You are on page 1of 72

0

‫الآللي من كالم الغزالي ‪1‬‬


‫الآللي من كالم الغزالي ‪2‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪3‬‬

‫مجيع احلقوق حمفوظة للناشر‬

‫اسم الكتاب‪ :‬الآللي‬


‫من كالم الغزالي‬
‫المؤلف‪ :‬د‪ .‬يحيى مصري‬
‫القطع‪24 × 17 :‬‬
‫عدد الصفحات‪70 :‬‬
‫السمة‪ :‬نسخة إلكترونية‬
‫إصدار‪ :‬المؤلف‬
‫‪1442‬هـ ‪2021 -‬م‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪4‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪5‬‬

‫اإلهداء‬
‫إلى الشباب الطموح‪ ،‬الذي لم يفقد األمل‬
‫بدينه‪ ،‬فال تقف في وجهه العراقيل‪ ،‬وال تمنع‬
‫تقدّمه السدود في مسيرته إلى التنوير ألجل‬
‫اإلحياء والبناء‪ ،‬يرى مستقبالً مشرقا ً بنور‬
‫اإليمان متجددا ً باتباع المنهج الرباني والسنة‬
‫النبوية الشريفة‪.‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪6‬‬

‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على المبعوث رحمة‬
‫للعالمين‪ ،‬نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله الطيبين‪ ،‬وصحبه الطاهرين‪ ،‬ومن‬
‫تبعهم بإحسان إلى يوم الدين‪.‬‬

‫وبعد‪ ،‬فإن أمتنا أمة ا‬


‫وّلدة‪ّ ،‬ل يخبو فيها سراج إّل ويشع منها‬
‫مصباح‪ ،‬وكلهم راسخون في العلم يأخذونه كابرا عن كابر‪ ،‬متفتحة‬
‫بصائرهم فيرون ما ّل يرى غيرهم‪ ،‬وكما نشأت المدارس الفقهية‬
‫نشأت المدارس الفكرية التي أبرزت لنا أعالما ً ما زالت نظراتهم‬
‫وفكرهم ومقوّلتهم نجوما ً تضيء للسارين‪ ،‬فبهم يقتدون كما بالنجم‬
‫يهتدون في قوله تعالى‪ :‬وعالمات وبالنجم هم يهتدون‪ ،)1(‬وقد‬
‫أبرز عصرنا عدداً من المفكرين‪ ،‬أمثال أبي األعلى المودودي‬

‫‪ 1‬سورة النحل‪.16 :‬‬


‫الآللي من كالم الغزالي ‪7‬‬

‫ومالك بن نبي ومحمد الغزالي‪ ،‬وغيرهم من أعالم الفكر في‬


‫عصرنا‪ .‬وعند المفكر محمد الغزالي توقف الدكتور يحيى مصري‬
‫طويالً‪ ،‬وغاص في بحر كتبه ومحاضراته‪ ،‬ورأى أن من حق‬
‫الغزالي على أمتنا أن تنظر في نتاج هذا المفكر العظيم‪ ،‬كما أن من‬
‫حقه على أمثال د‪ .‬يحيى أن يسهلوا األمر لجيل المعلوماتية الذي‬
‫أهمل الكتب األمهات وانحاز إلى قراءة المقالة القصيرة وبات‬
‫يختار الفكرة الدسمة التي تقدَّم له في «كبسولة» تختصر الفوائد‪،‬‬
‫مراعاة لوقته وطبعه وطبيعة عصره الذي جعله يمل العكوف على‬
‫الكتب الضخمة والكثيرة‪ ،‬فخرج لنا الدكتور يحيى بدرر مكنونة‬
‫وآللئ منتخبة‪ ،‬جمعها في كتاب أسماه «الآللي من كالم الغزالي»‪،‬‬
‫وشرفني هللا تعالى بأن فوضني مؤلف الكتاب أستاذي د‪ .‬يحيى‬
‫ا‬
‫بتنسيق الكتاب وضبط هوامشه وإحاّلت شواهده‪ ،‬ونشره إلكترونيا ً‬
‫مجاناً‪ ،‬ليكون متاحا ً للجميع‪ ،‬وذلك ألجل اإلفادة والنفع العام‪ ،‬بعيدا ً‬
‫عن اّلنتفاع المالي الذي منع كثيرين من قراءة كتب تستحق القراءة‬
‫وتعجز أثمانها طالب العلم والمعرفة‪.‬‬
‫مصطفى الزايد‬
‫اإلثنين‪ 3 /‬رجب‪1442 /‬هـ الموافق ‪2021‬م‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪8‬‬

‫ـ ليس الثراء دليل قبول إلهي أو شرف نفسي‪ ،‬وليس البؤس دليل‬
‫غضب إلهي أو غباء عقلي‪ .‬إن هللا يبتلي الناس بالخير والشر‪،‬‬
‫والبأساء والضراء‪ ،‬والمرء بعد ذلك هو صانع مستقبله بأسلوب‬
‫تصرفه ونهجه في معالجة ما أصابه‪.‬‬

‫ـ هناك رغبة تموت في مكانها‪ ،‬وهناك رغبة تتحول إلى عزيمة‬


‫وتصميم‪ ،‬وهناك إرادة يحول دون تنفيذها عائق خارجي كاللص‬
‫الذي قرر سرقة محل‪ ،‬فلما ذهب إليه وجد رجال الشرطة أمامه!‬
‫إنه لم يمنعه من إتمام جريمته إّل الحراس‪.‬‬

‫ـ هناك رذائل ّل يطلع عليها الناس كالحسد والرياء والكبر‪ ،‬وهللا‬


‫سبحانه وتعالى يؤاخذ بها وإن كانت مخبوءة في ضمير صاحبها‪.‬‬

‫ـ إن من خصائص النفس العربية شدة إحساسها بميلها وجنوحها‬


‫للعظمة‪ ،‬وعشقها للرياسة‪ ،‬وتطلعها إلى السلطة بأية وسيلة‪ .‬ولذلك‬
‫كان أول ما نبه إليه الرسول ﷺ السمع والطاعة ولو كان الحاكم‬
‫عبداً حبشياً‪ ...‬ا‬
‫وإن جرثومة هذ ه الخصائص ّل يقتلها إّل التجرد‬
‫واإلخالص وتقوى هللا عز وجل‪ .‬وتأملوا في ما رواه البخاري‬
‫ومسلم عن ابن عباس‪ ،‬قال‪ :‬قام فينا رسول هللا ﷺ بموعظة فقال‪:‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪9‬‬

‫﴿يا أيها الناس إنكم محشورون إلى هللا تعالى حفاة عراة غرّلً (غير‬
‫)‪)2‬‬
‫مختونين) ‪‬كما بدأْنا أ َّول خ ْل ٍ‬
‫ق نُّعيده ۚ و ْعدًا عليْنا ۚ إنَّا كنَّا فاعلين‪‬‬
‫أّل وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول‪ :‬يا‬
‫رب أصحابي! فيقال‪ :‬إنك ّل تدري ما أحدثوا بعدك‪ ،‬فأقول كما قال‬
‫العبد الصالح عيسى‪ ،‬عليه السالم‪ :‬وكنت عليْه ْم شهيدًا َّما د ْمت‬
‫فيه ْم ۖ فل َّما توفَّيْتني كنت أنت َّ‬
‫الرقيب عليْه ْم ۚ وأنت عل ٰى ك ال ش ْيءٍ‬
‫شهيدٌ ‪ ‬إن تعذابْه ْم فإنَّه ْم عبادك ۖ وإن ت ْغف ْر له ْم فإنَّك أنت ْالعزيز‬
‫ْالحكيم ‪﴾.)3(‬‬
‫(‪)4‬‬

‫ـ إن اّلبتداع في الدين ظلم وجهل وغرور‪ ،‬ذلك بأن التشريع حق‬


‫هللا وحده‪ ،‬وّل مكان للبشر فيه‪ .‬أما اّلبتداع في شؤون الدنيا فهو‬
‫واجب؛ ألننا لن نحسن الدفاع عن ديننا إّل بفهم هذا الواجب وإتقانه‪،‬‬
‫والعجب كل العجب من أولئك المتخلفين في الدنيا لطول جمودهم‪،‬‬
‫ومن المتخلفين في اآلخرة لكثرة مبتدعاتهم!‬

‫ـ ليست األمانة خلقا ً خاصاً‪ ،‬بل األمانة جهاز كامل مشرف على ما‬
‫دق جله من أعمال الناس‪ .‬والمؤمن أمين على الدماء واألموال‬

‫‪ 2‬سورة األنبياء‪.104 :‬‬


‫‪ 3‬سورة المائدة‪.118 ،117 :‬‬
‫‪ 4‬صحيح البخاري‪ ،‬برقم ‪ .3447‬وصحيح مسلم‪ ،‬برقم ‪.2860‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪10‬‬

‫واألعراض‪ ،‬وأمين على ما يوكل إليه وحمايته من الغش والنقص‪،‬‬


‫ومع قيام األمانة في المجتمع المسلم‪ ،‬تستقر في جذره ثم تتفرع في‬
‫شؤونه كلها‪.‬‬

‫ـ لقد حذر القرآن أتباعه من جفاء القلوب وسوء عالقتها باهلل‪،‬‬


‫ويحصل ذلك من تحول العبادات إلى عادات‪ ،‬والتالوة إلى شقشقة‬
‫لسان‪ ،‬واألذكار إلى أوراد ميتة‪.‬‬

‫ولما كان أهل الكتاب األولون قد أصبحوا بهذه العلل على مر األيام‬
‫فقد خيفت عدواهم وانسياق المسلمين وراءهم‪ ،‬فقال سبحانه‪ :‬أل ْم‬
‫يأْن للَّذين آمنوا أن ت ْخشع قلوبه ْم لذ ْكر َّ‬
‫َّللا وما نزل من ْالح اق وّل‬
‫يكونوا كالَّذين أوتوا ْالكتاب من قبْل فطال عليْهم ْاألمد فقس ْ‬
‫ت قلوبه ْم ۖ‬
‫ير ام ْنه ْم فاسقون‪ ،)5(‬ومع خور اإليمان تقل األمانات‪ ،‬وّل تزال‬
‫وكث ٌ‬
‫تقل حتى تصبح أثراً بعد عين‪ ...‬وليست األمانة التي نتحدث عنها‬
‫وديعة مالية جحدها خائن‪ !،‬إن صور األمانة كثيرة‪ ،‬فالكلمة تقولها‬
‫لصاحب لك ثم تلتفت أمانة‪ .‬والوظيفة تتطلب الكفء ليشغلها أمانة‪،‬‬
‫وراتبك الذي ّل يجوز أن يزيد بطريقة ما أمانة‪ .‬قال الشاعر‪:‬‬

‫‪ 5‬سورة الحديد‪.16 :‬‬


‫الآللي من كالم الغزالي ‪11‬‬

‫سـألت الناس عـن خـ ٍال وف ا‬


‫ي ٍ فـقـالـوا مـا إلـى هـذا ســـبـيـل‬
‫(‪)6‬‬ ‫س ْك إن ظفـرت بذيـل حـ ار فـ ا‬
‫إن الـحـ ار فـي الـدنـيـا قـليـل‬ ‫تم َّ‬

‫ـ إن األمة الحريصة على رسالتها تعرف كيف تخدم دينها‪ ،‬وذلك‬


‫عندما تفهم ذلك الدين فهما ً عميقاً‪ ،‬ألنه قد أًصاب اإلسالم ظل ٌم‬
‫شديد من كثرة ما نسب إليه من محدثات هو بريء منها‪ ،‬فعن‬
‫عائشة رضي هللا عنها قالت‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪ ﴿ :‬م ْن أحْ دث ف ْي‬
‫ط تحت «ما ليس منه»؛ ألنه‬ ‫أ ْمرنا هذا ما ليْس م ْنه فهو رد﴾(‪ )7‬وخ ا‬
‫إذا كان من الدين ومتفقا ً مع مقاصد الشريعة كاألقيسة والمصالح‬
‫المرسلة والتعازير المختلفة وما بيانه العلماء الراسخون فإن كل‬
‫هذا غير مردود‪.‬‬

‫ـ إن الدعوة اإلسالمية في حاجة إلى رجال يميزون بين السنن‬


‫الحسنة والمبتدعات‪ ،‬حتى ّل يكون هناك خلط بين السليم والمزيف‪.‬‬

‫ـ إن رفع المستوى العلمي لألمة كله فريضة موزعة على الذكور‬


‫سر له المزيد من العلم‪ .‬وفي‬
‫واإلناث‪ ،‬ومن أراد هللا رفع درجته ي ا‬

‫‪ 6‬البيتان ألبي إسحق الشيرازي‪.‬‬


‫‪ 7‬صحيح البخاري‪ ،‬برقم ‪.2697‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪12‬‬

‫َّللا به خي ًْرا يفقا ْهه في الداين﴾(‪ ،)8‬والفقيه يجتهد في‬


‫الحديث‪﴿ :‬من يرد َّ‬
‫طاعة هللا‪ ،‬ويجتهد في تفقيه الناس حوله؛ ابتغاء وجه هللا‪.‬‬

‫ـ قد يسرف بعض الناس في إحدى الطاعات على حساب التقصير‬


‫في طاعة أخرى‪ .‬والفرائض المكتوبة تشبه الوجبات التي يتغذى‬
‫بها البدن‪ّ ،‬ل بد من احتوائها على عناصر منوعة‪ .‬وقد يمرض‬
‫الجسم؛ ألنه استكثر من عنصر وحرم من عنصر آخر‪.‬‬

‫ـ إنه عندما يكون الكفر أقدر على قيادة الحياة من اإليمان فقد ضاع‬
‫الدين‪ ،‬ولم يغن ركوع أو سجود‪ ،‬إن التدين الجامح في ناحية‬
‫والمنكمش في أخرى يفقد الميزان الضابط للحقائق والذي أشارت‬
‫إليه اآلية الكريمة‪ :‬لق ْد أ ْرس ْلنا رسلنا با ْلبيانات وأنز ْلنا معهم ْالكتاب‬
‫و ْالميزان ليقوم النَّاس ب ْالقسْط‪.)9(‬‬

‫ـ إن الغالة والمتطرفين ّل يعدلون مع أنفسهم وّل مع الناس‪ ،‬والخلل‬


‫في أحكامهم شديد الحيف على الدماء واألعراض‪ ،‬ثم إن اإلسراف‬
‫في بعض العبادات يتبعه غالبا ً قصور في فهم الدنيا وتطويع علومها‬
‫لخدمة الدين‪ ،‬وذلك ما جعل الخوارج قديما ً ومن شابههم في‬

‫‪ 8‬صحيح البخاري‪ ،‬برقم ‪.7312‬‬


‫‪ 9‬سورة الحديد‪.25 :‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪13‬‬

‫عصرنا الحالي أبعد الناس عن الطب والهندسة واّلقتصاد‬


‫والسياسة‪ ،‬ولذلك ّل تصح لهم السلطة وّل بقيت لهم دولة‪ ،‬بل‬
‫عجزوا عن تكوين بيوت سعيدة‪.‬‬

‫‪ -‬إن الحياة ليست لونا ً واحداً؛ فإن الجو يصفو ويغيم‪ ،‬والصحة‬
‫تقوى وتضعف‪ ،‬واأليام تقبل وتدبر‪ ،‬والمهم أّل تتعثر الخطا مع بعد‬
‫الغاية ووعثاء الطريق‪ .‬إن الكدر طبيعة الدنيا‪ ،‬وإن المصابرة‬
‫والتحمل طبيعة أهل اإليمان‪ ،‬والرجولة مبنية على الصبر‬
‫والتماسك‪ .‬أما الجزع واّلسترخاء فال يقوم عليهما خلق وّل يوصل‬
‫بهما إلى نجاح‪ .‬ولوّل الصبر الذي يقهر الضجر ويطرد السآمة ما‬
‫قطع العقالء مرحلة‪ ،‬وما بلغوا مرادهم‪.‬‬

‫‪ -‬ذكر أحمد بن حنبل في قصة رقيقة أن نفراً ثالثة من بني عذرة‬


‫أسلموا عند النبي ﷺ‪ ،‬وكانوا فقراء‪ ،‬فقال رسول هللا‪ :‬من يكفيهم؟‬
‫قال طلحة رضي هللا‪ :‬أنا‪ ،‬فكانوا في كفالته(‪.)10‬‬

‫ـ هناك سورة تستغرق الصفحات الكثيرة‪ ،‬وهناك سورة من سطر‬


‫واحد‪ ،‬وقد تكون سورة اإلخالص القصيرة أفضل من غيرها؛ لما‬

‫‪ 10‬مسند أحمد بن حنبل‪ ،‬برقم ‪.1417‬‬


‫الآللي من كالم الغزالي ‪14‬‬

‫تضمنته من توحيد هللا‪ ،‬فلنعمل هلل بإخالص ولننظر منه وحدة‬


‫الفضل‪ ،‬فهو المقدم والمؤخر ‪‬إ َّن ْالفضْل بيد َّ‬
‫َّللا يؤْ تيه من‬
‫يشاء‪.)11(‬‬

‫ـ من الناس من يعرف الحق ولكن يقدم عليه مصلحته وهواه‪ ،‬وإن‬


‫هللا قد يعذر أصحاب فكر محدود‪ ،‬ولكنه ّل يعذر أصحاب هوى‬
‫غالب ونية مغشوشة‪ ،‬ومن حراس الشعائر الدينية من يستعبدهم‬
‫الشح المطاع واألثرة الجامحة‪ ،‬وهللا أعلم بسرائر الناس ‪‬و َّ‬
‫َّللا ي ْعلم‬
‫ْالم ْفسد من ْالم ْ‬
‫صلح‪ ،)12(‬وما أظن اآلخرة جحدت في عصر كما‬
‫جحدت في عصرنا‪ ،‬وّل الدنيا عبدت كما عبدت في أيامنا ‪‬أفال‬
‫صدور‪.)13(‬‬ ‫ي ْعلم إذا ب ْعثر ما في ْالقبور ‪ ‬وح ا‬
‫صل ما في ال ُّ‬

‫‪ -‬التقوى ثمرة عبادة مكتملة ‪‬يا أيُّها النَّاس اعْبدوا ربَّكم الَّذي خلقك ْم‬
‫والَّذين من قبْلك ْم لعلَّك ْم تتَّقون‪.)14(‬‬

‫كيف تتم التقوى من غير عبادة هللا؟ كيف يبنى صرح من غير‬
‫لبنات وأدوات وأثاث ورياش؟‬

‫‪ 11‬سورة آل عمران‪.73 :‬‬


‫‪ 12‬سورة البقرة‪.220 :‬‬
‫‪ 13‬سورة العاديات‪.10 ،9 :‬‬
‫‪ 14‬سورة البقرة‪.21 :‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪15‬‬

‫‪ -‬إن األمة التي تشيع فيها الكبائر والمظالم واآلثام ليس لها عند هللا‬
‫وجاهة‪ ،‬وّل ينتظر لها غدٌ كريم‪ .‬قال تعالى للمسلمين‪:‬‬

‫ي أ ْهل ْالكتاب ۗ من ي ْعم ْل سو ًءا يجْ ز به وّل‬


‫‪‬لايْس بأمانياك ْم وّل أمان ا‬
‫يرا‪.)15(‬‬ ‫يج ْد له من دون َّ‬
‫َّللا وليًّا وّل نص ً‬

‫‪ -‬إن من أساء وهو قريب من الوحي أشد جرما ً ممن أساء وهو‬
‫جاهل بعيد عنه‪.‬‬

‫ـ إن الناس يحبون أن ترتفع مكانتهم من دون جهد يبذل أو ثمن‬


‫يدفع‪ ،‬ولهذا يقول أحدهم أنا من أسرة فالن! أو من دولة كذا! يحسب‬
‫أنه بذلك كسب مجداً أو نال وجاهة‪ .‬وهذه سيرة ّل تصلح بها دنيا‬
‫صور فال أنساب بيْنه ْم ي ْومئ ٍذ وّل‬
‫وّل آخرة ‪‬فإذا نفخ في ال ُّ‬
‫يتساءلون‪.)16(‬‬

‫وفي عصرنا هذا يحرص بعضهم على الرياسة والجوائز وشارات‬


‫السيارة‪ ،‬وما علموا أن العظمة الحقيقية إن هي إّل نفس زاكية‪،‬‬

‫‪ 15‬سورة النساء‪.123 :‬‬


‫‪ 16‬سورة المؤمنون‪.101 :‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪16‬‬

‫وعقل سليم‪ ،‬ورباط وثيق باهلل جل شأنه‪ .‬والمظهر الفخم على كيان‬
‫أجوف كالثوب الجميل على جلد أجرب أو بدن مجذوم‪.‬‬

‫ـ إن الفقر الثقافي أسوأ من الفقر المالي‪ .‬والشعب الذي يعاني الغباء‬


‫والتخلف ّل يصلح للمعالي وّل يستطيع حمل رسالة كبيرة‪.‬‬

‫ـ إن المسلمين اليوم ـ من الناحية المدنية ـ يأكلون ما يزرعه غيرهم‬


‫ويلبسون ما ينسجه‪ .‬ومن الناحية الخلقية ّل يصونون األمانات وّل‬
‫يضبطون األحاديث وّل يرعون المواثيق‪ ،‬ولهم من هذا التخلف‬
‫المعيب نشاط ملحوظ في القضايا الغيبية والمجادّلت النظرية‪،‬‬
‫حتى اضطر أبو حامد الغزالي إلى تأليف كتابه «إلجام العوام عن‬
‫علم الكالم»‪ ،‬وحتى اضطر ابن تيمية إلى تأليف كتابه «رفع المالم‬
‫عن األئمة األعالم»‪.‬‬

‫ـ العالقة باهلل أساسها اّلستقامة‪ ،‬والثوب الفخم على كيان أجوف‬


‫كالثوب الجميل على جلد أجرب أو بدن مجذوم‪.‬‬

‫ـ إن نصرة هللا صعبة وتحتاج الى التضحية‪ ،‬والنفوس الكبيرة‬


‫تمضي إلى قدرها وفق ما كتب هللا لها‪ ،‬وهللا يمنح فضله من يشاء‪.‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪17‬‬

‫ـ إن القرآن الكريم حوى كل ما يحتاج إليه النشاط البشري من سداد‬


‫وهدى‪ ،‬وّل مقنع للعقل إّل في آياته‪ ،‬وّل مصدر لليقين إّل في بيناته‪.‬‬

‫وإذا كانت األشياء تمتاز بأضدادها‪ ،‬فإن أي قارئ يستطيع الموازنة‬


‫بين القرآن وبين كل ما انتسب إليه من كتب إلى السماء‪ ،‬ثم ليقل‬
‫لنفسه رأيه‪ :‬أيها أعظم دّللة على هللا وتأسيسا ً لتقواه‪ ،‬والليلة التي‬
‫نال فيها القرآن ليلة سالم‪ ،‬والسالم غايتنا نحن – المسلمين ‪ -‬ولكن‪:‬‬
‫ّلبد من العدل قبل السالم‪...‬‬

‫ـ إن معادن األرض مختلفة‪ ،‬والناس معادن‪ ،‬ألنهم من األرض‬


‫ينشؤون‪ ...‬واإلسالم حاسم في أن هللا تعالى غافر الذنب وقابل‬
‫التوب‪.‬‬

‫ـ هللا تعالى يقول‪ ... :‬وأنز ْلنا ْالحديد فيه بأ ْ ٌ‬


‫س شديدٌ ومنافع‬
‫للنَّاس‪ .)17(‬إذا كنا في مجال الصناعة المدنية والعسكرية ّل ندرس‬
‫شيئا ً عن خواص الحديد‪ ،‬وّل نصوغ منه مدفعا ً وّل دبابة‪ ،‬وّل ندفع‬
‫في الي ام بارجة وّل في الجو قاذفة‪ ،‬فهل ننصر هللا بهذا العجز؟ وهل‬
‫نشرف الوحي بتلك السذاجة؟ إن اإليمان في كتابنا فكر في األرض‬

‫‪ 17‬سورة الحديد‪.25 :‬‬


‫الآللي من كالم الغزالي ‪18‬‬

‫والسماء‪ ،‬ودّلئل صدقه مزيد من الفكر في األرض والسماء‬


‫‪‬سنريه ْم آياتنا في ْاآلفاق وفي أنفسه ْم حتَّ ٰى يتبيَّن له ْم أنَّه ْالح ُّق‪.)18(‬‬
‫فهل المكفوفون عن رؤية اآلفاق واستبانة اآليات يستطيعون فقه‬
‫رسالة ودعمها وتشتيت أعدائها؟ إن تاريخ سلفنا الثقافي يشهد لهم‬
‫على خصب عقولهم‪ ،‬فهم ألفوا في فالحة األرض‪ ،‬وفي مسار‬
‫الضوء انعكاسا ً وانكساراً‪ ،‬وتعلام األوربيون منهم ذلك‪ ،‬وكانوا أقل‬
‫منهم مستوى‪ ،‬والرازي وابن الهيثم وسواهما أكبر شاهد على ذلك‪.‬‬
‫أّل يشعر العرب بالخزي عندما يرون (بني) إسرائيل يسمحون‬
‫لثمانية آّلف فلسطيني يعملون عندهم ليأكلوا ويطعموا من وراءهم‬
‫من قطاع غزة؟ أتطبيع هذا أم إذّلل؟ ومن أحق ببناء الحصون؟‬
‫شعب أبي فلسطيني يكون في إسرائيل؟ أم في بلد عربي؟!‬

‫أســئـلـة‬
‫ـ هل زلزلة القدم في الدنيا دليل على رسوخ القدم في اآلخرة؟ هل‬
‫الجهل بأسرار الحياة أثر لتقوى القلوب؟ هل اّلستبحار في فروع‬

‫‪ 18‬سورة فصلت‪.53 :‬‬


‫الآللي من كالم الغزالي ‪19‬‬

‫الفقه واّلستكثار من نوافل العبادات يشير إلى رفعة اإليمان؟ هل‬


‫الدين قلة المال ورداءة الحال ورثاثة الهيئة؟‬

‫إن القرآن الكريم قال للبشر جميعاً‪ :‬ولق ْد م َّكنَّاك ْم في ْاأل ْرض‬
‫وجع ْلنا لك ْم فيها معايش‪...)19(‬‬

‫إن التمكين في األرض عطاء واسع ورضا من هللا كبير ‪‬وك ٰذلك‬
‫م َّكنَّا ليوسف في ْاأل ْرض يتب َّوأ م ْنها حيْث يشاء ۚ نصيب برحْ متنا من‬
‫نَّشاء‪.)20(‬‬

‫ـ إن التفاوت بالغنى والفقر كالتفاوت في شتى المواهب‪ .‬والملكات‬


‫ضرب من اّلختبار اإلنساني العام لحكم كثيرة‪ ،‬وهللا يختبر بالشيء‬
‫ش ار و ْالخيْر فتْنةً‪.)21(‬‬
‫وضده ‪‬ونبْلوكم بال َّ‬

‫حسدوا الفتى إ ْذ لم ينالوا سـعـيـه فالكـ ُّل أعـدا ٌء لـه وخـصوم‬


‫(‪)22‬‬

‫‪ 19‬سورة األعراف‪.10 :‬‬


‫‪ 20‬سورة يوسف‪.56 :‬‬
‫‪ 21‬سورة األنبياء‪.35 :‬‬
‫‪ 22‬البيت ألبي األسود الدؤلي‪.‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪20‬‬

‫مـقـالــة‬

‫سورة اإلخالص سطر واحد‪ ،‬وهي تعدل ثلث القرآن؛ ألنها لخصت‬
‫أصل اّلعتقاد عندنا‪ ،‬فاهلل سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء‪،‬‬
‫ويستحيل أن يكون أبا ً أو ابنا ً‪ ،‬وهو الصمد؛ أي السيد الذي يقصده‬
‫كل من في السماوات واألرض‪ ،‬وماذا يملك غيره؟‬

‫إن النظام الكوني واحد‪ ،‬تضبطه إرادة واحدة‪ ،‬وتصوغه قدرة‬


‫واحدة‪ ،‬والذي يشرف على إفرازات الهضم في أمعاء األحياء هو‬
‫نفسه الذي يشرف على مسارات األفالك في أقاصي اآلفاق‪ .‬وفالق‬
‫الحب والنوى في الحقول والحدائق هو فالق اإلصباح في عالمنا‬
‫وفالق الشروق والغروب في المجرات التي نراها‪ .‬إننا بعد إعمال‬
‫الفكر وإنعام النظر ّل نملك إّل أن نقول‪ّ« :‬ل إله إّل هللا وحده ّل‬
‫شريك له‪ ،‬له الملك وله الحمد وهو على كل قدير»‪.‬‬

‫ـ إن قوتنا الخاصة محدودة‪ ،‬فإذا استعناا باهلل أمدنا بقدرة من عنده‬


‫نستطيع بها النجاح‪ .‬بل إن قوانا الخاصة عارية ّل نداعي امتالكها‪.‬‬
‫ماذا نفعل إذا انقطع التفكير؟ ماذا أفعل إذا انطفأ المصباح؛ ألن‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪21‬‬

‫التيار انقطع؟ ‪‬ق ْل أرأيْت ْم إ ْن أخذ َّ‬


‫َّللا س ْمعك ْم وأبْصارك ْم وختم عل ٰى‬
‫قلوبكم َّم ْن إ ٰلهٌ غيْر َّ‬
‫َّللا يأْتيكم به‪...)23(‬‬

‫ـ عندما أقود سيارتي أملكها ألني أملك عقلي متوكالً على خالقي‪،‬‬
‫ا‬
‫ولكن لألدعية‬ ‫لكنني ّل أملك عقل سائق السيارة القادم من بعيد‪،‬‬
‫سراً‪ .‬قال رسول هللا ‪ ،‬ﷺ‪ ﴿ :‬م ْن قال إذا خرج من بيته بسم هللا‬
‫ْ‬
‫توكلت على هللا ّل حول وّل قوة إّل باهلل يقال له كفيت ووقيت وتن َّحى‬
‫عنه الشيطان﴾(‪ .)24‬إن القلوب إذا عريت عن اليقين والتوكل خشيت‬
‫الهباء‪ ،‬وإذا عمرت باإليمان والصدق لم تبال بشياطين اإلنس‬
‫والجن‪ ،‬وحققت من النتائج ما يثير الدهشة‪.‬‬

‫ـ إن مال المسلمين الذي جعله هللا أمانة عند الحاكمين ليس مغنما ً‬
‫لذوي األطماع‪ ،‬وكذلك السلطة التي بأيديهم ليست لرفع الوضيع‬
‫وتقريب الجاهل‪ .‬إن ذلك كله إلحقاق الحق وإبطال الباطل ودعم‬
‫الكفء وإبعاد التافه‪...‬‬

‫ـ أد واجبك‪ ،‬وسل هللا ما بقي‪ ،‬فإما أنصفت في الدنيا وإما ارتويت‬


‫من نعيم اآلخرة على سيرتك العادلة‪.‬‬

‫‪ 23‬سورة األنعام‪.46 :‬‬


‫‪ 24‬سنن الترمذي‪ ،‬برقم ‪.3426‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪22‬‬

‫مـقـالــة‬

‫لقد تطلع إلى اإلمارة بعض الصحابة األخيار‪ ،‬ولكن الرسول ﷺ‬


‫حذرهم منها؛ ألنهم لم يستكملوا أدواتها‪ .‬جاء عن أبي ذر‪ ،‬رضي‬
‫هللا عنه‪ ،‬أنه قال لرسول هللا ﷺ‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬أّل تستعملني‬
‫(تجعلني والياً)؟ قال‪ :‬فضرب بيده على منكبي‪ ،‬ثم قال‪﴿ :‬يا أبا ٍ ا‬
‫ذر‬
‫ي وندامةٌ َّإّل من أخذها‬
‫ضعيف وإنَّها أمانةٌ وإنَّها يوم القيامة خز ٌ‬
‫ٌ‬ ‫إنَّك‬
‫بحقاها وأدَّى الَّذي عليه فيها﴾ (‪ .)25‬وفي اليرموك نظر خالد بن الوليد‬
‫إلى جيش الروم‪ ،‬وعرف أسلوبه في القتال‪ ،‬وأدرك أن المسلمين‬
‫بأسلوبهم التقليدي لن يستطيعوا مقاومته‪ ،‬فطلب من رؤساء الجند‬
‫أن يمكنوه من القيادة أول المعركة‪ .‬فلما توّلها أدار الحرب على‬
‫نحو جديد وتساقطت فرق الروم وفق الخطة التي رسمها فلم تقم‬
‫للروم قائمة بعدها‪ .‬وكذلك طلب يوسف الصديق أن يكون على‬
‫خزائن األرض‪ ،‬فكانت وّليته بركة عامة‪ .‬فإذا كنت أهال للقيادة‬
‫كخالد ويوسف فاطلب القيادة‪ ،‬على أن تكون تكليفا ً ّل تشريفا ً‪ ،‬وأن‬
‫تجعلها عبودية هلل وحده‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫صحيح مسلم‪ ،‬برقم ‪.1825‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪23‬‬

‫‪ -‬أوصى أبو بكر عمر‪ ،‬رضي هللا عنهما‪ ،‬ل اما رشحه للخالفة فقال‪:‬‬

‫«‪ . ..‬إني أدعوك ألمر متعب لمن وليه‪ ،‬فاتق هللا يا عمر بطاعته‬
‫وأطعه بتقواه‪ ،‬فإن التقي آمن محفوظ‪ ،‬ثم إن األمر معروض ّل‬
‫يستوجبه إّل من عمل به‪ ،‬فمن أمر بالحق وعمل بالباطل‪ ،‬وأمر‬
‫بالمعروف وعمل بالمنكر يوشك أن تنقطع أمنياته وأن يحبط عمله‪،‬‬
‫فإن أنت وليت عليهم أمرهم فإن استطعت أن تجف يدك من دمائهم‪،‬‬
‫وأن تضمر بطنك من أموالهم وأن تجف لسانك من أعراضهم‬
‫فافعل‪ ،‬وّل قوة إّل باهلل‪.»...‬‬

‫ـ إنه قد يكون من كبائر اإلثم أن تدخل على مدير جائر أو جاهل‬


‫فتثني عليه‪ ،‬وتتزلف إليه لمأرب خاص! إن ذلك ذنب معقد يجمع‬
‫بين الكذب والغش وإيذاء األمة وإضاعة المصلحة العامة‪ ،‬وقد نهى‬
‫الشارع عنه نهيا ً شديداً‪.‬‬

‫ـ إن المجتمع النظيف كالشارع النظيف ّل ترى فيه قمامة وّل أذى‪.‬‬

‫ـ إن من مزق األستار التي لفته بها األقدار م َّهد لنفسه طريقا ً إلى‬
‫النار‪.‬‬

‫ـ لماذا يبقى في النفس قذر؟ إن اإلسراع بالطهارة أولى وأجدى‪.‬‬


‫الآللي من كالم الغزالي ‪24‬‬

‫ـ إن الفضيحة عقبة أمام التوبة‪ ،‬فمن وقع في معصية وجب عليه‬


‫أن يكتمها وأن يدفنها في مكانها وّل يعلم بها أحداً‪.‬‬

‫ي سهالً‪،‬‬
‫ـ إنني عندما أحضر درسا ً أتعب فيه‪ ،‬فإذا أعدته كان عل َّ‬
‫فلماذا يتهم صاحب الخلق األول بالعجز عن الخلق الثاني‪:‬‬

‫‪‬نحْ ن خل ْقناك ْم فل ْوّل تصداقون‪ ،)26(‬وهو الَّذي يبْدأ ْالخ ْلق ث َّم يعيده‬
‫وهو أ ْهون عليْه‪.)27(‬‬

‫ـ من صنع البويضة في رحم أمك؟ ومن وضع الحيوان المنوي‬


‫الذي اخترقها واستقر فيها؟ إن كالً من أبويك ّل يدري شيئاً! وتجيء‬
‫أنت يا ملحد تزعم اإللحاد؟!‬

‫ـ إن من السقوط أن تلين لمن يريد قهرك ويحط قدرك ويحقر دينك‬


‫ويحاول فتنتك ‪‬إن يثْقفوك ْم يكونوا لك ْم أعْدا ًء ويبْسطوا إليْك ْم أيْديه ْم‬
‫وأ ْلسنتهم بال ُّ‬
‫سوء وودُّوا ل ْو ت ْكفرون‪:)28(‬‬

‫ذ َّل من يغـبـط الذلـيـل بعـيـ ٍش ربَّ عـيـ ٍش أخـ ُّ‬


‫ف مـنـه الحمام‬
‫(‪)29‬‬

‫‪ 26‬سورة الواقعة‪.57 :‬‬


‫‪ 27‬سورة الروم‪.27 :‬‬
‫‪ 28‬سورة الممتحنة‪.2 :‬‬
‫‪ 29‬البيت للمتنبي‪.‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪25‬‬

‫ـ إن هللا يحب العدل‪ ،‬فأين العدل في استضعاف المسلمين على‬


‫النحو األثيم؟ إن استنهاض الهمم عالميا ً لتغيير هذه األوضاع‬
‫عبادة ٌ هلل‪ ،‬وإنصاف للبشر‪ ،‬واحترام لإلنسانية‪.‬‬

‫ـ إذا أحببت جائراً لنفع يعود عليك‪ ،‬أو كرهت عادّلً لطمع لم يسقه‬
‫إليك فاتهم إيمانك؟!‬

‫مـقـالــة‬

‫ـ حدث في معاهدة الحديبية‪ ،‬عندما أملى المشركون شروطهم على‬


‫المسلمين‪ ،‬أن فرضوا هذا البند الغريب‪« :‬من ترك مكة مسلما ً لم‬
‫يجز ألهل المدينة أن يستقبلوه مهاجراً معهم‪ ،‬ومن ترك المدينة‬
‫مرتداً فألهل مكة أن يؤ امنوه ويطمئنوه‪ .‬وقد قبل الرسول ﷺ هذه‬
‫الجاهلية المتكبرة‪ ،‬وشاء هللا أن يكون أهل مكة أول من يكوى‬
‫بنارها ويسعى إللغائها‪ ،‬لكن بعض النساء في مكة شرح هللا‬
‫نزل الوحي إذنا ً بقبولهن في‬
‫صدورهن لإلسالم فأين يذهبن؟ لقد ا‬
‫المدينة فال مساغ لتشريدهن في األرض ‪‬يا أيُّها الَّذين آمنوا إذا‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪26‬‬

‫َّللا أعْلم بإيمانه َّن ۖ فإ ْن‬


‫امتحنوه َّن ۖ َّ‬ ‫جاءكم ْالمؤْ منات مهاجرا ٍ‬
‫ت ف ْ‬
‫ت فال ت ْرجعوه َّن إلى ْالكفَّار‪.)30(‬‬
‫عل ْمتموه َّن مؤْ منا ٍ‬

‫ونالحظ أن المسلمين أمروا بتعويض المشركين الذين آمنت‬


‫نساؤهم‪ ،‬كما أن هناك نسا ًء لحقن بأهل مكة مرتداتٍ‪ ،‬فقال هللا‬
‫تعالى‪ :‬وّل ت ْمسكوا بعصم ْالكوافر واسْألوا ما أنف ْقت ْم و ْليسْألوا ما‬
‫أنفقوا ۚ ٰذلك ْم ح ْكم َّ‬
‫َّللا ۖ يحْ كم بيْنك ْم‪.)31(‬‬

‫وهذه تنظيمات عادلة تدل على روح الدين‪ ،‬ولم يطل بها عهدٌ‪،‬‬
‫فسرعان ما فتحت مكة ودكت معاقل الوثنية وبنيت األسر المسلمة‬
‫على التوحيد الخالص‪...‬‬

‫ـ إن اإلنسانية كلها أمام موعدين‪« :‬قريب متعجل‪ ،‬ومتراخ‬


‫متمهل‪ ...‬إنها أمام الموت الذي ّل يطول غيابه‪ ،‬ثم هي أمام الساعة‬
‫التي ّل بد منها وإن طالت األيام»‪.‬‬

‫ـ إن التدين السطحي يكاد ينتشر بيننا‪ ،‬ترى الرجل يتشبث برأي‬


‫فروع الفقه ّل يقدم وّل يؤخر‪ ،‬ويحسب أنه ملك دون غيره مفاتيح‬
‫الجنة‪ ،‬وينظر إلى الناس من عل ويعاملهم بجفاء!! فيعظ القرآن‬

‫‪ 30‬سورة الممتحنة‪.10 :‬‬


‫‪ 31‬المصدر السابق نفسه‪.‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪27‬‬

‫هؤّلء ‪‬أل ْم يأْن للَّذين آمنوا أن ت ْخشع قلوبه ْم لذ ْكر َّ‬


‫َّللا وما نزل من‬
‫ْالح اق وّل يكونوا كالَّذين أوتوا ْالكتاب من قبْل فطال عليْهم ْاألمد‬
‫ف قس ْ‬
‫ت قلوبه ْم‪.)32(‬‬

‫ـ إن التواضع والرحمة يزرعان القبول والحب‪ .‬أما العجب‬


‫والفظاظة فال يثمران إّل الخصام والقتال!‬

‫ـ ا‬
‫إن تعلقنا بمتاع الدنيا شديد‪ ،‬أما تعلقنا باآلخرة فوه ٌم‪ ،‬وعلومنا‬
‫األرضية تتذبذب عند درجة الصفر‪ ،‬وكيف يسود األرض من ّل‬
‫يعي شيئا ً من قوانينها؟!‬

‫ـ إن اإلسالم ينزل الناس منازلهم وفق اإليمان والعلم‪ ،‬ففي صفوف‬


‫الصالة يقول الرسول ﷺ‪﴿ :‬ليلني منك ْم‪ ،‬أولو األحْ الم والنُّهى﴾(‪،)33‬‬
‫َّللا الَّذين آمنوا‬
‫وفي (شأن) المجالس العامة يقول هللا تعالى‪ :‬ي ْرفع َّ‬
‫منك ْم والَّذين أوتوا ْالع ْلم درجا ٍ‬
‫ت‪.)34(‬‬

‫ـ في مجتمع يختلط فيه المؤمنون والمنافقون والمشركون‬


‫والكتابيون‪ ،‬وتشتبك فيه المصالح المادية واألدبية‪ ،‬تمتحن المبادئ‬

‫‪ 32‬سورة الحديد‪.16 :‬‬


‫‪ 33‬صحيح مسلم‪ ،‬برقم ‪.432‬‬
‫‪ 34‬سورة المجادلة‪.11 :‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪28‬‬

‫امتحانا ً قاسياً‪ ،‬وقد يقدم الرجل قرابته أو تجارته أو منصبه الوظيفي‬


‫على مذهبه أو رأيه‪ ،‬وذلك ما جعل الشاعر يقول قديما ً لواحد من‬
‫المتلونين‪:‬‬

‫ق فأعـرف منك غـثي من سـمـيـني‬


‫فـإمـا أن تكـون أخـي بصــد ٍ‬
‫وإّل فـ ا‬
‫اطـر ْحـنــي واتخذنـــي عــدواً أتقـيــــك وتتاـقـيـنــــــي‬
‫(‪)35‬‬

‫والنفاق داء خبيث شديد الخطر‪ ،‬ومن أيسر األمور على المنافق أن‬
‫يحلف كاذباً‪...‬‬

‫ـ إن علم الساعة عند هللا وحده‪ ،‬وماذا ينفعنا العلم بها إذا لم نستعدَّ‬
‫لها؟ إن الوجود موصول‪ ،‬والموت فاصل خفيف بين الوجودين‬
‫األول واألخير‪ ،‬وسنعرف قيمة الدنيا يوم اللقاء ‪‬كأنَّه ْم ي ْوم ير ْونها‬
‫ل ْم ي ْلبثوا إ َّّل عشيَّةً أ ْو ضحاها‪.)36(‬‬

‫ـ لقد قيل‪ :‬إن األحجار في طريق الكسالى عوائق‪ ،‬وفي طريق‬


‫الناشطين ساللم‪ :‬األولون ينكصون‪ ،‬واآلخرون يصعدون‪ .‬والكريم‬
‫إذا وفد عليه ضيوف أكرم نزلهم‪ ،‬وأجزل عطاءهم‪ ،‬فأين كان أهل‬

‫‪ 35‬البيتان للمثقب العبدي‪.‬‬


‫‪ 36‬سورة النازعات‪.46 :‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪29‬‬

‫الجنة ينزلون بعد عودتهم إلى هللا؟ إن أقل ما يقدم لهم هو أعلى‬
‫وأغلى ما كان ملوك األرض يتمتعون به‪ .‬ونحن علمنا أن في الجنة‬
‫ما ّل ٌ‬
‫عين رأت وّل أذن سمعت وّل خطر على قلب بشر‪...‬‬

‫مـقـالــة‬

‫ـ لقد ظهرت أجيا ٌل في األمة اإلسالمية جحدت طاقتها وّلذت‬


‫بالقعود والكسل‪ ،‬ففقدت حاضرها ومستقبلها جميعاً؛ ألنها‬
‫استحمقت في فهم القضاء والقدر واعتنقت خرافة الجبر‪ ،‬واعتمدت‬
‫الثرثرة في تسويغ فشلها وعجزها‪ ،‬ومع ضرورة العطاء والصدق‬
‫والتقوى ّل بد من ابتغاء وجه هللا وتجريد النية من كل شائبة‪ ،‬وهذا‬
‫الناس يعبدون المال والجاه‪،‬‬ ‫(‪)37‬‬
‫مطلب عسير‪( ،‬فأكثر)‬
‫ٌ‬ ‫ـ أحيانا ً ـ‬
‫ي‬
‫ويدور (الواحد منهم) حول نفسه وأمجاده ومآربه‪ ،‬ويخيل إل ا‬
‫أحيانا ً أن الرياء محور النشاط البشري‪ ،‬وأن اإلخالص أندر من‬
‫الكبريت األحمر‪ ،‬كما يقولون‪ ،‬الَّذي يؤْ تي ماله يتز َّك ٰى ‪ ‬وما‬
‫ألح ٍد عنده من نا ْعم ٍة تجْز ٰى ‪ ‬إ َّّل ابْتغاء وجْ ه رباه ْاألعْل ٰى ‪‬‬

‫‪ 37‬في األصل (أغلب)‪.‬‬


‫الآللي من كالم الغزالي ‪30‬‬

‫ولس ْوف ي ْرض ٰى‪ .)38(‬ولو خلاص العمل من حب الدنيا وقارنه طلب‬
‫اآلخرة لنجت الدنيا من فتن رهيبة‪ ،‬وانطفأت حروب مدمرة‪،‬‬
‫واجتمعت أحزاب متفرقة‪ ،‬وانتظمت صفوف مختلة‪ .‬نسأل هللا أن‬
‫يأخذ بنواصينا إلى ما يرضى‪.‬‬

‫ـ الدأب على الجهاد واإلقبال على هللا وصية من هللا تعالى إلى نبيه‬
‫ﷺ‪ ،‬والوصية إلى النبي ﷺ إنما هي وصية إلى أمته‪ .‬إن المؤمن إذا‬
‫انتهى من واجب نهض إلى غيره‪ ،‬وّل مكان في حياته للفتور ‪‬فإذا‬
‫فر ْغت فانصبْ ‪ ‬وإل ٰى رباك ف ْ‬
‫ارغب‪ .)39(‬إن الدين‪ ،‬الذي جاء به‬
‫النبي ﷺ‪ ،‬إذا أخبر صدق‪ ،‬وإذا حكم عدل‪ .‬والعالم ـ وّل سيما في‬
‫عصرنا ـ في حاجة إلى الصدق والعدل‪ ،‬فإن الهراء والجور‬
‫ت كلمت رباك ص ْدقًا وع ْد ًّل ۚ َّّل مبدال‬
‫يطردان الحق والعدل ‪‬وت َّم ْ‬
‫سميع ْالعليم‪ ،)40(‬والدعاة وراء إمامهم خاتم األنبياء‬ ‫لكلماته ۚ وهو ال َّ‬
‫ﷺ‪ ،‬ينبغي أن يعوا ذلك‪.‬‬

‫ـ إن الذين يألفون الدنايا ويعيشون كالحشرات في السراديب والحفر‬


‫ّل تفتح لهم أبواب السماء‪ ،‬إنهم لم يحاولوا التسامي فكيف يرتفعون؟‬

‫‪ 38‬سورة الليل‪.20-18 :‬‬


‫‪ 39‬سورة الشرح‪.7،8 :‬‬
‫‪ 40‬سورة األنعام‪.115 :‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪31‬‬

‫أما الذين يتحملون تكاليف التقوى ومشقات التزكية‪ ،‬وأما الذين‬


‫يساندون الحق ويصابرون أعباءه فلهم شأن آخر‪...‬‬

‫‪ -‬إن الدين علم مقطوع به‪ ،‬والوحي حصانة للعقل وضمانة‬


‫ألحكامه‪ ،‬وما خالف العقل ّل يكون ديناً‪ ،‬إن اإلسالم نزل ليرسم‬
‫طريق اإلحسان للبشر‪ ،‬والقرآن منهاج اّلستقامة أو معراج الرفعة‬
‫فمن شاء أحسن‪ ،‬ومن شاء أساء‪.‬‬

‫ـ إن حقوق النعمة كبيرة‪ ،‬وحرام على من استمتع بها أّل يقدرها‬


‫قدرها‪ ،‬وأّل يدفع لها ثمنها‪ ،‬وحال كثير منا اليوم جحود النعم من‬
‫غير تقدير صاحبها‪ ،‬كما يقول األب الغاضب ّلبنه العاق‪« :‬أنا ـ‬
‫أيها الخائن ـ أهان؟! أنا ينسى أمري ويهدر حقي‪ ،‬أيها العاق‬
‫الخؤون»؟!‬

‫ـ إنني عرفت هللا بعقلي‪ ،‬بعدما نظرت في نفسي وفي آفاق العالم‬
‫الذي يضمني وسائر البشر‪ .‬إن العقل أثمن ما وهب هللا للناس‪.‬‬
‫واإليمان الذي يقوم على تخدير العقل أو تمويته ّل وزن له وّل خير‬
‫ولكن أناسا ً كثيرين ين احون العقل جانبا ً ثم يتكلمون! فكيف نسمع‬
‫ا‬ ‫فيه‪،‬‬
‫لهم؟!‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪32‬‬

‫ـ النفاق من أخس الصفات‪ ،‬وهو ازدواج في الشعور والسلوك‪ ،‬يبدأ‬


‫بأن يكون المرء ذا وجهين‪ ،‬وّل يزال ينمو حتى يكون صاحبه‬
‫كالحرباء التي تصطبغ بألوان شتى‪ ،‬بحسب الوسط الذي تكون فيه‪.‬‬

‫ـ إن معرفة هللا ّل تكفي‪ ،‬إذ ّل بد من أداء حقوقه في السراء‬


‫والضراء‪ .‬إن بعض الناس ينتمون إلى هللا ويتمتعون بآّلئه ولكنهم‬
‫يشغلون بها عنه ويحيون ألنفسهم وحدها‪ .‬وقد رأينا أناسا ً من هذا‬
‫الصنف‪ ،‬بل إن انتشار الكفر في األرض يعود لمسالك أقوام أنزل‬
‫عليهم الوحي فلم يتجردوا له ويقوموا بحقه‪...‬‬

‫ـ إن السنوات الستين التي قضاها سيدنا محمد ﷺ في الدنيا لم تكن‬


‫إلصالح عصر معين‪ ،‬بل كانت صونا ً لعقيدة التوحيد على امتداد‬
‫الزمان والمكان‪ ،‬وإعداداً للرجال الذين يحرسونها بعده إلى آخر‬
‫الدهر‪...‬‬

‫ـ إن الجهاد اّلقتصادي والعسكري ّل بد منهما لحراسة األمة‬


‫وأدائها الرسالة‪ .‬إن أعداء الحق يرقبوننا بحقد‪ ،‬فإن وجدوا ثغرة‬
‫نفذوا منها إلى صميمنا‪ ،‬وهنا الطامة التي تطيح بالحق وأهله‪.‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪33‬‬

‫ـ المؤمن إذا وقع في الخطأ كان عليه هم ثقيل‪ ،‬وضاقت عليه‬


‫األرض بما رحبت‪ ،‬ذلك بأن اإليمان باعث حثيث على التسامي‬
‫وزاجر موجع عن اإلسفاف‪ ،‬والذي يلوم نفسه على ما بدر منها ّل‬
‫يألف النقائص‪ ،‬بل سرعان ما يتجاوزها إلى عالم أزكى‪ .‬وقد أقسم‬
‫هللا بالنفس اللوامة‪ ،‬لما وقر فيها من إيمان باهلل واليوم اآلخر‪ .‬أما‬
‫النفوس والمجتمعات التي ّل تعرف هللا وّل تنتظر لقاءه فهي ّل‬
‫تكترث برذيل ٍة وّل توجل من يوم الحساب؛ ألنه ‪ -‬في نظرها‪ -‬وه ٌم‪.‬‬

‫ـ مر ركب مسرع ببعض المقابر‪ ،‬فقال أحدهم لصديقه‪ :‬أتدري ما‬


‫تقول هذه القبور عنا؟ فقال‪ :‬ماذا تقول؟ أجاب‪ :‬تقول كما أنتم كذا‬
‫كنا‪ ،‬كما نحن تكونون‪ .‬وربما يتساءل كل منا عن نفسه قائالً‪ :‬ماذا‬
‫كنت قبل مئة عام‪ ،‬وماذا كان أكثر الجيل الذي أعيش فيه؟‬

‫إنه لن يجد أحدنا رداً أصدق من قوله تعالى‪ :‬ه ْل أت ٰى على ْاإلنسان‬
‫ين امن الدَّ ْهر ل ْم يكن ش ْيئًا َّمذْك ً‬
‫ورا‪ .)41(‬نعم إننا لم نكن شيئاً‪ ،‬ثم‬ ‫ح ٌ‬
‫خلقنا هللا نسمع ونبصر‪ ،‬ثم استعادنا إليه وخلت األرض منا‪...‬‬

‫‪ 41‬سورة اإلنسان‪.1 :‬‬


‫الآللي من كالم الغزالي ‪34‬‬

‫‪ -‬إن الهواء أساس الحياة البشرية‪ ،‬سواء أوقف ساكنا ً أم هب عليالً‬


‫أم اشتد عاصفاً‪ ،‬وربما تساءل كل واحد منا عن الهواء الذي يمأل‬
‫رئتينا زفيراً وشهيقا ً هل يبقى في بلدنا أم ينتقل ريحا ً بين شرق الدنيا‬
‫وغربها‪ ،‬ويمر في حركته الدائمة بصدور أخرى؟! إننا موقنون‬
‫بأننا نشرب الشاي من شرق آسيا‪ ،‬ونشرب ماء النيل من أعماق‬
‫المحيط الهندي‪ .‬وعندما نتأمل في آّلء هللا نشعر بأن الكون كله‬
‫يشترك في خدمتنا‪ ،‬ولكن ‪ ‬قتل ْاإلنسان ما أ ْكفره‪ .)42(‬إنه عندما‬
‫يهدأ الجو نشعر بالهواء لطيفاً‪ ،‬وعندما يثور في بعض األقطار نراه‬
‫يقصف األشجار‪ ،‬ويقذف السيارات من مكان إلى آخر‪ ،‬وهو يبعثر‬
‫السحب هنا وهناك ويفرقها لتهمي بالغيث حيث شاء هللا‪...‬‬

‫ـ لقد ووجه المسلمون بجمهرة من الماديين الغالظ يحتقرون العبادة‬


‫وّل يتصورون جوها‪ ،‬وهم اليوم يواجهون الصنف نفسه مستكبرا ً‬
‫برقيه الصناعي وتفوقه العسكري‪ .‬ويجب علينا أن نصبر على هذه‬
‫المواجهة وندفع ثمنها‪ :‬وم ْن أ ْ‬
‫ظلم م َّمن ذ اكر بآيات رباه ث َّم أعْرض‬
‫ع ْنها ۚ إنَّا من ْالمجْرمين منتقمون‪.)43(‬‬

‫‪ 42‬سورة عبس‪.17 :‬‬


‫‪ 43‬سورة السجدة‪.22 :‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪35‬‬

‫إن القيادة ّل تتم ألهلها إّل إذا جمعوا بين الصبر واليقين‪.‬‬

‫إن التدين الجاهل يحسب التخلف في الدنيا أمارة على التقدم في‬
‫اآلخرة‪...‬‬

‫ـ عندما تزول النعمة تذهب الوحدة والصحة واألمن‪ ،‬وتجيء‬


‫أضداد هذه األحوال‪ ،‬وأصحابها لها أهل‪ ،‬وما نزل بهم عدل‪ ،‬ألنهم‬
‫‪‬فقالوا ربَّنا باع ْد بيْن أسْفارنا وظلموا أنفسه ْم فجع ْلناه ْم أحاديث‬
‫ور‪.)44(‬‬ ‫ق ۚ إ َّن في ٰذلك آليا ٍ‬
‫ت لاك ال صبَّا ٍر شك ٍ‬ ‫وم َّز ْقناه ْم ك َّل مم َّز ٍ‬

‫ـ هناك من يحبون لف الناس حولهم‪ ،‬وخفق األقدام وراءهم‪ ،‬على‬


‫نحو ما قال الشاعر‪:‬‬

‫تـرى الـنـاس ما سـرنا يـسـيـرون خـلـفـنا‬


‫وإن نحــن أومـأنـا إلــى الـنـاس وقَّـفـــــوا‬
‫(‪)45‬‬ ‫ْ‬

‫وهناك من يعشق أن يكون ذليالً‪ ،‬وّل يحسن إّل الجري وراء‬


‫الك براء‪ ،‬وتعمل عناصر الغنى والفقر والقوة والضعف عملها في‬

‫‪ 44‬سورة سبأ‪.19:‬‬
‫‪ 45‬البيت لجميل بثينة‪ ،‬وقد أغار عليه الفرزدق‪ ،‬ذكر صاحب األغاني أن الفرزدق قدم إلى‬
‫فمر بجماعة من الناس قد وقفوا على جميل بثينة وهو ينشدهم شعره‪ ،‬فوصل إلى هذا‬
‫المدينة‪ّ ،‬‬
‫البيت‪ ،‬فصاح به‪« :‬أنا ّ‬
‫أحق بهذا البيت منك»‪ ،‬ثم أدخله في شعره‪.‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪36‬‬

‫إحكام الخطط التي ينفذها هؤّلء جميعا ً‪ ،‬ونلمح مثالً لذلك في عالقة‬
‫جْرا إن كنَّا‬
‫سحرة ف ْرع ْون قالوا إ َّن لنا أل ً‬
‫السحرة بفرعون‪ :‬وجاء ال َّ‬
‫نحْ ن ْالغالبين ‪ ‬قال نع ْم وإنَّك ْم لمن ْالمق َّربين‪.)46(‬‬

‫والذي يتفرس في مسيرة األحزاب المناوئة لإليمان قديما ً وحديثا ً‬


‫يجدها تتحرك على هذا المحور‪ :‬إغراء‪ ،‬وطمع‪ ،‬ونداء الحاجة!‬

‫ـ من رفض اّلنقياد ألمر هللا ورسوله فهو بين الضالل والغضب‬


‫ّل أمل له وّل خير فيه‪.‬‬

‫ـ اإلسالم هو العالقة العقلية الوحيدة بين الكائنات وربها‪ ،‬وبين‬


‫الناس وخالقهم‪ ...‬أليس من حق الموجد األعلى أن ترنو إليه‬
‫الموجودات عابدة خاشعة؟ إن لم يكن اإلسالم هلل ديناً‪ ،‬فهل التمرد‬
‫عليه هو الدين؟‬

‫ـ ينبغي أ اّل يكون حفظ السورة أحرفا ً وأنغاماً‪ ،‬وإنما يكون حفظها‬
‫إلهاما ً وأحكاماً‪ ،‬ونوراً وفرقاناً‪ ،‬وهكذا تبنى األمم‪.‬‬

‫ـ إن الغنى المفرط ونسيان هللا قد يطيشان باألفراد والجماعات‪.‬‬

‫‪ 46‬سورة الشعراء‪.41،42 :‬‬


‫الآللي من كالم الغزالي ‪37‬‬

‫ي ْالقيُّوم‪ ،)47(‬ثم‬ ‫ٰ‬


‫َّللا ّل إله إ َّّل هو ْالح ُّ‬
‫ـ إن النجاة عقيدة أساسها ‪َّ ‬‬
‫تربية تقر الطبائع البشرية في حدود الطهر‪ ،‬وتكره اإلفراط‬
‫والتفريط‪ ،‬وتجعل البصر بالحياة الدنيا بصيرة تهدي للحياة اآلخرة‬
‫وتمضي على الصراط المستقيم‪.‬‬

‫ـ إن هللا إذا أراد كانت األسباب طوع أمره‪ ،‬وهو يخلق ما يشاء‬
‫ويفعل ما يشاء‪.‬‬

‫ـ إن انتصار المؤمنين يحتاج إلى أمرين‪ :‬صدق النية‪ ،‬وحسن‬


‫األداء‪ .‬وّل يغني أحد األمرين عن اآلخر‪ .‬والمسلمون فقراء إلى‬
‫معرفة األمر الثاني وتوكيده‪ ،‬فإن بعضهم يتخيل أن الصالح وحده‬
‫يحقق النتيجة المرجوة‪ ،‬وكأن المالئكة ستنزل لجبر القصور في‬
‫إعداد المؤمنين للمعركة أو سوء خوضهم لها‪ ،‬وهذا بعيد‪.‬‬

‫ـ ابذل ما لديك كله إيمانا ً واضحا ً وعمالً صالحاً‪ ،‬وإخالصا ً ومهارة‪،‬‬


‫ثم ارتقب الخير‪ ،‬ولو كانت قواك أقل‪ ،‬فقد بذلت ما تملك ولن يخذلك‬
‫هللا بعدئ ٍذ‪.‬‬

‫‪ 47‬سورة آل عمران‪.2 :‬‬


‫الآللي من كالم الغزالي ‪38‬‬

‫من المآسي أن تشتغل الدهماء بشؤون الدولة الكبرى‪ ،‬وأن تبدي‬


‫رأيها في ما ّل تعرف له رأسا ً من ذنب‪ ...‬فهناك من يتحدث في‬
‫الفقه وّل فقه له‪ ،‬ومن يفتي في قضايا الحرب والسالم وّل رأي له‪،‬‬
‫ومن يريد إصالح العالم وهو عاجز عن إصالح بيته‪ .‬لماذا ّل نترك‬
‫األمور ألربابها؟ ولماذا تبعثر الشؤون الحربية والمالية في كل‬
‫مكان‪:‬‬

‫يـا بـاري الـقـوس بـريـا ً لـيـس يحـسـنـه‬


‫(‪)48‬‬
‫ّل تظـلم الـقـوس أعـط الـقـوس باريـهـا‬

‫من الخير أن نحترم ذوي اّلختصاص‪ ،‬وأن نقف عند حدود علمنا‪.‬‬
‫واألمم الكبيرة تحترم ذوي اّلختصاص‪ ،‬وتوفر لهم الجو الذي‬
‫ينتجون فيه‪ ،‬فإهانة هؤّلء تضر المجتمع كله‪.‬‬

‫وماذا على أفراد الجمهور لو أتقنوا ما يوكل إليهم‪ ،‬وتركوا لغيرهم‬


‫ما يحسنون؟‬
‫(‪)49‬‬
‫ّل يصلح الناس فوضى ّل سراة لهم وّل سراة إذا ج اهالهم سادوا‬

‫‪ 48‬البيت للحطيئة‪.‬‬
‫‪ 49‬البيت لألفوه األودي‪.‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪39‬‬

‫وفي الحديث‪﴿ :‬ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف‬


‫لعالمنا حقه﴾(‪.)50‬‬

‫ـ إن قوله تعالى‪ :‬وإذا حيايتم بتحيَّ ٍة فحيُّوا بأحْ سن م ْنها أ ْو‬


‫ردُّوها‪ّ ،)51(‬ل بأس أن تكون في سائر التحيات المتبادلة‪.‬‬

‫ـ إن خزائن هللا ّل تنفد‪ ،‬فال تسئ الظن بالمستقبل إن فاتك الحاضر‪،‬‬


‫سماوات وما في ْاأل ْرض ۗ‬
‫وتشباث بالتقوى والطاعة‪ :‬و َّّلِل ما في ال َّ‬
‫صيْنا الَّذين أوتوا ْالكتاب من قبْلك ْم وإيَّاك ْم أن اتَّقوا َّ‬
‫َّللا‪.)52(...‬‬ ‫ولق ْد و َّ‬

‫ـ إن المتفرس في مالمح اّلستعمار الحديث يراه جامعا ً بين إلحاد‬


‫الفكر وظلم الشعوب‪ ،‬أو بين كراهية اإلسالم وإذّلل أتباعه‪.‬‬

‫ـ الفاشل يظن إذا قتل الناجح يستفيد قوة جديدة‪ ،‬وهذا مستحيل‪ ،‬فإنك‬
‫لن تبني نفسك بهدم غيرك‪ ،‬ستظل كما أنت‪.‬‬

‫ـ إن الصالح جهد إيجابي في تقوية النفس وتزكيتها‪ ،‬وليس قدرة‬


‫َّللا من ْالمتَّقين‪.)53(‬‬
‫على العدوان ‪‬إنَّما يتقبَّل َّ‬

‫‪ 50‬صحيح الجامع‪ ،‬برقم ‪.5443‬‬


‫‪ 51‬سورة النساء‪.86 :‬‬
‫‪ 52‬سورة النساء‪.131 :‬‬
‫‪ 53‬سورة المائدة‪.27 :‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪40‬‬

‫ـ إن ابن آدم الفاشل إنما ضاع لفراغ قلبه من التقوى‪ ،‬فعلى أهل‬
‫اإليمان أن يتجنبوا ذلك المصير ‪‬يا أيُّها الَّذين آمنوا اتَّقوا َّ‬
‫َّللا‬
‫وابْتغوا إليْه ْالوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلَّك ْم ت ْفلحون‪.)54(‬‬

‫والوسيلة المطلوبة هي األعمال الصالحة‪ .‬والعمل الصالح يحتاج‬


‫في أدائه إلى عزيمة تقهر العقبات‪ ،‬وتسترخص النفس والنفيس‪،‬‬
‫وهذا هو الجهاد المؤدي إلى الفالح‪.‬‬

‫ـ إن المسلمين يشتبكون في حروب أعدائهم‪ ،‬وينبغي أن تكون‬


‫جبهتهم الداخلية متماسكة ّل ثغرة فيها‪.‬‬

‫ـ من خصائص هذا الدين الحق أنه يتجاوز عن الخطأ العابر ويتشدد‬


‫مع الشذوذ الفاجر‪.‬‬

‫ـ الناس عادة يسكتون على المعاصي فراراً من تبعات النصح‪،‬‬


‫ويسكتون عن الظالمين‪ ،‬وربما تملقوهم‪ ،‬حرصا ً على الدنيا‬
‫ومنافعها‪.‬‬

‫ـ إن السلوك الراشد ينبثق من إيمان صحيح‪.‬‬

‫‪ 54‬سورة المائدة‪.35 :‬‬


‫الآللي من كالم الغزالي ‪41‬‬

‫ـ إنه ما يصد األوربيين واألمريكيين الذين يبحثون عن الحق عن‬


‫الدخول في اإلسالم إّل الحال المزرية التي عليها المسلمون‪،‬‬
‫فالمسلمون بال شك صورة سيئة منفرة عن دينهم‪...‬‬

‫ـ ‪‬ق ْل هو ْالقادر عل ٰى أن يبْعث عليْك ْم عذا ًبا امن ف ْوقك ْم أ ْو من تحْ ت‬


‫ض ۗ انظ ْر كيْف‬ ‫أ ْرجلك ْم أ ْو ي ْلبسك ْم شي ًعا ويذيق ب ْعضكم بأْس ب ْع ٍ‬
‫نص ارف ْاآليات لعلَّه ْم ي ْفقهون ‪ ‬وكذَّب به ق ْومك وهو ْالح ُّق ۚ قل‬
‫لَّسْت عليْكم بوكي ٍل ‪ ‬لاك ال نبإٍ ُّمسْتقر ۚ وس ْوف ت ْعلمون‪.)55(‬‬

‫نعم إن الحليم قد تطول أناته‪ ،‬ولكنه عندما يضرب يوجع ‪‬وك ٰذلك‬
‫أ ْخذ رباك إذا أخذ ْالقر ٰى وهي ظالمةٌ ۚ إ َّن أ ْخذه ألي ٌم شديدٌ‪.)56(‬‬

‫ـ المحزن أن عالمنا المعاصر مفتون بإنسانية هابطة أوعلمانية تشده‬


‫إلى التراب وتربطه بنزعاته‪ ،‬وقلما ترفعه إلى السماء من حيث‬
‫جاء‪...‬‬
‫ا‬
‫معطر بالطيب خير من‬ ‫ـ ألن يقف المسلم مصليا ً في لباس حسن‬
‫أن يقف مصليا ً في لباس زري يفرز رائحة تنفر منها المالئكة‪،‬‬
‫ولكن المجانب له مرغ ٌم على الصبر‪ ،‬ومن هنا جاءت اآلية‪:‬‬

‫‪ 55‬سورة األنعام‪.67-66-65 :‬‬


‫‪ 56‬سورة هود‪.102 :‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪42‬‬

‫يا بني آدم خذوا زينتك ْم عند ك ال مسْج ٍد وكلوا وا ْشربوا وّل تسْرفوا ۚ‬
‫إنَّه ّل يحبُّ ْالمسْرفين‪.)57(‬‬
‫والبسوا ما لم يخال ْ‬
‫طه‬ ‫وفي الحديث‪﴿ :‬كلوا واشربوا وتصدَّقوا ْ‬
‫إسراف أو مخيلةٌ﴾(‪.)58‬‬
‫ٌ‬

‫والواقع أن الرذيلة تكمن في اإلسراف الذي يحمل على التوسع‬


‫الممجوج في الطعام والكساء‪ ،‬وعلى التماس الوجاهة بهذا السلوك‪.‬‬

‫ـ إن طاعة هللا ورسوله ّل بد منها إلحراز النصر ودوامه‪ .‬وإذا كان‬


‫أعداء اإلسالم يعصون ربا ً ّل يعرفونه وّل يوقرونه فحري‬
‫بالمسلمين أن يلزموا الطاعة ويحذروا المخالفة‪ ،‬وأن يتقوا النار‬
‫التي أعدت للكافرين‪ .‬وقد كان عمر بن الخطاب‪ ،‬رضي هللا عنه‪،‬‬
‫يوصي جنده وهم يقاتلون الفرس بالبعد عن المعاصي‪ ،‬ويقول لهم‪:‬‬
‫إنه ّل يخاف عليهم كيد عدوهم ق ْدر ما يخاف عليهم تسلل المعاصي‬
‫إليهم‪ ،‬فإنهم إذا استووا والكفار في المعصية وكلهم هللا إلى أنفسهم‪،‬‬
‫وهم أقل عدداً وأضعف عدة‪ ،‬فتحيق الهزيمة بهم‪.‬‬

‫‪ 57‬سورة األعراف‪.31 :‬‬


‫‪ 58‬مسند أحمد بن حنبل‪ ،‬برقم ‪.6695‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪43‬‬

‫إني أستشعر األسى عندما أرى أخالقنا أضعف من عدونا‪،‬‬


‫ومسالكنا أردأ‪ ،‬فأنى ننتصر؟ إن المسلمين اليوم خمس العالم‪،‬‬
‫وأرضهم مستنقع لجراثيم الفرقة كلها‪ ،‬فهم سبعون حزبا ً بأسهم‬
‫بينهم شديد‪ ...‬على حين ترى اليهود ـ وهم ع ْشر معشارهم ـ قد‬
‫وحدوا صفهم‪ ...‬وخططوا للمسجد األقصى‪ ،‬ونحن مشغولون‬
‫بأنفسنا وقضايانا‪ ،‬فذهبت ريحنا وف ال حديدنا‪...‬‬

‫ـ إن أيام النعمة تدوم يوم يكون حارسها قائما ً عليها‪ ،‬هذا الحارس‬
‫هو الشكر العملي قوّلً وفعالً‪ :‬إيمانا ً واضحاً‪ ،‬وعمالً صالحاً‪ّ :‬ل‬
‫ظلم‪ّ ،‬ل تكبر‪ّ ،‬ل استبداد‪ّ ،‬ل عجب‪ّ ...‬ل فخامة‪ّ ...‬ل إصرار على‬
‫المعصية‪ّ ،‬ل تمثيالً على هللا وعلى خلقه‪ ،‬نعبده داخل بالدنا‪،‬‬
‫ونحاربه خارج بالدنا‪ ...‬نتحجب في الداخل‪ ،‬ونخلع الحجاب في‬
‫الخارج‪ ...‬إن أيام النعمة لم تزد هؤّلء إّل عتواً وصلفا ً ‪‬وضرب‬
‫طمئنَّةً يأْتيها ر ْزقها رغدًا امن ك ال مك ٍ‬
‫ان‬ ‫ت آمنةً ُّم ْ‬
‫َّللا مث ًال ق ْريةً كان ْ‬
‫َّ‬
‫َّللا لباس ْالجوع‪ ،(59)‬وهذا ضعف في‬ ‫ت بأ ْنعم َّ‬
‫َّللا فأذاقها َّ‬ ‫فكفر ْ‬
‫اّلقتصاد‪ ...‬وكل أولئك عقوبة من هللا لهم؛ ألنهم لم يرعوا هلل حقا ً‬
‫ولم يقدروا النعم حق قدرها‪...‬‬

‫‪ 59‬سورة النساء‪.112 :‬‬


‫الآللي من كالم الغزالي ‪44‬‬

‫ـ إن عدد المسلمين اليوم يماثل عدد أهل الصين؛ نحو مليار ومئتي‬
‫األخوة اإلسالمية تربط بين المسلمين كما تربط‬
‫ا‬ ‫مليون إنسان‪ ،‬فهل‬
‫القومية الصينية بين الصينيين‪ ،‬الذين تمثلهم دولة واحدة لها صوت‬
‫واحد في مجلس األمن إذا اعترض قرارا ً وقفه‪ ،‬وواجه الدنيا‬
‫بموقف حاسم؟‬

‫والغريب أننا األمة التي يجب أن تدور أمورها على محور واحد‪،‬‬
‫ولكن تقطعت في األرض أمما ً‪ ،‬منهم الصالحون ومنهم دون ذلك‪،‬‬
‫وهي تضم اآلن نحو سبعين جنسية‪ ،‬لكل جنسية رايتها المميزة‪،‬‬
‫فهل تتساند في نصرة قضاياها أم تتخاذل؟ إن المسلمين في هيئة‬
‫األمم المتحدة أضيع من األيتام في مأدبة اللئام‪...‬‬

‫إنه ّل حل لمشكالتنا إّل بإعادة اإليمان إلى مكانته في أوضاعنا‬


‫المحلية والعالمية على حد سواء‪...‬‬

‫حــوار األديـان‬
‫ـ ماذا نستفيذ من سورة التوبة؟‬

‫نستفيد أمرين‪ :‬أولهما‪ :‬أن اإلسالم كان صديقا ً للنصارى‪ ،‬وأن ﷺ‬


‫أمر المستضعفين بالهجرة إلى الحبشة في جوار ملك ّل يضامونه‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪45‬‬

‫في سلطانه‪ ،‬وأن النبي محمداً ﷺ كان صاحب الصوت الوحيد على‬
‫ظهر األرض بأن الروم سوف ينتصرون على الفرس مرة أخرى‬
‫بعد هزيمتهم الهائلة التي منوا بها والتي حزن المسلمون لها‪...‬‬

‫وثانيهما‪ :‬أنه مع هذه الصداقة للشعوب النصرانية كان اإلسالم‬


‫واضحا ً كل الوضوح في إنكار التثليث ورفض ألوهية عيسى‬
‫وجبريل‪ ،‬واعتبارهما عبدين صالحين‪ .‬وقد تتابع الوحي في مكة‬
‫والمدينة‪ ،‬يؤكد هذه الحقيقة‪.‬‬

‫ـ تمر باإلنسان أيام عصيبة يشعر فيها باأللم والعجز‪ ،‬ويحس أن‬
‫األزمات أخذت بخناقه‪ ،‬وأنها إذا بقيت فهي قاضية عليه‪ ،‬فيهرع‬
‫إلى هللا طالبا ً النجدة‪ ،‬ملتمسا ً الفرج‪ ،‬ويدعو ويلح‪ ...‬وتنكشف‬
‫الكروب آخر األمر‪ ،‬فهل تبقى مع المرء حرارة إيمانه وصدق‬
‫تطلعه إلى ربه؟ أم تفتر حرارته وينسى؟‬

‫س ْاإلنسان الض ُُّّر دعانا لجنبه أ ْو قاعدًا أ ْو‬ ‫يقول هللا تعالى‪ :‬وإذا م َّ‬
‫سه ۚ ك ٰذلك‬‫قائ ًما فل َّما كش ْفنا ع ْنه ض َّره م َّر كأن لَّ ْم ي ْدعنا إل ٰى ض ٍ ار َّم َّ‬
‫زيان ل ْلمسْرفين ما كانوا ي ْعملون‪.)60(‬‬

‫‪ 60‬سورة يونس‪.12 :‬‬


‫الآللي من كالم الغزالي ‪46‬‬

‫إن هذا مسلك ينطوي على خسة‪ ،‬والواجب أن يتذكر اإلنسان من‬
‫أنقذه في شدته‪ ،‬وامتن عليه بفرجه‪ ،‬وأن يتشبت به في السراء‪ ،‬كما‬
‫كان يتشبث به في الضراء‪.‬‬

‫إن إخراج أمة ما من الظلمة ّل يتم بين عشية وضحاها‪ .‬إنه يحتاج‬
‫إلى زمان طويل‪ ،‬وقد مكث سيدنا رسول هللا ﷺ ثالثا ً وعشرين سنة‬
‫يتعهد العرب بالقرآن الكريم‪ ،‬حتى محا بداوتهم وجهالتهم وتخلفهم‬
‫العلمي والحضاري‪ ،‬وأمسوا أهالً لصدارة العالم وقيادته‪.‬‬

‫إن القرآن الكريم نقلهم نقلة فسيحة‪ :‬ثقافيا ً وسياسيا ً وعقليا ً وخلقياً‪،‬‬
‫فلما اشتبكوا مع أعداء هللا رجحت كفتهم عن جدارة واستحقوا‬
‫التمكين في األرض‪.‬‬

‫الـعـلـم اإللـهـي‬

‫ـ العلم اإللهي صفحة واحدة‪ ،‬يقترب فيها األزل من األبد‪ ،‬واألرض‬


‫من السماوات‪ ،‬والدقيق من الجليل‪ ،‬وعالم الحشرات والجراثيم من‬
‫عالم اإلنس والجن والطير‪.‬‬

‫كنت في الطائرة‪ ،‬فرمقت قطعة من الصحراء خيال إلي أنها تصلح‬


‫للزراعة‪ ،‬فتساءلت‪ :‬أتزرع هذه غداً؟ ثم أجبت نفسي‪ :‬إن كانت‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪47‬‬

‫ستزرع فإن هللا وحده يعلم أيان يجيئها المطر‪ ،‬ويلتف حولها البشر‪،‬‬
‫ويلتقطون منها الثمر‪ :‬ولق ْد عل ْمنا ْالمسْت ْقدمين منك ْم ولق ْد عل ْمنا‬
‫ْالمسْتأْخرين ‪ ‬وإ َّن ربَّك هو يحْ شره ْم ۚ إنَّه حكي ٌم علي ٌم‪.)61(‬‬

‫إنني أتابع برامج عالم الحيوان وعالم البحار‪ ،‬وأعجب كيف تتكاثر‬
‫األحياء وكيف تتفانى‪ ،‬وكيف يجعل هللا طعام طير سارح من دودة‬
‫ملتصقة بظهر حيوان ضخم يستريح حين يأكلها هذا الطير!‬

‫وعالم اإلنسان نفسه مثال تفكير عميق‪ .‬لقد خلق من طينة منتنة‬
‫‪‬من ص ْلصا ٍل ام ْن حمإٍ َّمسْن ٍ‬
‫ون‪.)62(‬‬

‫وعندما يعود إلى التراب بعد انقضاء رحلة العمر ويدفن تحته تكون‬
‫رائحته أشد إزعاجاً‪ .‬كأن الناس يتدافنون حتى ّل يشمئز بعضهم‬
‫من بعض‪ .‬بم زكا اإلنسان وسما؟ ثم ك ارم ونعام؟ بهذه اللطيفة‬
‫الربانية التي نفخت فيه‪ ،‬والتي طالما جار عليها وضاق بأوجها!‬

‫إن في اإلنسان قبسا ً من نور هللا األسنى‪ ،‬حسده عليه إبليس وكره‬
‫اّلعتراف به‪ ،‬فقرر اّلنتقام من آدم وبنيه ‪‬قال ربا بما أ ْغويْتني‬
‫ألزيان َّن له ْم في ْاأل ْرض وأل ْغوينَّه ْم أجْمعين ‪ ‬إ َّّل عبادك م ْنهم‬

‫‪ 61‬سورة الحجر‪.24،25 :‬‬


‫‪ 62‬سورة الحجر‪.26 :‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪48‬‬

‫ي مسْتقي ٌم ‪ ‬إ َّن عبادي ليْس لك‬ ‫ْالم ْخلصين ‪ ‬قال ٰهذا صر ٌ‬
‫اط عل َّ‬
‫ان إ َّّل من اتَّبعك من ْالغاوين‪.)63(‬‬
‫عليْه ْم س ْلط ٌ‬

‫افـتـخـار العـصـاة والـكـافـريـن ال قـيـمـة لـه‬

‫ـ ربما كان الكفار والعصاة أوفر حظوظا ً في الدنيا وأكثر استمتاعا ً‬


‫بها‪ ،‬فال قيمة لهذا وّل اعتداد به‪ ،‬فمصيره الهالك‪ ،‬وقد سبق قول‬
‫ي ْالفريقيْن خي ٌْر َّمقا ًما وأحْسن‬‫الكافرين مفتخرين بما أوتوا‪ :‬أ ُّ‬
‫نديًّا ‪ ‬وك ْم أ ْهل ْكنا قبْلهم امن ق ْر ٍن ه ْم أحْسن أثاثًا ورئْ ًيا‪ .)64(‬وقد‬
‫حكت السنة الشريفة أن عمر‪ ،‬رضي هللا عنه‪ ،‬تألم حين رأى عيدان‬
‫الحصير مطبوعة على جلد رسول هللا ﷺ‪ ،‬وهو نائم في فراشه‬
‫الخشن‪ ،‬وتذكر متعة كسرى وقيصر في األثاث الفاخر والدنيا‬
‫العريضة‪ .‬ولكن النبي ﷺ أفهمه أن هؤّلء قوم عجلت لهم طيباتهم‪،‬‬
‫فال نأسى عليها ‪‬ور ْزق رباك خي ٌْر وأبْق ٰى‪ .)65(‬واألفضل واألشرف‬
‫أن تنار البيوت بأضواء العبادة وطهرها‪ ،‬وأن يسودها جو التقوى‬
‫واإلقبال على هللا‪ ،‬فيخرج أهلها منها وهم يحملون للناس األدب‬

‫‪ 63‬سورة الحجر‪ 39 :‬إلى ‪.42‬‬


‫‪ 64‬سورة مريم‪.74-73 :‬‬
‫‪ 65‬سورة طه‪.131 :‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪49‬‬

‫صطب ْر‬‫صالة وا ْ‬ ‫والعفاف‪ ،‬لذلك قال هللا لنبيه ﷺ‪ :‬وأْم ْر أ ْهلك بال َّ‬
‫عليْها ۖ ّل نسْألك ر ْزقًا ۖ َّنحْن ن ْرزقك ۗ و ْالعاقبة للتَّ ْقو ٰى‪.)66(‬‬
‫ورجاّلت اإلسالم ّل يتنافسون إّل في المكارم‪ ،‬وّل تصدار بيوتهم‬
‫للناس إّل األسوة الحسنة‪ .‬والدهماء تشغل نفسها بما ضمن لها من‬
‫رزق تكاد تموت وراءه من الهم‪ ،‬وّل تكترث بما كلفت به من‬
‫واجبات وهذا ـ كما قال ابن عطاء هللا السكندري ـ من انطماس‬
‫البصيرة‪...‬‬

‫الـمـؤمـن بـالـلــه والـمـنـكـر لـه‬

‫ـ لن ينشأ ود بين مؤمن باهلل ومنكر له‪ ،‬ولن يلتقيا في نهج أو سيرة‪،‬‬
‫فهل يعني ذلك أن تندلع الحرب بينهما حتماً؟ ّل‪ ،‬إن المؤمنين‬
‫مكلفون بدعوة الجاحدين‪ ،‬وبيان طريق الحق أمامهم‪ .‬وّل يجوز أن‬
‫يتجاوزوا الحكمة والموعظة الحسنة‪ ،‬فإن هللا اختبر كال الفريقين‬
‫باآلخر‪ ،‬وّل يسوغ أن نسقط في هذا اّلختبار‪.‬‬

‫‪ 66‬سورة طه‪.132 :‬‬


‫الآللي من كالم الغزالي ‪50‬‬

‫علينا أن نشرح الحق ونبسط أدلته‪ ،‬ونجعل وجهة نظرنا ساطعة‬


‫كالشمس‪ ،‬فإن أبوا الدخول فيها اليوم تركناهم أليام مقبلة‪ ،‬وكنا في‬
‫معاملتهم منصفين أبداً‪.‬‬

‫تلك كانت سيرة سيدنا محمد ﷺ‪ ،‬حتى نصره هللا على عدوه‪...‬‬

‫ـ قد يتطاول المرء فوق قدره‪ ،‬ألن الرزق بسط له‪ ،‬أو ألن جاهه‬
‫اتسع‪ ،‬وقد كانت قريش شديدة الكبر على الحق ألن رغد العيش‬
‫أبطرها‪ ،‬حتى دعا الرسول ﷺ عليها‪﴿ :‬الله َّم أعناي عليهم بس ْب ٍع كس ْبع‬
‫يوسف﴾(‪ ،)67‬أي سبع سنوات عجاف‪...‬‬

‫ـ القرآن الكريم‪ :‬يربط اإليمان بالعمل‪ :‬إ َّّل الَّذين آمنوا وعملوا‬
‫صالحات‪.)68(‬‬
‫ال َّ‬

‫ولن تعود للمسلمين حضارتهم األولى إّل باإليمان والعمل معاً‪...‬‬

‫ـ إن معظم الذين ينظرون إلى سورة النور ينظرون إليها بضيق‬


‫شديد‪ ،‬ألنها حرمت الزنى والتبرج واّلنحالل‪ ،‬ولذلك شرحت‬
‫السورة موقف هؤّلء وبراءة الدين منهم ‪‬ويقولون آمنَّا ب َّ‬
‫اّلِل‬

‫‪ 67‬صحيح البخاري‪ ،‬برقم ‪.4824‬‬


‫‪ 68‬سورة العصر‪.3 :‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪51‬‬

‫ولئك‬ ‫يق ام ْنهم امن ب ْعد ٰذلك ۚ وما أ ٰ‬


‫الرسول وأط ْعنا ث َّم يتولَّ ٰى فر ٌ‬
‫وب َّ‬
‫يق ام ْنهم‬ ‫ب ْالمؤْ منين ‪ ‬وإذا دعوا إلى َّ‬
‫َّللا ورسوله ليحْكم بيْنه ْم إذا فر ٌ‬
‫ُّم ْعرضون‪.)69(‬‬

‫حـال الـمـسـلـمـيـن‬

‫ـ إن حال المسلمين في هذا العصر رديئة‪ ،‬الهزائم المادية والمعنوية‬


‫تحيط بهم‪ ،‬ولكن هللا فتح أمامهم باب اآلمال عندما قال لهم‪ :‬وعد‬
‫َّللا الَّذين آمنوا منك ْم وعملوا ال َّ‬
‫صالحات ليسْت ْخلفنَّه ْم في ْاأل ْرض كما‬ ‫َّ‬
‫اسْت ْخلف الَّذين من قبْله ْم وليم اكن َّن له ْم دينهم الَّذي ْ‬
‫ارتض ٰى‬
‫له ْم…‪.)70(‬‬

‫على أن هذا التمكين يحتاج إلى مقدمات طويلة‪ ،‬وجهود موصولة‪،‬‬


‫فإن للقيادة والسيادة مؤهال ٍ‬
‫ت ّل بد من تحصيلها‪ ،‬ويستحيل أن‬
‫يتحقق لعاط ٍل عمل‪ .‬ولننظر ما فعل الرسول ﷺ وصحبه عندما‬
‫أرادوا إقامة دولة لإليمان‪ .‬لقد مكثوا نحو ربع قرن يصارعون‬
‫الوثنية العربية حتى هزموها‪ ،‬ثم جمعوا بالتوحيد فلول العرب‪،‬‬

‫‪ 69‬سورة النور‪.48-47 :‬‬


‫‪ 70‬سورة النور‪.55 :‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪52‬‬

‫ومالوا على الرومان والفرس ميلة واحدة‪ ،‬فما هي إّل جوّلت حتى‬
‫أصبح المسلمون الدولة األولى في العالم‪.‬‬

‫خالل ثالثين سنة من نزول «اقرأ» تحول رجل واحد إلى أمة رائعة‬
‫تأخذ لربها ولنفسها ما تريد‪.‬‬

‫كان يستحيل ـ في الخيال ـ أن تتحول أسرة فقيرة في مكة إلى دولة‬


‫تبسط سلطانها على العالمين‪.‬‬

‫ما تلك الوسائل؟ ‪‬ي ْعبدونني ّل ي ْشركون بي ش ْيئًا‪.)71(‬‬

‫أهذه وسائل تنهض بها أمة؟ ويسقط بها جبروت حكم العالم كله‬
‫عشرة قرون؟ ‪ّ‬ل تحْ سب َّن الَّذين كفروا م ْعجزين في ْاأل ْرض‪.)72(...‬‬

‫وبدهي أن هذه الوسائل ّل يفهمها العجزة والبله‪ ،‬إنما يفهمها‬


‫ويحشدها رجال فقهوا سياسة الدنيا واآلخرة وخرجوا من سلطان‬
‫األوهام والدنايا‪ ،‬وارتفعوا إلى سيرة محمد ﷺ وصحابته‪ ،‬رضوان‬
‫هللا عليهم‪.‬‬

‫‪ 71‬سورة النور‪.55 :‬‬


‫‪ 72‬سورة النور‪.57 :‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪53‬‬

‫ـ إن التدين الفاسد ليس جديرا ً بالنصر‪ .‬على أن األيام دول‪ .‬عندما‬


‫يصلح المسلمون شؤونهم يقترب منهم النصر البعيد‪.‬‬

‫إن أمتنا تمثل في العالم الفوضى السياسية واّلقتصادية‬


‫واّلجتماعية‪ ،‬وّل ينصر هللا هذه الخالل‪ .‬وفي سورة الروم آية‬
‫أحسبها تؤكد أن اإلسالم باق إلى آخر الدهر‪ ،‬وأن بقاءه ّل محالة‬
‫بأمة تعتنقه وتفتديه‪ :‬وقال الَّذين أوتوا ْالع ْلم و ْاإليمان لق ْد لبثْت ْم في‬
‫َّللا إل ٰى ي ْوم ْالب ْعث ۖ ف ٰهذا ي ْوم ْالب ْعث و ٰلكنَّك ْم كنت ْم ّل ت ْعلمون‪‬‬
‫كتاب َّ‬
‫نعم إنها اآلية السادسة والخمسون من سورة الروم‪.‬‬

‫إن هذ ه اآلية تومئ إلى أن أمتنا لن تزول‪ ،‬وأن كبوتها إلى حين‪،‬‬
‫ونحن نعلم أننا آخر الرساّلت وآخر األمم‪ ،‬وليس بعدنا إّل قيام‬
‫الساعة‪ ،‬هل نلم شملنا ونستأنف سيرنا ونستعيد أمجادنا؟‬

‫لعل ذلك يكون نهاية المطاف‪ ،‬وهو يشير إليه آخر سورة الروم‪،‬‬
‫َّللا حق ۖ وّل يسْتخفَّنَّك الَّذين ّل‬
‫صب ْر إ َّن وعْد َّ‬
‫اآلية الستين ‪‬فا ْ‬
‫يوقنون‪ ،‬والصبر هنا على العمل الذي يعقب الثمر‪ ،‬وعلى الجهاد‬
‫الذي يعقب النصر‪.‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪54‬‬

‫ـ لن يفلح في اآلخرة إّل من قدم اإليمان الواضح والعمل الصالح‪،‬‬


‫ألنه قد انتهى أوان البذر‪ ،‬وجاء أوان الحصاد‪.‬‬

‫ـ إن مشكلة البشرية اآلن ليست ترك الصالة فقط‪ ،‬بل رسم الخطط‬
‫إلضاعتها‪ :‬أرأيْت َّالذي ي ْنه ٰى ‪ ‬ع ْبدًا إذا صلَّ ٰى ‪ ‬أرأيْت إن‬
‫كان على ْالهد ٰى ‪ ‬أ ْو أمر بالتَّ ْقو ٰى‪.)73(‬‬

‫ـ أمام المسلمين خيار بين الظلم والعدل‪ ،‬بين العز والذل‪ ،‬بين الوفاء‬
‫لِلَف ْالع َّزة جميعًا ۚ إليْه ي ْ‬
‫صعد‬ ‫هلل والغدر بعهده‪ :‬من كان يريد ْالع َّزة َّ‬
‫الطياب و ْالعمل ال َّ‬
‫صالح ي ْرفعه ۚ والَّذين ي ْمكرون ال َّ‬
‫س ايئات له ْم‬ ‫ْالكلم َّ‬
‫ولئك هو يبور‪.)74(‬‬ ‫اب شديدٌ ۖ وم ْكر أ ٰ‬
‫عذ ٌ‬

‫ـ يكاد اإلجماع ينعقد بين الخبراء باألديان على أن اإلسالم قام على‬
‫الفكر في الكون والبصر بالحياة‪ ،‬وأنه دعوة حارة إلى التأمل في‬
‫العالم وتدبر آياته وقواه‪ ،‬وكشف أسراره وقوانينه‪.‬‬

‫إن التفكر في ذات هللا مستحيل‪ ،‬فلم يبق سبيل إلى معرفة عظمته‬
‫إّل من متابعة آياته في مخلوقاته‪ ،‬وهو دليل ّل يكذب على علمه‬
‫وقدرته وجالله وجماله‪ .‬إنه على مسافة خطوات محدودة من‬

‫‪ 73‬سورة العلق‪ 9 :‬إلى ‪.12‬‬


‫‪ 74‬سورة فاطر‪.10:‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪55‬‬

‫األرض‪ ،‬ترى زروعا ً مختلفة الطعوم واأللوان والروائح تخرج‬


‫وجدت شمسا ً‬
‫ْ‬ ‫جميعا ً من طينة واحدة‪ ،‬فإذا رفعت عين إلى السماء‬
‫ساطعة وقمراً منيراً ونجوما ً مبعثرة في اآلفاق على عالم ضخم‬
‫فخم‪ ...‬وليس هذا كله إّل أثر ربا ٍ كبير‪ .‬ومن هذا المنطلق تتلو قوله‬
‫سماء ما ًء فأ ْخرجْ نا به ثمرا ٍ‬
‫ت‬ ‫تعالى‪ :‬أل ْم تر أ َّن َّ‬
‫َّللا أنزل من ال َّ‬
‫ف أ ْلوانها‬ ‫ُّم ْختلفًا أ ْلوانها ۚ ومن ْالجبال جددٌ ب ٌ‬
‫يض وح ْم ٌر ُّم ْختل ٌ‬
‫ف أ ْلوانه‬‫وغرابيب سودٌ ‪ ‬ومن النَّاس والدَّوابا و ْاأل ْنعام م ْختل ٌ‬
‫ور‪.)75(‬‬ ‫َّللا عز ٌ‬
‫يز غف ٌ‬ ‫ك ٰذلك ۗ إنَّما ي ْخشى َّ‬
‫َّللا م ْن عباده ْالعلماء ۗ إ َّن َّ‬

‫ـ إن الذكر الحسن نعمة يفيئها هللا على الصالحين من عباده‪ ،‬يرفع‬


‫بها قدرهم ويستبقي أجرهم‪ ،‬وقد قيل‪« :‬الذكر لإلنسان عمر ثان»‪.‬‬
‫والمفروض أن المسلم يطلب بعمله وجه ربه‪ّ ،‬ل وجه بشر‪ ،‬فإذا‬
‫تقبله هللا أحبه ووضع له الحب في القلوب والثناء على األلسنة‪.‬‬
‫وليس ذلك فقط‪ .‬بل هناك الجزاء الهني‪ٰ  :‬هذا ذ ْك ٌر ۚ وإ َّن ل ْلمتَّقين‬
‫ب ‪ ‬جنَّات ع ْد ٍن ُّمفتَّحةً لَّهم ْاألبْواب ‪ ‬متَّكئين فيها‬ ‫لحسْن مآ ٍ‬
‫ي ْدعون فيها بفاكه ٍة كثيرةٍ وشرا ٍ‬
‫ب‪.)76(‬‬

‫‪ 75‬سورة فاطر‪.28-27 :‬‬


‫‪ 76‬سورة ص‪.51-50-49 :‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪56‬‬

‫أما أعداء هللا وخصوم دعوته فلهم جزاء آخر‪ٰ  :‬هذا ۚ وإ َّن ل َّ‬
‫لطاغين‬
‫صل ْونها فبئْس ْالمهاد‪.)77(‬‬
‫ب ‪ ‬جهنَّم ي ْ‬
‫لش َّر مآ ٍ‬

‫ال تكـونـوا عـونـا ً للـشـيطـان عـلى أخـيـكـم‬

‫حكى ابن كثير قال‪« :‬كان رجل ذو بأس من أهل الشام يفد إلى عمر‬
‫بن الخطاب‪ ،‬فافتقده عمر لما غاب عنه‪ ،‬فقالوا له‪ :‬يا أمير المؤمنين‬
‫تتابع الشراب في هذا! فدعا عمر كاتبه‪ ،‬فقال اكتب‪ :‬من عمر بن‬
‫الخطاب إلى فالن بن فالن‪ .‬سالم عليك‪ ،‬فإني أحمد إليك هللا الذي‬
‫ّل إله إّل هو غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب‪ ...‬ثم قال‬
‫ألصحابه‪ :‬ادعوا هللا ألخيكم أن يقبل بقلبه‪ ،‬ويتوب هللا عليه‪.‬‬

‫فلما بلغ الرجل كتاب عمر‪ ،‬جعل يقرؤه ويردده ويقول‪ :‬غافر‬
‫الذنب‪ ،‬وقابل التوب‪ ،‬شديد العقاب‪ .‬قد حذرني عقوبته‪ ،‬ووعدني أن‬
‫يغفر لي‪ .‬ولم يزل يرددها على نفسه‪ ،‬ثم بكى‪ ،‬ثم نزع فأحسن‬
‫النزع‪ .‬فلما بلغ عمر خبره قال‪ :‬هكذا‪ ،‬فاصنعوا إذا رأيتم أخا ً لكم‬
‫زل زلة‪ ،‬فسددوه‪ ،‬ووثقوه‪( ،‬أي ّل تجعلوه يفقد الثقة بنفسه) وادعوا‬
‫هللا له‪ ،‬وّل تكونوا عونا ً للشيطان عليه»‪.‬‬

‫‪ 77‬سورة ص‪.56-55 :‬‬


‫الآللي من كالم الغزالي ‪57‬‬

‫لقد ذكرت هذه القصة؛ ألنه يوجد في عصرنا مقناطون من رحمة‬


‫هللا‪ ،‬يحسنون إرسال طلقات التقريع واإلهانة‪ ،‬وكأن غايتهم إهالك‬
‫المرء حين زلت قدمه‪ ،‬على حين يوجد من أعداء المسلمين من‬
‫يلتقط العاثرين ليخرجهم من الملة‪ ،‬بعد أن يعدهم المغفرة‪.‬‬

‫ـ إن شكران النعمة دليل بصر سليم وطبيعة مستقيمة‪ ،‬وقد ذكر هللا‬
‫نوحا ً فقال‪ :‬إنَّه كان ع ْبدًا شك ً‬
‫ورا‪ ،)78(‬وذكر إبراهيم بأنه كان‬
‫‪‬شاك ًرا األ ْنعمه ۚ اجْ تباه وهداه إل ٰى صراطٍ ُّمسْتق ٍيم‪ ،)79(‬وقال سيدنا‬
‫محمد ﷺ متحدثا ً عن سر اجتهاده في العبادة‪﴿ :‬أفال أكون عبداً‬
‫(‪)80‬‬
‫شكوراً؟﴾‬

‫ـ إن الصدر إذا انشرح أقبل المرء بشغف على العمل‪ ،‬كما قال‬
‫البوصيري‪:‬‬

‫وإذا حـلـت الـهـدايـة روحـا ً نـشـطـ ْ‬


‫ت لـلـعـبـادة األعـضاء‬

‫أما المنحرفون عن هللا فهم يستثقلون الصالة‪ ،‬ويستكثرون الزكاة‬


‫ويفرون من الجهاد‪.‬‬

‫‪ 78‬سورة اإلسراء‪.3 :‬‬


‫‪ 79‬سورة النحل‪.121 :‬‬
‫‪ 80‬صحيح البخاري‪ ،‬برقم ‪.4836‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪58‬‬

‫ـ لقد فرضت العالقات العامة نفسها على الناس في عصرنا‪ ،‬فما‬


‫يستطيع أحد أن يعيش فريداً‪ ...‬كان المثل المضروب قديما ً‬
‫«السلطان من ّل يعرف السلطان»‪ ،‬أما اآلن فهذا متعذر‪ ،‬فإن من‬
‫ّل يعرف السلطان‪ ،‬سيسعى السلطان إلى معرفته وفرض نفسه‬
‫عليه!‬

‫ومعنى ذلك أنه ّل بد من الحوار واألخذ والرد وعرض وجهات‬


‫النظر‪ ،‬واّلعتماد على الدليل في اإلقناع واّلقتناع‪ ،‬وإعطاء الرأي‬
‫المعارض حق الحياة مادام مصحوبا ً باإلخالص والتجرد‪ ،‬ويضيف‬
‫اإلسالم إلى ذلك دفع السيئة بالحسنة ‪‬ا ْدف ْع بالَّتي هي أحْسن ال َّ‬
‫سيائة ۚ‬
‫نحْ ن أعْلم بما يصفون‪.)81(‬‬

‫إن عاقبة األخالق القبيحة متشابهة وإن تباعدت السنون‪.‬‬

‫ـ لماذا هلكت عاد؟ ‪‬فأ َّما عادٌ فاسْت ْكبروا في ْاأل ْرض بغيْر ْالح اق‬
‫وقالوا م ْن أشدُّ منَّا ق َّوة ً‪.)82(‬‬

‫‪ 81‬سورة المؤمنون‪.96 :‬‬


‫‪ 82‬سورة فصلت‪.15 :‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪59‬‬

‫ـ ولماذا هلكت ثمود؟ ‪‬وأ َّما ثمود فهديْناه ْم فاسْتحبُّوا ْالعم ٰى على‬
‫ْالهد ٰى‪.)83(...‬‬

‫ـ إن دين هللا واحد من بدء الخليقة إلى أن يرث هللا األرض ومن‬
‫عليها‪ .‬رب تسبح له السموات السبع واألرض ومن فيهن‪ ،‬وعباد‬
‫خلقهم هللا بقدرته‪ ،‬ورباهم بنعمته‪ ،‬ليس بينهم من يفارقه وصف‬
‫العبودية‪ ،‬وأقرب إليه منزلة أكثرهم سجوداً‪ ،‬وأشدهم له رغبة‬
‫ورهبة‪ .‬وهذا المعنى شاع في القرآن الكريم طوّلً وعرضاً‪ ،‬وهو‬
‫لب دين سيدنا محمد ﷺ‪.‬‬

‫ـ إننا نرى في عصرنا هذا عجباً‪ ،‬نرى العرب يبتعدون عن اإلسالم‬


‫ويعتزون بقوميتهم ومن تفرس في هذه القومية المزعومة يجد زهدا ً‬
‫في اإلسالم وفي لغته الفصحى على حد سواء‪...‬‬

‫ـ عند قيام الساعة يقال للمؤمنين‪ :‬ا ْدخلوا ْالجنَّة أنت ْم وأ ْزواجك ْم‬
‫تحْ برون‪.)84(‬‬

‫‪ 83‬سورة فصلت‪.17:‬‬
‫‪ 84‬سورة الزخرف‪.70 :‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪60‬‬

‫أما غيرهم فلهم مصير أسود ‪‬إ َّن ْالمجْرمين في عذاب جهنَّم‬
‫خالدون ‪ّ ‬ل يفتَّر ع ْنه ْم وه ْم فيه مبْلسون‪.)85(‬‬

‫ـ لقد كانوا في الدنيا يكيدون للحق ويمكرون بأهله‪ ،‬فماذا جنوا؟ ‪‬أ ْم‬
‫أبْرموا أ ْم ًرا فإ َّنا مبْرمون‪ .)86(‬إنَّه ْم يكيدون ك ْيدًا ‪ ‬وأكيد ك ْيدًا‬
‫‪ ‬فم اهل ْالكافرين أ ْمه ْله ْم رو ْيدًا‪.)87(‬‬

‫ـ إن اإلسالم ضنين بالخسائر في األرواح من الفريقين‪ .‬لو أحصي‬


‫القتلى منذ بدأ اإلسالم دعوته إلى أن أقام دولته لكانت أقل كثيرا ً‬
‫جداً من القتلى الذين سقطوا في مذبحة «سان بارثليموا»(‪ )88‬في ليلة‬
‫واحدة بين الكاتوليك والبروتستانت‪ .‬ولكن ديننا مبتلى باألفاكين‬
‫ومروجي الشائعات الفاجرة!!‬
‫ا‬

‫‪ 85‬سورة الزخرف‪.75-74 :‬‬


‫‪ 86‬سورة الزخرف‪.79 :‬‬
‫‪ 87‬سورة الطارق‪.17-16-15 :‬‬
‫‪ 88‬مذبحة يوم القديس بارتولوميو في فرنسا عام ‪ ،1572‬وكانت الكنيسة الكاثوليكية متواطئة‬
‫ومشاركة فيها‪ ،‬ففي يوم ‪ 24‬آب (أغسطس) دقت أجراس الكنائس إشارة للجنود والمتطوعين من‬
‫األهالي ببدء الفتك بالبروتستانت وألنها دقت بوقت أبكر من وقت الصالة‪ ،‬شعر البروتستانت‬
‫بالخطر فهرب بعضهم خارج المدينة أو لجؤوا لدى أقاربهم من الكاثوليك إال أن هؤالء أيضا ً‬
‫خضعوا للهجوم‪ ،‬ومن لم يستطيعوا الهرب دوهموا في بيوتهم‪ .‬وقتلوا بكافة أعمارهم‪ .‬قيل إن‬
‫الضحايا بلغت ستين الفا ً‪( .‬موسوعة ويكيبيديا)‪.‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪61‬‬

‫ـ‪‬هو الَّذي أ ْرسل رسوله ب ْالهد ٰى ودين ْالح اق لي ْ‬


‫ظهره على الداين‬
‫اّلِل شهيدًا‪ .)89(‬إن صريح هذه اآلية أن النصر حليف‬ ‫كلاه ۚ وكف ٰى ب َّ‬
‫اإلسالم في ما مضى وما بقي من هذا الزمان‪ ،‬وأنه حتى تقوم‬
‫الساعة سوف تبقى راية اإلسالم خفاقة‪ ،‬كما جاء في الحديث‪ ﴿ :‬مثل‬
‫أ َّمتي مثل المطر؛ ّل ي ْدرى َّأوله ٌ‬
‫خير أ ْم آخره﴾(‪.)90‬‬

‫لكن النصر له مؤهالت ّل بد من توفرها في الجيل الذي يحرزه‪،‬‬


‫فمن فقد هذه المؤهالت لم يتحقق له أمل‪ ،‬وّل يلومن إّل نفسه‪ ،‬ولن‬
‫يضر هللا شيئاً‪.‬‬

‫ـ رب شائعة ّل أصل لها أحدثت فتنة ﴿يا أيُّها الَّذين آمنوا إن جاءك ْم‬
‫صبحوا عل ٰى ما فع ْلت ْم‬
‫فاس ٌق بنبإٍ فتبيَّنوا أن تصيبوا ق ْو ًما بجهال ٍة فت ْ‬
‫نادمين‪.)91(‬‬

‫كما أن دراسة األرض والسماء ينبوع دفاق يزيد اإليمان ازدهاراً‪،‬‬


‫ويعرف الناس بربهم معرفة حسنة‪ ،‬والقرآن الكريم بنى صدق‬
‫ا‬
‫اإليمان على التفكر الذكي في ملكوت هللا‪.‬‬

‫‪ 89‬سورة الفتح‪.28 :‬‬


‫‪ 90‬سنن الترمذي‪ ،‬برقم ‪.2869‬‬
‫‪ 91‬سورة الحجرات‪.6 :‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪62‬‬

‫إن الذين خالطوا األنبياء واستفادوا منهم تأثروا بهم نفسيا ً وعقليا ً‪،‬‬
‫فكانوا أرقى من غيرهم وأطهر‪ ،‬ولذلك يقول سيدنا رسول هللا ﷺ‪:‬‬
‫﴿خيْرك ْم ق ْرني‪ ،‬ث َّم الَّذين يلونه ْم‪ ،‬ث َّم الَّذين يلونه ْم﴾(‪.)92‬‬

‫اإليـمـان الـواضح والـعـمـل الصـالح‬

‫ـ ما جعل إنسان التوحيد قاعدته ثم انطلق في دروب الحياة مرتبطا ً‬


‫به إّل أحبه هللا‪ ،‬وجعل أهل السماء واألرض يحبونه ‪‬إ َّن الَّذين‬
‫الرح ْٰمن ودًّا‪.)93(‬‬
‫صالحات سيجْعل لهم َّ‬
‫آمنوا وعملوا ال َّ‬

‫وفي الحديث‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪:‬‬

‫﴿إن هللا سبحانه إذا أحبَّ عبداً دعا جبريل فقال‪ :‬إناي أحبُّ فالنا ً‬
‫إن َّللا يحبُّ فالنا ً‬
‫سماء فيقول‪َّ :‬‬
‫فأحبَّه‪ ،‬فيحبُّه جبريل‪ ،‬ثم ينادي في ال ا‬
‫سماء‪ ،‬ث َّم يوضع له القبول في األرض﴾(‪.)94‬‬
‫فأحباوه‪ ،‬فيحبُّه أهل ال َّ‬

‫‪ 92‬صحيح البخاري‪ ،‬برقم ‪.6695‬‬


‫‪ 93‬سورة مريم‪.96 :‬‬
‫‪ 94‬متفق عليه‪ .‬انظر اللؤلؤ والمرجان ص ‪ 713‬رقم ‪ 1692‬كتاب «البر والصلة واألدب» باب‬
‫«إذا أحب هللا عبدا ً حببه لعباده»‪.‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪63‬‬

‫قال أحد الصالحين‪ :‬ما أقبل عبد على هللا بقلبه إّل أقبل هللا بقلوب‬
‫المؤمنين إليه‪ ،‬حتى يرزقه مودتهم‪ :‬فإنَّما ي َّ‬
‫س ْرناه بلسانك لتب ا‬
‫شر ب ه‬
‫ْالمتَّقين وتنذر به ق ْو ًما لُّدًّا‪.)95(‬‬

‫منهج الحياة‪َ  :‬و َال تَكُن ِّل ْل َخا ِئ ِن َ‬


‫ين َخ ِصي ًما‪.)96(‬‬

‫ـ ‪‬ولق ْد ن ْعلم أنَّك يضيق ص ْدرك بما يقولون ‪ ‬فسباحْ بح ْمد رباك‬
‫ساجدين‪.)97(‬‬
‫وكن امن ال َّ‬

‫رسـالـة الـمـسـلـمـيـن‬

‫ـ علينا نحن ‪ -‬المسلمين ‪ -‬أن نعرف رسالتنا بين الناس‪ .‬إننا لم نخلق‬
‫لننظر إليهم من أعلى‪ .‬إننا أصحاب رسالة كلفنا بشرحها باألدب‬
‫والحكمة والرحمة والحب‪ ،‬وأخشى أن يكون فشلنا في صبغ العالم‬
‫بها يرجع إلى سوء عرضنا وفشل أسلوبنا‪:‬‬

‫‪‬يا أيُّها النَّاس إنَّا خل ْقناك ْم م ْن ذك ٍر وأ ْنثى وجع ْلناك ْم شعوبًا وقبائل‬
‫لتعارفوا إ َّن أ ْكرمك ْم ع ْند َّ‬
‫َّللا أتْقاك ْم‪.)98(‬‬

‫‪ 95‬سورة مريم‪.97 :‬‬


‫‪ 96‬سورة النساء‪.105 :‬‬
‫‪ 97‬سورة الحجر‪.98، 97 :‬‬
‫‪ 98‬سورة الحجرات‪.13 :‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪64‬‬

‫إن فرقا ً كبيرا ً بين نموذجين من المسلمين اليوم‪ :‬نموذج ألقوام‬


‫ا‬
‫ورثوا اإلسالم عنوانا ً ولم يحملوه موضوعا ً‪ ،‬فكانت قلوبهم خالية‬
‫من اليقين‪ ،‬وكانت أعمالهم بعيدة من الصالح‪.‬‬

‫ونموذج ألقوام حملوه شرعة ومنهاجا ً‪ ،‬فكانت أفئدتهم مغمورة‬


‫باليقين‪ ،‬وكانت أعمالهم تترجم فهمهم اإلسالم العميق وصالحهم‬
‫الشديد‪.‬‬
‫والحق أننا في هذا العصر نجد من عامة المسلمين وخاصتهم من‬
‫يشبهون أعراب األمس البعيد ‪‬قالت ْاألعْراب آمنَّا ۖ قل لَّ ْم تؤْ منوا‬
‫و ٰلكن قولوا أسْل ْمنا ول َّما ي ْدخل ْاإليمان في قلوبك ْم‪.)99(‬‬
‫نعم إن هؤّلء ينتمون إلى اإلسالم‪ ،‬لكنهم ّل يلبون له نداء‪ ،‬أو‬
‫يؤازرونه في محنة‪.‬‬

‫إن السورة التي نقرؤها إذا لم تتحول في سلوكنا إلى خلق وعبادة‬
‫ومنهج حياة فإن نقصا ً فينا ينبغي أن نعالجه‪...‬‬

‫ـ إن القرآن نعمة عظمى على كل من درسه وفقاه الناس فيه‪:‬‬


‫﴿خيْرك ْم من تعلَّم الق ْرآن وعلَّمه﴾(‪.)100‬‬

‫‪ 99‬سورة الحجرات‪.14 :‬‬


‫‪ 100‬صحيح البخاري‪ ،‬برقم ‪.5027‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪65‬‬

‫ـ إن حقوق النعمة كبيرة‪ ،‬وحرام على من استمتع بها أّل يقدرها‬


‫قدرها وأّل يدفع ثمنها‪.‬‬

‫ـ اإليمان المقبول أساسه عرفان هللا‪ ،‬ونكران الذات‪ ،‬ورحمة الخلق‪،‬‬


‫ورقة القلب‪ .‬وهناك قوم ينتمون إلى اإليمان وفي صدورهم صلف‬
‫وأثرة‪ ،‬نستغرب قساوة قلوبهم وخشونة جوانبهم!‬

‫إن التدين السطحي ينتشر بيننا‪ .‬ترى الرجل يتشبث برأي في فروع‬
‫الفقه ّل يقدم وّل يؤخر‪ ،‬ويحسب أنه ملك مفاتيح الجنة دون غيره‪،‬‬
‫وينظر إلى الناس من عل‪ ،‬ويعاملهم بجفاء‪ .‬يعظ القرآن هؤّلء‪:‬‬
‫‪‬أل ْم يأْن للَّذين آمنوا أن ت ْخشع قلوبه ْم لذ ْكر َّ‬
‫َّللا وما نزل من ْالح اق‬
‫وّل يكونوا كالَّذين أوتوا ْالكتاب من قبْل فطال عليْهم ْاألمد فقس ْ‬
‫ت‬
‫قلوبه ْم‪.)101(‬‬
‫هذا المرض يحبط أعمال أفراد‪ ،‬ويحول بين األمة اإلسالمية وأداء‬
‫رسالتها‪ .‬إن التواضع والرحمة يزرعان القبول والحب‪ ،‬أما العجب‬
‫والفضاضة فال يثمران إّل الخصام والقتال‪.‬‬

‫ـ إن معرفة هللا ّل تكفي‪ّ ،‬لبد من أداء حقوقه في السراء والضراء‪.‬‬

‫‪ 101‬سورة الحديد‪.16 :‬‬


‫الآللي من كالم الغزالي ‪66‬‬

‫ـ إن بعض الناس ينتمون إلى هللا ويتمتعون بنعمته ولكنهم يشغلون‬


‫بالنعمة عنه سبحانه وتعالى ويحيون ألنفسهم وحدها‪...‬‬

‫ـ الغريب أن العلم البشري تقدم كثيرا ً في نصف القرن األخير كما‬


‫لم يتقدم في تاريخ الحياة كلها‪ ،‬ومع ذلك فعلمه باهلل ضحل‪ ،‬وكذلك‬
‫استعداده للقائه!‬

‫وتكرم‬
‫ا‬ ‫ـ ليالي هذه الدنيا حبالى تلد كل عجيبة‪ ،‬تكذاب الصادق‬
‫الكذوب‪ ،‬وترفع األسافل‪ ،‬والكرام يهانون ويزعجون‪ .‬أما في‬
‫اآلخرة فال تكذيب لصادق‪ ،‬وّل تكريم لكذوب‪...‬‬

‫ـ المحزن في عصرنا أن التقدم العلمي يبحث مكانه وّل يريد أن‬


‫يعرف ما وراءه‪ ،‬ولذلك يستبعد الحديث عن اآلخرة وّل يعرض له‬
‫في مجلس جاد‪...‬‬

‫ـ ّل بد أن يتساءل كل عاقل منا‪:‬‬

‫ماذا فعلت في أمسك الدابر؟ وماذا قدمت لمستقبلك القادم ولمستقبلك‬


‫الخالد؟ ألن المسلم يعمل للحياتين معاً‪.‬‬

‫نعم‪ .‬إن المرء يمرق إلى أهوائه كالسهم‪ ،‬فإذا كلف بجهاد أو صالة‬
‫تقاعس واسترخى‪ ...‬ومستقبل الناس عند ربهم ّل تقرره فلتات‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪67‬‬

‫اللسان وّل عثرات الطريق‪ ،‬وإنما تقرره مناهج مرسومة وعادات‬


‫مستحكمة‪ ،‬فالخطأ العابر يوشك لمؤمن أن يطهر منه‪ ،‬وأما‬
‫البرنامج الموضوع لحياة هابطة فهو أساس الهالك‪...‬‬

‫ـ إن هللا ّل يعطي غنيا ً المال كي يقول لغيره‪ :‬أنا أ ْكثر م ْنك ماّل‬
‫وأع ُّز نف ًرا‪ ،)102(‬إنما يعطيه ليشارك غيره فيه‪ ،‬ويسارع إلى‬
‫مواساة المحتاجين وتفريج كربهم‪ .‬ولم يحرم أحداً المال ليبكي على‬
‫دنيا فاتته أو يحسد من أوتي شيئا ً منه‪ ،‬بل ليصبر ويتربى على‬
‫العفاف‪.‬‬

‫ـ إن أهل اإليمان يتعرفون على حاجات اآلخرين ويسارعون في‬


‫قضائها‪ ،‬فالدين مع الضعيف حتى يقوى‪ ،‬ومع الفقير حتى يستغني‪،‬‬
‫ومع اليتيم حتى يكبر ومع الهائم حتى يستقر‪.‬‬

‫‪‬وزكريَّا إ ْذ ناد ٰى ربَّه ربا ّل تذ ْرني ف ْردًا وأنت خيْر ْالوارثين ‪‬‬
‫صلحْ نا له ز ْوجه ۚ إنَّه ْم كانوا‬
‫فاسْتجبْنا له ووهبْنا له يحْ ي ٰى وأ ْ‬
‫يسارعون في ْالخيْرات وي ْدعوننا رغبًا ورهبًا ۖ وكانوا لنا‬
‫خاشعين‪.)103(‬‬

‫‪ 102‬سورة الكهف‪.34 :‬‬


‫‪ 103‬سورة األنبياء‪.90 ،89 :‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪68‬‬

‫شرك أخو األثرة والقسوة‪،‬‬ ‫ـ إن اإليمان أخو العطاء والعدالة‪ ،‬وال ا‬


‫وتدبروا قوله تعالى‪ :‬أرأيْت الَّذي يكذاب بالداين ‪ ‬ف ٰذلك الَّذي يدعُّ‬
‫ض عل ٰى طعام ْالمسْكين‪.)104(‬‬
‫ْاليتيم ‪ ‬وّل يح ُّ‬

‫نعم‪ .‬إن إعانة محتاج شرط في اإليمان كإقامة الصالة وأدائها‬


‫بخشوع‪ ،‬وتهدد هللا سبحانه بالويل مانع الماعون عن محتاج إليه‪.‬‬

‫ـ إن توحيد العقائد والمذاهب مستحيل‪ ،‬ومن الخير اّلعتراف بتعدد‬


‫المشارب والنزعات‪ ،‬ومواجهة ذلك بالحكمة والوعي‪ .‬وقد حكى‬
‫القرآن الكريم زبدة تاريخ البشر في سورة هود والصراع الشديد‬
‫بين المؤمنين والكفار على امتداد العصور‪ ،‬ثم قال للنبي الكريم‪،‬‬
‫عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم‪ :‬ول ْو شاء ربُّك لجعل النَّاس أ َّمةً‬
‫واحدةً ۖ وّل يزالون م ْختلفين ‪ ‬إ َّّل من َّرحم ربُّك ۚ ول ٰذلك‬
‫خلقه ْم‪.)105(‬‬

‫‪‬‬
‫‪ 104‬سورة الماعون‪ 1 :‬ـ ‪.3‬‬
‫‪ 105‬سورة هود‪.119 ،118 :‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪69‬‬

‫المؤلف في سطور‬
‫الدكتور يحيى مصري‪ ،‬من مواليد مدينة حلب‪ ،‬أستاذ النحو والصرف‬
‫في جامع حلب‪ ،‬دكتوراه في النحو والصرف وفقه اللغة‪ ،‬والفقه على‬
‫المذاهب األربعة‪ ،‬وتفاسير القرآن الكريم‪.‬‬
‫مقيم في أمريكا‪ ،‬له عدد من الكتب المنشورة والمخطوطات‪ ،‬أبرزها‪:‬‬
‫‪ -1‬تحقيق شرح الرضي لكافية ابن الحاجب‪ ،‬صادر عن جامعة اإلمام‬
‫محمد بن سعود اإلسالمية‪ ،‬بالسعودية‪.‬‬
‫‪ -2‬لغتنا العربية‪ ،‬فرائد وفوائد‪ ،‬صادر عن «منشورات كتاب»‬
‫بواشنطن‪.‬‬
‫‪ -3‬الشاهد النحوي ووجه االستشهاد‪ ،‬صادر عن دار عكرمة بدمشق‪.‬‬
‫‪ -4‬هذه كناشتي‪ ،‬اعتنى بنشرها د‪ .‬أحمد محمد ويس‪ ،‬صادر عن‬
‫«شرفات للنشر والدراسات»‪.‬‬
‫‪ -5‬الوجيز في فقه الخلفاء الراشدين وابن عباس وابن مسعود‪.‬‬
‫(نسخة إلكترونية)‪.‬‬
‫‪ -6‬مشكل إعراب القرآن الكريم‪( .‬قيد النشر)‪.‬‬
‫النحو القرآني‪( .‬قيد النشر)‪.‬‬
‫‪ -7‬الآللي من كالم الغزالي‪( .‬قيد النشر)‪.‬‬
‫‪ -8‬آللئ التفسير‪( .‬قيد النشر)‪.‬‬
‫‪ -9‬المسلمون وغير المسلمين‪( .‬قيد النشر)‪.‬‬
‫‪ -10‬مقاالت وخاطرات‪( .‬قيد النشر)‪.‬‬
‫‪ -11‬موضوعات قيمة‪( .‬قيد النشر)‪.‬‬
‫للتواصل‪:‬‬
‫‪https://www.facebook.com/profile.php?id=100002046860416‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪70‬‬
‫الآللي من كالم الغزالي ‪71‬‬

You might also like