You are on page 1of 20

‫اإلسالم والمسيحية بين ذهنية الصراع وحركية اللقاء‬

‫السيّد مح ّمد حسين فضل هللا‬


‫محاضرة ألقيت في قاعة األسمبلي هول في الجامعة األميركية‬

‫بتاريخ ‪ 19‬كانون الثاني ‪1994‬‬

‫حقوق الطبع محفوظة‬

‫‪1418‬هـ ــ ‪1997‬م‬

‫دار المالك للطباعة والنشر والتوزيع‬


‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫عندما نثير اسم المسيحية واإلسالم كما نثير أي عنوانين من العناوين التي تتحرَّ ك في الوجدان وتفرض نفسها على الواقـع‪ ،‬فـإن‬
‫ذلك يربطنا بالتعددية في الحياة‪ .‬وإذا كنا َّ‬
‫نتمث ل التعددية فال بد لنا أن ننفذ إلى داخلها لنتساءل‪ :‬هل أن التعددية فينــا فكــراً يتع ـدَّد‪،‬‬
‫وحركة تتنوَّ ع؟ هل التعددية فينا هي القضاء والقدر‪ ،‬بحيث ال بد أن نستسلم لها فال نسمح للفكر أن ينفذ إلى أجوائها ليقرب بينها‬
‫في اتجاه الوحدة‪ ،‬ونعمل على حراستها فيما نستحدثه من هياكــل مقدَّســة تحــرس االنفصــال في الحيــاة‪ ،‬أو من أفكــار تحــاول أن‬
‫تجذر التعددية في صعيد الواقع؟ أو أننا نتقبَّلها كواقع وندرس إيجابياتها في حركتــه‪ ،‬ثم نحــاول أن ننفــذ إلى ســلبياتها لنــدخل في‬
‫مقارنة بين اإليجابيات والسلبيات في أجواء الفكر الحر الذي ال يختنق في داخــل الزوايــا والكهــوف التاريخيــة أو فيمــا يســتحدثه‬
‫اإلنسان من كهوف في تعصباته ونزواته وما إلى ذلك‪.‬‬

‫المسافةـ بين التعددية والوحدة؟‬

‫إن المسألة أن التعددية واقع وأن الوحدة فيما يتعدد الناس كهدف ليست شيئا بعيداً عن الواقع‪ ،‬ولكن كيف نقطع هذه المســافة؟ـ إنّ‬
‫أول شرط للتحرّ ك في هذه المسافة هو أن تكون لنا‪ ،‬في العقل في داخــل الوجــدان‪ ،‬موضــوعية النظــرة إلى الفكــر وإلى الحركــة‬
‫وأن تكون لنا واقعية التحرّ ك في هذا الطريق أو ذاك‪ ،‬ألنّ قضية أن تصر على أني بقى فكرك معلّبـا ً ألنّ هنــاك كثــيراً من علب‬
‫التاريخ التي كانت تعلّب اإلنسان من خالل أنها تعلّب له فكره‪ ،‬وكانت تجدّد كلما اهترأت‪ ،‬حتى أصــبح التجديــد ال في مــا داخــل‬
‫العلبة لنطلقها في الهواء‪ ،‬ولكن التجديد في شكل العلبة ولونها‪.‬‬

‫موج َع ال َقل ِ‬
‫ب باكِيا‬ ‫فار ُ‬
‫قت َشيبي َ‬ ‫ِقت أَلوفا ً لَو َر َح ُ‬
‫لت إِلى الصِ با *** لَ َ‬ ‫ُخل ُ‬

‫إنّ نخرج من أفكارنا عندما نكتشف فيها الخطأ يعني أننا نتج ّد د‪ ،‬ال أننا نموت‪ .‬هذه النظرة الموضوعية التي يحترم فيها اإلنسان‬
‫إنسانيته عندما يحترم فكره‪ ،‬إن إنسانيتنا هي عقلنا في العمق وكل ما في داخل النفس هو شيء للعقل فيه مجال‪ ،‬حتى الــروح لن‬
‫تكون شيئا ً غائبا ً عن العقل ولكن العقل ينفذ إليها "فيعقلن" بعض ما فيها حتى ال تختلط الروح بالخرافة‪ ،‬ألنّ العقــل يُبقي للــروح‬
‫روحيتها عندما ينفذ إليها‪.‬‬

‫احترام العقل في حريته‬

‫إنسانيتنا هي عقلنا‪ ،‬العقل نحن وللعاطفة دور في حياتنا لذلك أن نحترم عقلنـا أن يبقى حـراً‪ ،‬متحرّكـاً‪ ،‬ليس هنـاك َمن يملـك أيـة‬
‫قداسة يمكن لها أن تصادر العقل أو تحبسه‪ ،‬من الممكن جداً أن تدخل إلى العقل لتناقشه لتتفهّم بعض ما فيـه ولتطـرد منـه بعض‬
‫ما عنده‪ .‬لذلك أن نعتبر العقل أساسا ً في منطقته‪ ،‬في المنطقة التي يمكن له أن يجد مفرداته‪ ،‬سواء كان عقالً نظريا ً أو كــان عقالً‬
‫عمليا ً‪ .‬أما ما هو فوق العقل‪ ،‬أما ما هو الغيب فإننا ننطلق إلى العقل لنكتشف وجـوده‪ ،‬وإن كــان العقــل ال يســتطيع أن يــدخل في‬
‫يمثل إمكانيتك ألنّ اإلنسان لم يستطع أن يعيش شمول الحس‬ ‫تفاصيله‪ .‬يكفي لك في اإليمان بالغيب أن يقول لك العقل‪ :‬إنّ الغيب ّ‬
‫فكيف يمكن أن ينكر ما وراء الحسّ ؟ الحس قد ال يستطيع أن يبلغ الغيب ولكنه يستطيع أن يكتشف وجوده‪.‬‬
‫عندما نكون عقالنيين‪ ،‬نؤمن من خالل العقل ونكفر من خالل العقل‪ ،‬ونتحرّ ك في كل برامجنا ومناهجنا بهذه الطريقــة العقالنيــة‬
‫فإننا لن نجد المساحةـ واسعة وشاسعة بين تجربة الوحدة في خط التعددية‪ ،‬ألنك تستطيع بالعقل أن تختصر الكثــير من المســافات‬
‫وأن تعمّق الكثير من الجذور‪.‬‬

‫* إطاللة على التعددية الدينية؟‬

‫من خالل ذلك أحب أن أدخل في التعدديـة الدينيـة‪ .‬نحن نعيش في واقعنـا الـديني في العـالم في التـاريخ عنـدما كـان الـدين يحكم‬
‫التاريخ أو يصنعه‪ ،‬وفي الحاضر عندما يتحرّ ك الدين هنا وهناك ليــدخل في كــل هــذا الجــدل وهـذا الصــراع وهـذا الواقــع الــذي‬
‫ينطلق فيه اإلنسان بين القديم والجديد‪ .‬عندما نالحظ الحس الديني فإن المشكلةـ التي نواجهها هي أنّ الغالب في الحس الديني أنــه‬
‫حس ضيّق الصدر‪ ،‬ضيّق العقل واإلحساس‪ ،‬من الصعب جداً أن تأتي إلى متديّن حتى لو كان يأخذ بــالكثير من أســباب العلم أن‬
‫تناقشهـ في دينه‪ ،‬أو أن تعمل على إثارة بعض عالمات االستفهام فيما هو فيه‪ .‬إن االنفعال هو الرد‪ ،‬وقليالً قليالً مــا يكــون الفكــر‬
‫هو الرد‪ .‬لماذا ذلك؟‬

‫ألنّ الكثير من المتديّنين ارتبطوا بالحقيقة الدينية وجدانيا ً وتراثياً‪ ،‬ولم يرتبطوا بها عقالنياً‪ ،‬فنحن مسلمون غالباً‪ ،‬إننا نتحـدّث في‬
‫حجم الظاهرة وال نتح ّدث في حجم الشمولية‪ ،‬إننا مسلمون ألننا وجدنا آباءنــا على اإلســالم‪ ،‬وإننــا مســيحيون ألننــا وجــدنا آباءنــا‬
‫على المسيحية‪ ،‬وقد استحدث أيضا ً أننا ماركسيون ألنّ آباءنا كانوا ماركســيين‪ ،‬وقوميــون ألنّ الخــط في الشــرق واحــد‪ ،‬الذهنيــة‬
‫واحدة‪.‬‬

‫اإلسالم والمسيحية كانتا‪ ،‬في وعينــا اإلنســان الــديني‪ ،‬إرثـاً‪ ،‬كانــا شــيئا ً يتحــرّ ك في امتــداداتنا العاطفيــة بالتــاريخ الــتي صــنع لنــا‬
‫عشيرتنا أو صنعت لنا طائفتنا أو صنعت لنا مواقعنا‪ .‬لذلك أن تشعر أنّ هناك إنســانا ً يريــد ن يهــز لــك دينــك معنــاه أن يهــز لــك‬
‫تاريخك وتراثك وطائفتك وكل ما استحدثته من تقاليد‪ ،‬ويخيّل إليك أنه يريد أن يسحب منك ذاتك‪.‬‬

‫لذلك تكون عملية المواجهة حالة ثأرية للنفس للدفاع ال للفكر‪ ،‬ث ّم إنّ مسألة الدين ت ّتصل بالجانب المقدّس من الوجدان‪ ،‬وبالجانب‬
‫المقدّس من الفكر‪ ،‬وبالتالي فإنّ المقدّس عادة ي ّتخذ لنفسه حالة حميمية للشعور قبل أن ي ّتخذ لنفسه حالة عميقة في الفكر‪ .‬الشعور‬
‫يسبق الفكر في المقدّسات‪ ،‬وذلك فإنّ الشعور عنــدما يتحـ ّرك ليع ّبــر عن نفســه فإنــه ال يــترك للعقــل أن يواجــه المســألة بطريقتــه‬
‫الموضوعية الخاصة‪.‬‬

‫األنبياء خاطبوا عقول الناس‬

‫إنّ مقدّساتنا تحوّ لت إلى ما يشبه أن تكون جزءاً من ذاتنا‪ ،‬لذلك بدأ الكثيرون من الناس يقولون بفعل هذه الظاهرة أن الــدين ليس‬
‫حالة عقالنية‪ ،‬إنما هو حالة إحساسية أو حالة وجدانية‪ ،‬وبدأ الكثيرون‪ ،‬حتى من ّ‬
‫منظري الــدين‪ ،‬يتحـدّثون أن الــدين فــوق العقــل‬
‫وإنك عندما تتعلقن لن تكون متديّناً‪ ،‬إنما تكون متديّنا ً إذا أطلقت العقل في غيبوبة‪ .‬إنها صورة حركــة الــدين في الواقــع في ّ‬
‫تمثــل‬
‫المتديّنين للدين‪.‬‬

‫ولكننا نفهم من خالل كل تاريخ الذين أطلقوا الدين وهم األنبياء أنهم كانوا يخاطبون عقــل اإلنســان وفكــره ووجدانــه‪ ،‬والوجــدان‬
‫ليس شيئا ً آخر غير العقل لكنه العقل الفطري الذي ينطلق فيه اإلنسان من موقع طبيعة إنسانيته فيما يســميه الفالســفة بالبــديهيات‬
‫التي ال تحتاج فيها إلى دليل‪ ،‬ويعتبرها بعض الناس من األسس التي ترتكز عليها حركة العلم‪ ،‬ألنّ حركة الشك ال بد لها في كل‬
‫مسيرتها أن تصل إلى حالة اليقين وإال بقي اإلنسان فكراً معلّقا ً في الفضاء ال يستطيع أن يرتكز على قاعدة أبداً‪.‬‬

‫إنهم كانوا يخاطبون عقل اإلنسان‪ ،‬وعندما ندخل في حوارات األنبياء مع األمم التي أرســلوا إليهــا نجــد أنهم كــانوا يعملــون على‬
‫تقديم أفكارهم بطريقة عقالنية موضوعية‪ ،‬وكانوا يطلبون من اآلخرين أن يناقشــوهم وكــانوا يقولــون لهم‪ ،‬عنــدما يخــالفونهم في‬
‫ِين }‪ ،‬وكانوا يقولون للجاهلين الذي يدخلون في الجدال في ما ال علم لهم { َهــا أَ ْن ُت ْم َهــؤُ اَل ِء‬ ‫صا ِدق َ‬ ‫الرأي {قُ ْل َها ُتوا بُرْ َها َن ُك ْم إِنْ ُك ْن ُت ْم َ‬
‫ْس لَ ُك ْم ِب ِه عِ ْل ٌم}‪ .‬كن عالما ً وأدخل الجدل والحجاج والنقاش‪.‬‬ ‫اججْ ُت ْم فِي َما لَ ُك ْم ِب ِه عِ ْل ٌم َف ِل َم ُت َحاجُّ َ‬
‫ون فِي َما لَي َ‬ ‫َح َ‬

‫حتى إنّ األنبياء عندما كانوا يتح ّد ثون عن وجود هللا كانوا يسمحون لآلخرين في أن يدخلوا في الحوار حــول وجــود هللا‪ ،‬وحــول‬
‫توحيد هللا‪ ،‬وحول رسالة الرسول وما إلى ذلك‪ ،‬وكــانوا يخلّــون كــل هـذه الشــبهات‪ .‬الــدين ليس حركــة شــعور غامضــة ضـبابية‬
‫يحسها اإلنسـان وال يفهمهــا ولكنهـا حركـة فكــر يعمـل على أن ينـاقش األشــياء لتكـون العقيــدة من خالل الفكــر‪ ،‬فكـر يــدخل في‬
‫التفاصيل وفكر يقرّ ر المبدأ ليترك للنبوة أن تحدد التفاصيل في الخط العام للمبدأ‪.‬‬

‫لعقلنة المنطلقات الدينية؟‬

‫‪ -‬لذلك ال بد لنا عندما نريد أن ندخل في المسألة الدينية أن ن ّت فق على أن نعقلن المنطلقات الدينية حتى لو اقتربنا ونحن نحلّق مع‬
‫الدين في منطلقاته إلى عالم الغيب ليقول لنا العقــل إنّ هنــاك غيبـا ً على أســاس اإلمكـان على األقـل ولكن ال أملــك الوصــول إلى‬
‫تفاصيله فإذا استطعتم أن تؤمنوا بإنسان ما من خالل تجربتكم معه‪ ،‬أيا ً كانت طبيعة التجربة التي تبعث القناعــة في أنّ هــذا نــبي‬
‫أو هذا رسول‪ ،‬إذا استطعتم أن تقتنعوا بأنّ هذا رسول فإنــه قــادر على أن يمنحكم التفاصــيل‪ .‬وإذا لم تكن التفاصــيل عقالنيــة‪ ،‬ال‬
‫يستطيع العقل أن يثبتها فإنكم لن تستطيعوا أن تقولوا‪ :‬إنّ العقل ينكرها‪ ،‬ألنّ العقل ال ينكر مــا ال يملــك الحجــة على نفيــه كمــا ال‬
‫يثبت ما ال يملك الحجة على إثباته‪.‬‬

‫عندما ن ّتفق على أنّ للعقل دوراً في الدين فعلينا أن ننطلق للمؤمنين أن يتعقلنوا‪ ،‬بمعنى أن يعقلنوا إيمانهم الذي يعيشــونه شــعوراً‬
‫ليستطيعوا أن يح ّركوه في ساحة التعددية ألنّ التعدديـة قــد تقتحم إيمانــك من خالل مــا يملكـه اآلخـر من المفــردات الـتي تتحــدى‬
‫إيمانك‪ ،‬لذلك فلكي تحمي إيمانك من حركة التعددية التي ّ‬
‫يمثلها اآلخر في مقابلتك ال بد أن تكون مسلّحا ً بالعقــل الــذي يحمي لــك‬
‫إيمانك لنفسك عندما يقف اآلخر ليخاطب عقلك في مسألة اإليمان‪.‬‬

‫الخطوة األولى‪ ...‬عقلنة اإليمان‬


‫‪ -‬أن تعقلن اإليمان عندنا هي الخطوة األولى ألن ننفتح على كل الفكر الديني كما ننفتح على كل الفكر اآلخر غير الديني‪ ،‬أل ّننــا‬
‫بدون ذلك لن نستطيع أن نلتقي‪ ،‬سيكون الشعور الملتهب بديالً عن العقل‪ ،‬وستكون الغريزة بديالً عن الفكر‪ .‬ولع ّل هــذا هــو سـ ّر‬
‫الواقع الذي يعيشه الكثيرون منا حتى الذين نقول إنهم طيّبون‪ ،‬إنهم يتحرّ كون غرائزيا ً وال يتح ّركون دينيا ً فيما هو العمق الديني‪.‬‬
‫عندما نعقلن طريقتنا في مواجهة اآلخر فإننا نستطيع أن نحترم اآلخر ونتعايش مع اآلخر ونستطيع أن ننســجم مــع اآلخــر حــتى‬
‫في الحاالت التي يختلف فيها اآلخر معنا‪.‬‬

‫تلك هي المسألة التي ال بد لنا أن نثيرها على أساس أنه المنهج الذي ربما نحتاج إلى الكثير الكثير من الجهد والمعاناة للوصــول‬
‫إليه‪ ،‬ال سيما في الشرق‪ ،‬لعـ ّل مشـكلتنا في مسـألتنا الدينيـة ليسـت هي مشـكلةـ المضـمون الـديني فحسـب ولكنهـا مسـألة الذهنيـة‬
‫الشرقية‪ ،‬فنحن في الشرق‪ ،‬ال أدري هل هي مسألة أن هذا الشروق الدائم يعطينا في داخل عقولنا شيئا ً من الحــرارة الــتي تلتهب‬
‫أل ّنها حرارة قوية جداً في كل ما يواجهه اإلنسان في كل حالة شروق الشـمس فيكـون لنــا الفكــر الحـار والوجـدان الحــار والقلب‬
‫الحار‪ ،‬ث ّم الخطوات الحارّ ة‪ .‬وأنتم تعرفون أنّ الحرارة إذا ازدادت فإنها تعطي بخاراً كثيفا ً إذا لم تعطِ دخاناً‪ .‬وقصــة الــدخان مــع‬
‫العقل كما هي قصة البخار مع الوجدان‪ ،‬هي قصة تحجب وضوح الرؤية عندنا‪.‬‬

‫لذلك نحن في الشرق ال نصبر على تعددياتنا‪ ،‬بل تتحوّ ل التعدديات عندنا إلى نزاع وخالف وتقاتل وحرب وما إلى ذلك‪ .‬نحتــاج‬
‫إلى أن نعمل على أساس أن نحتفظ لشرقيتنا بكل معانيهاـ اإليجابية في ما هو الوضــوح واإلشــراق ومــا إلى ذلــك ولكن علينــا أن‬
‫نعطيها شيئا ً من العقل البارد والطبع البارد والصدر الواسع‪.‬‬

‫وقفة مع العنوان‬

‫من خالف ذلك ننفذ إلى العنوان "المسيحية واإلسالم بين ذهنية الصــراع وحركيــة اللقــاء"‪ ،‬المســيحية واإلســالم دينــان يحتويــان‬
‫أكثر العالم ويبقى لليهودية مجال كدين ويبقى للبوذية وغيرها من أديان الهند مجال ولكن العنوان الكبـير الـذي دخـل في وجـدان‬
‫العالم الفكري وفي قِ َيم العالم الروحية واإلنسانية بحيث ش ّكل ألكثر الناس رواسـب تجعلهم يتحرّكـون دينيـا ً حـتى وهم ملحـدون‪،‬‬
‫وش ّك ل لإلنسان عالمات في خطوطه الفكرية والعملية بحيث أنه يتحرك دينيا ً بطريقة ال شعورية‪.‬‬

‫المسيحية واإلسالم عاشتا عهوداً كــانت مع ّقــدة ولكن تعقيــداتها لم تكن في أغلب خلفياتهــا ومظاهرهــا مســألة تتصــل بالمضــمون‬
‫الفكــري لإلســالم أو المضــمون الفكــري للمســيحية‪ .‬كــانت في غالبهــا تبحث عن الســيطرة‪ ،‬عن الســلطة‪ ،‬عن بعض التعقيــدات‬
‫الطارئة‪ ،‬عن بعض األوضاع القلقة التي تتحرك من خالل المجموعة اإلسالمية في بُعدها اإلنساني وفي خصوصياتها البيئية أو‬
‫اإلقليمية أو ما إلى ذلك‪ ،‬ال من خالل مضمونها الفكري الذي يجعل إنسانا ً يُقاتل إنسانا ً ألنه يف ّكر بطريقة مختلفة‪.‬‬

‫السيف ال يقتل الفكر‬


‫ولعلّنا نستفيد ذلك من أنّ الحروب بين المسيحيين أنفسهم وبين المسلمين أنفسهم في مدى العالم قد تكون أقســى من الحـروب بين‬
‫المسلمين والمسيحيين مع أنّ البُعد بين أبناء المذاهب المتعدّدة في الدين الواحد أقل مسـافة من البُعـد بين دين ودين مهمـاـ اختلفت‬
‫الفروق؟ ذلك نفهم أنّ المسألة لم تكن مسألة فكر يقتل فكراً ألنّ السيف ال يقتل الفكر‪ ،‬حتى لو قتل اإلنسان الذي يحمل الفكر فــإنّ‬
‫الفكر يفرض نفسه خارج وجود هذا اإلنسان ولهذا نجد أن الذين قتلوا من أجل أفكارهم كانت أفكارهم أشد وهجا ً وأكثر عمقا ً في‬
‫حياة الناس‪.‬‬

‫كانت هناك تعقيدات ُخيِّل فيها للمسلمين كما في الحروب الصليبية أنّ المسيحية في بُعدها ُتحارب اإلسالم‪ ،‬وخيِّل للمسـيحيين في‬
‫كثير من تجارب الحروب في الشرق والشرق العربي في الذات أنّ اإلسالم يُحارب المسيحية ويريد أن يقتلهــا‪ .‬ولكن القضــية لم‬
‫تكن كذلك‪ ،‬وها نحن وجدنا أنّ المسيحية استمرّ ت في الساحة التي كان اإلسالم يحكمها ويعيش فيها‪ ،‬كمــا أنّ اليهوديــة اســتمرّت‬
‫بشكل أكثر راحة من المواقع التي في الشرق اإلسالمي بشكل أقوى من حالتها في الغرب أو في مكان آخر‪.‬‬

‫ماذا يعني هذا؟ إنّ هذا يعني أنّ الحروب كانت خارج نطاق الوجدان الديني‪ ،‬وإنما كانت العناوين الدينيــة في كــل مــا ُتعانيــه من‬
‫التهاب هي التي كانت تثير الحماس واالنفعال‪ ،‬وهذا ما يجعلنـا نشـعر بـأنّ علينـا أن نـدلس تـاريخ حروبنـا ونزاعاتنـا وخالفاتنـا‬
‫واضطهاداتنا ـ إذا ص ّح التعبير ـ المشتركة‪ ،‬أن ندرسها بطريقة عميقة لنستطيع أن نحدّد طبيعة هذه الحــروب حــتى نتخلّص من‬
‫ضغط التاريخ الذي يفرض نفسه على المسيحي ليقـول لــه‪ :‬إنّ عليــك أن تخــاف من اإلســالم والمســلمين‪ ،‬أو يفــرض نفســه على‬
‫المسلم ليقول له‪ :‬إنّ عليــك أن تخــاف من المســيحية والمســيحيين ألنّ الماضــي كــان ماضــي الخــوف في هـذا الموقــع تجــاه هـذا‬
‫وماضي الخوف في ذاك الموقع تجاه ذاك‪.‬‬

‫افهموا التاريخ فهما ً جديداً‬

‫إنّ الدراسة المتأنيّة العقالنية الموضوعية للتاريخ قد تستطيع أن تعطينا الكثير من وضوح الصورة في هــذا الجــانب لتخ ّفــف من‬
‫ضغط رواسبنا التي ورثنا فيها الحقد والخوف والتعقيد وما إلى ذلك‪ .‬وهذه مسؤولية الذين يكتبون التاريخ‪ ،‬ولعلّنــا عنــدما نقــول‪:‬‬
‫إننا نريد إعادة كتابة التاريخ فإننا ال نريد من إعادة كتابة التاريخ أن نغيِّر المضمون التاريخي من خالل أفكار نحاول أن نصــنع‬
‫منها تاريخاً‪ ،‬ولكن أن نفهم التاريخ فهما ً جديداً‪ .‬أن تلتقط من هذه القصة مفردة صغيرة قد تضيء لــك كــل جــوانب القصــة‪ ،‬وأن‬
‫تلتقط من هذا الحدث حدثا ً صــغيراً يمكن أن يكشــف لـك كـل خلفيــات الحـدث‪ .‬ونحن نعــرف أنّ بعض المــؤرخين مولعــون بــأن‬
‫يعطونا الصورة القاتمة من التاريخ ألنهم يريدون لنا أن يكون واقعنا أكثر قتامة‪ .‬وهذا ما الحظنــاه في كثــير من مظــاهر حركــة‬
‫االستشراق‪ .‬ونحن ال نرفض حركة االستشراق ونعـرف أنّ فيهــا الكثـير من اإليجابيـات في المنهج وفي التحليــل وفي كثــير من‬
‫المفردات التي استطاع المستشرقون أن يلتقطوها ويغنوها في تحليالتهم‪ ،‬ولكن القضية أنّ االستشراق في مرحلة ما أو في كثير‬
‫يمثــل في بعض مواقعــه قاعــدة من قواعــد‬ ‫يمثل هامشا ً من هوامش الفــاتحين والغــزاة والمســتعمرين كمــا كــان ّ‬
‫من المراحل كان ّ‬
‫التعصّب وما إلى ذلك‪.‬‬

‫إنّ علينا أن ندرس تاريخنا كما هو‪ ،‬لكن أن نفهمه جيداً من خالل أن ال نغفل أي حدث فيه ألنه ال يتناسب مع خطتنا‪ ،‬وال نطرد‬
‫أية حادثة فيه ألنها ال تتناسب مع أوضاعنا‪.‬‬

‫اختزان الوجدان الديني‬


‫ث ّم ننفــذ إلى الواقــع‪ ،‬المســيحية واإلســالم همــا خطــان في الوجــدان اإلنســاني في العــالم‪ ،‬قــد ال يكــون الكثــيرون من النــاس في‬
‫المسيحيين والمسلمين متدينين بالمعنى العملي للدين‪ ،‬وحتى بالمعنى الفكري التفصيلي للدين‪ ،‬ولكننا نعتقد أنّ هناك وجــدانا ً دينيـا ً‬
‫يختزنه المسلمون والمسيحيون في العالم بحيث يفرض نفسه على خلفياتهم االجتماعية والسياسية والذاتية ويتحرّ ك في كثــير من‬
‫خطواتهم وخططهم في الواقع‪.‬‬

‫إننا نجد هناك‪ ،‬في بعض ما نعيشه في الشرق أو في الغرب‪ ،‬غربا ً علمانيا ً إلى د اإللحاد ولكنه عندما يواجه اإلسالم فإنه يتحرّك‬
‫التعصـب‪ .‬هـو ليس مسـيحيا ً لكنـه يعيش الوجـدان المسـيحي من خالل‬ ‫ّ‬ ‫كما لو كان مسيحيا ً كاثوليكيا ً متعصّبا ً في أقصى درجـات‬
‫عصور التخلّف التي كان فيها االنتمــاء الــديني يحمــل في داخلــه الكثــير من الحقــد للــدين اآلخــر‪ .‬وربمــا نجــد أيضـا ً في الشــرق‬
‫اإلسالمي بعض الناس الذين قد يحدّثونك عن الماديــة الديالكتيكيــة أو التاريخيــة أو عن اإللحــاد‪ ،‬لكنهم عنــدما ينطلقــون في خــط‬
‫المواجهة ضد المسيحيين فإنك تشعر أنهم يتح ّر كون كما لو كانوا مسلمين ملتزمين‪ ،‬وهذه تجربة عشناها في لبنان‪.‬‬

‫هناك ملحدون يتحرّ كون بالعصبية اإلسالمية ربما بأكثر مما يتحرّ ك به اإلنسان المسلم الملــتزم‪ ،‬ألنهم يعيشــون الوجــدان الــديني‬
‫في رواسبهم وإن لم يعيشوه في عقولهم‪ ،‬ال يزال الوجدان الديني يفرض نفسه على كل حركة اإلنسان في العالم‪ ،‬والقليلــون جــداً‬
‫يمثل أكثرية في الواقع‪.‬‬‫في العالم الذين استطاعت علمانيتهم أن تعزلهم عن الدين كلية‪ ،‬وربما بدأ هذا العدد يتنامى لكنه ال ِّ‬

‫عندما نعيش هذا الوجدان الديني فهناك مشكلة‪ ،‬وهذه المشكلة هي أنّ هنــاك فهمـا ً مع َّقداً لمســألة اإلســالم والمســيحية في المواقــع‬
‫المختلفة‪ ،‬فهناك في الشرق اإلسالمي الذين يتصوّ رون أنّ الغرب يعني المسيحية وأنّ حركــة الغــرب االســتعمارية أو أنّ حركــة‬
‫الغرب العدوانية في أية حالة من الحاالت هي حركة مسيحية في مواجهــة اإلســالم‪ ،‬ولعلّنــا عنــدما نــدرس كثــيراً في أدبياتنــا في‬
‫عهد االستعمار القديم وأدبياتنا في عهد العدوان االستكباري في االستعمار الجديد نجد كثيراً من هذا‪ ،‬حتى رأينا أنّ البابا يضطر‬
‫في حرب الخليج إلى أن يصدر بيانا ً بأنّ حـرب التحـالف في الخليج ال دخـل للمسـيحية فيهـا‪ ،‬وأنّ الفاتيكـان ال يوافـق على ذلـك‬
‫وإنما يدعو إلى حل المسائل بالطرق السلمية‪ ،‬على أساس أنه الحــظ أنّ حجم الحــدث كــان يضــغط على الوجــدان اإلســالمي في‬
‫المنطقة اإلسالمية بالمستوى الذي جعل البعض يخيِّل إليهم أنها حرب المسيحية على اإلسالم وحرب المسيحيين على المسلمين‪.‬‬

‫وهكذا نجد في الغرب َمن يفسِّر حركة التحـ ّرر والمواجهــة لعــدوان اإلدارات الحكوميــة في هــذا البلــد الغــربي أو ذاك‪َ ،‬من يجــد‬
‫المواجهة التي قد تفرض كثيراً من األساليب ربما تكــون أســاليب سياسـية وإعالميـة وأمنيـة‪ ،‬سـواء سـمّيتها إرهابـا ً أو دفاعـا ً أو‬
‫تحرراً‪ ،‬إنّ هناك حركة في الغرب تريد أن توحي للرأي العام الغربي في بعض حركــة اإلعالم أنّ هنــاك عــودة للمســلمين ضــد‬
‫المسيحيين فكأ ّنــك عنـدما تواجـه اإلدارة األميركيـة أو الفرنسـية أو البريطانيــة فإ ّنـك تواجــه المســيحية في هـذه اإلدارات‪ ،‬ونحن‬
‫نعـرف أنّ السـيد المسـيح(ع) ال مكـان لـه ال في الـبيت األبيض وال في هـذه الـدائرة أو تلـك الـدائرة‪ .‬لكن اإلعالم يتحـرّ ك بهـذه‬
‫الطريقة‪.‬‬

‫إنّ علينا أن نعمل على توعية الوجدان الــديني هنــا وهنــاك‪ ،‬بــأنّ مســألة الصــراع السياســي بين المســتكبرين والمستضــعفين هي‬
‫صراع بين االستكبار واالستضعاف‪ ،‬ولذلك نجد أنّ المستكبرين يضغطون في بعض الحاالت على المناطق المسيحية أكثر ممــا‬
‫يضغطون على بعض المناطق اإلسالمية‪ .‬هل أنّ شعوب أميركا الالتينية هي شعوب إسالمية؟ هل أنّ كثــيراً من الشــعوب الــتي‬
‫ضغط عليها الغرب كالهند مثالً وما إلى ذلك هي شعوب إسالمية؟ ولكن الغرب‪ ،‬وال أقصد الشعوب الغربية فالكثيرون منهم قــد‬
‫يكونون مستضعفين مثلنا أمام حكوماتهم ولكني أتحـدّث عن اإلدارات في الـدول الغربيـة مـع االختالف بين إدارة وأخـرى وبين‬
‫مرحلة وأخرى في هذه اإلدارة أو تلك‪.‬‬

‫إننا نستطيع أن نعتبر أنّ المسألة ليست هي مسألة اإلسالم والمسيحية في حركة الصراع كله وإالّ فإننا نجد أنّ الغرب‪ ،‬إذا أردنا‬
‫أن نعطيه الصفة المسيحية‪ ،‬كيف يقف ضد الفلسطينيين والفلسطينيون منهم المســيحيون ومنهم المســلمون؟ هــذه مســألة ال بــد أن‬
‫نثيرها حتى ال تختلط المفردات في أفكارنا عندما نريد أن ننفذ إلى حركة الواقع‪.‬‬

‫إنّ من الطبيعي أن يحدث مثل هذا شيئا ً في الساحةـ من معنى الصراع ألنّ طبيعة الحركة المضادة هنا وهنــاك تفــرض شــيئا ً من‬
‫التعقيدات ومن المشاكل ومن سوء التفاهم والتسابق وما إلى ذلك‪ .‬إننا نتصوّ ر أننا عنــدما نعيش روحيــة اإلســالم كفكــر يريــد أن‬
‫يربح فكر اآلخر وروحية المسيحية كفكر يريد أن يربح الفكر اآلخر فإننا قــد نســتطيع أن نأخــذ بأســباب األســاليب الحديثــة الـتي‬
‫يعيشها الواقع الفكري بأالساليب الموضوعية الحديثـة‪ ،‬فنحن نجـد هنـاك في الغـرب اختالفـا ً في األفكـار‪ ،‬ونجـد أنّ هنـاك تيـاراً‬
‫يدعو إلى نفسه وإلى جانبه تيار يدعو إلى نفسه‪ ،‬سواء على مستوى القواعد الفكرية أو على مستوى الخطوط السياسية ومــا إلى‬
‫ذلك‪ .‬ومع ذلك نجد أنهم يعيشون روحا ً تنافسية‪ ،‬قد يزحف إليها شيء من التعقيد ولكن التعقيــد ال يتحــوّ ل إلى حركــة عنــف‪ ،‬وال‬
‫يتحوّ ل إلى حركة نفي لآلخر أو انغالق عنه‪.‬‬

‫إنها تجربة حيّة عاشها الفكر العلماني‪ ،‬ويمكن للفكر الديني أن يأخذ بها‪ ،‬وعاشتها الحركية العلمانية في إعالمهــا على المســتوى‬
‫الفكري والسياسي ويمكن للحركة الدينية هنا وهناك أن تعيشها في إعالمها على جميــع المســتويات‪ .‬إننــا ال نعتــبر أنّ هــذا النهج‬
‫هو نهج ال يمكن بلوغه ولكن بشرط أن يرجع المب ِّشرون والدعاة إلى ِق َيمهم الروحية‪ ،‬ألنّ مشكلتنا أننا قد ننطلق من روح القيمة‬
‫في خطواتنا األولى لكننا نستغرق في المهمةـ بعيداً عن القيمة‪.‬‬

‫يمثلون المسيحية أبشع البغض والحقد والتعالي وما إلى ذلك‬ ‫المسيحية تقول هللا محبة‪ ،‬ولكنك قد تجد في كثير من خطوات الذين ِّ‬
‫ألنّ اإلنسان قد ينطلق من القيمة ولكنه عندما يستغرق في الدور ينسى القيمة‪ ،‬وقد تجد أيضا ً في اإلسالم الذي يتحدّث أنّ هللا هو‬
‫ص ْوا ِب ْال َمرْ َح َمةِ}‪ .‬نجــد أنّ‬
‫صب ِْر َو َت َوا َ‬ ‫{و َت َوا َ‬
‫ص ْوا ِبال َّ‬ ‫ِين}‪َ ،‬‬ ‫{و َما أَرْ َس ْل َنا َ‬
‫ك إِاَّل َرحْ َم ًة ل ِْل َعالَم َ‬ ‫الرحمان الرحيم وأنّ الرساالت هي رحمة َ‬
‫يمثلون اإلسالم رسميا ً أو قاعــديا ً يعيشــون أبشــع أنــواع‬ ‫الرحمة هي القيمة التي يعيشها اإلنسان المسلم ولكنك تجد الكثيرين ممّن ِّ‬
‫القسوة والعنف وما إلى ذلك‪ .‬ألننا انطلقنا من القيمة أوالً واسـتغرقنا في الـدور ثانيـاً‪ ،‬وهـذا هـو الـذي كنت أعبِّر عنـه في بعض‬
‫أبحاثي روحية المهنة وروحية الرسالة‪ .‬يتحوّ ل الدين عندنا إلى مهمة وهو رسالة‪ ،‬ولذلك نفقد روحية الرسالة في حركة المهنة‪.‬‬

‫إننا نستطيع عندما نعيش ونحن نتحرّ ك في كل خطوة أن نقرأ اإلنجيل قراءة تدخل إلى كل مشاعرنا وعقولنا ونقــرأ القـرآن نفس‬
‫القراءة ونستطيع من خالل ذلك أن نعرف أنّ من الممكن التعايش بين حركة الدعوة وحركــة التبشــير‪ ،‬بحيث يتحرّكــان بروحيـة‬
‫التنافس ال بروحية الصراع‪.‬‬

‫وفي المجاالت األخرى هناك حملة علمانية مادية على الدين كله فكما هناك حملة تستهدف اإلسالم في عقيدتــه وشــريعته فهنــاك‬
‫حملة تستهدف المسيحية بالذات في عقيدتها ومنهجيّتهــا في الحيــاة‪ ،‬هنــاك اســتهداف للمبــدأ‪ ،‬لإليمــان باهلل‪ ،‬والمســيحية واإلســالم‬
‫يستطيعان أن يعيشا روحية اللقاء في مواجهة كل التيارات المضادة التي تعمل على إسقاط مضمون اإليمان في وجدان اإلنسان‪.‬‬
‫المسيحية واإلسالم ينكران الظلم من أي أحد‪ ،‬ويحاربان االستكبار في كل موقع وهمــا يعرفــان أنّ االســتكبار يعيش في المواقــع‬
‫اإلسالمية والمسيحية وأنّ الظلم يعيش في المواقع اإلسالمية والمسيحية ويمكن لهما أن يلتقيا في هذا المجال‪ .‬نحن ال نف ّكــر فقــط‬
‫أنّ الحوار وحده هو اللقاء ولكننا نتصوّ ر أنّ الحركة هي التي تؤ ّكد اللقاء وتجسّده‪ ،‬ويمكن لنا أن نجرِّ ب هذا اللقــاء‪ ،‬وليس بــدعا ً‬
‫من حركة الواقع الفكري والسياسي في العــالم‪ ،‬فنحن نجــد أنّ هنــاك تيــارات فكريــة وسياســية واقتصــادية تلتقي مــع بعضــها في‬
‫القواعد المشتركة وفي األهداف والوسائل المشتركة دون أن يفقد كل واحد منهما خصوصيته في هذا الجانب أو ذاك‪.‬‬

‫لذلك نتصوّ ر أنّ مسألة اللقاء هي مسألة واقعية أثبتت نجاحها في حركة الواقع في المجاالتـ األخرى‪ ،‬فلذلك فإنها لن تكون بدعا ً‬
‫من الحاالت‪ .‬ومن خالل ذلك نعرف أننا في العالم لن نعيش في زاوية ضيِّقة وهي زاويــة الصــراع بين اإلســالم والمســيحية‪ ،‬أو‬
‫الصراع بين المسلمين والمسيحيين‪ ،‬فالمسلمون والمسيحيون يعيشون االستضعاف في أكثر من موقع في العــالم حــتى في داخــل‬
‫الدول المستكبرة‪ ،‬ويمكنهماـ أن يتوحّ دا سياسيا ً في مواجهة االستكبار وفي التخطيط لعناوين مشتركة للعدالة االجتماعية وللحريــة‬
‫ولغير ذلك من األمور‪.‬‬

‫لحوار فكري موضوعي بين المسيحية واإلسالم‬

‫وإذا كنا نريد أن ننطلق بالمسيحية واإلسالم كفكرين يختلفان في المفاهيم‪ ،‬فإننا نجد أن الحــوار الفكــري العلمي الموضــوعي بين‬
‫المسيحية واإلسالم يمكن أن يتحرّ ك في المؤتمرات العلمية والثقافية على أسـاس الموضـوعية الــتي تبحث عن نقـاط اللقــاء الـتي‬
‫تتفق عليها وعن نقاط الخالف لتتحاور فيها ألنّ قضية أن تقنع إنسانا ً بــأي فكـر ال بـ ّد لـك أن تحـ ّرك لـه الفكــر بطريقـة منهجيــة‬
‫لتدخل إلى عقله أو ليدخل إلى قلبه‪ ،‬وسنكتشــف إذا اســتطعنا أن نتحـ ّرك بــالحوار اإلســالمي ــ المســيحي بطريقــة موضـوعية ال‬
‫بطريقة استعراضية إعالنية‪ ،‬كما تفعل في لبنان‪ ،‬فإننا سنكتشف أنّ مسألة القيمة اإلنســانية وأنّ مســألة القيمــة الحياتيــة تلتقي في‬
‫المسيحية واإلسالم بنسبة ثمانين بالمئة‪ ،‬قد تختلف بعض تفاصيل القيمة هنا وبعض تفاصيل القيمة هناك‪ ،‬ولكننا إذا فهمناها فهماًـ‬
‫حقيقيا ً عميقا ً فإننا نجد أنه ليس هناك اختالف في القيمة‪.‬‬

‫وأظنّ أن بعض أحاديثي في هذه القاعة أو في غيرها ألمحت إلى أنّ بعض الناس عنــدما يطلقــون كلمــة الســيد المســيح(ع)‪" :‬إذا‬
‫ضربك أحد على خدك األيمن فادر له خـدك األيسـر"‪ ،‬إنهـا تمثـل الكلمـة الـتي تشـ ّجع على الضـعف ولهـذا رأينـا شـاعراً كبـيراً‬
‫كالشاعر القوي يخاطب السيد المسيح ويخرج عن التهذيب في خطابه للسيد المسيح(ع) عندما يقول في قصيدته المعروفة‪:‬‬

‫يسوع‬
‫َ‬ ‫فاضربْ بسيفِ محمد واهجُر‬ ‫***‬ ‫رفع الضيم‬
‫َ‬ ‫إذا حاولتَ‬

‫سوانا في الورى َحمالً وديعا‬ ‫***‬ ‫فيا َح َمالً وديعا لم يُخلِّفْ‬

‫ك مُستطيعا‬
‫ب النار إن ت ُ‬
‫من عذا ِ‬ ‫أجرنا من عذاب ال َّنير ال ***‬
‫إنه يفهم المسألة مسألة ضعف‪ ،‬ولكني أفهمهاـ مسألة ارتفاع في سمو الروح التي تبلغ من المحبة للمستوى الذي تكون فيــه مه ّيــأة‬
‫أنه إذا ضربها أحدهم على خدها األيمن فإنها تدير له األيسر‪ .‬إنها مســألة نـوع من أنـواع االرتفــاع بــالروح إلى المسـتوى الــذي‬
‫تتخ ّفف فيه من كل أثقال ردود الفعل المتش ّنجة بحيث لو أرادت أن تعفو فإنها تعفو‪.‬‬

‫وبذلك تلتقي هذه القيمة المسيحية الرسالية بالقيمة اإلسالمية التي تقول‪َ { :‬ف َم ِن اعْ َتدَى َعلَ ْي ُك ْم َفاعْ َتدُوا َعلَ ْي ِه ِبم ِْث ِل َما اعْ َتــ دَى َعلَ ْي ُك ْم}‬
‫{وأَنْ َتعْ فُوا أَ ْق َربُ لِل َّت ْقـ َـوى} ولكن اتــرك في قلبــك مســاحةـ من العفــو‪ .‬كن اإلنســان الــذي يشــعر أنــه‬ ‫لك الحق في أن ترد العدوان َ‬
‫صاحب حق ولكن كن صاحب الحق الذي يتح ّس س روح العفو في نفسه فيعفو عن حقه عندما تكون المصلحة اإلنسانية أن يعفــو‬
‫عن حقه‪ .‬ولذلك نلتقي في هذا المجال ـ لتوضيح الصورة ـ بكلمة ألحد أئمة أهل البيت (عليهم الســالم)‪ ،‬اإلمــام علي بن الحســين‬
‫زين العابدين(ع) يقول‪" :‬وأما حق َمن ساءكـ فأن تعفو عنه‪ ،‬فإن رأيت أن العفو عنه يضرّ ه انتصرت لنفسك"‪ .‬أن تعفــو عنــه مــا‬
‫دام العفو ال يشجّ عه على العدوان‪ ،‬فإذا رأيت أنّ العفو يش ّجعه على العدوان انتصرت لنفسك في هذا المجال‪.‬‬

‫لذلك قد يكون الحوار الموضوعي الذي يشترك فيه المسلمون في فهم مصادر المسيحية في قيمهــا ويشــترك المســيحيون في فهم‬
‫تدخالً‬
‫يمثل ّ‬‫مصادر اإلسالم وقِ َيمه فال يقل المسيحي للمسلم‪ :‬ليس من ح ّق ك أن تجتهد في اإلنجيل أو تجتهد في المسيحية ألنّ هذا ّ‬
‫في الشؤون الداخلية عل الطريقة السياسية‪ ،‬أو يقول المسلم للمسيحي‪ :‬ليس من ح ّقك أن تجتهد في القرآن أو في اإلسالم ألن هذا‬
‫يمثل تد ّخالً في شؤون المسلمين‪ ،‬ألنّ قضية القرآن أ ّنه كالم عربي مبين واإلنجيل كالم ُتر ِج َم إلى العربية أو هو في لغتــه يملــك‬‫ّ‬
‫معنى فمن تث ّق ف بهذه اللغة أو تلك اللغة‪ ،‬وبهذه المفاهيم وتلك المفاهيم‪ ،‬فلماذا ال يملك الحق في أن يفهم كمــا يشــاء ويجتهــد كمــا‬
‫يشاء من خالل أصول هذا الموضوع أو ذاك الموضوع ألننا ال نفهم االجتهاد المزاجي أو العشوائي‪.‬‬

‫ليجتهد المسيحي في اإلسالم والمسلم في المسيحية‬

‫لذلك نحن ندعو إلى حركية فكرية ال يحشر كل نوع منها نفسه في زاوية آلخذ المسيحية من خالل المســيحي فال يكــون لي حــق‬
‫أن آخذها بنفسي أو آخذ اإلسالم من المسلمين‪ .‬عندما ننطلق ليجتهد المسلم في المسيحية وليجتهد المسـيحي في اإلسـالم نسـتطيع‬
‫أن نتو ّحد في الفهم ويصحّ ح المسيحي للمسلم الكثــير من فهمـهـ لإلســالم ويصــحّ ح المسـلم للمســيحي الكثــير من فهمـهـ للمسـيحية‪،‬‬
‫عندها يتحوّ ل اإلسالم إلى حركة علم وفكر وتتحول المسيحية إلى حركة علم وفكر‪.‬‬

‫وعند ذلك لن تكون لنا شخصيات معلَّبة تعيش في أبــراج عاجيــة تطــل على النــاس من فــوق‪ .‬إنّ المســيحية واإلســالم عنــد ذلــك‬
‫تكونان كالهواء والماء‪ ،‬يتن ّف س الناس كل اإلسالم والمسيحية بحجم ثقافتهم‪ ،‬ويشرب الناس كل اإلسالم والمسيحية بحجم ثقافتهم‪.‬‬

‫إننا نستطيع أن نرتاح من كل هذه التعقيدات ولكننا ورثنا واقعا ً مع ّقداً وألفنا هذا التعقيد‪ ،‬حــتى أصــبحت المســألة المشــكلة عنــدما‬
‫يتح ّد ث إنسان إنني أريد أن أدخل المسلمين في المسيحية أو أريد أن أدخــل المســيحية في اإلســالم‪ ،‬إنّ هــؤالء يعتــبرون المســألة‬
‫عدوانية من هؤالء وأولئك‪ ،‬ولكننا ال نرى أحداً يشعر بهذه ال ِح ّدة عندما يقول أحد إنني أريد أن أجعل مسيحيا ً ماركسياً‪ ،‬هل تجــد‬
‫أن المسيحيين يتع ّقدون إذا صار مسيحي ماركسياً؟ـ أية قرابة بين المسيحية والماركسية‪،‬ـ إنّ القرابة بين اإلسالم والمسيحية أكــثر‬
‫قربا ً من قرابة المسيحية والماركسية‪ .‬وهكذا عندما يراد لمسلم أن يدخل في المسيحية فهناك الويل والثبور وعظائم األمور ولكن‬
‫أن يصير مسلم ماركسياً‪،‬ـ تلك ليست مشكلة‪،‬ـ هذه سياسة‪،‬ـ وال مانع أن تكــون مســلما ً ماركســيا ً أو مســيحيا ً ماركســيا ً أو أي شــيء‬
‫أكثر‪ ،‬ولكن ال يمكن أن تكون مسلما ً أرثوذكسيا ً أو مسيحيا ً شيعيا ً أو سنياً‪ ،‬ألنهم يعتــبرون أنّ اإلســالم والمســيحية همــا معــرض‬
‫لكل التيارات العلمانية‪ ،‬لكنه ال يسمح ألي تيار ديني أن يدخل في داخله‪ ،‬وهذه مسألة التعصّب األعمى الذي ال يفقه الفكــر حــتى‬
‫فكره عندما يحرّكه‪ .‬إنّ المسألة هي أن يبقى االنتماء حتى ولو بالطريقة الرسمية‪.‬‬

‫إذا استطعنا أن نثير هذا النوع من األفكار في واقعنا‪ ،‬فإننا قد نتقـرب إلى تجربـة حيّـة قـد تقودنـا ولـو بعـد خمسـين سـنة إلى أن‬
‫نكون مسيحيين مسلمين موضوعيين نعيش بسالم ألننا نف ّكر بسالم‪ ،‬لكن مشكلتنا أننا نف ّكر بعقليــة الحــرب ولــذلك ال يمكن إال أن‬
‫نعيش واقعية الحرب‪.‬‬

‫‪ ...‬فإذا جئنا إلى لبنان‬

‫فإذا جئنا إلى هذا اللبنان‪ ،‬نحن في لبنان نشغل الدنيا بكل "لبننتنا"‪ ،‬و"لبننتنا" الرسمية هو إســالمنا ومســيحتنا‪ ،‬ألســنا نقــول ذلــك؟‬
‫نحن ن ّت هم بعضنا البعض في اللبنانية‪ ،‬وقد ينطلق بعض الناس ليشترط عليك شروطاً‪ ،‬أتريد أن تكون لبناني ـا ً صــحيحاً‪ ،‬مخلص ـاً‪،‬‬
‫إذاً آمن بلبنان كما تؤمن باهلل‪ ،‬هللا هو األزلي السرمدي الدائم‪ ،‬ولبنان وطن نهائي أزلي دائم‪ .‬أليس ذلك؟‬

‫في الحوار اإلسالمي ــ المسيحي تتح ّرك هذه الكلمة‪ ،‬لبنــان عليــه أن يكــون‪ ،‬أن يقبــل المســلمون الم ّتهمــون بلبنــانيتهم‪ ،‬أن يقبلـوا‬
‫ويعترفوا ويجيبوا عن األسئلة‪ ،‬هل يريدون لبنان وطنا ً نهائيا ً أزليا ً أو أنه وطن المرحلة؟ إنني أحب أن أقـول‪ :‬هـذه الكلمــة تعــني‬
‫أننا شعب ال يعيش عصره‪ ،‬ولكنه يعيش في التاريخ الضيّق الذي ال يبلغ كل هذا الضيق‪ .‬كيف؟‬

‫لبنان بحدوده الجغرافية هو وطننا جميعا ً‪ ،‬فنحن نعيش فيه وال يستطيع أن يزايد أحد على أحــد‪ ،‬مســيحيا ً كــان أو مســلما ً في هــذه‬
‫المسألة‪ ،‬أنت تعيش في قريتك ولك ذكرياتها ومالعبها وأحالمها وأنا أعيش في نفس القربة بهذا الشــكل‪ ،‬لكن هــذا اللبنــان الــذي‬
‫نعيشه كيف صارت حدوده‪ ،‬هل أنّ هللا رسم حدوده ليأخذ صفة من هللا في أزليته‪ ،‬أو أن الفرنسيين رسموا له حدوده؟ وقد نقــول‬
‫إننا عملنا على ذلك ونحن نعرف أنّ المستعمر عندما يرسم حدوده فإن اآلخرين يقبلون ما يرسمه‪ ،‬ويقولون إننا اخترنا الكلمــات‬
‫سهلة في اللغة العربية في مترادفاتها وما إلى ذلك‪.‬‬

‫قد تكون المصلحة في المرحلة الحاضرة أن نظ ّل في إطار هــذه الحــدود الجغرافيــة‪ ،‬ولكن مــاذا لــو تطــوّ ر المســتقبل وأصــبحت‬
‫مصلحة اللبنانيين أن يتوّ حدوا إقليميا ً أو دوليا ً أو شرق أوسطيا ً أو ما إلى ذلـك؟ كنــا نتحـدّث عن العــالم العــربي وأصــبحت اللغــة‬
‫السياسية التي تعمل على إلغاء العالم العربي هي منطقة الشرق األوسط‪ ،‬لو أنّ المسألة أصبحت كذلك ما هو الشيء الذي يمنعنا‬
‫مع العرب أن نتو ّحد مع أقطار الشرق األوسط‪.‬‬

‫لقد كان لبناننا أوروبيا ً في حــدوده وهــا هي أوروبــا تحــاول أن تنســف كــل الحــدود بينهــا‪ ،‬ألن المصــالح االقتصــادية والسياســية‬
‫واألمنية بدأت تفرض نفسها على كــل الواقــع األوروبي ليتوحّـ د مــع مــا نعــرف من الفــروق الكبــيرة جــداً بين بلــد أوروبي وبلــد‬
‫أوروبي آخر مما ال نعرف بين بلد عربي وبلد عربي آخـر‪ ،‬ألنهم يحرّكـون سياسـتهمـ تبعـا ً للتحـديات الــتي تواجــه إنســانهم‪ ،‬وال‬
‫يعتبرون الحدود أكبر من اإلنسان ولكنهم يرون اإلنسان أكبر من الحدود‪.‬‬
‫نحن في هذا الشرق يصنع لنا اآلخرون أصناما ً نعبدها‪ ،‬لـو كـانت األصــنام ممـا صـنعناه نحن ألمكن أن تقـول إنـك تعبـد نفسـك‬
‫عندما تعبد الصنم الذي صنعته ولكن اآلخرين هم الذين يصنعون لنا أصناما ً لنعبدها‪ ،‬لذلك نجد أنّ خالفات الحدود بيننــا كعــرف‬
‫أو كشرق أوسطيين هي خالفاتـ تتحرّ ك لتدمِّر اإلنسان‪ ،‬والحدود إنما وجدت لمصلحة اإلنسان‪.‬‬

‫لذلك عندما تتح ّدثون عن الحاضر قد يكون لكم حرية أن تح ّددوا للحاضر حدوده ولكنكم عندما تتحدّثون عن المستقبل ليسـت لكم‬
‫الحرية في أن تحبسوا المستقبل في قمقم حبستم أنفسكم فيه ألنّ الحاضر إذا ضاقَ بكم فإنّ المستقبل قد ي ّتسع لغيركم بشــكل أكــثر‬
‫انفتاحاً‪ ،‬لذلك تحدّثوا بواقعية عن سياستكمـ في الحاضــر وال تســتغرقوا في إنســانكم الــذي لــو اســتفتيتموه‪ ،‬هــذا اإلنســان العــادي‪،‬‬
‫لرأيتم أنه يرفض الكثير مما تفرضونه عليه وتنطقون من خالله باسمه‪.‬‬

‫قصة‪َ " ...‬من يُحاور َمن"‬

‫هذه نقطة ال بد أن ُنثيرها في الواقع الذي نعيشه في لبنــان‪ ،‬ث ّم ال بــد لنـا أن ننتهي من هـذا الجــدل االسـتهالكي‪َ ،‬من يُحــاور َمن‪،‬‬
‫ونتحدث في لجان الحوار ونتحدّث في كل قواعد الحوار‪ ،‬نتحدّث كعلماء دين وكرجال سياسةـ والقضية التي تفرضها‪ ،‬نحن نريد‬
‫أن نتحاور باسم الناس الذين نتح ّدث باسمهم‪ ،‬أليس كذلك؟ أنت كقيادة دينية مسيحية أو إســالمية أو أنتَ كقيــادة سياســية إســالمية‬
‫أو مسيحية‪ ،‬أنت تتح ّدث من خالل صفة القائد فيك على أساس واقع الناس الذين تقودهم‪.‬‬

‫إنني أزعم أنّ اللبنانيين المسيحيين والمسلمين بنسبة تستعين بالمئة في المواقع المختلطة جغرافيا ً واقتصاديا ً وثقافيا ً قد فرغوا من‬
‫الحوار من سنين ألنهم تحاوروا في حياتهم اليومية وتحــاوروا في آالمهم ومشــاكلهم وعالقــاتهم‪ ،‬واســتطاعوا أن يرســموا خطــة‬
‫للسالم فيما بينهم حتى جاءت القيادات لتفرض عليهم الحرب‪ .‬لقد قلت ذات مرة إذا أرادت القمة أن ترتفــع فعليهــا أن ترتفــع إلى‬
‫مستوى القاعدة‪ ،‬ألنّ القاعدة أكثر وعيا ً للقضايا الكبرى الحيوية المصيرية ممن يعتبرهم الناس قمماً‪ ،‬ســواء كــانت قممـاًـ روحيــة‬
‫أو سياسية‪ ،‬ألنّ مشكلة القمم أنها تعيش أبراجها العاجيــة‪ ،‬أمــا الــذين يكتــوون بالنــار ويجوعــون ويعطشــون بعيــداً عن المدرســة‬
‫هؤالء هم القاعدة‪.‬‬

‫لذلك فقد استطاعت اآلالم أن تجمعهم بما لم تستطع األديان أن تجمع هؤالء ألن الناس يبحثون عما يو ّحدهم أما نحن الذين نزعم‬
‫أننا في مواقع القيادة للناس فإننا غالبا ً نبحث عما يؤ ّك د فرقتنا وعما ينتج الفرقة للناس‪ .‬ولهذا ابتدعنا في لبنــان خوفـا ً مســيحيا ً من‬
‫الشـ ْي َطانُ ي َُخـ وِّ فُ أَ ْولِ َيـا َءهُ} من المسـلمين‬
‫المسلمين ثم خوفا ً إسالميا ً من المسيحية‪ ،‬والقصة هي ما قالـه هللا في كتابـه‪{ :‬إِ َّن َمـا َذلِ ُك ُم َّ‬
‫ون إِنْ ُك ْن ُت ْم م ُْؤ ِمن َ‬
‫ِين}‪.‬‬ ‫والمسيحيين { َفاَل َت َخافُو ُه ْم َو َخافُ ِ‬

‫"اإلسالم والمسيحية بين ذهنية الصراع وحركيــة اللقــاء"‪ ،‬إننــا نعتــبر أن الصــراع ليس هــو القضــاء والقــدر وليس هــو الحتميــة‬
‫التاريخية والحالية والمستقبلية‪ ،‬الصراع حركة في أحاسيس اإلنسان ولكن الروحية انطالقـة في وجـدان اإلنسـان؛ فتعـالوا نبتعـد‬
‫عن كل الحساسيات ألنها تحرقنا ولننطلق مع كل الروحيات ألنها ترفعنا وتعطينا صفاء الروح والعقل والوجدان وطهارة الحياة‬
‫ضـ َنا َبعْ ضـا ً‬ ‫ك ِبـ ِه َشـيْئا ً َواَل َي َّت ِخـ َذ َبعْ ُ‬ ‫واستقامة الطريق ووحدة الهدف { َت َعالَ ْوا إِلَى َكلِ َم ٍة َس َوا ٍء َب ْي َن َنا َو َب ْي َن ُك ْم أَاَّل َنعْ بُدَ إِاَّل هَّللا َ َواَل ُن ْش ِر َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِي أَحْ َسنُ إِاَّل الَّذ َ‬ ‫{واَل ُت َجادِلُوا أَهْ َل ْال ِك َتا ِ‬
‫ـز َل إِلَ ْي ُك ْم‬‫ِين َظلَمُوا ِم ْن ُه ْم َوقُولُوا آَ َم َّنا ِبالَّذِي أ ْن ِز َل إِلَ ْي َنــا َوأ ْن ِ‬ ‫ب إِاَّل ِبالَّتِي ه َ‬ ‫أَرْ َبابا ً مِنْ د ِ‬
‫ُون هَّللا ِ} َ‬
‫ُون } وحياتنا واحدة ومصيرنا واحد وإنسانيتنا واحدة‪ ،‬فتعالوا نرتفــع بإنســانيتنا إلى هللا لتغتســل‬ ‫َوإِلَ ُه َنا َوإِلَ ُه ُك ْم َوا ِح ٌد َو َنحْ نُ لَ ُه مُسْ لِم َ‬
‫س‬ ‫ْ‬
‫ك َفل َي َت َنــا َف ِ‬ ‫َ‬
‫{وفِي ذلِ ـ َ‬ ‫هــذه اإلنســانية بالروحيــة الــتي يمنحنــا هللا فيــه كــل الفــرح والمحبــة والخــير والحــق والعــدل والســرور‪َ ،‬‬
‫ُون}‪.‬‬ ‫ْال ُم َت َنافِس َ‬
‫والحمد هلل رب العالمين‬

‫أسئلة الحضور‬

‫س‪ :‬ما القول الذي تملكه للشباب الذي يتحرّ ك من خالل الفاتيكان أو من خالل بعض األنظمة خصوصا ً بعــد اعــتراف الفاتيكــان‬
‫بإسرائيل؟‬

‫ج‪ :‬من الطبيعي أننا ناقشنا الفاتيكان كدولة من خالل وعينــا للمســيحية الــتي ينطــق الفاتيكــان باســمها ونحن نعــرف أنّ للفاتيكــان‬
‫إيجابياته الكثيرة في االنفتاح وفي تقارب األديان وتقارب اإلســالم والمسـيحية وفي أكــثر من لفتــة في المسـألة اللبنانيـة فيمــا هي‬
‫قضايا التعايش بين اللبنانيين‪ ،‬ولكننا ناقشناه كما ناقشهـ بعض المسيحيين في أن االعتراف بإسرائيل الذي يعطي إســرائيل قــوة ال‬
‫سيما في المرحلة الحاضرة التي يعيش فيها الفلسطينيون صراعا ً من أجــل تثــبيت وجــودهم ويعيش فيهــا اللبنــانيون والســوريون‬
‫واألردنيون والعرب الكثير من التعقيدات في إخراج المحتل من أرضهم‪ .‬إننا في الوقت الــذي نــرفض فيــه االعــتراف بإســرائيل‬
‫جملة وتفصيالً على أساس ال ِق َي م اإلسالمية والمسيحية مع ذلك نقول للفاتيكان‪ ،‬إذا كانت هناك ضغوط على الفاتيكــان كدولــة كمــا‬ ‫ً‬
‫سمعته من بعض ممثلي الفاتيكان وهو يشكو حجم الضغوط التي تطبق على الفاتيكان فإنّ التوقيت لم يكن هو التوقيت األفضل‪.‬‬

‫التشريع؟‬

‫س‪ :‬ما هو سبب وجود التشــريع في اإلســالم وعــدم وجــوده في المســيحية‪ ،‬ومــا هــو التشــريع الــذي يمكن أن تتب ّنــاه المجتمعــات‬
‫المسيحية؟‬

‫ج‪ :‬من الممكن أن نقول بعض الناس‪ :‬إنّ المسيحية قد تستوحي العهد القديم في بعض تشريعاته وربمـا تعتــبر أن بعض المفــاهيم‬
‫العامة التي تمثل عناوين المسيحية القيمية قد تجعل المسيحيين يستوحون بعض تشــريعاتهم الــتي يختارونهــا أو الــتي يصــنعونها‬
‫من ذلك‪.‬‬
‫نحن نعتبر أنّ كل دين أنزله هللا إلى الناس‪ ،‬فإنها ال بد أن يعالج المشكلة اإلنسانية من جميع جوانبها‪ .‬فلذلك إنّ روحيــة التشــريع‬
‫ليست بعيدة عن المسيحية إذا غابت عنها تفاصيله‪.‬‬

‫وجود هللا؟‬

‫س‪ :‬تح ّد ثتم عن ضرورة اإليمان عن طريق العقل ولكن ربما ال مجال للوصول إلى إجابة حاسمةـ في هذا المجال بالنسبة لوجود‬
‫هللا‪ ،‬هناك نقاش فلسفي يبدو أنه ال يحسم إلى أحد األطراف‪ .‬ما هي وجهة نظركم في هذا المجال؟‬

‫ج‪ :‬من الطبيعي جداً أنه كما أنّ لإليمـان نظرتـه العقالنيـة في مسـألة وجـود هللا فلإللحــاد وجهــة نظـر في ذلــك‪ ،‬وربمـا ال يملـك‬
‫اإللحاد وجهة نظر بمعنى نفي وجود هللا‪ ،‬ألنّ أي إنسان ال يملك أن ينفي وجود هللا ألنّ النفي يحتاج إلى حجة‪ ،‬أل ّنــه حكم بالعــدم‬
‫ولكنه يستطيع أن يش ّك ك‪ ،‬أن يقول لم يثبت عند وجود هللا‪ ،‬لكن الذي يؤمنون باهلل يعتقــدون من خالل الحــوار والجــدال أنّ هنــاك‬
‫أدلّة حاسمةـ يمكن أن تثبت وجود هللا بطريق العقل‪ ،‬وليس معنى أن تكون لك أدلّة حاسمة أن ال يكون هنــاك َمن يناقشــها‪،‬ـ هنــاك‬
‫وجهة نظر وال بد لك أن تدافع عن وجهة النظر هذه‪.‬‬

‫ونحن نتصوّ ر أنّ المؤمنين باهلل قد استطاعوا أن ينجحوا في معركة االستدالل على وجود هللا بالعقل‪.‬‬

‫الدين والحروب؟‬

‫س‪ :‬يصوّ ر اإلعالم الغربي واللبناني أنّ الدين هو سبب الحروب في العالم؟‬

‫ج‪ :‬إنني أتساءل‪ ،‬في القرن العشرين الذي حدثت فيه حربان عالميتان وحروب نصف أو ربــع عالميــة في أكــثر من موقــع‪ ،‬هــل‬
‫الحرب العالمية األولى كانت حربا ً دينية؟ وهل حرب الحلفاء ضد ألمانيا كانت حربا ً دينية؟ وهل حرب الحلفاء في الخليج كــانت‬
‫حربا ً دينية؟ دلوني على حرب دينية بالمعنى المصطلح للحرب الدينية في كل هذا القرن الذي عشــناه بالطريقــة الــتي يهـدّد فيهــا‬
‫العالم‪.‬‬

‫الواقع أنّ الدين كان في كل هذه الحروب داعيــة ســالم‪ ،‬وكــان الالدين‪ ،‬ســواء كــان الالدين فكــراً أو سياســة‪ ،‬هــو المســؤول عن‬
‫الحروب‪ .‬حتى لبنان الذي يقول فيه بعض الناس‪ :‬إن مشكلة لبنان هي الدين‪ ،‬أنا أقول من موقع مسؤول ومد ّقق لتفاصيل الواقع‪،‬‬
‫إن مشكلة لبنان عدم الدين‪ ..‬لو كان اللبنانيون متديّنين لمـا يتقـاتلوا لكنهم حمـل كـل واحـد منهم الـدين طبالً يـدق عليـه والطبـول‬
‫تعطي األذن تشويشا ً واألحاسيس حماسا ً ولكنها ال تعطي العقل أي شيء‪ .‬كفـوا عن الطبـول الدينيــة وتحرّكـوا بالــدين العقـل فلن‬
‫تتحاربوا‪.‬‬
‫س‪ :‬الحديث عن تع ّددياتنا‪ ،‬والدعوة للصبر عليها‪ ،‬هل ينطبق أيضا ً برأيكم على حدود األزمــة في لبنـان‪ ،‬وبالتــالي هـل يعــني أنّ‬
‫السبب المباشر للصراع ليس التعددية كواقع طبيعي إنما هو رفضها وإنكارها ومحاولة تجاوزها بشكل مصــطنع وهش ومفتعــل‬
‫أم أنّ هذه الدعوة تعني انتظار اليوم والظرف األفضل؟‬

‫ج‪ :‬أنا ال أستطيع أن أقول إن لبنان يصلح أن يكون نموذجا ً لصراع التعدديــة والوحــدة ألنّ لبنــان في طبيعتــه السياســية والدينيــة‬
‫يمثل فوضى السياسة وفوضــى الــدين وفوضــى الفكــر‪ .‬إننــا في لبنــان نعيش حــوار الطرشــان‪ ،‬المهم أن تتكلم وليس القضــية أن‬ ‫ّ‬
‫يسمعك اآلخر‪ ،‬نحن نحسن أن نتكلّم ولكننا قد نحتاج إلى أن نأمل آذانا ً كثيرة حتى نقوّ ي آذاننــا على الســماع ونقــوّ ي وعينــا على‬
‫ُـون أَحْ َسـ َنهُ} والحظـوا الفـرق بين‬
‫ُون ْال َق ْـو َل َف َي َّت ِبع َ‬ ‫الصبر فيما نسمع لنف ِّكر فيه ولنختار على طريقــة { َف َب ِّشـرْ عِ َبــا ِد * الَّذ َ‬
‫ِين َي ْسـ َت ِمع َ‬
‫يسمعون ويستمعون‪ ،‬االستماع عملية اختيار وإرادة للسماع‪ ،‬أما السماع فقد يأتي دون اختيار‪ ،‬كن المستمع وكن الذي يف ّكر فيما‬
‫يستمع وكن الذي يختار األحسن وكن الذي يتبع األحسن عندما يختار األحسن‪ ،‬إرادة أن تستمع وأن تف ّكر وأن تختار وأن ت ّتبــع؟‬
‫هل في لبنان شيء من هذا؟ نحن في لبنان نحسن الضجيج جيداً‪ ،‬ال نطيق الهدوء‪.‬‬

‫أسألكم سؤاالً ولدى كل واحد منكم سيارة أو أكثر‪ ،‬لو انطلقتم في رحلة فهل تطيقون أن تبقـوا نصـف سـاعة أو ربـع سـاعة دون‬
‫أن تفتحوا الراديو؟ وتفتحون الراديو بعيداً عن طبيعــة مــا في الراديــو ألنكم ال تطيقــون أن تضــبطوا أنفســكم متلبّســين بالصــمت‬
‫الهادئ‪ ،‬وبالهدوء العاقل‪.‬‬

‫نحن عندما نجتمع في السهرات‪ ،‬وهذه مسألة شعبية‪ ،‬في سهرات الشتاء‪ ،‬يتحدث الجميع ثم يسكتون ألنهم اســتنفدوا حــديثهم‪ ،‬أال‬
‫يقول أحدهم لآلخر‪" :‬لماذا ال تتكلمون"‪ ،‬بعيداً عن ماذا نتكلّم ألننا شعب ال يطيق الهدوء‪ ،‬محالّتنا تعيش الضــجيج نحن ال نعيش‬
‫الذوق الفني في درجة الصوت الذي نسمع‪ ،‬لذلك لنتعلم الصمت حتى نستطيع أن ننفتح على الفكر من خالل الصمت‪.‬‬

‫في القرآن الكريم‪ ،‬هللا أوصى السيدة العذراء مريم(ع) عندما أراد لها أن تجابه قومها الذين ربما يتكلّمون معهاـ كالما ً ســيئا ً { َفإِمَّا‬
‫صـ ْوما ً َفلَنْ أ ُ َكلِّ َم ْال َيـ ْـو َم إِ ْن ِسـ ّياً} صــوم الصــمت‪ ،‬هــل تريــدون أن تصــوموا كمــا‬ ‫َت َر ِينَّ م َِن ْال َب َش ِر أَ َحداً َفقُــولِي إِ ِّني َنـ َـذرْ ُ‬
‫ت لِلــرَّ حْ َم ِن َ‬
‫تصومون عن الطعام والشراب‪ ،‬عليكم أن تتعلموا أن تصوموا ولو بعض الساعاتـ عن الكالم وأنت تحفظــون الحكمــة "إن كــان‬
‫الكالم من فضة فالسكوت من ذهب"‪ ،‬ليس السكوت عن الحق ألنّ الساكت عن الحق شيطان أخــرس‪ ،‬ولكن الســكوت عن اللغــو‬
‫والسكوت للتفكير‪.‬‬

‫من الهرم إلى القاعدة‬

‫س‪ :‬الثابت الواضح أنّ القيادات الدينية المســلمة والمســيحية تلتقي دائمـا ً في توجّههــا الوجـداني والعقالني وفي قناعاتهــا بواقعيــة‬
‫اللقاء بين المسيحية واإلسالم وبالقيم المشتركة التي تجمعها وهذا قد تأ ّكد حتى خالل سنوات الحرب‪ ،‬كيف يمكن لنا أن ننقل هذه‬
‫القناعة من قمة الهرم القيادات إلى قاعدة الهرم الشعب حيث األمر يكون غالبا ً خالف ذلك؟‬

‫حاور بعضه وانطلق في حياته اليومية التعايشية‪ ،‬أنا ال أحدّثكم عن مرحلــة الســلم‬ ‫َ‬ ‫ج‪ :‬لماذا تريد أن تنقلها‪ ،‬إننا قلنا إن الشعب قد‬
‫التي نعيشها ولكني أحدّثكم عن أيام خطوط التماس ــ ال أعادهــا هللا ــ عنــدما تفتح خطــوط التمــاس‪ ،‬أال ينــدفع أهــل الشــرقية إلى‬
‫الغربية بشكل عفوي ويندفع أهل الغربية إلى الشرقية بشكل عفوي ولوال ما صنعه الذين أثــاروا الحــرب من خطــف هنــا يجعــل‬
‫اآلخرين يخافون أن يخطفوا لما رأيت هناك خطوط تماس‪.‬‬

‫إنا ندعو القيادات حتى الروحية أن تكون أكثر جدية في مسألة الحوار ألننا لو كنا أكثر جدية الستطعنا أن نتحــاور في المشــاكل‬
‫التي حدثت وكادت أن تهدّم الواقع اللبناني كمســألة االنتخابــات النيابيــة بالنســبة إلى َمن قاطعهــا وبالنســبة إلى مّن أيَّدها‪ .‬لــو كنــا‬
‫نستمع دائما ً بقلب مفتوح وعقل مفتوح وأسلوب مفتوح لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه‪ .‬إننا قد نعيش شكلية الحوار ولكننــا نتح ـدّث‬
‫عن روحية الحوار وجديته‪.‬‬

‫الطائفية السياسية؟ـ‬

‫س‪ :‬أال ترون أنّ الطائفة السياسية في لبنان تش ّك ل عقبة في وجه الحوار اإلسالمي ـ المسيحي وكيف السبيل لتجــاوز هــذه العقبــة‬
‫إن استمرّت؟‬

‫ج‪ :‬من الطبيعي جداً أننا نعتقد أنّ فقدان الحوار اإلسالمي ـ المسيحي هو الذي عمّق الطائفيـة وأنتجهـا من جديـد فلـو كـان هنـاك‬
‫حوار إسالمي ـ مسيحي عقالني موضوعي لما كان اإلنسان طائفيـا ً لكـان اإلنسـان مسـيحيا ً فكريـا ً وكـان مسـلما ً فكريـاً‪ ،‬الحـوار‬
‫اإلسالمي ـ المسيحي وكل حوار بين أي فريق وآخر هو حركة من أجل إنهاء حالة التعصّب ومرحلة الجمود‪.‬‬

‫س‪ :‬لماذا التشديد على الحوار الديني في عصر أصبح فيه واقع اإلنسان واقع قوميات وأصبح الصــراع صــراعا ً على المصــالح‬
‫االقتصادية بغض النظر عن األفكار الدينية حيث لم يعد الوجدان الديني هو الذي يحرّ ك هذه المجتمعات؟ـ‬

‫ج‪ :‬مهما تح ّد ثت عن وجود المتغيِّرات من خالل الذهنية القومية أو الذهنية األممية ـ إذا صـ ّح التعبــير ــ فــإنّ الوجـدان الــديني ال‬
‫يزال يفرض نفسه‪ ،‬حتى إننا نرى بعض القوميات تحرّ ك المفردات الدينيــة في كثــير من خطابهــا القــومي وتحــاول أن تلجــأ إلى‬
‫الدين‪ ،‬أال تعرفون أنه عندما احتضر "ستالين" طلبت القيادة المركزية للحزب الشيوعي في االتحاد السوفياتي من المسيحيين أن‬
‫يذهبوا إلى الكنائس ليبتلهوا إلى هللا أن يعافي "ستالين"‪.‬‬

‫إنّ الوجدان الديني هو عمق األعماق في شخصيتنا‪ ،‬حتى لو كانت الطبقة السطحية في مشاعرنا وبعض عقولنا هي غير دينيــة‪،‬‬
‫لذلك الدين ّ‬
‫يمثل ضرورة وقد يكون خطراً لذلك ال بد أن نحسن شروط هذه الضرورة وندرأ طبيعة هذا الخط‪.‬‬

‫العلمانية؟‬

‫س‪ :‬ما رأيكم بالعلمانية في لبنان‪ ،‬أليست هي الجو المناسب لألديان أن تتحاور بعيداً عن السياسةـ خاصة في لبنان؟‬
‫ج‪ :‬لماذا تريدون أن تحبسوا األديان في قمقم‪ ،‬ولماذا تريــدون أن تعزلوهــا في الزاويــة؟ األديــان تريــد أن تتن ّفس الهــواء الطلــق‪،‬‬
‫العلمانية عندما تقارن بينها وبين دين يختزن العقيدة والمنهج والشريعة فإن العلمانية تكــون دينـا ً آخــر‪ ،‬لمــاذا تريــدين أن أتنــازل‬
‫عن فكري الذي أدّعي خطأ ً أو صوابا ً شموله الختزن فكرك‪.‬‬

‫إنّ فكرك إنما يكون حالًّ عندما ال يكون حالًّ شامالً‪ ،‬أما عندما يكون فكري حالًّ شامالً‪ ،‬كما ي ّدعي الحركيون اإلسالميون‪ ،‬فإنــك‬
‫تقول لي اترك فكرك وخذ بفكـري‪ ،‬لمـاذا ال تـترك فكـرك وتأخـذ بفكـري إذا كـانت المسـألة بهـذا األسـلوب؟ ولكن نقـول تعـالوا‬
‫لنتحاور‪ ،‬أيها العلمانيون‪ ،‬فيما نختلف فيه من العلمانية والــدين‪ ،‬أو تعـالوا أيهـا الــدينيون نتحـاور مـع الــدين‪ ،‬أو أيهــا العلمـانيون‬
‫تحاور في العلمانية‪ ،‬ال تصادر اآلخر ألنه يوحى إليك أنّ هو الفكر األشمل‪.‬‬

‫هل أحبّ أعدائي‬

‫س‪ :‬أنا مواطنة فلسطينية وديني هو المسيحية‪ ،‬السيد المسيح(ع) قال‪ :‬أحبوا أعداءكم وباركوا ألعنيكم؟ فكيف لي أن أحب الناس‬
‫الذين أخذوا بلدي؟‬

‫ج‪ :‬قال أحبّوا أعداءكم ولكن بشرط أن ال يكونوا لصوصا ً يســرقون الهيكــل‪ ،‬ولــذلك إن الســيد المســيح(ع) قــال‪ :‬أحبــوا أعــداءكم‬
‫وباركوا العنيكم‪ ،‬عندما تكون العداوة نبضة في القلب ومشكلة في اإلحساس لكن عندما تتحوّ ل العداوة إلى إلغاء إنسانيتنا وإلغاء‬
‫شروط هذه اإلنسانية‪ ،‬إنّ المسيح(ع) طرد اللصوص من ساحة الهيكل‪ ،‬والهيكل ليس مجرد مكان ولكن كــل بلــد يعيش اإلنســان‬
‫فيه عزته وكرامته هو الهيكل الذي يباركه هللا ويباركه السيد المسيح‪.‬‬

‫الوطن‪ ...‬والوالء‬

‫س‪ :‬يعاني الشابـ المسلم مشكلة الوالء فإماـ الوالء للدين أوالً ثم الــوطن ثانيـا ً أو العكس؛ـ فكيــف يمكن للعقالنيــة الدينيــة أن تحــدد‬
‫مشكلة الوالء؟‬

‫ج‪ :‬لماذا تحاول أن تخلق مشكلة بين الدين والوطن‪ ،‬الوطن هو وطن الدين ووطن المتــديّنين والمكــان الــذي يعبــد فيــه هللا‪ ،‬نحب‬
‫وطننا وأرضنا عندما تكون إنسانيتنا مرتبطة بأرضنا‪ ،‬نحن ندعو إلى أنسنة األرض‪ ،‬أن ال تكون األرض مجرد صــنم نتعبــد لــه‬
‫ولكننا نعطي األرض من إنسانيتنا حتى تتساوى لدينا حرية أرضنا وحرية إنســاننا‪ ،‬ألنّ األرض تتحــوّ ل إلى إنســان يحمي الــذي‬
‫يعيش عليه ويتحول اإلنسان إلى أرض يقاتل من أجل المكان الذي يعيش فيه‪ .‬لماذا تحاولون أن تفهموا الــدين فهمـا ً غــير دقيــق‪،‬‬
‫إننا نعيش الوالء لوطننا ال على أساس أن الوطن صنم‪ ،‬إن الوطن ليس هو الجبال والسهول والبحر ولكنه دالالت كل هــذا‪ ،‬هــو‬
‫الذي عاش فيه التاريخ وهو الذي تحرّ ك فيه الحاضر وهو الذي ينطلق فيه المستقبل وهو الذي يتح ّرك فيه الدين ويغني تجربته‪،‬‬
‫فلذلك نوالي وطننا بطريقتنا ونوالي ديننا ونوالي هللا في الوطن وفي الدين وفي اإلنسان‪.‬‬
‫س‪ :‬ذكرتم أنه ليس مشكلة أن يكون اإلنسان مسلما ً ويصبح مسيحيا ً من خالل فهمه وقراءاته والعكس‪ ،‬ما قولكم في االرتداد عن‬
‫اإلسالم وإذا كان لديكم فكرة عن االرتداد عن المسيحية؟‬

‫ج‪ :‬كنت أتح ّدث في األفق الذي أقول فيه إن لإلنسان أن يف ّكر بالطريقة التي تتح ّرك فيها إنسانيته في فكره ألنــه ال يملــك أحــد أن‬
‫يحبس فكري ويقول لي ال تف ّكر‪ .‬يمكن ألي إنسان أن يناقش فيمــا أف ّكــر‪ ،‬لكن ال يمنــع ذلــك من أن نضــع اإلســالم قــوانين تحمي‬
‫ساحته بطريقة قانونية‪ ،‬وتضع المسيحية أيضا ً قانون "الحرم" لتحمي بساحتها‪ .‬هناك شيء في التنظيم القانوني لعالقة المســيحية‬
‫بأتباعها وعالقة المسلمين بأتباعه‪.‬‬

‫كنت أتحــدث عن مســألة حركــة الفكــر في طبيعتــه اإلنســانية ولــذلك أنت ال تســتطيع أن تمنعــني أن أصــير مســيحيا ً إذا اقتنعت‬
‫بالمسيحية أو أن أصير مسلما ً إذا اقتنعت باإلسالم‪ ،‬ال تستطيع أن تمنعني بمرسوم ولكنك تستطيع أن تعمــل على تخفيــف النتــائج‬
‫السلبية عندما تجد أنّ هناك نتائج سلبية تتو ّجه ضد واقعك ونظامك وما إلى ذلك أو تناقشني في ذلك تلــك مســألة أخــرى تختلــف‬
‫عن الجانب الذي كنت أتحدث فيه‪.‬‬

‫العقيدة والتفكير‬

‫س‪ :‬ما الفرق بين حرية العقيدة وحرية التفكير؟ وأيهما مشروع؟‬

‫ج‪ :‬إنّ حرية العقيدة تلتقي مع حرية التفكير فأنت عندما تكون لك حرية التفكير فمن الطــبيعي أن تكــون هــذه الحريــة وســيلة من‬
‫وسائل حرية العقيدة في هذا المجال‪ ،‬وحتى في اإلسالم ليست المشكلةـ أن تف ّكر وليست المشكلة الكبرى أن تشك‪.‬‬

‫ك في هللا‪ ،‬قــال لــه‪ :‬كــافر‪ ،‬قــال‪:‬‬


‫جاء أحد األشخاص إلى بعض أئمة أهل البيت وهو اإلمام جعفر الصادق(ع)‪ ،‬وقال له‪ :‬رجل ش ّ‬
‫ك في رسول هللا؟ قال كافر‪ .‬ثم قال‪ :‬إنما يفكــر إذا جحــد‪ .‬إذا بقي في دائــرة الشــك يتحـ ّرك للوصـول إلى اليقين فإنــه لن يكــون‬ ‫ش ّ‬
‫ك فيه دون أن تكون لك حجة على ما تجحد فيه‪ .‬وفي حديث آخر‪ :‬لو أنّ الناس إذا جهلوا وقفــوا‬ ‫كافراً‪ ،‬الكفر هو أن تجحد ما تش ّ‬
‫ك ولكن أن تحــوِّ ل شـ ّكك إلى جحــود فيمــا ال تملــك فيــه حجــة على‬
‫ك أل ّنك ال تملك إال أن تش ّ‬
‫لم يكفروا‪ ،‬لذلك أنت حر في أن تش ّ‬
‫الجحود ذلك أمر آخر‪.‬‬

‫بين العقل والغيب؟‬

‫س‪ :‬تقولون إن الدين يجب أن يعلقن‪ ،‬فكيف السبيل إلى ذلك عندما تصطدم النظريات العلمية بالمعتقدات الغيبية الدينية‪ ،‬كمــا في‬
‫نظرية النشوء واالرتقاء أو نظرية االنفجار الكبير في أصل الكون‪ ،‬هل يجب اللجوء إلى تأويل النصوص الدينية واألخذ بالرمز‬
‫أكثر؟‬
‫ج‪ :‬هناك فرق بين النظرية العلمية والحقيقة العلمية‪ ،‬إن الحقيقة العلمية هي الحقيقة الرياضية أن تقول واحد زائــد واحــد يســاوي‬
‫اثنان‪ ،‬أما النظرية العلمية فهي تنطلق من خالل التجربـة والمالحظــة والتأمـل ومحاولـة ربـط األمــور بعضــها ببعض من خالل‬
‫الحدس‪.‬‬

‫إنّ نظرية النشوء واالرتقاء ال تحكم على النظرية الدينية لو كانت هناك نظرية دينية في مواجهة النشوء واالرتقاء ألنها ال تزال‬
‫نظرية‪ .‬ولمعلوماتكم إن الكثيرين من الناس قد أصبحوا يناقشون هذه النظرية باعتبار أن االكتشافاتـ الــتي اكتشــفها "دارون" قــد‬
‫استطاع المتأخرون عنه من الباحثين أن يكتشفوا ما تبطل الكثير من مواقع نظريته‪.‬‬

‫نعم عندما تكون هناك حقيقة علمية‪ ،‬فإنّ العلماء يأخذون بالتأويل لتكون المسألة رمــز ألنّ العلم الحقيقــة ال يمكن أن يختلــف مــع‬
‫الدين الحقيقة‪ .‬لكن العلم النظري من الممكن جداً أن يختلف مع النظرية الدينية‪.‬‬

‫مشكلة المتعصِّبين‬

‫س‪ :‬تفلسفون واقعا ً مرَّ عليه أكثر من ألف سنة وهذه األفكار الجريئة والصريحة هي أساس السالم االجتمـاعي لكن هـذا ال يكفي‬
‫فنحن لدينا من المتعصِّبين المسيحيين والمسلمين ما يكفي لعرقلة هذه المسيرة فما هي الوسيلة التي يجب اتباعها لتمهيـد الطريـق‬
‫أمام التوحيد الديني؟‬

‫متعص ـبين‬
‫ّ‬ ‫من منا إالّ وقد عاش مرحلة من التعصّب في حالة نمــوّ ه الفكــري‪ ،‬كنــا‬ ‫ج‪ :‬إنّ علينا أن نحاول‪ ،‬كنا متعصٍّبين فتع ّقلنا‪َ ،‬‬
‫المتعصـبين فســنربح من هــذا‬
‫ِّ‬ ‫فتع ّق لنا‪ ،‬وعلينا أن نعمل لنعقلن المتعصبين والقضية تحتاج إلى صبر‪ ،‬وأعتقد أننا إذا صــبرنا على‬
‫الصبر الكثير الكثير مما يمكن أن يجعل مهم أُناسا ً معتدلين‪.‬‬

‫س‪ :‬هل تعتبر اإلنجيل الذي بين أيدينا كالم هللا؟‬

‫ج‪ :‬هــو على األقــل في أكــثره كالم هللا ولكن هنــاك جــدل بين المســلمين والمســيحيين في بعض األمــور الــتي قــد يختلــف فيهــا‬
‫المسلمون والمسيحيون ربما يقول بعض المسلمين إنّ هناك تحريفا ً وربما يرد عليهم المسيحيون ذلك‪ ،‬لكن ال إشكال أن اإلنجيــل‬
‫الذي جاء به السيد المسيح أنزله هللا سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫العقل الكلي‬

‫س‪ :‬هل عبارة "هللا هو العقل الكلي" ضرب من ضروب الكفر؟‬


‫ج‪ :‬بعض الناس يحاولون أن يد ّق قوا في مسألة ما يطلق عن هللا‪ ،‬بعض الناس يقولون أسماء هللا توقيفية فال يجوز أن نطلــق على‬
‫ت بها القرآن أو السـ ّنة بــل هــو مصــطلح فلســفي‬
‫هللا أي اسم لم يرد في القرآن أو لم يرد من الس ّنة‪ ،‬ولذلك كلمة العقل الكلي لم يأ ِ‬
‫ولذلك يعتبرونها كفراً‪ .‬ولكن ال نعتقد حتى لو قلنا بذلك أن هذا يوجب الكفر ألنّ الكفر ينطلق من خالل الرفض للعقيدة األساسيةـ‬
‫ال للخطأ في مصطلح معيّن‪.‬‬

‫اللجان‪ ...‬المقابر‬

‫س‪ :‬لماذا ال يتم إنشاءـ لجنة أو هيئة للحوار اإلسالمي ـ المسيحي من رجال دين مسيحيين ومسلمين؟‬

‫ج‪ :‬يقولون إنّ اللجان مقبرة المشاريع‪ ،‬ولذلك ال نريد أن نقبر مشروع الحوار اإلسالمي ـ المسيحي ال في مقبرة مسيحية وال في‬
‫مقبرة إسالمية‪ ،‬إننا نريد للحوار اإلسالمي ـ المسيحي أن يكون حواراً إنسانيا ً من وجهة نظــر مســيحية وإنســانا ً من وجهــة نظــر‬
‫إسالمية عندما يأخذ الحوار إنسانيته ويعطي المسيحية واإلسالم إنسانيتهما فقولوا‪ :‬إنّ الحوار بدأ ولكن ما دُمنا نحبس الحوار في‬
‫دائرة معينة فلن يكـون هنـاك حـوار ولن يكـون هنــاك جديــة‪ ،‬ونحن نعتقـد أنّ الجيـل المث ّقـف الـواعي الـذي اسـتطاع أن يكـون‬
‫موضوعيا ً من خالل دراساته العلمية والجامعية يمكن أن يكون الطليعة التي تعرف أساليب الحوار وتتحرّ ك من أجل الحوار‪.‬‬

You might also like