You are on page 1of 14

‫تقدم بوحدته أكثر‬ ‫َّ‬ ‫أسيرا‪ ،‬كان قد‬

‫ً‬ ‫ولكن شجاعة جاليولين خانته‪ ،‬فقرر أن يكذب عليها أكذوبة تريحها‪ ،‬فقال‪“ :‬لقد أُخذ أنتيبوف‬
‫وعزل‪ ،‬وأجبِر على االستسالم”‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مما ينبغي‪ ،‬فوقع في الحصار ُ‬
‫تصدقه الرا‪ ،‬وإذ كان هذا اللقاء المفاجئ قد ه ّ َز كيانها‪ ،‬فقد خشيت أن تخونها عواطفها أمام الغرباء‪ ،‬وأسرعت خارج ًة إلى‬ ‫ِّ‬ ‫ولم‬
‫البهو‪.‬‬
‫استردت رباطة جأشها‪ .‬ولكنها تجن َّبت النظر إلى جاليولين‪ ،‬خوفًا من أن يغلبها البكاء إذا خاطبته مرة‬ ‫َّ‬ ‫وعادت بعد لحظات‪ ،‬وقد‬
‫خال من أي تعبير‪“ :‬كيف حالك؟”‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫أخرى‪ .‬والتفتت إلى يوري قائلة‪،‬‬
‫وكان يوري قد الحظ اضطرابها ورأى دموعها‪ ،‬وأراد أن يسألها عن سبب ضيقها‪ ،‬وأن يخبرها أنه رآها قبل ذلك مرتين‪ ،‬مرة وهو‬
‫خشي أن تتهمه بالفضول‪ ،‬أو تسيء فهم مقصده‪ .‬ثم تذكر فجأة أعياد الميالد في‬ ‫َ‬ ‫تلميذ صغير‪ ،‬ومرة وهو طالب في الجامعة‪ .‬ولكنه‬
‫تلك األعوام الماضية‪ ،‬والنعش الذي ترقد فيه آنا‪ ،‬ونواح تونيا‪ .‬فاكتفى بقوله‪“ :‬أشكرك‪ ،‬إني طبيب‪ ،‬وأستطيع العناية بنفسي‪ ،‬ولست‬
‫بحاجة إلى أي شيء”‪.‬‬
‫أسأت إليه؟”‪ .‬وظلَّت تنظر بدهشة إلى هذا الرجل‪ ،‬ذي األنف المفلطح والوجه‬ ‫ُ‬ ‫وعجبت الرا متسائلة في نفسها‪“ :‬أأكون قد‬
‫العادي الذي ال يتميز بشيء!‬
‫تهب ليل ًا‪ ،‬تفوح منها رائحة األرض‪ .‬وفي تلك األيام‪ ،‬وردت تقارير غريبة من مقر‬ ‫ُّ‬ ‫وظل الجو متق ِل ّبًا عدة أيام‪ ،‬والريح الدافئة‬
‫القيادة العامة‪ ،‬وانتشرت الشائعات المخيفة من داخل البالد‪ .‬كانت المواصالت التلغرافية قد قُطعت مع بطرسبورج مرة بعد أخرى‪.‬‬
‫يتحد ثون في السياسة‪ .‬واستمرت الممرضة الرا أنتيبوفا تقوم بجولتها الصباحية والمسائية كل يوم‪ ،‬وتتبادل‬ ‫َّ‬ ‫وكان الناس في كل مكان‬
‫تحدث نفسها عنه قائلة‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫شخصا غريبًا‪ ،‬وكانت‬‫ً‬ ‫خاللها بضع كلمات مع المرضى‪ ،‬بمن فيهم يوري وجاليولين‪ .‬كانت ترى في يوري‬
‫“يا له من مخلوق غريب‪ ،‬هذا الشاب القوي‪ .‬إن المرء ال يستطيع أن يعتبره جميل ًا بهذا األنف المفلطح‪ ،‬ولكنه ذكي بكل معاني‬
‫هذه الكلمة‪ ،‬مليء بالحيوية والنشاط واليقظة‪ .‬وعلى أي حال‪ ،‬فليس يعنيني أمره‪ .‬وإنما يعنيني أن أنتهي من عملي هنا بأسرع ما‬
‫أستطيع‪ ،‬ألعود إلى موسكو‪ ،‬وأصبح قريبة من كاتيا‪ .‬وأسعى إلنهاء عملي كممرضة‪ ،‬والعودة مرة أخرى إلى يورياتين‪ ،‬وإلى وظيفة‬
‫التدريس‪ .‬لقد وضح لي اآلن كل ما حدث لباشا المسكين‪ ،‬ولم يعد هناك من أمل‪ .‬ولهذا فمن الخير أن أُسرع في خلع ثياب‬
‫كنت ألطأ بقدمي هذا المكان‪ ،‬لو لم يكن ذلك في سبيل البحث عن باشا!”‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫البطولة هذه التي أرتديها‪ ،‬فما‬
‫وكانت تتذكر باألسى حالة كاتيا اليتيمة المسكينة‪ ،‬فال تملك نفسها من البكاء‪.‬‬
‫شديد ا في كل ما حولها‪ .‬فمن قبل‪ ،‬كانت هناك واجبات من كل نوع‪ ،‬واجبات مقدسة‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ولقد الحظت في المدة األخيرة تغي ُّ ًرا‬
‫يبق في القاع غير‬ ‫َ‬ ‫كان هناك واجبك نحو وطنك‪ ،‬وواجبك نحو جيشك‪ ،‬وواجبك نحو المجتمع‪ .‬أما اآلن‪ ،‬وقد خسرت الحرب‪ ،‬ولم‬
‫سوء الطالع‪ ،‬فقد تغيَّر كل شيء‪ .‬لم تعد هناك قداسة ألي شيء! كل شيء تغيَّر فجأة‪ .‬اللهجة والروح المعنوية‪ .‬إنك لم تعد‬
‫وحيدا‪ ،‬ويتعيَّن عليك أن‬ ‫ً‬ ‫فيم تفكر‪ ،‬أو لمن تصغي‪ .‬كأنك عشت حياتك مس ِل ّ ًما قيادك لمن يأخذ بيدك كالطفل‪ ،‬ثم إذ ذاك تصبح‬ ‫َ‬ ‫تدري‬
‫تتعل َّم كيف تسير غير معتمد على أحد‪ .‬لم يعد أحد حولك ‪ :‬ال العائلة‪ ،‬وال الناس الذين كنت تحترم آراءهم‪ .‬وأنت في مثل هذه‬
‫خضوعا كامل ًا‪ ،‬بعد‬
‫ً‬ ‫األحوال‪ ،‬تشعر بحاجتك إلى االرتماء في أحضان أي معنى مطلق‪ ،‬كالحياة‪ ،‬أو الحقيقة‪ ،‬أو الجمال‪ .‬وأن تخضع له‬
‫أن فقدت المبادئ التي وضعها اإلنسان‪ ،‬لينبذها‪ .‬أن تستسلم له بكل قوتك‪ ،‬وبغير تح ّفُظ‪ ،‬وال شيء من الحذر الذي كنت تستمسك‬
‫به في أيامك القديمة الهادئة‪ ،‬حياتك المنقضية‪ ،‬التي ذهبت ولن تعود‪.‬‬
‫أما الرا‪ ،‬فقد استطاعت أن تسترد نفسها‪ ،‬لقد كانت لديها كاتيا‪ ،‬لتُشبع حاجتها إلى الوجود والهدف‪ .‬فاآلن‪ ،‬وقد فقدت باشا‪ ،‬لم تعد‬
‫قوتها ووجودها لطفلتها اليتيمة كاتيا!‬ ‫أما‪ ،‬لتمنح كل ّ‬ ‫تصلح إال لتكون ً‬
‫نجاحا واستحسانًا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ووصلت إلى يوري األنباء من موسكو‪ ،‬بأن جوردون ودودوروف نشرا كتابه دون إذن منه‪ ،‬وأن الكتاب قد لقي‬
‫أياما عصيبة مليئة باالضطرابات‪ ،‬وأن أحداث ًا مهمة على وشك الوقوع‪ ،‬والسخط يجتاح‬ ‫ً‬ ‫مبش ًرا‪ .‬وأن موسكو تجتاز‬ ‫ِّ‬ ‫واعتبر عمل ًا أدبيًا‬
‫الجماهير‪ ،‬وينذر بتطورات سياسية كبرى‪.‬‬
‫وكان الليل قد أوشك على االنقضاء‪ ،‬وقد شعر يوري بحاجته الشديدة إلى النوم‪ ،‬فمضى يحايل النعاس‪ ،‬وقد ُخيِّل إليه أن اضطرابات‬
‫وتحر كت نسمات ناعسة أخذت تهب عليه من خالل النافذة‪ ،‬وكأنما كانت الريح تئن وتشكو‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫األيام الماضية قد أورثته القلق‪.‬‬
‫“تونيا‪ ..‬ساشا‪ ..‬أنا مشتاق إليكما‪ ..‬أريد أن أذهب إلى البيت‪ ..‬وأن أعود إلى عملي”‪ .‬وعلى تمتمة الرياح‪ ،‬نام يوري‪،‬‬
‫المدلهم‪.‬‬‫واستيقظ‪ .‬ثم نام‪ ،‬تتقاسمه الفرحة واأللم‪ .‬يتقلَّبان عليه كما يتقلَّب الجو‪ ،‬ويمآلنه اضطرابًا كالليل ُ‬
‫تحمل من مشقة في المحافظة على حوائجه‪ ،‬فإنه لم يظفر‬ ‫َّ‬ ‫وتذكرت الرا أن جاليولين‪ ،‬رغم كل ما أظهر من وفا ٍء لذكرى باشا‪ ،‬وما‬
‫عم ن يكون‪ ،‬ومن أين أتى‪ .‬فشعرت باالحتقار لنفسها‪ .‬ولما كان الصباح التالي‪ ،‬حرصت على سؤاله عن نفسه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫منها بمجرد سؤال‬
‫تصحيحا لخطئها‪ ،‬وحتى ال تبدو ناكر ًة للجميل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الصباح‪،‬‬ ‫بجولة‬ ‫قيامها‬ ‫أثناء‬
‫ولم تملك نفسها من الدهشة لما سمعته منه‪“ :‬يا إلهي‪ ٢٨ ..‬شارع برستسكايا‪ ..‬وعائلة تيفرزين‪ ..‬وثورة ‪ ..١٩٠٥‬وذلك‬
‫تستط ع أن تتذكر أنها قابلته من قبل‪ ،‬هل يغفر لها؟ ولكن نعم‪ ،‬ذلك العام‪ ،‬ذلك العام‪ ،‬وذلك البيت!‬ ‫ِ‬ ‫الشتاء! يوسوبكا ! ال‪ .”..‬لم‬
‫هل ُوجد فعل ًا ذلك العام‪ ،‬وذلك البيت؟! كيف عادت حيَّة إليها كل هذه الذكريات؟ طلقات النار‪ ،‬نعم‪ ،‬وذلك الشيء الذي كانت‬
‫تسم يه “مبادئ المسيح”‪ .‬ما كان أقوى وأعنف تلك المشاعر‪ ،‬التي يعرفها اإلنسان ألول مرة في طفولته! “اغفر لي‪ ..‬اغفر لي‬ ‫ِّ‬
‫لست‬
‫ُ‬ ‫‪..‬‬ ‫جيمازيدينوفيتش‬ ‫أوسيب‬ ‫‪..‬‬ ‫قبل‬ ‫من‬ ‫االسم‬ ‫هذا‬ ‫سمعت‬ ‫لقد‬ ‫‪..‬‬ ‫نعم‬ ‫‪..‬‬ ‫نعم‬ ‫‪.‬‬ ‫أخرى‬ ‫مرة‬ ‫اسمك‬ ‫ما‬ ‫‪..‬‬ ‫لي‬ ‫قل‬ ‫‪.‬‬‫المالزم‬ ‫أيها‬
‫أستطيع أن أفيك حقّ َك من الشكر على تذكيري بكل هذه الذكريات”‪.‬‬
‫مسموعا‪“ :‬يا الله‪ ..‬شارع برستسكايا‪ ..‬رقم ‪..٢٨‬‬ ‫ً‬ ‫وتحدث نفسها بصوت يكاد يكون‬ ‫ِّ‬ ‫وظلَّت طيلة النهار تف ِك ّر في ذلك البيت‪،‬‬
‫وها هم يطلقون النار مرة أخرى‪ ..‬ولكن‪ ،‬كم هو مخيف إطالق النار هذه المرة! لست تستطيع أن تقول اليوم إن األطفال يلعبون‬
‫بإطالق النار ‪ ..‬ال‪ ..‬لقد كبر األطفال‪ .‬جميعهم هنا اآلن‪ ..‬في الجيش‪ ..‬هؤالء الناس البسطاء الذين عاشوا في ذلك البيت‪ ،‬وفي‬
‫جميعا‪ ..‬كلهم هنا اليوم‪ ..‬ما أغرب هذا‪ ..‬ما أغربه!”‪.‬‬ ‫ً‬ ‫البيوت المماثلة‪ ..‬وفي القرى المتشابهة‬
‫أسرتهم‪ ،‬وقد توكأ بعضهم على عك ّازاتهم‪ ،‬واآلخرون على‬ ‫َّ‬ ‫إلى‬ ‫واندفع إلى الغرفة فجأة جميع المرضى الذين لم يكونوا مقيّدين‬
‫الثوار‪ ..‬إنها‬
‫َّ‬ ‫إلى‬ ‫بطرسبورج‬ ‫حامية‬ ‫انضمت‬ ‫لقد‬ ‫‪..‬‬ ‫بطرسبورج‬ ‫عصي ‪ ،‬والبعض يهرولون‪ ..‬وأخذوا يصيحون‪“ :‬القتال في شوارع‬ ‫ِّ‬
‫الثورة‪ ..‬إنها الثورة!”‪.‬‬
‫‬
‫عقد في إيرفورت عام ‪ ،1891‬مبنيّة‬ ‫‪ 57‬خطة عملية تم اعتمادها من قبل الحزب االجتماعي الديمقراطي األلماني في مؤتمر ُ‬
‫مبس ط للماركسية‪ .‬قام الفيلسوف والمنظر كارل كاوتسكي بتقديم البرنامج في كتابه «الصراع الطبقي» وكان للبرنامج تأثير‬ ‫ّ‬ ‫على تحليل‬
‫كبير في السنوات السابقة لثورة ‪.1917‬‬
‫ومنظر ماركسي‪ ،‬أحد مؤسسي حزب العمال الديمقراطي االشتراكي‬ ‫ِّ‬ ‫‪ 58‬جورجي بليخانوف (‪ )1918 - 1857‬ناشط ثوري‬
‫الروسي‪.‬‬
‫‪ 59‬قام الجيش الثامن بقيادة الجنرال أليكسي بروشيلوف باحتالل غاليسيا عام ‪ 1914‬ثم أُجبر على االنسحاب‪ .‬وفي عام‬
‫‪ 1915‬احتل الكربات وأخذ يتجه نحو المجر‪ ،‬لكنه تراجع مرة أخرى‪.‬‬
‫تمت بواسطة أربعة جيوش روسية‪ ،‬بقيادة الجنرال‬ ‫‪ 60‬عملية السيطرة على مدينة لوتسك‪ ،‬الواقعة في شمال غرب أوكرانيا‪َ ّ ،‬‬
‫بروسيلوف بين الرابع والسابع من يونيو عام ‪.1916‬‬
‫ُس ّ َم ي المستشفى على اسم عيد الصليب المقدس‪ ،‬احتفاال بعثور هيالنة أم اإلمبراطور قسطنطين على الصليب الحقيقي عام‬ ‫‪61‬‬
‫‪ 326‬م‪ .‬كان من المعتاد تسمية المستشفيات في روسيا ‪-‬قبل الثورة ‪ -‬على أسماء األعياد المسيحية‪.‬‬
‫‪ 62‬قامت األميرة تايانا قنسطنطينوفانا بتأسيس جميعة ‪-‬في بداية الحرب ‪ -‬لمساعدة المقاتلين في الجبهة‪ ،‬وأهالي المصابين‬
‫والقتلى‪.‬‬
‫‪ 63‬فيلهلم (غليوم) الثاني (‪ )1941 - 1859‬آخر قيصر ألماني‪ ،‬أجبر على التنازل عن العرش عام ‪ 1918‬بعد هزيمة ألمانيا‬
‫في إلى هولندا‪.‬‬‫في الحرب العالمية الثانية‪ ،‬ثم ن ُ َ‬
‫جميعا واحد‬
‫ً‬ ‫ذكرا وأنثى‪ ،‬ألنكم‬
‫ً‬ ‫حرا‪ .‬ليس‬
‫ً‬ ‫عبدا وال‬‫ً‬ ‫‪ 64‬رسالة بولس إلى أهل غالطية ‪« 28 :3‬ليس يهوديًا وال يونانيًا‪ .‬ليس‬
‫في المسيح يسوع»‪.‬‬

‫الفصل الرابع‪ :‬القَ َدر المحتوم‬

‫‪-١-‬‬

‫رقدت الرا في فراش فيليتساتا سيميونوفنا‪ ،‬محمومة‪ ،‬وشبه غائبةٍ عن الوعي‪ ،‬وراح آل سفنتيتسكي‪ ،‬والخدم‪ ،‬والدكتور دروكوف‬
‫بهمسحولها‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫يتحدثون‬
‫وخيَّم الظالم على باقي أجزاء المنزل الخالية‪ ،‬إال من مصباح واحد‪ُ ،‬وضع على حامل في غرفة الجلوس‪ ،‬وكان يرسل ضوءه الكليل‬
‫الممتدة أمامه في صف طويل‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫على الحجرات المتالصقة‬
‫بخطوات واسعة‪ ،‬ثابتة‪ ،‬غاضبة‪ ،‬وكأنما هو في بيته الخاص‪ ،‬وليس مجرد زائر هنا‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وكان كوماروفسكي يقطع هذا الممر جيئة وذهابًا‬
‫مارا بالشجرة المزدانة بالنيازك الفضية‪ ،‬وعبر غرفة‬ ‫ً‬ ‫يكر على عقبيه إلى آخر البيت‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫مستطلعا األنباء‪ ،‬ثم‬
‫ً‬ ‫كان ينظر في غرفة النوم‬
‫مرت عربة تحت النافذة‪ ،‬أو مرق فأر‬ ‫مس‪ ،‬واألقداح البلُّورية الصغيرة تصلصل كلَّما ّ َ‬‫محملة بصحاف لم تُ ّ‬ ‫َّ‬ ‫الطعام‪ ،‬حيث كانت المائدة‬
‫فوق مفرش المائدة بين الخزف‪.‬‬
‫مهد ًدا‪ ،‬وإن سمعته لفي‬ ‫َّ‬ ‫للخ ْزي! كان يغلي من الغضب‪ ،‬لقد أصبح مركزه‬ ‫ُ‬ ‫وازدحمت في صدره مشاعر عاصفة‪ ،‬يا للفضيحة! يا‬
‫حدا‬
‫ًّ‬ ‫تسرب النبأ مهما كلَّفه ذلك‪ ،‬أما إن كان قد انتشر فعل ًا‪ ،‬فعليه اآلن أن يضع‬ ‫ُّ‬ ‫خطر بسبب هذا الحادث‪ ،‬إن عليه أن يحول دون‬ ‫ٍ‬
‫للشائعات‪ ،‬وأن يخنقها في مهدها‪.‬‬
‫ولم يكن هذا هو سبب قلقه الوحيد‪ ،‬لقد قاسى مرة أخرى من الجاذبية التي ال تُقاوم لهذه الفتاة الشرسة اليائسة‪ ،‬لقد كان يعلم‬
‫دائما أنها تختلف عن كل فتاة غيرها‪ ،‬كانت تمتاز عن الجميع بطبيعة فريدة ف ّ َذة‪ .‬ولكن ما أعمق ما أصابها به من جراح أليمة‬ ‫ً‬
‫رأس ا على عقب‪ .‬وكم كانت تبدو ضجرة عنيفة في تصميمها على أن تعيد تشكيل‬ ‫ً‬ ‫أشد ما قلب حياتها‬ ‫َّ‬ ‫غير قابلة للشفاء‪ ،‬وما‬
‫حياتها وق ََدرها‪ ،‬وأن تبدأ من جديد!‬
‫واضح ا أن كل الظروف تقضي عليه بمساعدتها‪ ،‬بأن يستأجر لها غرفة خاصة‪ ،‬ربما‪ ..‬ولكن على أل ّا يحاول االقتراب منها بأي‬ ‫ً‬ ‫كان‬
‫حال‪ ،‬على العكس من ذلك‪ ،‬عليه أن ينأى بنفسه عنها‪ ،‬أن يقف جانبًا بحيث ال يرمي على حياتها بظ ِل ّه‪ ،‬وإال فليس هناك حد لما‬
‫يمكن أن تندفع إليه في هياجها!‬
‫خير منه‪ ،‬فالقانون ال يقف ساكتًا‬ ‫ٍ‬ ‫وفوق هذا‪ ،‬كم من المتاعب ال يزال في الطريق‪ ،‬فلم يكن ما حدث بالشيء الذي يُرجى أي‬
‫يأت بعد‪ ،‬ولم تكد تمر ساعتان منذ وقعت األحداث ومع ذلك فقد جاء البوليس مرتين‪ ،‬وقد اضطر هو‪-‬‬ ‫ِ‬ ‫حياله‪ ،‬إن الصباح لم‬
‫كوماروفسكي‪ -‬أن يذهب بنفسه إلى المطبخ‪ ،‬ويالطف الجاويش‪ ،‬لتسير األمور في غير عنف‪.‬‬
‫شوطا‪ ..‬فمن المحتَّم أن يجدوا الدليل على أن الرا كانت تقصده هو بطلقتها‪ ،‬ولم تكن تقصد‬ ‫ً‬ ‫تعقيدا كلما قطعت‬ ‫ً‬ ‫وستزداد األمور‬
‫معرضة‬ ‫َّ‬ ‫برأ بذلك من جز ٍء من التهمة فقط‪ ،‬ولكنها ال تزال‬ ‫حدا للمسألة‪ .‬إن الفتاة سوف تُ ّ َ‬ ‫ًّ‬ ‫كورناكوف‪ ،‬وحتى هذا لم يكن ليضع‬
‫لإلدانة عن باقي األجزاء‪.‬‬
‫قاطع من الطبيب‬ ‫ٍ‬ ‫تقرير‬
‫ٍ‬ ‫ومن الطبيعي أنه سيصنع كل ما يستطيع لكي ال تُدان‪ ،‬فإذا ق ِ ُّدمت القضية إلى المحكمة‪ ،‬فسيحصل على‬
‫وتبعا لذلك‪ ،‬تسقط الدعوى‪.‬‬ ‫ً‬ ‫النفسي‪ ،‬بأنها لم تكن مسؤولة عن أعمالها في اللحظة التي أطلقت النار فيها‪.‬‬
‫يهد ئ نفسه بهذه األفكار‪ .‬حتى انقضى الليل‪ ،‬وأخذت خيوط الضوء تنساب من غرفة إلى غرفة‪ ،‬وتتسلَّل تحت الكرسي‬ ‫ِّ‬ ‫وهكذا راح‬
‫والموائد‪ ،‬كما يتسلَّل اللصوص‪.‬‬
‫تتحسن حالتها بعد‪ .‬ثم مضى خارج البيت ليذهب إلى‬ ‫َّ‬ ‫وألقى كوماروفسكي نظر ًة أخيرة على غرفة النوم‪ ،‬حيث علم أن الرا لم‬
‫روفينا أونيسيموفنا فويت فويتكوفسكي‪ ،‬وهي سيدة تشتغل بالمحاماة‪ ،‬وكانت من قبل زوجة سياسي هاجر من البالد‪ ،‬إن مسكنها ذا‬
‫تؤجر منه حجرتين‪ ،‬إحداهما‬ ‫ِّ‬ ‫كثيرا من حاجتها‪ ،‬ولم تعد قادرة على االحتفاظ به‪ .‬وهي لهذا‬ ‫ً‬ ‫الثماني حجرات قد أصبح اآلن أوسع‬
‫اآلن خالية‪.‬‬
‫بالحمى‪.‬‬‫َّ‬ ‫واستأجر كوماروفسكي هذه الحجرة لالرا‪ ،‬ونقلها إليها بعد بضع ساعات‪ ،‬وكانت ال تزال غائب ًة عن الوعي‪ ،‬ملتهبة الرأس‬
‫‪-٢ -‬‬

‫وكانت روفينا أونيسيموفنا امرأة ذات اتجاهات تقدميَّة‪ ،‬شديدة العداوة لإلجحاف والظلم‪ ،‬مطبوع ًة على الميل إلى تأييد كل ما تره‬
‫نافعا وحيويًا‪.‬‬
‫ً‬
‫وكانت تحتفظ على صوان مالبسها بنسخة عليها إهداء المؤلف من كتاب برنامج إيرفورت‪ ،57‬برنامج الحزب االشتراكي الديمقراطي‬
‫تمخَض عنه مؤتمر سنة ‪ ،١٨٩١‬وبين الصور المعلَّقة على الجدران‪ ،‬كانت تبدو صورة زوجها الطيب فويت في منتزه‬ ‫ّ‬ ‫األلماني‪ ،‬الذي‬
‫شعبي في سويسرا‪ ،‬وقد جمعت الصورة بينه وبين بليخانوف‪ ،58‬أحد قادة الفكر الماركسي‪ ،‬وكالهما يرتدي ستر ًة من الحرير‪ ،‬وقبع ًة‬
‫قشبنما‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫من‬
‫ولكن روفينا أونيسيموفنا لم ترتَح لمرأى الساكنة الجديدة المريضة‪ ،‬بل لقد رأت في الرا ُمتمارضة ال تُطاق‪ ،‬واعتقدت أن هذيانها من‬
‫بائسقُضي عليه‬ ‫ٍ‬ ‫الحمى إن هو إال تصن ُّع من ّأوله إلى آخره‪ .‬وما كان أيسر عليها أن تقسم أن الرا تحاول تمثيل شخصية‬ ‫َّ‬
‫قوطي قديم‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫حب‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫في‬ ‫بالجنون‪،‬‬
‫بشدة‪ ،‬وترفع صوتها بالغناء‪ ،‬وتندفع في الجزء الذي‬ ‫َّ‬ ‫وكانت تظهر احتقارها لها بصورة ال تخلو من اإلزعاج‪ .‬فهي تضرب األبواب‬
‫تشغله من البيت كاإلعصار‪ ،‬وتترك النوافذ مفتوحة طيلة اليوم‪.‬‬
‫الع لوي من أحد منازل شارع أربات‪ ،‬الشارع الواسع‪ ،‬ذي السوق‪ ،‬وعندما ينتصف الشتاء‪ ،‬ويبدأ الجو‬ ‫وكانت الشقّ َة تقع في الدور ُ‬
‫دورته نحو الربيع‪ ،‬كانت نوافذها تبدو غارقة في السماء الزرقاء‪ ،‬وكأنما هي نهر عظيم في موسم الفيضان‪ .‬وطيلة النصف الثاني من‬
‫كل شتاء‪ ،‬كانت هذه الشقة تزخر ببشائر الربيع القادم‪.‬‬
‫وأخذت ريح الجنوب الدافئة تقتحم النوافذ‪ ،‬وقطارات السكة الحديد تزأر من محطاتها البعيدة‪ ،‬وكأنها سباع البحر‪ .‬بينما الرا مريضة‬
‫راقدة في فراشها‪ ،‬تمأل فراغها بالذكريات‪.‬‬
‫مرت عليها سبع‬ ‫وكم كانت تذكر أمسيتها األولى في موسكو‪ ،‬عندما قدمت إليها ألول مرة من األورال‪ ،‬كانت هذه األمسية‪ ،‬التي َّ‬
‫سنوات أو ثمان‪ ،‬إحدى أمسيات طفولتها التي ال تُنسى‪.‬‬
‫كانوا يعبرون المدينة في عربة أخذت تقطع بهم الطرق الضيِّقة المظلمة‪ ،‬من المحطة إلى الفندق الذي يقع في الطرف اآلخر من‬
‫صغيرا‪ ،‬ثم يكبر‬
‫ً‬ ‫حدباء تتتابع على الجدران بتتابعها‪ .‬وكان ِظ ُّل الحوذي يبدأ‬ ‫ْ‬ ‫المدينة‪ .‬وكانت مصابيح الشوارع ترسم للحوذي ظالل ًا‬
‫صغيرا من جديد‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ليبدأ‬ ‫واحدة‪،‬‬ ‫مرة‬ ‫ينحسر‬ ‫هو‬ ‫وإذا‬ ‫المنازل‪،‬‬ ‫سطوح‬ ‫إلى‬ ‫يمتد‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ضخم‬
‫ً‬ ‫ويكبر‪ ،‬حتى يصبح عمالقًا‪،‬‬
‫تطن في الظلمة‪ ،‬ومركبات الترام تُصلصل بأجراسها وهي تنطلق مسرعة في الطرقات‪ .‬ومع‬ ‫ُّ‬ ‫كانت أجراس موسكو الثمانون العريقة‬
‫تصم أذني الرا‪ ،‬وكأنما كانت هي األخرى تحدث من الجلبة ما تُحدثه العجالت‬ ‫ُّ‬ ‫كل هذا فقد كانت األنوار‪ ،‬وواجهات الحوانيت‪،‬‬
‫واألجراس‪.‬‬
‫حد غير مألوف‪ ،‬كان كوماروفسكي قد جاء بها كهدية لها بمناسبة‬ ‫ٍّ‬ ‫وعند دخولها غرفة الفندق‪ ،‬أذهلها وجود بطيخة هائلة الحجم إلى‬
‫انتقالها إلى مقامها الجديد‪ ،‬وقد رأت فهيا رم ًزا لجاهه وثورته‪ .‬ولقد أمسكت أنفاسها في فزع وهي تراه يُغمد السكين في هذه‬
‫فتنشق البطيخة الداكنة الخضرة إلى نصفين‪ ،‬كاشفة عن قلب سك ّري مثلج‪ ،‬ولكنها لم تستطع أن ترفض تناول شريحة منها‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫األعجوبة‪،‬‬
‫عصبي ‪ ،‬أوقف في حلقها ما تقضمه من هذه الفاكهة الوردية الناضرة‪ ،‬فقد أرغمت نفسها على‬ ‫ّ‬ ‫ُر‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫تو‬ ‫من‬ ‫انتابها‬ ‫مما‬ ‫الرغم‬ ‫وعلى‬
‫ازدرادها‪.‬‬
‫رو عتها األطعمة الباهظة الثمن‪ ،‬وحياة الليل في العاصمة‪ ،‬كذلك بدأت ترتاع من كوماروفسكي نفسه‪ .‬وكان هذا هو التفسير‬ ‫ومثلما َّ‬
‫الصحيح لكل شيء‪.‬‬
‫التصور‪ ،‬فلم يعد اآلن يطالبها بشيء‪ ،‬ولم يعد يذ ِك ّرها بالماضي مطلقًا‪ ،‬بل‬ ‫ّ‬ ‫كثيرا‪ .‬تغيَّر إلى حد أبعد من حدود‬ ‫ً‬ ‫ولكنه اآلن قد تغيَّر‬
‫بعيدا عنها‪ ،‬وإن كان قد حرص على أن يؤ ِك ّد لها بأكثر الطرق ر ّقَة ولطفًا‪ ،‬استعداده‬ ‫ً‬ ‫بنفسه‬ ‫أمسك‬ ‫لقد‬ ‫لرؤيتها‪،‬‬ ‫يحضر‬ ‫إنه لم يعد‬
‫الدائم لمساعدتها‪.‬‬
‫سرورا ‪ .‬ال بسبب طوله الفارع وجماله الوضيء‪ ،‬ولكن لما‬ ‫ً‬ ‫جدا عندما زارها‪ ،‬ولقد مألتها زيارته‬ ‫ً‬ ‫أما كولوجريفوف‪ ،‬فكان سلوكه مختلفًا‬
‫يشع ه من حيوية وذكاء‪ ،‬باإلضافة إلى ابتسامته الخالبة المرحة‪ .‬حتى لكأنما شغل وحده نصف المكان من غرفتها‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫فكرا‪ .‬لقد كان ي ُدعى في المناسبات إلى االجتماعات العليا في بطرسبرج فيخاطب الشيوخ ذوي‬ ‫جلس إلى جوارها وفرك يديه ُم ً‬
‫قريب إحدى أفراد بيته‪ ،‬كانت‬ ‫ٍ‬ ‫األلقاب الرفيعة‪ ،‬وكأنهم تالميذ مدارس أشقياء‪ .‬ولكنه اآلن يجلس‪ ،‬والى جواره فتاة كانت إلى عه ٍد‬
‫كابنة له‪ ،‬صحيح أنه لم يكن يبادلها فيما مضى أكثر من كلمة أو نظرة عابرة‪ ،‬شأنها في ذلك شأن باقي أفراد عائلته‪ ،‬ولكن سلوكه‬
‫– في هذه الحدود الضيِّقة‪ -‬لم يكن يخلو من حرارة وسحر يعرفهما الجميع‪.‬‬
‫يستط ع أن يعاملها بغير اكتراث كما يصنع مع اآلخرين‪ ،‬وإذ كان ال يدري كيف يبدؤها بالكالم دون أن ينكأ ما يؤلمها من‬ ‫ِ‬ ‫لذلك لم‬
‫راح‪ ،‬فقد قال لها بابتسامة وكأنه يحادث طفل ًا‪“ :‬واآلن يا بنيَّتي‪ ،‬ماذا تبتغين‪ ،‬وماذا وراء كل هذا الشجن والتأثر؟”‪.‬‬ ‫جِ ٍ‬
‫أسى وقال‪“ :‬إني ذاهب إلى دسلدروف‪،‬‬ ‫وسكت بره ًة‪ ،‬وهو يفحص بعينيه البقع الرطبة على الجدران والسقف‪ ،‬ثم ه ّ َز رأسه في ً‬
‫حيث يُفتتح هناك معرض للرسم والنحت والزهور‪ ،‬إن المكان هنا رطب كما تعلمين‪ ،‬وفوق هذا‪ ،‬فإلي متى تريدين أن تجوبي اآلفاق‬
‫على غير هدى ولغير مكان الئق تعيشين فيه؟ بيني وبينك‪ ،‬هذه المرأة‪ ،‬فويت‪ ،‬سيئة للغاية‪ .‬إني أعرفها‪ ،‬فلماذا ال تنتقلين من‬
‫عنك فراش المرض‪ .‬غيِّري هذه الغرفة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫لك أن تنفضي‬ ‫ِ‬ ‫وأنت مريضة طريحة الفراش‪ ،‬وقد آن‬ ‫ِ‬ ‫عليك وقت طويل‬ ‫ِ‬ ‫بيتها؟ لقد مضى‬
‫ام ا سيرحل إلى تركستان لمدة عامين‪ ،‬ولديه في األستديو مكان منفصل‪ ،‬أشبه‬ ‫رس‬
‫َّ ً‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫ق‬ ‫صدي‬ ‫لي‬ ‫إن‬ ‫‪.‬‬ ‫دراستك‬ ‫ي‬ ‫ِ‬
‫أتم‬
‫ّ‬ ‫ما‪،‬‬ ‫قومي بعمل‬
‫لك منه؟ وثمة واجب آخر كنت أريد أن‬ ‫ِ‬ ‫بشقةٍ صغيرةٍ‪ ،‬أعتقد أنه سيعهد بها إلى شخص ما خالل غيبته‪ ،‬فما رأيك لو استأجرتها‬
‫ِ‬
‫عليك أن‬ ‫تخرجها‪ ،‬ال‪ ..‬إن‬ ‫ِّ‬ ‫أؤديه من زمن طويل‪ ،‬واجب مقدس‪ ،‬منذ كانت ليبا‪ ،‬ها ِك قدر قليل من المال‪ ،‬إنه مكافأة على‬
‫تقبلي”‪.‬‬
‫وعلى الرغم من كل احتجاجاتها‪ ،‬ودموعها‪ ،‬ومقاومتها‪ ،‬فقد أرغمها قبل أن يمضي‪ ،‬على أن تقبل منه شيك ًا بمبلغ عشرة آالف‬
‫روبل‪.‬‬
‫وانتقلت الرا فور شفائها‪ ،‬إلى المسكن الذي اختاره لها كولوجريفوف بالقرب من سوق سمولنسكي‪ ،‬وكانت الشقة في أعلى بيت ذي‬
‫الحمالين وحوذيَّة النقل‪ .‬بينما يُستخدم الطابق األرضي‬ ‫َّ‬ ‫طابقين يبدو عليه القدم‪ ،‬وكانت تسكن الجزء المقابل من البيت جماعة من‬
‫دائما ي ُفرش بالبرسيم والشوفان‪ ،‬وبينما كانت أسراب الحمام تختال هناك‪ ،‬وتص ِفّق بأجنحتها‬ ‫ً‬ ‫كمخزن للبضائع‪ ،‬أما الفناء المرصوف‪ ،‬فكان‬
‫أيضا في الميازيب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫في جلبة بالقرب من نافذة الرا‪ .‬كانت أسراب الجرذان تمرح‬
‫‪-٣ -‬‬

‫شعور كان ينتابه؟ إن الرا حاولت أن تقتل‬


‫ٍ‬ ‫وكان باشا شديد القلق على الرا‪ ،‬فقد حيل بينه وبين زيارتها طيلة أيام مرضها‪ ،‬وأي‬
‫رجل ًا‪ ،‬لم يكن يربطها به‪ -‬في ما يعلم‪ -‬سوى رباط المعرفة‪ .‬وهذا الرجل نفسه الذي حاولت الرا أن تقتله‪ ،‬أصبح درعها الواقية‬
‫أي حال‪ ،‬فقد أصبحت قادرة على مواصلة دراستها‪ ،‬آمنة من كل‬ ‫ّ‬ ‫شكرا له على‬
‫ً‬ ‫التي درأت عنها ما كان ينتظرها من عقاب‪.‬‬
‫شيء‪ .‬ولكن‪ ،‬يا للحيرة والعذاب اللذين ينهشان قلب باشا!‬
‫تحس نت حالتها‪ ،‬ثم قالت له‪“ :‬إني امرأة سيئة‪ ،‬وأنت ال تعرفني‪ ،‬وال تعرف مقدار سوئي‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ولقد أرسلت الرا في طلبه عندما‬
‫حاولت‬
‫ُ‬ ‫رأيت بنفسك‪ ،‬كيف يأخذني البكاء كلما‬ ‫َ‬ ‫سأخبرك بكل شيء في يوم من األيام‪ .‬أما اآلن فلست أستطيع أن أقول شيئًا‪ .‬لقد‬
‫فلست استحقك”‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تماما‪،‬‬
‫ً‬ ‫أن أتكلم‪ .‬ابتعد بنفسك عنّي‪ ،‬يجب عليك أن تفعل‪ ،‬أن تنساني‬
‫إيالم ا من سابقه‪ .‬كانت الرا إذ ذاك ال تزال مقيمة في شارع أربات‪ ،‬وكانت‬ ‫ً‬ ‫مروعة‪ ،‬كان كل منها أشد‬ ‫ِّ‬ ‫وتلت ذلك مشاهد‬
‫المحامية ربَّة الدار تلتقي بباشا في بهو مسكنها‪ ،‬فال تكاد ترى الدموع المنسابة على وجهه‪ ،‬حتى تكر مندفعة إلى غرفتها‪ ،‬حيث‬
‫تلقي بنفسها على األريكة وتنفجر ضاحكة‪ ،‬وهي تصرخ‪“ :‬يا للعجب‪ ..‬يا للعجب‪ ..‬يا للرجل القوي الصامت‪ ..‬يا له من‬
‫شمشوم”‪.‬‬
‫حدا لعذابه‪ ،‬فقد أعلنت أنها قطعت كل ما‬ ‫ً‬ ‫المدمرة‪ ،‬وتقتلع حبه لها من جذوره‪ ،‬وتضع‬ ‫ِّ‬ ‫أما الرا‪ ،‬فلكي تحل باشا من هذه الصلة‬
‫مرا‪ ،‬يستحيل معه تصديقها‪.‬‬ ‫بكاء ً‬
‫ً‬ ‫بينهما من صالت‪ ،‬ألنها لم تعد تحبه! ولكنها كانت وهي تعلن هذا تبكي‬
‫واحدا مما تقول‪ .‬بل كان خليقًا أن يعلنها‬ ‫ً‬ ‫يصدق حرفًا‬ ‫ِّ‬ ‫جميعا‪ .‬ولم يكن‬
‫ً‬ ‫وكان باشا يتهم الرا في نفسه بالسبع خطايا المميتة‬
‫وله ا في حبها‪ ،‬شديد الغيرة عليها‪ .‬يغار من اإلناء الذي تشرب منه‪ ،‬والوسادة التي ترقد عليها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حقدا عليها‪ .‬أول ًا ألنه كان‬
‫ً‬ ‫ويمتلئ‬
‫وقررا‬
‫َّ‬ ‫‪.‬‬ ‫المتحاناتهما‬ ‫انتظار‬ ‫بغير‬ ‫ا‪،‬‬ ‫فور‬
‫ً‬ ‫الزواج‬ ‫على‬ ‫واتفقا‬ ‫‪.‬‬ ‫وحزم‬ ‫بسرعةٍ‬ ‫يعمال‬ ‫أن‬ ‫برشدهما‪،‬‬ ‫يحتفظا‬ ‫أن‬ ‫أرادا‬ ‫إذا‬ ‫عليهما‬ ‫ن‬ ‫َّ‬ ‫تعي‬ ‫وهكذا‬
‫أجاله بعد ذلك‪ ،‬إلى يوم االثنين المعروف بعيد السجدة!‬ ‫يتما الزواج في يوم األحد التالي للعيد‪ ،‬ولكنهما ّ َ‬ ‫َّ‬ ‫أن‬
‫تخر جا بنجاح‪ ،‬وقد قامت باإلشراف على زفافهما ليودميال كابيتونوفنا تشيبوركو‪ ،‬والدة‬ ‫َّ‬ ‫أيضا قد‬
‫ً‬ ‫وعندما تم زفافهما في ذلك اليوم‪ ،‬كانا‬
‫بصوت من ّ َغ ٍم خفيض‪ ،‬ورأس مليء بعدد ال يُحصى من‬ ‫ٍ‬ ‫توسيا‪ ،‬زميلة الرا في الدراسة‪ ،‬وليودميال امرأة لطيفة‪ ،‬بارزة الصدر‪ ،‬تمتاز‬
‫الخرافات‪ ،‬التي ورثت بعضها‪ ،‬واصطنعت بعضها اآلخر بنفسها‪.‬‬
‫يوما شديد الحرارة‪ ،‬ذلك اليوم الذي كانت الرا ستُساق فيه إلى الهيكل‪ ،‬على حد تعبير ليودميال في صوتها المن َّغم الغجري‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وكان‬
‫كانت الصفرة الصارخة تشع فيه من قباب الكنائس المذهبة‪ ،‬ومن الرمال المفروشة على ممرات الحدائق‪ ،‬وكانت أغصان الشجر التي‬
‫والتوت أوراقها تعكس وهج الشمس‪ .‬لم تكن ثمة‬ ‫َ‬ ‫قطعت في يوم أحد الشعانين‪ ،‬معلَّقة على أسوار الكنائس‪ ،‬وقد عالها الغبار‪،‬‬
‫المتوهجة تتراقص أمام األعين فتبهر األبصار‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫نسمة هواء‪ ،‬وكانت أشعة الشمس‬
‫جعدن شعورهن‪ ،‬بينما‬ ‫َّ‬ ‫جميعا كالعرائس في ثياب خفيفة المعة‪ ،‬وقد‬ ‫ً‬ ‫وكأنما كان في ذلك اليوم ألف زفاف‪ .‬فقد انتثرت الفتيات‬
‫صفّ َف الفتيان شعورهم بالدهانات‪ ،‬وارتدوا الثياب المحبوكة السوداء‪ ،‬احتفال ًا بيوم العيد‪ .‬والحر يلفح الجميع ويثير أعصابهم‪.‬‬
‫وعندما بدأت الرا تخطو أولى خطواتها فوق البُ ُس ط المفروشة إلى المذبح‪ ،‬نثرت الجودنيا ‪ -‬وهي أم صديقة أخرى لها‪ -‬بدرة من‬
‫زودتها بعدد من النصائح للسبب نفسه‪ .‬كانت‬ ‫الفضة تحت قدميها‪ ،‬لتكون فأل ًا حسنًا يأتي لها بالخير‪ .‬وكانت ليودميال قبل ذلك قد َّ‬
‫قد أوصتها بأال ترسم عالمة الصليب بأصابعها العارية‪ ،‬عندما يعقد فوق رأسها إكليل الزفاف‪ ،‬وإنما تغطي أصابعها بطرف طرحتها‪ ،‬أو‬
‫وج هتها لها ليودميال‪ ،‬هي أن ترفع شمعتها عالية أثناء الصالة‪ ،‬لتكون لها اإلمرة على‬ ‫ببعض شرائطها المزركشة‪ .‬وثمة نصيحة أخرى ّ َ‬
‫البيت‪ .‬أما هي‪ ،‬فقد دفعتها التضحية إلى تسليم مصيرها لباشا‪ ،‬فأخذت تهبط بشمعتها إلى أقصى ما تستطيع‪ .‬وعبثًا كانت تحاول‪،‬‬
‫فكلما كانت تهبط بشمعتها‪ ،‬كان باشا يهبط بشمعته أكثر!‬
‫استعدادا للحفل‪ ،‬وكالعادة الروسية في أيام‬ ‫ً‬ ‫وخرج الجميع من الكنيسة ليتناولوا طعام اإلفطار في االستديو الذي كان باشا قد زيَّنه‬
‫حلوا”‪ ،‬وبابتسامة خجلى تعانق العروسان‪،‬‬ ‫ً‬ ‫اجعلوه‬ ‫الزفاف‪ ،‬صاح بعض الحاضرين‪“ :‬هذا الطعام ُم ّ ٌر!”‪ ،‬وأجاب الحاضرون‪“ :‬هيا‬
‫وتبادال قبلة‪.‬‬
‫وبدأت ليودميال تغ ِن ّي أغنية شجرة الكرم بقرارها المزدوج ليمنحكما الله الحب والوفاق‪ ،‬ثم غن َّت بعد ذلك أغنية مطلعها‪“ :‬هيا‬
‫وبع ِثر الشعر الجميل!”‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫احلل ضفائرها‪..‬‬
‫وحيدا مع عروسه‪ ،‬مأله الصمت المفاجئ باالضطراب‪ ،‬كان الضوء يصل إلى الغرفة من مصباح‬ ‫ً‬ ‫وعندما انصرف الضيوف‪ ،‬تاركين باشا‬
‫تمام ا بإحكام الستائر‪ ،‬فقد ظل شعاع دقيق منه ينفذ إلى الغرفة‪ .‬وزاده هذا الشعاع اضطرابًا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الطريق‪ .‬وعبث ًا حاول باشا أن يحجبه‬
‫كأنما هناك من يراقبه‪ .‬ولم يلبث أن اكتشف أنه كان منصرفًا إلى التفكير في هذا الضوء‪ ،‬أكثر من تفكيره في الرا‪ ،‬أو في نفسه‪ ،‬أو‬
‫في حبه لها!‬
‫أيضا إلى أعمق‬ ‫ً‬ ‫قمة الفرح‪ .‬وهبط‬ ‫وفي هذه الليلة‪ ،‬بلغ أنتيبوف‪ ،‬أو ستيفاني‪ ،‬أو العذراء الجميلة – كما كان أصدقاؤه يسمونه‪َّ -‬‬
‫أغوار اليأس‪ ،‬كانت الشكوك والمخاوف تتعاقب عليه من اعترافات الرا‪ .‬كان يلقي عليها السؤال بعد السؤال‪ ،‬ومع كل إجابة منها‪،‬‬
‫أعماق بعيدة‪ ،‬وكأنما هو هابط إلى هاوية‪ ..‬فأن ّ َى لخياله الجريح أن يساير ما كانت تبوح به إليه!‬ ‫ٍ‬ ‫كانت روحه تغوص إلى‬
‫وظال يتحدثان حتى الصباح‪ .‬ولم يحدث لباشا طيلة حياته أن أصابه تغيير حاسم مفاجئ‪ ،‬كهذا الذي حدث له في تلك الليلة‪ .‬لقد‬
‫عرف باسم باشا أنتبيوف!‬ ‫تماما‪ ،‬وكأنه رجل جديد‪ ،‬يدهشه أن يكون في يوم من األيام قد ُ‬ ‫ً‬ ‫نهض في الصباح وقد تغيَّر‬
‫‪-٤ -‬‬

‫بتفوق‪ ،‬وحصل كل منهما‬ ‫ُّ‬ ‫وبعد تسعة أيام‪ ،‬أقام لهما أصدقاؤهما حفلة وداع‪ ،‬في الغرفة نفسها‪ ،‬فقد كان كالهما قد اجتاز االمتحان‬
‫مقرهما الجديد في اليوم التالي‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫تأهبا للسفر إلى‬ ‫َّ‬ ‫على عمل في مدينة واحدة من مدن األورال‪ .‬وكانا قد‬
‫جميعا هذه المرة من الشباب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وضجوا‪ ،‬وكانوا‬
‫ُّ‬ ‫وقد شربوا‪ ،‬وغنوا‪،‬‬
‫المخصص للسكن‪ ،‬كانت هناك سل ّة كبيرة لألمتعة‪ ،‬وأخرى أصغر منها‪ ،‬وحقيبة‬ ‫َّ‬ ‫وخلف الحاجز الذي يفصل بين األستديو وبين الجانب‬
‫عد جانب منه‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫وقد‬ ‫السفر‪،‬‬ ‫ينتظر‬ ‫كان‬ ‫كثير‬ ‫متاع‬ ‫‪.‬‬‫الطرود‬ ‫من‬ ‫وعدد‬ ‫الخزفية‪،‬‬ ‫الرا الكبيرة‪ ،‬وحقيبة صغيرة أخرى‪ ،‬وصندوق لألواني‬
‫تماما‪ ،‬فقد كان هناك فراغ في‬ ‫ً‬ ‫بأربطتها‬ ‫محزومة‬ ‫كانت‬ ‫قد‬ ‫والحقائب‪،‬‬ ‫والسالل‬ ‫الصناديق‬ ‫للشحن في اليوم التالي‪ ،‬ورغم أن كل هذه‬
‫فتدسه في إحدى السالل‪ ،‬معيدة ترتيبها بعناية‬ ‫ُّ‬ ‫أخذه معها‪،‬‬‫الحقيبة‪ ،‬وفي السالل‪ .‬وكانت الرا بين لحظة وأخرى تتذكَّر شيئًا تريد ْ‬
‫لتعيد استواء سطحها‪.‬‬
‫وكان باشا يرحب بالضيوف في البيت‪ ،‬عندما عادت الرا من إدارة الكلية‪ ،‬حيث كانت تسترد شهادة ميالدها ووثائقها األخرى‪ .‬وقد‬
‫حمال يحمل حزمة من الزكائب وحبل ًا سميك ًا‪ ،‬لربط األمتعة التي تم إعدادها للشحن‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫صعدت إلى الدار‪ ،‬يتبعها‬
‫خارجا‪ ،‬ثم مضت تطوف بالضيوف‪ ،‬تس ِل ّم على البعض‪ ،‬وتقبِّل البعض اآلخر‪ ،‬قبل أن تذهب إلى غرفة النوم‬ ‫ً‬ ‫الحمال‬
‫َّ‬ ‫وتركت الرا‬
‫لتغيِّر مالبسها‪ .‬وصفّ َق الجميع عندما جلست بينهم‪ ،‬وعادت الضجة والصخب‪ ،‬كما حدث في حفلة العرس‪.‬‬
‫وأقبل البعض على الفودكا‪ ،‬يصبُّون ألنفسهم‪ ،‬وللجالسين إلى جوارهم‪ .‬وامتدت األيدي‪ ،‬إلى وسط المائدة حيث صف الخبز وأطباق‬
‫جميعا النشوة‪.‬‬
‫ً‬ ‫المشهيات وصحاف الطعام‪ .‬وق ُِر عت الكؤوس‪ ،‬وألقيت الكلمات‪ ،‬وعلت األصوات بالفكاهة والمرح‪ ،‬وقد شملتهم‬
‫كثيرا‪ ..‬هل قمت بتدبير كل شيء!”‪.‬‬ ‫ً‬ ‫متعبة‬‫َ‬ ‫وهمست الرا في أذن زوجها الجالس إلى جوارها‪“ :‬إني‬
‫وأجاب باشا‪:‬‬
‫‪“ -‬نعم”‪.‬‬
‫أيضا؟”‪.‬‬ ‫ً‬ ‫سعيدا أنت‬ ‫ً‬ ‫‪“ -‬ومع ذلك‪ ،‬فأنا أشعر بغبطة عظيمة‪ ،‬كما أنا سعيدة‪ ،‬ألست‬
‫‪“ -‬بالتأكيد‪ ..‬يا لها من قصة!”‪.‬‬
‫وكان قد ُس مح لكوماروفسكي‪ ،‬على وجه االستثناء‪ ،‬بحضور حفلة الشباب‪ .‬فلما اقتربت نهاية السهرة‪ ،‬بدأ يتحدث عن صعوبة‬
‫الفراق‪ ،‬وكم سيفتقد صديقيه الصغيرين عندما يبرحان موسكو‪ ،‬وكيف ستصبح المدينة خالية من دونهما‪ ،‬كأنها صحراء‪ .‬وغلبه التأثر‪،‬‬
‫فأخذ ينتحب‪ ،‬ويعيد ما قاله مرة أخرى‪ ،‬مستأذنًا أنتيبوف وزوجته في أن يكتب لهما‪ .‬بل في أن يصحبهما عند سفرهما إلى‬
‫شق عليه احتمال لحظة الوداع‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫األورال‪ ،‬إذا‬
‫بع ُد أشياء ال تجدي‪ ..‬الكتابة‪..‬‬ ‫وعال صوت الرا‪ ،‬وهي تجيبه شاردة الذهن‪“ :‬ال‪ ،‬ال ضرورة لشيء من كل هذا‪ ،‬وهي ْ‬
‫والصحراء‪ ..‬وما إلى ذلك من الكالم‪ ..‬أما عن مصاحبتنا إلى األورال‪ ،‬فإيَّاك أن تفعل‪ ..‬إن الله سيساعدك على احتمال فراقنا‪..‬‬
‫يعوضك عن َّا من األصدقاء‪ ..‬أليس كذلك يا باشا؟”‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫نعوض‪ ..‬سيسعدك الحظ‪ ،‬فتجد من‬ ‫َّ‬ ‫بعد لسنا من الندرة بحيث ال‬ ‫ُ‬ ‫ونحن‬
‫غرة‪ ،‬فقد نهضت ُمسرعة وهرولت إلى المطبخ‪ ،‬فأخذت مفرمة اللحم‪ ،‬ومضت تحشر أجزاءها في‬ ‫َّ‬ ‫حين‬ ‫على‬ ‫ًا‬ ‫ئ‬ ‫شي‬ ‫رت‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ك‬‫تذ‬ ‫وكأنما‬
‫صندوق الخزف‪ ،‬محيطة إي َّاها بلفائف من القش‪ .‬وقد خدشتها حافة الصندوق وهي منهمكة في تصفيفه‪ ،‬وأصابتها بجرح في يدها‪.‬‬
‫ولكنها كانت الهية عن كل هذا‪ ،‬منهمكة في ما تعمل إلى حد أنها نسيت ضيوفها‪ ،‬ولم تعد تشعر بوجودهم‪ .‬حتى ذكَّروها بأنفسهم‬
‫عندما علت أصواتهم بالضحك والضجيج‪ ،‬وقد بدا لها عندئذ أن الناس عندما يفرطون في الشراب‪ ،‬يحاولون تمثيل أدوار السكارى‪.‬‬
‫وأنهم كلما شربوا أكثر‪ ،‬أمعنوا في التمثيل إلى حد المبالغة‪.‬‬
‫ولكن صوتًا آخر تناهى إليها من الفناء‪ ،‬فجذبها إلى النافذة‪ ،‬ورفعت الرا الستائر‪ ،‬وأطلَّت‪.‬‬
‫ومدت بصرها إلى‬ ‫َّ‬ ‫لم ْن الحصان‪ ،‬وكيف جِ يء به إلى الفناء؟‬ ‫عرجاء‪ ،‬وتحيَّرت الرا‪َ ،‬‬ ‫كان في الفناء حصان مربوط‪ ،‬يقفز قفزات قصيرة ْ‬
‫أثر للحياة‪ .‬كانت المدينة متَّشحة بال ّزُرقة الداكنة الرطبة للساعات المبكرة قبل‬ ‫المدينة النائمة‪ ،‬فبدت أمامها وكأنما خلت من كل ٍ‬
‫طلوع النهار‪ .‬وأطبقت الرا عينيها‪ ،‬وقد حملتها أصوات الحصان‪ ،‬إلى ذكريات الريف العميقة‪ ،‬كما لم يكن يمكن أن يذ ِك ّرها بها شيء‬
‫آخر‪.‬‬
‫ورن جرس الباب‪ ،‬فنهض أحد الحاضرين ليفتح للطارق الجديد‪ ،‬وأرهفت الرا أذنيها‪ ،‬فإذا هي تسمع صوت ناديا فتندفع مسرعة‬ ‫َّ‬
‫وسحرا‪ ،‬ويفوح منها عطر الزنبق النامي في وادي دوبليانكا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫لتوها من القطار‪ ،‬تفيض نضرة‬ ‫لمالقاتها‪ .‬كانت ناديا آتية ِ ّ‬
‫وعقد التأثُّر لسان الصديقتين‪ ،‬فتعانقتا‪ ،‬تاركتين لدمعهما العنان‪.‬‬
‫حلي‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫كانت ناديا تحمل لالرا تهاني األسرة‪ ،‬وأمانيها الطيِّبة‪ ،‬وهدية من أبويها‪ .‬فما لبثت أن أخرجت من حقيبة سفرها علبة‬
‫ساحرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫قدا‬
‫ع ً‬‫فتحتها وأخرجت منها ُ‬
‫وعم ت الفرحة والدهشة جميع الحاضرين‪ ،‬وصاح أحدهم‪ ،‬وكان قد أفرط في الشراب‪ ،‬ثم بدأ يفيق قليل ًا‪:‬‬ ‫َّ‬
‫دائما‪..‬‬ ‫ً‬ ‫تصدقوا‪ ..‬فهكذا يبدو‬ ‫ِّ‬ ‫صدقوا‪ ..‬أو ال‬ ‫ِّ‬ ‫‪“ -‬هذه األحجار‪ ،‬من الياقوت الوردي‪ ..‬نعم‪ ..‬نعم‪ ..‬هذا هو الياقوت الوردي‪،‬‬
‫إنه كالماس”‪.‬‬
‫“‪ ..‬إنه من الياقوت األصفر”‪.‬‬ ‫وقالت ناديا ‪ :‬ال‬
‫العقد يرقد في علبته المفتوحة إلى جوار صحنها‪ ،‬والرا ال‬ ‫طعاما وشرابًا‪ .‬وكان ُ‬ ‫ً‬ ‫وقدمت لها‬ ‫َّ‬ ‫وأجلست الرا ناديا إلى المائدة بجوارها‪،‬‬
‫تستطيع أن تكف عن النظر إليه‪ .‬كانت حبَّاته تتألَّق فوق وسادته البنفسجية‪ ،‬فتبدو حينًا كقطرات الندى‪ ،‬وحينًا كعنقود العنب‬
‫الصغير‪.‬‬
‫جميعا حتى‬ ‫ً‬ ‫وفي الوقت نفسه‪ ،‬عاد الضيوف‪ -‬الذين كانوا بدؤوا يفيقون‪ -‬إلى الشراب مرة أخرى‪ ،‬من أجل ناديا‪ ..‬وظلوا يشربون‬
‫شملتها النشوة هي األخرى‪.‬‬
‫جميعا في‬ ‫ً‬ ‫ففضلوا البقاء‬ ‫َّ‬ ‫وسرعان ما استغرق كل من في البيت في النوم‪ ،‬فقد كان أغلبهم سيصحبون الرا وباشا إلى المحطة‪،‬‬
‫تستطع أن تفهم كيف وجدت نفسها‬ ‫ِ‬ ‫يغط في النوم فعل ًا قبل وصول ناديا‪ ..‬بل إن الرا نفسها لم‬ ‫ُّ‬ ‫الدار‪ ،‬وكان عدد منهم قد بدأ‬
‫نائمة على كنبة بكامل مالبسها إلى جوار إيرا الجودينا‪.‬‬
‫فقد أيقظتها أثناء الليل أصوات في الفناء‪ ،‬إذ كان أصحاب الحصان قد جاؤوا ليأخذوه‪ .‬وعندما فتحت عينيها‪ ،‬تساءلت في نفسها‪:‬‬
‫مجدورا‪ ،‬به آثار جرح‬ ‫ً‬ ‫بشعا‪،‬‬
‫ً‬ ‫وجها‬
‫ً‬ ‫لماذا يتسك ّع باشا هكذا في وسط الغرفة؟‪ ،‬فلما أدار الرجل الذي ظن َّته باشا رأسه‪ ،‬رأت أمامها‬
‫العقد في الحال‪،‬‬ ‫أثرا لصوتها‪ .‬وتذكَّرت ُ‬ ‫عميق ممتد من حاجبه إلى ذقنه‪ .‬وأيقنت الرا أنه لص‪ ،‬فحاولت أن تصيح‪ ،‬ولكنها لم تجد ً‬
‫فنهضت بحذر متكئة على مرفقها‪ ،‬ونظرت إلى المائدة حيث تركت العقد‪.‬‬
‫كان العقد ال يزال في مكانه بين الخبز وأوراق الشيكوالتة الفارغة‪ .‬فلم يكن اللص الغبي قد اهتدى إليه‪ ،‬إذ كان ينبش في‬
‫وجهدا كبيرين‪ .‬نعم‪ ،‬كان هذا هو ما استطاع أن يشغل بالها في تلك‬ ‫ً‬ ‫فسدا ما أنفقت فيه وقتًا‬ ‫الحقائب التي رتبتها بعناية‪ُ ،‬م ً‬
‫اللحظة‪ ،‬وهي بعد نصف نائمة‪ ،‬لم تذهب عنها آثار نشوتها‪.‬‬
‫وحاولت أن تصرخ مرة أخرى فاحتجز الخوف صوتها‪ ،‬ولم تجد وسيلة إال أن تدفع بركبتها في بطن إيرا‪ .‬وحينما صرخت إيرا من‬
‫أيضا صوتها فصرخت!‬ ‫ً‬ ‫األلم‪ ،‬ووجدت هي‬
‫خارجا‪ .‬وصحا بعض الرجال فقفزوا خلفه يريدون اللحاق به‪ ،‬غير فاهمين شيئا مما يجري‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وألقى اللص بكل ما في يديه‪ ،‬وهرول‬
‫تماما‪.‬‬‫ً‬ ‫اختفى‬ ‫قد‬ ‫اللص‬ ‫كان‬ ‫الخارجي‪،‬‬ ‫الباب‬ ‫إلى‬ ‫وصلوا‬ ‫عندما‬ ‫ولكنهم‬
‫وأيقظت الضجة الجميع‪ ،‬ولم تسمح لهم الرا بالعودة إلى النوم‪ ،‬فأعدت لهم أقداح القهوة‪ ،‬وتركتهم يعودون إلى منازلهم حتى يحين‬
‫وقت الذهاب إلى المحطة‪.‬‬
‫حشرا في السالل‪ ،‬وتعيد ترتيب الحقائب‪ ،‬وتحزم األمتعة‬ ‫ً‬ ‫وعاودت الرا العمل بسرعة واضطراب‪ ،‬فأخذت تحشر أغطية الفراش‬
‫الحمال‪ ،‬أال يزيدا من مش ّقَتها‪ ،‬بمحاولتهما مساعدتها‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫وتتوسل إلى باشا وزوجة‬ ‫َّ‬ ‫بالحبال‪.‬‬
‫رويدا‪ ،‬يسايره أصدقاؤهما الكثُلر‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫رويد‬
‫ً‬ ‫ك‬ ‫يتحر‬
‫َّ‬ ‫أخذ‬ ‫الذي‬ ‫بالقطار‪،‬‬ ‫أنتيبوف‬ ‫عائلة‬ ‫لحقت‬ ‫وانتهى إعداد كل شيء في الوقت المناسب‪ ،‬فأ ُ‬
‫يلوحون بقبعاتهم‪ ،‬وعندما ك ّفَوا عن التلويح بالقبعات‪ ،‬وصاحوا ثالث مرات‪“ :‬مرحى‪ ..‬مرحى‪ ..‬مرحى!”‪ ،‬كان القطار قد بدأ‬ ‫وهم ِ ّ‬
‫يستكمل سرعته ليختفي‪.‬‬
‫‪-٥ -‬‬

‫مرت ثالثة أيام متتالية‪ ،‬والطقس موحش كئيب‪ ،‬وكان هذا هو الخريف الثاني للحرب‪ ،‬وقد بدأ التراجع يعقب انتصارات العام األول‬
‫تجم ع في الكربات بقيادة بروشيلوف‪ ،‬على أتم استعداد للزحف إلى المجر‪ ،‬قد بدأ اآلن يتراجع‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫منها‪ .‬فالجيش الثامن الذي كان قد‬
‫متأ ِث ّرا بموجة االنسحاب العام‪ ،‬ولقد بدأنا نخرج من غاليسيا التي تم لنا احتاللها في األشهر األولى للقتال‪.59‬‬
‫وكان الدكتور جيفاجو‪ -‬الذي كان يعرف إلى عهد قريب باسم يورا‪ ،‬ثم بدأ يشتهر اآلن باسم يورا أندريفتش‪ -‬واقفًا أمام غرفة‬
‫لتوه‪ ،‬وكان قد فرغ من وداع زوجته‪ ،‬ثم وقف ينتظر‬ ‫الوالدة في قسم أمراض النساء بالمستشفى‪ ،‬حيث كان قد أحضر زوجته تونيا ِ ّ‬
‫المو ِل ّدة‪ ،‬ليتفق معها على كيفية حصوله على أنباء زوجته‪ ،‬واستدعائه إليها إذا لزم األمر‪.‬‬
‫أيضا‪ ،‬أن يمر بمريضين في‬ ‫ً‬ ‫فورا إلى مستشفاه الخاص‪ .‬وكان عليه قبل ذلك‬ ‫ً‬ ‫كان في عجلة شديدة‪ ،‬إذ كان عليه أن يذهب‬
‫طريقه‪ ،‬وها هو ذا يضيِّع وقتًا ثمين ًا في التطلع من النافذة‪ ،‬ومتابعة قطرات المطر‪ ،‬إذ تجرفها ريح الخريف‪ ،‬فتبدو كأنما هي حقل من‬
‫عيدان الذرة‪ ،‬هبّ َت عليه عاصفة! ولم يكن الظالم قد اشتد بعد‪ ،‬فكان يستطيع أن يرى الجانب الخلفي من المستشفى‪ ،‬والمنازل‬
‫المجاورة له ذات الشرفات المغطاة بالزجاج‪ ،‬وقضبان الترام المؤدية إلى أحد عنابر المستشفى‪.‬‬
‫مبال باحتدام الرياح‪ ،‬التي كأنما أغضبها عدم اكتراثه بها‪ ،‬فأخذت تهز‬ ‫ٍ‬ ‫وأخذ المطر ينهمر في رتابةٍ كئيبة‪ ،‬ال يسرع وال يبطئ‪ ،‬غير‬
‫كبساط ممزق‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫منزل قريب‪ ،‬تريد أن تقتلعها من جذورها‪ ،‬لتبعث بها في الفضاء‪ ،‬ثم تُس ِقطها باحتقار‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫النباتات المتس ِل ّقة على جدران‬
‫مته ِتّك األوصال‪.‬‬
‫غصت‬ ‫َّ‬ ‫عددا من الجرحى‪ ،‬كانت مستشفيات موسكو قد‬ ‫ً‬ ‫ومر ترام ذو عربتين من أمام الشرفة إلى مدخل المستشفى حامل ًا‬ ‫َّ‬
‫متجها‬
‫ً‬ ‫الممرات بالجرحى‪ ،‬ورقد الكثير منهم على األرض‪ ،‬وبدأ الزحام يزحف‬ ‫َّ‬ ‫بالمصابين‪ ،‬خاصة بعد عملية لوتسك‪ ،60‬وامتألت جميع‬
‫إلى عنابر النساء‪.‬‬
‫وابتعد يوري عن النافذة‪ ،‬وهو يتثاءب من التعب واإلرهاق‪ ،‬لم يكن لديه ما يفكر فيه‪ ،‬ولكنه تذكر فجأة حادث ًا وقع منذ أيام في‬
‫تسمم‬
‫ُّ‬ ‫وقرر يوري أن سبب موتها هو‬ ‫َّ‬ ‫مستشفى الصليب المقدس‪ ،‬حيث يعمل‪ .‬كانت امرأة قد ماتت في قسم الجراحة بالمستشفى‪،‬‬
‫موعدا للتشريح‪ .‬وكان يوري‬ ‫ً‬ ‫اليوم‬ ‫د‬ ‫د‬‫ِ‬
‫فتقرر لذلك تشريح جثتها‪ّ ُ ،‬‬
‫وح‬ ‫َّ‬ ‫جميعا لم يوافقوه في الرأي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫في الكبد‪ ،‬ولكن األطباء اآلخرين‬
‫يعرف أن الطبيب المناوب اليوم‪ ،‬رجل س ِك ّير عربيد‪ .‬والله وحده يعلم إلى أي قرار ينتهي!‬
‫مست المكان كله‪ ،‬فانبعثت األضواء‬ ‫وهبط الظالم فجأة حتى تع ّ َذرت رؤية أي شيء خارج الجدران‪ .‬ولكن‪ ،‬كأنما عصا سحرية قد َّ‬
‫من جميع النوافذ في لحظة واحدة‪.‬‬
‫مارا بالردهة الضيِّقة التي تفصل العنبر عن الممر‪ .‬وكان الرجل بدينًا هائل الجسم‪ ،‬من‬ ‫ً‬ ‫وخرج كبير أطباء النساء من عنبر تونيا‪،‬‬
‫يرددون قول هاملت المشهور‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫نوع األطباء الذين كلما سألهم سائل عن شيء‪ ،‬هزوا أكتافهم‪ ،‬وأداروا أعينهم في محاجرها‪ ،‬وكأنما‬
‫“مهما بلغنا من العلم‪ ،‬فهناك أشياء كثيرة أخرى في السماء واألرض يا هوراشيو”‪.‬‬
‫مبتسم ا‪ ،‬ثم أشار إليه بيديه كأنما يقول‪“ :‬لم يعد هناك ما تحتاج إليه غير الصبر”‪ ،‬ومضى في طريقه‬ ‫ً‬ ‫ومر الطبيب بيوري فأومأ له‬ ‫َّ‬
‫إلى آخر الممر‪ ،‬ليشغل لفافة في غرفة االنتظار‪.‬‬
‫وتبعته بعد ذلك مساعدته‪ ،‬وكانت ثرثارة بقدر ما كان هو قليل الكالم‪ ،‬وما إن رأت يوري حتى قالت له‪“ :‬لو أني في مكانك‬
‫غدا في الصليب المقدس‪ ،61‬وليس من المحتمل مطلقًا أن يحدث‬ ‫ً‬ ‫لعدت إلى بيتي على الفور‪ ،‬إذ لماذا تنتظر؟ سأتصل بك تليفونيا‬
‫أي شيء حتى ذلك الوقت‪ ،‬إن جميع الدالئل تدل على أنها ستلد والدة طبيعية‪ ،‬واألرجح أنها لن تحوجنا إلى إجراء أية جراحة لها‪،‬‬
‫هذا على الرغم من أن حوضها ضيق‪ ،‬ورأس الطفل في الموضع الخلفي‪ ،‬وهي لم تبدأ في الشعور باأللم بعد‪ ،‬واالنقباضات خفيفة‪ ،‬ما‬
‫وتتقدم نوبات‬ ‫َّ‬ ‫يسبب شيئًا من القلق‪ .‬ولكن هذا الكالم على كل حال سابق ألوانه‪ ،‬فعلينا أن ننتظر حتى يبدأ إحساسها باأللم‪،‬‬
‫نقرر بدقة ما يجب أن يُعمل”‪.‬‬ ‫المخاض‪ ،‬وعندئذ‪ ،‬نستطيع أن ِ ّ‬
‫عما يريد‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وعندما اتصل يوري تليفونيًا بالمستشفى صباح اليوم التالي‪ ،‬تلقَّى منه حارس الباب سؤاله‪ ،‬ثم أمهله حتى يستفسر له‬
‫وبعد أن تركه عشر دقائق عسيرة‪ ،‬عاد إليه بهذه اإلجابة المقتضبة‪ ،‬المصوغة في كلمات جافة‪“ :‬إنهم يقولون إنك أحضرت زوجتك‬
‫قبل األوان‪ ،‬وإن عليك أن تأتي لتأخذها!”‪.‬‬
‫أخيرا‪ ،‬أجابته بقولها إن أعراض‬ ‫ً‬ ‫ثائرا أن يرسل في طلب شخص مسؤول ليتفاهم معه‪ ،‬وعندما جاءت الممرضة‬ ‫ً‬ ‫وطلب منه يوري‬
‫يوما أو يومين‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الحال‬ ‫هذه‬ ‫تستمر‬ ‫فقد‬ ‫لشيء‪،‬‬ ‫يقلق‬ ‫أال‬ ‫عليه‬ ‫وأن‬ ‫‪.‬‬ ‫كاذبة‬ ‫ا‬ ‫أعراض‬
‫ً‬ ‫كانت‬ ‫زوجته‬ ‫على‬ ‫ظهرت‬ ‫التي‬ ‫الوالدة‬
‫وفي اليوم الثالث‪ ،‬قيل له إن نوبات المخاض قد بدأت ليل ًا‪ ،‬وأن كيس المياه قد انفجر عند الفجر‪ ،‬وأن آالم الوضع تتابع على‬
‫فترات متقاربة منذ الصباح‪.‬‬
‫مفتوحا عن طريق السهو‪ ،‬تناهت إليه‬ ‫ً‬ ‫رأس ا إلى المستشفى‪ ،‬وبينما كان يقطع المسافة إلى باب الغرفة الذي كان قد تُرك‬ ‫ً‬ ‫واندفع‬
‫صرخات تونيا تم ِ ّز ق قلبه‪ ،‬كانت تصرخ‪ ،‬وكأنها ضحية حادث‪ .‬كأنما كان يسحبها قطار م ّزَق أطرافها تحت عجالته!‬
‫يعض أصابعه حتى أدماها‪ ،‬ثم مضى إلى النافذة‪ ،‬وكان المطر ال يزال يهطل كما حدث خالل اليومين‬ ‫ُّ‬ ‫سمح له برؤيتها‪ ،‬فأخذ‬ ‫ولم ي ُ َ‬
‫السابقين‪.‬‬
‫جت!”‪ .‬وقالت‬ ‫جت! لقد ن َ َ‬ ‫فرحا‪“ :‬لقد ن َ َ‬ ‫ً‬ ‫لتوه‪ ،‬فهمس لنفسه‬ ‫وخرجت خادمة العنبر‪ ،‬فسمع يوري مع خروجها ث ُغاء طفل مولود ِ ّ‬
‫الخادمة بصوت من َّغم‪“ :‬إنه ولد‪ ..‬ولد صغير‪ ..‬أهنئك بسالمتها”‪ ،‬ثم أضافت‪“ :‬إنك لن تستطيع رؤيتها اآلن‪ ..‬سيُسمح لك‬
‫مرت بلحظات عصيبة‪ ،‬فهذه والدتها األولى‪ ،‬والوالدة‬ ‫بالدخول عندما ينتهي كل شيء‪ ..‬وعليك حينئذ أن تداعبها وتنسيها آالمها‪ ..‬قد ّ َ‬
‫األولى شا ّقَة في أغلب األحيان”‪.‬‬
‫توجه إليه‬
‫َّ‬ ‫ملق بال ًا لكالم الخادمة التي كانت‬ ‫ٍ‬ ‫جت!”‪ ،‬غير‬ ‫جت! لقد ن َ َ‬ ‫فرحا هذه العبارة‪“ :‬لقد ن َ َ‬ ‫ً‬ ‫يردد في نفسه‬ ‫ِّ‬ ‫ولكنه كان‬
‫التهنئة‪ ،‬وكأنما كان له أي فضل في ما حدث‪ .‬إذ ماذا صنع هو في الحقيقة‪ ،‬ليصبح أبًا لطفل؟ إنه لم يصنع شيئًا يستطيع أن يفخر‬
‫األبو ة التي هبطت عليه من السماء‪ ،‬أما العظمة الحقيقة‪ ،‬فهي عظمة تونيا‪ ،‬تونيا التي خاضت الخطر المحقَّق‪ ،‬والتي‬ ‫َّ‬ ‫به لكسب هذه‬
‫نجت اآلن منه!‬
‫وكان أحد مرضاه يسكن على مقربة من المستشفى‪ ،‬فذهب لعيادته‪ ،‬ثم عاد إلى المستشفى بعد نصف ساعة‪ .‬ومرة أخرى كان‬
‫وجها لوجه أمام كبير األطباء الذي ظهر‬ ‫ً‬ ‫باب العنبر والغرفة ال يزاالن شبه مفتوحين‪ ،‬وبغير تفكير اندفع يوري إلى العنبر‪ ،‬وإذا به‬
‫فجأة كأنما انش ّق َت األرض عنه‪ ،‬ليسد عليه الطريق بجسده الكبير‪ ،‬وثيابه البيضاء‪.‬‬
‫همس ا حتى ال يزعج المرضى‪“ :‬ماذا جئت تصنع هنا‪ ،‬هل فقدت عقلك يا رجل؟ الجراح والدماء وأخطار‬ ‫ً‬ ‫وخاطبه كبير األطباء‬
‫تسمى نفسك طبيبًا”‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫أيضا‪ ،‬يا له من سلوك حميد‪ ،‬ومنك أنت‪ ،‬أنت الذي‬ ‫ً‬ ‫التسمم‪ ،‬ناهيك عن الصدمات النفسية‬
‫‪“ -‬لم أكن أقصد‪ ،‬فقط اسمح لي بأن ألقي نظرة‪ ،‬نظر ًة واحد ًة من هنا فقط‪ ،‬من خالل هذا المصراع”‪.‬‬
‫تدعني أضبِطك‪ ،‬وإيَّاك أن تجعلها تراك‪ ،‬فلو حدث أن رأتك‪ ،‬سأدق أنا‬ ‫ْ‬ ‫صبرا‪ ،‬ولكن ال‬ ‫ً‬ ‫‪“ -‬حسنًا‪ ،‬ال بأس إذا كنت ال تستطيع‬
‫عنقك‪ ،‬سأقتلك‪ ،‬أتفهم؟”‪.‬‬
‫كانت بداخل الغرفة امرأتان وقفتا في ثياب بيضاء‪ ،‬وقد أعطتا ظهريهما للباب‪ ،‬كانت إحداهما هي المو ِل ّدة‪ ،‬واألخرى هي الممرضة‪.‬‬
‫يتلوى ويمد أطرافه ويقبضها‪ ،‬وكأنه قطعة من المطاط داكنة االحمرار‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫وعلى راحة يد الممرضة‪ ،‬رقد مخلوق آدمي حديث الوالدة‪،‬‬
‫المتحرك في وسط‬ ‫ِّ‬ ‫السرة الدموية قبل أن تقطع حبلها‪ ،‬وكانت تونيا راقدة على فراش العمليات ذي الظهر‬ ‫ُّ‬ ‫وكانت المولِ ّدة تربط أوعية‬
‫يجسم كل شيء ويبالغ فيه‪ ،‬قد ُخيِّل إليه أنها‬ ‫ِّ‬ ‫الغرفة‪ ،‬وقد بدا الفراش أعلى من المستوى الطبيعي‪ ،‬بل إن يوري الذي لفرط انفعاله‬
‫أع ّ َدت ليكتب الناس عليها وهم وقوف!‬ ‫ترقد على فراش يماثل ارتفاعه ارتفاع المكاتب التي ِ‬
‫حب من آالمها المنقضية‪ ،‬والحت لعيني يوري كأنما هي‬ ‫وكانت الزوجة تستلقي في إعياء على هذا الفراش المرتفع‪ ،‬وقد غلَّفتها ُس ُ‬
‫سفينة راسية في وسط الميناء‪ ،‬بعد أن ألقت حمولتها‪ ،‬سفينة تخبَّطت في بحار الظلمة بين شواطئ العالم المجهول‪ ،‬وبرور األمان‪،‬‬
‫أرواح ا ترتحل فيها ألول مرة‪ .‬وها هي ذي إحدى هذه األرواح‪ ،‬قد هبطت إلى الشاطئ‪ ،‬وألقت السفينة مراسيها‪ ،‬وطوت‬ ‫ً‬ ‫حاملة‬
‫تماما من كل ما مر بها من صور‪.‬‬ ‫ً‬ ‫شراعها لتستريح‪ .‬كل ما فيها يستريح‪ :‬شراعها المنصوب‪ ،‬وهيكلها‪ ،‬وحتى ذاكرتها‪ ،‬قد خلت‬
‫المظلم‪ ،‬وبر األمان!‬ ‫من صور الشاطئ المجهول‪ ،‬والمعبر ُ‬
‫علم ترفع‪ ،‬فكذلك لم يكن أحد يعرف بأية لغة يخاطبها‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫أحدا لم يكن يعرف من أي بلد جاءت‪ ،‬وأي‬ ‫ً‬ ‫وكما أن‬
‫وعندما عاد يوري إلى المستشفى الذي يعمل به‪ ،‬أدهشه وصول النبأ إليه بهذه السرعة‪ ،‬فقد جاءه الجميع مه ِن ّئين‪.‬‬
‫واتجه يوري من فوره إلى غرفة األطباء‪ ،‬وكانوا يطلقون عليها اسم مستودع القمامة‪ ،‬فعندما ضاق المستشفى بمن فيه من مرضى‪،‬‬
‫أيض ا إلى غرفة للمعاطف‪ ،‬وأصبح الناس يفدون من الخارج إليها بأحذيتهم التي يغمرها الجليد‪ ،‬فيتركون فيها ما‬ ‫ً‬ ‫تحولت هذه الغرفة‬ ‫َّ‬
‫هملة وأعقاب السجائر‪.‬‬ ‫الم َ‬
‫يحملون‪ ،‬ويلقون على أرضها أوراقهم ُ‬
‫كان الطبيب المقيم‪ ،‬واقفًا أمام النافذة‪ ،‬وفي يده وعاء به سائل معقَّم‪ ،‬يفحصه أمام الضوء خلف نظارته‪.‬‬
‫وبادر الطبيب يوري‪ ،‬من غير أن يلتفت إليه‪ ،‬بقوله‪:‬‬
‫‪“ -‬تهانينا!”‪.‬‬
‫شكرا لك”‪.‬‬ ‫‪ً “ -‬‬
‫جميعا‪ ..‬فقد ثبت أن سبب الوفاة‬ ‫ً‬ ‫“ ‪ ..‬ال تشكرني‪ ،‬فأنا لم أصنع شيئًا‪ ..‬لقد قام بيزوشكين بالتشريح‪ ..‬وكم كان تأثرنا‬ ‫‪ -‬ال‬
‫تسمم الكبد‪ ..‬تشخيصك ذاته‪ ..‬نعم‪ ..‬إن هذا حديث الجميع”‪.‬‬ ‫ّ‬
‫أي لعنة حلَّت بهذا المكان‪ ،‬ما هذه الفوضى والقذارة؟”‪ .‬والتفت‬ ‫وفي اللحظة نفسها دخل كبير األطباء عليهما‪ ،‬فحيَّاهما ثم قال‪ُّ “ :‬‬
‫جميعا – ما عداك‪ -‬كنا‬ ‫ً‬ ‫تصور أننا‬
‫َّ‬ ‫إلى يوري قائل ًا‪“ :‬على فكرة يا جيفاجو‪ ،‬لقد ثبت أن الوفاة نتجت عن تسمم في الكبد‪،‬‬
‫ولست‬
‫ُ‬ ‫فعتك‪،‬‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫ملفات‬ ‫أخرى‬ ‫مرة‬ ‫طلبوا‬ ‫مخطئين‪ ،‬إ ِن ّي أه ِن ّئك‪ ،‬وهناك شيء آخر‪ ،‬شيء مزعج‪ ،‬ولكني لم أستطع دفعه هذه المرة‪ .‬لقد‬
‫نقصا مخيفًا في األطباء‪ ،‬ولسوف تستنشق رائحة البارود قبل مرور وقت طويل!”‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أستطيع المعارضة في هذه المرة‪ ،‬إن هناك‬
‫‪- ٦ -‬‬

‫ومضت أربعة أعوام منذ استقرت عائلة أنتيبوف في يورياتين‪ ،‬وقد ساعدهم في تذليل متاعب إنشاء بيتهم الجديد‪ ،‬ما حفظه أهل‬
‫المنطقة من ذكريات طيِّبة آلل جيشار‪.‬‬
‫وأصبحت الرا كثيرة المشاغل اآلن‪ ،‬كان عليها أن تعتني ببيتها‪ ،‬وبابنتها كاتيت التي أصبحت اآلن في الثالثة من عمرها‪ ،‬وعلى‬
‫همتها‪ ،‬فإنها لم تكن تكفي وحدها للقيام بجميع مطالب البيت‪،‬‬ ‫الرغم من أن الخادمة ذات الشعر األحمر مارفوتكا كانت تعمل بكل ّ َ‬
‫ولذلك فقد كانت الرا تساعدها‪ ،‬وباإلضافة إلى هذا كله‪ ،‬فقد شاركت الرا زوجها في جميع مسؤولياته‪ ،‬فالتحقت بوظيفة ُمع ِل ّمة في‬
‫تماما‪.‬‬
‫ً‬ ‫مدرسة البنات العليا‪ ،‬كانت تعمل بغير انقطاع‪ .‬وكانت سعيدة‪ .‬فهذه هي الحياة التي كانت تحلم بها‬
‫دائما‪،‬‬
‫ً‬ ‫وكانت تحب يورياتين‪ ،‬فهي مسقط رأسها‪ ،‬وتقع على أحد الخطوط الحديدية باألورال‪ ،‬وعلى ضفّ َة نهر ريننا الصالح للمالحة‬
‫فيما عدا جزء من منابعه العليا‪.‬‬
‫وكانت من بوادر اقتراب الشتاء في يورياتين‪ ،‬أن يسحب األهالي قواربهم من النهر‪ ،‬ثم يضعوها على عربات تحملها إلى داخل‬
‫المدينة‪ ،‬حيث تلقى على جوانبها في أفنية المنازل‪ ،‬حتى يحل الربيع‪ .‬وكان منظر هذه القوارب‪ ،‬المقلوبة على جوانبها في أفنية‬
‫البيوت‪ ،‬يعني في يورياتين نفس ما تعنيه هجرة طيور اللقْلق‪ ،‬أو تساقط الثلوج في مناطق أخرى‪.‬‬
‫ولقد كان هناك قارب في فناء البيت الذي استأجرته عائلة أنتيبوف‪ ،‬وكانت كاتيا تلعب بشراعه األبيض‪ ،‬وكأنها في كوخ من أكواخ‬
‫المصيف‪ ،‬وافتتنت الرا بعادات يورياتين وتقاليد أهلها‪ ،‬بلكنتهم الشمالية الممدودة‪ ،‬بأذكيائهم البسطاء‪ ،‬وأرديتهم الرمادية القصيرة األكمام‪.‬‬
‫كان كل شيء يجذبها إلى يورياتين‪ :‬أرضها وبساطة أهلها‪ .‬أما باشا‪ ،‬ابن عامل سكة الحديد في موسكو‪ ،‬الذي طبعته العاصمة‬
‫كثيرا في حكمه عليهم‪ .‬كان يضيق بهم‪ ،‬وال يرى فيهم غير‬ ‫ً‬ ‫بطابعها‪ ،‬فكان على النقيض من زوجته‪ ،‬ال يحب أهل يورياتين‪ ،‬ويقسو‬
‫جماعة من الجهالء الغالظ!‬
‫وكانت له قُدرة خارقة على القراءة السريعة‪ ،‬واستيعاب كل ما يقرأ‪ .‬وقد تجلَّت اآلن قدرته هذه‪ .‬كان قد قرأ الكثير في الماضي‪،‬‬
‫وكان يدين ببعض قراءاته لالرا‪ ،‬ثم جاء هذا المنفى الريفي فدفعه إلى اإلسراف في القراءة‪ ،‬إلى حد لم تعد معه الرا تبدو أمامه‬
‫شاسعا بينه وبينهم‪ ،‬حتى لقد أصبح يضيق بهم‪ ،‬ويشعر باالختناق وهو معهم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مثقَّفة‪ ،‬أما في محيط زمالئه المعلِ ّمين‪ ،‬فقد بدا البون‬
‫فاآلن‪ ،‬والحرب مشتعلة‪ ،‬أصبح التجاوب مستحيل ًا بين مستوى أفكارهم الوطنية المحدودة‪ ،‬وبين مشاعره الشديدة التعقيد حيال بالده‪.‬‬
‫ومع أن باشا كان حاصل ًا على درجته الجامعية في الدراسات القديمة‪ ،‬وكان يع ِل ّم اآلن اللغة الالتينية والتاريخ القديم‪ ،‬فإنه كان‬
‫يحتفظ‪ ،‬منذ أيام الدراسة‪ ،‬بكثير من الميل إلى الدراسات العلمية‪ ،‬كالعلوم الطبيعية والرياضيات‪ ،‬وقد عاوده ميله القديم‪ ،‬فبدأ في‬
‫البيت دراسات خاصة في هذه العلوم‪ ،‬واالنتقال إلى فروع العمل العلمي‪ ،‬واالرتحال بأسرته إلى بطرسبورج‪ ،‬وكان االستذكار المتواصل‬
‫المتأخرة من الليل‪ ،‬قد أثَّر على صحته‪ ،‬وأورثه القلق‪ .‬وكانت عالقته بزوجته على ما يرام‪ ،‬ولكنها لم تكن صافية‬ ‫ِّ‬ ‫إلى الساعات‬
‫ؤول كلمة بريئة من كلماته‬ ‫كثير ا عطفها الزائد واهتمامها الشديد به‪ ،‬ولكنه لم يكن يبدي لها ذلك‪ ،‬خوفًا من أن تُ ّ‬ ‫ً‬ ‫تماما‪ ،‬وقد ضايقه‬
‫ً‬
‫تمت في يوم من األيام‪ ،‬لغيره!‬ ‫عنصرا‪ ،‬أو إلى أنها كانت ُّ‬‫ً‬ ‫بأنها كلمة لوم أو تأنيب‪ ،‬أو إشارة – مثل ًا ‪ -‬إلى أنها أرقى منه‬
‫كل منهما وبين إطالق العنان‬ ‫ِّ‬ ‫دائم ا أن تساورها الشكوك في أنه ينظر إليها نظرة غير عادلة‪ ،‬وهذا ما حال بين‬ ‫ً‬ ‫كان يخشى‬
‫كرما من صاحبه‪ ،‬وهذا ما ع ّقَد حياتيهما شيئًا ما‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أشد‬ ‫يكون‬ ‫أن‬ ‫ا‬ ‫دائم‬
‫ً‬ ‫يحاول‬ ‫منهما‬ ‫كل‬ ‫كان‬ ‫ته‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫لسجي‬
‫المدرسين‪ ،‬وأحد أعضاء المحكمة العرفية التي كان باشا‬ ‫ِّ‬ ‫وكان لديهما ضيوف في هذه الليلة‪ :‬ناظر مدرسة الرا‪ ،‬وبعض زمالء باشا‬
‫جميعا في نظر باشا‪ ،‬جماعة من األغنياء والحمقى‪ ،‬لذلك أدهشه‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬عدد قليل آخر من الناس‪ ،‬وكان هؤالء‬ ‫ً‬ ‫أخيرا‬
‫ً‬ ‫انضم إليها‬
‫ّ‬ ‫قد‬
‫واحدا بينهم يمكن أن تحبَّه الرا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فردا‬
‫ً‬ ‫يتصور أن هناك‬
‫َّ‬ ‫جميعا‪ ،‬فلم يكن يستطيع أن‬ ‫ً‬ ‫أن تستطيع الرا مالطفتهم‬
‫غ رف المنزل‪ ،‬وغسل األطباق مع مارفوتكا في المطبخ‪ ،‬وبعد ما استيقنت‬ ‫وقضت الرا وقتًا طويل ًا بعد انصرافهم في إعادة ترتيب ُ‬
‫من إحكام الغطاء على كاتيا‪ ،‬ومن أن باشا قد نام خلعت مالبسها مسرعة‪ ،‬وأطفأت النور‪ ،‬وتسلَّلت بر ّقَة إلى جواره في الفراش‪ ،‬كما‬
‫لو كانت طفل ًا يأوي إلى فراش أمه!‬
‫يدعي النوم فحسب‪ ،‬فما أكثر ما كان األرق يصيبه في هذه األيام‪ ،‬ولعلمه بأنه لن يستطيع‬ ‫نائما‪ ،‬وإنما كان ّ َ‬
‫ً‬ ‫على أن باشا لم يكن‬
‫خارجا‪.‬‬
‫ً‬ ‫النوم لساعات طويلة‪ ،‬نهض من فراشه بهدوء‪ ،‬وارتدى فوق ثياب نومه معطفه المصنوع من الفرو‪ ،‬وقبَّعته‪ ،‬ثم مضى‬
‫كان الليل صافي ًا شديد البرودة‪ ،‬وشرائح الثلج تنسحق كالدقيق تحت قدميه‪ ،‬وكانت السماء بنجومها الوضيئة ترسل على األرض‬
‫المتجم د‪ ،‬أشعة زرقاء باهتة تخفق كما يخفق اللهب المتصاعد من الكحول المشتعل‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫السوداء‪ ،‬بما يعلوها من كتل الطمي‬
‫كانت عائلة أنتيبوف تعيش في طرف البلدة المقابل للميناء‪ ،‬وكان المنزل يقع في نهاية الطريق‪ ،‬حيث يمتد أمامه حقل‪ ،‬تقطعه‬
‫قضبان سكة الحديد‪ ،‬ويرتفع عليها من أمامه مزلقان للمرور‪ ،‬وكوخ لإلشارات‪.‬‬
‫جلس باشا على القارب المقلوب‪ ،‬ورفع عينيه يرقُب النجوم‪ .‬وسيطرت عليه بشدة أفكاره التي اعتادت أن تنتابه خالل األعوام‬
‫حد لما بينهما‪ ،‬وأن هذا يمكن أن يحدث اآلن‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫الماضية‪ ،‬وبدا له أنهما إن عاجل ًا أو أجل ًا‪ ،‬سيفكران في وضع‬
‫بعد طفل؟‬
‫ُ‬ ‫وهو‬ ‫بها‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫يتع‬ ‫تركته‬ ‫لماذا‬ ‫طويل‪،‬‬ ‫بوقت‬ ‫إن هذه الحال ال يمكن أن تدوم‪ ،‬ولقد كان عليه أن يدرك ذلك قبل الزواج‬
‫وحتى في تلك األيام‪ ،‬كانت تستطيع أن تجعله يصنع ما تشاء‪ ،‬لماذا لم يستمع إلى صوت العقل فيقطع عالقته بها في الوقت‬
‫واضحا‪ ،‬أنه لم يكن الشخص الذي أحبَّته هي‪ ،‬وإنما كانت تؤدي واجبًا‬ ‫ً‬ ‫تصر على ذلك؟ ألم يكن‬ ‫ّ‬ ‫المناسب‪ ،‬عندما كانت هي نفسها‬
‫فرض ا‪ ،‬وقامت بأدائه بكل ما تستطيع من كرم؟ إن ما كانت تحبه‪ ،‬هو صورة بطولتها‪ ،‬ولكن ما شأن شيء كهذا‬ ‫ً‬ ‫فرضته على نفسها‬
‫دائما‪ .‬فقد‬
‫ً‬ ‫بل جدير بالتقدير‪ .‬وأسوأ ما في األمر‪ ،‬أنه ظل يحبها كما أحبها‬ ‫بالحياة الزوجية الحقّ َة؟ مهما كان ينطوي عليه من ن ُ ٍ‬
‫نوعا من العرفان‬ ‫ً‬ ‫كانت فيَّاضة الل ُّطف‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فهل هو على يقين من أن ما يشعر به نحوها هو الحب؟ أال يمكن أن يكون‬
‫المض ِل ّل‪ ،‬لما أحاطته به من كرم ولطف؟ من يستطع أن يجزم؟‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ومع هذا‪ ،‬ماذا عليه أن يصنع؟ أيحل زوجته وابنته من قيد هذه الحياة الزائفة؟ إن هذا في حد ذاته ال يقل أهمية‪ -‬بل يزيد‪-‬‬
‫أيغرق نفسه؟‬ ‫ِ‬ ‫عن تحرير نفسه‪ ،‬ولكن‪ ،‬كيف السبيل؟ أيط ِل ّقها؟‬
‫ولكنه ثار على هذه الخواطر ضائقًا‪ ،‬وقال‪“ :‬يا للحقارة‪ ..‬كأنما من المستطاع أن يأتي مثلي عمل ًا كهذا‪ ،‬وإذن فلماذا أسمح لعقلي‬
‫مسرحا لهذه الخواطر السوداء؟”‪.‬‬ ‫ً‬ ‫بأن يكون‬
‫والمتجمعة‪ .‬بعضها أزرق‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ونظر إلى النجوم‪ ،‬كأنما يطلب النصح منها‪ ،‬كانت النجوم تخفق في السماء‪ ،‬الصغيرة والكبيرة‪ ،‬الوحيدة‪،‬‬
‫قوي خاطف على البيت‪ ،‬والفناء‪ ،‬وعلى القارب الذي جلس عليه‬ ‫ٌ‬ ‫جميعا‪ ،‬وسطع ضوءٌ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬
‫متعدد األلوان‪ ،‬وفجأة اختفت النجوم‬ ‫وبعضها‬
‫ِّ‬
‫متوهجة؟‬ ‫شخصا قد اندفع يجري من الحقل إلى المنزل‪ ،‬حامل ًا في يده ُشعلة‬ ‫ً‬ ‫وكان‬ ‫باشا‪،‬‬
‫حربي‪ ،‬ينفث سحبًا من دخان أصفر‪ ،‬كاللهب والدخان اللذين تطلقهما القذائف النارية في السماء‪ ،‬واختفى‬ ‫ّ‬ ‫ومرق فوق المزلقان قطار‬
‫متجها إلى الغرب‪ ،‬شأن القطارات التي ال تُحصى‪ ،‬التي ظلَّت تمر من الطريق نفسه‪ ،‬طوال العام‪.‬‬ ‫ً‬ ‫القطار‬
‫عائدا إلى فراشه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وابتسم باشا‪ ،‬ونهض‬
‫لقد وجد الجواب‪.‬‬
‫‪-٧ -‬‬

‫تصد ق أذنيها أول األمر‪ ،‬قالت لنفسها‪“ :‬هذا جنون‪ ،‬إنه يهذي‪ .‬لن ألقي بال ًا إلى ما‬ ‫ِّ‬ ‫ذُهلت الرا عندما سمعت قرار زوجها‪ ،‬ولم‬
‫يقول‪ ،‬ولسوف ينسى!”‪.‬‬
‫يعد نفسه طيلة األسبوعين الماضيين‪ ،‬فقد أرسل أوراقه إلى مكتب التجنيد‪ ،‬وعيَّنت المدرسة التي يعمل بها من‬ ‫ُّ‬ ‫ثم اتضح أنه كان‬
‫يحل محله‪ ،‬وقد تلقّ َى هو األمر بالذهاب إلى مدرسة التدريب العسكري في أومسك‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫وتمرغت تحت قدميه‪ ،‬وراحت تصرخ‪“ :‬باشا‪ ..‬باشا‪ .‬أيها الحبيب‪ ،‬ال تتركنا ‪ ..‬ال‬ ‫َّ‬ ‫وول ْولت الرا كنساء القرى‪ ،‬وتشبَّثت بيد باشا‪،‬‬
‫بعد طبيًّا كما يجب‪ ..‬وإن قلبك‪ ..‬ماذا‪ ..‬هل يخجلك أن‬ ‫ُ‬ ‫فحص‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫لم‬ ‫إنك‬ ‫‪..‬‬ ‫شيء‬ ‫كل‬ ‫تتركنا‪ ..‬لم يفت الوقت بعد‪ ،‬سأتدبَّر أنا‬
‫عا‪ ،‬لقد كنت طول حياتك تسخر من روديا‪،‬‬ ‫متطو‬
‫ّ ً‬ ‫ِ‬ ‫تصبح‬ ‫‪..‬‬ ‫أنت‬ ‫جنوني؟‬ ‫خاطر‬ ‫أجل‬ ‫من‬ ‫أسرتك‬ ‫تغيِّر رأيك؟ وأال يخجلك أن تترك‬
‫أيضا؟ ال‪ ..‬لست أنت من نعرفه‪ ..‬ما الذي‬ ‫ً‬ ‫فهل أصبحت تغار منه؟ تريد أن تخطر في ثياب الضابط‪ ،‬وأن تصلصل بسيفك أنت‬
‫تنميق في الكالم‪ ،‬أهذا حقًا هو ما تحتاج إليه‬ ‫ٍ‬ ‫غيَّرك هكذا؟ قل لي بصراحة‪ ..‬قل لي من أجل المسيح‪ ..‬قل لي‪ ،‬بغير‬
‫روسيا؟”‪.‬‬
‫أدركت فجأة أن هذا لم يكن السبب مطلقًا‪ ،‬وعلى الرغم من أنها لم تدرك كل شيء‪ ،‬فقد استطاعت أن تلمح جوهر األمر‪ ،‬لقد‬
‫عنصرا من عناصر عاطفتها نحوه‪ ،‬ولم‬ ‫ً‬ ‫تكون‬
‫ِّ‬ ‫فهم موقفها منه‪ ،‬لقد ثار على مشاعر األمومة التي كانت – طول حياتها‪-‬‬ ‫أخطأ باشا ْ‬
‫طبيعي تشعر به امرأة‬
‫ٍّ‬ ‫حب‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫أي‬ ‫عن‬ ‫‪-‬‬ ‫حال‬ ‫أي‬ ‫على‬ ‫–‬ ‫يقل‬
‫ّ‬ ‫يكن‬ ‫لم‬ ‫وأنه‬ ‫‪.‬‬ ‫ا‬ ‫كثير‬
‫ً‬ ‫ذلك‬ ‫من‬ ‫أكثر‬ ‫كان‬ ‫له‬ ‫حبها‬ ‫أن‬ ‫يدرك‬ ‫ِ‬
‫يستطع أن‬
‫نحو رجل!‬
‫بصمت تحزم له أشياءه‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وعض ت على شفتها‪ ،‬وأجفلت كمن أصابته ضربة‪ .‬ثم ابتلعت دموعها‪ ،‬وراحت‬ ‫َّ‬
‫قل عددها‪ ،‬وعبثًا حاولت‬ ‫ّ‬ ‫وأحست بعد رحيله كأن المدينة كلها قد خيَّم عليها الصمت‪ .‬حتى الغربان التي كانت تطير في الجو‪،‬‬ ‫َّ‬
‫كمها صائحة‪:‬‬ ‫تردها إلى نفسها‪ ،‬منادية إياها‪“ :‬سيدتي‪ ..‬سيدتي‪ .”..‬وعبث ًا راحت طفلتها تجذبها من ِ ّ‬ ‫َّ‬ ‫مارفوتكا ‪ -‬الطاهية‪ -‬أن‬
‫تحطمت أجمل آمالها وأبهرها!‬ ‫َّ‬ ‫أحست أنها تل ّقَت أكبر هزيمة في حياتها‪ ،‬لقد‬ ‫َّ‬ ‫“ماما‪ ..‬ماما‪ .”..‬فلقد‬
‫* * *‬
‫وضوحا‪ ،‬بدأ يفتقد زوجته‬ ‫ً‬ ‫وكانت الخطابات التي أرسلها إليها باشا من سيبيريا تكشف لها عن كل أحواله‪ ،‬لقد بدأ يرى األمور أكثر‬
‫أيضا‪ ،‬أُرسل إلى الميدان‪ ،‬ولم‬ ‫ً‬ ‫كحامل للعلم في مهمة طارئة‪ .‬ومرة أخرى‪ ،‬وفجأة‬ ‫ِ‬ ‫وابنته‪ ،‬ولكن االختيار وقع عليه بعد بضعة أشهر‬
‫تقده رحلته إلى أي مكان قرب يورياتين‪ .‬وعندما هبط موسكو‪ ،‬لم يكن لديه وقت ليرى أي إنسان‪.‬‬
‫تفو ٍق ما‪ ،‬حتى يكافَأ عليه بإجازة قصيرة يرى فيها‬ ‫ُّ‬ ‫وبدت رسائله التي أرسلها من الميدان أقل حزنًا‪ ،‬لقد كان يسعى إلى إحراز‬
‫أسرته‪ ،‬بل تمن َّى أن ي ُصاب بجرح خفيف يتيح له الفرصة نفسها‪ .‬وما أسرع ما واتته الفرصة‪ ،‬كانت قوات بروشيليوف قد تسلَّلت‬
‫وبدأت الهجوم‪ ،‬وتبع ذلك تو ّقَف وصول أي رسالة من باشا‪ ،‬ولم تنزعج الرا أول األمر‪ ،‬فقد أرجعت عدم كتابته إلى انشغاله‬
‫تحركات كتيبته‪ ،‬ولكن الخريف أقبل‪ ،‬وتباطأ تقدم القوات التي‬ ‫ُّ‬ ‫بالعمليات الحربية‪ ،‬فليس من المستطاع أن يكتب الجندي أثناء‬
‫تتحرى عنه في كل مكان‪ ،‬سألت‬ ‫َّ‬ ‫أخذت تحفر الخنادق لنفسها‪ ،‬ورغم ذلك لم تصلها منه كلمة واحدة‪ ،‬عندئذ ساورها القلق‪ ،‬وبدأت‬
‫عنه أول ًا السلطات المحلية في يورياتين‪ ،‬ثم أرسلت تسأل عنه بالبريد في موسكو‪ .‬ثم كتبت إليه على جميع عناوينه السابقة في‬
‫رد مفيد ‪ .‬ال أحد يعرف عنه شيئًا على اإلطالق!‬ ‫أي ٍ ّ‬ ‫الخدمة‪ ،‬ولم يصلها ُّ‬
‫أتمت تدريبها‪ ،‬ونالت إجازة‬ ‫َّ‬ ‫وبدأت الرا‪ ،‬ومعها بعض السيدات‪ ،‬يعملن متطوعات في عنبر الجرحى في مستشفى المدينة‪ ،‬وإذ‬
‫التمريض‪ ،‬استأذنت المدرسة التي تعمل بها في التغيُّب عنها لمدة ستة شهور‪ ،‬وتركت بيتها في رعاية مارفوتكا ثم أخذت كاتيا إلى‬
‫موسكو‪ ،‬حيث تركتها عند ليبا‪ ،‬وكانت ليبا تعيش اآلن وحدها‪ ،‬ألن زوجها األلماني الجنسية فرايسندتنك كان قد ُز ّج به في معسكرات‬
‫االعتقال‪ ،‬كأحد الرعايا المدنيين لألعداء‪.‬‬
‫قر رت أن تذهب بنفسها للبحث عن باشا‪ ،‬بعد أن ثبت لها بوضوح عقم كل محاولة أخرى لمعرفة أنبائه‪ ،‬ولذا فقد‬ ‫وكانت الرا قد ّ َ‬
‫متجها إلى الحدود المجرية‪ ،‬عبر مدينة ليسكي‪ ،‬آخر‬
‫ً‬ ‫كان‬ ‫ل‪،‬‬ ‫ق‬
‫ّ‬ ‫متن‬ ‫كمستشفى‬ ‫يستعمل‬ ‫طبي‬ ‫قطار‬
‫ٍ‬ ‫في‬ ‫ضة‬ ‫كممر‬
‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫عمل‬ ‫حصلت على‬
‫مكان كتب إليها باشا منه!‬
‫‪– ٨ -‬‬

‫محمل ًا بمعدات جمعتها جمعية تايانا‪ 62‬لمساعدة المصابين‪ ،‬وكان القطار القديم‬ ‫َّ‬ ‫وصل قطار الصليب األحمر في مقر قيادة الفرقة‬
‫يسحب رتل ًا طويل ًا من عربات البضاعة القصيرة القبيحة المنظر‪ ،‬وفي ديوان الدرجة األولى‪ ،‬الوحيد في هذا القطار‪ ،‬جلست نخبة من‬
‫أهل موسكو‪ ،‬تحمل الهدايا إلى القوات‪ ،‬وكان جوردون يجلس بين أفراد هذه الجماعة‪ ،‬لقد عرف أن صديق طفولته جيفاجو يعمل في‬
‫مستشفى الفرقة‪ ،‬وإذ فهم أن المستشفى يقع في قرية قريبة‪ ،‬فقد حصل على إذن بالسفر إلى المنطقة‪ ،‬التي تقع خلف خطوط القتال‬
‫مباشرة‪ ،‬وركب عربة كانت ذاهبة إلى هناك‪.‬‬
‫محرفة‪ ،‬وكان حديثه ال يتجاوز بضع عبارات‬ ‫َّ‬ ‫يتحدثون بلهجة روسية‬
‫َّ‬ ‫كان سائق العربة من أهالي “ييالروسيا” ‪ -‬أو توانيا‪ -‬الذين‬
‫حمى التجسس التي انتشرت بشكل جنوني‪ ،‬ولهذا فقد قطع جوردون أكثر الطريق‬ ‫َّ‬ ‫رسمية تافهة كان أمثاله يلتزمونها خوفًا من‬
‫بصمت‪.‬‬
‫وكان القوم في مقر القيادة – حيث تتابع تحركات الجنود‪ ،‬وحيث تُقاس المسافات بوحدات أقلَّها مائة ميل‪ -‬قد أخبروه أن القرية‬
‫على مقربة منهم‪ ،‬وق ّ ََدر هو أن تكون على مسافة خمسة عشر ميل ًا مثل ًا‪ .‬ولكنها كانت في الحقيقة تبعد أكثر من خمسين ميل ًا‪.‬‬
‫تجمعات غاضبة معادية‪ ،‬عند األفق إلى يسارهما‪ .‬ولم يكن قد سبق‬ ‫ّ‬ ‫وظلَّت تتناهى إلى أسماعهما على طول الطريق دمدمة‬
‫لجوردون أن عاش في بقاع بركانية‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فقد ُخيِّل إليه أن ما يطرق سمعه من األصوات الكئيبة البعيدة‪ ،‬التي تصل إليه من‬
‫وردي عند حافة األفق في ذلك الجانب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫شبها بانفجارات البراكين وهزاتها‪ ،‬وقبيل المساء‪ ،‬لمع وهج‬ ‫ً‬ ‫مدفعية األعداء‪ ،‬هو أقرب األشياء‬
‫وظل يخفق عاليًا حتى الفجر‪.‬‬
‫ومر ت بهما كثير من القرى التي أصابها الخراب والتدمير‪ .‬كان الناس قد هجروا بعضها‪ ،‬وكانوا في بعضها اآلخر يعيشون في‬ ‫َّ‬
‫تحدد أماكن الدور القديمة‪ ،‬وكنت تستطيع أن تلمح في نظر ٍة‬ ‫ِّ‬ ‫مخابئ عميقة تحت األرض‪ ،‬وكانت األنقاض تبدو لهما في صفوف‬
‫فار مجدبة‪.‬‬ ‫بقاعا بأسرها‪ ،‬فلم يتبق منها سوى ِق ٍ‬ ‫ً‬ ‫واحد ٍة ما خلَّفته الحرائق التي التهمت‬
‫وانتثرت العجائز هنا وهناك بين األطالل والخرائب‪ ،‬كل منهن على أنقاض منزلها‪ .‬وكانت كل منهن تنبش بيديها في األتربة‬
‫واألنقاض‪ ،‬لتستخرج بين وقت وآخر شيئًا تضعه جانبًا‪ ،‬محتمية بالطلل من أعين الغرباء والمارة‪ ،‬وكأنما ال تزال ترى فيه آثار جدران‬
‫منزلها‪.‬‬
‫ماضفي الطريق‪ ،‬وكأنما يسألنه‪ ،‬متى يسترد العالم صوابه‪ ،‬ويعود السالم واألمن‬ ‫ٍ‬ ‫بعيونهن وهو‬
‫ّ‬ ‫وكن ينظرن إلى جوردون‪ ،‬ويتابعنه‬
‫والنظام إلى الحياة؟‬
‫فورا‪ ،‬ولم يكن السائق يعرف طريق العربات‬ ‫ً‬ ‫وعندما أقبل الظالم‪ ،‬التقت بهما إحدى الدوريات‪ ،‬وأمرتهما بأن يتركا الطريق الرئيسية‬
‫هدى قرابة ساعتين‪.‬‬ ‫يتجوالن على غير ً‬ ‫َّ‬ ‫الجديد‪ ،‬فظال‬
‫ووصال عند الفجر إلى قرية تحمل االسم نفسه الذي كانا يبحثان عنه‪ ،‬ولكنهما لم يجدا فيها من يعرف أي شيء عن المستشفى‪،‬‬
‫وأخير ا‪ ،‬عند الصباح‪ ،‬بلغا القرية التي يقصدانها‪ ،‬وبينما كانا يعبران طرقاتها‬
‫ً‬ ‫ثم اتضح لهما أن هناك قريتين تحمالن هذا االسم نفسه‪،‬‬
‫قر ر جوردون في نفسه أال يقضي الليل في القرية‪ ،‬وإنما يكتفي بسحابة النهار‪ ،‬حتى إذا أقبل‬ ‫المعبَّأة برائحة الكاموميل واليودوفورم‪َ ّ ،‬‬
‫المساء‪ ،‬مضى إلى محطة السكة الحديدية‪ ،‬حيث ترك أصدقاءه ولكن الظروف التي تلت ذلك‪ ،‬أرغمته على البقاء أكثر من أسبوع!‬
‫‪-٩ -‬‬

‫تحركاتها‪ ،‬إذ كانت قواتنا قد استطاعت أن تُحدث ثغرة في صفوف األعداء‪ ،‬في الناحية الجنوبية‬ ‫ُّ‬ ‫كانت الخطوط األمامية قد بدأت‬
‫التي وجد جوردون نفسه فيها‪ ،‬ثم تبعتها اإلمدادات المساعدة‪ ،‬التي أخذت في توسيع الثغرة‪ ،‬ولكنها سقطت خلف خطوط األعداء‪،‬‬
‫المتقد مة‪ ،‬فتم أسرها‪ .‬وكان المالزم أنتيبوف بين األسرى‪ ،‬فقد اضطر إلى تسليم نفسه عندما‬‫ِّ‬ ‫وانقطعت الصلة بينها وبين الوحدات‬
‫استسلمت وحدته‪.‬‬
‫واعتقد الجميع أن قنبلة قتلته‪ ،‬ودفنه االنفجار‪ ،‬وكان مصدر هذا االعتقاد ما قاله صديقه جاليولين‪ ،‬الذي كان يراقب المعركة بمنظار‬
‫الميدان من إحدى نقاط المراقبة‪ ،‬عندما كان أنتيبوف يقود الهجوم‪.‬‬
‫بخطى سريعة‪ ،‬عبر أرض ال يحرسها أحد‪ ،‬وقد‬ ‫ً‬ ‫تقدم الرجال يتواثبون‬
‫َّ‬ ‫وكان ما رآه جاليولين هو الصورة المألوفة لوحدة مهاجمة‪ .‬فقد‬
‫القش يتماوج مع الرياح‪ ،‬تتخلله أشجار الشوك الجامدة‪.‬‬‫ُّ‬ ‫ج ّف َف الخريف الحقول وأخذ‬
‫وكان هدفهم إما أن يرغموا النمساويين على التدفق خارج خنادقهم‪ ،‬ليشتبكوا بالسالح األبيض‪ ،‬أو أن يبيدوهم بقنابلهم اليدوية‪ ،‬وكانت‬
‫مستنقع رطب‪ .‬وكان حامل بيرقهم‬‫ٍ‬ ‫الساحة تبدو بال نهاية أمام أعين المهاجمين‪ ،‬واألرض تميد تحت أقدامهم‪ ،‬وكأنهم يتواثبون فوق‬
‫ملو ًحا بمسدسه الذي يرفعه في يده‪ ،‬وقد اتسع فيه إلى أذنيه‪ ،‬وهو يهتف بصيحات النصر‪ ،‬التي‬ ‫ِّ‬ ‫يتقدمهم أول األمر‪ ،‬ثم أصبح يحاذيهم‬
‫يهبون مندفعين إلى األمام وقد عال‬‫أرضا‪ ،‬ثم ُّ‬
‫ً‬ ‫لم يكن هو نفسه يسمعها‪ ،‬وال أحد من المتقدمين‪ ،‬وكانوا بين لحظة وأخرى ينبطحون‬
‫صياحهم‪ .‬وفي كل مرة كان يسقط بينهم مصاب أو اثنان‪ ،‬وكان سقوط هؤالء يختلف في طريقته عن انبطاح اآلخرين‪ ،‬فقد كانوا‬
‫ينكفئون على وجوههم‪ ،‬وكأنهم جذوع أشجار اجتثت من الغابة‪ .‬ثم ال ينهضون ثانية!‬
‫“‪..‬‬ ‫وصاح جاليولين بضابط المدفعية الواقف بجواره قائل ًا‪“ :‬فلتبدأ المدفعية في تغطيتهم‪ ،‬فقد جاوزوا األهداف”‪ ،‬ثم قال ‪ :‬ال‬
‫انتظر‪ ..‬كل شيء على ما يرام”‪.‬‬
‫وكان المهاجمون على وشك االشتباك مع العدو‪ ،‬عندما تو ّقَف ستار المدفعية‪ ،‬وخالل الصمت المفاجئ الذي تال سكوت المدافع‪،‬‬
‫أيض ا – كأنتيبوف‪ -‬قد بلغوا برجالهم خنادق العدو‪ ،‬متوقعين منهم في الدقائق التالية أن‬‫ً‬ ‫سمع المراقبون د ّقَات قلوبهم وكأنما هم‬
‫يح ِقّقوا المعجزات بشجاعة ال حدود لها‪.‬‬
‫سحب سوداءٌ من التراب‬‫ٌ‬ ‫وفي هذه اللحظة رأى المراقبون قنبلتين ألمانتين من عيار ‪ ١٦‬بوصة تنفجران أمام المهاجمين‪ ،‬وتصاعدت‬
‫ابيضت شفتاه‪“ :‬يا الله‪ ..‬لقد انتهى كل شيء‪ .”..‬واعتقد‬ ‫َّ‬ ‫والدخان‪ ،‬فأخفت عن أعينهم كل ما تبع ذلك‪ ،‬وهمس جاليولين‪ ،‬وقد‬
‫أن حامل البيرق وجميع رجاله قد قُتلوا‪ ..‬ثم سقطت قنبلة أخرى بالقرب من مركز المراقبة‪ ،‬وانفجرت بشدة‪ ،‬وأسرع المراقبون‬
‫بعيدا عن موقع االنفجار‪.‬‬ ‫ً‬ ‫يتلمسون النجاة‬
‫َّ‬
‫وكان جاليولين قد شارك صديقه أنتيبوف في حفر الخنادق‪ ،‬فلما اعتبر أنتيبوف مقتول ًا كلَّف صديقه بالمحافظة على مخلفاته لتسليمها‬
‫إلى أرملته‪ ،‬وكان لها بين مخلفاته كثير من الصور الفوتوغرافية المختلفة‪.‬‬
‫أخير ا بترقية جاليولين‪ ،‬العامل الميكانيكي‪ ،‬ابن جيمازيدين‪ ،‬حارس مجموعة عنابر السكنى التي كان‬ ‫ً‬ ‫وكانت األوامر قد صدرت‬
‫تيفرزين يقيم في إحداها‪ .‬وكان جاليولين هو نفسه الصبي الذي كان يُعرف فيما مضى باسم يوسوبكا‪ ،‬والذي ضربه خودولييف رئيس‬
‫العمال ذات يوم!‬ ‫َّ‬
‫قائدا لحامية في بلدة صغيرة في‬ ‫ً‬ ‫عيِّن‬ ‫ولترقية جاليولين قصة‪ :‬فذات يوم وجد نفسه على الرغم منه‪ ،‬ولغير سبب واضح‪ ،‬قد ُ‬
‫مكو نة من عدد من أشباه المرضى العاجزين‪ ،‬وقد عكف رؤساؤهم الذين ال يقلُّون كهولة عنهم‪ ،‬على تدريبهم‬ ‫َّ‬ ‫المؤخرة‪ ،‬وكانت الحامية‬
‫كل صباح على ما نسيه الفريقان كالهما‪ :‬الجنود‪ ،‬والذين يدربونهم!‬
‫وكان عليه أن يشرف على التدريب‪ ،‬وعلى تغيير نوبات الرجال المناط بهم حراسة الذخيرة‪ ،‬ولم يكن أحد يطالبه بشيء أكبر من‬
‫ذلك‪ ،‬ولم يكن هناك ما يشغله في الوجود‪ ،‬عندما وفد المجن َّدون الذين استُدعوا حديثًا من موسكو‪ ،‬ليكونوا تحت إمرته‪ ،‬واستطاع أن‬
‫يتبيَّن بينهم الشخصية التي ال يستطيع أن ينساها‪ :‬بيوتر خودولييف‪.‬‬
‫وتمتم جاليولي بمرارة‪ :‬هذا أنت أيها الصديق القديم! وأجاب خودلييف محييًا في وقفة االنتباه‪“ :‬نعم يا سيدي”‪.‬‬
‫وكان من المستحيل أن يقف األمر عند هذا الحد‪ ،‬فعند أول خطأ وقع فيه الجندي الجديد أثناء التدريب‪ ،‬زمجر الضابط فيه بغلظة‬
‫شديدة‪ ،‬وعندما أدار الجندي عينيه‪ ،‬غير عابئ بموقف االنتباه المفروض عليه لطمه بشدة على ف ِك ّه‪ ،‬وعاقبه بالحبس االنفرادي يومين‪،‬‬
‫على الخبز الحاف والماء!‬
‫وبدأت صلة جاليولين بهذا الجديد تتسم بطابع االنتقام‪ ،‬األمر الذي لم يكن يبدو الئقًا‪ ،‬وال أخالقيًا‪ ،‬لعدم تكافؤ الرجلين‪ ،‬وما تكفله‬
‫واحدا‬
‫ً‬ ‫حد له على اآلخر‪ ،‬ولكن‪ ،‬ماذا كان جاليولين يستطيع أن يصنع‪ ،‬وقد تبيَّن له أن مكانًا‬ ‫َّ‬ ‫النظم العسكرية ألحدهما من سلطان ال‬
‫معا؟ بأي مبرر يستطيع ضابط أن ينقل جندي ًا من وحدته‪ ،‬وإلى أي مكان ينقله‪ ،‬إن لم يكن هذا النقل بسبب‬ ‫يضمهما ً‬ ‫َّ‬ ‫ال يمكن أن‬
‫قرر أن يطلب نقل‬ ‫وأخيرا‪َّ ،‬‬
‫ً‬ ‫مخالفة الجندي للنظام العسكري؟ ومن جهة أخرى‪ ،‬على أي أساس يستطيع هو أن يطلب نقل نفسه؟‬
‫بتبرمه بعمله الضئيل في حاميته‪ ،‬وأكسبه هذا الطلب سمعة طيبة في الجيش‪ ،‬ثم ساعدته مزاياه‬ ‫ُّ‬ ‫مبررا طلبه‬
‫ً‬ ‫نفسه إلى الجبهة‪،‬‬
‫قديما!‬ ‫ً‬ ‫به‬ ‫ذ‬
‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫يع‬ ‫كان‬ ‫ما‬ ‫إلى‬ ‫بترقيته‬ ‫يدين‬ ‫صار‬ ‫وهكذا‬ ‫‪.‬‬‫المالزم‬ ‫رتبة‬ ‫إلى‬ ‫ى‬ ‫َ‬ ‫ق‬
‫ّ‬ ‫تر‬ ‫كضابط‬ ‫صالحيته‪،‬‬ ‫إثبات‬ ‫في‬ ‫األخرى‬
‫وكان جاليولين يعرف باشا أنتيبوف من أيام تيفرزين‪ ،‬عندما أمضى باشا معهم ستة أشهر من عام ‪ ،١٩٠٥‬وكان يوسوبكا –‬
‫جاليولين‪ -‬يذهب ليلعب معه في أيام األحد‪ ،‬وهناك قابل الرا مرة أو مرتين‪ ،‬ولكنه لم يسمع عن أحد منهما‪ ،‬منذ ذلك الوقت‪،‬‬
‫قادما من يورياتين‪ ،‬والتحق بالكتيبة‪ُ ،‬دهش جاليولين دهشة عظيمة للتغيُّر الذي أصاب صديقه‪ ،‬فقد كان معروفًا‬ ‫ً‬ ‫وعندما أتى أنتيبوف‬
‫ذكي‪ ،‬شجاع‪ ،‬قليل‬ ‫ٌّ‬ ‫بحيائه الشديد‪ ،‬وخفره الذي يشبه به الفتيات الصغيرات‪ ،‬فإذا هو اآلن عالم مستكبر كثير الوساوس والشكوك‪،‬‬
‫الكالم‪ ،‬ساخر‪ ،‬وعندما كان جاليولين يرى نظرات الحزن في عينيه‪ ،‬كان يستطيع أن يقسم أنه يرى من خاللهما شيئًا ما‪ ،‬وكأنهما‬
‫تائها‬
‫ً‬ ‫مبرحا البنته وزوجته‪ ،‬كان أنتيبوف يبدو له‬ ‫ً‬ ‫عما وراءهما‪ .‬أما هذا الشيء‪ ،‬فقد يكون فكرة تملَّكته‪ ،‬أو شوقًا‬ ‫َّ‬ ‫نافذتان تش ّفَان‬
‫وبقي جاليولين وحده‪ ،‬حامل ًا أوراقه وصوره الفوتوغرافية‪،‬‬ ‫َ‬ ‫راح‪،‬‬ ‫قد‬ ‫أنتيبوف‬ ‫هو‬ ‫وها‬ ‫الخرافية‪،‬‬ ‫القصص‬ ‫أشخاص‬ ‫كبعض‬ ‫مسلوب اإلرادة‪،‬‬
‫وذلك السر الدفين الغامض‪ ،‬الذي أحدث فيه كل هذا التغيير‪.‬‬
‫وحدث ما كان ال بد أن يحدث عاجل ًا أو آجل ًا‪ ،‬فقد بلغت أنباء استفسار الرا عن زوجها أسماع جاليولين‪ ،‬وكان قد حاول قبل ذلك‬
‫لتحمل‬ ‫ُّ‬ ‫أن يكتب إليها‪ ،‬ثم شغلته الشواغل‪ ،‬فقد كان كل وقته مشحونًا بالعمل‪ ،‬فلم يجد فرصة ليكتب إليها ما يستطيع به إعدادها‬
‫يوما بعد يوم‪ ،‬حتى سمع بوجودها في مكان ما بالجبهة‪ ،‬حيث تقوم بالتمريض‪ ،‬وحتى عند ذلك‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يؤجل الكتابة‬‫ِّ‬ ‫الصدمة‪ ،‬وهكذا ظل‬
‫يستطع أن يعرف العنوان الذي يكتب إليها فيه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫لم‬
‫‪-١٠-‬‬

‫كان جوردون يسأل الدكتور جيفاجو كلما عادا لتناول الغداء في الكوخ الذي اتخذاه لهما‪:‬‬
‫‪“ -‬أيمكن أن نجد خيل ًا اليوم؟”‪.‬‬
‫وأجاب الدكتور جيفاجو‪:‬‬
‫يسارا‪ .‬فاالضطراب يسود‬ ‫ً‬ ‫تتحرك يمينًا أو‬
‫َّ‬ ‫‪“ -‬ال أمل في ذلك‪ ،‬وعلى أي حال‪ ،‬إلى أي مكان ستذهب؟ إنك ال تستطيع أن‬
‫المنطقة بأسرها‪ ،‬وال أحد يستطيع أن ي ُجزم بشيء‪ ،‬ففي الجنوب‪ ،‬استطعنا أن نتغلب على جناح الجيش األلماني في بعض األماكن‪،‬‬
‫واخترقنا خطوطه في أماكن أخرى‪ ،‬وقيل لي إن عدة وحدات لنا قد غلبتها الحماسة‪ ،‬فأدت بها إلى األسر‪ .‬أما في الشمال‪ ،‬فقد‬
‫قوتهم‪ ،‬هم الذين اخترقوا‬ ‫اجتاح األلمان منطقة سفنتا من موقع كنا نظن أنه ال يُقهر‪ ،‬وكان فرسانهم‪ ،‬الذين ال يزيدون على كتيبة في ّ‬
‫ويدمرون مخازن الذخيرة‪ ،‬وفي اعتقادي أنهم اآلن يطوقوننا‪ .‬هذا ما نحن فيه‪ ،‬وأنت‬ ‫ِّ‬ ‫ذلك الموقع‪ .‬وهم ينسفون اآلن السكة الحديدية‪،‬‬
‫تتحدث عن الخيل!”‪.‬‬ ‫َّ‬
‫موجها الكالم للجندي‪:‬‬ ‫ً‬ ‫وأضاف جيفاجو‬
‫وأعد المائدة‪ ،‬ماذا لدينا للعشاء؟ كوارع عجول! عظيم!”‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تحرك‬
‫َّ‬ ‫‪“ -‬هيا يا كارينكو‪،‬‬
‫وزَعت نفسها في أنحاء البلدة التي لم تصب بضرر ما‪ ..‬وكانت المساكن تتألق‬ ‫كانت الوحدة الطبية‪ ،‬بمستشفاها وملحقاتها‪ ،‬قد ّ‬
‫لوح واحد من زجاج!‬ ‫ٌ‬ ‫يتحطم منها شيء‪ ..‬وال‬ ‫َّ‬ ‫بنوافذها األوربية النمط‪ ،‬ممتدة من جدار إلى جدار‪ ،‬لم‬
‫يتحول إلى صيف شديد القيظ‪ ،‬واضطر األطباء إلى فتح النوافذ أثناء النهار‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وبدأ الجو الذي كان يشبه جو الخريف األصفر الدافئ‪،‬‬
‫ومطاردة جماعات الذباب الزاحفة على أعتاب النوافذ والسقوف المنخفضة البيضاء‪ ،‬وقد فكوا أزرار أرديتهم ومعاطفهم‪ ،‬واعتادوا – وهم‬
‫يتصبَّبون عرقًا‪ -‬أن يرتشفوا مرق الكرنب‪ ،‬أو الشاي الساخن الذي يُلهب شفاههم‪.‬‬
‫أما في المساء‪ ،‬فكانوا يجلسون للعب الورق‪ ،‬أمام المدافئ التي تُوقد بكتل الخشب الرطب‪ ،‬فترسل سحبًا من الدخان تؤذي‬
‫عيونهم‪ ،‬فيصبّوا لعناتهم على الجنود الذين ال يعرفون كيف يوقدون النار‪.‬‬
‫كان الليل يرخي سدوله‪ ،‬وقد رقد جوردون وجيفاجو في قمرتين متقابلتين تفصل بينهما مائدة العشاء‪ ،‬وقطرات المطر تب ِل ّل زجاج‬
‫ليتسرب الدخان الذي يمأل الغرفة ويزيد من‬ ‫َّ‬ ‫النافذة المنخفضة الممتدة على طول الجدار‪ ،‬وكانا قد فتحا جانبًا من زجاج النافذة‬
‫أيضا كانت السماء تتألَّق في األفق بلونها الوردي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حرارتها‪ ،‬وليستنشقا نسيم ليل الخريف المنُعش‪ ،‬وكالمعتاد كانا يتحدثان‪ ،‬وكالمعتاد‬
‫جر‬
‫مكسوة بالحديد‪ ،‬تُ ّ‬
‫ّ‬ ‫وقت آلخر‪ ،‬كانت صدمة قوية ته ُّز األرض‪ ،‬وتتخلَّل أصوات الطلقات المتتابعة‪ ،‬وكأنها جِ ذع شجرة كبيرة‬ ‫ٍ‬ ‫ومن‬
‫جرا‪ ،‬فتنتتزع قشرتها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫على األرض‬
‫وأطرق جيفاجو لدى سماعه ذلك الصوت‪ ،‬قائل ًا‪ :‬هذه مدافع برتا األلمانية من عيار ست عشرة بوصة‪ ،‬وهذه الطلقة من عيار ستة‬
‫وثالثين ثقل ًا‪ ،‬كل منها يزن ستين لبرة‪.‬‬
‫يتحدثان بشأنه!‬ ‫َّ‬ ‫نسي ما كانا‬‫َ‬ ‫وعدما استأنفا حديثهما بعد ذلك‪ ،‬كان قد‬
‫وسأل جوردون‪“ :‬ما هذه الرائحة التي تمأل البلدة؟”‪ .‬ثم قال‪“ :‬لقد الحظت وجودها منذ جئنا هنا‪ .‬رائحة مق ِ ّززة تبعث على‬
‫الغثيان كالرائحة المنبعثة من الجرذان!”‪ .‬فأجاب جيفاجو‪“ :‬أعرف ما تعني‪ .‬إنها رائحة نبات القن َّب‪ ،‬فهم يزرعونه بكثرة هنا‪،‬‬
‫تنس أننا هنا في منطقة القتال‪ ،‬وجثث القتلى تبقى عارية‬ ‫َ‬ ‫الرمم‪ ،‬فال‬ ‫وباإلضافة إلى ما يحمله هذا النبات من روائح عفنة كرائحة ِ ّ‬
‫في حقول القن َّب حتى يصيبها العفن‪ ،‬فتمتزج رائحتها برائحة النبات‪ .‬نعم‪ ،‬ال شك أن رائحة الجثث تمأل الجو هنا في كل مكان‪،‬‬
‫جدا‪ .‬أتسمع! هذه مدافع برتا مرة أخرى!”‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وهذا طبيعي‬
‫تطر قا بالحديث إلى كل شيء تحت الشمس‪ .‬وكان جوردون قد عرف كل آراء صديقه عن الحرب‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وكانا في األيام األخيرة قد‬
‫يبررون به‬
‫حدثه عن الصعوبة التي يجدها في فهم هذا المنطق الوحشي الذي ِّ‬ ‫َّ‬ ‫وعن الروح السائدة في هذه األيام‪ ،‬كان جيفاجو قد‬
‫المتقرحة التي ابتلينا بها في هذه األيام‪ ،‬وعن‬ ‫ِّ‬ ‫تبادل اإلبادة‪ ،‬أو في اعتياد رؤية الجرحى‪ .‬وعن الهول الذي يلقاه من منظر الجراح‬
‫المشوه‪.‬‬
‫َّ‬ ‫المشوهين الذين أحالتهم الحرب الحديثة إلى مسوخ من اللحم‬ ‫َّ‬ ‫تصور حياة‬ ‫َّ‬ ‫األلم الذي يغشاه كلَّما‬
‫وكان جوردون قد عانى بدوره من رؤية هذه المناظر األليمة البشعة‪ ،‬في جوالته اليومية مع جيفاجو‪ ،‬وكان يستنكر من نفسه موقف‬
‫المتفر ج السلبي‪ ،‬في وقت يقاسي فيه اآلخرون بشجاعة ال مثيل لها! ويستنكر أن يكتفي بمراقبة الجهد الذي يتغلَّبون به على‬ ‫ِّ‬
‫مخاوف الموت‪ ،‬وهو جهد يفوق طاقة البشر‪ .‬وأن يرى ما يندفعون إليه من مخاطر‪ ،‬وما يدفعونه من ثمن‪ .‬ولكنه لم يفطن إلى أن‬
‫نكر ا من كل هذا! كان يرى في مسلكه المسلك البسيط األمين الذي تقتضيه الظروف التي أوجدته‬ ‫ً‬ ‫مجرد البكاء عليهم لم يكن أقل‬
‫فيها الحياة‪.‬‬
‫وكان قد أدرك كيف يضعف اإلنسان لمرأى الجراح‪ .‬أدرك ذلك من تجربته الشخصية عندما زار إحدى وحدات الصليب األحمر‬
‫بشدة نيران المدفعية‪ ،‬وكانت عربات المدافع‬ ‫َّ‬ ‫خربتها‬
‫َّ‬ ‫المتن ِقّلة‪ ،‬خلف خطوط القتال‪ :‬فقد ذهبا إلى أرض خالء في داخل غابة‬
‫بيت تابع إلدارة الغابات قد سقط نصف‬ ‫ٍ‬ ‫المحطمة مبعثرة بين حطام األشجار الهاوية‪ ،‬وثمة حصان موثق إلى جذع شجرة‪ ،‬وفي وسط‬
‫سقفه‪ ،‬وقد اتُخذ مرك ًزا لإلسعاف‪ ،‬وأقيمت خيمتان إلى جواره على جانبَ ْي الطريق الموصل إليه‪.‬‬
‫وقال جيفاجو لجوردون‪“ :‬لم يكن ينبغي لي أن أُحضرك معي‪ .‬إن خنادق الجنود على بعد ميْل أو اثنين‪ ،‬ومدفعيتنا هناك خلف‬
‫أصدقك إن حاولت‪ .‬وما أظنك‬ ‫ّ‬ ‫تجرب القيام بدور البطل‪ ،‬فلست‬ ‫ِّ‬ ‫الغابة‪ .‬إن في استطاعتك أن تسمع ما يدور هناك‪ ،‬ولذلك إيَّاك أن‬
‫أي حال‪ .‬وفوق هذا‪ ،‬قد يتغيَّر الموقف في أي‬ ‫ّ‬ ‫على‬ ‫طبيعي‬ ‫وهذا‬ ‫قادرا إال على أن تجمد في لحظة واحدة من الرعب والهول‪،‬‬ ‫ً‬
‫لحظة‪ ،‬ويبدأ العدو في قصفنا بقنابله‪.‬‬
‫يتمددون على جانب من الطريق‪ ،‬وقد رقد‬ ‫َّ‬ ‫سود العرق أكتافها وصدورها‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وكان الجنود الصغار‪ ،‬بأحذيتهم الثقيلة‪ ،‬وثيابهم المغبَّرة التي‬
‫عزلت عن الخطوط‬ ‫بعضهم على ظهره‪ ،‬وانكفأ اآلخرون بوجوههم إلى األرض‪ .‬كان هؤالء الجنود هم البقايا الحية من الفصيلة التي ُ‬
‫األمامية بعد أربعة أيام من القتال المرير‪ ،‬وقد جِ يء بهم إلى المؤخرة ليحصلوا على راحة قصيرة‪ ،‬فكانوا يرقدون بال حس كأنما ُّ‬
‫قدوا‬
‫من حجر ‪ .‬ال حركة‪ ،‬وال ابتسامة‪ ،‬وال كلمة سباب! وحتى عندما كانت العربات الثقيلة العديدة تمأل الطريق صخبًا إلى جوارهم‪ ،‬لم‬
‫المارة من عربات المؤن غير المسقوفة‪ ،‬وقد‬ ‫ّ‬ ‫يحاول أحد منهم أن يرفع رأسه‪ ،‬أو يستدير ليرى شيئًا مما حوله‪ .‬وكانت العربات‬
‫ُح ِ ّم لت بالجرحى‪ ،‬وراحت تطحن عظامهم وتلوي ضلوعهم وجذوعهم‪ ،‬في قفزاتها المتتابعة على الطريق إلى وحدة اإلسعاف‪ .‬وهناك‬
‫ضمد بسرعة‪ ،‬والعمليات الجراحية تُجرى للحاالت العاجلة‪ ،‬كانوا قد التُقطوا منذ نصف ساعة من أمام الخنادق في‬ ‫كانت جراحهم تُ ّ َ‬
‫ساحة القتال‪ ،‬عندما هدأت نيران المدفعية قليل ًا‪ ،‬وكان أكثر من نصفهم يرتمي في العربات فاقد الوعي‪.‬‬
‫وعندما وقفت العربات أمام شرفة مكتب اإلسعاف‪ ،‬هبط األنفار الساللم حاملين الن ّقَاالت‪ ،‬وأخذوا يُفرغون الجرحى عليها‪ ،‬بينما‬
‫أزاحت ممرضة طرف إحدى الخيام‪ ،‬ووقفت تنظر إلى ما يجري‪ ،‬وقد بدا عليها أنها في وقت فراغها‪ ،‬وخرج رجالن من خلف‬
‫يتردد صداه بين األشجار الطويلة الفتية‪ ،‬فيصعب‬ ‫َّ‬ ‫عال‪،‬‬‫بصوت ٍ‬‫ٍ‬ ‫الخيام‪ ،‬وسارا في الطريق متجهين إلى المكتب‪ ،‬وقد أخذا يتناقشان‬
‫على السامع من بعيد فهم ما يقوالن من كلمات‪.‬‬
‫مالزما شديد العصبية‪ ،‬يصرخ في صاحبه‪ ،‬طبيب الوحدة‪ ،‬سائل ًا إياه عن حامل مدفع كان هناك في الفضاء وقد اختفى‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كان أحدهما‬
‫ويريد أن يعرف أين هو اآلن‪ .‬ولم يكن الطبيب يدري شيئًا من ذلك‪ ،‬فليس هذا من شأنه‪ ،‬فراح يرجوه أن يكف عن الصياح‪ ،‬وأن‬
‫يسب الصليب األحمر‪ ،‬والمدفعية‪ ،‬والدنيا بأسرها!‬ ‫ُّ‬ ‫يؤدي عمله بعد أن وصل الجرحى‪ .‬ولكن الضابط استمر‬ ‫ِّ‬ ‫يتركه‬
‫معا إلى المكتب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫دخال‬ ‫ثم‬ ‫التحية‪،‬‬ ‫فتبادال‬ ‫الطبيب‪،‬‬ ‫على‬ ‫جيفاجو‬ ‫وأقبل‬
‫مسرعا في الطريق‬‫ً‬ ‫فك وثاق جواده المسرج‪ ،‬وقفز إلى ظهره‪ ،‬ومضى‬ ‫َّ‬ ‫صياحا وسبابًا‪ ،‬فقد‬ ‫ً‬ ‫أما المالزم الذي كان ما يزال يمأل الدنيا‬
‫إلى الغابة‪ .‬وكانت الممرضة إذ ذاك ال تزال في وقفتها‪ ،‬وسرعان ما بدا عليها الرعب‪ ،‬وانطلقت تصيح‪“ :‬ماذا تصنعان؟ هل فقدتما‬
‫توج ه كلماتها إلى جنديين جريحين‪ ،‬قاما يسيران بغير مساعد بين الخيام‪ ،‬ثم انطلقت مسرعة إليهما‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫وعيكما؟”‪ ،‬كانت‬
‫مشو ًه ا بصورة وحشية غريبة‪ .‬فقد أصابته في وجهه شظية‪ ،‬لم تقتله‪ ،‬ولكنها أحالت لسانه‬ ‫َّ‬ ‫جريحا‬
‫ً‬ ‫وكان الجند حينئذ يحملون‬
‫بصوت خفيض ال يشبه صوت اإلنسان في‬ ‫ٍ‬ ‫قصيرا‬
‫ً‬ ‫وصدغيه إلى خبيصة حمراء‪ ،‬واستقرت في عظام فكه المم ّزَق! وكان يئن أنينًا‬
‫حدا لعذابه الذي ال يستطيع أحد تصوره‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وليضعوا‬ ‫شيء‪ .‬كان أنينه أشبه برجا ٍء يائس لمن حوله أن يسرعوا باإلجهاز عليه‪،‬‬
‫وأدركت الممرضة أن الجريحين اللذين نهضا يسيران بين الخيام قد تأثَّرا لصرخات هذا الجريح‪ ،‬وأنهما على وشك انتزاع الشظية‬
‫الجراح بهذا العمل بآالته الخاصة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫“ ‪ ..‬ال تفعال هذا‪ ،‬سيقوم‬ ‫الحديدية المستقرة في عظام فكه‪ ،‬بأيديهما المجردة! فصاحت فيهما ‪ :‬ال‬
‫إن كان ال بد من ذلك”‪.‬‬
‫همسعميق‪“ :‬يا إلهي‪ ..‬خذه إليك ‪ ..‬ال تدعني أشك في وجودك ورحمتك”‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ومضت إثر ذلك تتمتم في‬
‫وفي اللحظة التالية‪ ،‬وبينما كان الجنود يصعدون به الدرج‪ ،‬صرخ صرخة عظيمة ارتجف لها جسده بأكمله‪ ،‬ثم مات‪.‬‬
‫لتو ه هو الجندي جيمازيدين‪ ،‬وكان الضابط الذي مضى يصرخ في الغابة‪ ،‬هو ابنه المالزم جاليولين‪ ،‬أما‬ ‫كان الرجل الذي مات ِ ّ‬
‫الشاهدين اللذين رأيا كل شيء‪.‬‬ ‫َ‬ ‫كانا‬ ‫فقد‬ ‫وجيفاجو‪،‬‬ ‫جوردون‬ ‫وأما‬ ‫نفسها‪،‬‬ ‫الرا‬ ‫كانت‬ ‫فقد‬ ‫الممرضة‪،‬‬
‫مع ا‪ ،‬في ذلك المكان‪ ،‬ولكن البعض منهم لم يكن قد تعارف من قبل‪ ،‬بينما عجز البعض اآلخر عن‬ ‫كل هؤالء القوم كانوا هناك‪ً ،‬‬
‫معرفة اآلخرين‪ ،‬كانت هناك أشياء كثيرة ق ِ ُّدر لها أن تظل مجهولة‪ ،‬وكان يتعيَّن على بعضهم أن ينتظروا فرصة أخرى ليكشفوا عن‬
‫أنفسهم‪.‬‬
‫‪-١١-‬‬
‫مس في محيط متالطم من الخراب‪ ،‬وبينما كان‬ ‫كانت القرى التي بقيت بأعجوبة‪ ،‬تبدو في هذه المنطقة وكأنها جزر صغيرة لم تُ َ‬
‫جيفاجو وجوردون في طريقهما ذات مساء إلى بيتهما‪ ،‬إذ بهما يريان في إحدى القرى شابًا من القوقاز‪ ،‬يحوطه جمع سعيد‪ .‬كان‬
‫وتهدل على كتفيه معطفه الطويل‪ .‬وكان‬‫َّ‬ ‫وخ َط الشيب لحيته‪،‬‬‫َ‬ ‫القوقازي يقذف بقطعة نقود نحاسية في الفضاء‪ ،‬ليتقطها كهل يهودي‬
‫الكهل يفشل في كل مرة في التقاط قطعة النقود‪ ،‬التي كانت تمر من أمامه‪ ،‬ثم تسقط في الوحل‪ ،‬فإذا انحنى ليلتقطها لكزه‬
‫وضج المشاهدون يمسكون جوانبهم من الضحك‪ ،‬كانوا يتسلَّون بهذا العمل‪ .‬وكانت تسليتهم حتى اآلن غير‬ ‫ّ‬ ‫القوقازي في مؤخرته‪،‬‬
‫مؤذية‪ ،‬ولكن من يستطع أن يجزم بأنها لن تنقلب إلى شيء من الخطر؟‬
‫المسن تخرج‪ ،‬بين لحظة وأخرى‪ ،‬من كوخها‪ ،‬وتعبر الطريق مولولة‪ ،‬رافعة يديها إلى السماء برعب‪ .‬بينما‬ ‫ّ‬ ‫وكانت زوجة الكهل‬
‫ظهرت في نافذة الكوخ بنتان صغيرتان‪ ،‬كانتا ترقبان عذاب جدهما وتبكيان‪.‬‬
‫وأبطأ السائق ليتيح للمسافرين أن يلقيا نظرة على ما يجري هناك‪ ،‬فنادى جيفاجو الشاب القوقازي‪ ،‬ونهره‪ ،‬وأمره أن يكف عن هذا‬
‫شرا‪ ،‬إنما نحن نتسلَّى!”‪.‬‬‫ً‬ ‫العبث باليهودي الطاعن في السن‪ ،‬فقال القوقازي على الفور‪“ :‬يا سيدي‪ ،‬نحن ال نقصد به‬
‫ومضى جيفاجو وجوردون في طريقهما إلى القرية التي يقيمان فيها‪.‬‬
‫تتصور ماذا تفعل الحرب بهذا الشعب اليهودي البائس‪ .‬فالحرب تجري في غرب‬ ‫َّ‬ ‫وقال يوري في الطريق‪“ :‬إنك ال تستطيع أن‬
‫روسيا حيث ُح كم عليهم أن يقيموا‪ .‬وكأنما ال تكفيهم الضرائب التأديبية المفروضة عليهم‪ ،‬وال خراب ممتلكاتهم‪ ،‬وال كل ما يحل بهم‬
‫أيض ا أحمال اإلهانات والسباب‪ ،‬ومواجهة االتهام الدائم باالفتقار للوطنية‪ .‬ولماذا يكونون وطنييّن إذا كان‬
‫ً‬ ‫من آالم‪ ،‬حتى تُفرض عليهم‬
‫تناقضا في صميم هذا الحقد‬
‫ً‬ ‫أيضا كل هذا‪ ،‬فإننا ال نزيد على أن نضطهدهم مثلما سيضطهدهم اآلخرون‪ .‬إن هناك‬ ‫ً‬ ‫العدو يكفل لهم هو‬
‫يصب عليهم‪ .‬فهذا الحقد تثيره‪ ،‬وتحث عليه‪ ،‬األشياء نفسها التي كانت أدعى إلثارة الشفقة عليهم‪ :‬فقرهم‪ ،‬وكثرتهم‪ ،‬وضعفهم‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫الذي‬
‫وعدم قدرتهم على أن يدافعوا عن أنفسهم‪ .‬إني أعجز عن فهم كل هذا‪ ،‬كأنما هو ق ََدر مشؤوم ك ُتب عليهم!”‪.‬‬
‫وكان جودرون يسمع‪ ،‬دون أن يجيب‪.‬‬
‫‪-١٢-‬‬

‫وها هما مرة أخرى يرقدان في قمرتيهما إلى جوار النافذة الطويلة المنخفضة‪ ،‬ويتحدثان‪ .‬كان جيفاجو يروي لجوردون كيف رأى‬
‫ملحقًا بوحدة تقف عند مدخل وا ٍد في جبال الكربات‬ ‫َ‬ ‫أول ربيع قضاه يوري في الجيش‪ .‬وكان‬ ‫القيصر في الجبهة‪ .‬حدث ذلك في ّ َ‬
‫لتسد الطريق أمام جنود المجر‪ .‬أما مركز قيادة الوحدة فكان في الوادي نفسه‪ .‬وراح جيفاجو يسهب في وصف المكان‪ :‬الجبال‬ ‫َّ‬
‫التي تكسوها أشجار خشب الموسكي‪ ،‬وتنسدل على قممها خصالت الضباب‪ .‬وأجراف من الحجر الرمادي والجرانيت تبدو خالل‬
‫الغابة‪ ،‬وكأنها ُرقع صلعاء في فراء سميك‪.‬‬
‫يتحرك الهواء فيه‪ ،‬إلحاطته‬
‫َّ‬ ‫كان ذلك في يوم من أيام أبريل‪ ،‬والصباح رطب مغبَّش يحاكي لون األحجار الرماديَّة‪ .‬والوادي ساكن ال‬
‫بالجبال من كل ناحية‪ .‬وخي َّم الضباب فوق الوادي‪ ،‬وتصاعدت األبخرة والدخان من كل جانب‪ .‬دخان القاطرات من محطة سكة‬
‫الحديد‪ ،‬والضباب الرمادي من الحقول والجبال‪ ،‬والغابة المظلمة‪ ،‬والسحاب الداكن‪.‬‬
‫كان القيصر في ذلك الوقت يقوم بجولة تفتيشية في غاليسيا‪ .‬وجاءت األخبار فجأة‪ ،‬أنه قادم ليتفقّ َد هذه الوحدة‪ ،‬التي هو آمرها‬
‫الفخري‪ .‬وأصبح وصوله متو ّقَ ًعا في أي لحظة‪ ،‬فانسحب حرس الشرف إلى رصيف المحطة‪ ،‬ووقف ينتظر‪ .‬وبعد قرابة ساعتين من‬
‫االنتظار‪ ،‬وصل قطاران متعاقبان يحمالن الحاشية اإلمبراطورية‪ .‬ثم وصل بعدهما قطار القيصر‪.‬‬
‫تفوه بكلمة تحية هادئة‪ ،‬كانت‬ ‫َّ‬ ‫وتفقَّد القيصر حرس الشرف‪ ،‬بصحبة الدوق العظيم نيكوالي‪ .‬وكانت هتافات الجنود تهدر‪ ،‬كلما‬
‫معا‪ ،‬كما ينسكب الماء من أوعية كبيرة‪.‬‬ ‫أصواتهم العالية وهم يصيحون “مرحى” تتد ّفَق ً‬
‫فاترا‬
‫ً‬ ‫وجهه‬ ‫كان‬ ‫‪.‬‬ ‫والميداليات‬ ‫النقود‬ ‫على‬ ‫وكان القيصر بابتسامته القلقة يبدو أكبر سنًا‪ ،‬وأكثر تعبًا‪ ،‬مما يبدو في صورته المنقوشة‬
‫معتذرا عن عدم إلمامه بما يجب عليه أن يصنع في كل لحظة‪ .‬وكان الدوق‬ ‫ً‬ ‫مترهل ًا‪ .‬وكان ينظر إلى الدوق بين لحظة وأخرى‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫ينحني أمامه باحترام‪ ،‬ويدل ّه على ما يقتضيه الموقف‪ ،‬بحركات وإيماءات بسيطة منه‪ ،‬أكثر مما كان يدلي بالكالم‪.‬‬
‫يتصور أن يكون هذا الخجل‬ ‫َّ‬ ‫وشعر يوري باألسى وهو يرقب القيصر عبر الجبل األغبر في ذلك الصباح الدافئ‪ .‬لم يستطع أن‬
‫يتصور كيف يستطيع هذا الضعف أن يقتل أو يعفو‪ .‬أن‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫يستطع أن‬ ‫والحياء‪ ،‬هما الصفقين المالزمتين لطاغية ال مع ِقّب لكلمته! لم‬
‫يسجن إنسانًا‪ ،‬أو يطلق سراح آخر!‬
‫وقوتي‪ ،”..‬كما يفعل غليوم‪ .63‬أي كالم عن الشعب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وقال جيفاجو‪“ :‬كان عليه أن يلقي خطبة‪“ ..‬أيها الشعب‪ ..‬يا سيفي‬
‫كبيرا في روسيا‪ .‬إذ يظل‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫رواج‬
‫ً‬ ‫يلقى‬ ‫ال‬ ‫المسرحي‬ ‫التمثيل‬ ‫تصر ف التصرف الروسي المألوف‪ .‬فهذا النوع من‬ ‫َّ‬ ‫ولكنه لم يفعل‪ ،‬وإنما‬
‫أتصور شعوبًا تقبل هذا النوع من التمثيل من قياصرة المغول وأضرابهم‪ .‬هؤالء الذين‬ ‫َّ‬ ‫تمثيل ًا وال ينطلي على أحد‪ .‬إني أستطيع أن‬
‫ال يكادون يفتحون أفواههم‪ ،‬إال ليقولوا‪“ :‬أيها الشعب‪ ..‬ويا شعبي!”‪.‬‬
‫يدونون مالحظات‪ ،‬ويجمعون درر الحكمة الشعبية‪ ،‬ويزورون الجرحى‪،‬‬ ‫واآلن‪ ،‬ها هي الجبهة تعج بالمراسلين والصحفيين‪ ،‬وقد راحوا ِّ‬
‫ويبتكرون نظريات جديدة في النفس البشرية‪ ،‬ويضيفون إلى القاموس الروسي القديم مجموعة جديدة من المفردات الغريبة الزائفة‪.‬‬
‫جنون لغوي؟ ودعارة لفظية!‬
‫وهذا طراز واحد منهم‪ ،‬أما الطراز الثاني‪ ،‬فشيء آخر‪ .‬هذا طراز التحقيقات‪ ،‬والمشاهد‪ ،‬والفلسفات‪ ،‬والكالم المقروض والمنظوم‪ .‬لقد‬
‫قرأت شيئًا من هذا الطراز أمس‪ ،‬وال يزال معي‪ .‬نعم ها هو ذا‪“ :‬كان اليوم أغبر كيوم أمس‪ .‬أمطار منذ الصباح‪ ،‬ووحل‪ .‬ونظرات‬
‫من النافذة إلى الطريق‪ ،‬ها هم األسرى يسيرون في خط ال نهاية له‪ ،‬والجرحى‪ ،‬وبندقية تطلق نيرانها‪ ،‬تطلقها اليوم‪ ،‬كما أطلقتها‬
‫غدا‪ ..‬وكل يوم‪ ..‬وكل ساعة!‬ ‫ً‬ ‫أمس‪ ،‬وكما ستطلقها‬
‫تجديدا في عملها؟! ولماذا ال ينظر إلى‬ ‫ً‬ ‫استهتارا واحتيال ًا؟ إني ألعجب‪ ،‬ماذا يريد من البندقية أن تصنع؟ أيتو ّقَع منها‬ ‫ً‬ ‫أليس هذا‬
‫محافظا على أريحيته الصحفية بسرعة فرقة كاملة من البراغيث‬ ‫ً‬ ‫نفسها‪،‬‬ ‫والبيانات‬ ‫والعبارات‬ ‫الجمل‬ ‫يوم‬ ‫كل‬ ‫يطلق‬ ‫وهو‬ ‫نفسه‪،‬‬
‫المطال َب بعدم تكرار نفسه‪ ،‬ال البندقية‪ ،‬وأن اإلنسان ال يستطيع أن يستخرج من تكرار‬ ‫القافزة! لماذا ال يستطيع أن يدرك أنه هو ُ‬
‫مفيدا‪ .‬إن الحقائق نفسها ال تعيش إال إذا أضاف اإلنسان إليها شيئًا من نفسه‪ ،‬من مقاييسه الخاصة‪ ،‬ومهارته‪ ،‬وخبرته‬ ‫ً‬ ‫كالما‬
‫ً‬ ‫الهراء‬
‫وعبقريته‪ .‬وإال‪ ،‬فهي حديث خرافة‪ ،‬أو نوع من األساطير!”‪.‬‬
‫مقاطع ا‪“ :‬إنك لعلى حق‪ ،‬ولتدعني اآلن أخبرك برأيي في هذا الحادث الذي رأيناه اليوم‪ ،‬حادث القوقازي الذي‬ ‫ً‬ ‫وصاح جوردون‬
‫جميعا حوادث تافهة‪ ،‬وإنك ال تستطيع‬ ‫ً‬ ‫وقف يسخر من المسكين الطاعن في السن ويضطهده‪ ،‬وآالف الحوادث المماثلة ‪ .‬ال شك أنها‬
‫أن تقيم نظرية ثابتة على أساسها‪ .‬مثلها ال يحتاج منك إلى تفكير‪ ،‬ولكن إلى صفعة على وجه رجل ما‪ .‬أما إذا نظرنا إلى‬
‫المسألة اليهودية بأسرها‪ ،‬فهنا يأتي دور الفلسفة‪ .‬وليس معنى هذا أني مخبرك بشيء جديد‪ ،‬فكالنا مدين بأفكاره إلى خالك‪.‬‬
‫لقد كنت تتساءل ما الشعب‪ ،‬ومن الذي يخدم الشعب أكثر من اآلخر‪ :‬الرجل الذي يدلِ ّل الشعب‪ ،‬أم الذي يلقيه من خلف‬
‫أي جدال‪.‬‬ ‫شك أن الجواب واضح ال يحتمل ّ‬ ‫َّ‬ ‫ظهره‪ ،‬وهو يقوده إلى الشهرة والخلود بجمال أفعاله؟ ال‬
‫تكونت من‬ ‫َّ‬ ‫شعوب‬ ‫الواقع‬ ‫في‬ ‫فهي‬ ‫جامدة‪،‬‬ ‫شعوب‬ ‫مجرد‬
‫َّ‬ ‫نتحدث عنها اليوم في العالم المسيحي؟ إنها ليست‬ ‫َّ‬ ‫وما الشعوب التي‬
‫أفراد أصابهم الكثير من التغيير والتبديل‪ .‬وهذا التغيير الذي أصابهم هو مركز األهمية‪ ،‬ال الوالء الذي يحملونه لتقاليدهم القديمة‪.‬‬
‫أحكاما جامدة‪ ،‬لم يقل إن “ ُحكم‬ ‫ً‬ ‫وما الذي يقوله اإلنجيل في كل هذا؟ لنبدأ بتقرير هذه الحقيقة‪ :‬إن اإلنجيل لم يضع شرائع وال‬
‫عروضا عملية‪ ،‬وتجريبية‪ ،‬للبشر‪ .‬وهو في عروضه المتواضعة يسأل الناس‪:‬‬ ‫ً‬ ‫قدم‬
‫وحكم ذاك األمر كيت”‪ ،‬ولكنه ّ َ‬ ‫هذا األمر كذا‪ُ ،‬‬
‫تماما‪ ..‬أن تحصلوا على السعادة الروحية الكاملة؟”‪ .‬وتقبَّل الناس هذه العروض بغبطة عظيمة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫“أتريدون أن تعيشوا حياة جديدة‬
‫فقد كانوا يتعلَّقون بهذه اآلمال منذ آالف السنين‪.‬‬
‫وعندما يقول اإلنجيل‪“ :‬ليس في ملكوت السموات يهودي وال وثني”‪ ،64‬أتراه يقصد أن الجميع سواء أمام الله؟ ال أظن أنه كان‬
‫يعني مجرد ذلك‪ ،‬فليس في هذا الكالم شيء جديد‪ .‬لقد قال به فالسفة اليونان‪ ،‬ومع ِل ّمو الرومان‪ ،‬أنبياء إسرائيل‪ .‬وإنما يريد‬
‫المقدسة النابعة من القلب‪ ،‬والتي نسميها ملكوت السموات‪ ،‬لن‬ ‫َّ‬ ‫اإلنجيل أن يخبرنا أننا في هذه الحياة الجديدة‪ ،‬المليئة باألسرار‬
‫أفرادا‪.‬‬
‫ً‬ ‫أمما أو شعوبًا‪ ،‬ولكننا سنكون‬ ‫ً‬ ‫نكون‬
‫ولقد قلت أنت نفسك إن الحقائق تظل جامدة ال معنى لها‪ ،‬ما لم تضف إليها من ذاتك ما يكسبها ذلك المعنى‪ .‬وهذا حق‪،‬‬
‫والشيء الذي تستطيع أن تضيفه إلى حقيقة الحياة اإلنسانية لتصبح مليئة بالمعنى‪ ،‬هو المسيحية‪ ،‬هو سر ذاتية الفرد‪.‬‬
‫تتحد ث عن هؤالء السياسيين المألوفين‪ ،‬الذين ال تعنيهم الحياة ككل‪ ،‬وال يشغلهم العالم في مجموعة‪ .‬هؤالء الناس ذوو‬ ‫َّ‬ ‫وكنت‬
‫سرورا أن يستطيعوا دفع الناس إلى التحدث عن أمم صغيرة‬ ‫ً‬ ‫يملؤهم‬ ‫الذين‬ ‫هؤالء‬ ‫‪.‬‬ ‫بالقيود‬ ‫يشغفون‬ ‫الذين‬ ‫المحدودة‪،‬‬ ‫الضعيفة‬ ‫العقول‬
‫فرحا‪ ،‬ألنهم يجدون عند ذلك المجال الفسيح إلظهار براعتهم‬ ‫ً‬ ‫ازدادوا‬ ‫التعاسات‪،‬‬ ‫ازدادت‬ ‫المشاكل‬ ‫َدت‬ ‫ق‬
‫ّ‬ ‫تع‬ ‫وكلما‬ ‫‪.‬‬ ‫بالقيود‬ ‫لة‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫ث‬ ‫م‬
‫تعيسة ُ‬
‫تتحدث عن هذا الصنف من الناس‪ ،‬فهل تستطيع أن تجد مثل ًا لهم‪ ،‬لضحايا هذه العقلية الوضيعة‪ ،‬أقرب من اليهود؟‬ ‫َّ‬ ‫وقدرتهم‪ .‬كنت‬
‫لقد دفعتهم فكرتهم القومية‪ ،‬قرنًا بعد قرن‪ ،‬إلى أن يكونوا شعبًا‪ ،‬وشعبًا فقط‪ .‬والشيء الغريب أنهم ظلوا صرعى هذه القيود خالل‬
‫يتحررون من قيودهم بقوة جديدة انبثقت من صميمهم‪ .‬أليس هذا غريبًا؟ أم كيف تستطيع‬ ‫َّ‬ ‫جميعا‬
‫ً‬ ‫القرون الطويلة‪ ،‬بينما كان الناس‬
‫تفسيره؟‬
‫تأم ل فقط‪ ،‬هذا التحرر المجيد من ضعة الحياة وحقارتها‪ ،‬من جمود األيام وبالدتها‪ ،‬قد ظهر ألول مرة فوق تربتهم‪ ،‬ونُودي به‬ ‫َّ‬
‫بلغتهم‪ ،‬وانتمى إلى جنسهم‪ .‬وطبيعي أنهم أبصروه وسمعوه‪ .‬ثم تركوه يذهب عنهم‪ .‬كيف أمكنهم ذلك؟ كيف سمحوا لروح لها كل‬
‫نفع؟ لحساب من كانت هذه التضحية التي تبلغ حد االستشهاد‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫هذه القوة القاهرة والجمال‪ ،‬أن تذهب كالجلدة الفارغة الملقاة بغير‬
‫ومن الذي يستفيد من استمرارها‪ .‬من الذي يستفيد من بقاء كل هؤالء األبرياء من الرجال والنساء واألطفال‪ ،‬لكل ما لهم من مهارة‬
‫ووداعة ‪ ،‬ضحايا للسخرية واالضطهاد‪ ،‬على مر العصور؟ ولماذا كان كل هؤالء الذين يسمون أنفسهم “أصدقاء الشعب”‪ ،‬هؤالء‬ ‫ِ‬ ‫وإنسانية‬
‫خيال‪ ،‬وال موهبة؟ لماذا ال‬‫ٍ‬ ‫بغير‬ ‫ا‬ ‫دائم‬
‫ً‬ ‫كانوا‬ ‫لماذا‬ ‫إليها‪،‬‬ ‫ينتمون‬ ‫التي‬ ‫الجنسيات‬ ‫كانت‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫أي‬ ‫القومية‪،‬‬ ‫مسألتهم‬ ‫عن‬ ‫يكتبون‬ ‫الكتّاب الذين‬
‫يسرحون هذا الجيش الذي حكم عليه بأن يقاتل‬ ‫ِّ‬ ‫يخرج قادة الشعب اليهودي من حدود هذا الكالم الفارغ والحكمة الخاوية؟ لماذا ال‬
‫أبد ا‪ ،‬ويسفك دمه‪ ،‬من أجل غاية ال يعرفها أحد‪ ،‬حتى لو تعرضوا في سبيل أداء هذا الواجب إلى خطر االنفجار؟ لماذا ال يقولون‬ ‫ً‬
‫جميعا‪ ..‬أنتم أول‬ ‫ً‬ ‫تفرقوا‪ .‬امتزجوا بالناس‬ ‫َّ‬ ‫معا كالقطيع‪.‬‬ ‫لهم‪“ :‬كفى‪ ..‬عودوا إلى صوابكم ‪ ..‬ال تتشبَّثوا بأصلكم وال تسيروا ً‬
‫المسيحيين في العالم‪ ،‬وخيرتهم‪ .‬أنتم ضحايا أنفسكم‪ ،‬يقودكم إلى ذلك أضعف عناصركم وأسوأهم”‪.‬‬
‫‪-١٣-‬‬

‫تتعجل الرحيل‪ ،‬وها هي رغبتك قد‬ ‫َّ‬ ‫وفي اليوم التالي‪ ،‬قال جيفاجو عندما عاد إلى البيت لتناول طعام الغداء‪“ :‬لقد كنت‬
‫سعيدا”‪ ،‬فليس من ُحسن الحظ أن نُضرب مرة أخرى ويُضيّق علينا الخناق‪ .‬إن الطريق إلى‬ ‫ً‬ ‫حظا‬
‫تحقّ َقت‪ .‬ولست أقول لك “ ً‬
‫فلست أدرى‪ .‬أحسب‬ ‫ُ‬ ‫أمرا بالرحيل‪ .‬أما إلى أين؟‬ ‫ً‬ ‫الطبية‬ ‫الوحدات‬ ‫جميع‬ ‫َت‬ ‫ق‬
‫ّ‬ ‫تل‬ ‫وقد‬ ‫‪.‬‬ ‫الغرب‬ ‫ناحية‬ ‫الشرق مفتوح‪ ،‬والضغط قادم من‬
‫دائما‪ .‬سيقول لك كارينكو إنه أعطاها البنته لتغسلها‪ ،‬فإذا سألته أي ابنة‬ ‫ً‬ ‫يا كاربنكو أن ثياب جوردون لم تُغسل بعد‪ .‬القصة نفسها‬
‫يستطع أن يجيب‪ ،‬يا له من أبله!”‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫هي‪ ،‬وأين تكون‪ ،‬لم‬
‫يلق جيفاجو بال ًا لتذرعات كارينكو‪ ،‬وال العتذارات جوردون عن استعارة أقمصته‪ .‬وإنما قال‪“ :‬هكذا حياة الجندية‪ .‬ما تكاد‬ ‫َ‬ ‫ولم‬
‫قذرا خانقًا‪ .‬الموقد‬
‫ً‬ ‫كان‬ ‫‪.‬‬ ‫األمر‬ ‫أول‬ ‫جئناه‬ ‫عندما‬ ‫يعجبني‪،‬‬ ‫المكان‬ ‫هذا‬ ‫في‬ ‫شيء‬ ‫يكن‬ ‫لم‬ ‫‪.‬‬‫آخر‬ ‫إلى‬ ‫نقل‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫حتى‬ ‫مكان‬ ‫على‬ ‫تعتاد‬
‫في غير مكانه المناسب‪ ،‬والسقف شديد االنخفاض! وإني ألعجز عن تذكُّر أي شيء عن المكان الذي جئنا منه‪ .‬وفي الوقت نفسه‪،‬‬
‫أحدق في ركن هذا الموقد‪ ،‬حيث أشعة الشمس‪ .‬تعبرها ظالل تلك‬ ‫ِّ‬ ‫فإني ال أمانع اآلن في قضاء عمري كله في هذا المكان‪،‬‬
‫الشجرة”‪.‬‬
‫تعجل‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫وحزموا أمتعتهم بغير‬
‫واستيقظوا خالل الليل على أصوات صراخ‪ ،‬وطلقات بنادق‪ ،‬ووقع أقدام‪ .‬كان هناك احتدام غاضب في القرية‪ ،‬وكانت ظالل المارة‬
‫تتخل َّل النافذة‪ ،‬وقد نهض صاحب البيت وزوجته من فراشهما خلف الحاجز‪ .‬وأرسل يوري خادمه ليسأل عن سبب كل ذلك الهرج‪.‬‬
‫وعاد الخادم يقول‪“ :‬إن األلمان قد اخترقوا الخطوط”‪ ،‬فأسرع يوري إلى المستشفى حيث استوثق من صحة الخبر‪ .‬كانت القرية‬
‫تحت النيران‪ ،‬وقد نُقل المستشفى على الفور‪ ،‬دون انتظار األوامر بالجالء‪.‬‬
‫وقال يوري لجوردون‪“ :‬سنغادر هذا المكان قبل الفجر‪ .‬ستبارح أنت مع الدفعة األولى‪ .‬إن العربة المسافرة قد تهيَّأت للرحيل‪،‬‬
‫حظا حسنًا‪ .‬سأمضي معك إلى العربة‪ ،‬كي أتأكد من وجود مكان‬ ‫ً‬ ‫ولكني طلبت منهم أن ينتظروك ليأخذوك معهم ‪ .‬ال بأس‪ ،‬أرجو لك‬
‫لك فيها”‪.‬‬
‫وأخذا يركضان‪ .‬ينحنيان حينًا‪ ،‬ويحتضنان الجدران حينًا آخر‪ ،‬والرصاص يئز من حولهما‪ ،‬واالنفجارات تبدو لهما من مفارق الطرق‪،‬‬
‫وكأنهما مظلَّة كبيرة من النيران قد انتشرت فوق الحقول‪.‬‬
‫وسأل جوردون صاحبه وهما يركضان‪“ :‬وأنت‪ ،‬ماذا ستصنع؟”‪.‬‬
‫فأجاب يوري‪“ :‬سأتبعك في الدفعة التالية‪ ،‬فال بد لي من العودة‪ ،‬لحزم أمتعتي”‪.‬‬
‫تتكو ن منه القافلة يتحرك‪ ،‬فتصطدم العربات ببعضها‪ ،‬ثم تفسح كل منها الطريق‬ ‫َّ‬ ‫افترقا عند حانة القرية‪ .‬وبدأ رتل العربات الذي‬
‫ولو ح يوري بيديه لصديقه الذي استطاع أن يراه لبضع لحظات أخرى على ضوء لهب متصاعد من إحدى الحظائر‪.‬‬ ‫لألخرى‪َ ّ .‬‬
‫أرضا‪،‬‬
‫ً‬ ‫مسرعا‪ ،‬يحتمي في الطريق بجدران المنازل‪ ،‬وإذ أصبح على بُعد بضع ياردات من منزله‪ ،‬وقع انفجار طرحه‬ ‫ً‬ ‫وعاد يوري‬
‫فاقدا وعيه والدماء تنزف منه‪.‬‬
‫ً‬ ‫وأصيب منه بشظية‪ .‬فسقط في وسط الطريق‪،‬‬
‫‪-١٤-‬‬

‫الخط الحديدي‪ ،‬بالقرب من مقر‬ ‫ِّ‬ ‫كان يوري يتماثل للشفاء في عنبر الضباط في مستشفى نُقل حديث ًا إلى قرية صغيرة تقع على‬
‫يوما دافئًا من أيام فبراير‪ ،‬وقد فتحت النافذة القريبة من فراشه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫القيادة العامة‪ .‬وكان اليوم‬
‫وكان المرضى يقتلون الوقت قبل الغداء‪ ،‬وقد شاع بينهم أن ممرضة جديدة قد التحقت بالمستشفى‪ ،‬وستقوم بجولتها األولى فيه هذا‬
‫لتوها‪ ،‬متأ ِّففا من المساحات البيضاء‬‫اليوم‪ .‬وعلى الفراش المقابل لفراش يوري‪ ،‬جلس جاليولين يقرأ الصحف التي كانت قد وصلت ِ ّ‬
‫كومة كبيرة‪ ،‬وكان النسيم يهب فيعبث‬ ‫التي أحدثتها فيها رقابة النشر‪ .‬أما يوري‪ ،‬فكان يقرأ رسائل تونيا التي وصلت إليه في ْ‬
‫أقدام رقيقة‪ ،‬دخلت الرا على إثرها إلى الغرفة!‬ ‫ٍ‬ ‫بأوراق الرسائل والصحف‪ ،‬عندما سمع صوت‬
‫تقدمت إلى‬‫َّ‬ ‫وإنما‬ ‫منهما‪،‬‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫أي‬ ‫تعرف‬ ‫فلم‬ ‫هي‬ ‫أما‬ ‫وعرفها كل من يوري وجاليولين‪ ،‬دون أن يفطن أحدهما إلى معرفة اآلخر لها!‬
‫وسط الغرفة وهي تقول‪“ :‬كيف حالكم؟ لماذا تتركون النافذة مفتوحة؟ أال تشعرون بالبرد؟”‪ .‬ثم اتجهت إلى جاليولين وسألته عن‬
‫تحدق فيه بنظرات مليئة‬ ‫ِّ‬ ‫لتجس نبضه‪ .‬ولكنها سرعان ما تركت يده‪ ،‬وجلست على حافة فراشه‬ ‫َّ‬ ‫حالته‪ ،‬وأمسكته من رسغيه‬
‫بالدهشة‪.‬‬
‫ِ‬
‫لك بما‬ ‫معا في كتيبة واحدة‪ ،‬ولقد احتفظت‬ ‫وقال جاليولين‪“ :‬لم يكن هذا متو ّقَ ًعا يا الريسا فيودوروفنا‪ .‬فقد عرفت ْ‬
‫زوجك‪ ،‬وكن َّا ً‬
‫كان لديه من أشياء”‪.‬‬
‫عما حدث‪ .‬لقد قتلته‬ ‫َّ‬ ‫ترد د‪“ :‬أيمكن هذا؟ أيمكن هذا؟ يا لها من مصادفة غريبة‪ ،‬أكنت تعرف زوجي؟ خبِّرني إذن‬ ‫ِّ‬ ‫وأخذت الرا‬
‫تخش أن تخبرني بكل ما حدث!”‪.‬‬ ‫َ‬ ‫فال‬ ‫شيء‪،‬‬ ‫كل‬ ‫أعرف‬ ‫أني‬ ‫ترى‬ ‫ذا‬ ‫أنت‬ ‫ها‬ ‫كذلك؟‬ ‫أليس‬ ‫االنفجار‪،‬‬ ‫ودفنه‬ ‫قذيفة‪،‬‬

You might also like