You are on page 1of 81

‫‪5‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫المقدمة‬
‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على أشرف النبيني‬
‫كثريا وبعد‪:‬‬
‫تسليما ً‬
‫واملرسلني‪ ،‬وعلى آله وصحبه وسلم ً‬
‫فهذا فصل نفيس يف جزء لطيف‪ ،‬تكلم فيه ابن القيم اجلوزية رمحه‬
‫اهلل عن صفة الصالة يف مواضع من كتبه‪ ،‬بطريقة مبتكرة‪ ،‬مل يسبق إليها‬
‫َب الصالة وخمها‪ ،‬وهو اخلشوع من التكبري‬ ‫فيما أعلم‪ .‬حيث تكلَم عن لُ َ‬
‫إىل التسليم‪ ،‬فأتى فيه بكل عجيَب ومفيد‪.‬‬
‫( )‬
‫أما الموضع األول‪ :‬فذكره يف طيَات كتابه عن مسألة ال َسماع‬
‫جدا يف ذَوق الصالة»‪.‬‬
‫وقال يف آخره‪« :‬فهذه إشارة ما‪ ،‬ونبذة يسرية ً‬
‫والموضع الثاني‪ :‬ففي كتابه عن الصالة وحكم تاركها( ) وملا كان‬
‫جدا‬
‫مغمورا بني تلك الصفحات‪ ،‬كان من املفيد ً‬ ‫هذا الفصل على نفاسته ً‬
‫إفراده ليع َم نفعه املسلمني كافة‪ ،‬معنونًا بكلمات تناسَب فقراته‪.‬‬
‫والموضع الثالث‪ :‬يف رسالة له إىل أحد إخوانه‪.‬‬
‫وعن كلمة الذوق قال ابن تيمية رمحه اهلل‪« :‬فلفظ الذوق‬

‫) ( طبعه دار العاصمة بالرياض عام ‪ 041‬هـ بتحقيق راشد احلمد‪ ،‬وقد أثبت أهم‬
‫تعليقاته على النص‪.‬‬
‫) ( طبعته مؤسسة الرسالة عام ‪ 045‬هـ بتحقيق تيسري زعيرت وقد أثبت أهم تعليقاته‬
‫على النص‪ ،‬مع تصويَب ما يلزم بطبعة دار ابن كثري بتحقيق حممد نظام الدين‪.‬‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪6‬‬

‫حيس به وجيد أمله أو لذته»( )‪.‬‬


‫يستعمل يف كل ما ُ‬
‫ْكر‬
‫أيضا‪« :‬فهذان احلديثان الصحيحان مها أصل فيما يُذ ُ‬
‫وقال ً‬
‫الو ْجد وال َذ ْوق اإلمياين الشرعي دون الضاليل البدعي» ففي‬
‫من َ‬
‫صحيح مسلم عن النيب ‪ ‬أنه قال‪« :‬ذاق طعم اإليمان من رضي‬
‫باهلل ربًا وباإلسالم دينًا وبمحمد نبيًا»‪.‬‬
‫ويف الصحيحني عن النيب ‪ ‬أنه قال‪« :‬ثالث من كن فيه وجد‬
‫أحّب إليه مما سواهما‪،‬‬
‫بهن حالوة اإليمان‪ :‬أن يكون اهلل ورسوله َ‬
‫وأن يحّب المرء ال يحبه إال هلل‪ ،‬وأن يكره أن يعود في الكفر بعد‬
‫إذ أنقذه اهلل منه كما يكره أن يلقى في النار»( )‪.‬‬
‫ونقل ابن القيم عن شيخه ابن تيمية قال‪« :‬إذا مل جتد للعمل‬
‫احا فا ََّت ْمه فإن َ‬
‫الرب تعاىل شكور»‪.‬‬ ‫حالوة يف قلبك وانشر ً‬
‫قال ابن القيم معقبًا عليه‪« :‬يعين أنه ال بد أن يثيَب العامل على‬
‫عمله يف الدنيا من حالوة جيدها يف قلبه وقوة انشراح وقرة عني‪،‬‬
‫فحيث مل جيد ذلك فعمله مدخول»( ) أ‪.‬هـ كالمه‪.‬‬
‫وما توفيقي إال باهلل عليه توكلت وإليه أنيَب‪.‬‬
‫كتبه‬
‫عادل بن عبد الشكور ال ُّزرقي‬

‫) ( الفتاوى (‪.) 41/7‬‬


‫) ( الفتاوى (‪.)04/ 4‬‬
‫) ( مدارج السالكني (منزلة املراقبة)‪.‬‬
‫‪7‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫الرسالة األولى‪:‬‬

‫قال ابن القيم رحمه اهلل‬


‫ذوق الصــالة‬ ‫‪4‬‬

‫حقيقة الصالة‬
‫ال ريَب أن الصالة قرة عيون احملبني‪ ،‬ولذة أرواح املوحدين‪ ،‬وحمك‬
‫أحوال الصادقني‪ ،‬وميزان أحوال السالكني‪ ،‬وهي رمحته املهداة إىل‬
‫عبيده هداهم إليها وعرفهم هبا رمحة هبم وإكر ًاما هلم؛ لينالوا هبا شرف‬
‫كرامته‪ ،‬والفوز بقربه‪ ،‬ال حاجة منه إليهم‪ ،‬بل منه منًا وفضالً منه‬
‫مجيعا‪ ،‬وجعل حظ القلَب منها‬ ‫عليهم‪ ،‬وتعبد هبا القلَب واجلوارح ً‬
‫أكمل احلظني وأعظمهما وهو إقباله على ربه سبحانه وفرحه وتلذذه‬
‫بقربه وتنعمه حببه وابتهاجه بالقيام بني يديه وانصرافه حال القيام‬
‫بالعبودية عن االلتفات إىل غري معبوده‪ ،‬وتكميل حقوق عبوديته حىت‬
‫تقع على الوجه الذي يرضاه‪.‬‬
‫الصالة مأدبة وغيث‬
‫وملا امتحن سبحانه عبده بالشهوات وأسباهبا من داخل فيه‬
‫وخارج عنه‪ ،‬اقتضت متام رمحته به وإحسانه إليه أن هيَأ له مأدبة قد‬
‫مجعت من مجيع األلوان والتحف واخلِلَع والعطايا‪ ،‬ودعاه إليه كل يوم‬
‫مخس مرات‪ ،‬وجعل كل لون من ألوان تلك املأدبة لذة ومنفعة‬
‫ومصلحة هلذا العبد الذي قد دعاه إىل املأدبة ليست يف اللون اآلخر؛‬
‫لتكمل لذة عبده يف كل لون من ألوان العبودية‪ ،‬ويكرمه بكل صنف‬
‫مكفرا‬
‫من أصناف الكرامة‪ ،‬ويكون كل فعل من أفعال تلك العبودية ً‬
‫خاصا وقوة يف قلبه وجوارحه‬
‫نورا ً‬‫ملذموم كان يكرهه بإزائه‪ ،‬وليثبه عليه ً‬
‫خاصا يوم لقائه‪.‬‬
‫وثوابًا ً‬
‫‪1‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫الصدور من المأدبة‬
‫فيصدر املدعو من هذه املأدبة وقد أشبعه وأرواه َو َخلَ َع عليه خبلَع‬
‫القبول وأغناه؛ ألن القلَب كان قبل قد ناله من القحط واجلدب‬
‫واجلوع والظمأ والعُري والسقم ما ناله‪ ،‬فأصدره من عنده وقد أغناه‬
‫عن الطعام والشراب واللباس والتحف ما يغنيه‪.‬‬
‫تجديد الدعوة‬
‫وملا كانت اجلدوب متتابعة‪ ،‬وقحط النفوس متواليًا‪ ،‬جدد له‬
‫الدعوة إىل هذه املأدبة وقتًا بعد وقت رمحة منه به‪ ،‬فال يزال مستسقيًا‬
‫مستمطرا سحائَب رمحته؛ لئال ييبس‬
‫ً‬ ‫َم ْن بيده غيث القلوب وسقيها‬
‫ما أنبتته له تلك من كأل اإلميان وعشبه ومثاره‪ ،‬ولئال تنقطع مادة‬
‫دائما يشكو إىل ربه‬
‫النبات والقلَب يف استسقاء واستمطار‪ ،‬هكذا ً‬
‫جدبه وقحطه وضرورته إىل سقيا رمحته‪ ،‬وغيث بره فهذا دأب العبد‬
‫أيام حياته‪.‬‬
‫الغفلة قحط‬
‫فإن الغفلة اليت تتنزل بالقلَب هي القحط واجلدب‪ ،‬فما دام يف‬
‫ذكر اهلل واإلقبال عليه فغيث الرمحة واقع عليه كاملطر املتدارك‪ ،‬فإذا‬
‫غفل ناله من القحط حبسَب غفلته قلة وكثرة‪ ،‬فإذا متكنت الغفلة‬
‫واستحكمت صارت أرضه ميتة‪ ،‬وسنته جرداء يابسة‪ ،‬وحريق‬
‫الشهوات فيها من كل جانَب كالسمامي( )‪.‬‬
‫) ( السمامي‪ :‬الريح احلارة‪ .‬لسان العرب ( ‪.) 40/‬‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪4‬‬

‫عاقبة الغفلة‬
‫وإذا تدارك عليه غيث الرمحة اهتزت أرضه وربت وأنبتت من كل‬
‫زوج هبيج‪ ،‬فإذا ناله القحط واجلدب كان مبنزلة شجرة رطوبتها ولينها‬
‫ومثارها من املاء‪ ،‬فإذا منعت من املاء يبست عروقها وذبلت أغصاهنا‪،‬‬
‫وحبست مثارها ورمبا يبست األغصان والشجرة‪ ،‬فإذا مددت منها‬
‫غصنًا إىل نفسك مل ميتد ومل ينقد لك وانكسر فحينئذ تقتضي حكمة‬
‫وقودا للنار‪.‬‬
‫قيم البستان قطع تلك الشجرة وجعلها ً‬
‫يبوسة القلّب‬
‫فكذلك القلَب‪ ،‬إمنا ييبس إذا خال من توحيد اهلل وحبه ومعرفته‬
‫وذكره‪ ،‬ودعائه فتصيبه حرارة النفس‪ ،‬ونار الشهوات فتمتنع أغصان‬
‫اجلوارح من االمتداد إذا مددَّتا واالنقياد إذا قدَّتا‪ ،‬فال تصلح بعد‬
‫ص ْد َرهُ لِ ِْْل ْس َالِم فَـ ُه َو َعلَى‬
‫ح اللَهُ َ‬
‫هي والشجرة إال للنار‪ :‬أَفَ َم ْن َش َر َ‬
‫ك فِي َ‬
‫ض َال ٍل‬ ‫اسيَ ِة قُـلُوبُـ ُه ْم ِم ْن ِذ ْك ِر اللَ ِه أُولَئِ َ‬
‫نُوٍر ِمن ربِِه فَـويل لِ ْل َق ِ‬
‫ْ َ َْ ٌ‬
‫ُمبِي ٍن‪[ ‬الزمر‪.] :‬‬
‫مطر القلّب‬
‫ممطورا مبطر الرمحة كانت األغصان لينة منقادة‬
‫فإذا كان القلَب ً‬
‫رطبة‪ ،‬فإذا مددَّتا إىل أمر اهلل انقادت معك‪ ،‬وأقبلت سريعة لينة‬
‫وادعة‪ ،‬فجنيت منها من مثار العبودية ما حيمله كل غصن من تلك‬
‫األغصان ومادَّتا من رطوبة القلَب وريه‪ ،‬فاملادة تعمل عملها يف‬
‫ذوق الصــالة‬

‫القلَب واجلوارح‪ ،‬وإذا يبس القلَب تعطلت األغصان من أعمال الرب؛‬


‫ألن مادة القلَب وحياته قد انقطعت منه فلم تنشر يف اجلوارح‪،‬‬
‫فتحمل كل جارحة مثرها من العبودية‪.‬‬
‫استعمال الجوارح‬
‫وهلل يف كل جارحة من جوارح العبد عبودية ختصه‪ ،‬وطاعة مطلوبة‬
‫منها‪ ،‬خلقت ألجلها وهيَئت هلا‪.‬‬
‫والناس بعد ذلك ثالثة أقسام‪:‬‬
‫أحدها‪َ :‬من استعمل تلك اجلوارح فيما ُخلقت له وأُريد منها‪،‬‬
‫فهذا هو الذي تاجر مع اهلل بأربح التجارة وباع نفسه هلل بأربح البيع‪،‬‬
‫والصالة وضعت الستعمال اجلوارح مجيعها يف العبودية تب ًعا لقيام‬
‫القلَب هبا‪.‬‬
‫الثاني‪َ :‬من استعملها فيما مل ُختلَق له‪ ،‬ومل ُُيلق هلا‪ ،‬فهذا هو‬
‫الذي خاب سعيه وخسرت جتارته‪ ،‬وفات رضى ربه عنه وجزيل ثوابه‬
‫وحصل على سخطه وأليم عقابه‪.‬‬
‫أيضا خاسر‬ ‫الثالث‪َ :‬م ْن َعطَ َل جو َ‬
‫ارحه وأماَّتا بالبطالة‪ ،‬فهذا ً‬
‫أعظم خسارة‪ ،‬فإن العبد خلق للعبادة والطاعة ال للبطالة‪ ،‬وأبغض‬
‫اخللق إىل اهلل البطال الذي هو ال يف شغل الدنيا وال يف سعي اآلخرة‪،‬‬
‫فهذا َك ٌل على الدنيا والدين‪.‬‬
‫ذوق الصــالة‬

‫جوارح الطاعة‬
‫أرضا واسعة وأُعني بآالت احلرث والبذار‪،‬‬ ‫فاألول‪ :‬كرجل أُْقطع ً‬
‫ُعطي ما يكفيها لسقيها‪ ،‬فحرثها وهيّأها للزراعة وبذر فيها من أنواع‬
‫وأ َ‬
‫الغالل‪ ،‬وغرس فيها من أنواع الثمار والفواكه املختلفة األنواع‪ ،‬مث مل‬
‫يهملها بل أقام عليها احلرس وحفظها من املفسدين وجعل يتعاهدها‬
‫كل يوم فيصلح ما فسد منها‪ ،‬ويغرس عوض ما يبس وينفي دغلها‬
‫ويقطع شوكها‪ ،‬ويستعني مبغلها على عمارَّتا‪.‬‬
‫جوارح المعصية‬
‫والثاين‪ :‬مبنزلة رجل أخذ تلك األرض فجعلها مأوى للسباع‬
‫ومطرحا للجيف واألنتان‪ ،‬وجعلها معقالً يأوي إليه كل مفسد‬
‫ً‬ ‫واهلوام‬
‫ومؤذ ولص‪ ،‬وأخذ ما أعني به على بذارها وصالحها‪ ،‬فصرفه معونة‬
‫ومعيشة ملن فيها من أهل الشر والفساد‪.‬‬
‫جوارح البطالة‬
‫ضائعا يف‬
‫والثالث‪ :‬مبنزلة رجل عطلها وأمهلها وأرسل ذلك املاء ً‬
‫حمسورا‪.‬‬
‫ً‬ ‫مذموما‬
‫ً‬ ‫القفار والصحاري فقعد‬
‫فهذا مثال أهل الغفلة‪ ،‬والذي قبله مثال أهل اخليانة واجلناية‪،‬‬
‫واألول مثال أهل اليقظة واالستعداد ملا خلقوا له‪.‬‬
‫فاألول‪ :‬إذا حترك أو سكن أو قام أو قعد أو أكل أو شرب أو‬
‫ذوق الصــالة‬

‫نام أو لبس أو نطق أو سكت كان ذلك كله له ال عليه‪ ،‬وكان يف‬
‫ذكر وطاعة وقربة ومزيد‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬إذا فعل ذلك كان عليه ال له‪ ،‬وكان يف طرد وإبعاد‬
‫وخسران‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬إذا فعل ذلك كان يف غفلة وبطالة وتفريط‪.‬‬
‫فاألول يتقلَب فيما يتقلَب فيه حبكم الطاعة والقربة‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬يتقلَب يف ذلك حبكم اخليانة والتعدي‪ ،‬فإن اهلل مل ميلكه‬
‫ما ملكه ليستعني به على خمالفته‪ ،‬فهو جان متعد خائن هلل يف نعمه‪،‬‬
‫معاقَب على التنعم هبا يف غري طاعته‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬يتقلَب يف ذلك ويتناوله حبكم الغفلة وهبجة النفس‬
‫ني‬
‫وطبيعتها‪ ،‬مل يبتغ بذلك رضوان اهلل والتقرب إليه‪ ،‬فهذا خسران بَـ ن ٌ‬
‫إذ عطل أوقات عمره اليت ال قيمة هلا عن أفضل األرباح والتجارب‪.‬‬
‫فدعا اهلل سبحانه املوحدين إىل هذه الصلوات اخلمس رمحة منه‬
‫عليهم‪ ،‬وهيأ هلم فيها أنواع العبادة؛ لينال العبد من كل قول وفعل‬
‫وحركة وسكون حظه من عطاياه‪.‬‬
‫وافد الملك‬
‫وكان ِسُر الصالة ولبها إقبال القلَب فيها على اهلل وحضوره‬
‫بكليته بني يديه فإذا مل يقبل عليه واشتغل بغريه َوَهلًا حبديث النفس‪،‬‬
‫مستمطرا‬
‫ً‬ ‫معتذرا من خطئه وزلِله‪،‬‬
‫كان مبنزلة وافد وفد إىل باب امللك ً‬
‫مستطعما له ما يقوت قلبه؛ ليقوى على‬‫ً‬ ‫لسحايَب جوده ورمحته‪،‬‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪0‬‬

‫القيام يف خدمته‪ ،‬فلما وصل إىل الباب ومل يبق إال مناجاة امللك‬
‫التفت عن امللك وزاغ عنه ميينًا أو واله ظهره‪ ،‬واشتغل عنه بأمقت‬
‫قدرا فآثره عليه وصريه قبلة قلبه‪ ،‬وحمل‬
‫شيء إىل امللك وأقله عنده ً‬
‫توجهه‪ ،‬وموضع سره‪ ،‬وبعث غلمانه وخدمه‪ ،‬ليقفوا يف طاعة امللك‪،‬‬
‫ويعتذروا عنه وينوبوا عنه يف اخلدمة‪ ،‬وامللك شاهد ذلك ويرى حاله‪.‬‬
‫كرم الملك‬
‫ومع هذا فكرم امللك وجوده وسعة بره وإحسانه يأىب أن ينصرف‬
‫عنه تلك اخلدم واألتباع فيصيبها من رمحته وإحسانه‪.‬‬
‫لكن فَـ ْر ٌق بني قسمة الغنائم على أهل ال ُسهمان من الغامنني وبني‬
‫ات ِم َما َع ِملُوا َولِيُـ َوفِـيَـ ُه ْم‬
‫الرضخ ملن ال سهم له‪َ  :‬ولِ ُك ٍل َد َر َج ٌ‬
‫( )‬

‫أَ ْع َمالَ ُه ْم َو ُه ْم َال يُظْلَ ُمو َن‪ ‬واهلل سبحانه خلق هذا النوع اإلنساين‬
‫لنفسه واختصه وخلق له كل شيء كما يف األثر اإلهلي‪« :‬ابن آدم‬
‫خلقتك لنفسي‪ ،‬وخلقت كل شيء لك‪ ،‬فبحقي عليك ال تشتغل‬
‫بما خلقته لك عما خلقتك له»‪.‬‬
‫ويف أثر آخر‪« :‬خلقتك لنفسي فال تلعّب‪ ،‬وتكفلت برزقك‬
‫فال تتعّب‪ ،‬ابن آدم‪ ،‬اطلبني تجدني‪ ،‬وإن وجدتني وجدت كل‬
‫شيء‪ ،‬وإن فتك فاتك كل شيء‪ ،‬وأنا خير لك من كل شيء»‪.‬‬

‫) ( الرضخ‪ :‬العطية القليلة‪ .‬انظر النهاية البن األثري ( ‪.) 4/‬‬


‫‪5‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫سبّب القرب‬
‫وجعل الصالة سببًا موصالً له إىل قربه ومناجاته وحمبته واألنس به‪،‬‬
‫وما بني صالتني حتدث له الغفلة واجلفوة واإلعراض والزالت واخلطايا‪،‬‬
‫فيبعده ذلك عن ربه‪ ،‬وينحيه عن قربه‪ ،‬ويصري كأنه أجنيب عن العبودية‬
‫ليس من مجلة العبيد‪ ،‬ورمبا ألقى بيده إىل أسر العدو فأسره وغله وقيده‬
‫وجنه يف سجن نفسه وهواه‪ ،‬فحظه ضيق الصدر ومعاجلة اهلموم والغموم‬
‫واألحزان واحلسرات‪ ،‬وال تدري السبَب يف ذلك‪.‬‬
‫فاقتضت رمحة ربه الرحيم به أن جعل له من عبوديته عبودية‬
‫جامعة خمتلفة األجزاء واحلاالت‪ ،‬حبسَب اختالف األحداث اليت‬
‫جاءت من العبد وحبسَب شدة حاجته إىل نصيبه من كل خري من‬
‫أجزاء تلك العبودية‪.‬‬
‫طهارة القدوم‬
‫متطهرا والوضوء له‬
‫ً‬ ‫فبالوضوء يتطهر من األوساخ ويقدم على ربه‬
‫ظاهر وباطن‪ ،‬وظاهره طهارة البدن وأعضاء العبادة‪ ،‬وباطنه وسره طهارة‬
‫القلَب من أوساخه وأدرانه بالتوبة وهلذا يقرن سبحانه بني التوبة والطهارة‬
‫]‬ ‫ين َويُ ِح ُ‬
‫ّب ال ُْمتَطَِه ِر َ‬
‫ين‪[ ‬البقرة‪:‬‬ ‫َواب َ‬ ‫يف قوله‪ :‬إِ َن اللَهَ يُ ِح ُ‬
‫ّب التـ َ ِ‬
‫وشرع النيب ‪ ‬للمتطهر بعد فراغه من الوضوء أن يتشهد مث يقول‪:‬‬
‫«اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين»( )‪ .‬فكمل له‬
‫وظاهرا‪.‬‬
‫مراتَب الطهارة باطنًا ً‬
‫) ( احلديث عن عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه أخرجه الرتمذي‪ ،‬كتاب الطهارة‪ ،‬باب‬
‫فيما يقال بعد الوضوء ( ‪.)77/‬‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪6‬‬

‫فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك‪ ،‬وبالتوبة يتطهر من الذنوب‪،‬‬


‫وباملاء يتطهر من األوساخ الظاهرة فشرع أكمل مراتَب الطهارة قبل‬
‫ظاهرا وباطنًا أذن له‬
‫الدخول على اهلل والوقوف بني يديه‪ ،‬فلما طهر ً‬
‫بالدخول عليه بالقيام بني يديه إذ ُيلص من اإلباق مبجيئه إىل داره‬
‫وحمل عبوديته‪.‬‬
‫وهلذا كان اجمليء إىل املسجد من متام عبودية الصالة الواجبة عند‬
‫قوم واملستحبة عند آخرين‪.‬‬
‫استقبال القبلة‬
‫والعبد كان يف حال غفلته كاآلبق عن ربه وقد عطل جوارحه‬
‫وقلبه عن اخلدمة اليت ُخلِق هلا‪ ،‬فإذا جاء إليه فقد رجع من إباقه فإذا‬
‫وقف بني يديه موقف العبودية والتذلل واالنكسار‪ ،‬فقد استدعى‬
‫َعطْف سيده عليه وإقباله عليه بعد اإلعراض‪.‬‬
‫وأمر بأن يستقبل القبلة بيته احلرام بوجهه‪ ،‬ويستقبل اهلل عز وجل‬
‫بقلبه لينسلخ مما كان فيه من التويل واإلعراض‪ ،‬مث قام بني يديه مقام‬
‫مسلما‬
‫ً‬ ‫الذليل اخلاضع املسكني املستعطف لسيده وألقي بيديه‬
‫مستسلما ناكس الرأس خاشع القلَب مطرق الطرف ال يلتفت قلبه‬ ‫ً‬
‫عنه وال طرفه مينة وال يسرة بل قد توجه بقلبه كله إليه وأقبل بكليته‬
‫عليه‪.‬‬
‫حقيقة التكبير‬
‫مث َكبَـَره بالتعظيم واإلجالل وواطأ قلبه يف التكبري لسانه فكان اهلل‬
‫‪7‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫أكرب يف قلبه من كل شيء وصدق هذا التكبري بأنه مل يكن يف قلبه‬


‫شيء أكرب من اهلل يشغله عنه‪ ،‬فإذا اشتغل عن اهلل بغريه وكان ما‬
‫اشتغل به أهم عندهم من اهلل كان تكبريه بلسانه دون قلبه‪.‬‬
‫فالتكبري‪:‬‬
‫‪ُ -‬يرجه من لبس رداء التكرب املنايف للعبودية‪.‬‬
‫‪ -‬ومينعه من التفات قلبه إىل غري اهلل‪.‬‬
‫فإذا كان اهلل عنده ويف قلبه أكرب من كل شيء منعه حق قول اهلل‬
‫أكرب والقيام بعبودية التكبري عن هاتني اآلفتني اللتني مها من أعظم‬
‫احلجَب بينه وبني اهلل‪.‬‬
‫دعاء االستفتاح‬
‫فإذا قال‪« :‬سبحانك اللهم وبحمدك» وأثىن على اهلل مبا هو‬
‫أيضا بينه وبني اهلل‪.‬‬
‫أهله‪ ،‬فقد خرج عن الغفلة اليت هي حجاب ً‬
‫وأتى بالتحية والثناء الذي ُياطَب به امللك عند الدخول عليه‬
‫متجيدا ومقدمة بني يدي حاجته‪ ،‬فكان يف هذا الثناء من‬
‫تعظيما له و ً‬
‫ً‬
‫أدب العبودية ما يستجلَب به إقباله عليه ورضاه عنه وإسعافه‬
‫حبوائجه‪.‬‬
‫االستعاذة باهلل‬
‫فإذا شرع يف القراءة قدم أمامها االستعاذة باهلل من الشيطان فإنه‬
‫أحرص ما يكون على العبد يف مثل هذا املقام الذي هو أشرف‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪4‬‬

‫مقاماته وأنفعها له يف دنياه وآخرته‪ ،‬فهو أحرص شيء على صرفه عنه‬
‫واقتطاعه دونه بالبدن والقلَب‪ ،‬فإن عجز عن اقتطاعه وتعطيله عنه‬
‫بالبدن اقتطع قلبه وعطله عن القيام بني يدي الرب تعاىل‪ ،‬فأمر العبد‬
‫باالستعاذة باهلل منه ليسلم له مقامه بني يدي ربه‪ ،‬وليحيي قلبه‬
‫ويستنري مبا يتدبره ويتفهمه من كالم سيده الذي هو سبَب حياته‬
‫ونعيمه وفالحه‪ ،‬فالشيطان أحرص على اقتطاع قلبه عن مقصود‬
‫التالوة‪.‬‬
‫وملا علم سبحانه حسد العدو وتفرغه للعبد‪ ،‬وعجز العبد عنه‪،‬‬
‫أمره بأن يستعيذ به سبحانه ويلتجئ إليه يف صرفه عنه فيكتفي‬
‫باالستعاذة مؤنة حماربته ومقاومته‪ ،‬فكأنه قيل له‪ :‬ال طاقة لك هبذا‬
‫العدو فاستعذ يب واستجر يب أكفكه وأمنعك منه‪.‬‬
‫( )‬
‫يوما‪« :‬إذا هاش عليك‬
‫وقال يل شيخ اإلسالم قدس اهلل روحه ً‬
‫كلَب الغنم فال تشتغل مبحاربته ومدافعته‪ ،‬وعليك بالراعي فاستغث‬
‫به فهو يصرف عنك الكلَب»‪.‬‬
‫فإذا استعاذ باهلل من الشيطان بَـعُ َد منه فأفضى القلَب إىل معاين‬
‫القرآن‪ ،‬ووقع يف رياضه املونقة( ) وشاهد عجائبه اليت تبهر العقول‪،‬‬
‫واستخرج من كنوزه وذخائره ما ال عني رأت وال أذن مسعت‪ ،‬وكان‬
‫احلائل بينه وبني ذلك‪ ،‬النفس والشيطان‪ ،‬والنفس منفعلة للشيطان‬

‫) ( هو ابن تيمية رمحه اهلل‪.‬‬


‫) ( املونق‪ :‬من األنق وهو الفرح والسرور‪ ،‬ورياضه املونقة أي بساتينه اليت جتلَب الفرح‬
‫والسرور‪.‬‬
‫‪1‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫سامعة منه فإذا بعد عنها وطرد ملَ هبا امللك وثبتها وذكرها مبا فيه‬
‫سعادَّتا وجناَّتا‪.‬‬
‫القراءة‬
‫فإذا أخذ يف قراءة القرآن فقد قام يف مقام خماطبة ربه ومناجاته‪،‬‬
‫فليحذر كل احلذر من التعرض ملقته وسخطه أن يناجيه وُياطبه وهو‬
‫معرض عنه ملتفت إىل غريه‪ ،‬فإنه يستدعي بذلك مقته ويكون مبنزلة‬
‫رجل قربه ملك من ملوك الدنيا فأقامه بني يديه‪ ،‬فجعل ُياطبه امللك‬
‫وقد واله قفاه أو التفت عنه بوجهه مينة ويسرة‪ ،‬فما الظن مبقت امللك‬
‫هلذا‪ ،‬فما الظن بامللك احلق املبني الذي هو رب العاملني وقيوم‬
‫السماوات واألرض‪.‬‬
‫وليقف عند كل آية من الفاحتة ينتظر جواب ربه له وكأنه مسعه‬
‫ين‪ ‬فإذا‬ ‫ِ‬ ‫ْح ْم ُد لِلَ ِه َر ِ‬
‫ب ال َْعالَم َ‬ ‫يقول‪ :‬محدين عبدي حني يقول‪ :‬ال َ‬
‫يم‪ ‬وقف حلظة ينتظر قوله‪« :‬أثنى علي‬ ‫قال‪ :‬ال َر ْح َم ِن ال َرِح ِ‬
‫ك يَـ ْوِم الدِي ِن‪ ‬انتظر قوله‪« :‬مجدني‬ ‫عبدي» فإذا قال‪ :‬مالِ ِ‬
‫َ‬
‫ين‪ ‬انتظر قوله‪« :‬هذا‬ ‫ِ‬ ‫اك نَـ ْعبُ ُد َوإِيَ َ‬
‫عبدي» فإذا قال‪ :‬إِيَ َ‬
‫اك نَ ْستَع ُ‬
‫يم‪ ‬إىل آخر‬ ‫ِ‬ ‫بيني وبين عبدي» فإذا قال‪ :‬ا ْه ِدنَا ال ِ‬
‫ط ال ُْم ْستَق َ‬‫ص َرا َ‬
‫انتظر قوله‪« :‬هؤالء لعبدي ولعبدي ما سأل»( )‪.‬‬

‫) ( إشارة إىل حديث أيب هريرة وأوله «قسمت الصالة بيين وبني عبدي نصفني» وقد‬
‫أخرجه مسلم كتاب الصالة باب وجوب قراءة الفاحتة يف كل ركعة ( ‪.) 16/‬‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪4‬‬

‫طعم الصالة‬
‫ومن ذاق طعم الصالة علم أنه ال يقوم غري التكبري والفاحتة‬
‫مقامهما‪ ،‬كما ال يقوم غري القيام والركوع والسجود مقامها‪ ،‬فلكل‬
‫عبودية من عبودية الصالة سر وتأثري وعبودية ال حتصل من غريها‪ ،‬مث‬
‫لكل آية من آيات الفاحتة عبودية وذوق ووجد ُيصها‪.‬‬
‫الحمد هلل‬
‫ين‪ ‬جتد حتت هذه الكلمة‬ ‫ِ‬ ‫ْح ْم ُد لِلَ ِه َر ِ‬
‫ب ال َْعالَم َ‬ ‫فعند قوله‪ :‬ال َ‬
‫إثبات كل كمال للرب تعاىل فعالً ووص ًفا وامسًا‪ ،‬وتنزيهه عن كل سوء‬
‫وعيَب فعالً ووص ًفا وامسًا‪ ،‬فهو حممود يف أفعاله وأوصافه وأمسائه‪ ،‬منزه‬
‫عن العيوب والنقائص يف أفعاله وأوصافه وأمسائه‪ ،‬فأفعاله كلها حكمة‬
‫ورمحة ومصلحة وعدل ال خترج عن ذلك‪ ،‬وأوصافه كلها أوصاف‬
‫كمال ونعوت جالل‪ ،‬وأمساؤه كلها حسىن‪ ،‬ومحده قد مأل الدنيا‬
‫واآلخرة والسماوات واألرض وما بينهما وما فيهما فالكون كله ناطق‬
‫حبمده‪ ،‬واخللق واألمر صادر عن محده وقائم حبمده ووجد حبمده؛‬
‫فحمده هو سبَب وجود كل موجود‪ ،‬وهو غاية كل موجود‪ ،‬وكل‬
‫موجود شاهد حبمده‪ ،‬وإرساله رسوله حبمده‪ ،‬وإنزاله كتبه حبمده‪،‬‬
‫واجلنة عمرت بأهلها حبمده‪ ،‬والنار عمرت بأهلها حبمده‪ ،‬وما أطيع‬
‫إال حبمده وما عُصي إال حبمده‪ ،‬وال تسقط ورقة إال حبمده‪ ،‬وال حيرك‬
‫يف الكون ذرة إال حبمده‪ ،‬وهو احملمود لذاته‪ ،‬وإن مل حيمده العباد‪،‬‬
‫كما أنه هو الواحد األحد ولو مل يوحده العباد‪ ،‬واإلله احلق وإن مل‬
‫ذوق الصــالة‬

‫يؤهلوه‪ ،‬وهو سبحانه الذي محد نفسه على لسان القائل‪ :‬احلمد هلل‬
‫رب العاملني‪ ،‬كما قال النيب ‪« :‬إن اهلل تعالى قال على لسان‬
‫نبيه‪ :‬سمع اهلل لمن حمده»( )‪.‬‬
‫فهو احلامد لنفسه يف احلقيقة على لسان عبده‪ ،‬فإنه الذي أجرى‬
‫احلمد على لسانه وقلبه وإجراؤه حبمده‪.‬‬
‫فله احلمد كله‪ ،‬وله امللك كله‪ ،‬وبيده اخلري كله‪ ،‬وإليه يرجع األمر‬
‫كله‪ ،‬فهذه املعرفة من عبودية احلمد‪.‬‬
‫أيضا أن يعلم أن محده لربه سبحانه نعمة منه عليه‪،‬‬
‫ومن عبوديته ً‬
‫محدا‬
‫يستحق عليها احلمد فإذا محده على هذه النعمة استوجَب عليه ً‬
‫آخر على نعمة محده وهلم جرا‪.‬‬
‫فالعبد ولو استنفد أنفاسه كلها يف محده على نعمة من نعمه كان‬
‫ما جيَب له من احلمد ويستحق فوق ذلك وأضعاف‪ ،‬وال ُحيصي أحد‬
‫البتة ثناء عليه مبحامده‪.‬‬
‫ومن عبودية العبد شهود العبد لعجزه عن احلمد وأن ما قام به‬
‫منه‪ ،‬فالرب سبحانه هو احملمود عليه إذ هو جمريه على لسانه وقلبه‪.‬‬
‫ومن عبوديته تسليط احلمد على تفاصيل أحوال العبد كلها‬
‫ظاهرة وباطنة على ما حيَب العبد وما يكرهه‪ ،‬فهو سبحانه احملمود‬
‫على ذلك كله يف احلقيقة وإن غاب عن شهود العبد‪.‬‬

‫) ( إشارة إىل حديث أيب موسى األشعري رضي اهلل عنه مسلم (‪.)040‬‬
‫ذوق الصــالة‬

‫رب العالمين‬
‫ين‪ ‬من العبودية شهود تفرده سبحانه‬ ‫ِ‬
‫ب ال َْعالَم َ‬
‫مث لقوله‪َ  :‬ر ِ‬
‫بالربوبية‪ ،‬وأنه كما أنه رب العاملني وخالقهم ورازقهم ومدبر أمورهم‬
‫وموجدهم ومفنيهم فهو وحده إهلهم ومعبودهم وملجأهم ومفزعهم‬
‫عند النوائَب فال رب غريه‪ ،‬وال إله سواه‪.‬‬
‫الرحمن الرحيم‬
‫يم‪ ‬عبودية ختصها‪ ،‬وهي شهود عموم‬ ‫مث لقوله‪ :‬ال َر ْح َم ِن ال َرِح ِ‬
‫رمحته وسعها لكل شيء وأخذ كل موجود بنصيبه منها‪ ،‬وال سيما‬
‫الرمحة اخلاصة اليت أقامت عبده بني يديه يف خدمته يناجيه بكالمه‬
‫ويتملقه ويسرتمحه ويسأله هدايته ورمحته وإمتام نعمته عليه‪ ،‬فهذا من‬
‫رمحته بعبده‪ ،‬فرمحته وسعت كل شيء‪ ،‬كما أن محده وسع كل شيء‪.‬‬
‫مالك يوم الدين‬
‫ك يَـ ْوِم الدِي ِن‪ ‬عبوديتها ويتأمل تضمنها‬ ‫مث يعطي قوله‪ :‬مالِ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫إلثبات املعاد‪ ،‬وتفرد الرب فيه باحلكم بني خلقه‪ ،‬وأنه يوم يدين فيه‬
‫العباد بأعماهلم يف اخلري والشر وذلك من تفاصيل محده‪ ،‬وموجبه‪.‬‬
‫إخبارا عن محده‬ ‫ين‪ً ‬‬
‫ِ‬ ‫ْح ْم ُد لِلَ ِه َر ِ‬
‫ب ال َْعالَم َ‬ ‫وملا كان قوله‪ :‬ال َ‬
‫تعاىل قال اهلل‪« :‬حمدني عبدي» وملا كان قوله‪ :‬ال َر ْح َم ِن ال َرِح ِ‬
‫يم‪‬‬
‫إعادة وتكر ًيرا ألوصاف كماله قال‪« :‬أثنى علي عبدي» فإن الثناء‬
‫إمنا يكون بتكرار احملامد وتعداد أوصاف احملمود‪ ،‬وملا وصفه سبحانه‬
‫ذوق الصــالة‬

‫ك يَـ ْوِم الدِي ِن‪ ‬وهو امللك احلق املتضمن لظهور عدله‬
‫بتفرده بـ ‪‬مالِ ِ‬
‫َ‬
‫جمدا فقال‪:‬‬
‫وكربيائه وعظمته ووحدانيته وصدق رسله‪ ،‬مسى هذا الثناء ً‬
‫«مجدني عبدي» فإن التمجيد هو الثناء بصفات العظمة واجلالل‪.‬‬
‫إياك نعبد وإياك نستعين‬
‫ين‪ ‬انتظر جواب ربه له‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫اك نَـ ْعبُ ُد َوإِيَ َ‬
‫فإذا قال‪ :‬إِيَ َ‬
‫اك نَ ْستَع ُ‬
‫«هذا بيني وبين عبدي؛ ولعبدي ما سأل» وتأمل عبودية هاتني‬
‫ِ‬
‫ومينـَز الكلمة اليت هلل والكلمة اليت للعبد‪َ ،‬وفَقهَ‬ ‫الكلمتني وحقوقهما َ‬
‫سَر كون إحدامها هلل واألخرى للعبد‪ ،‬وميز بني التوحيد الذي تقتضيه‬
‫اك نَـ ْعب ُد‪ ‬والتوحيد الذي تقتضيه كلمة ‪‬وإِيَ َ ِ‬
‫ين‪‬‬‫اك نَ ْستَع ُ‬ ‫َ‬ ‫كلمة ‪‬إِيَ َ ُ‬
‫َوفَِقهَ سَر كون هاتني الكلمتني يف وسط السورة بني نوعي الثناء‬
‫قبلهما والدعاء بعدمها‪َ ،‬وفَِقهَ تقدمي‪ :‬إِيَ َ‬
‫اك نَـ ْعبُ ُد‪ ‬على ‪َ ‬وإِيَ َ‬
‫اك‬
‫ِ‬
‫مؤخرا‪ ،‬أوجز‬‫ين‪ ‬وتقدمي املعمول على الفعل مع اإلتيان به ً‬ ‫نَ ْستَع ُ‬
‫اختصارا‪ ،‬وسر إعادة الضمري مرة بعد مرة‪ ،‬وعلم ما دفع كل‬ ‫ً‬ ‫وأشد‬
‫واحدة من الكلمتني من اآلفة املنافية للعبودية‪ ،‬وكيف تدخله‬
‫الكلمتان يف صريح العبودية‪َ ،‬و َعلِ َم كيف يدور القرآن من أوله إىل‬
‫آخره على هاتني الكلمتني بل كيف يدور عليهما اخللق واألمر‬
‫ألجل الغايات‬ ‫َ‬ ‫والثواب والعقاب والدنيا واآلخرة‪ ،‬وكيف تضمنتا‬
‫وأكمل الوسائل‪ ،‬وكيف جيء هبما بضمري اخلطاب واحلضور دون‬
‫ضمري الغائَب‪.‬‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪0‬‬

‫اهدنا الصراط المستقيم‬


‫يم‪‬‬ ‫ِ‬ ‫مث تأمل ضرورته وفاقته إىل قوله‪ْ  :‬اه ِدنَا ال ِ‬
‫ط ال ُْم ْستَق َ‬
‫ص َرا َ‬
‫الذي مضمونه‪:‬‬
‫‪ -‬وقصده وإرادته‪.‬‬ ‫‪ -‬معرفة احلق‪.‬‬
‫‪ -0‬والثبات عليه‪.‬‬ ‫‪ -‬والعمل به‬
‫‪ -5‬والدعوة إليه والصرب على أذى املدعو‬
‫فباستكمال هذه املراتَب اخلمس تستكمل اهلداية وما نقص منها‬
‫نقص من هدايته‪.‬‬
‫أمور الهداية‬
‫مفتقرا إىل هذه اهلداية يف ظاهره وباطنه يف مجيع‬
‫وملا كان العبد ً‬
‫ما يأتيه ويذره من‪:‬‬
‫علما‪ ،‬وعمالً وإرادة فهو‬
‫‪ -‬أمور قد فعلها على غري اهلداية ً‬
‫حمتاج إىل التوبة منها وتوبته منها هي اهلداية‪.‬‬
‫‪ -‬وأمور قد هدي إىل أصلها دون تفصيلها‪ ،‬فهو حمتاج إىل‬
‫هداية تفاصيلها‪.‬‬
‫‪ -‬وأمور قد هدي إليها من وجه دون وجه فهو حمتاج إىل متام‬
‫اهلداية فيها؛ لتتم له اهلداية ويزاد هدى إىل هداه‪.‬‬
‫‪ -0‬وأمور حيتاج فيها إىل أن حيصل له من اهلداية يف مستقبلها‬
‫‪5‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫مثلما حصل له يف ماضيها‪.‬‬


‫‪ -5‬وأمور يعتقد فيها خبالف ما هي عليه‪ ،‬فهو حمتاج إىل هداية‬
‫تنسخ من قلبه ذلك االعتقاد‪ ،‬وتثبت فيه ضده‪.‬‬
‫‪ -6‬وأمور من اهلداية هو قادر عليها‪ ،‬ولكن مل ُيلق له إرادة‬
‫فعلها فهو حمتاج يف متام اهلداية إىل خلق إرادة يفعلها هبا‪.‬‬
‫يدا فهو‬
‫‪ -7‬وأمور منها هو غري قادر على فعلها مع كونه مر ً‬
‫حمتاج يف هدايته إىل إقداره عليها‪.‬‬
‫‪ -4‬وأمور منها هو غري قادر عليها وال مريد هلا فهو حمتاج إىل‬
‫خلق القدرة واإلرادة له لتتم له اهلداية‪.‬‬
‫اعتقادا وإرادة وعمالً‬
‫ً‬ ‫‪ -1‬وأمور هو قائم هبا على وجه اهلداية‬
‫فهو حمتاج إىل الثبات عليها واستدامتها‪.‬‬
‫كانت( ) حاجته إىل سؤال اهلداية أعظم احلاجات وفاقته إليها‬
‫أشد الفاقات‪ ،‬فرض عليه الرب الرحيم هذا السؤال كل يوم وليلة يف‬
‫أفضل أحواله‪ ،‬وهي الصلوات اخلمس مرات متعددة‪ ،‬لشدة ضرورته‬
‫وفاقته إىل هذا املطلوب‪.‬‬
‫الناس والهداية‬
‫مث بَـ َني أن سبيل أهل هذه اهلداية مغاير لسبيل أهل الغضَب وأهل‬
‫الضالل‪ ،‬فانقسم اخللق إ ًذا ثالثة أقسام بالنسبة إىل هذه اهلداية‪:‬‬

‫مفتقرا‪.»..‬‬
‫) ( جواب قوله‪« :‬وملا كان العبد ً‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪6‬‬

‫‪ُ -‬مْنـ َع ٌم عليه حبصوهلا‪ ،‬واستمرار حظه من النعم حبسَب حظه‬


‫من تفاصيلها وأقسامها‪.‬‬
‫ط هذه اهلداية ومل يوفق هلا‪.‬‬
‫‪ -‬وضال مل يـُ ْع َ‬
‫ومغضوب عليه عرفها ومل يوفق للعمل مبوجبها‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫‪-‬‬
‫علما‪ ،‬عمالً والضال‬
‫فاألول‪ :‬املُنعم عليه قام باهلدى ودين احلق ً‬
‫علما منسلخ منه‬
‫علما وعمالً واملغضوب عليه عارف به ً‬
‫منسلخ عنه ً‬
‫عمالً‪.‬‬
‫مشروعية التأمين‬
‫مث شرع له التأمني عند هذا الدعاء تفاؤالً بإجابته وحصوله‬
‫وطابعا عليه وحتقي ًقا له‪ ،‬وهلذا اشتد حسد اليهود للمسلمني عليه‬
‫ً‬
‫حني مسعوهم جيهرون به يف صالَّتم‪.‬‬
‫الركوع‬
‫تعظيما ألمر اهلل وزينة للصالة‬
‫ً‬ ‫مث شرع له رفع اليدين عند الركوع؛‬
‫اتباعا لسنة رسول اهلل‬
‫وعبودية خاصة لليدين كعبودية باقي اجلوارح‪ ،‬و ً‬
‫وتعظيما لشعائرها‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ ‬فهو حلية الصالة‪ ،‬وزينتها‪،‬‬
‫مث شرع له التكبري الذي هو يف انتقاالت الصالة من ركن إىل‬
‫ركن كالتلبية يف انتقاالت احلاج من مشعر إىل مشعر‪ ،‬فهو شعار‬
‫الصالة كما أن التلبية شعار احلج؛ ليعلم العبد أن سر الصالة هو‬
‫تعظيم الرب تعاىل وتكبريه بعبادته وحده‪.‬‬
‫‪7‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫خضوعا لعظمته‬
‫ً‬ ‫مث شرع له بأن ُيضع للمعبود سبحانه بالركوع‬
‫واستكانة هليبته وتذلال لعزته‪ ،‬فثىن العبد له صلبه ووضع له قامته‬
‫معظما له ناط ًقا بتسبيحه املقرتن‬
‫ً‬ ‫ونكس له رأسه وحىن له ظهره‬
‫بتعظيمه‪ ،‬فاجتمع له خضوع القلَب وخضوع اجلوارح‪ ،‬وخضوع‬
‫القول‪ ،‬على أمت األحوال ومجع له يف هذا الذكر بني اخلضوع والتعظيم‬
‫لربه والتنزيه له عن خضوع العبيد وأن اخلضوع وصف العبد والعظمة‬
‫وصف الرب‪.‬‬
‫ومتام عبودية الركوع أن يتصاغر العبد ويتضاءل حبيث ميحو‬
‫تصاغره كل تعظيم منه لنفسه و يثبت مكانه تعظيمه لربه وكلما‬
‫استوىل على قلبه تعظيم الرب ازداد تصاغره هو عند نفسه‪ ،‬فالركوع‬
‫للقلَب بالذات والقصد وللجوارح بالتبع والتكملة‪.‬‬
‫االعتدال من الركوع‬
‫مث شرع له أن حيمد ربه ويثين عليه بآالئه عند اعتداله وانتصابه‬
‫ورجوعه إىل أحسن هيأته منتصَب القامة معتدهلا‪ ،‬فيحمد ربه ويثين‬
‫عليه بأن وفقه لذلك اخلضوع‪ ،‬مث نقله منه إىل مقام االعتدال‬
‫واالستواء بني يديه‪ ،‬واق ًفا يف خدمته كما كان يف حال القراءة‪.‬‬
‫ولذلك االعتدال ذوق خاص وحال حيصل للقلَب سوى ذوق الركوع‬
‫وحاله‪ ،‬وهو ركن مقصود لذاته َك ُرْكن الركوع والسجود سواء؛ وهلذا كان‬
‫رسول اهلل يطيله كما يطيل الركوع والسجود ويكثر فيه من الثناء واحلمد‬
‫والتمجيد كما ذكرناه يف هديه( ) ‪ ‬وكان يف قيام الليل يكثر فيه من‬
‫) ( انظر زاد املعاد ( ‪.)55/‬‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪4‬‬

‫قول‪« :‬لربي الحمد لربي الحمد»( ) يكررها‪.‬‬


‫السجدة األولى‬
‫ساجدا‪ ،‬ويعطي يف سجوده كل عضو‬ ‫ً‬ ‫مث شرع له أن يكرب وُير‬
‫من أعضائه حظه من العبودية فيضع ناصيته باألرض بني يدي ربه‬
‫خاضعا له قلبه‪ ،‬ويضع أشرف ما فيه وهو وجهه‬ ‫ً‬ ‫اغما له أنفه‬
‫مسندة ر ً‬
‫اغما له أنفه‬
‫معفرا له بني يدي سيده ر ً‬
‫باألرض وال سيما على الرتاب ً‬
‫خاضعا لعزته مستكينًا بني‬
‫ً‬ ‫خمضعا له قلبه وجوارحه‪ ،‬متذلال لعظمته‪،‬‬ ‫ً‬
‫مسبحا له بعلوه يف أعظم سفوله‪،‬‬
‫ً‬ ‫يديه‪ ،‬أذل شيء وأكسره لربه تعاىل‬
‫انكسارا وقد طابق‬
‫وخضوعا و ً‬‫ً‬ ‫قد صارت أعاليه ملوية ألسافله ذالً‬
‫قلبه حال جسمه‪ ،‬فسجد القلَب كما سجد الوجه‪ ،‬وقد سجد معه‬
‫أنفه و يداه وركبتاه ورجاله‪.‬‬
‫وشرع له أن (يقل)( ) فخذيه عن ساقيه‪ ،‬وبطنه عن فخذيه‪،‬‬
‫وعضديه عن جنبيه‪ ،‬ليأخذ كل جزء منه حظه من اخلضوع وال حيمل‬
‫بعضا‪.‬‬
‫بعضه ً‬
‫فأحرى به يف هذه احلال أن يكون أقرب إىل ربه منه يف غريها من األحوال‬
‫كما قال النيب ‪« ‬أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»( )‪.‬‬

‫) ( جزء من حديث رواه حذيفة وقد أخرجه أبو داود يف سننه كتاب الصالة‪ ،‬باب ما‬
‫يقول الرجل يف ركوعه وسجوده ( ‪ ) /‬والنسائي كتاب االفتتاح‪ ،‬باب ‪ :‬ما يقول‬
‫يف قيامه ذلك ( ‪ ) 11/‬وأمحد يف مسنده (‪.) 14/5‬‬
‫) ( يقل‪ :‬يرفع النهاية البن األثري (‪.) 40/0‬‬
‫) ( هذا احلديث رواه أبو هريرة‪ ،‬وقد أ خرجه مسلم كتاب الصالة باب ما يقال يف‬
‫الركوع والسجود ( ‪.) 54/‬‬
‫‪1‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫سجود القلّب‬
‫وملا كان سجود القلَب خضوعه التام لربه‪ ،‬أمكنه استدامة هذا‬
‫السجود إىل يوم لقائه‪.‬‬
‫كما قيل لبعض السلف هل يسجد القلَب؟ قال‪( :‬أي واهلل‬
‫سجدة ال يرفع رأسه منها حىت يلقى اهلل)( )‪.‬‬

‫) ( القائل‪ :‬سهل بن عبد اهلل التسرتي كما يف جمموع الفتاوى البن تيمية ( ‪.) 4/‬‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪4‬‬

‫أسماء الصالة‬
‫وملا بنيت الصالة على مخس‪ :‬القراءة والقيام و الركوع والسجود‬
‫والذكر مسيت باسم كل واحد من هذه اخلمس‪.‬‬
‫قياما كقوله تعاىل‪ :‬قُ ِم اللَْي َل إَِال قَلِ ًيال‪[ ‬املزمل‪] :‬‬ ‫فسميت ً‬
‫وقوله‪ :‬وقُ ِ ِ ِِ‬
‫ين‪[ ‬البقرة‪.] 4 :‬‬ ‫وموا للَه قَانت َ‬‫َ ُ‬
‫ودا‪‬‬ ‫وقراءة كقوله‪َ  :‬وقُـ ْرَآ َن الْ َف ْج ِر إِ َن قُـ ْرَآ َن الْ َف ْج ِر َكا َن َم ْش ُه ً‬
‫[اإلسراء‪.]74 :‬‬
‫ين‪[ ‬البقرة‪]0 :‬‬ ‫ِِ‬
‫كوعا كقوله تعاىل‪َ  :‬و ْارَكعُوا َم َع ال َراكع َ‬ ‫ور ً‬
‫يل لَ ُه ُم ْارَكعُوا َال يَـ ْرَكعُو َن‪[ ‬املرسالت‪.]04 :‬‬ ‫ِ ِ‬
‫وقوله‪َ  :‬وإ َذا ق َ‬
‫ين ‪‬‬ ‫ك وُكن ِمن ال َ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ساجد َ‬ ‫َ‬ ‫سبِ ْح ب َح ْمد َربِ َ َ‬ ‫وسجودا كقوله ‪  :‬فَ َ‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫ب ‪[ ‬العلق ‪ .] 1:‬وذ ً‬
‫كرا‬ ‫اس ُج ْد َواقـْتَ ِر ْ‬‫[ احلجر ‪ ، ]14 :‬وقوله ‪َ ‬و ْ‬
‫اس َع ْوا إِلَى ِذ ْك ِر‬ ‫ص َالةِ ِمن يـوِم ال ِ‬ ‫ي لِل َ‬ ‫ِ‬
‫ْج ُم َعة فَ ْ‬ ‫ْ َْ ُ‬ ‫كقوله ‪ :‬إِذَا نُود َ‬
‫اللَ ِه‪[ ‬اجلمعة‪َ  ]1 :‬ال تُـ ْل ِه ُك ْم أ َْم َوالُ ُك ْم َوَال أ َْوَال ُد ُك ْم َع ْن ِذ ْك ِر‬
‫اللَ ِه‪[ ‬املنافقون‪.]1 :‬‬
‫وأشرف أفعاهلا السجود‪ ،‬وأشرف أذكارها القراءة‪ ،‬وأول سورة‬
‫أنزلت على النيب ‪ ‬افتتحت بالقراءة وختمت بالسجود ووضعت‬
‫الركعة على ذلك‪ ،‬أوهلا قراءة وآخرها سجود‪.‬‬
‫االعتدال من السجود‬
‫جالسا‪ ،‬وملا كان هذا االعتدال‬
‫مث شرع له أن يرفع رأسه ويعتدل ً‬
‫ذوق الصــالة‬

‫حمفوفًا بسجودين‪ :‬سجود قبله وسجود بعده‪ ،‬فينتقل من السجود إليه‬


‫مث منه إىل السجود كان له شأن‪.‬‬
‫فكان رسول اهلل ‪ ‬يطيله بقدر السجود يتضرع فيه إىل ربه‪،‬‬
‫ويستغفره ويسأله رمحته وهدايته ورزقه وعافيته( ) وله ذوق خاص‬
‫وحال للقلَب غري ذوق السجود وحاله‪.‬‬
‫الجلوس بين السجدتين وذوقه‬
‫فالعبد يف هذا القعود قد متثل جاثيًا بني يدي ربه‪ ،‬ملقيًا نفسه‬
‫معتذرا إليه مما جناه‪ ،‬راغبًا إليه أن يغفر له ويرمحه‪ ،‬مستعديًا‬
‫بني يديه‪ً ،‬‬
‫على نفسه األمارة بالسوء‪.‬‬
‫( )‬
‫يف هذه القعدة‪ ،‬ويكثر رغبته‬ ‫وكان النيب ‪ ‬يكرر االستغفار‬
‫إىل اهلل فيها‪.‬‬
‫فمثل نفسك مبنزلة غرمي عليه حق اهلل وأنت كفيل به‪ ،‬و الغرمي‬
‫مماطل خمادع وأنت مطلوب بالكفارة والغرمي مطلوب باحلق‪.‬‬
‫فأنت تستعدي عليه‪ ،‬حىت تستخرج ما عليه من احلق؛ لتتخلص‬
‫من املطالبة‪.‬‬
‫) ( إشارة إىل حديث ابن عباس وقد أخرجه أبو داود كتاب الصالة باب الدعاء بني‬
‫السجدتني ( ‪ ) 0/‬أن النيب ‪ ‬كان يقول بني السجدتني‪« :‬اللهم اغفر يل‬
‫وارمحين وعافين واهدين وارزقين»‪.‬‬
‫) ( إشارة إىل حديث حذيفة أن النيب ‪ ‬كان يقول بني السجدتني‪« :‬رب اغفر يل‬
‫رب اغفر يل» أخرجه ابن ماجه كتاب إقامة الصالة باب ما يقول بني السجدتني‬
‫( ‪ ) 44/‬والنسائي كتاب االفتتاح باب ما يقول يف قيامه ذلك ( ‪.) 11/‬‬
‫ذوق الصــالة‬

‫والقلَب شريك النفس يف اخلري والشر والثواب والعقاب واحلمد‬


‫والذم‪ ،‬والنفس من شأهنا اإلباق واخلروج من رق العبودية‪ ،‬وتضييع‬
‫حقوق اهلل اليت قبلها‪ ،‬والقلَب شريكها إن قوي سلطاهنا وأسريها وهي‬
‫شريكته وأسريته إن قوي سلطانه‪.‬‬
‫جماع الخير‬
‫فشرع للعبد إذا رفع رأسه من السجود‪ ،‬أن جيثو بني يدي اهلل‬
‫معتذرا إىل ربه مما كان منها‪ ،‬راغبًا إليه أن يرمحه‬
‫مستعديًا على نفسه‪ً ،‬‬
‫ويغفر له و يهديه ويرزقه ويعافيه وهذه اخلمس هي مجاع خري الدنيا‬
‫واآلخرة‪.‬‬
‫فإن العبد حمتاج بل مضطر إىل حتصيل مصاحله يف الدنيا ويف‬
‫اآلخرة‪ ،‬ودفع املضار عنه يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬وقد تضمنها هذا الدعاء‪،‬‬
‫فإن الرزق جيلَب له مصاحل دنياه‪ ،‬والعافية تدفع مضارها‪ ،‬واهلداية‬
‫جتلَب له مصاحل أخراه‪ ،‬واملغفرة تدفع عنه مضارها‪ ،‬والرمحة جتمع ذلك‬
‫كله‪.‬‬
‫السجدة الثانية‬
‫ساجدا كما كان وال يكتفي منه بسجدة‬ ‫ً‬ ‫وشرع له أن يعود‬
‫واحدة يف الركعة كما اكتفى منه بركوع واحد لفضل السجود وشرفه‬
‫وموقعه من اهلل حىت أنه أقرب ما يكون إىل عبده وهو ساجد‪ ،‬وهو‬
‫أدخل يف العبودية‪ ،‬وأعرق فيها من غريه؛ وهلذا جعل خامتة الركعة وما‬
‫قبله كاملقدمة بني يديه‪ ،‬فمحله من الصالة حمل طواف الزيارة‪ ،‬وما‬
‫ذوق الصــالة‬

‫قبله من التعريف وتوابعه مقدمات بني يديه وكما أنه أقرب ما يكون‬
‫العبد من ربه وهو ساجد فكذلك أقرب ما يكون منه يف املناسك‬
‫وهو طائف‪.‬‬
‫وهلذا قال بعض الصحابة ملن كلمه يف طوافه بأمر من الدنيا‪:‬‬
‫"أتقول هذا وحنن نرتاءى هلل يف طوافنا"( )‪.‬‬
‫وهلذا واهلل أعلم جعل الركوع قبل السجود تدرجيًا وانتقاال من‬
‫الشيء إىل ما هو أعلى منه‪.‬‬
‫جلوس التشهد‬
‫فلما قضى صالته وأكملها ومل يبق إال االنصراف منها شرع‬
‫اجللوس بني يدي ربه مثنيًا عليه بأفضل التحيات اليت ال تصلح إال له‬
‫وال تليق بغريه‪.‬‬
‫التحيات هلل‬
‫وملا كان عادة امللوك أن حييوا بأنواع التحيات من األفعال‬
‫واألقوال املتضمنة للخضوع والثناء وطلَب البقاء ودوام امللك‪،‬‬
‫فمنهم من حيىي بالسجود ومنهم من حيىي بالثناء عليه‪ ،‬ومنهم من‬
‫حيىي بطلَب البقاء والدوام له‪ ،‬ومنهم من جيمع له ذلك كله‪ ،‬فكان‬
‫امللك احلق سبحانه أوىل بالتحيات كلها من مجيع خلقه‪ ،‬وهي له‬
‫باحلقيقة‪ ،‬وهلذا فسرت التحيات بامللك‪ ،‬وفسرت بالبقاء والدوام‬
‫) ( قائل هذا القول عبد اهلل بن عمر الطبقات الكربى البن سعد (‪.) 67/0‬‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪0‬‬

‫وحقيقتها ما ذكرته وهي حتيات امللك‪ ،‬فامللك احلق املبني أوىل هبا‪.‬‬
‫فكل حتية حيىي هبا ملك من سجود أو ثناء أو بقاء ودوام فهي‬
‫هلل عز وجل‪ ،‬وهلذا أتى هبا جمموعة معرفة بالالم أداة العموم وهي مجع‬
‫حتية‪ ،‬وهي تفعيلة من احلياة‪ ،‬وأصلها حتيية بوزن تكرمة مث أدغم أحد‬
‫املثلني يف اآلخر فصارت حتية‪ ،‬وإذا كان أصلها من احلياة فاملطلوب‬
‫ملن ُحي َىي هبا دوام احلياة‪.‬‬
‫وكانوا يقولون مللوكهم‪ :‬لك احلياة الباقية ولك احلياة الدائمة‪،‬‬
‫وبعضهم يقول‪ :‬عشرة آالف سنة‪ ،‬واشتق منها أدام اهلل أيامك‪،‬‬
‫وأطال اهلل بقاءك‪ ،‬حنو ذلك مما يراد به دوام احلياة وامللك وذلك ال‬
‫ينبغي إال للحي الذي ال ميوت وللملك الذي كل ملك زائل غري‬
‫ملكه‪.‬‬
‫والصلوات‬
‫مث عطف عليها الصلوات بلفظ اجلمع والتعريف ليشمل كل ما‬
‫وعموما فكلها هلل ال تنبغي إال له‬
‫ً‬ ‫خصوصا‬
‫ً‬ ‫أطلق عليه لفظ الصالة‬
‫فالتحيات له مل ًكا‪ ،‬والصلوات له عبودية واستحقاقًا فالتحيات ال‬
‫تكون إال له والصلوات ال تنبغي إال له‪.‬‬
‫والطيبات‬
‫مث عطف عليها الطيبات كذلك‪ ،‬وهذا يتناول أمرين‪ :‬الوصف‬
‫وامللك‪.‬‬
‫‪5‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫فأما الوصف فإنه سبحانه طيَب‪ ،‬وكالمه طيَب‪ ،‬وفعله كله‬


‫طيَب‪ ،‬وال يصدر منه إال الطيَب‪ ،‬وال يضاف إليه إال الطيَب‪ ،‬وال‬
‫يصعد إليه إال الطيَب فالطيبات له وص ًفا وفعالً وقوال ونسبة‪ ،‬وكل‬
‫طيَب مضاف إليه‪ ،‬وكل مضاف إليه طيَب‪ ،‬فله الكلمات الطيبة‬
‫واألفعال الطيبات‪ ،‬وكل مضاف إليه كبيته وعبده وروحه وناقته وجنته‬
‫فهي طيبات‪.‬‬
‫أيضا فمعاين الكلمات الطيبات هلل وحده فإن الكلمات‬ ‫و ً‬
‫الطيبات تتضمن تسبيحه وحتميده وتكبريه ومتجيده والثناء عليه بآالئه‬
‫وأوصافه فهذه الكلمات الطيبات اليت يثىن عليه هبا ومعانيها له وحده‬
‫ال يشركه فيها غريه‪ ،‬كسبحانك اللهم وحبمدك وتبارك امسك وتعاىل‬
‫جدك وال إله غريك( ) وحنو سبحان اهلل واحلمد هلل وال إله إال اهلل واهلل‬
‫أكرب( ) وحنو سبحان اهلل وحبمده سبحان اهلل العظيم( )‪.‬‬
‫فكل طيَب فله وعنده ومنه وإليه‪ ،‬وهو طيَب ال يقبل إال طيبًا‪،‬‬
‫وهو إله الطيبني‪ ،‬وجريانه يف دار كرامته هم الطيبون‪.‬‬

‫) ( إشارة إىل حديث أن عمر بن اخلطاب كان جيهر هبؤالء الكلمات يقول‪« :‬سبحانك‬
‫اللهم وحبمدك وتبارك امسك وتعاىل جدك وال إله غريك» رواه مسلم كتاب الصالة‬
‫باب حجة من قال ال جتهر بالبسملة ( ‪.) 11/‬‬
‫) ( إشارة إىل حديث أيب هريرة قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪« :‬ألن أقول سبحان اهلل واحلمد‬
‫هلل وال إله إال اهلل واهلل أكرب أحَب إيل مما طلعت عليه الشمس» رواه مسلم كتاب‬
‫الذكر والدعاء باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء (‪.) 47 /0‬‬
‫) ( إشارة إىل حديث أيب هريرة أن النيب ‪ ‬قال‪« :‬كلمتان خفيفتان على اللسان‬
‫ثقيلتان يف امليزان حبيبتان إىل الرمحن سبحان اهلل وحبمده سبحان اهلل العظيم» رواه‬
‫البخاري كتاب الدعاء باب فضل التسبيح (‪.) 47/4‬‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪6‬‬

‫فتأمل أطيَب الكلمات بعد القرآن كيف ال تنبغي إال هلل‪ ،‬وهي‬
‫«سبحان اهلل‪ ،‬والحمد هلل‪ ،‬وال إله إال اهلل‪ ،‬واهلل أكبر‪ ،‬وال حول‬
‫وال قوة إال باهلل»‪.‬‬
‫فإن «سبحان اهلل» تتضمن تنزيهه عن كل نقص وعيَب وسوء‪،‬‬
‫وعن خصائص املخلوقني وشبههم‪.‬‬
‫و«الحمد هلل» تتضمن إثبات كل كمال له قوالً وفعالً ووص ًفا‬
‫أبدا‪.‬‬
‫على أمت الوجوه وأكملها أزًال و ً‬
‫و «ال إله إال اهلل» تتضمن انفراده باإلهلية‪ ،‬وأن كل معبود سواه‬
‫فباطل‪ ،‬وأنه وحده اإلله احلق وأنه من تأله غريه فهو مبنزلة من اختذ‬
‫بيتًا من بيوت العنكبوت يأوي إليه ويسكنه‪.‬‬
‫و«اهلل أكبر» تتضمن أنه أكرب من كل شيء وأجل وأعظم و‬
‫أعز وأقوى وأقدر وأعلم وأحكم‪ ،‬فهذه الكلمات الطيبات ال تصلح‬
‫هي ومعانيها إال هلل وحده‪.‬‬
‫السالم على النبي ‪ ‬وعلى عباد اهلل الصالحين‬
‫مث شرع له أن يسلم على عباد اهلل الذين اصطفى بعد تقدم‬
‫احلمد والثناء عليه مبا هو أهله فطابق ذلك قوله تعاىل‪ :‬قُ ِل ال َ‬
‫ْح ْم ُد‬
‫اصطََفى آَللَهُ َخ ْيـ ٌر أَ َما يُ ْش ِرُكو َن‪‬‬ ‫ِ ِِ َِ‬ ‫ِِ‬
‫للَه َو َس َال ٌم َعلَى عبَاده الذ َ‬
‫ين ْ‬
‫[النمل‪ ]51 :‬وكأنه امتثال له‪.‬‬
‫أيضا فإن هذه حتية املخلوق فشرعت بعد حتية اخلالق وقدم يف‬
‫و ً‬
‫هذه التحية أوىل اخللق هبا‪ ،‬وهو النيب ‪ ‬الذي نالت أمته على يده‬
‫‪7‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫كل خري‪ ،‬وعلى نفسه بعده‪ ،‬وعلى سائر عباد اهلل الصاحلني‬
‫وأخصهم هبذه التحية األنبياء‪ ،‬مث أصحاب رسول اهلل ‪ ،‬مع‬
‫عمومها لكل عبد هلل صاحل يف األرض والسماء‪.‬‬
‫شهادة الحق‬
‫مث شرع له بعد ذكر هذه التحية والتسليم على من يستحق‬
‫وعموما أن يشهد شهادة احلق اليت بنيت عليها‬
‫ً‬ ‫خصوصا‬
‫ً‬ ‫التسليم‬
‫الصالة‪ ،‬وهي حق من حقوقها وال تنفعه إال بقرينتها وهي شهادة‬
‫لرسول اهلل ‪ ‬بالرسالة وختمت هبا الصالة‪ ،‬كما قال عبد اهلل بن‬
‫مسعود (فإذا قلت ذلك فقد قضيت صالتك فإن شئت أن تقوم فقم‬
‫وإن شئت أن تقعد فاقعد( )‪.‬‬
‫وهذا إما أن حيمل على قضاء الصالة حقيقة كما يقوله الكوفيون‪،‬‬
‫أو على مقاربة انقضائها ومشارفته كما يقوله أهل احلجاز وغريهم‪.‬‬
‫وعلى التقديرين فجعلت شهادة احلق خامتة الصالة كما شرع أن‬
‫تكون خامتة احلياة‪ ،‬فمن كان آخر كالمه ال إله إال اهلل دخل اجلنة( )‪.‬‬
‫وكذلك شرع للمتوضئ أن ُيتم وضوءه بالشهادتني( )‪.‬‬

‫) ( رواه أبو داود وكتاب الصالة باب التشهد ( ‪ ) 50/‬والدارقطين كتاب الصالة‪،‬‬
‫باب صفة التشهد ( ‪.) 5 /‬‬
‫) ( إشارة إىل حديث معاذ بن جبل قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪« ‬من كا ن آخر كالمه ال‬
‫إله إال اهلل دخل اجلنة» وقد أخرجه أبو داود كتاب اجلنائز باب يف الثقلني‬
‫( ‪.) 14/‬‬
‫) ( إشارة إىل حديث عقبة بن عامر اجلهين أن رسول اهلل ‪ ‬قال‪« :‬من توضأ فقال‬
‫=‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪4‬‬

‫انقضاء الصالة‬
‫مث ملا قضى صالته أذن له أن يسأل حاجته‪ ،‬وشرع له أن يتوسل‬
‫قبلها بالصالة على النيب ‪ ‬فإهنا من أعظم الوسائل بني يدي الدعاء‬
‫كما يف السنن عن فضالة بن عبيد أن رسول اهلل ‪ ‬قال‪« :‬إذا دعا‬
‫أحدكم فليبدأ بحمد اهلل‪ ،‬والثناء عليه‪ ،‬و ليصل على رسوله‪ ،‬ثم‬
‫ليسل حاجته»( )‪.‬‬
‫فجاءت التحيات على ذلك‪ ،‬أوهلا محد اهلل‪ ،‬والثناء عليه‪ ،‬مث‬
‫الصالة على رسوله‪ ،‬مث الدعاء آخر الصالة‪ ،‬وأذن النيب ‪ ‬للمصلي‬
‫بعد الصالة عليه‪ ،‬أن يتخري من الدعاء أعجبه إليه( ) ونظري هذا ما‬
‫شرع ملن مسع املؤذن‪.‬‬
‫‪ -‬أن يقول كما يقول( )‪.‬‬
‫‪ -‬وأن يقول‪« :‬رضيت باهلل ربًا وباإلسالم دينًا وبمحمد ‪‬‬

‫=‬
‫أشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له وأشهد أن محم ًدا عبده ورسوله إال‬
‫فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» رواه مسلم كتاب الطهارة‬
‫باب الذكر املستحَب عقَب الوضوء ( ‪.) 4/‬‬
‫) ( رواه الرتمذي يف كتاب الدعوات باب (‪ )5 7 /5-60‬وقال الرتمذي هذا حديث‬
‫حسن صحيح وأمحد يف مسنده (‪.) 4/6‬‬
‫) ( إشارة إىل حديث رواه عبد اهلل بن مسعود وقد أخرجه البخاري يف كتاب الصالة‬
‫باب ما يتخري من الدعاء بعد التشهد ( ‪ ) /‬ومسلم يف كتاب الصالة باب يف‬
‫التشهد يف الصالة ( ‪.) 4 /‬‬
‫) ( إشارة إىل حديث أيب سعيد اخلدري أن رسول اهلل ‪ ‬قال‪« :‬إذا مسعتم النداء فقولوا‬
‫مثل ما يقول املؤذن» رواه البخاري كتاب بدء األذان باب ما يقول إذا مسع املنادي‬
‫( ‪.) 51/‬‬
‫‪1‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫رسوال»( )‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬وأن يسأل اهلل لرسوله الوسيلة‪ ،‬والفضيلة وأن يبعثه املقام‬
‫احملمود( )‪.‬‬
‫‪ -0‬مث يصلي عليه( )‪.‬‬
‫‪ -5‬مث يسأل حاجته( )‪.‬‬
‫فهذه مخس سنن يف إجابة املؤذن ال ينبغي الغفلة عنها‪.‬‬

‫) ( إشارة إىل حديث سعد بن أيب وقاص عن رسول اهلل ‪ ‬أنه قال‪« :‬من قال حين‬
‫يسمع المؤذن أشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وأن محم ًدا عبده‬
‫ورسوله رضيت باهلل ربًا وبمحمد رسوال وباإلسالم دينًا غفر له ذنبه» رواه مسلم‬
‫كتاب الصالة باب استحباب القول مثل ما يقول املؤذن إخل ( ‪.) 14/‬‬
‫) ( إشارة إىل حديث جابر بن عبد اهلل أن رسول اهلل ‪ ‬قال‪« :‬من قال حني يسمع‬
‫حممدا الوسيلة والفضيلة‬
‫النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصالة القائمة آت ً‬
‫حممودا الذي وعدته حلت له شفاعيت يوم القيامة» رواه البخاري كتاب‬
‫مقاما ً‬ ‫وابعثه ً‬
‫بدء األذان باب الدعاء عند النداء ( ‪.) 51/‬‬
‫) ( إشارة إىل حديث عبد اهلل بن عمرو بن العاص أنه مسع النيب ‪ ‬يقول‪« :‬إذا مسعتم‬
‫املؤذن فقولوا مثل ما يقول مث صلوا علي فإنه من صلى علي صالة صلى اهلل عليه هبا‬
‫عشرا‪ ..‬إخل» رواه مسلم كتاب الصالة باب استحباب القول مثل ما يقول املؤذن إخل‬
‫‪.) 44/ (.‬‬
‫)‪ (0‬إشارة إىل حديث أنس بن مالك قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪« :‬الدعاء ال يرد بني‬
‫األذان واإلقامة رواه أمحد يف مسنده» ( ‪ ) 1/‬وأبو داود كتاب الصالة باب ما‬
‫جاء يف الدعاء بني األذان واإلقامة ( ‪ ) 00/‬والرتمذي أبواب الصالة باب ما جاء‬
‫يف أن الدعاء ال يرد بني األذان واإلقامة ( ‪.) 51/‬‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪04‬‬

‫اإلقبال على اهلل‬


‫وسر الصالة وروحها ولبها هو إقبال العبد على اهلل بكليته‪ ،‬فكما‬
‫أنه ال ينبغي له أن يصرف وجهه عن قبلة اهلل ميينًا ومشاالً‪ ،‬فكذلك ال‬
‫ينبغي له أن يصرف قلبه عن ربه إىل غريه‪.‬‬
‫فالكعبة اليت هي بيت اهلل قبلة وجهه وبدنه‪ ،‬ورب البيت تبارك‬
‫وتعاىل هو قبلة قلبه وروحه‪ ،‬وعلى حسَب إقبال العبد على اهلل يف‬
‫صالته يكون إقبال اهلل عليه‪ ،‬وإذا أعرض أعرض اهلل عنه ولإلقبال يف‬
‫الصالة ثالث منازل‪:‬‬
‫‪ -‬إقبال على قلبه فيحفظه من الوساوس واخلطرات املبطلة‬
‫لثواب صالته أو املنقصة له‪.‬‬
‫‪-‬وإقبال على اهلل مبراقبته حىت كأنه يراه‪.‬‬
‫‪ -‬وإقبال على معاين كالمه وتفاصيل عبودية الصالة ليعطيها‬
‫حقها‪.‬‬
‫فباستكمال هذه املراتَب الثالث تكون إقامة الصالة ح ًقا ويكون‬
‫إقبال اهلل على عبده حبسَب ذلك‪.‬‬
‫قائما بني يديه فإقباله على قيوميته وعظمته‪،‬‬
‫فإذا انتصَب العبد ً‬
‫وإذا كرب فإقباله على كربيائه‪.‬‬
‫فإذا سبحه وأثىن عليه فإقباله على سبحات وجهه وتنزيهه عما ال‬
‫يليق به والثناء عليه بأوصاف مجاله‪.‬‬
‫‪0‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫فإذا استعاذ به فإقباله على ركنه الشديد وانتصاره لعبده ومنعه له‬
‫وحفظه من عدوه‪.‬‬
‫فإذا تال كالمه فإقباله على معرفته من كالمه‪ ،‬حىت كأنه يراه‬
‫ويشاهده يف كالمه فهو كما قال بعض السلف‪« :‬لقد جتلى اهلل‬
‫لعباده يف كالمه»( ) فهو يف هذه احلال مقبل على ذاته وصفاته‬
‫وأفعاله وأحكامه وأمسائه‪.‬‬
‫فإذا ركع فإقباله على عظمته وجالله وعزه؛ وهلذا شرع له أن‬
‫يقول‪ :‬سبحان ريب العظيم‪.‬‬
‫فإذا رفع رأسه من الركوع فإقباله على محده والثناء عليه ومتجيده‬
‫وعبوديته له وتفرده بالعطاء واملنع‪.‬‬
‫فإذا سجد فإقباله على قربه والدنو منه واخلضوع له والتذلل بني‬
‫يديه واالنكسار والتملق‪.‬‬
‫فإذا رفع رأسه وجثا على ركبتيه فإقباله على غناه وجوده وكرمه‬
‫وشدة حاجته إليه وتضرعه بني يديه واالنكسار أن يغفر له ويرمحه‬
‫ويعافيه ويهديه ويرزقه‪.‬‬
‫فإذا جلس يف التشهد فله حال آخر وإقبال آخر يشبه حال‬
‫احلاج يف طواف الوداع‪ ،‬وقد استشعر قلبه االنصراف من بني يدي‬
‫ربه‪ ،‬إىل أشغال الدنيا وموافاة العالئق والشواغل اليت قطعه عنها‬
‫الوقوف بني يدي ربه‪ ،‬وقد ذاق قلبه التأمل هبا والعذاب هبا قبل دخوله‬

‫) ( قائل هذا القول‪ :‬جعفر بن حممد الصادق «إحياء علوم الدين» ( ‪.) 47/‬‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪0‬‬

‫يف الصالة‪ ،‬فباشر قلبه روح ال ُقرب ونعيم اإلقبال على اهلل وعافبته‬
‫منها وانقطاعها عنه مدة الصالة‪.‬‬
‫مث استشعر قلبه عودها إليه خبروجه من محى الصالة‪ ،‬فهو حيمل‬
‫َه َم انقضاء الصالة وفراغها ويقول ليتها اتصلت بيوم اللقاء‪ ،‬ويعلم أنه‬
‫ينصرف من مناجاة من كل السعادة يف مناجاته‪ ،‬إىل مناجاة من‬
‫األذى واهلم والغم والنكد يف مناجاته‪ ،‬وال يشعر هبذا وهذا إال قلَب‬
‫حي معمور بذكر اهلل وحمبته واألنس به‪.‬‬
‫تسليم النفس‬
‫وملا كان العبد بني أمرين من ربه عز وجل‪:‬‬
‫ظاهرا وباطنًا واقتضاؤه‬
‫كم عليه يف أحواله كلها ً‬
‫‪ -‬أحدمها‪ُ :‬ح ٌ‬
‫منه القيام بعبودية حكمه فإن لكل حكم عبودية ختصه‪ ،‬أعين احلكم‬
‫الكوين القدري‪.‬‬
‫‪ -‬والثاين‪ :‬فعل يفعله العبد عبودية لربه‪ ،‬وهو موجَب حكمه‬
‫الديين األمري‪ ،‬وكال األمرين يوجبان تسليم النفس إليه تعاىل‪.‬‬
‫وهلذا اشتق له اسم اإلسالم من التسليم‪ ،‬فإنه ملا أسلم نفسه‬
‫حلكم ربه الديين األمري وحلكمه الكوين القدري بقيامه بعبوديته فيه‬
‫ال باسرتساله معه استحق اسم اإلسالم فقيل له مسلم‪.‬‬
‫صورة الصالة‬
‫وملا اطمأن قلبه بذكره وكالمه وحمبته وعبوديته‪ ،‬سكن إليه وقرت‬
‫‪0‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫أمرا ضروريًا له‪،‬‬


‫عينه به فنال األمان بإميانه‪ ،‬وكان قيامه هبذين األمرين ً‬
‫ال حياة له‪ ،‬وال فالح وال سعادة إال هبما‪.‬‬
‫وملا كان ما بُلي به من النفس األمارة واهلوى املقتضى أو الطباع‬
‫املطالبة‪ ،‬والشيطان املغوي‪ ،‬يقتضي منه إضاعة حظه من ذلك أو‬
‫نقصانه‪ ،‬اقتضت رمحة العزيز الرحيم أن شرع له الصالة خملفة عليه ما‬
‫ضاع منه رادة عليه ما ذهَب‪ ،‬جمددة له ما أخلق من إميانه‪ ،‬وجعلت‬
‫وتسليما و أعطى‬
‫ً‬ ‫انقيادا‬
‫وخضوعا‪ً ،‬‬
‫ً‬ ‫خشوعا‬
‫ً‬ ‫صورَّتا على صورة أفعاله‬
‫كل جارحة من اجلوارح حظها من العبودية‪ ،‬وجعل مثرَّتا وروحها‬
‫إقباله على ربه فيها بكليته‪ ،‬وجعل ثواهبا وجزاءها القرب منه ونيل‬
‫كرامته يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬وجعل منزلتها وحملها الدخول على اهلل‬
‫تبارك وتعاىل والتزين للعرض عليه تذكرياً بالعرض األكرب عليه يوم‬
‫القيامة‪.‬‬
‫قرة العين‬
‫وكما أن الصوم مثرته تطهري النفس‪ ،‬ومثرة الزكاة تطهري املال‪ ،‬ومثرة‬
‫احلج وجوب املغفرة‪ ،‬ومثرة اجلهاد تسليم النفس اليت اشرتاها سبحانه‬
‫من العباد‪ ،‬وجعل اجلنة مثنها فالصالة مثرَّتا اإلقبال على اهلل‪ ،‬وإقبال‬
‫اهلل سبحانه على العبد‪ ،‬ويف اإلقبال مجيع ما ذكر من مثرات األعمال؛‬
‫ولذلك مل يقل النيب ‪ ‬جعلت قرة عيين يف الصوم وال يف احلج‬
‫والعمرة‪ ،‬وإمنا قال‪« :‬وجعلت قرة عيني في الصالة» ومل يقل‬
‫إعالما بأن عينه إمنا تقر بدخوله فيها‪ ،‬كما تقر عني احملَب‬
‫ً‬ ‫بالصالة‬
‫مبالبسته حملبوبه وتقر عني اخلائف بدخوله يف حمل أمنه‪ ،‬فقرة العني‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪00‬‬

‫بالدخول يف الشيء أكمل وأمت من قُرة العني به قبل الدخول‪.‬‬


‫وملا جاء إىل راحة القلَب من تعبه ونصبه قال‪« :‬يا بالل أرحنا‬
‫بالصالة»( )؛ أي أقمها لنسرتيح هبا من مقاساة الشواغل‪ ،‬كما‬
‫يسرتيح التعبان إذا وصل إىل منزله وقر فيه وسكن‪.‬‬
‫راحة الصالة‬
‫وتأمل كيف قال أرحنا هبا ومل يقل أرحنا منها‪ ،‬كما يقوله‬
‫وغرما‪ ،‬فهو ملا امتأل قلبه بغريها‬
‫املتكلف هبا الذي يفعلها تكل ًفا ً‬
‫وجاءت قاطعة عن أشغاله وحمبوباته‪ ،‬وعلم أنه ال بد له منها فهو‬
‫قائل بلسان حاله وقاله‪ :‬نصلي ونسرتيح من الصالة ال هبا‪ ،‬فهذا لون‬
‫قيدا أو لقلبه‬
‫وذاك لون آخر‪ ،‬فالفرق بني من كانت الصالة جلوارحه ً‬
‫نعيما ولعينه قرة‬
‫سجنًا‪ ،‬ولنفسه عائ ًقا‪ ،‬وبني من كانت الصالة لقلبه ً‬
‫وجلوارحه راحة‪ ،‬ولنفسه بستانًا ولذة‪.‬‬
‫‪ -‬فاألول الصالة سجن لنفسه وتقييد هلا عن التورط يف‬
‫مساقط اهللكات وقد ينالون هبا التكفري والثواب ويناهلم من الرمحة‬
‫حبسَب عبوديتهم هلل فيها‪.‬‬
‫‪ -‬والقسم اآلخر الصالة بستان قلوهبم‪ ،‬وقرة عيوهنم‪ ،‬ولذة‬
‫نفوسهم‪ ،‬ورياض جوارحهم فهم فيها يتقلبون يف النعيم‪.‬‬
‫فصالة هؤالء توجَب هلم القرب واملنزلة من اهلل ويشاركون األولني‬
‫) ( هذا جزء من حديث رواه أنس وقد أخرجه النسائي كتاب عشرة النساء باب حَب‬
‫النساء (‪ )6 /4‬وأمحد يف مسنده (‪.) 11/1‬‬
‫‪05‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫يف ثواهبم وُيتصون بأعاله وباملنزلة والقربة وهي قدر زائد على جمرد‬
‫الثواب‪ ،‬وهلذا يعد امللوك من أرضاهم باألجر والتقريَب كما قال‬
‫ِِ‬
‫ال نَـ َع ْم‬ ‫َج ًرا إِ ْن ُكنَا نَ ْح ُن الْغَالب َ‬
‫ين * قَ َ‬ ‫السحرة لفرعون ‪‬إِ َن لَنَا َأل ْ‬
‫ِ‬
‫‪.] 0 ،‬‬ ‫ين‪[ ‬األعراف‪:‬‬ ‫َوإِنَ ُك ْم لَم َن ال ُْم َق َربِ َ‬
‫‪ -‬فاألول عبد قد دخل الدار والسرت حاجَب بينه وبني رب‬
‫الدار فهو من وراء السرت فلذلك مل تقر عينه؛ ألنه يف حجَب‬
‫الشهوات‪ ،‬وغيوم اهلوى‪ ،‬ودخان النفس‪ ،‬وخبار األماين‪ ،‬فالقلَب‬
‫عليل‪ ،‬والنفس مكبة على ما َّتواه‪ ،‬طالبة حلظها العاجل‪.‬‬
‫‪ -‬واآلخر قد دخل دار امللك ورفع السرت بينه وبينه فقرت عينه‬
‫وعبَد اهلل كأنه يراه‪ ،‬وجتلى له‬
‫واطمأنت نفسه‪ ،‬وخشع قلبه وجوارحه‪َ ،‬‬
‫يف كالمه‪.‬‬
‫جدا يف ذوق الصالة‪.‬‬
‫فهذه إشارة ما‪ ،‬ونبذة يسريةٌ ً‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪06‬‬

‫الرسالة الثانية‬

‫قال ابن القيم رحمه اهلل‬

‫ص َال َة ‪‬‬
‫يموا ال َ‬ ‫ِ‬
‫تعالى‪َ  :‬وأَق ُ‬ ‫عند قوله‬
‫‪07‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫إقامة الصالة‬
‫فأمرنا بإقامتها‪ ،‬وهو اإلتيان هبا قائمة تامة القيام والركوع‬
‫والسجود واألذكار‪ ،‬وقد علق اهلل سبحانه الفالح خبشوع املصلي يف‬
‫صالته‪ ،‬فمن فاته خشوع الصالة‪ ،‬مل يكن من أهل الفالح‪،‬‬
‫قطعا بل ال حيصل‬ ‫ويستحيل حصول اخلشوع مع العجلة والنقر ً‬
‫خشوعا وكلما‬ ‫ً‬ ‫اخلشوع قط إال مع الطمأنينة وكلما زاد طمأنينة ازداد‬
‫قل خشوعه اشتدت عجلته حىت تصري حركة يديه مبنزلة العبث الذي‬
‫ال يصحبه خشوع وال إقبال على العبودية وال معرفة حقيقية العبودية‬
‫ص َالةَ‪[ ‬البقرة‪ ]0 :‬وقال‪:‬‬ ‫يموا ال َ‬ ‫ِ‬
‫واهلل سبحانه قد قال‪َ  :‬وأَق ُ‬
‫ص َالةَ‪[ ‬املائدة‪ ]55 :‬وقال‪َ  :‬وأَقِ ِم‬ ‫يمو َن ال َ‬ ‫‪‬والَ ِذين آَمنُوا الَ ِذ ِ‬
‫ين يُق ُ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ِ‬
‫يموا‬ ‫ص َال َة‪[ ‬العنكبوت‪ ]05 :‬وقال‪ :‬فَِإ َذا اط َْمأْنَـ ْنتُ ْم فَأَق ُ‬ ‫ال َ‬
‫ص َال َة‪[ ‬النساء‪:‬‬ ‫ين ال َ‬ ‫ِِ‬
‫ص َال َة‪[ ‬النساء‪ ] 4 :‬وقال‪َ  :‬وال ُْمقيم َ‬ ‫ال َ‬
‫ص َالةِ‪‬‬ ‫يم ال َ‬ ‫ِ ِ‬
‫اج َعلْني ُمق َ‬ ‫ب ْ‬ ‫‪ ] 6‬وقال إبراهيم عليه السالم ‪َ ‬ر ِ‬
‫ص َالةَ‬ ‫[إبراهيم‪ ]04 :‬وقال ملوسى عليه السالم ‪‬فَا ْعبُ ْدنِي َوأَقِ ِم ال َ‬
‫لِ ِذ ْك ِري‪[ ‬طه‪.] 0 :‬‬
‫فلن تكاد جتد ذكر الصالة يف موضع من التنزيل إال مقرونًا‬
‫بإقامتها فاملصلون يف الناس قليل‪ ،‬ومقيم الصالة منهم أقل القليل‪،‬‬
‫كما قال عمر رضي اهلل عنه‪« :‬احلاج قليل‪ ،‬والركَب كثري»( )‪.‬‬

‫) ( رود من قول شريح عند عبد الرزاق (‪.) 1/5‬‬


‫ذوق الصــالة‬ ‫‪04‬‬

‫أقسام المصلين‬
‫فالعاملون يعملون األعمال املأمور هبا على الرتويج حتلة القسم‪،‬‬
‫ويقولون‪ :‬يكفينا أدىن ما يقع عليه االسم‪ ،‬وليتنا نأيت به ولو علم‬
‫هؤالء أن املالئكة تصعد بصالَّتم فتعرضها على الرب جل جالله‬
‫مد‬
‫مبنزلة اهلدايا اليت يتقرب هبا الناس إىل ملوكهم وكربائهم فليس َمن َع َ‬
‫إىل أفضل ما يقدر عليه فيزينه وحيسنه ما استطاع مث يتقرب به إىل من‬
‫يرجوه وُيافه َك َم ْن يعمد إىل أسقط ما عنده وأهونه عليه فيسرتيح‬
‫بيعا‬
‫منه ويبعثه إىل من ال يقع عنده مبوقع وليس من كانت الصالة ر ً‬
‫لقلبه وحياة له‪ ،‬وراحة وقرة لعينه وجالء حلزنه‪ ،‬وذهابًا هلمه وغمه‪،‬‬
‫ت لقلبه وقي ٌد جلوارحه‪،‬‬ ‫ومفزعا إليه يف نوائبه ونوازله كمن هي ُس ْح ٌ‬ ‫ً‬
‫وتكليف له وثقل عليه فهي كبرية على هذا وقرة عني وراحة لذلك‪.‬‬
‫ص َالةِ َوإِنَـ َها لَ َكبِ َيرةٌ إَِال َعلَى‬ ‫استَ ِعينُوا بِال َ‬
‫ص ْب ِر َوال َ‬ ‫وقال تعاىل‪َ  :‬و ْ‬
‫اش ِعين * الَ ِذين يظُنُو َن أَنَـ ُهم م َالقُو ربِ ِهم وأَنَـ ُهم إِلَْي ِه ر ِ‬
‫اجعُو َن‪‬‬ ‫ال َ ِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ َ ْ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ْخ َ‬
‫[البقرة‪ ]06 ،05 :‬فإمنا كربت على غري هؤالء خللو قلوهبم من حمبة‬
‫اهلل تعاىل وتكبريه وتعظيمه واخلشوع له وقلة رغبتهم فيه فإن حضور‬
‫العبد يف الصالة وخشوعه فيها وتكميله هلا واستفراغه ووسعه يف‬
‫إقامتها وإمتامها على قدر رغبته يف اهلل‪.‬‬
‫قدر الصالة‬
‫قال اإلمام أمحد يف رواية مهنا بن حيىي‪ :‬إمنا حظهم من اإلسالم‬
‫على قدر حظهم يف الصالة‪ ،‬ورغبتهم يف اإلسالم على قدر رغبتهم‬
‫‪01‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫يف الصالة‪ ،‬فاعرف نفسك يا عبد اهلل‪ ،‬احذر أن تلقى اهلل عز وجل‪،‬‬
‫وال قَ ْد َر لإلسالم عندك فإن قَ ْد َر اإلسالم يف قلبك ك َق ْدر الصالة يف‬
‫قلبك( )‪.‬‬
‫وليس حظ القلَب العامر مبحبة اهلل وخشيته والرغبة فيه وإجالله‬
‫وتعظيمه من الصالة كحظ القلَب اخلايل اخلرب من ذلك‪ ،‬فإذا وقف‬
‫االثنان بني يدي اهلل يف الصالة‪ ،‬وقف هذا بقلَب ُخمبت خاشع له‬
‫قريَب منه سليم من معارضات السوء‪ ،‬قد امتألت أرجاؤه باهليبة‪،‬‬
‫وسطع فيه نور اإلميان‪ ،‬وكشف عنه حجاب النفس ودخان‬
‫الشهوات‪ ،‬فريتع يف رياض معاين القرآن‪ ،‬وخالط قلبه بشاشة اإلميان‬
‫حبقائق األمساء والصفات وعلوها ومجاهلا وكماهلا األعظم‪ ،‬وتفرد الرب‬
‫سبحانه بنعوت جالله‪ ،‬وصفات كماله فاجتمع مهه على اهلل وقرت‬
‫عينه به وأحس بقربه من اهلل قربًا ال نظري له‪ ،‬ففزع قلبه له وأقبل عليه‬
‫بكليته وهذا اإلقبال منه بني إقبالني من ربه فإنه سبحانه أقبل عليه‬
‫أوال فاجنذب قلبه إليه بإقباله‪ ،‬فلما أقبل على ربه‪ ،‬حظي منه بإقبال‬
‫آخر أمت من األول‪.‬‬
‫استفتاح الصالة‬
‫وههنا عجيبة من عجائَب األمساء والصفات حتصل ملن تفقه قلبه‬
‫يف معاين القرآن وخالط بشاشة اإلميان هبا قلبه‪ ،‬حبيث يرى لكل اسم‬
‫موضعا من صالته وحمالً منها‪.‬‬
‫وصفة ً‬

‫) ( طبقات احلنابلة ( ‪.) 50/‬‬


‫ذوق الصــالة‬ ‫‪54‬‬

‫قائما بني يدي الرب تبارك وتعاىل شاهد بقلَب‬


‫فإنه إذا انتصَب ً‬
‫قيوميته‪.‬‬
‫وإذا قال‪ :‬اهلل أكرب شاهد كربياءه‪.‬‬
‫وإذا قال‪« :‬سبحانك اللهم وحبمدك‪ ،‬وتبارك امسك‪ ،‬وتعاىل‬
‫منزها عن كل عيَب‪ ،‬ساملا‬‫ً‬ ‫جدك وال إله غريك»( ) شاهد بقلبه ربًا‬
‫ً‬
‫حممودا بكل محد‪ ،‬فحمده يتضمن وصفه بكل كمال‪،‬‬ ‫من كل نقص‪ً ،‬‬
‫وذلك يستلزم براءته من كل نقص تبارك امسه‪ ،‬فال يُذكر على قليل إال‬
‫كثره وال على خري إال أمناه وبارك فيه‪ ،‬وال على آفة إال أذهبها‪ ،‬وال‬
‫داحرا‪ ،‬وكمال االسم من كمال مسماه‪،‬‬ ‫على شيطان إال رده خاسئًا ً‬
‫فإذا كان هذا شأن امسه الذي ال يضر معه شيء يف األرض وال يف‬
‫السماء‪ ،‬فشأن املسمى أعلى وأجل‪.‬‬
‫وتعاىل جدك أي‪ :‬ارتفعت عظمته‪ ،‬وجلت فوق كل عظمة وعال‬
‫شأنه على كل شأن وقهر سلطانه على كل سلطان فتعاىل جده أن‬
‫يكون معه شريك يف ُملكه وربوبيته أو يف إالهيته‪ ،‬أو يف أفعاله أو يف‬
‫صفاته كما قال مؤمن اجلن ‪‬وأَنَه تَـعالَى ج ُد ربِـنا ما اتَ َخ َذ ص ِ‬
‫احبَ ًة‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ َ ََ َ‬
‫َوَال َولَ ًدا‪[ ‬اجلن‪ ] :‬فكم يف هذه الكلمات من جتل حلقائق األمساء‬
‫والصفات على قلَب العارف هبا وغري املعطل حلقائقها‪.‬‬

‫) ( مسلم (‪ )5 ( ) 11‬يف الصالة‪ :‬باب حجة من قال‪ :‬ال جيهر بالبسملة‪.‬‬


‫‪5‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫االستعاذة‬
‫وإذا قال‪« :‬أعوذ باهلل من الشيطان الرجيم» فقد آوى إىل ركنه‬
‫الشديد‪ ،‬واعتصم حبوله وقوته من عدوه الذي يريد أن يقطعه عن ربه‪،‬‬
‫ويباعده عن قربه ليكون أسوأ حاالً‪.‬‬
‫الحمد هلل رب العالمين‬
‫ين‪ ‬وقف هنيهة يسرية ينتظر‬ ‫ِ‬ ‫ْح ْم ُد لِلَ ِه َر ِ‬
‫ب ال َْعالَم َ‬ ‫فإذا قال‪ :‬ال َ‬
‫جواب ربه له بقوله‪« :‬حمدني عبدي»( ) فإذا قال‪ :‬ال َر ْح َم ِن‬
‫ك‬ ‫يم‪ ‬انتظر اجلواب بقوله‪« :‬أثنى علي عبدي» فإذا قال‪ :‬مالِ ِ‬
‫َ‬ ‫ال َرِح ِ‬
‫يَـ ْوِم الدِي ِن‪ ‬انتظر جوابه‪« :‬يمجدني عبدي» فيا لذة قلبه وقرة عينه‬
‫وسرور نفسه بقول ربه «عبدي» ثالث مرات فواهلل لوال ما على‬
‫وسرورا‬
‫ً‬ ‫فرحا‬
‫القلوب من دخان الشهوات وغيم النفوس الستطريت ً‬
‫بقول رهبا وفاطرها ومعبودها‪« :‬حمدني عبدي‪ ،‬وأثنى علي عبدي‪،‬‬
‫ومجدني عبدي»‪.‬‬
‫مث يكون لقلبه جمال من شهود هذه األمساء الثالثة اليت هي‬
‫أصول األمساء احلسىن وهي‪ :‬اهلل والرب والرمحن‪ ،‬فشاهد قلبه من ذكر‬

‫) ( هذا وما يليه جزء من حديث رواه مسلم (‪ ) 1‬يف الصالة‪ ،‬باب وجوب قراءة‬
‫الفاحتة يف كل ركعة واملوطأ ( ‪ )45 ،40/‬يف الصالة‪ :‬باب القراءة خلف اإلمام فيما‬
‫ال جيهر فيه بالقراءة وأبو داود ( ‪ )4‬يف الصالة‪ :‬باب من ترك القراءة يف صالته‬
‫بفاحتة الكتاب‪ ،‬والرتمذي (‪ ) 150‬تفسري القرآن‪ ،‬ومن سورة فاحتة الكتاب‬
‫والنسائي ( ‪ ) 6 ، 5/‬يف االفتتاح‪ :‬باب ترك قراءة بسم اهلل الرمحن الرحيم يف‬
‫فاحتة الكتاب‪.‬‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪5‬‬

‫موجودا خموفًا‪ ،‬ال يستحق العبادة‬ ‫ً‬ ‫معبودا‬


‫اسم اهلل تبارك وتعاىل إهلًا ً‬
‫غريه‪ ،‬وال تنبغي إال له‪ ،‬قد عنت له الوجوه‪ ،‬وخضعت له املوجودات‪،‬‬
‫ض َوَم ْن‬ ‫س ْب ُع َو ْاأل َْر ُ‬
‫ات ال َ‬
‫س َم َو ُ‬ ‫سبِ ُح لَهُ ال َ‬
‫وخشعت له األصوات‪ :‬تُ َ‬
‫سبِ ُح بِ َح ْم ِد ِه‪[ ‬اإلسراء‪ .]00 :‬و‪َ ‬ولَهُ َم ْن‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫في ِه َن َوإ ْن م ْن َش ْيء إ َال يُ َ‬
‫ض ُكلٌ لَهُ قَانِتُو َن‪[ ‬الروم‪ ] 6 :‬وكذلك خلق‬ ‫سماو ِ‬
‫ات َو ْاأل َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫في ال َ َ َ‬
‫السماوات واألرض وما بينهما‪ ،‬وخلق اجلن واإلنس والطري والوحش‬
‫واجلنة والنار‪ ،‬وكذلك أرسل الرسل وأنزل الكتَب‪ ،‬وشرع الشرائع‪ ،‬وألزم‬
‫قيوما قام‬‫العباد األمر والنهي‪ ،‬وشاهد من ذكر امسه (رب العاملني) ً‬
‫بنفسه‪ ،‬وقام به كل شيء‪ ،‬فهو قائم على كل نفس خبريها وشرها‪ ،‬قد‬
‫استوى على عرشه‪ ،‬وتفرد بتدبري ملكه‪ ،‬فالتدبري كله بيديه‪ ،‬ومصري‬
‫األمور كلها إليه‪ ،‬فمراسيم التدبريات نازلة من عنده على أيدي‬
‫مالئكته بالعطاء واملنع‪ ،‬واخلفض والرفع واإلحياء واإلماتة والتوبة‬
‫والعزل‪ ،‬والقبض والبسط‪ ،‬وكشف الكروب‪ ،‬وإغاثة امللهوفني‪ ،‬وإجابة‬
‫ض ُك َل يَـ ْوٍم ُه َو فِي‬ ‫ات َو ْاأل َْر ِ‬‫سماو ِ‬ ‫ِ‬
‫املضطرين ‪‬يَ ْسأَلُهُ َم ْن في ال َ َ َ‬
‫ْن‪ ‬ال مانع ملا أعطى‪ ،‬وملا معطي ملا منع‪ ،‬وال معقَب حلكمه‪ ،‬وال‬ ‫َشأ ٍ‬
‫راد ألمره‪ ،‬وال مبدل لكلماته‪ ،‬تعرج املالئكة والروح إليه‪ ،‬وتعرض‬
‫األعمال أول النهار وآخره عليه‪ ،‬فيقدر املقادير ويوقت املواقيت مث‬
‫قائما بتدبري ذلك كله وحفظه ومصاحله‪.‬‬ ‫يسوق املقادير إىل مواقيتها ً‬
‫الرحمن الرحيم‬
‫مث يشهد عند ذكر اسم "الرمحن" جل جالله ربًا حمسنًا إىل خلقه‬
‫بأنواع اإلحسان متحببًا إليهم بصنوف النعم‪ ،‬وسع كل شيء رمحة‬
‫‪5‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫وعلما‪ ،‬وأوسع كل خملوق نعمة وفضال فوسعت رمحته كل شيء‬ ‫ً‬


‫ووسعت نعمته كل حي‪ ،‬فبلغت رمحته حيث بلغ علمه‪ ،‬فاستوى على‬
‫عرشه برمحته‪ ،‬وخلق خلقه برمحته وأنزل كتبه برمحته‪ ،‬وأرسل رسله‬
‫أيضا برمحته‪،‬‬
‫برمحته وشرع شرائعه برمحته‪ ،‬وخلق اجلنة برمحته‪ ،‬والنار ً‬
‫فإهنا سوطه الذي يسوق به عباده املؤمنني إىل جنته‪ ،‬ويطهر هبا أدران‬
‫املوحدين من أهل معصيته وسجنه الذي يسجن فيه أعداءه من‬
‫خليقته‪.‬‬
‫فتأمل ما يف أمره وهنيه ووصاياه ومواعظه من الرمحة البالغة‪،‬‬
‫والنعمة السابغة‪ ،‬وما يف حشوها من الرمحة والنعمة‪ ،‬فالرمحة هي‬
‫السبَب املتصل منه بعباده‪ ،‬كما أن العبودية هي السبَب املتصل منهم‬
‫به‪ ،‬فمنهم إليه العبودية ومنه إليهم الرمحة‪.‬‬
‫ومن أخص مشاهد هذا االسم شهود املصلي نصيبه من الرمحة‬
‫الذي أقامه هبا بني يدي ربه‪ ،‬وأهله لعبوديته ومناجاته‪ ،‬وأعطاه ومنع‬
‫غريه وأقبل بقلبه وأعرض بقلَب غريه وذلك من رمحته به‪.‬‬
‫مالك يوم الدين‬
‫ك يَـ ْوِم الدِي ِن‪ ‬فهنا شهد اجملد الذي ال يليق‬
‫فإذا قال‪ :‬مالِ ِ‬
‫َ‬
‫قاهرا قد دانت له اخلليقة وعنت‬
‫بسوى امللك احلق املبني فيشهد مل ًكا ً‬
‫له الوجوه‪ ،‬وذلت لعظمته اجلبابرة‪ ،‬وخضع لعزته كل عزيز‪ ،‬فيشهد‬
‫بقلبه مل ًكا على عرش السماء مهيمنًا لعزته تعنو الوجوه وتسجد وإذا‬
‫مل تعطل حقيقة صفة امللك أطلعته على شهود حقائق األمساء‬
‫والصفات اليت تعطيلها تعطيل مللكه وجحد له‪ ،‬فإن امللك احلق التام‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪50‬‬

‫آمرا‬
‫متكلما ً‬
‫ً‬ ‫قادرا‬
‫مدبرا ً‬
‫بصريا ً‬
‫مسيعا ً‬
‫قيوما ً‬
‫امللك‪ :‬ال يكون إال حيا ً‬
‫ناهيًا مستويًا على سرير مملكته‪ ،‬يرسل إىل أقاصي مملكته بأوامره‪،‬‬
‫فريضى على من يستحق الرضا‪ ،‬ويثيبه ويكرمه ويدنيه ويغضَب على‬
‫من يستحق الغضَب ويعاقبه ويهينه ويقصيه فيعذب من يشاء ويرحم‬
‫من يشاء ويعطي من يشاء‪ ،‬ويقرب من يشاء‪ ،‬ويقصي من يشاء‪ ،‬له‬
‫دار عذاب‪ ،‬وهي النار‪ ،‬وله دار سعادة عظيمة‪ ،‬وهي اجلنة فمن أبطل‬
‫شيئَا من ذلك‪ ،‬أو جحده وأنكر حقيقته فقد قدح يف ملكه سبحانه‬
‫وتعاىل‪ -‬ونفى عنه كماله ومتامه‪ ،‬وكذلك من أنكر عموم قضائه وقدره‬
‫فقد أنكر عموم ملكه وكماله‪ ،‬فيشهد املصلي جمد الرب تعاىل يف‬
‫ك يَـ ْوِم الدِي ِن‪.‬‬
‫قوله‪ :‬مالِ ِ‬
‫َ‬
‫إياك نعبد وإياك نستعين‬
‫اك نَـ ْعب ُد وإِيَ َ ِ‬
‫ين‪ ‬ففيها سر اخللق واألمر‪،‬‬‫اك نَ ْستَع ُ‬ ‫فإذا قال‪ :‬إِيَ َ ُ َ‬
‫والدنيا واآلخرة وهي متضمنة ألجل الغايات وأفضل الوسائل‪ ،‬فأجل‬
‫الغايات عبوديته وأفضل الوسائل إعانته فال معبود يستحق العبادة إال‬
‫هو‪ ،‬وال معني على عبادته غريه‪ ،‬فعبادته أعلى الغايات‪ ،‬وإعانته أجل‬
‫الوسائل‪ ،‬وقد أنزل اهلل سبحانه وتعاىل مائة كتاب وأربعة كتَب مجع‬
‫معانيها يف أربعة وهي‪ :‬التوراة واإلجنيل والقرآن والزبور‪ ،‬ومجع معانيها‬
‫يف القرآن‪ ،‬ومجع معانيه يف املفصل ومجع معانيه يف الفاحتة ومجع‬
‫اك نَـ ْعب ُد وإِيَ َ ِ‬
‫ين‪.‬‬‫اك نَ ْستَع ُ‬ ‫معانيها يف ‪‬إِيَ َ ُ َ‬
‫وقد اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد‪ ،‬ومها‪:‬‬
‫‪ -‬توحيد الربوبية‪.‬‬
‫‪55‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫‪ -‬وتوحيد اإلهلية‪.‬‬
‫وتضمنت التعبد باسم الرب واسم اهلل‪ ،‬فهو يعبد بألوهيته‬
‫ويستعان بربوبيته ويهدي إىل الصراط املستقيم برمحته فكان أول‬
‫السورة ذكر امسه‪ :‬اهلل والرب والرمحن‪ ،‬تطاب ًقا ألجل املطالَب من‬
‫عبادته وإعانته وهدايته‪ ،‬وهو املنفرد بإعطاء ذلك كله‪ ،‬ال يعني على‬
‫عبادته سواه‪ ،‬وال يهدي سواه‪.‬‬
‫اهدنا الصراط المستقيم‬
‫يم‪ ‬شدة فاقته‬ ‫ِ‬ ‫مث يشهد الداعي بقوله‪ْ  :‬اه ِدنَا ال ِ‬
‫ط ال ُْم ْستَق َ‬
‫ص َرا َ‬
‫وضرورته إىل هذه املسألة اليت ليس هو إىل شيء أشد فاقة وحاجة منه‬
‫إليها البتة‪ ،‬فإنه حمتاج إليه يف كل نفس وطرفة عني‪ ،‬وهذا املطلوب من‬
‫هذا الدعاء ال يتم إال باهلداية إىل الطريق املوصل إليه سبحانه‪،‬‬
‫واهلداية فيه وهي هداية التفصيل وخلق القدرة على الفعل وإرادته‬
‫وتكوينه وتوفيقه إليقاعه له على الوجه املرضي احملبوب للرب سبحانه‬
‫وتعاىل‪ ،‬وحفظه عليه من مفسداته حال فعله وبعد فعله‪.‬‬
‫أمور الهداية‬
‫مفتقرا يف كل إىل هذه اهلداية يف مجيع ما يأتيه‬
‫وملا كان العبد ً‬
‫ويذره من‪:‬‬
‫‪ -‬أمور قد أتاها على غري اهلداية‪ ،‬فهو حيتاج إىل التوبة منها‪.‬‬
‫‪ -‬وأمور ُهدي إىل أصلها دون تفصيلها‪.‬‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪56‬‬

‫‪ -‬أو هدي إليها من وجه دون وجه فهو حيتاج إىل إمتام اهلداية‬
‫فيها ليزداد هدى‪.‬‬
‫‪ -0‬وأمور هو حيتاج إىل أن حيصل له من اهلداية فيها باملستقبل‬
‫مثل ما حصل له يف املاضي‪.‬‬
‫‪ -5‬وأمور هو خال عن اعتقاد فيها‪ ،‬فهو حيتاج إىل اهلداية فيها‪.‬‬
‫‪ -6‬وأمور مل يفعلها فهو حيتاج إىل فعلها على وجه اهلداية‪.‬‬
‫‪ -7‬وأمور قد هدي إىل االعتقاد احلق والعمل الصواب فيها‪،‬‬
‫فهو حمتاج إىل الثبات عليها‪.‬‬
‫ض( ) اهلل سبحانه عليه أن‬ ‫إىل غري ذلك من أنواع اهلدايات فَـَر َ‬
‫يسأله هذه اهلداية يف أفضل أحواله مرات متعددة يف اليوم والليلة‪.‬‬
‫مث بني أن أهل هذه اهلداية هم املختصون بنعمته دون «املغضوب‬
‫عليهم» وهم الذين عرفوا احلق‪ ،‬ومل يتبعوه ودون «الضالني» وهم‬
‫الذين عبدوا اهلل بغري علم‪ ،‬فالطائفتان اشرتكتا يف القول يف خلقه و‬
‫أمره وأمسائه وصفاته بغري علم‪ ،‬فسبيل املنعم عليه مغايرة لسبيل أهل‬
‫علما وعمالً‪.‬‬
‫الباطل كلها ً‬
‫التأمين‬
‫فلما فرغ من هذا الثناء والدعاء والتوحيد‪ ،‬شرع له أن يطبع على‬
‫ذلك بطابع من التأمني يكون كاخلامت له‪ ،‬وافق فيه مالئكة السماء‪،‬‬

‫) ( جواب "ملا" السابق أول الفقرة‪.‬‬


‫‪57‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫وهذا التأمني من زينة الصالة كرفع اليدين الذي هو زينة الصالة‪،‬‬


‫واتباع للسنة‪ ،‬وتعظيم أمر اهلل‪ ،‬وعبودية اليدين‪ ،‬وشعار االنتقال من‬
‫ركن إىل ركن‪.‬‬
‫مث يأخذ يف مناجاة ربه بكالمه واستماعه من اإلمام باإلنصات‬
‫وحضور القلَب وشهوده وأفضل أذكار الصالة ذكر القيام‪ ،‬وأحسن‬
‫هيئة املصلي هيئة القيام‪ ،‬فخصت باحلمد والثناء واجملد وتالوة كالم‬
‫الرب جل جالله وهلذا هنى عن قراءة القرآن يف الركوع والسجود؛‬
‫ألهنما حالتا ذل وخضوع وتطامن واخنفاض‪ ،‬وهلذا شرع فيهما من‬
‫الذكر ما يناسَب هيئتهما‪.‬‬
‫الركوع‬
‫فشرع للراكع أن يذكر عظمة ربه يف حال اخنفاضه هو‬
‫وتطامنه وخضوعه وأنه سبحانه يوصف بوصف عظمته عما يضاد‬
‫كربياءه وجالله وعظمته فأفضل ما يقول الراكع على اإلطالق‬
‫«سبحان ريب العظيم» فإن اهلل سبحانه أمر العباد بذلك‪ ،‬وعني‬
‫املبلغ عنه السفري بينه وبني عباده هذا احملل هلذا الذكر ملا نزلت‬
‫( )‬
‫ك الْعَ ِظي ِم‪ ‬قال‪« :‬اجعلوها في ركوعكم»‬ ‫س بِ ْح بِ ْ‬
‫اس ِم َربِ َ‬ ‫‪‬فَ َ‬
‫عمدا وأوجَب سجود‬‫وأبطل كثري من أهل العلم صالة من تركها ً‬
‫السهو على من سها عنها‪ ،‬وهذا مذهَب اإلمام أمحد ومن وافقه من‬
‫أئمة احلديث والسنة‪ ،‬واألمر بذلك ال يقتصر على األمر بالصالة‬

‫) ( أبو داود (‪ )461‬وابن ماجه (‪ )447‬و الدارمي ( ‪.) 11/‬‬


‫ذوق الصــالة‬ ‫‪54‬‬

‫عليه ‪ ‬يف التشهد األخري‪ ،‬ووجوبه ال يقتصر على وجوب مباشرة‬


‫املصلي باجلبهة واليدين‪ ،‬وباجلملة‪ ،‬فسر الركوع تعظيم الرب جل‬
‫جالله بالقلَب والقالَب والقول؛ وهلذا قال النيب ‪« :‬أما الركوع‬
‫فعظموا فيه الرب»( )‪.‬‬
‫االعتدال من الركوع‬
‫عائدا إىل أكمل حديثه‪ ،‬وجعل شعار هذا الركن‬ ‫مث يرفع رأسه ً‬
‫محدا هلل والثناء عليه وحتميده‪ ،‬فافتتح هذا الشعار بقول املصلي‪:‬‬ ‫ً‬
‫«سمع اهلل لمن حمده» أي َمس َع مسَْ َع قبول وإجابة‪ ،‬مث شفع بقوله‪:‬‬
‫«ربنا ولك احلمد‪ ،‬ملء السماوات واألرض وملء ما بينهما‪ ،‬وملء‬
‫ما شئت من شيء» وال يهمل أمر هذه الواو يف قوله‪« :‬ربنا ولك‬
‫احلمد» فإنه قد ندب األمر هبا يف الصحيحني وهي جتعل الكالم يف‬
‫تقدير مجلتني قائمتني بأنفسهما فإن قوله‪« :‬ربنا» متضمن يف املعىن‬
‫أنت الرب وامللك القيوم الذي بيديه أَ ِزَمةُ األمور‪ ،‬وإليه مرجعها‬
‫فعطفها على هذا املعىن املفهوم من قوله‪« :‬ربنا» على قوله‪« :‬ولك‬
‫احلمد» فتضمن ذلك معىن قول املوحد له امللك وله احلمد‪.‬‬
‫قدرا وصفه‪ ،‬فقال‪« :‬ملء‬
‫مث أخرب عن شأن هذا احلمد وعظمته ً‬
‫السماوات وملء األرض‪ ،‬وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء‬
‫بعد» أي‪ :‬قدر ملء العامل العلوي والسفلي والقضاء الذي بينهما‬
‫فهذا احلمد قد مأل اخللق املوجود وهو ميأل ما ُيلقه الرب تبارك‬

‫) ( مسلم يف الصالة‪ :‬باب النهي عن قراءة القرآن يف الركوع والسجود‪.‬‬


‫‪51‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫وتعاىل بعد ذلك وما يشاؤه فحمده قد مأل كل موجود ومأل ما‬
‫سيوجد فهذا أحسن التقديرين و قيل ما شئت من شيء وراء العامل‬
‫فيكون قوله‪« :‬بعد للزمان على األول واملكان على الثاين مث أتبع ذلك‬
‫بقوله‪« :‬أهل الثناء واجملد»» فعاد األمر بعد الركعة إىل ما افتتح به‬
‫الصالة قبل الركعة من احلمد والثناء واجملد مث أتبع ذلك بقوله‪« :‬أحق‬
‫ما قال العبد» تقر ًيرا حلمده ومتجيده والثناء عليه‪ ،‬وأن ذلك أحق ما‬
‫نطق به العبد‪ ،‬مث أتبع ذلك باالعرتاف بالعبودية وأن ذلك حكم عام‬
‫جلميع العبيد مث عقَب ذلك بقوله‪« :‬ال مانع ملا أعطيت وال ُمعطي ملا‬
‫ينفع ذا اجل َد منك اجلد»( ) وكان يقول ذلك بعد انقضاء‬
‫نعت‪ ،‬وال ُ‬‫َم َ‬
‫أيضا فيقوله يف هذين املوضعني اعرتافًا بتوحيده‪ ،‬وأن النعم‬
‫الصالة ً‬
‫أمورا‪.‬‬
‫كلها منه وهذا يتضمن ً‬
‫أحدها‪ :‬أنه املنفرد بالعطاء واملنع‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أنه إذا أعطى مل يطق أحد منع من أعطاه‪ ،‬وإذا منع مل‬
‫يطق أحد إعطاء من منعه‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أنه ال ينفع عنده‪ ،‬وال ُيلص من عذابه‪ ،‬وال يدين من‬
‫كرامته جدود بين آدم وحظوظهم من امللك والرئاسة والغىن وطيَب‬
‫العيش وغري ذلك‪ ،‬إمنا ينفعهم عنده التقريَب إليه بطاعته وإيثار‬
‫مرضاته‪.‬‬

‫) ( مسلم ( ‪ ) 10( )07‬يف الصالة‪ :‬باب اعتدال أركان الصالة وختفيفها يف متام‬
‫مسلم (‪ )077‬يف الصالة باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع والنسائي ( ‪) 1/‬‬
‫يف االفتتاح‪ :‬باب ما يقوله يف قيامه‪.‬‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪64‬‬

‫مث ختم ذلك بقوله‪« :‬اللهم اغسلين من خطاياي باملاء والثلج‬


‫والربد»( ) كما افتتح به الركعة يف أول االستفتاح كما كان ُيتم‬
‫الصالة باالستغفار وكان االستغفار يف أول الصالة ووسطها وآخرها‬
‫فاشتمل هذا الركن على أفضل األذكار وأنفع الدعاء‪ :‬من محده‬
‫ومتجيده والثناء عليه واالعرتاف له بالعبودية والتوحيد والتنصل إليه من‬
‫الذنوب و اخلطايا‪ ،‬فهو ذكر مقصود يف ركن مقصود ليس بدون‬
‫الركوع والسجود‪.‬‬
‫السجود‬
‫ساجدا غري رافع يديه‪ ،‬ألن اليدين تنحطان‬
‫ً‬ ‫مث يكرب وُير هلل‬
‫للسجود كما ينحط الوجه فهما تنحطان لعبوديتهما فأغىن ذلك عن‬
‫رفعهما‪ ،‬ولذلك مل يشرع رفعهما عند رفع الرأس من السجود؛ ألهنما‬
‫يرفعان معه كما يوضعان معه‪ ،‬وشرع السجود على أكمل اهليئة‬
‫وأبلغها يف العبودية‪ ،‬وأعمها لسائر األعضاء حبيث يأخذ كل جزء من‬
‫البدن حبظه من العبودية( )‪.‬‬
‫والسجود سر الصالة وركنها األعظم وخامتة الركعة‪ ،‬وما قبله من‬
‫األركان كاملقدمات له‪ ،‬فهو شبه طواف الزيارة يف احلج‪ ،‬فإنه مقصود‬
‫احلج وحمل الدخول على اهلل وزيارته وما قبله كاملقدمات له‪.‬‬
‫وهلذا أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وأفضل األحوال‬

‫) ( مسلم (‪ ) 40( )076‬يف الصالة‪ :‬باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع‪.‬‬
‫) ( سقط من نسخة تيسري زعيرت‪.‬‬
‫‪6‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫له حال يكون فيها أقرب إىل اهلل؛ وهلذا كان الدعاء يف هذا احملل‬
‫أقرب إىل اإلجابة‪.‬‬
‫أصل اإلنسان‬
‫جديرا بأن ال ُيرج‬
‫وملا خلق اهلل سبحانه العبد من األرض‪ ،‬كان ً‬
‫عن أصله‪ ،‬بل يرجع إليه إذا تقاضاه الطبع والنفس باخلروج عنه‪ ،‬فإن‬
‫العبد لو ترك طبعه ودواعي نفسه لتكرب وأشر‪ ،‬وخرج عن أصله الذي‬
‫وثَب على حق ربه من الكربياء والعظمة‪ ،‬فنازعه إيامها‪،‬‬
‫خلقه منه‪ ،‬ولَ َ‬
‫وخشوعا له وتذلال بني‬
‫ً‬ ‫خضوعا لعظمة ربه وفاطره‪،‬‬
‫ً‬ ‫وأُمر بالسجود‬
‫انكسارا له فيكون هذا اخلشوع واخلضوع والتذلل ًردا له إىل‬
‫يديه‪ ،‬و ً‬
‫حكم العبودية ويتدارك ما حصل له من اهلفوة والغفلة واإلعراض‬
‫الذي خرج به عن أصله‪.‬‬
‫فتمثل له حقيقة الرتاب الذي خلق منه‪ ،‬وهو يضع أشرف شيء‬
‫خضوعا بني يدي ربه‬
‫ً‬ ‫منه وأعاله‪ ،‬وهو الوجه‪ ،‬وقد صار أعاله أسفله‬
‫وخشوعا له وتذلال لعظمته واستكانة لعزته‪ ،‬وهذا غاية‬
‫ً‬ ‫األعلى‪،‬‬
‫خشوع الظاهر فإن اهلل سبحانه خلقه من األرض اليت هي مذللة‬
‫للوطء باألقدام‪ ،‬واستعمله فيها‪ ،‬ورده إليها‪ ،‬ووعده باإلخراج منها‪،‬‬
‫فهي أُُمهُ وأبوه وأصله وفصله‪ ،‬ضمته حيًا على ظهرها‪ ،‬وميتًا يف‬
‫ومسجدا فأمر بالسجود‪ ،‬إذ هو غاية خشوع‬
‫ً‬ ‫طهرا‬
‫وجعلت له ً‬‫بطنها‪ُ ،‬‬
‫الظاهر‪ ،‬وأمجع العبودية لسائر األعضاء‪ ،‬فيعفر وجهه يف الرتاب‬
‫وخضوعا وإلقاء باليدين‪.‬‬
‫ً‬ ‫اضعا‬
‫استكانة وتو ً‬
‫وقال مسروق لسعيد بن جبري‪ :‬ما بقي شيء يرغَب فيه إال أن‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪6‬‬

‫نعفر وجوهنا يف هذا الرتاب له( )‪.‬‬


‫سنن السجود‬
‫قصدا بل إذا اتفق له ذلك‬
‫وكان النيب ‪ ‬ال يتقي األرض بوجهه ً‬
‫فعله‪ ،‬ولذلك سجد يف املاء والطني( )‪.‬‬
‫وهلذا كان من كمال السجود الواجَب أنه يسجد على األعضاء‬
‫السبعة‪ :‬الوجه واليدين و الركبتني وأطراف القدمني‪ ،‬فهذا فرض أمر‬
‫اهلل به ورسوله‪ ،‬وبلغه الرسول ألمته‪.‬‬
‫ومن كماله الواجَب أو املستحَب مباشرة مصاله بأدمي وجهه‪،‬‬
‫واعتماده على األرض حبيث يناهلا ثقل رأسه وارتفاع أسافله على‬
‫أعاليه‪ ،‬فهذا من متام السجود‪.‬‬
‫ومن كماله‪ :‬أن يكون على هيئة يأخذ فيها كل عضو من البدن‬
‫حبظه من اخلضوع‪ ،‬فَـيَـ ُق ُل بطنه عن فخذيه‪ ،‬وفخذيه عن ساقيه‪،‬‬
‫وجيايف عضديه عن جنبيه‪ ،‬وال يفرشهما على األرض ليستقل كل‬
‫عضو منه بالعبودية‪.‬‬
‫ساجدا هلل اعتزل ناحية يبكي‬
‫ً‬ ‫ولذلك إذا رأى الشيطان ابن آدم‬
‫) ( أخرجه أمحد يف الزهد (‪.) 465‬‬
‫) ( البخاري ( ‪ ) 06/‬يف صفة الصالة‪ :‬باب السجود على األنف يف الطني‪ :‬وباب‬
‫من مل ميسح جبهته وأنفه حىت صلى ومسلم (‪ ) 67‬يف الصيام‪ :‬باب فضل ليلة‬
‫القدر‪ ،‬وأبو داود (‪ )410‬يف الصالة‪ :‬باب السجود على األنف واجلبهة ( ‪)1‬‬
‫باب السجود على األنف والنسائي ( ‪ ) 41 ، 44/‬يف االفتتاح باب السجود‬
‫على اجلبني‪.‬‬
‫‪6‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫ويقول‪ :‬يا ويله أمر ابن آدم بالسجود‪ ،‬فسجد‪ ،‬فله اجلنة‪ ،‬وأمرت‬
‫بالسجود فعصيت فلي النار( )‪.‬‬
‫سجدا عند مساع‬ ‫ً‬ ‫ولذلك أثىن اهلل سبحانه على الذين ُيرون‬
‫ساجدا عنده؛ ولذلك كان قول من أوجبه‬ ‫ً‬ ‫كالمه‪ ،‬وذم من ال يقع‬
‫قويًا يف الدليل وملا علمت السحرة صدق موسى وكذب فرعون‪ ،‬خروا‬
‫سجدا لرهبم‪ ،‬فكانت تلك السجدة أول سعادَّتم وغفران ما أفنوا فيه‬ ‫ً‬
‫أعمارهم من السحر؛ ولذلك أخرب سبحانه عن سجود مجيع‬
‫ات َوَما فِي‬ ‫سماو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫املخلوقات له فقال تعاىل‪َ  :‬وللَه يَ ْس ُج ُد َما في ال َ َ َ‬
‫ض ِم ْن َدابٍَة َوال َْم َالئِ َكةُ َو ُه ْم َال يَ ْستَ ْكبِ ُرو َن * يَ َخافُو َن َربَـ ُه ْم ِم ْن‬ ‫ْاأل َْر ِ‬
‫فَـ ْوقِ ِه ْم َويَـ ْف َعلُو َن َما يُـ ْؤَم ُرو َن‪[ ‬النحل‪ ]54 ،01 :‬فأخرب عن إمياهنم‬
‫تعظيما وإجالالً وقال تعاىل‪:‬‬ ‫ً‬ ‫بعلوه وفوقيته وخضوعهم له بالسجود‬
‫ض‬‫ات َوَم ْن فِي ْاأل َْر ِ‬ ‫سماو ِ‬ ‫ِ‬
‫‪‬أَلَ ْم تَـ َر أَ َن اللَهَ يَ ْس ُج ُد لَهُ َم ْن في ال َ َ َ‬
‫اب َوَكثِ ٌير ِم َن‬ ‫ش َج ُر َوال َد َو ُ‬‫ال َوال َ‬ ‫ْجبَ ُ‬‫شمس والْ َقمر والنُجوم وال ِ‬
‫َوال َ ْ ُ َ َ ُ َ ُ ُ َ‬
‫اب َوَم ْن يُِه ِن اللَهُ فَ َما لَهُ ِم ْن ُم ْك ِرٍم إِ َن‬ ‫ِ‬ ‫الن ِ ِ‬
‫َاس َوَكث ٌير َح َق َعلَْيه ال َْع َذ ُ‬
‫شاءُ‪[ ‬احلج‪.] 4 :‬‬ ‫اللَهَ يَـ ْف َع ُل َما يَ َ‬
‫فالذي حق عليه العذاب هو الذي ال يسجد له سبحانه‪ ،‬وهو‬
‫الذي أهانه برتك السجود له‪ ،‬وأخرب أنه ال مكرم له‪ ،‬وقد هان على‬
‫سماو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ات‬ ‫ربه حيث مل يسجد له وقال تعاىل‪َ  :‬وللَه يَ ْس ُج ُد َم ْن في ال َ َ َ‬
‫َص ِ‬ ‫ِ‬
‫ال *‪[ ‬الرعد‪.] 5 :‬‬ ‫ض طَْو ًعا َوَك ْرًها َوظ َاللُ ُه ْم بِالْغُ ُد ِو َو ْاْل َ‬ ‫َو ْاأل َْر ِ‬

‫) ( مسلم ( ‪ )4‬يف اإلميان‪ :‬باب بيان إ طالق اسم الكفر على من ترك الصالة‪.‬‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪60‬‬

‫تكرار السجود‬
‫وملا كانت العبودية غاية كمال اإلنسان وقربه من اهلل حبسَب‬
‫نصيبه من عبوديته‪ ،‬وكانت الصالة جامعة ملتفرق العبودية‪ ،‬متضمنة‬
‫ألقسامها كانت أفضل أعمال العبد‪ ،‬ومنزلتها من اإلسالم مبنزلة عمود‬
‫الفسطاط منه وكان السجود أفضل أركاهنا الفعلية‪ ،‬وسرها اليت شرعت‬
‫ألجله‪ ،‬وكان تكرره يف الصالة أكثر من تكرر سائر األركان‪ ،‬وجعله‬
‫خامتة الركعة وغايتها‪ ،‬وشرع فعله بعد الركوع‪ ،‬فإن الركوع توطئه له‬
‫ومقدمة بني يديه‪ ،‬وشرع فيه من الثناء على اهلل ما يناسبه‪ ،‬وهو قول‬
‫العبد‪« :‬سبحان ريب األعلى» فهذا أفضل ما يقال فيه‪ ،‬ومل يرد عن‬
‫النيب ‪ ‬أمره يف السجود بغريه حيث قال‪« :‬اجعلوها في‬
‫( )‬
‫عمدا فصالته باطلة عند كثري من العلماء‪،‬‬ ‫سجودكم» ومن تركه ً‬
‫منهم اإلمام أمحد وغريه؛ ألنه مل يفعل ما أمر به‪ ،‬وكان وصف الرب‬
‫بالعلو يف هذه احلال يف غاية املناسبة حلال الساجد الذي قد احنط إىل‬
‫السفل على وجهه‪ ،‬فذكر علو ربه يف حال سقوطه‪ ،‬وهو كما ذكر‬
‫عظمته يف حال خضوعه يف ركوعه‪ ،‬ونزه ربه عما ال يليق به مما يضاد‬
‫عظمته وعلوه‪.‬‬
‫الجلوس بين السجدتين‬
‫مث ملا شرع السجود بوصف التكرار‪ ،‬مل يكن بد من الفصل بني‬

‫) ( أبو داود (‪ )461‬وابن ماجه (‪ )447‬والدارمي ( ‪ ) 11/‬وهو حديث حسن‪.‬‬


‫‪65‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫السجدتني‪ ،‬ففصل بينهما بركن مقصود‪ ،‬شرع فيه من الدعاء ما يليق‬


‫به‪ ،‬ويناسبه‪ ،‬وهو سؤال العبد املغفرة والرمحة واهلداية والعافية‬
‫والرزق( )‪ ،‬ودفع شر الدنيا واآلخرة‪ ،‬فالرمحة ُحتصل اخلري‪ ،‬واملغفرة تقي‬
‫الشر واهلداية توصل إىل هذا وهذا‪ ،‬والرزق إعطاء ما به قوام البدن من‬
‫الطعام والشراب‪ ،‬وما به قوام الروح والقلَب من العلم واإلميان‪ ،‬وجعل‬
‫جلوس الفصل حمالً هلذا الدعاء ملا تقدمه من رمحة اهلل والثناء عليه‬
‫واخلضوع له‪ ،‬فكان هذا وسيلة للداعي ومقدمة بني يدي حاجته‪.‬‬
‫فهذا الركن مقصود الدعاء فيه فهو ركن وضع للرغبة وطلَب‬
‫العفو واملغفرة والرمحة‪ ،‬فإن العبد ملا أتى بالقيام واحلمد والثناء واجملد‪،‬‬
‫مث أتى باخلضوع وتنزيه الرب وتعظيمه‪ ،‬مث عاد إىل احلمد والثناء‪ ،‬مث‬
‫كمل ذلك بغاية التذلل واخلضوع واالستكانة‪ ،‬بقي سؤال حاجته‬
‫واعتذاره وتنصله فشرع له أن يتمثل يف اخلدمة فيقعد فعل العبد الذليل‬
‫معتذرا‬
‫جاثيًا على ركبتيه كهيئة امللقي نفسه بني يدي سيده راغبًا راهبًا ً‬
‫إليه مستعديًا إليه على نفسه األمارة بالسوء مث شرع له تكرير هذه‬
‫العبودية مرة بعد مرة إىل إمتام األربع‪ ،‬كما شرع له تكرير الذكر مرة‬
‫بعد مرة ألنه أبلغ يف حصول املقصود‪ ،‬وأدعى إىل االستكانة‬
‫واخلضوع‪.‬‬

‫) ( هذه إشارة إىل ما رواه أبو داود (‪ )454‬يف الصالة‪ :‬باب الدعاء بني السجدتني‪،‬‬
‫والرتمذي (‪ ) 40‬يف الصالة‪ :‬باب ما يقول بني السجدتني‪ :‬وابن ماجه (‪ )414‬يف‬
‫إقامة الصالة‪ :‬باب ما يقول بني السجدتني‪ ،‬وحسن إسناده النووي يف «األذكار»‪.‬‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪66‬‬

‫جلسة التشهد‬
‫فلما أكمل ركوع الصالة وسجودها وقراءَّتا وتسبيحها وتكبريها‪،‬‬
‫شرع له أن جيلس يف آخر صالته جلسة املتخشع املتذلل املستكني‬
‫جاثيًا على ركبتيه‪ ،‬ويأيت يف هذه اجللسة بأكمل التحيات وأفضلها‬
‫عوضا عن حتية املخلوق للمخلوق‪ ،‬إذا واجهه‪ ،‬أو دخل عليه‪ ،‬فإن‬ ‫ً‬
‫الناس حييون ملوكهم وأكابرهم بأنواع التحيات اليت حييون هبا قلوهبم‪،‬‬
‫صباحا‪ ،‬وبعضهم يقول‪ :‬لك البقاء والنعمة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫فبعضهم يقول‪ :‬أنعم‬
‫وبعضهم يقول‪ :‬أطال اهلل بقاءك‪ ،‬وبعضهم يقول‪ :‬تعش ألف عام‪،‬‬
‫وبعضهم يسجد للملوك‪ ،‬وبعضهم يسلم فتحياَّتم بينهم تتضمن ما‬
‫حيبه احمليا من األقوال واألفعال‪ ،‬واملشركون حييون أصنامهم‪.‬‬
‫قال احلسن‪ :‬كان أهل اجلاهلية يتمسحون بأصنامهم ويقولون‪:‬‬
‫لك احلياة الدائمة‪ ،‬فلما جاء اإلسالم أ ُِم ُروا أن جيعلوا أطيَب تلك‬
‫التحيات وأزكاها وأفضلها اهلل‪.‬‬
‫‪67‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫التحيات‬
‫فالتحية هي حتية من العبد للحي الذي ال ميوت‪ ،‬وهو سبحانه‬
‫أوىل بتلك التحيات من كل ما سواه‪ ،‬فإهنا تتضمن احلياة والبقاء‬
‫أح ٌد هذه التحيات إال احلي الباقي الذي ال‬ ‫والدوام‪ ،‬وال يستحق َ‬
‫ميوت وال يزول ملكه‪ ،‬وكذلك قوله‪« :‬والصلوات» فإنه ال يستحق‬
‫أحد الصالة إال اهلل عز وجل والصالة لغريه من أعظم الكفر والشرك‬
‫به‪ ،‬وكذلك قوله‪« :‬والطيبات» فهي صفة املوصوف احملذوف أي‪:‬‬
‫الطيبات من الكلمات واألفعال والصفات‪ ،‬واألمساء هلل وحده‪ ،‬فهو‬
‫طيَب‪ ،‬وأفعاله طيبة‪ ،‬وصفاته أطيَب شيء وأمساؤه أطيَب األمساء‪،‬‬
‫وامسه الطيَب‪ ،‬ال يصدر عنه إال طيَب‪ ،‬وال يصعد إليه إال طيَب‪ ،‬وال‬
‫يقرب منه إال طيَب‪ ،‬فكله طيَب‪ ،‬وإليه يصعد الكلم الطيَب‪ ،‬وفعله‬
‫طيَب‪ ،‬والعمل الطيَب يعرج إليه فالطيبات كلها له ومضافة إليه‬
‫طيّب ال يقبل إال‬
‫صادرة عنه ومنتهية إليه‪ .‬قال النيب ‪« :‬إن اهلل ٌ‬
‫طيبًا»( ) ويف حديث ُرقية املريض الذي رواه أبو داود وغريه «أنت‬
‫رب الطيبين»( ) وال جياوره من عباده إال الطيبون كما يقال ألهل‬ ‫ُ‬
‫ين‪[ ‬الزمر‪ ]7 :‬وقد‬ ‫اجلنة ‪‬س َالم َعلَي ُكم ِطبتُم فَا ْد ُخلُ َ ِ ِ‬
‫وها َخالد َ‬ ‫َ ٌ ْ ْ ْْ‬
‫حكم سبحانه شرعه وقدره أن الطيبات للطيبني‪ ،‬فإذا كان هو‬
‫سبحانه الطيَب على اإلطالق فالكلمات الطيبات‪ ،‬واألفعال‬
‫الطيبات‪ ،‬والصفات الطيبات‪ ،‬واألمساء الطيبات كلها له سبحانه‪ ،‬ال‬
‫) ( مسلم (‪ ) 4 5‬يف الزكاة‪ :‬باب قبول الصدقة من الكسَب الطيَب وتربيتها‪.‬‬
‫) ( أبو داود ( ‪ ) 41‬يف الطَب‪ :‬باب كيف الرقي وأمحد (‪.) /6‬‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪64‬‬

‫يستحقها أحد سواه‪ ،‬بل ما طاب شيء قط إال بطيبته سبحانه‪،‬‬


‫فطيَب كل ما سواه من آثار طيبته‪ ،‬وال تصلح هذه التحية الطيبة إال‬
‫له‪.‬‬
‫السالم على النبي ‪ ‬وعلى عباد اهلل الصالحين‬
‫وملا كان السالم من أنواع التحية‪ ،‬وكان املسلم داعيًا ملن حيييه‪،‬‬
‫وكان اهلل سبحانه هو الذي يطلَب منه السالم لعباده الذين اختصهم‬
‫بعبوديته‪ ،‬وارتضاهم لنفسه‪ ،‬وشرع أن يبدأ بأكرمهم عليه‪ ،‬وأحبهم‬
‫إليه‪ ،‬وأقرهبم منه منزلة يف هذه التحية بالشهادتني اللتني مها مفتاح‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫فشرع أن يكون خامتة الصالة‪ ،‬فدخل فيها بالتكبرية واحلمد‬
‫والثناء والتمجيد وتوحيد الربوبية واإلهلية‪ ،‬وختمها بشهادة أن ال إله‬
‫مدا عبده ورسوله‪ ،‬وشرعت هذه التحية يف وسط‬ ‫إال اهلل‪ ،‬وأن حم ً‬
‫تشبيها هلا جبلسة الفصل بني‬
‫ً‬ ‫الصالة إذا زادت على ركعتني‬
‫السجدتني‪ ،‬وفيها مع الفصل راحة للمصلي الستقباله الركعتني‬
‫اآلخرتني بنشاط وقوة خبالف ما إذا واىل بني الركعات‪ ،‬وهلذا كان‬
‫األفضل يف النفل مثىن مثىن‪ ،‬وإن تطوع بأربع جلس يف وسطهن‪.‬‬
‫الصالة على النبي ‪‬‬
‫وجعلت كلمات التحيات يف آخر الصالة مبنزلة خطبة احلاجة‬
‫أمامها‪ ،‬فإن املصلي إذا فرغ من صالته‪ ،‬جلس جلسة الراغَب الراهَب‬
‫يستعطي من ربه ما ال غىن به عنه‪ ،‬فشرع له أمام استعطائه كلمات‬
‫‪61‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫التحيات مقدمة بني يدي سؤاله‪ ،‬مث يتبعها بالصالة على من نالت‬
‫أمته هذه النعمة على يده وسعادته‪ ،‬مث يتبعها بالصالة على من نالت‬
‫أمته هذه النعمة على يده وسعادته‪ ،‬فكأن املصلي توسل إىل اهلل‬
‫سبحانه بعبوديته‪ ،‬مث بالثناء عليه والشهادة له بالوحدانية‪ ،‬ولرسوله‬
‫بالرسالة‪ ،‬مث الصالة على رسوله‪ ،‬مث قيل له‪ :‬ختري من الدعاء أحبه‬
‫إليك‪ ،‬فذاك احلق الذي عليك‪ ،‬وهذا احلق الذي لك‪ ،‬وشرعت‬
‫الصالة على آله مع الصالة عليه تكميالً لقرة عينه بإكرام آله و‬
‫الصالة عليهم‪ ،‬وأن يصلي عليه وعلى آله كما صلى على أبيه إبراهيم‬
‫وآله‪.‬‬
‫واألنبياء كلهم بعد إبراهيم من آله؛ لذلك كان املطلوب للرسول‬
‫‪ ‬صالة مثل الصالة على إبراهيم‪ ،‬وعلى مجيع األنبياء بعده وآله‬
‫املؤمنني‪ ،‬فلهذا كانت هذه الصالة أكمل ما يصلي على رسول اهلل‬
‫‪ ‬هبا وأفضل‪.‬‬
‫االستعاذة من مجامع الشر‬
‫فإذا أتى هبا املصلي أمر أن يستعيذ باهلل من جمامع الشر كله‪،‬‬
‫فإن الشر إما عذاب اآلخرة وإما سببه فليس الشر إال العذاب‬
‫وأسبابه‪ ،‬والعذاب نوعان‪ :‬عذاب يف الربزخ وعذاب يف اآلخرة‪،‬‬
‫وأسبابه‪ :‬الفتنة‪ ،‬وهي نوعان كربى وصغرى‪ ،‬فالكربى فتنة الدجال‬
‫وفتنة املمات‪ ،‬والصغرى فتنة احلياة اليت ميكن تداركها بالتوبة خبالف‬
‫فتنة املمات وفتنة الدجال‪ ،‬فإن املفتون فيهما ال يتداركها‪.‬‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪74‬‬

‫الدعاء قبل السالم‬


‫مث شرع له من الدعاء ما ُيتاره من مصاحل دنياه وآخرته والدعاء‬
‫يف هذا احملل قبل السالم أفضل من الدعاء بعد السالم وأنفع للداعي‪،‬‬
‫وهكذا كانت عامة أدعية النيب ‪ ‬كلها‪ ،‬كانت يف الصالة من أوهلا‬
‫اعا من الدعاء‪ ،‬ويف الركوع‪،‬‬
‫إىل آخرها فكان يدعو يف االستفتاح أنو ً‬
‫وبعد رفع رأسه منه‪ ،‬ويف السجود وبني السجدتني ويف التشهد قبل‬
‫وعلم احلسن بن‬
‫التسليم‪ ،‬وعلم الصديق دعاءً يدعو به يف صالته‪َ ،‬‬
‫علي دعاءً يدعو به يف قنوت الوتر‪ ،‬وكان إذا دعا لقوم أو على قوم‬
‫جعله يف الصالة بعد الركوع ومن ذلك أن املصلي قبل سالمه يف حمل‬
‫املناجاة والقربة بني يدي ربه‪ ،‬فسؤاله يف هذه احلال أقرب إىل اإلجابة‬
‫من سؤاله بعد انصرافه من بني يديه‪.‬‬
‫وقد سئل النيب ‪ ‬أي الدعاء أمسع؟ فقال‪« :‬جوف الليل وأدبار‬
‫الصلوات المكتوبة»( ) ودبر الصالة جزؤها األخري كدبر احليوان‬
‫ودبر احلائط‪ ،‬وقد يراد بدبرها ما بعد انقضائها بقرينة تدل عليه‬
‫كقوله‪« :‬يُسبحون اهلل ويحمدونه ويكبرونه دبر كل صالة ثالثًا‬
‫وثالثين» فهنا دبرها بعد الفراغ منها‪ ،‬وهذا نظري انقضاء األجل‪ ،‬فإنه‬
‫يراد به‪ ،‬وملا يفرغ‪ ،‬ويراد به فراغها وانتهاؤها‪.‬‬
‫مث ختمت بالتسليم‪ ،‬وجعل حتليالً هلا ُيرج به املصلي منها كما‬
‫ُيرج بتحليل احلج منه‪ ،‬وجعل هذا التحليل دعاء اإلمام ملن وراءه‬

‫) ( الرتمذي (‪ ) 010‬يف الدعوات‪ :‬باب (‪ )44‬وحسنه‪.‬‬


‫‪7‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫بالسالمة اليت هي أصل اخلري وأساسه‪ ،‬فشرع ملن وراءه أن يتحلل مبثل‬
‫ما حتلل به اإلمام‪.‬‬
‫ويف ذلك دعاء له وللمصلني معه بالسالم‪ ،‬مث شرع ذلك لكل‬
‫منفردا فال أحسن من هذا التحليل للصالة كما أنه‬‫مصل‪ ،‬وإن كان ً‬
‫ال أحسن من كون التكبري حترميًا هلا‪ ،‬فتحرميها تكبري الرب تعاىل‬
‫اجلامع إلثبات كل كماله له‪ ،‬وتنزيهه عن كل نقص وعيَب‪ ،‬وإفراده‬
‫وختصيصه بذلك وتعظيمه وإجالله‪ ،‬فالتكبري يتضمن تفاصيل أفعال‬
‫الصالة وأقواهلا وهيئاَّتا‪.‬‬
‫فالصالة من أوهلا إىل آخرها تفصيل ملضمون‪« :‬اهلل أكرب» وأي‬
‫حترمي أحسن من هذا التحرمي املتضمن لإلخالص والتوحيد؟ وهذا‬
‫التحليل املتضمن اإلحسان إىل إخوانه املؤمنني‪ .‬فافتتحت‬
‫باإلخالص‪ ،‬وختمت باإلحسان أ‪.‬هـ‪.‬‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪7‬‬

‫الرسالة الثالثة‪:‬‬

‫قال ابن القيم‬


‫‪7‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫فالصالة قرة عيون احملبني يف هذه الدنيا ملا فيها من مناجاة من ال‬
‫تقر العيون وال تطمئن القلوب وال تسكن النفوس إال إليه‪ ،‬والتنعم‬
‫بذكره والتذلل واخلضوع له والقرب منه‪ ،‬وال سيما يف حال السجود‪،‬‬
‫وتلك احلال أقرب ما يكون العبد من ربه فيها‪.‬‬
‫ومن هذا قول النيب ‪« :‬يا بالل أرحنا بالصالة»( ) فأعلم‬
‫بذلك أن راحته يف الصالة‪ ،‬كما أخرب أن قرة عينه فيها‪ .‬فأين هذا من‬
‫قول القائل نصلي ونسرتيح من الصالة‪.‬‬
‫فاحملَب راحته وقرة عينه يف الصالة‪ ،‬والغافل املعرض ليس له‬
‫نصيَب من ذلك‪ ،‬بل الصالة كبرية شاقة عليه‪ ،‬إذا قام فيها كأنه على‬
‫اجلمر‪ ،‬حىت يتخلص منها‪ ،‬وأحَب الصالة إليه أعجلها وأسرعها‪ ،‬فإنه‬
‫ليس له قرة عني فيها‪ ،‬وال لقلبه راحة هبا‪ ،‬والعبد إذا قرت عينه بشيء‬
‫واسرتاح قلبه به فأشق ما عليه مفارقته‪ ،‬واملتكلف الفارغ القلَب من‬
‫اهلل والدار اآلخرة املبتلى مبحبة الدنيا أشق ما عليه الصالة وأكره ما‬
‫إليه طوهلا مع تفرغه وصحته وعدم اشتغاله‪.‬‬
‫ومما ينبغي أن يعلم أن الصالة اليت تقر هبا العني ويسرتيح هبا‬
‫القلَب هي اليت جتمع ستة مشاهد‪:‬‬
‫المشهد األول‪ :‬اإلخالص‪:‬‬
‫وهو أن يكون احلامل عليها والداعي إليها رغبة العبد يف اهلل‬

‫) ( أخرجه أمحد (‪ ،) 60/5‬وأبو داود (‪.)0145‬‬


‫ذوق الصــالة‬ ‫‪70‬‬

‫وحمبته له‪ ،‬وطلَب مرضاته والقرب منه‪ ،‬والتودد إليه‪ ،‬وامتثال أمره‬
‫حبيث ال يكون الباعث له عليها حظًا من حظوظ الدنيا ألبتة‪ ،‬بل‬
‫يأيت هبا ابتغاء وجه ربه األعلى‪ ،‬حمبة له وخوفًا من عذابه ورجاء ملغفرته‬
‫وثوابه‪.‬‬
‫المشهد الثاني‪ :‬مشهد الصدق والنصح‪:‬‬
‫وهو أن يفرغ قلبه هلل فيها‪ ،‬ويستفرغ جهده يف إقباله فيها على‬
‫ظاهرا‬
‫اهلل‪ ،‬ومجع قلبه عليها‪ ،‬وإيقاعها على أحسن الوجوه وأكملها ً‬
‫وباطنًا فإن الصالة هلا ظاهر وباطن فظاهرها‪ :‬األفعال املشاهدة‬
‫واألقوال املسموعة‪ ،‬وباطنها‪ :‬اخلشوع واملراقبة‪ ،‬وتفريغ القلَب هلل‪،‬‬
‫واإلقبال بكليته على اهلل فيها‪ ،‬حبيث ال يلتفت قلبه عنه إىل غريه‪،‬‬
‫فهذا مبنزلة الروح هلا‪ ،‬واألفعال مبنزلة البدن‪ ،‬فإذا خلت من الروح‬
‫كانت كبدن ال روح فيه‪.‬‬
‫أفال يستحي العبد أن يواجه سيده مبثل ذلك‪ ،‬وهلذا تُلف بالثوب‬
‫اخللق ويضرب هبا وجه صاحبها‪ ،‬وتقول‪ :‬ضيعك اهلل كما ضيعتين‪،‬‬
‫والصالة اليت كمل ظاهرها وباطنها تصعد وهلا نور وبرهان كنور‬
‫الشمس حىت تعرض على اهلل‪ ،‬فريضاها ويقبلها وتقول‪ :‬حفظك اهلل‬
‫كما حفظتين( )‪.‬‬
‫المشهد الثالث‪ :‬مشهد المتابعة واالقتداء‪:‬‬
‫وهو أن حيرص كل احلرص على االقتداء يف صالته بالنيب ‪‬‬
‫) ( ورد هذا املعىن من حديث أنس بن مالك وعبادة بن الصامت‪ ،‬بأسانيد ضعيفة عند‬
‫الطرباين وغريه‪.‬‬
‫‪75‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫ويصلي كما كان يصلي ويعرض عما أحدث الناس يف الصالة من‬
‫الزيادة والنقصان واألوضاع اليت مل ينقل عن رسول اهلل ‪ ‬شيء منها‬
‫وال عن أحد من أصحابه‪ ،‬وال يقف عند أقوال املرخصني الذين‬
‫يقفون مع أقل ما يعتقدون وجوبه‪ ،‬ويكون غريهم قد نازعهم يف ذلك‬
‫وأوجَب ما أسقطوه‪ .‬ولعل األحاديث الثابتة والسنة النبوية من جانبه‪،‬‬
‫وال يلتفتون إىل ذلك ويقولون‪ :‬حنن مقلدون ملذهَب فالن‪ ،‬وهذا ال‬
‫عذرا ملن ختلف عما علمه من السنة عنده‪،‬‬ ‫ُيلص عند اهلل وال يكون ً‬
‫فإن اهلل سبحانه إمنا أمر بطاعة رسوله ‪ ‬واتباعه وحده‪ ،‬ومل يأمر‬
‫باتباع غريه‪ ،‬وإمنا يطاع غريه إذا أمر مبا أمر به الرسول ‪ ‬وكل أحد‬
‫سوى الرسول ‪ ‬فمأخوذ من قوله ومرتوك‪.‬‬
‫المشهد الرابع‪ :‬مشهد اإلحسان‪:‬‬
‫وهو مشهد املراقبة وهو أن يعبد اهلل كأنه يراه‪ ،‬وهذا املشهد إمنا‬
‫ينشأ من كمال اإلميان باهلل وأمسائه وصفاته‪ ،‬حىت كأنه يرى اهلل‬
‫سبحانه فوق مسواته مستويات على عرشه‪ ،‬يتكلم بأمره وهنيه‪ ،‬ويدبر‬
‫أمر اخلليقة فينزل األمر من عنده ويصعد إليه‪ ،‬وتعرض أعمال العباد‬
‫وأرواحهم عند املوافاة عليه‪ ،‬فيشهد ذلك كله بقلبه ويشهد أمساءه‬
‫آمرا ناهيًا حيَب‬
‫حكيما ً‬
‫ً‬ ‫بصريا عز ًيزا‬
‫مسيعا ً‬
‫قيوما حيًا ً‬
‫وصفاته‪ ،‬ويشهد ً‬
‫ويبغض ويرضى ويغضَب ويفعل ما يشاء وحيكم ما يريد‪ ،‬وهو فوق‬
‫عرشه ال ُيفى عليه شيء من أعمال العباد وال أقواهلم وال بواطنهم‬
‫بل يعلم خائنة األعني وما ختفي الصدور‪.‬‬
‫ومشهد اإلحسان أصل أعمال القلوب كلها‪ ،‬فإنه يوجَب احلياء‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪76‬‬

‫واإلجالل والتعظيم واخلشية واحملبة و اإلنابة والتوكل واخلضوع هلل‬


‫سبحانه والذل له ويقطع الوساوس وحديث النفس وجيمع القلَب‬
‫واهلم على اهلل‪ ،‬فحظ العبد من القرب من اهلل على قدر حظه من‬
‫مقام اإلحسان‪ ،‬وحبسبه تتفاوت الصالة حىت يكون بني صالة‬
‫الرجلني من الفضل كما بني السماء واألرض وقيامهما وركوعهما‬
‫وسجودمها واحد‪.‬‬
‫المشهد الخامس‪ :‬مشهد المنة‪:‬‬
‫وهو أن يشهد أن املنة هلل سبحانه كونه أقامه يف هذا املقام وأهلهُ‬
‫له ووفقه لقيام قلبه وبدنه يف خدمته فلوال اهلل سبحانه مل يكن شيء‬
‫من ذلك كما كان الصحابة َْحي ُدون بني يدي النيب ‪ ‬فيقولون‪:‬‬
‫واهلل لـ ـ ـ ـ ــوال اهلل مـ ـ ـ ـ ــا اهتـ ـ ـ ـ ــدينا وال تص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدقنا وال ص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــلينا‬

‫ك أَ ْن أ ْ‬
‫َسلَ ُموا قُ ْل َال تَ ُمنُوا َعلَ َي‬ ‫قال اهلل تعاىل‪ :‬يَ ُمنُو َن َعلَْي َ‬
‫ين‬ ‫ان إِ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬ ‫إِ ْس َالم ُكم ب ِل اللَهُ يم ُن َعلَْي ُكم أَ ْن َه َدا ُكم لِ ِْْليم ِ‬
‫صادق َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َُ‬ ‫َ َْ‬
‫*‪[ ‬احلجرات‪.] 7 :‬‬
‫فاهلل سبحانه هو الذي جعل املسلم مسل ًما واملصلي مصليًا كما‬
‫ك َوِم ْن ذُ ِريَتِنَا أَُمةً ُم ْسلِ َم ًة‬
‫اج َعلْنَا ُم ْسلِ َم ْي ِن لَ َ‬
‫قال اخلليل‪َ  :‬ربَـنَا َو ْ‬
‫ص َالةِ َوِم ْن‬‫يم ال َ‬ ‫ِ ِ‬
‫اج َعلْني ُمق َ‬ ‫ب ْ‬ ‫ك‪[ ‬البقرة‪ ] 4 :‬وقال ‪َ ‬ر ِ‬ ‫لَ َ‬
‫ذُ ِريَتِي‪[ ‬إبراهيم‪.]04 :‬‬
‫قائما بطاعته‪ ،‬وكان هذا من‬ ‫فاملنة هلل وحده يف أن جعل عبده ً‬
‫أعظم نعمه عليه وقال تعاىل‪َ  :‬وَما بِ ُك ْم ِم ْن نِ ْع َم ٍة فَ ِم َن اللَ ِه‪‬‬
‫يما َن َوَزيَـنَهُ فِي‬ ‫ّب إِلَْي ُك ُم ِْ‬
‫اإل َ‬
‫ِ‬
‫[النحل‪ ]5 :‬وقال‪َ  :‬ولَك َن اللَهَ َحبَ َ‬
‫‪77‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫ك ُه ُم‬ ‫سو َق َوال ِْع ْ‬


‫صيَا َن أُولَئِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قُـلُوب ُك ْم َوَك َرَه إلَْي ُك ُم الْ ُك ْف َر َوالْ ُف ُ‬
‫اش ُدو َن‪[ ‬احلجرات‪.]7 :‬‬ ‫ال َر ِ‬
‫وهذا املشهد من أعظم املشاهد وأنفعها للعبد‪ ،‬وكلما كان العبد‬
‫توحيدا كان حظه من هذا املشهد أمت وفيه من الفوائد‪:‬‬
‫أعظم ً‬
‫‪ -‬أن حيول بني القلَب وبني العجَب بالعمل ورؤيته فإنه إذا‬
‫شهد أن اهلل سبحانه هو املان به املوفق له اهلادي إليه شغله شهود‬
‫ذلك عن رؤيته واإلعجاب به وأن يصول به على الناس فريفع من قلبه‬
‫فال يعجَب به‪ ،‬ومن لسانه فال مين به وال يتكثر به‪ ،‬وهذا شأن العمل‬
‫املرفوع‪.‬‬
‫‪ -‬ومن فوائده أنه يضيف احلمد إىل وليه ومستحقه فال يشهد‬
‫محدا بل يشهده كله هلل كما يشهد النعمة كلها منه والفضل‬
‫لنفسه ً‬
‫كله له واخلري كله يف يديه‪.‬‬
‫وهذه من متام التوحيد‪ ،‬فال يستقر قدمه يف مقام التوحيد‪ ،‬إال‬
‫مشهدا وإذا صار‬ ‫ً‬ ‫بعلم ذلك وشهوده فإذا علمه ورسخ فيه صار له‬
‫مشهدا أمثر له من احملبة واألنس باهلل والشوق إىل لقائه والتنعم‬ ‫ً‬ ‫لقلبه‬
‫بذكره وطاعته ما ال نسبة بينه وبني أعلى نعيم الدنيا ألبتة‪ ،‬وما للمرء‬
‫مصدودا وطريق الوصول إليه عنه‬ ‫ً‬ ‫خري يف حياته إذا كان قلبه عن هذا‬
‫مسدودا‪ ،‬بل هو كما قال تعاىل‪ :‬ذَ ْرُه ْم يَأْ ُكلُوا َويَـتَ َمتـَعُوا َويُـ ْل ِه ِه ُم‬ ‫ً‬
‫ف يَـ ْعلَ ُمو َن‪[ ‬احلجر‪.] :‬‬
‫س ْو َ‬
‫ْاأل ََم ُل فَ َ‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪74‬‬

‫المشهد السادس‪ :‬مشهد التقصير‪:‬‬


‫وأن العبد لو اج تهد يف القيام باألمر غاية االجتهاد وبذل‬
‫وسعه فهو مقصر وحق اهلل سبحانه عليه أعظم والذي ينبغي له‬
‫أن يقابل به من الطاعة والعبودية واخلدمة فوق ذلك بكثري‪ ،‬وأن‬
‫عظمته وجالله سبحانه يقتضي من العبودية ما يليق هبا‪ ،‬وإذا كان‬
‫خدم امللوك وعبيدهم يعاملوهنم يف خدمتهم باإلجالل هلم‬
‫والتعظيم واالحرتام والتوقري واحلياء واملهابة واخلشية والنصح حبيث‬
‫يفرغون قلوهبم وجوارحهم هلم‪ ،‬فمالك امللوك ورب السموات‬
‫واألرض أوىل أن يعامل بذلك بل بأضعاف ذلك‪ ،‬وإذا شهد العبد‬
‫من نفسه أنه مل يوف ربه يف عبوديته حقه وال قريبًا من حقه علم‬
‫تقصريه ومل ي سعه مع ذلك غري االستغفار واالعتذار من تقصريه‬
‫وتفريطه وعدم القيام مبا ينبغي له من حقه وأنه إىل أن يغفر له‬
‫العبودية ويعفو عنه فيها‪ ،‬أحوج منه إىل أن يطلَب منه عليها ثوابًا‬
‫وهو لو وفاها حقها كما ينبغي لكانت مستحقة عليه مبقتضى‬
‫العبودية‪ ،‬فإن عمل العبد وخدمته لسيد ه مستحق عليه حبكم كونه‬
‫عبده‪ ،‬ومملوكه فلو طلَب منه األجرة على عمله وخدمته لعده‬
‫الناس أمحق وأخرق‪.‬‬
‫هذا وليس هو عبده وال مملوكه على احلقيقة وهو عبد اهلل‬
‫ومملوكه على احلقيقة من كل وجه هلل سبحانه‪ ،‬فعمله وخدمته مستحق‬
‫عليه حبكم كونه عبده فإذا أثابه عليه كان ذلك جمرد فضل ومنة‬
‫وإحسان إليه ال يستحقه العبد عليه‪ ،‬ومن ههنا يفهم معىن قول النيب‬
‫‪71‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫‪« :‬لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» قالوا‪ :‬وال أنت يا رسول‬
‫اهلل؟ قال‪« :‬وال أنا إال أن يتغمدني اهلل برحمة منه وفضل»( )‪.‬‬

‫) ( متفق عليه من حديث عائشة وله شواهد أخرى‪.‬‬


‫ذوق الصــالة‬ ‫‪44‬‬

‫الفهرس‬
‫املقدمة ‪5 ......................... ................................‬‬
‫الرسالة األولى‬
‫الرسالة األوىل‪7 .................. ................................ :‬‬
‫حقيقة الصالة ‪4 ................... ................................‬‬
‫الصالة مأدبة وغيث ‪4 ............. ................................‬‬
‫الصدور من املأدبة ‪1 ............... ................................‬‬
‫جتديد الدعوة ‪1 .................... ................................‬‬
‫الغفلة قحط ‪1 ..................... ................................‬‬
‫عاقبة الغفلة ‪4 .................... ................................‬‬
‫يبوسة القلَب ‪4 ................... ................................‬‬
‫مطر القلَب ‪4 .................... ................................‬‬
‫استعمال اجلوارح ‪................ ................................‬‬
‫جوارح الطاعة ‪.................. ................................‬‬
‫جوارح املعصية ‪................. ................................‬‬
‫جوارح البطالة ‪.................. ................................‬‬
‫وافد امللك ‪..................... ................................‬‬
‫كرم امللك ‪0 ..................... ................................‬‬
‫سبَب القرب ‪5 ................... ................................‬‬
‫طهارة القدوم ‪5 ................... ................................‬‬
‫‪4‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫استقبال القبلة ‪6 .................. ................................‬‬


‫حقيقة التكبري ‪6 .................. ................................‬‬
‫دعاء االستفتاح ‪7 ................ ................................‬‬
‫االستعاذة باهلل ‪7 .................. ................................‬‬
‫القراءة ‪1 ......................... ................................‬‬
‫طعم الصالة ‪4 ................... ................................‬‬
‫احلمد هلل ‪4 ...................... ................................‬‬
‫رب العاملني ‪.................... ................................‬‬
‫الرمحن الرحيم ‪.................. ................................‬‬
‫مالك يوم الدين ‪................ ................................‬‬
‫إياك نعبد وإياك نستعني ‪......... ................................‬‬
‫اهدنا الصراط املستقيم ‪0 .......... ................................‬‬
‫أمور اهلداية ‪0 .................... ................................‬‬
‫الناس واهلداية ‪5 .................. ................................‬‬
‫مشروعية التأمني ‪6 ................ ................................‬‬
‫الركوع ‪6 ......................... ................................‬‬
‫االعتدال من الركوع ‪7 ............. ................................‬‬
‫السجدة األوىل ‪4 ................. ................................‬‬
‫سجود القلَب ‪1 .................. ................................‬‬
‫أمساء الصالة ‪4 ................... ................................‬‬
‫االعتدال من السجود ‪4 ........... ................................‬‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪4‬‬

‫اجللوس بني السجدتني وذوقه ‪....................................‬‬


‫مجاع اخلري ‪..................... ................................‬‬
‫السجدة الثانية ‪................. ................................‬‬
‫جلوس التشهد ‪................. ................................‬‬
‫التحيات هلل ‪.................... ................................‬‬
‫والصلوات ‪0 ...................... ................................‬‬
‫والطيبات ‪0 ...................... ................................‬‬
‫السالم على النيب ‪ ‬وعلى عباد اهلل الصاحلني ‪6 .....................‬‬
‫شهادة احلق ‪7 .................... ................................‬‬
‫انقضاء الصالة ‪4 ................. ................................‬‬
‫اإلقبال على اهلل ‪04 ................ ................................‬‬
‫تسليم النفس ‪0 ................... ................................‬‬
‫صورة الصالة ‪0 ................... ................................‬‬
‫قرة العني ‪0 ....................... ................................‬‬
‫راحة الصالة ‪00 ................... ................................‬‬
‫الرسالة الثانية‬
‫الرسالة الثانية ‪06 ................... ................................‬‬
‫ص َال َة ‪06 .............................. ‬‬
‫يموا ال َ‬‫ِ‬
‫عند قوله تعاىل‪َ  :‬وأَق ُ‬
‫إقامة الصالة ‪07 ................... ................................‬‬
‫أقسام املصلني ‪04 .................. ................................‬‬
‫قدر الصالة ‪04 .................... ................................‬‬
‫‪4‬‬ ‫ذوق الصــالة‬

‫استفتاح الصالة ‪01 ................ ................................‬‬


‫االستعاذة ‪5 ...................... ................................‬‬
‫احلمد هلل رب العاملني ‪5 ........... ................................‬‬
‫الرمحن الرحيم ‪5 .................. ................................‬‬
‫مالك يوم الدين ‪5 ................ ................................‬‬
‫إياك نعبد وإياك نستعني ‪50 ......... ................................‬‬
‫اهدنا الصراط املستقيم ‪55 .......... ................................‬‬
‫أمور اهلداية ‪55 .................... ................................‬‬
‫التأمني ‪56 ......................... ................................‬‬
‫الركوع ‪57 ......................... ................................‬‬
‫االعتدال من الركوع ‪54 ............. ................................‬‬
‫السجود ‪64 ....................... ................................‬‬
‫أصل اإلنسان ‪6 .................. ................................‬‬
‫سنن السجود ‪6 .................. ................................‬‬
‫تكرار السجود ‪60 .................. ................................‬‬
‫اجللوس بني السجدتني ‪60 .......... ................................‬‬
‫جلسة التشهد ‪66 .................. ................................‬‬
‫التحيات ‪67 ....................... ................................‬‬
‫السالم على النيب ‪ ‬وعلى عباد اهلل الصاحلني ‪64 .....................‬‬
‫الصالة على النيب ‪64 ........... ................................ ‬‬
‫االستعاذة من جمامع الشر ‪61 ........ ................................‬‬
‫ذوق الصــالة‬ ‫‪40‬‬

‫الدعاء قبل السالم ‪74 .............. ................................‬‬


‫الرسالة الثالثة‬
‫الرسالة الثالثة‪7 .................. ................................ :‬‬
‫الفهرس ‪44 ........................ ................................‬‬

You might also like