Professional Documents
Culture Documents
المقدمة
احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم على أشرف النبيني
كثريا وبعد:
تسليما ً
واملرسلني ،وعلى آله وصحبه وسلم ً
فهذا فصل نفيس يف جزء لطيف ،تكلم فيه ابن القيم اجلوزية رمحه
اهلل عن صفة الصالة يف مواضع من كتبه ،بطريقة مبتكرة ،مل يسبق إليها
َب الصالة وخمها ،وهو اخلشوع من التكبري فيما أعلم .حيث تكلَم عن لُ َ
إىل التسليم ،فأتى فيه بكل عجيَب ومفيد.
( )
أما الموضع األول :فذكره يف طيَات كتابه عن مسألة ال َسماع
جدا يف ذَوق الصالة».
وقال يف آخره« :فهذه إشارة ما ،ونبذة يسرية ً
والموضع الثاني :ففي كتابه عن الصالة وحكم تاركها( ) وملا كان
جدا
مغمورا بني تلك الصفحات ،كان من املفيد ً هذا الفصل على نفاسته ً
إفراده ليع َم نفعه املسلمني كافة ،معنونًا بكلمات تناسَب فقراته.
والموضع الثالث :يف رسالة له إىل أحد إخوانه.
وعن كلمة الذوق قال ابن تيمية رمحه اهلل« :فلفظ الذوق
) ( طبعه دار العاصمة بالرياض عام 041هـ بتحقيق راشد احلمد ،وقد أثبت أهم
تعليقاته على النص.
) ( طبعته مؤسسة الرسالة عام 045هـ بتحقيق تيسري زعيرت وقد أثبت أهم تعليقاته
على النص ،مع تصويَب ما يلزم بطبعة دار ابن كثري بتحقيق حممد نظام الدين.
ذوق الصــالة 6
الرسالة األولى:
حقيقة الصالة
ال ريَب أن الصالة قرة عيون احملبني ،ولذة أرواح املوحدين ،وحمك
أحوال الصادقني ،وميزان أحوال السالكني ،وهي رمحته املهداة إىل
عبيده هداهم إليها وعرفهم هبا رمحة هبم وإكر ًاما هلم؛ لينالوا هبا شرف
كرامته ،والفوز بقربه ،ال حاجة منه إليهم ،بل منه منًا وفضالً منه
مجيعا ،وجعل حظ القلَب منها عليهم ،وتعبد هبا القلَب واجلوارح ً
أكمل احلظني وأعظمهما وهو إقباله على ربه سبحانه وفرحه وتلذذه
بقربه وتنعمه حببه وابتهاجه بالقيام بني يديه وانصرافه حال القيام
بالعبودية عن االلتفات إىل غري معبوده ،وتكميل حقوق عبوديته حىت
تقع على الوجه الذي يرضاه.
الصالة مأدبة وغيث
وملا امتحن سبحانه عبده بالشهوات وأسباهبا من داخل فيه
وخارج عنه ،اقتضت متام رمحته به وإحسانه إليه أن هيَأ له مأدبة قد
مجعت من مجيع األلوان والتحف واخلِلَع والعطايا ،ودعاه إليه كل يوم
مخس مرات ،وجعل كل لون من ألوان تلك املأدبة لذة ومنفعة
ومصلحة هلذا العبد الذي قد دعاه إىل املأدبة ليست يف اللون اآلخر؛
لتكمل لذة عبده يف كل لون من ألوان العبودية ،ويكرمه بكل صنف
مكفرا
من أصناف الكرامة ،ويكون كل فعل من أفعال تلك العبودية ً
خاصا وقوة يف قلبه وجوارحه
نورا ًملذموم كان يكرهه بإزائه ،وليثبه عليه ً
خاصا يوم لقائه.
وثوابًا ً
1 ذوق الصــالة
الصدور من المأدبة
فيصدر املدعو من هذه املأدبة وقد أشبعه وأرواه َو َخلَ َع عليه خبلَع
القبول وأغناه؛ ألن القلَب كان قبل قد ناله من القحط واجلدب
واجلوع والظمأ والعُري والسقم ما ناله ،فأصدره من عنده وقد أغناه
عن الطعام والشراب واللباس والتحف ما يغنيه.
تجديد الدعوة
وملا كانت اجلدوب متتابعة ،وقحط النفوس متواليًا ،جدد له
الدعوة إىل هذه املأدبة وقتًا بعد وقت رمحة منه به ،فال يزال مستسقيًا
مستمطرا سحائَب رمحته؛ لئال ييبس
ً َم ْن بيده غيث القلوب وسقيها
ما أنبتته له تلك من كأل اإلميان وعشبه ومثاره ،ولئال تنقطع مادة
دائما يشكو إىل ربه
النبات والقلَب يف استسقاء واستمطار ،هكذا ً
جدبه وقحطه وضرورته إىل سقيا رمحته ،وغيث بره فهذا دأب العبد
أيام حياته.
الغفلة قحط
فإن الغفلة اليت تتنزل بالقلَب هي القحط واجلدب ،فما دام يف
ذكر اهلل واإلقبال عليه فغيث الرمحة واقع عليه كاملطر املتدارك ،فإذا
غفل ناله من القحط حبسَب غفلته قلة وكثرة ،فإذا متكنت الغفلة
واستحكمت صارت أرضه ميتة ،وسنته جرداء يابسة ،وحريق
الشهوات فيها من كل جانَب كالسمامي( ).
) ( السمامي :الريح احلارة .لسان العرب ( .) 40/
ذوق الصــالة 4
عاقبة الغفلة
وإذا تدارك عليه غيث الرمحة اهتزت أرضه وربت وأنبتت من كل
زوج هبيج ،فإذا ناله القحط واجلدب كان مبنزلة شجرة رطوبتها ولينها
ومثارها من املاء ،فإذا منعت من املاء يبست عروقها وذبلت أغصاهنا،
وحبست مثارها ورمبا يبست األغصان والشجرة ،فإذا مددت منها
غصنًا إىل نفسك مل ميتد ومل ينقد لك وانكسر فحينئذ تقتضي حكمة
وقودا للنار.
قيم البستان قطع تلك الشجرة وجعلها ً
يبوسة القلّب
فكذلك القلَب ،إمنا ييبس إذا خال من توحيد اهلل وحبه ومعرفته
وذكره ،ودعائه فتصيبه حرارة النفس ،ونار الشهوات فتمتنع أغصان
اجلوارح من االمتداد إذا مددَّتا واالنقياد إذا قدَّتا ،فال تصلح بعد
ص ْد َرهُ لِ ِْْل ْس َالِم فَـ ُه َو َعلَى
ح اللَهُ َ
هي والشجرة إال للنار :أَفَ َم ْن َش َر َ
ك فِي َ
ض َال ٍل اسيَ ِة قُـلُوبُـ ُه ْم ِم ْن ِذ ْك ِر اللَ ِه أُولَئِ َ
نُوٍر ِمن ربِِه فَـويل لِ ْل َق ِ
ْ َ َْ ٌ
ُمبِي ٍن[ الزمر.] :
مطر القلّب
ممطورا مبطر الرمحة كانت األغصان لينة منقادة
فإذا كان القلَب ً
رطبة ،فإذا مددَّتا إىل أمر اهلل انقادت معك ،وأقبلت سريعة لينة
وادعة ،فجنيت منها من مثار العبودية ما حيمله كل غصن من تلك
األغصان ومادَّتا من رطوبة القلَب وريه ،فاملادة تعمل عملها يف
ذوق الصــالة
جوارح الطاعة
أرضا واسعة وأُعني بآالت احلرث والبذار، فاألول :كرجل أُْقطع ً
ُعطي ما يكفيها لسقيها ،فحرثها وهيّأها للزراعة وبذر فيها من أنواع
وأ َ
الغالل ،وغرس فيها من أنواع الثمار والفواكه املختلفة األنواع ،مث مل
يهملها بل أقام عليها احلرس وحفظها من املفسدين وجعل يتعاهدها
كل يوم فيصلح ما فسد منها ،ويغرس عوض ما يبس وينفي دغلها
ويقطع شوكها ،ويستعني مبغلها على عمارَّتا.
جوارح المعصية
والثاين :مبنزلة رجل أخذ تلك األرض فجعلها مأوى للسباع
ومطرحا للجيف واألنتان ،وجعلها معقالً يأوي إليه كل مفسد
ً واهلوام
ومؤذ ولص ،وأخذ ما أعني به على بذارها وصالحها ،فصرفه معونة
ومعيشة ملن فيها من أهل الشر والفساد.
جوارح البطالة
ضائعا يف
والثالث :مبنزلة رجل عطلها وأمهلها وأرسل ذلك املاء ً
حمسورا.
ً مذموما
ً القفار والصحاري فقعد
فهذا مثال أهل الغفلة ،والذي قبله مثال أهل اخليانة واجلناية،
واألول مثال أهل اليقظة واالستعداد ملا خلقوا له.
فاألول :إذا حترك أو سكن أو قام أو قعد أو أكل أو شرب أو
ذوق الصــالة
نام أو لبس أو نطق أو سكت كان ذلك كله له ال عليه ،وكان يف
ذكر وطاعة وقربة ومزيد.
والثاين :إذا فعل ذلك كان عليه ال له ،وكان يف طرد وإبعاد
وخسران.
والثالث :إذا فعل ذلك كان يف غفلة وبطالة وتفريط.
فاألول يتقلَب فيما يتقلَب فيه حبكم الطاعة والقربة.
والثاين :يتقلَب يف ذلك حبكم اخليانة والتعدي ،فإن اهلل مل ميلكه
ما ملكه ليستعني به على خمالفته ،فهو جان متعد خائن هلل يف نعمه،
معاقَب على التنعم هبا يف غري طاعته.
والثالث :يتقلَب يف ذلك ويتناوله حبكم الغفلة وهبجة النفس
ني
وطبيعتها ،مل يبتغ بذلك رضوان اهلل والتقرب إليه ،فهذا خسران بَـ ن ٌ
إذ عطل أوقات عمره اليت ال قيمة هلا عن أفضل األرباح والتجارب.
فدعا اهلل سبحانه املوحدين إىل هذه الصلوات اخلمس رمحة منه
عليهم ،وهيأ هلم فيها أنواع العبادة؛ لينال العبد من كل قول وفعل
وحركة وسكون حظه من عطاياه.
وافد الملك
وكان ِسُر الصالة ولبها إقبال القلَب فيها على اهلل وحضوره
بكليته بني يديه فإذا مل يقبل عليه واشتغل بغريه َوَهلًا حبديث النفس،
مستمطرا
ً معتذرا من خطئه وزلِله،
كان مبنزلة وافد وفد إىل باب امللك ً
مستطعما له ما يقوت قلبه؛ ليقوى علىً لسحايَب جوده ورمحته،
ذوق الصــالة 0
القيام يف خدمته ،فلما وصل إىل الباب ومل يبق إال مناجاة امللك
التفت عن امللك وزاغ عنه ميينًا أو واله ظهره ،واشتغل عنه بأمقت
قدرا فآثره عليه وصريه قبلة قلبه ،وحمل
شيء إىل امللك وأقله عنده ً
توجهه ،وموضع سره ،وبعث غلمانه وخدمه ،ليقفوا يف طاعة امللك،
ويعتذروا عنه وينوبوا عنه يف اخلدمة ،وامللك شاهد ذلك ويرى حاله.
كرم الملك
ومع هذا فكرم امللك وجوده وسعة بره وإحسانه يأىب أن ينصرف
عنه تلك اخلدم واألتباع فيصيبها من رمحته وإحسانه.
لكن فَـ ْر ٌق بني قسمة الغنائم على أهل ال ُسهمان من الغامنني وبني
ات ِم َما َع ِملُوا َولِيُـ َوفِـيَـ ُه ْم
الرضخ ملن ال سهم لهَ :ولِ ُك ٍل َد َر َج ٌ
( )
أَ ْع َمالَ ُه ْم َو ُه ْم َال يُظْلَ ُمو َن واهلل سبحانه خلق هذا النوع اإلنساين
لنفسه واختصه وخلق له كل شيء كما يف األثر اإلهلي« :ابن آدم
خلقتك لنفسي ،وخلقت كل شيء لك ،فبحقي عليك ال تشتغل
بما خلقته لك عما خلقتك له».
ويف أثر آخر« :خلقتك لنفسي فال تلعّب ،وتكفلت برزقك
فال تتعّب ،ابن آدم ،اطلبني تجدني ،وإن وجدتني وجدت كل
شيء ،وإن فتك فاتك كل شيء ،وأنا خير لك من كل شيء».
سبّب القرب
وجعل الصالة سببًا موصالً له إىل قربه ومناجاته وحمبته واألنس به،
وما بني صالتني حتدث له الغفلة واجلفوة واإلعراض والزالت واخلطايا،
فيبعده ذلك عن ربه ،وينحيه عن قربه ،ويصري كأنه أجنيب عن العبودية
ليس من مجلة العبيد ،ورمبا ألقى بيده إىل أسر العدو فأسره وغله وقيده
وجنه يف سجن نفسه وهواه ،فحظه ضيق الصدر ومعاجلة اهلموم والغموم
واألحزان واحلسرات ،وال تدري السبَب يف ذلك.
فاقتضت رمحة ربه الرحيم به أن جعل له من عبوديته عبودية
جامعة خمتلفة األجزاء واحلاالت ،حبسَب اختالف األحداث اليت
جاءت من العبد وحبسَب شدة حاجته إىل نصيبه من كل خري من
أجزاء تلك العبودية.
طهارة القدوم
متطهرا والوضوء له
ً فبالوضوء يتطهر من األوساخ ويقدم على ربه
ظاهر وباطن ،وظاهره طهارة البدن وأعضاء العبادة ،وباطنه وسره طهارة
القلَب من أوساخه وأدرانه بالتوبة وهلذا يقرن سبحانه بني التوبة والطهارة
] ين َويُ ِح ُ
ّب ال ُْمتَطَِه ِر َ
ين[ البقرة: َواب َ يف قوله :إِ َن اللَهَ يُ ِح ُ
ّب التـ َ ِ
وشرع النيب للمتطهر بعد فراغه من الوضوء أن يتشهد مث يقول:
«اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين»( ) .فكمل له
وظاهرا.
مراتَب الطهارة باطنًا ً
) ( احلديث عن عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه أخرجه الرتمذي ،كتاب الطهارة ،باب
فيما يقال بعد الوضوء ( .)77/
ذوق الصــالة 6
مقاماته وأنفعها له يف دنياه وآخرته ،فهو أحرص شيء على صرفه عنه
واقتطاعه دونه بالبدن والقلَب ،فإن عجز عن اقتطاعه وتعطيله عنه
بالبدن اقتطع قلبه وعطله عن القيام بني يدي الرب تعاىل ،فأمر العبد
باالستعاذة باهلل منه ليسلم له مقامه بني يدي ربه ،وليحيي قلبه
ويستنري مبا يتدبره ويتفهمه من كالم سيده الذي هو سبَب حياته
ونعيمه وفالحه ،فالشيطان أحرص على اقتطاع قلبه عن مقصود
التالوة.
وملا علم سبحانه حسد العدو وتفرغه للعبد ،وعجز العبد عنه،
أمره بأن يستعيذ به سبحانه ويلتجئ إليه يف صرفه عنه فيكتفي
باالستعاذة مؤنة حماربته ومقاومته ،فكأنه قيل له :ال طاقة لك هبذا
العدو فاستعذ يب واستجر يب أكفكه وأمنعك منه.
( )
يوما« :إذا هاش عليك
وقال يل شيخ اإلسالم قدس اهلل روحه ً
كلَب الغنم فال تشتغل مبحاربته ومدافعته ،وعليك بالراعي فاستغث
به فهو يصرف عنك الكلَب».
فإذا استعاذ باهلل من الشيطان بَـعُ َد منه فأفضى القلَب إىل معاين
القرآن ،ووقع يف رياضه املونقة( ) وشاهد عجائبه اليت تبهر العقول،
واستخرج من كنوزه وذخائره ما ال عني رأت وال أذن مسعت ،وكان
احلائل بينه وبني ذلك ،النفس والشيطان ،والنفس منفعلة للشيطان
سامعة منه فإذا بعد عنها وطرد ملَ هبا امللك وثبتها وذكرها مبا فيه
سعادَّتا وجناَّتا.
القراءة
فإذا أخذ يف قراءة القرآن فقد قام يف مقام خماطبة ربه ومناجاته،
فليحذر كل احلذر من التعرض ملقته وسخطه أن يناجيه وُياطبه وهو
معرض عنه ملتفت إىل غريه ،فإنه يستدعي بذلك مقته ويكون مبنزلة
رجل قربه ملك من ملوك الدنيا فأقامه بني يديه ،فجعل ُياطبه امللك
وقد واله قفاه أو التفت عنه بوجهه مينة ويسرة ،فما الظن مبقت امللك
هلذا ،فما الظن بامللك احلق املبني الذي هو رب العاملني وقيوم
السماوات واألرض.
وليقف عند كل آية من الفاحتة ينتظر جواب ربه له وكأنه مسعه
ين فإذا ِ ْح ْم ُد لِلَ ِه َر ِ
ب ال َْعالَم َ يقول :محدين عبدي حني يقول :ال َ
يم وقف حلظة ينتظر قوله« :أثنى علي قال :ال َر ْح َم ِن ال َرِح ِ
ك يَـ ْوِم الدِي ِن انتظر قوله« :مجدني عبدي» فإذا قال :مالِ ِ
َ
ين انتظر قوله« :هذا ِ اك نَـ ْعبُ ُد َوإِيَ َ
عبدي» فإذا قال :إِيَ َ
اك نَ ْستَع ُ
يم إىل آخر ِ بيني وبين عبدي» فإذا قال :ا ْه ِدنَا ال ِ
ط ال ُْم ْستَق َص َرا َ
انتظر قوله« :هؤالء لعبدي ولعبدي ما سأل»( ).
) ( إشارة إىل حديث أيب هريرة وأوله «قسمت الصالة بيين وبني عبدي نصفني» وقد
أخرجه مسلم كتاب الصالة باب وجوب قراءة الفاحتة يف كل ركعة ( .) 16/
ذوق الصــالة 4
طعم الصالة
ومن ذاق طعم الصالة علم أنه ال يقوم غري التكبري والفاحتة
مقامهما ،كما ال يقوم غري القيام والركوع والسجود مقامها ،فلكل
عبودية من عبودية الصالة سر وتأثري وعبودية ال حتصل من غريها ،مث
لكل آية من آيات الفاحتة عبودية وذوق ووجد ُيصها.
الحمد هلل
ين جتد حتت هذه الكلمة ِ ْح ْم ُد لِلَ ِه َر ِ
ب ال َْعالَم َ فعند قوله :ال َ
إثبات كل كمال للرب تعاىل فعالً ووص ًفا وامسًا ،وتنزيهه عن كل سوء
وعيَب فعالً ووص ًفا وامسًا ،فهو حممود يف أفعاله وأوصافه وأمسائه ،منزه
عن العيوب والنقائص يف أفعاله وأوصافه وأمسائه ،فأفعاله كلها حكمة
ورمحة ومصلحة وعدل ال خترج عن ذلك ،وأوصافه كلها أوصاف
كمال ونعوت جالل ،وأمساؤه كلها حسىن ،ومحده قد مأل الدنيا
واآلخرة والسماوات واألرض وما بينهما وما فيهما فالكون كله ناطق
حبمده ،واخللق واألمر صادر عن محده وقائم حبمده ووجد حبمده؛
فحمده هو سبَب وجود كل موجود ،وهو غاية كل موجود ،وكل
موجود شاهد حبمده ،وإرساله رسوله حبمده ،وإنزاله كتبه حبمده،
واجلنة عمرت بأهلها حبمده ،والنار عمرت بأهلها حبمده ،وما أطيع
إال حبمده وما عُصي إال حبمده ،وال تسقط ورقة إال حبمده ،وال حيرك
يف الكون ذرة إال حبمده ،وهو احملمود لذاته ،وإن مل حيمده العباد،
كما أنه هو الواحد األحد ولو مل يوحده العباد ،واإلله احلق وإن مل
ذوق الصــالة
يؤهلوه ،وهو سبحانه الذي محد نفسه على لسان القائل :احلمد هلل
رب العاملني ،كما قال النيب « :إن اهلل تعالى قال على لسان
نبيه :سمع اهلل لمن حمده»( ).
فهو احلامد لنفسه يف احلقيقة على لسان عبده ،فإنه الذي أجرى
احلمد على لسانه وقلبه وإجراؤه حبمده.
فله احلمد كله ،وله امللك كله ،وبيده اخلري كله ،وإليه يرجع األمر
كله ،فهذه املعرفة من عبودية احلمد.
أيضا أن يعلم أن محده لربه سبحانه نعمة منه عليه،
ومن عبوديته ً
محدا
يستحق عليها احلمد فإذا محده على هذه النعمة استوجَب عليه ً
آخر على نعمة محده وهلم جرا.
فالعبد ولو استنفد أنفاسه كلها يف محده على نعمة من نعمه كان
ما جيَب له من احلمد ويستحق فوق ذلك وأضعاف ،وال ُحيصي أحد
البتة ثناء عليه مبحامده.
ومن عبودية العبد شهود العبد لعجزه عن احلمد وأن ما قام به
منه ،فالرب سبحانه هو احملمود عليه إذ هو جمريه على لسانه وقلبه.
ومن عبوديته تسليط احلمد على تفاصيل أحوال العبد كلها
ظاهرة وباطنة على ما حيَب العبد وما يكرهه ،فهو سبحانه احملمود
على ذلك كله يف احلقيقة وإن غاب عن شهود العبد.
) ( إشارة إىل حديث أيب موسى األشعري رضي اهلل عنه مسلم (.)040
ذوق الصــالة
رب العالمين
ين من العبودية شهود تفرده سبحانه ِ
ب ال َْعالَم َ
مث لقولهَ :ر ِ
بالربوبية ،وأنه كما أنه رب العاملني وخالقهم ورازقهم ومدبر أمورهم
وموجدهم ومفنيهم فهو وحده إهلهم ومعبودهم وملجأهم ومفزعهم
عند النوائَب فال رب غريه ،وال إله سواه.
الرحمن الرحيم
يم عبودية ختصها ،وهي شهود عموم مث لقوله :ال َر ْح َم ِن ال َرِح ِ
رمحته وسعها لكل شيء وأخذ كل موجود بنصيبه منها ،وال سيما
الرمحة اخلاصة اليت أقامت عبده بني يديه يف خدمته يناجيه بكالمه
ويتملقه ويسرتمحه ويسأله هدايته ورمحته وإمتام نعمته عليه ،فهذا من
رمحته بعبده ،فرمحته وسعت كل شيء ،كما أن محده وسع كل شيء.
مالك يوم الدين
ك يَـ ْوِم الدِي ِن عبوديتها ويتأمل تضمنها مث يعطي قوله :مالِ ِ
َ ُ
إلثبات املعاد ،وتفرد الرب فيه باحلكم بني خلقه ،وأنه يوم يدين فيه
العباد بأعماهلم يف اخلري والشر وذلك من تفاصيل محده ،وموجبه.
إخبارا عن محده ينً
ِ ْح ْم ُد لِلَ ِه َر ِ
ب ال َْعالَم َ وملا كان قوله :ال َ
تعاىل قال اهلل« :حمدني عبدي» وملا كان قوله :ال َر ْح َم ِن ال َرِح ِ
يم
إعادة وتكر ًيرا ألوصاف كماله قال« :أثنى علي عبدي» فإن الثناء
إمنا يكون بتكرار احملامد وتعداد أوصاف احملمود ،وملا وصفه سبحانه
ذوق الصــالة
ك يَـ ْوِم الدِي ِن وهو امللك احلق املتضمن لظهور عدله
بتفرده بـ مالِ ِ
َ
جمدا فقال:
وكربيائه وعظمته ووحدانيته وصدق رسله ،مسى هذا الثناء ً
«مجدني عبدي» فإن التمجيد هو الثناء بصفات العظمة واجلالل.
إياك نعبد وإياك نستعين
ين انتظر جواب ربه له: ِ اك نَـ ْعبُ ُد َوإِيَ َ
فإذا قال :إِيَ َ
اك نَ ْستَع ُ
«هذا بيني وبين عبدي؛ ولعبدي ما سأل» وتأمل عبودية هاتني
ِ
ومينـَز الكلمة اليت هلل والكلمة اليت للعبدَ ،وفَقهَ الكلمتني وحقوقهما َ
سَر كون إحدامها هلل واألخرى للعبد ،وميز بني التوحيد الذي تقتضيه
اك نَـ ْعب ُد والتوحيد الذي تقتضيه كلمة وإِيَ َ ِ
يناك نَ ْستَع ُ َ كلمة إِيَ َ ُ
َوفَِقهَ سَر كون هاتني الكلمتني يف وسط السورة بني نوعي الثناء
قبلهما والدعاء بعدمهاَ ،وفَِقهَ تقدمي :إِيَ َ
اك نَـ ْعبُ ُد على َ وإِيَ َ
اك
ِ
مؤخرا ،أوجزين وتقدمي املعمول على الفعل مع اإلتيان به ً نَ ْستَع ُ
اختصارا ،وسر إعادة الضمري مرة بعد مرة ،وعلم ما دفع كل ً وأشد
واحدة من الكلمتني من اآلفة املنافية للعبودية ،وكيف تدخله
الكلمتان يف صريح العبوديةَ ،و َعلِ َم كيف يدور القرآن من أوله إىل
آخره على هاتني الكلمتني بل كيف يدور عليهما اخللق واألمر
ألجل الغايات َ والثواب والعقاب والدنيا واآلخرة ،وكيف تضمنتا
وأكمل الوسائل ،وكيف جيء هبما بضمري اخلطاب واحلضور دون
ضمري الغائَب.
ذوق الصــالة 0
مفتقرا.»..
) ( جواب قوله« :وملا كان العبد ً
ذوق الصــالة 6
خضوعا لعظمته
ً مث شرع له بأن ُيضع للمعبود سبحانه بالركوع
واستكانة هليبته وتذلال لعزته ،فثىن العبد له صلبه ووضع له قامته
معظما له ناط ًقا بتسبيحه املقرتن
ً ونكس له رأسه وحىن له ظهره
بتعظيمه ،فاجتمع له خضوع القلَب وخضوع اجلوارح ،وخضوع
القول ،على أمت األحوال ومجع له يف هذا الذكر بني اخلضوع والتعظيم
لربه والتنزيه له عن خضوع العبيد وأن اخلضوع وصف العبد والعظمة
وصف الرب.
ومتام عبودية الركوع أن يتصاغر العبد ويتضاءل حبيث ميحو
تصاغره كل تعظيم منه لنفسه و يثبت مكانه تعظيمه لربه وكلما
استوىل على قلبه تعظيم الرب ازداد تصاغره هو عند نفسه ،فالركوع
للقلَب بالذات والقصد وللجوارح بالتبع والتكملة.
االعتدال من الركوع
مث شرع له أن حيمد ربه ويثين عليه بآالئه عند اعتداله وانتصابه
ورجوعه إىل أحسن هيأته منتصَب القامة معتدهلا ،فيحمد ربه ويثين
عليه بأن وفقه لذلك اخلضوع ،مث نقله منه إىل مقام االعتدال
واالستواء بني يديه ،واق ًفا يف خدمته كما كان يف حال القراءة.
ولذلك االعتدال ذوق خاص وحال حيصل للقلَب سوى ذوق الركوع
وحاله ،وهو ركن مقصود لذاته َك ُرْكن الركوع والسجود سواء؛ وهلذا كان
رسول اهلل يطيله كما يطيل الركوع والسجود ويكثر فيه من الثناء واحلمد
والتمجيد كما ذكرناه يف هديه( ) وكان يف قيام الليل يكثر فيه من
) ( انظر زاد املعاد ( .)55/
ذوق الصــالة 4
) ( جزء من حديث رواه حذيفة وقد أخرجه أبو داود يف سننه كتاب الصالة ،باب ما
يقول الرجل يف ركوعه وسجوده ( ) /والنسائي كتاب االفتتاح ،باب :ما يقول
يف قيامه ذلك ( ) 11/وأمحد يف مسنده (.) 14/5
) ( يقل :يرفع النهاية البن األثري (.) 40/0
) ( هذا احلديث رواه أبو هريرة ،وقد أ خرجه مسلم كتاب الصالة باب ما يقال يف
الركوع والسجود ( .) 54/
1 ذوق الصــالة
سجود القلّب
وملا كان سجود القلَب خضوعه التام لربه ،أمكنه استدامة هذا
السجود إىل يوم لقائه.
كما قيل لبعض السلف هل يسجد القلَب؟ قال( :أي واهلل
سجدة ال يرفع رأسه منها حىت يلقى اهلل)( ).
) ( القائل :سهل بن عبد اهلل التسرتي كما يف جمموع الفتاوى البن تيمية ( .) 4/
ذوق الصــالة 4
أسماء الصالة
وملا بنيت الصالة على مخس :القراءة والقيام و الركوع والسجود
والذكر مسيت باسم كل واحد من هذه اخلمس.
قياما كقوله تعاىل :قُ ِم اللَْي َل إَِال قَلِ ًيال[ املزمل] : فسميت ً
وقوله :وقُ ِ ِ ِِ
ين[ البقرة.] 4 : وموا للَه قَانت ََ ُ
ودا وقراءة كقولهَ :وقُـ ْرَآ َن الْ َف ْج ِر إِ َن قُـ ْرَآ َن الْ َف ْج ِر َكا َن َم ْش ُه ً
[اإلسراء.]74 :
ين[ البقرة]0 : ِِ
كوعا كقوله تعاىلَ :و ْارَكعُوا َم َع ال َراكع َ ور ً
يل لَ ُه ُم ْارَكعُوا َال يَـ ْرَكعُو َن[ املرسالت.]04 : ِ ِ
وقولهَ :وإ َذا ق َ
ين ك وُكن ِمن ال َ ِ ِ ِ ِ
ساجد َ َ سبِ ْح ب َح ْمد َربِ َ َ وسجودا كقوله :فَ َ ً
ِ
ب [ العلق .] 1:وذ ً
كرا اس ُج ْد َواقـْتَ ِر ْ[ احلجر ، ]14 :وقوله َ و ْ
اس َع ْوا إِلَى ِذ ْك ِر ص َالةِ ِمن يـوِم ال ِ ي لِل َ ِ
ْج ُم َعة فَ ْ ْ َْ ُ كقوله :إِذَا نُود َ
اللَ ِه[ اجلمعةَ ]1 :ال تُـ ْل ِه ُك ْم أ َْم َوالُ ُك ْم َوَال أ َْوَال ُد ُك ْم َع ْن ِذ ْك ِر
اللَ ِه[ املنافقون.]1 :
وأشرف أفعاهلا السجود ،وأشرف أذكارها القراءة ،وأول سورة
أنزلت على النيب افتتحت بالقراءة وختمت بالسجود ووضعت
الركعة على ذلك ،أوهلا قراءة وآخرها سجود.
االعتدال من السجود
جالسا ،وملا كان هذا االعتدال
مث شرع له أن يرفع رأسه ويعتدل ً
ذوق الصــالة
قبله من التعريف وتوابعه مقدمات بني يديه وكما أنه أقرب ما يكون
العبد من ربه وهو ساجد فكذلك أقرب ما يكون منه يف املناسك
وهو طائف.
وهلذا قال بعض الصحابة ملن كلمه يف طوافه بأمر من الدنيا:
"أتقول هذا وحنن نرتاءى هلل يف طوافنا"( ).
وهلذا واهلل أعلم جعل الركوع قبل السجود تدرجيًا وانتقاال من
الشيء إىل ما هو أعلى منه.
جلوس التشهد
فلما قضى صالته وأكملها ومل يبق إال االنصراف منها شرع
اجللوس بني يدي ربه مثنيًا عليه بأفضل التحيات اليت ال تصلح إال له
وال تليق بغريه.
التحيات هلل
وملا كان عادة امللوك أن حييوا بأنواع التحيات من األفعال
واألقوال املتضمنة للخضوع والثناء وطلَب البقاء ودوام امللك،
فمنهم من حيىي بالسجود ومنهم من حيىي بالثناء عليه ،ومنهم من
حيىي بطلَب البقاء والدوام له ،ومنهم من جيمع له ذلك كله ،فكان
امللك احلق سبحانه أوىل بالتحيات كلها من مجيع خلقه ،وهي له
باحلقيقة ،وهلذا فسرت التحيات بامللك ،وفسرت بالبقاء والدوام
) ( قائل هذا القول عبد اهلل بن عمر الطبقات الكربى البن سعد (.) 67/0
ذوق الصــالة 0
وحقيقتها ما ذكرته وهي حتيات امللك ،فامللك احلق املبني أوىل هبا.
فكل حتية حيىي هبا ملك من سجود أو ثناء أو بقاء ودوام فهي
هلل عز وجل ،وهلذا أتى هبا جمموعة معرفة بالالم أداة العموم وهي مجع
حتية ،وهي تفعيلة من احلياة ،وأصلها حتيية بوزن تكرمة مث أدغم أحد
املثلني يف اآلخر فصارت حتية ،وإذا كان أصلها من احلياة فاملطلوب
ملن ُحي َىي هبا دوام احلياة.
وكانوا يقولون مللوكهم :لك احلياة الباقية ولك احلياة الدائمة،
وبعضهم يقول :عشرة آالف سنة ،واشتق منها أدام اهلل أيامك،
وأطال اهلل بقاءك ،حنو ذلك مما يراد به دوام احلياة وامللك وذلك ال
ينبغي إال للحي الذي ال ميوت وللملك الذي كل ملك زائل غري
ملكه.
والصلوات
مث عطف عليها الصلوات بلفظ اجلمع والتعريف ليشمل كل ما
وعموما فكلها هلل ال تنبغي إال له
ً خصوصا
ً أطلق عليه لفظ الصالة
فالتحيات له مل ًكا ،والصلوات له عبودية واستحقاقًا فالتحيات ال
تكون إال له والصلوات ال تنبغي إال له.
والطيبات
مث عطف عليها الطيبات كذلك ،وهذا يتناول أمرين :الوصف
وامللك.
5 ذوق الصــالة
) ( إشارة إىل حديث أن عمر بن اخلطاب كان جيهر هبؤالء الكلمات يقول« :سبحانك
اللهم وحبمدك وتبارك امسك وتعاىل جدك وال إله غريك» رواه مسلم كتاب الصالة
باب حجة من قال ال جتهر بالبسملة ( .) 11/
) ( إشارة إىل حديث أيب هريرة قال :قال رسول اهلل « :ألن أقول سبحان اهلل واحلمد
هلل وال إله إال اهلل واهلل أكرب أحَب إيل مما طلعت عليه الشمس» رواه مسلم كتاب
الذكر والدعاء باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء (.) 47 /0
) ( إشارة إىل حديث أيب هريرة أن النيب قال« :كلمتان خفيفتان على اللسان
ثقيلتان يف امليزان حبيبتان إىل الرمحن سبحان اهلل وحبمده سبحان اهلل العظيم» رواه
البخاري كتاب الدعاء باب فضل التسبيح (.) 47/4
ذوق الصــالة 6
فتأمل أطيَب الكلمات بعد القرآن كيف ال تنبغي إال هلل ،وهي
«سبحان اهلل ،والحمد هلل ،وال إله إال اهلل ،واهلل أكبر ،وال حول
وال قوة إال باهلل».
فإن «سبحان اهلل» تتضمن تنزيهه عن كل نقص وعيَب وسوء،
وعن خصائص املخلوقني وشبههم.
و«الحمد هلل» تتضمن إثبات كل كمال له قوالً وفعالً ووص ًفا
أبدا.
على أمت الوجوه وأكملها أزًال و ً
و «ال إله إال اهلل» تتضمن انفراده باإلهلية ،وأن كل معبود سواه
فباطل ،وأنه وحده اإلله احلق وأنه من تأله غريه فهو مبنزلة من اختذ
بيتًا من بيوت العنكبوت يأوي إليه ويسكنه.
و«اهلل أكبر» تتضمن أنه أكرب من كل شيء وأجل وأعظم و
أعز وأقوى وأقدر وأعلم وأحكم ،فهذه الكلمات الطيبات ال تصلح
هي ومعانيها إال هلل وحده.
السالم على النبي وعلى عباد اهلل الصالحين
مث شرع له أن يسلم على عباد اهلل الذين اصطفى بعد تقدم
احلمد والثناء عليه مبا هو أهله فطابق ذلك قوله تعاىل :قُ ِل ال َ
ْح ْم ُد
اصطََفى آَللَهُ َخ ْيـ ٌر أَ َما يُ ْش ِرُكو َن ِ ِِ َِ ِِ
للَه َو َس َال ٌم َعلَى عبَاده الذ َ
ين ْ
[النمل ]51 :وكأنه امتثال له.
أيضا فإن هذه حتية املخلوق فشرعت بعد حتية اخلالق وقدم يف
و ً
هذه التحية أوىل اخللق هبا ،وهو النيب الذي نالت أمته على يده
7 ذوق الصــالة
كل خري ،وعلى نفسه بعده ،وعلى سائر عباد اهلل الصاحلني
وأخصهم هبذه التحية األنبياء ،مث أصحاب رسول اهلل ،مع
عمومها لكل عبد هلل صاحل يف األرض والسماء.
شهادة الحق
مث شرع له بعد ذكر هذه التحية والتسليم على من يستحق
وعموما أن يشهد شهادة احلق اليت بنيت عليها
ً خصوصا
ً التسليم
الصالة ،وهي حق من حقوقها وال تنفعه إال بقرينتها وهي شهادة
لرسول اهلل بالرسالة وختمت هبا الصالة ،كما قال عبد اهلل بن
مسعود (فإذا قلت ذلك فقد قضيت صالتك فإن شئت أن تقوم فقم
وإن شئت أن تقعد فاقعد( ).
وهذا إما أن حيمل على قضاء الصالة حقيقة كما يقوله الكوفيون،
أو على مقاربة انقضائها ومشارفته كما يقوله أهل احلجاز وغريهم.
وعلى التقديرين فجعلت شهادة احلق خامتة الصالة كما شرع أن
تكون خامتة احلياة ،فمن كان آخر كالمه ال إله إال اهلل دخل اجلنة( ).
وكذلك شرع للمتوضئ أن ُيتم وضوءه بالشهادتني( ).
) ( رواه أبو داود وكتاب الصالة باب التشهد ( ) 50/والدارقطين كتاب الصالة،
باب صفة التشهد ( .) 5 /
) ( إشارة إىل حديث معاذ بن جبل قال :قال رسول اهلل « من كا ن آخر كالمه ال
إله إال اهلل دخل اجلنة» وقد أخرجه أبو داود كتاب اجلنائز باب يف الثقلني
( .) 14/
) ( إشارة إىل حديث عقبة بن عامر اجلهين أن رسول اهلل قال« :من توضأ فقال
=
ذوق الصــالة 4
انقضاء الصالة
مث ملا قضى صالته أذن له أن يسأل حاجته ،وشرع له أن يتوسل
قبلها بالصالة على النيب فإهنا من أعظم الوسائل بني يدي الدعاء
كما يف السنن عن فضالة بن عبيد أن رسول اهلل قال« :إذا دعا
أحدكم فليبدأ بحمد اهلل ،والثناء عليه ،و ليصل على رسوله ،ثم
ليسل حاجته»( ).
فجاءت التحيات على ذلك ،أوهلا محد اهلل ،والثناء عليه ،مث
الصالة على رسوله ،مث الدعاء آخر الصالة ،وأذن النيب للمصلي
بعد الصالة عليه ،أن يتخري من الدعاء أعجبه إليه( ) ونظري هذا ما
شرع ملن مسع املؤذن.
-أن يقول كما يقول( ).
-وأن يقول« :رضيت باهلل ربًا وباإلسالم دينًا وبمحمد
=
أشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له وأشهد أن محم ًدا عبده ورسوله إال
فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» رواه مسلم كتاب الطهارة
باب الذكر املستحَب عقَب الوضوء ( .) 4/
) ( رواه الرتمذي يف كتاب الدعوات باب ( )5 7 /5-60وقال الرتمذي هذا حديث
حسن صحيح وأمحد يف مسنده (.) 4/6
) ( إشارة إىل حديث رواه عبد اهلل بن مسعود وقد أخرجه البخاري يف كتاب الصالة
باب ما يتخري من الدعاء بعد التشهد ( ) /ومسلم يف كتاب الصالة باب يف
التشهد يف الصالة ( .) 4 /
) ( إشارة إىل حديث أيب سعيد اخلدري أن رسول اهلل قال« :إذا مسعتم النداء فقولوا
مثل ما يقول املؤذن» رواه البخاري كتاب بدء األذان باب ما يقول إذا مسع املنادي
( .) 51/
1 ذوق الصــالة
رسوال»( ).
ً
-وأن يسأل اهلل لرسوله الوسيلة ،والفضيلة وأن يبعثه املقام
احملمود( ).
-0مث يصلي عليه( ).
-5مث يسأل حاجته( ).
فهذه مخس سنن يف إجابة املؤذن ال ينبغي الغفلة عنها.
) ( إشارة إىل حديث سعد بن أيب وقاص عن رسول اهلل أنه قال« :من قال حين
يسمع المؤذن أشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له ،وأن محم ًدا عبده
ورسوله رضيت باهلل ربًا وبمحمد رسوال وباإلسالم دينًا غفر له ذنبه» رواه مسلم
كتاب الصالة باب استحباب القول مثل ما يقول املؤذن إخل ( .) 14/
) ( إشارة إىل حديث جابر بن عبد اهلل أن رسول اهلل قال« :من قال حني يسمع
حممدا الوسيلة والفضيلة
النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصالة القائمة آت ً
حممودا الذي وعدته حلت له شفاعيت يوم القيامة» رواه البخاري كتاب
مقاما ً وابعثه ً
بدء األذان باب الدعاء عند النداء ( .) 51/
) ( إشارة إىل حديث عبد اهلل بن عمرو بن العاص أنه مسع النيب يقول« :إذا مسعتم
املؤذن فقولوا مثل ما يقول مث صلوا علي فإنه من صلى علي صالة صلى اهلل عليه هبا
عشرا ..إخل» رواه مسلم كتاب الصالة باب استحباب القول مثل ما يقول املؤذن إخل
.) 44/ (.
) (0إشارة إىل حديث أنس بن مالك قال :قال رسول اهلل « :الدعاء ال يرد بني
األذان واإلقامة رواه أمحد يف مسنده» ( ) 1/وأبو داود كتاب الصالة باب ما
جاء يف الدعاء بني األذان واإلقامة ( ) 00/والرتمذي أبواب الصالة باب ما جاء
يف أن الدعاء ال يرد بني األذان واإلقامة ( .) 51/
ذوق الصــالة 04
فإذا استعاذ به فإقباله على ركنه الشديد وانتصاره لعبده ومنعه له
وحفظه من عدوه.
فإذا تال كالمه فإقباله على معرفته من كالمه ،حىت كأنه يراه
ويشاهده يف كالمه فهو كما قال بعض السلف« :لقد جتلى اهلل
لعباده يف كالمه»( ) فهو يف هذه احلال مقبل على ذاته وصفاته
وأفعاله وأحكامه وأمسائه.
فإذا ركع فإقباله على عظمته وجالله وعزه؛ وهلذا شرع له أن
يقول :سبحان ريب العظيم.
فإذا رفع رأسه من الركوع فإقباله على محده والثناء عليه ومتجيده
وعبوديته له وتفرده بالعطاء واملنع.
فإذا سجد فإقباله على قربه والدنو منه واخلضوع له والتذلل بني
يديه واالنكسار والتملق.
فإذا رفع رأسه وجثا على ركبتيه فإقباله على غناه وجوده وكرمه
وشدة حاجته إليه وتضرعه بني يديه واالنكسار أن يغفر له ويرمحه
ويعافيه ويهديه ويرزقه.
فإذا جلس يف التشهد فله حال آخر وإقبال آخر يشبه حال
احلاج يف طواف الوداع ،وقد استشعر قلبه االنصراف من بني يدي
ربه ،إىل أشغال الدنيا وموافاة العالئق والشواغل اليت قطعه عنها
الوقوف بني يدي ربه ،وقد ذاق قلبه التأمل هبا والعذاب هبا قبل دخوله
) ( قائل هذا القول :جعفر بن حممد الصادق «إحياء علوم الدين» ( .) 47/
ذوق الصــالة 0
يف الصالة ،فباشر قلبه روح ال ُقرب ونعيم اإلقبال على اهلل وعافبته
منها وانقطاعها عنه مدة الصالة.
مث استشعر قلبه عودها إليه خبروجه من محى الصالة ،فهو حيمل
َه َم انقضاء الصالة وفراغها ويقول ليتها اتصلت بيوم اللقاء ،ويعلم أنه
ينصرف من مناجاة من كل السعادة يف مناجاته ،إىل مناجاة من
األذى واهلم والغم والنكد يف مناجاته ،وال يشعر هبذا وهذا إال قلَب
حي معمور بذكر اهلل وحمبته واألنس به.
تسليم النفس
وملا كان العبد بني أمرين من ربه عز وجل:
ظاهرا وباطنًا واقتضاؤه
كم عليه يف أحواله كلها ً
-أحدمهاُ :ح ٌ
منه القيام بعبودية حكمه فإن لكل حكم عبودية ختصه ،أعين احلكم
الكوين القدري.
-والثاين :فعل يفعله العبد عبودية لربه ،وهو موجَب حكمه
الديين األمري ،وكال األمرين يوجبان تسليم النفس إليه تعاىل.
وهلذا اشتق له اسم اإلسالم من التسليم ،فإنه ملا أسلم نفسه
حلكم ربه الديين األمري وحلكمه الكوين القدري بقيامه بعبوديته فيه
ال باسرتساله معه استحق اسم اإلسالم فقيل له مسلم.
صورة الصالة
وملا اطمأن قلبه بذكره وكالمه وحمبته وعبوديته ،سكن إليه وقرت
0 ذوق الصــالة
يف ثواهبم وُيتصون بأعاله وباملنزلة والقربة وهي قدر زائد على جمرد
الثواب ،وهلذا يعد امللوك من أرضاهم باألجر والتقريَب كما قال
ِِ
ال نَـ َع ْم َج ًرا إِ ْن ُكنَا نَ ْح ُن الْغَالب َ
ين * قَ َ السحرة لفرعون إِ َن لَنَا َأل ْ
ِ
.] 0 ، ين[ األعراف: َوإِنَ ُك ْم لَم َن ال ُْم َق َربِ َ
-فاألول عبد قد دخل الدار والسرت حاجَب بينه وبني رب
الدار فهو من وراء السرت فلذلك مل تقر عينه؛ ألنه يف حجَب
الشهوات ،وغيوم اهلوى ،ودخان النفس ،وخبار األماين ،فالقلَب
عليل ،والنفس مكبة على ما َّتواه ،طالبة حلظها العاجل.
-واآلخر قد دخل دار امللك ورفع السرت بينه وبينه فقرت عينه
وعبَد اهلل كأنه يراه ،وجتلى له
واطمأنت نفسه ،وخشع قلبه وجوارحهَ ،
يف كالمه.
جدا يف ذوق الصالة.
فهذه إشارة ما ،ونبذة يسريةٌ ً
ذوق الصــالة 06
الرسالة الثانية
ص َال َة
يموا ال َ ِ
تعالىَ :وأَق ُ عند قوله
07 ذوق الصــالة
إقامة الصالة
فأمرنا بإقامتها ،وهو اإلتيان هبا قائمة تامة القيام والركوع
والسجود واألذكار ،وقد علق اهلل سبحانه الفالح خبشوع املصلي يف
صالته ،فمن فاته خشوع الصالة ،مل يكن من أهل الفالح،
قطعا بل ال حيصل ويستحيل حصول اخلشوع مع العجلة والنقر ً
خشوعا وكلما ً اخلشوع قط إال مع الطمأنينة وكلما زاد طمأنينة ازداد
قل خشوعه اشتدت عجلته حىت تصري حركة يديه مبنزلة العبث الذي
ال يصحبه خشوع وال إقبال على العبودية وال معرفة حقيقية العبودية
ص َالةَ[ البقرة ]0 :وقال: يموا ال َ ِ
واهلل سبحانه قد قالَ :وأَق ُ
ص َالةَ[ املائدة ]55 :وقالَ :وأَقِ ِم يمو َن ال َ والَ ِذين آَمنُوا الَ ِذ ِ
ين يُق ُ
َ َ َ َ
ِ
يموا ص َال َة[ العنكبوت ]05 :وقال :فَِإ َذا اط َْمأْنَـ ْنتُ ْم فَأَق ُ ال َ
ص َال َة[ النساء: ين ال َ ِِ
ص َال َة[ النساء ] 4 :وقالَ :وال ُْمقيم َ ال َ
ص َالةِ يم ال َ ِ ِ
اج َعلْني ُمق َ ب ْ ] 6وقال إبراهيم عليه السالم َ ر ِ
ص َالةَ [إبراهيم ]04 :وقال ملوسى عليه السالم فَا ْعبُ ْدنِي َوأَقِ ِم ال َ
لِ ِذ ْك ِري[ طه.] 0 :
فلن تكاد جتد ذكر الصالة يف موضع من التنزيل إال مقرونًا
بإقامتها فاملصلون يف الناس قليل ،ومقيم الصالة منهم أقل القليل،
كما قال عمر رضي اهلل عنه« :احلاج قليل ،والركَب كثري»( ).
أقسام المصلين
فالعاملون يعملون األعمال املأمور هبا على الرتويج حتلة القسم،
ويقولون :يكفينا أدىن ما يقع عليه االسم ،وليتنا نأيت به ولو علم
هؤالء أن املالئكة تصعد بصالَّتم فتعرضها على الرب جل جالله
مد
مبنزلة اهلدايا اليت يتقرب هبا الناس إىل ملوكهم وكربائهم فليس َمن َع َ
إىل أفضل ما يقدر عليه فيزينه وحيسنه ما استطاع مث يتقرب به إىل من
يرجوه وُيافه َك َم ْن يعمد إىل أسقط ما عنده وأهونه عليه فيسرتيح
بيعا
منه ويبعثه إىل من ال يقع عنده مبوقع وليس من كانت الصالة ر ً
لقلبه وحياة له ،وراحة وقرة لعينه وجالء حلزنه ،وذهابًا هلمه وغمه،
ت لقلبه وقي ٌد جلوارحه، ومفزعا إليه يف نوائبه ونوازله كمن هي ُس ْح ٌ ً
وتكليف له وثقل عليه فهي كبرية على هذا وقرة عني وراحة لذلك.
ص َالةِ َوإِنَـ َها لَ َكبِ َيرةٌ إَِال َعلَى استَ ِعينُوا بِال َ
ص ْب ِر َوال َ وقال تعاىلَ :و ْ
اش ِعين * الَ ِذين يظُنُو َن أَنَـ ُهم م َالقُو ربِ ِهم وأَنَـ ُهم إِلَْي ِه ر ِ
اجعُو َن ال َ ِ
َ َ ْ َ ْ ْ ُ َ َ ْخ َ
[البقرة ]06 ،05 :فإمنا كربت على غري هؤالء خللو قلوهبم من حمبة
اهلل تعاىل وتكبريه وتعظيمه واخلشوع له وقلة رغبتهم فيه فإن حضور
العبد يف الصالة وخشوعه فيها وتكميله هلا واستفراغه ووسعه يف
إقامتها وإمتامها على قدر رغبته يف اهلل.
قدر الصالة
قال اإلمام أمحد يف رواية مهنا بن حيىي :إمنا حظهم من اإلسالم
على قدر حظهم يف الصالة ،ورغبتهم يف اإلسالم على قدر رغبتهم
01 ذوق الصــالة
يف الصالة ،فاعرف نفسك يا عبد اهلل ،احذر أن تلقى اهلل عز وجل،
وال قَ ْد َر لإلسالم عندك فإن قَ ْد َر اإلسالم يف قلبك ك َق ْدر الصالة يف
قلبك( ).
وليس حظ القلَب العامر مبحبة اهلل وخشيته والرغبة فيه وإجالله
وتعظيمه من الصالة كحظ القلَب اخلايل اخلرب من ذلك ،فإذا وقف
االثنان بني يدي اهلل يف الصالة ،وقف هذا بقلَب ُخمبت خاشع له
قريَب منه سليم من معارضات السوء ،قد امتألت أرجاؤه باهليبة،
وسطع فيه نور اإلميان ،وكشف عنه حجاب النفس ودخان
الشهوات ،فريتع يف رياض معاين القرآن ،وخالط قلبه بشاشة اإلميان
حبقائق األمساء والصفات وعلوها ومجاهلا وكماهلا األعظم ،وتفرد الرب
سبحانه بنعوت جالله ،وصفات كماله فاجتمع مهه على اهلل وقرت
عينه به وأحس بقربه من اهلل قربًا ال نظري له ،ففزع قلبه له وأقبل عليه
بكليته وهذا اإلقبال منه بني إقبالني من ربه فإنه سبحانه أقبل عليه
أوال فاجنذب قلبه إليه بإقباله ،فلما أقبل على ربه ،حظي منه بإقبال
آخر أمت من األول.
استفتاح الصالة
وههنا عجيبة من عجائَب األمساء والصفات حتصل ملن تفقه قلبه
يف معاين القرآن وخالط بشاشة اإلميان هبا قلبه ،حبيث يرى لكل اسم
موضعا من صالته وحمالً منها.
وصفة ً
االستعاذة
وإذا قال« :أعوذ باهلل من الشيطان الرجيم» فقد آوى إىل ركنه
الشديد ،واعتصم حبوله وقوته من عدوه الذي يريد أن يقطعه عن ربه،
ويباعده عن قربه ليكون أسوأ حاالً.
الحمد هلل رب العالمين
ين وقف هنيهة يسرية ينتظر ِ ْح ْم ُد لِلَ ِه َر ِ
ب ال َْعالَم َ فإذا قال :ال َ
جواب ربه له بقوله« :حمدني عبدي»( ) فإذا قال :ال َر ْح َم ِن
ك يم انتظر اجلواب بقوله« :أثنى علي عبدي» فإذا قال :مالِ ِ
َ ال َرِح ِ
يَـ ْوِم الدِي ِن انتظر جوابه« :يمجدني عبدي» فيا لذة قلبه وقرة عينه
وسرور نفسه بقول ربه «عبدي» ثالث مرات فواهلل لوال ما على
وسرورا
ً فرحا
القلوب من دخان الشهوات وغيم النفوس الستطريت ً
بقول رهبا وفاطرها ومعبودها« :حمدني عبدي ،وأثنى علي عبدي،
ومجدني عبدي».
مث يكون لقلبه جمال من شهود هذه األمساء الثالثة اليت هي
أصول األمساء احلسىن وهي :اهلل والرب والرمحن ،فشاهد قلبه من ذكر
) ( هذا وما يليه جزء من حديث رواه مسلم ( ) 1يف الصالة ،باب وجوب قراءة
الفاحتة يف كل ركعة واملوطأ ( )45 ،40/يف الصالة :باب القراءة خلف اإلمام فيما
ال جيهر فيه بالقراءة وأبو داود ( )4يف الصالة :باب من ترك القراءة يف صالته
بفاحتة الكتاب ،والرتمذي ( ) 150تفسري القرآن ،ومن سورة فاحتة الكتاب
والنسائي ( ) 6 ، 5/يف االفتتاح :باب ترك قراءة بسم اهلل الرمحن الرحيم يف
فاحتة الكتاب.
ذوق الصــالة 5
آمرا
متكلما ً
ً قادرا
مدبرا ً
بصريا ً
مسيعا ً
قيوما ً
امللك :ال يكون إال حيا ً
ناهيًا مستويًا على سرير مملكته ،يرسل إىل أقاصي مملكته بأوامره،
فريضى على من يستحق الرضا ،ويثيبه ويكرمه ويدنيه ويغضَب على
من يستحق الغضَب ويعاقبه ويهينه ويقصيه فيعذب من يشاء ويرحم
من يشاء ويعطي من يشاء ،ويقرب من يشاء ،ويقصي من يشاء ،له
دار عذاب ،وهي النار ،وله دار سعادة عظيمة ،وهي اجلنة فمن أبطل
شيئَا من ذلك ،أو جحده وأنكر حقيقته فقد قدح يف ملكه سبحانه
وتعاىل -ونفى عنه كماله ومتامه ،وكذلك من أنكر عموم قضائه وقدره
فقد أنكر عموم ملكه وكماله ،فيشهد املصلي جمد الرب تعاىل يف
ك يَـ ْوِم الدِي ِن.
قوله :مالِ ِ
َ
إياك نعبد وإياك نستعين
اك نَـ ْعب ُد وإِيَ َ ِ
ين ففيها سر اخللق واألمر،اك نَ ْستَع ُ فإذا قال :إِيَ َ ُ َ
والدنيا واآلخرة وهي متضمنة ألجل الغايات وأفضل الوسائل ،فأجل
الغايات عبوديته وأفضل الوسائل إعانته فال معبود يستحق العبادة إال
هو ،وال معني على عبادته غريه ،فعبادته أعلى الغايات ،وإعانته أجل
الوسائل ،وقد أنزل اهلل سبحانه وتعاىل مائة كتاب وأربعة كتَب مجع
معانيها يف أربعة وهي :التوراة واإلجنيل والقرآن والزبور ،ومجع معانيها
يف القرآن ،ومجع معانيه يف املفصل ومجع معانيه يف الفاحتة ومجع
اك نَـ ْعب ُد وإِيَ َ ِ
ين.اك نَ ْستَع ُ معانيها يف إِيَ َ ُ َ
وقد اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد ،ومها:
-توحيد الربوبية.
55 ذوق الصــالة
-وتوحيد اإلهلية.
وتضمنت التعبد باسم الرب واسم اهلل ،فهو يعبد بألوهيته
ويستعان بربوبيته ويهدي إىل الصراط املستقيم برمحته فكان أول
السورة ذكر امسه :اهلل والرب والرمحن ،تطاب ًقا ألجل املطالَب من
عبادته وإعانته وهدايته ،وهو املنفرد بإعطاء ذلك كله ،ال يعني على
عبادته سواه ،وال يهدي سواه.
اهدنا الصراط المستقيم
يم شدة فاقته ِ مث يشهد الداعي بقولهْ :اه ِدنَا ال ِ
ط ال ُْم ْستَق َ
ص َرا َ
وضرورته إىل هذه املسألة اليت ليس هو إىل شيء أشد فاقة وحاجة منه
إليها البتة ،فإنه حمتاج إليه يف كل نفس وطرفة عني ،وهذا املطلوب من
هذا الدعاء ال يتم إال باهلداية إىل الطريق املوصل إليه سبحانه،
واهلداية فيه وهي هداية التفصيل وخلق القدرة على الفعل وإرادته
وتكوينه وتوفيقه إليقاعه له على الوجه املرضي احملبوب للرب سبحانه
وتعاىل ،وحفظه عليه من مفسداته حال فعله وبعد فعله.
أمور الهداية
مفتقرا يف كل إىل هذه اهلداية يف مجيع ما يأتيه
وملا كان العبد ً
ويذره من:
-أمور قد أتاها على غري اهلداية ،فهو حيتاج إىل التوبة منها.
-وأمور ُهدي إىل أصلها دون تفصيلها.
ذوق الصــالة 56
-أو هدي إليها من وجه دون وجه فهو حيتاج إىل إمتام اهلداية
فيها ليزداد هدى.
-0وأمور هو حيتاج إىل أن حيصل له من اهلداية فيها باملستقبل
مثل ما حصل له يف املاضي.
-5وأمور هو خال عن اعتقاد فيها ،فهو حيتاج إىل اهلداية فيها.
-6وأمور مل يفعلها فهو حيتاج إىل فعلها على وجه اهلداية.
-7وأمور قد هدي إىل االعتقاد احلق والعمل الصواب فيها،
فهو حمتاج إىل الثبات عليها.
ض( ) اهلل سبحانه عليه أن إىل غري ذلك من أنواع اهلدايات فَـَر َ
يسأله هذه اهلداية يف أفضل أحواله مرات متعددة يف اليوم والليلة.
مث بني أن أهل هذه اهلداية هم املختصون بنعمته دون «املغضوب
عليهم» وهم الذين عرفوا احلق ،ومل يتبعوه ودون «الضالني» وهم
الذين عبدوا اهلل بغري علم ،فالطائفتان اشرتكتا يف القول يف خلقه و
أمره وأمسائه وصفاته بغري علم ،فسبيل املنعم عليه مغايرة لسبيل أهل
علما وعمالً.
الباطل كلها ً
التأمين
فلما فرغ من هذا الثناء والدعاء والتوحيد ،شرع له أن يطبع على
ذلك بطابع من التأمني يكون كاخلامت له ،وافق فيه مالئكة السماء،
وتعاىل بعد ذلك وما يشاؤه فحمده قد مأل كل موجود ومأل ما
سيوجد فهذا أحسن التقديرين و قيل ما شئت من شيء وراء العامل
فيكون قوله« :بعد للزمان على األول واملكان على الثاين مث أتبع ذلك
بقوله« :أهل الثناء واجملد»» فعاد األمر بعد الركعة إىل ما افتتح به
الصالة قبل الركعة من احلمد والثناء واجملد مث أتبع ذلك بقوله« :أحق
ما قال العبد» تقر ًيرا حلمده ومتجيده والثناء عليه ،وأن ذلك أحق ما
نطق به العبد ،مث أتبع ذلك باالعرتاف بالعبودية وأن ذلك حكم عام
جلميع العبيد مث عقَب ذلك بقوله« :ال مانع ملا أعطيت وال ُمعطي ملا
ينفع ذا اجل َد منك اجلد»( ) وكان يقول ذلك بعد انقضاء
نعت ،وال َُم َ
أيضا فيقوله يف هذين املوضعني اعرتافًا بتوحيده ،وأن النعم
الصالة ً
أمورا.
كلها منه وهذا يتضمن ً
أحدها :أنه املنفرد بالعطاء واملنع.
الثاني :أنه إذا أعطى مل يطق أحد منع من أعطاه ،وإذا منع مل
يطق أحد إعطاء من منعه.
الثالث :أنه ال ينفع عنده ،وال ُيلص من عذابه ،وال يدين من
كرامته جدود بين آدم وحظوظهم من امللك والرئاسة والغىن وطيَب
العيش وغري ذلك ،إمنا ينفعهم عنده التقريَب إليه بطاعته وإيثار
مرضاته.
) ( مسلم ( ) 10( )07يف الصالة :باب اعتدال أركان الصالة وختفيفها يف متام
مسلم ( )077يف الصالة باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع والنسائي ( ) 1/
يف االفتتاح :باب ما يقوله يف قيامه.
ذوق الصــالة 64
) ( مسلم ( ) 40( )076يف الصالة :باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع.
) ( سقط من نسخة تيسري زعيرت.
6 ذوق الصــالة
له حال يكون فيها أقرب إىل اهلل؛ وهلذا كان الدعاء يف هذا احملل
أقرب إىل اإلجابة.
أصل اإلنسان
جديرا بأن ال ُيرج
وملا خلق اهلل سبحانه العبد من األرض ،كان ً
عن أصله ،بل يرجع إليه إذا تقاضاه الطبع والنفس باخلروج عنه ،فإن
العبد لو ترك طبعه ودواعي نفسه لتكرب وأشر ،وخرج عن أصله الذي
وثَب على حق ربه من الكربياء والعظمة ،فنازعه إيامها،
خلقه منه ،ولَ َ
وخشوعا له وتذلال بني
ً خضوعا لعظمة ربه وفاطره،
ً وأُمر بالسجود
انكسارا له فيكون هذا اخلشوع واخلضوع والتذلل ًردا له إىل
يديه ،و ً
حكم العبودية ويتدارك ما حصل له من اهلفوة والغفلة واإلعراض
الذي خرج به عن أصله.
فتمثل له حقيقة الرتاب الذي خلق منه ،وهو يضع أشرف شيء
خضوعا بني يدي ربه
ً منه وأعاله ،وهو الوجه ،وقد صار أعاله أسفله
وخشوعا له وتذلال لعظمته واستكانة لعزته ،وهذا غاية
ً األعلى،
خشوع الظاهر فإن اهلل سبحانه خلقه من األرض اليت هي مذللة
للوطء باألقدام ،واستعمله فيها ،ورده إليها ،ووعده باإلخراج منها،
فهي أُُمهُ وأبوه وأصله وفصله ،ضمته حيًا على ظهرها ،وميتًا يف
ومسجدا فأمر بالسجود ،إذ هو غاية خشوع
ً طهرا
وجعلت له ًبطنهاُ ،
الظاهر ،وأمجع العبودية لسائر األعضاء ،فيعفر وجهه يف الرتاب
وخضوعا وإلقاء باليدين.
ً اضعا
استكانة وتو ً
وقال مسروق لسعيد بن جبري :ما بقي شيء يرغَب فيه إال أن
ذوق الصــالة 6
ويقول :يا ويله أمر ابن آدم بالسجود ،فسجد ،فله اجلنة ،وأمرت
بالسجود فعصيت فلي النار( ).
سجدا عند مساع ً ولذلك أثىن اهلل سبحانه على الذين ُيرون
ساجدا عنده؛ ولذلك كان قول من أوجبه ً كالمه ،وذم من ال يقع
قويًا يف الدليل وملا علمت السحرة صدق موسى وكذب فرعون ،خروا
سجدا لرهبم ،فكانت تلك السجدة أول سعادَّتم وغفران ما أفنوا فيه ً
أعمارهم من السحر؛ ولذلك أخرب سبحانه عن سجود مجيع
ات َوَما فِي سماو ِ ِ ِِ
املخلوقات له فقال تعاىلَ :وللَه يَ ْس ُج ُد َما في ال َ َ َ
ض ِم ْن َدابٍَة َوال َْم َالئِ َكةُ َو ُه ْم َال يَ ْستَ ْكبِ ُرو َن * يَ َخافُو َن َربَـ ُه ْم ِم ْن ْاأل َْر ِ
فَـ ْوقِ ِه ْم َويَـ ْف َعلُو َن َما يُـ ْؤَم ُرو َن[ النحل ]54 ،01 :فأخرب عن إمياهنم
تعظيما وإجالالً وقال تعاىل: ً بعلوه وفوقيته وخضوعهم له بالسجود
ضات َوَم ْن فِي ْاأل َْر ِ سماو ِ ِ
أَلَ ْم تَـ َر أَ َن اللَهَ يَ ْس ُج ُد لَهُ َم ْن في ال َ َ َ
اب َوَكثِ ٌير ِم َن ش َج ُر َوال َد َو ُال َوال َ ْجبَ ُشمس والْ َقمر والنُجوم وال ِ
َوال َ ْ ُ َ َ ُ َ ُ ُ َ
اب َوَم ْن يُِه ِن اللَهُ فَ َما لَهُ ِم ْن ُم ْك ِرٍم إِ َن ِ الن ِ ِ
َاس َوَكث ٌير َح َق َعلَْيه ال َْع َذ ُ
شاءُ[ احلج.] 4 : اللَهَ يَـ ْف َع ُل َما يَ َ
فالذي حق عليه العذاب هو الذي ال يسجد له سبحانه ،وهو
الذي أهانه برتك السجود له ،وأخرب أنه ال مكرم له ،وقد هان على
سماو ِ ِ ِِ
ات ربه حيث مل يسجد له وقال تعاىلَ :وللَه يَ ْس ُج ُد َم ْن في ال َ َ َ
َص ِ ِ
ال *[ الرعد.] 5 : ض طَْو ًعا َوَك ْرًها َوظ َاللُ ُه ْم بِالْغُ ُد ِو َو ْاْل َ َو ْاأل َْر ِ
) ( مسلم ( )4يف اإلميان :باب بيان إ طالق اسم الكفر على من ترك الصالة.
ذوق الصــالة 60
تكرار السجود
وملا كانت العبودية غاية كمال اإلنسان وقربه من اهلل حبسَب
نصيبه من عبوديته ،وكانت الصالة جامعة ملتفرق العبودية ،متضمنة
ألقسامها كانت أفضل أعمال العبد ،ومنزلتها من اإلسالم مبنزلة عمود
الفسطاط منه وكان السجود أفضل أركاهنا الفعلية ،وسرها اليت شرعت
ألجله ،وكان تكرره يف الصالة أكثر من تكرر سائر األركان ،وجعله
خامتة الركعة وغايتها ،وشرع فعله بعد الركوع ،فإن الركوع توطئه له
ومقدمة بني يديه ،وشرع فيه من الثناء على اهلل ما يناسبه ،وهو قول
العبد« :سبحان ريب األعلى» فهذا أفضل ما يقال فيه ،ومل يرد عن
النيب أمره يف السجود بغريه حيث قال« :اجعلوها في
( )
عمدا فصالته باطلة عند كثري من العلماء، سجودكم» ومن تركه ً
منهم اإلمام أمحد وغريه؛ ألنه مل يفعل ما أمر به ،وكان وصف الرب
بالعلو يف هذه احلال يف غاية املناسبة حلال الساجد الذي قد احنط إىل
السفل على وجهه ،فذكر علو ربه يف حال سقوطه ،وهو كما ذكر
عظمته يف حال خضوعه يف ركوعه ،ونزه ربه عما ال يليق به مما يضاد
عظمته وعلوه.
الجلوس بين السجدتين
مث ملا شرع السجود بوصف التكرار ،مل يكن بد من الفصل بني
) ( هذه إشارة إىل ما رواه أبو داود ( )454يف الصالة :باب الدعاء بني السجدتني،
والرتمذي ( ) 40يف الصالة :باب ما يقول بني السجدتني :وابن ماجه ( )414يف
إقامة الصالة :باب ما يقول بني السجدتني ،وحسن إسناده النووي يف «األذكار».
ذوق الصــالة 66
جلسة التشهد
فلما أكمل ركوع الصالة وسجودها وقراءَّتا وتسبيحها وتكبريها،
شرع له أن جيلس يف آخر صالته جلسة املتخشع املتذلل املستكني
جاثيًا على ركبتيه ،ويأيت يف هذه اجللسة بأكمل التحيات وأفضلها
عوضا عن حتية املخلوق للمخلوق ،إذا واجهه ،أو دخل عليه ،فإن ً
الناس حييون ملوكهم وأكابرهم بأنواع التحيات اليت حييون هبا قلوهبم،
صباحا ،وبعضهم يقول :لك البقاء والنعمة، ً فبعضهم يقول :أنعم
وبعضهم يقول :أطال اهلل بقاءك ،وبعضهم يقول :تعش ألف عام،
وبعضهم يسجد للملوك ،وبعضهم يسلم فتحياَّتم بينهم تتضمن ما
حيبه احمليا من األقوال واألفعال ،واملشركون حييون أصنامهم.
قال احلسن :كان أهل اجلاهلية يتمسحون بأصنامهم ويقولون:
لك احلياة الدائمة ،فلما جاء اإلسالم أ ُِم ُروا أن جيعلوا أطيَب تلك
التحيات وأزكاها وأفضلها اهلل.
67 ذوق الصــالة
التحيات
فالتحية هي حتية من العبد للحي الذي ال ميوت ،وهو سبحانه
أوىل بتلك التحيات من كل ما سواه ،فإهنا تتضمن احلياة والبقاء
أح ٌد هذه التحيات إال احلي الباقي الذي ال والدوام ،وال يستحق َ
ميوت وال يزول ملكه ،وكذلك قوله« :والصلوات» فإنه ال يستحق
أحد الصالة إال اهلل عز وجل والصالة لغريه من أعظم الكفر والشرك
به ،وكذلك قوله« :والطيبات» فهي صفة املوصوف احملذوف أي:
الطيبات من الكلمات واألفعال والصفات ،واألمساء هلل وحده ،فهو
طيَب ،وأفعاله طيبة ،وصفاته أطيَب شيء وأمساؤه أطيَب األمساء،
وامسه الطيَب ،ال يصدر عنه إال طيَب ،وال يصعد إليه إال طيَب ،وال
يقرب منه إال طيَب ،فكله طيَب ،وإليه يصعد الكلم الطيَب ،وفعله
طيَب ،والعمل الطيَب يعرج إليه فالطيبات كلها له ومضافة إليه
طيّب ال يقبل إال
صادرة عنه ومنتهية إليه .قال النيب « :إن اهلل ٌ
طيبًا»( ) ويف حديث ُرقية املريض الذي رواه أبو داود وغريه «أنت
رب الطيبين»( ) وال جياوره من عباده إال الطيبون كما يقال ألهل ُ
ين[ الزمر ]7 :وقد اجلنة س َالم َعلَي ُكم ِطبتُم فَا ْد ُخلُ َ ِ ِ
وها َخالد َ َ ٌ ْ ْ ْْ
حكم سبحانه شرعه وقدره أن الطيبات للطيبني ،فإذا كان هو
سبحانه الطيَب على اإلطالق فالكلمات الطيبات ،واألفعال
الطيبات ،والصفات الطيبات ،واألمساء الطيبات كلها له سبحانه ،ال
) ( مسلم ( ) 4 5يف الزكاة :باب قبول الصدقة من الكسَب الطيَب وتربيتها.
) ( أبو داود ( ) 41يف الطَب :باب كيف الرقي وأمحد (.) /6
ذوق الصــالة 64
التحيات مقدمة بني يدي سؤاله ،مث يتبعها بالصالة على من نالت
أمته هذه النعمة على يده وسعادته ،مث يتبعها بالصالة على من نالت
أمته هذه النعمة على يده وسعادته ،فكأن املصلي توسل إىل اهلل
سبحانه بعبوديته ،مث بالثناء عليه والشهادة له بالوحدانية ،ولرسوله
بالرسالة ،مث الصالة على رسوله ،مث قيل له :ختري من الدعاء أحبه
إليك ،فذاك احلق الذي عليك ،وهذا احلق الذي لك ،وشرعت
الصالة على آله مع الصالة عليه تكميالً لقرة عينه بإكرام آله و
الصالة عليهم ،وأن يصلي عليه وعلى آله كما صلى على أبيه إبراهيم
وآله.
واألنبياء كلهم بعد إبراهيم من آله؛ لذلك كان املطلوب للرسول
صالة مثل الصالة على إبراهيم ،وعلى مجيع األنبياء بعده وآله
املؤمنني ،فلهذا كانت هذه الصالة أكمل ما يصلي على رسول اهلل
هبا وأفضل.
االستعاذة من مجامع الشر
فإذا أتى هبا املصلي أمر أن يستعيذ باهلل من جمامع الشر كله،
فإن الشر إما عذاب اآلخرة وإما سببه فليس الشر إال العذاب
وأسبابه ،والعذاب نوعان :عذاب يف الربزخ وعذاب يف اآلخرة،
وأسبابه :الفتنة ،وهي نوعان كربى وصغرى ،فالكربى فتنة الدجال
وفتنة املمات ،والصغرى فتنة احلياة اليت ميكن تداركها بالتوبة خبالف
فتنة املمات وفتنة الدجال ،فإن املفتون فيهما ال يتداركها.
ذوق الصــالة 74
بالسالمة اليت هي أصل اخلري وأساسه ،فشرع ملن وراءه أن يتحلل مبثل
ما حتلل به اإلمام.
ويف ذلك دعاء له وللمصلني معه بالسالم ،مث شرع ذلك لكل
منفردا فال أحسن من هذا التحليل للصالة كما أنهمصل ،وإن كان ً
ال أحسن من كون التكبري حترميًا هلا ،فتحرميها تكبري الرب تعاىل
اجلامع إلثبات كل كماله له ،وتنزيهه عن كل نقص وعيَب ،وإفراده
وختصيصه بذلك وتعظيمه وإجالله ،فالتكبري يتضمن تفاصيل أفعال
الصالة وأقواهلا وهيئاَّتا.
فالصالة من أوهلا إىل آخرها تفصيل ملضمون« :اهلل أكرب» وأي
حترمي أحسن من هذا التحرمي املتضمن لإلخالص والتوحيد؟ وهذا
التحليل املتضمن اإلحسان إىل إخوانه املؤمنني .فافتتحت
باإلخالص ،وختمت باإلحسان أ.هـ.
ذوق الصــالة 7
الرسالة الثالثة:
فالصالة قرة عيون احملبني يف هذه الدنيا ملا فيها من مناجاة من ال
تقر العيون وال تطمئن القلوب وال تسكن النفوس إال إليه ،والتنعم
بذكره والتذلل واخلضوع له والقرب منه ،وال سيما يف حال السجود،
وتلك احلال أقرب ما يكون العبد من ربه فيها.
ومن هذا قول النيب « :يا بالل أرحنا بالصالة»( ) فأعلم
بذلك أن راحته يف الصالة ،كما أخرب أن قرة عينه فيها .فأين هذا من
قول القائل نصلي ونسرتيح من الصالة.
فاحملَب راحته وقرة عينه يف الصالة ،والغافل املعرض ليس له
نصيَب من ذلك ،بل الصالة كبرية شاقة عليه ،إذا قام فيها كأنه على
اجلمر ،حىت يتخلص منها ،وأحَب الصالة إليه أعجلها وأسرعها ،فإنه
ليس له قرة عني فيها ،وال لقلبه راحة هبا ،والعبد إذا قرت عينه بشيء
واسرتاح قلبه به فأشق ما عليه مفارقته ،واملتكلف الفارغ القلَب من
اهلل والدار اآلخرة املبتلى مبحبة الدنيا أشق ما عليه الصالة وأكره ما
إليه طوهلا مع تفرغه وصحته وعدم اشتغاله.
ومما ينبغي أن يعلم أن الصالة اليت تقر هبا العني ويسرتيح هبا
القلَب هي اليت جتمع ستة مشاهد:
المشهد األول :اإلخالص:
وهو أن يكون احلامل عليها والداعي إليها رغبة العبد يف اهلل
وحمبته له ،وطلَب مرضاته والقرب منه ،والتودد إليه ،وامتثال أمره
حبيث ال يكون الباعث له عليها حظًا من حظوظ الدنيا ألبتة ،بل
يأيت هبا ابتغاء وجه ربه األعلى ،حمبة له وخوفًا من عذابه ورجاء ملغفرته
وثوابه.
المشهد الثاني :مشهد الصدق والنصح:
وهو أن يفرغ قلبه هلل فيها ،ويستفرغ جهده يف إقباله فيها على
ظاهرا
اهلل ،ومجع قلبه عليها ،وإيقاعها على أحسن الوجوه وأكملها ً
وباطنًا فإن الصالة هلا ظاهر وباطن فظاهرها :األفعال املشاهدة
واألقوال املسموعة ،وباطنها :اخلشوع واملراقبة ،وتفريغ القلَب هلل،
واإلقبال بكليته على اهلل فيها ،حبيث ال يلتفت قلبه عنه إىل غريه،
فهذا مبنزلة الروح هلا ،واألفعال مبنزلة البدن ،فإذا خلت من الروح
كانت كبدن ال روح فيه.
أفال يستحي العبد أن يواجه سيده مبثل ذلك ،وهلذا تُلف بالثوب
اخللق ويضرب هبا وجه صاحبها ،وتقول :ضيعك اهلل كما ضيعتين،
والصالة اليت كمل ظاهرها وباطنها تصعد وهلا نور وبرهان كنور
الشمس حىت تعرض على اهلل ،فريضاها ويقبلها وتقول :حفظك اهلل
كما حفظتين( ).
المشهد الثالث :مشهد المتابعة واالقتداء:
وهو أن حيرص كل احلرص على االقتداء يف صالته بالنيب
) ( ورد هذا املعىن من حديث أنس بن مالك وعبادة بن الصامت ،بأسانيد ضعيفة عند
الطرباين وغريه.
75 ذوق الصــالة
ويصلي كما كان يصلي ويعرض عما أحدث الناس يف الصالة من
الزيادة والنقصان واألوضاع اليت مل ينقل عن رسول اهلل شيء منها
وال عن أحد من أصحابه ،وال يقف عند أقوال املرخصني الذين
يقفون مع أقل ما يعتقدون وجوبه ،ويكون غريهم قد نازعهم يف ذلك
وأوجَب ما أسقطوه .ولعل األحاديث الثابتة والسنة النبوية من جانبه،
وال يلتفتون إىل ذلك ويقولون :حنن مقلدون ملذهَب فالن ،وهذا ال
عذرا ملن ختلف عما علمه من السنة عنده، ُيلص عند اهلل وال يكون ً
فإن اهلل سبحانه إمنا أمر بطاعة رسوله واتباعه وحده ،ومل يأمر
باتباع غريه ،وإمنا يطاع غريه إذا أمر مبا أمر به الرسول وكل أحد
سوى الرسول فمأخوذ من قوله ومرتوك.
المشهد الرابع :مشهد اإلحسان:
وهو مشهد املراقبة وهو أن يعبد اهلل كأنه يراه ،وهذا املشهد إمنا
ينشأ من كمال اإلميان باهلل وأمسائه وصفاته ،حىت كأنه يرى اهلل
سبحانه فوق مسواته مستويات على عرشه ،يتكلم بأمره وهنيه ،ويدبر
أمر اخلليقة فينزل األمر من عنده ويصعد إليه ،وتعرض أعمال العباد
وأرواحهم عند املوافاة عليه ،فيشهد ذلك كله بقلبه ويشهد أمساءه
آمرا ناهيًا حيَب
حكيما ً
ً بصريا عز ًيزا
مسيعا ً
قيوما حيًا ً
وصفاته ،ويشهد ً
ويبغض ويرضى ويغضَب ويفعل ما يشاء وحيكم ما يريد ،وهو فوق
عرشه ال ُيفى عليه شيء من أعمال العباد وال أقواهلم وال بواطنهم
بل يعلم خائنة األعني وما ختفي الصدور.
ومشهد اإلحسان أصل أعمال القلوب كلها ،فإنه يوجَب احلياء
ذوق الصــالة 76
ك أَ ْن أ ْ
َسلَ ُموا قُ ْل َال تَ ُمنُوا َعلَ َي قال اهلل تعاىل :يَ ُمنُو َن َعلَْي َ
ين ان إِ ْن ُك ْنتُم ِ ِ إِ ْس َالم ُكم ب ِل اللَهُ يم ُن َعلَْي ُكم أَ ْن َه َدا ُكم لِ ِْْليم ِ
صادق َ ْ َ ْ َ ْ َُ َ َْ
*[ احلجرات.] 7 :
فاهلل سبحانه هو الذي جعل املسلم مسل ًما واملصلي مصليًا كما
ك َوِم ْن ذُ ِريَتِنَا أَُمةً ُم ْسلِ َم ًة
اج َعلْنَا ُم ْسلِ َم ْي ِن لَ َ
قال اخلليلَ :ربَـنَا َو ْ
ص َالةِ َوِم ْنيم ال َ ِ ِ
اج َعلْني ُمق َ ب ْ ك[ البقرة ] 4 :وقال َ ر ِ لَ َ
ذُ ِريَتِي[ إبراهيم.]04 :
قائما بطاعته ،وكان هذا من فاملنة هلل وحده يف أن جعل عبده ً
أعظم نعمه عليه وقال تعاىلَ :وَما بِ ُك ْم ِم ْن نِ ْع َم ٍة فَ ِم َن اللَ ِه
يما َن َوَزيَـنَهُ فِي ّب إِلَْي ُك ُم ِْ
اإل َ
ِ
[النحل ]5 :وقالَ :ولَك َن اللَهَ َحبَ َ
77 ذوق الصــالة
« :لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» قالوا :وال أنت يا رسول
اهلل؟ قال« :وال أنا إال أن يتغمدني اهلل برحمة منه وفضل»( ).
الفهرس
املقدمة 5 ......................... ................................
الرسالة األولى
الرسالة األوىل7 .................. ................................ :
حقيقة الصالة 4 ................... ................................
الصالة مأدبة وغيث 4 ............. ................................
الصدور من املأدبة 1 ............... ................................
جتديد الدعوة 1 .................... ................................
الغفلة قحط 1 ..................... ................................
عاقبة الغفلة 4 .................... ................................
يبوسة القلَب 4 ................... ................................
مطر القلَب 4 .................... ................................
استعمال اجلوارح ................ ................................
جوارح الطاعة .................. ................................
جوارح املعصية ................. ................................
جوارح البطالة .................. ................................
وافد امللك ..................... ................................
كرم امللك 0 ..................... ................................
سبَب القرب 5 ................... ................................
طهارة القدوم 5 ................... ................................
4 ذوق الصــالة