You are on page 1of 63

‫‪14‬‬ ‫سلسلة (كن إجيبايابا اصنع صيحابا)‬

‫النبي المبارك‬

‫عيسى عليه السلام‬

‫م‪ .‬سينا عبد الغفور زارعي‬


‫بسم الله الرحمن الرحيم‬
‫املقـــدمـــة‬
‫الحمد لله رب العالمين‪ ،‬نحمده سبحانه على جميع النعم ما ظهر منها وما بطن‪ ،‬والصالة والسالم على أشرف المرسلين‬
‫وسيد ولد آدم أجمعين‪ ،‬نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‪ .‬أما بعد‪:‬‬

‫فإن الحديث عن القدوات هام وخطير وشيّق‪ ،‬فأما األهمية فتأتي من كونها عامال ّ‬
‫هاما في التربية‪ ،‬وأما الخطورة فتنبع‬
‫من تأثيرها الكبير على الصغار والكبار‪ ،‬وأما كونها شيّقا فأل ّن في قصص هؤالء وحياتهم كثيرا من العبر والدروس والفوائد‪.‬‬
‫وأتح ّدث هنا عن القدوات بنوعيها الحسن والسيء‪.‬‬

‫والتح ّدث عن القدوات الحسنة والسيئة منهج قرائي أصيل‪ ،‬فقد جاءت آيات كثيرة لتتحدث عن نماذج ع ّدة سواء‬
‫كل ذلك ليؤكد أهمية هذا الجانب في حياة‬
‫كانوا أنبياء ورسال أو أشخاصا صالحين أو أناسا فاسدين وطالحين‪ّ ،‬‬
‫المسلم كون مسألة القدوات من المسائل الهامة جدا‪.‬‬

‫وكذلك كان للحديث عن القدوات جانبا واسعا في األحاديث النبوية‪ ،‬فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث‬
‫ألصحابه ولنا جميعا عن بعض األنبياء والصالحين والطالحين لنؤخذ الدروس والعبر منهم‪ .‬وليؤكد صلى الله عليه وسلم‬
‫أهمية هذا الجانب في حياتنا وخاصة للمربّين ألن على عاتقهم مسؤولية ضخمة وهي تربية األجيال تربية صحيحة قائمة‬
‫على كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم‪.‬‬

‫ومن هذا المنطلق‪ ،‬فقد ّقررت كتابة هذا الكتاب ليكون امتدادا لما قد كتبته قبل ذلك عن قدوات عظام كنوح وإبراهيم‬
‫ويعقوب وداود عليهم الصالة والسالم‪ .‬وجاء هذا الكتاب ليتح ّدث عن قدوة حسنة أخرى بل هو واحد من أعظم‬
‫القدوات التي يجب علينا أن نقتدي بها‪ .‬هذا هو النبي المبارك (عيسى عليه السالم)‪.‬‬

‫دل على وجود عبر ودروس كثيرة‬


‫مما ّ‬
‫وقد وجدت أن القرآن الكريم قد تح ّدث في آيات متعددة عن هذا النبي المبارك ّ‬
‫من حياة هذا النبي الكريم كما سنذكر بإذن الله تعالى في هذا الكتاب‪ .‬وسأقوم في هذا الكتاب باتباع نفس النهج‬
‫الذي اتبعته في بعض كتبي السابقة وهي اإلتيان باآليات أو األحاديث التي تح ّدثت عن عيسى عليه السالم ثم سرد‬
‫عشر فوائد منها تفيدنا في حياتنا وتزيد من ارتباطنا بالله تعالى حتى تكون األمور منظّمة وتسهل عملية االستفادة‬
‫واألهم من ذلك التطبيق العملي لهذه الفوائد‪.‬‬

‫الكتابة عن هؤالء العظماء ليس باألمر السهل ألن حياتهم مليئة بالعبر والدروس وبالتالي تصعب اإلحاطة بها بشكل‬
‫كامل‪ ،‬ومع ذلك فإن الكتابات المتعددة لحياة هؤالء العظماء ستُكمل بعضها بعضا بإذن الله تعالى‪ .‬أسأل الله تعالى‬
‫أن يكون هذا الكتاب إضافة قيّمة لكل قارئ وأن يساهم في إخراج وتنشئة جيل إيجابي وأن يغيّر حال المسلمين نحو‬
‫األحسن‪.‬‬

‫‪2‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫مريم عليها السالم‬
‫يصعب التحدث عن عيسى عليه السالم من دون الحديث عن ّأمه العظيمة مريم ابنة عمران عليها السالم بل يجب‬
‫قصتها في القرآن الكريم‬
‫علينا البدء بالحديث عنها ألنّها كذلك قدوة حسنة وعظيمة للرجال قبل النساء‪ ،‬وقد وردت ّ‬
‫في سورة آل عمران ابتداء من اآلية ‪ 33‬حيث ذكر الله تعالى أهلها وقدومها إلى الدنيا ثم ذكر بعضا من فضائلها وكيفية‬
‫والدتها لعيسى عليه السالم في معجزة عظيمة من معجزات الله تعالى حيث تُعتبر الوحيدة على وجه هذه المعمورة التي‬
‫ولدت من غير زوج أو رجل‪ .‬ولذلك يُنسب عيسى عليه السالم إلى ّأمه مريم عليها السالم فيقال عيسى بن مريم‪.‬‬

‫وجاء ذكرها كذلك في كيفية والدتها لعيسى عليه السالم في سورة مريم ابتداء من اآلية ‪ 61‬مع ذكر موقف قومها منها‬
‫عند رؤيتهم لعيسى عليه السالم‪ .‬هذا غير ذكرها في آيات أخرى من القرآن الكريم سواء بمفردها أو مع ولدها عيسى‬
‫عليه السالم‪ .‬كل ذلك ليؤكد على القيمة العظيمة لهذه المرأة التي ضربت أروع األمثلة في الحياء والصبر والتربية الصالحة‬
‫لهذا النبي الكريم‪.‬‬

‫ويؤّكد القيمة العالية والعظيمة لمريم عليها السالم ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم عنها في الحديث الذي رواه أبو‬
‫ال َكثِير‪ ،‬ولَم ي ْكمل ِمن النِس ِاء إِالَّ ِ‬
‫آسيَةُ ْام َرأَةُ فِ ْر َع ْو َن‪َ ،‬وَم ْريَ ُم بِْن ُ‬
‫ ُ‬ ‫موسى األشعري رضي الله عنه‪َ " :‬ك ُم َل ِم َن ِ‬
‫الر َج ِ‬
‫ٌ ََْ ُْ َ َ‬
‫يد َعلَى َسائِ ِر الطَّ َعام" (رواه البخاري)‪ ،‬فهي عليها السالم بلغت‬ ‫النس ِاء َك َف ْ‬
‫ض ِل الثَّ ِر ِ‬ ‫ِع ْم َرا َن‪َ ،‬وإِ َّن فَ ْ‬
‫ض َل َعائِ َ‬
‫شةَ َعلَى َ‬
‫يدل على منزلتها العالية في الدنيا واآلخرة‪.‬‬ ‫الكمال الذي لم تبلغه امرأة أخرى في التاريخ سوى آسية امرأة فرعون وهذا ّ‬
‫قال الشيخ ابن باز مبينا معنى الكمال‪( :‬يعني في الصفات اإلنسانية التي مدحها الله وأثنى على أهلها من‪ :‬العلم‪،‬‬
‫والجود‪ ،‬واالستقامة على دين الله‪ ،‬والشجاعة في الحق‪ ،‬وغير ذلك من الصفات العظيمة التي مدحها الله سبحانه‬
‫وأثنى على أهلها‪ ،‬أو رسوله صلى الله عليه وسلم)‪.‬‬

‫َ ُ ال َْمالَئِ َكةُ يَا َم ْريَ ُم إِ َّن اللهَ‬


‫ويشهد على هذا األمر ما قاله الله تعالى على لسان مالئكته لمريم عليها السالم‪" :‬وإِ ْذ قَال ِ‬
‫َ‬
‫ين" (آل عمران ‪ .)24‬قال اإلمام ابن كثير رحمه الله تعالى‪( :‬هذا إخبار‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اك وطَه ِ‬
‫ِ‬
‫ساء ال َْعالَم َ‬
‫اصطََفاك َعلَى ن َ‬
‫َّرك َو ْ‬
‫اصطََف َ َ‬
‫ْ‬
‫من الله تعالى بما خاطبت به المالئكة مريم عليها السالم عن أمر الله لهم بذلك‪ :‬أن الله قد اصطفاها‪ ،‬أي‪ :‬اختارها‬
‫لكثرة عبادتها وزهادتها وشرفها وطهرها من األكدار والوسواس واصطفاها ثانيا مرة بعد مرة لجاللتها على نساء العالمين)‪.‬‬

‫ومن عظم قدرها أن الله تعالى سمى سورة كاملة في القرآن الكريم باسمها ولم يكن ألحد غيرها هذا الشرف العظيم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫وكذلك فإن الله تعالى ضرب بها المثل للمؤمنين كما قال سبحانه‪" :‬ومريم اب ن َ ِ‬
‫ ُ فَ ْر َج َها فَ نَ َف ْْنَا‬
‫صنَ ْ‬ ‫ ُ ع ْم َرا َن الَّتي أ ْ‬
‫َح َ‬ ‫َ َ ْ َ َ َْ‬
‫ين" (التحريم ‪ ،)64‬فكانت عليها السالم قدوة لجميع‬ ‫ِِ‬ ‫ات ربِها وُكتبِ ِه وَكانَ ْ ِ‬ ‫ِِِ ِ‬
‫وحنَا وص َّدقَ ْ ِ ِ ِ‬
‫ ُ م َن الْ َقانت َ‬ ‫ ُ ب َكل َم َ َ َ ُ َ‬ ‫فيه من ُّر َ َ‬
‫المؤمنين من الرجال والنساء بسبب صفاتها العظيمة‪ .‬قال اإلمام السعدي رحمه الله تعالى‪( :‬أي‪ :‬صانته وحفظته عن‬
‫ت ِمن الْقانِتِين" أي‪ :‬المطيعين لله‪ ،‬المداومين على طاعته بخشية‬
‫الفاحشة‪ ،‬لكمال ديانتها‪ ،‬وعفتها‪ ،‬ونزاهتها‪" ،‬وكان ْ‬
‫وخشوع‪ ،‬وهذا وصف لها بكمال العمل‪ ،‬فإنها رضي الله عنها صديقة‪ ،‬والصديقية‪ :‬هي كمال العلم والعمل)‪.‬‬

‫‪3‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫ِ‬
‫ ُ فَ ْر َج َها فَ نَ َف ْْنَا‬
‫صنَ ْ‬ ‫ويكفيها شرفا كذلك أ ّن الله تعالى جعلها وابنها عيسى عليها السالم آيةً للعالمين " َوالَّتي أ ْ‬
‫َح َ‬
‫ين" (األنبياء ‪ .)16‬قال اإلمام السعدي رحمه الله تعالى‪( :‬فكانت وابنها‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫اها َوابْ نَ َها آيَةً لل َْعالَم َ‬
‫ف َيها من ُّروحنَا َو َج َعلْنَ َ‬
‫آية للعالمين‪ ،‬يتحدث بها جيال بعد جيل‪ ،‬ويعتبر بها المعتبرون)‪.‬‬

‫ودعوني هنا أذكر عشر فوائد نستفيد بها من هذه المرأة العظيمة مستندا على ما جاءت به بعض اآليات القرآنية‬
‫واألحاديث النبوية الشريفة‪.‬‬

‫حث عليها اإلسالم وكانت مريم عليها السالم قدوة في ذلك للرجال قبل‬ ‫الفائدة األولى‪ :‬الحياء من أهم األخالق التي ّ‬
‫ِ‬
‫الخلُق تحفظان الشخص في حياته من‬ ‫ ُ فَ ْر َج َها" (األنبياء ‪ .)16‬وهذا ُ‬
‫صنَ ْ‬ ‫النساء كما قال الله تعالى عنها‪َ " :‬والَّتي أ ْ‬
‫َح َ‬
‫المحرمات بل واالقتراب منها بجانب معاملة الناس بصورة حسنة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كل مكروه وسوء حيث يمنعه الحياء من ارتكاب‬
‫وقبل ذلك كلّه‪ ،‬الحرص على طاعة الله تعالى حياء منه سبحانه‪.‬‬

‫النبي‬
‫والحياء صفة لألنبياء عليهم الصالة والسالم وعلى رأسهم النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في وصفه‪( :‬كا َن ُّ‬
‫الع ْذ َر ِاء في ِخ ْد ِرَها) (رواه البخاري)‪ .‬ونبي الله تعالى يوسف عليه السالم من‬ ‫صلَّى الله عليه وسلَّم أ َش َّد حي ِ‬
‫اء م َن َ‬
‫ََ ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وقصته مع امرأة العزيز معروفة‪.‬‬
‫القدوات كذلك في مسألة الحياء وخاصة للشباب ّ‬
‫ْحيَاءُ الَ يَأْتِي إِالَّ بِ َْ ْير" (متفق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الحياءُ م َن اإليمان" (رواه مسلم) و "والحياءُ ُشعبَةٌ م َن اإليمان" (متفق عليه) و "ال َ‬ ‫و" َ‬
‫ِ‬
‫فكل هذه األحاديث‬ ‫ْحيَاءُ ُكلُّهُ َخ ْي ٌر" (رواه مسلم)‪ ،‬و " َوَما َكا َن َ‬
‫الحيَاءُ في َش ْيء إالَّ َزانَهُ" (رواه الترمذي)‪ّ .‬‬ ‫عليه) و "ال َ‬
‫تؤكد القيمة العالية لخلق الحياء وأثره الكبير في حياة المسلم‪.‬‬

‫الفائدة الثانية‪ :‬التصديق بما قاله الله تعالى هو من أعلى مراتب اإليمان ولذلك مدح الله تعالى به السيدة مريم عليها‬
‫ ُ بِ َكلِم ِ‬
‫ات َربِ َها َوُكتُبِ ِه" (التحريم ‪ .)64‬فكانت عليها السالم قدوة في التصديق‬ ‫ص َّدقَ ْ َ‬ ‫السالم حين قال سبحانه‪َ " :‬و َ‬
‫مما رفع شأنها في العالمين‪ .‬وهذا التصديق يلزم صاحبه التسليم بكل ما قاله الله تعالى كما كان شأن إبراهيم عليه‬
‫ين" (البقرة ‪ .)636‬فهذا التسليم لله تعالى كانت من األمور‬ ‫ِ‬
‫ب ال َْعالَم َ‬‫ ُ لِر ِ‬ ‫َسلِ ْم قَ َ‬ ‫السالم‪" :‬إِ ْذ قَ َ‬
‫َسلَ ْم ُ َ‬
‫ال أ ْ‬ ‫ال لَهُ َربُّهُ أ ْ‬
‫التي رفعت شأن إبراهيم عليه السالم ليكون في مصاف أولي العزم من الرسل‪.‬‬

‫ولكي يصل الشخص إلى هذا التسليم والتصديق فإنه يلزمه العلم والمعرفة والعمل‪ .‬قال اإلمام السعدي رحمه الله تعالى‬
‫في تفسيره آلية سورة التحريم‪( :‬وهذا وصف لها بالعلم والمعرفة‪ ،‬فإن التصديق بكلمات الله‪ ،‬يشمل كلماته الدينية‬
‫والقدرية‪ ،‬والتصديق بكتبه‪ ،‬يقتضي معرفة ما به يحصل التصديق‪ ،‬وال يكون ذلك إال بالعلم والعمل)‪ .‬فكلّما زادت معرفة‬
‫الشخص بالله تعالى معرفة حقيقية‪ ،‬زاد تسليمه وتصديقه به سبحانه وبكالمه‪.‬‬

‫ويشمل التصديق بما قاله الله تعالى‪ ،‬التصديق بكل ما جاء في كتاب الله تعالى وبما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم‪،‬‬
‫ويشهد على ذلك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه‪( :‬لئن قال ذلك‪ ،‬لقد صدق) بعدما أخبره المشركون بما قاله‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة اإلسراء والمعراج‪ .‬وعندما يحدث هذا التصديق والتسليم‪ ،‬سيقبل الشخص على‬
‫طاعة الله تعالى واتباع سنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم فيحصل بذلك الفالح في الدنيا واآلخرة بإذن الله تعالى‪.‬‬

‫‪4‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫ين" (التحريم ‪ ،)64‬وقد جاء في معنى القانتين عدة معان‬‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫الفائدة الثالثة‪ :‬مدح الله تعالى مريم عليها بأنها "م َن الْ َقانت َ‬
‫كما ذكرها المفسرون‪ ،‬فقد ذكر اإلمام السعدي أنهم (المطيعون للّه ولرسوله)‪ ،‬وقال اإلمام ابن كثير‪( :‬القنوت‪ :‬هو‬
‫الطاعة في سكون)‪ ،‬وقال اإلمام القرطبي‪( :‬والقانت‪ :‬العابد المطيع)‪ ،‬وقال اإلمام الطبري‪( :‬المطيعين لله فيما أمرهم‬
‫ونهاهم)‪ .‬وقد تح ّقق كل ذلك في السيدة مريم عليها السالم حيث كانت قدوة في عبوديتها وطاعتها لله تعالى‪.‬‬

‫والقانتين والقانتات من األصناف العشرة الذين ذكرهم الله تعالى في اآلية ‪ 33‬من سورة األحزاب‪ ،‬فهم يدخلون في‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يما" وبالتالي فمنزلتهم رفيعة عند الله تعالى‪ .‬وقد مدح الله تعالى الصالحات من‬ ‫َع َّد اللَّهُ ل َُهم َّمغْف َرةً َوأ ْ‬
‫َج ًرا َعظ ً‬ ‫الذين "أ َ‬
‫يدل على عظم هذه الصفة‪.‬‬‫ظ اللَّهُ" (النساء ‪ )32‬مما ّ‬ ‫ات لِلْغَْي ِ‬
‫ب بِ َما َح ِف َ‬ ‫ات َحافِظَ ٌ‬ ‫بأنهن "قَانِتَ ٌ‬
‫المؤمنات ّ‬
‫وكذلك يأتي من معاني القنوت بجانب الطاعة لله تعالى معنى اإلخالص‪ ،‬حيث يرتبط القنوت بقيام الليل كما قال‬
‫اج ًدا َوقَائِ ًما يَ ْح َذ ُر ْاْل ِخ َرةَ َويَ ْر ُجو َر ْح َمةَ َربِ ِه" (الزمر ‪ ،)1‬وقائم الليل في أغلب‬
‫ ُ آنَاء اللَّي ِل س ِ‬‫ِ‬
‫سبحانه‪" :‬أ ََّم ْن ُه َو قَان ٌ َ ْ َ‬
‫األحوال يخفي هذه العبادة لكي يحقق اإلخالص الكامل لله تعالى ويختلي به سبحانه في هذا الوقت العظيم‪ .‬وكذلك‬
‫من معاني القنوت الذلة والخضوع لله تعالى وهذا كان شأن مريم عليها السالم حيث كانت خاضعة لله تعالى في كل‬
‫شيء فاستح ّقت أن يجعلها الله تعالى من القانتات‪.‬‬

‫الفائدة الرابعة‪ :‬اللجوء إلى الله تعالى واالعتصام به من صفات المؤمنين الصادقين وهو يعبّر عن قوة االرتباط بالله‬
‫َ ُ إِنِي أَ ُعوذُ بِ َّ‬
‫الر ْح َم ِن‬ ‫تعالى‪ ،‬وقد كان ذلك شأن مريم عليها السالم إذ أنها استعاذت بالله تعالى حين رأت الملك "قَال ْ‬
‫ِم َ‬
‫نك" (مريم ‪( )61‬أي‪ :‬ألتجئ به وأعتصم برحمته‪ ،‬أن تنالني بسوء) (تفسير السعدي)‪ ،‬ويُالحظ كذلك أنها استعانت‬
‫يدل على قوة ارتباطها بالله تعالى‪.‬‬
‫بالله تعالى كأول وسيلة ولم تلجأ إلى بشر مما ّ‬

‫واللجوء إلى الله تعالى شأن األنبياء والصالحين وخير من فعل ذلك هو الرسول صلى الله عليه وسلم إذ كان يلجأ إلى‬
‫الله تعالى في جميع أحواله كما فعل في غار ثور حين قال له أبوبكر الصديق رضي الله عنه‪( :‬يا رسول الله‪ ،‬ل ْو أ َّن‬
‫ُّك يَا أَبا بَكر باثنَ ْي ِن الله ثَالِثُ ُه َما" ( ُمتَّف ٌق عل ِيه)‪.‬‬
‫أحد ُه ْم نظر ت ْحت قدم ِيه ألبْصرنا‪ .‬ف قال صلى الله عليه وسلم‪َ " :‬ما ظَن َ‬
‫َنز َل اللهُ َس ِكينَ تَهُ َعلَْي ِه‬ ‫ول لِ ِ ِ‬
‫صاحبِه الَ تَ ْح َز ْن إِ َّن اللهَ َم َعنَا"‪ ،‬فكانت النتيجة‪" :‬فَأ َ‬ ‫وفي ذلك نزلت اآلية الكريمة‪" :‬إِ ْذ يَ ُق ُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫يم" (التوبة ‪.)24‬‬ ‫الس ْفلَى َوَكل َمةُ الله ه َي الْعُلْيَا َواللهُ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬
‫ين َك َف ُرواْ ُّ‬
‫َوأَيَّ َدهُ ب ُجنُود ل ْم تَ َرْو َها َو َج َع َل َكل َمةَ الذ َ‬
‫وكذلك فعل إبراهيم ويعقوب ويوسف وموسى عليهم السالم في مواقف مختلفة‪ ،‬بل كان ذلك دأب الصحابة كما قال‬
‫يماناً َوقَالُواْ َح ْسبُ نَا اللهُ َونِ ْع َم‬ ‫َّ ِ‬
‫اد ُه ْم إِ َ‬
‫ش ْو ُه ْم فَ َز َ‬
‫َّاس قَ ْد َج َم ُعواْ لَ ُك ْم فَا ْخ َ‬ ‫ال ل َُهم الن ِ‬
‫َّاس إ َّن الن َ‬
‫ين قَ َ ُ ُ‬ ‫الله تعالى عنهم‪" :‬الذ َ‬
‫يل" (آل عمران ‪ ،)673‬وقد نزلت هذه اآلية في أعقاب غزوة أحد والمسلمين مثخنين بالجراح وقد استُ ْش ِهد منهم‬ ‫ِ‬
‫ال َْوك ُ‬
‫تجمع جديد من‬ ‫سبعون صحابيا فكان الموقف عصيبا ولكنهم لجؤوا إلى الله تعالى واعتصموا به حين وصلتهم أخبار ّ‬
‫ض َوا َن الل ِه َواللهُ ذُو‬
‫س ْس ُه ْم ُسوءٌ َواتَّبَ عُواْ ِر ْ‬ ‫المشركين فكانت نتيجة هذا اللجوء "فَان َقلَبُواْ بِنِ ْعمة ِمن الل ِه وفَ ْ َّ‬
‫ضل ل ْم يَ ْم َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ضل َع ِظيم" (آل عمران ‪ .)672‬اللجوء إلى الله تعالى واالعتصام به فالح ونجاة لصاحبه دائما‪.‬‬ ‫فَ ْ‬

‫‪5‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫الفائدة الْامسة‪ :‬الستر من األمور التي يحبها الله تعالى ولذلك كان من أسمائه سبحانه الستير‪ ،‬وكذلك كان شأن‬
‫ت ِمن ُدونِ ِه ْم ِح َجاباً" (أي‪ :‬سترا‬
‫تحب الستر كما قال سبحانه وتعالى عنها‪" :‬فَاتَّ َْ َذ ْ‬
‫مريم عليها السالم التي كانت ّ‬
‫ومانعا‪ ،‬وهذا التباعد منها واتخاذ الحجاب‪ ،‬لتعتزل وتنفرد بعبادة ربها وتقنّت له في حالة اإلخالص والخضوع والذل‬
‫لله تعالى) (تفسير السعدي)‪.‬‬

‫والستر للمرأة حماية لها بالدرجة األولى ولذلك جاء اإلسالم بما يضمن هذا الستر من وجوب الحجاب واللبس‬
‫المحتشم وعدم الخضوع بالقول وعدم الخلوة واالختالط من غير ضرورة‪ .‬كل ذلك ليضمن حياة سعيدة وهادئة للمرأة‪.‬‬
‫وال يقتصر الستر على المرأة وإنما ينبغي كذلك للرجل من خالل عدم إظهار العورة والحفاظ على لباس مناسب‪ .‬وكذلك‬
‫وإال كانت العاقبة وخيمة كما جاء في الحديث الشريف‪ُ " :‬ك ُّل أ َُّمتِي‬
‫يدخل في باب الستر عدم المجاهرة بالمعاصي ّ‬
‫بح َوقَ ْد َستَ َرهُ اللهُ َعلَ ِيه‪ ،‬فَي ُق ُ‬ ‫اه َرةِ أ ْن يَ ْع َم َل َّ‬
‫الر ُج ُل باللَّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ول‪ :‬يَا‬ ‫ص ُ‬‫يل َع َمالً‪ ،‬ثُ َّم يُ ْ‬ ‫الم َج َ‬
‫ين‪َ ،‬وإن م َن ُ‬ ‫الم َجاه ِر َ‬‫ُم َعافى إالَّ ُ‬
‫ست ر ِ‬
‫الله َع ْنه" ( ُمتَّف ٌق عل ِيه)‪.‬‬ ‫صبح يَ ْك ِش ُ‬ ‫فُال ُن‪َ ،‬ع ِمل ُ البَا ِر َحةَ َك َذا َوَك َذا‪َ ،‬وقَ ْد بَ َ‬
‫ف َْ‬ ‫ات يَ ْستُ ُرهُ َربُّهُ‪َ ،‬ويُ ُ‬
‫ومن الستر كذلك أن يحرص الشخص على إخفاء أعماله الصالحة التي ال تحتاج للظهور مثل قيام الليل وصدقة السر‬
‫وصيام النافلة‪ ،‬فذلك أدعى لإلخالص والذل لله تعالى كما كان شأن مريم عليها السالم‪ .‬وال ننسى كذلك أن ستر‬
‫ِ‬
‫اآلخرين من األمور التي يحبها الله تعالى وله أجر عظيم كذلك كما قال صلى الله عليه وسلم‪َ " :‬وَم ْن َستَ َر ُم ْسلماً َستَ َرهُ‬
‫الله في الدُّنْ يا و ِ‬
‫اْلخ َرةِ" (رواه مسلم)‪.‬‬ ‫َ َ‬
‫الفائدة السادسة‪ :‬االرتباط بمكان العبادة ّ‬
‫يدل على االرتباط بالله تعالى‪ ،‬وأقصد هنا االرتباط بالمسجد بالنسبة للرجال‬
‫في صالة الجماعة وبمكان للعبادة بالنسبة للنساء‪ ،‬ويمكن كذلك أن يكون للرجال كذلك مكان للعبادة في البيت مثال‬
‫حب الشخص لله تعالى كما كان حال مريم عليها‬
‫لصلوات النوافل وقراءة القرآن‪ .‬هذا االرتباط بهذه األماكن داللة على ّ‬
‫ِ‬
‫السالم والتي قال الله تعالى عنها‪ُ " :‬كلَّ َما َد َخ َل َعلَْي َها َزَك ِريَّا الْم ْح َر َ‬
‫اب" (آل عمران ‪.)37‬‬

‫يدل سياق اآلية على أ ّن‬


‫فذكر كلمة (المحراب) هنا داللة على أ ّن مريم عليها السالم كانت مرتبطة بهذا المكان حيث ّ‬
‫َّ‬
‫دخول زكريا عليه السالم كان متكررا " ُكل َما َد َخ َل َعلَْي َها َزَك ِريَّا"‪ ،‬فكانت مريم عليها السالم ّ‬
‫تحب مكان عبادة ربّها‬
‫وبالتالي خلّد الله تعالى ذكر هذا المكان‪.‬‬

‫واالرتباط بالمسجد أو بمكان العبادة له أجر كبير عند الله تعالى‪ ،‬ويكفي أن صاحبه من الذين يظلّهم الله تعالى في‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ظل إال ظلّه كما جاء في الحديث الشريف‪َ " :‬س ْب َعةٌ يُظلُّ ُه ُم اللهُ في ظل ِه يَ ْو َم الَ ظ َّل إالَّ ظلُّهُ‬ ‫ظلّه يوم القيامة‪ ،‬يوم ال ّ‬
‫– وذكر منهم ‪ -‬ورجل قَلْبه معلَّ ٌق بِالم ِ ِ‬
‫يحب أهل المساجد ويرفع من‬ ‫ساجد" (متفق عليه)‪ .‬والله سبحانه وتعالى ّ‬ ‫ََ‬ ‫ََ ُ ٌ ُُ َُ‬
‫قدرهم ويغفر ذنوبهم‪ .‬وما ينطبق على الرجل في األجر والثواب ينطبق كذلك على المرأة التي تحافظ على الصالة في‬
‫مصالّها‪ ،‬فالله تعالى ذو فضل عظيم‪.‬‬

‫‪6‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫الفائدة السابعة‪ :‬اليقين بأن الرزق من عند الله وحده من صفات المؤمنين الصادقين‪ ،‬وكان ذلك شأن مريم عليها‬
‫ند اللَّ ِه ۖ إِ َّن اللَّه ي رز ُق من ي َ ِ ِ‬
‫السالم كما قالت‪" :‬هو ِمن ِع ِ‬
‫ساب" (آل عمران ‪( )37‬أي‪ :‬من غير حسبان‬ ‫شاءُ بغَْي ِر ح َ‬‫َ َْ ُ َ َ‬ ‫َُ ْ‬
‫من العبد وال كسب) (تفسير السعدي)‪ .‬والله سبحانه من أسمائه الرازق والرزاق فهو سبحانه خير الرازقين‪.‬‬

‫ولكن الرزق في النهاية من الله تعالى وحده‪ ،‬ورزق الشخص‬ ‫واإلنسان يُطلب منه السعي وبذل الجهد لكسب الرزق ّ‬
‫ب‬‫ب نُطْ َفةٌ يا َر ِ‬ ‫بالرِح ِم َملَ ًكا‪ُ ،‬‬
‫يقول‪ :‬يا َر ِ‬ ‫وجل وَّك َل َّ‬
‫عز َّ‬ ‫إن اللَّهَ َّ‬
‫مكتوب قبل والدته كما قال صلى الله عليه وسلم‪َّ " :‬‬
‫ب‬
‫واألج ُل‪ ،‬فيُ ْكتَ ُ‬
‫الرْز ُق َ‬ ‫قال‪ :‬أذَ َك ٌر ْأم أُنْثَى‪َ ،‬ش ِقي ْأم َس ِعي ٌد‪ ،‬فَما ِ‬ ‫اد أ ْن ي ْق ِ‬
‫ض َي َخ ْل َقهُ َ‬ ‫ضغَةٌ فإذا أر َ َ‬ ‫َعلَ َقةٌ يا َر ِ‬
‫ب ُم ْ‬
‫في بَطْ ِن أ ُِم ِه " (رواه البخاري)‪ ،‬وبالتالي فإن الشخص سيحصل على رزقه الذي كتبه الله تعالى له كاملة حتى لو تأخر‬
‫يموت حتى يستكم َل رزقَه‪،‬‬
‫إن أح َدكم لن َ‬ ‫وأصابه ما أصاب من ظروف وتح ّديات‪ ،‬وقد جاء في الحديث الشريف‪َّ " :‬‬
‫ودعوا ما َح ُرَم" (السلسلة الصحيحة)‪.‬‬ ‫الرز َق‪ ،‬واتقوا اللهَ أيها الناس‪ ،‬وأ ِ‬
‫َجملوا في الطَّ ِ‬ ‫ِ‬
‫تستبطئُوا ِ‬
‫حل‪َ ،‬‬
‫لب‪ُ ،‬خذوا ما َّ‬ ‫ُ‬ ‫فال‬

‫ب أ ْن‬ ‫أح َّ‬


‫وهناك أمور يمكن أن يفعلها الشخص ويُبارك له رزقه مثل صلة الرحم كما قال صلى الله عليه وسلم‪" :‬من َ‬
‫ص ْل َرِح َمهُ" ( ُمتَّف ٌق عل ِيه)‪ ،‬وكذلك التقوى كما قال سبحانه‪َ " :‬وَمن يَت َِّق‬ ‫ط لَهُ في ِرْزقِ ِه‪ ،‬وي ْنسأَ لَهُ في أثَ ِرهِ‪ ،‬فَ لْي ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫سَ‬ ‫يُ ْب َ‬
‫ب" (الطالق ‪ )3-4‬وغير ذلك مما ورد في كتاب الله تعالى وسنّة‬ ‫ِ‬
‫ث َال يَ ْحتَس ُ‬‫اللَّهَ يَ ْج َعل لَّهُ َم ْْ َرجاً‪َ ،‬ويَ ْرُزقْهُ ِم ْن َح ْي ُ‬
‫ين" (الذاريات ‪)31‬‬ ‫ِ ِ‬
‫الرزَّا ُق ذُو الْ ُق َّوة ال َْمت ُ‬
‫رسوله صلى الله عليه وسلم‪ .‬المهم أن يدرك الشخص بأن الله سبحانه " ُه َو َّ‬
‫ستقرها ومستودعها) (تفسير‬ ‫(أي‪ :‬كثير الرزق‪ ،‬الذي ما من دابة في األرض وال في السماء إال على الله رزقها‪ ،‬ويعلم ُم ّ‬
‫السعدي)‪.‬‬

‫الفائدة الثامنة‪ :‬التربية الحسنة من أهم األمور التي ينبغي أن ّ‬


‫تهتم بها األسرة ألن في صالح أبنائها صالح لألمة ككل‪،‬‬
‫وقد كان ذلك شأن مريم عليها السالم إذ تربّت تربية ربّانية بالدرجة األولى ثم تربية نبوية على يد زكريّا عليها السالم‬

‫سنًا َوَك َّفلَ َها َزَك ِريَّا" (آل عمران ‪ ،)37‬فكانت هذه التربية المباركة سببا أساسيا في رفعة شأنها ّ‬
‫وعلو‬ ‫" َوأَنبَ تَ َها نَبَاتًا َح َ‬
‫يسر لها أسباب القبول‪ ،‬وقرنها بالصالحين من عباده تتعلم منهم الخير والعلم والدين)‬
‫مكانتها في نساء العالمين‪ّ ( .‬‬
‫(تفسير ابن كثير)‪.‬‬

‫والتربية الحسنة تشمل التربية على كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم حيث أ ّن السعادة هي التربية على‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وسنَّتي" (صحيح الجامع)‪ .‬وينبغي التربية على‬ ‫ك ُ فيكم شيئَي ِن‪ ،‬لن تضلوا بعدهما‪َ :‬‬
‫كتاب الله‪ُ ،‬‬ ‫هذين المصدرين "تر ُ‬
‫جميع الجوانب الهامة كالجانب العبادي واألخالقي والحياتي حتى ينشأ الجيل متوازنا‪.‬‬

‫واالهتمام بالعلم من أهم أسباب التربية الحسنة سواء كان ذلك للمربّين بأن يتعلّموا أساليب التربية وكذلك للمتربّين بأن‬
‫يهتموا بالعلم النافع‪ .‬ويكفي أ ّن من آثار التربية الحسنة أن أجر المربّي ال ينقطع بعد موته كما قال صلى الله عليه وسلم‪:‬‬
‫صالِح يَ ْد ُعو لَهُ" (رواه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص َدقة َجاريَة‪ ،‬أ َْو علْم يُ ْن تَ َف ُع بِه‪ ،‬أ َْو َولَد َ‬
‫سا ُن انْ َقطَ َع َع َملُهُ إِالَّ م ْن ثَالث‪َ :‬‬ ‫"إِ َذا َم َ‬
‫ات اإلنْ َ‬
‫مسلم)‪ ،‬هذا غير أن كل عمل صالح يعمله األبناء ويعلّمونه من بعدهم يكون في ميزان حسنات اآلباء " َم ْن َد َّل َعلَى‬
‫اعلِ ِه" (رواه مسلم)‪.‬‬ ‫َخير فَ لَه ِمثْل أج ِر فَ ِ‬
‫ْ ُ ُ ْ‬

‫‪7‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫الفائدة التاسعة‪ :‬الصالة أهم عبادة في اإلسالم وقد أ ّكد القرآن الكريم والسنة النبوية على ذلك تأكيدا شديدا‪ .‬ومن‬
‫وصى الله تعالى مريم‬
‫يقرأ األحاديث الواردة في شأن الصالة يدرك القيمة العالية واألهمية القصوى لهذه العبادة‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫ين" (آل عمران ‪.)23‬‬ ‫عليها السالم بهذه العبادة كما جاء على لسان المالئكة الكرام‪" :‬واسج ِدي وارَك ِعي مع َّ ِ ِ‬
‫الراكع َ‬ ‫َ ْ ُ َ ْ ََ‬
‫خص السجود والركوع لفضلهما وداللتهما على غاية الخضوع لله‪ ،‬ففعلت مريم ما أمرت به شكرا لله تعالى وطاعة)‬ ‫( ّ‬
‫(تفسير السعدي)‪.‬‬

‫التوجه إليه‬‫ولكن هدفها واحد في النهاية وهو عبادة الله تعالى و ّ‬ ‫وقد يكون شكل الصالة مختلفا بين األمم المختلفة ّ‬
‫القيَ َام ِة ِم ْن َع َملِ ِه‬
‫إن َّأو َل ما يحاسب بِ ِه العب ُد ي وم ِ‬
‫َْ َ ْ َ‬ ‫َ َُ َ ُ‬ ‫والخضوع له‪ .‬قال صلى الله عليه وسلم مبيّنا أهمية الصالة‪َّ " :‬‬
‫اب َو َخ ِس َر" (رواه الترمذي)‪ ،‬وفي الحديث اآلخر‪:‬‬ ‫ت‪ ،‬فَ َق ْد َخ َ‬
‫س َد ْ‬
‫ ُ‪ ،‬فَ َق ْد أفْ لَ َح وأَنْ َج َح‪َ ،‬وإ ْن فَ َ‬
‫صلَ َح ْ‬
‫صالَتُهُ‪ ،‬فَإ ْن َ‬‫َ‬
‫ِ‬ ‫الشر ِك والكفر‪ ،‬تَر َك َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫" َّ‬
‫وصى به الرسول صلى الله عليه‬ ‫الصالَة" (رواه ُمسلم)‪ ،‬وهي من آخر ما ّ‬ ‫ْ‬ ‫الر ُج ِل َوبَ ْي َن ْ‬
‫إن بَ ْي َن َّ‬
‫دل على أهميتها القصوى‪.‬‬
‫وسلم مما ّ‬

‫أحب األعمال إليه سبحانه‪ .‬جاء في الحديث الشريف‪:‬‬ ‫أما فضلها فأكثر من أن تُحصى‪ ،‬والركوع والسجود فيها من ّ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫إن العب َد إذا قَام يصلِي أُتِي ب ُذنوبِه ُكلِها فَو ِ‬
‫ ُ َع ْنهُ" (صحيح‬ ‫كع أو َسج َد تَساقَطَ ْ‬ ‫ ُ على رأسه وعات َق ْيه‪ ،‬ف ُكلَّما َر َ‬ ‫ض َع ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َُ‬ ‫" َّ‬
‫اس ُج ُدوا َوا ْعبُ ُدوا َربَّ ُك ْم َوافْ َعلُوا الْ َْ ْي َر ل ََعلَّ ُك ْم تُ ْفلِ ُحو َن"‬
‫آمنُوا ْارَك ُعوا َو ْ‬
‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫الجامع)‪ ،‬وفي اآلية الكريمة‪" :‬يَا أَيُّ َها الذ َ‬
‫(الحج ‪ ،)77‬فقرن سبحانه بين الركوع والسجود وجعلهما من أسباب الفالح في الدنيا واآلخرة‪ .‬ويكفي في فضل‬
‫السجود ما قاله صلى الله عليه وسلم‪" :‬أقْرب ما ي ُكو ُن العب ُد ِمن ربِ ِه و ُهو س ِ‬
‫اج ٌد‪ ،‬فَأَ ْكثِ ُروا الد َ‬
‫ُّعاءَ" (رواه مسلم)‪.‬‬ ‫َْ ْ َ َ َ َ‬ ‫َُ َ َ‬
‫الفائدة العاشرة‪ :‬رغم أن مريم عليها السالم سيدة نساء العالمين وذات منزلة عالية عند الله تعالى إال إنّها في النهاية‬
‫ ُ يَا ل َْي تَنِي‬
‫هم وحزن ومصائب لدرجة أن تتمنّى الموت نتيجة ألم المخاض "قَالَ ْ‬
‫بشر‪ ،‬يصيبها من يصيب البشر من ّ‬
‫نسيًّا" (مريم ‪ .)43‬وهذه البشرية تجعلها قدوة صالحة للبشر ألن البعض قد يعتذر بمثل‬ ‫ن ُ نَسيا َّم ِ‬ ‫ِم ُّ‬
‫ ُ قَ ْب َل َه َذا َوُك ُ ْ ً‬
‫فلما يحكي الله تعالى مثل هذه المواقف‪ ،‬يبيّن للناس بأن هؤالء‬
‫هذه القدوات بأنهم معصومون أو أنهم فوق البشر‪ّ ،‬‬
‫بشر مثلكم‪ ،‬يصيبهم ما يصيبكم وبالتالي فإن االقتداء بهم أمر ممكن بل مطلوب‪.‬‬

‫وقد ذكر الله تعالى أمثلة متعددة للناحية البشرية عند األنبياء كما ذكر الخوف عند موسى عليه السالم والحزن عند‬
‫كل ذلك ليؤكد سبحانه على‬
‫يعقوب عليه السالم والفزع عند داود عليه السالم وأكل الطعام عند عيسى عليه السالم‪ّ .‬‬
‫بشرية هؤالء العظماء والقدوات فيكونوا نماذج صالحة لجميع البشر‪.‬‬

‫ومن ناحية أخرى‪ ،‬فإن مثل هذه المواقف تأتي لكيال يقوم الناس برفع هذه القدوات إلى منزلة فوق البشر فيقعون في‬
‫الضالل والكفر كما حدث مع النصارى‪ ،‬ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد دائما على بشريته حتى ال يقع‬
‫َّص َارى ابْ َن َم ْريَ َم؛ فإنَّما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الناس فيما وقع فيه النصارى واليهود كما جاء في الحديث الشريف‪َ " :‬ال تُط ُْروني كما أَط َْرت الن َ‬
‫ِ‬
‫بشر‪ ،‬إذا أمرتُكم بشيء من‬ ‫أَنَا َع ْب ُدهُ‪ ،‬فَ ُقولوا‪ :‬عب ُد اللَّه َوَر ُسولُهُ" (صحيح البخاري)‪ .‬وفي الحديث اآلخر‪" :‬إنما أنا ٌ‬
‫بشر" (رواه مسلم)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫دينكم ف ُْذوا به‪ ،‬وإذا أمرتُكم بشيء من رأيي‪ ،‬فإنما أنا ٌ‬

‫‪8‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫الفوائد والدروس المستفادة من مريم عليها السالم كثيرة جدا وما ذكرناه شيء يسير منها‪ ،‬فحياة هذه المرأة العظيمة‬
‫مليئة بالدروس والفوائد التي يستفيد منها كل شخص ولعلّنا نتعرض إلى بعض الفوائد األخرى حين الحديث عن ابنها‬
‫المبارك عيسى عليه السالم‪.‬‬

‫*******************************************‬

‫عيسى عليه السالم‬


‫عيسى عليه السالم‪ ،‬من أولي العزم من الرسل ويعني ذلك أنّه واحد من أفضل البشر على اإلطالق‪ ،‬وهو معجزة فريدة‬
‫ألنّه ُولِد من غير أب بأمر من الله تعالى‪ .‬وقد أرسله الله تعالى إلى النصارى وآتاه الله تعالى اإلنجيل ككتاب سماوي‪.‬‬
‫وهو النبي الذي جاء قبل النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة وقد ذكره الله تعالى أكثر من خمس وعشرين مرة في القرآن‬
‫يدل على عظم هذه الشخصية وقدرها الكبير‪.‬‬
‫الكريم مما ّ‬

‫وقد ذكر الله تعالى قصة والدة عيسى عليه السالم كما ذكرنا من قبل في سورتي آل عمران ومريم‪ ،‬وسأرّكز حديثي هنا‬
‫على اآليات ‪ 47‬إلى ‪ 41‬من سورة مريم والتي تتح ّدث عن موقف النصارى عندما شاهدوا مريم عليها السالم وهي‬
‫ ُ بِ ِه قَوم َها تَ ْح ِملُهُ ۖ قَالُوا يا مريم لََق ْد ِج ْئ ِ‬
‫ ُ َش ْي ئًا فَ ِريًّا‪ ،‬يَا‬ ‫تحمل وليدها عيسى عليه السالم‪ .‬قال الله تعالى‪" :‬فَأَتَ ْ‬
‫َ ََُْ‬ ‫َْ‬
‫صبِيًّا"‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت إِلَي ِه ۖ قَالُوا َكي َ ِ‬ ‫ ُ أ ُُّم ِ ِ‬ ‫ ُ هارو َن ما َكا َن أَب ِ‬
‫ف نُ َكل ُم َمن َكا َن في ال َْم ْهد َ‬ ‫ْ‬ ‫ك بَغيًّا‪ ،‬فَأَ َش َار ْ ْ‬ ‫وك ْام َرأَ َس ْوء َوَما َكانَ ْ‬‫ُ‬ ‫أُ ْخ َ َ ُ َ‬
‫وسأذكر من هذه اآليات عشر فوائد‪:‬‬

‫ ُ بِ ِه قَ ْوَم َها تَ ْح ِملُهُ" رغم علمها بأنّهم‬


‫الفائدة األولى‪ :‬أثبتت مريم عليها السالم شجاعتها حيث رجعت إلى قومها "فَأَتَ ْ‬
‫سينكرون عليها وقد يتّهمونها بالفاحشة ولكنّها جاءت بكل شجاعة ورضيعها في يدها ولم تذهب متخ ّفية إلى منزلها‬
‫ولكنّها أتت بالرضيع إلى قومها لكي يشاهدها الجميع‪.‬‬

‫هذه الشجاعة تنبع من أمور أولّها اإليمان العميق بالله تعالى والثقة به سبحانه حيث يعلم الشخص يقينا بأن الله‬
‫تعالى سيكون معه في المواقف العصيبة ألنّه كان مع الله تعالى في أوقات الرخاء‪ ،‬فهذه الشجاعة جعلت نبي الله تعالى‬
‫موسى عليه السالم يواجه فرعون وقومه في مواقف متعددة‪ ،‬وحتى عندما كان البحر من أمامه وفرعون وجنده من خلفه‬
‫وظن قومه أنهم هالكون‪ ،‬قال موسى عليه السالم في شجاعة‪َ " :‬ك َّال إِ َّن َم ِع َي َربِي َسيَ ْه ِدي ِن" (الشعراء ‪.)14‬‬
‫ّ‬
‫وهذه الشجاعة جعلت إبراهيم عليه السالم يواجه قومه رغم أنّه كان فتى وحيدا‪ ،‬وهذه الشجاعة جعلت اإلمام أحمد‬
‫بن حنبل يواجه المعتزلة في مسألة خلق القرآن‪ ،‬وهذه الشجاعة جعلت القائد صالح الدين األيوبي وسيف الدين قطز‬
‫وطارق بن زياد يواجهون أعداءهم‪ .‬هذه الشجاعة تهزم الجبال أل ّن الشخص يتوكل على من هو على كل شيء قدير‬
‫ومن بيد األمر كلّه‪.‬‬

‫‪9‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫الفائدة الثانية‪ :‬استغراب قوم مريم من هذا الحدث جاء من كون مريم عليها ذات تاريخ أبيض إيجابي‪ ،‬وهذا يقودنا‬
‫إلى أن يحافظ الشخص على مواقفه وتعامله الحسن مع اآلخرين ألن هذا سيحفظ تاريخ الشخص خاصة وقت األزمات‬
‫وهكذا كانت مريم عليها السالم معروفة بين الناس‪ ،‬طاهرة عفيفة مرتبطة بالله تعالى‪.‬‬

‫وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته حيث كان يُعرف بالصادق األمين وكان ذلك من عوامل تصديق الناس‬
‫له‪ ،‬وحتى الذين لم يتّبعوه كانوا يعرفون تاريخه األبيض كما قال أبو سفيان رضي الله عنه لملك الروم حين سأله وكان‬
‫ل ُ‪َ :‬ال) (متفق عليه)‪.‬‬
‫ال قُ ُ‬
‫ول ما قَ َ‬ ‫ذلك قبل إسالم أبي سفيان‪( :‬فَهل ُك ْن تُ ْم تَتَّ ِه ُمونَهُ بال َك ِذ ِ‬
‫ب قَ ْب َل أ ْن يَ ُق َ‬ ‫ْ‬
‫شك بأ ّن الشخص سيخطئ ألنه بشر غير معصوم ولكن نتح ّدث هنا عن غالب حياة الشخص‪ ،‬فإن المواقف‬ ‫وال ّ‬
‫العظيمة اإليجابية للشخص هي ما ستمنح الشخص تاريخا إيجابيا وسيذوب سيئاته وسلبياته في بحر حسناته وإيجابياته‬
‫كما هو حال العظماء عبر التاريخ فإ ّن الناس يذكرون هؤالء بكل خير وال يكاد يُذكر سلبياتهم إال في نطاق ضيّق جدا‪.‬‬
‫الفائدة الثالثة‪ :‬للوالدين أثر كبير كذلك على تاريخ الشخص ولذلك قال قوم مريم لها‪" :‬ما َكا َن أَب ِ‬
‫وك ْام َرأَ َس ْوء َوَما‬‫ُ‬ ‫َ‬
‫ك بَ ِغيًّا"‪ ،‬قال اإلمام السعدي رحمه الله تعالى‪( :‬أي‪ :‬لم يكن أبواك إال صالحين سالمين من الشر‪ ،‬وخصوصا‬ ‫ ُ أ ُُّم ِ‬
‫َكانَ ْ‬
‫هذا الشر‪ ،‬الذي يشيرون إليه‪ ،‬وقصدهم‪ :‬فكيف كنت على غير وصفهما؟ وأتيت بما لم يأتيا به؟ وذلك أن الذرية ‪-‬‬
‫في الغالب ‪ -‬بعضها من بعض‪ ،‬في الصالح وضده‪ ،‬فتعجبوا ‪ -‬بحسب ما قام بقلوبهم ‪ -‬كيف وقع منها)‪.‬‬

‫وهذا التاريخ األبيض اإليجابي يأتي من التربية الحسنة لألبناء من ارتباط بالله تعالى وأخالق ومعاملة حسنة مع اآلخرين‬
‫وتنمية ذات وتفوق وتميز في مجاالت الحياة المختلفة‪ ،‬ويشاهد الناس هذا األثر على هؤالء األبناء‪ ،‬وبالتالي يتوقّع‬
‫الناس في الغالب بأن األبناء ينبغي أن يكونوا صالحين نتيجة صالح آبائهم‪.‬‬

‫وبالطبع‪ ،‬فإن صالح األبناء في النهاية بيد الله تعالى ولكن على الوالدين اتخاذ األسباب الالزمة لكي يكونوا أبناؤهم‬
‫ومحاسبين عن الوسائل واألسباب‬ ‫ْ‬ ‫مسؤولين‬
‫ْ‬ ‫صالحين مع سؤال الله تعالى التوفيق والسداد واإلعانة وذلك ألن الوالدين‬
‫ين" (القصص ‪،)31‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫َك َّن اللَّهَ يَ ْه ِدي َمن يَ َ‬
‫ ُ ول ِ‬ ‫ِ‬ ‫وليس على النتائج "إِنَّ َ‬
‫شاءُ َو ُه َو أَ ْعلَ ُم بال ُْم ْهتَد َ‬ ‫َحبَ ْب َ َ‬‫ك َال تَ ْهدي َم ْن أ ْ‬
‫واتخاذ هذه األسباب والوسائل في التربية من صلب مسؤولية الوالدين كما قال صلى الله عليه وسلم‪" :‬كلكم َراع ‪،‬‬
‫ ُ َزْوجها َوَولَدهِ ‪،‬‬ ‫والرجل راع علَى ْأه ِل بيتِ ِه ‪ ،‬والمرأةُ ر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اعيةٌ َعلَى ب ْي ِ‬
‫َ‬ ‫َ َْ َ‬ ‫َ‬ ‫َوُكلُّ ُك ْم َم ْس ُؤو ٌل َع ْن َرعيَّتِ ِه ‪َ :‬واألم ُير َراع ‪َ َ ُ ُ َّ ،‬‬
‫ول َع ْن َر ِعيَّتِ ِه" ( ُمتَّف ٌق عل ِيه)‪.‬‬
‫فَ ُكلُّ ُك ْم َراع ‪َ ،‬وُكلُّ ُك ْم َم ْس ُؤ ٌ‬

‫الفائدة الرابعة‪ :‬الزنا من أكبر الكبائر وهو ممقوت من جميع األمم ولذلك قال قوم مريم لها لما رأوها تحمل ولدا من‬
‫غير أب‪" :‬لََق ْد ِج ْئ ِ‬
‫ ُ َش ْي ئًا فَ ِريًّا" (أي‪ :‬عظيما وخيما) (تفسير السعدي)‪ .‬فأصحاب الفطرة السليمة من أي ديانة‬
‫ينكرون هذا الفعل الشنيع أل ّن نتائجه وخيمة سواء على الفرد أو المجتمع‪.‬‬

‫حرم الله الزنا ووضع على مرتكبيها عقوبة شديدة هي الجلد لغير المحصن والرجم حتى الموت للمحصن حتى‬ ‫ولذلك ّ‬
‫اجلِ ُدوا ُك َّل‬ ‫الزانِيةُ و َّ ِ‬
‫الزاني فَ ْ‬ ‫يكونوا عبرة لكل من تسول له نفسه بارتكاب هذه الفاحشة الشنيعة‪ .‬قال الله تعالى‪َ َ َّ " :‬‬
‫ْخ ْذ ُكم بِ ِه َما َرأْفَةٌ فِي ِدي ِن اللَّ ِه إِن ُكنتُ ْم تُ ْؤِمنُو َن بِاللَّ ِه َوالْيَ ْوِم ْاْل ِخ ِر َولْيَ ْش َه ْد َع َذابَ ُه َما‬
‫احد ِم ْن ُه َما ِمئَةَ َجلْ َدة َوَال تَأ ُ‬
‫وِ‬
‫َ‬
‫‪01‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬
‫ْخ ْذ ُكم بِ ِه َما َرأْفَةٌ فِي ِدي ِن اللَّ ِه" لتعرف مدى الحزم في‬
‫وتأمل في قوله تعالى‪َ " :‬وَال تَأ ُ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين" (النور ‪ّ .)4‬‬
‫طَائ َفةٌ م َن ال ُْم ْؤمن َ‬
‫تطبيق هذه العقوبة‪.‬‬

‫شةً َو َساء َسبِيالً" (اإلسراء ‪( .)34‬والنهي عن قربانه أبلغ من النهي‬ ‫الزنَى إِنَّه َكا َن فَ ِ‬
‫اح َ‬ ‫وقد قال الله تعالى‪َ " :‬والَ تَ ْق َربُواْ ِ ُ‬
‫احشة) أي‪:‬‬‫عن مجرد فعله ألن ذلك يشمل النهي عن جميع مقدماته ودواعيه‪ ،‬ووصف الله الزنى وقبحه بأنه (كان ف ِ‬
‫التجري على الحرمة في حق الله وحق المرأة وحق أهلها أو زوجها‬
‫إثما يُستفحش في الشرع والعقل والفطر لتضمنه ّ‬
‫وإفساد الفراش واختالط األنساب وغير ذلك من المفاسد‪ .‬وقوله (وساء سبِيال) أي‪ :‬بئس السبيل سبيل من تجرأ على‬
‫هذا الذنب العظيم) (تفسير السعدي)‪.‬‬

‫ارو َن" (أي‪ :‬يا شبيهة هارون في العبادة‪ ،‬وقيل‪ :‬نسبت إلى رجل صالح‬
‫ ُ َه ُ‬
‫الفائدة الْامسة‪ :‬جاء في تفسير "يَا أُ ْخ َ‬
‫كان فيهم اسمه هارون‪ ،‬فكانت تقاس به في العبادة‪ ،‬والزهادة) (تفسير ابن كثير)‪ ،‬وسواء كان هذا الرجل هو هارون‬
‫عليه السالم أو أخوها أو رجل صالح اسمه هارون‪ ،‬فإن نسبة مريم عليها السالم إليه يُعتبر ناحية إيجابية لمريم عليها‬
‫السالم وهذا م ّما أثار استغراب قومها كذلك‪.‬‬

‫نسبة الشخص إلى قوم صالحين أو شخص صالح يٌعتبر مفخرة للشخص خاصة إن كان هؤالء القوم معروفين بعبادات‬
‫أو أخالق حسنة‪ .‬وهذا أفضل بكثير من النسبة إلى قوم فاسدين أو شخص فاسد كمن يُنسب إلى فرعون في جبروته‬
‫أو قارون في تكبّره أو قوم لوط في أخالقهم السيئة‪ .‬والنسبة إلى هؤالء أو هؤالء يعتمد على أعمال الشخص ومدى‬
‫ارتباطه بالله تعالى‪.‬‬

‫والنسبة إلى هؤالء الصالحين فضل وتوفيق من الله تعالى وذلك أقرب بإذن الله تعالى بأن يُحشر معهم كما قال صلى‬
‫ب" (متفق عليه)‪ .‬وفي نفس الوقت‪ ،‬إذا نُسب الشخص إلى أشخاص فاسدين فإن‬
‫َح َّ‬
‫الم ْرءُ َم َع َم ْن أ َ‬
‫الله عليه وسلم‪َ " :‬‬
‫الحشر معهم أيضا قد يحدث وهذا خطر شديد على الشخص ينبغي الحذر منه‪.‬‬

‫سب أو سخرية وإنّما شنعوا الفعل وذ ّكروها بصالح أبيها‬


‫بأي كلمة سوء أو ّ‬ ‫الفائدة السادسة‪ :‬لم ّ‬
‫يتعرض قوم مريم لها ّ‬
‫يدل أوال على منزلة مريم عليها السالم وتاريخها اإليجابي األبيض بحيث يُستبعد قيامها بهذا الفعل الشنيع‬
‫أمها وهذا ّ‬
‫و ّ‬
‫كونها معروفة بالعبادة وأهلها معروفون كذلك بالصالح‪.‬‬

‫السب والسخرية واالتهام الباطل من‬


‫ويدل كذلك على أخالق قومها أو على األقل من تص ّدروا هذا المشهد فإن عدم ّ‬
‫ّ‬
‫شيم الكرام‪ ،‬وهذا عكس بعض األقوام الذين ك ّذبوا واستهزؤوا وسخروا من أنبيائهم والصالحين لديهم كما كان حال قوم‬
‫نوح وبني إسرائيل مع موسى عليه السالم‪ ،‬فهؤالء لم يق ّدروا منزلة من يتحدثّون معهم فكانت أخالقهم وتعاملهم سيئا‬
‫وسلبيا‪.‬‬

‫سى‬ ‫وم ِمن قَوم َعسى أَن ي ُكونُوا َخيراً ِم ْن هم وَال نِ ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ساء َع َ‬ ‫ساء من ن َ‬ ‫ْ ُْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫آمنُوا َال يَ ْس َْ ْر قَ ٌ‬ ‫ين َ‬ ‫قال الله تعالى‪" :‬يَا أَيُّ َها الذ َ‬
‫ب فَأ ُْولَئِ َ‬
‫ك‬ ‫اإل ِ‬
‫يمان َوَمن لَّ ْم يَتُ ْ‬
‫سو ُق بَ ْع َد ِْ َ‬ ‫أَن يَ ُك َّن َخ ْيراً ِم ْن ُه َّن َوَال تَل ِْم ُزوا أَن ُفس ُك ْم َوَال تَنَابَ ُزوا بِ ْاألَلْ َق ِ‬
‫اب بِْئ ِ‬
‫س اال ْس ُم الْ ُف ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ُه ُم الظَّالِ ُمو َن" (الحجرات ‪ ،)66‬قال اإلمام السعدي رحمه الله تعالى‪( :‬وهذا أيضا‪ ،‬من حقوق المؤمنين‪ ،‬بعضهم على‬

‫‪00‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫وم ِم ْن ق ْوم) بكل كالم‪ ،‬وقول‪ ،‬وفعل دال على تحقير األخ المسلم‪ ،‬فإن ذلك حرام‪ ،‬ال يجوز‪،‬‬
‫بعض‪ ،‬أن (ال ي ْسخ ْر ق ٌ‬
‫وهو دال على إعجاب الساخر بنفسه‪ ،‬وعسى أن يكون المسخور به خيرا من الساخر‪ ،‬كما هو الغالب والواقع‪ ،‬فإن‬
‫السخرية‪ ،‬ال تقع إال من قلب ممتلئ من مساوئ األخالق‪ ،‬متحل بكل خلق ذميم)‪ .‬وقد جاء في الحديث الشريف‪:‬‬
‫الم ْسلِ َم" (رواه مسلم)‪.‬‬ ‫ب ْام ِرئ ِم َن َّ‬
‫الش ِر أ ْن يَ ْح ِق َر أ َ‬
‫َخاهُ ُ‬ ‫"بِ َح ْس ِ‬

‫ترد على قومها بأي شيء ولكنّها أشارت فقط‬‫الفائدة السابعة‪ :‬ظهر في هذا الموقف حكمة مريم عليها السالم إذ لم ّ‬
‫إلى الطفل الصغير "فَأَ َشار ْ ِ‬
‫االدعاءات سيطول كثيرا وقد ال يقتنع القوم‬ ‫ت إِلَيْه"‪ ،‬وهذا عين الحكمة إذ أن ّ‬
‫الرد على ّ‬ ‫َ‬
‫ويكثر الكالم‪ ،‬فكانت اإلشارة إلى عيسى عليه السالم ليتكلّم هو بإذن الله تعالى هو عين الحكمة في هذا الموقف‪.‬‬

‫والحكمة هو التصرف المناسب في الوق ُ المناسب في المكان المناسب وهو توفيق من الله تعالى كما قال‪" :‬يُؤتِي‬
‫اب" (البقرة ‪ ،)411‬وتأمل في‬ ‫ت ال ِ‬
‫ْح ْك َمةَ فَ َق ْد أُوتِي َخ ْيراً َكثِيراً َوَما يَ َّذ َّكر إِالَّ أ ُْولُواْ األَلْبَ ِ‬ ‫شاءُ َوَمن يُ ْؤ َ‬ ‫ال ِ‬
‫ْح ْك َمةَ َمن يَ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫اآلية بأ ّن الذي يؤتيه الله الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وهذا صحيح ألن الحكماء بشكل عام قليلون وهذا ُمشاهد في‬
‫التاريخ القديم والحديث‪.‬‬

‫وقد آتى الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة كما قال سبحانه‪َ " :‬ك َما أ َْر َسلْنَا فِي ُك ْم َر ُسوالً ِمن ُك ْم يَ ْت لُو َعلَْي ُك ْم‬
‫ْح ْك َمةَ َويُ َعلِ ُم ُكم َّما ل َْم تَ ُكونُواْ تَ ْعلَ ُمو َن" (البقرة ‪ ،)636‬وسواء كانت هذه‬ ‫ْكتاب وال ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آيَاتنَا َويُ َزكي ُك ْم َويُ َعل ُم ُك ُم ال َ َ َ‬
‫الحكمة السنّة النبوية أو بمعناها الشامل‪ ،‬فإ ّن النبي صلى الله عليه وسلم كان حكيما ومواقفه صلى الله عليه وسلم في‬
‫تدل على ذلك مع أهله وأصحابه وأعدائه‪.‬‬
‫حياته ّ‬

‫الفائدة الثامنة‪ :‬أحيانا يكون الصم ُ أبلغ من الكالم وهذا من الحكمة إذ قد يكون الكالم سببا لحدوث المشاكل‬
‫والجدال العقيم الذي ال فائدة منه وهذا ما فعلته السيدة مريم عليها السالم في هذا الموقف إذ صمتت ولم تتكلم بكلمة‬
‫كما بيّنا ذلك من قبل‪.‬‬
‫واحدة وإنما أشارت إلى ابنها ّ‬
‫متفق علْي ِه)‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ ُ" ( ٌ‬ ‫ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‪َ " :‬وَم ْن َكا َن يُ ْؤم ُن بِالله َواليَوم اْلخ ِر‪ ،‬فَ لْيَ ُق ْل َخ ْيراً أ َْو ليَ ْ‬
‫ص ُم ْ‬
‫فالصمت هو الخيار الثاني بعد قول الخير أل ّن له فوائد كثيرة وهو أفضل بال شك من قول الشر الذي يدخل فيه الفحش‬
‫في القول والشتم والسخرية وغيرها‪ .‬والصمت فن ال يتقنه سوى الحكماء والخبراء ألنه ينبغي أن يكون في وقته وليس‬
‫في كل وقت وهذا يتطلّب معرفة بالواقع واألحداث واألشخاص‪.‬‬

‫َح ًدا فَ ُقولِي إِنِي نَ َذ ْر ُ‬


‫ت‬ ‫وكان صمت السيدة مريم عليها السالم كذلك امتثاال ألمر الله تعالى‪" :‬فَِإ َّما تَ َريِ َّن ِم َن الْبَ َ‬
‫ش ِر أ َ‬
‫نسيًّا" (مريم ‪( )41‬أي‪ :‬ال تخاطبيهم بكالم‪ ،‬لتستريحي من قولهم وكالمهم) (تفسير‬ ‫لرحم ِن صوما فَ لَن أُ َكلِم الْي وم إِ ِ‬‫ِ‬
‫ل َّ ْ َ َ ْ ً ْ َ َ ْ َ‬
‫السعدي)‪ ،‬فكانت عليها السالم قدوة حسنة في امتثالها الكامل ألمر ربّها‪.‬‬

‫ت إِل َْي ِه"‪ ،‬فالطبيعي هو‬


‫الفائدة التاسعة‪ :‬برزت امتثال مريم عليها السالم ألمر ربّها كذلك بإشارتها إلى وليدها "فَأَ َشا َر ْ‬
‫يدل على قوة إيمانها‬
‫تردد وهذا ّ‬
‫أ ّن الرضيع ال يتكلّم‪ ،‬ولكنّها كانت على يقين بأنّه سيتكلم ولذلك أشارت إليه من غير ّ‬
‫بالله تعالى‪.‬‬

‫‪02‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫الثقة واليقين بالله تعالى من أبرز صفات المؤمنين فهم يعلمون بأنّه سبحانه يح ّقق وعده ولو بعد حين فهو سبحانه كما‬
‫قال‪َ " :‬ولَن يُ ْْلِ َ‬
‫ف اللَّهُ َو ْع َدهُ" (الحج ‪ ،)27‬ولذلك يؤمن المؤمن بكل ما قاله الله تعالى في القرآن الكريم ولو لم ير‬
‫ذلك أو كانت الظروف غير ذلك‪ ،‬ومثال ذلك حينما يقع الشخص في مصيبة‪ ،‬فعلى الشخص أن يثق بالله تعالى بأنّه‬
‫سبحانه سيكشف هذه المصيبة ولكن في الوقت الذي يريده سبحانه وما على الشخص إال الدعاء وبذل األسباب‪.‬‬

‫ولعل في حديث خبَّاب ب ِن‬ ‫وحياة النبي صلى الله عليه وسلم كلّها ثقة ويقين بالله تعالى حتى في أحلك الظروف‪ّ ،‬‬
‫ظل الكعب ِة‪ ،‬ف ُق ْلنا‪ :‬أال تست ْن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صُر‬ ‫ْ‬ ‫رت ‪ ‬ما يؤّكد ذلك حيث قال‪ :‬شك ْونا إِلى رسول الله ‪ ‬وُهو مت و ّس ٌد بُْردة لهُ في ِّ ْ‬ ‫األ ّ‬
‫شا ِر‬ ‫األرض فَ ي ْجعل فِ َيها‪ ،‬ثُ َّم ي ْؤتَى بِ ِ‬
‫الم ْن َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ ُ َُ‬ ‫الر ُج ُل فَ يُ ْح َف ُر لَهُ في‬
‫لنا أال ت ْد ُعو لنا؟ ف قال‪" :‬قَ ْد َكا َن َم ْن قَ ْب لَ ُك ْم يُ ْؤ َخ ُذ َّ‬
‫ك َعن ِدينِ ِه‪ ،‬و ِ‬
‫الله‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ديد ما ُدو َن ل ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ط بأم َ ِ‬ ‫أس ِه فَيُ ْج َع ُل نص َفي ِن‪َ ،‬ويُ ْم َ‬
‫وضع َعلَى ر ِ‬
‫َ‬ ‫صدُّهُ ذل َ ْ‬ ‫َحمه َو َعظْمه‪َ ،‬ما يَ ُ‬ ‫الح َ‬ ‫شاط َ‬ ‫شُ ْ‬ ‫َ‬ ‫فَ يُ َ ُ‬
‫والذئْب َعلَى غَنَ ِم ِه‪ ،‬ولكنكم‬ ‫اف إالَّ الله ِ‬ ‫موت الَ يَ َْ ُ‬
‫ض َر َ‬ ‫اء إِلَى َح ْ‬ ‫الر ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ص ْن َع َ‬
‫اكب م ْن َ‬ ‫سير َّ ُ‬ ‫لَيُت َّم َّن الله َه َذا األ َْمر َحتَّى يَ َ‬
‫تَ ْستَع ِجلُو َن" (رواه البخاري)‪ ،‬فرغم الظروف القاسية التي كانت تحيط بالمسلمين في م ّكة إال أ ّن ثقته صلى الله عليه‬
‫وسلم بالله تعالى كانت مطلقة ولذلك قال‪" :‬و ِ‬
‫الله لَيُتِ َّم َّن الله َه َذا األ َْمر"‪.‬‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يسى ابْ ُن‬ ‫َّبي ‪ ،‬قال‪" :‬ل َْم يَتَ َكلَّ ْم في َ‬
‫الم ْهد إالَّ ثَالثَةٌ – وذكر منهم ‪ -‬ع َ‬ ‫الفائدة العاشرة‪ :‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن الن ّ‬
‫شك أ ّن حديث عيسى في المهد كانت معجزة ولذلك استغرب القوم من هذا األمر حين‬ ‫َم ْريَ َم" (متفق عليه)‪ ،‬فال ّ‬
‫صبِيًّا" (مريم ‪( )41‬ألن ذلك لم تجر به عادة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أشارت مريم عليها السالم إليه "قَالُوا َكي َ ِ‬
‫ف نُ َكل ُم َمن َكا َن في ال َْم ْهد َ‬ ‫ْ‬
‫وال حصل من أحد في ذلك السن) (تفسير السعدي)‪.‬‬

‫والمعجزة هي أمر خارق للعادة وتحدث بأمر الله تعالى وهي خاصة باألنبياء‪ ،‬وقد جاء القرآن الكريم ببعض األمثلة‬
‫لهذه المعجزات مثل ناقة صالح وعصا موسى وانشقاق القمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وكل هذه المعجزات‬
‫لتدل على قدرة الله تعالى وتأييده لرسله في وجه الذين عاندوه أو ك ّذبوه‪.‬‬
‫تأتي على وجه التح ّدي و ّ‬
‫اجتَمع ِ‬ ‫ِ‬
‫ ُ‬ ‫ومن أعظم المعجزات القرآن الكريم الذي تح ّدى به سبحانه األنس والجن على أن يأتوا بمثله "قُل لَّئ ِن ْ َ َ‬
‫ض ُه ْم لِبَ ْعض ظَ ِهيراً" (اإلسراء ‪ ،)11‬والتح ّدي‬
‫آن الَ يَأْتُو َن بِ ِمثْلِ ِه َول َْو َكا َن بَ ْع ُ‬
‫ْج ُّن َعلَى أَن يأْتُواْ بِ ِمثْ ِل َه َذا الْ ُقر ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ا ِإلنس وال ِ‬
‫َُ‬
‫هنا واضح والنتيجة كذلك واضحة "الَ يَأْتُو َن بِ ِمثْلِ ِه" (ولو تعاونوا وتساعدوا وتظافروا‪ ،‬فإن هذا أمر ال يستطاع) (تفسير‬
‫ابن كثير)‪.‬‬

‫كما ذكرنا من قبل‪ ،‬فإن الله تعالى ذكر عيسى عليه السالم في آيات متعددة وكذلك ذكره النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫في بعض األحاديث‪ ،‬وسنسعى من خالل بعض هذه اآليات واألحاديث الوقوف على بعض الفوائد من هذا النبي‬
‫المبارك عليه السالم وكذلك ّأمه الص ّديقة مريم عليها السالم علّنا نستفيد من ذلك ونطبّقه في حياتنا فنرقى في الدنيا‬
‫واآلخرة بإذن الله تعالى‪.‬‬

‫وسأستعرض عشر مجموعات من اآليات واألحاديث مع ذكر عشر فوائد من كل مجموعة كما هو نهجي في هذا‬
‫الكتاب‪.‬‬

‫‪03‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫ ُ الْمآلئِ َكةُ يا مريم إِ َّن الله ي ب ِشر ِك بِ َكلِمة ِم ْنه اسمه الْم ِس ِ‬ ‫ِ‬
‫يسى‬
‫يح ع َ‬ ‫َ ُ ْ ُُ َ ُ‬ ‫َ َُ ُ‬ ‫َ َ َْ ُ‬ ‫قال الله تعالى‪" :‬إِ ْذ قَالَ َ‬
‫َّاس فِي ال َْم ْه ِد َوَك ْهالً َوِم َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ابْ ُن َم ْريَ َم َو ِجيهاً فِي ُّ‬
‫الدنْ يَا َواْلخ َرة َوم َن ال ُْم َق َّربِ َ‬
‫ين‪َ ،‬ويُ َكل ُم الن َ‬
‫ين"‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫الصالح َ‬
‫(آل عمران ‪)54-54‬‬

‫الفائدة األولى‪ :‬مع أن أمر الحمل من غير زوج غير طبيعي بالنسبة ألي امرأة‪ ،‬مع ذلك قامت المالئكة بتبشير مريم‬
‫يسره من خبر) (تفسير الطبري)‪ ،‬وهذه البشرى جاءت من عند الله‬
‫عليها السالم بهذا األمر (والتبشير‪ :‬إخبار المرء بما ّ‬
‫المبشر هو الله تعالى‪.‬‬
‫تعالى أي أ ّن األمر ينبغي أال يصاحبه حزن وكدر وإنما شكر وفرح أل ّن ّ‬

‫والبشرى كذلك جاءت ببيان بعض صفات عيسى عليه السالم وبيان قدره ومنزلته من الله تعالى " َو ِجيهاً فِي الدُّنْ يَا‬
‫ِ ِ ِ‬
‫ين"‪ ،‬وهذا مما يبعث الطمأنينة في نفس األم التي يمكن أن تواجه أوقات عصيبة مع أهلها وقومها‬ ‫َواْلخ َرة َوم َن ال ُْم َق َّربِ َ‬
‫خاصة أن موقفها غير طبيعي وهي تُعرف بالعابدة الزاهدة‪.‬‬

‫ودأب القرآن الكريم هو التبشير ولذلك نجد أن اآليات التي جاءت بكلمة (حزن) أو مشتقاتها ُسبِقت بالنفي "وال هم‬
‫يحزون"‪" ،‬وال تحزنوا"‪" ،‬وال يحزنك"‪" ،‬أال تحزني"‪" ،‬ال تحزن"‪ ،‬وال يُفهم من ذلك أ ّن على اإلنسان أالّ يحزن فهذا‬
‫شيء فطري ولكن يعني ذلك أالّ يستمر الحزن لفترة طويلة بحيث يمنع الشخص من تحقيق أهدافه وعيش حياته‬
‫الطبيعية‪.‬‬

‫الفائدة الثانية‪ :‬قدرة الله تعالى المطلقة في خلق عيسى عليه السالم من غير أب حيث قال سبحانه ( ُك ْن) فكان‬
‫عيسى عليه السالم‪ ،‬ولذلك قال سبحانه‪" :‬بِ َكلِ َمة ِم ْنهُ" (أي‪ :‬بولد يكون وجوده بكلمة من الله‪ ،‬أي‪ :‬بقوله له‬
‫السماو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ات َوَال‬ ‫"كن" فيكون) (تفسير ابن كثير)‪ ،‬فالله تعالى قادر على كل شيء " َوَما َكا َن اللَّهُ ليُ ْعج َزهُ من َش ْيء في َّ َ َ‬
‫آد َم َخلَ َقهُ ِمن تُ َراب ثِ َّم قَ َ‬
‫ال لَهُ ُكن فَ يَ ُكو ُن"‬ ‫ِ‬
‫يسى عن َد الل ِه َك َمثَ ِل َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فِي ْاأل َْر ِ‬
‫ض" (فاطر ‪ .)22‬قال الله تعالى‪" :‬إ َّن َمثَ َل ع َ‬
‫(آل عمران ‪.)31‬‬

‫ومظاهر قدرة الله تعالى واضحة في هذا الكون الفسيح سواء في مخلوقاته أو في أحداث التاريخ الماضي والحاضر‪.‬‬
‫تأمل مثال في قدرته سبحانه حين يحدث زلزال أو إعصار أو بركان أو فيضان‪ .‬ال يستطيع أحد مهما بلغت ّقوته أن‬
‫ّ‬
‫يوقف هذه األمور ولو للحظة‪ .‬وأدعوك هنا للوقوف على اآليات التي وردت فيها اسم الله تعالى القدير لتقف على‬
‫بعض من مظاهر ّقوته‪.‬‬

‫أما في التاريخ‪ ،‬فلقد أهلك سبحانه أقوى الشعوب والجنود بلمحة بصر وبجنود لم يتخيّلها بشر كما كان شأن الطوفان‬
‫مع قوم نوح أو الريح العاتية مع قوم عاد أو الصيحة مع ثمود أو الخسف مع قارون والغرق مع فرعون وقومه‪ .‬كل ذلك‬
‫ي ّؤكد أن قدرة سبحانه مطلقة ومعرفة ذلك يزيد المؤمن إيماناً به سبحانه إذ أنّه يركن إلى القدير ويعتمد عليه فيزيد ثقته‬
‫فيه سبحانه كما كان شأن األنبياء والصالحين‪.‬‬

‫‪04‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫تدل على أن تسمية عيسى عليه السالم جاءت من عند الله تعالى وهذا شرف كبير لهذا‬
‫الفائدة الثالثة‪ :‬ظاهر اآلية ّ‬
‫النبي المبارك ويزيد من قدره ومكانته ونقلت هذه التسمية لمريم عليها السالم المالئكة فزاد ذلك عيسى عليه السالم‬
‫شرفا إلى شرفه ومنزلة إلى منزلته‪.‬‬

‫يهم هنا هو أ ّن كلمة المسيح ارتبطت بعيسى عليه السالم‬


‫المفسرون في معناه ولكن ما ّ‬
‫ّ‬ ‫ّأما كلمة المسيح‪ ،‬فاختلف‬
‫شك بأن معناها سيكون حسنا (قال بعض السلف‪ :‬لكثرة سياحته‪ ،‬وقيل‪ :‬ألنه كان إذا مسح أحدا من ذوي العاهات‬
‫وال ّ‬
‫برئ بإذن الله تعالى) (تفسير ابن كثير)‪.‬‬

‫استحق أن يكون من‬


‫ّ‬ ‫فكان عليه السالم منذ لحظة خلقة في بطن ّأمه مباركا وذات منزلة رفيعة وصفات عظيمة‪ ،‬ولذلك‬
‫أولي العزم من الرسل أي من أفضل الخلق عند الله تعالى ولذلك هو قدوة حسنة لنا كمسلمين وجب بنا االقتداء بهم‬
‫اه ُم اقْتَ ِد ْه" (األنعام ‪.)14‬‬
‫ين َه َدى اللهُ فَبِ ُه َد ُ‬
‫كما قال سبحانه‪" :‬أُولَ ئِ َ َّ ِ‬
‫ك الذ َ‬ ‫ْ‬
‫الفائدة الرابعة‪ :‬نسبة عيسى عليه السالم إلى ّأمه فيه شرف كبير له ولها إذ جاءت هذه التسمية من الله تعالى‪ ،‬ولم‬
‫ولكن أل ّن عيسى عليه‬
‫ينسب الله تعالى أحدا غير عيسى عليه السالم إلى ّأمه إذ أن األصل هو النسب إلى األب ّ‬
‫السالم جاء من معجزة فقد نسبه الله تعالى إلى ّأمه‪.‬‬

‫واألصل كما ذكرنا أن يُنسب الشخص إلى أبيه وهذا هو المعمول به بين البشر‪ ،‬ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّعى إلى غي ِر أَبِيه‪َ ،‬وهو يَ ْعلَ ُم أنَّهُ غَْي ُر أَبِيه‪ ،‬فَال َ‬
‫ْجنَّةُ عليه َح َر ٌام" (رواه البخاري)‪ ،‬فاألصل هو أن يأتي الشخص‬ ‫" َم ِن اد َ‬
‫من زواج شرعي بين رجل وامرأة ثم يُنسب إلى أبيه وهكذا تُحفظ األنساب والمجتمعات‪ّ ،‬أما إذا نسب الشخص إلى‬
‫غير أبيه فإ ّن األنساب تختلط وهذا نذير بانهيار األسر والمجتمعات ولو على المدى القريب‪.‬‬

‫ّأما بالنسبة لعيسى عليه السالم‪ ،‬فالمسألة مختلفة‪ ،‬فالله سبحانه قد حسم هذه المسألة بأن نسبه إلى ّأمه حتى ال يأتي‬
‫مش ّكك ويقول‪ :‬لماذا لم يُنسب إلى رجل؟ فالمسألة هنا معجزة فريدة ال ولن يتكرر في التاريخ ليثبت الله تعالى قدرته‬
‫كما ذكرنا من قبل وليكون عيسى عليه السالم آية للناس وليرتفع كذلك ذكر السيدة مريم عليها السالم‪.‬‬

‫الفائدة الْامسة‪ :‬جعل الله تعالى عيسى السالم " َو ِج ًيها فِي الدُّنْ يَا"‪ ،‬قال اإلمام البغوي رحمه الله تعالى‪( :‬أي‪ :‬شريفا‬
‫رفيعا ذا جاه وقدر)‪ ،‬وقال اإلمام ابن كثير رحمه الله تعالى‪( :‬أي‪ :‬له وجاهة ومكانة عند الله في الدنيا‪ ،‬بما يوحيه الله‬
‫إليه من الشريعة‪ ،‬وينزل عليه من الكتاب‪ ،‬وغير ذلك مما منحه به)‪ ،‬فعيسى عليه السالم من أولي العزم من الرسل‬
‫ولذلك فهو من أفضل الخلق عند الله تعالى‪.‬‬

‫نتقرب إليه سبحانه بما يحبّه سبحانه كما جاء في‬ ‫ّ‬ ‫ّأما نحن‪ ،‬فحتّى نكون ذوو مكانة عند الله تعالى‪ ،‬فنحتاج إلى‬
‫َّوافِ ِل‬ ‫ب إِل َّ ِ‬
‫َي بالن َ‬
‫ ُ َعلَ ِيه‪ ،‬وما يز ُ ِ‬
‫ال َع ْبدي يَتَ َق َّر ُ‬ ‫ََ َ‬ ‫ضُ‬ ‫َي ِم َّما افْ تَ َر ْ‬
‫ب إِل َّ‬
‫َح َّ‬ ‫َي َع ْب ِدي بِ َ‬
‫شيء أ َ‬ ‫ب إِل َّ‬
‫الحديث القدسي‪َ " :‬وَما تَ َق َّر َ‬
‫المحرمات ثم أداء النوافل وهو باب واسع جدا مما‬ ‫ُحبَّهُ" (رواه البخاري)‪ ،‬فأداء الفرائض من الواجبات وترك‬ ‫حتَّى أ ِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫يجعل الشخص ذو منزلة كبيرة عند الله تعالى في الدنيا قبل اآلخرة‪.‬‬

‫‪05‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫َحبِْبهُ‪ ،‬فَيُ ِحبُّهُ‬
‫ب فُالناً‪ ،‬فَأ ْ‬ ‫إن الله تَ َعالَى يُ ِح ُّ‬
‫ريل‪َّ :‬‬ ‫ب اللهُ تَعالَى العب َد‪ ،‬نَ َ ِ‬
‫ادى ج ْب َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫وقد جاء في الحديث الشريف‪" :‬إِذَا أ َ‬
‫َح َّ‬
‫ض"‬ ‫األر ِ‬ ‫أحبُّوه‪ ،‬فَ ي ِحبُّه أهل َّ ِ‬
‫ِ‬ ‫الس َم ِاء‪َّ :‬‬
‫إن اللهَ يُ ِح ُّ‬ ‫ِجبريل‪ ،‬فَ ي نَ ِ‬
‫ادي في أ َْه ِل َّ‬
‫ول في ْ‬ ‫وض ُع لَهُ ال َقبُ ُ‬
‫الس َماء‪ ،‬ثُ َّم يُ َ‬ ‫ب فُالناً‪ ،‬فَ ُ ُ ُ ْ ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫(متفق عليه)‪ ،‬فهذا القبول الذي يتحقق للشخص هو ما يجعل الشخص وجيها في الدنيا‪ ،‬محبوبا عند الله تعالى وعند‬
‫الناس‪ .‬وهناك أمور كثيرة مما يحبّب الشخص لله تعالى مثل اتبّاع السنة والتقوى ونفع اآلخرين والصالة وغير ذلك‪.‬‬

‫الفائدة السادسة‪ :‬من الممكن أن يكون الشخص وجيها في الدنيا من منصب أو نفوذ أو ثروة سواء كان ذلك عن‬
‫طريق الوراثة أو االكتساب وال حرج في ذلك إذ أ ّن اإلسالم ال يحارب الغنى أو النفوذ فقد كان داود وسليمان عليهما‬
‫السالم ملكين وكان هناك بعض الصحابة والتابعين والصالحين من األغنياء أو أصحاب المناصب والنفوذ‪.‬‬

‫المهم هنا هو عدة أمور منها عدم التكبر والغرور بالمنصب أو النفوذ فذلك مما يُهلك صاحبه كما قال صلى الله‬
‫الذ ُّل من ِ‬ ‫الر َج ِ‬ ‫ِ‬
‫كل َم َكان يُساقُو َن إلى‬ ‫اه ُم ُّ‬
‫شُ‬‫ال يَغْ َ‬ ‫ص َوِر ِ‬
‫الذ ِر في ُ‬‫ال َّ‬ ‫القيامة أ َْمثَ َ‬ ‫المتَ َكبِ ُرو َن َ‬
‫يوم‬ ‫ش ُر ُ‬ ‫عليه وسلم‪" :‬يُ ْح َ‬
‫أهل النا ِر ِطينَةَ ال َْ ِ‬
‫صارةِ ِ‬ ‫ِ‬
‫بال" (رواه الترمذي)‪.‬‬ ‫نار األنْيا ِر‪ ،‬يُ ْس َق ْو َن من عُ َ‬ ‫لوه ْم ُ‬
‫َس تَ ْع ُ‬
‫س َّمى‪ :‬بُول َ‬ ‫جهنم يُ َ‬
‫س ْجن في َ‬
‫وكذلك ينبغي نفع الناس وخدمتهم ما استطاع الشخص إلى ذلك سبيال وكل ذلك بالتعامل والقول الحسن‪.‬‬

‫مفاتيح‬
‫َ‬ ‫اسا‬ ‫إن من ِ‬
‫الناس ن ً‬ ‫وكذلك ينبغي أن يكون الشخص مفتاحا للْير مغالقا للشر‪ ،‬جاء في الحديث الشريف‪َّ " :‬‬
‫مفاتيح الْي ِر على‬
‫َ‬ ‫مغاليق للْي ِر‪ ،‬فطوبى لمن جعل اللهُ‬
‫َ‬ ‫مفاتيح ِ‬
‫للشر‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ناسا‬
‫الناس ً‬ ‫للشر‪َّ ،‬‬
‫وإن من ِ‬ ‫مغاليق ِ‬
‫َ‬ ‫للْي ِر‪،‬‬
‫مفاتيح ِ‬
‫الشر على ي َديْه" (صحيح الجامع)‪ .‬فمن رزقه الله تعالى الوجاهة في الدنيا فعليه‬ ‫َ‬ ‫وويل لمن جعل اللهُ‬
‫ي َديْه‪ٌ ،‬‬
‫أن يؤدي ح ّقها ويجعلها طاعة لله تعالى فيكون بذلك وجيها كذلك عند الله تعالى كما كان حال عيسى عليه السالم‪.‬‬

‫الفائدة السابعة‪ :‬أل ّن الله تعالى آتى الوجاهة لعيسى عليه السالم في الدنيا فقد آتاه الله تعالى كذلك في اآلخرة " َو ِج ًيها‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫في الدُّنْ يَا َو ْاْلخ َرة"‪ ،‬وقد ذكر بعض ّ‬
‫المفسرين أ ّن الوجاهة في اآلخرة تعني أنّه (يشفع عند الله فيمن يأذن له فيه‪ ،‬فيقبل‬
‫منه‪ ،‬أسوة بإخوانه من أولي العزم‪ ،‬صلوات الله عليهم) (تفسير ابن كثير)‪ .‬وهذه الوجاهة طبيعية في اآلخرة ألن الجزاء‬
‫من جنس العمل‪ ،‬فمن كان وجيها عند الله تعالى في الدنيا كان كذلك في اآلخرة بإذن الله تعالى‪.‬‬

‫وهذا الوصف من الله تعالى لعيسى عليه السالم مما يرفع شأنه ويعلي قدره كونه ذو منزلة عالية في الدنيا واآلخرة وهذا‬
‫يجعله قدوة حسنة لنا في أمور حياتنا‪ ،‬فمن اقتدى بعيسى عليه السالم في الجوانب التي ذكرها الله تعالى في كتابه‬
‫الكريم أو ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬كان حريّا أن يكون كذلك وجيها عند الله تعالى في الدنيا واآلخرة بإذنه‬
‫سبحانه‪.‬‬

‫ومن كان وجيها عند الله تعالى في اآلخرة كان في الدرجات العال من الجنة بإذن الله تعالى‪ ،‬ويحتاج الشخص لكي‬
‫المحرمات ويكثر من النوافل‬
‫يصل إلى ذلك أن يبذل جهده في الدنيا في طاعة الله تعالى بأن يقوم بالواجبات ويجتنب ّ‬
‫ما استطاع إلى ذلك سبيال‪.‬‬

‫الفائدة الثامنة‪ :‬وصف الله تعالى عيسى عليه السالم أنّه من "المقربين" (فلهذا كان من المقربين إلى الله‪ ،‬أقرب الخلق‬
‫إلى ربهم‪ ،‬بل هو عليه السالم من سادات المقربين) (تفسير السعدي)‪ .‬وهذه نتيجة طبيعية لكونه وجيها في الدنيا‬

‫‪06‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫فاستحق عليه السالم أن يكون من‬
‫ّ‬ ‫واآلخرة ولصفاته الرائعة التي تعرفنا على بعضها وسنتعرف على بعضها اآلخر الحقا‪،‬‬
‫المقربّين عند الله تعالى‪.‬‬

‫وهذا القرب نتيجة كذلك لكونه من أولي العزم من الرسل الذين هم أفضل الخلق عند الله تعالى والصفوة من األنبياء‪،‬‬
‫فهؤالء األشخاص الخمسة وهم النبي صلى الله عليه وسلم وإبراهيم ونوح وموسى وعيسى عليهم السالم كانت لهم‬
‫صفات خاصة جعلتهم من هؤالء الصفوة ولذلك وجب علينا أن ندرس هؤالء األشخاص ونقتدي بهم حتى نحصل‬
‫على الفالح في الدنيا واآلخرة‪.‬‬

‫ووصف الله تعالى لعيسى عليه السالم أنّه من المقربين عنده سبحانه شرف كبير لعيسى عليه السالم‪ ،‬فكان يمكن أن‬
‫ْ‬
‫يكتفي سبحانه بوصف عيسى بأنه وجيه في الدنيا واآلخرة وهذا بحد ذاته يكفي ولكنّه سبحانه أثبت كذلك بأنّه من‬
‫المقربّين ليزيد من مكانته وشرفه ويعلي من قدره عليه السالم هو و ّأمه الص ّديقة مريم عليها السالم‪.‬‬

‫َّاس فِي ال َْم ْه ِد َوَك ْهالً"‪ ،‬فكالم عيسى عليه السالم‬ ‫ِ‬
‫الفائدة التاسعة‪ :‬قال الله تعالى عن عيسى عليه السالم‪َ " :‬ويُ َكل ُم الن َ‬
‫في المهد جاء في سورة مريم عندما أشارت إليه مريم عليها السالم حين جاءت به إلى قومها‪ .‬قال اإلمام السعدي‬
‫رحمه الله تعالى‪( :‬المراد يكلّم الناس بما فيه صالحهم وفالحهم‪ ،‬وهو تكليم المرسلين‪ ،‬ففي هذا إرساله ودعوته الخلق‬
‫إلى ربهم‪ ،‬وفي تكليمهم في المهد آية عظيمة من آيات الله ينتفع بها المؤمنون‪ ،‬وتكون حجة على المعاندين‪ ،‬أنه‬
‫رسول رب العالمين‪ ،‬وأنه عبد الله‪ ،‬وليكون نعمة وبراءة لوالدته مما رميت به)‪.‬‬

‫شك بأ ّن هذه اآلية تثبت عظمة سيدنا عيسى عليه السالم إذ أنّه يبيّن أنه يستمر في نصح الناس وتوجيههم‬ ‫وال ّ‬
‫ودعوتهم طوال حياته بل منذ لحظة والدته إلى أن يصبح كهال وهذا مما يرفع قدر عيسى عليه السالم إذ أ ّن الداعي له‬
‫أجر عظيم عند الله تعالى فكيف بمن يقوم بذلك طوال عمره‪.‬‬

‫بشرت به المالئكة كذلك لمريم عليها السالم لكي تعلم بأ ّن‬


‫وهذه الصفات التي ذكرها الله تعالى في هذه اآلية مما ّ‬
‫بمهمته على أكمل وجه منذ طفولته إلى أن‬‫ابنها سيكون ذو شأن عظيم ومنزلة عالية في الدنيا واآلخرة وأنه سيقوم ّ‬
‫يصبح كهال‪ .‬وهذه كلّها مما يطمئن مريم عليها السالم‪.‬‬

‫الفائدة العاشرة‪ :‬أثبت الله تعالى لعيسى عليه السالم أنّه من "الصالحين" (أي‪ :‬في قوله وعمله‪ ،‬له علم صحيح وعمل‬
‫صالح ) (تفسير ابن كثير)‪ ،‬وهذا مما يرفع من قدر ومكانة عيسى عليه السالم‪ ،‬فباإلضافة إلى كونه وجيها في الدنيا‬
‫المقربين‪ ،‬جاء وصفه كذلك ليكون من الصالحين ليزيد شرفا إلى شرفه‪.‬‬
‫واآلخرة ومن ّ‬
‫اصطََف ْي نَاهُ فِي الدُّنْ يَا‬ ‫ِ‬
‫وقد وصف الله تعالى كثيرا من أنبيائه بالصالحين كما قال سبحانه عن إبراهيم عليه السالم‪َ " :‬ولَ َقد ْ‬
‫صلِي فِي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وإِنَّه فِي ِ‬
‫اْلخرةِ ل َِمن َّ ِ ِ‬
‫ادتْهُ ال َْمآلئ َكةُ َو ُه َو قَائ ٌم يُ َ‬
‫ين" (البقرة ‪ ،)634‬وعن يحيى عليه السالم‪" :‬فَ نَ َ‬ ‫الصالح َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ُ‬
‫ين" (آل عمران ‪،)31‬‬ ‫َن اللهَ ي ب ِشر َك بِيحي ى مص ِدقاً بِ َكلِمة ِمن الل ِه وسيِداً وحصوراً ونَبِياً ِمن َّ ِ ِ‬ ‫ال ِْم ْحر ِ‬
‫اب أ َّ‬
‫الصالح َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ََ ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َُ ُ َ ْ َ ُ َ‬ ‫َ‬
‫ين" (األنعام ‪ ،)13‬فالصالح من صفات األنبياء‬ ‫وغيرهم من األنبياء‪" :‬وَزَك ِريَّا ويحيى و ِعيسى وإِلْياس ُكل ِمن َّ ِ ِ‬
‫الصالح َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ْ َ َ َ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫الرئيسة‪.‬‬

‫‪07‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫والصالح يعني أن يطيع الشخص ربّه بالتزامه بأوامره واجتنابه نواهيه باإلضافة إلى االلتزام باألخالق الحسنة واالبتعاد‬
‫عن األخالق السيئة سواء مع النفس أو مع الناس‪ .‬والصالحون لهم منزلة عالية عند الله تعالى ولذلك كان من أمنيات‬
‫ين" (يوسف‬ ‫ْح ْقنِي بِ َّ ِ ِ‬
‫ودعوات النبي الكريم يوسف عليه الالم أن يلحقه الله تعالى بهذه الفئة‪" :‬تَوفَّنِي مسلِماً وأَل ِ‬
‫الصالح َ‬ ‫َ ُْ َ‬
‫‪( )646‬أي‪ :‬من األنبياء األبرار واألصفياء األخيار) (تفسير السعدي)‪.‬‬

‫*******************************************‬

‫يح يَا بَنِي‬ ‫قال الله تعالى‪" :‬لََق ْد َك َفر الَّ ِذين قَالُواْ إِ َّن اللهَ ُهو الْم ِسيح ابن مريم وقَ َ ِ‬
‫ال ال َْمس ُ‬ ‫َ َ ُ ْ ُ َ ََْ َ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َّار‬ ‫يل ا ْعبُ ُدواْ اللهَ َربِي َوَربَّ ُك ْم إِنَّهُ َمن يُ ْش ِر ْك بِالله فَ َق ْد َح َّرَم اللهُ َعلَيه ال َ‬
‫ْجنَّةَ َوَمأ َْواهُ الن ُ‬ ‫إ ْس َرائ َ‬
‫َنصار"‬ ‫وما لِلظَّالِ ِم ِ‬
‫ين م ْن أ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫(المائدة ‪)27‬‬

‫الفائدة األولى‪ :‬قيام عيسى عليه السالم بواجبه في النصح لقومه حينما رأى كفرهم‪ ،‬فنصحهم بعبادة الله تعالى وحده‬
‫والبعد عن الشرك والظلم‪ .‬وكما ذكرنا من قبل‪ ،‬فإن عيسى عليه السالم كان يقوم بالنصح في كل حياته مما زاد مكانته‬
‫ومنزلته في الدنيا واآلخرة‪.‬‬

‫ومكانة النصيحة عالية في اإلسالم لدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الدين كلّه في النصيحة كما قال صلى‬
‫ين َو َع َّامتِ ِه ْم" (رواه مسلم)‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫َّصيحةُ"‪ .‬قلنا‪ :‬لِمن قَ َ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫الدين الن ِ‬
‫الم ْسلم َ‬
‫ال‪" :‬لله َولكتَابه َول َر ُسوله َوألئ َّمة ُ‬ ‫َْ‬ ‫الله عليه وسلم‪ُ " :‬‬
‫وكان الصحابي يبايع النبي صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم كما قال ذلك الصحابي جرير بن عبد الله‬
‫متفق علْي ِه)‪ ،‬مما ّ‬ ‫ِ‬ ‫الزَكاةِ‪ ،‬والن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ ُ النبي ‪ ‬علَى إقَ ِام َّ ِ‬
‫يدل على‬ ‫الصالَة‪َ ،‬وإيتَاء َّ َ ْ‬
‫ُّص ِح ل ُك ِل ُم ْسلم) ( ٌ‬ ‫رضي الله عنه‪( :‬بايَ ْع ُ َ َ‬
‫أهمية النصيحة في اإلسالم‪.‬‬

‫صمام أمان للمجتمع ولألفراد إذ بغيابها تضيع الحقوق وتُنتهك الحرمات وتُرتكب‬ ‫وتكمن أهمية النصيحة في أنها ّ‬
‫هامة ج ّدا وينبغي ممارستها من الجميع كل بحسب موقعه واستطاعته فبالنصيحة يُحمى األفراد‬ ‫الجرائم ولذلك هي ّ‬
‫الواق ِع فِ َيها‪َ ،‬ك َمثَ ِل‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫والمجتمعات ويكفي في ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم‪َ " :‬مثَ ُل ال َقائ ِم في ُح ُدود الله َو َ‬
‫الم ِاء َم ُّروا‬ ‫ِ‬ ‫ضهم أَس َفلَها‪ ،‬وَكا َن الَّ ِذين في أ ِ‬
‫َس َفل َها إِذَا ا ْستَ َقوا م َن َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ض ُه ْم أ ْعالها َوبَ ْع ُ ُ ْ ْ َ َ‬ ‫ص َار بَ ْع ُ‬ ‫ِ‬
‫استَ َه ُموا َعلَى َسفينَة فَ َ‬
‫قَوم ْ‬
‫ِ‬ ‫َعلَى من فَوقهم‪ ،‬فَ َقالُوا ‪ :‬لَو أنَّا َخرقْنَا في نَ ِ‬
‫ادوا َهلَ ُكوا َجميعاً‪،‬‬ ‫صيبِنَا َخ ْرقاً َول َْم نُؤذ َم ْن فَوقَ نَا‪ ،‬فَِإ ْن تَ َرُك ُ‬
‫وه ْم َوَما أ َر ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ ْ ُْ‬
‫أيدي ِه ْم نَ َجوا َونَ َج ْوا َجميعاً" (رواه البخاري)‪.‬‬ ‫أخ ُذوا َعلَى ِ‬ ‫َوإ ْن َ‬

‫الفائدة الثانية‪ :‬التزم عيسى عليه السالم بأخالق راقية حينما نصح قومه‪ ،‬فرغم عظم وشناعة فعل قومه إال أنّه عليه‬
‫السالم لم يعنّفهم أو يصغّر من شأنهم وإنّما رّكز عليه السالم على الفعل وليس الفاعل فكان حكيما في نصحه‪،‬‬
‫واستخدم كذلك أساليب متنوعة مثل األمر المباشر والترهيب‪.‬‬

‫‪08‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫عندما يلتزم الناصح باألخالق فإ ّن أثر نصيحته سيكون أبلغ وأقوى ولذلك قال الله تعالى‪" :‬ا ْدعُ إِلِى َسبِ ِ‬
‫يل َربِ َ‬
‫ك‬
‫ِ ِ‬ ‫ْح ْكم ِة والْمو ِعظَ ِة الْح ِ ِ‬
‫ِ‬
‫س ُن" (النحل ‪ ،)643‬فالحكمة والموعظة الحسنة والحوار اإليجابي‬ ‫سنَة َو َجادل ُْهم بِالَّتي ه َي أ ْ‬
‫َح َ‬ ‫ََ‬ ‫بِال َ َ َ ْ‬
‫من األخالق التي ينبغي أن يلتزم بها الناصح حينما ينصح‪ ،‬وقد التزم بها عيسى عليه السالم فكان قدوة في النصيحة‪.‬‬

‫وكذلك ينبغي التركيز على الفعل وليس الفاعل كما فعل عيسى عليه السالم‪ ،‬فإن الشخص حينما يُتّهم مباشرة ينفر‬
‫من الناصح والنصيحة‪ّ ،‬أما عندما يتم التركيز على الفعل‪ ،‬فإن األثر يكون أقوى وقد تتم االستجابة بشكل أفضل‪ .‬وال‬
‫س ُن فَِإذَا الَّ ِذي‬ ‫ِ ِ‬
‫السيِئَةُ ا ْدفَ ْع بِالَّتي ه َي أ ْ‬
‫َح َ‬ ‫سنَةُ َوَال َّ‬ ‫ننسى كذلك أن نلتزم دائما بما قاله الله تعالى‪َ " :‬وَال تَ ْستَ ِوي ال َ‬
‫ْح َ‬
‫ِ ِ‬
‫يم" (فصلت ‪ ،)32‬فمهما صدرت أفعال سيئة من الطرف اآلخر‪ ،‬فإن الناصح يلتزم‬ ‫ك َوبَ ْي نَهُ َع َد َاوةٌ َكأَنَّهُ َولي َحم ٌ‬
‫بَ ْي نَ َ‬
‫باألخالق الحسنة‪.‬‬

‫الفائدة الثالثة‪ :‬استعمل عيسى عليه السالم في نصيحته أسلوب الترهيب حين قال الله تعالى على لسانه‪" :‬إِنَّهُ َمن‬
‫َنصار"‪ ،‬فاستعمل عليه السالم أسلوب الترهيب‬ ‫ي ْش ِر ْك بِاللَّ ِه فَ َق ْد ح َّرم اللَّه علَي ِه الْجنَّةَ ومأْواه النَّار ۖ وما لِلظَّالِ ِم ِ‬
‫ين م ْن أ َ‬
‫َ‬ ‫َ َ ُ َ ْ َ ََ َ ُ ُ ََ‬ ‫ُ‬
‫في بيان خطورة الشرك بالله تعالى والظلم‪.‬‬

‫وهذا األسلوب من األساليب الشائعة التي استعملها القرآن الكريم خصوصا في بيان عقوبة الذنوب والمعاصي كما قال‬
‫آخر وَال ي ْقتُ لُو َن النَّ ْف ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫س الَّتي َح َّرَم اللَّهُ إَِّال بِال َ‬
‫ْح ِق َوَال يَ ْزنُو َن َوَمن يَ ْف َع ْل‬ ‫َ‬ ‫ين َال يَ ْد ُعو َن َم َع اللَّه إِلَهاً َ َ َ َ‬
‫سبحانه‪َ " :‬والذ َ‬
‫اب يَ ْو َم ال ِْقيَ َام ِة َويَ ْْلُ ْد فِ ِيه ُم َهاناً" (الفرقان ‪ ،)11-11‬فهذا األسلوب الترهيبي لبيان‬ ‫ف لَهُ ال َْع َذ ُ‬
‫اع ْ‬ ‫ضَ‬ ‫ْق أَثَاماً‪ ،‬يُ َ‬ ‫ذَلِ َ‬
‫ك يَل َ‬
‫شناعة هذه األفعال وإبعاد الناس منه‪ ،‬فعندما يعلم شخص عقوبة عمل ما خاصة إن كانت كبيرة وشنيعة فإ ّن فرصة‬
‫ابتعاده عن هذا العمل سيكون أكبر‪.‬‬

‫ولكن ينبغي االنتباه في استعمال هذا األسلوب‪ ،‬فاستعماله بشكل مفرط يفقد قيمته ولذلك ينبغي دائما التوازن بينه‬
‫وبين جانب الترغيب كما هو األسلوب القرآني ودأب األنبياء‪ ،‬فإ ّن في التوازن الخير الكثير وهذا كلّه يعتمد على حال‬
‫المنصوح والوضع الذي هو فيه‪ ،‬وهذا يتطلّب حكمة كبيرة من الناصح ودراسة للشخصيات والواقع‪ ،‬فاستعمال أسلوب‬
‫الترهيب ينبغي أن يكون في موضعه الصحيح كما فعل عيسى عليه السالم حيث كان أسلوب الترهيب مناسبا لخطورة‬
‫الفعل‪.‬‬
‫اإلنس إَِّال لِي ْعب ُد ِ‬ ‫الفائدة الرابعة‪ :‬عبادة الله تعالى هو هدف اإلسالم ولذلك قال الله تعالى‪" :‬وما َخلَ ْق ُ ِ‬
‫ون"‬ ‫ ُ الْج َّن َو ِْ َ َ ُ‬ ‫ََ‬
‫(الذاريات ‪( )31‬هذه الغاية‪ ،‬التي خلق الله الجن واإلنس لها‪ ،‬وبعث جميع الرسل يدعون إليها‪ ،‬وهي عبادته‪ ،‬المتضمنة‬
‫لمعرفته ومحبته‪ ،‬واإلنابة إليه واإلقبال عليه‪ ،‬واإلعراض عما سواه) (تفسير السعدي)‪ .‬ولذلك قام عيسى عليه السالم‬
‫بتذكير قومه بهذه المسألة الهامة‪" :‬ا ْعبُ ُدواْ اللهَ َربِي َوَربَّ ُك ْم"‪ ،‬فذ ّكرهم بعبادة الله تعالى وحده وعدم إشراك أحد معه‬
‫المستحق للعبادة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أل ّن وحده سبحانه‬

‫ولعل فهم قوم عيسى عليه السالم لمفهوم عبادة الله تعالى كان قاصرا ولذلك ذ ّكرهم بالمعنى الصحيح للعبادة وهي أداء‬
‫ّ‬
‫كل ما يرضي الله تعالى واجتناب كل ما يغضبه‪ ،‬وال تقتصر العبادة فقط على الشعائر التعبدية من صالة وصوم وزكاة‬

‫‪09‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫َن تُ ْن ِف َق نَ َف َقةً تَ ْب تَ ِغي‬
‫كلْ‬‫وإنّما تشمل جميع مناحي الحياة بما فيها هذه الشعائر‪ .‬تأمل مثال في الحديث الشريف‪" :‬إنَّ َ‬
‫ك" (رواه البخاري)‪ ،‬فهذا الفعل البسيط وهو قيام الرجل‬ ‫ت َعلَْي َها‪ ،‬حتَّى ما تَ ْج َع ُل في فَ ِم ْام َرأَتِ َ‬ ‫بها وجهَ اللَّ ِه َّإال أ ِ‬
‫ُج ْر َ‬ ‫َ ْ‬
‫بوضع اللقمة في فم زوجته عبادة يؤجر عليها صاحبه‪.‬‬

‫ف إذا عرف الشخص مفهوم العبادة بصورتها الصحيحة أقبل على عبادة الله تعالى وحده ولن يشرك معه أحد‪ ،‬وهذا ما‬
‫سعى إليه عيسى عليه السالم حين بدأ نصحه لقومه بالتذكير بعبادة الله تعالى ألنّه متى ما استقر هذا المفهوم‪ ،‬زال‬
‫الشرك بطريقة تلقائية‪ .‬ولذلك جاءت اآليات القرآنية الكثيرة لتذ ّكر الناس وتأمرهم بعبادة الله تعالى وحده حتى إ ّن أول‬
‫ين ِمن‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫َّاس ا ْعبُ ُدواْ َربَّ ُك ُم الذي َخلَ َق ُك ْم َوالذ َ‬
‫أمر في القرآن الكريم كانت بعبادة الله تعالى كما قال سبحانه‪" :‬يَا أَيُّ َها الن ُ‬
‫قَ ْبلِ ُك ْم ل ََعلَّ ُك ْم تَتَّ ُقو َن" (البقرة ‪ )46‬مما يؤّكد على أهمية هذا األمر‪.‬‬

‫الفائدة الْامسة‪ :‬استعمل عيسى عليه السالم اسما عظيما من أسماء الله تعالى وهو (الرب) كما قال سبحانه وتعالى‬
‫على لسان عيسى عليه السالم‪" :‬ربي وربكم"‪ .‬ومن حكمته عليه السالم أنّه بدأ بنفسه فأثبت أ ّن الله تعالى هو ربّه كما‬
‫رب الجميع وال فرق في ذلك بين أحد (مالكي ومالككم‪ ،‬وسيدي وسيدكم‪،‬‬
‫رب قومه حتى يثبت بأن الله تعالى هو ّ‬
‫هو ّ‬
‫الذي خلقني وإياكم) (تفسير الطبري)‪.‬‬

‫ين"‬ ‫ِ‬ ‫ْح ْم ُد لِلَّ ِه َر ِ‬


‫ب ال َْعالَم َ‬ ‫الرب من األسماء العظيمة لله تعالى وقد ذكرها الله تعالى في أول سورة في القرآن الكريم‪" :‬ال َ‬
‫و ّ‬
‫(الفاتحة ‪ .)4‬قال اإلمام البغوي رحمه الله تعالى‪( :‬فالرب يكون بمعنى المالك؛ كما يقال لمالك الدار‪ :‬رب الدار‪،‬‬
‫ويقال‪ :‬رب الشيء إذا ملكه‪ ،‬ويكون بمعنى التربية واإلصالح‪ ،‬يقال‪ :‬رب فالن الضيعة يربها إذا أتممها وأصلحها)‪،‬‬
‫فاستعمال هذا االسم الكريم فيه تذكير لقوم عيسى عليه السالم بعبادة مالكهم ومن أصلح أمرهم كلّها فال ينبغي إشراك‬
‫أحد معه‪.‬‬

‫الرب هو المربي لجميع العالمين ‪ -‬وهم من سوى الله ‪ -‬بخلقه إياهم وإعداده‬
‫قال اإلمام السعدي رحمه الله تعالى‪ّ ( :‬‬
‫لهم اآلالت وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة التي لو فقدوها لم يمكن لهم البقاء‪ ،‬فما بهم من نعمة فمنه تعالى‪ .‬وتربيته‬
‫تعالى لخلقه نوعان‪ :‬عامة وخاصة‪ ،‬فالعامة‪ :‬هي خلقه للمخلوقين ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم‬
‫في الدنيا‪ .‬والخاصة‪ :‬تربيته ألوليائه فيربيهم باإليمان ويوفقهم له ويكمله لهم ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم‬
‫وبينه‪ ،‬وحقيقتها‪ :‬تربية التوفيق لكل خير والعصمة عن كل شر)‪.‬‬

‫ك ِمن َّر ُسول إَِّال‬


‫الفائدة السادسة‪ :‬توحيد الله تعالى هو رسالة األنبياء جميعا كما قال سبحانه‪َ " :‬وَما أ َْر َسلْنَا ِمن قَ ْبلِ َ‬
‫ون" (األنبياء ‪ ،)43‬فهو األمر األول واألهم الذي يؤّكد عليه األنبياء جميعا وكان هذا‬ ‫نُ ِ‬
‫وحي إِلَي ِه أَنَّهُ َال إِلَهَ إَِّال أَنَا فَا ْعب ُد ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫شأن عيسى عليه السالم كذلك مع قومه حين ذ ّكرهم بعبادة الله تعالى وحده وح ّذرهم من الشرك‪.‬‬

‫قال اإلمام السعدي رحمه الله تعالى في تفسير اآلية السابقة‪( :‬فكل الرسل الذين من قبلك مع كتبهم‪ ،‬زبدة رسالتهم‬
‫وأصلها‪ ،‬األمر بعبادة الله وحده ال شريك له‪ ،‬وبيان أنه اإلله الحق المعبود‪ ،‬وأن عبادة ما سواه باطلة)‪ .‬ووزن كلمة‬
‫التوحيد ثقيل جدا كما جاءت األحاديث الشريفة بذلك من مثل قوله صلى الله عليه وسلم‪" :‬أفضل ِ‬
‫الذ ْك ِر‪ :‬ال إله إال‬ ‫ُ‬

‫‪21‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫اللهُ" (رواه الترمذي)‪ ،‬وفي الحديث اآلخر الذي رواه أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قلت يا رسول الله أوصني‪ ،‬قال‪:‬‬
‫"إذا عمل ُ سيئة فأتبعها حسنة تمحها‪ .‬قال ‪:‬قل ُ يا رسول الله أمن الحسنات ال إله إال الله قال‪" :‬هي أفضل‬
‫الحسنات" (رواه أحمد)‪.‬‬

‫أتم‪ ،‬فمن لقيه ال يشرك به شيئا البتّة‬


‫قال ابن القيم رحمه الله تعالى‪( :‬وكلما كان توحيد العبد أعظم‪ ،‬كانت مغفرة الله له ّ‬
‫غفر له ذنوبه كلها‪ ،‬كائنة ما كانت‪ ،‬ولم يعذب بها)‪ ،‬فالتوحيد يعني أال معبود بحق إال هو سبحانه وهذا يشمل عبادته‬
‫وطاعته سبحانه وحده واللجوء والتذلل إليه والثقة به ومحبّته والخوف منه وحده سبحانه‪.‬‬

‫الفائدة السابعة‪ :‬أعظم الذنوب على اإلطالق هو الشرك بالله تعالى ولذلك كان عيسى عليه السالم واضحا مع قومه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّار" (المائدة ‪ ،)74‬فالعاقبة وخيمة ج ّدا وهي‬ ‫أش ّد الوضوح‪" :‬إِنَّهُ َمن يُ ْش ِر ْك بِالله فَ َق ْد َح َّرَم اللهُ َعلَيه ال َ‬
‫ْجنَّةَ َوَمأ َْواهُ الن ُ‬
‫بحق الله تعالى‪.‬‬
‫الحرمان من دخول الجنّة والخلود في نار جهنّم وهذا يتوافق مع عظم هذا الجرم ّ‬

‫شاءُ‬ ‫ك لِ َمن يَ َ‬ ‫ويؤيّد هذه العقوبة ما قاله الله تعالى في آيات أخرى‪" :‬إِ َّن اللهَ الَ يَغْ ِف ُر أَن يُ ْش َر َك بِ ِه َويَغْ ِف ُر َما ُدو َن ذَلِ َ‬
‫َوَمن يُ ْش ِر ْك بِالل ِه فَ َق ِد افْ تَ َرى إِثْماً َع ِظيماً" (النساء ‪ ،)21‬وقوله سبحانه‪" :‬إِ َّن اللهَ الَ يَغْ ِف ُر أَن يُ ْش َر َك بِ ِه َويَغْ ِف ُر َما ُدو َن‬
‫ضالَالً بَعِيداً" (النساء ‪ ،)661‬فالله تعالى لم يخبر أنه لن يغفر ذنبا إال‬ ‫ك لِ َمن يَ َ‬
‫شاءُ َوَمن يُ ْش ِر ْك بِالل ِه فَ َق ْد َ‬
‫ض َّل َ‬ ‫َذلِ َ‬
‫يدل على عظم هذ الجريمة‪.‬‬ ‫الشرك به سبحانه مما ّ‬
‫ِ‬ ‫الشرَك ِاء َع ِن ِ ِ‬
‫الش ْرك‪َ ،‬م ْن َع ِم َل َع َمالً أ ْش َر َك ف ِيه َمعِي غَْي ِري تَ َرْكتُهُ‬ ‫وقد جاء كذلك في الحديث القدسي‪" :‬أنَا أ ْغنَى ُّ َ‬
‫َو ِش ْرَكهُ" (رواه مسلم)‪ ،‬بل إ ّن أول ثالثة تُسعّر بهم نار جهنّم يوم القيامة أناس أشركوا بالله تعالى رغم أعمالهم الصالحة‬
‫فاستحقوا أن يدخلوا نار جهنّم‪ .‬فالشرك بالله تعالى هو أكبر الكبائر وأعظم الجرائم وعقوبته شديدة ج ّدا ولذلك وجب‬
‫على كل شخص أن يحذر منه أش ّد الحذر حتى ينجو يوم القيامة بإذن الله تعالى‪.‬‬

‫الفائدة الثامنة‪ :‬قام عيسى عليه السالم بتذكير قومه بالدار اْلخرة والمصير النهائي حيث ربط خطورة الشرك بالله‬
‫الفعالة جدا حيث يبيّن للشخص المكافأة أو‬
‫تعالى بالحرمان من الجنة ودخول النار‪ ،‬وهذا األسلوب من األساليب ّ‬
‫العاقبة النهائية لفعله وبالتالي يجعل الصورة النهائية أمامه واضحا لكي يفعل الفعل أو يتركه‪.‬‬

‫وهذا األمر من رحمة الله تعالى حيث أن الدين واضح بالنسبة للمصير حيث بيّن سبحانه ما أع ّده للمؤمن والكافر‬
‫أي عمل‪ .‬وبيّن‬
‫بصورة واضحة وبيّن سبحانه جزاء األعمال الصالحة والسيّئة حيث يستحضره الشخص حينما يعمل ّ‬
‫سبحانه كذلك وزن الدنيا بالنسبة لآلخرة حتّى يبيّن القيمة الحقيقية لكل منهما وينظر اإلنسان ما إذا كانت الدنيا‬
‫تستحق الجهد أم أ ّن الجهد الحقيقي ينبغي أن يذهب لآلخرة‪.‬‬
‫ِ ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يقول الله تعالى‪" :‬فَما متاع ال ِ‬
‫ْحيَاة الدُّنْ يَا في اْلخ َرة إالَّ قَل ٌ‬
‫يل" (التوبة ‪ ،)31‬فما يعيشه الشخص في الدنيا ال يساوي‬ ‫َ ََ ُ َ‬
‫شيئا أما العيش في اآلخرة‪ ،‬ونعيم الدنيا بكل ما فيها تساوي شيئا أمام نعيم اآلخرة وكذلك بالنسبة للعذاب‪ .‬جاء في‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫آد َم‪،‬‬
‫ال‪ :‬يَا ابْ َن َ‬ ‫ص ْب غَةً‪ ،‬ثُ َّم يُ َق ُ‬ ‫الحديث الشريف‪" :‬يُ ْؤتَى بِأنْ َع ِم ْأه ِل الدُّنْ يَا م ْن ْأه ِل النَّا ِر يَ ْو َم القيَ َامة‪ ،‬فَ يُ ْ‬
‫صبَ ُغ في النَّا ِر َ‬
‫ؤساً في الدُّنْ يَا ِم ْن ْأه ِل‬ ‫َّاس بُ َ‬‫ب‪َ ،‬ويُ ْؤتَى بِأ َش ِد الن ِ‬ ‫ول‪ :‬الَ و ِ‬
‫الله يَا َر ِ‬ ‫َ‬ ‫ط فَ يَ ُق ُ‬ ‫يم قَ ُّ‬ ‫ط َهل م َّر بِ َ ِ‬
‫ك نَع ٌ‬ ‫ ُ َخ ْيراً قَ ُّ ْ َ‬‫َه ْل َرأيْ َ‬
‫‪20‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬
‫ول‪ :‬الَ‬ ‫ك ِش َّدةٌ قَ ُّ‬
‫ط فيَ ُق ُ‬ ‫ط َه ْل َم َّر بِ َ‬
‫ ُ بُؤساً قَ ُّ‬
‫آد َم‪َ ،‬ه ْل َرأيْ َ‬
‫ال لَهُ‪ :‬يَا ابْ َن َ‬ ‫الجن َِّة‪ ،‬فَ يُ َق ُ‬
‫ص ْب غَةً في َ‬‫صبَ ُغ َ‬
‫ِ‬
‫الجنَّة‪ ،‬فَ يُ ْ‬
‫َ‬
‫ط" (رواه مسلم)‪.‬‬ ‫ ُ ِش َّدةً قَ ُّ‬‫ط‪َ ،‬والَ َرأيْ ُ‬‫س قَ ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َوالله‪َ ،‬ما َم َّر بي بُ ْؤ ٌ‬
‫حرمه الله تعالى على نفسه وعلى الناس أجمعين كما جاء في الحديث‬ ‫المحرمات وقد ّ‬‫ّ‬ ‫الفائدة التاسعة‪ :‬الظلم من أبشع‬
‫ْم َعلَى نَ ْفسي َو َج َعلْتُهُ ْبي نَكم ُم َح َّرماً فَال تَظَال َُموا" (رواه مسلم)‪ ،‬ولذلك ح ّذر‬ ‫القدسي‪" :‬يَا ِعبَادي‪ ،‬إنِي َح َّرْم ُ‬
‫ ُ الظُل َ‬
‫منه عيسى عليه السالم أل ّن عاقبته وخيمة‪ .‬هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى فإن الشرك بالله تعالى هو أعلى أنواع الظلم‬
‫ولذلك ربط عيسى عليه السالم الظلم بالشرك في هذه اآلية‪.‬‬
‫الشر َك لَظُل ِ‬
‫ِ‬
‫يم" (لقمان ‪ ،)63‬قال اإلمام السعدي رحمه الله تعالى‪:‬‬
‫ْم َعظ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫وهذا األمر هو مصداق قول الله تعالى‪" :‬إِ َّن ْ‬
‫وسوى الذي ال يملك من األمر‬
‫(ووجه كونه عظيما‪ ،‬أنه ال أفظع وأبشع ممن س َّوى المخلوق من تراب‪ ،‬بمالك الرقاب‪َّ ،‬‬
‫وسوى الناقص الفقير من جميع الوجوه‪ ،‬بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه)‪ .‬فالشرك‬ ‫شيئا‪ ،‬بمن له األمر كله‪َّ ،‬‬
‫جريمة عظيمة كما بيّنا سابقا‪ ،‬ويزيد من بشاعته أ ّن فيه ظلم كذلك مما يزيده بشاعة وعقوبة‪.‬‬

‫أما عاقبة الظلم أو قل عقوبات الظلم فكثيرة وشديدة‪ ،‬واحدة منها تكفي فكيف إذا اجتمعت كلّها بالنسبة للظالم‪ .‬قال‬
‫الله تعالى‪" :‬واللهُ الَ ي ْه ِدي الْ َقوم الظَّالِ ِمين" (البقرة ‪" ،)431‬واللهُ الَ ي ِح ُّ ِ ِ‬
‫اه ُم‬ ‫ب الظَّالم َ‬
‫ين" (آل عمران ‪َ " ،)37‬وَمأ َْو ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫النَّار وبِْئس مثْ وى الظَّالِ ِمين" (آل عمران ‪" ،)636‬وإِ َّن الظَّالِ ِمين لَهم ع َذ ِ‬
‫فكل هذه تبيّن‬ ‫يم" (الشورى ‪ّ .)46‬‬ ‫اب أَل ٌ‬
‫َ ُْ َ ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َُ َ ََ‬
‫عقوبة الظالمين مما يؤّكد خطورة هذا األمر ووجوب ابتعاد الشخص عنه في جميع نواحي حياته حتى ينجو في الدنيا‬
‫واآلخرة بإذن الله تعالى‪.‬‬

‫َنصار" (أي من أنصار ينقذونهم من‬ ‫الفائدة العاشرة‪ :‬ختم عيسى عليه السالم نصيحته لقومه بقوله "وما لِلظَّالِ ِم ِ‬
‫ين م ْن أ َ‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫عذاب الله‪ ،‬أو يدفعون عنهم بعض ما نزل بهم) (تفسير السعدي)‪ .‬فالظالم يوجد له أعوان وأنصار في الدنيا يعاونونه‬
‫وسيتبرؤون منه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ويؤيّدونه في ظلمه‪ ،‬ولكن هذا األمر سيزول يوم القيامة حيث لن يكون معه أحد وسيتخلّى الجميع عنه‬

‫ف الظالم عن ظلمه حيث سيُحاسب وحده يوم القيامة على ظلمه ولن ينفعه أنصاره ومؤيّدوه‬ ‫وهذا األمر مدعاة ألن يك ّ‬
‫الذين كانوا معه في الدنيا والذين كانوا يزيّنون له أن أفعاله الظالمة ليست بظلم وإنّما حكمة وسياسة ومصلحة‪ ،‬فهؤالء‬
‫لن ينفعوه أبدا في اآلخرة بل قد يكونوا سببا في زيادة عذابه يوم القيامة والعياذ بالله تعالى‪.‬‬

‫ول َسبِي ًال‪ ،‬يَا َويْ لَتَى ل َْي تَنِي‬


‫الر ُس ِ‬
‫ت َم َع َّ‬ ‫ض الظَّالِ ُم َعلَى يَ َديْ ِه يَ ُق ُ‬
‫ول يَا ل َْي تَنِي اتَّ َْ ْذ ُ‬ ‫تأمل في قول الله تعالى‪َ " :‬ويَ ْو َم يَ َع ُّ‬
‫الشيطَا ُن لِ ْ ِْلنس ِ‬ ‫الذ ْك ِر ب ْع َد إِ ْذ ج ِ‬ ‫َضلَّنِي َع ِن ِ‬ ‫ل َْم أَتَّ ِْ ْذ فَُالنًا َخلِيالً‪ ،‬لََّق ْد أ َ‬
‫وال" (الفرقان ‪،)41-47‬‬ ‫ان َخ ُذ ً‬ ‫َ‬ ‫اءني ۗ َوَكا َن َّ ْ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬
‫فالندم ال ينفع يوم القيامة وإنّما على الشخص التدارك بأن يتّخذ أعوانا وأصحابا صالحين يذ ّكرونه بالحق وعدم الظلم‬
‫خاصة إن كان في موقع مسؤولية ونفوذ‪.‬‬

‫*******************************************‬

‫‪22‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫ص ِدي َقةٌ َكانَا‬
‫الرسل وأ ُُّمهُ ِ‬ ‫ول قَ ْد َخلَ ْ ِ ِ ِ‬ ‫يح ابْ ُن َم ْريَ َم إِالَّ َر ُس ٌ‬ ‫ِ‬
‫ ُ من قَ ْبله ُّ ُ ُ َ‬ ‫قال الله تعالى‪َّ " :‬ما ال َْمس ُ‬
‫ف نُب يِن لَ ُهم اْلي ِ‬ ‫ِ‬
‫كو َن"‬ ‫ات ثُ َّم انظُْر أَنَّى يُ ْؤفَ ُ‬‫ام انظُْر َك ْي َ َ ُ ُ َ‬ ‫يَأْ ُكالَن الطَّ َع َ‬
‫(المائدة ‪)24‬‬

‫الفائدة األولى‪ :‬أثبت الله تعالى لعيسى عليه السالم أّنه رسول من عنده‪ ،‬فالرسول هو من أُوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه‪،‬‬
‫فكل رسول نبي‪ ،‬وليس كل نبي رسوال‪ .‬فعيسى عليه السالم‬ ‫ّأما النبي فهو من أوحي إليه ولم يُؤمر بالبالغ‪ ،‬وعلى ذلك ُّ‬
‫ي ِمن التَّوراةِ وِأل ِ‬
‫ُح َّل لَ ُكم‬ ‫رسول أوحى الله تعالى إليه بشرع جديد وأمره بتبليغه كما قال سبحانه‪" :‬وم ِ ِ‬
‫صدقًا ل َما بَ ْي َن يَ َد َّ َ ْ َ َ‬ ‫َُ َ‬
‫َطيع ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون" (آل عمران ‪ .)34‬فجاء عيسى عليه السالم‬ ‫ض الَّذي ُح ِرَم َعلَْي ُك ْم ۚ َوج ْئ تُ ُكم بِآيَة من َّربِ ُك ْم فَاتَّ ُقوا اللَّهَ َوأ ُ‬
‫بَ ْع َ‬
‫ض الَّ ِذي ُح ِرَم َعلَْي ُك ْم"‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ببعض األحكام الجديدة التي لم توجد في الشريعة السابقة " َوِألُح َّل لَ ُكم بَ ْع َ‬

‫ص ِدقاً‬ ‫ِ ِ‬
‫وقد أنزل الله تعالى على عيسى عليه السالم اإلنجيل كما قال سبحانه‪َ " :‬وقَ َّف ْي نَا َعلَى آثَا ِرهم ب َع َ‬
‫يسى ابْ ِن َم ْريَ َم ُم َ‬
‫نجيل فِ ِيه ه ًدى ونُور ومص ِدقاً لِما ب ين ي َدي ِه ِمن التَّوراةِ وه ًدى ومو ِعظَةً لِل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين"‬
‫ْمتَّق َ‬
‫ُ‬ ‫ل َما بَ ْي َن يَ َديْه م َن الت َّْوَراة َوآتَ ْي نَاهُ ا ِإل َ ُ َ ٌ َ ُ َ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ ُ َ َ ْ‬
‫(المائدة ‪ .)21‬قال اإلمام السعدي رحمه الله تعالى‪( :‬بعثه الله – أي عيسى عليه السالم ‪ -‬مص ّدقا لما بين يديه من‬
‫التوراة‪ ،‬فهو شاهد لموسى ولما جاء به من التوراة بالحق والصدق‪ ،‬ومؤيد لدعوته‪ ،‬وحاكم بشريعته‪ ،‬وموافق له في أكثر‬
‫األمور الشرعية)‪.‬‬

‫ين" مما‬ ‫وقد وصف الله تعالى اإلنجيل بأنّه "فِ ِيه ه ًدى ونُور ومص ِدقاً لِما ب ين ي َدي ِه ِمن التَّوراةِ وه ًدى ومو ِعظَةً لِل ِ‬
‫ْمتَّق َ‬
‫ُ‬ ‫ُ َ ٌ َ ُ َ َ َْ َ َ ْ َ ْ َ َ ُ َ َ ْ‬
‫يدل على عظم هذا الكتاب الذي أنزله الله تعالى على عيسى عليه السالم‪( .‬يهدي إلى الصراط المستقيم‪ ،‬ويبين الحق‬
‫ّ‬
‫من الباطل) (تفسير السعدي)‪.‬‬

‫بالله‪َ ،‬وَمالئِ َكتِ ِه‪َ ،‬وُكتُ ِبه‪،‬‬


‫ؤمن ِ‬ ‫ِ‬
‫الفائدة الثانية‪ :‬اإليمان بالرسل من أركان اإليمان كما جاء في الحديث الشريف‪" :‬أ ْن تُ َ‬
‫ورسلِ ِه‪ ،‬والي وِم ِ‬
‫اْلخر‪ ،‬وتُ ْؤِم َن بال َق َد ِر َخي ِرهِ َو َش ِرهِ" (رواه مسلم)‪ ،‬وعيسى عليه السالم من جملة هؤالء الرسل الذين‬ ‫َُ ُ َ َْ‬
‫يجب علينا اإليمان بهم حتى يكتمل إيماننا‪.‬‬

‫واإليمان بالرسل يعني أن نؤمن بأن الله تعالى‪ :‬أرسل رسال وأنبياء‪ ،‬ال يعلم أسماءهم وعددهم إال الله تعالى الذي‬
‫أرسلهم‪ .‬فعلينا اإليمان بهم جملة ألنه لم يأت في عددهم نص‪ ،‬وعلينا اإليمان بأنهم بلغوا جميع ما أرسلوا به على ما‬
‫ك ِم ْن هم َّمن قَصصنا علَي َ ِ‬‫ِ ِ‬
‫ك"‬‫ص َعلَْي َ‬ ‫ك َوم ْن ُهم َّمن لَّ ْم نَ ْق ُ‬
‫ص ْ‬ ‫َ َْ َ ْ‬ ‫أمرهم الله به‪ .‬قال الله تعالى‪َ " :‬ولََق ْد أ َْر َسلْنَا ُر ُسالً من قَ ْبل َ ُ‬
‫(غافر ‪.)71‬‬

‫قص الله علينا أخبارهم في القرآن الكريم أو جاءت به السنة النبوية‪ ،‬ولكن غيرهم كثير‬
‫فنحن نعرف من هؤالء الرسل من ّ‬
‫ال يعلمهم إال الله تعالى‪ ،‬وهم جميعا أفضل الخلق عند الله تعالى ولذلك وجب علينا االقتداء بهم وتعظيمهم‪ .‬ودين‬
‫الرسل كلّهم واحد كما جاء في الحديث الشريف‪" :‬األَنْبِياء إِ ْخوةٌ لِعالت أ َُّمهاتُهم َشتَّى و ِدين هم و ِ‬
‫اح ٌد" (رواه البخاري)‪.‬‬ ‫َ ُُ ْ َ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َُ َ َ‬

‫‪23‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫أي أن األنبياء متحدون في األصل وهو التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله‪ ،‬وضمنه كل كتاب أنزله‪ ،‬وشرائعهم‬
‫مختلفة في األوامر والنواهي والحالل والحرام ألن األخوة لعالت أبوهم واحد وأمهاتهم متفرقات‪.‬‬

‫الفائدة الثالثة‪ :‬كم هي عالية منزلة مريم عليها السالم لدرجة أن يذكرها الله تعالى في هذه اآلية مع عيسى عليه‬
‫ولكن الله تعالى ذكرها‬
‫السالم وكان يمكن أال يذكرها ألن الحديث هو عن عيسى عليه السالم وكونه رسال من الرسل ّ‬
‫ّأوال في نسبة عيسى عليها السالم إليها ثم ذكر صفة من صفاتها "صديقة" ثم ذكر أنّها كانت تأكل الطعام مع عيسى‬
‫عليه السالم‪ .‬كل ذلك يؤّكد منزلة مريم عليها السالم كما ذكرنا ذلك سابقا‪.‬‬

‫خص الله تعالى األم بمزيد من العناية كما قال‬ ‫ولعلّي أقف هنا مع كلمة "وأمه" والتي تبيّن قيمة األم العالية‪ .‬وقد ّ‬
‫َي‬ ‫َن ا ْش ُك ْر لِي َولِ َوالِ َديْ َ‬
‫ك إِل َّ‬ ‫اإلنسا َن بِوالِ َدي ِه حملَْتهُ أ ُُّمهُ و ْهناً َعلَى و ْهن وفِصالُهُ فِي َعامي ِن أ ِ‬
‫َْ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ص ْي نَا ِْ َ َ ْ َ َ‬ ‫سبحانه‪َ " :‬وَو َّ‬
‫ِ‬
‫خص األم ألنها تعبت وقت الحمل والوضع والرضاع‬ ‫فوصى الله تعالى بالوالدين في البداية ثم ّ‬ ‫ال َْمص ُير" (لقمان ‪ّ ،)62‬‬
‫ولذلك فهي تحتاج مزيدا من البر واإلحسان‪.‬‬

‫وأ ّكد على ذلك الحديث الشريف الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه حيث قال‪ :‬جاء رجل إِلى ر ُسول الله ‪ ،‬ف قال‪:‬‬
‫ال‪:‬‬
‫ال‪ :‬ثُ َّم َم ْن قَ َ‬
‫ك"‪ ،‬قَ َ‬
‫ال‪" :‬أ ُُّم َ‬
‫ال‪ :‬ثُ َّم َم ْن قَ َ‬
‫ك"‪ ،‬قَ َ‬ ‫ص َحابَتِي قَ َ‬
‫ال‪" :‬أ ُُّم َ‬ ‫اس بِ ُح ْس ِن َ‬
‫أح ُّق النَّ ِ‬
‫يَا َر ُسول الله‪َ ،‬م ْن َ‬
‫الزم‬ ‫ِ‬
‫وك" ( ُمتَّف ٌق عليه)‪ .‬فمنزلة األم عالية ج ّدا ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم‪َ " :‬‬ ‫ال‪" :‬أبُ َ‬‫ال‪ :‬ثُ َّم َم ْن قَ َ‬
‫ك"‪ ،‬قَ َ‬
‫"أ ُُّم َ‬
‫ِرجلَها َّ‬
‫فثم الجنَّةُ" (رواه ابن ماجه)‪.‬‬

‫الفائدة الرابعة‪ :‬ذكر الله تعالى صفة عظيمة للسيّدة مريم عليها السالم وهي "صديقة"‪ ،‬وقد ذكرنا من قبل هذه الصفة‬
‫ولكن السؤال الهام هنا‪ ،‬لماذا ذكر الله تعالى هذه الصفة لمريم عليها‬
‫حين حديثنا عن السيدة مريم عليها السالم‪ّ ،‬‬
‫السالم في معرض حديثه عن كون عيسى عليه السالم من الرسل؟‬

‫المفسرين أن سبب ذلك هو إثبات أ ّن مريم عليها السالم ليس ُ رسوال كما يزعم البعض وقبل ذلك ليس ُ‬
‫ذكر بعض ّ‬
‫إلها‪ ،‬وفي نفس الوقت ذكر لها هذه الصفة العظيمة لبيان منزلتها العظيمة وقدرها العالي حيث أ ّن الص ّديقية درجة عالية‬
‫ِ ِِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ول فَأ ُْولَ ئِ َ‬ ‫جدا كما ذكر الله تعالى في اآلية الكريمة‪َ " :‬وَمن يُ ِط ِع اللهَ َو َّ‬
‫ين أَنْ َع َم اللهُ َعلَْي ِهم م َن النَّبي َ‬
‫ين‬ ‫ك َم َع الذ َ‬ ‫الر ُس َ‬
‫ك َرفِيقاً" (النساء ‪ )11‬فذكر الص ّديقين مباشرة بعد النبيّين مما يدل‬ ‫س َن أُولَ ئِ َ‬ ‫الشه َداء و َّ ِ ِ‬ ‫ِِِ‬
‫ين َو َح ُ‬
‫الصالح َ‬ ‫ين َو ُّ َ َ‬‫َوالصديق َ‬
‫على منزلتهم العالية‪.‬‬

‫وبيان منزلة وقدر مريم عليها السالم فيه كذلك إشارة إلى عظم ابنها عيسى عليه السالم‪ ،‬فامرأة بهذا القدر العالي‬
‫سوف تقوم بتربية ابنها أحسن تربية وتعليمه أحسن تعليم ولذلك كان عيسى عليه السالم هذا الشخص الذي نعرفه بهذه‬
‫األخالق الراقية واالرتباط بالله تعالى‪ ،‬كل ذلك بالطبع بعد توفيق الله تعالى‪.‬‬

‫الفائدة الْامسة‪ :‬كم هو جميل أن يذكر الشخص الصفات الحسنة واإليجابية التي في أبويه وهذا من بّرهما‪ ،‬وقد‬
‫مؤخرا كتابا للدكتور خالد الحليبي بعنوان (اصنعيني يا أماه)‪ ،‬ذكر فيه قصصا من العظماء الذين ربّيهم ّأمهاتهم‬
‫كنت أقرأ ّ‬
‫ألمهاتهم‪.‬‬
‫وقد ذكروا صفاتا إيجابية كثيرة ّ‬
‫‪24‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬
‫وقد كان ذلك دأب السلف الصالحين حيث كانوا يذكرون صفات ّأمهاتهم كما كان شأن اإلمام مالك واإلمام أحمد‬
‫بن حنبل رحمهما الله تعالى حيث كانتا سببا في وصول هذين اإلمامين من المنزلة الرفيعة بسبب ما قامتا به من أجلهما‬
‫في صغرهما‪.‬‬

‫وحينما يذكر الشخص الصفات اإليجابية والحسنة في والديهما فإن ذلك يزيد في الترابط والحب بين الشْص‬
‫ووالديه ويزيد كذلك معاني البر اتجاههما‪ .‬ذكر الصفات الحسنة ألي شخص يمثّل فخرا له فكيف إذا كان هاذان‬
‫شك أن ذلك مما يحبّه الله تعالى من الشخص‪.‬‬
‫الشخصين ّأمه وأباه فال ّ‬
‫ِ‬
‫الفائدة السادسة‪ :‬جاءت جملة " َكانَا يَأْ ُكالَن الطَّ َع َ‬
‫ام" لتؤكد على عدة أمور‪ّ ،‬أولها بشرية عيسى عليه السالم و ّأمه‬
‫الص ّديقة مريم عليها السالم مما ينفي األلوهية عنهما كما زعم بذلك بعض األقوام‪ ،‬إذ كيف يمكن إلله أن يأكل الطعام‬
‫ويحصل له ما يحصل للبشر بعد ذلك‪ ،‬فهذا ال يمكن أن يكون إلله يٌعبد ويُق ّدس‪.‬‬

‫وقد ذكر الله تعالى بشرية األنبياء حتى ال يقوم البعض بوضعهم فوق قدرهم فيعبدونهم أو يؤلّهونهم‪ .‬هذا من ناحية‪،‬‬
‫ومن ناحية أخرى ليثبت الله تعالى للناس أ ّن هؤالء بشر مثلكم يمكن لكم أن تقتدوا بهم‪ ،‬فلو كان هؤالء مالئكة أو‬
‫من غير البشر لتع ّذر الكثيرون أ ّن هؤالء ال يمكن االقتداء بهم ولذلك أورد الله تعالى كثيرا من الصفات البشرية لهؤالء‬
‫األنبياء كما ذكر هنا بالنسبة لعيسى عليه السالم و ّأمه عليها السالم‪.‬‬

‫َّص َارى ابْ َن َم ْريَ َم؛ فإنَّما أَنَا َع ْب ُدهُ‪ ،‬فَ ُقولوا‪ :‬عب ُد اللَّ ِه َوَر ُسولُهُ"‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫جاء في الحديث الشريف‪َ " :‬ال تُط ُْروني كما أَط َْرت الن َ‬
‫(رواه البخاري)‪ .‬فعندما يرفع الناس شأن األنبياء إلى فوق قدرهم‪ ،‬سيصلون بهم إلى درجة األلوهية ولذلك ح ّذر النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم من هذا األمر حتى ال يقع الناس في هذا األمر الخطير‪ ،‬فالرسول بشر‪ ،‬يحصل له ما يحصل‬
‫ ُ َوإِنَّ ُهم َّميِتُو َن" (الزمر ‪ ،)34‬فألنه صلى‬
‫ك َميِ ٌ‬
‫للبشر ولذلك قال الله تعالى مخاطبا النبي صلى الله عليه وسلم‪" :‬إِنَّ َ‬
‫الله عليه وسلم بشر‪ ،‬فإن الموت قدر محتوم عليه‪.‬‬
‫ِ‬
‫الفائدة السابعة‪ :‬من معاني جملة " َكانَا يَأْ ُكالَن الطَّ َع َ‬
‫ام" المشاركة بين األم وابنه‪ ،‬وهذه المشاركة من الطرق التربوية‬
‫شك أفضل بكثير من‬
‫الفعالة التي لها ثمرات كثيرة مثل السؤال والتوجيه والمزاح ومشاركة المعلومات وغيرها‪ ،‬وهي ال ّ‬
‫ّ‬
‫أن يأكل كل شخص بمفرده في غرفة منفصلة أو يكون كل شخص في حاله وقت األكل كاالنشغال في الهاتف‬
‫المتحرك‪.‬‬

‫والمشاركة التربوية دأب األنبياء كما كان حال إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السالم حيث ذكر القرآن الكريم مواقف‬
‫يل َربَّنَا تَ َقبَّ ْل ِمنَّا إِنَّ َ‬
‫ك‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يم الْ َق َواع َد م َن الْبَ ْي ُ َوإ ْس َماع ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫متعددة لهذين النبيين الكريمين كما قال سبحانه‪َ " :‬وإ ْذ يَ ْرفَ ُع إبْ َراه ُ‬
‫يم" (البقرة ‪ ،)647‬فيا لهذا الموقف العظيم من ثمرات تربوية ويكفي فيه الدعاء المشترك بالقبول‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َن ُ َّ ِ‬
‫يع ال َْعل ُ‬
‫السم ُ‬ ‫أ َ‬
‫وكان هذا األمر دأب النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله وأصحابه إذ كان يحرص صلى الله عليه وسلم على مشاركتهم‬
‫في أمور حياتهم وتوجيههم ونصحهم والحديث معهم‪ .‬جاء في الحديث الذي رواه ُعمر ب ِن أبي سلمة رضي الله عنهما‪،‬‬

‫‪25‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫متفق علْي ِه)‪ّ ،‬‬
‫فدل هذا الحديث على أ ّن‬ ‫ليك" ( ٌ‬ ‫ينك ‪ ،‬وُك ْل ِم َّما يَ َ‬
‫قال‪ :‬قال لي رسول الله ‪َ " :‬س ِم اللهَ ‪َ ،‬وُك ْل بِيَ ِم َ‬
‫ويوجههم إن لزم األمر‪.‬‬‫النبي صلى الله عليه وسلم كان يشارك أصحابه في األكل ّ‬
‫ِ‬
‫ام" التواضع‪ ،‬فمن ّ‬
‫يتأمل فيها يجد تواضع عيسى عليه السالم‬ ‫الفائدة الثامنة‪ :‬من معاني جملة " َكانَا يَأْ ُكالَن الطَّ َع َ‬
‫و ّأمه‪ ،‬فقط كانا يأكالن الطعام بدون أي تكلّف أو تعال‪ .‬والتواضع صفة أساسية من صفات األنبياء عليهم الصالة‬
‫والسالم كما كان شأن النبي صلى الله عليه وسلم والذي كان سيّد المتواضعين ولذلك أحبّه أصحابه واحترمه أعداءه‪.‬‬

‫تأمل مثال في تواضع النبي صلى الله عليه وسلم في المواقف التالية‪ :‬عن أنس ‪ : ‬أنَّهُ مَّر على صبيان‪ ،‬فسلَّم علْي ِه ْم‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫ْخ ُذ بِيَد الن ِ‬
‫َّبي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المدينَة لَتَأ ُ‬
‫متفق علْيه)‪ .‬وعنه رضي الله عنه‪ ،‬قال‪ :‬إن َكانَ ُ األ ََمةُ م ْن َإماء َ‬
‫النبي ‪ ‬يفعله‪ٌ ( .‬‬ ‫وقال‪َ :‬كا َن ُّ‬
‫ت عائشةُ رضي الله‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اءت‪( .‬رواه البخاري)‪ .‬وعن األ ْسود بن يزيد رضي الله عنه‪ ،‬قال‪ُ :‬سئل ْ‬ ‫ث َش ْ‬ ‫‪ ،‬فَ تَ ْنطَلِ ُق بِ ِه َح ْي ُ‬
‫صن ُع فِي ب ْيتِ ِه؟ قالت‪َ :‬كا َن يَ ُكون في ِم ْهنَ ِة ْأهلِ ِه – يعني ‪ِ :‬خدمة أهلِه‪( .‬رواه البخاري)‪ ،‬فكان‬
‫َّبي ‪ ‬ي ْ‬‫عنها ما كان الن ُّ‬
‫صلى الله عليه وسلم يتواضع مع الجميع‪.‬‬
‫اضع أح ٌد ِ‬
‫لله إِالَّ َرفَ َعهُ اللهُ" (رواه مسلم)‪،‬‬ ‫وهذا التواضع يرفع شأن صاحبه كما قال صلى الله عليه وسلم‪َ " :‬وَما تَ َو َ َ َ‬
‫ولذلك رفع الله شأن عيسى عليه السالم و ّأمه حيث كانا متواضعين مع الناس‪ .‬قال صلى الله عليه وسلم‪" :‬إ َّن الله‬
‫أحد" (رواه مسلم)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ْأو َحى إِل َّ‬
‫أح ٌد َعلَى َ‬‫أحد‪َ ،‬والَ يَ ْبغي َ‬
‫أح ٌد َعلَى َ‬
‫اضعُوا َحتَّى الَ يَ ْف َْ َر َ‬
‫َي أ ْن تَ َو َ‬

‫يتضح كذلك معنى الترابط األسري والعالقة القوية التي كانت تربط عيسى عليه السالم ّ‬
‫بأمه من‬ ‫الفائدة التاسعة‪ّ :‬‬
‫ِ‬
‫ام"‪ ،‬فكان يمكن أن تأتي اآلية مثال (كان يأكل الطعام مع ّأمه)‪ ،‬ولكنّها ليست بنفس‬ ‫خالل جملة " َكانَا يَأْ ُكالَن الطَّ َع َ‬
‫قوة "كانا يأْ ُكال ِن الطَّعام" بصيغة المثنّى حيث الترابط والعالقة القوية بين الطرفين‪.‬‬

‫وهذا الترابط هام ج ّدا في التربية حيث ينصح خبراء التربية دائما بتقوية العالقة والترابط بين المربّي ومن يربّيهم حتى‬
‫يسهل غرس القيم والمعاني اإليجابية وحتى يكون طريق الحوار مفتوحا دائما بين الطرفين‪ّ .‬أما إذا كانت العالقة ليست‬
‫بالقوية فإن التربية ستكون أكثر صعوبة وقد تحدث المشاكل وتكثر العقبات في طريق المربّي ومن يربّيهم‪.‬‬

‫وقد كان هذا الترابط والعالقة القوية قائم بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهله وأصحابه‪ ،‬وانطلقت هذه العالقة من‬
‫الحب واالحترام والثقة المتبادلة بين األطراف حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على مصلحة أهله وأصحابه‬
‫فيوجههم إلى كل خير وينهاهم عن كل شر‪ ،‬فكانت النتيجة أن أحبّوه واحترموه وكانوا خير جيل‪.‬‬
‫دائما ّ‬
‫الفائدة العاشرة‪ :‬كم هو رائع الوصف القرآني لكل من عيسى عليه السالم و ّأمه الص ّديقة مريم عليها السالم‪ ،‬حيث أنّه‬
‫نفى عنهما األلوهية ولكن بصيغة راقية جدا‪ ،‬فوصف عيسى بأنّه رسول ووصف مريم بأنّها ص ّديقة وكال الوصفين يتضمن‬
‫تلقائيا نفي األلوهية عنهما‪.‬‬

‫‪26‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫هناك فرق بين أن نقول‪( :‬عيسى و ّأمه ليسا بإلهين وإنما بشر مثلكم) وبين ما جاء به الله تعالى من وصف لهما حيث‬
‫ال يشعر الشخص بأي نقص في قيمة ومنزلة هذين الشخصين العظيمين وهذا من جمال القرآن الكريم وبديع ألفاظه‬
‫اب" (ص ‪.)41‬‬ ‫ك ُمبَ َار ٌك لِيَدَّبَّروا آيَاتِِه َولِيَ تَ َذ َّكر أ ُْولُوا ْاألَلْبَ ِ‬
‫َنزلْنَاهُ إِل َْي َ‬
‫اب أ َ‬
‫ِ‬
‫وصدق الله تعالى إذ يقول‪" :‬كتَ ٌ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫تذوق جمالياته فهذا مما يزيد صلتنا بالقرآن الكريم من ناحية‪ ،‬ومن‬
‫نحتاج إلى مزيد من العناية بالقرآن الكريم من ناحية ّ‬
‫بكل سعادة كما كان حال السلف الصالح في‬
‫ناحية أخرى نفهم ونتدبّر معانيه بصورة أعمق فيزيد إيماننا به ونقبل عليه ّ‬
‫تعاملهم مع القرآن الكريم‪.‬‬

‫*******************************************‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫قال الله تعالى‪" :‬إِ ْذ قَ َ‬


‫ك أَن يُنَ ِز َل َعلَْي نَا‬ ‫يع َربُّ َ‬
‫يسى ابْ َن َم ْريَ َم َه ْل يَ ْستَط ُ‬ ‫ْح َوا ِريُّو َن يَا ع َ‬
‫ال ال َ‬
‫ين‪ ،‬قَالُواْ نُ ِري ُد أَن نَّأْ ُك َل ِم ْن َها َوتَط َْمئِ َّن‬ ‫ِِ‬ ‫الس َم ِاء قَ َ‬
‫ال اتَّ ُقواْ اللهَ إِن ُكنتُم ُّم ْؤمن َ‬ ‫َمآئِ َد ًة ِم َن َّ‬
‫يسى ابْ ُن َم ْريَ َم اللَّ ُه َّم‬ ‫اه ِدين‪ ،‬قَ َ ِ‬ ‫قُلُوب نَا ونَعلَم أَن قَ ْد ص َدقْت نَا ونَ ُكو َن َعلَي ها ِمن َّ ِ‬
‫ال ع َ‬ ‫الش َ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ُ َْ َ‬
‫آخ ِرنَا َوآيَةً ِم َ‬ ‫السم ِاء تَ ُكو ُن لَنا ِعيداً ِأل ََّولِنا و ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َن ُ‬
‫نك َو ْارُزقْنَا َوأ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َربَّنَا أَن ِز ْل َعلَْي نَا َمآئ َدةً م َن َّ َ‬
‫َخي ر َّ ِ‬
‫الرا ِزق َ‬
‫ين"‬ ‫ُْ‬
‫(المائدة ‪)115-117‬‬

‫نص َار اللَّ ِه َك َما‬ ‫َّ ِ‬


‫ين آ ََمنُوا ُكونوا أَ َ‬
‫الفائدة األولى‪ :‬الحواريون هم أنصار عيسى عليه السالم كما قال سبحانه‪" :‬يَا أَيُّ َها الذ َ‬
‫ار اللَّ ِه" (الصف ‪ ،)62‬فكانوا أنصاره‬ ‫ْح َوا ِريُّو َن نَ ْح ُن أ َ‬ ‫نصا ِري إِلَى اللَّ ِه قَ َ‬ ‫ال ِعيسى ابْن َم ْريَم لِل َ ِ‬
‫َنص ُ‬ ‫ال ال َ‬ ‫ْح َوا ِري َ‬
‫ين َم ْن أَ َ‬ ‫قَ َ َ ُ َ‬
‫الذين نصروه واتّبعوه‪.‬‬

‫ووجود هؤالء األنصار والصحب تأييد كبير للنبي أل ّن هؤالء هم الذين سيتمثّلون دعوته ويتّبعون ما يأمر به وينهى عنه‪،‬‬
‫ولذلك كان للنبي صلى الله عليه وسلم أصحاب اتّبعوه ونصروه وأكملوا دعوته‪ ،‬وقد مدحهم الله تعالى في كتابه العزيز‬
‫ِ‬ ‫في مواضع كثيرة كقوله سبحانه‪ُّ " :‬مح َّم ٌد َّرس ُ ِ َّ ِ‬
‫اه ْم ُرَّكعاً ُس َّجداً‬ ‫ول اللَّه َوالذ َ‬
‫ين َم َعهُ أَشدَّاء َعلَى الْ ُك َّفا ِر ُر َح َماء بَ ْي نَ ُه ْم تَ َر ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ك َمثَلُ ُه ْم فِي الت َّْوَراةِ َوَمثَلُ ُه ْم فِي ِْ‬
‫اإل ِ‬ ‫ود َذلِ َ‬‫السج ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ضواناً ِسيم ِ‬ ‫ي ب ت غُو َن فَ ْ ِ َّ ِ‬
‫نج ِ‬
‫يل‬ ‫اه ْم في ُو ُجوه ِهم م ْن أَثَ ِر ُّ ُ‬
‫َُ‬ ‫ضالً م َن الله َوِر ْ َ‬ ‫َْ َ‬
‫َّ ِ‬ ‫اع لِيَ ِغي َ ِ‬ ‫ِِ ِ‬
‫آمنُوا‬
‫ين َ‬ ‫ظ ب ِه ُم الْ ُك َّف َار َو َع َد اللَّهُ الذ َ‬ ‫الزَّر َ‬
‫ب ُّ‬ ‫استَ َوى َعلَى ُسوقه يُ ْعج ُ‬ ‫ظ فَ ْ‬‫استَ غْلَ َ‬
‫آزَرهُ فَ ْ‬
‫ج َشطْأَهُ فَ َ‬
‫َك َزْرع أَ ْخ َر َ‬
‫َجراً َع ِظيماً" (الفتح ‪.)41‬‬ ‫ِ‬ ‫وع ِملُوا َّ ِ ِ ِ‬
‫الصال َحات م ْن ُهم َّمغْف َرةً َوأ ْ‬ ‫ََ‬
‫قال اإلمام السعدي رحمه الله تعالى‪( :‬يخبر تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين واألنصار‪،‬‬
‫أنهم بأكمل الصفات‪ ،‬وأجل األحوال‪ ،‬متحابون متراحمون متعاطفون‪ ،‬كالجسد الواحد‪ ،‬يحب أحدهم ألخيه ما يحب‬
‫لنفسه)‪ .‬فهؤالء األصحاب كانوا خير األصحاب واألنصار ولذلك أمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بالصبر معهم‬

‫‪27‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫ْحيَاةِ الدُّنْ يَا"‬ ‫ين يَ ْدعُو َن َربَّ ُهم بِالْغَ َداةِ َوال َْع ِش ِي يُ ِري ُدو َن َو ْج َههُ َوَال تَ ْع ُد َع ْي نَ َ‬
‫اك َع ْن ُه ْم تُ ِري ُد ِزينَةَ ال َ‬
‫َّ ِ‬
‫ك َم َع الذ َ‬
‫سَ‬ ‫"و ْ ِ‬
‫اصب ْر نَ ْف َ‬ ‫َ‬
‫(الكهف ‪.)41‬‬

‫الفائدة الثانية‪ :‬نالحظ من اآليات الكريمة وجود حوار بين عيسى عليه السالم والحواريين وهم أمر ّ‬
‫صحي بين القائد‬
‫يدل على العالقة الحسنة بينهما‪ .‬والحوار يعني أنّه من طرفين أو عدة أطراف وكما نالحظ في اآلية أ ّن‬
‫وأتباعه حيث ّ‬
‫مرة أخرى وهكذا‪.‬‬
‫ورد عليهم عليه السالم ثم تحاوروا معه ّ‬
‫الحواريّين طلبوا من عيسى أمرا ّ‬
‫قارن هذا مثال بموقف فرعون مع أتباعه حيث الكالم من طرف واحد فقط وشعاره في ذلك كان‪َ " :‬ما أُ ِري ُك ْم إَِّال َما‬

‫أَ َرى" (غافر ‪ ،)41‬فال حوار أصال من األساس ولذلك يُعتبر فرعون نموذجا للقائد السيء على ّ‬
‫مر الزمان حيث ال‬
‫يحب الحوار أبدا ألنه يعتقد أنّه ال فائدة منه من األساس‪.‬‬
‫ّ‬
‫ّأما بالنسبة لقدواتنا األنبياء عليهم الصالة والسالم‪ ،‬فقد رأينا منهم حوارا مع أتباعهم كما كان شأن موسى وعيسى والنبي‬
‫عليهم الصالة والسالم حيث كانوا يتحاورون معهم بكل راحة ألنهم كانوا يعلمون أ ّن الخير والفائدة في الحوار‪ .‬كذلك‬
‫ومرحب به‪.‬‬
‫ينمي العالقة بين القائد وأتباعه حيث يشعر األتباع بأ ّن كالمهم مسموع ّ‬
‫فإن الحوار ّ‬
‫ال اتَّ ُقواْ اللهَ"‪ ،‬وهذه الوصية من أعظم الوصايا‬
‫الفائدة الثالثة‪ :‬أوصى عيسى عليه السالم أتباعه بالتقوى كما قال‪" :‬قَ َ‬
‫على اإلطالق كون التقوى مفتاح كل خير‪ .‬ومتى ما استقر في نفس الشخص‪ ،‬صارت عالقته بالله تعالى قوية‪ .‬والتقوى‬
‫هي أن تجعل بينك وبين معصية الله تعالى حاجزا ووقاية‪ ،‬ومن تعريفاته كذلك‪ :‬أن يجدك الله تعالى حيث أمرك وأن‬
‫يفتقدك حيث نهاك‪.‬‬

‫وقد أكثر الله تعالى من األمر بالتقوى في آياته الكريمة حيث جاءت أكثر من ثمانين مرة‪ ،‬هذا غير ثمراته الكثيرة التي‬
‫ذكرها سبحانه في كتابه العزيز‪ ،‬كل ذلك ليؤكد سبحانه هذا المعنى الهام في حياة المؤمن‪ .‬بل وضع سبحانه التقوى‬
‫ين ِمن‬ ‫َّ ِ‬
‫ب َعلَى الذ َ‬
‫ِ‬
‫ام َك َما ُكت َ‬
‫ِ‬
‫ب َعلَْي ُك ُم الصيَ ُ‬
‫ِ‬
‫آمنُواْ ُكت َ‬
‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫هدفا لبعض العبادات كالصيام كما قال سبحانه‪" :‬يَا أَيُّ َها الذ َ‬
‫ِ‬
‫تؤدي عبادات المؤمن إلى التقوى لكي تحقق مرادها وثمراتها‪.‬‬ ‫قَ ْبل ُك ْم ل ََعلَّ ُك ْم تَتَّ ُقو َن" (البقرة ‪ ،)613‬فينبغي أن ّ‬
‫وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالتقوى في وصية جامعة كما في الحديث الذي رواه أبو ذر الغفاري رضي الله‬
‫عنه حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم‪" :‬اتَّ ِق الله َح ْي ثُ َما ُك ْن َ‬
‫ ُ" (رواه الترمذي)‪ ،‬فالتقوى مطلوبة في كل حين‬
‫وموضع ألنّه متى ما التزم الشخص بالتقوى تحقق له الخير في حياته وفلح في اآلخرة بإذن الله تعالى‪َ " :‬واتَّ ُقواْ اللهَ‬
‫ل ََعلَّ ُك ْم تُ ْفلِ ُحو َن" (البقرة ‪.)611‬‬

‫الفائدة الرابعة‪ :‬العالقة بين التقوى واإليمان قوية ولذلك ربط الله تعالى بينهما في آيات كثيرة كما جاءت في هذه‬
‫ِِ‬
‫اآلية على لسان عيسى عليه السالم‪" :‬اتَّ ُقواْ اللهَ إِن ُكنتُم ُّم ْؤمن َ‬
‫ين"‪ ،‬وهذه العالقة جاءت في آيات كثيرة من القرآن‬
‫يم" (آل عمران ‪ ،)671‬وقوله تعالى‪َ " :‬وإِن تُ ْؤِمنُوا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الكريم كما في قوله تعالى‪َ " :‬وإِن تُ ْؤمنُواْ َوتَتَّ ُقواْ فَ لَ ُك ْم أ ْ‬
‫َج ٌر َعظ ٌ‬
‫ورُك ْم" (محمد ‪.)31‬‬ ‫ِ‬
‫ُج َ‬
‫َوتَتَّ ُقوا يُ ْؤت ُك ْم أ ُ‬

‫‪28‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫ين‬ ‫َّ ِ‬
‫وفي آيات كثيرة أخرى‪ ،‬بدأ الله تعالى خطابه للمؤمنين وأتبعه بعد ذلك باألمر بالتقوى كقوله سبحانه‪" :‬يَا أَيُّ َها الذ َ‬
‫ين" (التوبة ‪ ،)661‬وفي هذا دليل على االرتباط الوثيق بين اإليمان والتقوى‪ .‬وهذا‬ ‫آمنُواْ اتَّ ُقواْ الله وُكونُواْ مع َّ ِ ِ‬
‫الصادق َ‬ ‫ََ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬
‫يدل على أن المؤمن يزيد ويستكمل إيمانه بتحقيق التقوى‪ ،‬فالتقوى الزمة في حياة المؤمن وهي معه في كل‬
‫االرتباط ّ‬
‫لعل زيادة اإليمان ونقصانه مرتبطة كذلك بالتقوى‪ ،‬فمن زاد تقواه زاد إيمانه ومن نقص تقواه نقص إيمانه‪.‬‬
‫وقت وحين‪ .‬و ّ‬
‫يدل على‬ ‫وفي اآلية العظيمة التي ذكر الله تعالى فيها بعضا من صفات المتّقين الرئيسة‪ ،‬بدأ الله تعالى باإليمان مما ّ‬
‫ب ولَ ِك َّن الْبِ َّر من آمن بِالل ِه والْي وِم ِ‬
‫اْلخ ِر َوال َْمآلئِ َك ِة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َْ‬ ‫َْ ََ‬ ‫س الْبِ َّر أَن تُ َولُّواْ ُو ُج َ‬
‫وه ُك ْم قبَ َل ال َْم ْش ِرق َوال َْمغْ ِر ِ َ‬
‫َّ‬
‫ارتباطهما أيضا "ل ْي َ‬
‫الرقَ ِ‬‫ين َوفِي ِ‬ ‫يل و َّ ِِ‬ ‫ال َعلَى ُحبِ ِه َذ ِوي الْ ُقربَى والْيَ تَ َامى والْمساكِين وابْن َّ ِ‬ ‫ْكتَ ِ ِِ‬ ‫وال ِ‬
‫ام‬
‫اب َوأَقَ َ‬ ‫السآئل َ‬ ‫السب ِ َ‬ ‫َ ََ ََ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ين َوآتَى ال َْم َ‬ ‫اب َوالنَّبي َ‬ ‫َ‬
‫ْس أُولَ ئِ َ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الصابِ ِر ِ‬ ‫ِِ‬
‫ص َدقُوا‬ ‫ين َ‬ ‫ك الذ َ‬ ‫ين الْبَأ ِ‬
‫ْساء والض ََّّراء َوح َ‬
‫ين في الْبَأ َ‬ ‫اه ُدواْ َو َّ َ‬ ‫الزَكاةَ َوال ُْموفُو َن بِ َع ْهده ْم إِذَا َع َ‬‫الصالةَ َوآتَى َّ‬‫َّ‬
‫ك ُه ُم ال ُْمتَّ ُقو َن" (البقرة ‪.)677‬‬ ‫َوأُولَ ئِ َ‬

‫عرفه العلماء بأنه تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح واألركان‪ ،‬وهو‬ ‫الفائدة الْامسة‪ :‬ما هو اإليمان؟ ّ‬
‫بالله‪َ ،‬وَمالئِ َكتِ ِه‪َ ،‬وُكتُ ِبه‪َ ،‬وُر ُسلِ ِه‪،‬‬
‫ؤمن ِ‬ ‫ِ‬
‫يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية‪ ،‬ولو أركان كما جاء في الحديث الشريف‪" :‬أ ْن تُ َ‬
‫اْلخر‪ ،‬وتُ ْؤِم َن بال َق َد ِر َخي ِرهِ َو َش ِرهِ" (رواه مسلم)‪ .‬وله حالوة وطعم كما قال صلى الله عليه وسلم‪" :‬ثَ ٌ‬
‫الث َم ْن‬ ‫والي وِم ِ‬
‫َ َْ‬
‫ب إِلَي ِه ِم َّما سواهما‪ ،‬وأ ْن ي ِحب المرء الَ ي ِحبُّهُ إالَّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫لله‪،‬‬ ‫ََْ ُ‬ ‫ََ ُ َ َ ُ‬ ‫أح َّ ْ‬ ‫الوةَ اإليمان‪ :‬أ ْن يَ ُكو َن اللهُ َوَر ُسولُهُ َ‬ ‫ُك َّن فيه َو َج َد ب ِه َّن َح َ‬
‫ف في النَّا ِر" ( ُمتَّف ٌق عل ِيه)‪ ،‬وفي الحديث‬ ‫ود في ال ُك ْف ِر بَ ْع َد أ ْن أنْ َق َذهُ الله ِم ْنهُ‪َ ،‬ك َما يَ ْك َرهُ أ ْن يُ ْق َذ َ‬
‫َوأَ ْن يَ ْك َرهَ أ ْن يَعُ َ‬
‫الم ِدينًا‪ ،‬وبِ ُم َح َّمد َرسوالً" (رواه مسلم)‪.‬‬ ‫وباإلس ِ‬
‫ْ‬ ‫ض َي باللَّ ِه َربًّا‪،‬‬
‫اإليمان من ر ِ‬
‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫اآلخر‪" :‬ذا َق طَ ْع َم‬

‫وأول أركان اإليمان هو اإليمان بالله تعالى وهو يشمل اإليمان بألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته‪ ،‬وليس الهدف هنا‬
‫هو المعرفة والحفظ فقط مع أهمية هذا الجانب وإنما التطبيق العملي بعبادة الله تعالى وحده والتوجه إليه وحبّه والخوف‬
‫منه والثقة به سبحانه في كل األمور حيث كان هذا هو دأب األنبياء والصالحين من قبلنا‪.‬‬

‫وكثير من اآليات التي تورد كلمة اإليمان تقصد اإليمان بالله تعالى كما ذكرنا مثال بالنسبة لآليات المرتبطة بالتقوى‪،‬‬
‫فاإليمان بالله تعالى هو األساس ولذلك رّكز عليه القرآن الكريم كثيرا وكانت دعوة األنبياء جميعا هو التأكيد على‬
‫اإليمان بالله تعالى في المقام األول‪ ،‬وقد ذكرنا من قبل تركيز عيسى عليه السالم على هذا المعنى في قوله تعالى‪:‬‬
‫يل ا ْعبُ ُدواْ اللهَ َربِي َوَربَّ ُك ْم" (المائدة ‪.)74‬‬‫ِ ِ ِ‬ ‫"وقَ َ ِ‬
‫يح يَا بَني إ ْس َرائ َ‬
‫ال ال َْمس ُ‬ ‫َ‬

‫الفائدة السادسة‪ :‬الطمأنينة مطلب أساسي لكل شخص ومحلها الرئيس هو القلب ولذلك قال ّ‬
‫الحواريّون لعيسى عليه‬
‫تطمئن قلوبهم وليس ش ّكا في قدرة الله تعالى أو رسالة عيسى‬
‫ّ‬ ‫السالم‪" :‬وتطمئن قلوبنا"‪ ،‬فهم طلبوا هذه اآلية لكي‬
‫عليه السالم حيث يستحيل أن تخرج منهم ذلك وهم أنصار الله تعالى وأصحاب عيسى عليه السالم‪.‬‬

‫وقد طلب إبراهيم عليه السالم من ربّه أن يريه كيفية إحياء الموتى ليس ش ّكا في قدرته سبحانه على ذلك ولكن كما‬
‫ال أ ََول َْم تُ ْؤِمن قَ َ‬
‫ال بَلَى َولَ ِكن لِيَط َْمئِ َّن‬ ‫ال إِبْ ر ِاهيم َر ِ‬
‫ب أَ ِرنِي َك ْي َ‬
‫ف تُ ْحيِ ي ال َْم ْوتَى قَ َ‬ ‫ِ‬
‫قال الله تعالى على لسانه‪َ " :‬وإ ْذ قَ َ َ ُ‬
‫قَ ْلبِي" (البقرة ‪ ،) 414‬فاطمئنان القلب يوصل إلى اليقين بالله تعالى وبآياته فيزداد المرء إيمانا به سبحانه‪.‬‬

‫‪29‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫لتدل المرء عليه سبحانه وعلى أسمائه‬
‫ولذلك يحتاج الشخص إلى ما يطمئن قلبه وقد جعل الله تعالى آيات كثيرة ّ‬
‫الحسنى وصفاته العال‪ ،‬فآيات الكون من طلوع الشمس وغروبها وظهور القمر ووجود النجوم واألشجار والجبال‬
‫والكوارث الطبيعية والمسطّحات المائية‪ ،‬كل ذلك يزيد إيمان المرء بربّه ويطمئن قلبه‪ .‬وكذلك يأتي التاريخ القديم‬
‫َص َد ُق ِم َن الل ِه َح ِديثاً" (النساء ‪.)17‬‬
‫والحديث ليثبت صدق الله تعالى في كل ما يقوله " َوَم ْن أ ْ‬
‫الفائدة السابعة ‪ :‬وسائل اطمئنان القلب كثيرة‪ ،‬ولكن قبل ذكر بعض من هذه الوسائل يجب أن نعرف بأن مكان‬
‫االطمئنان هو القلب أي هو شيء يأتي من داخل الشخص‪ ،‬فمهما كان للشخص من وسائل راحة وترفيه ولم يكن‬
‫مطمئنا من الداخل‪ ،‬فلن تفيده هذه الوسائل أبدا‪ .‬فالقلب دائما هو األساس‪.‬‬

‫ّأما عن الوسائل التي تؤدي إلى اطمئنان القلب فهي كثيرة منها اإليمان بالله تعالى‪ ،‬وهذا اإليمان ليس معرفة فقط وإنما‬
‫تطبيقا عمليا من تحقيق معاني التوحيد والمحبة والخوف والرجاء والتوكل وغيرها‪ .‬ومن الوسائل كذلك ذكر الله تعالى‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫آمنُواْ َوتَط َْمئ ُّن قُلُوبُ ُهم بِذ ْك ِر الله أَالَ بِذ ْك ِر الله تَط َْمئ ُّن الْ ُقلُ ُ‬
‫وب" (الرعد ‪ .)41‬وينبغي أن‬ ‫ين َ‬
‫كما قال سبحانه‪" :‬الذ َ‬
‫حث الله تعالى على ذلك في آيات كثيرة‪.‬‬ ‫يكون هذا الذكر كثيرا كما ّ‬

‫صالِحاً ِمن ذَ َكر أ َْو أُنثَى َو ُه َو ُم ْؤِم ٌن‬ ‫ِ‬


‫ومن الوسائل كذلك اإلكثار من العمل الصالح كما قال سبحانه‪َ " :‬م ْن َعم َل َ‬
‫س ِن َما َكانُواْ يَ ْع َملُو َن" (النحل ‪ ،)17‬واألسرة الصالحة وبيئة العمل اإليجابية‬ ‫َج َرُهم بِأ ْ‬
‫َح َ‬ ‫فَ لَنُ ْحيِيَ نَّهُ َحيَاةً طَيِبَةً َولَنَ ْج ِزيَن ُ‬
‫َّه ْم أ ْ‬
‫والمجتمع اآلمن من الوسائل التي تساهم في اطمئنان القلب كذلك‪.‬‬

‫يسى ابْ ُن َم ْريَ َم‬ ‫الفائدة الثامنة‪ :‬الدعاء من أفضل األعمال ولذلك قام عيسى عليه السالم بدعاء ربه مباشرة‪" :‬قَ َ ِ‬
‫ال ع َ‬ ‫ّ‬
‫الس َم ِاء"‪ .‬فالدعاء هو دأب األنبياء عليهم الصالة والسالم كما جاء مثال على لسان‬ ‫اللَّ ُه َّم َربَّنَا أَن ِز ْل َعلَْي نَا َمآئِ َدةً ِم َن َّ‬
‫الصالَةِ َوِمن ذُ ِريَّتِي َربَّنَا َوتَ َقبَّ ْل ُد َعاء" (إبراهيم ‪ ،)24‬وكذلك موسى عليه‬
‫يم َّ‬ ‫ِ ِ‬
‫اج َعلْني ُمق َ‬ ‫ب ْ‬ ‫إبراهيم عليه السالم‪َ " :‬ر ِ‬
‫يل" (القصص ‪.)44‬‬ ‫سى َربِي أَن يَ ْه ِديَنِي َس َواء َّ‬
‫السبِ ِ‬ ‫ال َع َ‬ ‫السالم‪" :‬قَ َ‬

‫ادةُ" (رواه‬ ‫ُّعاء ُهو ِ‬


‫العبَ َ‬ ‫وقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم من شأن الدعاء كما جاء في الحديث الشريف‪" :‬الد َ ُ َ‬
‫ُّعاء" (رواه الترمذي)‪ .‬والجميل في الدعاء‬ ‫الترمذي)‪ ،‬وفي الحديث اآلخر‪" :‬ليس شيء أَ ْكرم على اللَّ ِه تعالى من الد ِ‬
‫َ‬ ‫َ ٌ ََ‬
‫أنّه ليس هناك خسارة أبدا كما جاء في الحديث الشريف‪" :‬ما علَى األر ِ ِ‬
‫ض ُم ْسل ٌم يَ ْد ُعو الله تَ َعالَى بِ َد ْع َوة إِالَّ آتَاهُ‬‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫الس ِ‬
‫وء ِمثْ لَ َها‪َ ،‬ما ل َْم يَ ْدعُ بإثْم‪ ،‬أ َْو قَ ِط َيع ِة َرِحم"‪ ،‬ف قال ر ُج ٌل ِمن الق ِوم‪ :‬إِذا نُكْثُِر قال‪:‬‬ ‫رف َع ْنهُ ِم َن ُّ‬
‫ص َ‬‫اللهُ إيَّاها‪ ،‬أ َْو َ‬
‫"اللهُ أ ْكثَ ُر"‪( .‬رواه الترمذي)‪.‬‬
‫َك ِعب ِ‬
‫ادي َعنِي‬ ‫ال ربُّ ُكم ا ْدعُونِي أ ِ‬
‫ب لَ ُك ْم" (غافر ‪ ،)14‬وقوله تعالى‪َ " :‬وإِذَا َسأَل َ َ‬ ‫َستَج ْ‬ ‫ْ‬ ‫وهذا مصداق قوله تعالى‪َ " :‬وقَ َ َ ُ‬
‫ان فَ لْيَ ْستَ ِجيبُواْ لِي َولْيُ ْؤِمنُواْ بِي ل ََعلَّ ُه ْم يَ ْر ُش ُدو َن" (البقرة ‪ .)611‬فالدعاء خير‬
‫َّاع إِذَا َد َع ِ‬
‫يب َد ْع َوةَ الد ِ‬ ‫فَِإنِي قَ ِر ِ‬
‫يب أُج ُ‬
‫ٌ‬
‫كلّه وهو دليل على ارتباط العبد بالله تعالى وفي أدائه تربية على معان كثيرة كالتذلل له والمحبّة والخوف وغيرها من‬
‫المعاني التي يحتاجها كل مؤمن‪.‬‬

‫‪31‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫الفائدة التاسعة‪ :‬تتّضح من اآليات ثقة عيسى عليه السالم في أتباعه ولذلك استجاب لطلبهم مباشرة بعد أن سمع‬
‫منهم أسباب طلبهم ولم يجادلهم كثيرا بل قام بدعاء الله تعالى بأن يستجيب طلبهم‪ .‬وهذه الثقة جاءت من استجابة‬
‫ار‬ ‫ْح َوا ِريُّو َن نَ ْح ُن أ َ‬
‫َنص ُ‬ ‫َنصا ِري إِلَى الل ِه قَ َ‬
‫ال ال َ‬ ‫ال َم ْن أ َ‬
‫هؤالء الحواريّين لنداء عيسى عليه السالم كما قال الله تعالى‪" :‬قَ َ‬
‫آمنَّا بِالل ِه َوا ْش َه ْد بِأَنَّا ُم ْسلِ ُمو َن" (آل عمران ‪.)34‬‬ ‫ِ‬
‫الله َ‬
‫وهذه الثقة بين القائد واألتباع تنبع من عدة أمور كالمعاملة الحسنة والقول الحسن واالحترام المتبادل والتقدير والتحفيز‬
‫وعدم اإلهانة والسخرية خاصة أمام اآلخرين‪ .‬وكل ذلك كان من دأب النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ولذلك‬
‫كان يثق بهم ويثقون به في جميع األحوال‪.‬‬

‫وقد أوصى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالثقة في أصحابه حتى بعد مصيبة أحد حيث قال الله تعالى له‪:‬‬
‫" َو َشا ِوْرُه ْم فِي األ َْم ِر" (آل عمران ‪ ،)631‬فالمشاورة تزرع الثقة كذلك بين القائد واألتباع‪ .‬وبالطبع هذا عكس فرعون‬
‫والذي يمثّل نموذج القائد السيء الذي كان ال يثق أبدا بأتباعه ولذلك كان يستفرد برأيه دائما وال يشاور أبدا‪ .‬الثقة من‬
‫أهم األمور التي تسبب النجاح والتميز ولذلك فهي ضرورة‪.‬‬

‫الفائدة العاشرة‪ :‬الرزق من الله تعالى وحده وقد تعلّم عيسى عليه السالم هذا األمر من ّأمه السيّدة مريم عليها السالم‬
‫توجه عيسى عليه السالم إلى الله تعالى بهذا األمر‪:‬‬
‫كما ذكرنا ذلك من قبل عند حديثنا عن صفاتها العظيمة ولذلك ّ‬
‫َن ُ َخي ر َّ ِ‬
‫الرزاق سبحانه‪.‬‬ ‫الرا ِزق َ‬
‫ين" ألنّه كان يعلم يقينا أن الله تعالى هو ّ‬ ‫" َو ْارُزقْنَا َوأ َ ْ ُ‬
‫والله تعالى كما وصف نفسه هو خير الرازقين (فإنك يا رب خير من يعطي‪ ،‬وأجود من تفضَّل ألنه ال يدخل عطاءه من‬
‫وال نكد) (تفسير الطبري)‪ .‬والرزق ال يقتصر فقط على المال كما يعتقد البعض وإنما باب الرزق واسع ج ّدا ال يستطيع‬
‫شخص أن يحصيه فالمال رزق والعافية رزق والعائلة رزق واألصحاب رزق والمسكن رزق ووسائل المواصالت رزق‬
‫والعمل رزق وغير ذلك‪ ،‬ولذلك كان سبحانه خير الرازقين حيث ال ولن يستطيع أحد غيره أن يرزق هذه األرزاق الكثيرة‪.‬‬

‫ورزق الله تعالى يشمل جميع المخلوقات كما قال سبحانه‪َ " :‬وَما ِمن َدآبَّة فِي األ َْر ِ‬
‫ض إِالَّ عَلَى الل ِه ِرْزقُ َها َويَ ْعلَ ُم‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫دب على وجه األرض‪ ،‬من آدمي‪ ،‬أو حيوان بري‬ ‫ُم ْستَ َق َّرَها َوُم ْستَ ْو َد َع َها ُكل في كتَاب ُّمبين" (هود ‪( )1‬أي‪ :‬جميع ما ّ‬
‫يوسع رزقه ويضيّقه‬ ‫أو بحري‪ ،‬فالله تعالى قد تكفل بأرزاقهم وأقواتهم‪ ،‬فرزقها على الله) (تفسير السعدي)‪ .‬والله تعالى ّ‬
‫صيراً" (اإلسراء ‪،)34‬‬ ‫ادهِ َخبِيراً ب ِ‬‫شاء وي ْق ِدر إِنَّهُ َكا َن بِ ِعب ِ‬ ‫ط ِ ِ‬ ‫على من يشاء كما قال سبحانه‪" :‬إِ َّن َربَّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫الرْز َق ل َمن يَ َ ُ َ َ ُ‬ ‫سُ‬‫ك يَ ْب ُ‬
‫ادهِ َخبِير ب ِ‬
‫شاء إِنَّهُ بِ ِعب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ادهِ لَب غَوا فِي ْاألَر ِ ِ‬
‫ط اللَّهُ ِ ِ ِ ِ‬
‫ص ٌير"‬ ‫ٌَ‬ ‫َ‬ ‫ض َولَكن يُنَ ِز ُل ب َق َدر َّما يَ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫الرْز َق لعبَ َ ْ‬ ‫سَ‬ ‫وفي اآلية األخرى‪َ " :‬ول َْو بَ َ‬
‫(الشورى ‪( )47‬أي‪ :‬لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق‪ ،‬لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض‪،‬‬
‫أشرا وبطرا‪ ،‬ولكن يرزقهم من الرزق ما يختاره مما فيه صالحهم‪ ،‬وهو أعلم بذلك فيغني من يستحق الغنى‪ ،‬ويفقر من‬
‫يستحق الفقر ) (تفسير ابن كثير)‪.‬‬

‫*******************************************‬

‫‪30‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫َّاس اتَّ ِْ ُذونِي َوأ ُِم َي إِلَ َه ْي ِن‬
‫ل ُ لِلن ِ‬ ‫َن ُ قُ َ‬‫يسى ابْ َن َم ْريَ َم أَأ َ‬ ‫ِ‬
‫ال اللهُ يَا ع َ‬ ‫قال الله تعالى‪َ " :‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫ن ُ قُلْتُهُ فَ َق ْد‬ ‫س لِي بِ َحق إِن ُك ُ‬ ‫ك َما يَ ُكو ُن لِي أَ ْن أَقُ َ‬ ‫ون الل ِه قَ َ‬ ‫ِمن ُد ِ‬
‫ول َما لَْي َ‬ ‫ال ُس ْب َحانَ َ‬
‫ْ ُ لَ ُه ْم‬
‫وب‪َ ،‬ما قُل ُ‬ ‫َن ُ َعالَّ ُم الْغُيُ ِ‬
‫كأ َ‬ ‫ك إِنَّ َ‬‫َعلِ ْمتَهُ تَ ْعلَ ُم َما فِي نَ ْف ِسي َوالَ أَ ْعلَ ُم َما فِي نَ ْف ِس َ‬
‫ ُ فِي ِه ْم فَ لَ َّما‬
‫ن ُ َعلَْي ِه ْم َش ِهيداً َّما ُد ْم ُ‬‫َن ا ْعبُ ُدواْ اللهَ َربِي َوَربَّ ُك ْم َوُك ُ‬ ‫إِالَّ ما أَمرتَنِي بِ ِه أ ِ‬
‫َ َْ‬
‫ِ‬
‫اد َك‬‫َن ُ َعلَى ُك ِل َش ْيء َش ِهي ٌد‪ ،‬إِن تُ َع ِذبْ ُه ْم فَِإنَّ ُه ْم عبَ ُ‬ ‫يب َعلَْي ِه ْم َوأ َ‬ ‫َن ُ َّ ِ‬
‫الرق َ‬ ‫ن ُ أ َ‬ ‫تَ َوفَّ ْي تَنِي ُك َ‬
‫يم"‬ ‫َن ُ الْع ِزيز ال ِ‬ ‫َوإِن تَ ْغ ِف ْر لَ ُه ْم فَِإنَّ َ‬
‫ْحك ُ‬ ‫كأ َ َ ُ َ‬
‫(المائدة ‪)111-114‬‬

‫الفائدة األولى‪ :‬نالحظ من اآليات الكريمة التأدب الشديد من عيسى عليه السالم مع الله تعالى‪ ،‬فرغم شدة الموقف‬
‫تأمل مثال في قول عيسى‬ ‫رد عيسى عليه السالم وكالمه مع الله تعالى فيه أدب شديد وتعامل راق مع الله تعالى‪ّ .‬‬ ‫إال أ ّن ّ‬
‫ْ ُ ل َُه ْم‬ ‫ن ُ قُلْتُهُ فَ َق ْد َعلِ ْمتَهُ تَ ْعلَ ُم َما فِي نَ ْف ِسي َوالَ أَ ْعلَ ُم َما فِي نَ ْف ِس َ‬
‫ك"‪ ،‬وكذلك قوله‪َ " :‬ما قُل ُ‬ ‫عليه السالم‪" :‬إِن ُك ُ‬
‫إِالَّ ما أَمرتَنِي بِ ِه أ ِ‬
‫َن ا ْعبُ ُدواْ اللهَ َربِي َوَربَّ ُك ْم"‪.‬‬ ‫َ َْ‬
‫تأمل مثال فيما قاله أيّوب عليه السالم رغم ما أصابه من بالء‬ ‫وهذا األدب كان دأب األنبياء عليهم الصالة والسالم‪ّ .‬‬
‫َن ُ أَرحم َّ ِ ِ‬ ‫ادى ربَّهُ أَنِي م َّ ِ‬
‫ين" (األنبياء‬
‫الراحم َ‬ ‫سن َي الض ُُّّر َوأ َ ْ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫وب إِ ْذ نَ َ َ‬‫ومشاكل لمدة طويلة‪ ،‬فقال مخاطبا الله تعالى‪َ " :‬وأَيُّ َ‬
‫صب َو َع َذاب" (ص ‪ ،)26‬فرغم‬ ‫سنِ َي َّ‬
‫الش ْيطَا ُن بِنُ ْ‬ ‫ادى َربَّهُ أَنِي َم َّ‬
‫وب إِ ْذ نَ َ‬
‫‪ ،)13‬وفي اآلية األخرى‪َ " :‬واذْ ُك ْر َع ْب َدنَا أَيُّ َ‬
‫يدل على الخ ّفة وكذلك نسب كل ما أصابه إلى الشيطان وليس‬ ‫سنِ َي" الذي ّ‬ ‫هذا البالء الشديد إال أنّه استعمل لفظ " َم َّ‬
‫تأدبا مع الله تعالى‪.‬‬
‫كل ذلك ّ‬
‫إلى الله تعالى‪ّ .‬‬
‫نتأدب مع الله تعالى في دعواتنا وأحاديثنا فنثني عليه ونحمده وننسب الفضل إليه دائما‪ّ ،‬أما في حالة‬
‫ولذلك نحتاج أن ّ‬
‫الضر فرغم أنّه كذلك من الله تعالى ولكن من األدب أال ننسب ذلك إليه سبحانه كما قال إبراهيم عليه السالم‪َ " :‬وإِذَا‬
‫ ُ فَ ُه َو يَ ْش ِفي ِن" (الشعراء ‪ ،)14‬فالمرض من الله تعالى ولك ّن األدب يقتضي أال نقول ذلك وأ ْن ننسبه إلى أنفسنا‪.‬‬
‫ضُ‬ ‫َم ِر ْ‬

‫الفائدة الثانية‪ :‬التسبيح هو تنزيه الله تعالى ّ‬


‫عما ال يليق به وقد استعمله عيسى عليه السالم في حديثه مع الله تعالى‪:‬‬
‫خصه موسى عليه السالم من بين كل األذكار بعد أن‬ ‫ك"‪ .‬ولذلك كان التسبيح من أعظم األذكار وقد ّ‬ ‫ال ُس ْب َحانَ َ‬
‫"قَ َ‬
‫ك َكثِيراً" (طه ‪ )33‬ألنّه علم بأن التسبيح ذو‬
‫سبِ َح َ‬
‫فبرر طلب هذه األمور بقوله " َك ْي نُ َ‬
‫سأل الله تعالى بعض األمور ّ‬
‫فضل كبير وأجر عظيم‪.‬‬

‫ض‬
‫س ْب ُع َواأل َْر ُ‬
‫ات ال َّ‬
‫الس َم َاو ُ‬
‫ح لَهُ َّ‬ ‫ولذلك أعلى اإلسالم من قيمة التسبيح فخص به الكائنات كما قال سبحانه‪" :‬تُ ِ‬
‫سب ُ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫سبِ ُح بِ َح ْم َده َولَ كن الَّ تَ ْف َق ُهو َن تَ ْسبِ َ‬
‫يح ُه ْم إِنَّهُ َكا َن َحليماً غَ ُفوراً" (اإلسراء ‪ ،)22‬وفي‬ ‫ِ‬
‫َوَمن في ِه َّن َوإن من َش ْيء إالَّ يُ َ‬

‫‪32‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫اإل ْشر ِ‬ ‫ال معهُ ي ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اق" (ص ‪ ،)61‬فمن بين‬‫سب ْح َن بال َْعش ِي َو ِْ َ‬
‫اآلية األخرى حين الحديث عن الجبال‪" :‬إنَّا َسْ َّْرنَا الْجبَ َ َ َ ُ َ‬
‫يدل على فضله وقيمته العالية‪.‬‬
‫كل األذكار‪ ،‬اختار الله تعالى التسبيح ليعبّر عن ذكر هذه الكائنات مما ّ‬
‫ان َعلَى اللِس ِ‬
‫ان‪،‬‬ ‫وجاءت أحاديث كثيرة لتبين قيمة التسبيح منها ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم‪َ " :‬كلِمتَ ِ‬
‫ان َخ ِفي َفتَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الر ْحمان‪ُ :‬س ْب َحا َن الله َوبِ َح ْمده‪ُ ،‬س ْب َحا َن الله‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫الميز ِ‬
‫ان‪َ ،‬حبِيبَ تَان إِلَى َّ‬
‫العظيم" ( ٌ‬
‫متفق علْيه)‪ ،‬وفي اآلية‬ ‫ثَقيلَتَان في َ‬
‫أصيالً" (األحزاب ‪ ،)24-26‬فبعدما ّ‬
‫حث الله‬ ‫الكريمة‪" :‬يا أَيُّها الَّ ِذين آمنُوا اذْ ُكروا اللهَ ِذ ْكراً َكثِيراً‪ ،‬وسبِحوهُ ب ْكرةً و ِ‬
‫ََ ُ ُ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫خص الله تعالى التسبيح لفضله الكبير‪.‬‬ ‫تعالى على الذكر الكثير‪ّ ،‬‬
‫ن ُ قُلْتُهُ فَ َق ْد َعلِ ْمتَهُ"‪ ،‬فعلم الله تعالى وسع كل شيء‬
‫أقر عيسى عليه السالم بعلم الله تعالى "إِن ُك ُ‬
‫الفائدة الثالثة‪ّ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ولذلك كان من أسمائه سبحانه العليم كما قال سبحانه عن نفسه‪َ " :‬و ُه َو ب ُك ِل َش ْيء َعل ٌ‬
‫يم" (البقرة ‪ ،)41‬فالعليم‬
‫سبحانه الذي أحاط بعلمه كل شيء سواء كان في الماضي أو الحاضر أو المستقبل‪.‬‬

‫ولذلك قال سبحانه وتعالى عن نفسه‪َ " :‬و ِعن َدهُ َم َفاتِ ُح الْغَْي ِ‬
‫ب الَ يَ ْعلَ ُم َها إِالَّ ُه َو َويَ ْعلَ ُم َما فِي الْبَ ِر َوالْبَ ْح ِر َوَما تَ ْس ُق ُ‬
‫ط‬
‫ض َوالَ َرطْب َوالَ يَابِس إِالَّ فِي كِتَاب ُّمبِين" (األنعام ‪ .)31‬قال اإلمام‬ ‫ات األ َْر ِ‬ ‫ِمن ورقَة إِالَّ ي ْعلَمها والَ حبَّة فِي ظُلُم ِ‬
‫َ‬ ‫َ َُ َ َ‬ ‫ََ‬
‫السعدي رحمه الله تعالى‪( :‬هذه اآلية العظيمة‪ ،‬من أعظم اآليات تفصيال لعلمه المحيط‪ ،‬وأنه شامل للغيوب كلها‪ ،‬التي‬
‫يطلع منها ما شاء من خلقه‪ .‬وكثير منها طوى علمه عن المالئكة المقربين‪ ،‬واألنبياء المرسلين‪ ،‬فضال عن غيرهم من‬
‫العالمين‪ ،‬وأنه يعلم ما في البراري والقفار‪ ،‬من الحيوانات‪ ،‬واألشجار‪ ،‬والرمال والحصى‪ ،‬والتراب‪ ،‬وما في البحار من‬
‫حيواناتها‪ ،‬ومعادنها‪ ،‬وصيدها‪ ،‬وغير ذلك مما تحتويه أرجاؤها‪ ،‬ويشتمل عليه ماؤها)‪.‬‬

‫ّأما عن أثر هذا االسم علينا‪ ،‬فينبغي أوال أن يقودنا إلى مراقبته سبحانه في كل وقت وحين ثم نطمئن إليه سبحانه ألنّه‬
‫سبحانه يعلم كل شيء‪ ،‬واألهم من ذلك كلّه أن نزيد إيماننا به حيث أن هذا العلم المطلق من أسباب محبّته سبحانه‬
‫شك أن ذلك‬
‫حيث يميل الناس بطبيعتهم إلى احترام العلماء بسبب علمهم فكيف بمن كان عنده العلم المطلق‪ ،‬ال ّ‬
‫أدعى لكي نحبّه ونثق به أكثر من أي شيء آخر‪.‬‬

‫الفائدة الرابعة‪ :‬ومع هذا العلم المطلق لله تعالى‪ ،‬فإن علم اإلنسان قاصر وقليل وقد ّ‬
‫أقر ذلك عيسى عليه السالم حين‬
‫ك"‪ ،‬فمهما أوتي الشخص من علم فهو‬ ‫ن ُ قُلْتُهُ فَ َق ْد َعلِ ْمتَهُ تَ ْعلَ ُم َما فِي نَ ْف ِسي َوالَ أَ ْعلَ ُم َما فِي نَ ْف ِس َ‬
‫قال‪" :‬إِن ُك ُ‬
‫يدل على أ ّن ما‬
‫محدود بل ال يقارن بعلم الله تعالى والدليل هو المكتشفات الكثيرة التي يتم اكتشافها في كل يوم مما ّ‬
‫يجهله الشخص أكثر بكثير مما يعلمه‪.‬‬

‫ولذلك قال الله تعالى‪َ " :‬وَما أُوتِيتُم ِمن ال ِْعل ِْم إِالَّ قَلِيالً" (اإلسراء ‪( )13‬أي‪ :‬وما أطلعكم من علمه إال على القليل‪،‬‬
‫فإنه ال يحيط أحد بشيء من علمه إال بما شاء تبارك وتعالى) (تفسير ابن كثير)‪ .‬وينبغي أن يقود هذا األمر إلى تواضع‬
‫الشخص فال يتكبّر على أحد بعلمه أل ّن ما يجهل أكثر بكثير مما يعلم ومهما أوتي من علم فإ ّن هناك دائما من هو‬
‫ِ ِ ِ‬
‫يم" (يوسف ‪( )71‬فكل عالم‪ ،‬فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي‬ ‫أعلم منه كما قال سبحانه‪َ " :‬وفَ ْو َق ُك ِل ذي علْم َعل ٌ‬
‫العلم إلى عالم الغيب والشهادة)‪.‬‬

‫‪33‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫واألمر الثاني هو االستزادة من العلم ما دام أ ّن العلم واسع وال حدود له ولذلك أمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم‬
‫ب ِز ْدنِي ِعلْماً" (طه ‪ ،)662‬فطلب العلم أمر محمود بل هو من طرق دخول الجنة إن‬ ‫باالستزادة من العلم " َوقُل َّر ِ‬
‫الجنَّ ِة"‬ ‫ك طَريقاً ي لْت ِم ِ ِ ِ‬
‫َّل اللهُ لَهُ طَريقاً إِلَى َ‬
‫س فيه علْماً َسه َ‬
‫ََ ُ‬ ‫نوى صاحبه خيرا كما قال صلى الله عليه وسلم‪َ " :‬وَم ْن َسلَ َ‬
‫(رواه مسلم)‪.‬‬

‫كل ما خفي على الشخص سواء كان ذلك في‬ ‫الفائدة الْامسة‪ :‬من األمور التي يعلمها الله تعالى وحده الغيب وهو ّ‬
‫ن ُ َع َّال ُم‬ ‫الماضي أو الحاضر أو المستقبل‪ ،‬وقد ذكر عيسى عليه السالم هذه الصفة لله تعالى حين قال‪" :‬إِنَّ َ‬
‫ك أَ َ‬
‫الْغُيُ ِ‬
‫وب" (أي‪ :‬إنك أنت العالم بخفيّات األمور التي ال يطلع عليها سواك‪ ،‬وال يعلمها غيرك) (تفسير الطبري)‪.‬‬

‫ب الَ يَ ْعلَ ُم َها إِالَّ ُه َو"‪ ،‬وقد ورد في‬ ‫ح الْغَْي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وقد ذكرنا من قبل اآلية الكريمة التي تثبت هذا األمر لله تعالى " َوعن َدهُ َم َفات ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حام‬
‫األر ُ‬ ‫يض ْ‬ ‫س ال يَ ْعلَ ُمها َّإال اللَّهُ‪ :‬ال يَ ْعلَ ُم ما في غَد َّإال اللَّهُ‪ ،‬وال يَ ْعلَ ُم ما تَغ ُ‬
‫ب َخ ْم ٌ‬‫ح الغَْي ِ‬
‫الحديث الشريف‪َ " :‬مفات ُ‬
‫اعةُ َّإال‬ ‫َّ‬ ‫َّإال اللَّهُ‪ ،‬وال يَ ْعلَ ُم َمتَى يَأْتي َ‬
‫الس َ‬
‫وم َّ‬
‫وت‪ ،‬وال يَ ْعلَ ُم َمتَى تَ ُق ُ‬
‫َي ْأرض تَ ُم ُ‬ ‫س بأ ِ‬ ‫أح ٌد َّإال اللهُ‪ ،‬وال تَ ْد ِري نَ ْف ٌ‬
‫المطَُر َ‬
‫َّ‬
‫يظل محدودا وقاصرا في معرفة الغيب وإن علم شيئا فهو شيء يسير في‬ ‫اللهُ" (رواه البخاري)‪ ،‬فهما تق ّدم العلم فإنّه ّ‬
‫مقابل علم الله تعالى المطلق‪.‬‬

‫اختص الله تعالى به وحده‪ .‬جاء في الحديث‬‫ّ‬ ‫المدعي فله عقاب أليم ألنّه ّادعى شيئا‬ ‫ومن ّادعى الغيب أو ص ّدق هذا ّ‬
‫ول‪ ،‬فَ َق ْد َك َف َر بِ َما أُنْ ِز َل َعلَى ُم َح َّمد صلى الله عليه وسلم" (رواه‬‫ص َّدقَهُ بِ َما يَ ُق ُ‬ ‫ِ‬
‫الشريف‪َ " :‬م ْن أَتَى َكاهنًا‪ ،‬أ َْو َع َّرافًا‪ ،‬فَ َ‬
‫أحمد)‪ ،‬فليس ألحد أن ي ّدعي معرفة الغيب وحتى الرسول صلى الله عليه وسلم ال يعلم الغيب كما قال سبحانه على‬
‫ب" (األنعام ‪ .)34‬وصدق الله تعالى حين قال‪" :‬قُل َّال‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫لسانه‪" :‬قُل الَّ أَقُ ُ‬
‫ول لَ ُك ْم عندي َخ َزآئ ُن الله َوال أَ ْعلَ ُم الْغَْي َ‬
‫ب إَِّال اللَّهُ َوَما يَ ْش ُع ُرو َن أَيَّا َن يُ ْب َعثُو َن" (النمل ‪.)13‬‬ ‫السماو ِ‬
‫ات َو ْاأل َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫ض الْغَْي َ‬ ‫يَ ْعلَ ُم َمن في َّ َ َ‬
‫ْ ُ ل َُه ْم إَِّال‬
‫الفائدة السادسة‪ :‬قام عيسى عليه السالم بأداء مهمته على أكمل وجه كما قال ذلك عن نفسه‪َ " :‬ما قُل ُ‬
‫َن ا ْعبُ ُدوا اللَّهَ َربِي َوَربَّ ُك ْم"‪ ،‬فقام عليه السالم بتبليغ رسالة الله تعالى المتمثّلة أوال بالدعوة إلى عبادة الله‬ ‫ما أَمرتَنِي بِ ِه أ ِ‬
‫َ َْ‬
‫تعالى وحده وقد ذكرت ذلك سابقا‪ .‬ونالحظ هنا أن عيسى عليه السالم اتّبع ما أمره الله تعالى به بشكل دقيق ولذلك‬
‫ْ ُ ل َُه ْم إَِّال َما أ ََم ْرتَنِي بِ ِه" (أي‪ :‬ما دعوتهم إال إلى الذي أرسلتني به وأمرتني بإبالغه)‪.‬‬
‫قال‪َ " :‬ما قُل ُ‬
‫أتوا بشريعة جديدة أو ساروا على من سبقهم‬
‫مهمتهم األولى سواء ْ‬
‫وتبليغ الرسالة من واجب األنبياء والرسل حيث هي ّ‬
‫من الرسل‪ .‬وقد قام جميع األنبياء بأداء رساالتهم على أكمل وجه‪ .‬تأمل مثال فيما قام به نوح عليه السالم حين قام‬
‫ت قَ ْوِمي ل َْي ًال َونَ َه ًارا‪ ،‬فَ لَ ْم‬
‫ب إِنِي َد َع ْو ُ‬
‫ال َر ِ‬
‫بدعوة قومه لننظر كيف كان جهد هؤالء األنبياء في تبليغ رساالتهم‪" :‬قَ َ‬
‫َص ُّروا‬ ‫ي ِز ْد ُهم ُد َعائِي إَِّال فِرارا‪ ،‬وإِنِي ُكلَّما َد َعوتُهم لِتَ ْغ ِفر لَهم جعلُوا أَصابِعهم فِي آذَانِ ِهم واستَ ْغ َ ِ‬
‫ش ْوا ثيَابَ ُه ْم َوأ َ‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫َ َُ ْ‬ ‫َ ُ ْ ََ‬ ‫َ ْ ُْ‬ ‫ًَ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ِ‬ ‫استِ ْكبَ ًارا‪ ،‬ثُ َّم إِنِي َد َع ْوتُ ُه ْم ِج َه ًارا‪ ،‬ثُ َّم إِنِي أَ ْعلَ ُ‬
‫استَ غْف ُروا َربَّ ُك ْم إِنَّهُ‬ ‫ت ل َُه ْم إِ ْس َر ًارا‪ ،‬فَ ُقل ُ‬
‫ْ ُ ْ‬ ‫َس َرْر ُ‬
‫ن ُ ل َُه ْم َوأ ْ‬ ‫استَ ْكبَ ُروا ْ‬
‫َو ْ‬
‫َكا َن غَ َّف ًارا" (نوح ‪.)64-3‬‬

‫‪34‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫ت‬ ‫ولذلك قام كثير من األنبياء بذكر أنهم قاموا يقومون بأداء رساالتهم كما قال ذلك نوح عليه السالم‪" :‬أُب لِغُ ُكم ِرساالَ ِ‬
‫َ ْ َ‬
‫االت َربِي َوأَنَاْ لَ ُك ْم‬‫ربِي وأَنصح لَ ُكم وأَ ْعلَم ِمن الل ِه ما الَ تَ ْعلَمو َن" (األعراف ‪ ،)14‬وهود عليه السالم‪" :‬أُب لِغُ ُكم ِرس ِ‬
‫َ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َُ َْ ُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ ُ‬
‫ص ْح ُ‬ ‫ال يَا قَ ْوم لََق ْد أَبْلَغْتُ ُك ْم ِر َسالَةَ َربِي َونَ َ‬
‫ين" (األعراف ‪ ،)11‬وصالح عليه السالم‪" :‬ف ََتَ َولَّى َع ْن ُه ْم َوقَ َ‬ ‫نَاص ٌح أَم ٌ‬
‫ال يَا قَ ْوِم لََق ْد أَبْلَ ْغتُ ُك ْم‬
‫ين" (األعراف ‪ ،)71‬وشعيب عليه السالم‪" :‬فَ تَ َولَّى َع ْن ُه ْم َوقَ َ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لَ ُك ْم َولَكن الَّ تُحبُّو َن النَّاصح َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين" (األعراف ‪ .)13‬فاألنبياء عليهم السالم هم خير من ّأدى‬ ‫آسى َعلَى قَ ْوم َكاف ِر َ‬
‫ف َ‬‫ ُ لَ ُك ْم فَ َك ْي َ‬ ‫ِر َساالَت َربِي َونَ َ‬
‫ص ْح ُ‬
‫الرسالة وبلّغ األمانة‪.‬‬

‫الفائدة السابعة‪ :‬من ضمن أسماء الله الحسنى التي وردت في هذه اآليات اسم الله تعالى الرقيب كما قال الله تعالى‬
‫يب َعلَْي ِه ْم"‪ ،‬والرقيب سبحانه هو المطلّع على خلقه‪ ،‬يعلم كل صغيرة‬ ‫َن ُ َّ ِ‬
‫الرق َ‬ ‫ن ُ أ َ‬
‫على لسان عيسى عليه السالم‪ُ " :‬ك َ‬
‫وكبيرة في ملكه‪ ،‬ال يخفى عليه شيء في األرض وال في السماء‪.‬‬

‫نتعرف على هذا االسم أن نراقبه سبحانه في جميع أمورنا فهو سبحانه معنا دائما كما قال سبحانه‪:‬‬
‫وينبغي لنا ونحن ّ‬
‫" َو ُه َو َم َع ُك ْم أَيْ َن َما ُكنتُ ْم" (الحديد ‪ )2‬ولذلك يجب علينا أن نستحيي منه سبحانه أن يفقدنا حيث أمرنا ويجدنا‬
‫حيث نهانا وهو من معاني التقوى حيث تربّي مراقبة الله تعالى معنى التقوى لدى الشخص‪.‬‬

‫وتربّي مراقبة الله تعالى كذلك معنى اإلخالص لدى الشخص فال يلتفت إلى أحد وال يبتغي بأعماله أحد إال الله تعالى‪،‬‬
‫هذا غير أن مراقبة الله تعالى يبعد عن الشْص المعاصي والمنكرات وأثر ذلك ال يقتصر على الشخص نفسه وإنما‬
‫يمتد إلى المجتمع‪ .‬استشعار اسم الله تعالى الرقيب يرفع الشخص في الدنيا واآلخرة‪.‬‬

‫الفائدة الثامنة‪ :‬من أسماء الله تعالى الحسنى التي وردت في هذه اآليات اسم الله تعالى الشهيد كما قال سبحانه‪:‬‬
‫َن ُ َعلَى ُك ِل َش ْيء َش ِهي ٌد" ومعنى اسم الله تعالى الشهيد (أي‪ :‬علما وسمعا وبصرا‪ ،‬فعلمك قد أحاط بالمعلومات‪،‬‬
‫" َوأ َ‬
‫وسمعك بالمسموعات‪ ،‬وبصرك بالمبصرات‪ ،‬فأنت الذي تجازي عبادك بما تعلمه فيهم من خير وشر)‪.‬‬

‫فالله تعالى قد شهد لنفسه أنّه اإلله وحده المستحق للعبادة وشهدت بذلك المالئكة وأولو العلم كما قال سبحانه‪:‬‬
‫يم" (آل عمران ‪)61‬‬ ‫" َش ِه َد اللَّهُ أَنَّهُ َال إِلَهَ إَِّال هو والْم َالئِ َكةُ وأُولُو الْعِل ِْم قَائِما بِال ِْقس ِط ۚ َال إِلَهَ إَِّال هو الْع ِزيز ال ِ‬
‫ْحك ُ‬‫َُ َ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َُ َ َ‬
‫(أما شهادته تعالى فيما أقامه من الحجج والبراهين القاطعة على توحيده‪ ،‬وأنه ال إله إال هو) (تفسير السعدي)‪.‬‬

‫والله تعالى جعل أعضاءنا تشهد علينا يوم القيامة لكي ننتبه في الدنيا فال نقترف المعاصي ونحرص على الطاعات كما‬
‫ود ِه ْم لِ َم‬
‫ودهم بِما َكانُوا ي عملُو َن‪ ،‬وقَالُوا لِجلُ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ‬ ‫ارُه ْم َو ُجلُ ُ ُ ْ َ‬ ‫صُ‬ ‫قال سبحانه‪َ " :‬حتَّى إِذَا َما َجا ُؤ َ‬
‫وها َش ِه َد َعلَْي ِه ْم َس ْم ُع ُه ْم َوأَبْ َ‬
‫َش ِهدتُّ ْم َعلَْي نَا قَالُوا أَنطََقنَا اللَّهُ الَّ ِذي أَنطَ َق ُك َّل َش ْيء َو ُه َو َخلَ َق ُك ْم أ ََّو َل َم َّرة َوإِل َْي ِه تُ ْر َج ُعو َن‪َ ،‬وَما ُكنتُ ْم تَ ْستَتِ ُرو َن أَ ْن‬
‫َن اللَّهَ َال يَ ْعلَ ُم َكثِيراً ِم َّما تَ ْع َملُو َن" (فصلت ‪-44‬‬ ‫َكن ظَنَنتُ ْم أ َّ‬ ‫ي ْشه َد َعلَي ُكم سمع ُكم وَال أَبصارُكم وَال جلُو ُد ُكم ول ِ‬
‫َ َ ْ ْ َُْ ْ َ ْ َ ُ ْ َ ُ ْ َ‬
‫ونقر بوحدانيّته سبحانه كما‬ ‫‪ ،)44‬فاسم الله الشهيد يجعلنا نقبل عليه سبحانه بعمل الطاعات واجتناب المنكرات ّ‬
‫شهد ذلك لنفسه سبحانه‪.‬‬

‫‪35‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫أقر ذلك عيسى عليه السالم حين قال‪" :‬فَلَ َّما تَ َوفَّ ْي تَنِي"‪ ،‬والمعلوم‬ ‫الفائدة التاسعة‪ :‬الموت حقيقة ال ّ‬
‫شك فيها وقد ّ‬
‫سيتوفاه الله تعالى كما هو‬
‫الدجال ثم ّ‬
‫بأن عيسى عليه السالم قد رفعه الله تعالى في حياته وسينزل مرة أخرى مع ظهور ّ‬
‫حال سائر البشر " ُك ُّل نَ ْفس َذائَِقةُ الْمو ِ‬
‫ت" (األنبياء ‪.)33‬‬ ‫َْ‬
‫يفرق بين أحد سواء كان‬ ‫والله تعالى قد أخفى موعد الموت عن البشر فال يعرف ذلك أح ٌد إال الله تعالى‪ ،‬والموت ال ّ‬
‫اعةً َوالَ يَ ْستَ ْق ِد ُمو َن" (يونس‬ ‫ِ‬
‫صغيرا أو كبيرا أو ذكرا أو أنثى أو عالما أو جاهال "إِذَا َجاء أ َ‬
‫َجلُ ُه ْم فَالَ يَ ْستَأْخ ُرو َن َس َ‬
‫‪ .)21‬وفي إخفاء موعد الموت حكمة بالغة إذ لو عرف الشخص موعد موته فسوف يحزن وييأس ألن الشخص‬
‫بطبيعته ال يحب الموت‪.‬‬

‫واألصل أن يستعد الشْص للموت بأن يعمل الشخص الطاعات في كل وقت وحين وإن عمل سيئا فعليه بالتوبة‬
‫واالستغفار مباشرة ألن الموت ي أتي بغتة‪ ،‬ولذلك كان الصالحون يضعون الموت نصب أعينهم فكانوا يقبلون على الله‬
‫تعالى بالطاعات‪ .‬والموت هو بداية حياة جديدة فهو أول منازل اآلخرة‪ ،‬فحياة القبر ّإما روضة من رياض الجنة أو‬
‫حفرة من حفر النيران وكل ذلك يكون بناء على أعمال الشخص في الدنيا‪.‬‬

‫اختص الله تعالى بها العذاب والمغفرة‪ ،‬فهو سبحانه يع ّذب بالدنيا بأنواع كثيرة وفي‬
‫ّ‬ ‫الفائدة العاشرة‪ :‬من األمور التي‬
‫اآلخرة بنار جهنّم‪ّ ،‬أما مغفرته فستكون للذنوب والمعاصي في الدنيا ويكون جزاء ذلك دخول الجنة بإذن الله تعالى‪.‬‬
‫اد َك َوإِن تَغْ ِف ْر لَ ُه ْم فَِإنَّ َ‬ ‫ِ‬
‫َن ُ ال َْع ِز ُيز‬
‫كأ َ‬ ‫أقر عيسى عليه السالم بهذا األمر لله تعالى حين قال‪" :‬إِن تُ َع ِذبْ ُه ْم فَِإنَّ ُه ْم عبَ ُ‬
‫وقد ّ‬
‫يم"‪.‬‬ ‫ال ِ‬
‫ْحك ُ‬‫َ‬
‫وقد أورد الله تعالى أنواعا مختلفة من عذابه في الدنيا في القرآن الكريم كما ذكر الطوفان في إهالك قوم نوح والريح‬
‫يدل‬
‫المرسلة في إهالك عاد والصيحة في إهالك ثمود‪ ،‬والغرق في إهالك فرعون والخسف في إهالك قارون‪ .‬وكل ذلك ّ‬
‫على قدرة الله تعالى‪ .‬وهذا ال شيء أمام عذاب الله تعالى في اآلخرة والتي تفضل على نار الدنيا بسبعين مرة مما يدل‬
‫على شدتّها‪.‬‬

‫أما مغفرة الله تعالى فواسعة وطرق ذلك كثيرة من صالة وصوم وصدقة وقراءة قرآن وذكر لله تعالى ودعوة إلى الله تعالى‬
‫وغير ذلك من األعمال الصالحة‪ .‬وجزاء هذه المغفرة جنّة عرضها السماوات واألرض‪ ،‬فمن نال هذه المغفرة فقد فاز‬
‫في الدنيا واآلخرة وبالتالي على الشخص أن يحرص على نيل مغفرة الله تعالى كما قال سبحانه‪َ " :‬و َسا ِر ُعواْ إِلَى َمغْ ِف َرة‬
‫ين" (آل عمران ‪.)633‬‬ ‫َّت لِل ِ‬ ‫ات واألَر ِ‬ ‫ِمن َّربِ ُك ْم َو َجنَّة َع ْر ُ‬
‫ْمتَّق َ‬
‫ض أُعد ْ ُ‬
‫الس َم َاو ُ َ ْ ُ‬
‫ض َها َّ‬

‫*******************************************‬

‫‪36‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫قال الله تعالى‪" :‬قَ َ ِ‬
‫ن ُ‬
‫ارًكا أَيْ َن َما ُك ُ‬ ‫ال إِني َع ْب ُد اللَّه آتَان َي الْكتَ َ‬
‫اب َو َج َعلَني نَبيًّا‪َ ،‬و َج َعلَني ُمبَ َ‬
‫ارا َش ِقيًّا‪َ ،‬و َّ‬
‫الس َال ُم‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫الزَكاةِ َما ُد ْم ُ‬‫الص َالةِ َو َّ‬
‫صانِي بِ َّ‬
‫ ُ َحيًّا‪َ ،‬وبَ ًّرا ب َوال َدتي َولَ ْم يَ ْج َعلْني َجبَّ ً‬ ‫َوأ َْو َ‬
‫حيًّا"‬
‫ث َ‬ ‫وت َويَ ْوَم أُبْ َع ُ‬
‫دت َويَ ْوَم أ َُم ُ‬ ‫َعلَ َّي يَ ْوَم ُولِ ُّ‬
‫(مريم ‪)00-03‬‬

‫ال إِنِي َع ْب ُد اللَّ ِه"‬


‫الفائدة األولى‪ :‬العبودية لله تعالى شرف كبير للشخص ولذلك بدأ به عيسى عليه السالم حديثه "قَ َ‬
‫أي أعبده وحده تعالى فبذلك نفى صفة األلوهية عن نفسه وأثبت توحيده الخالص لله تعالى‪ .‬ومن شرف هذه المنزلة‬
‫أ ّن الله تعالى وصف النبي صلى الله عليه وسلم بهذه العبودية في أشرف موقفين‪ ،‬األول عند حادثة اإلسراء والمعراج‬
‫َس َرى بِ َع ْب ِدهِ ل َْيالً‬ ‫ِ‬
‫حيث اختار الله تعالى أن يصف النبي صلى الله عليه وسلم بعبده كما قال سبحانه‪ُ " :‬س ْب َحا َن الَّذي أ ْ‬
‫الس ِميع الب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ص ُير" (اإلسراء ‪.)6‬‬ ‫ْصى الَّذي بَ َارْكنَا َح ْولَهُ لنُ ِريَهُ م ْن آيَاتنَا إِنَّهُ ُه َو َّ ُ َ‬
‫ْح َر ِام إِلَى ال َْم ْسجد األَق َ‬
‫م َن ال َْم ْسجد ال َ‬
‫ام َع ْب ُد اللَّ ِه يَ ْد ُعوهُ َكا ُدوا يَ ُكونُو َن َعلَْي ِه‬
‫والموقف الثاني هو حال دعوته إلى الله تعالى كما قال سبحانه‪َ " :‬وأَنَّهُ ل ََّما قَ َ‬
‫لِبَدا" (الجن ‪ ،)61‬فاختار الله تعالى أن يصف نبيّه بالعبودية في واحدة من أشرف العبادات وهي الدعوة إلى الله تعالى‬
‫مما يدل على شرف العبودية لله تعالى‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وقد أمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم وأمرنا كذلك بأن نكون عبيدا له سبحانه كما قال‪" :‬فَا ْعبُد اللَّهَ ُم ْْلصاً لَّهُ‬
‫ين" (الزمر ‪( )4‬أي‪ :‬أخلص للّه تعالى جميع دينك‪ ،‬من الشرائع الظاهرة والشرائع الباطنة‪ :‬اإلسالم واإليمان‬ ‫ِ‬
‫الد َ‬
‫واإلحسان‪ ،‬بأن تفرد اللّه وحده بها‪ ،‬وتقصد به وجهه‪ ،‬ال غير ذلك من المقاصد) (تفسير السعدي)‪ .‬فأن يكون‬
‫الشخص عبدا لله تعالى وحده يعني فالحه في الدنيا واآلخرة ألن ذلك يعني طاعته لله تعالى‪.‬‬

‫الفائدة الثانية‪ :‬نسب عيسى عليه السالم الفضل كله لله تعالى وهذا ُمالحظ من كالمه (آتاني) و (جعلني) و‬
‫(أوصاني) و (يجعلني)‪ ،‬وهذا من أدب عيسى عليه السالم مع ربه كما ذكرنا ذلك سابقا إذ أ ّن األنبياء قدوة لنا في‬
‫التأسي بهم‪ .‬والله تعالى هو وحده صاحب الفضل المطلق وهو سبحانه يؤتيه من يشاء من‬ ‫هذا المجال ووجب لنا ّ‬
‫يم" (آل عمران ‪.)73‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ض َل بِيَ ِد الل ِه يُ ْؤتِ ِيه َمن يَ َ‬
‫عباده كما قال تعالى‪" :‬قُ ْل إِ َّن الْ َف ْ‬
‫شاءُ َواللهُ َواس ٌع َعل ٌ‬
‫ض ِل ال َْع ِظ ِيم" (آل عمران ‪ ،)72‬ففضل الله تعالى واسع وعظيم وال يستطيع الشخص‬
‫يقول الله تعالى‪َ " :‬واللهُ ذُو الْ َف ْ‬
‫يتفضل‬
‫يحب من ّ‬
‫بحال من األحوال أن يحصي فضل الله تعالى عليه وهذا من دواعي محبّته تعالى إذ أن الشخص ّ‬
‫تفضل على‬
‫عليه بأي شيء سواء كان ماال أو منصبا أو مكافأة أو إحسانا أو غير ذلك فكيف بالله تعالى الذي ّ‬
‫الشخص بما ال يحصيه غيره سبحانه‪.‬‬

‫ومن دواعي معرفة فضل الله تعالى علينا أن نعرف فضل الناس علينا سواء كانوا آباء وأمهات أو معلمين أو أزواجا أو‬
‫ض َل بَ ْي نَ ُك ْم" (البقرة ‪ .)437‬وكذلك علينا‬
‫نس ُواْ الْ َف ْ‬
‫تفضل علينا ولذلك يقول الله تعالى‪َ " :‬والَ تَ َ‬
‫أصحاب أو أي شخص ّ‬

‫‪37‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫نمن عليه أو نحرجه أو نطلب منه مقابال‪ ،‬فالمؤمن يجب أن يكون كما قال الله‬ ‫نتفضل على شخص بأن ال ّ‬ ‫حين ّ‬
‫تعالى‪" :‬إِنَّ َما نُط ِْع ُم ُك ْم لَِو ْج ِه اللَّ ِه َال نُ ِري ُد ِمن ُك ْم َج َزاء َوَال ُش ُكوراً" (اإلنسان ‪.)1‬‬
‫ِ‬
‫الفائدة الثالثة‪ :‬عيسى عليه السالم رجل مبارك كما ذكر هو ذلك "وجعلني ُمباركا أيْن ما ُك ُ‬
‫نت" فهو رجل مبارك في‬
‫في‬
‫كل زمان وحين‪ .‬قال اإلمام السعدي في تفسيره لمعنى المبارك (أي‪ :‬في أي مكان‪ ،‬وأي زمان‪ ،‬فالبركة جعلها الله َّ‬
‫من تعليم الخير والدعوة إليه‪ ،‬والنهي عن الشر‪ ،‬والدعوة إلى الله في أقواله وأفعاله‪ ،‬فكل من جالسه‪ ،‬أو اجتمع به‪ ،‬نالته‬
‫بركته‪ ،‬وسعد به مصاحبه)‪.‬‬

‫المفسرين بأ ّن البركة هي النفع وهذا معنى صحيح كذلك‪ ،‬فنفع اآلخرين عمل مبارك يؤجر عليه صاحبه بل‬
‫وقال بعض ّ‬
‫أحب األعمال إلى الله تعالى‪ ،‬فالذي ينفع اآلخرين ينال محبّتهم واحترامهم وثقتهم‪ .‬وقد يكون هذا النفع بشيء‬
‫هو من ّ‬
‫مادي كمال أو غرض وقد يكون بشيء معنوي كنصيحة أو تحفيز‪.‬‬

‫ولكي نكون مباركين يجب علينا أن نكون إيجابيين أوال في عالقتنا مع الله تعالى باتّباع أوامره واجتناب نواهيه ثم مع‬
‫الناس بأن ننفعهم ون ّدلهم على الخير‪ .‬جاء في الحديث الشريف‪" :‬من د َّل علَى َخير فَلَه ِمثْل أج ِر فَ ِ‬
‫اعلِ ِه" (رواه‬ ‫ْ ُ ُ ْ‬ ‫َْ َ َ‬
‫مسلم)‪ ،‬وفي الحديث اآلخر‪" :‬من دعا إِلَى ه َدى‪َ ،‬كا َن لَه ِمن األَج ِر ِمثْل أجوِر من تَبِعه‪ ،‬الَ ي ْن ُقص ذلِ َ ِ‬
‫أجوِر ْ‬
‫هم‬ ‫ك م ْن ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ َ ْ ُ ُ َْ َ‬ ‫ُ ً‬ ‫َْ ََ‬
‫َشيئاً" (رواه مسلم)‪ ،‬فاألجر عظيم وكبير ولذلك كان الشخص الذي يفعل ذلك مباركا‪.‬‬

‫الفائدة الرابعة‪ :‬الصالة تأتي على رأس األعمال الصالحة ومنزلتها عالية عند الله تعالى ولذلك ذكرها عيسى عليه السالم‬
‫في جملة األمور التي أوصاها الله تعالى به "وأَوصانِي بِ َّ ِ‬
‫الص َالة"‪ .‬وقد تختلف الصالة بين شريعة وأخرى ّ‬
‫ولكن غرضها‬ ‫َْ َ‬
‫في النهاية واحد وهو عبادة الله تعالى وتوحيده‪.‬‬

‫وتأتي أهمية الصالة في أنها من أوائل األسئلة التي يُسأل عنها العبد يوم القيامة وفي أدائها فوز عظيم وفي التقصير‬
‫القيَ َام ِة ِم ْن َع َملِ ِه‬
‫إن َّأو َل ما يحاسب بِ ِه العب ُد ي وم ِ‬
‫َْ َ ْ َ‬ ‫َ َُ َ ُ‬ ‫فيها أو عدم أدائها خسارة كبيرة‪ .‬جاء في الحديث الشريف‪َّ " :‬‬
‫اب َو َخ ِس َر" (رواه الترمذي)‪ .‬والصالة عمود الدين‬ ‫ت‪ ،‬فَ َق ْد َخ َ‬
‫س َد ْ‬
‫ ُ‪ ،‬فَ َق ْد أفْ لَ َح وأَنْ َج َح‪َ ،‬وإ ْن فَ َ‬
‫صلَ َح ْ‬
‫صالَتُهُ‪ ،‬فَإ ْن َ‬
‫َ‬
‫قصر فيها فقد خسر خسرانا مبينا واآليات واألحاديث التي جاءت في ذلك متعددة‪.‬‬
‫ولذلك فإ ّن من تهاون بها أو ّ‬
‫ومن تأمل في األحاديث الشريفة التي وردت في شأن الصالة وما يتعلّق بها يجد بأنها احتلت مساحة شاسعة مما يدل‬
‫على مكانتها العالية وفضلها الكبير ويكفي أنها الركن الثاني من أركان اإلسالم‪ ،‬هذا غير أنّها من أحب األعمال إلى‬
‫األعم ِال أفْض ُل ؟‬ ‫الله تعالى كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه ابن مسعود ‪ ،‬قال‪ :‬سألت رسول ِ‬
‫أي ْ‬ ‫الله ‪ُّ ‬‬ ‫ُ‬
‫الصالَةُ عَلَى َوقْتِ َها" (متفق عليه)‪.‬‬
‫قال‪َّ " :‬‬

‫الفائدة الْامسة‪ :‬الزكاة أخت الصالة ولذلك تجد آيات كثيرة قرنت بين الصالة والزكاة كما ذكر ذلك عيسى عليه‬
‫الزَكاةِ"‪ .‬والزكاة من أركان اإلسالم كما هي الصالة كما جاء في الحديث الشريف‪" :‬بُنِ َي‬ ‫الص َالةِ َو َّ‬
‫صانِي بِ َّ‬
‫السالم " َوأ َْو َ‬
‫الصالَةِ‪ ،‬وإِيتَ ِاء ا َّلزَكاةِ‪ ،‬وح ِج الب ْي ِ‬ ‫أن مح َّمداً رس ُ ِ‬ ‫اإلسالم علَى َخمس‪َ :‬شه ِ‬
‫ ُ‪،‬‬ ‫ََ َ‬ ‫ول الله‪َ ،‬وإِقَ ِام َّ َ‬ ‫ادة أ ْن الَ إلهَ إالَّ اللهُ‪َ ،‬و َّ ُ َ َ ُ‬
‫ََ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ُ َ‬
‫متفق عل ِيه)‪.‬‬ ‫و ِ‬
‫ضا َن" ( ٌ‬‫ص ْوم َرَم َ‬ ‫َ َ‬
‫‪38‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬
‫وأداء الزكاة له أجر كبير عند الله تعالى‪ ،‬فيكفي أ ّن ذلك من الفرائض وهذا من أحب األعمال إلى الله تعالى كما جاء‬
‫ ُ َعلَ ِيه" (رواه البخاري)‪ .‬باإلضافة إلى‬ ‫ضُ‬ ‫َي ِم َّما افْ تَ َر ْ‬
‫ب إل َّ‬
‫َح َّ‬
‫شيء أ َ‬ ‫َي َع ْبدي ب َ‬ ‫ب إِل َّ‬‫في الحديث القدسي‪َ " :‬وَما تَ َق َّر َ‬
‫ين يُ ِنف ُقو َن أ َْم َوال َُه ْم فِي َسبِ ِ‬
‫يل الل ِه َك َمثَ ِل‬ ‫َّ ِ‬
‫فكل ما ورد في فضل الصدقة يدخل فيه الزكاة كقوله تعالى‪َّ " :‬مثَ ُل الذ َ‬ ‫ذلك‪ّ ،‬‬
‫اس ٌع َعلِي ٌم" (البقرة ‪.)416‬‬ ‫شاء واللهُ و ِ‬ ‫اع ُ ِ‬ ‫ضِ‬‫ ُ َس ْب َع َسنَابِ َل فِي ُك ِل ُسنبُ لَة ِمئَةُ َحبَّة َواللهُ يُ َ‬
‫ف ل َمن يَ َ ُ َ َ‬ ‫َحبَّة أَنبَ تَ ْ‬

‫ضةَ َوَال يُ ِنف ُقونَ َها‬‫ب َوال ِْف َّ‬ ‫ين يَ ْكنِ ُزو َن َّ‬
‫الذ َه َ‬
‫َّ ِ‬
‫وعدم أداء الزكاة له عقوبة وخيمة جدا كونها من الفرائض‪ .‬قال الله تعالى‪َ " :‬والذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فِي َسبِ ِ َّ ِ ِ ِ‬
‫ورُه ْم ۖ َه َذا‬ ‫َّم فَ تُ ْك َوى بِ َها ِجبَ ُ‬
‫اه ُه ْم َو ُجنُوبُ ُه ْم َوظُ ُه ُ‬ ‫يل الله فَ بَش ْرُهم ب َع َذاب أَليم‪ ،‬يَ ْو َم يُ ْح َمى َعلَْي َها في نَا ِر َج َهن َ‬
‫ب ذَ َهب َوالَ‬ ‫اح ِ‬‫ما َكن زتُم ِألَن ُف ِس ُكم فَ ُذوقُوا ما ُكنتم تَ ْكنِزو َن" (التوبة ‪ ،)33-32‬وفي الحديث الشريف‪" :‬ما ِمن ص ِ‬
‫َ ْ َ‬ ‫َ ُْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َْ ْ‬
‫ ُ لَهُ ص َفائِح ِمن نَار‪ ،‬فَأ ْ ِ‬ ‫القيام ِة ِ‬ ‫فِضَّة‪ ،‬ال ي َؤ ِدي ِم ْن ها ح َّقها إِالَّ إِذَا َكا َن ي ِ‬
‫َّم‪ ،‬فَ يُ ْك َوى‬ ‫ُحم َي َعلَْي َها في نَا ِر َج َهن َ‬ ‫صف َح ْ َ ُ ْ‬ ‫وم َ َ ُ‬ ‫َُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ُ‬
‫العب ِ‬
‫اد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت أ ُِعي َد ْ‬ ‫بِ َها َج ْن بُهُ‪َ ،‬و َجبِينُهُ‪َ ،‬وظَ ْه ُرهُ‪ُ ،‬كلَّ َما بَ َر َد ْ‬
‫ضى بَ ْي َن َ‬ ‫ْف َسنَة‪َ ،‬حتَّى يُ ْق َ‬ ‫ين أل َ‬ ‫ت لَهُ في يَوم َكا َن م ْق َد ُارهُ َخ ْمس َ‬
‫الجن َِّة َو َّإما إِلَى النَّا ِر" (رواه البخاري)‪.‬‬ ‫فَ يَ َرى َسبيلَهُ‪َّ ،‬إما إِلَى َ‬
‫الفائدة السادسة‪ :‬الحرص على العمل الصالح إلى آخر لحظة من العمر عالمة خير وسعادة للشخص ولذلك ذكر‬
‫ ُ َحيا" أي أ ّن الله تعالى أوصاه بعبادته ما دام في هذه الحياة‬ ‫هذا األمر عيسى عليه السالم ضمن كالمه‪" :‬ما ُد ْم ُ‬
‫ين"‬ ‫ك حتَّى يأْتِي َ ِ‬
‫ك الْيَق ُ‬‫الدنيا‪ ،‬وهذا مصداق كذلك لوصية الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم ولنا كذلك " َوا ْعبُ ْد َربَّ َ َ َ َ‬
‫(الحجر ‪( )11‬أي‪ :‬استمر في جميع األوقات على التقرب إلى الله بأنواع العبادات) (تفسير السعدي)‪.‬‬

‫وقد ورد الكثير من قصص الصالحين من السلف والخلف على حرصهم على عبادة الله تعالى حتى آخر لحظة من‬
‫حياتهم‪ ،‬فمنهم من يختم له وهو يصلّي ومنهم وهو يقرأ القرآن أو يذكر الله تعالى ومنهم من وهو يجاهد في سبيل الله‬
‫تعالى أو يدعو إليه سبحانه‪ ،‬وهذا كلّه توفيق من الله تعالى وعالمة على حسن الخاتمة‪ .‬جاء في الحديث الشريف‪:‬‬
‫قال‪ :‬يوفِ ُقهُ لعمل صالح قبل المو ِ‬
‫ت" (رواه‬ ‫رسول اللَّ ِه َ‬
‫كيف يستعملُهُ يا َ‬
‫فقيل‪َ :‬‬ ‫"إذا أر َ َّ‬
‫َ‬ ‫خيرا استعملَهُ‪َ .‬‬
‫اد اللهُ بعبد ً‬
‫الترمذي)‪.‬‬

‫ولذلك ينبغي على الشخص أن يحرص على سؤال الله تعالى أن يحسن خاتمته ويتبع ذلك بالحرص على العمل‬
‫الصالح‪ّ .‬أما من كان مداوما على معصية الله تعالى‪ ،‬فينبغي له الحذر من سوء الخاتمة على هذه المعاصي‪ ،‬وكم وردت‬
‫من قصص ألشخاص ماتوا على معاصيهم ويُخشى عليهم يوم القيامة من العذاب‪ .‬إذا وقع الشخص في معصية فليسارع‬
‫ات" (هود‬ ‫ات يُ ْذ ِه ْب َن َّ‬
‫الس يِئَ ِ‬ ‫إلى التوبة واالستغفار وليتبع ذلك بأعمال صالحة حتى يحقق قول الله تعالى‪" :‬إِ َّن الْحسنَ ِ‬
‫ََ‬
‫سنَةَ تَ ْم ُح َها" (رواه الترمذي)‪.‬‬ ‫السيِئَةَ َ‬
‫الح َ‬ ‫‪ ،)662‬وفي الحديث الشريف‪َ " :‬وأتْب ِع َّ‬

‫الفائدة السابعة‪ :‬بر الوالدين من أهم األمور التي يرّكز عليها اإلسالم ولذلك ذكره عيسى عليه السالم من جملة من‬
‫أوصاه الله تعالى به " َوبَ ًّرا بَِوالِ َدتِي"‪ .‬وبالتأمل في نصوص القرآن الكريم التي وردت في ّبر الوالدين نالحظ أهميّته‬
‫القصوى حيث ربطه الله تعالى بتوحيده سبحانه في آيات متعددة كما قال سبحانه‪َ " :‬وا ْعبُ ُدواْ اللهَ َوالَ تُ ْش ِرُكواْ بِ ِه َش ْيئاً‬
‫ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ساناً" (اإلسراء ‪.)43‬‬ ‫ك أَالَّ تَ ْعبُ ُدواْ إالَّ إيَّاهُ َوبال َْوال َديْ ِن إ ْح َ‬
‫ضى َربُّ َ‬ ‫َوبال َْوال َديْ ِن إ ْح َ‬
‫ساناً" (النساء ‪ ،)31‬وقوله تعالى‪َ " :‬وقَ َ‬

‫‪39‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫قال اإلمام السعدي رحمه الله تعالى‪( :‬أي‪ :‬أحسنوا إليهما بجميع وجوه اإلحسان القولي والفعلي ألنهما سبب وجود‬
‫العبد ولهما من المحبة للولد واإلحسان إليه والقرب ما يقتضي تأكد الحق ووجوب البر)‪ .‬وفي حالة وجود أحد األبوين‬
‫فقط كما في حالة عيسى عليه السالم‪ ،‬فإن البر يكون لذلك الشخص كما قال تعالى‪" :‬إِ َّما ي ب لُغَ َّن ِعن َد َك ال ِ‬
‫ْكبَ َر‬ ‫َْ‬ ‫ّ‬
‫َح ُد ُه َما أ َْو كِالَ ُه َما" (اإلسراء ‪.)43‬‬
‫أَ‬
‫ب إِلَى ِ‬
‫الله تَ َعالَى‬ ‫الع َم ِل َ‬
‫أح ُّ‬ ‫أي َ‬
‫جاء في الحديث الشريف الذي رواه عبد الله بن مسعود ‪ ،‬قال ‪ :‬سألت النبي ‪ُّ :‬‬
‫اد في ِ‬
‫سبيل الله" ( ُمتَّف ٌق‬ ‫ال‪ِ " :‬‬
‫الج َه ُ‬ ‫الوالِ َديْ ِن"‪ ،‬قُل ُ‬
‫ْ ُ‪ :‬ثُ َّم أي قَ َ‬ ‫ال‪" :‬ب ُّر َ‬ ‫الصالةُ َعلَى َوقْتِ َها"‪ ،‬قُل ُ‬
‫ْ ُ‪ :‬ثُ َّم أي قَ َ ِ‬ ‫ال‪َّ " :‬‬ ‫قَ َ‬
‫لبر الوالدين‪ ،‬يأتي عقوق الوالدين لتكون معصية عظيمة جدا كما قال صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫ِ‬
‫عليه)‪ .‬ومع الفضل الكبير ّ‬
‫الوالِ َديْ ِن" (متفق‬
‫اك بالله‪َ ،‬و ُع ُقو ُق َ‬ ‫"أال أُنَبِئُ ُك ْم بأ ْكبَ ِر ال َكبَائِر – ثالثاً – قُلْنَا‪ :‬بَلَى يَا َر ُسول الله‪ ،‬قَ َ‬
‫ال‪" :‬اإل ْش َر ُ‬
‫عليه)‪.‬‬

‫الفائدة الثامنة‪ :‬من الصفات التي ذكرها عيسى عليه السالم " َول َْم يَ ْج َعلْنِي َجبَّ ًارا" وهذا مما امتّنه الله تعالى عليه إذ‬
‫جعله متواضعا ال يستكبر على أحد مما جعل الناس يحبّونه ويتّبعونه‪ .‬والجبار من أسماء الله تعالى والذي يعني الذي‬
‫يقصم الظالمين ويعني كذلك أنّه يجبر كسر المظلومين‪.‬‬

‫فال ينبغي للمسلم أن يكون جبّارا مستكبرا في األرض وإال ناله ما نال المستكبرين من قبله كما كان شأن عاد وثمود‬
‫وفرعون وقارون‪ ،‬فهؤالء استكبروا أوال على الله تعالى ثم على الناس كما كان شأن عاد الذين قال الله تعالى فيهم‪" :‬فَأ ََّما‬
‫َن اللَّهَ الَّ ِذي َخلَ َق ُه ْم ُه َو أَ َش ُّد ِم ْن ُه ْم قُ َّوةً‬
‫ْح ِق َوقَالُوا َم ْن أَ َش ُّد ِمنَّا قُ َّوةً أ ََول َْم يَ َرْوا أ َّ‬ ‫استَ ْكبَ ُروا فِي ْاأل َْر ِ‬
‫ض بِغَْي ِر ال َ‬ ‫َعا ٌد فَ ْ‬
‫َوَكانُوا بِآيَاتِنَا يَ ْج َح ُدو َن" (فصلت ‪( .)63‬فكانوا مع كفرهم باللّه‪ ،‬وجحدهم بآيات اللّه‪ ،‬وكفرهم برسله مستكبرين في‬
‫األرض‪ ،‬قاهرين لمن حولهم من العباد‪ ،‬ظالمين لهم‪ ،‬قد أعجبتهم قوتهم)‪.‬‬

‫ارو َن إِلَى فِ ْر َع ْو َن َوَملَئِ ِه بِآيَاتِنَا‬ ‫ِ ِِ‬


‫وسى َو َه ُ‬
‫وكذلك كان حال فرعون وقومه كما قال الله تعالى عنهم‪" :‬ثُ َّم بَ َعثْ نَا من بَ ْعدهم ُّم َ‬
‫ِ‬
‫ين" (يونس ‪ ،)73‬فكان جزاء هذا االستكبار العذاب األليم في الدنيا أوال ثم ينتظرهم بعد‬ ‫استَ ْكبَ ُرواْ َوَكانُواْ قَ ْوماً ُّم ْج ِرم َ‬
‫فَ ْ‬
‫ذلك عذابا أشد في اآلخرة‪ .‬ويكفي في عاقبة الكبر ما ذكره رسول الله عليه وسلم‪" :‬الَ ي ْد ُخل الجنَّةَ من َكا َن في قَ ْلبِهِ‬
‫َ ُ َ َْ‬
‫ال ذَ َّرة ِم ْن كِْبر" (رواه مسلم)‪.‬‬ ‫ِمثْ َق ُ‬

‫امتن الله تعالى به عليه كذلك أن لم يجعله شقيا‪ .‬والشقاوة‬


‫الفائدة التاسعة‪ :‬ذكر عيسى عليه السالم من جملة ما ّ‬
‫مرتبطة بسوء الخلق سواء مع الله تعالى أو مع الخلق وهي مرتبطة كذلك بالجبروت واالستكبار ولذلك وردت في اآلية‬
‫مع بعضهما البعض مما يعني بأن عيسى عليه السالم كان حسن األخالق كما هو حال جميع األنبياء‪.‬‬

‫ين َش ُقواْ فَ ِفي النَّا ِر ل َُه ْم فِ َيها‬ ‫َّ ِ‬


‫وقد ذكر الله تعالى من جملة صفات أهل النار الشقاوة كما في قوله تعالى‪" :‬فَأ ََّما الذ َ‬
‫َزِف ٌير َو َش ِهي ٌق" (هود ‪( )641‬فاألشقياء‪ ،‬هم الذين كفروا بالله‪ ،‬وكذبوا رسله‪ ،‬وعصوا أمره) (تفسير السعدي)‪ ،‬فكل من‬
‫يعصي الله تعالى شقي‪ ،‬وكل من يؤذي خلق الله تعالى بأخالقه السيئة سواء بأقواله أم أفعاله شقي‪ ،‬وكل من يؤذي نفسه‬
‫شقي كذلك‪.‬‬

‫‪41‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫ات‬
‫لس َم َاو ُ‬ ‫أما نقيض ذلك فهم السعداء كما قال الله تعالى‪" :‬وأ ََّما الَّ ِذين س ِع ُدوا فَ ِفي الْجن َِّة َخالِ ِدين فِ َيها ما َدام ِ‬
‫ ُ ا َّ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫َو ْاأل َْر ُ ِ‬
‫ك ۖ َعطَاءً غَْي َر َم ْج ُذوذ" (هود ‪ ،)641‬فالسعيد هو من أطاع الله تعالى باتّباع أوامره واجتناب‬ ‫ض إ َّال َما َش َ‬
‫اء َربُّ َ‬
‫نصت بذلك اآلية الكريمة‪ .‬فاإلنسان هو من يختار أن يكون سعيدا أم‬
‫نواهيه‪ ،‬والسعداء هؤالء مصيرهم إلى الجنة كما ّ‬
‫شقيّا باتّباعه أو ابتعاده عن طريق الله تعالى‪.‬‬

‫الفائدة العاشرة‪ :‬من فضل الله تعالى على عيسى عليه السالم أن منحه السالم في جميع حياته منذ والدته وحتى مماته‬
‫ث َحيًّا" (مريم ‪)33‬‬
‫وت َويَ ْو َم أُبْ َع ُ‬ ‫الس َال ُم َعلَ َّي يَ ْو َم ُولِ ُّ‬
‫دت َويَ ْو َم أ َُم ُ‬ ‫كما قال تعالى على لسان عيسى عليه السالم‪َ " :‬و َّ‬
‫( أي‪ :‬من فضل ربي وكرمه‪ ،‬حصلت لي السالمة يوم والدتي‪ ،‬ويوم موتي‪ ،‬ويوم بعثي‪ ،‬من الشر والشيطان والعقوبة‪،‬‬
‫وذلك يقتضي سالمته من األهوال‪ ،‬ودار الفجار‪ ،‬وأنه من أهل دار السالم‪ ،‬فهذه معجزة عظيمة‪ ،‬وبرهان باهر‪ ،‬على أنه‬
‫شك بأن ذلك نعمة كبيرة من الله تعالى لعيسى عليه السالم وهذا‬
‫رسول الله‪ ،‬وعبد الله حقا) (تفسير السعدي)‪ .‬وال ّ‬
‫مما يرفع قدره ومنزلته‪.‬‬

‫والسالم من أسماء الله تعالى الحسنى ومن معانيه السالمة من جميع العيوب والنقائص بكماله في ذاته وصفاته‬
‫وأفعاله‪ ،‬ومن دالئل هذا االسم العظيم أنّه يحب السالم واالستقرار واألمن ولذلك كانت تحيّة المسلم هي السالم‬
‫السالَ ُم‪َ ،‬وِم ْن َ‬
‫ك‬ ‫عليكم ورحمة الله وبركاته‪ ،‬بل إ ّن من السنة أن يقول الشخص بعد الفراغ من الصالة‪" :‬اللَّ ُه َّم أنْ َ‬
‫ ُ َّ‬
‫ِ‬ ‫ ُ يَا َذا َ ِ‬
‫السالم من أوائل األمور التي يبتدأ بها الشخص بعد الفراغ‬ ‫الجالَل َواإل ْك َرام" (رواه مسلم)‪ ،‬فكان ّ‬ ‫السالَ ُم‪ ،‬تَبَ َارْك َ‬
‫َّ‬
‫من صالته‪.‬‬

‫لذلك ينبغي على المسلم أن يحرص على السالم مع نفسه أوال فال ّ‬
‫يعرضها لألذى والمعاصي ثم السالم مع الناس‬
‫أجمعين فال يؤذيهم بأي شكل من األشكال‪ .‬أماّ نقيض السالم فهو الحرب والخراب والدمار والذي يأتي من الظلم‬
‫والطغيان واألذى وهذا مما ينبغي أن يبتعد عنه الشخص حتى ال يتعرض لغضب الله تعالى‪ ،‬هذا باإلضافة إلى اآلثار‬
‫السيئة التي قد يتعرض لها الشخص والمجتمع نتيجة عدم االهتمام بالسالم‪.‬‬

‫*******************************************‬

‫ِ ِ‬ ‫قال الله تعالى‪" :‬ولَ َّما جاء ِعيسى بِالْب يِنَ ِ‬


‫ال قَ ْد ِج ْئ تُ ُكم بِالْح ْك َمة َوِألُبَيِ َن لَ ُكم بَ ْع َ‬
‫ض‬ ‫ات قَ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ون‪ ،‬إِ َّن اللَّهَ ُهو ربِي وربُّ ُكم فَا ْعب ُدوهُ َه َذا ِ‬ ‫َطيع ِ‬‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫ط‬
‫ص َرا ٌ‬ ‫َ َ ََ ْ ُ‬ ‫الَّذي تَ ْْتَل ُفو َن فيه فَاتَّ ُقوا اللَّهَ َوأ ُ‬
‫يم" (الزخرف ‪)45-40‬‬ ‫ِ‬
‫ُّم ْستَق ٌ‬
‫الفائدة األولى‪ :‬األمور التي جاء بها عيسى عليها السالم لقومه كثيرة وكانت كلّها بينة واضحة‪ .‬وقد ذكر الله تعالى‬
‫يل أَنِي قَ ْد ِج ْئ تُ ُكم بِآيَة ِمن َّربِ ُك ْم ۖ أَنِي أَ ْخلُ ُق لَ ُكم ِم َن‬ ‫بعضا من هذه اآليات في قوله سبحانه‪" :‬ورس ً ِ ِ ِ ِ‬
‫وال إلَى بَني إ ْس َرائ َ‬ ‫ََ ُ‬
‫ُحيِي الْ َم ْوتَى بِِإ ْذ ِن اللَّ ِه ۖ َوأُنَبِئُ ُكم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ئ ْاألَ ْك َمهَ َو ْاألَبْ َر َ‬
‫ص َوأ ْ‬ ‫الطي ِن َك َه ْي ئَ ِة الطَّْي ِر فَأَن ُف ُخ ف ِيه فَيَ ُكو ُن طَْي ًرا بِِإ ْذ ِن اللَّ ِه ۖ َوأُبْ ِر ُ‬
‫ِِ‬ ‫َّ‬ ‫َّخ ُرو َن فِي بُيُوتِ ُك ْم ۚ إِ َّن فِي ذَلِ َ‬ ‫بِما تَأْ ُكلُو َن وما تَد ِ‬
‫ين" (آل عمران ‪.)21‬‬ ‫ك َْليَةً ل ُك ْم إِن ُكنتُم ُّم ْؤمن َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬

‫‪40‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫واألصل في الناس أن يتبعوا األنبياء حين ي رْون المعجزات واآليات الواضحة ولكن التاريخ يثبت أن الكثير لم يؤمن‬
‫شق البحر ورفع الجبل‬
‫بهؤالء األنبياء رغم ذلك‪ ،‬فبني إسرائيل في زمن موسى عليه السالم رؤوا الكثير من اآليات مثل ّ‬
‫ولكنّهم مع ذلك آذوا موسى ولم يتّبعوه إال قليال منهم‪ ،‬وحدث نفس األمر مع النبي صلى الله عليه وسلم حين أتى‬
‫بمعجزات متعددة لكفار قريش ومع ذلك لم يؤمن الكثير منهم‪.‬‬

‫ّأما نحن فلدينا معجزة خالدة هي القرآن الكريم والذي حفظه الله تعالى وتح ّدى به اإلنس والجن بأن يأتوا بمثله أو‬
‫حتى بآية من مثله‪ ،‬فهو كتاب معجز ال تنتهي عجائبه وكنوزه‪ .‬ويجب علينا كذلك أن نؤمن بجميع األنبياء وما أتوا به‬
‫من المعجزات ألقوامهم فهذا جزء من عقيدتنا نحن المسلمين حيث أن اإليمان بالرسل من أركان اإليمان وال يكتمل‬
‫إيمان المرء إال به‪.‬‬

‫الفائدة الثانية‪ :‬سبق أن تح ّدثنا عن الحكمة في موقف مريم عليها السالم مع قومها حين أتت بعيسى عليه السالم‪،‬‬
‫وذكرنا بأن الحكمة بمفهومها الشامل هو التصرف المناسب في الموضع المناسب وفي الوقت المناسب‪ .‬واألنبياء‬
‫كلّهم بما فيهم عيسى عليه السالم حكماء وقد آتاهم الله تعالى الحكمة والتي يدخل فيها النبوة والعلم وغيرها‪.‬‬

‫وتظهر الحكمة في شخصية عيسى عليها السالم في مواضع متعددة‪ ،‬فرغم فداحة ما فعله قومه من شركهم بالله تعالى‬
‫إال أنّه واجههم وخاطبهم بكل حكمة‪ ،‬وكذلك كان عليه السالم ينصحهم بكل حكمة من دون قسوة أو شدة وقد رأينا‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين قَالُواْ إِ َّن اللهَ ُه َو ال َْمس ُ‬
‫يح ابْ ُن َم ْريَ َم‬ ‫ذلك في بعض اآليات السابقة التي أوردناها من مثل قوله تعالى‪" :‬لََق ْد َك َف َر الذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫وقَ َ ِ‬
‫َّار َوَما‬ ‫يل ا ْعبُ ُدواْ اللهَ َربِي َوَربَّ ُك ْم إِنَّهُ َمن يُ ْش ِر ْك بِالله فَ َق ْد َح َّرَم اللهُ َعلَيه ال َ‬
‫ْجنَّةَ َوَمأْ َواهُ الن ُ‬ ‫يح يَا بَني إ ْس َرائ َ‬
‫ال ال َْمس ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ِ‬
‫َنصار" (المائدة ‪.)74‬‬ ‫للظَّالم َ‬
‫ين م ْن أ َ‬
‫هذا غير أن اإلنجيل الذي أنزله الله تعالى على عيسى عليه السالم كانوا يحوي الحكمة ولذلك قال عيسى عليه السالم‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫يسى ابْ ِن َم ْريَ َم‬ ‫لقومه‪" :‬قَ ْد ج ْئ تُ ُكم بالْح ْك َمة"‪ .‬وقد قال تعالى واصفا هذا الكتاب العظيم‪َ " :‬وقَ َّف ْي نَا َعلَى آثَا ِرهم ب َع َ‬
‫ص ِدقاً لِ َما بَ ْي َن يَ َديْ ِه ِم َن الت َّْوَراةِ َو ُه ًدى َوَم ْو ِعظَةً‬
‫ور َوُم َ‬
‫نج ِ ِ‬
‫يل فيه ُه ًدى َونُ ٌ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫م ِ ِ‬
‫صدقاً ل َما بَ ْي َن يَ َديْه م َن الت َّْوَراة َوآتَ ْي نَاهُ اإل َ‬ ‫ُ َ‬
‫ين‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين" (المائدة ‪ .)21‬ويكفي في اإلنجيل أنّه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ببعض صفاته كما قال تعالى‪" :‬الذ َ‬ ‫ْمتَّق َ‬
‫لل ُ‬
‫اه ْم َع ِن‬ ‫ِ‬ ‫ول النَّبِ َّي األ ُِم َّي الَّ ِذي يَ ِج ُدونَهُ َم ْكتُوباً ِعن َد ُه ْم فِي الت َّْوَراةِ َوا ِإلنْ ِج ِ‬
‫يل يَأ ُْم ُرُهم بِال َْم ْع ُروف َويَ ْن َه ُ‬ ‫الر ُس َ‬‫يَتَّبِ ُعو َن َّ‬
‫َّ ِ‬ ‫ص َرُه ْم َواألَ ْغالَ َل الَّتِي َكانَ ْ‬ ‫الْمن َك ِر وي ِح ُّل لَهم الطَّيِب ِ‬
‫ات َويُ َح ِرُم َعلَْي ِه ُم الْ َْبَآئِ َ‬
‫آمنُواْ‬ ‫ين َ‬ ‫ ُ َعلَْي ِه ْم فَالذ َ‬ ‫ض ُع َع ْن ُه ْم إِ ْ‬
‫ث َويَ َ‬ ‫ُ َُ ُ ُ َ‬
‫ك ُه ُم الْ ُم ْفلِ ُحو َن" (األعراف ‪.)637‬‬ ‫ي أُن ِز َل َم َعهُ أ ُْولَ ئِ َ‬ ‫بِ ِه و َع َّزروهُ ونَصروهُ واتَّب عواْ الن َّ ِ‬
‫ُّور الذ َ‬
‫َ‬ ‫َ ُ َ َُ َ َ ُ‬
‫الفائدة الثالثة‪ :‬من أهم مهام األنبياء والرسل والدعاة من بعدهم بيان الحق والطريق المستقيم وهذا ما بيّنه عيسى عليه‬
‫السالم بقوله‪َ " :‬وِألُبَيِ َن لَ ُكم"‪ .‬فاألنبياء يبيّنون ألقوامهم طريق الحق وهو الطريق الموصل إلى الله تعالى وهو طريق واحد‬
‫السبُ َل فَ تَ َف َّر َق بِ ُك ْم َعن َسبِيلِ ِه َذلِ ُك ْم َو َّ‬
‫صا ُكم‬ ‫صر ِ‬
‫اطي ُم ْستَ ِقيماً فَاتَّبِ ُعوهُ َوالَ تَتَّبِعُواْ ُّ‬ ‫ِ‬ ‫واضح كما قال تعالى‪َ " :‬وأ َّ‬
‫َن َه َذا َ‬
‫بِ ِه ل ََعلَّ ُك ْم تَتَّ ُقو َن" (األنعام ‪.)633‬‬

‫‪42‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫يم" (الفاتحة ‪ ،)1‬وهذا الصراط المستقيم‬ ‫ِ‬ ‫ولذلك فإ ّن أكثر دعاء يدعوه الشخص في اليوم هو " ِ‬
‫اهدنَ ا ِ‬
‫المستَق َ‬
‫ط ُ‬ ‫الص َرا َ‬
‫أهم ما يؤدي إلى هذا الصراط المستقيم عبادة الله تعالى وحده كما بيّن‬
‫بيّنه األنبياء عليهم الصالة والسالم ألقوامهم و ّ‬
‫ذلك عيسى عليه السالم لقومه في مناسبات متعددة‪ ،‬وهذه العبادة تتضمن بعد ذلك التقرب إلى الله تعالى باألعمال‬
‫الصالحة من شعائر تعبدية كالصالة والزكاة وغيرها ثم االلتزام باألخالق الكريمة واالبتعاد عن األخالق السيئة‪.‬‬

‫وقد حرص األنبياء عليهم الصالة والسالم على الوضوح والبيان في ّ‬


‫كل ما نقلوه ألقوامهم حتى ال يكون هناك لبس‬
‫وغموض‪ ،‬وكان ذلك بما يناسب القوم في زمانهم‪ .‬ولذلك كان القرآن الكريم وكل ما تم نقله من سنّة النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم واضحا‪ ،‬فالشعائر التعبدية واضحة واألخالق واضحة والمعامالت واضحة والكبائر واضحة وكل ذلك يؤكد‬
‫قيام هؤالء األنبياء عليهم الصالة والسالم بواجبهم على أكمل وجه‪.‬‬
‫ك لَجعل النَّاس أ َُّمةً و ِ‬
‫اح َدةً َوالَ يَ َزالُو َن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الفائدة الرابعة‪ :‬االختالف سنة بشرية كما قال الله تعالى‪َ " :‬ول َْو َشاء َربُّ َ َ َ َ‬
‫ين" (هود ‪ ،)661‬فاالختالف بين البشر في مختلف القضايا طبيعي‪ ،‬وهذا االختالف له إيجابيات متعددة منها‬ ‫ِِ‬
‫ُم ْْتَلف َ‬
‫الختل‬
‫ّ‬ ‫التعدد في اآلراء والتفسيرات المختلفة واإلنتاجات المتعددة‪ ،‬فلو كان تفكير البشر أو ذوقهم أو رأيهم واحدا‬
‫نظام العيش‪.‬‬

‫يؤدي االختالف إلى التنازع والشقاق فعندئذ يصبح االختالف نقمة وينبغي ّ‬
‫التدخل إلعادة األمور لنصابها‬ ‫ّأما عندما ّ‬
‫ألنه قد يؤدي إلى نتائج وخيمة‪ .‬وقد كان عيسى عليه السالم يهدف لحل بعض ما اختلف عليه قومه من األمور الدنيوية‬
‫ومتمما لشريعة موسى عليه السالم‪ ،‬وألحكام التوراة‪ .‬وأتى ببعض التسهيالت الموجبة‬
‫مكمال ّ‬
‫والدينية فجاءت شريعته ( ّ‬
‫لالنقياد له‪ ،‬وقبول ما جاءهم به) (تفسير السعدي)‪.‬‬

‫شك أ ّن ذلك من رحمة الله تعالى بقوم عيسى عليه السالم إذ أ ّن األصل في الشريعة اليسر ما لم يقم البشر أنفسهم‬
‫وال ّ‬
‫بالتشديد على أنفسهم فحينئذ يش ّدد الله تعالى عليهم‪ .‬وقد كان عيسى عليه السالم منطقيا جدا إذ بيّن بأنه سيبيّن‬
‫حل جميع مسائل االختالف ليس منطقيّا‪ ،‬وهذه رسالة للمف ّكرين والدعاة بأن‬‫بعض ما يختلفون فيه وليس كله أل ّن ّ‬
‫لحل ما استطاعوا من الخالفات وليكمل بعضهم جهود بعض إذ ال يستطيع شخص بحال من األحوال أن يحلّ‬
‫يسعوا ّ‬‫ْ‬
‫جميع االختالفات ولكن ما استطاع إلى ذلك سبيال‪.‬‬

‫اع اللهَ" (النساء‬


‫ول فَ َق ْد أَطَ َ‬ ‫الفائدة الْامسة‪ :‬طاعة الرسول من طاعة الله تعالى كما قال سبحانه‪َّ " :‬م ْن يُ ِط ِع َّ‬
‫الر ُس َ‬
‫ون" (أي‪ :‬وأطيعون فيما أمرتكم به من اتقاء الله واتباع أمره وقبول‬ ‫ِ‬
‫َطيع ِ‬
‫‪ ،)14‬ولذلك قال عيسى عليه السالم لقومه‪َ " :‬وأ ُ‬
‫نصيحتي لكم) (تفسير الطبري)‪ .‬ففي طاعة الرسول نجاة وفالح ألنّه يدعو في النهاية إلى ما أمره الله تعالى به من‬
‫اتّباع أوامره واجتناب نواهيه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وقد قرن الله تعالى طاعته تعالى بطاعته رسوله وجعل له جزاء عظيما كما في قوله تعالى‪َ " :‬وَمن يُط ِع اللهَ َوَر ُسولَهُ يُ ْدخلْهُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين فِ َيها َو َذلِ َ‬ ‫جنَّات تَج ِري ِمن تَحتِها األَنْ ه ِ ِ‬
‫يم" (النساء ‪ ،)63‬وفي اآلية األخرى‪َ " :‬وَمن يُط ِع اللهَ‬ ‫ك الْ َف ْوُز ال َْعظ ُ‬ ‫ار َخالد َ‬
‫َُ‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬

‫‪43‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫ك َرفِيقاً"‬
‫س َن أُولَ ئِ َ‬ ‫الشه َداء و َّ ِ ِ‬ ‫ِِِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ول فَأ ُْولَ ئِ َ‬
‫ين َو َح ُ‬
‫الصالح َ‬ ‫ين َو ُّ َ َ‬ ‫ين أَنْ َع َم اللهُ َعلَْي ِهم م َن النَّبي َ‬
‫ين َوالصديق َ‬ ‫ك َم َع الذ َ‬ ‫الر ُس َ‬
‫َو َّ‬
‫يدل على تالزم األمرين إذ ال طاعة لله تعالى من غير طاعة رسوله‪.‬‬ ‫(النساء ‪ ،)11‬وهذا ّ‬

‫ص اللهَ‬ ‫وفي نفس الوقت‪ ،‬قرن الله تعالى معصيته بمعصية رسوله وجعل له عذابا أليما كما قال سبحانه‪َ " :‬وَمن يَ ْع ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ص اللَّهَ َوَر ُسولَهُ‬ ‫اب ُّم ِه ٌ‬
‫ين" (النساء ‪ ،)62‬وقوله تعالى‪َ " :‬وَمن يَ ْع ِ‬ ‫َوَر ُسولَهُ َويَتَ َع َّد ُح ُد َ‬
‫ودهُ يُ ْدخلْهُ نَاراً َخالداً ف َيها َولَهُ َع َذ ٌ‬
‫ين فِ َيها أَبَداً" (الجن ‪( )43‬ومن يعص الله فيما أمره ونهاه‪ ،‬ويك ّذب به ورسوله‪ ،‬فجحد رساالته‪،‬‬ ‫فَِإ َّن لَه نَار جهن ِ ِ‬
‫َّم َخالد َ‬ ‫ُ َ ََ َ‬
‫فإن له نار جهنم يصالها ماكثين فيها أبدا إلى غير نهاية) (تفسير الطبري)‪.‬‬

‫الفائدة السادسة‪ :‬نالحظ من اآليات الكريمة شفقة عيسى عليه السالم على قومه حيث ّ‬
‫تدل نصائحه لقومه على رغبته‬
‫الشديدة في فالحهم في الدنيا واآلخرة‪ .‬وهذه الشفقة كانت سمة لجميع األنبياء عليهم الصالة والسالم ونالحظ ذلك‬
‫من خالل قصصهم مع أقوامهم‪.‬‬

‫تأمل مثال في قصة إبراهيم عليه السالم مع أبيه حيث تالحظ الشفقة الكبيرة التي كانت إلبراهيم عليه السالم حتى ينقذ‬
‫اب إِب ر ِاهيم ۚ إِنَّهُ َكا َن ِ‬
‫ص ِدي ًقا نَّبِيًّا‪،‬‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫أبيه من الضالل والشرك من خالل كلماته الحانية التي استخدمها " َواذْ ُك ْر في الْكتَ ْ َ َ‬
‫اءنِي ِم َن الْعِل ِْم َما ل َْم‬ ‫ِ ِِ‬
‫نك َش ْي ئًا‪ ،‬يَا أَبَ ُ إني قَ ْد َج َ‬
‫ ُ لِم تَ ْعب ُد ما َال يسمع وَال ي ب ِ‬
‫ص ُر َوَال يُ ْغنِي َع َ‬ ‫ال ألَبِيه يَا أَبَ ِ َ ُ َ َ ْ َ ُ َ ُ ْ‬
‫إِ ْذ قَ َ ِ ِ‬

‫ ُ إِنِي أ َ‬
‫صيًّا‪ ،‬يا أَب ِ‬ ‫لرحم ِن َع ِ‬ ‫ِ‬ ‫ ُ َال تَ ْعبُ ِد َّ‬
‫صراطًا س ِويًّا‪ ،‬يا أَب ِ‬‫ِ ِ ِ‬ ‫يَأْتِ َ‬
‫اف‬
‫َخ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫الش ْيطَا َن ۖ إِ َّن َّ‬
‫الش ْيطَا َن َكا َن ل َّ ْ َ‬ ‫ك فَاتَّبِ ْعني أ َْهد َك َ َ َ َ‬
‫ان ولِيًّا" (مريم ‪ ،)23-26‬فيكفي في استعمال (يا أب ِ‬ ‫الرحم ِن فَتَ ُكو َن لِ َّ ِ‬ ‫ك ع َذ ِ‬
‫ت) لتعرف مدى‬ ‫لش ْيطَ َ‬ ‫اب م َن َّ ْ َ‬
‫سَ َ ٌ‬ ‫أَن يَ َم َّ‬
‫شفقة إبراهيم عليه السالم على أبيه‪.‬‬

‫وكذلك كان حال نوح عليه السالم مع ابنه الكافر حين خاطبه بأن يركب معه السفينة لينقذ نفسه " َو ِه َي تَ ْج ِري بِ ِه ْم‬
‫ال َسآ ِوي إِلَى َجبَل‬ ‫وح ابْنَهُ َوَكا َن فِي َم ْع ِزل يَا بُنَ َّي ْارَكب َّم َعنَا َوَال تَ ُكن َّم َع الْ َكافِ ِري َن‪ ،‬قَ َ‬ ‫ادى نُ ٌ‬
‫ال َونَ َ‬‫ْجبَ ِ‬‫فِي موج َكال ِ‬
‫َْ‬
‫ين" (هود‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ج فَ َكا َن م َن ال ُْمغْ َرق َ‬ ‫اص َم الْيَ ْو َم ِم ْن أ َْم ِر اللَّ ِه إَِّال َمن َّرِح َم ۚ َو َح َ‬
‫ال بَ ْي نَ ُه َما ال َْم ْو ُ‬ ‫ص ُمنِي ِم َن ال َْم ِاء ۚ قَ َ‬
‫ال َال َع ِ‬ ‫ي ْع ِ‬
‫َ‬
‫هامة جدا للدعاة حيث أنّهم يجب أن ينطلقوا من الشفقة والرحمة بدال من القسوة والش ّدة‬ ‫‪ .)23-24‬وهذه الصفة ّ‬
‫حتى يكونوا على منهج األنبياء عليهم الصالة والسالم‪.‬‬

‫الفائدة السابعة‪ :‬نالحظ في هذه اآليات بأ ّن عيسى عليه السالم استعمل أكثر من عالمة توكيد على ضرورة إفراد الله‬
‫ليرد على زعم النصارى بأ ّن عيسى إله وأنّه ابن الله‬
‫تعالى بالعبادة‪ ،‬فاستعمل كلمتي (إ ّن) و (هو)‪ ،‬وهذا التأكيد الشديد ّ‬
‫تعالى‪ ،‬فلزم تأكيد إفراد الله تعالى بالتوحيد بأكثر من أداة‪.‬‬

‫ثم قام عيسى عليه السالم بذكر أ ّن هذا اإلله ربّه كما يكون ربّكم أنتم "ربي َوَربكم"‪ ،‬فكان يمكن له أن يقول فقط‬
‫(ربّكم)‪ ،‬ول ّكنه أراد التأكيد على مسألة التوحيد وأنّه هو كذلك عبد لله تعالى كما هو شأن قومه (أي‪ :‬أنا وأنتم عبيد‬
‫يفرق نفسه عنهم وإنّما جعل نفسه بنفس‬
‫له‪ ،‬فقراء إليه‪ ،‬مشتركون في عبادته وحده ال شريك له) (تفسير ابن كثير)‪ ،‬فلم ّ‬
‫مستوى قومه في أنّهم عبيد لله تعالى‪.‬‬

‫‪44‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫وهذا التذكير الدائم بتوحيد الله تعالى من أهم وظائف األنبياء عليهم الصالة والسالم وينبغي أن يكون كذلك من أهم‬
‫وظائف الدعاة ولكن يجب أن يكون ذلك بأسلوب حسن ومراعاة لفهم الناس‪ ،‬فالمعرفة هامة ولكن التطبيق أهم‪.‬‬
‫فما فائدة أن يحفظ الناس أنواع التوحيد ثم ال تجدهم يطبّقون التوحيد الصحيح في حياتهم‪ ،‬فاألصل هو تناغم المعرفة‬
‫المرجوة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مع التطبيق حتى تؤتي ثمارها‬

‫الفائدة الثامنة‪ :‬لفظ الجاللة "الله" هو أكثر اسم نستعمله في تعاملنا معه سبحانه وقد ع ّد بعض العلماء هذا االسم‬
‫هو االسم األعظم الذي جاءت به األحاديث النبوية الشريفة‪ .‬وال يجوز ألحد أن يطلق على نفسه هذا االسم ألنّه خاص‬
‫بالله تعالى وحده وهو ما انفرد به سبحانه‪.‬‬

‫الر ْح َم ِن ال َّرِح ِيم" أو في‬


‫وهذا االسم هو أول اسم ورد في القرآن الكريم في سورة الفاتحة سواء في البسملة "بِ ْس ِم اللَّ ِه َّ‬
‫ين"‪ .‬قال اإلمام السعدي رحمه الله تعالى‪( :‬الله هو المألوه المعبود المستحق إلفراده بالعبادة‬ ‫ِ‬ ‫ْح ْم ُد لِلَّ ِه َر ِ‬
‫ب ال َْعالَم َ‬ ‫"ال َ‬
‫لما اتصف به من صفات األلوهية وهي صفات الكمال)‪ .‬فهذا االسم العظيم قد استعمله عيسى عليه السالم ليبيّن أنّه‬
‫وحده سبحانه المستحق للعبادة وأنّه سبحانه هو اإلله الحق‪.‬‬

‫وهذا االسم هو أكثر األسماء الحسنى ورودا في القرآن الكريم وأكثرها استعماال حتى بين البشر سواء في الدعاء أو في‬
‫الحديث عنه سبحانه‪ .‬وحتى األسماء األخرى‪ ،‬فتُنسب في كثير من األحيان إلى هذا االسم العظيم كما ورد مثال في‬
‫يدل أكثر على‬
‫آية الكرسي أو في خواتيم سورة الحشر‪ ،‬فالله تعالى يورد أسماءه األخرى تعريفا لهذا االسم العظيم مما ّ‬
‫أنّه االسم األعظم له سبحانه‪.‬‬

‫الفائدة التاسعة‪ :‬من األساليب القرآنية المستعملة بكثرة أسلوب األمر المباشر مثل ما استعمله عيسى عليه السالم‬
‫"فاعبدوه " وهذا األسلوب هام سواء في الدعوة إلى الله تعالى أو في التربية أو في اإلدارة‪ .‬وقد استعمل القرآن الكريم‬
‫هذا األسلوب بكثرة من مثل قوله تعالى‪" :‬اتقوا الله" و "أقيموا الصالة" و "أطيعوا الله ورسوله"‪.‬‬

‫وهذا األمر المباشر يسبقه أو يوازيه اإلتيان باألساليب المناسبة باإلقناع سواء كان ذلك بالحجج والبراهين أو استعمال‬
‫تعرف بالله‬
‫الترغيب والترهيب أو أسلوب العاطفة وغيرها‪ .‬فمثال‪ ،‬في األمر بعبادة الله تعالى وحده‪ ،‬هناك آيات كثيرة ّ‬
‫تدل عليه سبحانه لتؤّكد‬
‫تعالى وتبيّن ثمرات عبادته وعقوبات عدم عبادته باإلضافة إلى كثير من اآليات الكونية التي ّ‬
‫على عبادته‪ .‬كل هذه األمور مؤيّدة ومساندة لهذا األمر المباشر‪.‬‬

‫ولذلك تنبغي الحكمة في استعمال األمر المباشر‪ ،‬فهو يُستعمل في موضعه المناسب وليس في كل المواضع إذ أن‬
‫بعض المواضع تتطلب استعمال أسلوب النهي أو األمر غير المباشر أو استعمال األمثال أو الحكم وغيرها‪ .‬كل ذلك‬
‫يأتي بالممارسة المعرفة والحكمة ودراسة أحوال الناس وقراءة التاريخ‪ ،‬وقبل ذلك كلّه وبعده توفيق الله تعالى‪.‬‬

‫الفائدة العاشرة‪ :‬االرتباط الوثيق بين الصراط المستقيم وبين عبادة الله تعالى وحده وهذا يظهر في كالم عيسى عليه‬
‫صرا ٌ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ‬
‫يم" (الزخرف ‪( )12‬أي‪ :‬هذا الذي أمرتكم به من اتقاء‬
‫ط ُّم ْستَق ٌ‬ ‫السالم‪" :‬إ َّن اللهَ ُه َو َربي َوَربُّ ُك ْم فَا ْعبُ ُدوهُ ۚ َه َذا َ‬

‫‪45‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫الله وطاعتي وإفراد الله باأللوهة هو الطريق المستقيم وهو دين الله الذي ال يقبل من أحد من عباده غيره) (تفسير‬
‫الطبري)‪.‬‬

‫والطريق إلى الصراط المستقيم واضح وضوح الشمس ولذلك كان مستقيما ال عوج فيه‪ .‬تأمل مثال في قوله تعالى‪َ " :‬وَمن‬
‫ص َراط ُّم ْستَ ِقيم" (آل عمران ‪( )646‬أي‪ :‬ومع هذا فاالعتصام بالله والتوكل عليه هو‬ ‫صم بِالل ِه فَ َق ْد ُه ِدي إِلَى ِ‬
‫َ‬
‫ي ْعتَ ِ‬
‫َ‬
‫العمدة في الهداية‪ ،‬والعدة في مباعدة الغواية‪ ،‬والوسيلة إلى الرشاد وطريق السداد وحصول المراد) (تفسير ابن كثير)‪.‬‬
‫ص َراطاً ُّم ْستَ ِقيماً"‬
‫ضل وي ْه ِدي ِهم إِلَي ِه ِ‬ ‫ِ‬ ‫وفي آية أخرى‪" :‬فَأ ََّما الَّ ِذين آمنُواْ بِالل ِه وا ْعتصمواْ بِ ِه فَ ِ ِ‬
‫سيُ ْدخلُ ُه ْم في َر ْح َمة م ْنهُ َوفَ ْ َ َ ْ ْ‬
‫َ‬ ‫َ َ َُ‬ ‫َ َ‬
‫(النساء ‪ ،)673‬فاإليمان بالله تعالى واالعتصام به سبحانه من الطرق المؤدية إلى الصراط المستقيم‪.‬‬
‫شاء إِلَى ِ‬
‫ص َراط‬ ‫ِ‬
‫والله سبحانه هو وحده من يهدي إلى هذا الصراط المستقيم كما قال سبحانه‪َ " :‬واللهُ يَ ْهدي َمن يَ َ ُ‬
‫ُّم ْستَ ِقيم" (البقرة ‪ ،)463‬وقد ذكرنا سابقا بأننا نطلب هذه الهداية دائما في صلواتنا حين نقرأ سورة الفاتحة مما ّ‬
‫يدل‬
‫على أهمية هذا األمر‪ .‬وأحد واجب الدعاة الرئيسة هو بيان هذا الطريق المستقيم للناس‪ ،‬فالكثير من الناس قد ضلّوا‬
‫وع ْن َجنَ بَتِي‬ ‫صراطًا ِ‬
‫مستقي ًما‪َ ،‬‬ ‫مثال ِ‬
‫رب اللهُ ً‬
‫ض َ‬ ‫عن هذا الصراط واتّبعوا سبل الشيطان‪ .‬جاء في الحديث الشريف‪َ " :‬‬
‫ِ‬ ‫الصر ِ‬
‫أس ِ‬ ‫األبواب ستور مرخاةٌ‪ِ ،‬‬ ‫اط ُّسور ِ‬ ‫الصر ِ‬
‫ِ‬
‫يموا على‬ ‫يقول‪ :‬استق ُ‬ ‫اط داع ُ‬ ‫وعند ر ِ‬ ‫ِ ُُ ٌ ُْ‬ ‫ان في ِهما ٌ‬
‫أبواب مفتحةٌ‪ ،‬وعلى‬
‫الصر ِ‬
‫ِ‬
‫تفتحه‪،‬‬
‫ك ال ْ‬ ‫ِ‬
‫األبواب؛ قال‪ :‬ويْلَ َ‬ ‫تلك‬ ‫يدعو كلَّما َه َّم عب ٌد أ ْن َ‬
‫يفتح شيئًا من َ‬ ‫ذلك داع ُ‬
‫اط وال تَ ْع َو ُّجوا؛ وفَو َق َ‬
‫ور‬
‫الستُ َ‬
‫وأن ُّ‬ ‫وأن األبواب المفتَّحةَ محارم ِ‬
‫الله‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫اإلسالم‪َّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫ط هو‬ ‫أن ِ‬
‫الصرا َ‬ ‫فأخبر َّ‬
‫س َرهُ‪َ ،‬‬ ‫فإنَّك إ ْن تَ ْفتَ ْحه تَلِ ْجهُ‪َّ ،‬‬
‫ثم فَ َّ‬
‫كل ُم ْؤِمن"‬‫قلب ِ‬‫الله في ِ‬ ‫ظ ِ‬ ‫اط هو القرآ ُن‪ ،‬والد ِ‬
‫َّاعي من فوقِه هو واع ُ‬ ‫الصر ِ‬
‫أس ِ‬ ‫الله‪ ،‬والد ِ‬
‫َّاعي على ر ِ‬ ‫دود ِ‬ ‫ال ُْمرخاةَ ُح ُ‬
‫(صحيح الترغيب)‪.‬‬

‫*******************************************‬

‫ص ِدقاً لِ َما‬ ‫ال ِعيسى ابن مريم يا بنِي إِسرائِيل إِنِي رس ُ ِ‬


‫ول اللَّه إِلَْي ُكم ُّم َ‬ ‫قال الله تعالى‪َ " :‬وإِ ْذ قَ َ َ ْ ُ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ َ ُ‬
‫اءهم بِالْب يِنَ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ب ين ي َد َّ ِ‬
‫ات‬ ‫َح َم ُد فَ لَ َّما َج ُ َ‬ ‫ي م َن الت َّْوَراة َوُمبَشراً بَِر ُسول يَأْتِي من بَ ْعدي ْ‬
‫اس ُمهُ أ ْ‬ ‫َْ َ َ‬
‫ِ‬
‫قَالُوا َه َذا س ْح ٌر ُّمبِ ٌ‬
‫ين"‬

‫(الصف ‪)4‬‬

‫الفائدة األولى‪ :‬أسلوب النداء من األساليب التي استعملها القرآن الكريم في مواضع وأغراض متعددة‪ ،‬ويبدو أن عيسى‬
‫عليه السالم استعمل هذا األسلوب في خطابه لبني إسرائيل لتنبيههم إلى أمر هام وتذكيرهم بما سيقوله‪ .‬وأيضا هناك‬
‫جانب رقّة في الموضوع وشفقة على قومه كما ذكرنا ذلك سابقا‪.‬‬

‫وقد استعمل األنبياء عليهم الصالة والسالم أسلوب النداء مع أقوامهم كما كان شأن موسى عليه السالم مع قومه‪َ " :‬وإِ ْذ‬
‫س ُك ْم ذَلِ ُك ْم َخ ْي ٌر لَّ ُك ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫س ُك ْم بات َْاذ ُك ُم الْع ْج َل فَتُوبُواْ إلَى بَا ِرئ ُك ْم فَاقْتُ لُواْ أَن ُف َ‬
‫وسى ل َق ْومه يَا قَ ْوم إنَّ ُك ْم ظَلَ ْمتُ ْم أَن ُف َ‬
‫ال ُم َ‬ ‫قَ َ‬
‫يم" (البقرة ‪ ،)32‬ونوح عليه السالم مع قومه‪" :‬لَ َق ْد أ َْر َسلْنَا نُوحاً إِلَى‬ ‫َّواب َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الرح ُ‬ ‫اب َعلَْي ُك ْم إِنَّهُ ُه َو الت َّ ُ‬ ‫عن َد بَا ِرئ ُك ْم فَ تَ َ‬
‫‪46‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬
‫ِ‬
‫اب يَ ْوم َع ِظيم" (األعراف ‪ ،)31‬وهود‬ ‫اف َعلَْي ُك ْم َع َذ َ‬
‫َخ ُ‬ ‫ال يَا قَ ْوم ا ْعبُ ُدواْ اللَّهَ َما لَ ُكم ِم ْن إِلَ ه غَْي ُرهُ إِنِ َي أ َ‬
‫قَ ْوِم ِه فَ َق َ‬
‫ال يَا قَ ْوِم ا ْعبُ ُدواْ اللهَ َما لَ ُكم ِم ْن إِلَ ه غَْي ُرهُ أَفَالَ تَتَّ ُقو َن" (األعراف‬ ‫اه ْم ُهوداً قَ َ‬‫َخ ُ‬‫عليه السالم مع قومه‪َ " :‬وإِلَى َعاد أ َ‬
‫‪.)13‬‬

‫التقرب منهم أكثر‪.‬‬


‫المالحظ أ ّن عيسى عليه السالم لم يستعمل كلمة يا قوم وإنّما ناداهم ببني إسرائيل ولعلّه أراد بذلك ّ‬
‫وُ‬
‫فعيسى عليه السالم يُعرف عنه اللطف والرقّة كما رأينا ذلك في آيات سابقة ولذلك استعمل نداء لطيفا‪ .‬وهذا النداء‬
‫اللطيف ينبغي أن يحرص عليه المسؤولون والقادة والدعاة والمربّون أل ّن نتائجه أفضل بكثير من النداء بقسوة أو بسخرية‬
‫كما يفعل البعض لألسف الشديد‪.‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين" (الذاريات ‪ ،)33‬ولذلك قام‬ ‫الفائدة الثانية‪ :‬التذكير أمر ربّاني كما قال سبحانه‪َ " :‬وذَك ْر فَِإ َّن الذ ْك َرى تَن َف ُع ال ُْم ْؤمن َ‬
‫ول اللَّ ِه إِلَْي ُكم" علّهم يتّبعونه‬
‫عيسى عليه السالم بتذكير بني إسرائيل بأنّه رسول من عند الله تعالى إليهم "إِنِي َر ُس ُ‬
‫ويتقبّلونه بشكل أكبر‪( .‬أي‪ :‬أرسلني الله ألدعوكم إلى الخير وأنهاكم عن الشر) (تفسير السعدي)‪.‬‬

‫وقد ذ ّكرهم عيسى عليه السالم في نفس الوقت بالله تعالى حيث ذكر بأنّه رسول من عند الله تعالى حتى ال ّ‬
‫يتسرب‬
‫إلى أذهانهم أنّه م ّدع للرسالة‪ ،‬فاألمر واضح بأنّه رسول يوحى عليه من عند الله تعالى وقد كلّفه الله تعالى بتبليغ الرسالة‬
‫إلى قومه وأنزل معه كتابا مق ّدسا هو اإلنجيل الذي يه الهدى والنور والمواعظ‪.‬‬

‫وقد ذ ّكرهم عيسى عليه السالم كذلك بعاقبة عدم اتباعه أل ّن كلمة رسول تقتضي أن في اتباعه نجاة وفي عدم اتّباعه‬
‫خسارة وهالك‪ ،‬وهذا شأن جميع األقوام الذين أرسل الله إليهم الرسل‪ ،‬فالذين اتّبعوا فلحوا ونجوا‪ّ ،‬أما الذين ك ّذبوا‬
‫فهلكوا في الدنيا وينتظرهم العذاب األليم يوم القيامة‪ .‬وهذا ينطبق على زماننا أيضا في شأن من اتبّع الرسول صلى الله‬

‫الجنَّةَ إالَّ َم ْن أبَى"‪َ .‬‬


‫قيل‪َ :‬وَم ْن يَأبَى يَا‬ ‫عليه وسلم ومن لم يتّبعه كما جاء في الحديث الشريف‪ُ " :‬ك ُّل أ َُّمتِي يَ ُ‬
‫دخلُو َن َ‬
‫صانِي فَ َق ْد أبَى" (رواه البخاري)‪.‬‬ ‫الجنَّةَ‪َ ،‬وَم ْن َع َ‬
‫ال‪" :‬من أَطَ َ ِ‬
‫اعني َد َخ َل َ‬ ‫َر ُسول الله قَ َ َ ْ‬
‫الفائدة الثالثة‪ :‬نسبة الفضل إلى أهله من أخالق الكرام وهذا كان شأن عيسى عليه السالم حيث ذكر في أكثر من‬
‫ي ِم َن الت َّْوَراةِ" (أي‪ :‬أتيت بجنس ما جاءت به التوراة وما جاء به موسى عليه‬
‫ص ِدقًا لِ َما بَ ْي َن يَ َد َّ‬
‫موضع بأنّه جاء " ُّم َ‬
‫السالم‪ ،‬وعالمة الصادق أن يكون خبره من جنس خبر الصادقين‪ ،‬يخبر بالصدق‪ ،‬ويأمر بالعدل من غير تخالف وال‬
‫تناقض)‪ .‬فذكر فضل التوراة وأنّه جاء مص ّدقا له وما جاء فيه‪.‬‬

‫من ناحية أخرى فإ ّن عيسى عليه السالم يذكر الفضل لموسى عليه السالم الذي جاء بالتوراة‪ ،‬فتصديق الكتاب يعني‬
‫يدل على العالقة المتينة بين األنبياء عليهم الصالة والسالم فهم في النهاية أخوة متحابّين‬ ‫تصديق من أُنزل عليه‪ ،‬وهذا ّ‬
‫كما جاء في الحديث الشريف‪" :‬األَنْبِياء إِ ْخوةٌ لِعالت أ َُّمهاتُهم َشتَّى و ِدين هم و ِ‬
‫اح ٌد" (رواه البخاري)‪ .‬ولعل في حادثة‬ ‫َ ُُ ْ َ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َُ َ َ‬
‫اإلسراء والمعراج ما يؤكد هذه الصلة الوثيقة حيث صلّى جميع األنبياء والرسل في مكان واحد‪.‬‬

‫‪47‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫وأخيرا فإن عيسى عليه السالم ينسب الفضل لله تعالى في كونه رسوال إلى بني إسرائيل وقد آتاه الله تعالى من اآليات‬
‫والحجج والبراهين وأنزل عليه اإلنجيل‪ ،‬فكل ذلك من فضل الله تعالى على عيسى عليه السالم‪ ،‬هذا غير فضل الله‬
‫تعالى في والدته وصغره وفضله على ّأمه الصديقة مريم عليها السالم‪ .‬فالفضل لله تعالى أوال وأخيرا على كل شيء‪.‬‬

‫بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫الفائدة الرابعة‪ :‬التبشير منهج قرآني أصيل وقد أورده عيسى عليه السالم حين ّ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫" َوُمبَ ِشراً بَِر ُسول"‪ ،‬وهو كذلك منهج األنبياء عليهم السالم كما وصفهم الله تعالى‪" :‬فَ بَ َع َ‬
‫ين ُمبَش ِر َ‬
‫ين" (البقرة‬ ‫ث اللهُ النَّبي َ‬
‫‪( )463‬يعني أنه أرسل رسال يبشرون من أطاع الله بجزيل الثواب‪ ،‬وكريم المآب) (تفسير الطبري)‪.‬‬

‫والتبشير عادة ما يُستخدم للخير واألمور الطيّبة‪ ،‬ولذلك استعمله القرآن الكريم في تبشير المؤمنين الذين يعملون‬
‫َن ل َُه ْم َجنَّات تَ ْج ِري ِمن تَ ْحتِ َها‬ ‫الصالِح ِ‬
‫ات أ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫الصالحات بالجنّة ورضوان الله تعالى‪َ " :‬وبَش ِر الَّذين َ‬
‫آمنُواْ َو َعملُواْ َّ َ‬
‫ار" (البقرة ‪ .)43‬وكذلك يأتي التبشير لمن اتّصف باألخالق الكريمة مثل الصبر كما قال سبحانه‪َ " :‬وبَ ِش ِر‬ ‫األَنْ َه ُ‬
‫َّ ِ‬
‫الصاب ِر َ‬
‫ين" (البقرة ‪.)633‬‬

‫والتبشير أفضل ما يكون في وقت األزمات والشدة ويكون بتبشير المؤمنين بالنصر والتمكين وأن الله تعالى سيكتب‬
‫كل ذلك إن قاموا بشروط هذه األمور مثل الصبر وعدم السخط والبذل واتخاذ األسباب‪.‬‬
‫لهم اليسر والخروج من األزمة‪ّ ،‬‬
‫ومن أجمل ما قرأت في منهج التبشير للنبي صلى الله عليه وسلم ما حدث في غزوة األحزاب بعد سماع خيانة بني‬
‫بشر المؤمنين بالنصر وقد حدث ذلك بفضل الله تعالى‪.‬‬
‫قريظة‪ ،‬فرغم شدة الموقف إال أن النبي صلى الله عليه وسلم ّ‬
‫الفائدة الْامسة‪ :‬صدق عيسى عليه السالم حين بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فهو صلى الله عليه وسلم رحمة‬
‫ِ ِ‬
‫اك إَِّال َر ْح َمةً لل َْعالَم َ‬
‫ين" (األنبياء ‪( )647‬يخبر تعالى أن الله جعل محمدا صلى‬ ‫للعالمين كما قال سبحانه‪َ " :‬وَما أ َْر َسلْنَ َ‬
‫الله عليه وسلم رحمة للعالمين‪ ،‬أي‪ :‬أرسله رحمة لهم كلهم) (تفسير ابن كثير)‪ ،‬ومن يتأمل حياته صلى الله عليه وسلم‬
‫يجد بأنّه كان فعال رحمة لجميع الناس‪ ،‬ليس فقط في عصره وإنما لمن بعده‪.‬‬

‫كل ذلك رحمة بنا حتى نفلح‬


‫ويكفي أنّه صلى الله عليه وسلم دلّنا على طرق الخير كلّه وح ّذرنا من طرق الشر كله‪ّ ،‬‬
‫جما أكثر من أنفسهم وأموالهم وأبنائهم‪ ،‬ولم يوجد في البشرية‬
‫ونسعد في الدنيا واآلخرة‪ .‬ولذلك فقد أحبّه الصحابة حبّا ّ‬
‫كحب ال صحابة للنبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وانتقل هذا الحب بعد ذلك إلى من بعده من المؤمنين‬
‫أحب شخصا ّ‬
‫من ّ‬
‫فأحبّوه حبّا كبيرا‪.‬‬

‫يبشر به عيسى عليه السالم لما له من فضل بعد الله تعالى على البشرية‬
‫استحق النبي صلى الله عليه وسلم أن ّ‬
‫ّ‬ ‫ولذلك‬
‫جمعاء‪ ،‬فهو الرحمة المهداة والسراج المنير‪ ،‬وحينما تتأمل الكتب والمحاضرات والندوات التي أقيمت من أجله‪ ،‬فستجد‬
‫أنّه أكثر شخصية تكلّم عنه الناس في جوانب مختلفة في حياته بل إنك تجد كتبا عديدة في جانب واحد من جوانب‬
‫حياته فكيف بالجوانب األخرى‪ .‬فعال إنّه أعظم شخصية على وجه األرض‪ ،‬صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا‪.‬‬

‫‪48‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫ليبشر برسول يأتي من بعده بوقت طويل؟ هذه الثقة‬ ‫الفائدة السادسة‪ :‬ما هذه الثقة التي عند عيسى عليه السالم ّ‬
‫الكبيرة التي عند عيسى عليه السالم جاءت من ثقته بالله تعالى وبما أمره به‪ ،‬فالله تعالى أخبره بأ ّن هناك رسوال سيأتي‬
‫من بعده اسمه أحمد‪ ،‬وأمره أن يخبر به قومه ففعل عيسى عليه السالم ما أخبره الله تعالى به‪.‬‬

‫وهذه الثقة المطلقة بما قاله الله تعالى كان دأب األنبياء وعلى رأسهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا ذلك من‬
‫قبل‪ .‬فاألمر الهام هنا أن نثق بكل ما قاله الله تعالى بما سيأتي في المستقبل من أمور الغيب سواء كان ذلك في الحياة‬
‫الدنيا أو في اآلخرة‪.‬‬

‫هذه الثقة سيمنحنا الطمأنينة والسكينة في حياتنا وهذا ال يعني عدم العمل‪ ،‬فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يثق بما‬
‫أخبره الله تعالى به ولكنّه في نفس الوقت كان يعمل ويبذل ويتّخذ جميع األسباب أل ّن هذا هو المنهج الصحيح‪،‬‬
‫فليس ألحد أن ي ّدعي الثقة وهو ال يعمل وإال فما فائدة أن يثق الشخص بأن هناك جنّة وهو ال يعمل الصالحات فإ ّن‬
‫ذلك لن ينفعه أبدا‪.‬‬

‫الفائدة السابعة‪ :‬نالحظ أن عيسى عليه السالم يخاطب بني إسرائيل برسول يأتي من بعده وبعدهم وفي ذلك داللة‬
‫على أ ّن هذا الرسول سيكون لجميع الناس وليس فقط إلى قومه كما كان حال األنبياء والرسل من قبله‪ .‬وفيه كذلك‬
‫تهيئة لبني إسرائيل لقبول هذا النبي الكريم‪.‬‬

‫وقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم بني إسرائيل في مواقف كثيرة‪ ،‬فقد صالحهم في بداية األمر ثم خانوا العهد وقاتلهم‬
‫وأجالهم‪ّ .‬أما عن اآليات التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في شأن بني إسرائيل فكثيرة‪ ،‬ويكفي في ذلك‬
‫سورة البقرة التي تح ّدثت بشكل مستفيض عن هؤالء القوم‪ ،‬وكان اليهود يسمعون هذه اآليات ومع ذلك فلم يؤمن إال‬
‫القليل‪.‬‬

‫وقد سعى عيسى عليه السالم لتهيئة األمر لبني إسرائيل عبر استعمال أسلوب لطيف وهو التبشير بقدوم هذا النبي‪،‬‬
‫وبالطبع فلن يلتقي هؤالء بالنبي صلى الله عليه وسلم ولكن سيسمع بهذا التبشير من بعده من بني إسرائيل على لسان‬
‫عيسى عليه السالم علّهم أن يؤمنوا به ويتّبعوه‪.‬‬

‫الفائدة الثامنة‪ :‬لماذا ك ّذب بعض األقوام بأنبيائهم أو اتّهموهم بالكذب أو السحر كما كان حال بني إسرائيل مع عيسى‬
‫عليه السالم حين قالوا أ ّن هذا سحر مبين رغم ما جاءهم من اآليات الواضحة؟ هناك عدة أسباب لذلك لكن يأتي‬
‫على رأسها الكبر والمعاندة‪.‬‬

‫ْح ِق َوقَالُوا َم ْن أَ َش ُّد ِمنَّا قُ َّوةً أ ََول َْم‬ ‫استَ ْكبَ ُروا فِي ْاأل َْر ِ‬
‫ض بِغَْي ِر ال َ‬ ‫وقد ذكر الله تعالى ذلك مثال عن قوم عاد "فَأ ََّما َعا ٌد فَ ْ‬
‫َن اللَّهَ الَّ ِذي َخلَ َق ُه ْم ُه َو أَ َش ُّد ِم ْن ُه ْم قُ َّوةً َوَكانُوا بِآيَاتِنَا يَ ْج َح ُدو َن" (فصلت ‪ ،)63‬وكذلك كان حال فرعون ومن‬ ‫يَ َرْوا أ َّ‬
‫ِِ‬ ‫استَ ْكبَ ُروا فِي ْاأل َْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين" (العنكبوت‬ ‫ض َوَما َكانُوا َسابق َ‬ ‫وسى بِالْبَ يِنَات فَ ْ‬ ‫اءهم ُّم َ‬ ‫ارو َن َوف ْر َع ْو َن َو َه َاما َن َولََق ْد َج ُ‬
‫معه " َوقَ ُ‬
‫‪ ،)31‬فالكبر يعمي القلب والبصيرة ويمنع اتّباع الحق‪.‬‬

‫‪49‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫رد الحق واحتقار الناس‪،‬‬ ‫الح ِق َوغَ ْم ُ‬
‫ط الن ِ‬
‫َّاس" (رواه مسلم) أي ّ‬ ‫فسر النبي صلى الله عليه وسلم الكبر بأنّه "بَطَُر َ‬
‫ولذلك ّ‬
‫فهؤالء المتكبّرون ال يعتبرون وال يقيمون وزنا لمن دعا إلى الحق ألنهم يظنّون أن الحق معهم وحدهم كما كان حال‬
‫الر َش ِ‬ ‫ِ َِّ ِ‬ ‫َِّ‬
‫اد" (غافر ‪.)41‬‬ ‫فرعون حين قال‪َ " :‬ما أُ ِري ُك ْم إال َما أ ََرى َوَما أ َْهدي ُك ْم إال َسب َ‬
‫يل َّ‬

‫الفائدة التاسعة‪ :‬من األسباب التي تمنع المك ّذبين من اتباع الرسل الْوف على مصالحهم من الثروات والجاه‬
‫حب الدنيا غلب عليهم فآثروا ما لديهم على ما عند الله‬
‫والسلطان‪ ،‬فمع أ ّن في اتّباع الرسل خير من ذلك كلّه إال أ ّن ّ‬
‫تعالى فخسروا بذلك خسرانا مبينا‪.‬‬

‫وحب الدنيا من المهلكات التي تهلك الشخص ألنّه يؤدي إلى فوات الكثير من الخير بل وقد يؤدي إلى معصية الله‬
‫ّ‬
‫تعالى‪ ،‬ولذلك ينبغي أن يعرف الشخص القدر الحقيقي للدنيا بالنسبة لآلخرة‪ ،‬فالدنيا مزرعة اآلخرة وعلى الشخص أن‬
‫كل تفكيره بحيث يشغله عن اآلخرة‪.‬‬
‫يعمل ويبذل في الدنيا من أجل اآلخرة وال يجعل الدنيا في قلبه ويسيطر على ّ‬
‫وقد جاءت آيات وأحاديث متعددة لبيان مكانة الدنيا الحقيقية وذلك حتى ال تسيطر حبّها على الشخص فيخسر‬
‫ِ ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الدنيا واآلخرة‪ .‬قال الله تعالى‪" :‬فَما متاع ال ِ‬
‫يل" (التوبة ‪ ،)31‬وفي الحديث الشريف‪:‬‬ ‫ْحيَاة الدُّنْ يَا في اْلخ َرة إالَّ قَل ٌ‬ ‫َ ََ ُ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ُصبُ َعهُ في اليَ ِم‪ ،‬فَ لْيَ ْنظُْر ب َم يَ ْرج ُع" (رواه مسلم)‪ّ ،‬‬
‫فحب الدنيا يؤدي‬ ‫" َما الدُّنْ يَا في اْلخ َرة إِالَّ مثْ ُل َما يَ ْج َع ُل أ َ‬
‫َح ُد ُك ْم أ ْ‬
‫إلى الحرص على المصالح المؤقتّة فيضيّع على نفسه الخير الكثير‪.‬‬

‫الفائدة العاشرة‪ :‬من األساليب التي يسعى إليها المك ّذبون بالرسل تشويه الرسول أو الرسالة كما كان ّ‬
‫رد بني إسرائيل‬
‫على عيسى السالم بأ ّن ما جاء به من البيّنات سحر مبين‪ .‬وقد حدث ذلك مع موسى عليه السالم حين اتّهمه فرعون‬
‫اد"‬
‫سَ‬ ‫اف أَن يُبَ ِد َل ِدينَ ُك ْم أ َْو أَن يُظْ ِه َر فِي ْاأل َْر ِ‬
‫ض الْ َف َ‬ ‫بأ ّن ما جاء سحر وأنّه جاء ليفسد على الناس دينهم "إِنِي أ َ‬
‫َخ ُ‬
‫(غافر ‪.)41‬‬

‫ليشوهوا صورته‬
‫كل ذلك ّ‬
‫وكذلك حدث مع النبي صلى الله عليه وسلم حين اتّهمه الكفار بأنه ساحر وكاهن وشاعر‪ّ ،‬‬
‫ويشوهوا رسالته كي ال يسمعه الناس‪ .‬وهذا التشويه له وسائل متعددة كالسخرية أو إطالق األلقاب أو تغيير‬
‫أمام الناس ّ‬
‫المفاهيم‪ .‬ومرة أخرى ينطلق هذا التشويه من الكبر الذي لدى هؤالء المك ّذبون‪.‬‬

‫ومادام صاحب الحق يعرف بأن الحق معه فال ينبغي له أن يلتفت إلى هذه األمور وإنما يكمل دعوته بكل ما أوتي من‬
‫وسائل مع االستعانة بالله تعالى أل ّن الحق سينتصر في النهاية مهما حاول اآلخرين تشويهه‪ .‬قال الله تعالى‪َ " :‬وقُ ْل َجاء‬
‫اطل َكا َن َزهوقاً" (اإلسراء ‪ ،)16‬وفي اآلية األخرى‪" :‬قُل جاء الْح ُّق وما ي ب ِدئ الْب ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اط ُل َوَما‬ ‫ْ َ َ َ َ ُْ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْح ُّق َوَزَه َق الْبَاط ُل إ َّن الْبَ َ‬
‫ال َ‬
‫يُِعي ُد" (سبأ ‪.)21‬‬

‫*******************************************‬

‫‪51‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫ابن َم ْريَ َم َر ُج ًال‬ ‫ِ‬
‫يسى ُ‬
‫عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‪َ " :‬رأَى ع َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫يس ِر ُق‪ ،‬فَ َ ِ‬
‫ ُ‬
‫آم ْن ُ‬
‫يسى‪َ :‬‬ ‫قال‪َ :‬ك َّال‪َ ،‬والذي ال إلَهَ إ َّال هو‪ ،‬فَقال ع َ‬ ‫ْ ُ َ‬ ‫يسى‪َ :‬س َرق َ‬
‫قال له ع َ‬ ‫َْ‬
‫ ُ نَ ْف ِ‬
‫سي"‪.‬‬ ‫باللَّ ِه َوَك َّذبْ ُ‬
‫(رواه مسلم)‪.‬‬

‫الفائدة األولى‪ :‬رغم أ ّن المجتمع كان يعيش فيه نبي كريم إال أنّه كان هناك معاص تُرتكب بل وأحيانا كبائر كما هو‬
‫يدل على أ ّن أي مجتمع ولو كان يعيش فيه‬
‫الحال في هذا الموقف حيث رأى عيسى عليه السالم رجال يسرق‪ .‬وهذا ّ‬
‫خير الناس ليس مجتمعا مثاليا وإنّما مجتمع يوجد فيه خير وشر‪.‬‬

‫وهذا األمر هو األصل وليس ما يدعو إليه البعض من ضرورة اختفاء المعاصي كلّيا وكون المجتمع مثاليا‪ ،‬فاألصل أن‬
‫يكون هناك خير وشر وحق وباطل يتدافعون فينتصر هذا تارة وينتصر اآلخر تارة أخرى‪ .‬وهذا ما يشهد به التاريخ في‬
‫جميع عصوره حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم‪.‬‬

‫وهذا ال يعني بحال من األحوال أن يقف المصلحون والدعاة ساكتين ومكتوفي األيدي‪ ،‬بل عليهم نشر الخير والدفاع‬
‫مر‬
‫عن الحق ونصح الناس بكل معروف وحكمة وهدايتهم إلى طريق الله تعالى‪ ،‬فهذا هو منهج األنبياء والعظماء على ّ‬
‫التاريخ‪ ،‬فمع كون المجتمع غير مثالي إال أ ّن الدعوة إلى الله تعالى ال ب ّد أن تستمر‪ ،‬والنتائج في النهاية بيد الله تعالى‬
‫اب" (الرعد ‪.)24‬‬ ‫ِ‬ ‫كما قال تعالى‪" :‬فَِإنَّ َما َعلَْي َ‬
‫س ُ‬‫غ َو َعلَْي نَا الْح َ‬
‫ك الْبَالَ ُ‬

‫الفائدة الثانية‪ :‬السرقة واحدة من أبشع الجرائم وهي كبيرة من الكبائر‪ ،‬وقد وضع الله تعالى لها عقوبة غليظة كما جاء‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم" (المائدة ‪،)31‬‬ ‫السا ِرقَةُ فَاقْطَ ُعواْ أَيْديَ ُه َما َج َزاء ب َما َك َ‬
‫سبَا نَ َكاالً م َن الله َواللهُ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬ ‫السا ِر ُق َو َّ‬
‫في قوله تعالى‪َ " :‬و َّ‬
‫وهذه العقوبة هي جزاء ما اقترفت يد السارق من أخذ شيء بغير وجه حق‪ .‬وكذلك فإن تنفيذ هذ العقوبة فيه ردع للناس‬
‫وتخويفا لهم من ارتكاب السرقة‪.‬‬

‫و (السارق‪ :‬هو من أخذ مال غيره المحترم خفية‪ ،‬بغير رضاه‪ .‬وهو من كبائر الذنوب الموجبة لترتب العقوبة الشنيعة‪،‬‬
‫وهو قطع اليد) (تفسير السعدي)‪ ،‬ويستوي في ذلك الذكر واألنثى‪ .‬والسرقة قد تكون ألي شيء مهما صغُر أو كبّر‬
‫سواء كان ماال أو سيارة أو مالبسا أو ذهبا أو غير ذلك‪.‬‬

‫والسرقة لها آثار سيئة على الفرد والمجتمع فهي تؤدي إلى أكل الحقوق والتأثير على أمن الناس وسالمتهم‪ ،‬كما أنها‬
‫في بعض األحيان تؤدي إلى جرائم أخرى كالقتل مما يزيد إثم فاعله‪ ،‬فناسب ذلك أن تكون عقوبة السرقة شديدة‬
‫سبَا نَ َكاالً ِم َن الل ِه" (أي‪ :‬مجازاة على صنيعهما السيئ في أخذهما أموال الناس‬ ‫ِ‬
‫ولذلك قال سبحانه‪َ " :‬ج َزاء ب َما َك َ‬
‫بأيديهم‪ ،‬فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك) (تفسير ابن كثير)‪.‬‬

‫‪50‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫آمنُوا إِن َجاء ُك ْم‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َ‬
‫الفائدة الثالثة‪ :‬التثب ُ منهج أصيل في اإلسالم أمر الله تعالى به صراحة كما في قوله‪" :‬يَا أَيُّ َها الذ َ‬
‫ين" (الحجرات ‪ ،)1‬وهذا ما فعله نبّي الله‬ ‫ِِ‬ ‫فَ ِ‬
‫اس ٌق بِنَ بأ فَ تَ ب يَّ نُوا أَن تُ ِ‬
‫صيبُوا قَ ْوماً بِ َج َهالَة فَ تُ ْ ِ‬
‫صب ُحوا َعلَى َما فَ َعلْتُ ْم نَادم َ‬ ‫َ َ‬
‫عيسى عليه السالم حين سأل الرجل‪ :‬سرقت؟‬

‫أهمها من ذكره الله تعالى في اآلية السابقة وهو (لئال تصيبوا قوما برآء مما قذفوا به بجناية بجهالة‬
‫والتثبّت له فوائد كثيرة ّ‬
‫بمجرد أن نقل فالن حديثا‬
‫منكم) (تفسير الطبري)‪ ،‬فقد يؤدي عدم التثبّت إلى اتّهام أشخاص أبرياء بما لم يفعلوه ّ‬
‫عنهم‪ .‬وكذلك قد يؤدي عدم التثبّت إلى قطع العالقات وانتشار الكراهية بين الناس وقد يؤدي إلى جرائم أكبر‪.‬‬

‫وبالتالي وجب علينا أن نتثبّت في حال وصول أمر مريب عن الطرف اآلخر وهذا مما يحافظ على الحياة األسرية وبيئة‬
‫بمجرد أن يتثبّت الشخص من هذا األمر يكون قد قطع أمورا سيئة كثيرة قد تكون سببا‬
‫العمل وبين الناس عموما إذ ّ‬
‫في حدوث مصائب‪.‬‬

‫الفائدة الرابعة‪ :‬الحكمة الكبيرة التي كانت لدى عيسى عليه السالم إذ بادر الشْص بالسؤال مع أنّه كان يمكنه‬
‫اإلبالغ عنه أو إخبار من حوله ألنّه رآه بعينه ولن ي ّكذبه أحد ولكنّه أراد عليه السالم أن ينقذه من العقوبة علّه يتوب‬
‫يكررها‪.‬‬
‫من هذه الفعلة وال ّ‬
‫وقد ذكرت الحكمة في فقرات سابقة أكثر من مرة وبالتالي فهي صفة مالزمة لعيسى عليه السالم إذ أ ّن تصرفاته كانت‬
‫حكيمة وموفّقة وهذا من توفيق الله تعالى أوال ألنه سبحانه هو الذي يمنح الحكمة كما قال‪" :‬يؤتِي ال ِ‬
‫شاءُ‬
‫ْح ْك َمةَ َمن يَ َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫اب" (البقرة ‪ ،)411‬والحظ بأ ّن الله تعالى مدح‬ ‫ت ال ِ‬
‫ْح ْك َمةَ فَ َق ْد أُوتِي َخ ْيراً َكثِيراً َوَما يَ َّذ َّكر إِالَّ أ ُْولُواْ األَلْبَ ِ‬ ‫َوَمن يُ ْؤ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫هؤالء الحكماء "فَ َق ْد أُوتِ َي َخ ْيراً َكثِيراً"‪ .‬والحكمة تأتي كذلك من العلم والخبرة واللتان كانتا لدى عيسى عليه السالم‬
‫وتدل مواقفه الكثيرة ومنها اآليات التي ذكرناها سابقا على ذلك‪ .‬وتأتي الحكمة كذلك من القراءة ودراسة الواقع‬
‫ّ‬
‫ومجالسة الحكماء والخبراء وسماع مواقفهم وخبراتهم‪.‬‬

‫والحكمة المطلقة هو عند الله تعالى ولذلك كان من أسمائه (الحكيم) والذي يعني (الحكيم في أفعاله وأقواله وقدره‪،‬‬
‫صف القرآن بالحكيم ألنّه من عند الحكيم‬ ‫فيضع األشياء في محالها بحكمته وعدله) (تفسير ابن كثير)‪ ،‬ولذلك و ِ‬
‫ُ‬
‫سبحانه وألنه يورث الشخص الحكمة لمن تدبّره وعمل به‪.‬‬

‫الفائدة الْامسة‪ :‬السؤال من األساليب التي استعملها القرآن الكريم واستعملها األنبياء عليهم الصالة والسالم إذ أ ّن‬
‫لها فوائد عدة إذ استعمله عيسى عليه السالم في التثبّت وعدم االستعجال في الحكم‪ .‬وقد كان السؤال قصيرا وواضحا‬
‫وبالتالي جاءت اإلجابة واضحة‪.‬‬

‫مكررا بكثرة وألغراض متعددة‪ ،‬تأمل مثال في قوله تعالى‪" :‬أَ ْم ُخلِ ُقوا‬
‫وإذا تأملنا في القرآن الكريم نجد هذا األسلوب ّ‬
‫ِم ْن غَْي ِر َش ْيء أ َْم ُه ُم الْ َْالُِقو َن" (الطور ‪ )33‬فهنا يأتي السؤال لالستنكار على الك ّفار وكذلك للتفكير في هذا األمر‬
‫الذي يختص به الله تعالى فقط‪ .‬ومثل ذلك في آيات كثيرة أخرى حيث يأتي السؤال في صيغة بديعة ومناسبة للحدث‪.‬‬

‫‪52‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫واستعمل الرسول صلى الله عليه وسلم السؤال كذلك مع أصحابه في مناسبات متعددة‪ .‬جاء في الحديث الشريف‪:‬‬
‫وم‬ ‫إن الم ْف ِ‬ ‫ره َم لَهُ وال َمتَاع‪ ،‬فَ َق َ َّ‬ ‫ِ‬ ‫"أتدرو َن م ِن الم ْفلِس "‪ ،‬قالوا‪ :‬الم ْف ِ‬
‫لس م ْن أ َُّمتي َم ْن يأتي يَ َ‬ ‫ال‪َ ُ " :‬‬ ‫لس فينَا َم ْن ال د َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ ُ‬
‫ب َه َذا‪،‬‬ ‫ض َر َ‬
‫ك َد َم َه َذا‪َ ،‬و َ‬
‫وس َف َ‬
‫مال َه َذا‪َ ،‬‬
‫ف َه َذا‪َ ،‬وأَ َك َل َ‬‫القيام ِة بصالة وصيام وَزكاة‪ ،‬ويأتي وقَ ْد َشتَ َم َه َذا‪ ،‬وقَ َذ َ‬
‫َ‬
‫اياهم فَطُ ِر َح ْ‬
‫ ُ‬ ‫ِ ِ‬ ‫في عطَى ه َذا ِمن حسنَاتِِه‪ ،‬وه َذا ِمن ح ِ‬
‫سناته‪ ،‬فإ ْن فَنِيَ ْ‬
‫من َخطَ ُ‬ ‫سناتُه قَ ْبل أ ْن يُقضى َما َعلَيه‪ ،‬أُخ َذ ْ‬‫ ُ َح َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ُْ َ ْ َ َ‬
‫ِح في النَّا ِر" (رواه ُمسلم)‪ ،‬فاستخدم النبي صلى الله عليه وسلم السؤال لغرض تربوي ولتغيير المفاهيم‬ ‫ِ‬
‫َعلَيه‪ ،‬ثُ َّم طُر َ‬
‫بصورة جديدة‪ .‬السؤال من أقوى الوسائل في التربية والتعليم والمعرفة والقيادة وغيرها‪.‬‬

‫الفائدة السادسة‪ :‬الحلف بالله تعالى أمر عظيم جدا وال يجوز التهاون أو اللعب بهذا األمر أل ّن الحلف بالله تعالى‬
‫يقتضي أ ّن الشخص يقول الصدق والحقيقة‪ .‬وإن كان غير ذلك‪ ،‬فقد وقع في معصية عظيمة وعليه التوبة واالستغفار‪.‬‬
‫والحلف ال ينبغي أن يكون إال بالله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم‪" :‬فَ َم ْن َكا َن َحالِفاً‪ ،‬فَ ْليَ ْحلِ ْ‬
‫ف بِ ِ‬
‫الله‪ ،‬أ َْو‬
‫ف بِغَي ِر ِ‬
‫الله‪ ،‬فقد َك َف َر أ َْو أ ْش َر َك" (رواه الترمذي)‪.‬‬ ‫ ُ" (متفق علْي ِه)‪ .‬وفي الحديث اآلخر‪َ " :‬م ْن َحلَ َ‬
‫ص ُم ْ‬ ‫ِ‬
‫ليَ ْ‬
‫وينبغي مع الحلف بالله تعالى أن يكون الشخص صادقا فما يقول وإال انقلبت عليه معصية‪ .‬جاء في الحدث الشريف‪:‬‬
‫ول ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫الله ‪‬‬ ‫ال‪ :‬فَ َق َرأ ََها َر ُس ُ‬
‫َليم"‪ ،‬قَ َ‬
‫بأ ٌ‬ ‫"ثَالَثَةٌ الَ يُ َكل ُم ُه ُم اللهُ يَ ْو َم القيَ َامة‪َ ،‬والَ يَ ْنظُُر إل َْي ِه ْم‪َ ،‬والَ يُ َزكيِ ِه ْم َول َُه ْم َع َذا ٌ‬
‫ف‬‫ال‪" :‬المسبِل‪ ،‬والمنَّا ُن‪ ،‬والم ْن ِف ُق ِسل َْعتَهُ بالحلِ ِ‬ ‫ال أَبو ذر‪َ :‬خابوا َ ِ‬ ‫َ ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫وخس ُروا َم ْن ُه ْم يَا رسول الله قَ َ ُ ْ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ثالث مرار‪ :‬قَ َ ُ‬
‫ب" (رواه مسلم)‪ .‬فالذي يحلف كاذبا له عذاب أليم من الله تعالى‪.‬‬ ‫اذ ِ‬‫ال َك ِ‬

‫والحلف الكاذب من صفات المنافقين كما جاء في القرآن الكريم في آيات متعددة كقوله تعالى‪" :‬يَ ْحلِ ُفو َن بِالل ِه َما‬
‫قَالُواْ َولَ َق ْد قَالُواْ َكلِ َمةَ الْ ُك ْف ِر َوَك َف ُرواْ بَ ْع َد إِ ْسالَِم ِه ْم َو َه ُّمواْ بِ َما ل َْم يَنَالُواْ" (التوبة ‪ .)72‬فينبغي للشخص أن يحرص‬
‫حين حلفه على الصدق والحقيقة مع حرصه على أال يحلف إال بالله تعالى‪ ،‬واألفضل له أن يتجنّب الحلف قدر‬
‫بالتجار الذين يبيعون سلعا مختلفة أو برجال األعمال أو‬ ‫اإلمكان حتى ال يقع في حرج وهذا األمر متعلّق بشكل أكبر ّ‬
‫بالقادة والمدراء‪.‬‬

‫الفائدة السابعة‪ :‬تعظيم الله تعالى ينبغي أن يكون في قلب العبد دائما ولذلك كان ّ‬
‫رد عيسى عليه السالم واضحا‬
‫حينما سمع الشخص يحلف بالله تعالى أنّه لم يسرق‪ ،‬فرغم أ ّن عيسى عليه السالم رآه رأي العين إال أنّه عظّم كالم‬
‫الرجل حين حلف بالله تعالى‪.‬‬

‫تأمل حين يتعامل الشخص مع عظيم من عظماء الدنيا كيف يحترمه‬ ‫وتعظيم الله تعالى له أثر كبير على الشخص‪ّ .‬‬
‫ويق ّدره ويسعى في خدمته واتّباع أوامره‪ ،‬فاألمر مع الله تعالى أولى إذ هو العظيم سبحانه وله العظمة المطلقة ولذلك‬
‫حين يستشعر الشخص هذه العظمة فإ ّن ذلك سيقوده إلى طاعته سبحانه باتّباع أوامره واجتناب نواهيه‪.‬‬

‫والعظيم سبحانه هو (الذي تتضاءل عند عظمته جبروت الجبابرة‪ ،‬وتصغر في جانب جالله أنوف الملوك القاهرة‪،‬‬
‫فسبحان من له العظمة العظيمة والكبرياء الجسيمة والقهر والغلبة لكل شيء) (تفسير السعدي)‪ .‬ومن عظمته سبحانه‬
‫أنّه خلق مخلوقات عظيمة كالسموات والنجوم والجبال‪ ،‬وكذلك فإّنه سبحانه يعطي أجرا عظيما لكل من عمل‬

‫‪53‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫فحري بنا أن‬
‫ّ‬ ‫المحرمات فهو سبحانه ذو الفضل العظيم الذي ال ينتهي وال نستطيع أن نحصيه‬
‫ّ‬ ‫الصالحات واجتنب‬
‫نعظّمه سبحانه دائما‪.‬‬

‫الفائدة الثامنة‪ :‬يحتاج الشخص أن يذكر نفسه دائما باإليمان بالله تعالى كما فعل عيسى عليه السالم حين قال‪:‬‬
‫(آمنت بالله)‪ ،‬فرغم أ ّن عيسى عليه السالم من أفضل الخلق ومن أولي العزم من الرسل وبالتالي هو من أعلى الخلق‬
‫إيمانا بالله تعالى‪ ،‬رغم ذلك كلّه‪ ،‬ذ ّكر نفسه وقال‪( :‬آمنت بالله)‪.‬‬

‫فإن كان هذا الفعل من هذا النبي الكريم‪ ،‬فماذا نقول نحن؟ نحتاج إلى تجديد إيماننا في كل حين خاصة مع انتشار‬
‫وتشجع على االبتعاد عنه سبحانه بزعم أ ّن ذلك يجلب السعادة‬
‫ّ‬ ‫موجات وأفكار كثيرة تؤثّر على اإليمان بالله تعالى‬
‫والحرية للشخص‪ ،‬ونسي هؤالء بأ ّن ذلك يعني الخسارة الحقيقية في الدنيا واآلخرة‪.‬‬

‫كم" (صحيح الجامع)‪،‬‬‫ِ‬ ‫ِ‬


‫فاسألُوا اللهَ تعالَى‪ :‬أ ْن يُ َجد َد اإليما َن في قُلوب ْ‬
‫ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث‪ْ " :‬‬
‫ومن الوسائل المعينة على ذلك ذكر الله تعالى والحرص على العبادات كالصالة وقراءة القرآن وكذلك الحرص على‬
‫حضور مجالس العلم التي تذ ّكر بالله تعالى وسماع العلماء‪ .‬كل ذلك ينبغي أن يكون في توازن مع أمور الحياة األخرى‬
‫اعةً" (رواه مسلم)‪.‬‬
‫وس َ‬ ‫كما قال صلى الله عليه وسلم لحنظلة‪" :‬ل ِ‬
‫اعةً َ‬
‫َك ْن يَا َحنْظَلَةُ َس َ‬

‫الفائدة التاسعة‪ :‬اتهام النفس بالتقصير من شيم العظماء أل ّن ذلك سبيل إلى عدم العجب بها ولذلك قال عيسى عليه‬
‫ ُ نَ ْف ِسي) فالنفس تقول لعيسى عليه السالم بأ ّن الرجل سارق ألنّه رآه ولكن أل ّن الرجل حلف بالله‬
‫السالم‪َ ( :‬وَك َّذبْ ُ‬
‫تعالى وهو أمر عظيم فقد خالف عيسى عليه السالم نفسه وعظّم الله تعالى‪.‬‬
‫الس ِ‬
‫وء" (يوسف ‪( )33‬أي‪:‬‬ ‫س أل ََّم َارةٌ بِ ُّ‬ ‫ِ َّ‬
‫والنفس قد تكون ّأمارة بالسوء في كثير من األحيان كما قال سبحانه‪" :‬إن النَّ ْف َ‬
‫لكثيرة األمر لصاحبها بالسوء‪ ،‬أي‪ :‬الفاحشة‪ ،‬وسائر الذنوب‪ ،‬فإنها مركب الشيطان‪ ،‬ومنها يدخل على اإلنسان) (تفسير‬
‫السعدي)‪ ،‬ولذلك فإ ّن مجاهدة النفس تح ّد كبير للشخص في هذه الحياة الدنيا‪ ،‬وهي مستمرة مع الشخص إلى آخر‬
‫لحظة من حياته أل ّن الشيطان والنفس ال تتركان الشخص حتى تورده المهالك بأي طريقة وبأي حجم‪.‬‬

‫ومن سبل هذه المجاهدة اتهام النفس بالتقصير حتى يقوم الشخص باإلقبال على الله تعالى أكثر ويزيد في طاعاته‬
‫ولكن ينبغي الحذر بأال يؤدي هذا االتهام إلى أن ييأس الشخص من رحمة الله تعالى فهذا أيضا من طرق الهالك‪،‬‬
‫ولكن األصل أن يراقب الشخص نفسه لئال يصل إلى العُجب بأعماله وبنفسه‪ ،‬فهذا العُجب محبط لألعمال‪ .‬طلب‬
‫اإلعانة والتوفيق من الله تعالى دائما أمر أساسي كذلك في سبيل هذه المجاهدة الدائمة للنفس فال ينبغي للشخص أن‬
‫يغفل عنه‪.‬‬

‫الفائدة العاشرة‪ :‬يشير هذا الحديث بشكل واضح إلى عظمة عيسى عليه السالم‪ ،‬العظمة في إيمانه بالله تعالى‪،‬‬
‫يدل على أنّه قدوة‬
‫العظمة في أخالقه‪ ،‬العظمة في حكمته‪ ،‬العظمة في تعامله‪ ،‬العظمة في أقواله وغير ذلك‪ .‬وكل ذلك ّ‬
‫حسنة لنا كمسلمين حيث نستفيد منه عليه السالم في كل موقف ذُكر عنه‪.‬‬

‫‪54‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحرص على أن يتعلّم الصحابة وأن نتعلّم نحن من عيسى عليه السالم ولذلك ذكر له‬
‫مر علينا موقفا مشابها واألهم من ذلك أن نتعلّم منه الدروس التي ذكرنا طرفا منها‬
‫هذا الموقف حتّى يكون قدوة لنا إذا ّ‬
‫في الفوائد السابقة‪.‬‬

‫تكمن أهمية ذكر مواقف العظماء والقدوات الحسنة في أنّها تش ّكل جانبا هاما من جوانب التربية حيث تزول العقبات‬
‫أما تطبيق أمر معيّن‪ ،‬فقد يقول قائل‪ :‬كيف لنا أن نترك سارقا رأيته بعيني حتى لو حلف بالله تعالى‪ ،‬فنقول بأ ّن عيسى‬
‫عليه السالم قد فعل ذلك وهو قدوة لنا‪ .‬ومع ذلك فال ينبغي أن يُفهم بأنّه يجب ترك جميع السارقين الذين يحلفون‬
‫بالله تعالى أنهم لم يسرقوا‪ ،‬فاألصل هو التثبّت بالوسائل المتوفرة ّثم اتخاذ اإلجراءات الالزمة في حق هذا الشخص‪.‬‬

‫*******************************************‬

‫اعةُ حتَّى يَ ْن ِز َل‬


‫الس َ‬
‫وم َّ‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‪" :‬ال تَ ُق ُ‬
‫ِ‬ ‫ضع ِ‬ ‫ِ‬ ‫فِي ُكم ابن مريم ح َكما م ْق ِسطًا‪ ،‬فَ ي ْك ِسر َّ ِ‬
‫يض‬
‫الج ْزيَةَ‪ ،‬ويَف َ‬ ‫يب‪ ،‬ويَ ْقتُ َل الْ ْن ِز َير‪ ،‬ويَ َ َ‬
‫الصل َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ ُ َ ََْ َ ً ُ‬
‫أح ٌد"‪.‬‬
‫المال‪ ،‬حتَّى ال يَ ْقبَ لَهُ َ‬
‫ُ‬
‫(رواه البْاري)‬

‫الفائدة األولى‪ :‬اإليمان باليوم اْلخر ركن من أركان اإليمان أي ال يكتمل إيمان العبد إال به‪ ،‬وهذا الركن العظيم من‬
‫أكثر ما حرص القرآن ا لكريم والسنة النبوية على ترسيخه والتذكير به من خالل آيات كثيرة وبوسائل متعددة‪ .‬واإليمان‬
‫سمى بالبرزخ ثم ما يحصل بعد ذلك من بعث‬
‫باليوم اآلخر يشمل اإليمان بالموت وما يتبعه من حياة القبر أو ما يُ ّ‬
‫وحساب ثم المصير إلى الجنة أو النار‪.‬‬

‫ولذلك نرى بأ ّن القرآن الكريم والسنة النبوية قد ركزا على اإليمان باليوم اْلخر بشكل كبير ألنه يحتوي على مواقف‬
‫أهمها هو اإليمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته أل ّن كثيرا من هذه األسماء‬
‫كثيرة‪ ،‬وثمرات اإليمان باليوم اآلخر كثيرة ّ‬
‫والصفات تظهر في أحداث اليوم اآلخر كقدرته وعلمه ورحمته وعظمته سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫ثم يدفع اإليمان باليوم اآلخر كذلك إلى اإلقبال على الله تعالى‪ ،‬فعندما يعلم الشخص مصيره وأ ّن حياته في قبره مرتبطة‬
‫بأعماله وأ ّن مصيره النهائي بعد ذلك مرتبطة كذلك بأعماله‪ ،‬فإنه سيقبل على طاعة الله تعالى خاصة بأ ّن هذا المصير‬
‫هو الشيء الدائم‪ّ ،‬أما الحياة الدنيا فهي ال شيء بالنسبة إلى اآلخرة ولذلك يقول الناس بعد أن يسألهم الله تعالى‪:‬‬
‫ادي َن"‬ ‫َ‬ ‫َْ ْ َ ْ َ َْ ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ال َك ْم لَبِثْ تُ ْم فِي ْاأل َْر ِ‬
‫ض َع َد َد ِسنِين" (المؤمنون ‪ ،)664‬فيردون‪" :‬قَالُوا لَبِثْ نَا ي وماً أَو ب عض ي وم فَاسأ َْل الْع ِ‬ ‫"قَ َ‬
‫(المؤمنون ‪ ،)663‬فالحياة الدنيا قصيرة جدا واألصل أن يعمل الشخص للحياة الحقيقية وهي اآلخرة‪.‬‬

‫ويتحجج بأنه لم يعلم أ ّن‬


‫ّ‬ ‫الفائدة الثانية‪ :‬من رحمة الله تعالى بنا أن جعل ليوم القيامة عالمات حتى ال يأتي شخص‬
‫هناك يوم آخر‪ ،‬فظهور هذه العالمات دليل على اقتراب يوم القيامة‪ .‬وهذه العالمات منها الصغرى ومنها الكبرى وقد‬
‫جاءت في القرآن الكريم والسنة النبوية‪.‬‬
‫‪55‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬
‫والعالمات الصغرى كثيرة وقد جاءت بعضها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مثل بعثته صلى الله عليه وسلم كما‬
‫إصب عْي ِن – (رواه البخاري)‪ ،‬ومنها حادثة انشقاق‬ ‫ِ‬
‫اعةُ َكهاتَ ْي ِن" ‪ -‬ي ْعني ْ‬
‫والس َ‬
‫ ُ أنا َّ‬‫جاء في الحديث الشريف‪" :‬بُِعثْ ُ‬
‫ش َّق الْ َق َم ُر" (القمر ‪ .)6‬وهناك العالمات الكبرى التي تعني وقوعها‬
‫اعةُ َوان َ‬
‫الس َ‬ ‫القمر كما قال الله تعالى‪" :‬اقْتَ رب ِ‬
‫ ُ َّ‬ ‫ََ‬
‫قرب يوم القيامة كنزول عيسى عليه السالم كما ورد في هذا الحديث وكخروج الدابة وظهور يأجوج ومأجوج وغيرها‪.‬‬

‫وهذه العالمات تش ّكل تنبيها لنا بأن نستمر في عمل الصالحات أل ّن يوم القيامة قد يأتي في أي وقت‪ ،‬بل إ ّن موت‬
‫الشخص الذي قد يكون من غير إنذار يعني أنّه قد اقترب من يوم القيامة وبالتالي يجب على الشخص أن يعمل‬
‫الصالحات حتى يلقى الله تعالى على خير‪.‬‬

‫الفائدة الثالثة‪ :‬نزول عيسى عليه السالم من عالمات الساعة الكبرى وهو حاصل ال محاله كما أ ّكد النبي صلى الله‬
‫ِ‬
‫ابن َم ْريَ َم" أي أنّه عليه السالم سينزل قبل قيام‬ ‫اعةُ حتَّى يَ ْن ِز َل في ُك ُم ُ‬‫الس َ‬
‫وم َّ‬
‫عليه وسلم في هذا الحديث بقوله‪" :‬ال تَ ُق ُ‬
‫القيامة وذلك أل ّن الله تعالى قد رفعه إليه كما قال سبحانه‪" :‬بَل َّرفَ َعهُ اللهُ إِلَيْ ِه َوَكا َن اللهُ َع ِزيزاً َح ِكيماً" (النساء ‪.)631‬‬

‫ّأما عن كيفية الرفع ومكانه فهذا عند الله تعالى ونحن نؤمن بما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية بأ ّن الله تعالى قد‬
‫رفعه إليه في مكان ال يعلمه إال الله تعالى فهذا مما ال ينبغي الخوض فيه كثيرا ألنّه ال يترتب عليه شيء‪ ،‬أ ّما عندما ينزل‬
‫بأمر الله تعالى‪ ،‬فهذا مما ينبغي معرفته ودراسته ألنه سيقوم بأمور متعددة وكذلك أل ّن في نزوله قرب قيام القيامة‪.‬‬

‫وارتباط نزول عيسى عليه السالم بقيام القيامة دليل على قدره العالي ومنزلته الرفيعة عند الله تعالى إذ أنّه سيقوم‬
‫بأعمال جليلة جدا قبل قيام القيامة مثل نشر التوحيد وإقامة العدل وتطبيق شرع الله تعالى‪ .‬فهذا النبي الكريم هو الذي‬
‫الدجال كما جاء ذلك في األحاديث الصحيحة فيخلّص األرض من شر عظيم وفتنة عظيمة كما قال‬ ‫سيقتل المسيح ّ‬
‫ش ُّر غَائِب يُ ْن تَظَُر" (رواه الترمذي)‪.‬‬
‫ال‪ ،‬فَ َ‬
‫عنه النبي صلى الله عليه وسلم‪" :‬أ َْو الدَّج َ‬

‫الفائدة الرابعة‪ :‬إقامة العدل بين الناس من المقاصد الرئيسة في اإلسالم ولذلك قال الله تعالى‪َ " :‬وإِذَا َح َك ْمتُم بَ ْي َن‬
‫اس أَن تَ ْح ُك ُمواْ بِال َْع ْد ِل" (النساء ‪ ،)31‬وفي اآلية األخرى‪" :‬إِ َّن اللهَ يَأ ُْم ُر بِال َْع ْد ِل" (النحل ‪ ،)14‬فاألمر هنا صريح‬
‫النَّ ِ‬
‫وواضح في إقامة العدل خاصة من تكون لديه مسؤولية‪ ،‬وكلّما زادت هذه المسؤولية كمن يحكم الناس مثال‪ ،‬صارت‬
‫إقامة العدل في ح ّقه أوجب‪.‬‬

‫ولذلك‪ ،‬فعندما ينزل عيسى عليه السالم فإنّه يحكم بالعدل " َح َك ًما ُم ْق ِسطًا" تطبيقا لما أمر الله تعالى به وهذا مما‬
‫ويقوي أواصر‬
‫علو منزلته وكونه قوة حسنة حتّى للقادة والح ّكام‪ .‬فإقامة العدل يضمن وصول الحقوق إلى أصحابه ّ‬
‫يبيّن ّ‬
‫المحبة بين الناس‪ ،‬كما أنه يضمن االستقرار وانتشار األمن وتقليل الجرائم‪.‬‬

‫ين يَ ْع ِدلُو َن في ُح ْك ِم ِه ْم وأ َْهلِْي ِهم َوَما‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫إن الم ْق ِس ِط ِ‬


‫ين ع ْن َد الله َعلَى َمنَاب َر م ْن نُور‪ :‬الذ َ‬
‫َ‬ ‫جاء في الحديث الشريف‪ُ َّ " :‬‬
‫َول ُْوا" (رواه مسلم)‪ ،‬وفي الحديث اآلخر عن السبعة الذين يظلّهم الله في ظله يوم ال ّ‬
‫ظل إال ظله – وذكر منهم –‬
‫"إِم ِ‬
‫يحب المقسطين وأنّهم من أهل الجنّة كما جاء في الحديث الشريف‪:‬‬ ‫ام عاد ٌل" (متفق عليه)‪ .‬ويكفي أ ّن الله تعالى ّ‬ ‫ٌَ‬
‫الجن َِّة ثَالَثَةٌ – وذكر منهم ‪ -‬ذُو ُسلطان ُم ْق ِس ٌ‬
‫ط ُم َوفَّ ٌق" (رواه مسلم)‪.‬‬ ‫أهل َ‬
‫" ُ‬
‫‪56‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬
‫الفائدة الْامسة‪ :‬الحرص على نشر وإقامة التوحيد من أهم مقاصد الشريعة وهو في ّ‬
‫حق الحكام والقادة أعظم ولذلك‬
‫يب الذي يعظّمه النصارى لكي يرسل رسالة للجميع‬ ‫أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السالم ي ْك ِسر َّ ِ‬
‫الصل َ‬ ‫َ َ‬
‫بأ ّن الله تعالى هو الفرد الصمد الواحد األحد الذي لم يلد ولم يولد‪ ،‬وأنّه – أي عيسى عليه السالم – ليس إلها أو ابن‬
‫الله كما زعم هؤالء وإنما عبد الله تعالى يقيم شرعه ويتّبع أوامره‪.‬‬

‫ولذلك كان األنبياء عليهم الصالة والسالم حريصون على نشر التوحيد الخالص بين الناس بل إن هدف رسالتهم‬
‫األساسية كانت لتأكيد هذا األمر الهام‪ ،‬وما حدث اإلعراض والص ّد من كثير من األقوام إال لرفضهم التوحيد وحرصهم‬
‫على الشرك والكفر‪.‬‬

‫وهذا العناد من هؤالء كان لحرصهم على مصالحهم الخاصة وخوفهم من ضياعها أو خوفهم من أعدائهم وجيرانهم‪ ،‬وكل‬
‫ذلك أعذار ال تحمي صاحبها إذ أ ّن في التوحيد نجاة وفالح وقوة وأمان كما شهد بذلك التاريخ‪ ،‬فالنبي صلى الله‬
‫عليه وسلم كان في دولة صغيرة مقارنة بالروم والفرس ولكنّه استطاع بتوفيق الله تعالى أن يهزمهم جميعا وسار على نهجه‬
‫الكثير ممن كانوا على التوحيد ففتحوا البالد وقلوب الناس وأصبح اإلسالم إلى يومنا هذا من أكثر األديان انتشارا بين‬
‫الناس‪.‬‬
‫الفائدة السادسة‪ :‬حرم الله تعالى أكل لحم الخنزير كما قال تعالى‪" :‬إِنَّما ح َّرم َعلَي ُكم الْمي تةَ والدَّم ولَحم ال ِ‬
‫ْْن ِزي ِر"‬ ‫َ َ َ ْ ُ ََْ َ َ َ ْ َ‬ ‫ّ‬
‫(البقرة ‪ ،)673‬ولذلك يقوم عيسى عليه السالم بقتل الخنازير موافقة لحكم الله تعالى في تحريم أكله وتغليظا في‬
‫حرمته‪ ،‬وهذه كذلك رسالة للنصارى بأ ّن عيسى عليه السالم يتّبع ما أمر الله تعالى به من تحريم أكل لحم الخنزير الذي‬
‫ينتشر أكله عندهم‪.‬‬

‫ومهما أثبت العلم وتكلّم العلماء من عواقب أكل الخنزير كحصول بعض األمراض أو التأثير على الغيرة‪ ،‬فإ ّن األصل هو‬
‫امتثال أمر الله تعالى والتسليم له وهذا ما أوصى الله تعالى به المؤمنين بأن يقولوا دائما (سمعنا وأطعنا) وليس كما‬
‫قال بنو إسرائيل (سمعنا وعصينا)‪ ،‬فالسمع والطاعة هو ما ينبغي للمؤمن فعله حين سماع أمر أو نهي من الله تعالى‪،‬‬
‫فإذا جاء العلم ليثبت بعد ذلك أمرا كان ذلك حسنا ولكن ال ينبغي االعتماد على العلم أوال وإنما ما قاله الله تعالى‪.‬‬

‫الحل‪ ،‬فما أحلّه الله تعالى من طعام وشراب أكثر بكثير‬


‫المحرمات بشكل عام في اإلسالم محدودة فاألصل هو ّ‬
‫ودائرة ّ‬
‫حرم الله تعالى لحم الخنزير أل ّن هناك لحوما كثيرة أخرى يمكن‬
‫حرمه سبحانه ولذلك ال ينبغي لعاقل أن يقول لماذا ّ‬
‫مما ّ‬
‫ّ‬
‫أن يأكله الشخص ويؤدي في النهاية نفس الفائدة أو الغرض‪ ،‬وينطبق هذا األمر على أي أمر آخر‪ ،‬فالجدال ليس‬
‫محمودا في هذه األمور‪.‬‬

‫الفائدة السابعة‪ :‬الجزية هي (المال الذي يكون جزاء لترك المسلمين قتالهم‪ ،‬وإقامتهم آمنين على أنفسهم وأموالهم‪،‬‬
‫بين أظهر المسلمين‪ ،‬يؤخذ منهم كل عام‪ ،‬كل على حسب حاله‪ ،‬من غني وفقير ومتوسط) (تفسير السعدي)‪ ،‬وهو‬
‫في حقيقة األمر في صالح من يُؤخذ منه أل ّن المسلمين يكفلون له كل الحقوق مقابل مبلغ يسير إن كان قادرا على‬
‫دفعه‪ ،‬باإلضافة إلى ذلك فإ ّن في ذلك مصلحة للمسلمين‪.‬‬

‫‪57‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫وعندما ينزل عيسى بن مريم عليه السالم فإنه يضع الجزية أي يوقِ ُفها وذلك ألنّه يحمل الناس على دخول اإلسالم فال‬
‫يوجد من يُقبل منه الجزية وبالتالي ال يكون هناك سبب لبقائها‪ .‬وهذا األمر سيفعله عيسى عليه السالم بال شك بأمر‬
‫الله تعالى إذ ال يُعقل أن يقوم عيسى عليه السالم بتعطيل شيء وضعه الله تعالى إال إذا كان أمر من الله تعالى بذلك‪.‬‬

‫قصر المسلمون في تطبيقه بسبب‬ ‫ّأما عدم وجود الجزية في وقت من األوقات فال يعني ذلك أنّه غير موجود وإنّما ّ‬
‫ين‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫تمر عليهم‪ ،‬فاألصل هو الوجود ما لم يأت أمر من الله تعالى‪ .‬قال الله تعالى‪" :‬قَاتلُوا الذ َ‬ ‫ضعفهم أو بسبب ظروف ّ‬
‫ِ‬ ‫َال ي ْؤِمنُو َن بِاللَّ ِه وَال بِالْي وِم ْاْل ِخ ِر وَال يح ِرمو َن ما ح َّرم اللَّه ورسولُه وَال ي ِدينُو َن ِدين ال ِ َّ ِ‬
‫اب‬ ‫ْح ِق م َن الذ َ‬
‫ين أُوتُوا الْكتَ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ُ َ ُ َ َ َ ُ ََ ُ ُ َ َ‬ ‫َ َْ‬ ‫ُ‬
‫صاغ ُرو َن" (التوبة ‪ ،)41‬فاألصل هو أخذ الجزية من هؤالء الك ّفار كما ذكرت اآلية‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َحتَّى يُ ْعطُوا الْج ْزيَةَ َعن يَد َو ُه ْم َ‬
‫الكريمة‪.‬‬

‫أح ٌد" وهذه‬


‫الفائدة الثامنة‪ :‬من بركات عيسى عليه السالم أ ّن المال يفيض كما ذكر الحديث الشريف "حتَّى ال يَ ْقبَ لَهُ َ‬
‫نتيجة مباشرة لعدله عليه السالم كما جاء في بداية الحديث‪ ،‬وكذلك هذا دليل على انتشار البركة في المال واختفاء‬
‫وممن هم بحاجة إلى المال‪.‬‬
‫الفقر والفقراء ّ‬
‫فالعدل بين الناس من أكبر األسباب التي تساعد على أخذ الحقوق كاملة وعدم ضياعها‪ ،‬فاألغنياء يعطون الفقراء‪،‬‬
‫وتقل الجرائم أل ّن الناس ليسوا بحاجة إلى‬
‫والمحتاجون يحصلون على احتياجاتهم كاملة‪ ،‬ويسود األمن في المجتمعات ّ‬
‫يحل لهم أل ّن عندهم ما يكفي وزيادة‪ ،‬فالمال فائض وكل يحصل‬
‫أن يسرقوا أو يأكلوا الحرام أو يحصلوا على ما ال ّ‬
‫على ما يريد‪.‬‬

‫وتاريخنا اإلسالمي فيه أمثلة واضحة لنتائج تحقيق العدل ولعل في سيرتي عمر بن الْطاب رضي الله عنه وعمر بن‬
‫وقل‬
‫وعمت البركة وفاض المال ّ‬ ‫عبد العزيز رحمه الله تعالى ما يؤّكد هذا األمر‪ ،‬إذ طبّقا العدل بحذافيرها فانتشر الخير ّ‬
‫الفقراء‪ .‬فالعدل مطلب أساسي في اإلسالم خاصة للح ّكام ووالة األمور والقضاة والمسؤولون‪ ،‬فإذا طبّق هؤالء العدل‬
‫عمت السعادة بين الجميع‪.‬‬
‫بين الناس ّ‬
‫الفائدة التاسعة‪ :‬نالحظ اإليجابية الواضحة لعيسى عليه السالم‪ ،‬فهو عليه السالم يقوم بأمور متعددة تعود فائدته على‬
‫الناس أجمعين‪ ،‬فاإليجابية من معانيها القيام بأمور نافعة لها آثار إيجابية على الشخص وعلى اآلخرين‪ ،‬وكلّما زاد هذا‬
‫األثر كانت اإليجابية أكبر‪.‬‬

‫وهل هناك إيجابية أكبر من نشر التوحيد بين الناس أو تطبيق العدل بينهم أو إعطائهم ما يحتاجونه من المال حتى ال‬
‫يدل على إيجابية عالية من هذا النبي الكريم‪ ،‬وهذه إحدى نتائج كونه مباركا كما قال ذلك‬ ‫يبقى أحد يقبله‪ .‬كل ذلك ّ‬
‫ ُ" (مريم ‪ّ ،)36‬‬
‫وتأمل أنّه قال هنا (أينما كنت)‪ ،‬فهو في الوقت الذي سينزل‬ ‫عن نفسه‪َ " :‬و َج َعلَنِي ُمبَ َاركاً أَيْ َن َما ُكن ُ‬
‫فيه في عصر غير عصره وقوم غير قومه ومع ذلك فهو إيجابي مبارك‪.‬‬

‫ولذلك نحتاج أن نتعلّم هذه اإليجابية من عيسى عليه السالم ومن األنبياء جميعهم وذلك بأن نحرص على األمور‬
‫النافعة سواء ألنفسنا أو لآلخرين ونستمر بهذه اإليجابية طوال حياتنا‪ ،‬وهذا يحتاج إلى توفيق الله تعالى أوال وأخيرا ثم‬

‫‪58‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫الحرص على العلم والتعلّم المستمر وصحبة اإليجابيين والمؤثرين باإلضافة إلى القراءة في سير العظماء وعلى رأسهم‬
‫األنبياء عليهم الصالة والسالم‪.‬‬

‫الفائدة العاشرة‪ :‬هذا الحديث يعطي أمال كبيرا للمسلمين بأ ّن بعد العسر يسر وبعد الشدة فرج حيث أ ّن عيسى عليه‬
‫الدجال وما يحدثه‬ ‫تمر على المسلمين وهو نزول المسيح ّ‬ ‫السالم ينزل ويقوم بهذه األعمال العظيمة بعد فترة عصيبة ّ‬
‫في األرض من فتنة كبيرة ال يستطيع أحد الوقوف بوجهه‪ .‬جاء في الحديث الشريف‪َ " :‬ما بَ ْي َن َخل ِْق آ َد َم إِلَى أَ ْن تَ ُق َ‬
‫وم‬
‫ال" (رواه أحمد)‪.‬‬ ‫اعةُ فِ ْت نَةٌ أَ ْكبَ ُر ِم ْن فِ ْت نَ ِة الد َّ‬
‫َّج ِ‬ ‫الس َ‬
‫َّ‬

‫الدجال ويقوم بفعل من أمر الله تعالى به من الحكم بالعدل‬


‫وبعد هذه المصيبة الكبيرة ينزل عيسى عليه السالم فيقتل ّ‬
‫تحل بنا الب ّد أن نوقن بأ ّن هناك‬
‫وتطبيق التوحيد فينشر الخير والسالم واألمن والسعادة بين الناس‪ .‬ولذلك‪ ،‬فأي مصيبة ّ‬
‫فرج ويسر وأ ّن العاقبة في النهاية للمؤمنين والمتقين بشرط أن نعمل لذلك ونح ّقق الشروط الواجب تح ّققها مثل اإليمان‬
‫بالله تعالى والعمل الصالح واللجوء إليه سبحانه‪.‬‬

‫وهذا األمل واليقين بالفرج بعد الشدة كما قال الله تعالى‪" :‬فَِإ َّن َم َع ال ُْع ْس ِر يُ ْس ًرا‪ ،‬إِ َّن َم َع الْعُ ْس ِر يُ ْس ًرا" من أسباب شعور‬
‫المؤمن بالطمأنينة والسكينة‪ ،‬فحتى إن لم ير ذلك في حياته فهو على يقين بأ ّن الشدة ستزول بعد ذلك‪ .‬ومن يتأمل‬
‫السيرة النبوية يجد بأ ّن كثيرا من الصحابة الكرام لم يرْوا تمكين اإلسالم ومع ذلك فقد كان يملؤهم األمل دائما وكانوا‬
‫يعملون ويبذلون إلى آخر لحظة من حياتهم ففازوا ونجوا‪.‬‬

‫‪59‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫اخلامتة‬
‫الكتابة عن نبي كريم ومبارك ليس باألمر السهل ولكنّه في نفس الوقت مفيد وممتع‪ .‬فالقيم والمبادئ واألخالق التي‬
‫نستفيدها من هذا النبي الكريم كثيرة جدا وال يمكن بأي حال تغطيته في هذه السطور القليلة‪ ،‬فالقدوات العظيمة‬
‫يمنحون الشخص معان عظيمة ليس فقط من خالل أقوالهم وإنما من خالل أفعالهم أيضا‪.‬‬

‫رأينا من خالل هذا الكتاب القيم واألخالق والمبادئ التي استفدناها من خالل النبي الكريم‪ ،‬وفي ظنّي أنّه إذا بدأنا‬
‫بتطبيق هذه القيم والمبادئ واألخالق فسوف نتقدم خطوات رائعة في طريقنا نحو الله تعالى ثم في تميّزنا في هذه‬
‫الدنيا والذي يُعتبر مطلبا إسالميا أصيال‪ ،‬إذ أ ّن التميز والتفوق من أسباب النهضة والتمكين لدين الله تعالى وهذا ال‬
‫يتح ّقق إال إذا ح ّققنا الشروط التي أوضحها الله تعالى ورسوله الكريم‪.‬‬

‫قراءة حياة العظماء والقدوات خاصة األنبياء الكرام وعلى رأسهم أولي العزم من الرسل والذي من بينهم عيسى عليه‬
‫السالم يمنح الشخص أمورا كثيرة كاإليجابية واألمل واألخالق والتميز وغيرها ولذلك فإننا في حاجة إلى قراءة وتدبّر‬
‫ولعل هذا الكتاب قد ساهم بشيء من ذلك‪.‬‬ ‫وتحليل حياة هؤالء األشخاص بشكل مستمر‪ّ ،‬‬
‫استفدت بشكل شخصي من كتابة هذا الكتاب ألنه برزت لي نواح كثيرة كانت غائبة عنّي في هذا النبي العظيم‪،‬‬
‫وأدركت جليّا لماذا أورد الله تعالى هذا النبي المبارك في آيات متعددة في كتابه الكريم وذكره كذلك النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم في أحاديث متعددة‪ ،‬وأتمنّى أن تصل الفائدة كذلك إلى كل من يقرأ الكتاب واألهم من ذلك كلّه هو‬
‫التطبيق ما استطعنا إلى ذلك سبيال‪.‬‬

‫أسأل الله تعالى أن نكون جميعا من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه‪ ،‬أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو‬
‫األلباب‪ .‬هذا وإن كان من توفيق وسداد فمن الله تعالى وحده وإن كان من خطا فمن نفسي والشيطان وأسأل الله أن‬
‫يغفر لنا ويعفو عنا زللنا وأخطاءنا‪ .‬والحمد لله رب العالمين‪.‬‬

‫أبو الوليد ‪ /‬سينا زارعي‬


‫*******************************************‬

‫‪61‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫املراجع‪:‬‬
‫‪ )1‬القرآن الكريم‬
‫‪ )7‬كتب التفاسير‬
‫تيسير الكريم الرحمن في تفسير كالم‬
‫لإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي‬
‫المنان‬

‫لإلمام الحسين بن مسعود البغوي‬ ‫معالم التنزيل‬

‫لإلمام عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير‬ ‫تفسير القرآن العظيم‬

‫لإلمام شمس الدين القرطبي‬ ‫الجامع ألحكام القرآن‬

‫لإلمام محمد بن جرير بن يزيد الطبري‬ ‫جامع البيان عن تأويل آي القرآن‬

‫‪ )0‬كتب الحديث‬
‫لإلمام محمد بن إسماعيل البخاري‬ ‫صحيح البخاري‬

‫لإلمام مسلم بن الحجاج بن مسلم‬ ‫صحيح مسلم‬

‫لإلمام عيسى محمد بن عيسى الترمذي‬ ‫سنن الترمذي‬

‫لإلمام سليمان بن األشعث بن إسحاق األزدي‬ ‫سنن أبوداود‬

‫لإلمام محمد بن يزيد بن ماجة الربعي القزويني‬ ‫سنن ابن ماجه‬

‫لإلمام أحمد بن شعيب بن علي بن بحر النسائي‬ ‫سنن النسائي‬

‫لإلمام أحمد بن محمد بن حنبل‬ ‫مسند أحمد بن حنبل‬

‫لإلمام محمد ناصر الدين األلباني‬ ‫السلسلة الصحيحة‬

‫لإلمام محمد ناصر الدين األلباني‬ ‫صحيح الترغيب والترهيب‬

‫لإلمام محمد ناصر الدين األلباني‬ ‫صحيح الجامع الصغير وزيادته‬

‫لإلمام يحيى بن شرف أبو زكريا النووي الدمشقي‬ ‫رياض الصالحين‬

‫‪ )5‬المواقع االلكترونية‪:‬‬
‫‪/http://quran.ksu.edu.sa/tafseer‬‬ ‫موقع تفاسير القرآن الكريم‬

‫‪60‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫‪/https://khutabaa.com‬‬ ‫موقع ملتقى الخطباء‬
‫‪/https://islamqa.info‬‬ ‫موقع اإلسالم سؤال وجواب‬
‫‪/https://dorar.net‬‬ ‫موقع الدرر السنية‬
‫‪/https://ar.islamway.net‬‬ ‫موقع طريق اإلسالم‬

‫*******************************************‬

‫‪62‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬


‫فهرس احمليوتايا‬

‫الصفحة‬ ‫الع نوان‬

‫‪2‬‬ ‫المقدمة‬

‫‪3‬‬ ‫مريم عليها السالم‬

‫‪9‬‬ ‫عيسى عليه السالم‬

‫‪14‬‬ ‫َ ُ ال َْمآلئِ َكةُ يَا َم ْريَ ُم إِ َّن اللهَ يُبَ ِش ُر ِك‬


‫قال الله تعالى‪" :‬إِ ْذ قَال ِ‬

‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫‪18‬‬ ‫ين قَالُواْ إِ َّن اللهَ ُه َو ال َْمس ُ‬
‫يح ابْ ُن َم ْريَ َم‬ ‫قال الله تعالى‪" :‬لَ َق ْد َك َف َر الذ َ‬
‫ ُ‬ ‫يح ابْ ُن َم ْريَ َم إِالَّ َر ُس ٌ‬
‫ول قَ ْد َخلَ ْ‬ ‫ِ‬
‫‪23‬‬ ‫قال الله تعالى‪َّ " :‬ما ال َْمس ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫قال الله تعالى‪" :‬إِ ْذ قَ َ‬
‫‪27‬‬ ‫ك‬
‫يع َربُّ َ‬ ‫ْح َوا ِريُّو َن يَا ع َ‬
‫يسى ابْ َن َم ْريَ َم َه ْل يَ ْستَط ُ‬ ‫ال ال َ‬
‫ل ُ لِلن ِ‬
‫َّاس‬ ‫َن ُ قُ َ‬
‫يسى ابْ َن َم ْريَ َم أَأ َ‬ ‫ِ‬ ‫قال الله تعالى‪َ " :‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫‪32‬‬ ‫ال اللهُ يَا ع َ‬
‫اب َو َج َعلَنِي نَبِيًّا‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫قال الله تعالى‪" :‬قَ َ ِ‬
‫‪37‬‬ ‫ال إِني َع ْب ُد اللَّه آتَان َي الْكتَ َ‬
‫قال الله تعالى‪" :‬ول ََّما جاء ِعيسى بِالْب يِنَ ِ‬
‫ات‬
‫‪41‬‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫يل‬‫ِ ِ ِ‬ ‫قال الله تعالى‪" :‬وإِ ْذ قَ َ ِ‬
‫‪46‬‬ ‫يسى ابْ ُن َم ْريَ َم يَا بَني إ ْس َرائ َ‬
‫ال ع َ‬ ‫َ‬
‫ابن َم ْريَ َم َر ُج ًال يَ ْس ِر ْق‬ ‫ِ‬
‫‪11‬‬ ‫يسى ُ‬
‫أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‪َ " :‬رأَى ع َ‬
‫ِ‬
‫‪11‬‬ ‫اعةُ حتَّى يَ ْن ِز َل في ُك ُم ُ‬
‫ابن َم ْريَ َم‬ ‫الس َ‬
‫وم َّ‬
‫أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‪" :‬ال تَ ُق ُ‬

‫‪19‬‬ ‫الْاتمة‬

‫‪60‬‬ ‫المراجع‬

‫‪62‬‬ ‫فهرس المحتويات‬

‫‪63‬‬ ‫النبي المبارك‪...‬عيسى عليه السالم‬

You might also like