You are on page 1of 64

‫‪1441‬هجري‬

‫مقرر أصول التفسري‬


‫دبلوم رايض القرآن‪-‬الدفعة األوىل‬
‫مقرر أصول التفسري‬
‫إعداد الشيخ‪:‬‬

‫خالد بن حسين النعمان‬

‫‪1‬‬
2
‫تـمهيد‬

‫إن احلمد هلل حنمده ونستعينه‪ ،‬ونتوب إليه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ ابهلل من شرور أنفسنا‪ ،‬ومن سيئات‬
‫أعمالنا‪ ،‬من يهده هللا فال مضلل له‪ ،‬ومن يضلل فال هادي له‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال هللا‪ ،‬وحده ال‬
‫شريك له‪ ،‬وأشهد أن حممداً عبده ورسوله‪ ،‬صلى هللا عليه وعلى آله وصحبه أمجعني‪.‬‬

‫أما بعد‪:‬‬

‫فلقد تعددت كتب التفسري‪ ،‬على مدار التاريخ اإلسالمي‪ ،‬وبرزت احلاجة ماسة إىل تعريف الدارسني‬
‫‪ -‬من طالب جامعيني أكادمييني‪ ،‬ومثقفني إسالميني‪ ،‬وطلبة علم – أبصول التفسري‪ ،‬وعرض ألهم‬
‫مسائله‪ ،‬هلذا جاء هذا املقرر (أصول التفسري) ليتعرف دارسوه على قواعد ومالمح تلك األصول‪،‬‬
‫وموجز حركة التفسري‪ ،‬وقواعد تضبط له التعامل مع تلك الكتب‪.‬‬

‫ومثرة هذا املقرر املرجوة هي القراءة يف التفاسري اليت سنتطرق لبعضها‪ ،‬لتكون عوانً لفهم كتاب هللا‬
‫وتدبّره‪.‬‬

‫اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا‪ ،‬ونور صدوران‪ ،‬وذهاب مهومنا‪ ،‬وجالء أحزاننا‪ ،‬وارزقنا تالوته‬
‫حجة لنا يوم القيامة" اللهم‬
‫آانء الليل وآانء النهار وعلمنا منه ما جهلنا‪ ،‬وذكران منه ما تُشينا‪ ،‬واجعله ّ‬
‫آمني‪.‬‬
‫وصلى هللا على سيدان حممد‪ ،‬وعلى آله وصحبه وسلم‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫الفصل األول‬

‫‪4‬‬
‫الدرس األول‪:‬‬
‫اصطالحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ .1‬التمهيد‪ :‬مفهوم (التفسري – األصول) لغة و‬
‫‪ .2‬تعريف (أصول التفسري) مركبًا‪.‬‬
‫‪ .3‬الفرق بني التفسري والتأويل‪.‬‬
‫‪ .4‬التعريف أبهم املؤلفات يف أصول التفسري‪.‬‬

‫واصطالحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ .1‬مفهوم (التفسري – األصول) لغة‬
‫أوًل‪ :‬تعريف التفسري يف اللغة‪:‬‬
‫ً‬
‫التفسري‪ :‬مصدر الفعل (فَسر)‪ ،‬يقال‪ :‬فَسر الشيء فَ ْسراً وتفسرياً‪.‬‬
‫قال ابن فارس‪" :‬الفاء والسني والراء كلمة واحدة تدل على بيان الشيء وإيضاحه‪ ،‬ومن ذلك ِ‬
‫"الف ْسر"‪،‬‬
‫يقال‪ :‬فَ َس ْرت الشيء وفسرته‪ ،‬والفسر والتفسرة "نظر الطبيب إىل املاء)‪ (1‬وحكمه فيه")‪.(2‬‬
‫)‪(3‬‬
‫وقال الراغب األصفهاين‪" :‬ال َف ْسر‪ :‬إظهار املعىن املعقول"‪.‬‬
‫ويفس ُره ‪-‬ابلضم‪ :-‬أابنه‪ .‬والتفسري‪:‬‬ ‫ِ‬
‫وقال ابن منظور‪" :‬ال َف ْسر"‪ :‬البيان‪ ،‬فَ َسَر الشيء يفس ُره ‪-‬ابلكسر‪ُ -‬‬
‫مثله‪ ،‬وال َف ْسر‪ :‬كشف املغطّى‪ ،‬والتفسري‪ :‬كشف املراد عن اللفظ املشكل‪.‬‬
‫الس َفر سفراً‬
‫الس ْفر وأتيت مبعىن الكشف يقال امرأه سافرة‪ :‬أي متربجة‪ ،‬ومسي َ‬
‫وبعضهم يقلبها من َ‬
‫ألنه‪ :‬يكشف معادن الرجال‪ ،‬ويقال‪ :‬أسفر الصبح‪ ،‬أي‪ :‬انكشف وأضاء‪ ،‬ويف قوله تعاىل‪:‬‬
‫الصْب ِح إِذَا أ ْ‬
‫َس َفَر﴾ [املدثر‪ ]34 :‬أي‪ :‬اتضح وأشرق واستبان‪.‬‬ ‫﴿و ُّ‬
‫َ‬

‫‪1‬‬
‫يقصد ابملاء هنا‪ :‬البول الذي يستدل به على املرض‪ ،‬وينظر فيه األطباء فيستدلون بلونه على علة العليل‪ ،‬وهو ما يعرف اليوم‬
‫ابلتحليل املخربي‪ ،‬وكل شيء يعرف به تفسري الشيء ومعناه فهو تفسرة‪.‬‬
‫‪ 2‬معجم مقاييس اللغة‪ ،‬ماده "فسر" (‪)504/4‬‬
‫‪ 3‬مفردات غريب القرآن ص ‪.3٨0‬‬
‫‪5‬‬
‫فيالحظ أن اشتقاق كلمة (فَ َسر) تدل على أربعة معان لغوية‪ ،‬وهي‪ :‬البيان‪ ،‬واإليضاح‪ ،‬واإلظهار‪،‬‬
‫والكشف‪.‬‬
‫فتفسري الكالم‪ :‬بيانه‪ ،‬وإيضاحه‪ ،‬وإظهاره‪ ،‬والكشف عن املراد منه‪ ،‬وإيضاح اللفظ املشكل‪.‬‬

‫اثنيًا‪ :‬التفسري يف اًلصطالح‪:‬‬


‫لقد َعرف العلماء التفسري ‪-‬بعد أن صار َعلَماً على بيان معاين القرآن‪ -‬بعدة تعريفات قريبة املعىن من‬
‫بعض ومن أمهها‪:‬‬
‫تعريف أيب حيان األندلسي املفسر املتوىف سنة ‪ ٧54‬ه ـ حيث قال‪" :‬التفسري علم يـُْب َحث‬ ‫‪-1‬‬
‫فيه عن كيفية النطق أبلفاظ القرآن‪ ،‬ومدلوالهتا‪ ،‬وأحكامها اإلفرادية والرتكيبية‪ ،‬ومعانيها‬
‫اليت حتمل عليها حالة الرتكيب‪ ،‬وتتمات لذلك"(‪.)1‬‬
‫وتعريف بدر الدين حممد بن عبد هللا الزركشي املتوىف سنة ‪ ٧٩4‬هـ ـ حيث قال‪" :‬التفسري‬ ‫‪-2‬‬
‫علم يعرف به فهم كتاب هللا املنزل على نبيه حممد‪ ، ‬وبيان معانيه‪ ،‬واستخراج أحكامه‬
‫وحكمه"(‪.)2‬‬
‫وقد ذكر الشيخ حممد بن صاحل بن عثيمني املتوىف سنة ‪1421‬ه ـ رمحه هللا تعري ًفا موجزاً‪،‬‬ ‫‪-3‬‬
‫(‪)3‬‬
‫وهو‪ :‬التفسري هو "بيان معاين القرآن"‪.‬‬
‫اثلثًا‪ :‬األصول لغة‪:‬‬

‫َصل‪ ،‬وهو يف اللغة‪ :‬أساس الشيء الذي يقوم عليه‪ ،‬وأصل الشيء‪َ :‬جعلَه أصالً اثبتاً‬
‫األصول‪ :‬مجع أ ْ‬
‫يُبىن عليه‪ ،‬وأصول العلوم‪ :‬قواعدها اليت تُبىن عليها األحكام(‪.)4‬‬

‫‪ 1‬البحر احمليط جـ‪ 1‬ص ‪.2٦‬‬


‫‪ 2‬الربهان يف علوم القرآن جـ ‪ 1‬ص ‪.13‬‬
‫‪ 3‬أصول التفسري البن عثيمني ص‪.2٨ :‬‬
‫‪ 4‬املعجم الوسيط ص ‪.20‬‬

‫‪6‬‬
‫‪ .2‬تعريف (أصول التفسري) مركبًا‪:‬‬
‫علم أصول التفسري‪:‬‬
‫عرفه د‪.‬فهد الرومي أبنه‪" :‬القواعد واألسس اليت يقوم عليها علم التفسري‪ ،‬فيبني الطريقة املثلى يف شرح‬
‫ِ‬
‫ابملفسر من شروط وآداب وإتقان علوم‪ ،‬وما يتعلق ابلتفسري‬
‫كالم هللا تعاىل وتفسريه‪ ،‬وتشمل ما يتعلق ّ‬
‫من طرق مصادر وقواعد ومناهج‪ ...‬وحنو ذلك"(‪.)1‬‬
‫وعرفه د‪ .‬مساعد الطيار أبنه‪:‬‬
‫‪"-‬األسس والقواعد اليت يُعرف هبا تفسري كالم هللا ويُرجع إليها عند االختالف فيه"(‪.)2‬‬

‫‪ 1‬حبوث يف أصول التفسري ص ‪.2٧‬‬


‫‪ 2‬فصول يف أصول التفسري ص ‪.11‬‬

‫‪7‬‬
‫‪ .3‬الفرق بني التفسري والتأويل‪:‬‬
‫اصطالحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫خمتصرا لغة و‬
‫ً‬ ‫قبل أن نذكر الفرق بينهما نعرف التأويل تعري ًفا‬
‫التأويل لغة‪ :‬مأخوذ من مادة (أ َْول)‪ ،‬ومادة ( ْأول)‪ ،‬يف األصل هلا عدة معان منها‪:‬‬
‫األول‪ :‬ابتداء األمر وانتهاؤه‪.‬‬
‫ورد الشيء إىل الغاية املرادة منه‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬إرجاع الشيء إىل أصله‪ُّ ،‬‬
‫قال ابن فارس‪(" :‬أول) أصالن‪ :‬ابتداء األمر‪ ،‬وانتهاؤه‪ .‬وآل يؤول‪ ،‬أي‪ :‬رجع" (‪.)1‬‬
‫األول‪ ،‬أي الرجوع إىل األصل(‪.)2‬‬
‫وقال الراغب األصفهاين‪" :‬التأويل من ْ‬
‫وقال ابن منظور‪" :‬األ َْول‪ :‬الرجوع‪ .‬آل الشيء يؤول ْأوالً ومآالً‪ :‬رجع‪.‬‬
‫وأتوله‪ :‬فسره"(‪.)3‬‬
‫وأتوله‪ :‬دبّره وق ّدره‪ .‬و ّأوله ّ‬
‫و ّأول الكالم ّ‬
‫فيالحظ أن اشتقاقات مادة ( ْأول) أتيت بعدة معان منها‪:‬‬
‫ابتداء األمر وانتهاؤه‪ ،‬وإرجاع األمر إىل أصله‪ ،‬ورد الشيء إىل الغاية املرادة منه‪ ،‬وتدبري الكالم وتفسريه‪.‬‬
‫فتأويل الكالم إذن‪ :‬عاقبته وما يؤول إليه‪ ،‬ورد الشيء إىل الغاية املرادة منه‪ ،‬وتدبري الكالم وتقديره‬
‫وتفسريه‪.‬‬

‫‪ 1‬معجم مقاييس اللغة‪ ،‬مادة "أول" جـ ‪ 1‬ص ‪.1٦2 – 15٨‬‬


‫‪ 2‬املفردات ص ‪.31‬‬
‫‪ 3‬لسان العرب‪ ،‬مادة "أول" جـ ‪ 11‬ص ‪.32‬‬

‫‪8‬‬
‫اصطالحا‪:‬‬
‫ً‬ ‫التأويل‬
‫للتأويل يف االصطالح معان خمتلفة‪ ،‬يقول ابن تيميه‪:‬‬
‫"وأما التأويل يف لفظ السلف فله معنيان‪:‬‬
‫أحدمها‪ :‬تفسري الشيء وبيان معناه سواء وافق ظاهره أو خالفه‪ ،‬مث يقول‪ :‬أن التأويل والتفسري معنيان‬
‫مرتادفان متقارابن"(‪ ،)1‬ومراد ابن تيمية رمحه هللا هنا أن التفسري هو التأويل‪ ،‬والتأويل هو التفسري‪.‬‬
‫املعىن الثاين‪ :‬هو نفس املراد ابلكالم فإن الكالم إذا كان طلباً كان أتويله بنفس الفعل املطلوب وإن‬
‫كان خرباً كان أتويله بنفس املخرب عنه(‪.)2‬‬
‫وعرفه صالح اخلالدي صاحب كتاب تعريف الدارسني فقال‪:‬‬
‫" التأويل‪ :‬هو علم يتم به حسن فهم القرآن‪ ،‬وإزالة اللبس واإلشكال عن بعض آايته برده إىل الغاية‬
‫املرادة منها‪ ،‬ومحلها على اآلايت األخرى الواضحة اليت ال لبس فيها وال إشكال"(‪.)3‬‬
‫الفرق بني التفسري والتأويل‪:‬‬
‫اك‬ ‫ك ِمبَثَل إِال ِجْئـنَ َ‬ ‫﴿وَال ََيْتُونَ َ‬
‫وردت كلمة (تفسري) يف القرآن الكرمي مرة واحدة‪ ،‬يف قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫َح َس َن تَـ ْف ِس ًريا‪[ ﴾33‬الفرقان‪]33 :‬‬ ‫ِاب ْحلَِّق َوأ ْ‬
‫﴿ه َو ال ِذي أَنْـَزَل‬ ‫ووردت كلمة (أتويل) يف القرآن الكرمي ‪ 1٧‬مرة‪ ،‬منها ما جاء يف قوله تعاىل‪ُ :‬‬
‫ين ِيف قُـلُوهبِِ ْم َزيْ ٌغ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات ُهن أ ُُّم الْ ِكتَ ِ‬ ‫ك الْ ِكتَ ِ‬
‫ات فَأَما الذ َ‬ ‫ُخ ُر ُمتَ َشاهبَ ٌ‬ ‫اب َوأ َ‬ ‫ت ُْحم َك َم ٌ‬ ‫آاي ٌ‬‫اب مْنهُ َ‬ ‫َ‬ ‫َعلَْي َ‬
‫فَـيَـتبِعُو َن َما تَ َشابَهَ ِمْنهُ ابْتِغَاءَ الْ ِفْتـنَ ِة َوابْتِغَاءَ َأتْ ِويلِ ِه َوَما يـَ ْعلَ ُم َأتْ ِويلَهُ إِال اَّللُ َوالرا ِس ُخو َن ِيف الْعِْل ِم يَـ ُقولُو َن‬
‫اب‪[ ﴾٧‬آل عمران‪.]٧ :‬‬ ‫آمنا بِِه ُكلٌّ ِمن ِعْن ِد ربِنَا وما يذكر إِال أُولُو ْاألَلْب ِ‬
‫َ‬ ‫َّ َ َ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬

‫فكلمة التأويل أكثر استخداماً يف القرآن الكرمي‪ ،‬ومع ذلك فإن معناها أخص من التفسري‪.‬‬

‫‪ 1‬اإلكليل يف املتشابه والتأويل ص‪.25‬‬


‫‪ 2‬املرجع السابق ص‪.25‬‬
‫‪ 3‬تعريف الدارسني مبناهج املفسرين ص ‪.2٦‬‬

‫‪9‬‬
‫‪-‬فالتفسري‪ :‬يكون فيه بيان املعىن الظاهر املتبادر للذهن بغري جزم‪ ،‬معتمداً على املأثور من أقوال‬
‫السلف‪.‬‬
‫‪ -‬أما التأويل‪ :‬فيتعلق ابملعىن اخلفي املسترت هلذه اآلية أو هذه اللفظة‪.‬‬
‫مثال توضيحي‪:‬‬
‫ص ِاد﴾ [الفجر‪ ،]14 :‬فهي من الرصد‪ ،‬يقال‪ :‬رصدته رقبته‪.‬‬ ‫يف قوله تعاىل‪﴿:‬إِن رب َ ِ‬
‫ك لَبِالْم ْر َ‬ ‫َ‬
‫وتفسريها‪ :‬أن هللا مطلع على كل ما يعمل الظاملون‪ ،‬فهي آية هتديد ألهنا جاءت يف سياق الظلم‪.‬‬
‫أما أتويلها‪ :‬فهو التحذير من التهاون أبمر هللا‪ ،‬والغفلة عن األُهبة‪ ،‬واالستعداد للعرض عليه‪ ،‬وحتذر‬
‫من الظلم وأن عاقبته وخيمة‪ ،‬وأن هللا هلم ابملرصاد‪.‬‬

‫وقد ذُكر التأويل أيضاً يف احلديث واألثر أيضا‪ ،‬كما جاء يف دعاء النيب صلى هللا عليه وسلم البن‬
‫(‪)1‬‬
‫عباس (( اللهم فقهه يف الدين وعلمه التأويل))‬
‫‪.‬‬

‫وقد استعمل العلماء مصطلح‪( :‬التفسري) مع (التأويل)‪ ،‬وظهرت أقوال عدة يف حتديد العالقة والفرق‬
‫بني التفسري والتأويل‪ ،‬فمن العلماء من جعلهما مبعىن واحد‪ ،‬ومنهم من فرق بينهما‪.‬‬
‫ومن أفضل من تكلم يف الفرق بينهما‪:‬‬
‫الدكتور حممد حسني الذهيب يف كتابه‪( :‬التفسري واملفسرون) وهو مرجع أصيل يف كل ما يتعلق ابلتفسري‬
‫واملفسرون‪.‬‬
‫وخلصها الدكتور صالح اخلالدي يف كتابه‪( :‬التفسري والتأويل يف القران الكرمي دراسة موضوعية)‪.‬‬
‫وعرف كال منهما لغة‬‫فقد درس الدكتور صالح اخلالدي التفسري والتأويل يف كتابه دراسة موضوعية‪ّ ،‬‬
‫واصطالحا‪ ،‬مث تتبع التفسري يف القرآن والسنة وتتبع التأويل يف القرآن والسنة‪ ،‬مث يف آخر مباحث كتابه‬
‫حتدث عن الفرق بني التفسري والتأويل يف سبعة أقوال‪ ،‬حيث قال‪" :‬اختصروها يف هذه السبعة أقوال‪:‬‬
‫‪ - 1‬التفسري والتأويل‪ :‬مصطلحان مرتادفان مبعىن واحد‪ ،‬فال فرق بينهما‪ ،‬ومعنامها بيان القرآن‬
‫وشرح آايته وفهمها‪.‬‬
‫وهذا قول أيب عبيدة معمر بن املثىن وأحد األقوال اليت ذكرها ابن تيمية‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه اإلمام أحمد في مسنده‪ 266/1،‬وصححه األلباني شرح الطحاوية ص‪.234 :‬‬
‫‪10‬‬
‫وهو قول مرجوح ألن التفسري والتأويل مصطلحان قرآنيان‪ ،‬فال بد من مالحظة الفروق بينهما‪ ،‬فال‬
‫ترادف يف كلمات القرآن‪ ،‬ولن جند فيه كلمتني مبعىن واحد‪ ،‬قد يكون بينهما تقارب شديد يف املعين‪،‬‬
‫لكن املتدبرين يقفون على فروق دقيقة خفية بينها‪.‬‬
‫حبيث ختفى الفروق بينهما على كثري من الناس‪ّ ،‬‬
‫‪ - 2‬التفسري‪ :‬بيان معاين القرآن من ابب اجلزم والقطع‪ ،‬وذلك لوجود دليل لدي املفسر‪،‬‬
‫يعتمد عليه يف اجلزم والقطع‪.‬‬
‫والتأويل‪ :‬بيان معاين القرآن من ابب االحتمال وغلبة الظن والرتجيح‪ ،‬لعدم وجود دليل لدي‬
‫املؤول يعتمد عليه يف اجلزم والقطع‪ ،‬وهذا قول أيب منصور املاتريدي‪.‬‬
‫‪ - 3‬التفسري‪ :‬بيان معاين األلفاظ القرآنية الظاهرة‪ ،‬اليت وضعت هلا يف اللغة‪ .‬كتفسري الصراط‬
‫ابلطريق‪ ،‬والصيّب ابملطر‪.‬‬
‫والتأويل بيان ابطن االلفاظ واالخبار عن الباطن منها‪ .‬وهذا قول أيب طالب التغليب‪.‬‬

‫‪ - 4‬التفسري‪ :‬فهم اآلايت على ظاهرها‪ ،‬بدون صرف هلا عن معانيها الظاهرة‪.‬‬
‫والتأويل‪ :‬صرف اآلايت عن ظاهرها إيل معىن آخر‪ ،‬قد حتتمله اآلايت‪ ،‬وقد يكون بتحريف‬
‫عن معانيها الظاهرة‪ ،‬وهو قول البغوي والكواشي‪.‬‬
‫‪ - 5‬التفسري‪ :‬االقتصار على االتباع والسماع والرواية‪ ،‬واالكتفاء مبا ورد من مأثور يف معاين‬
‫اآلايت‪.‬‬
‫والتأويل‪ :‬استنباط املعاين والدالالت من اآلايت‪ ،‬عن طريق الدراية والتدبر وإعمال الفكر‬
‫رجحه الدكتور الذهيب‪.‬‬
‫والنظر‪ ،‬وهذا قول أيب نصر القشريي‪ ،‬وهو الذي ّ‬
‫‪ - ٦‬التفسري‪ :‬بيان املعاين القريبة اليت تؤخذ من اآلايت‪ ،‬من كلماهتا ومجلها وتراكيبها‪ ،‬عن‬
‫طريق الوضع واللغة‪.‬‬
‫والتأويل‪ :‬بيان املعاين البعيدة اليت تلحظ من اآلايت‪ ،‬وتوحي هبا كلماهتا ومجلها وتراكيبها عن‬
‫طريق اإلشارة واللطيفة واإلحياء‪ ،‬ومال إيل هذا القول‪ :‬اآللوسي يف تفسريه (روح املعاين)‪.‬‬
‫مثال‪ :‬قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬والسا ِر ُق َوالسا ِرقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْ ِديَـ ُه َما َجَزاءً ِمبَا َك َسبَا نَ َك ًاال ِم َن اَّللِ َواَّللُ َع ِز ٌيز‬
‫َح ِك ٌيم‪[ ﴾3٨‬املائدة‪ ،]3٨ :‬تفسريها واضح فيمكن فهم معناها القريب من ظاهر اآلية‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫أما أتويلها والذي هو بيان املعاين البعيدة والنظر يف األحكام‪ ،‬هل تقطع يد واحدة ؟ وهل التثنية‬
‫َ‬
‫﴿ أيْد َِي ُه َما ﴾ تدل على يد السارق والسارقة معاً؟ أم يدي السارق ويدي السارقة كل على حدة ؟‬
‫وإن كانت واحده فهل هي اليمىن واليسرى؟ وهكذا‪.‬‬
‫‪ - ٧‬التفسري‪ :‬أكثر استعماله يف األلفاظ واملفردات‪.‬‬
‫والتأويل‪ :‬أكثر استعماله يف املعاين واجلمل‪.‬‬
‫مثل تفسري لفظة (السارق)‪ :‬هو من َيخذ شيء من غري ملكه‪ ،‬أما التأويل‪ :‬فيأخذ اآلية كاملة‬
‫كجمل ومعاين ويوضحها ويتكلم عنها‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫تلخيص املسألة‪:‬‬
‫أن حاصل اختالف العلماء يدور بني هل التأويل والتفسري مرتادفان أم خمتلفان‪:‬‬
‫‪-‬الفريق األول‪ :‬أهنما مرتادفتان‪.‬‬
‫‪-‬الفريق الثاين‪ :‬قالوا أهنما خمتلفان وملخص كالمهم إىل ثالثة أقوال‪:‬‬
‫‪-1‬أن التفسري هو ظاهر املعىن والتأويل هو ابطنه‪.‬‬
‫‪-2‬التفسري خاص بعلم الرواية والتأويل خاص بعلم الدراية‪.‬‬
‫‪-3‬من حيث العموم واخلصوص‪ ،‬التفسري أعم والتأويل أخص‪.‬‬
‫والراجح‪:‬‬
‫أن املعنيان خمتلفان بدليل وردمها يف القرآن يف موضعني خمتلفني‪.‬‬
‫لكن التفسري يعترب مرحلة أوىل‪ ،‬والتأويل مرحلة بعدها‪ ،‬فيقوم املفسر بتفسري اآلايت على ظاهرها‬
‫ومعتمداً على األقوال املأثورة من أقوال السلف واللغة مث أتيت بعدها مرحلة التأويل فيصل املفسر إىل‬
‫قضية أعمق من التفسري كما فعل ابن عباس يف قصة تفسريه لسورة النصر يف جملس عمر بن اخلطاب‬
‫رضي هللا عنهما‪.‬‬
‫ولكن هناك ضابط مهم يف التأويل‪:‬‬
‫فيحذر من أتويل القرآن على غري الظاهر منه‪ ،‬وكذلك أتويل الغيبيات واألمساء والصفات‪.‬‬
‫‪-‬اختالف هذه األقوال السبعة اختالف تنوع وليس اختالف تضاد‪.‬‬
‫‪-‬املؤول البد أن يكون مفسرا ولكن املفسر قد ال يكون مؤوال‪.‬‬
‫وليس كل اآلايت حتتمل التفسري والتأويل فمن اآلايت ما ال يعلم أتويلها إال هللا كما جاء يف سورة‬
‫ك الْ ِكتَ ِ‬ ‫ِ‬
‫ات‬
‫ت ُْحم َك َم ٌ‬ ‫آاي ٌ‬‫اب مْنهُ َ‬ ‫َ‬ ‫﴿ه َو الذي أَنْـَزَل َعلَْي َ‬ ‫آل عمران عند وجه الوقف على لفظ اجلاللة‪ُ :‬‬
‫ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫اب وأُخر متَ َش ِاهبات فَأَما ال ِذ ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫ين يف قُـلُوهب ْم َزيْ ٌغ فَـيَـتبعُو َن َما تَ َشابَهَ مْنهُ ابْتغَاءَ الْفْتـنَة َوابْتغَاءَ‬
‫َ‬ ‫ُهن أ ُُّم الْكتَ ِ َ َ ُ ُ َ ٌ‬
‫َأتْ ِويلِ ِه َوَما يَـ ْعلَ ُم َأتْ ِويلَهُ إِال اَّللُ َوالر ِاس ُخو َن ِيف الْعِْل ِم يَـ ُقولُو َن َآمنا بِِه ُكلٌّ ِم ْن ِعْن ِد َربِّنَا َوَما يَذك ُر إِال‬
‫اب‪[ ﴾٧‬آل عمران‪.]7 :‬‬ ‫أُولُو ْاألَلْب ِ‬
‫َ‬

‫‪13‬‬
‫‪.4‬التعريف أبهم املؤلفات يف أصول التفسري‪:‬‬
‫مراجـ ــع هذا العلـ ــم كثرية‪ ،‬ونستطيع أن أنخذ هذا العلم من الفنون التالية‪:‬‬
‫أوًل‪ :‬كتب مصدرة هبذا اًلسم‪( ،‬أصول التفسري)‪:‬‬ ‫ً‬
‫وهذه الكتب مل حتو مجيع مادة هذا العلم‪ ،‬ولكن فيها مسائل متناثرة منه‪ ،‬ومن أهم هذه املؤلفات‪:‬‬
‫مقدمة يف أصول التفسري لشيخ اإلسالم ابن تيمية (ت‪.)٧2٨ :‬‬ ‫‪-1‬‬
‫وهذا العنوان ليس من عند ابن تيمية‪ ،‬إمنا وضعه مفيت احلنابلة بدمشق‪ ،‬الشيخ عيسى البايب احلليب‪،‬‬
‫حني طبع الكتاب سنة ‪ 1355‬هـ‪.‬‬
‫وقد نبه شيخ اإلسالم يف املقدمة على أن ما سيكتبه هو قواعد تعني على فهم القرآن وتفسريه وبيان‬
‫معانيه (‪.)1‬‬
‫الفوز الكبري يف أصول التفسري للدهلوي (ت‪.)11٧٦ :‬‬ ‫‪-2‬‬
‫أصول التفسري وقواعده خلالد العك‪.‬‬ ‫‪-3‬‬
‫حبوث يف أصول التفسري‪ ،‬حملمد لطفي الصباغ‪ .‬وقد اعتمد مقدمات املفسرين وبعض‬ ‫‪-4‬‬
‫الكتب؛ ككتاب شيخ اإلسالم‪ ،‬وكتاب الدهلوي‪ .‬وهو يف كل هذا يذكر ملخصا‬
‫ملسائل هذه املقدمات‪ ،‬وهذه الكتب‪.‬‬
‫حبوث يف أصول التفسري ومناهجه‪ ،‬للدكتور فهد الرومي‪.‬‬ ‫‪-5‬‬
‫وقد ألف ابن القيم يف هذا الباب‪ ،‬لكن مل توجد هذه الرسالة بعد‪.‬‬
‫اثنيًا‪ :‬مقدمات املفسرين اليت يقدمون هبا تفاسريهم‪:‬‬
‫جتد يف بعض التفاسري مقدمات مهمة تتعلق هبذا العلم‪ ،‬حيث يذكرون شيئا من مباحثه‪ ،‬ومن‬
‫أمثلة ذلك‪:‬‬
‫‪ -1‬ابن كثري‪ ،‬وقد استفادها من شيخ اإلسالم ابن تيمية‪.‬‬
‫‪ -2‬مقدمة النكت والعيون‪ ،‬للماوردي‪.‬‬
‫‪ -3‬مقدمة ابن جزي الكليب لتفسريه‪.‬‬
‫‪ -4‬مقدمة جامع التفاسري‪ ،‬للراغب األصفهاين‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫‪ -5‬مقدمة القامسي لتفسريه‪.‬‬
‫‪ -٦‬مقدمة التحرير والتنوير‪.‬‬
‫وغريها من املقدمات اليت تطول فصوهلا وتستوعب كثريا من املباحث‪ ،‬فهنا ال ختلو من‬
‫مباحث يف هذا العلم‪.‬‬
‫اثلثًا‪ :‬كتب علوم القرآن‪:‬‬
‫مصطلحا مرادفًا – ولذا؛ فان‬
‫ً‬ ‫يعترب أصول التفسري جزء من علوم القرآن – وإن كان بعضهم جيعله‬
‫الباحث يف كتب علوم القرآن سيظفر مبجموعة من مسائل هذا العلم‪.‬‬
‫ومن هذه الكتب‪:‬‬
‫كتاب الربهان يف علوم القرآن لبدر الدين الزركشي (ت‪.)٧٩4 :‬‬ ‫‪-1‬‬
‫كتاب اإلتقان يف علوم القرآن جلالل الدين السيوطي (ت‪.)٩11 :‬‬ ‫‪-2‬‬
‫وغريها من الكتب اليت تشمل مجلة من علوم القرآن‪.‬‬
‫ابعا‪ :‬استقراء التفاسري‪:‬‬
‫رً‬
‫االستقراء يعترب من أهم املراجع‪ ،‬وبه تظهر فوائد هذا العلم‪ ،‬والرجوع إىل التفاسري واستنباط املعلومات‬
‫منها يثري البحث ويزيده قوة‪ ،‬ومن أهم الكتب اليت مبكن استقراؤها يف التفسري كتب احملققني الذين‬
‫يعتمدون النقاش والرتجيح بعد نقل األقوال‪.‬‬
‫ومن هذه الكتب على سبيل املثال‪:‬‬
‫‪ -1‬تفسري اإلمام الطربي‪.‬‬
‫‪ -2‬تفسري ابن عطية‪.‬‬
‫‪ -3‬تفسري الشنقيطي‪.‬‬
‫‪ -4‬تفسري الطاهر بن عاشور‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬طرق التفسري‬
‫للتفسري عدة طرق‪ ،‬واملؤلفون يف ذلك ما بني مقل ومستكثر؛ فبعضهم جيعلها ستة طرق وبعضهم‬
‫جيعلها سبعة‪ ،‬لكن الذي اتفق عليه منها غالباً أربعة‪:‬‬
‫‪ - 1‬تفسري القرآن ابلقرآن‪.‬‬
‫‪ - 2‬تفسري القرآن ابلسنة‪.‬‬
‫‪ - 3‬تفسري القرآن أبقوال الصحابة‪.‬‬
‫‪ - 4‬تفسري القرآن أبقوال التابعني‪.‬‬
‫وسوف نتناول هذه الطرق ابلفصيل كوهنا هي زبدة أصول التفسري ومعرفتها مهمة‪:‬‬
‫أوًل‪ :‬تفسري القرآن ابلقرآن‪:‬‬
‫استعمل أهل العلم هذا الطريق ‪-‬تفسري القرآن ابلقرآن‪ -‬يف كتب التفسري‪ ،‬وكتب علوم القرآن‪،‬‬
‫وبينوا صحته‪ ،‬وذكروا بعض أنواعه‪ ،‬والتمثيل له‪ ،‬دون وضع تعريف أو حد له‪ ،‬ولعل السبب يف ذلك‬
‫يعود إىل أمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬االكتفاء ابلتمثيل عن التعريف‪ ،‬وكما قيل ابملثال يتضح املقال‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬ارتباطه مبصطلح "التفسري"‪ ،‬ووجه االرتباط أن تفسري القرآن ابلقرآن نوع من أنواع التفسري‪،‬‬
‫وجزء منه‪ ،‬فاكتفوا بتعريف الكل ( التفسري) عن تعريف اجلزء‪.‬‬
‫﴿والس َم ِاء َوالطا ِرِق‪1‬‬ ‫متصال يف مكان واحد‪ ،‬كقوله تعاىل‪َ :‬‬ ‫و ميكن أن يكون تفسري القرآن ابلقرآن ً‬
‫ب‪[ ﴾3‬الطارق‪ ،]3-1 :‬فهنا بيّنت اآلية بعدها أن الطارق هو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َوَما أ َْد َر َاك َما الطار ُق‪ 2‬الن ْج ُم الثاق ُ‬
‫قطعا‪ ،‬فيكون تفسري القرآن للقرآن‪ ،‬وهذا ّبني واضح يف القرآن‪ ،‬وال ميكن رده أو‬ ‫النجم الثاقب ً‬
‫منفصال‪ ،‬فتذكر اآلية ويكون تفسريها يف آية أخرى يف موضع‬ ‫ً‬ ‫خمالفته‪ ،‬أو يكون تفسري القرآن ابلقرآن‬
‫ِ‬ ‫ض ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني﴾ [الفاحتة‪،]٧ :‬‬ ‫وب َعلَْي ِه ْم َوَال الضالّ َ‬ ‫ت َعلَْي ِه ْم َغ ِْري الْ َم ْغ ُ‬‫ين أَنْـ َع ْم َ‬
‫آخر‪ ،‬كقوله تعاىل‪﴿ :‬صَرا َط الذ َ‬
‫ِ‬
‫يبني من هؤالء الذين أنعم عليهم‪ ،‬وبني ذلك يف موضع آخر‪ ،‬فقـ ـ ــال تعاىل‪َ ﴿ُّ :‬وَم ْن يُط ِع اَّللَ‬ ‫فإنه مل ّ‬
‫الص ِّد ِيقني والش ِ‬ ‫ِ‬
‫ني َو َح ُس َن أُولَئِ َ‬
‫ك‬ ‫ِِ‬
‫ُّه َداء َوالصاحل َ‬‫ني َو ّ َ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين أَنْـ َع َم اَّللُ َعلَْي ِه ْم م َن النبِيِّ َ‬ ‫ول فَأُولَئِ َ‬
‫ك َم َع الذ َ‬ ‫َوالر ُس َ‬

‫‪16‬‬
‫َرفِي ًقا﴾ [النساء‪ 1،]٦٩ :‬وهذا تفسري القرآن ابلقرآن‪ ،‬فهو اجتهاد املفسر يف الربط بني اآلايت‪ ،‬وقد‬
‫يؤخذ كالمه أو يرد‪ ،‬إال ما صح عن النيب ‪ ‬فهو حجة ووحي‪ ،‬وال ميكن رده‪.‬‬

‫أمهية تفسري القرآن ابلقرآن‪:‬‬


‫تدور أمهية تفسري القرآن ابلقرآن إىل عدة أمور‪2:‬‬

‫األول‪ :‬أن أصدق تفسري لكتاب هللا ‪ ‬هو كالم هللا؛ ألنه صادر من املتكلم به‪ ،‬وال أحد‬
‫أدرى مبعانيه ومقاصده من غريه ‪ ،‬كما قال الشنقيطي رمحه هللا‪" :‬أمجع العلماء على أشرف أنواع‬
‫التفسري وأجلها تفسري كتاب هللا بكتاب هللا‪ ،‬إذ ال أحد أعلم مبنعى كالم هللا جل وعال من هللا جل‬
‫وعال"‪ ،3‬بل إن بعض اآلايت متوقفة فهمها الفهم التام على بيان القرآن نفسه‪ ،‬فقد فقال الشاطيب‬
‫بعضا؛ حىت إن‬
‫يبني بعضه ً‬
‫رمحه هللا‪" :‬يتوقف فهم بعضه ‪-‬أي القرآن‪ -‬على بعض بوجه ما‪ ،‬وذلك أنه ّ‬
‫كثريا منه ال يفهم معناه حق الفهم إال بتفسري موضع آخر أو سورة أخرى"‪4.‬‬
‫ً‬
‫الثاين‪ :‬أن النيب ‪ ‬استعمل هذا الطريق‪5.‬‬

‫الثالث‪ :‬أن الصحابة ‪ ‬والتابعني ساروا على هذا الطريق‪٦.‬‬

‫الرابع‪ :‬اعتماد املفسرين يف تفاسريهم على هذا الطريق‪ ،‬وإفراد بعض املفسرين له مبؤلفات‬
‫خاصة‪.‬‬

‫‪ 1‬انظر‪ :‬أضواء البيان للشنقيطي ‪.51/1‬‬


‫‪ 2‬انظر‪ :‬حبوث يف أصول التفسري للرومي ص‪ .٧1 :‬وتفسري القرآن الكرمي للعبيد ص‪ .3٩-3٧ :‬وتفسري القرآن ابلقرآن للربيدي‬
‫ص‪ .1٧-1٦:‬وتفسري القرآن ابلقرآن للمطريي ص‪ .٦2-5٦ :‬وقد انفرد الربيدي ابألمهية اخلامسة‪.‬‬
‫‪ 3‬أضواء البيان للشنقيطي ‪.٨/1‬‬
‫‪ 4‬املوافقات للشاطيب ‪.2٧5/4‬‬
‫‪ 5‬سيأيت ذكر ذلك عند احلديث عن أمثلة على تفسري القرآن ابلقرآن‪.‬‬
‫‪ ٦‬سيأيت ذكر ذلك عند احلديث عن أمثلة على تفسري القرآن ابلقرآن‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫اخلامس‪ :‬أن تفسري القرآن ابلقرآن ابب من أبواب التدبر املأمور به‪ ،‬فقد قال ‪﴿ :‬أَفَ َال‬
‫اختِ َالفًا َكثِ ًريا‪[ ﴾٨2‬النساء‪]٨2 :‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫يَـتَ َدبـ ُرو َن الْ ُق ْرآ َن َولَ ْو َكا َن م ْن عْند َغ ِْري اَّلل لََو َج ُدوا فيه ْ‬

‫أنواع تفسري القرآن ابلقرآن‪:‬‬


‫ينطوي حتت تفسري القرآن ابلقرآن أنواع عدة‪ ،‬وقد ذكر الشنقيطي رمحه هللا يف كتابه (أضواء البيان)‬
‫نوعا يف مقدمة تفسريه‪ ،‬مث‬ ‫‪1‬‬
‫اعا كثرية من أنواع تفسري القرآن ابلقرآن‪ ،‬فقد ذكر أكثر من عشرين ً‬ ‫أنو ً‬
‫قال‪" :‬واعلم أن الغالب يف األمثلة اليت ذكرانها كلها تعددها يف القرآن بكثرة ومنها ما يتعدد من غري‬
‫﴿وَوصْيـنَا‬‫فردا من أفراد البيان ال نظري له‪ ،‬كإشارته إىل أقل أمد احلمل بقوله‪َ :‬‬ ‫كثرة‪ ،‬ورمبا ذكران ً‬
‫صالُهُ ثََالثُو َن َش ْهًرا َحىت إِ َذا بَـلَ َغ‬ ‫ِ‬ ‫اإلنْ َسا َن بَِوالِ َديْ ِه إِ ْح َس ً‬
‫ِْ‬
‫ض َعْتهُ ُك ْرًها َومحَْلُهُ َوف َ‬ ‫اان َمحَلَْتهُ أ ُُّمهُ ُك ْرًها َوَو َ‬
‫ت َعلَي َو َعلَى َوالِ َدي َوأَ ْن أ َْع َم َل‬ ‫ب أ َْوِز ْع ِين أَ ْن أَ ْش ُكَر نِ ْع َمتَ َ‬
‫ك ال ِيت أَنْـ َع ْم َ‬ ‫ني َسنَةً قَ َال َر ِّ‬
‫ِ‬
‫َشدهُ َوبَـلَ َغ أ َْربَع َ‬ ‫أُ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫احلا تَـرضاه وأ ِ‬ ‫ِ‬
‫ني‪[ ﴾15‬األحقاف‪]15 :‬‬ ‫ك َوإِِّين م َن الْ ُم ْسلم َ‬ ‫ت إِلَْي َ‬ ‫َصل ْح ِيل ِيف ذُِّري ِيت إِِّين تُـْب ُ‬ ‫ص ً ََُْ ْ‬ ‫َ‬
‫اإلنْ َسا َن بَِوالِ َديْ ِه َمحَلَْتهُ أ ُُّمهُ َوْهنًا‬
‫صالُهُ ثََالثُو َن َش ْهرا﴾ [األحقاف‪ ،]15 :‬مع قوله﴿ووصْيـنَا ِْ‬
‫ََ‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫ُّ﴿ َومحَْلُهُ َوف َ‬
‫صريُ‪[ ﴾ 14‬لقمان‪ ،2"]14 :‬وأشار ‪-‬‬ ‫ك إِ َيل الْم ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ني أ َِن ا ْش ُك ْر ِيل َول َوال َديْ َ‬ ‫صالُهُ ِيف َع َام ْ ِ‬ ‫َعلَى َوْهن َوف َ‬
‫الشنقيطي‪ -‬إىل البعض اآلخر يف ثنااي تفسريه‪.‬‬
‫اعا أخرى من أنواع تفسري القرآن ابلقرآن‪ 3،‬ولو‬ ‫أيضا َمن كتب يف تفسري القرآن ابلقرآن أنو ً‬ ‫وقد ذكر ً‬
‫استقرينا كتب التفسري اليت تعتين بتفسري القرآن ابلقرآن لظهرت أنواع أخرى يف هذا الطريق‪.‬‬

‫وقد اقتصرت على بعض أنواع تفسري القرآن ابلقرآن لوضوحها‪ ،‬وكثرة ورودها‪ ،‬وسأذكرها مع‬
‫أمثلتها‪ 4،‬وهي‪:‬‬

‫‪ 1‬انظر‪ :‬أضواء البيان للشنقيطي ‪.3٦-10/1‬‬


‫‪ 2‬انظر‪ :‬أضواء البيان للشنقيطي ‪.3٦/1‬‬
‫‪ 3‬انظر‪ :‬فصول يف أصول التفسري للطيار ص‪ .2٦-23 :‬وتفسري القرآن الكرمي للعبيد ص‪.45-3٩ :‬‬
‫‪ 4‬انظر‪ :‬تفسري القرآن الكرمي للعبيد ص‪ .45-3٩ :‬وفصول يف أصول التفسري للطيار ص‪ .25-23 :‬وتفسري القرآن ابلقرآن‬
‫أتصيل وتقومي للمطريي ص‪.43-41 :‬‬
‫‪18‬‬
‫أوًل‪ :‬بيان اجململ‪:‬‬ ‫ً‬
‫﴿وَما‬ ‫تعاىل‪:‬‬ ‫قال‬ ‫االنفطار‪،‬‬ ‫سورة‬ ‫يف‬ ‫وبياهنا‬ ‫]‪،‬‬ ‫‪4‬‬ ‫[الفاحتة‪:‬‬ ‫﴾‬ ‫ِ‬
‫ن‬ ‫ي‬ ‫ك يـوِم ال ِّ‬
‫د‬ ‫ِِ‬
‫َ‬ ‫‪ -‬قال تعاىل‪َ ﴿ُّ :‬مال َ ْ‬
‫س لِنَـ ْفس َشْيـئًا َو ْاأل َْم ُر‬ ‫ك نـَ ْف ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أ َْد َر َاك َما يَـ ْوُم ال ّدي ِن‪ُ 1٧‬مث َما أ َْد َر َاك َما يَـ ْوُم ال ّدي ِن‪ 1٨‬يَـ ْوَم َال َتَْل ُ‬
‫يـومئِذ َِّللِ‪[ ﴾1٩‬االنفطار‪1.]1٩-1٧ :‬‬
‫َْ َ‬
‫يمةُ ْاألَنْـ َع ِام إِال َما يـُْتـلَى َعلَْي ُك ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ت لَ ُك ْم َهب َ‬ ‫ين َآمنُوا أ َْوفُوا ِابلْعُ ُقود أُحل ْ‬ ‫﴿اي أَيـُّ َها الذ َ‬
‫وقال تعاىل‪َ :‬‬ ‫‪-‬‬

‫يد‪[ ﴾1‬املائدة‪ ،]]1 :‬فهذا االستثناء جممل‪ ،‬وبيانه يف‬ ‫َغْيـَر ُِحملِّي الصْي ِد َوأَنْـتُ ْم ُح ُرٌم إِن اَّللَ َْحي ُك ُم َما يُِر ُ‬
‫اخلِْن ِزي ِر َوَما أ ُِهل لِغَ ِْري اَّللِ بِِه َوالْ ُمْن َخنِ َقةُ‬
‫ت َعلَْي ُك ُم الْ َمْيـتَةُ َوالد ُم َو َحلْ ُم ْ‬ ‫﴿حِّرَم ْ‬
‫آية أخرى‪ ،‬قال تعاىل‪ُ :‬‬
‫ب َوأَ ْن تَ ْستَـ ْق ِس ُموا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يحةُ َوَما أَ َك َل السبُ ُع إِال َما ذَكْيـتُ ْم َوَما ذُبِ َح َعلَى الن ُ‬
‫ُّص ِ‬ ‫َوالْ َم ْوقُو َذةُ َوالْ ُمتَـَرّديَةُ َوالنط َ‬
‫ِابْأل َْزَالِم َذلِ ُكم فِسق الْيـوم يئِس ال ِذين َك َفروا ِمن ِدينِ ُكم فَ َال َختْ َشوهم و ِ‬
‫ت لَ ُك ْم‬ ‫اخ َش ْون الْيَـ ْوَم أَ ْك َم ْل ُ‬ ‫ُْْ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ْ ٌ ََْ َ َ َ ُ ْ‬
‫صة َغْيـَر ُمتَ َجانِف ِِإل ْمث‬ ‫اضطُر ِيف خمَْ َم َ‬ ‫اإل ْس َال َم ِدينًا فَ َم ِن ْ‬ ‫يت لَ ُكم ِْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت َعلَْي ُك ْم ن ْع َم ِيت َوَرض ُ ُ‬ ‫دينَ ُك ْم َوأََْتَ ْم ُ‬
‫ِ‬
‫فَِإن اَّلل َغ ُفور رِحيم‪[ ﴾3‬املائدة‪2]3 :‬‬
‫َ ٌَ ٌ‬
‫اثنيا‪ :‬تقييد املطلق‪3:‬‬
‫ً‬
‫اخلِْن ِزي ِر َوَما أ ُِهل لِغَ ِْري اَّللِ بِِه َوالْ ُمْن َخنِ َقةُ‬ ‫﴿حِّرَم ْ‬
‫ت َعلَْي ُك ُم الْ َمْيـتَةُ َوالد ُم َو َحلْ ُم ْ‬ ‫‪ -‬قال تعاىل‪ُ ::‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب َوأَ ْن‬ ‫يحةُ َوَما أَ َك َل السبُ ُع إِال َما ذَكْيـتُ ْم َوَما ذُبِ َح َعلَى الن ُ‬
‫ُّص ِ‬ ‫َوالْ َم ْوقُوذَةُ َوالْ ُمتَـَرّديَةُ َوالنط َ‬
‫اخ َش ْو ِن‬ ‫ِ ِِ‬ ‫تَستـ ْق ِسموا ِابْأل َْزَالِم َذلِ ُكم فِسق الْيـوم يئِ ِ‬
‫ين َك َف ُروا م ْن دين ُك ْم فَ َال َختْ َش ْوُه ْم َو ْ‬ ‫س الذ َ‬ ‫ْ ْ ٌ ََْ َ َ‬ ‫َْ ُ‬
‫اضطُر ِيف‬ ‫اإل ْس َال َم ِدينًا فَ َم ِن ْ‬ ‫يت لَ ُكم ِْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت َعلَْي ُك ْم ن ْع َم ِيت َوَرض ُ ُ‬
‫ِ‬
‫ت لَ ُك ْم دينَ ُك ْم َوأََْتَ ْم ُ‬‫الْيَـ ْوَم أَ ْك َم ْل ُ‬
‫ور َرِح ٌيم‪[ ﴾3‬املائدة‪ ،]3 :‬فلفظ الدم يف هذه اآلية‬ ‫ِ ِ‬
‫صة َغْيـَر ُمتَ َجانف ِإل ْمث فَِإن اَّللَ َغ ُف ٌ‬ ‫خمَْ َم َ‬
‫اعم‬‫ُوحي إِ َيل ُحمرما علَى طَ ِ‬ ‫مطلق‪ ،‬وقيد ابملسفوح يف قوله تعاىل‪ ﴿﴿ُّ :‬قُل َال أ َِج ُد ِيف ما أ ِ‬
‫ًَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫س أ َْو فِ ْس ًقا أ ُِهل لِغَ ِْري اَّللِ بِِه‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫وحا أ َْو َحلْ َم خْنزير فَإنهُ ر ْج ٌ‬
‫ِ‬
‫يَطْ َع ُمهُ إال أَ ْن يَ ُكو َن َمْيـتَةً أ َْو َد ًما َم ْس ُف ً‬
‫اضطُر َغيـر ابغ وَال عاد فَِإن ربك َغ ُفور رِحيم‪[ ﴾145‬األنعام‪4.]145 :‬‬
‫َ َ ٌَ ٌ‬ ‫فَ َم ِن ْ ْ َ َ َ َ‬

‫‪ 1‬انظر‪ :‬أضواء البيان للشنقيطي ‪.4٩/1‬‬


‫‪ 2‬انظر‪ :‬أضواء البيان للشنقيطي ‪.5/2‬‬
‫‪ 3‬املطلق‪ :‬هو املتناول لواحد ال بعينه‪ .‬انظر‪ :‬مذكرة أصول الفقه للشنقيطي ص‪.2٧٧:‬‬
‫‪ 4‬انظر‪ :‬جامع البيان للطربي ‪ .4٩2/٩‬وتفسري القرآن العظيم البن كثري ‪.14/3‬‬
‫‪19‬‬
‫ضل فَِإمنَا ي ِ‬ ‫ِ ِ ِِ‬
‫ض ُّل َعلَْيـ َها َوَال تَ ِزُر َوا ِزَرةٌ ِوْزَر‬ ‫َ‬ ‫﴿م ِن ْاهتَ َدى فَِإمنَا يَـ ْهتَدي لنَـ ْفسه َوَم ْن َ‬ ‫‪ -‬وقال تعاىل‪َ :‬‬
‫ك قَـ ْريَةً أ ََم ْرَان ُمْتـَرفِ َيها فَـ َف َس ُقوا‬ ‫ِ‬
‫ث َر ُس ًوال‪َ 15‬وإِذَا أ ََرْد َان أَ ْن نـُ ْهل َ‬
‫ِ‬
‫ُخَرى َوَما ُكنا ُم َع ّذبِ َ‬
‫ني َحىت نَـْبـ َع َ‬ ‫أْ‬
‫ِ‬ ‫فِيها فَحق علَيـها الْ َقو ُل فَ َدمرَانها تَ ْد ِمريا‪ 1٦‬وَكم أ َْهلَكْنَا ِمن الْ ُقر ِ‬
‫ك‬ ‫ون ِم ْن بَـ ْعد نُوح َوَك َفى بَِربِّ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ً َْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ َ َْ ْ‬
‫اجلَةَ َعج ْلنَا لَهُ فِ َيها َما نَ َشاءُ لِ َم ْن نُِر ُ‬ ‫يد الْع ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِِ‬
‫يد ُمث‬ ‫بِ ُذنُوب عبَاده َخبِ ًريا بَص ًريا‪َ 1٧‬م ْن َكا َن يُِر ُ َ‬
‫جع ْلنا لَه جهنم يص َالها م ْذموما مدحورا‪[ ﴾1٨‬اإلسراء‪1.]1٨-15 :‬‬
‫ََ َ ُ ََ َ َ ْ َ َ ُ ً َْ ُ ً‬

‫اثلثًا‪ :‬ختصيص العام‪2:‬‬


‫ِ‬ ‫ات يَـتَـرب ْ ِ ِ ِ‬
‫ص َن أبَنْـ ُفسهن ثََالثَةَ قُـ ُروء َوَال َحي ُّل َهلُن أَ ْن يَكْتُ ْم َن َما َخلَ َق اَّللُ‬ ‫﴿والْ ُمطَل َق ُ َ‬ ‫‪ -‬قال تعاىل‪َ :‬‬
‫ك إِ ْن أ ََر ُادوا‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫َح ُّق بَِرّدهن ِيف َذل َ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ِيف أ َْر َحام ِهن إ ْن ُكن يـُ ْؤمن ِابَّلل َوالْيَـ ْوم اْآلخ ِر َوبـُعُولَتُـ ُهن أ َ‬
‫وف َولِ ِّلر َج ِال َعلَْي ِهن َد َر َجةٌ َواَّللُ َع ِز ٌيز َح ِك ٌيم‪﴾22٨‬‬ ‫إِص َالحا وَهلن ِمثْل ال ِذي علَي ِهن ِابلْمعر ِ‬
‫َ ُْ‬ ‫َْ‬ ‫ْ ً َُ ُ‬
‫[البقرة‪ ،]22٨ :‬ظاهر هذه اآلية مشوهلا جلميع املطلقات‪ ،‬ولكنه بني يف آايت أخر خروج‬
‫بعض املطلقات من هذا العموم‪ ،‬كاحلوامل املنصوص على أن عدهتن وضع احلمل‪ ،‬يف قوله‬
‫تعاىل‪:‬‬
‫َجلُ ُهن أَ ْن يَ َ‬
‫ض ْع َن محَْلَ ُهن﴾‪،‬‬ ‫ت ْاأل ْ ِ‬
‫َمحَال أ َ‬ ‫ُوال ُ‬‫ُّ﴿ َوأ َ‬
‫ِ‬
‫﴿اي أَيـُّ َها الذ َ‬
‫ين‬ ‫أصال‪ ،‬بقوله‪َ :‬‬ ‫وكاملطلقات قبل الدخول املنصوص على أهنن ال عدة عليهن ً‬
‫وهن فَ َما لَ ُك ْم َعلَْي ِهن ِم ْن ِعدة‬ ‫ات ُمث طَل ْقتُم ِ‬ ‫آمنُوا إِ َذا نَ َكحتُم الْم ْؤِمنَ ِ‬
‫وهن م ْن قَـْب ِل أَ ْن ََتَ ُّس ُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُْ ُ‬ ‫َ‬
‫مج ًيال‪[ ﴾4٩‬األحزاب‪ ،]4٩ :‬أما اللوايت ال حيضن‪،‬‬ ‫تَـعتَدُّونَـها فَمتِّعوهن وس ِرحوهن سراحا َِ‬
‫ْ َ َ ُ ُ َ َّ ُ ُ ََ ً‬
‫يض ِم ْن‬
‫﴿والالئِي يَئِ ْس َن ِم َن الْ َم ِح ِ‬ ‫لكرب أو صغر فقد بني أن عدهتن ثالثة أشهر يف قوله‪َ :‬‬
‫َجلُ ُهن أَ ْن يَ َ‬
‫ض ْع َن‬ ‫ت ْاأل ْ ِ‬
‫َمحَال أ َ‬ ‫ُوال ُ‬
‫ض َن َوأ َ‬ ‫نِ َسائِ ُك ْم إِ ِن ْارتَـْبـتُ ْم فَعِدتُـ ُهن ثََالثَةُ أَ ْش ُهر َوالالئِي َملْ َِحي ْ‬
‫محلَهن ومن يـت ِق اَّلل َجيعل لَه ِمن أَم ِرهِ يسرا‪[ ﴾4‬الطالق‪3.]4 :‬‬
‫َْ ُ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ ُ ْ ْ ُ ْ ً‬

‫‪ 1‬انظر‪ :‬تفسري القرآن بكالم الرمحن لآلمر تسري ص‪.315 :‬‬


‫‪ 2‬ختصيص العام‪ :‬هو بيان ما مل يرد ابللفظ العام‪ .‬انظر‪ :‬اللمع يف أصول الفقه للشريازي‪ .‬وقال الشوكاين يف إرشاد الفحول ‪:350/1‬‬
‫قد يكون إبخراج أفراد كثرية من أفراد العام‪ ،‬وقد يكون إبخراج نوع من أنواعه‪ ،‬أو صنف من أصنافه‪.‬‬
‫‪ 3‬انظر‪ :‬أضواء البيان للشنقيطي ‪.1٧٦-1٧5/1‬‬
‫‪20‬‬
‫احد ِمْنـ ُه َما ِمائَةَ َج ْل َدة َوَال َأتْ ُخ ْذ ُك ْم هبِِ َما َرأْفَةٌ ِيف‬ ‫‪ -‬وقال تعاىل‪﴿ :‬الزانِيةُ والزِاين فَاجلِ ُدوا ُكل و ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ني‪[ ﴾2‬النور‪:‬‬ ‫دي ِن اَّلل إِ ْن ُكْنـتُ ْم تُـ ْؤمنُو َن ِابَّلل َوالْيَـ ْوم ْاآلخ ِر َولْيَ ْش َه ْد َع َذابَـ ُه َما طَائ َفةٌ م َن الْ ُم ْؤمن َ‬
‫﴿وَم ْن َملْ يَ ْستَ ِط ْع ِمْن ُك ْم‬‫‪ ،]2‬فهذه اآلية عامة‪ ،‬ولكنها خصت ابحلرة دون األمة بقوله تعاىل‪َ :‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫طَوًال أَ ْن يـْن ِكح الْمح ِ ِ ِ‬
‫ت أَْميَانُ ُك ْم م ْن فَـتَـيَات ُك ُم الْ ُم ْؤمنَات َواَّللُ‬ ‫صنَات الْ ُم ْؤمنَات فَ ِم ْن َما َملَ َك ْ‬ ‫َ َ ُْ َ‬ ‫ْ‬
‫أَعلَم إبِِميَانِ ُكم بـعض ُكم ِمن بـعض فَانْ ِكحوهن إبِِ ْذ ِن أَهلِ ِهن وآتُوهن أُجورهن ِابلْمعر ِ‬
‫وف‬ ‫ْ َ ُ ُ َُ َ ُْ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ْ َْ ُ ْ ْ َْ‬ ‫ُْ‬
‫اح َشة فَـ َعلَْي ِهن‬‫صن فَِإ ْن أَتَـني بَِف ِ‬‫ات أَخ َدان فَِإذَا أُح ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫صنَات َغْيـَر ُم َساف َحات َوَال ُمتخ َذ ْ‬ ‫ُْحم َ‬
‫صِربُوا َخْيـٌر‬ ‫ك لِمن خ ِشي الْعنَ ِ‬ ‫ات ِمن الْع َذ ِ ِ‬ ‫نِصف ما علَى الْمحصنَ ِ‬
‫ت مْن ُك ْم َوأَ ْن تَ ْ‬ ‫اب َذل َ َ ْ َ َ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ ُ َ َ ُْ َ‬
‫ور َرِح ٌيم‪[ ﴾25‬النساء‪]25 :‬‬ ‫لَ ُك ْم َواَّللُ َغ ُف ٌ‬
‫‪-‬‬
‫اح َشة‬‫صن فَِإ ْن أَتَـني بَِف ِ‬ ‫فاملراد ابحملصنات هنا‪ :‬احلرائر‪ ،‬والعذاب اجللد‪ ،...‬فآية ﴿ فَِإذَا أُح ِ‬
‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫‪-‬‬

‫صِربُوا‬ ‫ك لِمن خ ِشي الْعنَ ِ‬ ‫ات ِمن الْع َذ ِ ِ‬ ‫فَـعلَي ِهن نِصف ما علَى الْمحصنَ ِ‬
‫ت مْن ُك ْم َوأَ ْن تَ ْ‬ ‫اب َذل َ َ ْ َ َ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ ُ َ َ ُْ َ‬ ‫َْ‬
‫ور َرِح ٌيم‪[ ﴾25‬النساء‪ ]25 :‬خمصصة لعموم قوله‪﴿ :‬الزانِيَةُ َوالزِاين‬ ‫َخْيـٌر لَ ُك ْم َواَّللُ َغ ُف ٌ‬
‫احد ِمْنـهما ِمائَةَ ج ْل َدة وَال َأتْخ ْذ ُكم هبِِما رأْفَةٌ ِيف ِدي ِن اَّللِ إِ ْن ُكْنـتم تُـؤِمنُو َن ِابَّللِ‬
‫ُْ ْ‬ ‫فَاجلِ ُدوا ُكل و ِ‬
‫َ َ ُ ْ َ َ‬ ‫َُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫والْيـوِم ْاآل ِخ ِر ولْي ْشه ْد ع َذابـهما طَائَِفةٌ ِمن الْمؤِمنِني‪[ ﴾2‬النور‪1.]2 :‬‬
‫َ ُْ َ‬ ‫َ َ َ َ َُ َ‬ ‫َ َْ‬

‫ابعا‪ :‬تفسري لفظة بلفظة‪:‬‬ ‫رً‬


‫‪ -‬قال تعاىل‪﴿ :‬فَ َج َع ْلنَا َعالِيَـ َها َسافِلَ َها َوأ َْمطَْرَان َعلَْي ِه ْم ِح َج َارًة ِم ْن ِس ِّجيل‪[ ﴾٧4‬احلجر‪،]٧4 :‬‬
‫حيث فسر السجيل ابلطني‪ ،‬فقال يف اآلية األخرى‪﴿ُّ:‬لِنُـ ْرِس َل َعلَْي ِه ْم ِح َج َارًة ِم ْن ِطني﴾‬
‫[الذارايت‪ 2،]33 :‬وكلتا اآليتني يف قصة قوم لوط‪.‬‬
‫ت الْ َعتِ ِيق﴾ [احلج‪ ،]2٩ :‬فإن العتيق يطلق على القدمي‪ ،‬وعلى‬ ‫‪ -‬وقال تعاىل‪﴿ُّ:‬ولْيطوفُوا ِابلْبـي ِ‬
‫َْ‬ ‫ََ‬
‫املعتق من اجلبابرة‪ ،‬وعلى الكرمي‪ ،‬ولكن صرح هللا ‪ ‬أبنه أقدم البيوت اليت وضعت للناس يف‬

‫‪ 1‬انظر‪ :‬أضواء البيان للشنقيطي ‪.٦-5/٦‬‬


‫‪ 2‬انظر‪ :‬تفسري القرآن العظيم البن كثري ‪ .340/4‬ت سالمة‬
‫‪21‬‬
‫ِ ِ‬ ‫قوله تعاىل‪ ﴿ُّ:‬إِن أَوَل بـيت و ِضع لِلن ِ ِ‬
‫اس لَلذي بِبَكةَ ُمبَ َارًكا َوُه ًدى ل ْل َعالَم َ‬
‫ني﴾ [آل عمران‪:‬‬ ‫َْ ُ َ‬
‫‪ ،]٩٦‬يدل لألول‪ 1،‬ففسر العتيق ابألول‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬تفسري املفهوم من آية آبية أخرى‪:‬‬ ‫ً‬


‫‪ -‬قال تعاىل‪َ ﴿ُّ:‬كال إِنـ ُه ْم َع ْن َرّهبِِ ْم يَـ ْوَمئِذ لَ َم ْح ُجوبُو َن﴾ [املطففني‪ ،]15 :‬قال الشافعي‪" :‬هذه‬
‫اآلية فيها داللة على أن أولياء هللا يرون رهبم يوم القيامة"‪ ،2‬وهذا املفهوم من اآلية يدل عليه‬
‫قوله تعاىل‪ُ ﴿ُّ:‬و ُجوهٌ يَـ ْوَمئِذ َان ِضَرةٌ (‪ )22‬إِ َىل َرِّهبَا َان ِظَرةٌ﴾ [القيامة‪ ،]23 ،22 :‬وغريها من أدلة‬
‫الرؤية‪3.‬‬
‫ني﴾ [البقرة‪ ،]2 :‬فمفهوم هذه اآلية أنه‬ ‫ِ ِ‬ ‫ك الْ ِكتَاب َال ري ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ب فيه ُه ًدى ل ْل ُمتق َ‬ ‫ُ َْ َ‬ ‫‪ -‬وقال تعاىل‪َ ﴿ُّ :‬ذل َ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ين َآمنُوا ُه ًدى َوش َفاءٌ‬
‫ليس هدى لغريهم‪ ،‬وقد صرح هبذا املفهوم بقوله تعاىل‪﴿ُّ:‬قُ ْل ُه َو للذ َ‬
‫ك يـُنَ َاد ْو َن ِم ْن َم َكان بَعِيد﴾ [فصلت‪:‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين َال يـُ ْؤِمنُو َن ِيف آ َذاهن ْم َوقْـٌر َوُه َو َعلَْي ِه ْم َع ًمى أُولَئِ َ‬
‫َوالذ َ‬
‫‪4.]44‬‬

‫‪ ‬ونعلم أن هناك أنو ً‬


‫اعا أخرى من أنواع تفسري القرآن ابلقرآن‪ ،‬ولكين مل أذكرها لسببني‪:‬‬
‫‪ -1‬قلة ورودها يف القرآن الكرمي‪ ،5‬كما ذكر ذلك الشنقيطي رمحه هللا تعاىل يف مقدمة تفسريه‪:‬‬
‫فردا من أفراد البيان ال نظري له‪ ،‬كإشارته إىل أقل أمد احلمل بقوله‪َ ﴿ُّ:‬ومحَْلُهُ‬ ‫"ورمبا ذكران ً‬
‫ني﴾ [لقمان‪:‬‬ ‫صالُهُ ِيف َع َام ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صالُهُ ثََالثُو َن َش ْهًرا﴾ [األحقاف‪ ،]15 :‬مع قوله‪َ ﴿ُّ :‬وف َ‬
‫َوف َ‬
‫‪.٦"...]14‬‬

‫‪ 1‬انظر‪ :‬أضواء البيان للشنقيطي ‪.10/1‬‬


‫‪ 2‬انظر‪ :‬شرح أصول اعتقاد أهل السنة واجلماعة لاللكائي ‪.51٨/3‬‬
‫‪ 3‬انظر‪ :‬فصول يف أصول التفسري للطيار ص‪.25 :‬‬
‫‪ 4‬انظر‪ :‬أضواء البيان للشنقيطي ‪.55/1‬‬
‫‪ 5‬ينظر‪ :‬أصول التفسري يف املؤلفات إعداد‪ :‬وحدة أصول التفسري مبركز تفسري‪ ،‬ص‪ .1٨٧-1٨3 :‬فقد حصورا األنواع يف اثنني‬
‫نوعا‪ ،‬أكثرها انفرد هبا بعض الكتب‪.‬‬
‫وعشرين ً‬
‫‪ ٦‬انظر‪ :‬أضواء البيان للشنقيطي ‪.3٦/1‬‬
‫‪22‬‬
‫‪ -2‬أن بعض أنواع تفسري القرآن ابلقرآن قد يتداخل بعضها ببعض‪ ،‬من أمثلة ذلك‪:‬‬
‫‪ ‬نوع "أن يذكر شيء يف موضع مث يقع سؤال عنه وجواب يف موضع آخر" فإنه قد‬
‫يتداخل مع نوع‪" :‬بيان اجململ"‪ ،‬قال الشنقيطي رمحه هللا‪" :‬ومن أنواع البيان أن يذكر‬
‫ك يَـ ْوِم‬‫شيء يف موضع مث يقع سؤال عنه وجواب يف موضع آخر كقوله تعاىل ‪﴿:‬مالِ ِ‬
‫َ‬
‫ال ِّدي ِن﴾ [الفاحتة‪ ،]4 :‬فإنه مل يبيّنه هنا مع أنه وقع سؤال عنه وجواب يف موضع آخر‪،‬‬
‫وهو قوله تعاىل‪َ ﴿ُّ:‬وَما أ َْد َر َاك َما يَـ ْوُم ال ِّدي ِن (‪ُ )1٧‬مث َما أ َْد َر َاك َما يَـ ْوُم ال ِّدي ِن (‪ )1٨‬يَـ ْوَم‬
‫س لِنَـ ْفس َشْيـئًا َو ْاأل َْم ُر يَـ ْوَمئِذ َِّللِ﴾ [االنفطار‪ ،1"]1٩ - 1٧ :‬وقد ذُكر‬ ‫ك نَـ ْف ٌ‬
‫ِ‬
‫َال َتَْل ُ‬
‫هذا املثال يف نوع "بيان اجململ" عند من كتب يف تفسري القرآن ابلقرآن‪2.‬‬
‫أيضا نوع "تفسري لفظة بلفظة" فإنه قد يتداخل مع نوع‪" :‬بيان اجململ بسبب‬ ‫‪ ‬و ً‬
‫اًلشرتاك" فقد ذكر الشنقيطي يف مقدمة تفسريه نوع من أنواع البيان اجململ وهو‪:‬‬
‫"اإلمجال بسبب اًلشرتاك يف فعل" فقال‪" :‬ومثال اإلمجال بسبب االشرتاك يف فعل‬
‫س﴾ [التكوير‪ ،]1٧ :‬فإنه مشرتك بني إقبال الليل وإدابره‪،‬‬ ‫ِِ‬
‫قوله تعاىل‪َ ﴿ُّ:‬واللْيل إ َذا َع ْس َع َ‬
‫وقد جاءت آية تؤيد أن معناه يف اآلية أدبر وهي يف قوله تعاىل‪َ ﴿ُّ:‬واللْي ِل إِ ْذ أ َْدبَـَر﴾‬
‫[املدثر‪ ،]33 :‬فيكون عسعس يف اآلية مبعىن أدبر يطابق معىن آية املدثر هذه كما‬
‫ترى‪ ،3"....‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫ما يطلب من املفسر يف تفسري القرآن ابلقرآن‪:‬‬


‫من أراد أن يتعرض لتفسري القرآن الكرمي فإن لذلك شروطه العامة‪ ،‬ولكن هناك شروط خاصة فيمن‬
‫أراد أن يفسر القرآن ابلقرآن‪ ،‬وهي‪:4‬‬
‫ملما ابلقرآن كله‪ ،‬حىت يتسىن له مجع ما تكرر منه يف موضوع‬
‫‪ -1‬أن يكون املفسر ً‬
‫واحد‪ ،‬واستنباط مصطلحات القرآن وعاداته من كلمه ونظمه‪.‬‬

‫‪ 1‬انظر‪ :‬أضواء البيان للشنقيطي ‪.1٧/1‬‬


‫‪ 2‬انظر‪ :‬تفسري القرآن الكرمي للعبيد ص‪.40:‬‬
‫‪ 3‬انظر‪ :‬أضواء البيان للشنقيطي ‪.11-10/1‬‬
‫‪ 4‬انظر‪ :‬تفسري القرآن الكرمي للعبيد ص‪ .4٧-45 :‬وتفسري القرآن ابلقرآن للربيدي ص‪.3٦-35 :‬‬
‫‪23‬‬
‫‪ -2‬أن يكون املفسر عارفًا ابلوجوه والنظائر‪ 1‬يف القرآن‪ ،‬فلفظ "األمة" هلا عدة وجوه‬
‫أو معاين وهي‪ :‬عصبة‪ ،‬وملة‪ ،‬وسنني‪ ،...‬وكذلك "اآلية" وغريها‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يكون املفسر عارفًا ابلقراءات‪ ،‬ففي اختالف القراءات قد يظهر اختالف يف‬
‫األحكام‪ ،‬أو يثري معىن آخـ ــر يف اآلية‪ ،‬مثال ذلك مـ ـ ـ ــا ذكره الطربي عند قوله تعـ ــاىل‪:‬‬
‫وهن‬
‫يض َوَال تَـ ْقَربُ ُ‬‫اعتَ ِزلُوا النِّ َساءَ ِيف الْ َم ِح ِ‬‫يض قُ ْل ُه َو أَ ًذى فَ ْ‬‫ك َع ِن الْ َم ِح ِ‬ ‫ُّ﴿ َويَ ْسأَلُونَ َ‬
‫ني َوُِحي ُّ‬
‫ب‬ ‫ث أ ََمَرُك ُم اَّللُ إِن اَّللَ ُِحي ُّ‬
‫ب التـوابِ َ‬ ‫وهن ِم ْن َحْي ُ‬ ‫َحىت يَطْ ُه ْر َن فَِإ َذا تَطَه ْر َن فَأْتُ ُ‬
‫ِ‬
‫ين﴾ [البقرة‪ ،]222 :‬اختلفت القراءة يف ذلك‪ ،‬فقرأه بعضهم‪َ ﴿ُّ :‬حىت‬ ‫الْ ُمتَطَ ّه ِر َ‬
‫يَطْ ُه ْر َن﴾‪ ،‬بضم "اهلاء" وختفيفها‪ 2،‬وقرأه آخرون بتشديد "اهلاء" وفتحها‪ 3،‬فأما من‬
‫قرأ بتخفيف "اهلاء" وضمها‪ ،‬فإهنم وجهوا معناه إىل‪ :‬وال تقربوا النساء يف حال‬
‫طهرن‪ ،‬وأما من قرأ بتشديد "اهلاء" وفتحها‪،‬‬ ‫حيضهن حىت ينقطع عنهن دم احليض ويَ ُ‬ ‫ّ‬
‫فإهنم عنوا به‪ :‬حىت يغتسلن ابملاء‪4.‬‬
‫‪ -4‬أن يكون املفسر عارفًا مبراد اآلية ابلنظر إىل السياق‪ ،‬والغرض الذي سيقت له‬
‫على وجه التحديد‪.‬‬

‫طريقة الوصول إىل تفسري القرآن ابلقرآن‪:‬‬


‫عند التأمل والنظر إىل تفسري القرآن ابلقرآن‪ ،‬يظهر أن لتفسري القرآن ابلقرآن طريقني‪ ،‬ومها‪5:‬‬

‫‪ 1‬الوجوه‪ :‬استعمال اللفظ الواحد يف عدة وجوه من املعاين كلفظ "أمة"‪ ،‬والنظائر كاأللفاظ املتواطئة‪ .‬انظر‪ :‬التصاريف ليحىي بن سالم ص‪:‬‬
‫‪.1٧‬‬
‫‪ 2‬وهي قراءة شعبة عن عاصم ومحزة والكسائي وخلف‪ .‬انظر‪ :‬التيسري يف القراءات السبع أليب عمرو الداين ص‪ .٨0 :‬والنشر يف‬
‫القراءات العشر البن اجلزري ‪.22٧/2‬‬
‫‪ 3‬وهي قراءة انفع وابن كثري وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب‪ .‬انظر‪ :‬التيسري يف القراءات السبع أليب‬
‫عمرو الداين ص‪ .٨0 :‬والنشر يف القراءات العشر البن اجلزري ‪.22٨/2‬‬
‫‪ 4‬انظر‪ :‬جامع البيان للطربي ‪ .3٨4-3٨3/4‬واحلجة يف القراءات البن خالويه ص‪ .٩٦ :‬وحجة القراءات أليب زرعة ص‪-134 :‬‬
‫‪.135‬‬
‫‪ 5‬انظر‪ :‬تفسري القرآن ابلقرآن للربيدي ص‪.21-20 :‬‬
‫‪24‬‬
‫الطريق األول‪ :‬الوحي‪ ،‬وله صوراتن‪:‬‬
‫اضحا يف القرآن نفسه‪ ،‬مثل قوله تعاىل‪َ ﴿ُّ:‬والس َم ِاء َوالطا ِرِق‬
‫الصورة األوىل‪ :‬ما جاء صرحيًا وو ً‬
‫(‪َ )1‬وَما أ َْد َر َاك َما الطا ِر ُق﴾ [الطارق‪ ،]2 ،1 :‬فالطارق هنا بال شك املراد به‪﴿ُّ :‬الن ْج ُم‬
‫ب﴾ [الطارق‪ ،]3 :‬وغريها من األمثلة الظاهرة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الثاق ُ‬
‫الصورة الثانية‪ :‬ما جاء عن النيب ‪ ،‬وستأيت أمثلة ذلك إبذن هللا يف املبحث السادس‪.‬‬
‫الطريق الثاين‪ :‬الرأي واًلجتهاد‪ ،‬فقول املفسر هذه اآلية تفسرها هذه اآلية هو من قبيل‬
‫االجتهاد‪ ،‬مث خيضع هذا القول واالجتهاد للنظر واملناقشة‪1.‬‬

‫حجية تفسري القرآن ابلقرآن‪:‬‬


‫صحيحا‪ ،‬فإنه يكون أبلغ التفاسري‪ ،‬قال شيخ اإلسالم ابن تيمية‪" :‬إن‬
‫ً‬ ‫كلما كان تفسري القرآن ابلقرآن‬
‫أصح الطرق يف ذلك أن يفسر القرآن ابلقرآن"‪ ،2‬وقال ابن القيم‪" :‬وتفسري القرآن ابلقرآن من أبلغ‬

‫التفاسري"‪ ،3‬وقال الشنقيطي‪" :‬أمجع العلماء على أشرف أنواع التفسري وأجلها تفسري كتاب هللا بكتاب‬
‫هللا"‪ ،4‬وال يلزم من ذلك أن كل من قال‪ :‬إن هذه اآلية تفسري هلذه اآلية صحة ذلك وقبوله‪ ،‬ألن هذا‬

‫صحيحا‪ 5،‬والواقع يف ذلك أننا ال نقول حبجيته‬


‫ً‬ ‫تفسري مبين على اجتهاد املفسر ورأيه‪ ،‬وقد ال يكون‬
‫مطل ًقا‪ ،‬وال نرده مطل ًقا‪ ،‬بل له أحوال ترجع إىل من قام ابلتفسري‪ ،‬فإن كان املفسر هو النيب ‪ ،‬وصح‬
‫ذلك عنه‪ ،‬فهو حجة‪ ،‬ألنه وحي‪ ،‬وإن كان املفسر هو الصحايب فيجري عليه ما حيري يف حكم تفسري‬

‫الصحايب‪ ،‬وكذا إن كان املفسر هو التابعي فحكمه حكم تفسري التابعي‪ ٦،‬وليس كل من محل آية‬

‫‪ 1‬سيأيت الكالم يف حجية تفسري القرآن ابلقرآن‪.‬‬


‫‪ 2‬مقدمة يف أصول التفسري البن تيمية ص‪.3٩ :‬‬
‫‪ 3‬التبيان يف أقسام القرآن البن القيم ص‪.1٨٧ :‬‬
‫‪ 4‬أضواء البيان للشنقيطي ‪.٨/1‬‬
‫‪ 5‬وسيأيت ذكر ذلك يف سرد األمثلة‪.‬‬
‫‪ ٦‬انظر يف حكم تفسري الصاحيب وحكم تفسري التابعي من مقدمة ابن تيمية يف أصول التفسري ص‪.4٦-40 :‬‬
‫‪25‬‬
‫على أخرى يقبل قوله حبجة أنه تفسري للقرآن ابلقرآن‪ ،‬وإال فأهل البدع قد استعملوا هذا الطريق تقر ًيرا‬
‫لبدعتهم‪ ،‬بل ال بد من النظر يف من قال هبذا التفسري‪ ،‬وهل تنطبق عليه شروط املفسر‪ ،‬وهل كان قوله‬
‫قوال صحيحا قال به السلف‪1.‬‬
‫مل خيالف ً‬
‫ً‬
‫واخلالصة يف ذلك‪:‬‬
‫إن كان تفسري القرآن ابلقرآن من النيب ‪ ،‬وصح ذلك عنه‪ ،‬فنقبله مطل ًقا‪ ،‬وال جيوز‬ ‫‪-1‬‬
‫رده وخمالفته‪2.‬‬

‫كالم الصحابة ‪ ‬ال سيما ذوو العلم منهم ومن له عناية ابلتفسري‪ ،‬إذا اتفقوا على‬ ‫‪-2‬‬
‫قول كان حجة‪ ،‬ألن القرآن نزل بلغتهم‪ ،‬وال يكاد يوجد خالف بني علماء املسلمني‬
‫يف الرجوع إىل تفسري الصحايب‪3.‬‬

‫كالم التابعني الذين اعتنوا أبخذ التفسري عن الصحابة ‪ ،‬ألن التابعني خري الناس‬ ‫‪-3‬‬
‫كثريا يف‬
‫بعد الصحابة‪ ،‬وأسلم من األهواء ممن بعدهم‪ ،‬ومل تكن اللغة العربية تغريت ً‬
‫عصرهم‪ ،‬فكانوا أقرب الناس إىل الصواب يف فهم القرآن ممن بعدهم‪ 4،‬قال شيخ‬
‫اإلسالم ابن تيمية‪" :‬إذا أمجعوا ‪-‬يعين التابعني‪ -‬على الشيء فال يُراتب يف كونه‬
‫حجة‪ ،‬فإن اختلفوا فال يكون قول بعضهم حجة على بعض وال على من بعدهم‪،‬‬
‫ويرجع يف ذلك إىل لغة القرآن‪ ،‬أو السنة‪ ،‬أو عموم لغة العرب‪ ،‬أو أقوال الصحابة يف‬
‫ذلك‪5".‬‬

‫‪ 1‬انظر‪ :‬تفسري القرآن ابلقرآن للربيدي ص‪ .22-21 :‬بتصرف‬


‫‪ 2‬انظر‪ :‬مقال مصادر تفسري القرآن ابلقرآن للطيار ص‪.٧ :‬‬
‫‪ 3‬انظر‪ :‬أصول التفسري البن عثيمني ص‪ .31 :‬وشرح مقدمة أصول التفسري للطيار ص‪.2٧٧ :‬‬
‫‪ 4‬انظر‪ :‬أصول التفسري البن عثيمني ص‪.32 :‬‬
‫‪ 5‬جمموع الفتاوى البن تيمية ‪.3٧0/13‬‬
‫‪26‬‬
‫وقد ذكر شيخ اإلسالم أنه من خالف تفسري الصحابة والتابعني كان خمطئًا يف ذلك‪،‬‬
‫مبتدعا‪ ،‬فقال‪" :‬فإن الصحابة والتابعني واألئمة إذا كان هلم يف تفسري اآلية قول‬
‫ً‬ ‫بل‬
‫وجاء قوم فسروا اآلية بقول آخر ألجل مذهب اعتقدوه وذلك املذهب ليس من‬
‫مذاهب الصحابة والتابعني هلم إبحسان صاروا مشاركني للمعتزلة وغريهم من أهل البدع‬
‫يف مثل هذا‪ ،‬ويف اجلملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعني وتفسريهم إىل ما‬
‫مغفورا له خطؤه"‪ ،1‬فإن‬
‫جمتهدا ً‬
‫مبتدعا وإن كان ً‬
‫خيالف ذلك كان خمطئًا يف ذلك بل ً‬
‫كان التفسري من الصحابة أو التابعني واتفقوا على قول كان حجة ألجل منزلة اإلمجاع‬
‫وحجيته‪2.‬‬

‫من جاء بعد الصحابة والتابعني فله أن يقول بقول الواحد منهم‪ ،‬لكن اختياره ألحد‬ ‫‪-4‬‬
‫أقواهلم ليس حجة على القول الثاين‪3.‬‬

‫أمثلة على تفسري القرآن ابلقرآن‪:‬‬


‫‪ -1‬أمثلة يف تفسري القرآن ابلقرآن من القرآن‪:‬‬
‫ال شك أن املرجع األساس‪ ،‬واملصدر األول يف معرفة معاين القرآن هو تفسري القرآن ابلقرآن من القرآن‪،‬‬
‫بعضا من األمثلة على تفسري القرآن ابلقرآن من‬ ‫فاهلل ‪ ‬هو املبني األول لكتابه الكرمي‪ ،‬وسأذكر ً‬
‫القرآن‪:‬‬
‫‪ -‬قال تعاىل‪﴿ُّ :‬أََال إِن أ َْولِيَاءَ اَّللِ َال َخ ْو ٌ‬
‫ف َعلَْي ِه ْم َوَال ُه ْم َْحيَزنُو َن﴾ [يونس‪ ،]٦2 :‬فقد فسر‬
‫ين َآمنُوا َوَكانُوا يَـتـ ُقو َن﴾ [يونس‪.]٦3 :‬‬ ‫ِ‬
‫أولياء هللا بقوله تعاىل‪﴿ُّ :‬الذ َ‬
‫‪ -‬وقال تعاىل‪َ ﴿:ُّ:‬والس َم ِاء َوالطا ِرِق (‪َ )1‬وَما أ َْد َر َاك َما الطا ِر ُق﴾ [الطارق‪ ،]2 ،1 :‬فقد فسر‬
‫ب﴾ [الطارق‪]3 :‬‬ ‫ِ‬
‫الطارق بقوله تعاىل‪﴿ُّ :‬الن ْج ُم الثاق ُ‬

‫‪ 1‬جمموع الفتاوى البن تيمية ‪.3٦1/13‬‬


‫‪ 2‬انظر‪ :‬شرح مقدمة يف أصول التفسري للطيار ص‪.2٩3-2٩2 :‬‬
‫‪ 3‬انظر‪ :‬شرح مقدمة يف أصول التفسري للطيار ص‪.2٩3-2٩2 :‬‬
‫‪27‬‬
‫‪ -‬وقال تعاىل‪﴿ُّ :‬الْ َقا ِر َعةُ (‪َ )1‬ما الْ َقا ِر َعةُ (‪َ )2‬وَما أ َْد َر َاك َما الْ َقا ِر َعةُ﴾ [القارعة‪ ،]3 - 1 :‬فقد‬
‫ال َكالْعِ ْه ِن‬ ‫اجلِبَ ُ‬ ‫اش الْمبـثُ ِ‬
‫وث (‪َ )4‬وتَ ُكو ُن ْ‬ ‫اس َكالْ َفَر ِ َ ْ‬ ‫فسر القارعة هنا بقوله تعاىل‪﴿ُّ:‬يَـ ْوَم يَ ُكو ُن الن ُ‬
‫وش﴾ [القارعة‪.]5 ،4 :‬‬ ‫الْ َمْنـ ُف ِ‬
‫منفصال فمثله‪:‬‬ ‫ً‬ ‫متصال‪ ،‬وأما ما كان‬ ‫واألمثلة السابقة يتضح لنا فيها أن التفسري جاء بعدها ً‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬قوله تعاىل‪ِ ِ ْ ﴿ُّ:‬‬
‫يبني هنا ما العاملون؟ وبني ذلك‬ ‫ني ﴾ [الفاحتة‪ ،]2 :‬فإنه مل ّ‬ ‫ب الْ َعالَم َ‬ ‫احلَ ْم ُد َّلل َر ِّ‬
‫ض‬ ‫ات َو ْاأل َْر ِ‬‫ب السماو ِ‬ ‫يف موضع آخر بقوله تعاىل‪﴿ُّ:‬قَ َال فِرعو ُن وما ر ُّ ِ‬
‫ني (‪ )23‬قَ َال َر ُّ َ َ‬ ‫ب الْ َعالَم َ‬ ‫ْ َْ ََ َ‬
‫ِِ‬
‫ني﴾ [الشعراء‪.]24 ،23 :‬‬ ‫َوَما بَـْيـنَـ ُه َما إِ ْن ُكْنـتُ ْم ُموقن َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يبني من هم الذين أنعم هللا‬ ‫ت َعلَْي ِه ْم﴾ [الفاحتة‪ ،]٧ :‬فهنا مل ّ‬ ‫ين أَنْـ َع ْم َ‬
‫‪ -‬وقوله تعاىل‪﴿ُّ:‬صَرا َط الذ َ‬
‫ِ‬
‫ين أَنْـ َع َم‬
‫ك َم َع الذ َ‬ ‫ول فَأُولَئِ َ‬
‫عليهم؟ وبني ذلك يف موضع آخر بقوله تعاىل‪َ ﴿ُّ:‬وَم ْن يُ ِط ِع اَّللَ َوالر ُس َ‬
‫ك َرفِي ًقا﴾ [النساء‪.]٦٩ :‬‬ ‫الص ِّد ِيقني والش ِ‬
‫ني َو َح ُس َن أُولَئِ َ‬ ‫ِِ‬
‫ُّه َداء َوالصاحل َ‬‫ني َو ّ َ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اَّللُ َعلَْي ِه ْم م َن النبِيِّ َ‬
‫‪ -2‬أمثلة يف تفسري القرآن ابلقرآن من النيب ‪‬‬
‫ك ال ِّذ ْكَر‬
‫لقد بني النيب ‪ ‬القرآن الكرمي للصحابة فيما أشكل عليهم‪ ،‬وقد قال ‪ ‬لنبيه ‪﴿:ُّ‬إِلَْي َ‬
‫ني لِلن ِ‬
‫اس َما نـُِّزَل إِلَْي ِه ْم َولَ َعل ُه ْم يَـتَـ َفك ُرو َن﴾ [النحل‪ ،]44 :‬فقد بني هللا ‪ ‬يف هذه اآلية؛ أن النيب‬ ‫ِ‬
‫لتُـبَـِّ َ‬
‫يبني للناس ما نزل إليهم وهو القرآن‪ ،‬وال خيفى أن السنة وحي من هللا ‪ ‬لقوله تعاىل‪َ ﴿ُّ :‬وَما‬ ‫‪ّ ‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وحى﴾ [النجم‪.]4 ،3 :‬‬ ‫يَـْنط ُق َع ِن ا ْهلََوى (‪ )3‬إ ْن ُه َو إال َو ْح ٌي يُ َ‬
‫ولذا فإن ورود تفسري القرآن ابلقرآن عن النيب ‪ ‬ال ميكن رده‪ ،‬ألنه وحي من هللا ‪.‬‬
‫ومن لطائف تفسري القرآن ابلقرآن؛ أن النيب ‪ ‬فسر آيتني من سورة األنعام آبيتني من سورة‬
‫لقمان‪ 1،‬ومن أمثلة تفسري القرآن ابلقرآن من النيب ‪:‬‬
‫ب﴾ [األنعام‪:‬‬ ‫‪ -‬عن سامل بن عبد هللا‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬أن رسول هللا ‪ ‬قال‪﴿ُّ " :‬و ِعْن َدهُ َم َفاتِح الْغَْي ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫اع ِة َويـُنَـِّزُل الْغَْي َ‬
‫ث َويَـ ْعلَ ُم َما ِيف ْاأل َْر َح ِام َوَما‬ ‫ِ ِ‬
‫‪ ]5٩‬األنعام‪ 5٩ :‬مخس‪﴿ُّ :‬ن اَّللَ عْن َدهُ ع ْل ُم الس َ‬
‫وت﴾ [لقمان‪ 2،" ]34 :‬فهنا‬ ‫َي أ َْرض ََتُ ُ‬ ‫ْسب َغ ًدا وَما تَ ْد ِري نَـ ْف ِ‬
‫س أب ِّ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫س َما َذا تَك ُ‬
‫ِ‬
‫تَ ْدري نَـ ْف ٌ‬

‫‪ 1‬ذكره الطيار يف حاشية كتابه مقاالت يف علوم القرآن وأصول التفسري ‪.1٩٨/1‬‬
‫ين َآمنُوا َوَملْ يـَْلبِ ُسوا إِميَانـَ ُه ْم بِظُْلم﴾ األنعام‪ .5٦/٦ ،5٩ :‬رقم‬ ‫ِ‬ ‫‪2‬‬
‫صحيح البخاري‪ ،‬كتاب‪ :‬تفسري القرآن‪ ،‬ابب‪ :‬قول هللا تعاىل‪﴿ُّ :‬الذ َ‬
‫احلديث‪.4٦2٧ :‬‬
‫‪28‬‬
‫فسر النيب ‪ ‬مفاتح الغيب وهي مخس‪( ،‬علم الساعة‪ ،‬وإنزال الغيث‪ ،‬وعلم ما يف األرحام‪ ،‬وما‬
‫غدا‪ ،‬وما تدري نفس أبي أرض َتوت)‪.‬‬ ‫تدري نفس ماذا تكسب ً‬
‫ين َآمنُوا َوَملْ يَـ ْلبِ ُسوا إِميَانَـ ُه ْم بِظُْلم﴾ [األنعام‪:‬‬ ‫ِ‬
‫‪ -‬وعن عبد هللا بن مسعود ‪ ،‬قال‪ :‬ملا نزلتُّ﴿الذ َ‬
‫‪ ،]٨2‬قلنا‪ :‬اي رسول هللا‪ ،‬أينا ال يظلم نفسه؟ قال ‪" :‬ليس كما تقولونُّ﴿ َوَملْ يَـ ْلبِ ُسوا إِميَانَـ ُه ْم‬
‫الش ْرَك لَظُْل ٌم َع ِظ ٌيم﴾‬ ‫بِظُْلم﴾بشرك‪ ،‬أومل تسمعوا إىل قول لقمان البنهُّ﴿ َايبـُ َين َال تُ ْش ِرْك ِابَّللِ إِن ِّ‬
‫[لقمان‪ 1،"]13 :‬وهنا فسر النيب ‪ ‬الظلم ابلشرك الذي هو أعظم الظلم‪.‬‬
‫‪ -‬عن سعيد بن املعلى ‪ ‬قال‪ :‬قال يل رسول هللا ‪«" :‬ألعلمنك سورة هي أعظم السور يف‬
‫القرآن‪ ،‬قبل أن خترج من املسجد»‪ .‬مث أخذ بيدي‪ ،‬فلما أراد أن خيرج‪ ،‬قلت له‪« :‬أمل تقل‬
‫ِ‬ ‫ألعلمنك سورة هي أعظم سورة يف القرآن»‪ ،‬قال‪ِ ِ ْ ﴿ُّ :‬‬
‫ني﴾ [الفاحتة‪]2 :‬‬ ‫احلَ ْم ُد َّلل َر ِّ‬
‫ب الْ َعالَم َ‬
‫«هي السبع املثاين‪ ،‬والقرآن العظيم الذي أوتيته»"‪ 2،‬وهنا فسر النيب ‪ ‬السبع املثاين والقرآن‬
‫اك َسْبـ ًعا ِم َن الْ َمثَ ِاين َوالْ ُق ْرآ َن الْ َع ِظ َيم﴾ [احلجر‪ ،]٨٧ :‬أبهنا‬
‫العظيم يف قوله تعاىل‪َ ﴿ُّ :‬ولََق ْد آتَـْيـنَ َ‬
‫سورة الفاحتة‬
‫ِ‬ ‫‪ِِ ْ ﴿ -‬‬
‫ني‪.﴾...،‬‬ ‫احلَ ْم ُد َّلل َر ِّ‬
‫ب الْ َعالَم َ‬
‫‪ -3‬أمثلة يف تفسري القرآن ابلقرآن من الصحابة والتابعني‬
‫سلك الصحابة ‪ ‬منهج النيب ‪ ‬يف تفسريه القرآن ابلقرآن‪ ،‬ففسروه به‪ ،‬وكان ذلك منهم‬
‫بعضا من األمثلة على تفسري القرآن ابلقرآن من الصحابة مث من التابعني ‪.‬‬
‫اجتهادا‪ ،‬وسأذكر ً‬
‫ً‬
‫‪ ‬تفسري القرآن ابلقرآن من الصحابة‪:‬‬
‫ت﴾ [التكوير‪ ]٧ :‬يزوج نظريه من أهل‬ ‫وس ُزِّو َج ْ‬ ‫‪ -‬عن عمر بن اخلطاب ‪ ‬قال‪ِ :‬‬
‫﴿وإ َذا النُّـ ُف ُ‬
‫َ‬
‫اجلنة والنار‪ ،‬مث قرأ‪﴿ :‬احشروا ال ِذين ظَلَموا وأ َْزواجهم وما َكانُوا يـعب ُدو َن﴾ [الصافات‪3،]22 :‬‬
‫َ ُْ‬ ‫َ ُ َ َ َ ُ ْ ََ‬ ‫ْ ُُ‬

‫‪ 1‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب‪ :‬أحاديث األنبياء‪ ،‬ابب‪ :‬قول هللا تعاىل‪﴿ُّ:‬واختذ هللا إبراهيم خليالً﴾ النساء‪ .141/4 ،125 :‬رقم احلديث‪:‬‬
‫‪.33٦0‬‬
‫‪ 2‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب‪ :‬تفسري القرآن‪ ،‬ابب‪ :‬ما جاء يف فاحتة الكتاب‪ .1٧/٦ ،‬رقم احلديث‪.44٧4 :‬‬
‫زمرا ‪ .1٦٦/٦‬وانظر‪ :‬جامع البيان‬ ‫‪3‬‬
‫صحيح البخاري‪ ،‬كتاب‪ :‬تفسري القرآن‪ ،‬ابب‪ :‬ﱡﭐ ﲈ ﲈ ﲈ ﲈ ﲈ ﲈ ﲎ ﱠ النبأ‪ً :1٨ :‬‬
‫للطربي ‪ .244/24‬ت شاكر‬
‫‪29‬‬
‫ت﴾ أبهنا القرانء واألمثال‬ ‫وس ُزِّو َج ْ‬ ‫فهنا ذكر عمر بن اخلطاب ‪ ‬قوله تعاىل‪ِ :‬‬
‫﴿وإ َذا النُّـ ُف ُ‬
‫َ‬
‫اج ُه ْم َوَما َكانُوا يَـ ْعبُ ُدو َن﴾‪ ،‬وليس‬ ‫ِ‬
‫ين ظَلَ ُموا َوأ َْزَو َ‬‫﴿اح ُش ُروا الذ َ‬ ‫والنظراء‪ ،‬وفسرها ابآلية األخرى ْ‬
‫ت النكاح‪.‬‬ ‫املراد بـ ـ ـ ـ ـ ُزِّو َج ْ‬
‫وع ﴾ [الطور‪ ،]5 :‬هو‬ ‫ف الْ َم ْرفُ ِ‬‫‪ -‬وعن خالد بن عُرعرة‪ ،‬قال‪ :‬مسعت عليًّا ‪ ‬يقول‪ ﴿ :‬والس ْق ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫السماء‪ ،‬قال‪ ﴿:‬وجع ْلنا السماء س ْق ًفا َحم ُفوظًا وهم عن ِ‬
‫ضو َن﴾ [األنبياء‪1،]32 :‬‬ ‫آايهتَا ُم ْع ِر ُ‬
‫َُْ َ ْ َ‬ ‫َ ََ َ َ َ َ ْ‬
‫وهنا ذكر علي ‪ ‬أن السقف هو السماء‪ ،‬وفسرها بقوله‪َ ﴿:‬و َج َع ْلنَا الس َماءَ َس ْق ًفا َْحم ُفوظًا ﴾‬
‫‪ -‬وعن عبد هللا بن مسعود وابن عباس ‪ ‬أهنما قاال يف قوله تعاىل‪ ﴿:‬قَالُوا ربـنَا أ ََمتـنَا اثْـنَـتَـ ْ ِ‬
‫ني‬ ‫َ‬
‫اعتَـَرفْـنَا بِ ُذنُوبِنَا فَـ َه ْل إِ َىل ُخ ُروج ِم ْن َسبِيل ﴾ [غافر‪ ،]11 :‬هذه اآلية كقوله‬ ‫ني فَ ْ‬‫َحيَـْيـتَـنَا اثْـنَـتَـ ْ ِ‬
‫َوأ ْ‬
‫َحيَا ُك ْم ۖ ُمث ُميِيتُ ُك ْم ُمث ُْحييِي ُك ْم ُمث إِلَْي ِه تُـ ْر َجعُو َن﴾‬ ‫ِ‬
‫ف تَ ْك ُف ُرو َن ِابَّلل َوُكنتُ ْم أ َْم َو ًاات فَأ ْ‬ ‫تعاىل‪َ ﴿: :‬كْي َ‬
‫[البقرة‪ 2،]2٨ :‬وهنا فسر ابن مسعود وابن عباس ‪ ‬قول هللا ‪ ﴿: :‬قَالُوا ربـنَا أ ََمتـنَا اثْـنَـتَـ ْ ِ‬
‫ني‬ ‫َ‬
‫ني ﴾أبهنا اليت يف سورة البقرة‪.‬‬ ‫َحيَـْيـتَـنَا اثْـنَـتَـ ْ ِ‬
‫َوأ ْ‬
‫‪ ‬تفسري القرآن ابلقرآن من التابعني‪:‬‬
‫‪ -‬عن جماهد قال يف قوله تعاىل‪ 14:‬املطففني‪ ،14 :‬الرجل يذنب الذنب‪ ،‬فيحيط الذنب بقلبه‬
‫ب‬‫حىت تغشى الذنوب عليه‪ ،‬قال جماهد‪ :‬وهي مثل اآلية اليت يف سورة البقرة ﴿بَـلَى َم ْن َك َس َ‬
‫اب النا ِر ُه ْم فِ َيها َخالِ ُدو َن﴾ [البقرة‪ 3،]٨1 :‬فهنا‬ ‫َص َح ُ‬ ‫كأ ْ‬ ‫ت بِِه َخ ِطيئَـتُهُ فَأُولَئِ َ‬ ‫َسيِّئَةً َوأ َ‬
‫َحاطَ ْ‬
‫فسر جماهد معىن الران أبنه اإلحاطة‪.‬‬
‫ف بَ ْل لَ َعنَـ ُه ُم اَّللُ بِ ُك ْف ِرِه ْم فَـ َقلِ ًيال َما‬
‫﴿وقَالُوا قُـلُوبـُنَا غُْل ٌ‬
‫‪ -‬وعن قتادة قال يف قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫وان إِلَْي ِه َوِيف آذَانِنَا َوقْـٌر‬ ‫ِ‬
‫﴿وقَالُوا قُـلُوبـُنَا ِيف أَكِنة مما تَ ْدعُ َ‬ ‫يـُ ْؤمنُو َن﴾ [البقرة‪ ،]88 :‬هو كقوله تعاىل‪َ :‬‬
‫ِ‬

‫‪ 1‬انظر‪ :‬جامع البيان للطربي ‪ .45٨/22‬ت شاكر‪ .‬وقد ذكر ذلك البخاري يف صحيحه ولكن مل ينسبه ألحد‪ ،‬انظر‪ :‬صحيح‬
‫البخاري‪ ،‬كتاب‪ :‬تفسري القرآن‪ ،‬ابب قوله تعاىل‪ :‬ﱡﭐ ﲈ ﲈ ﱳ ﱴ ﱵ ﲈ ﲈ ﲈ ﲈ ﱠ ق‪.13٩/٦ 3٩ :‬‬
‫‪ 2‬انظر‪ :‬جامع البيان للطربي ‪ .3٦0/21‬ت شاكر‪ .‬وتفسري القرآن العظيم البن كثري ‪ .133/٧‬مث قال ابن كثري بعد أن ذكر قويل‬
‫ابن مسعود وابن عباس‪ :‬وهذا هو الصواب الذي ال شك فيه وال مرية‪.‬‬
‫‪ 3‬انظر‪ :‬جامع البيان للطربي ‪ .2٨٩/24‬ت شاكر‪ .‬وقال الطربي يف تفسريه لآلية‪ :‬ﱡ" ﲈ ﲈ ﲈ ﱠ غلب على قلوهبم و َغ َمرها‬
‫وأحاطت هبا الذنوب فغطتها‪ ،‬يقال منه‪ :‬رانت اخلمر على عقله‪ ،‬فهي تَ ِرين عليه َريْنا‪ ،‬وذلك إذا سكر‪ ،‬فغلبت على عقله؛ ‪....‬‬
‫وبنحو الذي قلنا يف ذلك قال أهل التأويل‪ "...‬مث ذكر األقوال‪ ،‬وذكر منها قول جماهد‪.‬‬
‫‪30‬‬
‫اع َم ْل إِنـنَا َع ِاملُو َن﴾ [فصلت‪ 1،]5 :‬وهنا فسر قتادة معىن‬ ‫اب فَ ْ‬ ‫وِمن بـينِنَا وبـينِ َ ِ‬
‫ك ح َج ٌ‬ ‫َ ْ َْ َ َْ‬
‫الغلف‪ ،‬وهي األكنة‪.‬‬
‫‪ -‬وعن عبد الرمحن بن زيد بن أسلم قال يف قوله تعاىل ‪َ ﴿:‬و َجاءَ ُك ُم الن ِذ ُير ﴾ [فاطر‪،]3٧ :‬‬
‫ُوىل﴾ [النجم‪ ،]5٦ :‬وهنا فسر عبد‬
‫‪2‬‬
‫﴿ه َذا نَ ِذ ٌير ِم َن النُّ ُذ ِر ْاأل َ‬
‫قال‪ :‬النذير‪ :‬النيب‪ ،‬وقرأ ‪َ :‬‬
‫الرمحن بن زيد أن النذير يف قوله‪َ ﴿ :‬و َجاءَ ُك ُم الن ِذ ُير ﴾ هو النيب ‪.‬‬
‫‪ -4‬أمثلة يف تفسري القرآن ابلقرآن من املدونني يف التفسري‬
‫بعضا من‬ ‫ِ‬
‫الكثري ممَن َكتب يف التفسري اعتمد هذا الطريق‪ ،‬فمن مقل ومكثر‪ ،‬ولكن سأذكر ً‬
‫األمثلة ممن اعتمد وأكثر من ذلك يف تفسريه‪.‬‬
‫ضو َن َع ْه َد اَّللِ ِم ْن بَـ ْع ِد ِميثَاقِ ِه‬ ‫ين يَـْنـ ُق ُ‬
‫ِ‬
‫‪ -‬ابن جرير الطربي حيث قال عند تفسري قوله تعاىل‪﴿:‬الذ َ‬
‫اخل ِ‬ ‫ض أُولَئِ َ‬ ‫وصل َويـُ ْف ِس ُدو َن ِيف ْاأل َْر ِ‬ ‫ِِ‬
‫اس ُرو َن﴾ [البقرة‪:‬‬ ‫ك ُه ُم َْ‬ ‫َويَـ ْقطَعُو َن َما أ ََمَر اَّللُ به أَ ْن يُ َ َ‬
‫‪ ،]2٧‬والذي َرغب هللاُ يف َوصله وذم على قطعه يف هذه اآلية‪ :‬الرحم‪ .‬وقد بني ذلك يف‬
‫ض َوتُـ َق ِطّعُوا أ َْر َح َام ُك ْم﴾‬‫كتابه‪ ،‬فقال تعاىل‪﴿ :‬فَـ َه ْل َع َسْيـتُ ْم إِ ْن تَـ َولْيـتُ ْم أَ ْن تُـ ْف ِس ُدوا ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫[محمد‪ 3،]22 :‬فهنا ّبني الطربي ما رغبه هللا يف وصله‪ ،‬وذم على قطعه هو‪ :‬الرحم يف قوله‬
‫وص َل﴾ وفسرها بقوله تعاىل﴿ َوتُـ َق ِطّعُوا أ َْر َح َام ُك ْم﴾‪.‬‬ ‫ِ‬
‫﴿ويَـ ْقطَعُو َن َما أ ََمَر اَّللُ بِه أَ ْن يُ َ‬
‫تعاىل‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ك‬ ‫آات ُه ْم َربـُّ ُه ْم إِنـ ُه ْم َكانُوا قَـْب َل َذل َ‬
‫ين َما َ‬‫‪ -‬ابن كثري حيث قال عند تفسري قوله تعاىل‪﴿:‬آخذ َ‬
‫ني ﴾كقوله‪ُ ﴿:‬كلُوا َوا ْشَربُوا َهنِيئًا ِمبَا‬ ‫ِِ‬
‫ني﴾ [الذاريات‪ ،]16 :‬أي يف الدار الدنيا ﴿ ُْحمسن َ‬
‫ِِ‬
‫ُْحمسن َ‬
‫ِ‬ ‫‪4‬‬ ‫أَسلَ ْفتم ِيف ْاألَايِم ْ ِ‬
‫ك﴾ أي‬ ‫اخلَاليَ ِة﴾ [احلاقة‪ ،]24 :‬وهنا ّبني ابن كثري قوله تعاىل ﴿قَـْب َل ذَل َ‬ ‫ْ ُْ‬
‫اخلَالِيَ ِة﴾ ‪.‬‬
‫َسلَ ْفتُ ْم ِيف ْاألَايِم ْ‬ ‫ِ‬
‫يف الدنيا‪ ،‬بقوله تعاىل‪﴿ :‬مبَا أ ْ‬
‫ات َع ْدن يَ ْد ُخلُونَـ َها َْجت ِري ِم ْن َْحتتِ َها ْاألَنْـ َه ُار‬ ‫﴿جن ُ‬ ‫‪ -‬الشنقيطي حيث قال عند تفسري قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني﴾ [النحل‪ ]31 :‬يدل على أن تقوى هللا هو‬ ‫ك َْجي ِزي اَّللُ الْ ُمتق َ‬ ‫َهلُْم ف َيها َما يَ َشاءُو َن َك َذل َ‬

‫‪ 1‬انظر‪ :‬جامع البيان للطربي ‪ .32٦/2‬ت شاكر‪ .‬وتفسري القرآن العظيم البن كثري ‪.324/1‬‬
‫ﲈﲈ وهو الشيب‪ ،‬وهو قول‬
‫ﱠ‬ ‫‪ 2‬انظر‪ :‬جامع البيان للطربي ‪ .4٧٨/20‬ت شاكر‪ ،‬وقد ذكر الطربي قول آخر يف قوله‪ :‬ﱡﭐ ﲈ‬
‫ابن عباس وعكرمة‪ ،‬والصحيح الذي اختاره الطربي وابن كثري ‪ 55٦/٦‬هو قول قتادة‪ :‬احتج عليهم ابلعمر والرسل‪.‬‬
‫‪ 3‬انظر‪ :‬جامع البيان للطربي ‪ .415/1‬ت شاكر‬
‫‪ 4‬انظر‪ :‬تفسري القرآن العظيم البن كثري ‪ .41٦/٧‬ت سالمة‬
‫‪31‬‬
‫السبب الذي به تنال اجلنة‪ ،‬وقد أوضح تعاىل هذا املعىن يف مواضع أخر‪ ،‬كقوله تعاىل﴿تِْل َ‬
‫ك‬
‫﴿و َسا ِرعُوا إِ َىل َم ْغ ِفَرة‬ ‫ِ‬ ‫اجلنةُ ال ِيت نُوِر ُ ِ ِ ِ‬
‫ث م ْن عبَاد َان َم ْن َكا َن تَقيًّا﴾ [مرمي‪ ،]٦3 :‬وقوله تعـ ـ ـ ــاىل‪َ :‬‬ ‫َْ‬
‫ني﴾ [آل عمران‪ ،]133 :‬وقوله‬ ‫ِمن ربِ ُكم وجنة عرضها السماوات و ْاألَرض أ ُِعد ِ ِ‬
‫ت ل ْل ُمتق َ‬
‫ْ‬ ‫ْ َّ ْ َ َ َ ْ ُ َ َ َ ُ َ ْ ُ‬
‫تعاىل‪﴿:‬إِن الْمت ِقني ِيف جنات وعيون﴾ [الذارايت‪ ]15 :‬إىل غري ذلك من اآلايت‪1.‬‬
‫ُ َ َ َ ُُ‬

‫أمثلة يف تفسري القرآن ابلقرآن ليست صحيحة‬ ‫‪-5‬‬


‫جيب أن يُعلم أن تفسري القرآن ابلقرآن ال يقتصر على أصحاب املنهج احلق‪ ،‬بل جتد ذلك عند‬
‫أهل البدع وغريهم‪ ،‬وجتدهم يلوون النصوص‪ ،‬ويستشهدوا ببعضها ليوافق مذهبهم‪ ،‬فمن ذلك‪:‬‬
‫‪ -‬قال أمحد الزيدي املعتزيل قال‪" :‬وسألت عن قوله تعاىل‪﴿ :‬وَال يـْنـ َفع ُكم نُ ِ‬
‫ت أَ ْن‬ ‫صحي إِ ْن أ ََرْد ُ‬ ‫َ َ ُ ْ ْ‬
‫يد أَ ْن يـُ ْغ ِويَ ُك ْم ُه َو َربُّ ُك ْم َوإِلَْي ِه تُـ ْر َجعُو َن﴾ [هود‪ ،]34 :‬كأهنم يرون‬
‫ص َح لَ ُك ْم إِ ْن َكا َن اَّللُ يُِر ُ‬
‫أَنْ َ‬
‫أن القول على أن هللا ‪ ‬يريد أن مينعهم من اإلميان‪ ،‬ومما أمرين أن أدعوكم إليه من احلق!‬
‫وليس وجه اآلية كما ظنت اجملربة‪ ،‬وإمنا عىن نوح ‪ :‬إن كان يريد عذابكم فلن ينفعكم‪،‬‬
‫ِِ‬
‫َضاعُوا الص َالةَ‬ ‫ف ِم ْن بَـ ْعده ْم َخ ْل ٌ‬
‫فأ َ‬ ‫والعذاب هو الغي‪ ،‬أال ترى أن هللا ‪ ‬يقول‪﴿:‬فَ َخلَ َ‬
‫ف يـ ْل َقو َن َغيًّا﴾ [مريم‪]59 :‬؛ يقول‪ :‬فسوف يلقون عذااب‪2."...‬‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫َواتـبَـعُوا الش َه َوات فَ َس ْو َ َ ْ‬
‫فهذا التفسري ظاهره تفسري قرآن بقرآن‪ ،‬لكنه خطأ حمض‪ ،‬وحتريف ظاهر بسبب شبهة عقلية‬
‫اعتزالية‪ ،‬وهي عدم جواز اإلغواء على هللا ‪ ‬ألنه قبيح‪ ،‬وهللا ال يفعل القبيح‪ ،‬فَ َح َم َل معىن‬
‫"يغويكم" على معىن العذاب‪ ،‬وهو ليس كذلك‪ ،‬بل هو مبعىن اإلضالل‪ ،‬مث استشهد لذلك‬
‫ف يـ ْل َقو َن َغيًّا﴾ ‪3.‬‬
‫أبحد أوجه تفسري قوله تعاىل‪﴿ :‬فَ َس ْو َ َ ْ‬

‫‪ 1‬انظر‪ :‬أضواء البيان للشنقيطي ‪.323/3‬‬


‫‪ 2‬رسالة الرد على مسائل اإلابضية‪ ،‬طُبع بعنوان‪ :‬اخلوارج طليعة التكفري يف اإلسالم‪ ،‬ص‪.151-150 :‬‬
‫‪ 3‬انظر‪ :‬شرح مقدمة أصول التفسري للطيار ص‪.2٧5-2٧4 :‬‬
‫‪32‬‬
‫ت بِيَ ِمينِ ِه﴾ [الزمر‪" ،]٦٧ :‬أشبه‬ ‫ات َمطْ ِواي ٌ‬
‫‪ -‬وقال ابن اللبان يف تفسري قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬والس َم َاو ُ‬
‫شيء ذكره املفسرون يف معىن الطي أنه مبعىن اإلخفاء؛ أي‪ :‬والسماوات قد خفيت حقائقها‬
‫ِ‬
‫ض‬‫﴿وأَ ْشَرقَت ْاأل َْر ُ‬
‫بيمينه يف نور جتليها‪ ،‬فليس ألهل املوقف مساء إال نورها‪ ،‬ويؤيده قوله‪َ :‬‬
‫بِنُوِر َرِّهبَا﴾ [الزمر‪ ،]69 :‬فال مساء ألهل املوقف إال حجاب نوره‪ ،‬وال ظل إال ظل عرشه‪،‬‬
‫ت﴾ [التكوير‪:‬‬ ‫س ُك ِّوَر ْ‬ ‫ِ‬
‫والطي على هذا موافق ملعىن الكشط يف قوله تعاىل‪﴿ :‬إ َذا الش ْم ُ‬
‫‪ 1،"]1‬فهنا خالف ابن اللبان مجيع املفسرين‪ ،‬فذهب إىل أتويل اليمني ابلنور‪ ،‬وأتويل الطي‬
‫مستدال على ذلك بتفسري القرآن ابلقرآن‪.‬‬
‫ً‬ ‫ابلكشط‪،‬‬
‫تفسري القرآن ابلسنة‪:‬‬
‫السنة يف اللغة‪ :‬هي السرية والطريقة حسنةً كانت أو قبيحة ومنه قوله تعاىل‪ُ ﴿ُّ :‬سنةَ َم ْن قَ ْد أ َْر َس ْلنَا‬
‫اإل ْس َالِم ُسنةً‬ ‫ك ِم ْن ر ُسلِنَا وَال َِجت ُد لِسنتِنَا َْحت ِو ًيال﴾ [اإلسراء‪ ،]٧٧ :‬ومنه قوله ‪َ (( ‬م ْن َسن ِيف ِْ‬
‫ُ‬ ‫قَـْبـلَ َ ُ َ‬
‫ُجوِرِه ْم َش ْيءٌ َوَم ْن َسن ِيف‬ ‫ص م ْن أ ُ‬
‫حسنَةً فَـع ِمل ِهبا بـع َده ُكتِب لَه ِمثْل أَج ِر من ع ِمل ِهبا وَال يـْنـ ُق ِ‬
‫َ َ ُ َ َ َْ ُ َ ُ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ َ ُ‬
‫ص ِم ْن أ َْوَزا ِرِه ْم َش ْيءٌ ))‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ب َعلَْيه مثْ ُل ِوْزِر َم ْن َعم َل هبَا َوَال يـَْنـ ُق ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ْاإل ْس َالم ُسنةً َسيّئَةً فَـعُم َل هبَا بَـ ْع َدهُ ُكت َ‬
‫(‪)2‬‬

‫أما اًلصطالح‪ :‬فالسنة يف اصطالح العلماء ختتلف ابختالف أغراضهم وفنوهنم‪ ،‬فالسنة عند األصوليني‬
‫مثالً ختتلف عن السنة يف اصطالح الفقهاء احملدثني واملؤرخني‪.‬‬
‫كما أن السنة قد تطلق يف مقابلة البدعة فيقال فالن على سنة‪ ،‬إذا كان عمله موافقاً ملا جاء به النيب‬
‫(‪)3‬‬
‫‪ .‬وقد تطلق السنة على ما عمل عليه الصحابة ‪.‬‬
‫والذي أود بيانه هو أن املراد ابلسنة يف هذا املبحث هو‪ :‬السنة ابصطالح األصوليني واحملدثني وهي‪:‬‬
‫(‪)4‬‬
‫ما أُثر عن النيب ‪ ‬من قول أو فعل أو تقرير‪.‬‬
‫‪ -‬تعريف التفسري ابلسنة تعريفاً مركباً‪:‬‬
‫التفسري ابلسنة ابختصار هو بيان السنة للقرآن‪.‬‬

‫‪ 1‬انظر‪ :‬إزالة الشبهات عن اآلايت املتشاهبات البن اللبان ص‪.152 :‬‬


‫(‪ )2‬أخرجه اإلمام مسلم يف كتاب العلم ‪ :‬ابب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إىل هدى أو ضاللة‪.‬‬
‫(‪ )3‬حجية السنة ‪ -‬د‪ .‬عبدالغين عبداخلالق ‪ ،‬ط مطابع الوفاء (ص ‪) 45‬‬
‫(‪ )4‬انظر السنة ومكانتها يف التشريع اإلسالمي‪ -‬د‪ .‬مصطفى السباعي ص‪.4٧‬‬

‫‪33‬‬
‫وتفصيال هو ما ورد عن النيب ‪ ‬من قول أو فعل أو تقرير يف بيان معاين القرآن (‪.)1‬‬
‫فمثال ما ورد عنه من قول يف تفسري اآلية‪:‬‬
‫ِ‬
‫ما رواه عقبة بن عامر ‪ ‬يقول‪ :‬مسعت رسول هللا ‪ ‬وهو على املنرب‪ ،‬يقول‪َ ﴿ُّ:‬وأَع ُّدوا َهلُْم َما ْ‬
‫استَطَ ْعتُ ْم‬
‫ِم ْن قُـوة﴾ [األنفال‪ ]٦0 :‬أال إن القوة الرمي‪ ،‬أال إن القوة الرمي‪ ،‬أال إن القوة الرمي)) ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬

‫مثال ما ورد عنه من فعل يف تفسري اآلية‪:‬‬


‫يف حديث جابر ‪ ‬الطويل يف صفة احلج قال‪" :‬حىت إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثالاث‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫صلًّى﴾ [البقرة‪:‬‬ ‫ومشى أربعا مث نفذ إىل مقام إبراهيم عليه السالم فقرأ‪َ ﴿ُّ :‬واخت ُذوا م ْن َم َقام إِبْـَراه َيم ُم َ‬
‫‪]125‬‬
‫فجعل املقام بينه وبني البيت فكان أيب يقول وال أعلمه ذكره إال عن النيب ‪ ‬كان يقرأ يف الركعتني‬
‫ُّ﴿قل هو هللا أحد﴾ وُّ﴿قل اي أيها الكافرون﴾ مث رجع إىل الركن فاستلمه مث خرج من الباب إىل الصفا‬
‫(‪)3‬‬
‫فلما دان من الصفا قرأ‪﴿ُّ :‬إن الصفا واملروة من شعائر هللا﴾ أبدأ مبا بدأ هللا به فبدأ ابلصفا‪"..‬‬
‫احلديث‪.‬‬
‫قال الشيخ الشنقيطي ‪-‬رمحه هللا‪ -‬يف سياق حبثه لبعض مسائل احلج‪" :‬أفعاله ‪ --‬يف حجته؛ تفسري‬
‫(‪)4‬‬
‫آلايت احلج" ‪.‬‬
‫مثال ما ورد عنه من تقرير يف تفسري اآلية‪:‬‬
‫عن عمرو بن العاص ‪ ‬أنه قال‪ :‬ملا بعثه رسول هللا ‪ ‬عام ذات السالسل‪ ،‬قال‪ :‬فاحتلمت يف ليلة‬
‫ابردة شديدة الربد‪ ،‬فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك‪ ،‬فتيممت مث صليت أبصحايب صالة الصبح‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فلما قدمنا على رسول هللا ‪ ‬ذكرت ذلك له‪ ،‬فقال‪(( :‬اي عمرو‪ ،‬صليت أبصحابك وأنت جنب؟))‬
‫قال‪ :‬قلت‪ :‬نعم اي رسول هللا‪ ،‬إين احتلمت يف ليلة ابردة شديدة الربد‪ ،‬فأشفقت إن اغتسلت أن‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫يما﴾ [النساء‪]2٩ :‬‬‫أهلك‪ ،‬وذكرت قول هللا عز وجل‪َ ﴿ُّ :‬وَال تَـ ْقتُـلُوا أَنْـ ُف َس ُك ْم إن اَّللَ َكا َن ب ُك ْم َرح ً‬

‫(‪ )1‬انظر ( التفسري النبوي ) ‪. 55 /1‬‬


‫(‪ )2‬صحيح مسلم (‪.)1522 /3‬‬
‫(‪ )3‬خمتصر صحيح مسلم للمنذري ت األلباين (‪.)1٨٧ /1‬‬
‫(‪ )4‬أضواء البيان ‪.4٩٦ :4‬‬

‫‪34‬‬
‫(‪)1‬‬
‫فتيممت‪ ،‬مث صليت‪ ،‬فضحك رسول هللا ‪ ‬ومل يقل شيئا ‪ ،‬وهذا تقرير منه ‪ ‬يفيد يف معىن‬
‫(‪)2‬‬
‫اآلية ‪.‬‬
‫مسألة‪ :‬الفرق بني "التفسري النبوي" و "التفسري ابلسنة"‪:‬‬
‫اختلف بعض املعاصرين يف التفريق بني مصطلحي التفسري النبوي والتفسري ابلسنة فمن قال ابلفرق‬
‫خصص ( التفسري النبوي ) وحدده يف إرادة التفسري فعرفه أبنه‪ :‬هو كل قول أو فعل صدر عن النيب‬
‫(‪)3‬‬
‫‪ ‬صرحيا يف إرادة التفسري وذلك مثل‪:‬‬
‫ما روي عن أيب سعيد اخلدري ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول هللا ‪ " :‬يدعى نوح يوم القيامة‪ ،‬فيقول‪ :‬لبيك‬
‫وسعديك اي رب‪ ،‬فيقول‪ :‬هل بلغت؟ فيقول‪ :‬نعم‪ ،‬فيقال ألمته‪ :‬هل بلغكم؟ فيقولون‪ :‬ما أاتان من‬
‫نذير‪ ،‬فيقول‪ :‬من يشهد لك؟ فيقول‪ :‬حممد وأمته‪ ،‬فتشهدون أنه قد بلغ‪﴿ُّ :‬ويكون الرسول عليكم‬
‫ك َج َع ْلنَا ُك ْم أُمةً َو َسطًا لِتَ ُكونُوا ُش َه َداءَ َعلَى‬ ‫ِ‬
‫شهيدا﴾ [البقرة‪ ]143 :‬فذلك قوله جل ذكره‪َ ﴿ُّ :‬وَك َذل َ‬
‫يدا﴾ [البقرة‪ (( ]143 :‬والوسط‪ :‬العدل))(‪.)4‬‬ ‫ول َعلَْي ُك ْم َش ِه ً‬ ‫الن ِ‬
‫اس َويَ ُكو َن الر ُس ُ‬
‫ففسر النيب ‪ ‬هنا الوسط ابلعدل‪.‬‬
‫فيعرف أبنه استعمال املفسر للسنة يف بيان معاين القرآن الكرمي‪ ،‬واستفادته‬
‫أما ( التفسري ابلسنة ) ّ‬
‫منها‪ ،‬سواء كان هذا املفسر صحابياً أو اتبعياً أو إماماً من أئمة املفسرين‪ ،‬وذلك أبن يربط املفسر بني‬
‫معىن اآلية ومعىن احلديث‪ ،‬أو يذكر أبن احلديث فيه إشارة لتلك اآلية‪،‬‬
‫فيكون ذلك الربط وتلك اإلشارة من عمل املفسر واجتهاده‪ ،‬وأمثلة هذا كثرية عن الصحابة والتابعني‬
‫وأئمة التفسري وتكون يف حكم االجتهاد ال القطع مبعىن تفسري اآلية ومن ذلك‪:‬‬
‫صلى اَّللُ َعلَْي ِه َو َسل َم‪َ (( :‬ما ِم ْن َم ْولُود يُولَ ُد‬ ‫قول الصحايب اجلليل أبو هريرة ‪‬ـ قَ َال رس ُ ِ‬
‫ول اَّلل َ‬ ‫َُ‬
‫إِال ََنَسه الشيطَا ُن فَـيستَ ِه ُّل صا ِرخا ِمن ََنْس ِة الشيطَ ِ‬
‫ان إِال ابْ َن َم ْرَميَ َوأُمهُ ُمث قَ َال أَبُو ُهَريْـَرَة اقْـَرءُوا إِ ْن‬ ‫َ ً ْ َ ْ‬ ‫َْ‬ ‫َُ ْ‬
‫(‪)5‬‬
‫ان الرِجي ِم﴾ [آل عمران‪))]3٦ :‬‬ ‫ك وذُ ِريـتَـها ِمن الشيطَ ِ‬ ‫ِ‬
‫شْئـتُ ْم ُّ﴿ َوإِِّين أُعي ُذ َها بِ َ َ ّ َ َ ْ‬
‫ِ‬
‫اان َعلِيًّا﴾ [مرمي‪]5٧ :‬‬ ‫وكذلك قول التابعي قتادة ‪-‬رمحه هللا‪ -‬يف قول هللا تعاىلُّ﴿ َوَرفَـ ْعنَاهُ َم َك ً‬

‫(‪ )1‬احلديث مسند أمحد خمرجا (‪.)34٦ /2٩‬‬


‫(‪ )2‬ذكر هذه األمثلة وغريها يف ( التفسري النبوي ) ‪ 55 /1‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬مقاالت يف علوم القرآن وأصول التفسري ص ‪.13٩‬‬
‫(‪ )4‬أخرجه البخاري يف صحيحه حديث رقم ( ‪) 44٨٧‬‬
‫(‪ )5‬أخرجه أمحد يف( مسنده ) ‪ ، 10٦ /12‬حديث رقم ( ‪. ) ٧1٨2‬‬

‫‪35‬‬
‫قال حدثنا أنس بن مالك أن نيب هللا ‪ ‬قال‪ (:‬ملا عرج يب رأيت إدريس يف السماء الرابعة )(‪.)1‬‬
‫كذلك أيضا ما ذكره ابن كثري عند تفسري قوله تعاىل‪﴿ُّ :‬وقَاتِلُوهم حىت َال تَ ُكو َن فِْتـنَةٌ وي ُكو َن ال ِّدين َِّللِ‬
‫ُ‬ ‫ََ‬ ‫َ ُْ َ‬
‫ين َِّللِ﴾ أي يكون دين‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ني﴾ [البقرة‪ ]1٩3 :‬قال‪َ ﴿ُّ:‬ويَ ُكو َن ال ّد ُ‬ ‫فَِإن انْـتَـ َه ْوا فَ َال عُ ْد َوا َن إِال َعلَى الظالم َ‬
‫هللا هو الظاهر العايل على سائر األداين‪ ،‬كما ثبت يف الصحيحني عن أيب موسى األشعري ‪ ‬قال‪:‬‬
‫سئل النيب ‪ ‬عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل محية ويقاتل رايء‪ ،‬أي ذلك يف سبيل هللا ؟ فقال‪" :‬‬
‫(‪)2‬‬
‫من قاتل لتكون كلمة هللا هي العليا فهو يف سبيل هللا"‬
‫وبناء على هذا يكون مصطلح (تفسري القرآن ابلسنة) أعم من مصطلح (التفسري النبوي) (‪.)3‬‬
‫وهناك من يرى عدم التفريق بني املصطلحني‪ ،‬ويعرف كال من (التفسري النبوي) و (التفسري ابلسنة)‬
‫بتعريف واحد وهو‪ ( :‬ما ورد عن النيب ‪‬ـ من قول أو فعل أو تقرير يف بيان معاين القرآن)‪ .‬ألن‬
‫السنة عبارة عن ما أضيف إىل النيب ‪ ‬من قول أو فعل أو تقرير‪ ،‬وهلذا يقال السنة النبوية‪ ،‬وحينما‬
‫نقول التفسري ابلسنة فاملراد هبا ـ كما هو معلوم ـ السنة النبوية‪ ،‬فآل األمر يف التعبريين ـ (التفسري ابلسنة)‬
‫و (التفسري النبوي) إىل إضافته إىل النيب ‪‬ـ فكل ما ورد عن النيب ‪‬ـ من قول أو فعل أو تقرير يفيد‬
‫(‪)4‬‬
‫يف تفسري القرآن وبيان معناه‪ ،‬فهو تفسري نبوي وتفسري ابلسنة النبوية‪.‬‬
‫"والذي يظهر أن هناك فرقا بني املصطلحني على اعتبار من أضيف إليه‪:‬‬
‫فالتفسري النبوي‪ :‬هو البيان اللفظي القويل للنيب ‪ ‬يف بيان معاين اآلايت أي يكون املفسر فيه هو‬
‫قوله ‪.‬‬
‫أما التفسري ابلسنة‪ :‬فيكون املفسر فيه هو النيب ‪ ‬ويكون غريه من الصحابة والتابعني وغريهم من‬
‫أئمة املفسرين وذلك يف تفسريهم القرآن بسنة الرسول ‪ ‬قوال وفعال وتقريرا‪ ،‬ويضاف قسم اثلث‪ :‬وهو‬
‫(تفسري السنة للقرآن) فيكون من عمل الرسول ‪ ‬وتقريره يف تفسري اآلية‪ ،‬وهبذا يكون (التفسري‬
‫النبوي) و(تفسري السنة للقرآن) من أقسام (التفسري ابلسنة)‪ ،‬وجزء من أجزائها‪.‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه الرتمذي يف ( اجلامع الصحيح ) حديث رقم ( ‪. ) 315٧‬‬


‫(‪ )2‬انظر تفسري ابن كثري ‪ ،2٨3 /1‬واحلديث أخرجه البخاري رقم ( ‪، ) ٧45٨‬ومسلم رقم (‪. )202٩‬‬
‫(‪ )3‬مقاالت يف علوم القرآن وأصول التفسري ص ‪. 13٩‬‬
‫(‪ )4‬التفسري النبوي ‪55 /1‬‬

‫‪36‬‬
‫‪ -‬أنواع التفسري النبوي‪:‬‬
‫ميكن حصر أنواع التفسري النبوي يف األنواع التالية‪:‬‬
‫النوع األول‪ :‬أن ينص النيب ‪ ‬على تفسري آية أو لفظة وله أسلوابن‪:‬‬
‫األسلوب األول‪ :‬أن يذكر ‪ ‬اآلية‪ ،‬مث يفسرها‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ت َر ُسوَل هللاِ ‪َ ‬وُه َو َعلَى الْ ِمْنـ َِرب‪ ،‬يَـ ُق ُ‬
‫ول‪َ ﴿ُّ:‬وأَع ُّدوا َهلُْم َما ْ‬
‫استَطَ ْعتُ ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كحديث ُع ْقبَةَ بْ َن َعامر‪ ،‬قال‪َ :‬مس ْع ُ‬
‫ِم ْن قُـوة﴾ [األنفال‪ ،]٦0 :‬أََال إِن الْ ُقوَة الرْم ُي‪ ،‬أََال إِن الْ ُقوَة الرْم ُي‪ ،‬أََال إِن الْ ُقوَة الرْم ُي )) فبني معىن‬
‫(‪)1‬‬
‫القوة ابلرمي ‪.‬‬
‫األسلوب الثاين‪ :‬أن يذكر النيب ‪ ‬التفسري مث يذكر اآلية‪:‬‬
‫مثاله ما رواه البخاري ومسلم عن أيب موسى األشعري ‪ :‬قال رسول هللا ‪:‬إن هللا ليملي للظامل‪،‬‬
‫َخ َذهُ أَلِ ٌيم َش ِدي ٌد﴾‬ ‫ِ ِ‬
‫َخ َذ الْ ُقَرى َوه َي ظَال َمةٌ إِن أ ْ‬ ‫ك إِ َذا أ َ‬‫َخ ُذ َربِّ َ‬
‫كأْ‬
‫ِ‬
‫حىت إذا أخذه مل يفلته‪ ،‬مث قرأ ُّ﴿ َوَك َذل َ‬
‫[هود‪ ،]102 :‬بني هنا أن األخذ أليم شديد‪.‬‬
‫يل فَـ َق َال‪ :‬إِِّين‬‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وحديث أيب هريرة ‪ ‬قال‪ :‬قَ َال رس ُ ِ‬
‫َحب َعْب ًدا‪َ ،‬د َعا ج ْرب َ‬ ‫ول هللا ‪ " ‬إن هللاَ إ َذا أ َ‬ ‫َُ‬
‫ب‬‫ول‪ :‬إِن هللاَ ‪ -‬عز وجل ‪ُِ -‬حي ُّ‬ ‫يل‪ُ ،‬مث يـُنَ ِادي ِيف أ َْه ِل الس َم ِاء‪ ،‬فَـيَـ ُق ُ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ب فَُال ًان فَأَحبهُ‪ ،‬قَ َال‪ :‬فَـيُحبُّهُ ج ْرب ُ‬
‫أِ‬
‫ُح ُّ‬
‫ين َآمنُوا‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫َحبُّوه‪ ،‬فَـي ِحبُّه أَهل السم ِاء ُمث تُوضع لَه الْمحبةُ ِيف أَه ِل ْاألَر ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ك قَـ ْو ُل هللاُّ﴿إن الذ َ‬ ‫ض فَ َذل َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َُ ُ َ َ‬ ‫فَُال ًان فَأ ُ ُ ُ ْ ُ َ‬
‫(‪)2‬‬
‫ات َسيَ ْج َع ُل َهلُُم الر ْمحَ ُن ُوًّدا﴾ [مرمي‪ )]٩٦ :‬احلديث‪.‬‬ ‫ِ‬
‫احل ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َعملُوا الص َ‬

‫(‪ )1‬رواه مسلم‪.‬‬


‫(‪ )2‬قال الشيخ شعيب األرانؤوط‪ :‬إسناده صحيح‪ .‬ينظر اجلامع الصحيح للسنن واملسانيد (‪.)22٨ /1‬‬

‫‪37‬‬
‫النوع الثاين‪ :‬أن يرد إشكال على الصحابة يف فهم آية‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض‬
‫ط ْاألَبْـيَ ُ‬ ‫اخلَْي ُ‬
‫ني لَ ُك ُم ْ‬‫ت‪َ ﴿ُّ:‬وُكلُوا َوا ْشَربُوا َحىت يَـتَـبَـ َ‬‫ي بْ ِن َحاِت ‪ ،‬قَ َال‪ :‬لَما نَـَزلَ ْ‬ ‫عن َعد ِّ‬ ‫من أمثلته ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اخلي ِط ْاأل ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ض‪ ،‬فَ َج َع ْلتُـ ُه َما‬ ‫َس َوَد‪َ ،‬وإِ َىل ع َقال أَبْـيَ َ‬
‫ت إِ َىل ع َقال أ ْ‬ ‫َس َود م َن الْ َف ْج ِر﴾ [البقرة‪َ ]1٨٧ :‬ع َم ْد ُ‬ ‫ْ‬ ‫م َن َْْ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫َْحتت ِوسادِيت‪ ،‬فَجع ْلت أَنْظُر ِيف اللي ِل‪ ،‬فَالَ يستبِني ِيل‪ ،‬فَـغَ َدوت علَى رس ِ ِ‬
‫ت لَهُ َذل َ‬ ‫ول اَّلل ‪ ،‬فَ َذ َك ْر ُ‬ ‫ْ ُ َ َُ‬ ‫َ َْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ََ ُ ُ‬ ‫َ ََ‬
‫ِ‬
‫اض النـ َها ِر)) بني هنا اخليط األبيض ببياض النهار واخليط األسود‬ ‫ك َس َو ُاد اللْي ِل َوبَـيَ ُ‬ ‫فَـ َق َال‪(( :‬إِمنَا َذل َ‬
‫(‪)1‬‬
‫بسواد الليل‪.‬‬
‫ين َآمنُوا َوَملْ يَـ ْلبِ ُسوا إِميَانَـ ُه ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ت ُّ﴿الذ َ‬ ‫ومن أمثلته أيضاً َع ْن َعْبد اَّلل بن مسعود ‪ ،‬قَ َال‪ :‬لَما نَـَزلَ ْ‬
‫ول اَّللِ‪ ،‬أَيـُّنَا الَ يَظْلِ ُم نَـ ْف َسهُ؟ قَ َال‪:‬‬ ‫ك َهلُُم ْاألَ ْم ُن َوُه ْم ُم ْهتَ ُدو َن﴾ [األنعام‪ ]٨2 :‬قُـ ْلنَا‪َ :‬اي َر ُس َ‬ ‫بِظُْلم أُولَئِ َ‬
‫س َك َما تَـ ُقولُو َن ُّ﴿ َوَملْ يـَْلبِ ُسوا إِميَانَـ ُه ْم بِظُْلم﴾بِ ِش ْرك‪ ،‬أ ََوَملْ تَ ْس َمعُوا إِ َىل قَـ ْوِل لُْق َما َن ِالبْنِ ِه ُّ﴿ َايبـُ َين َال‬‫((لَْي َ‬
‫الش ْرَك لَظُْل ٌم َع ِظ ٌيم﴾ [لقمان‪ ))]13 :‬بني أن املراد ابلظلم هنا هو الشرك‪ ،‬فحدد أن‬ ‫تُ ْش ِرْك ِابَّللِ إِن ِّ‬
‫سياق اآلية حمكم ملدلول اآلية‪ ،‬وهذا يدل على أن تفسري النيب من أجود التفاسري وال شك‪.‬‬
‫النوع الثالث‪ :‬أن يسأله الصحابة عن معىن آلية فيفسرها هلم‪:‬‬
‫ت أ ََاب الد ْرَد ِاء َع ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫من أمثلته رواه والرتمذي َع ْن َعطَاء بْ ِن يَ َسار َع ْن َر ُجل م ْن أ َْه ِل م ْ‬
‫صَر قَ َال َسأَلْ ُ‬
‫َح ٌد َغْيـ ُرَك إِال‬
‫الدنْـيَا﴾ [يونس‪ ]٦4 :‬فَـ َق َال َما َسأَلَِين َعْنـ َها أ َ‬ ‫قَـ ْوِل اَّللِ تَـ َع َاىل‪َ ﴿ُّ:‬هلُُم الْبُ ْشَرى ِيف ْ‬
‫احلَيَاةِ ُّ‬
‫الرْؤاي الص ِ‬ ‫ول اَّللِ ‪ ‬فَـ َق َال ما سأَلَِين عْنـها أَح ٌد َغيـرَك مْن ُذ أُنْ ِزلَ ِ‬ ‫ِ‬
‫احلَةُ‬ ‫ت "ه َي ُّ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ َ َ ُْ ُ‬ ‫َر ُج ٌل َواح ٌد ُمْن ُذ َسأَلْ ُ‬
‫ت َر ُس َ‬
‫يَـَر َاها الْ ُم ْسلِ ُم أ َْو تُـَرى لَه " فجاء السؤال صرحياً فبني معىن البشرى ابلرؤاي الصاحلة‪.‬‬
‫‪ -‬أنواع تفسري السنة للقرآن‪:‬‬
‫يتأول النيب ‪ ‬القرآن فيعمل أبمره ويرتك هنيه‪:‬‬ ‫النوع األول‪ :‬أن َّ‬
‫أتول النيب ‪ :‬ما يقوم به ‪ ‬من أفعال تكون مفسرة للخطاب القرآين‪ ،‬وموضحة للمراد منه‬ ‫ّ‬
‫وع ِه وسج ِ‬
‫ودهِ‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫يب ‪ ‬يُكْثُِر أَ ْن يَـ ُق َ‬
‫ول ِيف ُرُك َ ُ ُ‬ ‫فمثاله‪ :‬ما روي عن عائشة –رضي هللا عنها‪َ " :-‬كا َن النِ ُّ‬
‫ك الل ُهم َربـنَا َوِحبَ ْم ِد َك الل ُهم ا ْغ ِف ْر ِيل " يَـتَأ ََّو ُل ال ُق ْرآ َن"‪ .‬أي يعمل مبا فيه من أمر كقوله تعاىل‬‫ُسْب َحانَ َ‬
‫استَـ ْغ ِف ْرهُ إِنهُ َكا َن تَـو ًااب﴾ [النصر‪ ،]3 :‬فقوله هذا عمل مبا يف اآلية وتفسري هلا‪.‬‬ ‫ك َو ْ‬
‫ِ‬
‫ُّ﴿فَ َسبِّ ْح ِحبَ ْمد َربِّ َ‬

‫النوع الثاين‪ :‬أن يشري النيب ‪ ‬بيده ملوضع يفسر فيه معىن آية‪:‬‬

‫(‪ )1‬صحيح البخاري (‪.)2٨ /3‬‬

‫‪38‬‬
‫فعن عائشة –رضي هللا عنها‪ ،-‬قالت‪ :‬أخذ رسول هللا ‪ ‬بيدي‪ ،‬فنظر إىل القمر‪ ،‬فقال‪(( :‬اي عائشة‬
‫(‪)1‬‬
‫تعوذي ابهلل من شر غاسق إذا وقب‪ ،‬هذا غاسق إذا وقب)) ‪.‬‬
‫النوع الثالث‪ :‬فعله ‪:‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫صلًّى﴾ [البقرة‪.]125 :‬‬ ‫كما مر معنا يف تفسري آية‪َ ﴿ُّ :‬واخت ُذوا م ْن َم َقام إِبْـَراه َيم ُم َ‬
‫صعِ ًقا‬ ‫ِ‬
‫وما ورد عن أنس ‪ ‬أن النيب ‪ ‬قرأ هذه اآلية‪﴿ُّ:‬فَـلَما َجتَلى َربُّهُ ل ْل َجبَ ِل َج َعلَهُ َد ًّكا َو َخر ُم َ‬
‫وسى َ‬
‫ني﴾ [األعراف‪.]143 :‬‬ ‫ِِ‬ ‫ت إِلَْي َ‬ ‫فَـلَما أَفَ َ‬
‫ك َوأ ََان أَو ُل الْ ُم ْؤمن َ‬ ‫ك تـُْب ُ‬
‫اق قَ َال ُسْب َحانَ َ‬
‫(‪)2‬‬
‫قال هكذا‪ :‬وأمسك بطرف إهبامه على أمنلة إصبعه اليمىن‪ ،‬قال‪( :‬فساخ اجلبل‪ ،‬وخر موسى صعقا)‬
‫النوع الرابع‪ :‬إقراره‪:‬‬
‫وهو قليل مثاله مع ما سبق معنا يف احلديث عن تفسري آية‪َ ﴿ُّ :‬وَال تَـ ْقتُـلُوا أَنْـ ُف َس ُك ْم إِن اَّللَ َكا َن بِ ُك ْم‬
‫يما﴾ [النساء‪.]2٩ :‬‬ ‫ِ‬
‫َرح ً‬
‫وما ورد يف البخاري عن عبد هللا ‪ ،‬قال‪ :‬جاء حرب من األحبار إىل رسول هللا ‪ ‬فقال‪ :‬اي حممد إان‬
‫جند‪ :‬أن هللا جيعل السموات على إصبع واألرضني على إصبع‪ ،‬والشجر على إصبع‪ ،‬واملاء والثرى على‬
‫إصبع‪ ،‬وسائر اخلالئق على إصبع‪ ،‬فيقول أان امللك‪ ،‬فضحك النيب ‪ ‬حىت بدت نواجذه تصديقا لقول‬
‫ات‬ ‫ِ ِ‬ ‫احلرب‪ ،‬مث قرأ رسول هللا ‪﴿ُّ :‬وما قَ َدروا اَّلل حق قَ ْد ِرهِ و ْاألَرض َِ‬
‫ضتُهُ يَـ ْوَم الْقيَ َامة َوالس َم َاو ُ‬ ‫مج ًيعا قَـْب َ‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫ََ ُ َ َ‬
‫ت بِيَ ِمينِ ِه ُسْب َحانَهُ َوتَـ َع َاىل َعما يُ ْش ِرُكو َن﴾ [الزمر‪. ]٦٧ :‬‬
‫(‪)3‬‬
‫َمطْ ِواي ٌ‬
‫‪ -‬أنواع التفسري ابلسنة‪.‬‬
‫سبق بيان أن التفسري ابلسنة أعم وأمشل من التفسري النبوي‪ ،‬وتفسري السنة للقرآن‪ ،‬وعلى هذا ال‬
‫ميكن حصر أنواع التفسري ابلسنة‪ ،‬ولكن أستعرض بعضاً من أنواعه عند املفسرين مع ذكر األمثلة على‬
‫ذلك‪:‬‬
‫النوع األول‪ :‬أن يرد يف كالم النيب ‪ ‬ما يصلح أن يكون تفسرياً آلية‪:‬‬
‫قد يذكر الرسول ‪ ‬يف كالمه ما يصلح أن يكون تفسرياً آلية غري أنه مل يورده مورد التفسري‪،‬‬
‫فيعتمد املفسر هذا الكالم النبوي فيجتهد وجيعله تفسرياً آلية‪.‬‬

‫(‪ )1‬احلديث يف مسند أمحد خمرجا (‪.)4٦٨ /42‬‬


‫(‪ )2‬احلديث (سنن الرتمذي ت شاكر (‪ )2٦٦ /5‬وصححه األلباين‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري (‪.)12٦ /٦‬‬

‫‪39‬‬
‫وقد ورد مثل ذلك عن الصحابة والتابعني‪ ،‬فمن ذلك‪:‬‬
‫لود إال ميََ ُّسه الشيطا ُن‬ ‫آد َم مو ٌ‬ ‫من بين َ‬ ‫‪ -1‬عن أيب هريرة ‪ ‬قال‪ :‬مسعت رسول هللا ‪ ‬يقول‪(( :‬ما ْ‬
‫ك‬‫مرمي وابنها)) مث يقول أبو هريرة ُّ﴿ َوإِِّين أ ُِعي ُذ َها بِ َ‬ ‫غري َ‬
‫ِ‬
‫مس الشيطان َ‬ ‫ِ ِ‬
‫ستهل صارخاً م ْن ّ‬ ‫لد فَـيَ ُّ‬‫حني يو ُ‬
‫ان الرِجي ِم﴾ [آل عمران‪ .)1( ]3٦ :‬فعمد هنا أبو هريرة ‪ ‬فساق اآلية وهي تفسري‬ ‫وذُ ِريـتَـها ِمن الشيطَ ِ‬
‫َّ َ َ ْ‬
‫لقول النيب ‪....(( ‬غري مرمي وابنها))‪.‬‬
‫اان َعلِيًّا﴾ [مرمي‪]5٧ :‬‬ ‫‪ -2‬ما رواه الطربي عن سعيد عن قتادة‪ ،‬يف قوله تعاىل‪َ ﴿ُّ :‬وَرفَـ ْعنَاهُ َم َك ً‬
‫ِ‬
‫ِج بِِه إِ َىل‬ ‫ث أَنهُ لَما عُر َ‬ ‫قال‪:‬حدثنا أَنَس بْ ِن َمالك‪ ،‬أَن نَِيب اَّللِ ‪َ ،‬حد َ‬
‫يس َوُه َو ِيف الس َم ِاء الرابِ َع ِة (‪ .)))2‬فبني أن معىن مكاانً علياً هنا هي‬ ‫َ‬
‫ت َعلى إِ ْد ِ‬
‫ر‬ ‫ُ‬ ‫ي‬
‫ْ‬ ‫ـ‬
‫َ‬‫ت‬‫َ‬‫أ‬ ‫((‬ ‫‪:‬‬ ‫ال‬
‫َ‬ ‫َ‬‫ق‬ ‫‪،‬‬ ‫السم ِ‬
‫اء‬ ‫َ‬
‫السماء الرابعة‪.‬‬
‫النوع الثاين‪ :‬أن يكون هناك حديث يتشابه مع اآلية يف موضوعها‪:‬‬
‫فيقوم املفسر ابلربط بني ما يف اآلية وما يف احلديث فتُـ َفسر اآلية ابحلديث‪.‬‬
‫ِ‬
‫ب﴾ [العلق‪:‬‬ ‫اس ُج ْد َواقْـ َِرت ْ‬
‫ومن ذلك ما ذكره ابن كثري عند تفسري قوله تعاىل‪َ ﴿ُّ :‬كال َال تُط ْعهُ َو ْ‬
‫اك َعْنهُ ِم َن‬ ‫يما يـَْنـ َه َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ .]1٩‬قال‪َ :‬وقَـ ْولُهُ ُّ﴿ َكال َال تُط ْعهُ﴾ [العلق‪ .]1٩ :‬يعين‪َ :‬اي ُحمَم ُد َال تُط ْعهُ ف َ‬
‫ك و َان ِصرَك‪ ،‬وهو يـع ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫الْم َداوم ِة علَى الْعِبادةِ وَكثْـرِهتَا‪ ،‬وص ِل حي ُ ِ‬
‫ك‬‫ص ُم َ‬ ‫ت َوَال تـُبَاله ؛ فَِإن اَّللَ َحافظُ َ َ ُ َ ُ َ َ ْ‬ ‫ث شْئ َ‬ ‫َ َ َ َ َ َ ّ َْ‬ ‫ُ ََ َ‬
‫يح ‪ِ -‬عْن َد ُم ْسلِم ‪َ -‬ع ْن أَِيب ُهَريْـَرَة‪:‬‬ ‫ت ِيف الص ِح ِ‬ ‫ب﴾ [العلق‪َ ]1٩ :‬ك َما ثـَبَ َ‬ ‫اس ُج ْد َواقْـ َِرت ْ‬ ‫ِم َن الن ِ‬
‫اس ُّ﴿ َو ْ‬
‫ُّعاءَ ))‪ )3(.‬فهنا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫أَن رس َ ِ‬
‫ب َما يَ ُكو ُن الْ َعْب ُد م ْن َربِّه َوُه َو َساج ٌد‪ ،‬فَأَ ْكث ُروا الد َ‬
‫ول اَّلل ‪ --‬قَ َال‪ (( :‬أَقْـَر ُ‬ ‫َُ‬
‫ربط املفسر بني اآلية واحلديث‪ ،‬ففي احلديث بني أن معىن االقرتاب هو اإلكثار من الدعاء يف السجود‪.‬‬
‫‪ -‬أوجه بيان السنة للقرآن‪:‬‬
‫الوجه األول‪ :‬أن السنة تبني ما أمجل يف القرآن‪ ،‬وتوضح املشكل‪ ،‬وختصص العام‪ ،‬وتقيد املطلق‪.‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري يف صحيحه برقم ‪. 3431‬‬


‫(‪ )2‬تفسري الطربي (ط‪ :‬الرسالة‪ ،‬حتقيق أمحد حممد شاكر ‪)213/1٨‬‬
‫(‪ )3‬تفسري ابن كثري ‪ .440/٨‬واحلديث أخرجه مسلم يف صحيحه من كتاب الطهارة ابب ما يقال يف الركوع والسجود ‪.4٨2‬‬

‫‪40‬‬
‫يموا الص َال َة﴾ [البقرة‪،]43 :‬‬ ‫ِ‬
‫فاألول أن السنة تبني ما أمجل يف القرآن‪ :‬ومن ذلك قوله تعاىل ُّ﴿ َوأَق ُ‬
‫فالقرآن هنا أمر إبقامة الصالة من غري بيان ألوقاهتا وأركاهنا فجاءت السنة مبينة لذلك بفعل النيب ‪‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ُصلِّي‪.))..‬‬‫صلُّوا َك َما َرأَيْـتُ ُم ِوين أ َ‬
‫حيث قال عليه الصالة والسالم ((‪َ ..‬‬
‫ومن أمثلته أيضا ما جاء يف بيان تفصيل الزكاة واحلج‪.‬‬
‫والثاين أن السنة توضح املشكل‪ :‬ومن ذلك تفسريه ‪ --‬للخيط األبيض واخليط األسود يف قوله‬
‫اخلي ِط ْاأل ِ ِ‬ ‫ط ْاألَبـي ِ‬
‫َس َود م َن الْ َف ْج ِر﴾ [البقرة‪ ]1٨٧ :‬كما جاء ْ‬
‫عن‬ ‫ْ‬ ‫ض م َن َْْ‬ ‫اخلَْي ُ ْ َ ُ‬ ‫ني لَ ُك ُم ْ‬
‫تعاىل‪َ ﴿ُّ :‬حىت يَـتَـبَـ َ‬
‫َس َوِد‬ ‫ط ْاألَبـيض ِمن ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اخلَْيط ْاأل ْ‬ ‫اخلَْي ُ ْ َ ُ َ‬ ‫ني لَ ُك ُم ْ‬
‫ت‪َ ﴿ُّ:‬وُكلُوا َوا ْشَربُوا َحىت يَـتَـبَـ َ‬ ‫ي بْ ِن َحاِت ‪ ،‬قَ َال‪ :‬لَما نـََزلَ ْ‬ ‫َعد ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت ِو َس َادِيت‪،‬‬ ‫ض‪ ،‬فَ َج َع ْلتُـ ُه َما َْحت َ‬ ‫َس َوَد‪َ ،‬وإِ َىل ع َقال أَبْـيَ َ‬
‫ت إِ َىل ع َقال أ ْ‬ ‫م َن الْ َف ْج ِر﴾ [البقرة‪َ ،]1٨٧ :‬ع َم ْد ُ‬
‫ك فَـ َق َال‪(( :‬إِمنَا‬ ‫ِ‬ ‫فَجع ْلت أَنْظُر ِيف اللي ِل‪ ،‬فَالَ يستبِني ِيل‪ ،‬فَـغَ َدوت علَى رس ِ ِ‬
‫ت لَهُ َذل َ‬ ‫ول اَّلل ‪ ،‬فَ َذ َك ْر ُ‬ ‫ْ ُ َ َُ‬ ‫َ َْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ََ ُ ُ‬
‫اض النـ َها ِر))(‪ )2‬ففسر اخليط األبيض أبنه بياض النهار واخليط االسود بسواد‬ ‫ِ‬
‫ك َس َو ُاد اللْي ِل َوبـَيَ ُ‬ ‫َذل َ‬
‫الليل‪.‬‬
‫س َع ْن نَـ ْفس َشْيـئًا‬ ‫ِ‬
‫وأما الثالث أن السنة ختصص العام‪ :‬من أمثلته قوله تعاىل‪َ ﴿ُّ:‬واتـ ُقوا يَـ ْوًما َال َْجتزي نَـ ْف ٌ‬
‫ص ُرو َن﴾ [البقرة‪ ]123 :‬فاآلية تفيد أنه يوم القيامة‬ ‫ِ‬
‫اعةٌ َوَال ُه ْم يـُْن َ‬ ‫َوَال يـُ ْقبَ ُل مْنـ َها َع ْد ٌل َوَال تَـْنـ َفعُ َها َش َف َ‬
‫ال تنفع الشفاعة‪ ،‬وهذا العموم خمصوص مبا ثبت يف السنة من الشفاعة‪.‬‬
‫فقد ثبت أن النيب ‪ ‬يشفع يف أهل املوقف أن يقضي بينهم كما جاء يف حديث الشفاعة الطويل إىل‬
‫ول‪ :‬أُم ِيت َاي‬‫ك َس ْل تُـ ْعطَ ْه‪َ ،‬وا ْش َف ْع تُ َشف ْع فَأ َْرفَ ُع َرأْ ِسي‪ ،‬فَأَقُ ُ‬ ‫ال‪َ :‬اي ُحمَم ُد ْارفَ ْع َرأْ َس َ‬ ‫أن قال ((‪ُ ...‬مث يـُ َق ُ‬
‫(‪)3‬‬
‫اعةٌ﴾ [البقرة‪:‬‬ ‫ب‪ ))..‬وعليه فالعموم يف قوله تعاىل‪َ ﴿ُّ :‬وَال تَـْنـ َفعُ َها َش َف َ‬ ‫ب‪ ،‬أُم ِيت َاي َر ِّ‬ ‫ب‪ ،‬أُم ِيت َاي َر ِّ‬ ‫َر ِّ‬
‫‪ ]123‬خمصوص مبا ثبت يف السنة من الشفاعة‪.‬‬
‫والرابع أن السنة تقيد املطلق‪ :‬أتيت يف القرآن ألفاظ مطلقة‪ ،‬فتقيدها السنة ومثال ذلك قوله تعاىل‪:‬‬
‫وصي ِهبَا أ َْو َديْن﴾ [النساء‪ .]11 :‬وقد جاء تقييد ذلك ابلثلث كما يف حديث‬ ‫ُّ﴿ ِمن بـع ِد و ِصية ي ِ‬
‫ْ َْ َ ُ‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري يف صحيحه برقم ‪.٦00٨‬‬


‫(‪ )2‬أخرجه البخاري يف صحيحه برقم ‪.1٩1٦‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه البخاري يف صحيحه برقم ‪.4٧12‬‬

‫‪41‬‬
‫سعد بن أيب وقاص ‪ ،‬وقول النيب ‪ :‬الثلث‪ ،‬والثلث كبري‪ ،‬أو كثري(‪ .)1‬قال ابن حجر رمحه هللا‪:‬‬
‫"فيه تقييد مطلق القرآن ابلسنة"‪.2‬‬
‫الوجه الثاين‪ :‬أن تكون السنة مبينة أللفاظ القرآن‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ضو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض ِ‬
‫ب َعلَْي ِه ْم َوَال الضالّ َ‬
‫ني﴾‬ ‫وب َعلَْي ِه ْم﴾ وُّ﴿الضالّ َ‬
‫ني﴾ يف قوله تعاىلُّ﴿ َغ ِْري الْ َم ْغ ُ‬ ‫كبيان لفظةُّ﴿الْ َم ْغ ُ‬
‫[الفاحتة‪ ]٧ :‬فقد بينت السنة منهم املغضوب عليهم والضالني وذلك فيما رواه عدي بن حاِت ـ رضي‬
‫هللا عنه أنه قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ (( :‬إن املغضوب عليهم اليهود والضالني‬
‫النصارى))(‪.)3‬‬
‫الوجه الثالث‪ :‬بيان أحكام زائدة على ما جاء يف القرآن الكرمي‪:‬‬
‫كتحرمي نكاح املرأة علىَ َعمتِ َها وخالتها‪ ،‬وهذا وإن مل يكن له عالقة قوية ابلتفسري‪ ،‬إال أن بعض‬
‫األحكام الزائدة جاءت يف السنة النبوية قد يكون أصلها يف القرآن فالسنة تزيد يف معرفة هذا احلكم‬
‫ِ‬ ‫ني إِال ما قَ ْد سلَ َ ِ‬
‫يما﴾ [النساء‪:‬‬ ‫ف إن اَّللَ َكا َن َغ ُف ًورا َرح ً‬ ‫ُختَـ ْ ِ َ َ‬ ‫ومثال ذلك قوله تعاىل‪َ ﴿ُّ:‬وأَ ْن َْجت َمعُوا بَـ ْ َ‬
‫ني ْاأل ْ‬
‫‪ ]23‬ففي هذه اآلية جاء حترمي اجلمع بني األختني‪ ،‬و أضافت السنة حكما جديداً على هذه اآلية‬
‫ني الْ َم ْرأَةِ َو َعمتِ َها َوَال‬ ‫ِ‬
‫وهو اجلمع بني املرأة َو َعمت َها‪ ،‬واملرأة وخالتها فعن أيب هريرة ‪َ ((--‬ال ُْجي َم ُع بـَ ْ َ‬
‫ني الْ َم ْرأَةِ َو َخالَتِ َها))(‪.)4‬‬
‫بَـ ْ َ‬
‫الوجه الرابع‪ :‬بيان عدم النسخ وإمنا تكون السنة مبينة‪:‬‬
‫كما يف حديث عبادة بن الصامت قال‪ :‬قال رسول هللا ‪(( :‬خذوا عين خذوا عين قد جعل هللا هلن‬
‫سبيال البكر ابلبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب ابلثيب جلد مائة والرجم))(‪ )5‬فهو مبني للسبيل‬
‫استَ ْش ِه ُدوا َعلَْي ِهن أ َْربـَ َعةً ِمْن ُك ْم فَِإ ْن َش ِه ُدوا‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫ني الْ َفاح َشةَ م ْن ن َسائ ُك ْم فَ ْ‬
‫ِ‬
‫املذكور يف قوله تعاىل‪َ ﴿ُّ:‬والالِيت ََيْت َ‬
‫ت أ َْو َْجي َع َل اَّللُ َهلُن َسبِ ًيال﴾ [النساء‪.]15 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وهن ِيف الْبُـيُوت َحىت يَـتَـ َوف ُ‬
‫(‪)٦‬‬
‫اهن الْ َم ْو ُ‬ ‫فَأ َْمس ُك ُ‬
‫الوجه اخلامس‪ :‬بيان التأكيد‪:‬‬

‫‪ ))1‬أخرجه البخاري يف كتاب اجلنائز ‪ ،‬ابب راثء النيب صلى هللا عليه وسلم سعد بن خولة ‪ ،‬برقم ‪.1233‬‬
‫‪ ) )2‬فتح الباري‪3٦٨/5 :‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه امحد يف ( مسنده ) ‪. 3٧٨ /4‬‬
‫(‪ )4‬صحيح مسلم ‪ -‬كتاب النكاح ‪ -‬ابب حترمي اجلمع بني املرأة وعمتها أو خالتها يف النكاح ص ‪.53٧‬‬
‫‪ ) )5‬صحيح مسلم – كتاب احلدود – ابب حد الزىن رقم ‪.1٦٩0‬‬
‫(‪ )٦‬شرح سنن الرتمذي‪ -‬للشيخ عبد الكرمي اخلضري ‪.٨/22‬‬

‫‪42‬‬
‫ال ْام ِرئ‬‫وذلك أبن أتيت السنة موافقة ملا جاء يف القرآن لتأكيده كقول الرسول ‪َ « :--‬ال َِحي ُّل َم ُ‬
‫اط ِل﴾ [النساء‪:‬‬ ‫يب نَـ ْف ِس ِه » (‪ )1‬فإنه يوافق قوله تعاىل‪َ﴿ُّ:‬ال َأتْ ُكلُوا أَموالَ ُكم بـيـنَ ُكم ِابلْب ِ‬
‫ْ َ ْ َْ ْ َ‬ ‫ُمسلِم إِال َع ْن ِط ِ‬
‫ْ‬
‫(‪)2‬‬
‫‪.]2٩‬‬
‫ْب لَ ُك ْم َع ْن َش ْيء ِمْنهُ نَـ ْف ًسا فَ ُكلُوهُ َهنِيئًا َم ِريئًا﴾‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ُدقَاهتن ْحنلَةً فَِإ ْن ط ْ َ‬
‫ويوافق قوله تعاىل ُّ﴿ َوآتُوا النّ َساءَ َ‬
‫[النساء‪]4 :‬‬
‫‪ -‬شروط التفسري ابلسنة وضوابطه‪:‬‬
‫‪ .1‬أن يكون على معرفة بعلم السنة رواية ودراية‪.‬‬
‫‪ .2‬أن يكون ُملِماً إملاماً جيداً مبا ورد يف السنة مما يتعلق ابلتفسري‪.‬‬
‫‪ .3‬أن حيسن اجلمع والتنسيق بني الرواايت املختلفة‪.‬‬
‫‪ .4‬أن يكون مدركاً حلقيقة اختالف الرواايت يف التفسري وأسباهبا‪.‬‬
‫‪ .5‬أن يكون مطلعاً على أسباب النزول والناسخ واملنسوخ ألنه ابألول يستعني به على فهم النص‪،‬‬
‫(‪)3‬‬
‫وابلثاين يعرف به احملكم من املنسوخ من اآلايت‪.‬‬

‫‪ -3‬تفسري القرآن أبقوال الصحابة‪:‬‬

‫تعريف الصحايب‪ :‬هو من لقي النيب صلى هللا عليه وسلم مؤمناً به‪ ،‬ومات على اإلسالم‪ ،‬وإن ختللت‬
‫ردة‪ ،‬كما قال ابن حجر‪.‬‬

‫وهذه خصيصة من خصائص النيب صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ألن الصحايب يف اللغة ال يطلق إال على من‬
‫يصحبك مدة طويلة‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه الدار قطين يف سننه ‪2٦/3‬‬


‫(‪ )2‬التفسري واملفسرون – الذهيب ‪.53 /1‬‬
‫(‪ )3‬أصول التفسري وقواعده ‪ ،‬خالد العك ص ‪.132-131‬‬

‫‪43‬‬
‫وتفسري الصحايب هو أحد الطرق التفسري املعتربة قال ابن تيمية‪" :‬إذا مل جتد التفسري يف القرآن وال يف‬
‫السنة رجعت يف ذلك إىل أقوال الصحابة فإهنم أدرى بذلك؛ ملا شاهدوه من القرآن واألحوال اليت‬
‫(‪)1‬‬
‫اختصوا هبا‪ ،‬وملا هلم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصاحل ال سيما علماؤهم وكرباؤهم" ‪.‬‬

‫أقوال الصحابة يف التفسري ينقسم إىل قسمني‪:‬‬

‫أوًلً‪ :‬ما يرجع إىل النقل سواء ابملشاهدة أو السماع‪ :‬وقد سبق التفصيل يف هذا فإن َحمَلّهُ القبول‬
‫بال خالف إذا صح سنده فحكمه حكم املرفوع‪ .‬ومن أنواعه‪:‬‬

‫‪ -1‬أسباب النزول‪:‬‬
‫النص املروي يف السبب؛‬
‫واملراد بسبب النزول‪ :‬ما كان صرحياً يف السببية‪ ،‬ويظهر ذلك من خالل ّ‬
‫كأن يقول الصحايب‪ :‬كان كذا وكذا فنزلت اآلية‪ ،‬أو يقع سؤال فينزل جوابه‪ ،‬أو غريها مما ميكن‬
‫معرفته من خالل النص بقرائن تدل على السببية الصرحية‪.‬‬

‫‪ -2‬معرفة أحوال من نزل فيهم القرآن‪:‬‬

‫إن معرفة هذه األحوال تفيد يف درايتهم بقصة اآلية‪ ،‬الذي هو أشبه بسبب النزول‪ ،‬حبيث لو فقدت‬
‫هذه املعرفة لوقع اخلطأ يف فهم املراد ابآلية‪ ،‬كما وقع لعروة بن الزبري رضي هللا عنه يف فهم قوله تعاىل‪:‬‬
‫ف هبِِ َما‪﴾..‬‬
‫اح َعلَْي ِه أَن يَطو َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُّ﴿إن الص َفا َوالْ َم ْرَوةَ من َش َعائ ِر هللا فَ َم ْن َحج البَـْي َ‬
‫ت أَ ِو ْاعتَ َمَر فَال ُجنَ َ‬
‫[البقرة‪.]15٨ :‬‬

‫قال عروة‪( :‬قلت لعائشة زوج النيب صلى هللا عليه وسلم وأان يومئذ حديث السن أر ِ‬
‫أيت قول هللا تبارك‬ ‫ّ‬
‫ف هبِِ َما‪﴾..‬‬
‫اح َعلَْي ِه أَن يَطو َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫وتعاىل‪﴿ُّ:‬إن الص َفا َوالْ َم ْرَوَة من َش َعائ ِر هللا فَ َم ْن َحج البَـْي َ‬
‫ت أَ ِو ْاعتَ َمَر فَال ُجنَ َ‬
‫[البقرة‪ ]15٨ :‬فما أرى على أحد شيئاً أال يطّوف هبما‪.‬‬

‫(‪ )1‬مقدمة يف أصول التفسري البن تيمية (ص‪.)40 :‬‬


‫‪44‬‬
‫يطوف هبما)‪ ،‬إمنا أنزلت هذه‬
‫فقالت عائشة‪َ :‬كالّ‪ ،‬لو كانت كما تقول كانت‪( :‬فال جناح عليه أن ال ّ‬
‫يتحرجون أن يطوفوا بني الصفا‬ ‫ِ‬
‫اآلية يف األنصار‪ :‬كانوا يُهلّون ملناة وكانت مناة َح ْذ َو قُ َديد وكانوا ّ‬
‫واملروة‪ ،‬فلما جاء اإلسالم سألوا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن ذلك‪ ،‬فأنزل هللا‪﴿ُّ :‬إن الص َفا‬
‫ف هبِِ َما‪[ ﴾..‬البقرة‪.)]15٨ :‬‬‫اح َعلَْي ِه أَن يَطو َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َوالْ َم ْرَوَة من َش َعائ ِر هللا فَ َم ْن َحج البَـْي َ‬
‫ت أَ ِو ْاعتَ َمَر فَال ُجنَ َ‬
‫ويلحظ من هذا املثال‪ :‬أن سبب النزول قد يكون من أجل حال من أحوال من نزل فيهم اخلطاب من‬
‫العرب أو اليهود‪ ،‬وهبذا يكون املثال صاحلاً للتمثيل به يف األمرين‪.‬‬

‫ومما نزل بسبب حال من أحوال اليهود‪ ،‬ما روى جابر رضي هللا عنه قال‪( :‬كانت اليهود تقول‪ :‬إذا‬
‫ث ل ُك ْم فَاًتُوا َح ْرثَ ُك ْم أَىن ِشْئـتُ ْم‪[ ﴾..‬البقرة‪:‬‬
‫جامعها من ورائها جاء الولد أحول‪ ،‬فنزلت‪﴿ُّ:‬نسا ُؤُك ْم َح ْر ٌ‬
‫‪.]223‬‬

‫‪-3‬ما يروونه عن النيب صلى هللا عليه وسلم من التفسري النبوي الصريح‪.‬‬

‫يفسر هلم‬
‫واملراد به‪ :‬ما يروونه من التفسري النبوي الصريح‪ ،‬وقد يقع تفسريه جواابً ألسئلتهم‪ ،‬أو أن ّ‬
‫ابتداءً‪.‬‬

‫س َعلَى التـ ْق َوى ِم ْن أَوِل يَـ ْوم‪﴾..‬‬ ‫* ومن األول‪ :‬ما رواه مسلم يف تفسري قوله تعاىل‪ ..﴿ُّ :‬لمس ِج ٌد أ ِ‬
‫ُس‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َْ‬
‫(مر يب عبد الرمحن بن أيب سعيد اخلدري قال‪:‬‬
‫[التوبة‪ ]10٨ :‬عن أيب سلمة بن عبد الرمحن قال‪ّ :‬‬
‫قلت له‪ :‬كيف مسعت أابك يذكر املسجد الذي أسس على التقوى؟‪ .‬قال‪ :‬قال أيب‪ :‬دخلت على‬
‫أي املسجدين الذي أسس‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يف بيت بعض نسائه‪ ،‬فقلت‪ :‬اي رسول هللا‪ّ ،‬‬
‫على التقوى؟ قال‪ :‬فأخذ ك ّفاً من حصباء فضرب به األرض‪ ،‬مث قال‪ :‬هو مسجدكم هذا‪ ،‬لِمسجد‬
‫املدينة‪ .‬قال‪ :‬فقلت‪ :‬أشهد أين مسعت أابك هكذا يذكره)‪.‬‬

‫ذر‪ ،‬قال‪( :‬كنت مع النيب صلى هللا عليه وسلم يف املسجد عند‬
‫* ومن الثاين‪ :‬ما رواه البخاري عن أيب ّ‬
‫غروب الشمس‪ ،‬فقال‪ :‬اي أاب ذر‪ ،‬أتدري أين تغيب الشمس؟‪ .‬قلت‪ :‬هللا ورسوله أعلم‪ .‬قال‪ :‬فإهنا‬

‫‪45‬‬
‫الع ِزي ِز‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س َْجت ِري ل ُم ْستَـ َقّر هلَا َذل َ‬
‫ك تَـ ْقد ُير َ‬ ‫تذهب حىت تسجد حتت العرش‪ ،‬فذلك قوله تعاىل‪َ ﴿ُّ :‬والش ْم ُ‬
‫العلِي ِم﴾)‪.‬‬
‫َ‬
‫‪ -4‬ما يرويه الصحايب عن الصحايب‪:‬‬
‫قد تكون الرواية عن الصحايب جمردة من السؤال‪ ،‬حبيث يورد الصحايب تفسري الصحايب إيراداً من غري‬
‫اهَرا‬
‫سؤال‪ ،‬أو تكون عن سؤال؛ ومنه‪ :‬ما رواه البخاري عن ابن عباس يف قوله تعاىل‪َ ..﴿ُّ :‬وإن تَظَ َ‬
‫ِ‬ ‫علَي ِه فَإن هللا هو مواله وِج ِربيل و ِ ِ ِ‬
‫ني َوالْ َمالئِ َكةُ بَـ ْع َد َذل َ‬
‫ك ظَ ِهريٌ﴾ [التحرمي‪.]4 :‬‬ ‫صال ُح املُْؤمن َ‬
‫َ َُ َْ ُ َ ْ ُ َ َ‬ ‫َْ‬
‫قال ابن عباس‪( :‬أردت أن أسأل عمر عن املرأتني اللتني تظاهرات على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫حاجاً‪ ،‬فلما كنّا بظهران ذهب عمر حلاجته‪،‬‬
‫فمكثت سنة‪ ،‬فلم أجد له موضعاً‪ ،‬حىت خرجت معه ّ‬
‫فقال‪ :‬أدركين ابلوضوء‪ ،‬فأدركته ابإلداوة‪ ،‬فجعلت أسكب عليه‪ ،‬ورأيت موضعاً‪ ،‬فقلت‪ :‬اي أمري املؤمنني‪،‬‬
‫من املرأاتن اللتان تظاهرات؟ قال ابن عباس‪ :‬فما أَتمت كالمي حىت قال‪ :‬عائشة وحفصة)‪.‬‬

‫ويدخل يف ابب الرواية‪ :‬ما كان من أسباب النزول‪ ،‬أو أحوال من نزل فيهم القرآن‪ ،‬إذا كان الصحايب‬
‫مل حيضر السبب أو احلال‪ ،‬فإن طريقه يف ذلك‪ :‬الرواية‪ ،‬وروايته مقبولة يف ذلك‪ ،‬وإن مل ينسبها إىل من‬
‫رواها له من الصحابة‪ ،‬وذلك ألن الصحابة عدول ابتفاق األمة‪.‬‬

‫وميكن التمثيل هلذا مبا يرويه صغار الصحابة أو من أتخر إسالمهم من أحداث مل حيضروها أو يعاصروها‪.‬‬
‫ِ‬
‫ومن أمثلة ذلك‪ :‬ما رواه‪ :‬أبو هريرة‪ ،‬وابن عباس يف تفسري قوله تعاىل‪َ ﴿ُّ :‬وأَنذ ْر َع ِش َريتَ َ‬
‫ك األَقْـَربِ َ‬
‫ني﴾‬
‫[الشعراء‪ ]214 :‬من أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم صعد الصفا‪ ،‬واندى بطون قريش‪ ..‬إىل آخر‬
‫احلديث‪.‬‬

‫وذلك أن أاب هريرة أسلم يف املدينة‪ ،‬وابن عباس ولد قبل اهلجرة بثالث سنني‪ ،‬واحلدث الذي يرواينه‬
‫يف تفسري اآلية كان مبكة‪ ،‬وكان يف أوائل سين البعثة‪.‬‬

‫اثنياً‪ :‬ما يتعلق ابلفهم واًلجتهاد (اًلستدًلل) ويندرج حتته ما يلي‪:‬‬

‫‪46‬‬
‫‪ -1‬تفسري القرآن ابلقرآن‪.‬‬

‫نصاً يف التفسري‪.‬‬
‫‪ -2‬تفسري القرآن أبقوال الرسول مما ليس ّ‬
‫‪ -3‬احملتمالت املرادة يف اخلطاب القرآين‪ ،‬أو ما يرجع إىل احتمال النص القرآين أكثر من معىن‪.‬‬

‫فال خيلوا األمر حينئذ من أحوال ثالث‪:‬‬

‫احلالة األوىل‪:‬‬

‫‪-1‬أن جيمع الصحابة على تفسري آية فيكون إمجاعهم حجة جيب املصري إليه عند التنازع(‪ )1‬ومن‬
‫أمثلته‪ :‬إمجاع الصحابة على إجراء آايت الصفات على ظاهرها وحقيقتها‪ ،‬فقول املبتدعة إن ظاهرها‬
‫غري مراد‪ ،‬وإن معناها كذا وكذا ابطل‪.‬‬

‫‪-2‬أن خيالف الصحايب غريه من الصحابة‪ ،‬فال يكون قول بعضهم حجة على قول بعض‪ ،‬وإمنا يلجأ‬
‫إىل الرتجيح بني أقواهلم بقواعد الرتجيح اليت يسلكها العلماء‪.‬‬

‫اك َسْبـ ًعا ِم َن الْ َمثَ ِاين‬


‫ومثاله‪ :‬أن الصحابة اختلفوا يف املراد ابلسبع املثاين يف قوله تعاىل‪َ ﴿ُّ :‬ولََق ْد آتَـْيـنَ َ‬
‫َوالْ ُق ْرآ َن الْ َع ِظ َيم﴾ [احلجر‪.]٨٧ :‬‬

‫فذهب ابن مسعود وابن عمر وابن عباس رضي هللا عنهم إىل أن السبع املثاين السبع الطوال‪.‬‬

‫وذهب علي بن أيب طالب‪ ،‬وهو مروي عن عمر بن اخلطاب وقول ابن عباس وأيب بن كعب رضي هللا‬
‫عنهم إىل أهنا فاحتة الكتاب‪.‬‬

‫‪ )1‬انظر املوافقات ‪. 300/3‬‬


‫‪47‬‬
‫وقد رجح ابن جرير الطربي القول الثاين وذكر أنه األوىل ابلصواب‪ ،‬واستند يف ترجيحه إىل األحاديث‬
‫الصحيحة يف تعيينها ومنها حديث أيب سعيد بن املعلى رضي هللا عنه أن النيب صلى هللا عليه وسلم‬
‫(‪)1‬‬
‫قال يف الفاحتة‪ ((:‬هي السبع املثاين والقرآن العظيم الذي أوتيته ))‪.‬‬

‫وهنا أمر ينبغي التنبه له عند النظر يف خالف السلف‪ ،‬إذ قد يكون اخلالف املنقول عنهم ليس خالفاً‬
‫(‪)2‬‬
‫حقيقاً‪ ،‬وإمنا هو من ابب التنوع يف التفسري‪.‬‬

‫‪ -4‬تفسري القرآن الكرمي أبقوال التابعني‪:‬‬

‫يب صلى هللا تَـ َع َاىل َعلَْي ِه َوسلم‪َ ،‬ولَو ختللت ِرّدة (‪.)3‬‬‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫تعريف التابعي‪ :‬هو من لَقي الص َح ِ ّ‬
‫ايب ُمؤمنا ابلن ِّ‬
‫تفسري التابعي للقرآن‪" :‬هو ما ُرِوي عن التابعي يف تفسري القرآن الكرمي موقوفًا عليه"(‪.)4‬‬

‫وفرق هنا بني روايته ورأيه كما تقدم معنا سابقا‪.‬‬


‫التابعي عن الصحايب‪ٌ ،‬‬
‫ُّ‬ ‫وهذا التعريف ُخيرج ما يرويه‬

‫من طرق التفسري املعتربة؛ تفسري القرآن أبقوال التابعني‪ ،‬واألخذ عن التابعني واتّباعهم له أصل يف‬
‫القرآن؛ فإ ّن هللا تعاىل قد أثىن على أصحاب نبيّه صلى هللا عليه وسلم من املهاجرين واألنصار و ّبني‬
‫وجل عنهم‪.‬‬
‫عز ّ‬ ‫يدل داللة بيّنة على هدايتهم ورضا هللا ّ‬
‫ما أع ّد هلم من الثواب العظيم الذي ّ‬

‫مث اشرتط على التابعني شرطاً من أتى به كان مع أصحاب النيب صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وهو أن يتّبعهم‬
‫اج ِرين و ْاألَنْ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وه ْم‬
‫ين اتـبَـعُ ُ‬
‫صار َوالذ َ‬‫إبحسان كما بيّنه قول هللا تعاىل‪َ ﴿ُّ :‬والسابِ ُقو َن ْاألَولُو َن م َن الْ ُم َه َ َ َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫إبِِحسان ر ِضي اَّلل عْنـهم ورضوا عْنه وأَعد َهلم جنات َجت ِري َحتتـها ْاألَنْـهار خالِ ِد ِ‬
‫ين ف َيها أَبَ ًدا َذل َ‬
‫ْ َْ َ َ ُ َ َ‬ ‫ْ َ َ َ ُ َ ُ ْ َ َ ُ َ ُ َ َ ُْ َ‬

‫‪ )1‬صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن ‪ 103/٦‬وانظر جامع مع البيان ‪ ٦0051/14‬وذكر ابن كثري أن األحاديث نصت على‬
‫أن السبع املثاين هي فاحتة الكتاب ‪ ،‬لكن ال ينايف وصف غريها السبع املثاين الطوال بذلك تفسريه ‪. 4٦5/4‬‬
‫‪ )2‬انظر مقدمة أصول التفسري الشيخ اإلسالم ضمن جمموع الفتاوى ‪.333/13‬‬
‫(‪ )3‬شرح َنبة الفكر لعلي القاري (‪. )5٩5/1‬‬
‫(‪ )4‬معجم مصطلحات علوم القرآن للدكتور حممد الشايع صفحة (‪.)٦3‬‬
‫‪48‬‬
‫الْ َف ْوُز الْ َع ِظ ُيم﴾ [التوبة‪ ،]100 :‬ومن إحسان االتباع أن يص ّدق التابعون مبا ص ّدق به الصحابة‪ ،‬وأن‬
‫يردوه‪ ،‬وأن يسريوا على منهاجهم‪ ،‬وَيخذوا دينهم ابالتباع ال ابالبتداع‪.‬‬
‫يردوا ما ّ‬
‫يقبلوا ما قبلوه‪ ،‬وأن ّ‬

‫مفسري التابعني‪:‬‬
‫طرق التفسري عند ّ‬
‫ففسروا القرآن‬
‫سبق أن ذكران أن التابعني اتّبعوا منهج الصحابة رضي هللا عنهم يف تفسريهم للقرآن‪ّ ،‬‬
‫وفسروه أبقوال الصحابة وما بلغهم عنهم من وقائع التنزيل‪ ،‬واجتهدوا‬
‫وفسروا القرآن ابلسنة‪ّ ،‬‬
‫ابلقرآن‪ّ ،‬‬
‫رأيهم فيما مل يبلغهم فيه نص‪ ،‬ويف فهمهم للنص حسب تفاوهتم يف لغة العرب‪.‬‬

‫وهنا سنتطرق إىل األمثلة‪:‬‬

‫أوًل‪ :‬تفسري التابعي القرآن ابلقرآن‪:‬‬

‫وممن اعتىن من التابعني هبذا املصدر عناية كبرية جماهد بن جرب‪ ،‬وسعيد بن جبري(‪ ،)1‬ومن أمثلة تفسري‬
‫آد ُم‬
‫التابعني هبذا املصدر األصيل‪ ،‬ما جاء عن جماهد يف تفسري الكلمات عند قوله عز وجل﴿فَـتَـلَقى َ‬
‫اب الرِح ُيم‪[ ﴾3٧‬البقرة‪ ]3٧ :‬قال‪ :‬قوله ﴿قَ َاال َربـنَا ظَلَ ْمنَا‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِِ ِ‬
‫اب َعلَْيه إِنهُ ُه َو التـو ُ‬
‫م ْن َربّه َكل َمات فَـتَ َ‬
‫أَنْـ ُفسنَا وإِ ْن َمل تَـ ْغ ِفر لَنَا وتَـرمحَْنَا لَنَ ُكونَن ِمن ْ ِ‬
‫ين‪[ ﴾23‬األعراف‪ ،)2( ]23 :‬ووجه الشاهد هنا‬ ‫اخلَاس ِر َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ ْ َْ‬
‫تفسريه رمحه هللا الكلمات اليت يف سورة البقرة‪ ،‬مبا جاء يف سورة األعراف‪ ،‬وكذلك من األمثلة ما قاله‬
‫ودات َو َغرُه ْم ِيف ِدينِ ِه ْم‬ ‫ِ‬
‫ك ِأبَنـ ُه ْم قَالُوا لَ ْن ََتَسنَا الن ُار إِال أَاي ًما َم ْع ُد َ‬
‫جماهد عند تفسريه قوله تعاىل‪﴿:‬ذَل َ‬
‫ودات‪ ﴾24‬ا‬ ‫َما َكانُوا يَـ ْفتَـ ُرو َن‪[ ﴾24‬آل عمران‪ ]24 :‬قال‪ ":‬غرُهم ق ْوهلم‪ :‬لَ ْن ََتَسنَا الن ُار إِال أَاي ًما َم ْع ُد َ‬
‫[آل عمران‪ ،)3(" ]24 :‬فبني أن افرتاءهم كان بقوهلم ما جاء يف آية آل عمران‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة يف قوله تعاىل‪﴿ُّ :‬وله الدين واصبا﴾ قال‪ :‬دائماً‪ ،‬أال‬
‫ترى أنه يقول‪﴿ُّ :‬وهلم عذاب واصب﴾ أي دائم‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬تفسير التابعين للدكتور محمد بن عبدهللا الخضيري (‪.)610/2‬‬


‫(‪ )2‬انظر‪ :‬تفسير الطبري (‪.)584/1‬‬
‫(‪ )3‬انظر‪ :‬املصدر نفسه (‪.)297/5‬‬
‫‪49‬‬
‫اثنيًا‪ :‬تفسري التابعي ابلسنة النبوية‪:‬‬

‫ومن أمثلة اعتماد التابعني على ما جاء يف السنة عند تفسريهم للقرآن الكرمي‪ ،‬ما جاء عن احلسن‬
‫ول لِلن ِ‬
‫اس‬ ‫ْم َوالنُّـبُـوةَ ُمث يَـ ُق َ‬
‫احلُك َ‬
‫اب َو ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿ما َكا َن لبَ َشر أَ ْن يـُ ْؤتيَهُ اَّللُ الْكتَ َ‬
‫البصري عند تفسريه قوله تعاىل َ‬
‫اب َوِمبَا ُكْنـتُ ْم تَ ْد ُر ُسو َن‪﴾٧٩‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ون اَّللِ ولَ ِكن ُكونُوا رابنِيِ ِ‬
‫ُكونُوا ِعبادا ِيل ِمن د ِ‬
‫ني مبَا ُكْنـتُ ْم تُـ َعلّ ُمو َن الْكتَ َ‬
‫َ َّ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ًَ‬
‫[آل عمران‪ ،]٧٩ :‬حيث قال‪ :‬بلغنا أن نيب هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬قال له قائل‪ ،‬أو رجل‪ :‬اي‬
‫رسول هللا‪ ،‬ما السبيل إليه؟ قال‪« :‬من وجد ز ًادا وراحلة»(‪.)1‬‬

‫ومن أمثلته ما رواه مسلم يف صحيحه من طريق مهام بن حيىي قال‪ :‬حدثنا قتادة‪ ،‬عن أنس بن مالك‪،‬‬
‫أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬قال‪« :‬من نسي صالة فليصلّها إذا ذكرها‪ ،‬ال كفارة هلا إال‬
‫وصح هذا التفسري عن سعيد بن املسيب أيضاً‪.‬‬
‫ذلك» قال قتادة‪﴿ :‬أقم الصالة لذكري﴾‪ّ ،‬‬
‫اثلثًا‪ :‬تفسري التابعي أبقوال الصحابة‪:‬‬

‫كر حال جماهد وعرضه املصحف من فاحتته إىل خاَتته على ابن عباس رضي هللا عنهما‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وقد تقدم ِذ‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ين‬
‫﴿وَال َْحت َس َْب الذ َ‬
‫ومن أمثلة إفادهتم من هذا املصدر ما جاء عند الطربي عند تفسريه قوله تعاىل َ‬
‫َحيَاءٌ ِعْن َد َرّهبِِ ْم يـُْرَزقُو َن‪[ ﴾1٦٩‬آل عمران‪ ]1٦٩ :‬حيث قال‪" :‬جاء‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قُتلُوا ِيف َسبِ ِيل اَّلل أ َْم َو ًاات بَ ْل أ ْ‬
‫عن مسروق‪ ،‬قال‪ :‬سألنا عبد هللا – يعين ابن مسعود‪ -‬عن أرواح الشهداء‪ ،‬ولوال عبد هللا ما أخربان‬
‫به أحد‪ ،‬قال‪ :‬أرواح الشهداء عند هللا يف أجواف طري خضر‪ ،‬يف قناديل حتت العرش‪ ،‬تسرح يف اجلنة‬
‫حيث شاءت‪ ،‬مث ترجع إىل قناديلها‪ ،‬فيطلع إليها رهبا‪ ،‬فيقول‪ :‬ماذا تريدون؟ فيقولون‪ :‬نريد أن نرجع‬
‫إىل الدنيا فنقتل مرة أخرى"(‪.)2‬‬

‫ومنها‪ :‬ما رواه عبد الرزاق من طريق أيب إسحاق السبيعي عن أيب األحوص أن ابن مسعود‪ :‬قال‪:‬‬
‫ُّ﴿إال ما ظهر منها﴾‪ :‬الثياب‪ ،‬مث قال أبو إسحاق‪ :‬أال ترى أنه يقول‪﴿ُّ :‬خذوا زينتكم عند كل‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري (‪ ،)613/5‬والحديث جاء في السنن الكبرى للبيهقي كتاب‪ :‬الحج‪ ،‬باب‪ :‬الرجل يطيق املش ي وال يجد زادا‬
‫وال راحلة فال يبين أن يوجب عليه الحج (‪ )540/4‬رقم (‪.)8639‬‬
‫(‪ )2‬املصدر السابق (‪ ،)229/6‬وروى ابن املنذر في تفسيره نحوه‪ ،‬انظر‪ )490/2( :‬رقم (‪.)1177‬‬
‫‪50‬‬
‫يدل على أخذهم تفسري‬
‫استدل له من القرآن‪ ،‬وهذا مما ّ‬
‫ّ‬ ‫ففسر اآلية بقول الصحايب مث‬
‫مسجد﴾)‪ّ .‬‬
‫بتفهم ال بتقليد حمض‪.‬‬
‫الصحابة ّ‬

‫ابعا‪ :‬تفسري التابعي أبقوال اتبعي آخر‪:‬‬


‫رً‬

‫ولكن أخذهم من بعضهم قليل مقارنة أبخذهم من األصحاب‪ ،‬كما بينه الدكتور حممد اخلضريي يف‬
‫﴿ َولَ َق ْد آتَيْ َن َ‬
‫اك َسبْ ًعا‬ ‫رسالته(‪ ،)1‬ومثال هذا املصدر ما قاله سعيد بن جبري يف تفسريه قول هللا عز وجل‪:‬‬
‫َ َْ َ َ ُْ ْ َ‬
‫آن الْ َعظِ َ‬
‫هن السبع الطَُّول‪ .‬قال‪ :‬وقال جماهد‪ :‬هن السبع الطَُّول‪ .‬قال‪:‬‬
‫ّ‬ ‫‪:‬‬ ‫يم‪[ ﴾٨٧‬الحجر‪]87 :‬‬ ‫اِن والقر‬
‫مِن المث ِ‬

‫هن القرآن العظيم(‪.)2‬‬


‫ويقال‪ّ :‬‬
‫ابعا‪ :‬تفسري التابعي ابًلجتهاد‪:‬‬
‫رً‬

‫واالجتهاد عند املفسر هو بذل الوسع يف طلب معاين القرآن‪ ،‬سواء من لغة العرب أو من تفسريه برأيه‬
‫حسب ما يتبني لديه من مرجحات‪ ،‬وهذا يندرج حتت التفسري ابلرأي‪ ،‬لكنه هنا ليس من قبيل الرأي‬
‫املذموم املبين على اهلوى‪ ،‬بل هو من الرأي احملمود املبين على أصول الشريعة‪ ،‬وعلى الفهم الصحيح‪،‬‬
‫والقائم به مكتمل اآلالت‪ ،‬عامل بلغة العرب وأساليبها كما تقدم بيانه‪ ،‬مع ما عندهم من قوة الفهم‪،‬‬
‫وسعة يف اإلدراك‪.‬‬
‫(‪)3‬‬
‫التنوع‬
‫ويقع منهم اتّفاق كثري يف التفسري‪ ،‬ويقع بينهم اختالف أكثره من قبيل اختالف ّ‬
‫﴿وَال َتَْنُ ْن تَ ْستَكْثُِر‪[ ﴾٦‬املدثر‪ ]٦ :‬حيث‬
‫ومن أمثلته‪ :‬ما جاء عن جماهد يف تفسريه قوله عز وجل‪َ :‬‬
‫قال‪ :‬ال تضعف أن تستكثر من اخلري‪ ،‬قال‪َ :‬تنن يف كالم العرب‪ :‬تضعف(‪ .)4‬وقال عكرمة يف‬
‫ض‬ ‫تفسريه قول هللا جل وعال‪﴿ :‬ظَهر الْ َفساد ِيف الْبـ ِر والْبح ِر ِمبا َكسبت أَي ِدي الن ِ ِ ِ‬
‫اس ليُذي َق ُه ْم بَـ ْع َ‬ ‫َ َ َ ُ َّ َ َ ْ َ ََ ْ ْ‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬تفسير التابعين للدكتور محمد عبدهللا الخضيري (‪.)679/2‬‬


‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪)130/17‬‬
‫(‪ )3‬سيتم تفصيل ذلك في درس قادم بعنوان اختالف املفسرين‪.‬‬
‫(‪ )4‬انظر‪ :‬تفسير الطبري (‪.)416/23‬‬
‫‪51‬‬
‫ال ِذي َع ِملُوا لَ َعل ُه ْم يَـ ْرِجعُو َن‪[ ﴾41‬الروم‪ :]41 :‬إن العرب تسمي األمصار حبرا(‪ ،)1‬ومن األمثلة أيضا‬
‫﴿وميَْنَـعُو َن الْ َماعُو َن‪[ ﴾٧‬املاعون‪:‬‬
‫ما جاء عن سعيد بن املسيب يف تفسريه املاعون عند قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫‪ :]٧‬املاعون بلسان قريش املال(‪.)2‬‬

‫ومن أمثلة عنايتهم أبشعار العرب ما جاء عن سعيد بن ُجبري يف تفسريه القانع عند قوله تعاىل‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ص َواف فَِإذَا َو َجبَ ْ‬
‫ت‬ ‫اها لَ ُك ْم م ْن َش َعائ ِر اَّلل لَ ُك ْم ف َيها َخْيـٌر فَاذْ ُك ُروا ْ‬
‫اس َم اَّلل َعلَْيـ َها َ‬ ‫﴿والْبُ ْد َن َج َع ْلنَ َ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ك َسخ ْرَان َها لَ ُك ْم لَ َعل ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َن‪[ ﴾3٦‬احلج‪:‬‬ ‫ُجنُوبـُ َها فَ ُكلُوا ِمْنـ َها َوأَطْعِ ُموا الْ َقانِ َع َوالْ ُم ْعتَـر َك َذل َ‬
‫‪ ،]3٦‬قال‪ :‬هو السائل‪ ،‬مث قال‪ :‬أما مسعت قول الشماخ‪:‬‬

‫ف ِم َن ال ُقنُوع(‪.)3‬‬
‫أع ُّ‬ ‫ال املرِء ي ِ‬
‫فاقرهُ َ‬
‫صل ُحهُ فيُـ ْغين‪َ ...‬م َ‬
‫لَ َم ُ َْ ُ ْ‬
‫ومن أمثلتة االجتهاد أيضا‪ :‬ما رواه عبد الرزاق يف تفسريه عن معمر عن قتادة يف قوله تعاىل‪﴿ُّ :‬سندع‬
‫الزابنية﴾ قال‪« :‬الزابنية يف كالم العرب الشرط»‪.‬‬

‫ابلساهرة﴾ قال‪:‬‬
‫وكذلك‪ :‬ما رواه ابن أيب شيبة عن شريك‪ ،‬عن بيان‪ ،‬عن عامر [الشعيب] ُّ﴿فإذا هم ّ‬
‫أبياات ألميّة‪ :‬وفيها حلم ساهرة وحبر»‪.‬‬
‫« ابألرض‪ ،‬مثّ أنشد ً‬

‫اختالف املفسرين وأسبابه‬


‫االختالف سنة يف البشر‪ ،‬وكل شخص ينظر إىل املسألة من زاوية وحيكم عليها حسب نظره‬
‫واجتهاده‪ ،‬وميكن تقسيم االختالف الواقع يف التفسري إىل قسمني‪:‬‬

‫األول‪ :‬اختالف التنوع‪.‬‬

‫الثاين‪ :‬اختالف التضاد‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري (‪.)510/18‬‬


‫(‪ )2‬انظر‪ :‬تفسير الطبري (‪.)768/24‬‬
‫(‪ )3‬انظر‪ :‬تفسير الطبري (‪.)638/18‬‬
‫‪52‬‬
‫وقد وقع هذان القسمان يف تفسري السلف‪ ،‬إال أن الثاين قليل‪.‬‬

‫قال ابن تيمية‪" :‬اخلالف بني السلف يف التفسري قليل‪ ،‬وخالفهم يف األحكام أكثر من خالفهم يف‬
‫(‪)1‬‬
‫التفسري‪ ،‬وغالب ما يصح عنهم من اخلالف يرجع إىل اختالف تنوع ال اختالف تضاد"‪.‬‬

‫وللشيخ حممد بن صاحل العثيمني تقسيم الختالف التنوع والتضاد‪ ،‬اعتمد فيه على اللفظ واملعىن‪ ،‬وهو‬
‫ثالثة أقسام‪:‬‬

‫األول‪ :‬اختالف يف اللفظ دون املعىن‪.‬‬

‫الثاين‪ :‬اختالف يف اللفظ واملعىن‪ ،‬واآلية حتتمل املعنيني لعدم التضاد بينهما‪ ،‬فتحمل اآلية عليهما‪،‬‬
‫وتفسر هبما‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬اختالف يف اللفظ واملعىن‪ ،‬واآلية ال حتتمل املعنيني معاً للتضاد بينهما‪ ،‬فتحمل اآلية على‬
‫(‪)2‬‬
‫األرجح منهما بداللة السياق أو غريه ‪.‬‬

‫تعريف اختالف التنوع واختالف التضاد‪:‬‬

‫اختالف التنوع‪ :‬هو أن حتمل اآلية على مجيع ما قيل فيها إذا كانت معان صحيحة غري متعارضة‪.‬‬

‫ومنه ما يكون كل من القولني هو يف معىن القول اآلخر‪ ،‬ولكن العبارتني خمتلفتان‪.‬‬

‫ومنه ما يكون املعنيان متغايرين‪ ،‬لكن ال يتنافيان‪ ،‬فهذا قول صحيح وهذا قول صحيح وإن مل يكن‬
‫معىن أحدمها هو معىن اآلخر‪.‬‬

‫واختالف التضاد‪ :‬مها القوالن املتنافيان حبيث ال ميكن القول هبما معاً‪ ،‬فإذا قيل أبحدمها لزم منه عدم‬
‫القول ابآلخر»‬

‫(‪ )1‬مقدمة يف أصول التفسري البن تيمية (ص‪)11 :‬‬


‫(‪ )2‬فصول يف أصول التفسري (ص‪)٧٩ :‬‬
‫‪53‬‬
‫أنواع اختالف التنوع‪:‬‬
‫نستطيع أن نُ ِرجع اختالف السلف يف التفسري إىل أنواع معدودة منها‪:‬‬

‫تدل على معىن يف‬


‫املفسرين عن املعىن املراد بعبارة غري عبارة صاحبه ّ‬
‫ُ‬ ‫كل واحد من ّ‬ ‫عرب ّ‬ ‫أوًل‪ :‬أن يُ ّْ‬
‫امل َسمى غري املعىن اآلخر مع ّاحتاد املسمى‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫ومثال ذلك تفسري « الصراط املستقيم » فقد قال بعضهم هو القرآن‪ ،‬وقيل اإلسالم‪ ،‬وقيل هو‬
‫تدل على ذات واحدة‪،‬‬
‫السنّة واجلماعة‪ ،‬وقيل العبوديّة‪ ،‬وقيل طاعة هللا ورسوله‪ ،‬وهذه األقوال كلّها ّ‬
‫كل منهم بصفة من صفاهتا(‪.)1‬‬
‫ولكن وصفها ّ‬
‫فسر من االسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه املستمع على‬ ‫كل ُم ّ‬ ‫الثاين‪ :‬أن يذكر ّ‬
‫النوع ال على سبيل احلَ ِّد املطابق للمحدود يف عمومه وخصوصه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اصطََفْيـنَا م ْن عبَاد َان فَمْنـ ُه ْم ظَاملٌ‬
‫ين ْ‬‫اب الذ َ‬
‫ومثال ذلك‪ :‬ما نُق َل يف قوله تعاىل ُّ﴿ ُمث أ َْوَرثْـنَا الْكتَ َ‬
‫ات﴾ [سورة فاطر‪]3:‬‬ ‫ص ٌد وِمْنـهم سابِق ِاب ْخليـر ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِِ ِ‬
‫لنَـ ْفسه َومْنـ ُه ْم ُم ْقتَ َ ُ ْ َ ٌ َْ َ‬
‫املفسرين َمن قال‪:‬‬
‫فمن ّ‬
‫(السابق) الذي يصلِّي يف ّأول الوقت‪ ،‬و(املقتصد) الذي يصلّي يف أثنائه‪ ،‬و(الظامل لنفسه) الذي‬
‫يؤخر العصر إىل االصفرار‪.‬‬‫ّ‬
‫ومنهم من قال‪( :‬السابق واملقتصد والظامل) قد ذكرهم يف آخر سورة البقرة‪ ،‬فإنّه ذكر احملسن‬
‫ابلصدقة‪ ،‬والظامل أبكل الراب‪ ،‬و العادل ابلبيع‪.‬‬
‫ومنهم َمن قال السابق‪ :‬احملسن أبداء املستحبّات مع الواجبات‪ ،‬والظامل‪ :‬آكل الراب أو مانع الزكاة‪،‬‬
‫يؤدي الزكاة املفروضة وال َيكل الراب وأمثال هذه األقاويل (‪.)2‬‬
‫واملقتصد‪ :‬الذي ّ‬
‫نص اآلية لتعريف املستمع وتنبيهه على نظائره‬
‫فكل قول من هذه األقوال إّمنا يذكر نوعا مما يتناوله ُّ‬
‫ّ‬
‫ضاد ما ذكره غريه‪.‬‬
‫وال يُ ّ‬

‫‪ 1‬املرجع السابق ‪ ،‬ص ‪43‬‬


‫‪ 2‬مقدمة يف أصول التفسري ‪ :‬ابن تيميّة ص ‪ 43 :‬ـ ‪44‬‬
‫‪54‬‬
‫الثالث‪ :‬ما يكون فيه اللفظ حمتمال لألمرين‪:‬‬

‫ت ِم ْن قَ ْس َوَرة﴾ [املدثر‪ ]51 :‬فإنّه يراد هبا الرامي‪ ،‬ويراد هبا‬


‫ومثاله لفظ (قسورة) يف قوله تعاىل‪﴿ُّ :‬فَـر ْ‬
‫األسد‪.‬‬

‫س﴾ [التكوير‪ ]1٧ :‬يُراد به إقبال الليل‪ ،‬وإدابره‪.‬‬ ‫ِِ‬


‫ولفظ (عسعس) يف قوله تعاىل‪َ ﴿ُّ :‬واللْيل إ َذا َع ْس َع َ‬
‫ولفظ (ال َقرء) يراد به احليض والطهر‪.‬‬

‫الرابع‪ :‬أن يُ ّ‬
‫عربوا من املعاين أبلفاظ متقاربة‪:‬‬
‫ِ ِ ِِ‬
‫س ِمبَا َك َسبَ ْ‬
‫ت‬ ‫يفسر أحدهم قوله تعاىل‪( :‬أَن تُـْب َس َل) من قوله تعاىل ﴿ َو ذَ ّكر به أَ ْن تُـْب َس َل نَـ ْف ُ‬ ‫ومثاله أن ّ‬
‫س » و يقول اآلخر « تُرَهتن » و حنو ذلك‪.‬‬ ‫﴾ ‪ ٧0‬األنعام بـ « ُْحتبَ َ‬
‫التضاد‪ ،‬وهو اختالف ال ضرر فيه‪ ،‬قال‬
‫ّ‬ ‫التنوع وليست من اختالف‬
‫كل هذه األنواع من اختالف ّ‬
‫و ّ‬
‫الزركشي‪" :‬يكثر يف معىن اآلية أقواهلم واختالفهم‪ ،‬وحيكيه املصنّفون للتفسري بعبارات متباينة األلفاظ‪،‬‬
‫ويظن من ال فهم عنده أ ّن يف ذلك اختالفا فيحكيه أقواال‪ ،‬وليس كذلك‪ ،‬بل يكون كل واحد منهم‬
‫ّ‬
‫ذكر َم ْع ًىن ظهر من اآلية‪ ،‬وإّمنا اقتصر عليه ألنّه أظهر عند ذلك القائل‪ ،‬أو لكونه أليق حبال السائل‪،‬‬
‫الكل يَـ ُؤ ُل إىل َم ْع ًىن واحد‬
‫وقد يكون بعضهم خيرب عن الشيء بالزمه ونظريه‪ ،‬واآلخر مبقصوده ومثرته‪ ،‬و ّ‬
‫غالبًا واملراد اجلمع‪ ،‬فليتفطن لذلك‪ ،‬وال يُفهم من اختالف العبارات اختالف املرادات"‪.‬‬

‫أسباب اًلختالف يف التفسري‪:‬‬

‫اختالف السلف يف التفسري له أسباب كثرية (‪ )1‬منها‪:‬‬


‫أوًلً‪ :‬اختالف القراءات‪:‬‬
‫كل منهم اآلية على حسب قراءة خمصوصة‪.‬‬
‫فيفسر ّ‬
‫أبن يكون يف اآلية أكثر من قراءة ّ‬

‫‪ 1‬انظر كتاب التسهيل لعلوم التنزيل ‪ :‬وهو تفسري ابن جزي جـ ‪ 1‬ص ‪ 15‬وللدكتور سعود الفنيسان كتاب هو ( اختالف‬
‫املفسرين أسبابه وآاثره ) وهو أطروحته للماجستري ‪ ( .‬مطبوع )‬
‫‪55‬‬
‫مثال ذلك‪ :‬ما أخرجه ابن جرير الطربي (‪ )1‬عن جماهد يف تفسري قوله تعاىل‪َ « :‬ولَ ْو فَـتَ ْحنَا َعلَْي ِهم َاب ًاب‬
‫ورو َن » سورة احلجر‪14 :‬‬ ‫ص ُارَان بَ ْل َْحن ُن قَـ ْوٌم م ْس ُح ُ‬ ‫ِّم َن الس َم ِاء فَظَلُّوا فِ ِيه يَـ ْع ُر ُجو َن‪ ،‬لََقالُوا إِمنَا ُس ّكِّ َر ْ‬
‫ت أَبْ َ‬
‫ـ ‪15‬‬
‫أ ّن معىن « س ّكرت »‪ُ :‬س ّدت‪ .‬مثّ أخرج عن ابن عبّاس رضي هللا عنهما أنّه قال‪ :‬س ّكرت مبعىن‪:‬‬
‫(‪)3‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫أورَد قول قتادة من قرأ « ُس ّكرت» ُمش ّددة يعين ُس ّدت ومن قرأ « ُس ِكَر ْ‬
‫ت»‬ ‫أخ َذت ِ‬ ‫ِ‬
‫وسحرت مثّ َ‬ ‫ُ‬
‫(‪ )4‬خم ّففة فإنّه يعين ُس ِحرت‪.‬‬

‫ومثاله أيضاً‪ :‬ما أخرجه ابن جرير الطربي عن احلسن يف تفسري قوله تعاىل « َسَرابِيلُ ُهم ِم ْن قَ ِطَران »‬
‫سورة إبراهيم‪ ،50:‬أ ّن القطران تُـ ْهنَأ به اإلبل‪ ،‬وروي عن ابن عبّاس وغريه أنّه النحاس املـُذاب فمن قرأ‬
‫«قَ ِطَران» قال ابلتفسري األول‪ ،‬ومن قرأ « قَطْر آن » (‪ )5‬قال ابلتفسري الثاين‪ ،‬فاالختالف يرجع إىل‬
‫االختالف يف القراءة‪.‬‬

‫ومثاله أيضا‪ :‬االختالف الوارد عن ابن عباس رضي هللا عنهما يف قوله تعاىل‪ « :‬أ َْو الََم ْـستُ ُم النِّ َسـآءَ »‬
‫سورة النساء‪ 43 :‬هل ه ــو اجلماع أو اللمــس ابليد‪ ،‬فقد روى الطربي عن ابن عباس أنه اجلماع‪،‬‬
‫وروي عن غريه أنّه اللمس ابليد‪ ،‬فمن قرأ « المستم » قال أنه اجلماع ومن قرأ «ملستم » قال أنه‬
‫اللمس ابليد‪.‬‬

‫‪ 1‬تفسري ابن جرير الطربي ‪ :‬جـ ‪ 14 :‬ص ‪٩‬‬


‫‪ 2‬تفسري ابن جرير الطربي جـ ‪ 14 :‬ص ‪10 :‬‬
‫‪ 3‬املرجع السابق جـ ‪ 14 :‬ص ‪10‬‬
‫‪ 4‬قرأ ابن كثري ( ُس ِكَرت ) ابلتخفيف ‪ ،‬وش ّدده الباقون ‪ ،‬انظر الكشف عن وجوه القراءات السبع ‪ :‬مكي بن أيب طالب‬
‫القيسي جـ ‪ 3 :‬ص ‪30 :‬‬
‫‪ 5‬قال ابن جرير جـ ‪ 13 :‬ص ‪ 1٦٨ :‬و هبذه القراءة ـ أعين ـ بفتح القاف وكسر الطاء وتصيري ذلك كله كلمة واحدة قرأ ذلك‬
‫مجع قراء األمصار و هبا نقرأ إلمجاع احلجة من القراء عليه وقد روي عن بعض املتق ّدمني أنّه كان يقرأ ذلك من قطر آن بفتح‬
‫القاف و تسكني الطاء و تنوين الراء و تصيري آن من نعته‬

‫‪56‬‬
‫اثنياً‪ :‬اًلختالف يف وجوه اإلعراب‪:‬‬

‫شك أ ّن لإلعراب أتثريه يف املعىن فليس بني الفاعل واملفعول به مثال إال الضبط ابلشكل‪ ،‬ويكـفر‬ ‫وال ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـني ۙ َوَر ُسـ ـ ـولُهُ » سورة التوبة‪ ،3:‬لو قرأها‬ ‫من َحلَن ُمتعمدا يف قوله تعاىل « أَن اَّللَ بَِريءٌ م َن الْ ُم ْش ِرك ـ َ‬
‫صـ ـ ِّـوُر» لو قرأها بفتح الواو من‬ ‫اخلَالِ ُق الْبَــا ِر ُ‬
‫ئ الْ ُم َ‬ ‫بكسر الالم من (رسوله) وكذا قوله تعاىل « ُه َو اَّللُ ْ‬
‫يدل على ما لإلعراب‬
‫كل هذا ّ‬
‫املصور‪ ،‬وها أنت ترى أنّه ليس بني الكفر و اإلميان إال حركة واحدة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫من أتثري يف املعاين‪.‬‬

‫ومثال االختالف يف اإلعراب‪ ،‬اختالفهم يف قوله تعاىل « َوَما يَـ ْعلَ ُم َأتْ ِويلَهُ إِال اَّللُ ۙ َوالر ِاس ُخو َن ِيف‬
‫الْعِْل ِم يَـ ُقولُو َن ءَ َامنا بِِه » سورة آل عمران‪ ٧ :‬فقد اختلفوا يف « والراسخون » فقيل عطف نَ َسق على‬
‫ءامنا بِِه»‪.‬‬
‫جل و قيل هم مرفوعون ابالبتداء واخلرب يف قوله تعاىل « يَـ ُقولُو َن َ‬ ‫عز و ّ‬
‫اسم هللا ّ‬
‫اثلثاً‪ :‬وقد يكون سببه اًلختالف يف املراد ابللفظ ًلحتماله أكثر من معىن بسبب اًلشرتاك اللغوي‪:‬‬

‫فسرها‬
‫أحد العلماء أبحد املعنيني ويُ ّ‬
‫فسرها ُ‬
‫مبعىن أ ّن الكلمة حبكم وضعها لغة تُستعمل ملعنيني خمتلفني فيّ ّ‬
‫آخر ابملعىن الثاين‪ ،‬وكال التفسريين جائز وصحيح ما مل يَـ ُق ْم دليل على أحد املعنيني‪ ،‬كلفظ «قسورة»‬
‫الذي يُطلق على الرامي وعلى األسد‪ ،‬ولفظ «عسعس» الذي يُر ُاد به إقبال الليل وإدابره‪ ،‬ولفظ‬
‫«النكاح» يطلق على الع ِ‬
‫قد و يطلق على الوطء‪ ،‬ولفظ « ال َق ْرء» يراد به احليض والطهر‪.‬‬ ‫َ‬
‫(م ْن ) فإنّه َييت البتداء‬ ‫وكما يقع االشرتاك اللفظي يف األمساء واألفعال‪ ،‬فإنّه يقع يف احلروف كحرف ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫َسر ٰى بِعْبـ ِـدهِ لَْي ًال ِمن الْمسـ ِـج ِد ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫صا﴾‬‫احلـَ َـرام إِ َىل الْ َم ْسجــد ْاألَقْ َ‬ ‫َّ َ ْ‬ ‫الغاية كقوله تعاىل‪ُ ﴿ُّ :‬سْب َح ــا َن ال ــذي أ ْ َ َ‬
‫[سورة االسراء‪.]1:‬‬

‫رابعاً‪ :‬ومن أسباب اًلختالف احتمال اإلطالق والتقييد يف اآلية‪:‬‬

‫دل على املاهية بال قيد‪.‬‬


‫واملـُطْلَق هو‪ :‬ما ّ‬

‫وحا »‪.‬‬
‫دل على املاهية بقيد‪ .‬كالدم املقيّد ابلسفح يف قوله تعاىل « أ َْو َد ًما َم ْس ُف ً‬
‫واملـَُقيد هو‪ :‬ما ّ‬

‫‪57‬‬
‫ومن املعلوم أنه جيب محَْ ُل املطلق على املقيد إذا ُوِجد دليل يقتضي التقييد‪ ،‬ويقع اخلالف بني السلف‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يف هذا الدليل فرتاه طائفة فيحملون املـُطلق على املـُقيد‪ ،‬وال تراه أخرى فيُب ُقون املطلق على إطالقه‬
‫ُ‬
‫واملقيد على تقييده‪.‬‬

‫عتق الرقبة يف الكفارات‪ ،‬فقد وردت مقيّدة يف ك ّفارة القتل اخلطأ ابلرقبة ( املـ ــؤمنــة ) قال‬ ‫ومثال ذلك‪ُ :‬‬
‫تعـ ـ ــاىل « َو َم ـ ْـن قَـتَ ـ َـل ُمـ ْـؤِمــنًا َخ ـطَــئًا فَــتَ ْحـ ـ ِر ُير َرقَـبَـ ــة ُم ْـؤِمنَ ــة » سورة النساء‪ ٩2 :‬ووردت ُمطلقة يف ك ّفارة‬
‫ودو َن لِ َما قَالُوا فَـتَ ْح ِر ُير َرقَـبَة ِم ْن قَـْب ِل أَ ْن يَــتَ ـ َـمــاسا‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫ين يُظَاه ُرو َن م ْن ن َسآئ ِه ْم ُمث يَـعُ ُ‬
‫ِ‬
‫الظهار قال تعاىل‪َ « :‬والذ َ‬
‫اخ ُذ ُك ُم هللاُ ِابلل ْغ ِو ِيف‬ ‫» سورة النساء‪ ٩2 :‬ووردت مطلقة أيضا يف ك ّفارة اليمني قال تعاىل‪ « :‬الَ يـؤ ِ‬
‫َُ‬
‫ني ِم ْن أ َْو َسـ ِـط َما تُطْعِـ ُـمو َن‬ ‫ـساك َ‬
‫ـشرةِ م ِ‬ ‫ِ‬
‫دِتُ األَْميَان فَ َكف َارتُهُ إطْ َـع ُام َع ـ َ َ َ َ‬
‫أَْميَانِ ُكم ولَ ِكن يـؤ ِ‬
‫اخ ُذ ُكم ِمبَا َعق ُ‬‫ًَ‬ ‫ْ‬
‫أ َْهـ ــلِي ُك ْم أ َْو كِ ْسـ ـ َـوتُ ُـه ْم أ َْو َْحت ِر ُير َرقَـبَة » سورة املائدة‪ ،٨٩ :‬فالرقبة يف كفارة الظهار واليمني مطلقة تشمل‬
‫املؤمنة والكافرة‪ ،‬ويف كفارة القتل اخلطأ مقيدة ابإلميان‪ ،‬فقالت طائفة حبمل املطلق على املقيّد فال جتزئ‬
‫عندهم الرقبة الكافرة يف الظهار واليمني‪ ،‬بل ال ب ّد من رقبة مؤمنة كما هي يف كفارة القتل اخلطأ‪.‬‬

‫مل ال ُـمطلق على املـُقيّد إالّ بدليل وال دليل هنا فيبقى املطلق على إطالقه‬
‫وقالت طائفة أخرى ال ُحي ُ‬
‫فيجوز عتق الرقبة الكافرة يف ك ّفارة الظهار واليمني‪.‬‬

‫خامساً‪ :‬ومن أسباب اًلختالف العموم واخلصوص‪:‬‬

‫والعام هو‪ :‬اللفظ الواحد الدال على ُم َسميَـ ْني فأكثر يف وقت واحد‪.‬‬

‫ومثاله قوله تعاىل‪َ « :‬والسا ِر ُق َوالسا ِرقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْ ِديَـ ُه َما » سورة املائدة‪.3٨ :‬‬

‫عني ومن غري‬


‫فلفظ السارق وكذا السارقة عام يشمل ُك ّل َم ْن َسَرق أو سرقت من غري حصر يف عدد ُم ّ‬
‫ختصيص‪.‬‬

‫واخلاص هو‪ :‬اللفظ الواحد الدال على مفرد معني‪ ،‬ومثاله لفظ «املائة»‪ ،‬يف قوله تعاىل «الزانِيَةُ َو الزِاين‬
‫فَاجلِ ُدوا ُكل و ِ‬
‫احد ِمْنـ ُه َما ِمائَةَ َج ْل َدة » سورة النور‪2 :‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬

‫‪58‬‬
‫ني‬‫ِ‬ ‫ات ُمث َمل َيْتُوا ِأبَربـع ِة ّشه َداء فَ ِ‬
‫ولفظ الثمانني يف قوله تعاىل‪« :‬و ال ِذين يـرمون املحصنَ ِ‬
‫وه ْم َمثَان َ‬
‫اجل ُد ُ‬
‫ْ َ َْ َ َ َ ْ‬ ‫َ َْ ُ ُ ْ َ‬
‫تدل على العدد املعني الذي وضعت له ال يشرتك معها فيه‬ ‫َج ْل َدةً » سورة النور‪ ،4 :‬فهذه األعداد ّ‬
‫معىن آخر‪.‬‬

‫اس إِن‬ ‫ِ‬


‫ين قَ َال َهلُُم الن ُ‬
‫وقد يُستعمل اللفظ العام حمل اخلاص حسب ما يقتضيه احلال كقوله تعاىل «الذ َ‬
‫يل » سورة آل عمران‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫اخ َش ْوُه ْم فَـَز َاد ُه ْم إِميَ ً‬
‫اان َوقَالُوا َح ْسبُـنَا هللاُ َو ن ْع َم الْ َوْك ُ‬ ‫اس قَ ْد َمجَعُوا لَ ُك ْم فَ ْ‬
‫الن َ‬
‫‪1٧3‬‬
‫عامة و املراد هبا خاص وهو نُعيم بن مسعود‪ ،‬والناس الثانية عامة لكن املراد هبا أبو‬ ‫ّ‬ ‫فالناس األوىل‬
‫ُ‬
‫سفيان وأصحابه‪.‬‬

‫املفسرين‪ ،‬فقد خيتلفون يف عموم لفظ أو خصوصه‬ ‫والعموم واخلصوص من أسباب االختالف بني ّ‬
‫نكحوا املـ ْش ِرَك ِ‬
‫ات َحىت يـُ ْؤِم ّن » سورة البقرة‪221:‬‬ ‫ِ‬
‫كاختالفهم يف عموم أو خصوص قوله تعاىل‪َ « :‬و الَ تَ ُ ُ‬
‫فقيل إ ّن لفظ املشركات عام يشمل الوثنيات والكتابيات‪ .‬وقيل‪ :‬خاص ابلوثنيات‪ .‬وعلى القول األول‬
‫اب » سورة املائدة‪ ،5 :‬خمصص هلذه اآلية‪ ،‬وعند‬ ‫ِ‬ ‫فإن قوله تعاىل‪« :‬و املـحصن ِ ِ‬
‫ين أُوتُوا الكتَ َ‬
‫ات م َن الذ َ‬
‫َ ُ ْ ََ ُ‬
‫اآلخرين غري خمصص ألنّه ال يشمل الكتابيات أصال‪.‬‬

‫سادساً‪ :‬ومن أسباب اختالف املفسرين احلقيقة واجملاز‪:‬‬

‫واحلقيقة‪ :‬هي اللفظ املستعمل فيما ُو ِضع له‪.‬‬

‫واجملاز‪ :‬هو اللفظ املستعمل يف غري ما ُو ِضع له على وجه يصح مع قرينة دالة على عدم إرادة املعىن‬
‫األصلي‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وقد وقع اختالف بني العلماء يف وقوع اجملاز فقالت بوقوعه طائفة وأنكرته أخرى ‪.‬‬

‫(‪ )1‬سيأيت إبذن هللا الكالم ابلتفصيل عن احلقيقة واجملاز يف مواضيع الفصل الدراسي الثاين‪.‬‬
‫‪59‬‬
‫ك َو أَبْ َكى » سورة النجم‪ ،43 :‬فقد‬
‫َض َح َ‬
‫ومثاله اختالف العلماء يف تفسري قوله تعاىل‪َ « :‬و اَنهُ ُه َو أ ْ‬
‫قال احلسن و الكليب يف تفسريها‪ :‬أضحك أهل اجلنّة يف اجلنّة‪ ،‬وأبكى أهل النار يف النار‪ ،‬وقال سهل‬
‫بن عبد هللا‪ :‬أضحك املطيعني ابلرمحة‪ ،‬وأبكى العاصني ابلسخط‪ ،‬وهذا التأويل وذاك ابملعىن احلقيقي‬
‫للضحك والبكاء‪ ،‬وقال الضحاك‪" :‬أضحك األرض ابلنبات وأبكى السماء ابملطر" وهذا أتويل ابملعىن‬
‫اجملازي‪.‬‬

‫سابعاً‪ :‬ومن أسباب اختالف املفسرين اإلضمار واإلظهار‪:‬‬

‫اب‬
‫س فيه وال اختالف كقوله تعاىل‪ُ « :‬مث َد َان فَـتَ َدىل فَ َكا َن قَ َ‬
‫ظاهرا ال ْلب َ‬
‫وبيان ذلك أ ّن املراد قد يكون ً‬
‫قَـ ْو َس ْ ِ‬
‫ني أ َْو أ َْد َىن » سورة النجم‪ ٨ :‬ـ ‪٩‬‬

‫ذر وأيب هريرة رضي هللا‬


‫فقيل‪ :‬هو جربيل عليه السالم وهو قول ّأم املؤمنني عائشة وابن مسعود وأيب ّ‬
‫الرب من حممد صلى هللا عليه وسلم وهو قول ابن عباس وأنس بن مالك رضي هللا‬
‫عنهم‪ ،‬و قيل‪ :‬دان ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫عنهم‬

‫اثمناً‪ :‬ومن أسباب اختالف املفسرين النسخ واإلحكام‪:‬‬


‫ِِ‬
‫ومن أمثلة االختالف يف القول ابلنسخ اختالفهم يف قوله تعاىل‪َ « :‬و َّلل الْ َم ْش ِر ُق َو الْ َم ْغ ِر ُ‬
‫ب فَأَيْـنَ َما‬
‫تُـ َولُّوا فَـثَم َو ْجهُ هللاِ » سورة البقرة‪115 :‬‬

‫(‪ )1‬تفسري ابن كثري جـ ‪ 4 :‬ص ‪ ، 2٦٦ :‬و انظر تفسري الطربي جـ ‪ 2٧‬ص ‪.2٦ :‬‬
‫‪60‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫فقد روى جابر بن عبد هللا رضي هللا عنه ما يدل على ّأهنا ُحمكمة وأ ّن املراد أهنا نزلت يف اشتباه القبلة‬
‫(‪)2‬‬
‫التطوع وعلى كال‬
‫وروى ابن عمر رضي هللا عنهما ما يدل على ّأهنا ُحمكمة وأ ّن املراد هبا صالة ّ‬
‫القولني فإهنا ُحمكمة غري منسوخة وهو ـ أيضا ـ قول سعيد بن املسيب وعطاء والشعيب والنخعي‪.‬‬

‫وروى عن ابن عباس رضي هللا عـنهما أنـها منسوخـة‪ ،‬فقـد روى عـطاء عن ابن عبـاس رضي هللا عـنهما‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب‬‫قال‪ :‬أول ما نُسـخ من القرآن ‪-‬فيـمـا ذُكَر لنا و هللا أعلم‪ -‬شأن القبلَة‪ ،‬قال‪ « :‬وَّلل املَ ْش ِر ُق واملَْغ ِر ُ‬
‫فَأَيْـنَ َما تُـ َولُّوا فَـثَم َو ْجهُ اَّللِ » سورة البقرة‪ ،115 :‬فاستقبل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فصلى حنو‬
‫اس َما‬ ‫الس َف َهاءُ ِم َن الن ِ‬ ‫ول ُّ‬ ‫بيت املقدس وترك البيت العتيق‪ ،‬مث صرفه هللا إىل البيت العتيق فقال‪َ « :‬سيَـ ُق ُ‬
‫ِ ِ‬
‫ف إىل‬ ‫َوال ُه ْم َع ْن قْبـلَت ِه ُم ال ِيت َكانُوا َعلَْيـ َها » سورة البقرة‪ ،142:‬يعنون بيت املقدس‪ ،‬فنسخها ُ‬
‫وص ِر َ‬
‫وه ُك ْم َشطَْرهُ»‬ ‫ك َشطَْر الْ َم ْس ِج ِد ْ‬
‫احلََرِام ۙ َو َحْي ُ‬
‫ث َما ُكنتُ ْم فَـ َولُّوا ُو ُج َ‬ ‫البيت العتيق فقال‪« :‬فَـ َوِّل َو ْج َه َ‬
‫البقرة‪144 :‬‬

‫اتسعاً‪ :‬ومن أسباب اختالف املفسرين يف تفسري اآلية‪:‬‬


‫حديث الرسول صلى هللا عليه‬ ‫ُ‬ ‫أحدهم‬
‫االختالف يف الرواية عن الرسول صلى هللا عليه وسلم فقد يبلغ َ‬
‫ين يـُتَـ َوفـ ْو َن‬ ‫ِ‬ ‫وسلم وال يبلغ اآلخر فيختلف تفسري ِ ِ‬
‫فسر عن اآلخر‪ .‬ومثاله يف قوله تعاىل‪َ « :‬والذ َ‬ ‫كل ُم ّ‬ ‫ُ ّ‬
‫ت‬‫ُوال ُ‬ ‫ص َن ِأبَن ُف ِس ِهن أ َْربَـ َعةَ أَ ْش ُهر َو َع ْشًرا » سورة البقرة‪ 234 :‬وقوله تعاىل‪َ « :‬وأ َ‬
‫اجا يَـتَـَرب ْ‬
‫ِ‬
‫من ُك ْم َويَ َذ ُرو َن أ َْزَو ً‬
‫ض ْع َن محَْلَ ُهن» سورة الطالق‪ ،4 :‬فقد استند علي بن أيب طالب وعبد هللا بن‬ ‫َجلُ ُهن أَن يَ َ‬ ‫ْاأل ْ ِ‬
‫َمحَال أ َ‬
‫عباس رضي هللا عنهم إىل هاتني اآليتني يف أ ّن املرأة اليت تويف عنها زوجها تعت ّد أببعد األجلني‪.‬‬

‫(‪ )1‬روى جابر بن عبد هللا رضي هللا عنه قال ‪ :‬بعث رسول هللا صلى هللا عليه و سلم سرية كنت فيها فأصابتنا ظُلمة فلم نعرف‬
‫القبلة ‪ ،‬فقالت طائفة ‪ :‬القبلة هاهنا فصلّوا و خطّوا خطّا ‪ ،‬و قال بعضهم ‪ :‬هاهنا ‪ ،‬فصلّوا و خطوا خطّا ‪ ،‬فلما أصبحنا أصبحت‬
‫فلما قفلنا من سفران سألنا رسول هللا صلى هللا عليه و سلم عن ذلك فسكت ‪ ،‬فأنزل هللا تعاىل ‪« :‬‬ ‫تلك اخلطوط لغري القبلة ‪ّ ،‬‬
‫فَأَيْـنَ َما تـُ َولُّوا فَـثَم َو ْجهُ هللاِ » نواسخ القرآن ‪ :‬ابن اجلوزي ص ‪ 13٩‬و احلديث رواه الدارقطين يف سننه جـ ‪ 10‬ص ‪ 2٧1 :‬و البيهقي‬
‫يف سننه جـ ‪ 20‬ص ‪. 10 :‬‬
‫(‪ )2‬روى ابن عمر رضي هللا عنهما قال ‪ :‬كان رسول هللا صلى هللا عليه و سلم يُصلّي وهو ُمقبل من مكة إىل املدينة على راحلته‬
‫حيث كان وجهه ‪ .‬قال ‪ :‬و فيه نزلت ‪ « :‬فَأَيْـنَ َما تُـ َولُّوا فَـثَم َو ْجهُ هللاِ » رواه مسلم جـ ‪ 10‬ص ‪4٨٦ :‬‬
‫‪61‬‬
‫ّأما ابـ ــن مسعود رضي هللا عنـ ـه فقد قال‪ :‬من شـ ـ ـ ــاء قاس ـ ـ ــمتـ ــه ابهلل أ ّن هـ ــذه اآلية أنزلت يف ســورة‬
‫(‪)2‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫أجل احلامل أ ْن تضع ما يف بطنها » ‪.‬‬ ‫النساء ال ُقصــرى نزلت بعد األربعة ث ـ ّـم قال‪ُ « :‬‬
‫حجة الوداع و‬
‫ويشهد البن مسعود رضي هللا عنه حديث ُسبَـْيـ َعة األسلمية فقد تُـ ُو ّيف عنها زوجها يف ّ‬
‫للخطاب‪ ،‬فدخل‬ ‫جتملت ُ‬‫فلما تَـ َعلت من نفاسها ّ‬
‫ب أن وضعت مخلها بعد وفاته‪ّ ،‬‬ ‫هي حامل‪ ،‬فلم تَـْن َش ْ‬
‫عليها أبو السنابل بن بَـ ْع َكك فقال هلا مايل أراك ُمتَ َج ِّملَةً ؟ لعلّك ترجني النكاح‪ ،‬إنّك وهللا ما أنت‬
‫علي ثيايب حني‬
‫فلما قال يل ذلك‪ ،‬مجعت ّ‬ ‫بناكح‪ ،‬حىت َتُر عليك أربعة أشهر وعشر‪ ،‬قالت ُسبيعة ّ‬
‫حللت حني وضعت‬
‫ُ‬ ‫فأتيت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فسألته عن ذلك؟ فأفتاين أبين قد‬
‫أمسيت ُ‬
‫ُ‬
‫(‪)3‬‬
‫ابلتزوج إ ْن بَ َدا يل » ‪.‬‬
‫َمحلي وأمرين ّ‬
‫علي وابن عبّاس رضي هللا عنهم عن قوهلما بعد أن بلغهما حديث ُسبيعة‪ ،‬فقد روى مسلم‬
‫وقد رجع ٌّ‬
‫يف صحيحه أ ّن أاب سلمة بن عبد الرمحن وابن عباس اجتمعا عند أيب هريرة ومها يذكران املرأة تَـْنـ َفس‬
‫بعد وفاة زوجها بليال فقال ابن عباس ع ّد ُهتا آخر األجلني وقال أبو سلمة قد َحلت‪ ،‬فجعال يتنازعان‬
‫ذلك قال فقال أبو هريرة‪ :‬أان مع ابن أخي (يعين أاب سلمة) فبعثوا ُكريبًا (موىل ابن عباس) إىل ّأم َسلَ َمة‬
‫ت بعد وفاة زوجها‬
‫نفس ْ‬
‫يسأهلا عن ذلك فجاءهم فأخربهم أ ّن ّأم سلمة قالت‪ :‬أن سبيعة األسلمية َ‬
‫(‪)4‬‬
‫بليال و ّأهنا ذكرت ذلك لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم فأمرها أن تتزوج‪. .‬‬

‫تلكم أهم أسباب اختالف املفسرين يف التفسري‪ ،‬وهناك أسباب أخرى غريُها ويكفينا منها ما ذكران‬
‫وهللا أعلم‪.‬‬

‫ومن هنا ينبغي على املفسر أن يراعي هذه األسباب وغريها أثناء قراءته لتفسري السلف وحياول أن خيرج‬
‫بتصور واضح عن اختالف السلف يف تفسريهم لآلية‪.‬‬

‫(‪ )1‬هي سورة الطالق‬


‫(‪ )2‬تفسري الطربي ‪ :‬جـ ‪ : 2٨‬ص ‪ ٩2‬ـ ـ ‪٩3‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم جـ ‪2‬ص ‪1122 :‬‬
‫(‪ )4‬املرجع السابق ‪ ،‬ص ‪1123‬‬
‫‪62‬‬
63

You might also like