You are on page 1of 241

‫هوية الكتاب‬

‫الكتاب ‪ :‬رشح املناجاة اخلمس عرشة‬


‫املؤلف‪ :‬السيد حممد عيل احللو‬
‫النارش‪ :‬العتبة العباسية املقدسة ‪-‬مركز علوم القران وتفسريه وطبعه‬
‫الكمية‪1000:‬نسخة‬
‫الطبعة‪ :‬األوىل‪.‬‬
‫تاريخ النرش‪ 2016 :‬م ‪ 1437-‬هـ‪.‬‬
‫الطيبني الطاهرين وبعد‪..‬‬ ‫رب العاملني وصىل اهلل عىل حممد و آله ّ‬
‫احلمد هلل ّ‬
‫الدعاء يف مدرسة اإلمام زين العابدين عليه السالم يعدّ كنز ًا من‬
‫كنوز العلم واملعرفة‪ ،‬وهو منهجا نموذجيا فريدا‪ ،‬يتع ّلم فيه املؤمن ختطيط ًا‬
‫متكام ً‬
‫ال لوجوده وتفكريه وعمله‪ ،‬عىل منهج اإلمامة الر ّبانية التي تلهم األمة‬
‫تعاليم الوحي والرسالة‪.‬‬
‫عظيم يتسلح به املؤمن لكي ينجو من األخطار املادية‬ ‫ٌ‬ ‫سالح‬
‫ٌ‬ ‫والدعاء‬
‫واملعنوية‪ ،‬وقد عقد شيخنا الكليني رمحه اهلل يف كتاب الكايف الرشيف باب‬
‫بعنوان‪ :‬الدُّ َعا َء ِس َل ُح ا ُمل ْؤ ِمن‪ ،‬وقد روى يف هذا الباب عن اإلمام أيب عبد‬
‫اهلل الصادق عليه السالم قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪ ‬الدعاء سالح املؤمن‪....‬‬
‫(الكايف الرشيف‪،‬ج‪ 2‬؛ ص‪)468‬‬
‫وروى َع ِن اإلمام عيل بن موسى الرضا عليه السالم أنه كان يقول‬
‫ألصحابه‪( :‬عليكم بسالح األنبياء‪ ،‬فقيل و ما سالح األنبياء؟ قال‪:‬‬
‫الدعاء)‪(.‬الكايف الرشيف‪،‬ج‪ 2‬؛ ص‪)468‬‬
‫وقد تناول سامحة السيد املؤلف يف هذا السفر القيم الذي أكرمنا به‬
‫االمام عيل بن احلسني عليهام السالم ترسيخ تلك املبادئ والقيم امللكوتية‪،‬‬
‫وتعميقها يف نفس اإلنسان ملا هلا من االنعكاس الكبري يف تصحيح سلوكه‬
‫وتقويم فكره وعقيدته‪.‬‬
‫وقد وقف سامحته عىل أرسار تلك املناجاة الرائعة ذات املضامني العالية‪،‬‬
‫يميز به مدرسة االمام زين العابدين عليه السالم العظمى ‪ ،‬وبيان‬ ‫وقام ببيان ما ّ‬
‫ذلك اللون األديب املتميز الذي صاغه يف تلك العبارات الراقية واإلشارات‬
‫النورانية واالرسار الر ّبانية التي مل تشهد االمة اإلسالمية مثي ً‬
‫ال هلا‪ ،‬والتي‬
‫غايتها أن تريب اإلنسان وتوجهه اىل ساحة وجه اهلل الذي إليه يتوجه األولياء‬
‫يف الشدة والرخاء ويف الرس والعالنية‪ ،‬ويف الليل والنهار‪ ،‬وأن يصلح ما بينه‬
‫وبني اهلل عز وجل؛ فقد قال أمري املؤمنني عليه السالم‪ :‬من أصلح ما بينه و‬
‫بني اهلل أصلح اهلل ما بينه و بني الناس‪ ...‬هنج البالغة ؛ ص‪483‬‬

‫ومما يزيدنا سعادة أن يتبنى مركز علوم القرآن وتفسريه وطبعه يف العتبة‬
‫القيم (رشح املناجاة اخلمس عرشة) لإلمام‬
‫العباسية املقدسة طبع هذا الكتاب ّ‬
‫زين العابدين )عليه السالم( لسامحة السيد حممد عيل احللو (دام تسديده) ملا‬
‫مهمة للمؤمنني واملؤمنات‪ ،‬سائلني املوىل عز وجل دوام‬ ‫يتضمن من فوائد ّ‬
‫التوفيق لسامحته يف خدمة حممد وآله الطاهرين إنّه سميع جميب الدعاء‪.‬‬

‫ادارة‬
‫مركز علوم القران وتفسريه وطبعه‬
‫تصدح في نفقات التبتل والخضوع‪..‬‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫المعرفة‬ ‫تراتيل‬
‫تشمخ عالي ًا في ٍ‬
‫غيث هاطلٍ على ارض جرداء ‪..‬‬ ‫ُ‬

‫فترتشف منها شفاه صاديات‬

‫كأنها قطرات الندى‬

‫تنتظر الصباح‪..‬‬
‫ُ‬
‫فأليك أيها الموعود‪..‬‬
‫ُ‬
‫تراتيل جدك السجاد ‪..‬‬

‫خادمكم‬
‫المناجاة الخمس عشرة‬
‫رائعة البيت العلوي الطاهر‬
‫شهد منتصف القرن اهلجري االول حتديات فكرية اودت بثقافة تداول احلديث‬
‫ٍ‬
‫حالة من املطاردات بني السلطة والرواة‪ ،‬او مهاترات بني الرواة انفسهم‪ ،‬او‬ ‫اىل‬
‫وأحيل احلديث النبوي اىل (ظاهرة تارخيية)‬
‫مسابقات ادبية بني بعض متذوقيه‪ُ ،‬‬
‫ٍ‬
‫كحدث تارخيي انتهى اىل غاية ما‪ ،‬واسدل الستار عليه‬ ‫يتحدث عنها املتابعون‬
‫حتى عد مشهد ًا غري مالوف عند ارباب السلطة واتباعهم‪ ،‬وكان ذلك مطلع‬
‫العهد االموي الذي شهد حتو ً‬
‫ال خطري ًا يف التعاطي مع احلديث النبوي‪ ،‬واستطاع‬
‫معاوية ابن ايب سفيان ان يستعيض باحلديث املتواتر حديث ًا موضوع ًا يستعني به‬
‫عىل التحوالت السياسية والرصاع املحتدم بينه وبني املعارضة العلوية التي تزعمها‬
‫االمام احلسن بن عيل ‪ ‬منذ اعالن اهلدنة ورشوطها‪ ،‬فقد سعى معاوية اىل احالة‬
‫احلديث النبوي اىل وسيلة من وسائل حتريف احلقائق والوقائع‪ ،‬واحاله االمام‬
‫احلسن ‪ ‬اىل احدى ادوات املعارضة التي وقفت بوجه التامدي االموي‪ ،‬وبالفعل‬

‫‪7‬‬
‫‪ ................................................................................. 8‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫اسس معاوية احلديث املوضوع‪ ،‬وابقى احلسن بن عيل ‪ ‬عىل احلديث املشهور‪،‬‬
‫واستكمل االمام احلسني ‪ ‬بثورته املقدسة دواعي االبقاء عىل احلديث وتثبيته‬
‫بدمه الطاهر‪ ،‬وترسيخه من خالل ثورته املعطاء‪ ،‬ومل يكن االمام عيل بن احلسني‬
‫والقيم عىل فكره املقدس‪ ،‬ومل‬
‫ّ‬ ‫‪ ‬بعيد ًا عن هذه املهمة يف احلفاظ عىل حديث جده‪،‬‬
‫يستطع االمام ‪ ‬بعد ثورة ابيه ان يتحرك بام يضمن االبقاء عىل احلديث ونرشه‬
‫وتداوله بني الناس اال انه احدث الي ًة خطري ًة يف هذا الشان‪ ،‬وهو تعاطي الدعاء‬
‫وبثه بني ارجاء الناس ليثبت بذلك امور‪:‬‬
‫االول‪ :‬بيان علمهم وبالغتهم وفضلهم عىل الناس من خالل ما ابتدعه من خطاب اهبر‬
‫ذوي البالغة واهل البيان‪ ،‬حتى توجهت االنظار اىل هنجهم القويم من خالل بث الدعاء‬
‫ونرشه‪.‬‬
‫الثاين ‪ :‬كشف اجلهات املدعية لالسالم املغايرة لنهج اهل البيت ‪ ‬وخلوها من هذا‬
‫االبداع – الدعاء – حتى ُاحرجت هذه اجلهات لعدم امكانية القائمني عليها من تاليف مثل‬
‫هذا اخلطاب القيم الذي افحم اجلميع‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬احياء احلديث النبوي واشاعته من خالل تضمني فقرات الدعاء هلذه االحاديث‪،‬‬
‫ودس املقصود النبوي ثمة‪ ،‬ومن هنا عمل االمام ‪ ‬عىل ممارسة قيمومته عىل احلديث ومنع‬
‫جتاوزات االخرين عليه‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬ابتكاراخلطاب االهلي بني العبد وبني ربه من خالل بناء اديب جديد استحدثه االمام‬
‫وروج له اتباعه يف تداوهلم اياه‪ ،‬بعد ان كادت ختلو الذهنية االسالمية من ثقافة الدعاء‪.‬‬
‫‪ّ ‬‬
‫رائعة البيت العلوي الطاهر‪9 ..................................................................................‬‬

‫اخلامس‪ :‬اشاعة ثقافة الدعاء واستبداهلا باالدب الذي اشاعته السلطة من شع ٍر وحكايات‬
‫واهتامم باالنساب وغريها وتعطيل احلديث تداو ًال ومعرف ًة مما حدى بالسلطات اىل تشجيع‬
‫جمالس اللهو وتضمينها باالدب اخلليع الذي يكون ِقوام هذه املجالس وعامدها‪.‬‬
‫السادس‪ :‬التصدي للتحريف الذي احدثته دوائر النظام الفكرية التي سعت اىل‬
‫ِ‬
‫بث احلديث املوضوع وتوجيه اهتامم الناس اىل ذلك‪.‬‬
‫من هنا تصدى االمام زين العابدين ‪ ‬للوقوف بوجه هذه املحاوالت التحريفية‬
‫وحماولة اضعافها وعدم االهتامم هبا‪ ،‬يف الوقت الذي يعاين االمام ‪ ‬من مضايقات‬
‫ومطاردات‪ ،‬وحماوالت الغاء جهوده وتاثريه يف احلياة العامة‪ ،‬اال ان االمام ‪‬‬
‫ٍ‬
‫متجه نحو اللعب والعبث واملجون‪ ،‬ولعل‬ ‫جمتمع‬
‫ٍ‬ ‫ابتكر اسلوب الدعاء واشاعته يف‬
‫احلالة االدبية للمقطع التارخيي الذي نشري اليه سيكون شاهد ًا عىل ذلك‪ ،‬وال يعني‬
‫خلو ادبيات االمام عيل ‪ ‬واالمامني احلسنني عليهام السالم من الدعاء‪ ،‬بل كانت‬
‫هناك ادعية تتعهدها االئمة عليهم السالم فضال عن السيدة فاطمة الزهراء عليها‬
‫السالم التي ُعرفت بادعيتها‪ ،‬اال ان االمام زين العابدين ‪ ‬كشف عن هذا اجلهد‪،‬‬
‫وعزز من ثقافة الدعاء بام ينسجم والسلوك االديب الذي اختذته االمة يومذاك‪ ،‬فقدم‬
‫ِقطعا من الدعاء البليغة‪ ،‬وحث عىل تداوله ‪.‬‬
‫اال ان ما يميز مدرسة االمام زين العابدين ‪ ‬االدبية يف الدعاء‪ ،‬هو تعزيز‬
‫منحى من الدعاء مل تتعارف عليه االمة كثري ًا بل اختزل يف بعض املحاوالت‬
‫لالمام امري املؤمنني ‪ – ‬حسب متابعتي القارصة – وهي املناجاة التي بثها االمام‬
‫زين العابدين ‪ ،‬وهي لون اديب متميز حيث يكون النداء هلل تعاىل من خالل‬
‫‪ ................................................................................. 10‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫ٍ‬
‫ونعمة وبالء‪،‬‬ ‫رس وشدة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫خوف ورجاء‪ ،‬وي ٍ‬ ‫بث ما يعتلج يف صدره الرشيف من‬
‫موجه اليه‬
‫ٌ‬ ‫ٍ‬
‫وحب وهيام كل ذلك‬ ‫ومرض وشفاء‪ٍ ،‬‬
‫وذل واستكانة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وهم وفرج‪،‬‬
‫بعباراته الراقية‪ ،‬واشاراته اجلليلة‪ ،‬واستطاعت هذه املناجاة ان تعرب اشارة الزمن‬
‫لتصل الينا دون ٍ‬
‫سند معلوم سوى ما ذكره العالمة املجليس من كونه عثر عليها يف‬
‫كتب االصحاب‪ ،‬ال ان املتابع الحيوجه اسلوب املناجاة اىل ٍ‬
‫سند يف هذا الشان فان‬
‫سياقات املناجاة تكشف عن انتساهبا اىل اصحاهبا وهم اهل بيت احلكمة ومعدن‬
‫الرسالة وخمتلف املالئكة‪ ،‬فان العبارات التي تتداعى يف هذه املناجاة‪ ،‬وتتواىل فيها‬
‫االشارات العرفانية‪ ،‬واالرسار الربانية ال يايت هبا اال من اهل هذا البيت الذين ختم‬
‫اهلل هلم بالعلم واهلداية واملعرفة‪ ،‬ومل تصدر عن غريهم‪ ،‬ومل نجد فيام بعد عهدهم‬
‫بليغ ان‬
‫الرشيف اي حماولة يف هذا الشان سوى هذه املناجاة البديعة اذ يعجز اي ٍ‬
‫يصور هذه املعاين واالرسار غريهم عليهم السالم‪ ،‬كام يف حتدي القران الكريم يف‬
‫ّ‬
‫منحى اخر من اخلطاب بني العبد وربه‬
‫ً‬ ‫اتيان عرش سور من مثله‪ ،‬واملناجاة هذه‬
‫ُيظهر فيها‪:‬‬
‫ً‬
‫اوال ‪ :‬معرفته ألنعم اهلل تعاىل‬
‫ثاني ًا‪ :‬عجزه عن االحاطة هبذه النعم غري املتناهية ‪.‬‬
‫وهذا من ارقى انواع العبادة التي متيز هبا ائمة اهل البيت عليهم السالم‪.‬‬
‫ومن هنا فقد وجدنا رضورة رشح هذه املناجاة اخلمس عرشةوالتي نرشها مسجد‬
‫الكوفة املعظم يف جملته املوسومة “ السفري” وكانت حلقات العداد عدة وجدنا‬
‫رائعة البيت العلوي الطاهر‪11..................................................................................‬‬

‫ٍ‬
‫موحد يضم هذا اجلهد القارص يف رشح املناجات‬ ‫من الرضورة اجتامعها يف عملٍ‬
‫املباركة والتي تداوهلا العلامء واهل الصالح كثري ًا‪ ،‬ووجدنا رضورة الرتكيز عليها‪،‬‬
‫والتنويه اىل خطورهتا مع اعرتافنا بالتقصري الكبري الذي صاحب عملنا هذا لكن‬
‫املنا ان نساهم يف االشارة املقترصة هلذا العطاء الثر‪ ،‬وان هذه املناجاة مهام اجتمع‬
‫ٍ‬
‫لبعض ظهريا‪ ،‬راجني‬ ‫برشح يناسبها ولو كان بعضهم‬
‫ٍ‬ ‫عليها االنس واجلن فال ياتون‬
‫ان يساحمنا صاحب هذه املناجاة بكرمه املعهود‪ ،‬ورعايته الكريمة‪.‬‬

‫السيد حممد عيل حييى احللو‬


‫ذكرى شهادة االمام زين العابدين ‪‬‬
‫‪ 1437‬هـ‬
‫المناجات االولى‪:‬‬
‫مناجاة التائبين‬
‫ْم الله الرَّحْم ِن الرَّح ِ‬
‫ِيم‬ ‫بِس ِ‬
‫باس َم ْس َكنَتِي َو َأ َ‬
‫مات‬ ‫اخلطايا َث ْو َب َم َذ َّلتِي َو َج َّل َلنِي ال َّت ُ‬
‫باعدُ ِم ْن َك لِ َ‬ ‫((إِهلِي َأ ْل َب َس ْتنِي َ‬
‫ياسؤْ ِل َو ُم ْن َيتِي‪َ ،‬ف َو ِع َّزتِ َك‬
‫ياأ َم ِل َو ُبغْ َيتِي َو ُ‬ ‫يم ِجنا َيتِي َف َأ ْحيِ ِه بِت َْو َب ٍة ِم ْن َك َ‬ ‫َق ْلبِي َع ِظ ُ‬
‫ي َك جابِر ًا َو َقدْ َخ َض ْع ُت بِاإلنا َب ِة إِ َل ْي َك‬ ‫سي َغ ْ َ‬ ‫غافر ًا َوال َأرى لِ َك ْ ِ‬‫واك ِ‬ ‫وب ِس َ‬ ‫َ‬
‫ماأ ِجدُ لِ ُذ ُن ِ‬
‫وذ َوإِنْ َر َد ْد َتنِي َع ْن َجنابِ َك‬‫االستِكا َن ِة َل َد ْي َك‪َ ،‬فإِنْ َط َر ْد َتنِي ِم ْن بابِ َك َفبِ َم ْن َأ ُل ُ‬
‫َو َعن َْو َت بِ ْ‬
‫احي‪،‬‬ ‫اج ِت ِ‬ ‫والفا ُه ِم ْن ُس ِ‬
‫وء َع َم ِل َو ْ‬ ‫ضاحي َو َ ْ‬ ‫وذ‪َ ،‬فوا َأ َسفا ُه ِم ْن َخ ْج َلتِي َوا ْفتِ ِ‬ ‫أع ُ‬ ‫َفبِ َم ْن ُ‬
‫قات َ‬
‫اجلرائِ ِر‬ ‫َب ِل ُموبِ ِ‬ ‫ري َأنْ َت ْ‬ ‫الع ْظ ِم َ‬
‫الك ِس ِ‬ ‫ري َوياجابِ َر َ‬ ‫ْب َ‬
‫الكبِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ياغاف َر َّ‬
‫الذن ِ‬ ‫َأ ْس َأ ُل َك‬
‫القيا َم ِة ِم ْن َب ْر ِد َع ْف ِو َك َو َغ ْف ِر َك َوال‬ ‫السائِ ِر َو ُ ْ‬
‫الت ِلنِي ِف َم ْش َه ِد ِ‬ ‫فاض ِ‬
‫حات َّ‬ ‫ل ِ‬ ‫ت َع َ َّ‬
‫َو َت ْس ُ َ‬
‫وب َغام َم َر ْحَتِ َك َو َأ ْر ِس ْل َعىل‬ ‫ت َك‪ ،‬إِهلِي َظ ِّل ْل َعىل ُذ ُن ِ‬ ‫جيلِ َص ْف ِح َك َو َس ْ ِ‬ ‫ُت ْع ِر ِن ِم ْن َ ِ‬
‫ري ُه ِم ْن‬
‫ي ُ‬‫الع ْبدُ االبِ ُق إِ ّال إِىل َم ْوال ُه ؟ َأ ْم هَ ْل ُ ِ‬
‫حاب َر ْأ َفتِ َك‪ ،‬إِهلِي هَ ْل َي ْر ِج ُع َ‬
‫وب َس َ‬ ‫ُع ُي ِ‬
‫اد ِم َ‬
‫ني‬ ‫ْب َت ْو َب ٌة َف ِّإن َو َع َّز ُت َك ِم ْن ال َّن ِ‬ ‫َس َخ ِط ِه َأ َحدٌ ِسوا ُه ؟ إِهلِي إِنْ كانَ ال َّن َد ُم َعىل َّ‬
‫الذن ِ‬
‫ين ! َل َك ُ‬
‫الع ْتبى َح َّتى‬ ‫فار ِم ْن َ‬
‫اخل ِطيئ َِة ِح َّط ًة َف ِّإن َل َك ِم َن ا ُمل ْس َتغْ ِف ِر َ‬ ‫االستِغْ ُ‬
‫! َوإِنْ كانَ َ‬
‫‪13‬‬
‫‪ ................................................................................. 14‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫ل َوبِ ِح ْل ِم َك َعنِّي ْاع ُف َعنِّي َوبِع ْل ِم َك ِب ْإر ِفقْ ِب‪،‬‬ ‫َت ْرىض‪ ،‬إِهلِي بِ ُقدْ َرتِ َك َع َ َّ‬
‫ل ُت ْب َع َ َّ‬
‫إِهلِي َأن َْت ا َّل ِذي َفت َْح َت لِ ِع ِ‬
‫باد َك باب ًا إِىل َع ْف ِو َك َس َّم ْي َت ُه ال َّت ْو َب َة َف ُق ْل َت ُتو ُبوا إِىل اهلل َت ْو َب ًة‬
‫الذن ُْب ِم ْن‬ ‫الباب َب ْع َد َف ْت ِح ِه ؟ إِهلِي إنْ كانَ َق ُب َح َّ‬
‫ِ‬ ‫َن ُصوح ًا ّفام ُع ْذ ُر َم ْن َأ ْغ َف َل ُد ُخ َ‬
‫ول‬
‫ض‬ ‫الع ْف ُو ِم ْن ِع ْن ِد َك‪ ،‬إِهلِي ما َأنا بِ َأ َّو ِل َم ْن َع َ‬
‫صاك َفت ُْب َت َع َل ْي ِه َو َت َع َّر َ‬ ‫َع ْب ِد َك َف ْل َي ْح ُس ُن َ‬
‫ياع ِلي ًام بِام ِف‬
‫الب َ‬ ‫يم ِ ِّ‬‫ياع ِظ َ‬
‫الض َ‬ ‫ياكاش َف ُّ ِّ‬ ‫ِ‬ ‫يب ا ُمل ْض َط ِّر‬ ‫وف َك َف ُجدْ َت َع َل ْي ِه‪ِ ُ ،‬‬
‫يام َ‬ ‫ِلَ ْع ُر ِ‬
‫ح َك‬ ‫ود َك َو َك ِ‬
‫رم َك إِ َل ْي َك َو َت َو َّس ْل ُت بِ َجنابِ َك َو َت َر ُّ ِ‬ ‫است َْش َف ْع ُت بِ ُج ِ‬
‫ت ْ‬ ‫الس ْ ِ‬
‫يل ِّ‬‫ياج َ‬
‫الس َ ِ‬
‫ِّ ِّ‬
‫يك َرجائِي َو َت َق َّب ْل َت ْو َبتِي َو َك ِّف ْر َخ ِطيئَتِي بِ َمن َِّك‬ ‫است َِج ْب ُدعائِي َو ُ َ‬
‫الت ِّي ْب ِف َ‬ ‫َل َد ْي َك‪َ ،‬ف ْ‬
‫الر ِ ِ‬ ‫َ‬
‫اح َ‬
‫ني ‪)).‬‬ ‫َو َر ْحَتِ َك ياأ ْر َح َم َّ‬
‫مناجاة التائبني‪15 ...................................................................................................‬‬

‫شرح المناجاة االولى‬

‫مناجاة التائبين‬
‫((الهي البستني الخطايا ثوب مذلتي))‬
‫يبدأ االمام ‪ ‬مناجاته مع اهلل تعاىل باالعرتاف له‪ ،‬واالقرار بذنوبه وهي حالة‬
‫تشري اىل فقر االنسان وفاقته‪ ،‬وغناه تعاىل وعدم حاجته‪ ،‬والتذلل واالنكسار‬
‫باالعرتاف هو اقرب الوسائل اىل اهلل تعاىل يف االقرار بالعبودية وعظيم الطاعة‪،‬‬
‫واالمام زين العابدين ‪ ‬كام ستظهر يف رشوحات املناجاة القادمة – ال يعني انه‬
‫صاحب الذنوب التي جيب االعرتاف هبا‪ ،‬وانام اراد ‪ ‬ان يتذلل هلل تعاىل باشد‬
‫ما يمكن التذلل واالنكسار له‪ ،‬ومعنى ذلك انه مهام كانت طاعته هلل تعاىل فهو يف‬
‫احلقيقة يشري اىل التقصري مع اهلل تعاىل‪ ،‬فان نعمه التي ال حتىص تستحق كل طاعة‬
‫ومل ِ‬
‫تف حيال ما اغدق سبحانه عليه‪ ،‬فضال عن كون االمام ‪ ‬ينطلق من ٍ‬
‫درس‬
‫تربويٍ يوجهه اىل اصحابه وشيعته واتباعه‪ ،‬وكل من قرأ كتابه هذا وسمعه فانه‬
‫ينتبه اىل ان يكون االنسان دائام معرتف ًا بتقصري ما يقدمه يف حرم طاعته تعاىل من‬
‫القلة التي التتناسب ونعمه التي ال ُتىص‪.‬‬
‫قال يف القاموس‪ :‬االله‪ :‬عىل وزن فعال بمعنى مفعول النه مألوه اي معبود ككتاب‬
‫بمعنى مكتوب ((اهلل )) قيل اصله اله فحذفت مهزته وادخل عليه االلف والالم‬
‫ُ‬
‫فخص بالباري تعاىل ولتخصيصه به قال تعاىل (( هل تعلم له سميا)) مريم ‪65:‬‬
‫قال الشيخ الكفعمي ‪ :‬واعلم ان هذا االسم وهو ((اهلل )) قد امتاز عن غريه من‬
‫‪ ................................................................................. 16‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫االسامء بامور عرشة‪:‬‬


‫االول ‪ :‬انه اشهر اسامء اهلل تعاىل‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬اعالها حمال يف القرآن ‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬اعالها حمال يف الدعاء‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬انه ُجعل امام سائر االسامء ‪.‬‬
‫اخلامس‪ :‬انه خص بكلمة االخالص‪.‬‬
‫السادس‪ :‬انه وقعت به الشهادة‪.‬‬
‫السابع‪ :‬انه علم عىل الذات املقدسة فال يطلق عىل غريه حقيق ًة وال جماز ًا قال‬
‫تعاىل (( هل تعلم له سميا)) اي هل احد يسمى اهلل‪.‬‬
‫الثامن ‪ :‬ان هذا االسم الرشيف دل عىل الــذات املقدسة املوصوفة بجميع‬
‫الكامالت وباقي االسامء ال تدل آحادها وال عىل آحاد املعاين كالقادر عىل القدرة‪،‬‬
‫والعامل عىل العلم‪ ،‬او فعل منسوب اىل الذات مثل قوله ((الرمحن )) فانه ٌ‬
‫اسم‬
‫للذات مع اعتبار الرمحة‪.‬‬
‫التاسع‪ :‬انه اسم غري صفة بخالف سائر االسامء فاهنا تقع صفات‪.‬‬
‫العارش‪ :‬ان مجيع اسامئه احلسنى تتسمى هبذا االسم وال يتسمى هو بيشء منها فال‬
‫يقال‪ :‬اهلل اسم من اسامء الغفور او الرحيم ولكن يقال ‪ :‬الغفور اسم من اسامء اهلل‬
‫تعاىل وهنا ترضع اليه تعاىل بأن ذنويب غمرتني بكثرهتا حتى اشعر ان املذلة صارت‬
‫يل ثوب ًا جيللني ويغمرين‪.‬‬
‫مناجاة التائبني‪17 ...................................................................................................‬‬

‫(( وجللني التباعد منك لباس مسكنتي ))‬


‫جللني‪ :‬جلل اليشء بمعنى غطاه‪ ،‬اي البسني كام ورد يف دعاء له ‪ : ‬وجللني‬
‫رضاك‪.‬‬
‫التباعد ‪ :‬خالف التقارب‪ ،‬ومعناه عدم الرضا الن التباعد املكاين ال حيصل فيه‬
‫سبحانه لتنزهيه عن اجلسمية‪.‬‬
‫لباس املسكنة ‪ :‬اي لباس الذلة واالفتقار‪ ،‬واملستكني ‪ :‬اسم فاعل من استكان‬
‫اذ اذل و خضع‪.‬‬
‫(( وامات قلبي عظيم جنايتي))‬
‫اثر الذنوب تنعكس عىل القلب حتى ترتكه غري مستقيم منكوس ًا ال يفقه وال‬
‫يعي شيئ ًا‪ ،‬كام يف قوله تعاىل (( ولكن تعمى القلوب التي يف الصدور )) احلج‪46 :‬‬
‫حتى ال يكاد يعقل صاحبها‪ ،‬وقوله تعاىل‪(( :‬بل ران عىل قلوهبم)) املطففني‪14 :‬‬
‫والرين الصدأ الذي يعلو اليشء‪ ،‬وصدأ القلوب ما تعلوه من الذنوب حتى تصده‬
‫عن الذكر واملعرفة باهلل تعاىل‪.‬‬
‫فكلام زادت ذنوب العبد كلام انكفأ قلبه عىل املعصية حتى صار ال يشعر بيشء‬
‫من املعرفة التي حتول بينه وبني معصية اهلل تعاىل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بتوبة منك يا اميل وبغيتي))‬ ‫((فأحيه‬
‫نعم‪ ،‬احياء القلب بالتوبة وهي االعرتاف بالذنب واالقرار باخلطيئة وعدم العود‬
‫بعد ذلك‪ ،‬فإذا أشعر االنسان قلبه هبذا أحياه اهلل تعاىل بلطفه ورمحته ‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 18‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫واألمل الرجاء‪ ،‬والبغية‪ :‬من إبتغاء اليشء اذا طلبه‪ ،‬وبغيتي طلبتي وحاجتي ال‬
‫اطلب سواها‪.‬‬
‫(( ويا سؤيل ومنيتي))‬
‫سؤيل‪ :‬من السؤال وهو الطلب احلثيث الذي يبتغيه السائل‪ ،‬وسؤيل اي ال اجد‬
‫حاج ًة وسؤا ً‬
‫ال سواك حتى رصت انت غايتي وسؤيل‪.‬‬
‫املنية‪ :‬من املنى بضم االول وهي الغاية والرغبة التي يسعى اليها الطالب واصله‬
‫التمني القلبي الذي يدفع االنسان لطلب ما متناه ورغبه‪.‬‬
‫(( فوعزتك ما اجد لذنوبي سواك غافرا))‬
‫العزة‪ :‬الغلبة والقهر‪ ،‬حتى صارت صف ًة له تعاىل‪ ،‬وعزته قدرته وقوته ‪.‬‬
‫لقوله تعاىل‪(( :‬ايبتغون عندهم العزة فإن العزة هلل مجيعا)) النساء‪139 :‬‬
‫(( وهلل العزة ولرسوله وللمؤمنني)) املنافقون ‪8:‬‬ ‫وقوله تعاىل‬
‫قسم بعزته تعاىل انه مل جيد لذنبه غافر ًا سواه‪ ،‬فكل من سواه ال تصدر‬
‫وعزتك ‪ٌ :‬‬
‫منه التوبة الن االمر بيده تعاىل يرحم من يشاء ويعذب من يشاء‪ ،‬وبيده امللك وهو‬
‫القادر عىل العفو والرمحة‪.‬‬
‫وعندما يستعرض ذنوبه ويستشعر بانكساره‪ ،‬ويتوقع بالء ما يصيبه من العقاب‬
‫يناجي ربه بقوله ‪(( :‬وال أرى لكرسي غريك جابرا))‬
‫بعد ان يقسم بعزته تعاىل أنه ال يغفر الذنوب سواه‪ ،‬وانه يطلب منه تعاىل أن‬
‫يعفو عنه‪ ،‬اال ان هذا الذنب يولد انكسارا يف النفس للذلة التي تدخله هذه الذنوب‬
‫مناجاة التائبني‪19 ...................................................................................................‬‬

‫عىل مرتكبها‪ ،‬فهو حينام يقدم عىل الذنب يشعر بالتأنيب والندم واألسف عىل هذا‬
‫التفريط‪ ،‬لذلك يقول اإلمام الباقر ‪ ‬يف التوبة التي يصاحبها الندم‬
‫((كفى بالندم توبة))‪.‬‬
‫فالندم أصدق جتليات التوبة وأوضح مصاديقها‪ ،‬اذ الندم ينبعث من شعور اخليبة‬
‫واالحباط الذي يولده الذنب‪ ،‬فيحط هذا الندم هبواجسه ومشاعره وكل إحساساته‬
‫حتى ال جيد اال شعورا بالتأنيب وهذا التأنيب يولد التحقري واالستصغار للنفس‬
‫فيؤدي ذلك اىل االنكسار وقلة االعتداد بنفس ارتكبت ما خيالف اجلبار وهي تعلم‬
‫انه املالك والقادر والقاهر فكيف جترتئ عىل مالكها ومهلكها ثم حمييها‪ ،‬فاذا متعن‬
‫املذنب يف حقارة نفسه واستكان لصغره عندها يشعر باملذلة ومن ثم االنكسار‪،‬‬
‫فضال عن اثار الذنوب التكوينية عىل توفيق االنسان وقلة رزقه وشقائه يف حتصيل‬
‫حظه من هذه الدنيا‪ ،‬فام يواجه من نكد وبؤس وشقاء سببه آثار الذنوب‪ ،‬مما جتعله‬
‫حقريا يف نفسه‪ ،‬وضيعا يف مهته‪ ،‬لذا يشري اإلمام اىل هذه احلالة ويؤكد عىل هذه‬
‫أجب‬
‫احلقيقة ويطلب التائب ان يرجعه اهلل اىل حال االستقامة والعافية فيكون ممن ْ‬
‫اهلل كرسه‪ ،‬وهذا الكرس هو كرس النفس وانتقاصها حتى لكأنه ال يشعر بكرامته‬
‫واعتباره وأي ك ٍ‬
‫رس هذا جيعل من املذنب خملوقا حقريا هائام ال هيتدي اىل سبيل‬
‫لوال ان جيريه باستشعاره بحالة التوبة التي تعيد له ‪-‬هذه املشاعر ‪ -‬اعتباره لنفسه‬
‫وكرامته املستباحة بذنوبه‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 20‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫خضعت باالنابة اليك))‬


‫ُ‬ ‫((وقد‬
‫االنابة ‪ :‬الرجوع عن الذنب بعد ارتكابه‪ ،‬ومصدره آب أي رجع‪ ،‬وآب اىل اهلل‬
‫اي رجع عن ذنبه فهو أواب للمبالغة‪ ،‬ولكي يصدق يف توبته فانه يؤكد عىل رجوعه‬
‫اىل اهلل‪ ،‬ألن ارتكاب الذنب خروج عن حريم اهلل وجترئ عىل حدوده‪ ،‬وجتاوز له‪،‬‬
‫بل هو فرار من رمحته لكن إىل عقابه‪ ،‬فال يقال أنه فر من اهلل‪ ،‬فأين يفر وامللك كله‬
‫له‪ ،‬فال يشء يف هذا الكون إال له سبحانه‪ ،‬فهو املالك املهيمن اجلبار القادر القاهر‬
‫املتعال‪ ،‬فاىل اين يفر املذنب احلقري الصغري الوضيع‪ ،‬وهل من يشء يؤويه يكون‬
‫خارجا عن ملكه ؟! تعاىل اهلل علوا كبريا يف قدرته وجربوته‪ ،‬فأين هذا الصغري‬
‫احلقري له ان خيرج عن ملكه‪ ،‬ويفر خارج حدود مملكته فهو املطلق مللك مطلق‪ ،‬نعم‬
‫خرج من رمحته ودخل اىل عذابه‪ ،‬ثم هو يتوب فيدخل يف رمحته ويعود اىل عطفه‬
‫ورعايته‪ ،‬فياله من شقي ال يتوب‪ ،‬ومن بائس ال يؤب ‪.‬‬
‫((وعنوت باالستكانة لديك))‬
‫ُ‬
‫عنا بمعنى خضع وذل‪ ،‬فالتائب يصف عودته إىل ربه باخلضوع واالستكانة‪،‬‬
‫وهي أقىص غايات احلاجة واالفتقار‪ ،‬فهو لذله وخضوعه إىل ربه استكانه واحتاج‬
‫اليه ‪.‬‬
‫((فان طردتني من بابك فبمن ألوذ))‬
‫هب سيدي أنك مل تقبل توبتي فإىل من اجته‪ ،‬وان اوصدت ع ّ‬
‫يل بابك فاهيا ارجو‪،‬‬
‫وهل ‪ -‬وانت الكريم ‪ -‬تطرد مسكينا التجأ اليك‪ ،‬ومنكرسا توسل فيك‪ ،‬وخائفا‬
‫مناجاة التائبني‪21 ...................................................................................................‬‬

‫ال َذ بِك‪ ،‬فان طردتني من بابك فبمن الوذ‪ ،‬ومن يقيلني‪ ،‬وأي األبواب تسعني‬
‫وبابك ال يغلقه غضبك‪ ،‬وعفوك ال ينقصه كرمك‪ ،‬فان قبلتني فبكرمك‪ ،‬وان‬
‫طردتني فبعدلك‪ ،‬لكن رمحتك سبقت غضبك‪ ،‬وعدلك وسع عطاءك ‪.‬‬
‫((وان رددتني عن جنابك فبمن أعوذ))‬
‫وقد لذت بك وفزعت اليك فكيف تردين خائبا‪ ،‬وكيف تطرد منيبا‪ ،‬وهل أنت‬
‫اال الغفور وقد اخذت عىل نفسك العفو‪ ،‬لكن حسبي قول أمري املؤمنني ‪( :‬ان‬
‫استطعتم ان يشتد خوفكم من اهلل وحيسن ظنكم به‪ ،‬فامجعوا بينهام‪ ،‬فانام يكون‬
‫حسن ظن العبد بربه عىل قدر خوفه‪ ،‬فان احسن الناس باهلل ظنا اشدهم خوفا‪،‬‬
‫فدعوا األماين منكم وجدوا واجتهدوا‪ ،‬وأدوا اىل اهلل حقه واىل خلقه‪ ،‬فام مع احد‬
‫براءة من النار‪ ،‬وليس ألحد عىل اهلل حجة‪ ،‬وال بني احد وبني اهلل قرابة‬
‫فبك استعني‪ ،‬وبحسن الظن بك أرجو فهو نجايت من كل هول‪ ،‬ومنقذي يف كل‬
‫شدة ‪.‬‬
‫((فــوا أسفاه من خجلتي وافتضاحي‪ ،‬ووالهفاه من ســوء عملي‬
‫واجتراحي))‬
‫عندها أنادي باألسف عىل ما فرطت يف حقوق اهلل‪ ،‬وما جتاوزت من حدوده‪،‬‬
‫فقد ارتكبت من الذنوب ما الطاقة يل عىل محل عقوباهتا‪ ،‬فضال عن خجيل من‬
‫فضيحتي أمام األعيان‪ ،‬واخلجل ‪ :‬حالة النفس عندما يعرتهيا اثر بسبب نقص‬
‫لقصور او تقصري‪ ،‬وهو ليس كاالستحياء كام أثار اليه بعض اللغويني‪،‬‬
‫‪ ................................................................................. 22‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫فاالستحياء ‪ :‬صفة ثابتة يف النفس غري طارئة عليه كام يف اخلجل الذي هو داعي‬
‫بسبب ما يصاحب النفس من أمر تراه غري مناسب او ال ينسجم مع دواعيها ‪.‬‬
‫لذا فلم يعرب ‪ ‬باالستحياء‪ ،‬اي يقول ‪ :‬فوا اسفاه من استحيائي‪ ،‬بل قال فوا‬
‫اسفاه من خجلتي ‪.‬‬
‫واالفتضاح من الفضيحة بمعنى انكشاف ما هو مستور‪ ،‬فافتضاح األمر‪،‬‬
‫اشتهاره ومعرفته‪ ،‬وافتضاح االنسان اشتهاره بعيب ‪ ،‬وانكشاف عيبا كان مستورا‪،‬‬
‫وهو اشد ما يكون فيه االنسان من اخلزي واملهانة‪ ،‬املوجبان لإلذالل واالنكسار‪،‬‬
‫فاملذنب خيشى من انكساره بعد افتضاحه عىل رؤوس االشهاد‪ ،‬وما تبديه العقوبة‬
‫أمام الناس من اذالل‪ ،‬وكم حياول االنسان ان يظهر نفسه باملظهر اجلميل‪ ،‬وبالسمعة‬
‫الطيبة‪ ،‬واذا هو مكشوف العورة بذنوبه السيئة وبمجازاته بالعقوبة‪ ،‬فينكشف أمره‬
‫للناس خالف ما كان يظهره هلم من التقوى وحسن السرية‪ ،‬فأي افتضاح هو اخزى‬
‫من هذا االفتضاح ‪.‬‬
‫(واجرتاحي) االجــراح عمل اجلــوارح‪ ،‬ويطلق عىل ما كسبته جوارحه من‬
‫عمل‪ ،‬وكل ما تعمله اجلوارح فهو اجرتاح‪( ،‬وسوء عميل) هو اعم من ارتكاب‬
‫اجلوارح ونية القلب‪ ،‬يف حني االجرتاح هو عمل اجلارحة املتفرع عىل العزم القلبي‬
‫والنية السيئة ‪.‬‬
‫((اسالك يا غافر الذنب الكبير))‬
‫عندها يسأل ربه بعد الثناء عليه انه غافر الذنب‪ ،‬واي ذنب‪ ،‬ذنبه الكبري الذي ال‬
‫مناجاة التائبني‪23 ...................................................................................................‬‬

‫يعفو عنه اال الكبري‪ ،‬اذ البد من ان يقدم امام دعائه مدحته تعاىل‪ ،‬والثناء عليه وهذا‬
‫منتهى االدب بل هو منتهى احلاجة والطلب ‪.‬‬
‫((ويا جابر العظم الكسير))‬
‫انجبار العظم داللة عىل اصالح األمر ومعناه اصالح احلال بعد االذالل الذي‬
‫سببه االنكسار بعد العقوبة بل بعد عدم الرضا من اهلل تعاىل وهو منتهى االنكسار‪،‬‬
‫فالذي جيرب احلال بعد انكساره ال يكون اال من له القدرة عىل انجبار العظم بعد‬
‫كرسه‪ ،‬اذ ذلك دليل القدرة والتمكن وال يليق اال باهلل القادر‪ ،‬الذي اصلحه بعد‬
‫اجياده‪ ،‬واكرمه بعد امتهانه‪ ،‬فهو القادر عىل ان خيلق من العدم انسانا سويا‪ ،‬كام انه‬
‫القادر ان يعيد كرامة العبد بعد استحقاقه العقوبة بالعفو ‪.‬‬
‫((ان تهب لي موبقات الجرائر))‬
‫اجلريرة ‪ :‬الذنب‪ ،‬وانام سميت بذلك الن االنسان جير ذنبه معه وكأنام ذنبه يتبعه‬
‫اينام توجه‪ ،‬فهو جيره‪ ،‬وكام ان ذنب احليوان يلتصق به ويصاحبه اينام يكون فكذلك‬
‫الذنب‪ ،‬وانام شبه بالذنب لتابعية ذنب احليوان لصاحبه‪ ،‬فذنب االنسان ال يفارقه‪ ،‬بل‬
‫هو جريرته واجلمع جرائر ‪.‬‬
‫واملوبقات ‪ :‬املهلكات وهي صفة الذنوب ألهنا مهلكة لصاحبها‪ ،‬وانام اضاف‬
‫املوبقات للذنوب التي هي جرائر‪ ،‬الهنا مهلكته‪ ،‬واي يشء اعظم من اجرتاح االنسان‬
‫هلالكه بسبب ذنوبه وعيوبه ‪.‬‬
‫وان هتب يل موبقات اجلرائر‪ ،‬اذا عفى عنه ووهب له‪ ،‬اي اسقط له من حقه‪ ،‬فاهلل‬
‫‪ ................................................................................. 24‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫احق بان يعاقب املذنب بذنبه‪ ،‬وهو حقه‪ ،‬لكنه هيبه اىل عبده بالعفو فيسقط عنه العقوبة‬
‫((وتستر علي فاضحات السرائر))‬
‫وهي الذنوب التي تفضح رسيرته ودخيلته التي حرص االنسان ان يظهرها‬
‫باحسن احلال‪ ،‬حتى اذا رآه الرائي ظن حسن حاله وكريم مآله‪ ،‬لكنه حني تفضحه‬
‫الذنوب بالعقوبة انكشف ما كان مستورا‪ ،‬ووضح ما كان جمهوال‪ ،‬والرسائر ‪ :‬مجع‬
‫رسيرة وهو ما كتم ومل يعلن‪ ،‬وهو دخائل النفس وما انكتمت عليه ‪.‬‬
‫((وال تخلني في مشهد القيامة من برد عفوك وغفرك))‬
‫ختلني ‪ :‬اي ترتكني‪ ،‬وهي اخللوة بمعنى خىل بينه وبني اليشء‪ ،‬اي تركه (ومشهد)‬
‫عىل وزن مفعل اسم مكان للشهادة‪ ،‬فهو مكان شهادة الناس بعضهم عىل بعض‪،‬‬
‫او شهادة االهوال‪ ،‬وما اعده اهلل من الثواب والعقاب‪ ،‬ونسبته اىل يوم القيامة ألن‬
‫الشهادة احلقيقية واحلضور الواقعي لكل ما اوعد اهلل االنسان عليه ومل يؤمن به اال‬
‫بالظن‪ ،‬أو مل يؤمن به اصال‪ ،‬فيوم القيامة سيكون شاهدا ومشهودا لكل اخلالئق‬
‫فهو مشهد تعرض فيه كل ما غاب عن احلس ويف الدنيا‪ ،‬فيشاهده عيانا بالتجسد‬
‫احلقيقي والتجسم الواقعي عند ذاك ‪.‬‬
‫ولشدة الظمأ الذي يعانيه االنسان يوم القيامة بسبب األهوال والباليا واملشقات‬
‫التي يلقاها االنسان وهو يتقلب يف رحالته امللكوتية‪ ،‬يشعر عندها بالظمأ واحلرارة‬
‫املعنويني فضال عن املاديني‪ ،‬وكل ذلك حيتاج معها االنسان اىل رضا اهلل تعاىل بالعفو‬
‫عنه والصفح لديه ليخفف هذا العبء من الشدة والظمأ ليحس بالربودة والراحة‬
‫مناجاة التائبني‪25 ...................................................................................................‬‬

‫واألمان‪ ،‬كام يشعر الظمآن بالراحة واالطمئنان حينام يعطى رشبة ماء ليطفئ به‬
‫غليله وشدة ظمأه‪ ،‬هكذا هو العفو الذي يتعقبه األمان واالستقرار بعد حالة اهللع‬
‫واخلوف التي تصيب االنسان غري املذنب‪ ،‬فكيف باملذنب الذي تيقن بالعقوبة لوال‬
‫رمحة اهلل وعفوه ورضوانه ‪.‬‬
‫والوصف هنا دقيق‪ ،‬اذ الذي يبتىل بشدة وبالء وحمنة فانه يشعر بحرارة تنبعث‬
‫من كوامن نفسه امللتهبة واملتحرقة ملا تتصوره وتتوقعه من عتاب يعقبه بالء وبالء ‪.‬‬
‫صاب به ذلك املذنب؛ وبيان استكانته هلل تعاىل؛‬
‫وبعد بيان االنكسار الذي ُي ُ‬
‫يعريه من عفوه والسرت عليه‪.‬‬
‫يطلب منه ان ال ِّ‬
‫((و َل ُت ْع ِرنِي ِم ْن َج ِميلِ َص ْف ِح َك َو َس ْت ِر َك))‪.‬‬
‫َ‬
‫فان العقوب َة ِّ‬
‫تعري االنسان عن كل ما‬ ‫فكأن اهلل قد سرته بالعفو والتجاوز‪ ،‬وإ َّ‬
‫ال َّ‬ ‫َّ‬
‫حاول سرته‪ ،‬وتكشف سوءته وقبائحه ؛ لذا فان فضيح ًة كفضيحة االنسان حينام‬
‫يتعرى فتنكشف سوءته لكبري ٌة جدا‪ .‬فكم من ٍ‬
‫قبيح سرته سبحانه بالعفو ؛وكم من‬
‫مجيلٍ اسداه غفرانه بالتجاوز‪ .‬فيا سوءتا مما يكون مني حينام تنكشف كل عيويب‪،‬‬
‫وتنفضح كل خطاياي‪ ،‬فاسرتين يا رب بعفوك وال تفضحني عىل رؤوس األشهاد‪،‬‬
‫فان فعلت ذلك فمن يسرتين يا رباه ؟! ‪.‬‬
‫((إِل ِهي َظ ِّل ْل َعلى ُذ ُنوبِي َغما َم َر ْح َمتِ َك))‪.‬‬
‫التظليل‪ :‬هو وضع السرت عىل اليشء لئال ينكشف للعيان‪ ،‬ومنه التظليل عن‬
‫الشمس‪ ،‬حتى يمنع وصول أشعتها اىل اليشء ا ُملظ َّلل‪ ،‬ولكي ال تنكشف ذنويب فان‬
‫غامئم رمحتك هي التي تظل ُلها لئال تنكشف و ُترى‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 26‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫الغامئم التي حتمل اخلري باملطر ذلك املاء‬


‫َ‬ ‫وكم هو ٌ‬
‫مجيل تشبيهه عليه السالم‬
‫املنهمر؛ لتظلل هذه الذنوب اجلــرداء من كل خري ؛ فإذا أظلتها افادهتا بالرمحة‬
‫وحسن العطاء‪.‬‬
‫((و َأ ْر ِس ْل َعلى ُع ُيوبِي َس َ‬
‫حاب َر ْأ َفتِ َك ))‪.‬‬ ‫َ‬
‫وس ِّمي سحابا ألن اهلواء يسحبه‪ .‬والفرق بينه وبني الغامم‪،‬‬
‫السحاب‪ :‬مثل الغامم ُ‬
‫َّ‬
‫أن الغامم هو السحابة املتقطعة‪ ،‬والسحاب هو الغامم املجتمع وكالمها بمعنى واحد‪،‬‬
‫حاب‪) ...‬‬
‫وب َس َ‬‫(و َأ ْر ِس ْل َعىل ُع ُي ِ‬
‫وقد استعمل عليه السالم يف السحاب االرسال َ‬
‫وب َغام َم‪) ...‬؛ ألن اإلرسال هو ما يستعمل‬ ‫ويف الغامم استخدم ظالل َ‬
‫(ظ ِّل ْل َعىل ُذ ُن ِ‬
‫يف اليشء الكثري‪ ،‬وما يؤدي اىل اهنامر املاء ومتابعته‪ ،‬والغامم ال يعمل لقلته اال عىل‬
‫التظليل‪ ،‬وهكذا عليه السالم استخدم االرسال والتظليل مراعيا الكثرة والقلة ‪.‬‬
‫الع ْبدُ االبِ ُق إِ ّال إِلى َم ْوال ُه ؟))‪.‬‬
‫((إِل ِهي َه ْل َي ْر ِج ُع َ‬
‫أجل فأين يرجع العبد اذن‪ ،‬أليس اىل مواله؟ ألن اآلبق تضيق به املسالك‪ ،‬وال‬
‫يؤويه أحد؛ ألنه مطلوب إىل مالكه‪ ،‬فال حيتمل أحد أن يأوي مملوك ًا خرج عن ملك‬
‫مالكه‪ ،‬فان مالكه يطالب غريه اذا أفلت عبده بسببه‪.‬فاي أحد بعد ذلك يؤويني؟‬
‫وأنا املتمرد عىل موالي إ َّ‬
‫ال بالرجوع والندم بعد ما مل أجد ما يؤويني غري موالي‬
‫ومالك رقي‪ ،‬فكيف افلت عن عقابه‪ ،‬واخرج عن طاعته ويالي ‪ ..‬ويالي ‪. ..‬‬
‫مناجاة التائبني‪27 ...................................................................................................‬‬

‫((أ ْم َه ْل ُي ِج ُير ُه ِم ْن َس َخ ِط ِه َأ َح ٌد ِسوا ُه ؟))‪.‬‬


‫َ‬

‫كيف والكل مشفقون من سطوته؟ أيريدُ احدُ هم ان يأوي عبدا متمردا عىل‬
‫سيده ؟ فمن جيريه ؟ ومن يعيده ؟ فلينقذ نفسه من سطوته حتى جيري غريه من‬
‫غضبه ؛ وليعصم نفسه من عقوبته حتى يعني غريه عىل معصيته ‪.‬‬
‫أإىل أرض تؤويه ومقاليدها بيده ؟ أم إىل سامء يصعد فيها وهي يف قبضته ؟ أم يف‬
‫بح ٍر وكل ما فيه يسبح بحمده ؟ بل املالئكة من خيفته ‪ .‬فإىل أين ُّ‬
‫يفر منه اال اليه؟‬
‫يؤوب اليك‪.‬‬
‫َ‬ ‫فسبحانك ما اعظم سلطانك‪ ،‬وما أشد وطأتك عىل من عصاك حتى‬
‫وكيف يرجو النجاة من هو يف قبضته؟ فليذهب اىل ارض ليست له‪ ،‬واىل سامء‬
‫ليست يف ملكه‪ ،‬واىل اين يفر؟ والكل خيشى غضبه‪ ،‬وخياف سلطانه‪.‬‬
‫اد ِم َ‬
‫ين))‪.‬‬ ‫ب َت ْو َب ٌة َفإ ِّني َو َع َّزتِ َك ِم ْن ال َّن ِ‬ ‫((إِل ِهي إِنْ كانَ ال َّن َد ُم َعلى َّ‬
‫الذ ْن ِ‬
‫بعد أن يأس العبد املذنب من نجاته إ َّ‬
‫ال بعفوه؛ فهو يترضَّ ع اىل مواله بالندم ليكون‬
‫اساس توبته‪ ،‬وهذا يرجع اىل قول امري املؤمنني عليه السالم يف التوبة النصوح حني‬
‫ان وال َق ْصدُ عىل أنْ ال َي ُ‬
‫عود) ‪.‬‬ ‫غفار ِّ‬
‫بالل َس ِ‬ ‫لب‪ ،‬واستِ ٌ‬
‫يسأل عنها ( َن َد ٌم بِال َق ِ‬
‫وقوله ‪( :‬ال َّن َد ُم َعىل َ‬
‫اخل ِطيئ َِة‬ ‫وقوله ‪( : ‬ال َّن َد ُم َعىل َ‬
‫اخل ِطيئ َِة َي ْم ُحوهَ ا)‬
‫(((‬

‫استِغْ َف ٌار)((( واروع من قال عليه السالم يف تفصيله لالستغفار بعد ان قال لقائل‬ ‫ْ‬
‫بحرضته استغفر اهلل‪ ،‬قال ‪َ :‬ث ِك َل ْت َك ُأ ُّم َك َأ َتدْ ِري َما ِال ْستِغْ َف ُار ؟ ِال ْستِغْ َف ُار َد َر َج ُة‬
‫اس ٌم َو ِاق ٌع َع َل ِس َّت ِة َم َع ٍ‬
‫ان‪:‬‬ ‫ا ْل ِع ِّل ِّينيَ ُ‬
‫؛وه َو ْ‬
‫(( ( –جامع احاديث الشيعة ‪،‬باب وجوب التوبة من الذنوب ‪.338/14‬‬
‫(( ( –مستدرك الوسائل‪،‬باب وجوب سرت الذنوب ‪.118/12‬‬
‫‪ ................................................................................. 28‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫َأ َّو ُ َلا‪ -:‬ال َّندَ ُم َع َل َما َم َض ‪،‬‬

‫ان‪ -:‬ا ْل َع ْز ُم َع َل َت ْر ِك ا ْل َع ْو ِد إِ َل ْي ِه َأ َبد ًا ‪،‬‬


‫وال َّث ِ‬

‫‪،‬ح َّتى َت ْل َقى َّ َ‬ ‫وال َّثالِ ُث‪َ -:‬أ ْن ُتؤَ ِّد َي إِ َل ْالَ ْخ ُل ِ‬
‫س َل ْي َ‬
‫س َع َل ْي َك‬ ‫الل أ ْم َل َ‬ ‫وقنيَ ُح ُقو َق ُه ْم َ‬
‫َتبِ َع ٌة ‪.‬‬

‫والرابِ ُع‪َ -:‬أ ْن َت ْع ِمدَ إِ َل ُك ِّل َف ِر َ‬


‫يض ٍة َع َل ْي َك َض َّي ْعت ََها َفتُؤَ ِّد َي َح َّق َها ‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ت ‪َ ،‬ف ُت ِذيب ُه بِ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫األ ْحزَ ِ‬
‫ان َح َّتى‬ ‫َ‬ ‫س‪ -:‬أ ْن َت ْع ِمدَ إِ َل ال َّل ْح ِم ا َّل ِذي َن َب َت َع َل ُّ‬
‫الس ْح ِ‬ ‫ام ُ‬ ‫وال ِ‬
‫ال ْلدَ بِا ْل َع ْظ ِم‪ ،‬و َي ْن َش َأ َب ْين َُه َم َ ْ‬
‫ل ٌم َج ِديدٌ ‪،‬‬ ‫ُت ْل ِصقَ ْ ِ‬

‫اع ِة َك َم َأ َذ ْقت َُه َح َل َو َة ْالَ ْع ِص َي ِة ‪َ ،‬ف ِع ْندَ َذلِ َك‬ ‫ال ْس َم َأ َ َل َّ‬
‫الط َ‬ ‫س‪َ -:‬أ ْن ُت ِذيقَ ْ ِ‬ ‫اد ُ‬‫لس ِ‬‫َو َا َّ‬
‫(((‬ ‫ول َأ ْس َتغْ ِف ُر َّ َ‬
‫الل)‬ ‫َت ُق ُ‬

‫هذه هي التوبة احلقيقية التي يصاحبها الندم ويستشعر بسببها التفريط والتقصري‬
‫يف ذات اهلل‪ ،‬فالندم الذي هو أساس التوبة يؤكده االمام بالقسم به تعاىل وان توبته‬
‫ندم‪ ،‬وكفى بالندم توبة ‪.‬‬
‫ين))‪.‬‬ ‫الخ ِطيئ َِة ِح َّط ًة َفإ ِّني َل َك ِم َن ُ‬
‫الم ْس َتغْ ِف ِر َ‬ ‫فار ِم ْن َ‬
‫االستِغْ ُ‬
‫((وإِنْ كانَ َ‬
‫َ‬
‫قال ابن دريد يف مجهرة اللغة يف مادة حطط ‪ :‬حط احلمل عن اجلمل حيطه حطا‪،‬‬
‫وكل يشء انزلته عن ظهره او غريه فقد حططته‪... ،‬وحط اهلل وزره حطا)((( واملثقل‬
‫باليشء اذا حطه اراحه‪ ،‬واألثقال اكثر ما تكون عىل ظهر حاملها‪ ،‬والذنوب مثلها‪،‬‬
‫(( ( –هنج البالغة‪،‬حتقيق صبحي الصالح‪،‬فصل ذكر الغريب من كالمه ‪،‬حكمة‪،417‬ص‪.550‬‬
‫(( ( –مجهرة اللغة‪،‬مادة حطط‪.‬‬
‫مناجاة التائبني‪29 ...................................................................................................‬‬

‫اذ املذنب يكون مثقال بذنب وضعه عىل ظهره لثقله‪ ،‬فان عرف الذنب واستثقله‬
‫سأل من حيطه عنه كام يسأل املثقل باألمحال حط اثقاله عن ظهره‪ ،‬وسميت الذنوب‬
‫أوزارا لثقلها‪ ،‬ألن الوزر بمعنى الثقل والوزر االثم كام عن ابن دريد ‪ ..‬ويف التنزيل‬
‫(و ُه ْم َ ْي ِم ُلونَ َأ ْو َز َار ُه ْم َع َل ُظ ُهو ِر ِه ْم)((( اي اثقاهلم ‪.‬‬
‫العزيز َ‬
‫فاذا اراد املثقل احلط عن ظهره توسل بمن يعينه يف حطها اي رفعها‪ ،‬واملذنب‬
‫مثقل بأوزار االثم والذنوب‪ ،‬فهو يتوسل باالستغفار ليكون حمط اوزاره‪ ،‬فان كان‬
‫االستغفار حطة فأنا من املستغفرين‪ ،‬اجل هو حطة واي حطة حينام يكون‪.‬‬
‫(االستِغْ َفار‬
‫ْ‬ ‫االستِغْ َفار)((( كام عن امري املؤمنني ‪ ‬وقوله ‪:‬‬
‫يع أن َْج ُح ِم َن ْ‬
‫(ال َش ِف َ‬
‫(وا َّل ِذ َ‬
‫ين إِ َذا‬ ‫االو َز َار)((( وقد بني القرآن الكريم يف قوله تعاىل عن املستغفرين َ‬‫َي ْم ُحو ْ‬
‫وب‬ ‫وبِ ْم َو َم ْن َيغْ ِف ُر ُّ‬
‫الذ ُن َ‬ ‫اس َتغْ َف ُروا لِ ُذ ُن ِ‬ ‫اح َش ًة َأ ْو َظ َل ُموا َأن ُْف َس ُه ْم َذ َك ُروا َّ‬
‫الل َف ْ‬ ‫َف َع ُلوا َف ِ‬
‫صوا َع َل َما َف َع ُلوا َو ُه ْم َي ْع َل ُمونَ ) (((وقوله تعاىل ‪َ :‬‬
‫(و َم ْن َي ْع َم ْل ُس ً‬
‫وءا‬ ‫إِ َّل َّ‬
‫الل َو َ ْل ُي ِ ُّ‬
‫ورا َر ِح ًيم)((( وبعد هذا كيف ال يكون‬ ‫ي ِد َّ َ‬
‫الل َغ ُف ً‬ ‫َأ ْو َي ْظ ِل ْم َن ْف َس ُه ُث َّم َي ْس َتغْ ِف ِر َّ‬
‫الل َ ِ‬
‫االستغفار حطة؟!‬
‫َ‬
‫(ل َك ُ‬
‫الع ْتبى َح َّتى َت ْرضى)‪.‬‬
‫أي لك الرضا حتى ترىض‪ ،‬ألنك أوىل بالرضا‪ ،‬أي أوىل بالعتب حتى ترىض‬
‫النك االحق بالعتب واالحق بالرضا ‪ ..‬فلك العتبى ‪.‬‬

‫‪-‬االنعام ‪.21‬‬ ‫(( (‬


‫–ميزان احلكمة‪،‬باب مدح املستغفرين باالسحار‪.2275/3،‬‬ ‫(( (‬
‫–ميزان احلكمة‪،‬باب االستغفار‪.2274/3،‬‬ ‫(( (‬
‫–ال عمران ‪.135‬‬ ‫(( (‬
‫–النساء ‪.110‬‬ ‫(( (‬
‫‪ ................................................................................. 30‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫((إِل ِهي بِ ُقدْ َرتِ َك َع َل َّي ُت ْب َع َل َّي))‪.‬‬


‫فان اهل القدرة اوىل بالعقوبة‪ ،‬واهل السطوة اوىل بالرضا‪ ،‬واهل النقمة اوىل‬
‫بالعفو‪ ،‬وانت يا اهلي كل ذلك واكثر من ذلك فمتى حتتاج اىل عذايب وانت غني‬
‫عن عذايب النك اهل العفو كام انك اهل النقمة‪ ،‬وانك اهل الرضا كام انك اهل‬
‫السطوة‪ ،‬وانك اهل التوبة كام انك اهل القدرة‪ ،‬ثم لك العفو ولك النقمة‪ ،‬ولك‬
‫الرضا ولك السطوة‪ ،‬ولك التوبة ولك القدرة‪ ،‬يف كل ذلك اسالك ان تعفو عن كل‬
‫ذلك‪ ،‬فانك اوىل بالعفو ألنك الغني عني وانا الفقري اليك ‪.‬‬
‫((بِ ِح ْل ِم َك َعنِّي ْاع ُف َعنِّي))‪.‬‬
‫احللم ضد الطيش والرجل حليم‪ ،‬واحللم ال يأيت اال من حكيم‪ ،‬وال يكون اال‬
‫عن عقل وترو ملعرفة احلليم عواقب األمور‪ ،‬فهو عارف بعاقبة أمر الرضا ان ريض‪،‬‬
‫وبعاقبة الغضب ان غضب‪ ،‬فمتى ال يكون احلكيم حليام‪ ،‬وهو اوىل باحللم منه تعاىل‬
‫فهو البصري بعواقب االمور‪ ،‬وهو احلكيم بدواعي العفو‪ ،‬فكم من ذنب مل تؤاخذين‬
‫عليه حتى حلمت‪ ،‬وكم من سيئة اغضيت عنها حتى كأنك ال تعلم بذنويب حللمك‬
‫عيل وجلهيل بك‪ ،‬فبحلمك الذي هو مظهر القدرة لك اسالك ان تعفو عني‪ ،‬فاحللم‬
‫ال يكون من ضعف‪ ،‬فان الضعيف ال يقوى عىل العفو‪ ،‬والعاجز ال يدبر أمرا اال‬
‫بالنقمة ليسد عجزه‪ ،‬ويعالج نقصه‪ ،‬فأين العاجز من العفو‪ ،‬فال يكون احلليم اال‬
‫قادرا قويا متمكنا ‪.‬‬
‫مناجاة التائبني‪31 ...................................................................................................‬‬

‫((وبِع ْل ِم َك بِي ْإر ِفقْ بِي))‪.‬‬


‫َ‬
‫تعدى الفعل بالباء ومل يتعد ب(عن) وبينهام فرق‪ ،‬فان تعدى العلم بالباء فيعني‬
‫معرفته بحاله ومكنوهنا‪ ،‬والعلم بام خفي عن الناس فيام اضمره أو خفي عىل غريه‬
‫من أمر‪ ،‬واذا تعدى الفعل بعن كان العلم عنه بمعنى العلم بحاله املخفي عنه دون‬
‫غريه‪ ،‬اي العلم بظاهره ‪..‬‬
‫فلو قلت علمت عنه اي علمت بخرب غاب عني ظاهره‪ ،‬والعلم به اي العلم‬
‫بمكنونه وما خفي عني ‪.‬‬
‫واالمام عليه السالم مل يقل بعلمك عني حتى يتصور انه سبحانه علم عن يشء‬
‫(وبِع ْل ِم َك ِب) اي بام خفي من حايل حتى عىل‬
‫خفي عليه ومل خيف عن غريه‪ ،‬بل قال َ‬
‫اقرب الناس ايل‪ ،‬فهو املطلع عىل االحوال بل مطلع عىل الرسائر وما ختفي الصدور‪،‬‬
‫فهو سبحانه يعلم بضعفي وعدم حتميل لعقوبته‪ ،‬فالداعي والسائل منكرس ضعيف‬
‫(إر ِفقْ ِب) فالرفق ال يكون اال من الكبري للصغري‪ ،‬ومن‬
‫بداللة قوله عليه السالم ‪ْ :‬‬
‫القوي للضعيف ‪.‬‬
‫هذه هي حال املتذلل ا ُملنكرس الذي يرجو جربان فقره وفاقته بالتوسل اليه‬
‫وأي توسل أرجى من اإلقرار بالذنب واالعرتاف باخلطيئة ثم يطلب التوبة‬
‫تعاىل‪ُّ ،‬‬
‫التي هي باب ًا مرشعا فتَحته َرمحته ودعا اىل دخوله كرمه ‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 32‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫((إِل ِهي َأ ْن َت ا َّل ِذي َفت َْح َت لِ ِع ِ‬


‫باد َك باب ًا إِلى َع ْف ِو َك َس َّم ْي َت ُه ال َّت ْو َب َة))‪.‬‬
‫فالباب يدعو اىل الدخول‪ ،‬وافتتاحه يدعو اىل الوفادة‪ ،‬والوفادة تدعو اىل الكرم‪ ،‬والكرم‬
‫يدعو اىل قبول االعتذار مهام كان هذا االعتذار فتكون التوبة بسببه والعفو داعيه ‪.‬‬
‫وهذا تصوير بديع إذ الذي يبحث عن مأوى البد أن يبحث عمن يأويه والباب‬
‫ال عىل كريم ِ‬
‫‪،‬أذ َن لداخيل بابه بالدخول الذي‬ ‫مرشعة الستقبال السائلني‪ ،‬ال تفد إ َّ‬
‫يتطلب استقباله ومن ثم ضيافته‪ ،‬وأعظم ما يف هذه الضيافة قبول العذر وهو التوبة‪.‬‬
‫(( َف ُق ْل َت ُتو ُبوا إِلى الله َت ْو َب ًة َن ُصوح ًا))(((‪.‬‬
‫إذ من مالزمات فتح الباب‪ ،‬الدعوة إىل الدخول للضيافة وقد كانت مائدة التوبة‬
‫يدعى إليها كل داخل فقوله سبحانه ( ُتو ُبوا) هي دعوة آمر مشفق ملن يدعوه‪ ،‬وتوبة‬
‫العبد البد يف أجواء هذه الضيافة أن تكون ناصحة ال يشوهبا تردد أو نزوع إىل‬
‫الذنب بل هي خالصة نصوحة ‪.‬‬
‫الباب َب ْع َد َف ْت ِح ِه ؟))‪.‬‬
‫ِ‬ ‫( ّ(فما ُع ْذ ُر َم ْن َأ ْغ َف َل ُد ُخ َ‬
‫ول‬
‫فالدعوة بعد فتح باب الكريم وعدم االستجابة تقصري ما بعده تقصري‪ ،‬إذ ال‬
‫عذر ملن اغفل عن الدخول‪ ،‬أو توانى بااللتحاق عن إجابة الدعوة فهي فرصة‬
‫والعاقل من اغتنم الفرصة وقوي عىل هواه وخالف شهواته ‪.‬‬
‫الع ْف ُو ِم ْن ِع ْن ِد َك))‪.‬‬
‫الذ ْن ُب ِم ْن َع ْب ِد َك َف ْل َي ْح ُس ُن َ‬
‫((إِل ِهي إنْ كانَ َق ُب َح َّ‬
‫القبح واحلسن عقليان فكل ما استقبحه العقل كان يف الرشع قبيحا‪ ،‬وكل ما‬

‫(( ( –التحريم‪.8‬‬
‫مناجاة التائبني‪33 ...................................................................................................‬‬

‫استحسنه العقل كان عند الرشع حسنا‪ .‬وها هو العبد املرتكب للذنب يعلم يقين ًا‬
‫أن ما ارتكبه قبيح وفطرته تأباه فهو قبيح‪ ،‬واحلسن كل ما من شانه أن ُي ِّسنه العقل‬
‫ومنه العفو عن امليسء والصفح عن املذنب وذلك ال يليق إ َّ‬
‫ال بمن فطر العقول عىل‬
‫احلسن وأوقفها عىل القبيح وهو اهلل تعاىل القادر عىل أن يغفر لعباده تقصريهم‪ ،‬وان‬
‫يعفو عنهم ذنوهبم‪ ،‬ومن مقتىض العفو االعرتاف بالذنب فكيف إذا اعرتف بقبح‬
‫ذنبه ؟‬
‫واحلسن هو العفو عن امليسء الذي اعرتف بجرمه وجريرته ‪.‬‬
‫((إِل ِهي ما َأنا بِ َأ َّو ِل َم ْن َع َ‬
‫صاك َفت ُْب َت َع َل ْي ِه))‪.‬‬
‫هنا رضب من رضوب التوسل فيه تعذير وتربير‪ ،‬فالنفس اإلنسانية حتمل يف‬
‫جنباهتا حالة العصيان وقابلية التمرد‪ ،‬وملا كان هذا املذنب كأي إنسان تطمح نفسه‬
‫اىل شهواهتا وتأنس إىل أهوائها فان ذلك أمر جمبول عليه اإلنسان‪ ،‬إ َّ‬
‫ال من عصم‬
‫نفسه وال يكون إ َّ‬
‫ال ملن اصطفاهم اهلل من أهل طاعته فأغدق عليهم رمحته‪ ،‬وأفاض‬
‫هلم كرمه وهم املعصومون الذين ثبتت عصمتهم وهم النبي وأهل بيته عليهم‬
‫السالم واألنبياء الذين هلم عصمتهم اخلاصة هبم واملفاضلة عليهم ‪.‬‬
‫إال ان القاعدة تقول بان الناس خطاءون فهم يرتكبون اخلطيئة مع علمهم بأهنم‬
‫أخطئوا فمنهم من يذعن للتوبة ومنهم من يبقى عىل إرصاره وشقاوته‪ ،‬وإذا كان‬
‫كذلك فليس السائل أول من أذنب‪ ،‬وليس التائب أول من أساء‪ ،‬وال أنت يا ذا‬
‫اجلالل واإلكرام أول من عفا وغفر ‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 34‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫وف َك َف ُجدْ َت َع َل ْي ِه))‪.‬‬


‫ض لِ َم ْع ُر ِ‬
‫((و َت َع َّر َ‬
‫َ‬
‫التعرض بمعنى التصدي‪ ،‬واصلها مقابلة اليشء باليشء‪ ،‬وعارضته أي أتيت‬
‫إليه بمثل ما أتى‪ ،‬والتعرض أن يتصدى اإلنسان لطلب الفضل واإلحسان‪،‬‬
‫والظاهر هو طلب الداين من العايل‪ ،‬واملحتاج من الغني‪ ،‬كام يف الدعاء (تعرض يف‬
‫هذا الليل املتعرضون)((( وكام يف قولك تعرض الفقري للطلب مني يف الطريق‪ ،‬أي‬
‫تصدى له وطلب منه ‪.‬‬
‫ويف قول اإلمام زين العابدين عليه السالم تعرض ملعروفك فجدت عليه‪ ،‬هو‬
‫معنى ما ارشنا إليه يف التعرض والطلب الذي يصاحبه التذلل واالنكسار ‪.‬‬
‫الض ِّر‪.))..‬‬ ‫الم ْض َط ِّر يا ِ‬
‫كاش َف ُّ‬ ‫يب ُ‬‫((يا ُم ِج َ‬
‫ثم بعد هذا يسترصخ االمام عليه السالم ربه ليجيب له سؤله فانه مضطر َ‬
‫(أ َّم ْن‬
‫وء)((( وهل غريه يكشف السوء والرضاء ؟‬ ‫يب ْ ُال ْض َط َّر إِ َذا َد َعا ُه َو َي ْك ِش ُف ُّ‬
‫الس َ‬ ‫ي ُ‬‫ُِ‬
‫وانكشاف الرض بعد ان جلله البالء واودى به‪ ،‬فال يكون ذلك اال باالنكشاف عام‬
‫اعرتاه السوء وال يرفعه اال هو سبحانه وذلك بالتوبة عليه واملغفرة له ‪.‬‬

‫((يا َع ِظ َ‬
‫يم ِ ِّ‬
‫الب))‪.‬‬
‫وهو اإلحسان فهل أعظم ممن أحسن إىل العبد بربوبيته له ورعايته إياه‪ ،‬ومن‬
‫أفضل اإلحسان املغفرة والتوبة ‪.‬‬

‫(( ( ‪-‬مصباح املتهجد‪،‬ماينبغي ان يفعله من غفل عن صالة الليل‪.152،‬‬


‫(( ( ‪-‬النمل‪.62‬‬
‫مناجاة التائبني‪35 ...................................................................................................‬‬

‫((يا َع ِلي ًام بِام ِف ِّ ِّ‬


‫الس))‪.‬‬
‫فعلمه برس العبد واطالعه عىل ما يف ضمريه يغنيه عن رشح حاله فهو املطلع عىل‬
‫ما يكتمه وما يرسه وهو الندم عىل فعله والرجاء لرمحته ‪.‬‬
‫((يا جميل الستر))‬
‫اجلميل هو احلسن من اليشء جيمل مجالة فهو مجيل ‪,‬مثل صبح صباحة ‪:‬اذا حسن‬
‫‪,‬والسرت بالكرس ما يسرت به وسرته تعاىل عبارة عن صونه العبد من الفضيحة او عدم‬
‫املحاسبة عىل املعصية وترك ذكرها كي ال يطلع غريه عليها‪.‬‬
‫فجميل السرت حسن التجاوز ولطيف العفو و عظم املغفرة ومجيل الصفح ‪,‬وهي‬
‫ال تصدر اال من الغني يف حق املحتاج‪.‬‬
‫ود َك َو َك ِ‬
‫رم َك إِ َل ْي َك))‪.‬‬ ‫((است َْش َف ْع ُت بِ ُج ِ‬
‫ْ‬
‫الشفاعة من الشفع‪ ،‬وهي خالف الوتر‪ ،‬بمعنى انضامم يشء إىل يشء فيكون شفعا‬
‫بعد أن كان وترا‪ ،‬ومنها الشفاعة بمعنى إجياد ما يتقرب به إىل اهلل تعاىل بضميمة يشء‬
‫وهو وجاهة الشفيع عن املشفع له ومقامه عنده وشانه لديه‪ ،‬فأي مقام يتوسل به الشفيع‬
‫عند املشفع يكون سببا يف إنجاح مطلوبه وقضاء حاجته‪ ،‬وكام هو يف العرف يكون يف‬
‫(و َل َيشْ َف ُعونَ إِ َّل ِلَ ِن ْار َت َض)((( فقد‬
‫الرشع‪ ،‬فقد عرف أن الشفاعة احد سامت اإلسالم َ‬
‫أعطى سبحانه خصوصية لعباده املصطفني – وهذا من إفاضته الرحيمية عىل عباده –‬
‫أن أعطى لعباده املخلصني ما يؤهلهم لقربه وما يرفع مقاماهتم عند اخللق بأن جعل‬

‫(( ( ‪-‬االنبياء‪.28‬‬
‫‪ ................................................................................. 36‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫شفاعتهم مقبولة بإذنه‪ ،‬وأي إنسان يريد التقرب إىل املشفع إليه فالبد أن يقدم بني يديه‬
‫شفاعته أحب األمور إليه واقرب األشخاص لديه واإلمام زين العابدين ‪ ‬يسأل‬
‫اهلل بجوده وكرمه ان يتقبل توبته ويغفر خطيئته – والتعبري باخلطيئة من قبل االمام ‪‬‬
‫ال تعني كخطيئة االخرين‪ ،‬بل هو تعريف اخر حيتاج اىل تفصيل ليس هنا حمل ذكره‪.‬‬
‫ح َك َل َد ْي َك))‪.‬‬
‫((و َت َو َّس ْل ُت بِ َجنابِ َك َو َت َر ُّ ِ‬
‫َ‬
‫(وا ْبت َُغوا إِ َل ْي ِه‬
‫التوسل هو كل ما يتقرب به من عمل يكون عند املتوسل إليه حمبوبا‪َ ،‬‬
‫ا ْل َو ِس َيل َة)((( أي القربة إليه تعاىل‪ ،‬واالبتغاء الطلب واحلث‪ ،‬أي اطلبوا كل ما هو يقربكم إليه‬
‫تعاىل ‪ .‬واجلناب بمعنى الفناء والقرب‪ ،‬وهنا توسل اإلمام ‪ ‬بقربه إليه ومن ثم برتمحه لديه‪،‬‬
‫والرتحم من باب التأكيد وهو انفعال اليشء وتأكيده‪ ،‬بمعنى تفعل الرمحة وتأكدها ‪.‬‬
‫يك َرجائِي))‪.‬‬
‫است َِج ْب ُدعائِي َوال ُت َخ ِّي ْب ِف َ‬
‫(( َف ْ‬
‫(((‬‫اخليبة بمعنى احلرمان واخلرسان ويف الدعاء (اعوذ بك‪...‬من خيبة املنقلب)‬
‫اي خرسان العاقبة واحلرمان من الفوز والنجاح‪ ،‬وخيبه اهلل اي جعله خائبا خارسا‪،‬‬
‫(((‬‫والرجاء األمل ‪ ..‬وقد ورد يف الدعاء( اعوذ بك من الذنوب التي تقطع الرجاء)‬
‫وهذه الذنوب كام فرسها املعصوم ‪ ‬بأهنا اليأس من روح اهلل‪ ،‬والقنوط من رمحة‬
‫اهلل‪ ،‬والثقة بغري اهلل‪ ،‬والتكذيب بوعده ‪.‬‬
‫والدعاء هنا من اجل الطلب من اهلل تعاىل ان ال حيرمه من امل العفو ورجاء‬

‫(( ( –املائدة‪.35‬‬
‫(( ( –مصباح املتهجد وسبلح املتعبد‪,‬ج‪.105 ,1‬‬
‫(( ( ‪-‬مصباح املتهجد‪،‬فصل يف ترتيب نوافل شهر رمضان‪.572،‬‬
‫مناجاة التائبني‪37 ...................................................................................................‬‬

‫الر ِ ِ‬
‫اح َ‬
‫ني)‬ ‫(و َت َق َّب ْل َت ْو َبتِي َو َك ِّف ْر َخ ِطيئَتِي بِ َمن َِّك َو َر ْحَتِ َك يا ْأر َح َم َّ‬
‫املغفرة ‪َ .‬‬
‫التكفري بمعنى تغطية الذنب وسرته‪ ،‬ومعناه املحو ومنها الكفارة حيث هبا يمحو‬
‫الذنب أو تقل عقوبته وذلك راجع إىل كرم عفوه فان شاء عفا وان شاء عاقب لكن‬
‫الكفارة هي ماحية للذنوب كام هو معروف ‪.‬‬
‫واملن معروف‪ ،‬واملنان من صفاته تعاىل وقد سئل عليا ‪ ‬عن الفرق بني احلنان‬
‫واملنان فقال ‪ : ‬احلنان يقبل عىل من اعرض عنه‪ ،‬واملنان هو الذي يبدأ بالنوال‬
‫قبل السؤال ‪ .‬فاملن هو العطاء قبل السؤال‪ ،‬وهنا يتوسل اإلمام زين العابدين ‪،‬‬
‫بصفة من صفات كرمه ومظهر من مظاهر عطائه ‪.‬‬
‫فقبول التوبة وتكفري اخلطيئة إحدى مظاهر رمحته ومصاديق عفوه ألنه ارحم‬
‫الرامحني‪.‬‬
‫المناجاة الثانية‬
‫مناجاة الشاكين‬
‫ينتقل اإلمام زين العابدين ‪ ‬إىل مناجاة أخرى فيها من عذوبة التوسل ورقة‬
‫املناجاة ما يبهر العقول وتأخذ بالقلوب‪ ،‬وهذه املناجاة تعرف بمناجاة الشاكني‪،‬‬
‫فاإلمام هنا يشكو من ألد أعدائه واقرب مناوئيه وهذه حيددها يف قضيتني احدمها ‪:‬‬
‫عداء النفس لإلنسان وثانيهام عداء الشيطان لإلنسان كذلك ‪.‬‬
‫وهذا بني العدوين من اشد األعداء وأعظمها عىل املكلف‪ ،‬اذ املكلف تتجاذبه‬
‫أهواء النفس ووسوسة الشيطان‪ ،‬فاهلوى هو إحد حاالت الضعف التي تتملك‬
‫النفس فتهبط اىل حمقرات األفعال ومشنعات الذنوب فتأخذ به إىل ابعد ما يكون‬
‫من القبيح ‪.‬‬
‫حيسن له صنع القبيح وارتكاب‬
‫والشيطان بتسويالته هيدم إيامن اإلنسان حينام ِّ‬
‫املحذور ‪.‬‬
‫ولعل عداوة النفس أشد من عداوة الشيطان إذ الشيطان ال يمتلك النفس‬
‫القوية املجاهدة عىل حماربة اهلوى وإبعاد خطرات الشيطان‪ ،‬اذ الشيطان ال ينفذ‬
‫إال من خالل رخاوة النفس وعدم متاسك جوانبهام متاما كام هو نفوذ اليشء إىل‬
‫البناء الصلب ال يكون باليرس كام لو نفذ من مكان رخاوة اجلدار الذي يسمح‬
‫بالنفوذ واالستمكان‪ ،‬فالنفس املحكمة يعجز عن دخوهلا الشيطان ونفوذ وساوسه‬
‫‪39‬‬
‫‪ ................................................................................. 40‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫وتسويالته‪ ،‬لكن النفس بضعفها وخضوعها لشهواهتا تتعاضد مع الشيطان فتنفذ‬


‫يف مكنوهنا وتستحكم اخلطايا وتنفذ الوساوس بعد ذلك ليفعل الشيطان فعله يف‬
‫اإلنسان ‪.‬‬
‫من هنا جاءت مناجاة اإلمام زين العابدين ع واإلنسان يف هذه املناجاة يظهر‬
‫ضعفه وتبدو استكانته فيكون عاجزا عن سد النقص إ َّ‬
‫ال باالستكانة واخلضوع‬
‫وهذا ما اظهرته املناجاة املعروفة بمناجاة الشاكني ‪.‬‬
‫وسيكون البحث يف أرجاء هذه املناجاة اجلميلة والترضعات البديعة التي يبيدها‬
‫اإلمام زين العابدين ع يف مناجاته لنرى عظمة اهلل يف قدرة أوليائه املصطفني حممد‬
‫وآله النجباء األكرمني‬
‫مناجاة الشاكني‪41...................................................................................................‬‬

‫المناجاة الثانية‪:‬‬
‫مناجاة الشاكين‬
‫بِس ِ‬
‫ْم الله الرَّحْم ِن الرَّحِيم‬
‫يك ُم َ‬
‫ول َع ًة‬ ‫عاص َ‬
‫باد َر ًة َوبِ َم ِ‬‫اخل ِطيئ َِة ُم ِ‬ ‫ار ًة َوإِىل َ‬‫وء َأ َّم َ‬
‫الس ِ‬ ‫َ‬
‫(إِهلِي إِ َل ْي َك أ ْش ُكو َن ْفس ًا بِ ُّ‬
‫ك َكثِ َ‬
‫ري َة‬ ‫ك َو َ ْت َع ُلنِي ِع ْن َد َك َأ ْه َونَ هالِ ٍ‬
‫ك املَهالِ ِ‬‫َولِ َس َخ ِط َك ُمت ََع ِّر َض ًة‪َ ،‬ت ْس ُل ُك ِب َمسالِ ِ‬
‫ي َ ْتن َُع َم َّي َال ًة إِىل ال َّل ِع ِ‬
‫ب َوال َّل ْه ِو‬ ‫الش َ ْتزَ ُع َوإنْ َم َّسها َ‬
‫اخل ْ ُ‬ ‫االملِ إنْ َم َّسها َ ُّ‬ ‫الع َللِ َط ِو َيل َة َ‬ ‫ِ‬
‫احل ْو َب ِة َو ُت َس ِّو ُفنِي بِال َّت ْو َب ِة‪ ،‬إِهلِي َأ ْش ُكو إِ َل ْي َك َعدُ َّوا‬
‫س ُع ِب إِىل َ‬ ‫َ ْم ُل َّوة‌ًبِا ْل َغ ْف َل ِة َو َّ‬
‫الس ْه ِو ُت ْ ِ‬
‫واج ُس ُه بِ َق ْلبِي‪،‬‬‫حاط ْت هَ ِ‬ ‫واس َصدْ ِري َو َأ َ‬ ‫أل بال ِو ْس ِ‬ ‫ُي ِض ُّلنِي َو َش ْيطانا ُيغْ ِوينِي َقدْ َم َ‬

‫الز ْلفى‪ ،‬إِهلِي إِ َل ْي َك‬


‫اع ِة َو ُّ‬ ‫ي َّ‬
‫الط َ‬ ‫ول َب ْينِي َو َب ْ َ‬‫عاضدُ ِ َل ا َهلوى َو ُيزَ ِّي ُن ِل ُح َّب الدُّ نْيا َو َ ُي ُ‬ ‫ُي ِ‬
‫الط ْب ِع ُمت ََل ِّبس ًا‪َ ،‬و َع ْين ًا َع ْن ال ُب ِ‬
‫كاء ِم ْن‬ ‫الر ْي ِن َو َّ‬‫واس ُم َت َق َّلب ًا َوبِ َّ‬
‫الو ْس ِ‬ ‫قاسي ًا َم َع َ‬‫َأ ْش ُكو َق ْلب ًا ِ‬
‫الح ْو َل ِل َوال ُق َّو َة إِ ّال بِ ُقدْ َرتِ َك َوال َنجا َة ِل‬ ‫طام ًة‪ ،‬إِهلِي َ‬ ‫سها ِ َ‬ ‫َخ ْو ِف َك ِ‬
‫جام َد ًة َوإِىل ما َي ُ ُّ‬
‫فاذ َم ِش َّيتِ َك َأنْ ال َ ْت َع َلنِي‬
‫الغ ِة ِح ْك َمتِ َك َو َن ِ‬ ‫ِم ْن َمكا ِر ِه الدُّ نْيا إِ ّال بِ ِع ْص َمتِ َك؛ َفأ ْس َأ ُل َك بِ َب َ‬
‫ناص ًا َو َعىل‬ ‫داء ِ‬ ‫األ ْع ِ‬ ‫ي ِن لِ ْل ِفت َِن َغرضا‪َ ،‬و ُك ْن ِل َعىل َ‬ ‫ود َك ُمت ََع ِّرضا وال ُت َص ِّ َ‬ ‫ي ُج ِ‬ ‫لِ َغ ْ ِ‬
‫َ‬
‫‪ ................................................................................. 42‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫عاص ًام بِ ْ‬
‫رأ َفتِ َك َو َر ْحَتِ َك‬ ‫املعاص ِ‬
‫ِ‬ ‫الء َو ِاقي ًا َو َع ْن‬
‫وب ساتِر ًا َو ِم َن ال َب ِ‬ ‫املَخا ِزي َو ُ‬
‫الع ُي ِ‬
‫الر ِ ِ‬
‫اح َ‬
‫ني)‪.‬‬ ‫َ‬
‫ياأ ْر َح َم َّ‬
‫مناجاة الشاكني‪43...................................................................................................‬‬

‫شرح الفقرات‪:‬‬
‫توجه اإلمام زين العابدين ‪ ‬اىل اهلل تعاىل ليشكو ما‬
‫هذه مناجاة الشاكني حيث َّ‬
‫عليه نفسه من االرساف والتفريط يف جنب اهلل وطاعته‪ ،‬وقد أرشنا إىل أن املقصود‬
‫من ذلك هي نفس الداعي واملكلف وليس نفس اإلمام؛ اذ نفسه املعصومة ال‬
‫يمكن هلا ان تنزل اىل حالة العصيان واالرساف‪ ،‬وقد اصطفاها اهلل وطهرها من‬
‫الرجس‪ ،‬واي رجس اعظم من الذنوب ؟‬
‫لذا فان أي معصية ال تصدر من االمام‪ ،‬بل اراد االمام ان يعلم االمة حالة‬
‫االستشعار بالذنوب والتقصري فضال عن االخبات والترضع واالستكانة التي‬
‫جتعل االمام يشعر بالتقصري يف جنب اهلل‪ ،‬فيتواضع إىل اهلل ليخاطبه بلسان الندم‬
‫واخلطيئة والتذلل‪ ،‬وهذا منتهى املعرفة التي ادت اىل منتهى العبودية والطاعة‬
‫واخلضوع‪.‬‬

‫وء َأ َّم َ‬
‫ار ًة))‬ ‫َ‬
‫((إِهلِي إِ َل ْي َك أ ْش ُكو َن ْفس ًا بِ ُّ‬
‫الس ِ‬
‫االله هو كل معبود بمعنى َّآله أي عبده وأصله الوله‪ ،‬وكأن العابد وله بالعبادة‬
‫له حتى صار موهلا بحبه‪ ،‬ألن العبادة يدفعها احلب والشوق للمعبود‪ .‬ولكثرة تعلق‬
‫العابد بمعبوده تو َّل َه به وهل ًا‪ ،‬أي اشتدَّ ُّ‬
‫حب ُه وشوقه‪ ،‬فصار اهله يف عبادته له وطاعته‪،‬‬
‫فصار املعبود اهلا‪.‬‬
‫واالمام زين العابدين ‪ ‬يشكو إىل معبوده سبحانه نفسه االمارة بالسوء من‬
‫األمر‪ ،‬أي اهنا تأمره بارتكاب الذنوب وتز ِّين له السوء فتجعله حسنا يف نظره‪،‬‬
‫‪ ................................................................................. 44‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫فتجذبه اىل ارتكابه ومزاولته فإغواء النفس بصاحبها يوقعه يف املهالك‪ ،‬واالمام‬
‫عليه السالم يستنجد باهلل تعاىل ان يعصمه مما هو فيه ويشكو اليه نفسه ‪.‬‬
‫باد َر ًة))‬ ‫((وإِىل َ‬
‫اخل ِطيئ َِة ُم ِ‬ ‫َ‬
‫املبادرة بمعنى املسارعة‪ ،‬وهو وصف حلالة الشوق التي تدفعه النفس بصاحبها‬
‫اىل حتصيل اخلطيئة وارتكاهبا‪ ،‬وهذه اشارة اىل تعلق االنسان باخلطايا وكيف تغره‬
‫نفسه يف الدعوة اىل املعصية ‪.‬‬
‫يك ُم َ‬
‫ول َع ًة))‪.‬‬ ‫عاص َ‬
‫((وبِ َم ِ‬
‫َ‬
‫الولع تعلق النفس باليشء وانجذاهبا له فتكون مولعة أي متعلقة‪ ،‬فنفيس متعلقة‬
‫بارتكاب املعايص‪ ،‬ومولعة بمزاولتها ‪.‬‬
‫((ولِ َس َخ ِط َك ُمت ََع ِّر َض ًة))‪.‬‬
‫َ‬
‫واذا كان األمر كذلك؛فان نفيس ال حمالة ستكون يا سيدي ساخطا عليها؛‬
‫ٍ‬
‫واعامل ال ترضاها‪ ،‬فكيف تكون عني راضيا ؛ وعن‬ ‫ملا زاولته من أمور تكرهها‬
‫اجرامي غاضيا ؛وكيف ال تكون عيل ساخطا؟‬
‫ك املَهالِ ِ‬
‫ك))‪.‬‬ ‫(( َت ْس ُل ُك ِب َمسالِ ِ‬

‫فان نفيس وهذه حاهلا؛ تودي يب اىل املهالك؛ وهو غضبك وسخطك‪ ،‬وهذه هي‬
‫صفة ال َّنفس األمارة بالسوء ‪.‬‬
‫((و َ ْت َع ُلنِي ِع ْن َد َك َأ ْه َونَ هالِ ٍ‬
‫ك))‪.‬‬ ‫َ‬
‫ان نفيس هذه املتهاونة واملتساحمة يف جنب اهلل وطاعته جتعلني من اهلالكني بل‬
‫مناجاة الشاكني‪45...................................................................................................‬‬

‫تصغرين وتذلني حتى أكون هالكا خاسئا؛فيأخذين سبحانه بذنويب أخذ عزيز مقتدر‬
‫ألهون هالك ضعيف‪ ،‬أو أن قدرتك عيل هي أعظم من ان تنتظر يف أمري شيئ ًا؛‬
‫بل يأيت أمرك سيدي بغتة ‪،‬وتأخذين دون تردد؛ ألنك عزيز مقتدر فام بال الضعيف‬
‫مثيل املستكني يف دفع الرض عن نفيس؟‬
‫الع َللِ َط ِو َيل َة َ‬
‫االملِ ))‪.‬‬ ‫((كثِ َ‬
‫ري َة ِ‬ ‫َ‬
‫ان نفيس مع أهنا تغرر يب‪ ،‬وتز ِّين يل سيئايت؛ فإن هلا صفة التعلل والتمني؛ لطول‬
‫األمل‪ ،‬أو أهنا كثرية العلل ‪،‬من العلة أي كثرة السقم‪ ،‬وسقم النفس من أخطر‬
‫األسقام التي تعرتي اإلنسان حتى جتعله منهار قوى العقل وقوى اجلسم‪ ،‬فان‬
‫النفس السقيمة ال تقوى ان حتوي عقال ناضجا رشيدا ؛ اذ العقل يستمد قواه من‬
‫النفس‪ ،‬فاذا تنازلت قوى النفس وسقمت تسببت يف اهناك العقل وخوائه‪ ،‬فيكون‬
‫بليدا غري حكيم‪ ،‬حتى انه لريتكب العقل ما توعزه له النفس سيئة فرياها حسن ًة‪،‬‬
‫وكل قبيح جيده حسنا‪ ،‬أي ان التقبيح العقيل وحتسينه يغدو معكوسا بسبب انحراف‬
‫وقبح هلا الرش ‪.‬‬
‫النفس عن فطرهتا التي فطرها اهلل عىل اخلري َّ‬
‫ي َ ْتن َُع))‪.‬‬ ‫الش َ ْتزَ ُع َوإنْ َم َّسها َ‬
‫اخل ْ ُ‬ ‫((إنْ َم َّسها َ ُّ‬
‫الن َْسانَ ُخ ِل َق هَ ُلوع ًا * إِ َذا َم َّس ُه الشَُّّ َجزُ وع ًا * َوإِ َذا َم َّس ُه‬
‫النطباق قوله تعاىل (إِنَّ ْ ِ‬
‫ي َمنُوع ًا) (((فاهللع الذي يصيب االنسان هو بسبب انحرافات النفس وعدم‬ ‫َْ‬
‫ال ْ ُ‬
‫استقامتها؛ ملا خيالطها من الذنوب والسيئات ؛فيفقد االنسان توازنه واستقامته ملا‬
‫تعرتيه من حالة االهنزام يف مواطن الرش فيجزع ويستطري باخلري فيمنع ‪.‬‬
‫(( ( –املعارج (‪.)19،20،21‬‬
‫‪ ................................................................................. 46‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫(( َم َّي َال ًة إِىل ال َّل ِع ِ‬


‫ب َوال َّل ْه ِو))‬
‫ميل االنسان ال يكون اال ميال نفسيا ‪،‬أي ان النفس هي التي حترض عىل اللعب‬
‫واللهو واالنسجام يف وارد االبتعاد عن احلق تعاىل‪ ،‬اذ ان بتزيني السيئات تدفع‬
‫النفس صاحبها اىل االنحالل عن كل االلتزامات؛ فيكون طليقا للهو واللعب‬
‫وكل ما من شانه ان جيعل االنسان مستعد ًا للتهور وارتكاب القبائح واملعايص‬
‫حتى يكون االنسان ال هيا عن كل التزام ومبدأ ‪.‬‬

‫((م ُل َّوة‌ًبِا ْل َغ ْف َل ِة َو َّ‬


‫الس ْه ِو))‬ ‫َْ‬
‫الغفلة غيبة اليشء عن ذهن االنسان‪ ،‬والسهو الغفلة كذلك‪ ،‬لكن الفرق‬
‫ذكرته َّ‬
‫تذكر بخالف‬ ‫بني السهو والغفلة‪ ،‬ان الغافل هو الذي يصيبه النسيان فإذا َّ‬
‫الساهي فانه ال يلتفت ‪.‬‬
‫س ُع ِب إِىل َ‬
‫احل ْو َب ِة َو ُت َس ِّو ُفنِي بِال َّت ْو َب ِة))‬ ‫(( ُت ْ ِ‬
‫احلوب بمعنى االثم واخلطيئة‪ ،‬وتقرأ بالضم وهي لغة احلجاز وبالفتح وهي لغة‬
‫متيم‪ ،‬واملشهور عىل لغة متيم؛ أي حوبة‪ .‬واملسارعة؛ بمعنى املبادرة واالندفاع بسبب‬
‫الشوق يف الوصول اىل اليشء او حب انجاز املراد والتلهف يف حصوله‪ ،‬والتسويف‬
‫بمعنى املامطلة والوعد يف انجاز اليشء ومل ينجزه لتأخري او لغفلة او نسيان‪ ،‬واملعنى‬
‫ان نفيس تبادر يب اىل اخلطيئة وإذا اردت التوبة ماطلت يف االستجابة‪ ،‬وهذا من‬
‫موارد اهللكة والوقوع يف خطر العقوبة بسبب ما تفعله نفيس يب ‪.‬‬
‫مناجاة الشاكني‪47...................................................................................................‬‬

‫((إِهلِي َأ ْش ُكو إِ َل ْي َك َعدُ َّوا ُي ِض ُّلنِي))‬


‫االضالل عدم االهتداء لقوله تعاىل ( ُق ْل‪ ‬إِن َض َل ْل ُت‪َ  ‬فإِ َنَّم َأ ِض ُّل َع َ ٰ‬
‫ل َن ْف ِس ۖ َوإِ ِن‬
‫ْاهت ََد ْي ُت َفبِ َم ُي ِ‬
‫وحي إِ َ َّل َر ِّب) (((واصلها من الغيبة أي غاب عن اليشء وضل عنه‬
‫فهو ضال‪ ،‬لذا سميت البهيمة الغائبة او املفقودة ضالة‪ ،‬والعدو الذي ال يريد يب‬
‫االهتداء والوصول اىل احلق وتغيبي عن الصواب هو نفيس‪ ،‬فأي عدو أقهر وأي‬
‫يشء أرض يب من ذلك الذي يريد اضاليل وابعادي عن الطريق ؟!‬
‫(و َش ْيطانا ُيغْ ِوينِي)‪.‬‬
‫َ‬
‫االغواء خالف اهلداية وهو االهنامك يف اجلهل‪ ،‬والشيطان ملا رأى نفيس تأمرين‬
‫بالسوء نفذ اليها فأغواين ؛ألن النفس اذا ضعفت أذنت للشيطان ان خيرتق حواجزها‬
‫حجاب ٍ‬
‫واق لكل ما يراد باالنسان من سوء‪ ،‬فاذا ضعفت النفس‬ ‫ٌ‬ ‫فيضلها‪ ،‬والنفس‬
‫استقوى عليها الشيطان فقادها اىل شهواهتا‪ ،‬واخذ هبا اىل اهوائها ومل يرتكها حتى‬
‫هالكها‪ ،‬فاي عدو ارض باالنسان من ذلك ؟‬
‫واس َصدْ ِري))‬ ‫(( َقدْ َم َ‬
‫أل بال ِو ْس ِ‬
‫الوسوسة حديث النفس وتسويالهتا وهذه غالبا ما تكون من الشيطان او‬
‫يستغلها الشيطان؛ ألن له القدرة يف ان يوحي اىل النفس بحديث ُي ِّسن فيه القبائح‪،‬‬
‫ويدفع بالنفس اىل ارتكاهبا ؛ ملا يبدي هلا من حسن القبيح وحمبة الوقوع فيه ومزاولته‪.‬‬
‫والصدر اشار ٌة اىل القلب الذي يكون فيه‪ ،‬ومعنى القلب هنا نفس االنسان وما‬

‫(( ( –سبأ ‪.50‬‬


‫‪ ................................................................................. 48‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫حتتويه من قوى ادراكية يستعني هبا االنسان عىل فهم االشياء واإلحساس هبا‬
‫والتأثر بام حييط هبا من مؤثرات خارجية ‪.‬‬
‫واج ُس ُه بِ َق ْلبِي)‬ ‫(و َأ َ‬
‫حاط ْت َه ِ‬ ‫َ‬
‫اهلاجس هو الشعور باليشء وما يقع يف النفس من احساسات معينة‪ ،‬وأحاسيس‬
‫الشيطان يلقيها يف روعي فيدفعني اىل ارتكاب املعايص‪ ،‬وهذه االحاسيس هي‬
‫االماين واألمور التي يزينها الشيطان يل فيدفعني حبها اىل مزاولتها واحلصول عىل‬
‫ارتكاهبا ‪.‬‬
‫عاضدُ ِ َل ا َهلوى َو ُيزَ ِّي ُن ِل ُح َّب الدُّ ْنيا))‬
‫(( ُي ِ‬
‫املعاضدة بمعنى املساعدة‪ ،‬فهو يساعدين عىل هواي وحمبتي الرتكاب القبائح‬
‫بعد ان يز ِّين َّيل الدنيا ويغويني بحسنها ويوعدين احلصول عىل أمانيها ‪.‬‬
‫اع ِة َو ُّ‬
‫الز ْلفى))‪.‬‬ ‫ول َب ْينِي َو َب ْ َ‬
‫ي َّ‬
‫الط َ‬ ‫((و َ ُي ُ‬
‫َ‬
‫الز ْلفى بمعنى القربى‪،‬‬
‫حال حيلولة ‪ :‬أي حجز ومنع من اليشء للوصول اليه َو ُّ‬
‫فالشيطان وهو عدوي منعني من الوصول اىل طاعتك والقرب اليك‪ ،‬فاي عدو‬
‫ارض واي نفس اشقى من تلك التي توردين املهالك ؟!‪.‬‬
‫وعندي يا سيدي امران اعول هبا عىل رمحتك ورأفتك يب‪ ،‬فكيل رجاء اذا رددت‬
‫_‬
‫ما جيول يف نفيس‪:‬‬
‫‪1 -1‬اهلي ترتكني وأنا مقرتف للذنوب فكيف وأنا تائب مستجري ؟!‬
‫‪2 -2‬عظم الذنب وحسن الظن‬
‫مناجاة الشاكني‪49...................................................................................................‬‬

‫فاذا كان هذا ظني بك فكيف تسلمني ذنويب اىل اليأس واخليبة ؟ وكيف تردين‬
‫حسن رجائي واوقفني حسن ظني بباب رمحتك راجي ًا وافد ًا‪.‬‬
‫وانا قد ُ‬
‫((إِهلِي إِ َل ْي َك َأ ْش ُكو َق ْلب ًا ِ‬
‫قاسي ًا)) ‪.‬‬
‫ان اهم ما يبتىل االنسان به قسوة القلب؛ فان ذلك مانع عن قبول الطاعة‪،‬‬
‫واالنصياع اىل أوامر اهلل ونواهيه‪.‬‬
‫والقسوة بمعنى غلظة القلب وعدم اللني‪،‬وغلظة القلب يسببان عدم نفوذ‬
‫االيــان واالطمئنان اىل القلب‪ ،‬فرتى االنسان هائجا غري مستقر النفس ‪،‬فاذا‬
‫ارتكب ذنبا‪ ،‬وعمل قبيحا كان ذلك سببا يف لذته ونشوته ‪،‬أي انه ال يشعر بآثار‬
‫ذنوبه وعواقبها ‪.‬‬
‫فشكوى االنسان قلبه القايس؛ هي شكوى من حالة غري اعتيادية تنتابه وتعرتيه‪.‬‬
‫واس ُم َت َق َّلب ًا))‪.‬‬
‫الو ْس ِ‬
‫(( َم َع َ‬
‫عدم القرار هو مرض ينتاب اإلنسان‪ ،‬وكل ما يداهم االنسان من وسوسة يتجه‬
‫مع اجتاهها‪ ،‬والوسوسة حديث النفس‪ ،‬وهو ال يقوى عىل نفسه حيث تأخذه بام‬
‫اشتهت وأرادت ‪.‬‬
‫الط ْب ِع ُمت ََل ِّبس ًا))‪.‬‬
‫الر ْي ِن َو َّ‬
‫((وبِ َّ‬
‫َ‬
‫(ك َّل َب ْل َرانَ َع َل ُق ُل ِ‬
‫وبِم)((( أي صار ذلك‬ ‫الرين ‪ :‬صدأ يعلو اليشء قال تعاىل ‪َ :‬‬
‫كصدأ عىل جالء قلوهبم‪ ،‬فعمي عليهم معرفة اخلري من الرش ‪.‬‬

‫(( ( –املطففني‪14‬‬
‫‪ ................................................................................. 50‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫قال الراغب يف مفرداته ‪:‬‬


‫والطبع ‪ :‬اخلتم‪ ،‬وبالسكون ‪ :‬خلق االنسان وهي جبلته التي طبع عليها أي‬
‫(((‬ ‫اعتاد عليها ‪.‬‬
‫والذنوب اذا علت عىل القلب تركت عليه صدأها وأحالته اىل طبع تتلبس‬
‫النفس فيه فال تفارقه فهو – أي الذنب‪ -‬صار خلقا متميزا ال يمكن أن يتخلص‬
‫منه ألنه مطبوع عليه‪.‬‬
‫كاء ِم ْن َخ ْو ِف َك ِ‬
‫جام َد ًة))‪.‬‬ ‫((و َع ْين ًا َع ْن ال ُب ِ‬
‫َ‬
‫البكاء سببه رقة القلب وعدمه قسوة القلب‪ ،‬واالنصياع اىل اليشء التأثر به‪،‬‬
‫فيؤدي بعد تأثره إىل البكاء له ‪ .‬وأي سبب يدعوه اىل البكاء فان ذلك دليل عىل‬
‫انصياع النفس اىل مؤثراته‪.‬‬
‫ومجود العني‪ ،‬يعني عدم تأثرها بام يعرتي النفس من رغبة يف التعبري عن ندمها‬
‫عىل ذنبها‪ ،‬وابتعادها عن اخلوف سبب مجود العني التي تأخذ تأثرياهتا من النفس ‪.‬‬
‫((وإِلى ما َي ُس ُّرها ِ‬
‫طام َح ًة))‪.‬‬ ‫َ‬
‫طمح ببرصه أي استرشف‪ ،‬واصله قوهلم‪ :‬جبل طامح أي عـ ٍ‬
‫ـال مرشف‪،‬‬
‫والطموح اهلمة العالية التي من خالهلا يكون الداعي اىل العمل أكثر من املعتاد‪،‬‬
‫والنفس هذه التي يشكوها تعدو إىل ما يكون سببا لرسورها‪ ،‬حتى لو كان ذلك‬
‫عىل حساب الطاعة هلل فهي تصبو اىل اشباع هنمها ورغبتها ‪.‬‬

‫(( ( –املفردات‬
‫مناجاة الشاكني‪51...................................................................................................‬‬

‫الح ْو َل لِي َوال ُق َّو َة إِ ّال بِ ُقدْ َرتِ َك))‪.‬‬


‫((إِل ِهي َ‬
‫فهو مع اعرتافه بذنبه؛ فانه يظهر اعرتافه بعجزه‪ ،‬وهو–مع اعرتافه بعصيانه–فانه‬
‫يعرتف باخلضوع اىل قدرته‪ ،‬ألن احلول والقوة ال يكونان من ذاته ما مل تكن من‬
‫متعرض اىل عصيانه‪ ،‬ثم يعرتف بضعفه وعدم‬
‫قدرته‪ ،‬وهو مع تفضل اهلل عليه لكنه ِّ‬
‫قدرته وحاجته اىل رمحته‪ ،‬اذ االنسان غري جمرد عن قدرة اهلل مع ما أويت من قوة فهو‬
‫ضعيف‪ ،‬ومع ما أويت من حول فهو عاجز ‪.‬‬
‫((وال َنجا َة لِي ِم ْن َمكا ِر ِه الدُّ ْنيا إِ ّال بِ ِع ْص َمتِ َك))‪.‬‬
‫َ‬
‫قال الراغب((( ‪ :‬العصم ‪ :‬االمساك‪ ،‬واالعتصام االستمساك قال تعاىل ‪َ :‬‬
‫(ل‬
‫اص َم ا ْل َي ْو َم ِم ْن َأ ْم ِر َّ‬
‫اللِ)((( هذا ما قاله الراغب؛ لكن العصمة هي املنع وقولنا امام‬ ‫َع ِ‬
‫معصوم أي ممنوع من ارتكاب املعايص والذنوب بملكة نفسانية اعانه اهلل تعاىل‬
‫عليها بعد أن رأى صدقه يف طاعته وإخالصه يف رضاه ‪.‬‬
‫والنجاة ضد اهللكة والوقوع يف املكروه واإلمام عليه السالم يشري اىل حاجته‬
‫هلل تعاىل ليس يف االخرة فحسب‪ ،‬بل حتى يف الدنيا ايضا‪ ،‬فهو العاصم من مكاره‬
‫الدنيا وبالئها‪ ،‬وكأن ذلك اشارة إىل ان الولوغ يف الذنوب يؤدي اىل الوقوع يف‬
‫مكاره الدنيا ومصائبها أي لألثر الوضعي للذنوب ومقارفة القبائح ‪.‬‬
‫فاذ َم ِش َّيتِ َك))‪.‬‬ ‫((فأ ْس َأ ُل َك بِ َب َ‬
‫الغ ِة ِح ْك َمتِ َك َو َن ِ‬ ‫َ‬

‫حكمته تعاىل ‪ :‬قيل هي خلق ما فيه منفعة العباد ورعاية مصاحلهم يف احلال‬
‫(( ( –املفردات‪.‬‬
‫(( ( –هود‪43‬‬
‫‪ ................................................................................. 52‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫واملآل‪ ،‬وقيل علمه باالشياء عىل ما هي عليه‪ ،‬واإلتيان باألفعال عىل ما ينبغي‪،‬‬
‫وقيل هي اتقانه وإحكامه يف علمه وفعله ‪.‬‬
‫واملشيئة هي االرادة‪ ،‬وإجياد اليشء‪ ،‬فاملشيئة منه تعاىل هي االجياد بل أن املشيئة‬
‫منه سبحانه تقتيض وجود اليشء ولذلك قيل ‪ :‬ما شاء اهلل كان وما مل يشأ مل يكن ‪.‬‬
‫والبالغة هي اقىص غاية االنتهاء والقصد واعىل غاية اجلهد‪ ،‬والبالغة يف القول‬
‫بمعنى أحسن ما ينتهي اليه كالم املتكلم حتى ال يبلغ غايته كالم‪ ،‬ومن هنا سمي‬
‫املتكلم احلاذق بليغا ألنه بالغ غايته يف القول‪ ،‬والبالغة يف الفعل بمعنى أقىص غاية‬
‫االجادة يف حتقيق اليشء‬
‫وبالغة احلكمة بمعنى اتقان احلكمة وغايتها ونفاذ مشيئته‪ ،‬وهي اشارة اىل‬
‫ان العفو اجىل مظاهر حكمته‪ ،‬واملغفرة أهم نفاذ مشيئته يف طور ارادته الرحيمية‬
‫والرمحانية واعظم جتليات قدرته اذ يقول لليشء كن فيكون ‪.‬‬
‫ود َك ُمت ََع ِّرضا))‪.‬‬ ‫َ‬
‫((أنْ ال َت ْج َع َلنِي لِ َغ ْي ِر ُج ِ‬
‫اجلود هو التكرم‪ ،‬والتعرض بمعنى الطلب ‪.‬‬
‫ٌ‬
‫سؤال مفاده‪ :‬كيف يكون االنسان اذا تعرض لغري جوده سبحانه؟ الن‬ ‫وهنا‬
‫ما عدا جوده تعاىل ٌ‬
‫بخل‪ ،‬وما عداه سبحانه فقري‪ ،‬ودون قدرته عجز ٌ؛فكيف وأنا‬
‫ري عاج ٍز‪ ،‬فان فاقد اليشء ال يعطيه‪ ،‬والسؤال من غريه‬
‫املحتاج اطلب من بخيلٍ فق ٍ‬
‫ضياع‪ ،‬فكيف وهو املحتاج ان يطلب من حمتاج مثله ؟!‬
‫مناجاة الشاكني‪53...................................................................................................‬‬

‫((وال ُت َص ِّي َرنِي لِ ْل ِفت َِن َغ َرضا))‪.‬‬


‫قال الراغب (((‪ :‬أصل الفتن ‪ :‬ادخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته‪،‬‬
‫واستعمل يف ادخال االنسان النار قال تعاىل ‪َ ( :‬ي ْو َم ُه ْم َع َل ال َّنا ِر ُي ْف َت ُنونَ ‪ ((() ‬وتارة‬
‫يسمعون ما حيصل عنه العذاب فيستعمل فيه نحو قوله تعاىل ‪َ :‬‬
‫(أ َل ِف ا ْل ِف ْتن َِة‬
‫اك ُفتُو ًنا)((( وجعلت الفتنة كالبالء يف اهنام‬ ‫(و َف َت َّن َ‬
‫َس َق ُطوا)(((‪،‬وتارة يف االختبار نحو َ‬
‫يستعمالن فيام يدفع اليه االنسان من شدة ورخاء‪ ،‬ومها يف الشدة أظهر معنى وأكثر‬
‫استعامال ‪ ..‬واجلعل تصيري االسباب إلجياد الداعي‪ ،‬والغرض هدف الرامي حينام‬
‫يستقبله لتسديد رميته‪.‬‬
‫واملعنى أن ال اكــون مركزا للفتن حينام تصب عىل االنسان بسبب ذنوبه‬
‫ومعاصيه‪ ،‬وان ال جتعلني يا رب ممن تعرض للباليا فال احتملها لضعفي وعدم‬
‫قدريت ولعجزي ‪.‬‬
‫داء ِ‬
‫ناصر ًا))‪.‬‬ ‫((و ُك ْن لِي َعلى َ‬
‫األ ْع ِ‬ ‫َ‬
‫االعداء مجع عدو وهو من االعتداء أي التجاوز وهو جماوزة احلق ‪.‬‬
‫فان العدو املقصود هو النفس واي عدو أقوى من النفس التي تردي صاحبها‬
‫املهالك‪ ،‬فطلب النرصة من اهلل سبحانه عىل أعتى عدو مناسب للتوسل جدا ‪.‬‬
‫الء َو ِاقي ًا))‪.‬‬
‫وب ساتِر ًا َو ِم َن ال َب ِ‬ ‫المخا ِزي َو ُ‬
‫الع ُي ِ‬ ‫(( َو َعلى َ‬
‫واذا كانت النفس اعدى االعداء فألجل ان من آثارها الذنوب‪ ،‬وهذه الذنوب‬

‫–املفردات‪.‬‬ ‫(( (‬
‫–الذارايات‪.13،‬‬ ‫(( (‬
‫–التوبة ‪.49‬‬ ‫(( (‬
‫–طه‪.40‬‬ ‫(( (‬
‫‪ ................................................................................. 54‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫ترتك من املخازي والعيوب ما ال يسرته إال هو سبحانه النارص عىل االعداء ‪.‬‬
‫اه ُم َّ ُ‬
‫الل)(((أي حفظهم‪،‬‬ ‫والوقاية هي احلفظ من املكاره ويف قوله تعاىل ‪َ ( :‬ف َو َق ُ‬
‫(‪ ‬و َو َق ُ‬
‫اه ْم‬ ‫وهو الواقي من رش العذاب واي عذاب اشد من النار لقوله تعاىل ‪َ :‬‬
‫اب ْ َ‬
‫ال ِح ِ‬
‫يم‪ ((() ‬فالوقاية من البالء أي من معاصيك وهي اشد بالءات االنسان‬ ‫َع َذ َ‬
‫الواقعة عليه دنيا وآخرة ‪.‬‬
‫الر ِ‬ ‫َ‬ ‫عاصم ًا بِ ْ‬
‫اح ِم َ‬
‫ين))‪.‬‬ ‫رأ َفتِ َك َو َر ْح َمتِ َك ياأ ْر َح َم َّ‬ ‫المعاصي ِ‬
‫ِ‬ ‫((و َع ْن‬
‫َ‬
‫وكل ما كان سببا للتوسل ؛هو وقوع االنسان يف املعايص التي توجب هالكه‪،‬‬
‫وهو خالصة املناجاة التي ابتدأها االمام زين العابدين عليه السالم‪ .‬والبد ان‬
‫يدعوه بام يناسب ذلك من الصفات وهي الرأفة والرمحة الرحيمية والرمحانية فانه‬
‫ارحم من كل رحيم‬

‫(( ( ‪-‬االنسان‪.11‬‬
‫(( ( –الدخان‪.56‬‬
‫المناجاة الثالثة‪:‬‬
‫مناجاة الخائفين‬
‫ْم الله الرَّحْم ِن الرَّح ِ‬
‫ِيم‬ ‫بِس ِ‬
‫اك ُت ْب ِّعدُ ِن َأ ْم َم َع َرجائِي لِ َر ْحَتِ َك‬
‫يامن بِ َك ُت َع ِّذ ُبنِي َأ ْم َب ْع َد ُح ِّبي إِ َّي َ‬
‫ال ِ‬ ‫( إِهلِي َأ ُت َ‬
‫راك َب ْع َد ا ِ‬

‫الك ِريم َأنْ‬


‫جار ِت بِ َع ْف ِو َك ُت ْس ِل ُمنِي ؟ حاشا لِ َو ْج ِه َك َ‬ ‫َو َص ْف ِح َك َ ْت ِر ُمنِي َأ ْم َم َع ْ‬
‫استِ َ‬
‫قاء َو َل َدتْنِي ُأ ِّمي َأ ْم لِ ْل َع ِ‬
‫ناء َر َّب ْتنِي ؟ َف َل ْيتَها َ ْل َت ِلدْ ِن َو َ ْل ُت َر ِّبنِي‬ ‫ُ َت ِّي َبنِي ! َل ْي َت ِش ْع ِري أل ْل َش ِ‬

‫السعا َد ِة َج َع ْلتَنِي َوبِ ُق ْربِ َك َو ِجوا ِر َك َخ َص ْصتَنِي‪َ ،‬ف َت َق َّر بِذلِ َك‬ ‫َ َ‬
‫َو َل ْيتَنِي َع ِل ْم ُت أ ِم ْن أ ْهلِ َّ‬
‫س‬ ‫ساج َد ًة لِ َع َظ َمتِ َك‪َ ،‬أ ْو ُ ْت ِر ُ‬‫َع ْينِي َو َت ْط َمئِ َّن َل ُه َن ْف ِس‪ .‬إِهلِي هَ ْل ُت َس ِّو ُد َو ُجوها َخ َّر ْت ِ‬
‫وب ان َْط َو ْت َعىل َ َم َّبتِ َك‪،‬‬ ‫اللتِ َك‪َ ،‬أ ْو َت ْط َب ُع َعىل ُق ُل ٍ‬ ‫ناء َعىل َم ِْد َك َو َج َ‬‫َأ ْل ِس َن ًة َن َط َق ْت بِال َّث ِ‬

‫اآلمال إِ َل ْي َك‬
‫ُ‬ ‫امع ِذ ْك ِر َك ِف إِرا َدتِ َك‪َ ،‬أ ْو َت ُغ ُّل َأ ُك ّف ًا َر َف َع ْتها‬
‫َأ ْو ُت ِص ُّم َأ ْسامع ًا َت َل َّذ َذ ْت بِ َس ِ‬
‫طاعتِ َك َح َّتى َن ِح َل ْت ِف ُماهَ َدتِ َك َأ ْو ُت َع ِّذ ُب‬
‫عاق ُب َأ ْبدان ًا َع ِم َل ْت بِ َ‬
‫جاء َر ْأ َفتِ َك‪َ ،‬أ ْو ُت ِ‬
‫َر َ‬
‫واب َر ْحَتِ َك‪َ ،‬وال َ ْت ُج ْب‬ ‫يك َأ ْب َ‬‫ال َس َع ْت ِف ِعبا َدتِ َك ؟ إِهلِي ال تَغْ ِلقْ َعىل ُم َو ِّح ِد َ‬ ‫َأ ْر ُج ً‬
‫جيلِ ُر ْؤ َيتِ َك‪ ،‬إِهلِي َن ْف ٌس َأ ْعزَ زْ َتا بِت َْو ِح ِ‬
‫يد َك َك ْي َف ُت ِذ ُّلا بِ َمها َن ِة‬ ‫يك َع ِن ال َّن َظ ِر إِىل َ ِ‬ ‫ُم ْش ِ‬
‫تاق َ‬

‫‪55‬‬
‫‪ ................................................................................. 56‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫رار ِة نِريانِ َك ؟ إِهلِي َأ ِج ْر ِن ِم ْن‬‫ِه ْجرانِ َك‪َ ،‬و َض ِم ٌري ان َْع َق َد َعىل َم َو َّدتِ َك َك ْي َف ُ ْت ِر ُق ُه بِ َح َ‬
‫ياج َّب ُار يا َق َّه ُار َ‬
‫ياغ َّف ُار‬ ‫يار ْح ُن َ‬‫يم َ‬ ‫يار ِح ُ‬
‫ياح َّنانُ يا َم َّنانُ َ‬ ‫يم َس َخ ِط َك‪َ ،‬‬ ‫يم َغ َضبِ َك َو َع ِظ ِ‬‫َألِ ِ‬
‫األ ْشا ِر‬‫يار ِم َن َ‬ ‫األخ ُ‬‫تاز ْ‬ ‫يح َة العا ِر إذا ا ْم َ‬ ‫ياس َّت ُار َن ِّجنِي بِ َر ْحَتِ َك ِم ْن َع ِ‬
‫ذاب ال َّنا ِر َو َف ِض َ‬ ‫َ‬
‫وال َو َق ُر َب ا ُمل ْح ِسنونَ َو َب ُع َد ا ُمل ِسيئُونَ َو ُو ِّف َي ْت ُك ُّل‬ ‫ت َ‬
‫األ ْه ِ‬ ‫وال َو َ‬
‫هال ِ‬ ‫حال ْت َ‬
‫األ ْح ِ‬ ‫َو َ‬

‫ماك َس َب ْت َو ُه ْم ال ُي ْظ َل ُمونَ )‪.‬‬


‫س َ‬ ‫َن ْف ٍ‬
‫مناجاة الخائفني‪57..................................................................................................‬‬

‫رشح الفقرات املباركة‪:‬‬


‫وتنتقل مع االمام زين العابدين عليه السالم اىل مناجاة أخرى وهي مناجاة‬
‫اخلائفني ‪.‬‬
‫يمان بِ َك ُت َع ِّذ ُبنِي))؟‬
‫ال ِ‬ ‫((إِل ِهي َأ ُت َ‬
‫راك َب ْع َد ا ِ‬
‫ان االيامن غري االسالم‪ ،‬فاإلسالم هو االقرار بالشهادتني ؛ فيحقن بذلك دم‬
‫االنسان املسلم وماله وعرضه‪ ،‬واإليامن اخص منه‪ ،‬فهو اذعان القلب وإخبات‬
‫َ‬
‫االيامن برسالة النبي‬ ‫النفس اىل اهلل تعاىل خالق كل يشء ‪ .‬ويستلزم هذا االعتقاد‬
‫واإلقرار بإمامة االئمة من اهل البيت عليهم السالم؛ فان الوالية‬
‫َ‬ ‫صىل اهلل عليه وآله‬
‫أقر به ؟‬
‫سبب للمغفرة؛ فكيف يعذب من َّ‬
‫رشط االيامن‪ ،‬واإليامن به تعاىل ٌ‬
‫َ‬
‫((أ ْم َب ْع َد ُح ِّبي إِ َّي َ‬
‫اك ُت ْب ِّعدُ نِي))؟‬
‫امر قام عليه عرف العقالء‪ ،‬اذ املحبة تكون سبب القرب ال سبب البعد‪،‬‬
‫وهو ٌ‬
‫وهذه فطرة ُف ِط َر الناس عليها‪ ،‬فاذا كان املخلوقون قد جبلوا عىل حمبة من أحبهم‬
‫والقرب منه؛ فكيف بخالقهم وهادهيم إىل املحبة والتآلف ان يبعد من احبه ؟‬
‫متيقن من حبي لك‪ ،‬وأنت عا ٌمل بخفي ذلك ‪،‬فكيف تبعدين وقد‬
‫ٌ‬ ‫وأنا يا رب‬
‫فطرت اخللق عىل حب من احبوا ؟!‬
‫َ‬
‫((أ ْم َم َع َرجائِي لِ َر ْح َمتِ َك َو َص ْف ِح َك َت ْح ِر ُمنِي))؟‬
‫هذه عادة الكريم ان ال خييب ظن من ظن به خريا‪.‬والرجاء لرمحته تعاىل من‬
‫احسن الظن باهلل تعاىل؛ فقد ورد عن االمام الرضا عليه السالم قوله َ( َأ ْح ِس ِن َّ‬
‫الظ َّن‬
‫‪ ................................................................................. 58‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫ول َأ َنا ِع ْن َد َظ ِّن َع ْب ِد َي ْ ُالؤْ ِم ِن ِب إِنْ َخ ْي ًا َف َخ ْي ًا وإِنْ َ ّ‬


‫ش ًا‬ ‫وج َّل َي ُق ُ‬ ‫الل َفإِنَّ َّ‬
‫الل َع َّز َ‬ ‫بِ َّ‬
‫(((‬ ‫َف َ ّ‬
‫ش ًا)‬
‫(ح ْس ُن َّ‬
‫الظ ِّن‬ ‫ول ُ‬ ‫ال َس ِم ْع ُت َأ َبا َع ْب ِد َّ‬
‫الل عليه السالم َي ُق ُ‬ ‫ان ْب ِن ُع َي ْي َن َة َق َ‬ ‫وعن ُس ْف َي َ‬
‫ْ‬
‫اف إِ َّل َذ ْن َب َك)(((‪.‬‬‫ول َ َت َ‬‫الل َ‬ ‫الل َأنْ َل َت ْر ُج َو إِ َّل َّ‬
‫بِ َّ‬

‫جارتِي بِ َع ْف ِو َك ُت ْس ِل ُمنِي))؟‬
‫استِ َ‬ ‫َ‬
‫((أ ْم َم َع ْ‬
‫االستجارة طلب النجدة من مهلكة أحدقت به‪ ،‬ولالستجارة شاهنا عند اعراف‬
‫العقالء‪ ،‬واستجابة املستجري دليل كرم املجري‪ ،‬والعرب ال تعطي من استجار هبا‬
‫حتى الدم‪ ،‬أي تضحي ملن استجار هبا الن التخيل عن االجارة دليل العجز وسبب‬
‫الضعف وذلك عار يركبه اىل االبد ان فرط بمن استجاره ‪.‬‬
‫والتوسل هنا باالستجارة ينطلق من عادة العرف يف حفظ من استجار ‪.‬‬
‫والعفو مقتىض الرمحة وهي ٌ‬
‫ذاتية له تعاىل‪ ،‬والعقوبة عرض يعرض بمقتىض‬
‫افعال العباد ؛واذا كان عفوه ذاته؛ فكيف يسلم اىل العقوبة من استجار بصفته‬
‫وعرفها لعباده ‪.‬‬
‫الذاتية وهي العفو والرمحة التي عرف هبا َّ‬
‫الك ِريم َأنْ ُت َخ ِّي َبنِي))‪.‬‬
‫((حاشا لِ َو ْج ِه َك َ‬
‫حاشا ‪ :‬أي ترفع عن فعل كذا‪ ،‬وهي كلمة يراد منها التنزيه‪ .‬والوجه مظهر الرمحة‬
‫وصفة الكرم لوجهه تعاىل تتناسب مع الرمحة التي وعد عباده عليها‬
‫واخليبة عدم الظفر بام طلب ورجاه ‪.‬‬
‫(( ( –الكايف‪،‬باب االعرتاف بالتقصري‪.72/2،‬‬
‫(( ( –املصدر السابق نفسه‪.‬‬
‫مناجاة الخائفني‪59..................................................................................................‬‬

‫فحاشا ان خييب من رجا رمحته تعاىل التي تشمل عباده مجيعا حتى املذنبني ‪.‬‬
‫قاء َو َل َدتْنِي ُأ ِّمي َأ ْم لِ ْل َع ِ‬
‫ناء َر َّب ْتنِي ))؟‬ ‫َ‬
‫((ل ْي َت ِش ْع ِري َّ‬
‫أللش ِ‬
‫ليت شعري ُ‬
‫مجلة ٍ‬
‫متن‪ ،‬حيث احلقت بكلمة شعري (ليت)‪ ،‬وهي تفيد التمني‬
‫ومعنى ليت شعري أي امتنى شعري ان يعينني عىل ذلك‪ ،‬والشعر نابع من احساس‬
‫النفس ومشاعرها‪ ،‬فليت ذلك يعينني عىل معرفة هذا األمر‪ ،‬هل أن وجودي للعناء‬
‫أم للشقاء‪،‬واألم سبب وجود االنسان يف هذا العامل باألسباب الطبيعية من محل‬
‫ووالدة وتربية‪ ،‬فهل أنا موجودا للعناء أم للشقاء ؟ وهذا التساؤل يفيد حالة اهللع‬
‫واخلوف واملسكنة التي حتيط باإلنسان حينام يعلم ان مصريه–وقد ارتكب الذنوب‬
‫‪-‬غري مغفور له‪ ،‬فامذا يفعل وكيف يقر له قرار؟ ‪.‬‬
‫(( َف َل ْيتَها َل ْم َت ِلدْ نِي َو َل ْم ُت َر ِّبنِي ))‪.‬‬
‫ألن العاقبة اذا كانت عىل غري ما يرام من العقوبة والعذاب‪ ،‬فلامذا كنت يف هذه‬
‫الدنيا وقد تسبب وجودي يف شقائي الذي ال ينتهي؟ ‪.‬‬
‫َ َ‬
‫((و َل ْيتَنِي َع ِل ْم ُت أ ِم ْن أ ْهلِ َّ‬
‫السعا َد ِة َج َع ْلتَنِي))؟‬ ‫َ‬
‫وباعث هذا اخلوف واألمل الذي يشعره املتوسل؛ هو مصريه الذي ال يعرفه‪،‬‬
‫فان االنسان اذا اقبل عىل يشء جمهول يكون قلقا خائفا متحريا‪ ،‬فهل هو من اهل‬
‫السعادة بعد أن يغفر اهلل له؟‪ ،‬وهو ال يعلم مصريه ألن ذنوبه حكمت عليه باملصري‬
‫املحذور املجهول‪ ،‬وهكذا البد ان يكون املؤمن خائفا من ذنبه راجيا عفوه‪ ،‬وحذرا‬
‫من عاقبته مع انه متفائل برمحته تعاىل ‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 60‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫((وبِ ُق ْربِ َك َو ِجوا ِر َك َخ َص ْصتَنِي))‪.‬‬


‫َ‬
‫اجلوار ليس القرب اجلوارحي بل القرب املعنوي‪ ،‬وليس ذلك من باب املجاورة‬
‫احلقيقية ألن حرضته املقدسة ال حيدها زمــان وال مكان‪ ،‬واذا خص االنسان‬
‫باملجاورة فقد أمن مالزمتها وهي حفظا للجوار اقلها‪ ،‬وهنا العفو واملغفرة لئال‬
‫يسلمه سبحانه للعقوبة والعذاب ‪.‬‬
‫(( َف َت َق َّر بِذلِ َك َع ْينِي َو َت ْط َمئِ َّن َل ُه َن ْف ِسي))‪.‬‬
‫فالن قرير العني ؛أي ظفر بام اراد؛ فهو قرير العني؛ اي مستقر احلال والنفس؛ألن‬
‫الذي ال تقىض حاجته يكون قلقا ال يستقر‪ ،‬واذا كان كذلك فهو ال ينام وال يساوره‬
‫النوم‪ ،‬وذلك اشارة اىل االستقرار النفيس الذي يكون سببا يف النوم ‪.‬‬
‫فاذا عرف مصريه اطمأنت نفسه وقرت عينه ‪.‬‬
‫ساج َد ًة لِ َع َظ َمتِ َك))؟‬
‫((إِل ِهي َه ْل ُت َس ِّو ُد َو ُجوها َخ َّر ْت ِ‬
‫االسوداد ضد البياض‪ ،‬واسوداد الوجه كناية عن السوء الذي يصيب صاحبه‪،،‬‬
‫وبياض الوجه كناية عن املرسة والفرح الذي يتلقاه االنسان قال تعاىل ( َي ْو َم َت ْب َي ُّ‬
‫ض‬
‫ومناسبة السواد والسجود مناسبة الطاعة والعذاب‪،‬‬ ‫(((‬ ‫ُو ُجــو ٌه َو َت ْس َو ُّد ُو ُجــو ٌه)‬
‫واخلضوع والعقوبة‪ ،‬فكيف بمن يكون ساجدا مقرا بالعبودية خاضعا لربوبيته‬
‫تعاىل يتعرض اىل اخلزي والعذاب؟‪ ،‬ويف العرف سواد الوجه كناية عن اخلزي‬
‫والعار‪ ،‬فكيف بمن ُيع ِّفر وجهه هلل خاضعا له يلحقه اخلزي والعذاب؟ فان ذلك‬
‫يتناىف مع كرمه وجوده ‪.‬‬
‫(( ( –ال عمران ‪.106‬‬
‫مناجاة الخائفني‪61..................................................................................................‬‬

‫س َأ ْل ِس َن ًة َن َط َق ْت بِال َّث ِ‬
‫ناء َعلى َم ْج ِد َك َو َج َ‬
‫اللتِ َك))؟‬ ‫َ‬
‫((أ ْو ُت ْخ ِر ُ‬
‫اخلرس عدم القدرة عىل الكالم‪ ،‬أما ملا يعرتيه من عذاب فال يقوى عىل الكالم‬
‫بعد ذلك‪ ،‬واما لزجر زبانية النار له فال جيرس عىل النطق‪ ،‬وكالمها واقع ممكن ؛الن‬
‫العذاب وهول املوقف جيعالن االنسان يف حرية الدهشة‪ ،‬فال يقوى عىل الكالم‪،‬‬
‫فضال عام يالقيه من زجر املوكلني عىل عذابه فال يستطيع النطق ‪.‬‬
‫واملجد‪ ،‬هو السعة يف الكرم واجلاللة ؛وبعضهم جعله الرشف والعز او هو‬
‫الرشف مقرونا بحسن الفعل ‪ .‬والثناء ذكر اخلري من الصفات‪ ،‬كقولك اثنيت عليه‬
‫أي مدحته ذاكرا صفة اخلري‪ ،‬وان كان الثناء اعم اال أنه ينرصف اىل ذكر اخلري من‬
‫فعال ‪.‬‬
‫واجلالل‪ ،‬العظمة واالرتفاع‪ ،‬فهو ينطق باملجد عليه والثناء له واجلالل لقدسه‬
‫سبحانه‪.‬‬
‫وب ا ْن َط َو ْت َعلى َم َح َّبتِ َك))؟‬ ‫َ‬
‫((أ ْو َت ْط َب ُع َعلى ُق ُل ٍ‬
‫الطبع هو السجية والصفة واخللق‪ ،‬وطبع عليه أي رست سجيته عليه‪ ،‬وطبع‬
‫ٍ‬
‫يشء ما‪ ،‬يستعمل يف القبيح من العمل‪ ،‬أي انطباع القلب عىل صفة‬ ‫القلب عىل‬
‫املعايص وتدنيسه بالذنوب ‪.‬‬
‫قلب قد ضمه حبك؟ فان حبك‬ ‫وانطوى عليه؛ أي ضمه‪ ،‬فكيف يا رب يعمى ٌ‬
‫وب َأ ِح َّبائِ َك‬
‫يار َع ْن ُق ُل ِ‬ ‫(و َأن َْت ا َّل ِذي َأ َز ْل َت ْ‬
‫األغ َ‬ ‫نور يفتح القلوب‪ ،‬ويف دعاء عرفة ‪َ :‬‬
‫(((‬ ‫واك َو َ ْل َي ْل َج َأوا إِىل َغ ْي َِك)‬
‫ي ُّبوا ِس َ‬
‫َح َّتى َ ْل ُ ِ‬
‫(( ( –بحار االنوار‪،‬الباب الثاين‪،‬اعامل خصوص يوم عرفة وليلتها وادعيتهام ‪.226/95،‬‬
‫‪ ................................................................................. 62‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫((أ ْو ُت ِص ُّم َأ ْسماع ًا َت َل َّذ َذ ْت بِ َس ِ‬


‫ماع ِذ ْك ِر َك ِفي إِرا َدتِ َك))؟‬ ‫َ‬

‫الصمم عدم السامع خللل يف األذن‪ ،‬وصمم األذن اما لعارض حيدث‪ ،‬أو لسبب‬
‫من األسباب اخلارجية تعطل امكانية السمع‪ ،‬وهنا اشارة للعذاب الذي يالقيه‬
‫املذنب وما يستحقه من عقوبة بحيث تصم أذنه عن السامع؛ هلول ما جيده وعظيم ما‬
‫يالقيه‪ ،‬وهذه اآلذان التي يصمها العذاب طاملا تلذذت بذكرك‪ ،‬أي انه ذكر ارادتك‬
‫املقرون بالعفو واملغفرة قد صمت من البالء والعقوبة ؟!‬
‫جاء َر ْأ َفتِ َك))؟‬
‫اآلمال إِ َل ْي َك َر َ‬
‫ُ‬ ‫((أ ْو َت ُغ ُّل َأ ُك ّف ًا َر َف َع ْتها‬
‫َ‬

‫الغ ُّل بالضم‪ ،‬الطوق من حديد يوضع يف العنق‪ ،‬واستعمل لكل ما يوضع دون‬
‫ُ‬
‫ذلك من االيدي واالرجل حتى يقال ايد مغلولة وارجل مغلولة‪ ،‬واذا كانت هذه‬
‫األيدي رفعها حسن الظن بك؛ فكيف ترجع خائبة مغلول ًة وهذا ما ال يتناسب مع‬
‫كرمك يا كريم ؟ فانك قلت عىل لسان ابن بنت نبيك عيل بن موسى الرضا عليهام‬
‫ول َأ َنا ِع ْن َد َظ ِّن َع ْب ِد َي‬
‫وج َّل َي ُق ُ‬ ‫الل َفإِنَّ َّ‬
‫الل َع َّز َ‬ ‫الظ َّن بِ َّ‬
‫(أ ْح ِس ِن َّ‬‫السالم انه قال ‪َ :‬‬
‫ش ًا)(((‪.‬‬ ‫ْ ُالؤْ ِم ِن ِب إِنْ َخ ْي ًا َف َخ ْي ًا وإِنْ َ ّ‬
‫ش ًا َف َ ّ‬
‫وقال امري املؤمنني عليه السالم ‪( :‬الثقة باهلل وحسن الظن به حصن ال يتحصن‬
‫به اال مؤمن‪ ،‬والتوكل عليه نجاة من كل سوء‪ ،‬وحرز من كل عدو)((( ‪.‬‬
‫وها انا ذا انام رفعت يدي اليك ألميل بعفوك وحسن الظن بجودك ورمحتك ‪.‬‬
‫عاق ُب َأ ْبدان ًا َع ِم َل ْت بِ َ‬
‫طاعتِ َك َح َّتى َن ِح َل ْت ِف ُماهَ َدتِ َك))؟‪.‬‬ ‫َ‬
‫((أ ْو ُت ِ‬

‫(( ( ‪-‬الكايف‪،‬باب االعرتاف بالتقصري ‪72/2‬‬


‫(( ( –اقبال االعامل‪،‬ج‪.349 ،1‬‬
‫مناجاة الخائفني‪63..................................................................................................‬‬

‫وهب يا سيدي اين استحق عقوبتك‪ ،‬فانت يف معاقبتي ٌ‬


‫عدل‪ ،‬وانا يف عقوبتك‬
‫يل مستحق‪ ،‬لكن رمحتك وسعت كل يشء؛ فكيف وانت الكريم ان تعاقب ابدان ًا‬
‫سعت بطاعتك حتى انحلها حبك‪ ،‬واضعفتها طاعتك‪ ،‬وانت الشفيق عىل عبادك‬
‫؛بل انت الكريم يف جمازاة عبادك باالحسان وهو العفو واملغفرة النه من صفاتك‬
‫واسامئك احلسنى؟! ‪.‬‬
‫((أ ْو ُت َع ِّذ ُب َأ ْر ُج ً‬
‫ال َس َع ْت ِفي ِعبا َدتِ َك)) ؟‬ ‫َ‬

‫كسابقتها للتأكيد عىل أن كرمه تعاىل ال يتناسب مع عقوبته ألرجلٍ كانت ساعية‬
‫لعبادته‪ ،‬وختصيص األرجل دون غريها‪ ،‬كون األرجل هي سبب السعي يف العبادة‪،‬‬
‫والوصول اىل اسباب الطاعة ‪.‬‬
‫يك َأ ْب َ‬
‫واب َر ْح َمتِ َك))‪.‬‬ ‫((إِل ِهي ال َتغْ ِلقْ َعلى ُم َو ِّح ِد َ‬
‫التوحيد اخالص الطاعة هلل تعاىل ونبذ عبادة ما دونه‪ ،‬وأعىل مراتب الطاعة‬
‫التوحيد‪ ،‬يف حني أدنى مراتب املعصية الرشك‪ ،‬فكيف تغلق ابواب رمحتك عىل‬
‫موحديك ؟ وابواب الرمحة هي ابواب التوبة ‪.‬واذا كان العبد قد اقر هلل بالوحدانية‬
‫ابعده عن عذابه‪ ،‬واي عذاب هو اشد من اغالق التوبة عليه ؟حاشا لوجه الكريم‬
‫ان يعذب من قال بتوحيده بان يدخله النار‪ ،‬فعن ايب عبد اهلل ‪ ‬قال( ان اهلل تبارك‬
‫(((‬ ‫وتعاىل حرم اجساد املوحدين عىل النار)‬
‫لكن التوحيد الذي اراده االمام ‪ ‬هو توحيد اهلل من حيث هو ال توحيده من‬

‫(( ( –توحيد الصدوق ‪.20‬‬


‫‪ ................................................................................. 64‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫حيث العباد‪ ،‬فان العبد قارص عن معرفة عظمته وامكانية توحيده اال من ابواب‬
‫املعرفة املنحرصة فقط يف ائمة اهلدى الذين جعلهم سبحانه دليال عىل معرفته وهاديا‬
‫لوحدانيته‪ ،‬فقد ورد عن ايب جعفر الباقر ‪ : ‬بنا عبد اهلل وبنا عرف اهلل‪ ،‬وبنا وحد‬
‫اهلل تبارك وتعاىل وحممد حجاب اهلل تبارك وتعاىل ‪.‬‬
‫وما ابلغ ما قاله سيد املوحدين عيل ‪ ‬ليدل عىل حقيقة التوحيد بقوله‪( :‬ال َّت ْو ِحيدُ‬
‫هه وا ْل َعدْ ُل َأ َّل َت َّت ِه َمه)(((‪.‬‬
‫َأ َّل َتت ََو َّ َ‬

‫واذا كان العبد غارقا بوحدانيته سبحانه فكيف يستحق عذابه فيغلق عليه ابواب‬
‫رمحته ؟!‬
‫يك َع ِن ال َّن َظ ِر إِلى َج ِميلِ ُر ْؤ َيتِ َك))‬ ‫((وال َت ْح ُج ْب ُم ْش ِ‬
‫تاق َ‬ ‫َ‬
‫الشوق هو نزوع النفس اىل اليشء‪ ،‬واهم دواعيه هو احلب او تعلق النفس بيشء‬
‫ٍ‬
‫لسبب ما‪ ،‬واحلجب هو املنع فيقال للستار اذا منع رؤية يشء حجاب وللبواب‬
‫املانع من الدخول حاجب النه يمنع املشاهدة ‪.‬‬
‫والنظر اىل مجيل رؤيتك‪ ،‬اشارة اىل النظر اىل رمحة ربه واحسانه اليه‪ ،‬وليس‬
‫هو النظر املادي اذ ال جيوز عليه تعاىل‪ ،‬النه ال حيد بحد وال يوصف بوصف‪ ،‬بل‬
‫ذلك عىل سبيل املجاز واالستعارة‪ ،‬واجلميل هو احلسن من كل يشء ومجيل رؤيته‬
‫احسانه وعفوه ‪.‬‬
‫واالشتياق الذي هو داعيه املحبة والطاعة يتناسب مع التوجه اىل احسانه‬
‫ورمحته‪.‬‬
‫(( ( –هنج البالغة‪،‬صبحي الصالح‪،‬حكمة‪،470‬ص‪.588‬‬
‫مناجاة الخائفني‪65..................................................................................................‬‬

‫((إِل ِهي َن ْف ٌس َأ ْعزَ زْ َتها بِت َْو ِح ِ‬


‫يد َك َك ْي َف ُت ِذ ُّلها بِ َمها َن ِة ِه ْجرانِ َك))؟‬
‫التوحيد هو فرع املعرفة التي هي علم‪ ،‬وهو ضد اجلهل‪ ،‬والعلم من موجبات‬
‫ين َل َي ْع َل ُمونَ )((( بل هو من‬
‫ين َي ْع َل ُمونَ َوا َّل ِذ َ‬
‫التفضيل لقوله تعاىل (هَ ْل َي ْس َت ِوي ا َّل ِذ َ‬
‫موجبات الشهادة املقرون صاحبه بمرتبة املالئكة‪ ،‬حيث قرن شهادة أهل العلم‬
‫باملالئكة‪ ،‬وقرهنا بشهادته تعاىل عىل وحدانيته فأي تكريم اعظم ألهل العلم من‬
‫الل َأ َّن ُه َل إِ َل َه إِ َّل ُه َو َو ْالَ َلئِ َك ُة َو ُأو ُلو‬
‫(ش ِه َد َّ ُ‬
‫هذا التكريم؟ الذي شهد عليه قوله تعاىل َ‬
‫ا ْل ِع ْل ِم َقائِ ًم بِا ْل ِق ْس ِط َل إِ َل َه إِ َّل ُه َو ا ْل َع ِزيزُ ْ َ‬
‫ال ِك ُ‬
‫يم)(((‪.‬‬
‫وواضح ان شهادته غري شهادة من دونه من مالئكة أو اولوا العلم‪ ،‬لذا خص‬
‫شهادته وحده ‪،‬ثم جعل شهادة املالئكة وأهل العلم شاهدا ودليال عليها‪ ،‬واي اهل‬
‫العلم سوى من عرفوا اهلل حق معرفته؟ وهم رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وأهل‬
‫بيته عليهم السالم؛ ثم بعد ذلك من أخذ منهم العلم ومعرفة التوحيد ودون ذلك‬
‫هراء ال طائل منه‪ ،‬واذا كان سبحانه قد افاض معرفة التوحيد عىل عبده فاعزه‪،‬‬
‫فكيف هيينه هبجرانه ؟ واهلجران هنا عدم الرضا‪ ،‬اذ حتقق من قوله تعاىل ان افضل‬
‫ش ُه ْم َر ُّ ُب ْم بِ َر ْح ٍَة ِم ْن ُه َو ِر ْض َو ٍ‬
‫ان‬ ‫نعيم اهل اجلنة هو شعورهم برضاه لقوله تعاىل ( ُي َب ِّ ُ‬
‫ين‬‫ي ِم ْن َذلِ ُك ْم لِ َّل ِذ َ‬‫يم)((( وقوله تعاىل ( ُق ْل َأ ُؤ َن ِّبئ ُُك ْم بِ َخ ْ ٍ‬ ‫يم ُم ِق ٌ‬
‫ات َ ُل ْم ِف َيها َن ِع ٌ‬ ‫َو َج َّن ٍ‬

‫ين ِف َيها َو َأزْ َو ٌ‬


‫اج ُم َط َّه َر ٌة َو ِر ْض َوانٌ‬ ‫َار َخالِ ِد َ‬ ‫ات َ ْت ِري ِم ْن َ ْتتِ َها ْ َ‬
‫ال ْن ُ‬ ‫ا َّت َق ْوا ِع ْن َد َر ِّبِ ْم َج َّن ٌ‬

‫(( ( –الزمر‪.9‬‬
‫(( ( –ال عمران ‪.18‬‬
‫(( ( –التوبة ‪.21‬‬
‫‪ ................................................................................. 66‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫اللِ َو َّ ُ‬
‫الل َب ِص ٌري بِا ْل ِع َب ِ‬
‫اد)((( فأي نعيم اعظم واكرم من رضوانه تعاىل ؟واي عذاب‬ ‫ِم َن َّ‬
‫اشد وانكى من هجرانه سبحانه ؟!‬
‫رار ِة نِيرانِ َك))؟‬
‫((و َض ِم ٌير ا ْن َع َق َد َعلى َم َو َّدتِ َك َك ْي َف ُت ْح ِر ُق ُه بِ َح َ‬
‫َ‬
‫الضمري هو الباطن؛ أي باطن االنسان وما يعتقده يف نفسه‪ ،‬وانعقد عىل مودتك‪:‬‬
‫االنعقاد بمعنى ما عقد عليه القلب والضمري ‪.‬‬
‫ال ِ‬
‫ات‬ ‫ين َآ َمنُوا َو َع ِم ُلوا َّ‬
‫الص ِ َ‬ ‫والود ‪ :‬بمعنى املحبة وقد أشار اليه قوله تعاىل (إِنَّ ا َّل ِذ َ‬
‫َس َي ْج َع ُل َ ُل ُم َّ‬
‫الر ْح َُن ُو ًّدا)((( أي سيحدث هلم حمبة ‪.‬‬
‫واذا كانت هذه الضامئر منعقدة عىل حمبتك فال يناسبها غضبك‪ ،‬واذا تيقنت من‬
‫شوقها اليك فال ختالطها عقوبتك‪ ،‬فانت املوصوف باإلحسان مع عبادك املذنبني ‪.‬‬
‫ِ‬
‫سخط َك))‬ ‫((إِل ِهي َأ ِج ْرنِي ِم ْن َألِ ِ‬
‫يم َغ َضبِ َك َو َع ِظيم‬
‫االجارة بمعنى احلفظ واحلامية‪ ،‬والسخط هو الغضب املقتيض للعقوبة‪ ،‬وأليم‬
‫غضبك يعني عدم الرضا وهو اهلجران والسخط درجة أشد من الغضب بل هو‬
‫غضب مؤد اىل العقوبة ‪.‬‬

‫((ياح َّنانُ يا َم َّنانُ ))‪.‬‬


‫َ‬
‫احلنان ‪ :‬الكثري الرمحة لعباده والعطوف عليهم ‪ .‬واملنان من املنة وهي املنة‬

‫(( ( –ال عمران ‪.15‬‬


‫(( ( –مريم ‪.96‬‬
‫مناجاة الخائفني‪67..................................................................................................‬‬

‫العظيمة الصادرة عنه تعاىل؛ تلطفا بعباده ورأفته عليهم‪ ،‬وهذه النعمة التي حيصل‬
‫عليها العباد من دون تعب مناسبة جلوده وكرمه من أسامئه تعاىل املنان ‪.‬‬
‫من))‪.‬‬
‫يار ْح ُ‬
‫يم َ‬‫((يار ِح ُ‬
‫َ‬
‫فبعض خص الرمحن به‬ ‫ٌ‬ ‫صفتان له تعاىل من الرمحة وقد اختلف يف اطالقهام‪،‬‬
‫(و َأنَّ‬
‫تعاىل والرحيم مشرتك بينه وبني غريه ‪،‬كقوله تعاىل يف ما خيص ذاته تعاىل َ‬
‫يم)((( وقوله تعاىل فيام خيص املخلوقني يف صفة النبي صىل اهلل عليه‬ ‫ور َر ِح ٌ‬ ‫َّ َ‬
‫الل َغ ُف ٌ‬
‫الؤْ ِمنِ َ‬
‫ني‬ ‫ول ِم ْن َأن ُْف ِس ُك ْم َع ِزيزٌ َع َل ْي ِه َما َعنِ ُّت ْم َح ِر ٌ‬
‫يص َع َل ْي ُك ْم بِ ْ ُ‬ ‫وآله َ‬
‫(ل َقدْ َج َاء ُك ْم َر ُس ٌ‬
‫وف َر ِحــيـ ٌـم)((( وقال بعضهم ان الرمحن ما خيص الدنيا والرحيم ما خيص‬ ‫َر ُء ٌ‬
‫اآلخرة‪،‬واالظهر اهنام صفتان خيتص هبام اهلل تعاىل لكن الرمحن صفة اختص هبا‬
‫لنفسه والرحيم ارشك هبا خلقه بام أمرهم به تعاىل ‪.‬‬
‫((ياج َّب ُار يا َق َّه ُار))‪.‬‬
‫َ‬
‫اجلبار من اجلرب‪ ،‬وهي الغلبة والعظمة والقدرة التي ال تليق اال بشانه وعظمته‪،‬‬
‫(و ُه َو ا ْل َق ِ‬
‫اه ُر َف ْو َق‬ ‫والقهار بمعنى القهر ؛اي الغلبة مع التذلل كام يف قوله تعاىل َ‬
‫(و ُه َو ا ْل َو ِ‬
‫احدُ ا ْل َق َّه ُار)((( ‪.‬‬ ‫اد ِه)((( وقوله تعاىل َ‬
‫ِع َب ِ‬
‫َ‬
‫((ياغ َّف ُار َ‬
‫ياس َّت ُار))‪.‬‬
‫من املغفرة والسرت صفتان ال تليقان اال به عىل احلقيقة‪ ،‬ولغريه عىل نحو املجاز‬
‫–املائدة ‪.98‬‬ ‫(( (‬
‫–التوبة ‪.128‬‬ ‫(( (‬
‫–االنعام ‪18،61‬‬ ‫(( (‬
‫–الرعد‪.16‬‬ ‫(( (‬
‫‪ ................................................................................. 68‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫يار ِم َن‬ ‫يح َة العا ِر إذا ا ْم َ‬


‫تاز ْ‬
‫األخ ُ‬ ‫( َن ِّجنِي بِ َر ْح َمتِ َك ِم ْن َع ِ‬
‫ذاب ال َّنا ِر َو َف ِض َ‬
‫األ ْشرا ِر)‪.‬‬‫َ‬

‫استرصاخ واستجارة بصفاته الالئقة بشأنه‪ ،‬واملقتضية للنجاة من العذاب‪ ،‬وهي‬


‫رمحانيته ورحيميته وجربوته وقهره ومغفرته وسرته ‪.‬‬
‫ت َ‬
‫األ ْه ِ‬
‫وال))‪.‬‬ ‫وال َو َ‬
‫هال ِ‬ ‫حال ْت َ‬
‫األ ْح ِ‬ ‫((و َ‬
‫َ‬
‫أي‪ :‬تغريت االحوال وتبدلت‪ ،‬اما اشارة اىل ما يعرتي املخلوقني من خوف وهلع مما‬
‫هم عليه من احلساب‪ ،‬او تغريت احواهلم عىل خالف ما هم يف حياهتم الدنيوية؛ بل حتى‬
‫الربزخية فيحدث ذلك فزعا وجزعا ‪.‬‬
‫واهلول األمر املفزع العظيم الذي هيول االنسان منه‪ ،‬وحالت االحوال وهالت االهوال‬
‫بمعنى حتققت لورودالفعل املايض مع اسم املصدر فيفيد التحقق وان مل يقع بعد ‪.‬‬
‫الم ْح ِسنونَ ))‪.‬‬
‫((و َق ُر َب ُ‬
‫َ‬
‫وذلك باإلحسان اليهم ‪،‬والنعيم الذي حتقق للمحسنني هو بام وعدهم اهلل تعاىل‪.‬‬
‫الم ِسيئُونَ ))‪.‬‬
‫((و َب ُع َد ُ‬
‫َ‬
‫االبعاد بمعنى الطرد‪ ،‬و يف الدعاء أبعده اهلل‪ ،‬أي جعله بعيدا عن الرمحة وهنا‬
‫القرب والبعد هي عواقب املحسنني واملسيئني ‪.‬‬
‫ماك َس َب ْت َو ُه ْم ال ُي ْظ َل ُمونَ ) ‪.‬‬
‫س َ‬ ‫(و ُو ِّف َي ْت ُك ُّل َن ْف ٍ‬
‫َ‬
‫ت َو ُه ْم َل ُي ْظ َل ُمونَ )((( ‪.‬‬
‫س َما َك َس َب ْ‬
‫من قوله تعاىل ( ُث َّم ُت َو َّف ُك ُّل َن ْف ٍ‬

‫(( ( –البقرة ‪،281‬ال عمران ‪.161‬‬


‫المناجاة الرابعة‪:‬‬
‫مناجاة الراجين‬
‫ْم الله الرَّحْم ِن الرَّح ِ‬
‫ِيم‬ ‫بِس ِ‬
‫(يا َم ْن إِذا َس َأ َل ُه َع ْبدٌ َأ ْعطا ُه َوإِذا َأ َّم َل ِ‬
‫ماع ْن َد ُه َب َّل َغ ُه ُمنا ُه َوإذا َأ ْق َب َل َع َل ْي ِه َق َّر َب ُه َو َأ ْدنا ُه‬
‫ت َعىل َذ ْنبِ ِه َو َغ َّطا ُه َوإِذا َت َو َّك َل َع َل ْي ِه َأ ْح َس َب ُه َو َكفا ُه‪ ،‬إِهلِي َم ِن‬ ‫الع ْص ِ‬
‫يان َس َ َ‬ ‫َوإِذا جاهَ َر ُه بِ ِ‬
‫داك َفام َأ ْو َل ْي َت ُه‬
‫تي ًا َن َ‬ ‫راك َفام َق َر ْي َت ُه َو َم ِن ا َّل ِذي َأ َ‬
‫ناخ بِبابِ َك ُم ْر َ ِ‬ ‫ا َّل ِذي َنزَ َل بِ َك ُم ْل َت ِمس ًا ِق َ‬
‫ال ْح ِ‬
‫سان‬ ‫صوف ًا َو َل ْس ُت َأ ْع ِر ُف ِس َ‬
‫واك َم ْو ًىل بِا ِ‬ ‫؟ َأ َ ْي ُس ُن َأنْ َأ ْر ِج َع َع ْن بابِ َك ْ َ‬
‫بال ْي َب ِة َم ْ ُ‬
‫األ ْم ُر‬‫اخل ْل ُق َو َ‬ ‫واك َو َ‬ ‫ي ُك ُّل ُه بِ َي ِد َك َو َك ْي َف ُأ َؤ ِّم ُل ِس َ‬ ‫ي َك َو َ‬
‫اخل ْ ُ‬ ‫َم ْو ُصوف ًا ؟ َك ْي َف َأ ْر ُجو َغ ْ َ‬
‫مال َأ ْس َأ ْل ُه ِم ْن َف ْض ِل َك‪َ ،‬أ ْم ُت ْف ِق ُر ِن إِىل ِمث ِْل َو َأنا‬ ‫َل َك َأ َأ ْق َط ُع َرجائِي ِم ْن َك َو َقدْ َأ ْو َل ْيتَنِي َ ْ‬
‫القاصدُ ونَ َو َ ْل َي ْش َق بِنِ ْق َمتِ ِه ا ُمل ْس َتغْ ِف ُرونَ ‪َ ،‬ك ْي َف‬
‫ِ‬ ‫َأ ْعت ِ‬
‫َص ُم بِ َح ْب ِل َك ؟! يا َم ْن َس َع َد بِ َر ْحَتِ ِه‬
‫راقبِي؟ إِهلِي بِ َذ ْيلِ َك َر ِم َك َأ ْع َل ْق ُت‬ ‫ذاك ِري َو َك ْي َف َأ ْ ُلو َع ْن َك َو َأن َْت ُم ِ‬ ‫َأن َ‬
‫ْساك َو َ ْل َتزَ ْل ِ‬
‫اج َع ْلنِي ِم ْن َص ْف َو ِة‬‫يد َك َو ْ‬ ‫طاياك َب َس ْط ُت َأ َم ِل‪َ ،‬ف َأ ْخ ِل ْصنِي بِخالِ َص ِة َت ْو ِح ِ‬ ‫َ‬ ‫َي ِدي َولِن َْيلِ َع‬
‫ي َمر ُج ٍّو َو َ‬
‫ياأ ْك َر َم‬ ‫تي َ‬ ‫ب إ َّيا ُه َي ْر َ ِ‬ ‫يد َك‪ ،‬يا َم ْن ُك ُّل ها ِر ٍ‬
‫ب إِ َل ْي َه َي ْلت َِج ُي َو ُك ُّل طالِ ٍ‬ ‫َعبِ ِ‬
‫ياخ ْ َ ْ‬
‫يه َو ِحجا ُب ُه َم ْر ُف ٌ‬
‫وع‬ ‫داع ِ‬
‫ُوح لِ ِ‬ ‫َمدْ ُع ٍّو َويا َم ْن ال ُي َر ُّد سائِ ُل ُه َوال ُ َي َّي ُب ِ‬
‫آم ُل ُه يا َم ْن با ُب ُه َم ْفت ٌ‬
‫‪69‬‬
‫‪ ................................................................................. 70‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫ل ِم ْن َعطائِ َك بِام َت ِق ُّر بِ ِه َع ْينِي َو ِم ْن َرجائِ َك بِام‬ ‫يه ؛ َأ ْس َأ ُل َك بِ َك َر ِم َك َأنْ َ ُت َّن َع َ َّ‬
‫راج ِ‬‫لِ ِ‬
‫يبات الدُّ نْيا َو َ ْت ُلو بِ ِه َع ْن َب ِص َ‬
‫ري ِت‬ ‫ل ُم ِص ِ‬ ‫ني بِام ُت َِّونْ بِ ِه َع َ َّ‬ ‫َت ْط َمئِ ُّن بِ ِه َن ْف ِس َو ِم َن ال َي ِق ِ‬
‫الر ِ ِ‬ ‫َ‬
‫اح َ‬
‫ني)‪.‬‬ ‫العمى بِ َر ْحَتِ َك ياأ ْر َح َم َّ‬ ‫َغ َش ِ‬
‫وات َ‬
‫مناجاة الراجني‪71 ...................................................................................................‬‬

‫رشح الفقرات املباركة‪:‬‬


‫هذه هي مناجاة الراجني‪ ،‬وقد بدأها اإلمام عليه السالم بالسؤال إليه سبحانه‪،‬‬
‫والتعرض لكرمه وجوده‪ ،‬ويناجيه بصفة تناسب السؤال له سبحانه‪ ،‬حيث وصفه‬
‫بالعطاء لكل من يسأله ويرجوه بقوله ‪:‬‬

‫((يا َم ْن إِذا َس َأ َل ُه َع ْبدٌ َأ ْعطا ُه)) ثم يقول ‪َ :‬‬


‫((وإِذا َأ َّم َل ِ‬
‫ماع ْن َد ُه َب َّل َغ ُه ُمنا ُه))‪.‬‬
‫األمل بمعنى الرجاء‪ ،‬واملنى من التمني وهي األمنية التي يأمل الطالب نجحها‪،‬‬
‫والبلوغ أي الوصول إىل الغاية‪ ،‬وغاية السائل أن يبلغ مناه ورجاءه ‪.‬‬
‫((وإذا َأ ْق َب َل َع َل ْي ِه َق َّر َب ُه َو َأ ْدنا ُه))‪.‬‬
‫َ‬
‫القرب والــدنــو واحــد‪ ،‬وهــو بمعنى االقـــراب إليه‪ ،‬وليس املقصود منه‬
‫الــقــرب املــكــاين بــل هــو قــرب املنزلة لتنزهه سبحانه عــن املــكــان‪ ،‬واالقــبــال‬
‫كناية عــن الــرجــوع واإلنــابــة إلــيــه‪ ،‬فهو كلام أقــبــل عليه سبحانه قــربــه و‬
‫أدناه‪ ،‬أي غفر له ذنبه وتاب عن خطاياه‪ ،‬فالعبد إذا بادر باإلقبال البسيط إليه‬
‫ري بال َقليلِ )((( وهذه صفة‬ ‫سبحانه قابله بالرضا والقبول الكثري (فيا َمن ُي ْع ِطي َ‬
‫الكث َ‬
‫اجلود والسؤدد‪.‬‬
‫يان َست ََر َعلى َذ ْنبِ ِه َو َغ َّطا ُه))‪.‬‬ ‫جاه َر ُه بِ ِ‬
‫الع ْص ِ‬ ‫((وإِذا َ‬
‫َ‬
‫املجاهرة هي اإلعالن باليشء‪ ،‬وجماهرة املعايص بمعنى اإلقامة عىل املعصية دون‬
‫تردد‪ ،‬واملجاهرة بالذنب اشارة إىل اإلرصار عىل ارتكابه بخالف االخفاء الذي‬

‫(( ( –الصحيفة السجادية‪،‬دعاء االمام السجاد ‪ ‬بعد كل ركعتني منم نوافل يوم اجلمعة‪،‬طبعة ابطحي ‪.575‬‬
‫‪ ................................................................................. 72‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫يعني احلياء من ارتكاب الذنب ؛ إال أن املجاهرة بالعصيان ال متنع عفوه من التسرت‬
‫عىل الذنب بالعفو والتغطية عليه عدم كشفه بالعقوبة‪ ،‬بل رأفته اقتضت قبول العفو‬
‫عن املذنبني بالسرت‪ ،‬وعىل معاصيهم بعدم الفضيحة‪ ،‬فسبحانه من قادر ما أرضاه!‬
‫((وإِذا َت َو َّك َل َع َل ْي ِه َأ ْح َس َب ُه َو َكفا ُه))‪.‬‬
‫َ‬
‫التوكل هو االعتامد يف مجيع األمور عليه سبحانه وتعاىل‪ ،‬والكفاية بمعنى الوقاية‬
‫َال)((( أي وقاهم القتال ‪ .‬وحسبه بمعنى الظن‬ ‫القت َ‬
‫نني ِ‬ ‫(و َك َفى ُ‬
‫اهلل ا ُمل ِ‬
‫ؤم َ‬ ‫لقوله تعاىل َ‬
‫وهنا بمعنى الظن احلسن‪ .‬وخالصة قوله عليه السالم أن من صفاته سبحانه أن‬
‫سبب التوكل عليه كونه عند حسن ظن العبد؛ إذا أخلص التوكل عليه وأحسن‬
‫الظن به ‪.‬‬
‫((إِل ِهي َم ِن ا َّل ِذي َنزَ َل بِ َك ُم ْل َت ِمس ًا ِق َ‬
‫راك َفما َق َر ْي َت ُه))؟‬
‫القرى الضيافة‪ ،‬وااللتامس الطلب بإحلاح مع التوسل‪ .‬وهنا يلتمس برجائه‬
‫ضيافته وهي عفوه والصفح عنه‪ .‬واإلقراء اشارة لطيفة لفتح باب التوبة‪ ،‬ألن‬
‫اإلقراء يقتيض فتح باب الضيافة ليلج إليه ويطلب منه‪ ،‬وهل أعظم من ضيافة املوىل‬
‫لعبده حيث يغدق عليه كرمه وهو عفوه يف هذا املورد من املناجاة ؟‬
‫داك َفما َأ ْو َل ْي َت ُه ؟))‪.‬‬ ‫((و َم ِن ا َّل ِذي َأ َ‬
‫ناخ بِبابِ َك ُم ْر َت ِجي ًا َن َ‬ ‫َ‬
‫وهو تأكيد عىل ما قبله‪ ،‬حيث اإلناخة بالباب اشارة إىل احلاجة واالضطراب يف‬
‫الطلب‪ ،‬والندى ‪ :‬العطاء‪ ،‬فالراجي إىل عطائه أناخ بباب رمحته وهي عفوه ومغفرته‪.‬‬

‫(( ( –االحزاب ‪.25‬‬


‫مناجاة الراجني‪73 ...................................................................................................‬‬

‫((أ َي ْح ُس ُن َأنْ َأ ْر ِج َع َع ْن بابِ َك با ْل َخ ْي َب ِة َم ْص ُروف ًا))؟‬


‫َ‬

‫اخليبة ‪ :‬عدم الظفر بام طلب‪ ،‬واالنرصاف الرجوع‪ ،‬وهنا يسأل عليه السالم أن‬
‫كرمه ال يليق برجوعي خائبا عن بابه‪ ،‬وأي باب هي؟ إهنا باب رمحته التي وسعت‬
‫كل يشء ‪.‬‬
‫سان َم ْو ُصوف ًا))؟‪.‬‬ ‫لى بِا ِ‬
‫ال ْح ِ‬ ‫((و َل ْس ُت َأ ْع ِر ُف ِس َ‬
‫واك َم ْو ً‬ ‫َ‬
‫وهذا من باب الثناء بصيغة الطلب والرجاء‪ ،‬حيث أن السائل ال يعرف أحدا‬
‫موصوفا باإلحسان الذي يناسب طلبه وهو العفو غريه‪ ،‬وهل أحد يقدر عىل العفو‬
‫عن ذنب امليسء إال هو‬
‫((كي َف َأ ْر ُجو َغ ْي َر َك َو َ‬
‫الخ ْي ُر ُك ُّل ُه بِ َي ِد َك))؟‬ ‫ْ‬
‫الغني عن غريه‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫انحصار اخلري بيده سبحانه دليل عىل افتقار الغري إليه‪ ،‬فهو‬
‫حمتاج‪ ،‬وكيف يوفر املحتاج طلب غريه‬
‫ٌ‬ ‫تاج إىل غناه‪ ،‬فكيف يأمل حمتاج ًا‬
‫ري ُه ُم ٌ‬
‫وغ ُ‬
‫وهو فقري إليه ؟ إذن فال أمل إال به‪ ،‬وال رجاء إال عطاؤه ‪.‬‬
‫الخ ْل ُق َو َ‬
‫األ ْم ُر َل َك))؟‬ ‫((و َك ْي َف ُأ َؤ ِّم ُل ِس َ‬
‫واك َو َ‬ ‫َ‬
‫وهي كسابقتها تأكيد عىل فقر الغري إليه ألنه غني‪ ،‬فكيف األمل بمن هو حمتاج‬
‫إىل غريه ؟ واألمر هنا الشأن واحلالة‪ ،‬ومها اإلجياديتان‪ ،‬أي الشأن اإلجيادي واحلالة‬
‫(ك ْن َف َي ُك ُون)((( وهنا إرادته‬
‫اإلجيادية التي تأمتر األشياء‪ ،‬كلها هبا وهي قوله تعاىل ‪ُ :‬‬
‫سبحانه ال قوله اللفظي كام هو معلوم ‪.‬‬

‫(( ( –البقرة ‪،117‬ال عمران‪،47،59‬االنعام ‪،72‬النحل ‪،40‬مريم ‪،25‬يس ‪،82‬غافر ‪.68‬‬


‫‪ ................................................................................. 74‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫مال ْم َأ ْس َأ ْل ُه ِم ْن َف ْض ِل َك))‪.‬‬
‫((أ َأ ْق َط ُع َرجائِي ِم ْن َك َو َقدْ َأ ْو َل ْيتَنِي َ‬
‫َ‬

‫خوله نعمه‪ ،‬وأغدق عليه عطاياه‪ ،‬وج َّلله‬


‫فإن عادته اإلحسان والكرم‪ ،‬وأواله‪َّ :‬‬
‫بفضله‪ ،‬فاعتاد عىل عطائه فكيف يقطع رجاءه ورمحته وهو يوليه نعمه التي مل‬
‫يسأهلا؟ فكيف بمن سأهلا ومتناها؟ وهذا هو السخاء أن يعطيه دون سؤال‪ ،‬ويتحفه‬
‫دون مسألة ‪.‬‬
‫((أ ْم ُت ْف ِق ُرنِي إِلى ِم ْث ِلي َو َأنا َأ ْعت ِ‬
‫َص ُم بِ َح ْب ِل َك ))؟‬ ‫َ‬

‫االعتصام باهلل أي االمتناع به والتمسك بحبله‪ ،‬واحلبل العهد وامليثاق واحلبل‬


‫هم آل بيت العصمة ومشكاة الرسالة‪،‬كام عن جممع البيان فعن إبان بن تغلب عن‬
‫َص ُموا بِ َح ْبلِ اللَّ ِ)‬
‫(((‬ ‫(و ْاعت ِ‬ ‫حبل اهللِ الذي َق َ‬
‫ال ‪َ :‬‬ ‫جعفر بن حممد عليهام السالم ‪ :‬نحن ُ‬
‫واألوىل محله عىل اجلميع ‪..‬‬
‫وهبذا التمسك كيف يفتقر إىل غريه وهو فقري مثله‪ ،‬حمتاج كحاجته ؟‬
‫ِ‬
‫القاصدُ ونَ ))‪.‬‬ ‫((يا َم ْن َس َع َد بِ َر ْح َمتِ ِه‬
‫القصد هنا بمعنى السلوك إليه تعاىل للوصول إىل رضاه‪ ،‬وهي غاية القاصدين‬
‫إليه‪ ،‬وقد ذاقوا حالوة رمحته يف قصدهم إليه‪ ،‬حيث أعاهنم عىل الوصول إليه‬
‫واحلظوة بمعرفته ‪.‬‬

‫((و َل ْم َي ْش َق بِنِ ْق َمتِ ِه ُ‬


‫الم ْس َتغْ ِف ُرونَ ))‪.‬‬ ‫َ‬
‫هو ٌ‬
‫بيان للقصد حيث االستغفار أوىل خطوات القاصد بعد أن انقلب إليه‬

‫(( ( –ال عمران ‪.103‬‬


‫مناجاة الراجني‪75 ...................................................................................................‬‬

‫سبحانه‪ ،‬وقد منعهم استغفارهم نقمته‪ ،‬وهذا يناسب كرمه‪ ،‬إذ الكريم إذا قصده‬
‫امليسء إليه يغض عن توبيخه فضال عن عقوبته‪ ،‬واملستغفر قاصد إليه فلم يشق‬
‫أحد بعقوبته حيث قصده ورجاه ‪.‬‬
‫ذاك ِري))؟‬ ‫((ك ْي َف َأ ْن َ‬
‫ساك َو َل ْم َتزَ ْل ِ‬ ‫َ‬
‫ذكر ُه له بمعنى إغداق النِّعم عليه؛ وأجالها كرمه وعفوه إياه‪ ،‬وهو تأكيد ملا مر‬
‫ُ‬
‫من متجيده وبيان عظيم نِ ِع ِمه‪ ،‬وإذا كان سبحانه ذاكره فكيف ينسى من يكون شأنه‬
‫الذكر له بالعناية والرعاية إليه؟‬
‫((و َك ْي َف َأ ْل ُهو َع ْن َك َو َأ ْن َت ُم ِ‬
‫راقبِي ))؟‬ ‫َ‬
‫ال َّلهو‪ ،‬االشتغال بام ال يعنيه وانشغاله عام يعنيه‪ ،‬واملراقبة بمعنى إمعان النظر‬
‫ومتابعته دون االنفكاك عنه‪ ،‬وإذا كان هو الرقيب سبحانه فكيف لعاقل أن يلهو‬
‫يسوف ؟ ‪.‬‬
‫وكيف له أن ّ‬
‫((إل ِهي بِ َذ ْيلِ َك َر ِم َك َأ ْع َل ْق ُت َي ِدي))‪.‬‬
‫تعلق الغريق يكون غالبا بذيل منقذه‪ ،‬فهو يتشبث بالتعلق للنجاة من الغرق‪،‬‬
‫وها أنذا يارب غريق ببحر ذنويب علقت يدي بذيل كرمك لتنقذين من ورطتي وهي‬
‫خطاياي ‪.‬‬
‫طاياك َب َس ْط ُت َأ َم ِلي))‪.‬‬
‫َ‬ ‫((ولِن َْيلِ َع‬
‫َ‬
‫انبساط اليشء إشار ٌة لألخذ والتزود‪ ،‬والقبض خالفه‪ ،‬فهو االمتناع عن األخذ‬
‫واالستفادة‪ .‬وانبساط اليد ٌ‬
‫جماز للجود والكرم‪ ،‬وبسط األمل كام يبسط أحدهم‬
‫‪ ................................................................................. 76‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫ثوبه ليلتقي عطا ًء ونائلة‬


‫(( َف َأ ْخ ِل ْصنِي بِخالِ َص ِة َت ْو ِح ِ‬
‫يد َك))‪.‬‬
‫خلص اليشء من التلف خلوصا من باب فقد‪ ،‬وخالصا وخملصا سلم ونجا‬
‫وخلص املاء من الكدر صفا‪ ،‬وخلوص التوحيد صفاؤه من شائبة الرشك‪ ،‬وهو‬
‫طلب اإلعانة منه تعاىل عىل أن جيعله خالص التوحيد اذ ذلك من أسباب التوفيق‬
‫والتسديد‪.‬‬
‫يد َك))‪.‬‬
‫اج َع ْلنِي ِم ْن َص ْف َو ِة َعبِ ِ‬
‫((و ْ‬
‫َ‬
‫الصفوة ‪ :‬اخلالصة ا ُمل ْنتجبة‪ ،‬وصفوة القول خالصته‪ ،‬وصفوة كل يشء انتجابه‬
‫من كدورة الشوائب‪ ،‬وجعله من صفوة العبيد هو التسديد يف املعرفة‪ ،‬والتوفيق‬
‫يف الطاعة ألن يكون قريبا إليه سبحانه‪ ،‬وقرينة العبودية تنبئ عن حسن االنصياع‬
‫والتذلل‪.‬‬
‫ب إِ َل ْي َه َي ْلت َِج ُي))‪.‬‬
‫(( يا َم ْن ُك ُّل ها ِر ٍ‬
‫النداء هنا استغاثة املضطر املحتاج‪ ،‬واهلــارب من أجىل مصاديق الضعف‬
‫واحلاجة إىل من يستغيث به‪ ،‬واللجوء االحتامء والتحصن‪ ،‬فهو هارب من ذنوبه‬
‫ملتجئ برمحته متحصن بعفوه ‪.‬‬
‫((و ُك ُّل طالِ ٍ‬
‫ب إ َّيا ُه َي ْر َت ِجي))‪.‬‬ ‫َ‬
‫الرجاء خالف اليأس‪ ،‬وملا كان الطالب راجيا فهو من دواعي املعرفة بمن يطلب‬
‫منه‪ ،‬ورجائه بربه ‪.‬‬
‫مناجاة الراجني‪77 ...................................................................................................‬‬

‫الر ِ‬ ‫َ‬
‫اح ِم َ‬
‫ين))‪.‬‬ ‫العمى بِ َر ْح َمتِ َك ياأ ْر َح َم َّ‬ ‫((و َت ْج ُلو بِ ِه َع ْن َب ِص َيرتِي َغ َش ِ‬
‫وات َ‬ ‫َ‬
‫برص بصرية هي مشاهدة القلوب وانكشاف احلقائق هلا‪ ،‬واإلبصار هو مشاهدة‬
‫األشياء بالعني‪ ،‬والبصرية أعظم وقعا لإلنسان يف معرفة احلق‪ ،‬فإن االنكشاف ال‬
‫يكون إال من خالل القلب وهو بصريته واإلبصار ال يكون إال بالعني‪ ،‬فالبصرية‬
‫مشاهدة االعتبارات واملعاين واإلبصار مشاهدة املحسوسات ‪.‬‬
‫واجلالء رفع احلجاب والغشاوة وهو رين القلب الذي يمنعه عن املعرفة‪ ،‬وعمى‬
‫القلوب أشد من عمى األبصار وال يكون ذلك إال برمحته فإنه أرحم الرامحني ‪.‬‬
‫المناجاة الخامسة‪:‬‬
‫مناجاة الراغبين‬
‫ْم الله الرَّحْم ِن الرَّح ِ‬
‫ِيم‬ ‫بِس ِ‬
‫ري إِ َل ْي َك َف َل َقدْ َح ُس َن َظنِّي بِال َّت َو ُّكلِ َع َل ْي َك َوإِنْ كانَ‬
‫زادي ِف املَ ِس ِ‬
‫( إِهلِي إِنْ كانَ َق َّل ِ‬
‫ُجر ِمي َقدْ َأخا َفنِي ِم ْن ُع ُقو َبتِ َك َفإنَّ َرجائِي َقدْ َأ ْش َعر ِن بِ َ‬
‫األ ْم ِن ِم ْن نِ ْق َمتِ َك‪َ ،‬وإِنْ كانَ َذ ْنبِي‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ال ْستِ ْع ِ‬
‫داد‬ ‫الغ ْف َل ُة َع ْن ا ِ‬ ‫َقدْ َع َر َضنِي لِ ِعقابِ َك َف َقدْ آ َذ َننِي ُح ْس ُن ثِ َقتِي بِ َثوابِ َك‪َ ،‬وإِنْ َأنا َم ْتنِي َ‬
‫الع ْص ِ‬
‫يان‬ ‫ش ما َب ْينِي َو َب ْين ََك َف ْر ُط ِ‬ ‫لِ ِلقائِ َك َف َقدْ َن َّب َه ْتنِي املَ ْع ِر َف ُة بِ َك َر ِم َك َوآآلئِ َك‪َ ،‬وإِنْ َأ ْو َح َ‬
‫حات َو ْج ِه َك َوبِ َأنْوا ِر‬ ‫وان‪َ ،‬أ ْس َأ ُل َك بِ ُس ُب ِ‬ ‫الر ْض ِ‬ ‫الغ ْف ِ‬
‫ران َو ِّ‬ ‫شى ُ‬ ‫يان َف َقدْ آ َن َسنِي ُب ْ َ‬ ‫الطغْ ِ‬‫َو ُّ‬
‫ف بِ ِّر َك َأنْ ُ َت َّق َق َظنِّي بِام ُأ َؤ ِّم ُل ُه ِم ْن َج ِزيلِ‬‫ف َر ْحَتِ َك َو َلطائِ ِ‬ ‫ُقدْ ِس َك َو َأ ْب َت ِه ُل إِ َل ْي َك بِ َع ِ‬
‫واط ِ‬
‫والز ْلفى َل َد ْي َك َوال َّت َم ُّت ِع بِال َّن َظ ِر إِ َل ْي َك‪َ ،‬وها َأنا‬‫الق ْربى ِم ْن َك ُّ‬ ‫ْعام َك ِف ُ‬ ‫جيلِ إن ِ‬ ‫ْإك ِ‬
‫رام َك َو َ ِ‬

‫ود َك َو ُل ْط ِف َك ُّ‬
‫فار ِم ْن َس َخ ِط َك إِىل‬ ‫حات َر ْو ِح َك َو َع ْط ِف َك َو ُم ْنت َِج ٌع َغ ْي َث ُج ِ‬
‫ض لِ َن َف ِ‬
‫ُمت ََع ِّر ٌ‬
‫أح َس َن ما َل َد ْي َك ُم َع ِّو ٌل َعىل َم ِ‬
‫واهبِ َك ُم ْفت َِق ٌر إِىل ِرعا َيتِ َك‪.‬‬ ‫ِر َ‬
‫ضاك ها ِر ٌب ِم ْن َك إِ َل ْي َك ٍ‬
‫راج ْ‬
‫إِهلِي ما َب َد ْأ َت بِ ِه ِم ْن َف ْض ِل َك َفت ََّم ْم ُه‪َ ،‬وما َوهَ ْب َت ِل ِم ْن َك َر ِم َك َفال َت ْس ُل ْب ُه‪َ ،‬وما َس َ ْ‬
‫ت َت ُه‬

‫‪79‬‬
‫‪ ................................................................................. 80‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫است َْش َف ْع ُت بِ َك إِ َل ْي َك‬ ‫اغ ِف ْر ُه‪ ،‬إِهلِي ْ‬ ‫يح ِف ْع ِل َف ْ‬


‫ل بِ ِح ْل ِم َك َفال َ ْتتِ ْك ُه‪َ ،‬وما َع ِل ْم َت ُه ِم ْن َقبِ ِ‬‫َع َ َّ‬
‫راغب ًا ِف ا ْمتِنانِ َك ُم ْست َْس ِقي ًا َوابِ َل َط ْولِ َك‬ ‫إحسانِ َك ِ‬ ‫طامع ًا ِف ْ‬ ‫ُك ِ‬ ‫است ََج ْر ُت بِ َك ِم ْن َك َأ َت ْيت َ‬‫َو ْ‬
‫ش َيع َة ِر ْف ِد َك ُم ْل َت ِمس ًا َسنِ َّي‬ ‫ُم ْست َْم ِطر ًا َغام َم َف ْض ِل َك طالِب ًا َم ْرضا َت َك ِ‬
‫قاصد ًا َجنا َب َك َوا ِرد ًا َ ِ‬
‫ض ِة َجالِ َك ُم ِريد ًا َو ْج َه َك طا ِرق ًا با َب َك ُم ْست َِكين ًا بِ َ‬
‫عظ َمتِ َك‬ ‫ات ِم ْن ِع ْن ِد َك َو ِافد ًا إِىل َح ْ َ‬ ‫اخل ْي ِ‬ ‫َ‬
‫الع ِ‬
‫ذاب‬ ‫ماأن َْت َأ ْه ُل ُه ِم ْن املَغْ ِفر ِة َوالر ْح َِة َوال َت ْف َع ْل ِب َ‬
‫ماأنا ْأه ُل ُه ِم ْن َ‬ ‫َو َجاللِ َك ؛ َفا ْف َع ْل ِب َ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫الر ِ ِ‬ ‫َ‬
‫ني)‪.‬‬ ‫اح َ‬ ‫َوال ِّن ْق َم ِة بِ َر ْحَتِ َك ياأ ْر َح َم َّ‬
‫مناجاة الراغبني‪81...................................................................................................‬‬

‫رشح الفقرات املباركة‪:‬‬


‫هذه املناجاة تسمى مناجاة الراغبني‪ ،‬وهنا يناجي اإلمام زين العابدين عليه‬
‫السالم ر َّبه عىل لسان املقرصين الذين أعيتهم احليل يف الوصول إىل رضاه‪ ،‬حيث‬
‫يناجيه قائ ً‬
‫ال ‪-:‬‬
‫الم ِسي ِر إِ َل ْي َك))‪.‬‬
‫زادي ِفي َ‬
‫((إِل ِهي إِنْ كانَ َق َّل ِ‬
‫ري إِ َل ْي َك) والزاد هنا بمعنى‬
‫الزاد كل ما حيمله املسافر من متاع الطعام بقرينة (املَ ِس ِ‬
‫حسنات اإلنسان وأعامله التي من شأهنا أن تقربه إىل اهلل ‪.‬‬
‫(( َف َل َقدْ َح ُس َن َظنِّي بِال َّت َو ُّكلِ َع َل ْي َك))‪.‬‬
‫فقلة الزاد ال تؤيسني‪ ،‬وقلة عميل ال متنعني من رجائي بحسن الظن بك والتوكل‬
‫عليك‪ ،‬فإن أعاميل القليلة ال تناسب اعرتايف لك بالعبودية‪ ،‬وتقصريي ال حيجبني‬
‫عن النظر إىل كرامتك وجودك‪.‬‬
‫((وإِنْ كانَ ُج ْر ِمي َقدْ َأخا َفنِي ِم ْن ُع ُقو َبتِ َك‪))...‬‬
‫َ‬
‫اجلرم بالضم َ‬
‫واجلريمة بالفتح اكتساب اإلثم‪ ،‬وهذا دا ٍع خلويف وحيائي منك‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أما خويف فمن عقوبتك وأما حيائي فمن رمحتك‪.‬‬
‫(( َفإنَّ َرجائِي َقدْ َأ ْش َعرنِي بِ َ‬
‫األ ْم ِن ِم ْن نِ ْق َمتِ َك))‪.‬‬ ‫َ‬
‫النقمة بمعنى العقوبة‪ ،‬واألمن االطمئنان‪ ،‬فان رجاءه أشعر ُه باألمن من العقوبة‪،‬‬
‫وهنا مقابلة بني اجلرم والرجاء‪ ،‬وبني اخلوف واألمن‪ ،‬فبقدر ما هو خائف من ذنوبه‬
‫لكنه مطمئن برجائه برمحته سبحانه‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 82‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫((وإِنْ كانَ َذ ْنبِي َقدْ َع َر َضنِي لِ ِعقابِ َك َف َقدْ آ َذ َننِي ُح ْس ُن ثِ َقتِي بِ َثوابِ َك))‬
‫َ‬
‫وهو كاملعنى السابق حيث الذنب يقابله العقاب‪ ،‬وثقتي باهلل جتعلني راجيا‬
‫لثوابه‪ ،‬كام أن ذنبي يدفعني إىل اخلوف من عقوبته‪.‬‬
‫داد لِ ِلقائِ َك))‪.‬‬
‫ال ْستِ ْع ِ‬ ‫((وإِنْ َأنا َم ْتنِي َ‬
‫الغ ْف َل ُة َع ْن ا ِ‬ ‫َ‬
‫‪ ‬غ ْف َل ٍة ُم ْع ِر ُضونَ ‪ ((() ‬حيث جعل سبحانه سبب االعراض‬
‫(‪ ‬و ُه ْم ِ‪ ‬ف َ‬
‫قال تعاىل َ‬
‫هو الغفلة‪ ،‬وهي حالة تعرتي االنسان فيسهو عن أمر مهم ال جيد بدا من مراعاته‬
‫لوال غفلته‪ ،‬ولعل الفرق بني السهو والغفلة دقيق أشار إليه أبو هالل العسكري‬
‫بقوله ‪ (:‬الفرق بني السهو والغفلة ‪ :‬أن الغفلة تكون عام يكون‪ ،‬والسهو‬
‫يكون عام ال يكون‪ ،‬فتقول غفلت عن اليشء حتى كان وال تقول سهوت‬
‫عنه حتى كان ألنك اذا سهوت عنه مل يكن وجيوز أن تغفل عنه ويكون)(((‪.‬‬
‫والغفلة هنا يف الدعاء سبب يف االمهال‪ ،‬حتى أهنا أنامته عن االستعداد إىل‬
‫املسري‪ ،‬كام لو أن انسانا نائام عن قافلته التي هو معها وقد استعدت للمسري دونه‬
‫وهو يف نوم الغفلة عام جيري من حوله‪.‬‬
‫الم ْع ِر َف ُة بِ َك َر ِم َك َوآآلئِ َك))‪.‬‬
‫(( َف َقدْ َن َّب َه ْتنِي َ‬
‫لكن مع هذه الغفلة التي مل تستمر طويال‪ ،‬حتى تنبهت عىل كرمك وجودك‬
‫وآالئك فأفزعني ذلك خجال مما أنا فيه من تقصري الغفلة‪ ،‬فاين مل استغرق نعمك‬
‫حتى عصيتك ومل استوف آالءك حتى سهوت عن شكرك‪ ،‬فكيف ومتى أرجع عن‬
‫(( ( ‪-‬االنبياء ‪.1‬‬
‫(( ( ‪-‬الفروق‬
‫مناجاة الراغبني‪83...................................................................................................‬‬

‫غفلتي وأفيق من نومتي وأنا يف نعمك؟‬


‫يان َف َقدْ آ َن َسنِي ُب ْش َرى‬ ‫يان َو ُّ‬
‫الطغْ ِ‬ ‫الع ْص ِ‬ ‫((وإِنْ َأ ْو َح َ‬
‫ش ما َب ْينِي َو َب ْين ََك َف ْر ُط ِ‬ ‫َ‬
‫وان))‪.‬‬ ‫الر ْض ِ‬
‫ران َو ِّ‬‫الغ ْف ِ‬
‫ُ‬
‫الوحشة عدم املودة‪ ،‬واالنقباض عنه حتى ال يستطيع التقارب بسبب الذنب‬
‫وهو العصيان‪ ،‬بل التفريط فيه حتى جعلني بعيدا عنك يا رب‪ ،‬لكن أنيس بام‬
‫برشت بالغفران والرضوان لكل مذنب ونادم وكل عاص تائب‪.‬‬
‫حات َو ْج ِه َك َوبِ َأ ْنوا ِر ُقدْ ِس َك))‪.‬‬
‫((أ ْس َأ ُل َك بِ ُس ُب ِ‬
‫َ‬
‫ُس ُب ِ‬
‫حات وجهك أي جاللك وعظمتك وقيل هو نوره سبحانه‪ ،‬والقدس بمعنى‬
‫الطهارة والتنزه عن أوصاف املخلوقني أي عن النقائض من األسامء والصفات‪،‬‬
‫وانوار القدس هي األنوار الطاهرة املنزهة‪.‬‬
‫والسؤال بالقسم عليه سبحانه وتعاىل بسبحات وجهه الكريم وانوار قدسه‬
‫الطاهر‪.‬‬
‫ف بِ ِّر َك))‪.‬‬
‫ف َر ْح َمتِ َك َو َلطائِ ِ‬ ‫((و َأ ْب َت ِه ُل إِ َل ْي َك بِ َع ِ‬
‫واط ِ‬ ‫َ‬
‫االبتهال هو املبالغة يف السؤال والترضع‪ ،‬اللطائف هنا بمعنى الدقائق أي دقائق‬
‫بره سبحانه‪.‬‬
‫رام َك َو َج ِميلِ إ ْن ِ‬
‫عام َك))‪.‬‬ ‫إك ِ‬ ‫َ‬
‫((أنْ ُت َح َّق َق َظنِّي بِما ُأ َؤ ِّم ُل ُه ِم ْن َج ِزيلِ ْ‬
‫وسؤايل يف أن حتقق ما آمله من حسن الظن بك فانك اهل الكرم واإلنعام‪ ،‬فانك‬
‫ال تقابل االساءة بالعقوبة بل بالعفو والرمحة‪ ،‬وهذا ظني بك‪ ،‬فانك عند حسن ظن‬
‫‪ ................................................................................. 84‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫عبدك ما دام هو يف حسن الظن بك‪.‬‬


‫والز ْلفى َل َد ْي َك َوال َّت َم ُّت ِع بِال َّن َظ ِر إِ َل ْي َك))‪.‬‬
‫الق ْربى ِم ْن َك ُّ‬ ‫ِ‬
‫((في ُ‬
‫وكرمك ان احظى من القرب اليك‪ ،‬وليس هو القرب املكاين‪ ،‬بل القرب‬
‫القلبي‪،‬حتى يشعر قلبه أنه قريب منه تعاىل أي القرب املعنوي‪ ،‬الذي ال يناله إال‬
‫باإلذعان واالستغفار‪.‬‬
‫والزلفى هي الدرجة من القرب‪ ،‬والنظر اليه‪ ،‬بمعنى رمحته أي أنه يتحسس‬
‫رمحته فينظر إليها‪ ،‬أي ينظر إىل آثار رمحته‪ ،‬وكل ما يف هذا الكون هو أثر من آثاره‬
‫الرمحانية والرحيمية‪.‬‬
‫حات َر ْو ِح َك َو َع ْط ِف َك))‪.‬‬ ‫((وها َأنا ُمت ََع ِّر ٌ‬
‫ض لِ َن َف ِ‬ ‫َ‬
‫َس ِم ْن َ‪ ‬ر ْو ِح اللَّ ِ)((( بمعنى‬
‫الر ْوح بالفتح‪ ،‬بمعنى الرمحة كقوله تعاىل (إِ َّن ُه‪ ‬ال َي ْيئ ُ‬
‫َ‬
‫من رمحته‪.‬‬
‫والنفحة والنفحات‪ ،‬بمعنى العطية والعطيات‪ ،‬أي عطية من رمحته‪ ،‬والتعرض‬
‫للطلب عنك‪ ،‬حيث جودك وكرمك‪.‬‬
‫ود َك َو ُل ْط ِف َك))‪.‬‬
‫((و ُم ْنت َِج ٌع َغ ْي َث ُج ِ‬
‫َ‬
‫انتجع أي طلب الكأل والعشب‪( ،‬ومن أجدب انتجع)((( وهي مثل يعني من‬
‫افتقر طلب الكالء والعشب يف االرض وهي تستعمل يف طلب املعروف‪ ،‬وانتجعت‬
‫فالنا أي طلبت معروفه‪ ،‬والغيث املطر‪ ،‬فاملجدب ال يطلب اال غيث جودك يا رب‬
‫(( ( –يوسف ‪.78‬‬
‫(( ( –لسان العرب‪،‬فصل النون ‪،‬مادة (نجع)‪347/8‬‬
‫مناجاة الراغبني‪85...................................................................................................‬‬

‫ولطفك‪ ،‬ووصف اجلود واللطف بالغيث اشارة إىل سعة رمحته‪ ،‬وال يطلب الغيث‬
‫إال بعد احلاجة‪ ،‬فيقال أغاثنا باملطر دعاء لطلب اخلري‪ ،‬وهنا طلب االنتجاع بعد‬
‫احلاجة بالغيث بليغ يف وصف الفقر واحلاجة ملطلق الغنى والرمحة‪.‬‬
‫((فار ِم ْن َس َخ ِط َك إِلى ِر َ‬
‫ضاك))‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫فار منك إليك‪ ،‬وهي دائرة العباد املغلقة حيث ال منجى منه إال إليه‪ ،‬فيفر‬
‫أي ٌّ‬
‫العبد من سخطه إىل رضاه‪ ،‬ومن عقوبته إىل رمحته‪ ،‬ومن غضبه إىل عفوه‪ ،‬سبحانه‬
‫كم هو غني جبار الساموات واألرض ال يفر عبيده إال إليه!‬
‫وهو ٌ‬
‫بيان لتسلطه وجربوته وهيمنته‪.‬‬
‫أح َس َن ما َل َد ْي َك))‪.‬‬
‫((راج ْ‬
‫ٍ‬
‫بل الرجاء كل ما لديك‪ ،‬لكن الطلب اليكون إال لألحسن واألفضل مع فقره‬
‫إىل ما دونه‪ ،‬وعادة الطالب الطمع ما يف يد صاحب احلاجة فريجو أحسنها ‪،‬أو ما‬
‫يناسب فقره وحاجته‪ ،‬وأحسن ما يناسب فقره هو املغفرة والعفو‪.‬‬
‫واهبِ َك ُم ْفت َِق ٌر إِلى ِرعا َيتِ َك))‪.‬‬
‫((م َع ِّو ٌل َعلى َم ِ‬
‫ُ‬
‫اليتيم‪ ،‬او كل حمتاج إىل الرعاية والعناية‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الرجل‬ ‫العول بمعنى الكفالة‪ ،‬أي تكفل‬
‫والتعويل عىل يشء حاجة املعول لذلك اليشء‪ ،‬فالدعاء هنا هو التعويل عىل موهبته‬
‫سبحانه واالفتقار اىل رعايته وهي عفوه ومغفرته‪.‬‬
‫((إِل ِهي ما َب َد ْأ َت بِ ِه ِم ْن َف ْض ِل َك َفت ََّم ْم ُه))‪.‬‬
‫امتام اليشء اكامله‪ ،‬وهو دليل االفتقار اىل ذلك اليشء‪ ،‬والفضل كل نعمة اغدقها‬
‫‪ ................................................................................. 86‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫سبحانه عىل عباده‪ ،‬واالنقطاع عنها انقطاع عن اخلري‪ ،‬وطلب االمتام والكامل دليل‬
‫االفتقار الدائم اليه‪ ،‬ورجائه يف استمرار رمحته واغداق عطاياه‪ ،‬ألنه ال ينقطع عنه‬
‫طرفة عني يف استمرارها‪ ،‬فالعبد فقري ابتداء ودواما وهو تعاىل غني ابتداء ودواما‪،‬‬
‫واالبقاء عىل النعم دون سلبها من اهم عطاياه‪.‬‬
‫((و َما َست َْر َته َع َل َّي بِ ِح ْل ِم َك َفال َت ْهتِ ْكه))‪.‬‬
‫السرت هو عدم األخذ بالعقوبة‪ ،‬واحللم العفو عند املقدرة‪ ،‬أي مع القدرة عىل‬
‫العقوبة يعفو‪ ،‬واهلتك ختريق السرت وكشف ما سرته‪ .‬وانكشاف السرت وختريقه‬
‫بغضبه وعقوبته بعد ارتفاع عفوه‪.‬‬
‫اغ ِف ْره))‪.‬‬
‫يح ِف ْع ِلي َف ْ‬
‫((و َما َع ِل ْمتَه ِم ْن َقبِ ِ‬
‫واملغفرة بعدم العقوبة‪.‬‬
‫است َْش َف ْع ُت بِ َك إِ َل ْيك))‪.‬‬
‫((إِ َل ِهي ْ‬
‫الشفاعة هي التجاوز عن الذنب‪ ،‬والشفيع ان يكون مقبوال اىل املشفوع عنده‬
‫ومرضيا عنه وقريبا اليه‪ ،‬وهنا يستشفع االمام بذاته اىل ذاته‪ ،‬وبكرمه اىل حسن كرمه‬
‫وبعفوه اىل مجيل عفوه‪ ،‬ويف أدعية أخرى يستشفع أيضا بمحمد وآله صىل اهلل عليه‬
‫وآله كام يف قوله (فاين مل آتك ثقة مني بعمل صالح قدمته‪ ،‬وال شفاعة خملوق رجوته‬
‫إال شفاعة حممد وأهل بيته عليه وعليهم سالمك)((( فاما شفاعته بكرمه وجوده‪،‬‬
‫واما شفاعته اىل اقرب من ارتضاه من خلقه وهم حممد وآله عليه وعليهم السالم‪.‬‬

‫(( ( –مصباح املتهجد‪،‬التعقيب بعد الظهر من يوم اجلمعة‪372،‬‬


‫مناجاة الراغبني‪87...................................................................................................‬‬

‫ُك َط ِ‬
‫امعا ِفي إِ ْح َسانِ َك))‪.‬‬ ‫َ‬
‫((أ َت ْيت َ‬
‫عيب من ورائه ‪.‬‬ ‫فالطمع يف االحسان من مصدره ٌ‬
‫كامل‪ ،‬ال منقصة فيه‪،‬وال ٌ‬
‫(راغبا يف امتنانك) رغب يتعدى بنفسه مرة اذا اراده وطلبه‪ ،‬ويتعدى بغريه‬
‫أخرى والرغبة اذا تعديته بـ(يف) فهي بمعنى االرادة أي أراده وطلبه‪ ،‬واملنة هي‬
‫النعمة الثقيلة ومن اهلل عليك أي أثقلك بنعمه ( َم َّن‪ ‬اللَّ ُ َع َل ْ ُالؤْ ِمنِ َ‬
‫ني)((( أي أنعم‬
‫عليهم بنعمه الظاهرة والباطنة ومنها نبيه صىل اهلل عليه وآله ‪.‬‬
‫((م ْست َْس ِقي ًا َوابِ َل َط ْولِ َك ))‪.‬‬
‫ُ‬
‫الوابل ‪ :‬بمعنى املطر الشديد‪ ،‬الطول أي الفضل‪ ،‬والتطول التفضل‪ ،‬وهو‬
‫املتطول املنان ‪.‬‬
‫واالستسقاء طلب الغيث واملطر بعد اجلدب‪ ،‬واالستسقاء من فضله سبحانه يف‬
‫غاية األمل مع احلاجة واخلضوع وبيان لالفتقار اليه ‪.‬‬
‫((م ْست َْم ِطر ًا َغما َم َف ْض ِل َك))‪.‬‬
‫ُ‬
‫اذ الفضل ال ينزل اال منه‪ ،‬والغامم ما حيمل املطر واالستمطار رجاء نزول املطر‬
‫لكن من غامئم فضله ورمحته ‪.‬‬
‫(طالِب ًا َم ْرضا َت َك ِ‬
‫قاصد ًا َجنا َب َك)‪.‬‬
‫اجلناب أي الناحية وهو جماز عن النفس‪ ،‬وملا كان املقصود غري جسم فقد‬
‫عرب عليه السالم عن اجلهة باجلناب‪ ،‬فطلب املرضاة وقصد جنابه يأيت بعد رضاه‬

‫(( ( –ال عمران ‪.164‬‬


‫‪ ................................................................................. 88‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫سبحانه‪.‬‬
‫رات ِم ْن ِع ْن ِد َك))‪.‬‬ ‫((وا ِرد ًا َش ِر َيع َة ِر ْف ِد َك ُم ْل َت ِمس ًا َسنِ َّي َ‬
‫الخ ْي ِ‬ ‫َ‬
‫الورود بمعنى البلوغ‪ ،‬والرشيعة مكان الورود من النهر‪ ،‬وااللتامس هو الطلب‬
‫لكن مع رضورة الطالب ومشقة حاله‪ ،‬والرفد بمعنى العطاء ‪،‬وسني اخلريات‬
‫بمعنى طلبها ألن السناء يأيت يف طلب املاء والسقاية‪.‬فاإلمام عليه السالم يصف‬
‫طلبه منه متام اخلري كام يطلب الظمآن ورود املاء رضورة‪.‬‬
‫((و ِافد ًا إِلى َح ْض َر ِة َجمالِ َك))‪.‬‬
‫َ‬
‫الوفود ‪ :‬املجيء مع حاجته لالسرتفاد أي طلب اخلري ‪،‬وحرضته ‪،‬مقامه وجنابه‪،‬‬
‫واجلامل صفاته الثبوتية كاحلي والغافر والكريم واجلواد‪ ،‬فوفوده اىل حرضة مجاله‬
‫للنيل من عطاء صفاته ورمحته‪.‬‬
‫((م ِريد ًا َو ْج َه َك طا ِرق ًا با َب َك))‪.‬‬
‫ُ‬
‫وجهه تعاىل ‪ :‬رضوانه وثوابه وارادة وجهه هو الطمع للفوز بثوابه‪ ،‬وهنا طلبه‬
‫عليه السالم لرمحته مشفوعة بالتذلل واالنكسار‪ ،‬وطرق الباب اشارة للحاجة يف‬
‫فتحها واالضطرار للولوج‪.‬‬

‫((م ْست َِكين ًا بِ َ‬


‫عظ َمتِ َك َو َجاللِ َك))‪.‬‬ ‫ُ‬
‫االستكانة ‪ :‬شدة التذلل واخلضوع‪ ،‬واجلالل ‪ :‬العظمة واالرتفاع فمناسبة‬
‫االستكانة لعظمته تتناسب وخضوع املحتاج اليه‪ ،‬وهنا غاية الوصف يف االفتقار‬
‫مناجاة الراغبني‪89...................................................................................................‬‬

‫اليه‪ ،‬ومنتهى البالغة يف غناه عن غريه‪.‬‬


‫الر ْح َم ِة))‪.‬‬ ‫ماأ ْن َت َأ ْه ُل ُه ِم ْن َ‬
‫المغْ ِف َر ِة َو َّ‬
‫(( َفا ْف َع ْل بِي َ‬

‫ايكال األمر إليه يف اختيار األصلح ألنه أهل العطاء واجلود والكرم‪ ،‬وأجىل‬
‫مصاديقها يف مقام السؤال والترضع هي مغفرته ورمحته‪.‬‬
‫ذاب َوال ِّن ْق َم ِة بِر ْح َمتِ َك َ‬
‫ياأ ْر َح َم‬ ‫أه ُل ُه ِم ْن َ‬
‫الع ِ‬ ‫((وال َت ْف َع ْل بِي َ‬
‫ماأنا ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ين))‪.‬‬ ‫الر ِ‬
‫اح ِم َ‬ ‫َّ‬
‫فان املذنب ٌ‬
‫أهل للعذاب بعدله‪ ،‬وهو ُ‬
‫أهل العفو بمغفرته‪ ،‬سبحانه ما اعظم‬
‫شأنه وأجل عطاياه ‪.‬‬
‫المناجاة السادسة‬
‫مناجاة الشاكرين‬
‫ْم الله الرَّحْم ِن الرَّح ِ‬
‫ِيم‬ ‫بِس ِ‬
‫ض‬ ‫صاء َثنائِ َك َف ْي ُ‬
‫إح ِ‬ ‫( إِهلِي َأ ْذهَ َلنِي َع ْن إقا َم ِة ُش ْك ِر َك َتتا ُب ُع َط ْولِ َك َو َأ ْع َجزَ ِن َع ْن ْ‬
‫ش َعوا ِر ِف َك َت ِ‬
‫وال‬ ‫راد ُف َعوائِ ِد َك َو َأ ْع ِ‬
‫يان َع ْن َن ْ ِ‬ ‫ام ِد َك َت ُ‬ ‫َف ْض ِل َك َو َش َغ َلنِي َع ْن ِذ ْك ِر َم ِ‬
‫امء َوقا َب َلها بال َّت ْق ِصريِ‪َ ،‬و َش ِه َد َعىل َن ْف ِس ِه‬ ‫ت َف َب ِس ُب ِ‬
‫وغ ال َّن ْع ِ‬ ‫قام َم ْن ْاع َ َ‬
‫يك‪َ ،‬وهذا َم ُ‬ ‫ِ‬
‫أياد َ‬
‫يه َوال َي ْط ُر ُد‬ ‫قاص ِد ِ‬ ‫يم ا َّل ِذي ال ُ َي ِّي ُب ِ‬ ‫الب َ‬
‫الك ِر ُ‬ ‫الر ِح ِ‬
‫يم َ ُّ‬ ‫الر ُؤ ُ‬
‫وف َّ‬ ‫ِ‬
‫االمال َوال َّت ْضيِ ِ‬
‫يع َوأن َْت َّ‬ ‫بِ‬
‫ين َفال‬ ‫ت ِف ِد َ‬ ‫ني َوبِ َع ْر َصتِ َك َت ِق ُف ُ‬
‫آمال ا ُمل ْس َ ْ‬ ‫اج َ‬ ‫الر ِ‬ ‫ساحتِ َك َ ُت ُّط ِر ُ‬
‫حال َّ‬ ‫يه بِ َ‬ ‫آم ِل ِ‬
‫َع ْن ِفنائِ ِه ِ‬
‫الس‪ ،‬إِهلِي َت َ‬
‫صاغ َر‬ ‫القن ِ‬
‫ُوط َواال ْب ِ‬ ‫بال ُ‬ ‫س َ‬‫االياس وال ُت ْلبِ ْسنا ِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫يب َو‬ ‫ُتقابِ ْل َ‬
‫آمالنا بِال َّت ْخيِ ِ‬
‫شي َج َّل َل ْتنِي‬ ‫اي َثنائِي َو َن ْ ِ‬
‫رام َك إ َّي َ‬ ‫إك ِ‬ ‫ب ْ‬ ‫ضأ َل ِف َج ْن ِ‬ ‫عاظ ِم آالئِ َك ُش ْك ِري َو َت َ‬ ‫ِع ْن َد َت ُ‬
‫ال َو َق َّل َدتْنِي‬ ‫ل َلطائِ ُف بِ ِّر َك ِم َن ِ‬
‫العزِّ ِك َل ً‬ ‫ض َب ْت َع َ َّ‬ ‫ال َو َ َ‬‫اإليامن ُح َل ً‬
‫ِ‬ ‫نِ َع ُم َك ِم ْن َأنْوا ِر‬
‫إحصائِها‬ ‫سان َع ْن ْ‬ ‫ج ٌة َض ُع َف لِ ِ‬ ‫َ‬
‫فآالؤك َ َّ‬ ‫الت ُّل َو َط َّو َق ْتنِي َأ ْطواقا ال ُت َف ُّل‪،‬‬
‫ُك َقالئِ َد ُ َ‬ ‫ِم َنن َ‬
‫استِ ْقصائِها َف َك ْي َف ِل بِت َْح ِصيلِ‬
‫ال َع ْن ْ‬ ‫راكها َف ْض ً‬ ‫ص َف ْه ِمي َع ْن إ ْد ِ‬ ‫َو َن ْع َ‬
‫امؤك َكثِري ٌة َق ُ َ‬
‫ل لِذلِ َك َأنْ‬ ‫الش ْك ِر َو ُش ْك ِري إِ َّي َ‬
‫اك َي ْفت َِق ُر إِىل ُش ْك ٍر ؟ َف ُك َّلام ُق ْل ُت‪َ :‬ل َك َ‬
‫احل ْمدُ َو َج َب َع َ َّ‬ ‫ُّ‬
‫‪91‬‬
‫‪ ................................................................................. 92‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫َأ ُق َ‬
‫ول‪َ :‬ل َك َ‬
‫احل ْمدُ ‪ .‬إِهلِي َف َكام َغ َّذ ْيتَنا بِ ُل ْط ِف َك َو َر َّب ْيتَنا بِ ُص ْن ِع َك َفت َِّم ْم َع َل ْينا َسوابِ َغ الن َِّع ِم‬
‫ال‪،‬‬‫آج ً‬ ‫ال َو ِ‬ ‫وظ الدَّ َار ْي ِن َأ ْر َف َعها َو َأ َج َّلها ِ‬
‫عاج ً‬ ‫َوا ْد َف ْع َع َّنا َمكا ِر َه ال ِّن َق ِم َوآتِنا ِم ْن ُح ُظ ِ‬

‫الع ِظ َ‬
‫يم‬ ‫تي َ‬ ‫واف ُق ِر َ‬
‫ضاك َو َي ْم َ ِ‬ ‫حد ًا ُي ِ‬ ‫وغ َنعامئِ َك َ ْ‬ ‫َو َل َك َ‬
‫احل ْمدُ َعىل ُح ْس ِن َبالئِ َك َو ُس ُب ِ‬
‫الر ِ ِ‬ ‫َ‬ ‫ِم ْن بِ ِّر َك َو َن َ‬
‫ني)‪.‬‬‫اح َ‬ ‫يم بِ َر ْحَتِ َك ياأ ْر َح َم َّ‬ ‫يم َ‬
‫ياك ِر ُ‬ ‫ياع ِظ ُ‬
‫داك َ‬
‫مناجاة الشاكرين‪93.................................................................................................‬‬

‫شرح الفقرات المباركة‪:‬‬


‫وهنا مناجاة عقدها االمام زين العابدين ‪ ‬بعنوان مناجاة الشاكرين‪ ،‬وهي‬
‫من حاالت االنصياع واالعرتاف بعجز االنسان مقابل ما اغدق عليه ربه من نعم‬
‫متتابعة ال حتىص فمتى يكون العبد قد وصل اىل حالة الشعور بالوفاء؟ حيث الشكر‬
‫هو اهم مظاهر املعرفة واالمتنان‪.‬‬
‫حيث يقول يف مناجاته‪:‬‬

‫(الهي اذهلني عن اقامة شكرك تتابع طولك)‬


‫الذهول عن اليشء هو الغفلة عنه وقد يتعدى بنفسه فيقال ذهلته‪ ،‬والطول‬
‫بالفتح بمعنى الفضل‪ ،‬وهنا عدم الشكر ال لتمرد او معصية بل للذهول الذي ينتابه‬
‫بسبب كثرة النعم ومتابعتها حتى ال تدعه متوجه الواجب الشكر بل منشد ًا اىل هذه‬
‫النعم غري املنقطعة‪.‬‬
‫(واعجزني عن احصاء ثنائك فيض فضلك)‬
‫والثناء ذكره سبحانه باعظم الصفات وتنزهيه عن قبائحها‪ ،‬وسبب العجز يتأيت‬
‫بسبب ما تتوارد ع ّ‬
‫يل من النعم غري املنقطع‪.‬‬
‫(وشغلني عن ذكر محامدك ترادف عوائدك)‬
‫العائدة املعروف والصنيعة‪،‬وانشغايل عن حممدتك لتتابع معروفك‪،‬حتى اذهلني‬
‫ذلك‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 94‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫(واعياني عن نشر عوارفك توالي اياديك)‬


‫وااليادي املعروف واصطناع الفضل‪ ،‬وكأن انبهار االنسان يف يشء يشغله عن‬
‫التعريف هبذا اليشء لعجزه بام تغمره عظمته وانشغاله باالهتامم به ‪.‬‬
‫(وهذا مقام من اعترف بسبوغ النعماء وقابلها بالتقصير)‬
‫االسباغ بمعنى االفاضة واالمتام والعبد حينام يغمر بالنعمة يرى كل ما يريد ان‬
‫يقدمه اىل مواله تقصري ًا يف حقه مقابل نعمه واالعرتاف بالتقصري شكر‪ ،‬واالحساس‬
‫بالعجز مقابل املعطي هو متام الشكر له‪.‬‬
‫(وشهد على نفسه باالهمال والتضييع)‬
‫الن الشهادة بالعجز ابلغ من الشكر يف اخلطاب‪.‬‬
‫(وانت الرؤوف الرحيم البر الكريم الذي ال يخيب قاصديه)‬
‫عدد ‪ ‬صفاته التي من شأهنا ان يكون سبحانه وتعاىل متساحما مع عباده‬
‫املقرصين النه الغفور والعفو وهو اهل الكرم وعباده اهل البخل‪.‬‬
‫(وال يطرد عن فنائه امليه)‬
‫الفناء ما اتسع امام البيت والوافد ال يأيت اال اىل فناء البيت لريجو ما عند صاحبه‪،‬‬
‫واآلمل لكرمه تعاىل ال يكون اال يف فناء عطائه وكرمه‪ ،‬فكيف لكريم ان يطرد من‬
‫فنائه قاصديه‪.‬‬
‫(بساحتك تحط رحال الراجين وبعرصتك تقف امال المستردفين)‬
‫العرصة فسحة االرض ليس فيها بناء‪ ،‬والرحال ال حتط اال يف االفنية اخلالية‬
‫مناجاة الشاكرين‪95.................................................................................................‬‬

‫من البناء وحط الرحال كناية عن االستقرار واحلاجة‪ ،‬واالسرتفاد طلب املعونة‪،‬‬
‫وكأنام هناية مطاف السائل للحاجة هي يف عرصاته حيث تنتهي احلاجات وتقف‬
‫املسأالت‪.‬‬
‫(فال تقابل امالنا بالخييب واالياس وال تلبسنا سربال القنوط واالبالس)‬
‫التخييب عدم الظفر باملطلوب واليأس هو القنوط واالبالس قنوط معجز يسببه‬
‫قنوطه وهو اشد واعظم من اخليبة ومن القنوط‪ ،‬ومقابلة االمل بالقنوط ليس من‬
‫شأن الكريم مع امليه وراجيه‪.‬‬
‫(الهي تصاغر عند تعاظم االئك شكري)‬
‫وهذه اسباب العجز عن الشكريفرسها بان عظيم نعمه ال يناسب قلة شكره‬
‫مهام تعاظم شكر العبد يف مقابل نعم سيده ‪.‬‬
‫(وتضاءل في جنب اكرامك اياي ثنائي ونشري)‬
‫فكل ما اعمله من ثناء ونرش فهو ضئيل‪ ،‬فأنا حتى لو اعمل من البالغة يف الثناء‬
‫وانمق الكلامت واحسن عبارات الثناء فلن اصل اىل ما منحتني من عطاياك وحسن‬
‫افضالك‪.‬‬
‫(جللتني نعمك من انوار االيمان حلال)‬
‫جلل اليشء اي غطاه‪ ،‬وجلله بنعمه اي البسه وغطاه هبا كناية عن الكثرةوالعظمة‪،‬‬
‫واحللل مجع حلة بالضم وهي استعارة مرصحة حقيقية حيث تشبيه االيامن باحللة‬
‫وانواره تكسوه كام تكسو احللة بدن االنسان‪ ،‬فلو انتزعت منه هذه احللل كان عاري ًا‪،‬‬
‫‪ ................................................................................. 96‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫والعري اظهار ما يقبح اظهاره فكأن االيامن ساتر ًا له من كل ما يأنف االنسان‬


‫ابرازه‪ ،‬وهذه احللل هي احدى النعم التي اسبغها املنعم عىل عباده ومنحهم اياها‪،‬‬
‫علي لطائف برك من العز كلال)‬
‫( وضربت ّ‬
‫الكلة كل ما يوضع عىل النائم ليحميه من كل منغصات النوم‪ ،‬واللطائف ما‬
‫صغر حجمه ودق فهو لطيف‪ ،‬والرب حتى لو كان صغريا دقيقا فهو عظيم جيللني‬
‫بعزه‪.‬‬
‫(وقلدتني منك قالئد ال تحل)‬
‫والقالدة ما احاطت بجيد املرأة تزينها بزينتها واملعروف يكون كالطوق يف‬
‫رقبة صاحبه كام يقال لصانع املعروف طوقني بطوق اي جعل قيادي بيده منة منه‬
‫لصاحب املعروف‪ ،‬واالمام ‪ ‬جيعل القالدة طوق ًا ليجمع بني اجلامل وبني االنقياد‬
‫وهو تشبيه مجيل مل يلتفت اليه احد من قبل‪.‬‬
‫(وطوقتني اطواق ًا ال تفل)‬
‫وهو تفسري ملا سبق من قوله ‪( ‬وقلدتني منك قالئد التفل)‬
‫(فآالؤك جمة ضعف لساني عن احصائها)‬
‫ولكثرة النعم اعجزت لساين عن التعداد‪ ،‬وهو امر طبيعي فكلام عظم امر عجز‬
‫الوصف عن ادراكه واللسان يكل عن اتيانه‪.‬‬
‫(ونعماؤك كثيرة قصر فهمي عن ادراكها)‬
‫وعجز اللسان سببه ما يعرتي النفس من دهشة وحتري بسبب عجز النفس‬
‫مناجاة الشاكرين‪97.................................................................................................‬‬

‫وابتالئها بقرص الفهم عن ادراك حقائق النعم لتعددها وتواليها دون انقطاع حتى‬
‫ضاق الوسع عن ادراكها ليكون ذلك مبعث شكرها‪.‬‬
‫(فض ً‬
‫ال عن استقصائها)‬
‫ومعرفتها وعددها فان العجز ليس يف ادراكها ليكون ذلك مبعث شكرها (فضال‬
‫عن استقصائها) ومعرفتها وعددها فان العجز ليس يف ادراكها بل يف استقصائها‬
‫وقد قلت وقولك احلق ((وان تعدوا نعمة اهلل ال حتصوها)) فكيف يل وانا املبتىل‬
‫بالعجز يف معرفة اسباهبا ان احيص نعمك وشكرك احدى نعمك ع ّ‬
‫يل‪.‬‬
‫(فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري اياك يفتقرالى شكر)‬
‫فان شكري اليك حيتاج اىل شكر التوفيق اذ دللتني عىل اسبابه وانا عاجز‪،‬‬
‫ودواعيه حتتاج اىل عونك الين ضعيف عن اتيان ما من شأنه ان يوفقني عىل توارد‬
‫خواطر النعمة الكون من الشاكرين‪ ،‬فيكون لشكري لك فضل وانت وفقتني اليه‬
‫ودللتني عليه‪.‬‬
‫(فكلما قلت لك الحمد وجب علي لذلك ان اقول لك الحمد)‬
‫وان محدي لك حيتاج اىل محد فانه ال ينال ذلك اال بتوفيق منك فشكرك نعمة‬
‫ومحدك مثلهام حتى ال ينقطع اتيان شكرك وتوايل محدك وهذا كله ال يؤديه العاجز‬
‫وال حيتويه الضعيف وها انا ذا اعرتف بعجزي النقاعي عن تأدية شكر النعمة ومحد‬
‫التوفيق ‪.‬‬
‫الصنيع هو صنع املعروف والصنيعة مثلها‪ ،‬وربيتنا بصنعك‪ :‬عودتنا عىل‬
‫‪ ................................................................................. 98‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫معروفك وجعلتنا صنائع احسانك‪ ،‬وغذيتنا بلطفك اي تعاهدتنا بكل نعمة خفية‬
‫باطنة او معروفة ظاهرة وكل هذا يستوجب تتابع احسانك‪ ،‬فان املحسن ال ينقطع‬
‫عن صنيع املعروف‪ ،‬واجلواد ال ينثني عن اسداء اجلود‪ ،‬والكريم عادته كرمه وانت‬
‫يا اهلي متمم النعم بكل ما يقضيه كامل املخلوق وما يستحقه العاجز من معروف‬
‫وها انا ذا خملوقك العاجز عن اتيان اخلري وجلب االحسان الين مفتقر اىل معروفك‬
‫ومسرتفد احسانك‪.‬‬
‫(وادفع عنا مكاره النعم)‬
‫املكروه كل قبيح يستقبحه طبع االنسان وكل ما من شأنه ان يشق عليه فهو‬
‫مكروه لديه‪ ،‬والدفع هو املنع وعدم حتقق اليشء للامنع‪ ،‬وال يدفع مكاره النعم اال‬
‫هو الن النقمة العقوبة الدنيوية واالخروية وكلها بيده كقوله ‪ ‬يف دعاء اخر ‪ :‬يا‬
‫من حتل به عقد املكاره‪ ،‬فحل العقد و دفع املكروه بيده وعن امره‬
‫( واتنا من حظوة الدارين ارفعها واجلها عاجال و اجال)‬
‫حظوظ الدارين انصبة الدنيا االخرة الن احلظ هو النصيب و االتيان منه تعاىل‬
‫لقوله سبحانه‬
‫( ربنا اتنا في الدنيا حسنة و في االخرة حسنة )‬
‫و احلسنه ال تكون اال ألرفع و اجل االمور لذا فقد التفت عليه السالم اىل قوله‬
‫تعاىل‪(:‬اتنا في الدنيا حسنة)‬
‫الن احلسنة هي كامل اجلزاء ( واهلل عنده حسن الثواب) و االمام ‪ ‬يشري اىل‬
‫مناجاة الشاكرين‪99.................................................................................................‬‬

‫قوله تعاىل (( فاتاهم اهلل ثواب وحسن الثواب االخرة)) مع ان قوله تعاىل اشارة اىل‬
‫ان ثواب الدنيا ليس فيه حسن ثواب االخرة الختالط ثواب الدنيا بالكدورات و‬
‫املنغصات و املكاره وقد اراد عليه السالم ما هو اعظم‪.‬‬
‫(ارفعها واجلها)‬
‫وهذا من عظيم التفاتاته عليه السالم ليشرياىل كامل عطائه سبحانه‪.‬‬
‫(ولك الحمد على حسن بالئك و سبوغ نعمائك)‬
‫حسن البالء هو ما خيتاره سبحانه من البالء ملصلحة عبده املؤمن اما لزيادة ثوابه‬
‫و اما للتكفري عن سيئاته او لتزهيده عن الدنيا و ترغيبة باالخرة استصغاره الدنيا و‬
‫مالذها وكل جانب كام حييط الرداء جسد االنسان حيث يسدله عىل جسمه و يغطيه‬
‫فاحلمد لك عىل البالء و الرخاء وكل ما هو منك النه منك‪.‬‬
‫( حمدا يوافق رضاك)‬
‫و هذا احلمد ال يكون اال ما يليق بشأنك و انا عاجز عن اتيانه الن شأنك غري‬
‫مدروك فحمدك مثله لكن رضاك انت اعلم به مني و محدك بقدر ما انت عامل به‪.‬‬
‫( و يمتري العظيم من برك و نداك)‬
‫الرب املعروف و الندى الكرم و اجلود العطاء و يمرتي من املرية وهو املتاع و فعله‬
‫يمرتي اي يطلب املرية و هذا احلمد بسببه يطلب احلامد برك و نداك النك عظيم‬
‫كريم ( يا عظيم يا كريم برمحتك يا ارحم الرامحني)‬
‫الن اخلامتة البد ان تكون موافقة للغرض وكان غرضة ‪ ‬اسرتفاد املعونة منه‬
‫‪ ................................................................................. 100‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫تعاىل و العفو لعجزه يف شكره و محده ثم اثنى عليه بام يليق بشانه من العظمة و‬
‫الكرم و الرمحة فانه ارحم الرامحني‪.‬‬
‫المناجاة السابعة‬
‫مناجاة المطيعين ل ّله‬
‫ْم الله الرَّحْم ِن الرَّح ِ‬
‫ِيم‬ ‫بِس ِ‬
‫س َلنا ُب ُل َ‬
‫وغ ما َنت ََم َّنى ِم ْن ا ْبتِ ِ‬
‫غاء‬ ‫( ال ّل ُه َّم َأ ْلِ ْمنا َ‬
‫طاعت ََك َو َجن ِّْبنا َم ْع ِص َيت ََك َو َي ِّ ْ‬
‫ياب َو ْاك ِش ْف‬
‫االرتِ ِ‬
‫حاب ْ‬ ‫وح ِة ِجنانِ َك َوا ْق َش ْع َع ْن َبصائِ ِرنا َس َ‬ ‫ِر ْضوانِ َك َو َأ ْح ِل ْلنا ُب ْح ُب َ‬
‫احلقَّ ِف‬ ‫ت َ‬ ‫الباط َل َع ْن َضامئِ ِرنا َو َأ ْثبِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫جاب َو َأزْ ِْهــق‬
‫احل ِ‬ ‫َع ْن ُق ُلوبِنا َأ ْغ ِش َي َة امل ِ ْر َي ِة َو ِ‬
‫الفت َِن َو ُم َك ِّد َر ٌة لِ َص ْف ِو املَنائِ ِح َواملِن َِن‪ .‬ال ّل ُه َّم‬
‫واق ُح ِ‬ ‫الظ ُنونَ َل ِ‬
‫وك َو ُّ‬ ‫الش ُك َ‬ ‫َسائِ ِرنا‪َ ،‬فإنَّ ُّ‬
‫ياض ُح ِّب َك َو َأ ِذ ْقنا َح َ‬
‫الو َة‬ ‫يذ ُمناجاتِ َك َو َأ ْو ِر ْدنا ِح َ‬ ‫اح ْلنا ِف ُس ُف ِن َنجاتِ َك َو َمت ِّْعنا بِ َل ِذ ِ‬ ‫ِْ‬
‫ص نِ َّياتِنا ِف ُمعا َم َلتِ َك‪،‬‬ ‫طاعتِ َك َو ّأ ْخ ِل ْ‬
‫هنا ِف َ‬ ‫اج َع ْل ِجها َدنا ِف ْي َك َو َ َّ‬ ‫ُو ِّد َك َو ُق ْربِ َك َو ْ‬
‫االخيا ِر‪،‬‬
‫ي ْ‬ ‫َفإ َّنا بِ َك َو َل َك َوال َو ِس َيل َة َلنا إِ َل ْي َك إِ ّال َأن َْت‪ .‬إِهلِي ْ‬
‫اج َع ْلنِي ِم َن ا ُمل ْص َط َف ْ ِ‬
‫العام ِل َ‬
‫ِ‬ ‫اخل ْي ِ‬ ‫ني إِىل َ‬ ‫ني إِىل املَ ْك ُر ِ‬
‫مات ا ُملسا ِر ِع َ‬ ‫السابِ ِق َ‬ ‫ني َ‬ ‫بالص ِ ِ‬
‫ل ْقنِي َّ‬ ‫َ‬
‫وأ ْ ِ‬
‫ني‬ ‫ات‬ ‫اال ْبرا ِر َّ‬ ‫ال َ‬
‫ش َق ِد ٌير َوبِاالجا َب ِة‬ ‫جات إ َّن َك َعىل ُك ِّل َ ْ‬ ‫يع الدَّ َر ِ‬ ‫ني إِىل َر ِف ِ‬ ‫ِ‬
‫الساع َ‬ ‫ال ِ‬
‫ات‬ ‫الص ِ‬ ‫باق ِ‬
‫يات َّ‬ ‫لِ ْل ِ‬
‫الر ِ ِ‬ ‫َ‬
‫ني )‬‫اح َ‬ ‫َج ِد ٌير بِ َر ْحَتِ َك ياأ ْر َح َم َّ‬

‫‪101‬‬
‫‪ ................................................................................. 102‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫شرح الفقرات المباركة‪:‬‬


‫الطاعة هلل هي النتيجة احلتمية للمعرفة‪ ،‬والتي تعطي االنسان شعورا باالستسالم‬
‫لقوة مهيمنة عىل جوانحه وجوارحه؛ فينقاد بوجدان يملؤه اخلوف والرجاء‪،‬ويعتقد‬
‫بأن هذه اهليمنة الغيبية ُت ِد ُث لديه شعورا باالنقياد والتسليم وهي اهلل تعاىل ‪،‬ذلك‬
‫اخلالق املبدع العزيز ‪.‬‬
‫يف مناجاته يؤكد االمام زين العابدين عليه السالم ان طاعته هلل هي توفيقه منه‬
‫اهلام من اهلل تعاىل ملن و َّفقه هلدايته؛ لذا يقول يف مناجاته‪:‬‬
‫اليه‪ .‬فالطاعة يف حقيقتها ٌ‬
‫(ال ّل ُه َّم َأ ْل ِه ْمنا َ‬
‫طاعت ََك َو َجن ِّْبنا َم ْع ِص َيت ََك)‪.‬‬
‫االهلام ما يلقى يف الروع‪ ،‬بمعنى أن يلقي اهلل يف نفس العبد أمرا يبعثه عىل الفعل‬
‫أو الرتك بطريق الفيض ‪.‬‬
‫عب عنه بتوفيق‬ ‫َو َجن ِّْبنا ‪ :‬أي افعل فينا اليشء الذي يبعدنا عن املعصية‪ ،‬وهو ا ُمل َّ ُ‬
‫رات املعصية كأن يبتليه اهلل بام‬ ‫بات الطاعة‪ ،‬ومن ّف ِ‬
‫مقر ِ‬
‫الطاعة‪ ،‬كأن يلقي اهلل يف روعه ّ‬
‫يمنعه عن املعصية‪ ،‬أو يؤتيه ما حيببه إىل الطاعة ‪.‬‬
‫غاء ِر ْضوانِ َك)‪.‬‬ ‫(و َي ِّس ْر َلنا ُب ُل َ‬
‫وغ ما َنت ََم َّنى ِم ْن ا ْبتِ ِ‬ ‫َ‬
‫اليرس ‪ :‬ضد العرس ( إِنَّ َم َع ا ْل ُع ْ ِ‬
‫س ُي ْس ًا )(((وهو األمر السهل اليسري ‪،‬أي اجعل‬
‫رب الوصول اىل رضوانك سهال يسريا‪.‬فتوفري اسباب الطاعة وتسهيل حصوهلا‬
‫يا ِّ‬
‫حيتاج اىل عنايته تعاىل؛ لتكون اسباب الوصول اىل مرضاته يسرية سهلة‪ ،‬كأن حيبب‬
‫له االيامن ويعززه يف قلبه فيكون منشأ بلوغ غايات الطاعة ‪.‬‬
‫(( ( –الرشح ‪6‬‬
‫مناجاة املطيعني لله‪103............................................................................................‬‬

‫(و َأ ْح ِل ْلنا ُب ْح ُب َ‬
‫وح ِة ِجنانِ َك)‪.‬‬ ‫َ‬
‫بحبوحة املكان وسطه‪ ،‬والوسط يكون أفضل املكان وأحسنه‪ ،‬واحللول هو‬
‫االستقرار حيث الدعاء الن يدخله اهلل جناته ويف اعالها ‪.‬‬
‫االرتِ ِ‬
‫ياب)‪.‬‬ ‫حاب ْ‬‫(وا ْق َش ْع َع ْن َبصائِ ِرنا َس َ‬
‫َ‬
‫البصائر مجع بصرية وهي العلم واملعرفة‪ ،‬وهي رؤية قلبية يتوىل أمرها القلب‬
‫لينظر اىل الالحمسوس نظر علم ومعرفة‪ ،‬وهي بعكس البرص حيث النظر إىل‬
‫املحسوس بواسطة العني البارصة‪ ،‬واالنقشاع هو ازالة اليشء ويستعمل كثريا يف‬
‫السحاب حيث ذهاب السحاب يسمى إنقشاعا‪ ،‬والريب بمعنى الشك‪ ،‬ومنشؤه‬
‫القلق وعدم ارتياح النفس‪ ،‬وأسبابه كثرية‪ ،‬ودواعيه متعددة؛ لذا فان ازالته تؤدي‬
‫بالنفس اىل االستقرار والتوجه للطاعة واملتابعة ملنهج احلق‪ ،‬وهو من لطفه تعاىل‪.‬‬
‫جاب)‬ ‫(و ْاك ِش ْف َع ْن ُق ُلوبِنا َأ ْغ ِش َي َة ال ِم ْر َي ِة َو ِ‬
‫الح ِ‬ ‫َ‬
‫املرية واملــاراة واملراء بمعنى؛ وهو املحاججة‪ ،‬حيث تصل اىل حد اللجاجة‬
‫فيكون منهيا عنها‪ .‬واملحاججة ممدوحة يف احلق‪ ،‬فاذا جتاوزت احلد صارت ممقوتة؛‬
‫فتكون يف غري حق‪ ،‬ومنشأ املراء هو الشك‪ ،‬واحلجاب ما يمنع وصول اليشء‪،‬‬
‫وح ُج ُب القلوب هي املوانع التي حتدثها الذنوب‪ ،‬وهو الريب الذي يصدأ القلب‬
‫ُ‬
‫بسبب ما يرتكبه من أمور متنعه من تلقي فيوضات اهلداية‪ ،‬وحتجبه عن التبرص‬
‫مللكوت الرمحة الربانية لقوله تعاىل ( َب ْل َرانَ َع َل ُق ُل ِ‬
‫وبِم)(((‪.‬‬

‫(( ( –املطففني ‪14‬‬


‫‪ ................................................................................. 104‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫الباط َل َع ْن َضمائِ ِرنا)‪.‬‬


‫ِ‬ ‫(و َأزْ ِهقْ‬
‫َ‬
‫زهق الباطل أي بطالنه‪ ،‬واخفاؤه واندراسه‪ ،‬والضامئر مجع ضمري ‪،‬وهو باطن‬
‫ِّ‬
‫كالغل واحلقد‬ ‫االنسان أي قلبه‪ ،‬وسالمة الضمري خلوصه من شوائب َّ‬
‫الش ْي‬
‫واحلسد وغريها‪ ،‬وأساسها النقص يف البصرية وعدم الوضوح يف الغاية املقصودة‪،‬‬
‫وهو الرضا االهلي الذي ال ينفك عن املعرفة واالبتعاد عن وســاوس القلب‬
‫وشكوكه وهو الباطل بكل جزئياته وأشكاله‪.‬‬
‫الحقَّ ِفي َسرائِ ِرنا)‪.‬‬
‫ت َ‬ ‫(و َأ ْثبِ ِ‬
‫َ‬
‫وهي النتيجة احلتمية إلزهاق الباطل‪ ،‬والقلب ال خيلو من احد املتناقضني احلق‬
‫أو الباطل‪ ،‬فإزالة الباطل حلول احلق مكانه والرسائر دواخل االنسان وبواطنه ‪.‬‬
‫الفت َِن)‪.‬‬ ‫الظ ُنونَ َل ِ‬
‫واق ُح ِ‬ ‫الش ُك َ‬
‫وك َو ُّ‬ ‫( َفإنَّ ُّ‬
‫اللواقح ما تكون سببا لإلنجاب نتيجة التزاوج‪ ،‬ويطلق عىل االناث التي تنجب‬
‫من تزاوجها فتسمى لواقح‪ ،‬وتطلق عىل الرياح التي تقوم بتلقيح االشجار لقوله‬
‫اح َل َو ِاق َح)((( والشك والظن ال ينتج إال فتنة يف الدين فان‬ ‫َ‬
‫تعاىل ( َوأ ْر َس ْلنَا ِّ‬
‫الر َي َ‬
‫اساس الفتن الشكوك‪ ،‬الن اليقني وااليــان يكونان سببا يف املعرفة املانعة عن‬
‫اخلوض يف الباطل‪ ،‬والعاصمة من االضطراب يف العقيدة‪ ،‬الذي يفتح باب الباطل‬
‫للولوج اىل الفتن‪ ،‬فان الفتنة يف الدين ال تكون إال لقلة التفقه فيه فريى الباطل حقا‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بطريق خيالف احلق؛ فيقع يف رشاك الشبهات‪ ،‬ويتبنى‬ ‫ويسعى لسلوك احلق لكن‬

‫(( ( –اخلجر ‪.22‬‬


‫مناجاة املطيعني لله‪105............................................................................................‬‬

‫الفتنة فيكون وليدها‪ ،‬وهذا وصف انفرد فيه االمام زين العابدين عليه السالم‪،‬‬
‫وتشبيه مل يسبقه اليه أحد صلوات اهلل عليه ‪.‬‬
‫ٌ‬

‫(و ُم َك ِّد َر ٌة لِ َص ْف ِو َ‬
‫المنائِ ِح َوال ِمن َِن)‪.‬‬ ‫َ‬
‫كدورة اليشء أي زوال صفوه‪ ،‬املنائح هي العطايا ‪،‬واملنن ما يمن به بعد العطاء‬
‫وهو ال يكون يف حقه تعاىل‪ ،‬الن ما يعطيه سبحانه منشؤه الكرم َّ‬
‫والطول‪ ،‬وهو ال‬
‫يناسب املن كالذي يصدر من املخلوقني ‪ .‬واملنة النعمة الثقيلة واملنن مجعها‪ ،‬وما‬
‫يكدر العطاء واملنن الربانية هو ما يقبح االنسان من الشكوك التي هي لواقح الفتن‪،‬‬
‫واذا كان األمر كذلك فان كدورة ذلك تكون سببا لتنغيص االنسان ومشاكله ‪.‬‬
‫اح ِم ْلنا ِفي ُس ُف ِن َنجاتِ َك)‪.‬‬
‫(ال ّل ُه َّم ْ‬
‫سفن النجاة يعني اسباب اهلداية والداللة عىل التوفيق‪ ،‬واحلمل هنا هو خضوع‬
‫النفس للحق‪ ،‬فبعد بيان ما يعرتي االنسان من كدورة العيش بسبب الفتن التي‬
‫توقعه فيها الشكوك والظنون؛ فان ذلك ال خيلصه‪ ،‬اال النجاة يف سبل النجاة‪ ،‬وهي‬
‫دواعي احلق والتسديد االهلي التي توصله اىل مبتغاه وهو مرضاته تعاىل ‪.‬‬
‫(و َمت ِّْعنا بِ َل ِذ ِ‬
‫يذ ُمناجاتِ َك)‪.‬‬ ‫َ‬
‫املتعة الراحة‪ ،‬واللذة ما تسبب راحة النفس وسكوهنا‪ ،‬واملناجاة هي حالة‬
‫اخلضوع والتسليم للحق تعاىل؛ فتكون املناجاة سببا للمتعة النفسية وهي سكون‬
‫النفس واطمئناهنا‪ ،‬وهل افضل من راحة النفس وعدم اضطراهبا حيث يسعى‬
‫االنسان دائام لبلوغ هذه األمنية بكل الوسائل‪ ،‬لكن أزكاها وأعظمها هي ما‬
‫‪ ................................................................................. 106‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫كانت عالقته بربه تعاىل عىل احسن ما يكون‪ ،‬فتنفتح له اسباب التوفيق ودواعي‬
‫االطمئنان ‪.‬‬
‫(و َأ ْو ِر ْدنا ِح َ‬
‫ياض ُح ِّب َك)‪.‬‬ ‫َ‬
‫ورود املاء بلوغه‪ ،‬أي رشبه من غري دخول‪ ،‬وقد حيصل دخول فيه كام عن‬
‫الفيومي((( واالسم ورد‪ ،‬واحلياض مجع حوض فورود املاء من هنر أو حوض‬
‫او غريه ‪ .‬وحبه تعاىل يمثله االمام لدى العبد كاملاء يف حاجته اليه‪ ،‬كام ان انقطاع‬
‫االنسان عن املاء يودي باإلنسان ويأيت عىل حياته‪ .‬وهو طلب للتوفيق يف الوصول‬
‫اىل داللة احلب االهلي الذي حتيا به قلوب العباد‪ ،‬ومتيت فيه اسباب الباطل‪ ،‬وهي‬
‫الشكوك والظنون كام اشار اليها عليه السالم‪.‬‬

‫(و َأ ِذ ْقنا َح َ‬
‫الو َة ُو ِّد َك َو ُق ْربِ َك)‪.‬‬ ‫َ‬
‫الود بمعنى املودة وهي املحبة‪ ،‬وقربك أي القرب منك وليس القرب املكاين‬
‫تنز َه سبحانه عن اجلسمية واحلدية واملكانية‪ ،‬وللود والقرب‬
‫بل قرب املنزلة حيث َّ‬
‫حالوته باستشعار النفس رضا اهلل تعاىل ‪.‬‬
‫طاعتِ َك)‪.‬‬
‫اج َع ْل ِجها َدنا ِف ْي َك َو َه َّمنا ِفي َ‬
‫(و ْ‬
‫َ‬
‫فاجلهاد ال يكون اال يف اهلل تعاىل‪ ،‬حيث بدايته جهاد النفس فهو الطريق اليه تعاىل‬
‫فتكون املجاهدة فيه ومهه طاعته ورضاه‪.‬‬

‫(و ّأ ْخ ِل ْ‬
‫ص نِ َّياتِنا ِفي ُمعا َم َلتِ َك)‪.‬‬ ‫َ‬

‫(( ( –املصباح املنري‬


‫مناجاة املطيعني لله‪107............................................................................................‬‬

‫اخللوص ‪ :‬بمعنى الصفاء من الكدورة‪ ،‬وهنا خلوص النوايا من الشكوك‬


‫والريب والرياء يف عالقته مع اهلل من خالل عبادته وطاعته ‪.‬‬
‫( َفإ َّنا بِ َك َو َل َك)‪.‬‬
‫اج َ‬
‫عون)((( فالباء لالبتداء أي نشوؤه وخلقه‬ ‫وهو قوله تعاىل (إِ َّنا ِ ّلِ َوإِ َّنـا إِ َل ْي ِه َر ِ‬
‫منه والالم للملكية أي رجوعه اليه يف كل اعامله ومصائره‪ ،‬واذا كان االمر كذلك‬
‫فربوبيته ثابتة من البدء اىل اخلتم‪.‬‬
‫(وال َو ِس َيل َة َلنا إِ َل ْي َك إِ ّال َأ ْن َت)‪.‬‬
‫َ‬
‫الوسيلة ما يتوسل به اىل اليشء برغبة‪ ،‬وهي التقرب بالوسائل املوصلة اىل‬
‫املطلوب‪ ،‬ووسيلة العبد اىل اهلل تعاىل رضاه وطاعته فهي به ومنه واليه ‪.‬‬
‫الم ْص َط َف ْي ِن ْ‬
‫االخيا ِر)‪.‬‬ ‫اج َع ْلنِي ِم َن ُ‬
‫(إِل ِهي ْ‬
‫املصطفني من االصطفاء اي االختيار وهو خرية اليشء‪ ،‬فجعله من املصطفني‬
‫وذلك من خالل التوفيق للطاعة وبعد املعصية‪ ،‬حيث ال يكون ذلك اال من خالل‬
‫هدايته له سبحانه‪.‬‬
‫ين َ‬
‫اال ْبرا ِر)‪.‬‬ ‫بالصالِ ِح َ‬ ‫َ‬
‫(وأ ْل ِح ْقنِي َّ‬
‫االبرار مجع بار ومربور بمعنى مشكور‪ ،‬والصالح ما حسن عمله وامتدحت‬
‫طاعته‪ ،‬واإلحلاق نيل املقام وبلوغ الدرجة أعني درجة الصاحلني املقبولني‪.‬‬
‫الص ِ‬
‫ال ِ‬
‫ات)‬ ‫ني لِ ْل ِ‬
‫باق ِ‬
‫يات َّ‬ ‫العام ِل َ‬
‫ات ِ‬ ‫ني إِىل َ‬
‫اخل ْي ِ‬ ‫ني إِىل املَ ْك ُر ِ‬
‫مات ا ُملسا ِر ِع َ‬ ‫(السابِ ِق َ‬
‫َّ‬

‫(( ( –البقرة‪.156‬‬
‫‪ ................................................................................. 108‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫املكرمة فعل كريم يمتدح عليه الفاعل‪ ،‬والسبق هو االرساع‪ ،‬فاجعلني بتوفيقك‬
‫(ولِ ُك ٍّل ِو ْج َه ٌة ُه َو ُم َو ِّل َيها َف ْ‬
‫اس َتبِ ُقو ْا‬ ‫من املسارعني إىل فعل اخلريات لقوله تعاىل َ‬
‫نك ِر َو ُي َسا ِر ُعونَ ِف‬ ‫(و َي ْأ ُم ُرونَ بِ ْالَ ْع ُر ِ‬
‫وف َو َي ْن َه ْونَ َع ِن ْ ُال َ‬ ‫ْ َْ‬
‫الـ َـر ِ‬
‫ات)((( وقوله تعاىل َ‬
‫ات)(((‪،‬الباقيات الصاحلات أعامل اخلري وأفعال الرب التي يبقى ذكرها بعد‬ ‫ي ِ‬ ‫َْ‬
‫ال ْ َ‬
‫صاحبها والعمل هبا حيتاج اىل هدايته تعاىل وتوفيقه ‪.‬‬

‫ين إِلى َر ِف ِ‬
‫يع الدَّ َر ِ‬
‫جات)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫(الساع َ‬
‫رفيع الدرجات ‪ :‬أعىل مراتب اجلنة ودرجاهتا وقيل هي الفردوس األعىل ويف‬
‫احلديث ‪( :‬ان اجلنة مائة درجة بني كل درجتني منهام مثل ما بني السامء واالرض‬
‫واعىل درجاهتا الفردوس وعليها يكون العرش وهي اوسط يشء يف اجلنة ومنها‬
‫(((‬ ‫تتفجر اهنار اجلنة فاذا سألتم اهلل فاسألوه الفردوس )‪.‬‬
‫اللهم نسألك الفردوس االعىل مع حممد وآله الطاهرين فان الكون معهم‬
‫ش َق ِد ٌير َوبِاالجا َب ِة َج ِد ٌير‬
‫فردوس اعىل ال حيوزه اال ذو حظ عظيم (إ َّن َك َعىل ُك ِّل َ ْ‬
‫الر ِ ِ‬ ‫َ‬
‫اح َ‬
‫ني) ‪.‬‬ ‫بِ َر ْحَتِ َك ياأ ْر َح َم َّ‬

‫(( ( –البقرة‪.148‬‬
‫(( ( –ال عمران ‪.114‬‬
‫(( ( –مسند امحد بن حنبل‪،‬باب حديث معاذ بن جبل‪241/5،‬‬
‫المناجاة الثامنة‬
‫مناجاة المريدين‬
‫ْم الله الرَّحْم ِن الرَّح ِ‬
‫ِيم‬ ‫بِس ِ‬
‫الط ُر َق َعىل َم ْن َ ْل َت ُك ْن َدلِ َيل ُه َوما َأ ْو َض َح َ‬
‫احلقَّ ِع ْن َد َم ْن هَ َد ْي َت ُه‬ ‫( ُس ْبحا َن َك ما َأ ْض َي َق ُّ‬
‫ود َع َل ْي َك‬ ‫الط ُر ِق لِ ْل ُو ُف ِ‬
‫ب ُّ‬‫ينا ِف أ ْق َر ِ‬‫ول إِ َل ْي َك َو َس ِّ ْ‬‫الو ُص ِ‬ ‫َسبِ َيل ُه‪ ،‬إِهلِي َف ْ‬
‫اس ُل ْك بِنا ُس ُب َل ُ‬
‫ين ُه ْم بِالبِدا ِر‬ ‫باد َك ا َّل ِذ َ‬
‫ل ْقنا بِ ِع ِ‬ ‫يد‪َ ،‬و َأ ْ ِ‬ ‫الش ِد َ‬
‫ري َّ‬ ‫يد َو َس ِّه ْل َع َل ْينا َ‬
‫الع ِس َ‬ ‫َو َق ِّر ْب َع َل ْينا ال َب ِع َ‬
‫اك ِف ال َّل ْيلِ َوال َّنها ِر َي ْع ُبدُ ونَ َو ُه ْم‬ ‫إِ َل ْي َك ُيسا ِر ُعونَ َوبا َب َك َعىل الدَّ وا ِم َي ْط ِر ُقونَ َوإ َّي َ‬
‫الرغائِ َب َو َأن َْج ْح َت َ ُل ُم‬ ‫ين َص َّف ْي َت َ ُل ْم املَشا ِر َب َو َب َّلغْ ت َُه ُم َّ‬ ‫ِم ْن هَ ْي َبتِ َك ُم ْش ِف ُقونَ ‪ ،‬ا َّل ِذ َ‬
‫الت َ ُل ْم َضامئِ َر ُه ْم ِم ْن ُح ِّب َك َو َر َّو ْيت َُه ْم‬ ‫املَطالِ َب َو َق َض ْي َت َ ُل ْم ِم ْن َف ْض ِل َك املَآ ِر َب َو َم َ‬
‫قاص ِد ِه ْم َح َص ُلوا‪.‬‬ ‫يذ ُمناجاتِ َك َو َص ُلوا َو ِم ْن َك َأ ْقىص َم ِ‬ ‫شبِ َك ؛ َفبِ َك إِىل َل ِذ ِ‬ ‫صاف ِ ْ‬‫ِم ْن ِ‬
‫ني َع ْن ِذ ْك ِر ِه‬ ‫بالغاف ِل َ‬
‫ِ‬ ‫ف َع َل ْي ِه ْم عائِدٌ ُم ْف ِض ٌل َو‬ ‫الع ْط ِ‬ ‫ني َع َل ْي ِه ُم ْقبِ ٌل َوبِ َ‬ ‫َفيا َم ْن ُه َو َعىل ا ُمل ْقبِ ِل َ‬
‫وف ؛ َأ ْس َأ ُل َك َأنْ َ ْت َع َلنِي ِم ْن َأ ْو َف ِر ِه ْم ِم ْن َك‬ ‫ود َع ُط ٌ‬ ‫وف َوبِ َج ْذ ِبِ ْم إِىل بابِ ِه َو ُد ٌ‬ ‫يم َر ُؤ ٌ‬‫َر ِح ٌ‬
‫زَلِ ْم ِم ْن ِو ِّد َك ِق ْسام َو َأ ْف َض ِل ِه ْم ِف َم ْع ِر َفتِ َك َن ِصيبا‪،‬‬ ‫وأ ْج ِ‬ ‫الهم ِع ْن َد َك َم ْن ِز ًال َ‬ ‫َ‬
‫َح َّظا َوأ ْع ُ ْ‬
‫رادي َو َل َك ال‬ ‫ي َك ُم ِ‬ ‫ْص َف ْت َن ْح َو َك َر ْغ َبتِي َف َأن َْت ال َغ ْ ُ‬ ‫هتِي َوان َ َ‬ ‫َف َقدْ ا ْن َق َط َع ْت إِ َل ْي َك ِ َّ‬

‫‪109‬‬
‫‪ ................................................................................. 110‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫قاؤ َك ُق َّر ُة َع ْينِي َو َو ْص ُل َك ُم ْ‬


‫نى َن ْف ِس َوإِ َل ْي َك َش ْو ِقي َو ِف‬ ‫هادي َولِ ُ‬ ‫لِ ِس َ‬
‫واك َس َه ِري َو ُس ِ‬
‫وار َك َط َلبِي‬
‫حاجتِي َو ِج ُ‬ ‫ُك َ‬ ‫واك َصبا َبتِي َو ِر َ‬
‫ضاك ُبغْ َيتِي َو ِر ْؤ َيت َ‬ ‫َ َم َّبتِ َك َو َلِي‪َ ،‬وإِىل هَ َ‬
‫فاء ُغ َّلتِي‬ ‫راحتِي َو ِع ْن َد َك َد ُ‬
‫واء ِع َّلتِي َو ِش ُ‬ ‫َو ُق ْر ُب َك غا َي َة ُسؤْ ِل‪َ ،‬و ِف ُمناجاتِ َك َر ْو ِحي َو َ‬
‫غاف َر َز َّلتِي َوقابِ َل‬
‫يل َعث َْر ِت َو ِ‬ ‫َو َب ْر ُد َل ْو َعتِي َو َك ْش ُف ُك ْر َبتِي‪َ ،‬ف ُك ْن َأنِ ِ‬
‫يس ِف َو َح ْشت َِّى َو ُم ِق َ‬
‫يب َد ْع َو ِت َو َو ِ َّل ِع ْص َمتِي َو ُمغْ نِ َي فا َقتِي‪َ ،‬وال َت ْق َط ْعنِي َع ْن َك وال ُت ْب ِعدْ ِن ِم ْن َك‬
‫م َ‬ ‫َت ْو َبتِي َو ُ ِ‬
‫الر ِ ِ‬
‫اح َ‬
‫ني )‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ْياي َو ِ‬ ‫يا َنعي ِمي َو َج َّنتِي َو ُ‬
‫آخ َر ِت ياأ ْر َح َم َّ‬ ‫يادن َ‬
‫مناجاة املريدين‪111.................................................................................................‬‬

‫شرح الفقرات المباركة‪:‬‬


‫هذه مناجاة املريدين‪ ،‬أي الذين يريدون الوصول إىل رضاه سبحانه وتعاىل‪،‬‬
‫وهي حالة معرفية يتصف هبا الشخص للوصول إىل مبتغاه‪ ،‬فالقرب اإلهلي ال‬
‫يكون إال باملعرفة‪ ،‬ألهنا الدليل عليه والوصول إليه‪ ،‬وبدوهنا يكون اإلنسان حائرا‬
‫ال هيتدي إىل يشء ‪.‬‬
‫يفتتح اإلمام زين العابدين عليه السالم مناجاته بتنزهيه سبحانه؛ ألن (سبحانك)‬
‫اسم مصدر وقع موقع املصدر وهو التسبيح‬
‫منصوب عىل املصدرية قيل ‪ :‬هو ُ‬
‫ٌ‬
‫مصدر كالغفران‪ ،‬وهو غري مترصف أي ال يستعمل إال‬
‫ٌ‬ ‫بمعنى التنزيه‪ ،‬وقيل هو‬
‫حمذوف الفعل منصوب ًا عىل املصدرية‪ ،‬وال يكاد يستعمل إال مضافا‪ ،‬وإذا استعمل‬
‫غري مضاف كان علام للتسبيح غري مرصوف للعلمية‪ ،‬واأللف والنون املزيدتان‬
‫كعثامن علام لرجل‪ ،‬فان العلمية كام جتري يف األعيان جتري يف املعاين‪ ،‬واملعنى عىل‬
‫األول نسبحك تسبيحا عام ال يليق بشأنك األقدس من األمور التي من مجلتها عدم‬
‫عبادتنا لك حق عبادتك‪ ،‬وعنوا بذلك تسبيحا ناشئا عن كامل االعرتاف واإليقان‬
‫بالعجز عام يليق بمقامه األعىل من العبادة وعىل الثاين تنزهت عن ذلك تنزها ناشئا‬
‫عن ذاتك وهذا املعنى وقبله ذكره يف قاموس الصحيفة السجادية ‪.‬‬
‫(ما َأ ْض َي َق ُّ‬
‫الط ُر َق َعلى َم ْن َل ْم َت ُك ْن َدلِ َيل ُه)‪.‬‬
‫الطريق هنا املسلك الذي يوصله إىل اهلل تعاىل‪ ،‬وان مل يكن عن طريقه فسيكون‬
‫(و َم ْن َأ ْع َر َ‬
‫ض َعن‬ ‫غري موصل وال كاف يف الداللة إليه‪ ،‬وهو مصداق قوله تعاىل َ‬
‫‪ ................................................................................. 112‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫ٍ‬
‫طريق غري‬ ‫ش ُه َي ْو َم ا ْل ِق َيا َم ِة َأ ْع َمى)(((فان سلوك‬ ‫ِذ ْك ِري َفإِنَّ َل ُه َم ِع َ‬
‫يش ًة َضنك ًا َو َن ْح ُ ُ‬
‫طريقه تعاىل ُيض ِّيق عليه مسالك اهلداية فال يكون إال ضنكا ال هيتدي إىل يشء‪.‬‬

‫(وما َأ ْو َض َح َ‬
‫الحقَّ ِع ْن َد َم ْن َه َد ْي َت ُه َسبِ َيل ُه)‪.‬‬ ‫َ‬
‫وهل أوضح من طريق احلق إن كنت أنت اهلادي؟ فان داللة الطريق ال تكون‬
‫إال عن طريق صاحبه فهو اعلم بمسالكه واعرف بأحواله وأموره‪.‬‬
‫ول إِ َل ْي َك)‪.‬‬ ‫اس ُل ْك بِنا ُس ُب َل ُ‬
‫الو ُص ِ‬ ‫(إِل ِهي َف ْ‬
‫وهو إشارة للتوفيق إىل اهلداية ؛ إذ السلوك إىل سبيله تعاىل ال يكون إال باهلداية‬
‫عن طريقه‪ ،‬وهو ارتباط حقيقي باهلل تعاىل‪ ،‬واندكاك بإرادته‪ ،‬إذ ال يمكن استقاللية‬
‫اإلنسان للوصول إليه تعاىل ما مل يكن بالتوفيق منه؛ وال يعني هذا إجبار املرء عىل‬
‫سلوك الطريق‪ ،‬بل هو تسديد وتوفيق أي هتيئة أسباب الوصول‪ ،‬كام لو أمر السيد‬
‫عبده بعمل يشء فالبد أن خييل بينه وبني أسباب إنجاحه وإزالة ما يعرقل عن طريقه‬
‫أسباب الوصول إىل هدفه وحتقيق نجاحه ‪.‬‬
‫ود َع َل ْي َك)‪.‬‬
‫الط ُر ِق لِ ْل ُو ُف ِ‬
‫ب ُّ‬‫(و َس ِّي ْرنا ِفي أ ْق َر ِ‬
‫َ‬
‫فاختيار الطريق القريب يشري إىل تيسري الوصول ؛ ألنك إذا حرصت عىل حتقيق‬
‫أمر ما فالبد من إجياد ما يكون يف حتقيقه قريبا؛ وهو سلوك الطرق القريبة واملسالك‬
‫اليسرية‪ ،‬وهي إشارة إىل رفع أسباب املوانع املقربة إىل اهلل تعاىل لتيسري اهلداية‪ ،‬ورفع‬
‫العلل املعرقلة من إتيان العمل ‪.‬‬

‫(( ( –طه‪.124‬‬
‫مناجاة املريدين‪113.................................................................................................‬‬

‫الش ِد َ‬
‫يد)‪.‬‬ ‫يد َو َس ِّه ْل َع َل ْينا َ‬
‫الع ِس َير َّ‬ ‫( َو َق ِّر ْب َع َل ْينا ال َب ِع َ‬
‫حيث انرشاح صدر اإلنسان سبب يف اهلداية والتأييد‪ ،‬واإلرادة اإلهلية تتدخل يف‬
‫نفسي ًا يف حتمل املشاق للوصول‬
‫الكثري من هذه األمور كأن يكون لإلنسان استعداد َّ‬
‫إىل العمل‪ ،‬أو كأن يكون لإلعجاز أثره يف تقريب البعيد وتسهيل العسري‪ ،‬أو يف‬
‫تقليل الكثري وتكثري القليل؛ كام يف تعداد نِ َع ِم اهلل تعاىل عىل املسلمني ؛حيث نرصهم‬
‫(وا ْذ ُك ُرو ْا إِ ْذ‬
‫بتوهني عدوهم‪ ،‬واالعتقاد بكثرة املسلمني مع إهنم قليل قال تعاىل ‪َ :‬‬
‫ال َف َك َّث َر ُك ْم)((( حيث أعان اهلل املسلمني بأهنم يرون عددهم قليال لتنترص‬ ‫ُكنت ُْم َق ِلي ً‬
‫وه ْم إِ ِذ ا ْل َت َق ْيت ُْم ِف َأ ْع ُينِ ُك ْم‬ ‫(وإِ ْذ ُي ِر ُ‬
‫يك ُم ُ‬ ‫إرادهتم وتقوى عزيمتهم فقال تعاىل ‪َ :‬‬
‫ال)((( حيث ُي َّيل لكم أن عددهم قليل لئال تتصوروا خالف ذلك‪ ،‬وعدم‬ ‫َق ِلي ً‬
‫التكافؤ قد يؤدي إىل هزيمة املسلمني؛ فأعاهنم اهلل هبذا ونرصهم باملعجز‪ ،‬حيث‬
‫التدخل اإلهلي يف حسم األمور لصالح املؤمن كثرية موارده يتحقق عند صدق نية‬
‫املؤمن وإخالصه ‪.‬‬
‫ين ُه ْم بِالبِدا ِر إِ َل ْي َك ُيسا ِر ُعونَ )‪.‬‬ ‫(و َأ ْل ِح ْقنا بِ ِع ِ‬
‫باد َك ا َّل ِذ َ‬ ‫َ‬
‫بادر إىل اليشء أي سارع إليه‪ ،‬واملبادرة فيها نوع اهتامم يدفع اإلنسان إىل العمل‬
‫فهم – أي العباد الصاحلون – يسارعون إىل مبادرة العمل الذي يقرهبم إىل اهلل تعاىل‪.‬‬
‫واالحلاق ‪ :‬بمعنى االرتقاء إىل درجتهم والوصول إىل منزلتهم ‪.‬‬

‫(( ( –االعراف ‪.86‬‬


‫(( ( –االنفال‪.44‬‬
‫‪ ................................................................................. 114‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫(وبا َب َك َعلى الدَّ وا ِم َي ْط ِر ُقونَ )‪.‬‬


‫َ‬
‫ٌ‬
‫كناية عن دوام الطلب‬ ‫رق الباب‬ ‫حيث وصفهم باالنقطاع إليه تعاىل؛ َ‬
‫فط ُ‬
‫والتوجه إليه‪ ،‬واالنقطاع عن غريه‪ ،‬فهم منقطعون إليه‪ ،‬آيسون من غريه‪ ،‬وهذه‬
‫حالة املوقنني‪،‬حيث استغناؤهم عن الناس دليل عىل يأسهم عن الناس‪ ،‬وهذا‬
‫أعظم ما يصل إليه املريد يف سلوكه إليه ‪.‬‬
‫(وإ َّي َ‬
‫اك ِفي ال َّل ْيلِ َوال َّنها ِر َي ْع ُبدُ ونَ )‪.‬‬ ‫َ‬
‫إشارة إىل الدوام وعدم االنقطاع‪ ،‬فان الليل والنهار دائامن ال ينقطعان‪ ،‬وإذا‬
‫كانت عبادهتم يف هذا الظرف الزماين غري املنقطع أو املتوقف‪ ،‬فهم مؤهلون إىل‬
‫عبادة غري منقطعة دائمة‪ ،‬بل هم يستغرقون الليل والنهار يف عبادته‪ ،‬ومعنى دوام‬
‫العبادة وصدق دوامها؛ هو التفكر بقدرة اهلل وعظمته تعاىل فضال عن صيامهم‬
‫وقيامهم بضميمة التفكر والذكر له سبحانه‪ ،‬فهو من أعظم مصاديق العبادة ال‬
‫الفرد املعني من الصالة أو الصيام‪ ،‬وبذلك يصدق عليهم (االستغراق العمومي‬
‫لكل آن من آنات الليل والنهار)‪.‬‬
‫(و ُه ْم ِم ْن َه ْي َبتِ َك ُم ْش ِف ُقونَ )‪.‬‬
‫َ‬
‫اهليبة بمعنى اإلجالل‪ ،‬وهابه إذا حذره ودخل اإلجالل يف قلبه له‪ ،‬وهتيب فالنا‪:‬‬
‫حن عليه؛ وإذا تعدى بـ(من)‬
‫خافه واجله وأكربه‪ ،‬وشفق إذا تعدى بـ(عىل) بمعنى َّ‬
‫بمعنى خافه وحذر منه‪ ،‬والعارف باهلل تعاىل دائام مشفق حذر منه ألنه عرف بعضا‬
‫من عظمته واجله خوفا من سطوته‪ ،‬وأكربه تعظيام ألمره‪ ،‬فعباد اهلل الصاحلون‬
‫متهيئون حذرون من جالله وكربيائه ‪.‬‬
‫مناجاة املريدين‪115.................................................................................................‬‬

‫الرغائِ َب)‪.‬‬ ‫ين َص َّف ْي َت َل ُه ْم َ‬


‫المشا ِر َب َو َب َّلغْ ت َُه ُم َّ‬ ‫( ا َّل ِذ َ‬
‫هذه هي صفتهم حيث علمت منهم الصدق فاعنتهم عىل نيل مطالبهم بان‬
‫اوقفتهم عىل لذيذ مأخذهم من معرفتك فبلغوا بذلك ما رغبوا به ورغبوا اليه‪،‬‬
‫حيث واصلوا اجلهاد واملواظبة حتى بلغوا ما نالوا من املعرفة واليقني ؛ فان املعرفة‬
‫ال تنال باالماين بل بصدق النوايا وطيب الرسائر ‪.‬‬

‫(و َأ ْن َج ْح َت َل ُه ُم َ‬
‫المطالِ َب)‪.‬‬ ‫َ‬
‫النجاح إصابة الطلب وبلوغ الغاية واهلدف‪ ،‬واملطالب ‪ :‬ما كانوا يأملون من‬
‫الوصول إىل معرفتك‪ ،‬حيث استجبت هلم يف بلوغ غاياهتم من الوصول إىل ما‬
‫أرادوه ‪.‬‬

‫(و َق َض ْي َت َل ُه ْم ِم ْن َف ْض ِل َك َ‬
‫المآ ِر َب)‪.‬‬ ‫َ‬
‫املــآرب ‪ :‬احلاجات‪ ،‬وقضيت هلم حاجاهتم بعد أن علمت منهم الصدق‬
‫واالخالص ‪.‬‬
‫الت َل ُه ْم َضمائِ َر ُه ْم ِم ْن ُح ِّب َك)‪.‬‬
‫(و َم َ‬
‫َ‬
‫بعد ان افرغوا ضامئرهم عن حب غريك ملئوها بحبك‪ ،‬حيث ال يمكن ان يكون‬
‫ي ِف َج ْو ِف ِه)االحزاب ‪ 4‬فان مزامحة‬ ‫حبه مع حب غريه ( َما َج َع َل َّ ُ‬
‫الل لِ َر ُجلٍ ِم ْن َق ْل َب ْ ِ‬
‫حبه من قبل حب الغري من أهم أسباب خلل املعرفة والتوجه اليه سبحانه‪ ،‬فانشغال‬
‫اإلنسان بحب غري اهلل يشغله عن التفرغ حلبه‪ ،‬وهذه مشكلة الكثري ممن يشكو من‬
‫عدم التوجه إليه‪ ،‬وقسوة القلب الكامنة يف نفوس غري املنقطعني إليه‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 116‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫صافي ِش ْربِ َك)‪.‬‬


‫(و َر َّو ْيت َُه ْم ِم ْن ِ‬
‫َ‬
‫كيف ال‪ ،‬وهم قد ختلوا عن مجيع لذائذ الدنيا‪ ،‬وأوحشتهم زخارفها‪ ،‬فأظمأهم‬
‫فأخلصت هلم حبك‪ ،‬وجعلت‬
‫َ‬ ‫انقطاعهم عن كل مرشب وذاقوا منهلك العذب‬
‫هلم ودك‪ ،‬وأذقتهم حالوة رشبك من صايف نمري زالل معرفتك‪.‬‬
‫( َفبِ َك إِلى َل ِذ ِ‬
‫يذ ُمناجاتِ َك َو َص ُلوا)‪.‬‬
‫فأنت الذي أوصلتهم اىل لذيذ مناجاتك‪ ،‬وأعنتهم عىل صايف معرفتك‪ ،‬حيث مل‬
‫خيلطوا معهام شيئا‪.‬‬
‫(و ِم ْن َك َأ ْقصى َم ِ‬
‫قاص ِد ِه ْم َح َص ُلوا)‪.‬‬ ‫َ‬
‫وهي املعرفة التي قصدوها يف التوجه اليك‪ ،‬حيث بلغوا غاية مناهم‪.‬‬
‫ين َع َل ْي ِه ُم ْقبِ ٌل)‪.‬‬
‫الم ْقبِ ِل َ‬
‫( َفيا َم ْن ُه َو َعلى ُ‬
‫عادة الكريم ان يكافئ االحسان بأحسن منه‪ ،‬واإلقبال حالة التوجه ‪،‬وهو كناية‬
‫عن االنابة والرجوع اليه سبحانه‪.‬‬
‫ف َع َل ْي ِه ْم عائِ ٌد ُم ْف ِض ٌل)‪.‬‬
‫الع ْط ِ‬
‫(وبِ َ‬
‫َ‬
‫استعامل اسم الفاعل (عائذ) السم املفعول للترشيف واالختصاص موحيا ان‬
‫االستعاذة من املريد به تعاىل رجوع باالستعاذة اليه فهو املعيذ وهو املعاذ اللتصاق‬
‫املريد فيه تعاىل واندكاكه وتعلقه به‪ ،‬واستعامله كثري ‪.‬‬

‫ين َع ْن ِذ ْك ِر ِه َر ِح ٌ‬
‫يم َر ُؤ ٌ‬
‫وف)‪.‬‬ ‫بالغاف ِل َ‬
‫ِ‬ ‫(و‬
‫َ‬
‫مع غفلتهم فهو رحيم هبم رؤوف ‪،‬تعطفا وحتننا‪.‬‬
‫مناجاة املريدين‪117.................................................................................................‬‬

‫وف)‪.‬‬ ‫(وبِ َج ْذبِ ِه ْم إِلى بابِ ِه َو ُد ٌ‬


‫ود َع ُط ٌ‬ ‫َ‬
‫هذه صفة الكرم واإلحسان‪ ،‬حيث سبحانه حريص عىل ان يفعل ما من شأنه‬
‫أن ينحازوا اليه حلاجتهم له‪ ،‬فيغدق عليهم نعمه؛ الجتذاهبم اليه طمعا يف عطائه‪،‬‬
‫وألن من عادة املحسن ابتداؤه باإلحسان قبل طلب املحتاج اليه‪.‬‬
‫(أ ْس َأ ُل َك َأنْ َت ْج َع َلنِي ِم ْن َأ ْو َف ِر ِه ْم ِم ْن َك َح َّظا َو َأ ْع ُ‬
‫اله ْم ِع ْن َد َك َم ْن ِز ًال)‪.‬‬ ‫َ‬

‫احلظ ‪ :‬النصيب‪ ،‬واملنزلة ‪ :‬الرفعة التي يناهلا العبد بطاعته‪ ،‬أي جتعل يل سببا لنيل‬
‫طاعتك واالهتامم بفرائضك‪ ،‬حيث اشار اىل النتيجة وأراد منها الوسيلة‪ ،‬اذ نتيجة‬
‫الطاعة هي املنزلة الرفيعة‪.‬‬
‫َ‬
‫(وأ ْجزَ لِ ِه ْم ِم ْن ِو ِّد َك ِق ْسما)‪.‬‬
‫حطب جزل اذا عظم وغلظ‪ ،‬فهو جزل‪ ،‬ثم استعري يف العطاء فقيل اجزل له يف‬
‫العطاء اذا أوسعه‪ ،‬والود بمعنى احلب أي اجعل يل نصيبا عظيام من حمبتك حتى‬
‫اكون يف طاعتك متلذذا بعبادتك‪ ،‬راغبا يف خدمتك ؛ الن احلب داعي القرب‪،‬‬
‫وسبب للعمل والرضا ‪.‬‬
‫ٌ‬
‫(و َأ ْف َض ِل ِه ْم ِفي َم ْع ِر َفتِ َك َن ِصيبا)‪.‬‬
‫َ‬
‫سبب يف البحث عن موجبات‬
‫فباملعرفة ينال الوصول اىل رضاه سبحانه‪ ،‬فهي ٌ‬
‫الطاعة‪.‬‬
‫( َف َقدْ ا ْن َق َط َع ْت إِ َل ْي َك ِه َّمتِي)‪.‬‬
‫هم باألمر ‪ :‬اذا قصده وعزم عليه‪ ،‬وقيل ‪ :‬هو اول العزم وقد يطلق عىل العزم‬
‫‪ ................................................................................. 118‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫القوي‪ ،‬أي مل أجعل مهة إىل غريك إال مهتي اليك‪ ،‬حيث انقطعت بالرجاء لطاعتك‪.‬‬
‫(وا ْن َص َر َف ْت َن ْح َو َك َر ْغ َبتِي)‪.‬‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫متعد ب(يف) اذا رغب فيه‪ ،‬أي اراده‬ ‫رغب اىل اهلل رغبة ‪ :‬اذا دعاه وسأله وهو‬
‫ويتعدى ب(عــن) اذا رغب عنه أي كرهه‪ ،‬واالنــراف التوجه اىل اليشء أي‬
‫توجهت اليك راغبا يف ثوابك‪.‬‬
‫( َف َأ ْن َت ال َغ ْي ُر َك ُم ِ‬
‫رادي)‪.‬‬
‫حيث اراديت فيك دون سواك‪ ،‬فقد انقطعت عمن سواك‪ ،‬وآيست عام دونك‪.‬‬
‫هادي)‪.‬‬ ‫(و َل َك ال لِ ِس َ‬
‫واك َس َه ِري َو ُس ِ‬ ‫َ‬
‫السهر ‪ :‬عدم النوم يف الليل كله او بعضه‪ ،‬و مثله السهد بدل الراء دال‪ ،‬والظاهر‬
‫هو سهر فيه زيادة الوجل والقلق من أمل وغريه‪ ،‬فاذا كان السهر ألمور الدنيا فهو‬
‫مذموم؛ واذا كان لطاعة اهلل فهو ممدوح‪ .‬وختصيص السهر له احرتازا من سهر اهل‬
‫الدنيا هلوا و عبثا‪ ،‬بل سهره طاعة وعبادة‪.‬‬

‫قاؤ َك ُق َّر ُة َع ْينِي َو َو ْص ُل َك ُم ْ‬


‫نى َن ْف ِسي)‪.‬‬ ‫(ولِ ُ‬
‫َ‬
‫قر ِ‬
‫ت العنيُ ‪ ،‬بمعنى استقرت‪ ،‬وهي كناية عن الرسور واالطمئنان حيث الذي‬ ‫َّ‬
‫يصيبه خوف وقلق ال تقر عينه؛ أي ال يأتيه النوم ؛لفزعه من أم ٍر ونحوه‪ ،‬فإذا‬
‫استقرت خلد اىل النوم فيقال ‪ :‬قرت عينه بنيل مطلوبه ‪.‬‬
‫والوصل بمعنى الوصول‪ ،‬أي ما يتوصل اليه‪ ،‬وهو اسم مصدر اراد منه الفعل‬
‫توكيدا‪ ،‬ومنى النفس غايتها وما تصبو اليه‪ ،‬فلقاؤه ليس بالرضورة املوت‪ ،‬بل‬
‫مناجاة املريدين‪119.................................................................................................‬‬

‫االتصال القلبي به وتعلق النفس بمحبته‪ ،‬ولعله اراد املوت حيث هو كناية عن‬
‫حسن الظن باهلل تعاىل واالطمئنان اىل رمحته‪.‬‬
‫(وإِ َل ْي َك َش ْو ِقي)‪.‬‬
‫َ‬
‫الشوق لغة ‪ :‬نزاع النفس اىل اليشء‪ ،‬وعرفا؛ قيل ‪ :‬هو احتياج القلب اىل لقاء‬
‫املحبوب‪ .‬واتبع طلب الشوق بطلب العمل ؛ الن العمل من لوازم الشوق الصادق‬
‫؛ فان من صدق شوقه اىل حمبوب اجهد نفسه يف االعامل املوصلة اليه‪ .‬والوله هو‬
‫(و ِف‬
‫احلنني‪ ،‬ولعله درجة اقوى من الشوق واشد من احلب‪ ،‬حيث قال عليه السالم َ‬
‫َ َم َّبتِ َك َو َلِي)‪ ،‬النه مرتبة اعىل من احلب فشوقه اليه وحمبته فيه سبحانه‪.‬‬
‫(وإِلى َه َ‬
‫واك َصبا َبتِي)‪.‬‬ ‫َ‬
‫والصبابة شدة الشوق‪ ،‬وهي مأخوذة من الصبا فهو يتصابى‪ ،‬أي هيوى بفرط‬
‫حب ٍ‬
‫يشء آخر‪ ،‬فكام الصبي يفرغ نفسه عن كل يشء عند هواه‬ ‫دون ان يكون معه ُ‬
‫ألمر فكذلك الصبابة افراغ النفس عن التعلق بأمر دون بقية االمور‪ ،‬فتكون فيه‬
‫صبابة‪.‬‬
‫(و ِر َ‬
‫ضاك ُبغْ َيتِي)‪.‬‬ ‫َ‬
‫البغية ‪ :‬الطلب فاقىص طلبتي رضاك‪.‬‬
‫حاجتِي)‪.‬‬
‫ُك َ‬‫(و ِر ْؤ َيت َ‬
‫َ‬
‫كام ارشنا هي الرؤية القلبية‪ ،‬وهي غاية املعرفة ‪،‬او هو لقاء املوت؛ ألجد ما‬
‫عندك خري ًا وابقى‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 120‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫وار َك َط َلبِي)‪.‬‬
‫(و ِج ُ‬
‫َ‬
‫املجاورة كناية عن القرب‪ ،‬فكلام قرب االنسان اىل طاعته تعاىل‪ ،‬كأنه جاوره‬
‫وانشغل عن جماورة غريه‪.‬‬
‫(و ُق ْر ُب َك غا َي َة ُسؤْ لِي)‪.‬‬
‫َ‬
‫وهو بيان ملا سبق ‪.‬‬
‫راحتِي)‪.‬‬
‫(و ِفي ُمناجاتِ َك َر ْو ِحي َو َ‬
‫َ‬
‫كيف ال يكون كذلك؟ حيث اخللوة مع من يعلم مهي وغمي؛ فان راحة املرء‬
‫ال تكون إال مع من يعرف ما يف نفسه فيكون قريبا اليه‪ ،‬وهو بعكس من ال يقف‬
‫عند مهه حيث ال يستطيع ان يبث ما يعتلج يف نفسه‪ ،‬واملناجاة معه بث لشكوى‬
‫النفس واإلفصاح عام يعرتهيا من هم؛ فيجد يف ذلك راحته‪ ،‬بل جيد فيه روحه التي‬
‫اضاعتها اهلموم‪ ،‬وفرطت هبا االحزان‪.‬‬
‫فاء ُغ َّلتِي)‪.‬‬ ‫(و ِع ْن َد َك َد ُ‬
‫واء ِع َّلتِي َو ِش ُ‬ ‫َ‬
‫الغلة ‪ :‬هي الغيظ‪ ،‬حيث يف مناجاتك تنطفئ حرارة غيظ نفيس‪ ،‬ويربد أوارها‬
‫وهليبها ‪،‬ويسكن يف مناجاتك ما يعرتي نفيس من دواعي الشهوة واهلوى ‪.‬‬
‫(و َب ْر ُد َل ْو َعتِي َو َك ْش ُف ُك ْر َبتِي)‪.‬‬
‫َ‬
‫برد اللوعة كناية عن استقرار النفس وسكوهنا‪ ،‬واطمئنان القلب بام يضمن معه‬
‫هتدئة كل اسباب القلق واالضطراب‪.‬‬
‫مناجاة املريدين‪121.................................................................................................‬‬

‫يل َع ْث َرتِي)‪.‬‬ ‫( َف ُك ْن َأنِ ِ‬


‫يسي ِفي َو َح ْشت َِّى َو ُم ِق َ‬
‫االنس سكون القلب‪ ،‬والعثرة بمعنى الزلة‪ ،‬وأقال عفا عنه كام يف اقالة البيع‬
‫حيث يعفو البائع عن املشرتي بيعه فيقال اقالة‪ ،‬وإذا عفا عن زلته؛ فقد اقال عثرته‪.‬‬
‫غاف َر َز َّلتِي َوقابِ َل َت ْو َبتِي)‪.‬‬
‫(و ِ‬‫َ‬
‫وهو املعنى السابق الذي ارشنا اليه‪ ،‬وكلها بمعنى التوبة وقبول العذر‪.‬‬
‫يب َد ْع َوتِي َو َولِ َّي ِع ْص َمتِي)‪.‬‬
‫(و ُم ِج َ‬
‫َ‬
‫العصمة‪ :‬بمعنى احلفظ والوقاية ‪،‬فهو ويل ذلك‪ ،‬أي املتويل ألمر حفظي ووقايتي‬
‫والذاب عني‪.‬‬
‫(و ُمغْ نِ َي فا َقتِي)‪.‬‬
‫َ‬
‫الفاقة ‪ :‬احلاجة وغنى احلاجة قضاؤها وانجاحها‪.‬‬
‫(وال َت ْق َط ْعنِي َع ْن َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫االنقطاع عنه تعاىل وجود موانع االتصال به‪ ،‬كالشك وعدم االطمئنان املالزمني‬
‫للقلق املرتتب عليه زعزعة االيامن‪.‬‬

‫(وال ُت ْب ِعدْ نِي ِم ْن َك)‪.‬‬


‫االبتعاد منه‪ :‬االنشغال بسواه‪ ،‬والتعلق بغريه ‪،‬واالعتامد عىل من هو دونه‪ ،‬وهذه‬
‫من مشقات االمور ومبعدات الطاعة‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 122‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫(يا َنعي ِمي َو َج َّنتِي)‪.‬‬


‫الن النعيم احلقيقي رضاك‪ ،‬واجلنة املقصودة ‪،‬القرب اليك ‪،‬بل انت‪.‬‬
‫آخ َرتِي)‪.‬‬
‫ياي َو ِ‬
‫ياد ْن َ‬
‫(و ُ‬‫َ‬
‫حيث انت املبدأ وانت املنتهى‪ ،‬وانت مرادي يف الدنيا ومقصودي يف اآلخرة‪.‬‬
‫الر ِ‬
‫اح ِم َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫َ‬
‫(ياأ ْر َح َم َّ‬
‫الذي برمحته أنال ما انا اقصده وامتناه ‪.‬‬
‫المناجاة التاسعة‪:‬‬
‫مناجاة المحبين‬
‫ْم الله الرَّحْم ِن الرَّح ِ‬
‫ِيم‬ ‫بِس ِ‬
‫س بِ ُق ْربِ َك‬ ‫الو َة َ َم َّبتِ َك َفرا َم ِم ْن َك َب َد ًال َو َم ْن ذا ا َّل ِذي َأنِ َ‬
‫ذاق َح َ‬ ‫(إِهلِي َم ْن ذا ا َّل ِذي َ‬
‫اص ْط َف ْي َت ُه لِ ُق ْربِ َك َووال َيتِ َك َو َأ ْخ َل ْص َت ُه لِ ِو ِّد ّك‬
‫اج َع ْلنا ِم َِّن ْ‬ ‫َفا ْبتَغى َع ْن َك ِح َو ًال‪ ،‬إِهلِي َف ْ‬
‫َو َ َم َّبتِ َك َو َش َّو ْق َت ُه إِىل لِقائِ َك َو َر َّض ْي َت ُه بِ َقضائِ َك َو َمن َْح َت ُه بِال َّن َظ ِر إِىل َو ْج ِه َك َو َح َب ْو َت ُه‬
‫الصدْ ِق ِف ِجوا ِر َك َو َخ َص ْص َت ُه‬ ‫ضاك‪َ ،‬و َأ َع ْذ َت ُه ِم ْن هَ ْج ِر َك َو َق َ‬
‫الك َو َب َّو ْأ َت ُه َم ْق َع َد ِّ‬ ‫بِ ِر َ‬
‫اخ َل ْي َت‬
‫اج َت َب ْي َت ُه ُملشاهَ َدتِ َك َو ْ‬ ‫وأ َّه ْل َت ُه لِ ِعبا َدتِ َك‪َ ،‬وهَ َّي ْم َت َق ْل َب ُه إلرا َدتِ َك َو ْ‬ ‫بِ َم ْعر َفتِ َك َ‬
‫َ‬
‫ل ِّب َك َو َر َّغ ْب َت ُه ِفيام ِع ْن َد َك َو َأ ْ َل ْم َت ُه ِذ ْك َر َك َو َأ ْو َز ْع َت ُه ُش ْك َر َك‬
‫َو ْج َه ُه َل َك َو َف َّر ْغ َت ُفؤا َد ُه ِ ُ‬
‫ت َت ُه ِ ُلناجاتِ َك َو َق َط ْع َت َع ْن ُه ُك َّل‬ ‫صالي َب ِر َّيتِ َك َو ْ‬
‫اخ َ ْ‬ ‫ي َت ُه ِم ْن ِ ِ‬ ‫طاعتِ َك‪َ ،‬و َص َّ ْ‬ ‫َو َش َغ ْل َت ُه بِ َ‬
‫ياح إِ َل ْي َك َو َ‬
‫احلنِنيُ َو َد ْه ُر ُه ُم َّ‬
‫الز ْف َر ُة‬ ‫اج َع ْلنا ِم َّْن َد ْأ ُ ُب ُم ْ‬
‫االرتِ ُ‬ ‫ش َي ْق َط ُع ُه َع ْن َك ال ّل ُه َّم ْ‬
‫َ ٍْ‬
‫وع ُه ْم سائِ َل ٌة‬
‫ساه َر ٌة ِف ِخدْ َمتِ َك َو ُد ُم ُ‬ ‫ون ُْم ِ‬ ‫ساج َد ٌة لِ َع َظ َمتِ َك َو ُع ُي ُ‬ ‫باه ُه ْم ِ‬ ‫االنِنيُ ِج ُ‬ ‫َو َ‬

‫وب ْم ُمت ََع ِّل َق ٌة بِ َم َح َّبتِ َك َو َأ ْفئِ َد ُ ُت ْم ُم ْن َخ ِل َع ٌة ِم ْن َمها َبتِ َك يا َم ْن َأن ُ‬


‫ْوار‬ ‫ِم ْن َخ ْش َيتِ َك َو ُق ُل ُ ُ‬
‫وب‬ ‫يامنى ُق ُل ِ‬ ‫يه شائِ َف ٌة ُ‬ ‫وب عا ِر ِف ِ‬ ‫حات َو ْج ِه ِه لِ ُق ُل ِ‬ ‫يه رائِ َق ٌة َو ُس ْب ُ‬ ‫ُقدْ ِس ِه َال ْبصا ِر ُ ِ‬
‫م ِّب ِ‬
‫‪123‬‬
‫‪ ................................................................................. 124‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫ي ُّب َك َو ُح َّب ُك ِّل َع َملٍ‬ ‫ني ؛ َأ ْس َأ ُل َك ُح َّب َك َو ُح َّب َم ْن ُ ِ‬ ‫آمال ا ُمل ِح ِّب َ‬
‫ني َوياغا َي َة ِ‬ ‫ا ُمل ْش ِ‬
‫تاق َ‬
‫اك قائِد ًا إِىل‬ ‫واك َو َأنْ َ ْت َع َل ُح ِّبي إِ ّي َ‬ ‫وص ُلنِي إِىل ُق ْربِ َك‪َ ،‬و َأنْ َ ْت َع َل َك َأ َح َّب إِ َ َّل ِمَّا ِس َ‬
‫ُي ِ‬
‫ل َوان ُْظ ْر بِ َع ْ ِ‬
‫ي‬ ‫ِر ْضوانِ َك َو َش ْو ِقي إِ َل ْي َك ذائِد ًا َع ْن ِع ْصيانِ َك‪َ ،‬وا ْمن ُُن بِال َّن َظ ِر إِ َل ْي َك َع َ َّ‬
‫عاد َو ُ‬
‫احل ْظ َو ِة‬ ‫اإلس ِ‬
‫ْ‬ ‫اج َع ْلنِي ِم ْن َأ ْهلِ‬
‫ص ْف َعنِّي َو ْج َه َك َو ْ‬ ‫الع ْط ِ‬
‫ف ا َّيل َوال َت ْ ِ‬ ‫الو ِّد َو َ‬
‫ُ‬
‫ني )‪.‬‬ ‫الر ِ ِ‬
‫اح َ‬ ‫يام ُ َ‬
‫ِع ْن َد َك ُ ِ‬
‫يب ياأ ْر َح َم َّ‬
‫مناجاة املحبني‪125....................................................................................................‬‬

‫شرح الفقرات المباركة‪:‬‬


‫اذا كان من دواعي العبادة أمور تدفع االنسان اىل طاعته تعاىل‪ ،‬كخوف النار‬
‫والطمع يف اجلنة؛ فان عبادة االولياء ترقى دواعيها اىل حمبته تعاىل‪ ،‬وهكذا هو اإلمام‬
‫زين العابدين عليه السالم حيث تظهر يف مناجاته اعظم الدواعي لعبادته تعاىل‬
‫وهي حمبته لذا فانه عليه السالم يقول ‪:‬‬
‫الو َة َم َح َّبتِ َك َفرا َم ِم ْن َك َب َد ًال؟)‪.‬‬ ‫( إِل ِهي َم ْن ذا ا َّل ِذي َ‬
‫ذاق َح َ‬
‫اسم املوصول يشري إىل من تذوق حمبته‪ ،‬والذوق وجود الطعم وحتسسه سواء‬
‫كان حتسسا ماديا كام يف تذوق الطعام ؛او حتسس ًا معنويا كام يف مشاهدة ما يريح‬
‫النفس ويؤنسها ‪.‬‬
‫مرام اذا طلبته ‪ .‬والبدل ‪ :‬العوض الذي يكون‬
‫ورمت اليشء ارومه روما‪ ،‬فهو ٌ‬
‫ُ‬
‫لليشء فيبدله عن عوضه بدال‪ ،‬ومعنى العبارة ان أي عبد يكون قد استبدل عوض‬
‫حمبتك شيئا اخر فهو يف خرسان‪ ،‬وهل يكون البديل يؤدي نفس غرض املبدل منه‬
‫يشء إال هبا نفسها؟‬
‫وهو حمبتك‪ ،‬أم ان حمبتك ال يستعاض عنها ٌ‬

‫(و َم ْن ذا ا َّل ِذي َأنِ َ‬


‫س بِ ُق ْربِ َك َفا ْبتَغى َع ْن َك ِح َو ًال؟)‪.‬‬ ‫َ‬
‫االنس ما يوجب ذهاب الوحشة من النفس‪ ،‬وهو بمعنى السكون واستقرار‬
‫النفس‪ ،‬والقرب هنا يقصد منه القرب املعنوي وليس املكاين؛ ألنه سبحانه وتعاىل‬
‫غري حمدود بمكان‪ .‬واحلول من التحول‪ ،‬وهو االنتقال واحلركة ليكون من حال‬
‫اىل حال‪ ،‬واالبتغاء الطلب‪ ،‬وهنا يقول عليه السالم من الذي يأنس ويسكن إىل‬
‫‪ ................................................................................. 126‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫جوارك القريب الروحي ثم يغادر هذا اجلوار ليطلب مسكنا غريه يأنس به؟ وهو‬
‫استفهام استنكاري واضح من نتيجة الفرض ‪.‬‬
‫اص ْط َف ْي َت ُه لِ ُق ْربِ َك َووال َيتِ َك)‪.‬‬
‫اج َع ْلنا ِم َّم ِن ْ‬
‫(إِل ِهي َف ْ‬
‫ٌ‬
‫جعل تكويني‪ ،‬أي ان يصريه اىل ما يؤهله الكتساب هذا القرب‪،‬‬ ‫اجلعل هنا‬
‫وهنا ليس عىل سبيل االجبار بل عىل سبيل التأهيل واملوافقة‪ ،‬واالصطفاء بمعنى‬
‫االختيار وقد ذكرناه يف موارد عدة سابقة‪ ،‬والقرب هو القرب القلبي ومعناه‬
‫اليقني‪ ،‬والوالية بمعنى السلطنة هنا ‪،‬ومن ثم تدخل الرعية للسلطان حتت سلطنته‬
‫‪ .‬والرعية بالعول حتت سلطة الزوج لزوجته‪ ،‬والرعية بامللك ف ُتدخل اململوك حتت‬
‫رعيته‪ ،‬وواليته تعاىل بمعنى سلطنته بام تشمل عنايته أي ربوبيته تعاىل ليكون ما‬
‫يقابله يف عبوديته داخال‪.‬‬
‫(و َأ ْخ َل ْص َت ُه لِ ِو ِّد ّك َو َم َح َّبتِ َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫اخلصته خلوصا ‪ :‬سلم ونجا‪ ،‬ومنه االخالص الذي ال يشوبه يشء من دونه‬
‫يف الطاعة وغريه يف العبادة‪ ،‬والود بمعنى املودة وهي املحبة اخلالصة‪ ،‬وهنا بمعنى‬
‫استخلصه ملودته وحمبته أي التوفيق الذي يناله العبد من ربه سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫(و َش َّو ْق َت ُه إِلى لِقائِ َك َو َر َّض ْي َت ُه بِ َقضائِ َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫الشوق ‪ :‬ميل النفس اىل اليشء وتعلقها به حبا‪ ،‬واللقاء بمعنى املقابلة والوصول‪،‬‬
‫ولقاؤه تعاىل هو املصري اليه سبحانه وتعاىل والقدوم عليه ‪.‬‬

‫وحني سمع املسلمون ما يرويه النبي صىل اهلل عليه وآله يف لقاء اهلل تعاىل قالوا‬
‫مناجاة املحبني‪127....................................................................................................‬‬

‫‪–:‬يا رسول اهلل انا نكره املوت‪ ،‬فقال ليس ذلك ولكن املؤمن اذا حرضه املوت برش‬
‫برضوان اهلل وكرامته فليس يشء احب اليه بام أمامه فأحب لقاء اهلل وأحب اهلل‬
‫لقاءه‪ ،‬وان الكافر اذا حرض برش بعذاب اهلل فليس يشء اكره اليه مما امامه كره لقاء‬
‫اهلل فكره اهلل لقاءه ‪.‬‬
‫اذن فلقاء اهلل من قبل العبد مبني عىل توفر قناعات العبد بأنه سيلقى من رب‬
‫غفور كريم كل كرامة‪ ،‬مقابل ايامنه ورضاه‪ ،‬فهو منه تعاىل ال عىل سبيل االجبار بل‬
‫عىل نحو التوفيق واملعرفة التي جتعل العبد طائعا قانعا ‪.‬‬
‫ضاك‪َ ،‬و َأ َع ْذ َت ُه ِم ْن َه ْج ِر َك‬
‫(و َمن َْح َت ُه بِال َّن َظ ِر إِلى َو ْج ِه َك َو َح َب ْو َت ُه بِ ِر َ‬
‫َ‬
‫الك)‪.‬‬ ‫َو َق َ‬
‫النظر اىل وجهه تعاىل ال عىل سبيل احلقيقة بل عىل نحو املجاز وهو النظر القلبي‬
‫الذي مرتبته اليقني‪ ،‬وحالته السكينة‪ ،‬وصفته الوقار ‪.‬واحلبوة بمعنى االعطاء بال‬
‫جزاء ؛ كام يف اعطاء الولد الكبري بعض متعلقات والده املتوىف بدون مقابل‪ ،‬ملجرد‬
‫كونه االكرب فهي حبوة ‪.‬‬
‫(و َح َب ْو َت ُه بِ ِر َ‬
‫ضاك)‪.‬‬ ‫َ‬
‫أي اعطيته من رضاك بام ال يقابل ما بذله هو من الطاعة‪ ،‬فكأن املحبو أخذ‬
‫اجلزاء ال ملقابل الطاعة‪ ،‬بل ان هذه الطاعة كاهنا ال يشء مقابل عطائه سبحانه‪ ،‬ال‬
‫ان يعطي دون عمل‪ ،‬بل عمل ال يقاس مع عطائه فيكون كالاليشء ‪.‬‬
‫وأعذته من العوذ‪ ،‬والعياذة بمعنى اللجوء‪ .‬واعتصم أي جلأ واعتصم بك من‬
‫‪ ................................................................................. 128‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫اهلجر وهو الرتك والرفض‪ ،‬فهو يستعيذ به تعاىل من الرفض الذي سببه معصية‬
‫العبد وتقصريه‪ ،‬ويطلب منه القرب حيث عرب عنه عليه السالم بالنظر اىل وجهك‬
‫أي اليقني الذي يمأل قلب املحب حلبيبه ‪.‬‬

‫(و َب َّو ْأ َت ُه َم ْق َع َد ِّ‬


‫الصدْ ِق ِفي ِجوا ِر َك)‪.‬‬ ‫َ‬
‫بوأته أي احللته وتبوأ الدار اذا اختذها مسكنا ‪،‬فربام تستعمل يف املكان املعنوي‬
‫كام يف قول االمام زين العابدين عليه السالم ‪( :‬واجعل يل عندك مقيال آوي اليه‬
‫‪.‬ومقعد الصدق‪ ،‬درجة الصادقني يف جنة النعيم‪،‬‬ ‫(((‬ ‫مطمئنا ومثابة أتبوؤها)‬
‫واملجاورة بمعنى القرب فيكون حتى يف مكان جزائه من اجلنة جماورا له أي قريبا‬
‫اليه‪ ،‬وهي حالة الرضوان التي يستشعرها املؤمن ساعت اذ‪ ،‬وهو الشعور بان اهلل‬
‫تعاىل قد ريض عنه ؛فيزيده احساسا بالراحة واالطمئنان اللذين ال توازهيام درجة‬
‫الل ِ َأ ْكب)(((‬
‫(و ِر ْض َوانٌ ِّم َن ّ َ ُ‬
‫من درجات النعيم‪ ،‬والسعادة لقوله تعاىل َ‬
‫واملثابة؛ بمعنى الــدرجــة واملنزلة‪ ،‬مــأخــوذة من الــثــواب ومنه قوله تعاىل‬
‫ند‪ ‬اللَّ ِ)(((‪.‬‬ ‫( َم ُثو َب ًة ِ‬
‫‪ ‬ع َ‬
‫(و َخ َص ْص َت ُه بِ َم ْعر َفتِ َك َ‬
‫وأ َّه ْل َت ُه لِ ِعبا َدتِ َك)‪.‬‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫خص اليشء من باب خصه خالف العموم فهو خصوص‪ ،‬أي جعل اخلصوصية‬
‫فيه دون غريه‪ ،‬والتأهيل ما يرفع موانع العمل فيكون قابال؛ وهنا بمعنى التوفيق‬

‫(( ( –مصباح الكفعمي ‪.680‬‬


‫(( ( –التوبة ‪72‬‬
‫(( ( –املائدة ‪60‬‬
‫مناجاة املحبني‪129....................................................................................................‬‬

‫ورفع ما حيول بينه وبني الطاعة وما يبعده عن املعصية‪ ،‬وليس هنا من باب االجبار‬
‫بل من باب االستحقاق والتفضل أي استحقاق العبد خللوص نيته وتفضل اهلل له‬
‫من باب جوده وكرمه ‪.‬‬
‫(و َه َّي ْم َت َق ْل َب ُه إلرا َدتِ َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫هام باليشء احبه اىل حد العشق حتى كأنه هييم عىل وجهه من شدة احلب فهو‬
‫هائم‪ ،‬أي جعلت قلبه متعلقا إلرادتك وهي طاعتك ورضاك ‪.‬‬
‫اخ َل ْي َت َو ْج َه ُه َل َك)‪.‬‬
‫شاه َدتِ َك َو ْ‬
‫لم َ‬‫اج َت َب ْي َت ُه ُ‬
‫(و ْ‬
‫َ‬
‫االجتباء بمعنى االختيار كام سبق‪ ،‬واملشاهدة اليقني حتى ان القلب ينظر بعني‬
‫اليقني واملعرفة‪ ،‬وأخليت من باب خىل اذا تركه واخليت بني زيد وعمرو اذا تركته‬
‫بينه وبني عمرو‪ ،‬واخليت وجهه لك‪ ،‬حيث التوجه كله هلل تعاىل أي االقبال اليه‬
‫سبحانه دون غريه ‪ .‬ومعنى ذلك تفرغه هلل وخلو قلبه عن غري طاعته ‪.‬‬
‫(و َف َّر ْغ َت ُفؤا َد ُه لِ ُح ِّب َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫الفراغ من اليشء‪ ،‬أي االنتهاء منه‪ ،‬وهنا بمعنى عدم انشغاله بسواه فقد فرغ قلبه‬
‫حلبه وطاعته‪.‬‬
‫(و َر َّغ ْب َت ُه ِفيما ِع ْن َد َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫رغب يف اليشء اذا سأله وأراده‪ ،‬واذا تعدى بـ(عن) بمعنى كرهه‪ ،‬ويف التشديد‬
‫يتعدى بنفسه كام يف املقام‪ ،‬وهنا رغبت أي جعلته راغبا مريدا وجعلت ارادته فيام‬
‫عندك من الثواب والنعيم‪ ،‬أي وفقته لطاعتك‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 130‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫(و َأ ْل َه ْم َت ُه ِذ ْك َر َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫االهلام ما يلقى يف الروع‪ ،‬يقال ‪ :‬اهلمه اهلل‪ ،‬أي القى يف روعه‪ .‬والذكر يشمل الثناء‬
‫والدعاء والصالة وقراءة القرآن‪ ،‬أي ذكر اهلل يف كل حال ‪،‬بمعنى ان يكون قد القي‬
‫يف روعه ذكره تعاىل‪ ،‬والذكر اعم من اللساين والقلبي‪ ،‬وارشفهام الثاين‪ ،‬والقلبي‬
‫ما يكون مودعا وما يكون مستقرا وارشفهام الثاين‪ ،‬الن االستقرار يف القلب يعني‬
‫اندكاكه بحرضة قدسه‪ ،‬وهو يف عامل امللكوت يطوف بمعرفته حول جالل قدسه‪.‬‬
‫(و َأ ْو َز ْع َت ُه ُش ْك َر َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫أي اهلمه شكره بولع وتعلق ال ينحط يف حلظة من حلظات وهنه‪ ،‬او حالة من‬
‫حاالت ضعفه‪ ،‬فهو شاكر له يف كل حال وعىل أي حال‪ ،‬وهو من قوله تعاىل‪:‬‬
‫(ر ِّب َأ ْو ِز ْعنِي َأنْ َأ ْش ُك َر نِ ْع َمت ََك ا َّلتِي َأن َْع ْم َت َع َ َّ‬
‫ل)(((‪.‬‬ ‫َ‬
‫طاعتِ َك)‪.‬‬
‫(و َش َغ ْل َت ُه بِ َ‬
‫َ‬
‫حيث ال شغل سوى ذكره وعبوديته له سبحانه ‪.‬‬
‫(و َص َّي ْر َت ُه ِم ْن صالِ ِحي َب ِر َّيتِ َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫وصيه موفقا بام جعل فيه من اسباب التوفيق‪ ،‬ورفع عنه‬
‫ّ‬ ‫التصيري بمعنى اجلعل‪،‬‬
‫موانع ما خيالف ذلك‪ ،‬وصاحلي بريته أي من احسنهم‪ ،‬حيث هم من اصلحتهم‬
‫طاعتهم ومل تفسدهم ذنوهبم ‪.‬‬

‫(( ( –النمل ‪،19‬االحقاف ‪15‬‬


‫مناجاة املحبني‪131....................................................................................................‬‬

‫اخت َْر َت ُه لِ ُمناجاتِ َك)‪.‬‬


‫(و ْ‬
‫َ‬
‫املناجاة املسارة‪ ،‬أي احلديث رسا ‪،‬وهنا الدعاء رسا بينه وبني ربه‪ ،‬كأن خيلو بربه‬
‫فيناجيه ويبث له مهه وشكواه‪ ،‬بل حزنه وحبه له‪.‬واالختيار هو االصطفاء بتوفيق‪،‬‬
‫الن توفيق الطاعة ال يكون اال منه تعاىل‪ ،‬وأعظمها ان يتفرغ بقلبه اليه ويتوجه‬
‫بنفسه يف سبيله‪.‬‬
‫يء َي ْق َط ُع ُه َع ْن َك)‪.‬‬
‫(و َق َط ْع َت َع ْن ُه ُك َّل َش ٍ‬
‫َ‬
‫حيث تفرغ لك دون غريك‪ ،‬وهو التوفيق الذي يناله العبد عند توجهه لسيده‪،‬‬
‫فإذا انشغل قلبه بدنياه انشغل عن ذكره ملواله‪ ،‬واالنقطاع املتعدي بالالم بمعنى‬
‫توجهه له وقربه اليه‪ ،‬وإذا تعدى ب(عن) يعني ابتعد عنه‪.‬‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ياح إِ َل ْي َك َو َ‬
‫الحنِ ُ‬ ‫اج َع ْلنا ِم َّم ْن َد ْأ ُب ُه ُم ْ‬
‫االرتِ ُ‬ ‫(ال ّل ُه َّم ْ‬
‫فإذا اوحشتهم الدنيا مل يأنسوا إال بذكرك‪ ،‬وإذا ابتعدوا عنك مل يرتاحوا إال بك‪،‬‬
‫وإذا تركتهم حنوا اليك‪ ،‬فال راحة إال عندك ألهنم مل جيدوا إال الرمحة والكرامة‪،‬‬
‫والدأب بمعنى العادة والطريقة‪.‬‬
‫ين)‪.‬‬ ‫الز ْف َر ُة َو َ‬
‫االنِ ُ‬ ‫(و َد ْه ُر ُه ُم َّ‬
‫َ‬
‫الزفري الصوت الذي خيرج مع النفس بشدة‪ ،‬ولذا عرب عن جهنم بان هلا زفري قال‬
‫تعاىل (‏إِ َذا َر َأ ْ ُتم ِّمن َّم َك ٍ‬
‫ان َب ِع ٍ‬
‫يد َس ِم ُعوا َ َلا َت َغ ُّيظ ًا َو َز ِفري ًا)((( وهو الصوت املحتبس‬
‫يف الصدر ملكروه ورد عىل نفسه‪.‬واألنني الصوت الذي خيرج عند املكروه اذا احاط‬

‫(( ( –الفرقان‪.12‬‬
‫‪ ................................................................................. 132‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫به‪ ،‬وهنا وصف للجزع الذي يصيب املحب عند شوقه حلبيبه فال يذكره إال بالزفرة‬
‫وعب بالدهر‬
‫واألنة‪ ،‬وهو اشارة اىل شوق املحب العارف اىل حبيبه؛ ربه ورامحه‪َّ ،‬‬
‫عند قوله (ودهرهم) أي طول دهرهم وهو كل حالة عيشهم ووجودهم ‪.‬‬
‫ساج َد ٌة لِ َع َظ َمتِ َك َو ُع ُيو ُن ُه ْم ِ‬
‫ساه َر ٌة ِفي ِخدْ َمتِ َك)‪.‬‬ ‫باه ُه ْم ِ‬
‫(ج ُ‬‫ِ‬
‫هذا حال املحبني الذين ال يرتاحون إال لذكر رهبم ‪،‬حيث جباههم وقلوهبم يف‬
‫طاعته‪ ،‬اذ السجود يعني االنصياع اىل عظمته‪ ،‬وقلوهبم يف حال االنشغال بذكره‪،‬‬
‫فلم تنفصل حالة سجودهم عن حالة خشوعهم‪.‬‬
‫وع ُه ْم سائِ َل ٌة ِم ْن َخ ْش َيتِ َك َو ُق ُلو ُب ُه ْم ُمت ََع ِّل َق ٌة بِ َم َح َّبتِ َك)‪.‬‬
‫(و ُد ُم ُ‬
‫َ‬
‫هذه العالقة بني العني والقلب تكشف عن وحدة املوضوع االرتباطي بعامل‬
‫املعرفة‪ ،‬اذ االنفصال بني عضو عن عضو ٌ‬
‫دليل عىل عدم الرتابط الروحي بني‬
‫االعضاء وكأن كل عضو مشغول عن حال العضو اآلخر‪ ،‬وهو اشارة اىل انشغال‬
‫ٍ‬
‫قضية‬ ‫القلب الذي جيمع بني االعضاء ويبعدها عن التشتت واالفرتاق لتتحد يف‬
‫واحدة‪ ،‬فالعني تدمع والقلب خيشع متعلقا بمحبته ال ان يكون بكاؤه فارغا عن‬
‫معرفته‪ ،‬وهذا االرتباط بني العني والقلب‪ ،‬اشارة لرتابط اعضائه فيام بينها يف املعرفة‬
‫والتوجه حيث يتوجه بجوارحه وجوانحه ال منفصال‪ ،‬وال ذاكرا ساهيا‪ ،‬او باكيا‬
‫منشغال ‪.‬‬
‫(و َأ ْفئِ َد ُت ُه ْم ُم ْن َخ ِل َع ٌة ِم ْن َمها َبتِ َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫انخلع أي زال عن مكانه‪ ،‬والفؤاد القلب‪ ،‬واهليبة حالة االجالل التي حتدثها‬
‫مناجاة املحبني‪133....................................................................................................‬‬

‫خمافتها فتحرك فيها دواعي الفزع‪ ،‬لذا فان أفئدهتم تنخلع من هيبة ذكره وعظيم‬
‫جالله‪ ،‬سبحانه ما اشد ذكره عىل نفوس عارفيه‪ ،‬واعظم امره عىل قلوب مريديه!‬

‫(يا َم ْن َأ ْن ُ‬
‫وار ُقدْ ِس ِه َال ْبصا ِر ُم ِح ِّب ِ‬
‫يه رائِ َق ٌة)‪.‬‬
‫القدس بمعنى الطهارة‪ ،‬واألنوار مجع نور وهي ما تنكشف به االشياء‪ ،‬وهنا‬
‫بمعنى اهلداية والعلم حيث تنكشف به ظلامت الباطل‪ ،‬أي واضحة من صفائها‬
‫الن الرائق الصايف الذي ال خيالطه يشء‪ ،‬ولشدة صفائه فهو واضح جيل‪ ،‬وملا كانت‬
‫هدايته واضحة املعامل ال يشوهبا يشء فقد كانت رائقة لكن ملن يصل اىل حالة املعرفة‬
‫وهي املحبة والتعلق به‪ ،‬شوقا وتعلقا‪.‬‬
‫يه شائِ َف ٌة)‪.‬‬
‫وب عا ِر ِف ِ‬
‫حات َو ْج ِه ِه لِ ُق ُل ِ‬
‫(و ُس ْب ُ‬
‫َ‬
‫سبحات وجهه أي تقديسه وتنزهيه‪ ،‬والتشوف طموح البرص وهنا تستعمل يف‬
‫تعلق اآلمال وطلبها‪ ،‬وكل ما من شأنه يشري إىل تقديسه وتنزهيه‪ ،‬يطمح به املحب‬
‫اىل الوصول اليه وهو قربه وجماورته‪ ،‬وذلك من خالل اليقني الذي يمأل قلب‬
‫املحب الن حبه منشأه اخالصه له تعاىل‪.‬‬
‫ين)‪.‬‬ ‫الم ْش ِ‬
‫تاق َ‬ ‫وب ُ‬‫(يامنى ُق ُل ِ‬
‫ُ‬
‫املنى مجع امنية وهي الرغبة التي جيدها االنسان يف نفسه‪ ،‬والشوق حالة وجدانية‬
‫تبعث عىل التعلق واإلرادة‪ ،‬فحبه تعاىل هو أمنية الشائق اىل قربه وتعلقه بحبه‪.‬‬
‫آمال ا ُمل ِح ِّب َ‬
‫ني)‪.‬‬ ‫(وياغا َي َة ِ‬
‫َ‬
‫الغاية اهلدف الذي يسعى من اجله للوصول اىل النتيجة‪ ،‬وآمال املحبني اقىص‬
‫‪ ................................................................................. 134‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫غاياهتا الوصول اليه حيث ال تعلق بيشء كام يتعلق املحب بحرضة اجلالل‪ ،‬فان اهل‬
‫الدنيا تتعدد غاياهتم وتتشتت اراداهتم لغاية الوصول اىل اهدافهم‪ ،‬لكن املحب بعد‬
‫ان فرغ قلبه عن حب الدنيا تعلق بحبه تعاىل‪.‬‬
‫(أ ْس َأ ُل َك ُح َّب َك َو ُح َّب َم ْن ُي ِح ُّب َك)‪.‬‬
‫َ‬

‫ال يتحدد هدف املحب بحبه تعاىل‪ ،‬بل يكون ذلك سببا حلب من حيب‪ ،‬وهذا‬
‫أجىل مصاديق احلب احلقيقي؛ فان احلب ال يكون حبا ما مل حيب اآلخرين ألجل‬
‫حبيبه‪ ،‬وهي مالزمة نفسية جيدها اهل العشق حينام تتعلق اراوحهم بمن حيبون‬
‫حلب املحبني ألجله‪ ،‬وهي غاية رشيفة ال جيدها اال من تعلق بحبه تعاىل‪.‬‬
‫وص ُلنِي إِلى ُق ْربِ َك)‪.‬‬
‫(و ُح َّب ُك ِّل َع َملٍ ُي ِ‬
‫َ‬
‫اذن مالزمة احلب له تعاىل بثالثة حلاظات االول حبه تعاىل ليتفرع منه ثانيا حب‬
‫من حيبه سبحانه وتالزمه حب العمل املوصل اىل حبه تعاىل وهذا الثالثي نفيس‬
‫رصف وعميل كذلك اذ النفس جتول بني حب احلبيب وبني حب ما حيبه احلبيب‬
‫لتكتمل عالقة احلب احلقيقي بينهام ‪.‬‬
‫(و َأنْ َت ْج َع َل َك َأ َح َّب إِ َل َّي ِم َّما ِس َ‬
‫واك)‪.‬‬ ‫َ‬
‫وهذا غاية احلب بعد ان يفرغ كل قلبه عن حب غريه؛ ليكون ما سواه غري منظور‬
‫له بل جل تعلقه بحبه تعاىل‪.‬‬
‫(و َأنْ َت ْج َع َل ُح ِّبي إِ ّي َ‬
‫اك قائِد ًا إِلى ِر ْضوانِ َك)‪.‬‬ ‫َ‬
‫فحصيلة احلب البد ان يتوجها عمل يقاد من خالله لرضا حمبوبه‪ ،‬فاحلب بدون‬
‫مناجاة املحبني‪135....................................................................................................‬‬

‫عمل؛ انقطاع عن حقيقة احلب التي يفرضها يف الوصول اىل رضا حبيبه‪ ،‬وكام قيل‬
‫أحب مطيع((( وهذا اثر نفيس مالزم حلقيقة احلب وجدانا‪.‬‬
‫ان املحب ملن َّ‬
‫(و َش ْو ِقي إِ َل ْي َك ذائِد ًا َع ْن ِع ْصيانِ َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫الذود الطرد او املنع والدفع‪ ،‬والشوق حالة نفسانية تتعلق بأمر تسعى اىل‬
‫حتقيقه‪ ،‬فكام ان حبي لك يا رب يقودين اىل رضاك‪ ،‬فاجعل حبي هذا سببا يف منعي‬
‫عن سخطك وعصيانك‪ ،‬وهو أمر تالزمي عقيل‪ ،‬فضال عن كونه تالزمي طبيعي‬
‫بل وعريف كذلك‪.‬‬
‫(وا ْمن ُُن بِال َّن َظ ِر إِ َل ْي َك َع َل َّي)‪.‬‬
‫َ‬
‫املن النعمة الثقيلة العظيمة‪ ،‬وهل اعظم من نظره تعاىل اىل عبده حيث ترتى‬
‫نعمه ورمحته وعطاؤه؟‬
‫الي)‪.‬‬
‫ف َّ‬‫الع ْط ِ‬ ‫(وا ْن ُظ ْر بِ َع ْي ِن ُ‬
‫الو ِّد َو َ‬ ‫َ‬
‫نظره تعاىل رمحته لتنزهه عن اجلسمية‪ ،‬والعطف بمعنى الشفقة والتحنن‪ ،‬فنظره‬
‫اىل عبده يغدق عليه رمحته دون انقطاع‪ ،‬وكرمه دون توقف‪ ،‬وعطاءه دون نضوب‪.‬‬
‫(وال َت ْص ِر ْف َعنِّي َو ْج َه َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫انرصاف الوجه بمعنى انرصاف رمحته عن عباده‪ ،‬وهذا اشد ما يكون عليه العبد‬
‫من اخليبة واخلرسان‪ ،‬حيث تنقطع موارد الرمحة وتنضب اسباب العطاء‪ ،‬فيكون‬
‫مرصوفا عن التوفيق‪ ،‬ومطرودا عن العناية‪.‬‬

‫(( ( –بحار االنوار ‪174/75‬‬


‫‪ ................................................................................. 136‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫الح ْظ َو ِة ِع ْن َد َك)‪.‬‬
‫عاد َو ُ‬ ‫اج َع ْلنِي ِم ْن َأ ْهلِ ْ‬
‫اإلس ِ‬ ‫(و ْ‬
‫َ‬
‫االسعاد من السعادة‪ ،‬وهو بحكم املفعول املطلق‪ ،‬جاء للتأكيد عىل السعادة‬
‫والرعاية‪ .‬واحلظوة بمعنى الدرجة واملنزلة‪ ،‬مأخوذ من احلظ وهو النصيب‪ ،‬بمعنى‬
‫ان يكون من السعداء بمحبته‪ ،‬واهل املنزلة والرفعة عنده‪.‬‬
‫ني)‬ ‫ارحم ِ‬
‫الراح َ‬ ‫َ‬ ‫يب يا‬
‫م ُ‬‫(يا ُ ِ‬
‫ثم خيتم دعاءه بصفة املجيب حتريا لإلجابة‪ ،‬وتلمسا للكرم واالستزادة؛ فانه‬
‫ارحم الرامحني ‪.‬‬
‫المناجاة العاشرة‪:‬‬
‫مناجاة المتوسلين‬
‫ْم الله الرَّحْم ِن الرَّح ِ‬
‫ِيم‬ ‫بِس ِ‬
‫واط ُف َر ْأ َفتِ َك َوال ِل َذ ِر َيع ٌة إِ َل ْي َك إِ ّال َعوا ِر ُف‬
‫س ِل َو ِس َيل ٌة إِ َل ْي َك إِ ّال َع ِ‬
‫( إِهلِي َل ْي َ‬
‫الغ َّم ِة‪ْ ،‬‬
‫فاج َع ْل ُهام ِل َس َببا إِىل َن ْيلِ‬ ‫الر ْح َِة َو ُم ْن ِق ِذ ا ُال َّم ِة ِم َن ُ‬ ‫َر ْحَتِ َك َو َش َ‬
‫فاع ُة َنبِ ِّي َك َنبِ ِّي َّ‬
‫ي ُها ِل ُو ْص َل ًة إِىل ال َف ْو ِز بِ ِر ْضوانِ َك‪َ ،‬و َقدْ َح َّل َرجائِي بِ َح َر ِم َك َر ِم َك‬ ‫ُغ ْفرانِ َك َو َص ِّ ْ‬
‫اج َع ْلنِي ِم ْن‬ ‫ي َع َم ِل َو ْ‬ ‫اخل ْ ِ‬ ‫يك َأ َم ِل َو ْ‬
‫اختِ ْم بِ َ‬ ‫ود َك َف َح ِّققْ ِف َ‬ ‫ناء ُج ِ‬ ‫َو َح َّط َط َم ِعي بِ َف ِ‬

‫دار َكرا َمتِ َك َو َأ ْق َر ْر َت َأ ْع ُين َُه ْم‬ ‫ين َأ ْح َل ْلت َُه ْم ُب ْح ُب َ‬


‫وح َة َج َّنتِ َك َو َب َو ْأ َ ُت ْم َ‬ ‫َص ْف َوتِ َك ا َّل ِذ َ‬
‫ِ‬
‫الوافدُ ونَ‬ ‫الصدْ ِق ِف ِجوا ِر َك ؛ يا َم ْن ال َي ِفدُ‬ ‫بِال َّن َظ ِر إِ َل ْي َك َي ْو َم لِقائِ َك َو َأ ْو َر ْثت َُه ْم َمنا ِز َل ِّ‬
‫ي َم ْن َخال بِ ِه َو ِحيدٌ َويا َأ ْع َط َف َم ْن‬ ‫القاصدُ ونَ َأ ْر َح َم ِم ْن ُه َ‬
‫ياخ ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫َعىل َأ ْك َر َم ِم ْن ُه ؛ َوال َ ِ‬
‫يدُ‬
‫آوى إِ َل ْي ِه َطرِيدٌ ؛ إِىل َس َع ِة َع ْف ِو َك َم َد ْد ُت َي ِدي َوبِ َذ ْيلِ َك َر ِم َك َأ ْع َل ْق ُت َك ِّفي‪َ ،‬فال ُتولِنِي‬
‫الر ِ ِ‬
‫اح َ‬
‫ني)‪.‬‬ ‫يع الدُّ ِ َ‬
‫ياس ِم َ‬ ‫اخل ْس ِ‬ ‫احل ْرمانَ َوال َت ْب ِلنِي بِ َ‬
‫اخل ْي َب ِة َو ُ‬ ‫ِ‬
‫عاء ياأ ْر َح َم َّ‬ ‫ان َ‬

‫‪137‬‬
‫مناجاة املتوسلني‪139..................................................................................................‬‬

‫شرح الفقرات المباركة‪:‬‬


‫مناجاة المتوسلين‬
‫هذه هي مناجاة املتوسلني‪ ،‬والتوسل بمعنى الوسيلة‪ ،‬وهي ما يتوسل به اىل‬
‫اليشء برغبة ‪ .‬قال الراغب ‪ :‬وحقيقة الوسيلة اىل اهلل تعاىل مراعاة سبيله بالعلم‬
‫والعبادة وحتري مكارم الرشيعة((( والتوسل بمعناه االصطالحي ‪ :‬التقرب اىل اهلل‬
‫تعاىل بطاعته وكل ما يرضيه‪ ،‬ومن هنا وجدت االمامية ان افضل القربة اىل اهلل تعاىل‬
‫هو التوسل بأحب اخللق اليه‪،‬وأقرهبم عنده وهم النبي واهل بيته عليهم السالم‪،‬‬
‫وهم افضل الوسائل اىل اهلل تعاىل‪.‬‬
‫ويبدأ االمام زين العابدين عليه السالم مناجاته بقوله ‪:‬‬
‫واط ُف َر ْأ َفتِ َك)‪.‬‬
‫س لِي َو ِس َيل ٌة إِ َل ْي َك إِ ّال َع ِ‬
‫( إِل ِهي َل ْي َ‬
‫اهلي ‪ :‬االله بمعنى املعبود وهو اهلل سبحانه وتعاىل ثم استعاره املرشكون ملا عبدوه‬
‫دون اهلل تعاىل واجلمع آهلة ‪ ...‬وعواطف مجع عاطفة وهي مصدر من عطفت اليشء‬
‫عطفا من باب رضب‪ ،‬ثنيته وأملته كعطف احلبل والغصن ثم استعري للشفقة اذا‬
‫عدي بعىل فيقال ‪ :‬عطفت الناقة عىل ولدها ‪ :‬اذا حنت واشفقت عليه وعطف اهلل‬
‫قلبك عيل ‪ :‬جعله عاطفا عيل أي مشفقا ‪.‬‬
‫رأفتك ‪ :‬من الرأفة وهي أقوى يف الكيفية من الرمحة؛ ألهنا عبارة عن ايصال النعم‬
‫الصافية عن اآلالم‪ ،‬والرمحة ايصال النعمة مطلقا وقد تكون مع األمل كالرضب‬

‫(( ( –املفردات‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 140‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫وف بِا ْل ِع َب ِ‬
‫اد)((( وعىل هذا فالرأفة اخص من الرمحة ‪.‬‬ ‫(و ّ ُ‬
‫الل َر ُؤ ٌ‬ ‫للتأديب قال تعاىل َ‬
‫وهبذا فان االمام زين العابدين عليه السالم يف هذا املقطع جيعل الوسيلة اليه‬
‫عواطف الرأفة االهلية غري املنقطعة عن عباده سبحانه‪ ،‬وما اعظمه من توسل‬
‫وتقرب اليه‪ ،‬وال ينايف هذا احلث عىل التوسل بأهل البيت عليهم السالم؛ فأهنم‬
‫مظاهر الرأفة‪ ،‬وجتليات الرمحة الربوبية ‪،‬وقد قال بعضهم ‪ :‬ان رأفته تعاىل ارسال‬
‫النبيني للبرش هلدايتهم اىل طريق رضاه ودليل طاعته‪ ،‬وليبعدوهم عن اسباب‬
‫معصيته‪ ،‬وائمة اهل البيت عليهم السالم هلم ما للنبيني من عظيم اهلداية واسباب‬
‫الطاعة ‪.‬‬
‫(وال لِي َذ ِر َيع ٌة إِ َل ْي َك إِ ّال َعوا ِر ُف َر ْح َمتِ َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫الذريعة ‪ :‬الوسيلة واجلمع الذرائع‪ ،‬وعوارف بمعنى املعرفة وهي مجعها‪ ،‬كام يف‬
‫عوامل مجع عامل فجمعها بالواو متعارف ‪.‬‬
‫الر ْح َم ِة)‪.‬‬
‫فاع ُة َنبِ ِّي َك َنبِ ِّي َّ‬
‫(و َش َ‬
‫َ‬
‫الشفاعة طلب التجاوز عن الذنب‪ ،‬وهل حيتاج املعصوم اىل شفاعة النبي صىل‬
‫اهلل عليه وآله مع انه منزه عن الذنب ؟ الظاهر ان الشفاعة املقصودة للمعصومني‬
‫عليهم السالم هي زيادة الدرجات؛ الن عطاءه سبحانه ال ينضب وال ينتهي عند‬
‫حد‪ ،‬كام ان احتياج الشفاعة وسؤال املعصوم هلا اشارة اىل الفاقة والعبودية هلل تعاىل‬
‫وعدم االستقالل عنه‪ ،‬بل املعصوم من اشد الناس عبودية هلل تعاىل وافقرهم اليه‪،‬‬

‫(( ( –ال عمران ‪.30‬‬


‫مناجاة املتوسلني‪141..................................................................................................‬‬

‫واعظمهم حاجة اىل رمحته؛ ذلك ملعرفته باهلل تعاىل الذي ال حميص للعارف من‬
‫انكشاف فقره هلل تعاىل ومعرفة غناه سبحانه عن املخلوقني ‪.‬‬
‫الغ َّم ِة)‪.‬‬
‫(و ُم ْن ِق ِذ ا ُال َّم ِة ِم َن ُ‬
‫َ‬
‫وهو تعريف للنبي صىل اهلل عليه وآله‪ ،‬ووصف ألحواله وحاالته‪ ،‬فهو املنقذ‬
‫من الضالل واملنجي من اهللكة‪ ،‬والغمة هي دياجري جاهلية الرشك والضالل ‪.‬‬
‫(فاج َع ْل ُهما لِي َس َببا إِلى َن ْيلِ ُغ ْفرانِ َك)‪.‬‬
‫ْ‬
‫ضمري التثنية يعود اىل الرمحة والشفاعة‪ ،‬وهي رمحته تعاىل وشفاعته أي شفاعة‬
‫النبي صىل اهلل عليه وآله‪ ،‬واقترص عليه السالم عىل ذكر الرمحة دون الرأفة‪ ،‬كون‬
‫الرمحة اعم من الرأفة‪ ،‬وجعلهام اىل نيل مغفرته تعاىل هو ما يسعى اليه أي مؤمن الن‬
‫يف ذلك خالص النفس من كوامن اخلطر وتوفيقها اىل اسباب السعادة ‪.‬‬
‫(و َص ِّي ْر ُهما لِي ُو ْص َل ًة إِلى ال َف ْو ِز بِ ِر ْضوانِ َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫وهي عبارة تؤكد سابقتها من نيل املغفرة التي تؤول اىل الفوز برضاه تعاىل‪،‬‬
‫والوصلة ‪ :‬ما يتوصل به اىل اليشء‪.‬‬
‫(و َقدْ َح َّل َرجائِي بِ َح َر ِم َك َر ِم َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫الرجاء ضد اليأس‪ ،‬فهو أوىل من رجاه؛ لسعة كرمه‪ ،‬وعظيم عطاياه؛ لقوله عليه‬
‫السالم (يا من ارجوه لكل خري وآمن سخطه عند كل رش)((( ‪.‬‬
‫فالعطاء الذي حيتمله كرمه يفوق كل حد اذ مل يتصوره عقل‪ ،‬وال حيتويه فكر‪،‬وال‬

‫(( ( –االقبال‪،‬دعوات اخر يف غرة شهر رجب ‪211/3‬‬


‫‪ ................................................................................. 142‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫حيده حد‪ ،‬فان كرمه يتناسب مع عطائه‪ ،‬وعطاؤه يشري اىل قدرته‪ ،‬وقدرته تعني‬
‫ارادته‪ ،‬وإرادته ال تنقطع عند امر‪ ،‬فان امره كن فيكون فسبحانه ما اعزه وأعظمه‪،‬‬
‫واحلرم الفناء املنتسب اليه الشخص او اليشء كحرم مكة وحرم املدينة منسوبتان‬
‫اليهام‪ ،‬وحرم كرمه تعاىل هو كل ما يتصل بكرمه وما يكون فناءه وعطاءه تعاىل ‪.‬‬
‫ود َك)‪.‬‬ ‫(و َح َّط َط َم ِعي بِ َف ِ‬
‫ناء ُج ِ‬ ‫َ‬
‫حط أي نزل‪ ،‬والفناء باحة املكان‪ ،‬وقد مثل عليه السالم طمعه بالدابة التي‬
‫يرحل عليها فيصل اىل غايته‪ ،‬وهي جوده ولكن الراحل ال حيط رحله ودابته اال‬
‫يف فناء الضيافة‪ ،‬والوصول اىل فناء جوده ‪،‬وهو ما حيرص عليه لتحقيق مبتغاه‪ ،‬ومل‬
‫يقل اىل جوده النه ال يطيقه بل يتحقق مراده بالسعي للوصول اىل فناء جوده‪.‬‬
‫يك َأ َم ِلي)‪.‬‬
‫( َف َح ِّققْ ِف َ‬
‫بام ارجوه عند طمعي بعطائك ومغفرتك‪.‬‬
‫الخ ْي ِر َع َم ِلي)‪.‬‬
‫اختِ ْم بِ َ‬
‫(و ْ‬
‫َ‬
‫فان االمور بخواتيمها‪ ،‬أي اجعل عاقبتي خريا‪ ،‬فان االنسان ال يدرك مناه اال بام‬
‫خيتم فيه أمر عاقبته وقد ورد عنهم عليه السالم (اجعل عواقب امورنا خريا )(((فان‬
‫التفكر يف عاقبة االنسان لنهاية أمره يردعه عن الكرب والعجب بام يفعله‪ ،‬النه ال‬
‫يعلم ما تؤول اليه اموره‪ ،‬وما تنتهي اليه عواقبه ‪.‬‬

‫(( ( –موسوعة اهل البيت ‪،‬باب العني‪،‬العاقبة‪29/7،‬‬


‫مناجاة املتوسلني‪143..................................................................................................‬‬

‫ين َأ ْح َل ْلت َُه ْم ُب ْح ُب َ‬


‫وح َة َج َّنتِ َك)‪.‬‬ ‫اج َع ْلنِي ِم ْن َص ْف َوتِ َك ا َّل ِذ َ‬
‫(و ْ‬
‫َ‬
‫صفوة اليشء خريته التي ال يشوهبا يشء‪ ،‬والبحبوحة من كل يشء هو وسطه‬
‫وخريته‪ ،‬وبحبوحته جنته هو ما اختاره خلرية اوليائه‪ ،‬ويمكن ان يكون اشارة اىل‬
‫مرافقة اوليائه عليهم السالم‪ ،‬الن احلث عىل ان يكون مرافقا الئمة اهل البيت‬
‫عليهم السالم يف منازهلم من االمور التي حثت عليها االدعية واكدهتا الروايات‪.‬‬

‫(و َب َو ْأ َت ُه ْم َ‬
‫دار َكرا َمتِ َك)‪.‬‬ ‫َ‬
‫وبوأهتم الضمري يعود اىل الصفوة الذين احلهم بحبوحة جنته ‪،‬بمعنى الذين‬
‫الص ِ َ‬
‫ال ِ‬
‫ات‬ ‫انزلتهم دار الكرامة وهي جنته لقوله تعاىل ( َوا َّل ِذ َ‬
‫ين آ َمنُوا َو َع ِم ُلوا َّ‬
‫َل ُن َب ِّو َئ َّن ُهم ِّم َن ْ َ‬
‫ال َّن ِة ُغ َرف ًا)(((‪.‬‬
‫(و َأ ْق َر ْر َت َأ ْع ُين َُه ْم بِال َّن َظ ِر إِ َل ْي َك َي ْو َم لِقائِ َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫اقر اهلل عينه صفة لالستقرار واالطمئنان حلدوث امر يسعده ويرحيه؛الن الذي‬
‫ينتظر أمرا مل يتحقق بعد‪ ،‬تكون عينه غري مستقرة‪ ،‬وهي كناية عن القلق الذي‬
‫ساوره‪ ،‬واخلوف الذي يعرتيه‪ ،‬وقرار العني كناية عن حتقيق مطلبه ومبتغاه‪ ،‬والنظر‬
‫(و ُجو ٌه َي ْو َمئِ ٍذ َّن ِ َ‬
‫اض ٌة‪،‬‬ ‫اليه اشارة اىل بلوغهم دار الكرامة وهي اجلنة لقوله تعاىل ُ‬
‫اظ َر ٌة)(((‪.‬‬‫إِ َل َر ِّ َبا َن ِ‬
‫(و َأ ْو َر ْثت َُه ْم َمنا ِز َل ِّ‬
‫الصدْ ِق ِفي ِجوا ِر َك)‪.‬‬ ‫َ‬
‫أي جعلت استحقاقهم منازل الصدق؛ الن الوراثة هي جعل استحقاق اليشء‬
‫(( ( –العنكبوت ‪.58‬‬
‫(( ( –القيامة ‪23-22‬‬
‫‪ ................................................................................. 144‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫للوارث؛ فهو احق به ممن سواه‪.‬ومنازل الصدق‪ ،‬أي مواضع االستحقاق؛ ونسبة‬
‫املنزل اىل الصدق تأكيد عىل استحقاق املوصوف ملوضع الصفة ؛وذلك للتأكيد عىل‬
‫الرتابط بني الصفة واملوصوف وفيه داللة عىل املبالغة يف االستحقاق كام يف قوهلم‬
‫وقعة شجاعة‪ ،‬وامللتفت اليه الشجاع الذي اتصف بالشجاعة فكان املوصوف‬
‫مندكا بصفته‪ ،‬منهمكا يف خصوصياته‪ ،‬وجماورته ملنازل الصدق هي املجاورة‬
‫املجازية وليست احلقيقية لعدم حده سبحانه وتعاىل يف مكان‪ ،‬وظاهره القرب؛ الن‬
‫اجلوار يدل عىل قرب املجاور؛ وبالتايل اشارة اىل رضاه سبحانه وعظيم ثوابه‪.‬‬
‫الوافدُ ونَ َعلى َأ ْك َر َم ِم ْن ُه )‪.‬‬
‫ِ‬ ‫(يا َم ْن ال َي ِفدُ‬
‫الوفود بمعنى الورود‪ ،‬وفد فالن عىل فالن ورد اليه حلاجة‪ ،‬فان الوافد ال يكون‬
‫اال حلاجة يرجوها لدى املوفود اليه‪ ،‬والبد ان يكون مستطيعا قضائها‪ ،‬قادرا عىل‬
‫اتياهنا‪ ،‬كريام يف وفائها‪ ،‬واملوفود اليه هنا اكرم ٍ‬
‫معط والوافد افقر سائل ‪.‬‬
‫القاصدُ ونَ َأ ْر َح َم ِم ْن ُه)‪.‬‬
‫ِ‬ ‫(وال َي ِجدُ‬
‫َ‬
‫القاصد اخص من الوافد؛ الن الوافد ربام ال يكون طالبا او حمتاجا للموفود اليه؛‬
‫فهو اعم؛ وفد اليه حلاجة او لعدمها‪ ،‬والقاصد اخص منه؛ النه ال يقصد إال حلاجة‬
‫فهو طالب حمتاج‪ ،‬واهلل ارحم من ُقصد‪.‬‬
‫(ياخ ْي َر َم ْن َخال بِ ِه َو ِح ٌيد)‪.‬‬
‫َ‬
‫اخللوة بمعنى االنفراد اذا انفرد به واختىل‪ ،‬ورشطها ان يكون واحدا بمن خيتىل‪،‬‬
‫به فال يقال للجامعة انه اختىل هبم إال جمازا‪ ،‬بمعنى انفرد هبم دون غريهم‪ ،‬ويكون‬
‫مناجاة املتوسلني‪145..................................................................................................‬‬

‫وعب عليه السالم بالوحيد للتأكيد عىل‬


‫للمختيل صفة االختالء اذا انفرد وحده‪َّ ،‬‬
‫ان املختيل وحيد ومنقطع عن غريه‪ ،‬وتعبري الوحدة لالفتقار اىل من خيتيل به‪ ،‬فهو‬
‫سبحانه خري انيس ملن يكون وحيدا منقطعا عمن سواه‪ ،‬ومعلوم ان االختالء انس‬
‫وراحة وطمأنينة‪ ،‬فهل آنس منه تعاىل ملن كان وحيدا انقطعت به كل السبل إال‬
‫سبيله ؟ ‪.‬‬
‫(ويا َأ ْع َط َف َم ْن آوى إِ َل ْي ِه َط ِر ٌيد)‪.‬‬
‫َ‬
‫مناسبة صفة العطف للطريد مناسبة املحتاج واملحتاج اليه‪ ،‬واإليواء بمعنى‬
‫النزول والقرب اليه ليجد مأمنه‪ .‬والتعبري بالطريد أي املنقطع عن كل وسيلة فهو‬
‫طريد ؛وفيه اشارة اىل الضعف واحلاجة؛ فهو سبحانه عطوف عىل كل من يأوي‬
‫اليه ويؤول له‪.‬‬
‫(إِلى َس َع ِة َع ْف ِو َك َم َد ْد ُت َي ِدي)‪.‬‬
‫الن اليد مبسوطة مرة باألخذ فيام لو اردت وصف املعطي بكرمه‪ ،‬ومرة بالعطاء‬
‫عند وصف صاحب اليد نفسه بالكرم‪ ،‬وهنا اشارة اىل حاجة اليد لألخذ من واسع‬
‫العطاء‪ ،‬وسعة العفو تستلزم الرمحة غري املنقطعة‪.‬‬
‫(وبِ َذ ْيلِ َك َر ِم َك َأ ْع َل ْق ُت َك ِّفي)‪.‬‬
‫َ‬
‫ذيل الثوب‪ :‬طرفه‪ ،‬وذيل كل يشء طرفه‪ ،‬وكناية الكرم بالرداء يستدعي صفة‬
‫التعميم‪ ،‬أي ان كرمه تعاىل عني ذاته غري منفكة عنها‪ ،‬والتعلق بأطراف اليشء‬
‫يوجب التمكن من اليشء حتى طرفه الذي يكون جزءا منه‪ ،‬وهي كناية عىل سعة‬
‫‪ ................................................................................. 146‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫كرمه وشموله‪.‬‬
‫( َفال ُتولِنِي ِ‬
‫الح ْرمانَ )‪.‬‬
‫معنى التولية جعله أحق باليشء من غريه‪ ،‬وتوليته احلرمان ان يكون احلرمان‬
‫حقه وهو اخلرسان من الرضا والغفران ‪.‬‬
‫الخ ْي َب ِة َو ُ‬
‫الخ ْس ِ‬
‫ران)‪.‬‬ ‫(وال َت ْب ِلنِي بِ َ‬
‫َ‬
‫البالء بمعنى املحنة والشدة ‪،‬ويأيت بمعنى االختبار واالمتحان واألول اوفق‬
‫بالسياق ملناسبة للخيبة واخلرسان؛ الن االمتحان ال يكون خسارة مسبقا بمعنى‬
‫الشدة واملحنة املستلزمة اخليبة واخلرسان يف الغالب‪ ،‬ودعاؤه عليه السالم ان ال‬
‫يكون أمر ُه خرسانا وعاقبته خيبة وحرمانا‪.‬‬
‫يع الدُّ ِ‬
‫عاء)‪.‬‬ ‫(ياس ِم َ‬
‫َ‬
‫السميع من صفاته تعاىل فهو يسمع النجوى وما دون ذلك ويعلم ما ختفي‬
‫الر ِ ِ‬
‫اح َ‬
‫ني) ‪.‬‬ ‫َ‬
‫الصدور فانه ارحم الرامحني (ياأ ْر َح َم َّ‬
‫المناجاة الحادي عشرة‪:‬‬
‫مناجاة المفتقرين‬
‫ْم الله الرَّحْم ِن الرَّح ِ‬
‫ِيم‬ ‫بِس ِ‬
‫إحسا ُن َك‬ ‫يه إِ ّال َع ْط ُف َك َو ْ‬ ‫ب ُه إِ ّال ُل ْط ُف َك َو َحنا ُن َك َو َف ْق ِري ال ُيغْ نِ ِ‬ ‫سي َ ْ‬
‫الي ُ ُ‬ ‫( إِهلِي َك ْ ِ‬
‫َو َر ْو َعتِي ال ُي َس ِّكنَها إِ ّال َأما ُن َك َو ِذ َّلتِي ال ُي ِع ُّزها إِ ّال ُس ْلطا ُن َك َو ُأ ْمنِ َّيتِي ال ُي َب ِّل ُغنِيها إِ ّال‬
‫ي َك َو َك ْر ِب ال ُي َف ِّر ُج ُه‬ ‫حاجتِي ال َي ْق ِضيها َغ ْ ُ‬ ‫َف ْض ُل َك َو َخ َّلتِي ال َي ُسدُّ ها إِ ّال َط ْو ُل َك َو َ‬
‫ي َر ْأ َفتِ َك َو ُغ َّلتِي ال ُي َ ِّ‬
‫ب ُدها إِ ّال َو ْص ُل َك َو َل ْو َعتِي‬ ‫ضي ال َي ْك ِش ُف ُه َغ ْ ُ‬
‫ِسوى َر ْحَتِ َك َو ُ ِّ‬
‫قاؤ َك َو َش ْو ِقي إِ َل ْي َك ال َي ُب ُّل ُه إِ ّال ال َّن َظ ُر إِىل َو ْج ِه َك َو َقرا ِري ال َي ِق ُّر ُدونَ‬
‫ال ُي ْط ِفيها إِ ّال لِ ُ‬
‫يه إِ ّال ِط ُّب َك َو َغ ِّمي ال ُي ِزي ُل ُه‬
‫ُد ُن ّوي ِم ْن َك َو َ ْل َفتِي ال َي ُر ُّدها إِ ّال َر ْو ُح َك َو ُس ْق ِمي ال َي ْش ِف ِ‬
‫واس‬ ‫الي ُلو ُه إِ ّال َع ْف ُو َك َو َو ْس ُ‬ ‫إِ ّال ُق ْر ُب َك َو ُج ْر ِحي ال ُي ْ ِ‬
‫ب ُئ ُه إِ ّال َص ْف ُح َك َو َر ْي ُن َق ْلبِي َ ْ‬
‫ني َو َ‬‫السائِ ِل َ‬ ‫َصدْ ِري ال ُي ِز ُحي ُه إِ ّال َأ ْم ُر َك‪َ .‬فيا ُم ْنتَهى َأ َملِ ِ‬
‫اآلم ِل َ‬
‫ياأ ْقىص‬ ‫ني َوياغا َي َة ُسؤْ ِل َّ‬
‫يب‬
‫م َ‬‫ني َويا ُ ِ‬‫ني َويا َأمانَ اخلائِ ِف َ‬ ‫الص ِ ِ‬
‫ال َ‬ ‫ني َويا َو ِ َّل َّ‬
‫اغبِ َ‬‫الر ِ‬ ‫الطالِ َ َ‬
‫بني وياأ ْعىل َر ْغ َب ِة َّ‬ ‫َط ِل َب َة َّ‬
‫ني َويا ِ َ‬
‫قاض‬ ‫ياث ا ُمل ْست َِغيثِ َ‬
‫ني َويا ِغ َ‬ ‫ني َويا َكنْزَ البائِ ِس َ‬ ‫َد ْع َو ِة ا ُمل ْض َط ِّر َ‬
‫ين َويا ُذ ْخ َر ا ُمل ْع َد ِم َ‬
‫ني‪َ ،‬ل َك َ َت ُّض ِعي‬ ‫اح َ‬ ‫الر ِ ِ‬ ‫َ‬ ‫ني َويا َأ ْك َر َم َ‬
‫اال ْك َر ِم َ‬ ‫ساك ِ‬‫راء َواملَ ِ‬‫الف َق ِ‬‫َحوائِ َج ُ‬
‫ني َويا أ ْر َح َم َّ‬
‫‪147‬‬
‫‪ ................................................................................. 148‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫َ‬
‫يم َع َ َّ‬
‫ل‬ ‫هال ؛ َأ ْسأ ُل َك َأنْ ُتنِ َيلنِي ِم ْن َر ْو ِح ِر ْضوانِ َك َو ُت ِد َ‬
‫ض ِعي َوإِ ْبتِ ِ‬‫ؤال َوإِ َل ْي َك َت َ ُّ‬
‫َو ُس ِ‬
‫يد‬‫الش ِد ِ‬
‫ض َوبِ َح ْب ِل َك َّ‬ ‫حات بِ ِّر َك ُمت ََع ِّر ٌ‬ ‫نِ َع َم ا ْمتِنانِ َك‪َ ،‬وها َأنا بِ ِ‬
‫باب َك َر ِم َك َو ِاق ٌف َولِ َن َف ِ‬
‫سان َ‬
‫الكليلِ‬ ‫يل ذا ِّ‬
‫الل ِ‬ ‫الو ْثقى ُمت ََم ِّس ٌك‪ .‬إِهلِي ْار َح ْم َع ْب َد َك َّ‬
‫الذلِ َ‬ ‫َص ُم َوبِ ُع ْر َوتِك ُ‬
‫ُم ْعت ِ‬
‫اجل ِزيلِ َو ْاك ُن ْف ُه َ ْت َت ِظ ِّل َك َّ‬
‫الظ ِليلِ يا َك ِر ُ‬
‫يم يا‬ ‫الع َملِ ال َق ِليلِ َوا ْمن ُْن َع َل ْي ِه بِ َط ْولِ َك َ‬
‫َو َ‬
‫اح َ‬
‫ني )‪.‬‬ ‫الر ِ ِ‬ ‫ج ُ َ‬ ‫َِ‬
‫يل ياأ ْر َح َم َّ‬
‫مناجاة املفتقرين‪149................................................................................................‬‬

‫رشح الفقرات املباركة‪:‬‬


‫(( الهي كسري ال يجبره اال لطفك وحنانك))‬
‫االنكسار‪ :‬وهو الشعور باخليبة واخلذالن ومراودة الضعف يف جانب االنسان‬
‫فيشعر بالفقر والوحشة نتيجة انكساره وهو ٍ‬
‫ات من عدم حصول املراد غالب ًا‪.‬‬
‫اجلرب‪ :‬من انجبار اليشء أي اصالحه وارجاعه اىل افضل حال‪.‬‬
‫واللطف‪ :‬قيل هو علمه تعاىل بدقائق املصالح وغوامضها وما دق منها ولطف‬
‫يقرب املكلف‬
‫ثم ايصاله هلا اىل املستصلح بالرفق دون العنف‪ ،‬وعىل املشهور هو ما ّ‬
‫ويبعده عنه املعصية‪.‬‬
‫للطاعة ّ‬
‫حنانك‪ :‬أي عطفك واحل ّنان كثري التعطف عىل عباده‪.‬‬
‫أي ان ما يراود االنسان من انكسار فال يصلحه اال حسن تدبريك وقضاؤك‪.‬‬
‫(( وفقري ال يغنيه اال عطفك واحسانك))‬

‫الفقر الذي يشكو منه العبد عىل نحوين‪ :‬مادي ومعنوي‪.‬‬


‫اما املادي فهو كل حاجة اىل اسباب احلياة واملعيشة التي ال يستغني عنها بحال‬
‫فتكون هذه من عطائه تعاىل بعد هتيئة االسباب اجلالبة لذلك‪.‬‬
‫واما املعنوي فهو كل ما حتتاجه النفس من املعرفة التي تنقذه من اجلهل والضالل‪.‬‬
‫وهبذا فيكون املعنى ان فقري – انا املخلوق–ال يغنيني اال عطفك ورمحتك‬
‫واحسانك وهو فعلك اجلميل بعبادك وخلقك‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 150‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫(( وروعتي ال يسكنها اال امانك ))‬


‫الروع‪ :‬القلب‪ ،‬وكل ام ٍر خياف منه االنسان يقال ارتاع منه ‪.‬‬
‫السكون ‪ :‬ضد احلركة‪ ،‬وهو يطلق عىل االستقرار ويقال للنفس املطمئنة‪ ،‬ساكنة‬
‫الستقرارها وعدم قلقها‪.‬‬
‫واألمن‪ :‬االطمئنان وعدم اخلوف‪ ،‬وامانه تعاىل ما يعده سبحانه للعباد بالتوبة‬
‫وحسن التجاوز ‪.‬‬
‫وعظيم املغفرة ُ‬
‫أي ان خويف ال يطمئنه اال ما تلقيه لعبادك من حسن العفو وعظيم التجاوز‪.‬‬
‫مناجاة اإلمام زين العابدين عليه السالم واملعروفة بمناجاة املفتقرين‪ ،‬يشري‬
‫اإلمام عليه السالم إىل حاجته وفقره إىل الغني املطلق سبحانه‪ ،‬وقد أرشنا إىل‬
‫بدايتها ثم يقول‪-:‬‬
‫(و ُأ ْمنِ َّيتِي ال ُي َب ِّل ُغنِيها إِ ّال َف ْض ُل َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫األمنية من متني اليشء إذا متناه أمنية‪ ،‬والبلوغ بمعنى الوصول إىل الغاية التي‬
‫يتمناها املتمني ؛وال يكون ذلك إال من فضله الذي يبلغ معه الراجون ارادهتم ‪.‬‬
‫(و َخ َّلتِي ال َي ُسدُّ ها إِ ّال َط ْو ُل َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫اخللة بفتح أوهلا من اخللل وهو اضطراب اليشء وعدم انتظامه ؛هذا عىل تعريفه‬
‫اللغوي‪ ،‬واالصطالح يشري إىل اخللل الذي يعرتي االنسان من نقص يف املال أو‬
‫اجلسم أو اجلاه‪ ،‬وكل ذلك ال يسده إال طوله وهو الفضل ابتداء دون الزام ‪.‬‬
‫مناجاة املفتقرين‪151................................................................................................‬‬

‫حاجتِي ال َي ْق ِضيها َغ ْي ُر َك)‪.‬‬


‫(و َ‬‫َ‬
‫من حوائج الدنيا واآلخــرة‪ ،‬لكن املعروف يف خطاباهتم عليهم السالم هو‬
‫الرتكيز عىل أهم حاجة حث عليها أئمة أهل البيت عليهم السالم يف الطلب من اهلل‬
‫لقضائها وهي التوبة والعتق من النار‪ ،‬وكل حاجة بعدها تأيت يف األمهية واألولوية‬
‫التي بينها القرآن الكريم وكذلك رواياهتم عليهم السالم‪ ،‬ومن سياق كالمه عليه‬
‫السالم ‪ :‬أن احلاجة التي ال يقضيها غريه تعاىل هي قبول التوبة واملغفرة ومها ال‬
‫تصدران إال منه ‪.‬‬
‫(و َك ْربِي ال ُي َف ِّر ُج ُه ِسوى َر ْح َمتِ َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫إن السياق يشهد أن األوىل من حاجات اآلخرة ‪،‬والثانية من حاجات الدنيا‪،‬‬
‫وهكذا جيمع أئمة أهل البيت عليهم السالم يف سؤاهلم حاجات اآلخرة مضافا إىل‬
‫حاجات الدنيا ‪.‬‬
‫(و ُض ِّري ال َي ْك ِش ُف ُه َغ ْي ُر َر ْأ َفتِ َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫الرض كل سوء حال دنيوي من حاجات الدنيا‪ ،‬أو أخروي كارتكاب الذنوب‬
‫وتراكم املعايص‪ ،‬والكشف هو اإلزالة بالقدرة التي هبا ينجي كل مكروب‪ ،‬والرأفة‬
‫هي أخص من الرمحة وهي أعظم حيث أن معناها وصول النعم دون أمل ومشقة‪،‬‬
‫والرمحة أعم من ذلك وبام أن رضه فيه من اآلالم واملعاناة التي ال يكشفها إال هو‬
‫وبرأفته تعاىل التي جيود هبا عىل عباده ترتفع آالمه ‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 152‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫(و ُغ َّلتِي ال ُي َب ِّر ُدها إِ ّال َو ْص ُل َك)‪.‬‬


‫َ‬
‫الغلة بمعنى شدة حرارة القلب اذا انتابه أمر‪ ،‬وإذا أملت به حاجة؛ وهي اللهفة‬
‫التي حتدث عند حدوث احلاجة وال تربد هذه اال بقضائها‪ ،‬وقضاؤها يف وصله‬
‫تعاىل‪ ،‬هو ما يتوصل به اليه سبحانه من الرضا الذي مآله التوبة والعفو ‪.‬‬
‫قاؤ َك)‪.‬‬
‫(و َل ْو َعتِي ال ُي ْط ِفيها إِ ّال لِ ُ‬
‫َ‬
‫اللوعة حالة عدم االستقرار عندما ينتاب االنسان أمر يقلقه‪ ،‬وأكثر ما تستعمل‬
‫بمعنى الشوق‪ ،‬وهنا شوق انجاح احلاجة يزيد من لوعته وتعلقه‪ ،‬وحرارة اللوعة‬
‫عرب عنها بقوله عليه السالم ولوعتي ال يطفيها اال لقاؤك‪ ،‬فان اللقاء به كناية عن‬
‫القرب إليه والرضا عنه وقبوله ‪.‬‬
‫(و َش ْو ِقي إِ َل ْي َك ال َي ُب ُّل ُه إِ ّال ال َّن َظ ُر إِلى َو ْج ِه َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫الشوق ميل النفس اىل املحبوب وتعلقها به‪ ،‬واالبالل بمعنى املواصلة بعد‬
‫عب عنها عليه السالم بالنظر اىل وجهه‬
‫احلرمان‪ ،‬وذلك من خالل رمحته تعاىل التي ّ‬
‫تعاىل لقوله سبحانه تعاىل‬
‫( ُو ُجو ٌه َي ْو َمئِ ٍذ َّن ِ َ‬
‫اض ٌة‪ ،‬إِ َل َر ِّ َبا َن ِ‬
‫اظ َرة)((( أي إىل رمحة رهبا منتظرة ولعطائه‬
‫ناظرة‪.‬‬
‫(و َقرا ِري ال َي ِق ُّر ُدونَ ُد ُن ّوي ِم ْن َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫القرار بمعنى االستقرار وسمي املكان قرارا الستقرار االنسان فيه‪ ،‬وضده عدم‬

‫(( ( –القيامة ‪23-22‬‬


‫مناجاة املفتقرين‪153................................................................................................‬‬

‫االستقرار هللع النفس الذي يصيبها بسبب أمر حمزن‪ ،‬واالستقرار ال حيصل إال من‬
‫خالل القرب إليه وهو رضاه وقبوله للعبد‪ ،‬فحالة الوجد ال هتدأ اال اذا نال رضاه‬
‫تعاىل ‪.‬‬
‫(و َل ْه َفتِي ال َي ُر ُّدها إِ ّال َر ْو ُح َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫اللهفة ‪ :‬استغاثة املظلوم وهي صيحة خترج من أعامق النفس فال يستجيب اليها‬
‫عب عنها بالروح ‪.‬‬
‫اال رمحته تعاىل التي ّ‬
‫يه إِ ّال ِط ُّب َك)‪.‬‬
‫(و ُس ْق ِمي ال َي ْش ِف ِ‬
‫َ‬
‫السقم ‪ :‬املرض الذي يلم باجلسد فيضعفه ويلقيه غري ذي قوة‪ ،‬والشفاء هو‬
‫الربء من املرض‪ ،‬وأشدها ما يلم بالقلب وهييمن عليه كالشك والرشك والنفاق‬
‫واجلهل وغريها من االسقام القلبية النامجة من عقائد منحرفة غري صحيحة‪،‬قال‬
‫تعاىل ( َقدْ َجاءت ُْكم َّم ْو ِع َظ ٌة ِّمن َّر ِّب ُك ْم َو ِش َفاء ِّلَا ِف ُّ‬
‫الصدُ و ِر)((( هذا هو احلق‪ ،‬ولكن‬
‫السقم واملرض يتبادر عند العرف بأنه الداء اجلسامين‪ ،‬ولعل اإلمام عليه السالم‬
‫يريد كليهام وإن كان أشدمها املرض القلبي‪ ،‬عىل أن ذلك ال يشفيه وال يرفعه إال‬
‫هو‪ ،‬الطبيب احلقيقي الذي ال يقف عند ارادته مرض بشقيه اجلسامين والقلبي ‪.‬‬
‫(و َغ ِّمي ال ُي ِزي ُل ُه إِ ّال ُق ْر ُب َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫الغم أصله الغطاء الذي يسرت اليشء وجيلله وهو احلــزن‪،‬و كأنه غطاء جيلل‬
‫االنسان لذا عرب عليه السالم باإلزالة ؛ حيث إزالة اليشء رفعه ومنعه‪ ،‬واإلزالة ال‬

‫(( ( –يونس ‪.57‬‬


‫‪ ................................................................................. 154‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫تكون إال بالقرب إليه أي اىل رمحته تعاىل ‪.‬‬


‫(و ُج ْر ِحي ال ُي ْب ِر ُئ ُه إِ ّال َص ْف ُح َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫اجلرح اخللل الذي حيدث يف العضو ويف النفس‪ ،‬هو حالة االنكسار واخليبة‪،‬‬
‫والربء ‪ :‬وهو الشفاء ورفع الداء أي ازالة اخللل‪ ،‬وهنا إشارة اىل الذنب الذي أخل‬
‫باإلنسان وأصابته اخليبة نتيجة ارتكابه لذلك‪ ،‬لذا جاء بقوله عليه السالم بالصفح‬
‫؛ ومن هنا قال عليه السالم ‪ :‬ال يربئه إال صفحك ‪.‬‬
‫(و َر ْي ُن َق ْلبِي ال َي ْج ُلو ُه إِ ّال َع ْف ُو َك)‪.‬‬
‫َ‬
‫فان الرين هو الصدأ الذي خيلفه الذنب وال يزحيه وجيلوه إال عفوه‪ ،‬فان تراكم‬
‫الذنب عىل الذنب خي ِّلف حالة الصدأ التي متنع القلب من قبول احلق قال تعاىل‬
‫وبِم َّما َكا ُنوا َي ْك ِس ُبونَ )((( أي ال يقبلون احلق ملا أصاب قلوهبم‬
‫(ك َّل َب ْل َرانَ َع َل ُق ُل ِ‬
‫َ‬
‫من تبعات الذنوب وهو كالصدأ الذي حيجب القلب عن قبول احلق وتلقيه ‪.‬‬
‫يح ُه إِ ّال َأ ْم ُر َك)‪.‬‬
‫واس َصدْ ِري ال ُي ِز ُ‬
‫(و َو ْس ُ‬
‫َ‬
‫الوسوسة حديث النفس وهي من تبعات الشيطان الذي حيدث حالة عند‬
‫النفس فتجعل الشك وعدم اليقني‪ ،‬وهو من أمراض القلب التي يبتيل فيها البعض‬
‫اذا تسلط عليهم الشيطان‪ ،‬وازاحته أي ازالته ال تكون إال بأمره تعاىل وهو قدرته‪،‬‬
‫اس)((( فان االستعاذة برب‬ ‫اس ْ َ‬
‫ال َّن ِ‬ ‫ش ا ْل َو ْس َو ِ‬ ‫وقد ذكر ذلك يف قوله تعاىل ِ‬
‫(من َ ِّ‬
‫الناس الذي يستعان به عىل ازالة ما يعلق يف النفوس من باليا الوسوسة التي هي‬
‫أشد فتكا باإلنسان من األمراض السارية ‪.‬‬

‫(( ( –املطففني ‪14‬‬


‫(( ( –الناس‪.4‬‬
‫مناجاة املفتقرين‪155................................................................................................‬‬

‫( َفيا ُم ْنتَهى َأ َملِ ِ‬


‫اآلم ِل َ‬
‫ين)‪.‬‬
‫األمل بمعنى الرجاء؛ وهو تعلق النفس بحصول املحبوب يف املستقبل‪ ،‬ويشري‬
‫دائام اىل القادم واآليت من املستقبل ومنتهى األمل أي غايته فهو تعاىل هناية األمل‬
‫ومنتهى املنى وهو رضاه سبحانه وتعاىل ‪.‬‬
‫السائِ ِل َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫(وياغا َي َة ُسؤْ ِل َّ‬
‫َ‬
‫أي هدف السائلني وهوعفوه ومغفرته ‪.‬‬
‫الطالِ َ‬
‫بين)‪.‬‬ ‫(و َ‬
‫ياأ ْقصى َط ِل َب َة َّ‬ ‫َ‬
‫اقىص اليشء غايته ومنتهاه‪ ،‬والطلبة بفتح الطاء وكرس الالم أي ما يطلبه االنسان‬
‫من غريه وهي أعم من احلاجة‪ ،‬اذ احلاجة هي مما ال يستغنى عنها والطلبة قد ال‬
‫يكون مضطرا إليها لكن مما يكمل به ارادة النفس ‪.‬‬
‫الر ِ‬ ‫َ‬
‫اغبِ َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫(وياأ ْعلى َر ْغ َب ِة َّ‬
‫الرغبة يف اليشء‪ ،‬ارادة اليشء وحمبته‪ ،‬ورغب اىل اهلل أي طلب ما عنده من الثواب‬
‫وهو متعد‪ ،‬فإذا تعدى بـ (إىل) بمعنى سأله‪ ،‬وإذا تعدى بـ (يف) فهي اإلرادة‪،‬وإذا‬
‫تعدى بـ (عن) فمعناه الكراهة يقال رغب عنه إذا كرهه ‪.‬‬
‫الصالِ ِح َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫(ويا َولِ َّي َّ‬
‫َ‬
‫ويل أمره إذا تواله والتزمه‪ ،‬والصالح من الصالح وهي التقوى وحقيقة الطاعة‬
‫له تعاىل‪ ،‬فهو يتوىل أمورهم ويرعى شؤوهنم ‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 156‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫(ويا َأمانَ الخائِ ِف َ‬


‫ين)‪.‬‬ ‫َ‬
‫األمان أي عدم اخلوف والطمأنينة فهو سبحانه الدافع عن اخلائفني خوفهم‬
‫برمحته ‪.‬‬
‫الم ْض َط ِّر َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫يب َد ْع َو ِة ُ‬
‫(ويا ُم ِج َ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫وء)((( واملضطر هو من‬ ‫يب ْ ُال ْض َط َّر إِ َذا َد َعا ُه َو َي ْك ِش ُف ُّ‬
‫الس َ‬ ‫ي ُ‬‫تعاىل(أ َّمن ُ ِ‬ ‫لقوله‬
‫أعوزته احلاجة فيترضع إىل اهلل الضطراره ‪.‬‬
‫الم ْع َد ِم َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫(ويا ُذ ْخ َر ُ‬
‫َ‬
‫الذخر كل نفيس يدخر لوقت احلاجة‪ ،‬واملعدم هو املحروم من اليشء والفقري‬
‫إليه وهو ما يناسب الذخر اذا أعوزته حاجة احلرمان ‪.‬‬
‫(ويا َكنْزَ البائِ ِس َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫َ‬
‫والكنز ما يدخر فيه املال وكل يشء نفيس‪ ،‬والبائس الفقري شديد احلاجة‪،‬‬
‫ري الذي ال َي ْس ُ‬
‫أل‬ ‫والبؤس بمعنى الرض ‪،‬وعن اإلمام الصادق عليه السالم ‪( :‬ال َفق ُ‬
‫أجهدُ ُهم)((( ‪.‬‬
‫س ْ‬‫أجهدُ منه وال َبائِ ُ‬ ‫اس‪ ،‬وامل ِ ِ‬
‫سكنيُ ْ‬ ‫ال َّن َ‬
‫الم ْست َِغيثِ َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫(ويا ِغ َ‬
‫ياث ُ‬ ‫َ‬
‫الغوث ‪ :‬اذا أغاثه أي أعانه وكشف ما به من رض ‪.‬‬
‫الم ِ‬
‫ساك ِ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫راء َو َ‬ ‫قاض َي َحوائِ َج ُ‬
‫الف َق ِ‬ ‫(ويا ِ‬
‫َ‬

‫(( ( –النمل‪.62‬‬
‫(( ( –الكايف‪،‬باب قرض الزكاة‪501/3،‬‬
‫مناجاة املفتقرين‪157................................................................................................‬‬

‫فالداعي يف مقام احلاجة والفقر واملسكنة ال يرفعها إال هو سبحانه‪ ،‬وال تقضيها‬
‫اال رمحته وكرمه ‪.‬‬
‫الر ِ‬
‫اح ِم َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫َ‬ ‫(ويا َأ ْك َر َم َ‬
‫اال ْك َر ِم َ‬
‫ين َويا أ ْر َح َم َّ‬ ‫َ‬
‫وهو ما يناسب طلبه ودعاءه حيث كرمه ورمحته مها الشافعتان له يف قضاء‬
‫حوائجه وكل ما سأله ‪.‬‬
‫(ل َك َت َخ ُّض ِعي َو ُسؤالِي َوإِ َل ْي َك َت َض ُّر ِعي َوإِ ْبتِهالِي )‪.‬‬
‫َ‬
‫اخلضوع هو التواضع‪ ،‬والترضع بمعنى التذلل واخلضوع‪ ،‬واالبتهال ‪ :‬الترضع‬
‫واملبالغة يف السؤال‪ ،‬وكل ذلك سبب يف رفع الرض عنه وكشفه بقضاء حاجته‪ ،‬وهي‬
‫قبول توبته والعفو عنه ‪.‬‬
‫(أ ْس َأ ُل َك َأنْ ُتنِ َيلنِي ِم ْن َر ْو ِح ِر ْضوانِ َك)‬
‫َ‬

‫الروح كام قلنا بفتح الراء هي رمحته تعاىل والنيل ‪ :‬االعطاء ونيل روح رضوانه‬
‫َّ‬
‫بمعنى رمحته التي منشأها رضوانه تعاىل ‪.‬‬
‫يم َع َل َّي نِ َع َم ا ْمتِنانِ َك)‪.‬‬
‫(و ُت ِد َ‬
‫َ‬
‫االدامــة مواصلة اليشء باليشء‪ ،‬أي نعم غري منقطعة واحدة بعد األخرى‪،‬‬
‫واالمتنان ‪ :‬افتعال من املن وهو االعطاء واظهار االصطناع وتعداده كأن يقول ‪:‬‬
‫أ مل أعطك كذا‪ ،‬أ مل أعنك‪ ،‬أ مل أنرصك‪ ،‬أي كان يف مقام تعداد النعم املتعاقبة‪ ،‬وهنا‬
‫يطلب االمام عليه السالم ان يستمر هذا االمتنان دون انقطاعه‪ ،‬واالمتنان من املوىل‬
‫اىل العبد عز‪ ،‬ومن العبد اىل العبد ذل‪ ،‬لذا فاألول ممدوح بعكس غريه‪ ،‬حيث يف‬
‫‪ ................................................................................. 158‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫األول دليل العناية من املوىل إىل عبده‪ ،‬ومن اهلل تعاىل مواصلة رمحته دون انقطاع‪،‬‬
‫ألنه الغني املطلق اىل الفقري املطلق ‪.‬‬
‫(وها َأنا بِ ِ‬
‫باب َك َر ِم َك َو ِاق ٌف)‪.‬‬ ‫َ‬
‫اشارة اىل سؤاله الدائم غري املنقطع وكأنه جمازا يلوذ بكرمه سبحانه ويتعلق بباب‬
‫رمحته ‪.‬‬
‫حات بِ ِّر َك ُمت ََع ِّر ٌ‬
‫ض)‪.‬‬ ‫(ولِ َن َف ِ‬
‫َ‬
‫نفحت الريح أي هبت ؛والنفحة الريح الطيبة؛ ونفحه باملال أي أعطاه‪ ،‬والنفحة‬
‫هنا عطاؤه وبمعناها األخص رمحته‪ ،‬والرب ‪ :‬العطاء املشكور‪ ،‬وكذلك هو غري‬
‫املنقطع‪ ،‬والتعرض‪ :‬السؤال امللح ؛ حيث جيعله عرضا أي ينصبه تعرضا به ‪.‬‬
‫الش ِد ِ‬
‫يد ُم ْعت ِ‬
‫َص ُم)‪.‬‬ ‫(وبِ َح ْب ِل َك َّ‬
‫َ‬
‫حبل اهلل ‪ :‬عهده وميثاقه‪ ،‬واالعتصام به هو التمسك‪ ،‬وأجىل مصداق حبل اهلل‬
‫هم أهل البيت عليهم السالم حيث قال االمام زين العابدين عليه السالم يف بعض‬
‫الد َك‬
‫اد َك َو َمنَار ًا يف بِ ِ‬
‫أوان بإما ٍم أ َق ْم َت ُه َع َل َ ًم لِ ِع َب ِ‬
‫أدعيته ‪( :‬ال َّل ُه َّم إ َّن َك أ َّيدْ َت دين ََك يف ُك ِّل ٍ‬
‫بح ْب ِلك)((( وقد ورد عن اإلمام الصادق عليه السالم‪َ ( :‬م ْن َو َف‬ ‫َب ْع َد أنْ َو َص ْل َت َح ْب َل ُه َ‬
‫وج َّل َ‬
‫وع ْه َده)((( ‪.‬‬ ‫بِذ َمتِنَا َف َقد َو َف بِ َع ْه ِد اهللِ َو ِذ َّمتِ ِه و َمن َحقر ِذ َّم َتنَا َف َقد َحقر َ‬
‫اهلل َع َّز َ‬
‫جيع ًا)((( يعني عهد اهلل من القرآن والعرتة‬ ‫َص ُمو ْا بِ َح ْبلِ ّ‬
‫اللِ َ ِ‬ ‫(و ْاعت ِ‬
‫لذا فقوله تعاىل َ‬
‫املطهرة ‪.‬‬
‫(( ( –الصحيفةالسجادية‪،‬ابطحي‪322‬‬
‫(( ( –بصائر الدرجات‪57‬‬
‫(( ( –ال عمران‪.103‬‬
‫مناجاة املفتقرين‪159................................................................................................‬‬

‫(وبِ ُع ْر َوتِك ُ‬
‫الو ْثقى ُمت ََم ِّس ٌك)‪.‬‬ ‫َ‬
‫وت َو ُيؤْ ِمن بِـ ّ‬
‫ـاللِ َف َق ِد‬ ‫اغ ِ‬ ‫وهو ما تقدم ويؤيده قوله تعاىل ( َف َم ْن َي ْك ُف ْر بِ َّ‬
‫الط ُ‬
‫است َْم َس َك بِا ْل ُع ْر َو ِة ا ْل ُو ْث َق َى)((( والتمسك هو االلتزام بطريف حبله تعاىل وهو العهد‬
‫ْ‬
‫وامليثاق الذي يتمثل بالقرآن وأهل البيت عليهم السالم ‪.‬‬
‫الع َملِ ال َق ِليلِ )‪.‬‬ ‫سان َ‬
‫الكليلِ َو َ‬ ‫يل ذا ِّ‬
‫الل ِ‬ ‫(إِل ِهي ْار َح ْم َع ْب َد َك َّ‬
‫الذلِ َ‬
‫العبد الذي يصيبه الذل من احلاجة ويعجز لسانه من الشكر ومل يكن له من عمل‬
‫يشء فهو حمتاج اىل رمحتك ‪.‬‬

‫(وا ْمن ُْن َع َل ْي ِه بِ َط ْولِ َك َ‬


‫الج ِزيلِ )‪.‬‬ ‫َ‬
‫الطول بفتح الطاء ‪ :‬التفضل وكثرة النعم واملنة هي العطاء غري املنقطع ‪.‬‬
‫(و ْاك ُن ْف ُه َت ْح َت ِظ ِّل َك َّ‬
‫الظ ِليلِ )‪.‬‬ ‫َ‬
‫الكنف بفتح الكاف والنون بمعنى اجلانب والناحية‪ ،‬والظل الظليل ‪ :‬السرت‬
‫املستور والشديد السرت ‪.‬‬
‫الر ِ‬
‫اح ِم َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫يم يا َج ِم ُ َ‬
‫(يا َك ِر ُ‬
‫يل ياأ ْر َح َم َّ‬
‫حيث ينهي دعاءه عليه السالم بام يناسب مطالبه التي ال تكون اال بسبب كرمه‬
‫ورمحته واجلميل هو احلسن واملقصود عطاءه سبحانه واجلميل غري املنقطع ‪.‬‬
‫شرح اخر لمناجاة المفتقرين‪:‬‬
‫كل كربة عندي ال يفرجها اال رمحتك التي وسعت كل يشء‬

‫(( ( –البقرة‪.256‬‬
‫‪ ................................................................................. 160‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫(وضري ال يكشفه غير رأفتك)‬


‫الرض هو الفاقة والشدة سوء احلال‪.‬‬
‫قال االزهري‪ :‬كلام كان من سوء حال وفقر وشدة يف بدن فهو رض بالضم وما‬
‫كان ضد النفع فهو بفتحها‪ ،‬والكشف هو الرفع حيث ال يرتفع الرض اال برمحتك‬
‫يا ارحم الرامحني‪ ،‬بل رأفتك‪ ،‬اذ الرأفة اخص من الرمحة‪ ،‬فقد قيل ان الرأفة هي‬
‫ايصال النعم الصافية عن االالم‪ ،‬والرمحة ايصال النعمة مطلق ًا‪ ،‬وقد تكون مع االمل‬
‫ٌ‬
‫رؤوف بالعباد)) ثم قال ‪: ‬‬ ‫كالرضب للتأديب قال تعاىل (( واهلل‬
‫( وغلتي ال يبردها اال وصلك)‬
‫الغلة بمعنى الغليل وهو احلرارة املنبعثة من القلب بسبب العطش‪ ،‬او تستعمل‬
‫احيان ًا للشوق حيث تنبع حرارة من القلب بسبب شوقه‪ ،‬والبعض قال ان الغليل‬
‫مبعثه من كبد االنسان‪ ،‬ومثله الشوق‬
‫ُ‬ ‫هو الكبد احلرى حيث ان حرارة العطش‬
‫والتلهف‪ ،‬وحالة اهليام التي حيدثها الشوق والفراق‪ ،‬وال تربد الغلة اال بالوصول‬
‫اىل قربك وهو الرضا الذي يكون سبب ًا يف غناي عن كل احد ‪.‬‬
‫( ولوعتي ال يطفيها اال لقاؤك)‬
‫اللوعة شدة الشوق واالضطراب الذي حيدثه وهي حتدث حرارة يف القلب‬
‫واالحشاء لذا قال ‪( ‬ال يطفيها) واالطفاء بمعنى اطفاء اللهب من حرارة الشوق‬
‫وال يكون اال باللقاء‪ ،‬الن االطفاء معنى يأيت لكل يشء بحسبه‪ ،‬فاطفاء النار باملاء‪،‬‬
‫واطفاء حرارة العطش مثله‪ ،‬واطفاء الشوق يكون باللقاء الذي تسبب انقطاعه‬
‫مناجاة املفتقرين‪161................................................................................................‬‬

‫يف هذه اللوعة واالشتياق ( وشوقي اليك ال يبله اال النظر اىل وجهك) وهنا فرس‬
‫االمام ‪ ‬سبب لوعته وهو شوقه اليه تعاىل حيث ال يربده اال النظر اىل وجهه‬
‫وهنا استعامل النظر استعام ً‬
‫ال جمازي ًا‪ ،‬فالوجه هنا الرمحة‪ ،‬والنظر هو النظر القلبي‬
‫الذي يكون باليقني وقوة البصرية التي توصله اىل هذا اليقني الذي يصل اىل مستوى‬
‫النظر‪،‬‬
‫(وقراري ال يقر دون دنوي منك )‬
‫القرار هو املكان الذي يستقر فيه وهنا يأيت ويعرب عنه براحة القلب وخلو البال‬
‫من اهلم‪ ،‬والدنو منه تعاىل هو شدة اليقني الذي جيعله قار ًا مستقر ًا غري مضطرب‪،‬‬
‫فإذا قر قراره باليقني فكأنه دنا وقرب اليه‪.‬‬
‫( ولهفتي ال يردها اال روحك )‬
‫اللهفة هنا االستغاثة واالضطرار‪ ،‬والروح بمعنى الرمحة والفرج لقوله تعاىل‬
‫(( وال تيأسوا من روح اهلل)) اي ان فرجك يل عند استغاثتي هو رمحتك التي رجوهتا‬
‫(وسقمي ال يشفيه اال طبك)‬
‫قال الراغب يف مفرداته ‪ :‬السقم‪ :‬املرض املختص بالبدن‪ ،‬واملرض قد يكون‬
‫يف البدن او يف النفس نحو قوله تعاىل (( اين سقيم)) والشفاء هو الربء من املرض‪،‬‬
‫والطبيب املداوي والذي يعمل عىل مداواة املرض‪ ،‬وهنا اراد االمام ‪ ‬سقم البدن‬
‫او النفس‪ ،‬حيث ان سقم البدن هو اصابة االعضاء واجلوارح بام يمنعها من اداء‬
‫عملها‪ ،‬ومرض النفس هو ثقلها عن تلقي احلق واليقني لذا فاذا اصاب االنسان‬
‫‪ ................................................................................. 162‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫مرض من هذه االمراض فان افتقاره اىل اهلل الذي يرفع مرضه يدعوه اىل سؤاله‬
‫والتوسل به ‪.‬‬
‫(وغمي ال يزيله اال قربك)‬
‫تأكيد ًا لقوله ‪( :‬وقراري ال يقر دون دنوي منك )‬
‫(وجرحي ال يبرئه اال صفحك)‬
‫واجلرح هنا جرح القلب الذي ختلفه الذنوب‪ ،‬والصفح هو العفو‪ ،‬فآثار الذنوب‬
‫التي عرب عنها باجلرح‪ ،‬ال يكون برؤه وشفاؤه اال بالعفو‪.‬‬
‫(ورين قلبي ال يجلوه اال عفوك)‬
‫الرين الصدأ الذي يعلو اليشء ورين القلب هو رضر القلب بسبب الذنوب‬
‫التي حتجبها عن قبول احلق ((كال بل ران عىل قلوهبم)) وهنا ال يمكن رفع هذا‬
‫الرين اال بالعفو الذي جييل الذنوب كام جتيل املادة الصدأ‪ ،‬اي ان العفو له آثاره‬
‫التكوينية يف استقرار القلب ونصوعه يف قبول احلق واالطمئنان اليه‪ ،‬الن القلب‬
‫املذنب مضطرب غري مستقر‪.‬‬
‫(ووسواس صدري ال يزحيه اال امرك)‬
‫الوساوس‪ :‬اخلطرات السيئة الرديئة التي تعرض للقلب وهو اهلمس اخلفي كام‬
‫يقال ‪ :‬اهلمس الصائد‪ :‬وسواس وقوله تعاىل (( من رش الوسواس اخلناس‪ ،‬الذي‬
‫يوسوس يف صدور الناس)) الن الوسوسة مصدرها القلب وعرب عنه بالصدر‬
‫لذكرالالزم ومراده امللزوم‪ ،‬واالمر هنا ارادته املرتبطة بعفوه‪ ،‬واالزاحة هنا تعبري‬
‫مناجاة املفتقرين‪163................................................................................................‬‬

‫عن طرد غري املرغوب فعفوه هو امره الذي اشار اليه ‪ ‬بقوله ‪:‬‬
‫(ال يزيحه اال امرك)‬
‫(يا منتهى امل االملين)‬
‫اي يا غاية رغبة املحتاج املفتقر فان امل الفقري املطلق هو بعطاء الغني املطلق‪،‬‬
‫للمقابلة املقتضية للتشبيه والتامثل‪.‬‬
‫(ويا غاية سؤل السائلين)‬
‫الغاية ما يقصده االنسان وهو هدفه ومبتغاه وارادته‪ ،‬والسؤل مجع سؤال وهنا‬
‫املطلب واالرادة وسؤل السائلني اي طلب الراغبني‪.‬‬
‫(ويا اقصى طلبة الطالبين)‬
‫اي مــــنــــتــــهــــى احلـــــــاجـــــــة عـــــنـــــد كـــــــل مــــفــــتــــقــــر حمــــتــــاج‬
‫(ويا اعىل رغبة الراغبني)‬
‫رغب اىل اهلل تعاىل اي دعاه اىل ما عنده من الثواب االخروي او ما يريده العبد‬
‫من العفو والصفح والرمحة‪ ،‬وهنا معناه هناية ما يريده املفتقر اليه تعاىل‪.‬‬
‫(ويا ولي الصالحين)‬
‫اي يا متويل امور الصاحلني من عباده وهو املتكفل هلم والقريب اليهم‪.‬‬
‫(ويا امان الخائفين)‬
‫االمان من االمن ومعناه االطمئنان وعدم اخلوف وسكون النفس وكل ذلك‬
‫يناسب اخلوف حيث هو اضطراب النفس وعدم استقرارها‪ ،‬وباالطمئنان هتدأ‬
‫وتستقر‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 164‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫(ويا مجيب دعوة المضطرين)‬


‫املشقة الناجتة من االضطرار رضر قد ال حيتمله الناس وكل ما من شأنه كذلك‬
‫فهو اضطرار وقوله عليه السالم يؤول اىل قوله تعاىل ((امن جييب املضطر اذا دعاه‬
‫ويكشف السوء))‬
‫(ويا ذخر المعدمين)‬
‫قال الراغب يف مفرداته ‪ :‬اصل االدخار ‪ :‬اذختار يقال‪ :‬ذخرته واخرته‪ :‬اذا اعددته‬
‫للعقبى وروي ان النبي ‪ ‬كان ال يدخر شيئ ًا لغد – راجع مادة ذخر – والذخر‬
‫لكل ٍ‬
‫يشء نفيس‪ ،‬واملعدم هو املفتقر‪ ،‬واصله من العدم وهو فقدان اليشء واملعدوم‬
‫اسم مفعول من االنعدام لليشء‪.‬‬
‫فهو تعاىل ذخر املعدومني الذي ال ينقطع وال ينتهي‪.‬‬
‫(ويا كنز البائسين)‬
‫الكنز‪ :‬جعل املال بعضه فوق بعض وقوله تعاىل (( والذين يكنزون الذهب‬
‫والفضة)) والبائس املترضع الفقري بل هو الذليل من شدة الفاقة واحلاجة‪ ،‬ومناسبة‬
‫البؤس مع احلاجة ملفعوهلا‪.‬‬
‫( وغياث المستغيثين)‬
‫هو من االستغاثة اي طلب الغوث وهي النجدة واملساعدة والفرق بني الغوث‬
‫والغيث ان االول هو النجدة واملساعدة والثاين هو املطر ويف بعض ادعية االمام‬
‫زين العابدين ‪ ‬يف الغوث قوله‪ :‬غوث من استغاث بك ‪ .‬ويف كلمة غيث قال‬
‫مناجاة املفتقرين‪165................................................................................................‬‬

‫االمام زين العابدين ‪ :‬اللهم اسقنا غيث ًا مغيث ًا‪.‬‬


‫( ويا قاضي حوائج الفقراء والمساكين )‬
‫منجز حوائجهم ومدبر امورهم‪ ،‬واملسكني هو اشد حا ً‬
‫ال من الفقري‪ ،‬ولشدة‬
‫حاجته صار مستكين ًا ال يقوى عىل يشء‪ ،‬وقد قسموا من ال يملك إالقوت يومه‬
‫فحسب فهو فقري‪ ،‬ومن كان ال يملك مثل ذلك فهو مسكني‪.‬‬
‫( ويا اكرم االكرمين ويا ارحم الراحمين)‬
‫من الكرم وهو العطاء ومن الرمحة و هي اعم منه ‪.‬‬
‫(لك تخضعي وسؤالي )‬
‫اخلضوع بمعنى التواضع وهو ال يأيت اال من خشوع اجلوارح وذلك بسبب‬
‫علمه بعظيم آالئه وسعة قدرته وكثرة عمله بطاعته تعاىل فضال عن املداومة بطاعته‬
‫واجلد يف طلب مرضاته سبحانه‪ ،‬وكل ذلك اذا توفر لديه تكامل خشوعه وازداد‬
‫خضوعه ‪.‬‬
‫( واليك تضرعي وابتهالي)‬
‫الترضع هو الذل والتخضع واالبتهال بمعنى ترضع وزيادة فيه وهو املبالغة يف‬
‫السؤال‪( ،‬اسألك ان تنيلني من روح رضوانك )النيل‪ :‬كلام اناله االنسان بيده بل‬
‫بجوارحه كلها كام يف قوله تعاىل (( لن تنالوا الرب حتى تنفقوا مما حتبون)) وقوله‬
‫تعاىل (( مل ينالوا خريا)) والروح بفتح الراء هي الرمحة والفرج لقوله تعاىل (( وال‬
‫تيأسوا من روح اهلل)) والرضوان بمعنى الرضا وهو خالف السخط وهو من اعظم‬
‫‪ ................................................................................. 166‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫وعب ‪‬هنا بروح‬


‫وارشف السعادات التي يرجوها االنسان يعمل للحصول عليها ّ‬
‫رضوانك وهو حقيقة الرضا واصله ‪.‬‬
‫علي نعم امتنانك )‬
‫( وتديم َّ‬
‫االدامة من املداومة وهي عدم االنقطاع‪،‬والنعمة كل يشء حسن يتنعم به النوع‬
‫االنساين وليس االنسان بام هو من حيث اذواقه ومشتهياته‪ ،‬فرب يشء يف اصله‬
‫قبيح فيعده شخص انه حسن فيكون نعمة عليه‪ ،‬ورب حسن ال يستسيغه شخص‬
‫فال يراه حسن ًا وال يعده نعمة‪ ،‬فليس كذلك حقيقة بل هو باق عىل اصل نعميته‬
‫فيكون نعمة واالمتنان من املن عىل وزن افتعال وهو اظهار ما اصطنعه لغريه من‬
‫النعم‪ ،‬وامتنانه بمعنى نعمه الثقيلة اي اطلب منك ادامة نعمك العظيمة ع ّ‬
‫يل‪.‬‬
‫(وها انا بباب كرمك واقف )‬
‫والوقوف هنا جمازي اي ترضعي واستكانتي عند ساحة كرمك وفناء رجائك‬
‫منتظرا كام ينتظر السائل عند باب املسؤول ‪،‬‬
‫( ولنفحات برك متعرض)‬
‫النفحة من نفح الريح وله نفحة طيبة اي هبوب من اخلري‪ ،‬والرب بالكرس بمعنى‬
‫اخلري والفضل والتعرض اي جعلته عرضا اي معروضا‪ ،‬اي تعرضت لنفحة من‬
‫نفحات برك ومل يقل ‪ ‬لربك‪ ،‬ألن بره ال يطيقه خملوق حيث بره مطلق‪ ،‬وكل‬
‫خملوق حمدود فكيف حيتمل املحدود املطلق ؟‬
‫(وبحبلك الشديد معتصم)‬
‫مناجاة املفتقرين‪167................................................................................................‬‬

‫واحلبل هنا رمحته لكن االقرب كام يف لسان الروايات ان حبل اهلل هم اهل البيت‬
‫لقوله تعاىل (( واعتصموا بحبل اهلل مجيعا وال تفرقوا)) واالعتصام يعني االلتزام‬
‫وعدم املفارقة والرتك ( وبعروتك الوثقى متمسك )كذلك مثله حيث العروة‬
‫الوثقى ُفرست هبم عليهم السالم لقوله تعاىل ((فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن باهلل‬
‫فقد استمسك بالعروة الوثقى )) فالطاغوت هو الظامل وبمناسبة املقابلة فان العدل‬
‫يتمثل هبم عليهم السالم‪.‬‬
‫( الهي ارحم عبدك الذليل ذا اللسان الكليل والعمل القليل)‬
‫صفة للعبد املفتقر اىل رمحة اهلل فلسانه قارص عن الشكر عاجز عن الثناء‪ ،‬وعمله‬
‫قليل ال يوازى بنعمه تعاىل ‪.‬‬
‫(وامنن عليه بطولك الجزيل )‬
‫املنة بمعنى النعمة الثقيلة كام مر والطول الفضل واجلزيل بمعنى العطاء الثقيل‬
‫وقد استعري من احلطب اجلزل اي العظيم ‪.‬‬
‫(واكنفه تحت ظلك الظليل )‬
‫واكنفه اي اسرته حتت ظلك كل موضع مل تصل اليه الشمس فهو ظل وكل‬
‫موضع غادرته الشمس فهو يفء ويعرب عن الظل بالعزة واملنعة وقوله تعاىل‬
‫((وندخلهم ظال ظليال)) وهو كناية عن السعادة وغضارة العيش‪.‬‬
‫(يا كريم يا جميل يا ارحم الراحمين)‬
‫اجلميل هو احلسن والكريم هو املعطي من كرم العطاء والتفضل ويا ارحم‬
‫الرامحني اي من الرمحة فهو ارحم من ُعرف واكرم من اعطى‪.‬‬
‫المناجاة الثاني عشرة‪:‬‬
‫مناجاة العارفين‬
‫بِسم الله الرَّحْم ِن الرَّح ِ‬
‫ِيم‬
‫الع ُق ُ‬
‫ول‬ ‫ت ُ‬ ‫يق بِ َجاللِ َك َو َع َجزَ ِ‬
‫وغ َثنائِ َك َكام َي ِل ُ‬ ‫ت َ‬
‫اال ْل ُس ُن َع ْن ُب ُل ِ‬ ‫( إِهلِي َق ُ َ‬
‫ص ِ‬
‫حات َو ْج ِه َك َو َ ْل‬ ‫صار ُدونَ ال َّن َظ ِر إِىل َس ُب ِ‬ ‫اال ْب ُ‬‫ت َ‬ ‫س ِ‬ ‫راك ُك ْن ِه َجالِ َك َوان َْح َ َ‬ ‫َع ْن إ ْد ِ‬
‫ين‬ ‫اج َع ْلنا ِم َن ا َّل ِذ َ‬ ‫َ ْت َع ْل لِ ْل َخ ْل ِق َط ِريقا إِىل َم ْع ِر َفتِ َك إِ ّال بِ َ‬
‫الع ْج ِز َع ْن َم ْع ِر َفتِ َك‪ ،‬إِهلِي َف ْ‬
‫جامع‬
‫ِ‬ ‫الش ْو ِق إِ َل ْي َك ِف َحدائِ ِق ُصدُ و ِر ِه ْم َو َأ َخ َذ ْت َل ْو َع ُة َ َم َّبتِ َك بِ َم‬ ‫َت َر َّس َخ ْت َأ ْش ُ‬
‫جار َّ‬
‫كاش َف ِة َي ْر َت ُعونَ َو ِم ْن‬‫ب َوا ُمل َ‬ ‫الق ْر ِ‬‫ياض ُ‬ ‫اال ْفكا ِر ْيأ ُوونَ َو ِف ِر ِ‬‫وبِ ْم‪َ ،‬ف ُه ْم إِىل َأ ْوكا ِر َ‬
‫ُق ُل ِ‬
‫طاء‬
‫الغ ُ‬ ‫ردونَ ‪ ،‬قد ُك ِش َف ِ‬ ‫ِ‬
‫صافات َي ُ‬ ‫س ا ُمل َ‬
‫الط َف ِة َي ْك َر ُعونَ َو َشايِ َع ا ُمل‬ ‫ياض املَ َح َّب ِة بِ َك ْأ ِ‬
‫ِح ِ‬
‫ب َع ْن َعقائِ ِد ِه ْم َوضامئِ ِر ِه ْم َوا ْن َت َف ْت ُم َ َ‬ ‫َ‬
‫الش ِّك‬‫ال ُة َّ‬ ‫َع ْن أ ْبصا ِر ِه ْم َوان َْج َل ْت ُظ ْل َم ُة َّ‬
‫الر ْي ِ‬

‫ور ُه ْم َو َع َل ْت لِ َس ْب ِق َّ‬
‫السعا َد ِة‬ ‫يق املَ ْع ِر َف ِة ُصدُ ُ‬
‫ْش َح ْت بِت َْح ِق ِ‬‫وبِ ْم َو َسائِ ِر ِه ْم َوان َ َ‬ ‫َع ْن ُق ُل ِ‬
‫س ُه ْم‬‫ْس ِ ُّ‬ ‫س ا ُالن ِ‬ ‫طاب ِف َم ِْل ِ‬‫ش ُ ُب ْم َو َ‬ ‫ني ا ُملعا َم َل ِة ِ ْ‬
‫ه ُم ُه ْم َو َع ُذ َب ِف َم ِع ِ‬‫الزها َد ِة ِ َ‬
‫ِف َّ‬
‫باب َأن ُْف ُس ُه ْم َو َت َي َّقن ْ‬ ‫وع إِىل َر ِّب َ‬ ‫َو َأ ِم َن ِف َمو ِط ِن املَخا َف ِة ِسبم َو ْ َ‬
‫َت‬ ‫األ ْر ِ‬ ‫الر ُج ِ‬‫اط َمأ َّن ْت بِ ُّ‬ ‫ْ ُُ ْ‬ ‫ْ‬
‫راك ا ُّلسؤْ ِل‬ ‫اس َت َق َّر بإ ْد ِ‬ ‫وبم َأ ْع ُين ُُه ْم َو ْ‬ ‫الح َأ ْر ُ‬
‫واح ُه ْم َو َق َّر ْت بِال َّن َظ ِر إِىل ْحم ُب ِ ْ‬ ‫بِا ْل َف ْو ِز َوال َف ِ‬
‫‪169‬‬
‫‪ ................................................................................. 170‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫جتار ُ ُت ْم إِهلِي ما َأ َل َّذ َخ ِ‬


‫واط َر‬ ‫ِ‬
‫اآلخرة َ‬ ‫َو َن ْيلِ املَ ْأ ُم ِ‬
‫ول َق ُ‬
‫رار ُه ْم َو َربِ َح ْت ِف َب ْي ِع الدُّ نْيا بِ‬
‫وب !‬ ‫ك ُ‬
‫الغ ُي ِ‬ ‫وب ! َوما َأ ْحىل املَ ِس َ‬
‫ري إِ َل ْي َك بِ َ‬
‫اال ْوها ِم ِف َمسالِ ِ‬ ‫الق ُل ِ‬‫ال ْلا ِم بِ ِذ ْك ِر َك َعىل ُ‬
‫ا ِ‬

‫عاد َك َو ْ‬
‫اج َع ْلنا‬ ‫أع ْذنا ِم ْن َط ْر ِد َك َوا ْب ِ‬
‫ش َب ُق ْربِ َك ! َف ِ‬ ‫َوما َأ ْط َي َب َط ْع َم ُح ِّب َك َو َ‬
‫ماأ ْع َذ َب ِ ْ‬
‫يم يا‬ ‫يك َو َأ ْخ َل ِ‬
‫ص ُع َّباِ َدك‪ ،‬يا َع ِظ ُ‬ ‫باد َك َو َأ ْص َد ِق طائِ ِع َ‬
‫يك َو َأ ْص َل ِح ِع ِ‬ ‫ص عا ِر ِف َ‬ ‫ِم ْن َأ َخ ِّ‬
‫الر ِ ِ‬ ‫َ‬
‫ني) ‪.‬‬‫اح َ‬ ‫يل بِ َر ْحَتِ َك َو َمن َِّك ياأ ْر َح َم َّ‬
‫يم يا ُمنِ ُ‬‫يل يا َك ِر ُ‬ ‫َج ِل ُ‬
‫مناجاة العارفني‪171.................................................................................................‬‬

‫شرح الفقرات المباركة‬


‫((الهي قصرت االلسن عن بلوغ ثنائك))‬
‫التقصري‪ :‬التواين يف االمر وعدم االهتامم‪ ،‬وهو يؤدي اىل عدم االلتفات والتوجه‬
‫ويف الواجبات التقصري يف االداء‪ ،‬ويف حقه تعاىل عدم الشكر فضال عن عدم الطاعة‬
‫واالنتهاء عن نواهيه تعاىل‪.‬‬
‫االلسن‪ :‬اللسان واحد اجلارحة التي فيها قوة النطق‪ ،‬والعرب جعلت اللسان‬
‫اشارة اىل القول وهي استعارة معروفة يف املخاطبات العرفية كام يف قوله تعاىل‬
‫(( واجعل يل لسان صدق يف االخرين))‬
‫بلوغ‪ :‬اي الوصول اىل الغاية من بلغت االمر اىل منتهاه‪.‬‬
‫والثناء‪ :‬الذكر اجلميل واملدح تعظي ًام المر املثني عليه‪ ،‬والثناء عليه ذكر نعمه‬
‫وحسن بالئه يف خلقه‪.‬‬
‫ُ‬
‫اي مهام يدعي احدٌ انه بلغ الثناء يف حقه تعاىل فهو جاهل قارص ومقرص‪ ،‬اذ ال‬
‫يمكن الحد ان يبلغ ثناءه وهي تعداد نعمه اذ ذلك يعتمد عىل معرفته‪ ،‬ومعرفة‬
‫االنسان مهام بلغت فلم تبلغ الغاية احلقيقية يف معرفته تعاىل‪.‬‬
‫((كما يليق بجاللك))‬
‫اللياقة هي املناسبة وال يليق بفالن االمر اي ال يناسبه‪.‬‬
‫وجاللك‪ :‬اجلالل‪ ،‬العظمة واالرتفاع‪ ،‬وهي اشارة اىل عدم انتهاء الثناء عليه‪ ،‬اذ‬
‫عظمته ال تبلغه االفهام وال تدركه العقول‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 172‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫(( وعجزت العقول عن ادراك كنه جمالك))‬


‫الكنه‪ :‬هو حقيقية اليشء وهنايته ويقال عرفه كنه املعرفة اي حقيقة املعرفة‬
‫وغايتها‪.‬‬
‫مجالك‪ :‬من اجلامل وهي صفاته تعاىل الثبوتية التي يعرفه هبا خلقه‪ ،‬ومل يبلغ احد‬
‫االحاطة بصفاته ومعرفة مجاله تعاىل‪.‬‬
‫فالعقول ال يمكنها ان تبلغ كنه معرفته بصفاته التي ُعرف هبا تعاىل‪ ،‬اذ مل ينكشف‬
‫الحد اال القليل اليسري يف معرفة ما حتويه صفاته تعاىل‪.‬‬
‫((وانحسرت االبصار دون النظر الى سبحات وجهك))‬
‫انحرست‪ :‬من االنحساروهو االنكشاف‪ ،‬اي انكشفت االبصار‪ ،‬وهنا بمعنى‬
‫تراجعت وعجزت كام يف قوله تعاىل بيانا عن عجز االبصار يف انكشاف املعرفة‬
‫احلقة ((ينقلب اليك البرص خاسئا وهو حسري)) امللك‪4 :‬‬
‫سبحات وجهك‪ :‬انوار عظمتك وجالل قدسك‪.‬‬
‫اذ ال يمكن ان تدرك ابصار احلقيقة ببصائر املعرفة لتنظر اىل انوار عظمتك‪ ،‬فان‬
‫النور كلام سطع بقوته خطف ابصار الناظر ومنعه من التمعن فيه (( ينقلب البرص‬
‫خاسئا وهو حسري)) امللك‪4 :‬‬
‫(( ولم تجعل للخلق طريقا الى معرفتك اال بالعجز عن معرفتك))‬
‫وهذا اصل احلق اذ مل يستطع االنسان مهام بلغ من املعرفة ان يبلغ شأو ًا من‬
‫االحاطة بكنه مجاله‪ ،‬اال ان االعرتاف بالعجز هو حقيقة املعرفة به‪ ،‬اذ ال ينبغي‬
‫مناجاة العارفني‪173.................................................................................................‬‬

‫لالنسان دعوى بعض معرفته فض ً‬


‫ال عن معرفته‪ ،‬فاذا بلغ الغاية يف كامل املعرفة‪ ،‬بلغ‬
‫الغاية يف االعرتاف بالنقص عن ادراك كنهه‪ ،‬والعجز عن بلوغ معرفته‪ ،‬فسبحان‬
‫ِ‬
‫معرفته‪.‬‬ ‫العجز عن‬
‫ُ‬ ‫من َّ‬
‫اجل معرفته‬
‫وهذا من أهم ما يمكن تلخيصه يف عجز االنسان عن معرفة كنه معرفة اهلل تعاىل‬
‫وهو العجز عن املعرفة‪،‬حيث هي املعرفة احلقة يف حقه تعاىل‬
‫(( الهي فاجعلنا من الذين ترسخت اشجار الشوق اليك في حدائق‬
‫صدورهم ))‬
‫اذا كان الشوق هو نزوع النفس اىل اليشء املحبوب لغ ًة‪ ،‬فان الشوق عرف ًا بمعنى‬
‫نزوع النفس وهياجها للقاء املحبوب‪ ،‬والزمه العمل بام يريض ذلك املحبوب‪ ،‬فان‬
‫من اسباب صدق الشوق هو صدق العمل الذي يريده املحبوب‪.‬‬
‫وهنا تشبيه الشوق باشجاره املغروسة لكن يف حدائق الصدور‪ ،‬وهي استعارة‬
‫مجيلة ان جعل عليه السالم الشوق اشجار ًا تغرس يف ارض صدورنا كي تقر قرار ًا‬
‫ِ‬
‫ونموه واثامره‪ ،‬كام‬ ‫يف مكنوهنا‪ ،‬واستعارة االشجار اشار ًة اىل تزايد هذا الشوق‬
‫االشجار تنمو يف ارض خصبة وتثمر بعد ذلك‪.‬‬
‫(( واخذت لوعة محبتك بمجامع قلوبهم))‬
‫امر يكرهه‪.‬‬
‫اللوعة‪ :‬احلزن واجلزع الذي ينتاب االنسان اذا ما دهاه ٌ‬
‫وجمامع القلوب ‪ :‬وسطه ومركزه وكانه اجتامع القلب يف مكان واحد سمي‬
‫جمامع القلب‪ ،‬كام يف جممع اليد اذا مجع يده ورضب هبا يقال رضبني بمجمع يده‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 174‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫حيث هذا اهلياج واحلزن الذي جيتمع يف القلب جتده قد خ ّلف لوع ًة بفعل اثر‬
‫حمبتك والشوق اليك‪.‬‬
‫(( فهم الى اوكار االفكار يأوون ))‬
‫االوكار‪ :‬مكان الطائر وهو عشه الذي يأوي اليه‪.‬‬
‫وااليواء‪ :‬االستقرار والركون اىل اليشء واختاذه منزال وسكن ًا ‪.‬‬
‫واستعار هنا االفكار بالطائر الذي يأوي اىل مكان يستقر فيه ويطمئن اليه‪ ،‬وكأن‬
‫املتفكر بعظمته وجالله ال يستقر حتى يأوي اىل حيث االفكار التي تاخذ به اىل‬
‫االستقرار والقرار‪.‬‬
‫(( وفي رياض القرب والمكاشفة يرتعون ))‬
‫الكشف‪ :‬بمعنى االظهار عىل احلقائق اخلفية التي ال يصل اليها اال ذوو القرب‬
‫وهم االخيار الصاحلني املرتاضني عىل املعرفة واملواظبني عىل الوصول اىل احلقائق‬
‫اخلفية فيدركهم توفيق القرب واالنكشاف ‪.‬‬
‫ويرتعون ‪ :‬رتع يف املرعى اي جاءت وذهبت دون ان يمنعها مانع يف راتعه‪.‬‬
‫قرب معنى القرب بأن اهل املحبة يرتعون يف رياض القرب واملكاشفة‬
‫وهنا ّ‬
‫مبتهجني بام آتاهم اهلل وانعم عليهم بنعمه وبذلك فيكون العارف قريب ًا اليه تعاىل‬
‫من خالل ما فتح سبحانه من اسباب النظر واالنكشاف‪.‬‬
‫الم َ‬
‫الط َف ِة َي ْك َر ُعونَ )‪.‬‬ ‫الم َح َّب ِة بِ َك ْأ ِ‬
‫س ُ‬ ‫( َو ِم ْن ِح ِ‬
‫ياض َ‬
‫هذه هي حاالت أهل التقوى الذين غلب عليهم حب اهلل ونبذوا غريه‪ ،‬فهم‬
‫مناجاة العارفني‪175.................................................................................................‬‬

‫يتشوقون إليه حبا وتعلقا به‪ ،‬ورجاء رمحته وفوزا بكرمه‪ ،‬وهم يكرعون من رياض‬
‫حمبته كام يكرع الظامئ اللهفان املاء الزالل؛ فهو ال يرشب رشبا عاديا بل يكرع هنام‪،‬‬
‫ويعب عبا دون أن يرتوي ويشبع ‪.‬‬
‫هذا هو حال من أحب اهلل ومتعن يف حمبته هذه‪ ،‬فهو ال يتذوق هذا احلب إال بكأس‬
‫خاصةدون غريها‪ ،‬وهي كأس املالطفة يسقى من رحيق هذه املحبة‪ ،‬وال يصل‬
‫املحب بحبه إىل اهلل تعاىل إال من خالل ما يغدق عليه احلق من التلطف به‪ ،‬أو املالطفة‬
‫إليه سبحانه‪ ،‬واملالطفة هذه ال تنتهي بمورد واحد بل هي متعددة اجلوانب متشبعة‬
‫الطرق‪ ،‬فمرة يتلذذ املحب بمناجاته ‪،‬وأخرى يتذوقها بام يفيض عليه من نعمه‪ ،‬أو‬
‫يستسقيها بام خيتار إليه من أنواع املحن ليبتليه فيعظم بالؤه فيه فيزداد حبا له وحبا به‪،‬‬
‫وهذه هي درجة الصديقني التي ال نجدها إال عند أئمة اهلدى (عليهم السالم) فكلام‬
‫صب عليهم من أنواع املحن‪ ،‬ازدادوا دنوا إليه وحمبة له‪ ،‬ذلك ألن املؤمن إذا ابتاله‬
‫ربه بأنواع البالء‪ ،‬أظهر حبه له بالتسليم إليه‪ ،‬والتوكل عليه‪ ،‬والصرب عىل طاعته ونبذ‬
‫معصيته‪ ،‬فالتسليم والتوكل والصرب مقومات احلب احلقيقي الذي يصل بالعبد‪ ،‬وقد‬
‫أظهر أبو عبد اهلل احلسني عليه السالم هذه املقومات يوم عاشوراء بمناجاته لربه (إن‬
‫كان هذا يرضيك فخذ حتى ترىض) فأي تسليم لقضاء اهلل تعاىل وأي توكل عليه وأي‬
‫صرب عىل بالئه أظهره اإلمام وهو يف أشد األحوال التي تزهق فيها النفوس من عظم‬
‫ما جرى عليه؟ لكنه أظهر حبه (عليه السالم) يف هذه األهوال احلالكة واألحوال‬
‫الشائكة التي ال يتجاوزها إال صدّ ُ‬
‫يق ُمصدّ ق ‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 176‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫ردونَ )‪.‬‬ ‫ِ‬


‫صافات َي ُ‬ ‫(و َشرايِ َع ُ‬
‫الم‬ ‫َ‬
‫تدرج اإلمام (عليه السالم) يف وصفهم فهم يكرعون‬ ‫ٌ‬
‫وصف حلال هؤالء‪ ،‬فقد ّ‬
‫من كأس املالطفة‪ ،‬بل يردون من رشيعة الصفاء الذي أوصلهم هذه املنزلة‪ ،‬فهم‬
‫كرعوا من الكأس لكنهم استأنسوا فأوردهم رهبم من رشيعة الصفاء‪ ،‬وهو بحر‬
‫من الكرامة واملعرفة والقرب يغدقه عليهم‪ ،‬حتى أنه سبحانه وتعاىل أوردهم موارد‬
‫الكرامة‪ ،‬فالصفاء هو اليقني الذي وصلوا اليه بحبهم هلل‪.‬‬
‫فالعبادة هي اخلضوع القلبي والتسليم‬ ‫(((‬ ‫(و ْاع ُبدْ َر َّب َك َح َّتى َي ْأتِ َي َك ال َي ِقنيُ )‬
‫َ‬
‫(ح َّتى‬
‫النفيس والتوكل عليه‪،‬والتفويض اليه‪،‬فاذا اجتاز ذلك بلغ مراتب اليقني َ‬
‫َي ْأتِ َي َك ال َي ِقنيُ ) فعن أيب عبد اهلل الصادق (عليه السالم) قال ‪ :‬ليس يشء إال وله حد‪،‬‬
‫قال (عليه السالم) ‪ :‬جعلت فداك فام هو حد التوكل ؟ قال ‪ :‬اليقني‪ ،‬قلت فام حد‬
‫اليقني؟ قال‪ :‬أن ال ختاف مع اهلل شيئ(((ا ‪.‬‬
‫وعن اإلمام موسى بن جعفر (عليه السالم) قال ‪ :‬سألته عن اليقني فقال (عليه‬
‫السالم) ‪ :‬يتوكل عىل اهلل ويس ّلم هلل‪ ،‬ويرىض بقضاء اهلل ويفوض اىل اهلل((( ‪.‬‬
‫طاء َعـ ْ َ‬
‫ـن َعقائِ ِد ِه ْم‬ ‫ـن أ ْبصا ِر ِه ْم َوان َْج َل ْت ُظ ْل َم ُة َّ‬
‫الر ْي ِ‬
‫ب َعـ ْ‬ ‫(قد ُك ِش َف ِ‬
‫الغ ُ‬
‫َوضامئِ ِر ِه ْم)‪.‬‬
‫وهذا هو املقصود من اليقني؛ وهو انجالء ظلمة الشك عن ضامئرهم وعقائدهم‬

‫(( ( ‪-‬احلجر ‪.99‬‬


‫(( ( –الكايف‪،‬باب فضل اليقني‪57/2،‬‬
‫(( ( –حتف العقول ‪،‬يف قصار كلامت االمام الكاظم عليه السالم ص‪.408‬‬
‫مناجاة العارفني‪177.................................................................................................‬‬

‫(((‬
‫ص َك‪ ‬ا ْل َي ْو َم َ‬
‫‪ ‬ح ِديد)‬ ‫نك ِغ َط َاء َك‪َ  ‬ف َب َ ُ‬
‫بعد أن كشف هلم الغطاء باليقني ( َف َك َش ْفنَا َع َ‬

‫فوصول االنسان إىل اليقني ؛يف عامل امللكوت ‪،‬وبعد رحيله عن هذه الدنيا ‪،‬وحترر‬
‫جسده من ماديات البدن الذي حيبس الروح عن االنكشاف هلا؛ لتصل اىل مراتب‬
‫العلم اليقيني ‪.‬و يمكن بمثله أن يتحرر اإلنسان عن قيود البدن وينفلت عن العامل‬
‫املادي إىل العامل امللكويت الذي يغدقه باليقني واملعرفة احلقيقية‪ ،‬فتنجيل عنهم ظلم‬
‫الشكوك ليجدوا انوار اليقني الساطعة تغرق فيها قلوهبم بعد الرين‪ ،‬وتسبح فيها‬
‫ابصارهم بعد العمى ‪.‬‬
‫الش ِّك َع ْن ُق ُلوبِ ِه ْم َو َسرائِ ِر ِه ْم)‪.‬‬ ‫(وا ْن َت َف ْت ُم َ‬
‫خال َج ُة َّ‬ ‫َ‬
‫االختالج بمعنى االضطراب‪ ،‬فاختالج العضو يعني اضطرابه‪ ،‬وال يكون هذا‬
‫االضطراب إال بسبب مادي أو داع معنوي‪ ،‬أي اضطراب اجلوانح واجلوارح‪،‬و‬
‫هلام اسباهبام املادية واملعنوية‪ ،‬فاألعضاء ال تضطرب إال بفعلٍ ما كارتعاش اليد‬
‫ٍ‬
‫ضعف ينتاهبا‪ ،‬أو عاملٍ خارجي حييط هبا–كام يف‬ ‫وارجتــاف االعضاء؛ بسبب‬
‫حاالت الربد مثال‪ ،‬ترتعش االعضاء وترجتف ألهنا ال تقوى عىل ذلك أو مايداهم‬
‫االنسان من أم ٍر حيزنه أو خيوفه فريجتف خوف ًا ويضطرب فرق ًا من ذلك فاألعضاء‬
‫هم أو بالء– فهي‬ ‫تستجيب ألية حالة ٍنفسية تداهم االنسان من خوف أو ٍ‬
‫فرح أو ٍ‬
‫اذن ختتلج فكل اضطراب اختالج ‪.‬‬
‫فاملؤمن الذي يصل اىل مراتب اليقني وانكشفت لديه مدارج املعرفة ودواعي‬
‫احلكمة‪ ،‬فإن مقتىض االضطراب القلبي عنده سينتفي بعد ذلك‪ ،‬ألن دواعيه منتفية‬
‫(( ( –ق‪.22‬‬
‫‪ ................................................................................. 178‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫وهي موارد الشكوك التي ترد عىل القلب‪ ،‬وهي اخلطرات الشيطانية التي تصاحب‬
‫االنسان فرتاوده بني فرتة وأخرى ‪.‬‬
‫ففي وصيته لكميل بن زياد قال أمري املؤمنني (عليه السالم) ‪ :‬يا كميل اذا‬
‫وسوس الشيطان يف صدرك قل (أعوذ باهلل القوي من الشيطان الغوي‪ ،‬وأعوذ‬
‫بمحمد الريض من رش ما قدر وقىض‪ ،‬وأعوذ بإله الناس من رش اجلنة والناس‬
‫أمجعني) وس ّلم تكف مؤنة إبليس والشياطني معه‪ ،‬ولو أهنم كلهم أبلسة مثله ‪.‬‬
‫يا كميل أن هلم خدعا وشقاشق وزخارف ووساوس وخيالء عىل كل أحد‪ ،‬قدر‬
‫منزلته يف الطاعة واملعصية‪ ،‬فبحسب ذلك يستولون عليه بالغلبة((( ‪.‬‬
‫فالشيطان يتسول عىل قاممة الشك‪ ،‬كام يتسول الذباب عىل قاممة األوساخ‪ ،‬فإذا‬
‫ذهبت ادران الشك ذهبت معها تسوالت الشيطان التي هي تسويالته ومكائده ‪.‬‬
‫فسبب اضطراب القلب بسبب ما يتالعب به الشيطان من تغريره‪ ،‬فوصف‬
‫اإلمام (عليه السالم) اختالج القلوب بالشك‪ ،‬أي اضطراهبا بالشكوك‪ ،‬وبالتايل‬
‫سكوهنا باملعرفة واليقني ‪.‬‬

‫الم ْع ِر َف ِة ُصدُ ُ‬
‫ور ُه ْم)‪.‬‬ ‫يق َ‬‫(وا ْن َش َر َح ْت بِت َْح ِق ِ‬
‫َ‬
‫االنرشاح هي سعة الصدر لقبول احلق‪ ،‬وهو عكس الضيق‪ ،‬وتوسعوا فيه حتى‬
‫قالوا يف كل ما يرفع االهبام عنه رشح‪ ،‬ومنه رشح احلديث اي توضيحه ورفع ما‬
‫مرفوع عنه كل ما من شأنه يعيق الفهم‬
‫ٌ‬ ‫ُأهبم فيه‪ ،‬أو ضبب عليه فهو مرشوح‪ ،‬أي‬

‫(( ( –بحار االنوار‪،‬الباب احلادي عرش يف وصيته (امري املؤمنني) عليه السالم‪271/74‬‬
‫مناجاة العارفني‪179.................................................................................................‬‬

‫لبعض العوارض فيسهل فهمه وقبوله ‪.‬‬


‫وانـــراح الصدر سعته بقبول احلــق‪ ،‬أي امكانية تقبل املــعــارف االهلية‬
‫*‪ ‬و َو َض ْعنَا َع ْن َك ِوزْ َر َك‪ ((() ‬فهو – أي‬
‫ش ْح َل َك َصدْ َر َك َ‬ ‫والفيوضات الربانية َ‬
‫(أ َ ْل‪َ  ‬ن ْ َ‬
‫انرشاح الصدر– احدى النعم التي اغدقها اهلل عىل نبيه حممد (صىل اهلل عليه واله)‬
‫وهي احدى مقومات الرسول (صىل اهلل عليه واله) لتلقي الفيوضات الربانية‪،‬‬
‫واستحصال املعارف االهلية ‪.‬‬
‫اذن فانرشاح الصدر احدى اسباب تلقي املعرفة االهلية‪ ،‬والصدر الضيق ال يسع‬
‫ملثل هذه املعارف والفيوضات ان تاخذ مكاهنا فيه‪ ،‬فمن مقومات التلقي للمعارف‬
‫االهلية هي رحابة الصدر أي سعته؛ لينفتح عىل كل هذه الفيوضات؛ فيستقبل‬
‫ل ُنو ٍر ِم ْن‬ ‫ش َح َّ ُ‬
‫الل َصدْ َر ُه لِ ْل ِْس َل ِم َف ُه َو َع َ ٰ‬ ‫املعرفة بدون تردد وال تكلف‪َ .‬‬
‫(أ َف َم ْن َ َ‬
‫ني)((( فالقسوة تقابل‬ ‫اللِ * ُأ َٰ‬
‫ولئِ َك ِف َض َل ٍل ُمبِ ٍ‬ ‫وب ْم ِم ْن ِذ ْك ِر َّ‬
‫اس َي ِة ُق ُل ُ ُ‬
‫َر ِّب ِه * َف َو ْي ٌل لِ ْل َق ِ‬
‫االنرشاح؛ ألن القسوة تعني ضيق الصدر فال يستوعب اهلداية‪ ،‬والقلب كاإلناء‬
‫متى ما ضاق فهو غري قادر عىل استقبال ما يفيض عليه ( َف َمن ُي ِر ِد اللَّ ُ َأن َ ْي ِد َي ُه َي ْ َ‬
‫ش ْح‬
‫ا‪ ‬ك َأ َنَّم َي َّص َّعدُ ِف الس ََّم ِء‬ ‫َصدْ َر ُه لِ ْل ِْس َل ِم * َو َمن ُي ِر ْد َأن ُي ِض َّل ُه َ ْي َع ْل َ‬
‫‪ ‬صدْ َر ُه َض ِّي ًقا َح َر ًج َ‬
‫ين َل ُيؤْ ِم ُنونَ )((( فالرجس هو احد مقتضيات‬ ‫س َع َل ا َّل ِذ َ‬ ‫*ك َٰذلِ َك َ ْي َع ُل اللَّ ُ ِّ‬
‫الر ْج َ‬ ‫َ‬
‫ضيق الصدر الذي يمنع من تلقي فيوضات اهلداية‪ ،‬وطهارة النفس جتعل القلب‬
‫منبسطا منرشحا لفضل اهلل ورمحته ‪.‬‬
‫(( ( –الرشح ‪2-1‬‬
‫(( ( –الزمر ‪22‬‬
‫(( ( –االنعام ‪125‬‬
‫‪ ................................................................................. 180‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫( وعــــلــــت لـــســـبـــق الــــســــعــــادة يف الــــــزهــــــادة مهــمــهــم)‬


‫عال اليشء اي ارتفع واستطال‪.‬‬
‫والسبق‪ :‬التقدم يف السري كام يف قوله تعاىل ((فالسابقات سبقا)) النازعات‪4 :‬‬
‫والزهادة‪ :‬اسم مصدر من الزهد وهو القناعة باليشء اليسري‪ ،‬والزهيد القليل‬
‫كام يف قوله تعاىل (( وكانوا فيه من الزاهدين )) يوسف‪20 :‬‬
‫اهلم احلزن‪ ،‬واذا تعدى بـ (به) بمعنى اخذه‪ ،‬واذا احلقت به التاء صارت بمعنى‬
‫العزيمة وهي اهلمة‪ ،‬واصلها من اهلم اي ما اهم االنسان احلصول عليه والوصول‬
‫ٌ‬
‫عزيمة ال تفرت حتى يناهلا هبمته‪.‬‬ ‫اليه ف ُيحدث عنده‬
‫واملعنى هنا ان سعادة هؤالء العارفني بسبب ما زهدوا فيه من امر الدنيا فزادهم‬
‫يقين ًا وعزم ًا عىل تركها والتوجه صوب رمحته ونحو رضاه‪ ،‬مما زاد يف عزائمهم‬
‫ونوجههم يف ترك الدنيا فكانت سعادهتم بذلك‪.‬‬
‫( وعذب في معين المعاملة ِشربهم )‬
‫عذب‬
‫ٌ‬ ‫عذب‪ :‬العذب هو الطيب البارد وخيتص باملاء كام يف قوله تعاىل ((هذا‬
‫فرات)) الفرقان ‪53 :‬‬
‫واملعني‪ :‬اذا معن املاء اي جرى فهو معني‪.‬‬
‫اي كانت معاملتهم بعد معرفتهم تزداد عذوب ًة كعذوبة املاء املعني حيث يتحسس‬
‫هبا ذوو البصائر واملعارف‪،‬وهكذا كلام زاد معرف ًة زاد تذوق ًا هلذا القرب الذي ال‬
‫حيسنه سوى العارف السالك‪.‬‬
‫مناجاة العارفني‪181.................................................................................................‬‬

‫( وطاب في مجلس االنس سرهم)‬


‫الطيب اصله ما تستلذه احلواس والنفوس‪ ،‬وطاب اسم فاعل‪.‬‬
‫وجملس‪ :‬اسم آلة ما ُيلس به ُ‬
‫ويتمع فيه‪.‬‬
‫االنس‪ :‬ما تأنس به النفس فرتتفع وحشتها واضطراهبا‪.‬‬
‫والرس‪ :‬خالف االعالن وهو ما يرسه االنسان يف نفسه‪ ،‬او ما يعمله يف اخلفاء‬
‫فيكون رس ًا‪.‬‬
‫قال تعاىل ((ويعلم ما ترسون وما تعلنون )) التغابن ‪ 4:‬وقوله تعاىل (( وارسوا‬
‫قولكم او اجهروا به)) امللك ‪13 :‬‬
‫وهنا بمعنى ان جمالسهم تطيب بام ترسه نفوسهم من االتصال به تعاىل عن طريق‬
‫معرفته‪ ،‬فال يستوحشون وال يضطربون ‪.‬‬
‫وام َن في موطن المخافة ِسربهم)‬
‫( ِ‬
‫االمن هو خالف اخلوف بمعنى الطمأنينة واستقرار النفس‪.‬‬
‫الرسب‪ :‬الذهاب مع عدم املانع من خوف عدو‪ ،‬او صد طريق من مرض وغريه‪.‬‬
‫واملعنى‪ :‬فإن هــؤالء العارفون ال يستوحشون مما حيدق هبم من خوف او‬
‫سبب يف ذهاهبم يف‬
‫اضطراب حيث ان تعلقهم باهلل تعاىل وانقطاعهم اليه ٌ‬
‫هذه الدنيا وعن هذه الدنيا امنني وادعني ال خيافون وال يرتددون حيث كل‬
‫الطرق توصلهم اليه تعاىل اذا احسنوا املسري ووقفوا يف التوجه اليه‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 182‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫( واطمأنت بالرجوع الى رب االرباب انفسهم )‬


‫املقصود من الرجوع هو ما كتبه اهلل تعاىل عىل عباده من املوت‪ ،‬حيث قسموا‬
‫املوت اىل انواع بحسب مؤداه فمنها ما يصيب القوة النامية لقوله تعاىل (( حييي‬
‫االرض بعد موهتا )) الروم ‪ 19 :‬ومنها ما يصيب املوت القوة احلاسبة لقوله تعاىل‬
‫(( يا ليتني مت قبل هذا )) مريم‪ 23 :‬واخرى يصيب القوة العاقلة لقوله تعاىل ((‬
‫او من كان ميتا فاحييناه )) االنعام ‪ 122 :‬ورابعة ما يصيب املزاج فيصيبه بسببه‬
‫االضطراب واخلوف لقوله تعاىل (( ويأتيه املوت من كل مكان وما هو بميت ))‬
‫ابراهيم ‪17:‬‬
‫يعب عن املنام باملوت لقوله تعاىل (( اهلل يتوىف االنفس حني موهتا‬
‫واخلامس‪ :‬ما ّ‬
‫والتي مل متت يف منامها )) الزمر‪ ،42 :‬وهنا الرجوع اليه تعاىل باملوت مرة لقوله تعاىل‬
‫(( يا ايتها النفس املطمئنة ارجعي اىل ِ‬
‫ربك راضي ًة مرضية)) ومرة بالرجوع اليه‬
‫تعاىل وهو املآب اليه كام يف قوله تعاىل (( واهلل عنده حسن املآب)) ال عمران‪14 :‬‬
‫واالوبة هي التوبة كام يف وصفه لسيامن عليه السالم لقوله تعاىل (( ووهبنا لداود‬
‫سليامن نعم العبد انه اواب )) ص‪ 30 :‬فاطمئناهنم بالرجوع اليه لتوبتهم واعرتافهم‬
‫(وتيقنت بالفوز والفالح ارواحهم )‬
‫ْ‬ ‫بحاجتهم اليه يف كل آن‬
‫اليقني لغ ًة‪ :‬العلم الذي ال شك معه ويف االصطالح هو االعتقاد باليشء وعند‬
‫اهل احلقيقة هي رؤية العيان بقوة االيامن ال بحجة وبرهان ‪.‬‬
‫والفالح ‪ :‬الفوز والظفر والنجاح ‪.‬‬
‫مناجاة العارفني‪183.................................................................................................‬‬

‫فان ارواحهم اعتقدت جزم ًا بأهنا ستدرك الظفر بلقائه ورضاه‪.‬‬


‫( وقرت بالنظر الى محبوبهم اعينهم )‬
‫االقرار‪ :‬االطمئنان واالستقرار‪.‬‬
‫والنظر ‪ :‬نظر القلب وهو نظر البصرية‪ ،‬اذ ال يمكن النظر اليه تعاىل حيث ال ُيد‬
‫بحد‪ ،‬وال يؤين بأين‪.‬‬
‫وهنا النظر اليه تعاىل هو ادراك رمحته‪ ،‬وانرشاح صدورهم بمعرفته‪ ،‬واحاطتهم‬
‫بعفوه وكرمه ‪.‬‬
‫( واستقر بادراك السؤل ونيل المأمول قرارهم )‬
‫استقر من االقرار اي السكون واالطمئنان‪.‬‬
‫االدراك بمعنى الطلب واللحوق‪ ،‬ويصح يف االمر املادي اذا قلت ادرك زيدٌ‬
‫عمرو ًا‪ ،‬اذا حلقه‪ ،‬ويف االمر املعنوي ذاا قلت ادرك زيدٌ غايته‪ ،‬واملقصود هنا الثاين ‪.‬‬
‫املأمول ‪ :‬اسم مصدر من االمل وهو تعلق النفس باالمر املحبوب وحصوله‬
‫اطمع‬
‫ُ‬ ‫مستقب ً‬
‫ال‪ ،‬ومثله الرجاء كام يف قولك ارجو له النجاح‪ ،‬والطمع يف قولك‬
‫رمحة ريب‪ ،‬واالمل عاد ًة ما ُيستعمل لليشء املستبعد حصوله‪ ،‬والرجاء والطمع ما‬
‫يستقرب وقوعه‪.‬‬
‫واملعنى هنا ان العارفني استقرت نفوسهم بنيل مناهم‪ ،‬ودرك رجاهم‪ ،‬وهو‬
‫حصوهلم عىل غايتهم يف القرب اليه تعاىل من خالل معرفتهم ‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 184‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫( وربحت في بيع الدنيا باالخرة تجارتهم )‬


‫الربح هو الفضل والزيادة يف املال وجماز ًا قيل يف كل ما يعود من ثمرة عمل‪.‬‬
‫وما يقال يف الربح املادي قيل مثله يف الربح املعنوي‪،‬فأن أعواض الدنيا يف‬
‫املاديات معروفة ‪ ،‬وأعواض االخرة يف املعنويات مشهورة وقد فاز من باع دنياه‬
‫بآخرته‪ ،‬وخاب من باع آخرته بدنياه‪ ،‬هذا هو دأب العارفني‪ ،‬اذ ال يرون للدنيا اثر ًا‬
‫فهي زائلة‪ ،‬واالخرة باقية خالدة‪ ،‬وقد ادركوها بحقائق بصائرهم فكيف يقدمون‬
‫دار‬
‫باق؟ وقد قال االمام امري املؤمنني ‪ ‬يف الدنيا‪ :‬اال وان الدنيا ٌ‬ ‫شيئ ًا ٍ‬
‫فان عىل ام ٍر ٍ‬
‫ٍ‬
‫بيشء كان هلا‪ ،‬ابتيل الناس هبا فتن ًة فام اخذوه منها‬ ‫ال يسلم منها اال فيها‪ ،‬وال ينجي‬
‫هلا ُاخرجوا منه وحوسبوا عليه‪ ،‬وما اخذوه منها لغريها قدموا عليه واقاموا فيه‪،‬‬
‫فاهنا عند ذوي العقول كفيء الظل‪ ،‬بينا تراه سابغ ًا حتى قلص‪ ،‬وزائد ًا حتى نقص‪.‬‬
‫هنج البالغة‪ 151 :‬خطبة ‪.62‬‬
‫وعيل ‪ ‬سيد العارفني وامامهم وقد رأى الدنيا كام وصفها فهل يبقى ألحد‬
‫ٍ‬
‫لشخص فيها قرار؟!‬ ‫منهم فيها مقام‪ ،‬او‬
‫( الهي ما الذ خواطر االلهام بذكرك على القلوب)‬
‫اللذة ‪ :‬ادراك اليشء باحلواس وهي املاديات‪ ،‬او ادراكها بالنفوس واالرواح‬
‫وهي املعنويات وقد عرفوها بعضهم باهنا‪ :‬ادراك املالئم من حيث انه مالئم‬
‫كالصمت احلسن عند حاسة السمع‪.‬‬
‫واخلواطر‪ :‬مجع خاطر وهو ما خيطر عىل القلب اي يرد عليه من غري تكلف‪ ،‬اذ‬
‫مناجاة العارفني‪185.................................................................................................‬‬

‫ال مدخل لالنسان يف اصطناعه واجياده ‪.‬‬


‫االهلام‪ :‬هو القاء اليشء يف القلب ليحثه عىل الفعل او النهي‪ ،‬وهو ما يلقيه اهلل‬
‫تعاىل يف روع العبد يفيض عليه وهو احد افراد الوحي‪.‬‬
‫ري لذ ًة ال يعرفها احدٌ اال من كان يف جوارك‬
‫اهلي ذكرك يف خواطر من عرفك تث ُ‬
‫قريب ًا فيناجيه ويسألك‪.‬‬
‫( وما احلى المسير اليك باالوهام في مسالك الغيوب )‬
‫املسري اليك ‪ :‬السلوك اليه تعاىل ال يتحقق اال بالتوجه اليه يف خلوص النية‬
‫واملعرفة التي توصل السالك اىل ان تنفتح بصريته عىل الكثري من احلقائق وذلك‬
‫من خالل العمل الدؤوب الذي يزكي النفس من خالل ممارسة االمور العبادية‬
‫بالتدبر واخلضوع التي هتدي السالك اىل فتح آفاق الوصول اليه تعاىل‪.‬‬
‫واالوهام‪ :‬مجعه وهم وهي القوة االدراكية لكثري من املعاين اجلزئية للمحسوسات‬
‫كشجاعة زيد وسامحة عمرو وهي القوة التي تدرك هبا الشاة خطورة الذئب وحب‬
‫الولد وادراك املتعة من منظر مجيل وهكذا‪ ،‬فهي تصورات اخلواطر التي تدور يف‬
‫ذهن االنسان‪.‬‬
‫ومسالك الغيوب ‪ :‬الطرق املؤدية اىل الغيب‪ ،‬والغيب كل ما غاب عن احلس‬
‫فيكون غيب ًا وهو عىل قسمني‪:‬‬
‫احدمها‪ :‬ما ليس عليه دليل وهو ما اختص به علمه تعاىل وع ّلمه خلاصة اوليائه‬
‫وهم النبي (ص)وأئمة اهلدى عليهم صلوات اهلل وسالمه‬
‫‪ ................................................................................. 186‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫وثانيهام ‪ :‬ما اقام عليه الدليل ‪ :‬كوجوده تعاىل واجلنة والنار واملالئكة وغريها ‪.‬‬
‫واملعنى ان السالك اليك بمداركه وبدهيياته الفطرية يسري اليك ليصل اىل ما‬
‫غاب حسه عن غريه ممن مل يستعني بفطرته للوصول اىل مكامن الغيب الذي خفي‬
‫عىل الكثري يف حقائقه اجللية لذوي البصائر‪.‬‬
‫( وما اطيب طعم حبك)‬
‫اطيب‪ :‬اسم تفضيل من طيب اذا استلذت له احلواس والنفوس‪ ،‬كام يف الطعم اللذيذ‬
‫الذي تستطيبه حاسة الذوق‪ ،‬او العطر الذي تستطيبه حاسة الشم‪ ،‬واليشء الذي يريح‬
‫النفس من كال ٍم او منظ ٍر او غري ذلك تستلذ به النفوس وتأنس له االذواق‪.‬‬

‫والطعم‪ :‬كل ما تدركه حاسة الذوق كاالشياء احللوة وامثاهلا ‪.‬‬


‫فان الطعم الطيب ال يقترص عىل حاسة الذوق بل افضله ما تستلذ به النفوس‬
‫وتدركه القلوب‪ ،‬فعن ايب عبد اهلل الصادق ‪ ‬قال‪ ... :‬اذا ختىل املؤمن من الدنيا‬
‫سام ووجد حالوة حب اهلل‪ ،‬وكان عند اهل الدنيا كأنه قد خولط‪ ،‬وانام خالط القوم‬
‫(((‬ ‫حالوة حب اهلل فلم يشتغلوا بغريه‪.‬‬
‫( وما اعذب شرب قربك)‬
‫اعذب‪ :‬اسم تفضيل لعذب‪ ،‬وهو صفة للامء اذا صار طيب ًا بارد ًا يقال ٌ‬
‫ماء عذب ‪.‬‬
‫رشب طيب ال يستسيغه اال العارفون‪ ،‬واستعارة الرشب‬
‫ٌ‬ ‫وكأن قربه تعاىل هو‬
‫لبيان شدة تعلق النفس وخماطرة الوجدان لليشء فيقال ُارشب يف قلبه حب املال‬

‫(( ( الكايف ‪ 2:105‬بابذم الدنيا والزهد فيها ح ‪10‬‬


‫مناجاة العارفني‪187.................................................................................................‬‬

‫اذا تعلق قلبه باملال‪ ،‬كام يف قوله تعاىل (( ُ‬


‫وأرشبوا يف قلوهبم العجل)) البقرة ‪93:‬‬
‫والتقدير حب العجل حيث تعلقوا به وغفلوا عن حب اهلل تعاىل‪.‬‬
‫( فأعذنا من طردك وابعادك )‬
‫اعذنا من العوذ وهو اللجوء واالعتصام كام يف قولك اعوذ باهلل من الشيطان‬
‫الرجيم‪ ،‬اي استعيذ واجلأ اليك من كيد الشيطان ‪.‬‬
‫طردك‪ :‬اي ابعادك وهو ما يتضمن املهانة واالذالل‪.‬‬
‫واالبعاد‪ :‬من ال ُبعد وهو خالف القرب‪.‬‬
‫ٍ‬
‫استعاذة من الطرد الذي يوجب الذل‪ ،‬واالبعاد الذي يوجب احلرمان‪.‬‬ ‫وهنا بيان‬
‫( واجعلنا من اخص عارفيك )‬
‫بأن جتعل فينا اسباب التوفيق ومقتضيات اهلداية لنكون من خواص العارفني‬
‫بك‪ ،‬وذلك بأن هتدينا اىل معامل معرفتك وموارد توفيقك‪.‬‬
‫عبادك)‬ ‫َ‬
‫واصدق طائعيك واخلص ّ‬ ‫( واصلح عبادك‬
‫اي اجعل يف عبادك ما يصلحهم لطاعتك‪ ،‬وذلك من خالل ما يرفع عنهم اسباب‬
‫الفساد‪ ،‬وابعادهم باهلداية عام يشينهم من الذنوب وهو ليس من باب إجبارهم وفعل‬
‫اليشء فيهم حتى ال يصدر منهم من خرييكون سببه فعل اهلل هبم‪ ،‬بل ان يبني هلم‬
‫موارد اهلداية ودواعي االصالح‪ ،‬وان حيبب هلم االيامن ويبغّ ض هلم الكفر والفسوق‬
‫(واعلمو ان فيكم رسول اهلل لو يطيعكم يف كثري من االمر لعنتم ولكن اهلل حبب‬
‫اليكم االيامن وزينة يف قلوبكم وكره اليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم‬
‫‪ ................................................................................. 188‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫الفاسقون)‪.‬احلجرات‪ ،7:‬وصفات عبادك الذين يستوجبون االصالح هم من‬


‫اصدقك الطاعة واخلص لك يف العبادة‪ ،‬اي مل يرشك يف عبادته وطاعته احدٌ غريك‪.‬‬
‫( يا عظيم يا جليل يا كريم يا منيل برحمتك يا ارحم الراحمين )‬
‫العظيم‪ :‬اليشء الكثري وقد اس ُتعري هنا لبيان كامل ذاته تعاىل وعلو شأنه ‪.‬‬
‫يا جليل‪ :‬عظيم الشأن‪.‬‬
‫يا كريم‪ :‬الكريم اي ذو الكرم وهو اجلود والصفح ويطلق عىل كل ما ُي َ‬
‫رض ُ‬
‫ويمد‪.‬‬
‫يا منيل‪ :‬من النوال وهو االعطاء‪.‬‬
‫ثم يستعني برمحته تعاىل ألنه ارحم الرامحني‪.‬‬
‫المناجاة الثالث عشرة‪:‬‬
‫مناجاة الذاكرين‬
‫ْم الله الرَّحْم ِن الرَّح ِ‬
‫ِيم‬ ‫بِس ِ‬
‫اك َعىل َأنَّ ِذ ْك ِري َل َك‬ ‫ُك ِم ْن ِذ ْك ِري إِ َّي َ‬ ‫ول َأ ْم ِر َك َلن ََّز ْهت َ‬
‫الواج ُب ِم ْن َق ُب ِ‬
‫ِ‬ ‫«إِهلِي َل ْوال‬
‫يس َك َو ِم ْن َأ ْع َظ ِم‬ ‫بِ َقدْ ِري البِ َقدْ ِر َك َوما َعسى َأنْ َي ْب ُل َغ ِم ْقدا ِري َح ّتى ُأ ْج َع َل َ َم ً‬
‫ال لِ َت ْق ِد ِ‬
‫يح َك‪،‬‬ ‫الن َِّع ِم َع َل ْينا َج َريانُ ِذ ْك ِر َك َعىل َأ ْل ِسنَتِنا َوإِ ْذ ُن َك َلنا بِدُ عائِ َك َو َت ْن ِزهيِ َك َو َت ْسبِ ِ‬
‫الس ِاء‬
‫ال ْسا ِر َو ِف َ َّ‬ ‫الن َوا ِ‬ ‫ال ْع ِ‬ ‫الء َوال َّل ْيلِ َوال َّنها ِر َوا ِ‬ ‫الء َواملَ ِ‬ ‫اخل ِ‬‫إِهلِي َف َأ ْلِ ْمنا ِذ ْك َر َك ِف َ‬
‫ض َوجا ِزنا‬ ‫الس ْع ِي املَ ْر ِ َ‬‫الز ِك ِّي َو َّ‬‫الع َملِ َّ‬ ‫است َْع ِم ْلنا بِ َ‬ ‫الذ ْك ِر َ‬
‫اخل ِف ِّي َو ْ‬ ‫الض ِاء َوآنِ ْسنا بِ ِّ‬ ‫َو َ َّ‬
‫الع ُق ُ‬
‫ول ا ُملتَبايِ َن ُة‬ ‫ت ُ‬ ‫ج َع ِ‬ ‫الوال ُة َو َعىل َم ْع ِر َفتِ َك ُ ِ‬
‫وب ِ َ‬ ‫الق ُل ُ‬ ‫ف‪ ،‬إِهلِي بِ َك ها َم ْت ُ‬ ‫الو ِ َّ‬
‫يزان َ‬ ‫بِ ْال ِ ِ‬
‫ياك‪َ ،‬أن َْت ا ُمل َس َّب ُح ِف‬‫وس إِ ّال ِع ْن َد ُر ْؤ َ‬ ‫وب إِ ّال بِ ِذ ْك ِر َك َوال َت ْس ُك ُن ال ُّن ُف ُ‬ ‫الق ُل ُ‬ ‫َفال َت ْط َمئِ ُّن ُ‬
‫وان َواملَدْ ُع ُّو بِ ُك ِّل لِ ٍ‬
‫سان َوا ُمل َع َّظ ُم ِف‬ ‫ود ِف ُك ِّل َأ ٍ‬‫مان َواملَ ْو ُج ُ‬ ‫ود ِف ُك ِّل َز ٍ‬ ‫كان َواملَ ْع ُب ُ‬ ‫ُك ِّل َم ٍ‬
‫ي ُأن ِْس َك َو ِم ْن ُك ِّل‬ ‫ي ِذ ْك ِر َك َو ِم ْن ُك ِّل َ‬
‫راح ٍة بِ َغ ْ ِ‬ ‫نان‪َ ،‬و َأ ْس َتغْ ِف ُر َك ِم ْن ُك ِّل َل َّذ ٍة بِ َغ ْ ِ‬ ‫ُك ِّل َج ٍ‬
‫ياأ َّيا‬‫احل ُّق‪َ :‬‬ ‫طاعتِ َك‪.‬إِهلِي َأن َْت ُق ْل َت َو َق ْو ُل َك َ‬ ‫ي َ‬ ‫ي ُق ْربِ َك َو ِم ْن ُك ِّل ُشغْ لٍ بِ َغ ْ ِ‬ ‫سو ٍر بِ َغ ْ ِ‬ ‫ُ ُ‬
‫احل ُّق‪:‬‬ ‫ال‪َ ،‬و ُق ْل َت َو َق ْو ُل َك َ‬ ‫ين آ َمنُو ا ْذ ُك ُروا اهلل ِذ ْكر ًا َكثِري ًا َو َس ِّب ُحو ُه ُب ْك َر ًة َو َأ ِصي ً‬ ‫ا َّل ِذ َ‬
‫‪189‬‬
‫‪ ................................................................................. 190‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫ون َأ ْذ ُك ْر ُك ْم‪َ ،‬ف َأ َم ْر َتنا بِ ِذ ْك ِر َك َو َو َعدْ َتنا َع َل ْي ِه َأنْ َت ْذ ُك َرنا َت ْ ِ‬


‫شيف ًا َلنا َو َت ْف ِخي ًام‬ ‫َفا ْذ ُك ُر ِ‬
‫ين َويا‬ ‫اك ِر َ‬ ‫الذ ِ‬ ‫ِ‬
‫ياذاك َر َّ‬ ‫وك َكام َأ َم ْر َتنا َف َأن ِْج ْز َلنا ما َو َعدْ َتنا‬ ‫ذاك ُر َ‬ ‫إعظام ًا ؛ َوها َن ْح ُن ِ‬ ‫َو ْ‬
‫ني »‪.‬‬ ‫اح َ‬ ‫الر ِ ِ‬ ‫َ‬
‫أ ْر َح َم َّ‬
‫مناجاة الذاكرين‪191.................................................................................................‬‬

‫شرح الفقرات المباركة‬


‫((الهي لوال الواجب من قبول امرك لنزهتك من ذكري اياك))‬
‫الذكر هو كل ما يقال استحضار ًا ملكنون النفس واجيــاده باي ٍ‬
‫لفظ خيرجه‬
‫الشخص وقد نقل الراغب يف مفرداته حيث قال‪ :‬قيل الذكر ذكران‪:‬‬
‫ذكر القلب‬
‫وذكر اللسان‬
‫ٍ‬
‫واحد منهام رضبان‪:‬‬ ‫وكل‬
‫ذكر عن نسيان‬
‫وذكر ال عن نسيان بل عن ادامة احلفظ ‪.‬‬
‫وكل قول يقال له ذكر‪ ،‬فمن الذكر باللسان قوله تعاىل ((لقد انزلنا اليكم كتاب ًا‬
‫فيه ذكركم)) االنبياء‪10:‬‬
‫لذكر لك ولقومك)) الزخرف‪44 :‬‬
‫وقوله تعاىل ((وانه ٌ‬
‫ونزهتك اي قدستك‪ ،‬والتنزيه بمعنى التطهري‪ ،‬وهنا بيان لكون ذكري لك ال‬
‫يناسب شأنك ورفعتك‪ ،‬ولكن ما اوجبته ع َّ‬
‫يل من الذكر قبلت ان اذكرك بام هو‬
‫شأين مؤمتر ًا المرك‪ ،‬مطيعا الرادتك فذكرت‪ ،‬اذ اين لست اه ً‬
‫ال لذكرك‪ ،‬فاكون‬
‫مستحقا هلذا املقام‪ ،‬وهو مقام الذاكرين‪.‬‬
‫وقد ورد يف احلث عىل الذكر من االيات والروايات ما ال يسعه املقام لكن نذكره‬
‫نموذجي ًا‪:‬‬
‫‪ ................................................................................. 192‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫قوله تعاىل‪((:‬واذكر ربك يف نفسك ترضع ًا وخيفة ودون اجلهر من القول‬


‫بالغدو واالصــال وال تكن من الغافلني))‪.‬االعراف‪ 205:‬وقوله تعاىل‪((:‬انام‬
‫املؤمنون الذين اذا ذكر اهلل وجلت قلوهبم واذا اتليت عليهم أياته زادهتم ايامن ًا وعىل‬
‫رهبم يتوكلون ))‪.‬االنفال ‪ 2:‬وعن النبي ‪‬قال‪:‬ما من قوم اجتمعوا يف جملس فلم‬
‫يذكروا اسم اهلل عز وجل ومل يصلو عىل نبيهم اال كان ذلك املجلس حرسة ووباال‬
‫عليهم ‪ .‬وعن أيب عبد اهلل ‪ ‬قال‪ :‬شيقنا الذين خلوا ذكروا اهلل كثريا‪.‬‬
‫وقال رسول اهلل (ص) ‪:‬من اكثر ذكر اهلل عز وجل احبه اهلل ‪،‬ومن ذكر اهلل كثريا‬
‫كتبت له براءتان‪:‬براء ٌة من النار وبراء ٌة من النفاق ‪ .‬اىل غريها من االحاديث الكثرية‬
‫احلاثة عىل ذكر اهلل تعاىل ‪(.‬الكايف ‪ 359:2‬باب ما جيب من ذكر اهلل يف كل جملس)‬
‫((على ان ذكري لك بقدري ال بقدرك))‬
‫قدر‪ :‬يكون الدال مبلغ اليشء ثم استعملوه يف الوقار واحلرمة والتعظيم والشأن‬
‫فيقال ‪ :‬ليس لفالن عندي قدر اي شأن او حرمة‪.‬‬
‫وهنا بيان كون العبد ال يبلغ يف ذكره هلل تعاىل قدر الذكر الذي ينبغي جلالله‬
‫ومجاله‪ ،‬بل هو بقدر شأن الذاكر الذي ال ُيعد شيئ ًا اذا ما قورن مع عظم شأنه‪،‬‬
‫وهكذا هي العبادات كلها‪ ،‬اذ ال يمكن ان يبلغ املكلف حق عبادته تعاىل وقدر‬
‫تعظيمه‪ ،‬وال يمكن ان يبلغ عبادته كام هو اال املعصوم‪ ،‬وهــذه من الربكات‬
‫الوجودية للمعصوم سواء كان حارض ًا ام كان غائب ًا‪ ،‬ومن هنا عرفنا قول االمام‬
‫امري املؤمنني ‪ :‬لوال احلجة لساخت االرض باهلها‪ ،‬لعدم متامية الغرض من اخللق‬
‫مناجاة الذاكرين‪193.................................................................................................‬‬

‫وهي العبادة حيث قوله تعاىل (( وما خلقت اجلن واالنس اال ليعبدون)) فعلة‬
‫االجياد هي العبادة التي ال حيسن االتيان هبا اال املعصوم‪ ،‬وهبذا فكل متعلق يف‬
‫حق اهلل يايت به العبد يكون ناقص ًا لنقصان القدرة عىل تأدية حقه تعاىل‪ ،‬اذ ال يؤدي‬
‫مه اليه‪.‬‬
‫املحتاج حق الغني اال بتفضل الغني عىل املحتاج قبول ما يقدّ ُ‬
‫(( وما عسى ان يبلغ مقداري حتى ُأجعل مح ً‬
‫ال لتقديسك))‬
‫عسى من افعال الرتجي‪ ،‬والبلوغ‪ ،‬وصول االمر اىل ٍ‬
‫غاية ما‪.‬‬
‫والتقديس‪ :‬التنزيه قدره الذي يبلغ فيه لتنزهيه تعاىل‪ ،‬اذ ذلك حيتاج اىل شأن‬
‫املنزه‪ ،‬ويف املخاطبات العرفية ال ُتقبل الشهادة يف امر حتى يكون‬
‫يتناسب شأن ّ‬
‫يقيم يشء البد ان يكون مؤه ً‬
‫ال لذلك التقييم وما اراد ان‬ ‫من شأنه الشهادة‪ ،‬ومن ّ‬
‫يعرف امر فالبد ان يكون عارف ًا به حق معرفته فكيف يصل العبد الضعيف اىل‬
‫معرفة املطلق الذي ال حيده حد وال حيويه فكر ‪ ،‬وهل انا اهل لتنزهيك يا اهلي حتى‬
‫انزهك واقدسك؟‬
‫(( ومن اعظم النعم علينا جريان ذكرك على السنتنا ))‬
‫فان استحقاقنا اقل من ان نذكرك وندعوك بالسنتنا‪ ،‬لفقرنا وضعفنا فام نحن‬
‫وقدرنا حتى نزعم انا نذكرك ونسالك؟‬
‫(( واذنك لنا بدعائك وتنزيهك وتسبيحك))‬
‫االذن من باب علم‪ :‬اطلقت له فعله‪ ،‬واذنه تعاىل قيل عبارة عن امره وقيل عن‬
‫ارادته وقيل عن اجيابه ليشء يتوسط فاعله املبارش له كام يف قوله تعاىل لعيسى ‪(( ‬‬
‫‪ ................................................................................. 194‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫وتربئ االكمه واالبرص باذين)) املائدة ‪ 110:‬انتهى ما يف قاموس الصحيفة‪ ،‬واذن‬


‫اهلل هنا هي جعل االسباب واملقتضيات يف اليشء لتأهيله‪ ،‬وما جعله عندنا من القوة‬
‫والعقل والتمييز بل واالرادة لدعائه وهدايتنا لذلك فهي من اعظم النعم وأوفاها‪،‬‬
‫اذ بام وهب لنا من القوة واهلداية دعوناه ومن ثم هدانا لتنزهيه وتسبيحه‪ ،‬والتنزيه‬
‫بمعنى التقديس‪ ،‬والتسبيح بمعنى التنزيه‪ ،‬وهنا ننزهك عن ذكرنا اياك بام ال يليق‬
‫بشأنك وجاللك‪ ،‬وهو اعرتاف بعجزنا وفاقتنا عن اداء ما يليق بجاللك األقدس‪.‬‬
‫((الهي فالهمنا ذكرك في الخالء والمالء والليل والنهار واالعالن‬
‫واالسرار وفي السراء والضراء))‬
‫االهلام‪ :‬ما يلقى يف الروع يقال‪ :‬اهلمه اهلل اي القى يف روعه ويف قاموس الصحيفة‪:‬‬
‫قال يف الرياض‪ :‬االهلام ‪ :‬ان يلقى اهلل يف نفس العبد امرا يبعثه عىل الفعل او الرتك‬
‫بطريق الفيض وهو نوع من الوحي خيص اهلل من يشاء من عباده‪.‬‬
‫واخلالء‪ :‬كل مكان خيلو عن الناس وال ساتر فيه وال بناء يقال له خالء وهو من‬
‫اخللو حيث يستعمل للزمان واملكان‪ ،‬كام يف قولك خال الزمان من كذا وقوله تعاىل‬
‫(( وما حممد اال رسول قد خلت من قبله الرسل)) ال عمران ‪ 144 :‬ويف املكان‬
‫عند قولك خال املكان من زيد‪ ،‬وأخليت املكان له‪.‬‬
‫واملالء‪ :‬عكسها وهو ما كان مليئ ًا بالناس وحتت انظارهم ‪.‬‬
‫االعالن‪ :‬العالنية ضد الرس قال الراغب‪ :‬اكثر ما يقال ذلك يف املعاين دون‬
‫االعيان يقال ‪ :‬أعىل كذا‪ ،‬واعلنته انا‪ ،‬قال تعاىل (( اعلنت هلم وارسرت هلم ارسارا))‬
‫مناجاة الذاكرين‪195.................................................................................................‬‬

‫نوح‪ 9:‬انتهى‪ ،‬واالرسار‪ :‬خالف االعالن كام يف قوله تعاىل من االية الكريمة حيث‬
‫اعلن وارس فاستعمل املتقابلني لبيان ما بذله من جهد يف انذارهم وتبليغهم يف‬
‫اخلفاء واالظهار‪.‬‬
‫ٍ‬
‫حسن عند االنسان‬ ‫ٍ‬
‫ظاهرة او باطنة‪ ،‬وكل حال‬ ‫ٍ‬
‫نعمة‬ ‫الرساء‪ :‬حسن احلال من‬
‫فهو رساء‪ ،‬ولعل اصلها من الرسور وهو راحة البال والفرح الذي يدخل عىل‬
‫النفس من يشء حتبه النفس ومتيل اليه‪.‬‬
‫والرضاء‪ :‬ضده اي هو سوء احلال لقلة مال او فضلٍ كام يف قوله تعاىل (( وكشفنا‬
‫ما به من رض)) االنبياء‪ ،84:‬وهو من الرضر الذي يدخل عىل االنسان فيسوءه‬
‫وحيزنه ‪.‬‬
‫((وأنسنا بالذكر الخفي ))‬
‫االنس بالضم‪ :‬كل يشء يدخل عىل النفس فريفع عنها الوحشة ويدخل عليها‬
‫الراحة والطمأنينة لتأنس به‪ ،‬وسمي االنسان انسان ًا من انسه بمثله‪ ،‬اي يأنس اىل‬
‫من هو مثله يف االنسانية اي يطمئن ويسكن اليه‪.‬‬
‫اخلفي‪ :‬اليشء املسترت غري الظاهر لقوله تعاىل(( ادعوا ربكم ترضعا وخفية))‬
‫االعراف‪ ،55 :‬وكل ما استرت فهو خمفي قال تعاىل(( ان تبدوا الصدقات فنعام هي‬
‫خري لكم)) البقرة ‪271 :‬‬
‫وان ختفوها وتؤتوها الفقراء فهو ٌ‬
‫واالنس بذكره و كل ما تسكن اليه النفس وتطمئن‪ ،‬ويلجا اليه الذاكر يف احواله‬
‫كلها ليأنس به خصوص ًا اذا خفي عن االخرين واختىل بذكر ربه فيكون له مؤنس ًا‬
‫‪ ................................................................................. 196‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫رافع ًا للوحشة واالنعزال‪ ،‬الن يف الذكر اخلفي ٌ‬


‫أنس للذاكر غري الذكر الظاهر الذي‬
‫قد يكون فيه شائبة رياء‪.‬‬
‫((واستعملنا بالعمل الزكي))‬
‫العمل الزكي اي الطاهر وهو كل عمل صالح يراد به وجهه تعاىل قال تعاىل‬
‫(( ولوال فضل اهلل عليكم ورمحته ما زكى منكم من احد ابدا)) النور‪ 21 :‬فالعمل‬
‫الصالح هو من لطفه وفضله تعاىل ليغدقه عىل عباده فيجعلهم قادرين عىل ما يصلح‬
‫من االعامل التي يستحق عليها املدح والثناء‪.‬‬
‫واالستعامل ‪ :‬اي ما جيعل فيه األهلية للقيام بالعمل الطاهر الصالح‪ ،‬ويمكنه‬
‫وخييل بينه وبني ما يشغله ليكون متوجه ًا موفق ًا هلذا العمل‪.‬‬
‫(( والسعي المرضي))‬
‫السعي‪ :‬قال الراغب ‪ :‬السعي امليش الرسيع وهو دون العدو‪ ،‬ويستعمل للجد‬
‫يف االمر‪ ،‬خري ًا كان او رشا قال تعاىل (( وسعى يف خراهبا)) البقرة‪ 114:‬واكثر ما‬
‫يستعمل السعي يف االفعال املحمودة‪.‬‬
‫واملريض‪ :‬املقبول واملمدوح ‪.‬‬
‫ويطلب االمام ‪ ‬ان يستعمله اهلل تعاىل بالتوفيق اىل العمل الزكي والسعي املريض‪.‬‬
‫((وجازنا بالميزان الوفي))‬
‫جازنا‪ :‬اي كافئنا واعطنا‪ ،‬واكثر ما يستعمل يف اليشء احلسن كقوله تعال ((‬
‫جزاء احلسنى)) الكهف‪ 88 :‬وقوله تعاىل ((جزاهم بام صربوا جن ًة وحريرا))‬
‫ً‬ ‫فله‬
‫مناجاة الذاكرين‪197.................................................................................................‬‬

‫االنسان ‪ 12 :‬وقد يستعمل باليشء املذموم اي مقابلة االمر املذموم بمثله كام هو‬
‫مقابلة احلسن بمثله كام يف قوله تعاىل (( وجزاء ٍ‬
‫سيئة سيئ ًة مثلها ))الشورى‪40:‬‬
‫امليزان‪ :‬الة تعرف فيها أقدار االشياء وأوزاهنا وقد ورد ذكره يف القران الكريم‬
‫اشــارة اىل ما ُيتحرى من مراعاة العدل من االفعال كام يف قوله تعاىل ((وزنــوا‬
‫بالقسطاس املستقيم)) الشعراء‪ 182:‬وقوله تعاىل ((واقيموا الوزن بالقسط))‬
‫الرمحن ‪9 :‬‬
‫والويف‪ :‬من الوايف بمعنى التام غري الناقص لقوله تعاىل ((واوفــوا الكيل اذا‬
‫كلتم)) االرساء ‪35:‬‬
‫مجع بليغ‪ ،‬حيث امليزان‬
‫وهنا مجع االمام ‪ ‬بني امليزان وبني اليشء الوايف‪ ،‬وهو ٌ‬
‫اشارة اىل عدله وعدم الزيادة يف اليشء او النقيصة فيه‪ ،‬والويف هو ما يستويف فيه‬
‫االمر كله‪ ،‬فكام يطلب من اهلل تعاىل ان يوزن له عمله بالقسط لعدله سبحانه‪ ،‬فهو‬
‫يطالبه باالمر الوايف لكرمه وجوده‪ ،‬وقد مجع هنا بني العدل والقسط وبني الكرم‬
‫والعطاء‪.‬‬
‫واملعنى اي اعطنا بعدلك وخصنا بكرمك ‪.‬‬

‫((الهي بك هامت القلوب الوالهة))‬


‫اهليام شدة العشق وأصله من هامت االبل اذا أصاهبا داء العطش فياخذ هبا‬
‫بعيدا عن اقامتها‪ ،‬فمثل العاشق الذي به عشق الوجد باهليام فهو هائم‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 198‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫والوله‪ :‬شدة الشوق واحلنني يقال وهلت االم اىل ولدها اي حنت واشتاقت‬
‫والوله اليه تعاىل هي حمبته والرغبة اليه وصدق التقرب اىل ساحته تعاىل‪.‬‬
‫فخطاب االمام ‪ ‬ان قلوب املؤمنني العارفني قد حنت واشتاقت لذكرك‬
‫وبذكرك‪.‬‬
‫(( وعلى معرفتك ُجمعت العقول المتباينة))‬
‫فمعرفتك جتمع القلوب املختلفة واملتفرقة‪ ،‬والتباين هو االختالف‪ ،‬فالذي‬
‫جيمع شتات القلوب هي معرفتك والقرب اليك‪ ،‬وهذا ما يلحظه االنسان يف‬
‫احلج والصالة وغريها من الشعائر‪ ،‬اذ تتوجه القلوب املختلفة واالفهام املتباينة‬
‫اىل هدف واحد وهو رضاه‪ ،‬وان اختلفت يف الطريقة‪ ،‬وتعارضت يف الوسيلة‪ ،‬اذ‬
‫ٍ‬
‫حممد واله خزان العلم ومنبع اللطف‪.‬‬ ‫افضل الوسائل اليه هم‬
‫((فال تطمئن القلوب اال بذكرك))‬
‫الطمأنينة ‪ :‬سكون النفس بعد انزعاجها لقوله تعاىل (( اال بذكر اهلل تطمئن‬
‫القلوب)) الرعد‪ 28 :‬فذكره تعاىل يعطي حال ًة من السكينة واالرتياح ترتاد عىل‬
‫النفس فيؤنسها‪ ،‬ويبعد عنها ما اصاهبا من اضطراب‪ ،‬وكل قلق ال يبقى عند ذكره‬
‫تعاىل لذا فان املعرفة والذكر الدائم يدفع عن النفس مهزات الشيطان ووسواسه‪.‬‬
‫(( وال تسكن النفوس اال عند رؤياك))‬
‫السكون خالف االضطراب واالنزعاج‪ ،‬والرؤية هي الرؤية القلبية التي ينظر‬
‫االنسان اليه تعاىل بقلبه لتنزهه عن احلد املكاين والزماين‪ ،‬ومعنى اجلملة ان النفس‬
‫مناجاة الذاكرين‪199.................................................................................................‬‬

‫ال تستقر اال عند مشاهدة رمحتك وفيوضات نعمك‪.‬‬


‫(( انت المسبح في كل مكان ))‬
‫التسبيح ‪ :‬التنزيه‪ ،‬واحلركة الرسيعة يف اهلواء او يف املاء تسمى سبح ًا ومنها السباحة‬
‫لقوله تعاىل (( كل يف ٍ‬
‫فلك يسبحون)) االنبياء ‪ 33 :‬وقوله تعاىل ((والسابحات‬
‫سبحا)) النازعات ‪ 3:‬ومنه التسبيح‪:‬وهو احلركة واملرور الرسيع عند ذكره تعاىل‬
‫فسمي تسبيح ًا‪ ،‬وهو يف النية كام يف الذكر‪ ،‬فكل ما كان تنزهي ًا او بمعناه فهو تسبيح‪،‬‬
‫ومنه قول الذاكر ((سبحان اهلل )) اي نزهت اهلل‪.‬‬
‫يسبح اهلل تعاىل‪ ،‬وهو‬
‫وقوله ‪ ‬ان كل ما يف املكان من خملوق ُيرى وما ال يرى ّ‬
‫االعرتاف بربويته من كل املخلوقات واملوجودات كام يف قوله تعاىل (( تسبح له‬
‫الساموات السبع واالرض ومن فيهن وان من يشء اال يسبح بحمده ولكن ال‬
‫تفقهون تسبيحهم )) االرساء ‪44:‬‬
‫قال الراغب‪ :‬قوله تعاىل ((وهلل يسجد ما يف الساموات وما يف االرض )) النحل‪:‬‬
‫ٍ‬
‫وجه ال نفقهه‪،‬‬ ‫‪ 49‬فذلك يقتيض ان يكون تسبيح ًا عىل احلقيقة‪ ،‬وسجود ًا له عىل‬
‫والنه ُمال ان يكون ذلك تقديره‪ ،‬ثم يعطف عليه بقوله (( ومن فيهن )) واألشياء‬
‫كلها تسبح له وتسجد بعضها بالتسخري وبعضها باالختيار‪ ،‬وال خالف ان‬
‫مسبحات بالتسخري‪ ،‬من حيث ان احواهلا تدل عىل‬
‫ٌ‬ ‫الساموات واالرض والدواب‬
‫حكمة اهلل تعاىل‪ ،‬وانام اخلالف يف الساموات واالرض هل تسبح باختيار‪ ،‬واالية‬
‫تقتيض ذلك بام ذكرت من الداللة ‪ ..‬راجع مفردات القران باب سبح‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 200‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫((والمعبود في كل زمان))‬
‫مطيع له‬
‫ٌ‬ ‫فعبادته تعاىل مل تتوقف حلظ ًة واحدة‪ ،‬فكل ما يف الكون حتت ارادته‬
‫مستسلم اليه‪ ،‬ولو تابع االنسان دوران االرض وتغيري الساعات من ٍ‬
‫بلد اىل بلد‪،‬‬
‫ورشوق الشمس او غروهبا‪ ،‬واختالف اوقات الصالة بني البلدان ليجد املتابع‬
‫ان الناس كلهم خماطبون بالصالة طيلة اوقات النهار والليل‪ ،‬فال يفرت احد من‬
‫املخلوقني املكلفني عن عبادته‪ ،‬فضال عام ارشنا اليه ان الساموات واالرض دائبني‬
‫عىل عبادهتم له تعاىل لقوله سبحانه (( تسبح له الساموات السبع واالرض ومن‬
‫فيهن وان من يشء اال يسبح بحمده ولكن ال تفقهوون تسبيحهم)) االرساء ‪44 :‬‬
‫فثبت انه املعبود يف كل مكان وكل زمان سبحانه وبحمده‪.‬‬
‫((والموجود في كل أوان))‬
‫أوان‪ :‬مجع أن وهو الوقت من الليل والنهار غري مشار اليه كأن يكون ساعة او‬
‫ٍ‬
‫قطعة من قطعات الزمان هي أن من أنات الليل والنهار‪.‬‬ ‫اكثر او اقل من ذلك‪ ،‬فكل‬
‫وهو املوجود يف كل وقت‪ ،‬فال ختلو من وجوده قطعة من قطعات الزمان‪ ،‬ألن‬
‫الواجب ال ينقطع عن املمكن املحتاج اليه واملتقوم بوجوده‪.‬‬
‫((والمدعو في كل لسان))‬
‫اللسان‪ :‬اجلارحة التي يتكلم هبا االنسان والعرب استعارت اللسان لتجعله‬
‫بمعنى اللغة التي يتفاهم هبا االنسان مع االخرين‪ ،‬وقد استعري اللسان اجلارحة‬
‫هبذا املعنى‪ ،‬واحيان ًا هي قوة النطق التي التي يتحرك هبا اللسان وينطق الخراج‬
‫مناجاة الذاكرين‪201.................................................................................................‬‬

‫احلروف بأصواهتا املختلفة‪.‬‬


‫وهنا اشارة اىل انه سبحانه يدعوه الناس بمختلف لغاهتم وأفهامهم ‪.‬‬
‫((والمعظم في كل جنان))‬
‫املعظم‪ :‬اليشء ّ‬
‫العظيم الذي تراه األعني كبري ًا حتى ُيلقى يف الروع هيب ًة وعزة‪.‬‬ ‫ّ‬

‫واجلنان ‪ :‬بمعنى القلب‪ ،‬وسمي بذلك لتجننه اي استتاره واختفائه‪ ،‬فسمي‬


‫جنان ًا‪ ،‬وكل مستور خمفي هو كذلك‪.‬‬
‫واملعظم يف كل جنان‪ ،‬حيث ما من ٍ‬
‫قلب اال ويستشعر هيبته وعظمته تعاىل‪ ،‬بل‬
‫ٍ‬
‫يشء إال ويشعر بتعظيمه وهيبته وهيمنته‪ ،‬حتى أولئك املنكرون له‪ ،‬فاهنم‬ ‫ما من‬
‫بالتايل ال جيدون بد ًا من االعرتاف بعظمته وجالله‪.‬‬
‫((واستغفرك من كل ٍ‬
‫لذة بغير ذكرك))‬
‫ٍ‬
‫وبشهية تدفع اىل متابعة اليشء‬ ‫اللذة‪ :‬كل ما تدركه احلواس من حالة ارتياح‬
‫املسبب لذلك االرتياح‪ ،‬وكل بحسبه‪ ،‬فالسمع يلتذ بالصوت احلسن والبرص يلتذ‬
‫بالنظر اجلميل لالشياء‪ ،‬واللسان يلتذ بالطعم الطيب وهكذا النفس تلتذ بام ُيدخل‬
‫عليها االرتياح ويسبب هلا االشتياق من اجل احلصول عىل ذلك املسبب‪.‬‬
‫وهنا االستغفار عن كل لذة اشغلته عن ذكر اهلل تعاىل‪ ،‬اذ النفس تتوجه اىل ذلك‬
‫اليشء اللذيذ منشغل ًة عن ذكره تعاىل‪ ،‬وقد استوجب هذا االنشغال والسهو عن‬
‫ذكره االستغفار‪ ،‬وهكذا فان استغفار املعصوم هو من هذا الباب‪ ،‬ولكن املعصوم‬
‫عليه السالم‪ ،‬ال يشغله عن ذكر اهلل حتى تلك االمور املوجبة اىل الغفلة عن ذكره‬
‫‪ ................................................................................. 202‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫مع اباحتها‪ ،‬فان نفس املعصوم بنورانيتها ال تنشغل بيشء دون يشء‪ ،‬فهي مستوعبة‬
‫كل االشياء غري غافلة باذن اهلل تعاىل ‪.‬‬
‫ٍ‬
‫راحة بغير انسك))‬ ‫(( ومن كل‬
‫الراحة‪ :‬اطمئنان النفس وسكوهنا‪ ،‬واالنس ‪ :‬هو ما يذهب وحشة النفس به‪،‬‬
‫فكل ما يأنس اليه االنسان اي يذهب وحشته فهو أنس‪ ،‬وأنسه تعاىل عند ذركه‬
‫هو ما يدخل االطمئنان يف القلب ويريح النفس لقوله تعاىل ((اال بذكر اهلل تطمئن‬
‫القلوب)) فكل راحة ختلو عن ذكرك الذي ال يبعث عىل انسك فهي عبث استغفرك‬
‫فيام فرطت به‪ ،‬ومتاديت يف اتيانه‪.‬‬
‫((ومن كل سرور بغير قربك))‬
‫الرسور‪ :‬اخفاء الفرح وكتامنه‪ ،‬واكثر ما يظهر عىل املحيا قال تعاىل (( ولقاهم‬
‫نرض ًة ورسورا)) االنسان‪11 :‬‬
‫قربك‪ :‬اي القرب املعنوي‪ ،‬لعدم حده تعاىل يف مكان ‪.‬‬
‫وهنا بمعنى ان كل امر يبعث رسورا فهو هباء ال حيسب له حساب احلقيقة‪ ،‬اذ‬
‫الرسور احلقيقي والفرح الواقعي هو رضاك‪ ،‬والقرب كناية عن قربه اليه سبحانه‪.‬‬
‫(( ومن كل شغل بغير طاعتك))‬
‫الشغل‪ :‬العارض الذي يذهل االنسان سواء كان خري ًا او رش ًا فلم يتوجه اال‬
‫اليه‪ ،‬وهو بحسبه وأمهيته قال تعاىل ((ان اصحاب اجلنة اليوم يف شغلٍ فاكهون))‬
‫يس‪55:‬‬
‫مناجاة الذاكرين‪203.................................................................................................‬‬

‫واملعنى هنا هو اين استغفرك من كل شغل هو ليس فيه من طاعتك نصيب ًا‪،‬‬
‫فاالشتغال بغري ذكر اهلل هلو‪ ،‬فاستغفرك اللهم فيام بينهام‪.‬‬
‫اهلي انت قلت وقولك احلق ‪ :‬يا اهيا الذين امنوا اذكروا اهلل ذكرا كثريا وسبحوه‬
‫بكرة واصيال وقلت وقولك احلق ‪ :‬فاذكروين اذكركم اذ قولك ال خلف فيه‬
‫وال رجوع‪ ،‬بل قولك عهد وحق‪ ،‬حيث قلت كلام تذركروين اذكركم فاذكروين‬
‫بالطاعة‪ ،‬أذكركم بالنعم‪ ،‬واذكروين بالرخاء اذكركم بالرضاء‪ ،‬فمالزمة الذكر هلل‬
‫تعاىل يقابلها ذكر اهلل لعبده غري الغافل عن ذكره تعاىل‪.‬‬
‫والتسبيح‪ :‬التنزيه‪ ،‬وبكرة من البكور وهو أول ساعة من النهار‪ ،‬واألصيل هو‬
‫اخر النهار وهو العشية‪ ،‬اي سبحوه أول النهار وأخره وما بينهام‪ ،‬وورد عن االمام‬
‫الصادق ‪ : ‬الذكر الكثري هو تسبيح فاطمة عليها السالم‪.‬‬
‫(( فأمرتنا بذكرك ووعدتنا عليه ان تذكرنا تشريف ًا لنا وتفخيم ًا‬
‫واعظام ًا))‬
‫وهكذا هي رمحته ولطفه بنا اذ أمرنا بذكره ودعائه وهذا هو منتهى اللطف لغنائه‬
‫عن ذكرنا وعدم حاجته اليه‪ ،‬ثم هو سبحانه يذكرنا مقابل ذكرنا له وذلك ترشيفا‬
‫لنا وتعظيام مع حاجتنا لذكره وعدم استغنائنا عن دعائه ‪.‬‬
‫(( وها نحن ذاكروك كما امرتنا فانجز لنا ما وعدتنا))‬
‫أنجز له ما وعده اذا وىف ما وعده‪ ،‬وانجازه وعده تعاىل لعباده استجابة دعاءه‬
‫كام وعده ‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 204‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫(( يا ذاكر الذاكرين ويا ارحم الراحمين))‬


‫تأكيدا لقوله تعاىل (( فاذكروين اذكركم )) برمحتك يا ارحم الرامحني‪.‬‬
‫المناجاة الرابع عشرة‬
‫الرابعة عشرة‪ :‬مناجاة المعتصمين‬
‫ْم الله الرَّحْم ِن الرَّح ِ‬
‫ِيم‬ ‫بِس ِ‬
‫ياعاص َم البائِ ِس َ‬
‫ني‬ ‫ِ‬ ‫ني َو‬ ‫يام ْن ِج َي اهلالِ ِك َ‬
‫ين َو ُ‬ ‫ذين َويا َمعا َذ العائِ ِذ َ‬‫( ال ّل ُه َّم يا َمال َذ الآلئِ َ‬
‫ين َويا َم ْأوى‬
‫س َ‬ ‫ين َوياجابِ َر ا ُمل ْن َك ِ ِ‬ ‫يب ا ُمل ْض َط ِّر َ‬
‫ين َويا َكنْزَ ا ُمل ْفت َِق ِر َ‬ ‫ني َو ُ ِ‬
‫يام َ‬ ‫ياراح َم املَ ِ‬
‫ساك َ‬ ‫َو ِ‬
‫ياح ْص َن الال‬ ‫ني َو ِ‬‫يث املَ ْك ُروبِ َ‬ ‫يام ِغ َ‬
‫ني َو ُ‬ ‫ري اخلائِ ِف َ‬ ‫ياناص ا ُمل ْست َْض َع ِف َ‬
‫ني َو ُ ِ‬
‫يام َ‬ ‫ني َو ِ َ‬ ‫ا ُمل ْن َق ِط ِع َ‬
‫ل َأتْنِي‬
‫وذ ؟ َو َقدْ َأ ْ َ‬
‫عوذ َوإِنْ َ ْل َأ ُل ْذ بِ ُقدْ َرتِ َك َفبِ َم ْن َأ ُل ُ‬
‫ني‪ ،‬إِنْ َ ْل َأ ُع ْذ بِ ِع َّزتِ َك َفبِ َم ْن َأ ُ‬
‫ِجئِ َ‬
‫واب َص ْف ِح َك‬ ‫تاح َأ ْب ِ‬‫استِ ْف ِ‬
‫اخلطايا إِىل ْ‬ ‫يال َع ْف ِو َك َو َأ ْح َو َج ْتنِي َ‬ ‫ث بِ َأ ْذ ِ‬ ‫وب إِىل ال َّت َش ُّب ِ‬ ‫الذ ُن ُ‬ ‫ُّ‬
‫ك‬ ‫ناء ِعزِّ َك َو َح ََل ْتنِي املَخا َف ُة ِم ْن نِ ْق َمتِ َك َعىل ال َّت َم ُّس ِ‬ ‫ناخ ِة بِ َف ِ‬‫ال َ‬ ‫سأ ُة إِىل ا ِ‬ ‫ال َ‬ ‫َو َد َع ْتنِي‌ا ِ‬
‫َجار َب ِعزِّ َك‬
‫است َ‬ ‫يق بِ َم ِن ْ‬ ‫بِ ُع ْر َو ِة َع ْط ِف َك‪َ ،‬وما َح ُّق َم ْن ْاعت ََص َم بِ َح ْب ِل َك َأنْ ُ ْي َذ َل َوال َي ِل ُ‬
‫َأنْ ُي ْس َل َم َأ ْو ُ ْي َم َل ؟ إِهلِي َفال ُ ْت ِلنا ِم ْن ِحا َيتِ َك َوال ُت ْع ِرنا ِم ْن ِرعا َيتِ َك َو ُذ ْدنا َع ْن َموا ِر ِد‬
‫ني‬‫ال َ‬‫الص ِ ِ‬ ‫خاصتِ َك ِم ْن َمالئِ َكتِ َك َو َّ‬ ‫َّ‬ ‫ك َو ِف َكن َِف َك َو َل َك َأ ْس َأ ُل َك بِ َأ ْهلِ‬ ‫ا َهل َل َك ِة َفإِ ّنا بِ َع ْينِ ِ‬
‫االفات َو ُت ِك ُّننا ِم ْن‬
‫ِ‬ ‫كات َو ُ َت ِّن ُبنا ِم َن‬‫ِم ْن َب ِر َّيتِ َك َأنْ َ ْت َع َل َع َل ْينا َو ِاق َي ًة ُت ْن ِجينا ِم ْن ا َهل َل ِ‬
‫ش َو ُجوهَ نا بِ َأنْوا ِر َ َم َّبتِ َك‪،‬‬ ‫يبات‪َ ،‬و َأنْ ُت ْن ِز َل َع َل ْينا ِم ْن َس ِكينَتِ َك َو َأنْ ُت َغ ِّ َ‬ ‫واهي ا ُمل ِص ِ‬ ‫َد ِ‬
‫‪205‬‬
‫‪ ................................................................................. 206‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫يد ُر ْكنِ َك َو َأنْ َ ْت ِو َينا ِف َأ ْك ِ‬


‫ناف ِع ْص َمتِ َك بِ َر ْأ َفتِ َك َو َر ْحَتِ َك يا‬ ‫َو َأنْ ُتؤْ ِو َينا إِىل َش ِد ِ‬
‫الر ِ ِ‬
‫اح َ‬
‫ني) ‪.‬‬ ‫َ‬
‫أ ْر َح َم َّ‬
‫مناجاة املعتصمني‪207...............................................................................................‬‬

‫شرح الفقرات المباركة‪:‬‬


‫ابتدأ اإلمام زين العابدين عليه السالم مناجاته بالنداء الذي يكون عىل هيئة‬
‫استغاثة ورجاء‪ ،‬ومعناه يا اهلل وهو مركب كام ترى‪ ،‬وقد استعمل كثريا يف الدعاء‬
‫وفيه من التبتل واخلضوع ما ال خيفى ‪.‬‬
‫((ال ّل ُه َّم يا َمال َذ الآلئِ َ‬
‫ذين))‪.‬‬
‫الذ بمعنى التجأ إليه ومالذ مصدرها‪ ،‬والالئذين اسم فاعل ‪.‬‬
‫((ويا َمعا َذ العائِ ِذ َ‬
‫ين))‪.‬‬ ‫َ‬
‫ومعاذ من العوذ ؛وهو االلتجاء والتحصن كام يف قولك استعذت باهلل‪ ،‬أي‬
‫اعتصمت وحتصنت والتجأت ‪،‬‬
‫يام ْن ِج َي الهالِ ِك َ‬
‫ين))‪.‬‬ ‫((و ُ‬
‫َ‬
‫النجاة‪ :‬هي اخلالص من اهللكة واملصيبة‪ ،‬ويف القرآن الكريم ما يشري إىل ذلك‪،‬‬
‫ين آ َمنُوا)((( وقوله تعاىل (إِ َّنا ُمن َُّج َ‬
‫وك‬ ‫(و َأ َ‬
‫نج ْينَا ا َّل ِذ َ‬ ‫وعىل سبيل املثال ال احلرص َ‬
‫آل ِف ْر َع ْونَ )((( إىل غريها من اآليات‬ ‫َاكم ِّم ْن ِ‬ ‫َو َأ ْه َل َك)(((وقوله تعاىل َ‬
‫(وإِ ْذ َن َّج ْين ُ‬
‫الكريمة التي تشري إىل معنى النجاة من اهللكة املحققة أو املحتملة ‪.‬‬
‫واهلــاك عىل ثالثة معان منها ‪ :‬افتقاد اليشء كام يف قوله تعاىل (هَ َل َك َعنِّي‬
‫ُس ْل َطانِي ْه)(((‪ ،‬ومعنى ثان هو افتقاد اليشء وفساده‪ ،‬ومعنى ثالث هو املوت‪ ،‬وكل‬

‫–النمل ‪53‬‬ ‫(( (‬


‫–العنكبوت‪33‬‬ ‫(( (‬
‫‪-‬البقرة ‪49‬‬ ‫(( (‬
‫–احلاقة‪29‬‬ ‫(( (‬
‫‪ ................................................................................. 208‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫ذلك مقصود من كالمه عليه السالم‪.‬‬


‫ياعاص َم البائِ ِس َ‬
‫ين))‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫((و‬
‫َ‬
‫البائس؛ من بئس يبأس بؤسا ‪ :‬اذا افتقر واشتدت حاجته وهو من البؤس بمعنى‬
‫الرض‪ ،‬والعاصم؛ أي املانع ‪،‬وهنا تأيت بمعنى احلافظ عن الوقوع فيام حيذر‪.‬‬
‫ين))‪.‬‬ ‫الم ِ‬
‫ساك َ‬ ‫((و ِ‬
‫ياراح َم َ‬ ‫َ‬
‫واملسكني؛ هو أشد حاجة من الفقري‪.‬‬
‫الم ْض َط ِّر َ‬
‫ين))‪.‬‬ ‫يب ُ‬‫يام ِج َ‬
‫((و ُ‬
‫َ‬
‫واملجيب القادر عىل االستجابة يف حتقيق املطلوب‪ ،‬واملضطر ‪ :‬الذي أحوجه‬
‫مرض أو فقر أو نازلة من نوازل األيام إىل الترضع اىل اهلل تعاىل وهو اشارة اىل قوله‬
‫تعاىل َ‬
‫وء)((( ‪.‬‬ ‫يب ْ ُال ْض َط َّر إِ َذا َد َعا ُه َو َي ْك ِش ُف ُّ‬
‫الس َ‬ ‫ي ُ‬‫(أ َّمن ُ ِ‬

‫الم ْفت َِق ِر َ‬


‫ين))‪.‬‬ ‫((ويا َكنْزَ ُ‬
‫َ‬
‫الكنز ‪ :‬ما يدخر فيه اليشء النفيس‪ ،‬واملفتقر ‪ :‬شديد الفقر وعظيم احلاجة‪ ،‬وهو‬
‫ما يناسب الكنز الذي يكون ذخرية للمفتقر الذي تدفعه احلاجة إليه ‪.‬‬
‫الم ْن َك ِس ِر َ‬
‫ين))‪.‬‬ ‫((وياجابِ َر ُ‬
‫َ‬
‫اجلرب ‪ :‬هو اصالح احلال من فقر يف إغنائه‪ ،‬ومن كرس يف اصالحه ؛ لذا جاء عليه‬
‫السالم بام يناسبه من موضوعه‪ ،‬وما يطابقه من مصداقه وهو املنكرس الذي حيتاج‬
‫اىل جرب وإصالح ‪.‬‬

‫(( ( –النمل ‪62‬‬


‫مناجاة املعتصمني‪209...............................................................................................‬‬

‫ين))‪.‬‬ ‫((ويا َم ْأوى ُ‬


‫الم ْن َق ِط ِع َ‬ ‫َ‬
‫املأوى؛ كل ما يسرتاح إليه ويسكن فيه‪ ،‬وقد ناسب االنقطاع حيث املنقطع عن‬
‫ومسكنته‪،‬حمتاج اىل مأوى يؤيه ‪ ،‬وليس‬
‫ٌ‬ ‫كل حيلة‪ ،‬ومن كل سبيل لفقره وضعفه‬
‫املأوى بمعناه املكاين ‪،‬بل املأوى الروحي الذي يزيده اطمئنان ًا وأمان ًا‪.‬‬
‫الم ْست َْض َع ِف َ‬
‫ين))‪.‬‬ ‫((و ِ‬
‫ياناص َر ُ‬ ‫َ‬
‫فاالستضعاف صفة االنسان مهام كانت له اسباب القوة وامللك‪ ،‬فان احلاجة‬
‫دليل االستضعاف‪ ،‬وكل خملوق فقري مطلق حمتاج اىل الغني املطلق‪.‬‬
‫يام ِج َير الخائِ ِف َ‬
‫ين))‪.‬‬ ‫((و ُ‬
‫َ‬
‫أجاره؛ أي عمل عىل محايته وذلك بان يدفع عنه كل ما يكرهه ويتقيه‪ ،‬واخلوف‬
‫الذي يتملك االنسان عند احلاجة نابع من فقره وفاقته اليه سبحانه‪ ،‬فأي جمري قادر‬
‫عىل دفع كل حمذور؛ يستجري به ذو احلاجة والفاقة‪ ،‬وملا كان االنسان عرضة للبالء‪،‬‬
‫فهو دائم التوجه اىل من جيد ما يدفع السوء عنه ‪.‬‬
‫الم ْك ُروبِ َ‬
‫ين)) ‪.‬‬ ‫يث َ‬‫يام ِغ َ‬
‫((و ُ‬
‫َ‬
‫املغيث؛ من أغاث غريه اذا كشف عنه شدته وكربته‪ ،‬واملكروب الذي أحزنه أمر‬
‫عظيم‪ ،‬والذي يكشفه يرفعه بوقته وارادته‪.‬‬
‫ياح ْص َن الال ِجئِ َ‬
‫ين))‪.‬‬ ‫((و ِ‬
‫َ‬
‫احلصن ما حترز به صاحبه‪ ،‬وحتصن به اذا اختذه ملجأ؛ والالجئون الذين أجلأهتم‬
‫احلاجة وأجهدهتم الفاقة‪ ،‬وكل ما مر هو نداء استغاثة يبني هبا أحواله؛ فهو الال‬
‫‪ ................................................................................. 210‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫ئذ‪،‬والعائذ‪،‬واهلالك‪،‬والبائس‪،‬واملسكني‪ ،‬واملضطر‪ ،‬واملفتقر‪،‬واملنكرس‪،‬واملنقطع‬


‫واملستضعف ‪،‬واخلائف‪،‬واملكروب‪،‬والالجئ‪ ،‬وقد استغاث بمن هو املالذ‪،‬واملنجي‪،‬‬
‫والعاصم‪،‬والراحم‪،‬واملجيب‪،‬والكنز‪،‬واجلابر‪،‬واملأوى‪،‬واملجري‪،‬واملغيث‪،‬والح‬
‫صن‪ ،‬وكل هذه املتقابالت تكشف عن بالغة االستغاثة وبيان احلاجة وعنوان‬
‫الفاقة‪ ،‬وهن كاشفات لدالئل الغنى‪ ،‬ومشريات اىل أسباب الفقر‪ ،‬وهذا من روائعه‬
‫عليه السالم يف بالغة املتقابالت التي تزيد الدعاء براعة يف النسق وعرفانا يف املفهوم ‪.‬‬
‫ُ‬
‫ينتقل عليه السالم إىل خطاب آخر لبيان مدى حاجته ورشح أحوال عالقته‬ ‫ثم‬
‫مع خالقه سبحانه؛ فرتاه يقول عليه السالم‪:‬‬
‫((إِنْ َل ْم َأ ُع ْذ بِ ِع َّزتِ َك َفبِ َم ْن َأ ُ‬
‫عوذ))؟‬
‫وسيكون نسق تساؤالته ببيان غناه سبحانه‪ ،‬وما يقابله من فقره عليه السالم‪،‬‬
‫فالعزة هي كل منعة متأتية من قوة وقابلية عىل دفع أي مكروه‪ ،‬قال تعاىل َ‬
‫(أ َي ْبت َُغونَ‬
‫(و ِ َّلِ ا ْل ِع َّز ُة َولِ َر ُسولِ ِه َولِ ْل ُمؤْ ِمنِ َ‬
‫ني)(((‬ ‫الع َّز َة ِ ّلِ َ ِ‬
‫جيع ًا)((( وقوله تعاىل َ‬ ‫ِع َ‬
‫ند ُه ُم ا ْل ِع َّز َة َفإِنَّ ِ‬
‫(س ْب َحانَ َر ِّب َك َر ِّب ا ْل ِع َّز ِة)((( وإحالة العزة كلها هلل داللة عىل‬ ‫بل هو رب العزة كلها ُ‬
‫غناه سبحانه وتعاىل ( َمن َكانَ ُيرِيدُ ا ْل ِع َّز َة َف ِل َّل ِه ا ْل ِع َّز ُة َ ِ‬
‫جيع ًا)(((‪.‬‬
‫ثم قال عليه السالم‪-:‬‬
‫((وإِنْ َل ْم َأ ُل ْذ بِ ُقدْ َرتِ َك َفبِ َم ْن َأ ُل ُ‬
‫وذ))؟‬ ‫َ‬
‫–النساء ‪139‬‬ ‫(( (‬
‫–املنافقون ‪8‬‬ ‫(( (‬
‫–الصافات ‪180‬‬ ‫(( (‬
‫–فاطر ‪10‬‬ ‫(( (‬
‫مناجاة املعتصمني‪211...............................................................................................‬‬

‫القدرة ‪ :‬هي نفي العجز عنه سبحانه وتعاىل‪ ،‬واللوذ بمعنى االلتجاء‪ ،‬فان‬
‫االلتجاء اىل القدرة املطلقة هي منجاة الالئذين‪ ،‬وال يتحقق املراد إال بمن يسد‬
‫احلاجة املطلقة‪ ،‬واالفتقار الدائم ‪.‬‬
‫ث بِ َأ ْذ ِ‬
‫يال َع ْف ِو َك))‪.‬‬ ‫وب إِلى ال َّت َش ُّب ِ‬ ‫((و َقدْ َأ ْل َج َأتْنِي ُّ‬
‫الذ ُن ُ‬ ‫َ‬
‫وهنا تصوير مدهش‪ ،‬حيث تراكم الذنوب حييط بصاحبه فريكسه إركاسا حتى‬
‫(و َن ْح ُن‬
‫كأنه يغرق يف خضم اهللكة التي البد أن يتشبث بأقرب يشء إليه وهي رمحته َ‬
‫يد)((( فالقرب يصفه عليه السالم بأنه تشبث بأذيال عفوه‬ ‫َأ ْق َر ُب إِ َل ْي ِه ِم ْن َح ْبلِ ا ْل َو ِر ِ‬
‫تعاىل‪ ،‬بيانا لقرب اهلل من عبده مهام ابتعد العبد عن ربه‪ ،‬وهي صورة لطيفة لتصوير‬
‫العالقة القريبة بني العبد وربه ‪.‬‬
‫تاح َأ ْب ِ‬
‫واب َص ْف ِح َك))‪.‬‬ ‫استِ ْف ِ‬ ‫((و َأ ْح َو َج ْتنِي َ‬
‫الخطايا إِلى ْ‬ ‫َ‬
‫فان هذه اخلطايا قد اقلقتني ورمتني يف أسباب اخلوف والبالء‪ ،‬حتى رصت‬
‫أطرق أبــواب رمحتك التي وسعت كل يشء‪ ،‬وما هي هذه األبــواب ؟ وكيف‬
‫نستفتحها؟ وكيف نكون من أهل الدخول فيها ؟ إن احلقيقة التي ال تقبل الشك‬
‫هي حماولة القرب اليه تعاىل‪ ،‬وأن جيتهد االنسان يف ذلك‪ ،‬ولعل أقرص الطرق بعد‬
‫العزم عىل التوبة وعدم العود هواالستشفاع بمحمد وآل حممد عليهم السالم‪ ،‬إذ‬
‫ال ينفع مع هذه االثقال واخلطايا التي تثقل الظهر ان يلج االنسان وحده ملثل هذه‬
‫املقاصد اال بواسطة االستشفاع هبم والتقرب اىل اهلل تعاىل من خالهلم؛ فاهنم أبواب‬
‫رمحته الواسعة التي يلج إليها املتحريون ‪.‬‬
‫(( ( ‪-‬ق‪16‬‬
‫‪ ................................................................................. 212‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫ناء ِعزِّ َك))‪.‬‬


‫ناخ ِة بِ َف ِ‬
‫ال َ‬ ‫ال َ‬
‫سأ ُة إِلى ا ِ‬ ‫((و َد َع ْتنِي‌ا ِ‬
‫َ‬
‫االناخة؛ هي وضع الراكب راحلته بعد السري لالسرتاحة أو للتزود باملتاع أو‬
‫لغري ذلك‪ ،‬والفناء باحة الدار التي تكون يف مقدمتها‪ ،‬وعادة من ينيخ رحاله أن‬
‫يكون يف هذا املوضع ‪ .‬والعز هو املنعة وكل ما من شأنه ارفاد الطالب وغوث‬
‫املستجري‪ ،‬وهكذا هو امليسء الذي أعوزته كل األسباب؛ فراح يتوسل بجوده‬
‫وفضل كرمه تعاىل‪.‬‬
‫ك بِ ُع ْر َو ِة َع ْط ِف َك))‪.‬‬ ‫((و َح َم َل ْتنِي َ‬
‫المخا َف ُة ِم ْن نِ ْق َمتِ َك َعلى ال َّت َم ُّس ِ‬ ‫َ‬
‫أي دعــاين خويف من عاقبة ذنــويب أن اعتصم بعروة عطفك‪ ،‬واالعتصام ‪:‬‬
‫اص َم ا ْل َي ْو َم ِم ْن َأ ْم ِر ّ‬
‫اللِ)((( والعروة ما يتعلق به‬ ‫االستمساك والتعلق قال تعاىل َ‬
‫(ال َع ِ‬
‫است َْم َس َك بِا ْل ُع ْر َو ِة ا ْل ُو ْث َقى) والعطف هو التحنن‬
‫من عراه أي ناحيتيه قال تعاىل ( َف َق ِد ْ‬
‫والشفقة‪ ،‬ووصفه هبذا الوصف يناسب حاجة السائل الذي ال تقىض حاجته اال‬
‫بعطفه وهي مغفرته وعفوه‪.‬‬
‫((وما َح ُّق َم ْن ْاعت ََص َم بِ َح ْب ِل َك َأنْ ُي ْخ َذ َل))‪.‬‬
‫َ‬
‫وهي اجابة عىل سؤال مقدر ‪ :‬ما حق من اعتصم بحبل اهلل ؟ معتمدا عىل قوله‬
‫است َْم َس َك بِا ْل ُع ْر َو ِة ا ْل ُو ْث َق َى َال ِ‬
‫انف َصا َم‬ ‫وت َو ُيؤْ ِمن بِ ّ‬
‫اللِ َف َق ِد ْ‬ ‫اغ ِ‬ ‫تعاىل ( َف َم ْن َي ْك ُف ْر بِ َّ‬
‫الط ُ‬
‫يم)((( والتمسك بالعروة نتيجة الكفر بالطاغوت ؛ حيث ال يتم‬ ‫يع َع ِل ٌ‬ ‫الل َس ِم ٌ‬ ‫َ َلا َو ّ ُ‬

‫االمساك بعروته الوثقى إال بعد التخلص من موجبات التمسك بالطاغوت ومن‬

‫(( ( –هود‪43‬‬
‫(( ( –البقرة‪256‬‬
‫مناجاة املعتصمني‪213...............................................................................................‬‬

‫مصاديق هذا التمسك قبائح الذنوب ‪.‬‬


‫وكيف خيذل من استمسك بحبله حيث ال انفصام هلذه العروة ؟ وهي اشارة‬
‫اىل سطوته وجربوته التي ال خيذل من استمسك بجنابه؛ أي انقطع اليه دون غريه‪،‬‬
‫وكيف خيذل من دعاه ورجاه؟‬
‫َجار َب ِعزِّ َك َأنْ ُي ْس َل َم َأ ْو ُي ْه َم َل))‪.‬‬
‫است َ‬ ‫((وال َي ِل ُ‬
‫يق بِ َم ِن ْ‬ ‫َ‬
‫سلم من كنت أنت جاره اذ جار العزيز‬
‫وهذا مقتىض كرمه ومآل جوده‪ ،‬وكيف ُي ْ‬
‫ال يذل ؟ وهذا معروف عند العرب حتى قبل االسالم‪ ،‬فان محاية اجلار وحفظه من‬
‫أسباب عزة املستجار به‪ ،‬فهي كاشفة عن منعته وقوته‪ ،‬وهذا شائع يف املخاطبات‬
‫بني الناس‪ ،‬اذ من ال يمنع جاره عن الضيم فليس بعزيز‪ ،‬وما جمري اجلراد اال اشارة‬
‫اىل هذا املعنى‪ ،‬حيث يروى أن جراد طارده الناس فلجأ اىل شخص يف الصحراء‬
‫فالحقوه‪ ،‬وملا رأى ما أحاط به من جراد يف جواره خرج وهو يقول ‪ :‬ال واهلل ان‬
‫اجلراد استجار يب فال أسلم جواري‪ ،‬فسمي جمري اجلراد ((( فاالستجارة بالعزيز‬
‫دليل عزته ومنعته وال يسلم من استجار به فكيف برب العزة املانع الدافع ملن‬
‫استجار به‪ ،‬وحتصن بمنعته ؟!‬
‫((إِل ِهي َفال ُت ْخ ِلنا ِم ْن ِحما َيتِ َك))‪.‬‬
‫ختلنا من خليت بني زيد وعمرو ؛ختلية أي تركته واياه‪ ،‬واحلامية هي الصيانة عن‬
‫املكروه أي وال ترتكنا دون ان تصوننا بلطفك ‪.‬‬

‫(( ( –الكنى وااللقاب ‪152/3‬‬


‫‪ ................................................................................. 214‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫((وال ُت ْع ِرنا ِم ْن ِرعا َيتِ َك))‪.‬‬


‫َ‬
‫عري عن اليشء؛ أي جرده كام جرد االنسان عن ثوبه‪ ،‬والرعاية احلفظ‪ ،‬ومنها‬
‫رعي احليوان أي حفظه من جوع يف مكان يغنيه بالكأل‪ ،‬وهذا هو أصله يف اللغة‪،‬‬
‫ثم استعريت لكل حفظ وذب عنه‪ ،‬واملعنى ‪ :‬وال جتردنا من حفظك لفقرنا اليك‬
‫وغناك عنا ‪.‬‬
‫اله َل َك ِة))‪.‬‬
‫((و ُذ ْدنا َع ْن َموا ِر ِد َ‬
‫َ‬
‫ي َت ُذو َد ِ‬
‫ان)((( أي‬ ‫(و َو َج َد ِمن ُد ِ‬
‫ونِ ُم ا ْم َرأ َت ْ ِ‬ ‫الذود ‪ :‬هو الدفع والطرد‪ ،‬قال تعاىل‪َ :‬‬
‫ادفع عنا موارد اهللكة بتسديدك ايانا‪ ،‬ولطفك لنا‪.‬‬
‫ك َو ِفي َكن َِف َك َو َلك))‪.‬‬
‫(( َفإِ ّنا بِ َع ْينِ ِ‬
‫(((‬‫العني اجلارحة واستعريت اىل معنى احلفظ والرعاية كقوله تعاىل ( َفإِ َّن َك بِ َأ ْع ُينِنَا)‬
‫(واصن َِع ا ْل ُف ْل َك بِ َأ ْع ُينِنَا)((( والكنف‪ :‬الناحية واجلانب‪ ،‬كام تقول أنا يف‬
‫ْ‬ ‫وقال تعاىل‬
‫كنف فالن ‪ .‬أي يف محايته ورعايته أي مآلنا لك‪ ،‬فإنا هلل وإنا إليه راجعون‪.‬‬
‫خاصتِ َك ِم ْن َمالئِ َكتِ َك))‪.‬‬
‫َّ‬ ‫((أ ْس َأ ُل َك بِ َأ ْهلِ‬
‫َ‬

‫وهم أهل القرب والشأن‪ ،‬ولعلهم الكروبيون الذين هلم املنزلة اخلاصة عنده‬
‫سبحانه وتعاىل‪.‬‬

‫(( ( –القصص‪23‬‬
‫(( ( ‪-‬الطور ‪48‬‬
‫(( ( ‪-‬هود ‪،37‬‬
‫مناجاة املعتصمني‪215...............................................................................................‬‬

‫ين ِم ْن َب ِر َّيتِ َك))‪.‬‬


‫الصالِ ِح َ‬
‫((و َّ‬
‫َ‬
‫ولعل املقصود هنا أهل البيت عليهم السالم؛ ألهنم سادة الصاحلني من عباده‪،‬‬
‫وهم أهل االستشفاع والقرب اليه ‪.‬‬
‫اله َل ِ‬
‫كات))‪.‬‬ ‫َ‬
‫((أنْ َت ْج َع َل َع َل ْينا َو ِاق َي ًة ُت ْن ِجينا ِم ْن َ‬
‫اه ُم َّ ُ‬
‫الل)((( والواقية اسم‬ ‫الوقاية ‪ :‬حفظ اليشء مما يؤذيه ويرضه قال تعاىل ( َف َو َق ُ‬
‫فاعل وهو ما يتقى به‪ ،‬وان جيعل اهلل هلم وقاية من هلكات الدنيا‪ ،‬فان االنسان ال‬
‫يستقيم أمره ما مل يكن هناك رعاية من اهلل تعاىل وحفظا يقيه ما حيذر وما خياف‪.‬‬
‫ِ‬
‫االفات))‪.‬‬ ‫((و ُت َج ِّن ُبنا ِم َن‬
‫َ‬
‫اآلفة ‪ :‬املرض الذي يفسد ما أصابه‪ ،‬ومجعه آفات وهو الذي يمرضني ويشفيني‬
‫حيث ما ورد يف القرآن الكريم داللة عىل أن املرض والشفاء بيده ‪ .‬نعم هناك أسباب‬
‫ومسببات مادية تعمل عىل وقوعها وإزالتها لكنها بيده وحتت قدرته‪ ،‬كام ورد عن‬
‫اإلمام زين العابدين عليه السالم يف دعائه (وال مصدر ملا أوردت وال صارف ملا‬
‫وجهت)(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫الم ِص ِ‬
‫يبات))‪.‬‬ ‫((و ُت ِك ُّننا ِم ْن َد ِ‬
‫واهي ُ‬ ‫َ‬
‫كنن ‪:‬بمعنى استرت ‪ .‬أي واسرتنا من دواهي النوازل‪ ،‬والداهية األمر العظيم‪.‬‬
‫((و َأنْ ُت ْن ِز َل َع َل ْينا ِم ْن َس ِكينَتِ َك))‪.‬‬
‫َ‬

‫(( ( –االنسان‪11‬‬
‫(( ( –الصحيفة السجادية‪،‬ابطحي‪،‬اذا عرضت له مهمة او نزلت به ملمة ‪67‬‬
‫‪ ................................................................................. 216‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫السكينة؛هي الثبات عىل األمر حيث ال تفعل به املصيبة؛ وال تؤثر به النازلة‪ ،‬والسكينة‬
‫هي حالة االطمئنان النفيس‪ ،‬وهي حالة متقدمة عىل الصرب‪ ،‬ألن الصرب إحداث أمر يف‬
‫النفس‪ ،‬حيدثه صاحبها‪ ،‬والسكينة ما تكون من اخلارج بفعل إهلي خاص‪.‬‬

‫وهنا بِ َأ ْنوا ِر َم َح َّبتِ َك))‪.‬‬


‫((و َأنْ ُت َغ ِّش َي َو ُج َ‬
‫َ‬
‫الغشية ؛ ما يسرت به اليشء ويغطيه‪ ،‬وهنا استعمل االمام عليه السالم الغشية‬
‫لبيان أن حمبته تعاىل تغدق عىل العبد أنوارا يظهرها اهلل عىل كل أموره ومالحمه‪.‬‬
‫((و َأنْ ُتؤْ ِو َينا إِلى َش ِد ِ‬
‫يد ُر ْكنِ َك))‪.‬‬ ‫َ‬
‫آوى إليه التجأ‪ ،‬وشديد ركنه ‪ :‬رعايته تعاىل التي ال تضام‪.‬‬
‫((و َأنْ َت ْح ِو َينا ِفي َأ ْك ِ‬
‫ناف ِع ْص َمتِ َك))‪.‬‬ ‫َ‬
‫أي جتعلنا يف محايتك وأن ال تسلمنا للبالء‪ ،‬وال جتعلنا عرضة للمهلكات والرزايا‬
‫َ‬
‫اح َ‬
‫ني) ‪.‬‬ ‫فإنك رؤوف بعبادك وأرحم الرامحني (بِ َر ْأ َفتِ َك َو َر ْحَتِ َك يا أ ْر َح َم َّ‬
‫الر ِ ِ‬
‫المناجاة الخمس عشرة‪:‬‬
‫مناجاة الزاهدين‬
‫ْم الله الرَّحْم ِن الرَّح ِ‬
‫ِيم‬ ‫بِس ِ‬
‫«إِهلِي َأ ْس َك ْنتَنا دار ًا َح َف َر ْت َلنا ُح َف َر َم ْك ِرها َو َع َّل َق ْتنا بِ َأ ْي ِدي املَنايا ِف َحبائِل‬
‫ال ْغ ِتا ِر بِزَ خا ِر ِ‬
‫ف‬ ‫َغدْ ِرها َفإِ َل ْي َك َن ْلت َِج ُي ِم ْن َمكائِ ِد ُخ َد ِعها َوبِ َك َن ْعت ِ‬
‫َص ُم ِم َن ا ِ‬
‫اآلفات املَ ْش ُحو َن ُة بِال َّن َك ِ‬
‫بات‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫اللا املَ ْح ُش َّو ُة بِ‬ ‫ِزينَتِها َف َّإنا ا ُمل ْه ِل َك ُة ُط َ‬
‫البا ا ُمل ْت ِل َف ُة ُح َ‬

‫يب ُم َال َفتِ َك‬ ‫إِهلِي َفزَ ِّهدْ نا ِفيها َو َس ِّل ْمنا ِم ْنها بِت َْو ِف ِ‬
‫يق َك َو ِع ْص َمتِ َك َوا ْنزَ ْع َع َّنا َجالبِ َ‬
‫ج ْل ِصالتِنا ِم ْن‬ ‫يدنا ِم ْن َس َع ِة َر ْحَتِ َك َو َأ ْ ِ‬ ‫ورنا بِ ُح ْس ِن ِكفا َيتِ َك َو َأ ْو ِف ْر َم ِز َ‬ ‫َو َت َو َّل ُأ ُم َ‬
‫ْوار َم ْع ِر َفتِ َك َو َأ ِذ ْقنا‬
‫جار َ َم َّبتِ َك َو َأ ْت ِ ْم َلنا َأن َ‬
‫س ِف َأ ْفئِ َدتِنا َأ ْش َ‬ ‫واهبِ َك َو ْاغ ِر ْ‬ ‫ض َم ِ‬ ‫َف ْي ِ‬
‫الو َة َع ْف ِو َك َو َل َّذ َة َمغْ ِف َرتِ َك َو َأ ْق ِر ْر َأ ْع ُينَنا َي ْو َم لِقائِ َك بِ ُر ْؤ َيتِ َك َو َأ ْخ ِر ْج ُح َّب الدُّ نْيا‬
‫َح َ‬
‫خاصتِ َك بِ َر ْحَتِ َك يا‬
‫َّ‬ ‫ني ِم ْن َص ْف َوتِ َك َو َ‬
‫اال ْبرا ِر ِم ْن‬ ‫الص ِ ِ‬
‫ال َ‬ ‫ِم ْن ُق ُلوبِنا َكام َف َع ْل َت بِ َّ‬
‫ني »‪.‬‬ ‫ني َويا َأ ْك َر َم َ‬
‫اال ْك َر ِم َ‬ ‫الر ِ ِ‬
‫اح َ‬ ‫َ‬
‫أ ْر َح َم َّ‬

‫‪217‬‬
‫مناجاة الزاهدين‪219...............................................................................................‬‬

‫رشح الفقرات املباركة‪:‬‬


‫((الهي اسكنتنا دار ًا حفرت لنا حفر مكرها))‬
‫اسكنتنا ‪ :‬من السكون وهو االستقرار واالطمئنان وسمي السكن مسكنا‬
‫لسكون االنسان اليه واطمئنانه فيه‪.‬‬
‫الدار‪ :‬معروف وهو حمل السكن واالستقرار‪.‬‬
‫حفرت‪ :‬من احلفر‪ ،‬قال الفيومي‪ :‬حفرت االرض حفر ًا من باب رضب وسمي‬
‫حافر الفرس واحلامر من ذلك كأنه حيفر االرض بشدة‪.‬‬
‫مكر‬
‫بحيلة وذلك رضبان ‪ٌ :‬‬ ‫ٍ‬ ‫مكرها‪ :‬قال الراغب ‪ :‬املكر رصف الغري عام يقصده‬
‫حممود وذلك ان يتحرى بذلك ٌ‬
‫فعل مجيل وعىل ذلك قال‪(( :‬واهلل خري املاكرين ))‬
‫ال عمران‪ 54 :‬ومذموم وهو ان يتحرى به ٌ‬
‫فعل قبيح قال تعاىل‪(( :‬وال حييق املكر‬
‫اليسء اال باهله )) فاطر‪43:‬‬
‫واملعنى هنا أسكنتنا دار ًا من دور املكر واخلديعة حتيق بأهلها مكر ًا‪ ،‬وجتعل‬
‫الهلها اسباب اهللكة والبالء من املعايص الكثرية بسبب الغرور التي تأخذ بأهلها‬
‫اىل هاوية سحيقة ال يعلمون هبا لغفلتهم اال بعد وقوعهم وانزالقهم فيها‪.‬‬
‫((وعلقتنا بايدي المنايا في حبائل غدرها ))‬
‫وعلقتنا ‪ :‬التعلق‪ :‬التمسك وااللتزام‪.‬‬
‫واملنايا‪ :‬مجع منية وهي االجل الذي يوقته اهلل لالنسان ليتوفاه فيه‪.‬‬
‫واحلبائل‪ :‬املصائد التي يقع فيها االنسان من استدراجه واستجالبه‪.‬‬
‫‪ ................................................................................. 220‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫والغدر‪ :‬االخالل باليشء وهو عدم الوفاء بالعهد‪.‬‬


‫حسن لنا اسباب السعادة والراحة حتى‬
‫اي ان هذه الدنيا تستدرجنا بمكائدها ل ُت ّ‬
‫اذا اطمئننا هلا غدرت بنا واردتنا اىل اهللكات‪.‬‬
‫(( فاليك نلتجئ من مكائد خدعها ))‬
‫نلتجئ‪ :‬االلتجاء بمعنى االعتصام واالستعاذة ‪.‬‬
‫مكائد‪:‬مجع الكيد وهو املكر واخلديعة‪ ،‬وهي اراءة اليشء خالف واقعه‪ ،‬وارادة‬
‫الرضر بشكله اخلفي‪.‬‬
‫خدعها‪ :‬من اخلدع وهي اخلديعة وقد مرت وهي ارادة املكروه بشكلٍ خفي ال‬
‫يظهر للعيان‪.‬‬
‫والتوسل هنا به تعاىل النقاذه من مكر الدنيا وغرورها وخدعها‪ ،‬الهنا توقع من‬
‫اغرت هبا يف مهاوي الردى‪.‬‬
‫((وبك نعتصم من االغترار بزخارف زينتها ))‬
‫االعتصام‪:‬بمعنى االستمساك‪ :‬قوله تعاىل ((ال عاصم اليوم من امر اهلل))‬
‫هود‪43:‬‬
‫واالغرتار‪ :‬يقال‪ :‬غررت فالن ًا ‪ :‬أصبت غرته ونلت منه ما اريده‪ ،‬والغرة غفلة‬
‫يف اليقظة ‪.‬‬
‫والزخارف‪ :‬الزينة املزوقة وقيل للذهب زخرف ًا وقوله تعاىل ((أخذت االرض‬
‫زخرفها)) يونس‪24:‬‬
‫مناجاة الزاهدين‪221...............................................................................................‬‬

‫ِ‬
‫والغرار غفوة مع غفلة وأصل ذلك من الغر‪ ،‬وهو االثر الظاهر من اليشء اي‬
‫نستمسك بك من غرور الدنيا بزبارجها وزخارفها لئال نقع يف مكائدها وحبائلها‪،‬‬
‫وتزيني اعامهلا واسباهبا‪.‬‬
‫الزينة‪ :‬كل ما يتزين به من قول او فعل‪ ،‬فقد ورد يف مادة زين قوله تعاىل ((زينا‬
‫هلم أعامهلم)) النمل ‪ 4:‬وقوله تعاىل ((زينا لكل امة عملهم)) االنعام ‪ 108:‬وزينة‬
‫الفعل كام يف قوله تعاىل((زينا السامء الدنيا بمصابيح)) فصلت‪ 12:‬وقوله تعاىل‬
‫((ولقد زي ّنا السامء الدنيا بمصابيح)) امللك ‪5:‬‬
‫((فانها المهلكة طالبها))املهلكة‪ :‬اسم فاعل للهالك وهو فناء اليشء‬
‫وفساده‪.‬‬
‫طالهبا من الطلب هو التفحص والبحث عن اليشء‪.‬‬
‫ووصف الدنيا باهنا ٌ‬
‫فانية ملن يطلبها ويبحث عنها‪ ،‬اذ ال يستطيع احدٌ من اخللق‬
‫ان ُيدرك غايته من الدنيا مهام بذل جهد ًا وافنى عمر ًا‪ ،‬فهي ٌ‬
‫دار حمفوفة باملكاره‬
‫والبالء وليس لعاقلٍ ان يدرك بعضها فض ً‬
‫ال عن كلها لذا فان من سعى وراء الدنيا‬
‫خابت مساعيه وانقطعت اماله ودواعيه‪.‬‬
‫((المتلفة ُحاللها))‬
‫ُ‬
‫املتلفة‪ :‬من التلف واهلالك واملقصود اهللكة املودية بسبب البحث عن الدنيا بكل‬
‫دواعيها‪.‬‬
‫حالهلا‪ :‬اي نزاهلا من احللول وهو االقامة والنزول يف املكان‪ ،‬لذا سمي حمل‬
‫‪ ................................................................................. 222‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫اقامة االنسان حم ً‬
‫ال له‪.‬‬
‫واملعنى هنا ان الدنيا ال ُتبقي الحد من نازليها اال واهلكته يف دار فناء وأالخره‬
‫دار بقاء‪.‬‬
‫((المحشوة باألفات المشحونة بالنكبات))‬
‫املحشوة بمعنى احلشو كل ما خفي عن الناظر وكل ما كان يف باطن اليشء فهو‬
‫حشو‪ ،‬ومنه حشو االنسان وهو كل ما ضم باطنه من أمعاء وأعضاء فهي أحشاؤه‪.‬‬
‫األفات‪ :‬مجع أفة وهي املرض الذي يصيب االنسان‪ ،‬واستعملت لكل بلية حتيط‬
‫باالنسان مادي ًة أو معنوية‪.‬‬
‫املشحونة‪ :‬من الشحن اي اململوء كام يف قوله تعاىل ((يف الفلك املشحون))‬
‫الشعراء‪199:‬‬
‫ومنها الشحناء وهي امتالء النفس غيظ ًا‪.‬‬
‫بالنكبات‪ :‬مجع نكبة وهي املصيبة التي حتل باالنسان فتجعله منكوب ًا‪ ،‬وهي‬
‫استعارة من حتل به مصيبة فتجعله ناكب ًا عن طريق الصواب لدهشته وانذهاله‪.‬‬
‫وصف حلال الدنيا التي تكون دائ ًام حمشوة باألفات‪ ،‬وقد عرب عليه السالم‬
‫ٌ‬ ‫وهنا‬
‫باحلشو لكون أفاهتا غري ظاهرة أحيانا فتفاجئ االنسان مفاجأة غري متوقعة وغري‬
‫حمسوبة‪ ،‬وهي من اشد الدواهي وأعظم النوازل اذا حلت باالنسان دون حسبان‬
‫ألمرها‪ ،‬فرتهقه وتثقل كاهله عن التهيؤ والتحمل ‪.‬‬
‫مناجاة الزاهدين‪223...............................................................................................‬‬

‫((الهي فزهدنا فيها وسلمنا منها بتوفيقك وعصمتك))‬


‫فزهدنا ‪ :‬اي اجعل فينا حب الزهد وافعل ما تعيننا عليه‪ ،‬والزهد اسم مصدر‬
‫للزهيد وهو اليشء القليل ولذا سمي الرجل زاهد ًا من رغب عن اليشء وريض‬
‫بالقليل منه كام يف قوله تعاىل ((وكانوا فيه من الزاهدين )) يوسف‪20 :‬‬
‫وسلمنا‪ :‬من السالمة اي التعري عن االفات والباليا‪.‬‬
‫والتوفيق هو جعل االسباب املناسبة للنجاح وهو السداد‪ ،‬اي ان اهلل تعاىل هييئ‬
‫االسباب املوصلة لتحقيق دواعي النجاح والوصول اىل الغاية املنشودة‪.‬‬
‫وعصمتك‪ :‬العصمة من منع اليشء ومعناه احلفظ والوقاية من املكروه‪.‬‬
‫طلب من اهلل تعاىل ان يوفقنا للزهد فيها وهي جعل االسباب املعينة عىل‬
‫وهنا ٌ‬
‫بيان معايبها ونقصاهنا‪ ،‬ورصفنا عن التعلق فيها وااللتزام بدواعيها ‪،‬ويايت هذا من‬
‫معرفةاالنسان لعيوب الدنيا وان اليتعلق بزينتها الصارفة عن التفكر بسوء عواقبها‬
‫فيكون قلبه مرصوفا عنها‪ ،‬ونفسه بعيد ًة عن التعلق فيها‪ ،‬ومن هنا ال يكون ذلك‬
‫اال بعون اهلل وتسديده وتوفيقه‪.‬‬
‫(( وانزع عنا جالبيب مخالفتك))‬
‫النزع‪ :‬جذب اليشء عن حمله ويستعمل دائ ًام يف االعراض عن اليشء ‪.‬‬
‫جالبيب‪ :‬الرداء الذي يغطي اجلسد ويستوعبه‪.‬‬
‫املخالفة‪ :‬من اخلالف ضد املوافقة‪.‬‬
‫وقد وصف عليه السالم خمالفته سبحانه باهنا تستوعب كل االنسان وان كانت‬
‫‪ ................................................................................. 224‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫صغرية غري منظور هلا اال ان هلا فعل الكبرية اذا استمكنت من االنسان واستعملت‬
‫جوارحه وجوانحه‪ ،‬لذا فان االستعاذة باهلل ان خيلصه من اسباب خمالفته ومعصيته‬
‫تعاىل‪ ،‬وهذا ال يكون اال بتوفيقه وتسديده ‪.‬‬
‫((وتول امورنا بحسن كفايتك))‬
‫التولية من الوالية ‪ :‬القيام باالمر كام يف قولك وليت فالن ًا كذا اي قام باالمر‪.‬‬
‫وكفايتك‪ :‬بمعنى وقايتك ودفعك كام يف قوله تعاىل ((وكفى اهلل املؤمنني القتال))‬
‫االحزاب ‪25:‬‬
‫وهنا املعنى ان تكون انت يا اهلي من يتول امرنا ليكفينا من رشور هذه الدنيا التي‬
‫تاخذ بمن يغرت هبا ويطمئن هلا اىل هاوية الباليا واملصائب التي ال تنقطع وال تنتهي ‪.‬‬

‫((واوفر مزيدنا من سعة رحمتك))‬


‫اوفر ‪ :‬طلب من الوفرة وهو اليشء التام ويستعمل يف املال فيقال ٌ‬
‫مال موفور‬
‫ووافر‪ ،‬ثم اس ُتعمل لكل يشء من اخلري فيه كثرة‪.‬‬
‫والسعة‪ :‬ما يتسع اىل اليشء فيستوعبه مجيعه ‪.‬‬
‫وسعة رمحتك ‪ :‬حيث ان رمحته تعاىل تشمل كل خلقه مسل ًام اوكافر ًا‪ ،‬مطيع ًا‬
‫او عاصي ًا‪ ،‬وهذا شأن رمحته يف الدنيا‪ ،‬اما يف االخرة فاهنا ال ختص اال املؤمن طبق ًا‬
‫لعدله‪ ،‬وقد تشمل غريه بالشفاعة التي ُقرر يف حملها‪ ،‬وقد فرس بعضهم ان رمحته هي‬
‫ٍ‬
‫ونعمة يتنعم هبا املخلوقني بفضله وعطائه‬ ‫ٍ‬
‫ولذة‬ ‫ارادة احلي لكل خملوق من ٍ‬
‫متعة‬
‫عب عليه السالم باملزيد لرجائه زيادة العطاء فيزيده من فضله وكرمه‪.‬‬
‫وقد ّ‬
‫مناجاة الزاهدين‪225...............................................................................................‬‬

‫((وأج ِمل صالتنا من فيض مواهبك))‬


‫مجل ‪ :‬من االمجال وهو الرفق واالقتصاد يف الطلب‪ ،‬يقال امجل فالن ًا يف طلبه اذا‬
‫ا ِ‬
‫اقترص عىل ام ٍر ومل يتوسع فيه‪.‬‬
‫ِصالتنا‪ :‬الصلة‪ :‬كل ما يوصل به من خري‪ ،‬واطلق عىل املال الذي هيدى فيكون‬
‫ِ‬
‫ووصل ًة يتواصلون‬ ‫صلة بني االثنني وكأن هذا العطاء صار سببا يف التقارب بينهام‬
‫من خالهلا ‪.‬‬
‫الفيض‪ :‬العطاء الكثري ومنه فاض املاء‪ ،‬واطلق عىل الرمحة االهلية بأهنا فيض‬
‫لكثرهتا وزيادهتا اكثر من قدر املخلوقني واستحقاقهم‪ ،‬وهو من مظاهر رمحته‬
‫وعطائه ‪.‬‬
‫املواهب ‪ :‬مجع هبة وهي العطية التي ال يقابلها يشء‪ ،‬وهي اخلالصة من االعواض‬
‫واالغراض وكثرة اهلبة الصادرة من املعطي حتى يسمى وهاب ًا ال يتحقق ذلك او‬
‫ينطبق عىل حقيقته اال اهلل تعاىل الذي بيده كل يشء واملعطي املطلق دون ٍ‬
‫حد معني‪.‬‬
‫واملعنى أن تعطينا من رمحتك وما تفيض علينا من كرمك غرياملنقطع وال الزائل‪.‬‬
‫((واغرس في افئدتنا اشجار محبتك))‬
‫اغرس‪ :‬من الغرس وهو االثبات يف االرض فيقال ‪ :‬ثبتت الشجرة اذا اثبتها يف‬
‫حملها‪.‬‬
‫افئدتنا‪ :‬مجع فؤاد وهو القلب‪ ،‬ويقصد منه النفس وقد ورد يف قوله تعاىل‬
‫(( ما كذب الفؤاد ما رأى )) النجم‪ ،11:‬وختصيص الفؤاد ويقصد منه النفس‬
‫‪ ................................................................................. 226‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫النه مركزها وكل ما يبعث عىل االدراك والتحسس‪ ،‬وهو املسؤول عام يقع يف‬
‫النفس فيكون مقصودا كحاالت التغري والتأثري ثم َة‪.‬‬
‫ٌ‬
‫التفاتة بليغة‪،‬‬ ‫واملعنى ان يغرس يف قلوبنا ونفوسنا حبه وتعبري اشجار حمبته‬
‫حيث ان االشجار تنمو وتزداد دون توقف فض ً‬
‫ال عن كوهنا تعطي ثامر ًا‪ ،‬وكذلك‬
‫حبه فان ثمرته التقوى‪.‬‬
‫((واتمم لنا انوار معرفتك))‬
‫االمتام بمعنى االكامل كام يف قولك تم الشهر اذا وصل اىل هنايته‪ ،‬وامتمت حديثي‬
‫اذا اكملته مجيع ًا‪.‬‬
‫واالنوار‪ :‬مجع نور وهو ما ينكشف به الظلمة واختلفوا فيه هل هو من االجسام‬
‫أم من االعراض‪ ،‬ونور املعرفة او نور اهلداية وهو نور االيامن ونور العلم ونور‬
‫القران ونور احلجج واأليات وكلها هذه منسوبة اليه تعاىل كام يف قوله تعاىل ((نور ًا‬
‫يميش به يف الناس)) قال االمام ‪ ‬يف تفسريه لذلك‪ " :‬امام ًا يأتم به" ويف قوله تعاىل‬
‫بخارج منها)) قال عليه السالم ‪ :‬الذي ال يعرف‬
‫ٍ‬ ‫(( كمن مثله يف الظلامت ليس‬
‫االمام‪.‬‬
‫وهنا يستعني باهلل تعاىل ان يتم له نور معرفته‪ ،‬وهو ال يتاتى اال من اتباع احلق وهو‬
‫اهلادي الذي هيدي الناس اىل احلق‪ ،‬واالمتام ال تكون اال بالعناية منه واالستعانة به‬
‫وهدايته اىل طريق احلق وسبيل الصالح‪ ،‬والبد ان يكون ذلك من خالل حجج اهلل‬
‫وبيناته وما يلقيه يف روع املؤمن من اتباع احلق وجمانبة الباطل‪.‬‬
‫مناجاة الزاهدين‪227...............................................................................................‬‬

‫(( وأذقنا حالوة عفوك ولذة مغفرتك))‬


‫قالوا يف الفرق بني العفو واملغفرة ان العفو اسقاط العذاب والعقوبة واملغفرة‬
‫هو السرت عىل مرتكب الذنب لئال يفتضح وخيزى والتجاوز هو الصفح عن امليسء‬
‫ٌ‬
‫ماخوذ من جتاوز املكان اذا تعداه‪.‬‬ ‫وعدم مؤاخذته وهو‬
‫واحلالوة‪ :‬هي استعارة لطيفة من الراحة يف كيفية خاصة يستشعر فيها املتذوق‬
‫طع ًام خاص ًا يرتاح اليه‪.‬‬
‫واللذة‪ :‬هي ادراك اليشء بارتياح خاص يستشعره امللتذ وهي حسية وعقلية‪،‬‬
‫فــاالوىل هي ما تستند يف تلذذها اىل احلــواس اخلاصة والظاهرة‪ ،‬والعقلية هي‬
‫املدركات العقلية التي يرتاح الدراكها االنسان‪ ،‬وهي اعظم من االوىل –اياحلسية–‬
‫ملن تعقلها وأحس براحتها وهي اشارة اىل تكامل امللتذ الذي جيد فيها ما هو اعظم‬
‫من اللذة احلسية باضعاف‪.‬‬
‫ويف قوله تعاىل ٌ‬
‫بيان للتفاضل بني اللذة املادية واللذة الروحية العقلية وذلك‬
‫ٍ‬
‫جنات جتري من حتتها االهنار خالدين‬ ‫يف قوله تعاىل ((وعد اهلل املؤمنني واملؤمنات‬
‫فيها ومساكن طيب ًة يف جنات ٍ‬
‫عدن ورضوان من اهلل اكرب ذلك هو الفوز العظيم ))‬
‫التوبة‪ 72:‬وهنا تعداد للذات املادية وهي رضا اهلل تعاىل التي ال تعادهلا لذة وهي‬
‫لذة روحية عقلية يلتذ هبا اهل الكامل وأصحاب املعرفة‪.‬‬
‫((واقرر أعيننا يوم لقائك برؤيتك))‬
‫اقرار العني كناية عن الراحة التي يستشعرها االنسان بعدَ ٍ‬
‫هم يعرتيه فتكون‬
‫‪ ................................................................................. 228‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫عينه غري مستقرة متوجسة ال تنام‪ ،‬فاذا حتقق االمر الذي تريده استقرت وأقرت‬
‫اىل النوم‪.‬‬
‫ورؤيته تعاىل هي الرؤية القلبية وهي كناية عن رمحته اذ هو تعاىل منزه عن‬
‫اجلسمية واملكان‪.‬‬
‫اي تفضل علينا بالعفو واملغفرة لتقر اعيننا عند لقائك ومعرفتك بالفوز يف‬
‫رضاك وعفوك‪.‬‬
‫(( واخرج حب الدنيا من قلوبنا))‬
‫حيث التعلق بالدنيا يايت من االغرتار فيها وتعلق القلب بزبارجها‪ ،‬وترك ذلك‬
‫واالبتعاد عنه ال يكون اال هبدايتك وعونك وتوفيقك‪.‬‬
‫((كما فعلت بالصالحين من صفوتك واالبرار من خاصتك))‬
‫اي كام اجريت ذلك سن ًة يف الصاحلني من الصفوة االبرار واهل خاصتك وهم‬
‫االنبياء واملرسلني واوصيائهم واهل املعرفة والتوفيق‪.‬‬
‫والصفوة هم اهل الصفاء واصله من خلوص اليشء من الشوائب‪ ،‬وهنا من‬
‫الذنوب والفضائح لكن بحسب درجاهتم ومنازهلم‪.‬‬
‫واخلاصة خالف العامة وخاصة الرجل قريبوه واملختصون به‪ ،‬واملقصود من‬
‫خاصته تعاىل ‪ :‬اولياؤه املخلصون له يف املحبة والطاعة الذين صارت هلم خصوصية‬
‫القرب هلل اليه‪.‬‬
‫مناجاة الزاهدين‪229...............................................................................................‬‬

‫((برحمتك يا ارحم الراحمين ويا اكرم االكرمين))‬


‫حيث ختم مناجاته بمخاطبته تعاىل بصفتني ينسجامن وتوجه اخلطاب اليه‬
‫كثري‬
‫حيث وصفه بالرمحة وهو يناسب املقام وبالكرم وهو يناسب العطاء‪ ،‬وهذا ٌ‬
‫يف املخاطبات العرفية مستعمل حيث تكون الصفة مناسبة للطلب كام لو قال‪:‬‬
‫اعطني درمها اهيا الكريم‪ ،‬وعلمني حرف ًا اهيا العامل وهكذا ما يتناسب اخلطاب تأيت‬
‫الصفات‪.‬‬
‫الخاتمة‬
‫أحاديث المعصومين عليهم السالم في ذم الدنيا‪:‬‬
‫ويف ذكر الدنيا واهنا دار البالء والشقاء‪ ،‬وان اليغرت االنسان هبا احاديث كثرية‬
‫وردت عنهم عليهم السالم نورد مجلة منها ألمهيتها‪:‬‬
‫قال ابو عبد اهلل ‪ :‬رأس كل خطيئة حب الدنيا‪.‬‬
‫(((‬

‫عن ابن ايب يعفور قال‪ :‬سمعت ابا عبد اهلل ‪ ‬يقول‪ :‬من تع ّلق قلبه بالدنيا تع ّلق‬
‫هم ال يفنى‪ ،‬وامل ال يدرك‪ ،‬ورجاء ال ينال‪.‬‬
‫(((‬
‫قلبه بثالث خصال‪ّ :‬‬
‫قال رسول اهلل ‪ :‬ان يف طلب الدنيا إرضار ًا باآلخرة ويف طلب اآلخرة‬
‫(((‬ ‫إرضار ًا بالدنيا‪ ،‬فأرضوا بالدنيا فإهنا اوىل باإلرضار‪.‬‬
‫وقال رسول اهلل ‪ ‬أول ما عيص اهلل تبارك وتعاىل به ست خصال ‪ :‬حب الدنيا‪،‬‬
‫(((‬‫وحب الرئاسة‪ ،‬وحب الطعام‪ ،‬وحب النساء‪ ،‬وحب النوم‪ ،‬وحب الراحة‪.‬‬
‫قال ابو عبد اهلل ‪ :‬جعل الرش كله يف بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا‪ ،‬وجعل‬
‫اخلري كله يف ٍ‬
‫بيت وجعل مفتاحه الزهد يف الدنيا‪.‬‬
‫(((‬

‫قال ابو عبد اهلل ‪ :‬ان يف كتاب عيل صلوات اهلل عليه‪ :‬انام مثل الدنيا كمثل‬
‫احلية ما ألني مسها ويف جوفها السم الناقع‪ ،‬حيذرها الرجل العاقل‪ ،‬وهيوي اليها‬

‫الكايف ج ‪ 2‬ص ‪ 238‬باب حب الدنيا ح ‪.1‬‬ ‫(( (‬


‫الكايف ج ‪ 2‬ص ‪ 241‬ح ‪.17‬‬ ‫(( (‬
‫الكايف ج ‪ 2‬ص ‪ 106‬ح ‪.12‬‬ ‫(( (‬
‫اخلصال ج‪ 1‬ص ‪ 330‬باب الستة ح ‪.27‬‬ ‫(( (‬
‫مشكاة االنوار ص ‪ 268‬ب‪ 6‬ف ‪.7‬‬ ‫(( (‬

‫‪231‬‬
‫‪ ................................................................................. 232‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫(((‬‫الصبي اجلاهل‪.‬‬
‫قال الصادق ‪ :‬من ازداد يف اهلل عل ًام وازداد للدنيا حب ًا ازداد من اهلل بعد ًا‬
‫(((‬ ‫وازداد اهلل عليه غضب ًا‪.‬‬
‫قال رسول اهلل ‪ :‬لو عدلت الدنيا عند اهلل عزوجل جناح بعوضة ملا سقى‬
‫(((‬ ‫الكافر منها رشبة ‪.‬‬
‫(((‬ ‫قال رسول اهلل ‪ :‬من احب ديناه ارض بآخرته‪.‬‬
‫قال امري املؤمنني ‪ :‬والدنيا دار مني هلا الفناء‪ ،‬وألهلها منها اجلالء‪ ،‬وهي‬
‫حلوة خــراء‪ ،‬وقد عجلت للطالب‪ ،‬والتبست بقلب الناظر‪ ،‬فارحتلوا منها‬
‫بأحسن ما بحرضتكم من الزاد‪ ،‬وال تسألوا فيها فوق الكفاف‪ ،‬وال تطلبوا منها‬
‫(((‬ ‫اكثر من البالغ‪.‬‬
‫وقال ‪ : ‬اال وان الدنيا قد ترصمت‪ ،‬واذنت بانقضاء‪ ،‬وتنكر معروفها‪ ،‬وادبرت‬
‫امر منها ما كان حلو ًا‪،‬‬ ‫ّ‬
‫حذاء‪ ،‬فهي حتفز بالفناء سكاهنا‪ ،‬وحتدو باملوت جرياهنا‪ ،‬وقد ّ‬
‫وكدر منها ما كان صفو ًا‪ ،‬فلم يبق اال سملة كسملة اإلداوة‪ ،‬او جرعة كجرعة‬
‫امل ْقلة‪ ،‬لو متززها الصديان مل ينقع‪ ،‬فأزمعوا عباد اهلل الرحيل عن هذه الدار املقدور‬
‫(((‬‫عىل اهلها الزوال‪ ،‬وال يغلبنكم فيها االمل‪ ،‬وال يطولن عليكم فيها االمد‪.‬‬
‫الكايف ج ‪ 2‬ص ‪ 110‬ح ‪ -22‬ونظريه يف هنج البالغة ص ‪ 1141‬ح ‪115‬‬ ‫(( (‬
‫االختصاص ص ‪.236‬‬ ‫(( (‬
‫االختصاص ص ‪.236‬‬ ‫(( (‬
‫الوسائل ج ‪ 16‬ص ‪ 9‬ب ‪ 61‬ح ‪.5‬‬ ‫(( (‬
‫هنج البالغة ص ‪ 132‬اخر خ ‪.45‬‬ ‫(( (‬
‫هنج البالغة ص ‪ 139‬خ ‪.52‬‬ ‫(( (‬
‫الخامتة‪233..............................................................................................................‬‬

‫وقال ‪ :‬اال وان الدنيا دار ال ُيسلم منها اال فيها‪ ،‬وال ينجى بيشء كان هلا‪،‬‬
‫ابتيل الناس هبا فتنة فام اخذوه منها هلا اخرجوا منه وحوسبوا عليه‪ ،‬وما اخذوه منها‬
‫لغريها قدموا عليه واقاموا فيه‪ ،‬فإهنا عند ذوي العقول كفيء الظل‪ ،‬بينا تراه سابغ ًا‬
‫(((‬ ‫حتى قلص‪ ،‬وزائد ًا حتى نقص ‪.‬‬
‫وقال ‪ : ‬ما اصف من دار اوهلا عناء واخرها فناء‪ ،‬يف حالهلا حساب ويف‬
‫حرامها عقاب‪ ،‬من استغنى فيها ُفتن‪ ،‬ومن افتقر فيها حزن‪ ،‬ومن ساعاها فاتته‪،‬‬
‫(((‬ ‫بصته‪ ،‬ومن ابرص اليها اعمته‪.‬‬
‫ومن قعد عنها واتته‪ ،‬ومن ابرص هبا ّ‬
‫وقال ‪ : ‬انظروا اىل الدنيا نظر الزاهدين فيها‪ ،‬الصادفني((( عنها‪ ،‬فإهنا واهلل عام‬
‫وتفجع املرتف اآلمن‪ ،‬ال يرجع ما توىل منها فأدبر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫قليل تزيل الثاوي((( الساكن‪،‬‬
‫وج َلد الرجال فيها اىل‬ ‫وال ُيدرى ما هو ٍ‬
‫آت منها ف ُينتظر‪ ،‬رسورها مشوب باحلزن‪َ ،‬‬
‫الضعف والوهن‪ ،‬فال تغرنّكم كثرة ما اليعجبكم فيها‪ ،‬لقلة ما يصحبكم منها‪.‬‬
‫(((‬

‫وقال ‪ :‬اما بعد‪ ،‬فإين احذركم الدنيا‪ ،‬فاهنا حلوة خرضة‪ ،‬ح ّفت بالشهوات‪،‬‬
‫وحتببت بالعاجلة‪ ،‬وراقت بالقليل‪ ،‬وحتلت باآلمال‪ ،‬وتزينت بالغرور‪ ،‬ال تدوم‬
‫غرارة رضّ ارة‪ ،‬حائلة زائلة‪ ،‬نافدة بائدة‪ّ ،‬اكالة ّ‬
‫غوالة‪ ،‬ال‬ ‫حربهتا‪ ،‬والتؤمن فجعتها‪ّ ،‬‬
‫(((‬ ‫منية اهل الرغبة فيها والرضاء هبا‪.‬‬
‫تعدو اذ تناهت الىها ّ‬
‫هنج البالغة ص ‪ 151‬خ ‪.62‬‬ ‫(( (‬
‫هنج البالغة ص ‪ 181‬خ ‪81‬‬ ‫(( (‬
‫الصادفني‪ :‬املنرصفني‬ ‫(( (‬
‫املقيم‬ ‫(( (‬
‫هنج البالغة ص ‪ 302‬خ ‪.102‬‬ ‫(( (‬
‫هنج البالغة ص ‪ 341‬خ‪110‬‬ ‫(( (‬
‫‪ ................................................................................. 234‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫ومن كتابه‪ ‬اىل سلامن رمحه اهلل قبل ايام خالفته‪ :‬اما بعد‪ ،‬فإنام مثل الدنيا مثل‬
‫سمها‪ ،‬فأعرض عام يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها‪،‬‬
‫احلية‪ّ ،‬لي مسها قاتل ّ‬
‫وترصف حاالهتا‪ ،‬وكن آنس ما تكون‬
‫ّ‬ ‫وضع عنك مهومها ملا ايقنت به من فراقها‪،‬‬
‫هبا احذر ما تكون منها‪ ،‬فإن صاحبها كلام اطمأن فيها اىل رسور اشخصته عنه اىل‬
‫(((‬ ‫حمذور‪ ،‬او اىل ايناس ازالته عنه اىل احياش والسالم ‪.‬‬
‫(((‬ ‫ٍ‬
‫كركب يسار هبم وهم نيام‪.‬‬ ‫وقال ‪ :‬اهل الدنيا‬
‫ومن خرب رضار بن ضمرة عند دخوله عىل معاوية ومسألته له عن امري املؤمنني‬
‫‪ ‬قال ‪ :‬فأشهد لقد رأيته يف بعض مواقفه وقد ارخى الليل سدوله وهو قائم يف‬
‫حمرابه‪ ،‬قابض عىل حليته‪ ،‬يتململ متلمل السليم‪ ،‬ويبكي بكاء احلزين‪ ،‬ويقول‪ :‬يا‬
‫ِ‬
‫حينك‪ ،‬هيهات! غري‬ ‫ِ‬
‫تشوقت ! ال حان‬ ‫ِ‬
‫تعرضت! ام ا ّيل‬ ‫دنيا يا دنيا‪ِ ،‬‬
‫اليك عني‪ ،‬أيب‬
‫ِ‬
‫طلقتك ثالث ًا ال رجعة فيها‪ ،‬فعيشك قصري ‪،‬وخطرك‬ ‫غريي‪ ،‬ال حاجة يل ِ‬
‫فيك‪ ،‬قد‬
‫(((‬ ‫ِ‬
‫واملك حقري‪ .‬آه من قلة الزاد وطول الطريق‪ ،‬وبعد السفر وقلة املورد‪.‬‬ ‫يسري‪،‬‬
‫وقال ‪ : ‬ان الدنيا واآلخرة عدوان متفاوتان‪ ،‬وسبيالن خمتلفان‪ ،‬فمن احب‬
‫الدنيا وتوالها ابغض اآلخرة وعاداها‪ ،‬ومها بمنزلة املرشق واملغرب‪ ،‬وماش بينهام‬
‫(((‬ ‫ٍ‬
‫واحد بعد من اآلخر‪ ،‬ومها بعد رضّ تان‪.‬‬ ‫كلام قرب من‬
‫وقال ‪ : ‬الدنيا دار ممر ال دار مقر‪ ،‬والناس فيها رجالن‪ :‬رجل باع نفسه‬

‫هنج البالغة ص ‪ 1065‬ر ‪67‬‬ ‫(( (‬


‫هنج البالغة ص ‪ 1115‬ح ‪61‬‬ ‫(( (‬
‫هنج البالغة ص ‪ 1118‬ح ‪74‬‬ ‫(( (‬
‫هنج البالغة ص ‪ 1133‬ح ‪100‬‬ ‫(( (‬
‫الخامتة‪235..............................................................................................................‬‬

‫(((‬ ‫فأوبقها‪ ،‬ورجل ابتاع نفسه فأعتقها‪.‬‬


‫وقال ‪ :‬واهلل لدنياكم هذه اهون يف عيني من عراق خنزير يف يد جمذوم ‪.‬‬
‫(((‬

‫(((‬ ‫وقال ‪ :‬مرارة الدنيا حالوة اآلخرة‪ ،‬وحالوة الدنيا مرارة اآلخرة‪.‬‬
‫(((‬ ‫وقال ‪ :‬الناس ابناء الدنيا‪ ،‬وال يالم الرجل عىل حب امه‪.‬‬
‫ومتر‪ ،‬ان اهلل سبحانه مل يرضها ثواب ًا ألوليائه‪ ،‬وال‬
‫تغر وترضّ ّ‬
‫وقال ‪ :‬الدنيا ّ‬
‫عقاب ًا ألعدائه‪ ،‬وان اهل الدنيا كركب بينا هم حلوا اذ صاح هبم سائقهم فارحتلوا‪(((.‬‬

‫(((‬ ‫وقال ‪ :‬منهومان ال يشبعان ‪ :‬طالب علم وطالب دنيا ‪.‬‬


‫(((‬ ‫وقال ‪ :‬الدنيا خلقت لغريها ومل ختلق لنفسها‪.‬‬
‫قال رسول اهلل ‪ : ‬اغفل الناس من مل ي ّتعظ بتغري الدنيا من حال اىل حال‪،‬‬
‫(((‬‫واعظم الناس يف الدنيا خطر ًا من مل جيعل للدنيا عنده خطر ًا‪.‬‬
‫قال رسول اهلل ‪ :‬الرغبة يف الدنيا تكثر اهلم واحلزن‪ ،‬والزهد يف الدنيا يريح‬
‫(((‬ ‫القلب والبدن‪.‬‬

‫هنج البالغة ص ‪ 1150‬ح ‪128‬‬ ‫(( (‬


‫هنج البالغة ص ‪ 1192‬ح ‪228‬‬ ‫(( (‬
‫هنج البالغة ص ‪ 1196‬ح ‪243‬‬ ‫(( (‬
‫هنج البالغة ص ‪ 1231‬ح ‪295‬‬ ‫(( (‬
‫هنج البالغة ‪ 1279‬ح ‪407‬‬ ‫(( (‬
‫هنج البالغة ص ‪ 1296‬ح ‪449‬‬ ‫(( (‬
‫هنج البالغة ص ‪ 1298‬ح ‪455‬‬ ‫(( (‬
‫البحار ج ‪ 73‬ص ‪ 88‬حب الدنيا ح ‪.55‬‬ ‫(( (‬
‫البحار ج ‪ 73‬ص ‪ 91‬ح ‪65‬‬ ‫(( (‬
‫‪ ................................................................................. 236‬رشح املناجاة الخمس عرشة‬

‫قال امري املؤمنني ‪ :‬من عبد الدنيا وآثرها عىل اآلخرة‪ ،‬استوخم العاقبة‪.‬‬
‫(((‬

‫وقال رسول اهلل ‪ :‬ما يل والدنيا انام مثيل ومثل الدنيا كمثل راكب مر للقيلولة‬
‫(((‬ ‫يف ظل شجرة يف يوم صيف‪ ،‬ثم راح وتركها‪.‬‬
‫قال ابو عبد اهلل ‪ : ‬مثل الدنيا كمثل البحر املالح‪ ،‬كلام رشب العطشان منه‬
‫(((‬ ‫ازداد عطشا حتى يقتله‪.‬‬
‫ويف مواعظ عيل بن احلسني ‪ ‬وقيل له من اعظم الناس خطر ًا؟ فقال ‪ :‬من‬
‫(((‬ ‫مل ير الدنيا خطر ًا لنفسه‪.‬‬
‫واحلمدهلل عىل كرمه املغدق عىل عباده الفقراء‪ ،‬ونعمه السابغة عىل عارفيه‬
‫بالعطاء‪ ،‬وصىل اهلل عىل حممد وآله االتقياء‪ ،‬وعباده االصفياء‪ ،‬والسالم عىل سيد‬
‫االولياء وآله النجباء‪.‬‬

‫البحار ج ‪ 73‬ص ‪ 104‬ح ‪95‬‬ ‫(( (‬


‫البحار ج ‪ 73‬ص ‪ 119‬ح ‪110‬‬ ‫(( (‬
‫البحار ج ‪ 73‬ص ‪ 125‬ح ‪120‬‬ ‫(( (‬
‫البحار ج ‪ 78‬ص ‪ – 135‬ونحوه يف البحار ج ‪ 78‬ص ‪ 188‬عن الباقر‪ ،‬ويف ص ‪ 303‬يف حديث‬ ‫(( (‬
‫الكاظم ‪ ‬هلشام‪ ،‬ويف ج ‪ 77‬ص ‪ 114‬عن النبي (ص)‪.‬‬
‫ا ملحتو يا ت‬
‫كلمة مركز علوم القرءان وتفسريه وطبعه‪3............................‬‬
‫مقدمة املؤلف‪7.......................................................‬‬
‫مناجاة التائبني‪13.......................................................‬‬
‫مناجاة الشاكني‪39......................................................‬‬
‫مناجاة اخلائفني‪55......................................................‬‬
‫مناجاة الراجني‪69......................................................‬‬
‫مناجاة الراغبني‪79......................................................‬‬
‫مناجاة الشاكرين‪91....................................................‬‬
‫مناجاة املطيعني هلل‪101...................................................‬‬
‫مناجاة املريدين‪109......................................................‬‬
‫مناجاة املحبني‪123......................................................‬‬
‫مناجاة املتوسلني‪137....................................................‬‬
‫مناجاة املفتقرين‪147.....................................................‬‬
‫مناجاة العارفني‪169.....................................................‬‬
‫مناجاة الذاكرين‪189....................................................‬‬
‫مناجاة املعتصمني‪205...................................................‬‬
‫مناجاة الزاهدين‪217....................................................‬‬
‫اخلامتة‪231..............................................................‬‬

You might also like