Professional Documents
Culture Documents
ً ولكن شجاعة جاليولين خانته ،فقرر أن يكذب عليها أكذوبة تريحها ،فقال“ :لقد أُخذ أنتيبوف
وعزل ،وأجبِر على االستسالم”. ُ مما ينبغي ،فوقع في الحصار ُ
تصدقه الرا ،وإذ كان هذا اللقاء المفاجئ قد ه ّ َز كيانها ،فقد خشيت أن تخونها عواطفها أمام الغرباء ،وأسرعت خارج ًة إلى ِّ ولم
البهو.
استردت رباطة جأشها .ولكنها تجن َّبت النظر إلى جاليولين ،خوفًا من أن يغلبها البكاء إذا خاطبته مرة َّ وعادت بعد لحظات ،وقد
خال من أي تعبير“ :كيف حالك؟”. ٍ بصوت
ٍ أخرى .والتفتت إلى يوري قائلة،
وكان يوري قد الحظ اضطرابها ورأى دموعها ،وأراد أن يسألها عن سبب ضيقها ،وأن يخبرها أنه رآها قبل ذلك مرتين ،مرة وهو
خشي أن تتهمه بالفضول ،أو تسيء فهم مقصده .ثم تذكر فجأة أعياد الميالد في َ تلميذ صغير ،ومرة وهو طالب في الجامعة .ولكنه
تلك األعوام الماضية ،والنعش الذي ترقد فيه آنا ،ونواح تونيا .فاكتفى بقوله“ :أشكرك ،إني طبيب ،وأستطيع العناية بنفسي ،ولست
بحاجة إلى أي شيء”.
أسأت إليه؟” .وظلَّت تنظر بدهشة إلى هذا الرجل ،ذي األنف المفلطح والوجه ُ وعجبت الرا متسائلة في نفسها“ :أأكون قد
العادي الذي ال يتميز بشيء!
تهب ليل ًا ،تفوح منها رائحة األرض .وفي تلك األيام ،وردت تقارير غريبة من مقر ُّ وظل الجو متق ِل ّبًا عدة أيام ،والريح الدافئة
القيادة العامة ،وانتشرت الشائعات المخيفة من داخل البالد .كانت المواصالت التلغرافية قد قُطعت مع بطرسبورج مرة بعد أخرى.
يتحد ثون في السياسة .واستمرت الممرضة الرا أنتيبوفا تقوم بجولتها الصباحية والمسائية كل يوم ،وتتبادل َّ وكان الناس في كل مكان
تحدث نفسها عنه قائلة: ِّ شخصا غريبًا ،وكانتً خاللها بضع كلمات مع المرضى ،بمن فيهم يوري وجاليولين .كانت ترى في يوري
“يا له من مخلوق غريب ،هذا الشاب القوي .إن المرء ال يستطيع أن يعتبره جميل ًا بهذا األنف المفلطح ،ولكنه ذكي بكل معاني
هذه الكلمة ،مليء بالحيوية والنشاط واليقظة .وعلى أي حال ،فليس يعنيني أمره .وإنما يعنيني أن أنتهي من عملي هنا بأسرع ما
أستطيع ،ألعود إلى موسكو ،وأصبح قريبة من كاتيا .وأسعى إلنهاء عملي كممرضة ،والعودة مرة أخرى إلى يورياتين ،وإلى وظيفة
التدريس .لقد وضح لي اآلن كل ما حدث لباشا المسكين ،ولم يعد هناك من أمل .ولهذا فمن الخير أن أُسرع في خلع ثياب
كنت ألطأ بقدمي هذا المكان ،لو لم يكن ذلك في سبيل البحث عن باشا!”. ُ البطولة هذه التي أرتديها ،فما
وكانت تتذكر باألسى حالة كاتيا اليتيمة المسكينة ،فال تملك نفسها من البكاء.
شديد ا في كل ما حولها .فمن قبل ،كانت هناك واجبات من كل نوع ،واجبات مقدسة: ً ولقد الحظت في المدة األخيرة تغي ُّ ًرا
يبق في القاع غير َ كان هناك واجبك نحو وطنك ،وواجبك نحو جيشك ،وواجبك نحو المجتمع .أما اآلن ،وقد خسرت الحرب ،ولم
سوء الطالع ،فقد تغيَّر كل شيء .لم تعد هناك قداسة ألي شيء! كل شيء تغيَّر فجأة .اللهجة والروح المعنوية .إنك لم تعد
وحيدا ،ويتعيَّن عليك أن ً فيم تفكر ،أو لمن تصغي .كأنك عشت حياتك مس ِل ّ ًما قيادك لمن يأخذ بيدك كالطفل ،ثم إذ ذاك تصبح َ تدري
تتعل َّم كيف تسير غير معتمد على أحد .لم يعد أحد حولك :ال العائلة ،وال الناس الذين كنت تحترم آراءهم .وأنت في مثل هذه
خضوعا كامل ًا ،بعد
ً األحوال ،تشعر بحاجتك إلى االرتماء في أحضان أي معنى مطلق ،كالحياة ،أو الحقيقة ،أو الجمال .وأن تخضع له
أن فقدت المبادئ التي وضعها اإلنسان ،لينبذها .أن تستسلم له بكل قوتك ،وبغير تح ّفُظ ،وال شيء من الحذر الذي كنت تستمسك
به في أيامك القديمة الهادئة ،حياتك المنقضية ،التي ذهبت ولن تعود.
أما الرا ،فقد استطاعت أن تسترد نفسها ،لقد كانت لديها كاتيا ،لتُشبع حاجتها إلى الوجود والهدف .فاآلن ،وقد فقدت باشا ،لم تعد
قوتها ووجودها لطفلتها اليتيمة كاتيا! أما ،لتمنح كل ّ تصلح إال لتكون ً
نجاحا واستحسانًا،
ً ووصلت إلى يوري األنباء من موسكو ،بأن جوردون ودودوروف نشرا كتابه دون إذن منه ،وأن الكتاب قد لقي
أياما عصيبة مليئة باالضطرابات ،وأن أحداث ًا مهمة على وشك الوقوع ،والسخط يجتاح ً مبش ًرا .وأن موسكو تجتاز ِّ واعتبر عمل ًا أدبيًا
الجماهير ،وينذر بتطورات سياسية كبرى.
وكان الليل قد أوشك على االنقضاء ،وقد شعر يوري بحاجته الشديدة إلى النوم ،فمضى يحايل النعاس ،وقد ُخيِّل إليه أن اضطرابات
وتحر كت نسمات ناعسة أخذت تهب عليه من خالل النافذة ،وكأنما كانت الريح تئن وتشكو.. ّ األيام الماضية قد أورثته القلق.
“تونيا ..ساشا ..أنا مشتاق إليكما ..أريد أن أذهب إلى البيت ..وأن أعود إلى عملي” .وعلى تمتمة الرياح ،نام يوري،
المدلهم.واستيقظ .ثم نام ،تتقاسمه الفرحة واأللم .يتقلَّبان عليه كما يتقلَّب الجو ،ويمآلنه اضطرابًا كالليل ُ
تحمل من مشقة في المحافظة على حوائجه ،فإنه لم يظفر َّ وتذكرت الرا أن جاليولين ،رغم كل ما أظهر من وفا ٍء لذكرى باشا ،وما
عم ن يكون ،ومن أين أتى .فشعرت باالحتقار لنفسها .ولما كان الصباح التالي ،حرصت على سؤاله عن نفسه، ّ منها بمجرد سؤال
تصحيحا لخطئها ،وحتى ال تبدو ناكر ًة للجميل. ً الصباح، بجولة قيامها أثناء
ولم تملك نفسها من الدهشة لما سمعته منه“ :يا إلهي ٢٨ ..شارع برستسكايا ..وعائلة تيفرزين ..وثورة ..١٩٠٥وذلك
تستط ع أن تتذكر أنها قابلته من قبل ،هل يغفر لها؟ ولكن نعم ،ذلك العام ،ذلك العام ،وذلك البيت! ِ الشتاء! يوسوبكا ! ال .”..لم
هل ُوجد فعل ًا ذلك العام ،وذلك البيت؟! كيف عادت حيَّة إليها كل هذه الذكريات؟ طلقات النار ،نعم ،وذلك الشيء الذي كانت
تسم يه “مبادئ المسيح” .ما كان أقوى وأعنف تلك المشاعر ،التي يعرفها اإلنسان ألول مرة في طفولته! “اغفر لي ..اغفر لي ِّ
لست
ُ .. جيمازيدينوفيتش أوسيب .. قبل من االسم هذا سمعت لقد .. نعم .. نعم . أخرى مرة اسمك ما .. لي قل .المالزم أيها
أستطيع أن أفيك حقّ َك من الشكر على تذكيري بكل هذه الذكريات”.
مسموعا“ :يا الله ..شارع برستسكايا ..رقم ..٢٨ ً وتحدث نفسها بصوت يكاد يكون ِّ وظلَّت طيلة النهار تف ِك ّر في ذلك البيت،
وها هم يطلقون النار مرة أخرى ..ولكن ،كم هو مخيف إطالق النار هذه المرة! لست تستطيع أن تقول اليوم إن األطفال يلعبون
بإطالق النار ..ال ..لقد كبر األطفال .جميعهم هنا اآلن ..في الجيش ..هؤالء الناس البسطاء الذين عاشوا في ذلك البيت ،وفي
جميعا ..كلهم هنا اليوم ..ما أغرب هذا ..ما أغربه!”. ً البيوت المماثلة ..وفي القرى المتشابهة
أسرتهم ،وقد توكأ بعضهم على عك ّازاتهم ،واآلخرون على َّ إلى واندفع إلى الغرفة فجأة جميع المرضى الذين لم يكونوا مقيّدين
الثوار ..إنها
َّ إلى بطرسبورج حامية انضمت لقد .. بطرسبورج عصي ،والبعض يهرولون ..وأخذوا يصيحون“ :القتال في شوارع ِّ
الثورة ..إنها الثورة!”.

عقد في إيرفورت عام ،1891مبنيّة 57خطة عملية تم اعتمادها من قبل الحزب االجتماعي الديمقراطي األلماني في مؤتمر ُ
مبس ط للماركسية .قام الفيلسوف والمنظر كارل كاوتسكي بتقديم البرنامج في كتابه «الصراع الطبقي» وكان للبرنامج تأثير ّ على تحليل
كبير في السنوات السابقة لثورة .1917
ومنظر ماركسي ،أحد مؤسسي حزب العمال الديمقراطي االشتراكي ِّ 58جورجي بليخانوف ( )1918 - 1857ناشط ثوري
الروسي.
59قام الجيش الثامن بقيادة الجنرال أليكسي بروشيلوف باحتالل غاليسيا عام 1914ثم أُجبر على االنسحاب .وفي عام
1915احتل الكربات وأخذ يتجه نحو المجر ،لكنه تراجع مرة أخرى.
تمت بواسطة أربعة جيوش روسية ،بقيادة الجنرال 60عملية السيطرة على مدينة لوتسك ،الواقعة في شمال غرب أوكرانياَ ّ ،
بروسيلوف بين الرابع والسابع من يونيو عام .1916
ُس ّ َم ي المستشفى على اسم عيد الصليب المقدس ،احتفاال بعثور هيالنة أم اإلمبراطور قسطنطين على الصليب الحقيقي عام 61
326م .كان من المعتاد تسمية المستشفيات في روسيا -قبل الثورة -على أسماء األعياد المسيحية.
62قامت األميرة تايانا قنسطنطينوفانا بتأسيس جميعة -في بداية الحرب -لمساعدة المقاتلين في الجبهة ،وأهالي المصابين
والقتلى.
63فيلهلم (غليوم) الثاني ( )1941 - 1859آخر قيصر ألماني ،أجبر على التنازل عن العرش عام 1918بعد هزيمة ألمانيا
في إلى هولندا.في الحرب العالمية الثانية ،ثم ن ُ َ
جميعا واحد
ً ذكرا وأنثى ،ألنكم
ً حرا .ليس
ً عبدا والً 64رسالة بولس إلى أهل غالطية « 28 :3ليس يهوديًا وال يونانيًا .ليس
في المسيح يسوع».
-١-
رقدت الرا في فراش فيليتساتا سيميونوفنا ،محمومة ،وشبه غائبةٍ عن الوعي ،وراح آل سفنتيتسكي ،والخدم ،والدكتور دروكوف
بهمسحولها. ٍ يتحدثون
وخيَّم الظالم على باقي أجزاء المنزل الخالية ،إال من مصباح واحدُ ،وضع على حامل في غرفة الجلوس ،وكان يرسل ضوءه الكليل
الممتدة أمامه في صف طويل. َّ على الحجرات المتالصقة
بخطوات واسعة ،ثابتة ،غاضبة ،وكأنما هو في بيته الخاص ،وليس مجرد زائر هنا. ٍ وكان كوماروفسكي يقطع هذا الممر جيئة وذهابًا
مارا بالشجرة المزدانة بالنيازك الفضية ،وعبر غرفة ً يكر على عقبيه إلى آخر البيت، ُّ مستطلعا األنباء ،ثم
ً كان ينظر في غرفة النوم
مرت عربة تحت النافذة ،أو مرق فأر مس ،واألقداح البلُّورية الصغيرة تصلصل كلَّما ّ َمحملة بصحاف لم تُ ّ َّ الطعام ،حيث كانت المائدة
فوق مفرش المائدة بين الخزف.
مهد ًدا ،وإن سمعته لفي َّ للخ ْزي! كان يغلي من الغضب ،لقد أصبح مركزه ُ وازدحمت في صدره مشاعر عاصفة ،يا للفضيحة! يا
حدا
ًّ تسرب النبأ مهما كلَّفه ذلك ،أما إن كان قد انتشر فعل ًا ،فعليه اآلن أن يضع ُّ خطر بسبب هذا الحادث ،إن عليه أن يحول دون ٍ
للشائعات ،وأن يخنقها في مهدها.
ولم يكن هذا هو سبب قلقه الوحيد ،لقد قاسى مرة أخرى من الجاذبية التي ال تُقاوم لهذه الفتاة الشرسة اليائسة ،لقد كان يعلم
دائما أنها تختلف عن كل فتاة غيرها ،كانت تمتاز عن الجميع بطبيعة فريدة ف ّ َذة .ولكن ما أعمق ما أصابها به من جراح أليمة ً
رأس ا على عقب .وكم كانت تبدو ضجرة عنيفة في تصميمها على أن تعيد تشكيل ً أشد ما قلب حياتها َّ غير قابلة للشفاء ،وما
حياتها وق ََدرها ،وأن تبدأ من جديد!
واضح ا أن كل الظروف تقضي عليه بمساعدتها ،بأن يستأجر لها غرفة خاصة ،ربما ..ولكن على أل ّا يحاول االقتراب منها بأي ً كان
حال ،على العكس من ذلك ،عليه أن ينأى بنفسه عنها ،أن يقف جانبًا بحيث ال يرمي على حياتها بظ ِل ّه ،وإال فليس هناك حد لما
يمكن أن تندفع إليه في هياجها!
خير منه ،فالقانون ال يقف ساكتًا ٍ وفوق هذا ،كم من المتاعب ال يزال في الطريق ،فلم يكن ما حدث بالشيء الذي يُرجى أي
يأت بعد ،ولم تكد تمر ساعتان منذ وقعت األحداث ومع ذلك فقد جاء البوليس مرتين ،وقد اضطر هو- ِ حياله ،إن الصباح لم
كوماروفسكي -أن يذهب بنفسه إلى المطبخ ،ويالطف الجاويش ،لتسير األمور في غير عنف.
شوطا ..فمن المحتَّم أن يجدوا الدليل على أن الرا كانت تقصده هو بطلقتها ،ولم تكن تقصد ً تعقيدا كلما قطعت ً وستزداد األمور
معرضة َّ برأ بذلك من جز ٍء من التهمة فقط ،ولكنها ال تزال حدا للمسألة .إن الفتاة سوف تُ ّ َ ًّ كورناكوف ،وحتى هذا لم يكن ليضع
لإلدانة عن باقي األجزاء.
قاطع من الطبيب ٍ تقرير
ٍ ومن الطبيعي أنه سيصنع كل ما يستطيع لكي ال تُدان ،فإذا ق ِ ُّدمت القضية إلى المحكمة ،فسيحصل على
وتبعا لذلك ،تسقط الدعوى. ً النفسي ،بأنها لم تكن مسؤولة عن أعمالها في اللحظة التي أطلقت النار فيها.
يهد ئ نفسه بهذه األفكار .حتى انقضى الليل ،وأخذت خيوط الضوء تنساب من غرفة إلى غرفة ،وتتسلَّل تحت الكرسي ِّ وهكذا راح
والموائد ،كما يتسلَّل اللصوص.
تتحسن حالتها بعد .ثم مضى خارج البيت ليذهب إلى َّ وألقى كوماروفسكي نظر ًة أخيرة على غرفة النوم ،حيث علم أن الرا لم
روفينا أونيسيموفنا فويت فويتكوفسكي ،وهي سيدة تشتغل بالمحاماة ،وكانت من قبل زوجة سياسي هاجر من البالد ،إن مسكنها ذا
تؤجر منه حجرتين ،إحداهما ِّ كثيرا من حاجتها ،ولم تعد قادرة على االحتفاظ به .وهي لهذا ً الثماني حجرات قد أصبح اآلن أوسع
اآلن خالية.
بالحمى.َّ واستأجر كوماروفسكي هذه الحجرة لالرا ،ونقلها إليها بعد بضع ساعات ،وكانت ال تزال غائب ًة عن الوعي ،ملتهبة الرأس
-٢ -
وكانت روفينا أونيسيموفنا امرأة ذات اتجاهات تقدميَّة ،شديدة العداوة لإلجحاف والظلم ،مطبوع ًة على الميل إلى تأييد كل ما تره
نافعا وحيويًا.
ً
وكانت تحتفظ على صوان مالبسها بنسخة عليها إهداء المؤلف من كتاب برنامج إيرفورت ،57برنامج الحزب االشتراكي الديمقراطي
تمخَض عنه مؤتمر سنة ،١٨٩١وبين الصور المعلَّقة على الجدران ،كانت تبدو صورة زوجها الطيب فويت في منتزه ّ األلماني ،الذي
شعبي في سويسرا ،وقد جمعت الصورة بينه وبين بليخانوف ،58أحد قادة الفكر الماركسي ،وكالهما يرتدي ستر ًة من الحرير ،وقبع ًة
قشبنما. ٍّ من
ولكن روفينا أونيسيموفنا لم ترتَح لمرأى الساكنة الجديدة المريضة ،بل لقد رأت في الرا ُمتمارضة ال تُطاق ،واعتقدت أن هذيانها من
بائسقُضي عليه ٍ الحمى إن هو إال تصن ُّع من ّأوله إلى آخره .وما كان أيسر عليها أن تقسم أن الرا تحاول تمثيل شخصية َّ
قوطي قديم. ٍّ حب ّ ٍ في بالجنون،
بشدة ،وترفع صوتها بالغناء ،وتندفع في الجزء الذي َّ وكانت تظهر احتقارها لها بصورة ال تخلو من اإلزعاج .فهي تضرب األبواب
تشغله من البيت كاإلعصار ،وتترك النوافذ مفتوحة طيلة اليوم.
الع لوي من أحد منازل شارع أربات ،الشارع الواسع ،ذي السوق ،وعندما ينتصف الشتاء ،ويبدأ الجو وكانت الشقّ َة تقع في الدور ُ
دورته نحو الربيع ،كانت نوافذها تبدو غارقة في السماء الزرقاء ،وكأنما هي نهر عظيم في موسم الفيضان .وطيلة النصف الثاني من
كل شتاء ،كانت هذه الشقة تزخر ببشائر الربيع القادم.
وأخذت ريح الجنوب الدافئة تقتحم النوافذ ،وقطارات السكة الحديد تزأر من محطاتها البعيدة ،وكأنها سباع البحر .بينما الرا مريضة
راقدة في فراشها ،تمأل فراغها بالذكريات.
مرت عليها سبع وكم كانت تذكر أمسيتها األولى في موسكو ،عندما قدمت إليها ألول مرة من األورال ،كانت هذه األمسية ،التي َّ
سنوات أو ثمان ،إحدى أمسيات طفولتها التي ال تُنسى.
كانوا يعبرون المدينة في عربة أخذت تقطع بهم الطرق الضيِّقة المظلمة ،من المحطة إلى الفندق الذي يقع في الطرف اآلخر من
صغيرا ،ثم يكبر
ً حدباء تتتابع على الجدران بتتابعها .وكان ِظ ُّل الحوذي يبدأ ْ المدينة .وكانت مصابيح الشوارع ترسم للحوذي ظالل ًا
صغيرا من جديد. ً ليبدأ واحدة، مرة ينحسر هو وإذا المنازل، سطوح إلى يمتد ا، ضخم
ً ويكبر ،حتى يصبح عمالقًا،
تطن في الظلمة ،ومركبات الترام تُصلصل بأجراسها وهي تنطلق مسرعة في الطرقات .ومع ُّ كانت أجراس موسكو الثمانون العريقة
تصم أذني الرا ،وكأنما كانت هي األخرى تحدث من الجلبة ما تُحدثه العجالت ُّ كل هذا فقد كانت األنوار ،وواجهات الحوانيت،
واألجراس.
حد غير مألوف ،كان كوماروفسكي قد جاء بها كهدية لها بمناسبة ٍّ وعند دخولها غرفة الفندق ،أذهلها وجود بطيخة هائلة الحجم إلى
انتقالها إلى مقامها الجديد ،وقد رأت فهيا رم ًزا لجاهه وثورته .ولقد أمسكت أنفاسها في فزع وهي تراه يُغمد السكين في هذه
فتنشق البطيخة الداكنة الخضرة إلى نصفين ،كاشفة عن قلب سك ّري مثلج ،ولكنها لم تستطع أن ترفض تناول شريحة منها، ُّ األعجوبة،
عصبي ،أوقف في حلقها ما تقضمه من هذه الفاكهة الوردية الناضرة ،فقد أرغمت نفسها على ّ ُر ّ ت تو من انتابها مما الرغم وعلى
ازدرادها.
رو عتها األطعمة الباهظة الثمن ،وحياة الليل في العاصمة ،كذلك بدأت ترتاع من كوماروفسكي نفسه .وكان هذا هو التفسير ومثلما َّ
الصحيح لكل شيء.
التصور ،فلم يعد اآلن يطالبها بشيء ،ولم يعد يذ ِك ّرها بالماضي مطلقًا ،بل ّ كثيرا .تغيَّر إلى حد أبعد من حدود ً ولكنه اآلن قد تغيَّر
بعيدا عنها ،وإن كان قد حرص على أن يؤ ِك ّد لها بأكثر الطرق ر ّقَة ولطفًا ،استعداده ً بنفسه أمسك لقد لرؤيتها، يحضر إنه لم يعد
الدائم لمساعدتها.
سرورا .ال بسبب طوله الفارع وجماله الوضيء ،ولكن لما ً جدا عندما زارها ،ولقد مألتها زيارته ً أما كولوجريفوف ،فكان سلوكه مختلفًا
يشع ه من حيوية وذكاء ،باإلضافة إلى ابتسامته الخالبة المرحة .حتى لكأنما شغل وحده نصف المكان من غرفتها. ُّ
فكرا .لقد كان ي ُدعى في المناسبات إلى االجتماعات العليا في بطرسبرج فيخاطب الشيوخ ذوي جلس إلى جوارها وفرك يديه ُم ً
قريب إحدى أفراد بيته ،كانت ٍ األلقاب الرفيعة ،وكأنهم تالميذ مدارس أشقياء .ولكنه اآلن يجلس ،والى جواره فتاة كانت إلى عه ٍد
كابنة له ،صحيح أنه لم يكن يبادلها فيما مضى أكثر من كلمة أو نظرة عابرة ،شأنها في ذلك شأن باقي أفراد عائلته ،ولكن سلوكه
– في هذه الحدود الضيِّقة -لم يكن يخلو من حرارة وسحر يعرفهما الجميع.
يستط ع أن يعاملها بغير اكتراث كما يصنع مع اآلخرين ،وإذ كان ال يدري كيف يبدؤها بالكالم دون أن ينكأ ما يؤلمها من ِ لذلك لم
راح ،فقد قال لها بابتسامة وكأنه يحادث طفل ًا“ :واآلن يا بنيَّتي ،ماذا تبتغين ،وماذا وراء كل هذا الشجن والتأثر؟”. جِ ٍ
أسى وقال“ :إني ذاهب إلى دسلدروف، وسكت بره ًة ،وهو يفحص بعينيه البقع الرطبة على الجدران والسقف ،ثم ه ّ َز رأسه في ً
حيث يُفتتح هناك معرض للرسم والنحت والزهور ،إن المكان هنا رطب كما تعلمين ،وفوق هذا ،فإلي متى تريدين أن تجوبي اآلفاق
على غير هدى ولغير مكان الئق تعيشين فيه؟ بيني وبينك ،هذه المرأة ،فويت ،سيئة للغاية .إني أعرفها ،فلماذا ال تنتقلين من
عنك فراش المرض .غيِّري هذه الغرفة، ِ لك أن تنفضي ِ وأنت مريضة طريحة الفراش ،وقد آن ِ عليك وقت طويل ِ بيتها؟ لقد مضى
ام ا سيرحل إلى تركستان لمدة عامين ،ولديه في األستديو مكان منفصل ،أشبه رس
َّ ً اً ق صدي لي إن . دراستك ي ِ
أتم
ّ ما، قومي بعمل
لك منه؟ وثمة واجب آخر كنت أريد أن ِ بشقةٍ صغيرةٍ ،أعتقد أنه سيعهد بها إلى شخص ما خالل غيبته ،فما رأيك لو استأجرتها
ِ
عليك أن تخرجها ،ال ..إن ِّ أؤديه من زمن طويل ،واجب مقدس ،منذ كانت ليبا ،ها ِك قدر قليل من المال ،إنه مكافأة على
تقبلي”.
وعلى الرغم من كل احتجاجاتها ،ودموعها ،ومقاومتها ،فقد أرغمها قبل أن يمضي ،على أن تقبل منه شيك ًا بمبلغ عشرة آالف
روبل.
وانتقلت الرا فور شفائها ،إلى المسكن الذي اختاره لها كولوجريفوف بالقرب من سوق سمولنسكي ،وكانت الشقة في أعلى بيت ذي
الحمالين وحوذيَّة النقل .بينما يُستخدم الطابق األرضي َّ طابقين يبدو عليه القدم ،وكانت تسكن الجزء المقابل من البيت جماعة من
دائما ي ُفرش بالبرسيم والشوفان ،وبينما كانت أسراب الحمام تختال هناك ،وتص ِفّق بأجنحتها ً كمخزن للبضائع ،أما الفناء المرصوف ،فكان
أيضا في الميازيب. ً في جلبة بالقرب من نافذة الرا .كانت أسراب الجرذان تمرح
-٣ -
بتفوق ،وحصل كل منهما ُّ وبعد تسعة أيام ،أقام لهما أصدقاؤهما حفلة وداع ،في الغرفة نفسها ،فقد كان كالهما قد اجتاز االمتحان
مقرهما الجديد في اليوم التالي. ِّ تأهبا للسفر إلى َّ على عمل في مدينة واحدة من مدن األورال .وكانا قد
جميعا هذه المرة من الشباب. ً وضجوا ،وكانوا
ُّ وقد شربوا ،وغنوا،
المخصص للسكن ،كانت هناك سل ّة كبيرة لألمتعة ،وأخرى أصغر منها ،وحقيبة َّ وخلف الحاجز الذي يفصل بين األستديو وبين الجانب
عد جانب منه ّ ُ أ وقد السفر، ينتظر كان كثير متاع .الطرود من وعدد الخزفية، الرا الكبيرة ،وحقيبة صغيرة أخرى ،وصندوق لألواني
تماما ،فقد كان هناك فراغ في ً بأربطتها محزومة كانت قد والحقائب، والسالل الصناديق للشحن في اليوم التالي ،ورغم أن كل هذه
فتدسه في إحدى السالل ،معيدة ترتيبها بعناية ُّ أخذه معها،الحقيبة ،وفي السالل .وكانت الرا بين لحظة وأخرى تتذكَّر شيئًا تريد ْ
لتعيد استواء سطحها.
وكان باشا يرحب بالضيوف في البيت ،عندما عادت الرا من إدارة الكلية ،حيث كانت تسترد شهادة ميالدها ووثائقها األخرى .وقد
حمال يحمل حزمة من الزكائب وحبل ًا سميك ًا ،لربط األمتعة التي تم إعدادها للشحن. َّ صعدت إلى الدار ،يتبعها
خارجا ،ثم مضت تطوف بالضيوف ،تس ِل ّم على البعض ،وتقبِّل البعض اآلخر ،قبل أن تذهب إلى غرفة النوم ً الحمال
َّ وتركت الرا
لتغيِّر مالبسها .وصفّ َق الجميع عندما جلست بينهم ،وعادت الضجة والصخب ،كما حدث في حفلة العرس.
وأقبل البعض على الفودكا ،يصبُّون ألنفسهم ،وللجالسين إلى جوارهم .وامتدت األيدي ،إلى وسط المائدة حيث صف الخبز وأطباق
جميعا النشوة.
ً المشهيات وصحاف الطعام .وق ُِر عت الكؤوس ،وألقيت الكلمات ،وعلت األصوات بالفكاهة والمرح ،وقد شملتهم
كثيرا ..هل قمت بتدبير كل شيء!”. ً متعبةَ وهمست الرا في أذن زوجها الجالس إلى جوارها“ :إني
وأجاب باشا:
“ -نعم”.
أيضا؟”. ً سعيدا أنت ً “ -ومع ذلك ،فأنا أشعر بغبطة عظيمة ،كما أنا سعيدة ،ألست
“ -بالتأكيد ..يا لها من قصة!”.
وكان قد ُس مح لكوماروفسكي ،على وجه االستثناء ،بحضور حفلة الشباب .فلما اقتربت نهاية السهرة ،بدأ يتحدث عن صعوبة
الفراق ،وكم سيفتقد صديقيه الصغيرين عندما يبرحان موسكو ،وكيف ستصبح المدينة خالية من دونهما ،كأنها صحراء .وغلبه التأثر،
فأخذ ينتحب ،ويعيد ما قاله مرة أخرى ،مستأذنًا أنتيبوف وزوجته في أن يكتب لهما .بل في أن يصحبهما عند سفرهما إلى
شق عليه احتمال لحظة الوداع. ّ األورال ،إذا
بع ُد أشياء ال تجدي ..الكتابة.. وعال صوت الرا ،وهي تجيبه شاردة الذهن“ :ال ،ال ضرورة لشيء من كل هذا ،وهي ْ
والصحراء ..وما إلى ذلك من الكالم ..أما عن مصاحبتنا إلى األورال ،فإيَّاك أن تفعل ..إن الله سيساعدك على احتمال فراقنا..
يعوضك عن َّا من األصدقاء ..أليس كذلك يا باشا؟”. ِّ نعوض ..سيسعدك الحظ ،فتجد من َّ بعد لسنا من الندرة بحيث ال ُ ونحن
غرة ،فقد نهضت ُمسرعة وهرولت إلى المطبخ ،فأخذت مفرمة اللحم ،ومضت تحشر أجزاءها في َّ حين على ًا ئ شي رت َ ّ كتذ وكأنما
صندوق الخزف ،محيطة إي َّاها بلفائف من القش .وقد خدشتها حافة الصندوق وهي منهمكة في تصفيفه ،وأصابتها بجرح في يدها.
ولكنها كانت الهية عن كل هذا ،منهمكة في ما تعمل إلى حد أنها نسيت ضيوفها ،ولم تعد تشعر بوجودهم .حتى ذكَّروها بأنفسهم
عندما علت أصواتهم بالضحك والضجيج ،وقد بدا لها عندئذ أن الناس عندما يفرطون في الشراب ،يحاولون تمثيل أدوار السكارى.
وأنهم كلما شربوا أكثر ،أمعنوا في التمثيل إلى حد المبالغة.
ولكن صوتًا آخر تناهى إليها من الفناء ،فجذبها إلى النافذة ،ورفعت الرا الستائر ،وأطلَّت.
ومدت بصرها إلى َّ لم ْن الحصان ،وكيف جِ يء به إلى الفناء؟ عرجاء ،وتحيَّرت الراَ ، كان في الفناء حصان مربوط ،يقفز قفزات قصيرة ْ
أثر للحياة .كانت المدينة متَّشحة بال ّزُرقة الداكنة الرطبة للساعات المبكرة قبل المدينة النائمة ،فبدت أمامها وكأنما خلت من كل ٍ
طلوع النهار .وأطبقت الرا عينيها ،وقد حملتها أصوات الحصان ،إلى ذكريات الريف العميقة ،كما لم يكن يمكن أن يذ ِك ّرها بها شيء
آخر.
ورن جرس الباب ،فنهض أحد الحاضرين ليفتح للطارق الجديد ،وأرهفت الرا أذنيها ،فإذا هي تسمع صوت ناديا فتندفع مسرعة َّ
وسحرا ،ويفوح منها عطر الزنبق النامي في وادي دوبليانكا. ً لتوها من القطار ،تفيض نضرة لمالقاتها .كانت ناديا آتية ِ ّ
وعقد التأثُّر لسان الصديقتين ،فتعانقتا ،تاركتين لدمعهما العنان.
حلي، ٍّ كانت ناديا تحمل لالرا تهاني األسرة ،وأمانيها الطيِّبة ،وهدية من أبويها .فما لبثت أن أخرجت من حقيبة سفرها علبة
ساحرا.
ً قدا
ع ًفتحتها وأخرجت منها ُ
وعم ت الفرحة والدهشة جميع الحاضرين ،وصاح أحدهم ،وكان قد أفرط في الشراب ،ثم بدأ يفيق قليل ًا: َّ
دائما.. ً تصدقوا ..فهكذا يبدو ِّ صدقوا ..أو ال ِّ “ -هذه األحجار ،من الياقوت الوردي ..نعم ..نعم ..هذا هو الياقوت الوردي،
إنه كالماس”.
“ ..إنه من الياقوت األصفر”. وقالت ناديا :ال
العقد يرقد في علبته المفتوحة إلى جوار صحنها ،والرا ال طعاما وشرابًا .وكان ُ ً وقدمت لها َّ وأجلست الرا ناديا إلى المائدة بجوارها،
تستطيع أن تكف عن النظر إليه .كانت حبَّاته تتألَّق فوق وسادته البنفسجية ،فتبدو حينًا كقطرات الندى ،وحينًا كعنقود العنب
الصغير.
جميعا حتى ً وفي الوقت نفسه ،عاد الضيوف -الذين كانوا بدؤوا يفيقون -إلى الشراب مرة أخرى ،من أجل ناديا ..وظلوا يشربون
شملتها النشوة هي األخرى.
جميعا في ً ففضلوا البقاء َّ وسرعان ما استغرق كل من في البيت في النوم ،فقد كان أغلبهم سيصحبون الرا وباشا إلى المحطة،
تستطع أن تفهم كيف وجدت نفسها ِ يغط في النوم فعل ًا قبل وصول ناديا ..بل إن الرا نفسها لم ُّ الدار ،وكان عدد منهم قد بدأ
نائمة على كنبة بكامل مالبسها إلى جوار إيرا الجودينا.
فقد أيقظتها أثناء الليل أصوات في الفناء ،إذ كان أصحاب الحصان قد جاؤوا ليأخذوه .وعندما فتحت عينيها ،تساءلت في نفسها:
مجدورا ،به آثار جرح ً بشعا،
ً وجها
ً لماذا يتسك ّع باشا هكذا في وسط الغرفة؟ ،فلما أدار الرجل الذي ظن َّته باشا رأسه ،رأت أمامها
العقد في الحال، أثرا لصوتها .وتذكَّرت ُ عميق ممتد من حاجبه إلى ذقنه .وأيقنت الرا أنه لص ،فحاولت أن تصيح ،ولكنها لم تجد ً
فنهضت بحذر متكئة على مرفقها ،ونظرت إلى المائدة حيث تركت العقد.
كان العقد ال يزال في مكانه بين الخبز وأوراق الشيكوالتة الفارغة .فلم يكن اللص الغبي قد اهتدى إليه ،إذ كان ينبش في
وجهدا كبيرين .نعم ،كان هذا هو ما استطاع أن يشغل بالها في تلك ً فسدا ما أنفقت فيه وقتًا الحقائب التي رتبتها بعنايةُ ،م ً
اللحظة ،وهي بعد نصف نائمة ،لم تذهب عنها آثار نشوتها.
وحاولت أن تصرخ مرة أخرى فاحتجز الخوف صوتها ،ولم تجد وسيلة إال أن تدفع بركبتها في بطن إيرا .وحينما صرخت إيرا من
أيضا صوتها فصرخت! ً األلم ،ووجدت هي
خارجا .وصحا بعض الرجال فقفزوا خلفه يريدون اللحاق به ،غير فاهمين شيئا مما يجري. ً وألقى اللص بكل ما في يديه ،وهرول
تماما.ً اختفى قد اللص كان الخارجي، الباب إلى وصلوا عندما ولكنهم
وأيقظت الضجة الجميع ،ولم تسمح لهم الرا بالعودة إلى النوم ،فأعدت لهم أقداح القهوة ،وتركتهم يعودون إلى منازلهم حتى يحين
وقت الذهاب إلى المحطة.
حشرا في السالل ،وتعيد ترتيب الحقائب ،وتحزم األمتعة ً وعاودت الرا العمل بسرعة واضطراب ،فأخذت تحشر أغطية الفراش
الحمال ،أال يزيدا من مش ّقَتها ،بمحاولتهما مساعدتها. َّ وتتوسل إلى باشا وزوجة َّ بالحبال.
رويدا ،يسايره أصدقاؤهما الكثُلر ً ا رويد
ً ك يتحر
َّ أخذ الذي بالقطار، أنتيبوف عائلة لحقت وانتهى إعداد كل شيء في الوقت المناسب ،فأ ُ
يلوحون بقبعاتهم ،وعندما ك ّفَوا عن التلويح بالقبعات ،وصاحوا ثالث مرات“ :مرحى ..مرحى ..مرحى!” ،كان القطار قد بدأ وهم ِ ّ
يستكمل سرعته ليختفي.
-٥ -
مرت ثالثة أيام متتالية ،والطقس موحش كئيب ،وكان هذا هو الخريف الثاني للحرب ،وقد بدأ التراجع يعقب انتصارات العام األول
تجم ع في الكربات بقيادة بروشيلوف ،على أتم استعداد للزحف إلى المجر ،قد بدأ اآلن يتراجع،
ُّ منها .فالجيش الثامن الذي كان قد
متأ ِث ّرا بموجة االنسحاب العام ،ولقد بدأنا نخرج من غاليسيا التي تم لنا احتاللها في األشهر األولى للقتال.59
وكان الدكتور جيفاجو -الذي كان يعرف إلى عهد قريب باسم يورا ،ثم بدأ يشتهر اآلن باسم يورا أندريفتش -واقفًا أمام غرفة
لتوه ،وكان قد فرغ من وداع زوجته ،ثم وقف ينتظر الوالدة في قسم أمراض النساء بالمستشفى ،حيث كان قد أحضر زوجته تونيا ِ ّ
المو ِل ّدة ،ليتفق معها على كيفية حصوله على أنباء زوجته ،واستدعائه إليها إذا لزم األمر.
أيضا ،أن يمر بمريضين في ً فورا إلى مستشفاه الخاص .وكان عليه قبل ذلك ً كان في عجلة شديدة ،إذ كان عليه أن يذهب
طريقه ،وها هو ذا يضيِّع وقتًا ثمين ًا في التطلع من النافذة ،ومتابعة قطرات المطر ،إذ تجرفها ريح الخريف ،فتبدو كأنما هي حقل من
عيدان الذرة ،هبّ َت عليه عاصفة! ولم يكن الظالم قد اشتد بعد ،فكان يستطيع أن يرى الجانب الخلفي من المستشفى ،والمنازل
المجاورة له ذات الشرفات المغطاة بالزجاج ،وقضبان الترام المؤدية إلى أحد عنابر المستشفى.
مبال باحتدام الرياح ،التي كأنما أغضبها عدم اكتراثه بها ،فأخذت تهز ٍ وأخذ المطر ينهمر في رتابةٍ كئيبة ،ال يسرع وال يبطئ ،غير
كبساط ممزق، ٍ منزل قريب ،تريد أن تقتلعها من جذورها ،لتبعث بها في الفضاء ،ثم تُس ِقطها باحتقار، ٍ النباتات المتس ِل ّقة على جدران
مته ِتّك األوصال.
غصت َّ عددا من الجرحى ،كانت مستشفيات موسكو قد ً ومر ترام ذو عربتين من أمام الشرفة إلى مدخل المستشفى حامل ًا َّ
متجها
ً الممرات بالجرحى ،ورقد الكثير منهم على األرض ،وبدأ الزحام يزحف َّ بالمصابين ،خاصة بعد عملية لوتسك ،60وامتألت جميع
إلى عنابر النساء.
وابتعد يوري عن النافذة ،وهو يتثاءب من التعب واإلرهاق ،لم يكن لديه ما يفكر فيه ،ولكنه تذكر فجأة حادث ًا وقع منذ أيام في
تسمم
ُّ وقرر يوري أن سبب موتها هو َّ مستشفى الصليب المقدس ،حيث يعمل .كانت امرأة قد ماتت في قسم الجراحة بالمستشفى،
موعدا للتشريح .وكان يوري ً اليوم د دِ
فتقرر لذلك تشريح جثتهاّ ُ ،
وح َّ جميعا لم يوافقوه في الرأي، ً في الكبد ،ولكن األطباء اآلخرين
يعرف أن الطبيب المناوب اليوم ،رجل س ِك ّير عربيد .والله وحده يعلم إلى أي قرار ينتهي!
مست المكان كله ،فانبعثت األضواء وهبط الظالم فجأة حتى تع ّ َذرت رؤية أي شيء خارج الجدران .ولكن ،كأنما عصا سحرية قد َّ
من جميع النوافذ في لحظة واحدة.
مارا بالردهة الضيِّقة التي تفصل العنبر عن الممر .وكان الرجل بدينًا هائل الجسم ،من ً وخرج كبير أطباء النساء من عنبر تونيا،
يرددون قول هاملت المشهور: ِّ نوع األطباء الذين كلما سألهم سائل عن شيء ،هزوا أكتافهم ،وأداروا أعينهم في محاجرها ،وكأنما
“مهما بلغنا من العلم ،فهناك أشياء كثيرة أخرى في السماء واألرض يا هوراشيو”.
مبتسم ا ،ثم أشار إليه بيديه كأنما يقول“ :لم يعد هناك ما تحتاج إليه غير الصبر” ،ومضى في طريقه ً ومر الطبيب بيوري فأومأ له َّ
إلى آخر الممر ،ليشغل لفافة في غرفة االنتظار.
وتبعته بعد ذلك مساعدته ،وكانت ثرثارة بقدر ما كان هو قليل الكالم ،وما إن رأت يوري حتى قالت له“ :لو أني في مكانك
غدا في الصليب المقدس ،61وليس من المحتمل مطلقًا أن يحدث ً لعدت إلى بيتي على الفور ،إذ لماذا تنتظر؟ سأتصل بك تليفونيا
أي شيء حتى ذلك الوقت ،إن جميع الدالئل تدل على أنها ستلد والدة طبيعية ،واألرجح أنها لن تحوجنا إلى إجراء أية جراحة لها،
هذا على الرغم من أن حوضها ضيق ،ورأس الطفل في الموضع الخلفي ،وهي لم تبدأ في الشعور باأللم بعد ،واالنقباضات خفيفة ،ما
وتتقدم نوبات َّ يسبب شيئًا من القلق .ولكن هذا الكالم على كل حال سابق ألوانه ،فعلينا أن ننتظر حتى يبدأ إحساسها باأللم،
نقرر بدقة ما يجب أن يُعمل”. المخاض ،وعندئذ ،نستطيع أن ِ ّ
عما يريد، َّ وعندما اتصل يوري تليفونيًا بالمستشفى صباح اليوم التالي ،تلقَّى منه حارس الباب سؤاله ،ثم أمهله حتى يستفسر له
وبعد أن تركه عشر دقائق عسيرة ،عاد إليه بهذه اإلجابة المقتضبة ،المصوغة في كلمات جافة“ :إنهم يقولون إنك أحضرت زوجتك
قبل األوان ،وإن عليك أن تأتي لتأخذها!”.
أخيرا ،أجابته بقولها إن أعراض ً ثائرا أن يرسل في طلب شخص مسؤول ليتفاهم معه ،وعندما جاءت الممرضة ً وطلب منه يوري
يوما أو يومين. ً الحال هذه تستمر فقد لشيء، يقلق أال عليه وأن . كاذبة ا أعراض
ً كانت زوجته على ظهرت التي الوالدة
وفي اليوم الثالث ،قيل له إن نوبات المخاض قد بدأت ليل ًا ،وأن كيس المياه قد انفجر عند الفجر ،وأن آالم الوضع تتابع على
فترات متقاربة منذ الصباح.
مفتوحا عن طريق السهو ،تناهت إليه ً رأس ا إلى المستشفى ،وبينما كان يقطع المسافة إلى باب الغرفة الذي كان قد تُرك ً واندفع
صرخات تونيا تم ِ ّز ق قلبه ،كانت تصرخ ،وكأنها ضحية حادث .كأنما كان يسحبها قطار م ّزَق أطرافها تحت عجالته!
يعض أصابعه حتى أدماها ،ثم مضى إلى النافذة ،وكان المطر ال يزال يهطل كما حدث خالل اليومين ُّ سمح له برؤيتها ،فأخذ ولم ي ُ َ
السابقين.
جت!” .وقالت جت! لقد ن َ َ فرحا“ :لقد ن َ َ ً لتوه ،فهمس لنفسه وخرجت خادمة العنبر ،فسمع يوري مع خروجها ث ُغاء طفل مولود ِ ّ
الخادمة بصوت من َّغم“ :إنه ولد ..ولد صغير ..أهنئك بسالمتها” ،ثم أضافت“ :إنك لن تستطيع رؤيتها اآلن ..سيُسمح لك
مرت بلحظات عصيبة ،فهذه والدتها األولى ،والوالدة بالدخول عندما ينتهي كل شيء ..وعليك حينئذ أن تداعبها وتنسيها آالمها ..قد ّ َ
األولى شا ّقَة في أغلب األحيان”.
توجه إليه
َّ ملق بال ًا لكالم الخادمة التي كانت ٍ جت!” ،غير جت! لقد ن َ َ فرحا هذه العبارة“ :لقد ن َ َ ً يردد في نفسه ِّ ولكنه كان
التهنئة ،وكأنما كان له أي فضل في ما حدث .إذ ماذا صنع هو في الحقيقة ،ليصبح أبًا لطفل؟ إنه لم يصنع شيئًا يستطيع أن يفخر
األبو ة التي هبطت عليه من السماء ،أما العظمة الحقيقة ،فهي عظمة تونيا ،تونيا التي خاضت الخطر المحقَّق ،والتي َّ به لكسب هذه
نجت اآلن منه!
وكان أحد مرضاه يسكن على مقربة من المستشفى ،فذهب لعيادته ،ثم عاد إلى المستشفى بعد نصف ساعة .ومرة أخرى كان
وجها لوجه أمام كبير األطباء الذي ظهر ً باب العنبر والغرفة ال يزاالن شبه مفتوحين ،وبغير تفكير اندفع يوري إلى العنبر ،وإذا به
فجأة كأنما انش ّق َت األرض عنه ،ليسد عليه الطريق بجسده الكبير ،وثيابه البيضاء.
همس ا حتى ال يزعج المرضى“ :ماذا جئت تصنع هنا ،هل فقدت عقلك يا رجل؟ الجراح والدماء وأخطار ً وخاطبه كبير األطباء
تسمى نفسك طبيبًا”. ِّ أيضا ،يا له من سلوك حميد ،ومنك أنت ،أنت الذي ً التسمم ،ناهيك عن الصدمات النفسية
“ -لم أكن أقصد ،فقط اسمح لي بأن ألقي نظرة ،نظر ًة واحد ًة من هنا فقط ،من خالل هذا المصراع”.
تدعني أضبِطك ،وإيَّاك أن تجعلها تراك ،فلو حدث أن رأتك ،سأدق أنا ْ صبرا ،ولكن ال ً “ -حسنًا ،ال بأس إذا كنت ال تستطيع
عنقك ،سأقتلك ،أتفهم؟”.
كانت بداخل الغرفة امرأتان وقفتا في ثياب بيضاء ،وقد أعطتا ظهريهما للباب ،كانت إحداهما هي المو ِل ّدة ،واألخرى هي الممرضة.
يتلوى ويمد أطرافه ويقبضها ،وكأنه قطعة من المطاط داكنة االحمرار. َّ وعلى راحة يد الممرضة ،رقد مخلوق آدمي حديث الوالدة،
المتحرك في وسط ِّ السرة الدموية قبل أن تقطع حبلها ،وكانت تونيا راقدة على فراش العمليات ذي الظهر ُّ وكانت المولِ ّدة تربط أوعية
يجسم كل شيء ويبالغ فيه ،قد ُخيِّل إليه أنها ِّ الغرفة ،وقد بدا الفراش أعلى من المستوى الطبيعي ،بل إن يوري الذي لفرط انفعاله
أع ّ َدت ليكتب الناس عليها وهم وقوف! ترقد على فراش يماثل ارتفاعه ارتفاع المكاتب التي ِ
حب من آالمها المنقضية ،والحت لعيني يوري كأنما هي وكانت الزوجة تستلقي في إعياء على هذا الفراش المرتفع ،وقد غلَّفتها ُس ُ
سفينة راسية في وسط الميناء ،بعد أن ألقت حمولتها ،سفينة تخبَّطت في بحار الظلمة بين شواطئ العالم المجهول ،وبرور األمان،
أرواح ا ترتحل فيها ألول مرة .وها هي ذي إحدى هذه األرواح ،قد هبطت إلى الشاطئ ،وألقت السفينة مراسيها ،وطوت ً حاملة
تماما من كل ما مر بها من صور. ً شراعها لتستريح .كل ما فيها يستريح :شراعها المنصوب ،وهيكلها ،وحتى ذاكرتها ،قد خلت
المظلم ،وبر األمان! من صور الشاطئ المجهول ،والمعبر ُ
علم ترفع ،فكذلك لم يكن أحد يعرف بأية لغة يخاطبها. ٍ أحدا لم يكن يعرف من أي بلد جاءت ،وأي ً وكما أن
وعندما عاد يوري إلى المستشفى الذي يعمل به ،أدهشه وصول النبأ إليه بهذه السرعة ،فقد جاءه الجميع مه ِن ّئين.
واتجه يوري من فوره إلى غرفة األطباء ،وكانوا يطلقون عليها اسم مستودع القمامة ،فعندما ضاق المستشفى بمن فيه من مرضى،
أيض ا إلى غرفة للمعاطف ،وأصبح الناس يفدون من الخارج إليها بأحذيتهم التي يغمرها الجليد ،فيتركون فيها ما ً تحولت هذه الغرفة َّ
هملة وأعقاب السجائر. الم َ
يحملون ،ويلقون على أرضها أوراقهم ُ
كان الطبيب المقيم ،واقفًا أمام النافذة ،وفي يده وعاء به سائل معقَّم ،يفحصه أمام الضوء خلف نظارته.
وبادر الطبيب يوري ،من غير أن يلتفت إليه ،بقوله:
“ -تهانينا!”.
شكرا لك”. ً “ -
جميعا ..فقد ثبت أن سبب الوفاة ً “ ..ال تشكرني ،فأنا لم أصنع شيئًا ..لقد قام بيزوشكين بالتشريح ..وكم كان تأثرنا -ال
تسمم الكبد ..تشخيصك ذاته ..نعم ..إن هذا حديث الجميع”. ّ
أي لعنة حلَّت بهذا المكان ،ما هذه الفوضى والقذارة؟” .والتفت وفي اللحظة نفسها دخل كبير األطباء عليهما ،فحيَّاهما ثم قالُّ “ :
جميعا – ما عداك -كنا ً تصور أننا
َّ إلى يوري قائل ًا“ :على فكرة يا جيفاجو ،لقد ثبت أن الوفاة نتجت عن تسمم في الكبد،
ولست
ُ فعتك، د
ُ ملفات أخرى مرة طلبوا مخطئين ،إ ِن ّي أه ِن ّئك ،وهناك شيء آخر ،شيء مزعج ،ولكني لم أستطع دفعه هذه المرة .لقد
نقصا مخيفًا في األطباء ،ولسوف تستنشق رائحة البارود قبل مرور وقت طويل!”. ً أستطيع المعارضة في هذه المرة ،إن هناك
- ٦ -
ومضت أربعة أعوام منذ استقرت عائلة أنتيبوف في يورياتين ،وقد ساعدهم في تذليل متاعب إنشاء بيتهم الجديد ،ما حفظه أهل
المنطقة من ذكريات طيِّبة آلل جيشار.
وأصبحت الرا كثيرة المشاغل اآلن ،كان عليها أن تعتني ببيتها ،وبابنتها كاتيت التي أصبحت اآلن في الثالثة من عمرها ،وعلى
همتها ،فإنها لم تكن تكفي وحدها للقيام بجميع مطالب البيت، الرغم من أن الخادمة ذات الشعر األحمر مارفوتكا كانت تعمل بكل ّ َ
ولذلك فقد كانت الرا تساعدها ،وباإلضافة إلى هذا كله ،فقد شاركت الرا زوجها في جميع مسؤولياته ،فالتحقت بوظيفة ُمع ِل ّمة في
تماما.
ً مدرسة البنات العليا ،كانت تعمل بغير انقطاع .وكانت سعيدة .فهذه هي الحياة التي كانت تحلم بها
دائما،
ً وكانت تحب يورياتين ،فهي مسقط رأسها ،وتقع على أحد الخطوط الحديدية باألورال ،وعلى ضفّ َة نهر ريننا الصالح للمالحة
فيما عدا جزء من منابعه العليا.
وكانت من بوادر اقتراب الشتاء في يورياتين ،أن يسحب األهالي قواربهم من النهر ،ثم يضعوها على عربات تحملها إلى داخل
المدينة ،حيث تلقى على جوانبها في أفنية المنازل ،حتى يحل الربيع .وكان منظر هذه القوارب ،المقلوبة على جوانبها في أفنية
البيوت ،يعني في يورياتين نفس ما تعنيه هجرة طيور اللقْلق ،أو تساقط الثلوج في مناطق أخرى.
ولقد كان هناك قارب في فناء البيت الذي استأجرته عائلة أنتيبوف ،وكانت كاتيا تلعب بشراعه األبيض ،وكأنها في كوخ من أكواخ
المصيف ،وافتتنت الرا بعادات يورياتين وتقاليد أهلها ،بلكنتهم الشمالية الممدودة ،بأذكيائهم البسطاء ،وأرديتهم الرمادية القصيرة األكمام.
كان كل شيء يجذبها إلى يورياتين :أرضها وبساطة أهلها .أما باشا ،ابن عامل سكة الحديد في موسكو ،الذي طبعته العاصمة
كثيرا في حكمه عليهم .كان يضيق بهم ،وال يرى فيهم غير ً بطابعها ،فكان على النقيض من زوجته ،ال يحب أهل يورياتين ،ويقسو
جماعة من الجهالء الغالظ!
وكانت له قُدرة خارقة على القراءة السريعة ،واستيعاب كل ما يقرأ .وقد تجلَّت اآلن قدرته هذه .كان قد قرأ الكثير في الماضي،
وكان يدين ببعض قراءاته لالرا ،ثم جاء هذا المنفى الريفي فدفعه إلى اإلسراف في القراءة ،إلى حد لم تعد معه الرا تبدو أمامه
شاسعا بينه وبينهم ،حتى لقد أصبح يضيق بهم ،ويشعر باالختناق وهو معهم. ً مثقَّفة ،أما في محيط زمالئه المعلِ ّمين ،فقد بدا البون
فاآلن ،والحرب مشتعلة ،أصبح التجاوب مستحيل ًا بين مستوى أفكارهم الوطنية المحدودة ،وبين مشاعره الشديدة التعقيد حيال بالده.
ومع أن باشا كان حاصل ًا على درجته الجامعية في الدراسات القديمة ،وكان يع ِل ّم اآلن اللغة الالتينية والتاريخ القديم ،فإنه كان
يحتفظ ،منذ أيام الدراسة ،بكثير من الميل إلى الدراسات العلمية ،كالعلوم الطبيعية والرياضيات ،وقد عاوده ميله القديم ،فبدأ في
البيت دراسات خاصة في هذه العلوم ،واالنتقال إلى فروع العمل العلمي ،واالرتحال بأسرته إلى بطرسبورج ،وكان االستذكار المتواصل
المتأخرة من الليل ،قد أثَّر على صحته ،وأورثه القلق .وكانت عالقته بزوجته على ما يرام ،ولكنها لم تكن صافية ِّ إلى الساعات
ؤول كلمة بريئة من كلماته كثير ا عطفها الزائد واهتمامها الشديد به ،ولكنه لم يكن يبدي لها ذلك ،خوفًا من أن تُ ّ ً تماما ،وقد ضايقه
ً
تمت في يوم من األيام ،لغيره! عنصرا ،أو إلى أنها كانت ًُّ بأنها كلمة لوم أو تأنيب ،أو إشارة – مثل ًا -إلى أنها أرقى منه
كل منهما وبين إطالق العنان ِّ دائم ا أن تساورها الشكوك في أنه ينظر إليها نظرة غير عادلة ،وهذا ما حال بين ً كان يخشى
كرما من صاحبه ،وهذا ما ع ّقَد حياتيهما شيئًا ما. ً أشد يكون أن ا دائم
ً يحاول منهما كل كان ته، َّ لسجي
المدرسين ،وأحد أعضاء المحكمة العرفية التي كان باشا ِّ وكان لديهما ضيوف في هذه الليلة :ناظر مدرسة الرا ،وبعض زمالء باشا
جميعا في نظر باشا ،جماعة من األغنياء والحمقى ،لذلك أدهشه ً أيضا ،عدد قليل آخر من الناس ،وكان هؤالء ً أخيرا
ً انضم إليها
ّ قد
واحدا بينهم يمكن أن تحبَّه الرا. ً فردا
ً يتصور أن هناك
َّ جميعا ،فلم يكن يستطيع أن ً أن تستطيع الرا مالطفتهم
غ رف المنزل ،وغسل األطباق مع مارفوتكا في المطبخ ،وبعد ما استيقنت وقضت الرا وقتًا طويل ًا بعد انصرافهم في إعادة ترتيب ُ
من إحكام الغطاء على كاتيا ،ومن أن باشا قد نام خلعت مالبسها مسرعة ،وأطفأت النور ،وتسلَّلت بر ّقَة إلى جواره في الفراش ،كما
لو كانت طفل ًا يأوي إلى فراش أمه!
يدعي النوم فحسب ،فما أكثر ما كان األرق يصيبه في هذه األيام ،ولعلمه بأنه لن يستطيع نائما ،وإنما كان ّ َ
ً على أن باشا لم يكن
خارجا.
ً النوم لساعات طويلة ،نهض من فراشه بهدوء ،وارتدى فوق ثياب نومه معطفه المصنوع من الفرو ،وقبَّعته ،ثم مضى
كان الليل صافي ًا شديد البرودة ،وشرائح الثلج تنسحق كالدقيق تحت قدميه ،وكانت السماء بنجومها الوضيئة ترسل على األرض
المتجم د ،أشعة زرقاء باهتة تخفق كما يخفق اللهب المتصاعد من الكحول المشتعل. ِّ السوداء ،بما يعلوها من كتل الطمي
كانت عائلة أنتيبوف تعيش في طرف البلدة المقابل للميناء ،وكان المنزل يقع في نهاية الطريق ،حيث يمتد أمامه حقل ،تقطعه
قضبان سكة الحديد ،ويرتفع عليها من أمامه مزلقان للمرور ،وكوخ لإلشارات.
جلس باشا على القارب المقلوب ،ورفع عينيه يرقُب النجوم .وسيطرت عليه بشدة أفكاره التي اعتادت أن تنتابه خالل األعوام
حد لما بينهما ،وأن هذا يمكن أن يحدث اآلن. ٍّ الماضية ،وبدا له أنهما إن عاجل ًا أو أجل ًا ،سيفكران في وضع
بعد طفل؟
ُ وهو بها ق َ ّ ل يتع تركته لماذا طويل، بوقت إن هذه الحال ال يمكن أن تدوم ،ولقد كان عليه أن يدرك ذلك قبل الزواج
وحتى في تلك األيام ،كانت تستطيع أن تجعله يصنع ما تشاء ،لماذا لم يستمع إلى صوت العقل فيقطع عالقته بها في الوقت
واضحا ،أنه لم يكن الشخص الذي أحبَّته هي ،وإنما كانت تؤدي واجبًا ً تصر على ذلك؟ ألم يكن ّ المناسب ،عندما كانت هي نفسها
فرض ا ،وقامت بأدائه بكل ما تستطيع من كرم؟ إن ما كانت تحبه ،هو صورة بطولتها ،ولكن ما شأن شيء كهذا ً فرضته على نفسها
دائما .فقد
ً بل جدير بالتقدير .وأسوأ ما في األمر ،أنه ظل يحبها كما أحبها بالحياة الزوجية الحقّ َة؟ مهما كان ينطوي عليه من ن ُ ٍ
نوعا من العرفان ً كانت فيَّاضة الل ُّطف ،ومع ذلك ،فهل هو على يقين من أن ما يشعر به نحوها هو الحب؟ أال يمكن أن يكون
المض ِل ّل ،لما أحاطته به من كرم ولطف؟ من يستطع أن يجزم؟. ُ
ومع هذا ،ماذا عليه أن يصنع؟ أيحل زوجته وابنته من قيد هذه الحياة الزائفة؟ إن هذا في حد ذاته ال يقل أهمية -بل يزيد-
أيغرق نفسه؟ ِ عن تحرير نفسه ،ولكن ،كيف السبيل؟ أيط ِل ّقها؟
ولكنه ثار على هذه الخواطر ضائقًا ،وقال“ :يا للحقارة ..كأنما من المستطاع أن يأتي مثلي عمل ًا كهذا ،وإذن فلماذا أسمح لعقلي
مسرحا لهذه الخواطر السوداء؟”. ً بأن يكون
والمتجمعة .بعضها أزرق، ِّ ونظر إلى النجوم ،كأنما يطلب النصح منها ،كانت النجوم تخفق في السماء ،الصغيرة والكبيرة ،الوحيدة،
قوي خاطف على البيت ،والفناء ،وعلى القارب الذي جلس عليه ٌ جميعا ،وسطع ضوءٌ ً ِّ
متعدد األلوان ،وفجأة اختفت النجوم وبعضها
ِّ
متوهجة؟ شخصا قد اندفع يجري من الحقل إلى المنزل ،حامل ًا في يده ُشعلة ً وكان باشا،
حربي ،ينفث سحبًا من دخان أصفر ،كاللهب والدخان اللذين تطلقهما القذائف النارية في السماء ،واختفى ّ ومرق فوق المزلقان قطار
متجها إلى الغرب ،شأن القطارات التي ال تُحصى ،التي ظلَّت تمر من الطريق نفسه ،طوال العام. ً القطار
عائدا إلى فراشه. ً وابتسم باشا ،ونهض
لقد وجد الجواب.
-٧ -
تصد ق أذنيها أول األمر ،قالت لنفسها“ :هذا جنون ،إنه يهذي .لن ألقي بال ًا إلى ما ِّ ذُهلت الرا عندما سمعت قرار زوجها ،ولم
يقول ،ولسوف ينسى!”.
يعد نفسه طيلة األسبوعين الماضيين ،فقد أرسل أوراقه إلى مكتب التجنيد ،وعيَّنت المدرسة التي يعمل بها من ُّ ثم اتضح أنه كان
يحل محله ،وقد تلقّ َى هو األمر بالذهاب إلى مدرسة التدريب العسكري في أومسك. ُّ
وتمرغت تحت قدميه ،وراحت تصرخ“ :باشا ..باشا .أيها الحبيب ،ال تتركنا ..ال َّ وول ْولت الرا كنساء القرى ،وتشبَّثت بيد باشا،
بعد طبيًّا كما يجب ..وإن قلبك ..ماذا ..هل يخجلك أن ُ فحص ُ ت لم إنك .. شيء كل تتركنا ..لم يفت الوقت بعد ،سأتدبَّر أنا
عا ،لقد كنت طول حياتك تسخر من روديا، متطو
ّ ً ِ تصبح .. أنت جنوني؟ خاطر أجل من أسرتك تغيِّر رأيك؟ وأال يخجلك أن تترك
أيضا؟ ال ..لست أنت من نعرفه ..ما الذي ً فهل أصبحت تغار منه؟ تريد أن تخطر في ثياب الضابط ،وأن تصلصل بسيفك أنت
تنميق في الكالم ،أهذا حقًا هو ما تحتاج إليه ٍ غيَّرك هكذا؟ قل لي بصراحة ..قل لي من أجل المسيح ..قل لي ،بغير
روسيا؟”.
أدركت فجأة أن هذا لم يكن السبب مطلقًا ،وعلى الرغم من أنها لم تدرك كل شيء ،فقد استطاعت أن تلمح جوهر األمر ،لقد
عنصرا من عناصر عاطفتها نحوه ،ولم ً تكون
ِّ فهم موقفها منه ،لقد ثار على مشاعر األمومة التي كانت – طول حياتها- أخطأ باشا ْ
طبيعي تشعر به امرأة
ٍّ حب
ّ ٍ أي عن - حال أي على – يقل
ّ يكن لم وأنه . ا كثير
ً ذلك من أكثر كان له حبها أن يدرك ِ
يستطع أن
نحو رجل!
بصمت تحزم له أشياءه. ٍ وعض ت على شفتها ،وأجفلت كمن أصابته ضربة .ثم ابتلعت دموعها ،وراحت َّ
قل عددها ،وعبثًا حاولت ّ وأحست بعد رحيله كأن المدينة كلها قد خيَّم عليها الصمت .حتى الغربان التي كانت تطير في الجو، َّ
كمها صائحة: تردها إلى نفسها ،منادية إياها“ :سيدتي ..سيدتي .”..وعبث ًا راحت طفلتها تجذبها من ِ ّ َّ مارفوتكا -الطاهية -أن
تحطمت أجمل آمالها وأبهرها! َّ أحست أنها تل ّقَت أكبر هزيمة في حياتها ،لقد َّ “ماما ..ماما .”..فلقد
* * *
وضوحا ،بدأ يفتقد زوجته ً وكانت الخطابات التي أرسلها إليها باشا من سيبيريا تكشف لها عن كل أحواله ،لقد بدأ يرى األمور أكثر
أيضا ،أُرسل إلى الميدان ،ولم ً كحامل للعلم في مهمة طارئة .ومرة أخرى ،وفجأة ِ وابنته ،ولكن االختيار وقع عليه بعد بضعة أشهر
تقده رحلته إلى أي مكان قرب يورياتين .وعندما هبط موسكو ،لم يكن لديه وقت ليرى أي إنسان.
تفو ٍق ما ،حتى يكافَأ عليه بإجازة قصيرة يرى فيها ُّ وبدت رسائله التي أرسلها من الميدان أقل حزنًا ،لقد كان يسعى إلى إحراز
أسرته ،بل تمن َّى أن ي ُصاب بجرح خفيف يتيح له الفرصة نفسها .وما أسرع ما واتته الفرصة ،كانت قوات بروشيليوف قد تسلَّلت
وبدأت الهجوم ،وتبع ذلك تو ّقَف وصول أي رسالة من باشا ،ولم تنزعج الرا أول األمر ،فقد أرجعت عدم كتابته إلى انشغاله
تحركات كتيبته ،ولكن الخريف أقبل ،وتباطأ تقدم القوات التي ُّ بالعمليات الحربية ،فليس من المستطاع أن يكتب الجندي أثناء
تتحرى عنه في كل مكان ،سألت َّ أخذت تحفر الخنادق لنفسها ،ورغم ذلك لم تصلها منه كلمة واحدة ،عندئذ ساورها القلق ،وبدأت
عنه أول ًا السلطات المحلية في يورياتين ،ثم أرسلت تسأل عنه بالبريد في موسكو .ثم كتبت إليه على جميع عناوينه السابقة في
رد مفيد .ال أحد يعرف عنه شيئًا على اإلطالق! أي ٍ ّ الخدمة ،ولم يصلها ُّ
أتمت تدريبها ،ونالت إجازة َّ وبدأت الرا ،ومعها بعض السيدات ،يعملن متطوعات في عنبر الجرحى في مستشفى المدينة ،وإذ
التمريض ،استأذنت المدرسة التي تعمل بها في التغيُّب عنها لمدة ستة شهور ،وتركت بيتها في رعاية مارفوتكا ثم أخذت كاتيا إلى
موسكو ،حيث تركتها عند ليبا ،وكانت ليبا تعيش اآلن وحدها ،ألن زوجها األلماني الجنسية فرايسندتنك كان قد ُز ّج به في معسكرات
االعتقال ،كأحد الرعايا المدنيين لألعداء.
قر رت أن تذهب بنفسها للبحث عن باشا ،بعد أن ثبت لها بوضوح عقم كل محاولة أخرى لمعرفة أنبائه ،ولذا فقد وكانت الرا قد ّ َ
متجها إلى الحدود المجرية ،عبر مدينة ليسكي ،آخر
ً كان ل، ق
ّ متن كمستشفى يستعمل طبي قطار
ٍ في ضة كممر
ّ ِ عمل حصلت على
مكان كتب إليها باشا منه!
– ٨ -
محمل ًا بمعدات جمعتها جمعية تايانا 62لمساعدة المصابين ،وكان القطار القديم َّ وصل قطار الصليب األحمر في مقر قيادة الفرقة
يسحب رتل ًا طويل ًا من عربات البضاعة القصيرة القبيحة المنظر ،وفي ديوان الدرجة األولى ،الوحيد في هذا القطار ،جلست نخبة من
أهل موسكو ،تحمل الهدايا إلى القوات ،وكان جوردون يجلس بين أفراد هذه الجماعة ،لقد عرف أن صديق طفولته جيفاجو يعمل في
مستشفى الفرقة ،وإذ فهم أن المستشفى يقع في قرية قريبة ،فقد حصل على إذن بالسفر إلى المنطقة ،التي تقع خلف خطوط القتال
مباشرة ،وركب عربة كانت ذاهبة إلى هناك.
محرفة ،وكان حديثه ال يتجاوز بضع عبارات َّ يتحدثون بلهجة روسية
َّ كان سائق العربة من أهالي “ييالروسيا” -أو توانيا -الذين
حمى التجسس التي انتشرت بشكل جنوني ،ولهذا فقد قطع جوردون أكثر الطريق َّ رسمية تافهة كان أمثاله يلتزمونها خوفًا من
بصمت.
وكان القوم في مقر القيادة – حيث تتابع تحركات الجنود ،وحيث تُقاس المسافات بوحدات أقلَّها مائة ميل -قد أخبروه أن القرية
على مقربة منهم ،وق ّ ََدر هو أن تكون على مسافة خمسة عشر ميل ًا مثل ًا .ولكنها كانت في الحقيقة تبعد أكثر من خمسين ميل ًا.
تجمعات غاضبة معادية ،عند األفق إلى يسارهما .ولم يكن قد سبق ّ وظلَّت تتناهى إلى أسماعهما على طول الطريق دمدمة
لجوردون أن عاش في بقاع بركانية ،ومع ذلك ،فقد ُخيِّل إليه أن ما يطرق سمعه من األصوات الكئيبة البعيدة ،التي تصل إليه من
وردي عند حافة األفق في ذلك الجانب، ّ شبها بانفجارات البراكين وهزاتها ،وقبيل المساء ،لمع وهج ً مدفعية األعداء ،هو أقرب األشياء
وظل يخفق عاليًا حتى الفجر.
ومر ت بهما كثير من القرى التي أصابها الخراب والتدمير .كان الناس قد هجروا بعضها ،وكانوا في بعضها اآلخر يعيشون في َّ
تحدد أماكن الدور القديمة ،وكنت تستطيع أن تلمح في نظر ٍة ِّ مخابئ عميقة تحت األرض ،وكانت األنقاض تبدو لهما في صفوف
فار مجدبة. بقاعا بأسرها ،فلم يتبق منها سوى ِق ٍ ً واحد ٍة ما خلَّفته الحرائق التي التهمت
وانتثرت العجائز هنا وهناك بين األطالل والخرائب ،كل منهن على أنقاض منزلها .وكانت كل منهن تنبش بيديها في األتربة
واألنقاض ،لتستخرج بين وقت وآخر شيئًا تضعه جانبًا ،محتمية بالطلل من أعين الغرباء والمارة ،وكأنما ال تزال ترى فيه آثار جدران
منزلها.
ماضفي الطريق ،وكأنما يسألنه ،متى يسترد العالم صوابه ،ويعود السالم واألمن ٍ بعيونهن وهو
ّ وكن ينظرن إلى جوردون ،ويتابعنه
والنظام إلى الحياة؟
فورا ،ولم يكن السائق يعرف طريق العربات ً وعندما أقبل الظالم ،التقت بهما إحدى الدوريات ،وأمرتهما بأن يتركا الطريق الرئيسية
هدى قرابة ساعتين. يتجوالن على غير ً َّ الجديد ،فظال
ووصال عند الفجر إلى قرية تحمل االسم نفسه الذي كانا يبحثان عنه ،ولكنهما لم يجدا فيها من يعرف أي شيء عن المستشفى،
وأخير ا ،عند الصباح ،بلغا القرية التي يقصدانها ،وبينما كانا يعبران طرقاتها
ً ثم اتضح لهما أن هناك قريتين تحمالن هذا االسم نفسه،
قر ر جوردون في نفسه أال يقضي الليل في القرية ،وإنما يكتفي بسحابة النهار ،حتى إذا أقبل المعبَّأة برائحة الكاموميل واليودوفورمَ ّ ،
المساء ،مضى إلى محطة السكة الحديدية ،حيث ترك أصدقاءه ولكن الظروف التي تلت ذلك ،أرغمته على البقاء أكثر من أسبوع!
-٩ -
تحركاتها ،إذ كانت قواتنا قد استطاعت أن تُحدث ثغرة في صفوف األعداء ،في الناحية الجنوبية ُّ كانت الخطوط األمامية قد بدأت
التي وجد جوردون نفسه فيها ،ثم تبعتها اإلمدادات المساعدة ،التي أخذت في توسيع الثغرة ،ولكنها سقطت خلف خطوط األعداء،
المتقد مة ،فتم أسرها .وكان المالزم أنتيبوف بين األسرى ،فقد اضطر إلى تسليم نفسه عندماِّ وانقطعت الصلة بينها وبين الوحدات
استسلمت وحدته.
واعتقد الجميع أن قنبلة قتلته ،ودفنه االنفجار ،وكان مصدر هذا االعتقاد ما قاله صديقه جاليولين ،الذي كان يراقب المعركة بمنظار
الميدان من إحدى نقاط المراقبة ،عندما كان أنتيبوف يقود الهجوم.
بخطى سريعة ،عبر أرض ال يحرسها أحد ،وقد ً تقدم الرجال يتواثبون
َّ وكان ما رآه جاليولين هو الصورة المألوفة لوحدة مهاجمة .فقد
القش يتماوج مع الرياح ،تتخلله أشجار الشوك الجامدة.ُّ ج ّف َف الخريف الحقول وأخذ
وكان هدفهم إما أن يرغموا النمساويين على التدفق خارج خنادقهم ،ليشتبكوا بالسالح األبيض ،أو أن يبيدوهم بقنابلهم اليدوية ،وكانت
مستنقع رطب .وكان حامل بيرقهمٍ الساحة تبدو بال نهاية أمام أعين المهاجمين ،واألرض تميد تحت أقدامهم ،وكأنهم يتواثبون فوق
ملو ًحا بمسدسه الذي يرفعه في يده ،وقد اتسع فيه إلى أذنيه ،وهو يهتف بصيحات النصر ،التي ِّ يتقدمهم أول األمر ،ثم أصبح يحاذيهم
يهبون مندفعين إلى األمام وقد عالأرضا ،ثم ُّ
ً لم يكن هو نفسه يسمعها ،وال أحد من المتقدمين ،وكانوا بين لحظة وأخرى ينبطحون
صياحهم .وفي كل مرة كان يسقط بينهم مصاب أو اثنان ،وكان سقوط هؤالء يختلف في طريقته عن انبطاح اآلخرين ،فقد كانوا
ينكفئون على وجوههم ،وكأنهم جذوع أشجار اجتثت من الغابة .ثم ال ينهضون ثانية!
“.. وصاح جاليولين بضابط المدفعية الواقف بجواره قائل ًا“ :فلتبدأ المدفعية في تغطيتهم ،فقد جاوزوا األهداف” ،ثم قال :ال
انتظر ..كل شيء على ما يرام”.
وكان المهاجمون على وشك االشتباك مع العدو ،عندما تو ّقَف ستار المدفعية ،وخالل الصمت المفاجئ الذي تال سكوت المدافع،
أيض ا – كأنتيبوف -قد بلغوا برجالهم خنادق العدو ،متوقعين منهم في الدقائق التالية أنً سمع المراقبون د ّقَات قلوبهم وكأنما هم
يح ِقّقوا المعجزات بشجاعة ال حدود لها.
سحب سوداءٌ من الترابٌ وفي هذه اللحظة رأى المراقبون قنبلتين ألمانتين من عيار ١٦بوصة تنفجران أمام المهاجمين ،وتصاعدت
ابيضت شفتاه“ :يا الله ..لقد انتهى كل شيء .”..واعتقد َّ والدخان ،فأخفت عن أعينهم كل ما تبع ذلك ،وهمس جاليولين ،وقد
أن حامل البيرق وجميع رجاله قد قُتلوا ..ثم سقطت قنبلة أخرى بالقرب من مركز المراقبة ،وانفجرت بشدة ،وأسرع المراقبون
بعيدا عن موقع االنفجار. ً يتلمسون النجاة
َّ
وكان جاليولين قد شارك صديقه أنتيبوف في حفر الخنادق ،فلما اعتبر أنتيبوف مقتول ًا كلَّف صديقه بالمحافظة على مخلفاته لتسليمها
إلى أرملته ،وكان لها بين مخلفاته كثير من الصور الفوتوغرافية المختلفة.
أخير ا بترقية جاليولين ،العامل الميكانيكي ،ابن جيمازيدين ،حارس مجموعة عنابر السكنى التي كان ً وكانت األوامر قد صدرت
تيفرزين يقيم في إحداها .وكان جاليولين هو نفسه الصبي الذي كان يُعرف فيما مضى باسم يوسوبكا ،والذي ضربه خودولييف رئيس
العمال ذات يوم! َّ
قائدا لحامية في بلدة صغيرة في ً عيِّن ولترقية جاليولين قصة :فذات يوم وجد نفسه على الرغم منه ،ولغير سبب واضح ،قد ُ
مكو نة من عدد من أشباه المرضى العاجزين ،وقد عكف رؤساؤهم الذين ال يقلُّون كهولة عنهم ،على تدريبهم َّ المؤخرة ،وكانت الحامية
كل صباح على ما نسيه الفريقان كالهما :الجنود ،والذين يدربونهم!
وكان عليه أن يشرف على التدريب ،وعلى تغيير نوبات الرجال المناط بهم حراسة الذخيرة ،ولم يكن أحد يطالبه بشيء أكبر من
ذلك ،ولم يكن هناك ما يشغله في الوجود ،عندما وفد المجن َّدون الذين استُدعوا حديثًا من موسكو ،ليكونوا تحت إمرته ،واستطاع أن
يتبيَّن بينهم الشخصية التي ال يستطيع أن ينساها :بيوتر خودولييف.
وتمتم جاليولي بمرارة :هذا أنت أيها الصديق القديم! وأجاب خودلييف محييًا في وقفة االنتباه“ :نعم يا سيدي”.
وكان من المستحيل أن يقف األمر عند هذا الحد ،فعند أول خطأ وقع فيه الجندي الجديد أثناء التدريب ،زمجر الضابط فيه بغلظة
شديدة ،وعندما أدار الجندي عينيه ،غير عابئ بموقف االنتباه المفروض عليه لطمه بشدة على ف ِك ّه ،وعاقبه بالحبس االنفرادي يومين،
على الخبز الحاف والماء!
وبدأت صلة جاليولين بهذا الجديد تتسم بطابع االنتقام ،األمر الذي لم يكن يبدو الئقًا ،وال أخالقيًا ،لعدم تكافؤ الرجلين ،وما تكفله
واحدا
ً حد له على اآلخر ،ولكن ،ماذا كان جاليولين يستطيع أن يصنع ،وقد تبيَّن له أن مكانًا َّ النظم العسكرية ألحدهما من سلطان ال
معا؟ بأي مبرر يستطيع ضابط أن ينقل جندي ًا من وحدته ،وإلى أي مكان ينقله ،إن لم يكن هذا النقل بسبب يضمهما ً َّ ال يمكن أن
قرر أن يطلب نقل وأخيراَّ ،
ً مخالفة الجندي للنظام العسكري؟ ومن جهة أخرى ،على أي أساس يستطيع هو أن يطلب نقل نفسه؟
بتبرمه بعمله الضئيل في حاميته ،وأكسبه هذا الطلب سمعة طيبة في الجيش ،ثم ساعدته مزاياه ُّ مبررا طلبه
ً نفسه إلى الجبهة،
قديما! ً به ذ
ّ ِ يع كان ما إلى بترقيته يدين صار وهكذا .المالزم رتبة إلى ى َ ق
ّ تر كضابط صالحيته، إثبات في األخرى
وكان جاليولين يعرف باشا أنتيبوف من أيام تيفرزين ،عندما أمضى باشا معهم ستة أشهر من عام ،١٩٠٥وكان يوسوبكا –
جاليولين -يذهب ليلعب معه في أيام األحد ،وهناك قابل الرا مرة أو مرتين ،ولكنه لم يسمع عن أحد منهما ،منذ ذلك الوقت،
قادما من يورياتين ،والتحق بالكتيبةُ ،دهش جاليولين دهشة عظيمة للتغيُّر الذي أصاب صديقه ،فقد كان معروفًا ً وعندما أتى أنتيبوف
ذكي ،شجاع ،قليل ٌّ بحيائه الشديد ،وخفره الذي يشبه به الفتيات الصغيرات ،فإذا هو اآلن عالم مستكبر كثير الوساوس والشكوك،
الكالم ،ساخر ،وعندما كان جاليولين يرى نظرات الحزن في عينيه ،كان يستطيع أن يقسم أنه يرى من خاللهما شيئًا ما ،وكأنهما
تائها
ً مبرحا البنته وزوجته ،كان أنتيبوف يبدو له ً عما وراءهما .أما هذا الشيء ،فقد يكون فكرة تملَّكته ،أو شوقًا َّ نافذتان تش ّفَان
وبقي جاليولين وحده ،حامل ًا أوراقه وصوره الفوتوغرافية، َ راح، قد أنتيبوف هو وها الخرافية، القصص أشخاص كبعض مسلوب اإلرادة،
وذلك السر الدفين الغامض ،الذي أحدث فيه كل هذا التغيير.
وحدث ما كان ال بد أن يحدث عاجل ًا أو آجل ًا ،فقد بلغت أنباء استفسار الرا عن زوجها أسماع جاليولين ،وكان قد حاول قبل ذلك
لتحمل ُّ أن يكتب إليها ،ثم شغلته الشواغل ،فقد كان كل وقته مشحونًا بالعمل ،فلم يجد فرصة ليكتب إليها ما يستطيع به إعدادها
يوما بعد يوم ،حتى سمع بوجودها في مكان ما بالجبهة ،حيث تقوم بالتمريض ،وحتى عند ذلك، ً يؤجل الكتابةِّ الصدمة ،وهكذا ظل
يستطع أن يعرف العنوان الذي يكتب إليها فيه. ِ لم
-١٠-
كان جوردون يسأل الدكتور جيفاجو كلما عادا لتناول الغداء في الكوخ الذي اتخذاه لهما:
“ -أيمكن أن نجد خيل ًا اليوم؟”.
وأجاب الدكتور جيفاجو:
يسارا .فاالضطراب يسود ً تتحرك يمينًا أو
َّ “ -ال أمل في ذلك ،وعلى أي حال ،إلى أي مكان ستذهب؟ إنك ال تستطيع أن
المنطقة بأسرها ،وال أحد يستطيع أن ي ُجزم بشيء ،ففي الجنوب ،استطعنا أن نتغلب على جناح الجيش األلماني في بعض األماكن،
واخترقنا خطوطه في أماكن أخرى ،وقيل لي إن عدة وحدات لنا قد غلبتها الحماسة ،فأدت بها إلى األسر .أما في الشمال ،فقد
قوتهم ،هم الذين اخترقوا اجتاح األلمان منطقة سفنتا من موقع كنا نظن أنه ال يُقهر ،وكان فرسانهم ،الذين ال يزيدون على كتيبة في ّ
ويدمرون مخازن الذخيرة ،وفي اعتقادي أنهم اآلن يطوقوننا .هذا ما نحن فيه ،وأنت ِّ ذلك الموقع .وهم ينسفون اآلن السكة الحديدية،
تتحدث عن الخيل!”. َّ
موجها الكالم للجندي: ً وأضاف جيفاجو
وأعد المائدة ،ماذا لدينا للعشاء؟ كوارع عجول! عظيم!”. ّ تحرك
َّ “ -هيا يا كارينكو،
وزَعت نفسها في أنحاء البلدة التي لم تصب بضرر ما ..وكانت المساكن تتألق كانت الوحدة الطبية ،بمستشفاها وملحقاتها ،قد ّ
لوح واحد من زجاج! ٌ يتحطم منها شيء ..وال َّ بنوافذها األوربية النمط ،ممتدة من جدار إلى جدار ،لم
يتحول إلى صيف شديد القيظ ،واضطر األطباء إلى فتح النوافذ أثناء النهار، َّ وبدأ الجو الذي كان يشبه جو الخريف األصفر الدافئ،
ومطاردة جماعات الذباب الزاحفة على أعتاب النوافذ والسقوف المنخفضة البيضاء ،وقد فكوا أزرار أرديتهم ومعاطفهم ،واعتادوا – وهم
يتصبَّبون عرقًا -أن يرتشفوا مرق الكرنب ،أو الشاي الساخن الذي يُلهب شفاههم.
أما في المساء ،فكانوا يجلسون للعب الورق ،أمام المدافئ التي تُوقد بكتل الخشب الرطب ،فترسل سحبًا من الدخان تؤذي
عيونهم ،فيصبّوا لعناتهم على الجنود الذين ال يعرفون كيف يوقدون النار.
كان الليل يرخي سدوله ،وقد رقد جوردون وجيفاجو في قمرتين متقابلتين تفصل بينهما مائدة العشاء ،وقطرات المطر تب ِل ّل زجاج
ليتسرب الدخان الذي يمأل الغرفة ويزيد من َّ النافذة المنخفضة الممتدة على طول الجدار ،وكانا قد فتحا جانبًا من زجاج النافذة
أيضا كانت السماء تتألَّق في األفق بلونها الوردي. ً حرارتها ،وليستنشقا نسيم ليل الخريف المنُعش ،وكالمعتاد كانا يتحدثان ،وكالمعتاد
جر
مكسوة بالحديد ،تُ ّ
ّ وقت آلخر ،كانت صدمة قوية ته ُّز األرض ،وتتخلَّل أصوات الطلقات المتتابعة ،وكأنها جِ ذع شجرة كبيرة ٍ ومن
جرا ،فتنتتزع قشرتها. ً على األرض
وأطرق جيفاجو لدى سماعه ذلك الصوت ،قائل ًا :هذه مدافع برتا األلمانية من عيار ست عشرة بوصة ،وهذه الطلقة من عيار ستة
وثالثين ثقل ًا ،كل منها يزن ستين لبرة.
يتحدثان بشأنه! َّ نسي ما كاناَ وعدما استأنفا حديثهما بعد ذلك ،كان قد
وسأل جوردون“ :ما هذه الرائحة التي تمأل البلدة؟” .ثم قال“ :لقد الحظت وجودها منذ جئنا هنا .رائحة مق ِ ّززة تبعث على
الغثيان كالرائحة المنبعثة من الجرذان!” .فأجاب جيفاجو“ :أعرف ما تعني .إنها رائحة نبات القن َّب ،فهم يزرعونه بكثرة هنا،
تنس أننا هنا في منطقة القتال ،وجثث القتلى تبقى عارية َ الرمم ،فال وباإلضافة إلى ما يحمله هذا النبات من روائح عفنة كرائحة ِ ّ
في حقول القن َّب حتى يصيبها العفن ،فتمتزج رائحتها برائحة النبات .نعم ،ال شك أن رائحة الجثث تمأل الجو هنا في كل مكان،
جدا .أتسمع! هذه مدافع برتا مرة أخرى!”. ً وهذا طبيعي
تطر قا بالحديث إلى كل شيء تحت الشمس .وكان جوردون قد عرف كل آراء صديقه عن الحرب، َّ وكانا في األيام األخيرة قد
يبررون به
حدثه عن الصعوبة التي يجدها في فهم هذا المنطق الوحشي الذي ِّ َّ وعن الروح السائدة في هذه األيام ،كان جيفاجو قد
المتقرحة التي ابتلينا بها في هذه األيام ،وعن ِّ تبادل اإلبادة ،أو في اعتياد رؤية الجرحى .وعن الهول الذي يلقاه من منظر الجراح
المشوه.
َّ المشوهين الذين أحالتهم الحرب الحديثة إلى مسوخ من اللحم َّ تصور حياة َّ األلم الذي يغشاه كلَّما
وكان جوردون قد عانى بدوره من رؤية هذه المناظر األليمة البشعة ،في جوالته اليومية مع جيفاجو ،وكان يستنكر من نفسه موقف
المتفر ج السلبي ،في وقت يقاسي فيه اآلخرون بشجاعة ال مثيل لها! ويستنكر أن يكتفي بمراقبة الجهد الذي يتغلَّبون به على ِّ
مخاوف الموت ،وهو جهد يفوق طاقة البشر .وأن يرى ما يندفعون إليه من مخاطر ،وما يدفعونه من ثمن .ولكنه لم يفطن إلى أن
نكر ا من كل هذا! كان يرى في مسلكه المسلك البسيط األمين الذي تقتضيه الظروف التي أوجدته ً مجرد البكاء عليهم لم يكن أقل
فيها الحياة.
وكان قد أدرك كيف يضعف اإلنسان لمرأى الجراح .أدرك ذلك من تجربته الشخصية عندما زار إحدى وحدات الصليب األحمر
بشدة نيران المدفعية ،وكانت عربات المدافع َّ خربتها
َّ المتن ِقّلة ،خلف خطوط القتال :فقد ذهبا إلى أرض خالء في داخل غابة
بيت تابع إلدارة الغابات قد سقط نصف ٍ المحطمة مبعثرة بين حطام األشجار الهاوية ،وثمة حصان موثق إلى جذع شجرة ،وفي وسط
سقفه ،وقد اتُخذ مرك ًزا لإلسعاف ،وأقيمت خيمتان إلى جواره على جانبَ ْي الطريق الموصل إليه.
وقال جيفاجو لجوردون“ :لم يكن ينبغي لي أن أُحضرك معي .إن خنادق الجنود على بعد ميْل أو اثنين ،ومدفعيتنا هناك خلف
أصدقك إن حاولت .وما أظنك ّ تجرب القيام بدور البطل ،فلست ِّ الغابة .إن في استطاعتك أن تسمع ما يدور هناك ،ولذلك إيَّاك أن
أي حال .وفوق هذا ،قد يتغيَّر الموقف في أي ّ على طبيعي وهذا قادرا إال على أن تجمد في لحظة واحدة من الرعب والهول، ً
لحظة ،ويبدأ العدو في قصفنا بقنابله.
يتمددون على جانب من الطريق ،وقد رقد َّ سود العرق أكتافها وصدورها، َّ وكان الجنود الصغار ،بأحذيتهم الثقيلة ،وثيابهم المغبَّرة التي
عزلت عن الخطوط بعضهم على ظهره ،وانكفأ اآلخرون بوجوههم إلى األرض .كان هؤالء الجنود هم البقايا الحية من الفصيلة التي ُ
األمامية بعد أربعة أيام من القتال المرير ،وقد جِ يء بهم إلى المؤخرة ليحصلوا على راحة قصيرة ،فكانوا يرقدون بال حس كأنما ُّ
قدوا
من حجر .ال حركة ،وال ابتسامة ،وال كلمة سباب! وحتى عندما كانت العربات الثقيلة العديدة تمأل الطريق صخبًا إلى جوارهم ،لم
المارة من عربات المؤن غير المسقوفة ،وقد ّ يحاول أحد منهم أن يرفع رأسه ،أو يستدير ليرى شيئًا مما حوله .وكانت العربات
ُح ِ ّم لت بالجرحى ،وراحت تطحن عظامهم وتلوي ضلوعهم وجذوعهم ،في قفزاتها المتتابعة على الطريق إلى وحدة اإلسعاف .وهناك
ضمد بسرعة ،والعمليات الجراحية تُجرى للحاالت العاجلة ،كانوا قد التُقطوا منذ نصف ساعة من أمام الخنادق في كانت جراحهم تُ ّ َ
ساحة القتال ،عندما هدأت نيران المدفعية قليل ًا ،وكان أكثر من نصفهم يرتمي في العربات فاقد الوعي.
وعندما وقفت العربات أمام شرفة مكتب اإلسعاف ،هبط األنفار الساللم حاملين الن ّقَاالت ،وأخذوا يُفرغون الجرحى عليها ،بينما
أزاحت ممرضة طرف إحدى الخيام ،ووقفت تنظر إلى ما يجري ،وقد بدا عليها أنها في وقت فراغها ،وخرج رجالن من خلف
يتردد صداه بين األشجار الطويلة الفتية ،فيصعب َّ عال،بصوت ٍٍ الخيام ،وسارا في الطريق متجهين إلى المكتب ،وقد أخذا يتناقشان
على السامع من بعيد فهم ما يقوالن من كلمات.
مالزما شديد العصبية ،يصرخ في صاحبه ،طبيب الوحدة ،سائل ًا إياه عن حامل مدفع كان هناك في الفضاء وقد اختفى، ً كان أحدهما
ويريد أن يعرف أين هو اآلن .ولم يكن الطبيب يدري شيئًا من ذلك ،فليس هذا من شأنه ،فراح يرجوه أن يكف عن الصياح ،وأن
يسب الصليب األحمر ،والمدفعية ،والدنيا بأسرها! ُّ يؤدي عمله بعد أن وصل الجرحى .ولكن الضابط استمر ِّ يتركه
معا إلى المكتب. ً دخال ثم التحية، فتبادال الطبيب، على جيفاجو وأقبل
مسرعا في الطريقً فك وثاق جواده المسرج ،وقفز إلى ظهره ،ومضى َّ صياحا وسبابًا ،فقد ً أما المالزم الذي كان ما يزال يمأل الدنيا
إلى الغابة .وكانت الممرضة إذ ذاك ال تزال في وقفتها ،وسرعان ما بدا عليها الرعب ،وانطلقت تصيح“ :ماذا تصنعان؟ هل فقدتما
توج ه كلماتها إلى جنديين جريحين ،قاما يسيران بغير مساعد بين الخيام ،ثم انطلقت مسرعة إليهما. ِّ وعيكما؟” ،كانت
مشو ًه ا بصورة وحشية غريبة .فقد أصابته في وجهه شظية ،لم تقتله ،ولكنها أحالت لسانه َّ جريحا
ً وكان الجند حينئذ يحملون
بصوت خفيض ال يشبه صوت اإلنسان في ٍ قصيرا
ً وصدغيه إلى خبيصة حمراء ،واستقرت في عظام فكه المم ّزَق! وكان يئن أنينًا
حدا لعذابه الذي ال يستطيع أحد تصوره. ً وليضعوا شيء .كان أنينه أشبه برجا ٍء يائس لمن حوله أن يسرعوا باإلجهاز عليه،
وأدركت الممرضة أن الجريحين اللذين نهضا يسيران بين الخيام قد تأثَّرا لصرخات هذا الجريح ،وأنهما على وشك انتزاع الشظية
الجراح بهذا العمل بآالته الخاصة، َّ “ ..ال تفعال هذا ،سيقوم الحديدية المستقرة في عظام فكه ،بأيديهما المجردة! فصاحت فيهما :ال
إن كان ال بد من ذلك”.
همسعميق“ :يا إلهي ..خذه إليك ..ال تدعني أشك في وجودك ورحمتك”. ٍ ومضت إثر ذلك تتمتم في
وفي اللحظة التالية ،وبينما كان الجنود يصعدون به الدرج ،صرخ صرخة عظيمة ارتجف لها جسده بأكمله ،ثم مات.
لتو ه هو الجندي جيمازيدين ،وكان الضابط الذي مضى يصرخ في الغابة ،هو ابنه المالزم جاليولين ،أما كان الرجل الذي مات ِ ّ
الشاهدين اللذين رأيا كل شيء. َ كانا فقد وجيفاجو، جوردون وأما نفسها، الرا كانت فقد الممرضة،
مع ا ،في ذلك المكان ،ولكن البعض منهم لم يكن قد تعارف من قبل ،بينما عجز البعض اآلخر عن كل هؤالء القوم كانوا هناكً ،
معرفة اآلخرين ،كانت هناك أشياء كثيرة ق ِ ُّدر لها أن تظل مجهولة ،وكان يتعيَّن على بعضهم أن ينتظروا فرصة أخرى ليكشفوا عن
أنفسهم.
-١١-
مس في محيط متالطم من الخراب ،وبينما كان كانت القرى التي بقيت بأعجوبة ،تبدو في هذه المنطقة وكأنها جزر صغيرة لم تُ َ
جيفاجو وجوردون في طريقهما ذات مساء إلى بيتهما ،إذ بهما يريان في إحدى القرى شابًا من القوقاز ،يحوطه جمع سعيد .كان
وتهدل على كتفيه معطفه الطويل .وكانَّ وخ َط الشيب لحيته،َ القوقازي يقذف بقطعة نقود نحاسية في الفضاء ،ليتقطها كهل يهودي
الكهل يفشل في كل مرة في التقاط قطعة النقود ،التي كانت تمر من أمامه ،ثم تسقط في الوحل ،فإذا انحنى ليلتقطها لكزه
وضج المشاهدون يمسكون جوانبهم من الضحك ،كانوا يتسلَّون بهذا العمل .وكانت تسليتهم حتى اآلن غير ّ القوقازي في مؤخرته،
مؤذية ،ولكن من يستطع أن يجزم بأنها لن تنقلب إلى شيء من الخطر؟
المسن تخرج ،بين لحظة وأخرى ،من كوخها ،وتعبر الطريق مولولة ،رافعة يديها إلى السماء برعب .بينما ّ وكانت زوجة الكهل
ظهرت في نافذة الكوخ بنتان صغيرتان ،كانتا ترقبان عذاب جدهما وتبكيان.
وأبطأ السائق ليتيح للمسافرين أن يلقيا نظرة على ما يجري هناك ،فنادى جيفاجو الشاب القوقازي ،ونهره ،وأمره أن يكف عن هذا
شرا ،إنما نحن نتسلَّى!”.ً العبث باليهودي الطاعن في السن ،فقال القوقازي على الفور“ :يا سيدي ،نحن ال نقصد به
ومضى جيفاجو وجوردون في طريقهما إلى القرية التي يقيمان فيها.
تتصور ماذا تفعل الحرب بهذا الشعب اليهودي البائس .فالحرب تجري في غرب َّ وقال يوري في الطريق“ :إنك ال تستطيع أن
روسيا حيث ُح كم عليهم أن يقيموا .وكأنما ال تكفيهم الضرائب التأديبية المفروضة عليهم ،وال خراب ممتلكاتهم ،وال كل ما يحل بهم
أيض ا أحمال اإلهانات والسباب ،ومواجهة االتهام الدائم باالفتقار للوطنية .ولماذا يكونون وطنييّن إذا كان
ً من آالم ،حتى تُفرض عليهم
تناقضا في صميم هذا الحقد
ً أيضا كل هذا ،فإننا ال نزيد على أن نضطهدهم مثلما سيضطهدهم اآلخرون .إن هناك ً العدو يكفل لهم هو
يصب عليهم .فهذا الحقد تثيره ،وتحث عليه ،األشياء نفسها التي كانت أدعى إلثارة الشفقة عليهم :فقرهم ،وكثرتهم ،وضعفهم، ُّ الذي
وعدم قدرتهم على أن يدافعوا عن أنفسهم .إني أعجز عن فهم كل هذا ،كأنما هو ق ََدر مشؤوم ك ُتب عليهم!”.
وكان جودرون يسمع ،دون أن يجيب.
-١٢-
وها هما مرة أخرى يرقدان في قمرتيهما إلى جوار النافذة الطويلة المنخفضة ،ويتحدثان .كان جيفاجو يروي لجوردون كيف رأى
ملحقًا بوحدة تقف عند مدخل وا ٍد في جبال الكربات َ أول ربيع قضاه يوري في الجيش .وكان القيصر في الجبهة .حدث ذلك في ّ َ
لتسد الطريق أمام جنود المجر .أما مركز قيادة الوحدة فكان في الوادي نفسه .وراح جيفاجو يسهب في وصف المكان :الجبال َّ
التي تكسوها أشجار خشب الموسكي ،وتنسدل على قممها خصالت الضباب .وأجراف من الحجر الرمادي والجرانيت تبدو خالل
الغابة ،وكأنها ُرقع صلعاء في فراء سميك.
يتحرك الهواء فيه ،إلحاطته
َّ كان ذلك في يوم من أيام أبريل ،والصباح رطب مغبَّش يحاكي لون األحجار الرماديَّة .والوادي ساكن ال
بالجبال من كل ناحية .وخي َّم الضباب فوق الوادي ،وتصاعدت األبخرة والدخان من كل جانب .دخان القاطرات من محطة سكة
الحديد ،والضباب الرمادي من الحقول والجبال ،والغابة المظلمة ،والسحاب الداكن.
كان القيصر في ذلك الوقت يقوم بجولة تفتيشية في غاليسيا .وجاءت األخبار فجأة ،أنه قادم ليتفقّ َد هذه الوحدة ،التي هو آمرها
الفخري .وأصبح وصوله متو ّقَ ًعا في أي لحظة ،فانسحب حرس الشرف إلى رصيف المحطة ،ووقف ينتظر .وبعد قرابة ساعتين من
االنتظار ،وصل قطاران متعاقبان يحمالن الحاشية اإلمبراطورية .ثم وصل بعدهما قطار القيصر.
تفوه بكلمة تحية هادئة ،كانت َّ وتفقَّد القيصر حرس الشرف ،بصحبة الدوق العظيم نيكوالي .وكانت هتافات الجنود تهدر ،كلما
معا ،كما ينسكب الماء من أوعية كبيرة. أصواتهم العالية وهم يصيحون “مرحى” تتد ّفَق ً
فاترا
ً وجهه كان . والميداليات النقود على وكان القيصر بابتسامته القلقة يبدو أكبر سنًا ،وأكثر تعبًا ،مما يبدو في صورته المنقوشة
معتذرا عن عدم إلمامه بما يجب عليه أن يصنع في كل لحظة .وكان الدوق ً مترهل ًا .وكان ينظر إلى الدوق بين لحظة وأخرى، ِّ
ينحني أمامه باحترام ،ويدل ّه على ما يقتضيه الموقف ،بحركات وإيماءات بسيطة منه ،أكثر مما كان يدلي بالكالم.
يتصور أن يكون هذا الخجل َّ وشعر يوري باألسى وهو يرقب القيصر عبر الجبل األغبر في ذلك الصباح الدافئ .لم يستطع أن
يتصور كيف يستطيع هذا الضعف أن يقتل أو يعفو .أن َّ ِ
يستطع أن والحياء ،هما الصفقين المالزمتين لطاغية ال مع ِقّب لكلمته! لم
يسجن إنسانًا ،أو يطلق سراح آخر!
وقوتي ،”..كما يفعل غليوم .63أي كالم عن الشعب، ّ وقال جيفاجو“ :كان عليه أن يلقي خطبة“ ..أيها الشعب ..يا سيفي
كبيرا في روسيا .إذ يظل ً ا رواج
ً يلقى ال المسرحي التمثيل تصر ف التصرف الروسي المألوف .فهذا النوع من َّ ولكنه لم يفعل ،وإنما
أتصور شعوبًا تقبل هذا النوع من التمثيل من قياصرة المغول وأضرابهم .هؤالء الذين َّ تمثيل ًا وال ينطلي على أحد .إني أستطيع أن
ال يكادون يفتحون أفواههم ،إال ليقولوا“ :أيها الشعب ..ويا شعبي!”.
يدونون مالحظات ،ويجمعون درر الحكمة الشعبية ،ويزورون الجرحى، واآلن ،ها هي الجبهة تعج بالمراسلين والصحفيين ،وقد راحوا ِّ
ويبتكرون نظريات جديدة في النفس البشرية ،ويضيفون إلى القاموس الروسي القديم مجموعة جديدة من المفردات الغريبة الزائفة.
جنون لغوي؟ ودعارة لفظية!
وهذا طراز واحد منهم ،أما الطراز الثاني ،فشيء آخر .هذا طراز التحقيقات ،والمشاهد ،والفلسفات ،والكالم المقروض والمنظوم .لقد
قرأت شيئًا من هذا الطراز أمس ،وال يزال معي .نعم ها هو ذا“ :كان اليوم أغبر كيوم أمس .أمطار منذ الصباح ،ووحل .ونظرات
من النافذة إلى الطريق ،ها هم األسرى يسيرون في خط ال نهاية له ،والجرحى ،وبندقية تطلق نيرانها ،تطلقها اليوم ،كما أطلقتها
غدا ..وكل يوم ..وكل ساعة! ً أمس ،وكما ستطلقها
تجديدا في عملها؟! ولماذا ال ينظر إلى ً استهتارا واحتيال ًا؟ إني ألعجب ،ماذا يريد من البندقية أن تصنع؟ أيتو ّقَع منها ً أليس هذا
محافظا على أريحيته الصحفية بسرعة فرقة كاملة من البراغيث ً نفسها، والبيانات والعبارات الجمل يوم كل يطلق وهو نفسه،
المطال َب بعدم تكرار نفسه ،ال البندقية ،وأن اإلنسان ال يستطيع أن يستخرج من تكرار القافزة! لماذا ال يستطيع أن يدرك أنه هو ُ
مفيدا .إن الحقائق نفسها ال تعيش إال إذا أضاف اإلنسان إليها شيئًا من نفسه ،من مقاييسه الخاصة ،ومهارته ،وخبرته ً كالما
ً الهراء
وعبقريته .وإال ،فهي حديث خرافة ،أو نوع من األساطير!”.
مقاطع ا“ :إنك لعلى حق ،ولتدعني اآلن أخبرك برأيي في هذا الحادث الذي رأيناه اليوم ،حادث القوقازي الذي ً وصاح جوردون
جميعا حوادث تافهة ،وإنك ال تستطيع ً وقف يسخر من المسكين الطاعن في السن ويضطهده ،وآالف الحوادث المماثلة .ال شك أنها
أن تقيم نظرية ثابتة على أساسها .مثلها ال يحتاج منك إلى تفكير ،ولكن إلى صفعة على وجه رجل ما .أما إذا نظرنا إلى
المسألة اليهودية بأسرها ،فهنا يأتي دور الفلسفة .وليس معنى هذا أني مخبرك بشيء جديد ،فكالنا مدين بأفكاره إلى خالك.
لقد كنت تتساءل ما الشعب ،ومن الذي يخدم الشعب أكثر من اآلخر :الرجل الذي يدلِ ّل الشعب ،أم الذي يلقيه من خلف
أي جدال. شك أن الجواب واضح ال يحتمل ّ َّ ظهره ،وهو يقوده إلى الشهرة والخلود بجمال أفعاله؟ ال
تكونت من َّ شعوب الواقع في فهي جامدة، شعوب مجرد
َّ نتحدث عنها اليوم في العالم المسيحي؟ إنها ليست َّ وما الشعوب التي
أفراد أصابهم الكثير من التغيير والتبديل .وهذا التغيير الذي أصابهم هو مركز األهمية ،ال الوالء الذي يحملونه لتقاليدهم القديمة.
أحكاما جامدة ،لم يقل إن “ ُحكم ً وما الذي يقوله اإلنجيل في كل هذا؟ لنبدأ بتقرير هذه الحقيقة :إن اإلنجيل لم يضع شرائع وال
عروضا عملية ،وتجريبية ،للبشر .وهو في عروضه المتواضعة يسأل الناس: ً قدم
وحكم ذاك األمر كيت” ،ولكنه ّ َ هذا األمر كذاُ ،
تماما ..أن تحصلوا على السعادة الروحية الكاملة؟” .وتقبَّل الناس هذه العروض بغبطة عظيمة، ً “أتريدون أن تعيشوا حياة جديدة
فقد كانوا يتعلَّقون بهذه اآلمال منذ آالف السنين.
وعندما يقول اإلنجيل“ :ليس في ملكوت السموات يهودي وال وثني” ،64أتراه يقصد أن الجميع سواء أمام الله؟ ال أظن أنه كان
يعني مجرد ذلك ،فليس في هذا الكالم شيء جديد .لقد قال به فالسفة اليونان ،ومع ِل ّمو الرومان ،أنبياء إسرائيل .وإنما يريد
المقدسة النابعة من القلب ،والتي نسميها ملكوت السموات ،لن َّ اإلنجيل أن يخبرنا أننا في هذه الحياة الجديدة ،المليئة باألسرار
أفرادا.
ً أمما أو شعوبًا ،ولكننا سنكون ً نكون
ولقد قلت أنت نفسك إن الحقائق تظل جامدة ال معنى لها ،ما لم تضف إليها من ذاتك ما يكسبها ذلك المعنى .وهذا حق،
والشيء الذي تستطيع أن تضيفه إلى حقيقة الحياة اإلنسانية لتصبح مليئة بالمعنى ،هو المسيحية ،هو سر ذاتية الفرد.
تتحد ث عن هؤالء السياسيين المألوفين ،الذين ال تعنيهم الحياة ككل ،وال يشغلهم العالم في مجموعة .هؤالء الناس ذوو َّ وكنت
سرورا أن يستطيعوا دفع الناس إلى التحدث عن أمم صغيرة ً يملؤهم الذين هؤالء . بالقيود يشغفون الذين المحدودة، الضعيفة العقول
فرحا ،ألنهم يجدون عند ذلك المجال الفسيح إلظهار براعتهم ً ازدادوا التعاسات، ازدادت المشاكل َدت ق
ّ تع وكلما . بالقيود لة ق
َ ث م
تعيسة ُ
تتحدث عن هذا الصنف من الناس ،فهل تستطيع أن تجد مثل ًا لهم ،لضحايا هذه العقلية الوضيعة ،أقرب من اليهود؟ َّ وقدرتهم .كنت
لقد دفعتهم فكرتهم القومية ،قرنًا بعد قرن ،إلى أن يكونوا شعبًا ،وشعبًا فقط .والشيء الغريب أنهم ظلوا صرعى هذه القيود خالل
يتحررون من قيودهم بقوة جديدة انبثقت من صميمهم .أليس هذا غريبًا؟ أم كيف تستطيع َّ جميعا
ً القرون الطويلة ،بينما كان الناس
تفسيره؟
تأم ل فقط ،هذا التحرر المجيد من ضعة الحياة وحقارتها ،من جمود األيام وبالدتها ،قد ظهر ألول مرة فوق تربتهم ،ونُودي به َّ
بلغتهم ،وانتمى إلى جنسهم .وطبيعي أنهم أبصروه وسمعوه .ثم تركوه يذهب عنهم .كيف أمكنهم ذلك؟ كيف سمحوا لروح لها كل
نفع؟ لحساب من كانت هذه التضحية التي تبلغ حد االستشهاد، ٍ هذه القوة القاهرة والجمال ،أن تذهب كالجلدة الفارغة الملقاة بغير
ومن الذي يستفيد من استمرارها .من الذي يستفيد من بقاء كل هؤالء األبرياء من الرجال والنساء واألطفال ،لكل ما لهم من مهارة
ووداعة ،ضحايا للسخرية واالضطهاد ،على مر العصور؟ ولماذا كان كل هؤالء الذين يسمون أنفسهم “أصدقاء الشعب” ،هؤالء ِ وإنسانية
خيال ،وال موهبة؟ لماذا الٍ بغير ا دائم
ً كانوا لماذا إليها، ينتمون التي الجنسيات كانت اً أي القومية، مسألتهم عن يكتبون الكتّاب الذين
يسرحون هذا الجيش الذي حكم عليه بأن يقاتل ِّ يخرج قادة الشعب اليهودي من حدود هذا الكالم الفارغ والحكمة الخاوية؟ لماذا ال
أبد ا ،ويسفك دمه ،من أجل غاية ال يعرفها أحد ،حتى لو تعرضوا في سبيل أداء هذا الواجب إلى خطر االنفجار؟ لماذا ال يقولون ً
جميعا ..أنتم أول ً تفرقوا .امتزجوا بالناس َّ معا كالقطيع. لهم“ :كفى ..عودوا إلى صوابكم ..ال تتشبَّثوا بأصلكم وال تسيروا ً
المسيحيين في العالم ،وخيرتهم .أنتم ضحايا أنفسكم ،يقودكم إلى ذلك أضعف عناصركم وأسوأهم”.
-١٣-
تتعجل الرحيل ،وها هي رغبتك قد َّ وفي اليوم التالي ،قال جيفاجو عندما عاد إلى البيت لتناول طعام الغداء“ :لقد كنت
سعيدا” ،فليس من ُحسن الحظ أن نُضرب مرة أخرى ويُضيّق علينا الخناق .إن الطريق إلى ً حظا
تحقّ َقت .ولست أقول لك “ ً
فلست أدرى .أحسب ُ أمرا بالرحيل .أما إلى أين؟ ً الطبية الوحدات جميع َت ق
ّ تل وقد . الغرب ناحية الشرق مفتوح ،والضغط قادم من
دائما .سيقول لك كارينكو إنه أعطاها البنته لتغسلها ،فإذا سألته أي ابنة ً يا كاربنكو أن ثياب جوردون لم تُغسل بعد .القصة نفسها
يستطع أن يجيب ،يا له من أبله!”. ِ هي ،وأين تكون ،لم
يلق جيفاجو بال ًا لتذرعات كارينكو ،وال العتذارات جوردون عن استعارة أقمصته .وإنما قال“ :هكذا حياة الجندية .ما تكاد َ ولم
قذرا خانقًا .الموقد
ً كان . األمر أول جئناه عندما يعجبني، المكان هذا في شيء يكن لم .آخر إلى نقل ُ ت حتى مكان على تعتاد
في غير مكانه المناسب ،والسقف شديد االنخفاض! وإني ألعجز عن تذكُّر أي شيء عن المكان الذي جئنا منه .وفي الوقت نفسه،
أحدق في ركن هذا الموقد ،حيث أشعة الشمس .تعبرها ظالل تلك ِّ فإني ال أمانع اآلن في قضاء عمري كله في هذا المكان،
الشجرة”.
تعجل. ُّ وحزموا أمتعتهم بغير
واستيقظوا خالل الليل على أصوات صراخ ،وطلقات بنادق ،ووقع أقدام .كان هناك احتدام غاضب في القرية ،وكانت ظالل المارة
تتخل َّل النافذة ،وقد نهض صاحب البيت وزوجته من فراشهما خلف الحاجز .وأرسل يوري خادمه ليسأل عن سبب كل ذلك الهرج.
وعاد الخادم يقول“ :إن األلمان قد اخترقوا الخطوط” ،فأسرع يوري إلى المستشفى حيث استوثق من صحة الخبر .كانت القرية
تحت النيران ،وقد نُقل المستشفى على الفور ،دون انتظار األوامر بالجالء.
وقال يوري لجوردون“ :سنغادر هذا المكان قبل الفجر .ستبارح أنت مع الدفعة األولى .إن العربة المسافرة قد تهيَّأت للرحيل،
حظا حسنًا .سأمضي معك إلى العربة ،كي أتأكد من وجود مكان ً ولكني طلبت منهم أن ينتظروك ليأخذوك معهم .ال بأس ،أرجو لك
لك فيها”.
وأخذا يركضان .ينحنيان حينًا ،ويحتضنان الجدران حينًا آخر ،والرصاص يئز من حولهما ،واالنفجارات تبدو لهما من مفارق الطرق،
وكأنهما مظلَّة كبيرة من النيران قد انتشرت فوق الحقول.
وسأل جوردون صاحبه وهما يركضان“ :وأنت ،ماذا ستصنع؟”.
فأجاب يوري“ :سأتبعك في الدفعة التالية ،فال بد لي من العودة ،لحزم أمتعتي”.
تتكو ن منه القافلة يتحرك ،فتصطدم العربات ببعضها ،ثم تفسح كل منها الطريق َّ افترقا عند حانة القرية .وبدأ رتل العربات الذي
ولو ح يوري بيديه لصديقه الذي استطاع أن يراه لبضع لحظات أخرى على ضوء لهب متصاعد من إحدى الحظائر. لألخرىَ ّ .
أرضا،
ً مسرعا ،يحتمي في الطريق بجدران المنازل ،وإذ أصبح على بُعد بضع ياردات من منزله ،وقع انفجار طرحه ً وعاد يوري
فاقدا وعيه والدماء تنزف منه.
ً وأصيب منه بشظية .فسقط في وسط الطريق،
-١٤-
الخط الحديدي ،بالقرب من مقر ِّ كان يوري يتماثل للشفاء في عنبر الضباط في مستشفى نُقل حديث ًا إلى قرية صغيرة تقع على
يوما دافئًا من أيام فبراير ،وقد فتحت النافذة القريبة من فراشه. ً القيادة العامة .وكان اليوم
وكان المرضى يقتلون الوقت قبل الغداء ،وقد شاع بينهم أن ممرضة جديدة قد التحقت بالمستشفى ،وستقوم بجولتها األولى فيه هذا
لتوها ،متأ ِّففا من المساحات البيضاءاليوم .وعلى الفراش المقابل لفراش يوري ،جلس جاليولين يقرأ الصحف التي كانت قد وصلت ِ ّ
كومة كبيرة ،وكان النسيم يهب فيعبث التي أحدثتها فيها رقابة النشر .أما يوري ،فكان يقرأ رسائل تونيا التي وصلت إليه في ْ
أقدام رقيقة ،دخلت الرا على إثرها إلى الغرفة! ٍ بأوراق الرسائل والصحف ،عندما سمع صوت
تقدمت إلىَّ وإنما منهما، اً أي تعرف فلم هي أما وعرفها كل من يوري وجاليولين ،دون أن يفطن أحدهما إلى معرفة اآلخر لها!
وسط الغرفة وهي تقول“ :كيف حالكم؟ لماذا تتركون النافذة مفتوحة؟ أال تشعرون بالبرد؟” .ثم اتجهت إلى جاليولين وسألته عن
تحدق فيه بنظرات مليئة ِّ لتجس نبضه .ولكنها سرعان ما تركت يده ،وجلست على حافة فراشه َّ حالته ،وأمسكته من رسغيه
بالدهشة.
ِ
لك بما معا في كتيبة واحدة ،ولقد احتفظت وقال جاليولين“ :لم يكن هذا متو ّقَ ًعا يا الريسا فيودوروفنا .فقد عرفت ْ
زوجك ،وكن َّا ً
كان لديه من أشياء”.
عما حدث .لقد قتلته َّ ترد د“ :أيمكن هذا؟ أيمكن هذا؟ يا لها من مصادفة غريبة ،أكنت تعرف زوجي؟ خبِّرني إذن ِّ وأخذت الرا
تخش أن تخبرني بكل ما حدث!”. َ فال شيء، كل أعرف أني ترى ذا أنت ها كذلك؟ أليس االنفجار، ودفنه قذيفة،