You are on page 1of 26

‫‪37 / 145‬‬

‫فيورباخ يف فكر مارك�س و�أجنلز‪ :‬قراءة جديدة‬

‫ت��������وف��������ي��������ق ل��������وي�����������������س ������ش�����وم�����ر‬

‫�أ�ستاذ م�شارك‪ ،‬ق�سم الفل�سفة‪ ،‬كلية الآداب‪ ،‬اجلامعة الأردنية‪ ،‬الأردن‬

‫الملخ�ص‬
‫إن استطعنا اعتبار هيجل ملك الفكر األلماني في الفترة ‪ 1840 - 1820‬فإنه من الممكن اعتبار فيورباخ قمة الثورة‬
‫الفلسفية في الفكر األلماني خالل الفترة الواقعة بين نشره كتاب "جوهر المسيحية" (‪ )1841‬وثورة ‪ .)1(1848‬إن هذه‬
‫الحقيقة التي يوردها سدني هوك في كتابه "من هيجل إلى ماركس" هي ما أكدها أنجلز في كتابه "لودفيغ فيورباخ ونهاية‬
‫الفلسفة الكالسيكية األلمانية"؛ حيث يؤكد أنه في فترة ظهور "جوهر المسيحية" أصبح هو وماركس أتباع ًا لفيورباخ‪،‬‬
‫انطالق ًا من حاجتهما كيسار هيجلي للخروج من قيود هيجل؛ وعلى وجه الخصوص بعد أن بدأ هو وماركس بالتحول من‬
‫الليبرالية البرجوازية إلى الدفاع عن البروليتاريا‪.‬‬
‫تحاول الدراسة تتبع هذا التأثير وتحديد مقدار التوافق واالختالف بين موقف ماركس المادي وموقف فيورباخ‪.‬‬
‫وتهدف أيض ًا إلى تحليل موقف ماركس من مفهوم اإلنسان من خالل تحليل معمق ألطروحات عن فيورباخ‪ ،‬والنقاط‬
‫‪2019‬‬

‫المهمة التي كتبها ماركس عام ‪.1845‬‬

‫‪45‬‬
‫‪37 / 145‬‬
‫المقدمة‬
‫من املعروف أن ماركس مل يصل إىل مفهوم الشيوعية إال يف فرتة كتابته "حول املسألة‬
‫اليهودية"(‪ )2‬الذي رد به عىل برونو باور‪ ،‬وطرح خالله وألول مرة مفهوم الشيوعية‪ .‬ويتضح من‬
‫خالل قراءة النص أن ماركس كان متأثر ًا بأطروحات فيورباخ التي قدمها يف جوهر املسيحية‪.‬‬
‫ويؤكد أنجلز أن تأثري فيورباخ عىل ماركس استمر حتى يف كتابات الحقة وعىل وجه اخلصوص‬
‫يف كتابه "العائلة املقدسة"(‪" :)3‬يمكن للمرء أن يتصور بعد قراءة "العائلة املقدسة" بأي محاس‬
‫رحب ماركس باملفهوم اجلديد وإىل أي درجة قد تأثر به‪( ،‬مع التحفظات النقدية)"(‪. )4‬‬
‫لكن ومع كتاهبام الالحق "األيديولوجية األملانية"(‪ )5‬بدأ التأثري يأخذ بعد ًا نقدي ًا؛ حيث‬
‫تبلورت خالل هذا الكتاب األفكار اجلديدة املرتبطة بالفهم املادي للتاريخ واجلدل املادي‪،‬‬
‫وعىل الرغم من ذلك البعد النقدي استمر لودفيغ فيورباخ ليكون أحد املؤثرين األساسيني‬
‫يف ّ‬
‫تشكل هذه املفاهيم عند كل من ماركس وأنجلز(‪.)6‬‬
‫إن هذا التأثري يدفعنا إىل دراسة تطور نظرة ماركس وأنجلز لفكر لودفيغ فيورباخ‬
‫ولتتبع مدى تأثري هذا املفكر عىل كتاباهتام وجوانب هذا التأثري‪.‬‬

‫نظرة في موقف الماركسية من لودفيغ فيورباخ وتأثيره‬


‫لننظر يف البداية إىل وجهة النظر املدرسية حول تأثري فيورباخ عىل ماركس‪ .‬يعترب لينني‬
‫يف مقالته "مصادر املاركسية الثالثة وأقسامها املكونة" أن الفلسفة املاركسية اعتمدت عىل‬
‫االشرتاكية الفرنسية‪ ،‬واأليديولوجية األملانية‪ ،‬واالقتصاد الربيطاين‪ ،‬ويعترب أن االعتامد عىل‬
‫األيديولوجية األملانية يتبلور يف مكونني أساسيني‪ ،‬مها‪ :‬الديالكتيك (بعد أن أوقف ديالكتيك‬
‫هيجل عىل أرجله‪ ،‬كام يقول لينني)‪ ،‬واملادية التي اعتمد يف أساسها عىل فيورباخ؛ بحيث دمج‬
‫االثنني مع ًا باألسلوب اإلبداعي الذي أتقنه ماركس جيد ًا‪ ،‬ومتكن من إنشاء اجلدل املادي‪،‬‬
‫الذي يعترب األساس العلمي للفلسفة املاركسية‪.‬‬
‫وينظر لينني إىل فيورباخ بيشء من األمهية‪ ،‬فيقول‪" :‬كان لودفيغ فيورباخ قد أخذ‬
‫‪2019‬‬

‫يوجه النقد إىل علم الالهوت ويتجه نحو املادية التي أحرزت‬
‫منذ ‪ 1836‬عىل اخلصوص‪ّ ،‬‬

‫‪46‬‬
‫‪37 / 145‬‬

‫الغلبة هنائي ًا عنده يف سنة ‪ 1841‬من خالل كتاب "جوهر املسيحية"‪ .‬ويف سنة ‪ 1843‬ظهر‬
‫كتابه "مبادئ لفلسفة املستقبل" ‪ .‬وقد كتب أنجلز فيام بعد حول هذين الكتابني لفيورباخ‪،‬‬
‫فقال‪" :‬كان جيب أن يكون اإلنسان قد حتسس بنفسه األثر التحريري هلذين الكتابني‪ ...‬فلقد‬
‫أصبحنا نحن دفعة واحدة من أتباع فيورباخ"(‪.)7‬‬
‫ويعترب لينني أن هذا التأثري لفيورباخ قد استمر عند ماركس لفرتة طويلة حتى إنه‬
‫(ماركس) "مل يقر بام عند فيورباخ من نقاط ضعف‪ ،‬حتى فيام بعد‪ ،‬إال من حيث عدم الكفاية‬
‫يف منطق ماديته وشموليتها‪ .‬لقد كان يرى الشأن التارخيي العاملي لفيورباخ الذي "شغل‬
‫دهر ًا" يف قطيعته النهائية مع مثالية هيجل بالضبط‪ ،‬ومناداته باملادية"(‪ ،)8‬إن هذه الثورة‬
‫الفيورباخية التي أثرت يف الفلسفة األملانية كلها جعلت من فيورباخ رمز ًا لتحقيق الثورة‬
‫الفلسفية ضد اهليجلية‪ .‬فكام نعرف فقد سيطرت الفلسفة اهليجلية عىل الفكر األملاين لفرتة‬
‫تكون جمموعة من األتباع األوفياء الذين تعاملوا مع الفكر اهليجيل كفكر‬‫طويلة‪ ،‬أدت إىل ّ‬
‫مطلق غري قابل للنقاش؛ مما حدا بامركس أن يصف هؤالء األتباع بـ"القديسني" (بأسلوبه‬
‫التهكمي املعروف)‪ ،‬كإشارة إىل أن نمط إيامهنم بالفكر اهليجيل يشابه اإليامن الديني ال‬
‫االعتقاد الفلسفي‪ .‬وأكد ماركس أن احلرب ضد األيديولوجية ال تكون حرب ًا ضد املؤسسات‬
‫السياسية والدينية التي تسوق هذه األيديولوجية بل هي حرب ضد كل أنواع امليتافيزيقا‪:‬‬
‫ال ضد املؤسسات السياسية الراهنة‪ ،‬وكذلك ضد‬ ‫احلرب عىل األيديولوجية هي ليست "نضا ً‬
‫الدين والالهوت وحسب‪ ...‬بل أيض ًا ضد كل ميتافيزيقا"(‪.)9‬‬
‫وهذه النقطة مهمة جد ًا؛ فوجهة نظر ماركس تؤكد أن األيديولوجيا بكل أشكاهلا‬
‫هي وسيلة لتعمية الوعي؛ فهي تشكل نوع ًا من الغشاء الذي يمنع العقل من رؤية الواقع‬
‫بوضوح‪ .‬ولذلك فقد ربط ماركس بني األيديولوجيا وامليتافيزيقا؛ ألنه رأى أن األفكار‬
‫األيديولوجية هي أفكار متجاوزة للواقع‪ ،‬ولكنها‪ ،‬عىل الرغم من جتاوزها للواقع‪ ،‬ليست‬
‫إال انعكاس ًا ملتطلبات هذا الواقع‪ .‬وينتقد ماركس مفهوم استقاللية الفكر عن الواقع؛ ففي‬
‫معرض نقده هليجل يقول‪" :‬يرى هيجل أن حركة الفكر‪ ،‬هذه احلركة التي يشخصها ويطلق‬
‫عليها اسم الفكرة‪ ،‬هي اإلله (اخلالق‪ ،‬الصانع)‪ ...‬أما أنا فإين أرى العكس‪ :‬إن حركة الفكر‬
‫ليست إال انعكاس ًا حلركة املادة منقولة إىل دماغ اإلنسان ومتحولة فيه"(‪.)10‬‬
‫‪2019‬‬

‫‪47‬‬
‫‪37 / 145‬‬
‫وهلذه األسباب يعترب لينني أن ماركس مل حياول إسقاط فيورباخ متام ًا كام أسقط هيجل؛‬
‫ألن ماركس اعترب أن نظرة فيورباخ إىل العامل‪ ،‬عىل سذاجتها‪ ،‬هي التي أعطت بوادر حتطيم‬
‫القلعة اهليجلية من أحد أبنائها املحدثني‪.‬‬
‫حتى إن تلك النظرة إىل الالهوت وانتقادات فيورباخ املقدمة عليها أدت بلينني إىل‬
‫االعرتاف بشكل رصيح أن فيورباخ رد ببالغ الدقة والصواب عىل أولئك الذين يدافعون‬
‫عن الدين بوصفه ينبوع "عزاء" للناس‪ ،‬بأن تعزية العبد هي عمل نافع ملالك العبيد يف حني‬
‫أن نصري العبيد احلقيقي يعلم العبيد االستياء والتمرد واالنتفاضة‪ ،‬ودك النري وال "يعزهيم‬
‫إطالق ًا"(‪.)11‬‬
‫ولكنه يعود ليربز االنتقادات التي من املمكن تقديمها للامدية "القديمة"‪ ،‬عىل حد تعبريه‪،‬‬
‫(‪)12‬‬
‫ومن مجلتها مادية فيورباخ (أو باألحرى املـــادية "املبتذلة" لبوخنر وفوغـت وموليشوت)‬
‫يف ثالث نقاط أساسية‪ ،‬هي‪:‬‬
‫‪ - 1‬إن هذه املادية كانت مادية ميكانيكية‪ ،‬مل تأخذ تطور العلوم يف حساباهتا‪ ،‬فجاءت‬
‫نظرياهتا جامدة تأخذ ُبعد ًا واحد ًا فقط دون باقي األبعاد‪.‬‬
‫‪ - 2‬إن املادية القديمة مل تكن تارخيية وال ديالكتكية‪ ،‬ومل تكن تأخذ بمفهوم التطور‬
‫االجتامعي عىل نحو منسجم إىل النهاية‪.‬‬
‫‪ - 3‬نظرت هذه املادية إىل "جوهر اإلنسان" عىل نحو جتريدي‪ ،‬ولذلك مل تقم‬
‫إال بتفسري العامل‪ ،‬ولكن املطلوب تغيريه‪ .‬ولذلك فإهنا تعترب بعيدة عن النشاط العميل‬
‫الثوري(‪.)13‬‬
‫وهو لذلك يعترب أن ماركس وأنجلز قد الما فيورباخ عىل عدم متكنه من أخذ مفهوم‬
‫املادية إىل هناياته الصحيحة‪ ،‬ولذلك فقد اعتربا فيورباخ صاحب حماولة لنقد الدين من‬
‫زاوية حاجته لدين جديد؛ ألنه مل يتمكن من التخلص من قيود "التعابري املثالية يف حقل علم‬
‫االجتامع" ليصبح مادي ًا عىل نحو حقيقي(‪.)14‬‬
‫‪2019‬‬

‫‪48‬‬
‫‪37 / 145‬‬

‫(*)‬
‫لودفيغ فيورباخ وأثره في الفلسفة‬
‫ابتدأ لودفيغ فيورباخ نشاطه الفلسفي‪ ،‬برسالة عنواهنا "عن العقل الواحد‪ ،‬الكوين‬
‫الالهنائي"‪ .‬وكانت تتوجي ًا لدراسته الفلسفية بعد أن حتول عن توجهاته الالهوتية‪ ،‬التي‬
‫ُوجدت عنده نتيجة لتأثري والده الذي أراده أن يكون الهوتي ًا‪ ،‬ولكنه يف سنة ‪ 1825‬متكن من‬
‫االعرتاف بعدم قدرته عىل االستمرار يف دراسة الالهوت‪ ،‬وتوجه لدراسة هيجل‪ ،‬فتأثر به‬
‫وكتب حتت تأثريه كل كتاباته من رسالته األوىل عام ‪ 1826‬إىل كتابه االنقاليب األول "جوهر‬
‫متكن من خالله ومن خالل كتابه "مبادئ فلسفة املستقبل" عام‬ ‫املسيحية" عام ‪ ،1841‬الذي ّ‬
‫‪ ،1843‬أن حيقق خروج ًا عن جممل السيطرة اهليجلية‪ ،‬ومن ثم توجيه أول رضبة موجعة‬
‫يف وجه الفكر اهليجيل‪ .‬هذه الثورة الفكرية ضد اهليجلية هي التي ميزت فيورباخ وأعطته‬
‫مكانته التي جعلته رائد ًا جلمهرة من الكتب التي فتحت جماالت النقد بشكل واسع يف فضاء‬
‫الفلسفة األملانية عرب تلك السنوات الثامين ‪.1848-1841‬‬
‫أهم هذه الكتب والدراسات "جوهر الدين"(‪ )15‬عام ‪ ،1845‬الذي بدأ خالله فيورباخ‬
‫يتوجه نحو نظرته اجلديدة إىل الدين باعتباره وازع ًا اجتامعي ًا رضوري ًا لتامسك املجتمع‪ ،‬إىل‬
‫ادعائه بوجوب متكننا من االستعاضة عن الدين اخليايل دين ًا آخر من الواقع‪ .‬وكان هذا‬
‫الكتاب هو بداية اهلبوط الفيورباخي‪ .‬وقبله كتب "األطروحات املؤقتة" عام ‪ ،1843‬ثم‬
‫قدم فيورباخ عدد ًا من األبحاث عىل إثر الثورة األملانية ‪ ،1848‬وكانت عىل شكل دروس يف‬
‫فلسفة الدين لطالب هايدلربغ‪ .‬ثم رسالة بعنوان "نظرية أغذية الشعب" التي بعثها إىل أحد‬
‫تالمذته جاكوب موليشوت‪ ،‬وأتبعها بدراسة بعنوان "العلوم الطبيعية والثورة" عام ‪،1850‬‬
‫وأهنى فيورباخ كتابه األخري "أنساب اآلهلة" استناد ًا إىل املصادر القديمة الكالسيكية‪ ،‬العربية‬
‫واملسيحية‪ ،‬عام ‪ ،1857‬يف حماولة أخرية من فيورباخ نحو إجياد توافق بني إنسانية "جوهر‬
‫املسيحية" وطبيعية "جوهر الدين"‪.‬‬
‫إن التأثري املبارش لفيورباخ كان بفتح باب احلوار والسجال عريض ًا يف فلك الفلسفة‬
‫يف أملانيا وبخاصة يف تيار اليسار اهليجيل‪ ،‬حتى إنه يعترب هو وباور وشرتنر وشرتاوس(‪ )16‬من‬
‫الذين قادوا محلة اهلجوم عىل هيجل عىل الرغم من أهنم كلهم كانوا أرسى الفلسفة اهليجلية‬
‫‪2019‬‬

‫بوجه من الوجوه‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫‪37 / 145‬‬
‫ولكن منذ البدايات األوىل لسجال اليسار اهليجيل‪ ،‬انطالق ًا من كتاب حياة املسيح‬
‫لشرتاوس وكتاب الفريد وخاصته لشرتنر‪ ،‬الذي هاجم فيه فكرة اإلنسان عند فيورباخ‪،‬‬
‫استمر النقد املتبادل عىل الساحة األيديولوجية للفلسفة األملانية حتى تفجر بثورة نقدية من‬
‫نمط جديد‪ ،‬وهي ما قدمها ماركس وأنجلز‪ ،‬اللذان بدأا باخلروج عن أطر اليسار – اهليجيل‪،‬‬
‫بعد مؤلف ماركس "نقد فلسفة احلق عند هيجل"(‪ )17‬ليتوجها مع ًا بعد كتاب ماركس "حول‬
‫املسألة اليهودية" عام ‪ ،1844‬إىل النظرة الشيوعية يف بداياهتا دون أن تأخذ الطابع اجلديل‬
‫بعد‪ ،‬فكانت إىل حد ما إنسانية وغري متبلورة يف مجيع جوانبها‪ ،‬ومن ثم ابتدأ النقد املشرتك‬
‫(‪)18‬‬
‫يتعاىل عرب كتاب "العائلة املقدسة" ومن ثم "اإليديولوجية األملانية" وعرب "بؤس الفلسفة"‬
‫وغريها من كتابات ماركس وأنجلز‪ ،‬التي اتسمت بطابع نقدي الذع اشتهر بلغته االستهزائية‬
‫الساخرة وبأسلوبه املعقد الشيق الذي يسري معه عرب تطوره بشكل متناسق من التطور الفلسفي‬
‫الرائع الذي و ّلد هذا التالحم الذي ال فكاك فيه بني مادية فيورباخ وجدلية هيجل‪ ،‬وليولد‬
‫املادية اجلدلية‪ ،‬ومن ثم عرب حتليله التارخيي املادي ليفجر ثورة جديدة يف عامل الفلسفة‪.‬‬
‫فمن الواضح أن ماركس منذ كتابته لألطروحة ‪ 11‬من أطروحات عن فيورباخ‪ :‬إن‬
‫الفالسفة مل يفعلوا حتى تلك اللحظة سوى تفسري العامل بطرق خمتلفة‪ ،‬بينام األمر املهم هو‬
‫تغيريه(‪ )19‬ـ حتول موقفه نحو الثورة‪ ،‬ثورة الربوليتاريا‪ .‬ومنذ تلك اللحظة اعترب ماركس‬
‫فلسفته أهنا رفض لكل أيديولوجية؛ إذ إنه يعترب اجلدل املادي والنظرة املادية للتاريخ‬
‫واالقتصاد السيايس (كام عرب عنه يف كتاب رأس املال(‪ )20‬ويف الغروندريسة(‪ ،))21‬أهنا علم‬
‫الطبقة العاملة يف تطوره(‪ .)22‬إن هذا الرفض للجمود وللدوغامطية هو ما يميز نقدية ماركس‬
‫عن النقديات التي قدمت عىل الساحة الفلسفية عرب السنوات ‪.1848-1840‬‬
‫متكن من توجيه أكرب لطمة للدين وللفلسفة اهليجلية ولكنه ـ‬ ‫إن فيورباخ بفلسفته ّ‬
‫وألنه‪ ،‬كام يقول ماركس‪ ،‬مل يتمكن من امتالك املنهج السليم‪ ،‬مل يستطع أن يكمل نظرته املادية‪.‬‬
‫ويعبرّ ماركس عن ذلك بقوله‪" :‬أنا متفق مع املاديني فيام يتعلق باملايض ولست متفق ًا معهم‬
‫فيام يتعلق باملستقبل"(‪ )23‬ـ يقر بعدم قدرته عىل أن يستمر مادي ًا باألسلوب القديم من مادية‬
‫ميكانيكية‪ ،‬وهو يف ذلك حمق بحسب تعبري أنجلز؛ ألن املادية يف تلك املرحلة مل تكن لتقدم كل‬
‫‪2019‬‬

‫اإلجابات املقنعة؛ وذلك الفتقادها للنظرة اجلدلية‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫‪37 / 145‬‬

‫ولكن فيورباخ بقي أسري ًا للهيجلية حني بدأ ينظر إىل الطبيعة عىل أهنا دين جديد للعامل‬
‫جيب أن نستعيض به عن الدين املتهاوي‪ ،‬وهنا هو يبدأ مرحلة اهلبوط كام قلنا سابق ًا‪ ،‬اهلبوط‬
‫من عرش السيطرة الفلسفية‪ ،‬ألنه هبذا الطرح كان أضعف من أن حيتمل جممل التطور الذي‬
‫برز يف الفلسفة األملانية وكان أضعف أيض ًا من احتامل الرضبات املوجعة النتقادات شرتنر‬
‫وباور‪ ،‬ومن ثم تصحيحات ماركس االنتقادية‪.‬‬

‫فيورباخ وماركس وأنجلز‬


‫سأحاول أن أتتبع تأثري فكر فيورباخ عىل كل من ماركس وأنجلز يف كتاب "العائلة‬
‫املقدسة"‪ ،‬ومن ثم بداية التحول يف التأثري لينتهي إىل أن يكون حجر ًا أساسي ًا للفلسفة‬
‫املاركسية بعد أن أدخل يف حلقة النقد والتعديل ليتحول يف كتاب "البيان الشيوعي" إىل ما‬
‫سمي باملادية اجلدلية‪ ...‬إن هذه السنوات األربع منذ كتابه "العائلة املقدسة" سنة ‪ ،1844‬إىل‬
‫ّ‬
‫كتابة "البيان الشيوعي" سنة ‪ ،1848‬كانت بداية ما أسامه التوسري "بالقطيعة املعرفية"(‪ )24‬التي‬
‫جيب أن يتحىل هبا الفيلسوف ليتحول إىل الفكر العلمي‪.‬‬
‫إن ماركس وأنجلز يف سجاهلام ضد باور بخصوص رأيه بـ"الوعي الذايت" ونقدمها‬
‫لربودون من خالل نظرته للملكية‪ ...‬يوضحان أن النقد السابق لفيورباخ كان نقد ًا هدّ ام ًا‬
‫حاول أن "حيل كل يشء حمدد وموجود عن طريق الوعي الذايت"(‪)25‬؛ أي أن النقد السابق كان‬
‫ينطلق من نظرة ميتافيزيقية تؤكد أن الرصاع هو رصاع فكري حمصور يف الوعي‪ .‬ولكن ومن‬
‫حتول النقد من النقد امليتافيزيقي إىل ربطه باإلنسان‬
‫خالل اعتبار فيورباخ لإلنسان احلقيقي ّ‬
‫ال‪ .‬ويف هذا السياق فقد علق ماركس وأنجلز عىل إحدى النقاط النقدية عند‬ ‫املوجود فع ً‬
‫باور عىل برودون بأن "الرأي القائل إن الفلسفة هي التعبري املجرد عن األوضاع القائمة"‬
‫"إنام ينسب إىل فيورباخ الذي كان أول من وصف الفلسفة أهنا جتارب تأملية صوفية وبرهن‬
‫أهنا كذلك"‪ .‬ويكمالن تعظيمهام لفيورباخ بأن يؤكدا أن فيورباخ "استنتج أن عىل الفلسفة‬
‫أن هتبط من سامء التأمل إىل أعامق البؤس البرشي‪ .)26("...‬يعترب ماركس وأنجلز أن هذه‬
‫النقلة جوهرية‪ ،‬النقلة من التعامل مع الفلسفة والفكر عىل أهنا رضب من التأمل الصويف إىل‬
‫التعامل معها عىل أهنا نتاج لإلنسان منطلقة من أوضاعه احلقيقية ومن عامله املعيش‪.‬‬
‫‪2019‬‬

‫‪51‬‬
‫‪37 / 145‬‬
‫ويستمر ماركس وأنجلز يف امتالك زمام فلسفة فيورباخ يف نقده املستمر للمثالية‬
‫اهليجلية بممثليها األشد دفاع ًا‪ ،‬باور وشرتنر‪ ،‬ويؤكدان مرة أخرى أن نقد فيورباخ لألفكار‬
‫املسيحية "التجسيد والثالوث واخللود ‪...‬إلخ‪ ،‬عىل أهنا رس التجسيد‪ ،‬ورس الثالوث ورس‬
‫اخللود‪ .‬وتصور اهلرزيليخا كل ظروف العامل احلايل عىل أهنا أرسار‪ .‬ولكن حيث كشف‬
‫فيورباخ األرسار احلقيقية صنعت اهلرزيليخا أرسار ًا من التفاهات احلقيقية"(‪)27‬؛ أي أهنام‬
‫يتفقان مع فيورباخ عىل وضع األفكار املسيحية بمكاهنا الصحيح؛ كوهنا نتاجات العامل‬
‫احلايل‪ ،‬ويرفضان من ثم اعتبارها أرسار ًا ال يمكن سربها‪.‬‬
‫ثم يصل ماركس وأنجلز إىل درجة من املساجلة االستفسارية ألسس الثورات‬
‫النقدية عىل هيجل ومثاليته ليتساءال‪ :‬من كشف رس "النظام" ‪...‬؟ إنه فيورباخ من أبطل‬
‫ديالكتيك املفاهيم؟ وأهنى حرب اآلهلة املعروفة لدى الفالسفة وحدهم؟ إنه فيورباخ‪.‬‬
‫من استبدل باهلراء القديم عن "الوعي الذايت غري املحدود" "اإلنسان" املحايث؟ إنه‬
‫فيورباخ‪ ،‬وفيورباخ وحده‪ .‬هبذا نرى مدى تأثر ماركس وأنجلز بأفكار فيورباخ‪ ،‬بل إهنام‬
‫يذهبان ضمن تلك الفرتة إىل أبعد من ذلك يف تأييد موقف فيورباخ‪ ،‬فهام يعتربانه أنه متكن‬
‫من التخلص من املقوالت التي يستخدمها "النقد" من مثل‪" :‬الثروة احلقيقية للعالقات‬
‫اإلنسانية‪ ،‬املضمون األخري للتاريخ‪ ،‬كفاح اجلمهور ضد الروح"(‪ ...)28‬؛ كوهنا مقوالت‬
‫ميتافيزيقية حتيل اإلنسان إىل جمرد انعكاس للوعي‪ .‬وهو لذلك يعترب أن من حاولوا دراسة‬
‫فيورباخ مل يستطيعوا أن يفهموه‪ ،‬بل انعكس يف فكرهم جمموعة من األغالط املتأثرة‬
‫بالنظرة اهليجلية‪.‬‬
‫ويعرب ماركس وأنجلز عن موقفهام من التحول يف النظرة إىل اإلنسان من خالل املقارنة‬
‫بني النظرة اهليجلية املتجسدة بمدرسة "النقد النقدي" (باور وشرتاوس) وموقف فيورباخ‪.‬‬
‫فمدرسة "النقد النقدي" تعترب "اإلنسان" جوهر ًا ما‪ ،‬ومن ثم فهي بذلك تنقل "اإلنسان"‬
‫ليكون جمرد مقولة جديدة‪ ،‬وهي حتاول هبذا النقل لإلنسان من كونه موجود ًا عياني ًا إىل كونه‬
‫مقولة إىل إخراج الالهوت من أزمته‪ .‬ويقول ماركس وأنجلز أنه‪ :‬يمكن هلذه النظرة أن‬
‫تستمر؛ ألن "التاريخ ال يفعل شيئ ًا"‪ ،‬إنه "ال يملك ثروة وفرية"‪ ،‬إنه "ال يشن املعارك"‪ .‬ويف‬
‫‪2019‬‬

‫مقابل هذه النظرة حيددان موقفهام‪ :‬إنه اإلنسان‪ ،‬اإلنسان احلي احلقيقي الذي يفعل كل ذلك‪،‬‬

‫‪52‬‬
‫‪37 / 145‬‬

‫الذي يملك وحيارب‪ ،‬التاريخ ليس شخص ًا منفص ً‬


‫ال‪ ،‬يستخدم اإلنسان ألهدافه اخلاصة‪،‬‬
‫التاريخ ليس سوى فعالية اإلنسان الذي يالحق أهدافه(‪.)29‬‬
‫ويف املقابل نجد موقف فيورباخ الذي يؤكد الوجود احلقيقي لإلنسان بكونه هو‬
‫الذي يصنع التاريخ وهو من يقدم األفكار وهو من حيارب وهو من يعاين من الفقر‪ .‬وجتدر‬
‫املالحظة هنا أن ماركس وأنجلز يستخدمان موقف فيورباخ يف املواقع التي ينتقدان فيها‬
‫الالهوت ومؤيديه‪ ،‬ويف املواقع التي ترتبط بـ"اإلنسان"؛ ألهنام يعتربان أن مواقف فيورباخ‬
‫منهام كافية‪ ،‬فهام يعتربان فيورباخ قد حل التناقض بني الروحانية واملادية هنائي ًا يف كتابه‬
‫"جوهر املسيحية" ّ‬
‫ومتكن من أن يعطي النرص للامدية‪.‬‬
‫أو كام يقول ماركس وأنجلز‪" :‬كام أن النضال ضد الالهوت التأميل‪ ،‬قد دفع فيورباخ‬
‫إىل النضال ضد الفلسفة التأملية؛ ألنه عرف أن التأمل هو الدعامة األخرية لالهوت‪،....... ،‬‬
‫كذلك دفع الشك الديني "باييل(‪ ")30‬إىل الشك يف امليتافيزيقا أيض ًا‪ ،‬التي كان يدعمها ذلك‬
‫اإليامن‪ ،‬لذلك يستقيص امليتافيزياء بصورة نقدية منذ نشأهتا األوىل"(‪ .)31‬حياول ماركس‬
‫وأنجلز هنا تأكيد رضورة أن ينطلق النقد من التاريخ احلقيقي للبرش ال من تاريخ األفكار‪،‬‬
‫ومن ثم فهام يردان األنامط الفلسفية إىل من قدمها وإىل الظروف التي عاشها هؤالء يف أثناء‬
‫تقديمهم لـ"تأمالهتم الفلسفية"‪ .‬ويعتربان أن الفلسفة يف فرنسا وأملانيا يمكن أن تقسم‬
‫إىل مرحلتني بني هناية القرن الثامن عرش وبداية القرن التاسع عرش‪ :‬مرحلة سابقة تتمثل‬
‫يف الفلسفة امليتافيزيقية التأملية املتعالية‪ ،‬ومرحلة الحقة بدأت فيها الفلسفة يف النزول من‬
‫عليائها إىل الواقع املعيش‪ ،‬إىل اإلنسان بتارخيه وتطوره ومعاناته‪.‬‬
‫وعندما يؤكد ماركس وأنجلز انتصار فيورباخ يف معاركه اجلدالية مع مفكري‬
‫مرحلته‪ ،‬يعتربان أن أهم هذه املعارك معركة فيورباخ ضد هيجل؛ ألنه هبذه املعركة متكن‬
‫الفكر األملاين أن يكرس أزمة حلقة التجدد التي وصل إليها‪ ...‬فهام يعتربان أن الفكر األملاين‬
‫قد دخل يف حلقة دائرية مغلقة من إعادة والدة الفكر اهليجيل بأشكال خمتلفة مفرغة الفحوى‬
‫من أي تغيري ممكن أن ينتج جديد ًا‪ .‬ويف إطار توضيح ملوقف فيورباخ من نظرية "اخللق‬
‫اهليجلية"؛ أي اغرتاب الذات املطلقة بالعامل يقول ماركس وأنجلز‪" :‬وبالرجوع إىل نظرية‬
‫‪2019‬‬

‫‪53‬‬
‫‪37 / 145‬‬
‫اخللق اهليجلية هذه‪ ،‬يالحظ فيورباخ [أن]‪" :‬املادة هي االغرتاب الذايت للروح‪ .‬ولذلك‬
‫فاملادة نفسها تكتسب الروح والفكر‪ ...‬ولكن يف الوقت نفسه تفرتض أهنا ال يشء‪،‬عىل‬
‫أهنا كائن غري واقعي بقدر ما يكون نتاج هذا االغرتاب فقط؛ أي الكائن الذي خيلق نفسه‬
‫من املادة‪ ،‬من احلسية‪ ،‬الكائن يف متامه‪ ،‬معرب ًا عنه يف شكله وهيئته احلقيقيني‪ .‬ولذلك‬
‫فالطبيعي واملادي واحليس هي أشياء منفية هنا كالطبيعة التي أفسدهتا اخلطيئة األصلية يف‬
‫الالهوت"(‪ .)32‬وبعد هذا االقتباس الطويل لفيورباخ الذي يقدمه ماركس وأنجلز فإهنام ال‬
‫يضيفان أي لطمة أخرى يف وجه اهليجلية؛ ألهنام يعتربان أن هذه اللطمة الفيورباخية متكنت‬
‫من إهنائه عىل الصعيد الالهويت‪.‬‬
‫ولكن اهتامم ماركس وأنجلز ال ينحرص يف نقد الالهوت عىل نسق فيورباخ‪ ،‬لكنهام‬
‫يريدان أن ينقدا الفكر امليتافيزيقي بعامة وفكر هيجل بخاصة؛ ألهنام يرفضان مقولة هيجل‬
‫الشهرية "أن التاريخ هو تاريخ لرصاع األفكار"‪ ،‬فالتاريخ بالنسبة ملاركس وأنجلز هو تاريخ‬
‫الرصاع احلقيقي بني البرش‪ ،‬هو تاريخ للرصاع الطبقي وليس لرصاع األفكار‪" :‬حتى ننهض‬
‫ال يكفي أن ننهض يف الفكر" (عىل النسق اهليجيل) "وفوق رأسنا احليس احلقيقي يبقى النري‬
‫ِ‬
‫املستغلة)‪" ،‬النقد‬ ‫احليس احلقيقي الذي ال يمكن رفعه باألفكار" (السيطرة الطبقية للطبقات‬
‫املطلق تع ّلم من فينومينولوجيا هيجل‪ ،‬عىل األقل‪ ،‬من تغيري احللقات املوضوعية احلقيقية‬
‫التي توجد خارج ًا عني إىل فكرة مثالية رصفة‪ ،‬إىل حلقات ذاتية توجد يف داخيل فقط‪،‬‬
‫وبذلك أن حيول كل الرصاعات اخلارجية احلسية إىل رصاعات رصفة للفكرة"(‪ .)33‬نلمس‬
‫متام ًا رفض ماركس وأنجلز للنقد ملجرد النقد (النقد املطلق)‪ ،‬ومها من ثم يرفضان أن تتحول‬
‫احلقائق املوضوعية إىل حقائق ذاتية منفصلة عن املوضوعية‪ ...‬يرفضان أن تبقى املساجالت‬
‫عىل مستوى الفكر دون أن نتمكن من تغيري الواقع احليس احلقيقي‪ ...‬الذي ال يمكن تغيريه‬
‫إال بالعمل احلثيث ‪ ...‬بالثورة‪.‬‬
‫ولذلك يعترب ماركس وأنجلز أن نقد فيورباخ‪ ،‬عىل أمهيته ودقته‪ ،‬بقي أسري النقد‬
‫الفكري غري املندمج بالواقع؛ أي ذلك النقد الفكري اخلالص الذي ال هيمه ما حيدث عىل‬
‫أرض الواقع السيايس االجتامعي‪ .‬ومن ثم فعند حديث ماركس وأنجلز عن سامح املراقب‬
‫‪2019‬‬

‫بطباعة كتاب فيورباخ يعزوان ذلك إىل أن أفكاره جاءت عىل املستوى الفلسفي فقط ومل‬

‫‪54‬‬
‫‪37 / 145‬‬

‫تنتقل إىل املستوى السيايس والعميل‪ ،‬أو كام يضعاهنا‪" :‬عندما سمح بطبع كتاب فيورباخ‬
‫"أطروحات يف إصالح الفلسفة"‪ ،‬فإن اللوم ال يقع عىل الرببرية الرسمية للمراقب‪ ،‬بل عىل‬
‫حاجة أطروحات فيورباخ للتهذيب‪ .‬إن النقد الصايف‪ ،‬غري امللوث باجلمهور أو املادة‪ ،‬جيد‬
‫أيض ًا فيه املراقب شك ً‬
‫ال أثريي ًا خالي ًا من أي حقيقة مجاهريية"(‪ .)34‬وهبذا فهام يؤكدان رضورة‬
‫االلتحام باجلمهور لصناعة التغيري‪ ،‬وللتمكن من اخلروج عن أطر املراقب‪ ،‬ولرفض الواقع‬
‫بشكله القائم‪.‬‬
‫إن هذا التأثر بأفكار فيورباخ مل يستمر عىل الوترية نفسها عند ماركس وأنجلز‪،‬‬
‫ولكن الرضورة التي كانا يستشعران احلاجة هلا‪ ،‬بوصفها حاجة إنسانية نحو رفض املثالية‪،‬‬
‫وبوصفها إمكانية خترج عن إطار الذات‪ ،‬هي ما دفعتهام ليتأثرا بأطروحات فيورباخ‪.‬‬
‫فالصفة العامة لتلك املرحلة كانت بال ُبعد عن قضايا اإلنسانية إىل قضايا فكرية ال هتم‬
‫اجلمهور وليس هلا إال بأحاديث "اجلوهر" و"الوعي الذايت" و"الروح"‪ ،‬دون أن يتم‬
‫النظر إىل اإلنسان كامهية‪ ،‬وليس كمقولة جمردة‪ .‬ولكن فيورباخ متكن من االنتقال من‬
‫اإلدراك املتعايل هلذه املقوالت إىل إدراك أرسارها احلقيقية وفضحها‪ ،‬ولكنه مل يتمكن من‬
‫الوصول إىل االحتياجات احلقيقية للتغيري‪ ،‬عىل حد تعبري ماركس وأنجلز‪ ،‬بل حتول يف‬
‫هنايته لكي يصور البؤس الذي يعاين منه اإلنسان والبؤس الذي ينتج عن الفقر بأسلوب‬
‫احلزن والشفقة دون أن يقدم هلم شيئ ًا‪.‬‬

‫ماركس بعد العائلة المقدسة‬


‫كانت مالحظات ماركس املعروفة باسم "أطروحات عن فيورباخ" عىل الرغم من‬
‫صغر حجمها هي الدليل األول عىل اكتامل املفهوم النقدي لدى ماركس ملجمل املادية‬
‫السابقة‪ .‬ولقد متكن من خالهلا من تأكيد أن احلقائق املوضوعية التي حيتاج إليها اجلمهور ال‬
‫يمكن أن تتمثل يف الواقع إال من خالل التحام املادية باجلدل‪ ،‬فاملادية التي ال تلتحم باجلدل‬
‫ال يمكنها أن تدرك "وحدة ورصاع األضداد" ومن ثم ال يمكنها أن تدرك طبيعة املجتمع‬
‫البرشي؛ كونه كتلة من األضداد املتصارعة وإال فهي بحكم املنتهي‪ ،‬كام كانت املثالية من‬
‫قبلها‪ .‬لننظر إىل الفروض بيشء من التحليل‪:‬‬
‫‪2019‬‬

‫‪55‬‬
‫‪37 / 145‬‬
‫(‪)35‬‬
‫أطروحات عن فيورباخ‪« :‬نظرة تحليلية»‬
‫يقول ماركس (األطروحة األوىل)‪" :‬إن العيب األسايس للامدية السابقة كلها – بام‬
‫فيها مادية فيورباخ – هو أن تصور اليشء‪ ،‬الواقع‪ ،‬العامل احليس‪ ،‬ال يتم فيها إال عىل صورة‬
‫املوضوع أو احلدس‪ ،‬وليس كفاعلية إنسانية حسية‪ ،‬كمامرسة‪ ،‬ليس بصورة ذاتية"‪ .‬إذن‪ ،‬فإن‬
‫الرؤية كانت واضحة ومنذ البداية لدى ماركس‪ ،‬بأن احلاجة الرضورية تكمن يف املامرسة‪ ،‬يف‬
‫النظر إىل العامل "كفاعلية إنسانسية حسية"‪ ،‬يرفض أن تبقى هذه التصورات يف إطار الفكر‪،‬‬
‫ويكمل‪" :‬ولذا حصل أن املثالية طورت اجلانب الفاعل‪ ،‬بصورة متعارضة مع املادية‪ ،‬ولكن‬
‫بصورة جتريدية فقط؛ ألن املثالية بطبيعة احلال ال تعرف الفاعلية الواقعية احلسية بصفتها‬
‫هذه"‪ .‬إن فيورباخ يريد أشياء حسية‪ ،‬متميزة بصورة فعلية عن أغراض الفكر‪ ،‬لكنه ال يعترب‬
‫الفاعلية اإلنسانية ذاهتا كفاعلية موضوعية‪ .‬تربز عند فيورباخ ‪ -‬من وجهة نظر ماركس ‪-‬‬
‫ال بعدم إدراكه الرتباط الفاعلية اإلنسانية كفاعلية‬ ‫النزعة نحو العودة إىل الفكر املثايل متمث ً‬
‫موضوعية‪ ،‬عىل الرغم من رفضه للرؤية املثالية عندما يعترب األشياء متميزة بصورة فعلية عن‬
‫أغراض الفكر‪ ،‬وهو لذلك يعترب يف جوهر املسيحية النشاط النظري عىل أنه النشاط اإلنساين‬
‫احلقيقي الوحيد‪ ،‬أو كام يقول ماركس‪ :‬ولكي خيرج من أزمته الفكرية يدخل يف متاهة فكرية‬
‫جديدة عىل الرغم من رفضه الظاهر للمثالية‪ ،‬وإنام هي‪ ،‬نتيجة العتامدها عىل النشاط النظري‬
‫(النتاج الفكري) الظاهر للمثالية‪ ،‬حتجز نفسها يف إطار الفكر دون الواقع لدرجة تصل معها‬
‫املامرسة عىل شكل ظاهري شحيح جد ًا‪ .‬ولكل هذه األسباب التي حترص فيورباخ يف الفكر‬
‫ال جتعله يدرك أمهية الفاعلية الثورية‪ ،‬املتمثلة بـ "الفاعلية العملية النقدية"‪.‬‬
‫يعود ماركس إىل دراسة بعض املقوالت الفلسفية لدى فيورباخ ليفصل بني‬
‫استخدامها احلقيقي واالستخدام الذي جيب أن تكون عليه‪ ،‬فينطلق من تعيني العالقة بني‬
‫املسألة النظرية واملسألة العملية؛ ليقول‪ :‬إن النشاط اإلنساين من حيث هو حقيقة موضوعية‬
‫هو نشاط عميل‪ ،‬وهذا النشاط العميل إنام يكون ممارسة حلقيقة فكره؛ أي أن املسألة العملية‬
‫هي نتاج للمسألة النظرية‪ .‬وبكلامت ماركس (األطروحة الثانية) "اإلنسان جيب أن يثبت يف‬
‫املامرسة حقيقة ْ‬
‫فكره‪ ،‬يعني واقعية هذا الفكر وقوته يف هذا العامل ويف هذا العرص‪ .‬إن اجلدال‬
‫‪2019‬‬

‫‪56‬‬
‫‪37 / 145‬‬

‫بشأن واقعية أو ال واقعية فكر ينعزل عن املامرسة مسألة مدرسية رصفة"‪ .‬هو هبذا حيرض‬
‫بشكل مبارش لفكرة الرباكسيس؛ أي املامرسة العملية والتحام النظري مع العميل(‪.)36‬‬
‫حياول ماركس أن يؤسس ملفهوم مادي جديد‪ ،‬املفهوم الذي يربط بني النشاط‬
‫اإلنساين والواقع املادي‪ ،‬ولكن ال بد هلذا الربط أن يؤسس عىل أساس ديالكتيكي؛ أي‬
‫أن هناك تفاع ً‬
‫ال بني النشاط اإلنساين والواقع املحيط به‪ .‬ولذلك فهو يرفض االنعكاس‬
‫امليكانيكي للظروف عىل البرش‪ ،‬حيث يقول (األطروحة الثالثة)‪" :‬إن املذهب املادي القائل‬
‫إن البرش نتاج الظروف والرتبية‪ ،‬ينسى أن البرش هم الذين يغريون الظروف‪ ،‬وأنه من األمور‬
‫األساسية تربية املريب نفسه"‪ .‬أي إن العالقة بني الفكر واملادة عالقة متبادلة ال يمكن فيها‬
‫عزل الفكر عن الواقع املوضوعي كام يفعل املثاليون‪ ،‬وبخاصة هيجل‪ ،‬حني ينظر إىل التاريخ‬
‫عىل أنه تطور للفكر دون الواقع؛ كام ال يمكن االتفاق مع موقف املاديني امليكانيكيني حني‬
‫يقولون إن الفكر نتاج للظروف والرتبية‪ ،‬ومن ثم إن البرش املتغريين نتاج ظروف أخرى‬
‫وتربية متغرية‪ .‬فإن هؤالء يسقطون إن اإلنسان وفكره يغريان الظروف املوضوعية‪ ،‬ولذلك‬
‫جيب أن نطابق بني تغري الظروف وتغري الفاعلية اإلنسانية‪ ،‬ونحن ال يمكننا أن نتصوره أو‬
‫نفهمه إال من حيث هو ممارسة ثورية‪.‬‬
‫يف األطروحة الرابعة حياول ماركس أن ينقد مادية فيورباخ التي عزلت العامل الواقعي‬
‫عن نتاجاته فيقول‪" :‬ينطلق فيورباخ من حقيقة االغرتاب الذايت الديني‪ ،‬من ازدواج العامل‬
‫بني عامل ديني وعامل واقعي‪ ،‬يضطر أن يرجع العامل الديني إىل أساسه الزمني"‪ ،‬ولكنه ال‬
‫يتمكن من البناء عىل هذه الفكرة من خالل القيام باليشء الرضوري املتمثل بفهم العالقة‬
‫اجلدلية بني الزمانية والفاعلية اإلنسانية‪ .‬فحقيقة أن "األساس الزماين ينفصل عن نفسه‬
‫ال" ال يمكن تفسريها إال من خالل التناقضات‬ ‫ال ميدان ًا مستق ً‬
‫ويستقر يف السحب‪ ،‬مشك ً‬
‫املوجودة يف الواقع االجتامعي؛ أي الواقع املشكل ملا هو زماين‪ ،‬ودون فهم التناقضات يف‬
‫الواقع االجتامعي‪ ،‬التي أسهمت يف تشكيل العامل الديني يف ميدانه املتعايل املستقل‪ ،‬يتحول‬
‫عنده (أي عند فيورباخ) األساس الزمني ليستقر يف مفهوم احلب(‪ .)37‬وهنا‪ ،‬وبام أنه أسقط‬
‫منهج هيجل بكامله‪ ،‬فهو ال يعتمد عىل املنطق اجلديل‪ ،‬ولذلك ال يرى التناقض الداخيل‬
‫القائم يف مفهوم األساس الزمني الذي جيب أن نتمكن من ح ّله من خالل فهمه أو ً‬
‫‪2019‬‬

‫ال‪ ،‬ومن‬

‫‪57‬‬
‫‪37 / 145‬‬
‫ثم تثويره يف املامرسة بتجاوز ذاك التناقض‪ .‬إن فشل فيورباخ يف فهم التوافق املمكن بني رؤيته‬
‫املادية واالستخدام املنطقي الديالكتيكي عند هيجل‪ ،‬هو ما أوقعه بضعف الرؤية هذه‪.‬‬
‫يقول ماركس يف األطروحة اخلامسة‪" :‬إن فيورباخ‪ ،‬الذي ال يكتفي بالفكر املجرد‪،‬‬
‫يستنجد [باملالحظة التجريبية] لكنه ال يعترب العامل احليس بمثابة فاعلية عملية حسية إنسانية"‪.‬‬
‫إن تركيز ماركس عىل الفاعلية العملية احلسية لإلنسان ينطلق من أن هذه الفاعلية هي‬
‫التفاعل املبارش بني اإلنسان مع العامل احليس؛ أي هي تعرب عن التحام الذات مع املوضوع‪.‬‬
‫ولذلك فإن فيورباخ عندما حيلل املاهية اإلنسانية عىل أهنا فكر جمرد‪ ،‬أو مالحظة جتريبية‬
‫خالصة‪ ،‬فإنه يفصل الفكر عن التجربة‪ ،‬أو يفصل الذات عن املوضوع‪ .‬لكن ماركس يؤكد‬
‫أن ال إمكانية ألي جتربة حسية بدون اإلدراك‪ ،‬بدون الفاعلية احلسية لإلنسان‪ ،‬أي من دون‬
‫اإلنسان املدرك‪.‬‬
‫ويف نقد ماركس ملوقف فيورباخ من الدين فإنه يؤكد يف البداية أن فيورباخ يتعامل مع‬
‫ماهية الدين وكأهنا ماهية خاصة للفرد‪ ،‬ومن ثم هيمل أمهية الواقع التارخيي االجتامعي الذي‬
‫أنتج االهتامم بالدين (األطروحة السابعة)‪ .‬وهبذا النقص األسايس يف التعامل مع الدين عىل‬
‫أنه منتج تارخيي اجتامعي يعتقد ماركس أن فيورباخ قد التزم بنقطتني خطريتني‪:‬‬
‫النقطة األوىل‪" :‬أن يتجرد عن جمرى التاريخ‪ ،‬وأن جيعل من روح الدين شيئ ًا ثابت ًا‪ ،‬قائ ًام‬
‫بذاته‪ ،‬مفرتض ًا الوجود السابق لفرد إنساين جمرد‪ ،‬منعزل" (األطروحة السادسة)‪ .‬وستكون‬
‫هذه النقطة حمور انتقاد ماركس لفيورباخ يف كتابه املشرتك مع أنجلز (األيديولوجية األملانية)؛‬
‫أي إمهاله ملجرى التاريخ واهتاممه باألفكار كام هي‪ ،‬كام سنرى‪.‬‬
‫أما النقطة الثانية‪ :‬فتتمثل يف أن فيورباخ "يعترب املاهية اإلنسانية بمثابة نوع فحسب من‬
‫حيث هي عمومية باطنة خرساء جتمع بصورة طبيعية حمض بني أفراد عديدين" (األطروحة‬
‫السادسة)‪ .‬وهنا يربز أيض ًا افتقار فيورباخ للفهم االجتامعي التارخيي لتطور اإلنسان‪ ،‬وتربز‬
‫احلاجة إىل الرؤية التارخيية الصحيحة ملفهوم اإلنسانية‪.‬‬
‫تتلخص بعد ذلك الرؤية االنتقادية عند ماركس يف عدم فهم احلياة االجتامعية‬
‫وتطورها التارخيي‪ ،‬وعدم فهم التداخل اجلديل بينها وبني الفكر‪ ،‬ومن ثم فإن الرؤية املادية‬
‫‪2019‬‬

‫‪58‬‬
‫‪37 / 145‬‬

‫القديمة هي رؤية ال جدلية وال تارخيية‪ ،‬تفشل يف استيضاح احلياة اإلنسانية وختترصها يف أن‬
‫تكون جمتمع ًا مدني ًا (األطروحة التاسعة)‪ ،‬ولكن املطلوب هو املجتمع اإلنساين أو اإلنسانية‬
‫ّ‬
‫االجتامعية (األطروحة العارشة)(‪ .)38‬وتربز األطروحة ‪ 11‬التحول احلقيقي يف تفكريماركس‬
‫حني يقول‪" :‬مل يفعل الفالسفة حتى اليوم سوى تفسري العامل بطرق خمتلفة"‪ ،‬لكن املطلوب‬
‫ليس تفسري هذا العامل ‪ ...‬املطلوب تغيريه‪.‬‬
‫يستمر نقد ماركس وأنجلز لفيورباخ يف األيديولوجيا األملانية ليؤكد عرب صفحاته‬
‫كلها النظرة املادية للتاريخ يف فهم ماركس وأنجلز للتطور اإلنساين منذ املشاعية البدائية إىل‬
‫فتكون املجتمع الطبقي‪ ،‬وإىل الرضورات التي و ّلدت فكرة الدين والتطور‬ ‫ّ‬ ‫تقسيم العمل‬
‫االجتامعي من مرحلة إىل أخرى‪ ،‬من الرق إىل اإلقطاع‪ ،‬ومن اإلقطاع إىل املجتمع الرأساميل‪.‬‬
‫وبتطبيق املنهج الديالكتيكي يؤكد حتمية االنتقال إىل الشيوعية‪ .‬ولكن‪ ،‬باعرتاف أنجلز‪،‬‬
‫متك َن ماركس من جتاوز‬ ‫كانت الرؤية االقتصادية االجتامعية عندمها ما زالت ضعيفة‪ ،‬وقد ّ‬
‫كثري من نقاط الضعف هذه‪ ،‬عىل حد تعبري أنجلز‪ ،‬يف كتاب "رأس املال" عىل الرغم من‬
‫اإلبقاء عىل اإلطار العام لألفكار‪.‬‬
‫ويعترب ماركس وأنجلز يف كتاهبام األيديولوجية األملانية أن "فيورباخ مثله كمثل‬
‫منافسيه اآلخرين‪ ،‬يعتقد أنه جتاوز الفلسفة‪ ،‬وأن النضال الذي خاضه الفرد حتى الوقت‬
‫الراهن ضد العمومية يلخص مطامع النقد الفلسفي األملاين‪ .‬أما نحن فنؤكد أن هذا النضال‪،‬‬
‫كام هو دائر‪ ،‬يرتكز هو نفسه عىل أوهام فلسفية‪ ،‬بخصوص أن العمومية مل يتحقق بلوغها"(‪.)39‬‬
‫النقطة الرئيسية هنا أن فيورباخ حياول نقد الفلسفة من داخل النقاش الفلسفي‪ ،‬ومن ثم فهو‬
‫يركز عىل النقد انطالق ًا من موقف الفرد‪ ،‬املطلوب أن يتم إدراك العمومية؛ ألن الفرد ال يصل‬
‫إىل األفكار بصورة معزولة وفردية‪ ،‬ويصل إليها من خالل عالقته البني‪-‬ذاتية مع األفراد‬
‫اآلخرين‪ ،‬من خالل العمومية‪.‬‬
‫هنا يبدأ االنفصال احلقيقي ملاركس وأنجلز عن تأثري فكر فيورباخ الذي كان عىل‬
‫أشدّ ه يف "العائلة املقدسة" ليصال إىل حتديد أن تصور العامل احليس لدى فيورباخ يقترص من‬
‫جهة أوىل عىل جمرد تأمل هذا العامل‪ ،‬ومن جهة أخرى عىل العاطفة املجردة(‪ .)41‬ومما يدل‬
‫‪2019‬‬

‫‪59‬‬
‫‪37 / 145‬‬
‫عىل عدم اهتامم فيورباخ بالتطور التارخيي‪ ،‬فاليقني احليس الذي وصل إليه فيورباخ مل يكن‬
‫باإلمكان أن يصل إليه بغري التطور االجتامعي الذي حدث بالفعل عرب تاريخ هذا التطور يف‬
‫املجتمع الذي أنتج فيورباخ‪ .‬ومن نتاج هذا التطور االجتامعي فهو – أي فيورباخ – يتفوق‬
‫عىل املاديني قبله؛ ألنه إدراك أن اإلنسان هو أيض ًا "يشء حيس"‪ ،‬ولكنه يبقى يف دائرهتم؛ ألنه‬
‫يتمسك هبذا التوصيف لإلنسان من خالل فهم نظري وال يدرك أمهية النظر إىل البرش يف‬
‫سياق تطورهم االجتامعي(‪.)41‬‬
‫لقد تعرضنا هلذه النقطة يف "أطروحات عن فيورباخ" ولكن جيب مالحظة التحول‬
‫يف أسلوب النقد املاركيس منذ تلك اللحظة إىل كتاب األيديولوجية األملانية؛ فامركس يف‬
‫األطروحات حيث فيورباخ عىل التطور من شكل املادية التي يقدمها إىل شكل أرقى‪ ،‬ولكن‬
‫يف األيديولوجية األملانية يعترب أن هذا التطور غري ممكن لدى فيورباخ إلرصاره عىل التعامل‬
‫مع اإلنسان الفرد دون التعامل مع اإلنسان بصفته االجتامعية‪ ،‬ولذلك يصبح لزام ًا أن يتم‬
‫نقده ضمن نقد ماركس وأنجلز ملجمل األيديولوجية األملانية؛ فام يقدمه فيورباخ هو أيض ًا‬
‫"وعي زائف"‪.‬‬
‫تنبع رضورة نقد فيورباخ؛ ألنه حيرص التفكري املادي ضمن إطاره اخلاص‪ ،‬فال يدرك‬
‫السياق االجتامعي العام‪ ،‬ولذلك تربز رؤياه األيديولوجية‪ .‬وتربز أيض ًا أمهية نقد رؤية‬
‫فيورباخ للدين يف أنه ينبع من احلب اإلنساين‪ ،‬التي يعبرّ عنها بأهنا حقيقة عن البرش بقوله‪:‬‬
‫"اإلنسان املنعزل بحد ذاته ال يملك جوهر اإلنسان يف ذاته" ‪" ،‬إن جوهر اإلنسان ال وجود له‬
‫إال يف اجلامعة‪ ،‬يف وحدة اإلنسان واإلنسان‪ ،.....،‬إن اإلنسان بحد ذاته هو اإلنسان (باملعنى‬
‫العادي)‪ ،‬يف اإلنسان واإلنسان‪ ،‬وحدة أنا وأنت‪ ،‬فهي اهلل"(‪ .)42‬وهنا تربز النزعة االجتامعية‬
‫عند فيورباخ‪ ،‬ولكن عىل الرغم من إدراكه للحاجة االجتامعية عند اإلنسان‪ ،‬وعىل الرغم‬
‫من نظرته املادية إىل العامل‪ ،‬فإنه ال جيعل التاريخ يتدخل قط‪ ،‬ويف حدود إدخاله التاريخ يف‬
‫حساسية‪ ،‬فهو ليس مادي ًا‪ .‬إن التاريخ واملادية منفصالن كلي ًا عنده(‪.)43‬‬
‫يرفض كتاب األيديولوجية األملانية نعت فيورباخ لنفسه عىل أنه شيوعي‪ ،‬فبالنسبة‬
‫ملاركس وأنجلز ال يكون املرء شيوعي ًا فقط بتبني املصطلح‪ ،‬يكون كذلك يف حال التزامه‬
‫‪2019‬‬

‫‪60‬‬
‫‪37 / 145‬‬

‫بحزب شيوعي؛ ألن الشيوعية دون هذه املامرسة احلزبية هي مقولة جمردة ليست ذات‬
‫قيمة(‪ .)44‬وانطلق نقد ماركس وأنجلز مرة أخرى من أن فيورباخ ال يدرك االختالف بني‬
‫املامرسة العملية والفهم النظري يف األفكار‪ .‬ويسحبان هذا النقد عىل موقف فيورباخ من‬
‫عالقة اإلنسان باإلنسان؛ فيورباخ حيدد عالقة البرش بعضهم ببعض من منطلق حاجة‬
‫بعضهم إىل بعض‪ ،‬وكيشء كان موجود ًا وسيبقى موجود ًا عىل الدوام‪ ،‬وكأن لسان حاله‬
‫يقول "ال يكون أفضل مما كان"‪ .‬بينام املسألة بالنسبة إىل الشيوعي الفعيل‪ ،‬عىل حد ما يقوله‬
‫ماركس وأنجلز‪ ،‬هي قلب هذه األوضاع القائمة(‪ .)45‬ومها هبذا النقد لفيورباخ يساويانه مع‬
‫غريه من منظري "األيديولوجية األملانية" ممن انشغلوا يف نقاش املقوالت واملفاهيم عن رؤية‬
‫حقائق الواقع القائم يف تطوره‪ .‬وعىل الرغم من هذا النقد فإهنام (ماركس وأنجلز) يقوالن‬
‫عن قدرة فيورباخ عىل وعي الطبيعة االجتامعية لإلنسان‪" :‬إننا نقدّ ر كل التقدير فيورباخ يف‬
‫جهوده لتوليد وعي هذه احلقيقة بالضبط‪ ،‬فهو يتقدم بقدر ما يستطيع ّ‬
‫منظر أن يتقدم‪ ،‬دون‬
‫يكف عن كونه ّ‬
‫منظر ًا وفيلسوف ًا"(‪ .)46‬ولكنهام يؤكدان أهنام قد انتقال من الفلسفة النظرية‬ ‫أن ّ‬
‫إىل فلسفة عملية ملتحمة بحاجات الفقراء واملسحوقني عىل حد تعبريهم‪.‬‬
‫ويشبه هذا الفهم بفهم كل‬
‫ّ‬ ‫ويقارن ماركس موقف فيورباخ من الوجود الواقعي‬
‫من برونو باور وماكس شرتنر‪ ،‬فيقول ‪ :‬إن فيورباخ يف كتابه مبادئ فلسفة املستقبل "يرشح‬
‫الرأي القائل إن وجود يشء ما أو إنسان ما‪ ،‬هو يف الوقت عينه جوهر هذا اليشء أو جوهر‬
‫اإلنسان؛ أي أن الرشط املحدد لوجود اليشء أو اإلنسان‪ ،‬ونمط حياهتام ونشاطهام املعني‬
‫هي تلك الرشوط التي تشعر ماهيتهام بالرضا فيها"(‪ ،)47‬ومن ثم هذا الطرح الذي يساوي‬
‫وجود اليشء وماهيته جيعل من رؤية فيورباخ متوائمة مع رؤية باور وشرتنر‪ .‬والرد الذي‬
‫يقدمه ماركس وأنجلز عىل هذا الطرح إنام ينطلق من قدرة اإلنسان عىل رفض القبول‬
‫"باألمر الواقع" وتأبيده‪ ،‬وإىل سعيه لتغيري نمط حياته وحتديد مستقبله من خالل تثوير‬
‫هذا الواقع(‪.)48‬‬
‫ويورد هنا ماركس وأنجلز نقطة خالفية أخرى مع فيورباخ؛ فبينام يرد فيورباخ كل‬
‫يشء إىل الطبيعة وكأهنا يشء ثابت يؤكدان أن اإلنسان يغري الطبيعة بفاعليته وبعمله؛ فهو‬
‫‪2019‬‬

‫يؤثر يف الطبيعة بمقدار تأثره هبا‪ ،‬ومن ثم فال يمكن أن يتم اعتبارها أهنا "جوهر ثابت" بل‬

‫‪61‬‬
‫‪37 / 145‬‬
‫هي تتغري من خالل الفعل اإلنساين؛ أي أن هذه الطبيعة هنا تتحول إىل طبيعة مؤنسنة‪ .‬إن‬
‫التأثريات املختلفة للواقع يف تزاوج احلركة بني اإلنسان والبيئة‪ ،‬بني تأثري اإلنسان يف البيئة‬
‫وتأثري البيئة يف اإلنسان‪ ،‬يدخل رضورة استخدام اجلدل يف أسلوب حل اإلشكاالت‬
‫املختلفة املمكن بروزها‪ .‬وعند تلك اللحظة جيب دراسة الواقع بتطوره وليس بمس ّلامته‪،‬‬
‫تكف عن كوهنا "ماهية" السمك‪ ،‬حاملا يوضع النهر يف خدمة الصناعة عىل‬ ‫فمياه النهر ّ‬
‫سبيل املثال(‪.)49‬‬
‫إن دراسة التطور التارخيي للواقع يعطي ماركس مؤرشات سريه إىل املستقبل؛ فال‬
‫يعزل نفسه عن هذا الواقع إال بمقدار ما يتمكن من فرض احتامالت املستقبل يف سبيل حتقيق‬
‫السعادة البرشية‪ ...‬كيف؟ بإلغاء استغالل اإلنسان لإلنسان‪.‬‬
‫وعند هذه النقطة نصل إىل ُل ّب اخلالف بني موقف ماركس وأنجلز وموقف فيورباخ؛‬
‫فالعالقات القائمة بني البرش ليست عالقات بني ذات وذات فقط‪ ،‬بني ذايت وذاتك فقط‪،‬‬
‫بني األنا واألنت دون الواقع‪ ،‬إنام هي عالقات تتأثر بمستوى اإلنتاج املوضوعي للظروف‪،‬‬
‫ولذلك "فإن حتول القوى الشخصية (العالقات) إىل قوى موضوعية بفعل تقسيم العمل ال‬
‫يمكن إلغاؤه بمجرد رصف فكرته العامة من ذهن املرء‪ ،‬بل ال يصبح إلغاؤه ممكن ًا إال إذا عمد‬
‫األفراد من جديد إىل إخضاع هذه القوى املوضوعية وإىل إلغاء تقسيم العمل"(‪.)50‬‬
‫بوجود قوى موضوعية معينة تفرز التفارق الطبقي‪ ،‬ال يمكن أن نلغي هذا التفارق‬
‫دون إلغاء هذه القوى املوضوعية املؤثرة‪ .‬أما عن الكيفية هلذا التغيري فال تكون إال بواسطة‬
‫اجلامعة‪ .‬ففي اجلامعة فقط يملك كل فرد وسائل تنمية مواهبه يف مجيع االجتاهات‪ ،‬ومن ثم‬
‫فإن احلرية الشخصية ال تكون ممكنة إال يف اجلامعة(‪.)51‬‬
‫إن االجتاه النقدي ضد مادية فيورباخ ابتدأ مع أطروحات عن فيورباخ ليصل إىل‬
‫قمته يف األيديولوجية األملانية‪ ،‬وهنا تنتهي املرحلة التي كان اهتامم ماركس فيها باالغرتاب‬
‫الفلسفي‪ ،‬ومن ثم أصبح االغرتاب يقيد كل كتاباته‪ ،‬ولكن ليس كموضوع فلسفي‪ ،‬وإنام‬
‫عىل أنه ظاهرة اجتامعية(‪ .)52‬وانطلق ماركس من قيود فيورباخ ومن قيود هيجل لكي يتعدامها‬
‫بنظرته اجلديدة إىل العامل‪.‬‬
‫‪2019‬‬

‫‪62‬‬
‫‪37 / 145‬‬

‫إن هذه اللحظة يف االنتقال من مايض الفلسفة إىل مستقبل العلم‪ ،‬من حالة االغرتاب‬
‫الفكري إىل حالة اغرتاب الواقع‪ ،‬إن هذه اللحظة هي االنتقال من حالة الالعمل إىل حالة‬
‫العمل‪ ،‬إىل املامرسة‪ ،‬إىل النظر إىل عمل اإلنسان بوصفه "فاعلية حسية عملية"‪.‬‬

‫أنجلز واستكمال النقد الموجه لفيورباخ‬


‫كانت االنتقادات األوىل لفيورباخ‪ ،‬كلها موجهة إىل املرحلة األوىل من الثورة‬
‫الفيورباخية ‪1844 – 1840‬؛ فكانت تركز يف أكرب جانب منها عىل انتقاد مفهوم اإلنسان‬
‫وفاعليته عند فيورباخ‪ ،‬ومل تتطرق بشكل مبارش إىل مفاهيم فيورباخ عن األخالق والدين‬
‫والسياسة‪.‬‬
‫ولذلك فقد جاء مؤلف أنجلز "لودفيغ فيورباخ وهناية الفلسفة األملانية" الذي ألفه‬
‫عام ‪ 1888‬لتوضيح النقد لفلسفة فيورباخ بكل جوانبها‪ .‬فعىل الرغم من تأكيد أنجلز أن‬
‫فيورباخ كان مادي ًا يف الرد عىل السؤال األسايس الذي شغل فضاء الفلسفة يف تلك احلقبة‪،‬‬
‫أال وهو السؤال حول العالقة بني املادة والفكر(‪ ،)53‬وبخصوص هذا السؤال جييب أنجلز‬
‫أن فيورباخ ‪ -‬بال أدنى شك ‪ -‬مادي يعلن بكل وضوح أسبقية املادة عىل الفكر‪ .‬ولكنه مع‬
‫ذلك ال يصمد أمام االنتقادات األخرى حول مثاليته‪ .‬فيقول أنجلز‪" :‬تربز مثالية فيورباخ‬
‫بوضوح حاملا نبدأ بقراءة فلسفته عن الدين واألخالق‪ .‬فهو ال يريد بأي شكل أن يقيض عىل‬
‫الدين‪ ،‬بل يريد أن ينقيه‪ ،‬فالفلسفة ‪ -‬بحد ذاهتا ‪ -‬جيب أن يتم استيعاهبا يف الدين"(‪.)54‬‬
‫أما عن مثالية فيورباخ فيحددها أنجلز بام يأيت‪:‬‬
‫‪ - 1‬النظرة إىل الدين؛ إذ إن "الدين ‪ -‬تبع ًا لنظرية فيورباخ ‪ -‬هو عالقة قلبية بني‬
‫اإلنسان قائ ًام عىل العاطفة‪ ،‬عالقة كانت حتى اآلن تبحث عن حقيقتها يف االنعكاس اخليايل‬
‫ّ‬
‫ويلخص‬ ‫للواقع‪ ،‬وجتدها اآلن مبارشة ودون أي وسيط يف احلب بني األنا و األنت"(‪.)55‬‬
‫أنجلز مثالية فيورباخ يف أنه يعترب مجيع العالقات بني الناس قائمة بذاهتا عىل امليل املتبادل‪،‬‬
‫وإنام يرجعها دائ ًام إىل ذكريات مرتبطة بالدين‪ ،‬إىل املايض‪ .‬ويرد عىل هذه النظرة بتأكيد املوقف‬
‫الذي وقفه هو وماركس يف األيديولوجية األملانية‪ ،‬الذي ينطلق من ربط الدين بتاريخ تطور‬
‫‪2019‬‬

‫املجتمعات اإلنسانية‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫‪37 / 145‬‬
‫‪ - 2‬عن التطورات االجتامعية والتارخيية للمجتمعات اإلنسانية يقول أنجلز‪" :‬إن‬
‫تأكيد فيورباخ أن مراحل اإلنسانية ال تتميز الواحدة عن األخرى إال بالتبدالت الدينية‪،‬‬
‫هو خطأ حمض"‪ .‬وحياول أنجلز أن يوضح أن هذه النظرة هي نظرة مثالية وأن تطور‬
‫املجتمعات وتارخيه قائم عىل حد املقولة ‪" :‬إن تاريخ البرشية املكتوب هو تاريخ رصاع‬
‫الطبقات داخل املجتمع"(‪.)56‬‬
‫‪ - 3‬يالحظ أنجلز فقر فيورباخ إذا ما قورن مع هيجل يف جمال الدراسات األخالقية‪،‬‬
‫فهيجل قدم فلسفة احلق بكل أقسامها‪ ،‬وجعلها تشمل كل فاعليات املجتمع‪ ،‬ويؤكد أنجلز‬
‫أن فيورباخ واقعي من حيث الشكل؛ ألنه ينطلق يف حتليله من اإلنسان‪ ،‬ولكنه ال ينبس ببنت‬
‫شفة عن العامل الذي يعيش فيه هذا اإلنسان‪ ،‬وهلذا يظل اإلنسان عند فيورباخ دوم ًا نفس‬
‫اإلنسان املجرد الذي يتمثل يف فلسفة الدين(‪.)57‬‬
‫ويؤكد أنجلز أن السعادة‪ ،‬بحسب مفهوم فيورباخ‪ ،‬تنبع من انشغال الفرد بحاجاته‬
‫وليس من خالل وجوده االجتامعي؛ فهذه السعادة تنبع من أشياء ووسائط تشكل قاعدته‬
‫األخالقية‪ ،‬ويضيف أنجلز معلق ًا‪" :‬إن األخالق عند فيورباخ‪ ،‬إما أهنا تفرتض الوجود‬
‫املسبق واملتاح لكل إنسان جلميع الوسائط واألشياء التي تشبع رغباته‪ ،‬وإما أهنا ُتغدق عليه‬
‫للتطبيق‪ ،‬فإهنا لذلك ال تعدو أن تكون جمرد دخان‬‫ّ‬ ‫نصائح مجيلة ولكنها نصائح غري قابلة‬
‫ملن ال يملكها"(‪ .)58‬إن عدم إدراك األمهية التارخيية لتطور املجتمعات وعدم ربط التطور يف‬
‫املفاهيم األخالقية مع نمط اإلنتاج واألسس االقتصادية واالجتامعية (والسياسية يف كثري‬
‫من األحيان يف عرصنا هذا) جيعل من املفاهيم األخالقية عند فيورباخ مفاهيم جامدة كام‬
‫هي املفاهيم األخالقية الدينية؛ أي أهنا مفاهيم ال تأخذ بعني االعتبار الظروف التارخيية‬
‫املرافقة‪ ،‬وهو هبذا ال خيتلف عن فالسفة األخالق املثاليني الذين يقدمون فلسفة أخالقية‬
‫حمايدة تارخيي ًا تصلح لكل زمان ومكان‪ ،‬وتصلح لكل الشعوب‪ ،‬وهلذا السبب نفسه‪ ،‬يؤكد‬
‫أنجلز‪ ،‬الفشل أمام إمكانية التطبيق‪.‬‬
‫وينتهي إكامل أنجلز للنقد املاركيس لفيورباخ عند هذه النقطة‪ .‬وأقول إكامل النقد؛‬
‫ألن أنجلز يؤكد أنه عندما كتب "لودفيغ فيورباخ" عاد إىل خمطوطات األيديولوجية األملانية‬
‫‪2019‬‬

‫‪64‬‬
‫‪37 / 145‬‬

‫لكي ال يكرر االنتقادات السابقة‪ ،‬ويقول‪" :‬وقبل إرسال هذه األسطر إىل املطبعة‪ ،‬بحثت عن‬
‫املخطوطة القديمة لعامي ‪ 1846-1845‬وراجعتها مرة أخرى‪ .‬يف هذه املخطوطة فصل عن‬
‫فيورباخ مل ينته"‪ .‬ومن ثم فقد عمد أنجلز عىل إهنائه واعتمد أيض ًا عىل فروض عن فيورباخ‬
‫ليكتب كتابه هذا (‪.)59‬‬
‫ومن اجلدير مالحظته أن بعض املصادر التارخيية تؤكد أن فيورباخ توجه يف أواخر‬
‫حياته إىل أن "درس رأس املال ملاركس‪ ،‬وأصبح عام ‪ 1870‬عضو ًا يف احلزب الديمقراطي‬
‫االشرتاكي"(‪ .)60‬وهو ما يؤكد أن فيورباخ قد تأثر بامركس كام تأثر ماركس به‪ ،‬ولكن بعد فرتة‬
‫طويلة من املحاوالت الفاشلة لتسويغ دينه اخلاص‪ .‬فهذه حال الفلسفة والسجال الفلسفي‪،‬‬
‫تأثر وتأثري متبادل‪.‬‬

‫خاتمة‬
‫شكل فيورباخ منعطف ًا مه ًام يف تطور أفكار كل من ماركس وأنجلز‪ ،‬ويمكن اعتباره‬
‫من أهم من أثر يف فكر ماركس‪ ،‬ولكن مع ذلك مل يسلم من سهام النقد‪ .‬حاولت هنا أن أمجل‬
‫نقاط االتفاق واالختالف بني مواقف فيورباخ وموقف كل من ماركس وأنجلز واملاركسية‬
‫من هذه املواقف‪ .‬إن العالقة بني فيورباخ واملاركسية حتتاج إىل كثري من البحث والتحليل‪،‬‬
‫فعىل الرغم من وجود العديد من الدراسات يف هذا اخلصوص‪ ،‬أعتقد أن هناك فسحة كبرية‬
‫إلعادة القراءة يف هذا الرتاث‪.‬‬

‫الهوامش والمراجع‬
‫‪Feuerbach, Ludwig: Essence of Christianity, 1841 (All Feuerbach writings can‬‬ ‫(‪ )1‬‬
‫‪:be found in his Archives on the net‬‬

‫‪)http://www.marxists.org/reference/archive/feuerbach/index.htm‬‬

‫‪Marx, Karl: On the Jewish Question, the Marxist Archives: https://www.marxists.‬‬ ‫(‪ )2‬‬
‫‪org/archive/marx/works/download/pdf/On%20The%20Jewish%20Question.pdf‬‬

‫ماركس‪ ،‬كارل؛ وأنجلز‪ ،‬فردريك‪ :‬العائلة املقدسة أو نقد النقد النقدي‪ ،‬ترمجة‪ :‬حنا عبود‪ ،‬دمشق‪:‬‬ ‫(‪) 3‬‬
‫دار دمشق‪ ،‬بدون تاريخ‪.‬‬
‫‪2019‬‬

‫‪65‬‬
‫‪37 / 145‬‬
‫أنجلز‪ ،‬فريدريك‪ :‬لودفيغ فيورباخ وهناية الفلسفة الكالسيكية األملانية‪ ،‬م‪ ،4‬موسكو‪ :‬دار التقدم‪،‬‬ ‫(‪) 4‬‬
‫ص‪.19‬‬
‫ماركس‪ ،‬كارل؛ وأنجلز‪ ،‬فردريك‪ :‬األيديولوجية األملانية‪ ،‬ترمجة‪ :‬فؤاد أيوب‪ ،‬دمشق‪ :‬دار دمشق‪،‬‬ ‫(‪ )5‬‬
‫‪.1976‬‬
‫سدين هوك‪ ،‬من هيجل إىل ماركس‪ ،‬ص‪.220‬‬ ‫(‪ )6‬‬
‫‪Hook, Sidney: From Hegel to Marx, Michigan: Ann Arbor Paperbacks, The University‬‬
‫‪.of Michigan Press, 1962‬‬

‫لينني‪ ،‬فالديمري‪" :‬كارل ماركس"‪ ،‬الكتابات املختارة‪ ،‬م‪ ،5‬موسكو‪ :‬دار التقدم‪ ،‬ص‪.227‬‬ ‫(‪ )7‬‬
‫الكتابات املختارة‪ ،‬م‪ ،5‬ص ‪.227‬‬ ‫(‪) 8‬‬

‫منقول يف كتاب‪ :‬لينني‪ ،‬فالديمري‪ :‬ماركس‪ ،‬أنجلز‪ ،‬املاركسية‪ ،‬ترمجة‪ :‬إلياس شاهني‪ ،‬موسكو‪ :‬دار‬ ‫(‪) 9‬‬
‫التقدم‪ ،1978 ،‬ص ‪.9‬‬
‫الكتابات املختارة‪ ،‬م‪ ،5‬ص ‪.223‬‬ ‫(‪) 10‬‬

‫الكتابات املختارة‪ ،‬م‪ ،9‬ص‪ ،136‬وأيض ًا‪ :‬م‪ ،5‬ص‪ 321‬باملعنى نفسه‪.‬‬ ‫(‪ )11‬‬
‫فردريك (لودفيغ) بوخنر‪ :‬فيلسوف مادي أملاين عاش بني ‪ ،1899 - 1824‬كارل فوغت‪ :‬مادي أملاين‬ ‫(‪ )12‬‬
‫عاش بني ‪ ،1895 - 1817‬وياكوب موليشوت‪ :‬كيميائي أملاين دافع عن صورة فجة من املادية عاش‬
‫بني ‪ 1822‬و ‪.1893‬‬
‫الكتابات املختارة‪ ،‬م‪ ،5‬ص ‪. 235‬‬ ‫(‪) 13‬‬

‫ماركس‪ ،‬أنجلز‪ ،‬املاركسية‪ ،‬ص ‪. 242‬‬ ‫(‪) 14‬‬

‫هذا الفصل يعتمد عىل خالصات من الكتب التالية‪:‬‬ ‫(* )‬

‫‪From Hegel to Marx - 1‬‬

‫‪ - 2‬أفرون‪ ،‬هنري‪ :‬فيورباخ‪ ،‬ترمجة‪ :‬إبراهيم العريس‪ ،‬بريوت‪ :‬املؤسسة العربية للدراسات والنرش‪.‬‬
‫‪ - 3‬كورنو‪ ،‬أرنست‪ :‬ماركس وأنجلز‪ ،‬ج ‪ ،1‬بريوت‪ :‬دار احلقيقة‪.‬‬
‫‪ - 4‬فيورباخ‪ ،‬لودفيغ‪ :‬مبادئ فلسفة املستقبل‪ ،‬ترمجة‪ :‬إلياس مرقص‪ ،‬بريوت‪ :‬دار احلقيقة ‪.1975‬‬
‫االقتصاديــة والفلسفية‪ :‬من أرشيف املاركـسية‪:‬‬ ‫‪1844‬‬ ‫ماركس‪ ،‬كـارل‪ :‬خمطــــوطـات‬ ‫‪- 5‬‬
‫‪https://www.marxists.org/archive/marx/works/1844/manuscripts/preface.htm‬‬

‫‪Feuerbach, Ludwig: The Essence of Religion, in: https://www.scribd.com/‬‬ ‫(‪ )15‬‬


‫‪.doc/136533028/Feuerbach-the-Essence-of-Religion‬‬

‫برونو باور فيلسوف الهويت أملاين عاش بني ‪ 1809‬و ‪ .1882‬ماكس شرتنر فيلسوف فوضوي أملاين‬ ‫(‪) 16‬‬
‫عاش بني ‪ 1806‬و ‪ .1856‬ديفيد شرتاوس فيلسوف الهويت ليربايل أملاين عاش بني ‪ 1808‬و ‪.1874‬‬
‫‪2019‬‬

‫‪66‬‬
‫‪37 / 145‬‬

‫ماركس‪ ،‬كـارل‪ :‬مسامهـة يف نقــد فلسفـة احلـق عند هيجـل‪ ،‬من األرشيف الـمـاركيس‪:‬‬ ‫(‪ )17‬‬
‫‪https://www.marxists.org/archive/marx/works/download/Marx_Critique_of_Hegels_Philosophy_of_Right.pdf‬‬

‫ماركس‪ ،‬كارل‪ :‬بؤس الفلسفة‪ :‬الرد عىل فلسفة البؤس لربودون‪ ،‬ترمجة‪ :‬أندريه يازجي‪ ،‬دمشق‪:‬‬ ‫(‪) 18‬‬
‫اليقظة العربية‪ ،‬دون تاريخ‪.‬‬
‫ماركس‪ ،‬كارل‪" :‬موضوعات عن فيورباخ"‪ ،‬األيديولوجية األملانية‪ ،‬ص‪.653‬‬ ‫(‪ )19‬‬
‫ماركس‪ ،‬كارل‪ :‬رأس املال‪ ،‬يف جملدين‪ ،‬املجلد األول‪ ،‬اجلزء األول‪ ،‬ترمجة‪ :‬فهد كم نقش‪ ،‬املجلد‬ ‫(‪ )20‬‬
‫األول‪ ،‬اجلزء الثاين واملجلد الثاين‪ ،‬ترمجة‪ :‬فالح عبد اجلبار وغانم محدون وفهد كم نقش‪ ،‬موسكو‪:‬‬
‫دار التقدم ‪ 1985‬و‪.1987‬‬
‫‪.Marx, Karl: Grundrisse, Translated by: Martin Nicolaus, London: Penguin 1973‬‬ ‫(‪ )21‬‬

‫شبه ماركس علم الطبقة العاملة بعلم الفيزياء؛ أي أنه علم قابل للتطور والتحول‪.‬‬ ‫(‪) 22‬‬

‫لودفيغ فيورباخ وهناية الفلسفة الكالسيكية األملانية‪ ،‬ص ‪.26‬‬ ‫(‪ )23‬‬
‫لقد قدم ألتوسري هذا التعريف "للقطيعة املعرفية" يف كتابه مع ماركس (‪ )For Marx‬كأسلوب‬ ‫(‪ )24‬‬
‫ماركس الشاب عن ماركس الكهل‪ ،‬وحدد املوضوعات عن فيورباخ لتكون نقطة الفصل‪.‬‬
‫‪.Althusser, Louis: For Marx, Translated by: Ben Brewster, London: Penguin 1969‬‬

‫العائلة املقدسة‪ ،‬ص ‪.45‬‬ ‫(‪) 25‬‬

‫العائلة املقدسة‪ ،‬ص ‪.45‬‬ ‫(‪) 26‬‬

‫العائلة املقدسة‪ ،‬ص ‪.67‬‬ ‫(‪) 27‬‬

‫العائلة املقدسة‪ ،‬ص‪.118-120‬‬ ‫(‪) 28‬‬

‫العائلة املقدسة‪ ،‬ص ‪.118‬‬ ‫(‪) 29‬‬

‫بيري باييل‪ ،‬فيلسوف فرنيس يعترب من أوائل الفالسفة الذين عربوا بوضوح عن إحلاديتهم‪.‬‬ ‫(‪ )30‬‬
‫العائلة املقدسة‪ ،‬ص‪.164-165‬‬ ‫(‪) 31‬‬

‫العائلة املقدسة‪ ،‬ص ‪.183-184‬‬ ‫(‪) 32‬‬

‫العائلة املقدسة‪ ،‬ص ‪.103‬‬ ‫(‪) 33‬‬

‫العائلة املقدسة‪ ،‬ص ‪.104‬‬ ‫(‪) 34‬‬

‫ص‪651-653‬‬ ‫اعتمدت يف االقتباسات هنا عىل "فروض عن فيورباخ"‪ ،‬األيديولوجية األملانية‪،‬‬ ‫(‪) 35‬‬
‫ولكن حاولت أن أضبط بعض الصياغات باالعتامد عىل الرتمجة اإلنجليزية للنص يف‪:‬‬
‫‪Marx, Karl: Selected Writing in Sociology and Social Philosophy, Translated and‬‬
‫‪. Edited by: T. B. Bottomore, New York: McGraw-Hill, 1964, pp 67-69‬‬

‫ملزيد من التحليل عن مفهوم الرباكسيس‪ ،‬الذي دافع عنه غراميش بشكل كبري‪ ،‬يرجى مراجعة املقال‬ ‫(‪ )36‬‬
‫‪2019‬‬

‫‪67‬‬
37 / 145
http://www.wolfgangfritzhaug.inkrit.de/documents/ :‫التحلييل عن غراميش والرباكسيس يف‬
:‫ انظر أيض ًا الفصل املتعلق بفلسفة الرباكسيس‬Gramsci-PhilPraxis.pdf
Gramsci, Antonio: Selection from the Prison Notebooks, Translated by: Hoare,
.Quentin, and Smith, Geoffrey, London: ElecBook, 1999, pp 623 - 707

.‫مبادئ فلسفة املستقبل‬ )37(


The standpoint of old type of materialism is civil society; the stand point of the“ )38(
new materialism is human society or social humanity”. Thesis 10, in: Marx Selected
.Writing in Sociology and Social Philosophy, p 69

. 33 ‫ اهلامش ص‬،‫األيديولوجيا األملانية‬ )39(


. 35 ‫ ص‬،‫األيديولوجيا األملانية‬ ) 40(

. 36 ‫ ص‬،‫األيديولوجيا األملانية‬ ) 41(

.325-324‫ ص‬،‫ مبادئ فلسفة املستقبل‬:‫ وأيض ًا‬.659 ‫ ص‬،‫األيديولوجيا األملانية‬ ) 42(

. 37 ‫ ص‬،‫األيديولوجيا األملانية‬ ) 43(

. 54 ‫ ص‬،‫األيديولوجيا األملانية‬ ) 44(

. 54 ‫ ص‬،‫األيديولوجيا األملانية‬ ) 45(

. 54 ‫ ص‬،‫األيديولوجيا األملانية‬ ) 46(

Marx, Karl and Engels, Fredrick: Collective Writings, Vol. 5, Lawrence & Wishart, )47(
.Electric Book 2010, p 58

. 54 ‫ ص‬،‫األيديولوجيا األملانية‬ ) 48(

. 55 ‫ ص‬،‫األيديولوجيا األملانية‬ ) 49(

.75 ‫ ص‬،‫األيديولوجيا األملانية‬ ) 50(

. 36 ‫ ص‬،‫األيديولوجيا األملانية‬ ) 51(

.Selected Writing in Sociology and Social Philosophy, pp 167-177 )52(

.20 ‫ ص‬،‫لودفيغ فيورباخ وهناية الفلسفة الكالسيكية األملانية‬ )53(


Engels, Fredrick: Ludwig Feuerbach and the End of Classical German Philosophy, )54(
chap. 3 p1, in Marxist archives: https://www.marxists.org/archive/marx/works/1886/
ludwig-feuerbach/ch03.htm

. 34 ‫ ص‬،‫لودفيغ فيورباخ وهناية الفلسفة الكالسيكية األملانية‬ )55(


.18 ‫ ص‬،‫ دار التقدم‬:‫ موسكو‬،‫ البيان الشيوعي‬:‫ فريدريك‬،‫ كارل وأنجلز‬،‫ماركس‬ ) 56(
2019

68
‫‪37 / 145‬‬

‫لودفيغ فيورباخ وهناية الفلسفة الكالسيكية األملانية‪ ،‬ص ‪.38‬‬ ‫(‪ )57‬‬
‫‪.Ludwig Feuerbach and the End of Classical German Philosophy, chap. 3 p 6‬‬ ‫(‪ )58‬‬

‫لودفيغ فيورباخ وهناية الفلسفة الكالسيكية األملانية‪ ،‬ص ‪.7 – 6‬‬ ‫(‪ )59‬‬
‫مجاعة من أساتذة سوفييت‪ :‬موجز تاريخ الفلسفة‪ ،‬ترمجة وتقديم‪ :‬توفيق سلوم‪ ،‬بريوت‪ :‬دار‬ ‫(‪) 60‬‬
‫الفارايب ‪ ،1989‬ص ‪.148‬‬
‫‪2019‬‬

‫‪69‬‬
70
37 / 145
2019

You might also like