You are on page 1of 120

‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪641‬‬

‫الرسالة السادسة عشرة‬

‫اإلميان‪ :‬حقيقته‬
‫وما يتعلق به من مسائل‬
‫‪643‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬
‫املقدمة‬
‫السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫الرسالة‬ ‫‪644‬‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬


‫احلمد هلل‪ ،‬والصالة والسالم على رسول اهلل وعلى آله وصحبه ومن وااله‪،‬‬
‫أما بعد‪.‬‬
‫فإن باب اإلميان وما يتعلق به من مسائل يعد من أعظم أبواب العقيدة‪،‬‬
‫وأجلِّها قدراً؛ وذلك ملا لإلميان من أهمية بالغة‪ ،‬ومثرات يانعة؛ فهو الفاصل بني‬
‫أهل السعادة وأهل الشقاوة؛ وبوجوده تقبل األعمال وإن قلت‪ ،‬وبعدمه تُرَدُّ وإن‬
‫كثرت وتنوعت؛ فإذا كان مع العبد قُبِلت منه أعمالُ اخلري‪ ،‬وإذا فَقَده مل يُقْبَل منه‬
‫عدل وال صرف؛ فاإلميان الصحيح عنوان سعادة العبد‪ ،‬وسبيل فالحه يف‬
‫العاجل واآلجل؛ فخري الدنيا واآلخرة كلُّه فرعٌ عن اإلميان‪ ،‬ومرتتبٌ عليه‪.‬‬
‫واهلالك وا لنقص إمنا هو بسبب فَقْ ِدهِ‪ ،‬أو نقصِه؛ لذا فإن العنايةَ بباب اإلميان‪،‬‬
‫والوقوفَ على مسائله‪ ،‬وفَهْمَها _ولو على سبيل اإلمجال_ من األهمية مبكان؛‬
‫فذلك موصلٌ _بإذن اهلل_ إىل رضوان اهلل‪ ،‬وعاصم من االحنراف يف العمل‪،‬‬
‫وقائد إىل االعتدال يف األحكام بعيداً عن إفراط الغالني‪ ،‬وتفريط اجلافني‪.‬‬
‫وكم ضلَّ بسبب اجلهل واالحنراف فيه من أفهام‪ ،‬وزلَّ من أقدام‪.‬‬
‫والكالم يف هذا الكتاب مشتمل على خالصات خمتصرة‪ ،‬ونُبَذٍ موجزة يف هذا‬
‫الباب‪ ،‬وقد جاء عنوانه حامالً املسمَّى اآلتي‪:‬‬
‫(اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به مق مسائل)‪.‬‬
‫وسيكون البحث فيه من خالل مدخلٍ‪ ،‬وستة فصول‪ ،‬وخامتة‪ ،‬وذلك على‬
‫النحو التالي‪:‬‬
‫_ مدخل‬
‫الفصل األول‪ :‬مثرات اإلميان‪ ،‬ومفهوم اإلسالم واإلميان‪.‬‬
‫‪645‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫الفصل الثاني‪ :‬زيادة اإلميان ونقصانه‪ ،‬ومراتبه‪.‬‬


‫الفصل الثالث‪ :‬االستثناء يف اإلميان‪.‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬يف الكفر والتكفري‪.‬‬
‫الفصل اخلامس‪ :‬موانع التكفري‪.‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬الصغائر والكبائر‪ ،‬وموانع إنفاذ الوعيد‪.‬‬
‫اخلامتة‪ :‬وحتتوي على ملخص ألهم ما ورد يف البحث‪.‬‬
‫فهذه الفصول وما يندرج حتتها من مباحث ستكون حمور احلديث يف الصفحات‬
‫التالية اليت آمل أن جتمع أكثر ما تناثر من مسائل اإلميان بشيء من اإلجياز‪.‬‬
‫ومن أراد التفصيل يف هذا الباب فهناك كتب عُنيت بكل مسألة على حدة ‪،‬‬
‫وقد ذكر شيء منها يف تضاعيف هذا الكتاب‪.‬‬
‫وقد يسر اهلل تقييد هذه املسائل؛ لكي تكون معينةً لي على إلقاء بعض الدروس‬
‫يف هذا الباب‪ ،‬ثم رغبت يف نشرها؛ رجاء عموم النفع؛ فأسأل اهلل _بأمسائه احلسنى‬
‫وصفاته العلى_ أن ينفع بهذا العمل‪ ،‬وأن جيعله خالصًا لوجهه الكريم‪.‬‬
‫وصلى اهلل وسلم على نبينا حممد وعلى آله وصحبه أمجعني‪.‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪646‬‬

‫مدخل‬
‫‪647‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪648‬‬
‫مدخل‬

‫باب اإلميان _كما مر_ يف املقدمة من أعظم أبواب العقيدة‪ ،‬وهو مشتمل على‬
‫مسائل كثرية ذُكرت أصولُها يف املقدمة من خالل استعراض فصول الكتاب‪،‬‬
‫وسريد ذكر تفاصيلها يف تضاعيفه‪.‬‬
‫وللعالمة الشيخ حافظ احلكمي منظومة يف العقيدة امسها (سلم الوصول إىل‬
‫علم األصول يف التوحيد) وعدد أبياتها ‪ 291‬بيتاً‪.‬‬
‫وقد شرحها يف كتاب عظيم نافع امسه (معارج القبول بشرح سلم الوصول‬
‫إىل علم األصول يف التوحيد)‪.‬‬
‫وهذه املنظومة حوت مباحث العقيدة عموماً‪ ،‬ويف ضمنها تسعة أبيات تَعَرَّضَ‬
‫من خالهلا جلملة من أهم مسائل اإلميان؛ فرغبت يف أن تكون تلك األبيات‬
‫مدخالً هلذا الكتاب؛ ليسهل على القارئ حفظها‪ ،‬واستحضار تلك املسائل من‬
‫خالهلا‪.‬‬
‫يقول ×‪:‬‬
‫ونقص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــون ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاللالتِ‬ ‫مياننـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا يليـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد بالطاعـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاتِ‬
‫ه ــل أنـ ـ ك ــاألممج ِ أو كالرُّس ــل‬ ‫وأهلـ ـ ـ ـ ــه في ـ ـ ـ ـ ــه عل ـ ـ ـ ـ ــى تفا ـ ـ ـ ـ ــل‬
‫مل ينَـ ـ ـ ـ عن ـ ـ ــه مطل ـ ـ ــق اإلمي ـ ـ ــان‬ ‫والفاسـ ـ ـ ـ ــق امللِّ ـ ـ ـ ـ ـ ُّ ذو العصـ ـ ـ ـ ــيان‬
‫ميانـ ـ ـ ـ ـ ــه مـ ـ ـ ـ ـ ــا ال يف انتقـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫ل ـ ـ ـ ـقَ بقـ ـ ـ ــدر ال فـ ـ ـ ــر واملعاص ـ ـ ـ ـ‬
‫خمل ـ ـ ـ ـ ــد ب ـ ـ ـ ـ ــل أم ـ ـ ـ ـ ــر للب ـ ـ ـ ـ ــار‬ ‫وال نقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــول نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه يف النـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــار‬
‫ن ش ـ ــا عف ـ ــا عن ـ ــه و ن ش ـ ــا آخـ ـ ـ‬ ‫ـ ـ ـ ـ مشـ ـ ـ ــيئةِ اإلل ـ ـ ـ ـهِ الناف ـ ـ ـ ـ َ‬
‫‪649‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫ي َ ـ ـ ــر ن م ـ ـ ــات عل ـ ـ ــى اإلميـ ـ ـ ــان‬ ‫بقـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدر ذنبِـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه و ىل اجلنـ ـ ـ ـ ـ ـ ــان‬
‫ال مـ ـ ـ ــ اس ـ ـ ـ ــتحمجلِه مل ـ ـ ـ ــا جن ـ ـ ـ ــى‬ ‫وال ن فَّـ ـ ـ ـ ـ ـرَ باملعاصـ ـ ـ ـ ـ ـ م من ـ ـ ـ ـ ــا‬
‫( ‪)1‬‬
‫كم ــا أت ــى يف الشعـ ـرَعةِ املطهـ ــر َ‬ ‫وتقابـ ـ ـ ــل التوبـ ـ ـ ــة بـ ـ ـ ــل الغرَ ـ ـ ـ ــر َ‬

‫‪ _ 1‬معارج القبول ‪ 71/1‬حتقيق الشيخ حممد صبحي بن حسن حالق‪.‬‬


‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪604‬‬

‫الفصل األول‬

‫مثرات اإلميان‪ ،‬ومفهوم اإلسالم‬


‫واإلميان‬

‫وحتته‪:‬‬
‫املبحث األول‪ :‬مثرات اإلميان‪.‬‬
‫املبحث الثاني‪ :‬مفهوم اإلسالم واإلميان‪.‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬العالقة بني اإلسالم واإلميان‪.‬‬
‫‪600‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪601‬‬
‫املبحث األول‪ :‬مثرات اإلميان‬

‫مر يف مقدمة الكتاب ذِكْ ٌر جممل لبعض مثرات اإلميان‪ ،‬وال ريب أن أهمية‬
‫الشيء تتجلى أعظم التجلي مبعرفة مثراته‪ ،‬وفوائده‪.‬‬
‫وقد عقد الشيخ عبدالرمحن السعدي × يف كتابه القيم (تيسري اللطيف‬
‫املنان يف خالصة تفسري القرآن) فصالً خاصاً بثمرات اإلميان‪ ،‬وقد ذكر حتته‬
‫( ‪)1‬‬
‫مجلة نافعة يف هذا الشأن‪.‬‬
‫قال ×‪= :‬اعلم أن خري الدنيا واآلخرة من مثرات اإلميان الصحيح‪ ،‬وبه‬
‫حييى العبد حياة طيبة يف الدارين‪ ،‬وبه ينجو من املكاره والشرور‪ ،‬وبه ختف‬
‫الشدائد‪ ،‬وتُدْرَك مجيع املطالب‪ ،‬ولُْنشِرْ إىل هذه الثمرات على وجه التفصيل؛‬
‫فإن معرفة فوائد اإلميان ومثراته من أكرب الدواعي إىل التزود منه‪.)2(+‬‬
‫ثم شرع×يف ذكر تفاصيل مثرات اإلميان وفوائده‪ ،‬وإليك ملخصها فيما يلي‪:‬‬
‫‪ _1‬أنه سبب رضا اهلل الذي هو أكرب شيء‪.‬‬
‫‪ _2‬أن ثواب اآلخرة ودخول اجلنة والتنعم بنعيمها‪ ،‬والنجاة من النار وعقابها‪،‬‬
‫إمنا يكون باإلميان‪.‬‬
‫‪ _3‬أن اهلل يدفع ويدافع عن الذين آمنوا شرور الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫‪ _4‬أن اهلل وعد املؤمنني القائمني باإلميان حقيقةً بالنصر والتأييد‪.‬‬

‫‪ _ 1‬انظر الشيخ عبدالرمحن السعدي‪ ،‬وجهوده يف توضيح العقيدة للشيخ د‪ .‬عبدالرزاق البدر‬
‫ص‪.298_296‬‬
‫‪ _ 2‬تيسري اللطيف املنان يف خالصة تفسري القرآن ص‪.131‬‬
‫‪603‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫‪ _5‬أن اهلداية من اهلل للعلم والعمل‪ ،‬وملعرفة احلق وسلوكه هي حبسب‬


‫اإلميانِ‪ ،‬والقيامِ حبقوقه‪.‬‬
‫‪ _6‬أن اإلميان يدعو إىل الزيادة من علومه‪ ،‬وأعماله الظاهرة والباطنة‪.‬‬
‫‪ _7‬أن املؤمنني باهلل‪ ،‬وبكماله‪ ،‬وعظمته‪ ،‬وكربيائه‪ ،‬وجمده _ أعظم الناس‬
‫يقيناً‪ ،‬وطمأنينةً‪ ،‬وتوكالً على اهلل‪ ،‬وثقةً به‪.‬‬
‫‪ _8‬أنه ال ميكن للعبد أن يقوم باإلخالص هلل‪ ،‬ولعباد اهلل‪ ،‬ونصيحتهم على‬
‫وجه الكمال _ إال باإلميان‪.‬‬
‫‪ _9‬أن املعامالتِ بني اخللق ال تَتِم‪ ،‬وتقوم إال على الصدق‪ ،‬والنصح‪ ،‬وعدم‬
‫الغش‪ ،‬وال يقوم بذلك حقيقةً إال املؤمنون‪.‬‬
‫‪ _11‬أن اإلميانَ أكربُ عونٍ على حتمل املشقات‪ ،‬والقيام بأعباء الطاعات‪،‬‬
‫وترك الفواحش اليت يف النفوس داعٍ قويٌّ إىل فعلها؛ فال تتم هذه األمور إال بقوة‬
‫اإلميان‪.‬‬
‫‪ _11‬أن العبد البد أن يصاب بشيء من اخلوفِ‪ ،‬واجلوع‪ ،‬ونقصٍ من‬
‫األموال واألنفس والثمراتِ‪ ،‬واإلميانُ أكربُ عونٍ على حتمل هذه املصائب‪.‬‬
‫‪ _12‬أن اإلميان يوجب للعبد قوةَ التوكل على اهلل؛ لعلمه وإميانه أن األمور‬
‫كلَّها راجعةٌ إىل اهلل‪ ،‬ومندرجةٌ يف قضائه وقدره‪.‬‬
‫‪ _13‬أن اإلميان يشجع العبد‪ ،‬ويزيد الشجاع شجاعة؛ فإنه العتماده على اهلل‬
‫العزيز احلكيم‪ ،‬ولقوة رجائه‪ ،‬وطمعه فيما عنده _ تهون عليه املشقات‪ ،‬ويُقْ ِد ُم‬
‫على املخاوف واثقاً بربه‪ ،‬راجياً له‪ ،‬راهباً من نزوله من عينه؛ خلوفه من املخلوقني‪.‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪604‬‬
‫‪ _14‬أن اإلميان هو السبب األعظم؛ لتعلق القلب باهلل يف مجيع مطالبه الدينية‬
‫والدنيوية‪.‬‬
‫‪ _15‬أن اإلميان يدعو إىل حسن اخللق مع مجيع الناس‪ ،‬وإذا ضعف اإلميان ‪،‬‬
‫أو نقص‪ ،‬أو احنرف _ أثّر ذلك يف أخالق العبد احنرافًا حبسب بُعده عن اإلميان‪.‬‬
‫‪ _16‬أن اإلميان الكامل مينع من دخول النار بالكلية‪ ،‬كما منع صاحبه يف الدنيا‬
‫من عمل املعاصي‪ ،‬واإلميان الناقص مينع اخللود يف النار‪.‬‬
‫‪ _17‬أن اإلميان يوجب لصاحبه أن يكون مُعْتَبَراً عند اخللق أميناً‪ ،‬ويوجب‬
‫للعبد العفة عن دماء الناس‪ ،‬وأمواهلم‪ ،‬وأعراضهم‪.‬‬
‫‪ _18‬أن قويَّ اإلميان جيد يف قلبه من ذوق حالوته‪ ،‬ولذةِ طعمِه‪ ،‬واستحالءِ‬
‫آثاره‪ ،‬والتلذذِ بعبادة ربه‪ ،‬وأداء حقوقه‪ ،‬وحقوق عباده اليت هي موجب اإلميان‬
‫وأثره؛ فاملؤمن يتقلب يف لذات اإلميان‪ ،‬وحالوته املتنوعة‪.‬‬
‫‪ _19‬أن اإلميان هو السبب الوحيد للقيام بذروة سنام الدين‪ ،‬وهو اجلهاد‬
‫البدني‪ ،‬واملالي‪ ،‬والقولي يف سبيل اهلل‪.‬‬
‫ثم قال × بعد ذكره هلذه اجلملة الكبرية النافعة من مثرات اإلميان‪= :‬وهذا‬
‫كله من مثرات اإلميان‪ ،‬ومن متامه وكماله‪.‬‬
‫و باجلملة فخري الدنيا واآلخرة كله فرع عن اإلميان ومرتتب عليه‪ ،‬واهلالك‬
‫والنقص إمنا يكون بفقد اإلميان ونقصه‪.)1(+‬‬

‫‪ _ 1‬تيسري اللطيف املنان ص‪.134_131‬‬


‫‪605‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬
‫املبحث الثاني‪ :‬مفهوم اإلسالم واإلميان‬

‫أوالً‪ :‬مفهوم اإلسمجم‬


‫( ‪)1‬‬
‫أ_ اإلسالم لغة‪ :‬هو االستسالم‪ ،‬واالنقياد‪ ،‬وإظهار اخلضوع‪ ،‬والقبول‪.‬‬
‫ب_ اإلسالم يف الشرع‪ :‬هو إظهار اخلضوع هلل‪ ،‬وإظهار الشريعة‪ ،‬والتزام ما‬
‫( ‪)2‬‬
‫أتى به النيب"‪.‬‬
‫أو‪ :‬هو استسالم العبد هلل ظاهراً وباطناً‪ ،‬بفعل أوامره‪ ،‬واجتناب نواهيه‪.‬‬
‫وعلى هذا يكون اإلسالم شامالً للدين كله‪ ،‬قال اهلل _تعاىل_‪[ :‬وَرَضِيتُ‬
‫لَكُمُ اإلسالم دِيناً] املائدة‪.3:‬‬
‫وقال _عز وجل_‪[ :‬إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ اإلسالم] آل عمران‪.19:‬‬
‫( ‪)3‬‬
‫وقال‪[ :‬وَمَنْ يَبْتَغِ َغيْرَ اإلسالم دِيناً َفلَنْ يُقَْبلَ مِنْهُ]آل عمران‪.85 :‬‬
‫ثانياً‪ :‬مفهوم اإلميان‬
‫أ_ اإلميان يف اللغة‪ :‬لإلميان يف لغة العرب استعماالن‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن يتعدى لفظ اإلميان بنفسه؛ فيكون مبعنى التأمني‪ ،‬أي إعطاء‬
‫األمان‪ ،‬وآمنته‪ :‬ضد أخفته‪.‬‬
‫ومنه قوله _تعاىل_‪[ :‬وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ] قريش‪.4:‬‬
‫والثاني‪ :‬أن يتعدى حبرف اجلر ؛ فيكون معناه التصديق‪ ،‬كما يف قوله _تعاىل_‪:‬‬

‫‪ _ 1‬انظر لسان العرب البن منظور ‪.294_293/12‬‬


‫‪ _ 2‬انظر لسان العرب ‪.293/12‬‬
‫‪ _ 3‬انظر فتح الربية بتلخيص احلموية للشيخ حممد بن عثيمني ص‪.94‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪606‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫[وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا] يوسف‪ ،17:‬أي مبصدق‪.‬‬
‫ب_ اإلميان يف الشرع‪ :‬ذهب عامة أهل السنة إىل أن اإلميان الشرعي‪ :‬اعتقاد‪،‬‬
‫وقول‪ ،‬وعمل‪.‬‬
‫وبعضهم يقول‪ :‬قول‪ ،‬وعمل‪.‬‬
‫وبعضهم يقول‪ :‬قول‪ ،‬وعمل‪ ،‬ونية‪.‬‬
‫وبعضهم يقول‪ :‬قول‪ ،‬وعمل‪ ،‬وعقيدة‪.‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬هو التصديق بالقلب‪ ،‬والعمل باألركان‪.‬‬
‫والنصوص عن األئمة كثرية جداً يف قوهلم‪ :‬إن اإلميان قول وعمل‪.‬‬
‫وقد حكى اإلمجاع على ذلك غري واحد من أهل العلم كابن عبدالرب × يف‬
‫( ‪)2‬‬
‫كتابه التمهيد‪.‬‬
‫وال فرق بني تلك األقوال السابقة؛ فكل ذلك من باب اختالف التنوع ال‬
‫اختالف التضاد؛ فمن قال من السلف‪ :‬إن اإلميان قول وعمل أراد قولَ القلبِ‬
‫واللسانِ‪ ،‬وعملَ القلبِ واجلوارحِ‪.‬‬
‫ومن زاد االعتقاد رأى أن لَفْظَ القولِ ال يُفْهَمُ منه إال القولُ الظاهر‪ ،‬أو خَشِيَ‬
‫ذلك؛ فزاد االعتقاد بالقلب‪.‬‬

‫‪ _ 1‬انظر النهاية يف غريب احلديث البن األثري ‪ ،71_69/1‬ونواقض اإلميان االعتقادية وضوابط‬
‫التكفري عند السلف د‪ .‬حممد الوهييب ‪.34_31/1‬‬
‫‪ _ 2‬انظر التمهيد البن عبدالرب ‪ ،238/9‬وانظر جمموع الفتاوى البن تيمية ‪ 318/7‬و‪،472/12‬‬
‫وانظر تفسري ابن كثري ‪ ،39/1‬وفتح الباري البن حجر ‪ ،47/1‬وشرح أصول اعتقاد أهل السنة لاللكائي‬
‫‪.832/4‬‬
‫‪607‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫ومن قال‪ :‬قول وعمل ونية‪ ،‬أراد أن القول يتناول االعتقادَ (قول القلب)‬
‫وقولَ اللسان‪.‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وأما العمل فقد ال يفهم منه النية اليت هي عمل القلب؛ فزاد ذلك‪.‬‬
‫وخالصة ما سبق من حقيقة اإلميان الشرعي‪ :‬أنها حقيقة مركبة من قول‪،‬‬
‫وعمل‪.‬‬
‫والقول قسمان‪ :‬قول القلب‪ :‬وهو إقراره‪ ،‬واعتقاده‪.‬‬
‫وقول اللسان‪ :‬وهو التكلم بكلمة اإلسالم‪ ،‬أي النطق بالشهادتني‪ ،‬واإلقرار‬
‫بلوازمهما‪.‬‬
‫والعمل قسمان‪ :‬عمل القلب‪ :‬وهو نيتُه وإخالصه‪ ،‬وحمبته‪ ،‬وانقياده‪،‬‬
‫وحنوها من القربات اليت هي من عمل القلب‪ ،‬كاخلشية‪ ،‬واإلنابة‪ ،‬واخلشوع‪،‬‬
‫والتوكل‪ ،‬واحملبة‪ ،‬واخلوف‪ ،‬والرجاء‪.‬‬
‫وعمل اللسان واجلوارح‪ :‬وذلك كثري جداً؛ فعمل اللسان هو سائر القربات‬
‫اليت ال تؤدى إال به كتالوة القرآن‪ ،‬وسائر األذكار‪ ،‬وحنو ذلك مما طريقه اللسان‪.‬‬
‫وعمل اجلوارح‪ :‬هو مما ال يُؤَّدى إال بها كالقيام‪ ،‬والركوع‪ ،‬والسجود‪،‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫واملشي إىل مراضي اهلل كاخلطا إىل املساجد‪ ،‬وإىل احلج‪ ،‬وحنو ذلك‪.‬‬
‫وبهذا يتبني لنا‪ :‬أن اإلميان اسم جامع لعقائد القلب‪ ،‬وأعماله‪ ،‬وأعمال‬
‫اجلوارح‪ ،‬وأقوال اللسان؛ فجميع الدين أصوله‪ ،‬وفروعه داخل يف اإلميان‪.‬‬

‫‪ _ 1‬انظر نواقض اإلميان االعتقادية ‪.36/1‬‬


‫‪ _ 2‬انظر الصالة وحكم تاركها البن القيم ص‪.54‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪608‬‬
‫فهذا هو اإلميان الشرعي عند السلف؛ فهو شامل للعقائد‪ ،‬وأعمال القلوب‪،‬‬
‫وأعمال اجلوارح‪.‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ويف هذا من النصوص ما ال يعد وال حيصى‪.‬‬
‫ومن أجلى األدلة على ذلك ما جاء يف حديث جربيل املشهور‪ ،‬قال‬
‫النيب"‪= :‬اإلميان‪ :‬أن تؤمن باهلل‪ ،‬ومالئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورسله‪ ،‬واليوم اآلخر‪،‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫والقدر خريه وشره‪.+‬‬
‫وقال _عليه الصالة والسالم_ يف حديث الشعب‪= :‬اإلميان بضع وسبعون‬
‫شعبة‪ ،‬فأعالها قول‪ :‬ال إله إال اهلل‪ ،‬وأدناها إماطة األذى عن الطريق‪ ،‬واحلياء‬
‫( ‪)3‬‬
‫شعبة من اإلميان‪.+‬‬
‫فاإلميان باهلل ومالئكته‪ :.....‬اعتقاد القلب‪.‬‬
‫وقول ال إله إال اهلل‪ :‬قول اللسان‪.‬‬
‫وإماطة األذى عن الطريق‪ :‬عمل اجلوارح‪.‬‬
‫واحلياء‪ :‬عمل القلب‪.‬‬
‫بل إن تعريف اإلميان ميكن تنزيله على مجيع األعمال الصاحلة‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك‪ :‬الصالة؛ فالصالة تشتمل على قول القلب من جهة‬
‫أن املؤمن يُقِرُّ بقلبه بوجوبها وفرضيتها‪.‬‬

‫‪ _ 1‬انظر توضيح الكافية الشافية البن سعدي ص‪ ،8‬والفتاوى السعدية ص‪.17‬‬


‫‪ _ 2‬أخرجه مسلم (‪.)8‬‬
‫‪ _ 3‬أخرجه البخاري (‪ )9‬ومسلم (‪.)35‬‬
‫‪609‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫وتشتمل على قول اللسان من جهة أن املؤمن يقول ذلك بلسانه؛ حبيث لو‬
‫سئل لقال بوجوبها‪.‬‬
‫وتشتمل على عمل القلب من جهة أن املؤمن يؤدي الصالة بنية‪ ،‬وإخالص‬
‫وخشوع‪ ،‬وحمبة هلل‪ ،‬ورغبة فيما عنده‪ ،‬وخوفاً من عقابه _عز وجل_‪.‬‬
‫وتشتمل على عمل اللسان من جهة أن املصلي يؤدي بلسانه مجيع أقوال‬
‫الصالة من أذكار‪ ،‬وتالوة‪ ،‬وأدعية‪.‬‬
‫وتشتمل على عمل اجلوارح من جهة أن املصلي يقوم‪ ،‬ويقعد‪ ،‬ويركع‬
‫ويسجد‪ ،‬وحيرك سائر جوارحه يف الصالة‪.‬‬
‫وهكذا انطبق تعريف اإلميان على الصالة؛ وهلذا مسيت إمياناً كما قال اهلل‬
‫_عز وجل_‪[ :‬وَمَا كَانَ اللَّهُ ِليُضِيعَ إِميَانَكُمْ] البقرة‪.143:‬‬
‫أي صالتكم إىل بيت املقدس‪.‬‬
‫واألمثلة على ذلك كثرية جداً كالصيام‪ ،‬واحلج‪ ،‬وسائر القربات؛ حيث ميكن‬
‫تنزيلُ تعريف اإلميان عليها‪.‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪614‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬العالقة بني اإلسالم واإلميان‬

‫من خالل ما مضى يتبني لنا أن اإلسالم يشمل الدين كله‪ ،‬واإلميان يشمل‬
‫الدين كله‪ ،‬وذلك حينما ينفرد أحدهما عن اآلخر‪ ،‬أما إذا اقرتن أحدهما باآلخر‬
‫فإن اإلسالم يفسر باالستسالم الظاهر الذي هو قول اللسان‪ ،‬وعمل اجلوارح‪،‬‬
‫ويَصْدُرُ من املؤمن كامل اإلميان‪ ،‬وضعيف اإلميان‪.‬‬
‫قال اهلل _تعاىل_‪ [ :‬قَالَتِ األَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَ ْسلَمْنَا َولَمَّا‬
‫يَدْخُلِ األِميَانُ فِي ُقلُوبِكُمْ] احلجرات‪. 14:‬‬
‫ويصدر _كذلك_ من املنافق لكن يُسمّى مسلماً ظاهراً‪ ،‬ولكنه كافر باطناً‪.‬‬
‫ويفسر اإلميان باالستسالم الباطن الذي هو إقرار القلب‪ ،‬وعمله‪ ،‬وال يصدر‬
‫جلَتْ‬
‫إال من املؤمن حقًّا‪ ،‬كما قال _تعاىل_‪[ :‬إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَ ِ‬
‫َكلُونَ(‪ )2‬الَّذِينَ‬
‫ُقلُوبُهُمْ وَإِذَا ُت ِليَتْ َع َليْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِميَاناً وَ َعلَى رَبِّهِمْ يَتَو َّ‬
‫يُقِيمُونَ الصَّالةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(‪ ] )3‬األنفال‪.‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وبهذا املعنى يكون اإلميان أعلى‪ ،‬فكل مؤمن مسلم؛ وال عكس‪.‬‬
‫وباجلملة فإن اإلسالم واإلميان إذا أطلق أحدهما مشل الدين كلَّه أصولَه‬
‫وفروعَه من اعتقاداتِه‪ ،‬وأقوالِه‪ ،‬وأفعالِه؛ فيكونان بهذا االعتبار مرتادفني يدل‬
‫أحدُهما على اآلخر‪.‬‬
‫أما إذا قُرِنَ بينهما‪ ،‬وذُكِرا معاً يف سياق واحد فإنهما بهذا االعتبار يفرتقان‪،‬‬
‫ويكونان متباينني؛ فرياد باإلسالمِ حينئذٍ األعمالُ واألقوالُ الظاهرةُ‪ ،‬ويراد باإلميا ِن‬

‫‪ _ 1‬انظر فتح رب الربية ص‪.95_94‬‬


‫‪610‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫االعتقاداتُ‪.‬‬
‫ومن تأمل النصوصَ الواردة يف ذلك تبني له هذه العالقةُ بني اإلسالم واإلميان‬
‫كما يف النصوص اليت مرت‪ ،‬وكما يف قوله _تعاىل_‪[:‬إِنَّ الْمُ ْسلِمِنيَ وَالْمُ ْسلِمَاتِ‬
‫وَالْمُؤْمِنِنيَ وَالْمُؤْمِنَاتِ] األحزاب‪.35:‬‬
‫وكما يف حديث جربيل _عليه السالم_ الذي رواه عمر ÷‪= :‬ما اإلسالم‪،‬‬
‫وما اإلميان‪.+‬‬
‫يقول العالمة الشيخ عبدالرمحن السعدي × مقرراً هذا األصل‪= :‬اعلم أن‬
‫اإلميان الذي هو تصديق القلب التام بهذه األصول‪ ،‬وإقراره املتضمن ألعمال‬
‫القلوب واجلوارح‪.‬‬
‫وهو _بهذا االعتبار_ يدخل فيه اإلسالم‪ ،‬وتدخل فيه األعمال الصاحلة كلها؛‬
‫فهي من اإلميان‪ ،‬وأثر من آثاره؛ فحيث أطلق اإلميان دخل فيه ما ذكر‪.‬‬
‫وكذلك اإلسالم إذا أطلق دخل فيه اإلميان‪.‬‬
‫فإذا قرن بينهما كان اإلميان امساً ملا يف القلب من اإلقرار‪ ،‬والتصديق‪ ،‬واإلسال ُم‬
‫امسًا لألعمال الظاهرة‪.)1(+‬‬

‫‪ _ 1‬تفسري السعدي ‪.144/1‬‬


‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪611‬‬

‫الفصل الثان‬

‫زيادة اإلميان ونقصانه‪ ،‬ومراتبه‬

‫وحتته‪:‬‬
‫املبحث األول‪ :‬زيادة اإلميان ونقصانه‪.‬‬
‫املبحث الثاني‪ :‬املخالفون يف باب اإلميان‪.‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬مراتب اإلميان‪ ،‬وطبقات الناس فيه‪.‬‬
‫املبحث الرابع‪ :‬أسباب زيادة اإلميان‪.‬‬
‫املبحث اخلامس‪ :‬أسباب نقص اإلميان‪.‬‬
‫‪613‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪614‬‬
‫املبحث األول‪ :‬زيادة اإلميان ونقصانه‬

‫من أصول أهل السنة واجلماعة‪ :‬أن اإلميان يزيد وينقص‪ ،‬وقد دل على ذلك‬
‫الكتاب والسنة‪.‬‬
‫فمن أدلة الكتاب‪ ،‬قوله _تعاىل_‪ِ[ :‬لَيزْدَادُوا إِميَاناً مَعَ إِميَانِهِمْ] الفتح‪.4:‬‬
‫ومن أدلة السنة‪ ،‬قوله " يف النساء‪= :‬ما رأيت من ناقصات عقل ودين‬
‫أذهب ِللُبِّ الرجل احلازم من إحداكن‪.)1(+‬‬
‫ففي اآلية إثبات زيادة اإلميان‪ ،‬ويف احلديث إثبات نقص الدين‪.‬‬
‫وكلُّ نصٍّ يدل على زيادة اإلميان فإنه يتضمن الداللة على نقصه‪ ،‬وبالعكس؛‬
‫( ‪)2‬‬
‫ألن الزيادة والنقص متالزمان‪ ،‬ال يُعْقَل أحدهما دون اآلخر‪.‬‬
‫ومن األدلة على زيادة اإلميان ونقصانه قوله _تعاىل_‪[ :‬وَإِذَا مَا أُن ِزلَتْ سُورَةٌ‬
‫فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَ ِذهِ إِميَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا َفزَادَتْهُمْ إِميَاناً وَهُمْ‬
‫يَسْتَبْشِرُونَ (‪ )124‬وَأَمَّا الَّذِينَ فِي ُقلُوبِهِمْ مَرَضٌ َفزَادَتْهُمْ رِجْساً ِإلَى رِجْسِهِمْ‬
‫َرةً أَوْ مَرََّتيْنِ ثُمَّ‬
‫وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (‪ )125‬أَوَال يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ م َّ‬
‫ال يَتُوبُونَ وَال هُمْ يَذَّكَّرُونَ (‪ ])126‬التوبة‪.‬‬
‫قال الشيخ عبدالرمحن السعدي يف تفسري هذه اآليات‪= :‬ويف هذه اآليات دليل‬

‫‪ _ 1‬أخرجه البخاري (‪ )314‬و(‪ )1462‬و(‪.)81‬‬


‫‪ _ 2‬انظر فتح رب الربية ص‪.96‬‬
‫‪615‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫على أن اإلميان يزيد وينقص‪ ،‬وأنه ينبغي للمؤمن أن يتفقد إميانه‪ ،‬ويتعاهده‪،‬‬
‫فيجدده‪ ،‬وينميه؛ ليكون دائماً يف صعود‪.)1(+‬‬
‫وقال × عند تفسريه لقوله _تعاىل_‪[ :‬وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى]‬
‫مريم‪= :76:‬ويف هذا دليل على زيادة اإلميان ونقصه كما قال السلف الصاحل‪.‬‬
‫ويدل عليه قوله _تعاىل_‪[ :‬وََيزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِميَاناً] املدثر‪[ ،31:‬وَإِذَا‬
‫ُت ِليَتْ َعلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِميَانَاً] األنفال‪.2:‬‬
‫ويدل عليه _أيضاً_ الواقع؛ فإن اإلميان قول القلب واللسان‪ ،‬وعمل القلب‬
‫واللسان واجلوارح‪.‬‬
‫واملؤمنون متفاوتون يف هذه األمور أعظم تفاوت‪.)2(+‬‬
‫وقد ثبت لفظ الزيادة والنقص يف اإلميان عن الصحابة‪ ،‬ومل يعرف منهم‬
‫خمالف فيه‪ ،‬ومجهور السلف على ذلك‪.‬‬
‫قال اإلمام البخاري ×‪= :‬لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء باألمصار؛‬
‫فما رأيت أحداً خيتلف يف أن اإلميان قول وعمل يزيد وينقص‪.)3(+‬‬

‫‪ _ 1‬تفسري السعدي ‪.317/3‬‬


‫‪ _ 2‬تفسري السعدي ‪.33/5‬‬
‫‪ _ 3‬ذكره احلافظ يف الفتح ‪ ،47/1‬وانظر إىل معارج القبول للشيخ حافظ احلكمي‬
‫‪ ،1181_1177/3‬وزيادة اإلميان ونقصانه وحكم االستثناء فيه للشيخ الدكتور عبدالرزاق البدر‬
‫ص‪ 149 _ 123‬حيث أورد نقوالً كثرية عن السلف يف هذا السياق‪ ،‬والكتاب املذكور يكاد يكون أحسن‬
‫ما كتب يف بابه‪.‬‬
‫وانظر كذلك إىل كتاب نواقض اإلميان االعتقادية ‪.93_82/1‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪616‬‬
‫‪617‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬
‫املبحث الثاني‪ :‬املخالفون يف باب اإلميان‬

‫أشهر من خالف يف باب اإلميان طائفتان‪:‬‬


‫األوىل‪ :‬الوعيدية من اخلوارج(‪ )1‬واملعتزلة(‪ ،)2‬الذين أخرجوا أهل الكبائر‬
‫من اإلميان‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن اإلميان إما أن يوجد كله‪ ،‬وإما أن يعدم كله‪ ،‬ومنعوا من‬
‫تفاضله(‪.)3‬‬
‫الثانية‪ :‬املرجئة( ‪ )4‬اخلالصة الذين يقولون‪ :‬إن اإلميان إقرار القلب‪ ،‬وزعموا‬

‫‪ _ 1‬اخلوارج‪ :‬فرقة ظهرت يف عهد علي بن أبي طالب ÷ عام ‪37‬هـ‪ ،‬حيث اعرتضوا على قبول‬
‫التحكيم مع أنهم هم الذين أكرهوا عليَّاً على قبوله عندما رفع أصحاب معاوية ÷ املصاحف‪.‬‬
‫وملَّا ذكَّرهم بإكراههم له‪ ،‬قالوا‪= :‬ولكنَّ ذلك كان منَّا كفراً؛ فقد تبنا إىل اهلل _عز وجل_ منه؛ فتب كما‬
‫تبنا نبايعْك‪.+‬‬
‫ثم بعد ذلك خرجوا عن مجاعة املسلمني‪ ،‬وصاروا يكفِّرون بالكبائر ولو كانت دون الشرك‪.‬‬
‫وكانت مقالتهم أول مقالة فرَّقت األمة‪ .‬انظر امللل والنحل للشهرستاني ‪ ،114/1‬واملقاالت‬
‫‪ ،56/1‬وتاريخ الطربي ‪ 57/1‬و‪ 66‬و‪.72‬‬
‫‪ _ 2‬املعتزلة‪ :‬فرقة نشأت ما بني سنة ‪115‬هـ _ ‪111‬هـ‪ ،‬حني انفصل واصل بن عطاء عن احلسن‬
‫البصري‪ ،‬حني خالف احلسنَ يف حكم مرتكب الكبرية‪ ،‬وزعم أنه يف منزلة بني املنزلتني ال مؤمن وال‬
‫كافر‪ ،‬فسُمِّي هو ومن تابعه املعتزلة؛ العتزالِهم احلسنَ‪ ،‬وقولِ األمة يف حكم مرتكب الكبرية‪ ،‬وزعمِهم‬
‫أن صاحب الكبرية قد اعتزل الكافرين واملؤمنني‪ .‬انظر الفرق بني الفرق ص‪ ،21_21‬واملعتزلة‬
‫وأصوهلم اخلمسة‪ ،‬وموقف أهل السنة منها‪ ،‬د‪ .‬عواد بن عبداهلل املعتق ص‪.283‬‬
‫‪ _ 3‬انظر فتح رب الربية ص‪.97‬‬
‫‪ _ 4‬املرجئة‪ :‬سُمُّوا بذلك من اإلرجاء‪ ،‬وهو تأخري العمل عن مسمى اإلميان‪ ،‬وأول ما ظهر اإلرجاء‬
‫إمنا كان ردَّ فعل للخوارج عندما كفَّروا احلكمني‪ ،‬وعليَّ بن أبي طالب‪.‬‬
‫=‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪618‬‬
‫أن إقرار القلب ال يتفاوت؛ فالفاسق والعدل عندهم سواء يف اإلميان‪.‬‬
‫فالوعيدية واملرجئة يرون أن اإلميان حقيقة واحدة‪ ،‬إما أن يوجد كله‪ ،‬أو أن‬
‫يذهب كله‪.‬‬
‫ولكنهم اختلفوا يف كيفية وجوده وعدمه؛ فالوعيدية يرون أنه ال بد يف اإلميان‬
‫من اإلتيان جبميع الواجبات‪ ،‬وترك مجيع احملرمات؛ فإذا ختلف شيء من ذلك‬
‫ذهب اإلميان‪.‬‬
‫واملرجئة يرون أنه ال يضر مع اإلميان معصية كما ال ينفع مع الكفر طاعة‪.‬‬
‫يقول الشيخ حافظ احلكمي × مبيناً مذهب الوعيدية من اخلوارج واملعتزلة‬
‫يف باب اإلميان‪= :‬وما متسك به اخلوارج واملعتزلة وأضرابهم من التشبث بنصوص‬
‫الكفر‪ ،‬والفسوق األصغر‪ ،‬واستدالهلم به على األكرب _ فذلك مما جََنْت ُه أفهامُهم‬
‫الفاسدةُ‪ ،‬وأذهانُهم البعيدة‪ ،‬وقلوبُهم الغلفُ؛ فضربوا نصوص الوحي بعضَها‬
‫ببعض‪ ،‬واتبعوا ما تشابه؛ منه ابتغاء الفتنة‪ ،‬وابتغاء تأويله‬
‫ص ُّر على كبرية من زناً‪ ،‬أو شربِ مخرٍ‪ ،‬أو رباً _ كافرٌ مرتدٌ‪،‬‬
‫فقالت اخلوارج‪ :‬املُ ِ‬
‫ص َّلى عليه‪ ،‬وال يُدفن يف مقابر املسلمني‪ ،‬ولو أقر هلل‬
‫خارجٌ من الدين بالكلية ال يُ َ‬

‫________________________‬

‫= وأول من تكلم يف اإلرجاء‪ :‬احلسن بن حممد بن احلنفية املتوفى عام ‪ ،99‬وقد ذكر ذلك كلَّ مَنْ‬
‫ترجم له‪ ،‬وكان × يقول‪ = :‬لوددت أني كنت مِتُّ‪ ،‬ومل أكتبه‪.+‬‬
‫وهو حممد بن احلسن بن علي بن أبي طالب‪ ،‬وقد اشتهر بالنسبة إىل أمه‪ ،‬وهي من بين حنيفة‪ ،‬وكان‬
‫من أعلم الناس باالختالف‪ ،‬وكان من أوثق الناس‪ .‬انظر طبقات ابن سعد ‪ ،328/5‬والفَرْق بني الفِرَق‬
‫للبغدادي ‪ ،212‬والتهذيب البن حجر ‪.321/2‬‬
‫‪619‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫_تعاىل_ بالتوحيد وللرسول"بالبالغ‪ ،‬وصلى‪ ،‬وصام‪ ،‬وزكى‪ ،‬وحجَّ‪ ،‬وجاهد‪.‬‬


‫وهو خملد يف النار أبداً مع إبليس وجنوده‪ ،‬ومع فرعون وهامان وقارون‬
‫وقالت املعتزلة‪ :‬العصاةُ ليسوا مؤمنني وال كافرين‪ ،‬ولكن نُسمِّيهم فاسقني؛‬
‫فجعلوا الفِسْقَ منزلةً بني املنزلتني‪ ،‬ولكنهم مل حيكموا به مبنزلة يف اآلخرة بني‬
‫املنزلتني‪ ،‬بل قضوا بتخليده يف النار أبدا كاالذين قبلهم فوافقوا اخلوارج مآالً‪،‬‬
‫وخالفوهم مقاالً‪ ،‬وكان الكلُّ خمطئني ضالالً‪.)1(+‬‬
‫وقال × مقرراً مذهب املرجئة‪= :‬وقابل ذلك _أي ضالل اخلوارج_ املرجئة؛‬
‫فقالوا‪ :‬ال تضر املعاصي مع اإلميان ال بنقصٍ‪ ،‬وال منافاةٍ‪ ،‬وال يدخل النار أحدٌ‬
‫بذنب دون الكفر بالكلية‪ ،‬وال تفاضل عندهم بني إميان الفاسق املوحد وبني إميان‬
‫أبي بكر وعمر‪ ،‬حتى وال تفاضل بينهم وبني املالئكة‪ ،‬ال وال فرق عندهم بني‬
‫املؤمنني واملنافقني؛ إذ الكل مستويف النطقِ بالشهادتني‪.)2(+‬‬
‫فهذه هي خالصة مذاهب املخالفني يف باب اإلميان من الوعيدية‪ ،‬واملرجئة‪.‬‬
‫أما أهل السنة فريون _كما مر_ أن اإلميان حقيقة مركبة؛ فليس كل ذنب يذهب‬
‫ل اإلميان‪ ،‬وهناك ما يُذْهِبُ كمالَهُ‬
‫باإلميان؛ بل هناك من الذنوب ما يُذْهِبُ أص َ‬
‫الواجب‪ ،‬وهناك ما يُذْهِبُ كمالَه املستحبَّ‪.‬‬
‫ويرون أن اإلميان يتفاوت؛ فليس على درجة واحدة‪.‬‬

‫‪ _ 1‬معارج القبول بشرح سلم الوصول إىل علم األصول يف التوحيد للشيخ حافظ احلكمي‬
‫‪.1194_1193/3‬‬
‫‪ _ 2‬معارج القبول ‪.1194/3‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪634‬‬
‫يقول الشيخ العالمة حممد بن عثيمني×بعد إيراده كالم املرجئة والوعيدية‪:‬‬
‫=وكل من هاتني الطائفتني حمجوج بالسمع والعقل‪.‬‬
‫أما السمع فقد تقدّم يف النصوص ما دل على إثبات زيادة اإلميان ونقصه‪.‬‬
‫وأما العقل فنقول للمرجئة‪ :‬قولكم‪ :‬إن اإلميان هو إقرار القلب‪ ،‬وإقرار‬
‫القلب ال يتفاوت‪ ،‬ممنوع يف املقدمتني مجيعاً‪.‬‬
‫أما املقدمة األوىل‪ :‬فتخصيصكم اإلميان بإقرار القلب خمالف ملا دلّ عليه‬
‫الكتاب والسنة من دخول القول والعمل يف اإلميان‪.‬‬
‫وأما املقدمة الثانية‪ :‬فقولكم‪ :‬إن إقرار القلب ال يتفاوت خمالف للحس؛ فإن‬
‫من املعلوم لكل أحد أن إقرار القلب إمنا يَتْبَعُ العلمَ؛ وال ريب أن العلمَ يتفاوت‬
‫بتفاوت طرقه؛ فإن خرب الواحد ال يفيد ما يفيده خربُ االثنني وهكذا‪ ،‬وما أدركه‬
‫اإلنسانُ باخلرب ال يساوي يف العلم ما أدركه باملشاهدة؛ فاليقني درجاتٌ متفاوتةٌ‪،‬‬
‫وتفاوتُ الناس يف اليقني أمرٌ معلومٌ‪.‬‬
‫بل اإلنسان الواحد جيد من نفسه أنه يكون يف أوقات وحاالت أقوى منه يقيناً‬
‫يف أوقات وحاالت أخرى‪.+‬‬
‫ويضيف × قائالً‪ = :‬كيف يصح لعاقل أن حيكم بتساوي رجلني يف اإلميان‬
‫أحدهما‪ :‬مثابر على طاعة اهلل _تعاىل_ فرضها ونفلها‪ ،‬متباعد عن حمارم اهلل‪،‬‬
‫وإذا بدرت منه املعصية بادر إىل اإلقالع عنها والتوبة منها‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬مُضيّع ملا أوجب اهلل عليه‪ ،‬ومنهمك فيما حرّم اهلل عليه‪ ،‬غري أنه مل‬
‫يأت ما يكفره‪ ،‬كيف يتساوى هذا وهذا؟!‬
‫‪630‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫وأما الوعيدية‪ ،‬فنقول هلم‪ :‬قولكم‪ :‬إن فاعل الكبرية خارج من اإلميان‬
‫خمالف ملا دل عليه الكتاب والسنة‪ ،‬فإذا تبني ذلك فكيف حنكم بتساوي رجلني يف‬
‫اإلميان؟ أحدهما‪ :‬مقتصد فاعل للواجبات‪ ،‬تارك للمحرّمات‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬ظامل لنفسه يفعل ما حرم اهلل عليه‪ ،‬ويرتك ما أوجب اهلل عليه من‬
‫غري أن يفعل ما يكفر به؟!‬
‫ونقول ثانياً‪ :‬هب أننا أخرجنا فاعل الكبرية من اإلميان‪ ،‬فكيف ميكن أن حنكم‬
‫على رجلني بتساويهما يف اإلميان وأحدهما مقتصد‪ ،‬واآلخر سابق باخلريات بإذن‬
‫( ‪)1‬‬
‫اهلل؟!‪.+‬‬
‫هذا وسيأتي مزيد بيان هلذه املسألة يف املبحث التالي عند احلديث عن مراتب‬
‫اإلميان‪ ،‬وطبقات الناس فيه‪.‬‬

‫‪ _ 1‬فتح رب الربية ‪.98_97‬‬


‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪631‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬مراتب اإلميان‪ ،‬وطبقات الناس فيه‬

‫اإلميان مراتب‪ ،‬والناس فيه على طبقات‪ ،‬وهم فيه على تفاوت وتفاضل؛‬
‫فمنهم من ليس معه إال أصلُ اإلميان‪ ،‬واحلدُّ األدنى منه‪.‬‬
‫ومنهم من بلغ فيه درجات الكمال الواجب أو املستحب‪ ،‬وفيما يلي بيان‬
‫ملراتب اإلميان‪ ،‬وطبقات الناس فيه بإجياز‪.‬‬
‫‪ _1‬اإلميان اجململ‪ ،‬أو مطلق اإلميان‪ :‬واملقصود به احلد األدنى من اإلميان‬
‫الذي هو شرطُ صحةِ اإلميان‪ ،‬والنجاةِ من اخللود يف النار يف اآلخرة إن مات‬
‫صاحبه على ذلك‪.‬‬
‫وبه تثبت األحكام من فرائض‪ ،‬ومواريث‪ ،‬وحقوق‪ ،‬وحدود‪ ،‬وذبائح‪،‬‬
‫ومناكحة‪ ،‬وحنو ذلك‪.‬‬
‫وهذه املرتبة يُطلق على صاحبها اسم‪ :‬اإلسالم‪ ،‬أو اإلميان املقيَّد‪ ،‬فيقال‪:‬‬
‫مسلم‪ ،‬أو مؤمن ناقص اإلميان‪ ،‬أو‪ :‬فاسق؛ فيدخل حتت هذه املرتبة أهل الكبائر‬
‫عموماً‪ ،‬وكذلك َمنْ أَسْلَمَ مِنْ أهل الطاعة ممن مل تدخلْ حقائقُ اإلميان‬
‫( ‪)1‬‬
‫قلوبهم‪.‬‬
‫ح أن يطلق على من كان من أهل تلك املرتبة‪ :‬مرتبة الظامل لنفسه‪.‬‬
‫ويَصِ ُّ‬
‫‪ _2‬اإلميان املطلق الواجب‪ :‬ويقال عنه اإلميان الكامل الواجب‪ ،‬أو اإلميان‬
‫املفصَّل‪ ،‬أو حقيقة اإلميان‪.‬‬
‫ويكون صاحبه ممن يؤدي الواجبات‪ ،‬وجيتنب الكبائر‪ ،‬وهو ممن وعد باجلنة‬

‫‪ _ 1‬انظر كتاب اإلميان البن تيمية ‪ ،258_257‬ونواقض اإلميان االعتقادية ‪.97_96/1‬‬


‫‪633‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫بال عذاب‪.‬‬
‫وأهل هذه املرتبة متفاوتون على حسب تورعهم عن الصغائر اليت تُكَفَّرُ بفعل‬
‫احلسنات‪ ،‬واجتناب الكبائر؛ فمن كان أحرص على اجتناب الصغائر كان أكمل‬
‫( ‪)1‬‬
‫ممن يغشاها‪.‬‬
‫وهذه املرتبة يصح أن تسمى مرتبة املقتصدين األبرار‪.‬‬
‫‪ _3‬اإلميان املطلق املستحب‪ :‬وهي مرتبةُ اإلميان الكامل باملستحبات‪ ،‬ومرتبةُ‬
‫اإلحسان‪ ،‬ومرتبةُ املقربني السابقني باخلريات‪.‬‬
‫وصاحب هذه املنزلة ال يكتفي بفعل الواجبات‪ ،‬وترك احملرمات‪ ،‬بل يضيف‬
‫إليها فعل املستحبات‪ ،‬وترك املكروهات‪.‬‬
‫وهذا حالُه يف عامة األعمال‪ ،‬كالصالة‪ ،‬والصدقة‪ ،‬والصوم‪ ،‬واحلج‪ ،‬وغريه‪.‬‬
‫فهذه مراتب اإلميان؛ فمن قَصَّر بالواجبات فهو الظامل لنفسه‪ ،‬ومن أتى‬
‫بالواجبات فحسب فهو من أهل اإلميان الواجب‪ ،‬ومن زاد على ذلك فأتى‬
‫باملستحبات‪ ،‬وتَجَنَّبَ املكروهاتِ فهو من أهل اإلميان املستحب‪.‬‬
‫وقد ورد يف القرآن الكريم اإلشارة إىل ذلك يف عدة مواطن كما يف قوله _تعاىل_‪:‬‬
‫[ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ َّالذِينَ اصْطَفَيْنَا ِمنْ عِبَا ِدنَا فَمِْنهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِْنهُمْ مُقْتَصِ ٌد‬
‫( ‪)2‬‬
‫ل الْكَبِريُ] فاطر‪.32:‬‬
‫ت بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُ َو الْفَضْ ُ‬
‫وَمِْنهُمْ سَابِ ٌق بِالْخَيْرَا ِ‬

‫‪ _ 1‬انظر اإلميان البن تيمية ص‪ ،337‬ومعارج القبول ‪ ،1191_1181/3‬ونواقض اإلميان االعتقادية‬


‫‪.97/1‬‬
‫‪ _ 2‬انظر نواقض اإلميان االعتقادية ‪.98/1‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪634‬‬
‫قال الشيخ عبدالرمحن السعدي ×‪= :‬قسم اهلل املؤمنني إىل ثالث طبقات‪:‬‬
‫سابقون باخلريات‪ :‬وهم الذين أدوا الواجبات‪ ،‬واملستحبات‪ ،‬وتركوا احملرمات‬
‫واملكروهات؛ فهؤالء هم املقربون‪.‬‬
‫ومقتصدون‪ :‬وهم الذين أدوا الواجبات‪ ،‬وتركوا احملرمات‪.‬‬
‫وظاملون ألنفسهم‪ :‬وهم الذين جترؤوا على بعض احملرمات‪ ،‬وقصروا يف‬
‫بعض الواجبات على بقاء أصل اإلميان معهم‪.)1(+‬‬
‫وميكن أن تنزل مراتب الدين الثالث على الطبقات الثالث املاضية‪ ،‬فتنزل‬
‫مرتبة اإلسالم على الطبقة األوىل _طبقةِ أهل اإلميان اجململ أو مطلق اإلميان_‪.‬‬
‫وتنزل مرتبة اإلميان على الطبقة الثانية _طبقةِ أهل اإلميان املطلق الواجب_‪.‬‬
‫وتنزل مرتبة اإلحسان على الطبقةِ الثالثة _طبقةِ أهل اإلميان املطلق املستحب_‪.‬‬
‫لا شرو حاف شرحكذي × في كساعه شرن ذعامج شرنعذو ععذخ ا‬
‫وا يذظق ذا شآل اتا وشاحاخ ثا وشآلثام ا شرِحاعق وشرسذاعع ا‬
‫في ع اا س اض شر اس فذي شي ذذااا وكذو ف ذه ظذ خعنذات لذا ‪:‬‬
‫= وشآل ات وشاحاخ ث وآثام شرِحاعق وشرساعع ا في هذ ش شرعذا كثذم‬
‫ذا ا سحِما و و م ذا ا س كم‪.)2(+‬‬
‫ثذذ لذذا ×‪= :‬وشرذنِذذوخ ع ذذاا عذذبا شر ذذاس ذس ذذاوسوا فذذي شرذذخ ا‬
‫عس اوت شي ذاا فذي لظذوع ا ذس اضذظوا ف ذه عحوذ رذ فبفضذظ‬
‫و هذذ ورذذو شرعذذذ ذذذا شرموذذ ا و خ ذذذاه شرذِّاظخذذوا ذذذا هذذذ‬

‫‪ _ 1‬التنبيهات اللطيفة على ما احتوت عليه العقيدة الواسطية من املباحث املنيفة للشيخ عبدالرمحن‬
‫السعدي ص‪.51‬‬
‫‪ _2‬معارج القبول ‪1189/3‬‬
‫‪635‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫_ ذ‬ ‫ح ذ خ ع ذذا ه‬ ‫شرسوح ذذخا وع ذ ا ر ذ ذمشس ذ ا وخميذذات‬


‫( ‪)1‬‬
‫وي _ شر ا اظن وم ل ‪.‬‬
‫ثم بي ن بعد الك سن تلن س كء يته فتفن فة تييءة ن فةمنكم كةالك‬
‫يته فتفن ف سعء تييء ن تلظ هرة‪ ،‬لا ×‪= :‬وكذذا س ذاوسوا فذي‬
‫ذعظغ شي ذاا ذذا لظذوع س ذاوسوا فذي ذذا شي ذذاا شر ذاهمتا عذ‬
‫و س اضظوا في ذ وشحخ عذظه كظ فذي آا وشحذخا وفذي ذكذاا‬
‫وشحذذخ فذذذاا شريذا ذذذق فذذي شرِذذذ ت ِذذذافوا كظ ذذ فذذذي م ا شرعذذذ اا‬
‫ذوذذذسووا فذذذي شرن ذذذا ا وشرمكذذذو ا وشروذذذيوخا وشرا ذذذ ا وشرمفذذذرا‬
‫وشرسكع ما وشرسحذ خا وشرسوع حا وشرس ظ ذ ا وشرذس وتا ووذارم شا كذاما‬
‫وشرحمكاتا وشروك ات في ذوذيخ وشحذخا وولذت وشحذخا واظذ هذذا‬
‫ذا شرس ذاوت وشرس اضذ ذذا حِذ ف ذ ش لذمت ذه‬ ‫وشحخا وع‬
‫في شرِ ت وخ هخارس ا ذذا خش ذذماا وآاذمِّ ذمل وذه فذي ضذ‬
‫وذذيا ذذوخ ش نضذذاهها فذذي وذذم ذذذا خمفذذه ذ اا و ذذوخ شراذذموج‬
‫ذ اا ع س خ ظ شرخاو ف ا‪.‬‬
‫ظ ويه شرحضوم وشرذمشلعق كب ه واهخا‪.‬‬ ‫وه ش ععخ‬
‫وآاذذم لظعذذه فذذي شر ظذذوشت لذذخ سوذذعَّ عت عذذه شرضَّذذ عاتا وس ملذذت عذذه‬
‫خما ذا نو و ذا ع و ك ِظ ‪.‬‬ ‫شرخملاتا حس‬
‫وه ش ِّسمْ فر ِ ِّسه سسو َّهج عار وم حس ساسم شروذوشت شر مش‬
‫شرمحذا _ وي _‪.‬‬
‫وه ش سامج ذ ظذق ر ظذق لظعه فسغظ عوش شروذاه خو ا فسظذ‬
‫كذا ِّظ شرثو شراظِ ِّ ا ف ِّضْ م ِّ ع ا وي ِّه ِاحع ا‪.‬‬
‫وه ش كس ره ضعافِّ ا و ضعا ذضا ق‪.‬‬
‫وه ش امج ذ ا وذا كس ره ه ِ اا ه معع اا ه ثذ اا ه‬
‫ومها‪.‬‬

‫‪ _1‬معارج القبول ‪1189/3‬‬


‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪636‬‬
‫ضمها ِومتا ور كس ره ذ ا ويه‪.‬‬ ‫وه ش حْ ِّ‬
‫وه ش ذ اف بس ا مراه شر اسا و ؤذا عاهلل وشر و شآلام‪.‬‬
‫ذذمشه ذوذذسو ا فذذي فعظ ذذاا ورذذو كوذذ رذذه‬ ‫وه ذ ش وشر ذذا م هرذذ‬
‫ظذ كذ‬ ‫شرمل ذ‬ ‫شرحيا رم ل ذا شر ملاا ذا نخم لذخمت ه‬
‫( ‪)1‬‬
‫ظ ه ااف ق‪. +‬‬ ‫س عذا كوعت شر ا حاخ عك ويه ظذا سا‬
‫هر ا لا × شكمش ععذ شا ذذا شرسذي س اضذ ِذحاع ا ف ذا‬
‫ذر ا ِومس ا وشحخت لا ‪= :‬وكذ ر شري ذاخ سذمل شاذذق ذذا شر ذاس‬
‫اميوا ف ه ذر هذا وشحخا و ناسظوا خوش وشحخش ظذ خ ذا وشحذ ذخا‬
‫ذسواو ا اهمش في شرنول وشرعخخ ف ش ناس حذ ق و ِذع قا وهذ ش‬
‫ناس م اه ووذعق رِ ِّسعْ ظ ويا ِّسها و ِّمل ذكا ِّها وهذ ش ناسذ رظذغذ‬
‫ر س ره ه غ ذماا وهذ ش ناسذ رسكذوا كظذذ ِّق هذي شرعظ ذاا و ش هذو‬
‫رغ ماا وه ش هو شرذ ا كسذ رذه عكذ حمكذ ذق‬ ‫شرذياهخ في وع‬
‫وكوا و ِ ذ و ذاذِ ذق ذ ِارح‪.‬‬ ‫ذ‬ ‫و‬
‫وهك ش شر كاتِّا وشرِو ِّا وشرح ِّجا وشاذمِّ عذارذعمو ا وشر ذيِّ ذا‬
‫ت‬ ‫ذذاا شر ذذذاسِّ ف ذذذا ظذذذ هذذذ ش شرس ذذذاو ِ‬
‫شرذ كذذذما ويذ ذذذر ذذذذا شي ذذ ِ‬
‫وشرس اض ِ عحوذ ذذا ولذم فذي لظذوع ذذا شرعظذ وشر نذ ا و ظذ رذ‬
‫ذوسواا و ظ ه ععثواا و ظ لخما ن وا في م ِ شرذول ا و ظ‬
‫ر ذ شرذذو اِّ وشرِذذح ِّ ا و ظذذ رذذ ِّسنوذذ شا ذذوشم ظذذ شرِذذمشخ‬
‫وعحوذذ رذذذ ذذذذموا ظ ذذذه وذذذذا ِّعخذذذ ْ عذذذه ذظذذذه رذذذ وذذذم عذذذه‬
‫( ‪)2‬‬
‫وعه‪+‬‬
‫ث اس ك ذه ذع ا ا ر شرس اض ع ا هذ شي ذذاا كذذا كذوا‬
‫في شرخ ا كذوا كذ ر فذي شآلاذمتا فنذا ×‪= :‬وعذ ر سوذاعنوا فذي‬
‫خاو شري قا و ظذ حوذعه مفذر خميذاس ا وعنذخما سكذوا ذنا ذخه‬

‫‪ _1‬معارج القبول ‪1191_1189/3‬‬


‫‪ _2‬معارج القبول ‪1191/3‬‬
‫‪637‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫ذا مع _سعذام وسعذار _ فذي ذو شرذ ذخ وعذنذخشم رذ ذذذارك‬


‫ف ذذاا و عذذذ ذ ا و اذذسص عمحذسذذذه ذذذا وذذذاه و و شر ضذذذ‬
‫( ‪)1‬‬
‫شرع ‪+‬‬

‫‪ _1‬معارج القبول ‪1191/3‬‬


‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪638‬‬
‫املبحث الرابع‪ :‬أسباب زيادة اإلميان‬

‫تقدم أن اإلميان يزيد وينقص‪ ،‬واحلديث ههنا سيكون عن أسباب زيادة اإلميان‬
‫ونقصانه؛ فهناك أسباب كثرية إذا صدرت من العبد زاد إميانه‪ ،‬وسار يف طريق‬
‫الكمال‪.‬‬
‫كما أن هناك أسباباً أخرى إذا فعلها العبد نقص إميانه‪ ،‬وضعف‪ ،‬وأوشك أن‬
‫ينحط يف مهاوي الردى‪.‬‬
‫ومعرفة أسباب زيادة اإلميان ونقصانه من األهمية مبكان؛ فاحلاجة إليها ماسة‪،‬‬
‫بل الضرورة مُلِحَّة؛ ألن اإلميان هو كمال العبد‪ ،‬وسبيل سعادته وفالحه يف الدنيا‬
‫واآلخرة‪.‬‬
‫ونقصُ اإلميان أو زوالُه سببُ شقائه يف الدارين‪.‬‬
‫َحققِ بها‬
‫واملوفق كل التوفيق هو من يسعى يف حتقيقِ اإلميان‪ ،‬وفروعه‪ ،‬والت ُّ‬
‫علماً‪ ،‬وعمالً‪ ،‬وحاالً‪.‬‬
‫ويسعى _كذلك_ يف دفع ما ينايف ذلك‪ ،‬ويَنْقُضُه‪ ،‬أو يُنْقِصُه من الفنت الظاهرة‬
‫والباطنة‪ ،‬وحيرص كل احلرص على مداواة ما قَصَّر فيه من الطاعات‪ ،‬وجترأ‬
‫عليه من املعاصي بالتوبة النصوح‪ ،‬وتدارك ما فات من األمر؛ فتحقيقُ اإلميان‬
‫وتقويته يكون مبعرفة أسباب زيادته؛ والقيام بها‪.‬‬
‫والسعيُ يف دفع ما ينافيه أو يضاده يكون مبعرفة أسباب نقصه‪ ،‬واحلذر من‬
‫( ‪)1‬‬
‫الوقوع فيها‪.‬‬
‫هذا وإن لزيادة اإلميان أسباباً منها على سبيل اإلجياز ما يلي‪:‬‬

‫‪ _ 1‬انظر التوضيح والبيان لشجرة اإلميان للشيخ عبدالرمحن السعدي ص‪ ،38‬وزيادة اإلميان ونقصانه‬
‫ص‪.181‬‬
‫‪639‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫‪ _1‬تعلم العلم النافع‪ :‬املستمد من الكتاب والسنة؛ فمن وفّق لذلك وُفِّق‬
‫ألعظم سبب من أسباب زيادة اإلميان‪.‬‬
‫ومن تأمل نصوص الوحيني‪ ،‬وكالم العلماء يف ذلك الشأن أدرك ذلك‪،‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫واملقامُ ال يسمح بالتفصيل‪.‬‬
‫‪ _ 2‬معرفة أمساء اهلل وصفاته ‪ ،‬فإن العبد كلما ازداد معرفة بها ومبقتضياتها‪،‬‬
‫وآثارها _ ازداد إمياناً بربه‪ ،‬وحبّاً‪ ،‬وتعظيماً له‪.‬‬
‫‪ _ 3‬النظر يف آيات اهلل الكونية‪ :‬فإن العبد كلما نظر فيها‪ ،‬وتأمل ما اشتملت‬
‫عليه من القدرة الباهرة‪ ،‬واحلكمة البالغة‪ ،‬ازداد إمياناً ويقيناً بال ريب‪.‬‬
‫الليْلِ وَالنَّهَارِ‬
‫قال اهلل _تعاىل_‪[ :‬إِنَّ فِي َخلْقِ السَّمَوَاتِ وَاألَرْضِ وَاخْتِالفِ َّ‬
‫س وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ‬
‫وَالْ ُفلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّا َ‬
‫ُل دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ‬
‫حيَا بِهِ األَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ ك ِّ‬
‫فَأَ ْ‬
‫ض آليَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْ ِقلُونَ] البقرة‪.164:‬‬
‫الْمُسَخَّرِ َبيْنَ السَّمَاءِ وَاألَرْ ِ‬
‫‪ _1‬قراءة القرآن الكريم وتدبره‪ :‬فإن ذلك من أعظم أبواب العلم املؤدية إىل‬
‫زيادة اإلميان‪ ،‬وثباته‪ ،‬وقوته‪.‬‬
‫قال الشيخ عبدالرمحن السعدي × متحدثاً عن القرآن‪ ،‬وكونه من أعظم‬
‫أسباب تقوية اإلميان‪ = :‬ويُقَوّيه من وجوه كثرية؛ فاملؤمن مبجرد ما يتلو آيات اهلل‪،‬‬
‫ويعرف ما رُكِّب عليه من األخبار الصادقة‪ ،‬واألحكام احلسنة حيصل له من أمور‬

‫‪ _ 1‬انظر مقدمة مفتاح دار السعادة البن القيم‪ ،‬فقد ذكر ما يزيد على مائة فائدة من فوائد العلم‪.‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪644‬‬
‫َملَهُ‪ ،‬وفَهْمَ مقاصدِه وأسراره‪.)1(+‬‬
‫اإلميان خري كثري؛ فكيف إذا أحسن تَأ ُّ‬
‫‪ _ 5‬فعل الطاعة تقرباً إىل اهلل _تعاىل_‪ :‬فإن اإلميان يزداد بذلك حبسب حسن‬
‫العمل‪ ،‬وجنسه‪ ،‬وكثرته؛ فكلما كان العمل أحسن كانت زيادةُ اإلميانِ به‬
‫أعظم‪ ،‬وحسنُ العمل يكون حبسب اإلخالص واملتابعة‪.‬‬
‫وأما جنس العمل فإن الواجب أفضل من املسنون‪ ،‬وبعض الطاعات أوكد‬
‫وأفضل من بعضها اآلخر‪ ،‬وكلما كانت الطاعة أفضل كانت زيادة اإلميان بها‬
‫أعظم‪.‬‬
‫وأما كثرة العمل فإن اإلميان يزداد بها؛ ألن العمل من اإلميان فال جرم أن يزيد‬
‫بزيادته‪.‬‬
‫ومما يرفع من شأن الطاعة‪ ،‬ويعظم أثرها يف زيادة اإلميان _زيادة على ما‬
‫مضى_ مراعاة األسباب واألعمال اليت يضاعف بسببها الثواب‪ ،‬وترتك آثارها‬
‫( ‪)2‬‬
‫الطيبة على القلوب‪ ،‬وهي كثرية مبسوطة يف كتب أهل العلم‪.‬‬
‫‪ _6‬ترك املعصية خوفاً من اهلل _عزّ وجل_‪ :‬ألن املعصية تضعف القلب‪،‬‬
‫وتعطل سريه إىل اهلل _جل وعال_‪.‬‬
‫وكلما قوي الداعي إىل فعل املعصية كانت زيادة اإلميان برتكها أعظم؛ ألن‬
‫تركها مع قوة الداعي إليها دليل على قوة إميان العبد‪ ،‬وتقدميه ما حيبه اهلل‬
‫( ‪)3‬‬
‫ورسوله على ما تهواه نفسه‪.‬‬

‫‪ _ 1‬التوضيح والبيان لشجرة اإلميان ص‪ ،27‬وانظر زيادة اإلميان ونقصانه ص‪.213_192‬‬


‫‪ _ 2‬انظر األسباب واألعمال اليت يضاعف بها الثواب للشيخ عبدالرمحن السعدي‪ ،‬وشرحها للكاتب‪.‬‬
‫‪ _ 3‬انظر فتح رب الربية ص‪.99_98‬‬
‫‪640‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪641‬‬
‫املبحث اخلامس‪ :‬أسباب نقص اإلميان‬

‫كما أن لإلميان أسباباً تزيده‪ ،‬وتنميه فكذلك هناك أسباب تنقصه‪ ،‬وتضعفه‪،‬‬
‫بل قد تذهب به‪.‬‬
‫وكما أن املسلم مطالب مبعرفة أسباب زيادة اإلميان؛ فهو كذلك مطالب مبعرفة‬
‫أسباب نقصه؛ ليحذرها‪.‬‬
‫وفيما يلي ذكر لبعض تلك األسباب على سبيل اإلمجال‪:‬‬
‫‪ _ 1‬اجلهل باهلل _تعاىل_ وأمسائه وصفاته‪ :‬فاجلهل باهلل _عز وجل_ أساس كل‬
‫شر؛ فهو جير صاحبه إىل الويالت‪ ،‬والعواقب الوخيمة‪.‬‬
‫وأعظم اجلهل‪ :‬اجلهل خبالق األرض والسموات‪ ،‬وبأمسائه‪ ،‬ومقتضياتها‪،‬‬
‫وآثارها‪.‬‬
‫‪ _ 2‬الغفلة واإلعراض عن النظر يف آيات اهلل وأحكامه الكونية والشرعية‪،‬‬
‫فإن ذلك يُوجب مرض القلب‪ ،‬أو موته باستيالء الشهوات والشبهات عليه‪.‬‬
‫‪ _ 3‬فعل املعصية‪ :‬فينقص اإلميان حبسب جنسها‪ ،‬وقدرها‪ ،‬والتهاون بها‪،‬‬
‫وقوة الداعي إليها‪ ،‬أو ضعفه‪.‬‬
‫فأما جنسها وقدرها فإن نقص اإلميان بالكبائر أعظم من نقصه بالصغائر‪،‬‬
‫ونقص اإلميان بقتل النفس احملرمة أعظم من نقصه بأخذ مال حمرتم‪ ،‬ونقصه‬
‫مبعصيتني أكثر من نقصه مبعصية واحدة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫وأما التهاون بها فإن املعصية إذا صدرت من قلبٍ متهاونٍ مبن عصاه ضعيفِ‬
‫اخلوف منه كان نقص اإلميان بها أعظم من نقصه إذا صدرت من قلبٍ معظمٍ هلل‬
‫‪643‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫_تعاىل_ شديدِ اخلوف منه‪ ،‬لكن فَرَطَتْ منه املعصية‪.‬‬


‫وأما قوة الداعي إليها فإن املعصية إذا صدرت ممن ضعفت منه دواعيها كان‬
‫نقص اإلميان بها أعظم من نقصه إذا صدرت ممن قويت منه دواعيها‪ ،‬ولذلك‬
‫كان زنا الشيخ‪ ،‬وكذب امللك‪ ،‬واستكبارُ الفقريِ _ أعظمَ إمثاً من زنا الشاب‪،‬‬
‫وكذب السوقة‪ ،‬واستكبار الغين‪ ،‬كما يف قول النيب"‪= :‬ثالثة ال يُكلّمهم اهلل‪،‬‬
‫وال ينظر إليهم يوم القيامة‪ ،‬وال يزكيهم‪ ،‬وهلم عذاب أليم شيخ زانٍ‪ ،‬وملكٌ‬
‫كذابٌ‪ ،‬وعائل مستكرب‪.)1(+‬‬
‫وما ذلك إال لقلة دواعي تلك املعاصي يف األصناف املذكورة‪.‬‬
‫‪ _ 1‬ترك الطاعة؛ فإن اإلميان ينقص به‪ ،‬والنقص به على حسب تَأكُّد الطاعة‪،‬‬
‫فكلما كانت الطاعة أوكد كان نقص اإلميان برتكها أعظم‪ ،‬ورمبا فقد اإلميان كله‬
‫كرتك الفرائض‪.‬‬
‫ثم إن نقص اإلميان برتك الطاعة على نوعني‪ :‬نوع يعاقب عليه‪ ،‬وهو‪ :‬ترك‬
‫الواجب بال عذر‪ ،‬كرتك الصالة املفروضة بدون عذر‪.‬‬
‫ونوع ال يعاقب عليه وهو‪ :‬ترك الواجب لعذر شرعي‪ ،‬أو حسي كرتك املرأة‬
‫الصالة أيام احليض‪ ،‬وترك املستحب كرتك صالة الضحى‪.‬‬
‫‪ _5‬صحبة قرناء السوء‪ :‬فهم أضرُّ ما يكون على إميان اإلنسان‪ ،‬وسلوكه‪،‬‬
‫وأخالقه؛ فمخالطتهم سبب عظيم من أسباب نقص اإلميان‪ ،‬وضعفه‪ ،‬أو تالشيه‪.‬‬
‫‪ _6‬االنهماك يف الدنيا‪ :‬فمتى قويت رغبة العبد يف الدنيا‪ ،‬وسكونه إليها _ زاد‬

‫‪ _ 1‬أخرجه مسلم (‪.)117‬‬


‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪644‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫تعلقه بها‪ ،‬وقلت رغبته يف الطاعة‪.‬‬
‫وذلك من أعظم أسباب نقص اإلميان‪.‬‬

‫‪ _ 1‬انظر فتح رب الربية ص‪ ،111_99‬وزيادة اإلميان ونقصانه ص‪.276_245‬‬


‫‪645‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫الفصل الثالل‬

‫االستثناء يف اإلميان‬

‫وحتته‪:‬‬
‫املبحث األول‪ :‬مفهوم االستثناء يف اإلميان‪ ،‬ومنشؤه‪.‬‬
‫املبحث الثاني‪ :‬األقوال يف مسألة االستثناء يف اإلميان‪.‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬اآلثار الواردة عن السلف يف االستثناء‪ ،‬وتوجيهها‪.‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪646‬‬
‫‪647‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬
‫املبحث األول‪ :‬مفهوم االستثناء يف اإلميان‪ ،‬ومنشؤه‬

‫أوالً‪ :‬مفهوم االستثنا يف اإلميان‬


‫االستثناء يف اإلميان إحدى املسائل اليت تبحث يف باب اإلميان‪ ،‬وصورتها أن‬
‫يقول اإلنسان‪ :‬أنا مؤمن إن شاء اهلل‪.‬‬
‫أو أن يُسأل أحدٌ‪ ،‬فيقال له‪ :‬هل أنت مؤمن؟‬
‫فيجيب بصيغة من إحدى صيغ متعددة تشعر بعدم القطع كأن يقول‪ :‬أنا‬
‫مؤمن إن شاء اهلل‪ ،‬أو أن يقول‪ :‬أرجو‪ ،‬أو آمنت باهلل‪ ،‬أو حنو ذلك من الصيغ‬
‫اليت تشعر بعدم اجلزم‪.‬‬
‫وهذه املسألة تبحث يف كتب االعتقاد بعد مسألة زيادة اإلميان ونقصانه؛‬
‫لالرتباط بني املسألتني‪ ،‬ولتعلق نتائج كل واحدة باألخرى‪ ،‬وألن كالًّ منهما‬
‫( ‪)1‬‬
‫حدث اخلوض فيه يف وقت واحد‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬منشه القول باالستثنا يف اإلميان‬


‫نشأ القول باالستثناء يف اإلميان أول ما نشأ بسبب اإلرجاء الذي حدث يف‬
‫األمة؛ فاملرجئة هم أول من خاض يف مسألة االستثناء يف اإلميان‪.‬‬
‫قال عبدالرمحن بن مهدي ×‪= :‬أول اإلرجاء ترك االستثناء‪.)2(+‬‬
‫ويف لفظ آخر‪= :‬أصل اإلرجاء من قال‪ :‬إني مؤمن‪.)3(+‬‬
‫وهلذا كان أئمة السلف كأمحد وغريه يكرهون سؤال الرجل لغريه‪ :‬أمؤمن‬

‫‪ _ 1‬انظر زيادة اإلميان ونقصانه ص ‪.457_453‬‬


‫‪ _ 2‬رواه اخلالل يف السنة ‪.598/3‬‬
‫‪ _ 3‬رواه الطربي يف تهذيب األثار (‪.)1123‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪648‬‬
‫أنت؟‬
‫ويكرهون اجلواب عن ذلك؛ ألن هذه بدعة أحدثها املرجئة؛ ليحتجوا بها على‬
‫قوهلم؛ فإن الرجل يعلم من نفسه أنه ليس بكافر‪ ،‬بل جيد قلبه مصدقاً مبا جاء به‬
‫( ‪)1‬‬
‫الرسول " وال جيزم بأنه فعل ما أمر به من فعل الطاعات وترك املعاصي‪.‬‬
‫صلون فيه‪ ،‬بل‬
‫فلما علم السلف مقصدهم صاروا يكرهون اجلواب‪ ،‬أو يُفَ ِّ‬
‫يعدون ذلك السؤال بدعة؛ فصاروا يعاملونه معاملة الكلمات اجململة اليت حتتمل‬
‫حقاً وباطالً؛ فاحتاجت إىل االستفصال‪.‬‬
‫ثم ملَّا شاعت صاروا يقولون يف االستثناء _على ما سيأتي تفصيلُه_‪.‬‬

‫‪ _ 1‬انظر زيادة اإلميان ونقصانه ص‪.457_453‬‬


‫‪649‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬
‫املبحث الثاني‪ :‬األقوال يف مسألة االستثناء يف اإلميان‬

‫أقوال الناس يف مسألة االستثناء تنحصر إمجاالً يف ثالثة أقوال‪:‬‬


‫القول األول‪ :‬حتريم االستثناء‪ :‬وهو قول املرجئة‪ ،‬واجلهمية وحنوهم من‬
‫املاتريدية‪ ،‬وبعض احلنفية‪.‬‬
‫ومأخذ هذا القول‪ :‬أن اإلميان شيء واحد يعلمه اإلنسان من نفسه‪ ،‬وهو‬
‫التصديق الذي يف القلب‪ ،‬فإذا استثنى فيه كان دليالً على شكه يف إميانه‪ ،‬ولذلك‬
‫كانوا يسمون الذين يستثنون يف اإلميان =شُكَّاكاً‪.+‬‬
‫ل ذبيحته‪،‬‬ ‫بل لقد غال بعضهم يف ذلك؛ فمنع تزويج من يستثين يف إميانه‪ ،‬أو أَكْ َ‬
‫كما قال أبو بكر الفضلي‪= :‬من قال‪ :‬أنا مؤمن إن شاء اهلل فهو كافر ال جتوز املناكحة‬
‫معه‪.+‬‬
‫وقال أبو حفص السفكردري‪ ،‬وبعض أئمة خوارزم من احلنفية‪= :‬ال ينبغي‬
‫ال‬
‫للحنفي أن يزوج بنته من رجل شافعي املذهب‪ ،‬ولكن يتزوج من الشافعية؛ تنزي ً‬
‫هلم منزلة أهل الكتاب؛ حبجة أن الشافعية يرون جواز االستثناء يف اإلميان‪ ،‬وهو‬
‫كفر‪.)1(+‬‬
‫وهذا القول ال يقول به مجيع احلنفية‪ ،‬بل منهم من أنكر ذلك‪ ،‬كما قال‬
‫الفرهاري معلقاً على كلمة الفضلي السابقة‪= :‬هذه عظيمة‪ ،‬وتعصب ال يرضاه‬
‫احلق _سبحانه_‪.)2(+‬‬
‫القول الثاني‪ :‬وجوب االستثناء‪ :‬وأشهر من ذهب إىل ذلك‪ ،‬وانتصر له‬

‫‪ _ 1‬انظر البحر الرائق شرح كنز الدقائق البن جنيم املصري ‪ ،46/2‬وزيادة اإلميان ونقصانه ص‪.521‬‬
‫‪ _ 2‬النرباس شرح العقائد ص‪ ،421‬وزيادة اإلميان ونقصانه ص‪.522‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪654‬‬
‫الكُالَّبية‪ ،‬واألشعرية وهذا القول له مأخذان‪:‬‬
‫‪ _1‬أن اإلميان هو ما مات اإلنسان عليه؛ فاإلنسان إمنا يكون مؤمناً وكافراً‬
‫حبسب املوافاة‪ ،‬وهذا شيء مستقبل غري معلوم؛ فال جيوز اجلزم به‪.‬‬
‫وهذا مأخذ كثري من املتأخرين من الكالبية وغريهم‪.‬‬
‫لكن هذا املأخذ مل يُ ْعلَمْ أن أحداً من السلف علل به‪ ،‬وإمنا كانوا يُعللون‬
‫باملأخذ الثاني وهو‪:‬‬
‫‪ _2‬أن اإلميان املطلق يتضمن فعل مجيع املأمورات‪ ،‬وترك مجيع احملظورات‪،‬‬
‫وهذا ال جيزم به اإلنسان من نفسه‪ ،‬ولو جزم لكان قد زكى نفسه‪ ،‬وشهد هلا بأنه‬
‫من املتقني األبرار‪ ،‬وكان ينبغي على هذا أن يشهد لنفسه بأنه من أهل اجلنة‪ ،‬وهذه‬
‫لوازم ممتنعة‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬التفصيل‪ :‬فإن كان االستثناء صادراً عن شك يف وجود أصل‬
‫اإلميان فهذا مُحرّم‪ ،‬بل كفر؛ ألن اإلميان جزم‪ ،‬والشك يُنافيه‪.‬‬
‫وإن كان صادراً عن خوفِ تزكيةِ النفس والشهادةِ هلا بتحقيق اإلميان قوالً‪،‬‬
‫وعمالً‪ ،‬واعتقاداً _ فهذا واجب؛ خوفاً من هذا احملذور‪.‬‬
‫وإن كان املقصود من االستثناء التربكَ بذكر املشيئة‪ ،‬أو بيان التعليل‪ ،‬وأن ما‬
‫قام بقلبه من اإلميان مبشيئة اهلل _ فهذا جائز‪.‬‬
‫والتعليق باملشيئة على هذا الوجه _أعين بيان التعليل_ ال ينايف تَحَقُّقَ املُعَلَّقِ؛ فإنه‬
‫ُن‬
‫قد ورد التعليق على هذا الوجه يف األمور احملققة‪ ،‬كقوله _تعاىل_‪[ :‬لََتدْخُل َّ‬
‫جدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِنيَ مُحَلِّقِنيَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ال تَخَافُون]‬
‫الْمَسْ ِ‬
‫الفتح‪. 27 :‬‬
‫وبهذا عُرِفَ أنه ال يصح إطالق احلكم على االستثناء‪ ،‬بل ال بد من التفصيل‬
‫‪650‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫السابق‪.‬‬
‫وهذا _أعين الثالث_ هو الذي عليه السلف الصاحل؛ فهم يرون أن االستثناء‬
‫جائز مش روع على هذا النحو؛ فهذا مأخذ عامة السلف الذي كانوا يستثنون؛ ألن‬
‫اإلميان عندهم قول وعمل‪ ،‬والقول _ الذي هو االعتقاد _ كل جيزم أنه أتى به‪.‬‬
‫وأما العمل فال؛ إذ الناس متفاوتون فيه تفاوتاً عظيماً‪.‬‬
‫وأقوال السلف يف هذا كثرية جداً(‪ )1‬وسريد يف املبحث اآلتي ذكر لشيء منها‬
‫مع توجيه ما ورد عنهم يف ذلك‪.‬‬

‫‪ _ 1‬انظر فتح رب الربية ص‪ ،112_111‬وزيادة اإلميان ونقصانه ص‪.539_453‬‬


‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪651‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬اآلثار الواردة عن السلف يف االستثناء‪ ،‬وتوجيهها‬

‫مرَّ بنا يف املبحث املاضي أن السلف الصاحل _رضي اهلل عنهم_ يرون االستثناء يف‬
‫اإلميان‪ ،‬وقد ورد عنهم آثار كثرية يف ذلك‪.‬‬
‫وقد يردُ إشكال عند بعض الناس يف كون بعض السلف يرون االستثناء‪،‬‬
‫وبعضهم ال يرونه‪.‬‬
‫وفيما يلي ذكر لبعض تلك اآلثار مع توجيهها‪.‬‬
‫قال حييى بن سعيد القطان ×‪= :‬ما أدركت أحداً من أصحابنا‪ ،‬وال بلغنا إال‬
‫على االستثناء‪.)1(+‬‬
‫وقال الوليد بن مسلم ×‪= :‬مسعت أبا عمرو _يعين األوزاعي_ ومالك بن‬
‫أنس‪ ،‬وسعيد بن عبدالعزيز ينكرون أن يقول‪ :‬أنا مؤمن‪ ،‬ويأذنون يف االستثناء أن‬
‫يقول‪ :‬أنا مؤمن إن شاء اهلل‪.)2(+‬‬
‫وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية×‪= :‬وأما مذهب سلف أصحاب احلديث كابن‬
‫مسعود وأصحابه‪ ،‬والثوري‪ ،‬وابن عيينة‪ ،‬وأكثر علماء الكوفة‪ ،‬وحييى بن سعيد‬
‫القطان فيما يرويه عن علماء البصرة‪ ،‬وأمحد بن حنبل‪ ،‬وغريهم من أئمة السنة؛‬
‫فكانوا يستثنون يف اإلميان‪ ،‬وهذا متواتر عنهم‪.)3(+‬‬
‫وقال اإلمام أمحد ×‪= :‬إمنا نصري إىل االستثناء على العمل؛ ألن القول قد‬
‫جئنا به‪.+‬‬
‫وقال‪= :‬أ ذهب إىل حديث ابن مسعود يف االستثناء يف اإلميان؛ ألن اإلميان قول‬

‫‪ _ 1‬رواه اخلالل يف السنة ‪.595/3‬‬


‫‪ _ 2‬رواه عبداهلل بن أمحد يف السنة ‪.347/1‬‬
‫‪ _ 3‬جمموع الفتاوى ‪.439_438/7‬‬
‫‪653‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫وعمل‪ ،‬والعمل‪ :‬الفعل؛ فقد جئنا بالقول‪ ،‬وخنشى أن نكون قد فرطنا يف‬
‫العمل؛ فيعجبين أن نستثين يف اإلميان بقول‪ :‬أنا مؤمن إن شاء اهلل‪.)1(+‬‬
‫وقال‪= :‬لو كان القول كما تقول املرجئة‪ :‬إن اإلميان قول ثم استثنى بَعْدُ على‬
‫القول لكان هذا قبيحاً أن تقول‪ :‬ال إله إال اهلل إن شاء اهلل‪ ،‬ولكن االستثناء على‬
‫العمل‪.)2(+‬‬
‫هذا وقد ورد عن بعض السلف(‪ )3‬ترك االستثناء كما جاء عن إبراهيم‬
‫التيمي× قال‪= :‬وما على أحدكم أن يقول‪ :‬أنا مؤمن؛ فواهلل لئن كان صادقاً ال‬
‫يعذبه اهلل على صدقه‪ ،‬وإن كان كاذباً لَمَا دخل عليه من الكفر أشد عليه من‬
‫الكذب‪.)4(+‬‬
‫ومراده بقوله‪= :‬أنا مؤمن‪ +‬أصل اإلميان‪ ،‬كما يدل على ذلك آخر قوله‪= :‬ملَاَ‬
‫دخل عليه من الكفر‪.+...‬‬
‫وعن أبي عبدالرمحن السلمي × قال‪= :‬إذا سئل أحدكم‪ :‬أمؤمن أنت فال‬
‫يشك يف إميانه‪.)5(+‬‬
‫فهذه اآلثار وغريها ال تُ شْكِلُ؛ فإن من استثنى من السلف يف إميانه إمنا قصد به‬
‫اإلميان التام الكامل املقبول عند اهلل‪.‬‬
‫ومن مل يستثنِ قَصَدَ اإلميانَ الباطنَ الذي هو أصل اإلميان وأساسه‪ ،‬وهذا ال‬

‫‪ _ 1‬رواه اخلالل ‪.611/3‬‬


‫‪ _ 2‬رواه اخلالل ‪.611/3‬‬
‫‪ _ 3‬انظر زيادة اإلميان ونقصانه ص‪.485_484‬‬
‫‪ _ 4‬رواه ابن أبي شيبة يف املصنف ‪.15/11‬‬
‫‪ _ 5‬رواه ابن أبي شيبة يف املصنف ‪.29/11‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪654‬‬
‫استثناء فيه‪.‬‬
‫وعلى هذا ينبغي ملن سئل‪ :‬هل هو مؤمن أَوْ ال؟ أن يستفصل مِن السائل ماذا‬
‫يريد من اإلميان؛ فإن أراد اإلميان الكامل فال بد من االستثناء‪ ،‬وإن أراد الثاني‬
‫( ‪)1‬‬
‫وهو أصل اإلميان فال استثناء‪.‬‬
‫يقول الشيخ الدكتور عبدالرزاق البدر _حفظه اهلل_ بعد أن ساق مجلة من األثار‬
‫عن السلف يف االستثناء وعدمه‪ ،‬وذَكَر توجيهَ تلك األثار‪= :‬ولكن ملا كان ترك‬
‫االستثناء شعاراً للمرجئة‪ ،‬ومتضمناً لتزكية النفس والثناء عليها _وهذا منهي عنه‬
‫شرعاً_ فإني أرى أن لزوم االستثناء أوىل وأكمل‪ ،‬وأال يرتك االستثناء إال إذا بُيِّن‬
‫املقصود واملراد‪.‬‬
‫وهلذا كان اإلمام أمحد ال يعجبه تركُ االستثناء‪.)2(+‬‬
‫إىل أن قال‪= :‬ومل يكن أمحد × ينكر على من ترك االستثناء إذا مل يكن‬
‫قَصْ ُده قَصْد املرجئة أن اإلميان جمرد القول‪.‬‬
‫قال األثرم‪ :‬قلت ألبي عبداهلل‪ :‬فكأنك ال ترى بأساً أن ال يستثين؟ فقال‪ :‬إذا‬
‫كان ممن يقول‪ :‬اإلميان قول وعمل فهو أسهل عندي‪.+‬‬
‫ثم قال أبو عبداهلل‪= :‬إن قوماً تضعف قلوبهم عن االستثناء؛ فتعجب منهم‪.+‬‬
‫فبهذا التفصيل عن السلف يستبني السبيل يف مسألة االستثناء يف اإلميان‪.)3(+‬‬

‫‪ _ 1‬انظر زيادة اإلميان ونقصانه ص‪.486‬‬


‫‪ _ 2‬زيادة اإلميان ونقصانه ص‪.488‬‬
‫‪ _ 3‬زيادة اإلميان ونقصانه ص‪.489‬‬
‫‪655‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫الفصل الراب‬

‫يف الكفر والتكفري‬

‫وحتته‪:‬‬
‫املبحث األول‪ :‬مفهوم الكفر والتكفري‪.‬‬
‫املبحث الثاني‪ :‬التكفري املطلق‪ ،‬وتكفري املعني‪.‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬ضوابط يف التكفري‪.‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪656‬‬
‫‪657‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬
‫املبحث األول‪ :‬مفهوم الكفر والتكفري‬

‫أوالً‪ :‬تعري ال فر يف اللغة‬


‫الكاف‪ ،‬والفاء‪ ،‬والراء (كفر) أصل صحيح يدل على معنى واحد‪ ،‬وهو‬
‫السرت والتغطية‪ ،‬يقال ملن غَطَّى درعه بثوب‪ :‬قد كفر درعه‪.‬‬
‫ويسمى الليل كافراً لتغطيته كلَّ شيء‪.‬‬
‫يقول لبيد بن ربيعة يف معلقته املشهورة‪:‬‬
‫وأجـ ـ ــق عـ ـ ــورات الثغـ ـ ــور ظمجمهـ ـ ــا‬ ‫حت ـ ـ ــى ذا ألقـ ـ ــ ي ـ ـ ــداً يف ك ـ ـ ــافر‬
‫يعين بذلك الشمس‪ ،‬والكافر الليل‪ ،‬أو مغيب الشمس‪ ،‬أو البحر‪ ،‬وكل‬
‫هذه األشياء تسرت الشمس عن األعني‪.‬‬
‫ويقول _أيضاً_ يف معلقته يف وصف البقرة الوحشية مع املطر‪:‬‬
‫يف ليل ـ ــة كف ـ ــر النج ـ ــوم مامه ـ ــا‬ ‫يعلـ ـ ـ ــو طريقـ ـ ـ ــة متنهـ ـ ـ ــا متـ ـ ـ ــواتر‬
‫ومسي الفَالَّحُ كافراً لتغطيته احلب يف األرض‪.‬‬
‫ومن ذلك الكفارة؛ لتغطيتها اإلثم‪.‬‬
‫والتكفري‪ :‬مصدر الفعل كَفَّر يُكَفِّر تكفرياً‪ :‬أي نَسَبَ أحداً إىل الكفر‪ ،‬وحكم‬
‫عليه به؛ فالتكفري نسبة اإلنسان إىل الكفر‪ ،‬واحلكم عليه به‪.‬‬
‫والكفر ضد اإلميان‪ ،‬سُمِّي؛ ألنه تغطية احلق‪ ،‬وسرته‪.‬‬
‫ومسي الكافر كافراً؛ ألنه سرت آيات اهلل‪ ،‬وغطى دالئل التوحيد واإلميان‬
‫( ‪)1‬‬
‫جبحده‪ ،‬وعناده‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬ال فر يف اصطمجَّ الشرع‬

‫‪ _ 1‬انظر معجم مقاييس اللغة ‪ ،192_191/5‬ولسان العرب ‪ ،147_144/5‬واملفردات لألصفهاني‬


‫ص‪.655_653‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪658‬‬
‫تنوعت عبارات العلماء يف تعريف الكفر يف الشرع‪ ،‬وفيما يلي إيراد لبعض‬
‫تلك التعريفات‪:‬‬
‫‪ _1‬يقول ابن تيمية ×‪= :‬الكفر عدم اإلميان باتفاق املسلمني سواء اعتقد‬
‫نقيضه وتكلم به‪ ،‬أو مل يعتقد شيئاً ومل يتكلم به‪.)1(+‬‬
‫‪ _2‬وقال‪= :‬الكفر عدم اإلميان باهلل ورسله‪ ،‬سواء كان معه تكذيب‪ ،‬أو مل‬
‫يكن معه تكذيب‪ ،‬بل شك وريب‪ ،‬أو إعراض عن هذا كله حسداً‪ ،‬أو كرباً‪،‬‬
‫أو اتباعاً لبعض األهواء الصارفة عن اتباع الرسالة‪.)2(+‬‬
‫‪ _ 3‬ويعرف ابن حزم × الكفر بقوله‪= :‬وهو يف الدين‪ :‬صفة مَنْ جَحَدَ‬
‫شيئاً مما افرتض اهلل _تعاىل_ اإلميان به بعد قيام احلجة عليه ببلوغ احلق إليه بقلبه‬
‫دون لسانه‪ ،‬وبلسانه دون قلبه‪ ،‬أو بهما معاً‪ ،‬أو عمل عمالً جاء النص بأنه خمرج‬
‫له بذلك عن اسم اإلميان‪.)3(+‬‬
‫‪ _4‬وعرفه الشيخ عبدالرمحن السعدي × بقوله‪= :‬وحد الكفر اجلامع جلميع‬
‫أجناسه‪ ،‬وأنواعه وأفراده هو جحد ما جاء به الرسول‪ ،‬أو جحد بعضه‪.)4(+‬‬
‫ومن خالل ما مضى ميكن أن يعرف الكفر الذي ال جيامع اإلميان بأنه‪:‬‬
‫اعتقادات‪ ،‬وأقوال‪ ،‬وأفعال حكم الشارع بأنها تناقض اإلميان وهو على شعب‪،‬‬
‫( ‪)5‬‬
‫ومراتب متفاوتة‪.‬‬

‫‪ _ 1‬جمموع الفتاوى ‪.86/21‬‬


‫‪ _ 2‬جمموع الفتاوى ‪.335/12‬‬
‫‪ _ 3‬األحكام ‪.45/1‬‬
‫‪ _ 4‬اإلرشاد إىل معرفة األحكام ص‪.214_213‬‬
‫‪ _ 5‬انظر نواقض اإلميان القولية والفعلية ص‪.46‬‬
‫‪659‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫ثالثاً‪ :‬أنواع ال فر‬


‫الكفر شعب متعددة‪ ،‬وله مراتب كثرية‪ ،‬وميكن إرجاعها إىل نوعني‪:‬‬
‫‪ _1‬كفر أكرب‪ :‬وهو املخرج من امللة‪ ،‬وهو ما ارتكب صاحبه ما يوجب‬
‫خروجه من الدين كالتكذيب هلل‪ ،‬ورسوله "‪.‬‬
‫‪ _2‬كفر أصغر‪ :‬وهو غري خمرج من امللة‪ ،‬كاالقتتال بني املسلمني‪ ،‬والنياحة‪،‬‬
‫والتربؤ من النسب‪.‬‬
‫وإذا تقرر هذا فال يلزم مَنْ قام به شعبة من شعب الكفر أن يصري كافراً الكُفْرَ‬
‫املطلقَ‪ ،‬حتى تقوم به حقيقة الكفر‪.‬‬
‫كما أنه ال يلزم مَنْ قام به شعبة من شعب اإلميان أن يصري مؤمناً حتى يقوم به‬
‫( ‪)1‬‬
‫أصل اإلميان‪.‬‬
‫يقول ابن تيمية ×‪= :‬فَرْقٌ بني الكفر املُعَرَّف بالالم كما يف قوله "‪= :‬ليس‬
‫بني العبد وبني الكفر والشرك إال ترك الصالة‪.)2(+‬‬
‫وبني كُفْرٍ مُنَكَّرٍ يف اإلثبات‪.‬‬
‫وفرق _أيضاً_ بني معنى االسم املطلق إذا قيل كافر‪ ،‬أو مؤمن‪ ،‬وبني املعنى‬
‫املطلق لالسم يف مجيع موارده كما يف قوله‪= :‬ال ترجعوا بعدي كفاراً يضرب‬

‫‪ _ 1‬انظر اقتضاء الصراط املستقيم البن تيمية ‪ ،218/1‬وكتاب الصالة البن القيم ص‪،61‬‬
‫ونواقض اإلميان القولية والعملية ص‪.46‬‬
‫‪ _ 2‬رواه مسلم (‪ )82‬بلفظ‪= :‬إن بني الرجل وبني الشرك والكفر تركَ الصالة‪ +‬وبلفظ‪= :‬بني‬
‫الرجل‪.+...‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪664‬‬
‫بعضكم رقاب بعض‪.)1(+‬‬
‫فقوله‪= :‬يضرب بعضكم رقاب بعض‪ :+‬تفسري الكفار يف هذا املوضع‪،‬‬
‫وهؤالء يسمون كفاراً تسمية مقيدة‪ ،‬وال يدخلون يف االسم املطلق إذا قيل‪:‬‬
‫كافر‪ ،‬مؤمن‪.)2(+‬‬

‫‪ _ 1‬أخرجه البخاري (‪ )7176‬ومسلم (‪ 16‬و‪)64‬‬


‫‪ _ 2‬اقتضاء الصراط املستقيم ‪.219_218/1‬‬
‫‪660‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬
‫املبحث الثاني‪ :‬التكفري املطلق‪ ،‬وتكفري املعني‪ ،‬واحلكم األخروي املطلق‪،‬‬
‫وعلى املعيَّن‬

‫أوالً‪ :‬الت ف املطلق‪ ،‬وت ف املعيبق‬


‫هذه مسألة التكفري املطلق‪ ،‬وتكفري املعني‪ ،‬ويقال _أيضاً_‪ :‬كفر اإلطالق‪،‬‬
‫وكفر التعيني‪.‬‬
‫وأهل السنة يُفَرِّقون بني التكفري املطلق‪ ،‬وتكفري املعني؛ فالتكفري املطلق هو‬
‫التكفري بالعموم‪ ،‬حبيث يقال‪ :‬من قال كذا‪ ،‬أو فعل كذا فهو كافر‪ ،‬أو فَقَدْ كفر‪.‬‬
‫وتكفري املعني‪ :‬أن يقال‪ :‬إن فالناً الذي قال‪ :‬كذا‪ ،‬أو فعل كذا _ كافر بعينه‪.‬‬
‫فاألول _ وهو التكفري املطلق ال بأس به‪ ،‬بل جيب القول بعمومه‪ ،‬وإطالقه‪.‬‬
‫وأما تكفري املعني‪ ،‬واحلكم عليه بأنه كافر فال جيوز ذلك إال إذا اجتمعت يف‬
‫حقه الشروط‪ ،‬وانتفت عنه املوانع؛ فعندئذٍ تقوم عليه احلجة اليت يُكَفَّر تاركُها‪.‬‬
‫يقول ابن تيمية ×‪= :‬وليس ألحد أن يكفر أحداً من املسلمني _ وإن أخطأ‬
‫وغلط _ حتى تقام عليه احلجة‪ ،‬وتبني له احملجة‪.‬‬
‫ومن ثبت إسالمه بيقني مل َيزُلْ عنه بالشك‪ ،‬بل ال يزول إال بعد إقامة احلجة‪،‬‬
‫وإزالة الشبهة‪.)1(+‬‬
‫ثم يقول‪= :‬إن التكفري له شروط وموانع قد تنتفي يف حق املعني‪.‬‬
‫وإن تكفري املطلق ال يستلزم تكفري املعني إال إذا وجدت الشروط وانتفت املوانع‪.‬‬
‫يبني هذا أن اإلمام أمحد وعامة األئمة الذين أطلقوا هذه العمومات مل‬

‫‪ _ 1‬جمموع الفتاوى الكيالنية ‪.266/12‬‬


‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪661‬‬
‫يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكالم بعينه‪.)1(+‬‬
‫ويَذْكُرُ ابنُ تيمية بعضَ األعذارِ الواردةِ على املعني‪ ،‬فيقول‪= :‬األقوال اليت‬
‫يكفر قائلها قد يكون الرجل مل تَْبلُغْهُ النصوصُ املوجبةُ ملعرفة احلق‪ ،‬وقد تكون‬
‫عنده ومل تثبت عنده‪ ،‬أو مل يتمكن من فهمها‪ ،‬وقد يكون عَرَضَتْ له شبهاتٌ‬
‫يَعْذُرُه اهلل بها؛ فمن كان من املؤمنني جمتهداً يف طلب احلق وأخطأ فإن اهلل يغفر له‬
‫خطاياه كائناً من كان‪ ،‬سواء يف املسائل النظرية‪ ،‬أو العملية‪ ،‬هذا الذي عليه‬
‫أصحاب النيب " ومجاهري أئمة اإلسالم‪.)2(+‬‬
‫وبهذا يتضح لنا الفرق بني التكفري العام املطلق‪ ،‬واحلكم على املعني بأنه كافر؛‬
‫فالكفر من الوعيد الذي نطلق القول به‪ ،‬ولكن ال حنكم على املعني بدخوله يف‬
‫ذلك املطلق العام حتى يقوم فيه املُقتضي الذي ال معارض له‪.‬‬
‫وإذا ظهر لنا الفرق بني التكفري املطلق وتكفري املعني‪ ،‬فسيتبني خطأُ فريقني من‬
‫الناس؛ فريقٍ غال؛ فادعى تكفري املعني بإطالق دون النظر إىل اجتماع الشروط‬
‫وانتفاء املوانع‪.‬‬
‫( ‪)3‬‬
‫وفريقٍ آخر امتنع عن تكفري املعني بإطالق؛ فأغلق باب الردة‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬احل م األخرو املطلق‪ ،‬وعلى املعيبق‬

‫‪ _ 1‬جمموع الفتاوى الكيالنية ‪ ،488_487/12‬وانظر نواقض اإلميان القولية والعملية ص‪.54‬‬


‫‪ _ 2‬جمموع الفتاوى ‪.326/23‬‬
‫‪ _ 3‬انظر نواقض اإلميان القولية والعملية ص‪ ،54_53‬وضوابط تكفري املعني د‪ .‬عبداهلل بن عبدالعزيز‬
‫اجلربين‪.‬‬
‫‪663‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫واملقصود من هذه املسألة‪ :‬الشهادة ألحدٍ باجلنة أو النار‪ ،‬فهناك فرق بني‬
‫الشهادة واحلكم بالعموم باجلنة أو النار وبني الشهادة ألحد معيَّن بذلك‪.‬‬
‫ويتضح ذلك من خالل ما يلي‪:‬‬
‫‪ _1‬الشهادة ألحد باجلنة أو النار‪ :‬ال يُشهد ألحد مُعَيِّن من أهل القبلة باجلنة أو‬
‫النار إال عن طريق النص؛ ذلك أن الشهادة باجلنة أو النار موقوفةٌ على الشرع‪،‬‬
‫وليس للعقل فيها مدخل؛ فمن شهد له الشارع بذلك شهدنـا له‪ ،‬وما ال فال‪،‬‬
‫لكننا نرجو للمحسن‪ ،‬وخناف على املسيء(‪.)1‬‬
‫‪ _2‬أقسام الشهادة باجلنة أو النار‪ :‬تنقسم الشهادة باجلنة أو النار إىل قسمني‪:‬‬
‫عامة‪ ،‬وخاصة‪:‬‬
‫فالعامة‪ :‬هي املعلقة بالوصف‪ ،‬كأن نشهد لكل مؤمن بأنه يف اجلنة‪ ،‬أو لكل‬
‫كافر بأنه يف النار‪ ،‬أو حنو ذلك من األوصاف اليت جعلها الشارع سبباً لدخول‬
‫اجلنة أو النار‪.‬‬
‫واخلاصة‪ :‬هي املعلقة بشخص‪ ،‬مثل أن نشهد لشخص معني بأنه يف اجلنة‪ ،‬أو‬
‫لشخص معني بأنه يف النار؛ فال نعني إال ما عينه اهلل ورسوله"‪.‬‬
‫‪ _3‬أمثلة للمعينني من أهل اجلنة‪ :‬العشرة املبشرون باجلنة‪ :‬أبو بكر‪ ،‬وعمر‪،‬‬
‫وعثمان‪ ،‬وعلي‪ ،‬وسعيد بن زيد‪ ،‬وسعد بن أبي وقاص‪ ،‬وعبد الرمحن ابن‬
‫عوف‪ ،‬وطلحة بن عبيداهلل‪ ،‬وأبو عبيدة عامر بن اجلراح‪ ،‬والزبري بن العوام‬
‫_رضي اهلل عنهم_‪.‬‬
‫وكذلك احلسن‪ ،‬واحلسني‪ ،‬وثابت ب ن قيس بن مشاس‪ ،‬وعكاشة بن حمصن‬

‫‪ _ 1‬انظر شرح العقيدة الطحاوية ص‪ ،378‬وملعة االعتقاد للشيخ حممد بن عثيمني ص‪.144‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪664‬‬
‫_رضي اهلل عنهم_(‪.)1‬‬
‫‪ _1‬أمثلة للمعينني من أهل النار‪ :‬أبو هلب عبدالعزى بن عبداملطلب‪،‬‬
‫وامرأته أم مجيل أروى بنت حرب أخت أبي سفيان‪.‬‬
‫وكذلك أبو طالب‪ ،‬وعمرو بن حلي اخلزاعي‪ ،‬وغريهم(‪.)2‬‬
‫فهؤالء املبشرون بالنار‪ ،‬ومن جاء قبلهم من املبشرين باجلنة جاء النص يف‬
‫شأنهم‪.‬‬

‫‪ _ 1‬انظر شرح العقيدة الطحاوية ص‪ ،378‬وملعة االعتقاد ص‪.147_145‬‬


‫‪ _ 2‬املرجع السابق‪.‬‬
‫‪665‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬
‫املبحث الثالث‪ :‬ضوابط يف التكفري‬

‫مر بنا أن التكفري‪ :‬هو نسبة اإلنسان إىل الكفر‪ ،‬واحلكم عليه به‪.‬‬
‫ومر بنا _كذلك_ الفرق بني التكفري املطلق‪ ،‬وتكفري املعني‪ ،‬وأن تكفري املعني ال‬
‫بد فيه من اجتماع شروط‪ ،‬وانتفاء موانع‪.‬‬
‫واحلديث ههنا عن بعض الضوابط يف التكفري‪ ،‬وذلك من خالل املسائل‬
‫التالية‪:‬‬
‫‪ _1‬أن احلكم على الناس إمنا يكون بالظاهر من أحواهلم‪ :‬وهذه من املسائل‬
‫العظيمة يف مذهب أهل السنة يف احلكم على الناس‪ ،‬فليس ذلك مبنياً على‬
‫ظنون‪ ،‬وأوهام‪ ،‬أو دعاوى دون بينات‪.‬‬
‫وهذا من رمحة اهلل بعباده‪ ،‬وتيسريه عليهم‪ ،‬ومن باب تكليفهم ما يطيقون‪.‬‬
‫واملقصود من احلكم على الناس إمنا هو احلكم الدنيوي على املعني بالكفر أو‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫أما احلكم على احلقيقة فال سبيل إليه‪.‬‬
‫واألدلة على هذا األصل العظيم كثرية جداً‪ ،‬ومنها قوله _تعاىل_‪[ :‬يَا أَيُّهَا‬
‫الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَال تَقُولُوا لِمَنْ َألْقَى ِإَليْكُمْ السَّالمَ‬
‫حيَاةِ الدُّْنيَا] النساء‪.94:‬‬
‫لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْ َ‬
‫قال الشوكاني ×‪= :‬واملراد هنا‪ :‬ال تقولوا ملن ألقى بيده إليكم‪ ،‬واستسلم‬
‫لست مؤمناً؛ فالسلم والسالم مبعنى االستسالم‪.‬‬

‫‪ _ 1‬انظر نواقض اإلميان االعتقادية ‪.211/1‬‬


‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪666‬‬
‫وقيل‪ :‬هما مبعنى اإلسالم‪.‬‬
‫أي ال تقولوا ملن ألقى إليكم التسليم‪ ،‬فقال‪ :‬السالم عليكم لست مؤمناً‪.‬‬
‫واملراد نهي املسلمني عن أن يهملوا ما جاء به الكافر مما يستدل به على‬
‫إسالمه‪ ،‬ويقولوا‪ :‬إمنا جاء بذلك تعوذاً وتَقِيَّة‪.)1(+‬‬
‫ومنها قوله _ عليه الصالة والسالم _‪= :‬أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن‬
‫ال إله إال اهلل‪ ،‬وأن حممداً رسول اهلل‪ ،‬ويقيموا الصالة‪ ،‬ويؤتوا الزكاة؛ فإن فعلوا‬
‫ذلك عصموا مين دماءَهم وأموالَهم‪ ،‬إال حبق اإلسالم‪ ،‬وحسابهم على‬
‫اهلل‪.)2(+‬‬
‫والشاهد من احلديث قوله‪= :‬وحسابهم على اهلل‪.+‬‬
‫قال احلافظ ابن رجب × يف شرح احلديث‪= :‬واملعنى‪ :‬إمنا عليك تذكريهم‬
‫باهلل‪ ،‬ودعوتهم إليه‪.‬‬
‫ولست مُسَلَّطاً على إدخال اإلميان يف قلوبهم قهراً‪ ،‬وال مكلفاً بذلك‪.)3(+‬‬
‫وقال احلافظ ابن حجر×‪ = :‬أي أمر سرائرهم‪ ،‬وفيه دليل على قبول‬
‫األعمال الظاهرة‪ ،‬واحلكم مبا يقتضيه الظاهر‪.)4(+‬‬
‫‪ _2‬أن اإلسالم يثبت بأدنى بينة‪ ،‬والتكفري ينتفي بأدنى شبهة‪ :‬ومن األدلة‬

‫‪ _ 1‬فتح القدير ‪.511/1‬‬


‫‪ _ 2‬رواه البخاري (‪ ،)25‬ومسلم (‪.)22‬‬
‫‪ _ 3‬جامع العلوم واحلكم البن رجب ‪.236/1‬‬
‫‪ _ 4‬فتح الباري البن حجر ‪.77/1‬‬
‫‪667‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫على ذلك حديث أسامة بن زيد املشهور ملا صبحوا احلرقات من جهينة وهو ما‬
‫جاء يف الصحيحني عن أسامة بن زيد _رضي اهلل عنهما_ قال‪ :‬بَعَثَنا رسول اهلل"‬
‫ت أنا‬
‫يف سرية فَصَبَّحْنا احلُرُقات من جهينة‪ ،‬فَصََّبحْنا القوم‪ ،‬فهزمناهم‪ ،‬ولَحِقْ ُ‬
‫ورجل من األنصار رجالً منهم‪ ،‬فلما غشيناه قال‪ :‬ال إله إال اهلل‪ ،‬فكف عنه‬
‫األنصاري‪ ،‬وطعنته برحمي؛ حتى قتلته‪ ،‬قال‪ :‬فلما قدمنا بلغ ذلك النيب" فقال‬
‫لي‪= :‬يا أسامة أقتلته بعد ما قال ال إله إال اهلل؟‪.+‬‬
‫قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل إمنا كان متعوذاً‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقال‪ = :‬أقتلته بعد ما قال ال إله إال اهلل؟‪ +‬قال‪ :‬فما زال يكررها علي؛‬
‫حتى متنيت أني مل أكن أسلمت قبل ذلك اليوم (‪.)1‬‬
‫فانظر كيف أنكر _ عليه الصالة والسالم _ على أسامة ÷ قتله ذلك الرجل‬
‫الذي نطق بالشهادة‪ ،‬مع أنه يظهر من حاله _ كما تبادر إىل ذهن أسامة _ أنه إمنا‬
‫قال ذلك تعوذاً‪ ،‬وتقية‪.‬‬
‫ولكن اإلسالم _كما مر_ يثبت بالظاهر من الناس‪ ،‬وبأدنى بينة من أحواهلم‪.‬‬
‫وكذلك حديث اجلارية‪ ،‬وهو ما جاء يف صحيح مسلم من حديث معاوية ابن‬
‫احلكم السلمي ÷ قال‪= :‬كانت لي جاريةٌ ترعى غنماً لي قِبَلَ أحد واجلوانيَّة‪،‬‬
‫فاطلعت ذات يوم فإذا الذيب قد ذهب بشاةٍ من غنمها‪ ،‬وأنا رجل من بنى آدم‬
‫آسف كما يأسفون‪ ،‬لكين صككتها صكَّةً‪ ،‬فأتيت رسول اهلل " فعظَّم ذلك‬
‫علي‪ ،‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل أفال أعتقها؟ قال‪= :‬ائتين بها‪ +‬فأتيته بها‪ ،‬فقال هلا‪:‬‬

‫‪ _ 1‬البخاري (‪ 4269‬و‪ )6873‬ومسلم (‪.)96‬‬


‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪668‬‬
‫=أين اهلل؟‪ +‬قالت‪ :‬يف السماء‪ ،‬قال‪= :‬من أنا؟‪ +‬قالت‪ :‬أنت رسول اهلل‪ ،‬قال‪:‬‬
‫=أعتقها فإنها مؤمنة‪.)1( +‬‬
‫ففي هذا احلديث تَنَ َّزل النيب _عليه الصالة والسالم_ مع اجلارية‪ ،‬وحَدَّثها مبا‬
‫تعقل‪ ،‬وسأهلا عن أمرين من أعظم أمور الدين‪ ،‬وهما‪= :‬أين اهلل‪ +‬و=من أنا‪+‬؛‬
‫فأجابت بأن اهلل يف السماء‪ ،‬وأن حممداً " رسول اهلل‪.‬‬
‫ومع عظم هذين األمرين فَهُما من الوضوح والبيان مبكان؛ حيث إنهما أمران‬
‫يدركان بالفطرة‪ ،‬وببادئ الرأي‪ ،‬وأول النظر؛ فال حيتاجان إىل كبري فهم‪ ،‬أو‬
‫إعمال للذهن‪.‬‬
‫لذا أجابته اجلارية على الفور؛ فكان ذلك عالمَةَ إميانها‪ ،‬واستحقاقها للعتق؛‬
‫حيث ثبت إميانها بأدنى بينة‪.‬‬
‫وكما أن اإلسالم يثبت بأدنى بينة _كما يف املثالني املاضيني_ فإن التكفري ينتفي‬
‫بأدنى شبهة _كما سيأتي أمثلة على ذلك يف املبحث اآلتي _موانع التكفري_‪.‬‬
‫‪ _3‬مذهب أهل السنة االحتياط يف تكفري املعني فال بد فيه من توافر شروط‪،‬‬
‫وانتفاء موانع؛ فال يكون جاهالً‪ ،‬وال متأوالً‪ ،‬وال مكرهًا _كما سيأتي بيان ذلك_‪.‬‬
‫فإذا أتى بِمُكَفِّر‪ ،‬وتوافرت فيه الشروط وانتفت يف حقه املوانع حُكم بردته؛‬
‫فيستتاب‪ ،‬فإن تاب وإال قتل‪.‬‬
‫ثم إن احلكم بالكفر على الشخص املعني ليس كألً مباحاً‪ ،‬وإمنا هو شأن أهل‬
‫العلم‪ ،‬والبصرية‪ ،‬واحللم‪ ،‬واحلكمة‪.‬‬

‫‪ _ 1‬رواه مسلم (‪.)537‬‬


‫‪669‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫واستتابته‪ ،‬وإقامة احلدِّ عليه ليست شأن كل أحد‪ ،‬وإمنا هي شأن احلاكم املسلم‪.‬‬
‫وهلذا التزم أهل السنة االحتياط يف التكفري بعكس الفرق األخرى اليت تتهافت‬
‫( ‪)1‬‬
‫عليه‪.‬‬
‫ومن خالل ما مضى يتبني لنا أنه ال جيوز التساهل يف تكفري املسلم؛ ألن يف‬
‫ذلك افرتاءَ الكذب على اهلل يف احلكم‪ ،‬وعلى احملكوم عليه يف الوصف الذي نُِبزَ‬
‫فيه‪ ،‬وملا يف ذلك من رجوع التكفري على املُكَفِّر إذا كان املُكَفَّر ساملاً منه؛(‪ )2‬ففي‬
‫صحيح مسلم عن عبداهلل بن عمر _رضي اهلل عنهما_ أن النيب" قال‪= :‬إذا كَفَّر‬
‫الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما‪. +‬‬
‫ويف رواية‪= :‬إن كان كما قال‪ ،‬وإال رجعت عليه‪.)3(+‬‬
‫وفيه عن أبي ذر ÷‪= :‬ومن دعا رجالً بالكفر‪ ،‬أو قال‪ :‬عدو اهلل وليس‬
‫كذلك إال حار عليه‪.)4(+‬‬
‫‪ _ 1‬أن التكفري والتعذيب ال يكون إال بعد قيام احلجة؛ فال مؤاخذة قبل اإلنذار؛‬
‫فمن متام حكمة اهلل _عز وجل_ وعدله أنه ال يُعذِّبَ أحداً إال بعد قيام احلجة عليه كما‬
‫قال _تعاىل_‪[ :‬وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِنيَ حَتَّى َنبْعَثَ رَسُو ًال] اإلسراء‪.15:‬‬
‫يهودي وال‬
‫ٌّ‬ ‫وقال الرسول "‪ = :‬والذي نفسي بيده ال يسمع بي أحدٌ من هذه األمة‬
‫نصراني‪ ،‬ثم ميوت ومل يؤمن بالذي أرسلت به _ إال كان من أصحاب النار‪.)5(+‬‬

‫‪ _ 1‬انظر نواقض اإلميان االعتقادية ‪.217_219/1‬‬


‫‪ _ 2‬انظر القواعد املثلى للشيخ حممد بن عثيمني ص‪.148‬‬
‫‪ _ 3‬مسلم (‪ )61‬و(‪.)111‬‬
‫‪ _ 4‬مسلم (‪ )61‬و(‪.)112‬‬
‫‪ _ 5‬رواه مسلم (‪.)241‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪674‬‬
‫يقول ابن تيمية ×‪ = :‬الكتاب والسنة قدْ دالَّ على أن اهلل ال يعذب أحداً إال‬
‫بعد إبالغ الرسالة؛ فمن مل تَْبلُغْهُ مجلةً مل يعذبه رأساً‪ ،‬ومن بلغته مجلةً دون‬
‫بعض التفصيل مل يعذبه إال على إنكار ما قامت عليه احلجة الرسالية‪.)1(+‬‬
‫ومن خالل ما مضى وغريه يتقرر أن العذاب واملؤاخذة ال يقع إال بعد النذارة‬
‫وقيام احلجة‪ ،‬وأن أهل الفرتة ومن يف حكمهم ميتحنون يوم القيامة كما جاءت‬
‫بذلك األحاديث‪ ،‬واهلل أعلم(‪.)2‬‬
‫‪ _5‬توجُّه الكفرِ إىل املعني‪ :‬يتوجَّه الكفر على الشخص املعني إذا ارتكب أمراً‬
‫مكفراً‪ ،‬و كان عاملاً مبخالفته‪ ،‬وكان قاصداً للمعنى الكفري إذا كان اللفظ حيتمل‬
‫أكثر من معنى‪ ،‬وقامت احلجة على فاعله _كما مر_ ومل يكن جمتهداً خمطئاً‪ ،‬وال‬
‫جاهالً‪ ،‬وال مكرهاً‪ ،‬وال عاجزاً عن أداء ما أوجبه اهلل‪.‬‬
‫فإذا وجد شيء من هذه املوانع‪ ،‬أو انتفى شيء من الشروط انتفى التكفري؛‬
‫( ‪)3‬‬
‫فالتكفري _كما مر_ ينتفي بأدنى شبهة‪.‬‬
‫‪ _ 6‬معنى قيام احلجة‪ :‬فقيام احلجة يف حق املسلم يعين إخباره مبا أخرب به‬
‫النيب " وأن قيامها يشرتط فيمن كان قريب عهد باإلسالم‪ ،‬أو فيمن نشأ يف‬
‫بادية بعيدة‪ ،‬أو يف بلد قد اندرست فيه تعاليم اإلسالم‪ ،‬هذا إذا كان األمر‬
‫الشرعي الذي أنكره املعني ظاهراً ِعلْمُه‪ ،‬ال خيفى على أحد غالباً كالصالة مثالً‪.‬‬

‫‪ _ 1‬جمموع الفتاوى ‪.494_493/12‬‬


‫‪ _ 2‬انظر نواقض اإلميان القولية والعملية ص‪.58‬‬
‫‪ _ 3‬انظر منهج ابن تيمية يف مسألة التكفري د‪ .‬عبداجمليد املشعيب ‪.554/2‬‬
‫‪670‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫وال يشرتط ذلك فيمن نشأ ببلد علمٍ‪ ،‬وأمورُ الشرع منتشرةٌ مشهورةٌ فيه بني‬
‫عامة الناس وخاصتهم‪.‬‬
‫أما إذا كان األمر الشرعي خفياً‪ ،‬أو كانت أدلته غري ظاهرة _ فيشرتط قيام‬
‫احلجة فيه على كل حال‪.‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وقيام احلجة يشمل توضيحها‪ ،‬وكشف شبهها إن وجدت‪.‬‬
‫‪ _7‬عدم التكفري بكل ذنب‪ :‬فمن األصول اجملمع عليها عند أهل السنة أنهم ال‬
‫يكفرون أحداً بذنب ما مل يستحله‪.‬‬
‫ويقصدون بالذنب‪ :‬الذنب الذي هو دون الكفر‪ ،‬والذي ال يكفر صاحبه به‪،‬‬
‫كفعل الكبائر اليت هي دون الشرك‪.‬‬
‫فأهل السنة ال يُكَ ِّفرون بكل ذنب كما تفعل اخلوارج‪ ،‬وفرقٌ بني النفي العام‪،‬‬
‫ونفي العموم؛ فالنفي العام قد يفهم منه عدم تكفري املعني مطلقاً مهما عمل من‬
‫الذنوب ولو عمل النواقض‪.‬‬
‫أما نفي العموم فيفهم منه أنهم ُيكَ ِّفرون ببعض الذنوب‪ ،‬وال يكفرون‬
‫ببعضها؛ فمن الذنوب اليت يُكَفَّر مُرْتَكِبُها‪ :‬نواقضُ اإلسالم الكربى املعلومة‪.‬‬
‫ومن ذلك _أيضاً_ اخلالف املشهور عند أهل السنة يف التكفري برتك األركان‪،‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫وخاصة الصالة‪.‬‬
‫‪ _8‬األمور اليت يطلق عليها الكفر‪ :‬هناك أفعـال‪ ،‬وأقـوال‪ ،‬واعتقـادات يطلـق‬

‫‪ _ 1‬انظر منهج ابن تيمية يف مسألة التكفري ‪.225/2‬‬


‫‪ _ 2‬انظر نواقض اإلميان االعتقادية ‪.221/1‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪671‬‬
‫عليها الكفر‪ ،‬ويُكَفَّرُ مرتكبها بعد استيفاء الشروط‪ ،‬وانتفاء املوانـع‪ ،‬ومنهـا‪ :‬مـن‬
‫جَعَ ل بينه وبني اهلل وسائط يدعوها‪ ،‬وتارك أركان اإلسـالم بالكليـة‪ ،‬ورادُّ شـرع‬
‫اهلل‪ ،‬أو بعضه‪ ،‬ومَنْ سَبَّ اهلل _تعاىل_ أو اسـتهزأ بـه أو بآياتـه‪ ،‬ومَـن سـب أحـد‬
‫األنبياء‪ ،‬أو استهزأ به‪ ،‬أو كَفَّره‪ ،‬ومن استحل احلكم بغري ما أنزل اهلل‪ ،‬ومن نفى‬
‫صفات اهلل‪ ،‬أو شَبَّه اهلل خبلقه‪ ،‬أو أثبت لغري اهلل ما ال يكـون إال هلل‪ ،‬ومَـنْ تَشَـبَّه‬
‫بالكفــار مطلقــاً‪ ،‬أو واالهــم والءً مطلق ـاً‪ ،‬أو مل يكفــر الكــافرين‪ ،‬او شــك يف‬
‫كفرهم‪ ،‬أو سوَّغ اتبـاع ديـنهم‪ ،‬ومـن اسـتحل قتـل املسـلم‪ ،‬إىل غـري ذلـك مـن‬
‫األمور اليت يطول شرحها وتفصيلها(‪.)1‬‬

‫‪ _ 1‬انظر منهج ابن تيمية يف مسألة التكفري ‪.153_37/1‬‬


‫‪673‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫الفصل اخلام‬

‫موانع التكفري‬

‫وحتته‪:‬‬
‫_ متهيد‬
‫املبحث األول‪ :‬مانع اجلهل‪.‬‬
‫املبحث الثاني‪ :‬مانع اخلطأ‪.‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬مانع اإلكراه‪.‬‬
‫املبحث الرابع‪ :‬مانع التأويل‪.‬‬
‫املبحث اخلامس‪ :‬مانع التقليد‪.‬‬
‫املبحث السادس‪ :‬مانع العجز‪.‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪674‬‬
‫‪675‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬
‫متهيد‬

‫موانع التكفري‪ :‬هي الصوارف اليت متنع من احلكم على املعني بالكفر‪.‬‬
‫والتكفري _كما مر_ هو احلكم بالكفر‪.‬‬
‫والتكفري ينتفي بانتفاء شيء من الشروط‪ ،‬أو وجود شيء من املوانع‪.‬‬
‫وموانع التكفري تكاد تنحصر يف ستة موانع‪ ،‬وهي اجلهل‪ ،‬واخلطأ‪ ،‬واإلكراه‪،‬‬
‫والتأويل‪ ،‬والتقليد‪ ،‬والعجز‪.‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وبعضهم يدخل بعض هذه املوانع يف بعض‪.‬‬
‫فهذه أوضح‪ ،‬وأشهر موانع التكفري‪ ،‬ويدخل حتتها من التفاصيل ما يطول‬
‫ذكره‪ ،‬وفيما يلي من املباحث توضيح موجز هلذه املوانع‪.‬‬

‫‪ _ 1‬انظر نواقض اإلميان القولية والعملية ص‪ ،92_55‬ونواقض اإلميان االعتقادية ‪313_223/1‬‬


‫و‪ ،55_1/2‬ومنهج ابن تيمية يف مسألة التكفري ‪.271_229/1‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪676‬‬
‫املبحث األول‪ :‬مانع اجلهل‬

‫فاجلهل مانع من إحلاق التكفري باملعني‪.‬‬


‫ومقصود العلماء باجلهل الذي يعذر صاحبه أوْ ال يعذر‪ :‬هو أن يقول‪ ،‬أو‬
‫يفعل‪ ،‬أو يعتقد خالف احلق‪.‬‬
‫واجلهل مينع من التكفري؛ ألن اإلميان متعلق بالعلم‪ ،‬ووجود العلم باملُؤْمَن به‬
‫شرط من شروط اإلميان‪.‬‬
‫واجلهل ببعض األمور االعتقادية حصل لبعض الصحابة‪ ،‬ومع ذلك مل‬
‫يكفرهم النيب " بل ومل يؤثِّمْ ُهمْ‪.‬‬
‫والعذر باجلهل له حاالت؛ فهو خيتلف باختالف األزمنة‪ ،‬واألمكنة‪ ،‬من‬
‫حيث انتشار العلم‪ ،‬أو عدم انتشاره‪.‬‬
‫واألشخاص خيتلفون من جهة قيام احلجة عليهم وعدم قيامها؛ فمنهم من‬
‫قامت علي ه احلجة‪ ،‬ومنهم من مل تقم عليه باعتباره _مثالً_ حديث عهد بإسالم‪،‬‬
‫أو نشأ ببادية بعيدة‪.‬‬
‫وكذلك اجلهل خيتلف إن كان جهالً مبا هو معلوم من الدين بالضرورة‪ ،‬أو ما‬
‫دون ذلك‪ ،‬وهل يفرق بني أصول وفروع؟‬
‫ولعل من أظهر األدلة يف اعتبار اجلهل عذراً‪ ،‬ما ثبت يف الصحيحني عن أبي‬
‫هريرة ÷ قال‪ :‬قال رسول اهلل "‪= :‬قال رجل مل يعمل خرياً قط ألهله _ ويف‬
‫رواية‪ :‬أسرف رجل على نفسه فلما حضره املوت أوصى بنيه _ إذا مات فحرقوه‪،‬‬
‫ثم اذروا نصفه يف الرب‪ ،‬ونصفه يف البحر؛ فو اهلل لئن قدر اهلل عليه ليعذبنه عذاباً ال‬
‫يعذبه أحداً من العاملني؛ فلما مات فعلوا ما أمرهم‪ ،‬فأمر اهلل البحر فجمع ما فيه‪،‬‬
‫‪677‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫وأمر الرب فجمع ما فيه‪ ،‬ثم قال له‪ :‬مل فعلت هذا؟ قال‪ :‬من خشيتك يا رب‪،‬‬
‫وأنت أعلم؛ فغفر له‪. )1(+‬‬
‫يقول ابن قتيبة × عن هذا احلديث‪= :‬وهذا رجل مؤمن باهلل‪ ،‬مقر به‪،‬‬
‫خائف له‪ ،‬إال أنه جهل صفة من صفاته‪ ،‬فظن أنه إذا أُحرق وذُري يف الريح أنه‬
‫يفوت اهلل _تعاىل_ فغفر اهلل _تعاىل_ له مبعرفته ما بنيته‪ ،‬ومبخافته من عذابه جهلَه‬
‫بهذه الصفة من صفاته‪.)2(+‬‬
‫ويقول ابن تيمية ×‪= :‬وكنت دائماً أذكر هذا احلديث‪ ..‬فهذا رجل شك يف‬
‫قدرة اهلل‪ ،‬ويف إعادته إذا ذُريَ‪ ،‬بل اعتقد أنه ال يعاد‪.‬‬
‫وهذا كفر باتفاق املسلمني‪ ،‬لكن كان جاهالً ال يعلم ذلك‪ ،‬وكان مؤمناً خياف‬
‫اهلل أن يعاقبه؛ فغفر له بذلك‪.)3(+‬‬
‫ويفصل ابن تيمية ذلك بقوله‪ = :‬فهذا الرجل كان قد وقع له الشك واجلهل يف‬
‫قدرة اهلل _تعاىل_ على إعادة ابن آدم بعدما أحرق‪ ،‬وذُرِي‪ ،‬وعلى أنه يعيد امليت‬
‫وحيشره إذا فعل به ذلك‪ ،‬وهذان أصالن عظيمان‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬متعلق باهلل _تعاىل_‪ :‬وهو اإلميان بأنه على كل شيء قدير‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬متعلق باليوم اآلخر‪ :‬وهو اإلميان بأن اهلل يعيد هذا امليت‪ ،‬وجيزيه‬
‫على أعماله‪.‬‬
‫ومع هذا فلما كان مؤمناً باهلل يف اجلملة‪ ،‬ومؤمناً باليوم اآلخر يف اجلملة‪ ،‬وهو‬

‫‪ _ 1‬البخاري (‪ ،)7516‬ومسلم (‪.)2756‬‬


‫‪ _ 2‬تأويل خمتلف احلديث ص‪. 136‬‬
‫‪ _ 3‬جمموع الفتاوى ‪ ،231/3‬وانظر جمموع التفاوى ‪ ،411_419/11 ،511/28‬وانظر الفِصَل‬
‫البن حزم ‪.296/3‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪678‬‬
‫أن اهلل يثيب ويعاقب بعد املوت‪ ،‬وقد عمل عمالً صاحلاً وهو خوفه من اهلل أن‬
‫يعاقبه على ذنوبه _ غفر اهلل له مبا كان منه من اإلميان باهلل‪ ،‬واليوم اآلخر‪،‬‬
‫والعمل الصاحل‪.)1(+‬‬
‫ويضيف ابن تيمية يف بيان هذا احلديث قائالً‪= :‬فإن هذا الرجل جهل قدرة اهلل‬
‫على إعادته‪ ،‬ورجا أن ال يعيده جبهل ما أخرب به من اإلعادة‪.‬‬
‫ومع هذا ملا كان مؤمناً باهلل‪ ،‬وأمره ونهيه‪ ،‬ووعده ووعيده‪ ،‬خائفاً من عذابه‪،‬‬
‫وكان جهله بذلك جهالً مل تقم عليه احلجة اليت توجب كفر مثله _ غفر اهلل له‪.‬‬
‫ومثل هذا كثري يف املسلمني‪ ،‬والنيب " كان خيرب بأخبار األولني؛ ليكون ذلك‬
‫عربة هلذه األمة‪.)2(+‬‬
‫وباجلملة فمسألة العذر باجلهل من املسائل اليت يكثر فيها الكالم‪ ،‬وتتداخل‬
‫جزئياتها؛ فال ينبغي تضخيم هذه القضية‪ ،‬وتضليل املخالف فيها‪ ،‬إذا كان يسري‬
‫وفق الدليل الشرعي‪.‬‬
‫( ‪)3‬‬
‫واملقام هنا ال يسمح بالتفصيل‪.‬‬

‫‪ _ 1‬جمموع الفتاوى ‪ ،491/12‬انظر السبعينية البن تيمية ص‪.342‬‬


‫‪ _ 2‬الصفدية ‪ ،233/1‬وانظر مدارج السالكني ‪ ،339_338/1‬وإيثار احلق على اخللق البن الوزير‬
‫ص‪ ،436‬وجمموعة مؤلفات الشيخ حممد بن عبدالوهاب ‪ ،11/3‬وجمموع فتاوى ورسائل الشيخ حممد‬
‫ابن عثيمني ‪.615/3‬‬
‫‪ _ 3‬من أحسن من تكلم يف هذه املسألة د‪ .‬عبدالعزيز العبداللطيف يف كتابه نواقض اإلميان القولية والعملية‬
‫ص‪ ،71_59‬ود‪ .‬حممد الوهييب يف كتابه نواقض اإلميان االعتقادية ‪ ،311_235/1‬وانظر منهج ابن تيمية‬
‫يف مسألة التكفري ‪.261_251/1‬‬
‫‪679‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬
‫املبحث الثاني‪ :‬مانع اخلطأ‬

‫وهو كل ما يصدر عن املكلف من قول‪ ،‬أو فعل خالٍ عن إرادته‪ ،‬وغري مقرتن‬
‫( ‪)1‬‬
‫بقصد منه‪.‬‬
‫فوقوع اخلطأ من املسلم مانع من تكفريه إذا وقع يف مُكَفِّر‪.‬‬
‫وخالصة القول يف هذا املانع أن النصوص من الكتاب والسنة قد تواترت يف‬
‫إعذار املخطئ‪ ،‬وأنَّ حُكْمَهُ حكمُ اجلاهل‪ ،‬أو املتأول؛ فال يُكفَّر إال بعد قيام احلجة‬
‫عليه‪ ،‬وأنه إن كان جمتهدًا فيما يَسُو ُغ فيه االجتها ُد فله أجرٌ باجتهاده ولو أخطأ‪.‬‬
‫أما إن مل يكن جمتهداً‪ ،‬وأخطأ فيأثم؛ لتفريطه‪.‬‬
‫يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية ×‪= :‬وأما التكفري فالصواب أن من اجتهد‬
‫من أمة حممد " وقصد احلق فأخطأ _ مل يُكَفَّر‪ ،‬بل يُغْفَرُ له خطؤه‪.‬‬
‫ومن تبني له ما جاء به الرسول‪ ،‬فشاق الرسول من بعد ما تبني له احلق‪ ،‬واتبع‬
‫غري سبيل املؤمنني _ فهو كافر‪.‬‬
‫ومن اتبع هواه‪ ،‬وقصر يف طلب احلق‪ ،‬وتكلم بال علم _ فهو عاصٍ مذنبٌ‪،‬‬
‫قد يكون له حسنات ترجح على سيئاته‪.)2(+‬‬
‫وقال ×‪ = :‬هذا مع أني دائماً ومن جالسين يعلم ذلك مين أني من أعظم‬
‫الناس نهياً عن أن ينسب مُعََّي ٌن إىل تكفري‪ ،‬وتفسيق‪ ،‬ومعصية‪ ،‬إال إذا علم أنه‬
‫قد قامت عليه احلجة الرسالية اليت من خالفها كان كافراً مرة‪ ،‬وفاسقاً مرة‪،‬‬

‫‪ _ 1‬انظر عوارض األهلية عند األصولية د‪ .‬حسني اجلبوري ‪.396_395‬‬


‫‪ _ 2‬جمموع الفتاوى ‪.181/12‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪684‬‬
‫وعاصياً أخرى‪.‬‬
‫وإني أقرر أن اهلل قد غفر هلذه األمة خطأها‪ ،‬وذلك يعم اخلطأ يف املسائل‬
‫اخلربية القولية‪ ،‬واملسائل العملية‪.‬‬
‫وما زال السلف يتنازعون يف كثري من هذه املسائل‪ ،‬ومل يشهد أحدٌ منهم على‬
‫أحد ال بكفر‪ ،‬وال بفسق‪ ،‬وال مبعصية‪.)1(+‬‬
‫وقال ×‪= :‬وليس ألحد أن يُكَفِّر أحداً من املسلمني‪ ،‬وإن أخطأ وغلط‪،‬‬
‫حتى تقام عليه احلُجة‪ ،‬وتبني له املَحَجَّة‪.‬‬
‫ومن ثبت إسالمه بيقني مل َيزُلْ ذلك عنه بالشك‪ ،‬بل ال يزول إال بعد إقامة‬
‫احلجة‪ ،‬وإزالة الشبهة‪.)2(+‬‬
‫ومن األدلة املشهورة يف هذا الشأن قوله _تعاىل_‪[ :‬رَبَّنَا ال تُؤَا ِخ ْذنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ‬
‫ل عَلَيْنَا ِإصْراً كَمَا حَمَلْتَ ُه عَلَى َّالذِي َن ِم ْن قَبْلِنَا] البقرة‪.286:‬‬
‫أَخْطَ ْأنَا رَبَّنَا وَال تَحْمِ ْ‬
‫وثبت يف صحيح مسلم أن اهلل _سبحانه_ استجاب هذا الدعاء‪ ،‬فقال‪= :‬قد‬
‫فعلت‪.)3(+‬‬
‫ومن اخلطأ الوارد املانع من إحلاق التكفري باملعني أن يستغلق على اإلنسان‬
‫فِكْ ُره؛ فال يدري ما يقول لشدة فرح‪ ،‬أو حزن‪ ،‬أو خوف‪ ،‬أو حنو ذلك‪.‬‬
‫ودليله ما ثبت يف صحيح مسلم عن أنس بن مالك ÷ قال‪ :‬قال رسول‬

‫‪ _ 1‬جمموع الفتاوى ‪.229/3‬‬


‫‪ _ 2‬جمموع الفتاوى ‪.466/12‬‬
‫‪ _ 3‬مسلم (‪.)126‬‬
‫‪680‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫اهلل"‪= :‬هلل أشد فرحاً بتوبة عبده حني يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته‬
‫بأرض فالة‪ ،‬فانفلتت منه‪ ،‬وعليها طعامه‪ ،‬وشرابه‪ ،‬فأيس منها‪ ،‬فأتى شجرة‪،‬‬
‫فاضطجع يف ظلها‪ ،‬قد أيس من راحلته؛ فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده‪،‬‬
‫فأخذ خبطامها‪ ،‬ثم قال من شدة الفرح‪ :‬اللهم أنت عبدي‪ ،‬وأنا ربك‪ ،‬أخطأ من‬
‫شدة الفرح‪.)1(+‬‬
‫يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية ×‪= :‬وكنت دائمًا أذكر احلديث الذي يف‬
‫الصحيحني يف الرجل الذي قال‪= :‬إذا أنا مت فأحرقوني‪ ،‬ثم اسحقوني‪ ،‬ثم‬
‫ذروني يف اليم‪ ،‬فواهلل لئن قدر اهلل علي ليعذبين عذابًا ما عذبه أحدًا من العاملني‪.‬‬
‫ففعلوا به ذلك‪ ،‬فقال اهلل له‪ :‬ما محلك على ما فعلت؟ قال‪ :‬خشيتك‪ ،‬فغفر‬
‫له‪.)2(+‬‬
‫فهذا رجل شك يف قدرة اهلل‪ ،‬ويف إعادته إذا ذُريَ‪ ،‬بل اعتقد أنه ال يعاد‪،‬‬
‫وهذا كفر باتفاق املسلمني‪ ،‬لكن كان جاهالً ال يعلم ذلك‪ ،‬وكان مؤمناً خياف اهلل‬
‫أن يعاقبه‪ ،‬فغفر له بذلك‪ ،‬واملتأول من أهل االجتهاد احلريص على متابعة‬
‫الرسول " أوىل باملغفرة من مثل هذا‪+‬اهـ(‪.)3‬‬

‫‪ _ 1‬مسلم (‪.)2747‬‬
‫‪ _ 2‬البخاري (‪ )7516‬و(‪.)2756‬‬
‫‪ _ 3‬جمموع الفتاوى ‪ ، 229/3‬وانظر تفصيل هذه املسألة يف نواقض اإلميان االعتقادية‬
‫‪.313_312/1‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪681‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬مانع اإلكراه‬

‫وهو أحد موانع إحلاق التكفري باملعني‪.‬‬


‫( ‪)1‬‬
‫واإلكراه يف األصل إلزام شخص بأمر هو كارهٌ له‪.‬‬
‫ويف االصطالح‪ :‬هو كل ما أدى بشخص لو مل يفعل املأمورَ به إىل ضرب‪ ،‬أو‬
‫حبس‪ ،‬أو أخذِ مالٍ‪ ،‬أو قطعِ رزقٍ يستحقه‪ ،‬أو حنو ذلك‪.‬‬
‫فإذا أكره شخص _على هذا النحو_ على فعل ما يوجب الكفر‪ ،‬ففعله لداعي‬
‫( ‪)2‬‬
‫اإلكراه ال اطمئناناً به _ فإن ذلك مانع من موانع التكفري‪.‬‬
‫ويشرتط يف اإلكراه أربعة شروط‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن يكون اآلمر قادراً على إيقاع ما هدد به‪ ،‬واملأمور عاجز عن الدفع‬
‫عن نفسه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن يغلب على ظن املُكْرَه وقوع ما هُدِّد به إذا امتنع‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن يكون ما هدد به فورياً‪ ،‬أو قريباً‪.‬‬
‫( ‪)3‬‬
‫الرابع‪ :‬أال يظهر من املُكْ َرهِ اختيارٌ‪ ،‬أو رضاً بهذا الفعل‪.‬‬
‫والدليل على أن اإلكراه مانع من موانع إحلاق التكفري باملعني قوله _تعاىل_‪:‬‬
‫[ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِميَانِهِ إِالَّ مَنْ أُكْ ِرهَ وَ َقلُْبهُ مُطْمَئِنٌّ بِاإلِميَانِ َولَكِنْ مَنْ شَرَحَ‬
‫بِالْكُفْرِ صَدْراً فَ َع َليْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ َعظِيمٌ] النحل‪.116:‬‬

‫‪ _ 1‬انظر لسان العرب ‪ ،535/13‬وفتح الباري البن حجر ‪.311/12‬‬


‫‪ _ 2‬انظر جمموعة الفتاوى املصرية البن تيمية ‪ ،56/1‬والقواعد املثلى ص‪.151‬‬
‫‪ _ 3‬انظر منهج ابن تيمية يف مسألة التكفري ‪.271/1‬‬
‫‪683‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫قال ابن تيمية ×‪= :‬فأباح _سبحانه_ عند اإلكراه أن ينطق الرجل بالكفر‬
‫بلسانه إذا كان قلبه مطمئنًا باإلميان‪ ،‬خبالف من شرح بالكفر صدراً‪.‬‬
‫وأباح للمؤمنني أن يتقوا من الكافرين تقاةً مع نهيهم عن مواالتهم‪.‬‬
‫وعن ابن عباس قال‪= :‬إن التقية باللسان‪.+‬‬
‫وهلذا مل يكن عندنا نزاع يف أن األقوال ال يثبت حكمها يف حق املُكْرَه بغري‬
‫ح ُكفْ ُر املكره بغري حق‪ ،‬وال إميان املكره بغري حق‪.)1(+‬‬
‫حق؛ فال يَصِ ُّ‬
‫وهناك مسألة يف اإلكراه‪ ،‬وهي هل يشمل اإلكراه األفعال كما يشمل األقوال؟‬
‫واجلواب‪ :‬أن هذه املسألة خمتلف فيها على قولني _ كما يقول ابن تيمية _‬
‫واجلمهور على أنه شامل لألفعال كما أنه شامل لألقوال‪...‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫وهذا هو الذي مال إليه ×‪.‬‬
‫فهذه خالصة موجزة ملسألة اإلكراه‪ ،‬وكونه مانعاً من موانع التكفري‪.‬‬
‫( ‪)3‬‬
‫وهناك تفصيالت أخرى يف هذه املسألة يطول ذكرها‪ ،‬واملقام ال حيتملها‪.‬‬

‫‪ _ 1‬االستقامة البن تيمية ‪.321_319/2‬‬


‫‪ _ 2‬انظر جمموعة الفتاوى املصرية ‪ ،56/1‬وانظر منهج ابن تيمية يف مسألة التكفري ‪.269/1‬‬
‫‪ _ 3‬انظر نواقض اإلميان االعتقادية ‪.19_5/2‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪684‬‬
‫املبحث الرابع‪ :‬مانع التأويل‬

‫فالعذر بالتأويل أحد موانع إحلاق التكفري باملعني‪.‬‬


‫والعذر بالتأويل متفق عليه عند األئمة كالعذر باجلهل واخلطأ‪.‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وإمنا وقع اخلالف يف حدود التأويل الذي يعذر صاحبه‪ ،‬والذي ال يعذر‪.‬‬
‫يقول ابن حزم ×‪= :‬ومن بلغه األمر عن رسول اهلل "من طريق ثابتة وهو‬
‫مُ ْسلِمٌ‪ ،‬فتأوَّلَ يف خالفه إياه‪ ،‬أو ردَّ ما بلغه بنص آخر‪ ،‬فما مل تقم عليه احلجة‬
‫يف خطئه يف ترك ما ترك‪ ،‬ويف األخذ مبا أخذ _ فهو مأجور معذور؛ لقصده إىل‬
‫احلق‪ ،‬وجهله به‪ ،‬وإن قامت عليه احلجة يف ذلك‪ ،‬فعاند فال تأويل بعد قيام‬
‫احلجة‪.)2(+‬‬
‫وقرر ذلك شيخ اإلسالم ابن تيمية × يف مواضع‪ ،‬واستدل بقصة الرجل‬
‫من بين إسرائيل‪ ،‬وقدامة بن مظعون وغريها‪ ،‬قال ×‪= :‬والتكفري هو من‬
‫الوعيد؛ فإنه وإن كان القول تكذيباً ملا قاله الرسول " فقد يكون الرجل حديث‬
‫عهد بإسالم‪ ،‬أو نشأ ببادية بعيدة‪ ،‬ومثل هذا ال يكفر جبحد ما جيحده حتى تقوم‬
‫عليه احلجة‪ ،‬وقد يكون الرجل مل يسمع تلك النصوص‪ ،‬أو مسعها ومل تثبت‬
‫عنده‪ ،‬أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها‪ ،‬وإن كان خمطئاً(‪.)3‬‬
‫وقال _أيضاً_‪= :‬إن القول قد يكون كفراً كمقاالت اجلهمية الذين قالوا‪ :‬إن اهلل‬

‫‪ _ 1‬انظر نواقض اإلميان االعتقادية ‪.23/2‬‬


‫‪ _ 2‬الدرة فيما جيب اعتقاده البن حزم ص‪.414‬‬
‫‪ _ 3‬جمموع الفتاوى ‪.231/3‬‬
‫‪685‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫ال يتكلم‪ ،‬وال يُرَى يف اآلخرة‪.‬‬


‫ولكن قد خيفى على بعض الناس أنه كفر؛ فيطلق القول بتكفري القائل‪ ،‬كما‬
‫قال السلف‪ :‬من قال‪ :‬القرآن خملوق فهو كافر‪ ،‬ومن قال‪ :‬إن اهلل ال يرى يف‬
‫اآلخرة فهو كافر‪ ،‬وال يكفر الشخص املعني حتى تقوم عليه احلجة _كما تقدم_‬
‫كمن جحد وجوب الصالة‪ ،‬والزكاة‪ ،‬واستحل اخلمر والزنا وتأول؛ فإن ظهور‬
‫تلك األحكام بني املسلمني أعظم من ظهور هذه‪ ،‬فإن كان املتأول املخطىء يف‬
‫تلك ال حيكم بكفره إال بعد البيان له واستتابته _ كما فعل الصحابة يف الطائفة‬
‫الذين استحلوا اخلمر(‪ _)1‬ففي غري ذلك أوىل وأحرى …‪.)2(+‬‬
‫ويقول‪= :‬وكذلك التكفري حق اهلل‪ ،‬فال يكفر إال من كفره اهلل ورسوله‪.‬‬
‫وأيضاً فإن تكفري الشخص املعني‪ ،‬وجواز قتله موقوف على أن تبلغه احلجة‬
‫النبوية اليت يكفر من خالفها‪ ،‬وإال فليس كلُّ مَنْ جهل شيئاً من الدين يكفر‪،‬‬
‫وهلذا ملا استحل طائفة من الصحابة والتابعني كقدامة بن مظعون وأصحابه شرب‬
‫اخلمر‪ ،‬وظنوا أنها تباح ملن عمل صاحلاً على ما فهموه من آية املائدة (‪ )3‬واتفق‬
‫علماء الصحابة كعمر وعلي وغريه ما على أنهم يستتابون‪ ،‬فإن أصروا على‬

‫‪ _ 1‬كقدامة بن مظعون وأصحابه _رضي اهلل عنهم_ روى ذلك عبد الرزاق يف املصنف ‪،241/9‬‬
‫‪ ،242‬وابن أبي شيبة ‪ ،546 /9‬والبيهقي يف سننه ‪ ،16/8‬وأخرجها أبو الشيخ وابن مردويه واحلاكم‬
‫وابن املنذر كما يف الدر املنثور ‪ ،174 ،161/3‬وابن السكن كما يف اإلصابة ‪،229 ،228/3‬‬
‫واجلوزجاني كما يف منهاج السنة ‪ ،84/6‬ويف بعض الروايات ذكر قدامة‪ ،‬وبعضها مل يذكر‪.‬‬
‫‪ _ 2‬جمموع الفتاوى ‪. 619/7‬‬
‫‪ _ 3‬واآلية هي قوله _تعاىل_‪[ :‬لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا‪...‬اآلية]‬
‫املائدة‪. 93 :‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪686‬‬
‫االستحالل كفروا‪ ،‬وإن أقروا به جلدوا‪ ،‬فلم يكفروهم باالستحالل ابتداءاً؛‬
‫ألجل الشبهة اليت عرضت هلم حتى يتبني هلم احلق‪.)1(+‬‬
‫وكذلك احلُكْ ُم على كل مَنْ استحل حمرماً من احملرمات الظاهرة املتواترة إذا مل‬
‫تقم عليه احلجة‪ ،‬وعَرَضَتْ له شبهاتٌ مِنْ جِنْس ما عرض هلؤالء؛ فالتكفري‬
‫يكون بعد إقامة احلجة وإزالة الشبهة‪.‬‬
‫جحد فريضة مِ ْن فرائض‬ ‫يقول اإلمام ابن القيم × بعدما بََّين كُفْ َر َم ْن َ‬
‫ال‬
‫ح َّر ٍم من حمرماته‪ = :‬وأما من جحد ذلك جهالً‪ ،‬أو تأوي ً‬ ‫اإلسالم‪ ،‬أو حتريمَ ُم َ‬
‫يعذر فيه صاحبه _ فال يكفر صاحبه به‪ ،‬كحديث الذي جحد قدرة اهلل عليه‪ ،‬أمر‬
‫أهله أن حيرقوه ويذروه يف الريح‪ ،‬ومع هذا فقد غفر اهلل له‪ ،‬ورمحه جلهله؛ إذ كان‬
‫ذلك الذي فعله مبلغ علمه‪ ،‬ومل جيحد قدرة اهلل على إعادته عنادًا أو تكذيباً‪.)2(+‬‬
‫وقال ابن الوزير ×‪= :‬إن املتأولني غري كفار؛ ألن صدورهم مل تنشرح‬
‫بالكفر قطعاً‪ ،‬أو ظناً‪ ،‬أو جتويزاً‪ ،‬أو احتماالً‪.)3(+‬‬
‫واستدل بقول أمري املؤمنني علي بن أبي طالب ÷عن اخلوارج‪= :‬من الكفر‬
‫فروا‪.+‬‬
‫فقال ابن الوزير‪ = :‬فكذلك مجيع أهل التأويل من أهل امللة‪ ،‬وإن وقعوا يف‬
‫أفحش البدع‪ ،‬واجلهل؛ فقد علم منهم أن حاهلم يف ذلك هي حال‬
‫( ‪)4‬‬
‫اخلوارج‪.+‬‬

‫‪ _ 1‬الرد على البكري ‪. 258‬‬


‫‪ _ 2‬مدارج السالكني ‪. 367/1‬‬
‫‪ _ 3‬إيثار احلق ص‪.437‬‬
‫‪ _ 4‬إيثار احلق ص‪ ،437‬وانظر نواقض اإلميان االعغتقادية ‪ ،31_23/2‬ففيه تفصيل هلذه املسألة‪.‬‬
‫‪687‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪688‬‬
‫املبحث اخلامس‪ :‬مانع التقليد‬

‫فالتقليد أحد موانع إحلاق التكفري باملعني‪.‬‬


‫والتقليد يف االصطالح‪ :‬هو قبول قول القائل‪ ،‬دون ِعلْمِ مَأْخَذِه‪ ،‬أو اتباع‬
‫( ‪)1‬‬
‫قول من ليس حبجة‪.‬‬
‫وخالصةُ مسألةِ التقليدِ‪ ،‬وكونِه أحدَ موانعِ التكفريِ _ أنه جيوز التقليد يف‬
‫العقائد للعامي الذي ال يستطيع النظر واالستدالل‪ ،‬كجواز ذلك يف األحكام‪.‬‬
‫أما مَنْ يستطيع االستدالل فال جيوز له التقليد يف العقائد واألحكام‪ ،‬لكن ال‬
‫يشرتط النظر‪ ،‬واالستدالل؛ لصحة اإلميان‪.‬‬
‫وبناءاً على ذلك يتبني لنا إعذارُ األئمة ملن وقع يف الكفر تقليداً إن كان جاهالً‬
‫ال بصرية له‪ ،‬وال فقه‪.‬‬
‫أما من كان قادراً على فهم احلجة‪ ،‬وفَرَّط يف طلبها فإنه يأثم‪ ،‬ولكنه ال يُكَفَّر‬
‫إال بعد قيام احلجة _ واهلل أعلم(‪.)2‬‬
‫يقول ابن القيم × مبيناً ومفصالً أقسام أهل البدع‪= :‬وأما أهل البدع‬
‫املوافقون أهل اإلسالم‪ ،‬ولكنهم خمالفون يف بعض األصول كالرافضة‪،‬‬
‫والقدرية‪ ،‬واجلهمية‪ ،‬وغالة املرجئة‪ ،‬وحنوهم _ فهؤالء أقسام‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬اجلاهل املُقَِّلد الذي ال بصريةَ له‪ ،‬فهذا ال يُكَ َّفر‪ ،‬وال يُفَ َّسق‪ ،‬وال تُرَ ُّد‬

‫‪ _ 1‬انظر األحكام البن حزم ‪ ،836/2‬وإرشاد الفحول للشوكاني ص‪ ،265‬ونواقض اإلميان‬


‫االعتقادية ‪.39/2‬‬
‫‪ _ 2‬انظر نواقض اإلميان االعتقادية ‪ 48/2‬و‪.51‬‬
‫‪689‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫شهادته إذا مل يكن قادراً على تعلم اهلدى‪.‬‬


‫حكْ ُم املستضعفني من الرجال والنساء والولدان الذين ال يستطيعون‬
‫وحكمُ ُه ُ‬
‫حيلة وال يهتدون سبيالً؛ فأولئك عسى اهلل أن يعفو عنهم وكان اهلل غفوراً رحيماً‪.‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬املتمكن من السؤال‪ ،‬وطلب اهلداية ومعرفة احلق‪ ،‬ولكنْ يرتك‬
‫ط مستحق‬
‫ذلك؛ اشتغاالً بدنياه‪ ،‬ورئاسته‪ ،‬ولذته‪ ،‬ومعاشه وغري ذلك؛ فهذا مُ َف ِّر ٌ‬
‫للوعيد‪ ،‬آثم برتك ما وجب عليه من تقوى اهلل حبسب استطاعته؛ فهذا حكمه‬
‫حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات؛ فإن غلب ما فيه من البدعة واهلوى على‬
‫ما فيه من السنة واهلدى ردت شهادته‪ ،‬وإن غلب ما فيه من السنة واهلدى قُِبَلت‬
‫شهادته‪.‬‬
‫القسم الثالث‪ :‬أن يسأل‪ ،‬ويطلب‪ ،‬ويتبني له اهلدى‪ ،‬ويرتكه تقليداً أو‬
‫تعصباً‪ ،‬أو بغضاً ومعاداة ألصحابه _ فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقاً‪ ،‬وتكفريه‬
‫حمل اجتهاد وتفصيل …‪.)1(+‬‬

‫‪ _ 1‬الطرق احلكمية يف السياسة الشرعية البن القيم ص‪.175_174‬‬


‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪694‬‬
‫املبحث السادس‪ :‬مانع العجز‬

‫ويعده بعض العلماء مانعاً من موانع إحلاق التكفري باملعني‪ ،‬وبعضهم يلحقه‬
‫بغريه من املوانع اليت مرت‪.‬‬
‫والذين جعلوا العجز مانعاً من موانع التكفري انطلقوا من مثل قوله _تعاىل_‪:‬‬
‫[ال يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِالَّ وُسْعَهَا] البقرة‪ ،286:‬وقوله‪[ :‬ال يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً‬
‫إِالَّ مَا آتَاهَا] الطالق‪.7:‬‬
‫ومن هؤالء شيخ اإلسالم ابن تيمية × حيث عَدَّ العجز عن أداء ما شرع‬
‫اهلل _عز وجل_ من املوانع اليت متنع التكفري؛ فمن عجز عن ذلك‪ ،‬واتقى اهلل ما‬
‫استطاع فإنه معذور غري مؤاخذ على ما تركه(‪.)1‬‬
‫وذلك كأن تبلغ دعوة النيب " لبعض الكفار‪ ،‬وهم يف دار كفر‪ ،‬فعلموا أنه‬
‫رسول اهلل فآمنوا به‪ ،‬وآمنوا مبا أنزل عليه‪ ،‬واتقوا اهلل ما استطاعوا‪ ،‬ومل يتمكنوا‬
‫من اهلجرة إىل دار اإلسالم‪ ،‬وال االلتزام جبميع شرائع اإلسالم؛ لكونهم‬
‫ممنوعني من اهلجرة‪ ،‬وممنوعني من إظهار دين اهلل‪ ،‬وليس عندهم مَنْ يُعَلِّمهم‬
‫( ‪)2‬‬
‫مجيع شرائع اإلسالم _ فهؤالء مؤمنون من أهل اجلنة‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية مبيناً هذا املانع‪= :‬فمن ترك بعض اإلميان‬
‫الواجب؛ لعجزه عنه‪ ،‬إما لعدم متكنه من العلم‪ ،‬مثل أال تبلغه الرسالة‪ ،‬أو لعدم‬
‫تَمِكُّنه من العمل مل يكن مأمورًا مبا يعجز عنه‪ ،‬ومل يكن ذلك من اإلميان والدين‬

‫‪ _ 1‬انظر منهج ابن تيمية يف مسألة التكفري ‪.265_262/2‬‬


‫‪ _ 2‬انظر جمموع الفتاوى ‪.217/19‬‬
‫‪690‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫الواجب يف حقه‪ ،‬وإن كان من الدين واإلميان الواجب يف األصل‪ ،‬مبنزلة صالة‬
‫املريض‪ ،‬واخلائف‪ ،‬واملستحاضة‪ ،‬وسائر أهل األعذار‪ ،‬الذين يعجزون عن‬
‫إمتام الصالة؛ فإن صالتهم صحيحة حبسب ما قدروا عليه‪ ،‬وبه أمروا إذ ذاك‪،‬‬
‫وإن كانت صالة القادر على اإلمتام أكمل وأفضل‪ ،‬كما قال النيب "‪= :‬املؤمن‬
‫القوى خري وأحب إىل اهلل من املؤمن الضعيف‪ ،‬ويف كل خري‪.)2()1(+‬‬
‫واستدل شيخ اإلسالم ابن تيمية على ذلك مبا يأتي‪:‬‬
‫الدليل األول‪ :‬أن النجاشي كان ملك النصارى‪ ،‬فلم يُطِعْهُ قومُه يف الدخول يف‬
‫اإلسالم‪ ،‬ومل يدخلْ معه سوى نفرٍ يَسريٍ منهم‪ ،‬فلما مات‪ ،‬صلى عليه النيب"‬
‫باملدينة‪ ،‬خرج باملسلمني إىل املصلى‪ ،‬فصفهم صفوفاً‪ ،‬وصلى عليه‪ ،‬وأخربهم‬
‫مبوته يوم مات‪ ،‬فقال‪= :‬قد تويف اليوم رجل صاحل من احلبش‪َ ،‬فهَلُّمَ؛ فصلوا‬
‫عليه‪.+‬‬ ‫( ‪)3‬‬

‫وكثريٌ من شرائع اإلسالم مل يكن دخل فيها؛ لعجزه عن ذلك‪ ،‬فلم يهاجر‪،‬‬
‫ومل جياهد‪ ،‬بل قد روي أنه مل يصلِّ الصلوات اخلمس‪ ،‬وال يصوم شهر رمضان‪،‬‬
‫وال يؤدي الزكاة الشرعية؛ ألن ذلك كان يظهر عند قومه؛ فينكرونه‪ ،‬وال ميكنه‬
‫خمالَفَتُهم‪.‬‬
‫ويُعلم قطعاً أنه مل يكنْ يُمْكِنُهُ أن حيكمَ بينهم حبكم القرآن؛ ألن قومه ال‬
‫يُقِرُّونه على ذلك‪ ،‬وهلذا جعل اهلل هؤالء من أهل الكتاب الذين آمنوا بالنيب"‬

‫‪ _ 1‬احلديث رواه مسلم(‪.)2664‬‬


‫‪ _ 2‬جمموع الفتاوى ‪.479_478/12‬‬
‫‪ _ 3‬رواه البخاري (‪ ،)1321‬ومسلم (‪.)952‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪691‬‬
‫قال اهلل _تعاىل_‪ [ :‬وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُْنزِلَ ِإَليْكُمْ وَمَا‬
‫أُْنزِلَ ِإَليْهِمْ خَاشِعِنيَ لِلَّهِ ال يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً َقلِيالً أُ ْولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ‬
‫رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ]آل عمران‪.199:‬‬
‫وهذه اآلية قد قال طائفة من السلف‪ :‬إنها نزلت يف النجاشي‪ ،‬ومنهم من‬
‫( ‪)1‬‬
‫قال‪ :‬فيه‪ ،‬ويف أصحابه‪.‬‬
‫الدليل الثاني‪ :‬قوله _تعاىل_‪[ :‬إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَالئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ‬
‫قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِنيَ فِي األَرْضِ قَالُوا َألَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً‬
‫فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُ ْولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ َمصِرياً (‪ )97‬إِالَّ الْمُسْتَضْعَفِنيَ مِنْ‬
‫الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْ ِولْدَانِ ال يَسَْتطِيعُونَ حِيلَةً وَال يَهْتَدُونَ سَبِيالً (‪ )98‬فَأُ ْولَئِكَ‬
‫عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (‪])99‬النساء‪.‬‬
‫ذكر شيخ اإلسالم ابن تيمية أن هذه اآليات يف مجاعة من املؤمنني كانوا‬
‫( ‪)2‬‬
‫يستخفون بإميانهم مبكة‪ ،‬وهم عاجزون عن اهلجرة؛ فعذرهم اهلل _تعاىل_‪.‬‬
‫تلدلي تلث لث‪ :‬لورذه _سعذار _‪[ :‬وذذا ر ِّكذ ْ ِّسنذاسِظِّوا فِذي و ِذع ِ َّ ِ‬
‫و ْشرذِّوْ سضْ ذذع ِ ا ِذذذاْ شرميذذا ِ وشر وذذا ِه و ْشر ِو ْرذذخ ِ‬
‫شا شرَّذذ ِ ا نِّورِّذذوا م َّع ذذا‬
‫ْا ِميْ ا ِذاْ ه ِ ِا ْشرنمْ ِق شر َّ ارِ ِ هْ ظِّ ا وشيْ ع ر ا ِذاْ ر ِّخ ْ ورِ ّذا وشيْ عذ‬
‫ر ا ِذاْ ر ِّخ ْ ِِ مش] شر واه‪.75:‬‬

‫‪_ 1‬انظر جمموع الفتاوى ‪ ،219_217/19‬واألول مروي عن جابر بن عبداهلل وأنس‪ ،‬وابن جريج‪،‬‬
‫واآلخر مروي عن قتادة‪ ،‬انظر تفسري الطربي ‪ ،219_218/4‬والدر املنثور ‪ ،113/2‬ومنهج ابن تيمية يف‬
‫مسألة التكفري ‪.264_263/1‬‬
‫‪ _ 2‬انظر جمموع الفتاوى ‪ ،221/19‬وانظر منهج ابن تيمية يف مسألة التكفري ‪.264/1‬‬
‫‪693‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية مبيناً وَجْهَ الداللةِ من هذه اآلية‪= :‬فأولئك كانوا‬
‫عاجزين عن إقامة دينهم؛ فقد سقط ما عجزوا عنه‪ ،‬فإذا كان هذا فيمن كان‬
‫( ‪)1‬‬
‫مشركاً وآمن‪ ،‬فما الظن مبن كان من أهل الكتاب وآمن؟‪.+‬‬
‫الدليل الرابع‪ :‬ما أخرب به عن حال مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون‪ ،‬وعن‬
‫حال امرأة فرعون‪ ،‬وكما كان يوسف _عليه السالم_ مع أهل مصر؛ فإنهم كانوا‬
‫كفاراً‪ ،‬ومل يُمْكِنْهُ أن يفعلَ معهم كلَّ ما يعرفه من دين اإلسالم؛ ألنه دعاهم إىل‬
‫( ‪)2‬‬
‫التوحيد واإلميان فلم جييبوه‪.‬‬

‫‪ _ 1‬جمموع الفتاوى ‪ ،221_221/19‬وانظر منهج ابن تيمية يف مسألة التكفري ‪.265_264/1‬‬


‫‪ _ 2‬انظر املصدر السابق ‪ ،217/19‬وانظر منهج ابن تيمية يف مسألة التكفري ‪.265/1‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪694‬‬

‫الفصل الساد‬

‫الصغائر والكبائر‪،‬وموانع إنفاذ‬


‫الوعيد‬

‫وحتته‪:‬‬
‫_ متهيد‬
‫املبحث األول‪ :‬تقسيم الذنوب‪.‬‬
‫املبحث الثاني‪ :‬ماهية الصغائر والكبائر‪.‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬تكفري األعمال الصاحلة للصغائر والكبائر‪.‬‬
‫املبحث الرابع‪ :‬موانع إنفاذ الوعيد‪.‬‬
‫املبحث اخلامس‪ :‬وسطية أهل السنة يف باب اإلميان‪.‬‬
‫‪695‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪696‬‬
‫متهيد‬

‫مصطلح الكبائر والصغائر يرد يف كتب العقائد‪ ،‬وذلك إذا حتدثوا عن‬
‫الذنوب‪ ،‬وتقسيمها‪ ،‬وحكم مرتكب الكبرية يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬وهكذا‪...‬‬
‫ومسألة الصغائر والكبائر هلا ارتباط وثيق بباب اإلميان؛ من جهة حكم‬
‫مرتكب الكبرية‪ ،‬واخلالف فيه _كما مر_‪.‬‬
‫وكذلك احلال بالنسبة ملسألة موانع إنفاذ الوعيد‪ ،‬فلها ارتباط بباب اإلميان‬
‫_على ما سيأتي بيانه_‪.‬‬
‫وكذلك وسطية أهل السنة واجلماعة يف باب اإلميان؛ فهي خالصةٌ لكثري من‬
‫مسائل هذا الكتاب‪.‬‬
‫وفيما يلي نبذة عن تقسيم الذنوب إىل صغائر وكبائر‪ ،‬واألدلة على ذلك‪ ،‬مع‬
‫بيان ماهية الصغائر والكبائر سواء عند من حصروا الكبائر بعدد‪ ،‬أو حَدُّوها‬
‫بِحَدٍّ‪ ،‬ثم ينتقل احلديث إىل مسألة تكفري الكبائر باألعمال الصاحلة‪ ،‬وهل هذا‬
‫ممكن؟ أو أنه ال بد من التوبة؟ فإىل التفصيل يف ذلك الشأن‪.‬‬
‫و بعد ذلك ينتقل احلديث إىل مسألة إنفاذ الوعيد‪ ،‬ثم إىل وسطية أهل السنة يف‬
‫باب اإلميان‪.‬‬
‫‪697‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬
‫املبحث األول‪ :‬تقسيم الذنوب‬

‫الذنوب تنقسم إىل صغائر وكبائر‪ ،‬قال الغزالي ×‪= :‬اعلم أن الذنوب‬
‫ت نقسم إىل صغائر وكبائر‪ ،‬وقد كثر اختالف الناس فيها؛ فقال قائلون‪ :‬ال صغرية‬
‫وال كبرية‪ ،‬بل كل خمالفة هلل فهي كبرية‪.‬‬
‫وهذا ضعيف؛ إذ قال _تعاىل_‪[ :‬إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُْنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُ ْم‬
‫سَيِّئَاتِكُمْ َوُندْخِلْكُمْ ُمدْخَالً كَرِمياً] النساء‪ ،31:‬وقال _تعاىل_‪َّ [ :‬الذِينَ يَجْتَنِبُو َن‬
‫حشَ إِالَّ اللَّمَمَ] النجم‪.32:‬‬
‫كَبَائِرَ اإلِثْ ِم وَالْفَوَا ِ‬
‫وقال"‪ = :‬الصلوات اخلمس واجلمعة إىل اجلمعة يكفرن ما بينهن إن اجتنبت‬
‫الكبائر‪ +‬ويف لفظ آخر‪= :‬كفارات ملا بينهن إال الكبائر‪.)1 (+‬‬
‫وقد قال"فيما رواه عبداهلل بن عمرو بن العاص _رضي اهلل عنهما_‪= :‬الكبائر‪:‬‬
‫اإلشراك باهلل‪ ،‬وعقوق الوالدين‪ ،‬وقتل النفس‪ ،‬واليمني الغموس‪.)3()2(+‬‬
‫وقال ابن القيم ×‪ = :‬وقد دل القرآن والسنة وإمجاع الصحابة والتابعني‬
‫بعدهم واألئمة على أن من الذنوب كبائرَ وصغائر‪.)4 (+‬‬
‫وقال ×‪= :‬والذين مل يقسموها إىل كبائر وصغائر قالوا‪ :‬الذنوب كلها‬
‫_بالنسبة إىل اجلراءة على اهلل سبحانه ومعصيته وخمالفة أمره_ كبائر؛ فالنظر إىل من‬

‫‪ _1‬رواه مسلم (‪.)133‬‬


‫‪ _2‬رواه البخاري (‪. )6656‬‬
‫‪ _3‬إحياء علوم الدين ‪.07/4‬‬
‫‪ _4‬اجلواب الكايف ص‪.346‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪698‬‬
‫عُصي أمرُه‪ ،‬وانتُهك حمارمه يوجب أن تكون الذنوب كلها كبائر‪ ،‬وهي مستوية‬
‫يف هذه املفسدة‪.)1 (+‬‬
‫وقال _بعد أن ساق بعض ما أورده مَنْ قال‪ :‬إن الذنوب كلها كبائر_‪= :‬فالشرك‬
‫أظلم الظلم‪ ،‬والتوحيد أعدل العدل؛ فما كان أشدَّ منافاة هلذا املقصود فهو أكرب‬
‫الكبائر‪ ،‬وتفاوتها يف درجاتها حبسب منافاتها له‪ ،‬وما كان أشدَّ موافقة هلذا‬
‫املقصود فهو أوجب الواجبات‪ ،‬وأفرض الطاعات؛ فتأمل هذا األصل حق‬
‫التأمل‪ ،‬واعترب تفاصيله تعرف به حكمة أحكم احلاكمني‪ ،‬وأعلم العاملني فيما‬
‫فرضه على عباده‪ ،‬وحرمه عليهم‪ ،‬وتفاوتَ مراتب الطاعات واملعاصي‪.)2 (+‬‬
‫وبعد أن تبيَّنَ أن الذنوب تنقسم إىل كبائر وصغائر ينتقل احلديث إىل بيان‬
‫ماهية الصغائر والكبائر‪.‬‬

‫‪ _1‬اجلواب الكايف ص ‪.349‬‬


‫‪ _2‬اجلواب الكايف ‪.301‬‬
‫‪699‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬
‫املبحث الثاني‪ :‬ماهية الصغائر والكبائر‬

‫أوالً‪ :‬ما هية الصغائر وال بائر عند مق حصروها بعدد‬


‫اخُْتلِفَ يف حتديد الكبائر وحصرها؛ فقيل يف ذلك أقوال منها( ‪:)1‬‬
‫‪ _1‬قال عبداهلل بن مسعود÷‪ :‬هي أربع‪.‬‬
‫‪ _2‬وقال عبداهلل بن عمر_رضي اهلل عنهما_‪ :‬هي سبع‪.‬‬
‫‪3‬ـ _ وقال عبداهلل بن عمرو بن العاص _رضي اهلل عنهما_‪ :‬هي تسع‪.‬‬
‫‪ _4‬وكان ابن عباس _رضي اهلل عنهما_ إذا بلغه قول ابن عمر‪ :‬الكبائر سبع‬
‫يقول‪ :‬هن إىل سبعني أقرب منها إىل سبع‪.‬‬
‫‪ _ 5‬وقال آخر‪ :‬هي إحدى عشرة‪.‬‬
‫‪ _6‬وقال أبو طالب املكي‪ :‬مجعتها من أقوال الصحابة فوجدتها أربعةً يف القلب‬
‫وهي‪ :‬اإلشراك باهلل‪ ،‬واإلصرار على املعصية‪ ،‬والقنوط من رمحة اهلل‪ ،‬واألمن‬
‫من مكر اهلل‪.‬‬
‫وأربعةً يف اللسان‪ ،‬وهي‪ :‬شهادة الزور‪ ،‬وقذف احملصنات‪ ،‬واليمني الغموس‪،‬‬
‫والسحر( ‪.)2‬‬
‫وثالثةً يف البطن‪ :‬شرب اخلمر‪ ،‬وأكل مال اليتيم‪ ،‬وأكل الربا‪.‬‬
‫واثنني يف الفرج‪ :‬الزنا‪ ،‬واللواط‪.‬‬
‫واثنني يف اليدين‪ :‬وهما القتل والسرقة‪.‬‬

‫‪ _1‬انظر إحياء علوم الدين ‪ ،08_07/4‬واجلواب الكايف ‪.349_348‬‬


‫‪ _2‬السحر ال يقتصر على اللسان‪ ،‬بل تشرتك اجلوارح يف عمله‪.‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪744‬‬
‫وواحداً يف الرجلني‪ :‬وهو الفرار من الزحف‪.‬‬
‫وواحداً يتعلق جبميع اجلسد‪ :‬وهو عقوق الوالدين‪.‬‬
‫هذه خالصة أقوال الذين حصروها بعدد‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬ماهية ال بائر والصغائر عند مق حدُّوها اد‬


‫ٍّ‬
‫وأما الذين مل حيصروا الكبائر بعدد‪ ،‬وإمنا حدوها حبد فقد اختلفوا يف ذلك‬
‫على أقوال منها‪:‬‬
‫‪ _1‬أن ما اقرتن بالنهي عنه وعيدٌ مِنْ لَعْنٍ‪ ،‬أو غضب‪ ،‬أو عقوبة _ فهو كبرية‪،‬‬
‫وما مل يقرتن به شيء فهو صغرية‪.‬‬
‫‪ _2‬وقيل‪ :‬كل ما ترتب عليه حد يف الدنيا‪ ،‬أو وعيد يف اآلخرة _ فهو كبرية‪،‬‬
‫وما مل يرتب عليه ال هذا وال هذا فهو صغرية ( ‪.)1‬‬
‫‪ _ 3‬وقيل‪ :‬كل ما اتفقت الشرائع على حترميه فهو من الكبائر‪ ،‬وما كان حترميه‬
‫يف شريعة دون شريعة فهو صغرية‪.‬‬
‫‪ _4‬وقيل‪ :‬كل ما لعن اهلل ورسوله فاعله فهو كبرية‪.‬‬
‫‪ _5‬وقيل‪ :‬هي كل ما ذكر من أول سورة النساء إىل قوله‪[ :‬إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ‬
‫مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ] النساء‪.31 :‬‬

‫‪ _1‬وهذا ما رجحه شيخ اإلسالم ابن تيمية × يف جمموع الفتاوى ‪ ،654/00‬وقال يف‬
‫‪= :654/00‬إنه أمثل األقوال يف هذه املسألة‪ ،+‬وقال يف ‪= :654/00‬وإمنا قلنا‪ :‬إن هذا الضابط‬
‫أوىل من سائر تلك الضوابط املذكورة لوجوه ‪ +. . .‬ثم ذكر مخسة وجوه‪.‬‬
‫‪740‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬
‫املبحث الثالث‪ :‬تكفري األعمال الصاحلة للصغائر والكبائر‬

‫هذا املبحث يدور حول سؤال مفاده‪:‬‬


‫هل احلسنات واألعمال الصاحلة تكفر الصغائر والكبائر على حد سواء‪َ ،‬أ ْو‬
‫ال بد يف الكبائر من التوبة؟‬
‫واجلواب عن ذلك أن هذه املسألة قد اختلف فيها على قولني‪:‬‬
‫قال ابن رجب ×‪= :‬وقد اختلف يف مسألتني‪ :‬إحداهما‪ :‬هل تكفر األعمال‬
‫الصاحلة الكبائر والصغائر؟ أو ال تكفر سوى الصغائر؟‬
‫فمنهم قال‪ :‬ال تكفِّر سوى الصغائر‪ ،‬وقد روي هذا عن عطاء‪ ،‬وغريه من‬
‫السلف يف الوضوء أنه يكفر الصغائر‪ ،‬وقال سلمان الفارسي يف الوضوء‪ :‬إنه يكفر‬
‫اجلراحات الصِّغار‪ ،‬واملشي إىل املساجد يكفر أكرب من ذلك‪ ،‬والصالة تكفر أكرب‬
‫من ذلك‪ ،‬خرجه حممد بن نصر املروزي‪.‬‬
‫وأما الكبائر فال بد هلا من التوبة؛ ألن اهلل أمر العباد بالتوبة‪ ،‬وجعل من مل يتب‬
‫ظاملاً‪ ،‬واتفقت األمة على أن التوبة فرض‪ ،‬والفرائض ال تؤدى إال بنية وقصد‪،‬‬
‫ولو كانت الكبائر تقع مكفرة بالوضوء‪ ،‬والصالة‪ ،‬وأداء بقية أركان اإلسالم _ مل‬
‫حيتج إىل التوبة‪ ،‬وهذا باطل باإلمجاع‪.)1(+‬‬
‫ثم ساق × مجلة من األقوال واآلثار يف تأييد هذا القول‪.‬‬
‫وانتقل بعد ذلك إىل القول الثاني يف هذه املسألة‪ ،‬فقال‪= :‬وذهب قوم من أهل‬
‫احلديث‪ ،‬وغريهم إىل أن هذه األعمال تكفر الكبائر‪ ،‬ومنهم ابن حزم الظاهري‪،‬‬
‫وإياه عنى ابن عبد الرب يف كتاب (التمهيد) بالرد عليه‪ ،‬وقال‪= :‬قد كنت أرغب‬

‫‪ _1‬جامع العلوم ‪.416_415 /0‬‬


‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪741‬‬
‫بنفسي عن الكالم يف مثل هذا الباب لوال قول ذلك القائل‪ ،‬وخشيت أن يغرت به‬
‫جاهل‪ ،‬فينهمك يف املوبقات؛ اتكاالً على أنها تكفرها الصلوات دون الندم‪،‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫واالستغفار والتوبة‪+‬ا‪ .‬هـ‬
‫ثم قال ابن رجب ×‪= :‬والصحيح قول اجلمهور‪ :‬إن الكبائر ال تكفَّر بدون‬
‫التوبة؛ ألن التوبة فرض على العباد‪.)2(+‬‬
‫ثم ساق مجلة من اآلثار اليت تؤيد هذا القول‪.‬‬
‫ثم قال‪= :‬واألظهر _واهلل أعلم يف هذه املسألة_ أعين مسألة تكفري الكبائر‬
‫باألعمال_ أنه إن أريد أن الكبائر متحى مبجرد اإلتيان بالفرائض‪ ،‬وتقع الكبائر‬
‫مُكفَّرة بذلك كما تكفر الصغائر باجتناب الكبائر _ فهذا باطل‪.‬‬
‫وإن أريد أنه يوازَن يوم القيامة بني الكبائر وبني بعض األعمال‪ ،‬فتمحى الكبرية‬
‫مبا يقابلها من العمل‪ ،‬ويسقط العمل؛ فال يبقى له ثواب فهذا يقع‪.)3(+‬‬
‫إىل أن قال‪= :‬وظاهر هذا أنه تقع املقاصَّةُ بني احلسنات والسيئات‪ ،‬ثم تسقط‬
‫احلسنات املقابلة للسيئات‪ ،‬وينظر إىل ما يَفْضُل بعد املقاصة‪.‬‬
‫وهذا يوافق قول من قال بأن من رجحت حسناته على سيئاته حبسنة واحدة‬
‫أثيب بتلك احلسنة خاصة‪ ،‬وسقط باقي حسناته يف مقابل سيئاته‪ ،‬كأنها مل تكن‪.‬‬
‫وه ش في شركعارما ذا شرِغارم فا ا سذح عاا ذا شرِذارحق ذذر‬
‫( ‪)4‬‬
‫عناه ثوشع ا‪+‬ش‪.‬هـ‪.‬‬
‫‪ _ 1‬جامع العلوم واحلكم ‪.428/1‬‬
‫‪ _ 2‬جامع العلوم واحلكم ‪429/1‬‬
‫‪ _ 3‬جامع العلوم واحلكم ‪.438/1‬‬
‫‪ _ 4‬جامع العلوم واحلكم ‪.441/1‬‬
‫‪743‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫هذا وقد رجح شيخ اإلسالم ابن تيمية × أن احلسنات املاحية تكفر الكبائر‬
‫بدون التوبة‪.‬‬
‫قال × بعد أن ذكر السبب الثالث من األسباب اليت تزول بها عن العبد عقوبة‬
‫الذنوب‪ ،‬وهو احلسنات املاحية قال‪= :‬وسؤاهلم على هذا الوجه أن يقولوا‪:‬‬
‫احلسنات إمنا تكفر الصغائر فقط‪.‬‬
‫أما الكبائر فال تغتفر إال بالتوبة كما جاء يف بعض األحاديث‪= :‬ما اجتنبت‬
‫( ‪)1‬‬
‫الكبائر‪ +‬فيجاب عن هذا بوجوه‪ +‬ا‪ .‬هـ ‪.‬‬
‫ثم ذكر × مخسة وجوه بيَّن من خالهلا أن احلسنات تكفِّر الكبائر‪.‬‬
‫ومما قال × من الوجوه اليت أيَّد بها كالمه ما يلي‪:‬‬
‫=أحدهما‪ :‬أن هذا الشرط _يعين ما اجتنبت الكبائر_ جاء يف الفرائض‪،‬‬
‫كالصلوات اخلمس‪ ،‬واجلمعة‪ ،‬وصيام رمضان‪ ،‬وذلك أن اهلل _تعاىل_ يقول‪:‬‬
‫[إِن تَجْتَنِبُوْا كَبَآئِ َر مَا تُْنهَوْ َن عَنْهُ نُكَفِّ ْر عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ] النساء‪.31 :‬‬
‫فالفرائض مع ترك الكبائر مقتضية لتكفري السيئات‪ ،‬وأما األعمال الزائدة من‬
‫ل‬
‫التطوعات فال بد أن يكون هلا ثواب آخر؛ فإن اهلل _سبحانه_ يقول‪[ :‬فَمَن يَعْمَ ْ‬
‫ل مِثْقَا َل ذَرَّةٍ شَ ّرًا يَرَهُ(‪ ])8‬الزلزلة‪.‬‬
‫مِثْقَا َل ذَرَّ ٍة خَيْرًا يَرَهُ (‪ )7‬وَمَن يَعْمَ ْ‬
‫الثاني‪ :‬أنه قد جاء التصريح يف كثري من األحاديث بأن املغفرة قد تكون مع‬
‫الكبائر‪ ،‬كما يف قوله "‪= :‬غفر له وإن كان فر من الزحف‪.+‬‬
‫ويف السنن‪= :‬أتينا رسول اهلل " يف صاحب لنا قد أوجب‪ ،‬فقال‪= :‬أعتقوا عنه‬

‫‪ _ 1‬جمموع الفتاوى ‪.489/7‬‬


‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪744‬‬
‫يعت ِق اهلل عنه بكل عضو عضوًا من النار‪.+‬‬
‫ويف الصحيحني من حديث أبي ذر‪= :‬وإن زنا وإن سرق‪.+‬‬
‫الثالث‪ :‬أن قوله ألهل بدر وحنوهم‪= :‬اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‪ +‬إن‬
‫حُمِل على الصغائر‪ ،‬أو على املغفرة مع التوبة مل يكن فرق بينهم وبني غريهم؛‬
‫فكما ال جيوز محل احلديث على الكفر؛ ملا قد عُلِ َم أن الكفر ال يغفر إال بالتوبة _ ال‬
‫جيوز محله على الصغائر املُكَفَّر ِة باجتناب الكبائر‪.+‬‬
‫ثم ذكر × الوجهني الرابع‪ ،‬واخلامس‪ ،‬وأطال فيهما‪.‬‬
‫واملقام ال يتسع إليرادهما‪ ،‬وإمنا املقصود هو الوقوف على رأي شيخ اإلسالم‬
‫ابن تيمية يف هذه املسألة‪.‬‬
‫وبعد أن تبني _من خالل ما مضى_ بعض أقوال أهل العلم يف هذه املسألة‪ ،‬وأن‬
‫بعضهم _ومنهم شيخ اإلسالم ابن تيمية_ يرى أن احلسنات املاحية‪ ،‬واألعمال‬
‫الصاحلة تكفر الكبائر بدون التوبة_ فإنه حيسن الوقوف على مسالة مهمة يف هذا‬
‫الباب تتبني من خالل التساؤل اآلتي‪:‬‬
‫هل األعمال الصاحلة تقوى على تكفري الكبائر بإطالق؟‬
‫واجلواب‪ :‬أن األعمال الصاحلة قد ال تقوى على تكفري الكبائر؛ ذلك أن‬
‫األعمال إمنا تتفاضل حبسب إحسان العمل‪ ،‬وحبسب ما يقوم بالقلب من حقائق‬
‫اإلميان؛ فتكفري العمل للسيئات حبسب كماله‪ ،‬ونقصانه‪.‬‬
‫وال ريب أن الكبائر والذنوب عموماً تضعف القلب‪ ،‬وتعطل سريه إىل اهلل‬
‫والدار اآلخرة‪ ،‬وعلى هذا فقد تكون األعمال الصاحلة ناقصة‪ ،‬ضعيفة ال تقاوم‬
‫الكبائر؛ وال تقوى على تكفريها‪.‬‬
‫وال يَرِدُ على هذا أن بعض النصوص صرحت بأن هناك أعماالً غفر اهلل‬
‫‪745‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫ألصحابها بسبب عمل صاحل‪ ،‬كما يف حديث البغي(‪ ،)1‬وحديث صاحب‬


‫البطاقة(‪)2‬؛ ذلك أن احلاالت اخلاصة ال تعمم‪ ،‬وال تكون قاعدة مطردة بكل حال؛‬
‫فليس كل امرأة بغي تسقي كلباً يغفر هلا‪ ،‬وليس كل من قال‪= :‬ال إله إال اهلل‪+‬‬
‫تنفعه كما نفعت صاحب البطاقة‪.‬‬

‫‪ _ 1‬وهو ما رواه البخاري (‪ )3467‬ومسلم (‪ :)2245‬قال النيب "‪= :‬بينما كلـب يطيـف _يـدور_‬
‫بركية _بئر_ كاد يقتله العطش؛ إذ رأته بغيٌّ من بغايا بين إسرائيل؛ فنزعت موقها _خفهـا_ واسـتقت لـه بـه‪،‬‬
‫فسقته إياه؛ فغُفر هلا به‪.+‬‬
‫فهذه املرأة قام بقلبها من اإلخالص‪ ،‬وتوابعه ما كان سبباً ملغفرة ذنوبها‪.‬‬
‫قال ابن القيم × يف كتابه مدارج السالكني ‪ 341/1‬مقرراً هذا املعنى‪= :‬وقريب من هذا ما قام بقلب‬
‫البغي اليت رأت ذلك الكلب‪ ،‬وقد اشتد به العطش يأكل الثرى‪ ،‬فقام بقلبها ذلك الوقت_مـع عـدم اآللـة‪،‬‬
‫وعدم املعني‪ ،‬وعدم من ترائيه بعملها_ما محلها على أن غَرَّرَت بنفسها يف نزول البئر‪ ،‬وملء املاء يف خفها‪،‬‬
‫ومل تعبأ بتعرضها للتلف‪ ،‬وحَمْلِها خُفَّها بفيها وهو مآلن‪ ،‬حتى أمكنها الرقيُّ من البئر‪ ،‬ثم تواضـعها هلـذا‬
‫املخلوق الذي جرت عادة الناس بضربه‪ ،‬فأمسكت له اخلف بيدها حتى شرب من غري أن ترجـو منـه جـزاء‬
‫وال شكوراً؛ فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء‪ ،‬فَغُفر هلا‪.‬‬
‫فهكذا األعمال والعمال عند اهلل‪ ،‬والغافل يف غفلة من هذا اإلكسري الكيماوي الذي إذا وضع منه مثقال‬
‫ذرة على قناطري من حناس األعمال قلبها ذهباً واهلل املستعان‪.+‬‬
‫ويُقصد بقوله‪= :‬اإلكسري الكيماوي‪ :+‬اإلخالص‪ ،‬واإلكسري مادة يقال‪ :‬إنها إذا وضعت مع املعادن غري‬
‫الذهب حولتها إىل ذهب‪.‬‬
‫‪ _ 2‬هو ما جاء يف قوله "‪ = :‬إن اهلل سيخلِّصُ رجالً من أميت على رؤوس اخلالئق يوم القيامة‪،‬‬
‫فَيحْشُرُ عليه تسعة وتسعني سجالً‪ ،‬كل سجلٍّ مثل مدِّ البصر‪ ،‬ثم يقول‪:‬أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبيت‬
‫احلافظون؟ فيقول‪:‬ال يا ربِّ‪ ،‬فيقول‪:‬أَفَلَكَ عذر؟ فيقول‪:‬ال يا ربِّ‪.‬‬
‫فيقول‪ :‬بلى‪ ،‬إن لك عندنا حسنةً؛ فإنه ال ظلم اليوم‪ ،‬فتخرج بطاقة فيها‪:‬أشهد أن ال إله إال اهلل‪،‬‬
‫وأشهد أن حممداً عبده ورسوله‪ ،‬فيقول‪:‬أحضر وزنك‪.‬‬
‫فيقول‪ :‬يا ربِّ ما هذه البطاقة مع هذه السجالت؟ فقال‪ :‬إنك ال تُظْلم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فتوضع السجالت يف كفةٍ‪ ،‬فطاشت السجالت‪ ،‬وثقلت البطاقة‪ ،‬فال يثقل مع اسم اهلل شيء‪.+‬‬
‫رواه الرتمذي (‪ )2639‬وحسَّنه‪ ،‬وابن ماجة (‪ )4311‬وابن حبان (‪ )2523‬وصححه‪ ،‬واأللباني يف‬
‫صحيح اجلامع (‪.)1776‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪746‬‬
‫‪747‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬
‫املبحث الرابع‪ :‬موانع إنفاذ الوعيد‬

‫هلذه املسألة ارتباط بباب اإلميان؛ ذلك أن الوعيدية من اخلوارج واملعتزلة _كما‬
‫مر_ ير ون أنه ال بد من إنفاذ الوعيد على من تَلَبَّس بالكبائر؛ ألنه خارج عن امللة‬
‫_بزعمهم_‪.‬‬
‫واملرجئة ال يرون أن مرتكب الكبرية خارج عن امللة‪ ،‬بل هو مؤمن كامل‬
‫اإلميان؛ فال وعيد عليه _كما يزعمون_ ألن اإلميان عندهم هو جمرد التصديق‬
‫بالقلب؛ فطاملا أنه موجود فال يضر معه معصية‪.‬‬
‫ومسألة موانع إنفاذ الوعيد ترد يف كتب العقائد خصوصاً يف باب اإلميان‪،‬‬
‫وحكم مرتكب الكبرية‪ ،‬وعند مناقشة الوعيدية كاخلوارج واملعتزلة‪.‬‬
‫وهذه املسألة تسمى‪ :‬موانع إنفاذ الوعيد‪ ،‬وتسمى بـ‪ :‬األسباب اليت تندفع بها‬
‫العقوبة‪.‬‬
‫ومما يوضح هذه املسألة أن يقال‪ :‬إن الذنو ب موجبة لدخول النار‪ ،‬وصاحبها‬
‫متوعد بالعذاب إال أن هناك أسباباً تندفع بها العقوبة‪ ،‬وينتفي بسببها الوعيد‪،‬‬
‫ويزول موجب الذنوب‪.‬‬
‫وهذه األسباب تسمى موانع إنفاذ الوعيد‪ ،‬أي موانع إيقاع العذاب على‬
‫مستحقه؛ ألن الوعيد إمنا يكون بالشر‪.‬‬
‫وهذه األسباب عشرة عرفت باالستقراء من الكتاب والسنة‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ×‪= :‬وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على‬
‫أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب‪ :‬أحدها‪ :‬التوبة‪ ،‬وهذا‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪748‬‬
‫متفق عليه بني املسلمني‪.)1(+‬‬
‫ثم شرع × يف ذكر باقي املوانع بالتفصيل‪.‬‬
‫وقال يف موضع آخر‪ = :‬واملؤمن إذا فعل سيئة فإن عقوبتها تندفع عنه بعشرة‬
‫أسباب‪:‬‬
‫‪ _1‬أن يتوب فيتوب اهلل عليه؛ فإن التائب من الذنب كمن ال ذنب له‪.‬‬
‫‪ _2‬أو يستغفر‪ ،‬فيغفر اهلل له‪.‬‬
‫‪ _3‬أو يعمل حسناتٍ متحوها؛ فإن احلسنات يذهنب السيئات‪.‬‬
‫‪ _4‬أو يدعو له إخوانه املؤمنون‪ ،‬ويستغفرون له حياً وميتاً‪.‬‬
‫‪ _5‬أو يهدون له من ثواب أعماهلم ما ينفعه اهلل به‪.‬‬
‫‪ _6‬أو يشفع فيه نبيه حممدٌ "‪.‬‬
‫‪ _7‬أو يبتليه اهلل ـ تعاىل ـ يف الدنيا مبصائب تكفَّر عنه‪.‬‬
‫‪ _8‬أو يبتليه يف الربزخ بالصعقة‪ ،‬فيكفر بها عنه‪.‬‬
‫‪ _9‬أو يبتليه يف عرصات القيامة من أهواهلا مبا يكفِّر عنه‪.‬‬
‫‪ _11‬أو يرمحه أرحم الرامحني‪.‬‬
‫فمن أخطأته هذه العشرة فال يلومن إال نفسه‪ ،‬كما قال _تعاىل_ فيما يرويه عنه‬
‫رسول اهلل " =يا عبادي إمنا هي أعمالكم أحصيها لكم‪ ،‬ثم أوفيكم أياها؛ فمن‬
‫( ‪)3 ()2‬‬
‫وجد خريًا فليحمد اهلل‪ ،‬ومن وجد غري ذلك فال يلومن إال نفسه‪.+‬‬
‫وقال يف االستقامة‪ = :‬فإن الذنوب اليت يُبتلى بها العبادُ يسقط عنهم عذابُها إما‬

‫‪ _1‬جمموع الفتاوى ‪.487/7‬‬


‫‪ _2‬رواه مسلم (‪.)2577‬‬
‫‪ _3‬جمموع الفتاوى ‪.46_45/11‬‬
‫‪749‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫بتوبة تَجُبُّ ما قبلها‪ ،‬وإما باستغفار‪ ،‬وإما حبسنات ماحية يذهنب السيئات‪ ،‬وإما‬
‫بدعاء املسلمني وشفاعتهم‪ ،‬أو مبا يفعلونه له من الرب‪ ،‬وإما بشفاعة النيب "‬
‫وغريه فيه يوم القيامـة‪ ،‬وإما أن يكفِّر اهلل عنه خطاياه مبا يصيبـه من‬
‫املصائب‪.)1(+‬‬
‫ومما حيسن التنبيه عليه ههنا أن التوبة وحدها هي اليت يزول بها موجب‬
‫الذنوب للمؤمن والكافر‪ ،‬أما باقي املوانع فهي خاصة باملؤمن‪.‬‬
‫ثم إن الوعيدية ال يرون من هذه املوانع إال التوبة ‪ ،‬وأما باقي املوانع فال يرون‬
‫أنها متنع من إنفاذ الوعيد‪ ،‬بل يرون أنه جيب على اهلل _عز وجل_ أن يعاقب من‬
‫عصاه‪ ،‬كما جيب عليه أن يثيب من أطاعه‪ ،‬ومل يلتفتوا إىل باقي املوانع‪.‬‬
‫أما أهل السنة فهم يرون هذه املوانع؛ وذلك ألنهم ينظرون إىل النصوص‬
‫كافة‪ ،‬وحيرصون على اجلمع بينها‪.‬‬

‫‪ _1‬االستقامة ‪.185_184/2‬‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪704‬‬
‫املبحث اخلامس‪ :‬وسطية أهل السنة يف باب اإلميان ومسائله‬

‫الوسطية من أعظم ما مييز أهل السنة واجلماعة‪ ،‬فكما أن أهل أمة اإلسالم‬
‫وسط بني األمم اليت جتنح إىل الغلو الضار‪ ،‬واألمم اليت متيل إىل التفريط املهلك_‬
‫فكذلك أهل السنة واجلماعة وسط بني فرق األمة املبتدعة اليت احنرفت عن الصراط‬
‫املستقيم‪.‬‬
‫وتتجلى هذه الوسطية يف شتى األمور سواء يف باب العقيدة أو األحكام‪ ،‬أو‬
‫السلوك‪ ،‬أو غريها‪.‬‬
‫ولعل أجلى مظاهر تلك الوسطية وسطيتها يف باب العقيدة‪ ،‬ومن ذلك‬
‫وسطيتها يف باب اإلميان ومسائله‪ ،‬وقد مر شيء من ذلك بإجياز‪ ،‬وفيما يلي ذكر‬
‫لبعض تلك املظاهر‪:‬‬
‫‪ _1‬وسط يف باب الوعد والوعيد بني املرجئة وبني الوعيدية‪ :‬فاملرجئة قالوا‪ :‬ال‬
‫يضر مع األميان ذنب‪ ،‬كما ال ينفع مع الكفر طاعة‪ ،‬وزعموا أن اإلميان جمرد‬
‫التصديق بالقلب‪ ،‬وإن مل ينطق به‪ ،‬وأخروا األعمال عن اإلميان‪ ،‬وجوَّزوا أن‬
‫يعذب اهلل املطيعني‪ ،‬ويُنَعِّم العاصني‪.‬‬
‫أما الوعيدية فهم القائلون بان اهلل جيب عليه عقالً أن يعذب العاصي كما جيب‬
‫عليه أن يثيب املطيع؛ فمن مات على كبرية‪ ،‬ومل يتب منها ال جيوز عندهم أن يغفر‬
‫اهلل له‪.‬‬
‫أما أهل السنة فوسط بني نفاة الوعيد من املرجئة‪ ،‬وبني موجبيه من الوعيدية؛‬
‫فمن مات على كبرية دون الشرك عندهم فَأَمْرُه مفوَّض إىل اهلل‪ ،‬إن شاء عاقبه‪،‬‬
‫وإن شاء عفا عنه‪ ،‬وإذا عاقبه بها فإنه ال خيلد خلود الكفار‪ ،‬بل خيرج من النار‪،‬‬
‫‪700‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬
‫( ‪)1‬‬
‫ويدخل اجلنة‪.‬‬
‫‪ _2‬وسط يف مسألة التكفري‪ :‬فبينما نَجِد فريقاً يتسرعون يف إطالق الكفر‪،‬‬
‫فيكفرون بالكبرية‪ ،‬وال حيكمون بإسالم َمنْ نطق بالشهادتني‪ ،‬وصلى‪ ،‬وصام‪،‬‬
‫وأدى فرائض اإلسالم ـ ما مل يتحققوا إسالمه بشروط حَدَّدوها مل تَرِدْ يف الكتاب‬
‫وال السنة ـ وذلك كحال اخلوارج ومن سار على نهجهم ـ جند فريقاً آخر فَرَّط أميا‬
‫تفريط‪ ،‬فمنع التكفري البتة‪ ،‬ورأى أن من تلفظ بالشهادتني ال ميكن تكفريه حبال‪،‬‬
‫بل قالوا‪:‬إنه ال جيوز تكفري شخص بعينه‪ ،‬وإمنا إطالق الكفر يكون على األعمال ‪.‬‬
‫ومن هنا فَهُمْ ال يكفِّرون أحداً أبداً حتى املرتدين‪ ،‬ومدعي النبوة‪ ،‬وجاحدي‬
‫وجوب الصالة‪ ،‬وحنو ذلك من األمور اليت أمجع أهل العلم على خروج‬
‫أصحابها من دائرة اإلسالم ‪.‬‬
‫أما أهل السنة فقد هداهم اهلل ملا اختلف فيه من احلق بإذنه؛ اللتزامهم بالدليل‬
‫الشرعي؛ فهم ال مينعون التكفري بإطالق‪ ،‬وال يكفرون بكل ذنب‪ ،‬ومل يقولوا‪:‬‬
‫إن تكفري املعني غري ممكن‪ ،‬ومل يقولوا بالتكفري بالعموم دون حتقق شروط‬
‫التكفري‪ ،‬وانتفاء موانعه يف حق املعني‪ ،‬ومل يتوقفوا يف إثبات وصف اإلسالم ملن‬
‫دخل فيه‪ ،‬أو ظهر منه إرادة الدخول فيه‪.‬‬
‫بل حيسنون الظن بأهل القبلة املوحدين‪ ،‬ومبن دخل يف اإلسالم‪ ،‬أو أراد‬
‫الدخول فيه‪.‬‬
‫ومن أتى مبكفر‪ ،‬واجتمعت فيه الشروط‪ ،‬وانتفت يف حقه املوانع ـ فإنهم ال‬

‫‪ _ 1‬انظر التنبيهات اللطيفة ص‪ ،62‬وشرح الواسطية للهراس ص‪.189_188‬‬


‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪701‬‬
‫يتحرجون من تكفريه؛ ألنهم يرون أن التكفري ليس حقاً ألحد‪ ،‬وإمنا هو حق هلل‬
‫ورسوله‪ ،‬فال يكفرون إال من كفره اهلل ورسوله‪ ،‬على أنهم ال يرون أن تنزيل‬
‫أحكام التكفري كألٌ مباح‪ ،‬بل هو مرتوك ألهل العلم والبصرية‪ ،‬والرزانة‪،‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫والركانة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ وسط يف باب أمساء الدين واإلميان‪ ،‬أو مسألة األمساء واألحكام بني‬
‫اخلوارج واملعتزلة وبني املرجئة واجلهمية‪ :‬واملراد باألمساء هنا‪ :‬أمساء الدين‪،‬‬
‫مثل‪ :‬مؤمن‪ ،‬ومسلم‪ ،‬وكافر‪ ،‬وفاسق‪.‬‬
‫واملراد باألحكام أحكام أصحابها يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫فاخلوارج واملعتزلة _ كما مر _ ذهبوا إىل أنه ال يستحق اسم اإلميان إال من‬
‫صدق جبنانه‪ ،‬وأقر بلسانه‪ ،‬وقام جبميع الواجبات‪ ،‬واجتنب مجيع املنهيات‪.‬‬
‫وعلى هذا فمرتكب الكبرية يف الدنيا خرج من اإلميان عند اخلوارج‪.‬‬
‫أما املعتزلة فريون أنه خرج من اإلميان‪ ،‬ومل يدخل يف الكفر‪ ،‬فهو مبنزلة بني‬
‫املنزلتني‪.‬‬
‫أما يف أحكام اآلخرة فاتفق الفريقان على أن من مات على كبرية ومل يتب‬
‫منها ـ فهو خملد يف النار ‪.‬‬
‫أما املرجئة فكما سبق بيان مذهبهم‪ ،‬وهو أنه ال يضر مع اإلميان معصية‪،‬‬
‫فمرتكب الكبرية عندهم مؤمن كامل اإلميان‪ ،‬وال يستحق دخول النار ‪.‬‬

‫‪ _ 1‬انظــر جممــوع الفتــاوى ‪ ،518_511/28‬وضــوابط الــتكفري د‪ .‬عبــداهلل القرنــي ص‪،11_9‬‬


‫وظاهرة التكفري تارخيها _ خطرها _ أسبابها _ عالجها لألمني احلاج حممد أمحد ص‪.7‬‬
‫‪703‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫أما أهل السنة واجلماعة فمذهبهم وسط بني هذين املذهبني‪ ،‬فمرتكب‬
‫الكبرية عندهم مؤمن بإميانه‪ ،‬فاسق بكبريته‪ ،‬أو هو مؤمن ناقص اإلميان‪ ،‬أو‬
‫يسمُّونه فاسقاً مِلِّيَّاً قد نقص إميانه بقدر ما ارتكب من معصية‪ ،‬فال ينفون عنه‬
‫اإلميان أصالً‪ ،‬وال يقولون‪ :‬إنه خرج من امللة كاخلوارج واملعتزلة‪ ،‬وال يقولون‪:‬‬
‫بأنه كامل اإلميان كاملرجئة ‪.‬‬
‫وحكمه يف اآلخرة عندهم أنه قد يتجاوز اهلل عنه فيدخل اجلنة ابتداءً‪ ،‬أو يعذبه‬
‫( ‪)1‬‬
‫بقدر معصيته ثم خيرجه‪ ،‬ويدخله اجلنة كما سبق‪.‬‬

‫‪ _ 1‬انظر شرح الواسطية للهراس ص‪.191_191‬‬


‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪704‬‬

‫اخلامتة‬
‫‪705‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪706‬‬
‫اخلامتة‬

‫احلمد هلل الذي بنعمته تتم الصاحلات‪ ،‬وبعد‬


‫ففي خامتة البحث هذا ملخص ألهم ما ورد فيه‪:‬‬
‫‪ _1‬باب اإلميان‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل يُعدُّ من أعظم أبواب العقيدة‪،‬‬
‫وأهمها‪ ،‬وأجلها قدراً‪.‬‬
‫‪ _2‬لإلميان الصحيح مثراتٌ عظيمةٌ؛ فخري الدنيا واآلخرة إمنا هو بسبب‬
‫اإلميان؛ فبه حييى العبدُ حياةً طيبة‪ ،‬وبه ينجو من املكاره والشرور‪ ،‬وبه ختف‬
‫الشدائد‪ ،‬وتُدرك مجيع املطالب؛ فمعرفة مثراته من أكرب الدواعي إىل التزود منه‪.‬‬
‫وقد ورد يف البحث ذكرٌ لكثري من تلك الثمرات‪.‬‬
‫‪ _3‬اإلسالم يف اللغة هو‪ :‬االستسالم‪ ،‬واالنقياد‪ ،‬وإظهار اخلضوع‪ ،‬والقبول‪.‬‬
‫ويف الشرع هو‪ :‬استسالم العبد هلل ظاهراً‪ ،‬وباطناً‪ ،‬بفعل أوامره‪ ،‬واجتناب‬
‫نواهيه‪.‬‬
‫‪ _4‬اإلميان يف اللغة له استعماالن‪ :‬أحدهما مبعنى التأمني‪ ،‬أي إعطاء األمان‪،‬‬
‫والثاني مبعنى التصديق‪.‬‬
‫ويف الشرع‪ :‬قول‪ ،‬وعمل يزيد بالطاعة‪ ،‬وينقص باملعصية‪.‬‬
‫‪ _5‬اإلسالم واإلميان إذا أطلق أحدهما مشل الدين كله أصوله وفروعه‪.‬‬
‫وإذا قرن بينهما‪ ،‬وذُكِرَا يف سياق واحد فُسِّر اإلسالم باألعمال واألقوال‬
‫الظاهرة‪ ،‬وفسر اإلميان باالعتقادات الباطنة‪.‬‬
‫‪ _6‬من أصول أهل السنة أن اإلميان يزيد وينقص‪ ،‬وقد خالف يف هذا‬
‫‪707‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫األصل‪ :‬الوعيدية من املعتزلة واخلوارج‪ ،‬واملرجئة اخلالصة‪.‬‬


‫‪ _7‬اإلميان مراتب ‪ ،‬والناس فيه على تفاوت وتفاضل؛ فمنهم من ليس معه‬
‫إال أصل اإلميان واحلد األدنى منه‪.‬‬
‫ومنهم من بلغ فيه درجات الكمال الواجب أو املستحب‪.‬‬
‫‪ _8‬اإلميان اجململ أو مطلق اإلميان‪ :‬هو احلد األدنى من اإلميان الذي هو شرط‬
‫صحة اإلميانِ والنجاةِ من اخللود يف النار يف اآلخرة إن مات صاحبه على ذلك‪.‬‬
‫وبه تثبت األحكام من فرائض‪ ،‬ومواريث‪ ،‬وحقوق‪.‬‬
‫‪ _9‬اإلميان املطلق الواجب‪ :‬ويقال عنه‪ :‬اإلميان املفصَّل‪ ،‬أو حقيقة اإلميان‪،‬‬
‫أو اإلميان الكامل الواجب‪ ،‬أو مرتبة املقتصدين األبرار‪.‬‬
‫ويكون صاحبه ممن يؤدي الواجبات‪ ،‬وجيتنب الكبائر‪.‬‬
‫‪ _11‬اإلميان املطلق املستحب‪ :‬وهو مرتبة اإلميان الكامل باملستحبات‪،‬‬
‫ومرتبة اإلحسان‪ ،‬ومرتبة املقربني السابقني باخلريات‪.‬‬
‫وصاحب هذه املرتبة ال يكتفي بفعل الواجبات‪ ،‬وترك احملرمات‪ ،‬بل يضيف‬
‫إىل ذلك فعل املستحبات‪ ،‬وترك املكروهات‪.‬‬
‫‪ _11‬هناك أسبابٌ كثرية إذا صدرت من العبد زاد إميانه‪ ،‬وسار يف طريق‬
‫الكمال‪ ،‬ومنها‪ :‬تعلمُ العلمِ النافع‪ ،‬ومعرفةُ أمساءِ اهلل وصفاتِه‪ ،‬والنظرُ يف آيات‬
‫اهلل الكونية‪ ،‬وقراءةُ القرآن الكريم وتدبُّرُه‪ ،‬وفعلُ الطاعةِ؛ تقرباً إىل اهلل _عز‬
‫وجل_ وتركُ املعصيةِ؛ خوفاً من اهلل _تبارك وتعاىل_‪.‬‬
‫‪ _12‬هناك أسبابٌ إذا فعلها العبد تنقص إميانه‪ ،‬أو تَذْهَب به‪ ،‬ومنها‪ :‬اجلهلُ‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪708‬‬
‫باهلل _تعاىل_ وبأمسائه وصفاته‪ ،‬والغفلةُ واإلعراضُ عن النظر يف آيات اهلل‬
‫وأحكامه‪ ،‬وفعلُ املعصيةِ‪ ،‬وصحبةُ قرناءِ السوء‪ ،‬واالنهماكُ يف الدنيا‪.‬‬
‫‪ _13‬االستثناءُ يف اإلميان‪ :‬أن يقول اإلنسان‪ :‬أنا مؤمنٌ إن شاء اهلل‪ ،‬أو جييب‬
‫إذا قيل له‪ :‬هل أنت مؤمن؟ فيجيب بصيغة تشعر بعدم القطع‪ ،‬كأن يقول‪ :‬أنا‬
‫مؤمن إن شاء اهلل‪ ،‬أو أرجو‪ ،‬أو آمنت باهلل‪.‬‬
‫‪ _14‬منشأ القول يف االستثناء‪ :‬اإلرجاء؛ فاملرجئة هم أول من تكلم يف مسألة‬
‫االستثناء يف اإلميان‪.‬‬
‫‪ _15‬األقوالُ يف مسألة االستثناء يف اإلميان تنحصر يف ثالثة‪ :‬أحدها‪ :‬حتريم‬
‫االستثناء‪ ،‬والثاني‪ :‬وجوبه‪ ،‬والثالث‪ :‬التفصيل‪.‬‬
‫وقد ورد يف البحث بيان لذلك‪.‬‬
‫‪ _16‬الكفر يف اللغة‪ :‬يدل على معنى واحد‪ ،‬وهو السرت‪ ،‬والتغطية‪.‬‬
‫والتكفري‪ :‬نسبة اإلنسان إىل الكفر‪ ،‬واحلكم عليه به‪.‬‬
‫‪ _17‬الكفر يف الشرع‪ :‬اعتقادات‪ ،‬وأقوال‪ ،‬وأفعال‪ ،‬حكم الشارع بأنها‬
‫تناقض اإلميان‪ ،‬وهو على شعب‪ ،‬ومراتب متفاوتة‪.‬‬
‫‪ _18‬الكفر أنواع‪ ،‬وميكن إرجاعه إىل نوعني‪:‬‬
‫أ_ كفر أكرب‪ :‬وهو املُخرج من امللة‪ ،‬وهو ما ارتكب صاحبه ما يوجب خروجه‬
‫من الدين كالتكذيب باهلل‪ ،‬ورسوله "‪.‬‬
‫ب_ كفر أصغر‪ :‬وهو غري خمرج من امللة‪ ،‬كاالقتتال بني املسلمني‪ ،‬والنياحة‬
‫على امليت‪.‬‬
‫‪ _19‬ال يلزم من قام به شعبة من شعب الكفر أن يكون كافراً الكُفْرَ املطلقَ‪،‬‬
‫‪709‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫حتى تقوم به حقيقةُ الكفرِ‪ ،‬كما ال يلزم من قام به شعبة من شعب اإلميان أن‬
‫يصري مؤمناً حتى يقوم به أصلُ اإلميان‪.‬‬
‫‪ _21‬التكفري املطلق‪ ،‬أو كفر اإلطالق‪ :‬هو التكفري بالعموم‪ ،‬كأن يقال‪ :‬من‬
‫قال‪ :‬كذا وكذا‪ ،‬أو فعل كذا وكذا فهو كافر‪ ،‬أو فَقَدْ كَفَرَ‪.‬‬
‫وهذا النوع ال بأس بإطالقه‪ ،‬بل جيب القول بعمومه‪.‬‬
‫وتكفري املعني‪ ،‬أو كفر التعيني‪ :‬أن يقال‪ :‬إن فالناً الذي قال‪ :‬كذا‪ ،‬أو فعل‬
‫كذا _ كافر بعينه‪.‬‬
‫وهذا النوع ال جيوز إال إذا اجتمعت فيه _ أي املعني _ الشروط‪ ،‬وانتفت يف‬
‫حقه املوانع‪.‬‬
‫‪ _21‬احلكم األخروي املطلق‪ ،‬وعلى املعيَّن‪ :‬هو الشهادة ألحدٍ باجلنة والنار‪،‬‬
‫وهناك فرق بني الشهادة واحلكم بالعموم باجلنة والنار وبني الشهادة ألحد معيَّنٍ‬
‫بذلك‪.‬‬
‫َفيُشْهَدُ بالعموم أنَّ كلَّ مؤمنٍ يف اجلنة‪ ،‬وكلَّ كافرٍ يف النار‪.‬‬
‫ولكن ال يُشهد ملعيَّنٍ باجلنة أو النار إال عن طريق النص‪.‬‬
‫‪ _22‬التكفري من أعظم املسائل اليت جيب تعلمُها وفهمُها‪ ،‬وهناك ضوابط يف‬
‫التكفري‪ ،‬وقد ورد يف البحث ذكر لبعضها‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫أ_ أن احلكمَ على الناس إمنا يكون بالظاهر من أحواهلم‪.‬‬
‫ب_ أن اإلسالم يثبت بأدنى بيِّنة‪ ،‬والتكفري ينتفي بأدنى شبهة‪.‬‬
‫ط يف التكفري؛ فال بد فيه من اجتماعِ الشروط‪،‬‬
‫ج_ أن مذهبَ أهلِ السنةِ االحتيا ُ‬
‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬ ‫‪714‬‬
‫وانتفا ِء املوانع‪ ،‬واستحضا ِر أن ذلك هو شأن أهل العلم‪ ،‬والبصرية‪ ،‬والعقل‪.‬‬
‫د _ التكفريُ ال يكون إال بعد قيام احلجة‪ ،‬وتوضيحها‪ ،‬وكشف شبهها‪.‬‬
‫هـ _ من األصول اجملمع عليها عند أهل السنة أنهم ال يكفرون أحداً بذنب ما مل‬
‫يستحله‪.‬‬
‫ويقصدون بالذنب‪ :‬الذنب الذي هو دون الكفر‪ ،‬والذي ال يَكْفُر صاحبه‬
‫كفعل الكبائر اليت هي دون الشرك‪.‬‬
‫‪ _23‬هناك أفعال‪ ،‬وأقوال‪ ،‬واعتقادات يطلق عليها الكفر‪ ،‬ويكفر مرتكبها‬
‫إذا اجتمعت فيه الشروط‪ ،‬وانتفت املوانع‪ ،‬وذلك كحال مَنْ جعل بينه وبني اهلل‬
‫وسائط يدعوها‪ ،‬وكتارك أركان اإلسالم بالكلية‪ ،‬ورادّ شرع اهلل‪ ،‬أو بعضه‪،‬‬
‫ومن استهزأ باهلل أو آياته‪.‬‬
‫‪ _24‬موانع التكفري‪ :‬هي الصوارف اليت متنع من احلكم على املعني بالكفر؛‬
‫فالتكفري ينتفي بانتفاء شيء من الشروط‪ ،‬أو وجود شيء من املوانع‪.‬‬
‫‪ _25‬موانعُ التكفريِ تكاد تنحصر يف ستة‪ ،‬وهي‪ :‬اجلهل‪ ،‬واخلطأ‪ ،‬واإلكراه‪،‬‬
‫والتأويل‪ ،‬والتقليد‪ ،‬والعجز‪.‬‬
‫وقد ورد يف البحث تفصيل لكل واحد من هذه املوانع‪.‬‬
‫‪ _26‬تنقسم الذنوب إىل صغائر‪ ،‬وكبائر‪ ،‬وقد ورد يف البحث بيان لذلك‪،‬‬
‫وتوضيح ملا هية الصغائر‪ ،‬والكبائر‪.‬‬
‫‪ _27‬ورد يف البحث مسألة إمكان تكفري احلسنات للصغائر والكبائر على حد‬
‫سواء‪.‬‬
‫‪ _28‬موانع إنفاذ الوعيد‪ :‬هي األسباب اليت تندفع بها العقوبة‪ ،‬ويزول‬
‫‪710‬‬ ‫الرسالة السادسة عشرة‪ :‬اإلميان‪ :‬حقيقته‪ ،‬وما يتعلق به من مسائل‬

‫مُوجَب الذنوب‪ ،‬وهي عشرة أسباب عرفت باالستقراء من الكتاب والسنة‪ ،‬وقد‬
‫ورد يف البحث بيان هلا‪.‬‬
‫‪ _29‬أهل السنة وسط يف باب اإلميان ومسائله‪ ،‬فهم وسط يف باب الوعد‬
‫والوعيد بني املرجئة والوعيدية‪ ،‬ووسط يف مسألة التكفري‪ ،‬ووسط يف باب أمساء‬
‫الدين واإلميان‪.‬‬
‫هذا هو أهم ما ورد يف البحث‪ ،‬واحلمد هلل رب العاملني‪.‬‬

You might also like