Professional Documents
Culture Documents
المعجزة احمد بسام ساعي 2
المعجزة احمد بسام ساعي 2
https://palstinebooks.blogspot.com
املـعــجـــزة
اللغوي فـي القر�آن الكرمي
ّ �إعادة قراءة الإعجاز
املـعــجـــزة
ّ
اللغوي فـي القر�آن الكرمي �إعادة قراءة الإعجاز
اجلزء الثاين
ال�س َور
اللغة الإعجازيّة اجلديدة فـي ِق�صار ُّ
(الفاحتة وال�سور الع�شرون الأخرية مع متهيد تطبيقي على �سورة فاطر)
المعجزة :إعادة قراءة اإلعجاز اللغويّ فـي القرآن الكريم الجزء الثاني
جميع الحقوق محفوظة للمعهد العالمي للفكر اإلسالمي ،وال يسمح بإعادة إصدار هذا
الكتاب ،أو جزء منه ،أو نقله بأي شكل أو واسطة من وسائط نقل المعلومات ،سواء أكانت
إلكترونية أو ميكانيكية ،بما في ذلك النسخ او التسجيل أو التخزين واالسترجاع ،دون إذن
خطي مسبق من الناشر.
وبشيء من اإلسهاب ،عدداً من ٍ درسنا في الجزء األول من هذا البحث،
الظواهر القرآنيّة اللغويّة والبالغيّة والفكريّة التي فاجأ القرآن بها العرب ،متجاوزاً
بخطابه الجديد أبعاد اللغة والفكر والخيال التي عرفوها من قبل ،ووقفنا مليّاً
كل ظاهرٍة منها ،مح ّللين لطبيعتها ،ومستكشفين لدقائقها وحقائق ِجدّتها ،مع عند ّ
أهم شواهدها حيثما وردت في سور القرآن الكريم. محاولة استقصاء ّ
ونخصص هذا الجزء الثاني ،كما وعدنا ،لدراسة تلك الظواهر مجتمع ًة في
ّ
كل سورة ،بدءاً بفاتحة الكتاب ،ثم َ
السور العشرين األخيرة من القرآن ،بادئين ّ
للسور ،حتّى نختم
َ العكسي
ّ بسورة (الناس) وعائدين بالدراسة ،حسب الترتيب
بسورة (التين).
9
بشكل عا ّم ،ودرجة كثافتها في ّ
كل سورة، ٍ عن مدى بروز هذه الظواهر في القرآن
مدن ّي ًة كانت أو ّ
مكية ،قصير ًة أو طويلة.
10
بسبب أُلفتنا الطويلة له ،ووالدتنا على تالوته ،ومعايشتنا اليوميّة لكلماته وآياته،
والمتكررة من
ّ والمستمرة
ّ فلم نعد نميّز فيه ،شأننا مع ّ
كل معجزات الطبيعة الهائلة
مرة.
حولنا ،تلك الومضة الخاطفة األولى التي سحرت ألباب من سمعوه أل ّول ّ
األلفة عن عيوننا وال يعدو عملنا في هذا البحث أن يكون إماط ًة لحاجز ُ
الذهني إلى الحقبة النبويّة األولى ،والقبض
ّ بقو ِة التص ّور
وذواكرنا ،ومحاول ًة للعودة ّ
أحسها
على تلك اللحظة االستثنائيّة البكر ،لنكتشف من خاللها تلك اله ّزة التي ّ
ثالث وعشرين سنة ،التجربة العربي األ ّول وهو يعايش يوماً بيوم ،وعلى مدى ٍ ّ
تتكرر بعد ذلك ،مستمعاً إلى وحي السماء يُلقى عليه بكر ًة الفريدة التي لم ولن ّ
وحسه ،تلك األبعاد اللغويّة والبيانيّة والفكريّة
وعشيّا ،فيتل ّمس فيه ،بأذنيه ووعيه ّ
كل ما عرفه منها حتّى تلك اللحظة ،والتي تك ّفلت الجديدة التي جاءت تخالف ّ
األلفة والتكرار والمعايشة اليوميّة والزمن أن تقتل في نفوسنا اإلحساس بها،
واستحضار اله ّزة األولى التي ابتعثتها في نفوس أوائل من سمعها من المسلمين
في عصر النب ّوة.
11
تطبيقي
ّ نموذج
ٌ
سورة فاطر
كل من األبعاد األساسيّة سنتو ّقف في هذه السورة عند الظواهر التي تتض ّمنها ٌّ
والفكري .وستكون
ّ والبالغي
ّ اللغوي
ّ يتحرك خاللها هذا البحث: ّ الثالثة التي
كل من يريد أن يطبّق مثل نموذج بين يدي ّ
ٍ هذه اإللمامة السريعة بالسورة بمثابة
وكاف إلى
ٍ هذا النوع من الدراسة تطبيقاً ّأول ّي ًا موجزاً وغير متع ّمقٍ ،ولكنّه مفي ٌد
السور القرآنيّة.أي من َ حد كبير ،على ٍّ
ٍّ
أ ّما من أراد النموذج المتع ّمق لهذه الدراسة فأمامه ،بعد هذه السورة ،سور ُة
والسور العشرون التي ُخ ّصص لها في األصل هذا الجزء من البحث. َ (الفاتحة)
ﮋﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ
ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ
ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ
ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ
ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ
ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ
ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ
ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ
ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ
ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ
ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ
ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ
13
ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ
ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ
ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ
ﰕ ﰖ ﰗ ﰘﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ
ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ
ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ
ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ
ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ
ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ
ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ
ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ
ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ
ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ
ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ
ﰂﰃﰄﰅﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ
ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ
ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ
ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ
ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ
ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ
ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ
ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ
ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ
ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ
ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ
ﰃ ﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ
14
ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ
ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ
ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ
ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ
ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ
ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ
ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ
ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ
ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ
ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ
ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ
ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ
ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ
ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ
ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ
ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ
ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ
ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ
ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋ ﰌ ﰍ
ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ
ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ
ﭪ ﭫ ﮊ.
15
اللغوي الجديد في سورة (فاطر)
ّ أو ً
ال :البعد
–1األلفاظ واألدوات والمصطلحات:
أهم الظواهر التي تأتي تحت مظ ّلة هذا البعد هي ظاهرة األلفاظ الجديدة ّ
اللغوي ،سوا ٌء تلك التي صيغت صياغ ًة جديد ًة من
ّ التي أدخلها القرآن إلى قاموسنا
جذر سبق أن عرفت العربيّة منه صيغاً أخرى مختلفة ،أو تلك التي أوجدها القرآن ٍ
مرة.
جديد أل ّول ّ
ٍ جذر
من ٍ
وهناك نو ٌع آخر من األلفاظ القرآنيّة الجديدة هو تلك الما ّدة اللفظيّة القديمة
التي منحها القرآن ،من خالل سياقاتها الجديدة واستعماالتها المتن ّوعة داخل
معنى ،وربّما معاني جديد ًة عدّة.
اآلياتً ،
األهم واألكثر من األلفاظ التي أدخلها القرآن في قاموسنا ّ ولكن النوع
ّ
األصلي
ّ اللغوي هو تلك المجموعة الهائلة من الكلمات التي انتقلت من معناها ّ
االصطالحي الجديد.
ّ القرآني
ّ الذي تعارف عليه العرب قبل اإلسالم إلى معناها
كل مكان ،إذ لم يبق محصوراً بين د ّفتي ونجد هذا النوع من األلفاظ مبثوثاً في ّ
تسربكثير من الظواهر اللغويّة القرآنيّة األخرى ،بل ّالقرآن الكريم ،كما هو واقع ٍ
ثم امت ّد إلى لغتنا األدبيّة والعلميّة ،بل إلى لغتنا اليوميّة
إلى الحديث الشريفّ ،
المحكيّة أيضاً.
16
ُسبوا بعد ذلك إلى جديد انفردوا باستخدامه في شعرهم فن ِ
ٍ واحد
لفظ ٍ فيما بعد ،من ٍ
والمسيب ،إذا تذ ّكرنا
َّ والمرقش األكبر
َّ والمتلمس
ِّ الذبياني
ّ هذا اللفظ ،ومنهم النابغة
كل هذا عرفنا قيمة أن يكون هناك مثل هذا العدد الكبير من األلفاظ والمصطلحات ّ
ست صفحات -حسب معظم الطبعات المتداولة لكتاب اهلل الجديدة في سورٍة من ّ
مئات جديدٍة أخرى منتعالى ،-وقيمة أن تجتمع هذه األلفاظ ،ضمن السورة ،مع ٍ
التراكيب والتعبيرات والسبائك والصور والفنون البالغية الجديدة ،وكذلك عناصر
اللغة المنفتحة التي أحدثها القرآن في لغتنا ،والجوامع من َ
الك ِلم التي أدخلها في
قاموس لغتنا المكتوبة والمحكيّة ،وك ّلها م ّما لم تعرفه العربيّة أو العرب قبل القرآن
كثير منه بعد نزول القرآن ،وإلى هذه الساعة.الكريم ،بل استحال عليهم استخدام ٍ
أ– األلفاظ الجديدة في السورة:
بسهولة أن نعثر في سورة (فاطر) على عشرات األلفاظ الجديدة ٍ ونستطيع
ك ّلياً ،وهي التي لم يُسبق القرآن إليها ،سوا ٌء أكانت مشت ّق ًة من ٍ
جذر عرفه العرب
معروف أوجده القرآن الكريم .ومن أبرز
ٍ جديد غير
ٍ جذر
قبل ذلك ،أم جاءت من ٍ
هذه األلفاظ:
17
حق – الغَرور – ُزيِّن – رسل – تُؤفَكون – ( َو ْع ُد اهللِ) ٌّ مسك – ُم ِ فاطر – ُم ِ
(كل) يجري– ِش ْرك (بمعنى شركة أو شراكة) – ُمث َق َلة يمكرون – ٌّ (سحاباً) – ُتُثير َ
نظرون ُرجع (األمور) – يَ ُ
َكير – تَبُور – َخالئف – ت َ – تَ ُزوال – كسبوا– تَز ّكى – ن ِ
(بمعنى :ينتظرون).
ت -األلفاظ االصطالحيّة الجديدة:
استقر عليه،
ّ معنى اصطالح ّي ًا
وأكثر األلفاظ القرآنيّة الجديدة اتّخذ فيما بعد ً
لكل ما يتع ّلق بالدراسات الشرعيّة أو الفقه
اللغوي ّ
ّ وأصبح جزءاً من القاموس
القرآني حال سماعه ،حتّى إن استُخدم في ثنايا
ّ اإلسالمي ،فهو يُنبي عن أصله
ّ
أدبيّاتنا األخرى.
ّ
ويشكل هذا النوع من المصطلحات الخ ّزان األكبر بين الجديد من األلفاظ
مائة من هذه المصطلحات هذا بعضها: القرآنيّة .وفي سورة (فاطر) أكثر من ٍ
الخلق – قدير – رحمة – العزيز – الحكيم – نِعمة – يرزُق – ُر ُسل – َو ْع ُد (اهلل) َ
أجر – يُ ِض ّل – يَهدي – عليم – يَرف ُعه – – السعير – كفروا – آمنوا – الصالحات – ْ
فضله – تشكرون – َس ّخر – ال ُملك – تَدعون السيّئات – عذاب – يَبور – البحران – ْ
ُنذر – الغَيب – أقاموا (الصالة) – النور – يَك ُفرون – َخبير – الفقراء (إلى اهلل) – ت ِ
بالحق – بشيراً – نذيراً – يك ّذبوك – َك َّذب – ُر ُس ُلهم – البيّنات
ّ – نذير – (أرس ْلناك)
ت – ثَ َمرات – عزيز – َغفور – َشكور – أنفقوا – رزقناهم – أخ ْذ ُ
– ال ُزبُر – الكتاب – َ
أور ْثنا – اصطفينا يَ ْر ُجون – تجارة – يُ َو ّفيهم – أجورهم – أوحينا – ُم َصدِّقاً – بصير – َ
الح َزن – يَ َم ُّسنا – يُ ْق َضى – نَجزي – َكفور
الخيرات – ال َفضل – َقتصد – ْ – عبادنا – ُم ِ
– أَ ْخ ِر ْجنا – صالحاً – يتذ ّكر – النذير – ذوقوا – َك َفر – ُك ْف ٌر – َخساراً – أرأيتُم –
ُش َركاء – ُغروراً – تَزوال – زالَتا – استكباراً – يَحيق – ُسنّة – عاقبة – دابّة – أَ َجل..
ث– األدوات التي تحمل معاني جديدة:
عرفنا في الجزء األ ّول من البحث أن القرآن كثيراً ما يمنح األدوات ،بمختلف
كل ما عرفه العرب لها من استعماالتأبوابها النحويّة ،معاني جديد ًة اختلفت عن ّ
معان قبل ذلك ،وربّما بعد ذلك أيضاً ،وعن استعماالت الحديث الشريف أيضاً. أو ٍ
18
وسبق أن درسنا من هذه األدوات ذات االستعمال الجديد في القرآن الكريم
عشرات األدوات كان أه ّمها:
-األداة (كان) التي انفرد القرآن حتى يومنا هذا باستخدامها بمعنى ّ
(إن) ،شأنه
كثير من استعماالته الجديدة لألدوات األخرى:
مع ٍ
[األحزاب]27 : (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮊ
-األداة (قد) التقديريّة التي تسبق المضارع عادةً ،وقد استخدمها القرآن
بمعنى أختها التحقيقيّة التي تسبق الماضي:
[األحزاب]18 : ( ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ)
19
-أداة االستفهام (هل) التي كثيراً ما يتح ّول معناها في القرآن إلى (قد):
) [اإلنسان]1: (ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ
-األداة (لو) الشرطيّة ،وقد جاءت في القرآن بمعنى أختها التي للتمنّي فلم
تحصل على جواب للشرط ،رغم ورودها في سياق الشرط:
(ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮇﮈ
[الرعد]31 : ﮉﮊ)
-أداة النفي (ال) التي كثيراً ما تأتي بمعنى اإلثبات (نعم) أو بمعنى (ح ّقاً):
) [الز ُ
ُّخرف]41 : (ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ
-األداة المر ّكبة (كما) التي يتح ّول معناها أحياناً إلى (لقد):
(ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ
[البقرة]151 : ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ)
َ
(حاش) التنزيهيّة –ومن غير ( -حاشا) االستثنائيّة –باأللف– تصبح في القرآن
ألِف– مع إسنادها للفظ الجاللة:
) [يوسف]31 : (ﭧﭨﭩﭪﭫﭬ
[يوسف]51 : (-ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ)
20
– األداة المر ّكبة (ﯣ ) تنقلب في القرآن لتصبح بمعنى (لكي):
-همزة االستفهام (أ) تقترن في القرآن بـ(إذا) الشرطيّة ،ليتك ّون منهما معاً أدا ٌة
جديد ٌة لإلنكار ،وإلنكار البعث دون غيره:
– األداة (إ ّ
ال) تتح ّول عن استثنائيّتها ،لتصبح اسماً بمعنى (سوى) أو (غير)
فتُعرب صف ًة مع عدم إعمالها فيما بعدها:
( -ال) النافية تكتسب ق ّوة (ال) الناهية فتَدخل نون التوكيد على المضارع
المنهي عنه:
ّ ال تدخل عاد ًة إ ّ
ال على المضارع المنفي بها ،ومن شأن هذه أ ّ
ّ
) [األنفال]25 : (ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ
-األفعال الناقصة (ما ب ِرح) و (ما َفتِئ) و (صار) و (أمسى) و (بات) ال تقع
في القرآن إ ّ
ال تا ّمة:
21
[الكهف]60 : (ﯯﯰﯱﯲﯳﯴ)
ُ
[الشورى]53 : (ﭺﭻﭼﭽﭾ)
قريب من
ٌ بمعنى ال تعرفه لغتنا البشريّة وهو
ً مرات
-استخدام (الالم) ّ 4
(جزاء) أو (عقاب):
22
مرات بين المتعاطفين ،رغم وجود فعل االستواء -زيادة أداة النفي (ال) ّ 3
قبلهما م ّما يستدعي حذفها تبع ًا ألعرافنا اللغويّة:
(ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ
ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ
[]22 - 19 ﭱﭲ)
-استخدام ْ
(إن) بمعنى (ما) النافية ،وقد أثبتنا في تحليلنا لسورة (الم ّدثّر)،
أن هذا االستعمال اقتصر على القرآن الكريم في الجزء األ ّول من البحثّ ،
ويتكرر هذا االستخدام
ّ العربي ،ودون الحديث الشريف أيضاً.
ّ دون الشعر
مرات:
في السورة أربع ّ
[]23 (ﭳﭴﭵﭶﭷ)
[]24 (ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ)
[]40 (ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ)
[]41 (ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ)
[]44 (ﰘﰙﰚﰛ)
[]45 (ﭦﭧﭨﭩﭪ)
23
-2التراكيب والتعبيرات:
عرفنا أن لغة القرآن الكريم مشحون ٌة بما لم يعرفه العرب قبل اإلسالم من
تراكيب لغويّةٍ جديدٍة (ونقصد بها تلك الصيغ اللغويّة القصيرة التي يقوم بناؤها
أساسي على األدوات أكثر منه على األسماء أو األفعال) .وهي مشحون ٌة
ّ بشكل
ٍ
كذلك بالتعبيرات الجديدة (ونقصد بها الصيغ القصيرة التي تقوم على األسماء أو
خاصةً ،وربّما اكتمل تركيبها ّ
فشكلت جمل ًة كاملة). األفعال ّ
وهذه بعض التراكيب الجديدة في سورة (فاطر) والتي لم يعرفها العرب قبل
القرآن الكريم ،وعجزوا عن استخدام معظمها بعد القرآن:
24
ِ
ذلك ُم اهللُ ربُّكم
مسم ًى – ُ
ّ رات – ِم ْل ٌح أُجاج – َ
ألج ٍل مكرون الس ّيئات – ٌ
عذب ُف ٌ يَ ُ
ّات َع ْد ٍن – دار ال ُمقامة
سابق بالخيرات – جن ٌُ رس ًا وعالني ًة –
غرابيب سو ٌد – ّ
ُ –
الئف في األرض – َج ْه َد أَيمانِهم – – السموات واألرض – ذات الصدور – َخ َ
أج ُلهم. استكباراً في األرض – َم ْك َر َ ّ
السءِ – ُسّنة األ ّولين – جاء َ
–3العالقات اللغوية الجديدة:
تُح ّقق األلفاظ والعبارات والجمل القرآنيّة في تجاورها بعضها مع ٍ
بعض
عالقات جديد ًة متم ّيز ًة تختلف في ٍ
كثير منها عن العالقات اللغويّة التقليديّة التي ٍ
كثير منها عن العالقات التي يعرفها قاموسناعرفها العرب قبل ذلك ،بل يختلف ٌ
ّ
المتأخرين ،وقد عبرنا لت ّونا حدود القرن الحادي والعشرين. التعبيري نحن العرب
ّ
أ– بين األلفاظ:
فتحرك في نفوسنا بهذا
ّ ٌ
ألفاظ لم نعتد تجا ُورها، فقد تتجاور في القرآن
تحركها أو تصل
عميقة ال ّ
ٍ التجاور أبعاداً خيال ّي ًة وفكر ّي ًة جديدة ،وتصل إلى زوايا
اللغوي.
ّ إليها العالقات التقليديّة المسته َلكة في تراثنا
كل متجاورين ،أو أكثر ،من األلفاظ التالية، وبإمكانكم أن تتو ّقفوا عند ّ
وتتم ّعنوا في العالقة التي تربط اللفظ في هذه األزواج بما قبله أو بما بعده،
وتقارنوها بالعالقات التي اعتدتموها بين األلفاظ في لغتنا العاديّة ،لتتبيّنوا طبيعة
العربي األ ّول
ّ هذه «العالقات الجديدة» التي نتحدّث عنها والتي أحدثت في نفس
تلك «الصدمة اللغويّة» الفائقة.
ليحاول أحدنا ّأوالً أن يقف بين اللفظة وتاليتها في ٍّ
كل من األزواج التعبيريّة ْ
الجاهلي فهل كنت
ّ ليسأل نفسه :لو حدث أنّني عشت في العصر ْ ثم
البشريّة التاليةّ ،
سأجد توالي مثل هاتين الكلمتين أمراً عاد ّي ًا ح ّق ًا؟ لنقرأ:
-تصميم (أشكال) المالئكة صانع السماء (أو السموات)
ُ -
ُ -
رزق السيّد فتح الرحمة
ُ -
25
-الحياة فوق /تحت
-إعادة األحكام
-بناء الغيوم
إذهاب النفس
ُ -
-انزالق الليل /النهار -ت ُ
َعادل البحرين
-اإلنكار للشركة /الشراكة
-ترويض الشمس
-يُثقَل ٌ
ثاقل
-إذهاب الناس
أخ ُذ البَ َشر
ْ - المبشر المنذر (مع ًا)
ّ -
-يغفر ويشكر (معاً)
-شدي ُد السوا ِد أسو ُد
-مخبوءات السماء /األرض عهد
-توريث ٍ
-ش ِرك ٌة سماويّة
-صاحبة العقول
-خديعة السيّئة.. َ -ح ْم ُل السماءَ /ح ْم ُل األرض
إنّنا ،في هذه األمثلة ،لم نتجاوز أن وضعنا عدداً من العبارات القرآنيّة
في سورة (فاطر) ،ومن غير أن نغيّر طبيعة العالقات بين ألفاظها ،في صورٍة
شارحة تجعلها أقرب إلى أفهامنا ،وتساعدنا على فهم طبيعة تلك
ٍ لفظيّةٍ برش ّي ٍة
العالقات الجديدة التي نجدها بين ألفاظ السورة .وهذه هي أصول العبارات
القرآنيّة األربع والعشرين:
جاع ِل المالئك ِة
ِ -
-فاط ِر السموات
-نعم َة اهلل رحمة
ٍ (للناس) ِمن
ِ -ما يَفتح اهللُ
ِ
-الحيا ُة الدنيا
ُرج ُع األمور
-ت َ
ثير َسحاباً
-فتُ ُ َذه ْب ن ْف ُس َ
ك -فال ت َ
النهار في
َ -يولِ ُج َ
الليل/ -وما يستوي البحران
-يَك ُفرون ِ
بشر ِككم
الشمس
َ َ -س ّخر
26
-تَ ِز ُر وازر ٌة
ذهبكم
-يُ ْ
أخذت الذين كفروا
ُ - -بشيراً ونذيراً
َ -م ْك َر ّ
السيء
واألرض
َ السموات
ِ مس ُ
ك -يُ ِ
جمل منفصلة ،وقد ال يكون بين بعض هذه -فاآلية الواحدة قد تستغرق عدّة ٍ
ظاهر من روابطنا التقليديّة المعروفةّ .
إن الجمل معنوي ٍ
ٍّ نحوي أو
ٍّ رابط
أي ٍالجمل ّ
الكاملة األربع التالية ،التي قد تتض ّمن في داخلها أيضاً ُجم ً
ال فرعيّةً أخرى أصغر
منها ،تك ّون جميعاً آي ًة واحدة:
( ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ
[]8 ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ )
(ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ
) [.]21 – 19 ﭞﭟ
27
ُ
الروابط – وإمعاناً في الخروج عن الوحدة اللغويّة التقليديّة؛ كثيراً ما تختفي
المعتادة بين الجمل (كالواو والفاء) فال نجدها في مواضعها المعهودة ضمن اآلية
الواحدة ،كما حدث في اآلية التالية التي تألّفت من أربع وربّما خمس ٍ
جمل كاملة،
ولكن لم يربط بين الثالث أو األربع ُ
األ َول منها فا ٌء أو وا ٌو وال غيرهما:
( ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ
[.]3 ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﰇ ﰈ ﰉ )
مجرد
وكرسها ،فح ّولها من ّ أسس للقواعد اللغويّة والنحويّة ّفالقرآن الكريم ّ
كثير منها ،إلى قوانين وقابلة للتغيّر والتعديل في ٍ
ٍ متداولة بين العرب،
ٍ أعراف وتقاليد
ٍ
أدبي أتى بعد القرآن، نص ّ أي ٍ
ثابتة يُستند إليها في الحكم على سالمة ّ
وأحكام ٍ
ٍ
ً
أو قبله ،هذا حتّى إن لم يلتزم اللغويّون والنحويّون والبالغيّون حرف ّيا بعد ذلك،
لغة استحالت على التقليد أو االختراق ،بجميع التقاليد وهم يجدون أنفسهم أمام ٍ
الجديدة التي سنّها القرآن لعلومهم ،والتي أصبحت بفضله علوماً حقيق ّي ًة أل ّول ّ
مرة.
لغة أو
لم يكن هناك إذن قبل الوحي ما يمكن تسميته بقاعدة ،فال علوم ٍ
بالغة كانت قد ُوضعت بعد .لقد جاء القرآن ليط ّور اللغة العربيّة وي ْغنيها ٍ نحو أو
ٍ
ويفتح أمامها آفاقاً هائل ًة للتجدّد واالتّساع ،وذلك من خالل الخروج عن أعرافها
بكثافة غير عاديّةٍ وخالل فترٍة قياسيّة.
ٍ وتقاليدها
ال أن يُخضعوا لغة وإذا كان النحويّون واللغويّون والبالغيّون القدماء أبَوا إ ّ
أن القرآن هو الذي دفعهمّ ،أوالً وأخيراً، القرآن الكريم لقواعدهم الجديدة ،رغم ّ
المحدثون منهم ،قدَ فإن عدداً من متن ّوريهم ،وال سيّما
إلى وضع تلك القواعدّ ،
28
اعترفوا بعدم خضوع لغة القرآن الكريم دائماً لقواعدنا البشريّة المحدودة ،وهي
التي عجز واضعوها عن استيعاب سعة اآلفاق اللغويّة القرآنيّة ،وعن إخضاعها
لمقاييسهم ،وحشرها في أنابيب قواعدهم اإلنسانيّة الضيّقة .ولنا فيما كتبه مصطفى
األنصاري ،وغيرهم من أهل
ّ مكيالرافعي ،وعبد الخالق عضيمة ،وأحمد ّ
ّ صادق
شاهد على هذه الحقيقة كما أثبتنا في الجزء األ ّول من هذا البحث.
ٍ عصرنا ،خير
أن العرب قد عجزوا حتّى اليوم عن اإلفادة من معظم اآلفاق ومن الواضح ّ
النحويّة واللغويّة والبالغيّة القرآنيّة الجديدة ،بل ،ومن اإلنصاف لهم أن نقولها ،إنّه
قد استحال عليهم ذلك حتّى إن أراده بعضهم أو حاولوه.
-االكتفاء بالمبتدأ دون الخبر ،وذلك في غير الحاالت التي سمح فيها النحويّون
بحذف الخبر:
[.]8 ( ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ )
-االكتفاء بالفعل والفاعل دون المفعول به ،في غير المواضع التقليديّة التي
يُحذف فيها المفعول عادةً:
[.]37 ( ﯱ]العذاب[ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ )
التقليدي:
ّ بالمقول دون أن يُذكر قبله فعل القول
-االكتفاء َ
( ﯛ ﯜ ﯝ]قائلين[ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ) [.]37
– حذف ياء المتك ّلم كتاب ًة ولفظاً ،خالفاً لألعراف اللغويّة التي ال تسمح
بحذفها ،ال لفظاً وال كتاب ًة:
29
[.]26 ( ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ) (أي نكيري عليهم)
– االبتداء بالمفعول ورفعه على أنّه مبتدأ أو خبر ،رغم وجود المفعول بعد
ضمير للغائب:
ٍ ذلك في شكل
( ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ) [.]33
– تعريف المفعول ألجله (أو ما يُعطف عليه) ،وذلك بإضافته إلى معرفة،
ومن شروطه عند النحوييّن أن يكون نكرة:
( ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ) (أي و َمكراً ّ
للسيء) [.]43
فعل آخر:
– إعمال الفعل عمل ٍ
[.]10 (ﯮ ﯯ ]أي يرتكبون[ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ )
–5السبائك القرآنيّة:
نات عديد ًة من القوالب أو لقد عرضنا في الجزء األول من البحث عي ٍ
ّ ّ
العربي ،شعره ونثره ،فالتزم بها الشعراء
ّ «السبائك» اللغويّة التي حكمت األدب
العربي يبدأ
ّ بيت في تراثنا
والخطباء ،وتناقلوها في إبداعاتهم المختلفة .فكم من ٍ
مرة: تتكرر في أشعارنا القديمة ،وأحيان ًا الحديثةّ ،
مر ًة إثر ّ بمثل هذه السبائك التي ّ
و َمن يَ ُ
ك ذا..
ليت ِشعري هل..
أال َ
أال ان ِعم صباحاً أيُّها الربع..
عيب فيهم غير..
وال َ
خليلي ُم ّرا بي..
َّ
الدوارس..
ُ الط ُ
لول آل أسما َء ُ
أ ِم ْن ِ
30
صاحبي َت َل َّوما..
َّ يا
ود ْع أُما َم َة..
ِّ
المنازل..
ك ِمن أسما َء َر ْس ُم َ أَ َ
هاج َ
أَ ِم ْن ِذ ْك ِر سلمى..
الجديّةِ.. لِ َم ْن َط َل ٌل َ
بين َ
أال أيّهذا الالئمي..
حرفي
ٍّ وبشكل
ٍ شاعر إلى شاعر،
ٍ فسوف تجد السبيكة نفسها تُتناقل بعده من
المرقش فال يأتي ُ
تحافظ السبيكة على وزن اسم الفاعل كما هو عند َّ عجيب ،حتّى لَ
ال على وزن (فاعل) ،كقول الشعراء اآلخرين بعده ،من جاهلييّن وإسالمييّن: فيها إ ّ
فالدمـع ذا ِر ُ
ف ُ بل ال ِع ُ
رفـان، أال الِ ، ُ
عـارف أنت
رس َـم الدا ِر أ ْم َ
ُنك ُر ْ
أت ِ
شرم (ت 50ق.ﻫ)
الخ َ
ُهدبة بن َ
31
وليوجد
ِ كل هذه السبائك التقليديّة رأساً على عقب، وجاء القرآن ليقلب ّ
آية من آيات
كل ٍالخاصة ذات البناء المتميّز الذي أثبتنا أنّه يكاد يشمل ّ
ّ سبائكه
القرآن الكريم ،مع استحالة تقليد سبائكه رغم ذلك.
هل تتوقع أن تصوغ جمل ًة توازي هذه اآلية األولى ،من غير أن تثير سخرية
مانح األشيا ِء ال :التعظيم للفن ِ
ّان الناس منك ،كأن تقول مث ً
الخرائط واللوح ِة ِ
ِ راسم
ِ ُ
ٍ ُ
شخص ّيات أولي ٍ
أنواع لونين وثالث ًة وأربعة!
32
هذا مع اضطرارنا إلى إحالل األلفاظ التقليديّة المعروفة (لونين وثالث ًة
والمتفردة ( ﮩ ﮪ ﮫﮬ ) التي لم ّ وأربعة) ّ
محل األلفاظ القرآنيّة الجديدة
الجاهلي.
ّ العربي
ّ تكن معروف ًة لدى اإلنسان
تجربوا مهاراتكم البشريّة مع السبائك الخمس التي تليها في ولكم اآلن أن ّ
أي من السبائك القرآنيّة المتميّزة في هذه السورة ،كما في
اآليات الثالث ،بل مع ٍّ
سور القرآن الكريم:
باقي َ
) []1 ( -ﯔﯕﯖﯗﯘﯙ
) []3 ( -ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﰇ ﰈ
وقد تبدو السبيكة األولى التي تصدّرت هذه السبائك الخمس جمل ًة عاد ّي ًة ال
يجرب أحدكم فيضع من عنده جمل ًة تختلف عن سبائكنا اللغويّة المتدا َولة ،وقد ّ
برش ّي ًة موازي ًة لها فيقول ،معارضاً لنا فيما ندّعيه:
شيء قدير ٌة
كل ٍإن الحكومة على ّ
ّ
أن جملته ليست من تعبيراتنا البشريّة عاديّ ،
ّ قارئ
وألي ٍ
ّ ولكن سيتبيّن له،
يشك في ّ
أن إن من يسمعها ال ّ التي اعتدنا أن نعبّر بها عن مثل هذا المعنىّ .
بكلمات
ٍ البشري لسبائكنا اللغويّة المعروفة ،فأتى
ّ القائل قد خرج عن النسق
لفظ
قرآني غير معتاد ،وباستخدام ٍٍّ لغوي
ٍّ بناء
صياغة أو ٍ
ٍ بشريّةٍ معتادة ،ولكن في
ال كان عليه أن يقول: معتاد أيضاً في مثل هذا السياق وهو اللفظ (ﯙ) ،وإ ّ غير ٍ
شيء
كل ٍإن الحكومة قادر ٌة على ّ
ّ
33
مستخدما اللفظ (قادرةٌ) بد ً
ال من (قديرة) ومقدِّماً له على شبه الجملة (على ّ
كل
شيء) المتع ّلق بهذا اللفظ.
البالغي
ّ ثانياً :البعد
إن في سورة (فاطر) وحدها أكثر من ستّين صور ًة جديدةً ،كما سوف نرى، ّ
الكم الكبير من الصورة األساسيّة الجديدة ،فض ً
ال واألعجب من ذلك أنّنا ،مع هذا ّ
ست صفحات ،ال نكاد نرى ،بل أجرؤ عن الفرعيّة ،التي اجتمعت في سورٍة من ّ
على القول إنّنا ال نرى أبداً ،صور ًة أساس ّي ًة قديم ًة واحد ًة من تلك التي عرفها
العرب قبل نزول القرآن الكريم ،والتي ازدحمت بها قصائدهم وأعمالهم األدبيّة
سور القرآن الكريم.
المختلفة .وينطبق هذا الحكم على سائر َ
مسبوقة بين أطراف
ٍ وليس هذا فحسب ،بل أوجد القرآن الكريم أبعاداً غير
الصورة كثيراً ما عجزت أقالم البالغييّن ،وهم ينهدون فيما بعد لوضع قواعد
ثم إخضاعها لقواعدهم البيانيّة البشريّة علم البيان ،عن الغوص فيها وتحليلهاّ ،
المحدودة.
34
وسيواجه من درسوا علوم البالغة العربيّة صعوب ًة كبيرة ،إذا لم أقل استحالة،
كثير من الصور البيانيّة التي وقفنا عليها في سورة (فاطر) إذا اكتفوا
في تحليل ٍ
بخط تحت باالعتماد على قواعد تلك العلوم ،كما يتّضح من الصور التالية ،وسنشير ٍّ
كل صورة ،مع مالحظة اجتماع أكثر من صورٍة واحدٍة في العبارة أو اآلية أحياناً:
ّ
( ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ) []6 -
( -ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ
[]22 – 19 ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ )
صور جديدة:
ٌ –2
أ ّما الصور القرآنيّة التي نستطيع دراستها تبعاً لقواعدنا البالغيّة فإنّنا سنكتشف
صور جديدٍة لم يعهدها قاموس البالغة أقل تقدير ،أمام ٍ بهذه الدراسة أنّنا ،على ّ
ثم لن يعرف كثيراً منها بعد ذلك ،كما يتبيّن لنا في الصور التالية:العربيّة قبل ذلكّ ،
35
( -ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ) []2
( -ﯡ ﯢ ﯣﯤ ) []2
( -ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ) []2
( -ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ) []4
( -ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ) []5
( -ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ) []8
( -ﮗ ﮘ ﮙ ) []8
( -ﮚ ﮛ ﮜﮝ ) []8
( -ﭙ ﭚ ﭛﭜ ) []12
( -ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ) []8
( -ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ) []9
( -ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ) []10
( -ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ) []18
( -ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ) []18
( -ﯹ ﯺﯻ ) []18
( -ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ ) []18
( -ﮑ ﮒ ) []25
( -ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ) []29
( -ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ) []31
( -ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ) []35
36
( -ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ) []35
( -ﮨ ﮩ ﮪ ) []36
( -ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ) []37
( -ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ) []38
( -ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ) []39
( -ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ) []39
( -ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ) []42
( -ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ) []42
( -ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ) []43
( -ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ) []43
( -ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ) []45
( -ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ) []45
فن االلتفات:
ّ –3
فن محض البالغي الجديد ٌّ
ّ الفن
أن هذا ّ عرفنا في الجزء األ ّول من البحث ّ
وأن ما أورده علماء البالغة في كتاباتهم من نماذج شعر ّي ٍة عليه ال ّ
تمت إلى قرآنيّ ،
ٍّ
الفن بصلة ،وإنّما هي نو ٌع من اإلسقاط يتحدّث فيه الشاعر عن نفسه ،حيناً هذا ّ
أي منّا حين يتحدّث إلى نفسه وكأنّه بصيغة المتك ّلم وحيناً بصيغة الغائب ،شأن ٍّ
ال ،امرؤ القيس (ت80 شخصيّتان تحاور إحداهما األخرى .هذا ما كان يفعله ،مث ً
ق.ﻫ) حين قال:
37
شيب عصر َ
حان َم ُ َ الشباب
ِ يد
بُ َع َ سان َط ُ
روب الح ِقلب في ِ
بك ٌطحا َ
طوب
وخ ُــواد بيننا ُ
وعادت َع ٍ
ْ شــط َو ْليُـها
يك ّلفني ليلى وقد َّ
(بك) إلى صيغة المتك ّلم (يك ّلفني) رغم أنّه َعنَى َ
المخاطب َ فانتقل من صيغة
يجرد من نفسه شخص ّي ًة أخرى يتحدّث إليها وتتحدّث نفسه في كلتا الحالين ،إنّه ّ
علمي وحازم ،بين التجريد وااللتفات. ٍّ وبشكل
ٍ المهم جدّ ًا التفريق،
ّ إليه ،ومن
الفن في القرآن أنواعاً عديدةً ،ك ّلها جديد ،وك ّلها وقد عرفنا كذلك ّ
أن لهذا ّ
يقتصر على القرآن وحده ،فال وجود لاللتفات في أدبنا ،شعره أونثره ،حتّى يومنا
هذا ،بل ال وجود له حتّى في الحديث الشريف ،وأذهب إلى أبعد من هذا بقولي
لغة أخرى. إنّني ال أعرف ،وال أتو ّقع أن أجد هذا ّ
الفن ،في أيّة ٍ
وفي سورة (فاطر) من أنواع االلتفات التي درسناها في الجزء األ ّول أربع ٌة
على ّ
األقل:
مألوفة بين
ٍ في هذا النوع من االلتفات ينتقل الحديث بصورٍة فجائ ّي ٍة وغير
الماضي والمضارع ،أو العكس ،وكذلك بينهما وبين الزمن الحاضر .ونجد هذا
ات في اآليات الخمس التالية من السورة ،وقد أشرنا النوع من االلتفات سبع مر ٍ
ّ
بخطوط تحتها:
ٍ إلى مواقعه فيها
[]13 (-ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ)
(انتقل من المضارع إلى الماضي).
38
( -ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ) [( ]29انتقل من المضارع
إلى الماضي).
( -ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ
ﮊ ﮋ ﮌ ) [( ]34 – 33انتقل من المضارع «يدخلونها» إلى الحاضر
«يُ َح َّلون» ّ
ثم إلى الماضي «قالوا»).
وفي التفات الخطاب يتن ّقل الحديث بين صيغ المتك ّلم /المتك ّلمين،
المتحدث عنه
َّ أن المتحدِّث أو َ
المخاطبين ،والغائب /الغائبين ،رغم ّ َ
والمخاطب/
تمهيد ،بين متك ّل ٍم وآخر،
ٍ هو نفسه لم يتغيّر ،أو ربّما انتقل الحديث فجأةً ،ودون
والمبني للمعلوم ،أو غير ذلك م ّما يدخل في هذا الباب
ّ المبني للمجهول
ّ أو بين
حاالت من هذا النوع،
ٍ يقل عن خمس قريب منه .وفي سورة (فاطر) ما ال ّ أو هو ٌ
نجدها في اآليات التالية:
المبني
ّ ( -ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ) [( ]33انتقل من
المبني للمجهول «يُ َح َّلون»)
ّ للمعلوم «يدخلونها» إلى
( -ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ
ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ) [( ]37انتقل الحديث ،وبدون تمهيد ،من لسان
«ربنا أخ ِرجنا» إلى اهلل تعالى «أ َولم نُع ّمركم«)
أهل النار َّ
(-ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ
ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [( ]40انتقل من صيغة األمر الصادر من المفرد المتك ّلم
39
«أروني» أنا ،ويمكن أن يعود على الرسول أو على اهلل تعالى ،إلى صيغة
اإلخبار الصادر عن جمع المتك ّلمين «آتيناهم« نحن ،والعائد عليه تعالى).
ّ
إن هذه األنواع من االلتفات ال يمكن أن نعثر عليها في لغتنا البشريّة .هل
يقطب حاجبيهلكاتب أو يسمع لمتحدّث ،من غير أن ٍّ يتو ّقع أحدنا مث ً
ال أن يقرأ
مستغرباً ومستنكراً ،عبار ًة كالعبارة التالية ،والتي صغتُها على نمط اآلية األولى من
الشواهد القرآنيّة أعاله:
أتينا في الجزء األ ّول بشواهد قرآن ّي ٍة عدّ ٍة على هذا النوع من االلتفات الذي
يتبادل فيه المذ ّكر والمؤنّث مواقعهما ،خالفاً ّ
لكل تقاليدنا أو أعرافنا اللغويّة
يقصر النحويّون طبعاً في إيجاد الحلول أو التقديرات لمثل هذه
والنحويّة .ولم ّ
«اإلرباكات« اللغويّة أو النحويّة التي وضعهم القرآن أمامها ،من غير أن يدرك
جديد من البالغة التي تش ّد القارئ
ٍ أكثرهم ،أو أن يعترفوا لألسف ،بأنّهم أمام ٍ
نوع
إليها باستمرار من خالل التغيّر المفاجئ إلشارة المرور اللغويّة ،أو عبر القفزة
التعبيري.
ّ المتوقعة في تيّار المجرى
َّ الخاطفة وغير
حاالت اجتمعت
ٍ ونجد من هذا النوع من االلتفات في سورة (فاطر) أربع
ك ّلها في آيتين متتاليتين ،وهي قوله تعالى:
40
ث– التفات النصب:
كثير جدّ ًا في القرآن ،كما أثبتنا في الجزء األ ّول ،وهو أيضاً م ّما أجهد
وهو ٌ
وتقديرات آلياته ،غير ملتفتين إلى
ٍ تأويالت
ٍ أنفسهم في البحث عن النحويّون َ
التجديدي الها ّم والخصب الذي يقدّمه ألعرافنا النحويّة ،وإلى عنصر ّ الجانب
اإليقاعي في مجرى اللغة ،والذي من شأنه أن يش ّد إليه قارئ القرآن ّ التح ّول
والخاصة التي يبتعثها في السياق.
ّ ال عن اإلضافة المعنويّة المتميّزة الكريم ،فض ً
االلتفاتي في اآلية التالية من السورة:
ّ ونجد هذا العنصر
( -ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ
(((
ﯔﯕ ) [.]36
وال ّ
شك ّ
أن مثل هذه األعراف ،وربّما القواعد فيما بعد ،التي سنّها القرآن أل ّول
مرة ،والتي ظ ّلت في معظمها بعيد ًة عن متناول النحويّين حين وضعوا قواعدهم، ّ
ال تلغي القواعد التي كانت قائم ًة قبلها ،والتي لم تكن كما أسلفنا قد اكتسبت
االسم بع ُد حين نزل الوحي ،بل تضيف إليها وت ْغنيها وتمنح لغتنا المزيد من َ هذا
القدرة على االستمرار والتط ّور ،وإن كان للغة السماء خصوصيّتها التي «أعجزت»
بكل دقائقها وأسرارها ،فانصرفوا النحويّين عن إيجاد قواعد هنائ ّي ٍة لها ،واإلمساك ّ
الجاهلي ،العاديّة والبشريّة ،ليستمدّوا قواعدهم النهائيّة منه.
ّ عنها إلى لغة الشعر
–4اللغة المنفتحة:
التعبيري لم يعرفه العرب قبل القرآن الكريم.
ّ سبق أن أثبتنا ّ
أن هذا األسلوب
كثير من عناصر المرونة في الشريعة اإلسالميّة ،واستمرار
فهذا النوع من اللغة وراء ٍ
اجتهاد في القضايا
ٍ رأي أو
مواكبتها للحياة وتط ّورها ،وخروج الفقهاء بأكثر من ٍ
اليوميّة المستجدّة على مدى العصور .وإلى هذا النوع من اللغة أيضاً يرجع الفضل
41
العلمي للقرآن خبيئ ًة ح ّي ًة في لغته على ّ
مر القرون، ّ في استمرار بذور اإلعجاز
عصر على قدر
كل ٍ بانتظار العصر الذي سيزيل عنها ستار الغموض ،وهكذا فهمها ّ
العلمي الهائل ،وقد
ّ ما أوصلته إليه معارفه ،حتّى انتهينا اليوم إلى هذا االنفجار
لكثير من
ٍ خرج علينا فيه العلماء باكتشافاتهم المذهلة ،لتُظهر المعاني الحقيقيّة
وحل رموزها.فك ألغازها ّ اآليات التي عجز القدماء عن ّ
كل األلفاظ التي يمكن أن تحمل أكثر من معنى ،وكل التعبيرات أو إن ّّ
الجمل أو اآليات التي اختلف الفقهاء أو المفسرون عليها ،وذهبوا مذاهب شتّى
واحد
ٍ في تأويلها ،تدخل تحت باب اللغة المنفتحة .إنّها ليست منغلق ًة على ً
معنى
نهائي ال يقبل الجدل ،وهنا مكمن ق ّوتها وتميّزها ،كما ّ
أن اجتماعها ٍّ تفسير
ٍ أو
المتفردة.
ّ وتن ّوعها وكثرتها في ّ
كل سورٍة تُبرز خصيصتها اإلعجازيّة
المقترحة،
َ معنى من األلفاظ ،وك ّلما كثرت معانيها
كل ما احتمل أكثر من ًوهي ّ
أو زادت أطيافها الموحية ،أو تعدّدت طرائق إعرابها ،ازدادت استحقاقاً لصفتها
االنفتاحيّة .ونجد منها في السورة:
(سحاب ًا) – النُشور – يَبور – (في) فاطر – تُؤفَكون – الغَرور – ِحزبه – تُثير َِ
كتاب – ِقطمير – بالغَيب – تَ َز ّكى – نَكي ِر – ُج َد ٌد – العلماء – ِ
مقتص ٌد – َع ْدن – ٍ
النذير – َخالئف – َم ْقتاً – يَنظرون (إ ّ
ال) ُ (وجاءكم)
ُ ال ُمقامة – لُغوب – يَصطرخون –
42
لقد قالوا في اللفظ (نذير) مث ً
ال:
إنّه الرسول
وقالوا إنّه (الشيب) الذي ينذر باقتراب األجل.
وقالوا بل هو القرآن
وقالوا بل هو موت األهل واألحباب
أو هو كمال العقل
أو هو البلوغ
(الح ّمى) ألنّها رسول الموت..
أو هو ُ
وهكذا تعدّدت التفسيرات لهذا اللفظ مثلما تعدّدت لبقيّة األلفاظ ،كما يمكن
موس ٍع من التفاسير القرآنيّة العديدة.
تفسير ّ
ٍ ألي
سريعة ّ
ٍ مراجعة
ٍ للقارئ أن يتبيّن في
المفسرين يدورون حول هذه الجمل واآليات محاولين اإلمساك ّ وستجد
نهائي وقاطع،
ٍّ اقتراح
ٍ بمعنى مـحدّ ٍد لها ،ولكن من غير اال ّدعاء بالوصول إلى
ً
43
وتأويالت قادمة ،متجدّ د ًة مع تجدّد
ٍ احتماالت
ٍ وسوف ّ
تظل مفتوح ًة للزمن أمام
اآلراء وتن ّوع العقول وتق ّلب العلوم والثقافات:
) []1 ( -ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ
تأويالت لهذه
ٍ والمفسرون من
ّ وحسبنا أن نأخذ فكر ًة ع ّما ذهب إليه العلماء
واحد منها فقط ،وليكن العبارة الرابعة،
ٍ نموذج
ٍ العبارات المفتوحة؛ بالوقوف عند
الشوكاني في تفسيره القيّم «فتح القدير
ّ فننظر في اآلراء والتأويالت التي يقدّمها لنا
الشوكاني:
ّ الجامع بين فنَّي الرواية والدراية من علم التفسير»((( .يقول
((( الشوكاني ،محمد بن علي ،طبعة بيروت :دار الفكر( ،د .ت ،).ج .4:ص.341 :
44
ومعنى صعوده إليه قبولُه له ،أو صعو ُد َ
الكتَبة من المالئكة بما يكتبونه من
كالم
كل ٍ وخص الك ِل َم الطيّب بالذكر لبيان الثواب عليه ،وهو يتناول ّ
ّ الصحف.
ونهي عن َ
منكر ،وتالوة ،وغير وأمر بمعروفٍ ، كر هللٍ ،يتّصف بكونه ط ّيب ًا :من ِذ ٍ
ذلك ،فال وجه لتخصيصه بكلمة التوحيد ،أو بالتحميد والتمجيد،
وقيل :المراد بصعوده :صعو ُده إلى سماء الدنيا،
علم اهلل به،
وقيل :المراد بصعودهُ :
ومعنى (ﯪ ﯫ ﯬﯭ )ّ :
أن العمل الصالح يرفع الك ِل َم الطيّب..
ووج ُهه أنّه ال يُقبل الك ِل ُم الطيّب إ ّ
ال مع العمل الصالح،
وقيل :والعمل الصالح يرفع صاحبَه ،وهو الذي أراد الع ّزة،
َ
العمل الصالح لصاحبه ،أي يقبله ،فيكون وقال قتادة :المعنى ّ
أن اهلل يرفع
قولُه( :والعمل الصالح) على هذا مبتدأً خبره (يرفعه).
–5جوامع الكلم:
سور القرآن الكريم ،عشرات في سورة (فاطر) ،كأيّة سورٍة أخرى من َ
متنوع ًة ومتشابك ًة في َ
مواقف ّ قليلة
كلمات ٍ
ٍ العبارات التي يمكن أن تَختصر لنا في
حياتنا اليوميّة .ومن شأن مثل هذه العبارات أن تضيف إلى معجم لغتنا ،الرسميّة
العربي.
ّ والمحكيّة ،ثرو ًة تعبري ّي ًة هائل ًة تُغيّر ،وقد غيّرت ح ّق ًا ،وج َه الخطاب
45
مصطلح
َ إن بعض هذه العبارات ،أو ما استعرنا له من الحديث الشريف ّ
الك ِلم) ،ما زالت تبحث ع ّمن يكشف عنها ويربطها في كتاباته وإبداعاته (جوامع َ
بسهولة إلى ألسنتنا
ٍ ولكن كثيراً منها قد ّ
شق طريقه ّ بحياتنا وتجاربنا ومواقفنا،
كثير غيرها
وأقالمنا ،كهذه العبارات الجامعة التي اكتفينا باختيارها ،مع وجود ٍ
ألن هذه العبارات باتت جزءاً منَثرى به لغتناّ ، في السورة ،م ّما هو ّ
مرش ٌح ألن ت َ
كلمات ،كما يمكن أن ندركٍ تلخص فيلغتنا اليوميّة ،الرسميّة والمحكيّة ،وهي ّ
بسهولة ،مواقف حيات ّي ًة أكبر ٍ
بكثير من حجم كلماتها:
) []34 + 1 ( -ﮟﮠ
[]28 ( -ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ )
46
الفكري
ّ ثالثاً :البعد
–1أبعا ٌد جديدةٌ للزمان والمكان:
اللغوي؛ أي عن الوعاء اللغوي لألفكار،
ّ يصعب وأنت تتحدّث عن اإلعجاز
أن تفصل نفسك عن تلك األفكار ،إنّك ال تستطيع أن تهمل الحديث عن الشراب
«أبعاد جديدٍة« في
ٍ وأنت تتحدّث عن الكأس التي تحويه .وعندما نتحدّث عن
تصو ٌر
الصورة القرآنيّة ،وكذلك في «الفكرة« القرآنيّة ،فإنّنا نفعل ذلك وفي مخيّلتنا ّ
المكاني في ذلك الوقت ،ليس عند
ّ الزماني ومحدوديّة البعد
ّ عن بساطة البعد
العربي الذي عاش تلك الحقبة في جزيرته المنعزلة فحسب ،بل عند اإلنسان الذي ّ
عاش الحقبة نفسها في سائر أصقاع األرض.
(فاطر) أي
سماء واحدة ،وعن ٍ ال من ٍ (سماوات عدّة) بد ً
ٍ فالحديث في السورة عن
لج) فيه الليل،تجويف في النهار (يَ ُ
ٍ (مؤسس) لهذه السموات ،والحديث عن (بادئ) أو ٍّ
(إخضاع) للشمس
ٍ (توظيف) أو
ٍ (تسخير) أو
ٍ وتجويف ل ّليل (يَلج) فيه النهار ،وعن
ٍ
نهاية زمنيّة لحركتهما ( ﭟ ﭠ ﭡﭢ ) يتو ّقفان وللقمر لخدمة اإلنسان ،وعن وجود ٍ
إنساني آخر ،أو غيرٍّ عنصر
ٍ بعدها عن أداء هذه الوظيفة ،والحديث عن إمكان نشوء
إنساني ،في هذه األرض يستبدله اهلل بنا ويُح ّله مح ّلنا ،والحديث عن ٍ
رابط يربط بين ّ
ال لها ومتابعاً رسالتها، مكم ً
وكتب أخرى سبقته وجاء هو ّ ٍ الكتاب الجديد (القرآن)
يموت اإلنسان وال يحيا ،رغم ُ معروف مكانها حيث الٍ أرض غير
والحديث عن ٍ
منظور) في
ٍ أنّه يحترق بنارها الملتهبة باستمرار ،والحديث عن (عالَ ٍم ٍّ
غيبي غير
إله فائقسموات عدّ ٍة (السموات) ومثله على األرض أيضاً ،وعن ٍ ٍ السماء ،بل في
كل هذه الدرجات واألنواع المتعدّدة من (الغيوب) ،بل يعلم القدرة بحيث يعلم ّ
وأحالم ونوايا ،وأنّه هو الذي (يمسك) تلك ٍ أسرار
ٍ أيضاً (ما في الصدور) من
وأن أقواماً
السموات ،ويحفظ هذه األرض من السقوط أو (الزوال) عن مكانهاّ ،
آخرين كانوا يَع ُمرون هذه األرض التي يسكنها الناس اآلن ،وكانوا (أش ّد منهم
47
ولكن اهلل عاقبهم على كفرهم وجحودهم فد ّمرهم ومحا حضارتهم ّ قوةً) وبأساً،
ّ
من الوجود ،فلم يُبق منها إ ّ
ال آثاراً هنا وهناك شاهد ًة عليهم ،و ُمخبر ًة َمن بَعدهم
بما فعلوه وما ُف ِعل بهم؛ هذه الجرعة المكثّفة من «المفاجآت» الفكريّة «الثقيلة»
العربي األ ّول أن يتل ّقاها ويبتلعها وتهضمها
ّ في السورة؛ لم يكن من الميسور على
صدمة تهت ّز لها أعماقه.
ٍ معدة خياله من دون إحداث
متوسطة
طويلة أو ّ
ٍ التجديدي في سورٍة
ّ هذا العرض السريع لجوانب اإلعجاز
الحجم كسورة (فاطر) سيكون مدخلنا إلى العرض األكثر تفصي ً
ال لتلك الجوانب
ّ
وتشكل سور قرآنيّةٍ قصيرٍة هي األكثر ترداداً على لسان المسلم،
نفسها ،ولكن في ٍ
جزءاً حميماً من تفاصيل عباداته اليوميّة.
48
السور لن يكون تفسيراً للقرآن الكريم ،وال
أن عملنا في هذه َ ونؤ ّكد من جديد ّ
التعبيري ،فقد استوفى القدماء القول
ّ البالغي أو
ّ ال للغته ،وال تدلي ً
ال على تف ّوقه تحلي ً
والبحث في هذه الجوانب جميعاً ،وإنّما سنقتصر على إبراز "الجديد" والجديد
وحده ال أكثر ،في لغة القرآن ونح ِوه وصوره وبالغته وأفكاره ،واستقصاء هذا الجديد
التقليدي أو المتعارف عليه عند العرب قبل اإلسالم ،لنتبيّن
ّ ما أمكننا ،وتمييزه عن
حجم الكثافة االختراقيّة التي ح ّققها القرآن على مساحة جدار الفكر والخيال واللغة
فراش من رمال الصحراء وقت كانت الجزيرة العربيّة فيه تنام كس َلى على ٍ العربيّة ،في ٍ
يرجى له أن يتغيّر أبداً
قرون عديدة ،ولم يكن َ
لم يتغيّر شكله وال منحنياته على مدى ٍ
قادمة؛ لوال نزول القرآن الكريم والبزوغ المفاجئ لرسالة السماء.
قرون ٍعلى مدى ٍ
49
السورة األولى
الفاتحة
(ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ
ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ
ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ )
خاص ًة في هذه القراءة الجديدة لإلعجاز اللغوي تحتل سورة (الفاتحة) مكان ًة ّّ
ركعة منٍ في القرآن الكريم .فهي وحدها التي يلتزم المسلم بتالوتها في ّ
كل
صلواته الخمس ،وكذلك في ُسننه ونوافله ،ومع ذلك ،وربّما بسبب ذلك ،ال يتنبّه،
تجديدي لم يعرفه العربٍّ إعجاز
ٍ وبتأثير أُلفته الشديدة لها ،إلى ما في لغتها من
عجيب يجعلها من الناحية اللغويّة سور ًة ّ
فذ ًة ٍ تفر ٍد
تختص به من ّ
ّ من قبل ،وإلى ما
بين ُس َور القرآن.
ٍ
ال عن المواقع تستقل بعدّة مواقع لغو ّية لم تعرفها بق ّي ُة َ
السور ،فض ً ّ وسنرى أنها
وأن في كلماتها التسع والعشرين الجديدة األخرى التي تشارك بها السور األخرىّ ،
يقل عن 58خصيص ًة إعجاز ّي ًة أدخلها القرآن إلى قاموس التعبير والتفكير ما ال ّ
العربي أل ّول مرة.
ّ
***
51
لغوي للتفريق
ٍّ نبوي أو
دليل ٍّ
بأي ٍال بأنهم لم يستطيعوا اإلمساك ّ لنعترف أو ً
ْ
بين معنييهما تفريقاً علم ّي ًا حاسماً ومقنعاً .وإذا كانت العناوين تتط ّلب عاد ًة تركيزاً
مرك ٍب منعنوان َّ
ٍ واحد في
لغوي ٍ واختصاراً ،فكيف يتوالى لفظان مشت ّقان من ٍ
جذر ٍّ
يتكرر هذا العنوان مائ ًة وثالث عشرة مر ًة في ٍ
كتاب واحد؟! كلمات ال أكثر ،ثم ّ
ٍ أربع
كل سورة ،في ألفاظ الفاتحة ومصطلحاتها سننظر ّأوالً ،كما سنفعل مع ّ
تفحص طبيعة الصيغ والعالقات اللغويّة فيها ،النحويّة الجديدة ،لننتقل بعد ذلك إلى ّ
العربي األول ،ثم نتل ّمس فيها السبائك اللغويّة
ّ والبيانيّة والفكريّة ،تلك التي فاجأت
ثم األلفاظ والعبارات المنفتحة ذات المبتكرة م ّما لم يعرفه العرب قبل القرآنّ ،
األبعاد والمفهومات المتعدّدة التي تتجدّد مع تغيّر البيئات الزمانيّة والمكانيّة ،وهي
ثم نتو ّقف
أهم الظواهر األسلوبيّة للقرآن الكريمّ ، نو ٌع جدي ٌد من التعبير غدا من ّ
الك ِلم) وهي العبارات القرآنيّة المميّزة التي أصبحت سائر ًة علىأخيراً عند (جوامع َ
مرشح ًة ألن تكون كذلك في المستقبل. ألسن العرب بعد اإلسالم ،أو هي ما تزال ّ
نقطة
بأن الوقوف عند ٍ المهم التذكير ،وسوف ندأب على هذا التذكيرّ ، ّ ومن
واحدٍة من النقاط العديدة التي نكتشفها في كل سورة ،منعزل ًة عن بقيّة النقاط ،قد
الحقيقي
ّ إن اإلعجاز يجعل من أمرها شيئ ًا يسيراً في أعيننا ال شأن له في اإلعجازّ .
مرتين في السورة ،أومر ًة أو ّ
ليس في تجاوز القرآن لألعراف اللغويّة المعهودة ّ
حتى في اآلية ،فهذه «التجاوزات» ال تكتسب صفتها اإلعجازية إ ّ
ال من كثافتها
52
وتالحقها وتداخلها بعضها في بعض ،بحيث ال تجد سور ًة في القرآن إ ّ
ال ويتجاوز
فيها عدد هذه النقاط عدد كلمات السورة ،كما سبق أن أ ّكدنا.
أو ً
ال :األلفاظ والمصطلحات
–1الرحمن:
مر ًة نر ّدد (ّ )
كل يوم؟ في صالتنا ،في طعامنا، كم ّ
كلمات ال
ٍ في شرابنا ،في أعمالنا ومناسباتنا ،ولكنّنا ،مع ذلك ،نرددها وكأنها ثالث
جذر واحد ،هو الرحمة،
أربع ،فال نكاد نميّز بين (الرحمن) و(الرحيم) .إنهما من ٍ
فلماذا إذن نجهد أنفسنا ّ
ونفكر بالتمييز بين معنييهما؟!
طبع ًا ،لم ينَ ِم العلماء عن هذا األمر فيس ّلموا به ،كما ذكرنا ،وهكذا َ
بحث
ّ
المتأخر (ت1250هـ) عن الفروق بين اليمني
ّ الشوكاني –رحمه اهلل– وهو العالم
ّ
الشوكاني عن اللفظين،
ّ المفسرين ،فماذا وجد؟ يقول
ّ اللفظين عند من سبقه من
المفسرين ،إنّهما:
ّ ملخصاً أقوال
ِّ
أ -اسمان مشت ّقان من الرحمة على طريق المبالغة ،ورحمن أش ّد مبالغ ًة من
أن زيادة البناء ّ
تدل على زيادة المعنى تقرر ّ
الرحيم ،وقد ّ
يختص
ّ عام في جميع أنواع الرحمة
اسم ٌّ
الفارسي :الرحمن ٌ
ّ ب -قال أبو علي
به اهللُ تعالى ،والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين(((.
((( الشوكاني ،فتح القدير الجامع بين فنَّي الرواية والدراية من علم التفسير ،مرجع سابق ،ج ،1ص.81
53
أن الشوكاني قد اختصر بهذه األسطر القليلة آراء َمن قب َله من والحق ّ
ّ
المفسرين ،فك ّلهم يدور حول هذا المعنى ،وك ّلهم مجتهد ،ولم يجدوا بين أيديهم ّ
نصاً قرآنياً وال نبو ّي ًا يؤيّد آراءهم ،أو ينفيها ،وفكرة ّ
أن «زيادة البناء –أي زيادة عدد ّ
ّ
األقل ،أنا تدل على زيادة المعنى» تبدو لنا غير مقنعة ،هنا علىحروف الكلمة– ّ
أقل غضباً من (غضبان) –ذات الحروف الخمسة– وال أكاد شخصيّاً ال أعرف كلم ًة ّ
ب) ّ
تقل عنها إن صيغة َ
(غ ِض ٌ غضب) الرباعيّتين ،بل ّ
أفرق بينها وبين (غاضب) أو ( ُم َ ّ
بحرفين ومع ذلك فهي إحدى صيغ مبالغات اسم الفاعل ،وهي ٌ
صيغ ،باعتراف
النحوييّن أيضاً ،أكثر مبالغ ًة من الصيغ الثالث التي ذكرتُها .بل تجاوز بعضهم ذلك
إلى ما ينقض تماماً نظريّة «زيادة البناء» فيقول السيوطي:
ورجحه –أيضاً– ابن
أن (الرحيم) أبلغ من (الرحمن)ّ ، «ذهب ابن األنباري إلى ّ
عساكر بتقديم –أي بسبب تقديم– (الرحمن) عليه ،وبأنّه –أي (الرحيم)– جاء على
(((
صيغة الجمع (كعبيد) وهي أبلغ من صيغة التثنية –التي جاء عليها لفظ (الرحمن)–«
بحكم فهل نستطيع أن نتناول اللفظين تناوالً علميّاً صَرفيّاً ّ
يمكننا من الخروج
ٍ
حد ما لتمييز الفرق بين معنييهما؟ (نذ ّكر هنا من جديد بأنه اليجرؤ موضوعي إلى ٍّ
ٍّ
نهائية فيما يتع ّلق
ٍ تفسيرات
ٍ بأحكام أو
ٍ إنسان ،وال ينبغي له ،أن يدّعي أنّه خرجٌ
ال وأخيراً ،في مثل هذه المواقع ،إ ّ
ال تقديراتنا بلغة القرآن الكريم ،إننا ال نملك أو ً
البشريّة القاصرة).
مستقر ٍة على
ّ مستمر ٍة أو
ّ إن صيغة ( َف ِعيل) في العربية ّ
تدل عاد ًة على ٍ
صفة ّ
مستقرة ،وكذلك الكريم والسفيه والحليم
ّ بخيل دائماً ،أو لفترٍة
ٌ ّ
األقل ،فالبخيل
والطويل والقصير والكبير والصغير والجميل والقبيح والعريض والرفيع .أ ّما صيغة
( َف ْعالن) مثل :جوعان وعطشان وغضبانّ ،
فتدل على الصفة الطارئة أو الحاليّة:
وقت قصير .فالجوعان لم يولد وهو جوعان، (اآلن) ،وهي تزول عاد ًة خالل ٍ
ال ،وكذلك العطشان والحيران والسهران والنعسان يستمر غضبه طوي ً
ّ والغضبان لن
((( السيوطي ،عبد الرحمن بن أبي بكر .اإلتقان في علوم القرآن ،تحقيق :محمد سالم هاشم ،بيروت :دار
الكتب العلمية2003 ،م ،ج ،2ص.481
54
صفات تتّصف بالحركة والفاعليّة؛ ألنّها تحدث اآلن
ٌ والسكران والبردان ،وهي
وفي هذه اللحظة التي نر ّددها فيها.
فهل في هذه الحقيقة ما يشير إلى ما في لفظ (الرحمن) من حيو ّي ٍة تتفاعل مع
ومحر ٍك يوحي بتن ّزل الرحمة علينا «اآلن»؟
ِّ مثير
إشعاع ٍ
ٍ الحاضر ،ومن
إنّه ،إذن( ،الرحمن) الذي يمارس عليك رحمته اآلن ،و(الرحيم) دائماً منذ
ف الم ّد في وسطه، األزل وإلى األبد .معنيان متميّزان تماماً .األول (الرحمن) ،فألِ ُ
تنزل
العمودي :وهو ُّ
ّ مفتوح عمود ّي ًا على مداه ،تذ ّكرنا ببُعده
ٍ ونحن نلفظها طبعاً بفمٍ
اآلني (اآلن) عمود ّي ًا ،من السماء إلى األرض ،فهي كلم ٌة طازَج ٌة فاعل ٌة ّ الرحمة
ٍ ٍ ح ّي ٌة نشعر معها ّ
تتحرك في هذه اللحظة أن الرحمة في حالة نشاط وفاعل ّية ،وأنّها ّ
باتّجاهنا وتتن ّزل علينا .واآلخر (رحيم) فالياء الممتدّة في وسطه ،ونحن نفتح فمنا
األفقي :امتداد رحمة اهلل واستمرارها
ّ أفق ّي ًا على مداه حين لفظنا لها ،تذ ّكرنا ببُعده
منذ األزل وإلى األبد.
55
وال يبتعد تفسير عناية اهلل سبحاني كثيراً عن دائرة الفراهي حين يقولّ :
«إن
تدل على معنى الفيضان والغليان في الوصف دون معاني العمق صيغة (فعالن) ّ
والرسوخ والدوام واالستمرار ،بخالف صيغة (فعيل) ّ
فإن األمر فيها على العكس«(((.
ورغم الجدل الذي يقوم في نفسي حول نظريّة ِجدّة لفظ (الرحمن) أو عدم
الجدّة ،تبدو أقوى .وفي حديث الحديبية: ِجدّته؛ ّ
فإن القرائن على االتجاه األ ّولِ ،
((( سبحاني ،محمد عناية اهلل أسد .البرهان في نظام القرآن ،إسالم آباد :مكتبة الجامعة1994 ،م ،ص.73
((( البخاري ،محمد بن إسماعيل .صحيح البخاري ،تحقيق :مصطفى ديب البغا ،بيروت :دار ابن كثير
واليمامة ،ط1407 ،3 .ﻫ1987 ،م ،ج ،4ص ،1925حديث رقم .4759
((( السيوطي ،اإلتقان في علوم القرآن ،مرجع سابق ،ج ،2ص .339والغريب أن هذا النوع من الم ّد
لعلي
ال يوافق قواعد الم ّد المعروفة في علم التجويد ،مثله مثل م ّد الدال في (إيّاك نعبدُ) على قراءٍة ّ
سيمر بنا قريباً ،واألغرب من ذلك أنّني لم أعثر ،بين مجموعات الحديث ّ بن أبي طالب كما
ّ
رواية تنقل أنه قد حدث للرسول أو الصحابة الكرام ،سوا ٌء النبوي الكثيرة التي قرأتها ،على أيّة ٍ
ّ
خطأ أو خروجاًقارئ ً ألي ِ
صححوا ّ في الحقبة النبويّة أو في حقبة الخالفة الراشدة ،أن نبّهوا أو ّ
عن قواعد التجويد التي بين أيدينا اليوم.
56
الكاتب فقال :اكتب ( )فقال َ النبي دعا
أن ّ «ّ ..
((( ُ
سهيل بن عمرو –ممثّل المشركين– :أ ّما (الرحمن) فواهلل ما أدري ما هو؟»
وأ ّكد القرآن الكريم هذه الواقعة خالل ٍ
سياق آخر في اآلية 60من سورة (الفرقان):
(ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ).
صحة تلك األبيات الجاهليّة القليلة ّ
الشك على ّ بمزيد من ظالل
ٍ وهذا يلقي
التي ورد فيها هذا اللفظ:
الرحمن رز َق ُ
كم غدا ِ ّ
فإن على وأيسروا ُكلوا اآلن ِمن ِر ِ
زق اإلل ِه ِ
حاتم الطائي (ت 46ق.ﻫ)
وانقطـاع رجائيا
َ حمل ْتني
وما ّ عد َمزا ِرها
الرحمن بُ َ
ِ شكوت إلى
ُ
الحدادية (ت 10ق.ﻫ)
قيس بن ِ
((( البيهقي ،أحمد بن الحسين بن علي .سنن البيهقي الكبرى ،تحقيق :محمد عبد القادر عطا ،مكة
المكرمة :مكتبة دار الباز( ،د .ط1414 ،).ﻫ1994 ،م ،ج ،9ص ،218حديث رقم .18587
57
الخاصية صيغ ُة ( َف ِعيل) أيضاً –و (فَعيل) من
ّ ويشارك ( َف ْعالن) في تلك
«الصفات المشبّهة باسم الفاعل» ألنّها بمعنى اسم الفاعل وتعمل عمله أحياناً–
ال من الفعل الالزم أيضاً ،كما يمكن أن نتبيّن في األمثلة فهذه الصيغة ال تأتي إ ّ
المذكورة آنفاً (بخيل :من بَ ُخل ،وكريم :من َك ُرم ،وكبير :من َكبُر ..وهكذا).
مفعول
ٍ متعد (أي يحتاج إلى
عل ٍّ أ ّما (رحمن) فيأتي ،خالفاً لهذه القاعدة ،من ِف ٍ
ٌ
اشتقاق فري ٌد وغير مألوف ،وله استقالليّته حتى به) ،فنقول (رحم اهللُ َ
الناس) .إنه إذن
بغض النظر عن ذهاب عن نظائره من الصفات التي جاءت على صيغة (فعالن) ّ
بعضهم إلى وجود هذا اللفظ في بعض اللغات الساميّة األخرى ومنها العبريّة.
–2العالَ ِمين:
كان مفهوم العرب في الجاهلية عن الوجود ،شأنهم شأن األمم األخرى ،ال
يتجاوز هذا العالم ،بل يقف قاصراً حتى عن إدراك محيط األرض وأطرافها ،ولهذا
لم يعرفوا للفظ (العالَم) جمعاً .ونحن ال نعثر على كلمة (العالمين) فيما بين أيدينا
من الشعر الجاهلي ،وهو مصدرنا األكثر توثيقاً عن اللغة العربية قبل اإلسالم كما
سبق أن بيّنّا.
لفظ يصادفنا في الطريق ونحن نالحق مسيرة هذه الكلمة عبر ّ
خط وأقدم ٍ
(((
العربي ي ِرد في بيتين لشاعرين مخضرمين:
ّ الشعر
قصر
عدى وال ُ
القيت َم ً
ورا َء الذي َ العالمين فما لَهم
َ سلكت َ
سبيل َ
الغنوي (ت 5ق.ﻫ)
ّ كعب بن سعد
الجبـــــال
ِ الراســـيات من
ِ ورب
ُّ أرض ِّ
وكــــل ٍ يـــن
العالم َ
ِ إلــــ ُه
أميّة بن أبي الصلت (ت 5ق.ﻫ)
ويزيدنا اقتناعاً بذلك أن اللفظ ،وهو الذي اختفى تماماً من النصوص الجاهليّة
األموي (في
ّ يتكرر في الشعر العربي بعد ذلك حتى نهاية العصر
التي بين أيديناّ ،
58
بكثير الفترة التي نملك نصوصها من الشعر سنة 132ﻫ)؛ أي في فترٍة ال تتجاوز ٍ
مرة ،وهو يتر ّدد كثيراً في الحديث الشريف أيضاً، يقل عن ّ 31الجاهلي ،ما ال ّ
ّ
قرآني على األغلب ،كما في العبارات النبويّة اآلتية ،وقد أشرنا
ٍّ سياق
ولكن خالل ٍ
القرآني:
ّ بجانب ٍّ
كل منها إلى مصدرها
[من اآلية :79الصا ّفات] إبراهيم في العالمين"
َ " -على
[من اآلية :20المائدة] عط أحداً من العالمين"
" -ما لم يُ ِ
[من اآلية :115المائدة] " -ال يُ ِّ
عذب ُه أحداً من العالمين"
مزاحم،
ٍ عمران ،وآسي ُة ُ
بنت َ بنت
مريم ُ هنُ :عالم ّ
سادت نسا َء ِ
ْ – ُ
أربع نِسوٍة
بنت مح ّمدٍ ،وأفض ُل ّ
هن عالَماً فاطمة
ُ (((
خويلد ،وفاطم ُة ُ
ٍ وخديج ُة ُ
بنت
المهم أن نالحظ أن صيغة الجمع هذه لم يعرفها التوراة وال اإلنجيل.
ّ ومن
(((
مرتين ورغم ّ
أن اللفظ في إحدى النسخ العربيّة لإلنجيل جاء في صيغة الجمع ّ
(((
فإنّها انفردت بهذه الترجمة دون بقيّة النسخ العربيّة التي بين أيدينا ،ولو عدنا
إلى معظم النسخ اإلنكليزيّة فسنجده بصيغة المفرد في كال الموقعين المذكورين
يحل محله لفظ (الكون) universeفي بعض النسخ ،أو لفظ (األشياء) worldأو ّ
نسخة واحدة من النسخ التيٍ thingsفي نسخ أخرى ،ولم أجده مجموعاً إ ّ
ال في ٍ
يدي .أ ّما في الترجمات الفرنسيّة فيرد مفرداً أيضاً le mondeوكذلك في بين ّ
نرجح ّ
أن النسخة العربيّة التي كل هذا يجعلنا ّ الترجمات األلمانيّة ّ .Welten die
المهم اإلشارة هنا
ّ انفردت بصيغة الجمع قد تأثّرت في هذا باللغة القرآنيّة .ومن
((( الطبري ،أحمد بن عبد اهلل .ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى ،القاهرة :مكتبة القدسي،
1356ﻫ ،ص.44
العربي1981 ،م.
ّ ((( الكتاب المقدس( ،د .م) ،نسخة دار الكتاب المقدّس في العالم
((( الرسالة إلى العبرانييّن 2 :1 :و 3 :11
59
القرآني في ترجمات الكتاب المقدّس إلى العربيّة ظاهر ٌة لها دالالتها
ّ إلى ّ
أن التأثير
والمتخصصة.
ّ الكثيرة ،وهي جدير ٌة بالدراسة المع ّمقة
الدين:
ِّ –3
فتح آخر من فتوح الثورة القرآني الفريد للفظ (الدِّين) ٌ
ّ هذا االستعمال
التجديديّة في لغة الوحي .فالدّين عند العرب لم يكن يتجاوز ما يؤمن به اإلنسان،
ولم يأخذ اللفظ في لغتهم ُّ
قط هذا المفهوم المتط ّور والواسع ،ليشمل نظاماً كام ً
ال
في التفكير واالعتقاد ّ
يغطي الدنيا واآلخرة.
بمعنى ال عالقة له البتّة بالمعنى
ً جانب آخر ،يفاجئهم هنا
ٍ ولكن القرآن ،منّ
كبير هو أعظم األحداث حدث ٍ
ٍ التقليدي عندهم ،لقد أصبح اللفظ يحمل معنى ّ
يوم الحساب ،فيتركنا اللفظ ،بطبيعة اشتقاقه وبوحي سياقه الجديد، ً
وأكثرها هوالِ :
ُ
حاسب(الدين) الذي نُ َ ٍ
ألفاظ عديدٍة مشت ّقة من الجذر نفسهَّ :
موزعين بين إيحاءات ٍ َّ
عليه ونقوم بتسديده في النهاية ،و (اإلدانة) أو (الدينونة) التي تنتظر اإلنسان ،له
أو عليه ،في ذلك اليوم العصيب ،و (الديّان) الذي يحاكمنا ونخضع لمشيئته
وأحكامه التي ال تُر ّد.
–4نعبد:
هل الفعل (نعبد) من العبادة أم من العبودية؟ وبعبارٍة أوضح :هل نعبد اهلل
وترصد ًا لليوم الذي
ّ حباً وخضوعاً وتسليماً ورهب ًة ورغب ًة معاً ،أم اضطراراً وكراهيّةً
نتخ ّلص فيه من قيد عبوديّته؟
60
ّ
والذل مع الحب ،والرهبة مع الرغبة، ّ أ ّما الثانية فيمتزج فيها الخوف مع
النشوة ،والخضوع مع تمنّي المزيد منه ،وفيها يُقبِل الس ّيدُ على عبده مـح ّب ًا راحماً
غفوراً ودوداً ،ويُ ْقبل العب ُد على سيّده مستسلماً راغباً في االستسالم ،ومطمئنّاً إلى
وأن رحمته وعدله ونعمته ومكافأته ال حدود لها ال إليهّ ،أنه ال ملجأ من سيّده إ ّ
يمكن أن يتص ّورها بشر.
(عباد)– القرآنيّتين
لقد أخطأوا إذ ترجموا كلمة (عبد) –وكذلك ترجمة جم ِعها ِ
العالمي المعروف للعبوديّة ،فتُرجمت (عبد
ّ الغربي أو
ّ إلى اللغات الغربيّة بالمفهوم
اهلل) إلى اإلنكليزيّة هكذا ،the slave of Godوهذا اللفظ يقابل معنى (العبوديّة)
قراء اإلنكليزيّة ،وكذلك أمام
يجرده أمام ّ أو ّ
(الرق) في العربيّة وليس (العبادة) ،م ّما ّ
الرهبة والرغبة ،والخوف
اإلسالمي الذي يقوم على ّ
ّ أبناء اللغات األخرى ،من معناه
الحب
ّ والرجاء ،والثواب والعقاب ،والرضى واالستمتاع ،وجهنّم والجنّة ،وكذلك ّ
المتبادل بين الطرفين في هذا النوع الفريد من العبوديّة.
61
اهدنا:
ِ –5
الجاهلي
ّ القرآني الجديد ،يحمل المعنى
ّ لم يعد لفظ الهداية ،في سياقه
خاص ًا
ّ التقليدي ،وهو هداية الطريق واإلرشاد إليه ،بل أصبح مصطلحاً إسالم ّي ًا
ّ
للتعبير عن اإليمان باهلل ورسوله واتّباع دينه ،ويقابله لفظ الضالل أو الضاللة.
–6الصراط:
يوناني أو غير
ٌّ أفارسي هو أو
ٌّ رغم اختالف اللغويّين في مصدر لفظ (الصراط)
قرآني جدي ٌد على العرب ،وهي من الحاالت
ٌّ ذلك؛ فإنهم يُجمعون على أنّه ٌ
لفظ
القليلة التي س ّلم فيها اللغويّون بالحقيقة ورضوا باالعتراف ،غير المعتاد منهم،
اللغوي في القرآن الكريم.
ّ بالتجديد
62
ّ
الشاق الذي األخروي
ّ فيختص معناه بالطريق
ّ أ ّما في الحديث الشريف
ليتقرر مصيرهم هناك:
يمرون ِمن فوقه يوم الحساب؛ ّ سيجعل اهلل تعالى ّ
كل البشر ّ
في الجنّة أو في النار..
ويندر أن نجد اللفظ في الحديث الشريف بالمعنى القرآني ،ويقع هذا غالباً،
يتوجه
دعاء ّآية ُذكر فيها اللفظ ،أو في ثنايا ٍ
إن وقع مطلقاً ،في سياق الكالم عن ٍ
نصت عليه سورة (الفاتحة).مضمونه نحو الهداية إلى الصراط المستقيم الذي ّ
وفي األحاديث التالية ما ّ
يوضح معنى اللفظ واستخدا َمه في اللغة النبويّة:
وجل ( ﮡ
رسول اهلل عن قوله ع ّز ّ
َ سألت
ُ « -عن عائشة قالت:
َ
رسول اهلل؟ الناس يو َم ٍئذ يا
يكون ُُ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ) فأين
(((
فقال :على الصراط«
ب
ضر ُ
أنت ربُّنا ،فيدعوهم ،فيُ َ فيأتيهم اهللُ فيقول :أنا ربُّكم ،فيقولونَ :
ُ ..« -
(((
الر ُس ِل بأ ّمتِه«.. ُ
فأكون ّأول َمن يَ ُجو ُز ِمن ُ َي جهنّم، ُ
الصراط بين َظهران ْ
اللغوي ،وإنما هو أيضاً
ّ جديد يضاف إلى قاموسناٍ لفظ
مجرد ٍإنه إذن ،ليس ّ
الديني عن االستقامة والهداية واإليمان،
ّ مصطلح جدي ٌد سيضاف إلى قاموسنا
ٌ
ٍ
األدبي عن جزئ ّية فريدٍة من حياٍة أخرى تنتظرنا بعد وصور ٌة جديد ٌة تغني خيالنا
ّ
الموت ال نعرف عن مفرداتها وتفاصيل أوصافها إ ّ
ال القليل م ّما جاء عنها في
القرآن أو الحديث.
((( الدارمي ،عبد اهلل بن عبد الرحمن .سنن الدارمي ،تحقيق :فواز زمرلي وخالد العلمي ،بيروت :دار
الكتاب العربي ،ط1407 ،1 .ﻫ ،ج ،2ص ،524حديث رقم .3317
((( القشيري ،مسلم بن الحجاج .صحيح مسلم ،تحقيق :محمد فؤاد عبد الباقي ،بيروت :دار إحياء
التراث العربي( ،د .ط( ،).د .ت ،).ج ،4ص ،2150حديث رقم .2791
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،277حديث رقم .773
63
–7الذين أنعمت عليهم:
هذا التعبير أضحى ،منذ تن ّزله ،مصطلحاً يعني :المؤمنين ،بمختلف أشكالهم،
مقابل التعبيرين التاليين له ،ويشيران إلى غير المؤمنين بمختلف فصائلهم.
–8غيرِ:
ّ
لعل استعمال هذا اللفظ ،ثم اللفظ (وال) من بعده ،أغرب ما في هذه السورة،
واألش ّد إثار ًة واألكثر خروجاً عن المألوف.
عندما تسأل إنساناً عن ٍ
أمر فيحدّثك عن غيره تقول له:
سألتك عن ذلك األمر ال عن هذا األمر ،أو:
وليس عن هذا األمر.
ولكنك لن تقول أبداً:
سألتك عن ذلك األمر غي ِر هذا األمر.
أي إننا اعتدنا أن ننفي ،بعد اإلثبات ،بأداة النفي (ال) أو أداة النفي األخرى
المتبعة في ولكن اآلية ،خالفاً ّ
لكل األعراف اللغوية ّ ّ المشفوعة بالواو (وليس)،
النبوي ،بل المتّبعة في
ّ والمتبع ِة كذلك في لغة الحديث
ّ لغتنا ،ماضياً وحاضراً،
القرآن الكريم نفسه –خارج هذه السورة– تَستخدم (غير) بد ً
ال من أداتَي النفي
خاصة انفردت بها الفاتحة وحدها دون سائر المعتادتين (ال ،وليس) .إنّها لغ ٌة ّ
سور القرآن الكريم.
َ
المغضوب عليهم ،الضالّين:
ِ –10 –9
وهما التعبيران الثاني والثالث في السورة بين التعبيرات التي تشمل أصحاب
الديانات السماويّة الثالث ،وهم يتوزّعون في ثالثة أصناف :من وقفوا مع أنبيائهم
وآمنوا برساالتهم جميعاً ،أو الّذين حاربوهم وقتلوهم فغضب اهلل عليهم ،أو الّذين
اتّبعوهم ،ولكن ض ّلوا عن طريقهم.
64
–11وال:
إن هذه األعراف تقضي بعطف مر ًة أخرى نحن نتعامل مع األعراف اللغويّةّ . ّ
تبادل بين
أي ٍ (ال) على (ال) ،وعطف (غير) على (غير) حين نؤ ّكد النفي ،وال يقع ّ
(((
ال في القرآن ،وفي هذه السورة وحدها دون بقيّة السور.هاتين األداتين مطلقاً ،إ ّ
نحن نقول:
ال نريد هذا وال هذا ،أو:
لقد ُعطفت (ال) في اآلية على (غير) ،خالفاً لما اعتدناه في تعاملنا مع
موقع آخر من القرآن الكريم ،ومنأي ٍ هذه األداة ،بل خالفاً الستعماالتها في ّ
باستمرار على (ال) أخرى تسبقها،
ٍ الحديث الشريف أيضاً ،حيث تعطف (ال)
كما في قوله تعالى:
( -ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ
ﮱ) [المائدة]2 :
65
[البقرة]173 : ( -ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ )
[النساء]25 : ( -ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ )
اللغوي ّ
ألن (غير) ّ ف ُعطفت (ال) هنا على (غير) وهذا ال يخالف العرف
ِ تنف أمراً بعد إثبات غيره .و ِم ُ
(غير) احلال ّية هذه ٌ
كثير في ثل َ أتت حال ّيةً ،ولم ِ
القرآن الكريم.
ـــث الخ ْل َ
ـــق عبَ ْ لـــم يَخ ُل ِ
ـــق َ الحـــــمـــــــــــ ُد هلل الــــــــــــــ ــذي
66
ٌّ
مستقل جمر ٌد
فاسم ّ
ٌ خالف ذلك ،من حاالت هذا اللفظ َ ّ
وكل ما ي ِر ُدنا،
عاقلة أو غير عاقلة .و ْلنالحظ كيف ت َ
َج ّرد اللفظ ٍ مرتبط بشخص ّي ٍة،
ٍ غير
بنفسهُ ،
لفظ يمكن
أي ٍ (الحمد) في األمثلة الجاهليّة التالية من االستناد أو اإلضافة إلى ّ
الحمد إليه:
ُ أن يعود
بأثمــان
ِ شـترى إ ّ
ال والحمـ ُد ال يُ َ الحمد مالَهما
ِ والمعطيان ابتغا َء
َّ
المضلل (ت ؟ ق.ﻫ) ابن
الحمد ســ ّب ِ
اق بكسـب بصير
ِ ِ على ٍ كنت ذا ِع َـو ٍل
لكنّما ِع َولي إن ُ
شرا (ت 85ق.ﻫ)
تأبّط ّ
غرماً َ
اإلتالففيالحم ِد َم َ فتىاليرى
ً النجـم ِض ّل ًة
ُ ومان ل ّما َغ ّورَ
تَ ُل ِ
الطائي (ت 46ق.ﻫ)
ّ حاتم
فاحم ِد
وذا الذ ّم فاذ ُمم ُه وذا الحمـ ِد َ َج ْر
نطقت وال ت ُ
إن َ فانط ْق ْ
وبالعدل ِ
عدي بن زيد (ت 36ق.ﻫ)
ّ
وتتأ ّكد لنا قرآنيّة اللفظ لو علمنا أنه ورد في القرآن الكريم 43مرةً؛ ارتبط في
خمس
ٍ وتجرد في
ّ 38منها هكذا (بال) ومستنداً إلى لفظ الجاللة ( ﭖ ﭗ ) ،
عائد
ضمير ٍ
ٍ منها فقط من (ال) ولكنّه أضيف مع ذلك ،في الحاالت الخمس ،إلى
على ذاته تعالى (بحمدك – بحمده).
67
(طلب من غير فعل طلب):
ٌ –3الحم ُد هلل
ِ
يقول ابن جرير« :الحمد :ثنا ٌء أثنى به على نفسه ،وفي ضمنه أ َم َر عباده أن
(((
يُثنوا عليه ،فكأنّه قال :قولوا الحم ُد اهلل«.
(تعبير جديد):
ٌ –4الحم ُد هلل
بغض النظر عن خصيصة (الطلب) التي تحدّثنا عنها أعاله في هذا األسلوب، ّ
اللغوي ،ولم يكن معروف ًا عند
ّ فإنّه ٌ
تعبير جدي ٌد أضافه القرآن الكريم إلى معجمنا
مرة.
يتكرر فيه مع ذلك ّ 23
العرب قبل القرآن ،ولكنّه ّ
رب العالمين:
ّ –5
مر ًة في القرآن الكريم ،وهو إضاف ٌة جديد ٌة إلى معجم
ي ِرد هذا التعبير ّ 42
التعبيرات العربيّة لم يعرفها العرب قبل القرآن.
((( القرطبي ،محمد بن أحمد .الجامع ألحكام القرآن ،تحقيق :أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش،
القاهرة :دار الكتب المصرية ،ط1384 ،2 .ﻫ1964 ،م ،ج ،1ص.136
68
التقليدي
ّ وجاء القرآن الكريم ليتجاوز هذه الحدود ويَخرج عن الشكل
ّ
محل للوحدة اللغويّة ،فيجعل من «اآلية« وحد ًة جديد ًة مختلفة البناء ّ
تحل
الوحدة التقليديّة القديمة.
بصفة أو بدل؟
ٍ جملة أو عبارٍة أو وحدٍة لغو ّي ٍة عرب ّي ٍة تبدأ
ٍ هل تتذ ّكرون أيّة
إن عجائب الحاسوب والموسوعات الضوئيّة المتو ّفرة حتى اآلن لن تساعدنا
ّ
يتكرر لألسف في اإلجابة عن هذا السؤال ،ولكن ما نحن متأ ّكدون منه ّ
أن ذلك ال ّ
يشكل ظاهرةً ،إ ّ
ال في القرآن الكريم. في لغتنا ،بحيث ّ
ببدل
بصفة أو ٍ
ٍ مرات ،فتبدأ
وتتكرر هذه الظاهرة في الفاتحة وحدها ثالث ّ
ّ
كل من اآليات( :ﭛ ﭜ) و (ﭞ ﭟ ﭠ ) و (ﭫ ﭬ ﭭ
ٌّ
أللفاظ سبقتها .ولو
ٍ ﭮ ) ،فاأللفاظ (الرحمن -مالك -صراط) صف ٌة أو ٌ
بدل
جملة واحدة،
ٍ لتتوحد في
ّ كل بما قبلها حدث أن اتّصلت هذه اآليات الثالث ٌّ
كل منها لتكون وحد ًة لغو ّي ًة مستق ّلة ،أي (آية) ،لسقطت قضيّتنا
بحيث ال تنفرد ٌّ
اإلعجازي.
ّ شاهد يدخل في موضوعنا
ٍ أي
هنا ،فال يكون لنا منها ّ
69
جديد ك ّلي ًا لـ (الوحدة اللغويّة) التي كانت تقتصر في
ٍ مفهوم
ٍ إنّنا في القرآن أمام
اللغة العربيّة ،عشيّة نزول القرآن الكريم ،على (الجملة) في النثر و(البيت) في الشعر.
–9الرحمن الرحيم:
مرتين
ويتكرر في الفاتحة ّ
ّ تعبير جدي ٌد لم يعرفه العرب قبل القرآن الكريم،
ٌ
أن البسملة هي إحدى آياتمرات (ال ب ّد من التأكيد هنا على ّ
وفي بقيّة السور ّ 4
الفاتحة السبع ،خالفاً لوضعها مع َ
السور األخرى).
مالك يوم:
ِ –10
غريب في ّ
كل لغة ،وال ٌ غرابة هذا التركيب ال تقتصر على اللغة العربيّة ،فهو
سيّما حين نعرف أنّه ينتمي لحقبة تعود إلى ما قبل أربعة عشر قرن ًا ،حين لم يكن
هناك رمزيّةٌ وال رسيال ّيةٌ في األدب أو الشعر.
محسوس ،فهناك:
ٍ أمر لقد اعتدنا ،كما اعتادت ّ
كل لغة ،أن يضاف االمتالك إلى ٍ
ُ
مالك المال،
ومالك األرض،
ومالك المخزن،
ومالك البناء،
ومالك المصنع،
ّ
وكل هذه الممتلكات أمو ٌر محسوس ٌة ت َ
ُمسك باليد ،ولكنّنا لم نسمع من يقول:
مسك؟! وهل مالك الدقيقة أو الساعة أو اليوم أو الشهر ،وهل يُملك الزمن أو يُ َ
ليو ِدع في حسابه شهراً أو عشرين يوماً؟!
شخص جاء إلى المصرف ْ ٍ سمعت عن
َ
70
العربي األ ّول قد ه ّزته هذه العالقة الغريبة الجديدة بين ال ُملك
ّ وال ّ
شك أن
عالقات جديدٍة أخرى
ٍ والزمن ،فكيف بك إذا جاءت هذه العالقة في سياق
تُجاورها وال ّ
تقل عنها غراب ًة وسحراً ،كهذه العالقة التالية:
الدين:
–11يوم ِّ
العربي األ ّول هذه «األزمة الفكريّة» التي واجهتها
ّ ال ،بعد أن تتجاوز ُ
أذن حا ً
أزمة أخرى :كيف
ك إلى ال ّزمن ،تجد نفسها قبالة ٍ في مطلع اآلية حيث أُسنِد ال ُم ْل ُ
زمن -إلى غير الحدث (الدِّين)؟! يضاف (اليوم) -وهو ٌ
بحدث
ٍ ال يأتي الزمن فيها إ ّ
ال مرتبطاً لقد اعتادت اللغات البشريّة جميعاً أ ّ
يَحدث فيه ويضاف إليه ،فنقول:
يوم المعركة ،يوم السفر ،يوم االمتحان ،يوم السباق ،يوم االفتتاح؛ فالمعركة
زمن تقع فيه،
أحداث يستوعبها ٌٌ والسفر واالمتحان والسباق وحفل االفتتاح ك ّلها
معنى للحدث!
أي ً جمر ٌد من ّ
اسم ّ
العربي ،حتّى ذلك الوقتٌ ،ّ أ ّما (ﭠ) فهو عند
71
ٍ
بآية ،أو بوحدٍة لغو ّية كاملةٌ ،
أمر لم يعهده النحو إن ظاهرة استقالل الصفة ٍ ّ
العربي من قبل ،ولن يعرفه ِمن بَعد.
ّ
أن روح ضمير جماعة المتك ّلمين (نحن) إنّها صيغ ٌة فريد ٌة وساحرة ،رغم ّ
يظل مهيمناً عليها ،حتى إن لم يظهر
الموجه إلى المفرد الغائب (أي إلى اهلل تعالى) ّ
ّ
هذا الضمير بجسده في اآليات األربع األولى من السورة ،إذ ال أثر في هذه اآليات
ألي من ضمير المتك ّلمين (نحن نحمدك) أو ضمير المخاطب َ
(أنت الرحمن) ،إلى ٍّ
أن تأتي اآلية الخامسة (ﭢ ﭣ) حيث يتوالى فيها فجأ ًة الضميران معاً (الضمير
الظاهرّ :إياك ،والضمير المستتر :نحن).
72
نتوجه
الخطابي (نحن نخاطبك أو ّ
ّ التجرد من الضمائر تماماً ،رغم مؤ ّداها ّ
صعب ونادر ،وأكاد ال أعرفه إ ّ
ال في نصوص التسبيح ٌ لغوي
ٌّ أسلوب
ٌ إليك)،
والتمجيد والتبتّل إلى اهلل.
تبصرنا هذه الحقائق اللغويّة ،ثم حاولنا أن نعبّر عن المعاني نفسها بلغتنا
ولو ّ
البشرية العاديّة ،فماذا يمكن أن نقول؟ ستكون عباراتنا شيئاً من هذا القبيل:
نحن ممتنّون لك أيها اإلله الرحيم( ،و) لن نعبد غيرك( ،و) لن نعتمد على
أحد سواك( ،فـ)ـاهدنا إلى الطريق القويم ،أو:
ٍ
لك الشكر يا أرحم الراحمين( ،فـ)ـأنت وحدك من نتخذه معبوداً(،و) نف ّوض
أمرنا إليه( ،فـ)ـامنحنا الهداية والرشد
نتخل في عباراتنا الثالث عن أحد حرفي العطف ّ هل الحظنا هنا أننا لم
والتفرد
ّ (الواو) أو (الفاء) للربط بين الجمل األربع :جملة الشكر ،وجملة التوحيد
ثم جملة الدعاء بالهداية إلى طريق بالعبادة ،وجملة االستعانة والتو ّكل والتفويضّ ،
كل متك ّل ٍم بالعربية األرضيّة (بمقابل السماويّة).
إن هذا شأن ّاإليمان والصالح؟ ّ
73
همل أحدنا حرف العطف هنا أو هناك ،ولكن ذلك لن ّ
يشكل قد يحدث أن يُ ِ
عنده ظاهر ًة اسمها (التخ ّلي عن الروابط التقليدية) كما اتسمت به اللغة القرآنيّة في
السور والمواقع ،فظ ّلت اآليتان الخامسة والسادسة في هذه السورة من عديد من َ ٍ
لغوي يربط ك ّ
ال منهما باآلية التي سبقت. ٍّ رابط
غير ٍ
وربّما وجدنا آثاراً نادر ًة لهذه الظاهرة القرآنية ،في بعض أسجاع الك ّهان
صحت ،كما في القول الذي يُنسب العربي ،إن ّ
ّ التي يتناقلها مؤ ّرخو األدب
اإليادي وورد في بعض األحاديث الضعيفة أو الموضوعة ّ س بن ساعدة إلى ُق ّ
روايات مختلفة:
ٍ في
-أيها الناس ،اجتمعوا واستمعوا و ُعوا :من عاش مات ،ومن مات فات،
إن في السماء لخبراًّ ،
وإن في األرض ل ِعبَ ًرا ،مها ٌد آت آتّ ، ّ
وكل ما هو ٍ
قسماًس َ أقسم ُق ٌّ
وسقف مرفوع ،ونجو ٌم تمور ،وبحا ٌر ال تغورَ ، ٌ موضوع،
إن هلل تعالى لديناً هو ّ
أحب ليكونن سخطّ ،
ّ رضى،
ً ح ّقا :لئن كان في األمر
إليه من دينكم الذي أنتم عليه ،مالي أرى الناس يذهبون وال يرجعون،
(((
أر ُضوا فأقاموا ،أم تُركوا فناموا..
َ
جملة هناك ،وإنّما
ٍ جملة هنا أو
ٍ ولكن األمر في القرآن الكريم ال يتو ّقف عند
ّ
إن هذه الظاهرة ،على عكس ما يتح ّول إلى ظاهرٍة تكاد ال تخلو منها سورةٌ ،بل ّ
نجده في سجع الكهنة ،كثيراً ما تج ّزئ اآلية الواحدة إلى عدّة ٍ
جمل ال يربط بينها
لغوي ،كما في اآليات التالية:
ّ ٌ
رابط
((( ابن الجوزي ،عبد الرحمن بن علي .الموضوعات ،تحقيق :عبد الرحمن محمد عثمان ،بيروت :دار
الفكر ،ط1386 ،1 .ﻫ1966 ،م ،ج ،1ص.213
74
ات في اآلية (كذلك جديد ثالث مر ٍ
ّ ٍ الحظ كيف تو ّقف الكالم ّ
ثم استُؤنف من
لغوي يربط الجمل األربع فيما بينها.
رابط ٍّ
قال /تشابهت قلوبُهم /قد بيّنّا) من غير وجود ٍ
– 17إيّاك نعبد:
يتكرر في غيرها
خاص بسورة (الفاتحة) فال ّ
ٌ قرآني جديدٌ ،بل هو
ٌّ تعبير
ٌ
السور.
من َ
– 18نستعين:
يتعدّى هذا الفعل إلى مفعوله عاد ًة بالباء ،فنقول (سأستعين بك) و (االستعانة
اختصت بعدم تعديتهّ اختصت السورة بهذه الصيغة للفعل ،كما ّ باهلل تعالى) .وقد
أن صيغ ًة مختلف ًة له تَ ِرد في ثالثة مواقع أخرى من القرآن؛ فإنّنا نجدهبالباء ،فرغم ّ
يتعدّى فيها جميعاً بالباء:
) [البقرة]45 : ( -ﮰ ﮱ ﯓﯔ
[البقرة]153 : ( -ﯳ ﯴ ﯵﯶ )
[األعراف]128 : ( -ﮫ ﮬ ﮭﮮ )
ال متعدّ ي ًا بالباء ،كما في هذه األبيات:
الجاهلي إ ّ
ّ وال نجد الفعل في الشعر
بدخان
ِ لهب لم يَسـت ِع ْن
َسنا ٍ ّ
كأن ِســنانَ ُه جمعت ُر َدين ّي ًا
َ
التغلبي (ت 56ق.ﻫ)
ّ ُعميرة بن ُجعل
75
–19إياك نعبد وإيّاك نستعين:
على عكس اآليات األولى من السورة ،وقد توزّعت الجمل ُة الواحدة فيها
على ثالث آيات ،نجد هذه اآلية وقد استوعبت جملتين كاملتين مك ّونتين من أربع
الجدّة فيها ،وإنّما هو االستقاللية التي يتمتّع بها ٌّ
كل من كلمات .وليس هذا وج َه ِ
الجملتين وهما تحت مظ ّلةِ اآلية الواحدة.
وكأن علينا أن نتو ّقف إننا نشعر ،مع هذه االستقالليّة العجيبة ٍّ
لكل من الجملتينّ ،
في تالوتنا عند النصف األول من اآلية (ﭢ ﭣ) قبل أن نتابع إلى النصف الثاني
(ﭤ ﭥ) لما ٍّ
لكل من هذين الجزأين من تميٍُّز في الشخصيّة يجعل منه
الخاص والمختلف عن َمدار اآلخر.
ّ محوراً قائماً بنفسه ،وله َمدا ُره
76
ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) ،قال :هذا
(((
لعبدي ولعبدي ما سأل»
تتوسط السورة ،ومنتصف اآلية هو منتصف ّ وإذن ،فاآلية هنا هي التي
طلبي
لي ٌّتوس ٌّ
دعائي ّ
ٌّ ٌ
موقف تعظيمي هلل ويبدأ
ّ تسبيحي
ٌّ ٌ
موقف السورة ،حيث ينتهي
َ
والمخاطب (اهلل تعالى) الخطابي بين المتك ّلمين (البشر)
ّ مختلف .ويصل اللقاء
كلمة واحدٍة اجتمع فيها ضمير المتكلمين (نحن) وضمير ٍ ذروتَه القصوى في
(أنت) وهي الكلمة التالية مباشر ًة لهذه اآلية ِ
(اهدنا). َ
المخاطب َ
وربما كان في إحدى القراءات الشا ّذة التي تجعل من الفاتحة ثماني ٍ
آيات ما
يساعدنا على إيضاح ما نقول ،إذ تقسم تلك القراء ُة اآلي َة إلى آيتين ّ
لتكرس هذا
طالب ٍ لعلي بن أبي
أن ّ التمايز بين طبيعة الجزءين ضمن اآلية الواحدة .كما ّ
تصب في هذا االتجاه ،وهذه القراءة هي "بإشباع الدال حتّى ّ قراء ًة للفظ (نعبدُ)
تتولّد منه وا ٌو" كما يورد ابن خالويه في (مختصر البديع) والكرماني في (شوا ّذ
(((
القراءة واختالف المصاحف).
–20إيّاك نستعين:
يتكرر بعد ذلك أبداً.
خاص بسورة (الفاتحة) فال ّ
قرآني جديدٌ ،وهو ٌّ
ٌّ تعبير
ٌ
((( القشيري ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،296حديث رقم .395
((( شاهين ،تاريخ القرآن ،مرجع سابق ،ص.175
77
اهدنا الصراط:
ِ –21
الجر:
ّ (هدى) ومشت ّقاتُه عاد ًة إلى المفعول به بأحد حرفَي يتعدّى الفعل َ
(الالم) أو (إلى) كما في اآليتين:
أن لغتنا المعاصرة ،ولغة تراثنا ك ّله ،وكذلك لغة الحديث النبوي ،ال والغريب ّ
المستمر
ّ القرآني
ّ تكاد تعرف هذا الفعل متعدّ ي ًا بنفسه حتّى يومنا هذا ،رغم التأثير
على مدى أربعة عشر قرناً ،ورغم ترديدنا لهذا الفعل ،ضمن هذه السورةٍ ،
مرات
كل يوم .حتى إن حدث وتعدّى بنفسه في الحديث الشريف ،وهذا نادر، عديد ًة ّ
لرواية أخرى للحديث نفسه تعدّى فيها بالالم، ٍ موازية
ٍ رواية
ٍ فستجد ذلك في
كهاتين الروايتين من مسند أحمد:
األقوم
للطريق َ
ِ واهدني
وارحمني ِ
ْ اغفر لي
-ربّنا ْ
األقوم َ
السبيل َ واهدني
وارحم ِ
ْ اغفر
رب ْ ِّ -
78
أنعمت عليهم:
َ –23
يتكرر فيه مع مشت ّقات
خاص بالقرآن الكريم ،وهو ّ
العربيٌّ ،
ّ تعبير جدي ٌد على
ٌ
مرة.
هذا الفعل ّ 17
المغضوب عليهم:
ِ –24
صيغة لغو ّي ٍة إلى
ٍ هذا نو ٌع آخر من االلتفات ،يتح ّول فيه الحديث فجأ ًة من
متوقعة .فبعد أن سمعنا الجملة الفعليّة (ﭭ ﭮ ) سنتو ّقع مختلفة وغير َّ
ٍ أخرى
ُخرجنا من ولكن السورة ت ْ
ّ (غضبت عليهم)،
َ أن نسمع بعدها جمل ًة فعل ّي ًة موازي ًة مثل
اللغوي ،واالنسياق مع تو ّقعات النفس الكسول،ّ الخ َدر واالستسالم للعرف هذا َ
(((
فتوقظنا بصيغة اسم المفعول االسميّة المخالفة لتو ّقعاتنا (ﭰ ﭱ ).
–25الضالّين:
صيغة فعل ّي ٍة
ٍ وبالطريقة نفسها يفاجئنا هذا اللفظ اآلخر .لقد انتهينا ّأوالً من
ال من ذلك ،بالصيغة ماضية ،وتو ّقعنا بعدها صيغ ًة فعل ّي ًة مماثلة ،ففوجئنا ،بد ً
االسميّة .أ ّما اآلن ،وقد بدأنا نستسلم لتو ّقعات الصيغة الجديدة التي جاءت
مفعول آخر ٍ مفعول (ﭰ ﭱ ) وتهيّأنا الستقبال اسم ٍ في شكل اسم
صيغة مغايرٍة
ٍ يُعطف عليه من مثل (الملعونين) أو (المنبوذين) ،فنجد أنفسنا أمام
أن الصيغتين كلتيهما جاءتا وهي الصفة المشبّهة باسم الفاعل (الضالّين) -رغم ّ
جملة يتع ّلق بها كما حدث في
ٍ أن هذه الصفة لم ترتبط بشبهللوصف -إضاف ًة إلى ّ
ال (الضالّين منهم).
الصفتين السابقتين اللتين انتهت كلتاهما بـ (عليهم) فلم يقل مث ً
اللغوي الكبير ابن جنّي إلى هذا االلتفات ووجد له تسويغاً بالغ ّي ًا بقوله« :قال (ﭫ ﭬ ّ ((( تنبّه
ثم قال (ﭯ ﭰ ﭱ) ولم يقل (غير ﭭﭮ) ّ
فصرح بالخطاب ل ّما ذكر النعمةّ ،
ٍ
تقرب من اهلل بذكر نِ َعمه ،فل ّما صار الكالم إلى ذكر الغضب ّ
الذين غضبت عليهم) وذلك أنه موضع ّ
قال( :ﭯ ﭰ ﭱ) ولم يقل (غير الذين غضبت عليهم) كما قال (ﭬ ﭭ ﭮ)
تحسناً ولطفاً» ،انظر:لفظ الغضب ُّ فأسند النعمة إليه لفظاً ،وزَوى عنه َ
-ابن جني ،أبو الفتح .المحتَ َسب في تبيين وجوه شوا ّذ القراءات واإليضاح عنها ،تحقيق :محمد
عبد القادر عطا ،بيروت :دار الكتب العلمية1998 ،م ،ج ،1ص.241 -240
79
هذه االلتفاتات المتوالية السريعة لم يعرفها العرب قبل القرآن ،ال بمثل هذا
النضج والعمق والتفرّد والوضوح ،وال بمثل هذه الكثافة والتنوّع.
الخاصة التي استعصى معظمها على ّ وهكذا كانت للقرآن الكريم سبائكه
ست من هذه السبائك خاصةً به وحده حتّى اآلن .وفي الفاتحة ٌّالتقليد ،فظ ّلت ّ
الست ،من المفيد
القرآنيّة الجديدة ،وقبل أن أشرح طبيعة الجديد في هذه السبائك ّ
أن نستحضر في ذواكرنا باستمرار طبيع َة السبائك اللغويّة الشعريّة التي استشهدنا
ّ
وتتضح أمامنا ب أعيننا أثناء الحديث لتَسهل علينا المقارنة،بها ،فنجعلها نُ ْص َ
يخض الفكرة .وعذراً من القارئ لهذا اإللحاح ،فنحن نخوض قضيّةً لغويّةً لم ُ
وبذل
ِ شيء من التركيز وال ِفراسة،
فيها أح ٌد من قبل ،فيما أعلم ،ونحتاج فيها إلى ٍ
ما يمكن من الجهد لالستيعاب واالكتشاف والمقارنة.
80
ﭒ ) ،ثم لم يكتف بذلك بل ّ
وسعها بإضافة الوصفين الجديدين هلل تعالى لتصبح
أربعة ألفاظ :الجا ّر والمجرور (ﭑ) ولفظ الجاللة –المضاف إلى ذلك المجرور–
والوصفين المتتاليين السم الجاللة ،والمشت ّقين من ٍ
جذر واحد :الرحمن الرحيم.
الخاصة ،سبيك ٌة جديد ٌة أوجدها ّ إنّها ،بهذا التركيب المتميّز ،والمواصفات
العلي القدير،
ّ القرآن الكريم .حتى إن بدّلنا بعض األلفاظ فيها ،كأن نقول :بسم اهلل
يظل كما هو ،مع تأكيدنا ،إضاف ًة إلى اللغوي ّ
ّ أو :بسم اهلل السميع العليمّ ،
فإن البناء
سبيكة
ٍ ذلك ،على أه ّمية تميّز هذه السبيكة عن السبيكتين اللتين مثّلنا بهما ،أو أيّة
واحد (ﭓ ﭔ) مصدر ٍ
ٍ أخرى توازي سبيكتنا ،بوجود صفتين فيها مشت ّقتين من
م ّما يمنحها خصوص ّي ًة شديدة؛ إذ ال نتو ّقع أن يعرف العرب ،ال قبل القرآن وال
بعده ،سبيك ًة من مثل:
بسم األمير األكرم الكريم ،أو:
ّ
المعظم العظيم ،أو: بسم الملك
بسم القائد المقدام القديم.
اإليقاعي
ّ والخاص هذا ،وبوزنه
ّ الرباعي
ّ والنحوي ،بتركيبه
ّ اللغوي
ّ ّ
إن الهيكل
وخاصاً بالقرآن وحده.
ّ ال متميّز ًا
المتفرد ،يبقى هيك ً
ّ
رب العالمين:
–2الحمد هلل ّ
تنضم إلى السبائك القرآنيّة المتميّزة ،بتركيبتها
ّ هذه السبيكة الرباعيّة األخرى
الجديدة المؤلّفة من مبتدأ (الحمد) وخبره شبه الجملة (أو الجا ّر والمجرور :هلل)
ومضاف إليه (العالَمين) ،وال وجود لمثل هذه «التركيبةٍ (رب)
بدل ّفة أو ٍ مع ِص ٍ
الجاهلي.
ّ النحويّة» أو السبيكة اللغويّة في التراث
جملة مثل:
ٍ إنّنا لن نتو ّقع مث ً
ال أن نعثر هناك على
عظيم الناس ،أو:
ِ الشكر للملك
العرفان للسيّد كبير الشأن
81
أن أحداً لم يقل في الجاهليّة مثل
صحيح أننا ال نملك الدليل القاطع على ّ ٌ
ٌ
مدخل لنا لمعرفة الروح هذا ،ولكنّنا نملك ما يكفي من النماذج الشعريّة ،وهي
أن مثل هذه التركيبة لم تكن لِتندرج بين أساليب التي تنتظم لغة الجاهليّين ،لندرك ّ
عصر
أي ٍ ثم لم تصبح ،كما يمكن أن نتبيّن بسهولة ،من أساليبهم في ّ العرب آنذاكّ ،
ومتفرد ًة إلى يومنا هذا.
ّ تال بعد ذلك ،ولقد ظ ّلت كذلك غريب ًة
82
إن العبارة ،بهذا التركيب المتداخل الفريد ،والذي ال يخلو أيضاً من عنصر ّ
التوازي ،وذلك بتكرار لفظ (الصراط) بحيث يأتي ترتيبه الثاني والرابع بين األلفاظ،
تُع ّد سبيك ًة قرآني ًة متم ّيز ًة أخرى في هذه السورة ،ال نعرف لها شبيهاً في التراث
اللغوي للعرب حتّى اآلن.
ّ
–5الذين أنعمت عليهم غيرِ المغضوب عليهم:
تفرد استعمال اللفظ (غير) في هذه السورة ،إذ ّ
حل أل ّول مرٍة قبل ُّعرفنا من ُ
اللغوي الفريد،
ّ وبدهي ،بوجود هذا الهيكل
ٌّ محل (ال) أو (وليس)،مرة– ّ –وآلخر ّ
أن تكون السبيكة ك ّلها متميّزة في تركيبها ،وال سيّما أنه قد وقع لها أيضاً ما وقع
متوازن
ٍ بشكل
ٍ مرتين
فتكرر فيها اللفظ (عليهم) ّ
تواز في السبيكتين السابقتينّ ، من ٍ
اسم (المغضوب)– فكان فعل (أنعمت) إلى ٍ –رغم تغيّر طبيعة اللفظ قبلهما من ٍ
والسادس في السبيكة المؤلّفة من ستّة ألفاظ.
َ الثالث
َ ترتيبه
–6غير المغضوب عليهم وال الضالّين:
تتمحور ألفاظ هذه السبيكة حول اللفظ (وال) الذي عرفنا قيمته اللغوية حين
حل في هذه السورة –أيضاً ألول مرٍة وآخر مرة– ّ
محل (غير) ،فك ّون بذلك محوراً ّ
مفارقة صرفيّةٍ بين
ٍ لغو ّي ًا ها ّم ًا من شأنه أن يك ّون ،إلى جانب ما في هذه السبيكة من
اسم المفعول (المغضوب) والصفة المشبّهة (الضالّين) كما أوضحنا ،سبيك ًة لغو ّي ًة
سبيكة لغو ّي ٍة عرفها العرب.
ٍ قرآن ّي ًة متم ّيز ًة تختلف عن أيّة
التجديدي
ّ جديد ،وقبل أن أغادر إلى الجانب التالي من جوانب اإلعجاز
ومن ٍ
نقطة من هذه النقاط اإلعجازية الكثيرة علي أن أذ ّكر ّ
بأن فصل أيّة ٍ في هذه السورةّ ،
عن النقاط األخرى ،والنظر إليها منعزل ًة عن رفيقاتها ،من شأنه أن يُفقدها قيمتها
إن ق ّوة المواقع اإلعجازيّة تكمن في كثافتها ويخرجها من رصيد هذا البحثّ .
مساحة يفوق فيها عد ُد هذه المواقع عد َد ألفاظ السورة التي تحتويها.
ٍ وتواليها عبر
83
رابعاً :اللغة المنفتحة
أوجد القرآن الكريم هذا النوع من األلفاظ والتعبيرات التي لم يعرفها العرب
من قبل .فاللغة المنفتحة تقف على الطرف اآلخر من اللغة العلميّة ذات البعد
وجه واحد .وبقدر ما تتعدّد أوجه إعراب
تفسر بأكثر من ٍ الواحد ،والتي ال يمكن أن َّ
اللفظة أو الجملة ومعانيهما فإنّهما تقتربان من تخوم »اللغة المنفتحة».
–1العالَمين:
معروفة
ٍ هذا اللفظ يفتح أمام خيالنا آفاقاً ال حدود لها ،إنه ال ينحصر في عوالم
"عالم" واحد :فهل هي عوالم البشر وحدهم؟ أمٌ محدّدة ،هناك إذن "عوالم" ال
سكان األرض والسماء؟ أم عوالم أخرى ال والجن؟ أم ّّ عوالم اإلنسان والحيوان
ً ((( نعرفها؟ أم ّ
كل ذلك معا؟
–2الرحمن:
وحيرتنا ،ونحن نحاول أن نمسك ،بأصابعنا المفسرينَ ،
ّ عرفنا من قبل َحيرة
غير المحدود لهذا االسم الجديد من أسماء اهلل الحسنى،
البشريّة المحدودة ،المعنى َ
المجرد للرحمة الذي عرفه العرب قبل القرآن الكريم.
ّ والذي يتجاوز في أبعاده المعنى
قدسي قد يلقي ضوءاً أكثر على معنى لفظ (العالمين) ألنّه يشير إلى وجود عوالم كثيرٍة ٌّ ٌ
حديث ((( هناك
الديلمي عن
ّ شيء عن وجود العوالم األخرى ،وهو ما يرويه أي ٍ أخرى في السماء ال يعرف أحدها ّ
ٍ
ألف أ ّمة ال َ
خلقت ألف ِ
ُ ّ ّ
ابن عمر قال :قال رسول اهلل » :قال اهلل ع ّز وجل :يا جبريل ،إني
لشيء إذا
ٍ ّ
صرير القلم ،إنما أمري
َ َ
المحفوظ وال اللوح
َ خلقت سواها ،لم أُط ِل ْع عليها
ُ تعلم أ ّمةٌ أنّي
ُ
النون» ،انظر: ُ
تسبق الكاف َ كن فيكون ،وال ُ َ
أردت أن أقول لهْ : ُ
-الديلمي ،شيرويه بن شهردار .فردوس األخبار بمأثور الخطاب المخرج على كتاب الشهاب،
تحقيق :فواز أحمد الزمرلي ومحمد المعتصم باهلل البغدادي ،بيروت :دار الكتاب العربي ،ط،1.
1407ﻫ1987 ،م ،ج ،3ص ،229حديث رقم .4521
84
–3يوم الدين:
تصور ًا ،ولو تقريبياً،
من منّا ال ينطلق خياله بعيداً وهو يحاول جاهداً أن يضع ّ
إنسان عاش على هذه األرض ،كيف ٍ عن ذلك اليوم العظيم الذي سيشهده ّ
كل
وقد س ّماه تعالى بهذا االسم الغريب الذي ال تجد له حدوداً لغويّةً كاملة الوضوح،
والذي يزيده طيف ّي ًة ومرون ًة هذا الجمع الفريد بين الزمن (يوم) واللفظ (الدين)
مجرداً يُطلق
معنى ّ حدث ،بل كان ًالعربي قبل القرآن دالل ًة على ٍ
ّ الذي لم يعرف له
على ما يعتقده اإلنسان أو يدين به .وبإمكاننا تقدير القيمة اإليحائيّة لهذا التعبير لو
أقل إحيائ ّيةً ،من مثل :يوم الزلزال ،يوم الخسف ،يوم بتعبيرات أخرى تقابله ّ
ٍ قارنّاه
الخراب ،يوم الحساب..
ورغم كثرة اآليات الكريمة ،وتعدّد األحاديث الشريفة التي تصف أحداث
ذلك اليوم العصيب ،تبقى تص ّوراتنا اإلنسانيّة عاجز ًة عن الوصول إلى صورٍة ،ولو
الغيبي.
ّ تقريبيّة ،لذلك الحدث
–4إيّاك نستعين:
إن حذف (المستعان من أجله) في اآلية من شأنه أن يترك الخيارات مفتوح ًة ّ
ال( :إيّاك نستعين في مواجهة البشري .ولو جاءت العبارة كهذه مث ً
ّ أمام الذهن
مصاعبنا) النحصر طلب االستعانة في هذا الجانب وحده ،ولكنّها تُركت مفتوح ًة
محتمل من االستعانة :ض ّد العد ّو ،ض ّد الشيطان ،ض ّد النفس األ ّمارة
ٍ نوع
ألي ٍ
ّ
بالسوء ،ض ّد المرض ،ض ّد األلم ،ض ّد الفقر ،أو ربّما لطلب العون في تجاوز
المحن ،أو األزمات ،أو االختبارات ،أو االمتحانات ،أو العثرات ..إلخ.
85
–5الصراط المستقيم:
القرآني يمكن أن ّ
يغطي أبعاداً متعدّ د ًة من تفاصيل ّ إن معنى هذا التعبيرّ
مجرد (طريق االستقامة) ألنّه يجمع في كلمتين خالصةحياتنا ،فهو أكثر من ّ
اإلسالمي والهداية وااللتزام بما أمر اهلل
ّ اإلسالم واإليمان والتقوى والخلق
واالنتهاء ع ّما نهى عنه.
وهو ،إلى جانب ذلك ،يمتزج في مخيّلتنا بالصراط اآلخر الذي يتر ّدد ذكره
ويتقرر مصيرنا من فوقه:
ّ في الحديث الشريف ،والذي أُ ِع ّد لنا يوم الحساب لنعبره
في الجنّة أو في النار.
أنعمت عليهم:
َ –6
من هم تماماً :المن َع ُم عليهم؟ هل هي فئ ٌة محدّدةٌ من المؤمنين؟ هل هم
وحدهم أتباع مح ّمدٍ أم هم أيضاً أتباع بقيّة األنبياء؟ هل هم أولياء اهلل
َ
ندرك الصالحون؟ أم األنبياء أنفسهم؟ أم المالئكة؟ أم ك ّلهم أجمعون؟ ولِكي
حل مح ّلها كلم ٌة مثل :المسلمين،
حقيقة القيمة اإلشعاعيّة لهذه العبارة تص ّوروا لو ّ
أو :المؤمنين ،أو :األتقياء ،أو الورعين ،أو غيرها ،ثم قارنوا بين هذه البدائل
القرآني.
ّ والتعبير
86
خامساً :جوامع َ
الك ِلم
إلى جانب السبائك اللغويّة ،التي أرجو أن يكون مفهومها قد أصبح واضحاً
اآلن ،سنكتشف ،ونحن في سعينا لقراءة األبعاد األخرى للغة القرآن ،ما يمكن
تسميته بالصيغ االصطالحيّة أو بالعبارات السائرة ،أو ،وهو ما ّ
فضلنا أن نختاره له،
الخاص "جوامع الك ِلم" ،ونعني بها العبارات أو الوحدات اللغويّة
ّ النبوي
ّ التعبير
التي استطاعت لغة القرآن الكريم أن تفرضها على ألسنة العرب ولم يكونوا قد
كثير منها بعد اإلسالم جزءاً من لغة حياتهم اليوميّة ال
عرفوها من قبل ،حتى غدا ٌ
مرش ٌح على ّ
األقل ليكون كذلك. يمكنهم التخ ّلي عنه ،أو هو ّ
87
صحتك ،قلت :الحمد هلل،
فإذا سألك أح ٌد عن ّ
وإذا سألك عن رزقك ،قلت :الحمد هلل،
وإذا سمعت خبراً يُ َطمئنك ،قلت :الحمد هلل،
عمل ،قلت :الحمد هلل،
فرغت من ٍ
وإذا َ
عزيت نفسك في مكروٍه أصابك ،قلت :الحمد هلل،
وإذا ّ
لخير أصابك ،أو هنّأت غيرك ،قلت :الحمد هلل،
وإذا هنّأت نفسك ٍ
وإن شكرت ربّك على ّ
كل هذا وذاك ،قلت :الحمد هلل..
رب العالمين:
ّ –4
حين وآخر
من منّا ال ير ّدد هذا الوصف للخالق ع ّز وجل في حياته اليومية بين ٍ
بوصفه اسماً آخر له يوحي بالق ّوة واإلحاطة والتف ّوق؟ كم قلنا ونقول:
رب العالمين كان له حكمته في هذا األمر، ّ
رب العالمين أن يع ّلم فالناً درس ًا،
و :أراد ّ
رب العالمين أن تجري األمور خالفاً لما تو ّقعناه،
و :شاء ّ
أو :سيتح ّقق النصر حين يشاء ّ
رب العالمين...
كثير م ّما تقتضيه المناسبات والمواقف اليوميّة التي نجد أنفسنا فيها
وغير هذا ٌ
القرآني هلل ع ّز ّ
وجل. ّ مدفوعين إلى استخدام هذا الوصف
رب العالمين:
–5الحمد هلل ّ
هذه العبارة القرآنيّة مت ٌ
ّكأ آخر من متّكآت لغتنا اليوميّة ،وهي أوسع من عبارة
الخاصة في حياتنا ،قد تشاركها بها تلك
ّ (ﭖ ﭗ) السابقة ،ولها مواقعها
العبارة أو ال تشاركها.
خطبة ،أو
ٍ شراب ،أو
ٍ طعام ،أو
عمل ماٍ :
تختص باالنتهاء الكامل من ٍّ فهذه
لوقت طويل. عمل استغرق منّا زمناً أطول ،أو حين يتح ّقق ٌ
أمر انتظرناه ٍ رسالة ،أو ٍ
وقد تأتي أحياناً في مطلع بعض هذه األعمال ،كالخطبة والدعاء والرسائل.
88
لقد غدت هي أيضاً جزءاً ال يتج ّزأ من نسيج حياتنا اللغويّة ال ً
غنى لنا عنه.
–6الصراط المستقيم:
هذا التعبير دخل في ُصلب قاموس لغتنا اليوميّة التي استعارته لتستخدمه
استخداماً جمازي ًا في مواقف متنو ٍ
عة: ّ ّ
والتمسك بالتفاصيل
ّ وإذا اشتكى مو ّظ ٌ
ف من إفراط رئيسه عليه في التدقيق
قال :إنّه يحاسبني على الصراط المستقيم،
وإذا أعلن أحدُنا توبته وأ ّكد أنّه سيتجنّب في حياته ما يسبّب المتاعب لنفسه
أو لآلخرين ،قال :سأمشي منذ اآلن على الصراط المستقيم؟
–7السورة بكاملها:
مسلم يستطيع أن يتص ّور حياته اآلن من غير (فاتحة)؟ لقد غدت
ٍ وأخيراًّ ،
أي
ومناسبات
ٍ وأتراح
ٍ أفراح
هذه السورة تمأل علينا مناسباتنا المختلفة :االجتماعيّة :من ٍ
أعمال ،فض ً
ال عن ٍ واتفاقات وافتتاح مشاريع وبدء
ٍ عقود
متن ّوعة ،واالقتصادية :من ٍ
كثير من عباداتنا اليومية.
المراسم الدينيّة ،إذ ال يخلو منها ٌ
***
ٍ
ثمان وخمسون نقط ًة إعجاز ّي ًة جتديد ّي ًة في سورٍة مؤ ّلفة من ٍ
تسع وعشرين هذه ٍ
متكامل ،أحدث بتكامله
ٍ لغوي
ٍّ تشكل لبِن ًة واحد ًة في ٍ
بناء نقطة منها ّ
كل ٍ إن ّ
كلم ًةّ .
العربي األ ّول وهو يسمع في لغة القرآن الكريم ألفاظاً غير ما عرف
ّ هز ًة في أعماق ّ
فنون ،لغويّ ٍة
من ألفاظ ،وأسلوباً غير ما عهد من أساليب ،وفنوناً غير ما خبر من ٍ
أو نحو ّي ٍة أو بيانيّة.
89
ألفاظ عاديّةٍ ال تختلف عن لغتنا
وقد يخيّل لمن يقرأ القرآن اليوم أنّه أمام ٍ
فصحيح ّ
أن ٌ اليوميّة أو عن لغة العرب القدماء على ّ
األقل ،والحقيقة هي غير ذلك.
معظم األلفاظ ،مستق ّلةً ع ّما قبلها أو بعدها ،تبدو لنا عاديّة ،ولكن المعاني القرآنيّة
الجديدة التي اكتسبها بعضها ،وطريقة ارتباط بعضها بما قبله أو بعده ،أو طريقة
تعدّي األفعال منها إلى ما تتعدّى إليه عاد ًة من أسماء ،جعل من معظم األلفاظ
القرآنيّة من الناحية العمليّة ألفاظاً جديدة.
وسنختص سورة (الفاتحة) بهذا العرض السريع والموجز لطبيعة الجدّة في ّ
ال أو مرتبطاً بغيره ،ليك ّون القارئ فكر ًة تقريب ّي ًة عن حجم هذه الجدّة
كل لفظ ،مستق ً
ّ
في لغة القرآن ،والسيّما أنّها ال تقتصر على ألفاظه فحسب ،بل ّ
تغطي بالقدر نفسه
تراكيبه وعباراته وسبائكه أيضاً .وسندرك من خالل هذه اإلحصائيّة ّ
أن جميع ألفاظ
السورة ،فيما عدا اسم الموصول (الذين) وحرف الجر المرتبط بالضمير (عليهم)،
ألفاظ جديدة ،إ ّما بذاتها ،وإ ّما بطريقة استعمالها ،أو بالسياق الذي وردت فيه:هي ٌ
مرة
قديم ولكنّه استج ّد بتعديته بالالم أل ّول ّ
لفظ ٌالحم ُدٌ :
لك إليه
قديم استج ّد بإسناد ال ُم ِ
لفظ ٌيومٌ :
90
قديم استج ّد بمعناه الجديد ،وكذلك بإسناد الزمن (يوم) إليه
لفظ ٌالدينٌ :
ِّ
لفظ قدي ٌم استج ّد بااللتفات به إلى صيغة المخاطب بد ً
ال من الغائب (إيّاه) إيّاكٌ :
أنعمتٌ :
لفظ اكتسب جدّته من ارتباطه بـ(عليهم) فأصبح معناه :هديتهم َ
91
بطريقة ما :إ ّما بنفسه،
ٍ أن معظم ألفاظ السورة قد اكتسب جدّ ًة
وهكذا نجد ّ
األقل من األلفاظ،ّ مرة ،وهو النوعوذلك بسبق القرآن إلى استخدامه أل ّول ّ
معنى جديداً من
كالعالمين والرحمن والصراط ،وإ ّما بغيره ،وذلك بمنح القرآن له ً
خالل استعماله استعما ً
ال مختلف ًا ،أو ربطه ربط ًا جديداً بما قبله أو بعده ،وهذا النوع
يشمل معظم األلفاظ الجديدة في السورة.
92
السورة الثانية
الناس
(ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ
ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ
ﮖﮗﮘﮙ)
أن عدد ألفاظ هذه السورة 20لفظاً أدركنا قيمة أن يكون فيها 33وإذا عرفنا ّ
نقط ًة جديد ًة لم يعرفها قاموس العربيّة قبل الوحي.
93
خاصين بها هما
بتفردها بلفظين جديدين ّ
وتتبدّى الشخصيّة اللغويّة للسورة ّ
تتكرر أيضاً في أيّة سورٍة أخرى ،وهي:
( ﮍ ﮎ ) وخمسة تعبيرات ال ّ
( ﮂ ) ( ،ﮅ ﮆ ) ( ،ﮈ ﮉ ) ( ،ﮑ ﮒ ) ( ،ﮑ ﮒ
ﮓ ﮔ ) ،يضاف إلى ذلك استقالل السورة بموضوعها الفريد الذي لم
والجن.
ّ تشاركها به أيّة سورٍة أخرى ،وهو التع ّوذ باهلل من وسوسة شياطين اإلنس
أو ً
ال :األلفاظ والمصطلحات
ب غير محدّدين، َ
ومخاط ٌ قرآني ،وابتدا ٌء غير معهود ،ومتك ّل ٌم
ٌّ ُ –1ق ْل ٌ
(فعل
شرط ُحذف مع
لطلب أو ٍ
ٍ وجواب
ٌ متلو بالالم،
ومعنى جديد ،وغير ٍّ
ً
الفاء الرابطة له):
ب– أنه يأتي في بداية السورة ،وهي وحد ٌة أدب ّي ٌة أو لغو ّي ٌة كاملة ،ولم ِ
يعتد
األدبي،
ّ العرب سابقاً ،وال الحقاً ،أن يبدأوا مقالتهم ،أي ًا كان شكلها
شعراً أو نثراً ،هكذا بفعل األمر ،وبصيغة اإلفراد أيضاًُ :قل.
94
مرة:
العربي الذي سمعه أل ّول ّ
ّ ت– ث – أنه ،في أذن
ﺧ– أنه ،وقد اختلف معناه ،تخ ّلى عن الالم بعده ،وقد اعتاد العرب ِ
تعديته
بها فقالوا:
بالريق
ِ الشيخ
َ بحرب تُ ِغ ُّ
ص ٍ أبش ْر
ِ بذ ّمت ِه البن ُك ٍ
لثوم الساعي ِ قل ِ ْ
بشر بن عمرو (ت؟ ؟)
دارهـــــا ِّ
وخـــــل لهــــا َ تنــــح
ب َّ ُ الحرو أال ْ
قل لمن تزدريــ ِه ُ
سعد بن مالك البكري (ت 95ق.ﻫ)
فاســـتقـــدم
ِ رائـــم ِع ِّزنــا
كنت َ ْ
إن َ عد ُه
هند بَ َ
وابن ٍ
ِ قل للمث ّلــم
ْ
َسنان ال ُم ّري (ت 33ق.ﻫ)
أي منها إحالل الفعل (اقرأ) الحظ في األبيات السابقة أنّك ال تستطيع في ٍّ
محل الفعل ( ُق ْل) .والغريب أنه بين 332حال ًة قرآن ّي ًة ال نجد هذا
(اتل) ّ
أو الفعل ُ
95
ال في خمس عشرة منها فحسب .ولو وضعنا هذه الحقيقة متلو ًا بالالم إ ّ
الفعل ّ
متلو ًا بالالم؛ أدركنا قيمة
ال ّ الجاهلي لم يعرف هذا الفعل إ ّ
ّ بإزاء حقيقة أن الشعر
هذه الظاهرة القرآنيّة الجديدة ،والداللة الها ّمة لحجمها ،ومدى تَميُّزها عن اللغة
البشريّة السائدة.
أو(أج ْبهم) فإنه ،خالفاً
ِ القرآني بمعنى (أخبِ ْرهم)
ّ إن جاء هذا الفعل حتى ْ
ثم عن المتعدّي إليه ،أي الجاهلي ،كثيراً ما يتخ ّلى عن الالم بعده ،ومن ّ
ّ للشعر
الم ُقول له ،كما في اآليات التالية:
أن الفعل ال يَرد في وتزداد أه ّمية هذه الظاهرة القرآنيّة بروزاً إذا أدركنا ّ
مخاط ٍب محدّد ،وغالباً ما يكون
َ موجها إلى
ال َّالحديث الشريف ،وال في لغتنا ،إ ّ
ال يسأل الرسول فير ّد عليه ،أو ي ِرد في شكل المخاطب في الحديث سائ ً
َ هذا
شخص حمدّ ٍد يتحدّث إليه ،حتّى إن أمكن بعد ذلك إسقاط ٍ نصيحة يلقيها على
ٍ
الحديث على بقيّة المسلمين:
(((
لك بها عند اهلل».. عم قل ال إل َه إ ّ
ال اهلل ،كلم ًة أشه ُد َ ..» -يا ِّ
فعلت كان كذا وكذا ،ولكن قلَ :ق َّد َر اهلل وما
ُ ..» -فال ت ُقل :لو أنّي
(((
شاء َف َعل»..
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،457حديث رقم .1294
((( القشيري ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،ج ،2ص ،2052حديث رقم .2664
96
لمت نفسي ُظلماً َ ..» -ع ِّل ْمني دعا ًء أدعو به في صالتي ،قالُ :ق ِل ّ
اللهم إنّي َظ ُ
(((
ندك».. الذنوب إ ّ
ال أنت ،فاغ ِفر لي َمغفر ًة ِمن ِع ِ َ كبيراً ،وال يغ ِف ُر
–2أعوذ:
لم يعرف العرب ،على األغلب ،الفعل (أعوذ) في صيغته الدعائيّة هذه،
بصحتهاّ ،
ألن الشك ّّ مر ًة واحد ًة ستؤيّدونني في
ال ّالجاهلي إ ّ
ّ ولم أجده في الشعر
السياق الذي وردت فيه ليس جاهل ّي ًا ،وفي معاني األبيات األربعة التي وردت فيها
الحصين بنآيات قرآنيّة ،وتُنسب األبيات ،مع ذلك ،إلى ُ ست ٍ آثا ٌر لما ال ّ
يقل عن ّ
حمام ال َفزاري (ت 10ق.ﻫ):
النفس أعمالَها ُ ت يو َم ترى ِ أعــو ُذ بربّــي مــن ال ُمخ ِزيــــــا
األرض ِزلــزالَــــها
ُ ُلـــزلــت
ِ وز بالكافريـن
ْ الموازيــن
ُ وخ َّ
ــــف َ
فـهـَبّـــــــوا لتُبــــــ ِر َز أثقالَــــــــها بأهل القبـــــــــو ْر
ِ ناد
ونادى ُم ٍ
ُ
السالســــل أغاللـَـــــها وكـــان العــــذاب
ْ رت النا ُر فيها
وس ِّع ِ
ُ
أن هذا الشاعر أدرك اإلسالم ولم يُسلم، وم ّما يس ّوغ شكوكنا هذه ما نُقل من ّ
وأن أرقام ورود هذا اللفظ ،إن ُوجد حقاً في الفترة الجاهليّة ،ترتفع في الشعر ّ
الجاهلي ،لتزيد على 22مرة حتى نهاية العصرّ العربي فجأةً ،ومباشر ًة بعد العصر
ّ
ٌ
األموي ،وهو فرق أكبر من أن نجد له تفسيراً غير جدّة هذا اللفظ وقرآنيّته.
ّ
(الجن) ( :ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ّ المفسرون في تفسير آية سورة
ّ ويروي
روايات مختلف ًة عن ّ
أن العرب اعتادوا أن يستخدموا ٍ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒ)
جن هذا الوادي،واد فيستعيذون بسادتهم من ّ مكان أو ٍ
ٍ هذا الفعل إذا ح ّلوا في
نطمئن إليه من أسانيد.
ّ المفسرين ال يذكرون في توثيق روايتهم ما يمكن أن
ّ ولكن
ّ
ففي تفسير الفخر الرازي لهذه اآلية:
المفسرينّ ،
أن الرجل في الجاهليّة ّ «فيه قوالن :األ ّول :وهو قول جمهور
قفر من األرض قال :أعوذ بسيّد هذا الوادي ،أو بعزيز هذا
إذا سافر فأمسى في ٍ
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،286حديث رقم .799
97
شر سفهاء قومه ..وقال آخرون :كان أهل الجاهليّة إذا َقحطوا بعثوا المكان ،من ّ
وجد مكاناً فيه ٌ
كأل وما ٌء رجع إلى أهله فيناديهم ،فإذا انتهوا إلى تلك رائدهم ،فإذا َ
(((
برب هذا الوادي من أن يصيبنا آف ٌة ،يعنون ّ
الجن.».. األرض نا َدوا :نعوذ ّ
المفسرين قد
ّ حتّى إن كانت هذه المنقوالت صحيح ًة ،فال ينبغي أن ننسى أن
وبدهي
ٌّ استعملوا لغتهم اإلسالميّة ،وليس الجاهليّة طبعاً ،في سرد هذه األخبار،
تتسرب مثل هذه األلفاظ القرآنيّة إلى ألسنتهم.
إذن أن ّ
–3الوسواس:
المجازي
ّ لقد عرف العرب هذا الفعل قبل اإلسالم ،ولكن بعيداً عن المعنى
الجديد الذي أضافه إليه القرآن.
همس الصياد مع الكالب .وكأنّما َشبّه
الح ِل ّي ،أو َ
فهو عندهم ال يعدو صوت ُ
القرآن صوت الشيطان ،وهو يهمس في أذن ضحيّته بعيداً عن أسماع اآلخرين، ُ
ُسمع ،أو بحديث الصيّاد وهو يهمس يدي المرأة وهي تكاد ال ت َ
لي في َالح ّ
بوسوسة ُ
في كالبه همساً خشية تنبيه صيده وإفالته من يديه.
األموي
ّ األقل في الشعرين ّ مرات علىورغم أننا نعثر على هذا اللفظ ّ 5
الجاهلي أبداً ،ويرد مر ًة واحد ًة في
ّ واإلسالمي فإننا ال نجده بهذا المعنى في الشعر
ّ
القرآني ،وفي غير لفظه:
ّ بيت لحاتم الطائي (ت 46ق.ﻫ) ولكن في غير المعنى ٍ
ترنُّما
لي َ
الح ِّ
سواس ُ
ُ ترن َّم ِو الحشَّي ِة َم ّر ًة
َ انقلبت فوق
ْ إذا
الحلي) ال بالمعنى
ّ والحسي وهو (صوتّ األصلي
ّ فاستعماله هنا كان بالمعنى
فترض بالحرف األ ّول من هذا المصدر المجازي الجديد ،فهو على ذلك مصدر ،ويُ َ
ّ
(وهو ما يس ّمونه فاء الفعل) أن يكون مكسوراً ( ِوسواس) –كما هو في البيت ح ّقاً–
مرتين) كقولناشأن مصادر األفعال الرباعيّة المض ّعفة (أي التي يتوالى فيها حرفان ّ
ولكن اللفظ جاء في اآلية مفتوح الواو ،فهو لهذا اس ٌم ال مصد ٌر،
ّ ( ِزلزال) من (ز َ
َلزل).
((( الرازي ،فخر الدين محمد بن عمر .التفسير الكبير (مفاتيح الغيب) ،بيروت :دار الكتب العلمية،
ط1421 ،1.ﻫ2000 ،م ،ج ،30ص.138
98
(صوت الشيطان).
َ شأنه في ذلك شأن اللفظ (ثَرثار) .إنّه إذن (الشيطان ُ
نفسه) وليس
فقهي
ٍّ بمعنى
ً قرآني–
ّ اقتباس
ٍ أي
أ ّما في الحديث الشريف فإنه ي ِرد –خارج ّ
ّ
الشك ،كما التحرج من النجاسة ،أو بمعنى
ّ القرآني وهو
ّ مختلف عن المعنى
ٍ
في قوله :
(((
سواس منه
ِ الو -ال يبولَ ّن أحدُكم في ُمستَ َح ِّمه ّ
فإن عا ّمة َ
الصدر،
سواس َ
ِ ويسر لي أمري ،وأعوذ بك من َو
اللهم اشرح لي صدريّ ، ّ -
(((
تات األمر ،وفتن ِة القبر
وش َِ
حق أحدنا االعتراض هنا بقوله :وهل من نعم ،وأعترف من جديدّ ،
أن من ّ
كلمة تك ّلم بها العرب؟
كل ٍ الجاهلي ّ
ّ المفترض أن نجد في الشعر
َ
جاهلي –هي
ّ بيت
أن بين أيدينا ما يزيد على عشرين ألف ٍ طبعاً ال ،بالرغم من ّ
أضخم حجماً
َ كل ما ج ّمعته الموسوعات الضوئيّة حتى اآلن– أي ما يَعدل كتاباًّ
الجاهلي،
ّ قاموس للغة العصر
ٍ من القرآن الكريمّ .
إن هذا الديوان الضخم هو بمثابة
العسكري ،أبو هالل الحسن بن عبد اهلل .الفروق اللغويّة .تحقيق :محمد باسل عيون السود،
ّ (((
بيروت :دار الكتب العلميّة2000 ،م ،ص.79
((( القزويني ،محمد بن يزيد .سنن ابن ماجه ،تحقيق :محمد فؤاد عبد الباقي ،بيروت :دار الفكر،
(د.ط)( ،د.ت) ،ج ،1ص ،111حديث رقم .304
((( البيهقي ،سنن البيهقي الكبرى ،مرجع سابق ،ج ،5ص ،817حديث رقم .9258
99
والنقدي
ّ واللغوي
ّ واالجتماعي
ّ التاريخي
ّ المهم االحتكام أ ّوال إلى وعينا
ّ ولكن من
لذلك العصر ،وهو ما كنت أنطلق منه دائماً في أحكامي األ ّولية قبل الرجوع إلى
الجاهلي للتح ّقق من ّ
صحة هذه األحكام أو تأكيدها. ّ الشعر
منعط ٍف من منعطفاتكل َ البشري وارداً خلف ّ
ّ ومع ذلك ،يبقى احتمال الخطأ
صحيح أنّه قد
ٌ هذه الرحلة االستكشافيّة الشا ّقة ،مهما كانت نسبة هذا الخطأ ضئيلة.
الصحة،
ّ الجاهلي ما يساعدنا على الخروج بتص ّوراتنا القريبة من
ّ وص َلنا من الشعر
أن أضعاف ما وصلنا منه قد انقطع به المسير ولكن يجب أ ّ
ال نُغفل أيضاً حقيقة ّ
وتاه على أرصفة التاريخ فلم يصل إلى أيدينا منه إ ّ
ال جز ٌء يسير.
ّ
تستقل بها سورة وأخيراًّ ،
إن هذا اللفظ يُع ّد من المق ّومات اللغويّة التي
السور أبداً.
يتكرر في غيرها من َ (الناس) ،فهو ال ّ
–4الخنّاس:
الجاهلي مطلقاً .وإطالق القرآن لفظ "الخنّاس"
ّ ال وجود لهذا اللفظ في الشعر
على الشيطان ،الذي يخنس وينكمش ويختبئ استعداداً لالنقضاض على فريسته،
ال جماز ّي ًا جديداً على العرب.
كان بطبيعة الحال استعما ً
العربي،
ّ سلم ٌة جديد ٌة على
اإلسالميُ ،م َّ
ّ بل ّ
إن وجود الشيطان نفسه ،بالمعنى
(الجن) الذين عرفهم العرب ونسجوا القصص الكثيرة عنهم ،حتى ّ ومختلف ٌة عن
شاعر من شعرائهم ُجنّيه أو شيطانه أو هاجسه الذي يضع له الشعر ٍ جعلوا ّ
لكل
على لسانه(((.
للسورة؛ إذ لن نجده
جديد نضيف هذا اللفظ إلى الخصائص اللغويّة ّ
ٍ ومن
بعد ذلك في أيّة سورٍة أخرى.
100
–5يوسوس:
ما ينطبق على لفظ (الوسواس) ينطبق على فعله أيضاً ،سوا ٌء من حيث اختفاؤه
الجاهلي ،أو من حيث جدّ ُة استعماله وإطال ُقه على صوت الشيطان.
ّ من الشعر
األموي
ّ اإلسالمي أو
ّ ويجب أن أعترف بأنني لم أجد هذا الفعل في الشعر
بعد ذلك ،أ ّما في الحديث الشريف فإنّه يرد على ألسنة الصحابة غالباً ،وليس على
لسان الرسول نفسه ،كما في الحديث:
الجنّة:
ِ –6
قرآني ،إذ ال نجد هذا
ّ للجن ،وهو ٌ
لفظ ّ جنس
ّي) أو اسم ٍ (جن ّ
وهو جمع ُ
الجاهلي ،وإنّما نجده هناك ِ
(الج ّن). ّ الجمع في الشعر
–1قل أعوذ:
مر ًة واحد ًة في يتكرر بهذه الصيغة إ ّ
ال ّ تعبير جدي ٌد على العربيّة ،ولن ّ
هذا ٌ
الست األخرى التي يرد فيها الفعل
ّ المرات
أن ّالمهم مالحظ ُة ّ
ّ سورة (الفلق) .ومن
((( الصنعاني ،عبد الرزاق بن همام .المصنف ،تحقيق :حبيب الرحمن األعظمي ،بيروت :المكتب
اإلسالمي ،ط1403 ،2 .ﻫ ،ج ،11ص ،243حديث رقم .20439
101
(أعوذ) بهذه الصيغة في القرآن ُسبِق فيها جميعاً بفعل القول أيضاً ،كما يتّضح لنا
من اآليات:
( -ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ)
[المؤمنون]98 – 97 :
شر:
–2أعوذ . .من ّ
وبشكل واضح،
ٍ هذا الفصل الطويل بين فعل االستعاذة والمستعاذ منه يبدو،
عادي في التقاليد اللغويّة العربيّة ،ليس قبل اإلسالم فحسب ،بل في
ٍّ أمراً غير
بشكل عام ،حتّى في القرآن الكريم نفسه.
ٍ العربي
ّ اللغوي
ّ التراث
102
وحده،
بآية َ ّ
استقل ٍ وما يعطي هذه اآلية خصوص ّي ًة أكبر ّ
أن المستعاذ منه قد
يتكرر هذا إ ّ
ال في سورة ال بذلك عن اآلية التي تض ّمنت فعل االستعاذة ،وال ّ منفص ً
(الفلق) ،وإن كان الفاصل هناك أضيق كما هو واضح.
رب الناس:
ّ –3
الطائي
ّ أبيات ل َلقيط بن شيبان (ت؟) وحاتم
عثرت على هذا التعبير في ثالثة ٍ
ّ
الشك (ت 46ق.ﻫ) واألسود بن يَع ُفر الن ّ
ّهشلي (ت 33ق.ﻫ) .وما يجعلني كبير
في صدق جاهليّة هذه األبيات؛ ليس لغتها ،وال السمعة التاريخيّة للشعراء الثالثة
وبشكل
ٍ السورة تنفرد بالتعبير أيضاً، الذين نُ ِسبَت إليهم فحسب ،ولكن ّ
ألن هذه ّ
(رب) في القرآن الكريم سور القرآن .فرغم تكرار اللفظ ّ عادي ،دون سائر َّ غير
مرة ،وهو أيضاً عادي ح ّق ًا ،وتكرار لفظ (الناس) ّ 241
ٍّ رقم غير
مرة ،وهو ٌ ّ 838
ال في هذه اآلية .والتعبير إذن ،هو أحد قط إ ّ
عادي ،فإنّهما لم يجتمعا ّ
ّ رقم غير
ٌ
مق ّومات الشخصيّة اللغويّة لهذه السورة.
– 4ملك الناس:
جمرد ًا من أيّة إضافة ،فإذا أضافوه فعلوا
(الم ِلك) هكذا ّ
لقد ألِف الناس لفظ َ
ذلك مع اسم البلد الذي يحكمه هذا الملك ،فيقولون (ملك الهند ،ملك إسبانية،
ملك البرتغال )..أو مع اسم القوم الذين يحكمهم (ملك الفرس ،ملك الفرنجة،
ملك الروم )..أو مع ما يزيد مقامه رفع ًة وشأناً (ملك الملوك ،ملك الشرق
والغرب )..ولكنهم لم يقولوا أبداً ،وال يُنتظر منهم أن يقولوا( ،ملك الناس) ال في
سر خصوص ّية هذاأدبي ،وهنا ّ
شعري أو ّ ٍّ تراث
الجاهلي وال فيما بعده من ٍ
ّ الشعر
القرآني.
ّ التعبير
103
ملك الناس /إل ِه الناس:
ِ –6 + 5
أمر سبق أن عرفنا
(ملك ،إل ِه) وهو ٌ
ِ بدل
بصفة أو ٍ
ٍ كلتا هاتين اآليتين بدأت
أنّه لم يكن معهوداً عند عرب الجاهلية في الوحدة اللغويّة األولى والوحيدة التي
عرفوها قبل القرآن ،وهي الجملة.
آت -أيّها الناس ،اسمعوا و ُعوا ،من عاش مات ،ومن مات فاتُّ ،
وكل ما هو ٍ
سحائب تَمور ،ونجو ٌم تغور(((.
ُ إن في السماء لخبراً:
آتّ ،
((( القزويني ،زكريا بن محمد .آثار البالد وأخبار العباد ،بيروت :دار صادر( ،د .ت) ،ص.32
104
مضاف إلى هذا البدل أو الصفة ،وهذا ك ّله غير ٍ
كاف لتكوين ما نس ّميه ٍ األولى ،مع
وس ّماه العرب الجاهليّون ،أو قبلوه على أنّه "جملة".
–فالرب هو الصاحب
ّ إنه يرتفع بهم شيئاً فشيئاً من صفة االمتالك ّ
(رب الناس)
الرازي– إلى ال ُملك الذي يشمل االمتالك ّ أو المالك ،أو (المربّي) كما يقول
الرب ،رغم امتالكه ،قد يكون س ّيد ًا أو ال يكون– (ملك الناس) ّ
–ألن ّ والسيادة معاً ِ
حد أو
مطلق ال يحدّه ٌّ ٍ بشكل
ٍ كل هذه الصفاتإلى األلوهيّة التي تهيمن على ّ
ٌ
تعريف (إله الناس).
–10إله الناس:
شأن هذين المتضايفين اآلخرين شأن (ملك الناس) .فرغم عثورنا على التعبير
أمر ن ّوهنا بتح ّفظنا
الجاهلي ،وهو ٌ
ّ ّ
األقل في الشعر مرات على (رب الناس) ثالث ّ ّ
تجاهه ،فإنّنا ال نجد فيه التعبير (إله الناس) مطلقاً .ومع ذلك فإنّه يطفو على السطح
ّ
األقل حتى نهاية فجأ ًة بعد نزول الوحي مباشرةً ،فيتوالى في الشعر ّ 6
مرات على
األموي.
ّ العصر
105
تفرده وتميّزه ،لو
القرآني ،ومدى ّ
ّ وسيساعدنا في تقدير قيمة هذا االستعمال
أن اللفظ (إله) قد ورد 111مر ًة في القرآن الكريم ولفظ (الناس) ّ 241
مرة، علمنا ّ
اختصت به سورة (الناس)
تعبير آخر ّ
ال في هذه اآلية ،وهو إذن ٌ ومع ذلك لم يلتقيا إ ّ
دون باقي سور القرآن الكريم.
–11الذي يوسوس:
خالفاً للمعهود في الوحدة اللغويّة العربيّة (الجملة المفيدة) تبدأ هذه اآلية/
للفظ ورد في وحدٍة لغو ّي ٍة سابقة (الوسواس)
تابع ٍ موصول (الذي) ٍ
ٍ باسم
الوحدة ٍ
فهو صف ٌة له ،وقد سبق أن أوضحنا أنّنا لم نعرف مثل هذه البدايات المقطوعة
للوحدات اللغويّة في األساليب العربيّة ،ال قبل القرآن الكريم ،وال بعده.
يوس ِوس في:
ْ –12
ات في القرآن تعدّى في ّ
كل أغرب ما في الفعل (يوسوس) أنه يرد أربع مر ٍ
ّ ِ
جر مختلف ،أو من غير هذا الحرف إطالقاً:
منها بحرف ٍّ
لقد تعدّى هنا بالحرف (في) ولكنّه يتعدّى بحرف الالم في قوله تعالى:
[األعراف]20 : (-ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ)
مر ًة أخرى ،خصوص ّي ٌة من خصوصيّات هذه السورة ،لم تشاركها بها والتعبيرّ ،
سور القرآن الكريم ،فض ً
ال عن جدّة التعبير تماماً على اللغة العربيّة. أي من َ
ٌّ
106
يوسوس في صدور:
ُ –13
العربي األ ّول ،فم ّما ال
ّ إذا كان التعبير (يوسوس) يبدو غريباً وجديداً على
وأبعث على المفاجأة والدهشة إذا ارتبط بالصدور. َ ّ
شك فيه أنه سيبدو أكثر غراب ًة
تعبيرات
ٍ العربي لو قارنّاه بتأثير
ّ وبإمكاننا تص ّور تأثير هذا التعبير في اإلنسان
محتملة .كأن نقول:
َ أخرى
107
صدور الناس:
ِ –14
أمر
السورة ،فإضافة الصدور إلى الناس ٌ
قرآني جدي ٌد آخر في ّ
ٌّ هذا أيضاً ٌ
تعبير
مألوف لألذن العربية ،حتى ذلك العصر على ّ
األقل. ٍ غير
ويمكن تقدير أه ّمية ذلك لو علمنا أن اللفظ (صدور) يرد 35مر ًة في القرآن
ال في هذه اآلية .إنّها إذن ،خصوص ّي ٌة
أي منها إلى لفظ (الناس) إ ّ
لم يُ َضف في ٍّ
أخرى تضاف إلى سورة (الناس).
َ
أضيف فيها إلى ّ
األقل الجاهلي فيَرد اللفظ 15مر ًة على
ّ أ ّما في الشعر
مختلفة يعني فيها جميعاً :مقدّ م َة الشيء ،أو سطحه ،أو الجزء البارز
ٍ كلمات عديدٍة
ٍ
الجمال – صدور النعال – صدور منه ،كما في قولهم :صدور ِركابكم – صدور ِ
الخيل – صدور الصافنات – صدور المنايا -صدور الرماح -صدور القنا -
شرفي – صدور الرجال (بمعنى مقدِّمات أجسادهم) ،ولكن لن نجد الم ّ صدور َ
القرآني (صدور الناس) الذي اكتسب فيه اللفظ (صدور) ّ حال التعبير
على أيّة ٍ
معنى( :عقول) أو (قلوب) أو (نفوس).
ّ
سيظل خارج تركيب
ٌ كاف ،ليؤ ّكد لنا قرآنيّة وجدّة هذا التركيب ،وهو ّ
إن هذا ٍ
المجازي
ّ قرون قادمة ،كما يؤ ّكد قرآن ّي َة المعنى
ٍ العربي لعدّة
ّ الشعري
ّ القاموس
الجديد للفظ (الصدور).
108
والغريب أنّه حين يختلف أحد اللفظين في القرآن ،كأن يتح ّول لفظ ِ
(الجنّة)
َ
اللفظ (الج ّن) أو يتغيّر لفظ (الناس) إلى (اإلنس) يعتري التغيير
إلى الجمع اآلخر ِ
والجن)– وقد ورد هذا ّ (الج ّن واإلنس) –وأحياناً (اإلنسالشريك أيضاً ،فإ ّما ِ
مرات كما ذكرنا. (الجنّة والناس) وقد ورد فيه ّ 3
مرة ،وإ ّما ِ
التركيب في القرآن ّ 12
(الج ّن والناس) مما
(الجنّة واإلنس) وال التركيب ِ ولن نجد في القرآن أبداً التركيب ِ
العربي األ ّول.
ّ يلقي أمامنا مزيداً من الضوء على خصوصيّة التعبير وجدَّ تِه على أذن
السورة:
–16موضوع ّ
بليغ قومه ،قد عاد إليهم ،وقد سمع من الرسولوأخيراً ،إذا كان ُعتبة بن ربيعةُ ،
ثالث عشرة آي ًة من مطلع سورة ( ُف ّصلت) فلم يفهم منها –كما أخبرهم– إ ّ
ال
ذكر الصاعقة (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) فماذا كان يمكن أن يفهم َ
لو سمع هذه السورة ،الجديد َة بموضوعها ،والغريب َة بهذه اإلشارات إلى الشيطان
اإلسالمي لهما طبعاً– وما يقع في آياتها من ُ
تداخ ٍل ّ والجن عا ّم ًة –بالمفهوم
ّ خاص ًة
ّ
والجن ،وكذلك لو سمع هذه الدعو َة الغريبة للنّاس في مطلعها
ّ بين صفات اإلنس َ
والجن؟!
ّ شر شياطين اإلنس
لتالوتها والتع ّوذ بها من ّ
109
ال مر ًة واحد ًة هي أ ّول آيات سورة (الفلق) ( :ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ). اللغوي ،إ ّ
ّ
واللغوي لهاتين السبيكتين بأبني ِة سبائك قرآنيّةٍ أخرى ابتدأت
ّ النحوي
ّ وقارنوا البناء
بهذا الفعل ،مثل:
والواضح ّ
أن الصياغة النحويّة واللغويّة لآليات األربع ،وكذلك لسائر اآليات
التي تبدأ بهذا الفعل في القرآن ،تختلف تماماً عن الصياغة التي تقوم عليها سبيكتنا.
ولم أجد هذا البناء الفريد مر ًة أخرى في القرآن ،وال في غير القرآن أيضاً،
وهي خصوصيّةٌ أخرى تضاف إلى خصوصيّات السورة.
ِ
الوسواس الخنّاس .الذي يوسوس: شر
ِ –3من ِّ
وهذه سبيك ٌة متم ّيز ٌة أخرى في السورة ،فهي تبدأ بشبه الجملة (من ّ
شر)
ٌ
وصف له على إيقاعه نفسه وقافيته ٌ
مضاف إليه (الوسواس) ،ويتبعه مباشر ًة يليه
ّ
ويشتق فعلها (يوسوس) من صلة تُ َع ّد وصفاً ثانياً له
نفسها (الخنّاس) ،ثم جمل ُة ٍ
110
الموصوف (الوسواس) الذي جاء في مطلعها .وال أعرف سبيك ًة أخرى مشابه ًة لها
خاص ٌة بهذه السورة وحدها.
ّ في القرآن الكريم أو غيره ،فهي أيضاً سبيك ٌة
الجنّة والناس:
–4في صدور الناس .من ِ
ومضاف
ٍ جملة
ٍ خاص ٌة بالقرآن وحده ،وتتألّف من شبه
إنها أيضاً سبيك ٌة جديد ٌة ّ
جملة آخر هو (ﮖ ﮗ ) َّ
معل ٌق ٍ
بحال ٍ إليه (ﮒ ﮓ ﮔ) يليها شبه
ثم محذوفة من الموصوف (الوسواس) –أي :الوسواس كائن ًا من ِ
الجنّة والناس– ّ ٍ
ينتهي الجزءان اللذان تتألّف منهما السبيكة بالكلمة نفسها (الناس).
–5السورة بكاملها:
بهيكل
ٍ وأخيراً ،من الواضح أن هذه السورة تنفرد بين باقي سور القرآن الكريم
الست –أي اآليات–
ّ وخاص بها؛ إذ تنتهي وحداتها اللغوية الصغيرة
ٍّ لغوي متميّزٍ
ٍّ
باألحرف األربعة نفسها (النون المشدّدة واأللف والسين :نّاس) وال وجود لهذا
المعري في
ّ اللغوي في تراثنا ،شعره أو نثره ،حتّى خرج علينا
ّ النوع من االلتزام
الهجري بديوانه المعروف (اللزوميّات).
ّ القرن الرابع
111
رابعاً :مواقع منفتحة
–1قل:
جهة
أمر صاد ٌر من ٍ قو ًة إحيائ ّي ًة مزد َوجة ،فهو ،كما بيّنّاٌ ،
يكتسب هذا اللفظ ّ
أن اآلمر هو اهلل) ،ثم لم تُذكرالعربي فيما بعد ّ
ّ لم تُذ َكر في السورة (طبعاً سيَفهم
محدد ،وإن كنّا نعرف أنه تعالى َ
فالمخاطب غير َّ الجهة التي ُو ِّجه إليها هذا األمر،
أهمها إشعا ُر
لعل ّخيارات عدّةّ ،
ٍ يخاطب الرسول بداءةً ،وذلك يفتح أمامنا
وكأن َ
فعل ّ من ير ّدد السورة ،في حاالت الخوف أو القلق أو ابتغاء السالمة،
ثم استجابتَه
ال مع السورة ،ويزيد من ّ موج ٌه إليه شخص ّي ًا ،وهذا يزيده تفاع ً القول ّ
الروحيّة لتأثيراتها.
–2الوسواس الخنّاس:
غني بالظالل واإليحاءات بما اجتمع في لفظيه من جدّ ٍة ،وما تعبير ٌّ
ٌ وهو
تركيب واحد ،مزيداً ٍ
معان جماز ّية تمنح اجتماعهما معاً ،وتفاعلهما في
ُشحنا به من ٍ
ٍ
من اإليحاءات المر ّكبة والجديدة عن نوع الوسوسة وطبيعتها ،وعن صاحب هذه
الوسوسة وشكله المتح ّول وطبائعه المقلقة الغامضة.
خامساً :جوامع َ
الك ِلم
برب الناس:
–1قل أعوذ ّ
األصلي ،وربّما
ّ يحل ّ
محل اسمها هذه اآلية أضحت اسم ًا للسورة كثيراً ما ّ
غدت بذاتها ،دون باقي آيات السورة ،تعويذ ًة سريع ًة ير ّددها المسلم لو حدث أن
فوجئ بشيء أخافه أو أزعجه أو أغضبه.
–2الوسواس الخنّاس:
وقد مضى هذا التعبيرعلى األلسنة ،بعد نزول السورة ،فأصبح مصطلحاً يُط َلق
على الشيطان حيثما ُذكر.
112
–3يوسوس في الصدور:
سوء قد يَع ِرض لإلنسان في لحظة
تعبير يُستخدم في وصف أي خاطر ٍ
وهو ٌ
لوصف عمل الشيطان داخل النفس اإلنسانيّة.
ِ استسالم لألهواء ،أو
ٍ ضعف أو
ٍ
السورة بكاملها:
ّ –4
مسلم مع السورة التوأم لها
ٍ السورة إلى تعويذٍة يتلوها ّ
كل لقد تح ّولت ّ
أهميتهما في ذلك
دت ّ (الفلق) ،لتكونا جزءاً من عباداته وحياته اليوميّة .وقد أ ّك ْ
أحاديث نبو ّي ٌة عدّة:
ُ
آيات لم يُ َر ِم ْث ُل ّ
هن ( :ﮀ علي ٌ النبي قال» :أُن ِز ْ
لت ّ -عن ُعقبة بن عامر tعن ّ
ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) إلى آخر السورة ،و ( ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ) إلى
(((
آخر السورة»
رسول
ِ "كنت مع
ُ بيب عن أبيه :قال: -عن ُمعاذ بن أبي عبد اهلل بن ُخ ٍ
فدنوت منه
ُ رسول اهلل
ِ فأصبت َخلو ًة من
ُ اهلل في طريق ّ
مكة
فقالُ :قل ،فقلت :ما أقول؟ قال :قل ،قلت :ما أقول؟ قال( :ﭤ ﭥ
حتى ختَمها ،ثم قال( :ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ) حتّى ﭦﭧ) ّ
(((
ثم قال :ما تَ َع ّوذ النّاسُ َ
بأفض َل منهما» َختَمهاّ ،
ليلة َجمع ك ّفيه
كل ٍ النبي كان إذا أوى إلى ِفراشه َّ
"أن ّ -عن عائشة ّ :
نفث فيهما فقرأ فيهما (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) و (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ )
ثم َّ
يمسح بهما ما استطاع ِمن جس ِده ،يبدأُ بهما
ُ و(ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ )ّ ،
ثم
((( الشيباني ،أحمد بن حنبل .مسند اإلمام أحمد بن حنبل ،تحقيق :شعيب األرنؤوط ،بيروت :دار
الرسالة ،ط1999 ،2 .م ،ج ،28ص ،605حديث رقم .17379
((( النسائي ،أحمد بن شعيب .المجتبى من السنن ،تحقيق :عبد الفتاح أبو غدة ،حلب :مكتب
المطبوعات اإلسالمية ،ط1406 ،2 .ﻫ1986 ،م ،ج ،8ص ،250حديث رقم .5429
113
(((
مرات»
ثالث ّ على رأسه ووج ِهه وما َ
أقبل من جس ِده ،يفعل ذلك َ
***
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،4ص ،1916حديث رقم .4729
114
السورة الثالثة
سورة الفلق
(ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ
ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ
ﭾﭿ)
التراجعي ،وعدد
ّ السور
هذه هي السورة الثانية من القرآن الكريم بترتيب َ
كلماتها 23ولكنّنا سنتو ّقف فيها عند 38من المواقع اللغويّة الجديدة.
115
أو ً
ال :األلفاظ والمصطلحات
–1قل:
ومعنى جدي ٌد للفعل ،وغير
ً معهود في فنوننا األدبيّة،
ٍ قرآني ،وابتدا ٌء غير
(فعل ٌّ
لشرط مقدّر):
ٍ وجواب
ٌ ب غير محدّدين، َ
ومخاط ٌ متلو بالالم ،ومتك ّل ٌم
ٍّ
ينطبق على هذا اللفظ ما ذكرنا عن صنوه في مطلع سورة (الناس) .إنه جدي ٌد
العربي ،بوصفه:
ّ على
أدبي،
فن ّ ألي ٍّ
أ– ابتدا ًء غير معهود ّ
مجهول أو غير محدّد،
ٍ ب– صادراً من متك ّل ٍم
مجهول أو غير محدّد،
ٍ َ
مخاط ٍب موجه ًا إلى
ت– ّ
التقليدي :ب ّلغ ،أو :أخبِر،
ّ ث– يحمل معنى :ر ّدد ،أو :اقرأ ،بد ً
ال من المعنى
الجاهلي،
ّ متعد بالالم كما اعتدنا مع هذا الفعل في الشعر
غير ٍّ ﺟ– َ
ات في مجموعبكثافة غير عاديةٍ في القرآن ( 332مرة ،مقابل 7مر ٍ
ٍ ﺣ– يتر ّدد
ّ ّ
الجاهلي)،
ّ ما وصلنا من الشعر
وحذف مع الفاء الرابطة له.
لشرط مقدّرُ ،
ٍ ﺧ– جاء جواباً لسؤال ،أو ٍ
لطلب ،أو
–2أعوذ:
ينطبق على هذا الفعل ما انطبق على ِصنوه في سورة (الناس).
–3الف َلق:
قرآني آخر لم يعرفه العرب في الجاهليّة ،بهذا المعنى على ّ
األقل ،وأقدم لفظ ٌٌّ
بيت نعثر فيه عليه هو للشاعر أوس بن حجر (ت 2ق.ﻫ): ٍ
ـب ـول ف ــي ال َف َل ـ ِ وبـ ُ
العاش ـ ِ
ـق ِ وبالش ـ ِ
َ ـاأل ْد ِم تُحـ َـدى عليهــا ال ِرحــال
116
أن الشاعر كان م ّمن امت ّد بهم العمر إلى عصر النب ّوةّ ،
فإن معنى وعدا عن ّ
(المطمئن من األرض
ّ القرآني .إنه هنا
ّ بصلة إلى المعنى
يمت ٍاللفظ في البيت ال ّ
للمفسرين،
ّ بين الربوتين) –كما ورد في لسان العرب– أ ّما معناه في القرآن ،تبعاً
إنسان،
ٍ ضوء ،أو
انشق ،عن حياٍة جديدة :من ٍ فهو الصبح ،وكذلك ُّ
كل ما انفلق ،أي ّ
حيوان ،أو نبات ،وقد يدخل المعنى الجاهلي ،من هذا المفهوم ،تحت المعنى ٍ أو
القرآني الجديد ما دامت الربوتان قد "انفلقتا" عن األرض المنخفضة بينهما.
ّ
ويزيدنا ثق ًة باختصاص القرآن الكريم بهذا اللفظ عد ُم وروده في الحديث
ثم إنّه من خصوصيّات هذه السورة ،فال
قرآنيّ .
ّ سياق
ال في معرض ٍ الشريف ،إ ّ
يتكرر أبداً في غيرها من َ
السور. ّ
–4غاسق:
الجاهلي ،كما يؤ ّكد لنا ما بين أيدينا من
ّ قرآني آخر ل ّليل لم يعرفه التراث
لفظ ٌٌّ
مرةً أخرى.يتكرر في القرآن ّشعر تلك الحقبة ،وتنفرد به هذه السورة فال ّ
وبدهي أن نربطه باللفظ (غسق) الذي يعني ُظلمة أ ّول الليل ،وبالتعبير َ
(غس َق ٌّ
وانصب دمعها.
ّ الليل)؛ أي اشتدّت ُظلمته ،و(غسقت العين)؛ أي أظلمتُ
–5و َقب:
و ْق ُ
ب العين :هو النُقرة أو التجويف الذي تكون فيه ،نقول :و َق ْ
بت عيناه :إذا
خرجاً جديداً ،رغم أنّنا ال نعثر عليه
ولكن القرآن الكريم أخرج اللفظ ُم َ
ّ غارتا.
117
القرآني وال بغيره ،وال نجده كذلك في الحديث
ّ الجاهلي ،ال بالمعنى
ّ في الشعر
ال أن يكون في معرض الحديث عن هذه اآلية أو شرحها ،ولكنّنا نجد الشريف ،إ ّ
األقل في حديث الحوت الذي عثر عليه المسلمون ّ مر ًة علىاالسم منه ( َو ْقب) ّ
نغترف ِمن َو ْق ِ
ب عينِه بال ِقالل)(((. ُ (ولقد رأيتَنا
القرآني لو قرنتم
ّ ولكم أن تتخيّلوا الخصوصيّة العجيبة لهذا االستعمال
(المنصب بشدّة) إلى المعنى الجديدّ المعنى المقترح هنا ل ّلفظ (غاسق) ،وهو
ل ّلفظ ( َو َقب) ،وهو (اإلحاطة بالشيء على شكل استدارة تجويف العين) ،لتدركوا
القرآني.
ّ وعلمي ل ّليل يقدّمه لنا هذا التعبير
ٍّ ودقيق
ٍ هيب
جديد و َم ٍ
ٍ وصف
ٍ معي َّأي
شاعر من
ٍ فإن وجدناه قبل ذلك ففي صيغة المذ ّكر ،وعند
الرومي (ت 283ﻫ) حيث يقول: ّ الهجري هو ابن
ّ القرن الثالث
بلـــغ الن ّف ُ
ــــاث فب َل ْغ َ
ــــن مـــا ال يَ ُ بر ْقيَـ ٍـة ـح ْر َن ومــا نَ َف ْثـ َ
ـن ُ ُحـ ْـو ٌر َسـ َ
وقرآني في تخصيصهٌّ وقرآني في داللته على الساحر،
ٌّ قرآني في لفظه،
إنه إذنٌّ ،
الس َحرة (جمع ساحر) ،بل قيل إنّه ،أو السورة
بالسواحر (جمع ساحرة) فال يشمل َ
سح ْر َن ّ
النبي . اليهودي اللواتي حاولن أن َي َ
ّ ك ّلها ،نزلت في بنات لَبِيد بن َ
أعصم
118
ألفاظ ال تشاركها فيها
ٍ تختص هذه السورة القصيرة وحدها بسبعة ّ وهكذا
أيّةُ سورٍة أخرى في القرآن ،وهي( :الفلق ،غاسق ،و َقب ،حاسدَ ،حسد ،الن ّفاثات،
تختص بالقرآن وحده ولم تعرفها العربيّة ّ ال ُعقد) ،وأربع ٌة من هذه األلفاظ السبعة
وال لغة الحديث الشريف وهي (الفلق ،غاسق ،و َقب ،الن ّفاثات).
–2الف َلق:
لفظ واحد ،تحمل ّ
كل أبعاد الصورة البيانيّة ،وإضاف ٌة إنّها صور ٌة كامل ٌة في ٍ
والبالغي معاً من خالل الصورة الجديدة التي
ّ اللغوي
ّ قرآنيّةٌ حقيقيّةٌ لقاموسنا
حملها اللفظ.
رب الفلق:
ِّ –3
(رب الناس) و (ملك الناس) في السورة شأن هذا التركيب في السورة شأن ّ
الجاهلي سيعني بالبداهة عدم وجود
ّ السابقة ،فعدم وجود لفظ (الف َلق) في التراث
(الرب)،
ّ (رب الفلق) أيضاً ،فهي إذن إضاف ٌة جديد ٌة غير معهودٍة إلى لفظ
التركيب ّ
التعبيري للغتنا العربيّة.
ّ وتعبير آخر جدي ٌد يدخل المعجم
ٌ
119
ولن نجد هذا التعبير بعد ذلك ،ال في الحديث الشريف وال في الشعر
الرجاز رؤبة بن العجاج (ت 145ﻫ) حين قال:
العربي ،حتى مجيء الشاعر ّ
ّ
تأوين ال ُعق ْ
َق َ ســر ًا وقد ّأو َن
ّ رب ْ
الفلق س يدعو ُمخ ِلصاً َّ
َو ْس َو َ
شر ما خ َلق:
ِ –4من ِّ
ربّما ال نعي من النظرة األولى ،أو ربّما وال الثانية وال الثالثة ،البعد الجديد
شر
العادي لهذه اآلية .إنه تعالى يدعونا في اآلية األولى إلى أن نستعيذ من ٍّ
ّ وغير
َ
ينص في اآلية الثانية على أنّه هو الذي خلقه وأوجده. ّ
تخيّل أنّك تقول لصغيرك:
سأع ّلمك يا ولدي كيف تحمي نفسك من لسعة األفعى التي وضعتُها تحت
وسادتك!!
رب الفلق!!
شر ما خلق ُّ
برب الفلق من ّ
أعوذ ّ
وسيعيننا على فهم طبيعة اآلية ما يُروى عن رسول اهلل أنّه كان يدعوه
نجى َ
منك َ (((
منك» ،وكذلك بقوله » :ال ملجأ وال َم َ تعالى بقوله» :وأعو ُذ َ
بك
((( إّ
ال إليك».
وإذا كانت اللغة وعا ًء للفكرة حقاً ،وال يمكن الفصل بينهما ،شأن الروح
العربي
ّ فبدهي أن تقع لغة هذه اآلية أيضاً ،بَ ْل َه الفكر َة نفسها ،في رأس
ٌّ والجسد،
األول موقع الدهشة والحيرة واالستغراب.
((( ابن خزيمة ،محمد بن إسحاق ،صحيح ابن خزيمة ،تحقيق :محمد مصطفى األعظمي ،بيروت:
المكتب اإلسالمي1390 ،ﻫ1970 ،م ،ج ،1ص ،335حديث رقم.671 :
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،97حديث رقم.244 :
120
غاسق إذا و َقب:
ٍ –5
البياني .ففيه
ّ هذا التعبير هو إضاف ٌة أخرى قدّمها القرآن الكريم إلى قاموسنا
ينصب من السماء ليشمل األرض ّ كبير
وفان ٌلوح ٌة جديد ٌة تص ّور الليل وكأنّه ُط ٌ
حجر العين حول تجويفها. ويلتف حول ( َو ْقبِها) المستدير ،كما ّ
يلتف ِم ُ ّ
حاسد:
ٍ شر
غاسقِّ /
ٍ شر
ِّ –8 –7
اعتادت األذن العربية في المعطوفات ،من ُج َم ٍل أو أشبا ِه جمل ،أن تجري
النبوي:
ّ متقارب على ّ
األقل ،كما في الحديث ٍ متشابه ،أو
ٍ نحوي
ٍّ لغوي أو
نسق ٍّعلى ٍ
الجنابة) ثم راح مثل ُغسل َ
ال َالجناب ِة (أي ُغس ً» -من اغتسل يو َم الجمع ِة ُغ ْس َل َ
بناقة) ،ومن راح فيضحى ٍ (أي إلى صالة الجمعة) فكأنّما ّقر َب بَ َدن ًة (أي ّ
قرب بقرةً ،ومن راح في الساعة الثانية (أي من وقت االغتسال) فكأنّما ّ
قرب َك ْبشاً أقرن ،ومن راح في الساعة الرابعة فكأنّما الساعة الثالثة فكأنّما ّ
قرب َدجاجة ،ومن راح في الساعة الخامسة فكأنّما ّ
قرب بيضة»..
(((
ّ
نسق واحد ،فالجمل األربع الحظ كيف تعاطفت الجمل في الحديث على ٍ ِ
األخيرة ك ّلها بدأت بالشرط وفعله (ومن راح) وانتهت بأداة التشبيه (فكأنّما) يليها
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،301حديث رقم.841 :
121
ٌ
مفعول نكر ٌة (بقر ًة – كبشاً – دجاج ًة – مستتر تقديره (هو) ثم
ٌ ماض فاعله
فعل ٍ ٌ
ال تتو ّقع آذاننا ونحن نقرأها أن تخرج إحدى هذه الجمل فجأ ًة عنوبدهي أ ّ
ٌّ بيض ًة).
يقرب كبشاً،
قرب الكبش ،أو :فكأنّما ّ نسق الجمل األخرى ،فتصبح مث ً
ال :فكأنّما ّ
يقرب ،وهكذا.. أوّ :
فكأن الرجل ّ
هذا التن ّوع يدخل في باب االلتفات ،وهو ،رغم حدّة خروجه على المألوف،
سلبي يُمكن أن يقع في
ٍّ ومتناغم يخ ّفف من أي ٍ
تأثير ٍ متوازن
ٍ إيقاعي
ٍّ نظام
يأتي في ٍ
حاالت لغو ّي ٍة برش ّي ٍة مماثلة.
ٍ
الحظ معي مث ً
ال توازن اآليتين (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ /ﭺ ﭻ ﭼ
شر – إذا) وتناظ ِر
خمسة (ومن – ّ
ٍ ﭽ ﭾ ) مع تشابُه ثالثة ٍ
ألفاظ فيهما من أصل
مواقع ٍّ
كل من هذه األلفاظ في اآليتين.
122
جملة متع ّل ٍق ٍ
بفعل ٍ شك أن ابتداء وحدٍة لغو ّي ٍة مستق ّل ٍة –أي اآلية– ِ
بشبه وال ّ
التقليدي ،ليس في الفترة
ّ العربي
ّ معهود في النثرٍ أمر غير
سبق هذه الوحدة؛ ٌ
الخاص الذي يُحدثه اجتماع
ّ ال عن التأثير الجاهلية فحسب ،بل حتى اليوم ،فض ً
متتالية في سورٍة قصيرٍة كهذه.
ٍ حاالت
ٍ أربع
123
احتفظت ،مع ذلك ،بظرفيّتها الزمانيّة ألنها تعني (حين) في الوقت نفسه:
ْ
(حين تراهم.)..
عمل أو َح َد ٍث
فعل أو ٍأن الظرف وحرف الجر ال ب ّد لهما من ٍوألننا تع ّلمنا ّ
ال في الفعل يتع ّلقان به ،أي يقع أو يحدث فيهما ،ونحن ال نجد هذا الحدث هنا إ ّ
مجموع ما تع ّلق
ُ (أعوذ) أي :أعوذ منه حين يقب ،وأعوذ منه حين يحسد ،فيكون
بهذا الفعل إذن سبع َة أشبا ِه ٍ
جمل:
(برب)،
ِّ أ-
ب – ت – ث – ﺟ – ( ِمن ِّ
شر) – في اآليات األربع –،
ﺣ – ﺧ (إذا) – في اآليتين –.
المبسط:
ّ الرياضي
ّ ويمكن أن نختصر الحالة بكاملها في هذا الشكل
أعوذ به منه ومنه ومنه ومنه حين وحين..
وهذا أيضاً من أندر الحاالت اإلعرابيّة في لغتنا.
124
ال أخوض مع القارئ في مجاهل النحو وعدت في مقدّمة هذا البحث بأ ّ
ُ لقد
والصرف واللغة والبالغة ،ويجب أن أعترف بأنني أخوض به اآلن واحد ًة من
بر األمان
أعقدها ،ولكنني أعدكم بأن أحاول أن نخرج منها بسالم ،ونرسو على ّ ِ
بعد أن نكون قد استوعبنا حقاً ما نبحث عنه من ِجدّ ٍة في اآليتين.
نـــــدب
ُ الج
ـــــد َح ُ
وســـــــيـر إذا َص َ
ٌ دائــــــــــــم
ٌ ـــــــــج
ٌ فبلـغَـــــ ُه َدلَ
َّ
المسيّب بن مالك (ت 48ق.ﻫ)
ففي البيت األول نستطيع أن نقول (كاألقحوان المعاً) أو (المعاً نَو ُره أو ُ
زهره)
إن محل (إذا) الزمانيّة ٌ
حال مفردة (المعاً) –نذ ُكر هنا القاعدة النحويّة التي تقول ّ فيحل ّ
ّ
الجمل بعد النكرات صفات وبعد المعارف أحوال– وقد جاءت جملة (إذا ما نَوره لمعا)
بعد نكرة.
معرفة (األقحوان) فال شأن لها إذن باآليتين ،ألنها جاءت فيهما َ
ٍ اسم
بعد ٍ
البيت الثاني أيضاً ،ففي (إذا) معنى الشرط؛ أي :إذا َحكم
وال يدخل في ذلك ُ
الج َهلة اختفى السادة واألشراف .وليس في اآليتين معنى الشرط.
َ
ير) ولكنّنا ال أ ّما في البيت الثالث فقد جاءت (إذا) زماني ًة وسبَقها نكر ٌة َ
(س ٌ
صادح (وال نستطيع أنٌ حل مح ّلها صف ًة لهذه النكرة ،فلو قلناٌ :
سير نستطيع أن نُ ّ
الجندب ليس جزءاً من السير) فإنّنا نخطئ إذ ننسب هذه صادح ُجندبُهّ ،
ألن ُ ٌ نقول:
صادح.
ٌ جندب
ٌ الصفة إلى السير ،وهي في البيت للجندب ،أي:
125
أ ّما آيتا سورة (العلق) ( :ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ) فهما أكثر
انسجام ًا مع شروط آيتَ ْي الفلق:
ولكن فرقاً دقيقاً جداً بينها وبين آيتَ ْي (الفلق) يجعلنا نستبعد هذه الحالة عن
ّ
شروطنا ،فما هو يا ترى؟
إن (إذا) في هذه اآلية زمن ّي ٌة وليست شرطيّة ،ومع هذا ألم تش ّموا معي فيها
ّ
رائحة الشرط؟
(حاسد)
ٍ (غاسق) وفي الثانية عند
ٍ نحن نستطيع أن نتو ّقف في اآلية األولى عند
مهم في المعنى ،ولكن هل نستطيع أن نتو ّقف عند (عبداً) في آية إخالل ٍّ
ٍ من غير
سورة (العلق) من غير أن ّ
نخل بالمعنى؟
ّ
إن النهي للعبد هنا هو عند الصالة ،وليس في مطلق األوقات ،ولذلك امتنع
بسهولة في آيتي الفلق.
ٍ فيها االستغناء عن الفعل بعد (إذا) كما فعلنا
أ ّما اآلية ( )46من سورة (النجم) ،فهي وحدها التي وجدناها تدخل في حالة
هاتين اآليتين ( :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ).
126
ثالثاً :السبائك القرآنيّة
ما زلنا نتذ ّكر طبعاً ما قصدناه بهذا المصطلح الجديد ،ونتذ ّكر بعض النماذج
الخاصة التي تسود
ّ عصر قوالبَه اللغويّةَ
ٍ أن ّ
لكل التي قدّمناها لتوضيحه ،وكيف ّ
خاص ًة ،فتتر ّدد هي نفسها عند الكتّاب والشعراء.
والشعري منها ّ
ّ فنونَه األدبية عا ّم ًة،
دراسات لهذا الموضوع ،ألمكننا إعاد ُة معظم ما ورد في الشعرٌ ولو تو ّفرت
تمكن منها الشعراء ،أو ّ
تمكنت لغويةّ ،
ٍ عبارات إلى فصائل أو أُ َس ٍر ،أو سبائك
ٍ من
منهم ،ولم يعودوا قادرين على التخ ّلص منها أو إيجاد غيرها.
فإن ُو ِجد من استطاع منهم ذلك؛ فهم أولئك األعالم الكبار في تاريخ الشعر
يمر من
يرض أن ّ أصر في سباق العبقريّات أن يقفز فوق الحبال ،ولم َ العربي ،م ّمن ّ
ولكن هؤالء العباقرة لم يكن لديهم ما يقدّمونه
ّ تحتها ،وعلى رأسهم المتنبّي طبعاً.
تغطــي أكثر جديــد إ ّ
ال سبيك ًة هنا وسبيك ًة هناك ،إذ لم تكن سبائكهـم الجديــدة ّ ٍ من
ومرة واحدة،
مـــن %10 – 5من لغتهم الشعريّة ،على حين جاء القرآن الكريمّ ،
بلغة ليس فيها من السبائك المعروفة قبله إال مثل هذه النسبة المئويّة البسيطة أو ٍ
أقل ،هذا إن ُوجد بين سبائكه على اإلطالق مثل تلك السبائك. ّ
127
مسوغاً علم ّي ًا ،أو يضعوا ٍ
كانوا في َحيرٍة غير عاد ّية وهم يحاولون أن يوجدوا ِّ
ال نقد ّي ًا للصدمة التي ّ
أحسوها وهم يستمعون إلى اللغة الجديدة. تحلي ً
برب الفلق:
–1قل أعوذ ّ
هذه نسخ ٌة أخرى من السبيكة التي افتُتحت بها السورة السابقة ( ﮀ ﮁ
ﮂ ﮃ ) وال داعي لتفصيل تركيبتها النحويّة من جديد.
(غاسق/
ٍ شر) َم ْت ُل َّوين ٍ
باسم نكرٍة ومجرور (من ّ
ٍ بجار
لغوي فري ٌد يبدأ ٍّ
ٌّ إنّها بنا ٌء
مر ٍة
كل ّ ٌ
مسبوق في ّ ماض للغائب المفرد (و َقبَ /حسد) فعل ٍ حاسد) ويتلو هذا ٌ ٍ
عامل إذا َ
عمل) عمل ٍبظرف الزمان (إذا) ،وميزانهاِ ( :من ِ
128
تتكرر هذه الصيغة في أيّة سورٍة أخرى .وأقرب السبائك القرآنيّة إليها، ولم ّ
وإن لم تُماثلها تمام ًا ،قولُه تعالى:
َ
المخاطب ومن هو. ب -وحقيقة
129
–2ال َف َلق:
إن اتساع مفهوم الفعل ( َف َلق) في قاموس العربيّة يمنح هذا االسم الذي اشتُ ّقّ
األساسي
ّ منه شحن ًة إحيائ ّي ًة شديدة اإلشعاع ،فهي تتجاوز المعاني المحدّدة لجذره
كل من تلك المعاني لتبني أشكا ً
ال بشيء من ٍّ
ٍ في معاجمنا الرسميّة ،ألنّها تأخذ
جديد ًة من التص ّورات واإليحاءات.
فإلى جانب المعنى الواسع والممت ّد ل ّلفظ؛ إذ ّ
يغطي ،كما رأيناّ ،
كل ما انفلقت
الحتماالت
ٍ معر ٌض نباتّ ،
فإن معناه ّ حيوان أو ٍ ٍ إنسان أو
ٍ ضوء أو
عنه الحياة من ٍ
ب في جهنّم ،تبعاً لبعض األحاديث ،ومن هنا المفسرين مث ً
ال إنّه ُج ٌّ ّ أخرى ،كقول
تأتي قيمة اللفظ وتل ّونه وغناه.
شر ما خلق:
ّ –3
(شر) التي تحمل معنى الشر وأنواعه ،من ناحية ،وصيغة ّ
إن في تعدّد صور ّ ّ
رش ًا) ،وكذلك في االسميّة العاديّة (سوء) إلى جانب معنى اسم التفضيل (أكثر ّ
(خ َلق) وسعتِه وتعدّ ِده ،من ٍ
ناحية أخرى ،إلى جانب الطبيع ِة اإلبهاميّة عموميّة الفعل َ
موصول
ٍ لمعنى األداة (ما) قبله ،سوا ٌء أكانت نكر ًة تا ّمةً بمعنى (شيء) أم كانت اسم
تصور ّي ًة عالي ًة ال
ّ إن في ذلك ك ّله ما يكفي ْ
ألن يَمنح هذا التركيب شحن ًة معرف ًة؛ ّ
أحداث وال ٌ
زمان وال مكان. ٌ شخوص وال
ٌ يحدّها
130
إذا وقب»((( .وقيل أيضاً هو الليل إذا غاب الشفق ،أو الشمس إذا غابت وغسقت،
أي سبحت في الفلك ،أو الثريّا إذا سقطت في أدنى األفق ،فيستعاذ منها لِما ُعرف
واعين واألسقام عند سقوطها. من كثرة َ
الط ِ
ظالل
ٍ كل من اللفظين (غاسق) و(وقب) منفر َدين من وإضاف ًة إلى ما يحمله ٌّ
واحد يولّد أطيافاً فكر ّي ًة أوسع
تركيب ٍ
ٍ معنويّةٍ متعدّدة ،كما رأيناّ ،
فإن اجتماعهما في
أجواء جديدٍة غير تقليديّة.
ٍ وأعمق تنداح معها صور الفكر والخيال في
خامساً :جوامع َ
الك ِلم
برب الفلق:
–1قل أعوذ ّ
على غرار ما جرى لآلية األولى في سورة (الناس) ،تح ّولت هذه اآلية من
سريعة ير ّددها المسلم عند شعوره بالخوف أو القلق،
ٍ سورة (الفلق) إلى تعويذٍة
كما أضحت اسماً آخر يُطلق على هذه السورة.
((( النيسابوري ،محمد بن عبد اهلل .المستدرك على الصحيحين ،تحقيق :مصطفى عبد القادر عطا،
بيروت :دار الكتب العلمية ،ط1411 ،1 .ﻫ1990 ،م ،ج ،2ص ،589حديث رقم.3989 :
العلمي اليوم لم يتنبّهوا في كتاباتهم ،فيما أعلم ،إلى هذه
ّ ((( الغريب أن المشتغلين الكثُر في اإلعجاز
الصورة العلميّة المهمة والواضحة الداللة على كرويّة األرض ،وإن وعدنا أنفسنا في هذا البحث
ال ندخل فيما ليس من اختصاصنا. بأ ّ
131
–2الن ّفاثات في العقد:
مصطلح
ٍ عبارات قرآن ّي ٍة أخرى كثيرة ،تح ّولت هذه العبارة إلى
ٍ شأنها شأن
ّ
وبغض النظر جديد يجري على ألسنتنا للداللة على السحرة ،إناثاً كانوا أو ذكوراً،
عن الطرائق التي يتّبعونها في سحرهم ،نفثاً في ال ُعقد أو غيره.
–3السورة بكاملها:
يومية للمسلمين ير ّددونها في شتّىوكما تح ّولت سورة (الناس) إلى تعويذٍة ٍ
أمور حياتهم ،تح ّولت سورة (الفلق) أيضاً لتكون لهم التعويذة اليوميّة المرافقة لها.
والتعامل معهما
ِ ُ
األحاديث الشريفة على الجمع بين هاتين السورتين وقد دأبت
مر معنا في سورة (الناس) ،وكما في الحديث:
صعيد واحد ،كما ّ
ٍ على
وعين
ِ ّ
الجان يتعو ُذ من ُ
رسول اهلل ّ الخد ْر ّي tقال :كان -عن أبي سعيد ُ
(((
لت (الم َع ِّوذتان) ،فل ّما نزلتا أخذ بهما وترك ما سواهما
اإلنسان ،حتّى ن َز ِ
((( الترمذي ،محمد بن عيسى .الجامع الصحيح (سنن الترمذي) ،تحقيق :أحمد شاكر ،بيروت :دار
إحياء التراث( ،د .ط)( ،د .ت) ،ج ،4ص ،395حديث رقم .2058
((( فخر الدين الرازي ،التفسير الكبير ،مرجع سابق ،ج ،32ص.182
132
***
إنها 38نقط ًة إعجازي ًة جديد ًة استطعنا أن نضع أيدينا عليها في هذه السورة
القصيرة التي ال يتجاوز عدد ألفاظها ،23ومن يدريّ ،
فلعل المستقبل يأتي لنا بمن
القرآني وأسراره.
ّ يكتشف فيها المزيد من جوانب اإلعجاز
133
السورة الرابعة
سورة اإلخالص
(ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ
ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ)
ّ
وتشكل مع السورتين التراجعي للسور،
ّ هذه هي السورة الثالثة في الترتيب
ّ
تحتل في عباداتنا اليومية أكثر من مكان ،وتتر ّدد في أكثر السابقتين ثالث ّي ًة دين ّي ًة
من مناسبة.
135
أو ً
ال :األلفاظ والمصطلحات
–1قل:
كل من سورتَي الناسلن نعيد تفصيل ما ذكرناه عن الفعل (قل) في مطلع ٍّ
القرآني للفعل اختلف ع ّما اعتاده
ّ والفلق ،وحسبنا هنا التذكير ّ
بأن االستعمال
العرب بعدّة جوانبّ ،
وأن القرآن قد استحدث هذا النوع من الخطاب الذي تبدأ
فيه الوحدة األدبيّة –أي السورة بكاملها ،كما هو األمر في الحاالت الثالث–
والموجه إلى غير مـحدَّ د ،واستُخدم كذلك
ّ غيرمحدٍد
َّ بصيغة األمر الصادر عن
شرط
بمعنى جديد هو :اقرأ ،أو :ر ّدد ،وليس بمعنى :أخبِر ،وموقعه يوحي بوجود ٍ
ً
محذوف مع الفاء الرابطة لجوابه ،والتقدير ،إن سألوك عن اهلل فقل ..
ٍ
ولكن الفعل هنا ،خالفاً لوضعه في السورتين السابقتين ،يمكن توجيهه أيضاً
ّ
يوجه نبيّه إلى أن يقول ذلك للمشركين، مجرد اإلخبار ،فكأنّه تعالى ّ
إلى ّ
(ر ِّدد) ،ومع ذلك لم تلحق به الالم
فيكون معنى الفعل على هذا( :أخبِ ْرهم) وليسَ :
التي اعتاد العرب إلحاقها به في هذه الحال ،وإ ّ
ال لكانت العبارة( :قل لهم).
أحد:
َ –2
مرةً في المطلع ،وهو موضع اهتمامنا هنا،
مرتين في السورةّ ،
ي ِرد هذا اللفظ ّ
وأخرى في الختام ،وال يدخل في دائرة هذا البحث.
(أحد) في تراثنا اللغوي يعني :بَ َشر ،أو :شخص ،أو :إنسان ،أو :كائن،فاللفظ َ
ُح َّل أ ّي ًا من هذه المعاني ّ
محل اللفظ (أحد) في األبيات الجاهليّة اآلتية، وحاول أن ت ِ
أن معنى اللفظ فيها ال يعدو أن يكون واحداً من المعاني المذكورة:
وستجد ّ
ضر
حتى التقينا وكانت دوننا ُم ُ أحد
الناس ال يأتي على ٍ
يأتي على ِ
أعشى باهلة (ت؟)
136
أح ُد
المال َ
ومنهم في َ
ْ ما دام منّا أصالحهم
ُ حلفت يميـــناً ال
ُ وقد
الحارث بن عبّاد (ت 74ق.ﻫ)
جهـــل الجاهليــنا
ِ َ
فـــوق فنج َه َل أال ال يج َه َل ْ
ــن أحــــ ٌد علينـــــــــا
عمرو بن كلثوم (ت 39ق.ﻫ)
أح ِد
بالربع ِمن َ
ِ َعيّ ْت جوابــاً ومــا وقفت فيهــــا أُ َصيالناً أُســـائ ُلها
ُ
النابغة الذبياني (ت 18ق.ﻫ)
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،4ص ،1903حديث رقم.4690 :
137
مر ًة ّ
فإن هذه السورة تنفرد وحدها ورغم ورود الكلمة في القرآن الكريم ّ 74
السور.
الخاص دون بقيّة َ
ّ بهذا المعنى
–3الصمد:
هذا اللفظ من خصوصيّات السورة أيضاً ،إذ يقتصر وجوده في القرآن على
الجاهلي ،وذلك في
ّ مر ًة واحدة على ّ
األقل في الشعر هذه اآلية .ونعثر على اللفظ ّ
قول َط َرفة بن العبد (ت 60ق.ﻫ):
الح ْل ِم َ
الص َم ْد وهم أنصا ُر ذي ِ
ُ هم
مجلس ْ
ِ َ
الجهل في يَ َز َ
عون
اسم من أسماء اهلل ولكن اللفظ يأخذ في اإلسالم بُعداً جديداً ،فهو اآلن ٌ ّ
والمعتمد،
َ الجاهلي .إنّه هناَ :
السنَد، ّ تعالى يحمل من المعاني ما لم يحمله اللفظ
كل أحد، كل أحد ،والمحتاج إليه ّ قصد في الحاجات ،والمستغني عن ّ والذي يُ َ
والسيّد الذي ك ُمل سؤ ُدده ،والدائم الباقي ،بل هو في بعض التفسيرات :الذي ال
يأكل وال يشرب ،أو ال ُم ْص َمت الذي ال جوف له .وفي اجتماع هذه المعاني ل ّلفظ
القرآني الجديد الذي يَ ِرد فيه ،يتّخذ اللفظ شخص ّي ًة ّ
متفرد ًة ّ الواحد ،ضمن السياق
الجاهلي.
ّ جديد ًة ال عالقة لها باللفظ
قرآني،
ّ سياق ويخلو الحديث الشريف أيضاً من هذا اللفظ ،إ ّ
ال أن يكون في ٍ
القدسي السالف ال ّذكر.
ّ كما في الحديث
–4لم يكن:
هذا االستعمال للفعل الناقص (يكن) هو من الخصوصيّات العجيبة للقرآن
قديم أو
شعريٌ ،ّ نثري أو
نص ٌّ
الكريم؛ إذ لم يشاركه في هذا االستعمال حتى اآلن ٌّ
نبوي.
بشري أو ّ
ٌّ حديث،
لقد تحدّثنا في الجزء األول عن األداة الناقصة (كان) واستعمال القرآن الكريم
جديد لم يعرفه العرب من قبل ،وال ِمن بَعد ،وهو معنى االستمراريّة
ٍ معنى
لها في ً
والتأكيد المطلق؛ أي ما يفيد معنى ّ
(إن) التوكيديّة.
138
المرات القالئل التي خرج فيها القرآن
واستعمال (كان) في هذه اآلية هو من ّ
مرات) وحافظ مع ذلك بهذه األداة عن صيغة الماضي إلى صيغة المضارع (ّ 8
القرآني الجديد :تأكيد النفي المطلق الذي ّ
يغطي األزمنة الثالثة :إنّه لم ّ على معناها
يكن ،وال يكون ،ولن يكون.
بخيــاري
وذلك شي ٌء لـــم يكــن ِ رميت به سهماً ّ
فعجل حت َفـ ُه ُ
الحارث بن عبّاد (ت 74ق.ﻫ)
ُ
فعطف ال ُم ْد َم ِج يكن لَ ٌ
بن إن لم ْ خير ِعمــــــارٍة
يف َللض ِ
ألفيتَنا َ
الحارث بن ِح ِّل َزة (ت 54ق.ﻫ)
139
السور
والغريب أن استخدام القرآن للفعل بهذا المعنى الجديد يتوزّع على َ
خاص ،وقد سبق أن أوضحنا في الجزء األول أنّه استُخدم في القرآن ّ لنظام
ٍ تبعاً
مر ًة في سورة (النساء) وحدها ،رغم ّ
أن مرة ،منها ّ 53
الكريم بهذا المعنى ّ 190
سور النصف األ ّول من القرآن ،على حين تتوزّع وجوده ينعدم تماماً فيما تب ّقى من َ
سور النصف الثاني منه.
بقيّة االستعماالت على َ
سور الكتاب الكريم يؤ ّكد حقيقة أن هذا التوزيع ّ
المنظم للفعل على َ شك ّ وال ّ
أي منها باألخرى أيضاً،
لكل سورة ،بل على عدم اختالط آيات ٍّ الشخصيّة المتميّزة ّ
السور واآليات
أن ترتيب َ إن هذا النظام من شأنه أن يؤ ّكد رأي من ذهبوا إلى ّ ثم ّ
ّ
إلهي وليس عن في القرآن الكريم كما هو اآلن إنّما كان توقيف ّي ًا صادراً عن ٍ
وحي ٍّ
مواضعات برش ّي ٍة.
ٍ
القرآني الجديد ال عالقة له بالفعل (كان)
ّ وال ب ّد من التنبيه هنا إلى ّ
أن المعنى
التا ّم – عكس الناقص– فهذا من األفعال المعروفة في القرآن الكريم وغيره ،كقوله
واضح بين معنى الحصول أوٌ فيحصل ،والفرق
ُ تعالى( :ﯠ ﯡ) أيَ :
احصل
الحدوث وبين معنى إطالق النفي أو إطالق اإلثبات ليشمل األزمان الثالثة.
ُ –5ك ُفواً:
شائع جداً اليوم ،في موسوعة
ال نجد هذا اللفظ ،وهو ٌ من الالفت للنظر أ ّ
اختصت بهذا اللفظ في
ّ الجاهلي ،إضاف ًة إلى ّ
أن هذه السور َة القصيرة قد ّ الشعر
القرآن فال وجود له في أيّة سورٍة أخرى.
ص بهذا اللفظ دون الحديث الشريف ،إ ّ
ال أن يَ ِرد ثم ّ
إن القرآن الكريم قد اختُ ّ ّ
القدسي السابق.
ّ قرآني كما وقع في الحديث
ٍّ سياق
في ٍ
140
أن مقياسنا في محاولة الفصل بين النوعين ،ما أمكننا وال ب ّد من التأكيد على ّ
النحوية
ّ َ
أعراف العرب ُ
القرآن دخل تحت الصيغ اللغويّة ما خالف فيه ذلك ،هو أن نُ ِ
أي
واحد ،بحيث ال يكون لهذا التغيير ّ ٍ عنصر
ٍ واللغويّة والبيانيّة فيما ال يزيد عن
دخل تحت السبائك اإلعرابي العام للجملة أو العبارة ،وأن نُ ِ
ّ دور في تغيير الوضع
ٍ
التقليدي العا ّم لترتيب أجزاء الجملة
ّ خالفت به الجمل ُة أو العبارة القرآنيّة البنا َء
ْ ما
أو العبار ِة العربيّة بحيث تؤثّر هذه المخالفة في إعراب تلك األجزاء ،ويشمل هذا
عاد ًة عنصرين لغويّين أو أكثر.
بالحيرة :فهل
خاص يوقعنا ،كما أوقع المختلفين قبلناَ ،
ٌّ قرآني
ٌّ ٌ
استعمال إنه
خبر لمبتدأ محذوف ،والتقدير :أتسألونني عن اهلل ونسبته وطبيعته؟
إعراب (هو)ٌ :
شأن مبتدأ وخبره لفظ الجاللة (اهلل)؟ أو ّ
لعل إذن فالجواب :اهلل هو..؟ أو إنّه ضمير ٍ
(أحد)؟ أو ربّما غير ذلك؟
الخبر هو اللفظ َ
ُ لفظ الجاللة ٌ
بدل منه ،فيكون
141
ولكن لن يتو ّقع ّ
أي منّا أن نقول:
هو اهلل أحد.
إن وجود (هو) في هذا الموقع ،بين فعل القول واالسم الظاهر (اهلل) ،يشير إلى ّ
اللغوي غير القرآن الكريم.
ّ مكان آخر من تراثنا
أي ٍ خصوص ّي ٍة لغو ّي ٍة ال نجدها في ّ
–2اهللُ َ
الصمد:
ببدل( :ﭓ ﭔ ..ﭞ ﭟ ﭠ .. أتذكرون آيات سورة (الفاتحة) المبدوءة ٍ
ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ) ..وآيتَي سورة (الناس)( :ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ )؟
فهذه اآلن آي ٌة أخرى تبدأ بلفظ الجاللة (اهلل) ،وقد جاء بد ً
ال من لفظ الجاللة في اآلية
التي سبقتها ،وهي ظاهر ٌة لغو ّي ٌة لم تكن معروف ًة في العربيّة قبل القرآن ،ولم تُعرف
بعده حتّى اآلن ،ولم يعرفها الحديث الشريف.
(مكرر): –3اهللُ َ
الصمد ّ
معرفٍ بـ «ال» –ولفظ الجاللة هو في حكم اعتدنا ،إذا بدأت الجملة بمبتدأ ّ
معرفاً بـ «ال» ،أن نفصل هذا المبتدأ عن خبره
المعرف بـ «ال»– وكان الخبر كذلك ّ ّ
ال ،فنقول: بفاصل غالباً ما يكون ضميراً منفص ً
ٍ
ُ
الملك هو الحاكم ،وال نقول:
ُ
الملك الحاكم .ونقول:
األتقيا ُء هم الناجون ،وال نقول:
األتقيا ُء الناجون.
لغوي
رف ٌّإنّها ليست قاعد ًة نحويّة ،فليس هناك قاعد ٌة تُلزمنا بذلك ،ولكنّه ُع ٌ
عديد من آياته.
سرى على تراثنا وخرج عنه القرآن الكريم في ٍ
فإن حدث أن وقع مثل هذا في كالمنا فإنّما يكون في معرض الر ّد على
سؤال ،كما فعل الرسول حين ر ّد على من سأله عن حكم الخلوة أو ظهور
142
"الح ُمو الموت"((( أي هو الموت .وانظروا معي
الزوجة أمام إخوة الزوج فقالَ :
في هذه اآلية:
[البقرة]177 : ( -ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ )
اللغوي ،فلم تكن هناك حاج ٌة
ّ إنّها آي ٌة كريم ٌة أيضا ،ولكنها انطلقت من ال ُعرف
ملح ٌة للضمير المنفصل في نصفها األ ّول ،فقال( :ﮁ ﮂ ) ّ
ألن المبتدأ لم ّ
ولكن الحاجة كانت
ّ أن الخبر جاء اسماً موصو ً
ال (الذين)، معرف ًا بال ،كما ّ يكن ّ
ألن الخبر جاء اسماً
أكثر إلحاحاً لمثل هذا الضمير في النصف الثاني من اآليةّ ،
معرفاً بال (المتّقون) وإن لم يكن المبتدأ كذلك ،فقال( :ﮅ ﮆ ﮇ ). ّ
أحد .اهللُ َ
الصمد: –4اهللُ َ
ٌ
جمل متوازي ٌة ومتناظر ٌة كهذه، ومن األعراف اللغويّة أيضاً ،حين تتوالى
عطف أو إبدال ،أن ينطبق التناظر على أركان الجملتين المتوازيتين ،فتكون يربطها ٌ
األركان في كلتا الجملتين َمعرف ًة أو نكرة ،أو مفرداً أو جمعاً ،أو اسماً أو فع ً
ال، ُ هذه
كما في األحاديث:
(((
عدو ّملكته أمري.. تك ُلني؟ إلى ٍ
بعيد يتج ّهمني ،أم إلى ٍّ .. -إلى َمن ِ
(((
.. -فمن كان أخوه تحت يده فليُط ِع ْم ُه م ّما يأكل و ْليُ ْلبِ ْسه م ّما يلبَس
سوق وقتالُه ٌ
كفر باب المسلم ُف ٌ
ِ -س ُ
(((
ِ
أرأيتم كيف عطف النكرة على النكرة في الحديث األول (بعيد ،عد ّو)
اسمي موصول– إلى جانب الفعلينوالنكرتين (ما) –أو المعرفتين لو عددناهما َ
كفر)؟ ٌ
(فسوقٌ ، (فليطعمه ،فليلبسه) في الثاني ،والنكرتين في الثالث
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،5ص ،2005حديث رقم.4934 :
((( المعافري ،عبد الملك بن هشام .السيرة النبوية ،تحقيق :طه عبد الرؤوف سعد ،بيروت :دار الجيل،
1411ﻫ ،ج ،2ص.268
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،20حديث رقم.30 :
((( المرجع السابق ،ج ،1ص ،52حديث رقم.48 :
143
وواضح أن الخروج عن العرف في اآليتين يتمثّل في مجيء الخبر نكر ًة في األولى ٌ
ّي في القرآن. (أحد) ومعرف ًة في الثانية (الصمد) ،وهذا نو ٌع من أنواع االلتفات الفن ّ
َ
–5لم ي ِلد:
فالن َولَ َد غالماً ،وإنما نقول: ال أظنّكم سمعتم أحداً ،أو قرأتم ٍ
ألحد يقولٌ :
فالن أنجب غالماً ،أو ُرزق غالماً ،وفالن ٌة َولَ َدت ،أو أنجبت غالماً ،واالستعمال
ٌ
اللغوي حين يصف اهللَ تعالى بأنّه :لم يلد .وهو كذلك ٌ
لفظ ّ القرآني يخرق العرف
ّ
اختصت بصياغته هذه السورة ،فال يرد في غيرها أبداً ،وإن ورد في صيغة الماضي ّ
مرتين في قوله تعالى:
ّ
( -ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ) [الصا ّفات]172 :
مكون ًا من لفظين
ويستخدم القرآن الكريم عادةً ،ألداء هذا المعنى ،تعبيراً ّ
اثنين( :اتخذ ولداً) كما في اآليات:
[البقرة]116 : ( -ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨﮩ )
والغريب أن اللفظ الذي نستخدمه اليوم للتعبير عن هذا المعنى ،وهو (أنجب)
ال يرد في القرآن مطلقاً ،واألغرب من هذا أ ّ
ال يرد في الحديث أيضاً ،ال للمرأة وال
للرجل ،وإنّما هو في الحديث ( َولَدت) للمرأة ،كقوله :
(((
.. -وإذا َولَ ِ
دت المرأ ُة َّربتَها
فعل آخر
أي ٍالفعل في الحديث مطلقاً ،وال ُّ
ُ أ ّما الرجل فال يُسنَد إليه هذا
بمعناه ،وإنما يكون( :ولَ َدت منه أو له) كقوله :
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،4ص ،1793حديث رقم.4499 :
144
(((
-أيُّما وليدٍة ولَ َد ْت ِمن سيّدها ..
(((
.. -و َولَ َد ْت له أوالداً ..
(((
.. -و َولَ َد ْت منه أوالداً ..
وهذا ينطبق على القرآن الكريم أيضاً حين يتع ّلق األمر بالبشر ،واقرأوا معي
هذه اآليات:
) [النساء]11 : ( -ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ
[النساء]176 : ( -ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ )
[إبراهيم]39 : ( -ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ )
) [األنعام]84 : ( -ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ
) [ص]30 : ( -ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ
ّ
يستقل وحده بمعنى الوالدة أو اإلنجاب؟ فعل
أي ٍأالحظتم كيف َخ َلت اآليات من ّ
الجاهلي أيضاً ،ولم أجده إال في ٍ
بيت البن ّ ويندر ورود الفعل (يلد) في الشعر
الفزاري (ت 2ق.ﻫ):
ّ عنقاء
أقا َم زماناً وهو في ِ
الناس واح ُد فإن تميماً قبل أن ي ِل َد الحصى
ّ
أي يلد أمثال الحصى عدداً.
أ ّما الفعل (يُنجب) فقد استخدمه الشعراء عاد ًة للتعبير عن النجباء أو عن
عادي كما جرينا على استخدامه نحن اليوم.
ّ إنجاب
ٍ ألي
إنجاب النجباء ،وليس ّ
واقرأوا معي هذه األبيات:
نجيب
ِ غير َ
نبهان ُ ُ
وفحل بني رأينا قرون ًا ِمن جديل َة أنجبـوا
أبوك ف ُ
َحيل الوالدات وال َ
ِ في أنجبت
ْ قل لألخيطل ال عجوز َ
ُك
جرير (ت 110ﻫ)
((( البيهقي ،سنن البيهقي الكبرى ،مرجع سابق ،ج ،10ص ،342حديث رقم.21552 :
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،6ص ،2597حديث رقم.6676 :
((( القزويني ،سنن ابن ماجه ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،634حديث رقم.1974 :
145
ٍ
ب نجيب س ّيد ليس يُ ِ
نج ُ وكم ِمن ٍ أنجبَ ْت آبــــاؤه إذ أتت بــه
لقــــد َ
التهامي (ت 416ﻫ)
ــــب
نج ِ تل ّقــــى الحيـــــا َة فلــــم يُ ِ الدروس
ِ نج ٍب في تل ّقـي
وكم ُم ِ
شوقي (ت 1932م)
–6لم ي ِلد:
ولكن حدث
ْ وصف آخر هلل ع ّز ّ
وجل يضاف إلى ما سبقه من أوصاف، ٌ إنه
مجرى إلى آخر.
ً شي ٌء ما هنا انعطف معه تيّار الخطاب من
أ ّما وقد وصل الحديث هنا إلى قض ّي ٍة أخطر من أن تحتمل االجتهاد أو
ديانات
ٍ التأويل( :ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) –وهي ثغر ٌة سبق أن نفذ منها الخلل إلى
عدّة– فقد تَح ّول الحديث إلى صيغة الفعل .ومن طبيعة الفعل أنّه ،على األغلب،
قرآني فريد ،بين األنواع الكثيرة
التفات ٌّ
ٌ أكثر صرام ًة ود ّق ًة وتحديداً من االسم ،وهو
مرة.
األخرى من االلتفات التي أوجدها القرآن أل ّول ّ
جملة فعل ّي ٍة كاملة
وصف آخر من صفات الذات اإللهيّة ،ولكن في ٍ
ٍ إنّنا اآلن أمام
(ﭙ ﭚ) تليها جمل ٌة فعل ّي ٌة أخرى ضمن اآلية نفسها (ﭛ ﭜ) :جملتان
وفاعل مستتر،ٍ وفعل
نفي ٍ آية قصيرٍة واحدةٌّ ،
كل منهما تتك ّون من حرف ٍ متتاليتان في ٍ
146
فاعل ،فال أسماء وال صفات ،وال َ
جمل اسميّة ،وإذن ال مجال للتر ّدد هنا نائب ٍ أو ِ
أو للحيرة ،ال في إعراب األلفاظ وال في تأويلها أو حرفها عن مسارها.
غريبة هي
بفاصلة ٍ
ٍ سبق أن وقفنا عند ظاهرة اختتام آيات سورة (الناس) جميعاً
األحرف األربعة (نّاس) التي ّ
تتكرر في نهاية اآليات ،ووقفنا عند الظاهرة الغريبة
شر)
األخرى في سورة (الفلق) حيث بدأت اآليات األربع األخيرة باللفظين (من ّ
قافية متقدّمة.
فكانت بمثابة ٍ
ونحن اآلن أمام ظاهرٍة أخرى مشابهة ،إذ يبدأ ٌّ
كل من اآليات األخيرة الثالث
مرة.
كل ّ ثم ال يفصل بين األدوات الثالث إ ّ
ال ٌ
لفظ واح ٌد في ّ باألداة (لم) ّ
ُ
طويــل إلى النجم فَر ٌع ال يُ ُ
نال رسا أص ُله تحت الثرى َ
وسما ب ِه
ِ
ُ
ويطــــــول يَ ِع ُّز على َمــن را َمـــ ُه كر ُه
شاع ِذ ُ ُ
األبلق الفر ُد الذي َ هو
السموأل (ت 64ق.ﻫ)
147
طريقة نميّز بها هذه السبيكة القرآنيّة عن السبائك الشعريّة التي قد
ٍ ّ
إن خير
تلتبس معها هي أن نحاول التمييز بين أحوال الضمير في ٍّ
كل من الطرفين.
المفسرين إلى أنّه (ضمير الشأن) وهذا النوع من ّ لقد عرفنا كيف يميل بعض
األساسي
ّ الضمائر يمكن حذفه بسهولة عادةً ،من غير أن يؤثّر حذفه على البناء
ال :اهلل أحدٌ ،فهذه جمل ٌة بسيط ٌة وكامل ٌة مؤلّفةٌ من مبتدٍأ وخبر،
للجملة ،فنقول مث ً
بالغي معيّن ،ليس
ٌّ شأن له دو ٌر
مجرد ضمي ِر ٍ صح أن يكون ّ فإذا أعدناه إلى مكانه ّ
ال منه، صح أن يكون مبتدأًُ ،
ولفظ الجاللة (اهلل) خبراً ،أو بد ً هنا موضع شرحه ،كما ّ
ال من لفظ الجاللة.وأن يكون اللفظ (أحد) خبراً أو بد ً
أي منها ،فإن فعلنا كان علينا أ ّما األبيات فال يمكن حذف الضمير (هو) في ّ
اآلالف ،فنحن نعني :هو ال ُمن ِز ُل
َ إعادته إلى مكانه ولو تقديراً ،فلو قلنا :ال ُمن ِز ُل
ال كانت الجملة خبر يجب أن نبحث له عن مبتدأ وإ ّ اآلالفّ ،
ألن اللفظ (ال ُمنزل) ٌ َ
مبتورة .وهذا شأننا مع جملة (هو األبلق الفرد) وجملة (هو الواهب المائة).
148
) [الحشر]22 : ( -ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ
[الحشر]24 : ( -ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ )
[الكهف]38 : ( -ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ)
اللغوي
ّ وسرعان ما يقتنص الشعراء العرب ،بعد نزول القرآن ،هذا النمط
ِّ
ومؤخرين ،ليخرجوا بمثل الجديد ،فير ّوضونه ألوزان الشعر ،مقدّمين في ألفاظه
هذه األبيات:
ب لم يولَ ْد ولم يَ ِل ِد ّ
المهل َ ّ
أن تمنّتِ األز ُد إذ َّغبت أمو ُر ُ
هم
الر ّمة (ت 117ﻫ)
ذو ُّ
149
(يكن) و ( ُكفؤاً) خبراً له ،و(كائناً) صف ًة لـ ( ُكفؤاً) –طبعاً ستتح ّول هذه الصفة ،تبعاً
ألن الصفة تقدّمت على الموصوف (وهو حال ّ للقاعدة النحويّة المعروفة ،إلى ٍ
الضمير في :له) -فيكون التقدير :لم يكن كائناً له كفواً أحد((( .وحا ِولوا صياغة
موازية لهذه السبيكة ،كقولنا:
ٍ جملة بشريّةٍ
ٍ
ال على عبارٍة كتلك العبارات المثيرةفلن تحصلوا بهذه الصياغة البشريّة إ ّ
للسخريّة التي حاول بعضهم التطاول لتقليد لغة القرآن بها.
إن هذا (التقديم والتأخير) المزدوج ،رغم استحالة التأ ّكد من عدم وجود ّ
الجاهلي باإلمكانات البحثيّة المتاحة حال ّي ًا ،يبقى أمراً الفتاً للنظر
ّ مثيل له في الشعر
ٍ
وبعيداً ،على أيّة حال ،عن لغتنا اليوميّة العاديّة.
ومن السهل إدراك خصوصيّة ذلك لو قارنّا هذه اآلية باآلية القرآنيّة ( ﭡ
ﭢ ﭣﭤ ) فقد تقدّم الخبر (كمثله) هنا على االسم (شيء) ولكن لم يتقدّم
صفة أو حال ،كما وقع في هذه السورة.
أي شيء آخر ،من ٍ
على الخبر ّ
بلغة
ولكن القرآن الكريم يتجاوز الشعر واللغة األدبيّة لذلك العصر ٍ ّ
مشحونة باأللفاظ الموحية والعالقات الغنيّة بطيوفها وألوانها ،بحيث يستجيب
ٍ
150
هذا النوع من األلفاظ والتعبيرات إلى تق ّلب العصور وتج ّدد األحداث وتط ّور
كل ما يعنيه ،ويجد فيها ما يفهمه ويناسبالبشري عبر القرون ،فيأخذ ٌّ
ّ الفكر
عصره و َمصره وفكره وثقافته.
المشع من األلفاظ والتعبيرات ثالث ًة على ّ
األقل: ّ و نجد في السورة من هذا اللون
–1قل:
فئة محدّدة،
شخص أو ٍ
ٍ منفتح بإطالق الخطاب فيه ،فال ينحصر في
ٌ هذا ٌ
لفظ
كما أوضحنا في السورتين السابقتين.
–2هو اهللُ َ
أحد:
ال تدخل في هذه حال ٌة شديدة الخصوصيّة بين حاالت اللغة المنفتحة توشك أ ّ
أهم األسس التي تقوم عليها اللغةهذا الباب ،إذ تتعدّد حاالتها اإلعرابيّة ،وهذا من ّ
معنى واح ٌد ال ثاني له :اهلل واحد.
ال ً المنفتحة ،ومع ذلك فليس لها إ ّ
محتمل ٌة ألكثر من ٍ
وجه ِ إن المواقع اإلعرابيّة أللفاظها متداخلة ،فهي بذلكّ
أي من األجزاء
احتمال حول ٍّ
ٍ ثم فهي مفتوح ٌة على أكثر منإعرابي ،كما رأينا ،ومن ّ
ّ
يتم التركيز عليه في المعنى :هو ،أم :اهلل ،أم :أحد؟ ولكنّها في النهاية ،خالفاً ّ
لكل ّ
واحد تلتقي عنده هذه
معنى ٍ ما عرفناه من مواقع لغويّةٍ منفتحة ،ال تحتمل أكثر من ً
األجزاء اللغويّة ،وهو وحدانيّة اهلل سبحانه وتعالى.
الصمد:
َ –3
صفة واحدٍة من
في هذا اللفظ من الغنى والظالل ما يستجيب معه ألكثر من ٍ
صفات اهلل تعالى كما سبق أن تبيّنّا.
151
خامساً :جوامع الك ِلم
1إلى :3
كال من العبارات الثالث( :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ -ﭙ ﭚ ﭛ أن ًّ ال ّ
شك ّ
حديث عن
ٍ ﭜ -ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ) قد غدا ركناً لغو ّي ًا في ّ
أي
لغوي بسيط،
ٍّ وبشكل
ٍ تلخص خير تلخيص، العقيدة أو التوحيد ،فهذه العبارات ّ
وأهم الصفات التي ّ
تلخص طبيعة َّ جوهر العقيدة اإلسالمية ودعوتها التوحيديّة،
الذات اإللهيّة ،م ّما يجعلها تتر ّدد على ألسنتنا باستمرار ،كما تر ّددت من قبل على
ومناسبات دينيّةٍ وفكريّةٍ مختلفة.
ٍ سياقات
ٍ ألسنة المسلمين األوائل ،في
– 4السورة بكاملها:
لقد أصبح للسور الثالث (اإلخالص والفلق والناس) مكان ٌة متم ّيز ٌة عند
الثالثي في
ّ ُ
األحاديث النبويّة التي تدعوهم إلى ترديد هذا وتوحد بينها
ّ المسلمين،
وقت وأكثر من جزئيّةٍ من جزئيّات حياتهم اليوميّة ،كما رأينا في السورتين
أكثر من ٍ
ُ
السورة:السابقتين ،وكما تؤ ّكد أحاديث أخرى للرسول أفردت لهذه ّ
ثعج ُز أحدُكم أن يقرأ ث ُل َ
النبي :أيَ َري tقال :قال ّ الخ ْد ّسعيد ُ
ٍ -عن أبي
َ
رسول اهلل؟ فقال: طيق ذلك يافش ّق ذلك عليهم وقالوا :أيُّنا يُ ُ القرآن في ليلة؟ َ
ِ
(((
الصمد) ثُ ُل ُ
ث القرآن َ (اهللُ الواح ُد
ال يقرأ (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ )
ال سمع رج ً
إن رج ً
الخد ْر ّي tقالّ :
سعيد ُ
-عن أبي ٍ
الرجل يَتَقالُّها،
َ رسول اهلل فذكر ذلك لهّ ،
وكأن ِ ير ّددها ،فل ّما أصبح جاء إلى
(((
رسول اهللِ :والذي ن ْفسي بي ِده إنّها لَتَ ْع ِد ُل ثُ ُل َث القرآن
ُ فقال
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،4ص ،1916حديث رقم.4727 :
((( المرجع السابق ،ج ،4ص ،1915حديث رقم.4726 :
152
اجتمعوا– فإنّي
حشدوا –أي ِ رسول اهلل :اُ ُ ُ -عن أبي هريرة tقال :قال
النبي فقرأ (ﭑ ﭒ ثم خرج ُّ فح َشد َمن َح َشدّ ، ث القرآنَ ،سأقرأُ عليكم ثُ ُل َ
ُ ﭓﭔ) ّ
لبعض :إنّي أرى –أي أعتقد– :هذا ٌ
خبر بعضنا ٍ ثم دخل ،فقال ُ
نزول الوحي فجأ ًة عن إتمام أدخ َله (أي شغله ُ فذاك الذي َ جاءه من السماء َ
لت لكمنبي اهللِ فقال :إنّي ُق ُ
ثم خرج ُّ ث القرآن علينا كما وعد)ّ . قراءة ثُ ُل ِ
(((
ث القرآن سأقرأُ عليكم ثُ ُل َ
ث القرآن ،أال إنّها تَ ْع ِد ُل ثُ ُل َ
((( القشيري ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،557حديث رقم.812 :
153
السورة الخامسة
الم َسد
َ
(ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ
ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ
ﮠﮡﮢﮣ)
وتتجسد ال ُهويّة اللغويّة للسورة بألفاظها وتعبيراتها التي استق ّلت بها دون باقي
ّ
َبَ ،م َسد) والتعبيرات (تبّت يدا ،ناراً َ
ذات ل َهبَ ،ح ّمالة الحطب، السور ،كاللفظين (ت ّ
َ
الخاصة ،وهي
ّ حبلٌ ،
حبل من َم َسد) وكذلك الجزئيّة النحويّة الجديدة يدها ٌ في ِج ِ
اإلعرابي ل ّلفظ (ح ّمالةَ).
ّ الوضع
155
أو ً
ال :األلفاظ والمصطلحات
–1تبّت:
«الفعلي»،
ّ الجاهلي يخلو تماماً من هذا التعبير
ّ قرآني ،فالشعر
محض ّ ُ تعبير ٌ
لفظٌ /
هجاء وشتائم لم يو ّفر منها الشعراء لخصومهم شيئاً.
ٍ رغم ّ
كل ما في شعرهم من
مجوس ال ُقرى في ْ
داركم ويهو ُدها ُ ألم تغضبوا ،ت ّب ًا لكم ،إ ْذ َس َط ْت ْ
بكم
دي (ت 75ﻫ)
األس ّ
ابن الزبير َ
متفرد ًا:
القرآني ّ
ّ وهكذا يبقى االستخدام
ّأوالً :بفعليّته،
156
وثانياً :بإسناده إلى اليدين،
وتب:
ّ –2
يتَميّز هذا اللفظ أيضاً بفعليّته ،وكذلك بتعديته مباشر ًة إلى فاعله ،وهو هنا
الضمير المستتر (هو) ،من غير االستعانة بالالم.
المصدر الوحيد يتع ّدى في البيت أيضاً ،حتى إن جاءت التعدية في شكل
ومضاف إليه:
ٍ مضاف
ٍ
ِ
وه ّـمـتُـ ُه في الغز ِو َك ْس ُ
ب ال ُمراو ِد الصديق بنَو ِك ِه
َ كم ْن يغزو
فليس َ
157
ب العال ِء إذا يسمو
كس ِ
ويسمو إلى ْ َ
المستضاف إذا دعا جيب
َجيب يُ ُ
ن ٌ
زني (ت 64ﻫ)
َمعن ال ُم ّ
ــل
وللخيـل ُم ْعتَ ِ
ِ ٌ
أعـــــوان وللحمد
ِ رافـــــع
ٌ وللمجد
ِ اب
كس ٌ
وللخي ِر ّ
عمر بن أبي ربيعة (ت 93ﻫ)
الخالئف
ِ مـــن اهللِ يكفيني ُعــدا َة غنى
أؤول إلـــى ً ألكسب ما ً
ال أو َ َ
الطائي (ت 125ﻫ)
ّ الط ِر ّماح
ِ
فتعدى إلى (العالء) في البيت األ ّول ،وإلى (الخير) في الثاني ،وإلى
ّ
(ما ً
ال) في الثالث.
ورغم ّ
أن الفعل ي ِرد في القرآن الكريم ،مع مشت ّقاتهّ 61 ،
مرة ،فإنّه لم
القرآني الجديد،
ّ ثمان منها ،ويحافظ في بقيّة الحاالت على وضعهيتعد إال في ٍ
ّ
كما في اآليات:
[البقرة]141 : ( -ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ )
الجاهلي واستعماالتنا
ّ واألغرب من ذلك أنّه ،على عكس استعماله في الشعر
اإليجابي،
ّ السلبي دون
ّ له حتى اليوم ،استُخدم في أكثر اآليات الكريمة بالمعنى
فهو يأخذ فيها غالباً معنى كسب السيّئات واآلثام بد ًال من األجر والثّواب:
[البقرة]81 : ( -ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ )
158
أ ّما في الحديث الشريف فهو ،كحاله في لغتنا العاديّة ،وخالفاً الستخدامه
ثم إنّه يُستخدم مع كال السيّئات والحسنات بالدرجة
متعد على األغلبّ ،
القرآنيٍّ ،
ّ
ً
نفسها تقريبا ،كقوله :
–4سيَص َلى:
ولكن متعدّ ي ًا دائماً بحرف
ْ الجاهلي،
ّ (ص َلى يَ ْصلي) متدا َو ٌل في الشعر
الفعل َ
الجر (الباء) كما في هذه األبيات:
ّ
ُ
أقول لمن يَص َلى َ
بناري :أو ِقدوا نار ُه
أخمد َ
َ ب
الخ ُّ ُ
البخيل ِ إذا ما
الطائي (ت 46ق.ﻫ)
ّ حاتم
((( البستي ،محمد بن حبان .صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان ،تحقيق :شعيب األرنؤوط ،بيروت:
مؤسسة الرسالة ،ط1414 ،2 .ﻫ1993 ،م ،ج ،10ص ،48حديث رقم .4236
((( الترمذي ،الجامع الصحيح (سنن الترمذي) ،مرجع سابق ،ج ،3ص ،58حديث رقم.671 :
159
أ ّما في القرآن الكريم فيتعدّى بنفسه دائماً من غير االستعانة بالباء ،رغم
اللغوي لهذا الفعل،
ّ مرة ،بل إنه ،خالفاً للتاريخ
وروده فيه بمشت ّقاته المختلفة ّ 25
ال من واحد ،فكأنّه يأتي بمعنى يتعدّى في القرآن عدّة مر ٍ
ات إلى مفعولين اثنين بد ً ّ
َجزي):(نُذيق) أو (ن ْ
الحظ كيف خلت اآليات الثالث من حرف الباء وتعدّى الفعل فيها جميعاً
إلى مفعولين :األ ّول هو الضمير (الهاء) المتصل به ،والثاني هو (جهنّم) في اآلية
األولى ،و(ناراً) في الثانية ،و(سقَر) في الثالثة.
–5امرأتُه:
ُ
القرآن الكريم عن الحديث الشريف في استخدام أهم ما يختلف به من ّ
أن القرآن ال يستخدم إ ّ
ال أحد اللفظين (زوج) األلفاظ ،اختالفاً الفتاً للنظر حقاًّ ،
أو (امرأة) للمؤنّث –كما هو في هذه السورة– على عكس الحديث الشريف الذي
يستخدم بد ً
ال منهما اللفظ (زوجة) على األغلب فيتر ّدد فيه هذا اللفظ عشرات
المرات ،من مثل قوله :
ّ
(((
.. -وزوج ٌة مؤمن ٌة ت ِعينُه على إيمانِه
(((
.. -إنّي ألع َل ُم أنّها زوجتُه في الدنيا واآلخرة
((( الترمذي ،الجامع الصحيح (سنن الترمذي) ،مرجع سابق ،ج ،5ص ،277حديث رقم.3094 :
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،3ص ،1375حديث رقم.3561 :
160
(((
الحو ِر ال ِعين .. زوجها في الدنيا إ ّ
ال قالت زوجتُه من ُ -ال تؤذي امرأ ٌة َ
(((
عليك حقاً ..
َ وإن لِزوجتِ َ
ك ّ -
(((
الحو ِر ال ِعين .. ُ
فيدخل عليه زوجتاه من ُ -
وال أثر للفظ (زوجة) أو (زوجات) في القرآن الكريم ،وإنما نجد اللفظ (أزواج)
مرة ،واللفظ (نساء) بالمعنى نفسه 33مرة أيضاً .أ ّما الحديث الشريف
لإلناث ّ 33
قل أن يستخدمالجم َعين كليهما (أزواج وزوجات) على السواء ،ولكن ّ فيستخدم َ
يحل مح ّله فيه ُ
اللفظ المؤنّث (زوجة). القرآني المفرد (زوج) للمؤنّث؛ إذ ّ
ّ اللفظ
ثم يُتداول اللفظان كالهما عند الشعراء بعد اإلسالم ،فنجد اللفظ (زوجة) عند
ّ
العديد منهم –خالفاً لما يذهب إليه بعض لغويّينا ْ
المح َدثين– ولنا في األحاديث
صحة استعمال اللفظ:
شاهد على ٍّ ّ
الشريفة ،وكذلك في األبيات التالية ،خير
ساع إلى أُ ْس ِد َ
الشرى يستبي ُلها َك ٍ فإن امرأً يسعى يُخبّ ُ
ـب زوجتـي ّ
الفرزدق (ت 110ﻫ)
َ
أراك لها بالبصر ِة العا َم ثاويــا خصومة
ٍ زوجة بالمص ِر أم ذو
أذو ٍ
ذو الر ّمة (ت117ﻫ)
ثــام
واختصنـــــي ِمـــن دونها ب ِل ِ
ّ وعمـــم زوجتــــــــي
وأرا ُه ع ّممني ّ
الرومي (ت 283ﻫ)
ّ ابن
((( القزويني ،سنن ابن ماجه ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،649حديث رقم.2014 :
((( النسائي ،المجتبى من السنن ،مرجع سابق ،ج ،4ص ،210حديث رقم.2391 :
((( القشيري ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،175حديث رقم.188 :
161
حمالة:
ّ –6
من أشهر االتّجاهات في تفسير هذا اللفظ ،بين التفسيرات الكثيرة التي
أن امرأة أبي لهب ستحمل الحطب في جهنّم ،جزاء ما كانت تحمله اقتُرحت لهّ ،
النبي .
أقذار في الدنيا لتضعها في طريق ّ
من ٍ
َغـــــدا َة ِ
وجي ِفهـــــا َم َســــــ ٌد ُمغـــا ُر ث والخ ُ
يل ُش ْع ٌ َ ّ
كأن َســـراتَ ُه
بِشر بن أبي خازم (ت 22ق.ﻫ)
162
و(ال ُمغار) هو المفتول ،و (القعو) هو البكرة التي ّ
يلتف عليها حبل البئر
(المسد) في األبيات
َ وواضح هنا ّ
أن معنى ٌ فتُصدر حركتُه صوتاً خاصاً (صريفاً).
الثالثة هو الحبل.
وتب:
ّ –1
القرآني لهذا الفعل ،سنجد ّ
أن في ّ إضاف ًة إلى ما عرفناه من أسرار االستعمال
كل (وهو أبو سر ًا جديداً آخر لم يُسبَق القرآن إليه ،وهو أنّه ٌ
فعل فاعله ٌّ استعماله ّ
فعل فاع ُله جز ٌء من هذا ّ
الكل (وهو يدا أبي لهب) ،والتقدير: لهب)ُ ،ع ِطف على ٍ
لهب ُّ
كله. وتب أبو ٍلهب ّ تبّت يدا أبي ٍ
163
مكان آخر ،ال في القرآن وال في غي ِره.
أي ٍ إنها خصوص ّي ٌة لطيف ٌة لم أجدها في ّ
ونجوا" و "ه َلك وهلكوا" وذلك ال عن العبارتين النبويّتين" :نجا َ وهي تختلف مث ً
النفصال فاعل الفعل األول فيهما عن فاعل الفعل الثاني ،فالنجاة والهالك هما
للشخص في الفعل األول من كلتا العبارتين النبويّتين ،ولرفاقه في الفعل الثاني،
تداخل بين الطرفين.
ٍ أي
دون ّ
–2ما أغنَى:
األقل في معنى هذه العبارة :فإ ّما أن تكون استفهام ّي ًة،
ّ هناك احتماالن على
فالتقدير :ماذا سيغني عنه أو يفيده مالُه؟ وإ ّما أن تكون نافي ًة ،فهي إخبا ٌر بالنفي،
والتقدير :لن ينفعه مالُه .وفي الحالين تشير العبارة إلى المستقبل (لن يُغنيه ،أو :ماذا
سيغنيه) رغم أنها جاءت في صيغة الماضي ،وهذا من خصوصيّات القرآن الكريم
المميزة :التعبير عن المستقبل في صيغة الزمن الماضي. َّ وظواهره اللغويّة
–3سيَص َلى:
لو استجابت هذه اآليات لتو ّقعاتنا اللغويّة البشريّة عند استعمال الفعل هنا
لجاءت الصياغة هكذا:
ما أغنَى عنه مالُه ،فسيصلى بالنار ،أو:
فسوف نَصليه بنار جهنّم ،أو:
فمآلُه إلى النار.
فعدم انتفاعه بما يملكه أو يربحه من مال؛ من شأنه أن يودي به إلى عذاب
جهنّم ،وكان بده ّي ًا إذن أن نستعين بالفاء ،أو بأيّة أداٍة تفسيريّةٍ أخرى ،في مطلع
تفسر جمل ًة سبقتها .ومثل ذلك قولنا: جملة ّ
ٍ
164
لن يفيدك الهرب فسوف تقع في أيدينا بالنهاية ،أو قولُنا:
–4ناراً َ
ذات ل َهب:
قرآني فري ٌد للنار لم يُستخدم قبل القرآن ،وأكاد أقول :وال بعده
ٌّ ٌ
وصف هذا
أيضاً ،وإنما نقول :نا ٌر ّ
متأججة ،والهبة ،ومتل ّهبة ،وملتهبة ،وشديدة ،وحامية،
لهب ،كما
القرآني ،لها ٌ
ّ ومتو ّقدة ،و ُمحرقة ،أو ربّما ،في أقرب الطرق إلى التعبير
القرآني:
ّ مر ًة (ت 110ﻫ) محاو ً
ال االتّكاء على االستعمال قال جرير ّ
وقد اقتصر الوصف (ﮗ ﮘ) على القرآن الكريم ،بل على هذا الموضع
السور.
وحده في سورة (المسد) دون باقي َ
قرون ّ
متأخرة، العربي حتّى ٍ
ّ وال نعثر عليه في الحديث الشريف ،وال في الشعر
مرةٍ عند التلمساني المنداسي (ت 1088ﻫ) حيث يقول:
ونصادفه أ ّول ّ
َط َ
رح ْت في الفؤا ِد منه ِجمارا ذات ل ْه ٍب
رأيتم في الهوى َ
ْ لو
حمالةَ:
ّ –5
موقع هذا اللفظ وحركته من أغرب أوضاع الخبر والحال في القرآن .وللحال
موضع تفصيلها،
َ شؤون عجيب ٌة ال نجدها في غيره ،وليس هذا
ٌ في الكتاب الكريم
نموذج من هذه األحوال غير العاديّة ال مناص من تحليله.
ٌ ولكن اللفظ (ح ّمالة)
ّ
165
فنصبُه ال يترك أمامنا ِخياراً في إعرابه :إنّه حال ،رغم أنّنا ما نزال نتر ّقب
اكتمال الجملة ومجيء خبر المبتدأ الذي ابتدأت به اآلية (امرأتُه).
جملة –والحال
ٍ وتبعاً لقواعد النحوييّن ،ال مس ّوغ لمجيء الحال في أيّة
يأت أ ّوالً ُ
خبر المبتدأ –والخبر هو من هي من كماليّات الكالم– ما لم ِ
أساسيّات الكالم–.
اإلعرابي الذي
ّ والحل إذن –كما اقترحه النحويّون للخروج من هذا المأزقّ
خاص ًا
ّ وضعتهم في مواجهته لغ ُة القرآن– هو أن أوجدوا لها ،وألمثالها ،إعراباً
نحوي ال نجده في الشعر ٌّ وضع
ٌ منصوب على الشتيمة أو الذ ّم!! وهو
ٌ فقالوا:
الجاهلي ،وال أعرفهم ذهبوا إليه في غير القرآن.
ّ
ال في الوقتال آخر للمعضلة بأن عدّوا اللفظ خبراً وحا ً وربّما وجدوا ح ً
ذكي للتوفيق بين قواعد حل ٌّ حال سدّت مس ّد الخبر .وهو ٌّ نفسه ،فقالوا إنها ٌ
التجديدي الذي كثيراً ما يح ّلق فوق الحدود
ّ النحوييّن وبالغة القرآن وإعجازه
فيوسع آفاقها ،ويجعلها أكثر مرون ًة واستجاب ًة للغته الجديدة.
الضيّقة لقواعد النحوّ ،
أي من الخيارين نستطيع أن نتل ّمس بوضوح جانباً من جوانب الخصوصيّة
وفي ٍّ
اللغويّة المدهشة للقرآن الكريم.
حمالةَ الحطب:
ّ –6
لم ي ُقل أح ٌد قبل القرآن الكريم وال بعده (ﮛ ﮜ ) هكذا مبالغ ًة
السم الفاعل (حامل) ومضاف ًة إلى الحطب .قد نقول في هذا المعنى:
-حاملة الحطب ،أو:
-التي تحمل الحطب ،أو:
-ستحمل الحطب
166
خصوصيّتها األخرى بإطالقها على الزمن المستقبل –على حين ّ
أن من شأن هذه
الصيغة أن تُطلق على الزمن الحاضر ،ولهذا س ّموها حا ً
ال– عرفنا مدى جدّة هذا
العربي األ ّول.
ّ التعبير ،ووقعه الغريب على أذن
يدها:
–7في ِج ِ
لو أردنا أن نعبّر بلغتنا العاديّة عن معنى هذه اآلية األخيرة من السورة ،لشعرنا
زمن شيء في مطلعها ،مثل (سيكون)ّ ،
ألن الواقعة تشير إلى ٍ بحاجة إلى إضافة ٍ ٍ
يلتف الحبل على عنقها في جهنّم.آت ،وهو اآلخرة ،حين ّ ٍ
وقد نضيف بد ً
ال من ذلك (واو الحاليّة) إذا قدّرنا ّ
أن هذا يجري في الزمن
وقت يرافق
سيتم في ٍ
الحاضر ،وليس المستقبل ،ألن التفاف الحبل حول عنقها ّ
ويزامن حملها للحطب وليس بعده؛ أي :تحمل الحطب وفي جيدها ٌ
حبل..
وربّما يكون الحديث هو ع ّما تفعله في الدنيا ،وليس في اآلخرة ،كما ذهب
تلف الحبل على عنقها وهي تحتطب (وإن المفسرين ،ألنّها اعتادت أن ّ
ّ بعض
حديث ورد في المستدرك على الصحيحين).
ٍ كانت هي نفسها تنفي ذلك في
(حمالة) حا ً
ال فستكون جملة (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ) إعراب ّ
ُ فإن كان
جيدها ٌ
حبل ال لتلك الحال ،ألنّها :تحمل الحطب في الحال التي ُع ِّلق بها في ِ حا ً
لفظ آخر مثل (وقد) حاجة إلى واو الحال أو إلى ٍ
ٍ من مسد ،وسنكون بهذا أيضاً في
تِبعاً لتقاليدنا التعبيريّة .أ ّما لغة القرآن الكريم فكثيراً ما تستغني عنهما -أو عن اللفظ
(سيكون) في التأويل األ ّول– كما وقع هنا حقاً ويقع في ٍ
آيات قرآن ّيةٍ عديدة.
يدها ٌ
حبل: –8في ِج ِ
(الجيد) في
أن العرب قد درجوا على استعمال لفظ ِ تظهر المفارقة هنا في ّ
الغزل أو االستحسان أو اإلطراء أو الفخر ،وليس في القباحة والسوء والعذاب،
وذلك على نحو ما فعلوا في األبيات اآلتية:
167
بِ ،جيـدُها
ُنس ُ ُذراها وأنّاَ ،
حين ت َ علم ْت ُع ْليــــا ربيع َة أنّنا
لقد َ
عمرو بن كلثوم (ت 39ق.ﻫ)
الغـــــزال ْ
األغيَـــ ِد ِ م ِرحـــــاً كسالف ِة فـاتنة تَل ّف َت ِجيدُهـــا
ٍ ِمن ِّ
كل
عنترة (ت 22ق.ﻫ)
جاس ُد ُ
والخ ُم ْر الم ِ
يب َ الح ْل ِي ِ
والط ِ مع َ األطراف َز ّي َن ِج َ
يـدها ِ إلى َطفل ِة
القيني (ت 03ﻫ)
ّ أبو الطمحان
(جيدها) في مثل
ولو تُرك األمر للعرب وأعرافهم الستعاضوا عن اللفظ ِ
بألفاظ مثل (عنقها) أو (رقبتها) أو (نحرها) ،ولكن ليس (جيدها)
ٍ هذا الموضع
على اإلطالق.
وفي هذه المفارقة ما يزيد من حجم السخرية واإلشفاق ،لِما سيصيب هذا
نار وعذاب ،وهو المتع ّود على أطواق الذهب والتن ّعم بما
العنق في اآلخرة من ٍ
غنى ورفاه.
نالته صاحبته في هذه الحياة الدنيا من ً
168
وقد كان الشعراء العرب ير ّددون أنماطهم أو سبائكهم التقليديّة في
آن وآخر ،دون المساس بمواقعهاتغيير في بعض ألفاظها بين ٍ
أشعارهم ،مع ٍ
واإلعرابي.
ّ البنائي
ّ ونسيجها
الخاصة،
ّ تحررت من أبنيتهم القديمة وأوجدت لنفسها أبنيتها
ولكن لغة القرآن ّ
ّ
وهذا ما يجعل اكتشافنا لها وتمييزها عن لغة البشر ،بل عن لغة الحديث الشريف
محتاج إلى برهان.
ٍ أيض ًا ،سه ً
ال وغير
وتب:
لهب ّ
–1تبّت يدا أبي ٍ
إن اجتماع الفعلين الماضيين هكذا ،وبمعنى الدعاء ،مع الفصل بينهما بفاعل ّ
الفعل األول (يدا) الذي هو أيضاً جز ٌء من فاعل الفعل الثاني المقدّر والعائد على
خاص ٌة بهذه السورة وحدها.
خاص ًة بالقرآن ،بل هي ّيشكل سبيك ًة لغو ّي ًة ّ
(أبي لهب)ّ ،
بــاب
ك للتَ ِ عم ُل ِ
ابن َم ْد ِح َ فما َ عمــــــل و َق ٍ
ـــــــول ٍ ومهما ت ََّب ِمـــــن
تتبيـــب
ِ ـــــد وما ُمرت َ
َجيك في ِ ت ََّب َمن يَرتجي لَحا َق َ
ك في المجــ
ابن الرومي (ت 283ﻫ)
169
إن أ ّي ًا من هذه السبائك الشعريّة الخمس ،على تأثّرها بالصورة القرآنيّة ّ
اللغوي.
ّ النحوي للسبيكة القرآنيّة وال بإيقاعها
ّ وألفاظها وروحها ،ال عالقة له بالبناء
170
حمالةَ الحطب:
–4وامرأتُ ُه ّ
اجتمع في هذه السبيكة من العوامل اللغويّة والنحويّة ما يجعلها شديدة
الخصوصيّة .فقد س ّد فيها الخبر (ح ّمالة) مس ّد الحال ،وأُطلقت مبالغ ُة اسم الفاعل
على الزمن المستقبل –كما تبيّنّا– فاكتسبت بذلك ِجدّتها وفَرادتها ،واتّخذت بنا ًء
إيقاعياً لغو ّي ًا مم ّيز ًا ووزنه( :وعا ِملتُه َع ّمالةَ العمل) وهو إيقا ٌع ال ّ
يتكرر في سورٍة
سور القرآن الكريم. أخرى من َ
–1تبّت يدا:
المفسرين واللغوييّن حول
ّ ُ
اختالف م ّما يؤ ّكد القيمة اإليحائيّة لهذا التعبير
معنى الفعل (تبّت) :أهو الخسران ،أم الهالك ،أم اللعنة ،وكذلك في االختالف
مجازي أُط ِلق فيه
ٌّ حقيقي ،فيعني يديه ال أكثر ،أم هو
ّ حول معنى (يدا) :هل هو
الكل ،أي صاحب اليدين وهو أبو لهب. الجزء وأريد ّ
وتب:
ّ –2
المفسرين واللغوييّن في معنى الفعل (تبّت) الذي بدأت به
ّ رغم اختالف
مجازيّ ،
فإن جملة الفعل ّ حقيقي أم
ٌّ السورة ،كما رأينا ،وفي معنى (يدا) :هل هو
(تب) جدير ٌة بأن نتو ّقف عند إعرابها.
ّ
171
وتب هو أيضاً،
فقد تكون هنا في موقع العطف على (تبّت) أي :تبّت يداه ّ
تم إهالكه حق ًا
ولكنّها قد تكون في موقع الحال كذلك ،أي :أهلكه اهلل ،وقد ّ
وأصبح مفروغاً منه ،فتكون الواو في اآلية واواً للحال وليست للعطف.
الفعل
ِ لمجرد توكيد معنى الفعل األ ّول ،إذا أريد بذلك
ّ وقد يكون تكراره
ُّ
الكل (أبو لهب) وليس يديه وحدهما.
من هذا التعدّد في احتماالت المعاني يكتسب الفعل أهميّته للتصنيف بين
المواقع اللغويّة المنفتحة.
فقد تكون األولى نافي ًة أو استفهاميّة ،أ ّما الثانية فقد تكون نافي ًة (أي :وما
تب هو والذي كسب شيئاً) أو استفهام ّي ًة (أي :وماذا كسب؟) أو موصول ًة (أيّ :
كسبه) أو مصدر ّي ًة (يمكن تأويلها مع ما بعدها بمصدر ،أي :ما أغنى عنه مالُه وال
كسبُ ُه) .ومن هذا التعدّد تتولّد القيمة اإليحائيّة أو المش ّعة للعبارتين.
ْ
حمالة الحطب:
–5وامرأتُه ّ
والمفسرون لمعنى
ّ المحتملة التي ذكرها اللغويّون
َ قد عرفنا المعاني الكثيرة
محال َة) وللزمن
حمل الحطب ،كما عرفنا االحتماالت المتعدّدة إلعراب اللفظ ( ّ
يدل عليه :الحاضر أو المستقبل ،وهذه العناصر مجتمع ًة تشحن العبارة الذي ّ
بطاقة انفتاح ّي ٍة متعدّدة األوجه.
القرآنيّة ٍ
172
مسد: ٌ –6
حبل من َ
تقل احتماالت معاني ( َم َسد) في هذه اآلية عن احتماالت (ﮛ وال ّ
المفسرين وهم يحاولون اإلمساك
ّ ﮜ ) في اآلية السابقة ،كما تبيّنّا من حيرة
ّ
وسيظل من باب أمر لن يتح ّقق أبداً،
والنهائي لهذا اللفظ ،وهو ٌ
ّ بالمعنى المحدّد
االفتراضي».
ّ «التصوير
َ
الحبل الشديد الفتل ،أو قد يكون الليف ،أو الشعر ،أو فقد يكون المقصود هو
الوبر ،أو الصوف ،أو الشوك ،أو جلود اإلبل ،أو هو ( ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ) كما
في اآلية ( )32من سورة (الحا ّقة) ،أو هو شي ٌء آخر غير ذلك ك ّله.
جوامع َ
الك ِلم: ُ خامساً:
–1تبّت يدا:
لقد أخذت هذه اللعنة النموذجيّة طريقها ح ّق ًا على أقالم الكتّاب والشعراء
الرومي.
ّ طالب tوابن
علي بن أبي ٍ بعد نزول السورة ،كما سبق أن رأينا في أبيات ّ
173
حـمـال َة الحطب:
–4وامرأتُه ّ
رجل ال ّ ٍ
يقل يمكن أن توصف بهذه العبارة أيّة امرأٍة س ّيئة صادف أنّها زوجة ٍ
عنها سوءاً.
مسد: يدها ٌ
حبل من َ –5في ِج ِ
بمال حرام.
رجل ،تزيّنا أو تن ّعما ٍ
يمكن أن تطلق على امرأٍة ،وربما على ٍ
174
السورة السادسة
النصر
(ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ )
هذه هي السورة الخامسة بحسب الترتيب التراجعي لسور القرآن؛ التي نحاول
اإلعجازي فيها .وسنتو ّقف فيها كالعادة عند خمس ّ اكتشاف جوانب التجديد
مـح ّط ٍ
ات يتوزّعها 24موقعاً استطعنا أن نتبيّنها في 19كلم ًة تتألّف منها السورة.
وتتر ّكز الشخصيّة اللغويّة للسورة في مقدّمتها الشرطيّة ،إذ تختلف مواصفات
األداة (إذا) فيها عن مواصفات شبيهاتها في القرآن الكريم أو غيره ،م ّما سينعكس
طيفه بعد ذلك على كامل السياق في السورة.
–1األلفاظ والمصطلحات:
أشكال مختلفة ،كما عرفنا،
ٍ التجديد في ألفاظ القرآن يمكن أن يقع في ثالثة
اجتمعت ك ّلها في هذه السورة.
فقد يكون اللفظ قرآن ّي ًا خالص ًا لم تعرفه العربيّة من قبل ،كاللفظينَ :سبِّ ْح،
معنى اصطالح ّي ًا
ت ّواباً .وقد يكون اللفظ معروفاً لدى العرب ولكن القرآن أعطاه ً
جديداً ،كاأللفاظ :الفتح ،يدخلون ،أفواجاً .وقد يتح ّقق التجديد في استعمال األداة
بطريقة مختلفة ،كما في األداتين :إذا ،كان.
ٍ النحويّة
175
وإذن ،فاأللفاظ والمصطلحات القرآنيّة الجديدة تتر ّكز في المواقع السبعة التالية:
–1إذا:
تختص بالزمن المستقبل ،فنحن نقول في
ّ جمع النحاة على ّ
أن (إذا) الشرطيّة يُ ِ
إعرابها عادةًٌ :
ظرف لِما يُستقبَل من الزمان يتض ّمن معنى الشرط .وحين اعترفوا،
مع ذلك ،بأنّها قد تأتي للزمن الماضي ،لم يجدوا شاهداً على ذلك ،فيما أعلم،
إّ
ال في القرآن.
ومع ذلك فما جاؤوا به من شواهد قرآن ّي ٍة ّ
اطلعتُ عليها ال ينسجم ،في نظري،
رادي على ذلك
مع معنى الشرطيّة ،أو ال يشير إلى الزمن الماضي .لقد استَشهد ال ُم ّ
(الجنَى الداني) [ص ]371 :بقوله تعالى: في كتابه َ
( -ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ) [التوبة]92 :
واقعة
ٍ ّ
إن (إذا) في هذه اآلية ال تنحصر في الزمن الماضي ،حتّى إن نزلت في
حدثت في حياة الرسول ،وإنّما ،شأنها شأن ٍ
كثير من آيات القرآن ،تمت ّد إلى
كل يوم.مستمر ٍة يمكن أن تحدث ّ
ّ حالة
الحاضر والمستقبل ،فاآلية تتحدّث عن ٍ
ٍ
بحالة تاريـخ ّية حدثت ولم ّ
تتكرر .إنّه ٍ فتختص
ّ أ ّما (إذا) في هذه السورة
من اهلل به على رسوله ،سوا ٌء بمجيء األقوام والقبائل إليه مبايِع ًة
الفتح الذي ّ
176
مكة ،حسب رأي بعضهم، باآلالف ،بعد أن َعقد صلح الحديبية مع مشركي ّ
أو بفتح ّ
مكة من غير قتال في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة ،واستقرار
مرحلة جديدٍة من تاريخ الدولة
ٍ األمن بعد ذلك الفتح في الجزيرة العربيّة ،وبدء
اإلسالميّة ،حسب رأي آخرين.
وال أجد (إذا) أخرى في القرآن يمكن أن نجري عليها مثل هذا االستبدال،
وال في نصوص الحديث الشريف ،وال في لغتنا البشريّة على امتداد تاريخها.
–2الفتح:
إسالمي جدي ٌد ك ّلي ًا على العرب .ربّما عرفوا المصدر (ف ْت ٌح)
ٌّ مصطلح
ٌ هذا
من الفعل ( َفتَ َح) الذي هو عكس (أغلق) ولكنّهم ،كما يظهر من قراءتنا للشعر
الجاهلي ،لم يعرفوا هذا الجذر أبداً بمعنى االنتصار أو االستيالء على المدن أو
ّ
البلدان أو القلوب.
فاف
الخ ِ
يض ِ
الخي ِر بالبِ ِ
ــــبي َ
ِّ ضربناهم بم ّك َة يو َم ِ
فتح النــــ ْ
177
العربي حتى نهاية
ّ ثم يزدهر االستعمال الجديد بعد ذلك ،فيستخدمه الشعر
ّ
ّ
األقل .كما يغدو جزءاً من لغة الحديث الشريف في مرة على
األموي ّ 11
ّ العصر
معرض الحديث عن الحروب والغزوات واالنتصارات.
–3يدخلون:
دين
اعتاد العرب قبل اإلسالم استخدام الفعل (صبأ) للتعبير عن اعتناق ٍ
جديد ،ولذلك كثيراً ما أطلق المشركون على الرسول لقب (الصابئ).
ولكن
ّ ونستخدم اليوم غالباً الفعل (اعتنق) أو (أسلم) للتعبير عن هذا المعنى،
مرة للتعبير عن هجر الوثنيّة واإليمان
القرآن استعمل التعبير (دخل في) أل ّول ّ
بالعقيدة الجديدة.
( -ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ
[المائدة]116 : ﮊﮋ)
( -ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ
[األعراف]158 : ﯣ)
178
) [يونس]99 : ( -ﭱﭲﭳﭴﭵﭶ
[الحجرات]17 :
ُ ( -ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ )
وربّما ال نالحظ جدّة استخدام القرآن لهذا اللفظ بالوضوح الذي الحظناه
ال ،وهذا نتيجة لطغيان المعنى الشائع لهذا الفعل في استخدامه للفظ (الفتح) مث ً
القرآني في هذه السورة .وال ب ّد من التذكير من
ّ (دخل) في لغتنا اليوم على المعنى
بعض في سورٍة بعضها إلى جانب ٍ بأن اجتماع هذه االستعماالت الجديدة ِ جديد؛ ّ
خزان ًا من المفاجآت يتد ّفق دفع ًة واحد ًة
قصيرةٍ كهذه؛ هو الذي يجعل من السورة ّ
العربي األ ّول بعناصره المثيرة المختلفة.
ّ على
–4أفواجاً:
مرةٍ في صيغة الجمع للتعبير عن
قرآني جدي ٌد جاء فيه اللفظ أل ّول ّ
ٌّ مصطلح
ٌ
اجتماع الكثرة مع الحركة والتتابع في الوقت نفسهّ :
إن العرب يتح ّولون اآلن،
وجماعات ،باتجاه الدِّين الجديد.
ٍ وبسرعة ،قبائل
الجاهلي،
ّ مرتين فحسب ،ولكنّنا ال نعثر عليه في الشعر لقد استعمله القرآن ّ
العربي مباشر ًة بعد عصر
ّ وال في الحديث الشريف ،رغم أنّه يبدأ بالظهور في الشعر
األموي. ات على ّ
األقل حتى نهاية العصر النبوة ،فنعثر عليه 6مر ٍ
ّ ّ ّ
وفي لغتنا العاديّة ي ِرد مثل هذا اللفظ مزدوجاً عاد ًة إذا أردنا إظهار معنى
جماعات،
ٍ جماعات
ٍ التوالي والكثرة الذي قصدته اآلية ،فنقول :أفواجاً أفواجاً ،أو:
179
اللغوي للقرون اإلسالميّة األولى .وال
ّ أسلوب ّ
متأخ ٌر لم أجده في التراث ٌ وهو
قرآني ،كقوله :
ٍّ سياق
ال أن يأتي في ٍنجد اللفظ في صحيح الحديث الشريف إ ّ
ً (((
دين اهللِ أفواج ًا وسيخرجون منه أفواجا».
»إن الناس دخلوا في ِ
–5فسبّح:
اإلسالمي
ّ قرآني آخر لم يكد يعرفه العرب قبل القرآن ،ليس فقط بمعناه
ٌّ ٌ
لفظ
معنى
أي ً نقص أو َضعف ،بل في ّ أي ٍ استقر عليه فيما بعد ،أي تنزيه اهلل عن ّ
ّ الذي
محتمل آخر.
ٍ
بيت نعثر عليه فيه ينسب إلى ورقة بن نوفل (ت 11ق.ﻫ) –الحظ وأ ّول ٍ
أنه قد تو ّفي بعد بدء نزول الوحي بعامين (بدأ الوحي عام 13ق.ﻫ)– كما يُنسب
البيت أيضاً ،بالرواية نفسها تقريباً ،إلى الشاعر المخضرم أميّة بن أبي الصلت (ت
5ﻫ) ،وكال الرجلين ُحمل عليهما ما لم يُحمل على غيرهما ،م ّما يدعونا إلى ّ
الشك
إشارات قرآن ّي ٍة واضحة ،كالعرش
ٍ في نسبة البيت وزمنه ،فض ً
ال ع ّما يحويه من
الجودي ،وما فيه من ر ّقة النسج وبساطة اللغة ،م ّما ال ّ
يتمشى مع اللغة التي ّ وجبل
الجاهلي:
ّ عرفناها للشعر
والج ُم ُد
ودي ُالج ُّ ُ
وقبل قد س ّب َح ُ سبحاننعو ُذبه
ٌ العرش
ِ َ
سبحانذي
((( الشيباني ،مسند اإلمام أحمد ،مرجع سابق ،ج ،23ص ،47حديث رقم .14696
180
–6كان:
تفرد القرآن الكريم باستعمال الفعل (كان) بمعنى ّ
(إن) أو سبق أن أ ّكدنا ّ
(كائن) 190مرة ،كما بيّنا ّ
أن اللغة العربيّة تخلو حتّى اآلن ،مثلما خال الحديث ٌ
والمتفرد للفعل.
ّ الشريف ،من هذا االستعمال الرائد
ّ
وسيظل هكذا من األزل إلى األبد، لقد كان اهلل تعالى ّتواب ًا ،وهو كذلك اآلن،
خالف ًا لما يتّصف به الفعل (كان) في لغتنا عاد ًة من اختصاصه بالزمن الماضي.
محل (كان) في جميع هذه اآليات تقريباً ،ما عدا الثانية طبعاً إذ
(إن) ّ
أن بإمكاننا إحالل ّ
والحق ّ
ّ (((
األصلي.
ّ جاءت فيها بمعناها
((( السيوطي ،اإلتقان في علوم القرآن ،مرجع سابق ،ج ،1ص.342-341
181
توابا:
ّ –7
وجدّته ليست في صياغته الجديدة هذا اللفظ من أسماء اهلل الحسنىِ .
ُ
(ف ّعال) ،أي مبالغة اسم الفاعل ،فحسب ،بل في أنّه أطلق هنا على َ
المتُوب إليه
وليس على التائب.
وفي الحديث الشريف يقتصر إطالق هذا االسم أيضاً على البشر الت ّوابين ،إ ّ
ال
حين يُذكر بين األسماء الحسنى هلل تعالى ،ومن ذلك قوله :
(((
اللهم اجع ْلني من الت ّوابين واجع ْلني من المتط ّهرين
ّ -
((( وخير ّ
الخطائين الت ّوابون ُ -
(((
المؤمن ال ُم َفَّتن الت ّواب
َ العبد
حب َ إن اهللَ تعالى يُ ُّ
ّ -
((( الترمذي ،الجامع الصحيح (سنن الترمذي) ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،78حديث رقم .55
((( المرجع السابق ،ج ،4ص ،659حديث رقم .2499
((( الشيباني ،مسند اإلمام أحمد بن حنبل ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،80حديث رقم .605
((( ابن أبي شيبة ،أبو بكر عبد اهلل بن محمد .المصنف في األحاديث واآلثار ،تحقيق :كمال يوسف
الحوت ،الرياض :مكتبة الرشد ،ط1409 ،1 .ﻫ ،ج ،7ص ،96حديث رقم.34465 :
182
ثانياً :الصيغ والعالقات اللغويّة
ولكن »إلهيّة التعبير» هنا استدعت استخدام الفعل (جاء) لإلشعار بـ"اإلرسال".
ّ
فالنصر عند البشر "يتح ّقق" أو "يُنال" ولكنّه لدى من يمنح النصر »يُ َ
رسل» فـ»يأتي»
أو »يجيء» أو »يتن ّزل» من عنده إلى األرض.
ٍ
تتحرك به من السماء هابط ًة إلى األرض ،وهذا حركة انتقال ّية ٍّ إنّه اآلن في
معنى متم ّيز ًا وحيا ًة جديد ًة أ ّهلتهما ألن يكونا صور ًة بيان ّي ًة
يبعث في الفعل وفاعله ً
فن االستعارة؛ إذ يُ َشَّبه فيها النصر ،وكذلك الفتح بعده، يمكن أن تنضوي تحت ّ
بإنسان يجيء ،وهو ما ذهب إليه بعض اللغويين في تحليل اآلية(((. ٍ
–2الفتح:
معنى جديداً لم يعرفه العرب من عرفنا ّ
أن القرآن الكريم قد أعطى هذا اللفظ ً
قبل ،وهو النصر وزوال العقبات والصعاب.
وما نريد إثباته اآلن ،إضاف ًة إلى ذلك ،هو تميّز عالقة هذا اللفظ بما قبله أو
وجمرد ًا من اإلضافة أو الوصف.
معرفاً بالّ ،بعده .لقد جاء هنا َّ
((( الدرويش ،محيي الدّين ،إعراب القرآن الكريم وبيانه ،دمشق وبيروت :دار اليمامة ودار ابن كثير،
1999م ،ج ،8ص.436
183
إنه لم يقل مث ً
ال:
فتح اهلل ،أو:
ُ
الفتح المبين ،أو:
فتح القلوب ،أو:
ُ
فتح ّ
مكة، ُ
ُ
اللفظ شخصيّته المستق ّلة بحيث ال يعتمد على غيره عند استعماله، بل اتخذ
الخاص بالمؤمنين على
ّ فما أن يقال( :الفتح) حتى ينصرف الذهن إلى النصر
أعدائهم ،أو دخولهم البلد المفتوح ،حرباً أو سلماً.
المجرد ،واالسم
ّ المجرد على االسم
ّ العربي عطف االسم
ّ فقد تع ّودت ُ
أذن
المضاف على االسم المضاف ،فنقول مث ً
ال:
وفتحه ،أو:
نصر اهلل ُ
ُ
النصر والفتح،
كما نقول:
184
واجبات اإلنسان وحقوقه،
وال نقول:
واجبات اإلنسان والحقوق،
وكذلك نقول:
شخصيّة المرء وأخالقه،
وال نقول:
شخصيّته واألخالق،
م ّما يمنح هذا التعبير تميّزه ،ويؤ ّكد اختصاصه بلغة القرآن الكريم وحدها.
لقد تع ّدى الفعل إلى اسم اهلل بالباء في اآلية األولى ،وبنفسه في الثانية من
بأي حرف ،وبالالم في الثالثة ،إ ّ
ال أنه تع ّدى في اآليتين األخيرتين غير االستعانة ّ
إلى ذاته تعالى (ﯻ ،ﮒ ﮓ) على حين تع ّدى في آية سورة (النصر) إلى
ويتكرر هذا النوع من التع ّدي في مواضع أخرى من ّ حمد اهلل وليس إلى اهلل.
القرآن الكريم.
185
توابا:
–6إنّه كان ّ
اللغوي لهذه العبارة بإمكاننا أن نتص ّور أنّنا نحن
ّ التفرد
لكي نلمس حقيقة ّ
عربي ،بل بلغة
ّ إنسان
ٍ الذين سنؤ ّدي معناها بلغتنا الخاصة ،أو فلنقل :بلغة أي
الرسول نفسه.
فكيف ستبدأ الجملة عندنا؟ ال ّ
شك أننا سنقول (مع الحفاظ على
األلفاظ القرآنيّة):
فإنه كان ت ّوابا ،أو:
فقد كان ت ّوابا
186
ضمير المخاطب (الكاف) ،وهذا األخير عائ ٌد على فاعل الفعل الذي افتتحت به
الجملة .هل نتخيّل نحن أن نقول مث ً
ال:
توابا:
–3إنّه كان ّ
(إن) مع اسمها (الهاء) يتلوها الفعل اللغوي الذي يبدأ باألداة ّ
ّ هذا البناء
(إن)– ويليه خبره المنصوب (ت ّواباً) -في الناقص (كان) –الذي هو أيضاً بمعنى ّ
صيغ ِة مبالغة اسم الفاعل (ف ّعال)– أضحى بنا ًء قرآن ّي ًا مـم ّيز ًا ،ألنّه ّ
يتكرر فيه كثيراً،
مع اختالف الخبر أحياناً بين مبالغة اسم الفاعل وغيرها ،كقوله تعالى:
–1الفتح:
القرآني الجديد ،كالنصر
ّ إن تعدّد المعاني التي يمكن أن يحملها هذا اللفظ ّ
مكة ،وانفتاح القلوب للدّين الجديد ،وانفتاح البلدان معها، على األعداء ،وفتح ّ
ظالل تسمح
ذات ٍ جماعات وقبائل ،يضفي عليه طبيع ًة َ
ٍ ودخول الناس في اإلسالم
بتصنيفه بين األلفاظ ذات األبعاد المتعدّدة.
فهو قد يعني الحرب ،ولكن قد يعني السلم واألمان أيضاً ،وهو أيضاً بمعنى
(حجب ومنْع وانحباس)، (كشف) عكس َ َر ٌج) عكس (ابتالء وشدّة) ،وبمعنى ْ
(ف َ
187
فكأن أبواباً من ّ
كل فحيث يدخل اإلسالم يدخل األمان والسالم والخير والبناءّ ،
ذلك قد " ُفتحت" على الناس بفتح المسلمين لبلدهم ،وهو في الوقت نفسه ٌ
فتح
ما ّد ٌّي ألبواب المدن والقالع والبلدان التي كانت مستعصي ًة قبل ذلك.
–2ورأيت:
فالمخاطب ليس مـحدّ د ًا؛ إذ يمكن
َ هذا الفعل يحمل أيضاً أكثر من احتمال.
مسلم عاش أيّام االنتصارات الكبيرة
أي ٍ أن يكون الرسول ،كما يمكن أن يكون ّ
انتصار آخر
ٍ أي
مسلم يعيش ّ ٍ التي ح ّققها المسلمون أواخر عهد النب ّوة ،بل ّ
أي
يتح ّقق للمسلمين على ّ
مر العصور ،في الماضي والحاضر والمستقبل.
ثم إن الفعل قد يعني التأكيد والرؤية الحقيقيّة ،وهي لمن شاركوا بأنفسهم
ّ
مجرد التذكير ّ
األقل ،وقد يعني ّ في القتال والنصر ،أو عاشوا ذلك النصر على
كل من لم يعاصر تلك االنتصارات بذلك كما يمكن أن نفهمه اليوم ويفهمه ُّ
النبويّة األولى.
188
توابا:
–4واستغفره إنّه كان ّ
لكل مسلم ،أن يشكره ويسبّحه على ما رزقه إن دعوة اهلل لرسوله ،وكذلك ّ
ولكن
ّ وبدهي،
ّ عادي
أمر ٌّ ودخول للناس في دينه باآلالفٌ ،
ٍ نصر على األعداء،
من ٍ
أقل وضوحاًدعوته تعالى لنبيّه بعد ذلك ،وللمسلمين ،باالستغفار والتوبة تبدو ّ
ُ
الرسول الكريم أو يتوب فيُتاب عليه؟ ومم يستغفر
وأبعث على التساؤلّ :َ
خامساً :جوامع َ
الك ِلم:
–1نصر اهلل:
اليومي بعد نزول القرآن ،وال
ّ لقد أصبح هذا التركيب من مفردات قاموسنا
سيّما في معرض حديثنا عن الحرب والجهاد والشهادة ،فنحن نتفاءل بإسناد النصر
إلى اهلل .كما سرى هذا التركيب بعد ذلك في قاموس أسماء األعالم العربيّة ،بحيث
كثير من اآلباء اسماً على أبنائهم.
أطلقه ٌ
–2الفتح:
يحتل في قاموس العربيّةّ لفظ واح ٌد وليس عبار ًة كاملة ،ولكنّه أصبحهذا ٌ
تب،أفعال ومصادر وجمو ٌع وعناوين ُك ٍمكاناً واسعاً بعد نزول القرآن ،واشتُ ّقت منه ٌ
العربي لألندلس،
ّ فقالوا :فتَح اهلل عليه في رزقه ،وفتح اهلل عليه في الكتابة ،والفتح
والفتوحات اإلسالمية ،وف ْتح الفتوح ،و ُوضعت ُكتُب :فتوح البلدان ،والفتوحات
المكية ،وتفسير فتح القدير ...وغير ذلك كثير. ّ
189
–3يدخلون في دين اهلل أفواجا:
مجموعات من
ٌ مناسبة يدخل فيها اإلسال َم
ٍ إنّها عبار ٌة أضحت تتر ّدد في ّ
كل
حدث يتح ّقق فيه لإلسالم انتصا ٌر أو مكاسب كبيرة ،أو يزداد عدد
كل ٍ الناس ،وفي ّ
بلد من البلدان ،أو في العالم ك ّله.
معتنقيه في ٍ
–4دين اهلل:
دراسة عن اإلسالم أو األديان
ٍ حديث أو
ٍ أي
تعبير لم نعد نستغني عنه في ّ
وهو ٌ
خاص ًة.
ّ عا ّم ًة ،واألديان السماويّة
190
السورة السابعة
الكافرون
(ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ
ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ
ﭭﭮﭯﭰ)
وتبرز الشخصيّة اللغويّة للسورة في عنصر التوازي بين آياتها ،مع التكرار
ثم في احتوائها األزمان الثالثة ،الماضي والحاضر خاصّ ،ّ بشكل
ٍ المتل ّون
والمستقبل ،عبر هذا التكرار ،وكذلك في استغناء جميع األفعال المتعدّية األربعة
التي اختُتمت بها بعض اآليات عن مفعولها.
191
أو ً
ال :األلفاظ والمصطلحات
وربّما كان من المفيد أن نذ ّكر هنا بما أثبتناه سابقاً من قرآنيّة هذا الفعل:
شرط قبله ُحذف مع الفاء الرابطة لجوابه ،والتقدير هنا :إن سألوك
– وجود ٍ
َ
تتبادل معهم عبادة آلهتهم فقل.. أن
أن الفعل جاء هنا بمعنى :أخبِرهم ْ
(قل لهم) وليس بمعنى (اِقرأ، -ورغم ّ
المعوذتين ،وهذا يوافق المعنى الذي عرفه الشعر ِّ أو :ر ّدد) كما جاء في
(قل للكافرين) الجاهلي ،فإنّه مع ذلك لم يتع ّد بالالم ،وإ ّ
ال لكانت اآليةْ : ّ
وبهذا ظ ّلت له شخصيّته القرآنيّة المميّزة.
–2الكافرون:
قرآني جدي ٌد لم يعرفه العرب من قبل .وربّما عثرنا على مشت ّقاته قلي ً
ال ٌّ ٌ
لفظ
مختلف تماماً :وهو التغطية ،أو كفران النعمة.
ٍ معنى
الجاهلي ،ولكن في ً
ّ في الشعر
192
يغطيان الشمس حين تغيب إنّه يُط َلق هناك على النهر أو البحر (ألنهما ّ
وراءهما) أو على الليل (إلخفائه األشياء) أو على السحاب المظلم ،أو الفارس
المغطى بالسالح ،وربّما أُطلق على ال ُمزارع ،ومثاله ما ورد في اآلية:
ّ
المتلمس
ِّ الجاهلي في صيغة المفرد دائماً ،ومن ذلك قول
ّ وهو عند الشاعر
الضبعي (ت 43ق.ﻫ) حين ألقى صحيفته المشهورة في النهر فنجا من القتل:
ــل
مدل ِ كذلك أَقني َّ
كل َق ٍّط َّ كافر
ٍ ْب
ْي ِمن َجن ِ
وألقيتُها بالثِن ِ
فإن جاء فع ً
ال فهو غالباً بمعنى (يجحد أو يكفر النعمة) كقولهم:
وجزاه اهللُ ْ
إن عب ٌد َك َف ْ
ـــر فجزا ُه اهللُ ِمن ذي ن ٍ
َعمــــة
العبدي (ت 63ق.ﻫ)
ّ المث ّقب
193
ّ
توضحه اآلية الكريمة:
فعبادتهم هلل كانت مقرون ًة بتقديسهم ألولياء ِمن دونه ،زاعمين أنّهم إنّما
النوع من العبادة المش ّوهةّ ،
ألن العبادة يقربونهم إلى اهلل ،وير ّد عليهم تعالى هذا َ ّ
اإلسالمي الجديد بعيد ٌة ّ
كل البعد عن مفهوماتهم الجاهليّة التي ّ الخالصة بمعناها
تتّخذ البشر وسيل ًة إلى اهلل.
[مكرر]:
–12 –11ما أعبد ّ
مختص بغير
ٌّ اسمي الموصول (ما) و ( َمن) ّ
بأن األول يفرق النحويّون بين َ
ّ
مختص بالعاقل.
ٌّ العاقل والثاني
محل (ﭝ ﭞ) في ّ لقد كانت لغتنا البشريّة تتو ّقع أن يقالَ ( :من أعبد)
ولكن القرآن استخدم األداة نفسها في التعبيرعن كال العاقل وغير
ّ اآليتين كلتيهما،
العاقل في السورة.
194
وقال آخرون إنها استُخدمت للعاقل ،رغم أنها في األصل لغير العاقل ،على
سبيل التعظيم.
مخرج من
ٍ ونحن ال يه ّمنا ،في المنهج الذي اعتمدناه لهذا البحث ،إيجا ُد
إثبات ِجدّة هذا االستعمال القرآني وفرادتِه وخروجه
هذا اإلشكال بقدر ما يه ّمنا ُ
على التقاليد اللغويّة التي تواضع عليها العرب قبل اإلسالم ،وما زال النحويّون
يتعاهدونها حتى اآلن.
( -ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ
[يوسف]51 : ﯳﯴ )
195
ثانياً :الصيغ والعالقات اللغويّة
–1يا أيّها:
ُّ
الدال على االسم الموصول
ُ ويغلب في القرآن الكريم أن يتلو (يا أيّها)
الجماعة ،وال سيّما جماعة المؤمنين (ﭒ ﭓ) وهو يكثر في السور المدنيّة،
وأقل منه لفظ (الناس) وهو يكثر في السور ّ
المكية حين كان الوحي ما يزال في ّ
موجه ًا إلى ٍ
أناس لم يعرفوا اإلسالم وال اإليمان بعد ،ثم يلي بواكيره والخطاب ّ
ُ
ألفاظ (المأل) و (الرسل) و (النمل) .أ ّما إذا حدث أن تاله مفر ٌد فلفظ ذلك درج ًة
(النبي) غالباً ،أو بعض صفاته (الرسول ،الم ّز ّمل ،الم ّدثّر).
ّ
ورغم ّ
أن هذا النوع من النداء ي ِرد في القرآن الكريم ما يقرب من 140مر ًة
فمن النادر أن نجده في الحديث الشريف ،أو حتّى على ألسنة الصحابة ،وإنما
هو هناك (أيّها) بدون (يا) غالباً ،وكذا األمر في لغتنا أيضاً ،م ّما يؤ ّكد خصوصيّته
األسلوبي بين لغتَي القرآن
ّ األهم ،التميّز
ّ مر ًة أخرى ،وهذا هو القرآنيّة ،كما يؤ ّكد ّ
المفترض في لغة الرسول .
َ القرآني
ّ الكريم والحديث الشريف ،رغم التأثير
196
–2ال أعبُد:
تخيّلوا أنّكم تريدون أن تعبّروا عن معنى اآلية الثانية بلغتكم أنتم ،بل بلغة
قديم أو حديث ،فكيف تبدأون جملتكم؟ ستقولون شاعر تتخيّلونهٍ ،
ٍ كاتب أو
أي ٍ
ّ
على األغلب:
أنا ال أعبد
[مكرر]:
–3ال أعبد ّ
المفسرون واللغويّون حول معنى العبارة ،هل هي مقتصر ٌة على
ّ واختلف
الحاضر ،أم تتجاوزه إلى المستقبل.
ولو ذهبنا إلى الرأي األول لكان علينا ،في لغتنا ،أن نقول :أنا ال أعبد –كما
سبق أن ذكرنا– ولو ذهبنا إلى الرأي الثاني لكان علينا أن نقول في لغتنا :أنا لن
تخصصها للمستقبل.
أعبد ،بإضافة (لن) التي ّ
وفي كلتا الحالين تخرج اآلية عن طرائقنا المعتادة في التعبير كما هو واضح.
197
–4ما تعبدون:
تابعوا معي حتى النهاية تلك الجملة التي تخيّلتم أنّكم تقولونها ،فماذا أنتم
ستتوصلون بسهولة إلى الجملة العاديّة التالية:
ّ قائلون؟ إنّكم
إذن فأنتم تعيدون إلى الجملة مفعول الفعل (تعبدون) أي الضمير (الهاء) وقد
وستتكرر في
ّ آيات عديدة، اختفى من اآلية ،وهو اختفا ٌء يمثّل ظاهر ًة قرآن ّي ًة ّ
تتكرر في ٍ
خواتم /فواصل اآليات الثالث التي ستتلو هذه اآلية أيضاً .ويتحدّث البالغيّون كثيراً
القرآني.
ّ كثير من اآليات على التعبير
البياني الذي يضفيه هذا الحذف في ٍ
ّ عن الجمال
[مكرر]:
– 6 –5ما أعبُد ّ
المرتين ،فلم
وحذف المفعول به في ّ
مرتين في السورةُ ،
وردت هذه العبارة ّ
يقل (أعبده) كما هو العرف في لغتنا العاديّة.
–7عبدتُم:
مر ًة أخرى يختفي المفعول به من هذه الجملة فتقتصر على الفعل (عبَد)
والفاعل (التاء) ،ولم تُلحق بالمفعول به لتكون (عبدتموه).
198
ولن تعبدوا ما أعبُد،
ولن أعبُ َد ما تعبدون،
ولن تعبدوا ما أعبُد
الدال على المستقبل مع اللفظ (عبدتم)أالحظتم كيف ُجمع اللفظ (عابدٌ) ُّ
آية واحدة؟ فكأنّه إنبا ٌء مسبَ ٌق لهم ّ
بأن عبادتهم ألصنامهم الدال على الماضي في ٍّ
ستكون في مستقبل األيام شيئاً في حكم الماضي ،وإ ّ
ال فلماذا لم يقل في اآلية
الثانية أيضاً :ال أعبد ما عبدتم؟ ولم يقل في اآليتين الثالثة والخامسة :وال أنتم
عبدت؟ أو لماذا لم يقل :ال أنا عاب ٌد ما أنتم عابدون ،وال أنتم عابدون
ُ عابدون ما
ما أنا عابد ،وال أنا أعبد ما أنتم تعبدون؟
199
–12لكم دينُكم:
حاولوا اآلن من جديد محاولتكم األولى ،وتخيّلوا أنّكم تعبّرون بلغتكم
الخاصة عن معنى هذا الجزء من اآلية ،فكيف سيكون؟ ستقولون ،وهو نفسه ما ّ
أقوله أنا أيضاً ،شيئاً من هذا القبيل:
االفتتاحي
ّ وإذن فقد اختفى من مطلع اآلية ضمير المخاطبين (أنتم) أو التأكيد
(إنكم) وقد كنّا حريصين على االبتداء بأحدهما في مختلف خياراتنا البشريّة،
ولكن (للقرآن لغته وللبشر لغتهم) رغم حتميّة تأثّر لغتنا بلغة القرآن ،كما فعلتْ
أنا اآلن في هذه الجملة األخيرة التي وضعتها بين قوسين وقد صغتها على نمط
ولكن هذا التأثّر سيبقى ضمن حدود ،فال يتجاوزها إلى ما ال يمكن ّ اآلية األخيرة،
تقليده في لغة القرآن الكريم ،كما سبق أن برهنّا.
دين:
ولي ِ
َ –13
تابعوا معي اآلية حتى نهايتها ،واختاروا الطريقة التي اعتدتم أن تعبّروا بها
عن معنى الجزء الثاني فيها ،فماذا تختارون؟ هل سيختلف ما تقترحونه كثيراً عن
إحدى هذه العبارات:
200
منفصل
ٍ بضمير
ٍ وهكذا نجد أنفسنا مر ًة أخرى وقد بدأنا الجزء الثاني من اآلية
هو هذه المرة ضمير المتك ّلم (أنا) وقد اختفى من اآلية القرآنيّة ،م ّما أ ّكد اختالفها
في كال الجزءين عن لغتنا العاديّة.
دين:
ولي ِ
– 14لكم دينُكم َ
التقليدي الذي
ّ اللغوي
ّ وأخيراً نجد اآلية بأكملها وقد تخ ّلت عن الرابط
اعتدنا في لغتنا العاديّة أن يربط الجملة مع ما سبقها ،وهو عاد ًة أحد الحرفين الواو
(إن) ،فنقول مث ً
ال: َ
مرتبطين بأداٍة أخرى مثل ّ أو الفاء ،منفر َدين أو
فلكم دينُكم َ
ولي دين ،أو:
خاص ٌة بالقرآن وحده ،وهي مؤلّفة من فعل األمر (قل) وأداة النداء (يا) سبيك ٌة ّ
مرات .وهي وتتكرر في القرآن خمس ّ ّ (أي) الذي أُلحقت به (ها) التنبيه،
والمنادى ّ
غير
عادي ٌُّ منادى
ً مختلف ٌة عن السبيكة القرآنيّة األخرى التي يتلو فيها أدا َة النداء
(أي) و (ها) ،من مثل قوله تعالى:ّب من ُّمرك ٍ
201
جمع غير سالم ،كما
تُقاربها من غير أن تُطابقها ،كالسبيكة التي يتلو الندا َء فيها ٌ
في قوله تعالى:
[مكرر]:
–5 –4وال أنتم عابدون ما أعبُد ّ
هذه سبيك ٌة شديدة القرب من السبيكة السابقة ،وتختلف عنها بدخول الضمير
فاعل للجمع
المنفصل (أنتم) بين (ال) وفعل العبادة ،الذي يتح ّول هنا إلى اسم ٍ
(عابدون) ،كما يتح ّول الفعل الثاني إلى صيغة المتك ّلم المفرد (أعبد).
202
اسم الفاعل الجمع (عابدون) إلى اسم الفاعل المفرد (عابدٌ) ،وتح ّول المضارع
المتك ّلم المفرد (أعبد) إلى الماضي الغائب الجمع (عبدتم).
دين:
ولي ِ
–7لكم دينكم َ
اختصت هذه السبيكة بهذا التوازي أو التطابق الذي يتح ّقق بين نصفها األول ّ
جملة (لكم -لي) يليه
ٍ خبر مق ّدمٍ في شكل شبه
ف من ٍ ونصفها الثاني ،فكالهما مؤ ّل ٌ
متصل به (دينكم – ديني) .ويقترب منها كثيراً ،ولكن
ٍ ضمير
ٍ ٌ
مضاف إلى مبتدأٌ ّ
مؤخ ٌر
ليس إلى درجة التطابق ،العبارة القرآنيّة التي تتر ّدد في أكثر من سورة:
–8السورة بكاملها:
الخاصة ،ونظامها
ّ أن ّ
لكل سورٍة في القرآن الكريم شخصيّتها ال ّ
شك ّ
اللغوي المختلف.
ّ
للسور الكبيرة،
اللغوي العا ّم َ
ّ وإذا كنّا عاجزين اآلن عن اإلمساك بأسرار البناء
معقولة الشخص ّي َة اللغويّة للهيكل العا ّم الذي بُنيت عليه
ٍ بسهولة
ٍ فيمكن أن نحدّد
سور ٌة صغير ٌة كهذه السورة ،كما فعلنا مع سورتي الفلق والناس.
يتكرر
آيات تبدأ باألداة النافية (ال) ،كما ّ
ست ٍ متتالية من أصل ّ
ٍ آيات
إن فيها أربع ٍّ
مرتين.
مرتين ،واللفظ (دين) ّ الفعل (أعبد) مع مشت ّقاته ثماني ّ
مرات ،والضمير (أنتم) ّ
تأثيرها ويق ّوي
َ وهذه األرقام ،وجميعها مزدوج ٌة كما تالحظونّ ،
يدعم
شخصيتها ازدواجيّةُ الجمل والعبارات داخل السورة أيضاً.
ّ
كل من الثنائيّة (ﭕ
ويتمثّل هذا االزدواج لآليات أو العبارات القرآنيّة في ٍّ
ﭖ ﭗ ﭘ ) و (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ) ،والثنائيّة (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ
ﭤ ) و (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) ،والثنائيّة (ﭬ ﭭ ) و (ﭮ ﭯ ).
203
رابعاً :مواقع منفتحة:
مجرد التأكيد،
أن الغرض من تكرار اآلية هو ّ وهكذا ذهب بعضهم إلى ّ
التأكيدي أن يُيئس الكافرين
ّ ورجح آخرون أنّه تعالى أراد من نبيّه بهذا التكرار
ّ
من طمعهم في استجابته لهم حين عرضوا عليه أن يتبادل معهم عبادة آلهتهم
فقالوا :تَعبُد آلهتَنا سن ًة ونعبد إل َهك سن ًة ،وتعبدها سن ًة ونعبده سن ًة ،فر ّد عليهم
تعالى بطريقتهم التناظريّة نفسها ،استهزا ًء بهم وسخري ًة من عرضهم.
204
خامساً :جوامع َ
الك ِلم:
دين:
ولي ِ
–1لكم ِدينُكم َ
لقد أضحت هذه السبيكة القرآنيّة المتميّزة صيغ ًة متدا َول ًة بين الناس منذ نزول
نقاش يدور بيننا وبين من يخالفنا في
أي ٍ القرآن الكريم بها ،وقد نستخدمها في ّ
الرأي أو المبدأ أو المذهب أو العقيدة ،أو ربّما الذوق واالهتمامات ،وحين نيأس
من إقناعه برأينا أو مذهبنا نحسم الموقف معه قائلين :لكم دينكم ولي دين ،أو:
مرةً أحد األدباء) أو :لك رأيُك ولي رأيي.
لكم لغتكم ولي لغتي (كما قال ّ
–2السورة بكاملها:
الناس على حفظها وتردادها،
َ إنّها إحدى السور القالئل التي ّ
شجع اإلسال ُم
عدلَت
يحظ به غيرها من طوال السور .وكما َ ومنَحها من األجر والثواب ما لم َ
ثلث القرآن ،عدلت (الكافرون) ُربُ َعه:
سورة (اإلخالص) في الحديث الشريف َ
ُ
رسول اهلل يص ّلي ركعتين قبل الفجر ،وكان -عن عائشة قالت :كان
يقول :نِعم السورتان هما يُقرأ بهما في ركعتَي الفجر ( :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ)
(((
و(ﭑ ﭒ ﭓ)
تزوجت
لرجل من أصحابه :هل ّ أن رسول اهلل قال ٍ مالك ّ t -عن أنس بن ٍ
َ
رسول اهلل وال عندي ما أتز ّوج به ،قال :أليس معك يا فالن؟ قال :ال واهللِ يا
((( السجستاني ،سليمان بن األشعث .سنن أبي داود ،تحقيق :محمد محيي الدين عبد الحميد ،بيروت:
دار الفكر( ،د .ت ،).ج ،2ص ،733حديث رقم .5055
((( القزويني ،سنن ابن ماجه ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،363حديث رقم.1150 :
205
(قل هو اهلل أحد)؟ قال :بلى ،قال :ثُ ُلث القرآن ،قال :أليس معك (إذا جاء
نصر اهلل والفتح)؟ قال :بلى ،قال :ربع القرآن ،قال :أليس معك ( ﭑ ﭒ
ُ
ﭓ)؟ قال :بلى ،قال :ربع القرآن ،قال أليس معك (إذا زُلزلت)؟
(((
قال :بلى ،قال :ربع القرآن ،قال :تز ّو ْج
((( الترمذي ،الجامع الصحيح (سنن الترمذي) ،مرجع سابق ،ج ،5ص ،166حديث رقم .2895
206
السورة الثامنة
الكوثر
(ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ
ﮏﮐﮑﮒ)
ِّ
(صل) بالالم وتستم ّد السورة شخصيّتها اللغويّة من انفرادها بتعدية الفعل
تكرر بها هذا الفعل في القرآن،
للمرات اإلحدى عشرة األخرى التي ّ خالفاً ّ
أن ألفاظها جميع ًا بعد ذلك ،ما عدا األدوات واللفظ ّ
(رب)، وتستمدّها كذلك من ّ
سور القرآن الكريم ،وهي (أعطيناك ،الكوثر ،وانحر،
قد انفردت بها من دون سائر َ
شانئك ،األبتر) ،وتستمدّها أخيراً من التعبيرات التي استق ّلت بها عن غيرها من
السور ،وهي ّ
تغطي في الحقيقة التعبيرات الثالثة التي تقوم عليها السورة (أعطيناك
الكوثرِّ ،
صل لربّك وانحر ،شانئك هو األبتر).
أهم ما يميّز السورة أنّها ،من بين السور التي درسناها حتّى اآلن ،أ ّول ولكن ّ
ّ
سورٍة يظهر فيها ضمير المتك ّلم (أو املتك ّل ِمني) العائد على الجاللة اإللهيّة .لقد كان
السور التي درسناها حتّى اآلن:
اإللهي في َ
ّ الضمير
207
مجهول لم يُذ َكر أبداً في السياق:
ٍ أ -إ ّما مختفياً خلف أفعال ٍ
أمر صادرٍة عن
ﮋ ﭤ ﭥ ...ﮊ ﮋ ﮤ ﮥ ...ﮊ ﮋ ﮢ ﮣ ...ﮊ
غائبة تتحدّث »عنه» ،أي عن شخصيّة صيغة حياد ّي ٍةٍ /
ٍ ب -وإ ّما مضمراً تحت
المتك ّلم «هو» من غير أن يكون الضمير ظاهراً بنفسه ،وال مقدّ ر ًا إعراب ّي ًا:
ﮋ ﭘ ﭙ ...ﮊ ﮋ ﭛ ﭜ ...ﮊ ﮋ ﭞ ﭟ ﭠ ...ﮊ
ﮋ َر ِّب ﮃ ...ﮊ ﮋ ﮅ ﮆ ...ﮊ ﮋ ﮈ ﮉ ...ﮊ ﮋ َر ِّب
ﭧ ...ﮊ ﮋ ﭖ ﭗ ...ﮊ
ت -أو ضميراً مفرداً غائب ًا صريحاً (هو) ،ظاهراً أو مقدّ ر ًا إعراب ّي ًا ،ال يل ّفه
يلف اآليات السابقة :ﮋ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ...ﮊ ﮋ ﭒ ﭓ ثوب الحياد كما ّ
ﭔ ...ﮊ ﮋ ﭙ ﭚ ...ﮊ ﮋ ﭛ ﭜ ...ﮊ ﮋ ﭞ ﭟ ﭠ
ﭡ ...ﮊ ﮋ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ...ﮊ
أساليب بالغ ّي ٍة
َ اإللهي في القرآن الكريم خلف
ّ وكثيراً ما يتوارى الضمير
دة تساعده على االختفاء .فتأتي صيغة الغائب المطا ِوعة الحياديّة ونحوي ٍة متعدّ ٍ
ّ
ال من صيغة المتك ّلم الصريحة (سأُصليه ناراً) ،أو ّ
تحل المجردة ﮋ ﮕ ﮖ ﮊ بد ً ّ
صيغة الحال الحياديّة المجهول ُة العامل ﮋ ﮛ ﮜ ﮊ ،ﮋ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ
الحقيقي (سأجعلها تحمل الحطب ،سأجعل في جيدها ّ ﮢﮊ ّ
محل صيغة الفاعل
َوارى فاع ُله ﮋ ﭱﭲ ﭳ المبني للمجهول الذي ت َّ ال ِمن َم َسد) ،أو ّ
تحل صيغة حب ً
السور القادمة،
يمر بنا في َ ﭴ ﭵ ،ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮊ ،كما سوف ّ
المبني للمعلوم الذي يظهر فيه الفاعل عاد ًة بوضوح (سأنبُ ُذه في ُ
الح َط َمة، ّ ّ
محل
سأسألُكم يو َم ٍئذ عن النعيم .)..
اإللهي للمتك ّلم في القرآن يميل غالباً إلى الظهور ،حين
ّ أن الضميروسنعرف ّ
ّ
واألقل من ذلك يظهر ،في صيغة ضمير الجماعة ﮋﮆ ﮇ ﮊ ،ﮋﮩ ﮪ ﮊ
بكثير أن يظهر في صيغة ضمير المفرد .وعلينا أن ننتظر طوي ً
ال ،لو كان لبحثِنا أن ٍ
يمت ّد في أعماق هذا الجزء الثالثين من القرآن ،قبل أن نصل إلى سورة (الفجر)
إلهي مفرد ﮋ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﮊ .أما ليفاجئنا هناك أ ّولُ ضمي ِر متك ّلمٍ ٍّ
208
ضمير الغائب العائد عليه تعالى فال يكون في القرآن إ ّ
ال مفرداً (هو) وال يمكن أن
يأتي في صيغة الجماعة (هم).
أن ضمير المتك ّلم المفرد الصادر عن اهلل تعالى (أنا) يتميّز
ومن الواضح ّ
فنحس معه أنّنا أكثر قرباً إلى المتك ّلم (اهلل) ،ولذلك يغلب ٍ
ّ بحميم ّية ّ
خاصة،
الخاصة بين اهلل وعبده،
ّ أن نجده في اآليات األكثر تعبيراً عن عمق العالقة
كما في اآليات:
(-ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ)
[الح ْجر]50 - 49 :
ِ
(-ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ
[الفجر]31 – 27 : ﭯﭰﭱ)
ٌ
شائق إن موضوع الضمير العائد عليه تعالى في القرآن الكريم موضو ٌع ّ
المهم هنا أن نذكر
ّ ٍّ
مستقل .ومن وشائك ح ّق ًا ،ويجدر بالدارسين إفراده في ٍ
بحث ٌ
حقيق ًة غريب ًة تتع ّلق بلغة الكتب السماويّة الثالثة ،وهي اقتصار استخدام صيغة
جماعة المتك ّلمين (إنّا ،نحن) على لغة القرآن الكريم وحده للتعبير عن ذاته تعالى
ومتفحص ًة للغة التوراة
ّ دون العهدين القديم أو الجديد ،ولو ألممنا إلمام ًة متأنّي ًة
واإلنجيل لوجدناها تقتصر فيهما على صيغة المتك ّلم المفرد وحدها دون ضمير
الجماعة للتعبير عن الذات اإللهيّة (إنّي ،أنا).
209
أ ّو ً
ال :األلفاظ والمصطلحات
فصلنا في الجزء األ ّول من هذا البحث الحديث عن قيمة اللفظ الجديد عند ّ
األوائل ،وكيف أسبغ العرب على بعض شعرائهم ألقاباً اتّخذوها لهم من ٍ
لفظ
غريب أتى به هؤالء الشعراء في شعرهم ،وال سيّما إذا وقع هذا اللفظ موقعه
ٍ واحد
ٍ
في العقول والقلوب ،وسار على ألسنة الناس.
–1الكوثر:
خالف
ٍ الجاهلي أبداً ،ويؤ ّكد ذلك ما وقع من
ّ لم أجد هذا اللفظ في الشعر
المفسرين حول معناه.
ّ كبير بين
ٍ
نهر في الجنّة يتش ّعب منه جميع أنهارها ،وقيل
وقد ذهب أكثرهم إلى أنه ٌ
إنه الحوض الذي يدعو الرسول المسلمين ّ
للشرب منه يوم القيامة ،وقيل هو
ٌّ
مشتق من الكثرة). القرآن ،أو النب ّوة ،أو كثرة الذ ّرية ،أو الخير الكثير (فاللفظ
ويقتصر ورود اللفظ على هذه السورة وحدها دون غيرها في القرآن الكريم.
–2وانحر:
المفسرون أكثر من معنى ،ومعظم هذه المعاني ّ
يدل على ِجدّة استعمال ّ ذكر له
وقرآني ِة.
َّ اللفظ
فعلى رأس المعاني أنّه دعو ٌة ألداء صالة النحر ،أي عيد األضحى ،وهو ٌ
أمر
لم يعرفه العرب قبل اإلسالم طبعاً.
210
ومن معانيه وضع اليد اليمنى فوق اليسرى على النحر؛ أي الصدر ،أثناء
معروف قبل فرض الصالة على المسلمين.
ٍ الصالة ،وهو أيضاً ٌ
أمر غير
كل تكبيرٍة في الصالة .كما قيل وقيل إنه رفع اليدين إلى مستوى النحر عند ّ
إنه الذبح يوم العيد ،فكأنّها في هذه الحال دعو ٌة إلى ذكر اهلل عند ذبح األضحية،
فص ِّل وانحر لي وليس لغيري كما كان يفعل المشركون ،أو هي دعو ٌة إلى ذبح أيَ :
للتوجه بالنحر
ّ ُسك بعد صالة العيد ال قبله ،وقيل أيضاً إنها دعو ٌة
األضحية أو الن ُ
نحو ال ِقبلة في الصالة.
والغريب أنّنا ال نعثر على هذا الفعل مر ًة أخرى في القرآن ،وال على ٍّ
أي من
مشت ّقاته ،فهو أيضاً من خصوصيّات هذه السورة.
–3األبتر:
القرآني،
ّ الجاهلي ،ولكن في غير المعنى
ّ مر ًة واحد ًة في الشعر
نجد هذا اللفظ ّ
وصف للسيف (القاطع) وهو في بيت عنترة (ت 22ق.ﻫ): ٌ ألنه هناك
سام األبت ِر ذاك َ
بالذ َك ِر ُ
الح ِ مع َ
َ وعلوت ذا
ُ فشككت هذا بالقنا
ُ
المفسرين ،الذي ال ع ِقب له ،أي ساللة .ولكن
ّ أما في القرآن فهو ،تبعاً ألكثر
من معانيها أيضاً الحقير والذليل والمنقطع من الخير والمقطوع الذنَب.
السهمي) حين تو ّفي ولدا
ّ أناس من قريش ( ُذكر أنه العاص بن وائلوقد قال ٌ
إن محمداً ُصنبو ٌر ،أي مقطو ٌع من النسل وال ولد له،
الرسول واحداً بعد آخرّ :
فإذا مات انقطع ِذكره ،فأنكر اهلل عليهم ذلك بهذه السورة.
ومر ًة أخرى يقتصر ورود هذا اللفظ على سورة (الكوثر) فهو أحد عناصر ّ
بعيد
معنى آخر ٍ ّ
هويّتها اللغويّة أيضاً .وال ي ِرد اللفظ في الحديث الشريف إال في ً
القرآني ،وذلك في وصف بعض أنواع الحيّات» :اقتلوا الحيّات وذا
ّ عن المعنى
الطفيتين واألبتر فإنّهما يستسقطان َ
الحبَل ويلتمسان البصر».
(((
((( القشيري ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،ج ،4ص ،1752حديث رقم.2233 :
211
ثانياً :الصيغ والعالقات اللغويّة
–1إنّا أعطيناك:
أبيات تبدأ بالضمير (إنّا) الذي
الجاهلي على ٍ
ّ من السهل أن نعثر في الشعر
بدأت به اآلية ،كبيت النابغة الذبياني (ت 18ق.ﻫ):
ـت فَجــا ِر
ـت بَـ َّـر َة واحتملـ َ
فحملـ ُ إنّـــا اقتســـمنا ّ
خطتينـــا بيننـــا
شخص آخرٍ أن النابغة أراد نفسه بضمير الجماعة (إنّا) مع ولكن من الواضح ّ
ينافسه ،وليس شخصه وحده .فهذه األبيات الجاهليّة ،على ق ّلتها ،لم تعرف االبتداء
بضمير جمع المتك ّلمين المقصود به صيغة المفرد.
على حين جاءت الجملة القرآنيّة ،شأن كثير من اآليات المشابهة ،إخبار ّي ًة
أحد ال شريك له.
واحد ٍٍ إعالم ّي ًة ،ال طلبيّة ،صادر ًة عن
212
وتصو ِر أنفسكم في
ُّ هل أنتم متأ ّكدون أنّكم نجحتم اآلن في تلبّس حالته
حمم ٍد
مكانه وفي زمانه؟ حسناً ،فماذا تفهمون لو سمعتم هذه اآلية بآذانكم من ّ
لم لكم بع ُد بالقرآن وال باإلسالم؟
وأنتم ال ِع َ
َ
المخاطب في شك أنّكم ستتساءلونَ :من المتك ّلم في (إنّا)؟ و َمن ال ّ
المعطى؟ وما طبيعة هذا النوع من َ َ
(أعطيناك)؟ أو باألحرىَ :من المعطي؟ و َمن
تساؤالت كافي ٌة لتجعل من هذه اآلية أمراً محيراً
ٌ العطاء؟ وما هذا "الكوثر"؟ إنّها
للعربي الذي يسمعها أل ّول مرة.
ّ
تص ّوروا عالمات االستفهام التي سترتسم على وجوهكم لو استمعتم إلى
ليبث هذه الرسالة القصيرة ومن دون يوم وهو يقطع األخبار فجأةًّ ، المذياع ذات ٍ
َولَ ٍل)؟ -ال تظنّوا أنّني أخطأت بالكتابة ،فهي تعليق( :نحن سنبعث َ
إليك بق ْ ٍ أيّ
َولَل؟ ومن ذلك الذي ( َق ْولَل)– .ألن تقولوا في أنفسكم :من هذا الذي سيَبعث بالق ْ
َولَل) الذي سيُب َعث به؟ -طبعاً هي كلم ٌة صغتُها َولَل؟ ّ
ثم ما هذا (الق ْ سيُبعث إليه الق ْ
من (القليل) كما صيغ لفظ (الكوثر) من (الكثير)–.
213
فالصالة عندهم تكون »على شيء» وليس »لشيء» كقول األعشى في
الخمرة (ت7ﻫ):
وارتســــم
ْ وص ّلى على َدنِّهــــــا الريــــــح فـــــي َدنّـهـــــــا
َ وقابَ َلهــــا
وقوله:
إذا ُذبِحت ص ّلى عليها وزمزما الدهر ،بيتَها
َ برح،
حارس ما يَ ُ
ٌ لها
أ ّما في هذه السورة ،وفي هذه السورة وحدها ،فيتعدّى الفعل بالالم ،وهو
رصي ٌد آخر يضاف إلى قائمة ما اختُ ّصت به سورة (الكوثر) دون باقي سور القرآن
الكريم من خصائص لغويّة.
فصل لربِّكَ َ
وانحر: ِّ –4
وسوف تتساءلون هنا أيضاً ،كما تساءل األوائل :وأيّة صالٍة هذه؟ و َمن
َ
المخاطب؟ وما هذا »النحر» الذي يتحدّث عنه؟ ولماذا ب هنا ،و َمن
المخاط ُ
ِ
يقترن بالصالة؟
214
عام على نزول القرآن الكريم ،أكاد ألمح اآلن ألف وأربعمائة ٍحتى بعد مرور ٍ
بعضها على ّ
األقل ،وال سيّما أولئك نفسها ،أو َفي وجوه بعضكم تلك التساؤالت َ
والمفسرين في أمثال هذهّ الذين ّ
قل أن عادوا إلى التفاسير لمعرفة أقوال العلماء
وللمرة
ّ العربي الذي فوجئ بسماع القرآن في فترة تن ّزله،
ّ اآليات .فكيف إذن بذلك
األولى في حياته ،مهما ع ّد نفسه ،أو عدّه اآلخرون ،من البلغاء؟!
215
ثالثاً :السبائك القرآنيّة
علي أن أعود للتذكير ،بين الحين واآلخر ،بما قصدت بـ »السبائك
أن ّ أرى ّ
اإلعجازي في لغة
ّ اللغويّة» وقد جعلتُها أحد خمسة عناصر من جوانب التجديد
القرآن الكريم.
لقد سبق أن تأ ّكدنا من سهولة تمييز لغة القرآن الكريم عن لغة البشر على ّ
أي
متك ّلمٍ للعربيّة ،حتى إن لم يكن هذا المتك ّلم من الضالعين فيها ،أو لو يكن م ّمن
العادي الجمل َة القرآنيّة لو خلطناها
ّ ُ
اإلنسان قرأوا القرآن بأكمله ،فما أسرع ما يميّز
له بين عشرات الجمل البشريّة.
عم َلنا في هذا الجانب هو كشف العالقات اللغويّة التي تؤلّف بين مختلف إن َّ
اللغوي
ّ عناصر العبارة ،فيكون منها سبيك ٌة لغو ّي ٌة كامل ٌة ،هي بمثابة لبِ ٍنة في البناء
السورة. العا ّم ،تتبعها سبيك ٌة أخرى وأخرى ،حتى ّ
تتم اآلية أو ُ
ومن السهل علينا أن نضع أيدينا في سورة (الكوثر) على سبائك قرآنيّةٍ ثالث،
للسورة:
تشكل في الحقيقة مجموع اآليات الثالث ّ وهي ّ
216
[الفتح]1 : -ﮋﭑﭒﭓﭔﭕﮊ
طبعاً تشترك هذه الحاالت مع آية (الكوثر) بأنّها تبدأ جميعاً بـ (إنّا) ويتلوها
ماض بصيغة المتك ّلمين (نحن) ،ثم تأتي بعد ذلك االختالفات ،الطفيفة دائماً ٌ
فعل ٍ
ولكن الدقيقة ،التي أصبح بإمكان معظمنا اآلن تمييزها بسهولة .حاولوا أن تح ّللوا
المرة ،وسوف تتبيّنون كيف حافظت آية اآليات وتتأ ّكدوا من هذا بأنفسكم هذه ّ
(الكوثر) على شخصيّتها واستقالليّتها حتّى عن السبائك القرآنيّة القريبة منها.
ِّ –2
فصل لربِّ َ
ك وانحر:
ولكن غير المألوف
ّ ٌ
مألوف في اللغة، أمر
جملة واحدة ٌ
أمر في ٍ إن اجتماع فع َل ْي ٍ
ّ
ِّ
(فصل) مع إلحاقه ،رغم ذلك، مفعول
ٍ هو مجيء أحد الفعلين الزماً ال يحتاج إلى
بشبه جملة (لربّك) ،ومجيء الثاني (انحر) متعدّ ي ًا ،ولكن مع تجريده من مفعوله،
قات يمكن أن تلحق به ،ليصبح شكله بذلك شكل الفعل الالزم. ملح ٍ
أي َ أو ّ
لقد اعتدنا إلحاق هذا الفعل األخير بمفعوله الذي يمكن أن يكون (الذبيحة،
أي منهماّ .
إن أو األضحية) أو غير ذلك ،ولكنّه ،على غير المتو ّقعّ ،
تجرد هنا من ٍّ
أقرب اآليات في ذهني لهذه اآلية قوله تعالى:
217
لكل من اآليات األربع خصوصيّتها أن ٍّ ورغم هذا التقارب فمن الواضح ّ
مما يؤ ّكد شخصيّة آية (الكوثر) وسبكها المختلف عن اآليات األخرىّ ،
اللغوي حتّى عن السبائك القرآنيّة القريبة منها ،التي استق ّلت ٌّ
كل ّ واستقاللها
منها بشخصيّتها أيضاً.
فاسم ّ
(إن) جاء على صيغة اسم الفاعل (شانئ) المضاف إلى ضمير المخاطب
تفضيل
ٍ اسم
(شانئَك) ويتلوه ضمير الفصل أو التأكيد (هو) ،ثم الخبر ،وقد جاء َ
على وزن (أف َعل) مرتبطاً بال التعريف (األبتر).
أن اسم ّ
(إن) عدد من الخصائص ،تختلفان في ّ
فاآليتان ،رغم اتفاقهما في ٍ
فاعل ،والخبر لم يرتبط ،كما حصل في األولى ،بـ »ال» في الثانية لم يكن اسم ٍ
التعريف ،رغم مجيئه اسماً للتفضيل (أع َلم) ،كما أنّه تعدّى إلى غيره (بالمعتدين)
على حين انقطع (األبتر) عن اإلضافة أو التعدية .وبهذا تحتفظ آية (الكوثر)
بشخصيّتها اللغويّة مستق ّلةً عن غيرها من السبائك.
218
رابعاً :مواقع منفتحة
–1الكوثر:
والمفسرون لهذا اللفظ ،كما
ّ إن المعاني الكثيرة التي اقترحها علماء اللغةّ
اإليحائي الذي يكتسبه اللفظ
ّ رأينا ،واألحاديث الشريفة التي وردت فيه ،والغنى
كل ذلك ،يمنحه األبعاد والشفافية التي تؤ ّكد صفته االنفتاحيّة.من ّ
وانحر:
َ –2
هذا اللفظ –كما رأينا في حديثنا عن األلفاظ والمصطلحات– ال ّ
يقل عن
غنى وإحيائ ّي ًة وتعدّ داً في المعاني التي اقترحوها له.
اللفظ السابق ً
خامساً :جوامع َ
الك ِلم
ولكن صياغة اآلية تمنحها خصائص األمثال أو العبارات السائرة ،فيمكن أن
ّ
موقف يَتّهم فيه مسي ٌء محسناً حين يكون المسيء أولى بهذه
ٍ أي
نستشهد بها في ّ
َ
شانئك هو األبتر. تبالّ ،
إن التهمة ،فنقول للمحسن َ
مط ْمئنين :ال ِ
219
السورة التاسعة
الماعون
ﮋﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ
ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ
ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮊ
وتتبدّى الشخصيّة اللغويّة للسورة في لفظ (الماعون) الذي أُطلق اسماً لها،
مكان آخر من القرآن الكريم ،وتتبدّى كذلك في التراكيب
أي ٍ والذي ال نجده في ّ
السور (يك ّذب
تتكرر في غيرها من َ ّ
تستقل بها عن غيرها فال ّ والتعبيرات التي
ويل للمص ّلين ،عن صالتهم ساهون ،الذين هم
يدع اليتيم ،فذلك الذيٌ ،
بالدّينّ ،
يراؤون ،يمنعون الماعون).
221
أو ً
ال :األلفاظ والمصطلحات
– 1أرأيت:
الجاهلي نجده
ّ ّ
األقل في الشعر رغم ورود هذا االستعمال مر ًة واحدة على
القرآني لهذا
ّ تنوع ًا .و ْلنقارن بين االستعمال
مجرى آخر في القرآن أكثر ّ
ً وقد اتّخذ
الذبياني (ت 18ق.ﻫ):
ّ الفعل واستعمال النابغة
َقت ُغباري
جاج فما َشق َ
تحت ال َع ِ
َ حين ل ِقيتَني أرأيت يو َم ُع َ
كاظ َ َ
فمن الواضح ّ
أن المعنى في البيت ال يتجاوز استحضار الرؤيا ،فكأنّه
يقول :أتذ ُكر؟
-ﮋﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ
ﮊ [الشعراء 204 :ـ ]206 ﰉﰊ
مـختص ٌة
ّ لقد ارتبط في المواقع القرآنيّة الثالثة بأداة الشرط ْ
(إن) وهي
بالمستقبل ،وكان في الموقعين األ ّول والثاني أقرب إلى معنى (ماذا سيحدث؟)
أو (ماذا لو حصل؟) وفي الموقع الثالث أقرب إلى معنى (هل يمكن أن يكون؟)
من غير أن يعني هذا حصر التعبيرات القرآنيّة في هذه المعاني ،فالصياغة القرآنيّة
222
أرأيت ْ
إن) تضفي َ أفرأيت،
َ المتداخلة والمتن ّوعة لهذا الفعل كما نرى( :أرأيتَكم،
ال وأبعاداً غن ّي ًة أوسع من أن يحيط بها ً
معنى مـحدّ ٌد واحد. عليه ظال ً
–2يَ ُد ّع:
القرآني وال بغيره ،لذلك
ّ الجاهلي ،ال بالمعنى
ّ ال نجد هذا اللفظ في التراث
معنى له ،فهو ،من خالل
المفسرون أنفسهم مدفوعين إلى اقتراح أكثر من ً ّ وجد
الحاالت األربع التي ورد بها في القرآن الكريم ،يحمل غالباً معنى الدفع ٍ
بعنف
خاص في قوله تعالى:
بشكل ّ ٍ واضح
ٌ وغلظة ،وهذا
ِ
أي تدفعهم المالئكة دفعاً شديداً خشناً .ومع ذلك فقد ح ّملوا الفعل في سورة
معنى إضاف ّي ًا هو معنى القهر والظلم ومنع اليتيم من الوصول إلى ح ّقه.
(الماعون) ً
وال وجود لهذا اللفظ في الحديث الشريف.
– 3طعام:
حل وقتأينما ورد هذا اللفظ في كالمنا فإنّه يعني ما نأكله ،حتى إن قلناّ :
الطعام ،فإنّما نعني :وقت تناول الطعام .ولكنّه في هذه السورة ،وفي آيتين مشابهتين
خاص ًا بالقرآن الكريم هو
ّ معنى جديداً
ً من سورتَي (الحا ّقة) و (الفجر) ،يحمل
نفسه ،رغم وروده 21مر ًة في َ
سو ٍر أخرى بالمعنى المعتاد، اإلطعام ،وليس الطعا َم َ
أي االسم وليس المصدر.
223
وال وجود لهذا االستعمال في الحديث الشريف ،وإنّما هو هناك (إطعا ٌم)
فحسب ،كما في قوله لمن سأله عن ك ّفارة الجماع في رمضان »فهل تجد
ً (((
إطعا َم ستّين مسكينا؟»
–4المص ّلين:
معنى إسالم ّي ًا جديداً
ً مر بنا في سورة (الكوثر) كيف حمل الفعل (ص ّلى) ّ
الجاهلي له ،وهكذا سائر مشت ّقات هذا الفعل في القرآن الكريم.
ّ مختلفاً عن المعنى
ٌ –5
ويل:
شعاعها
َ يض ُ
الظبا وأرسـلـــت بِ ُ
ْ لشـيبــــان إذا ص ّبحتُـهــــا
َ ٌ
ويــــــل
عنترة (ت 22ق.ﻫ)
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،2ص ،684حديث رقم .1834
224
[المائدة]31 : -ﮋﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﮊ
[الكهف]49 : -ﮋﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮊ
[األحقاف]17 : -ﮋﮤﮥﮦﮧﮨﮊ
[طه]61 : -ﮋﯙﯚﯛﯜﯝﯞﮊ
[يس]52 : -ﮋ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮﯯ ﮊ
وعلى أه ّمية هذا التميّز ل ّلفظ القرآني ،وغزار ِة تكراره ،فإنّه يكتسب جدّته
أن (ويل) المتعدّي بالالم في القرآنالمفسرين يذهبون إلى ّ ّ أن أكثرمن حقيقة ّ
تحذيري كأخيه الذي يأتي
ٍّ لفظ خاص ومختلف ،ألنّه هنا ليس ّ
مجرد ٍ ٌّ هو ٌ
(ويل)
»واد في جهنّم يسيل من صديد إسالمي جدي ٌد يشير إلى ٍ
ٌّ مصطلح
ٌ مضافاً ،وإنّما هو
أهلها» وهم يعتمدون في هذا التفسير على بعض األحاديث النبويّة الشريفة.
َ –6صالتهم:
ينطبق على هذا اللفظ ما انطبق على لفظ (المص ّلين) فيما يحمله من ً
معنى جديد.
–7سا ُهون:
القرآني؛ أي:
ّ الجاهلي بمعناه
ّ لم أجد هذا اللفظ أو مشت ّقاته في الشعر
ّ
المؤخرون لها عن وقتها. الغافلون ،أو غير المبالين ،أو المهملون للصالة ،أو
أبي (ت37ﻫ) ،ولكنّه جاء مخضرم هو تميم بن ّ
ٍ شاعر
ٍ شاهد له وجدته عند
ٍ وأقدم
معنى مختلف:
في ً
يكسـو بهـا بال َعشـيّاتِ ال َعثانينـا دوجالضحى َس ْه ٌو َمنا ِكبُها َه ْي ٌ
ف َه ُ
وال نجد اللفظ بهذه الصيغة في الحديث الشريف إ ّ
ال في معرض شرح اآلية:
»سئل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :عن الذين هم عن صالتهم ساهون؟ قال:
(((
إضاعة الوقت».
((( البيهقي ،سنن البيهقي الكبرى ،مرجع سابق ،ج ،2ص ،214حديث رقم .2983
225
–8يراؤون:
مخضرم آخر
ٍ شاعر
ٍ العربي نعثر عليه لدى
ّ شاهد لهذا اللفظ في الشعر
ٍ أقدم
ولكن اللفظ عنده ال يتجاوز معنى (اإلظهار) أو (اإلعالن)،
ّ هو األعشى (ت7ﻫ).
وهو يتحدّث عن دعواه ودعوى صديقه الذي يخاصمه ،بأنّهما معاً على ّ
حق:
ال أن أُ َج َّـن ويَك َلبــــــا
يبق إ ّ
فلـــــم َ وع ْمراً بيننا َد ُّق َم ِ
نش ٍم أراني َ
ت ِحلمي ،أو هو اليو َم أع َزبا فأعز ْب ُ ظالـــم
ٍ ِكــــــالنا يُرائي أنّه ُ
غير
القرآني يعني َمن يُظهر شيئاً ويُبطن غيره ،وهو النفاق وعدم
ّ وواضح ّ
أن اللفظ ٌ
الخشوع في الصالة وعدم ابتغاء مرضاة اهلل في العمل ،هذا مع خصوصيّة عالقة
شيء بعده ،على حين تعدّى في بيت األعشى يتعد إلى ٍ اللفظ بما حوله ،فهو لم َّ
(((
ظالم) .وفي الحديث « َمن يرائي يُرائي اهللُ به».
إلى المصدر المؤ ّول (أنّه غير ٍ
–9الماعون:
الجاهلي /المخضرم ،ولكن بمعنى ّ نجد هذا اللفظ مر ًة أو ّ
مرتين في الشعر
(المطر) .ويستخدمه األعشى (ت7ﻫ) حين يمدح قيس بن َم ْع ِد َ
يك ِرب ،فيشبّه عطاءه
إن الفرات ليس بأجود من مطره أو عطائه حين ّ
يقل الغيث وتختفي بالمطر ،ويقول ّ
الغيوم من السماء:
ـــــم لم تَ ِغ ْ
ــــــــم إذا مـــــا سماؤ ُه ُ بأجــــو َد منـــــه بماعونِـــــــــ ِه
َ
مجهول يستشهد به ابن منظور((( ،ويصف فيه
ٍ لشاعر
ٍ بيت
كما نجد اللفظ في ٍ
تهب عليه ريح
الشاعر هطول المطر الغزير من السحاب األبيض (الصبير) عندما ّ
الجنوب الحا ّرة (ال َهيف):
ف اعــــترا ُه
ـــــم ِمــــن ال َه ْي ِ
َس ٌ إذا ن َ الماعــــون َم ّجاً
َ صبير ُه
ُ يمج
ُّ
((( الشيباني ،مسند اإلمام أحمد ،مرجع سابق ،ج ،17ص ،453حديث رقم .11357
((( ابن منظور ،محمد بن مكرم .لسان العرب ،بيروت :دار صادر ،ط( ،1.د .ت ،).ج ،15ص.364
226
العربي بالخيرّ ،
ألن المطر والماء عماد ّ فكأنّما ارتبط لفظ (الماعون) في ذهن
نوع من العطاء:
أي ٍ مرة ،على ّ
حياته وأصل معيشته ،فأطلق القرآن هذا اللفظ ،أل ّول ّ
كل ما يتعاطاه الناسالحق ،الطاعة .ويذهب أهل اللغة إلى أنّه ّ ّ الزكاة ،الصدقة،
ويستعيرونه في حياتهم اليوميّة :كالفأس وال ِقدر والدلو والمنخل واإلبرة والقدّاحة
والميزان والملح والكأل والماء.
(الم ْعن) وهو الشيء القليلّ ،
فكأن هذه األشياء من إن اللفظ جاء من َ وقيل ّ
ق ّلة القيمة بحيث ال يجوز منعها عن اآلخرين ،كما ّ
أن الزكاة والصدقة ال يساويان
من مال المرء إ ّ
ال قلي ً
ال من كثير.
يتكرر في غيرها .وال نجد اللفظ ويقتصر ورود اللفظ على هذه السورة فال ّ
مر ًة على لسان عبد اهلل بن مسعود tيشرح اللفظ في الحديث الشريف ولكنّه ي ِرد ّ
(((
الد ْلو ،وال ِق ْدر».
الماعون على عهد رسول اهلل عاري ًة؛ َّ
َ القرآني" :كنّا نَع ّد
ّ
((( البيهقي ،سنن البيهقي الكبرى ،مرجع سابق ،ج ،4ص ،183حديث رقم .7578
227
–2يك ّذب بـ:
لم نتو ّقف عند هذا الفعل حين تحدّثنا عن ألفاظ السورة؛ إذ لم ت ُ
َخل لغة
الشعراء الجاهلييّن من مثل هذا اللفظ ،كما في قولهم:
سيأتي ِه باألنبــا ِء َمن ال يُ َك ِّذ ُ
ب ْ البيــان فإنّه
َ ك لم يَ ْل َق
فم ْن يَ ُ
َ
بِ ْشر بن أبي خازم (ت 22ق.ﻫ)
ب ُ
الليث عن أقرانِ ِه َص َدقا ما َك َّذ َ الرجـالَ إذا لَ ْي ٌ
ث بِ َعَّث َر يَصطا ُد ّ
زهير بن أبي ُسلمى (ت 13ق.ﻫ)
ُ
أصدق والعين
ُ العين،
بمافي ِ يُ ِّ
كذ ُ تَنِ ُّم عليه َعينُ ُه ،ولســــانُ ُه
ابن نُباته (ت405ﻫ)
228
[الشعراء]176 : -ﮋﯡﯢﯣﯤﯥﮊ
رساالت
ٍ وإنّما تقتصر التعدية بالباء على ما يحمله هؤالء إلى البشر من
وآيات ونُ ُذ ٍر ،كما في قوله تعالى:
ٍ
[يونس]95 : -ﮋﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﮊ
فذلك هو الذي
فهؤالء هم الذين
229
ورغم أنّها ظاهر ٌة لغو ّي ٌة قرآن ّي ٌةّ ،
فإن هذا التركيب بعينه يقتصر على هذه
يتكرر في أيّة سورٍة أخرى. السورة فال ّ
ّ
يدع اليتيم:
ّ –5
فإن تعديته إلى اليتيم في هذه السورة(يدع)ّ ،
بغض النظر عن ِجدّة الفعل ّ ّ
خاصاً باليتيم ومقترناً به.
ال ّ الدع قد أضحى فع ً ّ
وكأن ّ منحته خصوصيّةً إضافيّة،
يتكرر في
السورة وحدها فال ّ ثم إنّه ٌّ
خاص بهذه ّ قرآني جديد ،من ناحيةّ ،ٌّ إنّه ٌ
تعبير
ناحية أخرى.
ٍ الس َور ،من
غيرها من ُّ
–6الذين هم:
خالفاً للتقاليد اللغويّة العربيّة في ابتداء الجملة أو العبارة ،نجد اآلية هنا وقد
ابتدأت باسمٍ موصولٍ تابعٍ للفظٍ ورد في آيةٍ سابقةٍ ،ألنه صف ٌة له ،وهو (المص ّلين).
سيمر بنا في
ّ السور السابقة ،وكماتتكرر في آياتٍ كثيرة ،كما خبِرنا في ّإنّها ظاهر ٌة ّ
الس َور الالحقة.
ُّ
–7عن صالتهم ساهون:
وعادي ،ولكنّنا ال نجد
ّ شائع
أمر ٌ ّ
إن تقديم الخبر على المبتدأ في اللغة العربيّة ٌ
الجر (عن) علىقبل القرآن الكريم تقديماً لشبه الجملة الخبر الذي يبدأ بحرف ّ
فيتكرر
ّ يشكل ظاهر ًة لغو ّي ًة قرآنيّة،
إن هذا النوع من التقديم والتأخير ّ المبتدأ ،بل ّ
مر ًة أخرى يتقدّم فيها هذا الحرف (عن) أيضاً ال عن ّ 35 مرةً ،فض ً
في القرآن ّ 29
فعل أو غيره .كما في اآليات: على العامل فيه ،من ٍ
[يوسف]13 : -ﮋﯶﯷﯸﮊ
230
وهكذا تقدّم شبه الجملة الخبر ﮋﭻ ﭼﮊ على المبتدأ (ﭽ ) في آية
البشري فيأخذ على األغلب شك ً
ال من أشكال هذه الصورة: ّ (الماعون) ،أما التعبير
مس ِك ٍر حرام ،ونهيتُكم عن زيار ِة .. -ونهيتكم عن االنتباذ فانتبذواُّ ،
وكل ْ
(((
القبور فزوروها..
(((
حسنِهم وتجاوزوا عن مسيئهم
.. -اِقبَلوا ِمن ُم ِ
هم يراؤون:
–9الذين ْ
آية سبقتها( ،المص ّلين.
للفظ ورد في ٍ
تابع ٍ
موصول ٍ
ٍ باسم
مرة أخرى تبتدئ اآلية ٍ
الذين) وهي ظاهر ٌة قرآن ّي ٌة تر ّددت وستتر ّدد معنا في ٍ
آيات كثيرة.
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،304حديث رقم .853
((( األصبحي ،مالك بن أنس .موطأ اإلمام مالك ،تحقيق :محمد فؤاد عبد الباقي ،بيروت :دار إحياء
التراث العربي( ،د .ط( ،).د .ت ،).ج ،2ص.485
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،3ص ،1383حديث رقم .3588
231
هم يراؤون:
–10الذين ْ
مرت معنا في أكثر من سورة ،وهي نحن هنا أيضاً أمام الظاهرة القرآنيّة التي ّ
أمر هذه
اللغوي الذي يربط الجملة بما قبلها ،ولو تُرك ُ
ّ ظاهرة االستغناء عن الرابط
اآلية إلى لغتنا البشريّة لقلنا( :والذين).
هم يراؤون:
–11الذين ْ
شأن هذه اآلية كشأن سابقتها ﮋﭹ ﭺ ﭻ ﭼﮊ في إثبات الضمير
وصلتِه ،وإذا أردنا أن نعبّر بلغتنا عن هذا المعنى
المنفصل بين االسم الموصول ِ
استغنينا عن الضمير المنفصل (هم) وقلنا( :الذين يراؤون).
–12يمنعون الماعون:
القرآني ﮋ ﭭ ﭮﮊ ينطبق على ّ تفرد التعبير
إن ما سبق أن قلناه عن ّ ّ
هذا التعبير أيضاً ،مع اإلشارة إلى ّ
أن التعبيرين كليهما اقتصرا في القرآن على هذه
السورة وحدها.ُ
232
يدع:
-2فذلك الذي ّ
يميّز هذه السبيك َة ابتداؤها بفاء اإلفصاح أو الفصيحة ،أو الواقعة في جواب
وأردت منّي
َ شرط مقدّر ،والمرتبطة باسم إشارٍة ،فكأنّه أراد :إن لم تعرفه بعدُ،
ٍ
خبر
(يدع) ٌ ٌ
موصول هو مع صلته ّ اسم
اإلفصاح عنه ،فهو ذلك الذي ،..ويتلوها ٌ
السم اإلشارة ،مع مالحظة اختفاء الضمير (هو) كما قدّمنا.
–4الذين هم يراؤون:
أقل تر ّدد ًا في القرآن من سابقتها ،وتختلف عنها باختفاء الجا ّر
وهي سبيك ٌة ّ
ال لكانت (الذين هم في صالتهم ،أو أعمالهم ،يراؤون). والمجرور ،وإ ّ
233
أرأيت الذي:
َ –1
معنى مـحدّ ٍد لهذا التعبير ،بطبيعته
ً عرفنا كيف تعدّدت اآلراء في اقتراح
قلبي
بصري هو أم ٌّّ التساؤليّة التقريريّة التأ ّمليّة ،وكيف اختلفوا في طبيعة الفعل فيه:
مفعول واح ٌد مذكور (الذي) أم له مفعوالن أحدهما محذوف؟ٌ ّي) ،وهل له (أي ظن ّ
ومن هذا التعدّد في اآلراء والتفسيرات يكتسب التعبير ق ّوته االنفتاحيّة المتجدّدة.
–2فذلك الذي:
المفسرين في إعراب الفاء :أهي استئناف ّي ٌة أو عاطف ٌة أو فصيح ٌة
ّ ّ
إن اختالف
خبر
مقدر ،واختالفَهم في إعراب (ذلك) :أهو مبتدأ ،أو ٌ أو واقع ٌة في جواب ٍ
شرط َّ
نعت
محذوف والتقدير (فهو ذلك) ،وكذلك اختالفهم في (الذي) :أهو ٌ
ٍ لمبتدأ
محذوف منه ،والتقدير :فذلك الشخص الذي،
ٍ لبدل
نعت ٍالسم اإلشارة ،أو ربّما ٌ
خبر له ،هذا االختالف والتعدّد في اآلراء م ّما يغني العبارة ويضفي عليها
أم هو ٌ
صفة االنفتاح.
َ
الرسول بالدين يك ّذب
((( الطبري ،محمد بن جرير .جامع البيان في تأويل القرآن ،تحقيق :أحمد محمد شاكر ،بيروت:
مؤسسة الرسالة ،ط1420 ،1ﻫ2000 /م ،ج ،24ص.629
234
اآليات والمعجزات والكتب السماويّة ،وليس باألنبياء الذين يحملونها ،فال نقول:
ِّ
يكذب باألنبياء
وال نقول:
ِّ
يكذب الدِّين
وإنّما نقول:
ِّ
يكذب األنبيا َء بدينهم
معنى .فهو الرسالة ،وهوً ال عن ذلك يحمل لفظ (الدِّين) أكثر من وفض ً
العقيدة ،وهو التوحيد ،وهو الحساب ،وهو العقاب وما ينتظرنا في اآلخرة من جنّةٍ
فصلناه في التعليق علىأو نار ،وهذا يعيدنا إلى معنى (الدِّين) في ( الفاتحة) كما ّ
قوله تعالى ﮋ ﭞ ﭟ ﭠ ﮊ.
يدع اليتيم:
ّ –4
المفسرين في هذا الفعل ،وازدادت بذلك طيوفه وأبعاده ،فهو ّ تعدّدت أقوال
الجاهلي،
ّ وخشونة فحسب ،كما يحمله المعنى ٍ دفع لليتيم بشدّ ٍة
مجرد ٍ
عندهم ليس ّ
واألصلي ،لهذه الكلمة ،بل هو ،إضاف ًة إلى ذلك ،حرمانه من حقوقه ومنعه منها، ّ
خوف من عقاب اهلل وناره،
ٍ األخذ بيده ،من غير ِ وقهره وظلمه ،وعد ُم إطعامه أو
معان تمنح هذا التعبير شحن ًة إيـحائ ّي ًة غن ّي ًة بالظالل واأللوان.
وهي ٍ
ٌ –5
فويل:
اإلسالمي الجديد لهذا اللفظ على
ّ وكما في اللفظ السابق ،ال يقتصر المعنى
قدر من االختالفالجاهلي –مع ٍ
ّ اإلنذار بالهالك والخراب كما هو في االستعمال
في السياق اللغوي ل ّلفظ كما رأينا– بل يتجاوزه إلى الهاالت الجديدة التي ْ
أضف ْتها
األحاديث النبويّة على هذا اللفظ وهي تصف وادي (الويل) المخيف في جهنّم،
مرعبة تُلهب الشحنة اللغويّة التي يحملها
ٍ وما يحيط بهذا الوصف من تفاصيل
قو ًة وتأثيراً.
اللفظ وتزيدها ّ
235
–7 –6للمص ّلين /عن َصالتهم:
معنى ،فهل
المفسرين أن يقترحوا في تفسير هذين اللفظين أكثر من ًّ من ّ
حق
هي صالة المص ّلين الذين يص ّلون ولكن كأنّهم في صالتهم ال يص ّلون ،أم صالة
ّ
وسيوضح هذا أكثر حديثُنا من يُفترض فيهم أن يُص ّلوا ،ولكنّهم ال يص ّلون أبداً؟
عن اللفظ التالي.
–8ساهون:
اختلفوا كثيراً حول معنى (السهو) هنا :هل هو داخل الصالة أو خارجها؟
هل هم ساهون عن صالٍة يؤ ّدونها ح ّق ًا ،ولكنّهم ال يَ ُعون ما يقولون ّ
ألن الشيطان
يشدّهم بعيداً عنها وعن اهلل؟ أم هم ساهون عن صالٍة يجب أن يؤ ّدوها ،ولكنّهم ال
يفعلون ذلك أبداًّ ،
مفضلين عليها اللهو والتجارة وغيرها من أمور الدنيا؟
–9يمنعون الماعون:
المفسرون للفظ (الماعون) كما
ّ إلى جانب المعاني الكثيرة التي اقترحها
وغنى وتن ّوع ،تتضاعف هذه األبعاد
ً رأينا ،وما أض َفوه بذلك على اللفظ من ٍ
أبعاد
بعدم ذكر المفعول األ ّول للفعل (يمنعون) ،كأن يقال مث ً
ال:
َ
الماعون الناس أو ذوي الحاجة
يمنعون َ
فبقيت اآلي ُة مفتوح ًة ّ
لكل االحتماالت الممكنة في تقدير هذا المفعول المحذوف.
236
خامساً :جوامع َ
الك ِلم
فويل للمص ّلين:
ُ –1
اللغوي ،فك ّلما سمعنا حديثاً
ّ القرآني أضحى جزءاً من قاموسنا
ّ هذا التعبير
غير منطقي ،أو استنتاجاً منقوصاً ال يرتبط بمقدّ ٍ
مات سببيّة ،ع ّلقنا فقلنا :إنّك كمن ّ
فويل للمص ّلين..
يقولٌ :
–2يمنعون الماعون:
كل من يمنع خيره عن الناس ّ
قل أو كثر. وهي عبار ٌة يمكن أن تطلق على ّ
237
السورة العاشرة
قريش
ﮋﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ
ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﮊ
239
أو ً
ال :األلفاظ والمصطلحات
–2 –1إليالف /إيالفهم:
ولقرون عديدٍة
ٍ الجاهلي ،بل إنّه يختفي تماماً
ّ ال ي ِرد اللفظ (إيالف) في الشعر
واألدبي ،إال في معرض الحديث عن هذه السورة .والبديل عنه ّ الشعري
ّ في تراثنا
هو على األغلب (اعتياد ،تع ّود ،عادة ،دأبَ ،د ْي َدن ،أُلفة).
–3فليعبدوا:
اإلسالمي الجديد في
ّ يعيدنا هذا اللفظ إلى حديثنا عن الفعل (نعبد) ومعناه
القرآني
ّ سورة (الفاتحة) :ﮋ ﭢ ﭣ ﮊ ،ونتذ ّكر كيف ّ
فرقنا بين (العبادة) بالمعنى
البشري المتداول وهو ّ
الرق. ّ و (العبوديّة) بالمعنى
ونؤ ّكد هنا مر ًة أخرى جدّة استعمال هذا الفعل وقرآن ّيتَهّ ،
وأن العبوديّة هلل
الحب المتبادل بين الطرفين ،وعلى الرغبة والرهبة معاً
ّ عالق ٌة إيجابيّةٌ تقوم على
من الطرف األ ّول (اإلنسان) نحو الطرف الثاني (اهلل) ،على حين تكون هذه العالقة
تنافر وكراهية ،مع سعي أحد الطرفين باستمرار(العبد)
في العبوديّة البشرية عالقة ٍ
للتخ ّلص من الطرف اآلخر (السيّد).
–4آمنَهم:
المرتين
ولكن استعماله في ّ
ّ الجاهلي،
ّ مرتين في الشعرنعثر على هذا اللفظ ّ
رش ًا (ت 85ق.ﻫ):
القرآني .يقول تأبّط ّ
ّ يختلف تمام ًا عن االستعمال
وميثاق
ِ عهد
أسما ُء باهللِ ِمن ٍ تاهلل آ َم ُن أنثى بعدما حل َف ْت
240
فمعناه في البيت كما هو واضح :أثِق بـ ،أو أُ َصدِّق؛ أي إنّه لن يمنح ثقته أيّة
امرأٍة بعدما نقضت أسماء يمينها وعهدها معه ،أ ّما في اآلية فهو ،على عكس البيت
الجاهلي ،يعني :أ ّمنهم ،أو منحهم األمان.
ّ
ويقول سالمة بن جندل (ت 23ق.ﻫ):
األعراق
ِ لَ َط ُ
ف الدوا ِء وأكر ُم الجردا ِء آ َم َن َخوفَها
كالص ْع َد ِة َ
َ
القرآني؛ إذ تعدّى فيه
ّ وقد استُخدم الفعل في البيت استخداماً مغايراً لالستخدام
إلى الخوف (آ َم َن خوفَها) فهو بمعنى (أب َع َد) أو َ
(أزال) أو (هدّأ) على حين تعدّى في
نفسه وهو الضمير (هم) في (آمنهم) فكان بمعنى (منحهم األمان). اآلية إلى الخائف ِ
ات عديد ًة في القرآن الكريمّ ،
فإن هذا ورغم ورود مشت ّقات الفعل مر ٍ
ّ
االستعمال ل ّلفظ من خصوصيّات السورة أيضاً إذ اقتصر عليها وحدها .أ ّما الفعل
المضارع (آمنُكم) في قوله تعالى:
أن معناه يختلف عن معنى الفعل في سورة (قريش) .إنه يعني فمن الواضح ّ
هنا (أثق بكم أو بأمانتكم) ،وهو بعي ٌد عن معنى (منح األمان) كما هو في السورة،
الم ُخوف منه (إخوة يوسف) على حين وقد تعدّى في آية سورة (يوسف) إلى َ
الم ُخوف عليه.
يتعدّى هنا إلى َ
241
ولكن الوضع هنا يبدو أش ّد بروزاً وأكثر إثار ًة لدهشة من سمع السورة أل ّول
ّ
خاص ًة ،فليست اآلية وحدها هي التي تبدأ هنا
ّ مر ٍة م ّمن عايشوا فترة نزول الوحي
ّ
بجار ومجرور ،وإنّما السورة بأكملها.
ٍّ
َّ
المتعلق الذي وم ّما يزيد من بروز هذه الحالة ،ويضاعف من أه ّميتها ،اختفا ُء
المفسرين إلى البحث عنه في ّ بعض سنع ّلق به شبه الجملة هذا ،اختفا ًء َ
اضط ّر َ
للعربي
ّ مألوف
ٍ سورة (الفيل) التي تسبق هذه السورة مباشرةً ،وهو أيض ًا ٌ
أمر غير
نوع من األنواع األدبيّة المعروفة ،بل
أي ٍاأل ّول ،بل لم يعرفه العرب حتى اليوم في ّ
ال وجود له في القرآن الكريم في غير هذا الموقع.
والتقدير ،على وجه من ع ّلقوا الالم بالسورة السابقة ،سيكون كما يلي:
قريش) (أي أهلك اهلل أصحاب الفيل من أجل
إليالف ٍ
ِ مأكول
ٍ كعصف
ٍ (فجعلهم
الحفاظ على قريش واعتيادهم القيام برحلتَيهم في الشتاء والصيف).
((( الفراء ،أبو زكريا يحيى بن زياد .معاني القرآن ،تحقيق :عبد الفتاح اسماعيل شلبي .القاهرة :دار
السرور ،د .ت ،ص.293
242
–3إيال ِفهم رحل َة الشتا ِء ّ
والصيف:
مر ًة أخرى ،وخالفاً ألعرافنا اللغويّة ،تبدأ هذه الوحدة اللغويّة المستق ّلة؛ أيّ
ال فيما بعده بحيث آية سبقتها ،وإن كان هذا البدل عام ً
فظ في ٍ تابع ل َل ٍ
ببدل ٍ
اآليةٍ ،
مصدر مع
ٍ مؤلف ًة من
يشكل مع اللفظ (رحلة) جمل ًة كامل ًة ،كما أوضحناَّ ، يمكن أن ّ
فاعله ومفعوله ،أو مفعوليه.
–5ف ْليعبدوا:
الموجه إلى الغائب أو الغائبِين ،والمرتبط دائماً بالواو
ّ هذا النوع من األمر
ولكن القرآن الكريم ح ّوله ،بتكراره
ّ أو الفاء ،ربّما عرفته لغتنا البشريّة على ندرة،
ممي ٍز من أساليبه.
وأسلوب َّ
ٍ واضحة في لغته،
ٍ المتعدّد فيه ،إلى ظاهرٍة
243
–6ف ْليعبدوا ّ
رب:
قابلة للتصديق أو
بجملة ٍ
ٍ شيء
(اإلخبار) في علم البالغة هو أن تُخبِر عن ٍ
ٌ
صادق أو أنت حينئذ :أنت
ٍ للتكذيب ،كأن تقول :أنا مسافر ،فيمكن أن يقال لك
نهي أو استفهام ،ال مجال معه أمر أو ٍ
طلب ،من ٍ كاذب .أ ّما عكسه (اإلنشاء) فهو ٌ
للتصديق أو التكذيب ،فال تستطيع أن تقول :أنت صادق ،أو :أنت كاذب ،لمن
تسافر ،فهذه ك ّلها
ْ يسألك :هل أنت مسافر؟ أو لمن يأمرك :سا ِف ْر ،أو لمن ينهاك :ال
جمل إنشائ ّي ٌة طلب ّي ٌة ال تحتمل التصديق والتكذيب.
ٌ
–7هذا البيت:
اعتدنا أن نستخدم أسماء اإلشارة ّ
لندل بها على ما نحتاج إلى أن نشير إليه،
أو ما هو أمامنا بحيث نراه ح ّق ًا ،بعيداً كان أو قريباً ،فنقول :هذه األرض ،وذلك
عما سواها من األراضي والجبال الجبل ،وتلك الباخرة ،حين نحاول تمييزها ّ
والبواخر.
أ ّما (البيت) هنا ،وقد اقترن بذكر ربّه ،فما كنّا ،بلغتنا العاديّة ،لنستخدم اسم
رب البيت ،من غير إشارٍة ،وهذا ما حدث ح ّق ًا اإلشارة معه ،بل نقول :فليعبدوا ّ
كل ٍ
مرة)، تكرر فيها هذا اللفظ في القرآن خارج هذه السورة (ّ 13 مرة أخرى ّ في ّ ّ
ومن ذلك قوله تعالى:
244
[البقرة]158 : -ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮊ
يتكرر
خاص بهذه السورة ال ّ ٌ
استعمال ٌّ وهذه اإلشارة القريبة إلى البيت (هذا)
السور.
في غيرها من َ
رب البيت:
ّ –8
تختص
ّ أن سورة (قريش) تعبير جدي ٌد سبق إليه القرآن الكريم ،فض ً
ال عن ّ هذا ٌ
السور.
به وحدها دون بقيّة َ
–10 –9أطعمهم ِمن /آ َمنَهم ِمن:
ومميزان جداً؛ إذ لم
َّ خاصان لهذين الفعلينّ إنّهما استعماالن قرآنيّان
يستخدمهما أح ٌد من العرب فيما نعلم ،ال قبل اإلسالم وال بعده ،متعدّيين بحرف
الجر ( ِمن) ،إنما قالوا ،ونقول مثلهم أيضاً:
ّ
أطعمهم ،أو:
أسكت جوعهم ،أو:
َ
أطعم جائعهم ،أو:
َ
أطعم الجائع منهم ،أو:
خ ّفف عنهم الجوع ،أو:
أطعمهم بعد أن كانوا جائعين.
كما قالوا ونقول:
أ ّمنهم ،أو:
أ ّمنهم من خوفهم ،أو:
245
أ ّمنهم من الخوف ،أو:
أ ّمن خائ َفهم ،أو:
أ ّمنهم بعد أن كانوا خائفين.
ومر ًة أخرى يقتصر استعمال التعبيرين كليهما على هذه السورة وحدها دون
ّ
السور.
بقيّة َ
–12 –11جوع /خوف:
إن تنكير اللفظين هنا هو أيضاً لغ ٌة قرآنيّة .الحظوا كيف جاء اللفظ (جوع) ّ
واللفظ (خوف) في األمثلة البشريّة التي اقترحناها في النقطة السابقة ُم َّعرفَين دائماً،
إ ّما باإلضافة إلى الضمير ،وإ ّما بـ (ال) التعريف .وفي هذا التنكير حكم ٌة وبالغ ٌة
قرآنيّةٌ كما سوف نرى.
246
رابعاً :مواقع منفتحة
تعبير نتو ّقف عنده في لغة القرآن
لفظ أو ٍ
أي ٍ المهم التذكير ّأوالً ّ
بأن انفتاح ّ ّ من
الكريم ال يعني تساوي هذه األلفاظ أو التعبيرات في ق ّوتها اإلشعاعيّة ،أو في عدد
األبعاد أو األطياف أو المعاني التي تحتملها.
هذا التفاوت في درجات المواقع الموحية أو المش ّعة سوف يظهر لنا من
خالل تحليلنا لهذه النقاط اللغويّة في السورة:
–1إليالف قريش:
هناك مولّدان للطاقة اإلشعاعيّة الموحية في قوله تعالى (إليالف) :األ ّول هو
الالم والثاني هو مجرورها (إيالف).
المفسرين.
ّ أهم النقاط التي أشك َلت على
أحد ّ أ ّما الالم فقد كان تعليقها َ
للتعجب ،وهذا يعني تقدير فعل األمر (اِعجب) قبلها ّ فذهب بعضهم إلى أنّها
لتتع ّلق به ،فيكون المعنى :اِعجب ألمر ت َع ُّود قريش.
أن الالم متع ّلق ٌة بالفعل (فليعبدوا) الذي يليها ،رغم ارتباطه
وذهب آخرون إلى ّ
كثير من النحويين ،إمكان
بالفاء التي تفصل بينه وبينها ،وهو ما يمنع ،في رأي ٍ
تعليقها به ،ولكن أجاز ذلك ُ
بعضهم على حياء.
247
المفسرين ،كما ذكرنا ،من ّ
أن ّ ولكن األخطر من هذا ما ذهب إليه بعض
معلق ٌة بالفعل
الالم للتعليل ،أي بمعنى :من أجل ،أو بسبب ،وهي ،على ذلكَّ ،
(جعل) في اآلية األخيرة من سورة (الفيل) التي تسبق هذه السورة مباشرةً ،ليكون
قريش وحماية تجارتهم
مأكول من أجل إيالف ٍ ٍ كعصف
ٍ المعنى هكذا :فجعلهم
ورحالتهم .وبهذا تُعا َمل السورتان نحو ّي ًا وكأنّهما سور ٌة واحد ٌة رغم انفصالهما
عجيب لم يقع إ ّ
ال لهاتين السورتين. ٌ أمر
ووجود البسملة بينهما ،وهو ٌ
أ ّما (إيالف) فتستم ّد طاقتها اإلشعاعيّة من احتمال تفسيرها:
وال ّ
شك أن تداخل وتقاطع اإلشعاعات المعنويّة المتباينة الصادرة عن ٍّ
كل
من جزءي الكلمة سيولّد المزيد من األطياف واأللوان الجديدة لمعانيهما.
–2إيالفهم:
المفسرين ،يضاف إلى الخالف الذي
ّ ٌ
اختالف آخر بين وقع على هذا اللفظ
وقع على صنوه (إليالف).
فالضمير (هم) بمثابة الفاعل هنا ،في رأي بعضهم ،فكأنّما قال :ما آلَ َف ْت ُه
قريش رحل َة.. آلفت ٌ قريش ،ويكون اللفظ (رحل َة) مفعو ً
ال به للمصدر (إيالف) أيْ : ٌ
248
آلَف اهللُ لهم رحلتَهم،
بصيغة أخرى:
ٍ أو
عود) اهللُ قريشاً رحلتَهم.
آلف (أي ّ
ومن تقاطع هذه التفسيرات ،أو اإلعرابات ،يَغنى اللفظ ويكتسب طاقته
اإلضافيّة الموحية من خالل تعدّد شروحه وتعدّد أبعاده.
قريش بوجود البيت ،وبحماية هذا البيت و َمن يمن على ٍ وإذنّ ،
فإن اهلل تعالى ّ
معتد ،مثلما حماه من أصحاب الفيل ،فألِفه الناس وألِفوا أهله ،بل كل ٍ حولَه من ّ
مكةّ ،
ألن اعتداء ،حتى وهم مسافرون خارج ّ ٍ أمان من أيصار أبناء قريش في ٍ
بالحج أو العمرة إلى
ّ جميع القبائل لها مصالح أساس ّي ٌة مع قريش ما دامت ملتزم ًة
وآمنة معها،
ٍ متينة
عالقات ٍ
ٍ كل عام ،فكانت هذه القبائل حريص ًة على إقامة مكة ّ ّ
وهي ميز ٌة عظيم ٌة ألهل قريش لم تكن ٍ
ألحد غيرهم.
–4فليعبدوا:
محور تعدّد األبعاد في هذا اللفظ هو الفاء .فقد عدّها بعضهم ابتدائيـ ًة (أو:
تأخرت ،والتقدير: حسب ما قبلها ،كما يس ّميها النحاة) ّ
ألن الكالم يبدأ بها وإن ّ
قريش اهللَ إليال ِف ِه لهم رحلتَهم.
أهل ٍفليعبد ُ
249
ولكن ذهب بعضهم إلى أنّها استئنافيّةّ ،
ألن الكالم استؤنِف بها ،ولم يبدأ بها،
بعد أن ذ ّكرهم اهلل قبلها باإليالف ُّ
وتفض ِله به عليهم.
بد َل الجوع؟
(بد َل) أي أسبغ عليهم اإلطعام َ
أو هي بمعنى َ
((( الزمخشري ،أبو القاسم محمود بن عمر .الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون األقاويل في وجوه
التأويل ،تحقيق :عبد الرزاق المهدي ،بيروت :دار إحياء التراث العربي( ،د .ت ،).ج ،4ص.806
250
جوع،
جوع ،أو :على ٍ
أو بمعنى (عن) –كما يذهب ال ُمرادي– أي :أطعمهم عن ٍ
(((
أي :وهم على جوع؟
وهل اإلطعام في (أطعمهم) يقتصر على الطعام ،أو يشمل المأكل والملبس
وسائر تكاليف الحياة؟
َ والمأوى والمال والولد
خامساً :جوامع َ
الك ِلم
–1رحل َة الشتاء والصيف:
يتكرر جيئ ًة و َذهابا،
أمر ّهذه العبارة القرآنيّة قد تط َلق في مجال الحديث عن ٍ
أوقات ثابتة،
ٌ واحد أو على أكثر من شكل ،أو الحديث عن عادٍة لها
ٍ شكل
على ٍ
سنويّةٌ أو فصليّةٌ أو شهريّة ،أو ّ
أقل من ذلك أو أكثر ،كأن تقولها لمن يعاوده
حين وآخر ،أو لمن يتر ّدد متن ّق ً
ال بين بلدين ،أو لمن ال يفتأ يطالبك، المرض بين ٍ
ين أو إتاوٍة.
بأمر أو َد ٍ
في الذهاب وفي اإليابٍ ،
((( المرادي ،الحسن بن قاسم .الجنى الداني في حروف المعاني ،تحقيق :فخر الدين قباوة ومحمد
نديم فاضل ،بيروت :دار الكتب العلميّة1992 ،م ،ص.311
251
السورة الحادية عشرة
الفيل
ﮋﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ
ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ
ﮥﮦﮧﮨﮊ
ّ
األقل في هذه طبعاً لن أتو ّقع منكم أن تكملوا هذه الدراسة عنّي ،على
غدوا قادرين
المرحلة المتقدّمة منها ،ولكنّني أطمح إلى أن يكون كثيرون منكم قد َ
عديد من المواقع ،والنطق بأحكامهم قبل أن أنطق أنا بها.
على استباق حديثي في ٍ
حاولوا ذلك معي في هذه السورة ،واكتشفوا مدى ما اكتسبتم من قدرٍة على
االكتشاف في هذا السبيل.
253
أي األلفاظ مث ً
ال تتو ّقعون أن تعثروا عليه بين ألفاظ سورة (الفيل)ّ ،مما ّ
تظنّون أن العرب لم يكونوا يعرفونه قبل اإلسالم ،أو لم يعرفوه على ّ
األقل بمعناه
القرآني الجديد؟
ّ
حسناًّ ،
لعل بعضكم قد بدأ ير ّدد اآلن فيما بينه وبين نفسه بعض هذه األلفاظ.
إنّنا سنعثر في هذه السورة التي ال يزيد عدد ألفاظها عن 23لفظاً على خمسة
مصطلحات جديدة ،إضاف ًة إلى 22موقع ًا جديداً آخر تتوزّع بين الصيغ
ٍ ألفاظ أو
ٍ
ثم جوامع الك ِلم.
والعالقات اللغويّة ،والسبائك القرآنيّة ،والمواقع المنفتحةّ ،
السور ،تؤ ّكد هذه السورة شخصيّتها اللغويّة من خالل
وكالعادة في باقي َ
مر ًة أخرى في القرآن( :تضليل ،أبابيل) ،وكذلك تعبيراتها
يتكرران ّ
لفظين ال ّ
ْ َ َ
اب ﮓ ﮊ، السور :ﮋ أصح ِ
المتفردة الخمسة التي اقتصرت عليها وحدها دون باقي َ
ّ
ﮋ ﮗ ﮘ ﮙ ﮊ ،ﮋ ﮝ ﮞ ﮊ ،ﮋ ﮠ ﮡ ﮊ ،ﮋ َع ْص ٍف ﮧ ﮊ.
أو ً
ال :األلفاظ والمصطلحات
–1تضليل:
الجاهلي وذلك في بيت الطفيل
ّ وجدت هذا اللفظ مر ًة واحد ًة في الشعر
ُ
الغنوي (ت 13ق.ﻫ):
ّ
ُ
تضليل نطق الواشون ُّ
وكل ما َ س قد َس ِم َع ْت ِق َ
يل ال ُوشا ِة بنا ُم ِ ْ
إن ت ْ
الشعري .فاللفظ
ّ القرآني عن االستعمال
ّ ومن الواضح اختالف االستعمال
الشكوك،الحدث ،وهو التمويه والتزييف وإثارة ّ
في البيت مصد ٌر ،أي فيه معنى َ
ٌ
استعمال فري ٌد وجدي ٌد اسم أو صف ٌة بمعنى الضياع والهالك ،وهو
ولكنّه في اآلية ٌ
يتكرر
مختص بهذه السورة وحدها ،فال ّ
ٌّ ثم إنّه ،إلى ذلك،
في قاموس اللغة العربيّةّ ،
مر ًة أخرى في القرآن الكريم ،وال وجود له في الحديث الشريف أيض ًا. ّ
254
–2طيراً:
الغريب في هذا اللفظ أنّه إذا ُع ّرف في القرآن بـ»ال» ّ
دل دائماً على الجمع،
مرة ،منها قوله تعالى:
تكرر بهذه الصورة ّ 16وقد ّ
[البقرة]260 : -ﮋﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﮊ
ﮊ [النمل]17 : -ﮋﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ
[ال ُملك]19 : -ﮋ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮊ
مرتين أخريين في القرآن
تكرر هذا ّ تجرد من »ال» ّ
دل على المفرد ،وقد ّ فإذا ّ
وذلك في قوله تعالى:
-ﮋ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮊ [آل ِعمران]49 :
255
ﮊ [النمل]47 : -ﮋ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ
ّــــم
أيكـة يرتن ُ
طائـر في ٍ
غــــدا ٌ المنــــــازل ك ّلمـا
ِ أَ ِح ُّن إلى تلك
السواجع على تُربتي بين الطيور إن ِم ُّت فاندُبي حات ّ
الطير ْ أيا صا ِد ِ
ِ
عنترة (ت 22ق.ﻫ)
بعصائب
ِ عصـــائب َط ٍير تهتدي
ُ فوقـهم
ْ بالجيش َح ّلق
ِ إذا ما َغ َزوا
النابغة الذبياني (ت 18ق.ﻫ)
– 3أبابيل:
لفظ آخر اختُ ّصت به السورة دون باقي سور القرآن ،ودون الحديث الشريف ٌ
الجاهلي عند زهير بن
ّ ّ
األقل في الشعر أيضاً ،وإن كنّا نعثر عليه ّ
مرةً واحد ًة على
أبي ُسلمى (ت 13ق.ﻫ) .وتتعدّد اآلراء في تأويل لفظ زهير ،وهو على األغلب
بمعنى القطعان من اإلبل أو الحيوان أو الطير:
أبابيل
ِ رد
دق على ُج ٍ َ
فرسان ِص ٍ وبالفوارس ِمن ورقا َء قد َع ِلموا
ِ
ثم نعثر عليه عند الشاعر المخضرم األعشى (ت 7ﻫ) مقترناً بالطير هذه
ّ
المرة ،حيث يقول:
ّ
256
ب ٌ
أبابيـــــل من الطيـــ ِر تَن َع ُ عليه ـــــار روا ٌء أصولُـــ ُه
طريـــق وج ّب ٌ
ٌ
كل مكان،وقيل :هي المختلفة تأتي من هاهنا ومن هاهنا ،وقد أتتهم من ّ
فكأن اللفظ جاء هنا ،في نظري ،بمقام الحال وليس الوصف ،رغم أنّه أُ ِ
لحق بنكرٍة ّ
يرجح
ولكن السياق الذي ورد فيه ّ
ّ (طيراً) تمنع حاليّته ،تبع ًا لقواعدنا اإلعرابيّة،
حينئذ من إعرابه حا ً
ال من ٍ تلك الحاليّة :أي أرسلها عليهم وهي مؤ ّبل ٌة ،فال مناص
وبغض النظر عن القواعد ّ بغض النظر عن حقيقة التنكير في اللفظ (طيراً)،
الطيرّ ،
اإلعرابيّة التي تَواض ْعنا عليها ،وهذا مثل قولنا :أرسل جيوشاً أفواجاً أفواجاً ،فال
أرى إلعراب (أفواج ًا) هنا بدي ً
ال من الحاليّةّ ،
ألن الحديث فيها هو عن «كيفيّة»
مجرد وصفها.
إرسال الجيوش أكثر م ّما هو عن ّ
بكثير م ّما َح َمله
ٍ القرآني وقد ُح ّمل من المعاني أكثر
ّ وهكذا نجد اللفظ
اإلعرابي أكثر م ّما تتح ّمله
ّ الشعريُ ،
وشحن بِطاقة العمل وبعبقريّة الموقع ّ اللفظ
أعرافنا النحويّة.
257
سجيل:
ّ –4
الجاهلي وال في الحديث الشريف،
ّ قرآني لم أعثر عليه في الشعر
ٌّ هذا ٌ
لفظ
معر ٌب من اللفظين الفارسيّين مجتم َعين:
القرآني وال بغيره .وقيل إنّه ّ
ّ ال بالمعنى
طيني ،وقيل :هو الشديد،
حجر ّ
ٌ (ج ْل) بمعنى (طين) أي:
(حجر) و ِ ْج) بمعنى َ
(سن ْ
َ
اآلجر ،وقيلُ :طبخت هذه الحجارة بنار
ّ مطبوخ كما يُطبخ
ٍ طين
أو هو المصنوع من ٍ
جهنّم مكتوباً فيها أسما ُء من تسقط عليهم.
السجيل هي السماء الدنيا ،وهي التي أنزل اهلل على قوم لوط ،وذلك
إن ّ وقيل ّ
في قوله تعالى:
-ﮋﭑﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ
ﮊ [هود]82 : ﭛﭜ
258
ثانياً :الصيغ والعالقات اللغويّة
تر
–1ألم َ
تعيدنا هذه المقدّمة التي بدأت بها السورة إلى مقدّمات السور الثالث األخيرة
بخطاب لم يُذكر فيه
ٍ في القرآن والتي بدأت جميعاً ،كما بدأت هذه السورة،
المخاطب :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ،ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ،ﮀ ﮁ َ ب والالمخاط ُ
ِ
ﮂ ﮃ.
259
إن القواعد تمنع أن يعمل في اسم االستفهام ما جاء قبلهّ ،
ألن له الصدارة ّ
(تر)، دائماً ،فال تسمح هذه القواعد لـ (كيف) أن تكون مفعو ً
ال للفعل الذي سبقها َ
ولهذا لم يجدوا بدّ ًا من أن يجعلوها مفعو ً
ال للفعل الذي يليها ( َف َع َل) رغم أنهم
مخالفة للمنطق ،فالمطلوب هنا ليس ٍ مغالطة ومن
ٍ ّ
الحل من يدركون ما في هذا
ال لكانت الجملة: نفسه وإنما كيفيّة حدوث هذا الفعل ،وإ ّ
رؤي َة الفعل ِ
ألم تر ِف ْع َل ربّك
مستغني ًة بذلك عن (كيف) التي لن يعود هناك في تلك الحال ضرور ٌة
لوجودها.
الجاهلي أو
ّ كل ذلك ال نجد مصطلح (أصحاب الفيل) في الشعر رغم ّ
المخضرم ،كما ال نجده في القرآن الكريم إ ّ
ال في هذه السورة.
((( البيهقي ،أحمد بن الحسين .دالئل النبوة ،تحقيق :عبد المعطي قلعجي ،بيروت والقاهرة :دار
الكتب العلمية ودار الريان للتراث1408 ،ﻫ1998 ،م ،ج ،1ص.125
260
–4ألم يجعل:
اللغوي ،الذي يربط الجملة عاد ًة بما قبلها،
ّ عرفنا كيف تح ّول فقدان الرابط
إلى ظاهرٍة لغو ّي ٍة في القرآن الكريم .وتكاد ال تخلو سور ٌة من السور التي درسناها
حالة أو أكثر من الحاالت التي تمثّل هذه الظاهرة.
حتى اآلن من ٍ
حين جعل...
–5في تضليل:
تفرد القرآن الكريم باستعمال اللفظ (تضليل) بالمعنى الجديد قليل ّ
أثبتنا قبل ٍ
تفرد القرآن أيضاً بالتركيب (في تضليل) أو الذي أعطي له .وما نريد إثباته هنا هو ّ
الجر
تفرده بتعدية الفعل (يجعل) إلى االسم (تضليل) باستخدام حرف ّ بتعبير آخرّ :
ٍ
(في) بد ً
ال من أن يتعدّى إليه مباشرةً ،فيكون مث ً
ال ،لو أردنا االلتزام بتقاليدنا اللغويّة،
شيئاً من هذا القبيل:
كيدهم تضلي ً
ال ،أو: يجعل َ
ًّ
ضاال يجعل كيدهم
261
يُحبط مؤامرتهم ،أو:
يبدّد مساعيهم..
أرس َل عليهم:
َ –7
الجاهلي ،وال
ّ الجر (على) مطلق ًا في الشعر
لم يتع ّد الفعل (أرسل) بحرف ّ
وبمعنى
ً في الحديث الشريف ،ومع ذلك فهو يتعدّى به في القرآن الكريم 21مرةً،
التعدية الجديدة.
مختلف يكتسبه الفعل من هذه ِ
ٍ
فالفعل في اآليتين األولى والثانية تعدّى بـ(على) ،وهو لذلك يحمل فيهما
معنى االستعالء واإلسقاط والتغطية والشمول .وغالباً ما يحمل الفعل في القرآن،
262
مع هذا النوع من التعدية ،معنى العذاب ،وقد شمل معظم اآليات الـ 21التي
آيات –منها آية سورة (هود)– وقد جاءت في إرسال
ال ثالث ٍتعدّى فيها بـ(على) إ ّ
الغيث مدراراً على المؤمنين كما نرى.
سجيل
–8حجارة من ّ
تعبير جدي ٌد آخر لم تعرفه العربيّة قبل القرآن ،وال بعده ،فهذه الحجارة
وهو ٌ
المفسرون على طبيعتها،
ّ مجهولة غامضة ،والتي لم يتّفق
ٍ الغريبة المجبولة من موا ّد
يتكرر أمر حدث في الماضي ،مر ًة مع قوم ٍ
لوط ،وأخرى مع أصحاب الفيل ،ثم لم ّ ٌ
بعد ذلك أبداً.
263
كعصف مأكول
ٍ –9
الخاص المفعم بالصور الجديدة، ّ البياني
ّ عرفنا ّ
أن للقرآن الكريم قاموسه
والعصف المأكول إحدى هذه الصور ،وقد َشبّه فيها تعالى أجسا َم القوم ،وقد
السجيل ،بالتبن أو
المرض الذي سبّبته حجارة ّ ُ ّ
تقطعت أوصالهم وفتّت أجسا َدهم
قشور الحبوب التي أكلتها الحيوانات ومضغتها ،ثم لفظتها أو راثتها.
والتعبير ،فض ً
ال عن جدّة الصورة التي يحملها ،هو أيض ًا ٌ
تعبير جدي ٌد على
العربيّة ،وال نجده إ ّ
ال في القرآن الكريم ،وفي هذه السورة وحدها .ويخلو منه
الحديث الشريف.
264
التقريري» كما يس ّميه النحويّونّ ،
فإن المقصود في النهاية هو اإلنشاء والطلب ،وليس ّ
مجرد اإلخبار :انظر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ،وانظر كيف جعل كيدهم في ّ
تضليل؛ إذ ال يقتضي منّا السياق بعد سماع اآليتين أن نقول( :نعم) أو (ال).
َ
وأرسل عليهم طيراً أبابيل: –3
القرآني ﮋﮛ ﮜﮊ بتعدية الفعل (أرسل) باألداة (على)، ّ تفرد التعبير
إن ّّ
الخاص والعجيب ﮋﮝ ﮞﮊ على القرآن ،بل ّ النحوي
ّ واقتصار التركيب
اللغوي
ّ على هذه السورة – كما رأينا – يجعل من اآلية سبيك ًة أخرى لها بناؤها
القرآني المميّز.
ّ واإليقاعي
ّ
–4تَرميهم بحجار ٍة من ِس ّج ٍ
يل فجع َلهم
حال (ترميهم) وقد جاء صاحب أن اآلية تبدأ بجملة ٍ يميّز هذه السبيكة القرآنيّة ّ
آية سبقتها (طيراً) ،ولكن ينعطف على هذه الحال جمل ٌة أخرى تبدأ بها الحال في ٍ
مختلف هو الضمير المستتر
ٍ لصاحب آخر
ٍ اآلية التالية لها (فجعلهم) ،وهذه تابع ٌة
العائد على (اهلل) في قوله (وأرسل) في اآلية التي سبقتها نفسها.
265
فإن كانت جملة (ترميهم) صف ًة لـ(طيراً) وليست حا ً
ال ،كما يمكن أن يذهب
فإن ذلك لن يغيّر شيئاً من أمر هذا الحكم.
بعضنا في إعرابهاّ ،
–2في تضليل:
قو ًة إحيائ ّي ًة غير عادية ،وترفعه بهذا العنصر
القرآني تمنحه ّ
ّ ّ
إن فرادة هذا التعبير
بشكل مباشر ،من مثل:
ٍ تعبير آخر يمكن أن يؤ ّدي معناه أي ٍ اإليحائي عن مستوى ّ
ّ
هزيمة ،أو دمار ،أو هالك ،أو إحباط ،أو إفساد..
–3طيراً أبابيل:
المفسرون حول المعنى الدقيق ل ّلفظ (أبابيل) ،وكذلك
ّ رأينا كيف اختلف
حول وصف (الطير) التي أرسلها اهلل على أصحاب الفيل.
أن تعدّد احتماالت المعاني أو األوصاف التي ذكرناها ٍّ
لكل وال ّ
شك ّ
من اللفظين ،مع اجتماعهما معاً هنا وتقاطع هذه االحتماالت وتالقحها فيما
266
بينها ،من شأنه أن يضاعف الق ّوة االنفتاحيّة للتعبير ويمنحه المزيد من الغنى
واإليحاءات والظالل.
– 4حجار ٍة من ِس ّجيل:
المفسرون أيضاً حول معناه ،واقترحوا له أكثر من
ّ و(السجيل) الذي اختلفّ
معنى ،يكتسب بهذه المعاني العديدة المقترحة ،كما تكتسب الحجارة التي ُوصفت ً
وغنى ال تتمتّع بها األلفاظ أو العبارات المباشرة
ً به أو ُصنعت منه ،أثواباً وألواناً
ذات البعد الواحد.
كعصف مأكول:
ٍ –5
والسجيل اختلفوا حول (العصف) فأعطوه أكثر ّ وكما اختلفوا حول األبابيل
ٌ
(مأكول) أكثر من وجه ،م ّما الوصف الغريب والجديد ُ معنى ،كما أضفى عليه
من ً
القرآني.
ّ درجة كبيرٍة الطاقة االحتماليّة لهذا التعبير
ٍ يغني إلى
خامساً :جوامع َ
الك ِلم
–1أصحاب الفيل:
والديني ،فما أن
ّ والقصصي
ّ التاريخي
ّ لقد أخذ هذا التعبير موقعه في قاموسنا
بكل تفاصيلها.تقول ﮋأصحاب الفيلﮊ حتى يذهب الذهن إلى تلك القصة القرآنيّة ّ
رمزي يُ ْجمل تلك الحادثة الها ّمة.
ٍّ لغوي
مصطلح ٍّ
ٍ وهكذا غدا التركيب بمثابة
267
هم في تضليل:
كيد ْ –3يَ ْ
جعل َ
كثير من ممارساتنا اليوميّة.
قرآني آخر يَصلح أن نستخدمه في ٍ ٌّ تعبير
وهذا ٌ
حق من حقوقه فنقول لهذا أحدهم بانتقاص ٍّ ظالم يهدّد َ
أي ٍ فهو خير ما نر ّد به على ّ
تدبر ض ّد
مع ّزين :ال تقلق ،سيجعل اهلل كيدهم في تضليل .وإذا أحسسنا بمؤامرٍة َّ
بمكر يدبّره لنا من أراد بنا سوءاًَ ،
دعونا اهلل تعالى ظالم ،أو ٍ
معتد أو ٍ
أوطاننا من قبل ٍ
اللهم اجعل كيدهم في تضليل ..
مبتهلينّ :
كعصف مأكول:
ٍ –4فجعلهم
فإذا تح ّققت الهزيمة ،وباء العد ّو بالخسران ،و ُعدنا لنتحدّث ع ّما تح ّقق لنا
كعصف مأكول.
ٍ ووصف ما وقع لألعداء من دمار ،قلنا :فجعلهمِ من انتصارات،
268
السورة الثانية عشرة
ال ُه َمزة
ﮋﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ
ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ
ﮊﮋﮌﮊ
للسور ،ومجموع
َ التراجعي
ّ هذه هي السورة الحادية عشرة حسب الترتيب
يقل عن 60موقعاً
كلمات السورة ال يتجاوز 33كلمة ،ولكننا نكتشف فيها ما ال ّ
العربي.
ّ جديداً أحدثه القرآن الكريم في اللسان
سور القرآن الكريم بالمواقع اللغويّة الجديدة على إنّها واحد ٌة من أغنى َ
تتكرر في غيرها ألفاظ ال ّ يقل عن سبعة ٍ مختلف جوانبها .وفيها ،إلى ذلك ،ما ال ّ
يقل عن السورُ ( :ه َمزة ،لُ َمزةَ ،عدّده ،أَخ َلده ،لَيُنبَ َذ ّنُ ،
الح َط َمة ،ال ُمو َقدة) وما ال ّ من َ
سور القرآنُ ( :ه َمزٍة لُ َمزة ،جمع
تعبيرات تقتصر عليها وحدها أيضاً دون باقي َ ٍ سبعة
لع على األفئدة ،عليهم مؤصدةَ ،ع َم ٍد ممدّدة)، ذن ،نا ُر اهلل ،ت ّط ُ ال وعدّده ،ك ّ
ال ليُنبَ ّ ما ً
الس َور.
اختصت بها دون باقي ُّ
ّ المتفردة التي
ّ ال عن السبائك اللغويّة فض ً
269
أو ً
ال :األلفاظ والمصطلحات
ٌ –1
ويل:
تعرضنا لهذا اللفظ في اآلية ﮋﭶ ﭷﮊ من سورة سبق أن ّ
(الماعون) ،ولدينا هنا ما نضيفه أيضاً.
لنسمع أو ً
ال ما قاله ابن خالويه عن جدّة استعمال هذا اللفظ في القرآن الكريم:
واد في جهنّم ،فإن قيل :وهل تعرف ويل :معرف ٌة ألنه اسم ٍ «وقال آخرونٌ :
إن ألفاظ القرآن تجيء لفظاً عرب ّي ًا مستعاراً ،كما س ّمى اهلل تعالى العرب ذلك؟ فقل ّ
فاهجرّ ،
ألن من والرج َز ُوالصنم عذاباً ورجزاً ،فقالُ :
َ ُّخذ ر ّب ًا، الصنم بع ً
ال ،حيث ات ِ َ
ً
فس ّمي باسم مسبّبه ،فل ّما كان الويل هالكا وثبوراً ،ومن الرجزُ ، َعبَد الصنم أصابه ُ
ً (((
المصير إلى الويل :ويال».
ُ دخل النار فقد هلك ،جاء أن يس ّمى
حقيقي هو
ٌّ القرآني لهذا اللفظّ ،
بغض النظر عن معناه، ّ ّ
والحق أن االستعمال
مجازي ،يختلف غالباً عن استعمال العرب له ،كما نتبيّن في الحاالت الـ 13 ّ أم
حاالت منها مضافاً إلى اللفظ
ٍ الجاهلي .فهو ي ِرد في 10
ّ التي وجدناها له في الشعر
حالة واحدٍة أخرى مضافاً إلى (أب) .كما في األبيات:
(أ ّم) وفي ٍ
ينســــكب
ُ والقطر
ُ كتائباً ُ
كالربى كم ِمن َج ْم ِع ســــادتِنا
أم ُ يا َ
ويل ِّ
الحارث بن عبّاد (ت 74ق.ﻫ)
((( الدرويش ،إعراب القرآن الكريم وبيانه ،مرجع سابق ،ج ،8ص.407
270
ياابن أبي َش َم ْر
أبيك َ ُكل ُ
ويل َ بالث ِ ت على أُ َخيِّ َ
ك إذ دعا هّ
ال عط ْف َ
عمرو بن كلثوم (ت 39ق.ﻫ)
ب
والر َه ِ
ب َ الر ْع ِ
الب غدا َة ُ
بني ِك ٍ هم و ْي ُل ِّم ٍّ
حي دفعتُ ْـم في نحو ِر ُ
ُ
الطفيل الغنوي (ت 13ق.ﻫ)
عاعهــا يض ُ
الظبا ُش َ وأرسـلــت بِ ُ
ْ لشـيبان إذا ص ّبحتُـهــــا
َ ٌ
ويــــــل
عنترة (ت 22ق.ﻫ)
أ ّما في القرآن الكريم ففي الحاالت الـ 40التي يرد بها هذا اللفظ نجده
يتعدّى في 27منها بالالم –الحظ الفرق الكبير في نسبة هذا االستعمال بين ٍّ
كل
من القرآن والشعر– ومنه قوله تعالى:
[البقرة]79 : -ﮋﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮊ
[المط ّففين]1 : -ﮋﯖﯗﮊ
ضمير (ضمير المتك ّلم أو
ٍ وقد أضيف في بقية الحاالت ( 13حالة) إلى
المتك ّلمين أو المخاطب أو المخاطبين) وهذا ما لم يعرفه الشعر أبداً من قبل،
كما في اآليات:
[هود]72 : -ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﮊ
-ﮋ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮊ
[الكهف]49 :
271
واألغرب من هذا أ ّ
ال نجد في القرآن الكريم إضاف ًة واحد ًة إلى األب أو األ ّم،
وال في الحديث الشريف ،وهي الصيغة التي استأثرت بمعظم حاالت استعمال
الجاهلي.
ّ هذا اللفظ في الشعر
أوضاع
ٍ الجاهلي في ثالثة
ّ أن القرآن الكريم قد خالف الشعروهكذا نجد ّ
واحد من األوضاع األربعة التي استُخدم فيها هذا اللفظ،
ٍ وضع
ٍ والتقى معه في
وهي حالة التعدّي بالالم ،مع مالحظة عظم الفجوة بينهما حتّى في هذا االستعمال
ويلخص ّ
كل ذلك الجدول التالي: (ّ .)2 / 27
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،33حديث رقم .60
((( الطبراني ،سليمان بن أحمد .المعجم الكبير ،تحقيق :حمدي عبد المجيد السلفي ،الموصل:
مكتبة العلوم والحكم ،ط1404 ،2 .ﻫ ،1983 ،ج ،7ص ،310حديث رقم .7242
272
سور
يتكرر في غيرها من َ
تختص سورة (ال ُهمزة) باللفظ ،فال ّ
ّ وفض ً
ال عن ذلك
القرآن الكريم.
–3لُ َم َزة:
العربي ،ال قبل
ّ قرآني آخر ال نجده ،هو أو مشت ّقاته ،في الشعر
ٌّ وهو ٌ
لفظ
يتكرر اللفظ في القرآن في غير هذا الموضع ،ويخلو منه
اإلسالم وال بعده .وال ّ
الحديث الشريف أيضاً.
الشعري أو
ّ القرآني للفعل يختلف عن المعنى ّ أن المعنى ومن الواضح ّ
المألوف في لغتنا العاديّة ،ألنّه في القرآن بمعنى :ن ّوعه ،أو أكثر منه ،أو عاد إليه
مر ًة بعد أخرى ،على حين ال يتجاوز الفعل في لغتنا معنى الع ّد أو اإلحصاء. ّ
يتكرر ثاني ًة في القرآن الكريم،
ومر ًة أخرى تنفرد هذه السورة باللفظ ،فال ّ
ومر ًة أخرى ال نعثر عليه في الحديث الشريف أيضاً.
–5أَ ْخ َ
لده:
العربي هي في القرن الخامس
ّ مر ٍة نعثر فيها على هذا اللفظ في الشعر
أ ّول ّ
القيرواني (ت 488ﻫ) ،ثم في القرن السابع
ّ الحصري
ّ علي
الهجري عند الشاعر ّ
ّ
السنجاري (ت 638ﻫ) وقد استند هذا األخير في استعماله إلى
ّ عند المكزون
القرآني:
ّ التعبير
273
َر
ولكن في َسق ْ
ْ فكان ما َظ َّن أن مــــالَه أخلــــــد ُه
ــــن ّ
وظ ّ َ
274
إلثبات يسبق هذا اللفظ أو يلحق به ،كما نقول نحن اليوم :أتريدني أن أخون
ٍ أو نفياً
ال .وكما في هذه األبيات:ال وألف ك ّ
ضميري؟ ك ّ
ــر األ ّيـــا ِم
آخ َـون ُو ّد ًا ِ
َرج َ
ت ُ كـم بُ َجيـراً َعن َ
ْـو ًة عـد َمقتَ ِل ْ
أفبَ َ
واإلحرام الح ِّ
ـــــل ورب ِ ِّ كّ
ال نىالراقصــات إلى ِم ً
ِ ورب
ال ِّكّ
ِ
الحارث بن عبّاد (ت 74ق.ﻫ)
ــــد ِر
والص َــــزم َ
ركائبيبين ِور ِدال َع ِ وقفت
ذاك ما ْأخشى عليها ولوال َ
بالخب ِر
عد الدارَ ،
طول بُ ِ
منها ،على ِ رب مقتنـعاً
كنت بَعد ال ُق ِ كّ
ال وال ُ
عنترة (ت 22ق.ﻫ)
َ
ظنون القوم وآمالهم بالعفو ال) في البيت الثاني فالحارث ينفي باللفظ (ك ّ
والصلح معهم بعد قتلهم لبُ َجير ،وعنترة يؤ ّكد نفيه في بيته الثاني لِما سبق أن نفاه
في البيت األول ،واألعشى ينفي زعماً ألعدائه سيذكره بعد (ك ّ
ال) ،والنابغة يستعمل
اللفظ بمثابة حرف جواب ،مثله مثل( :نعم) و (ال) و (بلى).
275
كنت ألعاج ُله بالسيف قبل ذلك .فقال رسول اهلل :اسمعوا بالحقْ ،
إن ُ ّ
((( إلى ما يقول س ّيدُ كم!! إنّه لغَيور ،وأنا أغيَ ُر منه ،واهللُ ْ
أغيَ ُر منّي
لقد جاء اللفظ في الحديث األول على لسان السارق وهو ينفي أمام عيسى
عليه السالم أنّه سرق.
حديث طويل– على لسان الرسول ٌ وجاء الحديث الثالث –وهو في األصل
منكر فعلوه ،فح ّذرنا
يتناهون عن ٍنفسه ،بعد أن حكى لنا كيف كان اليهود ال َ
ال واهلل ..وهي جميعاً ٍ
معان ال تخرج ع ّما عهدناه ،وما نزال من ذلك بقوله :ك ّ
النبي له في الحديثنعهده ،من أبواب استعمال هذا اللفظ ،وإن كان استعمال ّ
القرآني.
ّ أقرب من الحديثين اللذين سبقاه إلى االستعمال
األخير َ
تساؤالت عديدٍة ونحن حائرون:
ٍ القرآني فيضعنا مرغمين أمام
ّ أ ّما اللفظ
صنف من المعاني التي عهدناها لهذا اللفظ نضعه؟! ولنقرأ معاً هذه
ٍ أي
تحت ّ
اآليات الكريمة:
-ﮋﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋ
ﮊ [المعارج]39 – 36 : ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ
-ﮋﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮊ
[عبس]23 – 20 :
276
-ﮋ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ
ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ
ﮊ [المط ّففين]19 – 13 : ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ
-ﮋﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ
ﮊ [الفجر]22 – 19 : ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ
-ﮋﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ
[التكاثر]5 – 1: ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮊ
أن (ك ّ
ال) جاءت لتنفي آمال الكافرين ففي آيات (المعارج) قد يتبادر إلى الذهن ّ
موض ٌح ِّ
ومؤك ٌد لهذا النفي، ثم ،أن يأتي بعدها ما هو ِّ بأن يدخلوا الجنّة ،ونتو ّقع ،من ّ
شأن أي شي ٌء من هذا القبيل( :ك ّ
ال لن يدخلوا الجنّة) ،ولكنّنا نفاجأ بأنه يلتفت إلى ٍ
آخر ،فيتحدّث عن عمليّة َخل ِقهم ،ويذ ّكرهم بما كانوا عليه من حقارة ٍ
شأن قبل
الخلق.
هذا َ
277
طبعاً تالحظون معي ّ
أن هناك مقابل ًة مقصود ًة بين النهايتين المتناقضتين
لهؤالء وهؤالء ،وهذا هو دور (ك ّ
ال) هنا :تغيير "إشارة المرور" ليتح ّول السياق من
نقيضه تماماً ،كما هو هنا ،وكما هو في آيات (الفجر)موضوع إلى آخر ،قد يكون ٍَ
و(التكاثر) ،وكما هو كذلك في آيات (ال ُهمزة) التي نحن بصددها ،ولكنّه قد يقتصر
على مخالفته له ،قلي ً
ال أو كثيراً ،كما في آيات (المعارج) و (عبس).
– 7ليُنبَ َذ ّن:
الجاهلي ،وكذلك في الحديث
ّ رغم وجود اشتقاقات هذا الفعل في الشعر
التأكيدي
ّ َسم
الخاصة :الق َ
ّ الشريف ،فإننا ال نعثر عليه فيهما بهذه الصيغة القرآنيّة
أن الموسوعات الضوئيّة ال تساعدنا في المبني للمجهول .ورغم ّ
ّ لصيغة الغائب
هذه المرحلة على التأ ّكد من وجود صيغة القسم هذه ،من أي ٍ
فعل كانت ،فأنا
ّ
أشك في أنّها كانت معروف ًة على اإلطالق قبل نزول القرآن.
تتكرر في القرآن تختص سورة (ال ُهمزة) بهذه الصيغة ل ّلفظ فال ّ ّ ومرةً أخرى
ّ
أبداً .ولم أجد الفعل (نبذ) في الحديث الشريف متعدّياً بالحرف (في) كما هو هنا،
القرآني ،وإنّما جاء متعدّ ي ًا بنفسه فيكون بمعنى (نبَ َذ
ّ ثم لم أجده فيه بالمعنى
ومن ّ
الثوب» (((،أو متعدّ ي ًا بـ (إلى)،
َ ُ
الرجل إلى الرجل النبيذ) ،أو بمعنى (أعطى) »ينبُ ُذ
فيكون بمعنى ّ
(يبث) أو (يوحي) كما في حديث الرسول عن نزول جبريل عليه
(((
بالوحي »فيَنبُذه إلي».
الح َط َمة ّ
(مكرر): ُ –9 –8
الجاهلي ،وإنّما نعثر فيه مر ًة واحدة على
ّ لم أجد هذا اللفظ في الشعر
(ح ْط َمة) –بتسكين الطاء– وهي َسنَة القحط الشديدة ،وذلك في قول ذي ِ
الخ َرق ُ
وي (ت؟): ُ
الط َه ّ
((( النسائي ،المجتبى من السنن ،مرجع سابق ،ج ،7ص ،260حديث رقم.4513 :
((( المرجع السابق ،ج ،2ص ،146حديث رقم.933 :
278
ُ
الورق ت
نمارس ال ُعو َد حتّى يَنبُ َ
ُ إنّا إذا ُح ْط َم ٌة َحتّ ْت لنا َ
ورقاً
وقد عثرت عليها في الحديث الشريف مر ًة واحدة ،وجاءت فيه بمعنى الراعي
بعضها بعضاً:
الذي يشت ّد على غنمه في َسوقه لها حتى يَحطم ُ
َّ –10
تطلع:
القرآني،
ّ الجاهلي ،ال بالمعنى
ّ ال نعثر على هذا اللفظ أو مشت ّقاته في الشعر
َط َّل ُع) بمعنى (تَط ُلع) أو
وهو الكشف واإلظهار ،وال بغيره ،وإنما نجد اللفظ (ت َ
(تخرج) وربما بمعنى (تنظر) وذلك عند الشاعر عمرو بن ُقميئة (ت 85ق.ﻫ):
ف بال ّط ِ
عن فيه الرجاال ُطـــر ُ
س ت ِّ ُ ويــــوم ت َ
َط َّل ُ
ــــع فيـــه النفــــــو ٍ
ويتكرر اللفظ مر ًة أخرى في سورة (المائدة) .ولم أجده في الحديث الشريف.
ّ
– 11األفئدة:
الجاهلي بصيغة الجمع هذه أبداً ،رغم ّ
أن ّ ال وجود لهذا اللفظ في الشعر
تتكرر في القرآن الكريم 11مرة .وال وجود له في الحديث الشريف إ ّ
ال الصيغة ّ
أن يرد في سياق آية.
((( القشيري ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،ج ،3ص ،1463حديث رقم .1830
279
مؤ َص َدة:
ْ – 12
هذا أيض ًا من األلفاظ التي سنستغرب لو عرفنا أنها ال ت ِرد مطلقاً ،هي أو
الجاهلي وال في
ّ مخفف ًة بالواو (موصدة) ،ال في الشعر
مشت ّقاتها ،مهموز ًة أو َّ
الحديث الشريف.
أ ّما اللفظ نفسه فعلينا أن ننتظر قرنين آخرين لنعثر عليه أل ّول مرة في الشعر
الرومي (ت283ﻫ) وذلك قوله:ّ العربي ،وفي وصف جهنّم أيضاً ،عند ابن ّ
ؤص ُد
جهنم ُم َ حجاب ٌ
وباب من ّ ٌ ُ
عيون الناظرين ودونَ ُه ترا ُه
ٌ –1
ويل:
أدبي
فن ٍّأن ابتداء الحديث بنكرة ،سور ًة كان هذا الكالم أو َّأي ٍّمن الواضح ّ
أمر لم تعتده األذن العربيّة.
عرفناهٌ ،
بيت من الشعر بنكرٍة ليس أمراً خطيراً ،رغم أنه ليس مألوفاً
فأن تبدأ جمل ٌة أو ٌ
ّ
ويستحق عادي
ٍّ أمر غير
كامل من كتاب فهذا ٌ فصل ٌ كثيراً أيضاً ،ولكن أن يبدأ بها ٌ
التو ّقف عنده.
280
ال ،أن يتس ّلما من المدرسة يوماً رسال ًة تبدأ هكذا:
هل يتو ّقع الوالدان ،مث ً
أ ّما اللفظ (براءة) في مطلع سورة (التوبة) واللفظ (سورةٌ) في مطلع سورة
(النور) فيخ ّفف من تنكيرهما أنّهما موصوفان بإلحاقهما تعالى في األولى بقوله:
ﮋ ﭒ ﭓ ﭔ ﮊ أي :براء ٌة آتي ٌة منهما ،وفي الثانية بقوله :ﮋ ﭒ ﭓ ﮊ
يقربها من مرتبة المعرفة.
بصفة ّ
ٍ أيُ :من َزل ٌة ومفروضة .والمعروف ّ
أن إلحاق النكرة
ورغم وجود بعض المذاهب التي تس ّوغ االبتداء بنكرة ،أحياناً ،تحتفظ هذه
لجملة أو بيت ،وإنما
ٍ ابتداء
مجرد ٍ الحالة بق ّوتها وفرادتها ،ألنها ،كما قدّمنا ،ليست ّ
أدبي كامل.
لعمل ٍّ
هي ابتدا ٌء ٍ
281
ويل ّ
لكل: ٌ –2
الجاهلي –كما
ّ خاص بالقرآن وحده ،إذ ال وجود له في الشعرٌّ هذا التعبير
رأينا من استعماالت اللفظ (ويل)– وال وجود له في الحديث الشريف أيضاً ،وال
مرتين ،كما أسلفنا.
ال ّيتكرر في القرآن إ ّ
ّ
ُ –3ه َم َز ٍة لُ َم َز ٍة:
يتكرر في القرآن
خاص لم يسمعه العرب في الجاهليّة ،وال ّ
قرآني ٌّ
ٌّ تعبير
هذا ٌ
أبداً ،وال وجود له في الحديث الشريف.
–4الذي:
أن االسم الموصول هو أحد المعارف السبع في اللغة من المعروف ّ
العربيّة ،ومن أعرافنا النحويّة أن توصف المعرفة بمعرفة ،والنكرة بنكرة ،وهذا
ما لم يحدث هنا.
نقول:
غزير ،أو:
مطر ٌانهمر ٌ
المطر الغزير..
ُ انهمر
وال نقول:
الغزير ،وال:
ُ مطر
انهمر ٌ
غزير
المطر ٌ
ُ انهمر
فاالسم الموصول (الذي) جاء في السورة صف ًة ألحد اللفظين ( ُهمزة) أو
(لُمزة) أو لالثنين معاً ،وكالهما نكرة ،وهو معرفة.
الجاهلي ،وال في القرآن الكريم،
ّ وال نجد هذا النوع من الوصف في الشعر
روايات أخرى
ٍ رواية واحدٍة تخالف
ٍ وال في الحديث الشريف ،إ ّ
ال ما جاء في
النبوي المأثور:
ّ للدعاء
282
حممد ًا الوسيل َة والفضيلة،
آت ّرب هذه الدعو ِة التا ّمة والصال ِة القائمةِ ،
اللهم َّ
ّ -
(((
وابعثْه مقاماً محموداً الذي وعدتَه
ف ُو ِصفت النكرة (مقام ًا) هنا ،خالف ًا للروايات األخرى ،باالسم الموصول
يخفف من تنكيرها ويقترب بها من حدود أن وصفها بـ (محموداً) ِّ(الذي) .ورغم ّ
المعرفة فإنّها تَ ِرد في الروايات األخرى معرف ًة هكذا «وابعثْه المقا َم المحمو َد الذي
وعدتَه»((( فينتفي معها الشاه ُد في الحديث.
شبيهة بهذه الحالة ،ولكن مع غير االسم الموصول،
ٍ حالة
وفي القرآن أكثر من ٍ
لخصها ابن هشام بقوله: م ّما سبّب للنحويين حير ًة ّ
«إن (الذي) –في ال ُه َمزة– ٌ
بدل ،أو صف ٌة مقطوعة ،بتقدير :هو ،أو :أذ ّم ،أو: ّ
أعني ،هذا هو الصواب ،خالفاً لمن أجاز وصف النكرة بالمعرفة مطلقاً ،ولمن
ال بنكرة ،وهو قول األخفش»(((.وصف النكرة أو ً
ِ بشرط
ِ أجازه
–5الذي جمع ما ً
ال وع ّدده:
وتتكرر كثيراً في
ّ تمثّل هذه اآلية ظاهر ًة قرآن ّي ًة ّ
مرت بنا في سورة (الماعون)،
القرآن الكريم ،وال نجدها في غيره.
فاآلية تبتدئ باسم موصول ،وهو صف ٌة أو ٌ
بدل من ( ُهمزة) أو (لُمزة) كما ٍ
موصول ،ولكن
ٍ رأينا ،وهي حال ٌة تختلف بها عن اآليات التي ربما تبتدئ ٍ
باسم
برابط يربطه بما قبله (الواو أو الفاء مث ً
ال) كقوله تعالى: يُسبَق عاد ًة ٍ
[النساء]16 : -ﮋ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﮊ
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،222حديث رقم.589 :
((( البستي ،صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان ،مرجع سابق ،ج ،4ص ،586حديث رقم .1689
((( ابن هشام األنصاري ،جمال الدين عبد اهلل بن يوسف .مغني اللبيب عن كالم األعاريب ،تحقيق:
مازن المبارك ومحمد علي حمد اهلل ،بيروت :دار الفكر1985 ،م ،ص.747
283
جاهلي ،يبدأ بـ (الذي) أو مشت ّقاتها،
ّ جاهلي ،وربما غير
ّ بيت
أي ٍولم أعثر على ّ
ال أن تسبقهامذكر ًة كانت أو مؤنّثة (الذين ،اللذان ،التي ،اللتان ،اللواتي ،الالئي) إ ّ
َّ
أدا ٌة أو ٌ
رابط (هي غالباً األداةّ :
إن) كقولهم:
إن كان َ
أغناك عنّي سوف يُغنيني ويبسطها
يقبض الدنيا ُ ّ
إن الذي ُ
ذو األصبع العدواني (ت 21ق.ﻫ)
جم َع ما ً
ال: َ –6
لو تركنا ألنفسنا أن نعبّر عن هذا المعنى نفسه بلغتنا فماذا يمكن أن نقول؟
نجرب:
دعونا ّ
جمع المال
جمع ما ً
ال وفيراً
284
–7جمع ما ً
ال وع ّدده:
القرآني بالطريقة البشرية،
ّ مر ًة أخرى حاولوا معي أن تعبّروا عن هذا المعنى
ّ
مر ًة أخرى مستنيرين بالمعاني التي اقترحها
نجرب ّ فماذا يمكن أن نقول؟ دعونا ّ
المفسرون لهذه اآلية:
ّ
جمع المال وراح يعدّه ّ
كل يوم
وانكب عليه يعدّه ويحصيه
ّ جمع المال
جمع المال وأكثر من تعداده
جمع المال بأشكاله المتعدّدة
جمع المال الكثير وأعدّه لحياته
شيء إ ّ
ال ﮋ ﭨ ﭩ ﭪ ﮊ. أي ٍ وهكذا ترون ّ
أن من المحتمل أن نقول ّ
285
ولو أعدنا صياغة اآليتين بلغتنا البشريّة -مع مراعاة اإلبقاء على الشكل
القرآني لألجزاء األخرى– لقلنا:
ّ
الذي جمع ما ً
ال يحسب أنّه أخلده
(((
يقول الشوكاني في هذا» :واإلظهار في موضع اإلضمار للتقريع والتوبيخ».
خاص بهذا
ٌّ قرآني
ٌّ أسلوب
ٌ ّ
وبغض النظر عن المغزى من وراء هذا التكرار ،فإنه
الموضع وحده.
– 10أخ َل َده:
ماض حقاً ،ولكنّه في معنى المضارع .وحاولوا أن تعبّروا بلغتكم
فعل ٍهذا ٌ
عن هذا المعنى ،إذن لقلتم:
هكذا بالمضارع ،وكذلك بتشديد الالم على أنه من الفعل :خ ّلد ،كما سبق
أن رأينا.
ال لَـ:
–11ك ّ
مرة؛ لم تتبعها (الم التوكيد ،أو الالم ال) في القرآن (ّ )33 رغم ورود (ك ّ
الرابطة لجواب القسم) إ ّ
ال في هذه اآلية ،وإنما تبعتها ال ٌم أخرى يس ّميها النحاة
آية واحدٍة أخرى ،وذلك قولُه تعالى:(الموطئة للقسم) في ٍ
((( الشوكاني ،فتح القدير الجامع بين فنَّي الرواية والدراية من علم التفسير ،مرجع سابق ،ج ،5ص.702
286
الح َطمة:
ُ –12
العربي ،تَعرض لقط ًة سريعة،
ّ نحن هنا أمام صورٍة بيان ّي ٍة جديدٍة على الخيال
َح ِطم ما فيها ومن فيها م ّمن ُقدّر له أن
ولكن عميق ٌة وحا ّدة ،لمنظر جهنّم وهي ت ْ
يُعا َقب بها.
–13وما أدراك:
العربي قبل الوحي
ّ قد يُفاجأ أحدنا لو علم أن هذا التعبير ،لم يعرفه الشعر
وال بعده حتى مجيء ابن الرومي (ت283ﻫ) .ويكرره هذا الشاعر عدّة مر ٍ
ات في ّ ّ
إحدى مقطوعاته الخفيفة فيقول:
غــــــــرك بالبَ ْبـــ ِر
ّ ومـــــــا ُ
الليـــــــــث َ
أدراك مـــــا ومـــا
غــــــــرك بالبحــــ ِر
ّ ومـــــــا ُ
الســـــيــــل َ
أدراك مــــــا ومـــا
غــــــــرك بالدهــــ ِر
ّ ومـــــــا بالــمــــــوت
ِ َ
أدراك ومـــا
حي
النبي أتوا على ٍّ أن ناساً من أصحاب ّ ري ّ t -عن أبي سعيد ُ
الخ ْد ّ
من أحياء العرب ،فلم يَ ْق ُروهم (أي يضيّفوهم) ،فبينما هم كذلك؛ إذ لُ ِدغ
راق؟ فقالوا :إنّكم لم تَقرونا،
دواء أو ٍ
سيّد أولئك ،فقالوا :هل معكم من ٍ
ال ،فجعلوا لهم قطيعاً من الشاء .فجعل يقرأ نفعل حتى تجعلوا لنا ُج ْع ً
وال ُ
بأ ّم القرآن ،ويجمع بُزا َقه ويَت ِفل ،فبرأ .فأتَوا بالشاء فقالوا :ال نأخ ُذه حتى
287
َ
أدراك أنّها ُر ْقيَة؟ خذوها، النبي .فسألوه ،فضحك وقال» :وما َ
نسأل َّ
(((
بسهم»
واضربوا لي ٍ
القرآني ،إنّه
ّ النبوي يختلف تماماً عن االستعمال
ّ أن االستعمال وواضح ٌّ
تعجب ّي ٌة تشير إلى استعظام الشيء واستكباره ،وهو في
في القرآن جمل ٌة إخبار ّي ٌة ّ
ُ
محض استفهاميّة. الحديث جمل ٌة إنشائ ّي ٌة
وربّما كان من المفيد أن نذكر هنا ما الحظه القدماء بخصوص هذا التركيب،
كل ما ورد منه بصيغة الماضي في القرآن فقد أخبر به تعالى بعده ،كما أن ّ
وهو ّ
وكل ما ورد منه في صيغة أخبرنا هنا بعد قوله (ما أدراك) بقوله (نا ٌر حامية)ّ ،
ظل مع ّلق ًا.
المضارع (وما يُدريك) لم يُخبِر به أبداً بعد الفعل بل ّ
بخبر ُحذف فال نبدأ الجملة في لغتنا الرسميّة ،وال أقول اليوميّة أو العاميّةٍ ،
جملة سابقة ْ
–إن أعر ْبنا ٍ لفظ ورد فيببدل من ٍ اسمه ْ
–إن أعر ْبنا (نا ُر) كذلك– وال ٍ
(الحطمة)–.
ال من ُ (نار) بد ً
نار اهلل:
ُ –15
العربي بشيء اسمه (نار اهلل)؛ إذ لم تعتد أ ُذنه من ُ
قبل إضاف َة ّ مر ٍة يسمع
أل ّول ّ
وتختص سورة (ال ُهمزة) بهذا التعبير الجديد،ّ لفظ (النار) إلى لفظ الجاللة (اهلل).
أي من السور األخرى ،وال نجده في الحديث الشريف أيضاً. يتكرر في ٍّ
فال ّ
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،5ص ،2166حديث رقم .5404
288
–16التي ت ّط ُ
لع على األفئدة:
ينطبق على هذه اآلية ما انطبق على اآلية الثانية (الذي جمع ما ً
ال وعدّده) من
بغض النظر عن مح ّله من اإلعراب.
ابتدائها باالسم الموصول (التي) ّ
ّ –17
تطلع على األفئدة:
جميل وجدي ٌد على لغتنا ،بل صور ٌة بيان ّي ٌة تصف وصول آالم
ٌ قرآني
تعبير ٌّ
هذا ٌ
تفسير آخر ،تصف معرفة النار بمقدار
ٍ َّ
المعذبين ،أو ،بحسب عذاب النار إلى قلوب
بتفسير ثالث ،تصف كيف
ٍ واحد منهم من العذاب حسب عمله ،أو،
كل ٍ ما يستح ّقه ُّ
ظاهره ،بخالف نار الدنيا.
َ باطن اإلنسان كما تحرق
تحرق َ
مؤصدة:
–18إنّها عليهم َ
اللغوي الذي يربطها بما قبلها والذي كانت
ّ ال نجد في مطلع هذه اآلية الرابط
تتو ّقعه لغتنا البشريّة ،فنحن نقول هنا:
فإنّها عليهم مؤصدة ،أو:
فهي عليهم مؤصدة ،أو:
وهي عليهم مؤصدة
–19عليهم:
ظل الحديث طوال السورة محصوراً بالمفرد الغائب (هو) وضميره لقد ّ
عدده ،يحسب ،أخلده ،ليُنبَ َذ ّن) ولكنّه انقلب فجأ ًة هنا إلى ضمير
جم َعّ ،
(الذيَ ،
يعذبون في نار جهنّم. الجماعة (هم) ،ليشمل ّ
كل من َّ
289
ناحية أخرى نجد الحديث وقد تح ّول عند هذا اللفظ من حالة غير
ٍ ومن
العاقل (األفئدة) إلى حالة العاقل؛ أي أصحاب األفئدة ،فاستعمل هنا ضمير جماعة
العقالء (هم).
التفات من
ٌ أ – إ ّما إلعادة الضمير في (عليهم) إلى مقدّمة السورة فهو إذن،
المفرد هناك إلى الجمع هنا،
–21في َع َم ٍد مم ّددة:
لغوي يربطها بما قبلها .ولو عدنا إلى
ٍّ مر ًة أخرى تبدأ اآلية من غير ٍ
رابط
تقاليدنا اللغويّة البشريّة لقلنا:
وهم في َع َم ٍد ،أو:
وإنها في َع َم ٍد ،أو:
وهي في َع َم ٍد ممدّدة ..
290
المفسرين ،أو هي أعمد ٌة مرتفع ٌة تحيط بهم في جهنّم فال منفذ لهم للخروج ،كما
ّ
يقيدون بها هناك ،كما ذهب آخرون. ً
يذهب غيرهم ،أو قد تكون أغالال َّ
الثنائي فاجأ العرب أ ّول ما
ّ فإن هذا التعبير وأ ّي ًا ما كان يشير إليه لفظ َ
(عمد)ّ ،
ألن تراثنا خال منه بعد ذلك ،وما يزال ،كماسمعوه ،وما يزال يفاجئنا حتى اليومّ ،
يخلو منه الحديث الشريف.
لكل ُه َم َز ٍة لُ َم َزة:
ويل ّ
ٌ –1
لقد اجتمع في هذه اآلية الكاملة ما اجتمع من عناصر سبق أن تحدّثنا عن
بعضها ،وذلك حين أثبتنا فَرادة معنى (ويل) ،وجدّة اللفظين ( ُهمزة ولُمزة)،
(ويل ّ
لكل). واستقالليّة التركيب ٌ
291
واحد
ٍ جمع بين لفظين غريبين جديدين ( ُه َمزة لُ َمزة) وقد جاءا دراكاً على ٍ
وزن
اختص بها القرآن الكريم
ّ سبيكة جديدٍة
ٍ مشتهر أيضاً ( ُف َع َلة) ،تبيّنّا عند ذلك ّأية
ٍ غير
واختصت بها هذه السورة. ّ وحده،
–2الذي جمع ما ً
ال وع ّدده:
سبيك ٌة قرآنيّةٌ أخرى سبق أن تحدّثنا عن ٍ
عدد من جزئيّاتها :ابتداء اآلية
تنكير (ما ً
ال) ،ج ّدةُ اللفظ ُ وصف النكرة بمعرفة ( ُه َمزٍة لُ َمزٍة .الذي)،
ُ بـ(الذي)،
(عدّده) ،ج ّدةُ التعبير ﮋ ﭨ ﭩ ﭪ ﮊ.
292
الشريف ،فكيف يجتمع هذا النهي أو الزجر ،أو النفي ،في (ك ّ
ال) جنباً إلى ٍ
جنب
مع التأكيد والقسم واإلثبات في (ليُ ّ
نبذن)!!
[الحج]67 :
ّ -ﮋ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮊ
أن النهي في هذه اآلية األخيرة اعتمد على (ال) ،وليس على (ك ّ
ال). مع مالحظة ّ
سور
تتكرر بعد ذلك في باقي َ
وتقتصر السبيكة على هذه السورة ،فال ّ
القرآن الكريم.
والنماذج القرآنيّة اآلتية تساعدنا على فهم طبيعة تركيب هذه السبيكة .وهي
مرتين في آيتين متتابعتين ،مع الفصل بينهما بالتعبير ّ
تتلخص في تكرار اللفظ نفسه ّ
القرآني الخاص ﮋﭡ ﭢﮊ:
ّ
[المدّثر]27 – 26 : -ﮋﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﮊ
293
[الطارق]2 – 1 : -ﮋﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﮊ
جملة
ٍ فشبه الجملة (عليهم) يتقدّم على ما يتع ّلق به (مؤصدة) مع تأخير شبه ِ
ٍ آخر متع ّل ٍق بهذا األخير أيضاً أو ٍ
بحال مقدّ رة من الضمير المرتبط به (أي :مؤصد ٌة
عليهم كائنين أو محبوسين في َع َم ٍد) ،وإن كنّا ال نستطيع الجزم هنا بهذه المواقع
اإلعرابيّة نتيج ًة الختالف التفسيرات المحتملة حول معنى اآليتين ،وكذلك حول
خاص ،كما سوف نرى في حديثنا عن المواقع ّ إعراب اآلية األخيرة بشكل
المنفتحة في السورة.
ٌ –1
ويل:
لفظ أو إعرابه ،أو كليهما معاً ،هو أ ّول ما
المفسرين على معنى ٍّ إن اختالفّ
ينبّهنا إلى تعدّدية أبعاد اللفظ أو انفتاحه.
لقد اختلفوا كثيراً حول معنى (ويل) كما رأينا ،وهل هو دعا ٌء ،أم إنذا ٌر ،أم
ٌ
خبر لمبتدأ محذوف (أي :هو إخبار؟ وهل هو معرف ٌة ،أم نكرة؟ وهل هو مبتدأ أم ٌ
ويل)؟ وهل هو حقيق ٌة ،أم هو مجا ٌز (ألنه َس َّمى ما يؤ ّدي إلى الويل وي ً
ال)؟ ٌ
وبازدياد االختالف على هذه الجوانب المتعدّدة ل ّلفظ تزداد قيمته التعدّدية
وصفته االنفتاحيّة على تق ّلب العصور وتط ّور الثقافات.
294
ُ –3 –2ه َمز ٍة لُ َمزة:
المفسرون لهذين اللفظين عشرات المعاني ،وذهبوا في صيغتهما ّ اقترح
مبالغة ،كما يقالُ :س َخ َر ٌة
ٍ ( ُف َع َلة) مذاهب شتّى ،فهل هي صيغ ٌة عاديّة ،أم صيغ ُة
القرطبي في تفسيره
ّ وض َح َكة؟ وهل معانيهما حقيقي ٌة أم مجازيّة؟ هذا ما ينقله لنا
ُ
عن هذين اللفظين:
وقال أبو العالية ،والحسن ،ومجاهدٌ ،وعطاء بن أبي رباح :ال ُه َمزة :الذي
يغتاب ويطعن في وجه الرجل ،وال ُل َمزة :الذي يغتاب ِمن خلفه إذا غاب..
وقال قتادة ومجاهد :ال ُه َمزة :الط ّعان في الناس ،وال ُل َمزة :الط ّعان في أنسابهم.
وقال ابن زيد :الهامز :الذي يهمز الناس بيده ويضربُهم ،وال ُل َمزة :الذي
يلمزهم بلسانه ويعيبهم.
ِ
ويلمز بعينيه.
الثوري :يهمز بلسانهِ ،
ّ وقال سفيان
وقال ابن كيسان :ال ُه َمزة :الذي يؤذي جلساءه بسوء اللفظ ،وال ُل َمزة :الذي
يكسر عينه على جليسه ويشير بعينه ورأسه وبحاجبيه.
(((
وقال ُم ّرة :هما سواء».
((( القرطبي ،الجامع ألحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،20ص.182 – 181
295
–4الذي:
أصل اإلشكال المفسرين .وربّما كان َ
ّ وهو ٌ
لفظ حيّر علماء النحو أكثر م ّما حيّر
ال من ِّ
(كل) أو صف ًة له أو لـ فيه مجيئُه بعد نكرة ،كما رأينا ،فاقترحوا أن يكون بد ً
( ُهمزة) أو (لُمزة) ،أو لكليهما ولـ ِّ
(كل) معاً.
جديد،
ٍ وعارض آخرون ،فاقترحوا التو ّقف عند (لُمزة) واالستئناف من
محذوف
ٍ (يحسب) ،أو يكون خبراً لمبتدأ وخبره جمل َة ليكون لفظ (الذي) مبتدأً
َ ُ
والتقدير (هو الذي) ،أو يكون منصوب ًا على الذ ّم بإضمار (أعني) أي (أعني هذا
الذي جمع.)..
إن مثل هذا التعدّدِ في اآلراء يمنح اللفظ مكانته بين المواقع المنفتحة
ّ
والمتجدّدة مع العصور.
–5وعَدّ َده:
ال وأحصى عدده ولم يؤ ّد ّ
حق اهلل فيه ،أو: قيل في معنى (عدّده) :جمع ما ً
ضبَطه وأحصاه ،أو :عدّه مر ًة بعد أخرى ،أو :أعدّه وأمسكه لنوائب الدهر ،أو:
أعدّه لمن يرثه ،أو :فاض بكثر ِة عدده ،أو :فاخر بعدده وكثرته ،أو :امتلك أنواعاً
متعدّ د ًة منه.
جدة استعماله
تعدد المذاهب في معاني اللفظ عائ ٌد إلى ّ
أن ّ وبدهي ّ
ٌّ
العربي لم يعرف هذه
ّ وطبيعة السياق الذي ورد فيه ،وقد رأينا ّ
أن الشعر
الصيغة قبل اإلسالم.
حسب:
–6يَ َ
خبر للمبتدأ اإلعرابي .فجملته ٌ
ّ تأتي القيمة االنفتاحيّة لهذا اللفظ من وضعه
(الذي) كما يرى بعضهم ،أو هي حال ّي ٌة عند غيرهم؛ أي :يجمع ماله حاسباً أو ظا ّن ًا
296
أنّه سيخ ّلده ،أو هي استئناف ّي ٌة ال عالق َة نحو ّي ًة لها بما قبلهاّ ،
فكأن الكالم تو ّقف عند
(عدّده) ثم استؤنِف الحديث من جديد فقال :هو يحسب.
َ –7ك ّ
ال:
قد عرفنا ما لهذه األداة من خصوص ّي ٍة في القرآن ،وما منحته هذه الخصوصيّة
مرة. احتماالت متعدّ ٍ
دة في معناها ،تبعاً للسياق الذي ترد معه في ّ
كل ّ ٍ لها من
–8ليُنبَ َذ ّن:
معنى .فقد يكون المنبوذ في
أكثر من إشكال ،ومن ثم أكثر من ً في هذا الفعل ُ
شخص
ٍ النار هو الشخص الذي يصفه القرآن بال ُهمزة ال ُلمزة ،وقد يكون أيضاً َّأي
آخر مثله ،ولكنّه قد يكون أيضاً المال الذي يجمعه ويعدّده وليس الشخص نفسه.
ناحية أخرى نستطيع أن نفهم (النبذ) هنا بأكثر من طريقة .فهو الطرح
ٍ ومن
واإللقاء ،وهو أيضاً التحقير واإلذالل ،وكذلك النفي والعزل واإلبعاد واإلهمال،
وربما كانت هذه األخيرة أش ّد العقوبات على اإلطالق ألهل النار :أ ّ
ال تجد من
يهتم بك ويشفق عليك من العذاب هناك ،حتى أ ّمك وأبوك وأقرب الناس إليك. ّ
الح َط َمة ّ
(مكرر): ُ –10 –9
معان:
المفسرون لهذا اللفظ عدّة ٍ
ّ اقترح
منها أنّه يُطلق على الرجل األكول ،فهو على هذا صور ٌة بيان ّي ٌة إلبراز هول
فكي الرجل الن ِهم .قيل :إنها تَحطمجهنّم وطحنِها لمن فيها كما ينطحن الطعام بين ّ
العظام وتأكل اللحوم ،حتى تهجم على القلوب،
297
ومنها أنها الطبقة السادسة من جهنّم ،قيل :هي الثانية أو الرابعة،
كل هذا هو بروز الق ّوة االنفتاحيّة للكلمة ،وقد اكتسبتها غالباً
وما يه ّمنا من ّ
من جدّتها وجدّة المعنى الذي اكتسبته في القرآن.
وخص األفئدة
ّ اطلعتُ أرضي أي بلغت، منها أنه بمعنى (تط ُلع) تقولّ :
بالبلوغّ ،
ألن االحتراق إذا وصل إليها مات اإلنسان ،وهم ال يموتون ،لقوله تعالى:
ﮋ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﮊ،
اطلعت الجبل ّ
واطلعت عليه؛ أي ومنها أنه بمعنى (يصعد ويعلو) تقولّ :
أنها تتس ّلق إلى القلوب وتعلو عليها من غير أن تحرقها ،وهذا من أجل أن ّ
يظل
أصحابها أحيا ًء يذوقون طعم العذاب،
ومنها معنى ّ
االطالع ومعرفة الشيء الخبيءّ ،
كأن النار تعلم مقدار ما يستح ّقه
واحد منهم من عذابها ،فتحرقه بحسب عمله.
كل ٍ ّ
((( الدرويش ،إعراب القرآن الكريم وبيانه ،مرجع سابق ،ج ،8ص.410
298
مؤصدة:
–12عليهم َ
رأينا كيف وقع االلتفات هنا في السورة ،من صيغة المفرد ،التي طبعت جميع
اآليات التي سبقتها حتى اآلن ،إلى صيغة الجمع المتمثّلة بضمير الجماعة (هم).
جماعة غير معيّنين ال يجمعهم إ ّ
ال ٍ مفرد بعينه إلى
ٍ وهذا االلتفات ،من
ضمير آخر بعد
ٍ بأي
وجودهم في جهنّم ،وال تحدّدهم السورة ،وال تشير إليهم ّ
ذلك ،يضفي على العبارة أطيافاً من المعاني ،وأنواعاً من النماذج البشريّة التي
نتخيّلها وهي تخضع لهذا العذاب.
–13في َع َم ٍد:
النحوي في شبه الجملة هذا هو الذي ّ
رشحه ليكون بين المواقع ّ الجانب
المنفتحة .فبم نع ّلق شبه الجملة هنا؟
أن المبتدأ هو النار نفسها التي أُغلق عليها داخل األعمدة ،فيكون التقدير:
أم ّ
هي موص ٌد عليها في أعمدة؟
أم هي ٌ
حال من الضمير في (عليهم) أي :هي موصد ٌة عليهم في حال
وجودهم فيها؟
299
–14في َع َم ٍد مم ّددة:
إن االحتماالت المتعدّدة لتعليق شبه الجملة ﮋﮉ ﮊﮊ سيضاف إليها اآلن
ّ
احتماالت معاني (في) ومعاني (ممدّدة) وإعرابُها:
ُ
أن أهل النار ،أو ّ
أن النار نفسها ،هي داخل األعمدة. لقد ذهب بعضهم إلى ّ
أن تشابك هذه االحتماالت المتعدّدة وتداخلها في األلفاظ الثالثة شك ّوال ّ
من شأنه أن يولّد شحن ًة قو ّي ًة من الظالل والمعاني واألبعاد المتعدّدة لهذه العبارة.
خامساً :جوامع َ
الك ِلم
تعبيرات قرآن ّي ٌة غدت معروف ًة مشهورة ،فسار بعضها على األلسنة وأصبح
ٌ إنّها
العربي .ومنها ما
ّ شأنه شأن األمثال ،أو شأن التعبيرات التي اصطلح عليها اللسان
يصلح ألن يكون كذلك لو استخرجناه من آيات القرآن الكريم ونبّهنا إلى أهميّته
المحتمل في إغناء معجمنا اللغوي.
َ ودو ِره
ونجد من هذه التعبيرات في سورة (ال ُهمزة) ستّةً على ّ
األقل:
ويل لِ ِّ
كل: ٌ –1
العربي حين نزول القرآن ،غدا اليوم
ّ رغم ِجدّة هذا التركيب على اللسان
نتوجه به ،مث ً
ال ،إلى مألوفاً لدينا ،كثير الجريان على اللسان .ومن السهل أن ّ
نتوجه به
لكل من تحدّثه نفسه باالقتراب ،أو ّ ويل ّ
مجموعة من المشاغبين قائلينٌ :
ٍ
أب يترك أوالده للشارع ..
لكل ٍ مح ّذرين لبعض اآلباءٌ :
ويل ّ
300
ُ –2ه َمز ٍة لُ َمزة:
القرآني الخاص يصلح إطالقه على ّ
كل من اعتاد الغيبة والنميمة ّ هذا التركيب
أو اإليقاع بين الناس ،أو من اتصف بالغطرسة والغرور واحتقار اآلخرين والنيل
لسبب أو لغير سبب.
منهم ٍ
المو َقدة:
نار اهللِ ُ
ُ –5
الحر الشديد ،أو ربّما للتعبير
يمكن استخدام هذا التعبير للمبالغة في وصف ّ
أي شيء إنسان شديد القسوة في التعامل ،أو ّ
ٍ عن شدّة غالء األسعار ،أو في وصف
تجاوز حدوده المعتادة.
301
السورة الثالثة عشرة
العصر
ﮋﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ
ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﮊ
ّ
تحتل مكان ًة مهمة في حياة إنّها إحدى أقصر َ
سور القرآن الكريم ،ولكنّها
لسور الجزء
المسلمين اليوميّة ،وهي السورة الثانية عشرة في الترتيب التراجعي َ
الثالثين من القرآن الكريم.
303
ّأوالً :األلفاظ والمصطلحات
-1العصر:
ويرجح أكثرهم أنّه
ّ المفسرون في تفسير هذا اللفظ أكثر من مذهب،
ّ ذهب
آية أخرى ،تِبعاً لبعض
صالة العصر ،أو الصالة الوسطى كما س ّماها القرآن في ٍ
المفسرين.
ّ
المتوسط ما بين الظهر والمغرب ،وكذلك
ّ ومن أشهر معانيه األخرى؛ الوقت
مزيد من المعاني لهذا اللفظ فيما بعد.
الزمن أو الدهر .وسنأتي على ٍ
السور.
يتكرر في غيرها من َ
وتنفرد سورة (العصر) بهذا اللفظ فال ّ
وي ِرد اللفظ عند امرئ القيس (ت 80ق.ﻫ) مر ًة واحد ًة ولكن ّ
بضم العين
القرآني ،وإن كان معناه الزمن أو الدهر
ّ ٌ
مختلف إذن ،عن اللفظ والصاد ،فهو ٌ
لفظ
أيضاً ،وذلك في قوله:
وهليَ ِع َم ْن َمنكانفيال ُع ُص ِرالخالي ُ
الطلل البالي أال ِع ْم صباحاً أيّها
و لفظ (ال ُع ُصر) في بيت امرئ القيس مفرد ،رغم مجيئه على إحدى صيغ
أعص ٌر وأعصا ٌر و ُع ْص ٌر وعصور.
الجموع المشهورة .وصيَغ جمعه المعروفة هيُ :
304
– لروحها البعيدة عن شخصيّة عنترة الفارس األنِف حتى في مديحه.
-للغتها البعيدة جدّ ًا عن لغة الجاهلييّن ،بل القريبة إلى لغة عصور
الضعف واالنحدار.
أخبار وأشعار ،حتّى اختلط حول
ٍ خاص ًة من
ّ – لكثرة ما نُحل لهذا الشاعر
ُ
التاريخ باألسطورة. حياته وشعره
وح ّق ًا ال نعثر على هذا اللفظ عند غيره من الشعراء الجاهلييّن((( .ثم ال نجد
ال بعد اإلسالم عند المتل ّمسالجمع المشهور اآلخر ل ّلفظ ،وهو لفظ (العصور) ،إ ّ
الضبعي (ت43ﻫ) في قوله:
ّ
األوائل
ِ إذا َع َرفوا لي في العصور النجائب ِحد ًة
ِ ألصحاب
ِ عرفت
ُ
الجاهلي
ّ النبوي ما يغنينا عن الرجوع إلى لغة الشعر
ّ ولكن في لغة الحديث
ّ
فيما يتع ّلق بانتشار استعمال هذا اللفظ بمعنى ِ
الحقبة أو الدهر؛ إذ ال نعثر عليه في
مرة في (صحيح مسلم) ،ولكن على غير لسان الرسول : مرتينّ : الحديث إ ّ
ال ّ
وأيم -سئل زي ٌد عن قوله »وأهل بيتي»َ :من ُ
أهل بيتِه؟ نساؤه؟ قال :الُ ،
305
فترجع إلى
ُ ثم يط ّلقها
العصر من الدهرّ ،
َ الرجل
ِ إن المرأ َة تكون معاهلل ّ
(((
أبيها وقو ِمها...
روايات عديدٍة
ٍ عصر وجاء عصر) بينٌ وتنفرد هذه الرواية بعبارة (حتى ذهب
روايات على ّ
األقل في ُمسنَد أحمد نفسه– ليس فيها هذه ٍ أخرى للحديث –منها خمس
لفظ جرى حقاً على لسان الرسول . العبارة ،م ّما يجعلنا غير واثقين تماماً من أنّه ٌ
–2اإلنسان:
دت كثيراً في
مختص بالقرآن ،وقد تر ّد ُ
ٌّ ال نستطيع أن ندّعي ّ
أن هذا اللفظ
قرآني بغلبة االستعمال.
ٌّ إدراجه بين األلفاظ القرآنيّة ،ولكننا نستطيع أن نقول إنّه
((( القشيري ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،ج ،4ص ،1874حديث رقم .2408
((( الشيباني ،مسند اإلمام أحمد ،مرجع سابق ،ج ،33ص ،216حديث رقم .20012
306
المرات التي ي ِرد فيها اللفظ في القرآن
أن أه ّمية الفرق بين عدد ّ وال ّ
شك ّ
وعددها في الشعر تتّضح لو قارنّا بينه وبين لفظ (الناس).
ُ –3خسر:
يحل مح ّله في المواضع األخرى اللفظانثم ّ مرتين في القرآنّ ،
يرد هذا اللفظ ّ
(خسران) ،ولكنّنا ال نجد أبداً لفظنا المعتاد والمتر ّدد على ألسنتنا(خسار) و َُ
باستمرار (خسارة)!!
307
اإلسالمي الجديد (إيمان) أصبحت تمأل
ّ ومن الواضح أن مشت ّقات المصطلح
النبي ،
الساحة اللغويّة للمسلمين األوائل منذ الشهور األولى لتن ّزل الرسالة على ّ
أي سياق ،أصبح يكفي للداللة جمرد ًا من ّ
أن إطالق هذا المصطلح ،هكذا ّ بحيث ّ
على أنّه التصديق برسالة اإلسالم.
–5الصالحات:
نصف بلفظ (صالح) شخصاً أو عم ً
ال أو ظرفاً اعتدنا في لغتنا اليوميّة أن ِ
مع ّيناً ،فنقول:
ٌ
رجل صالح،
ٌ
وعمل صالح،
وعمل ٌة صالح ٌة للتداول،
صالح للزيارة،
ٌ ووقت
ٌ
وبطاق ٌة صالح ٌة للدخول..
لذكور فنقول:
ٍ قط ،إ ّ
ال أن يكون وصفاً ولكنّنا ال نجمع هذا اللفظ ّ
ٌ
رجال صالحون
إلناث ،فنقول:
ٍ أو
نسا ٌء صالحات
ٌ
(أعمال) ،فنحن ال نقول: ثم ال ب ّد من ذكر الموصوف قبله:
ّ
هو يعمل الصالحة ،بل:
هو يعمل أعما ً
ال صالحة
البشري؟
ّ القرآني واالستعمال
ّ هل اتّضح اآلن الفارق بين االستعمال
النبوي؟
ّ الجاهلي ،وكيف جاءت في الحديث
ّ فكيف استعملها الشاعر
308
ولكن وصفاً
ْ الجاهلي مر ًة واحدة،
ّ نجد اللفظ (الصالحات) في الشعر
للفظ آخر قبله ،كما يجب أن نتو ّقع ،وهو اللفظ ( ِف ٌ
عال) وذلك في قول بشر ٍ
الفزاري (ت؟):
ّ
الصالحات َو ُ
صول ِ عال
له بال ِف ِ يكن جسمي طوي ً
ال فإنّني ْ
فإن ال ْ
أما في الحديث الشريف فنعثر على لفظ (الصالحات) مر ٍ
ات قليلة :إحداها ّ ّ
القرآني ﮋﭗ ّ نبوي من القرآن يبدو وكأنّه في سياق تفسير التعبير
اقتباس ٍّ
ٍ في
ﭘﮊ [الكهف ،46 :ومريم ]76 :وذلك في قوله :
َ
رسول اهلل؟ ..قال: -استكثِروا من الباقيات الصالحات ،قيل :وما هي يا
((( حول وال ق ّوة إ ّ
ال باهلل التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ،وال َ
ُ
وأخرى ،ولع ّلها أقرب االستعماالت إلى القرآن الكريم ،حين يأتي وصفاً
ًّ
مستقال ال يسبقه موصوف ،وذلك في الحديث الشريف:
تتم
حب قال :الحم ُد هلل الذي بنعمتِه ُّ
-كان رسول اهلل إذا رأى ما يُ ّ
(((
الصالحات...
القرآني الذي اتّكأ عليه
ّ أن لفظ (الصالحات) هنا يحيلنا إلى اللفظ ورغم ّ
عمل يُعمل ،كما في نرجح أنّه ال يشير في هذا الموضع إلى ٍ الرسول فإنّنا ّ
ّ
فاستحق الثنا َء (أشياء) أو (نِ َع ٍم) أنعم اهلل بها علينا
ٍ القرآني ،وإنّما إلى
ّ المعنى
والحمد منّا.
َ
ويأتي اللفظ في حديثين آخرين وصفاً للنساء ،وليس لألعمال ،وذلك
في قوله :
الصالحات للصالحين...
(((
ُ -
(((
-أَ ِ
نكحوا الصالحين والصالحات...
((( الشيباني ،مسند اإلمام أحمد ،مرجع سابق ،ج ،18ص ،241حديث رقم .11713
((( القزويني ،سنن ابن ماجه ،مرجع سابق ،ج ،2ص ،1250حديث رقم .3803
((( الشيباني ،مسند اإلمام أحمد ،مرجع سابق ،ج ،26ص ،126حديث رقم .16206
((( الدارمي ،سنن الدارمي ،مرجع سابق ،ج ،2ص ،184حديث رقم .2181
309
القرآني واالستعماالت النبويّة
ّ ال عن هذا االختالف بين االستعمال وفض ً
والشعريّة واليوميّة العاديّة ،إلى جانب النُدر ِة ،رغم ذلك ،في االستعماالت النبويّة
مرة بمعنى مرة ،منها ّ 61 يتكرر في القرآن الكريم ّ 62والشعريّة ،نجد اللفظ ّ
األعمال الصالحة ،من غير ذكر الموصوف (األعمال) كما أوضحنا ،وإنّما يُذكر
عم َل ،أو :يَعمل)ّ ،
ثم يرد مر ًة واحد ًة بمعنى الفعل وحده (عملوا ،أو :يعملون ،أوِ :
النساء الصالحات ،ومن غير ذكر الموصوف (النساء).
تواصوا:
َ –6
الجاهلي ،فمن
ّ ّ
األقل في الشعر مرتين علىرغم أننا نعثر على هذا اللفظ ّ
الالفت للنظر أننا ال نجده أبداً ،بمخت ِلف مشت ّقاته ،في الحديث الشريف.
حتى الشاعران اللذان نجده عندهما ال نعرف عنهما إال القليل ،وال نعرف
ّ
المعطل ال ُهذلي ،حيث يقول: تاريخاً لوفاتهما .األ ّول هو
عليهم َغواشيها فض ّل ْت ُوصاتُها
ْ فأشعلت
ْ تقربن
ّ تواصوا بأ ّ
ال َ
والثاني هو يزيد بن سنان ال ُم ّري ،وقد قال:
نحرها كثَباً ْ
ونحـــــري لير ُمـــوا َ تواصوا
َ هـم بوجز َة إذ
رميتُ ُ
مرات.
ويتكرر اللفظ في القرآن الكريم ،مع ذلكّ 5 ،
ّ
ثانياً :الصيغ والعالقات اللغويّة
–1والعصر:
قرآني جديد ،فقد أقسم تعالى ،وفي أكثر من مكان ،بمخت ِلف أجزاء قس ٌم ٌّهذا َ
القسم ليس للبشر أن يشاركوا القرآن فيه فيقسموا بما النهار والليل ،وهو نو ٌع من َ
لف بغير اهلل ،ومن هنا تأتي فَراد ُة الح َ
أقسم تعالى به ،إذ لم يُج ِز الرسول لنا َ
كاملة مستق ّلة ٍ
القسم أُف ِرد بوحدٍة لغو ّية القسم وقرآن ّيتُه ،باإلضافة إلى ّ
ٍ أن هذا َ هذا َ
النبوي.
ّ أمر ال تعرفه لغتنا العاديّة أو لغة الحديث
(آية) وهو ٌ
ٍ
310
اإلنسان لَفي ُخ ْسر:
َ إن
ّ –2
القسم
فصله عن َ يخرج القرآن الكريم بجواب القسم هذا عن المألوف ْ
بأن َ
ٍ
نفسه آية مستق ّلة تقتصر على جواب القسم ،على حين أفرد َ
للقسم ِ نفسه وجعله في ٍِ
مرةً أخرى ،يقدّم لنا مفهوماً جديداً للوحدة
آي ًة بكاملها هي اآلية األولى ،وهو بهذاّ ،
اللغويّة األساسيّة ،ويخرج بنا عن تقاليد الوحدة القديمة ،وهي الجملة.
–3في ُخ ْسر:
الجاهلي أو الحديث
ّ تفرد القرآن الكريم باللفظ ُ
(خسر) دون الشعر فض ً
ال عن ّ
تختص بهذا التركيب الذي يرتبط فيه اللفظ
ّ فإن سورة (العصر)النبوي ،كما عرفناّ ،
ّ
(خسارة) وجاء التركيب (في الجر (في) .وهكذا جاء اللفظ ُ
(خسر) بمعنى َ بأداة ّ
ُخسر) بمعنى (خاسر) .وي ِرد اللفظ مر ًة واحد ًة أخرى في القرآن ،ولكن من دون
هذه األداة ،وذلك في قوله تعالى:
ولو تُرك أمر آية (العصر) ألساليبنا اللغويّة لقلنا في هذا المعنى:
ولكنّنا لن نقول أبداً (إنّه في ُخسر) .وال نجد هذا االستعمال أبداً في
الحديث الشريف.
–4إ ّ
ال الذين آمنوا:
تقليدي تفاجئنا به السورة .فرغم عموميّة اللفظ (إنسان) الذي
ٍّ استثنا ٌء غير
واحد ،يبقى لفظاً مفرد الداللة في
ٍ فرد
سبق هذا االستثناء ،وشمولِه ألكثر من ٍ
311
ألفاظ أخرى لها عموميّته ولكن ليس لها طبيعته اللغويّة ،مثل
طبيعته ،على عكس ٍ
(الناس ،القوم) .نحن نقول:
هذا اإلنسان
ولكن ال نقول:
هذا القوم
وقد نقول:
ّ
المتأخرين جاء الناس إ ّ
ال
ولكن ال نقول:
ّ
المتأخرين جاء اإلنسان إ ّ
ال
عملوا الصالحات:
ِ –5
القرآني (الصالحات) كما رأينا ،بإطالق هذا الجمع
ّ فض ً
ال عن جدّة االستعمال
وتفرد القرآن بذلك ،ت ّ
ُشكل هذه الجمل ُة تعبيراً جديداً لم على األعمال الصالحةّ ،
تعرفه العربيّة قبل القرآن ،بل ندر أن عرفته بعده ،حتّى في الحديث الشريف ،رغم
مرة. تكرار وروده في القرآن الكريم ما ال ّ
يقل عن ّ 55
تواصوا بالصبر:
بالحقَ /
ّ تواصوا
َ –7 –6
وهما صيغتان جديدتان على العربيّة ،وال نكاد نجدهما في لغتنا البشريّة بعد
القرآن ،وال وجود لهما في لغة الحديث الشريف.
312
ثالثاً :السبائك اللغويّة
اإلنسان لفي ُخ ْسر:
َ إن
ّ –1
هذه الصياغة القرآنيّة ،التي تبدأ باألداة المشبّهة بالفعل ّ
(إن) يليها اسمها
الجر »في» مع مجروره ف من شبه الظاهر ،وتنتهي بخبر مؤ ّل ٍ
جملة ،هو حرف ّ ٍ ٍ
ومرتبط بالالم المؤ ّكدة أو المزحلقة ،أصبحت سبيك ًة تشير بوضوح،
ٍ المصدر،
آيات عدّة ،منها:
القرآني ،فهي تتر ّدد في ٍ
ّ أينما وردت ،إلى مصدرها
[الحج]53 :
ّ ﮊ -ﮋﮱﯓﯔﯕﯖ
وتواصوا بالصبر:
َ بالحق
ّ تواصوا
َ –3
(الحق) و (الصبر) ومشت ّقاتهما في القرآن
ّ رغم كثافة استعمال اللفظين
ويتكرر الثاني ،مع
ّ مرة، الكريم كثاف ًة غير عاديّة ،إذ ّ
يتكرر األ ّول فيه (ّ )227
فإن هذا لم يكن كافياً ليجعل من هذه العبارة سبيك ًة
مراتّ ، مشت ّقاتهّ 103 ،
تواصوا بالصبر ،والذي نجد ّ
بالحق | َ تواصوا
قرآنيّة ،لوال التكرار المتوازن فيهاَ :
له نظيراً قرآن ّي ًا آخر في قوله تعالى:
313
الخارجي ،المتمثّل
ّ الداخلي في العبارة ،من ناحية ،والتوازي
ّ فالتوازي
ناحية أخرى ،إضاف ًة إلى
ٍ في وجود العبارة األخرى الرديفة والموازية لها ،من
يؤسس للعبارة لتكون
(تواصوا) كما رأينا ،من شأنه أن ّ
َ الخصوصيّة القرآنيّة للفعل
سبيك ًة قرآن ّي ًة متم ّيز ًة في السورة.
المفسرون على معنى (العصر) :أهو الصالة المعروفة ،أمّ وهكذا اختلف
هو وقتها ،أو الحقبة من الحقب ،أو الدهر ك ّله ،أو عصر ّ
النبي وحده ،لفضله
السحبرب العصر ،أو المطر (من ال ُم ْع ِصرات ،وهي ُ بتجديد النب ّوة فيه ،أو ّ
الماطرة) ،أو العطيّة والمنحة ،أو الملجأ..
وبقدر ما تزداد هذه التفسيرات يزداد اللفظ اقتراباً من اللغة القرآنيّة الطيفيّة
المنفتحة ذات األلوان واألبعاد المتعدّدة.
314
كل يوم فتنقص بذلك لديه فرصة الجنّة ،أو النقص في األجر ،إذ ينقص عمره ّ
الشر مطلقاً..
الطاعة واإلثابة عليها ،أو هو دخول النار ،أو العقوبة عا ّمةً ،أو ّ
ومر ًة أخرى تزداد القيمة التعبيريّة لآلية بازدياد أطيافها وتقاطع معاني ألفاظها.
ّ
خامساً :جوامع َ
الك ِلم
أن ما نريد إلقاء الضوء عليه في هذا الجانب ليس ما سار سبق أن أوضحنا ّ
على األلسنة وأصبح عند العرب بمثابة الحكمة واألمثال السائرة فحسب ،بل ما
يرشحه ألن يأخذ مكانه فيها أيضاً.
الحكم واألمثال ،م ّما ّ
نجد فيه من مق ّومات هذه ِ
أربعة من هذه التعبيرات ،وهي: وبإمكاننا أن نجد في السورة ما ال ّ
يقل عن ٍ
إن اإلنسان لفي ُخسر:
ّ –1
ربما ال تكون هذه اآلية من العبارات القرآنيّة التي سارت على األلسن لتكون
حين آلخر ،ولكن من الواضح أنها تملك مثل نستشهد به من ٍ حكمة أو ٍ
ٍ بمثابة
كلمات أربع ما نريد أن نع ّلق
ٍ َختصر في
مق ّومات العبارة السائرة التي يمكن أن ت ِ
عديد من المواقف التي تواجهنا في حياتنا اليوميّة :حين نرى إنساناً جشعاً
به على ٍ
إلنسان نال من
ٍ مفاجئ
ٍ موت ُ
والحفاظ عليه ،أو :حين نرى إلى ٍ ه ّمه جمع المال
كل ما يحلم به المرء ،أو حين نشهد مصرع طاغية ،إلخ.. الدنيا ّ
وتواصوا بالصبر:
َ بالحق
ّ وتواصوا
َ –3
وهذه أيضاً من العبارات القرآنيّة التي تَختصر لنا الطريق في إطالقها على من
نريد أن نضفي عليهم صفات االستقامة والعدالة والصبر والثبات.
315
–4سورة العصر ك ّلها:
تقترب مرتبة هذه السورة من مرتبة السور الثالث األخيرة في القرآن الكريم
مناسبة يومية،
ٍ (اإلخالص ،والفلق ،والناس) في ترديد المسلمين لها في أكثر من
وال سيما في اختتام الجلسات أو االجتماعات أو اللقاءات الفرديّة.
والبيهقي في ُ
الشعب ،عن أبي ُمزينة ّ الطبراني في األوسط،
ّ وقد أخرج
الدارمي ،قال:
ّ
يتفرقا حتى يقرأ
-كان الرجالن من أصحاب رسول اهلل إذا التقيا لم ّ
)(1
أحدهما على اآلخر سورة العصر ،ثم يس ّلم أحدُهما على اآلخر
((( انظر:
-الطبراني ،سليمان بن أحمد .المعجم األوسط ،تحقيق :طارق بن عوض اهلل بن محمد وعبد
المحسن بن إبراهيم الحسيني ،القاهرة :دار الحرمين ،ط1415 ،2 .ﻫ ،ج ،5ص ،215حديث
رقم .5124
-البيهقي ،أحمد بن الحسين .شعب اإليمان ،تحقيق :محمد بسيوني زغلول ،بيروت :دار الكتب
العلمية ،ط1410 ،1ﻫ ،ج ،6ص ،501حديث رقم .9057
316
السورة الرابعة عشرة
التكاثُر
ﮋﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ
ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ
ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮊ
هذه هي السورة الثالثة عشرة بالترتيب التراجعي لسور القرآن الكريم ،وتمتاز
القرآني األوائل
ّ النص
عادي في المواقع الجديدة التي فاجأ بها ّ ٍّ بغنى غير
السورة ً
من أهل العربيّة.
ّ
اليقل عن 54من أن في السورة التي يبلغ عدد كلماتها 28ماوسنرى ّ
خاص مدى غنى السورة بالكلماتّ بشكل
ٍ هذه المواقع الجديدة ،وسيتبيّن لنا
السورة بأكملها. والتعبيرات المنفتحة ،إذ يكاد هذا النوع من المواقع ّ
يغطي مساحة ُ
استعماالت ال
ٍ ألفاظ أو
ٍ وم ّما يميّز شخصيّة السورة أيضاً انفرادها بأربعة
السور( :زرتُم ،المقابر ،لَتَ َر ُو ّن ،لتَ َر ُونّها) وكذلك استقاللها
تتكرر في غيرها من َ
ّ
وتعبيرات تقتصر عليها وحدها وتكاد ّ
تغطي السورة بأكملها: ٍ بثمانية تراكيب
ﮋﮋ ﮌﮊ ،ﮋﮏ ﮐﮊ ،ﮋﮒ ﮓ ﮔﮊ ،ﮋﮛ ﮜ ﮝﮊ،
ﮋﮞ ﮟﮊ ،ﮋﮡ ﮢﮊ ،ﮋﮦ ﮧﮊ ،ﮋﮪ ﮫﮊ.
317
ّأوالً :األلفاظ والمصطلحات
المهم أن نذ ّكر دائماً بأنّنا في حديثنا عن األلفاظ القرآنيّة الجديدة لن
ّ من
نقتصر على تلك التي أوجدها القرآن ولم تكن موجود ًة من قبل ،فذلك النوع هو
ّ
األقل بين هذه األلفاظ.
معنى
ولكن القرآن الكريم أعطاها ً ّ وإنّما تشمل دراستُنا ألفاظاً عرفها العرب
خاص ًة ولكنّها ما لبثت
ّ مصطلحات بدأت قرآن ّي ًة
ٍ جديداً ،فأضحى ٌ
كثير منها بمثابة
اليومي ،بحيث لم نعد قادرين ،بمعايشتنا الطويلة ّ اللغوي
ّ أن دخلت قاموسنا
بسهولة عن األلفاظ األخرى التي كانت ّ
تشكل لغة ٍ والمستمرة لها ،على تمييزها
ّ
العرب اليوميّة ،الرسميّة والمحكيّة ،قبل أن يطبعها القرآن ببصمات لغته الجديدة.
–1التكاثر:
الخاص ،رغم أننا ال نعثر عليه ،بهذا المعنى
ّ القرآني
ّ يمتاز هذا اللفظ بمعناه
حسان
اإلسالمي ّ
ّ أو بغيره ،عند شعراء الجاهليّة .وأ ّول من نجده لديه هو الشاعر
بن ثابت (ت54ﻫ) حيث يقول:
موج البح ِر عند التكاثُر
ي ُموجون َ أحالس الجيا ِد لدى الوغى
ُ وح ْم ُ
دان َ
وواضح ،مع ذلك ،اختالف معناه في البيت ،وهو االجتماع ،عن المعنى
ٌ
القرآني ،وهو التعداد والتفاخر وجمع المال وما يدخل تحت هذه المعاني،
ّ
كما سوف نرى.
واحد من
ٍ حديث
ٍ أ ّما في الحديث الشريف فنادر الورود ،ولم أجده إ ّ
ال في
القرآني ،ومع ذلك خلت معظم
ّ أن الرسول قصد فيه تضمين المعنىالواضح ّ
رواياته من هذا اللفظ ،واقتصر وجوده على إحدى روايات أحمد:
318
.. -ما أخشى عليكم الفقر ،ولكن أخشى عليكم التكاثر ،وما أخشى
(((
عليكم الخطأ ،ولكن أخشى عليكم ال َع ْمد
وي ِرد في القرآن الكريم ،في غير هذه السورة ،مر ًة واحد ًة أخرى ،وذلك في
قوله تعالى:
-ﮋﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ
ﮊ [الحديد]20 : ﭴﭵ
والسياق الذي ورد به اللفظ في هذه اآلية من شأنه أن يعيننا على فهم دالالته
في سورة (التكاثر).
–2زرتم:
مرة يأخذ في العربيّة معنى:
قرآني جدي ٌد بمعناه ،وليس بلفظه :فأل ّول ّ
لفظ ٌّإنّه ٌ
قول عنترة (ت 22ق.ﻫ) –مع أقرب استعماالت الجاهلييّن إليه ُ ُدفنتم .وربّما كان َ
بكثير من األشعار المنسوبة إلى هذه الشخصيّة
ٍ التذكير دائماً بالشكوك المحيطة
وقد تداخلت أخبارها التاريخيّة مع األساطير:-
قتيـل زار َ
أهل المقاب ِر ٍ َّ
أجل الناس َق ْدراً وقد غدا
أجل ِ وكان َّ
فالفعل في القرآن يتعدّى إلى (المقابر) مباشرةً ،وليس إلى أهل المقابر ،فأخذ
مجرد الوصول أو االنضمام إلى األموات بذلك معنى الموت أو الدفن ،وليس ّ
التقليدي له ،وهذا رغم
ّ الشعري األخير ،ال يتجاوز المعنى
ّ هناك ،فهو ،بالمعنى
القرآني الواضح في البيت– أنّه واح ٌد من األبيات الكثيرة
ّ أنّنا ّ
نرجح –بهذا الطابع
بنصيب من النحل لم يُ ِص ْبه غيره من الشعراء،
ٍ المنحولة لعنترة ،وهو الذي استأثر
كما أ ّكدنا ونؤ ّكد دائماً.
((( الشيباني ،مسند اإلمام أحمد بن حنبل ،مرجع سابق ،ج ،13ص ،440حديث رقم .8074
319
المهم ،إضاف ًة إلى ذلك ،أن نشير إلى ّ
أن اللفظين (زرتم) و (المقابر) ال ّ ومن
موضع آخر من القرآن ،فهما من خصوصيّات هذه السورة. ٍ أي
يتكرران في ّ
ّ
مرات]:
[مكرر ثالث ّ 3
ال ّ 3إلى –5ك ّ
مختلف ل ّلفظ –كما سبق أن رأينا في سورة (ال ُهمزة)–.
ٌ قرآني
ٌّ ٌ
استعمال هذا
العربي من قبل،
ّ يتكرر في القرآن 33مرة ،وبصورٍة لم يعهدها الشعر إنه ّ
مرات
أو من بعد ،ولم يعرفها كذلك الحديث الشريف ،رغم تر ّدد اللفظ عدة ّ
في كال الشعر والحديث الشريف ولكن باالستخدام المعروف عند العرب لهذا
إلثبات يسبق هذا
ٍ اللفظ ،أي بمعنى النفي أو تأكيد النفي ،أو ر ّداً ٍ
لزعم ،أو نفياً
اللفظ أو يلحق به.
ولكن اللفظ في القرآن ،وفي هذه السورة ،يأتي للزجر ،ولتغيير اتجاه المعنى ّ
األمر أن تذهبوا إلى القبور
ُ ناحية أخرى مختلفة ،فكأنّه يقول :أبَ َل َغ بكم
ٍ نحو
تستمرون في
ّ لتتفاخروا بأشراف موتاكم وأعدادهم أيضاً؟ أو ربّما أراد :أهكذا
التفاخر والتكاثر حتى تجدوا أنفسكم وقد أصبحتم من ّ
سكان القبور؟ إذن فتهيّأوا
لآلتي ،وستكتشفون قريباً عبث ما كنتم تفعلون ،فتواجهون مصيركم المحتوم في
الدار اآلخرة.
320
قو ًة معنو ّي ًة جديدة ،الغرض منها
لقد منحه القرآن الكريم ،بحذف مفعولهّ ،
المبالغة في التهويل والتحذير عن طريق إخفاء ما سوف يُع َلم لهم فيما بعد.
– 11الجحيم:
الحر،
معروف في اللغة العربيّة ،والجاحم هو المكان الشديد ّ ٌ جذر هذا اللفظ
الجاهلي ،األولى عند عمرو بن ُقميئة (ت
ّ مرتين على ّ
األقل في الشعر ونجد اللفظ ّ
كل المخلوقات،الح ّر الشديد عندما تَ ِقيل ّ
بيت له يصف ترحاله في َ 85ق.ﻫ) في ٍ
حتى حشرات الصحراء:
الج ُ
ون قاال ُب َ
الجند ُ
ت إذا ُ
قط ْع ُ الجحيـــــم
ِ وهـاجــــرٍة كــــــأُوا ِر
321
والثانية عند عنترة بن شدّاد (ت 22ق.ﻫ) يتغ ّزل:
ـم
ِخلتُ ـ ُه ف ــي فم ــي كن ــار الجحي ـ ِ ك ّلم ــا ُذق ـ ُ
ـت ب ــارداً َم ــن لماه ــا
ومر ًة أخرى أضع تح ّفظاتي على صحة نسبة البيتين لصاحبيهما ،لِما في ّ
اإلسالمي له (جهنّم) ،وإلغراق ابن
ّ واضح للمعنى
ٍ أثر
استعمال اللفظ فيهما من ٍ
كثير من شعر تلك
الشك على حقيقة ٍ ّ ُقميئة في الزمن قبل اإلسالم ،إغراقاً يضفي
ثم لِما في صورة عنترة خاص ًة (تشبيه الريق البارد بنار الجحيم) من
الفترة وشعرائهاّ ،
تجاوز
ٍ الجاهلي وفطريّتها ،ومن
ّ وعمق ال يتوافقا مع طبيعة الصورة في الشعر
ٍ صناعة
ٍ
ال ينسجم مع ع ّفة الغزل الذي عرفناه لعنترة وال مع فروسيّته ونبله وكرم نفسه.
معنى جديداً
أن القرآن الكريم قد أعطى هذا اللفظ ً ومع ذلك فمن المؤ ّكد ّ
مرتفع
ٌ رقم
مرة ،وهو ٌ حين جعل منه اسماً آخر من أسماء جهنّم فأطلقه عليها ّ 26
األصلي (جهنّم) في القرآن وهو 77مرة،
ّ بالمقارنة مع الرقم الذي ناله االسم
وبالمقارنة مع الرقم المتواضع جدّ ًا الذي يمكن أن يكون قد ّ
تكرر به في الشعر
صحت في النهاية نسبة البيتين للشاعرين المذكورين.الجاهلي ،هذا لو ّ
ّ
–12لتُسألُ ّن:
القرآني الجديد،
ّ الفعل أو مشت ّقاته بهذا المعنى
َ الجاهلي هذا
ّ لم يعرف الشعر
وهو المحاسبة والمساءلة .ورغم تكراره مع مشت ّقاته بهذا المعنى في القرآن ما
الجاهلي إ ّ
ال بمعنى ّ مرة فال أثر لهذا الفعل أو مشت ّقاته في الشعر
يقل عن ّ 22ال ّ
معنى للمساءلة أو
ً طرف إلى آخر ،بعيداً عن ّ
أي الموجه من ٍ
ّ الحقيقي
ّ السؤال
المحاسبة ،كما في قولهم:
الق
ثابـت ِ
هــــم عن ٍ
فــــال يُخبِّ ُر ْ فـة يسأل القو ُم عنّي َ
أهل مع ِر ٍ إن ِ ْ
رشاً (ت 85ق.ﻫ)
تأبّط ّ
آبــــاؤها ومتى ُ
يكون رجو ُعــــــها األظعان أين َس َر ْت بها
ِ عن ْ
واسأل ِ
عنترة (ت 22ق.ﻫ)
322
–13لتُسألُ ّن:
اللغوي
ّ ليس المعنى الجديد في هذا الفعل هو وحده الذي يستوقفنا ،بل البناء
الجديد له أيضاً.
طر ِدُ
دت أم لم أ َ نُ َصحا َءهاُ :
أط ِر ُ [و] لَتَ ْسألَ ْن أسما ُء وهي َح ِف ّي ٌة
ات في القرآن؛ فإنّنا ال نجد له أثراً في أن اللفظ يتكرر ثالث مر ٍ ورغم ّ
ّ ّ
ال في معرض االستشهاد بهذه السورة. الحديث الشريف ،إ ّ
والنثري ،ولكن
ّ الشعري
ّ وربّما وجدنا الصيغة (لتَف َع ُل َّن) هنا أو هناك في تراثنا،
الخاص بهذا البناء.
ّ النحوي
ّ بمعنى األمر وليس اإلخبار ،وهو ما ينسجم مع العرف
ئذ:
–14يو َم ٍ
الجاهلي
ّ دت كثيراً قبل أن أُدرج هذا اللفظ في هذا الباب .فقد عرفه الشعر
تر ّد ُ
الحقبة الجاهليّة وهو
مغرق في أعماق ٌِ شاعر هو أيضاً
ٍ مرةً واحد ًة ال أكثر عند
ّ
الشنفرى (ت 70ﻫ) وذلك في البيت الذي يُنسب إليه:
323
لك فاضربيني
ك ال أبا ِ
وط ِ
بس ِ
َ ئـذ ف ُقومي ُ
البعل يو َم ٍ فأنت
ِ
ولكن هذه النسبة ،شبه المعدومة ،ترتفع فجأ ًة في القرآن الكريم لنجد اللفظ ّ
وجرها تِبعاً لذلك ﮋ ﭗ
مرتان بإضافة (يوم) إلى ما قبلهاِّ ، يتكرر فيه 70مرةً ،منها ّ
ّ
الجاهلي.
ّ الشعر
ُ ﭘ ﭙ ﮊ [المعارج ]11 :م ّما لم يعرفه أيض ًا
–15النعيم:
الجاهلي ،ولكن الرقم يرتفع في
ّ مرتين فحسب في الشعر يرد هذا اللفظ ّ
األموي ،وهذا
ّ ّ
األقل حتى نهاية العصر الفترة اإلسالمية ليتر ّدد 47مر ًة على
القرآني الجديد .إنّه ّ
يتكرر في القرآن الكريم 17 ّ من غير ٍّ
شك بتأثير االستعمال
ال في هذه السورة ،حيث اسم آخر لها ،إ ّ
مرة ،ك ّلها في وصف الجنّة ،وكأنّه ٌ
أُطلق ،كما نرى ،على نعيم الدنيا دون اآلخرة ،فهو إذن خصوص ّي ٌة أخرى من
خصوصيّات السورة.
324
ثانياً :الصيغ اللغويّة والعالقات الداخليّة
صيغة لغو ّي ٍة أو
ٍ تركيب جديد ،أو
ٍ أي
سندرس تحت هذا العنوان ،كما اعتدناّ ،
نحو ّي ٍة أو بيان ّي ٍة جديدٍة استحدثها القرآن الكريم في هذه السورة ،مخالفاً بها التقاليد
األسلوبيّة العربيّة التي سبقت عصر الوحي والتنزيل .وقد استطعنا أن نحصي منها
في هذه السورة اثنتي عشرة حالة:
قبيلة
كل ٍ أ ّما إن كان المقصود باآلية الزيارة الحقيقيّة للمقابر بقصد تَفاخ ِر ّ
حينئذ في هذا التعبير ،ولكنّنا
ٍ بأمواتها –كما تذهب بعض التفاسير– فال شاهد لنا
نثبته هنا ،ألنّننا ال نستطيع نفي االحتمال األول.
زرتم المقابر:
ُ –2
في تعبير القرآن عن الموت بزيارة القبور ،كما سبق أن أوضحنا ،صور ٌة بيان ّي ٌة
العربي ،فلم يقل :زرتم أهل المقابر ،كما في البيت الذي يُنسب ّ جديد ٌة على الشعر
إلى عنترة ،بل المقابر نفسها ،فالزيارة هنا كناي ٌة عن الموت نفسه.
ال /ك ّ
ال لو: ثم ك ّ –5 –4 –3ك ّ
ال سوفّ /
دخل في العربيّة تراكيب إن مجيء (ك ّ
ال) في هذه األشكال الثالثة الجديدة يُ ِ ّ
وتحذير من العواقب،
ٌ جديد ًة لم تكن تعرفها من قبل .ففي ﮋﮒ ﮓﮊ ٌ
زجر
متوقع بين هاتين األداتين (ك ّ
ال) و (سوف) .وفي ربطها بحرف جمع غير َّ
ٍ مع
325
جديد من التخويف والمبالغة
ٍ لعنصر
ٍ (ثم) بعد ذلك ﮋ ﮖ ﮗ ﮊ إضاف ٌة
العطف ّ
(ثم) و (ك ّ
ال) .وأخيراً نجد متوقع أيضاً بين األداتين ّ
جمع غير َّ
في التحذير ،مع ٍ
في إلحاق (ك ّ
ال) بأداة الشرط (لو) ،في الحالة األخيرة ،جمعاً آخر غير متو ّقع بين
لمزيد من التوضيح ووضع الناس أمام الحقائق التي من شأنهاٍ اللفظين ،وتمهيداً
أن تُذهلهم لو ُكشفت لهم وأتيح ألبصارهم أن تراها.
–6لو تعلمون:
ٌ
محذوف أن جواب الشرط (لو)المفسرين ،إن لم يكن ك ّلهم ،على ّ
ّ يصر معظم
ّ
وأن قوله تعالى ﮋﮡ ﮢﮊ ليس جواباً لهذا الشرط ،كما سوف نرى هناّ ،
عادي
ٍّ ٌ
حذف غير بعد قليل ،فإذا كان األمر كذلك ،ونحن نخالفهم في هذا ،فهو
لجواب الشرط.
-ﮋﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ
[التوبة]118 : ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﮊ
-ﮋﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀ
ﮊ [يس]46-45 : ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ
-ﮋﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ
ﯧ ﯨ ﮊ [الزُمر]73 :
326
(لتر ُو ّن) ال يمكن أن يكون جواباً كثير من النحويين إلى أن الفعل َ ويذهب ٌ
وح ّجتهم في مضمر ،والتقدير :أُ ُ
قسم لتَ َر ُو ّنُ . َس ٍم َ جواب لق َ
ٌ للشرط (لو) ،وإنّما هو
هذا أن األصل في جواب (لو) أن يكون منف ّي ًا ،أي ال يمكن أن يقع أو يتحقق،
بتعبير أكثر وضوحاً :حرف ٍ امتناع المتناع ،أو،
ٍ فاألداة (لو) -كما تع ّلمنا– حرف
شيء المتناع وقوع غيره ،على حين أن دخول الكافرين النار ورؤيتَهم امتناع وقوع ٍ
ِ
وحتمي،
ّ أمر حم ّق ٌق ً ً ً
لها ،بل رؤية المؤمنين لها أيضا ،ليس أمرا ممتنعا وإنّما هو ٌ
(تر ُو ّن) جواب ًا للشرط.
ولهذا يمتنع أن يكون الفعل َ
لغضبت منه ،فإذن :ألنه لم يعلم بمقولته فلن
َ نقول مث ً
ال :لو تعلم ما قاله عنك
علمه بما قال.
يغضب منه ،فامتنع وقوع غضبِه عليه المتناع وقوع ِ
المهم االنتباه إلى الفارق الكبير بين الحالتينّ .
إن رؤية ّ وأنا أرى ّ
أن من
الجحيم في السورة ليس هو الرؤية في اآلخرة ،إنّها دعو ٌة منه تعالى إلى ّ
التبصر
واستحضار صورة الجحيم عن طريق االعتبار والتخيّل في الدنيا ،قبل أن يروها
رأي العين في اآلخرة ،فرؤيتها في اآلخرة هي األمر المح ّقق ،أ ّما رؤيتهم لها في
فأمر ال يقع ولن يتح ّقق أبداً.
الدنيا ٌ
كتاب في النحو ،وأنال أتح ّول بهذا البحث إلى ٍ لقد سبق أن وعدتكم أ ّ
أحافظ عليه قريباً من متناول أفهام الجميع ،ولكنّني اآلن أمام ٍ
نقطة شديدة األهميّة،
وأنا متأ ّكدٌ من أنّكم ستستمتعون بها معي في النهاية لو اعتصمتم ٍ
بقليل من الصبر
كلعبة ذك ّي ٍة نستمتع بممارستها وتحتاج
ٍ سن التم ّعن في تفاصيلها ،فما النحو إ ّ
ال وح ِ
ُ
منّا إلى القليل من الصبر والتر ّقب للوصول إلى ٍ
كثير من المتعة والدهشة.
327
بن َش ِ
يبان بنو اللقيط ِة ِمن ُذ ِ
هل ِ مازن لم تَستَبِ ْح إبِلي
كنت ِمن ٍ
لو ُ
لكل األعراف النحويّة ،يأتي مضارعاً رغم ارتباطه ولكنه في اآلية ،وخالفاً ّ
سبب آخر يدفع بالنحوييّن إلى إخراجه من دائرة الشرط ،فعدّوه جواباً بالالم ،وهذا ٌ
َس ٍم محذوف ،أي قدّروه هكذا :أُ ِ
قس ُم لتَ َر ُو ّن ،فأخرجوه بذلك من دائرة اإلعجاز لق َ
القرآني ،وحجبوا عنّا ،من ثَ ّم ،ما في هذا األسلوب الجديد من فرادٍة ّ اللغوي
ّ
ٍ
وخصوص ّية اقتصرت على القرآن وحده.
وفي القرآن الكريم العديد من األمثلة على حذف جواب الشرط ،وربّما
محل الماضي في هذا جواب غير الشرط أيضاً ،وكذلك على إحالل المضارع ّ
(لما) –أو مت َع َّل ُقه– مضارعاً
الجواب ،كقوله تعالى ،وقد جاء جواب الظرف ّ
بمعنى الماضي:
ولكنّه ،في الحقيقة ،الشرف والتميّز واإلعجاز المدهش للقرآن الكريم أن
يخرج على تلك األعراف من غير أن يُ ّ
خل بالقواعد األساسيّة للعربيّة ،التي لو
328
إخصاب وإثرا ٌء
ٌ لغة أخرى ال عالقة لها بالعربيّة ،وإنما هو
خرج عنها النتهى إلى ٍ
أبواب جديدٍة أمامها للتط ّور والغنى واإلبداع لم نحسن ،لألسف،
لهذه اللغة ،وفتح ٍ
اكتشافها أو االعتراف بها في القرآن ،من أجل استثمارها في تطوير لغتنا وإغنائها،
أساسي من أهداف هذا البحث.
ٌّ وهو ٌ
هدف
عين اليقين:
علم اليقينَ /
َ –8 –7
هذان تعبيران ال نجدهما في غير القرآن الكريم ،وال في غير هذه السورة ،وال
ال أن يأتيا في سياق الحديث عن هذه السورة. وجود لهما في الحديث الشريف ،إ ّ
المفسرون ،علم القلب والعقل ،وليس ّ أ ّما ﮋﮞ ﮟﮊ فهو ،كما يقول
فيتبصر ذو البصيرة النار وهو في الدنيا قبل انتقاله إلى الدار اآلخرة
الرؤية البصريةّ ،
–وهذا يؤيّد ما ذهبنا إليه في تفسير الشرط– .وأ ّما ﮋﮦ ﮧﮊ فهو الرؤية
العينيّة يو َم القيامة حين يعاين الك ّفار النار ويذوقونها ،أو حين يراها المؤمنون
كذلك بأعينهم ويتح ّققون من فظاعتها وهولها ﮋ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮊ [مريم]71 :
–9لتَ َر ُو ّن الجحيم:
مر ًة أخرى لو وضعنا هذه الجملة الصغيرة المك ّونة من كلمتين بين مئات
الجمل الصغيرة األخرى الستطعنا تمييز قرآنيّتها:
بغض النظر عن هذه الخصوصيّة الها ّمة ،صيغ ٌة نادرة االستعمال في وهيّ ،
العادي ،وكذلك في لغة الحديث الشريف، ّ اإلنشائي
ّ لغتنا العاديّة ،حتّى في معناها
ولكنّها تتر ّدد كثيراً في القرآن الكريم ،كما في قوله تعالى:
329
[اإلسراء]4 : -ﮋﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮊ
ال ثم ك ّ
ال ،فإننا نفعل هذا ومؤكدين :ك ّ
ِّ محتجين
ّ وال ّ
شك أنّنا عندما نقول
القرآني الذي انفرد بهذا التعبير ،ثم انطبعت به بعد ذلك ذاكرتنا
ّ متأثّرين باألسلوب
اللغويّة اليوميّة.
–12النعيم:
"فعل" ما ،هل َف َعله أم لم يفعله ،أ ّما هنا حاسب عاد ًة عن ٍ يُسأل اإلنسان أو يُ َ
فعل أو ما ال أو ح َدثاً ،وإذن ال ب ّد من ٍ فالسؤال هو عن (النعيم) نفسه وهو ليس فع ً
آنئذ أنّه سيُسأل :هل َش َكر اهللَ
هو بمعنى الفعل نقدّره قبل هذا اللفظ ،فيكون المعنى ٍ
لِما أعطاه من النعيم ،أو :هل أحسن استخدام هذا النعيم ،أو :كيف حصل على هذا
وخاص ًا بالقرآن وحده.
ّ النعيم ،وهذا يجعل من التعبير ،مر ًة أخرى ،تعبيراً بيان ّي ًا جديد ًا
330
ثالثاً :السبائك اللغويّة
حين نزل القرآن الكريم كانت السبائك الجديدة ثور ًة حقيق ّي ًة في نسيج اللغة
العربيّة أدهشت العرب ،من غير أن يَ ُعوا تماماً ماذا يحدث ،بل وجدوا أنفسهم
عاجزين حتّى عن تقليد هذه السبائك وإحاللها ّ
محل سبائكهم التقليديّة القديمة،
ولهذا ندر أن نجد في لغتنا ،حتّى اليوم ،آثار السبائك القرآنيّة الجديدة ،إ ّ
ال أن
القرآني .فقد ّ
ظل معظمها ،إن لم نقل ّ بوضوح إلى أصله
ٍ يكون تضمين ًا لها يشير
الحقيقي الذي يُذيبها في لغتنا بحيث ال نعود قادرين على
ّ ك ّلها ،ممتنعاً على التقليد
التمييز بين السبيكة القرآنيّة وسبيكتنا البشريّة.
بسيط من األلفاظ،
جانب ٍٍ القرآني في لغتنا غالب ًا على
ّ وهكذا اقتصر التأثير
والتراكيب ،والتعبيرات ،والعبارات السائرة أو (جوامع َ
الك ِلم) ،إضاف ًة إلى بعض
خاص ًة ،وإن ظ ّلت صفة »االنفتاح» ،كما
ّ العربي
ّ التأثير للغته المنفتحة في الشعر
خاص ًة بالقرآن الكريم وحدهّ ،
ثم ببعض ّ عرفناه في الجزء األ ّول من هذا البحث،
ّ
األحاديث الشريفة.
وسنقف فيما يلي عند هذه السبائك الثماني ،وهي تشمل في الحقيقة ّ
كل
أجزاء السورة:
331
زرتم المقابر:
التكاثر .حتى ُ
ُ ألهاكم
ُ –1
التفرد،
لقد اجتمع في ألفاظ هاتين اآليتين وعالقاتهما اللغويّة من عناصر ّ
التي درسناها في األلفاظ والعالقات اللغويّة ،ما يكفي ليجعل من العبارة التي
تك ّونت منهما سبيك ًة قرآن ّي ًة متميّزة.
تشكل محوراً أساساً لها، أن (حتّى) في مركز هذه السبيكة ّومن الواضح ّ
ّ
األقل من معانيها المتعدّدة ،بين المقدّمة: واحد على
ٍ معنى
ً ألنها تربط ،في
االنشغال بالتكاثر ،والنتيجة :الموت والحساب ،فتعطي هذه العبارة ،ببنائها المميّز،
الخاص.
ّ القرآني
ّ والمتناظر ،شك َلها
التشكيلي العا ّم دون البناء
ّ ّ
ولعل أقرب السبائك القرآنيّة إليها ،في بنائها
يستقل ك ّلي ًا بشخصيّته عن غيره ،قوله تعالى:
ّ التفصيلي الذي
ّ اللغوي
ّ
[المعارج]42 : -ﮋﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﮊ
[مكرر]: –3 –2ك ّ
ال سوف تعلمون ّ
إنّها من دون ّ
شك سبيك ٌة شديدة التميّز ،بما اجتمع فيها من عناصر النفي جنباً
وقت واحد. جنب مع عناصر التأكيد في ٍ
إلى ٍ
إن افتتاح اآلية بأداة النفي ،أو الزجر ،يوحي بأننا على وشك سماع المزيد ّ
ولكن أداة االستقبال (سوف) تأتي بعدها مباشر ًة لتفاجئنا بمعنى ّ من هذا النفي،
مألوفة بين مطلع الجملة
ٍ التأكيد واإلصرار الذي تض ّمنته ،وبما ّ
يشكل مفارق ًة غير
تمكننا من اكتشاف قرآنيّتها حتى لو ونهايتها ،م ّما يعطيها نكه ًة قرآنيّةً عالية المذاق ّ
اختلطت بآالف الجمل البشرية.
ال سوف تَع َلمون: ال سوف تَع َلمونّ .
ثم ك ّ –4ك ّ
اإلضافي الجديد الذي يميّز هذه السبيكة عن سابقتها هو عنصر
ّ العنصر
(ثم) التي يلتقي عندها
التكرار في بنائها العا ّم .ويتمفصل هذا البناء عند األداة ّ
المتكرران.
ّ جناحا السبيكة
332
وأقرب السبائك القرآنيّة إليها قوله تعالى:
ومر ًة أخرى ،من السهل ،حتى على من كانت لديه ثقاف ٌة قرآن ّي ٌة متواضعة ،أن
ّ
يميّز هذه السبيكة القرآنية بين آالف العبارات البشريّة األخرى ،حتّى إن حملت
نفسه.
القرآني َ
َّ العبارات المعنى
ُ تلك
شرط
سوا ٌء قبلنا بمذهب من قال إن أداة الشرط (لو) جاءت هنا بال جواب ٍ
إن الجواب سيأتي في (لتر ُو ّن)ّ ،
فإن اآلية لها خصائص السبيكة ظاهر ،أو قلنا ّ
المتفردة ،بما فيها من عالقاتٍ لغويّةٍ مميّزة.
ّ القرآنيّة
333
عين اليقين:
ثم لتَ َر ُونّها َ
ّ –7
خاص ٍة
ّ وهذه اآلية يتو ّفر فيها أيضاً ما تو ّفر في اآلية السابقة من عناصر لغو ّي ٍة
بالقرآن ،كما رأينا ،باإلضافة إلى العنصر الجديد اآلخر المتمثّل بافتتاحها بحرف
التقليدي للمفعول
ّ اللغوي الفريد وغير
ّ (ثم) ،وكذلك التركيب التأكيدي ّ
ّ العطف
المطلق الذي انتهت به ﮋﮦ ﮧﮊ.
ثم لتُسألُ ّن يو َم ٍ
ئذ عن النعيم: ّ –8
جديد هذه اآلية بطابعها ،مبدوء ًة
ٍ وها هي الصيغة القرآنيّة (لَتَف َع ُل ّن) تطبع من
أيضاً بأداة العطف التوكيديّة القرآنيّة ّ
(ثم).
شك ّ
أن كثافة ورود اللفظ (يو َم ٍئذ) في القرآن الكريم – 68مرة كما رأينا– وال ّ
مرتين يأتي فيهما مجروراً باإلضافة (يو ِم ٍئذ) ،وكذلك كثافة استعمال إضاف ًة إلى ّ
اللفظ (نعيم) فيه أيضاً ،يمنح السبيكة مزيداً من الخصوصيّة والقرآنيّة.
وبقدر ما تزداد هذه المعاني يزداد اللفظ أو التعبير اقتراباً من الحدود التي
وضعناها لتعريف المواقع المنفتحة ،واستحقاقاً ألن يكون ضمن الدائرة اللغويّة
مر العصور وامتداد التي تمنحها مرونتُها وهالميّتها ّقوة االستمرار والعطاء على ّ
المسافات وتن ّوع المفاهيم والثقافات.
334
–1أ ْلها ُكم:
اعتادت العرب أن ترفق هذا الفعل بحرف الجر (عن) إلظهار ما وقع اإللها ُء
عنه .يقول امرؤ القيس (ت 80ق.ﻫ):
تمائم ُم ْح ِو ِل
َ فألهيتُها عن ذي .... .... .... .... ....
ولو ظهرت (عن) وظهر ما بعدها ،بطبيعة الحال ،النغلق الفعل ولم يبق أمام
خيار القتراح المزيد من المعاني واالحتماالت.
أي ٍ خيالنا ُّ
–2التكاثر:
مر ًة أخرى يأتي هذا اللفظ مفتوحاً لعدّة احتماالت في أنواع التكاثر ،ولو
لحصر معناه فيما أضيف إليه.
لفظ ما يحدّده ُ
أضيف إلى ٍ
تجرد من اإلضافة فبإمكاننا الذهاب به اآلن مذاهب كثيرة :التكاثر أ ّما وقد ّ
والتفاخر في األموال ،األوالد ،األحساب ،القبائل والعشائر ،الرجال واألبطال،
المعاش والتجارة ،الرفاهية والتن ّعم ،إلخ..
وقد تعدّدت اآلراء ،نتيج ًة لبقاء هذا اللفظ مفتوحاً ،حتى في مناسبة نزول السورة:
335
فالن
قائل إنها نزلت في اليهود حين قالوا :نحن أكثر من بني فالن ،وبنو ٍ
فمن ٍ ِ
أكثر من بني فالن ،حتى ماتوا ُض ّلالً،
فخ ٍذ من األنصار ،أو ربّما في حيّين من قريش تعا ّدوا وقيل :نزلت في ِ
الحي اآلخر (بني
ناف ّ عبد ُم ٍ
وتكاثروا بأشرافهم في الجاهلية واإلسالم ،فغلب بنو ِ
َس ْهم) ،فتكاثروا باألموات َ
فكث ََرتْهم َس ْه ٌم ،فخاطبهم تعالى في السورة :ألم تكتفوا
بالتكاثر بأحيائكم فزرتم المقابر مفتخرين بأمواتكم أيضاً؟
يوم يموت منهم من يموت ،حتى صاروا ك ّلهم وقيل :ظ ّلوا يتفاخرونَّ ،
وكل ٍ
من أهل القبور.
وجاء في الحديث الشريف:
-ﮋ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮊ قال :يقول ابن آدم :مالي مالي،
(((
تصدقت فأمضيتلبست فأبليت ،أو ّ
َ وإنّما مالُك ما َ
أكلت فأفنيت ،أو
أن َق ْطعها عن اإلضافة منَحها خصباً وأبعاداً في المعاني
وهكذا نجد ّ
كلمة أخرى
وتقديرات لمناسبة النزول ما كانت لتنالها لو أضيفت إلى ٍ
ٍ والتأويالت،
بوصف بعدها.
ٍ أو ُو ِصفت
المهم الربط هنا بين اللفظين (ألهاكم) و (التكاثر)ّ ،
ألن اجتماع لفظين ّ ومن
جملة واحدٍة من شأنه أن يضاعف أبعاد اللفظين معاً ،والفرق بين
ٍ مفتوحين في
لفظ منهما على حدة ،وحساب أبعادهما مجتمعين ،كالفرق بين كل ٍ حساب أبعاد ّ
كل من العددين ( )2و( )4منفردين وقيمتهما معاً مجتمعين ،أي ( )42أو علىقيمة ّ
ّ
األقل ( !)2×4أالحظتم الفرق؟
– 3زُرتُم:
يتضح من حديثنا عن األبعاد المعنوية ل ّلفظين السابقين تعدّد اآلراء في معنى
الزيارة هنا أيضاً:
((( النسائي ،المجتبى من السنن ،مرجع سابق ،ج ،6ص ،238حديث رقم .3613
336
أهي زيار ٌة حقيق ّي ٌة للقبور وهم أحياء ،ليتفاخروا هناك بموتاهم؟
أم هي موتهم الذي انتهوا إليه بعد ّ
كل هذا التكاثر والتفاخر؟
أم هي اإلقامة المؤ ّقتة لمن مات منهم ودفن في هذه القبور ،ألنّه فيها
كالضيف أوالزائر ،إذ لن يلبث أن يُبعث ويعود إلى مسكنه الدائم الذي أُ ِع ّد له في
الجنّة أو النار؟
حتّى األداة (حتّى) التي فصلت بين كلمتين من هذه الثالث ،اكتسبت ،في
معنى.
خضم هذا الغنى والتعدّد ،أكثر من ً
ّ
درجة
ٍ فقد تكون بمعنى (إلى درجة) أي ألهاكم الحديث عن التكاثر إلى
جعلتكم تزورون المقابر وتتفاخرون بموتاكم هناك.
أو بمعنى (لغاية) أي :ألهاكم التكاثر لغاية انتهاء حياتكم ووصولكم إلى
المقابر ودفنِكم فيها.
مرات]:
[مكرر ثالث ّ
ال ّ –6 –5 –4ك ّ
وتطوير القرآن الكريم لمعناه ،واستخدا َمه له في
َ إن جدّة استعمال هذا اللفظ،ّ
سياقات مختلفة ،يمنحه ق ّوة اللفظ المنفتح.
ٍ
337
مالئم لسياق السورة في المواضع الثالثة التي ورد ٌ ّ
وكل هذه المعاني
كل منها تِبعاً الختالف
طفيفة في معنى ٍّ
ٍ اختالفات
ٍ فيها هذا اللفظ ،مع احتمال
سياقها ،والختالف تفسيرات األلفاظ قبلها أو بعدها ،وكذلك تِبعاً لما سبقها أو
تالها من أدوات.
–8 –7تَع َلمون ّ
[مكرر]:
احتماالت عديدٍة لما
ٍ المرتين ،تر َكنا أمام
إن حذف مفعول هذا الفعل ،في ّ ّ
سوف يعلمونه وما سوف نعلمه نحن جميعاً بني البشر.
َ
المخاطب ،أو المخاطبِين ،م ّما تجردا من ذكر
يضاف إلى ذلك أن الفعلين ّ
أسهم في إضفاء المزيد من الغنى واالحتماالت في معاني كال الفعلين.
من أجل ذلك نذهب في تفسير ما سيعلمونه ،أو سنعلمه جميعاً ،مذاهب شتّى:
إنّهم سيعلمون قريباً نتيجة هذا التفاخر ،أو يعلمون مآل هذا الذي يتفاخرون
وأموال وأوالد ،أو يعلمون النهاية ويذوقون الموت الذي ينتظرهمٍ متاع
به من ٍ
َ
المنعطف ،أو يعاينون الحساب الشديد ،أو النار وعذاب وينتظر ًّ
كال منّا على
الجحيم ،أو..
وهكذا ينطلق الخيال مع تص ّوراته العديدة لهذا الذي تنذرنا اآلية باقتراب علمنا له.
338
ﮙﮊ في اآلخرة إذا ّ
حل بكم العذاب .فاألولى في القبر ،والثانية في اآلخرة،
أرواحكم ،والثانية:
َ وقالوا :األولى :إذا نزل بكم الموت وجاءتكم الرسل لتن ِزع
قبوركم وجاءكم ُم َ
نك ٌر ونَكير، إذا دخلتم َ
وقالوا :األولى أنّكم مبعوثون عند النشور ،والثانية أنّكم َّ
معذبون يوم القيامة،
((( البيهقي ،أبو بكر أحمد بن الحسين .إثبات عذاب القبر ،تحقيق :شرف محمود القضاة ،عمان :دار
الفرقان ،ط1405 ،2.ﻫ ،ص.132
((( العجلوني ،إسماعيل بن محمد الجراحي .كشف الخفاء ومزيل اإللباس عما اشتهر من األحاديث
على ألسنة الناس ،بيروت :دار الكتب العلمية ،ط1408 ،3 .ﻫ1988/م ،ج ،2ص ،312 ،حديث
رقم .2795
339
مصيره ،في الجنّة أو في النار،
َ وقد يكون يو َم تطايُر الصحف حين يعرف ٌّ
كل
–10الجحيم:
رغم معرفة العرب للفظ (الجحيم) قبل اإلسالم ،كما رأيناّ ،
فإن اللفظ اآلن
كامل يحوي من أنواع العذاب وأشكال العقاب ما ال
أخروي ٍ
ٍّ عالم
يشير إلى ٍ
ٌ
إنسان وما ال يخطر على قلب بشر. يتص ّوره
ّ
إن النار هي النار ،أ ّما الجحيم فيجمع بين النار والزمهرير ،والعذاب الما ّدي
كل ما ُذكر،
المعنوي ،والدرك األسفل وما يسبقه من درجات ،وكذلك ّ ّ والعذاب
تخيل ،من أوصاف جهنّم في القرآن الكريم أو الحديث الشريف.
أو ما يمكن أن يُ َّ
–11عين اليقين:
المفسرين
ّ شأن هذا التعبير شأن التعبير السابق ﮋﮞ ﮟﮊ في اختالف
حول المقصود به.
وكأن في إضافة (عين) هنا إلى (اليقين) توجيهاً ل ُد ّفة المعنى نحو ات ٍ
ّـجاه آخر، ّ
لوجه أمام مصائرهم
ٍ وهو الرؤية الحقيقيّة في اآلخرة ،عندما يقف الناس وجهاً
وحسابهم ،وجنّتهم أو نارهم.
340
يومئذ:
ٍ –12ثم لتُسألُ ّن
وعم سيُسأل؟ وكيف
أوجه متعدّدة :من سيَسأل؟ ومن سيُسأل؟ ّ
السؤال هنا ذو ٍ
يُسأل؟ وماذا بعد السؤال؟ وماذا بعد الجواب؟
هذه األسئلة ك ّلها تَطرح نفسها تلقائ ّي ًا علينا ونحن نقرأ هذه اآلية ،فتثير في
ب وخوف. وحذر وتر ّق ٍ
ٍ أذهاننا ما تثيره من حيرٍة
ولكن
ّ ومكان محدّد،
ٍ ظرف معيّن،
قوم معيّنين ،وفي ٍ
توجهت إلى ٍ إن السورة ّ ّ
الخاص إلى العا ّم ،ومن المحدود إلى المطلق،
ّ اللغة التي أُن ِزلت فيها نقل ْتها من
كال منّا يستشعر الموقف حين يقرأها ،وكأنّها أُنزلت اآلن ،ومن أجله، فجعلت ًّ
عالم ال نهاية له من التص ّورات لألحداث الغيبيّة.
فينفتح أمامه ٌ
–13النعيم:
أ ّما النعيم فيحمل من المعاني في اآلية َّ
كل ما أنعم اهلل به على اإلنسان من نِعم.
المفسرون من هذه النعم التي يُ ّ
ستدل عليها من السورة :األمن ّ وقد ذكر
تنص اآلية ﮋ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ بالحواس ،كما ّ
ّ والصحة والوقت واإلدراك
ّ
ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﮊ [اإلسراء ]36 :ومال ّذ األكل والشراب ،وظالل المساكن،
الخ ْلق ،ول ّذة النوم ،والجاه ،واللباس ،واإلسالم ،والقرآن ،ومح ّمد
واعتدال َ
كما يؤ ّكد القرآن الكريم ﮋ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﮊ
[الحج.]78 :
ّ [آل عمران ،]164 :وتخفيف الشرائع ﮋ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﮊ
ويزيد هذه المعاني وضوح ًا عد ٌد ٌ
كبير من األحاديث الشريفة التي وردت في
تعريف (النعيم) منها:
قال :ل ّما نزلت هذه اآلية ﮋﮩ ﮪ ﮫ ﮬ -عن أبي هريرة t
أي النعيم نُسأل ،فإنّما هما َ
رسول اهلل ،عن ّ ﮭﮊ قال الناس :يا
341
حاضر ،وسيو ُفنا على
ٌ والعدو
ُّ األسودان [أي ال نملك إ ّ
ال التمر والماء]
إن ذلك سيكون(((.
عواتقنا؟ قالّ :
خامساً :جوامع َ
الك ِلم
اللغوي
ّ ّ
يحتل مكانه بعد في قاموسنا لعل معظم عبارات هذه السورة لمّ
اليومي ،ومع ذلك سنرى ّ
أن أكثر هذه العبارات يحمل مق ّومات التعبير السائر الذي ّ
مواقف حيات ّي ًة كامل ًة نحاول التعبير عنها عاد ًة
َ قليلة
كلمات ٍ
ٍ يمكن أن يَختصر في
المترسلة:
ّ بلغتنا البشريّة
–1ألهاكم التكاثر:
تلخص في كلمتين درساً كام ً
ال يمكن أن يلقيه أحدنا على من هذه العبارة ّ
نسوا الموت والحساب والجنّة والنار.
شغلتهم الحياة الدنيا عن اآلخرة ،وقد ُ
زرتم المقابر:
ألهاكم التكاثر .حتى ُ
ُ –2
وفي اجتماع اآليتين في هذا التعبير يجتمع إلى الموقف األول ،وهو
إضافي آخر ،فنر ّدد في أنفسنا هذه العبارة ونحن
ٌّ ٌ
موقف االنشغال بأمور الدنيا،
ِ
امرئ أه ّمته الدنيا فجمع منها ما جمع ،ثم ترك ّ
كل ذلك نشيّع بأنظارنا جنازة ٍ
ومضى إلى نهايته المحتومة.
((( الترمذي ،الجامع الصحيح (سنن الترمذي) ،مرجع سابق ،ج ،5ص ،448حديث رقم .3357
ّ
وكأن ((( المرجع السابق ،ج ،5ص ،448حديث رقم .3358وجاء الفعل (نرويك) هكذا بالياء،
الجملة مستأنفة.
342
–3ك ّ
ال سوف تعلمون:
ويصرون
ّ عندما تحاول أن تقنع أناس ًا بأنهم على خطأ ،فيركبون رؤوسهم،
رد تَختصر به لكل ذي بصيرةُ ،
فأبلغ ٍّ على أنهم هم المصيبون رغم وضوح الخطأ ّ
وتأك َدك من ظهور الحقيقة في النهاية ،قولُك
رأيك فيهم ،ويأسك من إصالحهمُّ ،
لهم :ك ّ
ال سوف تعلمون.
عين اليقين:
علم اليقينَ /
َ –5 –4
هاتان العبارتان تختصران موقفينٌّ ،
كل في كلمتين:
ثم لَتُسألُ ّن يو َم ٍ
ئذ عن النعيم: ّ –6
بحبوحة من الرغد
ٍ حسن باإلنسان أن ير ّددها ك ّلما وجد نفسه في وهي عبار ٌة يَ ُ
َ
شيطان نفسه أحس بأن الدنيا قد أقبلت عليه ،ففي ترديده لها ما يزجر والسعادة ،أو ّ
يجر قدميه إلى الدنيا ،وفيه ما يذ ّكره باآلخرة وما أع ّد لها من عمل.
إذا حاول أن ّ
ليلة
يوم أو ٍ
-يروي مسلم عن أبي هريرة قال :خرج رسول اهلل ذات ٍ
بكر وعمر ،فقال :ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟
فإذا هو بأبي ٍ
قاال :الجوع يا رسول اهلل .قال :وأنا ،والذي نفسي بيده ألخرجني الذي
أخرجكما ،قوموا ،فقاموا معه ،فأتى رج ً
ال من األنصار فإذا هو ليس في
بيته ،فلما رأته المرأة قالت :مرحباً وأه ً
ال ،فقال لها رسول اهلل :أين
343
األنصاري فنظر إلى
ّ فالن؟ قالت :ذهب يستعذب لنا من الماء؛ إذ جاء
رسول اهلل وصاحبيه ثم قال :الحمد هلل ما أح ٌد اليوم أكر ُم أضيافاً منّي.
وتمر
ٌ سر
كامل من التمر] فيه بُ ٌ عنقود ٍٍ ذق [أيقال :فانطلق فجاءهم ب ِع ٍ
و ُر َطب ،فقالُ :كلوا من هذه ،وأخذ المدية ،فقال له رسول اهلل :إيّاك
والحلوب ،فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك ال ِعذق وشربوا ،فلما
بكر وعمر :والذي نفسي بيده أن شبعوا ور ُووا قال رسول اهلل ألبي ٍ
الجوع ،ثم لم
ُ خرجكم من بيوتكم لتُسألُ ّن عن هذا النعيم يوم القيامة ،أَ َ
تَرجعوا حتى أصابكم هذا النعيم(((.
((( القشيري ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،ج ،3ص ،1609حديث رقم .2038
344
السورة الخامسة عشرة
القارعة
( ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ
ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ
ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ
ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ
ﮆﮇﮈﮉﮊ)
والسورة هي الرابعة عشرة بالترتيب التراجعي لسور القرآن ،وهي مؤلّفةٌ من
36لفظ ًا ولكنّنا نستطيع أن نضع أيدينا فيها على 54موقع ًا جديداً.
345
ّأوالً :األلفاظ والمصطلحات
مرات]:
1إلى –3القارعة [ّ 3
مرتين ،وعند شاعرين أخوين الجاهلي َع َرف هذا اللفظ ّ
ّ قد يكون القاموس
مغ ِرقين في القدم ،حفل شعرهما ،وكذلك الملحمة الشعبيّة التي وصلت إلينا
عنهما ،باألساطير أكثر م ّما حفال بالحقائق ،وهما ُك َليب بن ربيعة (ت 134ق.ﻫ)
والمهل ِهل بن ربيعة (ت 94ق.ﻫ) .يقول ُك َليب:
النِ قارع َة التالقي
بذي الس ّ كأنّهمُ النعـا ُم غدا َة خافوا
فإن من الواضح ،مع الهالة الكبيرة من الشكوك التي تحيط ومع ذلك ّ
واضح في
ٌ َ
اختالف معنى اللفظ لديهما ،وهو الحدث الكبير كما هو بأشعارهما،
االصطالحي الجديد له في القرآن،
ّ بيت ُكليب ،أو الخوف الشديد ،عن المعنى
أعطيت هذا االسم ألنّها «تقرع القلوب بالفزع ،وتقرع أعدا َء
وهو القيامة ،وكأنّما ِ
اهلل بالعذاب».
–4المبثوث:
الجاهلي وال في الحديث الشريف ،وال
ّ ال نعثر على هذا اللفظ في الشعر
نجده في القرآن الكريم خارج هذه السورة.
346
[مكرر]:
–7 -6موازينُه ّ
بيت سبق
الجاهلي هذا اللفظ هي في ٍ
ّ المرة الوحيدة التي عرف بها الشعر
ّ
الفزاري
ّ للحصين بن ُحمام
بصحة نسبتها ُ
شككنا ّأبيات أخرى ّ
أن أوردناه ضمن ٍ
(ت 10ق.ﻫ) .والبيت هو:
األرض ِزلزالَهــــا
ُ لـــــت
وزُلــ ِز ِ الموازيـــن بالكافــرين
ُ وخ ّ
ــف َ
ولكن ما
ْ (عيشة) ،اللفظ المألوف الذي يصف حياتنا اليوميّة المعتادة،
إنها ِ
شأن هذه «العيشة» األخرى بعد الموت؟ وكيف تكون؟ ومتى؟ وإلى متى؟ وهل
هي «عيش ٌة» حقيقيّة ،كما اصطلح البشر على معنى هذا اللفظ؟
347
–9راضية:
مرة على صيغة ٌ
استعمال جدي ٌد للصفة المشبّهة (راضية) .فهي تَ ِرد أل ّول ّ هذا
تدل على اسم المفعول.اسم الفاعل ،ولكنّها ّ
َرضى» كما يمكن أن نفهمه من استعمال اللفظإنها هنا ليست العيش َة التي «ت َ
رضية).
في لغتنا ،بل التي « تُرضي» فهي إذن (راضية) ولكن بمعنى ( ُم ِ
وقد يس ّمي البالغيّون هذا من باب المجاز؛ إ ْذ أُط ِلقت صيغ ُة اسم الفاعل على
خاص
ٌّ أن المراد هو صاحب العيشة ،وهي إذن مجا ٌز جدي ٌد العيشة ،على حين ّ
بالقرآن وحده.
أمه:
ُّ –10
ولكن الجديد هو في معانيهّ القرآني بوصفه لفظاً،
ّ ال جديد في هذا اللفظ
التقليدي :األ ّم
ّ المفسرون له ،وحيرتهم بين المعنىّ االحتماليّة التي اقترحها
خاصة بهذه السورة :مثل :المسكن ،والمأوى ،وأ ّم الرأسٍ
ّ ومعان أخرى
ٍ الحقيقيّة،
أو ق ّمته ،ومكان السقوط ،ومنها (مسقط رأسه) ،والنهاية ،وغيرها.
–11هاويَة:
المفسرون حول المعنى الدقيق والمحدّد لهذا اللفظ ،ولكنّهم يتفقون
ّ اختلف
لشيء يتع ّلق بها ،لم يعرفه العرب قبل اإلسالم،
ٍ جميعاً على أنّه ٌ
اسم آخر لجهنّم ،أو
مر بنا في سورة (ال ُهمزة).
مثلما لم يعرفوا اسمها اآلخر (الجحيم) الذي ّ
النبوي إ ّ
ال أن يرد ّ وال نجد اللفظ في غير هذه السورة ،ويخلو منه الحديث
في مع ِرض الحديث عن هذه اآلية.
348
ِ –12هيَ ْه:
هذه الهاء في نهاية الضمير حيّرت اللغويين ،ألنّهم لم يجدوها إ ّ
ال في القرآن،
الجاهلي وال في الحديث الشريف.
ّ فال نعثر على مثلها في الشعر
السور باللفظ (هيَ ْه) ،ولكنّنا نجد
ولقد اختُ ّصت هذه السورة دون غيرها من َ
مكان في القرآن
هذا النوع الغريب من الهاء مع غير الضمير (هي) وفي أكثر من ٍ
ات خالل ست مر ٍ
تتكرر فيها هذه الهاء ّ ّ الكريم ،وال سيّما في سورة (الحا ّقة) التي ّ
آيات شبه متتالية:
بضع ٍ
-ﮋﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ
ﮦ ﮊ [ ...]20-19ﮋ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ
ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ
ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﮊ []29-25
349
عربي عاصر
ٍّ أي نعم لن نستغرب هذا كثيراً ،اليوم ،ولكن من المؤ ّكد ّ
أن ّ
مر ٍة في حياته مثل هذه
نزول الوحي سيستغرب أش ّد االستغراب وهو يسمع أل ّول ّ
االفتتاحيّة ( :ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﮊ.
بآية قصيرٍة جداً ،وانتهت الجمل ُة ،أو الوحدة اللغويّة ،فيها
لقد بدأت السورة ٍ
نهاي ًة سريع ًة جداً ،بل انتهت قبل أن تنتهي.
خبر لهذا
البشري ،أن نبحث عن ٍ
ّ طبعاً ستتط ّلب منّا قواعد النحو،
قدروا لهذا
المبتدأ ،هكذا تعارف النحويّون :ال مبتدأ من غير خبر ،ولهذا ّ
تتضمن هذا االستفهام
ّ القرآني الغريب خبراً هو اآلية التالية له ،والتي
ّ المبتدأ
التحذيري :ما القارعة؟
ّ
جملة في تراثنا يكون خبر المبتدأ فيها سؤا ً
ال!! ٍ وهكذا نجد أنفسنا أمام أ ّول
حال بدي ً
ال– بل ذهبوا أبعد من ذلك حين قدّروا قبل لفظ (القارعة) –ليكون ًّ
ال ما محذوفاً مثل (ستأتي) ليكون هذا اللفظ فاع ً
ال له ،أي :ستأتي القارعة، فع ً
نحوي للمشكلة ،ولكنّنا نكون قد فقدنا ،بهذه
ٍّ وبهذا نكون قد عثرنا على ٍّ
حل
وتفردها. َ
الجمال واإليحاءات واألطياف التي أحاطتنا بها جدّتها ّ العمليّة القيصريّة،
حررناها من هذه القواعد أخضعنا اآلية إلى قواعد النحوييّن ،أو ّ وسوا ٌء ْ
يظل استعمالها غريباً وجديداً على
مقد ٍر قبلها أو بعدهاّ ، أي َّ
فلم نحاول افتراض ّ
العربي األ ّول :سوا ٌء في اقتصار وحدةٍ لغويةٍ كاملةٍ على مبتدأ ،أو في ابتداء
ّ أذن
بجملة غير عاديّةٍ اقتصرت على لفظٍ واحدٍ ٍ أدبية كاملة ،هي السورة هنا،
وحدٍة ٍ
ال نعرف ما إذا كان – 1 :جزءاً من جملةٍ فعل ّي ٍة ُحذف فع ُلها ،أو – 2 :جزءاً من
استقل وحده بآية ،أو – 4 :شيئاً
ّ جملةٍ اسم ّي ٍة ُحذف خبرها ،أو – 3 :جزءاً مفرداً
غير هذا وذاك لم تتّسع له قواعدنا النحويّة المحدودة التي عجزت عن اإلحاطة
باللغة السماويّة غير المحدودة.
350
–2ما القارعة [األولى]:
العربي األ ّول ،ألنّها
ّ إذا أثارت هذه الجملة االستفهاميّة التحذيريّة دهشة
جاءت خبراً للمبتدأ الذي تك ّونت منه اآلية األولى؛ فال ب ّد أنّها فاجأته كذلك بأنها
سابقة
ٍ وحد ٌة لغو ّي ٌة كامل ٌة مستق ّلة ،رغم أنّها ال تعدو أن تكون خبراً لوحدٍة لغو ّي ٍة
مستق ّل ٍة أيضاً.
العربي األ ّول هنا فهي هذا األسلوب ّ أ ّما المفاجأة األخرى التي تنتظر
أي
مجرد استفهام ،ومن غير ّ التحذيري الجديد الذي يصطبغ بصبغة االستفهامّ ، ّ
فعل يسبقه أو يم ّهد له ،من مثل قولك( :عقوبتك؟ أتدري ما عقوبتك؟) ،فقدّمت ٍ
لالستفهام الثاني بالفعل (أتدري) ،على حين خلت الجملة القرآنيّة الثانية من مثل
ال في القرآن الكريم. أسلوب لم نعهده ،وال نعرفه حتّى اآلن ،إ ّ
ٌ هذا الفعل .إنّه
ونجد في سورة (الحا ّقة) نموذجاً آخر يطابق تماماً هذا النموذج:
-ﮋ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﮊ []3-1
[مكرر]:
–6 –5وما أدراك ّ
قرآني جديد سبق أن تو ّقفنا عنده في حديثنا عن قوله تعالى ﮋ ﭷ
ٌّ تعبير
هذا ٌ
الجاهلي
ّ ﭸ ﭹ ﭺ ﮊ في سورة (ال ُهمزة) .وال وجود لهذا التعبير في الشعر
اإلسالمي ،وال في الحديث الشريف ،رغم تر ّدده 13مرة في القرآن الكريم.
ّ وال
351
–7يو َم:
عادي.
ّ ولكن موقعه في السورة غير
ّ ومألوف جدّ ًا لدينا،
ٌ عادي
ٌّ إنّه ٌ
ظرف
أم نع ّلقه ٍ
بفعل محذوف؛ أي :ستأتي (أو تحدث) القارعة يوم يكون الناس؟
محذوف لمبتدأ محذوف؛ أي :هي حاصل ٌة يوم يكون الناس؟
ٍ أم نع ّلقه ٍ
بخبر
لفعل محذوف (أي نعربه مفعو ً
ال به منصوباً ،وليس ظرفاً، مفعول به ٍ ٌ أم هو
وكأنّنا نقول :اُذك ِر اليو َم الذي يكون فيه الناس)؟
القرآني
ّ وهكذا تعدّدت االتجاهات أمام النحويين وهم يقفون أمام هذا الموقع
عادي غير جديد.
ٍّ لظرف
ٍ الجديد والمحيّر
–8يو َم يكون:
تركيب جديد لم يعرفه الشعر
ٌ إن إضافة الفعل (يكون) إلى الظرف (يوم) ّ
العربي قبل اإلسالم ،وربّما بعده أيضاً ،ويخلو منه الحديث الشريف أيضاً.
ّ
مرةً أخرى في غير هذا الموضع من
يتكرر التركيب ّ
ال ّ واألغرب من ذلك أ ّ
القرآن الكريم.
–9ال َف ُ
راش المبثوث:
تعبير جدي ٌد عن شكل التبعثر والفوضى الذي يأخذه الجراد أو البعوض
هذا ٌ
أو مختلف أنواع ال َفراش وهي تهيم في شتّى االتجاهات.
352
وسنرى كيف استُخدمت هذه الصورة القرآن ّي ُة الغريبة للضياع والفوضى؛ في
بناء صورٍة أخرى أشمل تصف حالة الناس يوم القيامة.
مخيف كهذا
ٍ موقف
ٍ شيء أش ّد حاج ًة لمثل هذه الصورة الجديدة منوأي ٍ ُّ
كل من عرفتهم األرض من البشر ،منذ آدم حتى يوم القيامة، تلفظ فيه القبو ُر ّ
كل اتجاه ،ويتداخل فيُبعثون من الموت ليهيموا على وجوههم ،ويتدافعوا في ّ
بعضهم في بعض ،وهم ال يملكون ألنفسهم وجه ًة ،وال يعرفون لهم هدفاً ،فكأنّهم
كل اتجاه، ال َفراش ،أو الحشرات الصغيرة التي تتطاير متزاحم ًة حول النار في ّ
منتهي ًة بعد ذلك إلى مصائرها المحتومة؟ إنّها واحد ٌة من مئات ،وربّما آالف الصور
التقليدي.
ّ البالغي
ّ الجديدة التي أضافها القرآن الكريم إلى معجمنا
–11ال ِع ْه ُن المنفوش:
الجاهلي ،أو بعده ،وال في الحديث
ّ قرآني آخر ال نجده في الشعر
تعبير ٌّ
وهذا ٌ
الشريف ،وكأنّما يص ّور تلك الكتل المل ّونة من حلوى ّ
السكر المنفوش ،أو ما يس ّميه
أنواع الصوف المل ّون التي عرفها الناس في الجاهليّة.
عا ّمتنا (غ ْزل البنات) ،أو ُ
وسيكون لهذا االستعمال الجديد دوره الها ّم في بناء الصورة المخيفة
مما لم يعرف اإلنسان مثي ً
ال له من قبل ،ولن يعرفه التالية من صور يوم القيامة ّ
في حياته من بعد.
353
غريبة بين هول المنظر في صورة الجبال وهي تتناثر وتتفتّت ،وبين ماٍ مفارقة
ٍ من
وطمأنينة ،وكذلك المفارقة الغريبةدفء ُ
قد يوحي به منظر الصوف المنفوش من ٍ
األخرى بين صالبة الجبال وثقلها ورسوخها وبين طراوة العهن وتطايره وخ ّفة وزنه!
ولكن أغرب ما في هذه الصورة تلك الحقيقة العلميّة التي تشير إليها .ورغم ّ
العلمي ،لعدم
ّ نتعرض لجوانب اإلعجاز ال ّأنّنا أخذنا على أنفسنا في هذا الكتاب أ ّ
سريعة بهذا النوع من اإلعجاز
ٍ إلمامة
ٍ االختصاص ،فإنّه ال مناص بين الحين واآلخر من
نأخذها ع ّمن عالجوا هذا الجانب ،إذا كان فيها ما ّ
يوضح الصور البالغيّة المدروسة.
جسم في هذا الكون يمكن أن: ّ
فكل ٍ
أ– ينكمش ويتق ّلص إذا ازدادت كثافته وتقاربت ج َزيئاتُه ،كما يحصل لألجرام
التي تبتلعها الثقوب السوداء في أعماق الكون.
ب– أو ينتفش إذا ق ّلت كثافته وتباعدت ج َزيئاتُه ،كما يمكن أن يحصل للجبال
يوم القيامة.
َو ّفر لها من قوة الجاذبيّة ما يكفي
هل سمعتم بالثقوب السوداء؟ إنها نجو ٌم ت َ
نجوم أو أجرام ،وك ّلما ابتلعت َجرماً جديداً
الجتذاب كل ما يقترب من مجالها من ٍ
ثم ،كثافتها ،وأصبحت أكثر امتصت جاذبيّته فازدادت ق ّوة جاذبيّتها ،وارتفعت ،من ّ ّ
قدر ًة على ابتالع المزيد م ّما حولها.
نفسه تتجاذب وتتقارب وتتداخل، بل ّ
إن ق ّوة الجاذبيّة هذه تجعل أجزاء النجم ِ
قوةً ،حتى
بشكل هائل ،وتزداد بهذا كتل ُة النجم كثاف ًة ،وجاذب ّيتُه ّ
ٍ فيصغر حجمه
أضعاف وزن الكرة األرضية. ِ َ
أضعاف يكون ُ
وزن ما كان منه بحجم كرة التنس
وهكذا تصل ق ّوة جاذبيّة هذا النوع من األجرام درج ًة تجعلها تبتلع الضوء
الذي يسقط عليها ،فال تعكس هذا الضوء وتستحيل بذلك رؤيتنا لها ،فس ّموها
لذلك :الثقوب السوداء(((.
«خ ُ
لق الكون بين العلم واإليمان» ،انظر: ((( راجع مصادر وكتب اإلعجاز العلمي ،وال سيما كتاب َ
لق الكون بين العلم واإليمان ،بيروت :دار النفائس1998 ،م ،ص 68وما بعدها.
-الطائي ،محمد باسلَ .خ ُ
354
مجرد عمل ّي ٍة
إن انتفاش الجبال يوم القيامة يمكن أن يكون ،واهلل أعلمّ ،ّ
انكماش وتق ّلص.
ٍ معاكسة لما يجري في "الثقب األسود" من
ٍ فيزيائ ّي ٍة
355
كافر بي
وكافر بالكواكب ،وأ ّما َمن قال :بنَوء كذا وكذا ،فذلك ٌ
ٌ مؤمن بي
ٌ
ومؤمن بالكواكب(((.
ٌ
-الغزو َغزوان :فأ ّما َمن ابتغى وج َه اهلل وأطاع اإلمام ،وأنفق الكريمةَ ،
وياس َر
الشريك ،واجتنب الفساد ،كان نو ُمه ونُْب ُهه أجراً ُّ
كله ،وأ ّما َمن غزا ريا ًء
رج ُع َ
بالكفاف(((. وأفسد في األرض ،فإنّه ال يَ ِ َ وسمع ًة ،وعصى اإلمام،
ُ
ُلت موازينُه:
–14ثق ْ
مجازي جدي ٌد عن الربح أو الفوز أو النجاح .وقد يكون تعبيراً غير
ٌّ تعبير
هذا ٌ
مجازي أيضاً لو كانت هناك موازين حقيقيّة ،حتّى إن كانت مختلف ًة عن الموازين
ٍّ
ظروف تختلف ك ّلي ًا عن أية
ٍ التي نعرفها ،وتعمل بغير الطرائق التي اعتدناها ،وفي
ظروف أخرى عهدناها في عمليّات الوزن الدنيويّة.
ٍ
ات في القرآن ،يخلوورغم تكرار هذا التعبير ،أو لن ُق ْل :الصورة ،ثالث مر ٍ
ّ
النبوي الشريف ،إ ّ
ال أن ي ِرد ضمن ّ الجاهلي منه تماماً ،وكذلك الحديث ّ الشعر
سياق متع ّلق بذكره في القرآن.
ٍ
–15فهو في ِعيش ٍة راضية:
منفصلة عن آية
ٍ بآية أخرى أو وحدٍة مستق ّل ٍة ّ
يستقل جواب الشرط ٍ مر ًة أخرى
يختص به القرآن وحده كما عرفنا.
ّ أسلوب
ٌ فعل الشرط ،وهو
–16عيش ٍة راضية:
لم يعبّر أح ٌد قبل القرآن ،وربّما بعده أيضاً ،عن معنى العيش ّ
الهني ،أو الحياة
والمميز.
َّ الخاص
ّ السعيدة ،بهذا التعبير
356
–17خ ّفت موازينُه:
يأتي هذا التعبير بمقابل التعبير السابق ﮋ ﭳ ﭴ ﮊ .وهو ّ
يتكرر في
يتكرر التعبير األول (ثالث مرات).
القرآن حيثما ّ
تعبير عن
ٌ تعبير عن الخسارة واإلخفاق والخيبة ،أو هو ،كما أسلفنا، ٌ إنه
بغض النظر عن طبيعة الموازين حقيقي يوزن فيه عمل المرء في حياتهّ ، ٍّ موقف
ٍ
والموزونات هناك واختالفها ع ّما عهدناه في الحياة الدنيا.
فأمه هاوية:
ُّ –18
قرآني آخر من التعبيرات الشديدة الخصوصيّة التي ال يمكن أن نجدها
ٌ تعبير
ٌ
إّ
ال في القرآن الكريم .
(((
يلح النحويّون المحدثون على ضرورة تجريد المضاف من «ال» التعريف ،فيفرض بعضهم أن يقال ((( ّ
ّ
هنا« :التعبيرات شديدة الخصوصيّة» رغم أننا هنا في معرض اإلضافة إلى الصفة وليس االسم
يتكرر في الحديثأن هذا النوع من اإلضافة ّ (شديدة) ،وهو جائ ٌز عند قدامى النحويّين ،ورغم ّ
الشريف ،مع الصفة وغيرها ،كما في الحديث الذي يرويه أحمد في مسنده عن أنس بن مالك..« :
غضب
ٌ قلت يا عبد اهلل ،إنّه لم يكن بينـي وبين أبي
فلما مضت الثالث ليال ،وكدت أن أحتقر عملهُ ،
وال هجر ،ولكن سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول لك ثالث مرار :يطلع عليكم اآلن
فأردت أن آوي إليك ألنظر ما عم ُلك ،انظر:ُ رجل من أهل الجنة ،فطلعت أنت الثالث مرار،ٌ
-الشيباني ،مسند اإلمام أحمد ،مرجع سابق ،ج ،20ص ،124حديث رقم .12697
357
نار حامية:
ٌ –19
أدهشنا باالحتماالت المتعدّدة من المعاني
على عكس التعبير السابق ،الذي َ
لكل من لفظيه ،وال سيّما األ ّول ،نالحظ في هذا التعبير بساطة لفظيه واعتيادنا ٍّ
اختالفات حول
ٍ احتماالت مجازيّة ،أو أيّة
ٍ وتجردهما من أيّة
ّ لهما في لغتنا اليوميّة،
كل منهما.معنى ٍّ
358
ُ
الجبال كالـ: –4 –3يوم يكون الناس كالـ /وتكون
وهي سبيك ٌة قرآن ّي ٌة أخرى واضحة النكهة ،تبدأ بالتركيب القرآني (يوم يكون)
يتكرر أبداً في تراثنا ،وال في القرآن نفسه أيض ًا – كما عرفنا – ويليهالذي ال ّ
ظاهر للفعل الناقص (يكون) وهو(الناس) ،وتنتهي سبيكتنا هذه بأداة التشبيه
ٌ اسم
ٌ
خبر للفعل الناقص ،أي :يكون الناس َ
مثل... (الكاف) التي يمكن أن نعدّها بمثابة ٍ
359
رابعاً :مواقع منفتحة
–1القارعة:
يكتسب هذا اللفظ صفته االنفتاحيّة من أمرين:
اإلعرابي:
ّ األول :موقعه
فقيل :إنه مبتدأٌ خبره اآلية التالية ﮋﭞ ﭟﮊ،
فعل قبله ،والتقدير :ستأتي القارعة،
وقيل إنه مرفو ٌع بإضمار ٍ
وقيل إنه للتحذير؛ أي :القارعة قادم ٌة ،فيكون على هذا مبتدأً خبره محذوف.
أرجح الرأي األخير ،وأ ْرجح منه أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف، وأنا ّ
قو ًة حتذير ّي ًة أضخم ،بما
والتقدير :هي القارعة ،أو إنها القارعة ،فهذا يعطي اللفظ ّ
يح ّققه من عنصر السرعة والمفاجأة ،وكأنه الصرخة التي يفاجئنا بها من يح ّذرنا من
ثم،
بسرعة ويوشك أن يقع على رؤوسنا ،فال وقت للكالم ،ومن ّ ٍ أمر سقط فوقنا
ٍ
ال وقت للمبتدأ فيواجهنا بالخبر مباشرة.
إن هذا كفعلك مع من توشك أن تدهسه سيّارة ،فتقول ِّ
محذراً :السيّارة ،فأنت ّ
لن تجد الوقت لتقول له جمل ًة كامل ًة مثل :انتبه يا صديقي إلى نفسك ّ
إن السيّارة
توشك أن تدهسك ،فستكون السيّارة قد دهسته قبل أن تنتهي من إلقاء خطبتك.
وقد تنبّه سيد قطب في (ظالله) إلى أه ّمية االستغناء عن الخبر في هذه اآلية،
أن الغاية من حذفه هووإن اتّجه إلى أن المحذوف هو الخبر وليس المبتدأ ،وإلى ّ
جرس (القارعة) وإيقاعها المرهوب ،فقال: التركيز على ْ
((( قطب ،سيد .في ظالل القرآن ،بيروت :دار الشروق ،ط1982 ،10م ،ج ،6ص.3960
360
واألمر الثانيِ :جدّة االصطالح .فقد عرف العرب جذر هذا اللفظ ،وربّما
اصطلح له ،بوصفهولكن المعنى الجديد الذى ُ ّ عرفوا اللفظ نفسه أيضاً ،كما رأينا،
اسماً من أسماء يوم القيامة ،منحه بُعداً ،وربما أبعاداً معنو ّي ًة إضاف ّي ًة جديدة.
وضجيج هائل؟
ٍ وزلزلة
ٍ أحداث
ٍ أم ألنّه يقرع اآلذان بما فيه من
[مكرر]:
–3 –2ما القارعة ّ
ومعنوية أغنته بالظالل
ٍ أبعاد إعراب ّي ٍة
إلى جانب ما أثبتناه للفظ (القارعة) من ٍ
واأللوان ،تأتي أداة االستفهام (ما) لتضيف إلى هذه األبعاد بعداً جديدا ّ
يفجره
التساؤل هنا:
تحذيري؟
ّ ٌ
تساؤل هل هو
361
–4يو َم يكون:
وبدهي أن
ٌّ قد عرفنا المذاهب المتعدّدة التي اقتُرحت لتعليق الظرف (يوم).
َ
أضيف إليه (يكون)، تزداد بذلك تأويالت هذا الظرف ،ومعه الفعل الناقص الذي
ثم تزداد انفتاحيّته ،بازدياد عدد هذه المذاهب.
ومن ّ
راش المبثوث: َ ُ –5
الناس كالف ِ
وأبعاد يمكن أن تستدعيها هذه الصورة البيانيّة الجديدة
ٍ وطيوف
ٍ إيحاءات
ٍ أيّة
لحركة الناس وتدافعهم وتداخلهم وذهولهم يوم القيامة؟
إن أوجه الشبه الكثيرة بين الناس ،وهم في هذه الساعة العظيمة ،والفراش
الهائم حول النار ،تغني الصور َة باأللوان واألبعاد.
ومتحول ٌة عن أماكنها
ّ فالجبال التي يُضرب المثل بثباتها وثقلها ،هي اآلن متطاير ٌة
بخ ّفة الفقاعات،
المرات ،بعد
وربّما انتفشت ،كما يرى آخرون ،وتضاعف حجمها عشرات ّ
أن تفتّتت ذ ّراتها وتباعدت ج َزيئاتها.
362
وقد سبق أن نبّهنا إلى المفارقة الموحية العجيبة بين ثِقل الجبال وخ ّفة العهن،
وصالبة األولى وليونة الثاني ،ووقار األولى وهوان الثاني ،وهي مفارق ٌة تضيف
أبعاداً أخرى فوق األبعاد التي ّ
تفجرها أوجه الشبه المتعدّدة في الصورة.
أن الصورة لم تقتصر على تشبيه الجبال بالصوف المنفوش، والحظ أيضاً ّ
بل اعتمدت أيضاً على لفظ (ال ِعهن) الذي يعني الصوف المل ّون ،وليس الصوف
آية
ينص القرآن الكريم في ٍ ُ
اختالف ألوان الجبال ،كما ّ يفسر هذا
العادي ،وقد ّ
ّ
َ
اختالف ألوان الما ّدة الفقاعيّة التي ُ
واختالف ألوانها ال ب ّد أن يستتبع أخرى،
تح ّولت إليها.
[مكرر]:
–8 –7موازينُه ّ
المفسرين وأهل اللغة:
ّ أثار هذا اللفظ جمل ًة من التأويالت عند
وقال ع ّز الدين بن عبد السالم في (مجاز القرآن) إنها موازين حسنات المرء
أو سيّئاته وليست موازين المرء نفسه ،رغم إضافة اللفظ إلى الضمير العائد عليه
هو ،أي على المرء ،فهو من قبيل المجاز،
بميزان
درهم ِ
ٍ وقيل كذلك إنها بمعنى (وزْن) ،يقول العرب :هل لك في
درهمك ،أي بوزن درهمك،
ِ
وقال مجاهد :ليس ميزاناً ،إنّما هو مث ٌ
َل ُضرب.
363
هذه المعاني الكثيرة المحتَ َملة ل ّلفظ تجعله واحداً من ّ
أهم األلفاظ المنفتحة
ذات األبعاد المتعدّدة في السورة.
(رأسه)
فأم ِ فعز الدين بن عبد السالم يرى أنه من المجازّ ،
وأن أصل المعنىُّ :
هاوي ٌة ،وعلى ذلك يكون (هاوية) هنا اسماً لجهنّم ،أي سيسقط في جهنّم على أ ّم رأسه.
364
إن (األ ّم) في اآلية هي المأوى ،على التشبيهّ ،
ألن األ ّم مأوى الولد وقيل ّ
و َمفزعه ،فالمعنى على ذلك ّ
أن مأواه األخير هو الهاوية أو النار.
أهل الرحمة من عباد اهلل كما يَلقَون البشير فينفس العبد تل ّقاه ُ
-إذا ُقبضت ُ
نظروا أخاكم حتّى بعضهم لبعض :أَ ِ الدنيا ،فيقبلون عليه ليسألوه ،فيقول ُ
يستريح؛ فإنّه كان في كرب ،فيُقبلون عليه فيسألونه :ما ف َعل فالن؟ ما
فعلت فالنة؟ هل تز ّوجت؟ فإذا سألوا عن الرجل قد مات قبله [أي سألوه ْ
ع ّما إذا كان ذلك الرجل قد مات قبله ،إذ لم يُقبِل عليهم بعد] قال لهم:
إنه قد هلك [أي مات قبله] ،فيقولون :إنّا هلل وإنّا إليه راجعونُ ،ذ ِهب به
إلى أ ّمه الهاوية ،فبئست األ ّم و بئست المربّية(((.
َ
أدراك ما ِهيَ ْه: –11وما
ولكن التساؤل فيها يحمل أكثر من وجه:
ّ هذه جمل ٌة تساؤليّة،
فقد يكون إلثارة االستغراب والتساؤل،
وقد يكون للتفخيم والتهويل،
وقد يكون إلثارة الفزع والخوف م ّما سيأتي،
وقد يكون إلغناء عنصر المفاجأة ،ألنه ينبّهنا إلى قرب مجيء الجواب ويهيّئنا
الستقباله :نا ٌر حامية،
لكل ذلك جميعاً.
وقد يكون ّ
مزيد من
ٍ ناحية أخرى يأتي اللفظ (هيَ ْه) في النهاية ليضعنا أمام
ٍ ومن
ومزيد من األسئلة:
ٍ االحتماالت
((( المروزي ،عبد اهلل بن المبارك .الزهد ،تحقيق :حبيب الرحمن األعظمي ،بيروت :دار الكتب
العلمية ،د.ت ،ص ،149حديث رقم .443
365
على ماذا يعود الضمير (هي):
على (أ ّمه)؟
مجهول مقدّ ٍر مثل :العاقبة ،أو :العقوبة ،أو :النهاية ،أو غيرها؟
ٍ أم على
أم هو إشار ٌة مسبق ٌة للنار الحامية التي سيأتي ذكرها بعد ذلك؟
خامساً :جوامع َ
الك ِلم
َ
أدراك ما: –1وما
الجاهلي ،كما تأ ّكدنا خالل حديثنا عن
ّ هذا التعبير الذي لم يعرفه الشعر
سورة (ال ُه َمزة) ،أصبح جزءاً من لغتنا اليوميّة؛ بحيث ال نميّز ونحن نر ّدده أنّنا
نستخدم في الحقيقة تعبيراً قرآنيّاً.
بل ربّما التزمنا بكامل السبيكة القرآنيّة فقلنا :االمتحانات ،وما أدراك ما
االمتحانات ،أو :الحرب ،وما أدراك ما الحرب..
366
–4في ِعيش ٍة راضية:
نتيجة ط ّي ٍبة أو مكافأٍة ُم ٍ
جزية ينالها أحدهم في ٍ وهذه العبارة قد تط َلق على أية
استتب أمره ونجح في حياته
ّ نهاية عمله ،أو نَ ِعده بأن ينالها ،أو نصف حياة من
عيشة راضية.
فنقول :إنه اآلن في ٍ
َ
أدراك ما هيَ ْه: –5وما
بمسألة غير
ٍ وهذا التعبير يشبه في استعماله التعبير رقم ( )1مع تخصيصه
واضحة المعالم للسامع بعد.
نار حامية:
ٌ –6
الفالني
ّ موقف مبالَ ٍغ فيه :فأسعار البائع
ٍ أي
بإمكاننا إطالق هذه العبارة على ّ
كل من يخرج على الصحفييّن نا ٌر حامية ،وعقوبة ّ
فالن من َنا ٌر حامية ،ولسان ٍ
النظام نا ٌر حامية ،وغيرها..
367
السورة السادسة عشرة
العا ِديات
ﮋﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ
ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ
ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ
ﯜﯝﯞﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﮊ
هذه هي السورة الخامسة عشرة بالترتيب التراجعي الذي اتّخذناه منهجاً في
شق على الرسول انقطاع السور .وقد نزلت هذه السورة بعد أن ّ دراسة قصار َ
لشهر أو أكثر ،فأخبره اهلل خبرهم وما كان من السريّة التي أرسلها إلى العد ّو ٍ
خبر َ
أمر خيولهم .وهي تتك ّون من 40لفظاً سنتو ّقف فيها عند 56موقعاً قرآن ّي ًا جديداً.
وللسورة نكهتها الخصوصيّة الحا ّدة والمميّزة ،إذ تتك ّون ألفاظها األربعون من
ال .وبين هذه األسماء واألفعال الخمسة وخمسة وعشرين اسماً أو فع ً
ٍ خمس عشرة أداةً،
والعشرين نجد أحد عشر لفظاً اختُ ّصت بها ُسورة (العاديات) فال تتكر ّر في غيرها من
(ض ْبحاً – َق ْدحاً – أثَ ْر َن
الجاهلي من قبل ،وهي َ
ّ ألفاظ عرفها الشعر
السور ،منها أربعة ٍ َ
مرة ،وهي: ألفاظ استخدمها القرآن الكريم ،بمعناها الجديد ،أل ّول ّ – نَ ْقعا) وسبعة ٍ
وس ْطنَ ،جمعاًَ ،كنودُ ،ح ِّصل) .وفي السورة أحد (العاديات ،ال ُم ْو ِريات ،ال ُم ِغيراتَ ،
السور ،وهي: يشكل معظم تعبيرات السورة ،انفردت بها دون باقي َ عشر تعبيراً ،وهو ما ّ
ﮋﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ
ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ
ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﮊ .
369
ّأوالً :األلفاظ والمصطلحات
–1العاديات:
َباعد األرجل في سرعة المشي، اسم جدي ٌد للخيل أُخذ من (ال َع ْدو) وهو ت ُ
هذا ٌ
القرآني الجديد
ّ وقد عرف العرب ذلك المصدر ،ولكنّهم لم يعرفوا هذا المصطلح
يتكرر في القرآن أبداً .وال وجود ل ّلفظ
للخيل .ويقتصر اللفظ على هذه السورة فال ّ
في الحديث الشريف.
الم ْو ِريات:
ُ –2
مصطلح آخر جدي ٌد للخيل لم يعرفه العرب قبل القرآن ،وهو من (أورى)
ٌ وهو
ألن حوافر الخيل تقدح النار وهي تطأ الصخر والحصى. أي َقدح واستخرجّ ،
يتكرر في أيّة سورٍة أخرى ،ويخلو منه تماماً
وتختص السورة بهذا اللفظ فال ّ
ّ
الحديث الشريف.
الم ِغيرات:
ُ –3
مصطلح جدي ٌد آخر للخيل ،اشتُ ّق من إغارتها على العد ّو لي ً
ال أو نهاراً .وهو، ٌ
السور ،وال
يتكرر في غيرها من َ خاص بسورة (العاديات) ،فال ّ ٌّ مر ًة أخرىٌ ،
لفظ ّ
وجود له في الحديث الشريف.
َ –4و َس ْط َن:
الجاهلي ،وفي
ّ المرات في الشعر
رغم ورود االسم من هذا الفعل عشرات ّ
مرةً واحد ًة في ٍ
بيت ل َعبيد بن األبرص معان مختلفة ،فإنّنا ال نجد الفعل نفسه إ ّ
ال ّ ٍ
(ت 25ق.ﻫ) يقول فيه:
َر َح األوتا ِد أو َو َسطوا
شارفوا ف َ
قد َ وعن أيَا ِمـنِها األطوا ُء ُمص ِع َـد ٌة
القرآنيّ ،
فإن عدم ّ ال عن ّ
أن الشاعر قد استعمل الفعل هنا بغير المعنى وفض ً
ورود الفعل في الحديث الشريف مطلقاً يمنحنا المزيد من الثقة بخصوصيّته
القرآنيّة ،وال سيّما أنّه ال ّ
يتكرر في القرآن خارج هذه السورة.
370
َ –5ج ْمعاً:
االصطالحي الذي منحه له القرآن
ّ تأتي خصوصيّة هذا اللفظ من المعنى
نى
المفسرين ،وهو (مزدلفة) الموقع المعروف في ِم ً
ّ الكريم وأشار إليه عد ٌد من
وس ّمي كذلك الجتماع الناس فيه .ويقتصر استعمال اللفظ بهذا المعنى قرب ّ
مكةُ ،
على سورة (العاديات) رغم أنّه ّ
يتكرر في القرآن ،وبهذه الصيغة نفسها ،في سورتين
بمعنى مختلف.
ً أخريين ،ولكن
مرةً بمعنى الحشر ،وذلك في قوله تعالى:
لقد جاء ّ
-ﮋ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﮊ [الكهف]99 :
الحج
ّ وبدهي أن نجده بعد ذلك في األحاديث الشريفة التي تتحدّث عن
ٌّ
وتصف معالمه وأماكنه وطقوسه.
َ –6كنود:
الجاهلي ،كما يخلو منه الحديث الشريف،
ّ ال يرد هذا اللفظ مطلقاً في الشعر
القرآني فيقول:
ّ إّ
ال حديثاً واحداً يشرح فيه الرسول معنى اللفظ
عبده(((.
ب َ فده ،ويَض ِر ُ
ويمنع ِر َ
ُ وحده، الكنود ،هو الذي ُ
يأكل َ َ -
السور. خاص بهذه السورة أيضاً ،فال ّ
يتكرر في باقي َ واللفظ ٌّ
–7شهيد:
الجاهلي ،ومع ذلك يقفز
ّ ال نجد هذا اللفظ مطلقاً فيما بين أيدينا من الشعر
ليتكرر في القرآن الكريم ،مفرداً أو جمعاًّ 56 ،
مرة. ّ استخدامه فجأ ًة
((( الطبراني ،المعجم الكبير ،مرجع سابق ،ج ،8ص ،245حديث رقم .7958
371
–8بُ ْعثِ َر:
النبوي الشريف.
ّ الجاهلي ،وال في الحديث
ّ ال نعثر على هذا اللفظ في الشعر
مر ًة أخرى في سورة (االنفطار).
ويتكرر في القرآن ّ
ّ
ُ –9ح ِّص َل:
ولكن الفعل نفسه ال يَرد في الشعر
ّ ربّما استعمل العرب مصدر هذا الفعل،
القرآني ،وال وجود له في الحديث
ّ خاص ًة ،وال بمعناه
الجاهلي ،في صيغته القرآنيّة ّ
ّ
مكان آخر من القرآن. ومرةً أخرى ال ّ
يتكرر الفعل وال مشت ّقاته في أي ٍ الشريفّ .
ئذ:
–10يو َم ٍ
مماثل في
ٍ لفظ
جدة هذا اللفظ عند حديثنا عن ٍ
تحدثنا عن ّ
سبق أن ّ
سورة (التكاثر).
خبير:
ٌ –11
مرةً ،فإنّنا ال نعثر عليه مطلقاً
يتكرر في القرآن الكريم ّ 45 رغم ّ
أن هذا اللفظ ّ
ال في األحاديث التي الجاهلي ،كما ال نعثر عليه في الحديث الشريف إ ّ
ّ في الشعر
تحصي األسماء الحسنى أو التي تتض ّمن وصف اهلل تعالى ،كما في الحديثين:
ُ
اللطيف الخبير(((. .. -قالت :ال ،قال :لَتُ ْخبِ ِرنّي أو لَيُخبِ َرنّي
الحوض(((.
َ أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يَ ِردا ّ
علي الخبير َ
َ َ
اللطيف ّ .. -
وإن
والغريب أنّه حين ي ِرد في الحديث الشريف ،في غير إطار وصف اهلل تعالى،
فإنّما يأتي على ألسنة الصحابة وليس على لسان الرسول ،كقول عائشة :
(((
ت». »..على الخبي ِر ْ
سقط َ
((( القشيري ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،ج ،2ص ،669حديث رقم .103
((( الشيباني ،مسند اإلمام أحمد ،مرجع سابق ،ج ،17ص ،211حديث رقم .11131
((( القشيري ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،271حديث رقم .349
372
ثانياً :الصيغ اللغويّة والعالقات الداخليّة
فالم ِغيرات صبحاً:
ريات َقدحاًُ / والعاديات َضبحاًُ /
فالم ْو ِ ِ –3 –2 –1
بغـض النظـر عـن جـدّة ألفـاظ هـذه التعبيـرات القرآنيّـة الثالثـةّ ،
فـإن اجتمـاع ّ
َسـم المجمـوع، واحـد ،وفـي مثـل هـذه الصياغـة النحويّـة للق َ
ٍ تركيـب
ٍ ألفاظهـا فـي
العربي
ّ (صبحاً) ،لـم يعرفه تراثنا
(ض ْبحـاًَ ،ق ْدحـاً) ،أو ظـرف الزمان ُ
والمتلـ ّو بالحـال َ
ال قبـل القـرآن وال بعـده.
هل سمعنا حتّى اآلن من يقول:
واهللِ غافراً لن أعود إلى ذلك؟ أو:
يات:
ور ِفالم ِ
ُ –4
القسم لم تعرفه العربيّة خارج القرآن الكريم .فإن
عطف جدي ٌد على َ ٌ هذا
بقس ٍم آخر عطفنا الالحق على السابق باألداتين( :الواو) أو
بشيء وأتْبعناه َ
ٍ أقسمنا
ْ
(ثم) ،فنقول مث ً
ال: ّ
أقسم باهلل وبحرمة كتابه ،أو:
ثم بحرمة كتابه
أقسم باهلل ّ
وال نقول:
أقسم باهلل فحرم ِة كتابه
والمرسالت
َ سور الذاريات
مرات ،كما في َ تكرره في القرآن عدّة ّ
ورغم ّ
عربي حرف الفاء لمثل هذا النوع من العطف،
والنازعات ،لم يحدث أن استخدم ٌّ
عطف يمكن أن يراد به الترتيب ،كقولنا :أحرز المتسابقون المراكزٍ فهو حرف
األولى :هشا ٌم فخال ٌد فأحمد ،وليس في اآليات هنا ما يشير إلى الترتيب في درجات
سياقات أخرى مشابهة،
ٍ قسم بها .علماً ّ
بأن القرآن الكريم كثيراً ما يستخدم ،في ال ُم َ
373
أداة العطف (الواو) وليس (الفاء) ،ومنه قوله تعالى:
-ﮋﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ
ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﮊ [الشمس]7 – 1 :
–5فأثَ ْر َن:
آيات على التوالي،
يستمر هذا العطف الغريب بالفاء ألربع ٍ ّ من الغريب أن
المرة ،في اآليتين الرابعة والخامسة ،فع ً
ال ولكن األغرب أن تَعطف الفا ُء هذه ّ ّ
هة (العاديات ،وال ُمو ِريات ،وال ُم ِغيرات)ّ ،
ألن مشب ٍ
صفة َّ
فاعل أو ٍ ماضياً على اسم ٍ
مستقبل وليس على
ٍ حاضر أو
ٍ اسم الفاعل أو الصفة المشبهة يد ّ
الن عاد ًة على َّ
ماض .وهذا التداخل بين األزمان يدخل في باب االلتفات ،وقد تنبّه محيي الدين ٍ
الزمني في السورة حين قال معلقاً:
ّ ّ الدرويش إلى أه ّمية هذا التن ّوع
سر بديعّ ،
فإن التصوير يحصل بإيراد الفعل ُ
عطف االسم على الفعل فيه ٌّ
بعد االسم لما بينهما من التخالف ،وهو أبلغ من التصوير والتجسيد باألسماء
(((
المتناسقة ،وكذلك التصوير بالمضارع بعد الماضي.
[مكرر]:
–7 –6ب ِه ّ
العادي هنا هو عودة الضمير (الهاء) في الجا ّر والمجرور (به)،ّ الشيء غير
والمفسرين ،فاقترح بعضهم
ّ مذكور ،وهذا ما حيّر اللغوييّن
ٍ المرتين ،على غير
في ّ
تتوسطه األحصنة ،وهو محذوف، إعادة الضمير على المكان الذي يثار فيه الغبار أو ّ
ٌ
محذوف ،وبالغ بعضهم وأعاده بعضهم على الزمان الذي يقع فيه ذلك ،وهو أيضاً
محذوف ،لما في ذلك
ٍ فأعاده على اللفظ (صبحاً) وهذا أكثر غراب ًة من إعادته على
مفارقات نحو ّي ٍة غير معهودٍة في لغتنا ،فهو كقولك:
ٍ من
الزائر لي ً
ال َّ
فعك َره
((( الدرويش ،إعراب القرآن الكريم وبيانه ،مرجع سابق ،ج ،8ص.390
374
وأنت تقصد تعكير الليل بالزيارة طبعاً.
فوس ْط َن َج ْمعاً:
َ –8
غريب لم تعرفه لغتنا العربية قبل القرآن أو بعده. مر ًة أخرى مع ٍ
تعبير ٍ نحن هنا ّ
قد نقول:
جموعهم،
َ طت جم َعهم ،أو
توس ْ
ّ
َوسط) بد ً
ال من ( َو َس َط) مع إضافة (جمع) أو (جموع) هكذا باستعمال الفعل (ت َّ
المتفردة .وقارن
ّ أي ضمير ،على عكس ما في هذه الصيغة القرآنيّة
ضمير ماّ ،
ٍ إلى
بين استعمال الفعل هنا واستعماله في بيت َعبيد بن األبرص اآلنف الذكر.
ب الخير:
ُ – 9ح ّ
مرتين ،وال نجده في الشعر يقتصر هذا التركيب على القرآن الكريم ،فيَرد فيه ّ
الجاهلي وال في الحديث الشريف .وتزداد خصوصيّته القرآنيّة إذا عرفنا ّ
أن معنى ّ
التقليدي الشائع الذي نعرفه ،وإنّما هو (المال) أو (الدنيا)،
ّ (الخير) هنا ليس المعنى
(حب) ليس هو بالضرورة المعنى المعروف له ،بل هو أقرب إلى وأن معنى اللفظ ّ ّ
معنى (التم ّلك) أو (االحتياز) بدليل قوله تعالى في اآلية األخرى التي ورد فيها هذا
النبي سليمان عليه السالم:
التركيب على لسان ّ
[ص]32 : -ﮋﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮊ
–10أفال يَ ْعلم:
يتكرر هذا التركيب في غير هذا الموضع من القرآن ،وال يعرفه الشعر
ال ّ
375
خاص بهذا الموضع
ٌّ قرآني
ٌّ تركيب
ٌ الجاهلي وال الحديث الشريف ،فهو إذن،
ّ
وبهذه السورة(((.
نوضح هنا موقف النحو من الجزء األ ّول من هذا التركيبّ .
إن ومن المفيد أن ّ
لفظ واحد
اجتماع األدوات الثالث (همزة االستفهام وفاء العطف وال النافية) في ٍ
عطف –وال خيار أمامهم
أمر حيّر النحوييّن .فكيف لهم أن يعربوا الفاء حرف ٍ
(أفَال) ٌ
غيره– إذا كانت محصور ًة بين حرفين آخرين :همزة االستفهام و (ال) النافية ،فليس
إنكاري ّ
وأن ٌّ هناك قبلها ما تعطف عليه ما بعدها؟ ولذلك قدّروا أن الهمزة استفها ٌم
الفاء «للعطف على مقدّ ٍر يقتضيه المقام» أي ّ
إن التقدير:
–11يَع َل ُم:
واحد
ٍ مفعول
ٍ هذا من األفعال التي تتعدّى في لغتنا إلى مفعولين ،أو إلى
أي منهما .وهذا النوع من الحذف من خصائص اللغة ّ
األقل ،وال يظهر هنا ٌّ على
معنى جديداً أقرب إلى (االعتبار) أو
أن الفعل قد اكتسب هنا ً القرآنيّة ،ولكنّنا نرى ّ
(التذ ّكر) منه إلى العلم أو المعرفة ،فال حاجة إذن لتقدير المفعول الغائب انسجام ًا
مر ًة
الجاهلي بالمقارنة مع ّ 38
ّ مرات في الشعر((( أ ّما اللفظ (أفَال) فمن الالفت للنظر ح ّق ًا وروده ّ 3
اإلسالمي حتّى نهاية الفترة األمويّة؛ أي لما يعادل
ّ في القرآن ،على حين يختفي تماماً من الشعر
إن هذا يدعونا إلى وضع أكثر من قرناً ونصف القرن منذ بداية نزول الوحي عام 12قبل الهجرة! ّ
صحة جاهليّة األبيات الثالثة التي ورد فيها اللفظ ،مع ترجيح أسبقيّة القرآن
إشارة استفهام حول ّ
إلى استعماله أيضاً.
376
مع تقاليدنا النحويّة ،وإن ذهب النحويّون ،لتلبية هذا االنسجام ،إلى ّ
أن الجملة
ُ
اإلنسان مقا َمه ومصيره بعده قامت مقام المفعول ،فيكون التقدير عندهم :أفال يعلم
ولكن من
ّ خبير به وبعمله يوم القيامة؟ عند البعث والحساب؟ أو :أفال يعلم ّ
أن اهلل ٌ
يقول بهذا يتجاهل حقيقة ابتداء اآلية األخيرة بأداة التوكيد ّ
(إن) إذ يمنع وجود هذه
األداة تقدير اآلية التي بعدها مفعو ً
ال للفعل (يعلم) قبلها.
–12إذا:
ظرف يحتاج
وكل ٍظرف للزمانّ ، موقع هذه األداة حيّر النحويين أيضاً .إنّها ٌ
حدث يحدث فيه .فوظيفة الظرف هي
ٍ بتعبير أوضح :إلى
ٍ حد ٍث يتع ّلق به ،أو
إلى َ
ث ،وهذا الحدث يوضح لنا الزمان أو المكان اللذين يقع فيهما ٌ
فعل أو َح َد ٌ أن ّ
يسبق الظرف عاد ًة في الكالم ،وربّما ّ
تأخر عنه.
377
ثم
ال عن أن وجود الجا ّر والمجرور (بهم) ّ حسب قواعد النحوييّن أنفسهم ،فض ً
الظرف بعده (يو َم ٍئذ) قد أغنانا عن مثل هذا التأويل ألنّهما معاً يتع ّلقان باللفظ
(خبير) .فكيف السبيل إلى ّ
حل هذا اإلشكال؟
ليس أمامنا إ ّ
ال منفذان للخروج من مثل هذا المأزق:
أمر من
التقليدي ،وهو ٌ
ّ معنى آخر للفعل (يعلم) غير المعنى
ب– أن نفترض ً
خصائص اللغة القرآنيّة كما عرفنا ،كأن يكون بمعنى (يخشى) أو (يخاف)
وحينئذ يمكن تعليق (إذا) بهّ ،
ألن الخشية أو الخوف أو االعتبار، ٍ أو (يعتبر)
خالفاً للعلم ،يمكن أن تقع في هذه الحياة وفي يوم القيامة على السواء.
–13بُعثِر ما في القبور:
البالغي عند العرب .فبعثرة بقايا األجساد
ّ هذه صور ٌة جديد ٌة على القاموس
ال عن أنّها بح ّد ذاتها عمل ّي ٌة غريب ٌة تُحدث في الذهن صدم ًة
المتآكلة في القبور ،فض ً
نوع غير معهود ،هي أيضاً كناي ٌة عن يوم القيامة ،أو باألحرى عن الخطوات
من ٍ
378
خطوات كانت ما تزال بعيد ًة عن تص ّور
ٌ االفتتاحيّة لهذا اليوم الرهيب ،وهي أيضاً
العربي األ ّول ومفهوماته للحياة ما بعد الموت.
ّ
ُ –14ح ِّصل ما في الصدور:
وهي صور ٌة أخرى جديد ٌة على العرب ،تصف المرحلة التالية لبعثرة القبور،
ليحاسبوا
َ حين يو َقف الناس أمام حصائد أعمالهم في الدنيا ،ما ظهر منها وما خفي،
الدنيوي المباشر :كشف
ّ عليها ،ولتبدأ عمليّة »تحصيل ما في الصدور» أو بتعبيرنا
البشري.
ّ السريّة ،وهي أيضاً عمل ّي ٌة كانت ،وربّما ما زالت ،بعيد ًة عن التص ّور
الحسابات ّ
ئذ لَخبير:
بهم يو َم ٍ
إن ربَّهم ْ
ّ –15
بحرف يربطها بما قبلها ،كأن ٍ لو كانت هذه اآلية جمل ًة برش ّي ًة لتو ّقعنا أن تبدأ
محل مفعول الفعل (يعلم)، (وإن َّربهم) .فإذا افترضنا أنّها ح ّلت ّ (فإن َّربهم) أو ّ
يقال ّ
وهو الجسم المفقود الذي ما نزال نبحث عنه في السورة ،تو ّقعنا أن تبدأ بالباء أو
(أن ربّهم) ،أو هكذا: (إن) ،فتكونّ :
(أن) –بفتح الهمزة– وليس ّ يكون بعدها ّ
خبير بهم
أال يعلمون بأن ربّهم ٌ
الخاصة بين الجمل التي تُميّز دائماً أسلوب
ّ ولكنّها العالقات اللغويّة
القرآن الكريم.
–16ربَّهم /بِهم:
ضمير ال عائد له .نعم ،من
ٍ كل من اللفظين ،معمر ًة أخرى نجد أنفسنا ،في ٍّ
ولكن
ّ حاسبون يوم القيامة،
المفهوم أن الحديث هنا عن (الناس) الذين يُبعثون ويُ َ
هؤالء (الناس) لم يُذكروا أبداً في السورة ،وإنّما ُذكر لفظ (اإلنسان) وهو مفرد:
نقول :هذا إنسان
وال نقول :هؤالء إنسان
379
ضمير مفرد (وإنّه – وإنّه –
ٍ ولقد أعيد على (اإلنسان) في السورة ح ّق ًا أكثر من
ولكن الضمير ينقلب فجأ ًة من المفرد إلى الجمع هذه ّ
المرة (هم) فال يمكن ّ يَعلم)
محذوف يُفهم من هذا اللفظ
ٍ جمع
إعادته على لفظ (اإلنسان) المفرد بل على ٍ
النحوي في القرآن ،كما سبق أن أوضحنا
ّ الظاهر ،وهذا نو ٌع من أنواع االلتفات
في الجزء األ ّول.
غيرات ُصبحاً:
فالم ِريات َق ْدحاًُ . والعاديات َض ْبحاًُ .
فالم ْو ِ ِ –1
طويلة
ٍ سبيكة قرآن ّي ٍة
ٍ ّ
إن اجتماع هذه الصيغ الجديدة الثالث يح ّولها إلى
بسهولة عن سبائكنا البشريّة ،وال سيّما أنّها ،وهي هكذا مر ّكبة،
ٍ نستطيع تمييزها
مرة ،كما في قوله تعالى:
تتكرر في القرآن الكريم أكثر من ّ
ّ
[الذاريات]3 – 1 : -ﮋﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﮊ
380
فوس ْط َن به َج ْمعاً:
–2فأثَ ْر َن به نقْعاًَ .
وهذه سبيك ٌة أخرى قامت على اجتماع صيغتين قرآنيّتين متميّزتين ،وإن كنّا،
مكان آخر من
أي ٍ خالف ًا للسبيكة السابقة ،ال نجد اجتماع مثل هاتين الصيغتين في ّ
القرآن الكريم.
[الحج]65 :
ّ ﮊ -ﮋﭨﭩﭪﭫﭬ
ٌ
(رؤوف فهذه اآلية تكاد تطابق سبيكتنا لوال أنّها انتهت بخبرين ال ٍ
خبر واحد
رحيم) .وكذلك قوله تعالى:
381
علم إذا بُعثر:
– 6أفال يَ ُ
تتكرر في القرآن ،وال في غيره طبعاً،
هذه السبيكة هي إحدى السبائك التي ال ّ
بما تتميّز به من اجتماع األداة القرآنيّة (أفال) مع الفعل المتميّز (يعلم) الذي اختفى
مفعوله أو مفعواله ،وكذلك مع (إذا) الشرطيّة ،أو الظرفيّة ،المتميّزة أيضاً ،والتي
متعل ُقها كما سبق أن رأينا.
اختفى جوابها أو َّ
مبني للمجهول (بُعثِرُ ،ح ِّصل) وهو من األفعال التي ير ّكز بفعل ٍّ إنّها تبدأ ٍ
القرآن الكريم على استعمالها لالستغناء عن التصريح باسمه تعالى ،فتكثر فيه مثل
هذه األفعال (يُؤ َذن ،يُ ْد َخل ،يُؤتَى ،يُ َّنبأ ،يُ ْف َعل ،يُ َ
ترك ،يُسقَون ،لَيُنبَ َذ ّن ،يُبَ َّصرونهم،
ُوعدونُ ،ج ِمعُ ،خ ِلقُ ،سيِّرتُ ،ع ِّطلتُ ،ح ِشرتُ ،ط ِم َستُ ،ف ِر َجت ،نُ ِس َفتُ ،ك ِّورت، ت َ
وحي ،أُغ ِرقوا ،)..فيبقى ُس ِّعرت ،أُزلِفت ،أُ ِّقتت ،أُ ِّجلتُ ،م َّدتُ ،د َّكتُ ،م ِل ْ ُ
ئت ،أ َ
ال باللفظ ،معلوماً بالسياق. الفاعل مجهو ً
382
الجر
ف من حرف ّ مؤل ٌ
جملة َّ
ٍ ثم يأتي القسم األخير من السبيكة وهو شبه ّ
ف بال التعريفمعر ٌ
مجهول ،رغم أنّه َّ ٍ بتعبير آخر :شبه
ٍ (في) يليه شبه نكرٍة ،أو
ولكن هذا التعريف ليس تعريفاً حقيق ّي ًا ،فقبو ُر َمن هي؟ وصدو ُر
ّ (القبور ،الصدور)
َمن؟ ولو قارنّاه ،في هذا السياق ،بجملتنا البشريّة التي يمكن أن توازي في معناها
هذه السبيكة ،لتبيّن لنا الفرق.
قد يكون علينا أن نقول هنا ،ليتّضح المعنى ،شيئاً من هذا القبيل :قبور
العالمين ،أو قبور األرض ،وكذلك :صدور البشر ،أو صدور المبعوثين من الموت،
نحو م ّما يلي:
أي ستكون جملتنا على ٍ
إذا بَعثر اهللُ العظا َم من قبور األرض ك ّلها،
ئذ لَخبير:
إن ربَّهم بهم يو َم ٍ
ّ –8
تظهر خصوصيّة هذه السبيكة القرآنيّة واضح ًة لو حاولنا أن نتص ّور الجمل
البشريّة البديلة التي يمكن أن تعبّر عن معناها ،ولن تخرج هذه الجمل كثيراً عن
شيء من هذا القبيل:
ٍ
خبير بهم في ذلك اليوم ّ
إن ربّهم ٌ
خبير ذلك اليو َم بهم ّ
إن اهلل ٌ
إن اهلل سيكون خبيراً بهم في ذلك اليوم
ّ
383
الحظ الفرق بين ترتيب الكلمات وطبيعتها في اآلية ،وبين ترتيبها وطبيعتها
البشري ،في صياغته العاديّة الوضعيّة،
ّ في جملنا البشريّة ،فال مجال لتشبيه تعبيرنا
بالتعبير القرآني في سبيكته اإللهيّة المتميّزة.
384
يرجح ك ّفة انفتاح ّي ِة اللفظ هو االختالف على إعرابه .فذهب بعضهم
لكن ما ّ
ّ
ضابحات)،
ٍ إلى أنّه حال ،وذهب آخرون إلى أنّه مصد ٌر في موضع الحال (والتقدير:
محذوف وجملة هذا
ٍ لفعل ٌ
مفعول مطلق ،أي إنّه مصد ٌر ٍ وذهبوا كذلك إلى إنّه
والعاديات وهي تضبح ضبحاً.
ِ الفعل المحذوف في موضع الحال ،أي:
فالم ْو ِريات:
ُ –3
وتلون ًا وقابل ّي ًة للتأويل .فقد قيل عن
ّ غنى
هذا من أكثر األلفاظ القرآنيّة ً
الموريات:
النار بحوافرها، إنّها الخيل حين ت ْ
ُوري أو تقدح َ
وقيل :بل الخيل حين تثير الغبار،
بمناسمها الحصى ،أو ربّما يضرب الحصى ُ
بعضه وقيل :هي اإلبل تنسف َ
بعضاً فتخرج منه النار،
وقيل :إيراؤها :أن تُهيج الحرب بين أصحابها وبين عد ّوهم ،وفي هذا استعار ٌة
ترصحي ّي ٌة لتشبيهه الحرب بالنار المشتعلة،
وقيل :هم الرجال يمكرون في الحرب فيقدحون زناد أفكارهم ،وفيه
استعار ٌة أيضاً،
وقيل :هم المجاهدون حين يكثّرون نيرانهم في الحرب ،ليُرهبوا أعداءهم،
األلسن ،وفيه استعارة،
وقيل :هي ُ
وقيل غير ذلك ،حتّى قال الطبري» :ولم يضع اهلل دالل ًة على ّ
أن المراد من
ذلك ٌ
بعض دون بعض».
َ –4ق ْدحاً:
تستم ّد هذه الكلمة ق ّوتها االنفتاحيّة من المعاني الكثيرة السابقة التي اقترحوها
لآلية من خالل تعدّد معاني لفظ (الموريات) ،فض ً
ال عن احتماالتها اإلعرابيّة
المشابهة ل ّلفظ (ضبحاً).
385
فالم ِغيرات:
ُ –5
أن المعنى الشائع ل َلفظ (اإلغارة) هو الهجوم على األعداء بغت ًةّ ،
فإن رغم ّ
المفسرون حول المواقفّ األصلي له هو سرعة السير ،ومن هنا اختلفّ المعنى
معركة معيّنة ،وقد
ٍ التي تتحدّث عنها هذه اآليات .فقد تكون إغار ًة على األعداء في
الحج ،أو قد تكون اندفاعاً لمطلق الخيول أواإلبل.
تكون اندفاع اإلبل في شعائر ّ
ُ –6صبحاً:
المفسرون في (الصبح) هنا إلى أنّه الفجر ،أو النهار مطلقاً ،أو هو
ّ ذهب
(ال َعالنيّة) فكأنّهم لع ّزهم يُ ِغيرون نهاراً دون خوف انكشافهم ،وتتسع معاني اللفظ
لكل هذه المذاهب. ّ
–7فأثَ ْر َن (به):
يأتي اإلشكال هنا ،وكذلك االنفتاح ،من إعادة الضمير (الهاء) على ما يُحتمل
أن يعود إليه ،واختالفهم حول هذا العائد ،كما رأينا عند الحديث عن الصيغ
والعالقات اللغويّة .ويأتي كذلك من معنى حرف الجر (الباء) ومن مسألة تعليقه:
وقد يكون بمعنى (في) –وأكثر ما يتعدّى بالباء يمكن أن يتعدّى بفي– فيكون
في هذه الحال للظرفيّة الزمانيّة ،أي بمعنى ظرف الزمان ،إذا كان التقدير :أثرن في
وقت الصبح نقعاً،
أو يكون للظرفيّة المكانيّة ،إذا كان التقدير :أثرن في ذلك المكان نقعاً،
وقد يكون للحاليّة ،إذا كان التقدير :أثَرن كائن ًة فيه –أي والخيل موجود ٌة
فيه– نقعاً،
386
وقد يكون زائداً ،إذا كان التقدير :فأثَرنه نقعاً ،فيعود الضمير (الهاء) في هذه
الحال على (النقع) نفسه ،ويكون (نقعاً) تمييزاً أو حا ً
ال من الضمير.
–8فأثَ ْر َن به نَقْعاً:
لنا أن نتص ّور اآلن المعاني العديدة المقترحة لهذه اآلية بعد أن عرفنا مالبسات
ألفاظها وجزئيّاتها ،المعنويّة واإلعرابيّة ،وال سيّما إذا عرفنا كذلك أنّهم اقترحوا
معنى واحد ،مثل :غبار الحرب ،والغبار مطلقاً ،والصوت ً ل ّلفظ (نقع) أكثر من
وشق الجيوب.نىّ ، الشديد ،والموقع ما بين المزدلِفة إلى ِم ً
فو َس ْط َن (به):
َ –10
االنفتاحي ّ
كل ما سبق أن ذكرناه ّ ينطبق على شبه الجملة (به) في هذا الموقع
عن رديفه السابق في (فأثَ ُر َن به).
387
فوس ْط َن به َج ْمعاً:
َ –11
وينطبق على هذا التعبير أيضاً ما ذكرناه عن ُموازيه في اآلية السابقة ﮋﮞ
ﮟ ﮠﮊ.
جسر يربطه باللفظ (ربِّه) في اآلية السابقة ،فيكون المعنى بذلكّ :
أن ٌ فهناك
رب اإلنسان شهي ٌد على ُكنوده وجحوده لخالقه،
ّ
–13الخير:
تأتي القيمة االنفتاحيّة لهذا اللفظ من جانبين:
أ– عموميّته التي أكسب ْته إيّاها ِجدّ ُة استعماله ،كما سبق أن رأينا في حديثنا عن
يحب اإلنسان أن يمتلكه ،إنّه األلفاظ والمصطلحات ،فهو يعني َّ
كل ما ّ
بشكل عا ّم.
ٍ المال والخيل والدنيا
ب– المفارقة ال ُملفتة بين اللفظ ومعناه ،فهو من األلفاظ اإليجابيّة في اللغة،
معروف من معاني (الخير)؟ ولكنّه
ٍ معنى
أي ً ومن يمكن أن يعترض على ّ
إيجابي أيضاً– حمل ً
معنى غير ٌّ (حب) –وهو ٌ
لفظ هنا ،ورغم اقترانه بلفظ ّ
ٌ
مرتبط بالبطر وفساد النفس والنكران. معنى
إيجابي ،فهو ً
ّ
388
ُ –14ح ّصل ما في الصدور:
أن المفردات الثالث التي يقوم عليها هذا التعبير ،كما أسلفنا من الواضح ّ
مبني على (مجهول) (ح ّصل) ٌّ في حديثنا عن السبائك ،تعميميّةٌ غائمة ،فالفعل ُ
واألداة (ما) تكتسب عموميّتها من تنكيرها ،لو أعربناها نكر ًة تا ّم ًة بمعنى (شيء)،
موصول ،وهو معرفة ،فإنّها ال تفيدنا هنا بأكثر م ّما تفيده (ما)
ٍ فإن أعربناها اسم
وتعميمي أيضاً (ﭒ ﭓ ﭔ) ،فالذي ٌّ النكرة التا ّمة ،وذلك أنّها ُوصلت بما هو ٌ
غائم
يدل على أشياء كثيرٍة ،منها النيّات ،على اختالف طبيعة في الصدور يمكن أن ّ
ثم ّ
إن الفعل تلك النيّات ،وكذلك األعمال ،على اختالف طبيعتها وأنواعها أيضاًّ .
َ
الكشف والتبيين ،وقد يعني التمييز بين (ح ِّصل) نفسه قد يعني الحصول ،وقد يعني
ُ
شر.
خير أو ّ
ما في الصدور من ٍ
بـ(ـهم):
إن ربَّـ(ـ ُهم) ِ
ّ –15
يتوسل بها
مذكور هي من أظهر الوسائل التي ٍّ إن إعادة الضمير إلى غير ّ
القرآن الكريم إلضفاء الصيغة االنفتاحيّة على لغته .فضمير جماعة الغائبين (هم)
ظاهر لنا في السورة .نعم ّ
إن ٍ مرتين في اآلية رغم أنّه ال يعود على ٍ
جمع تكرر ّ
ّ
لفظ (اإلنسان) فيها سيساعدنا على تقدير هذا الجمع المحذوف ،ولكن حتّى إن
فإن السياق يوحي ّ
بأن الضمير (هم) إنّما يشير إلى لم يظهر هذا اللفظ في السورة ّ
هؤالء الذين يُبعثون ويُبعثَرون من القبور ،أو البشر الذين سيحاسبون في ذلك اليوم
أعمال اقترفوها أو نيّاتٍ صدرت أعمالهم عنها.
ٍ حصل ما في صدورهم من ويُ ّ
ئذ لَخبير:
إن ربَّهم بهم يو َم ٍ
ّ –16
اللغوي الذي يربط هذه الجملة بما قبلها تركها عائم ًة غير
ّ إن حذف الرابط ّ
ثم معنو ّي ًا.
محدّدة االنتماء نحو ّي ًا ،ومن ّ
جديد ليؤ ّكد
ٍ فقد تكون جمل ًة استئناف ّي ًة انقطع الكالم قبلها ،ثم استُؤنف من
389
َ
والكشف ع ّما تعالى بها ّ
أن علمه بما في صدورهم قد سبق ،في الواقع ،انبعاثَهم
مكمل ًة لما سبق من كالم ،كما
في صدورهم من سرائر وأعمال .وقد تكون جمل ًة ِّ
أن ربّهم سيكون خبيراً بهم وبأعمالهم في
رأينا ،وكأنّه تعالى يسألهم :أال يعلمون ّ
ذلك اليوم ،فهي في موقع المفعول ،أو ربّما في موقع المفعولين ،للفعل الذي
سبق قبل آيتين (يعلم).
خامساً :جوامع َ
الك ِلم
اإلنسان لِربِّه لَ َكنود:
َ إن
ّ –1
يمكن إطالق هذه العبارة القرآنيّة للتعليق على من بَ ِطر معيشته ولم يُحسن
تقدير نعمة اهلل عليه ،وكذلك على من ينكر الجميل وال يبادل اإلحسان باإلحسان.
ب الخيرِ لَشديد:
–3وإنّه لِ ُح ّ
عبار ٌة يمكن أن تقال لمن ُعرف بالجشع والطمع والسعي لنيل الدنيا من غير
تذ ّكر اآلخرة.
390
ئذ لَخبير:
إن ربَّهم بهم يو َم ٍ
ّ –5
وهي عبار ٌة أخرى يمكن أن تُط َلق في أكثر من موقف :فلنا أن نقولها لمن
نشك في أنّه ينطق بالحقيقة ،أو نطلقها على من مات من غير أن نستطيع الحكم ّ
له أو عليه ،فنترك أمره هلل.
391
السورة السابعة عشرة
الزلزلة
ﮋ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ
ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ
ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ
ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮊ
تتفجر
«زلزلة» حقيقيّةّ ،
ٍ قنبلة ضخمة ،أو
هذه السورة كانت عند نزولها بمثابة ٍ
مرة ،ليس بسبب لغتها الجديدة
في أفئدة العرب أو المسلمين الذين سمعوها أل ّول ّ
فحسب ،بل بسبب الصور والمعاني الهائلة التي تض ّمنتها ،والحدث العظيم الذي
العربي وثقافته
ّ تتحدّث عنه ،وقد كان حتّى ذلك الوقت بعيداً تماماً عن العقل
الجاهليّة الوثنيّة ،وهو يوم القيامة.
مكون ٌة من
التراجعي في القرآن هو السادسة عشرة ،وهي ّ
ّ وترتيب السورة
36لفظاً وسنقف فيها عند 53موقعاً جديداً على العرب وعلى اللغة العربيّة،
خمتص ًا
ّ كبير من هذه المواقع
ظل جز ٌء ٌكثير منها كذلك حتّى اليوم ،بل ّ
وظل ٌ ّ
مكون ًة بذلك شخصيّتها اللغويّة المستق ّلة، السورِّ ،
بالسورة وحدها دون غيرها من َ
كاأللفاظ( :زُلزلتِ ،زلزالَها ،أثقالها ،تُحدّث ،أخبارها ،يَصدُر ،لِيُ َروا ،يَ َره) وكذلك
التراكيب والتعبيرات والصور( :زُل ِزلت ِزلزالَها ،أخرجت أثقالَها ،قال ..ما لَها،
ذر ٍة خيراً،
الناس أشتاتاً ،ليُ َروا أعمالَهم ،مثقال ّ
أوحى لها ،يَصدُر ُ
أخبارهاَ ،
َ تُحدّث
رش ًا). مثقال ٍ
ذرة ّ
ّ
393
ّأوالً :األلفاظ والمصطلحات
في السورة 7أدوات و 29كلم ًة ،وبين هذه الكلمات ما ال ّ
يقل عن 12كلم ًة
جديد ًة في معناها ،أو في لفظها ،أو في لفظها ومعناها مع ًا:
ات أخرى ّ
فإن أن مشت ّقات الفعل (زلزل) تَتر ّدد في بقية السور 4مر ٍ
ورغم ّ
ّ َ ّ
ّ
تستقل بمصدره ّ
تستقل بهذا الفعل المرتبط بتاء التأنيث ،كما سورة (الزلزلة)
يتكرر الفعل ثاني ًة في سورة
المضاف إلى ضمير المفردة الغائبة ( ِزلزالها) .وحين ّ
(البقرة) يأتي ،هناك أيض ًا ،في صيغته المبنيّة للمجهول ،وهي من الصيغ الفعليّة
مر بنا:
ال في القرآن كما سبق أن ّ األكثر استعما ً
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،3ص ،1073حديث رقم .2775
((( المرجع السابق ،ج ،5ص ،1950حديث رقم .4780
394
ث:
حد ُ
–3تُ ِّ
معنى مختلفاً عن المعنى الذي تعارف عليه العرب ،فهو ً حمل الفعل هنا
ثم لم يتع ّد إلى
من األفعال التي تتعدّى إلى مفعولين ،وقد فقد هنا مفعوله األولّ ،
مفعوله الثاني بحرف (الباء) أو بالحرف (عن) ،وهو ما اعتدنا أن نفعله في لغتنا.
نحن نقول مث ً
ال:
سأحدّثكم عنه
ِّث َ
بالكذبة(((. .. -أ ّما الذي رأيتُه يُ َش ُّق ِش ْد ُقه فك َّذ ٌ
اب يُحد ُ
أشراطها(((.
ِ ولكن سأحدّ ُث َك عن
ْ .. -
يتكرر في غيرها؛ ّ
فإن الصيغتين خاص بهذه السورة وال ّ ٌّ ورغم ّ
أن اللفظ
األخريين له في القرآن تعدّت كلتاهما بالباء:
ُ
[الضحى]11 : -ﮋﮠﮡﮢﮣﮊ
من أجل هذا كان ال ب ّد من تقدير الفعل على أنّه بمعنى (تروي) أو (تحكي)
أي منهما بالباء.
واحد ،وال يتعدّى ٌّ
بمفعول ٍ
ٍ فكال هذين الفعلين يكتفي
395
–4أَ َ
وحى:
مر ًة في القرآن فإنّنا ال نجده في الشعر
رغم ورود هذا الفعل مع مشت ّقاته ّ 77
بيت يُنسب للشنفرى (ت 70ق.ﻫ) يقول فيه: مر ًة واحد ًة في ٍ الجاهلي إ ّ
ال ّ ّ
واشمـــأز وأَ َ
نكرا َّ َف ِر ْي َ
ـــع فــــؤادي بح َس ْم َعها
الص ِ ونائحة أُ ُ
وحيت في ُ ٍ
القرآني عن
ّ ومن الواضح ،مع ندرة اللفظ في هذا الشعر ،اختالف معناه
يختص في معظم استعماالته القرآنيّة باالتّصال اإللهي مع
ّ الجاهلي ،إذ
ّ المعنى
المباشر ،م ّما ّ
توضحه اآلية: َ نوع آخر غير الكالم ٌ
البشر أو األنبياء ،وهو اتصال من ٍ
ﮊ [الشورى]51 : -ﮋﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ
يتكرر في وتنفرد سورة (الزلزلة) بتعدّي هذا الفعل بالالم ،رغم ّ
أن الفعل ّ
مرةً أخرى تعدّى في 66منها بحرف ّ
الجر (إلى) ،كما في قوله تعالى: القرآن ّ 72
ﮊ [القَصص]7 : -ﮋ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ
الست األخرى.
ّ وتعدّى بنفسه ،من غير وسيط ،في الحاالت
–5يَ ْص ُدر:
الجاهلي هو العودة من مصدر الماء بعد الشرب أو التز ّود
ّ الصدور بالمعنى
منه ،أ ّما هنا فهو بمعنى خروج الناس من قبورهم ،أو عودتِهم من الموت إلى
معنى جدي ٌد منحه القرآن للفعل.
رجوعهم إلى اهلل يوم الحساب ،وهو ً
ِ الحياة ،أو
يتكرر اللفظ في القرآن في غير هذه السورة.
وال ّ
396
–6لِيُ َروا:
مر ًة
يتكرر بهذه الصيغة ّ
مع اختصاص سورة (الزلزلة) بهذا اللفظ؛ إذ ال ّ
العربي منه تمام ًا ،قبل اإلسالم وبعده ،وكذلك
ّ أخرى في القرآن ،يخلو الشعر
الحديث الشريف .وهو من الحاالت النادرة في القرآن التي يتعدّى فيها ُ
فعل
المبني للمجهول (الواو هنا
ّ البصري ،إلى مفعولين مع مجيئه في صيغة
ّ الرؤية،
ثان). ٌ
مفعول ٍ هي بمقام المفعول األول لهذا الفعل ،أي نائب فاعل ،و «أعمالَهم»
مفعول
ٍ الجاهلي من هذه الصيغة فم ّما يقتصر تعدّيه على
ّ أ ّما ما عرفه الشعر
واحد ،كما في هذه األبيات:
ٍ
يَسعـــى علينـــا إ ّ
ال كواكبُـهـــا ليلـة ال يُرى بها أحـ ٌد
ٍ في
أُحيحة بن َ
الجالح (ت 129ق.ﻫ)
وس َع ْة
ب ِيف ُر ْح ٌ
للض ِ
عندهــا َ ثم فينا لل ِقـرى نا ٌر يُـرى
ّ
دي (ت 54ق.ﻫ) األ ْف َوه ْ
األو ّ
ت ُرعبَــــــ ْه
وألكـــثر ُ
ْ لروعتُـــهُ
ّ للموت شخصاً يُرى
ِ ولو ّ
أن
عنترة (ت 22ق.ﻫ)
معنى
أ ّما في الحديث الشريف فيتّخذ الفعل ،في صيغته المبنيّة للمجهولً ،
مختلفاً هو ّ
(ظن) ،كما في العبارات النبويّة:
َ
رسول اهلل.(((.. ُ
السائل عن الساعة؟ قال ها أنا يا أين أُرا ُه
َ .. -
ُ
َ
االعتكاف بهن؟ فترك
ون ُّر َ .. -فقال :ما هذا؟ فأخبِر ،فقال ّ
النبي :آلبِ َّر ت َ
ذلك الشهر(((.
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،33حديث رقم .59
397
مرتين،
عارضني العا َم ّ
َ سنة ،وإنّه
كل ٍبالقرآن َّ
ِ أن جبريل كان يعارضني ّ .. -
(((
أجلي.
حضر َ
َ وال أُرا ُه إ ّ
ال
[مكرر]:
ِ –8 –7مثقال ّ
رغم ورود هذا اللفظ 8مر ٍ
ات في القرآن ،وهو دائماً بمعنى ( َوزْن) ،يختفي ّ
الجاهلي ،ولكنّنا نجده وقد انتقل إلى الحديث الشريف أيضاً
ّ تماماً من الشعر
القرآني نفسه.
ّ وباالستعمال
[مكرر]:
–12 –11يَ َره ّ
خاص .فهو يختلف عن المعنيين ّ بشكل
ٍ الجديد في هذا اللفظ هو معناه
ثم الرؤية
الوحيدين اللذين عرفهما العرب لهذا الفعل ،وهما :الرؤية البصريّةّ ،
الظن) كما رأينا في األحاديث الشريفة السابقة .أ ّما الرؤيا في هذه اآلية
القلبيّة (أي ّ
عمل شيئاً في الدنيا ،خيراً أوفمن ِ فهي بمعنى تل ّقي الحساب أو نَيل الجزاء ،أيَ :
القرآني لم يعرفه
ّ يلق جزاءه ،عقوب ًة أو مكافأةً ،في ذلك اليوم .وهذا المعنىرش ًاَ ،
ّ
قرآني.
ّ سياق ّ ً
الحديث الشريف أيضا ،إال أن يقع في ٍ
مر ًة ورد فيها الفعل (رأى) مع مشت ّقاته فيواألغرب من هذا أنّه من بين ّ 326
حاالت فحسب ،والحاالت الثالث ٍ القرآن؛ ال نجد هذا المعنى األخير إ ّ
ال في ثالث
المتكرر (يَ َره).
ّ اجتمعت ك ّلها في هذه السورة الصغيرة ،وهي الفعل (يُ َروا) والفعل
398
ثانياً :الصيغ اللغويّة والعالقات الداخليّة
ِ –1زلزالَها:
تعبير لم يعهده العرب في لغتهم ،ال قبل اإلسالم وال بعده ،فإضافة
هذا ٌ
خارج عن
ٌ أمر
المفعول المطلق إلى فاعله وهو الضمير (ها) العائد على (األرض) ٌ
أعرافهم اللغويّة .من منّا يقول مث ً
ال:
طارت الطائرة طيرانها ،أو:
ِ
ُكبت الجريمة ارتكابها ،أو:
ارت ِ
ُه َّزت العمار ُة اهتزازها..
ُ
األرض: جت
وأخر ِ
َ –2
َ
الفاعل نفسه في جملتين متتاليتين كما مر ًة أخرى ،ال ت ّ
ُكرر أعرافنا اللغويّةّ ،
وقع في هاتين اآليتين ،بل تستغني عنه بالضمير .نحن نقول هنا:
-وأخرجت أثقالَها
هكذا من غير إعادة لفظ (األرض) من جديد .إنّنا ال نقول مث ً
ال:
ُ
االمتحان ،وال: ُ
االمتحان وبدأ إذا جاء
الشمس ،وال:
ُ الشمس وأضاءت
ُ أشرقت
ِ
الخبر وانتشر الخبر.. ذيعُ
ُ أ َ
–3أثقالَها:
العربي
ّ هذه صور ٌة بيان ّيةٌ جديدة ،بل صورتان في صورٍة واحدة لم يعرفهما
من قبل .فاألثقال هنا هي ما في األرض من رميم الموتى من البشر والحيوانات،
رحمها ،أوضخمة تَحمل هذه األثقال على ظهرها ،أو في ِ
ٍ أ ّما األرض فهي كدابّةٍ
عمالقة تحمل األموات في جوفها ،حتّى تكاد ينوء بها الحمل لثقلها.
ٍ كسفينة
ٍ
399
األرض (أثقالَها):
ُ خرجت
ِ –4وأَ
بالمقارنة مع الصورة الثابتة التي رأيناها في اللفظ (أثقالها)؛ لنا أن نتخيّل اآلن
حركة وحياة .هذه هي األرض اآلن ٍ ما أضاف اللفظ (أخرجت) إلى هذه الصورة من
ال إثر ِحمل ،بما حوته من أجيال البشر المتالحقة تلفظ أحشاءها التي أُث ِقلت بهاِ ،حم ً
ثم ُدفنت فيها منذ آدم عليه السالم حتّى يوم القيامة ،وبما حمله التي عاشت عليها ّ
وأعمال أثقلت كواهلهم ومألت صحائفهم ،وكذلك بما ٍ ذنوب
ٍ هؤالء البشر من
وأسرار ال يعلمها إ ّ
ال اهلل، ٍ أحياء أخرى ،ومن عجائبأخفته األرض في باطنها من ٍ
فأفصحت عنها في ذلك اليوم الرهيب ،فوجاً إثر فوج ،ووالد ًة إثر والدة.
اإلنسان:
ُ –5وقال
األدبي ،قبل اإلسالم
ّ أي من كتب تراثنا
القرآني في ٍّ
ّ لن نجد هذا التركيب
أو بعده ،شعره أونثره ،بل إنّه ،فوق ذلك ،اقتصر في القرآن على هذه السورة
سور أخرى في صيغة المضارع ﮋﯘ ﯙﮊ.
وحدها دون غيرها ،ولكنّنا نجده في ٍ
تحذيري
ٍّ إخبار
ٍ ولصيغة الماضي هنا خصوصيّتها وخطورتها؛ وذلك بما تحمله من
مق ِلق ،ألنّها تتحدّث عن المستقبل بصيغة الماضي بحيث تُشعرنا ّ
بأن هذا الحدث
قد وقع علينا حقاً وكأنّنا نعيشه اآلن ،فال فرصة أمامنا للمناورة أو الفرار منه.
ئذ [األولى]:
–6يو َم ٍ
من األعراف اللغويّة للعربيّة أن يرتبط جواب الشرط ،في مثل هذا السياق،
بحرف هو الفاء ،وقد خلت اآلية الكريمة من هذا الحرف .نحن نقول:
ٍ
إذا اقترب الموعد فعند ذلك تهيّأ ،أو :فتهيّأ عندها .ونقول:
فحينئذ ات ْ
ّخذ قرارك .ونقول: ٍ عزمت أمرك
َ إذا
إذا رأيتَه يسرق فعا ِق ْبه
400
أخبارها:
َ – 7تُح ّدث
العربي لم يعرفها من
ّ في هذا التعبير الجديد صور ٌة جديد ٌة أيضاً على الخيال
وبغض النظر ع ّما إذا كانت األرض ستتحدّث بذاتها ذلك اليوم أم ال؛ أي ّ قبل.
"كالم"
ٍ مجرد الحديث عنفإن ّبغض النظر عن كون هذا الكالم حقيق ًة أو مجازاًّ ،ّ
العربي الذي يسمع هذا المعنى الغريب
ّ يصدر عن األرض من شأنه أن يثير مخيِّلة
مرة .وقد ُروي عن الرسول قوله: أل ّول ّ
أحد ٌ
عامل عليها خيراً أو َح ّفظوا من األرض فإنّها ُّ
أمكم ،وإنّه ليس ِمن ٍ -تَ
شـرا إ ّ
ال وهي ُم ْخبِر ٌة به(((. ّ
كما ُروي عنه في شرح هذه اآلية:
– 8ربَّ َ
ك:
غائب يعود على اإلنسان (هو) في اآلية الثالثة؛ تتو ّقع األذن،
بعد التحدّث عن ٍ
لخ َدر العادة واالستمراريّة في لغتنا البشريّة ،أن تكون اآلي ُة
التي تستسلم هنا عاد ًة َ
(رب
بأن ربّه ّالّ :هنا استمراراً وتكمل ًة للحديث في تلك الصيغة ،كأن تكون مث ً
القرآني يوقظ األذن من هذا »االستسالم
ّ اإلنسان) أوحى لها ،ولكن »االلتفات»
الطبراني ،المعجم الكبير ،مرجع سابق ،ج ،5ص ،65حديث رقم .4598
ّ (((
((( البستي ،صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان ،مرجع سابق ،ج ،16ص ،360حديث رقم .7360
401
مفاجئ لم تكن تتو ّقعه؛ حين يقفز بها ،ومن
ٍ لغوي
ٍّ منعطف
ٍ الكسول» لتصحو على
ك). أي إنذار ،من الغائب ﮋﭲ ﭳﮊ إلى المخاطب َّ
(رب َ غير ّ
بأن ربَّك:
أخبارها ّ
َ –9
لو خال السياق هنا من اللفظ (أخبارها) فكان هكذا :تُحدّثّ ..
بأن ربّك،
مفعول
ٍ ولكن دخول
ّ لعاد التعبير إلى قواعده وأعرافه المعهودة في لغتنا البشريّة،
ّ
محل هذا المفعول األصلي ،أو ما ّ
حل ّ جديد بين الفعل (تُح ّدث) ومفعوله
ٍ
األصلي وهو شبه الجملة ﮋﭻ ﭼﮊ ،جعل الصيغة غير عاديّة ،أو نقلها ّ
باألحرى من البشريّة إلى القرآنيّة.
–10أوحى لها:
خطاب
ٌ ينطبق على هذا التعبير تحلي ُلنا للتعبير السابق ﮋ ﭸ ﭹ ﮊ .إنّه
ناطق وال عاقل ،وهل تَسمع مخلوق غير ٍ
ٍ موجهٌ من الخالق في السماء إلى
إلهي ّ ٌّ
عجيب
ٌ األرض وحي اهلل وكال َمه :ﮋ ﭽ ﭾ ﮊ؟ فإن كان ذلك حقيق ًة فهو ً
معنى ُ
مجرد صورٍة جماز ّي ٍة فنّ ّي ٍة تمثّل
مرة ،أ ّما إن كان ّ
العربي الذي يسمع مثله أل ّول ّ
ّ سيه ّز
حي يسمع ويرى ،فهي أيضاً صور ٌة عجيب ٌة وجديد ٌة على ٌ
مخلوق ٌّ األرض وكأنّها
العربي لم يسمع بمثلها من قبل.
ّ الخيال
ئذ [الثانية]:
–11يو َم ٍ
أن هذا هو ظرف الزمان الثالث الذي تقع فيه الزلزلة .فاأل ّول (إذا)الغريب ّ
رطي متع ّل ٌـق بجوابه ،أي بجواب الشرط كما تع ّلمنا في دروس النحو ،وإذن ٌ
ظرف َش ٌّ
فالظرف الثاني ﮋ ﭷ ﭸ ﮊ والثالث ﮋ ﮀ ﮁ ﮊ ينض ّمان إلى األ ّول
ليشاركاه عمليّة التع ّلق ،وهكذا يمكن أن نصوغ العبارة بلغتنا على الشكل التالي:
الناس منها
ُ ُ
األرض بأخبارها ،ويَصدر يو َم تُزل َزل تلك الزلزلة؛ ستحدِّث
أشتاتاً للحساب،
402
ظرف واحد وهكذا ال نجد في عبارتنا البشريّة ،كما نرى ،مكاناً ألكثر من ٍ
حدث واحد يُضفي على هذا ٍ أن في اجتماع الظروف الثالثة على (يو َم) .وال ّ
شك ّ
الحدث من التهويل والتعظيم ما ال يقوم بالتعبير عنه ٌ
ظرف بمفرده في لغتنا البشريّة.
–12يَ ْص ُد ُر:
أن هذا الفعل قد اكتسب في االستعمال عرفنا في حديثنا عن ألفاظ السورة ّ
معنى جديداً .وهذا المعنى جاء من خالل الصورة البيانيّة الجديدة التي
القرآني ً
ّ
فاجأ القرآن بها العرب ،فالخروج من القبور بعد هذا الرقاد الطويل أشبه بعودة
لفظ واحد:
صور في ٍوالري .وإنّها في الواقع عدّة ٍ
ّ الشاربين من نبع الماء بعد الشبع
ث -والحساب والوقوف بين يدي اهلل هو المنزل أو المآل الذي ينتهون إليه
عائدين من نبع الماء.
الناس أشتاتاً:
–13يَص ُد ُر ُ
مختص بهذه السورة وحدها ،ولو أردنا
ٌّ خاص ،فض ً
ال عن أنّه قرآني ّ
تعبير ٌّ
هذا ٌ
متفرقين ،أو يرجعون فصائل ،أو
التعبير عن المعنى نفسه بلغتنا لقلنا :يعود الناس ّ
يرتدّون ِفرقاً وجماعات .وال وجود لهذا التعبير في الحديث الشريف.
403
الجدّة ،فليست األعمال هي التي سوف تُرى يو َم القيامة ،وإنّما نتائجها وجزاؤها:
رش ًا فعقوب ًة وناراً ،وهي صور ٌة جديد ٌة في القاموس
إن خيراً فمكافأ ًة ونعيماً ،وإن ّ
ْ
العربي .وال وجود للتعبير في الحديث الشريف. ّ البالغي
ّ
–16 –15فمن يعمل /ومن يعمل:
في كال التعبيرين نو ٌع جدي ٌد من االلتفات .فالصورة التي ترسمها لنا اآليات
منذ مطلع السورة حتّى قوله تعالى( :ليروا) هي صورة أحداث يوم القيامة :الزلزلة،
ثم
ثم ذهول اإلنسان لما يجري حوله ،ثم حديث األرض العجيبّ ، ثم النشورّ ، ّ
إنسان ما عمل فيٍ منصة الحساب الرهيبة ،لينظر ّ
كل جماعات نحو ّ
ٍ تقدُّم البشر
الدنيا (أعمالَهم) ،وهذه الكلمة األخيرة تعود بنا القهقرى إلى الحياة الدنياّ ،
ألن
المقصود طبعاً رؤيتهم لما (عملوه سابقاً) في حياتهم األولىّ ،
ثم ماذا؟ إنّها اآلن
المحكمة الكبرى :فمن عمل خيراً في الدنيا نال اليوم خيراً ،ومن عمل شراً نال
اليوم شراً.
المرتين وليس (عم َل) في ّهل تنبّهتم إلى أنّني استعملت الفعل الماضي ِ
ألن عمل اإلنسان في الدنيا سيكونالمضارع (يعمل) الذي ورد في اآليتين؟ طبعاً ّ
المرتين،
ولكن القرآن عبّر عن هذا الماضي ،في ّ
ّ في ذلك اليوم في حكم الماضي،
(يعمل) ،فكان التفاتاً من الحاضر إلى الماضي ،رغم استخدام صيغةْ بالمضارع
المضارع (يعمل) للتعبير عن ذلك الماضي ،وهو أعجب ما في هذه اللغة القرآنيّة.
مثقال ٍ
ذرة ّ
[مكرر]: َ ّ –18 –17
تسرب بعد ذلك شعر ،وقد ّعربي أو ٌ
نثر ٌّخاص ال يشاركه فيه ٌ
قرآني ٌّ تعبير ٌّ
هذا ٌ
الجاهلي تماماً
ّ بكثرٍة إلى الحديث الشريف ،كما سبق أن ذكرنا ،رغم خل ّو الشعر
النبوي إضافة (مثقال) إلى (حبّةِ خردل) أو (شعيرٍة)
ّ منه ،ولكن يغلب في الحديث
(دينار) بد ً
ال من ( َذ ّرة). ٍ أو
404
ثالثاً :السبائك القرآنيّة
األرض ِزلزالَها:
ُ ُلزلَ ِ
ت –1إذا ز ِ
تكررت في سورٍة أخرى من القرآن ،بَ ْل َه كال َم البشر. هذه سبيك ٌة ال أذكر أنّها ّ
المتفرد ،ومن
ّ النحوي
ّ وتأتي خصوصيّتها من ترتيب كلماتها الذي ك ّون لها إيقاعها
ثم من هذه اإلضافة الجديدة رطي (إذا) كما رأيناّ ،
الش ّخصوصيّة استعمال الظرف َ
للمفعول المطلق ( ِزلزال) إلى الضمير العائد على األرض (ها) وهي صاحبة
الزلزلة ،كما سبق أن بيّنّا أيضاً ،والتي أكسبت المضاف معنى الهول والعظمة
والضخامة ،م ّما قد نعبّر عنه في لغتنا البشريّة بقولنا:
بأن:
أخبارها ّ
َ ث
حد ُ
ئذ تُ ِّ
–2يو َم ِ
اللفظي
ّ ثم بناؤها ٍ
(يومئذ)ّ ، القرآني الصارخ اللون
ّ افتتاح هذه السبيكة بالظرف
المتفرد ،والعالقات اللغويّة الجديدة التي تَحدّثنا عنها بين الفعل (تُحدِّث) ومفعولِه
ّ
ثم الجملة غير العاديّة التي تلت هذا المفعول؛ وجاءت وكأنّها في (أخبارها)ّ ،
َ
ثان ﮋ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﮊ ،هذا ك ّله يمنح السبيكة خصوصيّتها. مفعول ٍ
ٍ موضع
405
ثقال َذ ّرةٍ خيراً يَ َره:
يعمل ِم َ
ْ –4فمن
واإليقاعي؛ تأتي خصوصيّة هذه السبيكة من
ّ اللغوي
ّ فض ً
ال عن بنائها
(مثقال) و ٍ
(ذرة) و (يَ َره) كما ّ
مر بنا .ويضاف ّ َ خصوصيّة استعمال أجزائها (يعمل) و
الحقيقي الذي يمكن
ّ إلى ذلك االستغنا ُء بالضمير (الهاء) في (يَ َره) عن المفعول
أن يكون (المثقال) أو (الخير) ،أو ربّما ،كما اقترحنا( ،الجزاء) الذي سيناله العامل
لقاء ما عمله من خير.
َ
أضيف إلى فاعله؛ أي ويأتي المصدر( ِزلزالها) نكر ًة أو شبه نكرٍة؛ إذ
الضمير «ها» العائد على األرض المتزلزلة نفسها ،فهو ،بإضافته إلى نفسه ،كأنّه
تعريف باإلضافة؛ بحيث أعطى اآلية ك ّلها ،بهذا
ٍ أي
لم يُ َضف ،إذ لم يكتسب ّ
قو ًة احتامل ّي ًة إضاف ّي ًة في تص ّورنا لطبيعة تلك الزلزلة وما يُ ّ
لم الغموض والتنكيرّ ،
باألرض من عظائم.
406
األرض أثقالَها:
ُ جت
أخر ِ
َ –2
هل لنا أن نتص ّور طبيعة «األثقال» التي ستُفرزها األرض من أحشائها يوم
جن ،كنوز ،نيرانِ ،حمم ،مدُن ،حضارات ،ما نعلم النشور :بَشر ،حيواناتّ ،
تتم عمليّته ،وما هي
وما ال نعلم؟ ..وهل لنا أن نتص ّور هذا «اإلخراج» وكيف ّ
إن األبواب مفتوح ٌة أمام خيالنا لما ال نهاية له من
شكل يأخذ؟ ّ
ٍ وأي
مراحلهَّ ،
الصور والوقائع.
اإلنسان ما لَها:
ُ –3وقال
أمام هذا الخليط من المخلوقات المنبعثة من الموت ،واألحداث التي يشيب
إنسان هذا الذي يقف متسائ ً
ال ٍ فأي
لهولها الولدان ،يفاجئنا هنا لفظ (اإلنسان)ّ .
متعجباً م ّما يجري (ما لها)؟ ولماذا أفرد القرآن هذا اللفظ (اإلنسان) ولم يجمعه
ّ
يتعجب هذا اإلنسان؟ تُرى :من زلزلة األرض؟ أم من
ومم ّال)؟ ّ (الناس أو البشر مث ً
انبعاث الموتى منها أحياء؟ أم من نطقها وهي تدلي بأخبارها وأخبار من فيها؟ أم
كل ذلك معاً وأكثر؟من ّ
أخبارها:
َ –4تُح ّدثُ
حقيقي
ٌّ المفسرين حول طبيعة «حديث األرض» هنا ،هل هو ّ عرفنا اختالف
حديث شريف في توضيح هذا «الحديث» .فهل ٍ مجازي ،رغم وجود أكثر منّ أم
بأن اهلل أوحى لها بالكالم؟ أم ُمخبِر ٌة بما أوحي لها بأن تتك ّلم فيه وتُخبر
هي ُمخبِر ٌة ّ
طريقة
ٍ فبأي
به؟ وإذا كانت « ُمخبِرةً» بما نعمله على ظهرها ،كما جاء في الحديثّ ،
لغة؟ وما طبيعة صوتها ودرجة يتم هذا اإلخبار ،وهل هو كال ٌم ككالم البشر؟ وبأيّة ٍ ّ
407
ضخامته؟ وأين يكون فمها ومن أين يصدر الكالم؟ واسأل نفسك بعد ذلك ما
شئت من مثل هذه األسئلة .وقيل في تفسير اآلية:
إنّها تُحدّث أخبارها بوحي اهلل لها وإذنه لها،
وقيل :تحدّث أخبارها بما أخرجت من أثقال،
وقيل :تحدّث بقيام الساعة ّ
وأن الدنيا قد انقضت،
وقيل :تبيّن أخبارها بالرجفة والزلزلة وإخراج الموتى ،وقيل غير ذلك.
أوحى لها:
بأن ربَّك َ
ّ –5
يلعب حرف (الباء) هنا دوراً كبيراً في تلوين معنى اآلية وإغنائه باالحتماالت:
تعدية لوصل الفعل قبله (تُحدّث) بمفعوله ،أو بما ّ
حل ٍ مجرد حرف
فهل هو ّ
ّ
محل هذا المفعول المحذوف ،أي (تُحدِّث ّ
بأن)؟
سببي ،أي ّ
أن األرض تتحدث »بسبب» إيحاء اهلل لها بالتحدّث؟ أم هو ٌ
حرف ٌّ
(أخبارها)؛ أي:
َ تفسيري عم ُله أن يصل بد ً
ال ﮋﭻ ﭼﮊ ب ُم ْب َد ٍل منه ٌّ أم هو
تفسيرها ّ
أن اهلل أوحى لها؟ ُ أخبارها التي
(أخبارها)؛ أي :تحدّث
َ (أن وما بعدها) ٌ
بدل من جر زائدٌ؛ وجملة ّ
أم هو حرف ٍّ
أخبارها التي هي وحي اهلل لها؟
إن الذهن يذهب بعيداً هنا مع اللفظ (أوحى):
ثم ّ
ّ
فما عالقة الوحي بالخراب الذي يصيب األرض يومذاك؟ وهل كان الوحي
لها أمراً بزلزلتها؟
بأن تلفظ ما في رحمها من أجن ٍّة حمل ْتها أحقاباً تلو أحقاب؟
أمر ْ
أم هو ٌ
أمر بأن تشهد على اإلنسان فتنطق بما قدّم في حياته من عمل؟
أم ٌ
الخاصة لهذه اآلية.
ّ وك ّلها ٍ
معان تحتملها األلفاظ والصياغة
408
– 6يَص ُد ُر الناس:
لنا أن نتخيّل اآلن عمليّة »صدور» الناس ،وطبيعة هذا الصدور .فقد يكون
صدوراً من القبور إلى سطح األرض ،وكيف تُراها ّ
تتم هذه العمليّة؟ وقد يكون
يتوجه الناس إلى حيث المحكمة الكبرى صدوراً يتلو االنبعاث من القبور؛ حين ّ
تتم هذه المحاكمة؟
التوجه؟ وأين تُراها ّ
يتم هذا ّ
والنطق بالحكم األعظم ،وكيف تُراه ّ
ثم ّ
إن »الصدور» في اللغة هو العودة من الماء مع االرتواء أو التز ّود بما يلزم منه: ّ
فماذا يحمل الموتى معهم من قبورهم؟
عمل
وهل كان ما يحملونه ،باألحرى ،هو ما تز ّودوا به ،لهم أو عليهم ،من ٍ
في دنياهم قبل الموت؟
– 7أشتاتاً:
هذه »األشتات» تعبّر بنفسها عن اختالف األنواع واأللوان واألشكال
واألجناس والديانات وال ِفرق والدرجات التي يتوزّع بينها الناس ،واالتّجاهات التي
مفتوح
ٌ إن المجال»مشتتين» فيها يوم البعث ﮋ ﭩ ﭪ ﮊّ . َّ يتّجهون
وأشكال لفصائلهم وجماعاتهم
ٍ صور
ٍ وسعنا من
واسع لنتخيّل ما ِ
ٍ بشكل
ٍ أمامنا
ثم حين يساقون جميعاً ،بهذه الكتل الهائلة ،إلىوفرقهم وهي تنبعث من القبورّ ،
ساحة المحكمة الفاصلة.
409
مر ًة أخرى ،لطبيعة هذه
هي المكافأة أو العقوبة ،ولخيالنا أن يرسم الصورّ ،
ثم الرؤية ،واألحكام الصادرة ٍّ
بكل من الموقوفين ،وطريقة صدور هذه األحكامّ ،
طريقة تنفيذها.
وم ّما قيل في شرح هذه اآلية أنّهم يرون أعمالَهم رأي العين؛ فهي ُت َّسم لهم
تماماً كما حدثت في الدنيا!
[مكرر]:
– 12 – 11يَ َر ْه ّ
النهائي الذي
ّ ال عن المعاني الكثيرة المطروحة لهذا اللفظّ ،
يظل المعنى فض ً
الحتماالت عدّة:
ٍ اقترحناه له مفتوحاً أيضاً
فهل ستكون »الرؤية» ،في هذه الخطوة األولى من إجراءات يوم القيامة
حكم" لصالح ،أو لغير صالحّ ،
كل إنسان؟ مجرد "صدور ٍوالحسابّ ،
((( انظر:
-القرطبي ،محمد بن أحمد .تفسير القرطبي ،بيروت :دار إحياء التراث العربي( ،د.ط1405 ،).ﻫ،
1985م ،ج ،20ص.5150
410
أم هي تنفيذ هذا الحكم مباشر ًة من غير ٍ
نطق بهذا الحكم؟
-بينا أبو ٍ
بكر يتغدّى [أي يتناول فطوره ،وهو من الغداة ،ولم يكن في عهده
وجب ٌة وسطى اسمها (الغداء) ،وفي الجامع للسيوطي :كان إذا
يتغد] مع رسول اهلل إذ أُنزلت هذه يتعش ،وإذا ّ
تعشى لم َّ تغدّى لم َّ
اآلية ﮋﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ
َ
رسول اهلل: بكر [أي عن الطعام] وقال :ياﮑ ﮒ ﮓﮊ فأمسك أبو ٍ
َرون [أي ما ترونه في هذه أكل ما َع ِم ْلنا من ٍ
سوء رأيناه؟! فقال :ما ت َ ُّ
الخير [أي ثوابه] ألهله في
ُ ويؤخر
الدنيا] م ّما تكرهون فذاك م ّما تُج َزونَّ ،
اآلخرة(((.
((( النيسابوري ،المستدرك على الصحيحين ،مرجع سابق ،ج ،2ص ،580حديث رقم.3966 :
411
خامساً :جوامع َ
الك ِلم
األرض ِزلزالَها:
ُ لت
ُلز ِ
–1إذا ز ِ
كارثة طبيع ّي ٍة كبرى،
بجزء منها ،عند حدوث ٍ
يمكن االستشهاد بهذه اآلية ،أو ٍ
اجتماعي ضخم ،أو للتعبير عن
ٍّ اقتصادي أو
ٍّ عسكري أو
ٍّ سياسي أو
ٍّ حدث
أو وقوع ٍ
شخص دخل عليهم.
ٍ وتبرمهم من
ضيق القوم ّ
األرض أثقالَها:
ُ وأخرجت
ِ –2
كنز أو
شخص على حقيقته ،أو اكتشاف ٍ
ٍ قد تقال هذه اآلية عند انكشاف
ثروات اقتصاد ّي ٍة كانت مختبئ ًة داخل األرض.
ٍ معدن أو
ٍ
أخبارها:
َ ئذ حتدّ ُ
ث –3يو َم ٍ
كبير ،كأن تهدّد دول ٌة بلداً آخر بالحرب:
بعمل ٍهذه اآلية قد تُستخدم في التهديد ٍ
ٌ
متسابق منافسه بيوم السباق (وعند ذلك ستختبرون ق ّوتنا وتعرفون أخبارنا) أو يهدّد
اآلخر خبره ويكتشف ق ّوته).
ُ كل على حقيقته ويَعرف المتسابق (حين يظهر ٌّ
الناس أشتاتاً:
–4يَص ُدر ُ
بأخالق زميلّ ،
فتفكر في مدى تباعد ِ قد تحزن لضاللة إنسان ،أو تفاجأ
ثم اختالف مصائرهم في اآلخرة ،فتُع ّلق بهذه اآلية.أخالق الناس ،ومن ّ
ذر ٍة خيراً يَ َر ْه: َ
مثقال ّ ْ
يعمل –5فمن
رش ًا يَ َر ْه: مثقال ٍ
ذرة َّ ّ يعم ْل
–6ومن َ
كلتا اآليتين قد غدت سائر ًة على ألسنتنا للتشجيع باألولى على عمل الخير،
الشر مهما يكن تافهاً .قال ابن مسعود:مهما يكن صغيراً ،وللتحذير بالثانية من عمل ّ
(((
آية في القرآن» ،وكان يس ّميها» :اآلية الجامعة الفا ّذة».
»هذه أحكم ٍ
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،2ص ،835حديث رقم.2242 :
412
السورة الثامنة عشرة
البيّنة
ﮋﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ
ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ
ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ
ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ
ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ
ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ
ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﮊ
413
أشق األمور في العقيدة ،وأخطرها على هذه العقيدة ،أن أن من ّ شك ّوال ّ
كل االحتماالت ،لتضع يدك قسراً على تخوض في الغيبيّات «المنفتحة» على ّ
الحدود المتداخلة وغير الما ّدية لعناصر أبعد ما تكون عن إمكان تل ّمسها بوسائلك
الحسية البشريّة المحدودة ،من مثل «الصحف المط ّهرة» و«الكتب القيّمة» و«مجيء
ّ
«عدن» و«جريان األنهار تحت
البيّنة» و«إخالص الدين هلل» و دين «القيّمة» وجنّات ْ
فضلت سالمة الخروج من معركة الجنّات» و«رضاهم عن اهلل» ..من أجل ذلك ك ّله ّ
خطير كهذا.
ٍ ألغام
الزج بنفسي في حقل ٍ
الحديث عن المجاز في السورة على ّ
أن الشخصيّة اللغويّة لهذه السورة ،التي تميّزها عن أيّة سورٍة أخرى، وسنرى ّ
تستند إلى كثرة األلفاظ االصطالحيّة الجديدة فيها والتي تصل إلى 12لفظاً ،كما
عدد من األدوات واأللفاظ والتعابير الجديدة التي انفردت بها عن سائر تستند إلى ٍ
ّ
(منفكين، السور ،ومنها األداة (لَ ْم) التي جاءت بمعنى (ال) أو (لن) ،واللفظان َ
شر البريّة،
كتب قيّمةُّ ، (صحفاً مط ّهرة ،تأتيهم البيّنةُ ،
دين القيّمةٌ ، وقيّمة) والتعبيرات ُ
خير البريّةَ ،خشي َّربه).
ُ
والمتفرد للتعبير النحوي (لم يكن..
ّ تختص السورة باالستخدام الجديد
ّ كما
خالدين
ِ منفكين) وكذلك التوالي الغريب لألحوال المختلفة الثالث (تجري..ّ
فيها ..رضي اهلل عنهم) كما سوف نرى.
414
ﮋ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﮊ [ال ُز ُ
خرف]35 : -
كل (إن) في اآلية بمعنى (ما) وجاءت (ل ّما) بمعنى (إ ّ
ال) ،أي :وما ّ فجاءت ْ
ذلك إ ّ
ال متاع الحياة الدنيا.
وقد جاءت (لم) في السورة بمعنى (ال) أو (لن) أي :لن ّ
ينفكوا؛ أي :هم
أن أهل الكتاب وعبدة األصنام كانوا سيستمرون كذلك .ونُقل في سبب نزول اآلية ّ
ّ
بعث النبي :ال ّ
ننفك م ّما نحن عليه من ِديننا وال نتركه حتّى يُ َ يقولون قبل مبعث ّ
مكتوب في التوراة واإلنجيل ،فحكى اهلل تعالى ما كانوا ٌ النبي الموعود الذي هوّ
ثم قال :ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮊ يعني أنّهم كانوا يَعدّون مجيء يقولونّ ،
ّ
الحق تفرقوا عن
الحق ،فل ّما جاء ّّ الرسول إيذاناً باجتماع الكلمة واالتفاق على
واستقروا في الكفر.
ّ
أرأيت كيف تغيّر استعمال األداة بين كالم البشر حين قالوا (ال ّ
ننفك م ّما
نحن عليه) وكالم اهلل تعالى( :ﭴ ﭵ ..ﭼ ) فح ّلت (لم) هنا ّ
محل (ال) هناك؟
[مكرر]:
–3 –2كفروا ّ
أن الفعل (كفر) قد اكتسب في القرآن عرفنا عند دراستنا لسورة (الكافرون) ّ
الجاهلي ،إذ كان يعني آنذاك الجحود
ّ معنى جديداً لم يكن عليه في العصر ً
والنكران ،وكذلك التغطية .لقد غدا اآلن مصطلحاً يراد به ّ
كل من لم يؤمن باهلل
«فك َفر» نِعمة التبليغ والهداية ،أو « ُغ ِّط َي» قلبُه أو عقله عن معرفة ّ
الحق. ورساالته َ
415
مرات]:
[مكرر ّ 3
–6 –5 –4الكتاب ّ
الجاهلي
ّ المرات القليلة التي ورد فيها هذا اللفظ في الشعرلو است ْق َرينا ّ
َدر) كذلك ،كما
لوجدناه هناك يحمل معنى (الرسالة) أو (الصحيفة) ،وربّما (الق َ
نرى في هذه األبيات:
الكـتـــاب
ِ ِّ
كخـــط دارســـــاً آيُهــــا أحقــاب
ِ الديار عن
َ هل َع َر ْف َ
ت
عمرو بن ُقميئة (ت 85ق.ﻫ)
الكـــتـاب
ِ بيـــوم كان َح ْيــــناً في
ٍ تفخ َـر ْن أَ َســ ٌد علينــا
أال ال َ
الخ ْرنِق بنت بدر (ت 50ق.ﻫ)
ِ
ـــد ِد
المج َّ
الكـــتـاب َ
ِ كعــنوان
ِ َلوح
ت ُ لِ َم ْن ِدمن ٌة أ ْق َو ْت َ
بح ّرة َض ْر َغ ِـد
َعبيد بن األبرص (ت 25ق.ﻫ)
ب ف ُم ْط ِر ِق ـق
المنم ِ
الكتاب َّ لل ُ
مثل لِ َمن َط ٌ
الص َل ْي ِ
َخــــال عه ُد ُه بين ُ ِ
َسالمـة بن جندل (ت 23ق.ﻫ)
أأَ ْج َر َم أم َجنَى أم لم ت ُ
َخ ّطــوا
الكــــتـاب
ِ ــــد في
فيوج َلــــه أَ ْمـناً َ
ُ
الط َفيل ال ُغنَ ّ
وي (ت 13ق.ﻫ)
ومن الواضح أنّه جاء في معظم األبيات بمعنى (رسالة) أو (صحيفة) ،أ ّما
َدر المكتوب) .حتّى إن افترضنا معرفة الجاهلييّن
الخ ْرنِق فهو بمعنى (الق َ
في بيت ِ
بالمعنى الذي نعرفه حال ّي ًا للكتاب ،وهو مجموعة األوراق أو الصحائف التي
فإن القرآن اصطلح بلفظ (الكتاب) ،هنا وفي معظم مواضعه غالف واحدّ ، ٌ يض ّمها
في القرآن ،على أنّه الكتب السماويّة ،وقد أُطلق في هذه السورة ،وحيثما اقترن
باللفظ (أهل) ،أي (أهل الكتاب) ،على التوراة واإلنجيل دون غيرهما.
416
أي
َدر أو ّ فيه معاني عديد ًة أخرى ،منها المعنى الذي ورد في بيت ِ
الخ ْرنِق ،وهو الق َ
شيء يُفرض على اإلنسان ،كقوله تعالى:
ٍ
ومنها المعنى الذي ورد في بقيّة األبيات التي استشهدنا بها ،وهو الرسالة
أو الصحيفة:
ّ
السجل أو حجمه أو طبيعته: ّ
(السجل) ّ
بغض النظر عن شكل هذا ومنها أيضاً
417
[مكرر]:
–8 –7المشركين ّ
القرآني الجديد ،وهو
ّ الجاهلي تماماً من هذا المصطلح
ّ بدهي أن يخلو الشعر
ٌّ
كل من القرآن الكريم والحديث الشريف ،ويُطلق عاد ًة على الوثنييّن يتر ّدد كثيراً في ٍّ
مرتين في هذه السورة على (أهل من العرب من غير أهل الكتاب ،ولهذا ُعطف ّ
الكتاب) للتفريق بينهما ،ويتأ ّكد لنا هذا التفريق في قوله تعالى:
-ﮋﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ
ﮊ [البقرة]105 : ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ
ّ –9
منفكين:
ينفرد القرآن في ّ
كل تراثنا ،شعراً ونثراً ،باستعمال هذا اللفظ ،وتنفرد هذه
يتكرر في غيرها أبداً .واألغرب من ذلك أ ّ
ال نعثر في القرآن على السورة به فال ّ
صيغة من صيغه،
ٍ اشتق منه في األصل؛ أي (ما ّ
انفك) ،في أيّة الفعل الناقص الذي ّ
رغم ّ
أن الجاهليّين كانوا يستخدمونه بكثرة وبمثل هذه الطرائق:
ُّ
تنفـــــك ت َْبيــــــني إنّي رأيتُ َ
ك ال انجبــار ل ُه
َ ـك بَ ْرياً ال
إذاً بَ َريتُ َ
العدواني (ت 21ق.ﻫ)
ّ ذو اإلصبع
[مكرر]:
–11 –10البيّنة ّ
مر ًة في القرآن ،فإنّه لم يُعرف إ ّ
ال في هذه السورة، رغم ورود هذا اللفظ ّ 19
َّ
الجاهلي.
ّ المرتين اللتين ورد فيهما .وال وجود ل ّلفظ في الشعر
وفي ّ
418
ٌ
رسول: –12
مصطلح جدي ٌد آخر من المصطلحات التي أوجدها القرآن في اللغة ٌ وهو
حممدٌ ،وكذلك غيره من ُ
رسل اهلل ،أ ّما اللفظ في العربيّة ،فالرسول اآلن هو ّ
الجاهلي فلم يكن يتجاوز معنى حامل النبأ أو البريد:
ّ العصر
ُ
رســــــول وقد يُب ِل ُغ األنبا َء َ
عنــك الضالل رسال ًة
ِ عبد
أال أب ِلغا َ
َط َرفة بن العبد (ت 60ق.ﻫ)
بالخبَ ِر
القوم َ ُ
رسول وقد يجي ُء هم ِّ
محل ُ َ
قبائل شـتّى في بَ ِّلغ
ِ
زهير بن أبي ُسلمى (ت 13ق.ﻫ)
–13يتلو:
التالوة غير القراءة ،فلم يكن الرسول قارئاً كما نعرف ،بل كان يتلو عن
ظهر قلبه ما أخذه عن جبريل .u
والمرة الوحيدة
ّ الجاهلي.
ّ ومن المنتظر إذن أ ّ
ال نعثر على هذا اللفظ في الشعر
شاعر ال نعرف عنه الكثير وال عن تاريخ وفاته ،وهو
ٍ التي نصادفه فيها هي عند
بقليل من النظر في لغة البيتّ ،
أن البيت ٍ جي ،وأكاد ال ُّ
أشك، ذح ّالم َ
الحارث ِ
ٌ
منحول إليه ،وهو:
للوحي تاليا
ِ بها يهتدي َمن كان ف التي
والص ُح ِ
باإلنجيل ُ
ِ ونؤمن
ُ
419
األبيات الخمسة التالية ذات اللغة البسيطة
ُ كيف وقد جاءت قبل هذا البيت
يقل عن 14لفظاً قرآن ّي ًا
اإلسالمي الواضح ،والتي تتض ّمن ما ال ّ
ّ والليّنة ،والطابع
الجاهلي قبل نزول القرآن الكريم:
ّ لم يعرفها الشعر
وهدانِيا
الحق لي َ ِّ َ
سبيل أضا َء فل ّما أراد اهللُ ُرشــــــــدي و ُز ْلفتـــــي
ت نُــــــوراً َ
للحنيف ِة باديـا وي ّم ْم ُ للر ْش ِـد والهـدى
فألقيتعنّي الغ ََّي ُ
ُ
المسيح َحوا ِريا
ُ رشيداً فس ّماني مريمهاديــاً
بن َ رتإلىعيسى ِ
وص ُ
ِ
راكــــم له فيما بَــــــرا وبَرانِيـا
ْ بَ بَنِ َّي ا ّت ُقـوا اهللَ الذي هو ربُّ ْ
كـــــم
ونستدفع البلوى به والدواهيا
ُ فنعبد ُه سـبحـانـــــ ُه دون غـــــيـ ِر ِه
َ
كتب:
ٌ –14
لقد ذهبوا ع ّدة مذاهب في تفسير هذه الصيغة الجمعيّة للفظ (الكتاب).
وأنا أ ِميل إلى رأي من قال إنّه هنا بمعنى (األحكام) أو التشريعات ،أو ربّما
حال ٌ
لفظ الس َور ،التي أنزلها اهلل على نبيّه .ولكنّه على أيّة ٍ
النصوص أو ُّ
جدي ٌد بمعناه على اللغة العربيّة ،مهما تع ّددت المذاهب في تفسيره ،كما بيّنا في
الحديث عن لفظ (الكتاب).
420
–17أُوتُوا:
الخاص ( ُمنِحوا)
ّ القرآني
ّ لم يستخدم الشعراء الجاهليّون هذا الفعل بالمعنى
قصد إليه) أو (يُ َّلبى أو يطاع) .ويظهر
بمعنى آخر هو (يُ َ
ً مطلقاً ،وإنّما َ
عرفوا الفعل
المعنيان في هذين البيتين على التوالي:
–18ليَعبُدوا:
عرفنا عندما درسنا الفعل (نعبد) في سورة (الفاتحة) ِجدّة استعمال هذا الفعل
الجاهلي والعبادة
ّ القرآني ،وتبيّنّا الفرق بين العبادة بمعناها
ّ على العرب بمعناه
اإلسالمي ،وميّزنا بين العبادة (عبادة اهلل) والعبوديّة (استعباد السيّد لعبده).
ّ بالمعنى
قال
بالص ِ
ص ِالص ْد ِر أُ ْخ ِل َ
شاح َ ُ
أ َ وأبيض َم ْشــ ِر ِفيـــــاً
َ ّانـــــي
َمن ْ تَ
الك ْلب ال ُه َذ ّ
لي (ت؟) ذو َ
وما يزال اللفظ بعيداً عن استعماالتنا اليوميّة ،ولم أجده بهذا المعنى
سياق أو
ال أن يقع في ٍالتوجه ،في غير القرآن ،إ ّ
ّ الجديد ،وهو اإلخالص وصدق
قرآني.
ّ اقتباس
ٍ
421
لقد جاء اإلخالص هنا ،كما في معظم االستعماالت القرآنيّة لهذا اللفظ،
توجهنا في
الدين هلل؛ أي نجعل ّ إخالصاً ِ
لدين اهلل وليس هللِ مباشرةً ،فنحن نُ ْخلص ِ
متعد فأخذ مفعو ً
ال به فعل ٍّعمل ٍعبادتنا وعقيدتنا خالصاً له وحده ،وإذن فقد َع ِمل َ
هو (الدين) على حين يكون في استعماالتنا اليوميّة ،وكذلك في الحديث الشريف،
التوجه) ،فيعمل ،إذا عمل ،عمل الفعل الالزم فال يحتاج
ّ (نقي
بمعنى (صادق) أو ّ
مفعول به ،ومنه قوله :
ٍ إلى
أبواب السماء حتّى
ُ قطُ ،م ْخ ِلصاً ،إ ّ
ال ُفتِ ْ
حت له -ما قال عب ٌد ال إله إ ّ
ال اهلل ّ
نب الكبائر(((. تُ ْف ِض َي إلى العرش ،ما اجتَ َ
)(2
راشه ...
مات على ِف ِ
شهيد ولو َ
أج َر ٍ -من َ
سأل اهللَ الشهاد َة ُمخ ِلصاً أعطاه اهلل ْ
النبوي؛ أي غير المتعدّي إلى مفعول ،إ ّ
ال ّ وال نجده في القرآن بهذا المعنى
آية واحدٍة هي قوله تعالى:
في ٍ
[البقرة]139 : -ﮋﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﮊ
ُ –20حنَفاء:
اختلفوا كثيراً حول معنى هذا اللفظ ،ولكنّه يبقى لفظاً قرآن ّي ًا جديداً بمعناه،
ومعنى ،على تعدّد المعاني التي اقترحوها له .ولم أجده إ ّ
ال عند ً أو جديداً لفظاً
ذحجي ،وقد
ّ شاعرين جاهلييّن :األ ّول مجهول الوالدة والوفاة وهو الحارث ِ
الم
قليل في نسبة القصيدة إليه لوضوح إسالميّتها ،وفي تلك القصيدة شككت قبل ٍ ّ
نفسها نجد هذا البيت:
ت نُــــــــوراً َ
للحنيف ِة با ِديــــــا وي ّم ْم ُ للر ْش ِد والهدى
فألقيت عنّي الغ ََّي ُ
ُ
الغي ،وهو أيضاً م ّمن ال نعرف تاريخ والدتهم أو
والثاني هو الشاعر صخر ّ
نسب إليه هذا البيت الذي نجد الروح اإلسالميّة أيضاً واضح ًة فيه:
وفاتهم ،ويُ َ
((( الترمذي ،الجامع الصحيح (سنن الترمذي) ،مرجع سابق ،ج ،5ص ،575حديث رقم .3590
((( الشيباني ،مسند اإلمام أحمد ،مرجع سابق ،ج ،36ص ،425حديث رقم .22111
422
نَصــــارى يُســــا َقون ال َقــــوا َحنيفا بالـــمــــــــــال
َ ّ
كــــأن تَوالِيَـــــــــــ ُه
–21يُقيموا:
ال ب ّد من التفريق بين "اإلقامة" ،وهي هنا المحافظة على فعل الشيء وأدائه،
معان أخرى
و"القيام" وهو النهوض ،وقد ورد كال المعنيين في القرآن ،إلى جانب ٍ
الجاهلي؛ فاللفظ هنا يعني
ّ غيرهما .ومعظم هذه المعاني كان غريباً على الشعر
آية أخرى:
(المحافظة على الصالة) ،ولكنّه قد يعني الصالة نفسها في ٍ
[التوبة]108 : -ﮋ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﮊ
423
المكث والبقاء، الجاهلي فلم أجد له إ ّ
ال معنيين :األول هو ُ ّ أ ّما في الشعر
لي (ت؟) وهذا هو المعنى الشائع في لغتنا اليوم وقد استخدمه ذو الكلب ال ُه َذ ّ
في قوله:
الخيال
ِ ولم أُ ْش ِر ْف بها َ
مثل ت بِ َر ْي ِدها يوماً طوي ً
ال أ َق ْم ُ
والثاني لعنترة (ت 22ق.ﻫ) وهو بمعنى اإلحداث أو التأسيس ،ويتر ّدد هذا
صحت لدينا نسبة األبيات:بيت عند الشاعر ،ومنها قوله ،إن ّ
المعنى في أكثر من ٍ
أعـــداك النواعـــي
ِ ـــع
بر ْب ِ
أقـــا َم َ روك ّ
بأن َعزمـي َ -س ِلي ِه ْم يُ ْخبِ ِ
َـــب ال َع ِليّة
الرت َ ونِ ْل ُ
ـــت بذاب ِلـــي ُ أقمت بصارمي ُس َ
وق المنايا ُ -
–24ويُؤتُوا:
قرآني جدي ٌد
ٌّ قليل عن الفعل (أُوتوا) فكال اللفظين
نرجع هنا إلى حديثنا قبل ٍ
ٌّ
مشتق من الفعل (آتَى) بمعنى (أعطى).
424
–25جهنّم:
الجاهلي نفسه الذي
ّ واحد يُنسب إلى الشاعر
ٍ بيتال في ٍال نجد هذا اللفظ إ ّ
حل له من الشعر ،كما أ ّكدنا دائماً ،ما لم يُنحل لغيره ،وهو عنترة .يقول البيت: نُ َ
منـــزل
ِ أطيب
ُ ّــم بال ِع ِّ
ــــز وجــهن ٌ بذلــ ٍّـة كجهنــّــ ٍم
مـــاء الحيــا ِة ِ
ُ
اإلسالمي لجهنّم ،وهو مفهو ٌم لم
ّ وواضح في البيت أثر مفهوم المصطلح ٌ
ال بعد أنيكن معروفاً في الثقافة الجاهليّة ،بل لم يتبلور في الثقافة اإلسالميّة إ ّ
مرة ،عدا عن فتكرر اللفظ فيها ّ 77تتالى نزول اآليات في الحديث عن الجحيم ّ
المرات العديدة التي ورد فيها وصف جهنّم تحت أسماء أخرى. ّ
–26آ َمنوا:
مصطلح جدي ٌد بمعنى (أسلموا) سبق أن وقفنا عنده في سورة (العصر).
ٌ
–27الصالحات:
القرآني الجديد وعن إطالقه
ّ سبق أن تحدّثنا في سورة (العصر) عن هذا اللفظ
مرة ،وبصيغة جمع المؤنّث هذه (صالحات وليس :صالحة) ،لوصف أعمال أل ّول ّ
الخير من غير الحاجة إلى أن يسبقه ذكر اللفظ (أعمال).
–28جنّات:
كان معنى (الجنّة) في الجاهليّة يقتصر على جنّة األرض؛ أي الحدائق
معنى استخدمه القرآن أيضاً في ٍ
آيات أخرى ،كقوله تعالى: والبساتين ،وهو ً
ﮊ [البقرة]266 : -ﮋﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ
425
َ –29ع ْدن:
المفسرون له معاني
ّ الجاهلي .واقترح
ّ اسم آخر للجنّة لم يعرفه الشعر
وهو ٌ
عديد ًة تأتي ك ّلها تحت أوصاف الجنّة.
[مكرر]:
الكتاب والمشركين ّ
ِ –3 –2أهل
القرآني الجديد الذي يجمع بين ﮋ ﭹ ﭺ ﮊ وﮋﯩﮊ
ّ يتكرر هذا التعبير
ّ
ثم ال نجد هذا االرتباط بينهما في أيّة سورٍة أخرى .والتعبير
مرتين في السورةّ ،ّ
مصطلح جديد يطلقه القرآن على أتباع موسى والمسيح عليهماٌ ﮋﭹﭺﮊ
السالم فينسبهم إلى (الكتاب) المقدّس الذي لم تعرف الجزيرة العربيّة غيره كتاباً
قبل نزول القرآن الكريم.
ّ –4
منفكين:
ّ
(منفكين) ،ال عرفنا في حديثنا عن ألفاظ السورة ومصطلحاتها أن اللفظ
ولكن
ّ مر ًة أخرى خارج هذه السورة ،ال هو وال صيَ ُغه الفعليّة أو االسميّة،
يتكرر ّ
ّ
هذا ليس َّ
كل شيء.
أي من صيَغه ،من وظيفةفلم يحدث في العربيّة أبداً أن ُج ِّرد هذا الفعل ،أو ٌّ
اسم وحافظ رغمفعل إلى ٍ
عمل الفعل الناقص ،كما لم يحدث أن تح ّول من ٍ إعماله َ
االصطالحي (االنقطاع أو التو ّقف عن فعل شيء) من مثل قولنا:
ّ ذلك على معناه
426
ما ّ
انفك ساهراً ّ
كل الليل ،و:
ما ّ
ينفك يتساءل عن السبب.
وفي األبيات التي استشهدنا بها سابقاً عن استعمال اللفظ عند الجاهلييّن
طعمها) ما يغنينا عن االستشهاد بغيرها .فمهل ِهل بن ربيعة يقول( :ما ُّ
ينفك يُ ُ
تنفك خي ُل ُ
هم تنفك تَبريني) وزهير يقول( :ما ُّ
العدواني يقول( :ال ُّ
ّ وذو اإلصبع
ّ
(انفك) عندهم باستمرار اسم ًا وخبراً ،شأنه ث النواصي) ،فيأخذ الفعل ُش ْع َ
فعل ناقص.
أي ٍشأن ّ
صفة مشبّهة)
فاعل (أو ٍ
تجرد من «فعليّته» وتح ّول إلى اسم ٍأ ّما في اآلية فقد ّ
ثم إنّه لم يعمل في
مرة ،في لغتناّ .
مرة ،وكذلك آلخر ّ وهذا التح ّول يَحدث أل ّول ّ
فاعل
اسم ٍاآلية عمل فعله الناقص ،فلم يأخذ اسم ًا ظاهراً أو خبراً ،رغم أن مجيئه َ
هنا ال يمنعه من أن يقوم بهذا العمل ،تبعاً لقواعدنا النحويّة ،وهذا أيضاً يحدث في
لغتنا ألول ٍ
مرة ،وآلخر ّ
مرة. ّ ّ
هم البيّنة:
–5تأتيَ ُ
العربي األ ّول حين سمع اآلية .والتعبير عن
ّ كان تجا ُور هذين اللفظين جديداً على
أمر من المتو ّقع أن يثير في ذهنه أكثر من تساؤل:
ظهور البرهان أو البيّنة باللفظ (تأتي) ٌ
فكيف «تأتي» البيّنة؟
ومن أين تأتي؟
ومن يأتي بها؟
اللغوي
ّ ومن السهل إدراك خصوصيّة هذا "التجاور" لو قارنّا بين السياق
اللغوي الذي يحتويه في الحديث
ّ الذي احتوى اللفظ (بيّنة) في اآلية؛ والسياق
الشريف عادةً؛ كما في النماذج النبويّة التالية:
427
(((
قلت :ال..
ألك بيّنة؟ ُ ُ
رسول اهلل َ : -فقال لي
(((
حد في َظه ِرك -البيّنةُ ،وإ ّ
ال ٌّ
(((
ال له عليه ب ّين ٌة فله َس َلبُه
َ -من قتل قتي ً
((( -بَيِّنَتُ َ
ك أو يمينُه
ُ –8ك ٌ
تب قيّمة:
العربي قبل نزول
ّ تعبير آخر اقتصر استعماله على هذه السورة ،ولم يعرفه
ٌ
القرآن الكريم.
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،2ص ،851حديث رقم.2285 :
((( المرجع السابق ،ج ،2ص ،949حديث رقم.2526 :
((( المرجع السابق ،ج ،3ص ،1144حديث رقم.2973 :
((( المرجع السابق ،ج ،6ص ،2458حديث رقم.6299 :
428
ُ –9صحفاً ..فيها ُك ٌ
تب:
مرة:
العربي عندما سمعه أل ّول ّ
ّ ال ب ّد ّ
أن هذا التعبير قد استثار عقل
فكيف للكتب أن تكون «في» الصحف؟
وما طبيعة تلك الصحف التي تتض ّمن في داخلها كتباً؟
وما تفسير هذه العالقة الغريبة بين اللفظين؟
هذا ّ
بغض النظر عن معنى (كتب):
أهي التي نضعها على األرفف اليوم؟
العربي على رسائله؟
ّ أم هي الكتب التي أطلقها
أو هي ما ّ
خطته يده على العظام والجلود والحجارة والرمال؟
–10أُوتُوا الكتاب:
القرآني ،ما دام كال لفظيه
ّ بدهي أن نحكم منذ الوهلة األولى بجدّة هذا التعبيرٌّ
العربي األ ّول :إ ّما في معناه (الكتاب) ،وإ ّما في لفظه ومعناه (أُوتُوا)
ّ جديداً على
كما سبق أن عرفنا.
عد:
ِ –11من بَ ِ
يقتضي منّا المقام التوقف هنيه ًة عند هذا التركيب .فأنا لم أجده في الشعر
لشاعر اسمه عمرو بن األسود وال نعرف
ٍ بيت يُنسبمر ًة واحدة في ٍ الجاهلي إ ّ
ال ّ ّ
عنه الكثير ونجهل تاريخ وفاته ،وهو:
أزم
الم ِ
عند َ
النفس َ
ُ جاشت إليك بعد ما
فنجوت من أرحا ِمهم ِمن ِ
ُ
الجاهلي أو عدمه ّ
فإن زيادة ( ِمن) ّ ّ
وبغض النظر عن وجود التركيب في الشعر
أمر في غاية الندرة في لغتنا على مدى التاريخ وإلى اآلن .إنّنا نقول:
قبل (بعد) ٌ
429
زارني بعد أن زرتُه ،و:
سمعت الخبر بعد أن نُشر في الصحف ،و:
غياب طويل.
أشرقت الشمس بعد ٍ
مر ًة واحد ًة في والتركيب ناد ٌر حتّى في الحديث الشريف؛ إذ لم أجده إ ّ
ال ّ
مشهور جاء في رواية معظمهم (ب َعد ما)((( وجاء في رواية ُشعب َة وحده
ٍ حديث
ٍ
بعد ما)(((:
( ِمن ِ
عد ما أماتَنا وإليه النشور
-الحمد هلل الذي أحيانا بعد ماِ /من بَ ِ
مرات
أن عدد ّ إن من ح ّقنا أن نجعل منه تركيب ًا قرآن ّي ًا إذا أدركنا ّثم ّّ
ٍ
مرة واحدة في الشعر
صحت نسبة البيت الجاهلي ،إذا ّ
ّ استخدامه يقفز فجأ ًة من ّ
ولكن المفاجأة الحقيقيّة ما تزال
ّ مر ًة في القرآن الكريم!
المذكور ،إلى ّ 135
تنتظرنا عند المنعطف:
إن في القرآن الكريم ،كما نعلم 114 ،سورة ،تتد ّرج في ترتيبها من األطول ّ
فاألقصر ،مع عدم االلتزام دائماً بهذه القاعدة طبعاً .وتختلط في هذا الترتيب
أن معظم السور القصيرة ،وهي تتر ّكز عاد ًة السور المدنيّة ،ورغم ّ السو ُر ّ
المكيّة مع َ َ
سو ٌر مكيّة ،فهذا ليس قاعد ًة أيضاً. في األجزاء الثالثة األخيرة من القرآن ،هي َ
ال ،وهي مدنيّة ،وكذلك سورتنا هذه (البيّنة) ،وهي مدن ّي ٌة أيضاً،
فسورة (النصر) مث ً
نجدهما في الجزء الثالثين ،كما نجد سورة (اإلنسان) وهي مدنيّة ،في الجزء
التاسع والعشرين.
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،5ص ،2326حديث رقم .5953
((( الشيباني ،مسند اإلمام أحمد ،مرجع سابق ،ج ،4ص ،302حديث رقم .18708
430
ثم يختفي في السور السبع والخمسين الالحقة التي ّ
تشكل النصف في القرآنّ ،
استثناء واحد :سورة (البيّنة)..
ٍ سور القرآن الكريم ،ولكن ..مع
األخير من َ
في هذه السورة يظهر التركيب فجأةً ،فيبدو منتصب ًا وحده في هذا السهل
السور! فهل نستطيع أن نستنتج أمراً ما من هذا الوضع
المنبسط الممت ّد لعشرات َ
الحسابي الغريب؟
ّ
يوم المزيد من األسرار والحقائق إن الدراسات الحديثة ما تزال تقدّم لنا ّ
كل ٍ ّ
عن طبيعة النظام المحكم الذي قام عليه ترتيب سور القرآن الكريم.
جاءتهم البيّنة:
ُ –12
العربي األ ّول،
ّ أمر لن نتو ّقع أن يكون تعبيراً مألوفاً لدى
«مجيء« البيّنة هذا ٌ
الجاهلي
ّ مثله مثل التعبير الذي سبقه ﮋ ﭾ ﭿ ﮊ ،ولهذا ال نجده في الشعر
مصدر آخر من تراثنا.
ٍ أي
وال في الحديث الشريف ،وال في ّ
431
–13إ ّ
ال ليَعبُدوا:
مختلف عن استخدام العرب لها .فهي ٌ وهذا استخدا ٌم آخر ألداة الجر (الالم)
ال أن يعبدوا،هنا ليست للتعليل ،كما ذهب بعضهم؛ إذ ليس المعنى :لم يؤمروا إ ّ
فح ّلت الالم بنفسها محل ْ
(أن) المصدريّة التي اعتدنا أن نقدّرها بعد الالم التعليلية.
إننا نقول في لغتنا البشرية :أمرتك أن تختفي من وجهي ،وال نقول :أمرتك لتختفي
فتؤول مع ما بعدها مصدري بنفسها َّ
ٍّ حرف
من وجهي .وهكذا تأتي الالم هنا بمثابة ٍ
بمصدر ،والتقدير :أُمروا بعبادة اهلل.
432
مخلصين له الدّين حنفاء لشريعته ،أو كما في اآلية:
ﮊ [الحج]31 : -ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ
ولكن السبيكة تتوقف هذا التو ّقف المفاجئ عند الحال من دون أن تفتح
ّ
ملحقات كنّا نتو ّقعها بعدها.
ٍ الباب أليّة
–16ويُ ِقيموا الصالة:
أن هذا التعبير عن المحافظة على أداء الصالة جدي ٌد ك ّل ّي ًا لم
من الواضح ّ
العربي قبل القرآن ،وقد أصبح من التعبيرات القرآنيّة األكثر تداو ً
ال. ّ يعرفه اللسان
–17ويُؤتُوا الزكاة:
العربي قبل نزول القرآن
ّ تعبير آخر جدي ٌد عن أداء فريضة الزكاة لم يعرفه
ٌ
الكريم ،وأصبح أيضاً ،كرديفه أعاله ،من أكثر التعبيرات تر ّدد ًا في القرآن الكريم.
دين:
–18وذلك ُ
المخصص للبعيد (ذلك) ،واإلشارة ّ اإلشارة إلى القريب باستخدام االسم
إلى المجموع الذي تتحدّث عنه اآلية :عبادة اهلل وإخالص الدين له وإقام الصالة
أمر كان ال ب ّد أن يفاجىءالخاص بالمفردٌ ،
ّ وإيتاء الزكاة؛ باستخدام اسم اإلشارة
للمرة األولى .كان له مث ً
ال أن يتو ّقع اآلية ،تبعاً ألعرافه العربي حين سمع اآلية ّ ّ
اللغويّة ،بهذا الشكل« :وهذه جميعا هي دين القيّمة» (هكذا باسم اإلشارة القريب
والمؤنّث معاً ،فاسم اإلشارة المؤنّث يشار به للمفرد والجمع معاً كما نعرف،
فنقول :هذه شجرة ،وهذه أشجار) .وهي مفاجأ ٌة ما تزال تحتفظ بفاعليّتها إلى اليوم
المستمرة حتّى اآلن.
ّ ألنّها بعيد ٌة عن أعرافنا اللغويّة
دين القيّمة:
ُ –19
تعبير جدي ٌد آخر من التعبيرات القرآنيّة التي أسهمت في تكوين عنصر
وهو ٌ
ومر ًة أخرى ال ّ
يتكرر التعبير في غير هذه السورة ،وال للعربي األ ّولّ .
ّ المفاجأة
وجود له في الحديث الشريف.
433
إن الذين ..في نار:
ّ –20
هل يتو ّقع أحدنا اآلن أن يسمع مثل هذا الخبر:
الدراسي القادم ّ
يحضرون الدكتوراه ّ ّ
«إن الناجحين بالشهادة الثانويّة في العام
اآلن في جامعة أوكسفورد»..؟
طبع ًا سنع ّلق قائلين :ما معنى هذا؟ وكيف يدرسون الدكتوراه اآلن وينالون
الشهادة الثانويّة في العام القادم؟
ولكن للقرآن أسلوبه المختلف ،فالزمن يتداخل فيه حتى يغدو الحاضر ّ
حق اهلل أمراً فكأنّما نال عقوبته
كالماضي ،والمستقبل كالحاضر ،فمن ارتكب في ّ
الفعلي ،ومن يدريّ ،
فلعل هذه الدنيا ّ وحسابه سلفاً قبل أن يصل إلى يوم الحساب
وجاهز في «اللوح المحفوظ» ،ويعاد عرضه اآلن ٍ ك ّلها أشبه بشريط (فيديو) مص ّورٍ
الحقيقي واإلخراج والتصوير في الماضي قبل أن تُخلق هذه ّ تم التمثيل
بعد أن ّ
األرض؟ وهكذا تكون المكافآت والعقوبات م َعدّ ًة سلفاً ألصحابها ،وكأنّهم قد
قاموا ح ّقاً باألعمال التي استح ّقوا عليها تلك المكافآت والعقوبات.
نار جهنّم:
ِ –23
مر ٍة بمثل هذا
العربي قبل القرآن هذا التعبير الذي يربط النار أل ّول ّ
ّ لم يعرف
المكان الغامض :جهنّم.
434
خالدين:
ِ –24
يصحح له
أحدهم ّ «إن الحضور في القاعة منتظرين» لسمع َ لو قال أحدناّ :
خبر
أن هذا اللفظ األخير ٌ ألن من المفترض ّ حق؛ ّ ال« :منتظرون» وهو على ٍّ قائ ً
ولكن للقرآن مقاييسه وأعرافه اللغويّة والنحويّة المختلفة.
ّ مرفو ٌع لألداة ّ
(إن).
خالدين:
ِ –25
مشابهة لحالة ﮋ ﮱ ﯓ ﯔ ﮊ .فالمعنى المراد ٍ مر ًة أخرى نحن هنا مع ٍ
حالة ّ
هو أنّهم سيكونون خالدين عندما يُ َز ُّج بهم في نار جهنّم ،لكنّه عبّر عن هذا
المستقبل بصيغة الحاضر (خالدين) ُمسقطاً منها أيّة أداٍة قد تشير إلى المستقبل،
ال .وإ ّ
ال لقال شيئاً من هذا القبيل: كحرف السين مث ً
435
خالدين فيها:
ِ –26
أمر يستوقفنا ،كما
ثم (في -نار) ٌمرتين( :فيـ -ـها) ّ
الجر (في) ّ
إن تكرار أداة ّ ّ
العربي األ ّول .لو كان األمر لنا لكان علينا أن نقولّ :
"إن الذين كفروا.. َّ استوقف
سيَخلدون في نار جهنّم" أو "هم في نار جهنّم خالدون" وانتهت المسألة .ولكن
إن ذكر وجود هؤالء ﮋ ﮱ ﯓ المبسطّ .
ّ البشري
ّ اآلية تحمل أكثر من هذا المعنى
ﯔ ﮊ وحده يكفي إلثارة ذعرهم ورعبهم من هذا المصير ،حتّى إن كان ذلك
ال عنثانية واحدة يُعرضون فيها على النار ،فكيف إذا عرفوا أنّهم ،فض ً لدقيقة أو ٍ
ٍ
إن تكرار (في) يأتيذلك الوجود أو العذاب بنارها ،سيكونون فيها إلى األبد؟! ّ
لتدعيم الشخصيّة الزمنيّة التي ستستغرقها إقامتهم في النار ،لتكون كأنّها جمل ٌة
جديدة كاملة األركان.
تأت عبثاً
ولكن هذه الجدّة لم ِ
ّ العربي،
ّ قرآني جدي ٌد ح ّق ًا على
ٌّ أسلوب
ٌ إنّه
معنى أو تضيف إضاف ًة؛ ما كانت الجملة العاديّة لتستطيع بل َهدفت إلى أن تح ّقق ً
تأديتها بأبعادها البشريّة المحدودة.
–27خالدين فيها:
القرآني الجديد على العرب أنّه ّ
يتكرر في القرآن ّ الغريب في هذا التعبير
(ومر ًة واحد ًة أخرى بالتذكير :خالدين فيه) ،ومع ذلك ،ورغمّ مر ًة
الكريم ّ 37
يختص بها هذا الخلود ،والتي
ّ اإلسالمي ،وتش ّعب الحاالت التي
ّ أه ّميته في الفكر
ال في مجال شرح تتوزّع عاد ًة بين الجنّة والنار ،يخلو منه الحديث الشريف تماماً ،إ ّ
دري :t
الخ ّسعيد ُ
هذا التعبير القرآني والتعليق عليه ،ومن ذلك ما روي عن أبي ٍ
((( البيهقي ،أحمد بن الحسين .األسماء والصفات ،تحقيق :عبد اهلل الحاشدي ،جدة :مكتبة السوادي،
ط1413 ،1ﻫ ،ج ،1ص ،415حديث رقم .336
436
–28أولئك:
التوسع ،وإذن
ّ مستمر ًا في
ّ نحن ما نزال ضمن اآلية ( )6والمعنى ما يزال
تخيّلوا أنّكم أنتم الذين تصفون حال هؤالء البائسين ،فماذا تقولون عندما تصلون
إلى هذه المرحلة من الحديث؟ ستقولون شيئاً من هذا القبيل:
إنّهم سيخلدون في نار جهنّم ..و ُهم ،أو:
وهؤالء ُهم ،أو:
وإنّهمُّ ..
شر البريّة
كل خياراتنا بحرف العطف (الواو) لربطأترون كيف كان علينا االستعانة في ّ
القرآني
ّ نهاية اآلية بمقدّمتها ،على حين خلت اآلية من هذا الرابط؟ إنّه األسلوب
الذي سبقت لنا أمثل ٌة كثيرة منه.
[مكرر]: َ
أولئك هم ّ –30 –29
مرةً ،ويكون فيه اسم اإلشارة يتكرر في القرآن ّ 60 أن هذا التعبير ّ رغم ّ
النحوي ،فإنّنا ال نعثر على
ّ (أولئك) دائماً مبتدأً فال يسبقه ما يح ّوله عن هذا الموقع
الجاهلي أبداً ،وال نجده كذلك في الحديث الشريف ،وإنّما يأتي
ّ مثله في الشعر
اسم اإلشارة تابعاً لما قبله ،كما هو في لغتنا أيضاً ،كمجيئه اسماً لألداة ّ
(إن) فيه ُ
في قول الرسول :
ال تاجراً بالخيرّ ،
فإن أولئك هم -ال تكون ََّن فتّان ًا وال ُمختا ً
ال وال تاجراً ،إ ّ
(((
المسبوقون بالعمل
– 31شر ِ
البريّة: ّ
الجاهلي.
ّ قرآني آخر ال نجد له وال لصنوه ﮋ ﯤ ﯥ ﮊ أثراً في الشعر
تعبير ٌّ
ٌ
وربّما وجدناه في مجموعات الحديث الشريف ولكنّه يأتي غالباً على غير لسان
الرسول ،كما في الرواية:
((( الشيباني ،مسند اإلمام أحمد ،مرجع سابق ،ج ،2ص ،87حديث رقم .657
437
((( إبراهيم ُ
خليل الرحمن ُ خير الب ِريّة ،فقال :ذلك -قال ٌ
رجل لرسول اهلل يا َ
موضع آخر من القرآن الكريم.
ٍ أي
أي من التعبيرين في ّ
يتكرر ٌّ
وال ّ
– 32وعملوا الصالحات:
قرآني جدي ٌد سبق أن تحدّثنا عنه في دراستنا لسورة (العصر).
ٌّ تعبير
وهو ٌ
– 33أولئك:
كل تو ّقعاتنا؛ إذ لم ْ
نعتد في لغتنا أن يبدأ خبر اسم اإلشارة هذا ّلقد خالف ُ
(إن) باسم إشارٍة هو أيضاً مبتدأٌ في جملة الخبر .إنّنا ال نقول مث ً
ال: ّ
الناجح في مشروعاته هذا يربح ،وال:
َ ّ
إن
المجتهدين اللذين تراهما أمامك هذان متف ّوقان؟ وال:
َ ّ
إن
ّ
إن السحابتين المقبلتين باتّجاهنا هاتان ممطرتان؟
خير البريّة:
ُ – 34
ينطبق على هذا التعبير ما ذكرناه عن صنوه ﮋ ﯚ ﯛ ﮊ.
– 35جزاؤهم عند ربّهم:
لغوي ،وفي لغتنا
ّ رابط
أي ٍ تعبير ال يربطه بما قبله ّ
جديد مع ٍ
ٍ نحن هنا من
البشريّة نتو ّقع أن يقال هنا :وجزاؤهم ،أو :وسيكون جزاؤهم.
ّات َع ْد ٍن:
– 36جن ُ
(ع ْدن) يسبقه دائماً
مرة ،وحيثما ُوجد اللفظ َ
يتكرر هذا التعبير في القرآن ّ 11
ّ
اللفظ (جنّات) هكذا بالجمع ،أ ّما في الحديث الشريف فال يكون هذا اللفظ إ ّ
ال
مفرداً (جن َة َع ْد ٍن) كما في قوله :
((( القشيري ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،ج ،4ص ،1839حديث رقم .2369
438
(((
وهذاك منزلُك.
َ -قال لي :هذه جنّ ُة َع ْد ٍن
الك ْب ِر على وج ِهه في -وما بين القوم وبين أن يَنظروا إلى ربِّهم إ ّ
ال ردا ُء ِ ِ
(((
جنّةِ َع ْدن.
الجاهلي.
ّ وال وجود لهذا التعبير في الشعر
خالدين فيها أبداً:
ِ – 37
استقرت هويّته هذا أيضاً تعبير جدي ٌد يتكرر في القرآن 10مر ٍ
ات بحيث
ّ ّ ّ ٌ
القرآنيّة في أذهاننا.
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،4ص ،1717حديث رقم .4397
((( المرجع السابق ،ج ،4ص ،1848حديث رقم .4597
439
الحقبة األمويّة ،فنجده أ ّول ما نجده عند شاعرين تو ّفيا في الربع األخير من القرن
المخزومي (ت80ﻫ) وعمر بن أبي ربيعة (ت93ﻫ).
ّ الهجري األ ّول وهما الحارث
ّ
أ ّما كيف استخدم الجاهليّون الفعل (رضي) فقد اقتصروا على تعديته بالباء
(رضي بـ) أو تعديته بنفسه دون وسيط (رضي الشيء) ولم يقولوا أبداً (رضي عن)،
كما نتبيّن من قولهم:
باإلياب
ِ يت مــــن الغنيمـــ ِة
رض ُ
ِ اآلفـــــــــاق حتّـى
ِ وقد ط ّوفتُ في
امرؤ القيس (ت 80ق.ﻫ)
أ ّما في القرآن الكريم فهو إ ّما أن يتعدّى بالباء وإ ّما أن يتعدّى بـ (عن) ،وربّما
يتعد مطلقاً ،كما في هذه
تعدّى إلى مفعوله بنفسه من غير وساطتهما ،أو ربّما لم َّ
النماذج القرآنيّة:
-ﮋ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮊ [التوبة]83 :
-ﮋﮄﮅﮆﮇﮊ ُ
[الضحى]5 :
كامل عن هذا االستخدام بشكل ٍٍ يظل الحديث الشريف نائياًومن الغريب أن ّ
مرة ،فال يخالف الحديث القرآني الجديد للفعل ،رغم تكراره في القرآن الكريم ّ 13
ّ
الجاهلي؛ إذ يتعدّى الفعل فيه بالباء ،أو بنفسه ،أو ال يتعدّى أبداً،
ّ كثيراً لغة الشعر
كما في األحاديث:
الشك الكبير في نسبة البيت األ ّول له ،لما في لغته من ْلي ٍن ور ّقةٍ ال تنسجم مع شخصيّة عنترة
ِّ ( )1مع
وال لغته وال مع لغة الشعر الجاهلي.
440
((( وبمحم ٍد رسو ً
ال وباإلسالم ِديناً ّ ت باهللِ َر ّب ًا ِ .. -
رض ْي ُ
ِ
يت؟ قال :ال ،قال: للنبي ِهب ًة فأثاب ُه عليها ،قالِ :
رض َ وهب ّ أن أعراب ّي ًا َ
ّ .. -
(((
يت؟ قال :نعم.
رض َ
ت؟ قال :ال ،قال :فزا َده ،قالِ :
رض ْي َ
فزاده ،قالِ :
(((
رب
يت يا ّ
رض ُ
ياربِ ،
يت ّ رض ُ
يت؟ فقلتِ : .. -فقيل ليِ :
أرض َ
قرآني
سياق ٍّ
فإن عثرنا على هذا االستخدام الجديد في الحديث الشريف ففي ٍ
واضح ،كقوله :
فرضينا َ
عنك اللهم ب ّلغ نبيّنا عنّا أنّا قد ل ِق ْي َ
ناك ِ ّ .. -ف ُقتلوا فقالوا:
(((
يت عنّا
ورض َ
ِ
((( القشيري ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،290حديث رقم .386
((( الشيباني ،مسند اإلمام أحمد ،مرجع سابق ،ج ،4ص ،424حديث رقم .2687
((( المرجع السابق ،ج ،6ص ،353حديث رقم .3806
((( الشيباني ،مسند اإلمام أحمد ،مرجع سابق ،ج ،7ص ،65حديث رقم .3952
441
جملة اسم ّي ٍة واحدٍة هي ﮋ ﭑ
ٍ لتفصل حال ُ
األحوال الثالث ّ لقد جاءت هذه
حال منها في ..ﭔ ﭕ ﮊ .ومع أنّها جميعاً تبعت جمل ًة واحدةً؛ فقد جاءت ّ
كل ٍ
مختلف:
ٍ صاحب
ٍ ولزمن مختلف ،وعاد ٌّ
كل منها إلى ٍ مختلف،
ٍ لغوي
ٍّ شكل
ٍ
جملة فعل ّي ٍة للزمن
ٍ حال جاءت في شكل فقوله :ﮋ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﮊ ٌ
المستقبل (تجري) وصاحبها هو ﮋ ﭔ ﭕ ﮊ –اللفظ (جنّات) معرف ٌة طبعاً
ال له–. فصح أن تكون الجملة التي تصفه حا ً
(عدن) وهي معرف ٌة ّ
إلضافته إلى ْ
مشبهة) ّ ٌ
يدل على (صفة َّ
ٍ وقوله :ﮋ ﭚ ﭛ ﮊ حال جاءت في شكل ٍ
اسم
الزمن الحاضر (اآلن) ،أ ّما صاحبها فهو الضمير (هم) في (جزاؤهم) والعائد على
لفظ (المؤمنون) الذين ُذكروا في اآلية السابقة.
–44ذلك:
ينطبق على اسم اإلشارة هذا ما انطبق على رديفه السابق في قوله تعالى
اختص عاد ًة بالبعيد والمفرد ،إلى
ّ ﮋ ﮦ ﮧ ﮨ ﮊ .إنها إشار ٌة ٍ
باسم،
قريب ،فقد ُذكر لت ّوه ،وإلى ما هو مجمو ٌع :جنّات ْ
عدن ،والخلود فيها، ٌ ما هو
ورضا اهلل عنهم ،ورضاهم عنه.
–45ذلك:
القرآني في االستغناء عن الرابط بين الجملتين رغم
ّ هنا أيضاً ّ
يتكرر األسلوب
آية واحدة ،ولو كانت لغتَنا لقلنا« :وذلك (أو :وهذا) لمن خشي ربّه».
تتاليهما في ٍ
442
شي ربَّه:
َ –46خ َ
يتكرر في القرآن
الخاص ،وهو ال ّ
ّ القرآني
ّ الجاهلي طبعاً هذا التعبير
ّ لم يعرف
يتكرر فيه مع مشت ّقاته ّ 48
مرة. أن الفعل (خشي) ّ في غير هذه اآلية ،رغم ّ
443
المبني للمجهول القرآنيّة
ّ هذه السبيكة تستم ّد خصوصيّتها من افتتاحها بصيغة
مرتبطة بالالم القرآنيّة المصدريّة التي
ٍ بجملة
ٍ الشائعة ،مسبوق ًة بالنفي ،واختتامها
(أن) – كما رأينا – (لِيَعبُدوا) ،والمسبوقة بأداة االستثناء (إ ّ
ال). تعني ْ
الدين ُحنَفاء:
َ –4مخلصين له
النحوي الخاص الذي بُنيت عليه هذه السبيكة ،وال سيّماّ عدا عن التركيب
(مخلصين) وعم ُلها عمل الفعل في اللفظ (الدين) الذي أصبح ِ وضع الحال األولى
ُ
تجردت من أيّة ملحقات –ال لها ،وكذلك وضع الحال الثانية (حنفاء) التي ّ مفعو ً
(مخلصين ،وحنفاء) يضيف
ِ فإن ما ذكرناه سابقاً من خصوصيّة اللفظين كما عرفنا – ّ
إلى خصوصيّها القرآنيّة بعداً أفق ّي ًا آخر.
ّ
المستقل عن بسيط جدّ ًا ،ولكن تبقى لسبيكتنا ،بشكلها
الفارق بين السبيكتين ٌ
اجتماع هذه األلفاظ القرآنيّة األربع
ِ سبيكة قرآنيّةٍ أو برش ّي ٍة أخرى ،خصوصيّةُ
ٍ أيّة
صياغات مختلفة.
ٍ متجاور ًة فيها ،وهي كثيراً ما تتجاور في القرآن ولكن في
ين القيّمة:
–6وذلك ِد ُ
الخاص السم اإلشارة (ذلك)
ّ تستم ّد هذه السبيكة خصوصيّتها من االستعمال
–كما رأينا– ومن مجيء خب ِره بعده مباشر ًة من غير أن يسبقه الضمير المنفصل (هو)
سياق كهذا فنقول (ذلك هو دين القيّمة)،الذي اعتادت لغتنا البشريّة إضافته في ٍ
الخاص والمؤنّث الذي أضيف إليه الخبر وهو (القيّمة).
ّ وأخيراً مجيء اللفظ
444
خالدين فيها:
نار جهنّم ِ
–7في ِ
رغم كثرة السبائك التي توشك أن تطابق هذه السبيكة في القرآن؛ ّ
تظل لها
النحوي .وأقرب السبائك القرآنيّة إليها قوله تعالى:
ّ خصوصيّتها في بنائها
[الجن]23 :
ّ -ﮋﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﮊ
ّات َع ٍ
دن: –11جزاؤهم عند ربّهم جن ُ
موضع آخر من القرآن ،وتأتي خصوصيّتها من
ٍ أي
تتكرر هذه السبيكة في ّ
ال ّ
عدّة عناصر أسهمت جميعاً في ّ
تفردها:
توجه معناها إلى المستقبل (سيكون جزاؤهم) رغم أنّها جاءت نحو ّي ًا
ُّ أ-
في صيغة الحاضر،
445
ب -الحال المحذوفة قبل الظرف (عند) والتقدير« :جزاؤهم ،كائناً عند ربّهم،
ّات ْ
عدن»، جن ُ
القرآني المميّز ﮋﭔ ﭕﮊ.
ّ ت -وأخيراً التركيب
ّات َع ِ
دن تجري ِمن تحتِها األنهار: –12جن ُ
مر ًة واحد ًة أخرى في سورة (طه)،
تتكرر هذه السبيكة ،وبألفاظها نفسهاّ ، ّ
ولكن تقترب منها كثيراً سبائك قرآن ّي ٌة شتّى ،من مثل قوله تعالى:
ﮊ [الكهف]31 : -ﮋﮢﮣﮤﮥﮦﮧ
بشكل
ٍ والمميز تكتسب السبيكة قرآنيّتها
َّ الخاص
ّ النحوي
ّ وعدا عن بنائها
خاص من الطبيعة النحويّة للحال في الفعل (تجري)؛ إذ تكون الحال في لغتنا شيئاً
ٍّ
من هذا القبيل:
عدن وفيها األنهار تجري من تحتها ،أو:
جزاؤهم جنّات ٍ
واألنهار تجري من تحتها
–13رضي اهلل عنهم ُ
ورضوا عنه:
خاص ًة،
ّ هذه سبيك ٌة أخرى تستم ّد ّ
تفردها من وضع الحال في الفعل (رضي)
فلغتنا البشريّة تقول في مثل هذا المقام:
وقد رضي اهلل ،أو:
واهللُ ٍ
راض عنهم
الخاص للفعل
ّ القرآني
ّ تفردها أيض ًا إلى االستعمالوتستند السبيكة في ّ
(رضي) –كما رأينا– في ٍّ
كل من الجزء األ ّول والجزء الثاني من السبيكة.
446
خشي ربَّه:
َ –14ذلك لمن
الخاص ،وعلى
ّ النحوي
ّ تقوم خصوصيّة هذه السبيكة على بنائها
االستخدام المميّز ل ّلفظ (ذلك) ،وكذلك على ّ
تفرد التعبير ﮋ ﭦ ﭧ ﮊ أيضاً،
كما سبق أن أوضحنا.
وقالوا :لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا حتّى تأتيهم البيّنة،
447
وقالوا :إنّهم لم يكونوا منتهين عن شركهم حتّى أتاهم مح ّمد ،
وقالوا :إنّها حكاي ٌة لما كان يقوله ُ
أهل الكتاب والمشركون من أنّهم ال
تفرقوا ،كما حكاه اهلل عنهم
النبي الموعود ،فل ّما بُعث ّ
يفارقون دينهم حتّى يُبعث ّ
بعد ذلك،
–3البيّنة:
وتِبعاً لهذا االختالف يتأرجح معنى (البيّنة) بين ٍ
معان عدّة:
فهي القرآن عند بعضهم،
وهي الرسول عند آخرين ،كما تُبيّن اآلية بعدها،
ٌ
مرسل عند غيرهم. وهي البيان الذي في كتبهم من أنّه ٌّ
نبي
448
كتب قيّمة:
ٌ –5
وألنّهم ذهبوا في (الصحف) مذاهب شتّى كان بده ّي ًا أن يفعلوا ذلك مع
(الكتب القيّمة) التي تحتويها هذه الصحف:
الكتاب:
َ تفرق الذين أوتوا
–6وما ّ
"تفرق" نتيج ًة الختالفهم في
المفسرون في معاني ّ
ّ لقد تبيّن لنا كيف اختلف
تأويل اآلية األولى من هذه السورة ،فانعكس اختالفهم على هذه اآلية ،ومنحها
أبعاداً معنو ّي ًة جديد ًة متباينة.
جاءتهم البيّنة:
ُ عد ما –7إ ّ
ال ِمن بَ ِ
المفسرون ،لألسباب نفسها ،في تأويل هذه "البيّنة".
ّ تفرق
ولقد تبيّن لنا كيف ّ
ثم قالواّ :
إن (البيّنة) الثانية في السورة غير األولى ،فالثانية جاءت على ألسنة ّ
فتفرقوا بعدهم مع وجود تلك البيّنة ،أ ّما األولى فهي الرسول أو أنبيائهم ّ
فتفرقوا في موقفهم منه وحكمهم عليه.
القرآنّ ،
–8مخ ِلصين له الدين:
إن االستخدام الجديد الذي استنّه القرآن لهذا اللفظ ،كما عرفنا ،جعله ّ
مفتوحاً على أكثر من اتّجاه:
دين آخر ،أو:
أي ٍ فهم جاعلون دينهم خالصاً له سبحانه ّ
بغض النظر عن ّ
449
هم جاعلون أنفسهم خالص ًة له تعالى ،أو:
هذا إلى جانب اتّساع معنى (اإلخالص) وحقيقته في هذا السياق من اآلية.
ُ –9حنفاء:
المفسرين في معنى هذا اللفظ؛ نتيج ًة الختالفهم حول حقيقةّ تعدّدت آراء
جذره في اللغة من ناحية ،والنقطاعه عن الوصف أو اإلضافة من ناحية ثانية .فلو
قال :حنفاء في صالتنا ،أو :حنفاء العقيدة ،أو :حنفاء مستقيمين ،لساعدنا هذا على
ولكن هذا كان من شأنه أن يَ ْح ِرمنا في الوقت نفسه من
ّ معنى مـحدّ ٍد ل ّلفظ،
اقتراح ً
الشحنة اإليحائيّة الغنيّة بالمعاني التي يدّخرها هذا اللفظ .وهكذا تعدّدت اآلراء
في تأويله ،فقالوا:
لحد ،وقالوا: المائل إلى الخير عا ّم ًة ،أ ّما المائل إلى ّ
الشر فهو ال ُم ِ هو َ
هو من كان على دين إبراهيم ،وقالوا:
المحارم،
وحرم الزواج من َ
وحج ّ
هو من اختتن ّ
وقيل غير ذلك.
450
ين القيّمة:
ِ –10د ُ
القرآني الجديد
ّ تعدّدت معاني هذه العبارة بقدر ما اختلفوا على معنى اللفظ
(القيّمة) ،وكذلك على طبيعة عالقته مع اللفظ الذي قبله ،وهكذا وجدنا أنفسنا
احتماالت عديدة:
ٍ أمام
محذوف،
ٍ لموصوف
ٍ فقيل :هو دين الم ّلة المستقيمة ،أي ّ
إن (القيّمة) صف ٌة
فالدين
وقيل :هو من إضافة الشيء إلى نفسه أو موصوفه ،أي :الدين القيّمةِ ،
هو القيّمة،
ّ
بالحق، وقيل :هو ِدين األ ّمة القائمة
إن أُ ِخذ اللفظ من (البَراء) وهو التراب ،لم تدخل المالئك ُة تحته –إذ
فقد قيلْ :
تراب كاإلنسان ،-وإن أُ ِخذ من (بريت القلم) أي قدّرته ،دخ َلت، لم تُخ َلق من ٍ
وقيل :هو كقوله لليهود :ﮋﯫ ﯬ ﯭ ﯮﮊ أي على عالَ ِمي زمانكم،
وقيل :قد يشمل من كانوا أيّام الرسول وقد يشمل من كان قبله وبعده أيضاً،
451
ّات َع ْد ٍن:
–13جن ُ
والمفسرين أن يقطع رأياً في معنى َ
(ع ْدن) ومن ّ لم يستطع أح ٌد من اللغوييّن
ثم في حقيقة ﮋ ﭔ ﭕ ﮊ: ّ
الم ْع ِدن، (ع َد َن بالمكان يَ ِ
عدن) أي أقام ،ومنه َ فقيل :هي من َ
ومستقره،
ّ معدن الشيء :مركزه
وقيلِ :
وقيل :هي بُطنان الجنّات ،أي أوسطها وأفضلها،
ّات خلود.
عد ٍن :جن ُ
ّات ْ
العدن هو الخلود ،وجن ُ
وقيلْ :
تحت
ِ تالل ،أو من
تحت ِِ َخرج من
الجَّن ِة ت ُ
وقال الرسول « :أنها ُر َ
(((
جبال المسك«.
((( البستي ،صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان ،مرجع سابق ،ج ،16ص ،423حديث رقم .7408
452
ور ُضوا عنه:
َ – 15
سبق أن تحدّثنا عن المعاني المتعدّدة التي يمكن أن يحتملها هذا التركيب
ّ
وستظل تفسيراتنا البشريّة في النهاية عاجز ًة عن اإلحاطة العربي األ ّول،
ّ المثير عند
بطبيعة هذا الرضا.
خشي ربَّه:
َ – 16ذلك لمن
يتر ّكز ّ
سر انفتاح معنى هذه اآلية في اللفظ (ذلك):
عدن،
فهو قد يشير إلى جنّات ْ
جوامع َ
الك ِلم ُ خامساً:
هم البيّنة:
–1حتى تأتيَ ُ
فراغات كثير ًة في لغتنا المحكيّة والمكتوبة،
ٍ القرآني يمكن أن يس ّد
ّ هذا التعبير
ين وهو ال يملك ما يُثبت ا ّدعاءه،
بجرم أو َد ٍ
ٍ إنسان
ٍ فنتمثّل به أمام من ا ّدعى على
نوجهه إلى من ال يصدّق شيئاً إ ّ
ال أن يراه بعينه. أو يمكن أن ّ
–2فيها ُكتُ ٌ
ب قيّمة:
الخاصة ،ومكتبات
ّ أضحت هذه العبارة في لغتنا عنواناً ٍ
لكثير من المكتبات
بشكل عا ّم.
ٍ خاص ،ولمصادر المعلوماتبشكل ٍّ المساجد
453
الدين ُحنفاء:
َ –3مخلصين له
عدا عن دخول هذه العبارة في عدة مظاهر من عباداتنا (في تكبيرات العيد
مكان في أحاديثنا العاديّة اليوميّة أيضاً، وتسبيحاتنا مث ً
ال) فمن الممكن أن يكون لها ٌ
كأن يقال :لن ننال النصر حتّى نكون ﮋﮝ ﮞ ﮟﮊ.
–4أولئك هم شر ِ
البريّة: ُّ
أفراد مجموعة رش ٍ
يرة من الناس ،أو ٍ قد تط َلق هذه العبارة القرآنيّة على أيّة
ٍ ّ
عاثوا في األرض فساداً.
خير البريّة:
–6أولئك هم ُ
مجموعة من الناس،
ٍ وفي هذه العبارة ما يعيننا على التعبير عن إعجابنا بأيّة
سرهم وعلنهم،
أفراد منهم ،حملوا على أكتافهم هموم الناس ،واتّقوا اهلل في ّأو ٍ
وأخلصوا أنفسهم هلل وللعباد.
454
السورة التاسعة عشرة
سورة القدر
ﮋﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ
ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ
ﭯﭰﭱﭲﭳﮊ
455
ّأوالً :األلفاظ والمصطلحات
–1إنّا:
مكو ٌن من ّ
(إن) التأكيديّة وضمير جمع المتك ّلمين (نا) ،فهو إذن، هذا اللفظ ّ
(إن) الجتماع ثالث نونات في اللفظّ ،
وألن هذه النون (إنّنا) مع َح ْذف إحدى نونَي ّ
زائد ٌة في األصل.
األنفـال
ِ ـــــــم
َقاس ِ ونَ ِع ُّ
ف عند ت ُ إنّا إذا َح ِم َي الوغى ن َْروي القَنا
عنترة (ت 22ق.ﻫ)
والبيت الوحيد الذي عثرت عليه هناك م ّما قد يثير بعض التساؤل عندنا هو
ِّ
للمرقش األكبر: بيت آخر
ٌ
الناس فاس ِقينا
َيت كرا َم ِ ْ
وإن َسق ِ فحييّنــا إنّا ُم َحيُّ ِ
وك يا َسلمى َ
فاللفظ (إنّا) في البيت قد يعني المر ّقش وحده ،ولكنّه قد يعني أيضاً المر ّقش
تبعة فيُخفوا
أسلوب اعتاد الغ ِزلون أن يحموا أنفسهم به من أيّة ٍ
ٌ ومن معه ،وهو
شخصهم تحت مظ ّلة ضمير الجماعة وهم يحيّون أو يتحدّثون إلى من يحبّون.
وبدهي أن نرى الملوك والق ّواد بعد ذلك يلجأون إلى هذا األسلوب ،ليعبّروا ٌّ
عن أنفسهم بضمير الجماعة في خطابهم لشعوبهم( :نحن ٌ
فالن بن فالن ،أصدرنا
أوامرنا .)..وربّما كان هذا نابعاً من حقيقة أنّهم يمثّلون دول ًة أو حكوم ًة أو شعباً،
فاقتضى السياق استخدام ضمير الجماعة.
456
اإللهي في استخدام ضمير
ّ جديد ّ
بأن هذا األسلوب ٍ المهم التذكير من
ّ ومن
اختص به القرآن الكريم وحده دون
ّ جماعة المتك ّلمين للتعبير عن الذات اإللهيّة قد
بقيّة الكتب السماويّة التي بين أيدينا.
مرات]
[مكرر ّ 3
َدر ّ –4 –3 –2الق ْ
المفسرين حول المعنى المحدّد لهذا اللفظ؛ فإنّه يبقى ،في ّ رغم اختالف
الجاهلي من قبل .ولكنّنا نجده في الشعر
ّ معظم معانيه ،اصطالحاً قرآن ّي ًا لم يعرفه
الجاهلي بالمعاني التقليديّة التي عرفها العرب لهذا اللفظ قبل القرآن ،ومنها معنى
ّ
(المكانة) كما في بيتَي عنترة:
مرتفع ال ِعمــــا ِد
ُ َــــد ِر
عظيم الق ْ
ُ ولوال ســ ّيدٌ فينا ُمطــــــا ٌع
القرين
ِ منقط ِع
َد ِر ِ
رفيع الق ْ
مكان ِ
ٍ حللت مـــن الســعاد ِة فـــيِ
كثير من األشعار المنسوبة إلى هذا الشاعر،لقد سبق أن حدّدنا موقفنا من ٍ
إذ غلبت في سيرته وأشعاره األسطور ُة على الحقيقة .وم ّما يغ ّذي شكوكنا هنا
َدر) –بفتح الدال– ال نجده في الحقبة الجاهليّة إ ّ
ال عند عنترة أيضاً! ّ
أن لفظ (الق َ
وذلك في قوله:
َد ُر
أعدائك الق َ
ِ إذا رماني على يأتيك ِمن نِ َع ٍم يا َع ْب ُل يَ ْهنِئ ِ
ْك ما ِ
457
–6المالئكة:
الجاهلي ،ونجد مفرداً له ،ولكن مع قطع
ّ ال نعثر على هذا اللفظ في الشعر
واحد يُنسب إلى علقمة الفحل
ٍ بيت
األلِف فيه وتحويلها إلى همزة ،وذلك في ٍ
(ت 20ق.ﻫ) ويقول فيه:
تَنَ َّز َل ِمن َج ِّو السما ِء يَ ُص ُ
وب ألك
ولكن لِ َم ٍ
ْ نسـي
إل ٍّولست ِ
َ
لفظ
أي ٍويكثر ورود اللفظ بعد ذلك في الحديث الشريف ،شأنه شأن ّ
والحج
ّ قرآني جديد ّ
يشكل أساساً في العقيدة اإلسالميّة كالصالة والزكاة والصوم ٍّ
والجن والشياطين.
ّ
الروح:
ُّ –7
اقترحوا لهذا اللفظ معاني عديدةً ،كما سوف نرى في حديثنا عن المواقع
رابط ،وهو المعنى
أي ٍالجاهلي ّ
ّ المنفتحة ،وجميع هذه المعاني ال يربطها بالمعنى
الحي ،كما
ّ الحالي نفسه لهذا اللفظ :أي الجزء غير المنظور من الجسد
ّ البشري
ّ
في قول عنترة:
الجبان
ِ الروح في َج َس ِـد َ
مكان ُّ فأنت عندي
ِ ك يا َظلـو ُم
أحبُّ ِ
–8بإ ْذن:
المعنى الشائع في لغتنا لهذا اللفظ ،قديماً وحديثاً ،هو السماح بالشيء ،كبيراً
ولكن اللفظ في القرآن يقترن دائماً بمعنى الق ّوة والسلطة ،فال
ّ كان أو صغيراً.
اختص باألمور
ّ ستخدم ،بسبب هذا االقتران ،مع األمور العاديّة أو الصغيرة ،بل
َ يُ
الكبيرة التي تحتاج إلى الق ّوة لتنفيذها ،فكأنّه ،بهذا النوع من االستخدام ،اكتسب
معنى إضافيّاً جديداً ليس في لغتنا العاديّة وهو "اإلعانة على الشيء" ويشمل هذا
ً
تكرر بها هذا االسم في القرآن الكريم ،ومنها قوله تعالى:
المرات الـ 39التي ّ
كل ّ ّ
[البقرة]102 : -ﮋ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮊ
458
ﮊ [البقرة]249 : -ﮋ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ
ﮊ [البقرة]251 : -ﮋﮢﮣﮤﮥﮦﮧ
[البقرة]255 : -ﮋ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﮊ
[آل عمران]49 : -ﮋ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮊ
اإلضافي عندما
ّ يتجرد ،في القرآن نفسه ،من هذا المعنى
أن اللفظ ّ والغريب ّ
يأتي في صيغة الفعل ،كما يتبيّن لنا في معظم اآليات التي ورد فيها مع مشت ّقاته،
ومنها قوله تعالى:
[األعراف]123 : -ﮋ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﮊ
[التوبة]43 : -ﮋﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮊ
[النور]59 : -ﮋ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﮊ
ﮊ [النور]62 : -ﮋﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ
–9أ ْمر:
ثم في معناه .فإن كان تقدير اإلعرابي ،ومن ّ
ّ المفسرين في موقعه
ّ هذا اللفظ حيّر
(أمان من ّ
كل كل أمر» فمعنى (أمر) هنا هو (شيء) ،أي ٌ السياق هكذا «هي سال ٌم من ّ
الجاهلي ،أ ّما إذا كان التقدير« :تَن ّزل
ّ شيء) وهذا المعنى ل ّلفظ سبق أن عرفه الشعر
(الحكم) أو (مشيئة اهلل) أو (الق َدر) الذي يقدّره اهلل،
كل أمر» فيكون معنى اللفظ ُ ِمن ّ
معنى ال نجده في الشعر فتنْزل المالئكة باألحكام واألقدار الصادرة منه تعالى ،وهو ً
مرةً أخرى ،لصديقنا عنترة ،وهو: واحد يُنسبّ ،
بيت ٍ الجاهلي إال في ٍ
ّ
فكيف يَ ِف ُّر المر ُء منه ويَ ْح َذ ُر أمـر اهللِ أمـراً يُ َقدّر
إذا كان ُ
حاجة إلى التدليل على نَحل البيت لعنترة ،فوضوح الصبغة
ٍ وال أظنّني في
غني عن البيان.
اإلسالميّة فيه ٌّ
459
ثانياً :الصيغ اللغويّة والعالقات الداخليّة
–2 –1أنزلناه:
المهم ،حتّى نتبيّن طبيعة المفاجأة في هذه الكلمة ،أن نضع أنفسنا مكان
ّ من
تنزلـها .ال ّ
شك أنّه سيَسأل :من هذا ،أو من العربي الذي سمع السورة ساعة ُّ ّ ذلك
بضمير ،بل
ٍ هؤالء ،الذين أَن َزلوا؟ ولماذا لم يُذكروا قبل الفعل؟ وكيف يبدأ الكالم
بضميرين ،وليس قبلهما ما يعودان إليه؟
ثم يلي التساؤل الالحق باحثاً عن شأن الضمير الثاني أيضاً :ما هذا الذي ّ
أنزلو(ه)؟ ولماذا ال نعثر عليه أيض ًا قبل الفعل؟
–3إنّا أنزلناه:
هذه السورة ليست آخر سورٍة نزلت من القرآن الكريم ،بل ليست من أواخر
السور التي تن ّزلت على الرسول مكية ،وهذا يعني أنّها من أوائل َالسور النازلة ،فهي ّ
َ
(ص) ،وإذن فالوقت ما يزال مبكّر ًا جدّ ًا على اكتمال نزوله ،ومع هذا فالفعل
مفر ًا
للعربي األ ّول ّ
ّ الماضي (أنزلنا) ،وقد سبقته أداة التأكيد والقطع ّ
(إن) ،ال يترك
بطريقة توحي
ٍ «كتاب»
ٍ «شيء» أو
ٍ من التساؤل واالستغراب :كيف تتحدّث اآلية عن
المذكر ( ُه) يُفتَرض أن يعود على َّ إن الضمير لنا وكأنّه نزل ك ّله (أنزلناه)؟ ّ
ثم ّ
سو ٍر» أو
ال «بضع َ ولكن الناس لم يروا من هذا الكتاب بع ُد إ ّ
ّ (الكتاب) أو (القرآن)
المتوقع عندهم أن يكون اللفظ «أنزلناها» –هكذا بالتأنيث– على َّ «آيات» فكان من
ٍ
القرآني ،ربّما من
ّ ولكن التعبير
ّ السور أو اآليات،
األقل ،أي بإعادة الضمير على َ ّ
وكأن القرآن يُع ّد منذ هذه اللحظة فيمحل الجزءّ ، الكل ّ
أحل ّباب االلتفات أيض ًاّ ،
حكم النازل والمكتمل.
460
ومر ًة واحدة ،من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا .ونزوله المكتمل هذارمضانّ ،
فإن هذا النوع من النزول سيكون يتماشى مع سياق اآلية هنا ،فإذا كان األمر كذلك ّ
بكثير حدو َد عقله وأبعاد خياله.
ألن مفهومه يفوق ٍالعربي؛ ّ
ّ أكثر إثار ًة واستغراباً عند
مرات]:
[مكرر ّ 3
َدر ّ –6 –5 –4ليلة الق ْ
ات فيتكرر هذا التعبير ،الذي يسمعه العربي للمرة األولى ،ثالث مر ٍ
ّ ّ ّ ّ
ومطارحات ال
ٍ تساؤل
ٍ ظل ،مع ذلك ،موضع هذه السورة الصغيرة ،ولكنّه ّ
تتو ّقف إلى اليوم :ما طبيعة هذه الليلة العجيبة التي ُوصفت بهذا الوصف؟ وما
معنى اشتُ ّق؟ ولماذا تكون هذه األحداث الخطيرة في
أي ً ﮋﭕﮊ هنا؟ ومن ّ
الليل وليس في النهار؟
وسنقف عند بعض المعاني التي اقترحوها للفظ ﮋﭕﮊ أثناء دراستنا
للمواقع المنفتحة في السورة.
هط أ ْرواقي
الر ِ
ت َ أَلق ُ
َيت ليل َة َخ ْب ِ نجوت منها نَجائـي ِمن بَجيل َة إ ْذ
ُ
ابن َب ّر ِاق
يكتين لدى َم ْعدى ِ
بال َع ِ راع ُه ُم ليل َة صاحوا َ
وأغروا بي ِس َ
رش ًا (ت 85ق.ﻫ)
تأبّط ّ
461
وطمأنينة يمت ّدان مع امتداد الليلة حتّى مطلع الفجر،
ٍ سالم
ٍ في تلك الليلة ،وعن
وهكذا جمعت الليل ُة هنا بين ما مضى (ﭒ) وما يأتي (ﭤ) وهذا من ألطف
غرائب السورة.
462
المرات الثالث عشرة
وليس بمعنى التهويل واالستعظام كما هو في جميع ّ
التي ورد بها في القرآن الكريم.
مر ًة أخرى ،هو اقتصار استعمال هذا التركيب على والمهمّ ،
ّ ولكن الالفت
ّ
الجزءين األخيرين من القرآن ( 29و )30بدءاً من السورة ( 69الحا ّقة) وانتها ًء
السور الثماني والستّين األولى تماماً من هذابالسورة ( 104ال ُهمزة) مع خل ّو َ
التركيب ،وهي ّ
تشكل أكثر من تسعين بالمائة من حجم القرآن الكريم!
الحالي
ّ إنّها وثيق ٌة أخرى تضاف إلى ِم ّ
لف الحقيقة التوقيفيّة اإللهيّة للترتيب
«شخصية لغو ّي ٍة» ّ
لكل سورٍة تمنع اختالط ٍ لسور القرآن الكريم ،وإلى حقيقة وجود
َ
السور األخرى.
آياتها بآيات َ
–9ألف شهر:
العربي األ ّول هذا التعبير الذي يحصي الزمن بالشهور؟
ّ كيف يمكن أن يتل ّقى
ال غرابة لو سمعنا من يقول:
ألف عام
أو ربّما من يقول:
ألف يوم،
وكذلك ال غرابة لو قيل:
عشرة أشهر ،أو:
عشر سنين،
ولكن من ح ّقنا أن نستغرب لو قيل:
ألف شهر،
463
–10تَنَ َّز ُل:
لغوي يربط اآلية بما قبلها.
رابط ٍّ مجرداً من ّ
أي ٍ جديد يأتي رأس هذه اآلية َّ ٍ من
لقد كانت لغتنا البشريّة تتو ّقع أن يقال:
ففيها تتن ّزل،
أو :وفيها تتن ّزل،
أو :إذ تتن ّزل فيها،
أوّ :
ألن المالئكة تتن ّزل فيها..
والروح:
ُ –12تَنَ َّز ُل..
العربي األ ّول غراب ًة وتعقيداً بهذه اإلضافة الجديدة
ّ ستزداد الصورة على خيال
(الروح) وهو "يرافق" المالئكة في تن ّزلها ،وال سيّما بما يحمله هذا اللفظ من
العربي من قبل ،فيترك المجال
ّ معان جديدٍة لم يعرفها
معنى ،أو باألحرى من ٍ ً
صور المشهد المثير والغريب تماماً عن ثقافته وحدود خياله. واسعاً أمام خياله لتَ ُّ
بإذن ربِّهم:
ِ –13
يتكرر في القرآن
القرآني الجديد ،وهو ّ
ّ الجاهلي هذا التعبير
ّ ال يعرف الشعر
مراتٍ أخرى خارج هذه السورة.ثالث ّ
464
ِ –14من ِّ
كل أ ْمر:
يتكرر في غير هذه السورة ،وال
الجاهلي ،وال ّ
ّ ال نجد هذا التعبير في الشعر
وجود له في الحديث الشريف.
–15سال ٌم:
الجديد في اآلية هنا أنّنا لو حاولنا اإلمساك بمقاليد المعنى فيها للتعبير عنه
بطريقتنا البشريّة التقليديّة لبدأناها هكذا:
وهي سال ٌم ،أو :وإنّها سال ٌم ،أو :ويسودها سال ٌم،
رابط
أي ٍ جمرد ًة من ّ
فال نبتدئ الجملة بنكرٍة ،من ناحية ،وال نترك اآلية هكذا ّ
ناحية أخرى.
ٍ لغوي يربطها باآلية قبلها ،من
ٍّ
صفة مشبّهة ،أو ما يدخل في بابها من مشت ّقات ،وليس هكذا باستعمال ٍ
خاص بالقرآن ٌ
استعمال ٌّ باستعمال االسم أو المصدر (سالم) كما وقع في اآلية .إنّه
الكريم وحده.
465
معروف في
ٍ أمر ال ندّعي أنّه غير
المفسرين ،وهو ٌ
ّ هذا ما ذهب إليه بعض
مألوف في هذه اللغة ،وماٌ لغتنا العاديّة ،ولكنّنا ،في الوقت نفسه ،ال ندّعي أنّه ٌ
أمر
نستطيع ا ّدعاءه هو أنّه ال يأتي عادةً ،إن أتى ،هكذا في وسط الكالم ،وإنّما نبدأ به
الحديث فنقول مث ً
ال:
أمر َك يا فالن.
عجيب ُ
ٌ
عادي ،وبدأت
أمر ّ(عجيب) ،وهو ٌ
ٌ مع مالحظة أنّنا بدأنا جملتنا البشريّة ٍ
بصفة:
عادي في لغتنا.
ّ أمر غير
باسم ،وليس بصفة( :سال ٌم) وهو ٌاآلية ٍ
كل ٍ
أمر سال ٌم: ِ –18من ِّ
ليس من الغريب أن يتقدّم الجا ّر والمجرور على ما يتع ّلقان به في لغتنا
َّ
المتعلق به ولكن الغريب أن يأتي هذا
ّ ال :من بيتك خرجنا،العاديّة .نحن نقول مث ً
خروج .واألغرب من هذا ٌ مصدراً بحيث نقول لنعبّر عن المعنى نفسهِ :من بيتك
وذاك أن نتو ّقف في وسط هذه العبارة فنأخذ ن َفساً عميقاً بعد اللفظ (بيتك) :من
خروج.
ٌ بيتك.
موزع ًة بين آيتين ،هكذاِ :من
إن هذا ما وقع في السورة ح ّق ًا فجاءت الجملة ّّ
أمر .سال ٌم. ّ
كل ٍ
ولو أردنا اتّباع طريقتنا البشريّة التقليديّة في التعبير عن هذا المعنى نفسه لقلنا:
كل أمر ،أو باألحرى :هي سليم ٌة أو آمن ٌة من ّ
كل أمر. هي سال ٌم ِمن ّ
466
القرآني المميّز ،الذي ربّما ترك آثاره في لغتنا بعد ذلك أيضاً،
ّ إنّه األسلوب
العربي األ ّول ،وهو يسمعه يتن ّزل
ّ شك كان من شأنه أن يفاجئ ولكنّه من غير ّ
مرة.
عليه أل ّول ّ
–20مط َلع الفجر:
الجاهلي مطلقاً ،ولكنّني أجد صيغ ًة فعل ّي ًة له في
ّ لم أجد هذا التعبير في الشعر
األسطوري عنترة:
ّ ومر ًة أخرى ،لشاعرنا
واحد يُنسبّ ،
بيت ٍٍ
الليل ما َط َل َع ْ
الفج ُر ولوال سوا ُد ِ بالسوا ِد َجهالَ ًة
يَ ِعيبون لَوني َ
مر ًة واحدةً ،ولكن اللفظ جاء ولم أجد التعبير في الحديث الشريف إ ّ
ال ّ
(وقت طلوع الفجر) ،على حين يأتي في َ في اآلية اسم زمان ﮋﭱﮊ ،أي
الحديث مصدراً ،وهو بمعنى (مثل طلوع الفجر) ،وذلك في قوله :
حر ْم ُحرم ًة إ ّ
ال وقد َع ِل َم أنّه سيُ ْط ِل ُعها منكم َم ْط ِل َع إن اهللَ تعالى لم يُ ِّ
ّ -
يتهافت
ُ أن تَهافَتوا في النار كما بح َج ِزكم ْ
ك ُ الفجر ،أال وإنّي ُم ْم ِس ٌ
((( ال َف ُ
راش والذباب
ب -الفعل الماضي مع فاعله الذي يأتي ضميراً للمتك ّلمين عائداً على غير مذكور،
مذكور غالباً.
ٍ ت -ضمير الغائب (الهاء) العائد على غير
((( المتقي الهندي ،علي بن حسام الدين .كنز العمال في سنن األقوال واألفعال ،بيروت :مؤسسة
الرسالة1989 ،م ،ج ،11ص ،543حديث رقم .31921
467
ومن السبائك القرآنيّة األخرى؛ الشبيهة بهذه السبيكة :ﮋ ﭫ ﭬ ،...ﮅ
ﮆ ،...ﯳ ﯴ ...ﮊ.
َدر: َ
أدراك ما ليل ُة الق ْ –2وما
تفر َد القرآن بالتعبير ﮋ ﭗ ﭘ ﮊ ،وهو ّ
يشكل هنا مع ما يتلوه قليل ُّ
عرفنا قبل ٍ
ّ
األقل أعربها النحويّون؛ سبيك ًة متميّزة ،فتأتي بعده (ما) االستفهاميّة ،هكذا على
القرآني
ّ خاص بهذا التركيب وإن كنت ال أرى فيها معنى االستفهام ،وإنّما هو ً
معنى ٌّ
أقرب إلى معنى التعظيم والتفخيم ،فتكون على ذلك( :ما) التعظيميّة ،شأنها شأن
التعجبيّة .ومثلها قوله تعالى:
(ما) ّ
[المرسالت]14 :
َ -ﮋﯠﯡﯢﯣﯤﮊ
بإذن ربِّهم:
والروح فيها ِ
ُ –3تَنَ َّز ُل المالئك ُة
النحوي ،مع اجتماع تعبيرين
ّ تكتسب هذه السبيكة خصوصيّتها من بنائها
قرآنيّين مميَزين فيها ﮋﭤ ﭥ ،ﭨ ﭩﮊ.
468
بإذن ربِّهم ِمن ِّ
كل أ ْمر: ِ –4
مر بنا من مالبساتها اللغويّة حتّى أن تركيب هذه السبيكةّ ،
بكل ما ّ ال ّ
شك ّ
يمر بنا في الحديث عن اللغة المنفتحة للسورة بعد ذلك ،فض ً
ال اآلن ،وما سوف ّ
المتفردة ،ليس في
ّ الخاص ،يجعل منها إحدى السبائك القرآنيّة
ّ النحوي
ّ عن بنائها
واإلسالمي فحسب ،بل في القرآن نفسه أيضاً ،ألنّها ال ّ
تتكرر في ّ تراثنا الجاهلي
غير هذه السورة.
469
َدر:
–2ليلة الق ْ
وبشكل غير عادي ،في طبيعة هذه الليلة ووص ِفها
ٍ المفسرين،
ّ تباينت أقوال
االنفتاحي وطاقتها المتف ّوقة
ّ وتاريخها وما يجري فيها ،وهذا يشير إلى غناها
في إثارة خيالنا وتفكيرنا .فقالوا في وقتها وتاريخها ،مستندين أحياناً إلى بعض
األحاديث النبويّة:
إنّها من غروب الشمس إلى أن يطلع الفجر،
وتر من ليالي رمضان،
كل ٍوقالوا :إنّها في العشر األواخر في ّ
470
القدر ،أي ليلة التقدير ،ألنّه تعالى يقدّر ويقضي فيها ما يشاء من
وقالوا :ليلة ْ
آية أخرى :ﮋﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﮊ [الدخان،]4 : أمره للسنة المقبلة؛ لقوله في ٍ
وقالواُ :س ّميت كذلك ّ
ألن من لم يكن له َق ْد ٌر وال ٌ
خطر يصير في هذه الليلة
قد ٍر إذا أحياها،
ذا ْ
ألن األرض تضيق في الضيق ،وقد ُس ّميت كذلكّ ، (القدر) هو ِّ
ْ وقالواّ :
إن
ويشتق من هذا المعنى قوله تعالى :ﮋ ﭼ ﭽ ﭾ ّ هذه الليلة بالمالئكة لكثرتها،
ﭿﮊ أي ُضيِّق،
رسول ذي َق ْدر ،على أ ّم ٍة ذات َق ْدر،
ٍ ألن اهلل أنزل فيها كتاباً ذا َق ْد ٍر ،على
وقيل :بل ّ
وقيل :ألنّه ينزل فيها مالئك ٌة ذوو َق ْد ٍر وخطر،
وقيل :ألنّه تعالى يُنزل فيها أقداراً كثير ًة من الخير والبركة والمغفرة.
وقد قال الرسول في وصفها:
ألف شهر:
ِ –3
قول في تفسير هذه العبارة ،وهم يحاولون الوصول
المفسرون أكثر من ٍ
ّ تناقل
إلى ّ
حل لغزها ،فلماذا :ألف شهر؟
القدر،
شهر ليس فيها ليلة ْ
خير من العمل في ألف ٍ
القدر ٌ قالواّ :
إن العمل في ليلة ْ
ألن العرب ْ
تذكر (األلف) في التكثير وقالوا :أراد بألف شهر :جميع الدهرّ ،
((( الشيباني ،مسند اإلمام أحمد ،مرجع سابق ،ج ،5ص ،324حديث رقم .22817
471
والمبالغة ،ومنه قوله تعالى في سورة (البقرة) [اآلية :]96 :ﮋ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ
ﭻ ﭼ ﮊ يعني جميع الدهر،
شهر؛ وذلك
يعبد اهلل ألف ٍ
وقالوا :كان العابد فيما مضى ال يُس ّمى كذلك حتّى َ
83سن ًة و 4أشهر،
ال يبلغوا في العمل مثلالنبي رأى أعمار أ ّمته قصيرةً ،فخاف أ ّ
إن ّ وقيل ّ
القدر وجعلها خيراً من ألف ٍ
شهر عند بقيّة األمم، غيرهم ،فأعطاه اهلل ليلة ْ
ما بلغ ُ
شهر فصار
لك ذي القَرنَين ٍ 500 شهر و ُم ُ
لك سليمان ٍ 500 وقيل :كان ُم ُ
ُم ُ
لكهما ألف شهر ،فجعل اهلل العمل في هذه الليلة خيراً من ُملكهما،
السالح في سبيل اهلل
َ إن الرسول ذكر رج ً
ال من بني إسرائيل لبس وقيلّ :
مطمئن ًة لهم،ألف شهر ،فعجب المسلمون من ذلك واستكثروه ،فنزلت اآلية َ
خير من ّ
كل عمره. متوسط عمر اإلنسان ،فالليلة ٌ
رقم يرمز إلى ّ
وقيل :هو ٌ
–4الروح:
المفسرين في تعريف (الروح) في هذه السورة .ويقف وراء هذا ّ تباينت أقوال
ٌ
ومنفصل عنها، ٌ
مختلف التباين عطف الكلمة على (المالئكة) بما يوحي أنّها شي ٌء
وكذلك االستخدام الجديد للكلمة والمخالف ألعراف العرب فيها كما رأينا .ومن
ثم للسياق الذي وردت فيه ،مثل هذه المعاني: هنا طرحوا لها ،ومن ّ
أنّها جبريل ،وهو رأي الجمهور؛ أي تتن ّزل المالئكة ومعهم جبريل .ووج ُه
ذك ِره ،بعد دخوله في المالئكة ،التعظيم له والتشريف لشأنه،
وح َفظ ٌة على سائرهمّ ،
وأن المالئكة ٌ
صنف من المالئكة هم أشرفهم َ أو أنّها
ال يرونهم؛ كما ال نرى نحن المالئكة،
أو أنّها جن ٌد من جنود اهلل من غير المالئكة ،وهي التي في سورة (النبأ) :ﮋ ﭷ
ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﮊ [اآلية،]38 :
472
ٌ
وأرجل ،وليسوا مالئكة، أيد ٌ
صنف من خلق اهلل يأكلون الطعام ولهم ٍ أو أنّها
والروح فيها:
ُ –5تَنَ َّز ُل المالئك ُة
على ضوء التعريفات المتعدّدة للفظ (الروح) يستطيع المرء اآلن أن يطلق
لخياله العنان ،ليتمثّل صوراً عديد ًة فوق أن تُحصى؛ لهذا المشهد العجيب من
التواصل بين السماء واألرض ،ومنها ما يصفه لنا الرسول في الحديث:
أمر من األمور
كل ٍويمكن أن تكون ( ِمن) هنا بمعنى (بسبب) أي :من أجل ّ
التي قضى اهلل بها في تلك السنة،
أو أن تكون ( ِمن) بمعنى (الالم) أيّ :
لكل أمر،
أمر أ َمره اهلل في شأن العباد. أو تكون بمعنى (الباء) أيّ :
بكل ٍ
((( البيهقي ،شعب اإليمان ،مرجع سابق ،ج ،3ص ،343حديث رقم .3717
473
–7سال ٌم هي حتّى مط َل ِع الفجر:
المفسرون في فهم (السالم) هنا ،انطالقاً من ّ
توسعهم في إعراب اللفظ ّ توسع
ّ
ّ
المتأخر بعده ،والتقدير :هي سال ٌم حتّى الفجر؟ خبر للضمير (هي) من ناحية :أهو ٌ
كل أمر ،وكذلك انطالقاً من
خبر لمبتدأ محذوف ،والتقدير :هي سال ٌم من ّ أم هو ٌ
ناحية ثانية ،ثم تِبعاً إلعراب (حتّى) :هل تتع ّلق
ٍ حقيقة (السالم) هنا وطبيعته ،من
تستمر المالئكة في النزول حتّى مطلع الفجر ،من ّ بـ(سالم) أم تتع ّلق بـ(تنَ َّزل) أي:
ناحية ثالثة ،ولهذا قالوا:
ٍ
مؤمن أو مؤمنة ،وقالوا: ٌ
شيطان في ٍ وأمان ِمن أن يؤثّر خاللها
ٌ هي سالم ٌة
هي ليل ٌة سالمة أمين ٌة ال يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً وال ً
أذى ،وقالوا:
هو تسليم المالئكة على أهل المساجد حين تغيب الشمس حتّى يطلع الفجر ،وقالوا:
هو تسليم المالئكة بعضهم على بعض ،وقالوا:
سال ٌم على أولياء اهلل وأهل طاعته ،وقالوا:
أبواب
ُ الج ّن ،وتُفتح
عفاريت ِ
ُ ُصفد َم َردة الشياطين وتُغ ُّ
َل في تلك الليلة ت َّ
كلها ،ويَقبل اهللُ التوبة ّ
لكل تائب ،وقالوا: السماء ُّ
ال يَقضي اهلل فيها إ ّ
ال السالمة ،أ ّما في بقيّة الليالي فالسالمة وغيرها ،وقالوا:
ال يَنفذ فيها سحر ساحر ،وقالوا:
خير هي..
سال ٌم هي :أي ٌ
جوامع َ
الك ِلم ُ خامساً:
َدر:
–1ليلة الق ْ
لقد أضحى هذا التعبير جزءاً من حياتنا الشعبيّة يتر ّدد على ألسنتنا في
مناسبات مختلفة:
ٍ
474
َدر،
أن أ ّمه قد " َد َعت له" في ليلة الق ْ فمن أصابه ٌّ
حظ كبير فال ب ّد ّ
ومن سهر العشر األواخر من ليالي رمضان قانتاً متع ّبد ًا فهو مرت ّق ٌ
ب ليلة القدر..
َ
أدراك ما: –2وما
التعبيري بعد نزول القرآن:
ّ دخل هذا التركيب أيضاً معجمنا
475
السورة العشرون
سورة ال َعلق
(ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ
ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ
ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ
ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ
ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ
ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ)
هذه هي السورة التاسعة عشرة في الترتيب التراجعي الذي اتّخذناه منهجاً في
يقل عن 125موقعاًالسور .وهي تتألّف من 72لفظاً وتحتوي على ما ال ّدراسة َ
لغو ّي ًا وفكر ّي ًا وخيال ّي ًا جديداً أضافها القرآن الكريم إلى لغة العرب.
477
أن اهللَ يَرى،
أمر بالتقوىّ ، أرأيت ْ
إن كان ،على ال ُهدىَ ، َ يَنهى عبداً ،عبداً إذا ص ّلى،
سندع
ُ كاذبة خاطئة ،ف ْليَ ْد ُع ناديَه،
ٍ ناصية
ٍ ال لئن ،لئن لم يَنت ِه ،لنَسفعاً بالناصية،كّ
واسج ْد واقت ِر ْب).
ُ الزبانية ،ك ّ
ال ال،
أو ً
ال :األلفاظ والمصطلحات
–1اِقرأ:
القرآني اآلخر (قل) ،هو بمثابة عدّة مواقع قرآن ّي ٍة
ّ هذا الفعل ،شأنه شأن الفعل
لفظ واحد.
جديدٍة تج ّمعت في ٍ
أ -إنّه ّأوالً بداي ٌة غير عاد ّي ٍة للحديث ،أ ّي ًا كان نوع هذا الحديث؛ إذ لم ْ
نعتد
ألفاظ عدّة ،إ ّ
ال أن نبدأ كالمنا بهذا الفعل مباشر ًة من غير أن يسبقه ٌ
لفظ أو ٌ
النص التالي)
امتحان (اقرأ ّ
ٍ تعليمي أو في
ٍّ كتاب أن يكون سؤا ً
ال يُطرح في ٍ
عادي ،مث ً
ال ،لرسالة ،أو خطبة ،أو قصيدة، ٌّ أمر
أو ما شابه ذلك .هل هو ٌ
أو رواية ،أو مقالة ،أن تبدأ بمثل هذا الفعل؟
إن القائل ،الذي يَأمر بالقراءة ،غير مذكور ،طبعاً هذه المسألة لم
ثم ّ
بّ -
تعد ّ
تشكل لدينا اليوم ،نحن المسلمين ،أيّة مشكلة ،فك ّلنا يعرف ّ
أن اهلل
مرة سيواجه سؤا ً
ال الجاهلي الذي سمعه أل ّول ّ
ّ ولكن
ّ تعالى هو اآلمر،
حقيق ّي ًا وهو يحاول اكتشاف طبيعة اآلمر المختفي وراء الفعل.
َ
المخاطب ت -وللسبب نفسه ال ب ّد للسامع أن يتساءل بعد ذلك أيضاً :ومن
يتم ذكره أو تحديده؟
المجهول أو المختفي الذي يُؤمر بالقراءة من غير أن ّ
ومر ًة ثالث ًة سيتساءل السامع بعد ذلك :وماذا يقرأ؟ أين المفعول به ،أو
ّ ث-
يحل ّ
محل المفعول به؟ ما يمكن أن ّ
478
أن اللفظ لم يُستعمل في الشعر الجاهلي بهذا المعنى ﺟ -فكيف لو عرفنا ّ
(الح ْمل) ،كقول عمرو بن القرآني ،وقد استعمله العرب آنذاك بمعنى َ ّ
كلثوم (ت 39ق.ﻫ):
اللون لم تَ ْق َر ْأ َجنينا
ِ جان
َه ِ راع ْي َع ْي َط ٍل أَ ْدما َء بِ ْك ٍر
ِذ َ
القرآني اآلخر
ّ بصلة إلى االستعمال
الجاهلي ٍ
ّ ويمت المعنى
ّ َحمل).أي (لم ت ِ
(الطهر من الحيض) ،وهو من (أَ ْق َر ِ
أت لهذا الجذر وهو (ال ُق ْرء) وقد جاء بمعنى ُ
المرأة) إذا حاضت (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ) [البقرة.]228 :
ثم عرف العرب الفعل بعد ذلك بمعنى (إلقاء السالم) كما في قول ُشريح بن
ّ
ح ّواس (ت؟):
ــــوان َخفـــــا ُء
ما بالكرام ِة وال َه ِ اِ ْ
قرأ على َع ْم ِرو السال َم و ُق ْل ل ُه
ٍ
مرات ّ
تكرر فيها هذا الفعل لقد استق ّلت سورة (العلق) ّ
بمرتين من أصل ثالث ّ
مفعول
ٍ في القرآن ،ولكن ما يميّزه في هذه السورة أنّه ،في ّ
المرتين ،لم يتع ّد إلى
به ،على حين تعدّى إليه في الحالة الثالثة ،وكذلك في جميع اشتقاقاته االثني عشر
التي وردت في القرآن ،ومنها قوله تعالى:
ويختلف وضع الفعل (اقرأ) هنا عن وضع الفعل (قل) في مطالع السور
يتكرر في
المتفرد للسورة يقتصر عليها وحدها ،فال ّ
ّ األخرىّ ،
بأن هذا االفتتاح
السور.
غيرها من َ
479
–2ع َلق:
الجاهلي إ ّ
ال بمعنى (الدم): ّ لم أجد هذا اللفظ في الشعر
َع َل ٌق ُه ِر ْي َق على ُم ِ
تون َصوا ِر تَمشـــي بهـــا أَ َد ٌم ّ
كأن ِرحالَهـــا
الذبياني (ت 18ق.ﻫ)
ّ النابغة
يــــــن
الوتِ ِ يَ ُم ُّج عليهــــما َع َل َ
ـق َ ــــــــر على يديــــــــ ِه
تَركنـــا ُه يَ ِخ ُّ
عبد ُمناف ال ُه َذ ّ
لي (ت؟)
[الحج]5 :
ّ -ﮋﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮊ
–3القلم:
من السهل علينا اليوم أن نفهم معنى لفظ (القلم) ،وربّما كان من السهل على
ّ
األقل في العربي األ ّول أن يفهمه أيضاً ،وال سيّما أنّنا نجد اللفظ ّ
مر ًة واحد ًة على ّ
المرقش األكبر (ت 72ق.ﻫ): ِّ الجاهلي عند
ّ الشعر
األديـم َق َل ْ
ـــــم ِ ش في َظ ْهـــــ ِر
َر َّق َ والرســــــــو ُم كمـا
ّ الدّ ُار َق ْف ٌر
480
اإللهي؛ بحيث نجده تعالى يُقسم به ،ويقسم
ّ في سورة (القلم)؛ هو نفسه هذا القلم
بما يكتبه أيضاً:
مرات]:
[مكرر ّ 3
ال ّ 4إلى –6ك ّ
القرآني لهذا
ّ سبق أن تحدّثنا مط ّوالً في سورة (ال ُه َمزة) عن ّ
تفرد االستعمال
اللفظ واختالفه عن استعماالت العرب .لقد اقتصر عندهم على معنى النفي
أو تأكيد النفي ،ولم يعرفوه بمعنى اإلثبات أو التحذير أو النهي؛ كما هو في
االستعماالت القرآنيّة الثالثة التي وردت في هذه السورة.
الرج َعى:
ُّ –7
الجاهلي هذا اللفظ ،ولم يعرفه الحديث الشريف كذلك إ ّ
ال ّ لم يعرف الشعر
ثم إنّه يقتصر على هذه السورة وحدها دون باقي
في سياق التعليق على هذا اللفظّ ،
سور القرآن الكريم.
َ
–8التقوى:
مرةًّ ،
ثم ال نجده في الشعر يرد هذا اللفظ مع مشت ّقاته في القرآن الكريم ّ 261
مر ًة واحد ًة عند زهير بن أبي ُسلمى (ت 13ق.ﻫ) حيث يقول:ال ّالجاهلي إ ّ
ّ
والر ِح ُم ِمن َس ّي ِئ ال َعث ِ ُ
َرات اهلل َّ عص ُم ُه
التقوى ويَ ِ
و ِمن ضريبته َ
ومن ح ّقنا أن نبدي ّ
شكنا الصريح في نسبة هذا البيت إلى زهير ،ليس النفراده
القرآني ،بل لما في البيت من الروح اإلسالميّة
ّ بهذا اللفظ فحسب ،على كثرة استعماله
(الرحم).
الواضحة ،ولما يتض ّمنه من األلفاظ القرآنيّة األخرى مثل (يعصم) و ِ
481
َ –9ك َّذب:
سبق أن أوضحنا في دراستنا لسورة (الماعون) ّ
أن للقرآن الكريم استعماله
الخاص لهذا الفعل الذي يختلف به عن استعمال الشعراء الجاهليّين .لقد كان ّ
بمعنى
ً (ص َد َق) ،أ ّما في القرآن الكريم فيأتي
ب) عكس َ عندهم دائماً بمعنى ( َك َذ َ
مختلف وهو :الرفض وعدم اإليمان أو التصديق .وهو يتعدّى فيه بالباء حين يكون ٍ
التكذيب لغير األشخاص (كالدين والرسالة) ،ويتعدّى بنفسه حين يكون التكذيب
للشخصيّات (كالرسل أو المالئكة).
أ ّما في هذه السورة فلم يتع ّد الفعل ال بنفسه وال بالباء ،وهذا يجعله منفتحاً
لشتّى أنواع التكذيب.
–10تَولَّى:
ٌ
مختلف عن المعنى الذي عرفه الشعر الخاص لهذا الفعل في القرآن
ّ المعنى
الجاهلي .لقد عرفه الجاهليّون بمعنى :هرب ،أو انهزم ،أو ابتعد ،كما في األبيات:
ّ
َوَّلــــى َج ْم ُعــ ُه الجـــا ِف ُل
يــــو َم ت َ ســــائِل بِنا ِح ْجــــراً ْ
وأجنـــــــا َد ُه
َعبيد بن األبرص (ت 25ق.ﻫ)
ـــنـان
الس ِ بصـــد ِر ُمث ََّق ٍف ماضـــي ِّ ــــت فؤا َد ُه ل ّمــــا تَولّـــــى
كك ُ َش ْ
عنترة (ت 22ق.ﻫ)
ولكنّه يأتي في القرآن غالباً بمعنى (كفر أو رفض اإلسالم) كما هو هنا ،أو قد
(أعرض أو انصرف) كما في قوله تعالى: يأتي بمعنى َ
ﮊ [األعراف]79 : -ﮋﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ
[عبَس]2 – 1 :
َ ﭖﮊ -ﮋﭑﭒﭓﭔﭕ
482
الجاهلي ،كقوله تعالى:
ّ وربّما استخدمه القرآن بالمعنى نفسه الذي عرفه الشعر
قرآني
ٌّ معنى
ً أ ّما في الحديث الشريف فيَ ِرد بمعنى (اتّخذ ول ّي ًا) حيناً ،وهو
أيضاً ،وبمعنى (انصرف) حيناً آخر ،كما في قوله (ص):
((( غير َمواليِه فعليه ِم ُ
ثل ذلك .. -و َمن َّ
تولى َ
(((
ضع في قب ِره وتَولّى عنه أصحابُ ُه ..
العبد إذا ُو َ
إن َ ّ -
–11لَنَسفعاً:
أي من مشت ّقاته ،في غير هذه السورة ،وهو ٌ
لفظ يتكرر ،هو أو ٌّ
لفظ ال ّهذا ٌ
الجاهلي ،كما
ّ قرآني بمعنى (الضرب) أو (الجذب) أو (التعذيب) لم يعرفه الشعر
ٌّ
النبوي مطلقاً.
ّ لم يعرفه الحديث
وم ّما يزيده خصوص ّي ًة مجيء نون التوكيد الخفيفة فيه بصورة (ألِ ٍف) ،م ّما لم
اللغوي حتّى اآلن.
ّ الجاهلي وال الحديث الشريف ،وال تراثنا
ّ يعرفه الشعر
[مكرر]:
ناصيَة ّ
ِ –13 –12
المجرد َ
(شعر ّ الحرفي
ّ الجاهلي ،سوا ٌء بالمعنى
ّ لم أجد هذا اللفظ في الشعر
المجازي (صاحب الناصية).
ّ القرآني
ّ الجبهة) أو بالمعنى
–14الزبانية:
الشعري تض ّمن
ّ بيت في تراثنا
الجاهلي ،وأ ّول ٍ
ّ ال وجود لهذا اللفظ في الشعر
الزبَ ْع َرى (ت15ﻫ) يقول فيه:
هذا اللفظ هو لعبد اهلل بن ِّ
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،3ص ،1157حديث رقم .3001
((( المرجع السابق ،ج ،1ص ،462حديث رقم .1308
483
زَبانِيَ ٌة ُغ ْل ٌ
ـب ِعظـا ٌم ُحلو ُمــها طاعين في الو َغى َمطاعي ُم في ال ُق َ
صوى َم ُ
قرآني يتع ّلق بهذه السورة ،وال
ٍّ سياق وال نجده في الحديث الشريف ،إ ّ
ال في ٍ
أي من مشت ّقاته.
يتكرر في القرآن ،وال ٌّ
ّ
واسجد:
ُ –15
ال نجد هذا اللفظ ،أو أ ّي ًا من اشتقاقاته ،عند الشعراء من الطريف ح ّق ًا أ ّ
ات عند شاعرنا األسطورة :عنترة (ت 22ق.ﻫ)، الجاهليين ،ثم نجده ثالث مر ٍ
ّ ّ ّ
صحة نسبتها إليه:بشكنا في ّ أبيات نحتفظ ،كالعادةّ ، وذلك في ثالثة ٍ
ب عجـام وال َع َر ِ ل ُه َجبـابِر ُة َ
األ ـج َد ْتبصارم حيثُما َج َّر ْدتُ ُه َس َ
ِ ٍ
َ
لِ َجاللِــــــها أربابُنـا ال ُعظمــــــا ُء َ ِّ
َس َج َد ْت تُ َعظ ُم َرَّبهـا فتمايَـل ْت
لوعهاالظال َم ُط ُ وجال َ لِ َجمالِهاَ ، ت َجالل ًة س إذا َط َل َع ْت َس َج ْد ُ َش ْم ٌ
ومن الواضح ّ
لكل ذي نظرٍة أدب ّيةٍ نقديّة ،ومن خالل روح األبيات الثالثة
أن أ ّي ًا منها ال يمكن أن ينتمي إلى فترة ما قبلوصياغتها وألفاظها ومعانيهاّ ،
األموي والعصر
ّ أرجح ،حتّى عن العصر
تتأخر ،كما ّ نزول القرآن الكريم ،بل إنّها ّ
اسي (األ ّول) على ّ
األقل. العبّ ّ
–16واقتَر ِْب:
ات ،وباستثناء يتكرر ذكر هذا الفعل في القرآن ،بصيغه المختلفة ،خمس مر ٍ
ّ ّ
معنى زمن ّي ًا ،من
فإن جميع اآليات األربع األخرى يحمل فيها الفعل ًهذه اآليةّ ،
مثل قوله تعالى:
والمعنى اآلخر الذي يحمله هذا الفعل عاد ًة في استعماالتنا البشريّة ،إضاف ًة
بالزماني
ّ بمعنى ليس
ً المكاني ،ولكنّه في اآلية ينفرد
ّ الزماني ،هو المعنى
ّ إلى المعنى
484
الروحي من اهلل من خالل السجود
ّ المكاني ،في أرجح األقوال ،إنّه االقتراب
ّ وال
له والخضوع إليه واالستسالم لمشيئته.
((( البيهقي ،سنن البيهقي الكبرى ،مرجع سابق ،ج ،3ص ،85حديث رقم .4879
((( النسائي ،المجتبى من السنن ،مرجع سابق ،ج ،8ص ،253حديث رقم .5437
485
–2باسمِ ربِّك:
فإن هذا هو الموضع الوحيد في القرآن الكريم الذي وإلى جانب ذلك؛ ّ
اس ِم) ،بل يظهر متقدّ م ًا عليه:
ضمر فيه الفعل العامل بالجا ّر والمجرور( :بِ ْ
ال يُ َ
ﮋﭻ ﭼﮊ .فالفعل يختفي عاد ًة قبل التسمية فيق ّدرونه بقولهم :ابدأ بِ ْ
اسم ،أو:
الزمخشري ظهور الفعل في هذه اآلية وتق ّدمه على التسميةّ ويفسر
اسمّ . ْ
افعل بِ ْ
فصل ابن
أهم .وقد ّ بأنّها أ ّول ٍ
آية نزلت من القرآن فكان تقديم األمر بالقراءة فيها ّ
األنصاري القول في ذلك عند حديثه عن (التقدير والمقدّر) في مصنّفه
ّ هشام
(((
(مغني اللبيب عن كتب األعاريب).
486
المرسل
َ المرسل أكثر وضوحاً وتحديداً أمام
ِ جدّ ًا من التكليف بالرسالة ،أن يكون
معنى حمدّ داً هو
ألن في لفظ (الرب) ً إليه وأمام من سيب ّلغهم الرسالة بعد ذلكّ ،
ثم ّ
إن في السيادة المطلقة واالمتالك الك ّل ّي ،وهذا ال يتّضح في لفظ (اهلل) وحدهّ .
(رب) إلى الضمير الكاف العائد على الرسول مزيداً من التعريف إضافة اللفظ ّ
المرسل.
َ المرسل ،ومزيداً من الحميميّة في التعبير عن قربه إلى نبيّه
ِ لطبيعة
ٌ
موصول ،وهو ،خالفاً لما في اسم
وال يتعدّى الفعل في القرآن إذا سبقه ٌ
مفعول به في المعنى،
ٍ بدهيّ ،
ألن االسم الموصول هو بمثابة ٌّ أمر
اآليات الثالثٌ ،
كما يمكن أن نتح ّقق من قوله تعالى:
[المائدة]18 : -ﮋ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﮊ
487
َ –4خ َلقَ .خ َلق:
المتفردة في تراثنا ،وفي القرآن الكريم ،حين
ّ ّ
تستقل السورة بهذه الصياغة
مرتين من غير فاصل ،رغم ورود الفعلين في آيتين ُ
الفعل نفسه ّ يتوالى فيها
منفصلتين.
َ –5خ َل َق اإلنسان:
لو سمعت س ّيد ًا يقول لخادمه :اُذكر فضل سيّدك عليك ،ألنّه هو ...فكيف
تتو ّقع أن تكون تت ّمة حديث السيّد مع خادمه؟ أهكذا:
الذي منح الناس بيوتاً وطعاماً وأموا ً
ال؟ أم هكذا:
الذي منحك بيتاً وطعاماً وما ً
ال؟
توجه منذ البداية إلىألن الحديث ّ ال ّ
شك أنّنا سنتو ّقع الخيار الثانيّ ،
مفرد يخاطبه :اُذكر ..سيّدك ..عليك ،..ولكنّه تعالى ،وهو يخاطب نبيّه شخص ٍ ٍ
حديث
ٍ الكريم أل ّول مرة ،انتقل فجأ ًة من مخاطبته شخص ّي ًا :اِ ْ
قرأ ..ربِّك ..إلى ّ
تعتده
القرآني الذي لم ْ
ّ َ
اإلنسان ..وهو من االلتفات عام عن الناس جميعاًَ :خ َ
لق ٍّ
فن االلتفات فياألذن العربيّة من قبل ،كما بيّنّا في الجزء األ ّول عند حديثنا عن ّ
القرآن الكريم.
اإلنسان ِمن َع َلق:
َ َ –6خ َلق
العربي األ ّول الذي سمع هذه اآلية مفاجأتان:
َّ سيُواجه
األولى :اإلثارة الخياليّة الكامنة في الصورة الجديدة التي شبّه فيها القرآن
رحم
تشكله في ِالتكوين األ ّول لإلنسان ،وهو ما يزال في الساعات األولى من ّ
أ ّمه ،بع َلقة الدم المتخثّر.
والثانية :اإلثارة الفكريّة التي ستُ ْحدثها الصورة في ذهنه وهي تشرح له أل ّول
تسلس َل َخ ْلقه العجيب ،حين كان في
ُ سابق لعصره،
إلهي ٍ تقرير طبّ ٍّي ٍّ
ٍ مر ٍة ،وفي
ّ
488
ثم تخ ّلقت هذه العلقة،
مكان قليل الشأنّ ،
«علقة» صغيرة الشأن ،في ٍ ٍ مجرد
األصل ّ
ثم ما يلبث هذا الجنين الضعيف أن يخرج قوي ،لتكون جنيناًّ ، عظيم ّ
ٍ قادر
بقدرة ٍ
إلى الوجود ليكون إنساناً قو ّي ًا سو ّي ًا.
–7اقرأ وربُّك:
ُ
الفعل فاعله ومر ًة أخرى يَلزم
يتكرر هذا الفعل في السورةّ ، للمرة الثانية ّ
ّ
مختصةٌ بهذه
ّ خمتصةٌ بالقرآن ،كما رأينا ،بل
ّ مفعول به ،وهي حال ٌة
ٍ فال يتعدّى إلى
تتكرر في غيرها.
السورة وحدها فال ّ
–8اِقرأ وربُّك:
مكان آخر ،وال
يتكرر في ٍ
القرآني فال ّ
ّ ومرةً أخرى ،تنفرد السورة بهذا التعبير
ّ
العربي قبل اإلسالم أو بعده ،ويخلو منه تماماً الحديث الشريف.
ّ نجده في تراثنا
–9وربُّ َ
ك األكرم:
لو أردنا أن نُلحق بالمبتدأ خبراً هو في حقيقته صف ٌة نريد أن ننسبها إليه لقلنا
على سبيل المثال:
رائع ،أو:
المنظر ٌ
ُ هذا
كريم ُ
الرجل ٌ ذلك
أما لو اخترنا أن نخبر عن هذه األشياء باسم تفضيل معر ٍ
ف (بال) ّ
لنفضله ّ ٍ ِ ّ
بذلك على غيره من أشباهه فسوف نقول:
489
ُ
الرجل هو األكر ُم (بين الرجال) ذلك
فإن استغنينا عن الضمير (هو أو هي) في وسط الجملة ،فقلنا:
األروع
ُ المنظر
ُ هذا
تلك الق ّب ُة األعلى
ُ
الرجل األكر ُم ذلك
إعراب ما كان خبراً في الجمل األولى
ِ تلقائي إلى تغيير
ٍّ بشكل
ٍ لذهب الذهن
(األروع ،األعلى ،األكرم) ،ليصبح في الصيغة الجديدة صف ًة للخبر وليس الخبر
نفسه ،فتكون أسماء اإلشارة (هذا ،تلك ،ذلك) هي المبتدأ ،ويصبح ما بعدها َ
(المنظر ،ال ُقبّة ،الرجل) خبراً لها ،أ ّما ما يلحق بالخبر فلن يعدو أكثر من ٍ
صفة لهذا
الخبر ،وهو أقرب ما يكون لقولنا:
رائع
منظر ٌ
هذا ٌ
تلك ُق ّب ٌة عالي ٌة
كريم
رجل ٌذلك ٌ
ك ولكن اآلية –خالفاً لطرائق تعبيرنا– استغنت عن الضمير (هو) فلم تقل (وربُّ َ
ّ
(رب) وليس صف ًة هو األكرم) ،ومع ذلك ّ
ظل الوصف (األكر ُم) فيها خبراً للمبتدأ ُّ
خبر وهذا غير جائز.
لظل المبتدأ (ربُّك) يبحث عن ٍ له ،ولو جعلناه صف ًة ّ
–10وربُّ َ
ك األكرم:
يأتي استعمال اسم التفضيل ،الذي يكون على وزن (أفعل) عادةً ،في سياق
أمر ما على سائرهم،
أفراد يتف ّوق أحدهم في ٍ
أشياء أو ٍ
ٍ الحديث عن مجموعة
فنقول مث ً
ال:
ٌ
ورياض هو األذكى التالميذ أذكيا ٌء
القصص جميل ٌة وتلك ّ
القصة هي األجمل
490
بأفراد آخرين وردوا في السياق ،فهوٍ ولكن اللفظ (األكرم) في اآلية لم يقترن ّ
مفضلين لم يُذكروا أبداً مع َمن
الت أو َّ
مفض ٍ
اسم استُخدم لتفضيل (ربّك) على َّ ٌ
العربي الذي سمع اآلية حال تن ّزلها،
ّ شك سيوقد خيال ُف ِّضل عليهم ،وهذا من غير ّ
ويتركه في تفك ٍّر وتد ّب ٍر عميقين.
سر ،أو:
ؤتمن على ٍّ
أكثر َمن يُ َ
جا ُرنا ُ
موظ ُفكم ُ
أنجح َمن َكتب الرسائل.. َّ
وال نقول:
سر ،أو:
ؤتمن على ٍّ
األكثر الذي يُ َ
ُ جا ُرنا
491
ولكن السورة تقول:
ّ
ﮋﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ..ﮊ
فتبيّن الفرق ،حيثما ن ّقلت نظرك ،بين لغتنا ولغة القرآن الكريم.
َ –12ع ّلم:
(ع ّلم) من غير تعديته إلى
لم يعتد العرب في الماضي أن يستعملوا الفعل َ
مفعولين ،فقالوا:
َمن ع ّلمني حرفاً ُ
كنت له عبداً
492
يخبر أحدنا عن نفسه بقوله :أنا أع ّلم بالقلم ،رغم ّ
أن شيوع القلم واستخداماته قد
أصبحت اليوم أكثر من أن تُحصى ،على خالف ما كان عليه األمر في فترة نزول
الوحي حين كان العرب ال يكادون يعرفون شيئاً اسمه القلم أو الكتابة.
القرآني والتعبير البشري؟ وهل الحظتم كيف ّ هل الحظتم الفرق بين التعبير
داخلت بين العبارتين القرآنيّتين والعبارتين البشريّتين ،تقديماً وتأخيراً وحذفاً ،حتّى
ُ
اللغوي المألوف؟ طبعاً ّ
أهم ما يلفتنا ّ ظهرتا في شكلهما الجديد بعيداً عن الشكل
بشكل صريح
ٍ في هذا التغيير هو تعدية الفعل األ ّول في جملتنا البشريّة إلى مفعوله
ضمير للغائب (ع ّلمه) ،وهو
ٍ (ع ّلم اإلنسان) وإضمار مفعول الثاني بتحويله إلى
العكس تماماً لما جاءت عليه العبارة القرآنيّة ،إذ اختفى فيها مفعول الفعل األ ّول،
أو باألحرى مفعواله ،وظهر مفعوال الفعل الثاني.
وبدهي أ ّ
ال نجد هذا التعبير في الحديث الشريف. ٌّ
َ –15ع ّلم اإلنسان:
ال في القرآن الكريم .والمطلوب تعبير فري ٌد ال نجده ،وال ينبغي أن نجده ،إ ّ
إنّه ٌ
العربي األ ّول الذي ربّما عرف أوصاف ًا كثير ًة هلل :فهو
ّ أن نضع أنفسنا اآلن مكان
الذي يخلق ،ويرزق ،ويقدّر األقدار ،ويُهلك ،ويحيي ،ويميت ،ولكن «أن يُ ِّ
علم»
الجاهلي.
ّ فهذا كان ما يزال بعيداً عن تص ّور
493
–16ما لم يَعلم:
ثم ّ
إن استعماله، الجاهلي ،وال الحديث الشريفّ ،
ّ هذا التركيب لم يعرفه الشعر
السور.
يتكرر في غيرها من َ
إلى ذلك ،يقتصر على هذه السورة ،فال ّ
ال لئن ،ك ّ
ال ال: إن ،ك ّ 17إلى –19ك ّ
ال ّ
يتكرر التركيب
ال)؛ ّ من بين 33حال ًة استخدم فيها القرآن الكريم األداة (ك ّ
مرتين ،أ ّما التركيب ﮋﯠ ﯡﮊ فيقتصر مرة ،والتركيب (ك ّ
ال ال) ّ ﮋﮔ ﮕﮊ ّ 11
على هذه السورة وحدها .وينحصر استعمال التراكيب الثالثة بالقرآن فال نجد
اإلسالمي ،ال شعراً وال نثراً ،وال وجود لها في
ّ الجاهلي أو
ّ أيّا منها في تراثنا
الحديث الشريف أيضاً.
–20لَيَطغَى:
اعتادت العرب أن تقول:
َ
الضيف ،و: إنّه لَيَ ْق ْ
ري
(إن) "التوكيديّة" إلى خبرها لتجنّب فتُزح ِلق "الم التوكيد" هذه من اسم ّ
ال ،وهو مضار ٌع عادةً ،فإنّه ال يكتفي بنفسه إذ اجتماع توكيدين ،فإذا جاء الخبر فع ً
ملحقات تلحق به ،كالفاعل والمفعول به أو ما يقوم مقامهما ،وهذا ٍ ال ب ّد له من
شأن العرب دائماً مع الفعل المرتبط بالالم المزحلقة إذا كان مبن ّي ًا للمعلوم ،كما
في الجمل الثالث المذكورة ،وكما في األبيات:
وأُ ِج ُّد َو ْص َ
ـل َم ِن ابتغَى َو ْصـلي إنّي َ
أل ْصــــــــ ِر ُم َمن يُصار ُمني
امرؤ القيس (ت 80ق.ﻫ)
494
الش ِب ِ
القليل ال ُمن ِز ِف أخشــى ،لدى ُّ
َ ـم ّ
أن ح ْتفي في التي إنّي َ
ألع َل ُ
نفرى (ت 70ق.ﻫ)
الش َ
َّ
ُ
ويعيش القتـــــال ُمبـــــا ِر ٌز
ِ يــــو َم صورتي
ْ ب كيف يَ ُ
نظ ُر إنّي َ
ألعج ُ
عنترة (ت 22ق.ﻫ)
ـب
يـن بها أنا طالِ ُ
ســـــواك وال َد ٌ
ِ لي حاج ٌة
األرض ما َ
َ وإنّي آلتي
األخضر ال َف ّ
زاري (ت؟ ق.ﻫ)
تجرد من هذه الملحقات واكتفى بنفسه أ ّما الفعل (يَطغى) في اآلية فقد ّ
مستغنياً عنها ،بحيث نستطيع أن نتوقف عنده من غير أن نشعر بضرورة وجود
كالم بعده .ولو حاولنا ذلك مع األمثلة التي أوردناها أعاله فسنجد أنّنا ال نستطيع
ٍ
يتم بغير الكالم الذي يليه.
ألن المعنى ال ّ ّ
التوقف فيها عند الفعل المرتبط بالالم ّ
ثم تتو ّقف عن الكالم ،أو أن الطائي (وإنّي َ
ألخ َزى) ّ ّ وحاول مث ً
ال أن تقول مع حاتم
ثم تكتفي بذلك! تقول مع عنترة( :إنّي ألعجب) ّ
اإلنسان لَيَطغَى:
َ إن
ّ –21
خاص بهذه
ٌّ قرآني جديد أشبه بالحكمة أو المثل السائر ،وهو
ٌّ تعبير
ٌ هذا
يتكرر في القرآن ،وال وجود له في تراثنا ،وال في الحديث الشريف.
السورة فال ّ
495
أن رآه:
ْ –22
التقدير هنا طبعاً( :لَيَطغى ألن رآه ،أو :ألنّه رآه ،أو :ألنّه رأى نفسه) ،فهناك
مقدر ٌة محذوف ٌة في اآلية ،وال أعرف قبل القرآن ،وال بعدهَ ،من َحذف (ال ٌم) تعليل ّي ٌة َّ
(أن) المصدرية فقال مث ً
ال: الم التعليل الجا ّرة قبل ْ
ٌ
مقبوض عليك ال محالة عرفت أنّك
َ أن مت َ
نفسك ْ َس ّل َ
–23رآه:
ومختص بهذه السورة وحدها .فالفعل (رأى) هنا ٌّ قرآني فري ٌد
ٌّ ٌ
استعمال هذا
(ظن) ،وأباحت العرب لنفسها أن تُسند هذا النوع من األفعال ،التي س ّموهابمعنى ّ
(الحسية) أي (البصريّة)– ،إلى
ّ (قلبيّة) -أي (عقليّة) وهي بعكس شبيهتها األخرى
رأيت نفسي ،بمعنىالمخاطب ،فقالوا :رأيتُني عاجزاً ،أيُ :
َ ضمائر المتك ّلم أو
نفسك) ولكنّهم ،فيما
(تظن َ
ّ ُراك خارج ًا؟ بمعنى
(ظننت نفسي) ،وقالوا :متى ت َُ
وجدت ،لم يُسندوا هذه األفعال إلى ضمائر الغائب ،كما حدث في اآلية حين جاء
ُ
الفاعل المستتر (وتقديره :هو) هو نفسه المفعول به (ضمير الغائب :الهاء)؛ أي:
نفسه). ُ
اإلنسان َ (ظن
ّ
النحوي الكبير الذي أباح ذلك ،لم يستطع أن يأتي ،حين أراد ّ حتى ابن خالويه،
بأمثلة من
ٍ بأمثلة استخرجها من اآلية نفسها ،فربأ بنفسه عن أن يأتي ٍ أن يمثّل له ،إ ّ
ال
إن اإلنسانين لَيَ ْطغَيان أن َرأَياهما استَغنيا، ّيت هذا الحرف قلتّ : عنده ،فقال" :فإذا ثن َ
(((
غنيت "..
َين أن رأيتِ ِك استَ ِ األناس ّي لَيَطغَون أن رأَوهم استَغنَواَّ ،
وإن ِك لَتَ ْطغ َ ِ ّ
وإن
496
ّ
والحق (((
فتقول :رأيتُني وظننتُني وحسبتُني ،فقوله ﮋﮙ ﮚ ﮛﮊ من هذا الباب"
الزمخشري ال عالقة له بهذا الباب.
ّ ّ
أن مثال
راجع..
ٌ أو تكون على ّ
األقل :فاعلم أنّك
راجع..
ٌ أقل ّ
األقل :فإنّك أو على ّ
لغوي هو
ٍّ برابط
فترتبط الجملة القرآنيّة السابقة بالجملة الجوابيّة الالحقةٍ ،
فعل يساعدها( :فاعلم ّ
أن إلى الرجعى) ،أو بالفاء مع ٍ
(فإن إلى ربّك ّ حرف الفاءّ :
الرجعى) ،أو بهما معاً وباألداة (إذن) التوضيحيّة المنبِّهة (إذن فاعلم ّ
أن.).. ربِّك ّ
أي من هذه الروابط أو غيرها من الروابط البديلة، القرآني خال من ٍّ
ّ ولكن السياق
ّ
وهي ظاهر ٌة من الظواهر القرآنيّة كما عرفنا في َ
سو ٍر سابقة.
((( فخر الدين الرازي ،التفسير الكبير ،مرجع سابق ،ج ،11ص.220
497
إن إلى ربِّك:
أن رآهّ ..
ْ –26
قرآني آخر من صيغة الغائب( :رآه :رأى نفسه) إلى صيغة ٌّ التفات
ٌ وهذا
المخاطب( :ربِّك) ،ولو تركنا األمر إلى لغتنا البشريّة لقلنا –متابع ًة لصيغة الغائب
الرجعى). التي بدأ بها الكالم–ّ :
(إن إلى ربّه ُّ
الرج َعى:
ك ُّ –27إلى ربِّ َ
هذا النوع من تقديم الخبر وتأخير المبتدأ ،مع إطالق المبتدأ وعدم حصره
تختص به لغة القرآن الكريم .فإطالق لفظ ّ أمر
جماعة أو نوعٌ ،ٍ شخص أو
ٍ في
اسم آخر مث ً
ال ،كأن كل شيء ،وعدم تخصيصه ،بإضافته إلى ٍ (الرجعى) هنا ليشمل ّ
ُّ
نقولُ :رجعاك ،أوُ :رجعانا ،أوُ :رجعى البشر ،خصيص ٌة لغو ّي ٌة كثيراً ما ّ
تتكرر في
مثل هذا النوع من الجمل القرآنيّة التي يتقدّم فيها ما ح ّقه التأخير ،كما في اآليتين
التاليتين اللتين نجدهما في سورٍة صغيرٍة واحدة:
أرأيت ..عبداً:
َ –28
(أنت ،أي الرسول): َ
المخاطب َ التفات آخر تح ّول فيه الخطاب من صيغة
ٌ وهذا
أن محور الحديث (أرأيت) إلى صيغة الغائب (هو)( :عبداً ،أي الرسول أيضاً) رغم ّ
َ
ما يزال واحداً بعينه لم يتغيّر وهو شخص الرسول (ص) ،ومن غير هذا االلتفات
كنّا نتو ّقع أن يكون شكل العبارة هكذا:
ينهاك إذا ص ّل َ
يت َ النبي ذلك الذي
أرأيت أيّها ّ
َ
–29ين َهى .عبداً:
لقد انتهت اآلية األولى عند الفعل (يَن َهى) فتو ّقفنا بعده ،ثم استُؤنف الحديث
غريب وشدي ٌد بين
ٌ ٌ
فصل في اآلية التالية التي بدأت بمفعول ذلك الفعل ،وهو
498
الفعل ومفعوله بجعلهما في وحدتين لغويّتين منفصلتين ،وقد أضحى هذا النوع
من الفصل ظاهر ًة لغو ّي ًة قرآن ّيةً واضحة.
–30يَنهى عبداً:
القرآني .فكما أطلق تعالى
ّ (التجريد) أو (اإلطالق) هو من خصائص التعبير
نوع ،كذلك
هيئة أو ٍ
بشخص أو ٍ ٍ يخصصهامضاف ّ
ٍ ُضف إلى
(الر ْج َعى) فلم ت َ
لفظ ُّ
(النبي) ،ولم
ّ أطلق بالتنكير هنا اللفظ (عبداً) ،فلم يقل( :العبد) أو َ
(ع ْب َد اهلل) أو
أن الحديث جاء خطاباً َ
(ينهاك) ،كما سبق أن ذكرنا ،رغم ّ يحدّده بقوله مث ً
ال:
جهل) يؤذيه ويحاول أن يمنعه من الصالة.
للرسول (ص) ،وقد كان (أبو ٍ
المفسرون،
ّ النبي (ص) ،كما يقول
تفخيم لشأن ّ ٌ وفي هذا التنكير أو (اإلطالق)،
ونظيره تلك الكناي ُة في الفعل (أنزلناه) من سورة (الق ْ
َدر)، ُ ف،معر ٌ
ألنّه ،مع التنكيرَّ ،
ذكر ،لمكانة القرآن الكريم.
الضمير على القرآن ولم يَسبِق له ٌ
ُ حيث ُح ِمل
مرات]:
[مكرر ّ 3
أرأيت ّ
َ 31إلى –33
لكلمة واحدٍة في السورة نفسها .فقد استخدم
ٍ حاالت غريب ٌة مختلف ٌة ٌ
ثالث ٌ إنّها
(أرأيت) بمعنى (أخبِ ْرني) ،بحيث يأخذ عندهم مفعولين يغلب أن
َ العرب الفعل
النهشلي (ت؟ ق.ﻫ):
ّ يكون الثاني منهما جمل ًة استفهاميّةً ،كقول ضمرة
وخرجت منها باليـــــاً أثوابي
ُ ليل ها َمتِ ْي
ـت بِ ٍ
صرخ ْ
َ أرأيت ْ
إن َ
الب
بس ِرؤوسهــــا ِ
َ أ ْم تَ ْع ِصبَ َّن وجوهها
َ علي
لي ّ هل ت ْ
َخ ِم َش ْن إِبِ ْ
وصرخت
ْ تلت وجوهها حزناً ّ
علي إذا ُق ُ َ أخبرني إن كانت إبلي ستخمش
أي ْ
(أرأيت
َ هامتي فوق قبري((( فالمفعول األ ّول هو ،في المعنى ،اللفظ (ها َمتي) ،أي:
تخم َش ْن إبِلي).
صرخت) والمفعول الثاني هو الجملة االستفهاميّة (هل ِْ هامتي لو
خيالي اعتقد الجاهليّون أنّه يحوم حول قبر القتيل صائحاً (اس ُقوني) حتّى يؤخذ بثأره.
ٌّ طائر
((( هي ٌ
499
مخالف تماماً
ٍ وبشكل
ٍ ولكن الفعل في السورة تق ّلب في مواضعه الثالثة، ّ
حاالت ثالث:
ٍ للتقاليد اللغويّة العربيّة ،بين
أ – الفعل األ ّولُ :حذف مفعوله الثاني ،ولكن ُذكر مفعوله األ ّول وهو (الذي):
ﮋ ﮢ ﮣ ﮊ.
ب – الثانيُ :حذف مفعواله األ ّول والثاني ﮋﮪ ﮫ ﮬ ..ﮊ فلم يظهر ٌّ
أي
منهما في اآلية.
ت – الثالث :على عكس الحالة األولىُ ،حذف مفعوله األ ّول ﮋﯕ
يحل مح ّله ،وهو الجملة
ﯖ ﯗ ..ﮊ واكتُ ِفي بذكر الثاني ،أو ما ّ
االستفهاميّة ﮋ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﮊ.
القرآني أص ً
ال عن االستعماالت الجاهليّة المحدودة لهذا ّ ومع تميّز االستعمال
التركيب ،كما سبق أن رأينا في سورة (الماعون) ،نجده وقد اختلفت استعماالته
كل ٍ
يتكرر بها في هذه السورة. مرة من ّ
المرات الثالث التي ّ أيض ًا في ّ ّ
لقد تعدّى في األولى صراح ًة إلى المفعول به (الذي) فجاء فيها بمعنى:
أأدركت؟ على حين لم يتع ّد في الثانية ﮋ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮊ ،إ ّ
ال َ أتُميّز ،أو:
أنّه جاء مع ذلك بالمعنى األ ّول نفسه تقريباً ،ولكن مع تأكيد النفي؛ إذ لم يكن في
الواقع على هدى .أ ّما في الحالة الثالثة ﮋ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﮊ فجاء أقرب في
مفعول به ،ولكنّه د ّعم تأكيد اإلثبات هذه
ٍ تركيبه إلى الحالة الثانية ،إنّه لم يتع ّد إلى
جهل ك ّذب ح ّق ًا وتولّى. المرة ،وليس تأكيد النفي كما في الحالة الثانيةّ ،
ألن أبا ٍ ّ
–34عبداً إذا ص ّلى:
يتكرر
خاص بهذه السورة وحدها فال ّ
ٌّ خاص بالقرآن الكريم ،بل
ٌّ تعبير
هذا ٌ
السور.
في بقيّة َ
500
إن َك َّذب:
إن كانْ ،
ْ –36 –35
(إن) في هذين الموقعين تشير إلى الماضي ،وليس إلى المستقبل كما األداة ْ
النهشلي الذي أوردناه قبل قليل ،فالشاعر يتساءل هناك ع ّما
ّ هي الحال في بيت
صرخت هامتي) ،أي لو حدث أن صرخت الهامة بعد ْ (أرأيت ْ
إن َ يحدث بعد موته
(أرأيت) باألداة ْ
(إن)، َ ُلحق الفعل
موتي .فلو أرادت العرب الزمن الماضي لم ت ِ
وهذا ما يفعله النابغة الذبياني (ت 18ق.ﻫ) حيث يقول:
ت ُغباري
جاج فما َش َق ْق َ
تحت ال َع ِ
َ حين لَ ِق ْيتَني
كاظ َأرأيت يو َم ُع َ
َ
أن معنى ْ
(إن) في اآليتين هنا (أتذ ُكر ما حدث ذلك اليوم؟) وهكذا نرى ّ أي ْ
الزمني ،عن معنى (إ ْذ) الظرفيّة التي تشير عاد ًة إلى الزمن ّ ال يختلف كثيراً ،في بُعده
الماضي كما في قوله تعالى:
[ الكهف]63 : -ﮋﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﮊ
العربي قبل اإلسالم.
ّ ٌ
استعمال جدي ٌد لهذه األداة لم يعرفه الشعر وهو إذن،
اللغوي وقع ،رحمه
ّ بتفسير لهذا المأزق
ٍ وحين حاول اإلمام الفخر الرازي الخروج
فسر (كان) في اآلية األولى بمعنى (صار) فقال:
لغوي آخر حين ّ
ٍّ مأزق
اهلل ،في ٍ
إن كان هذا الكافر ،ولم ي ُقل (لو كان) ،إشار ًة أرأيت ْ
َ «يقول اهلل تعالى :يا مح ّمد،
إن صار على الهدى واشتغل بأم ِر ن ْفسه أ َما كان أرأيت ْ
َ إلى المستقبل ،كأنّه يقول:
((( رجل ٌ
عاقل ذو ثروة» يليق به ذلك إذ هو ٌ
جهل منها إلى
فتغدو اآلية ،بهذا المعنى المقترح ،أقرب إلى امتداح أبي ٍ
مهاجمته والتشنيع عليه كما هو األمر في أصل اآلية.
–37على الهدى:
الجاهلي من
ّ المتفرد الذي لم يعرفه الشعر
ّ تنفرد سورة ( الع َلق) بهذا التعبير
سور القرآن الكريم األخرى .وربّما وجدنا التعبير في بعضأي من َ قبل ،ولم تعرفه ٌّ
اآليات ولكن من غير (الـ) التعريف ،كقوله تعالى:
((( فخر الدين الرازي ،التفسير الكبير ،مرجع سابق ،ج ،11ص.222
501
ﮊ [البقرة ،5 :ولقمان]5 : -ﮋ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ
ألن األداة (على) فيه جاءت للتعدية ال مختلف عن شأن آية (الع َلق) ّ ٌ فشأنه
(جم َعهم) وليس باالسم المقدّر خبراً لألداة (كان) كما في بفعل َأكثر ،فهي متع ّلق ٌة ٍ
آيتنا هنا ،أي( :إن كان هو كائناً على الهدى) .إنّنا نستطيع مث ً
ال أن نُ ِح ّل اسم المفعول
(أرأيت إن
َ محل شبه الجملة ﮋ ﰒ ﰓﰔ ﮊ في آية (الع َلق) فنقول: (مهتدياً) ّ
كان مهتدياً) وكذلك في آيتي (البقرة ولقمان) فنقول( :أولئك مهتدون) ،ولكنّنا ال
جم َعهم مهتدين) ،وليس ال ألصبحت (لَ َ نستطيع أن نفعل ذلك مع آية (األنعام) وإ ّ
(لجم َعهم ليكونوا في اجتماعهم مهتدين) َ هو المعنى المراد باآلية ،وإنّما تعني
هكذا في المستقبل وليس في الحاضر (اآلن) كما هي الحال في اآليات الثالث.
أمر بالتقوى:
َ –38
وبدهي أ ّ
ال ٌّ السور،
يتكرر في غيرها من َ خاص بسورة (العلق) فال ّ
هذا التعبير ٌّ
القرآني (التقوى) كما بيّنّا.
ّ نجده في الشعر الجاهلي الذي يخلو أص ً
ال من اللفظ
وال وجود للتعبير في الحديث الشريف.
بأن:
علم ّ
-40ألم يَ ْ
ولكن تعدّي الفعل (يَعلم) بالباء
ّ الجاهلي.
ّ ال وجود لهذا التعبير في الشعر
تختص بها هذه السورة .ففي 383حال ًة من أصل 385من الحاالت ّ حال ٌة تكاد
502
يتكرر فيها هذا الفعل مع مشت ّقاته في القرآن؛ تعدّى دائماً بنفسه من غير
التي ّ
االستعانة بالباء ،كما في هذه اآليات:
ﮊ [البقرة]77 : -ﮋﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ
وفي لغتنا اليوميّة؛ يغلب أن يتعدّى الفعل بالباء لو كان الحديث عن الماضي،
ويتجرد منها لو كان الحديث عن المستقبل ،فنقول عن الماضي مث ً
ال: ّ
علمت بما حدث؟ ولكنّنا نقول عن المستقبل:
َ هل
هل تعلم ما يمكن أن يحدث ،وال نقول:
هل تعلم بماذا سيحدث؟ إ ّ
ال أن يكون الفعل هنا بمعنى (تتنبّأ).
وفي آيتَي سورة (يس) ينحصر العلم في الزمن الماضي دون الحاضر أو
المستقبل كما هو واضح :ﮋ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﮊ ،فالغفران قد وقع ويتمنّى
لو ّ
أن قومه يعلمون بوقوعه .وهكذا في آية سورة (العلق) فالعلم برؤية اهلل ال ب ّد أن
وسب ِقه ،سبباً في التشنيع
ثم يصبح الكفر ،مع وجود هذا العلم ْ يكون سابقاً ،ومن ّ
جهل وعمله.
على أبي ٍ
نظر مخالف ٌة لرأينا حول زيادة الباء في مفعول (علم)،
وللنحويّين وجهات ٍ
واحد
ٍ مفعول
ٍ وهم يكتفون بالتفريق بين ما يتعدّى من مشت ّقات هذا الفعل إلى
503
فيرجحون ّ
اطراد زيادة الباء في النوع األ ّول وندرتها في وما يتعدّى إلى مفعولينّ ،
يفرق بين هذين النوعين في تعامله مع الفعل وأسقط الثاني .أ ّما القرآن الكريم فلم ّ
ظاهر في اآليات التي استشهدنا بها.
ٌ الباء في كلتا الحالين ،كما هو
–41يَرى:
اللغوي على أن يتعدّى فعل الرؤية
ّ خاص ،لقد جرى العرف قرآني ّ ٌّ ٌ
استعمال
األقل ،وربّما إلى مفعولين إن كان قلب ّي ًا –أي بمعنى ّ
(ظن)– واحد على ّ مفعول ٍ
ٍ إلى
أي مفعول .ورغم ولكن الفعل لم يتع ّد في هذه اآلية إلى ّ ّ كما سبق أن رأينا،
بطريقة أو
ٍ المرات ،وتعدّى في معظمها، يتكرر مع مشت ّقاته في القرآن مئات ّ أنّه ّ
مفعول ،أو ما يقوم مقامه،
ٍ بأخرى ،إلى مفعول ،فإنّه التزم بفاعله ولم يتع ّد إلى ّ
أي
آيات فحسب ،منها هذه اآلية. في أربع ٍ
504
.... .... .... .... .... مولى لنا
ً الدهر عن
ال يَنت ُهون ّ
ّ
األقل ولكن القرآن الكريم يخالف هذا العرف اللغوي في 14موضعاً على
ّ
السور ،ومنها هذه السورة.
من مختلف َ
لئن لم ينت ِه:
ْ –44
الجاهلي ،ولكنّنا ال نجد فيه ،وال
ّ يتعدّد ورود التركيب ﮋ ﯡ ﯢ ) في الشعر
ات فيالزجري ﮋ ﯡ ﯢ ﯣ) رغم وروده 6مر ٍ فيما بعده من الشعر ،هذا التعبير
ّ ّ
بصيغ مختلفة ،منها قوله تعالى:
القرآن الكريم ٍ
ﭳ ﮊ [الشعراء]116 : -ﮋﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ
-ﮋ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮊ [يس]18 :
النبوي.
ّ وال وجود لهذا التعبير في الحديث
– 45لنَس َفعاً:
هذه حال ٌة أخرى من حاالت (إطالق الفعل) في السورة ،ورغم ذكر موضع
السفع بعد ذلك ،وهو الناصية ،الذي قد يرمز إلى المسفوع نفسهّ ،
فإن خل ّو اآلية ّ
من ذكر المسفوع يمنحها خصوص ّي ًة تميّزها عن لغتنا العاديّة.
لنس َفعاً:
ْ –46
لغوي ،إذ ح ّلت األلِف ّ
محل نون التوكيد في آخر الفعل، ّ إمالئي –
ٌّ تفردٌ
هذا ّ
النحاس
الجاهلي ،وإن أورد ابن ّ
ّ يتكرر هذا في القرآن ،وال نجده في الشعر وال ّ
لشاعر لم يذكر اسمه [الشاهد ]173ولكن منٍ في كتابه (إعراب القرآن) شطراً
الواضح أنّه يعود إلى الحقبة اإلسالميّة كما يمكن أن نتبيّن بسهولة:
الش َ
يطان واهللَ َ
فاحمدا َحم ِد ّ
وال ت َ .... .... .... .... ....
505
ُدخل تحت مظ ّلتها الكثير
أن للشعر ضروراته ،وهي قاعد ٌة عريض ٌة ت ِ
ورغم ّ
من المخالفات اللغوية التي ارتكبها الشعراء مستمتعين بهذه الحصانة الدبلوماسيّة
فإن النثر كان بعيداً دائماً عن مثل هذه االمتيازات.
الخاصةّ ،
ّ
–48بالناصية:
(س ّود) أو (أ َذ ّل) ،كما تذهب
(سفع) بمعنى (لطم) أو ( َوسم) أو َ
إذا كان الفعل َ
معظم التفسيرات ،فيتو ّقع المرء أن يتعدّى إلى مفعوله بنفسه ،شأن هذه األفعال
ولكن الفعل اكتسب هنا خصوص ّي ًة قرآن ّي ًة أخرى
ّ ك ّلها ،فيقول( :لنَ ْ
سفعن ناصيته).
بتعدّيه إلى مفعوله بحرف الباءّ ،
بغض النظر عن وظيفة هذه الباء هنا.
506
–50بالناصية .ناصي ٍة:
ُجز إبدال النكرة من المعرفة إ ّ
ال رغم ّ
أن المدرسة الكوفيّة في النحو لم ت ِ
ألن الوصف أو اإلضافة يخ ّففان من تنكيرها ،كقولنا:
بشرط وصفهاّ ،
أي
أن المدرسة البصريّة قد أجازت ذلك النوع من البدل من دون ّ ورغم ّ
فإن الشواهد على لجوء العرب لهذا النوع من البدل ،خارج القرآن الكريم،شرطّ ،ٍ
المبدل منه مجروراً لفظاً كما جاء هنا (بالناصية)
عزيز ٌة نادرة ،وأندر منها أن يكون َ
ًّ
محال ،كما عرفنا ،ألنّه كان في موقع المفعول به قبل زيادة الباء ولكن منصوب ًا
(لَنَ ْ
سفعن ناصيته).
ولكن ما يه ّمنا ّأوالً في هذه العبارة ،ويجعلنا نض ّمها إلى الصيغ اللغويّة
كل منهمااللغوي التا ّم بين البدل والمبدل منه بمجيء ٍّ
ّ الجديدة ،هو ذلك االنفصال
آية مستق ّلة.
في ٍ
507
–53ناصي ٍة كاذب ٍة خاطئة:
قرآني فري ٌد ومميّز ،عن الخطيئة والكذب والجهل ،ال نجد مثله أو ما
ٌّ تعبير
ٌ
أي من صفحات شعرنا أو نثرنا
الجاهلي ،وال بعد ذلك في ٍّ
ّ قريب منه في الشعر
هو ٌ
العربي ،وال نجده أيضاً في الحديث الشريف.
ّ
–54ف ْليَ ْد ُع ناديَه:
السور
أي من َيتكرر في ٍّ
ال عن اختصاص سورة (العلق) بهذا التعبير؛ إذ ال ّ فض ً
صفحة من صفحات
ٍ خاص بالقرآن الكريم ،وال نجده في أيّة
ٌّ األخرى ،فإنّه ٌ
تعبير
النثري قبل اإلسالم أو بعده ،وال في الحديث الشريف.
ّ الشعري أو
ّ تراثنا
وال نقول:
ال إذا أردنا أن نحضر محاميَنا قبل أن يُحضر محاميَه ،أو أن نُلقي بأسلحتنا إّ
قبل أن يُلقوا هم بأسلحتهم ،وليس هو المراد .وهكذا نرى اآلي َة الالحقة وقد
َ
الرابط المعتاد الذي يربطها باآلية السابقة ،ولو تُرك األمر للغتنا لقلنا: فقدت
508
عطف يربط بين
ٍ ومهما تعدّدت أمامنا الخيارات فلن نتخ ّلى عن حرف
الجملتين على ّ
أقل تقدير.
الزبانِيَة:
–56سنَ ْد ُع َّ
كتف بحذف الواو وهذه مفاجأ ٌة إمالئ ّي ٌة – لغو ّي ٌة أخرى في السورة ،إذ لم يُ َ
لفظاً ،كما اعتدنا أن نفعل في قراءتنا في مثل هذا السياق –بسبب التقاء ساكنين:
الواو واأللف– فنلفظها هنا هكذا( :سنَ ْد ُع ْز) ،بل ُحذفت كتاب ًة أيضاً ،وهي ظاهر ٌة
فصلنا القول في الجزء األ ّول ،وإنإمالئ ّي ٌة شائع ٌة في القرآن الكريم ،كما سبق أن ّ
عالقة لحذف الواو هنا بقضيّة التقاء الساكنين؛ بدليل حذف الياء ٍ كنّا ال نرى أيّة
ٍ
أيضاً في مواضع قرآن ّية أخرى ال يلتقي فيها ساكنان ،كما بيّنّا ،من مثل قوله تعالى:
الزبانيَة:
–57سنَ ْد ُع َّ
القرآني المثير ،ال قبل
ّ من الواضح ّ
أن العرب لم يعرفوا مثل هذا التعبير
تعبير
النبوي الشريف .وهو ،إلى ذلكٌ ، ّ اإلسالم وال بعده ،كما لم يعرفه الحديث
السور.
يتكرر في غيرها من َ
خاص بهذه السورة فال ّ ٌّ
509
–59ف ْليَ ْد ُعْ ..
سند ُع ..ك ّ
ال ال تُ ِط ْعه:
هذا من أغرب أنواع االلتفات في القرآن ،إن لم يكن أغربها ،على اإلطالق.
آيات قصيرٍة متوالية ،من صيغة عجيبة ،وعبر ثالث ٍٍ بسرعة
ٍ فقد تن ّقل الحديث
(سند ُع) ،إلى
ْ الطلب والغائب (ف ْليَ ْد ُع) ،إلى صيغة اإلخبار والمتك ّلم /المتك ّلمين
والمخاطب (ﯱ ﯲ ﯳ ) وهو تن ّق ٌل سريع اإليقاع ،وربّما كانت َ صيغة الطلب
هذه السرعة من أكثر األساليب القرآنيّة تأثيراً في نفوس أولئك العرب الذين عايشوا
اللغوي السريع إيقاعاً
ّ وأحسوا في هذا التل ّفت
ّ السور في أيّام الوحي األولى تن ّزل َ
بكثير إيقاع حياتهم الصحراويّة المتراخية ،وكأنّه ينذرهم ،بهذا اإليقاع ٍ يتجاوز
حقبة حضاريّةٍ
العسكري الحا ّد ،بانتهاء أيّام االسترخاء والكسل ،ويهيّئهم الستقبال ٍ
ّ
إيقاع متسارع ،لتُح ّقق في عقدين من السنين ما لم ،ولن تح ّققه حضارات ذات ٍ
عقود طويلة.
البشر على مدى ٍ
واسجد:
ُ –60
القرآني الجديد
ّ االصطالحي
ّ من خصائص هذا الفعل ،إلى جانب المعنى
الذي يحمله ،أن يتع ّدى دائماً بالالم مرتبط ًة بمن يكون السجود له ،ومن ذلك
قوله تعالى:
[اإلسراء]61 : -ﮋﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮊ
يوضح طبيعة السجود وقد يستغني الفعل عن التَعدية إذا كان سياق اآلية ّ
سجد له ،بحيث يحاط الفعل بقرائن للسجود كالركوع والعبادة،ويَرمز إلى من يُ َ
كقوله تعالى:
[الحج]77 :
ّ ﮊ -ﮋﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ
510
بسياق يم ّهد له ،رغم الحديث عن
ٍ ولكن الفعل في هذه السورة لم يرتبط
الصالة في أواسط السورة ﮋ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮊ ،فقد ظهر الفعل
موضوعات شتّى ،حتّى انتهى إلى
ٍ (اُ ُ
سجد) أمامنا فجأ ًة بعد تن ّقل الحديث بين
جهل ،وإلى الطلب من الرسول عدم التساهل معه أو العقوبة التي تنتظر أبا ٍ
االستجابة له ،ومع ذلك تفاجئنا العودة إلى الحديث عن الصالة ،ويفاجئنا مجيء
بفعل آخر ال يرتبط به ،من حيث
تعدية على اإلطالق ،وبإلحاقه ٍٍ الفعل من غير
المعنى ،ارتباط ًا واضح ًا ومألوف ًا لدينا :ﮋ ﯴ ﯵﮊ.
– 61واقتر ِْب:
بالمكاني،
ّ بالزماني وال
ّ جديد ال هو
ٍ بمعنى
ً ّ
استقل هذا الفعل عن نظائره لقد
استقل عنها أيضاً بعدم التعدية إلى غيره.
ّ كما أسلفنا ،ولكنّه
511
ثالثاً :السبائك القرآنيّة
–1اقرأ ِ
باسم ربِّ َ
ك الذي َخلق: ِ
كل من التعبير ﮋ ﭻ ﭼ ﮊ والتعبير ﮋ ﭼ
عرفنا سابقاً خصوصيّة استعمال ٍّ
ﭽ ﮊ والتعبير ﮋ ﭾ ﭿ ﮊ ،وال ّ
شك ّ
أن اجتماع هذه الخصوصيّات الثالث
خاصةً بالقرآن الكريم ،وربّما ٍ
متفردةً ّ
سبيكة لغو ّية واحدٍة سيجعل منها سبيك ًة ّ
ٍ في
القرآني بلساننا لقلنا شيئاً
ّ خاصةً بهذه السورة وحدها .ولو عبّرنا عن هذا المعنى
ّ
من هذا القبيل:
هيّا واقرأ الكتاب يا مح ّمد وابدأ بذكر اسم اهلل الذي خلقك وبني البشر.
512
إن ربّك ،وهو أكرم ما في الوجود ،هو الذي ع ّلم النّاس بقلمه ،أو بإرادته أو ب ِعلمه.
ّ
اإلنسان ما لم يَعلم:
َ َّ –5
عل َم
البشري البديل عن هذه السبيكة القرآنيّة ،المؤلّفة من تعبيرين قرآنيّين
ّ التعبير
مميّزين ،سيكون شيئاً من َقبيل:
اإلنسان لَيَطغَى:
َ إن –6ك ّ
ال ّ
مر بنا ،وللتركيب المتفرد ل ّلفظ (ك ّ
ال) ،كما ّ ّ القرآني
ّ بدهي أن االستخدام ٌّ
ّ
اللغوي للفعل (ليطغى) ،من شأن ذلك كله أن يضفي
ّ اللغوي ﮋﮔ ﮕ ﮊ ،والوضع ّ
اللفظي،
ّ المتفرد ،إلى جانب إيقاعها
ّ النحوي
ّ على هذه السبيكة اللغويّة ،ببنائها
خصوصيّتها القرآنيّة المميّزة.
الرجعى:
ك ُ إن إلى ربِّ َ
ّ –8
بشيء من هذا القبيل:
ٍ القرآني
ّ وسنعبّر عن هذا المعنى
513
(يَنهى) ومفعوله (عبداً) ليكونا في آيتين ال ٍ
آية واحدة ،مع تنكير هذا اللفظ األخير،
اللفظي ،من شأنه أن يمنح السبيكة شخصيّتها
ّ كل ذلك ،إضاف ًة إلى بنية إيقاعها ّ
المميزة.
َّ القرآنيّة
514
–14ف ْليَ ْد ُع ناديَ ُه .سنَ ْد ُع الزبانيَه:
هذه الصيغة القرآنيّة الفريدة ،وهي األمر في اآلية األولى ،والر ّد على عاقبة
هذا األمر في الثانية( :هو يدعو أزالمه لينصروه ونحن سندعو زبانية جهنّم) ،من
لغوي بين اآليتين ،كما رأينا ،إلى جانب تعريف من سيستنجد به ٍّ رابط
أي ٍ غير ّ
أزالم ومناصرين ،بإضافته إلى الهاء (ناديَه) ،واالكتفاء بتعريف (الزبانية)
الكافر من ٍ
يوضح صاحب هؤالء الزبانية أو اسم ّ ضمير أو ٍ
ٍ بال التعريف من غير إسنادها إلى
كل ذلك يجعل منها سبيك ًة ال)ّ ،صفتهم أو مكانهم (زبانيتنا ،أو :زبانية جهنّم ،مث ً
قرآنيّةً لها خصوصيّتها ّ
وتفردها.
واقترب:
ْ واسجد
ُ –15ك ّ
ال ال تُ ِط ْع ُه
اجتمع في هذه السبيكة عد ٌد من الخصائص القرآنيّة ،اللفظيّة والتركيبيّة
ال) ووجود التركيب ﮋﯱ ﯲﮊ والتعبير الخاص ل ّلفظ (ك ّ
ّ والتعبيريّة ،كاالستعمال
خاص ًة بالقرآن وحده ،وربّما بهذه ّ ﮋ ﯴ ﯵﮊ ،م ّما يجعل منها سبيك ًة
السور.
السورة دون غيرها من َ
رابعاً :اللغة المنفتحة
–1اِقرأ:
مفعول حمدّ ٍد من شأنه أن يمنحه ظال ً
ال غن ّي ًة ٍ إن عدم تعدّي هذا الفعل إلى ّ
احتماالت لطبيعة هذا المفعول:
ٍ بالمعاني ،وأن يفتح الباب أمامنا على عدّة
فقد يكون أمراً بقراءة القرآن ،رغم ّ
أن القرآن لم يكن قد تن ّزل منه بعد ،عند
ال هذه الكلمة،نزول اآلية ،إ ّ
515
وربّما كان أمراً بالتسمية قبل القراءة؛ أي اقرأ ما أُنزل إليك من القرآن
مفتتحاً باسم ربّك ،وهو أن تذكر التسمية في ابتداء ّ
كل سورٍة ،كما يرى
القرطبي في تفسيره،
ّ
كنت أ ّمي ًا ال تقرأ) فيتح ّول الرسول
أو لع ّله أراد( :كن قارئ ًا بعد أن َ
(((
بمعجزٍة من اهلل ،بعد نزول هذه اآلية ،إلى قارئ.
–2باسمِ ربّك:
ّسع للمناورة في تقدير
لو كانت اآلية هكذا( :ابدأ بسم اهلل) لما كان هناك مت ٌ
وبشكل
ٍ (باس ِم)،
ولكن االبتداء بالفعل (اِقرأ) أعطى شبه الجملة ْ
ّ المعنى المقصود،
أخص حرف الباء فيها ،عدّة احتماالت:
ّ
المفسرين من
ّ رأي من عندي ،وال أجد بين أن هذا المعنى األخير هو ٌ((( من المهم أن أشير هنا إلى ّ
ٍ
تحرزٌ منّي أمام القارئ حتّى يكون على بيّنة من أصل هذا الرأي ،وسيجد بطبيعة الحال
قال به .وهو ّ
ً ّ
أن القرآن كان وسيظل مفتوحا أمام أصر على ّ ً
آرا ًء عديد ًة أخرى لي مبثوثة في هذا البحث ،وأنا ّ
ّ
المفسرون منه المزيد من المعاني على اختالف األزمنة واألمكنة ،على أال تتناقض ّ العصور لينهل
صح من السنّة النبويّة الشريفة ،وال مع المنطق ُ
في هذه المعاني اآلية مع اآلية ،وال تتعارض مع ما ّ
اللغوي ،وال مع روح اإلسالم بعا ّمة.
ّ
516
–3الذي َخ َلق:
إن تجريد هذا الفعل من مفعوله منحه أبعاداً لم يكن ليصل إليها فيما لو ُذكر
ّ
المفسرون في تأويله مذاهب شتّى:
ّ المفعول .وهكذا ذهب
ٌ
مفعول فهو بمعنى :الذي حصل منه الخلق ،إذ ال فقالوا :ربّما ال يُ َّقدر له
خالق سواه،
يقدر له مفعول ،أيَ :خلق ّ
كل شيء، وقالوا :ربّما َّ
فسره الفعل المشابه الذي تاله وأُبدل منه،
وقالوا :ربّما كان مب َهماً ولكن ّ
وذلك تفخيماً لخلق اإلنسان.
وهو أيضاً الطين الذي يعلق باليد ،شبّه به شكل التصاق هذا المخلوق الصغير
برحم المرأة،
وهو الدم الجامد أو الغليظ ،فإن جرى وسال فهو (المسفوح) ،شبّه به الشكل
األ ّول للمخلوق،
وهو الدم عا ّم ًة ،أو هو الدم الشديد الحمرة ،شبّه به لون المخلوق،
وهو الخصومة أو المحبّة المالزمتان للمرء فال تفارقانه ،شبّه بهما علوق
المخلوق بجدار الرحم،
وهو ّ
كل ما َع ِلق بشيء.
517
–5اِقرأ وربُّك:
مر ًة ثانية خالل ثالث آيات ،أن يكون لنا أن نتو ّقع ،وقد ّ
تكرر الفعل (اِقرأ) ّ
هذا التكرار توضيحاً لما لبس علينا من حقيقة القراءة التي افتُتحت السورة بفعلها،
فيقال مع الفعل الثاني مث ً
ال:
اِقرأ آيات ربّك ،أو:
اِقرأ كتابنا على الناس ،أو:
اِقرأ ور ّدد خلف جبريل ما يتلوه عليك ،أو:
كنت أ ّمي ًا،
اِقرأ اآلن بقدرة اهلل بعد أن َ
شيء يمكنأي ٍ بأن الفعل الثاني قد خال أيضاً من التعدّي إلى ّ ولكنّنا نفاجأ ّ
أن يجيب عن تساؤالتنا ،فليس أمامنا إ ّ
ال جمل ٌة جديد ٌة مبدوء ٌة بواو الحاليّة أو
كاف إلى معنى القراءة :ﮋﮇ ﮈﮊ. بتحديد ٍ
ٍ يمت معناها
االستئنافيّة ،وال ّ
مرة، ٌ
تعريف آخر هلل تعالى الذي يخاطب رسوله أل ّول ّ فهل الكرم هنا هو
ٍ
حتّى يكون الرسول على ب ّينة ٍ
كافية من طبيعة خالقه ،وصفات هذا الخالق؟
ملحم ٍد دون غيره نب ّي ًا ورسو ً
ال ّ تجسد باختياره تعالى
أم هو الكرم الذي ّ
منه إلى العالمين؟
أم هو الكرم الذي أُسبغ عليه لت ّوه وقد غدا فجأ ًة يقرأ ويكتب بعد أن كان أ ّمي ًا؟
يعجل بعقوبتهم
أم هو الكرم المتمثّل في تجاوزه تعالى عن جهل عباده فلم ّ
على جحودهم وهو الذي ﮋﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮊ؟
ثم اختلفوا في موضع (األكرم) من اإلعراب ،فزاد ذلك من فرص المعاني المحتملة:
ّ
518
ثم تأتي جملة ﮋ ﮎ ﮏ ﮊ خبراً لذلك اللفظ؟ فهل إعرابها صف ٌة ل ّلفظ ُّ
(رب) ّ
ثان ،أو صف ٌة ثاني ٌة له؟
خبر ٍ
خبر له ،و (الذي) ٌ
أم هي ٌ
وهل جملة ﮋ ﮇ ﮈ ﮊ جمل ٌة حاليّةٌ؛ أي( :اقرأ مستعيناً بكرم ربّك)؟
إن ربّك هو الكريم على خلقه بأن ع ّلمهم)؟ أم هي جمل ٌة استئنافيّةٌ ،أي( :اقرأّ ،
ثم ّ
وبين هذه االحتماالت جميعاً تتو ّقد الكلمة بسعتها ،وتَغنى بانفتاحها أمام
عقول البشر المختلفة ،وعلى مدى العصور المتوالية.
((( الترمذي ،الجامع الصحيح (سنن الترمذي) ،مرجع سابق ،ج ،5ص ،424حديث رقم .3319
519
اإلعجازي بين ما يقع للبشر
ّ وهل جاء ذكر القلم هنا من أجل إظهار الفرق
فوري للقراءة ،ومن غير
ّ إلهي
تعليم ٍّ
تعليم بالقلم ،وما وقع للرسول من ٍ من ٍ
الحاجة إلى هذا القلم؟
فهل المقصود من تعليم اإلنسان هو ما ع ّلمه تعالى آلدم حيث قال في سورة
(البقرة) :ﮋ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﮊ []31؟
520
أو هو إرساله الرسل لتعليم البشر ما يجب أن يعرفوه عن خالقهم وهدايتهم
إلى الصراط المستقيم؟
أو هو تعليم نبيّه القراءة بعد أن كان أ ّمي ًا ال يقرأ وال يكتب؟
[مكرر]:
–9 –8اإلنسان ّ
إن لفظ (اإلنسان) قد نقل المعنى من المح ّلية الضيّقة إلى الشموليّة .وفي ّ
رسالة يحملها جبريل من اهلل إلى رسوله تذهب تو ّقعاتنا البشريّة ،وضمن هذا
ٍ أ ّول
بشكل مباشر،
ٍ موجها إلى الرسول السياق لآليات ،إلى أن يكون الخطاب ّ
هكذا :ﮋﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﮊ –كما قال له تعالى بعد ذلك في اآلية 13من
سورة (النساء)– ولكنّه المنهج الربّاني في مخاطبة البشر بهذه الشموليّة المنفتحة
على الزمان والمكان والموضوع:
فالتعليم اآلن ليس للرسول وحده ،بل ّ
لكل الناس،
وليس لزمنه وحده ،بل ّ
لكل األزمان،
ولن يقتصر على البقعة التي نزل فيها الوحي بل سيشمل قريباً العالم ك ّله.
وينطبق هذا أيضاً على لفظ (اإلنسان) الذي سيتلو في قوله تعالى :ﮋ ﮕ ﮖ ﮗ ﮊ.
–10ما لم يَعلم:
قليل ما في هذا التعبير من إطالق ّي ٍة تستوعب مختلف المعارف
عرفنا قبل ٍ
اإلنسانيّة على تن ّوعها.
521
مرات]:
[مكرر ّ 3
ال ّ 11إلى –13ك ّ
وعرفنا في دراستنا لسورة (ال ُه َمزة) االحتماالت الكثيرة التي تحتملها هذه
وألوان
ٍ ظالل
ٍ األداة في استعماالتها القرآنيّة الجديدة ،وما يدور حول معانيها من
تغني العبارات القرآنيّة التي تتض ّمنها.
ولو كان لنا ،على سبيل المثال ،أن نقدّر الجزء المحذوف الذي يت ّمم الجملة
األولى منها ،ل ُقلنا بعد عبارة ﮋ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮊ:
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،4ص ،1896حديث رقم .4675
522
عقاب اهلل الذي ينتظره؟ أو:
َ فكيف يأمن هذا الناهي
يظن هذا الناهي أنّه قاد ٌر على تنفيذ تهديده للرسول ؟ أو:
فهل ّ
الشر والكفر بد ً
ال من أن ينهاهم عن الخير والعبادة والصالة! الناس عن ّ فه ّ
ال نهى َ
أو غير ذلك من التقديرات الكثيرة المحتملة.
523
–20لئن لم يَنت ِه:
الخاصية االنفتاحيّة للفعل (ينت ِه) هنا من حذف ما كان يمكن أن يتعدّى
ّ تنشأ
المتعدى بعده أن يح ّد من تفاعل الفعل مع الخيال،
َّ إليه .وكان من شأن وجود
المتعدى إليه ،أن نستحضر شتّى أنواع المحظورات
َّ أما اآلن فنستطيع ،في غياب
بواحد
ٍ النحوي في رؤوسنا ،بد ً
ال من االكتفاء ّ والمنهيّات عنها لنمأل هذا الفراغ
منها فيما لو قال مث ً
ال:
–21لَنس َف َع ْن بالناصية:
يتجرد الفعل (نسفع) من مفعوله ،ويتخ ّلى االسم (الناصية) عن ّ هنا أيض ًا
تعريفه باإلضافة .ومن السهل أن نالحظ الفرق بين العبارة القرآنيّة وقولنا:
لنسفعن ناصيته
ّ
لقد خرجت الجملة ،بحذف كال المفعول والمضاف إليه ،من حيّز الفرد
حادثة
ٍ واحد في
شخص ٍٍ الضيّق إلى فضاء المجموع ،فلم يعد التهديد مقتصراً على
معصية
ٍ عاص على هذه األرض ،في أيّةكل ٍ زمن واحد ،بل يستغرق َّواحدٍة في ٍ
مكان أو ظرف.
زمان أو ٍأي ٍ تُرتكب في ّ
حق اهلل ،وفي ّ
شك أن اختيار الفعل (نسفع) لتحديد العقوبة المنتظرة أضفى على تلكوال ّ
يصب في محيط
ّ معان عدّ ٌة ك ّلها العقوبة ظال ً
ال قاتم ًة ،فلهذا الفعل عند العرب ٍ
التنكيل والعذاب وسوء المصير:
524
فهو يعني القبض والجذب الشديد،
أن البدل يأتي عاد ًة لتأكيد المبدل منه أو توضيحه أو تحديده،ونحن نعرف ّ
كالمبدل منه ،كما هي العادة ،فجاءت اآلية هكذا( :ناصية
َ ولو كان البدل هنا معرف ًة
جهل) ،أو( :ناصية المعتدي عليك ،أو المؤذي لك) لكان البدل مل ّبي ًا للحاجة
أبي ٍ
التقليديّة إليه ،ولكنّه جاء هنا نكر ًة موصوف ًة بنكرتين متتاليتين ﮋ ﯨ ﯩ ﮊ،
وهذه النكرات الثالث ال تؤ ّدي الدور المطلوب من البدل ،ولكنّها تؤ ّدي دوراً
حرمان الفعل (نسفع) من ُ آخر شبيه ًا بالدور الذي قام به في الموقع السابق
مفعوله ،وتجريد المضاف (الناصية) من المضاف إليه ،فنرى هذا الجزء وقد
ناصية؛
ٍ تخ ّلى عن أن يكون منحصراً في شخصيّة أبي جهل ،فتع ّداه إلى ّ
كل ذي
وظالم في هذا الوجودّ ،
بغض النظر عن زمانه ومكانه ونوع ٍ عاص
إنسانٍ ،
ٍ أي
عصيانه وطبيعة ظلمه.
–23الزبانِيَة:
رغم ارتباط هذا اللفظ بال التعريف ،فقد جاء أقرب إلى النكرة منه إلى
العربي األ ّول ،كما رأينا ،وكذلك تجريده
ّ المعرفةّ .
إن في ِجدّة اللفظ وغرابته على
من اإلضافة أو الوصف ،إذ لم يقل( :زبانية جهنّم) أو( :زبانيتنا) أو( :الزبانية من
الشداد) بحيث يصبح هؤالء المجهولون أكثر تحديداً ووضوحاً، المالئكة الغالظ ّ
525
كل ذلك من شأنه أن يمنح اللفظ أطيافاً وأبعاداً خيالي ًة ،ال يمكن أن يسمح بها ّ
المعرف تعريفاً حقيقيّاً.
ّ التقليدي أو
ّ العادي أو
ّ اللفظ
واسج ْد:
ُ –24
تشجيع من
ٌ قد يكون هذا اللفظ إشار ًة مـجاز ّي ًة إلى الصالة نفسها ،فهو
المضي في طريقه ،واالستمرار في صالته ،والثقة بنصر اهلل ّ اهلل لرسوله على
وحمايته ،فيكون التعبير بهذا قد استعاض عن ّ
الكل بالجزء .ولكن ربّما كان
استعمال اللفظ حقيق ّياً ال مـجاز ّي ًا ،فهو يشير إلى السجود نفسه ،سجود التالوة،
أي سجود ،فيكون السجود على هذا تعبيراً من الرسول كما يرى بعضهم ،أو ّ
ُ
يكون "أقرب ما
ُ يفسره الحديث الشريف
عن شكره لربّه واالقتراب منه ،وهو ما ّ
(((
العب ُد من ربِّه وهو ساجد".
تجرد الفعل من ذكر الرسول صراح ًة سيمنحه ق ّوة انفتاح ّي ًة أن ّشك ّوال ّ
كل من آذاه إضاف ّي ًة ،بحيث يشعر المسلم وهو يقرأه بأنّه ّ
موج ٌه إليه شخص ّياً ،وإلى ّ
الناس وحاولوا أن يصرفوه عن دينه وعبادته وإيمانه.
ِ –25
واقترب:
ما نوع االقتراب المراد من هذا اللفظ يا ترى؟ ّ
إن العالقة بين اللفظ (اسجد)
واللفظ (اقترب) غير واضحة ،ولو كانت اآلية هكذا مث ً
ال:
واسجد حتّى تقترب ،أو هكذا:
واسجد مقترباً منّي
لتحدّدت تلك العالقة ،ولكنّها تُركت هكذا مفتوح ًة لنفهمها بأكثر من طريقة:
فقد يكون اقتراباً إلى اهلل بالسجود أو الصالة،
ّ
والتفكر ،والثقة باهلل ،والتو ّكل عليه، أو قد يكون اقتراباً بشتّى أنواع العبادات،
السورة،
أو يكون "سجود التالوة" الذي يُ َس ّن في هذا الموضع من ُّ
((( القشيري ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،350حديث رقم .482
526
أو قد يكون ح َّثه على االقتراب من الهدف الذي أرسل من أجله للدعوة
إلى دين اهلل،
أو اقتراباً من الناس لتبشيرهم بدين اهلل ودعوتهم إلى عبادته وتوحيده،
قرآني إلى أبي
ٌ التفات
ٌ أو قد يكون سجوداً من الرسول في صالته ،يليه
جهل وتبشيره باالقتراب من النار ،كما ذهب بعضهم،
ٍ
كل ذلك معاً ،مع ما قد يوحي به هذا اللفظ لقارئيه في المستقبل من ٍ
ظالل أو ّ
وصور وأفكار.
ٍ
خامساً :جوامع َ
الك ِلم
–1اقرأ:
كلمة حملها جبريل عليه السالم من اهلل تعالى ٍ لفظ واحد ،هو أ ّول هذا ٌ
إلى رسوله وقد غدت بهذا رمزاً في حياتنا اللغويّة والثقافيّة نطلقها عنواناً
لمؤسساتنا الثقافيّة والعلميّة واإلعالميّة ،فكأنّها رم ٌز لرسالة اإلسالم ،نشير بها إلى
ّ
القيمة التي منحها هذا الدين للثقافة والعلم والتفكير.
اإلنسان ما لم يَ ْعلم:
َ َ –3ع ّلم
وتمكن اإلنسان من كشف المزيد من ّ ك ّلما تقدّم العلم خطو ًة إلى األمام،
األسرار التي أودعها اهلل في هذه الطبيعة من حولنا ،عنّت لنا هذه اآلية ،وانطلق بها
لساننا مسبّحاً اهلل على عظمته ،ومعترفاً بنعمه وفضله ،وعلمه الذي وسع ّ
كل شيء.
527
اإلنسان لَيَطغَى:
َ إن
ّ –4
ال أو سلطاناًلرجل آتاه اهلل ما ً
ٍ هذه آي ٌة نستطيع أن نختصر بها مشهداً كام ً
ال
فنسي فضل اهلل عليه ،وعتا عن أمر ربّه ،وعاث في األرض ظلماً ومعصي ًة وفساداً.
الر ْج َعى:
ك ُ إن إلى ربِّ َ
ّ –5
وهي آي ٌة تذكيريّة نطلقها ونحن نعظ أنفسنا أو نعظ غيرنا حين نواجه مغريات
الحياة أو شدائدها ،فنر ّددها مطامنين من جموحنا ،أو مهدّئين من روعنا ،أو
معتبرين بنهايتنا الحتميّة المنتظرة.
–7الزبانِية:
السياسي ،فغدونا نطلقه على رجال األمن
ّ أصبح هذا اللفظ جزءاً من قاموسنا
سلطة أساءت استعمال ق ّوتها وانحرفت عن الصراط،
ٍ الش َرط من أعوان ّ
كل أو ُّ
فظلمت العباد وأفسدت البالد.
528
السورة الحادية والعشرون
سورة التين
ﮋﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ
ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ
ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ
ﭹﭺﮊ
529
الخاصة بالسورة بين ستّة ألفاظ( :التّين ،سينين، ّ وتتوزّع المواقع اللغويّة
األمين ،تقويم ،سافلين ،يك ّذبك) وستّة تعبيرات( :والتّين وال ّزيتون ،البلد األمين،
بك بالدّين). أحسن تقويم ،أسفل سافلين ،فما يك ّذبك بعدُِّ ،
يكذ َ
وسندرس المواقع الجديدة ،كما انتهجنا ،تحت خمسة عناوين ،هي :األلفاظ
والمصطلحات ،والصيغ اللغويّة والعالقات الداخليّة ،والسبائك اللغويّة ،والمواقع
المنفتحة ،وجوامع الك ِلم.
530
(فالتّين) إشار ٌة إلى عهد اإلنسان األ ّول (آدم) فإنّه كان وزوجته (في الجنّة)
يخصفان عليهما من ورق التّين..
وﮋ ُطورِ ﭕﮊ حيث (الجبل الذي ك ّلم اهلل موسى عليه) إشار ٌة إلى عهد الشريعة
الموسويّة وظهور نور التّوحيد في العالم بعدما تدنّست جوانب األرض بالوثنيّة..
(الطور) ولفظ (سينين) هما من األلفاظ التي لم فإن لفظ ُّ ال عن ذلك ّ وفض ً
صحيح أنّنا نجد
ٌ األقل ما بين أيدينا من هذا الشعر. ّ العربي ،أو على
ّ يعرفها الشعر
اليهودي السموأل بن عادياء (ت64
ّ العربي
ّ مرةً واحد ًة عند الشاعر لفظ ّ
(الطور) ّ
صحة نسبةشك ،في ّ مجرد ّ نشك ،وربّما أكثر من ّ مرةً أخرىّ ، ق.ﻫ) ،ولكنّناّ ،
وألفاظ إسالم ّي ٍة ومسيح ّي ٍة تخالف ما عند اليهود
ٍ روح
األبيات إليه؛ لما فيها من ٍ
من عقائد ،إذ ال يؤمنون بالمسيح عليه السالم الذي يصفه السموأل بـ (مسيحنا)،
ولما فيها كذلك م ّما يخالف ثقافة الجاهليّة ،من ر ّقة األسلوب وليونة األلفاظ ،كما
الممحص:
ّ الناقد
َ العادي لها ،بَ ْل َه
ّ يمكن أن يتبيّن القارئ
الزالزل
ِ ت ْ
َدخ َد َخ للجبّــــــار يـو َم ألسنا بني ال ُّطور المقدّس والّذي ْ
طــــائل
ِ فرش َفه الباري على ّ
كل ّ الرحمــــن ُد َّك تَزل ُز ً
ال و ِمن هيب ِة ّ
باهل
للــــــرب يــــو َم التّ ِ
ِّ فقد َسـنا
َّ وكليـمـــــ ُه
َ عبــــده
َ وناجـى عليه
ِ
ّكامل فأهدى بني الدّنيا سال َم الت مسـيحنا
ُ وفي آخ ِر األ ّيامِ جــــاء
531
تختص وحدها بلفظ (التّين)ّ ثم ّ
إن السورة الجاهلي ،وال في الحديث الشريفّ .
ّ
يتكرر في أربعة مواضع أخرى من القرآن.
دون لفظ (ال ّزيتون) الذي ّ
–5األمين:
مرةً في القرآن ّ
فإن سورة (التّين) هي وحدها التي رغم تكرار هذا اللفظ ّ 14
استُخد َم فيها بمعنى اسم الفاعل (آ ِمن) أو بمعنى اسم المفعول (مأمون) رغم أنّه
جاء على صيغة الصفة المشبّهة (فعيل).
532
الشريف فهو ،على تكراره الكثير ،ال يتعدّى أيضاً المعنى
أ ّما في الحديث ّ
المعروف له عند العرب ،كما يمكن أن نالحظ في األحاديث التالية:
(((
السمـاءِ صباحاً ومسا ًء؟
خبر ّ
السماء ،يأتيني ُ -أال تأمنوني وأنا ُ
أمين َمن في ّ
ِ ٍ ّ -
(((
الجراح
بن ّ وأمين هذه األ ّمة أبو ُعبَيد َة ُ
ُ لكل أ ّمة ٌ
أمين
(((
أمين َح َّق أمين
ال َح َّق ٍ َ -
ألب َعث ََّن إليكم رج ً
((( وإن شا َء َ
أفطر إن شا َء صا َم ْ
نفسهْ ،
أمين ِ ّ -
الصائمُ المتط ّوعُ ُ
–6تقويم:
معنى لم يعرفه
خاص بهذه السورة وحدها ،وهو ،إلى ذلك ،يحمل ً هذا ٌ
لفظ ٌّ
العرب له قبل القرآن ،على ندرة استعمالهم لهذا اللفظ ،إذ ال نجده في ّ
الشعر
مرةً واحد ًة عند علقمة الفحل (ت 20ق.ﻫ) وقد استخدمه بالمعنى الجاهلي إ ّ
ال ّ ّ
المجرد له ،وهو االستقامة ،أي عكس االنحناء أو االنعطاف ،كما يتّضح
ّ اللغوي
ّ
(العجس):
ْ لنا من سياق البيت ،وهو يصف فيه ِمقبض القوس
وتقويم َك ْبدا ُء في َع ْج ِسها َع ْط ٌ
ف الش ِ
مـال ِم َن ّ
الشريان ُمط َع ُم ُه وفي ّ
ُ
((( القشيري ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،ج ،2ص ،741حديث رقم .1064
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،4ص ،1592حديث رقم .4121
((( القشيري ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،ج ،4ص ،1882حديث رقم .2420
((( البيهقي ،سنن البيهقي الكبرى ،مرجع سابق ،ج ،4ص ،276حديث رقم .8133
533
–7رددناه:
الجاهلي ،واستعماله في
ّ لم أعثر على هذا اللفظ فيما بين أيدينا من الشعر
معان ،خالف ًا الستعماله في
هذه اآلية يمكن أن ينفتح ،كما سوف نرى ،على عدّة ٍ
تكرر بها في القرآن ،وهي قوله تعالى:
المرة الوحيدة األخرى التي ّ
ّ
-ﮋ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﮊ [القَصص]13 :
–8سافلين:
السور،
يتكرر في غيرها من َ تختص سورة (العلق) بهذا الجمع الغريب فال ّ
ّ
الجاهلي .وموضع الغرابة فيه أنّه ليس جمعاً
ّ الشعري
ّ وال نجده كذلك في تراثنا
ل ّلفظ (أسفل) الذي سبقه ،فهذا األخير يُجمع على (أسافل) مثل (أفضل وأفاضل)
ال أن يكون جمعاً ل ّلفظ (سافل) وهو ٌ
لفظ لم يعرفه و (أكرم وأكارم) ،وال يبقى إ ّ
(س َف َلة) وليس على (سافلين).
الجاهلي كذلك ،ونحن نجمعه اليوم على َ
ّ الشعر
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،214حديث رقم .570
((( الشيباني ،مسند اإلمام أحمد ،مرجع سابق ،ج ،23ص ،99حديث رقم .14787
((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،407حديث رقم .1159
((( القشيري ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،397حديث رقم .568
534
ّ
يستقل بها إنّه إذن ،ليس من الجموع القياسيّة العاديّة ،وهو أيضاً من األلفاظ التي
ّ
تستقل به هذه السورة. القرآن الكريم ،كما
وال يَ ِرد اللفظ في الحديث الشريف إ ّ
ال في معرض اإلشارة إلى هذه اآلية.
–9آمنوا:
ثم في سورة (البيّنة) جدّة هذا االصطالح واقتصاره
عرفنا في سورة (العصر) ّ
فرق به بين من اتّبع الرسول ومن نكص عن دعوته. على القرآن الكريم الذي ّ
–10الصالحات:
القرآني الجديد لهذا الجمع،
ّ كما عرفنا في السورتين المذكورتين االستعمال
ومعنى.
ً واختصاصه به لفظاً
–11ممنون:
معنى ،كما سوف نرى في حديثنا عن المواقع
رغم احتمال هذا اللفظ ألكثر من ً
الجاهلي يخلو منه تماماً ،كما يخلو منه الحديث ّ
الشريف. ّ المنفتحةّ ،
فإن الشعر
–12يك ّذبك:
يتكرر،
خصوصيّة هذا الفعل المض ّعف تقتصر على هذه السورة وحدها؛ إذ ال ّ
مر ًة في القرآن.
بهذا االستعمال ،في أيّة سورٍة أخرى ،رغم ورود الفعل ّ 177
ويمكن أن نتبيّن طبيعة هذه الخصوصيّة لو قارنّا بين معناه هنا ومعناه في
اآلية التالية:
فالفعل ( َك ّذبوا) في آية (الفرقان) يعني (أنكروا) أ ّما في آية (الع َلق) فقد ارتبط
ولكن هذا المفعول هو بمعنى الفاعل ،فالضمير (ك) هو المفعول ّ بمفعوله (الكاف)
يكذب ،ويكونيكذب وليس على الذي َّ ال أنّه في المعنى يعود على الذي ِّ إعراب ّي ًا ،إ ّ
535
المعنى على هذا( :ما يجعلك ِّ
تكذب بالدّين؟) ،وهي من أغرب العالقات النحويّة
في لغة القرآن الجديدة.
وال نجد الفعل في تراثنا بهذه العالقة النحويّة المتط ّورة وهذا المعنى
اإلضافي الجديد (يجعله ِّ
يكذب) الذي اكتسبه هنا ،ال قبل القرآن وال بعده ،وال ّ
في الحديث الشريف.
–13بال ّدين:
سبق أن تحدّثنا عن هذا اللفظ عند تحليلنا آلية ﮋﭞ ﭟ ﭠ ﮊ من
االصطالحي الجديد الذي يحمله ،وال سيّما إذا
ّ سورة (الفاتحة) ،وعرفنا المعنى
ٍ
معان عدّ ة يمكن توجيه ال ّلفظ إليها.
ُف ِّسر بأنّه يوم الحساب ،وهو واح ٌد من ٍ
َ –14
أحكم:
(ح َكم) بمعنى َ
(ع َدل) أو بمعنى (كان الثالثي َ
ّ تفضيل من الفعل
ٍ هذا اسم
حكيماً) أو بمعنى (أتقن الصنع) أو بمعنى (ساد وتولّى األمر) .وال نعرف السم
الجاهلي يحمل أيّاً من هذه المعاني ،كما لم نعرف
ّ التفضيل هذا استعما ً
ال في تراثنا
مرتين على
له مثل هذه االستعماالت بعد ذلك إلى يومنا الحاضر ،ولكنّنا نجده ّ
ّ
األقل في الحديث ّ
الشريف:
(((
الر ُجلني .. -وكان أَ َ
حك َم ّ
(((
حك ُم لن ْف ِسه حك ُم؟ قال :الذي يَ ْح ُك ُم للن ِ
ّاس كما يَ ُ أي ِعبا ِد َك أَ َ
رب ُّ
-قال موسى :يا ِّ
–15الحاكمين ٌ
(لفظ جديد):
خاص بالقرآن الكريم ،فلم يُستخدم هذا الجمع في الشعر ٌّ وهو أيض ًا ٌ
لفظ
ّ
(المحكمون) .وال ّ
(الحكام) أو (الحكماء) أو الجاهلي وال فيما بعده ،وإنّما قالوا:
ّ
نجد اللفظ في الحديث ّ
الشريف.
((( الشيباني ،مسند اإلمام أحمد ،مرجع سابق ،ج ،29ص ،165حديث رقم .17625
((( البستي ،صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان ،مرجع سابق ،ج ،14ص ،100حديث رقم .6217
536
ثانياً :الصيغ اللغويّة والعالقات الداخليّة
–2 –1والتّين ،وال ّزيتون:
الس َور بالقسم ،وغالباً ما يقع هذا القسم بما يكثر في القرآن الكريم افتتاح ّ
والشمسمات بها ،كالسماء واألرض والنّهار والليل ّ لم يعهده البشر من ُم ْق َس ٍ
والضحى والعصر والبلد والوالد والولد والنّفس والقمر والنجوم والطارق والفجر ّ
والشاهد والمشهود ،وغيرها من ال ُم ْق َسمات التي كانت والعاديات واليوم الموعود ّ
وغرابة
ٍ مرة ،بما فيها من جدّةٍ شك وهم يسمعونها أل ّول ّ تفاجئ العرب من غير ّ
ثم ما لبثوا أن فقدوا، خروج على أعرافهم اللغويّة والثقافيّةّ ،
ٍ على أسماعهم ،ومن
مثلما فقدنا نحن اليوم ،اإلحساس بغرابة هذا النوع من القسم ،إذ ما فتئوا ،وما فتئنا
كل ما كان يمكن أن األلفة والزمن ّ منذ الطفولة ،نكرر آياته صباح مساء ،فقتلت ُ
ّ
محتم ٍل بالغرابة والجدّة.
َ شعور
ٍ َسم من يثيره لدينا ُ
مثل هذا الق َ
ٍ
َسم بثمرٍة عاد ّية جدّ ًا كثمرة التّينّ ،
ثم بال ّزيتون بعدها مباشرةً ،سيكون ولكن الق َ
ّ
العربي األ ّول ،وال سيّما حين لم يكن يدري بادئ
ّ الخاص من الغرابة عند
ّ له موقعه
المفسرون ٍ
معان رمز ّية اقترحها لهما
بدء ما يحمله القسم بهاتين الثمرتين من ٍ ذي ٍ
ّ
بتفصيل
ٍ فيما بعد ،وما يزالون يقترحونها إلى اليوم ،كما سبق أن م ّهدنا ،وكما سنرى
السورة.
أكثر أثناء حديثنا عن المواقع المنفتحة في ّ
ولكن القسم بالتّين وال ّزيتون
ّ مرةٍ في القرآن،
نفسه أكثر من ّ
يتكرر القسم ُ
وقد ّ
الس َور.
السورة وحدها دون باقي ّ
اقتصر على هذه ّ
–3التّين وال ّزيتون:
واحد، الثنائي المؤلّف من اجتماع هاتين الثمرتين في ٍ
تعبير ٍ ّ بدهي أ ّ
ال نجد هذا ٌّ
اإلسالمي ،شعره أو نثره،
ّ الجاهلي أو
ّ النحوي ،في تراثنا
ّ وفي مثل هذا السياق
يتكرر في القرآن الكريم في غير هذا الموضع.
وال في الحديث الشريف ،وهو ال ّ
537
ُ –4طور ِسينين:
اإلسالمي حتّى اليوم ،واقتصر على
ّ الجاهلي أو
ّ تعبير آخر لم يعرفه تراثنا
ٌ
لغوي
ٍّ الس َور ،ولكنّنا نجده على ٍ
نمط يتكرر في غيرها من ّ سورة (التّين) ،فلم ّ
(طور َسيناء) في سورة (المؤمنون):مختلف ُ
ٍ
ﮊ []20 -ﮋﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ
–5وهذا البلد:
النثري
ّ الشعري أو
ّ َسم أيضاً ال نعهده في تراثنا ٌ
مختلف من الق َ هذا ٌ
نمط
السورة ،وال وجود له في يتكرر هذا القسم في غير هذه ّ ّ حتّى اآلن .وال
الحديث ّ
الشريف.
ولكن فعل القسم ،خالفاً ّ قسم به هنا اسم إشارٍة أيضاً (هذا) فقد جاء ال ُم َ
آلية (التّين) ،مذكو ٌر في اآلية (أُقسم) ،وجاء هذا الفعل مسبوقاً بـ (ال) ،مع اقتران
قسم به (هذا) بحرف الباء (بهذا). ال ُم َ
–6البلد األمين:
السورة
الخاصة بهذه ّ
ّ الخاصة بالقرآن الكريم ،بل
ّ تعبير آخر من التعبيرات
الشريف.وحدها .وال وجود له في الحديث ّ
538
–7لقد َخلقْنا:
مرة ،مثلما فوجئ
العربي قد فوجئ وهو يسمع هذا التعبير أل ّول ّ
ّ أن ال ّ
شك ّ
سور (النّاس والفلق واإلخالص) التي ابتدأت بفعل األمر: كل من َحين سمع مطلع ٍّ
أن هذه الثقة غير العاديّة التي ينطلق منها الخطاب في اآلية( :نحن( ُق ْل) .وال شك ّ
العربي األ ّول إلى التفكير والبحث عن األسس والحقائق
ّ خلقنا) من شأنها أن تدفع
والق ّوة المتف ّوقة التي ّ
تشكل الخلفيّة غير المنظورة لهذه الثقة.
–9أحسن تقويم:
بغض النظر عن المعاني المتعدّدة التي يمكن أن يحملها هذا التعبيرّ ،
يظل ّ
خاص ًة بالقرآن الكريم ،فال نجدها في تراثنا قبل اإلسالم أو بعده ،شعراً أو
ّ صيغ ًة
يتكرر في غيرها ،وال وجود له
خاص بهذه السورة فال ّ ٌّ نثراً ،وإلى اليوم .والتعبير
في الحديث ّ
الشريف.
539
وكأن عمليّة اإلعادة قد ت ّمت ح ّق ًا،
اإلعادة بصيغة الفعل الماضي وليس المضارعّ ،
ال :أما ويتحسس رأسه متسائ ً
ّ حق من يسمع اآلية اآلن أن يتف ّقد نفسه
وإذن فمن ّ
مجرد حلم؟!
أن هذه الحياة هي ّ زلت موجوداً على سطح هذه األرض ،أم ُّ
إن المقابلة بين الخلق واالرتداد ،والتعبير عن هذا االرتداد بالفعل الماضي، ّ
لكل بني البشر، أمر قد حصل وانتهى ّبغض النظر عن طبيعة هذا االرتداد ،وكأنّه ٌ ّ
مخلوق إلى خالقه ،وهي مواجه ٌة حا ّد ٌة
ٍ مواجه ٌة مع الحقيقة الحتميّة بعودة ّ
كل
سياق واحد. وخارج ٌة عن التو ّقعات البشريّة التقليديّة الستعمال هذين الفعلين ضمن ٍ
َ
أسفل ساف ِلين: –11
موضع آخر من
ٍ أي
يتكرر في ّ
تختص به سورة (العلق) وحدها ،فال ّ ّ تعبير
هذا ٌ
الجاهلي منه تماماً ،وإن شاع فيما بعد وغدا جزءاً
ّ الشعري
ّ القرآن ،ويخلو التراث
ال في معرض اإلشارة إلى هذه من لغتنا اليوميّة .وال يرد في الحديث الشريف إ ّ
اآلية أو االتّكاء على صيغتها.
-12الّذين آمنوا:
كان الحديث حتّى اآلن عن اإلنسان ،وبصيغة المفرد الغائب (هو)( :خلقناه
هو ،رددناه هو) ،وستتو ّقع األذن العربيّة التقليديّة أن تسمع بعد ذلك تت ّمة هذا
صيغة من هذا النوع:
ٍ السياق ،ضمن مضمون اآلية التالية له طبعاً ،ولكن في
ولكن الخطاب قفز فجأ ًة ملتفتاً من المفرد الغائب (هو) إلى الجمع الغائب
ّ
التفات من شأنه أن يُحدث في أ ُذن العربي األ ّول ما يشبه
ٌ (هم)( :آمنوا) وهو
ثم تو ّقعت هذه
التقليدي الذي اعتادت ّ
ّ اللغوي
ّ الصدمة الكهربائيّة لمخالفته اإليقاع
األذن أن تسمعه.
540
العربي األ ّول ،كما يمكن أن نتساءل نحن اليوم :كيف يستثنى
ّ وسيتساءل
الجمع من المفرد؟ قد نستطيع استثناء المفرد من الجمع ،فنقول:
جاء النّاس إ ّ
ال مصطفى ،أو نقول:
صرفت أنواع العملة إ ّ
ال الدنانير،
ولكنّنا لن نقول:
جاء مصطفى إ ّ
ال النّاس ،وال:
صرفت الدينار إ ّ
ال النقود
أجر..
ولكن الذين آمنوا ..لهم ٌ
ّ أو:
541
إن اآلية تستثني الذين بأن العودة قد ال تكون حتم ّي ًة على ّ
كل النّاس؟ ّ األولىّ ،
العربي األ ّول– ومن
ّ آمنوا ،فهل هو استثنا ٌء لهم من الموت يا ترى –هكذا سيتساءل
ثم استثنا ٌء من العودة إلى خالقهم؟ أم هو استثنا ٌء لهم من درجة ﮋ ﭤ ﭥ ﮊ ّ
العربي في حيرٍة أمام
ّ التي سيؤول إليها سائر النّاس بعد الموت؟ إنّنا نتو ّقع أن ّ
يظل
يتم جالء هذه الفكرة في النصوص النبويّة والقرآنيّة األخرى. هذا االستثناء إلى أن ّ
عملوا الصالحات:
ِ –14
سبق أن عرفنا في سورتي (العصر) و (البيّنة) جدّة هذا التعبير وانفراد القرآن
مر ًة في القرآن الكريم.
والنثري ،رغم تكراره ّ 55
ّ الشعري
ّ به دون باقي تراثنا
أجر:
–15فلهم ٌ
ّ
محل (ينالون) أو (يكافَؤون) أو حل اللفظ (لهم) في القرآن الكريم لقد ّ
(يعا َقبون) في لغتنا .نقول في لغتنا البشريّة ،ونحن نريد التعبير عن هذا المعنى
القرآني نفسه:
ّ
بإتقان سينالون أجورهم كامل ًة ،أو:
ٍ الذين يعملون عملهم
ْ
يعمل فسوف يحصل على أجره من دون نقصان ،أو: من
ولن نقول:
غير ممنون:
ُ –16
لقد أظهر لنا المثاالن السابقان أيضاً ،رغم اختالفهما عن لغتنا في الجزء
األ ّول منهما ،كيف نعبّر بلغتنا اليوميّة عن معنى ﮋ ﭮ ﭯ ﮊ وكيف يختلف
542
القرآني الذي ما
ّ البشري مثل (غير منقوص) أو (من غير نقصان) عن التعبير
ّ تعبيرنا
خاص ًا بالكتاب الكريم وحده ،فال نعثر عليه في تراثنا العربي ،ال قبل
يزال إلى اآلن ّ
اإلسالم وال بعده ،وال وجود له في الحديث الشريف أيضاً.
ّ –17
يكذ ُب َ
ك بـ:
اختص القرآن بتعدية الفعل (يك ّذب) بحرفّ عرفنا في سورة (الماعون) كيف
الجاهلي ،وعرفنا كيف يتعدّى هذا الفعل بنفسه ،أي من دونّ الباء دون الشعر
االستعانة بحرف الباء ،إذا كان المفعول شخصاً ،وكيف يتعدّى بالباء إذا كان المفعول
غير ذلك كما هو هنا (الدّين) ،وكما في اآلية التي جمعت الحالتين كلتيهما:
َّ
املكذبني من فتعدّى الفعل (ك ّذب) هنا بنفسه إلى الضمير ( ُكم) العائد على
البشر ،ولكنّه تعدّى بالباء (بما) إلى األقوال التي ُك ِّذب بها.
–18فما ّ
يكذ َ
بك:
(أنت) .لقد
يتوجه الخطاب إلى المفرد المخاطب َ السورة ّ مرة في هذه ّ أل ّول ّ
َسم الثالث التي بدأت بها السورة (وإن كان مـجرد ًا من ّ
أي انتماء في آيات الق َ ّ بدأ
القسم عائداً في النهاية على اهلل تعالى ،رغم أنّه ال يوجد في هذه اآليات الثالث
ال :أُ ِ
قسم بالتّين ،أو: ما يعود صراح ًة على المتك ّلم ،وهو الذات اإللهيّة ،فلم يقل مث ً
ثم يظهر الضمير فجأ ًة ولكن في صيغة المتك ّلمين (نحن) في اآليتين قسم)ّ .إنّي أُ ِ
الرابعة والخامسة بقوله تعالى :ﮋ ﭛ ﭜ ،ﭢ ﭣ ﮊ .وهنا تتّجه د ّفة الحديث ّ
اتّجاها آخر بحيث يتر ّكز الضوء على هذا المخلوق الذي يبدأ الحديث عنه بلفظ
الجمع – المفرد الغائب (اإلنسان – هو) في قوله تعالى :ﮋ ﭜ ﭝ ﮊ ّ ،
ثم
يستمر
ّ بالضمير المفرد الغائب ( ُه) في قوله( :رددنا ُه) وكنّا نتو ّقع بعد ذلك أن
الحديث عن هذا المخلوق بالصيغة نفسها (المفرد الغائب) ولكنّنا نفاجأ به وقد
543
تح ّول إلى صيغة (الجمع الغائب) في الفعل (آمنوا) ،وقد جاء هذا الغائب الجمع
استثنا ًء من ذلك الغائب المفرد كما رأينا.
–19ما ّ
يكذ َ
بك بع ُد:
منقطع
ٍ بظرف
ٍ الخاص ،المبتدئ باستفهام والمنتهي
ّ اإلنكاري
ّ هذا التعبير
يتكرر في أيّة سورٍة أخرى من القرآن ،ولم يعرفه الشعر
عن اإلضافة (بعدُ) ،لم ّ
العربي ،شعره أو نثره،
ّ أي من صفحات تراثنا
ثم ال نجده بعد ذلك في ٍّ
الجاهليّ ،
ّ
حتّى اآلن ،وال وجود له في الحديث الشريف.
ّ –20
يكذ ُب َ
ك بال ّدين:
والخاص الذي
ّ لقد ارتبط الفعل (يك ّذب) هنا ،وهو يحمل المعنى الجديد
عرفناه له ،بال ّلفظ (الدّين) مع الفصل بينهما بمفعول الفعل (يك ّذب) ،وهو الكاف.
العادي لهذا الفعل،
ّ ولكن هذا المفعول األخير ،كما رأينا ،ليس هو المفعول ّ
فاعل وليس مفعو ً
ال ،والتقدير :ما الذي فالمفعول (الكاف) هو ،من الناحية العمليّةٌ ،
جعلك تك ّذب بالدّين.
–22أحكم الحاكمين:
مر ًة أخرى في سورة (هود ،)45 :ولكن ال وجود
ويتكرر ّ
ّ خاص،
قرآني ّ
تعبير ٌّ
ٌ
الجاهلي ،وال في الحديث الشريف.
ّ له في الشعر
544
ثالثاً :السبائك اللغويّة
ِ
وطور سينني: ّني والز ِ
ّيتون. – 1والت ِ
السورة دون غيرها من هذه سبيك ٌة تقتصر على القرآن وحده ،وعلى هذه ّ
السور .وبإمكاننا مالحظة الفرق بين صيغة القسم هذه ،وهي مؤ ّلف ٌة من أربعة َ
ألفاظ :ثالث ٌة منها تعاطفت بحرف العطف (الواو) وأضيف الرابع (سينين) إلى آخر
وتفردها في
هذه المعطوفات ،وصيغ القسم األخرى في القرآن ،لنتبيّن خصوصيّتها ّ
كثير من آيات القسم في القرآن ،كما في الصيغ التالية،البناء واإليقاع ،مثلها مثل ٍ
متتالية سبقت سور َة (التّين):
ٍ سو ٍر
وقد بدأت بها أربع َ
ﮊ [الفجر]3 – 1 : -ﮋﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ
ﮊ ّ
[الشمس]2 – 1 : -ﮋﭑﭒﭓﭔﭕﭖ
ُّ
[الضحى]2 – 1 : -ﮋﭲﭳﭴﭵﭶﮊ
النحوي لهذه الصيغ األربع األخيرة ،لوجدناّ ولو أنعمنا النظر في التركيب
أي
ثم إيقاعه المختلف ،فال يشبه بنا ُء ٍّالنحوي ،ومن ّ
ّ لكل منها خصوصيّته وبناءه ٍّ
منها أ ّي ًا من أبنية السبائك الثالث األخرى ،أو سبيكتنا في سورة (التين).
أحسن تقويم:
ِ اإلنسان في
َ –2لقد خلقنا
تفرد هذه السبيكة القرآنيّة لو قارنّاها مع أقرب السبائك
نستطيع أن نتبيّن ّ
البشريّة إليها ،كقولنا مث ً
ال:
545
الخاص أيضاً ،فهو يتأرجح بين االسميّة،
ّ أ ّما (تقويم) فمصدر ،ولهذا المصدر وضعه
فيكون بمعنى (قامة) أي( :خلقناه في أحسن قامة) ،وبين المصدريّة ،فيكون بمعنى
مصدر ّ
محل االسم ٍ وتقدير وإحكام) .أ ّما لو أردنا إحالل
ٍ (حساب
ٍ (بناء) أو بمعنى
ٍ
(حال) في جملتنا ،فال ب ّد من تغيير بناء الجملة ،لتكون شيئاً من هذا القبيل:
أ ّما في لغتنا البشريّة فال يحتاج هذا الفعل عاد ًة إلى الحرف (في) ليتعدّى به،
ال أن يكون هذا الحرف ظرف ّي ًا ،فنقول:
إّ
546
َ
أسفل سافلين: ثم رددناه
ّ –3
الجاهلي أو
ّ سبيكة في تراثنا
ٍ لهذه السبيكة خصوصيّتها التي تميّزها عن أيّة
سبيكة قرآن ّي ٍة أخرى ،وذلك بصياغتها النحويّة
ٍ اإلسالمي ،كما تختلف عن أيّة
ّ
الخاص ،كما رأينا.
ّ اإليقاعي
ّ واللغويّة وبنائها
الصالحات:
ِ –4إ ّ
ال الذين آمنوا وعملوا
ات هذه السبيكة هي من السبائك التي تتكرر في القرآن ،ميزاناً ولفظاً ،مر ٍ
ّ ّ
واللغوي المميّز ،قاصر ًة
ّ عديدة ،ولكنّها ظ ّلت مع ذلك حتّى اآلن ،ببنائها النحوي
اليومي.
ّ األدبي أو
ّ معجمنا
َ على القرآن وحده ،ولم تدخل
غير ممنون:
أجر ُ
–5فلهم ٌ
مرة ،ميزاناً ولفظاً. وهذه أيضاً من السبائك التي ّ
تتكرر في القرآن أكثر من ّ
الخاص جدّ ًا بالقرآن الكريم ،كما أثبتناّ ،
فإن ّ وعدا عن افتتاحها بشبه الجملة (فلهم)
شعر أو نثر.
قرآني ال يشاركه فيه ٌ
ٌّ النحوي العا ّم بنا ٌء
ّ بناءها
–6فما ّ
يكذ ُب َ
ك بع ُد بال ّدين:
ال تتح ّقق خصوصيّة هذه السبيكة القرآنيّة بطبيعة االستعمال الجديد والمميّز
المميز للظرف المقطوع عن اإلضافة
َّ للفعل (يك ّذب) وحدها ،فهناك أيضاً الموقع
(بعدُ) الذي جاء ليفصل بين جز َءين للجملة (يك ّذب) و (الدين) لم نعتد انفصال
أي من الحاالت الـ 176يتكرر هذا الفصل في ٍّأحدهما عن اآلخر في لغتنا ،كما ال ّ
يتكرر هذا الفعل بها في القرآن الكريم.
األخرى التي ّ
–7أليس اهللُ َ
بأحكمِ الحاكمين:
والنحوي ،ليس
ّ اللغوي
ّ نستطيع أن نتبيّن خصوصيّة هذه السبيكة ،وتميّزها
عن سبائكنا البشريّة فحسب ،بل عن بقيّة السبائك المقاربة لها في القرآن كذلك،
547
لوعرضنا أقرب هذه السبائك إليها بنا ًء ،وأجرينا بنظرنا مقارن ًة سريع ًة بين البنية
اللغويّة واإليقاعيّة ٍّ
لكل منها ،كما في اآليات الكريمة اآلتية:
ﮊ [العنكبوت]10 : -ﮋﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ
ﮊ ُّ
[الز َمر]37 : -ﮋﮞﮟﮠﮡﮢ
ولو استخدمنا مقياسنا الذي اعتمدناه في هذه الدراسة لنتبيّن الفرق بين
سبيكة سورة (التين) والسبائك الخمس األخرى ،وهو يختلف عن ،أو ال يتقيّد،
العروضي كما سبق أن أوضحنا ،لوجدنا ميزان األولى هكذا:
ّ بالمقياس
أليس العامل بأعمل العاملين
على حين نجد موازين اآليات الخمس على الشكل التالي:
َ
بأعمل بما في أعمال العاملين. أوليس العامل
ٌ
معمل للعاملين. عمل
أليس في ٍ
بعامل عم َله.
ٍ أليس العامل
بعميل ذي انعمال.
ٍ أليس العامل
عمل ال َع ْم َلى.
بعامل على أن يُ ِ
ٍ أليس ذلك
548
رابعاً :اللغة المنفتحة
وطور سينين: والزيتونِ.
ّني ّ 1إلى –3والت ِ
ِ
عرفنا في مطلع دراستنا لهذه السورة ّ
أن لهذه األلفاظ معانيها االحتماليّة العديدة،
المفسرين وهم يحاولون إيجاد روابط فيما بينها ،من ناحية ،وفيما بينهاّ وأنّها شغلت
ناحية أخرى ،كما فعل اإلمام مح ّمد عبده ٍ وبين تاريخ البشريّة وتسلسل النب ّوة من
المفسرين الّذين سبقوه ،فقالوا:
ّ -رحمه اهلل -في تفسيره ،وكما فعل غيره من
(التّين) هو الجبل الذي عليه مدينة دمشق (قاسيون) حيث يعود المسيح إلى
األرض ،و (ال ّزيتون) جبل القدس حيث الوحي واألنبياء ،وقالوا:
549
أحسن تقويم:
ِ –4في
ّ
إن لفظ (تقويم) هنا ،وقد انفردت به هذه السورة كما رأينا ،يتّسع ألكثر من
معنى مقترح:
ً
عمودي) ّ
ألن اهلل خلق ّ بشكل
ٍ المفسرين إلى أنّه (االستقامة
ّ فذهب بعض
اإلنسان مستوياً ،وخلق بقيّة الحيوان منك ّباً على وجهه،
ألن اهلل خلق اإلنسان مهد ّي ًا بالتمييز،
وذهب آخرون إلى أنّه (استقامة العقل)؛ ّ
مؤ ّدي ًا لألوامر ،مز ّين ًا بالعقل،
وقال آخرون :إنّها استقامة الشكل ،فقد خلقه اهلل في أحسن صورٍة وبناء،
إن اإلنسان هو العالَم األصغر؛ إذ ُجمع فيه ّ
كل ولذلك قال بعض الفالسفةّ :
ما في المخلوقات.
وإهمال ما دونه ،حتّى إن استقصينا أقربِ واحد
ٍ بمعنى
ً وال يمكن التشبّث
المشت ّقات إلى هذا اللفظ في القرآن الكريم لنستنير بمعانيها ،فهي متن ّوعة الدّالالت
حد كبير ،كما يمكن أن نتبيّن من قراءتنا السريعة لهذه اآليات:
إلى ٍّ
-ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﮊ ّ
[الروم]25 :
-ﮋﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮊ ّ
[الرحمن]9 :
550
–5رد ْدناه:
معنى: يحمل هذا الفعل ،مستق ً
ال بذاته ،أكثر من ً
فهو بمعنى (أرجعناه) :أي أعدناه في هرمه إلى مثل ما كان عليه من الضعف
والعجز وهو صغير ،أو ربّما وهو علقة ،أو هو بمعنى:
وسياق اآلية يقبل أ ّي ًا من المعنيين ،فيختلف معنى اآلية باختالف معنى الفعل.
َ
أسفل سافلين: –6
يتغيّر معنى هذا التركيب ،ليس باختالف معنى الفعل (رددناه) فحسب ،بل
تحرك الذهن في أكثر من اتّجاه وهو يحاول تفسير هذا (األسفل) ،ولهذا
بإمكان ّ
المفسرين:
ّ قال بعض
َ
اإلنسان الهر ُم ويبدأ بفقدان قواه الجسميّة -إنّه أرذل العمر ،حين يدرك
والعقليّة ،وعلى هذا يكون االستثناء الذي يليه في (إ ّ
ال) منقطعاً ع ّما قبله؛
إذ ال يمكن أن نستثني الذين آمنوا من ظاهرة الهرم والضعف والشيخوخة،
فهم وغير المؤمنين فيها سواء،
-وقال آخرون :بل هو العذاب وجهنّم ،وعلى ذلك يكون االستثناء بعده
متّصالً ،إذ يمكن استثناء المؤمنين من دخول جهنّم،
-وقال آخرون :هو الضالل ،فاالستثناء في هذه الحال متّصل أيضاً.
ّ
األقل ،هو المفسرين ،فيما قرأت على
ّ أن ما لم يقل به أح ٌد من والغريب ّ
أن هذه العودة إلى ﮋ ﭤ ﭥ ﮊ قد تكون االرتداد إلى التراب حيث ينتهي ّ
والدواب ،وقد كان من قبل في أحسن
ّ اإلنسان كما بدأ :تراباً حقيراً يدوسه الناس
551
بناء وأجمل صورة .فأ ّما المغضوب عليهم فيتح ّولون من التراب إلى العذاب ،وهوٍ
مقيم يتمنّى أحدهم معه أن يعود تراباً ،إذ لم يكن يتص ّور وجود ما هو أسفل
عذاب ٌ
ٌ
وأصعب من أن يكون تراب ًا :ﮋ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮊ [النبأ ،]40 :وأ ّما الذين
آمنوا فيُر ّدون إلى جنّة أبيهم آدم ،لتكون لهم هناك حيا ٌة أبديّةٌ و ﮋ ﭭ ﭮ ﭯ ﮊ
كما في ختام السورة.
–8فما ّ
يكذ َ
بك بعدُ :
أن اسم االستفهام (ما) يستعمل عاد ًة لغير العاقلّ ،
ألن اسم االستفهام رغم ّ
المفسرين من القول بأنّه
ّ المختص بالعاقلّ ،
فإن هذا لم يمنع بعض ّ اآلخر ( َمن) هو
هنا بمعنى ( َمن) ،أي:
َمن يك ّذبك يا مح ّمد بعد ّ
كل هذا؟
أ ّما إذا كانت (ما) لغير العاقل ح ّق ًا فيكون المعنى:
ما قيمة هؤالء الذين يك ّذبونك يا مح ّمد؟ أو:
ما الذي يجعلك أيّها الكافر تك ّذب بالدين.
552
ورغم ما ذكرناه من المعنى المتميّز للفعل ِّ
(يكذبك) ،وانفراده بمعنى (يجعلك
تك ّذب) دون سائر األفعال المشابهة في القرآن ،فقد ذهب الذين يرون ّ
أن (ما)
التقليدي له (ينكر رسالتك ،أو :ال يؤمن
ّ أن الفعل هنا جاء بالمعنىللعاقل إلى ّ
كذاب ًا ،بسبب الدّين
الزمخشري إلى أن المعنى :ما الذي يجعلك ّ
ّ بك) .وذهب
وإنكاره ،بعد هذه األدلّة؟
أ ّما الظرف (بعدُ) فيكتسب ق ّوته االنفتاحيّة من قطعه عن اإلضافة .فلو قال:
بعد ما سمعت ،أو:
بعد ما رأيت ،أو:
بعد اآلن،
يفسر بها جميعاً.
النحصر الظرف بواحدٍة من هذه الحاالت ،ولكنّه اآلن يمكن أن َّ
وهكذا نجد التعبير بمجمله مبن ّي ًا على موا ّد انفتاح ّي ٍة مختلفة العناصر تجعل
منه واحداً من أهم المواقع المنفتحة في السورة.
–9بال ّدين:
عرفنا عند دراستنا لآلية ﮋﭞ ﭟ ﭠﮊ في سورة (الفاتحة) المعاني
المتعدّدة للفظ (ال ّدين) ،وهذه المعاني ،التي تتراوح بين اإلسالم والقيامة
والحساب والدينونة والجزاء ،تضيف إلى اآلية بمجملها رصيداً جديداً يغني
معانيها االنفتاحيّة المحتملة.
–10أحكمِ الحاكمين:
تتعدّد المعاني التي يمكن أن يحملها الجذر (حكم) الذي اشتُ ّق منه َ
طرفا
(الحكم) و (اإلحكام) .وقد تعدّدت
هذا التعبير .فمن هذه المعاني (الحكمة) و ُ
القرآني بعدد هذه المعاني ،فقالوا:
ّ تفسيرات التعبير
إنّه خاتم ٌة للسورة جاءت لتطابق مقدّمتها ،فقد ابتدأت بالحديث عن (خ ْلق
اإلنسان في أحسن تقويم) ،وتنتهي اآلن بالحديث عن (اإلحكام) ود ّقة الصنع
553
واإلتقان المتف ّوق،
وقالوا :إنّه وعي ٌد للك ّفار بأنّه تعالى يحكم عليهم بما هم أهله ،لتكذيبهم
الرسول .
خامساً :جوامع َ
الك ِلم
–1البلد األمين:
المكرمة) منذ أن أطلقه القرآن
ّ لقد غدا هذا االسم مالزماً للبلد الحرام ّ
(مكة
السورة.
الكريم عليها في هذه ّ
أحسن تقويم:
ِ اإلنسان في
َ –2لقد َخلقْنا
موقف يتط ّلب منّا أن
ٍ هذه جامع ٌة من جوامع الك ِلم يمكن أن نطلقها في أي
نع ّلق على ق ّوة اإلنسان الجسميّة أو العقليّة ،وكذلك ما خلقه اهلل عليه من ٍ
كمال أو
حكمة أو علم.
ٍ جمال أو
ٍ
َ
أسفل سافلين: ثم رددناه
ّ –3
على عكس اآلية السابقة ،تتر ّدد هذه اآلية على لساننا ونحن نشاهد نهاية
القوي أو الطاغية أو الكبير أو العالم أو الحكيم ،وهو ينتهي
ّ حياة ذلك اإلنسان
خاتمة مؤسفة ،أو حين ينتهي أجله ويلقى نهايته المحتومة ،فيوارى في مثواه
ٍ إلى
األخير حيث التراب والفناء.
554
–4فما يك ّذبك بع ُد بال ّدين:
–5أليس اهللُ بأحكمِ الحاكمين:
بأعجوبة من
ٍ هاتان تسبيحتان قرآنيّتان قد يطلق أحدنا أ ّي ًا منهما حين يسمع
حكم اهلل وقضاءه
أعاجيب العلم ،وهو يكشف عن معجزات اهلل في َخلقه ،أو يرى َ
العادل يَن ُفذ فيمن َظلم أو سرق أو اعتدى أو أجرم ّ
بحق اآلخرين.
***
وبعد .فإنّني ال أرى ما أختم به هذا البحث ،الذي ال أرى لمحيطه الممت ّد
الزركشي في مقدّمته لكتاب (البرهان في علوم القرآن)
ّ شاطئ ًا ،أبلغ من كلمات
وهو يصف واقع من يرود آفاق القرآن ويجوب بحاره من ّقب ًا ومكتشفاً:
ُ
اإلنسان استقصاءه الستَفرغ واعلم أنّه ما ِمن نوع من هذه األنواع إ ّ
ال ولو أراد ْ
ٍ
بعض
نوع على أصولِه ،والرم ِز إلى ِ
كل ٍولكن اقتصرنا من ّ
ِ أمره،
حكم َ ثم لم يُ ِ
عمره ّ
َ
والعمر قصير ،وماذا عسى أن يَبلغ ُ
لسان التقصير. َ فإن الصناع َة طويل ٌة
فصولِهّ ،
رب العالمين
والحمد هلل ّ
555
قائمة المراجع
أو ً
ال :المراجع العربية:
-ابن أبي شيبة ،أبو بكر عبد اهلل بن محمد .المصنف في األحاديث واآلثار ،تحقيق:
كمال يوسف الحوت ،الرياض :مكتبة الرشد ،ط1409 ،1 .ﻫ.
-ابن الجوزي ،عبد الرحمن بن علي .الموضوعات ،تحقيق :عبد الرحمن محمد
عثمان ،بيروت :دار الفكر ،ط1386 ،1 .ﻫ1966 ،م.
-ابن جني ،أبو الفتح .المحتَ َسب في تبيين وجوه شوا ّذ القراءات واإليضاح عنها،
تحقيق :محمد عبد القادر عطا ،بيروت :دار الكتب العلمية1998 ،م.
-ابن خزيمة ،محمد بن إسحاق .صحيح ابن خزيمة ،تحقيق :محمد مصطفى
األعظمي ،بيروت :المكتب اإلسالمي1390 ،ﻫ1970 ،م.
-ابن قتيبة ،عبد اهلل بن مسلم .الشعر والشعراء ،تحقيق أحمد محمد شاكر،
القاهرة :دار الحديث1996 ،م.
-ابن منظور ،محمد بن مكرم .لسان العرب ،بيروت :دار صادر ،ط( ،1.د .ت.).
-ابن هشام األنصاري ،جمال الدين عبد اهلل بن يوسف .مغني اللبيب عن
كالم األعاريب ،تحقيق :مازن المبارك ومحمد علي حمد اهلل ،بيروت :دار
الفكر1985 ،م.
-األصبحي ،مالك بن أنس .موطأ اإلمام مالك ،تحقيق :محمد فؤاد عبد الباقي،
بيروت :دار إحياء التراث العربي( ،د .ط( ،).د .ت).
-األصفهاني ،علي بن الحسين .األغاني ،تحقيق :سمير جابر ،بيروت :دار الفكر،
ط( ،2 .د .ت.).
-البخاري ،محمد بن إسماعيل .صحيح البخاري ،تحقيق :مصطفى ديب البغا،
557
بيروت :دار ابن كثير واليمامة ،ط1407 ،3 .ﻫ1987 ،م.
-البستي ،محمد بن حبان .صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان ،تحقيق :شعيب
األرنؤوط ،بيروت :مؤسسة الرسالة ،ط1414 ،2 .ﻫ1993 ،م.
-البيهقي ،أبو بكر أحمد بن الحسين .إثبات عذاب القبر ،تحقيق :شرف محمود
القضاة ،عمان :دار الفرقان ،ط1405 ،2.ﻫ.
-البيهقي ،أحمد بن الحسين .دالئل النبوة ،تحقيق :عبد المعطي قلعجي ،بيروت
والقاهرة :دار الكتب العلمية ودار الريان للتراث1408 ،ﻫ1998 ،م
-البيهقي ،أحمد بن الحسين بن علي .سنن البيهقي الكبرى ،تحقيق :محمد عبد
القادر عطا ،مكة المكرمة :مكتبة دار الباز( ،د .ط1414 ،).ﻫ1994 ،م.
-البيهقي ،أحمد بن الحسين .شعب اإليمان ،تحقيق :محمد بسيوني زغلول،
بيروت :دار الكتب العلمية ،ط1410 ،1 .ﻫ.
-الدارمي ،عبد اهلل بن عبد الرحمن .سنن الدارمي ،تحقيق :فواز زمرلي وخالد
العلمي ،بيروت :دار الكتاب العربي ،ط 1407 ،10ﻫ.
-الدرويش ،محيي الدّين ،إعراب القرآن الكريم وبيانه ،دمشق وبيروت :دار
اليمامة ودار ابن كثير1999 ،م.
558
-الديلمي ،شيرويه بن شهردار .فردوس األخبار بمأثور الخطاب المخرج على
كتاب الشهاب ،تحقيق :فواز أحمد الزمرلي ومحمد المعتصم باهلل البغدادي،
بيروت :دار الكتاب العربي ،ط1407 ،1.ﻫ1987 ،م.
-الرازي ،عبد الرحمن بن محمد .تفسير القرآن العظيم ،تحقيق :أسعد محمد
الطيب ،مكة المكرمة :مركز الدراسات والبحوث بمكتبة نزار الباز ،ط،1 .
1417ﻫ1997 ،م.
-الزمخشري ،أبو القاسم محمود بن عمر .الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون
األقاويل في وجوه التأويل ،تحقيق :عبد الرزاق المهدي ،بيروت :دار إحياء
التراث العربي( ،د .ت.).
-سبحاني ،محمد عناية اهلل أسد .البرهان في نظام القرآن ،إسالم آباد :مكتبة
الجامعة1994 ،م.
-السجستاني ،سليمان بن األشعث .سنن أبي داود ،تحقيق :محمد محيي الدين
عبد الحميد ،بيروت :دار الفكر( ،د .ت.).
-السيوطي ،عبد الرحمن بن أبي بكر .اإلتقان في علوم القرآن ،تحقيق :محمد
سالم هاشم ،بيروت :دار الكتب العلمية2003 ،م.
-شاهين ،عبد الصبور .تاريخ القرآن ،القاهرة :دار القلم1966 ،م.
-الشوكاني ،محمد بن علي .فتح القدير الجامع بين فنَّي الرواية والدراية من علم
التفسير ،بيروت :دار الفكر( ،د .ت.).
-الشيباني ،أحمد بن حنبل .مسند اإلمام أحمد بن حنبل ،تحقيق :شعيب األرنؤوط،
بيروت :دار الرسالة ،ط1999 ،2 .م.
-الصنعاني ،عبد الرزاق بن همام .المصنف ،تحقيق :حبيب الرحمن األعظمي،
بيروت :المكتب اإلسالمي ،ط1403 ،2 .ﻫ.
559
لق الكون بين العلم واإليمان ،بيروت :دار النفائس،
-الطائي ،محمد باسلَ .خ ُ
1998م.
-الطبراني ،سليمان بن أحمد .المعجم األوسط ،تحقيق :طارق بن عوض اهلل بن
محمد وعبد المحسن بن إبراهيم الحسيني ،القاهرة :دار الحرمين1415 ،ﻫ.
-الطبري ،أحمد بن عبد اهلل .ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى ،القاهرة :مكتبة
القدسي1356 ،ﻫ.
-الطبري ،محمد بن جرير .جامع البيان في تأويل القرآن ،تحقيق :أحمد محمد
شاكر ،بيروت :مؤسسة الرسالة ،ط1420 ،1 .ﻫ2000 /م.
-عبده ،محمد .تفسير القرآن الكريم «جزء عم» ،القاهرة :مطبعة مصر ،ط،3 .
1341ﻫ.
العسكري ،أبو هالل الحسن بن عبد اهلل .الفروق اللغويّة .تحقيق :محمد باسل
ّ -
عيون السود ،بيروت :دار الكتب العلميّة2000 ،م.
-فخر الدين الرازي ،محمد بن عمر .التفسير الكبير (مفاتيح الغيب) ،بيروت :دار
الكتب العلمية ،ط1421 ،10ﻫ2000 ،م.
-الفراء ،أبو زكريا يحيى بن زياد .معاني القرآن ،تحقيق :عبد الفتاح اسماعيل
شلبي .القاهرة :دار السرور( ،د .ت.).
560
-القرطبي ،محمد بن أحمد .الجامع ألحكام القرآن ،تحقيق :أحمد البردوني
وإبراهيم أطفيش ،القاهرة :دار الكتب المصرية ،ط1384 ،2 .ﻫ1964 ،م.
-القرطبي ،محمد بن أحمد .تفسير القرطبي ،بيروت :دار إحياء التراث العربي،
(د.ط1405 ،).ﻫ1985 ،م.
-القزويني ،زكريا بن محمد .آثار البالد وأخبار العباد ،بيروت :دار صادر( ،د .ت).
-القزويني ،محمد بن يزيد .سنن ابن ماجه ،تحقيق :محمد فؤاد عبد الباقي،
بيروت :دارالفكر( ،د .ط)( ،د .ت).
-القشيري ،مسلم بن الحجاج .صحيح مسلم ،تحقيق :محمد فؤاد عبد الباقي،
بيروت :دار إحياء التراث العربي( ،د .ط( ،).د .ت.).
-قطب ،سيد .في ظالل القرآن ،بيروت :دار الشروق ،ط1982 ،10 .م.
-الكتاب المقدس( ،د .م :).دار الكتاب المقدس في العالم العربي.1981 ،
-المتقي الهندي ،علي بن حسام الدين .كنز العمال في سنن األقوال واألفعال،
بيروت :مؤسسة الرسالة1989 ،م.
-المروزي ،عبد اهلل بن المبارك .الزهد ،تحقيق :حبيب الرحمن األعظمي ،بيروت:
دار الكتب العلمية( ،د.ت.).
-المعافري ،عبد الملك بن هشام .السيرة النبوية ،تحقيق :طه عبد الرؤوف سعد،
بيروت :دار الجيل1411 ،ﻫ.
-النسائي ،أحمد بن شعيب .المجتبى من السنن ،تحقيق :عبد الفتاح أبو غدة،
حلب :مكتب المطبوعات اإلسالمية ،ط1406 ،2 .ﻫ1986 ،م.
561
مصطفى: تحقيق، المستدرك على الصحيحين. محمد بن عبد اهلل، النيسابوري-
.م1990 ،ﻫ1411 ،1 . ط، دار الكتب العلمية: بيروت،عبد القادر عطا
: المراجع األجنبية:ًثانيا
- Asad, Muhammad. The Message of the Qur`an. Bristol (England), The Book
Foundation. Vol. 5, P: 758
- The Holy Book. King James Version. Collins’ Clear-Type Press. London: 1950
- Good News for Modern Man (the New Testament in today’s English Version).
American Bible Society: 1966
- The Holy Bible, Containing The Old and New Testament. Rivised Standerd Version.
Division of Christian Education of the National Council of the Churches of Christ in
the U.S.A. Great Britain: 1971
- New World Translation of the Holy Scriptures. Watch Tower Bible and Tract
Society of New York. U.S.A. 1981
- The New Testament of our Lord and Saviour. Oxford, The University Press: (?)
562
- La Sainte Bible (Traduite sur les textes originaux Hebreu et Grec),Trinitarian Bible
Society. London: 1981
- Die Bibel (nach der Ubersetzung Martin Luthers). Deutsche Bibelstiftung Stuttgart.
Germany: 1982
563
محتويات الجزء األ ّول
الحمد هلل 9..........................................................................................................................................
تصدير ،للدكتور طه جابر العلواني13................................................................................
تمهيد23........................................................................................................................................ :
إعجاز أم مجرد عبقرية 24 ..............................................................................................................
ما اإلعجاز عند القدماء 27 .............................................................................................................
إحجام الدارسين عن الخوض في اإلعجاز التجديدي 32 ....................................................
وقع الصدمة التجديدية على العربي األول 33 ..........................................................................
طبيعة التحدي الجديد 35 ...............................................................................................................
اإلعجاز ومذهب الصرفة 36 ..........................................................................................................
الحجم الحقيقي لإلعجاز التجديدي 38 .....................................................................................
هل ترك األ ّولون لآلخرين؟ 40.......................................................................................................
أهل التالوة وأهل التدبّر 42.............................................................................................................
الكثافة اإلعجازية للمواقع التجديدية 44......................................................................................
النفوذ المحيِّر للبنية اإليقاعية الجديدة لدى العرب 48 ...........................................................
رحلتي في آلة الزمان 49 ..................................................................................................................
بين المعجم القرآني والمعجم الجاهلي والمعجم النبوي 51 ...............................................
الثورة اللغوية الجديدة 54 ...............................................................................................................
الحدود بين األعراف والقواعد 55.................................................................................................
القرآن يمهد لتحويل األعراف اللغوية إلى قواعد 56 ..............................................................
منهج الدراسة 57 ...............................................................................................................................
565
الباب األول :لغة الوحي الجديدة65................................................................... :
الفصل األ ّول :الشخصيّة اللغويّة للقرآن الكريم 67 ...............................................
خصوصية القرآن 67 .........................................................................................................................
التحدي القرآني 68 ............................................................................................................................
الفن األدبي الجديد – أدب السورة 71 ........................................................................................
التميز الفني لفواتح السور 72 ........................................................................................................
شخصية (السورة) القرآنية 76 .........................................................................................................
هل تتداخل شخصيات السور؟ 79................................................................................................
سورتي (األعلى) و (الليل) 79.................................................................................................
ْ بين
شمولية اآلية القرآنية 83 ...................................................................................................................
التخ ّوف من التصريح بجدّة اللغة القرآنية 84 ............................................................................
الخلط بين (اإلعجاز) و (البالغة) عند العلماء 85....................................................................
نظرية النظم عند الجرجاني 86 ......................................................................................................
لغ ٌة عربيّةٌ ولغ ٌة جديد ٌة معاً 88 ........................................................................................................
ظاهرتا التجويد والترتيل 90 ...........................................................................................................
اإليقاع والفاصلة القرآنية 92 ...........................................................................................................
الخصائص العشرون للكتاب الكريم100 ................................................................................ :
الفصل الثاني :السبيكة القرآنيّة 117 ...............................................................................
السبيكة الشعرية 118.........................................................................................................................
معظم سبائك القرآن ال يتكرر 124................................................................................................
ومعظم ألفاظه ال يتكرر 128 ..........................................................................................................
المتفردة 127..............................................................................................
ّ كثافة السبائك القرآنية
566
الفصل الثالث :بين السبيكة القرآنيّة والنبويّة والبشريّة 131 ..............................
بين السبيكة القرآنية والسبيكة والبشرية 132 .............................................................................
طبيعة السبيكة القرآنية وتركيبتها 134 ..........................................................................................
التركيبة اإليقاعية للسبيكة 142 ......................................................................................................
السبيكة القرآنية الجديدة أبداً 150 ................................................................................................
بين السبيكتين القرآنية والبشرية 152 ............................................................................................
بين (تقليد) لغة القرآن و (اقتباسها) 158 .....................................................................................
ْفأتوا بسورٍة مث ِله 160 .......................................................................................................................
صفحة سورة (البقرة) – المقابل البشري 162 ...........................................................................
السبيكة النبوية 163 ...........................................................................................................................
الفصل الرابع :التراكيب والتعبيرات القرآنيّة 169 ...................................................
صدمة الجدّة في التعبير والتركيب 170 ......................................................................................
حدود التركيب والتعبير 171 ..........................................................................................................
التركيب القرآني 172 ........................................................................................................................
التعبير القرآني 178 ...........................................................................................................................
التراكيب القرآنية في (المدّثر) 179 ...............................................................................................
التعبيرات القرآنية في (المدّثر) 181 .............................................................................................
الفصل الخامس :األلفاظ واألدوات الجديدة 185 .................................................
مقاومة اللغويين لفكرة اللغة الجديدة 186 ................................................................................
فهم ما ال نتوقع أن يُفهم 188 .....................................................................................
المعجزةُ :
طبيعة األلفاظ الجديدة 188 ...........................................................................................................
أنواع اللفظ الجديد 190 ..................................................................................................................
567
طبيعة التجديد اللفظي 192 ............................................................................................................
معجزة الجمع بين الجدّة والوضوح 194 ...................................................................................
االستعماالت الجديدة لألدوات القديمة (كان) و (ما زال) 196 ..........................................
استعماالت جديدة لألدوات األخرى 199 ................................................................................
الفصل السادس :األلفاظ الجديدة في بواكير الوحي :الم ّدثّر 209 ...............
اإلعالن القرآني 210 ........................................................................................................................
األلفاظ الجديدة في (الم ّدثّر) 211 ...............................................................................................
األلفاظ القديمة في معنى جديد 213 ..........................................................................................
المصطلح الجديد في (الم ّدثّر) 215 ............................................................................................
البياني في (الم ّدثّر) 216 ......................................................................................................
ّ اللفظ
االستعمال الجديد لألدوات في (الم ّدثّر) 217 .........................................................................
الفصل السابع :العالقات اللغويّة الجديدة 221 .......................................................
إعادة تكوين الوحدة اللغوية 222 .................................................................................................
الوضع الجديد ألدوات الربط التقليدية 224 .............................................................................
دور األلفة في حجب العالقات الجديدة 226 ..........................................................................
العالقات الجديدة بين األلفاظ 230..............................................................................................
الروابط الجديدة بين األداة والفعل 235 .....................................................................................
العالقات اللغوية الجديدة في (المدّثر) 237 ..............................................................................
الباب الثاني :البالغة القرآنيّة الجديدة241 .................................................... :
الفصل األ ّول :البناء الجديد للصورة القرآنيّة 243 .................................................
سيطرة الصورة الجاهلية على الشعر 243....................................................................................
القرآني الجديد للصور 244 .........................................................................................
ّ القاموس
بنا ٌء جديد للصورة القرآنية 248 .....................................................................................................
568
الصورة ذات األبعاد المتعدّدة 250 ...............................................................................................
الصورة المتحركة 251 .....................................................................................................................
توليد الصورة من المعنى الجديد للفعل 254 ...........................................................................
الصورة االفتراضية 254 ...................................................................................................................
أنواع الصور في سورة (المدّثر) 255 ...........................................................................................
القرآني الجديد :االلتفات 259 ..............................................
ّ الفن
الفصل الثانيّ :
بين (االلتفات) في القرآن و (التجريد) في الشعر 259 ............................................................
خلط البالغيين في تعريف (االلتفات) 262 ...............................................................................
بفن (االلتفات) 264 ...................................................................................................
تفرد القرآن ّ
ّ
التفات المشهد 268 ..........................................................................................................................
التفات الشخصيّات 269 .................................................................................................................
التفات الحدث 270 ..........................................................................................................................
التفات الزمن 270 .............................................................................................................................
التفات الجنس 273 ..........................................................................................................................
التفات العدد (المفرد والمثتى والجمع) 275 ............................................................................
التفات العاقل وغير العاقل 277 ....................................................................................................
التفات النصب 278 ..........................................................................................................................
التفات الحذف واإلثبات 285 .......................................................................................................
مواقع االلتفات في (المدّثر) 291 .................................................................................................
الفصل الثالث :اللغة المنفتحة للقرآن الكريم 295 ................................................
اللغة الشعرية واللغة المنفتحة 296 ..............................................................................................
اللغة المنفتحة في الكتب السماوية 298 .....................................................................................
569
اللغة المنفتحة في الحديث النبوي 300 ......................................................................................
انفتاحيّة األسلوب الفكري للقرآن 301 .......................................................................................
الفرق بين اللغة المنفتحة واللغة الجميلة 302 ..........................................................................
الفرق بين االنفتاح والغموض 306 ..............................................................................................
الفرق بين االنفتاح واإليحاء 284 .................................................................................................
بصيرة عمر (ر) وكشوف اإلعجاز العلمي 310 ........................................................................
كيميائية اللغة المنفتحة 314 ...........................................................................................................
المواقع االنفتاحيّة في سورة (المدّثر) 319 ................................................................................
القراءات القرآنية واالنفتاح 321 ....................................................................................................
(الناسخ والمنسوخ) واالنفتاح 326 ..............................................................................................
الفصل الرابع :جوامع َ
الك ِلم 333 ....................................................................................
الجوامع القرآنية في لغتنا اليومية 334 .........................................................................................
نبوي لجوامع الك ِلم 338 .................................................................
قرآني وآخر ّ
ّ نحو قاموس
اللفظ الجامع 341 .............................................................................................................................
جوامع الكلم في (المدّثر) 342 .....................................................................................................
حجم المواقع التجديدية في (المدّثر) 344 ................................................................................
وبعد345 .......................................................................................................................................... ..
المراجع 347 ......................................................................................................................................
الكشاف 351 .......................................................................................................................................
570
الكشاف
571
،512 ،511 ،508 ،500 ،499 ،490 ،462 بنت أبي بكر ،عائشة ،205 ،130 ،113 ،63 :
.571 ،542 ،529 .373 ،260
التفات الجنس.571 ،40 : بنت بدر ،الخرنق.417 ،416 :
التفات الحذف.571 : بنو إسرائيل.474 :
التفات الخطاب.39 : البيهقي ،أحمد بن الحسين.560 ،316 :
التفات الزمن.571 ،38 :
التفات العاقل وغير العاقل.571 :
ت
التفات العدد.571 : تأبّط شراً.463 ،322 ،307 ،240 ،67 :
التفات النصب.571 ،41 : تراث عربي جاهلي.262 :
تقاليد لغوية،197 ،195 ،165 ،150 ،149 ،102 : تراثنا العربي،504 ،491 ،373 ،289 ،162 ،30 :
.569 ،502 ،230 .546 ،545
تمثيل بياني.34 : تراثنا اللغوي.485 ،142 ،136 ،25 :
التهامي.146 : تراكيب جديدة.24 :
ترتيب تراجعي،221 ،191 ،175 ،155 ،135 :
ث ،457 ،369 ،345 ،317 ،303 ،269
ابن ثابت ،حسان.318 : .531 ،479
ثورة تجديدية.60 : ترجمات ألمانية.59 :
ﺟ ترجمات فرنسية.59 :
تركيب نحوي.547 ،444 ،426 ،382 ،265 :
ابن الجالح ،أُحيحة.397 :
تعبير قرآني،118 ،108 ،103 ،86 ،78 ،77 ،75 :
جمل منفتحة.42 :
،232 ،230 ،198 ،168 ،165 ،163 ،141
جملة بشرية.279 ،150 ،33 ،32 :
،282 ،273 ،268 ،267 ،266 ،265 ،237
ابن جندل ،سالمة.534 ،416 ،241 ،57 :
،357 ،353 ،351 ،325 ،309 ،293 ،289
ﺣ ،428 ،426 ،405 ،404 ،403 ،384 ،358
حاالت لغوية.151 ،122 : ،443 ،441 ،440 ،438 ،437 ،436 ،429
ابن الحدادية ،قيس.157 ،57 : ،495 ،491 ،477 ،471 ،466 ،462 ،453
حديث قدسي.140 ،138 ،137 ،84 ،76 : ،546 ،545 ،511 ،510 ،506 ،501 ،497
حديث نبوي،152 ،121 ،113 ،78 ،64 ،56 : .269 ،555
،310 ،308 ،306 ،305 ،235 ،225 ،189 تعبير نحوي.414 :
،404 ،372 ،358 ،356 ،355 ،348 ،311 تعبيرات جديدة.24 :
.541 ،511 ،508 ،507 ،488 ،485 ،472 تعبيرات منفتحة.317 ،84 ،43 :
حقائق لغوية.73 : التغلبيُ ،عميرة بن ُجعل.75 :
ابن ح ّلزة ،الحارث.139 ،75 : التفات،91 ،80 ،79 ،72 ،41 ،40 ،39 ،38 ،37 :
حماسة.327 ،55 : ،277 ،244 ،215 ،195 ،146 ،144 ،122
ابن حواسُ ،شريح.481 : ،435 ،404 ،401 ،380 ،374 ،299 ،290
572
ابن الرومي،287 ،280 ،173 ،169 ،161 ،118 : ﺧ
.464 ،307 ابن خاتمة.118 :
ز ابن أبي خازم ،بشر.228 ،162 :
الزركشي.557 : ابن خالويه.498 ،270 ،77 :
ابن الزبعرى ،عبد اهلل.485 : الخدري ،أبو سعيد.436 ،287 ،152 ،132 :
الزماني ،الفند.506 ،421 : ابن خشرم ،هدبة.75 ،31 :
الزمخشري.555 ،499 ،498 ،488 ،250 ،243 : خصائص تركيبية.517 :
ابن زهير ،كعب.177 : خصائص تعبيرية.517 ،501 :
ابن زياد ،عبيد اهلل.279 : خصائص قرآنية.517 ،378 ،377 :
زيتون.551 ،547 ،539 ،534 ،533 ،532 : خصائص لغوية.214 ،100 ،53 ،52 :
ابن زيد ،عدي.193 ،67 : خصائص لفظية.517 :
خطباء.80 ،30 :
س ابن خلف ،أمية.291 :
سبائك تقليدية.32 : خليل الرحمن.438 :
سبائك جديدة.331 ،169 ،32 :
د
سبائك قرآنية،111 ،109 ،81 ،80 ،33 ،30 :
،201 ،186 ،168 ،147 ،140 ،129 ،127 دراسات حديثة.431 :
،264 ،254 ،246 ،232 ،218 ،217 ،216 دراسات شرعية.18 :
،380 ،359 ،358 ،333 ،332 ،331 ،291 ذ
،471 ،470 ،469 ،445 ،444 ،443 ،405 الذبياني ،النابغة،212 ،162 ،159 ،137 ،17 :
.516 ،514 .503 ،482 ،259 ،256 ،222
سبائك لغوية،127 ،109 ،87 ،80 ،52 ،32 : ذو الرمة.161 ،149 :
،380 ،331 ،313 ،269 ،216 ،186 ،128 ذو القرنين.474 :
.547 ،532
ابن أبي سلمى ،زهير،256 ،228 ،126 ،159 : ر
.483 ،427 ،419 ،418 ،274 رابط لغوي،390 ،289 ،261 ،232 ،201 ،71 :
السموأل.533 ،147 : .510 ،464
سياق قرآني،180 ،140 ،138 ،137 ،117 ،59 : الرازي ،فخر الدين،181 ،132 ،105 ،99 ،97 :
.499 ،486 ،441 ،440 ،398 ،266 .517 ،503
السيوطي.85 ،56 ،54 : الرافعي.29 ،16 :
ابن أبي رباح ،عطاء.295 :
ش
ابن أبي ربيعة ،عمر.440 ،157 :
شاعر جاهلي.425 ،308 ،193 ،100 ،31 : ابن ربيعة ،كليب.346 :
شخصية لغوية،203 ،191 ،175 ،103 ،94 : ابن ربيعة ،المهلهل.427 ،418 ،346 :
.568 ،465 ،457 ،414 ،345 ،221 ابن روحان ،البراق.196 :
573
ﻋ ابن ُشريق ،األخنس.291 :
أبو العالية.295 : شعراء،103 ،100 ،80 ،57 ،34 ،31 ،30 ،16 :
ابن عامر ،عقبة.113 : t ،169 ،161 ،157 ،156 ،149 ،145 ،127
عبارة قرآنية،315 ،251 ،203 ،172 ،141 ،88 : ،305 ،256 ،229 ،228 ،222 ،210 ،173
.526 ،495 ،454 ،390 ،383 ،486 ،484 ،432 ،421 ،324 ،319 ،318
ابن عباد ،الحارث.275 ،270 ،224 ،139 ،137 : .508
ابن عبد العزيز ،عمر.56 : الشنفرى.497 ،396 ،323 ،127 :
ابن العبد ،طرفة.419 ،138 ،127 : شوقي ،أحمد.146 :
العبدي ،المثقب.421 ،193 : الشوكاني.286 ،54 ،53 ،44 :
أبو العتاهية.149 : ص
العدواني ،ذو اإلصبع.427 ،418 ،284 : صدمة لغوية.25 :
عصر أموي،273 ،179 ،178 ،105 ،97 ،58 : الصديق ،أبو بكر .411 :t
.486 ،324 ابن أبي الصلت ،أمية.180 ،58 :
عالقات داخلية،426 ،399 ،373 ،349 ،325 : صور بيانية.413 ،35 :
.539 ،532 ،487 ،462 صور جديدة.353 ،264 ،35 ،34 :
عالقات لغوية جديدة،333 ،294 ،141 ،25 : صور قرآنية.35 :
.570 ،531 ،479 ،443 ،405 صياغة لغوية ونحوية.325 ،101 ،79 :
ابن علس ،المسيب.19 : صيغ لغوية،399 ،373 ،349 ،325 ،141 ،24 :
علم التفسير.44 : .539 ،532 ،509 ،487 ،462 ،426
ابن عمر ،أُبي.291 : صيغ وعالقات لغوية.141 :
ابن عمرو ،بشر.95 :
ابن عمرو ،عائذ.279 :
ض
عنترة،271 ،256 ،224 ،211 ،196 ،168 ،90 : الضبعي ،المتلمس.305 ،193 ،17 :
،397 ،325 ،322 ،319 ،305 ،304 ،275 الضبي ،عيّاض.463 :
،461 ،460 ،459 ،458 ،440 ،425 ،424 ط
.497 ،486 ،484 ،469
الطائي ،حاتم،159 ،127 ،103 ،98 ،67 ،57 :
عيسى ابن مريم .551 ،420 ،276 ،275 ،255 :
.497
ابن عيالن ،منبه بن سعد.305 :
ابن أبي طالب ،علي .173 ،169 ،156 ،77 ،56 :t
ﻏ الطبراني.316 :
الغنوي ،الطفيل.416 ،271 ،254 : طريق االستقامة.86 :
الغنوي ،كعب بن سعد.364 ،58 : ظ
ف ظاهرة قرآنية،231 ،215 ،198 ،104 ،96 ،74 :
فتح القدير (كتاب).189 ،44 : .435 ،283 ،232
574
لغة عربية،123 ،108 ،106 ،70 ،58 ،49 ،28 : الفحل ،علقمة.535 ،460 :
،321 ،282 ،254 ،241 ،230 ،181 ،155 الفراء.362 ،298 ،242 :
.531 ،465 ،420 ،419 ،393 ،331 ،330 الفرزدق.273 ،228 ،161 :
لغة قرآنية،74 ،59 ،54 ،49 ،29 ،28 ،24 ،10 : الفزاري ،األخضر.497 :
،167 ،166 ،150 ،99 ،93 ،90 ،89 ،87 الفزاري ،الحصين بن حمام.394 ،347 ،97 :
،246 ،233 ،216 ،209 ،200 ،185 ،169 فقه إسالمي.18 :
،464 ،439 ،404 ،378 ،377 ،314 ،247 فن االلتفات.490 ،435 ،290 ،215 ،195 ،37 :
.568 ،538 ،500 ،494
ق
لغة منفتحة،151 ،129 ،85 ،84 ،42 ،41 ،17 :
قاعدة نحوية.150 ،142 ،125 :
،551 ،517 ،471 ،447 ،413 ،406 ،233
قاموس البالغة العربية.404 ،379 ،35 :
.571،572
قاموس التعبير.265 ،51 :
اللوح المحفوظ،463 ،449 ،434 ،417 ،84 :
قاموس العربية.189 ،130 ،93 :
.471
قاموس لغوي.254 ،89 ،18 ،17 :
م قتادة.295 ،45 :
ابن مالك ،المسيب.147 ،125 : القرطبي.518 ،295 ،210 ،99 :
ابن مالك ،أنس .257 ،205 :t قريش،245 ،244 ،242 ،241 ،239 ،211 :
مجاهد.363 ،295 : .336 ،307 ،249 ،248 ،247 ،246
مجاهل البالغة.125 : قواعد بيانية.34 :
مجاهل الصرف.125 : قوالب لغوية.80 :
مجاهل اللغة.125 : القيني ،أبو الطمحان.168 :
مجاهل النحو.125 :
ك
مجنون ليلى.280 ،117 :
كتاب مقدس.226 ،60 :
المخزومي ،الحارث.440 :
كثافة قرآنية.334 ،307 ،306 ،274 ،192 ،116 :
مدرسة الكوفة.509 :
كثيّر عزة.280 :
المر ّقش األكبر.482 ،458 ،420 ،31 ،17 :
كسرى.304 ،212 :
المري ،سنان.95 :
الكلبي ،زهير.534 ،156 :
المري ،يزيد بن سنان.310 :
ابن كلثوم ،عمرو.481 ،271 ،168 ،137 :
مريم .59 :
كلمات بشرية.33 ،32 :
أبو مزينة.316 :
ابن كيسان.295 :
ابن المضلل.67 :
كيمياء لغوية.331 :
المزني ،معن.157 :
معاذ بن جبل .487 :t ل
معاني القرآن.298 ،90 : اللزوميات.111 :
معجم لغوي.300 ،207 ،137 ،135 ،68 ،45 : لسان عربي.433 ،300 ،269 ،119 ،117 :
575
ابن نفيل ،زيد بن عمرو.57 : ابن المغيرة ،الوليد.291 ،128 :
نقطة إعجازية.133 ،114 ،99 ،89 ،83 : مقاتل.295 :
النهشلي ،األسود بن يعفر.534 ،506 ،103 : أبي.225 ،31 :
ّ بن تميم ابن مقبل،
النهشلي ،ضمرة.503 ،501 : ملك،105 ،104 ،103 ،90 ،81 ،71 ،24 ،18 :
ابن نوفل ،فروة.205 : ،208 ،196 ،187 ،142 ،132 ،119 ،110
ابن نوفل ،ورقة.180 ،31 : .474 ،304 ،259 ،212
ﻫ مواقع قرآنية.480 ،352 ،222 :
الهجيمي ،أوس.139 : مواقع منفتحة،204 ،187 ،171 ،150 ،112 :
الهذلي ،ذو الكلب.424 ،421 : ،296 ،294 ،266 ،254 ،247 ،233 ،219
الهذلي ،عبد مناف.482 ،336 ،170 : ،460 ،384 ،371 ،360 ،334 ،314 ،299
الهذلي ،معطل.310 : .555 ،539 ،537 ،535 ،532 ،463
أبو هريرة .343 ،342 ،341 ،153 ،76 :t مؤسسات ثقافية.529 :
و موسى .551 ،538 ،533 ،426 :
576