Professional Documents
Culture Documents
مناجاة الاما زين العابدين
مناجاة الاما زين العابدين
ومما يزيدنا سعادة أن يتبنى مركز علوم القرآن وتفسريه وطبعه يف العتبة
القيم (رشح املناجاة اخلمس عرشة) لإلمام
العباسية املقدسة طبع هذا الكتاب ّ
زين العابدين )عليه السالم( لسامحة السيد حممد عيل احللو (دام تسديده) ملا
مهمة للمؤمنني واملؤمنات ،سائلني املوىل عز وجل دوام يتضمن من فوائد ّ
التوفيق لسامحته يف خدمة حممد وآله الطاهرين إنّه سميع جميب الدعاء.
ادارة
مركز علوم القران وتفسريه وطبعه
تصدح في نفقات التبتل والخضوع..
ُ ِ
المعرفة تراتيل
تشمخ عالي ًا في ٍ
غيث هاطلٍ على ارض جرداء .. ُ
تنتظر الصباح..
ُ
فأليك أيها الموعود..
ُ
تراتيل جدك السجاد ..
خادمكم
المناجاة الخمس عشرة
رائعة البيت العلوي الطاهر
شهد منتصف القرن اهلجري االول حتديات فكرية اودت بثقافة تداول احلديث
ٍ
حالة من املطاردات بني السلطة والرواة ،او مهاترات بني الرواة انفسهم ،او اىل
وأحيل احلديث النبوي اىل (ظاهرة تارخيية)
مسابقات ادبية بني بعض متذوقيهُ ،
ٍ
كحدث تارخيي انتهى اىل غاية ما ،واسدل الستار عليه يتحدث عنها املتابعون
حتى عد مشهد ًا غري مالوف عند ارباب السلطة واتباعهم ،وكان ذلك مطلع
العهد االموي الذي شهد حتو ً
ال خطري ًا يف التعاطي مع احلديث النبوي ،واستطاع
معاوية ابن ايب سفيان ان يستعيض باحلديث املتواتر حديث ًا موضوع ًا يستعني به
عىل التحوالت السياسية والرصاع املحتدم بينه وبني املعارضة العلوية التي تزعمها
االمام احلسن بن عيل منذ اعالن اهلدنة ورشوطها ،فقد سعى معاوية اىل احالة
احلديث النبوي اىل وسيلة من وسائل حتريف احلقائق والوقائع ،واحاله االمام
احلسن اىل احدى ادوات املعارضة التي وقفت بوجه التامدي االموي ،وبالفعل
7
................................................................................. 8رشح املناجاة الخمس عرشة
اسس معاوية احلديث املوضوع ،وابقى احلسن بن عيل عىل احلديث املشهور،
واستكمل االمام احلسني بثورته املقدسة دواعي االبقاء عىل احلديث وتثبيته
بدمه الطاهر ،وترسيخه من خالل ثورته املعطاء ،ومل يكن االمام عيل بن احلسني
والقيم عىل فكره املقدس ،ومل
ّ بعيد ًا عن هذه املهمة يف احلفاظ عىل حديث جده،
يستطع االمام بعد ثورة ابيه ان يتحرك بام يضمن االبقاء عىل احلديث ونرشه
وتداوله بني الناس اال انه احدث الي ًة خطري ًة يف هذا الشان ،وهو تعاطي الدعاء
وبثه بني ارجاء الناس ليثبت بذلك امور:
االول :بيان علمهم وبالغتهم وفضلهم عىل الناس من خالل ما ابتدعه من خطاب اهبر
ذوي البالغة واهل البيان ،حتى توجهت االنظار اىل هنجهم القويم من خالل بث الدعاء
ونرشه.
الثاين :كشف اجلهات املدعية لالسالم املغايرة لنهج اهل البيت وخلوها من هذا
االبداع – الدعاء – حتى ُاحرجت هذه اجلهات لعدم امكانية القائمني عليها من تاليف مثل
هذا اخلطاب القيم الذي افحم اجلميع.
الثالث :احياء احلديث النبوي واشاعته من خالل تضمني فقرات الدعاء هلذه االحاديث،
ودس املقصود النبوي ثمة ،ومن هنا عمل االمام عىل ممارسة قيمومته عىل احلديث ومنع
جتاوزات االخرين عليه.
الرابع :ابتكاراخلطاب االهلي بني العبد وبني ربه من خالل بناء اديب جديد استحدثه االمام
وروج له اتباعه يف تداوهلم اياه ،بعد ان كادت ختلو الذهنية االسالمية من ثقافة الدعاء.
ّ
رائعة البيت العلوي الطاهر9 ..................................................................................
اخلامس :اشاعة ثقافة الدعاء واستبداهلا باالدب الذي اشاعته السلطة من شع ٍر وحكايات
واهتامم باالنساب وغريها وتعطيل احلديث تداو ًال ومعرف ًة مما حدى بالسلطات اىل تشجيع
جمالس اللهو وتضمينها باالدب اخلليع الذي يكون ِقوام هذه املجالس وعامدها.
السادس :التصدي للتحريف الذي احدثته دوائر النظام الفكرية التي سعت اىل
ِ
بث احلديث املوضوع وتوجيه اهتامم الناس اىل ذلك.
من هنا تصدى االمام زين العابدين للوقوف بوجه هذه املحاوالت التحريفية
وحماولة اضعافها وعدم االهتامم هبا ،يف الوقت الذي يعاين االمام من مضايقات
ومطاردات ،وحماوالت الغاء جهوده وتاثريه يف احلياة العامة ،اال ان االمام
ٍ
متجه نحو اللعب والعبث واملجون ،ولعل جمتمع
ٍ ابتكر اسلوب الدعاء واشاعته يف
احلالة االدبية للمقطع التارخيي الذي نشري اليه سيكون شاهد ًا عىل ذلك ،وال يعني
خلو ادبيات االمام عيل واالمامني احلسنني عليهام السالم من الدعاء ،بل كانت
هناك ادعية تتعهدها االئمة عليهم السالم فضال عن السيدة فاطمة الزهراء عليها
السالم التي ُعرفت بادعيتها ،اال ان االمام زين العابدين كشف عن هذا اجلهد،
وعزز من ثقافة الدعاء بام ينسجم والسلوك االديب الذي اختذته االمة يومذاك ،فقدم
ِقطعا من الدعاء البليغة ،وحث عىل تداوله .
اال ان ما يميز مدرسة االمام زين العابدين االدبية يف الدعاء ،هو تعزيز
منحى من الدعاء مل تتعارف عليه االمة كثري ًا بل اختزل يف بعض املحاوالت
لالمام امري املؤمنني – حسب متابعتي القارصة – وهي املناجاة التي بثها االمام
زين العابدين ،وهي لون اديب متميز حيث يكون النداء هلل تعاىل من خالل
................................................................................. 10رشح املناجاة الخمس عرشة
ٍ
ونعمة وبالء، رس وشدة، ٍ
خوف ورجاء ،وي ٍ بث ما يعتلج يف صدره الرشيف من
موجه اليه
ٌ ٍ
وحب وهيام كل ذلك ومرض وشفاءٍ ،
وذل واستكانة، ٍ وهم وفرج،
بعباراته الراقية ،واشاراته اجلليلة ،واستطاعت هذه املناجاة ان تعرب اشارة الزمن
لتصل الينا دون ٍ
سند معلوم سوى ما ذكره العالمة املجليس من كونه عثر عليها يف
كتب االصحاب ،ال ان املتابع الحيوجه اسلوب املناجاة اىل ٍ
سند يف هذا الشان فان
سياقات املناجاة تكشف عن انتساهبا اىل اصحاهبا وهم اهل بيت احلكمة ومعدن
الرسالة وخمتلف املالئكة ،فان العبارات التي تتداعى يف هذه املناجاة ،وتتواىل فيها
االشارات العرفانية ،واالرسار الربانية ال يايت هبا اال من اهل هذا البيت الذين ختم
اهلل هلم بالعلم واهلداية واملعرفة ،ومل تصدر عن غريهم ،ومل نجد فيام بعد عهدهم
بليغ ان
الرشيف اي حماولة يف هذا الشان سوى هذه املناجاة البديعة اذ يعجز اي ٍ
يصور هذه املعاين واالرسار غريهم عليهم السالم ،كام يف حتدي القران الكريم يف
ّ
منحى اخر من اخلطاب بني العبد وربه
ً اتيان عرش سور من مثله ،واملناجاة هذه
ُيظهر فيها:
ً
اوال :معرفته ألنعم اهلل تعاىل
ثاني ًا :عجزه عن االحاطة هبذه النعم غري املتناهية .
وهذا من ارقى انواع العبادة التي متيز هبا ائمة اهل البيت عليهم السالم.
ومن هنا فقد وجدنا رضورة رشح هذه املناجاة اخلمس عرشةوالتي نرشها مسجد
الكوفة املعظم يف جملته املوسومة “ السفري” وكانت حلقات العداد عدة وجدنا
رائعة البيت العلوي الطاهر11..................................................................................
ٍ
موحد يضم هذا اجلهد القارص يف رشح املناجات من الرضورة اجتامعها يف عملٍ
املباركة والتي تداوهلا العلامء واهل الصالح كثري ًا ،ووجدنا رضورة الرتكيز عليها،
والتنويه اىل خطورهتا مع اعرتافنا بالتقصري الكبري الذي صاحب عملنا هذا لكن
املنا ان نساهم يف االشارة املقترصة هلذا العطاء الثر ،وان هذه املناجاة مهام اجتمع
ٍ
لبعض ظهريا ،راجني برشح يناسبها ولو كان بعضهم
ٍ عليها االنس واجلن فال ياتون
ان يساحمنا صاحب هذه املناجاة بكرمه املعهود ،ورعايته الكريمة.
ل َوبِ ِح ْل ِم َك َعنِّي ْاع ُف َعنِّي َوبِع ْل ِم َك ِب ْإر ِفقْ ِب، َت ْرىض ،إِهلِي بِ ُقدْ َرتِ َك َع َ َّ
ل ُت ْب َع َ َّ
إِهلِي َأن َْت ا َّل ِذي َفت َْح َت لِ ِع ِ
باد َك باب ًا إِىل َع ْف ِو َك َس َّم ْي َت ُه ال َّت ْو َب َة َف ُق ْل َت ُتو ُبوا إِىل اهلل َت ْو َب ًة
الذن ُْب ِم ْن الباب َب ْع َد َف ْت ِح ِه ؟ إِهلِي إنْ كانَ َق ُب َح َّ
ِ َن ُصوح ًا ّفام ُع ْذ ُر َم ْن َأ ْغ َف َل ُد ُخ َ
ول
ض الع ْف ُو ِم ْن ِع ْن ِد َك ،إِهلِي ما َأنا بِ َأ َّو ِل َم ْن َع َ
صاك َفت ُْب َت َع َل ْي ِه َو َت َع َّر َ َع ْب ِد َك َف ْل َي ْح ُس ُن َ
ياع ِلي ًام بِام ِف
الب َ يم ِ ِّياع ِظ َ
الض َ ياكاش َف ُّ ِّ ِ يب ا ُمل ْض َط ِّر وف َك َف ُجدْ َت َع َل ْي ِهِ ُ ،
يام َ ِلَ ْع ُر ِ
ح َك ود َك َو َك ِ
رم َك إِ َل ْي َك َو َت َو َّس ْل ُت بِ َجنابِ َك َو َت َر ُّ ِ است َْش َف ْع ُت بِ ُج ِ
ت ْ الس ْ ِ
يل ِّياج َ
الس َ ِ
ِّ ِّ
يك َرجائِي َو َت َق َّب ْل َت ْو َبتِي َو َك ِّف ْر َخ ِطيئَتِي بِ َمن َِّك است َِج ْب ُدعائِي َو ُ َ
الت ِّي ْب ِف َ َل َد ْي َكَ ،ف ْ
الر ِ ِ َ
اح َ
ني )). َو َر ْحَتِ َك ياأ ْر َح َم َّ
مناجاة التائبني15 ...................................................................................................
مناجاة التائبين
((الهي البستني الخطايا ثوب مذلتي))
يبدأ االمام مناجاته مع اهلل تعاىل باالعرتاف له ،واالقرار بذنوبه وهي حالة
تشري اىل فقر االنسان وفاقته ،وغناه تعاىل وعدم حاجته ،والتذلل واالنكسار
باالعرتاف هو اقرب الوسائل اىل اهلل تعاىل يف االقرار بالعبودية وعظيم الطاعة،
واالمام زين العابدين كام ستظهر يف رشوحات املناجاة القادمة – ال يعني انه
صاحب الذنوب التي جيب االعرتاف هبا ،وانام اراد ان يتذلل هلل تعاىل باشد
ما يمكن التذلل واالنكسار له ،ومعنى ذلك انه مهام كانت طاعته هلل تعاىل فهو يف
احلقيقة يشري اىل التقصري مع اهلل تعاىل ،فان نعمه التي ال حتىص تستحق كل طاعة
ومل ِ
تف حيال ما اغدق سبحانه عليه ،فضال عن كون االمام ينطلق من ٍ
درس
تربويٍ يوجهه اىل اصحابه وشيعته واتباعه ،وكل من قرأ كتابه هذا وسمعه فانه
ينتبه اىل ان يكون االنسان دائام معرتف ًا بتقصري ما يقدمه يف حرم طاعته تعاىل من
القلة التي التتناسب ونعمه التي ال ُتىص.
قال يف القاموس :االله :عىل وزن فعال بمعنى مفعول النه مألوه اي معبود ككتاب
بمعنى مكتوب ((اهلل )) قيل اصله اله فحذفت مهزته وادخل عليه االلف والالم
ُ
فخص بالباري تعاىل ولتخصيصه به قال تعاىل (( هل تعلم له سميا)) مريم 65:
قال الشيخ الكفعمي :واعلم ان هذا االسم وهو ((اهلل )) قد امتاز عن غريه من
................................................................................. 16رشح املناجاة الخمس عرشة
واألمل الرجاء ،والبغية :من إبتغاء اليشء اذا طلبه ،وبغيتي طلبتي وحاجتي ال
اطلب سواها.
(( ويا سؤيل ومنيتي))
سؤيل :من السؤال وهو الطلب احلثيث الذي يبتغيه السائل ،وسؤيل اي ال اجد
حاج ًة وسؤا ً
ال سواك حتى رصت انت غايتي وسؤيل.
املنية :من املنى بضم االول وهي الغاية والرغبة التي يسعى اليها الطالب واصله
التمني القلبي الذي يدفع االنسان لطلب ما متناه ورغبه.
(( فوعزتك ما اجد لذنوبي سواك غافرا))
العزة :الغلبة والقهر ،حتى صارت صف ًة له تعاىل ،وعزته قدرته وقوته .
لقوله تعاىل(( :ايبتغون عندهم العزة فإن العزة هلل مجيعا)) النساء139 :
(( وهلل العزة ولرسوله وللمؤمنني)) املنافقون 8: وقوله تعاىل
قسم بعزته تعاىل انه مل جيد لذنبه غافر ًا سواه ،فكل من سواه ال تصدر
وعزتك ٌ :
منه التوبة الن االمر بيده تعاىل يرحم من يشاء ويعذب من يشاء ،وبيده امللك وهو
القادر عىل العفو والرمحة.
وعندما يستعرض ذنوبه ويستشعر بانكساره ،ويتوقع بالء ما يصيبه من العقاب
يناجي ربه بقوله (( :وال أرى لكرسي غريك جابرا))
بعد ان يقسم بعزته تعاىل أنه ال يغفر الذنوب سواه ،وانه يطلب منه تعاىل أن
يعفو عنه ،اال ان هذا الذنب يولد انكسارا يف النفس للذلة التي تدخله هذه الذنوب
مناجاة التائبني19 ...................................................................................................
عىل مرتكبها ،فهو حينام يقدم عىل الذنب يشعر بالتأنيب والندم واألسف عىل هذا
التفريط ،لذلك يقول اإلمام الباقر يف التوبة التي يصاحبها الندم
((كفى بالندم توبة)).
فالندم أصدق جتليات التوبة وأوضح مصاديقها ،اذ الندم ينبعث من شعور اخليبة
واالحباط الذي يولده الذنب ،فيحط هذا الندم هبواجسه ومشاعره وكل إحساساته
حتى ال جيد اال شعورا بالتأنيب وهذا التأنيب يولد التحقري واالستصغار للنفس
فيؤدي ذلك اىل االنكسار وقلة االعتداد بنفس ارتكبت ما خيالف اجلبار وهي تعلم
انه املالك والقادر والقاهر فكيف جترتئ عىل مالكها ومهلكها ثم حمييها ،فاذا متعن
املذنب يف حقارة نفسه واستكان لصغره عندها يشعر باملذلة ومن ثم االنكسار،
فضال عن اثار الذنوب التكوينية عىل توفيق االنسان وقلة رزقه وشقائه يف حتصيل
حظه من هذه الدنيا ،فام يواجه من نكد وبؤس وشقاء سببه آثار الذنوب ،مما جتعله
حقريا يف نفسه ،وضيعا يف مهته ،لذا يشري اإلمام اىل هذه احلالة ويؤكد عىل هذه
أجب
احلقيقة ويطلب التائب ان يرجعه اهلل اىل حال االستقامة والعافية فيكون ممن ْ
اهلل كرسه ،وهذا الكرس هو كرس النفس وانتقاصها حتى لكأنه ال يشعر بكرامته
واعتباره وأي ك ٍ
رس هذا جيعل من املذنب خملوقا حقريا هائام ال هيتدي اىل سبيل
لوال ان جيريه باستشعاره بحالة التوبة التي تعيد له -هذه املشاعر -اعتباره لنفسه
وكرامته املستباحة بذنوبه.
................................................................................. 20رشح املناجاة الخمس عرشة
ال َذ بِك ،فان طردتني من بابك فبمن الوذ ،ومن يقيلني ،وأي األبواب تسعني
وبابك ال يغلقه غضبك ،وعفوك ال ينقصه كرمك ،فان قبلتني فبكرمك ،وان
طردتني فبعدلك ،لكن رمحتك سبقت غضبك ،وعدلك وسع عطاءك .
((وان رددتني عن جنابك فبمن أعوذ))
وقد لذت بك وفزعت اليك فكيف تردين خائبا ،وكيف تطرد منيبا ،وهل أنت
اال الغفور وقد اخذت عىل نفسك العفو ،لكن حسبي قول أمري املؤمنني ( :ان
استطعتم ان يشتد خوفكم من اهلل وحيسن ظنكم به ،فامجعوا بينهام ،فانام يكون
حسن ظن العبد بربه عىل قدر خوفه ،فان احسن الناس باهلل ظنا اشدهم خوفا،
فدعوا األماين منكم وجدوا واجتهدوا ،وأدوا اىل اهلل حقه واىل خلقه ،فام مع احد
براءة من النار ،وليس ألحد عىل اهلل حجة ،وال بني احد وبني اهلل قرابة
فبك استعني ،وبحسن الظن بك أرجو فهو نجايت من كل هول ،ومنقذي يف كل
شدة .
((فــوا أسفاه من خجلتي وافتضاحي ،ووالهفاه من ســوء عملي
واجتراحي))
عندها أنادي باألسف عىل ما فرطت يف حقوق اهلل ،وما جتاوزت من حدوده،
فقد ارتكبت من الذنوب ما الطاقة يل عىل محل عقوباهتا ،فضال عن خجيل من
فضيحتي أمام األعيان ،واخلجل :حالة النفس عندما يعرتهيا اثر بسبب نقص
لقصور او تقصري ،وهو ليس كاالستحياء كام أثار اليه بعض اللغويني،
................................................................................. 22رشح املناجاة الخمس عرشة
فاالستحياء :صفة ثابتة يف النفس غري طارئة عليه كام يف اخلجل الذي هو داعي
بسبب ما يصاحب النفس من أمر تراه غري مناسب او ال ينسجم مع دواعيها .
لذا فلم يعرب باالستحياء ،اي يقول :فوا اسفاه من استحيائي ،بل قال فوا
اسفاه من خجلتي .
واالفتضاح من الفضيحة بمعنى انكشاف ما هو مستور ،فافتضاح األمر،
اشتهاره ومعرفته ،وافتضاح االنسان اشتهاره بعيب ،وانكشاف عيبا كان مستورا،
وهو اشد ما يكون فيه االنسان من اخلزي واملهانة ،املوجبان لإلذالل واالنكسار،
فاملذنب خيشى من انكساره بعد افتضاحه عىل رؤوس االشهاد ،وما تبديه العقوبة
أمام الناس من اذالل ،وكم حياول االنسان ان يظهر نفسه باملظهر اجلميل ،وبالسمعة
الطيبة ،واذا هو مكشوف العورة بذنوبه السيئة وبمجازاته بالعقوبة ،فينكشف أمره
للناس خالف ما كان يظهره هلم من التقوى وحسن السرية ،فأي افتضاح هو اخزى
من هذا االفتضاح .
(واجرتاحي) االجــراح عمل اجلــوارح ،ويطلق عىل ما كسبته جوارحه من
عمل ،وكل ما تعمله اجلوارح فهو اجرتاح( ،وسوء عميل) هو اعم من ارتكاب
اجلوارح ونية القلب ،يف حني االجرتاح هو عمل اجلارحة املتفرع عىل العزم القلبي
والنية السيئة .
((اسالك يا غافر الذنب الكبير))
عندها يسأل ربه بعد الثناء عليه انه غافر الذنب ،واي ذنب ،ذنبه الكبري الذي ال
مناجاة التائبني23 ...................................................................................................
يعفو عنه اال الكبري ،اذ البد من ان يقدم امام دعائه مدحته تعاىل ،والثناء عليه وهذا
منتهى االدب بل هو منتهى احلاجة والطلب .
((ويا جابر العظم الكسير))
انجبار العظم داللة عىل اصالح األمر ومعناه اصالح احلال بعد االذالل الذي
سببه االنكسار بعد العقوبة بل بعد عدم الرضا من اهلل تعاىل وهو منتهى االنكسار،
فالذي جيرب احلال بعد انكساره ال يكون اال من له القدرة عىل انجبار العظم بعد
كرسه ،اذ ذلك دليل القدرة والتمكن وال يليق اال باهلل القادر ،الذي اصلحه بعد
اجياده ،واكرمه بعد امتهانه ،فهو القادر عىل ان خيلق من العدم انسانا سويا ،كام انه
القادر ان يعيد كرامة العبد بعد استحقاقه العقوبة بالعفو .
((ان تهب لي موبقات الجرائر))
اجلريرة :الذنب ،وانام سميت بذلك الن االنسان جير ذنبه معه وكأنام ذنبه يتبعه
اينام توجه ،فهو جيره ،وكام ان ذنب احليوان يلتصق به ويصاحبه اينام يكون فكذلك
الذنب ،وانام شبه بالذنب لتابعية ذنب احليوان لصاحبه ،فذنب االنسان ال يفارقه ،بل
هو جريرته واجلمع جرائر .
واملوبقات :املهلكات وهي صفة الذنوب ألهنا مهلكة لصاحبها ،وانام اضاف
املوبقات للذنوب التي هي جرائر ،الهنا مهلكته ،واي يشء اعظم من اجرتاح االنسان
هلالكه بسبب ذنوبه وعيوبه .
وان هتب يل موبقات اجلرائر ،اذا عفى عنه ووهب له ،اي اسقط له من حقه ،فاهلل
................................................................................. 24رشح املناجاة الخمس عرشة
احق بان يعاقب املذنب بذنبه ،وهو حقه ،لكنه هيبه اىل عبده بالعفو فيسقط عنه العقوبة
((وتستر علي فاضحات السرائر))
وهي الذنوب التي تفضح رسيرته ودخيلته التي حرص االنسان ان يظهرها
باحسن احلال ،حتى اذا رآه الرائي ظن حسن حاله وكريم مآله ،لكنه حني تفضحه
الذنوب بالعقوبة انكشف ما كان مستورا ،ووضح ما كان جمهوال ،والرسائر :مجع
رسيرة وهو ما كتم ومل يعلن ،وهو دخائل النفس وما انكتمت عليه .
((وال تخلني في مشهد القيامة من برد عفوك وغفرك))
ختلني :اي ترتكني ،وهي اخللوة بمعنى خىل بينه وبني اليشء ،اي تركه (ومشهد)
عىل وزن مفعل اسم مكان للشهادة ،فهو مكان شهادة الناس بعضهم عىل بعض،
او شهادة االهوال ،وما اعده اهلل من الثواب والعقاب ،ونسبته اىل يوم القيامة ألن
الشهادة احلقيقية واحلضور الواقعي لكل ما اوعد اهلل االنسان عليه ومل يؤمن به اال
بالظن ،أو مل يؤمن به اصال ،فيوم القيامة سيكون شاهدا ومشهودا لكل اخلالئق
فهو مشهد تعرض فيه كل ما غاب عن احلس ويف الدنيا ،فيشاهده عيانا بالتجسد
احلقيقي والتجسم الواقعي عند ذاك .
ولشدة الظمأ الذي يعانيه االنسان يوم القيامة بسبب األهوال والباليا واملشقات
التي يلقاها االنسان وهو يتقلب يف رحالته امللكوتية ،يشعر عندها بالظمأ واحلرارة
املعنويني فضال عن املاديني ،وكل ذلك حيتاج معها االنسان اىل رضا اهلل تعاىل بالعفو
عنه والصفح لديه ليخفف هذا العبء من الشدة والظمأ ليحس بالربودة والراحة
مناجاة التائبني25 ...................................................................................................
واألمان ،كام يشعر الظمآن بالراحة واالطمئنان حينام يعطى رشبة ماء ليطفئ به
غليله وشدة ظمأه ،هكذا هو العفو الذي يتعقبه األمان واالستقرار بعد حالة اهللع
واخلوف التي تصيب االنسان غري املذنب ،فكيف باملذنب الذي تيقن بالعقوبة لوال
رمحة اهلل وعفوه ورضوانه .
والوصف هنا دقيق ،اذ الذي يبتىل بشدة وبالء وحمنة فانه يشعر بحرارة تنبعث
من كوامن نفسه امللتهبة واملتحرقة ملا تتصوره وتتوقعه من عتاب يعقبه بالء وبالء .
صاب به ذلك املذنب؛ وبيان استكانته هلل تعاىل؛
وبعد بيان االنكسار الذي ُي ُ
يعريه من عفوه والسرت عليه.
يطلب منه ان ال ِّ
((و َل ُت ْع ِرنِي ِم ْن َج ِميلِ َص ْف ِح َك َو َس ْت ِر َك)).
َ
فان العقوب َة ِّ
تعري االنسان عن كل ما فكأن اهلل قد سرته بالعفو والتجاوز ،وإ َّ
ال َّ َّ
حاول سرته ،وتكشف سوءته وقبائحه ؛ لذا فان فضيح ًة كفضيحة االنسان حينام
يتعرى فتنكشف سوءته لكبري ٌة جدا .فكم من ٍ
قبيح سرته سبحانه بالعفو ؛وكم من
مجيلٍ اسداه غفرانه بالتجاوز .فيا سوءتا مما يكون مني حينام تنكشف كل عيويب،
وتنفضح كل خطاياي ،فاسرتين يا رب بعفوك وال تفضحني عىل رؤوس األشهاد،
فان فعلت ذلك فمن يسرتين يا رباه ؟! .
((إِل ِهي َظ ِّل ْل َعلى ُذ ُنوبِي َغما َم َر ْح َمتِ َك)).
التظليل :هو وضع السرت عىل اليشء لئال ينكشف للعيان ،ومنه التظليل عن
الشمس ،حتى يمنع وصول أشعتها اىل اليشء ا ُملظ َّلل ،ولكي ال تنكشف ذنويب فان
غامئم رمحتك هي التي تظل ُلها لئال تنكشف و ُترى.
................................................................................. 26رشح املناجاة الخمس عرشة
كيف والكل مشفقون من سطوته؟ أيريدُ احدُ هم ان يأوي عبدا متمردا عىل
سيده ؟ فمن جيريه ؟ ومن يعيده ؟ فلينقذ نفسه من سطوته حتى جيري غريه من
غضبه ؛ وليعصم نفسه من عقوبته حتى يعني غريه عىل معصيته .
أإىل أرض تؤويه ومقاليدها بيده ؟ أم إىل سامء يصعد فيها وهي يف قبضته ؟ أم يف
بح ٍر وكل ما فيه يسبح بحمده ؟ بل املالئكة من خيفته .فإىل أين ُّ
يفر منه اال اليه؟
يؤوب اليك.
َ فسبحانك ما اعظم سلطانك ،وما أشد وطأتك عىل من عصاك حتى
وكيف يرجو النجاة من هو يف قبضته؟ فليذهب اىل ارض ليست له ،واىل سامء
ليست يف ملكه ،واىل اين يفر؟ والكل خيشى غضبه ،وخياف سلطانه.
اد ِم َ
ين)). ب َت ْو َب ٌة َفإ ِّني َو َع َّزتِ َك ِم ْن ال َّن ِ ((إِل ِهي إِنْ كانَ ال َّن َد ُم َعلى َّ
الذ ْن ِ
بعد أن يأس العبد املذنب من نجاته إ َّ
ال بعفوه؛ فهو يترضَّ ع اىل مواله بالندم ليكون
اساس توبته ،وهذا يرجع اىل قول امري املؤمنني عليه السالم يف التوبة النصوح حني
ان وال َق ْصدُ عىل أنْ ال َي ُ
عود) . غفار ِّ
بالل َس ِ لب ،واستِ ٌ
يسأل عنها ( َن َد ٌم بِال َق ِ
وقوله ( :ال َّن َد ُم َعىل َ
اخل ِطيئ َِة وقوله ( : ال َّن َد ُم َعىل َ
اخل ِطيئ َِة َي ْم ُحوهَ ا)
(((
استِغْ َف ٌار)((( واروع من قال عليه السالم يف تفصيله لالستغفار بعد ان قال لقائل ْ
بحرضته استغفر اهلل ،قال َ :ث ِك َل ْت َك ُأ ُّم َك َأ َتدْ ِري َما ِال ْستِغْ َف ُار ؟ ِال ْستِغْ َف ُار َد َر َج ُة
اس ٌم َو ِاق ٌع َع َل ِس َّت ِة َم َع ٍ
ان: ا ْل ِع ِّل ِّينيَ ُ
؛وه َو ْ
(( ( –جامع احاديث الشيعة ،باب وجوب التوبة من الذنوب .338/14
(( ( –مستدرك الوسائل،باب وجوب سرت الذنوب .118/12
................................................................................. 28رشح املناجاة الخمس عرشة
،ح َّتى َت ْل َقى َّ َ وال َّثالِ ُثَ -:أ ْن ُتؤَ ِّد َي إِ َل ْالَ ْخ ُل ِ
س َل ْي َ
س َع َل ْي َك الل أ ْم َل َ وقنيَ ُح ُقو َق ُه ْم َ
َتبِ َع ٌة .
اع ِة َك َم َأ َذ ْقت َُه َح َل َو َة ْالَ ْع ِص َي ِة َ ،ف ِع ْندَ َذلِ َك ال ْس َم َأ َ َل َّ
الط َ سَ -:أ ْن ُت ِذيقَ ْ ِ اد ُلس َِو َا َّ
((( ول َأ ْس َتغْ ِف ُر َّ َ
الل) َت ُق ُ
هذه هي التوبة احلقيقية التي يصاحبها الندم ويستشعر بسببها التفريط والتقصري
يف ذات اهلل ،فالندم الذي هو أساس التوبة يؤكده االمام بالقسم به تعاىل وان توبته
ندم ،وكفى بالندم توبة .
ين)). الخ ِطيئ َِة ِح َّط ًة َفإ ِّني َل َك ِم َن ُ
الم ْس َتغْ ِف ِر َ فار ِم ْن َ
االستِغْ ُ
((وإِنْ كانَ َ
َ
قال ابن دريد يف مجهرة اللغة يف مادة حطط :حط احلمل عن اجلمل حيطه حطا،
وكل يشء انزلته عن ظهره او غريه فقد حططته... ،وحط اهلل وزره حطا)((( واملثقل
باليشء اذا حطه اراحه ،واألثقال اكثر ما تكون عىل ظهر حاملها ،والذنوب مثلها،
(( ( –هنج البالغة،حتقيق صبحي الصالح،فصل ذكر الغريب من كالمه ،حكمة،417ص.550
(( ( –مجهرة اللغة،مادة حطط.
مناجاة التائبني29 ...................................................................................................
اذ املذنب يكون مثقال بذنب وضعه عىل ظهره لثقله ،فان عرف الذنب واستثقله
سأل من حيطه عنه كام يسأل املثقل باألمحال حط اثقاله عن ظهره ،وسميت الذنوب
أوزارا لثقلها ،ألن الوزر بمعنى الثقل والوزر االثم كام عن ابن دريد ..ويف التنزيل
(و ُه ْم َ ْي ِم ُلونَ َأ ْو َز َار ُه ْم َع َل ُظ ُهو ِر ِه ْم)((( اي اثقاهلم .
العزيز َ
فاذا اراد املثقل احلط عن ظهره توسل بمن يعينه يف حطها اي رفعها ،واملذنب
مثقل بأوزار االثم والذنوب ،فهو يتوسل باالستغفار ليكون حمط اوزاره ،فان كان
االستغفار حطة فأنا من املستغفرين ،اجل هو حطة واي حطة حينام يكون.
(االستِغْ َفار
ْ االستِغْ َفار)((( كام عن امري املؤمنني وقوله :
يع أن َْج ُح ِم َن ْ
(ال َش ِف َ
(وا َّل ِذ َ
ين إِ َذا االو َز َار)((( وقد بني القرآن الكريم يف قوله تعاىل عن املستغفرين ََي ْم ُحو ْ
وب وبِ ْم َو َم ْن َيغْ ِف ُر ُّ
الذ ُن َ اس َتغْ َف ُروا لِ ُذ ُن ِ اح َش ًة َأ ْو َظ َل ُموا َأن ُْف َس ُه ْم َذ َك ُروا َّ
الل َف ْ َف َع ُلوا َف ِ
صوا َع َل َما َف َع ُلوا َو ُه ْم َي ْع َل ُمونَ ) (((وقوله تعاىل َ :
(و َم ْن َي ْع َم ْل ُس ً
وءا إِ َّل َّ
الل َو َ ْل ُي ِ ُّ
ورا َر ِح ًيم)((( وبعد هذا كيف ال يكون ي ِد َّ َ
الل َغ ُف ً َأ ْو َي ْظ ِل ْم َن ْف َس ُه ُث َّم َي ْس َتغْ ِف ِر َّ
الل َ ِ
االستغفار حطة؟!
َ
(ل َك ُ
الع ْتبى َح َّتى َت ْرضى).
أي لك الرضا حتى ترىض ،ألنك أوىل بالرضا ،أي أوىل بالعتب حتى ترىض
النك االحق بالعتب واالحق بالرضا ..فلك العتبى .
(( ( –التحريم.8
مناجاة التائبني33 ...................................................................................................
استحسنه العقل كان عند الرشع حسنا .وها هو العبد املرتكب للذنب يعلم يقين ًا
أن ما ارتكبه قبيح وفطرته تأباه فهو قبيح ،واحلسن كل ما من شانه أن ُي ِّسنه العقل
ومنه العفو عن امليسء والصفح عن املذنب وذلك ال يليق إ َّ
ال بمن فطر العقول عىل
احلسن وأوقفها عىل القبيح وهو اهلل تعاىل القادر عىل أن يغفر لعباده تقصريهم ،وان
يعفو عنهم ذنوهبم ،ومن مقتىض العفو االعرتاف بالذنب فكيف إذا اعرتف بقبح
ذنبه ؟
واحلسن هو العفو عن امليسء الذي اعرتف بجرمه وجريرته .
((إِل ِهي ما َأنا بِ َأ َّو ِل َم ْن َع َ
صاك َفت ُْب َت َع َل ْي ِه)).
هنا رضب من رضوب التوسل فيه تعذير وتربير ،فالنفس اإلنسانية حتمل يف
جنباهتا حالة العصيان وقابلية التمرد ،وملا كان هذا املذنب كأي إنسان تطمح نفسه
اىل شهواهتا وتأنس إىل أهوائها فان ذلك أمر جمبول عليه اإلنسان ،إ َّ
ال من عصم
نفسه وال يكون إ َّ
ال ملن اصطفاهم اهلل من أهل طاعته فأغدق عليهم رمحته ،وأفاض
هلم كرمه وهم املعصومون الذين ثبتت عصمتهم وهم النبي وأهل بيته عليهم
السالم واألنبياء الذين هلم عصمتهم اخلاصة هبم واملفاضلة عليهم .
إال ان القاعدة تقول بان الناس خطاءون فهم يرتكبون اخلطيئة مع علمهم بأهنم
أخطئوا فمنهم من يذعن للتوبة ومنهم من يبقى عىل إرصاره وشقاوته ،وإذا كان
كذلك فليس السائل أول من أذنب ،وليس التائب أول من أساء ،وال أنت يا ذا
اجلالل واإلكرام أول من عفا وغفر .
................................................................................. 34رشح املناجاة الخمس عرشة
((يا َع ِظ َ
يم ِ ِّ
الب)).
وهو اإلحسان فهل أعظم ممن أحسن إىل العبد بربوبيته له ورعايته إياه ،ومن
أفضل اإلحسان املغفرة والتوبة .
(( ( -االنبياء.28
................................................................................. 36رشح املناجاة الخمس عرشة
شفاعتهم مقبولة بإذنه ،وأي إنسان يريد التقرب إىل املشفع إليه فالبد أن يقدم بني يديه
شفاعته أحب األمور إليه واقرب األشخاص لديه واإلمام زين العابدين يسأل
اهلل بجوده وكرمه ان يتقبل توبته ويغفر خطيئته – والتعبري باخلطيئة من قبل االمام
ال تعني كخطيئة االخرين ،بل هو تعريف اخر حيتاج اىل تفصيل ليس هنا حمل ذكره.
ح َك َل َد ْي َك)).
((و َت َو َّس ْل ُت بِ َجنابِ َك َو َت َر ُّ ِ
َ
(وا ْبت َُغوا إِ َل ْي ِه
التوسل هو كل ما يتقرب به من عمل يكون عند املتوسل إليه حمبوباَ ،
ا ْل َو ِس َيل َة)((( أي القربة إليه تعاىل ،واالبتغاء الطلب واحلث ،أي اطلبوا كل ما هو يقربكم إليه
تعاىل .واجلناب بمعنى الفناء والقرب ،وهنا توسل اإلمام بقربه إليه ومن ثم برتمحه لديه،
والرتحم من باب التأكيد وهو انفعال اليشء وتأكيده ،بمعنى تفعل الرمحة وتأكدها .
يك َرجائِي)).
است َِج ْب ُدعائِي َوال ُت َخ ِّي ْب ِف َ
(( َف ْ
(((اخليبة بمعنى احلرمان واخلرسان ويف الدعاء (اعوذ بك...من خيبة املنقلب)
اي خرسان العاقبة واحلرمان من الفوز والنجاح ،وخيبه اهلل اي جعله خائبا خارسا،
(((والرجاء األمل ..وقد ورد يف الدعاء( اعوذ بك من الذنوب التي تقطع الرجاء)
وهذه الذنوب كام فرسها املعصوم بأهنا اليأس من روح اهلل ،والقنوط من رمحة
اهلل ،والثقة بغري اهلل ،والتكذيب بوعده .
والدعاء هنا من اجل الطلب من اهلل تعاىل ان ال حيرمه من امل العفو ورجاء
(( ( –املائدة.35
(( ( –مصباح املتهجد وسبلح املتعبد,ج.105 ,1
(( ( -مصباح املتهجد،فصل يف ترتيب نوافل شهر رمضان.572،
مناجاة التائبني37 ...................................................................................................
الر ِ ِ
اح َ
ني) (و َت َق َّب ْل َت ْو َبتِي َو َك ِّف ْر َخ ِطيئَتِي بِ َمن َِّك َو َر ْحَتِ َك يا ْأر َح َم َّ
املغفرة َ .
التكفري بمعنى تغطية الذنب وسرته ،ومعناه املحو ومنها الكفارة حيث هبا يمحو
الذنب أو تقل عقوبته وذلك راجع إىل كرم عفوه فان شاء عفا وان شاء عاقب لكن
الكفارة هي ماحية للذنوب كام هو معروف .
واملن معروف ،واملنان من صفاته تعاىل وقد سئل عليا عن الفرق بني احلنان
واملنان فقال : احلنان يقبل عىل من اعرض عنه ،واملنان هو الذي يبدأ بالنوال
قبل السؤال .فاملن هو العطاء قبل السؤال ،وهنا يتوسل اإلمام زين العابدين ،
بصفة من صفات كرمه ومظهر من مظاهر عطائه .
فقبول التوبة وتكفري اخلطيئة إحدى مظاهر رمحته ومصاديق عفوه ألنه ارحم
الرامحني.
المناجاة الثانية
مناجاة الشاكين
ينتقل اإلمام زين العابدين إىل مناجاة أخرى فيها من عذوبة التوسل ورقة
املناجاة ما يبهر العقول وتأخذ بالقلوب ،وهذه املناجاة تعرف بمناجاة الشاكني،
فاإلمام هنا يشكو من ألد أعدائه واقرب مناوئيه وهذه حيددها يف قضيتني احدمها :
عداء النفس لإلنسان وثانيهام عداء الشيطان لإلنسان كذلك .
وهذا بني العدوين من اشد األعداء وأعظمها عىل املكلف ،اذ املكلف تتجاذبه
أهواء النفس ووسوسة الشيطان ،فاهلوى هو إحد حاالت الضعف التي تتملك
النفس فتهبط اىل حمقرات األفعال ومشنعات الذنوب فتأخذ به إىل ابعد ما يكون
من القبيح .
حيسن له صنع القبيح وارتكاب
والشيطان بتسويالته هيدم إيامن اإلنسان حينام ِّ
املحذور .
ولعل عداوة النفس أشد من عداوة الشيطان إذ الشيطان ال يمتلك النفس
القوية املجاهدة عىل حماربة اهلوى وإبعاد خطرات الشيطان ،اذ الشيطان ال ينفذ
إال من خالل رخاوة النفس وعدم متاسك جوانبهام متاما كام هو نفوذ اليشء إىل
البناء الصلب ال يكون باليرس كام لو نفذ من مكان رخاوة اجلدار الذي يسمح
بالنفوذ واالستمكان ،فالنفس املحكمة يعجز عن دخوهلا الشيطان ونفوذ وساوسه
39
................................................................................. 40رشح املناجاة الخمس عرشة
المناجاة الثانية:
مناجاة الشاكين
بِس ِ
ْم الله الرَّحْم ِن الرَّحِيم
يك ُم َ
ول َع ًة عاص َ
باد َر ًة َوبِ َم ِاخل ِطيئ َِة ُم ِ ار ًة َوإِىل َوء َأ َّم َ
الس ِ َ
(إِهلِي إِ َل ْي َك أ ْش ُكو َن ْفس ًا بِ ُّ
ك َكثِ َ
ري َة ك َو َ ْت َع ُلنِي ِع ْن َد َك َأ ْه َونَ هالِ ٍ
ك املَهالِ َِولِ َس َخ ِط َك ُمت ََع ِّر َض ًةَ ،ت ْس ُل ُك ِب َمسالِ ِ
ي َ ْتن َُع َم َّي َال ًة إِىل ال َّل ِع ِ
ب َوال َّل ْه ِو الش َ ْتزَ ُع َوإنْ َم َّسها َ
اخل ْ ُ االملِ إنْ َم َّسها َ ُّ الع َللِ َط ِو َيل َة َ ِ
احل ْو َب ِة َو ُت َس ِّو ُفنِي بِال َّت ْو َب ِة ،إِهلِي َأ ْش ُكو إِ َل ْي َك َعدُ َّوا
س ُع ِب إِىل َ َ ْم ُل َّوةًبِا ْل َغ ْف َل ِة َو َّ
الس ْه ِو ُت ْ ِ
واج ُس ُه بِ َق ْلبِي،حاط ْت هَ ِ واس َصدْ ِري َو َأ َ أل بال ِو ْس ِ ُي ِض ُّلنِي َو َش ْيطانا ُيغْ ِوينِي َقدْ َم َ
عاص ًام بِ ْ
رأ َفتِ َك َو َر ْحَتِ َك املعاص ِ
ِ الء َو ِاقي ًا َو َع ْن
وب ساتِر ًا َو ِم َن ال َب ِ املَخا ِزي َو ُ
الع ُي ِ
الر ِ ِ
اح َ
ني). َ
ياأ ْر َح َم َّ
مناجاة الشاكني43...................................................................................................
شرح الفقرات:
توجه اإلمام زين العابدين اىل اهلل تعاىل ليشكو ما
هذه مناجاة الشاكني حيث َّ
عليه نفسه من االرساف والتفريط يف جنب اهلل وطاعته ،وقد أرشنا إىل أن املقصود
من ذلك هي نفس الداعي واملكلف وليس نفس اإلمام؛ اذ نفسه املعصومة ال
يمكن هلا ان تنزل اىل حالة العصيان واالرساف ،وقد اصطفاها اهلل وطهرها من
الرجس ،واي رجس اعظم من الذنوب ؟
لذا فان أي معصية ال تصدر من االمام ،بل اراد االمام ان يعلم االمة حالة
االستشعار بالذنوب والتقصري فضال عن االخبات والترضع واالستكانة التي
جتعل االمام يشعر بالتقصري يف جنب اهلل ،فيتواضع إىل اهلل ليخاطبه بلسان الندم
واخلطيئة والتذلل ،وهذا منتهى املعرفة التي ادت اىل منتهى العبودية والطاعة
واخلضوع.
وء َأ َّم َ
ار ًة)) َ
((إِهلِي إِ َل ْي َك أ ْش ُكو َن ْفس ًا بِ ُّ
الس ِ
االله هو كل معبود بمعنى َّآله أي عبده وأصله الوله ،وكأن العابد وله بالعبادة
له حتى صار موهلا بحبه ،ألن العبادة يدفعها احلب والشوق للمعبود .ولكثرة تعلق
العابد بمعبوده تو َّل َه به وهل ًا ،أي اشتدَّ ُّ
حب ُه وشوقه ،فصار اهله يف عبادته له وطاعته،
فصار املعبود اهلا.
واالمام زين العابدين يشكو إىل معبوده سبحانه نفسه االمارة بالسوء من
األمر ،أي اهنا تأمره بارتكاب الذنوب وتز ِّين له السوء فتجعله حسنا يف نظره،
................................................................................. 44رشح املناجاة الخمس عرشة
فتجذبه اىل ارتكابه ومزاولته فإغواء النفس بصاحبها يوقعه يف املهالك ،واالمام
عليه السالم يستنجد باهلل تعاىل ان يعصمه مما هو فيه ويشكو اليه نفسه .
باد َر ًة)) ((وإِىل َ
اخل ِطيئ َِة ُم ِ َ
املبادرة بمعنى املسارعة ،وهو وصف حلالة الشوق التي تدفعه النفس بصاحبها
اىل حتصيل اخلطيئة وارتكاهبا ،وهذه اشارة اىل تعلق االنسان باخلطايا وكيف تغره
نفسه يف الدعوة اىل املعصية .
يك ُم َ
ول َع ًة)). عاص َ
((وبِ َم ِ
َ
الولع تعلق النفس باليشء وانجذاهبا له فتكون مولعة أي متعلقة ،فنفيس متعلقة
بارتكاب املعايص ،ومولعة بمزاولتها .
((ولِ َس َخ ِط َك ُمت ََع ِّر َض ًة)).
َ
واذا كان األمر كذلك؛فان نفيس ال حمالة ستكون يا سيدي ساخطا عليها؛
ٍ
واعامل ال ترضاها ،فكيف تكون عني راضيا ؛ وعن ملا زاولته من أمور تكرهها
اجرامي غاضيا ؛وكيف ال تكون عيل ساخطا؟
ك املَهالِ ِ
ك)). (( َت ْس ُل ُك ِب َمسالِ ِ
فان نفيس وهذه حاهلا؛ تودي يب اىل املهالك؛ وهو غضبك وسخطك ،وهذه هي
صفة ال َّنفس األمارة بالسوء .
((و َ ْت َع ُلنِي ِع ْن َد َك َأ ْه َونَ هالِ ٍ
ك)). َ
ان نفيس هذه املتهاونة واملتساحمة يف جنب اهلل وطاعته جتعلني من اهلالكني بل
مناجاة الشاكني45...................................................................................................
تصغرين وتذلني حتى أكون هالكا خاسئا؛فيأخذين سبحانه بذنويب أخذ عزيز مقتدر
ألهون هالك ضعيف ،أو أن قدرتك عيل هي أعظم من ان تنتظر يف أمري شيئ ًا؛
بل يأيت أمرك سيدي بغتة ،وتأخذين دون تردد؛ ألنك عزيز مقتدر فام بال الضعيف
مثيل املستكني يف دفع الرض عن نفيس؟
الع َللِ َط ِو َيل َة َ
االملِ )). ((كثِ َ
ري َة ِ َ
ان نفيس مع أهنا تغرر يب ،وتز ِّين يل سيئايت؛ فإن هلا صفة التعلل والتمني؛ لطول
األمل ،أو أهنا كثرية العلل ،من العلة أي كثرة السقم ،وسقم النفس من أخطر
األسقام التي تعرتي اإلنسان حتى جتعله منهار قوى العقل وقوى اجلسم ،فان
النفس السقيمة ال تقوى ان حتوي عقال ناضجا رشيدا ؛ اذ العقل يستمد قواه من
النفس ،فاذا تنازلت قوى النفس وسقمت تسببت يف اهناك العقل وخوائه ،فيكون
بليدا غري حكيم ،حتى انه لريتكب العقل ما توعزه له النفس سيئة فرياها حسن ًة،
وكل قبيح جيده حسنا ،أي ان التقبيح العقيل وحتسينه يغدو معكوسا بسبب انحراف
وقبح هلا الرش .
النفس عن فطرهتا التي فطرها اهلل عىل اخلري َّ
ي َ ْتن َُع)). الش َ ْتزَ ُع َوإنْ َم َّسها َ
اخل ْ ُ ((إنْ َم َّسها َ ُّ
الن َْسانَ ُخ ِل َق هَ ُلوع ًا * إِ َذا َم َّس ُه الشَُّّ َجزُ وع ًا * َوإِ َذا َم َّس ُه
النطباق قوله تعاىل (إِنَّ ْ ِ
ي َمنُوع ًا) (((فاهللع الذي يصيب االنسان هو بسبب انحرافات النفس وعدم َْ
ال ْ ُ
استقامتها؛ ملا خيالطها من الذنوب والسيئات ؛فيفقد االنسان توازنه واستقامته ملا
تعرتيه من حالة االهنزام يف مواطن الرش فيجزع ويستطري باخلري فيمنع .
(( ( –املعارج (.)19،20،21
................................................................................. 46رشح املناجاة الخمس عرشة
حتتويه من قوى ادراكية يستعني هبا االنسان عىل فهم االشياء واإلحساس هبا
والتأثر بام حييط هبا من مؤثرات خارجية .
واج ُس ُه بِ َق ْلبِي) (و َأ َ
حاط ْت َه ِ َ
اهلاجس هو الشعور باليشء وما يقع يف النفس من احساسات معينة ،وأحاسيس
الشيطان يلقيها يف روعي فيدفعني اىل ارتكاب املعايص ،وهذه االحاسيس هي
االماين واألمور التي يزينها الشيطان يل فيدفعني حبها اىل مزاولتها واحلصول عىل
ارتكاهبا .
عاضدُ ِ َل ا َهلوى َو ُيزَ ِّي ُن ِل ُح َّب الدُّ ْنيا))
(( ُي ِ
املعاضدة بمعنى املساعدة ،فهو يساعدين عىل هواي وحمبتي الرتكاب القبائح
بعد ان يز ِّين َّيل الدنيا ويغويني بحسنها ويوعدين احلصول عىل أمانيها .
اع ِة َو ُّ
الز ْلفى)). ول َب ْينِي َو َب ْ َ
ي َّ
الط َ ((و َ ُي ُ
َ
الز ْلفى بمعنى القربى،
حال حيلولة :أي حجز ومنع من اليشء للوصول اليه َو ُّ
فالشيطان وهو عدوي منعني من الوصول اىل طاعتك والقرب اليك ،فاي عدو
ارض واي نفس اشقى من تلك التي توردين املهالك ؟!.
وعندي يا سيدي امران اعول هبا عىل رمحتك ورأفتك يب ،فكيل رجاء اذا رددت
_
ما جيول يف نفيس:
1 -1اهلي ترتكني وأنا مقرتف للذنوب فكيف وأنا تائب مستجري ؟!
2 -2عظم الذنب وحسن الظن
مناجاة الشاكني49...................................................................................................
فاذا كان هذا ظني بك فكيف تسلمني ذنويب اىل اليأس واخليبة ؟ وكيف تردين
حسن رجائي واوقفني حسن ظني بباب رمحتك راجي ًا وافد ًا.
وانا قد ُ
((إِهلِي إِ َل ْي َك َأ ْش ُكو َق ْلب ًا ِ
قاسي ًا)) .
ان اهم ما يبتىل االنسان به قسوة القلب؛ فان ذلك مانع عن قبول الطاعة،
واالنصياع اىل أوامر اهلل ونواهيه.
والقسوة بمعنى غلظة القلب وعدم اللني،وغلظة القلب يسببان عدم نفوذ
االيــان واالطمئنان اىل القلب ،فرتى االنسان هائجا غري مستقر النفس ،فاذا
ارتكب ذنبا ،وعمل قبيحا كان ذلك سببا يف لذته ونشوته ،أي انه ال يشعر بآثار
ذنوبه وعواقبها .
فشكوى االنسان قلبه القايس؛ هي شكوى من حالة غري اعتيادية تنتابه وتعرتيه.
واس ُم َت َق َّلب ًا)).
الو ْس ِ
(( َم َع َ
عدم القرار هو مرض ينتاب اإلنسان ،وكل ما يداهم االنسان من وسوسة يتجه
مع اجتاهها ،والوسوسة حديث النفس ،وهو ال يقوى عىل نفسه حيث تأخذه بام
اشتهت وأرادت .
الط ْب ِع ُمت ََل ِّبس ًا)).
الر ْي ِن َو َّ
((وبِ َّ
َ
(ك َّل َب ْل َرانَ َع َل ُق ُل ِ
وبِم)((( أي صار ذلك الرين :صدأ يعلو اليشء قال تعاىل َ :
كصدأ عىل جالء قلوهبم ،فعمي عليهم معرفة اخلري من الرش .
(( ( –املطففني14
................................................................................. 50رشح املناجاة الخمس عرشة
(( ( –املفردات
مناجاة الشاكني51...................................................................................................
حكمته تعاىل :قيل هي خلق ما فيه منفعة العباد ورعاية مصاحلهم يف احلال
(( ( –املفردات.
(( ( –هود43
................................................................................. 52رشح املناجاة الخمس عرشة
واملآل ،وقيل علمه باالشياء عىل ما هي عليه ،واإلتيان باألفعال عىل ما ينبغي،
وقيل هي اتقانه وإحكامه يف علمه وفعله .
واملشيئة هي االرادة ،وإجياد اليشء ،فاملشيئة منه تعاىل هي االجياد بل أن املشيئة
منه سبحانه تقتيض وجود اليشء ولذلك قيل :ما شاء اهلل كان وما مل يشأ مل يكن .
والبالغة هي اقىص غاية االنتهاء والقصد واعىل غاية اجلهد ،والبالغة يف القول
بمعنى أحسن ما ينتهي اليه كالم املتكلم حتى ال يبلغ غايته كالم ،ومن هنا سمي
املتكلم احلاذق بليغا ألنه بالغ غايته يف القول ،والبالغة يف الفعل بمعنى أقىص غاية
االجادة يف حتقيق اليشء
وبالغة احلكمة بمعنى اتقان احلكمة وغايتها ونفاذ مشيئته ،وهي اشارة اىل
ان العفو اجىل مظاهر حكمته ،واملغفرة أهم نفاذ مشيئته يف طور ارادته الرحيمية
والرمحانية واعظم جتليات قدرته اذ يقول لليشء كن فيكون .
ود َك ُمت ََع ِّرضا)). َ
((أنْ ال َت ْج َع َلنِي لِ َغ ْي ِر ُج ِ
اجلود هو التكرم ،والتعرض بمعنى الطلب .
ٌ
سؤال مفاده :كيف يكون االنسان اذا تعرض لغري جوده سبحانه؟ الن وهنا
ما عدا جوده تعاىل ٌ
بخل ،وما عداه سبحانه فقري ،ودون قدرته عجز ٌ؛فكيف وأنا
ري عاج ٍز ،فان فاقد اليشء ال يعطيه ،والسؤال من غريه
املحتاج اطلب من بخيلٍ فق ٍ
ضياع ،فكيف وهو املحتاج ان يطلب من حمتاج مثله ؟!
مناجاة الشاكني53...................................................................................................
–املفردات. (( (
–الذارايات.13، (( (
–التوبة .49 (( (
–طه.40 (( (
................................................................................. 54رشح املناجاة الخمس عرشة
ترتك من املخازي والعيوب ما ال يسرته إال هو سبحانه النارص عىل االعداء .
اه ُم َّ ُ
الل)(((أي حفظهم، والوقاية هي احلفظ من املكاره ويف قوله تعاىل َ ( :ف َو َق ُ
( و َو َق ُ
اه ْم وهو الواقي من رش العذاب واي عذاب اشد من النار لقوله تعاىل َ :
اب ْ َ
ال ِح ِ
يم ((() فالوقاية من البالء أي من معاصيك وهي اشد بالءات االنسان َع َذ َ
الواقعة عليه دنيا وآخرة .
الر ِ َ عاصم ًا بِ ْ
اح ِم َ
ين)). رأ َفتِ َك َو َر ْح َمتِ َك ياأ ْر َح َم َّ المعاصي ِ
ِ ((و َع ْن
َ
وكل ما كان سببا للتوسل ؛هو وقوع االنسان يف املعايص التي توجب هالكه،
وهو خالصة املناجاة التي ابتدأها االمام زين العابدين عليه السالم .والبد ان
يدعوه بام يناسب ذلك من الصفات وهي الرأفة والرمحة الرحيمية والرمحانية فانه
ارحم من كل رحيم
(( ( -االنسان.11
(( ( –الدخان.56
المناجاة الثالثة:
مناجاة الخائفين
ْم الله الرَّحْم ِن الرَّح ِ
ِيم بِس ِ
اك ُت ْب ِّعدُ ِن َأ ْم َم َع َرجائِي لِ َر ْحَتِ َك
يامن بِ َك ُت َع ِّذ ُبنِي َأ ْم َب ْع َد ُح ِّبي إِ َّي َ
ال ِ ( إِهلِي َأ ُت َ
راك َب ْع َد ا ِ
السعا َد ِة َج َع ْلتَنِي َوبِ ُق ْربِ َك َو ِجوا ِر َك َخ َص ْصتَنِيَ ،ف َت َق َّر بِذلِ َك َ َ
َو َل ْيتَنِي َع ِل ْم ُت أ ِم ْن أ ْهلِ َّ
س ساج َد ًة لِ َع َظ َمتِ َكَ ،أ ْو ُ ْت ِر َُع ْينِي َو َت ْط َمئِ َّن َل ُه َن ْف ِس .إِهلِي هَ ْل ُت َس ِّو ُد َو ُجوها َخ َّر ْت ِ
وب ان َْط َو ْت َعىل َ َم َّبتِ َك، اللتِ َكَ ،أ ْو َت ْط َب ُع َعىل ُق ُل ٍ ناء َعىل َم ِْد َك َو َج ََأ ْل ِس َن ًة َن َط َق ْت بِال َّث ِ
اآلمال إِ َل ْي َك
ُ امع ِذ ْك ِر َك ِف إِرا َدتِ َكَ ،أ ْو َت ُغ ُّل َأ ُك ّف ًا َر َف َع ْتها
َأ ْو ُت ِص ُّم َأ ْسامع ًا َت َل َّذ َذ ْت بِ َس ِ
طاعتِ َك َح َّتى َن ِح َل ْت ِف ُماهَ َدتِ َك َأ ْو ُت َع ِّذ ُب
عاق ُب َأ ْبدان ًا َع ِم َل ْت بِ َ
جاء َر ْأ َفتِ َكَ ،أ ْو ُت ِ
َر َ
واب َر ْحَتِ َكَ ،وال َ ْت ُج ْب يك َأ ْب َال َس َع ْت ِف ِعبا َدتِ َك ؟ إِهلِي ال تَغْ ِلقْ َعىل ُم َو ِّح ِد َ َأ ْر ُج ً
جيلِ ُر ْؤ َيتِ َك ،إِهلِي َن ْف ٌس َأ ْعزَ زْ َتا بِت َْو ِح ِ
يد َك َك ْي َف ُت ِذ ُّلا بِ َمها َن ِة يك َع ِن ال َّن َظ ِر إِىل َ ِ ُم ْش ِ
تاق َ
55
................................................................................. 56رشح املناجاة الخمس عرشة
رار ِة نِريانِ َك ؟ إِهلِي َأ ِج ْر ِن ِم ْنِه ْجرانِ َكَ ،و َض ِم ٌري ان َْع َق َد َعىل َم َو َّدتِ َك َك ْي َف ُ ْت ِر ُق ُه بِ َح َ
ياج َّب ُار يا َق َّه ُار َ
ياغ َّف ُار يار ْح ُن َيم َ يار ِح ُ
ياح َّنانُ يا َم َّنانُ َ يم َس َخ ِط َكَ ، يم َغ َضبِ َك َو َع ِظ َِألِ ِ
األ ْشا ِريار ِم َن َ األخ ُتاز ْ يح َة العا ِر إذا ا ْم َ ياس َّت ُار َن ِّجنِي بِ َر ْحَتِ َك ِم ْن َع ِ
ذاب ال َّنا ِر َو َف ِض َ َ
وال َو َق ُر َب ا ُمل ْح ِسنونَ َو َب ُع َد ا ُمل ِسيئُونَ َو ُو ِّف َي ْت ُك ُّل ت َ
األ ْه ِ وال َو َ
هال ِ حال ْت َ
األ ْح ِ َو َ
جارتِي بِ َع ْف ِو َك ُت ْس ِل ُمنِي))؟
استِ َ َ
((أ ْم َم َع ْ
االستجارة طلب النجدة من مهلكة أحدقت به ،ولالستجارة شاهنا عند اعراف
العقالء ،واستجابة املستجري دليل كرم املجري ،والعرب ال تعطي من استجار هبا
حتى الدم ،أي تضحي ملن استجار هبا الن التخيل عن االجارة دليل العجز وسبب
الضعف وذلك عار يركبه اىل االبد ان فرط بمن استجاره .
والتوسل هنا باالستجارة ينطلق من عادة العرف يف حفظ من استجار .
والعفو مقتىض الرمحة وهي ٌ
ذاتية له تعاىل ،والعقوبة عرض يعرض بمقتىض
افعال العباد ؛واذا كان عفوه ذاته؛ فكيف يسلم اىل العقوبة من استجار بصفته
وعرفها لعباده .
الذاتية وهي العفو والرمحة التي عرف هبا َّ
الك ِريم َأنْ ُت َخ ِّي َبنِي)).
((حاشا لِ َو ْج ِه َك َ
حاشا :أي ترفع عن فعل كذا ،وهي كلمة يراد منها التنزيه .والوجه مظهر الرمحة
وصفة الكرم لوجهه تعاىل تتناسب مع الرمحة التي وعد عباده عليها
واخليبة عدم الظفر بام طلب ورجاه .
(( ( –الكايف،باب االعرتاف بالتقصري.72/2،
(( ( –املصدر السابق نفسه.
مناجاة الخائفني59..................................................................................................
فحاشا ان خييب من رجا رمحته تعاىل التي تشمل عباده مجيعا حتى املذنبني .
قاء َو َل َدتْنِي ُأ ِّمي َأ ْم لِ ْل َع ِ
ناء َر َّب ْتنِي ))؟ َ
((ل ْي َت ِش ْع ِري َّ
أللش ِ
ليت شعري ُ
مجلة ٍ
متن ،حيث احلقت بكلمة شعري (ليت) ،وهي تفيد التمني
ومعنى ليت شعري أي امتنى شعري ان يعينني عىل ذلك ،والشعر نابع من احساس
النفس ومشاعرها ،فليت ذلك يعينني عىل معرفة هذا األمر ،هل أن وجودي للعناء
أم للشقاء،واألم سبب وجود االنسان يف هذا العامل باألسباب الطبيعية من محل
ووالدة وتربية ،فهل أنا موجودا للعناء أم للشقاء ؟ وهذا التساؤل يفيد حالة اهللع
واخلوف واملسكنة التي حتيط باإلنسان حينام يعلم ان مصريه–وقد ارتكب الذنوب
-غري مغفور له ،فامذا يفعل وكيف يقر له قرار؟ .
(( َف َل ْيتَها َل ْم َت ِلدْ نِي َو َل ْم ُت َر ِّبنِي )).
ألن العاقبة اذا كانت عىل غري ما يرام من العقوبة والعذاب ،فلامذا كنت يف هذه
الدنيا وقد تسبب وجودي يف شقائي الذي ال ينتهي؟ .
َ َ
((و َل ْيتَنِي َع ِل ْم ُت أ ِم ْن أ ْهلِ َّ
السعا َد ِة َج َع ْلتَنِي))؟ َ
وباعث هذا اخلوف واألمل الذي يشعره املتوسل؛ هو مصريه الذي ال يعرفه،
فان االنسان اذا اقبل عىل يشء جمهول يكون قلقا خائفا متحريا ،فهل هو من اهل
السعادة بعد أن يغفر اهلل له؟ ،وهو ال يعلم مصريه ألن ذنوبه حكمت عليه باملصري
املحذور املجهول ،وهكذا البد ان يكون املؤمن خائفا من ذنبه راجيا عفوه ،وحذرا
من عاقبته مع انه متفائل برمحته تعاىل .
................................................................................. 60رشح املناجاة الخمس عرشة
س َأ ْل ِس َن ًة َن َط َق ْت بِال َّث ِ
ناء َعلى َم ْج ِد َك َو َج َ
اللتِ َك))؟ َ
((أ ْو ُت ْخ ِر ُ
اخلرس عدم القدرة عىل الكالم ،أما ملا يعرتيه من عذاب فال يقوى عىل الكالم
بعد ذلك ،واما لزجر زبانية النار له فال جيرس عىل النطق ،وكالمها واقع ممكن ؛الن
العذاب وهول املوقف جيعالن االنسان يف حرية الدهشة ،فال يقوى عىل الكالم،
فضال عام يالقيه من زجر املوكلني عىل عذابه فال يستطيع النطق .
واملجد ،هو السعة يف الكرم واجلاللة ؛وبعضهم جعله الرشف والعز او هو
الرشف مقرونا بحسن الفعل .والثناء ذكر اخلري من الصفات ،كقولك اثنيت عليه
أي مدحته ذاكرا صفة اخلري ،وان كان الثناء اعم اال أنه ينرصف اىل ذكر اخلري من
فعال .
واجلالل ،العظمة واالرتفاع ،فهو ينطق باملجد عليه والثناء له واجلالل لقدسه
سبحانه.
وب ا ْن َط َو ْت َعلى َم َح َّبتِ َك))؟ َ
((أ ْو َت ْط َب ُع َعلى ُق ُل ٍ
الطبع هو السجية والصفة واخللق ،وطبع عليه أي رست سجيته عليه ،وطبع
ٍ
يشء ما ،يستعمل يف القبيح من العمل ،أي انطباع القلب عىل صفة القلب عىل
املعايص وتدنيسه بالذنوب .
قلب قد ضمه حبك؟ فان حبك وانطوى عليه؛ أي ضمه ،فكيف يا رب يعمى ٌ
وب َأ ِح َّبائِ َك
يار َع ْن ُق ُل ِ (و َأن َْت ا َّل ِذي َأ َز ْل َت ْ
األغ َ نور يفتح القلوب ،ويف دعاء عرفة َ :
((( واك َو َ ْل َي ْل َج َأوا إِىل َغ ْي َِك)
ي ُّبوا ِس َ
َح َّتى َ ْل ُ ِ
(( ( –بحار االنوار،الباب الثاين،اعامل خصوص يوم عرفة وليلتها وادعيتهام .226/95،
................................................................................. 62رشح املناجاة الخمس عرشة
الصمم عدم السامع خللل يف األذن ،وصمم األذن اما لعارض حيدث ،أو لسبب
من األسباب اخلارجية تعطل امكانية السمع ،وهنا اشارة للعذاب الذي يالقيه
املذنب وما يستحقه من عقوبة بحيث تصم أذنه عن السامع؛ هلول ما جيده وعظيم ما
يالقيه ،وهذه اآلذان التي يصمها العذاب طاملا تلذذت بذكرك ،أي انه ذكر ارادتك
املقرون بالعفو واملغفرة قد صمت من البالء والعقوبة ؟!
جاء َر ْأ َفتِ َك))؟
اآلمال إِ َل ْي َك َر َ
ُ ((أ ْو َت ُغ ُّل َأ ُك ّف ًا َر َف َع ْتها
َ
الغ ُّل بالضم ،الطوق من حديد يوضع يف العنق ،واستعمل لكل ما يوضع دون
ُ
ذلك من االيدي واالرجل حتى يقال ايد مغلولة وارجل مغلولة ،واذا كانت هذه
األيدي رفعها حسن الظن بك؛ فكيف ترجع خائبة مغلول ًة وهذا ما ال يتناسب مع
كرمك يا كريم ؟ فانك قلت عىل لسان ابن بنت نبيك عيل بن موسى الرضا عليهام
ول َأ َنا ِع ْن َد َظ ِّن َع ْب ِد َي
وج َّل َي ُق ُ الل َفإِنَّ َّ
الل َع َّز َ الظ َّن بِ َّ
(أ ْح ِس ِن َّالسالم انه قال َ :
ش ًا)(((. ْ ُالؤْ ِم ِن ِب إِنْ َخ ْي ًا َف َخ ْي ًا وإِنْ َ ّ
ش ًا َف َ ّ
وقال امري املؤمنني عليه السالم ( :الثقة باهلل وحسن الظن به حصن ال يتحصن
به اال مؤمن ،والتوكل عليه نجاة من كل سوء ،وحرز من كل عدو)((( .
وها انا ذا انام رفعت يدي اليك ألميل بعفوك وحسن الظن بجودك ورمحتك .
عاق ُب َأ ْبدان ًا َع ِم َل ْت بِ َ
طاعتِ َك َح َّتى َن ِح َل ْت ِف ُماهَ َدتِ َك))؟. َ
((أ ْو ُت ِ
كسابقتها للتأكيد عىل أن كرمه تعاىل ال يتناسب مع عقوبته ألرجلٍ كانت ساعية
لعبادته ،وختصيص األرجل دون غريها ،كون األرجل هي سبب السعي يف العبادة،
والوصول اىل اسباب الطاعة .
يك َأ ْب َ
واب َر ْح َمتِ َك)). ((إِل ِهي ال َتغْ ِلقْ َعلى ُم َو ِّح ِد َ
التوحيد اخالص الطاعة هلل تعاىل ونبذ عبادة ما دونه ،وأعىل مراتب الطاعة
التوحيد ،يف حني أدنى مراتب املعصية الرشك ،فكيف تغلق ابواب رمحتك عىل
موحديك ؟ وابواب الرمحة هي ابواب التوبة .واذا كان العبد قد اقر هلل بالوحدانية
ابعده عن عذابه ،واي عذاب هو اشد من اغالق التوبة عليه ؟حاشا لوجه الكريم
ان يعذب من قال بتوحيده بان يدخله النار ،فعن ايب عبد اهلل قال( ان اهلل تبارك
((( وتعاىل حرم اجساد املوحدين عىل النار)
لكن التوحيد الذي اراده االمام هو توحيد اهلل من حيث هو ال توحيده من
حيث العباد ،فان العبد قارص عن معرفة عظمته وامكانية توحيده اال من ابواب
املعرفة املنحرصة فقط يف ائمة اهلدى الذين جعلهم سبحانه دليال عىل معرفته وهاديا
لوحدانيته ،فقد ورد عن ايب جعفر الباقر : بنا عبد اهلل وبنا عرف اهلل ،وبنا وحد
اهلل تبارك وتعاىل وحممد حجاب اهلل تبارك وتعاىل .
وما ابلغ ما قاله سيد املوحدين عيل ليدل عىل حقيقة التوحيد بقوله( :ال َّت ْو ِحيدُ
هه وا ْل َعدْ ُل َأ َّل َت َّت ِه َمه)(((.
َأ َّل َتت ََو َّ َ
واذا كان العبد غارقا بوحدانيته سبحانه فكيف يستحق عذابه فيغلق عليه ابواب
رمحته ؟!
يك َع ِن ال َّن َظ ِر إِلى َج ِميلِ ُر ْؤ َيتِ َك)) ((وال َت ْح ُج ْب ُم ْش ِ
تاق َ َ
الشوق هو نزوع النفس اىل اليشء ،واهم دواعيه هو احلب او تعلق النفس بيشء
ٍ
لسبب ما ،واحلجب هو املنع فيقال للستار اذا منع رؤية يشء حجاب وللبواب
املانع من الدخول حاجب النه يمنع املشاهدة .
والنظر اىل مجيل رؤيتك ،اشارة اىل النظر اىل رمحة ربه واحسانه اليه ،وليس
هو النظر املادي اذ ال جيوز عليه تعاىل ،النه ال حيد بحد وال يوصف بوصف ،بل
ذلك عىل سبيل املجاز واالستعارة ،واجلميل هو احلسن من كل يشء ومجيل رؤيته
احسانه وعفوه .
واالشتياق الذي هو داعيه املحبة والطاعة يتناسب مع التوجه اىل احسانه
ورمحته.
(( ( –هنج البالغة،صبحي الصالح،حكمة،470ص.588
مناجاة الخائفني65..................................................................................................
(( ( –الزمر.9
(( ( –ال عمران .18
(( ( –التوبة .21
................................................................................. 66رشح املناجاة الخمس عرشة
اللِ َو َّ ُ
الل َب ِص ٌري بِا ْل ِع َب ِ
اد)((( فأي نعيم اعظم واكرم من رضوانه تعاىل ؟واي عذاب ِم َن َّ
اشد وانكى من هجرانه سبحانه ؟!
رار ِة نِيرانِ َك))؟
((و َض ِم ٌير ا ْن َع َق َد َعلى َم َو َّدتِ َك َك ْي َف ُت ْح ِر ُق ُه بِ َح َ
َ
الضمري هو الباطن؛ أي باطن االنسان وما يعتقده يف نفسه ،وانعقد عىل مودتك:
االنعقاد بمعنى ما عقد عليه القلب والضمري .
ال ِ
ات ين َآ َمنُوا َو َع ِم ُلوا َّ
الص ِ َ والود :بمعنى املحبة وقد أشار اليه قوله تعاىل (إِنَّ ا َّل ِذ َ
َس َي ْج َع ُل َ ُل ُم َّ
الر ْح َُن ُو ًّدا)((( أي سيحدث هلم حمبة .
واذا كانت هذه الضامئر منعقدة عىل حمبتك فال يناسبها غضبك ،واذا تيقنت من
شوقها اليك فال ختالطها عقوبتك ،فانت املوصوف باإلحسان مع عبادك املذنبني .
ِ
سخط َك)) ((إِل ِهي َأ ِج ْرنِي ِم ْن َألِ ِ
يم َغ َضبِ َك َو َع ِظيم
االجارة بمعنى احلفظ واحلامية ،والسخط هو الغضب املقتيض للعقوبة ،وأليم
غضبك يعني عدم الرضا وهو اهلجران والسخط درجة أشد من الغضب بل هو
غضب مؤد اىل العقوبة .
العظيمة الصادرة عنه تعاىل؛ تلطفا بعباده ورأفته عليهم ،وهذه النعمة التي حيصل
عليها العباد من دون تعب مناسبة جلوده وكرمه من أسامئه تعاىل املنان .
من)).
يار ْح ُ
يم َ((يار ِح ُ
َ
فبعض خص الرمحن به ٌ صفتان له تعاىل من الرمحة وقد اختلف يف اطالقهام،
(و َأنَّ
تعاىل والرحيم مشرتك بينه وبني غريه ،كقوله تعاىل يف ما خيص ذاته تعاىل َ
يم)((( وقوله تعاىل فيام خيص املخلوقني يف صفة النبي صىل اهلل عليه ور َر ِح ٌ َّ َ
الل َغ ُف ٌ
الؤْ ِمنِ َ
ني ول ِم ْن َأن ُْف ِس ُك ْم َع ِزيزٌ َع َل ْي ِه َما َعنِ ُّت ْم َح ِر ٌ
يص َع َل ْي ُك ْم بِ ْ ُ وآله َ
(ل َقدْ َج َاء ُك ْم َر ُس ٌ
وف َر ِحــيـ ٌـم)((( وقال بعضهم ان الرمحن ما خيص الدنيا والرحيم ما خيص َر ُء ٌ
اآلخرة،واالظهر اهنام صفتان خيتص هبام اهلل تعاىل لكن الرمحن صفة اختص هبا
لنفسه والرحيم ارشك هبا خلقه بام أمرهم به تعاىل .
((ياج َّب ُار يا َق َّه ُار)).
َ
اجلبار من اجلرب ،وهي الغلبة والعظمة والقدرة التي ال تليق اال بشانه وعظمته،
(و ُه َو ا ْل َق ِ
اه ُر َف ْو َق والقهار بمعنى القهر ؛اي الغلبة مع التذلل كام يف قوله تعاىل َ
(و ُه َو ا ْل َو ِ
احدُ ا ْل َق َّه ُار)((( . اد ِه)((( وقوله تعاىل َ
ِع َب ِ
َ
((ياغ َّف ُار َ
ياس َّت ُار)).
من املغفرة والسرت صفتان ال تليقان اال به عىل احلقيقة ،ولغريه عىل نحو املجاز
–املائدة .98 (( (
–التوبة .128 (( (
–االنعام 18،61 (( (
–الرعد.16 (( (
................................................................................. 68رشح املناجاة الخمس عرشة
ل ِم ْن َعطائِ َك بِام َت ِق ُّر بِ ِه َع ْينِي َو ِم ْن َرجائِ َك بِام يه ؛ َأ ْس َأ ُل َك بِ َك َر ِم َك َأنْ َ ُت َّن َع َ َّ
راج ِلِ ِ
يبات الدُّ نْيا َو َ ْت ُلو بِ ِه َع ْن َب ِص َ
ري ِت ل ُم ِص ِ ني بِام ُت َِّونْ بِ ِه َع َ َّ َت ْط َمئِ ُّن بِ ِه َن ْف ِس َو ِم َن ال َي ِق ِ
الر ِ ِ َ
اح َ
ني). العمى بِ َر ْحَتِ َك ياأ ْر َح َم َّ َغ َش ِ
وات َ
مناجاة الراجني71 ...................................................................................................
(( ( –الصحيفة السجادية،دعاء االمام السجاد بعد كل ركعتني منم نوافل يوم اجلمعة،طبعة ابطحي .575
................................................................................. 72رشح املناجاة الخمس عرشة
يعني احلياء من ارتكاب الذنب ؛ إال أن املجاهرة بالعصيان ال متنع عفوه من التسرت
عىل الذنب بالعفو والتغطية عليه عدم كشفه بالعقوبة ،بل رأفته اقتضت قبول العفو
عن املذنبني بالسرت ،وعىل معاصيهم بعدم الفضيحة ،فسبحانه من قادر ما أرضاه!
((وإِذا َت َو َّك َل َع َل ْي ِه َأ ْح َس َب ُه َو َكفا ُه)).
َ
التوكل هو االعتامد يف مجيع األمور عليه سبحانه وتعاىل ،والكفاية بمعنى الوقاية
َال)((( أي وقاهم القتال .وحسبه بمعنى الظن القت َ
نني ِ (و َك َفى ُ
اهلل ا ُمل ِ
ؤم َ لقوله تعاىل َ
وهنا بمعنى الظن احلسن .وخالصة قوله عليه السالم أن من صفاته سبحانه أن
سبب التوكل عليه كونه عند حسن ظن العبد؛ إذا أخلص التوكل عليه وأحسن
الظن به .
((إِل ِهي َم ِن ا َّل ِذي َنزَ َل بِ َك ُم ْل َت ِمس ًا ِق َ
راك َفما َق َر ْي َت ُه))؟
القرى الضيافة ،وااللتامس الطلب بإحلاح مع التوسل .وهنا يلتمس برجائه
ضيافته وهي عفوه والصفح عنه .واإلقراء اشارة لطيفة لفتح باب التوبة ،ألن
اإلقراء يقتيض فتح باب الضيافة ليلج إليه ويطلب منه ،وهل أعظم من ضيافة املوىل
لعبده حيث يغدق عليه كرمه وهو عفوه يف هذا املورد من املناجاة ؟
داك َفما َأ ْو َل ْي َت ُه ؟)). ((و َم ِن ا َّل ِذي َأ َ
ناخ بِبابِ َك ُم ْر َت ِجي ًا َن َ َ
وهو تأكيد عىل ما قبله ،حيث اإلناخة بالباب اشارة إىل احلاجة واالضطراب يف
الطلب ،والندى :العطاء ،فالراجي إىل عطائه أناخ بباب رمحته وهي عفوه ومغفرته.
اخليبة :عدم الظفر بام طلب ،واالنرصاف الرجوع ،وهنا يسأل عليه السالم أن
كرمه ال يليق برجوعي خائبا عن بابه ،وأي باب هي؟ إهنا باب رمحته التي وسعت
كل يشء .
سان َم ْو ُصوف ًا))؟. لى بِا ِ
ال ْح ِ ((و َل ْس ُت َأ ْع ِر ُف ِس َ
واك َم ْو ً َ
وهذا من باب الثناء بصيغة الطلب والرجاء ،حيث أن السائل ال يعرف أحدا
موصوفا باإلحسان الذي يناسب طلبه وهو العفو غريه ،وهل أحد يقدر عىل العفو
عن ذنب امليسء إال هو
((كي َف َأ ْر ُجو َغ ْي َر َك َو َ
الخ ْي ُر ُك ُّل ُه بِ َي ِد َك))؟ ْ
الغني عن غريه،
ُّ انحصار اخلري بيده سبحانه دليل عىل افتقار الغري إليه ،فهو
حمتاج ،وكيف يوفر املحتاج طلب غريه
ٌ تاج إىل غناه ،فكيف يأمل حمتاج ًا
ري ُه ُم ٌ
وغ ُ
وهو فقري إليه ؟ إذن فال أمل إال به ،وال رجاء إال عطاؤه .
الخ ْل ُق َو َ
األ ْم ُر َل َك))؟ ((و َك ْي َف ُأ َؤ ِّم ُل ِس َ
واك َو َ َ
وهي كسابقتها تأكيد عىل فقر الغري إليه ألنه غني ،فكيف األمل بمن هو حمتاج
إىل غريه ؟ واألمر هنا الشأن واحلالة ،ومها اإلجياديتان ،أي الشأن اإلجيادي واحلالة
(ك ْن َف َي ُك ُون)((( وهنا إرادته
اإلجيادية التي تأمتر األشياء ،كلها هبا وهي قوله تعاىل ُ :
سبحانه ال قوله اللفظي كام هو معلوم .
مال ْم َأ ْس َأ ْل ُه ِم ْن َف ْض ِل َك)).
((أ َأ ْق َط ُع َرجائِي ِم ْن َك َو َقدْ َأ ْو َل ْيتَنِي َ
َ
سبحانه ،وقد منعهم استغفارهم نقمته ،وهذا يناسب كرمه ،إذ الكريم إذا قصده
امليسء إليه يغض عن توبيخه فضال عن عقوبته ،واملستغفر قاصد إليه فلم يشق
أحد بعقوبته حيث قصده ورجاه .
ذاك ِري))؟ ((ك ْي َف َأ ْن َ
ساك َو َل ْم َتزَ ْل ِ َ
ذكر ُه له بمعنى إغداق النِّعم عليه؛ وأجالها كرمه وعفوه إياه ،وهو تأكيد ملا مر
ُ
من متجيده وبيان عظيم نِ ِع ِمه ،وإذا كان سبحانه ذاكره فكيف ينسى من يكون شأنه
الذكر له بالعناية والرعاية إليه؟
((و َك ْي َف َأ ْل ُهو َع ْن َك َو َأ ْن َت ُم ِ
راقبِي ))؟ َ
ال َّلهو ،االشتغال بام ال يعنيه وانشغاله عام يعنيه ،واملراقبة بمعنى إمعان النظر
ومتابعته دون االنفكاك عنه ،وإذا كان هو الرقيب سبحانه فكيف لعاقل أن يلهو
يسوف ؟ .
وكيف له أن ّ
((إل ِهي بِ َذ ْيلِ َك َر ِم َك َأ ْع َل ْق ُت َي ِدي)).
تعلق الغريق يكون غالبا بذيل منقذه ،فهو يتشبث بالتعلق للنجاة من الغرق،
وها أنذا يارب غريق ببحر ذنويب علقت يدي بذيل كرمك لتنقذين من ورطتي وهي
خطاياي .
طاياك َب َس ْط ُت َأ َم ِلي)).
َ ((ولِن َْيلِ َع
َ
انبساط اليشء إشار ٌة لألخذ والتزود ،والقبض خالفه ،فهو االمتناع عن األخذ
واالستفادة .وانبساط اليد ٌ
جماز للجود والكرم ،وبسط األمل كام يبسط أحدهم
................................................................................. 76رشح املناجاة الخمس عرشة
الر ِ َ
اح ِم َ
ين)). العمى بِ َر ْح َمتِ َك ياأ ْر َح َم َّ ((و َت ْج ُلو بِ ِه َع ْن َب ِص َيرتِي َغ َش ِ
وات َ َ
برص بصرية هي مشاهدة القلوب وانكشاف احلقائق هلا ،واإلبصار هو مشاهدة
األشياء بالعني ،والبصرية أعظم وقعا لإلنسان يف معرفة احلق ،فإن االنكشاف ال
يكون إال من خالل القلب وهو بصريته واإلبصار ال يكون إال بالعني ،فالبصرية
مشاهدة االعتبارات واملعاين واإلبصار مشاهدة املحسوسات .
واجلالء رفع احلجاب والغشاوة وهو رين القلب الذي يمنعه عن املعرفة ،وعمى
القلوب أشد من عمى األبصار وال يكون ذلك إال برمحته فإنه أرحم الرامحني .
المناجاة الخامسة:
مناجاة الراغبين
ْم الله الرَّحْم ِن الرَّح ِ
ِيم بِس ِ
ري إِ َل ْي َك َف َل َقدْ َح ُس َن َظنِّي بِال َّت َو ُّكلِ َع َل ْي َك َوإِنْ كانَ
زادي ِف املَ ِس ِ
( إِهلِي إِنْ كانَ َق َّل ِ
ُجر ِمي َقدْ َأخا َفنِي ِم ْن ُع ُقو َبتِ َك َفإنَّ َرجائِي َقدْ َأ ْش َعر ِن بِ َ
األ ْم ِن ِم ْن نِ ْق َمتِ َكَ ،وإِنْ كانَ َذ ْنبِي َ ْ
ال ْستِ ْع ِ
داد الغ ْف َل ُة َع ْن ا ِ َقدْ َع َر َضنِي لِ ِعقابِ َك َف َقدْ آ َذ َننِي ُح ْس ُن ثِ َقتِي بِ َثوابِ َكَ ،وإِنْ َأنا َم ْتنِي َ
الع ْص ِ
يان ش ما َب ْينِي َو َب ْين ََك َف ْر ُط ِ لِ ِلقائِ َك َف َقدْ َن َّب َه ْتنِي املَ ْع ِر َف ُة بِ َك َر ِم َك َوآآلئِ َكَ ،وإِنْ َأ ْو َح َ
حات َو ْج ِه َك َوبِ َأنْوا ِر وانَ ،أ ْس َأ ُل َك بِ ُس ُب ِ الر ْض ِ الغ ْف ِ
ران َو ِّ شى ُ يان َف َقدْ آ َن َسنِي ُب ْ َ الطغْ َِو ُّ
ف بِ ِّر َك َأنْ ُ َت َّق َق َظنِّي بِام ُأ َؤ ِّم ُل ُه ِم ْن َج ِزيلِف َر ْحَتِ َك َو َلطائِ ِ ُقدْ ِس َك َو َأ ْب َت ِه ُل إِ َل ْي َك بِ َع ِ
واط ِ
والز ْلفى َل َد ْي َك َوال َّت َم ُّت ِع بِال َّن َظ ِر إِ َل ْي َكَ ،وها َأناالق ْربى ِم ْن َك ُّ ْعام َك ِف ُ جيلِ إن ِ ْإك ِ
رام َك َو َ ِ
ود َك َو ُل ْط ِف َك ُّ
فار ِم ْن َس َخ ِط َك إِىل حات َر ْو ِح َك َو َع ْط ِف َك َو ُم ْنت َِج ٌع َغ ْي َث ُج ِ
ض لِ َن َف ِ
ُمت ََع ِّر ٌ
أح َس َن ما َل َد ْي َك ُم َع ِّو ٌل َعىل َم ِ
واهبِ َك ُم ْفت َِق ٌر إِىل ِرعا َيتِ َك. ِر َ
ضاك ها ِر ٌب ِم ْن َك إِ َل ْي َك ٍ
راج ْ
إِهلِي ما َب َد ْأ َت بِ ِه ِم ْن َف ْض ِل َك َفت ََّم ْم ُهَ ،وما َوهَ ْب َت ِل ِم ْن َك َر ِم َك َفال َت ْس ُل ْب ُهَ ،وما َس َ ْ
ت َت ُه
79
................................................................................. 80رشح املناجاة الخمس عرشة
((وإِنْ كانَ َذ ْنبِي َقدْ َع َر َضنِي لِ ِعقابِ َك َف َقدْ آ َذ َننِي ُح ْس ُن ثِ َقتِي بِ َثوابِ َك))
َ
وهو كاملعنى السابق حيث الذنب يقابله العقاب ،وثقتي باهلل جتعلني راجيا
لثوابه ،كام أن ذنبي يدفعني إىل اخلوف من عقوبته.
داد لِ ِلقائِ َك)).
ال ْستِ ْع ِ ((وإِنْ َأنا َم ْتنِي َ
الغ ْف َل ُة َع ْن ا ِ َ
غ ْف َل ٍة ُم ْع ِر ُضونَ ((() حيث جعل سبحانه سبب االعراض
( و ُه ْم ِ ف َ
قال تعاىل َ
هو الغفلة ،وهي حالة تعرتي االنسان فيسهو عن أمر مهم ال جيد بدا من مراعاته
لوال غفلته ،ولعل الفرق بني السهو والغفلة دقيق أشار إليه أبو هالل العسكري
بقوله (:الفرق بني السهو والغفلة :أن الغفلة تكون عام يكون ،والسهو
يكون عام ال يكون ،فتقول غفلت عن اليشء حتى كان وال تقول سهوت
عنه حتى كان ألنك اذا سهوت عنه مل يكن وجيوز أن تغفل عنه ويكون)(((.
والغفلة هنا يف الدعاء سبب يف االمهال ،حتى أهنا أنامته عن االستعداد إىل
املسري ،كام لو أن انسانا نائام عن قافلته التي هو معها وقد استعدت للمسري دونه
وهو يف نوم الغفلة عام جيري من حوله.
الم ْع ِر َف ُة بِ َك َر ِم َك َوآآلئِ َك)).
(( َف َقدْ َن َّب َه ْتنِي َ
لكن مع هذه الغفلة التي مل تستمر طويال ،حتى تنبهت عىل كرمك وجودك
وآالئك فأفزعني ذلك خجال مما أنا فيه من تقصري الغفلة ،فاين مل استغرق نعمك
حتى عصيتك ومل استوف آالءك حتى سهوت عن شكرك ،فكيف ومتى أرجع عن
(( ( -االنبياء .1
(( ( -الفروق
مناجاة الراغبني83...................................................................................................
ولطفك ،ووصف اجلود واللطف بالغيث اشارة إىل سعة رمحته ،وال يطلب الغيث
إال بعد احلاجة ،فيقال أغاثنا باملطر دعاء لطلب اخلري ،وهنا طلب االنتجاع بعد
احلاجة بالغيث بليغ يف وصف الفقر واحلاجة ملطلق الغنى والرمحة.
((فار ِم ْن َس َخ ِط َك إِلى ِر َ
ضاك)). ُّ
فار منك إليك ،وهي دائرة العباد املغلقة حيث ال منجى منه إال إليه ،فيفر
أي ٌّ
العبد من سخطه إىل رضاه ،ومن عقوبته إىل رمحته ،ومن غضبه إىل عفوه ،سبحانه
كم هو غني جبار الساموات واألرض ال يفر عبيده إال إليه!
وهو ٌ
بيان لتسلطه وجربوته وهيمنته.
أح َس َن ما َل َد ْي َك)).
((راج ْ
ٍ
بل الرجاء كل ما لديك ،لكن الطلب اليكون إال لألحسن واألفضل مع فقره
إىل ما دونه ،وعادة الطالب الطمع ما يف يد صاحب احلاجة فريجو أحسنها ،أو ما
يناسب فقره وحاجته ،وأحسن ما يناسب فقره هو املغفرة والعفو.
واهبِ َك ُم ْفت َِق ٌر إِلى ِرعا َيتِ َك)).
((م َع ِّو ٌل َعلى َم ِ
ُ
اليتيم ،او كل حمتاج إىل الرعاية والعناية،
َ ُ
الرجل العول بمعنى الكفالة ،أي تكفل
والتعويل عىل يشء حاجة املعول لذلك اليشء ،فالدعاء هنا هو التعويل عىل موهبته
سبحانه واالفتقار اىل رعايته وهي عفوه ومغفرته.
((إِل ِهي ما َب َد ْأ َت بِ ِه ِم ْن َف ْض ِل َك َفت ََّم ْم ُه)).
امتام اليشء اكامله ،وهو دليل االفتقار اىل ذلك اليشء ،والفضل كل نعمة اغدقها
................................................................................. 86رشح املناجاة الخمس عرشة
سبحانه عىل عباده ،واالنقطاع عنها انقطاع عن اخلري ،وطلب االمتام والكامل دليل
االفتقار الدائم اليه ،ورجائه يف استمرار رمحته واغداق عطاياه ،ألنه ال ينقطع عنه
طرفة عني يف استمرارها ،فالعبد فقري ابتداء ودواما وهو تعاىل غني ابتداء ودواما،
واالبقاء عىل النعم دون سلبها من اهم عطاياه.
((و َما َست َْر َته َع َل َّي بِ ِح ْل ِم َك َفال َت ْهتِ ْكه)).
السرت هو عدم األخذ بالعقوبة ،واحللم العفو عند املقدرة ،أي مع القدرة عىل
العقوبة يعفو ،واهلتك ختريق السرت وكشف ما سرته .وانكشاف السرت وختريقه
بغضبه وعقوبته بعد ارتفاع عفوه.
اغ ِف ْره)).
يح ِف ْع ِلي َف ْ
((و َما َع ِل ْمتَه ِم ْن َقبِ ِ
واملغفرة بعدم العقوبة.
است َْش َف ْع ُت بِ َك إِ َل ْيك)).
((إِ َل ِهي ْ
الشفاعة هي التجاوز عن الذنب ،والشفيع ان يكون مقبوال اىل املشفوع عنده
ومرضيا عنه وقريبا اليه ،وهنا يستشفع االمام بذاته اىل ذاته ،وبكرمه اىل حسن كرمه
وبعفوه اىل مجيل عفوه ،ويف أدعية أخرى يستشفع أيضا بمحمد وآله صىل اهلل عليه
وآله كام يف قوله (فاين مل آتك ثقة مني بعمل صالح قدمته ،وال شفاعة خملوق رجوته
إال شفاعة حممد وأهل بيته عليه وعليهم سالمك)((( فاما شفاعته بكرمه وجوده،
واما شفاعته اىل اقرب من ارتضاه من خلقه وهم حممد وآله عليه وعليهم السالم.
ُك َط ِ
امعا ِفي إِ ْح َسانِ َك)). َ
((أ َت ْيت َ
عيب من ورائه . فالطمع يف االحسان من مصدره ٌ
كامل ،ال منقصة فيه،وال ٌ
(راغبا يف امتنانك) رغب يتعدى بنفسه مرة اذا اراده وطلبه ،ويتعدى بغريه
أخرى والرغبة اذا تعديته بـ(يف) فهي بمعنى االرادة أي أراده وطلبه ،واملنة هي
النعمة الثقيلة ومن اهلل عليك أي أثقلك بنعمه ( َم َّن اللَّ ُ َع َل ْ ُالؤْ ِمنِ َ
ني)((( أي أنعم
عليهم بنعمه الظاهرة والباطنة ومنها نبيه صىل اهلل عليه وآله .
((م ْست َْس ِقي ًا َوابِ َل َط ْولِ َك )).
ُ
الوابل :بمعنى املطر الشديد ،الطول أي الفضل ،والتطول التفضل ،وهو
املتطول املنان .
واالستسقاء طلب الغيث واملطر بعد اجلدب ،واالستسقاء من فضله سبحانه يف
غاية األمل مع احلاجة واخلضوع وبيان لالفتقار اليه .
((م ْست َْم ِطر ًا َغما َم َف ْض ِل َك)).
ُ
اذ الفضل ال ينزل اال منه ،والغامم ما حيمل املطر واالستمطار رجاء نزول املطر
لكن من غامئم فضله ورمحته .
(طالِب ًا َم ْرضا َت َك ِ
قاصد ًا َجنا َب َك).
اجلناب أي الناحية وهو جماز عن النفس ،وملا كان املقصود غري جسم فقد
عرب عليه السالم عن اجلهة باجلناب ،فطلب املرضاة وقصد جنابه يأيت بعد رضاه
سبحانه.
رات ِم ْن ِع ْن ِد َك)). ((وا ِرد ًا َش ِر َيع َة ِر ْف ِد َك ُم ْل َت ِمس ًا َسنِ َّي َ
الخ ْي ِ َ
الورود بمعنى البلوغ ،والرشيعة مكان الورود من النهر ،وااللتامس هو الطلب
لكن مع رضورة الطالب ومشقة حاله ،والرفد بمعنى العطاء ،وسني اخلريات
بمعنى طلبها ألن السناء يأيت يف طلب املاء والسقاية.فاإلمام عليه السالم يصف
طلبه منه متام اخلري كام يطلب الظمآن ورود املاء رضورة.
((و ِافد ًا إِلى َح ْض َر ِة َجمالِ َك)).
َ
الوفود :املجيء مع حاجته لالسرتفاد أي طلب اخلري ،وحرضته ،مقامه وجنابه،
واجلامل صفاته الثبوتية كاحلي والغافر والكريم واجلواد ،فوفوده اىل حرضة مجاله
للنيل من عطاء صفاته ورمحته.
((م ِريد ًا َو ْج َه َك طا ِرق ًا با َب َك)).
ُ
وجهه تعاىل :رضوانه وثوابه وارادة وجهه هو الطمع للفوز بثوابه ،وهنا طلبه
عليه السالم لرمحته مشفوعة بالتذلل واالنكسار ،وطرق الباب اشارة للحاجة يف
فتحها واالضطرار للولوج.
ايكال األمر إليه يف اختيار األصلح ألنه أهل العطاء واجلود والكرم ،وأجىل
مصاديقها يف مقام السؤال والترضع هي مغفرته ورمحته.
ذاب َوال ِّن ْق َم ِة بِر ْح َمتِ َك َ
ياأ ْر َح َم أه ُل ُه ِم ْن َ
الع ِ ((وال َت ْف َع ْل بِي َ
ماأنا ْ َ
َ
ين)). الر ِ
اح ِم َ َّ
فان املذنب ٌ
أهل للعذاب بعدله ،وهو ُ
أهل العفو بمغفرته ،سبحانه ما اعظم
شأنه وأجل عطاياه .
المناجاة السادسة
مناجاة الشاكرين
ْم الله الرَّحْم ِن الرَّح ِ
ِيم بِس ِ
ض صاء َثنائِ َك َف ْي ُ
إح ِ ( إِهلِي َأ ْذهَ َلنِي َع ْن إقا َم ِة ُش ْك ِر َك َتتا ُب ُع َط ْولِ َك َو َأ ْع َجزَ ِن َع ْن ْ
ش َعوا ِر ِف َك َت ِ
وال راد ُف َعوائِ ِد َك َو َأ ْع ِ
يان َع ْن َن ْ ِ ام ِد َك َت ُ َف ْض ِل َك َو َش َغ َلنِي َع ْن ِذ ْك ِر َم ِ
امء َوقا َب َلها بال َّت ْق ِصريَِ ،و َش ِه َد َعىل َن ْف ِس ِه ت َف َب ِس ُب ِ
وغ ال َّن ْع ِ قام َم ْن ْاع َ َ
يكَ ،وهذا َم ُ ِ
أياد َ
يه َوال َي ْط ُر ُد قاص ِد ِ يم ا َّل ِذي ال ُ َي ِّي ُب ِ الب َ
الك ِر ُ الر ِح ِ
يم َ ُّ الر ُؤ ُ
وف َّ ِ
االمال َوال َّت ْضيِ ِ
يع َوأن َْت َّ بِ
ين َفال ت ِف ِد َ ني َوبِ َع ْر َصتِ َك َت ِق ُف ُ
آمال ا ُمل ْس َ ْ اج َ الر ِ ساحتِ َك َ ُت ُّط ِر ُ
حال َّ يه بِ َ آم ِل ِ
َع ْن ِفنائِ ِه ِ
الس ،إِهلِي َت َ
صاغ َر القن ِ
ُوط َواال ْب ِ بال ُ س َاالياس وال ُت ْلبِ ْسنا ِ ْ ِ يب َو ُتقابِ ْل َ
آمالنا بِال َّت ْخيِ ِ
شي َج َّل َل ْتنِي اي َثنائِي َو َن ْ ِ
رام َك إ َّي َ إك ِ ب ْ ضأ َل ِف َج ْن ِ عاظ ِم آالئِ َك ُش ْك ِري َو َت َ ِع ْن َد َت ُ
ال َو َق َّل َدتْنِي ل َلطائِ ُف بِ ِّر َك ِم َن ِ
العزِّ ِك َل ً ض َب ْت َع َ َّ ال َو َ َاإليامن ُح َل ً
ِ نِ َع ُم َك ِم ْن َأنْوا ِر
إحصائِها سان َع ْن ْ ج ٌة َض ُع َف لِ ِ َ
فآالؤك َ َّ الت ُّل َو َط َّو َق ْتنِي َأ ْطواقا ال ُت َف ُّل،
ُك َقالئِ َد ُ َ ِم َنن َ
استِ ْقصائِها َف َك ْي َف ِل بِت َْح ِصيلِ
ال َع ْن ْ راكها َف ْض ً ص َف ْه ِمي َع ْن إ ْد ِ َو َن ْع َ
امؤك َكثِري ٌة َق ُ َ
ل لِذلِ َك َأنْ الش ْك ِر َو ُش ْك ِري إِ َّي َ
اك َي ْفت َِق ُر إِىل ُش ْك ٍر ؟ َف ُك َّلام ُق ْل ُتَ :ل َك َ
احل ْمدُ َو َج َب َع َ َّ ُّ
91
................................................................................. 92رشح املناجاة الخمس عرشة
َأ ُق َ
ولَ :ل َك َ
احل ْمدُ .إِهلِي َف َكام َغ َّذ ْيتَنا بِ ُل ْط ِف َك َو َر َّب ْيتَنا بِ ُص ْن ِع َك َفت َِّم ْم َع َل ْينا َسوابِ َغ الن َِّع ِم
ال،آج ً ال َو ِ وظ الدَّ َار ْي ِن َأ ْر َف َعها َو َأ َج َّلها ِ
عاج ً َوا ْد َف ْع َع َّنا َمكا ِر َه ال ِّن َق ِم َوآتِنا ِم ْن ُح ُظ ِ
الع ِظ َ
يم تي َ واف ُق ِر َ
ضاك َو َي ْم َ ِ حد ًا ُي ِ وغ َنعامئِ َك َ ْ َو َل َك َ
احل ْمدُ َعىل ُح ْس ِن َبالئِ َك َو ُس ُب ِ
الر ِ ِ َ ِم ْن بِ ِّر َك َو َن َ
ني).اح َ يم بِ َر ْحَتِ َك ياأ ْر َح َم َّ يم َ
ياك ِر ُ ياع ِظ ُ
داك َ
مناجاة الشاكرين93.................................................................................................
من البناء وحط الرحال كناية عن االستقرار واحلاجة ،واالسرتفاد طلب املعونة،
وكأنام هناية مطاف السائل للحاجة هي يف عرصاته حيث تنتهي احلاجات وتقف
املسأالت.
(فال تقابل امالنا بالخييب واالياس وال تلبسنا سربال القنوط واالبالس)
التخييب عدم الظفر باملطلوب واليأس هو القنوط واالبالس قنوط معجز يسببه
قنوطه وهو اشد واعظم من اخليبة ومن القنوط ،ومقابلة االمل بالقنوط ليس من
شأن الكريم مع امليه وراجيه.
(الهي تصاغر عند تعاظم االئك شكري)
وهذه اسباب العجز عن الشكريفرسها بان عظيم نعمه ال يناسب قلة شكره
مهام تعاظم شكر العبد يف مقابل نعم سيده .
(وتضاءل في جنب اكرامك اياي ثنائي ونشري)
فكل ما اعمله من ثناء ونرش فهو ضئيل ،فأنا حتى لو اعمل من البالغة يف الثناء
وانمق الكلامت واحسن عبارات الثناء فلن اصل اىل ما منحتني من عطاياك وحسن
افضالك.
(جللتني نعمك من انوار االيمان حلال)
جلل اليشء اي غطاه ،وجلله بنعمه اي البسه وغطاه هبا كناية عن الكثرةوالعظمة،
واحللل مجع حلة بالضم وهي استعارة مرصحة حقيقية حيث تشبيه االيامن باحللة
وانواره تكسوه كام تكسو احللة بدن االنسان ،فلو انتزعت منه هذه احللل كان عاري ًا،
................................................................................. 96رشح املناجاة الخمس عرشة
وابتالئها بقرص الفهم عن ادراك حقائق النعم لتعددها وتواليها دون انقطاع حتى
ضاق الوسع عن ادراكها ليكون ذلك مبعث شكرها.
(فض ً
ال عن استقصائها)
ومعرفتها وعددها فان العجز ليس يف ادراكها ليكون ذلك مبعث شكرها (فضال
عن استقصائها) ومعرفتها وعددها فان العجز ليس يف ادراكها بل يف استقصائها
وقد قلت وقولك احلق ((وان تعدوا نعمة اهلل ال حتصوها)) فكيف يل وانا املبتىل
بالعجز يف معرفة اسباهبا ان احيص نعمك وشكرك احدى نعمك ع ّ
يل.
(فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري اياك يفتقرالى شكر)
فان شكري اليك حيتاج اىل شكر التوفيق اذ دللتني عىل اسبابه وانا عاجز،
ودواعيه حتتاج اىل عونك الين ضعيف عن اتيان ما من شأنه ان يوفقني عىل توارد
خواطر النعمة الكون من الشاكرين ،فيكون لشكري لك فضل وانت وفقتني اليه
ودللتني عليه.
(فكلما قلت لك الحمد وجب علي لذلك ان اقول لك الحمد)
وان محدي لك حيتاج اىل محد فانه ال ينال ذلك اال بتوفيق منك فشكرك نعمة
ومحدك مثلهام حتى ال ينقطع اتيان شكرك وتوايل محدك وهذا كله ال يؤديه العاجز
وال حيتويه الضعيف وها انا ذا اعرتف بعجزي النقاعي عن تأدية شكر النعمة ومحد
التوفيق .
الصنيع هو صنع املعروف والصنيعة مثلها ،وربيتنا بصنعك :عودتنا عىل
................................................................................. 98رشح املناجاة الخمس عرشة
معروفك وجعلتنا صنائع احسانك ،وغذيتنا بلطفك اي تعاهدتنا بكل نعمة خفية
باطنة او معروفة ظاهرة وكل هذا يستوجب تتابع احسانك ،فان املحسن ال ينقطع
عن صنيع املعروف ،واجلواد ال ينثني عن اسداء اجلود ،والكريم عادته كرمه وانت
يا اهلي متمم النعم بكل ما يقضيه كامل املخلوق وما يستحقه العاجز من معروف
وها انا ذا خملوقك العاجز عن اتيان اخلري وجلب االحسان الين مفتقر اىل معروفك
ومسرتفد احسانك.
(وادفع عنا مكاره النعم)
املكروه كل قبيح يستقبحه طبع االنسان وكل ما من شأنه ان يشق عليه فهو
مكروه لديه ،والدفع هو املنع وعدم حتقق اليشء للامنع ،وال يدفع مكاره النعم اال
هو الن النقمة العقوبة الدنيوية واالخروية وكلها بيده كقوله يف دعاء اخر :يا
من حتل به عقد املكاره ،فحل العقد و دفع املكروه بيده وعن امره
( واتنا من حظوة الدارين ارفعها واجلها عاجال و اجال)
حظوظ الدارين انصبة الدنيا االخرة الن احلظ هو النصيب و االتيان منه تعاىل
لقوله سبحانه
( ربنا اتنا في الدنيا حسنة و في االخرة حسنة )
و احلسنه ال تكون اال ألرفع و اجل االمور لذا فقد التفت عليه السالم اىل قوله
تعاىل(:اتنا في الدنيا حسنة)
الن احلسنة هي كامل اجلزاء ( واهلل عنده حسن الثواب) و االمام يشري اىل
مناجاة الشاكرين99.................................................................................................
قوله تعاىل (( فاتاهم اهلل ثواب وحسن الثواب االخرة)) مع ان قوله تعاىل اشارة اىل
ان ثواب الدنيا ليس فيه حسن ثواب االخرة الختالط ثواب الدنيا بالكدورات و
املنغصات و املكاره وقد اراد عليه السالم ما هو اعظم.
(ارفعها واجلها)
وهذا من عظيم التفاتاته عليه السالم ليشرياىل كامل عطائه سبحانه.
(ولك الحمد على حسن بالئك و سبوغ نعمائك)
حسن البالء هو ما خيتاره سبحانه من البالء ملصلحة عبده املؤمن اما لزيادة ثوابه
و اما للتكفري عن سيئاته او لتزهيده عن الدنيا و ترغيبة باالخرة استصغاره الدنيا و
مالذها وكل جانب كام حييط الرداء جسد االنسان حيث يسدله عىل جسمه و يغطيه
فاحلمد لك عىل البالء و الرخاء وكل ما هو منك النه منك.
( حمدا يوافق رضاك)
و هذا احلمد ال يكون اال ما يليق بشأنك و انا عاجز عن اتيانه الن شأنك غري
مدروك فحمدك مثله لكن رضاك انت اعلم به مني و محدك بقدر ما انت عامل به.
( و يمتري العظيم من برك و نداك)
الرب املعروف و الندى الكرم و اجلود العطاء و يمرتي من املرية وهو املتاع و فعله
يمرتي اي يطلب املرية و هذا احلمد بسببه يطلب احلامد برك و نداك النك عظيم
كريم ( يا عظيم يا كريم برمحتك يا ارحم الرامحني)
الن اخلامتة البد ان تكون موافقة للغرض وكان غرضة اسرتفاد املعونة منه
................................................................................. 100رشح املناجاة الخمس عرشة
تعاىل و العفو لعجزه يف شكره و محده ثم اثنى عليه بام يليق بشانه من العظمة و
الكرم و الرمحة فانه ارحم الرامحني.
المناجاة السابعة
مناجاة المطيعين ل ّله
ْم الله الرَّحْم ِن الرَّح ِ
ِيم بِس ِ
س َلنا ُب ُل َ
وغ ما َنت ََم َّنى ِم ْن ا ْبتِ ِ
غاء ( ال ّل ُه َّم َأ ْلِ ْمنا َ
طاعت ََك َو َجن ِّْبنا َم ْع ِص َيت ََك َو َي ِّ ْ
ياب َو ْاك ِش ْف
االرتِ ِ
حاب ْ وح ِة ِجنانِ َك َوا ْق َش ْع َع ْن َبصائِ ِرنا َس َ ِر ْضوانِ َك َو َأ ْح ِل ْلنا ُب ْح ُب َ
احلقَّ ِف ت َ الباط َل َع ْن َضامئِ ِرنا َو َأ ْثبِ ِ ِ جاب َو َأزْ ِْهــق
احل ِ َع ْن ُق ُلوبِنا َأ ْغ ِش َي َة امل ِ ْر َي ِة َو ِ
الفت َِن َو ُم َك ِّد َر ٌة لِ َص ْف ِو املَنائِ ِح َواملِن َِن .ال ّل ُه َّم
واق ُح ِ الظ ُنونَ َل ِ
وك َو ُّ الش ُك َ َسائِ ِرناَ ،فإنَّ ُّ
ياض ُح ِّب َك َو َأ ِذ ْقنا َح َ
الو َة يذ ُمناجاتِ َك َو َأ ْو ِر ْدنا ِح َ اح ْلنا ِف ُس ُف ِن َنجاتِ َك َو َمت ِّْعنا بِ َل ِذ ِ ِْ
ص نِ َّياتِنا ِف ُمعا َم َلتِ َك، طاعتِ َك َو ّأ ْخ ِل ْ
هنا ِف َ اج َع ْل ِجها َدنا ِف ْي َك َو َ َّ ُو ِّد َك َو ُق ْربِ َك َو ْ
االخيا ِر،
ي ْ َفإ َّنا بِ َك َو َل َك َوال َو ِس َيل َة َلنا إِ َل ْي َك إِ ّال َأن َْت .إِهلِي ْ
اج َع ْلنِي ِم َن ا ُمل ْص َط َف ْ ِ
العام ِل َ
ِ اخل ْي ِ ني إِىل َ ني إِىل املَ ْك ُر ِ
مات ا ُملسا ِر ِع َ السابِ ِق َ ني َ بالص ِ ِ
ل ْقنِي َّ َ
وأ ْ ِ
ني ات اال ْبرا ِر َّ ال َ
ش َق ِد ٌير َوبِاالجا َب ِة جات إ َّن َك َعىل ُك ِّل َ ْ يع الدَّ َر ِ ني إِىل َر ِف ِ ِ
الساع َ ال ِ
ات الص ِ باق ِ
يات َّ لِ ْل ِ
الر ِ ِ َ
ني )اح َ َج ِد ٌير بِ َر ْحَتِ َك ياأ ْر َح َم َّ
101
................................................................................. 102رشح املناجاة الخمس عرشة
(و َأ ْح ِل ْلنا ُب ْح ُب َ
وح ِة ِجنانِ َك). َ
بحبوحة املكان وسطه ،والوسط يكون أفضل املكان وأحسنه ،واحللول هو
االستقرار حيث الدعاء الن يدخله اهلل جناته ويف اعالها .
االرتِ ِ
ياب). حاب ْ(وا ْق َش ْع َع ْن َبصائِ ِرنا َس َ
َ
البصائر مجع بصرية وهي العلم واملعرفة ،وهي رؤية قلبية يتوىل أمرها القلب
لينظر اىل الالحمسوس نظر علم ومعرفة ،وهي بعكس البرص حيث النظر إىل
املحسوس بواسطة العني البارصة ،واالنقشاع هو ازالة اليشء ويستعمل كثريا يف
السحاب حيث ذهاب السحاب يسمى إنقشاعا ،والريب بمعنى الشك ،ومنشؤه
القلق وعدم ارتياح النفس ،وأسبابه كثرية ،ودواعيه متعددة؛ لذا فان ازالته تؤدي
بالنفس اىل االستقرار والتوجه للطاعة واملتابعة ملنهج احلق ،وهو من لطفه تعاىل.
جاب) (و ْاك ِش ْف َع ْن ُق ُلوبِنا َأ ْغ ِش َي َة ال ِم ْر َي ِة َو ِ
الح ِ َ
املرية واملــاراة واملراء بمعنى؛ وهو املحاججة ،حيث تصل اىل حد اللجاجة
فيكون منهيا عنها .واملحاججة ممدوحة يف احلق ،فاذا جتاوزت احلد صارت ممقوتة؛
فتكون يف غري حق ،ومنشأ املراء هو الشك ،واحلجاب ما يمنع وصول اليشء،
وح ُج ُب القلوب هي املوانع التي حتدثها الذنوب ،وهو الريب الذي يصدأ القلب
ُ
بسبب ما يرتكبه من أمور متنعه من تلقي فيوضات اهلداية ،وحتجبه عن التبرص
مللكوت الرمحة الربانية لقوله تعاىل ( َب ْل َرانَ َع َل ُق ُل ِ
وبِم)(((.
الفتنة فيكون وليدها ،وهذا وصف انفرد فيه االمام زين العابدين عليه السالم،
وتشبيه مل يسبقه اليه أحد صلوات اهلل عليه .
ٌ
(و ُم َك ِّد َر ٌة لِ َص ْف ِو َ
المنائِ ِح َوال ِمن َِن). َ
كدورة اليشء أي زوال صفوه ،املنائح هي العطايا ،واملنن ما يمن به بعد العطاء
وهو ال يكون يف حقه تعاىل ،الن ما يعطيه سبحانه منشؤه الكرم َّ
والطول ،وهو ال
يناسب املن كالذي يصدر من املخلوقني .واملنة النعمة الثقيلة واملنن مجعها ،وما
يكدر العطاء واملنن الربانية هو ما يقبح االنسان من الشكوك التي هي لواقح الفتن،
واذا كان األمر كذلك فان كدورة ذلك تكون سببا لتنغيص االنسان ومشاكله .
اح ِم ْلنا ِفي ُس ُف ِن َنجاتِ َك).
(ال ّل ُه َّم ْ
سفن النجاة يعني اسباب اهلداية والداللة عىل التوفيق ،واحلمل هنا هو خضوع
النفس للحق ،فبعد بيان ما يعرتي االنسان من كدورة العيش بسبب الفتن التي
توقعه فيها الشكوك والظنون؛ فان ذلك ال خيلصه ،اال النجاة يف سبل النجاة ،وهي
دواعي احلق والتسديد االهلي التي توصله اىل مبتغاه وهو مرضاته تعاىل .
(و َمت ِّْعنا بِ َل ِذ ِ
يذ ُمناجاتِ َك). َ
املتعة الراحة ،واللذة ما تسبب راحة النفس وسكوهنا ،واملناجاة هي حالة
اخلضوع والتسليم للحق تعاىل؛ فتكون املناجاة سببا للمتعة النفسية وهي سكون
النفس واطمئناهنا ،وهل افضل من راحة النفس وعدم اضطراهبا حيث يسعى
االنسان دائام لبلوغ هذه األمنية بكل الوسائل ،لكن أزكاها وأعظمها هي ما
................................................................................. 106رشح املناجاة الخمس عرشة
كانت عالقته بربه تعاىل عىل احسن ما يكون ،فتنفتح له اسباب التوفيق ودواعي
االطمئنان .
(و َأ ْو ِر ْدنا ِح َ
ياض ُح ِّب َك). َ
ورود املاء بلوغه ،أي رشبه من غري دخول ،وقد حيصل دخول فيه كام عن
الفيومي((( واالسم ورد ،واحلياض مجع حوض فورود املاء من هنر أو حوض
او غريه .وحبه تعاىل يمثله االمام لدى العبد كاملاء يف حاجته اليه ،كام ان انقطاع
االنسان عن املاء يودي باإلنسان ويأيت عىل حياته .وهو طلب للتوفيق يف الوصول
اىل داللة احلب االهلي الذي حتيا به قلوب العباد ،ومتيت فيه اسباب الباطل ،وهي
الشكوك والظنون كام اشار اليها عليه السالم.
(و َأ ِذ ْقنا َح َ
الو َة ُو ِّد َك َو ُق ْربِ َك). َ
الود بمعنى املودة وهي املحبة ،وقربك أي القرب منك وليس القرب املكاين
تنز َه سبحانه عن اجلسمية واحلدية واملكانية ،وللود والقرب
بل قرب املنزلة حيث َّ
حالوته باستشعار النفس رضا اهلل تعاىل .
طاعتِ َك).
اج َع ْل ِجها َدنا ِف ْي َك َو َه َّمنا ِفي َ
(و ْ
َ
فاجلهاد ال يكون اال يف اهلل تعاىل ،حيث بدايته جهاد النفس فهو الطريق اليه تعاىل
فتكون املجاهدة فيه ومهه طاعته ورضاه.
(و ّأ ْخ ِل ْ
ص نِ َّياتِنا ِفي ُمعا َم َلتِ َك). َ
(( ( –البقرة.156
................................................................................. 108رشح املناجاة الخمس عرشة
املكرمة فعل كريم يمتدح عليه الفاعل ،والسبق هو االرساع ،فاجعلني بتوفيقك
(ولِ ُك ٍّل ِو ْج َه ٌة ُه َو ُم َو ِّل َيها َف ْ
اس َتبِ ُقو ْا من املسارعني إىل فعل اخلريات لقوله تعاىل َ
نك ِر َو ُي َسا ِر ُعونَ ِف (و َي ْأ ُم ُرونَ بِ ْالَ ْع ُر ِ
وف َو َي ْن َه ْونَ َع ِن ْ ُال َ ْ َْ
الـ َـر ِ
ات)((( وقوله تعاىل َ
ات)(((،الباقيات الصاحلات أعامل اخلري وأفعال الرب التي يبقى ذكرها بعد ي ِ َْ
ال ْ َ
صاحبها والعمل هبا حيتاج اىل هدايته تعاىل وتوفيقه .
ين إِلى َر ِف ِ
يع الدَّ َر ِ
جات). ِ
(الساع َ
رفيع الدرجات :أعىل مراتب اجلنة ودرجاهتا وقيل هي الفردوس األعىل ويف
احلديث ( :ان اجلنة مائة درجة بني كل درجتني منهام مثل ما بني السامء واالرض
واعىل درجاهتا الفردوس وعليها يكون العرش وهي اوسط يشء يف اجلنة ومنها
((( تتفجر اهنار اجلنة فاذا سألتم اهلل فاسألوه الفردوس ).
اللهم نسألك الفردوس االعىل مع حممد وآله الطاهرين فان الكون معهم
ش َق ِد ٌير َوبِاالجا َب ِة َج ِد ٌير
فردوس اعىل ال حيوزه اال ذو حظ عظيم (إ َّن َك َعىل ُك ِّل َ ْ
الر ِ ِ َ
اح َ
ني) . بِ َر ْحَتِ َك ياأ ْر َح َم َّ
(( ( –البقرة.148
(( ( –ال عمران .114
(( ( –مسند امحد بن حنبل،باب حديث معاذ بن جبل241/5،
المناجاة الثامنة
مناجاة المريدين
ْم الله الرَّحْم ِن الرَّح ِ
ِيم بِس ِ
الط ُر َق َعىل َم ْن َ ْل َت ُك ْن َدلِ َيل ُه َوما َأ ْو َض َح َ
احلقَّ ِع ْن َد َم ْن هَ َد ْي َت ُه ( ُس ْبحا َن َك ما َأ ْض َي َق ُّ
ود َع َل ْي َك الط ُر ِق لِ ْل ُو ُف ِ
ب ُّينا ِف أ ْق َر ِول إِ َل ْي َك َو َس ِّ ْالو ُص ِ َسبِ َيل ُه ،إِهلِي َف ْ
اس ُل ْك بِنا ُس ُب َل ُ
ين ُه ْم بِالبِدا ِر باد َك ا َّل ِذ َ
ل ْقنا بِ ِع ِ يدَ ،و َأ ْ ِ الش ِد َ
ري َّ يد َو َس ِّه ْل َع َل ْينا َ
الع ِس َ َو َق ِّر ْب َع َل ْينا ال َب ِع َ
اك ِف ال َّل ْيلِ َوال َّنها ِر َي ْع ُبدُ ونَ َو ُه ْم إِ َل ْي َك ُيسا ِر ُعونَ َوبا َب َك َعىل الدَّ وا ِم َي ْط ِر ُقونَ َوإ َّي َ
الرغائِ َب َو َأن َْج ْح َت َ ُل ُم ين َص َّف ْي َت َ ُل ْم املَشا ِر َب َو َب َّلغْ ت َُه ُم َّ ِم ْن هَ ْي َبتِ َك ُم ْش ِف ُقونَ ،ا َّل ِذ َ
الت َ ُل ْم َضامئِ َر ُه ْم ِم ْن ُح ِّب َك َو َر َّو ْيت َُه ْم املَطالِ َب َو َق َض ْي َت َ ُل ْم ِم ْن َف ْض ِل َك املَآ ِر َب َو َم َ
قاص ِد ِه ْم َح َص ُلوا. يذ ُمناجاتِ َك َو َص ُلوا َو ِم ْن َك َأ ْقىص َم ِ شبِ َك ؛ َفبِ َك إِىل َل ِذ ِ صاف ِ ِْم ْن ِ
ني َع ْن ِذ ْك ِر ِه بالغاف ِل َ
ِ ف َع َل ْي ِه ْم عائِدٌ ُم ْف ِض ٌل َو الع ْط ِ ني َع َل ْي ِه ُم ْقبِ ٌل َوبِ َ َفيا َم ْن ُه َو َعىل ا ُمل ْقبِ ِل َ
وف ؛ َأ ْس َأ ُل َك َأنْ َ ْت َع َلنِي ِم ْن َأ ْو َف ِر ِه ْم ِم ْن َك ود َع ُط ٌ وف َوبِ َج ْذ ِبِ ْم إِىل بابِ ِه َو ُد ٌ يم َر ُؤ ٌَر ِح ٌ
زَلِ ْم ِم ْن ِو ِّد َك ِق ْسام َو َأ ْف َض ِل ِه ْم ِف َم ْع ِر َفتِ َك َن ِصيبا، وأ ْج ِ الهم ِع ْن َد َك َم ْن ِز ًال َ َ
َح َّظا َوأ ْع ُ ْ
رادي َو َل َك ال ي َك ُم ِ ْص َف ْت َن ْح َو َك َر ْغ َبتِي َف َأن َْت ال َغ ْ ُ هتِي َوان َ َ َف َقدْ ا ْن َق َط َع ْت إِ َل ْي َك ِ َّ
109
................................................................................. 110رشح املناجاة الخمس عرشة
ٍ
طريق غري ش ُه َي ْو َم ا ْل ِق َيا َم ِة َأ ْع َمى)(((فان سلوك ِذ ْك ِري َفإِنَّ َل ُه َم ِع َ
يش ًة َضنك ًا َو َن ْح ُ ُ
طريقه تعاىل ُيض ِّيق عليه مسالك اهلداية فال يكون إال ضنكا ال هيتدي إىل يشء.
(وما َأ ْو َض َح َ
الحقَّ ِع ْن َد َم ْن َه َد ْي َت ُه َسبِ َيل ُه). َ
وهل أوضح من طريق احلق إن كنت أنت اهلادي؟ فان داللة الطريق ال تكون
إال عن طريق صاحبه فهو اعلم بمسالكه واعرف بأحواله وأموره.
ول إِ َل ْي َك). اس ُل ْك بِنا ُس ُب َل ُ
الو ُص ِ (إِل ِهي َف ْ
وهو إشارة للتوفيق إىل اهلداية ؛ إذ السلوك إىل سبيله تعاىل ال يكون إال باهلداية
عن طريقه ،وهو ارتباط حقيقي باهلل تعاىل ،واندكاك بإرادته ،إذ ال يمكن استقاللية
اإلنسان للوصول إليه تعاىل ما مل يكن بالتوفيق منه؛ وال يعني هذا إجبار املرء عىل
سلوك الطريق ،بل هو تسديد وتوفيق أي هتيئة أسباب الوصول ،كام لو أمر السيد
عبده بعمل يشء فالبد أن خييل بينه وبني أسباب إنجاحه وإزالة ما يعرقل عن طريقه
أسباب الوصول إىل هدفه وحتقيق نجاحه .
ود َع َل ْي َك).
الط ُر ِق لِ ْل ُو ُف ِ
ب ُّ(و َس ِّي ْرنا ِفي أ ْق َر ِ
َ
فاختيار الطريق القريب يشري إىل تيسري الوصول ؛ ألنك إذا حرصت عىل حتقيق
أمر ما فالبد من إجياد ما يكون يف حتقيقه قريبا؛ وهو سلوك الطرق القريبة واملسالك
اليسرية ،وهي إشارة إىل رفع أسباب املوانع املقربة إىل اهلل تعاىل لتيسري اهلداية ،ورفع
العلل املعرقلة من إتيان العمل .
(( ( –طه.124
مناجاة املريدين113.................................................................................................
الش ِد َ
يد). يد َو َس ِّه ْل َع َل ْينا َ
الع ِس َير َّ ( َو َق ِّر ْب َع َل ْينا ال َب ِع َ
حيث انرشاح صدر اإلنسان سبب يف اهلداية والتأييد ،واإلرادة اإلهلية تتدخل يف
نفسي ًا يف حتمل املشاق للوصول
الكثري من هذه األمور كأن يكون لإلنسان استعداد َّ
إىل العمل ،أو كأن يكون لإلعجاز أثره يف تقريب البعيد وتسهيل العسري ،أو يف
تقليل الكثري وتكثري القليل؛ كام يف تعداد نِ َع ِم اهلل تعاىل عىل املسلمني ؛حيث نرصهم
(وا ْذ ُك ُرو ْا إِ ْذ
بتوهني عدوهم ،واالعتقاد بكثرة املسلمني مع إهنم قليل قال تعاىل َ :
ال َف َك َّث َر ُك ْم)((( حيث أعان اهلل املسلمني بأهنم يرون عددهم قليال لتنترص ُكنت ُْم َق ِلي ً
وه ْم إِ ِذ ا ْل َت َق ْيت ُْم ِف َأ ْع ُينِ ُك ْم (وإِ ْذ ُي ِر ُ
يك ُم ُ إرادهتم وتقوى عزيمتهم فقال تعاىل َ :
ال)((( حيث ُي َّيل لكم أن عددهم قليل لئال تتصوروا خالف ذلك ،وعدم َق ِلي ً
التكافؤ قد يؤدي إىل هزيمة املسلمني؛ فأعاهنم اهلل هبذا ونرصهم باملعجز ،حيث
التدخل اإلهلي يف حسم األمور لصالح املؤمن كثرية موارده يتحقق عند صدق نية
املؤمن وإخالصه .
ين ُه ْم بِالبِدا ِر إِ َل ْي َك ُيسا ِر ُعونَ ). (و َأ ْل ِح ْقنا بِ ِع ِ
باد َك ا َّل ِذ َ َ
بادر إىل اليشء أي سارع إليه ،واملبادرة فيها نوع اهتامم يدفع اإلنسان إىل العمل
فهم – أي العباد الصاحلون – يسارعون إىل مبادرة العمل الذي يقرهبم إىل اهلل تعاىل.
واالحلاق :بمعنى االرتقاء إىل درجتهم والوصول إىل منزلتهم .
(و َأ ْن َج ْح َت َل ُه ُم َ
المطالِ َب). َ
النجاح إصابة الطلب وبلوغ الغاية واهلدف ،واملطالب :ما كانوا يأملون من
الوصول إىل معرفتك ،حيث استجبت هلم يف بلوغ غاياهتم من الوصول إىل ما
أرادوه .
(و َق َض ْي َت َل ُه ْم ِم ْن َف ْض ِل َك َ
المآ ِر َب). َ
املــآرب :احلاجات ،وقضيت هلم حاجاهتم بعد أن علمت منهم الصدق
واالخالص .
الت َل ُه ْم َضمائِ َر ُه ْم ِم ْن ُح ِّب َك).
(و َم َ
َ
بعد ان افرغوا ضامئرهم عن حب غريك ملئوها بحبك ،حيث ال يمكن ان يكون
ي ِف َج ْو ِف ِه)االحزاب 4فان مزامحة حبه مع حب غريه ( َما َج َع َل َّ ُ
الل لِ َر ُجلٍ ِم ْن َق ْل َب ْ ِ
حبه من قبل حب الغري من أهم أسباب خلل املعرفة والتوجه اليه سبحانه ،فانشغال
اإلنسان بحب غري اهلل يشغله عن التفرغ حلبه ،وهذه مشكلة الكثري ممن يشكو من
عدم التوجه إليه ،وقسوة القلب الكامنة يف نفوس غري املنقطعني إليه.
................................................................................. 116رشح املناجاة الخمس عرشة
ين َع ْن ِذ ْك ِر ِه َر ِح ٌ
يم َر ُؤ ٌ
وف). بالغاف ِل َ
ِ (و
َ
مع غفلتهم فهو رحيم هبم رؤوف ،تعطفا وحتننا.
مناجاة املريدين117.................................................................................................
احلظ :النصيب ،واملنزلة :الرفعة التي يناهلا العبد بطاعته ،أي جتعل يل سببا لنيل
طاعتك واالهتامم بفرائضك ،حيث اشار اىل النتيجة وأراد منها الوسيلة ،اذ نتيجة
الطاعة هي املنزلة الرفيعة.
َ
(وأ ْجزَ لِ ِه ْم ِم ْن ِو ِّد َك ِق ْسما).
حطب جزل اذا عظم وغلظ ،فهو جزل ،ثم استعري يف العطاء فقيل اجزل له يف
العطاء اذا أوسعه ،والود بمعنى احلب أي اجعل يل نصيبا عظيام من حمبتك حتى
اكون يف طاعتك متلذذا بعبادتك ،راغبا يف خدمتك ؛ الن احلب داعي القرب،
وسبب للعمل والرضا .
ٌ
(و َأ ْف َض ِل ِه ْم ِفي َم ْع ِر َفتِ َك َن ِصيبا).
َ
سبب يف البحث عن موجبات
فباملعرفة ينال الوصول اىل رضاه سبحانه ،فهي ٌ
الطاعة.
( َف َقدْ ا ْن َق َط َع ْت إِ َل ْي َك ِه َّمتِي).
هم باألمر :اذا قصده وعزم عليه ،وقيل :هو اول العزم وقد يطلق عىل العزم
................................................................................. 118رشح املناجاة الخمس عرشة
القوي ،أي مل أجعل مهة إىل غريك إال مهتي اليك ،حيث انقطعت بالرجاء لطاعتك.
(وا ْن َص َر َف ْت َن ْح َو َك َر ْغ َبتِي).
َ
ٍ
متعد ب(يف) اذا رغب فيه ،أي اراده رغب اىل اهلل رغبة :اذا دعاه وسأله وهو
ويتعدى ب(عــن) اذا رغب عنه أي كرهه ،واالنــراف التوجه اىل اليشء أي
توجهت اليك راغبا يف ثوابك.
( َف َأ ْن َت ال َغ ْي ُر َك ُم ِ
رادي).
حيث اراديت فيك دون سواك ،فقد انقطعت عمن سواك ،وآيست عام دونك.
هادي). (و َل َك ال لِ ِس َ
واك َس َه ِري َو ُس ِ َ
السهر :عدم النوم يف الليل كله او بعضه ،و مثله السهد بدل الراء دال ،والظاهر
هو سهر فيه زيادة الوجل والقلق من أمل وغريه ،فاذا كان السهر ألمور الدنيا فهو
مذموم؛ واذا كان لطاعة اهلل فهو ممدوح .وختصيص السهر له احرتازا من سهر اهل
الدنيا هلوا و عبثا ،بل سهره طاعة وعبادة.
االتصال القلبي به وتعلق النفس بمحبته ،ولعله اراد املوت حيث هو كناية عن
حسن الظن باهلل تعاىل واالطمئنان اىل رمحته.
(وإِ َل ْي َك َش ْو ِقي).
َ
الشوق لغة :نزاع النفس اىل اليشء ،وعرفا؛ قيل :هو احتياج القلب اىل لقاء
املحبوب .واتبع طلب الشوق بطلب العمل ؛ الن العمل من لوازم الشوق الصادق
؛ فان من صدق شوقه اىل حمبوب اجهد نفسه يف االعامل املوصلة اليه .والوله هو
(و ِف
احلنني ،ولعله درجة اقوى من الشوق واشد من احلب ،حيث قال عليه السالم َ
َ َم َّبتِ َك َو َلِي) ،النه مرتبة اعىل من احلب فشوقه اليه وحمبته فيه سبحانه.
(وإِلى َه َ
واك َصبا َبتِي). َ
والصبابة شدة الشوق ،وهي مأخوذة من الصبا فهو يتصابى ،أي هيوى بفرط
حب ٍ
يشء آخر ،فكام الصبي يفرغ نفسه عن كل يشء عند هواه دون ان يكون معه ُ
ألمر فكذلك الصبابة افراغ النفس عن التعلق بأمر دون بقية االمور ،فتكون فيه
صبابة.
(و ِر َ
ضاك ُبغْ َيتِي). َ
البغية :الطلب فاقىص طلبتي رضاك.
حاجتِي).
ُك َ(و ِر ْؤ َيت َ
َ
كام ارشنا هي الرؤية القلبية ،وهي غاية املعرفة ،او هو لقاء املوت؛ ألجد ما
عندك خري ًا وابقى.
................................................................................. 120رشح املناجاة الخمس عرشة
وار َك َط َلبِي).
(و ِج ُ
َ
املجاورة كناية عن القرب ،فكلام قرب االنسان اىل طاعته تعاىل ،كأنه جاوره
وانشغل عن جماورة غريه.
(و ُق ْر ُب َك غا َي َة ُسؤْ لِي).
َ
وهو بيان ملا سبق .
راحتِي).
(و ِفي ُمناجاتِ َك َر ْو ِحي َو َ
َ
كيف ال يكون كذلك؟ حيث اخللوة مع من يعلم مهي وغمي؛ فان راحة املرء
ال تكون إال مع من يعرف ما يف نفسه فيكون قريبا اليه ،وهو بعكس من ال يقف
عند مهه حيث ال يستطيع ان يبث ما يعتلج يف نفسه ،واملناجاة معه بث لشكوى
النفس واإلفصاح عام يعرتهيا من هم؛ فيجد يف ذلك راحته ،بل جيد فيه روحه التي
اضاعتها اهلموم ،وفرطت هبا االحزان.
فاء ُغ َّلتِي). (و ِع ْن َد َك َد ُ
واء ِع َّلتِي َو ِش ُ َ
الغلة :هي الغيظ ،حيث يف مناجاتك تنطفئ حرارة غيظ نفيس ،ويربد أوارها
وهليبها ،ويسكن يف مناجاتك ما يعرتي نفيس من دواعي الشهوة واهلوى .
(و َب ْر ُد َل ْو َعتِي َو َك ْش ُف ُك ْر َبتِي).
َ
برد اللوعة كناية عن استقرار النفس وسكوهنا ،واطمئنان القلب بام يضمن معه
هتدئة كل اسباب القلق واالضطراب.
مناجاة املريدين121.................................................................................................
ي ُّب َك َو ُح َّب ُك ِّل َع َملٍ ني ؛ َأ ْس َأ ُل َك ُح َّب َك َو ُح َّب َم ْن ُ ِ آمال ا ُمل ِح ِّب َ
ني َوياغا َي َة ِ ا ُمل ْش ِ
تاق َ
اك قائِد ًا إِىل واك َو َأنْ َ ْت َع َل ُح ِّبي إِ ّي َ وص ُلنِي إِىل ُق ْربِ َكَ ،و َأنْ َ ْت َع َل َك َأ َح َّب إِ َ َّل ِمَّا ِس َ
ُي ِ
ل َوان ُْظ ْر بِ َع ْ ِ
ي ِر ْضوانِ َك َو َش ْو ِقي إِ َل ْي َك ذائِد ًا َع ْن ِع ْصيانِ َكَ ،وا ْمن ُُن بِال َّن َظ ِر إِ َل ْي َك َع َ َّ
عاد َو ُ
احل ْظ َو ِة اإلس ِ
ْ اج َع ْلنِي ِم ْن َأ ْهلِ
ص ْف َعنِّي َو ْج َه َك َو ْ الع ْط ِ
ف ا َّيل َوال َت ْ ِ الو ِّد َو َ
ُ
ني ). الر ِ ِ
اح َ يام ُ َ
ِع ْن َد َك ُ ِ
يب ياأ ْر َح َم َّ
مناجاة املحبني125....................................................................................................
جوارك القريب الروحي ثم يغادر هذا اجلوار ليطلب مسكنا غريه يأنس به؟ وهو
استفهام استنكاري واضح من نتيجة الفرض .
اص ْط َف ْي َت ُه لِ ُق ْربِ َك َووال َيتِ َك).
اج َع ْلنا ِم َّم ِن ْ
(إِل ِهي َف ْ
ٌ
جعل تكويني ،أي ان يصريه اىل ما يؤهله الكتساب هذا القرب، اجلعل هنا
وهنا ليس عىل سبيل االجبار بل عىل سبيل التأهيل واملوافقة ،واالصطفاء بمعنى
االختيار وقد ذكرناه يف موارد عدة سابقة ،والقرب هو القرب القلبي ومعناه
اليقني ،والوالية بمعنى السلطنة هنا ،ومن ثم تدخل الرعية للسلطان حتت سلطنته
.والرعية بالعول حتت سلطة الزوج لزوجته ،والرعية بامللك ف ُتدخل اململوك حتت
رعيته ،وواليته تعاىل بمعنى سلطنته بام تشمل عنايته أي ربوبيته تعاىل ليكون ما
يقابله يف عبوديته داخال.
(و َأ ْخ َل ْص َت ُه لِ ِو ِّد ّك َو َم َح َّبتِ َك).
َ
اخلصته خلوصا :سلم ونجا ،ومنه االخالص الذي ال يشوبه يشء من دونه
يف الطاعة وغريه يف العبادة ،والود بمعنى املودة وهي املحبة اخلالصة ،وهنا بمعنى
استخلصه ملودته وحمبته أي التوفيق الذي يناله العبد من ربه سبحانه وتعاىل.
(و َش َّو ْق َت ُه إِلى لِقائِ َك َو َر َّض ْي َت ُه بِ َقضائِ َك).
َ
الشوق :ميل النفس اىل اليشء وتعلقها به حبا ،واللقاء بمعنى املقابلة والوصول،
ولقاؤه تعاىل هو املصري اليه سبحانه وتعاىل والقدوم عليه .
وحني سمع املسلمون ما يرويه النبي صىل اهلل عليه وآله يف لقاء اهلل تعاىل قالوا
مناجاة املحبني127....................................................................................................
–:يا رسول اهلل انا نكره املوت ،فقال ليس ذلك ولكن املؤمن اذا حرضه املوت برش
برضوان اهلل وكرامته فليس يشء احب اليه بام أمامه فأحب لقاء اهلل وأحب اهلل
لقاءه ،وان الكافر اذا حرض برش بعذاب اهلل فليس يشء اكره اليه مما امامه كره لقاء
اهلل فكره اهلل لقاءه .
اذن فلقاء اهلل من قبل العبد مبني عىل توفر قناعات العبد بأنه سيلقى من رب
غفور كريم كل كرامة ،مقابل ايامنه ورضاه ،فهو منه تعاىل ال عىل سبيل االجبار بل
عىل نحو التوفيق واملعرفة التي جتعل العبد طائعا قانعا .
ضاكَ ،و َأ َع ْذ َت ُه ِم ْن َه ْج ِر َك
(و َمن َْح َت ُه بِال َّن َظ ِر إِلى َو ْج ِه َك َو َح َب ْو َت ُه بِ ِر َ
َ
الك). َو َق َ
النظر اىل وجهه تعاىل ال عىل سبيل احلقيقة بل عىل نحو املجاز وهو النظر القلبي
الذي مرتبته اليقني ،وحالته السكينة ،وصفته الوقار .واحلبوة بمعنى االعطاء بال
جزاء ؛ كام يف اعطاء الولد الكبري بعض متعلقات والده املتوىف بدون مقابل ،ملجرد
كونه االكرب فهي حبوة .
(و َح َب ْو َت ُه بِ ِر َ
ضاك). َ
أي اعطيته من رضاك بام ال يقابل ما بذله هو من الطاعة ،فكأن املحبو أخذ
اجلزاء ال ملقابل الطاعة ،بل ان هذه الطاعة كاهنا ال يشء مقابل عطائه سبحانه ،ال
ان يعطي دون عمل ،بل عمل ال يقاس مع عطائه فيكون كالاليشء .
وأعذته من العوذ ،والعياذة بمعنى اللجوء .واعتصم أي جلأ واعتصم بك من
................................................................................. 128رشح املناجاة الخمس عرشة
اهلجر وهو الرتك والرفض ،فهو يستعيذ به تعاىل من الرفض الذي سببه معصية
العبد وتقصريه ،ويطلب منه القرب حيث عرب عنه عليه السالم بالنظر اىل وجهك
أي اليقني الذي يمأل قلب املحب حلبيبه .
ورفع ما حيول بينه وبني الطاعة وما يبعده عن املعصية ،وليس هنا من باب االجبار
بل من باب االستحقاق والتفضل أي استحقاق العبد خللوص نيته وتفضل اهلل له
من باب جوده وكرمه .
(و َه َّي ْم َت َق ْل َب ُه إلرا َدتِ َك).
َ
هام باليشء احبه اىل حد العشق حتى كأنه هييم عىل وجهه من شدة احلب فهو
هائم ،أي جعلت قلبه متعلقا إلرادتك وهي طاعتك ورضاك .
اخ َل ْي َت َو ْج َه ُه َل َك).
شاه َدتِ َك َو ْ
لم َاج َت َب ْي َت ُه ُ
(و ْ
َ
االجتباء بمعنى االختيار كام سبق ،واملشاهدة اليقني حتى ان القلب ينظر بعني
اليقني واملعرفة ،وأخليت من باب خىل اذا تركه واخليت بني زيد وعمرو اذا تركته
بينه وبني عمرو ،واخليت وجهه لك ،حيث التوجه كله هلل تعاىل أي االقبال اليه
سبحانه دون غريه .ومعنى ذلك تفرغه هلل وخلو قلبه عن غري طاعته .
(و َف َّر ْغ َت ُفؤا َد ُه لِ ُح ِّب َك).
َ
الفراغ من اليشء ،أي االنتهاء منه ،وهنا بمعنى عدم انشغاله بسواه فقد فرغ قلبه
حلبه وطاعته.
(و َر َّغ ْب َت ُه ِفيما ِع ْن َد َك).
َ
رغب يف اليشء اذا سأله وأراده ،واذا تعدى بـ(عن) بمعنى كرهه ،ويف التشديد
يتعدى بنفسه كام يف املقام ،وهنا رغبت أي جعلته راغبا مريدا وجعلت ارادته فيام
عندك من الثواب والنعيم ،أي وفقته لطاعتك.
................................................................................. 130رشح املناجاة الخمس عرشة
(و َأ ْل َه ْم َت ُه ِذ ْك َر َك).
َ
االهلام ما يلقى يف الروع ،يقال :اهلمه اهلل ،أي القى يف روعه .والذكر يشمل الثناء
والدعاء والصالة وقراءة القرآن ،أي ذكر اهلل يف كل حال ،بمعنى ان يكون قد القي
يف روعه ذكره تعاىل ،والذكر اعم من اللساين والقلبي ،وارشفهام الثاين ،والقلبي
ما يكون مودعا وما يكون مستقرا وارشفهام الثاين ،الن االستقرار يف القلب يعني
اندكاكه بحرضة قدسه ،وهو يف عامل امللكوت يطوف بمعرفته حول جالل قدسه.
(و َأ ْو َز ْع َت ُه ُش ْك َر َك).
َ
أي اهلمه شكره بولع وتعلق ال ينحط يف حلظة من حلظات وهنه ،او حالة من
حاالت ضعفه ،فهو شاكر له يف كل حال وعىل أي حال ،وهو من قوله تعاىل:
(ر ِّب َأ ْو ِز ْعنِي َأنْ َأ ْش ُك َر نِ ْع َمت ََك ا َّلتِي َأن َْع ْم َت َع َ َّ
ل)(((. َ
طاعتِ َك).
(و َش َغ ْل َت ُه بِ َ
َ
حيث ال شغل سوى ذكره وعبوديته له سبحانه .
(و َص َّي ْر َت ُه ِم ْن صالِ ِحي َب ِر َّيتِ َك).
َ
وصيه موفقا بام جعل فيه من اسباب التوفيق ،ورفع عنه
ّ التصيري بمعنى اجلعل،
موانع ما خيالف ذلك ،وصاحلي بريته أي من احسنهم ،حيث هم من اصلحتهم
طاعتهم ومل تفسدهم ذنوهبم .
(( ( –الفرقان.12
................................................................................. 132رشح املناجاة الخمس عرشة
به ،وهنا وصف للجزع الذي يصيب املحب عند شوقه حلبيبه فال يذكره إال بالزفرة
وعب بالدهر
واألنة ،وهو اشارة اىل شوق املحب العارف اىل حبيبه؛ ربه ورامحهَّ ،
عند قوله (ودهرهم) أي طول دهرهم وهو كل حالة عيشهم ووجودهم .
ساج َد ٌة لِ َع َظ َمتِ َك َو ُع ُيو ُن ُه ْم ِ
ساه َر ٌة ِفي ِخدْ َمتِ َك). باه ُه ْم ِ
(ج ُِ
هذا حال املحبني الذين ال يرتاحون إال لذكر رهبم ،حيث جباههم وقلوهبم يف
طاعته ،اذ السجود يعني االنصياع اىل عظمته ،وقلوهبم يف حال االنشغال بذكره،
فلم تنفصل حالة سجودهم عن حالة خشوعهم.
وع ُه ْم سائِ َل ٌة ِم ْن َخ ْش َيتِ َك َو ُق ُلو ُب ُه ْم ُمت ََع ِّل َق ٌة بِ َم َح َّبتِ َك).
(و ُد ُم ُ
َ
هذه العالقة بني العني والقلب تكشف عن وحدة املوضوع االرتباطي بعامل
املعرفة ،اذ االنفصال بني عضو عن عضو ٌ
دليل عىل عدم الرتابط الروحي بني
االعضاء وكأن كل عضو مشغول عن حال العضو اآلخر ،وهو اشارة اىل انشغال
ٍ
قضية القلب الذي جيمع بني االعضاء ويبعدها عن التشتت واالفرتاق لتتحد يف
واحدة ،فالعني تدمع والقلب خيشع متعلقا بمحبته ال ان يكون بكاؤه فارغا عن
معرفته ،وهذا االرتباط بني العني والقلب ،اشارة لرتابط اعضائه فيام بينها يف املعرفة
والتوجه حيث يتوجه بجوارحه وجوانحه ال منفصال ،وال ذاكرا ساهيا ،او باكيا
منشغال .
(و َأ ْفئِ َد ُت ُه ْم ُم ْن َخ ِل َع ٌة ِم ْن َمها َبتِ َك).
َ
انخلع أي زال عن مكانه ،والفؤاد القلب ،واهليبة حالة االجالل التي حتدثها
مناجاة املحبني133....................................................................................................
خمافتها فتحرك فيها دواعي الفزع ،لذا فان أفئدهتم تنخلع من هيبة ذكره وعظيم
جالله ،سبحانه ما اشد ذكره عىل نفوس عارفيه ،واعظم امره عىل قلوب مريديه!
(يا َم ْن َأ ْن ُ
وار ُقدْ ِس ِه َال ْبصا ِر ُم ِح ِّب ِ
يه رائِ َق ٌة).
القدس بمعنى الطهارة ،واألنوار مجع نور وهي ما تنكشف به االشياء ،وهنا
بمعنى اهلداية والعلم حيث تنكشف به ظلامت الباطل ،أي واضحة من صفائها
الن الرائق الصايف الذي ال خيالطه يشء ،ولشدة صفائه فهو واضح جيل ،وملا كانت
هدايته واضحة املعامل ال يشوهبا يشء فقد كانت رائقة لكن ملن يصل اىل حالة املعرفة
وهي املحبة والتعلق به ،شوقا وتعلقا.
يه شائِ َف ٌة).
وب عا ِر ِف ِ
حات َو ْج ِه ِه لِ ُق ُل ِ
(و ُس ْب ُ
َ
سبحات وجهه أي تقديسه وتنزهيه ،والتشوف طموح البرص وهنا تستعمل يف
تعلق اآلمال وطلبها ،وكل ما من شأنه يشري إىل تقديسه وتنزهيه ،يطمح به املحب
اىل الوصول اليه وهو قربه وجماورته ،وذلك من خالل اليقني الذي يمأل قلب
املحب الن حبه منشأه اخالصه له تعاىل.
ين). الم ْش ِ
تاق َ وب ُ(يامنى ُق ُل ِ
ُ
املنى مجع امنية وهي الرغبة التي جيدها االنسان يف نفسه ،والشوق حالة وجدانية
تبعث عىل التعلق واإلرادة ،فحبه تعاىل هو أمنية الشائق اىل قربه وتعلقه بحبه.
آمال ا ُمل ِح ِّب َ
ني). (وياغا َي َة ِ
َ
الغاية اهلدف الذي يسعى من اجله للوصول اىل النتيجة ،وآمال املحبني اقىص
................................................................................. 134رشح املناجاة الخمس عرشة
غاياهتا الوصول اليه حيث ال تعلق بيشء كام يتعلق املحب بحرضة اجلالل ،فان اهل
الدنيا تتعدد غاياهتم وتتشتت اراداهتم لغاية الوصول اىل اهدافهم ،لكن املحب بعد
ان فرغ قلبه عن حب الدنيا تعلق بحبه تعاىل.
(أ ْس َأ ُل َك ُح َّب َك َو ُح َّب َم ْن ُي ِح ُّب َك).
َ
ال يتحدد هدف املحب بحبه تعاىل ،بل يكون ذلك سببا حلب من حيب ،وهذا
أجىل مصاديق احلب احلقيقي؛ فان احلب ال يكون حبا ما مل حيب اآلخرين ألجل
حبيبه ،وهي مالزمة نفسية جيدها اهل العشق حينام تتعلق اراوحهم بمن حيبون
حلب املحبني ألجله ،وهي غاية رشيفة ال جيدها اال من تعلق بحبه تعاىل.
وص ُلنِي إِلى ُق ْربِ َك).
(و ُح َّب ُك ِّل َع َملٍ ُي ِ
َ
اذن مالزمة احلب له تعاىل بثالثة حلاظات االول حبه تعاىل ليتفرع منه ثانيا حب
من حيبه سبحانه وتالزمه حب العمل املوصل اىل حبه تعاىل وهذا الثالثي نفيس
رصف وعميل كذلك اذ النفس جتول بني حب احلبيب وبني حب ما حيبه احلبيب
لتكتمل عالقة احلب احلقيقي بينهام .
(و َأنْ َت ْج َع َل َك َأ َح َّب إِ َل َّي ِم َّما ِس َ
واك). َ
وهذا غاية احلب بعد ان يفرغ كل قلبه عن حب غريه؛ ليكون ما سواه غري منظور
له بل جل تعلقه بحبه تعاىل.
(و َأنْ َت ْج َع َل ُح ِّبي إِ ّي َ
اك قائِد ًا إِلى ِر ْضوانِ َك). َ
فحصيلة احلب البد ان يتوجها عمل يقاد من خالله لرضا حمبوبه ،فاحلب بدون
مناجاة املحبني135....................................................................................................
عمل؛ انقطاع عن حقيقة احلب التي يفرضها يف الوصول اىل رضا حبيبه ،وكام قيل
أحب مطيع((( وهذا اثر نفيس مالزم حلقيقة احلب وجدانا.
ان املحب ملن َّ
(و َش ْو ِقي إِ َل ْي َك ذائِد ًا َع ْن ِع ْصيانِ َك).
َ
الذود الطرد او املنع والدفع ،والشوق حالة نفسانية تتعلق بأمر تسعى اىل
حتقيقه ،فكام ان حبي لك يا رب يقودين اىل رضاك ،فاجعل حبي هذا سببا يف منعي
عن سخطك وعصيانك ،وهو أمر تالزمي عقيل ،فضال عن كونه تالزمي طبيعي
بل وعريف كذلك.
(وا ْمن ُُن بِال َّن َظ ِر إِ َل ْي َك َع َل َّي).
َ
املن النعمة الثقيلة العظيمة ،وهل اعظم من نظره تعاىل اىل عبده حيث ترتى
نعمه ورمحته وعطاؤه؟
الي).
ف َّالع ْط ِ (وا ْن ُظ ْر بِ َع ْي ِن ُ
الو ِّد َو َ َ
نظره تعاىل رمحته لتنزهه عن اجلسمية ،والعطف بمعنى الشفقة والتحنن ،فنظره
اىل عبده يغدق عليه رمحته دون انقطاع ،وكرمه دون توقف ،وعطاءه دون نضوب.
(وال َت ْص ِر ْف َعنِّي َو ْج َه َك).
َ
انرصاف الوجه بمعنى انرصاف رمحته عن عباده ،وهذا اشد ما يكون عليه العبد
من اخليبة واخلرسان ،حيث تنقطع موارد الرمحة وتنضب اسباب العطاء ،فيكون
مرصوفا عن التوفيق ،ومطرودا عن العناية.
الح ْظ َو ِة ِع ْن َد َك).
عاد َو ُ اج َع ْلنِي ِم ْن َأ ْهلِ ْ
اإلس ِ (و ْ
َ
االسعاد من السعادة ،وهو بحكم املفعول املطلق ،جاء للتأكيد عىل السعادة
والرعاية .واحلظوة بمعنى الدرجة واملنزلة ،مأخوذ من احلظ وهو النصيب ،بمعنى
ان يكون من السعداء بمحبته ،واهل املنزلة والرفعة عنده.
ني) ارحم ِ
الراح َ َ يب يا
م ُ(يا ُ ِ
ثم خيتم دعاءه بصفة املجيب حتريا لإلجابة ،وتلمسا للكرم واالستزادة؛ فانه
ارحم الرامحني .
المناجاة العاشرة:
مناجاة المتوسلين
ْم الله الرَّحْم ِن الرَّح ِ
ِيم بِس ِ
واط ُف َر ْأ َفتِ َك َوال ِل َذ ِر َيع ٌة إِ َل ْي َك إِ ّال َعوا ِر ُف
س ِل َو ِس َيل ٌة إِ َل ْي َك إِ ّال َع ِ
( إِهلِي َل ْي َ
الغ َّم ِةْ ،
فاج َع ْل ُهام ِل َس َببا إِىل َن ْيلِ الر ْح َِة َو ُم ْن ِق ِذ ا ُال َّم ِة ِم َن ُ َر ْحَتِ َك َو َش َ
فاع ُة َنبِ ِّي َك َنبِ ِّي َّ
ي ُها ِل ُو ْص َل ًة إِىل ال َف ْو ِز بِ ِر ْضوانِ َكَ ،و َقدْ َح َّل َرجائِي بِ َح َر ِم َك َر ِم َك ُغ ْفرانِ َك َو َص ِّ ْ
اج َع ْلنِي ِم ْن ي َع َم ِل َو ْ اخل ْ ِ يك َأ َم ِل َو ْ
اختِ ْم بِ َ ود َك َف َح ِّققْ ِف َ ناء ُج ِ َو َح َّط َط َم ِعي بِ َف ِ
137
مناجاة املتوسلني139..................................................................................................
(( ( –املفردات.
................................................................................. 140رشح املناجاة الخمس عرشة
وف بِا ْل ِع َب ِ
اد)((( وعىل هذا فالرأفة اخص من الرمحة . (و ّ ُ
الل َر ُؤ ٌ للتأديب قال تعاىل َ
وهبذا فان االمام زين العابدين عليه السالم يف هذا املقطع جيعل الوسيلة اليه
عواطف الرأفة االهلية غري املنقطعة عن عباده سبحانه ،وما اعظمه من توسل
وتقرب اليه ،وال ينايف هذا احلث عىل التوسل بأهل البيت عليهم السالم؛ فأهنم
مظاهر الرأفة ،وجتليات الرمحة الربوبية ،وقد قال بعضهم :ان رأفته تعاىل ارسال
النبيني للبرش هلدايتهم اىل طريق رضاه ودليل طاعته ،وليبعدوهم عن اسباب
معصيته ،وائمة اهل البيت عليهم السالم هلم ما للنبيني من عظيم اهلداية واسباب
الطاعة .
(وال لِي َذ ِر َيع ٌة إِ َل ْي َك إِ ّال َعوا ِر ُف َر ْح َمتِ َك).
َ
الذريعة :الوسيلة واجلمع الذرائع ،وعوارف بمعنى املعرفة وهي مجعها ،كام يف
عوامل مجع عامل فجمعها بالواو متعارف .
الر ْح َم ِة).
فاع ُة َنبِ ِّي َك َنبِ ِّي َّ
(و َش َ
َ
الشفاعة طلب التجاوز عن الذنب ،وهل حيتاج املعصوم اىل شفاعة النبي صىل
اهلل عليه وآله مع انه منزه عن الذنب ؟ الظاهر ان الشفاعة املقصودة للمعصومني
عليهم السالم هي زيادة الدرجات؛ الن عطاءه سبحانه ال ينضب وال ينتهي عند
حد ،كام ان احتياج الشفاعة وسؤال املعصوم هلا اشارة اىل الفاقة والعبودية هلل تعاىل
وعدم االستقالل عنه ،بل املعصوم من اشد الناس عبودية هلل تعاىل وافقرهم اليه،
واعظمهم حاجة اىل رمحته؛ ذلك ملعرفته باهلل تعاىل الذي ال حميص للعارف من
انكشاف فقره هلل تعاىل ومعرفة غناه سبحانه عن املخلوقني .
الغ َّم ِة).
(و ُم ْن ِق ِذ ا ُال َّم ِة ِم َن ُ
َ
وهو تعريف للنبي صىل اهلل عليه وآله ،ووصف ألحواله وحاالته ،فهو املنقذ
من الضالل واملنجي من اهللكة ،والغمة هي دياجري جاهلية الرشك والضالل .
(فاج َع ْل ُهما لِي َس َببا إِلى َن ْيلِ ُغ ْفرانِ َك).
ْ
ضمري التثنية يعود اىل الرمحة والشفاعة ،وهي رمحته تعاىل وشفاعته أي شفاعة
النبي صىل اهلل عليه وآله ،واقترص عليه السالم عىل ذكر الرمحة دون الرأفة ،كون
الرمحة اعم من الرأفة ،وجعلهام اىل نيل مغفرته تعاىل هو ما يسعى اليه أي مؤمن الن
يف ذلك خالص النفس من كوامن اخلطر وتوفيقها اىل اسباب السعادة .
(و َص ِّي ْر ُهما لِي ُو ْص َل ًة إِلى ال َف ْو ِز بِ ِر ْضوانِ َك).
َ
وهي عبارة تؤكد سابقتها من نيل املغفرة التي تؤول اىل الفوز برضاه تعاىل،
والوصلة :ما يتوصل به اىل اليشء.
(و َقدْ َح َّل َرجائِي بِ َح َر ِم َك َر ِم َك).
َ
الرجاء ضد اليأس ،فهو أوىل من رجاه؛ لسعة كرمه ،وعظيم عطاياه؛ لقوله عليه
السالم (يا من ارجوه لكل خري وآمن سخطه عند كل رش)((( .
فالعطاء الذي حيتمله كرمه يفوق كل حد اذ مل يتصوره عقل ،وال حيتويه فكر،وال
حيده حد ،فان كرمه يتناسب مع عطائه ،وعطاؤه يشري اىل قدرته ،وقدرته تعني
ارادته ،وإرادته ال تنقطع عند امر ،فان امره كن فيكون فسبحانه ما اعزه وأعظمه،
واحلرم الفناء املنتسب اليه الشخص او اليشء كحرم مكة وحرم املدينة منسوبتان
اليهام ،وحرم كرمه تعاىل هو كل ما يتصل بكرمه وما يكون فناءه وعطاءه تعاىل .
ود َك). (و َح َّط َط َم ِعي بِ َف ِ
ناء ُج ِ َ
حط أي نزل ،والفناء باحة املكان ،وقد مثل عليه السالم طمعه بالدابة التي
يرحل عليها فيصل اىل غايته ،وهي جوده ولكن الراحل ال حيط رحله ودابته اال
يف فناء الضيافة ،والوصول اىل فناء جوده ،وهو ما حيرص عليه لتحقيق مبتغاه ،ومل
يقل اىل جوده النه ال يطيقه بل يتحقق مراده بالسعي للوصول اىل فناء جوده.
يك َأ َم ِلي).
( َف َح ِّققْ ِف َ
بام ارجوه عند طمعي بعطائك ومغفرتك.
الخ ْي ِر َع َم ِلي).
اختِ ْم بِ َ
(و ْ
َ
فان االمور بخواتيمها ،أي اجعل عاقبتي خريا ،فان االنسان ال يدرك مناه اال بام
خيتم فيه أمر عاقبته وقد ورد عنهم عليه السالم (اجعل عواقب امورنا خريا )(((فان
التفكر يف عاقبة االنسان لنهاية أمره يردعه عن الكرب والعجب بام يفعله ،النه ال
يعلم ما تؤول اليه اموره ،وما تنتهي اليه عواقبه .
(و َب َو ْأ َت ُه ْم َ
دار َكرا َمتِ َك). َ
وبوأهتم الضمري يعود اىل الصفوة الذين احلهم بحبوحة جنته ،بمعنى الذين
الص ِ َ
ال ِ
ات انزلتهم دار الكرامة وهي جنته لقوله تعاىل ( َوا َّل ِذ َ
ين آ َمنُوا َو َع ِم ُلوا َّ
َل ُن َب ِّو َئ َّن ُهم ِّم َن ْ َ
ال َّن ِة ُغ َرف ًا)(((.
(و َأ ْق َر ْر َت َأ ْع ُين َُه ْم بِال َّن َظ ِر إِ َل ْي َك َي ْو َم لِقائِ َك).
َ
اقر اهلل عينه صفة لالستقرار واالطمئنان حلدوث امر يسعده ويرحيه؛الن الذي
ينتظر أمرا مل يتحقق بعد ،تكون عينه غري مستقرة ،وهي كناية عن القلق الذي
ساوره ،واخلوف الذي يعرتيه ،وقرار العني كناية عن حتقيق مطلبه ومبتغاه ،والنظر
(و ُجو ٌه َي ْو َمئِ ٍذ َّن ِ َ
اض ٌة، اليه اشارة اىل بلوغهم دار الكرامة وهي اجلنة لقوله تعاىل ُ
اظ َر ٌة)(((.إِ َل َر ِّ َبا َن ِ
(و َأ ْو َر ْثت َُه ْم َمنا ِز َل ِّ
الصدْ ِق ِفي ِجوا ِر َك). َ
أي جعلت استحقاقهم منازل الصدق؛ الن الوراثة هي جعل استحقاق اليشء
(( ( –العنكبوت .58
(( ( –القيامة 23-22
................................................................................. 144رشح املناجاة الخمس عرشة
للوارث؛ فهو احق به ممن سواه.ومنازل الصدق ،أي مواضع االستحقاق؛ ونسبة
املنزل اىل الصدق تأكيد عىل استحقاق املوصوف ملوضع الصفة ؛وذلك للتأكيد عىل
الرتابط بني الصفة واملوصوف وفيه داللة عىل املبالغة يف االستحقاق كام يف قوهلم
وقعة شجاعة ،وامللتفت اليه الشجاع الذي اتصف بالشجاعة فكان املوصوف
مندكا بصفته ،منهمكا يف خصوصياته ،وجماورته ملنازل الصدق هي املجاورة
املجازية وليست احلقيقية لعدم حده سبحانه وتعاىل يف مكان ،وظاهره القرب؛ الن
اجلوار يدل عىل قرب املجاور؛ وبالتايل اشارة اىل رضاه سبحانه وعظيم ثوابه.
الوافدُ ونَ َعلى َأ ْك َر َم ِم ْن ُه ).
ِ (يا َم ْن ال َي ِفدُ
الوفود بمعنى الورود ،وفد فالن عىل فالن ورد اليه حلاجة ،فان الوافد ال يكون
اال حلاجة يرجوها لدى املوفود اليه ،والبد ان يكون مستطيعا قضائها ،قادرا عىل
اتياهنا ،كريام يف وفائها ،واملوفود اليه هنا اكرم ٍ
معط والوافد افقر سائل .
القاصدُ ونَ َأ ْر َح َم ِم ْن ُه).
ِ (وال َي ِجدُ
َ
القاصد اخص من الوافد؛ الن الوافد ربام ال يكون طالبا او حمتاجا للموفود اليه؛
فهو اعم؛ وفد اليه حلاجة او لعدمها ،والقاصد اخص منه؛ النه ال يقصد إال حلاجة
فهو طالب حمتاج ،واهلل ارحم من ُقصد.
(ياخ ْي َر َم ْن َخال بِ ِه َو ِح ٌيد).
َ
اخللوة بمعنى االنفراد اذا انفرد به واختىل ،ورشطها ان يكون واحدا بمن خيتىل،
به فال يقال للجامعة انه اختىل هبم إال جمازا ،بمعنى انفرد هبم دون غريهم ،ويكون
مناجاة املتوسلني145..................................................................................................
كرمه وشموله.
( َفال ُتولِنِي ِ
الح ْرمانَ ).
معنى التولية جعله أحق باليشء من غريه ،وتوليته احلرمان ان يكون احلرمان
حقه وهو اخلرسان من الرضا والغفران .
الخ ْي َب ِة َو ُ
الخ ْس ِ
ران). (وال َت ْب ِلنِي بِ َ
َ
البالء بمعنى املحنة والشدة ،ويأيت بمعنى االختبار واالمتحان واألول اوفق
بالسياق ملناسبة للخيبة واخلرسان؛ الن االمتحان ال يكون خسارة مسبقا بمعنى
الشدة واملحنة املستلزمة اخليبة واخلرسان يف الغالب ،ودعاؤه عليه السالم ان ال
يكون أمر ُه خرسانا وعاقبته خيبة وحرمانا.
يع الدُّ ِ
عاء). (ياس ِم َ
َ
السميع من صفاته تعاىل فهو يسمع النجوى وما دون ذلك ويعلم ما ختفي
الر ِ ِ
اح َ
ني) . َ
الصدور فانه ارحم الرامحني (ياأ ْر َح َم َّ
المناجاة الحادي عشرة:
مناجاة المفتقرين
ْم الله الرَّحْم ِن الرَّح ِ
ِيم بِس ِ
إحسا ُن َك يه إِ ّال َع ْط ُف َك َو ْ ب ُه إِ ّال ُل ْط ُف َك َو َحنا ُن َك َو َف ْق ِري ال ُيغْ نِ ِ سي َ ْ
الي ُ ُ ( إِهلِي َك ْ ِ
َو َر ْو َعتِي ال ُي َس ِّكنَها إِ ّال َأما ُن َك َو ِذ َّلتِي ال ُي ِع ُّزها إِ ّال ُس ْلطا ُن َك َو ُأ ْمنِ َّيتِي ال ُي َب ِّل ُغنِيها إِ ّال
ي َك َو َك ْر ِب ال ُي َف ِّر ُج ُه حاجتِي ال َي ْق ِضيها َغ ْ ُ َف ْض ُل َك َو َخ َّلتِي ال َي ُسدُّ ها إِ ّال َط ْو ُل َك َو َ
ي َر ْأ َفتِ َك َو ُغ َّلتِي ال ُي َ ِّ
ب ُدها إِ ّال َو ْص ُل َك َو َل ْو َعتِي ضي ال َي ْك ِش ُف ُه َغ ْ ُ
ِسوى َر ْحَتِ َك َو ُ ِّ
قاؤ َك َو َش ْو ِقي إِ َل ْي َك ال َي ُب ُّل ُه إِ ّال ال َّن َظ ُر إِىل َو ْج ِه َك َو َقرا ِري ال َي ِق ُّر ُدونَ
ال ُي ْط ِفيها إِ ّال لِ ُ
يه إِ ّال ِط ُّب َك َو َغ ِّمي ال ُي ِزي ُل ُه
ُد ُن ّوي ِم ْن َك َو َ ْل َفتِي ال َي ُر ُّدها إِ ّال َر ْو ُح َك َو ُس ْق ِمي ال َي ْش ِف ِ
واس الي ُلو ُه إِ ّال َع ْف ُو َك َو َو ْس ُ إِ ّال ُق ْر ُب َك َو ُج ْر ِحي ال ُي ْ ِ
ب ُئ ُه إِ ّال َص ْف ُح َك َو َر ْي ُن َق ْلبِي َ ْ
ني َو َالسائِ ِل َ َصدْ ِري ال ُي ِز ُحي ُه إِ ّال َأ ْم ُر َكَ .فيا ُم ْنتَهى َأ َملِ ِ
اآلم ِل َ
ياأ ْقىص ني َوياغا َي َة ُسؤْ ِل َّ
يب
م َني َويا ُ ِني َويا َأمانَ اخلائِ ِف َ الص ِ ِ
ال َ ني َويا َو ِ َّل َّ
اغبِ َالر ِ الطالِ َ َ
بني وياأ ْعىل َر ْغ َب ِة َّ َط ِل َب َة َّ
ني َويا ِ َ
قاض ياث ا ُمل ْست َِغيثِ َ
ني َويا ِغ َ ني َويا َكنْزَ البائِ ِس َ َد ْع َو ِة ا ُمل ْض َط ِّر َ
ين َويا ُذ ْخ َر ا ُمل ْع َد ِم َ
نيَ ،ل َك َ َت ُّض ِعي اح َ الر ِ ِ َ ني َويا َأ ْك َر َم َ
اال ْك َر ِم َ ساك ِراء َواملَ ِالف َق َِحوائِ َج ُ
ني َويا أ ْر َح َم َّ
147
................................................................................. 148رشح املناجاة الخمس عرشة
َ
يم َع َ َّ
ل هال ؛ َأ ْسأ ُل َك َأنْ ُتنِ َيلنِي ِم ْن َر ْو ِح ِر ْضوانِ َك َو ُت ِد َ
ض ِعي َوإِ ْبتِ ِؤال َوإِ َل ْي َك َت َ ُّ
َو ُس ِ
يدالش ِد ِ
ض َوبِ َح ْب ِل َك َّ حات بِ ِّر َك ُمت ََع ِّر ٌ نِ َع َم ا ْمتِنانِ َكَ ،وها َأنا بِ ِ
باب َك َر ِم َك َو ِاق ٌف َولِ َن َف ِ
سان َ
الكليلِ يل ذا ِّ
الل ِ الو ْثقى ُمت ََم ِّس ٌك .إِهلِي ْار َح ْم َع ْب َد َك َّ
الذلِ َ َص ُم َوبِ ُع ْر َوتِك ُ
ُم ْعت ِ
اجل ِزيلِ َو ْاك ُن ْف ُه َ ْت َت ِظ ِّل َك َّ
الظ ِليلِ يا َك ِر ُ
يم يا الع َملِ ال َق ِليلِ َوا ْمن ُْن َع َل ْي ِه بِ َط ْولِ َك َ
َو َ
اح َ
ني ). الر ِ ِ ج ُ َ َِ
يل ياأ ْر َح َم َّ
مناجاة املفتقرين149................................................................................................
االستقرار هللع النفس الذي يصيبها بسبب أمر حمزن ،واالستقرار ال حيصل إال من
خالل القرب إليه وهو رضاه وقبوله للعبد ،فحالة الوجد ال هتدأ اال اذا نال رضاه
تعاىل .
(و َل ْه َفتِي ال َي ُر ُّدها إِ ّال َر ْو ُح َك).
َ
اللهفة :استغاثة املظلوم وهي صيحة خترج من أعامق النفس فال يستجيب اليها
عب عنها بالروح .
اال رمحته تعاىل التي ّ
يه إِ ّال ِط ُّب َك).
(و ُس ْق ِمي ال َي ْش ِف ِ
َ
السقم :املرض الذي يلم باجلسد فيضعفه ويلقيه غري ذي قوة ،والشفاء هو
الربء من املرض ،وأشدها ما يلم بالقلب وهييمن عليه كالشك والرشك والنفاق
واجلهل وغريها من االسقام القلبية النامجة من عقائد منحرفة غري صحيحة،قال
تعاىل ( َقدْ َجاءت ُْكم َّم ْو ِع َظ ٌة ِّمن َّر ِّب ُك ْم َو ِش َفاء ِّلَا ِف ُّ
الصدُ و ِر)((( هذا هو احلق ،ولكن
السقم واملرض يتبادر عند العرف بأنه الداء اجلسامين ،ولعل اإلمام عليه السالم
يريد كليهام وإن كان أشدمها املرض القلبي ،عىل أن ذلك ال يشفيه وال يرفعه إال
هو ،الطبيب احلقيقي الذي ال يقف عند ارادته مرض بشقيه اجلسامين والقلبي .
(و َغ ِّمي ال ُي ِزي ُل ُه إِ ّال ُق ْر ُب َك).
َ
الغم أصله الغطاء الذي يسرت اليشء وجيلله وهو احلــزن،و كأنه غطاء جيلل
االنسان لذا عرب عليه السالم باإلزالة ؛ حيث إزالة اليشء رفعه ومنعه ،واإلزالة ال
(( ( –النمل.62
(( ( –الكايف،باب قرض الزكاة501/3،
مناجاة املفتقرين157................................................................................................
فالداعي يف مقام احلاجة والفقر واملسكنة ال يرفعها إال هو سبحانه ،وال تقضيها
اال رمحته وكرمه .
الر ِ
اح ِم َ
ين). َ (ويا َأ ْك َر َم َ
اال ْك َر ِم َ
ين َويا أ ْر َح َم َّ َ
وهو ما يناسب طلبه ودعاءه حيث كرمه ورمحته مها الشافعتان له يف قضاء
حوائجه وكل ما سأله .
(ل َك َت َخ ُّض ِعي َو ُسؤالِي َوإِ َل ْي َك َت َض ُّر ِعي َوإِ ْبتِهالِي ).
َ
اخلضوع هو التواضع ،والترضع بمعنى التذلل واخلضوع ،واالبتهال :الترضع
واملبالغة يف السؤال ،وكل ذلك سبب يف رفع الرض عنه وكشفه بقضاء حاجته ،وهي
قبول توبته والعفو عنه .
(أ ْس َأ ُل َك َأنْ ُتنِ َيلنِي ِم ْن َر ْو ِح ِر ْضوانِ َك)
َ
الروح كام قلنا بفتح الراء هي رمحته تعاىل والنيل :االعطاء ونيل روح رضوانه
َّ
بمعنى رمحته التي منشأها رضوانه تعاىل .
يم َع َل َّي نِ َع َم ا ْمتِنانِ َك).
(و ُت ِد َ
َ
االدامــة مواصلة اليشء باليشء ،أي نعم غري منقطعة واحدة بعد األخرى،
واالمتنان :افتعال من املن وهو االعطاء واظهار االصطناع وتعداده كأن يقول :
أ مل أعطك كذا ،أ مل أعنك ،أ مل أنرصك ،أي كان يف مقام تعداد النعم املتعاقبة ،وهنا
يطلب االمام عليه السالم ان يستمر هذا االمتنان دون انقطاعه ،واالمتنان من املوىل
اىل العبد عز ،ومن العبد اىل العبد ذل ،لذا فاألول ممدوح بعكس غريه ،حيث يف
................................................................................. 158رشح املناجاة الخمس عرشة
األول دليل العناية من املوىل إىل عبده ،ومن اهلل تعاىل مواصلة رمحته دون انقطاع،
ألنه الغني املطلق اىل الفقري املطلق .
(وها َأنا بِ ِ
باب َك َر ِم َك َو ِاق ٌف). َ
اشارة اىل سؤاله الدائم غري املنقطع وكأنه جمازا يلوذ بكرمه سبحانه ويتعلق بباب
رمحته .
حات بِ ِّر َك ُمت ََع ِّر ٌ
ض). (ولِ َن َف ِ
َ
نفحت الريح أي هبت ؛والنفحة الريح الطيبة؛ ونفحه باملال أي أعطاه ،والنفحة
هنا عطاؤه وبمعناها األخص رمحته ،والرب :العطاء املشكور ،وكذلك هو غري
املنقطع ،والتعرض :السؤال امللح ؛ حيث جيعله عرضا أي ينصبه تعرضا به .
الش ِد ِ
يد ُم ْعت ِ
َص ُم). (وبِ َح ْب ِل َك َّ
َ
حبل اهلل :عهده وميثاقه ،واالعتصام به هو التمسك ،وأجىل مصداق حبل اهلل
هم أهل البيت عليهم السالم حيث قال االمام زين العابدين عليه السالم يف بعض
الد َك
اد َك َو َمنَار ًا يف بِ ِ
أوان بإما ٍم أ َق ْم َت ُه َع َل َ ًم لِ ِع َب ِ
أدعيته ( :ال َّل ُه َّم إ َّن َك أ َّيدْ َت دين ََك يف ُك ِّل ٍ
بح ْب ِلك)((( وقد ورد عن اإلمام الصادق عليه السالمَ ( :م ْن َو َف َب ْع َد أنْ َو َص ْل َت َح ْب َل ُه َ
وج َّل َ
وع ْه َده)((( . بِذ َمتِنَا َف َقد َو َف بِ َع ْه ِد اهللِ َو ِذ َّمتِ ِه و َمن َحقر ِذ َّم َتنَا َف َقد َحقر َ
اهلل َع َّز َ
جيع ًا)((( يعني عهد اهلل من القرآن والعرتة َص ُمو ْا بِ َح ْبلِ ّ
اللِ َ ِ (و ْاعت ِ
لذا فقوله تعاىل َ
املطهرة .
(( ( –الصحيفةالسجادية،ابطحي322
(( ( –بصائر الدرجات57
(( ( –ال عمران.103
مناجاة املفتقرين159................................................................................................
(وبِ ُع ْر َوتِك ُ
الو ْثقى ُمت ََم ِّس ٌك). َ
وت َو ُيؤْ ِمن بِـ ّ
ـاللِ َف َق ِد اغ ِ وهو ما تقدم ويؤيده قوله تعاىل ( َف َم ْن َي ْك ُف ْر بِ َّ
الط ُ
است َْم َس َك بِا ْل ُع ْر َو ِة ا ْل ُو ْث َق َى)((( والتمسك هو االلتزام بطريف حبله تعاىل وهو العهد
ْ
وامليثاق الذي يتمثل بالقرآن وأهل البيت عليهم السالم .
الع َملِ ال َق ِليلِ ). سان َ
الكليلِ َو َ يل ذا ِّ
الل ِ (إِل ِهي ْار َح ْم َع ْب َد َك َّ
الذلِ َ
العبد الذي يصيبه الذل من احلاجة ويعجز لسانه من الشكر ومل يكن له من عمل
يشء فهو حمتاج اىل رمحتك .
(( ( –البقرة.256
................................................................................. 160رشح املناجاة الخمس عرشة
يف هذه اللوعة واالشتياق ( وشوقي اليك ال يبله اال النظر اىل وجهك) وهنا فرس
االمام سبب لوعته وهو شوقه اليه تعاىل حيث ال يربده اال النظر اىل وجهه
وهنا استعامل النظر استعام ً
ال جمازي ًا ،فالوجه هنا الرمحة ،والنظر هو النظر القلبي
الذي يكون باليقني وقوة البصرية التي توصله اىل هذا اليقني الذي يصل اىل مستوى
النظر،
(وقراري ال يقر دون دنوي منك )
القرار هو املكان الذي يستقر فيه وهنا يأيت ويعرب عنه براحة القلب وخلو البال
من اهلم ،والدنو منه تعاىل هو شدة اليقني الذي جيعله قار ًا مستقر ًا غري مضطرب،
فإذا قر قراره باليقني فكأنه دنا وقرب اليه.
( ولهفتي ال يردها اال روحك )
اللهفة هنا االستغاثة واالضطرار ،والروح بمعنى الرمحة والفرج لقوله تعاىل
(( وال تيأسوا من روح اهلل)) اي ان فرجك يل عند استغاثتي هو رمحتك التي رجوهتا
(وسقمي ال يشفيه اال طبك)
قال الراغب يف مفرداته :السقم :املرض املختص بالبدن ،واملرض قد يكون
يف البدن او يف النفس نحو قوله تعاىل (( اين سقيم)) والشفاء هو الربء من املرض،
والطبيب املداوي والذي يعمل عىل مداواة املرض ،وهنا اراد االمام سقم البدن
او النفس ،حيث ان سقم البدن هو اصابة االعضاء واجلوارح بام يمنعها من اداء
عملها ،ومرض النفس هو ثقلها عن تلقي احلق واليقني لذا فاذا اصاب االنسان
................................................................................. 162رشح املناجاة الخمس عرشة
مرض من هذه االمراض فان افتقاره اىل اهلل الذي يرفع مرضه يدعوه اىل سؤاله
والتوسل به .
(وغمي ال يزيله اال قربك)
تأكيد ًا لقوله ( :وقراري ال يقر دون دنوي منك )
(وجرحي ال يبرئه اال صفحك)
واجلرح هنا جرح القلب الذي ختلفه الذنوب ،والصفح هو العفو ،فآثار الذنوب
التي عرب عنها باجلرح ،ال يكون برؤه وشفاؤه اال بالعفو.
(ورين قلبي ال يجلوه اال عفوك)
الرين الصدأ الذي يعلو اليشء ورين القلب هو رضر القلب بسبب الذنوب
التي حتجبها عن قبول احلق ((كال بل ران عىل قلوهبم)) وهنا ال يمكن رفع هذا
الرين اال بالعفو الذي جييل الذنوب كام جتيل املادة الصدأ ،اي ان العفو له آثاره
التكوينية يف استقرار القلب ونصوعه يف قبول احلق واالطمئنان اليه ،الن القلب
املذنب مضطرب غري مستقر.
(ووسواس صدري ال يزحيه اال امرك)
الوساوس :اخلطرات السيئة الرديئة التي تعرض للقلب وهو اهلمس اخلفي كام
يقال :اهلمس الصائد :وسواس وقوله تعاىل (( من رش الوسواس اخلناس ،الذي
يوسوس يف صدور الناس)) الن الوسوسة مصدرها القلب وعرب عنه بالصدر
لذكرالالزم ومراده امللزوم ،واالمر هنا ارادته املرتبطة بعفوه ،واالزاحة هنا تعبري
مناجاة املفتقرين163................................................................................................
عن طرد غري املرغوب فعفوه هو امره الذي اشار اليه بقوله :
(ال يزيحه اال امرك)
(يا منتهى امل االملين)
اي يا غاية رغبة املحتاج املفتقر فان امل الفقري املطلق هو بعطاء الغني املطلق،
للمقابلة املقتضية للتشبيه والتامثل.
(ويا غاية سؤل السائلين)
الغاية ما يقصده االنسان وهو هدفه ومبتغاه وارادته ،والسؤل مجع سؤال وهنا
املطلب واالرادة وسؤل السائلني اي طلب الراغبني.
(ويا اقصى طلبة الطالبين)
اي مــــنــــتــــهــــى احلـــــــاجـــــــة عـــــنـــــد كـــــــل مــــفــــتــــقــــر حمــــتــــاج
(ويا اعىل رغبة الراغبني)
رغب اىل اهلل تعاىل اي دعاه اىل ما عنده من الثواب االخروي او ما يريده العبد
من العفو والصفح والرمحة ،وهنا معناه هناية ما يريده املفتقر اليه تعاىل.
(ويا ولي الصالحين)
اي يا متويل امور الصاحلني من عباده وهو املتكفل هلم والقريب اليهم.
(ويا امان الخائفين)
االمان من االمن ومعناه االطمئنان وعدم اخلوف وسكون النفس وكل ذلك
يناسب اخلوف حيث هو اضطراب النفس وعدم استقرارها ،وباالطمئنان هتدأ
وتستقر.
................................................................................. 164رشح املناجاة الخمس عرشة
واحلبل هنا رمحته لكن االقرب كام يف لسان الروايات ان حبل اهلل هم اهل البيت
لقوله تعاىل (( واعتصموا بحبل اهلل مجيعا وال تفرقوا)) واالعتصام يعني االلتزام
وعدم املفارقة والرتك ( وبعروتك الوثقى متمسك )كذلك مثله حيث العروة
الوثقى ُفرست هبم عليهم السالم لقوله تعاىل ((فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن باهلل
فقد استمسك بالعروة الوثقى )) فالطاغوت هو الظامل وبمناسبة املقابلة فان العدل
يتمثل هبم عليهم السالم.
( الهي ارحم عبدك الذليل ذا اللسان الكليل والعمل القليل)
صفة للعبد املفتقر اىل رمحة اهلل فلسانه قارص عن الشكر عاجز عن الثناء ،وعمله
قليل ال يوازى بنعمه تعاىل .
(وامنن عليه بطولك الجزيل )
املنة بمعنى النعمة الثقيلة كام مر والطول الفضل واجلزيل بمعنى العطاء الثقيل
وقد استعري من احلطب اجلزل اي العظيم .
(واكنفه تحت ظلك الظليل )
واكنفه اي اسرته حتت ظلك كل موضع مل تصل اليه الشمس فهو ظل وكل
موضع غادرته الشمس فهو يفء ويعرب عن الظل بالعزة واملنعة وقوله تعاىل
((وندخلهم ظال ظليال)) وهو كناية عن السعادة وغضارة العيش.
(يا كريم يا جميل يا ارحم الراحمين)
اجلميل هو احلسن والكريم هو املعطي من كرم العطاء والتفضل ويا ارحم
الرامحني اي من الرمحة فهو ارحم من ُعرف واكرم من اعطى.
المناجاة الثاني عشرة:
مناجاة العارفين
بِسم الله الرَّحْم ِن الرَّح ِ
ِيم
الع ُق ُ
ول ت ُ يق بِ َجاللِ َك َو َع َجزَ ِ
وغ َثنائِ َك َكام َي ِل ُ ت َ
اال ْل ُس ُن َع ْن ُب ُل ِ ( إِهلِي َق ُ َ
ص ِ
حات َو ْج ِه َك َو َ ْل صار ُدونَ ال َّن َظ ِر إِىل َس ُب ِ اال ْب ُت َ س ِ راك ُك ْن ِه َجالِ َك َوان َْح َ َ َع ْن إ ْد ِ
ين اج َع ْلنا ِم َن ا َّل ِذ َ َ ْت َع ْل لِ ْل َخ ْل ِق َط ِريقا إِىل َم ْع ِر َفتِ َك إِ ّال بِ َ
الع ْج ِز َع ْن َم ْع ِر َفتِ َك ،إِهلِي َف ْ
جامع
ِ الش ْو ِق إِ َل ْي َك ِف َحدائِ ِق ُصدُ و ِر ِه ْم َو َأ َخ َذ ْت َل ْو َع ُة َ َم َّبتِ َك بِ َم َت َر َّس َخ ْت َأ ْش ُ
جار َّ
كاش َف ِة َي ْر َت ُعونَ َو ِم ْنب َوا ُمل َ الق ْر ِياض ُ اال ْفكا ِر ْيأ ُوونَ َو ِف ِر ِوبِ ْمَ ،ف ُه ْم إِىل َأ ْوكا ِر َ
ُق ُل ِ
طاء
الغ ُ ردونَ ،قد ُك ِش َف ِ ِ
صافات َي ُ س ا ُمل َ
الط َف ِة َي ْك َر ُعونَ َو َشايِ َع ا ُمل ياض املَ َح َّب ِة بِ َك ْأ ِ
ِح ِ
ب َع ْن َعقائِ ِد ِه ْم َوضامئِ ِر ِه ْم َوا ْن َت َف ْت ُم َ َ َ
الش ِّكال ُة َّ َع ْن أ ْبصا ِر ِه ْم َوان َْج َل ْت ُظ ْل َم ُة َّ
الر ْي ِ
ور ُه ْم َو َع َل ْت لِ َس ْب ِق َّ
السعا َد ِة يق املَ ْع ِر َف ِة ُصدُ ُ
ْش َح ْت بِت َْح ِق ِوبِ ْم َو َسائِ ِر ِه ْم َوان َ َ َع ْن ُق ُل ِ
س ُه ْمْس ِ ُّ س ا ُالن ِ طاب ِف َم ِْل ِش ُ ُب ْم َو َ ني ا ُملعا َم َل ِة ِ ْ
ه ُم ُه ْم َو َع ُذ َب ِف َم ِع ِالزها َد ِة ِ َ
ِف َّ
باب َأن ُْف ُس ُه ْم َو َت َي َّقن ْ وع إِىل َر ِّب َ َو َأ ِم َن ِف َمو ِط ِن املَخا َف ِة ِسبم َو ْ َ
َت األ ْر ِ الر ُج ِاط َمأ َّن ْت بِ ُّ ْ ُُ ْ ْ
راك ا ُّلسؤْ ِل اس َت َق َّر بإ ْد ِ وبم َأ ْع ُين ُُه ْم َو ْ الح َأ ْر ُ
واح ُه ْم َو َق َّر ْت بِال َّن َظ ِر إِىل ْحم ُب ِ ْ بِا ْل َف ْو ِز َوال َف ِ
169
................................................................................. 170رشح املناجاة الخمس عرشة
عاد َك َو ْ
اج َع ْلنا أع ْذنا ِم ْن َط ْر ِد َك َوا ْب ِ
ش َب ُق ْربِ َك ! َف ِ َوما َأ ْط َي َب َط ْع َم ُح ِّب َك َو َ
ماأ ْع َذ َب ِ ْ
يم يا يك َو َأ ْخ َل ِ
ص ُع َّباِ َدك ،يا َع ِظ ُ باد َك َو َأ ْص َد ِق طائِ ِع َ
يك َو َأ ْص َل ِح ِع ِ ص عا ِر ِف َ ِم ْن َأ َخ ِّ
الر ِ ِ َ
ني) .اح َ يل بِ َر ْحَتِ َك َو َمن َِّك ياأ ْر َح َم َّ
يم يا ُمنِ ُيل يا َك ِر ُ َج ِل ُ
مناجاة العارفني171.................................................................................................
حيث هذا اهلياج واحلزن الذي جيتمع يف القلب جتده قد خ ّلف لوع ًة بفعل اثر
حمبتك والشوق اليك.
(( فهم الى اوكار االفكار يأوون ))
االوكار :مكان الطائر وهو عشه الذي يأوي اليه.
وااليواء :االستقرار والركون اىل اليشء واختاذه منزال وسكن ًا .
واستعار هنا االفكار بالطائر الذي يأوي اىل مكان يستقر فيه ويطمئن اليه ،وكأن
املتفكر بعظمته وجالله ال يستقر حتى يأوي اىل حيث االفكار التي تاخذ به اىل
االستقرار والقرار.
(( وفي رياض القرب والمكاشفة يرتعون ))
الكشف :بمعنى االظهار عىل احلقائق اخلفية التي ال يصل اليها اال ذوو القرب
وهم االخيار الصاحلني املرتاضني عىل املعرفة واملواظبني عىل الوصول اىل احلقائق
اخلفية فيدركهم توفيق القرب واالنكشاف .
ويرتعون :رتع يف املرعى اي جاءت وذهبت دون ان يمنعها مانع يف راتعه.
قرب معنى القرب بأن اهل املحبة يرتعون يف رياض القرب واملكاشفة
وهنا ّ
مبتهجني بام آتاهم اهلل وانعم عليهم بنعمه وبذلك فيكون العارف قريب ًا اليه تعاىل
من خالل ما فتح سبحانه من اسباب النظر واالنكشاف.
الم َ
الط َف ِة َي ْك َر ُعونَ ). الم َح َّب ِة بِ َك ْأ ِ
س ُ ( َو ِم ْن ِح ِ
ياض َ
هذه هي حاالت أهل التقوى الذين غلب عليهم حب اهلل ونبذوا غريه ،فهم
مناجاة العارفني175.................................................................................................
يتشوقون إليه حبا وتعلقا به ،ورجاء رمحته وفوزا بكرمه ،وهم يكرعون من رياض
حمبته كام يكرع الظامئ اللهفان املاء الزالل؛ فهو ال يرشب رشبا عاديا بل يكرع هنام،
ويعب عبا دون أن يرتوي ويشبع .
هذا هو حال من أحب اهلل ومتعن يف حمبته هذه ،فهو ال يتذوق هذا احلب إال بكأس
خاصةدون غريها ،وهي كأس املالطفة يسقى من رحيق هذه املحبة ،وال يصل
املحب بحبه إىل اهلل تعاىل إال من خالل ما يغدق عليه احلق من التلطف به ،أو املالطفة
إليه سبحانه ،واملالطفة هذه ال تنتهي بمورد واحد بل هي متعددة اجلوانب متشبعة
الطرق ،فمرة يتلذذ املحب بمناجاته ،وأخرى يتذوقها بام يفيض عليه من نعمه ،أو
يستسقيها بام خيتار إليه من أنواع املحن ليبتليه فيعظم بالؤه فيه فيزداد حبا له وحبا به،
وهذه هي درجة الصديقني التي ال نجدها إال عند أئمة اهلدى (عليهم السالم) فكلام
صب عليهم من أنواع املحن ،ازدادوا دنوا إليه وحمبة له ،ذلك ألن املؤمن إذا ابتاله
ربه بأنواع البالء ،أظهر حبه له بالتسليم إليه ،والتوكل عليه ،والصرب عىل طاعته ونبذ
معصيته ،فالتسليم والتوكل والصرب مقومات احلب احلقيقي الذي يصل بالعبد ،وقد
أظهر أبو عبد اهلل احلسني عليه السالم هذه املقومات يوم عاشوراء بمناجاته لربه (إن
كان هذا يرضيك فخذ حتى ترىض) فأي تسليم لقضاء اهلل تعاىل وأي توكل عليه وأي
صرب عىل بالئه أظهره اإلمام وهو يف أشد األحوال التي تزهق فيها النفوس من عظم
ما جرى عليه؟ لكنه أظهر حبه (عليه السالم) يف هذه األهوال احلالكة واألحوال
الشائكة التي ال يتجاوزها إال صدّ ُ
يق ُمصدّ ق .
................................................................................. 176رشح املناجاة الخمس عرشة
(((
ص َك ا ْل َي ْو َم َ
ح ِديد) نك ِغ َط َاء َكَ ف َب َ ُ
بعد أن كشف هلم الغطاء باليقني ( َف َك َش ْفنَا َع َ
فوصول االنسان إىل اليقني ؛يف عامل امللكوت ،وبعد رحيله عن هذه الدنيا ،وحترر
جسده من ماديات البدن الذي حيبس الروح عن االنكشاف هلا؛ لتصل اىل مراتب
العلم اليقيني .و يمكن بمثله أن يتحرر اإلنسان عن قيود البدن وينفلت عن العامل
املادي إىل العامل امللكويت الذي يغدقه باليقني واملعرفة احلقيقية ،فتنجيل عنهم ظلم
الشكوك ليجدوا انوار اليقني الساطعة تغرق فيها قلوهبم بعد الرين ،وتسبح فيها
ابصارهم بعد العمى .
الش ِّك َع ْن ُق ُلوبِ ِه ْم َو َسرائِ ِر ِه ْم). (وا ْن َت َف ْت ُم َ
خال َج ُة َّ َ
االختالج بمعنى االضطراب ،فاختالج العضو يعني اضطرابه ،وال يكون هذا
االضطراب إال بسبب مادي أو داع معنوي ،أي اضطراب اجلوانح واجلوارح،و
هلام اسباهبام املادية واملعنوية ،فاألعضاء ال تضطرب إال بفعلٍ ما كارتعاش اليد
ٍ
ضعف ينتاهبا ،أو عاملٍ خارجي حييط هبا–كام يف وارجتــاف االعضاء؛ بسبب
حاالت الربد مثال ،ترتعش االعضاء وترجتف ألهنا ال تقوى عىل ذلك أو مايداهم
االنسان من أم ٍر حيزنه أو خيوفه فريجتف خوف ًا ويضطرب فرق ًا من ذلك فاألعضاء
هم أو بالء– فهي تستجيب ألية حالة ٍنفسية تداهم االنسان من خوف أو ٍ
فرح أو ٍ
اذن ختتلج فكل اضطراب اختالج .
فاملؤمن الذي يصل اىل مراتب اليقني وانكشفت لديه مدارج املعرفة ودواعي
احلكمة ،فإن مقتىض االضطراب القلبي عنده سينتفي بعد ذلك ،ألن دواعيه منتفية
(( ( –ق.22
................................................................................. 178رشح املناجاة الخمس عرشة
وهي موارد الشكوك التي ترد عىل القلب ،وهي اخلطرات الشيطانية التي تصاحب
االنسان فرتاوده بني فرتة وأخرى .
ففي وصيته لكميل بن زياد قال أمري املؤمنني (عليه السالم) :يا كميل اذا
وسوس الشيطان يف صدرك قل (أعوذ باهلل القوي من الشيطان الغوي ،وأعوذ
بمحمد الريض من رش ما قدر وقىض ،وأعوذ بإله الناس من رش اجلنة والناس
أمجعني) وس ّلم تكف مؤنة إبليس والشياطني معه ،ولو أهنم كلهم أبلسة مثله .
يا كميل أن هلم خدعا وشقاشق وزخارف ووساوس وخيالء عىل كل أحد ،قدر
منزلته يف الطاعة واملعصية ،فبحسب ذلك يستولون عليه بالغلبة((( .
فالشيطان يتسول عىل قاممة الشك ،كام يتسول الذباب عىل قاممة األوساخ ،فإذا
ذهبت ادران الشك ذهبت معها تسوالت الشيطان التي هي تسويالته ومكائده .
فسبب اضطراب القلب بسبب ما يتالعب به الشيطان من تغريره ،فوصف
اإلمام (عليه السالم) اختالج القلوب بالشك ،أي اضطراهبا بالشكوك ،وبالتايل
سكوهنا باملعرفة واليقني .
الم ْع ِر َف ِة ُصدُ ُ
ور ُه ْم). يق َ(وا ْن َش َر َح ْت بِت َْح ِق ِ
َ
االنرشاح هي سعة الصدر لقبول احلق ،وهو عكس الضيق ،وتوسعوا فيه حتى
قالوا يف كل ما يرفع االهبام عنه رشح ،ومنه رشح احلديث اي توضيحه ورفع ما
مرفوع عنه كل ما من شأنه يعيق الفهم
ٌ ُأهبم فيه ،أو ضبب عليه فهو مرشوح ،أي
(( ( –بحار االنوار،الباب احلادي عرش يف وصيته (امري املؤمنني) عليه السالم271/74
مناجاة العارفني179.................................................................................................
وثانيهام :ما اقام عليه الدليل :كوجوده تعاىل واجلنة والنار واملالئكة وغريها .
واملعنى ان السالك اليك بمداركه وبدهيياته الفطرية يسري اليك ليصل اىل ما
غاب حسه عن غريه ممن مل يستعني بفطرته للوصول اىل مكامن الغيب الذي خفي
عىل الكثري يف حقائقه اجللية لذوي البصائر.
( وما اطيب طعم حبك)
اطيب :اسم تفضيل من طيب اذا استلذت له احلواس والنفوس ،كام يف الطعم اللذيذ
الذي تستطيبه حاسة الذوق ،او العطر الذي تستطيبه حاسة الشم ،واليشء الذي يريح
النفس من كال ٍم او منظ ٍر او غري ذلك تستلذ به النفوس وتأنس له االذواق.
وهي العبادة حيث قوله تعاىل (( وما خلقت اجلن واالنس اال ليعبدون)) فعلة
االجياد هي العبادة التي ال حيسن االتيان هبا اال املعصوم ،وهبذا فكل متعلق يف
حق اهلل يايت به العبد يكون ناقص ًا لنقصان القدرة عىل تأدية حقه تعاىل ،اذ ال يؤدي
مه اليه.
املحتاج حق الغني اال بتفضل الغني عىل املحتاج قبول ما يقدّ ُ
(( وما عسى ان يبلغ مقداري حتى ُأجعل مح ً
ال لتقديسك))
عسى من افعال الرتجي ،والبلوغ ،وصول االمر اىل ٍ
غاية ما.
والتقديس :التنزيه قدره الذي يبلغ فيه لتنزهيه تعاىل ،اذ ذلك حيتاج اىل شأن
املنزه ،ويف املخاطبات العرفية ال ُتقبل الشهادة يف امر حتى يكون
يتناسب شأن ّ
يقيم يشء البد ان يكون مؤه ً
ال لذلك التقييم وما اراد ان من شأنه الشهادة ،ومن ّ
يعرف امر فالبد ان يكون عارف ًا به حق معرفته فكيف يصل العبد الضعيف اىل
معرفة املطلق الذي ال حيده حد وال حيويه فكر ،وهل انا اهل لتنزهيك يا اهلي حتى
انزهك واقدسك؟
(( ومن اعظم النعم علينا جريان ذكرك على السنتنا ))
فان استحقاقنا اقل من ان نذكرك وندعوك بالسنتنا ،لفقرنا وضعفنا فام نحن
وقدرنا حتى نزعم انا نذكرك ونسالك؟
(( واذنك لنا بدعائك وتنزيهك وتسبيحك))
االذن من باب علم :اطلقت له فعله ،واذنه تعاىل قيل عبارة عن امره وقيل عن
ارادته وقيل عن اجيابه ليشء يتوسط فاعله املبارش له كام يف قوله تعاىل لعيسى ((
................................................................................. 194رشح املناجاة الخمس عرشة
نوح 9:انتهى ،واالرسار :خالف االعالن كام يف قوله تعاىل من االية الكريمة حيث
اعلن وارس فاستعمل املتقابلني لبيان ما بذله من جهد يف انذارهم وتبليغهم يف
اخلفاء واالظهار.
ٍ
حسن عند االنسان ٍ
ظاهرة او باطنة ،وكل حال ٍ
نعمة الرساء :حسن احلال من
فهو رساء ،ولعل اصلها من الرسور وهو راحة البال والفرح الذي يدخل عىل
النفس من يشء حتبه النفس ومتيل اليه.
والرضاء :ضده اي هو سوء احلال لقلة مال او فضلٍ كام يف قوله تعاىل (( وكشفنا
ما به من رض)) االنبياء ،84:وهو من الرضر الذي يدخل عىل االنسان فيسوءه
وحيزنه .
((وأنسنا بالذكر الخفي ))
االنس بالضم :كل يشء يدخل عىل النفس فريفع عنها الوحشة ويدخل عليها
الراحة والطمأنينة لتأنس به ،وسمي االنسان انسان ًا من انسه بمثله ،اي يأنس اىل
من هو مثله يف االنسانية اي يطمئن ويسكن اليه.
اخلفي :اليشء املسترت غري الظاهر لقوله تعاىل(( ادعوا ربكم ترضعا وخفية))
االعراف ،55 :وكل ما استرت فهو خمفي قال تعاىل(( ان تبدوا الصدقات فنعام هي
خري لكم)) البقرة 271 :
وان ختفوها وتؤتوها الفقراء فهو ٌ
واالنس بذكره و كل ما تسكن اليه النفس وتطمئن ،ويلجا اليه الذاكر يف احواله
كلها ليأنس به خصوص ًا اذا خفي عن االخرين واختىل بذكر ربه فيكون له مؤنس ًا
................................................................................. 196رشح املناجاة الخمس عرشة
االنسان 12 :وقد يستعمل باليشء املذموم اي مقابلة االمر املذموم بمثله كام هو
مقابلة احلسن بمثله كام يف قوله تعاىل (( وجزاء ٍ
سيئة سيئ ًة مثلها ))الشورى40:
امليزان :الة تعرف فيها أقدار االشياء وأوزاهنا وقد ورد ذكره يف القران الكريم
اشــارة اىل ما ُيتحرى من مراعاة العدل من االفعال كام يف قوله تعاىل ((وزنــوا
بالقسطاس املستقيم)) الشعراء 182:وقوله تعاىل ((واقيموا الوزن بالقسط))
الرمحن 9 :
والويف :من الوايف بمعنى التام غري الناقص لقوله تعاىل ((واوفــوا الكيل اذا
كلتم)) االرساء 35:
مجع بليغ ،حيث امليزان
وهنا مجع االمام بني امليزان وبني اليشء الوايف ،وهو ٌ
اشارة اىل عدله وعدم الزيادة يف اليشء او النقيصة فيه ،والويف هو ما يستويف فيه
االمر كله ،فكام يطلب من اهلل تعاىل ان يوزن له عمله بالقسط لعدله سبحانه ،فهو
يطالبه باالمر الوايف لكرمه وجوده ،وقد مجع هنا بني العدل والقسط وبني الكرم
والعطاء.
واملعنى اي اعطنا بعدلك وخصنا بكرمك .
والوله :شدة الشوق واحلنني يقال وهلت االم اىل ولدها اي حنت واشتاقت
والوله اليه تعاىل هي حمبته والرغبة اليه وصدق التقرب اىل ساحته تعاىل.
فخطاب االمام ان قلوب املؤمنني العارفني قد حنت واشتاقت لذكرك
وبذكرك.
(( وعلى معرفتك ُجمعت العقول المتباينة))
فمعرفتك جتمع القلوب املختلفة واملتفرقة ،والتباين هو االختالف ،فالذي
جيمع شتات القلوب هي معرفتك والقرب اليك ،وهذا ما يلحظه االنسان يف
احلج والصالة وغريها من الشعائر ،اذ تتوجه القلوب املختلفة واالفهام املتباينة
اىل هدف واحد وهو رضاه ،وان اختلفت يف الطريقة ،وتعارضت يف الوسيلة ،اذ
ٍ
حممد واله خزان العلم ومنبع اللطف. افضل الوسائل اليه هم
((فال تطمئن القلوب اال بذكرك))
الطمأنينة :سكون النفس بعد انزعاجها لقوله تعاىل (( اال بذكر اهلل تطمئن
القلوب)) الرعد 28 :فذكره تعاىل يعطي حال ًة من السكينة واالرتياح ترتاد عىل
النفس فيؤنسها ،ويبعد عنها ما اصاهبا من اضطراب ،وكل قلق ال يبقى عند ذكره
تعاىل لذا فان املعرفة والذكر الدائم يدفع عن النفس مهزات الشيطان ووسواسه.
(( وال تسكن النفوس اال عند رؤياك))
السكون خالف االضطراب واالنزعاج ،والرؤية هي الرؤية القلبية التي ينظر
االنسان اليه تعاىل بقلبه لتنزهه عن احلد املكاين والزماين ،ومعنى اجلملة ان النفس
مناجاة الذاكرين199.................................................................................................
((والمعبود في كل زمان))
مطيع له
ٌ فعبادته تعاىل مل تتوقف حلظ ًة واحدة ،فكل ما يف الكون حتت ارادته
مستسلم اليه ،ولو تابع االنسان دوران االرض وتغيري الساعات من ٍ
بلد اىل بلد،
ورشوق الشمس او غروهبا ،واختالف اوقات الصالة بني البلدان ليجد املتابع
ان الناس كلهم خماطبون بالصالة طيلة اوقات النهار والليل ،فال يفرت احد من
املخلوقني املكلفني عن عبادته ،فضال عام ارشنا اليه ان الساموات واالرض دائبني
عىل عبادهتم له تعاىل لقوله سبحانه (( تسبح له الساموات السبع واالرض ومن
فيهن وان من يشء اال يسبح بحمده ولكن ال تفقهوون تسبيحهم)) االرساء 44 :
فثبت انه املعبود يف كل مكان وكل زمان سبحانه وبحمده.
((والموجود في كل أوان))
أوان :مجع أن وهو الوقت من الليل والنهار غري مشار اليه كأن يكون ساعة او
ٍ
قطعة من قطعات الزمان هي أن من أنات الليل والنهار. اكثر او اقل من ذلك ،فكل
وهو املوجود يف كل وقت ،فال ختلو من وجوده قطعة من قطعات الزمان ،ألن
الواجب ال ينقطع عن املمكن املحتاج اليه واملتقوم بوجوده.
((والمدعو في كل لسان))
اللسان :اجلارحة التي يتكلم هبا االنسان والعرب استعارت اللسان لتجعله
بمعنى اللغة التي يتفاهم هبا االنسان مع االخرين ،وقد استعري اللسان اجلارحة
هبذا املعنى ،واحيان ًا هي قوة النطق التي التي يتحرك هبا اللسان وينطق الخراج
مناجاة الذاكرين201.................................................................................................
مع اباحتها ،فان نفس املعصوم بنورانيتها ال تنشغل بيشء دون يشء ،فهي مستوعبة
كل االشياء غري غافلة باذن اهلل تعاىل .
ٍ
راحة بغير انسك)) (( ومن كل
الراحة :اطمئنان النفس وسكوهنا ،واالنس :هو ما يذهب وحشة النفس به،
فكل ما يأنس اليه االنسان اي يذهب وحشته فهو أنس ،وأنسه تعاىل عند ذركه
هو ما يدخل االطمئنان يف القلب ويريح النفس لقوله تعاىل ((اال بذكر اهلل تطمئن
القلوب)) فكل راحة ختلو عن ذكرك الذي ال يبعث عىل انسك فهي عبث استغفرك
فيام فرطت به ،ومتاديت يف اتيانه.
((ومن كل سرور بغير قربك))
الرسور :اخفاء الفرح وكتامنه ،واكثر ما يظهر عىل املحيا قال تعاىل (( ولقاهم
نرض ًة ورسورا)) االنسان11 :
قربك :اي القرب املعنوي ،لعدم حده تعاىل يف مكان .
وهنا بمعنى ان كل امر يبعث رسورا فهو هباء ال حيسب له حساب احلقيقة ،اذ
الرسور احلقيقي والفرح الواقعي هو رضاك ،والقرب كناية عن قربه اليه سبحانه.
(( ومن كل شغل بغير طاعتك))
الشغل :العارض الذي يذهل االنسان سواء كان خري ًا او رش ًا فلم يتوجه اال
اليه ،وهو بحسبه وأمهيته قال تعاىل ((ان اصحاب اجلنة اليوم يف شغلٍ فاكهون))
يس55:
مناجاة الذاكرين203.................................................................................................
واملعنى هنا هو اين استغفرك من كل شغل هو ليس فيه من طاعتك نصيب ًا،
فاالشتغال بغري ذكر اهلل هلو ،فاستغفرك اللهم فيام بينهام.
اهلي انت قلت وقولك احلق :يا اهيا الذين امنوا اذكروا اهلل ذكرا كثريا وسبحوه
بكرة واصيال وقلت وقولك احلق :فاذكروين اذكركم اذ قولك ال خلف فيه
وال رجوع ،بل قولك عهد وحق ،حيث قلت كلام تذركروين اذكركم فاذكروين
بالطاعة ،أذكركم بالنعم ،واذكروين بالرخاء اذكركم بالرضاء ،فمالزمة الذكر هلل
تعاىل يقابلها ذكر اهلل لعبده غري الغافل عن ذكره تعاىل.
والتسبيح :التنزيه ،وبكرة من البكور وهو أول ساعة من النهار ،واألصيل هو
اخر النهار وهو العشية ،اي سبحوه أول النهار وأخره وما بينهام ،وورد عن االمام
الصادق : الذكر الكثري هو تسبيح فاطمة عليها السالم.
(( فأمرتنا بذكرك ووعدتنا عليه ان تذكرنا تشريف ًا لنا وتفخيم ًا
واعظام ًا))
وهكذا هي رمحته ولطفه بنا اذ أمرنا بذكره ودعائه وهذا هو منتهى اللطف لغنائه
عن ذكرنا وعدم حاجته اليه ،ثم هو سبحانه يذكرنا مقابل ذكرنا له وذلك ترشيفا
لنا وتعظيام مع حاجتنا لذكره وعدم استغنائنا عن دعائه .
(( وها نحن ذاكروك كما امرتنا فانجز لنا ما وعدتنا))
أنجز له ما وعده اذا وىف ما وعده ،وانجازه وعده تعاىل لعباده استجابة دعاءه
كام وعده .
................................................................................. 204رشح املناجاة الخمس عرشة
القدرة :هي نفي العجز عنه سبحانه وتعاىل ،واللوذ بمعنى االلتجاء ،فان
االلتجاء اىل القدرة املطلقة هي منجاة الالئذين ،وال يتحقق املراد إال بمن يسد
احلاجة املطلقة ،واالفتقار الدائم .
ث بِ َأ ْذ ِ
يال َع ْف ِو َك)). وب إِلى ال َّت َش ُّب ِ ((و َقدْ َأ ْل َج َأتْنِي ُّ
الذ ُن ُ َ
وهنا تصوير مدهش ،حيث تراكم الذنوب حييط بصاحبه فريكسه إركاسا حتى
(و َن ْح ُن
كأنه يغرق يف خضم اهللكة التي البد أن يتشبث بأقرب يشء إليه وهي رمحته َ
يد)((( فالقرب يصفه عليه السالم بأنه تشبث بأذيال عفوه َأ ْق َر ُب إِ َل ْي ِه ِم ْن َح ْبلِ ا ْل َو ِر ِ
تعاىل ،بيانا لقرب اهلل من عبده مهام ابتعد العبد عن ربه ،وهي صورة لطيفة لتصوير
العالقة القريبة بني العبد وربه .
تاح َأ ْب ِ
واب َص ْف ِح َك)). استِ ْف ِ ((و َأ ْح َو َج ْتنِي َ
الخطايا إِلى ْ َ
فان هذه اخلطايا قد اقلقتني ورمتني يف أسباب اخلوف والبالء ،حتى رصت
أطرق أبــواب رمحتك التي وسعت كل يشء ،وما هي هذه األبــواب ؟ وكيف
نستفتحها؟ وكيف نكون من أهل الدخول فيها ؟ إن احلقيقة التي ال تقبل الشك
هي حماولة القرب اليه تعاىل ،وأن جيتهد االنسان يف ذلك ،ولعل أقرص الطرق بعد
العزم عىل التوبة وعدم العود هواالستشفاع بمحمد وآل حممد عليهم السالم ،إذ
ال ينفع مع هذه االثقال واخلطايا التي تثقل الظهر ان يلج االنسان وحده ملثل هذه
املقاصد اال بواسطة االستشفاع هبم والتقرب اىل اهلل تعاىل من خالهلم؛ فاهنم أبواب
رمحته الواسعة التي يلج إليها املتحريون .
(( ( -ق16
................................................................................. 212رشح املناجاة الخمس عرشة
االمساك بعروته الوثقى إال بعد التخلص من موجبات التمسك بالطاغوت ومن
(( ( –هود43
(( ( –البقرة256
مناجاة املعتصمني213...............................................................................................
وهم أهل القرب والشأن ،ولعلهم الكروبيون الذين هلم املنزلة اخلاصة عنده
سبحانه وتعاىل.
(( ( –القصص23
(( ( -الطور 48
(( ( -هود ،37
مناجاة املعتصمني215...............................................................................................
(( ( –االنسان11
(( ( –الصحيفة السجادية،ابطحي،اذا عرضت له مهمة او نزلت به ملمة 67
................................................................................. 216رشح املناجاة الخمس عرشة
السكينة؛هي الثبات عىل األمر حيث ال تفعل به املصيبة؛ وال تؤثر به النازلة ،والسكينة
هي حالة االطمئنان النفيس ،وهي حالة متقدمة عىل الصرب ،ألن الصرب إحداث أمر يف
النفس ،حيدثه صاحبها ،والسكينة ما تكون من اخلارج بفعل إهلي خاص.
يب ُم َال َفتِ َك إِهلِي َفزَ ِّهدْ نا ِفيها َو َس ِّل ْمنا ِم ْنها بِت َْو ِف ِ
يق َك َو ِع ْص َمتِ َك َوا ْنزَ ْع َع َّنا َجالبِ َ
ج ْل ِصالتِنا ِم ْن يدنا ِم ْن َس َع ِة َر ْحَتِ َك َو َأ ْ ِ ورنا بِ ُح ْس ِن ِكفا َيتِ َك َو َأ ْو ِف ْر َم ِز َ َو َت َو َّل ُأ ُم َ
ْوار َم ْع ِر َفتِ َك َو َأ ِذ ْقنا
جار َ َم َّبتِ َك َو َأ ْت ِ ْم َلنا َأن َ
س ِف َأ ْفئِ َدتِنا َأ ْش َ واهبِ َك َو ْاغ ِر ْ ض َم ِ َف ْي ِ
الو َة َع ْف ِو َك َو َل َّذ َة َمغْ ِف َرتِ َك َو َأ ْق ِر ْر َأ ْع ُينَنا َي ْو َم لِقائِ َك بِ ُر ْؤ َيتِ َك َو َأ ْخ ِر ْج ُح َّب الدُّ نْيا
َح َ
خاصتِ َك بِ َر ْحَتِ َك يا
َّ ني ِم ْن َص ْف َوتِ َك َو َ
اال ْبرا ِر ِم ْن الص ِ ِ
ال َ ِم ْن ُق ُلوبِنا َكام َف َع ْل َت بِ َّ
ني ». ني َويا َأ ْك َر َم َ
اال ْك َر ِم َ الر ِ ِ
اح َ َ
أ ْر َح َم َّ
217
مناجاة الزاهدين219...............................................................................................
ِ
والغرار غفوة مع غفلة وأصل ذلك من الغر ،وهو االثر الظاهر من اليشء اي
نستمسك بك من غرور الدنيا بزبارجها وزخارفها لئال نقع يف مكائدها وحبائلها،
وتزيني اعامهلا واسباهبا.
الزينة :كل ما يتزين به من قول او فعل ،فقد ورد يف مادة زين قوله تعاىل ((زينا
هلم أعامهلم)) النمل 4:وقوله تعاىل ((زينا لكل امة عملهم)) االنعام 108:وزينة
الفعل كام يف قوله تعاىل((زينا السامء الدنيا بمصابيح)) فصلت 12:وقوله تعاىل
((ولقد زي ّنا السامء الدنيا بمصابيح)) امللك 5:
((فانها المهلكة طالبها))املهلكة :اسم فاعل للهالك وهو فناء اليشء
وفساده.
طالهبا من الطلب هو التفحص والبحث عن اليشء.
ووصف الدنيا باهنا ٌ
فانية ملن يطلبها ويبحث عنها ،اذ ال يستطيع احدٌ من اخللق
ان ُيدرك غايته من الدنيا مهام بذل جهد ًا وافنى عمر ًا ،فهي ٌ
دار حمفوفة باملكاره
والبالء وليس لعاقلٍ ان يدرك بعضها فض ً
ال عن كلها لذا فان من سعى وراء الدنيا
خابت مساعيه وانقطعت اماله ودواعيه.
((المتلفة ُحاللها))
ُ
املتلفة :من التلف واهلالك واملقصود اهللكة املودية بسبب البحث عن الدنيا بكل
دواعيها.
حالهلا :اي نزاهلا من احللول وهو االقامة والنزول يف املكان ،لذا سمي حمل
................................................................................. 222رشح املناجاة الخمس عرشة
اقامة االنسان حم ً
ال له.
واملعنى هنا ان الدنيا ال ُتبقي الحد من نازليها اال واهلكته يف دار فناء وأالخره
دار بقاء.
((المحشوة باألفات المشحونة بالنكبات))
املحشوة بمعنى احلشو كل ما خفي عن الناظر وكل ما كان يف باطن اليشء فهو
حشو ،ومنه حشو االنسان وهو كل ما ضم باطنه من أمعاء وأعضاء فهي أحشاؤه.
األفات :مجع أفة وهي املرض الذي يصيب االنسان ،واستعملت لكل بلية حتيط
باالنسان مادي ًة أو معنوية.
املشحونة :من الشحن اي اململوء كام يف قوله تعاىل ((يف الفلك املشحون))
الشعراء199:
ومنها الشحناء وهي امتالء النفس غيظ ًا.
بالنكبات :مجع نكبة وهي املصيبة التي حتل باالنسان فتجعله منكوب ًا ،وهي
استعارة من حتل به مصيبة فتجعله ناكب ًا عن طريق الصواب لدهشته وانذهاله.
وصف حلال الدنيا التي تكون دائ ًام حمشوة باألفات ،وقد عرب عليه السالم
ٌ وهنا
باحلشو لكون أفاهتا غري ظاهرة أحيانا فتفاجئ االنسان مفاجأة غري متوقعة وغري
حمسوبة ،وهي من اشد الدواهي وأعظم النوازل اذا حلت باالنسان دون حسبان
ألمرها ،فرتهقه وتثقل كاهله عن التهيؤ والتحمل .
مناجاة الزاهدين223...............................................................................................
صغرية غري منظور هلا اال ان هلا فعل الكبرية اذا استمكنت من االنسان واستعملت
جوارحه وجوانحه ،لذا فان االستعاذة باهلل ان خيلصه من اسباب خمالفته ومعصيته
تعاىل ،وهذا ال يكون اال بتوفيقه وتسديده .
((وتول امورنا بحسن كفايتك))
التولية من الوالية :القيام باالمر كام يف قولك وليت فالن ًا كذا اي قام باالمر.
وكفايتك :بمعنى وقايتك ودفعك كام يف قوله تعاىل ((وكفى اهلل املؤمنني القتال))
االحزاب 25:
وهنا املعنى ان تكون انت يا اهلي من يتول امرنا ليكفينا من رشور هذه الدنيا التي
تاخذ بمن يغرت هبا ويطمئن هلا اىل هاوية الباليا واملصائب التي ال تنقطع وال تنتهي .
النه مركزها وكل ما يبعث عىل االدراك والتحسس ،وهو املسؤول عام يقع يف
النفس فيكون مقصودا كحاالت التغري والتأثري ثم َة.
ٌ
التفاتة بليغة، واملعنى ان يغرس يف قلوبنا ونفوسنا حبه وتعبري اشجار حمبته
حيث ان االشجار تنمو وتزداد دون توقف فض ً
ال عن كوهنا تعطي ثامر ًا ،وكذلك
حبه فان ثمرته التقوى.
((واتمم لنا انوار معرفتك))
االمتام بمعنى االكامل كام يف قولك تم الشهر اذا وصل اىل هنايته ،وامتمت حديثي
اذا اكملته مجيع ًا.
واالنوار :مجع نور وهو ما ينكشف به الظلمة واختلفوا فيه هل هو من االجسام
أم من االعراض ،ونور املعرفة او نور اهلداية وهو نور االيامن ونور العلم ونور
القران ونور احلجج واأليات وكلها هذه منسوبة اليه تعاىل كام يف قوله تعاىل ((نور ًا
يميش به يف الناس)) قال االمام يف تفسريه لذلك " :امام ًا يأتم به" ويف قوله تعاىل
بخارج منها)) قال عليه السالم :الذي ال يعرف
ٍ (( كمن مثله يف الظلامت ليس
االمام.
وهنا يستعني باهلل تعاىل ان يتم له نور معرفته ،وهو ال يتاتى اال من اتباع احلق وهو
اهلادي الذي هيدي الناس اىل احلق ،واالمتام ال تكون اال بالعناية منه واالستعانة به
وهدايته اىل طريق احلق وسبيل الصالح ،والبد ان يكون ذلك من خالل حجج اهلل
وبيناته وما يلقيه يف روع املؤمن من اتباع احلق وجمانبة الباطل.
مناجاة الزاهدين227...............................................................................................
عينه غري مستقرة متوجسة ال تنام ،فاذا حتقق االمر الذي تريده استقرت وأقرت
اىل النوم.
ورؤيته تعاىل هي الرؤية القلبية وهي كناية عن رمحته اذ هو تعاىل منزه عن
اجلسمية واملكان.
اي تفضل علينا بالعفو واملغفرة لتقر اعيننا عند لقائك ومعرفتك بالفوز يف
رضاك وعفوك.
(( واخرج حب الدنيا من قلوبنا))
حيث التعلق بالدنيا يايت من االغرتار فيها وتعلق القلب بزبارجها ،وترك ذلك
واالبتعاد عنه ال يكون اال هبدايتك وعونك وتوفيقك.
((كما فعلت بالصالحين من صفوتك واالبرار من خاصتك))
اي كام اجريت ذلك سن ًة يف الصاحلني من الصفوة االبرار واهل خاصتك وهم
االنبياء واملرسلني واوصيائهم واهل املعرفة والتوفيق.
والصفوة هم اهل الصفاء واصله من خلوص اليشء من الشوائب ،وهنا من
الذنوب والفضائح لكن بحسب درجاهتم ومنازهلم.
واخلاصة خالف العامة وخاصة الرجل قريبوه واملختصون به ،واملقصود من
خاصته تعاىل :اولياؤه املخلصون له يف املحبة والطاعة الذين صارت هلم خصوصية
القرب هلل اليه.
مناجاة الزاهدين229...............................................................................................
عن ابن ايب يعفور قال :سمعت ابا عبد اهلل يقول :من تع ّلق قلبه بالدنيا تع ّلق
هم ال يفنى ،وامل ال يدرك ،ورجاء ال ينال.
(((
قلبه بثالث خصالّ :
قال رسول اهلل :ان يف طلب الدنيا إرضار ًا باآلخرة ويف طلب اآلخرة
((( إرضار ًا بالدنيا ،فأرضوا بالدنيا فإهنا اوىل باإلرضار.
وقال رسول اهلل أول ما عيص اهلل تبارك وتعاىل به ست خصال :حب الدنيا،
(((وحب الرئاسة ،وحب الطعام ،وحب النساء ،وحب النوم ،وحب الراحة.
قال ابو عبد اهلل :جعل الرش كله يف بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا ،وجعل
اخلري كله يف ٍ
بيت وجعل مفتاحه الزهد يف الدنيا.
(((
قال ابو عبد اهلل :ان يف كتاب عيل صلوات اهلل عليه :انام مثل الدنيا كمثل
احلية ما ألني مسها ويف جوفها السم الناقع ،حيذرها الرجل العاقل ،وهيوي اليها
231
................................................................................. 232رشح املناجاة الخمس عرشة
(((الصبي اجلاهل.
قال الصادق :من ازداد يف اهلل عل ًام وازداد للدنيا حب ًا ازداد من اهلل بعد ًا
((( وازداد اهلل عليه غضب ًا.
قال رسول اهلل :لو عدلت الدنيا عند اهلل عزوجل جناح بعوضة ملا سقى
((( الكافر منها رشبة .
((( قال رسول اهلل :من احب ديناه ارض بآخرته.
قال امري املؤمنني :والدنيا دار مني هلا الفناء ،وألهلها منها اجلالء ،وهي
حلوة خــراء ،وقد عجلت للطالب ،والتبست بقلب الناظر ،فارحتلوا منها
بأحسن ما بحرضتكم من الزاد ،وال تسألوا فيها فوق الكفاف ،وال تطلبوا منها
((( اكثر من البالغ.
وقال : اال وان الدنيا قد ترصمت ،واذنت بانقضاء ،وتنكر معروفها ،وادبرت
امر منها ما كان حلو ًا، ّ
حذاء ،فهي حتفز بالفناء سكاهنا ،وحتدو باملوت جرياهنا ،وقد ّ
وكدر منها ما كان صفو ًا ،فلم يبق اال سملة كسملة اإلداوة ،او جرعة كجرعة
امل ْقلة ،لو متززها الصديان مل ينقع ،فأزمعوا عباد اهلل الرحيل عن هذه الدار املقدور
(((عىل اهلها الزوال ،وال يغلبنكم فيها االمل ،وال يطولن عليكم فيها االمد.
الكايف ج 2ص 110ح -22ونظريه يف هنج البالغة ص 1141ح 115 (( (
االختصاص ص .236 (( (
االختصاص ص .236 (( (
الوسائل ج 16ص 9ب 61ح .5 (( (
هنج البالغة ص 132اخر خ .45 (( (
هنج البالغة ص 139خ .52 (( (
الخامتة233..............................................................................................................
وقال :اال وان الدنيا دار ال ُيسلم منها اال فيها ،وال ينجى بيشء كان هلا،
ابتيل الناس هبا فتنة فام اخذوه منها هلا اخرجوا منه وحوسبوا عليه ،وما اخذوه منها
لغريها قدموا عليه واقاموا فيه ،فإهنا عند ذوي العقول كفيء الظل ،بينا تراه سابغ ًا
((( حتى قلص ،وزائد ًا حتى نقص .
وقال : ما اصف من دار اوهلا عناء واخرها فناء ،يف حالهلا حساب ويف
حرامها عقاب ،من استغنى فيها ُفتن ،ومن افتقر فيها حزن ،ومن ساعاها فاتته،
((( بصته ،ومن ابرص اليها اعمته.
ومن قعد عنها واتته ،ومن ابرص هبا ّ
وقال : انظروا اىل الدنيا نظر الزاهدين فيها ،الصادفني((( عنها ،فإهنا واهلل عام
وتفجع املرتف اآلمن ،ال يرجع ما توىل منها فأدبر،
ّ قليل تزيل الثاوي((( الساكن،
وج َلد الرجال فيها اىل وال ُيدرى ما هو ٍ
آت منها ف ُينتظر ،رسورها مشوب باحلزنَ ،
الضعف والوهن ،فال تغرنّكم كثرة ما اليعجبكم فيها ،لقلة ما يصحبكم منها.
(((
وقال :اما بعد ،فإين احذركم الدنيا ،فاهنا حلوة خرضة ،ح ّفت بالشهوات،
وحتببت بالعاجلة ،وراقت بالقليل ،وحتلت باآلمال ،وتزينت بالغرور ،ال تدوم
غرارة رضّ ارة ،حائلة زائلة ،نافدة بائدةّ ،اكالة ّ
غوالة ،ال حربهتا ،والتؤمن فجعتهاّ ،
((( منية اهل الرغبة فيها والرضاء هبا.
تعدو اذ تناهت الىها ّ
هنج البالغة ص 151خ .62 (( (
هنج البالغة ص 181خ 81 (( (
الصادفني :املنرصفني (( (
املقيم (( (
هنج البالغة ص 302خ .102 (( (
هنج البالغة ص 341خ110 (( (
................................................................................. 234رشح املناجاة الخمس عرشة
ومن كتابه اىل سلامن رمحه اهلل قبل ايام خالفته :اما بعد ،فإنام مثل الدنيا مثل
سمها ،فأعرض عام يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها،
احليةّ ،لي مسها قاتل ّ
وترصف حاالهتا ،وكن آنس ما تكون
ّ وضع عنك مهومها ملا ايقنت به من فراقها،
هبا احذر ما تكون منها ،فإن صاحبها كلام اطمأن فيها اىل رسور اشخصته عنه اىل
((( حمذور ،او اىل ايناس ازالته عنه اىل احياش والسالم .
((( ٍ
كركب يسار هبم وهم نيام. وقال :اهل الدنيا
ومن خرب رضار بن ضمرة عند دخوله عىل معاوية ومسألته له عن امري املؤمنني
قال :فأشهد لقد رأيته يف بعض مواقفه وقد ارخى الليل سدوله وهو قائم يف
حمرابه ،قابض عىل حليته ،يتململ متلمل السليم ،ويبكي بكاء احلزين ،ويقول :يا
ِ
حينك ،هيهات! غري ِ
تشوقت ! ال حان ِ
تعرضت! ام ا ّيل دنيا يا دنياِ ،
اليك عني ،أيب
ِ
طلقتك ثالث ًا ال رجعة فيها ،فعيشك قصري ،وخطرك غريي ،ال حاجة يل ِ
فيك ،قد
((( ِ
واملك حقري .آه من قلة الزاد وطول الطريق ،وبعد السفر وقلة املورد. يسري،
وقال : ان الدنيا واآلخرة عدوان متفاوتان ،وسبيالن خمتلفان ،فمن احب
الدنيا وتوالها ابغض اآلخرة وعاداها ،ومها بمنزلة املرشق واملغرب ،وماش بينهام
((( ٍ
واحد بعد من اآلخر ،ومها بعد رضّ تان. كلام قرب من
وقال : الدنيا دار ممر ال دار مقر ،والناس فيها رجالن :رجل باع نفسه
((( وقال :مرارة الدنيا حالوة اآلخرة ،وحالوة الدنيا مرارة اآلخرة.
((( وقال :الناس ابناء الدنيا ،وال يالم الرجل عىل حب امه.
ومتر ،ان اهلل سبحانه مل يرضها ثواب ًا ألوليائه ،وال
تغر وترضّ ّ
وقال :الدنيا ّ
عقاب ًا ألعدائه ،وان اهل الدنيا كركب بينا هم حلوا اذ صاح هبم سائقهم فارحتلوا(((.
قال امري املؤمنني :من عبد الدنيا وآثرها عىل اآلخرة ،استوخم العاقبة.
(((
وقال رسول اهلل :ما يل والدنيا انام مثيل ومثل الدنيا كمثل راكب مر للقيلولة
((( يف ظل شجرة يف يوم صيف ،ثم راح وتركها.
قال ابو عبد اهلل : مثل الدنيا كمثل البحر املالح ،كلام رشب العطشان منه
((( ازداد عطشا حتى يقتله.
ويف مواعظ عيل بن احلسني وقيل له من اعظم الناس خطر ًا؟ فقال :من
((( مل ير الدنيا خطر ًا لنفسه.
واحلمدهلل عىل كرمه املغدق عىل عباده الفقراء ،ونعمه السابغة عىل عارفيه
بالعطاء ،وصىل اهلل عىل حممد وآله االتقياء ،وعباده االصفياء ،والسالم عىل سيد
االولياء وآله النجباء.