وتأيي ده‬
‫لمشاركة الحزب الدستوري الجديد في حكومة محمد شنيق التفاوضية سنة ‪ 1950‬فضال عن موقفه النقدي‬
‫من التيارات التي ترفض ‪ ،‬صلب الع الم اإلس المي ‪ ،‬التعام ل م ع الغ رب وت دعو للرج وع إلى عص ر‬
‫الخلفاء ‪.‬‬
‫ولعل هذه الشواهد كافية للتدليل على الروح التصالحية التي وجهت واضعي الكت اب ‪ ،‬ووعيهم بأهمي ة‬
‫توظيف الصورة في التأثير على الرأي العام الفرنسي الداخلي و الخارجي لتهيئته للقبول بالتعامل ‪ ،‬ب ل‬
‫التفاوض مع رجل كان يُعتبر إلى زمن قريب خصما لدودا ‪.‬‬

You might also like