You are on page 1of 158

‫سعيد إمساعيل‬

‫قصر اجلان‬
‫رواية‬
‫مقدمة‬

‫نحن منتلك الكثري عن أرسار الحضارات إال إننا ضللنا الطريق‪ ،‬يا صديقي‪.‬‬
‫عليك أن تعلم أن عاملك ال يختلف كثريًا عن عامل الجان‪ .‬فنحن نتعامل معهم يف‬
‫كل لحظة‪ ،‬نحن نتعايش معهم بطريقتنا الخاصه‪ .‬فقط احذر أن تخطئ طريقتك‬
‫يف التعامل معهم‪ ،‬فلن ترحمك مملكة كوشيه بسجونها العنيدة‪ ،‬وستكون قربانًا‬
‫لإللهة جوتار‪ ،‬وإن نجوت فعليك التخلص من كبري الجان “سوجالر” نحن عىل‬
‫أعتاب القرص‪ ،‬عليك أن تخفي أنفاسك جيدً ا‪ ،‬تنفس ببطء‪ ،‬فرائحة الدماء تعج‬
‫بأرجاء املكان‪ ،‬ورؤوس األموات يخرج منها صدى صوت كرياح تعصف بكهوف‬
‫خاوية‪ ،‬هنا كل يشء مباح‪ ،‬يا صديقي‪ .‬فقط‪ ،‬أغمض عينيك ودع ما تشعر به‬
‫يالمسك‪ .‬دعه فهو حقًا يالمسك‪ .‬إنه يدور حولك كخيال خاطف‪ ،‬ال تفتح عينيك‪،‬‬
‫أبقها مغمضتني‪ ،‬ال تحاول‪ ،‬ال تفتحها‪ ،‬أنصت يل وال تخالف حديثي‪ ،‬ابق هادئًا‬
‫وحافظ عىل ثباتك االنفعايل‪ ،‬ال تجعلهم يشعرون بخوفك حتي ال يسكبوا دماءك‬
‫يف كؤوسهم‪ .‬هنا الجميع يسكر بالدماء‪ ،‬يا صديقي‪ ،‬احذر أن تكون سلعتهم‬
‫الثمينة‪ ،‬ال أحد يتعامل باملال هنا‪ ،‬فقط عىل قدر املعرفة ستكون غن ًّيا أم فق ًريا‪.‬‬
‫مرحبا بك‪ ...‬أنت يف قرص الجان‪..‬‬

‫‪5‬‬
‫إهداء‬

‫إىل الذي كان ينضح بوجهي املاء ليوقظين لصالة الفجر قائال‪:‬‬
‫“قم فالرزق ال يأتي للنائمني”‪..‬‬
‫إىل أبي‪ -‬رمحة اهلل‪...‬‬

‫‪7‬‬
‫الكهف‬
10
‫‪ -‬انظر! إنه تابوت! تابوت!‬
‫‪ -‬أي تابوت‪ ،‬يارجل أنا ال أرى شيئا‪.‬‬
‫‪ -‬ها هو! انظر جيدا! لرمبا مشاهدة التلفاز أضاعت نظرك‪.‬‬
‫ضحك خالد ساخرا‪ :‬وملا ال تقول إن قصص الخيال التي تقرأها هي التي‬
‫ذهبت بعقلك؟ آخر كلامت قالها مصطفى لخالد قبل أن تتخطفه الشياطني عيانا‪.‬‬
‫وبصوت مفزع وكأنه من داخل قرب‪ :‬أين مخطوطة املؤرخ‪ ،‬أيها األبله؟‬
‫‪ -‬من أنا؟ هكذا أجاب مصطفى عىل سوجالر ملك الجان‪ :‬ومن أنت؟‬
‫‪ -‬ستعلم عندما نريد‪.‬‬
‫‪ -‬وعن أي مخطوطة تتحدث؟‬
‫‪ -‬يبدو أنه ليس أبله‪ .‬هكذا قال (سوجالر)‪ :‬املخطوطة التي تحوي طالسم أجدادي‬
‫“مخطوطة التابوت”‪ .‬أين املخطوطة وإال وضعت صديقك خالدًا يف التابوت”‪.‬‬
‫‪ -‬حسنا حسنا” سأتحدث‪ ،‬أنا ما أردته هو الوصول إىل أعامق حضارتكم؛ ال‬
‫ليشء آخر‪ .‬أجدادي أنتم كام قال يل معلمي ذات يوم‪ .‬أردت أن أعرف أكرث عن‬
‫رس وجودكم لآلن‪ ،‬رس وجود حضارتكم العظيمة‪ ،‬رس عراقتكم‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا تريد من حضارتنا‪ ،‬أيها الوغد؟! هكذا قالها ( صفرائيل) املتحكم يف‬
‫كوكب الزهرة‪ ،‬وهو يرفع مصطفى بيد واحدة من طرف قميصه املمزق نتيجة‬
‫ما فعله مبخطوطة التابوت‪ .‬أجاب مفزعا” بصوت يتقطع‪ :‬أا اا أنا أنا ال أريد ال‬
‫أريد ‪ ،‬سيدي‪ ،‬ال أريد ‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫‪ -‬اهدأ‪ ،‬يا فتى واجلس هنا‪ -‬يقصد تحت قدم عرشه‪ ،‬هكذا كان أسلوب‬
‫سوجالر الخبيث!‬
‫‪ -‬ما أردناك بسوء‪ ...‬ماذا تريد من حضارتنا؟‬
‫تحدث (برقان) “عاشق الدماء العزباء” الذي كان يقف بجوار ملك الجان‪،‬‬
‫مكر ًرا سؤال سوجالر‪ :‬ماذا تريد من حضارتنا؟ أجاب مصطفى ناظ ًرا‪ :‬أسفل قدميه‬
‫واضعا برصه عىل حوافر سوجالر التي تبدو كحوافر عنزة مشوهة خائفا‪ :‬كنت‬
‫فقط أريد أن أعرف رس التحنيط!‬
‫‪ -‬ها ها ها ها‪ .‬تبعتها ضحكات متقطعه لـ ( رصفائيل) الذي كان يجلس هو‬
‫كأسا من دم فتاة عزباء؛ هذا ما كان يفضله‪.‬‬
‫اآلخر يرشب ً‬
‫‪ -‬وأي تحنيط‪ ،‬يا فتى ‪ .‬ما اسمك؟‬
‫‪ -‬أنا؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬وهل لدينا من البرش غريك؟‬
‫‪ -‬أنا (مصطفى)‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا تريد تعرف عن التحنيط‪ ،‬يا مصطفى‪.‬‬
‫‪ -‬فقط‪ ،‬سيدي‪ ،‬رسكم‪.‬‬
‫‪ -‬رسنا؟؟ مممممم سأجيبك ولكن بعد أن تجيبني‪.‬‬
‫“ هل أنت اآلن عىل قيد الحياة؟ أم إننا أموات وأنت حي‪ ،‬أم إنك ميت ونحن‬
‫أحياء؟ يف مقابل هذا‪ ،‬الرس لك واملخطوطة لنا‪.‬‬
‫كان مصطفى يرتقب بعني الحذر‪ ،‬ألنه يعلم أن إجابته عن السؤال تساوي‬
‫حياته(هذا إن كان عىل قيد الحياة)‪ .‬ترقب بنظرات بائسة أمام عيني رصفائيل‬
‫اللتني تبدوان باللون الربتقايل داخلها قطعة زرقاء‪ ،‬وكأنها لهب بعد اشتعاله كثريا‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫أجابه بصوت مهزوز‪:‬‬
‫‪ -‬نحن أموات‪ ،‬يا سيدي‪ ،‬وأنتم أحياء‪.‬‬
‫تبعتها رضبات عىل كتفه بيد بها ثالثة أصابع تتخللها أظافر حمراء يتقطر منها‬
‫دم الفتاة العزباء‪ ،‬قائال بصوت جبيل‪ :‬هذا ما أردنا‪ .‬أحسنت‪ ،‬يا فتى‪ .‬فاألموات هم‬
‫أموات حضارات‪ .‬وضع سوجالر يده األخرى عىل كتفه األخرى حيث كان خلفه‪،‬‬
‫وباليد اليرسى رفع ذقنه ألعىل وو َّجه رأس مصطفى بإصبع من أصابعه الثالث‪-‬‬
‫التي لرمبا كاد أن ميوت فز ًعا منها‪ -‬نحو فتحة يف السقف بداخل الكهف الذي‬
‫اختطف فيه‪ ،‬قائلاً ‪ :‬انظر جيدً ا ؟ ماذا ترى؟ قال‪ :‬ال أرى شي ًئا‪ .‬تحدث (برقان) متبسماً‬
‫السخرية‪ :‬لرمبا أضاع التلفاز برصه‪.‬‬
‫ناظ ًرا بوجه شاحب تظهر عليه عالمات ُ‬
‫تعجب مصطفى قائلاً وكان مرهقًا يحاول ابتالع ما تبقي من ريق‪ :‬هل تعرف‬
‫خالدً ا؟ أجاب برقان يف سكون من الصوت للجميع وال صوت سوى صوت الرياح‬
‫املخيفة التي تتبعها حبات رمال كادت أن تعمي مصطفى لوال وجود سرتة من‬
‫القامش كان يرتديها حول رقبته‪ ،‬وامراة تبيك عىل فتاتها العزباء املختطفة‪ .‬هكذا‬
‫كان املشهد املخيف‪.‬‬
‫قائلاً ‪ :‬يا مصطفى‪ ،‬أنا خالد‪ .‬هال رأيت هذا الخاتم يف يدي من قبل؟؟ وكان‬
‫لديه خاتم به إشارة رأس مثلث‪ .‬وكأنه مثلث املوت( برمودا)‪ .‬نعم أنا هو‪ ،‬وخاتم‬
‫خالد‪ .‬ال ال ال‪ ،‬مل يكن به هذه الطالسم العجيبة‪ ،‬حيث كان الخاتم الذي يرتديه‬
‫برقان مدون ًة عليه أرقام ما؛ كلها تحمل الناتج نفسه وهو رقم ‪ .15‬إذا ليس هو‬
‫بخاتم خالد ولكن من كان معي؟‬
‫‪4‬‬ ‫‪9‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪7‬‬
‫‪8‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪13‬‬
‫قاطعه صوت (صفرائيل)‪ :‬وهل كان صديقك ذا حوافر كهذه‪ .‬وكشف عن‬
‫ساقه إذ هي بحوافر تلك العنزة املشوهة التي ميتلكها الكثري منهم‪ .‬فوقع مصطفى‬
‫مغش ًّيا عليه‪ ،‬وال يدري إال عندما أفاق داخل قرص ملك الجان‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫قصر سوجالر‬
‫مرح ًبا بك نحن عىل بعد أميال من غرفة الطبيب ( أيبي)‪ ،‬مر مصطفى‬
‫مرس ًعا إال أنه توقف لربهة ناظ ًرا لجامل النقوش التي كانت مدونة عىل هذا‬
‫الباب‪ .‬إذ بفتاة تأيت ويتبعها رجالن كل منهام أضخم من باب منزل مصطفى‪،‬‬
‫وأعرض من نافذة غرفته التي كانت تطل عىل بائع الخرضاوات‪ .‬تتقدم الفتاة‬
‫عنهم خطوة ويتبعها الحارسان خلفها بخطوة‪ .‬وقعت عيناه عىل تلك العيون‬
‫التي كانت تصحبها ملسات ساموية كلون سحاب ممطر وكأنه يغرق يف بحرها‪ ،‬إال‬
‫أنه كان ينظر متمن ًيا لو أنها من البرش؛ إال أنه كان يعلم عكس ذلك‪ ،‬ولكن يغلب‬
‫عىل ُحسنها طابع مالك‪.‬‬
‫هذه الغرفة للطبيب الذي كان متحفظا عىل أرسار غرفته‪.‬‬
‫‪ -‬ماهذا بحق الجحيم؟ إنها جملة قالها مصطفى‪ ،‬وكاد أن يجن جنونه‪ .‬إنها‬
‫األرقام نفسها التي كان يحملها خاتم برقان برتتيبها نفسه‪.‬‬
‫‪ -‬اجلس هنا وال تتحرك وإال أصابتك لعنة اإللهة ( جوتار)‪.‬‬
‫‪ -‬جوتار‪..‬؟ كان يتعجب مصطفى بعد سامع برقان يقولها‪ .‬ذهب برقان إىل‬
‫غرفة التحنيط‪ ،‬وبقي مصطفى بالخارج يف طرقة لها أبواب عديدة أكربها هذا‬
‫الباب الذي يحمل هذه األرقام‪ .‬كان يفكر ويحدث نفسه‪ .‬كيف أن خالدً ا مل ِ‬
‫يأت‬
‫معي‪..‬؟ لقد اصطحبته من منزله بنفيس‪ .‬لقد كان يقول يل بضحكاته املعتادة‬
‫الساخرة التي كنت أحبها‪ (:‬مش ناوي تتجوز بقي )‪..‬؟ من كان معي يف هذا‬
‫اليوم‪...‬؟ كان املوقف أشبه بكابوس بل بجحيم إال أن تلك النظرة التي اختطفها‬
‫مصطفى من هذه الفتاة جعلت له قسطًا من املشاعر يف هذا العامل املخيف‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫‪.................................................‬‬
‫مرح ًبا سيد رصفائيل‪ :‬مل يجب رصفائيل عىل كلامت برقان‪ ،‬ألنه كان مشغولاً‬
‫يف وضع األرقام برتتيبها حيث كوكب الزهرة الذي كان ميثل الرقم (‪ )15‬األرقام‬
‫نفسها املوجودة عىل غرفة الطبيب أيبي وعىل خامته أيضً ا‪ .‬لعل بهذا الرقم رس ما‪.‬‬
‫‪ -‬اجلس يا برقان‪ .‬ماذا فعلت مع اإلنيس املدعو مصطفى؟ هل وجدتم‬
‫مخطوطة املؤرخ؟ أجاب برقان عىل ملك الجان (سوجالر) مل نجد شي ًئا‪ ،‬سيدي‪.‬‬
‫ولكن هناك أمر ما‪ .‬خالد صديقه الذي تجسدنا بهيئته يف ذاك اليوم بالكهف‪،‬‬
‫واصطحبنا مصطفى إىل هنا‪ .‬لرمبا تركها ذاك الفتى مع صديقه قبل أن يأيت إىل‬
‫الكهف‪ .‬عمن تتحدث؟ اخترص‪ ،‬يا برقان‪ .‬ليس لدينا الوقت الكايف‪ .‬أرقام الشهور‬
‫الفلكية تتقارب وكوكب الزهرة يتقارب من عاملنا السفيل‪ ،‬وأنت‪ -‬هنا‪ -‬ما زلت‬
‫ترثثر بال فائدة‪.‬‬
‫‪ -‬أنا أريد املخطوطة ال يشء‪ ..‬عف ًوا‪ ،‬سيدي‪ ،‬نحن بحاجة لوجود مصطفى‬
‫معنا‪ .‬هكذا أضاف برقان وأكمل لرمبا وجوده يفتح لنا ما نفقده من أرقام عامل‬
‫اإلنس‪ ....‬جيد وماذا بعد‪......‬؟‬
‫عىل الجانب اآلخر ما زال مصطفى ينتظر هناك يف طرقة القرص املجاورة‬
‫لغرفة التحنيط‪...‬؟‬
‫بأنفاس مرتفعة‪ ،‬وكأنه يحترض‪ ..‬ألقى‬
‫ِ‬ ‫كان يقرتب من باب الغرفة مرتق ًبا‬
‫بعينيه عىل بصيص شعاع كان يخرج من األرقام املدونة عىل باب (أيبي) حيث‬
‫إنها كانت منحوتة ومفرغة من الداخل بشكل يتيح دخول أشعة الشمس من‬
‫قلبها إىل التابوت املوجود يف منتصف الغرفة‪.‬‬
‫‪ -‬انتبهي ملا يف يديك‪ .‬لقد تحدثت سابقًا يف هذا األمر‪ِ .‬‬
‫أنت يف حرضة اإللهة‬
‫( جوتار)‪ .‬ماذا حل ِ‬
‫بك‪ ،‬يا لوجني؟‬

‫‪18‬‬
‫كانت كلامت الطبيب “أيبي” موجهة ملساعدته الخاصة والطبيبة املاهرة‬
‫لوجني‪ ،‬حيث كان الطبيب يقوم مبراسيم تحنيط جثة ألحد النبالء‪.‬‬
‫أجابت لوجني‪ :‬أجل‪ ،‬سيدي‪ ،‬ال تكن قلقًا‪ ،‬سأعتني باألمر جيدً ا‪.‬‬
‫‪ -‬حس ًنا‪ ،‬ابنتي‪ .‬علينا أن نفرغ املخ من خالل فتحتي األنف‪ .‬أنا سأفعل‪ِ .‬‬
‫وأنت‪،‬‬
‫عليك عمل فتحة يف البطن بالجانب األيرس ما بني ‪ 8‬لــ ‪ 12‬سم إلخراج‬‫يا لوجني‪ِ ،‬‬
‫األمعاء‪ .‬ال تتعدِّ ي هذا الرقم حتي ال يغضب علينا الكاهن األعظم ال منتلك من‬
‫الوقت إال سبعني يو ًما‪ ،‬يا لوجني‪ .‬حيث كانت عملية التحنيط تستغرق من موت‬
‫الشخص إىل تحنيطه ثم إىل دفنة سبعني يو ًما‪.‬‬
‫‪ -‬علينا اإلرساع‪ ،‬يا لوجني‪ ،‬قبل عودة نجم “الشعرى” وظهوره يف السامء مرة‬
‫أخرى‪.‬‬
‫‪ -‬وما عالقة هذا النجم مبا نفعله‪ ،‬أيها الطبيب أيبي؟ أجاب أيبي‪ :‬يختفي نجم‬
‫الشعرى من بداية شهر مايو وملدة سبعني يو ًما ثم يعود تقري ًبا يوم ‪ 18‬يوليو‪.‬‬
‫ولضيق الوقت‪ ،‬كان أيبي يعمل برسعة غري مسبوقة‪ ،‬ومصطفى يتابع عرب بصيص‬
‫الشمس املؤدي للغرفة؛ إال حدث ما كان يخشاه؟‬
‫وقعت من جيبه عملة معدنية أحدثت صوتًا كان كاف ًيا بأن يطلق أيبي جرس‬
‫إنذار من غرفة التحنيط ممسكًا بحبل أعاله الجرس‪ .‬أمسك الحراس مبصطفى‬
‫قائل ‪ :‬من أنت؟ وماذا‬
‫وأتوا به لداخل الغرفة‪ .‬نظر إليه أحدهم وهو يعنفه ً‬
‫تفعل؟ وما هذه العملة املعدنية؟ طلب أيبي من الحراس أن يرتكوه حتى يستطيع‬
‫التحدث‪ .‬وبينام يتحدث أيبي مع مصطفى‪ ،‬أمسكت لوجني العملة التي أصدرت‬
‫صوتًا بالباب‪ ،‬وقالت‪ :‬إنها للملك توت عنخ أمون‪ ،‬يا سيدي‪ .‬نظر مصطفى إليها‬
‫وهي تتحدث وما كان جوابه إال أنه قال‪ :‬نعم هي للملك‪.‬‬
‫‪ -‬نعم هي له‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫‪ -‬من سيديت هذا امللك؟ وكأن مصطفى يف غفوة سكران؟ حيث كان ال يرى‬
‫سوى لوجني وكأنه ُسحر بعينيها‪ .‬وظل ينظر إليها وال يدري ماذا يفعل‪ .‬مل يفق إال‬
‫برضبات متتالية بجانبه من الحراس مهددينه بالقتل‪.‬‬
‫‪ -‬ال تتحدث‪ .‬احرتم عراقة هذا املكان‪ .‬تبدو من عامل آخر‪.‬‬
‫كانت كلامت الطبيب موجهة ملصطفى الذي كان هو اآلخر ال يدري مبن‬
‫يرضب أو من يتحدث‪ ،‬فقط ال يرى سوى تلك العينني اللتني كادت أن تسقط‬
‫الغيث من جاملها‪.‬‬
‫وإذ برضبة قوية تجعله يفقد عواطفه تجاه لوجني‪ ،‬التي كادت أن تبتسم‬
‫إعجابًا بطريقته يف الال ُمباالة‪ ،‬إال أنها صكت وجهها خوفًا من عقاب أيبي لها‪.‬‬
‫أدار نصف وجهه للحارس وقال‪ :‬أنا باحث يف علم التحنيط‪ .‬أدار الحارس‬
‫وجهه للطبيب أيبي فأجابه أيبي‪ :‬هل أنت طبيب؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬ولكن أنا باحث يف‬
‫علم التحنيط لدى قدماء املرصيني‪.‬‬
‫استمع إليه الطبيب الذي كاد أن يصدقه لوال أن العملة التي تحمل وجه‬
‫امللك توت عنخ أمون ما زالت بيد ( لوجني)‪ .‬وما هذا‪ ،‬يا فتى؟ قال‪ :‬هي عملة‬
‫متدا‪ .....‬ولة‪ ..‬قاطعه الطبيب‪ :‬لكنها لنا؟ يقصد لحضارتنا‪ .‬فأجابت لوجني‪:‬‬
‫سيدي‪ ،‬تبدو غري أصلية‪.‬‬
‫لك هذا‪ ،‬يا لوجني؟‬‫‪ -‬وكيف ظهر ِ‬
‫قالت‪ :‬ليست من الذهب وال من الفضة‪.‬‬
‫‪ -‬لكنها حديد مخلوط بقليل من النحاس‪ .‬وناد ًرا من الزنك‪ .‬أعاد الطبيب‬
‫تفكريه ثانية وحاول تصديق ما قص عليه مصطفى‪ .‬كان “ أيبي” يرى أن مصطفى‬
‫حقًا من عامل آخر وقصته تتطابق مع وجود العملة التي ال تنتمي لحضارتهم‪.‬‬
‫قائل ‪ :‬ستعمل معي‪ ،‬ولكن بعد موافقة مجلس‬ ‫فكر الطبيب قليلاً ناظ ًرا للفتى ‪ً ،‬‬
‫العرشة الكبار‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫جملس العشرة الكبار‬
‫جالسا عىل عرشه وأمامه مجلس كبار العشرية وعن يساره‬ ‫امللك سوجالر ً‬
‫(برقان) وعىل ميينه (صفرائيل)‪ .‬الجميع ينظر بعني الرتقب والحذر من أن يتفوه‬
‫البعض بحرف يودي بحياته إىل سجون ( كوشيه) حيث تشتهر بغرابة أطوارها‬
‫وبراعتهم يف فنون تعذيب النزالء‪.‬‬
‫‪ -‬نحن ليس لدينا الوقت الكايف سيدي حتى تكتمل األرقام مع األيام القمرية‪.‬‬
‫نحن يف أشد الحاجة ملخطوطة املؤرخ التي أضعناها مع ذاك الساحر القاطن‬
‫بأرض الفريوز‪ .‬هذا ما طرحه بعض أعضاء مجلس العرشة الكبار عىل امللك‪ .‬إال أن‬
‫امللك نظر إليه شاخص البرص وكأن عىل رأسه الطري قائلاً بصوت رخيم به أنفاس‬
‫متسارعة من كرثة رشب الدماء‪ :‬مصطفى‪ .‬أين ذاك الفتى؟ أين فتى الكهف؟‬
‫أجاب سادو‪ :‬لقد رأيته‪ ،‬سيدي‪ ،‬بالقرص بجوار غرفة التحنيط للطبيب أيبي‪.‬‬
‫كان سادو من أعوان امللك املخلصني‪ ،‬وقري ًبا له‪.‬‬
‫أرسع سادو لغرفة التحنيط حيث فتى الكهف‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫سادو وفتى الكهف‬

‫أرسع سادو ليأيت مبصطفى للملك داخل اجتامع العرشة الكبار‪ ،‬حيث ال حل‬
‫آخر أمامهم سوى مخطوطة املؤرخ التي تحمل الرقم الناقص لأليام القمرية‪.‬‬
‫فالجان يستمد قوته من هذه الطالسم التي تتوافق مع علم الفلك‪.‬‬
‫وأيضً ا امللك يستمد قوته من هذه األرقام‪ .‬وغياب جزء منها يعني انهيار‬
‫اململكة وسقوط “سوجالر” شخص ًّيا حتى انهيار مملكة كوشيه بسجونها وحراسها‬
‫وسكانها‪.‬‬
‫وصل سادو أمام غرفة التحنيط‪ ،‬ولكنه سمع أن الطبيب يتفق مع مصطفى‬
‫عىل أن يعمل معه‪ .‬لقد سمع سادو الحديث‪ .‬سيخرب سوجالر‪ ،‬وسيشتاط غض ًبا‪ ،‬أو‬
‫إنه سيقتل الطبيب أو يرسله لسجون كوشيه‪ .‬أكمل أيبي الحديث‪ .‬وكانت لوجني‬
‫تحاول تغطية املومياء التي كادت ان تتعفن من طول االنتظار‪ .‬أنت ستعمل معي‬
‫هنا‪ ،‬ولكن بعد إخبار امللك‪ .‬ر َّد مصطفى‪ :‬وإن مل يوافق امللك‪ ،‬سيدي الطبيب‪.‬‬
‫ماذا أنا فاعل؟ رد الطبيب‪ :‬سأعلمك جلب املال بطريقتنا‪.‬‬
‫‪ -‬مال‪ ،‬أي مال؟‬
‫‪ -‬سأعلمك حتى تكون كبريًا (كان يقصد أن يكون وزي ًرا)‪ .‬فاملال هنا يعني‬
‫العلم واملعرفة‪ ،‬يا فتى‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫تبعت كلامته تنهيدة من خلف الباب الذي يفتح عىل البطيء‪ ،‬حيث كان‬
‫سادو‪:‬‬
‫‪ -‬وكيف يكون كب ًريا لدينا وهو من عامل آخر؟ وقعت األنظار عىل العملة التي‬
‫ألقتها لوجني فز ًعا من دخول سادو‪ ،‬وعلمها أنه قريب للملك وأحد مستشاريه‬
‫املقربني‪ ،‬وأنه سيبلغه مبا حدث‪ ،‬ثم تالشت األنظار مرة أخرى نحو سادو‪.‬‬
‫‪ -‬نحن كنا سنخربك بكل يشء‪ ،‬سادو‪ .‬نحن ك ّنـ‪...‬ـا‪...‬‬
‫‪ -‬ال تكميل‪ ..‬جونرت جوووونرت‪ ..‬هكذا نادى سادو عىل الحاجب( حارس غرفة‬
‫الطبيب)‪.‬‬
‫‪ -‬خذ هذا‪ -‬يقصد مصطفى‪ ،‬واتبعني حيث امللك‪.‬‬
‫أخذه الحارس من يديه التي كانت متسك قطعة من ورق الربدي املمزوج‬
‫بزيت اللوتس‪ .‬كان قد أخذها من لوجني سائلاً لها‪ :‬وهل يل أن أكتب بلغتنا عىل‬
‫هذه القطعة املمزقة؟‬
‫جذبه الحارس وكاد أن يضيق الخناق عىل معصمه بحديدة تشبه أساور كرسى‬
‫إال أنها مؤملة‪ .‬دفعه الحارس لألمام‪ ،‬قائلاً له بسخرية‪ :‬معي للملك‪ ،‬يا كب ًريا‪.‬‬
‫يف الطريق‪ ،‬رأى مصطفى نقوشً ا عىل الجدران تحمل رقم ‪6 ،7 ،2‬؛ وأسفلها‬
‫صورة امللك وطائر العقاب وهو يقف عىل كتفه‪.‬‬
‫تابع مصطفى السري وهو ال يدري ما يحدث له‪ ،‬يتذكر كلامت والده ناد ًما‪:‬‬
‫‪ -‬يا بني‪ ،‬هذه تخاريف‪ .‬ال تعبث يف الكهف‪ .‬يا بني‪ ،‬لن تصل ليشء من‬
‫شغفك‪ .‬ال تكن مول ًعا بتجارب اآلخرين فالتحنيط رس‪ ،‬وكيف تحصل عىل الرس؟‬
‫كلها أقاويل تالحقه وهو يسري خطوة تلو األخرى باتجاه غرفة امللك‪.‬‬
‫فرح باملوت‪ ،‬يا فتى ‪..‬؟‬
‫قائل ‪ :‬وكأنك ٌ‬
‫كام أنه تبسم فجأة‪ .‬نظر إليه سادو ً‬

‫‪25‬‬
‫ولكن سادو ال يعلم بأن هذه االبتسامة طيف تلك الفتاة التي تذكرها‬
‫مصطفى حيث كانت تالحقه بعبارات رنانة منذ أيام الجامعة‪ ،‬وتقول له‪ :‬ستموت‬
‫بحثًا عن يشء ليس له وجود‪ .‬وكان يجيبها بهدوء وعمق‪ :‬أنا أمتلك هدفًا أبحث‬
‫عنه بعيدً ا عن العامل‪ ،‬يا بسمتي‪ .‬كان ميازحها بهذا االسم دو ًما‪.‬‬
‫أكمل الطريق واألفكار تضارب حتى كاد أن يصل‪.‬‬
‫إىل أن رأى تلك العجوز ثاني ًة تبيك عىل ابنتها الضائعة‪ .‬وقف مصطفى واض ًعا‬
‫عالمات استفهام كثرية حول أمر هذه العجوز التي باتت بشعر متناثر يعلوه‬
‫بياض ناصع وأسنان متفرقة وشفتان متشققتان وكأنها تعذب يف سجون كوشيه‪.‬‬
‫‪ -‬ماخطبك؟ من ِ‬
‫أنت؟ ومن هذه الفتاة التي تبحثني عنها؟‬
‫‪ -‬يا بني‪ ،‬أنا هنا منذ ثالث سنوات فقط‪.‬‬

‫اندهش مصطفى سائلاً ‪ :‬ثالث سنوات؟ وملَ؟ أجابت العجوز‪ :‬ابنتي خُطفت‬
‫بكهف مهجور يوما ما‪ ،‬فذهبت إىل هناك وجدت نفيس هنا‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا؟ كهف مهجور؟ يف أي بلد هذا الكهف؟ ومن أي بلد ِ‬
‫أنت؟‬
‫نظرت العجوز إليه وكأنها تعرفه سابقًا‪ ،‬وكان لديها ُحسن ترصف مل يخطر عىل‬
‫قلب مصطفى يو ًما ما‪.‬‬
‫‪ -‬نحن من كوشيه‪.‬‬
‫أجاب مصطفى‪ :‬كوشيه؟ ال أظن‪ .‬وجهك مألوف برغم آثار التعذيب التي‬
‫باتت تالحقه‪.‬‬
‫أكمل مصطفى الطريق غري ملتفت‪ .‬لرمبا كان يفكر يف أمر تلك العجوز‬
‫الشمطاء‪ ،‬أو أن له رأيًا آخر يف صديقه خالد الذي اكتشف أنه مل يكن معه يف ليلة‬

‫‪26‬‬
‫الكهف‪ .‬سيظهر كل يشء عندك‪ ،‬يا سوجالر‪ .‬هكذا فكر مصطفى بصوت خافت‬
‫كادت أن تصل الحروف لسمع سادو‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا؟ أجاب مصطفى‪:‬‬
‫‪ -‬ال عليك‪ ،‬ال تلتفت‪ .‬ثرثرة حمقًاء تبدو كوجهك الشاحب‪ .‬ال عليك‪ ،‬أيها‬
‫األحمق‪ .‬أكمل طريقك حيث سيدك‪.‬‬

‫سوجلار والمخطوطة‬

‫‪27‬‬
‫‪ -‬نحن ال نعتقد أن هذا الفتى لديه كل يشء عن مخطوطة املؤرخ‪.‬‬
‫هذا ما قاله “أبا محرز األحمر” أرشس ملوك الجان بعد سوجالر واملُلقب‬
‫بأيب يعقوب‪.‬‬
‫علينا إحضار عائلته وأصدقائه حتى يأيت لنا بها‪ .‬قاطعه الصمت قليلاً مصاح ًبا‬
‫صوت قرع النعال التي تسري عىل أرض يابسة أسفلها ماء متحرك‪ ،‬وكأنه نهر يف‬
‫الجنة‪ .‬سيدي‪ ،‬أحرضت لك الفتى أنه بالخارج‪ .‬حس ًنا أحرضه إىل هنا‪ ،‬يا سادو‪،‬‬
‫دعنا نعرف ما مل نستطيع أن نعرفه أثناء وجودنا معه بالكهف‪.‬‬
‫نادى سادو عىل الحاجب حتى يحرض الفتى‪.‬‬
‫‪ -‬سيدي سادو‪ ،‬إنه ليس هنا‪.‬‬
‫‪ -‬أين الفتى؟‬
‫‪ -‬إنه ليس هنا‪.‬‬
‫ُصدم الجميع‪ ،‬وكاد املجلس ان ينخلع من أظافره الشيطانية‪.‬‬
‫‪ -‬وكيف يحدث هذا‪..‬؟‬
‫‪ -‬صفرائيل‪ ..‬صفرائيل‪ ...‬أرقد لكوكبك تابع لنا ما حدث من خالله ِ‬
‫وأعط لنا‬
‫صورة كاملة عن القرص‪ ،‬وأين اختفى الفتى‪.‬‬
‫كانت كلامت سوجالر كربق يف ليايل الشتاء أصاب صفرائيل فأخفاه‪.‬‬
‫‪ -‬أين نحن؟ هل أحد يسمعني؟ نبضات القلوب ترتفع‪ ،‬والفوىض عارمة يف‬
‫كل مكان‪ .‬هذا يرقص وذاك يصدر صوت نهيق‪ ،‬وآخر من يقرع الطبول‪ .‬واملشهد‬
‫رهيب من خلف العصابة التي وضعت عىل عني مصطفى مختطفًا ألرض كوشيه‪.‬‬
‫يا لرهبة املوقف‪ .‬كان مصطفى ال يرى شي ًئا‪ ،‬ولكنه تخيل ما هو به‪ .‬اقرتب‬
‫أحدهم إليه‪ ،‬وهمس يف أذنه‪ :‬ستكون قربانًا لإللهة “ جوتار”‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫‪ -‬حس ًنا‪ ،‬إنه فتى قوي‪ ،‬ووسيم‪ .‬أحب هذا‪ .‬كانت كلامت الكاهنة التي تبارك‬
‫القرابني‪.‬‬
‫ُرفعت عن عينه العصابة‪ .‬نظر مصطفى مفز ًعا كاد فمه أن يسيل لُعابه‪ ،‬وكاد‬
‫رشا بجسده‪ .‬نظر مصطفى إىل‬ ‫جسمه أن يحرتق من هذا املسحوق الذي كان منت ً‬
‫يديه صارخًا‪ :‬ما هذا؟؟ لونها أخرض مييل لل ُّزرقة‪ .‬أين أنا؟ أين جسدي؟ إال أن هذا‬
‫الرصاخ صمت ويف الوقت ذاته كاد أن يتحدث الحجر عام رأه مصطفى‪ .‬تقرب منه‬
‫هذا الشاب العمالق الذي لديه قرون كادت أن تفقأ عني مصطفى قائلاً ‪ :‬انظر‪.‬‬
‫وأشار بالسبابة إىل عرش عظيم كعرش ملكة سبأ “بلقيس”‪.‬‬
‫نظر مستنك ًرا‪ :‬من‪ ...‬من‪ ..‬من هذه امللكة؟ يا رباه‪ ،‬إنها العجوز الشمطاء‪.‬‬
‫‪“ -‬عجوز شمطاء”! اصمت‪ ،‬أيها املتعجرف‪.‬‬
‫رضبة واحدة من الشاب ذي القرنني كانت كافية بسقوط قطرات دم من‬
‫مصطفى وانبطاحه أرضً ا‪ .‬تبعتها ضحكات متقطعة‪:‬‬
‫‪ -‬كيف حالك‪ ،‬يا فتى؟ وكيف حال صديقك خالد؟ وصديقة الجامعة بسمة؟‬
‫ورفيق الفُكاهة جهاد؟‬
‫‪ِ -‬‬
‫أنت؟ كيف؟ وأين ابنتك؟‬
‫‪ -‬ابنتي؟ ليست ابنتي بل إنها أحد القرابني لإللهة جوتار‪ .‬حقًّا‪ ،‬أنت ال تعرف‬
‫أننا عندما نفرح كثريًا نزرف دموعنا‪ .‬فلم أكن أبيك يف ذاك اليوم بل كنت َفرِحة‬
‫بإنتصاري عىل فتاة عزباء‪ ،‬بينام أنت ال تعرف طريقتنا‪.‬‬
‫تابعت‪ :‬وعىل صفرائيل أن يبحث عنك يف مكان آخر ألن املسحوق الذي كان‬
‫داخل العباءة التي اختطفناك داخلها يخفي الجسد عن أعني ملوك الزهرة‪ ،‬وال‬
‫يستطيع أحد أن يراك بفضل هذا املسحوق‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫‪ -‬وملَ اختطفتموين وأنتم تابعون للعالَم نفسه؟ أجابته العجوز الشمطاء‪ :‬نحن‬
‫مملكة كوشيه‪ ،‬وأنت كنت بقرص سوجالر‪ .‬لكننا نتنافس عىل الزعامة امللكية إال‬
‫أننا نسري يف النهاية تحت مظلة واحدة‪.‬‬
‫أصبح مصطفى يف حرية من أمره‪ .‬العجوز هي ملكة “ كوشيه” والفتاة التي‬
‫كان يتقطر دمها ليست ابنة العجوز‪ ،‬بل هي قربانٌ لإللهة “جوتار”‪ .‬رمبا أهلها‬
‫ما زالوا يبحثون عنها‪ .‬أي ابتالء‪ ،‬يا إلهي؟ إنها لعنة الكهف‪.‬‬
‫يف سجن كوشيه الذي كان سيئ السمعة‪ ،‬أصبح أحد نزالئه داخل الغرفة ‪.816‬‬

‫‪30‬‬
‫الغرفة ‪816‬‬
‫كان عىل مصطفى أن يجد حلاًّ ليخرج من هذا السجن الذي ُرسم عىل هيئة‬
‫عقرب‪.‬‬
‫‪ -‬السجني ‪ .816‬احرض لهنا‪ ...‬تابع السجان صاحب البرشة السمراء والجسد‬
‫النحيل والطول الفارع‪ :‬رقم ‪.816‬‬
‫يبدو أن مصطفى سينتهي اسمه هنا برقم ما‪.‬‬
‫‪ -‬أنت‪ ،‬أيها األبله‪ .‬تابع السجان‪ :‬هذا اسمك ‪ .816‬كن صام ًتا‪ ،‬واتبعني‪.‬‬
‫واصل السجان السري حتى خرج لساحة كبرية‪ .‬بها الصخب وكأنهم يف حفلة‬
‫قميصا يحمل رقم‬
‫ً‬ ‫ليلية‪ .‬نظر مصطفى عىل هذا املصارع الفحل الذي يرتدي‬
‫‪ .492‬حقًّا‪ ،‬إنه مصارع بارع‪ ،‬لقد أنهى الجولة برضبة قدم كانت كافية بكرس‬
‫ضلع املنافس‪ .‬تابع مصطفى النظر‪ .‬هناك فوق أسوار كوشيه املرتفعة حارس بيده‬
‫سوط مطاطي ميتد ألكرث من ‪ 50‬م ًرتا؛ وآخر لديه قوس وسهام مشتعلة‪.‬‬
‫حقًا‪ ،‬إنه سجن كوشيه املنيع‪ .‬هذا املشهد كاد أن يصيب مصطفى بنوبة‬
‫تتبعها دموع ندم‪.‬‬
‫تابع السجان‪ :‬خذ هذا‪ .‬كان صندوق به ثياب يحمل رقم ‪ ،816‬ومعه مداد‬
‫باللون األحمر وآخر باألسود‪ ،‬وقلم من بوص‪ ،‬وشفرة صغرية‪ .‬لرمبا استعملها يف‬
‫جعل القلم مدب ًبا بانحناء‪.‬‬
‫‪ -‬وما هذه‪ .‬كان مصطفى يتساءل‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫أجابه املصارع رقم ‪ 492‬بعد أن أنهى جولته من القتال‪ ،‬ووجد ذاك الفتى‬
‫باك ًيا‪ - .‬هذا ليس مدا ًدا كام تراه‪ .‬وملَ تبيك؟‬
‫‪ -‬ليس مدا ًدا؟ ما هذا‪ ،‬يا رجل بحق الجحيم؟ قالها مصطفى وهو يكفكف‬
‫دموعه كعالمة عىل انتهاء الحزن‪.‬‬
‫أجابه املصارع‪ :‬إنه مداد اإللهة “جوتار”‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا نفعل به؟‬
‫‪ -‬علينا كتابة أرقامنا هنا‪.‬‬
‫وأشار إىل الصندوق‪ ،‬كان به أوراق حمراء كورق الربدي‪ ،‬ولكن سمكها‬
‫ُمضاعف‪.‬‬
‫مصطفى‪ :‬وملَ نكتب أرقامنا؟‬
‫السجني‪ :‬حتى تتمكن الكاهنة من متابعتنا عن طريق مداد اإللهة جوتار‪.‬‬
‫قاطعه مصطفى‪ :‬وماذا لو تناسينا يو ًما أن نكتبه؟‬
‫‪ -‬أرجو أن ال تفعل‪ ،‬يا صديقي‪ .‬إن أردت عدم كتابة رقمك كل يوم‪ .‬عليك أن‬
‫تواجه عذابا لن تتحمله‪ ،‬وستضاعف مدة وجودك يف هذا السجن املميت‪.‬‬
‫جلس مصطفى يفكر يف حديثه مع هذا السجني إىل أن جن عليه الليل‪.‬‬
‫مل يغمض له جفن يف تلك الليلة‪ ،‬كان يفكر يف أشياء كثرية وتضارب األفكار‬
‫واألرقام‪ ،‬وحديث السجني معه‪ ،‬ومداد اإللهة‪ ،‬وأسوار سجن “ كوشيه”‬
‫العمالق‪.‬‬
‫شاخصا البرص مفك ًرا يف تلك‬
‫ً‬ ‫‪ -‬األرقام؟ نعم إنها لعنة األرقام‪ .‬قالها مصطفى‬
‫األرقام التي تشابهت‪ .‬تابع مصطفى محدثًا نفسه‪:‬‬

‫‪34‬‬
‫‪ -‬نعم تذكرت‪ .‬يوم أن كنت ذاه ًبا لغرفة “سوجالر”‪ .‬نعم‪ ،‬كانت غرفة الطبيب‬
‫أيبي تحمل األرقام نفسها‪ ،‬والنقوش التي كانت عىل الجدار ‪.6 ،7 ،2‬‬
‫الخاتم؟ الخاتم الذي كان يرتديه برقان‪ .‬ما هذا بحق الجحيم؟ ال‪ .‬ال‪ .‬ال‪ .‬كل‬
‫هذا مل يكن ُمصادفة‪ .‬هناك دائرة مل تكتمل بعد‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫ابن عبد البار‬
‫يف اليوم التايل‪ ،‬خرج مصطفى من غرفته التي تحمل الرقم‪ 816‬نفسه إىل‬
‫ساحة السجن‪ .‬وكاملعتاد املصارعة تزداد اشتعالاً ‪.‬‬
‫اقرتب أحد السجناء منه قائلاً ‪ :‬ملَ ال تشارك؟‬
‫‪ -‬يف ماذا‪ ،‬يارجل؟ رد السجني‪ :‬يف هذا النزال‪ ،‬فالفائز يحصل عىل قسط من‬
‫الراحة أسبو ًعا يف استضافة ابن عبد البار‪.‬‬
‫مصطفى‪ :‬ومن ابن عبد البار هذا؟‬
‫‪ -‬انه الوحيد يف هذا السجن الذي ال يكتب مبداد اإللهة جوتار‪.‬‬
‫مصطفى‪ :‬وملَ؟‬
‫السجني بصوت خافت‪ :‬إنه ميلك قدرة تجعل الشياطني يف قبضته‪.‬‬
‫مصطفى‪ :‬وكيف‪ ،‬يا رجل؟ كان عليه أن يخلص نفسه أولاً ‪.‬‬
‫تابع السجني‪ :‬ليس كام فهمت أنت‪ .‬بل لديه قدرة عىل جعل لنفسه مكانة‬
‫مرموقة هنا‪ .‬فنصف قوة مملكة “ كوشيه” معه‪ ،‬والنصف اآلخر مع الكاهنة‬
‫وسوجالر‪.‬‬
‫‪ -‬ممممممم‪ ،‬القوة متساوية إ ًذا‪ ،‬يا صديقي‪.‬‬
‫‪ -‬اشكر اإللهة عىل تفهمك‪ ،‬يا أبله‪ .‬قالها السجني ضاحكًا‪.‬‬
‫تبسم مصطفى قائلاً ‪ :‬إ ًذا من ميتلك رس القوة الخفية سيسود هذا العامل‪ .‬إ ًذا‬
‫سأقبل النزال وسأقاتل‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫توجه مصطفى نحو ساحة القتال مستعدًّ ا للنزال‪ .‬صاح أحد الجمهور‪ :‬إنه‬
‫السجني القادم منذ يومني‪ .‬ور ّد آخر‪ :‬حقًا‪ ،‬إنه صاحب عضالت مفتولة‪ .‬لعلنا‬
‫نراهن عليه‪.‬‬
‫‪ -‬إ ًذا نراهن عليه‪.‬‬
‫نزل مصطفى لساحة القتال يرتقب‪ .‬الفتى املنافس ال يبدو هي ًنا؛ فلم يهزم من‬
‫قبل‪ .‬مل يتجرأ أحد عىل هزميته‪.‬‬
‫اشتبك الطرفان‪ .‬وجه الفتى ملصطفى عدة رضبات متتالية أشعرته بدوران‬
‫كدوار بحر‪ .‬حاول مصطفى ان يستجمع قواه راقدً ا موج ًها رضبة ألسفل فك‬
‫املنافس لكنها أوجعته فقط!! كان املنافس قويًّا مبا يكفي أن يهزم مصطفى بدون‬
‫عناء‪ .‬لذا شعر مصطفى بأنه يف حاجة إىل حيلة ما‪ ،‬حيث أخذ حبات الرمل يف يده‬
‫ووضعها يف عني املنافس الذي مل ي َر بعدها‪ ،‬فانهال عليه مصطفى رضبًا ُمرب ًحا‪،‬‬
‫ثم تابعه بلكمة قوية أسفل الضلع األمين جعله ينبطح أرضً ا ُمعل ًنا الحكم فوز‬
‫مصطفى‪.‬‬
‫‪ -‬أحسنت‪ ،‬يا رفيقي‪ .‬ال أحد كان يصدق أنك ستفوز بهذه الجولة‪.‬‬
‫قالها السجني بعد أن عانق مصطفى مصطح ًبا إياه لغرفة النزالء‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫ابن عبد البار والطالسم‬

‫تابع مصطفى السري مع السجان الذي يصطحبه إىل غرفة القائد (آب) الذي‬
‫بدوره سريسله البن عبد البار مكافأة له عىل ما قدمه يف النزال‪ ،‬حيث أصبح‬
‫مصطفى بطال جديدً ا يُعتمد عليه يف سجون كوشيه إن أرادوا أن يستخدموه‪.‬‬
‫القائد آب‪:‬‬
‫‪ -‬مرح ًبا‪ ،‬يا فتى‪ ،‬تبدو قويًّا كام تحدثوا عنك‪ .‬سنبعث بك البن عبد البار تأخذ‬
‫قسطًا من الراحة‪ ،‬وتتعرف عىل عظمته‪ .‬هذا الرشف مل ينله من قبل غري اثنني‬
‫أنت ثالثهم‪.‬‬
‫‪ -‬حس ًنا‪ ،‬سيدي‪ ،‬كام تريد‪ .‬أجابه مصطفى خافضً ا رأسه ألسفل راف ًعا طرف‬
‫إحدى عينيه مرتق ًبا القائد آب‪.‬‬
‫‪ -‬مشكور‪ ،‬سيدي‪ ،‬سأكون أداة طيعة يف أيديكم لرتىض عنا اإللهة‪.‬‬
‫رمبا مصطفى تفهم كيف يتعامل هنا مع قادة سجون كوشيه‪ .‬إنه ميتلك من‬
‫املهارة والذكاء ما يؤهله للقيام بهذا‪.‬‬
‫تابع السري يف طريقه مع الحارس حيث ابن عبد البار‪ .‬م َر من ساحة سجن‬
‫كوشيه املتسعة مجتازًا إياها؛ وصولاً إىل غرفة أخرية لها باب يكاد يكون باب‬
‫غرفة الطبيب أيبي‪ .‬وقف الحارس يف منتصف الغرفة التي بها أسرِ ّة (كنبة) وأشار‬
‫بيده‪ - :‬هنا‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫‪ -‬هنا؟؟؟؟ ماذا هنا‪ ،‬أيها الحارس؟‬
‫أجابه‪ :‬أسفل األسرِ ة‪.‬‬
‫‪ -‬ومن أسفل األرسة‪ ،‬يارجل؟ رد الحارس‪ :‬ابن عبد البار‪ .‬أزاح الحارس هذه‬
‫األسرِ ة‪ ،‬ورفع عدد أربع قطع من الرخام كانت موضوعة كل قطعة بجانب األخرى‬
‫مكونة مرب ًعا كب ًريا‪ ،‬إذ بأسفلها غطاء خشبي وسلَّم متصل بنفق ما ٍّر مبنتصف‬
‫كوشيه من األسفل‪ ،‬أشبه باللعبة التي كان يفضلها مصطفى يف الصغر‪.‬‬
‫وصل مصطفى والحارس إىل نهاية النفق‪ ،‬حيث صعد عىل سلم خشبي أعاله‬
‫غطاء خشبي يشبه ذلك الغطاء املوجود بالغرفة القادمني منها‪ .‬طرق الحارس‬
‫الغطاء الخشبي مرتني‪ ،‬ثم انتظر حتى رفع الغطاء‪.‬‬
‫‪ -‬ياللهول‪ ،‬أين نحن؟ رمبا قطعة من الفردوس هذه؟ أو أنها غرفة بلقيس؟‬
‫كلامت قالها مصطفى معج ًبا بالنقوش والزخارف املنحوتة عىل جدران غرفة‬
‫ابن عبد البار‪ .‬قاطع إعجابه صوت رخيم كُهويل من الباب الخلفي للغرفة‪ :‬مرح ًبا‬
‫بصاحب الرقم ‪.816‬‬
‫التفت مصطفى‪ .‬إذ برجل ذي لحية بيضاء وشوارب كثيفة‪ ،‬وثياب بيضاء‬
‫وغطاء رأس أخرض يحمل يف يده ما يشبه املسبحة‪ ،‬إال أنها تلمع باللون األزرق‬
‫كامسة زرقاء تشع ضوءا خاف ًتا‪ ،‬وكأنها كوكب نبتون‪..‬‬
‫نظر مصطفى إليه نظرة إعجاب بعد أن تركه الحارس وذهب من حيث أىت‪.‬‬
‫‪ -‬ما بك‪ ،‬يا فتى؟‬
‫مصطفى‪ :‬أأنت ابن عبد البار؟ قالها مصطفى للمرة الثانية معج ًبا بذاك الذي‬
‫وان تحدثت هيبته ألجلس نعليه فوق عرش امللوك من شدة هيبته وقوامه‬
‫املمشوق برغم كرب عمره‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫‪ -‬تشبه جدي كثريًا‪.‬‬
‫ضحك ابن عبد البار ماز ًحا‪ :‬وهل كان جدك بهذا الجامل‪ ،‬يا فتى؟ اسرتِح من‬
‫عناء األنفاق‪ ،‬وخذ هذه؛ كأس بها قليل من املاء الحي‪.‬‬
‫‪ -‬ماء حي؟ وهل هناك ماء ميت؟‬
‫ضحك ابن عبد البار‪ :‬يا بني‪ ،‬أقصد أنه من النهر مبارشة للكأس‪ .‬أي مل يُخزن‬
‫ويفقد خواصه‪.‬‬
‫رشب مصطفى املاء متاب ًعا بتنهيدة وكأنها تخرج معها عناء سفر بعيد ومشقة‬
‫كبرية‪ .‬نظر إليه ابن عبد البار‪:‬‬
‫‪ -‬إنك محارب من طراز فريد‪ .‬لديك أساليب قتالية بارعة‪.‬‬
‫‪ -‬وكيف عرفت أنني محارب؟ رد ابن عبد البار‪:‬‬
‫‪ -‬يا فتى‪ ،‬ال يأيت هنا‪ -‬يقصد يف هذه الغرفة‪ -‬إال محاربني من نوع خاص‪.‬‬
‫ولكنك تحمل يف عينيك أم ًرا ما‪ .‬سأستمع لك ولكن بعد أن تتناول الغداء الخاص‬
‫خصيصا لك‪ .‬هيا‪ ،‬يا فتى‪ ،‬هيا‪ .‬تبعها برضبات عىل كتفه‬
‫ً‬ ‫معي؛ فاملائدة ُأعدت‬
‫متالحقة وكأنه مصارع يحفز زميله‪.‬‬
‫خرج من الغرفة إىل ساحة تشبه الساحة التي كان بها مصطفى إال أنها متتاز‬
‫بالنقوش الرائعة‪ ،‬وكأن النقوش تحيك قصة ما‪ .‬هناك عىل هذا الجدار األبيض‪،‬‬
‫كأسا يرشب‬
‫رسمت فتاة تبدو جميلة يتقطر من فمها الدم؛ أمامها آخر يحمل ً‬
‫منها دم يسكب من عىل لحيته‪ .‬يف الجدار املقابل نقوش لإللهة “جوتار” وهي‬
‫جالسة عىل العرش يقدم لها “سوجالر” القرابني‪.‬‬
‫جلس ابن عبد البار عىل طرف من الساحة إذا بوسائد مرتفعه قليلاً من‬

‫‪43‬‬
‫األرض؛ وضع عليها الطعام‪ .‬كان ابن عبد البار يعامل معاملة امللوك‪ .‬لذا أثار‬
‫فضول مصطفى سائلاً ‪:‬‬
‫‪ -‬هل أنت سجني أم ملك؟‬
‫أجابه‪ :‬سجني ملك!! تبسم مصطفى متبلدً ا‪ :‬كيف؟‬
‫قال ابن عبد البار‪ :‬أنا هنا ألنني أمتلك نصف قوة “ كوشيه”‪ ،‬والجميع هنا‬
‫حيث ميتلك النصف الباقي‪ .‬ال أحد يستطيع أن يهرب من هنا ألن ما يزيد ميزان‬
‫القوى مل ِ‬
‫يأت بعد‪.‬‬
‫مل يفهم مصطفى عام يتحدث ابن عبد البار‪ ،‬إال أنه كان يومئ برأسه متظاه ًرا‬
‫أن يفهم ما يقصده‪ ،‬إال أن ابن عبد البار صمت قليلاً ‪ ،‬ثم قال‪ :‬وماذا أىت بك إىل‬
‫سجون كوشيه‪ .‬تبدو غري ًبا‪.‬‬
‫ضحك مصطفى وقال‪ :‬أبدو غري ًبا مثلك متا ًما‪ ،‬يا جدي‪.‬‬
‫ابتسم ابن عبد البار مستمعا له‪.‬‬
‫بدأ مصطفى يقص عليه قصته عندما كان بالجامعة مرو ًرا بصديقته بسمة‬
‫التي طاملًا ذكرها‪ .‬وجد نفسه متبسماً ‪ ،‬حتى صديقه خالد الذي مل يكن معه يف‬
‫هذه الليلة؛ وصديقه جهاد الذي لرمبا لو رأى مصطفى يف سجون كوشيه لقال له‬
‫مازحا‪ ( :‬بتتفسح من غريي‪ ،‬يا درش؟)‪.‬‬
‫أكمل مصطفى حديثه وابن عبد البار ينصت يف ذهول من أمره‪.‬‬
‫أنهى مصطفى حديثه وما زال ابن عبد البار منص ًتا‪.‬‬
‫‪ -‬أنهيت حديثي‪ ،‬يا جدي‪ ،‬أيها العجوز الوسيم‪.‬‬
‫قالها مصطفى مرتني‪ .‬نظر إليه ابن عبد البار قائلاً ‪:‬‬
‫‪ -‬هل تعرف أين مخطوطة املؤرخ؟‬

‫‪44‬‬
‫أجابه مصطفى‪ :‬كانت بالتابوت‪ .‬عندما فُتح مل أر شي ًئا‪.‬‬
‫رد ابن عبد البار‪ :‬هل تتذكر ما نقش عليها؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ .‬ولكن ملاذا؟‬
‫أجاب ابن عبد البار‪ :‬لرمبا ميزان القوى سيصبح يف صالحنا‪.‬‬
‫فرح مصطفى وكأنه يعرف هذا الرجل منذ زمن‪.‬‬
‫أكمل ابن عبد البار‪ :‬أنا من هذا البلد التي يطلقون عليه “ أرض الفريوز”‪.‬‬
‫صاح مصطفى فر ًحا‪:‬‬
‫‪ -‬إنه بلدي‪ .‬أنا أيضً ا منه‪ .‬أنا منه‪ ،‬يا جدي‪ .‬أنا منه‪.‬‬
‫كاد أن يطري عقله فرحا بابن عبد البار‪.‬‬
‫‪ -‬اهدأ‪ ،‬يا بني‪ .‬أنا هنا منذ زمن بعييييد‪ .‬أتيت باحثًا عن كنز ما‪ .‬أمتلك‬
‫طالسم؛ هي من جعلت يل القدرة عىل البقاء‪ .‬هنا كملك وليس كسجني‪ .‬ولكن‬
‫ينقصنا مفاتيحها‪.‬‬
‫وكأن اللغز يتقارب بوجود مصطفى داخل غرفة ابن عبد البار‪.‬‬
‫صارحه مصطفى بكل يشء‪ ،‬وكأن ابن عبد البار جده والد والده‪ .‬لرمبا ابن‬
‫عبد البار بادره الشعور نفسه‪ .‬واتفق معه عىل أن يساعد كل طرف منهام اآلخر‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫الطريق لغرفة أييب‬

‫ﻁﻼﺳﻡ ﺍﺑﻥ ﻋﺑﺩ ﺍﻟﺑﺎﺭ‬


‫ا ملال ك‬ ‫ا أل عو ا ن‬ ‫الطالسم‬ ‫الحرف ا ال سم ا ال سم ا أل يا م ا لكو كب‬
‫ا لعلو ي‬ ‫ا أل ر ضية‬ ‫بالعربية بالرسيانية ا لتي ا لحا كم‬
‫ا لخا د م‬ ‫الخادمني‬ ‫تنا سب عليه‬
‫للحرف‬ ‫للحر ف‬ ‫الحرف‬
‫من ملوك‬
‫الجان‬
‫روقائيل‬ ‫ُمذهب‬ ‫*‬ ‫الشمس‬ ‫أحد‬ ‫للطهطيل‬ ‫فرد‬ ‫ف‬
‫جربائيل‬ ‫ُمرة‬ ‫القمر‬ ‫االثنني‬ ‫مهطهطيل‬ ‫جبار‬ ‫ج‬
‫سمسامئيل‬ ‫األحمر‬ ‫م‬ ‫املريخ‬ ‫الثالثاء‬ ‫قهطيطيل‬ ‫شكور‬ ‫ش‬
‫ميكائيل‬ ‫برقان‬ ‫‪#‬‬ ‫عطارد‬ ‫األربعاء‬ ‫فهطيطيل‬ ‫ثابت‬ ‫ث‬
‫رصفيائيل‬ ‫شمهورس‬ ‫‪///‬‬ ‫مشرتى‬ ‫الخميس‬ ‫نهطتيل‬ ‫ظهري‬ ‫ظ‬
‫عنيائيل‬ ‫زوبعة‬ ‫هـ‬ ‫الزهرة‬ ‫الجمعة‬ ‫جهلططيل‬ ‫خبري‬ ‫خز‬
‫كسفيائيل‬ ‫ميمون‬ ‫زحل‬ ‫السبت‬ ‫لخهططيل‬ ‫زيك‬

‫‪46‬‬
‫رأى ابن عبد البار أن الوقت يسمح له بالوقوف ضد سوجالر والبقية من‬
‫مملكة‬
‫كوشيه‪ .‬اتفق مع مصطفى عىل تجميع الطالسم‪ .‬أخذ ابن عبد البار يضع يديه‬
‫متحسسا‪ ،‬ومصطفى يراقب بشغف حتى وصل ملنطقة وقال‪:‬‬ ‫ً‬ ‫عىل جدار الغرفة‬
‫هنا‪ ...‬هنا‪ .‬علينا أن نزيل هذه النقوش فبخلفها الطالسم‪ ،‬يا فتى‪.‬‬
‫برفق أزال الحجارة التي تبدو كلوحة “موناليزا” بجوانبها نقواش كفن‬
‫الفسيفساء الروماين‪ .‬أخرج ابن عبد البار ورقة تشبه الربدية‪ ،‬أو كالتي أخذها‬
‫مصطفى يوم أن كان يف غرفة الطبيب من لوجني‪.‬‬
‫‪-‬علينا أن نجمع األرقام هنا‪ ،‬ونعرف من حليفنا ومن عدونا‪.‬‬
‫وضع مصطفى األرقام وجمع ابن عبد البار الطالسم يف مخطوطة أخرى‪.‬‬
‫حريصا عىل وضع كل حرف بدقة داخل جدول الطالسم‬
‫ً‬ ‫كان ابن عبد البار‬
‫الذي أعدة خصيصا لهذا األمر‪.‬‬
‫أعطاه مصطفى األرقام التي كان يراها يف كل مكان‬
‫وبدأ كل منهام يحاول أن يصل إىل نتيجة‪.‬‬
‫‪4‬‬ ‫‪9‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪7‬‬
‫‪8‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪6‬‬
‫رأى ابن عبد البار أن يستخدم املالك العلوي حتى يضمن السالمة‪ .‬بينام قال‬
‫مصطفى‪ :‬لو تحالفنا مع أعدائهم‪ -‬يقصد “عدو عدوي صديقي” حتي يصل للمراد‬
‫من خاللهم‪.‬‬
‫رد ابن عبد البار‪ :‬حس ًنا‪ ،‬سرنى األصلح لنا‪.‬‬
‫أضاف مصطفى‪ :‬لو أن رقم ‪ 2‬يساوي يوم اإلثنني‪ ،‬فخادمه يف قرص “ سوجالر”‬

‫‪47‬‬
‫يكون هو “ ُمرة”؛ ولو أن رقم ‪ 7‬يساوي السبت‪ ،‬فخادمه يكون “ميمون”؛ ولو أن‬
‫رقم ‪ 6‬يساوي الجمعه‪ ،‬فخادمه زوبعة”‪.‬‬
‫أعجب ابن عبد البار بذكاء مصطفى مكملاً ‪ :‬ولو نطقناهم بالرسيانية الصحيحة‬
‫ألصبحوا يف قبضتنا‪ .‬وألصبح نصف مجلس العرشة الكبار معنا‪.‬‬
‫‪ -‬ا ًذا فلنستحرضهم اآلن إىل غرفتنا‪ .‬هكذا رد مصطفى عىل ابن عبد البار‪.‬‬
‫‪ -‬فليكن اآلن‪.‬‬
‫جلس ابن عبد البار يف منتصف الغرفة حيث أزال من عىل رأسه الغطاء الذي‬
‫كان يرتديه واضعا يديه عىل ركبتيه متمتماً بالرسيانية‪:‬‬
‫مهطهطيل‬
‫لخهططيل‬
‫جهلططيل‬
‫أقسمت عليكم باألسامء العليا وسيد األسامء العليا أن تحرضوا‪.‬‬
‫أقسمت عليكم برب جربائيل‪ .‬أقسمت عليك برب عنيائيل‪.‬‬
‫أقسمت عليك برب كسفيائيل‪ ..‬تحرضوا‪...‬‬
‫شعر مصطفى بأصوات كصوت خيل يف معركة ال فرار منها‪ ،‬وأن الجو أصبح‬
‫أكرث حرارة مع صوت رياح كرياح الربع الخايل‪.‬‬
‫‪ -‬ما هذا بحق الجحيم‪.‬‬
‫قالها مصطفى فز ًعا مام رأى‪ .‬إال أن ابن عبد البار كان صامدً ا‪ ،‬وكأنه أحرضهم‬
‫من قبل‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫تحدث ُمرة وهو حاكم “القمر”‪ :‬نحن ملك لك‪ ،‬ما دامت الطالسم معك‪ .‬ماذا‬
‫تريد؟‬
‫أجاب مصطفى مرس ًعا‪ :‬رس التحنيط‪.‬‬
‫‪ -‬صه‪ ،‬يا فتى‪ ،‬أرى أنك جننت فلنخرج من هنا أولاً ‪ .‬هكذا أجاب ابن عبد‬
‫البار مرتيثا‪.‬‬
‫‪ -‬الطالسم تعني وجودنا‪ .‬نحن نخدم الطالسم ال نخدم األشياء‪ .‬أضاف” ُمرة”‪-‬‬
‫املتحكم يف القمر‪ -‬هذه الجملة‪.‬‬
‫أجاب ابن عبد البار‪ :‬نعلم ولكم منا األمان‪ ،‬ولنا منكم األمان‪ .‬أماننا ما دمتم‬
‫معنا ال يرضك املالك العلوي‪.‬‬
‫هذا كان أشبه مبعاهدة والجملة السابقة أشبه بنص املعاهدة‪.‬‬
‫‪ -‬أحب هذا‪ .‬بالطبع اإلثارة هي ميزان األشياء‪.‬‬
‫كانت كلامت مصطفى قبل أن يعودوا من النفق إىل سجون كوشيه‪ ،‬ومنها إىل‬
‫قرص سوجالر ثم لغرفة التحنيط‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫برقان خيطف ً‬
‫خالدا وجهادًا‬
‫خطأ فادح يكلف مصطفى وابن عبد البار الكثري من الوقت والجهد‪ .‬نعم لقد‬
‫ذهبا من النفق بدون املسحوق الخفي الذي ما زال يحتفظ به ابن عبد البار يف‬
‫غرفته‪ .‬رآهام “ عنيائيل” الذي كان عض ًوا مهماًّ مبجلس العرشة الكبار‪.‬‬
‫‪ -‬سوجالر‪ ...‬سوجالر‪ ..‬انظر‪ .‬هذا الفتى املختطف‪ ..‬وذاك‪ ....‬ذاك من؟‬
‫‪ -‬إنه ابن عبد البار‪.‬‬
‫وماذا عن باقي مجلس العرشة؟ لقد متكنا من الحصول عىل الطالسم‪ ،‬سيدي‪.‬‬
‫واآلن باقي املجلس يف قبضتهم‪.‬‬
‫صمت سوجالر طويلاً ثم واصل قائلاً ‪ :‬أقرناؤه‪.‬‬
‫‪ -‬أقرناء من‪ ،‬سيدي؟‬
‫‪ -‬أيها األبله‪ ،‬أقصد أصدقاء مصطفى‪ ..‬خالدً ا‪ ،‬وصديقه جها ًدا‪ .‬نختطفهام حتى‬
‫نستطيع أن نلزمهام الحضور لدينا‪ .‬هذا األمر عليك‪ ،‬يا برقان‪.‬‬
‫هكذا كلف سوجالر برقان بخطف أصدقاء مصطفى‪.‬‬
‫تجسد برقان يف هيئة مصطفى‪ ،‬وخرج حتى وصل منزل صديقه خالد‪ .‬قابله‬
‫خالد بكل رسور فر ًحا بعودة مصطفى‪ :‬أين كنت‪ ،‬يا صديقي؟ أفتقدك كثريًا‪.‬‬
‫أجاب برقان‪ :‬وأنا أكرث‪.‬‬
‫‪ -‬أين كنت؟؟؟‬
‫برقان‪ :‬كنت أعد البحث الذي حدثتك عنه‪“ -‬رس التحنيط”‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫‪ -‬ممممممم ستموت باحثًا عن يشء هو رس‪ ،‬يا صديقي‪.‬‬
‫برقان‪ :‬وأين جهاد؟ أفتقده كث ًريا‪ .‬واصل خالد متبسماً ‪ :‬سحقًا لذالك الفتى‬
‫الذي ميتلك أكرث درجات الال ُمباالة يف الكون‪ .‬ما زال يبيع طائرات من الورق‬
‫لألطفال‪ .‬وما زال األطفال يصدقون أن الطائرة تطري ببرتول خفي يدفعون مثنه له‪.‬‬
‫‪ -‬هيا نذهب إليه‪ .‬أضافها برقان بعد أن كاد الحوار أن يطول خشية من أن‬
‫يكشف‪.‬‬
‫واصل املَسري حتى وصل برقان وخالد إىل منزل جهاد‪.‬‬
‫‪ -‬جهااااااد‪ ،‬أين أنت؟ كان خالد ينادي‪ :‬أين أنت‪ ،‬يا فتى؟ لقد وصل صديقنا‬
‫مصطفى بعد رحلة مع بحثه‪.‬‬
‫قميصا رسم عليه أوراق شجر‪.‬‬
‫ً‬ ‫خرج عليهام من رشفة منزله مرتديًا‬
‫ضحك خالد من لون القميص‪ .‬تابع جهاد كعادته‪ :‬وهل قلت لك إنك عصفو ٌر‬
‫لتقف عىل قمييص‪.‬‬
‫‪ -‬ت ًّبا لك‪ ،‬يا رجل‪ .‬لقد افتقدناك‪ .‬أضافها جهاد بعد مقابلته ملصطفى ومعانقته‪:‬‬
‫أين سنذهب؟‬
‫‪ -‬عىل املقهى‪ .‬تبقت معي سبعة عرش جني ًها من الطائرات التي أصنعها‪.‬‬
‫أضاف جهاد‪ :‬سأرشب عىل حسابكام‪.‬‬
‫ضحك خالد‪ :‬أنا موافق‪ .‬أثناء تواجدهم وقبل الوصول إىل املقهى‪ ،‬تحدث‬
‫برقان بلسان مصطفى‪ :‬لقد ضاع بحثي هناك‪ .‬يف الكهف الذي حدثتكم عنه‪.‬‬
‫لنذهب نأيت به أولاً ‪.‬‬
‫“حيث كان مصطفى يدون معلوماته عن الحضارة املرصية واألماكن التي‬
‫يزورها”‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫وصل الثالثة إىل املثلث الجبيل حيث الكهف‪ .‬تقدم برقان يف هيئة مصطفى‪.‬‬
‫الحظ خالد أن ضوء القمر ال يعكس ظل صديقه مصطفى‪ .‬حاول خالد أن يحدث‬
‫نفسه قائال‪ :‬ما هذا الهراء؟ ليس هناك يشء‪.‬‬
‫إال وبعد عرشات األمتار داخل الكهف قال خالد‪ :‬انظر‪ ،‬يا جهاد‪ ،‬انظر‪ .‬إنه‬
‫تابوت‪.‬‬
‫قال برقان‪ :‬حقًا‪ ،‬تابوت املؤرخ‪ .‬وهنا دفنت مخطوطته‪.‬‬
‫جهاد‪ :‬أي مخطوطة‪ ،‬يا صديقي‪ .‬هل هي من الورق؟‬
‫برقان‪ :‬وهل يفيدك إن كانت من الورق أو من غريه‪.‬‬
‫جهاد‪ :‬نعم‪ ،‬إن كانت من الورق‪ ،‬سيزيد دخيل لرمبا لـ ‪ 50‬جنيه بتصنيعها‬
‫لطائرات ورقية‪.‬‬
‫مل يكرتث خالد لهراء جهاد الذي اعتاد عليه‪ .‬مقاط ًعا إياه‪:‬‬
‫‪ -‬وما أهمية املخطوطة‪ ،‬يا صديقي‪ -‬يقصد مصطفى؟‬
‫برقان‪ :‬إنها تحمل طالسم ورموز حضارة بأكملها‪ .‬تحدث عنها أجدادي‪ .‬إنها‬
‫دفنت هنا بالكهف‪ ،‬وال أحد يعرف مكانها تحديدً ا‪.‬‬
‫قاطع جهاد حديثهام‪ :‬دعني أذهب للخالء‪ ،‬يا رجل‪ .‬فالغداء كان به كثري من‬
‫السوائل‪.‬‬
‫ذهب جهاد بعيدً ا مبا ال يقل عن عرشة أمتار‪ ،‬وأدار وجهه لركن الكهف قائلاً ‪:‬‬
‫كعادته ماز ًحا‪ :‬ملاذا مهندس الكهف مل يضع حج ًرا يف هذه الزاوية التي تبدو كوجه‬
‫جديت بعد كرثة التجاعيد‪.‬‬
‫سمع جهاد صوت ريح شديد إال أنه مل يدر وجهه إال بعد أن شعر بحرارة‬

‫‪55‬‬
‫شديدة تقرتب منه‪ .‬نظر إىل الخلف‪ ،‬وحاول أن ال يصدق عينيه‪ ،‬قائلاً ‪ :‬ما هذا‬
‫بحق الجحيم؟ لرمبا تأثري الغداء ما زال مستم ًّرا‪.‬‬
‫ضحك برقان‪ :‬هل انتهيت عن طريقتك البهلوانية‪.‬‬
‫عندها فقط علم جهاد وخالد أنهام كانا مع “جن” وليس صديقهام مصطفى‪.‬‬
‫خاصة بعد أن تأكد له شكوك الظن بأن هذا الذي كان يسري معهام بال ظل؛ أي ال‬
‫يعكس ضوء القمر ظله‪.‬‬
‫لرمبا نظر االثنان لربقان نظرة استسالم عندما كان يحلق بجناحيه أمامهام‬
‫بارتفاع عن األرض ال يتعدى مرتًا واحدً ا‪ ،‬حيث تم اختطافهم بحرفية شديدة‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫لوجني‬
‫‪ -‬مرح ًبا‪ ،‬صاحب الجسد املتقلب والوجه املتلون‪.‬‬
‫‪ -‬أين أصدقاء الفتى؟ تساءل سوجالر بعد انتهاء مهمة برقان بنجاح‪.‬‬
‫أجاب برقان‪ :‬يف الغرفة املقابلة لغرفة الطبيب “أيبي”‪.‬‬
‫‪ -‬حس ًنا سنعرف اآلن ماذا نفعل بهام‪.‬‬
‫أفاق خالد وجهاد بعد وقت طويل يكاد يتعدى ‪ 10‬ساعات‪ .‬نظر جهاد بنصف‬
‫عني بعد أن كان منبط ًحا عىل األرض ُملقى عىل جانبه األيرس‪ ،‬وأمامه خالد ملقى‬
‫عىل جانبه األمين‪ .‬صاح جهاد‪ :‬خالد‪ ...‬خالد‪ ...‬خالد‪.‬‬
‫‪ -‬أين نحن؟ أفاق خالد بلحظات بعده فز ًعا‪.‬‬
‫‪ -‬ال أعلم‪ ..‬ال أعلم‪ .‬ثم نظر إىل جهاد‪ :‬نعم الكهف وأين مصطفى‪ .‬ال مل يكن‬
‫مصطفى‪ .‬مل يكن هو‪ .‬تذكرت‪.‬‬
‫‪ -‬لقد اختطفنا‪ ،‬يا جهاد‪ .‬ذاك الذي مل يكن له ظل‪.‬‬
‫‪ -‬لقد حاولت أن أرشح لك بأن هناك أم ًرا ما يف عدم انعكاس ظله‪.‬‬
‫قاطعه جهاد قائلاً ‪ :‬وهل كان ع ّ‬
‫يل أن أركب له ظل؟ أم أسأله ملاذا ليس لديك‬
‫ظل مثلنا؟‬
‫‪ -‬اصمت‪ ،‬يا جهاد‪ ،‬اصمت‪ ...‬ثرثرتك والال ُمباالة يزيد الطني بلة‪.‬‬
‫عىل الجانب اآلخر مصطفى وابن عبد البار يف طريقهم للقرص ومعهم “ ُمرة”‬
‫الذي أصبح أداة طيعة يف يدهم بعد امتالك الطالسم وفك رموزه‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫وصل مصطفى وابن عبد البار قرب من غرفة الطبيب”أيبي”‪ ،‬وكأن مصطفى‬
‫يرتك شي ًئا مثي ًنا يف هذه الغرفة التي اصبحت جز ًءا من حياته الجديدة هنا‪ .‬وتابعتها‬
‫تنهيدة‪ ،‬وكأن املحب ملن أحب يشتاق‪ .‬ناظ ًرا البن عبد البار يف عفوية قائلاً له‪:‬‬
‫‪ -‬لو أن تنهيدة القلوب تكتب لكانت أوجعتني عشقًا‪ ،‬وأرتويت أملًا‪ ،‬يا لوجني‪.‬‬
‫غضب ابن عبد البار‪ :‬ما زال الشباب ال يزن األمور عىل نصابها‪ .‬فلنذهب‪ ،‬يا‬
‫فتى قبل اكتامل القمر حتى نستطيع أن نقيض عىل سوجالر‪ ،‬ونخرج من هنا‪.‬‬
‫فلو اكتمل القمر ستزداد قوته‪ ،‬ولن نستطيع إيقافه‪.‬‬
‫اختفى مصطفى وابن عبد البار يف ملح البرص حيث كان سادو مير يف الطرقة‬
‫يتفقد الحراس‪ .‬هكذا أخفاهم “ ُمرة” حتى ال يراهم سادو اللعني‪.‬‬
‫وجد نفسه داخل غرفة الطبيب وأمام التابوت‪ ،‬وتذكر مصطفى لحظات أن‬
‫كان ُيرضب وال يكرتث‪ .‬تبسم مصطفى متذك ًرا تلك اللحظات التي برغم مرارها‬
‫إال أنها ذكرى جميلة له‪.‬‬
‫نظر ابن عبد البار ملصطفى قائلاً ‪ :‬سأذهب مع “ ُمرة” لقرص سوجالر‪ ،‬وأنت‬
‫هنا‪ .‬استحرض باقي العشرية بالطالسم التي تركتها معك‪ ،‬ثم اتبعني لسوجالر‬
‫ِ‬
‫ولنقض عليه‪.‬‬
‫‪ -‬حس ًنا‪ ،‬سيدي‪ .‬حفظت من رشورهم‪ .‬أضافها مصطفى مود ًعا ابن عبد البار‪.‬‬
‫فتح باب الغرفة بعد اختفاء ابن عبد البار‪ :‬هذه “لوجني” أتت لتنظف الغرفة‪،‬‬
‫وتحرض أدوات التحنيط حتى يأيت الطبيب “أيبي”‪.‬‬
‫خرج مصطفى إليها من خلف التابوت الذي كان يختبئ عنده‪.‬‬
‫نظرت لوجني إليه نظرة ذهول‪ :‬أ أ أ أنت‪ ..‬أنت؟ أين كنت؟ ومن أىت بك إىل‬
‫هنا؟‬

‫‪60‬‬
‫جلس مصطفى‪ ،‬وقص عليها ما حدث له‪ .‬تبعتها لوجني بابتسامة ثغرها‬
‫كربيق جوهرة قائلة‪ :‬مل أنس ذاك اليوم الذي كدت أن تقتل من الحارس‪ ،‬وكانت‬
‫الرضبات رضبة تتبعها األخرى‪ ،‬وأنت ما زلت ناظ ًرا إ ّيل‪.‬‬
‫ر ّد مصطفى‪ :‬لرمبا خدرت عيناك جروحي‪ ،‬و ُأثلج صدري برؤيتك‪ .‬أتتذكرين‬
‫منك قبل أن أذهب؟‬ ‫قطعة الورق التي تشبه الربدي التي أخذتها ِ‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬لقد حدثت نفيس عنك قائلة‪ :‬من هذا الفتى الغريب؟ وماذا يفعل‬
‫بها؟ حقًا غريب األطوار أنت‪.‬‬
‫قاطعها مصطفى‪ :‬لرمبا كنت هكذا‪ ،‬ألنك سحرتني بعينيك هاتني‪ .‬نظرت‬
‫لوجني لألسفل ب ُحمرة وجه‪ :‬وماذا عن تلك القطعة من الورق‪ ،‬أيها العاشق؟‬
‫أجاب مصطفى‪ :‬هناك يف سجون كوشيه كان الوقت مير ببطء‪ِ ،‬‬
‫وأنت أمام‬
‫عيني مت ّرين مرسعة‪ ،‬يا لوجني‪ .‬حتى كدت أن أمسك الوقت قائلاً ‪ :‬مر أنت كام‬
‫تشاء وقف عند لوجني يك أرتوي‪.‬‬
‫كانت كلامت مصطفى أشبه مبخدر تأخذه لوجني منتظرة ماذا كتب هذا‬
‫املجنون بقطعة الورق‪.‬‬
‫أخرج لها قطعة الورق التي أخذها يوم أن رآها بالغرفة للمرة األوىل قائلاً ‪:‬‬
‫هي ِ‬
‫لك‪ ،‬يا لوجني‪.‬‬
‫نظرت لوجني وكانت بها قصيدة‪ ..‬كتبها حيث سجون كوشيه‪ .‬بدأت لوجني يف‬
‫قراءتها‪ ،‬وكان يشء ما يتحسس قلبها برجفة تشبه رجفة الربد يف شتاء ديسمرب‪.‬‬
‫‪..............................‬‬
‫حبيبتي‪ ،‬هى سيدة تحيك عن ٍ‬
‫ماض يف هذا الزمان‬
‫*******************‬

‫‪61‬‬
‫حبيبتي‪ ،‬هي امرأة تبوح بقصتها من الصغر يف ِحرمان‬
‫*******************‬
‫كانت أُنشُ ودة يف مستهلها بريق ويف خامتتها إنسان‬
‫**************‬
‫حبيبتي‪ ،‬هي رواية جيل يعشق االبتسامة بخجالن‬
‫***********************‬
‫تتحدث ال ب ُعمرها‪ ،‬وتعشق بقلبها وكأنها زهرة البستان‬
‫******************‬
‫تشعر بني أعناقي بطفولتها‪ ،‬وترجف بالنبض يف كل مكان‬
‫***********************‬
‫قصتها تحىك عن سيدة وكأنها ملكة املشاعر وقلبها ريحان‬
‫********************‬
‫ُمدللة بهمسها‪ ،‬أُسطورة النساء بنبضها‪ ،‬فرصنا عشيقني‬
‫*********************‬
‫غيور بطبعها‪ ،‬حنون بوصفها‪ ،‬فقد متحو بحبها بركــان‬
‫********************‬
‫مجنونة حيث أصف حديثها‪ ،‬تتحدث يل‪ d‬وكأننا شــاطئــان‬
‫**************‬
‫السفن سابحة ببحران‬
‫وكأن املاء يسكن ُمنتصف قلبنا‪ ،‬وكأن ُّ‬
‫*******************‬

‫‪62‬‬
‫بحرا يحوي عشقها‪ ،‬وآخر به همسايت تتحدث عنها بال نسيان‬
‫***********‬
‫تُريد املوت يك أتسلق ُسلَّم الحياة‪ ،‬وتعشق الحياة بقلبني‬
‫*****************‬
‫قلبي يك تنصت إليه‪ ،‬وقلبها يك يروي قصة حب بال فقدان‬
‫************‬
‫حبيبتي هي‪ ،‬من نقشت املعاين بأيامي وقالت‪ :‬نحن طائران‬
‫********************‬
‫نعيش م ًعا ‪ ،‬أو منوت م ًعا‪ ،‬فال حياة ملن ترك القلب والوجدان‬
‫****************‬
‫قلب واح ٌد إن نظرت له ترى به جنتني‬
‫فقلوبنا ُملتصقه‪ ،‬وكأنها ٌ‬

‫أضاف مصطفى‪ :‬ليست القصيدة األخرية‪ ،‬يا لوجني‪ ،‬فهناك الكثري‪ .‬أجابت لوجني‪:‬‬
‫كل هذا من لقاء واحد فقط؟ قاطعها مصطفى‪ :‬وهل يوجد مثل عينيك‪ ،‬يا سيديت؟‬
‫أخربيني‪.‬‬
‫ِ‬
‫عينيك‪.‬‬ ‫لوجني‪ :‬مباذا أخربك؟ أخربيني‪ ،‬بسحابة تحمل مط ًرا كلون‬
‫لوجني‪ :‬لرمبا جعلك السجن شاعرا‪ ،‬يا مصطفى‪ .‬أضاف مصطفى‪ :‬هناك قصيدة‬
‫أخرى ما زلت أحتفظ بها‪ .‬قالت‪ :‬أين هي؟ أجاب عىل ظهر الورقة نفسها‪ ،‬سيديت‪.‬‬
‫لرمبا عشقي أضاع برصك‪ .‬قصيديت ِ‬
‫أنت عنوانها‪.‬‬
‫ابتسمت لوجني‪ :‬ونظرت لخلف الورقة وما زال قلبها يخفق من كلامت القصيدة‬
‫‪63‬‬
‫السابقة كفراشة جاءت عىل زهر يف بستان الربيع؟‬
‫متنت لو أن الطبيب “أيبي” لن يأيت اليوم حتي تكتفي مبشاعر هذا العاشق املجنون‪.‬‬
‫هال غادرت األمواج يوما بحارها‬
‫*********************‬
‫أم تساقط الرشاع من السفن ىف ميائها‬
‫***********************‬
‫أسري والقلب يتغاىض عن جروح مثل ضفاف أنهارها‬
‫*************************‬
‫فالعشق وإن ذهب ال يتبقى منه سوى فواح عطرها‬
‫*************************‬
‫والقلب وإن ينبض‪ ،‬مل يشعر به سوى رجف إحساسها‬
‫*************************‬
‫فالصحراء ال زاد بها وال راحلة‪ ،‬فهكذا أكون يف بعادها‬
‫***********************‬
‫هكذا أسري بقلبني‪ ،‬عشق قلبي‪ ،‬ونبض قلبها‬
‫***********************‬
‫كالشجر كانت يف ريحان القلب ومتايل زرعها‬
‫**********************‬
‫كالعشق أنا يف صميم النبض أسري مثل ظلها‬
‫*********************‬

‫‪64‬‬
‫لست بعاشق الجاة‪ ،‬ولكني عشقت قلبها‬
‫********************‬
‫لست مبتقلد مناصب‪ ،‬ولكني تقلدت نبضها‬
‫*********************‬
‫أكون هنا حيث تكون‪ ،‬أتواجد حيث طيفها‬
‫*********************‬
‫ال أتسلق ُّسلم الكربياء‪ ،‬ولكني تسلقت حبها‬
‫*********************‬
‫كفاين عن الشعر تدوين‪ ،‬فهذا يدون لها‬
‫***********************‬
‫وكفاين من القافية طولاً ‪ ..‬فاألوزان تقف يف ميزانها‬
‫*************************‬
‫فقصيديت تتألف من عدة أبيات‪ ،‬وكانت هي عنوانها‬

‫‪ -‬إنه الطبيب أيبي قادم‪ .‬اذهب يا مصطفى حتى ال يراك‪ .‬قالتها لوجني‪ :‬فز ًعا‬
‫بعد سامعها الحارس يعطي التحية عىل باب الغرفة‪ .‬قال مصطفى‪ :‬وملَ أذهب؟‬
‫أنا هنا من أجله‪.‬‬
‫دخل الطبيب‪ :‬لوجـــ يــ نــ‪ .‬من؟ مصطفى؟ لقد ظننت أنك ُقتلت‪ :‬أو أنك‬
‫لن تستطيع الخروج من سجون كوشيه إن كنت ُسجنت‪.‬‬
‫أجاب مصطفى ناظ ًرا إىل أعىل‪ :‬إنني ُقتلت هنا‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫‪ -‬يا بُني‪ ،‬أنا يف حرية من أمرك‪ .‬أخربين كيف ميكن مساعدتك؟ أجاب مصطفى‪:‬‬
‫بعد معرفة رس التحنيط‪ ،‬تكون قد أديت للعامل كل املساعدة‪.‬‬
‫أيبي‪ :‬وماذا لو علم “سوجالر” بأمرنا‪.‬‬
‫أجاب مصطفى‪ :‬ال عليك أنا سأتويل ذلك‪.‬‬
‫كان مصطفى واثقًا من اإلجابة وأيبي مستغربًا ومستنك ًرا هذه الثقة الكبرية‬
‫من أين أىت بها‪.‬‬
‫وافق الطبيب أيبي وال يعرف ملاذا يوافق‪ .‬إال أن شي ًئا بداخله يحدثه عن‬
‫صدق هذا الفتى‪.‬‬
‫‪ -‬إ ًذا سنبدأ العمل‪ ،‬يا فتى‪.‬‬
‫‪ -‬لوجني‪ِ ،‬‬
‫عليك أن تضعي هذا الفتى نُصب عينيك حتى ال يكلفنا األمر الكثري‪.‬‬
‫أجابت لوجني بصوت يحمل الرقة‪ :‬نعم‪ ،‬سيدي الطبيب سأهتم‪ .‬إال أن‬
‫مصطفى شعر بها‪ ،‬وكأنها تقول للطبيب سأضعه بقلبي حتى ال يذهب بعيدً ا‪.‬‬
‫‪ -‬انتبه‪ ،‬يا مصطفى‪ .‬فالخطأ هنا يساوي حياتنا جمي ًعا‪ .‬أنت داخل غرفة‬
‫امللوك‪ ،‬وجميع الجثث هنا ألرسة ملك أو من الكتبة والنبالء‪.‬‬
‫قالتها لوجني متفقدة عينيه التي تبدو بلون القهوة وبريق النجوم‪.‬‬
‫قال الطبيب “أيبي”‪ :‬كاملعتاد‪ ،‬يا لوجني‪ِ ،‬‬
‫عليك عمل فتحه من ‪ 8‬إىل ‪ 12‬سم‬
‫يف الجنب األيرس حتى نخرج األمعاء بشكل سليم‪.‬‬
‫‪ -‬وأنت‪ ،‬يا مصطفى‪ ،‬خذ هذا‪ .‬أعطاه أيبي مطرقة وإزميلاً ‪.‬‬
‫‪ -‬وما هذا‪ ،‬سيدي الطبيب؟‬
‫الطبيب أيبي‪ :‬عليك عمل فتحة بجدار األنف لنصل إىل املخ‪ ،‬ومن خالل‬
‫الفتحة نسحب املُخ بهذه األداة “التي تبدو كسنارة معقوفة”‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫استمر مصطفى بعمل فتحة داخل جدار األنف‪ ،‬وكأنه طبيب ماهر‪ .‬كانت‬
‫لوجني تستخرج األمعاء من الفتحة التي أحدثتها يف الجنب األيرس من الجثة تاركة‬
‫القلب‪ .‬تساءل مصطفى‪ :‬ملاذا ال نخرج القلب؟‬
‫أجاب الطبيب أيبي‪ :‬ألنه مركز الروح والعاطفة‪ ،‬وألنه مصدر الحساب دون‬
‫غريه من األعضاء‪ ،‬وألنه الذي سيعرض عىل اإللهة “ماعت”‪.‬‬
‫‪ -‬إلهة الصدق والعدل‪ .‬أكمل مصطفى عمله قائلاً ‪ :‬يبدو أن القلوب هي من‬
‫تحاسب يا لوجني‪ .‬فعىل قلبي أن يلتزم الصمت بعشقه هذا‪.‬‬
‫كالعادة تبسمت لوجني ب ُحمرة وجه هامسة له‪ :‬إال قلبك أنت‪ .‬رمبا يحاسب‬
‫مرتني واحدة له‪ ،‬والثانية ألنه أرسين‪.‬‬
‫الطبيب أيبي‪ :‬الصمت‪ ،‬يا لوجني‪.‬‬
‫وأنت أيها الفتى‪ :‬خذ هذا‪ .‬كان زيت الصنوبر الذي يتم حقنه عرب األحشاء‬
‫حتى ال تتبقى أي مواد رخوية فيتعفن الجسد‪.‬‬
‫أكمل الجميع عمله يف صمت حتي االنتهاء‪ .‬وطلب منهم الطبيب أن يرتكوا‬
‫الجثة تجفف بوضعها يف “ملح النطرون” الجاف‪.‬‬
‫مصطفى سائلاً الطبيب‪ :‬وملاذا نضعها يف هذا امللح؟‬
‫أجابه حتي يتم استخراج املياه املوجودة داخل الجسم واستخالص الدهون‬
‫وتجفيف األنسجة متاما‪.‬‬
‫ثم جاءت لوجني برمال‪ .‬نظر مصطفى مستغربًا‪ :‬وماذا نفعل‪ ،‬يا لوجني‪ ،‬بها؟‬
‫قالت له راقبني يف صمت‪ ،‬ثم توجهت صوب الجثة‪ ،‬حيث وضعت الرمال بني‬
‫العضل والجلد عن طريق فتحات كانت قد أعدتها لهذا األمر‪.‬‬
‫أعطى الطبيب ملصطفى إناء به قطع شمع العسل‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫مصطفى‪ :‬وماذا أفعل به؟‬
‫الطبيب‪ :‬أكمل‪ ،‬ما بدأته ضعه يف فتحته األنف والفم وأنت‪ ،‬يا لوجني‪ .‬راقبيه‬
‫ثم ضعي الباقي بفتحة البطن‪.‬‬
‫أكمل الطبيب‪ :‬هذا الشمع لسد الفجوات‪.‬‬
‫قد تستغرق عملية التحنيط سبعني يو ًما أو أكرث‪ .‬رأى مصطفى هذا بعينه‪.‬‬
‫كاد أن يحدث نفسه قائلاً ‪ :‬لقد عرف هؤالء رس املواد وأتقنوها‪ .‬ليتهم اخرتعوا‬
‫التلفاز حتى كنا نشاهدهم كام أشاهد اآلن‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫داخل غرفة سوجالر‬
‫اصطحب برقان خالد وجهاد لداخل غرفة سوجالر‪ .‬وقف األخري أمام عرشه‬
‫ممشو ًقا‪ ،‬وكان عرشه شيد عىل مكانة مرتفعة‪ ،‬حيث تسمح له بأن يكون ذا‬
‫قامة أمام من يأيت‪ .‬لرمبا هذا نوع من أنواع االنتصار الذايت لدى سوجالر املمزوج‬
‫بالتكرب والغطرسة‪.‬‬
‫وقف “سوجالر” بيده عصا تشبه عصا سليامن قائلاً ‪ :‬مرح ًبا بكام يف غرفة امللك‬
‫سوجالر وحرضة اإللهة جوتار‪ .‬أنتام معنا هنا حتى تنتهي قصة صديقك‪ .‬كان‬
‫سوجالر موج ًها كلامته لخالد‪.‬‬
‫خالد‪ :‬أي صديق تقصد؟‬
‫سوجالر‪ :‬مصطفى‪ ،‬أيها الفتى‪ .‬قاطعه جهاد‪ :‬وماذ تريد منه؟‬
‫سوجالر‪ :‬نريد فقط مخطوطة املؤرخ‪ ،‬وكل يشء ميتلكه ابن عبد البار عن‬
‫طالسم القرص؟‬
‫‪ -‬ابن عبد البار لرمبا وصلنا يف نهاية األمر‪ ،‬يا خالد‪.‬‬
‫قالها جهاد مستنك ًرا حديث سوجالر ألنه ال يعرف من ابن عبد البار وعن أي‬
‫يشء يتحدث “سوجالر”‪.‬‬

‫وصل ابن عبد البار ومعه “ ُمرة” أمام غرفة سوجالر‪ .‬كان ابن عبد البار يتلو‬
‫الطالسم حتى تنسج له هالة كهرومغناطيسية ليك تحميه من سوجالر إذ فكر يف‬
‫إيذائه‪ .‬واصل ابن عبد البار الحديث لـ “ ُمرة”‪:‬‬

‫‪71‬‬
‫‪ -‬نحن بحاجة إىل مصطفى‪ .‬األرقام وكل يشء معه‪ .‬أنا ال أتذكر الكثري‪.‬‬
‫أجاب “ ُمرة”‪ :‬سيكون هنا اآلن‪.‬‬

‫عىل الجانب اآلخر‪ ،‬كانت لوجني تحرض لفائف أربطة كتانية للمومياء‪ ،‬وقد‬
‫أعطت ظهرها ملصطفى‪ ،‬ألن صندوق املستحرضات كان باملقابل‪.‬‬
‫‪ -‬انظر‪ ،‬يا مصطفى‪ .‬هذه لفائف كتانية نحفظ بها الجسد بعد وضع شمع‬
‫العسل والتجفيف حتى ال تدخل أي حرشات عن طريق الفتحات‪ .‬أظن أنك‬
‫تعاملت معنا كطبيب ماهر‪.‬‬
‫كادت أن تكمل حديثها إال أن الصمت يسود املكان‪ .‬التفتت باحثة عن‬
‫مصطفى مل تجده‪.‬‬
‫قد أخذه “ ُمرة”‬
‫نظر مصطفى البن عبد البار‪ :‬قد أخذت جسدي وتركت قلبي هناك‪ ،‬يا جدي‪.‬‬
‫قالها كعاشق ولهان مبتسماً ‪.‬‬
‫نظر إليه “ ُمرة” قائلاً ‪ :‬لرمبا هذة العاطفة هي الفارق بيني وبينكم‪.‬‬
‫قاطعهم ابن عبد البار‪ :‬علينا أن نستحرض الطالسم جيدً ا‪ ،‬يا فتى‪ ،‬وأن نحصل‬
‫عىل عصا سوجالر املجوفة‪ .‬فقد سمعت عجوز كوشيه يو ًما تقول إن لديها طالسم‬
‫تساوي حياة سوجالر‪.‬‬
‫دخل مصطفى وابن عبد البار ومرة الباب حتى كاد أن ينخلع الباب من‬
‫مكانه‪.‬‬
‫كان سوجالر أمامهم وخالد وجهاد ناظرين باتجاه سوجالر‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫رضب مصطفى الباب بكل ما ميتلك من قوة حتى فتح عىل مرصاعيه‪.‬‬
‫لقد فزع الجميع من كرس باب الغرفة الخاصة بسوجالر‪ ،‬ومن يجرؤ عىل فعل‬
‫هذا؟‬
‫ويف حالة من السكون تحدث جهاد لصديقه خالد معج ًبا مبصطفى‪ “ :‬دي‬
‫داخلة حكومه”‪.‬‬
‫سمع مصطفى هذه الجملة‪ ،‬وبالطبع عرف من املتحدث‪ .‬وعىل قدر فرحه‬
‫بلقاء أصدقائه عىل قدر حزنه بأن الجميع يف ورطة حقيقية‪.‬‬
‫نظر مصطفى إىل أصدقائه والبن عبد البار‪ :‬مصطفى‪ ..‬جهاد‪ ..‬ماذا تفعالن؟‬
‫من أىت بكام وكيف؟‬
‫قاطعة برقان‪ :‬يا رجل‪ ،‬كام أتيت بك إىل هنا‪ .‬عليك احرتام قدرايت‪.‬‬
‫عقَّب ابن عبد البار‪ :‬وهل لديك القدرة عىل فعل يشء اآلن؟‬
‫كان يقولها بثقة‪ ،‬نظر سوجالر إليه متبسماً خائفًا وماذا متتلك أنت وهذا‬
‫األبله‪ ،‬يا ابن عبد البار؟‬
‫بالطبع جهاد قال‪ :‬أشكرك‪ ،‬فالجميع يناديني هكذا‪.‬‬
‫قاطعه مصطفى‪ :‬كف عن مزاحك‪ .‬سنموت‪ ،‬يا أبله‪ .‬إنه يقصدين أنا‪ ،‬ومن‬
‫يعرفك هنا؟‬
‫نادى سوجالر يف الجميع قائلاً ‪:‬‬
‫‪ -‬أحرضوا لنا سجون كوشيه الخلفية‪ -‬يقصد سجون تحت األنفاق‪ ،‬وهي أسوأ‬
‫أنواع سجون كوشيه عىل اإلطالق‪.‬‬
‫جاء سادو ومعه الحراس‪ .‬ألقوا القبض عليهم مشريًا بالسبابة إىل مصطفى‬

‫‪73‬‬
‫ومن معه‪ .‬إال أن “ ُمرة” فاجأ مجلس العرشة بوقوفه وانضامه لهم‪ .‬نظر سوجالر‬
‫إليه قائال‪ :‬يبدو أنك مل تكن معنا من البداية‪ ،‬يا “ ُمرة”؟‬
‫أجابه‪ :‬أنا مع من ميتلك الطالسم‪.‬؟‬
‫شخص برص سوجالر ألنه يعلم أن الطالسم هي رس قوة من ميتلكها‪.‬‬
‫واذا برضبة قوية من ُمرة كانت كافية بسقوط سوجالر من أعىل عرشه ألسفل‬
‫مكان بغرفته‪ .‬تابعتها رضبات خالد ومصطفى وجهاد للجميع‪.‬‬
‫إال أن عبد البار كان يرتل الطالسم حتى ينسج لهم هالة كهرومغناطيسية‬
‫تحميهم من مجلس العرشة‪ .‬سقطت عصا سوجالر أمام جهاد‪ ،‬الذي بدوره أخذ‬
‫يرضب بها كل من أمامه حتى أصدقائه‪ ،‬وكأنه دخل يف حالة هيسرتيا؛ حتى وقع‬
‫الغطاء الذي كان بالعصا وظهر التجويف‪ .‬كادت العصا أن تؤخذ منه إال أن خالدً ا‬
‫التقطها وهي يف الهواء‪ ،‬وأخذ ما كتب بداخلها‪.‬‬
‫وأعطاه البن عبد البار الذي بدأ يربط األمور ببعضها ويجمع الطالسم‪ ،‬حيث‬
‫امتلك القوى الكاملة‪ ،‬وامتلك قوة القرص‪ ،‬والجميع أصبح أداة طيعة يف يده‪.‬‬
‫قائل ‪ :‬لقد نجحنا‪ ...‬لقد نجحنا‪.‬‬
‫نظر خالد فر ًحا إىل إبن عبد البار ً‬

‫يف تلك األثناء ظهر عىل سوجالر ومن معه الضعف‪ ،‬حيث كاد العظم أن‬
‫يخرج من الوجوه لضعفهم وافتقارهم للقوى التي كانوا يتمتعون بها‪.‬‬

‫يف هذا املوقف املَهيب‪ ،‬قاطع الجميع صوت “جهاد”‪:‬‬


‫‪ -‬يا حرااااس‪ ،‬أعدوا سجون كوشيه لهذا األبله‪.‬‬
‫ضحك مصطفى وابن عبد البار‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫‪ -‬وماذا تعرف عن سجون كوشيه يا جهاد؟‬
‫أجاب‪:‬‬
‫‪ -‬أنا ال أعرف إال طائرات الورق ال أكرث‪ ،‬لكني أعجبت بطريقته‪ ،‬وهو يقولها‪،‬‬
‫فحاولت تقليده فقط‪.‬‬

‫يف هذه األثناء‪ ،‬تذكر مصطفى كلمة الطبيب “أيبي”‪ :‬يا فتى‪ ،‬سوف يحدق بك‬
‫الجميع فاجعل األمر يستحق‪.‬‬
‫خرج مصطفى من غرفة سوجالر سابقًا وابن عبد البار الحقًا متج ًها إىل غرفة‬
‫الطبيب أيبي‪ .‬كان مصطفى يسري والفرح ميأل قلبه‪ ،‬ألنه سيخرب لوجني بأنه أصبح‬
‫من أصحاب القوى العظمى هنا‪ ،‬وأن ال أحدً ا يستطيع منعه من مقابلتها‪.‬‬
‫واصل مصطفى املسري حتى وصل إىل باب الغرفة غري طارق للباب فات ًحا إياه‪.‬‬
‫لقد كانت الغرفة خاوية ال يشء بها‪ .‬ال الطبيب ال لوجني ال تابوت ال يشء‪....‬‬
‫‪ -‬أين؟ أين لوجييييييييييييييني؟ أين لوجني؟‬
‫نادى عىل الحارس الذي بدوره أنصت لحديث مصطفى‪ ،‬ألن القوى كانت‬
‫تظهر عليه‪.‬‬
‫‪ -‬أين لوجيييني‪ ،‬أيها األحمق؟‬
‫أجاب الحارس‪ :‬لقد اختطفت من أتباع سوجالر‪.‬‬
‫‪ -‬ومن أتباع سوجالر؟ قالها مصطفى والدموع يف عينيه موج ًها رضبات‬
‫للحارس‪ :‬تحدث‪ ..‬تحدث‪...‬‬
‫أجاب الحارس وهو يقطر د ًما‪ :‬كان “ميمون” ومعه عديد من الحراس‪.‬‬
‫تابع مصطفى‪ :‬ميمون من مجلس العرشة الكبار؟ وأين ذهب؟‬

‫‪75‬‬
‫أجاب الحارس‪ :‬ال أعرف‪.‬‬

‫مصطفى والبحث عن لوجني‬


‫رجع مصطفى إىل ابن عبد البار وأصدقائه‪ ،‬وأخرب ابن عبد البار مبا حدث وهو‬
‫يف حرية من أمره‪.‬‬
‫‪ -‬يا بني‪ ،‬وملاذا تهتم بها لهذه الدرجة‪ .‬لقد نجحنا وسيطرنا عىل القرص‪ ،‬ومل‬
‫يتبق لنا سوى أيام قليلة ولنخرج من هنا‪.‬‬

‫قاطعه بصوت شجي يكاد يختنق بالدموع وبأوداج منتفخة‪ :‬أنا لن أذهب إال‬
‫بلوجني‪ .‬لن أذهب لن أذهب‪ .‬تابعه صديقه خالد بعناق‪ ،‬وحاول جهاد أن يهدئه‬
‫مبزاحه املعتاد‪(:‬ال تقلق‪ ،‬يا عنرت‪ ،‬سنجد عبلة)‪ .‬ضحك مصطفى والدموع يف عينيه‪.‬‬
‫أجابه ابن عبد البار‪ :‬اآلن‪ ،‬علينا إدارة القرص بهذه الطالسم‪ .‬وأشار للعىص‬
‫وللمخطوطة التي كانت معه‪ .‬نظر مصطفى إىل ما بيده حيث كان أول مرة يرى‬
‫هذه املخطوطة‪ .‬تبدو بشكل غري مألوف له‪ :‬وما هذه املخطوطة؟ مل أرها معك‬
‫من قبل‪.‬‬
‫قال له‪ :‬يا ولدي‪ ،‬قبل أن آيت إىل هنا‪ ،‬قابلت ساح ًرا كاد أن يتوب‪ ،‬ولكنه يريد‬
‫أن ينتقم من عامل الجان‪ ،‬لذا أعطاين إياها بعد علمه أنني أمتلك طالسم تشبهها‬
‫قائلاً ‪ :‬ستحتاجها يوما ما‪.‬‬

‫أخرجها ابن عبد البار وأعطاها ملصطفى‪ ..‬ناظ ًرا إليها بتعجب‪ .‬لقد رسمت بها‬
‫أنفاق كثرية وحروف وطالسم يف وسطها نجمة سداسية‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫‪ -‬ما هذا؟‬
‫‪ -‬حقًا‪ ،‬إنها طالسم مل متر عىل برصي من قبل‪.‬‬
‫نظر خالد إىل املخطوطة يتابعه جهاد من خلفه‪.‬‬
‫‪ -‬لرمبا يقصد بالنجمة هذه كوكب ما‪ .‬قالها خالد‪.‬‬
‫قاطعه جهاد‪ :‬ولرمبا هذه النجمة هي غرفة كبري امللوك هنا‪ .‬أعطني إياها‪ ،‬يا‬
‫صديقي‪ .‬فأنا مل أصنع طائرات ورق منذ أن قدمت لهذا املكان العبثي‪ .‬قالها جهاد‬
‫الذي لرمبا كاد خالد أن يرسل له رضبة بوجهه حتى يصمت لألبد‪.‬‬
‫قاطعه مصطفى‪ :‬نعم‪ ،‬هي يا جهاد‪ .‬نعم هي‪.‬‬
‫‪ -‬أتقصد الطائرة‪ ،‬يا صديقي‪ ...‬أي طائرة‪ ،‬يا معتوه؟‬
‫‪ -‬النجمه هي الغرفة السداسية‪ .‬واألنفاق هي سجون كوشيه الخلفية‪.‬‬
‫رأى ابن عبد البار أن حديث األبله هذا صائب‪ .‬قائلاً ‪ :‬رب ضارة نافعة‪ ،‬يا بني‪.‬‬
‫فلنعدَّ العدة للذهاب إىل هناك‪.‬‬
‫قاطعه خالد‪ :‬رمبا يكلفنا األمر كثريًا‪ ،‬يا صديقي‪ .‬دعنا نعد من حيث أتينا أو‬
‫من حيث اختطفنا؟‬
‫مصطفى‪ :‬ورمبا يكلفني ترك لوجني أكرث‪ ،‬يا رفيقي‪.‬‬
‫‪ -‬يا صديقي‪ ،‬ومن منا ال يعرف الحب؟ ومن منا يسري بدون قلبه؟ يا صديقي‪،‬‬
‫لو قالوا يل قبل صداقتك إنك مريض لدعوت الله لك فقط‪ ،‬ولكن لو قالوا يل اآلن‬
‫لتقطع قلبي عليك‪ .‬رمبا خالد تفهم ما يقصده مصطفى بأن لوجني أصبحت جز ًءا‬
‫كبريًا ومهماًّ من وجوده فقط بعد رؤيتها‪.‬‬
‫اتفق ابن عبد البار عىل الذهاب هو وخالد من طريق‪ ،‬بينام مصطفى وجهاد‬
‫من طريق آخر‪ .‬لرمبا اختار ابن عبد البار خالدً ا ألنه أكرث هدو ًءا وثباتًا‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫التفت ابن عبد البار ملصطفى‪ :‬يا بني‪ ،‬هذه من أجلك‪ ،‬فحافظ عىل نفسك‬
‫من أجلنا‪.‬‬
‫عانق ابن عبد البار مصطفى‪ ،‬وكأنها لحظات وداع‪ .‬دمعت عينا مصطفى وكان‬
‫ابن عبد البار أن يذرف دمعه إال أنه تظاهر بالصالبة والتامسك قائلاً ‪ :‬إن حدث‬
‫يل يشء‪ ،‬فخذين معك ألرض الفريوز‪ .‬ففيها ولدت ومنها ترعرعت‪ .‬فاجعل ترابها‬
‫غطاء وسرتا لجسدي‪ -‬يقصد أن يدفن بها‪.‬‬
‫التفت خالد‪ :‬دع عنك هذا‪ ،‬فسنعود يا صاحب الوجه امليضء‪.‬‬

‫سلك مصطفى طريق األنفاق الخلفي‪ ،‬بينام سلك ابن عبد البار طريق القرص‪،‬‬
‫ومنه ألسوار كوشيه‪ ،‬ومن كوشيه لغرفة العجوز بها نفق مخترص لألسفل‪.‬‬
‫كان ابن عبد البار ميتلك قوة الطالسم التي متكنه من الذهاب يف طريق‬
‫كوشيه وال أحد يستطيع التعرض له‪.‬‬
‫دخل مصطفى ومعه جهاد الذي سأل بطبعه عن “ ُمرة” قائلاً ‪ :‬وأين ذاك الذي‬
‫يشبه “أفاتار”؟‬
‫رد مصطفى‪ :‬سيتبعنا يف الوقت املناسب‪ .‬فلديه قدرة كبرية عىل قطع مئات‬
‫الكيلومرتات يف دقائق‪.‬‬
‫‪ -‬وهل كان أرسع من طائريت الورقية‪ ،‬يا رفيقي؟ قالها جهاد ماز ًحا‪.‬‬
‫أجابه مصطفى متبسماً ‪:‬‬
‫‪ -‬ذكرين بأن نرتكك هنا بعد أن نجد لوجني‪.‬‬
‫واصل مصطفى السري‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫ويف الطريق وجد اثنني من حراس السجون يقفان يف منتصف الطريق وكأنهام‬
‫يحرسان شي ًئا ما‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا نفعل‪ ،‬يا رفيقي؟ قالها جهاد‪.‬‬
‫مصطفى‪ :‬ال تقلق‪ .‬سنصنع أشعة كهرومغناطيسية من الطالسم‪ ،‬ولكن ابق‬
‫بجواري وال تبتعد يك تشملك األشعة ونستطيع املرور‪ .‬بالفعل صنع مصطفى‬
‫األشعة التي مل ِّ‬
‫تغط ذراع جهاد اليرسى‪ ،‬فرضبه الحارس رضبة أوجعته وكادت أن‬
‫تخلع كتفه‪ .‬إال أن مصطفى وجه له رضبة بقوة اندفاع كهرومغناطيسية قضت‬
‫عليه‪ .‬حني رأى الحارس اآلخر ما حل بصديقه فهرب متا ًما‪.‬‬
‫وصال إىل نهاية النفق‪.‬‬
‫‪ -‬أين الغرفه؟ مل منر بها‪.‬‬
‫جهاد‪ :‬وما هذا الباب؟ أجاب مصطفى‪ :‬لرمبا باب الغرفة‪ ،‬يا رفيقي؛ أو إنه‬
‫نهاية النفق والطريق‪ .‬خيش مصطفى أن يخرج من الباب الذي كان أعىل رأسه‬
‫خوفًا من مواجهة العدد الكثري من الحراس والطالسم ال تنسج مجالاً مغناطيس ًّيا‬
‫بهذا القدر يغطي مساحات واسعة‪ .‬فمصطفى يعتمد عىل املجال املمغنط الذي‬
‫يشمل املكان فيعطيه قوة مضاعفة‪ ،‬ويأخذ من قوتهم يف حال املجال شمل عدد‬
‫األفراد املتواجدين‪.‬‬
‫الحظ مصطفى عىل ذراع جهاد من أعىل عالمة تشبه الوشم لنجمة سداسية‪.‬‬
‫‪ -‬ما هذا‪ ،‬يا جهاد؟ أجاب‪ :‬ال أعرف‪ ..‬ال أعرف‪ .‬سأموت‪ ،‬يا صديقي‪ ،‬سأموت‪.‬‬
‫مصطفى صارخًا يف وجهه‪ :‬لن متوت‪ ،‬أيها األحمق‪ ،‬قبل أن تقتلنا جمي ًعا‬
‫بترصفاتك الصبيانية‪.‬‬
‫ثم سأله‪ :‬ماذا كان يحمل الحارس؟ أجاب‪ :‬عصا‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫مصطفى‪ :‬أعلم أنها عصا‪ .‬ماذا كان بالعصا؟‬
‫‪ -‬كان بأسفلها عالمة تشبه النجمة السداسية‪.‬‬
‫‪ -‬هي هناك‪ ،‬هي هناك‪ -‬يقصد الغرفة التي وجدت بالطالسم‪ .‬قالها مصطفى‬
‫وهو يجر جهاد من يده مرس ًعا ليعودا ملنتصف النفق‪.‬‬
‫جهاد‪ :‬دعني أنهض‪ ،‬ثم نذهب‪ .‬ال أستطيع أن أذهب زاحفًا‪ ،‬فلست من‬
‫الربمائيات‪.‬‬
‫رصخ مصطفى يف وجهه غاض ًبا‪ :‬انهض‪ ،‬يا أبله‪ ،‬وإال تركت لسجون كوشيه‪.‬‬
‫هناك يف منتصف النفق‪ ،‬يبحث مصطفى عن أي مخرج‪ .‬ال يوجد‪ ..‬ال يوجد‪.‬‬
‫يائسا‪ :‬أين ِ‬
‫أنت‪ ،‬يا لوجييييني‪ .‬ورضب بقدمه الحجر الصغري‬ ‫رصخ مصطفى ً‬
‫الذي كان ساندً ا إىل الجدار‪ .‬وقع الحجر وظهرت قطعة حديدية حجمها مثل‬
‫كف اليد يف وسطها النجمة السداسية‪ .‬ضغط مصطفى عليها ففتح باب مبنتصف‬
‫الهرم بالجهه الرشقية‪ .‬دخل وتابعه جهاد الذي كان ينظر إىل كل يشء من حوله‪.‬‬
‫واصل مصطفى السري وال يعرف أين يذهب‪ .‬هو فقط يبحث عن لوجني محدثًا‬
‫نفسه‪ :‬هل هذا عشق أم جنون؟ أم أن تلك العيون التي تشبه قطرات الغيث من‬
‫السامء أخذته لطريق ما؟ كلها اشياء تذكرها مصطفى وهو يسري وكأنه يتذكر يوم‬
‫أن قبض عليه سادو ذاه ًبا لغرفة سوجالر‪ .‬ولكن كان مصطفى ال يرى شي ًئا إال‬
‫لوجني‪ ،‬حتى أن رس التحنيط وهو الهدف األسايس مل يعد مول ًعا به إال إذا وجد‬
‫لوجني‪ .‬لرمبا تعلم من الطبيب أيبي ألجلها؛ لرمبا كتب الشعر أيضً ا ألجلها‪.‬‬

‫قطع تفكريه الخيايل جهاد‪ :‬يا صديقي‪ ،‬اختبئ‪ .‬هناك الكثري من الحراس‪.‬‬
‫توقف مصطفى يفكر‪ :‬ماذا يفعل طال ًبا من جهاد العصا‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫‪ -‬أي عصا‪ ،‬يا صديقي؟‬
‫‪ -‬عصا سوجالر‪ .‬قالها مصطفى وهو يجز عىل أسنانه‪:‬‬
‫تركها هذا األبله قبل الدخول من الغرفة الرسية للنفق‪ .‬كان مصطفى يريد‬
‫استحضار “ ُمرة” ملساعدته‪.‬‬
‫كاد مصطفى أن يجن جنونه‪ .‬ماذا يفعل؟ الطالسم لن تنفعه مع هذا العدد‬
‫الكبري‪ .‬جلس واض ًعا رأسه عىل جدار النفق مفك ًرا‪ :‬ماذا يفعل؟ وكيف يصل البن‬
‫عبد البار وصديقه خالد أو “ ُمرة”‬
‫األمر أصبح أكرث خطورة‪.‬‬
‫نظر مصطفى إىل جهاد ناد ًما‪ .‬مل يلتفت جهاد وقام بإخرج كرة صغرية من‬
‫جيبه عليها خيوط متكاثفة‪.‬‬
‫‪ -‬ما هذا‪ ،‬يا جهاد؟‬
‫أجابه‪ :‬ال يشء‪ .‬لقد جذبني لون خيوطها األرجوانية عندما رأيتها يف غرفة‬
‫سوجالر عند اختطايف أنا وخالد‪.‬‬
‫‪ -‬أرين إياها‪.‬‬
‫أخذها مصطفى وبدأ يف إزالة الخيوط من عليها حيث وجد بآخرها مسحو ًقا‪.‬‬
‫إنه املسحوق السحري‪ .‬كانوا يستخدمونه يف عملية التحنيط لحفظ الجثث أكرث‪.‬‬
‫فرح مصطفى قائلاً ‪ :‬سنمر بسالم من الحراس‪ .‬بالطبع جهاد ال يعرف شي ًئا عن ما‬
‫يتحدث عنه مصطفى‪.‬‬
‫‪ -‬وكيف نمً ُر‪ ،‬يا رفيقي؟‬
‫أجابه مصطفى‪ :‬هذا مسحوق أنا أعرفه جيدً ا‪ .‬لديه القدرة عىل إخفاء الجسد‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫هيا يك نذهب‪ .‬إال أن مصطفى ُصدم‪ ،‬حيث إن املسحوق ال يكفي إال واحد‬
‫فقط‪.‬‬
‫ماذا يفعل؟ وكيف مير؟‬
‫‪ -‬ال تقلق‪ ،‬يا صديقي‪ ،‬أنا سأتوىل أمر نفيس‪ .‬اذهب أنت‪.‬‬
‫قالها جهاد‪ .‬ابتسم مصطفى ساخ ًرا‪ :‬كيف وأنت تركت بنت أخيك الرضيعة‬
‫ره ًنا للد ّراجة التي كنت تستأجرها‪ .‬اصمت‪ .‬اصمت‪ ،‬يا أبله‪.‬‬
‫‪ -‬سأتوىل أنا حامية نفيس ببعض الطالسم التي أمتلكها‪ ،‬وأنت ضع هذا‬
‫املسحوق عىل جسدك‪ .‬وكن متذك ًرا هذا املسحوق يخفي الجسد‪ .‬فال أحد من‬
‫الحراس يراك‪ - .‬عليك مساعديت إن حدث يل مكروه‪.‬‬
‫‪ -‬ال تخف وتذكر أن ال أحد يراك إال أنا‪.‬‬
‫كاد جهاد أن تظهر عىل مالمح وجهه الخوف إال أن مصطفى طأمنه‪.‬‬
‫‪ -‬لن يراك اال إنسانًا مثلنا‪ .‬هل تفهم؟‬
‫أخريًا تفهم جهاد املوقف‪ .‬ذهب مصطفى إىل الساحة التي تؤدي إىل الغرفة‬
‫السداسية‪ ،‬ومن خلفه جهاد‪.‬‬
‫أوقفه حارس‪ :‬أين تذهب يا هذا؟ قال مصطفى‪ :‬معي رسالة‪ ،‬سيدي‪ ،‬من‬
‫سجون كوشيه العلوية إليكم هنا يف سجون كوشيه السفلية‪.‬‬
‫‪ -‬ملن هذه الرسالة؟‬
‫قال‪ :‬ال أستطيع ان أخربك ألنها أمر خاص‪ .‬إال أن الذي أرسلتها هي ملكة‬
‫كوشيه “السيدة العجوز”‪.‬‬
‫أذن له الحارس باملرور مرتق ًبا هيئته الغريبة‪.‬‬
‫واصل مصطفى السري ومن خلفه جهاد‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫‪ -‬حس ًنا‪ ،‬يا صديقي‪ .‬ملاذا أوقفك هذا الحارس؟‬
‫غريب عن مجتمعهم‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫أجابه مصطفى‪ :‬ألنني‬
‫غريب؟‬
‫ٌ‬ ‫‪ -‬وملاذا مل يوقفني وأنا أيضً ا‬
‫متني مصطفى لو أن لديه سكي ًنا حا ًّدا ليقتل به هذا األحمق صانع الطائرات‬
‫الورقية حتى يقيض عىل الال ُمباالة التي ميتلكها‪.‬‬
‫أكمل مصطفى السري حتى وصل إىل باب الغرفة السداسية‪.‬‬
‫سأله الحراس‪ :‬ماذا تريد‪ ،‬يا فتى‪ ،‬بهيئتك الغريبة هذه؟ أجابهم‪ :‬أنا من‬
‫خارج أرض كوشيه السفىل‪ ،‬وجئت لكم برسالة من ملكة كوشيه العليا “السيدة‬
‫العجوز”‪.‬‬
‫‪ -‬إ ًذا‪ ،‬انتظر هنا قليلاً حتى نخرب سيدي “شمهورش”‪.‬‬
‫انتظر مصطفى بالخارج‪ ،‬وكان يقول لنفسه‪ :‬لو أن هذا األبله الذي يرافقني‬
‫متتع بقدر من الذكاء يف هذه اللحظات‪ .‬وكأن جهاد سمع ما يجول بخاطر مصطفى‬
‫فحدثه بهمس‪ :‬لوجني ليست بهذه الغرفة‪.‬‬
‫قال له مصطفى‪ :‬أنا سأختبئ بعيدً ا‪ ،‬وحاول أن تنصت لهم حتى تتعرف عىل‬
‫مكانها‪.‬‬
‫خرج الحارس باحثًا عن الفتى إال أنه اختفى‪.‬‬
‫عندما فتح الباب‪ ،‬دخل جهاد للغرفة السداسية‪ ،‬ووجد عرشً ا يشبه عرش‬
‫جالسا معه بعض‬
‫سوجالر إال أن موضعه ليس مرتف ًعا‪ .‬حيث كان “شمهورش” ً‬
‫قادة السجون؛ يتحدث يف أمر سوجالر وما حل به من ابن عبد البار وهذا الفتى‪.‬‬
‫إال أن قاطعه بعض الحضور‪ :‬وماذا نفعل بالطبيب واملساعدة؟‬
‫أجابهم ‪ :‬أطلقوا رساح أيبي فال حاجة لنا به‪ ،‬وشددوا الحراسة عىل الغرفة‬

‫‪83‬‬
‫‪ 816‬حيث املساعدة‪ -‬يقصد مساعدة الطبيب‪ .‬فنحن بحاجة إىل عصا سوجالر‬
‫التي اختطفها هذا الفتى‪.‬‬
‫عىل الجانب اآلخر ابن عبد البار مصطح ًبا خالد فقد قطعوا مسافة كبرية‬
‫من املسري وهام ال يعرفان أين يذهبان‪ .‬أخرج ابن عبد البار الطالسم‪ ،‬واستحرض‬
‫“ ُمرة” قائلاً ‪ :‬أين مصطفى وصاحبه؟ ابحث لنا عنهام‪.‬‬
‫دقائق وعاد “مرة”‪ :‬هام يف سجون كوشيه السفلية حيث “شمهورش”‪.‬‬
‫‪ -‬فلنذهب إىل هناك‪ .‬تابع خالد‪ :‬وهل مصطفى بخري؟ أجابه “ ُمرة”‪ :‬لآلن‬
‫بخري‪ .‬علينا اللحاق به حتى ال يصيبه أي مكروه‪ .‬إال أن “ ُمرة” أوقفهم قائلاً ‪ :‬عصا‬
‫سوجالر ما زالت عالقة يف منتصف النفق الذي سلكه مصطفى وصاحبه‪.‬‬
‫عرف خالد أن صديقه جهاد هو الذي فقدها يف منتصف الطريق‪ .‬ذهب‬
‫الجميع للحصول عىل العصا‪ ،‬ألنها متثل لهم أهمية وقوى كربى إال أن ابن عبد‬
‫البار قال لــ “ ُمرة” استحرض لنا العصا أولاً حتى ال يأخذها غرينا‪ .‬حس ًنا أكمل‬
‫انت وهذا الفتى الطريق املخترص لسجون كوشيه السفىل‪ ،‬وأنا سأجلبها لك‪.‬‬
‫خيش ابن عبد البار أن يحصل “مرة” عىل العصا ويستغلها لصالحه‪ .‬إال أن “ ُمرة”‬
‫أيضً ا كان يحتاج ابن عبد البار ألن دائرة الطالسم ال تكتمل إال به‪ .‬هذا ما طأمن‬
‫ابن عبد البار قليلاً ‪.‬‬
‫حصل “مرة” عىل العصا‪ ،‬ووصل ابن عبد البار وخالد ألسوار كوشيه‪ .‬التحق‬
‫بهام “ ُمرة” وجده ابن عبد البار قائلاً ‪ :‬أنت األن مصدر ثقة كبرية‪ .‬ابتسم خالد‬
‫قائلاً ‪ :‬علينا أن نجد الرفقاء‪.‬‬

‫‪84‬‬
85
‫الغرفه ‪ 816‬سجن كوشيه السفلي‬

‫علم جهاد مبا يدور‪ .‬خرج عندما فتح الباب مرس ًعا يبحث عن مصطفى‪ .‬وصل‬
‫إىل ساحة السجون املكشوفة “الساحة الخارجية”‪ .‬وجد مصطفى يحاول الهروب‬
‫من الحراس بإخفاء وجهه‪.‬‬
‫‪ -‬يا صديقي‪ ،‬لوجني يف الغرفة ‪ .816‬قالها جهاد لصديقه الذي وقف قليلاً‬
‫يتذكر هذا الرقم قائلاً ‪ :‬إنها الغرفة نفسها يف سجون كوشيه العلوية‪.‬‬
‫طلب من جهاد أن يبحث عن الغرفة جيدً ا واملداخل املؤدية إليها‪ ،‬ثم ذهب‬
‫مصطفى مختب ًئا بعيدً ا عن الساحة حيث كرثة الحراس‪ .‬إال أنه يف الطريق أوقفه‬
‫هذا الحارس الذي يحدق بالجميع‪ .‬وقبل وصول الحارس إليه‪ ،‬تذكر مصطفى‬
‫مقولة الطبيب أيبي ثانية‪“ :‬سوف يحدق بك الجميع لذلك اجعل األمر يستحق”‪.‬‬
‫ذهب مصطفى إىل الحارس وقال له‪ :‬أين حارس هذا املكان؟ أجابه‪ :‬أنا‪ .‬ومن‬
‫أنت؟؟ أجابه مصطفى‪ :‬أنا موكل من سيدك “شمهورش” بقيادة هذا املكان‪ .‬لرمبا‬
‫أنصت إليه الحارس من فرط قوته التي كانت تظهر عليه واملجال املغناطييس‬
‫الذي كان يتمتع به‪.‬‬
‫‪ -‬أجل‪ ،‬سيدي‪ ،‬أجل‪ .‬قالها الحارس ملصطفى‪.‬‬
‫إال أن مصطفى طلب منه تفقد السجون‪ .‬بالفعل‪ ،‬أخذه الحارس ليتفقد‬
‫السجون حتى وصل غرفة ‪ .816‬قال‪ :‬افتح هذه الغرفة‪ .‬إال أن الحارس قال له‪:‬‬

‫‪86‬‬
‫سيدي‪ ،‬هذا الغرفه ال تفتح إال بإذن “شمهورش”‪ ،‬ألنه قال لنا هذا‪ .‬رصخ مصطفى‬
‫به موج ًها له عدة رضبات قائال‪ :‬وأنا موكل منه بقيادة السجون‪ ،‬أيها األبله‪.‬‬
‫أجابه الحارس‪ :‬أجل‪ ،‬سيدي أجل‪ .‬فتح الغرفة‪ .‬دخل مصطفى وكانت رضبات‬
‫قلبه تزداد فز ًعا عىل “لوجني”‪ .‬وجدها نامئة عىل األرض واضعة ذراعيها تحت‬
‫رأسها‪ .‬أمسك بيدها‪ .‬نظرت إليه باكية‪ .‬اجتذبها بني ضلوعه حيث وضعت يدها‬
‫عىل صدره قائلة‪ :‬لقد عذبت كثريًا‪ .‬كان العناق حا ًّرا لدرجة أن مصطفى لن‬
‫يستطيع أن يبتلع ريقه أو أن يأخذ أنفاسه بانتظام‪ .‬صاحب العناق تنهيدته‬
‫املعتادة‪ ،‬وكادت تدمع عيناه لوال أنه أراد أن يبث يف نفسها القوة‪ :‬سأجعل من‬
‫عذبك يندم حتى يتمنى املوت فال يجده‪.‬‬
‫رمبا وجود مصطفى طأمن “لوجني”‪.‬‬
‫عنك بيشء أو بآخر‪.‬‬ ‫‪ -‬رمبا يستغرق األمر طويلاً ‪ ،‬حبيبتي‪ .‬ولكن لن أستغني ِ‬
‫وسط كلامت متزاحمة‪ ،‬ابتسمت لوجني وكأن وجهها مل يبتسم منذ فرتة ليست‬
‫بالقصرية قائله له وهي تنظر إىل عينيه التي تشبه فنجان القهوة‪ :‬أ ِعدْ ها‪ ..‬أ ِعدْ ها‪.‬‬
‫قال مصطفى‪ :‬أعيد ماذا؟ قالت له‪“ :‬حبيبتي”‪.‬‬
‫ضحك مصطفى وقال‪ :‬لرمبا كان العشق يف العينني أبلغ من الحديث هذا‪.‬‬
‫تابعته برضبة عىل صدره مازحة‪ :‬وهل كان الصمت قاتل أم الحديث؟‬
‫أجابها‪ :‬لعل الصمت موجع والحديث أوجع‪ ،‬يا لوجني؟ فالصمت كل ما‬
‫يتمناه هو أن يتحدث بعشقه‪ ،‬والحديث ال يكفيه العشق‪ ،‬حبيبتي‪ ..‬رمبا فهمت‬
‫لوجني أنه عشقها بجنون لدرجة أنه يخاطر بكل يشء من أجلها‪ .‬هذا كان يكفي‬
‫قلب لوجني التي طاملا نظر إليها مصطفى‪ .‬ارتوي كزرع يف صحراء يشتاق إىل املاء‪.‬‬
‫دخل جهاد السجن حيث كان يسري مختف ًيا‪ .‬فزعت لوجني عند رؤيته‪ .‬إال أنه‬
‫نظر إليهام قائلاً ‪ :‬لرمبا عبلة تستوجب مغامرة أخرى‪ ،‬يا صديقي‪ .‬حقًا‪ ،‬لو كنت‬

‫‪87‬‬
‫أعرف حسنها حتى أغامر معك‪ .‬أدارت لوجني وجهها ملصطفى‪ :‬من هذا األحمق؟‬
‫وكيف وصل إىل هنا ومل مينعه الحراس؟‬
‫أجابها مصطفى‪ :‬هذا جهاد صديقي‪ .‬نظر جهاد إليها وقال‪ :‬نعم‪ ،‬جهاد صديقه‬
‫صانع طائرات ورقية ومدير رشكة إنتاج بنزين الطائرات‪ .‬مل تلتفت كث ًريا لهراء‬
‫جهاد‪ .‬حتى قطعه صوت السجان الذي جاء ليخرب الجميع بأن “شمهورش” مل‬
‫يجعل أحد نائبا عنه عىل سجون كوشيه‪.‬‬
‫حاول مصطفى الخروج من الغرفة مرس ًعا مصطح ًبا “لوجني” قابله السجان‬
‫والحراس‪ .‬وضع مصطفى مجالاً مغناطيس ًّيا عىل لوجني‪ ،‬وحاول الهروب بها من‬
‫الحراس إال أنه مل يستطع تحمل كم الرضبات التي واجهها فاألعداد كثرية‪ ،‬وهو‬
‫مل يهتم بنفسه‪ ،‬فوضع كل ما لديه لحامية “لوجني”‪ .‬رمبا مصطفى كان يتعامل‬
‫بقلبه ال بعقله‪ ،‬أو ألنه كان خائفًا عىل لوجني لدرجة أنه أراد أن يضحي من أجلها‪.‬‬
‫وقع مصطفى يف األرس‪ .‬نظرت لوجني إليه وإىل الحراس صارخة بصوت يكاد‬
‫يختفي من الدموع‪ :‬اتركوووووه‪ ..‬اتركوه‪ ..‬هو مل يفعل شي ًئا‪ ..‬اتركووه‪ .‬إال أن‬
‫مصطفى نظر إىل صديقه جهاد قائلاً ‪“ :‬خذها واذهب آخر النفق” واحصل عىل‬
‫ابن عبد البار‪ .‬إياك‪ ،‬يا صديقي أن يحدث لها يشء‪ .‬أنا أحذرك‪ .‬إياك‪ ،‬افدها‬
‫بعمرك‪ ،‬يا جهاد‪.‬‬
‫ذهب جهاد ومعه لوجني التي مازال املجال املمغنط يحميها‪ ،‬وما زال جهاد‬
‫يحتفظ برس جودة املسحوق‪.‬‬
‫سلك طريق ساحة القرص إال أن “مرة” استوقفهم وتبعه ابن عبد البار وخالد‪.‬‬
‫احتضن جهاد خالدً ا قائلاً ‪ :‬لقد ُسجِ ن مصطفى‪ .‬لقد سجن‪.‬‬
‫‪ -‬اهدأ‪ ،‬يا فتى‪ .‬وأخربنا مبا حدث؟ قالها ابن عبد البار‪.‬‬
‫قائل‪:‬ا‬
‫إال أن لوجني أخربته‪ .‬نظر إليها ابن عبد البار وهو يومئ برأسه ً‬

‫‪88‬‬
‫‪ -‬اآلن أقولها رصاحة‪ .‬صديقكم هذا مجنون‪ ..‬مجنون؟‬
‫خالد‪ :‬ملاذا؟ أجابه ابن عبد البار‪ :‬لقد وضع كل القوة الكهرومغناطيسيه يف‬
‫خدمة لوجني‪ ،‬وترك نفسه بال حامية‪ .‬أي عشق هذا‪ ،‬يا فتى؟ بربك أي عشق؟‬
‫بكت لوجني ناظرة ألسفل‪ :‬أنا ال أعلم‪ ،‬سيدي بأنه أعطاين كل القوة‪ .‬رمبا كان‬
‫يقول يل ِ‬
‫أنت كل ما أملك‪ ،‬ولكن ال أعرف أن كل ما ميلك سيقتله يو ًما لينقذين؟‬
‫‪ -‬ال ِ‬
‫عليك‪ ،‬يا ابنتي‪ ،‬فلنذهب ولنعيده‪ .‬قالها ابن عبد البار مطمئ ًنا الجميع‪.‬‬
‫واصلوا املسري نحو السجون إال أن “ ُمرة” أخربهم أن مصطفى ليس بها؟‬
‫فزع خالد‪ :‬أين؟‬
‫عرف ابن عبد البار أن “شمهورش” يتمتع بقدر من الذكاء الذي يجعله يضع‬
‫مصطفى بغرفته تحت سيطرته هو وقادته‪.‬‬
‫‪ -‬أنا سأذهب إىل هناك فلدي مسحوق يخفي جسدي‪ .‬قالها جهاد‪ .‬إال أن عبد‬
‫البار أجابه‪ :‬لن تستطيع املقاومة‪ .‬فهي غرفة التحكم؟‬
‫لوجني‪ :‬وماذا نفعل؟ رد خالد‪ :‬ال نعرف فلنفكر قليلاً ‪.‬‬
‫صاح جهاد‪ :‬لدي فكرة‪ ،‬لدي فكرة‪ .‬رضبه خالد عىل ظهره‪ :‬تحدث‪ ،‬وال تكن‬
‫مزع ًجا‪ .‬قال سنعطي “ ُمرة” عصا سوجالر يعطيها لــ “شمهورش”‪.‬‬
‫قاطعه خالد‪ :‬غبي‪ .‬أكمل جهاد‪ :‬سنضع بها طالسم مضادة لقوة “شمهورش”‪.‬‬
‫هذه الطالسم بدورها ستتحول لقوة إشعاع عاكس‪ ،‬ألن مصطفى يستمد قوته‬
‫من ضعفهم‪ ،‬فتزداد قوته كلام كانت العصا موجودة‪.‬‬
‫أعجب ابن عبد البار بالفكرة إال أنه كان خائفًا من تطبيقها؟‬
‫وافقت لوجني‪ :‬فكرة جيدة‪ .‬تبعها خالد و” ُمرة”‪ :‬ليست سيئة‪ .‬ولكن كيف‪:‬‬
‫قال جهاد‪ :‬سرنسل العصا مع “ ُمرة”‪ ،‬وكأنه اختطفها منا‪ ،‬وحاول إعادتها لــ‬

‫‪89‬‬
‫“شمهورش”‪ .‬قاطعه ابن عبد البار‪ :‬لكن قوة “ ُمرة” ستضعف يف الطريق حتى‬
‫يصل‪ ،‬ألن العصا ستستنزف الكثري من طاقته‪ .‬أضافت لوجني‪.‬‬
‫‪ -‬لدي محلول كنا نستعمله يف عملية التحنيط حافظًا للجسد‪ .‬كان معي عند‬
‫اختطايف أنا والطبيب أيبي‪ .‬سنجربه عىل “مرة”‪.‬‬
‫وضع املحلول عىل ذراع مرة‪ .‬وكتب ابن عبد البار الطالسم املضادة‪ .‬انتظر‬
‫الجميع يشاهد ابن عبد البار سائلاً ُمرة‪ :‬هل تأثرت؟ هل شعرت بيشء؟‬
‫أجابه‪ :‬ال سيدي‪ ،‬ما زلت بخري‪.‬‬
‫فرح الجميع بالفكرة‪ .‬وقال ابن عبد البار لــ ُمرة‪:‬‬
‫‪ -‬سنلحق بك‪ .‬انطلق ُمرة حتى وصل لغرفة “شمهورش” أذن له الحارس‬
‫باملرور‪.‬‬
‫‪ -‬مرح ًبا‪ ،‬سيدي “شمهورش”‪ .‬لقد تحصلت عىل عصا سوجالر التي ستعيد‬
‫للمملكة هيبتها‪ .‬فرح “شمهورش” كثريًا مبا رآه‪ .‬لكن غضب مصطفى الذي كان‬
‫مكبلاً بجوار عرش “شمهورش” ً‬
‫قائل ‪ :‬ال ثقة لكم‪ ،‬ال ثقة لكم‪ .‬أطلق “شمهورش”‬
‫ضحكات كانت تحدث صدى صوت بالغرفة‪ ،‬وأمسك العصا‪ .‬وحاول “مرة”‬
‫التحدث معه أطول فرتة وهو ماسك العصا‪ .‬كان “شمهورش” ينظر إىل الجميع‪،‬‬
‫وكأنه أصيب بدوار بحر‪ ،‬والجميع كذلك‪ .‬حتى وصل ابن عبد البار والبقية‪.‬‬
‫دخلوا عليهم الباب بعد أن قضوا عىل كل من يف املكان‪ .‬ذهبت “لوجني” إىل‬
‫مصطفى تفك قيوده‪ ،‬حيث كان بجوار عرش “شمهورش” قائلة له‪:‬‬
‫‪ -‬كل ما أملُك هو كل ما متلك‪ .‬كانت تعني بأنهام أصبحا قل ًبا واحدً ا بجسد‬
‫واحد؛ ال أحد يستطيع فصل القلب عن الجسد إال باملوت‪.‬‬
‫عىل الجانب اآلخر‪ ،‬يصيح “شمهورش” ممسكًا بعصا سوجالر‪ :‬اقبضوا عليهم‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫إال أن جهاد الذي يتمتع بقدر من الذكاء والغباء م ًعا قاطعه‪ :‬العصا هي سبب‬
‫ضعفك‪ ،‬أيها األبله؟‬
‫كاد الجميع أن يقتلوه‪ ،‬فال يكمل شي ًئا آلخره كام هو‪.‬‬
‫قال مصطفى‪ :‬وهل تنتظرون من هذا األحمق شي ًئا؟‬
‫استطاع مصطفى أن يخرجهم من الغرفة ساملني إال أن سوء الحظ الذي‬
‫يالحقهم قد يقتلهم جمي ًعا‪ .‬فقد اكتمل القمر‪ .‬هذا يعني زيادة قوة قرص سوجالر‬
‫و”شمهورش” وكوشيه‪ ،‬وأيضً ا انتهاء مفعول املسحوق‪ .‬إال أن اكتامل القمر يعني‬
‫قوة طالسم املخطوطة لو استعملت استعاملاً جيدً ا‪ ،‬أو لو أن مصطفى وابن عبد‬
‫البار يعلم بهذا‪.‬‬
‫أصبح الجميع مرة أخرى يف قبضة القرص‪ .‬األمر أصبح أشبه بعقدة لديهم‪.‬‬
‫فكل مخرج ينتهي بواقعة تفتح با ًبا آخر‪ .‬انتهت بهم الحال يف سجون كوشيه‬
‫مرة أخرى‪ .‬ابن عبد البار ومصطفى وجهاد داخل غرفة؛ مصطفى ولوجني يف‬
‫غرفة أخرى‪ .‬رمبا وضعوا مصطفى مع لوجني حتى يضغطوا عليه بتعذيبها أو‬
‫يحصلوا عىل املخطوطة كاملة‪ .‬وجد الجميع أنفسهم يف مأزق‪ .‬أصبح ابن عبد‬
‫البار مسجونًا مرة أخرى إال أن هذه املرة مل يتمتع بصالحيات حيث أفقده هذا‬
‫األبله الجالس أمامه كل يشء‪ .‬جلس ابن عبد البار بركن الغرفة منفر ًدا يفكر‪ :‬هل‬
‫كنت أحمق عندما أنصت لذاك الفتى‪ -‬يقصد مصطفى‪ ،‬أم إن صديقه املعتوه هذا‬
‫سبب فيام نحن فيه‪ ،‬أم إنها األقدار؟‬
‫ٌ‬
‫قاطع تفكريه جهاد معتذ ًرا عام بدر منه‪ .‬واعرتف أنه مترسع نو ًعا ما ولن‬
‫تتكرر مثل هذه املواقف‪ .‬إال أن خالدً ا نهره‪ :‬وكيف ال تتكرر؟ ونحن هنا بالسجن‪.‬‬
‫مل يعد العتذارك قيمة‪ ،‬يا صديقي‪ .‬أنهيت كل يشء بعفويتك هذه‪ .‬كن كام أنت‬
‫طفويل‪ .‬تركه خالد ذاه ًبا لركن منفر ًدا إال أنه أدار وجهه قائلاً ‪ :‬رمبا كرثة تعاملك مع‬

‫‪91‬‬
‫األطفال جعلتك تسري عىل خطاهم بأفعالك الصبيانية‪ .‬الجميع أصبح يشري لجهاد‬
‫بأصابع االتهام‪ .‬وتناىس أن عىل قدر أفعاله هذه كان سب ًبا يف نجدتهم يف بعض‬
‫املواقف‪ .‬جلس ثالثتهم منفردين؛ كل منهم يحاول أن يجد حلاًّ ‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫اجتماع جملس العشره وقادة سجون كوشيه‬

‫يف ساحة القرص‪ ،‬اجتمع الجميع يتناقشون حول ما حل بقرصهم ومملكتهم‬


‫من ابن عبد البار ومن سانده‪ .‬طرح سوجالر عىل “شمهورش” فكرة بحيث ال‬
‫يفقدون قوتهم مرة أخرى قائلاً ‪ :‬وضع ابن عبد البار أولاً يف سجن منفرد‪ ،‬ومحاولة‬
‫الضغط عىل تفكريه من خالل تشويش الخاليا داخل املخ‪ ،‬وهي وظيفتك‪ ،‬يا‬
‫“شمهورش”‪ .‬فالقوة اآلن معنا‪ ،‬وال يستطيع ابن عبد البار فعل يشء‪ .‬ومن خالله‪،‬‬
‫نستطيع رسد املعلومات الخاصة باملخطوطة وما توصل إليه هو وذاك الفتى‪،‬‬
‫وكيف نستطيع أن نحمي أنفسنا فيام بعد منه و َمن عىل شاكلته من جنسه‪.‬‬
‫أعجب الجميع بالفكرة وأبدي الجميع تفاعلاً مع حديث سوجالر‪ ،‬وبدأ تنفيذ‬
‫املخطط‪.‬‬
‫يف اليوم التايل‪ ،‬جاء السجان من أقيص الطرقة يتبعه حارس آخر‪ .‬وقف الحارس‬
‫أمام غرفة ابن عبد البار ومن معه‪ .‬دخل السجان ووضع الحديد بيد ابن عبد‬
‫البار‪ .‬رصخ خالد‪ :‬أين تذهبون به‪ .‬اتركوه اتركوه‪ .‬حاول جهاد منع الحارس إال أن‬
‫الحارس انهال عليه رض ًبا‪ ،‬وتم اقتياد ابن عبد البار خارج الغرفة مكبلاً ‪ .‬هناك يف‬
‫أقىص الطرقة املجاورة‪ ،‬اصطحبه السجان حتى وصل إىل سجنه املنفرد الذي يكاد‬
‫يشبه الغرفة السداسية التي كان يبحث عنها‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫مل يكن ابن عبد البار مطمئ ًنا لهذا‪ .‬كان يعلم أنهم أرادوا شي ًئا ما‪ ،‬لكنه ال‬
‫يعرفه‪.‬‬
‫جلس يفكر حتي جاء إليه السجان بكرسات من الخبز اليابس ووضعها أمامه‪.‬‬
‫مل يقرتب منها‪ ،‬حتى نظر إليه السجان قائلاً ‪ :‬ستموت جو ًعا‪ ،‬يا رجل‪ .‬تحسس‬
‫وجهك فالعظام كادت أن تربز منه‪.‬‬
‫مل يلتفت إىل حديث السجان‪ .‬رمبا ما يفكر به أمثن من كرسات الخبز التي ال‬
‫يوجد غريها هنا‪.‬‬
‫اتفق “شمهورش” عىل أن يرسل البن عبد البار أقوى من ميتلك‪ .‬إنه العظيم‬
‫بالنسبة إىل هذا املجلس العمالق‪.‬‬
‫إنه شيطان العقبة “الخيتعور” املراوغ الذي يتالىش كالرساب‪ .‬حقًّا‪ ،‬لن‬
‫يستطيع ابن عبد البار الصمود أمامه‪ .‬إنه قوي بدرجة كبرية جدًّ ا‪.‬‬
‫وصل “الخيتعور” إىل غرفة ابن عبد البار الذي كان نامئًا‪ ،‬فال يستطيع ابن عبد‬
‫البار رؤيته‪ .‬دخل الغرفة ناظ ًرا إىل هذا العجوز الذي أثقلت املتاعب وجهه وأحنت‬
‫الهموم ظهره‪ ،‬ومحت رونق برشته؛ محدثًا نفسه‪ :‬هذا الكهل لن يستغرق كل‬
‫هذا‪ .‬لِ َم سوجالر وشمهورش يشددون عليه الحراسة هذه؟ ولِ َم طلبوا حضوري؟‬
‫األمر بسيط جدًّ ا‪ .‬حاول “ الخيتعور” الضغط عىل خاليا مخه ومنع وصول‬
‫الدم كاملاً إىل املخ حتى يدخله يف نوبة كسكرات املوت‪ .‬كان ابن عبد البار‬
‫يتقلب كالشاة بعد ذبحها‪ .‬يختنق‪ .‬يحاول أن يستيقظ من نوبته هذه؛ كأن شي ًئا‬
‫يقبض عىل حنجرته ويداه مكبلتان‪ .‬بالفعل هو الشعور نفسه الذي كان يشعر به‬
‫يف فرتات الصبا وهو نائم‪ .‬إن شي ًئا يحاول قتله وال يستطيع الرصاخ‪ .‬إال أن هذا‬
‫اليشء مل يفق منه‪ .‬أنا نائم‪ ،‬سأستيقظ‪ .‬أنا نائم‪ ،‬لكنني ال أستطيع االستيقاظ‪.‬‬
‫طالت نومته؟؟؟ نجح الخيتعور يف تحطيم بعض الخاليا البن عبد البار‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫عىل الجانب اآلخر‪ ،‬خالد وجهاد يحاول كل منهام أن يجد مخر ًجا‪ ،‬خاصة بعد‬
‫وضع ابن عبد البار بسجن منفرد‪ ،‬وال يعرفان ماذا حل به‪.‬‬
‫‪....‬‬
‫اتفق شمهورش مع باقي املجلس عىل إرسال رسالة لهذا الفتى بسجنه؛‬
‫بإفهامه أن الطالسم تساوي حياة “لوجني” أو أنها ستنقذ رقبته من اإلعدام غدً ا‪.‬‬
‫وصل السجان برسالته إىل مصطفى‪ ،‬حيث كان يجلس “قرفصاء” بعيدً ا عن‬
‫لوجني واض ًعا رأسه عىل ركبتيه‪ ،‬وكأن شي ًئا تغري‪ .‬تقربت منه لوجني قليلاً ‪ :‬عليك‬
‫أن تنصت لعقلك اآلن ال لقلبك‪ ،‬عليك أن تخرج من هنا‪ .‬فال تهتم ألمري سأكون‬
‫بخري‪.‬‬
‫ِ‬
‫ستموت لوجني أو ميوت مصطفى‪ .‬ألنه يعلم بأنهم لو‬ ‫األمر أكرث تعقيدً ا اآلن‪.‬‬
‫أخذوا الطالسم لن يرتكوها تعيش‪ ،‬ألنها حاولت مساعدته من قبل‪ .‬نظرت لوجني‬
‫إىل مصطفى بعينني براقتني المعتني قائلة‪ :‬وكأنك مل ترين‪ .‬افعل ما كنت تفعله‬
‫وكأنك مل ترين‪.‬‬
‫نظر مصطفى إليها بابتسامة اليأس‪.‬‬
‫‪ -‬متنيت لو أنني مل أ َر ِك‪ ،‬فقلبي ال يستطيع أن يرتكك وعقيل ال يفكر بعيدً ا‬
‫عنك‪ .‬متنيت لو أنني يف هذا اليوم مل أمر عىل غرفة الطبيب “أيبي” فقط إين‬ ‫ِ‬
‫مريض بك‪ ،‬يا لوجني‪ ،‬وال شفاء إال وجودك معي‪.‬‬
‫بكت لوجني يف محاولة أخرية أن تجعله ينقذ نفسه من املوت‪ ،‬وهو ثابت عىل‬
‫جملته‪“ :‬أنا مريض بك‪ ،‬يا لوجني”‪ .‬محدثًا نفسه‪ :‬أي مرض هذا الذي تفىش بقلبي‬
‫ومل يرتك به نسيج دم إال ومتلكه؟ أي عشق هذا الذي جعلني ال أرى سواها؟ يا‬
‫لوجني‪ .‬نحن ال نختار من نحب‪ ..‬مهام نحاول التأقلم عىل طريقة اآلخرين عطفًا‬
‫ِ‬
‫تفهمت؟ ستهزم مشاعرنا أمام‬ ‫عىل مشاعرهم ستهزم مشاعرنا أمام من نحب‪ .‬هل‬

‫‪95‬‬
‫من نحب‪ِ .‬‬
‫عليك أن تجدي حلاًّ آخر بعيدً ا عن لوجني‪ ،‬يا لوجني‪ .‬فلن أسمح ألحد‬
‫مبسها ولو كانت نفسها‪.‬‬
‫كانت لوجني تتأكد من رد مصطفى إال أنها كانت تحدث نفسها يف محاولة‬
‫أخرية إلنقاذ هذا الذي ذهب عقله‪.‬‬
‫‪...................‬‬
‫أفاق ابن عبد البار بعد عناء شديد مام فعله به “الخيتعور” وكأنه يفقد شي ًئا‬
‫من ذاكرته‪ ،‬محاولاً تذكر يشء فال يستطيع‪ .‬كان يشعر بصداع يدق بعينيه ويشق‬
‫رأسه‪ .‬أصبح ابن عبد البار أشبه بجسد بال روح‪ ،‬بينام جلس خالد وجهاد اللذان‬
‫كانا يبكيان عىل اللنب املسكوب‪ .‬فال فائدة من البكاء بفعلة جهاد األخرية التي‬
‫أصبحت عالقة باألذهان‪.‬‬
‫وجد جهاد الوقت بالسجن كث ًريا‪ ،‬فاقرتح عىل خالد أن يبتكر لعبة حتى‬
‫يضيع الوقت أو مير الوقت بال ملل‪ .‬رمبا كان االقرتاح مستف ًّزا شي ًئا ما من جهاد إال‬
‫أنه القى قبولاً من األخري الذي بدوره أصبح ينتظر املوت بالبطيء‪.‬‬
‫‪ -‬حس ًنا‪ ،‬وما اخرتاعك‪ ،‬يا صاحب املصائب؟ قالها خالد لجهاد مستنك ًرا ألفعاله‪.‬‬
‫أجاب األخري‪ :‬لعبة الشيطان واملالك‪ .‬سأحاول خداعك كشيطان‪ ،‬وكن أنت‬
‫كمالك ال يتأثر‪.‬‬
‫‪ -‬كيف يا رجل؟ قالها خالد يف تساؤل املتعجب من أمر األخري‪ .‬رد جهاد عليه‬
‫بإخراج ورقة من حقيبته الصغرية التي كان يحملها بداخل ثيابه‪ .‬تبدو كحافظة‬
‫نقود كبرية‪ .‬أخرج منها ورقة تبدو غريبة يف شكلها عن املألوف‪ .‬سأله خالد وماذا‬
‫نفعل بهذه الورقة؟ قال له‪ :‬سيد ِّون كل منا اسم ملالك واآلخر لشيطان ثم نرى كم‬
‫حرف للمالك وكم حرف للشيطان‪ .‬فإن كانت األحرف لك أكرث‪ ،‬فأنت فائز ولك‬

‫‪96‬‬
‫الحق يف رضيب‪ ،‬وإن كانت يل أكرث فأنا الفائز ويل الحق يف رضبك‪ .‬رمبا كانت اللعبة‬
‫سخيفة شيئا ما إال أن خالد مل يجد غريها‪.‬‬
‫‪ -‬اتفقنا؟ فلنبدأ‪...‬‬
‫قبل بدء اللعب الحظ خالد أن الورقة مكتوب عىل ظهرها ما يشبه الطالسم‬
‫سائلاً جهاد‪ :‬ما هذا‪ ،‬يا صديقي؟ أجاب اآلخر‪ :‬ال تكن ثرثا ًرا هي قطعة من الورق‬
‫وضعتها بحافظتي يوم أن قبض علينا سوجالر من داخل غرفته‪ .‬رمبا تفهم خالد‬
‫قائل‪:‬ا وملاذا مل تخرب مصطفى أو ابن عبد البار؟ أجابه‬
‫أم ًرا ما‪ .‬نظر إىل هذا األبله ً‬
‫جهاد‪ :‬وهل كان ابن عبد البار صانع طائرات ورقية؟‬
‫حقًا‪ ،‬ال يصدق هذا الفتى العبثي‪ .‬إنها جزء من مخطوطة املؤرخ‪ .‬كان خالد‬
‫ال يعرف ما بداخلها إال أنه تأكد بأن بها شي ًئا مهماًّ ‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫حُ‬
‫املاكمة‬
‫بات الجميع يف حالة من الذعر والهلع حيث قرر مجلس العرشة إعدام ابن‬
‫عبد البار ومصطفى ومن معهام‪ .‬كان األمر أشبه بلحظات الوداع‪ ،‬حيث كان كل‬
‫منهم ينظر إىل اآلخر حاملاً كلامت كثرية‪ ،‬لكنه ال يستطيع الخروج من صمته‬
‫ألن األمر أصبح لزا ًما‪.‬‬
‫ويف اليوم األخري‪ ،‬اجتمع سوجالر بأعوانه‪ ،‬وقرروا محاكمة كل الخائنني يف‬
‫ساحة اململكة حتى يكونوا عربة للجميع؛ وتقدميهم كقرابني لإللهة جوتار‪.‬‬
‫حمل الحارس معه مالبس النحر‪ ،‬لتقديم القرابني لإللهة‪ .‬كان الحارس يسري‬
‫بخطى منتظمة‪ ،‬حيث كان ممشوق القامة راف ًعا رأسه ألعىل‪ .‬وصل إىل غرفة ابن‬
‫عبد البار‪ ،‬ووضع مالبسه بغرفته‪ .‬نظر ابن عبد البار إليها يف صمت؛ رمبا تفهم‬
‫ابن عبد البار األمر بأنهم أصبحوا قرابني لإللهة “جوتار”‪ .‬أكمل الحارس مسريه‬
‫حتى وصل إىل غرفة جهاد وخالد‪ .‬نظر خالد متسائلاً ‪ :‬ما هذا؟ إال أن شي ًئا بداخله‬
‫كان يقول له هذه تشبه “بدلة اإلعدام”‪ .‬بينام عىل الطرف اآلخر جهاد الذي كان‬
‫يحاول تجميع أسامء الشياطني استعدا ًدا للعبته املصطنعة‪ ،‬قام مهرولاً نحو باب‬
‫السجن‪ :‬هذه مالبس جديدة‪ .‬حقًّا‪ ،‬مالبيس متسخة جدًّ ا‪.‬‬
‫نظر خالد إليه قائلاً ‪ :‬حتى ال تنام يف القرب متسخًا‪ .‬إن كان هناك قربٌ يحويك‪ ،‬يا‬
‫أبله‪ .‬تفهم جهاد أخ ًريا أنه سيكون قربانًا لإللهة جوتار‪ .‬نظر جهاد إىل خالد؛ كاد أن‬
‫يبيك إال أن خالدً ا وجه له كلامت أسكتته لليوم اآلخر قائلاً ‪ :‬وضعتنا من قبل يف يد‬
‫“سوجالر”‪ ،‬ثم أدخلتنا السجن بفعلتك السابقة‪ ،‬ثم اآلن اكتشف أن لديك جز ًءا‬
‫من يشء ما له عالقة بالطالسم وأنت ال تتحدث‪ .‬ماذا تريد‪ ،‬يا صانع الطائرات‬
‫‪101‬‬
‫الورقية؟ ماذا تريد أن تفعل بنا؟ لسنا من تركناك منذ الصغر وحيدً ا مبلجأ أيتام‪،‬‬
‫ثم تبناك أحدهم عطفا عليك ولكن مازالت الطفولة عالقة بعقلك‪.‬‬
‫الكلامت كانت قاسية جدًّ ا عىل جهاد؛ كالسيف يرضب وال يُبايل؛ كصاعق‬
‫كهربايئ بقلبه‪ .‬كاد جهاد أن ميوت من كلامت صديقه‪ .‬ذهب جهاد وبيده مالبس‬
‫القرابني ً آلخر الغرفة محدثًا نفسه‪ :‬ملاذا‪ ،‬يا صديقي؟ أعايرتني بذنب مل أُذنبه‬
‫أم أن ملجأ األيتام كان سب ًبا يف ذلك؟ فقط ما ينقصني هام والدان مثلك‪ .‬رمبا أنا‬
‫هكذا ألنني خرجت إىل الدنيا بال أم تحويني وأب يناجيني‪ .‬أنا لست طفول ًّيا‪ ،‬فقط‬
‫أحاول استحضار نظرة حنني أو ابتسامة صبا‪ .‬فقط أنا كام أنا أعمل بالطائرات‬
‫الورقية وأتعامل مع األطفال‪ ،‬ألن قلبي ما زال هناك‪ ،‬يا صديقي‪ .‬حيث كان قلبي‬
‫طفلاً ‪ ،‬لكن عقيل أصبح كهلاً ‪ .‬فقط أنت تنظر إ ّيل من نافذتك أنت‪ ،‬ال تحكم عىل‬
‫األشياء‪ ،‬يا صديقي‪ .‬ملجرد أنك تفهمت ما بها من الخارج‪ ،‬رمبا ما بداخلها يجعلك‬
‫ناد ًما لباقي العمر‪ .‬قف هنا بنافذيت كيتيم أم وأب‪ ،‬وانظر حتى تحكم بكلامتك‬
‫هذه‪.‬‬
‫‪............‬‬
‫كان الحديث مع النفس طويال لجهاد الذي قتل قبل أن يكون قربانًا‪.‬‬
‫دخل الحارس الغرفة واضع الحديد بيد جهاد وخالد حيث ساقهام إىل غرفة‬
‫كبرية بآخر الطرقة‪ .‬دخل خالد وجهاد الغرفة وجد طعا ًما كثريًا‪ ،‬وكأنهم أرادوا‬
‫أن يحسنوا ضيافتهام األخرية‪ .‬نادى عليهم الحارس عليكم األكل جيدً ا يك يقبل‬
‫قربانكام‪ ،‬ألن اإللهة جوتار ال تقبل الجوعي‪.‬‬
‫جلس االثنان ال أحد يحدث اآلخر‪ .‬رمبا ألن نهايتهام أصبحت محتومة أو أن‬
‫جها ًدا شعر بخنجر بصدره منذ الليلة املاضية‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫واصل الحارس حتى جاء إىل غرفة مصطفى ولوجني‪ .‬وضع املالبس لهام‪ ،‬حيث‬
‫أبدت لوجني عدم اهتاممها باألمر‪ ،‬ألنها كانت تعرف هذا جيدً ا‪ .‬بينام نظر إليها‬
‫مصطفى قائلاً ‪ :‬مل يتبق لنا الكثري‪ ،‬عزيزيت‪.‬‬
‫ردت لوجني‪ :‬بيدك الكثري‪ ،‬ولكنك ال تريد‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا؟ أي كثري‪ ،‬يا لوجني؟‬
‫أجابت أن تتعاون مع سوجالر وتعطيهم املخطوطة‪ ،‬فهي اآلن مل متثل خط ًرا‬
‫كبريا عليهم بينام متثل خط ًرا عىل حياتك أنت ومن معك‪.‬‬
‫كانت لوجني تحاول استدراج مصطفى ملحاولة أخرية قبل أن يصبحا قربانني‬
‫غدً ا؛ لعلها تنقذ هذا الذي خاض الصعاب من أجلها‪.‬‬
‫أجابها مصطفى‪ :‬وماذا عن قلبي حتى يرتكك قربانًا؟ وماذا عن سوجالر الذي‬
‫لن يرتكنا مهام تعاوننا معه؟‬
‫فقط هي سويعات قليلة وسنصبح ذكرى تحت األرض وبداخل قرص الجان‪.‬‬
‫“إنها لعنة الكهف حقًا‪ ،‬يا جدي”‪ .‬كان مصطفى محدثًا نفسه يف لحظات ما‬
‫قبل القُربان‪.‬‬
‫نظر إليها قائلاً ‪ :‬أين ذهبت العينان السامويتان اللتان تحمالن غيثًا يك أرتوي‬
‫تبسم ِه؟ أجابت لوجني بوجه يحمل الكثري‬ ‫بهام؟ أين ذهب ثغر حبيبتي من ُّ‬
‫والكثري من الهموم وبشعر متناثر جاف يغطي جبهتها وجزء من يسار وجهها‬
‫واضعة يدها عليه حتى تتضح الرؤية كاملة‪ :‬عليك أن ترى بوجهي هذا آثار‬
‫التعذيب التي خري شاهد عىل حبي لك‪ .‬كنت ال أتحدث ولو فعلوا أكرث‪ .‬فقط‬
‫انظر إىل وجهي جيدً ا لرمبا ترى تجاعيد صنعها املوقف أو أنني كربت حقًا‪ ،‬يا من‬
‫ملكت القلب بريعان شبابه‪ .‬ارحم قل ًبا أصبح رهن الكهولة بعشقه لك‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫كانت كلامت “لوجني” كأنها دافع حقيقي يجعل هذا الفتى ال يفقد األمل يف‬
‫أن يحصل عىل حبيبته‪ ،‬ويحاول تضميد ُجرحها العميق الذي بدأ من تلك الغرفة‬
‫كمساعدة للطبيب أيبي‪.‬‬
‫‪ -‬سأكون حيث تكونني‪ .‬آخر جملة قالها ناظ ًرا إىل لوجني قبل أن يأيت الحارس‬
‫يف صباح يوم املحاكمة‪ .‬الجميع أصبح رهن الخوف والفزع‪ .‬سيق الجميع مكبلاً ‪.‬‬
‫فدخل ابن عبد البار بأغالل جاءت من قدمه لرأسه ثم مرة أخرى ليديه‪.‬‬
‫وهذا جهاد الذي يأيت ممشو ًقا كالنخل عن األنظار مرتف ًعا ألول مرة بحياته‬
‫يكون واثق الخطى “إال أن هذه املرة خُطاك ُقربانًا لجوتار‪ ،‬يا صديقي”‪..‬‬
‫ثم جاء من الطرف اآلخر مصطفى ولوجني التي باتت بقلب مشبع باآلالم‪.‬‬
‫ومصطفى الذي يبدو عليه اإلرهاق إال أن شي ًئا يجعله غري فاقد األمل‪.‬‬
‫الجميع يرتقب فهناك يف آخر ساحة سجون اململكة مبكان مرتفع مبرتين تقري ًبا‬
‫جالسا سوجالر وبجواره السيدة العجوز”عجوز كوشيه” ومن الجوار اآلخر يجلس‬ ‫ً‬
‫امللك األحمر والخيتعور وبرقان‪ .‬املجلس يكتمل‪ ،‬يا صديقي‪ .‬لقد تجمع الخصوم‬
‫يف يوم معلوم عىل فتى الكهف وأصدقائه‪.‬‬
‫قرعت الطبول كأنها طبول الحرب إال أن تابعها نفري البوق وصوت كعويل‬
‫الكالب‪ .‬نعم إنها طقوس قرابني” جوتار”‪.‬‬
‫نظر ابن عبد البار إىل مصطفى ولوجني‪ .‬بينام نظر جهاد إىل أعىل لرمبا يناجي‬
‫ربه‪ .‬يتمتم بيشء ال أحد يفهمه‪ .‬إال أنه ما زال محتفظًا بحقيبته الصغرية داخل‬
‫مالبس القرابني‪ .‬تم فك قيودهم جمي ًعا‪ .‬اصطفوا عىل خط واحد؛ أمامهم متثال‬
‫اإللهة “جوتار” الشموع مضاءة حوله‪ .‬تم وضع قدر أمام كل واحد منهم‪ .‬هذا‬
‫القدر سيسال فيه دم كل منهم‪ ،‬ثم يجمع الدم ويوضع عند قد َمي التمثال‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫الجميع يرتقب سوء العاقبة إال واحدً ا هناك ينظر إىل السامء مرتلاً شي ًئا ما‪ .‬إنه‬
‫شخصا آخر غري الذي كان معهم‪ .‬إنه جاد‬ ‫جهاد‪ .‬نظر ابن عبد البار له وكأنه يرى ً‬
‫لدرجة تجعلك تهابه لعظمته صمته‪ .‬ماذا حل بالفتى؟ كان يسأل ابن عبد البار‬
‫نفسه‪ .‬اقرتب الجميع من بعضه ووضع رأس كل واحد عىل حامله من الخشب‬
‫تشبه تلك التي يقطع عليها الجزار ذبيحته‪.‬‬
‫كان رأس مصطفى متج ًها لرأس لوجني الذي كانت هي األخرى كذلك‪ .‬رمبا‬
‫فضل كل منهم أن ميوت ناظ ًرا لآلخر‪ ،‬أو أن األقدار جمعتهم بهذا الشكل‪.‬‬
‫“تلك النظرة التي رسقها يوم أن دخل قرص سوجالر اآلن سيعيدها”‪ .‬نعم‬
‫سيعيدها لألبد‪.‬‬
‫‪ -‬األمر مفزع‪ ،‬يا صديقي وما زال جهاد شامخًا كنجم يف ليالٍ صيفية ساطع‬
‫للجميع‪.‬‬
‫نظر جهاد إىل ابن عبد البار قائلاً ‪ :‬هناك يشء ما بقميصك يا جدي‪ .‬أخرجه‬
‫لعله ينفعنا‪.‬‬
‫فقد وضع جهاد ورقة بقميص ابن عبد البار عندما كانوا صفًا واحدً ا‪ .‬وجد‬
‫ابن عبد البار الجزء اآلخر للمخطوطة يوم أن كان ميتلكه سوجالر‪ .‬إال أن جها ًدا‬
‫كان ال يعرف استخدامه‪ .‬وضعت الورقة أمام عني ابن عبد البار‪ ،‬وكأنك وضعت‬
‫دليل براءته‪ .‬إنه يبتسم‪ ،‬ثم همس مناد ًيا عىل مصطفى الذي كان يستعد للموت‬
‫ناظ ًرا إىل من ال يرى غريها‪ .‬قائلاً ‪ :‬صديقي‪ ،‬ما زلت تحفظ بعض الطالسم‪ .‬أجابه‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬ولكن مل يعد شي ًئا ينفع‪ .‬فاملخطوطة ليست معنا‪ .‬قال ابن عبد البار‪ :‬أنا‬
‫أنصت لك‪ .‬قل يل ما تحفظه‪ .‬ردد مصطفى ما يحفظه عىل ابن عبد البار الذي كان‬
‫يستمع إليه وكأنه يأخذ كل حرف مبفرده‪.‬‬
‫جمع ابن عبد البار الطالسم‪ ،‬وأخذ يتمتم بها حتي صار وجهه شا ًّبا ياف ًعا‬

‫‪105‬‬
‫وأيضً ا مصطفى عاد كام كان‪ .‬وهناك لوجني بوجهها الشاحب قليلاً وشعرها‬
‫الجاف املتناثر‪.‬‬
‫‪ -‬يعود الغيث لتلك العينني‪ ،‬يا صديقي‪.‬‬
‫قاطعهم صوت جهاد قائلاً ‪ :‬عليكم أن تتعلموا من صانع الطائرات‪ .‬فال تحسنب‬
‫الصبا جنون وطفولتي ما زالت عالقة‪ .‬إال أنني ال أعطي ليشء أكرث من قدرة‪.‬‬
‫وبصوت به الفخر يختلط بالبكاء وبأوداج منتفخة‪ .‬نادى‪ :‬أين أنت يا “ ُمرة”‪.‬‬
‫فلتخرج يا صديقي‪ ،‬لهؤالء األوغاد‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا؟‬
‫شخصا آخر أمامه غري ذاك الذي كان ال يلقي بالاً ليشء‪.‬‬
‫الجميع كاد أن يرى ً‬
‫‪ -‬انظر‪ .‬إنه جهاد يا رفيقي‪ .‬قالها خالد ملصطفى وعيناه تدمعان‪ .‬انظر أنه‬
‫صديقي‪ .‬أعتذر منك‪ ،‬يا رفيقي‪ .‬أنا مل أقصد أن أيسء لك يف هذه الليلة‪.‬‬
‫قالها خالد لجهاد الذي كان يقف شامخًا‪ ،‬ومن أمامه “ ُمرة” الذي حرض حني‬
‫استدعاه جهاد‪.‬‬
‫قائلاً له‪ “ :‬ما زلت عىل العهد‪ ،‬يا “ ُمرة”‪ .‬يوم أن قرأت الطالسم ومل أستطع‬
‫أن أفعل شيئا وجئت يل ملب ًيا ندايئ‪.‬‬
‫فقد استحرضه جهاد يف هذه الليلة التي سبقت يوم القربان‪ .‬لكنه مل يستطع‬
‫استخدامه؛ لذا أخذ منه الوعد أن يكون معه حتي يوم املحاكمة‪ ،‬ويعطي الورقة‬
‫البن عبد البار الذي يُحسن استخدامها‪.‬‬

‫رضا من مجلس‬
‫سقطت عصا سوجالر‪ ،‬وضعف الجميع لدرجة أن من كان حا ً‬
‫املحاكمة أصبح كهيكل عظمي ال حول له وال قوة‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫احتضن الجميع جها ًدا معتذرين له‪ .‬وعادت ثانية اململكة يف قبضتهم‪.‬‬
‫بينام اختطف مصطفى عنا ًقا من بني الزحام ملحبوبته لوجني‪ .‬كادت أن تعانق‬
‫الضلوع بعضها لوال نظرة جهاد لهام قائلاً ‪“ :‬ماذا كنت تفعل‪ ،‬أيها األبله‪ .‬لو مل أكن‬
‫معك‪.‬‬
‫تحول املوقف لرسور وعناق بعد أن كان حزن ودماء‪.‬‬
‫إال أن ابن عبد البار استعد للخروج‪ ،‬وال مجال لطريق آخر‪ .‬بينام طلب‬
‫مصطفى أن يكمل مسريته نحو التعرف أكرث عىل هذه العوامل الخفية وقصور‬
‫الجان‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫عودة أييب‬

‫بعد انتهاء يوم املحاكمة والذي حوله جهاد ليوم عيد بالنسبة إىل الباقية قرر‬
‫الجميع العودة من حيث إن جاءوا‪.‬‬
‫إال أن لوجني قررت البحث عن الطبيب “أيبي” وما زال قلب مصطفى معلقًا‪،‬‬
‫وكاد أن ينطلق معها باحثًا عن أيبي‪ .‬إال أن الجميع حذره من سوء العاقبة‪ ،‬وأنهم‬
‫ال يضمنون العودة والبحث عن أيبي يف الوقت ذاته‪ .‬حاول مصطفى أن يقنع‬
‫الباقية‪ ،‬حيث كان يتحدث فقط بقلبه‪ .‬إال أن الجميع هذه املرة رفض األمر بتاتًا‪.‬‬
‫فام كان عىل مصطفى إال محاولة التحدث معها إلقناعها بالبقاء‪ ،‬لكنها تعلم‬
‫أن أيبي هو السبيل الوحيد لبقائها هنا آمنة‪ .‬انتهي الحديث بذهاب لوجني‬
‫للبحث عن أيبي مودعة مصطفى بعناق حار‪ ،‬وبورقة أخرى تشبه ورقة الربدي‬
‫األوىل قائلة له‪ :‬إن التقينا ثانية أعدها ممتلئة بكلامتك التي يخفق القلب لها‪.‬‬
‫نادى ابن عبد البار عىل لوجني واض ًعا يده عىل رأسها متمتماً بيشء ما من‬
‫الطالسم‪ .‬كام أعطاها سلسلة صغرية بها صندوق صغري ال يتعدى عقلة اإلصبع‬
‫حيث وضع داخل الصندوق ورقة بها طالسم؛ رمبا كانت تحتاجها لوجني يف طريق‬
‫بحثها عن “أيبي”‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫ذهبت لوجني ومعها قلب هذا الفتى الذي كان ضعيفًا يف غيابها‪ .‬إال إن خالد‬
‫وجهاد كانا يخففان عنه قليال ‪..‬‬
‫ذهبت يف طريق غري مألوف‪ ..‬حيث بدا خال ًيا من جميع الكائنات‪ .‬تسري‬
‫منفردة‪ .‬أين تذهبني لوجني‪ .‬الطريق ليس به يشء‪ .‬كانت تحدث نفسها‪ .‬إال إنها‬
‫واصلت املسري قليلاً حتى أرهقها املسري‪ ،‬فجلست عىل يشء ما‪ .‬وضعت يدها‬
‫بجوارها يك تستند إىل هذا اليشء إال أنه قرب منبوش‪ ،‬والعظام متناثرة‪ .‬نظرت‬
‫مفزعة أمامها وخلفها‪ .‬وجدت قبو ًرا كثرية‪ ،‬لكنها جميعها منبوشة‪ ...‬عظام متآكل‪.‬‬
‫وأنصاف جثث أشالء‪ .‬إال أنها سمعت صوتًا غري ًبا يشبه ذاك الصوت يوم املحاكمة‪.‬‬
‫إنه صوت عويل امرأة كعويل الكالب‪ ...‬التفتت ال يشء إال أنها أحست شي ًئا ما‬
‫خلفها‪ .‬شعرت بيشء يتحسس جسدها بهمس ال يكاد أن يرى أو يحس إال قليلاً ‪.‬‬
‫فزعت ناظرة إىل الخلف لكن ال يشء‪.‬‬
‫أكملت طريقها مهرولة‪ ،‬لذا فقدت قطعة صغرية من ثيابها التي قد تشابكت‬
‫بيشء كانت تجلس عليه‪ .‬ولكن الوقت تأخر لبعد منتصف الليل والقمر ما زال‬
‫خاف ًتا‪ ،‬والدخان كثري باملكان‪ .‬كادت لوجني أن تختنق‪ .‬إال أنها رأت شي ًئا مل يصدقه‬
‫العني‪.‬‬
‫كيف؟ هي؟ بالفعل هي؟ إنها العجوز الشمطاء‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫كانت العجوز الشمطاء تنبش القبور وتأخذ الجثث وتضع بفمها طالسم‬
‫ورسومات ألشخاص‪.‬‬
‫ثم تأكل نصف الجثة وترتك البقية كأشالء بها الطالسم‪ .‬كانت الدماء تسيل‬
‫من فم العجوز‪ ،‬التي نظرت قائلة‪ :‬نحن نضعف لكن ال منوت‪ ،‬يا لوجني‪ .‬ستدفعني‬
‫مثن انحيازك لهم كثريًا‪ ،‬حني يعود القمر مكتملاً ‪ ،‬وتعود الطالسم لنا‪.‬‬
‫إال أن لوجني أدارت نصف وجهها قائلة‪ :‬يستخدمونك السحرة يف إيذاء‬
‫الغري حتى يكونوا جثثًا هامدة أمامك وترشبني الدماء وتأكلني األشالء‪ .‬يف مقابل‬
‫معلومات زائفة‪ ،‬أيتها الشمطاء‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫لن تنفعكم دماء الفتاة العزباء التي تسيل من فمكم ِ‬
‫أنت وباقي مجلس‬
‫العرشة‪ ..‬ولن تنفعك أكاذبيك الزائفة واستدراج البعض إىل هنا بوهمهم ِ‬
‫إنك‬
‫تبحثني عن ابنتك املختطفة‪.‬‬
‫انكشف رسك‪ ،‬أيتها الشمطاء‪ ،‬وستسقط مملكتكم قري ًبا‪.‬‬
‫لن تسقط‪ ..‬لن تسقط‪ ...‬لن تسقط‪ ...‬سنأخذكم جمي ًعا قربانًا‪ ،‬وسأضع الدماء‬
‫بالكأس مستمتعة بتلك اللحظات‪ ،‬يا لوجني‪ .‬أمتنى أن تكوين كام ِ‬
‫أنت عزباء حتى‬
‫يكون دمك قربانا نق ًّيا لإللهة جوتار‪ .‬سنعووود‪ ،‬سنعود‪ ،‬يا لوجني‪.‬‬
‫تركتها لوجني وأكملت طريقها‪ ..‬حتى وصلت بعيدً ا عن اململكة‪ .‬كانت‬
‫الشمس ترشق شعا ًعا برتقال ًّيا يعكس ضوءه عىل تلك العيون التي ما زال الفتى‬
‫عالقًا هناك بها‪.‬‬
‫وصلت لوجني إىل أناس يقطعون الحجارة من الجبال‪ ،‬سألتهم عن الطبيب”‬
‫أيبي”‪ .‬ال أحد يجيب‪.‬‬
‫أكملت باحثة حتى وصلت ألرض ال يعرف أحد بها أحد‪ .‬غري إنهم يقدسون‬
‫العلم وصاحبه‪ .‬تحدثت لوجني ألحدهم الذي أدار وجهه مبتسماً لها مرح ًبا‬
‫سيديت‪ .‬وجدت لوجني نفسها الجميع ينعتها بــ “سيديت”‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا؟ هل تعرفونني؟‬
‫أجابها البعض‪ :‬هنا‪ ،‬ال أحد يعرف اآلخر‪ .‬فقط أصحاب املعرفة لهم سامت‬
‫الجميع يراها عىل الجبني‪ .‬كلام زاد علمك‪ ،‬ظهر يف نقاء عينيك وجبينك الوردي‪.‬‬
‫تفهمت لوجني املوقف بعد عالمات استفهام كثرية‪ .‬سألتهم عن طبيب يدعى‬
‫“أيبي” قالوا لها‪ :‬ال نعرف األسامء سيديت‪ ،‬ولكن يوجد هنا فقط أصحاب‬

‫‪111‬‬
‫الوجوه‪ .‬مل تفهم لوجني‪ .‬قال لها البعض‪ :‬مثلاً ‪ ،‬سيديت وجهك الحسن‪ .‬وهناك‬
‫الوجه الجميل واألنيق‪ ،‬والقبيح‪ ،‬والحادب‪ ،‬واألجعد واألكحل‪ ،‬واألبلج‪.‬‬
‫عىل قدر العلم يكون لون وجهك‪ِ .‬‬
‫فأنت صاحبة الوجه الساموي وهي صفة ال‬
‫ميتلكها غري القليل هنا‪ .‬لذا سرنسلك للمعلم األول صاحب الوجه الساموي‪ .‬حس ًنا‬
‫فلنذهب‪ .‬ذهبت لوجني وهي تنظر إىل الوجوه‪ .‬ما بني الشاحب واألسود والجميل‬
‫والقبيح‪ .‬أعجبت بهم قليلاً ‪ ،‬حيث إنهم يقدرون العلم فال مجال لجاهل أن يرتقي‬
‫ُسلم العلامء‪ ،‬ألنه سكيشف عن وجهه القبيح‪.‬‬
‫أكملت حتى وصلت إىل تجمهر كحلقة علم وبأوسطها رجل جالس ممسكًا‬
‫بيده قارورة ماء‪ ،‬ويضع عليها مادة أخرى حتى تحولت ملادة جيالتينية متامسكة‬
‫بعضً ا ما‪ .‬نظرت إليه لوجني لكنها مل تعرفه‪ ،‬حيث كان هناك يشء يغطي وجهه‪،‬‬
‫ومل تظهر منه سوى لحيته فقط‪.‬‬
‫انتظرت حتى انفض مجلس العلم‪ ،‬وذهب إليه‪ ،‬حيث حاول أن ينهض‪،‬‬
‫فأمسكت بيديه قائلة له‪ :‬سأساعدك‪ ،‬يا جدي‪.‬‬
‫‪ -‬شك ًرا‪ ،‬ابنتي‪.‬‬
‫نظر إليها غري مصدق‪.‬‬
‫‪ -‬لوجني؟ أجابته‪ :‬الطبيب أيبي؟ عانقها؟ أين ِ‬
‫كنت‪ ،‬يا ابنتي‪ .‬لقد افتقدتك‬
‫كث ًريا‪ .‬التقى مرة أخرى بعد رحلة من العذاب بسجون كوشيه ومغامرة جنونية‬
‫من فتى الكهف‪ .‬أخذها حيث خيمته‪ .‬أدخلها ووضع أمامها بعض الطعام محدثًا‬
‫إياها عن رحلته‪ ،‬وكيف جاء إىل هنا‪ ،‬ثم استمع إليها لتقص عليه ما حدث‪ .‬كادت‬
‫أن تفيض عني الطبيب أيبي مام حدث ملساعدته‪.‬‬
‫‪ -‬لوجني‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫لكنه نظر إليها بنظرته املعتادة الحادة قائلاً ‪ :‬ما زال الفتى يحبك‪ ،‬يا لوجني‪.‬‬
‫ال أحد يفعل ما فعله إال عاشقًا‪ .‬أجابته لوجني‪ :‬اعلم‪ ،‬سيدي‪ .‬لكن وجودي أصبح‬
‫يسبب له املتاعب‪ ،‬رمبا يستقيم طريقه يو ًما ما إن افرتقنا‪.‬‬
‫رد أيبي قائلاً ‪ :‬وملاذا مل يست ِقم طريقك منذ ذاك اليوم الذي ُسجنت به وافرتقنا‪.‬‬
‫بحثت عني ثاني ًة؟ سيدي الطبيب‪ ،‬أنت ُمعلمي ووالدي الذي فقدته وكل‬ ‫ِ‬ ‫ملاذا‬
‫يشء‪.‬‬
‫الطبيب أيبي‪ :‬القلوب التي ال ترتك معلمها الصنعة‪ .‬كيف ترتك معلمها‬
‫املشاعر‪ ،‬يا لوجني؟‬
‫ِ‬
‫بعينيك عشق يفوق هذه اململكة‪ .‬أنا أعرفك جيدً ا‪ .‬أعرف أن هذه‬ ‫أرى‬
‫العينني ال ترى إال جميلاً ‪ ،‬وهذا القلب ال يشعر إال بجميل‪ِ .‬‬
‫عليك إعادة حساباتك‬
‫وستكونني عىل مايرام‪ .‬نظرت لوجني للطبيب صاحبتها تنهيدة مغمضة عينيها‪.‬‬
‫أتعلم أنني منذ تركته وذهبت يف طريقي بحثًا عنك أشعر بيشء ما ينقصني‪،‬‬
‫فقط‪ ،‬ال أشعر باألمان‪ .‬كنت خائفة ألول مرة‪ .‬وجودي بالسجن مل يكن هكذا‪.‬‬
‫بصيصا من األمل وكثري من األمان‪ .‬سيدي الطبيب‬
‫ً‬ ‫فمجرد رؤيته‪ ،‬كان يعطي يل‬
‫أشعرت من قبل أن أحدهم أن تحدث يجعل قلبك يتأمل‪ ،‬وإن صمت جعله يتأمل‬
‫أكرث‪.‬‬
‫الطبيب أيبي‪ :‬كيف‪ ،‬يا لوجني‪ .‬أجابته‪ :‬األمل هنا له مذاق ما‪ .‬وكأنني أدمنت‬
‫أمل قلبي وارتجافه عند رؤيته‪ .‬والصمت يصاحبه أمل اشتياق‪.‬‬
‫قاطعها أيبي مبتسماً ‪ :‬وأي يشء تريدين‪ ،‬يا ابنتي؟‬
‫لوجني‪ :‬فقط األمان‪ .‬أجابها أيبي‪ :‬وهو يعني ِ‬
‫لك األمان إذا هو‪ .‬أشارت برأسها‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬هو‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫‪ -‬إ ًذا‪ ،‬فلنذهب له‪ ،‬يا لوجني‪ .‬علينا أن نذهب إليه‪.‬‬
‫نظرت لوجني إىل الطبيب أيبي قائلة‪ :‬دعنا هنا قليلاً من الوقت حتى نسرتيح‬
‫من عناء السابق‪.‬‬
‫أيبي‪ :‬كام تريدين‪ ،‬يا ابنتي‪ .‬هيا بنا نذهب إىل املخترب الكيميايئ الذي أعدته‬
‫هنا‪ .‬وهل لديك هنا أيضً ا مخترب‪ ،‬يا سيدي؟ أجابها العلم كالروح ال يفارق الجسد‬
‫إال باملوت‪ ،‬يا ابنتي‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫اللقاء األخري‬

‫ذهب مصطفى يف طريقه متع ًبا‪ ،‬محملاً بآالم الفراق‪ ،‬متسائلاً ‪ :‬هل أحصل‬
‫عىل لوجني مرة أخرى؟ أم إن القدر له رأي آخر‪ .‬قاطع تفكريه جهاد قائلاً ‪ :‬يف أي‬
‫طريق نسري‪ ،‬يا صديقي‪ .‬نظر مصطفى إىل ابن عبد البار الذي قال لهم‪ :‬ال أتذكر‬
‫الكثري‪ ،‬ولكن سنمر من طريق األنفاق حتى نجتاز اململكة‪ ،‬فإن وصلنا إىل طريق‬
‫الكهف فإننا بأمان‪ .‬أجاب خالد‪ :‬وإن مل نصل؟ علينا التحري جيدً ا‪ .‬ليس لدينا‬
‫الوقت الكايف‪ ،‬وال نعلم أي يشء سيحدث لنا يف هذه اململكة امللعونة‪.‬‬
‫‪ -‬اهدأ‪ ،‬يا رفيقي‪ ،‬ال تكن متوت ًرا‪ .‬سنصل‪ .‬حتماً سنصل‪ .‬قالها مصطفى وهو‬
‫يشري برأسه تأكيدً ا واطمئنانًا لخالد‪.‬‬
‫‪ -‬إ ًذا علينا أن نتخذ طريق األنفاق ال يشء آخر‪.‬‬
‫أكمل الجميع السري ال يشء آخر أمامهم غري طريق األنفاق‪ .‬الظالم يخيم عىل‬
‫املكان‪ .‬يكاد مصطفى ال يرى من معه إال أن الجميع اتفقوا عىل أن كلاًّ منهم‬
‫ميسك بيد اآلخر‪ .‬ذهب ابن عبد البار يف املقدمة ممسكًا به مصطفى وأمسك‬
‫مبصطفى كل من خالد وجهاد‪ .‬تكاد تسمع رضبات القلوب من البعض خاصة‬
‫مصطفى الذي يشعر وألول مرة أنه خائف؛ ليس من الظالم لكنه خائف‪ .‬فهل‬
‫كانت لوجني متثل له األمان أيضا؟ رمبا‪.‬‬
‫وصل ابن عبد البار حتي آخر النفق توقف قليلاً ‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫‪ -‬ملَ توقفت؟ قالها مصطفى متسائلاً ‪ .‬أجابه‪ :‬هل كان ع ّ‬
‫يل أن أنعطف إىل‬
‫الجهة الرشقية أم الغربية؟ ال أحد يعرف‪ .‬يخاف ان يسري يف طريق مخالف‪،‬‬
‫فالجان كان ييضء األنفاق إال أن بعد هزميتهم أصبحت معتمة‪.‬‬
‫اتفق الجميع عىل السري نحو الجهة الرشقية‪ .‬نظر خالد ممسكًا بيد جهاد‪.‬‬
‫تلق بالاً ‪.‬‬
‫‪ -‬يا صديقي‪ ،‬سنسري‪ .‬ولو داخل قرص الجان مرة أخرى‪ ،‬فال ِ‬
‫كانت كلامت جهاد تطمنئ مصطفى‪ ،‬ألنه شعر بخوفه حني أمسك بيده‪،‬‬
‫فكانت ترتجف شيئا ما‪.‬‬
‫نحو الجهة الرشقية‪ ،‬انحدرت صخرة ضخمة من أعىل النفق كادت أن تقتلهم‬
‫جمي ًعا‪ .‬إال أنها وقعت أمامهم مبا ال يزيد عن نصف مرت‪ .‬أصبح الجميع يف حالة‬
‫ذعر وهلع؛ إال ابن عبد البار الذي صدم عندما وجد أن الصخرة الضخمة قد‬
‫أغلقت الطريق الرشقي‪.‬‬
‫جلسوا جمي ًعا يفكرون‪ .‬ال يشء أمامهم سوى الذهاب من الطريق الغريب‬
‫حتى لو كلفهم األمر كثريًا‪ .‬وصلوا إىل الطريق الغريب يف صباح اليوم التايل متعبني‪.‬‬
‫كل منهم حاول أن يسرتيح مبكان ما من عناء الطريق‪ .‬حقًا كانوا متعبني‪ ،‬ألنهم‬
‫ناموا كثريا‪ ،‬لقد أفاقوا يف بادئ الليل‪ .‬الجميع يتساءل‪ :‬كم لبثنا‪.‬‬
‫‪ -‬ليس بالكثري‪ ،‬يا فتى الكهف‪ .‬قالها جهاد‪ .‬نحن فقط متعبون‪ .‬أكملوا سريهم‬
‫نحو الغرب أكرث‪ ،‬فوجئ الجميع بصوت يشبه صوت عويل الكالب اال أنه غري‬
‫ذلك‪ .‬أخذ الجميع يرتقب مصدر الصوت‪ .‬إال أن جها ًدا نظر بعيدً ا هناك خلف‬
‫مكان يشبه مقام األولياء؛ مرتف ًعا نو ًعا ما عن األرض؛ يغلب عليه اللون األخرض‪.‬‬
‫خلفه يشء ما يختبئ‪ .‬لقد ظهر منه طرف الثياب الذي يبدو باللون األسود‪.‬‬
‫‪ -‬انظر‪ ،‬يا صديقي‪ .‬انظر‪ ،‬إنه هناك‪ .‬قالها جهاد لصديقه مصطفى‪ .‬ذهب كل‬

‫‪116‬‬
‫منهم يف اتجاه حتى يحارصوه‪ .‬إىل أن وصلوا لهذا املكان املهجور‪ ،‬وجدوا ال يشء‬
‫بداخله؛ سوى قرب مرتفع قليلاً عن األرض وحوله العظام املتناثرة‪ .‬نظر ابن عبد‬
‫البار إىل الجميع قائلاً ‪ :‬ال يشء هنا‪ .‬فلنذهب‪ .‬غري أن جهاد رأى دماء بجانب هذا‬
‫املكان‪ .‬تل َّمسها بيده‪ .‬إنها دماء لشخص قتل اآلن‪.‬‬
‫نادى عىل ابن عبد البار والجميع يتحسسون املكان‪:‬‬
‫‪ -‬نعم إنها دماء لشخص قتل اآلن‪ ،‬لكن ال يوجد أحد‪.‬‬
‫نظر ابن عبدالبار حوله قائلاً ‪ :‬حاولوا الذهاب بعيدً ا‪ .‬غري أن مصطفى قال‪:‬‬
‫فلنتفقد الغرفة من الداخل‪.‬‬
‫‪ -‬أي غرفة‪ ،‬يا رجل؟‬
‫‪ -‬غرفة القرب هذه‪ ،‬يا خالد‪.‬‬
‫نظر نحو الداخل وجد شي ًئا ما يأكل برشاهة‪ ،‬وكأن الجوع يقتله‪ .‬دقق النظر‬
‫إذ هي العجوز تأكل الجثة‪ .‬نعم‪ ،‬إنها العجوز الشمطاء‪ .‬فزع مصطفى متقهق ًرا‬
‫للخلف‪ .‬حيث خرجت ويتقاطر الدم من فمها وبيدها أشالء أخرى تتقاطر دماء‪،‬‬
‫ناظرة لهم وهي تبتلع الدماء‪.‬‬
‫‪ -‬سنعيد مملكتنا‪ .‬سنعيدها‪ .‬فلن تسقط اململكة‪ ،‬وستكونون قربانًا لإللهة‬
‫“جوتار”‪.‬‬
‫نظر مصطفى إىل ابن عبد البار حتى يقيض عليها‪ .‬إال أنه مل ينصت له قائلاً ‪:‬‬
‫رمبا تنفعنا‪.‬‬
‫‪ -‬وكيف تنفعنا‪ ،‬يا جدي؟‬
‫أجاب ابن عبد البار متمتماً برتانيم ما‪ .‬والعجوز الشمطاء ترصخ وتلطم‬
‫وجهها‪ ،‬ويزداد رصاخها مدويًا يف أرجاء املكان‪ ،‬وكأنها تعذب بصاعق كهربايئ‬

‫‪117‬‬
‫أو باقتالع أظافرها كام يفعلون بسجون كوشيه‪ .‬وتقول له‪ :‬اتركني‪ ..‬اتركني‪ ..‬أنا‬
‫أحرتق‪ ..‬أحرتق‪ ..‬سأحرتق‪ ..‬سأموت‪ ...‬ماذا تريد مني؟ سأعطيك ما تريد‪.‬‬
‫ِ‬
‫يعطيك القوة حتى تستعيدي‬ ‫أجابها ابن عبد البار يف صوت صارخ‪ :‬من‬
‫وجودك باململكة‪ ،‬أيتها الشمطاء؟‬
‫‪ -‬سيدي‪ ،‬إنه‪ ..‬إنه؟‬
‫‪ -‬إنه َمن‪ ،‬أيتها الشمطاء‪ ،‬من؟ أجيبي‪.‬‬
‫‪ -‬سيدي‪ ،‬إنه ساحر أرض الفردوس؛ يعطينا القوة بكفره بربه وإميانه بنا‬
‫وبسوجالر‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬هو يعتقد أننا نقدم له خدمات ال أحد يستطيع تقدميها‬
‫له‪ .‬إال أنه هو من يقدم لنا هذه الخدمات‪ .‬وحقًّا‪ ،‬ال أحد يستطيع تقدميها لنا‬
‫غريه ومن عىل شاكلته‪.‬‬
‫‪ -‬كيف؟‬
‫‪ -‬فقط هو مصدر وجودنا‪ .‬نطلب منه متزيق كتابه املقدس فيفعل؛ نطلب‬
‫منه االغتسال باللنب فيفعل‪ .‬لقد طلبنا منه ذات مرة أن يخلو بنفسه أربعني‬
‫يو ًما ال يحدث أحدً ا‪ ،‬وأن يتغوط وال يغتسل ففعل‪ .‬مقابل هذا خرج له سوجالر‬
‫وأعطى له قري ًنا من الجان يخدمه يف أمور تبدو غري مستحيلة‪ .‬فقط يعرف اسم‬
‫فالن القادم إليه‪ .‬أو يعرف ما مشكلته فيخربه بها‪ .‬ثم يبني عىل ما أخربناه به كثري‬
‫من الكذب فيصدقه البرش ويجمع منهم األموال‪.‬‬
‫‪ -‬وكيف تقدمون خدمات ملن يأيت لهذا الساحر؟ سألها ابن عبد البار‪.‬‬
‫أجابت العجوز الشمطاء قائلة‪ :‬إن هذا الساحر يعمل بتغسيل األموات‪ .‬إن أراد‬
‫إيذاء أحد فقط يأيت بيشء منه‪ ،‬ويكتب عليه طالسم نحن نعطيها له‪ ،‬فكل الطالسم‬
‫تناشد اإللهة جوتار وتكفر بربه‪ ،‬ويتغوط عليها ثم يضعها بفم الجثة‪ .‬فنسري عىل‬
‫خطى الطالسم هذه‪ ،‬حتى نصل إىل الجثة نأكل منها‪ ،‬وننفذ له ما طلبه‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫قاطعها جهاد‪ :‬وماذا لو أراد أن يعود لرشده؟‪ -‬يقصد أن يبتعد عن عامل الجان‪.‬‬
‫نظرت العجوز الشمطاء له بعينني تشعان نا ًرا‪ :‬سنأكله مثلام نأكل هذه الجثة‪.‬‬
‫يف هذه اللحظة‪ ،‬أنهى ابن عبد البار حديثه معها‪ ،‬ثم أخذ يكمل‪ ،‬ويتمتم مبا‬
‫يقول وهي تختنق حتى احرتقت متا ًما‪ ،‬وأصبحت دخانًا‪.‬‬
‫انتهت العجوز الشمطاء هنا‪ ،‬وانتهت معها أفعالها السابقة‪.‬‬
‫أكمل الجميع املسري نحو الجهة الغربية غري أنهم ال يعرفون عواقبها‪ .‬وصل‬
‫الجميع عند مكان أشبه بالوادي املنحدر قليلاً كانت الشمس عىل وشك الرشوق‪.‬‬
‫الجميع متعب‪ .‬نظر ابن عبد البار إليهم‪ :‬سننام قليلاً فقط ساعتني أو ثالثًا ال‬
‫أكرث‪ .‬وافق الجميع‪ .‬إال أن جها ًدا برغم التعب أصبح يف أرق ومل تغمض عيناه‪ .‬أخذ‬
‫جهاد يتفقد املكان املقابل للوادي‪ ،‬وجلس مبكان يشبه التل متفقدً ا هذه اململكة‬
‫التي رمبا مل يسمع عنها إال يف خياله‪ .‬أراد جهاد أن يرجع إال أنه وجد قطعة من‬
‫قامش صغرية‪ .‬أخذها يتفقدها‪ .‬تذكر هذه القطعة من ثياب لوجني‪.‬‬
‫كاد أن يجن‪ :‬وهل كانت العجوز الشمطاء تأكلها؟‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬ال‪ .‬مل تكن هي‪.‬‬
‫‪ -‬لكن القطعة أنا أثق أنها ترجع إىل ثياب لوجني‪ .‬أخذ ينظر ويرتقب لعل‬
‫هناك طريقا ما‪.‬‬
‫وحاول أن يحدث مصطفى وخالدً ا وابن عبد البار ما حدث‪ ،‬إال أنه وضعها‬
‫بحقيبته الصغرية‪ .‬محدثًا نفسه‪ :‬سيلقون عليك اللوم‪ ،‬كام فعلوا بك يوم أن أخذت‬
‫جز ًءا من املخطوطة بقرص سوجالر‪.‬‬
‫‪ -‬سيتهمونك بالتقاعس والتالعب‪ .‬ال لن أفعل‪ .‬كان جهاد يحدث نفسه‪ .‬إال‬
‫أن مصطفى أفاق من النوم مبك ًرا فز ًعا‪ .‬جرى إليه جهاد ساندً ا له واض ًعا يديه‬
‫خلف ظهره‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫‪ -‬ما بك؟ ما بك‪ ،‬يا رفيقي؟ أجاب مصطفى‪ :‬أنا بخري‪ ،‬بخري‪ .‬ال تقلق‪ .‬فقط‬
‫كابوس‪ - .‬أي كابوس‪ ،‬يا رفيقي؟‬
‫نظر إليه مصطفى‪ :‬ال يشء‪ .‬أنا بخري‪ .‬وأنت ملَ ال تخلد للنوم؟ قال له‪ :‬ال بل‬
‫كنت نامئا‪ ،‬لكن أفقت من قبل كابوسك هذا بدقائق‪ .‬قالها جهاد مبتسماً ‪.‬‬
‫حاول ابن عبد البار أن يكمل املسري نحو االتجاه املتفق عليه “الجهة الغربية”‪.‬‬
‫إال أن جها ًدا أرص عىل أن يكمل االتجاه يف الطريق املقابل للوادي‪.‬‬
‫نظر الجميع لجهاد‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا بهذا الطريق؟ أجاب‪ :‬ال يشء‪ ،‬ال يشء‪ .‬فقط أشعر أنه الطريق الصحيح‪،‬‬
‫أرى ذلك‪ ،‬ولكم ما ترون‪ ،‬هل توافقوين الرأي؟‬
‫وافقه الجميع؛ رمبا إنه املنقذ لهم من الفرتة السابقة‪ .‬وأكملوا السري يف اتجاه‬
‫الطريق املقابل الذي أشار إليه جهاد‪ .‬غري أن خالدً ا نظر إىل جهاد قائلاً ‪ :‬ملَ هذا‬
‫االحمرار الذي بعينيك؟ ملْ تنم جيدً ا؟ أجابه‪ :‬نعم‪ ،‬كنت قلقًا نو ًعا ما‪.‬‬
‫‪ -‬أرسعوا‪ .‬الجميع يرتقب جهاد الذي عىل غري عادته يطالبهم بالتقدم‪.‬‬
‫وصل الجميع حيث األرض التي ال يعرف أحد بها هناك‪.‬‬
‫إنها أرض لوجني‪ .‬كان جهاد يقولها من داخله‪ .‬هناك‪ ،‬تفاجأ ابن عبد البار‬
‫بصوت خالد يصيح‪ :‬وصلنا‪ .‬نعم‪ ،‬لقد خرجنا من لعنة القرص‪.‬‬
‫إال أن ابن عبد البار قاطعه‪ :‬ال يا بني تريث‪ ..‬مل نصل‪ ،‬حتى نصل إىل الكهف‪.‬‬
‫‪ -‬إ ًذا‪ ،‬ومن هؤالء؟ قالها مصطفى‪ .‬أجاب ابن عبد البار‪ :‬سنعرف‪ .‬فقط متهل‬
‫قليلاً ‪ .‬دخل الجميع من باب منقوش عليه وجوه غري متطابقة‪ .‬نظر مصطفى‪:‬‬
‫لعلها تشبه ذاك الفن يقصد”الكاريكاتري”‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫‪ -‬ماذا؟ أي فن؟ قالها خالد‪ .‬أجاب مصطفى‪ :‬ال يشء‪ .‬قاطعهم رجل عمالق‬
‫القامة شديد السواد؛ تظهر عىل وجهه البالهة‪.‬‬
‫‪ -‬تفضل سيدي‪ .‬تفضل صاحب الوجه الساموي‪ .‬تفضل صاحب التاج‪.‬‬
‫كلها ألقاب كانت تقال البن عبد البار‪ .‬نظر مصطفى فوجد آخر يقول له‪ :‬ماذا‬
‫تريد‪ ،‬يا صاحب الوجه الساموي‪ .‬غري أن األخري نظر إىل جهاد وخالد قائلاً ‪ :‬كيف‬
‫وجوه السامء تصاحب هذين الوجهني اللذين يبدو عليهام الفقر الشديد للعلم‪.‬‬
‫مل يعرف أي منهم املقصود بهذه األلقاب‪ .‬ومن هم؟ إال أن خالدً ا استوقف‬
‫رجلاً كان يسري عىل حامره‪ :‬يف أي بلد نحن؟ أجابه األخري‪ :‬أنت مبملكة وجوه‬
‫العلم‪ ،‬أيها الجاهل‪ .‬نظر خالد إىل من معه متمتماً ‪ :‬مملكة وجوه العلم؟‬
‫لقد نُعت خالد بالجاهل؛ كام نُعت جهاد‪ ..‬وابن عبد البار ومصطفى بالوجه‬
‫الساموي‪.‬‬
‫تفهم مصطفى ما يقصدونه‪ ،‬كام أيضً ا تفهم ابن عبد البار‪ ،‬حيث نظر‬
‫مصطفى إىل ابن عبد البار قائلاً ‪ :‬هنا أنت ملك هذه اململكة دون طالسم‪ ،‬يا‬
‫جدي‪ .‬ضحك ابن عبد البار معج ًبا بذكاء مصطفى الذي تفهم املوقف رسي ًعا‪.‬‬
‫قاطعهم جهاد‪ :‬وملَ نحن جاهالن وأنتام من أهل العلم؟ ومن الذي أخربهم أين‬
‫بائع طائرات ورقية‪ ،‬يا جدي؟ لقد فعلتها‪ ،‬يا خالد؟ أجاب خالد‪ :‬فعلت ماذا؟ أنا‬
‫أيضً ا نعتوين بالجاهل‪.‬‬
‫ضحك منهم مصطفى وابن عبد البار الذي أخذ يتقدم نحو هذا التجمهر‬
‫خطوة تلو األخرى‪ .‬وكان مصطفى يتحسس قلبه وكأن شي ًئا يحدث؛ ناظ ًرا إليه‬
‫جهاد‪:‬‬
‫‪ -‬ال عليك‪ ،‬يا رفيقي‪ .‬لعلنا نقرتب‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫نظر إليه جهاد متعج ًبا‪ :‬نقرتب من ماذا‪ ،‬يا صديقي؟ غري أن جها ًدا قال له‪:‬‬
‫تأخر عن ابن عبد البار وخالد خطوات ألعطيك شي ًئا‪.‬‬
‫أخرج جهاد من حقيبته تلك القطعة من ثياب “لوجني” التي وجدها جهاد‬
‫أثناء وجودهم بالوادي‪ .‬أخذها مصطفى يشم رائحتها ويتحسسها ويضعها عىل‬
‫وجهه‪.‬‬
‫‪ -‬إنها لــ لوجني‪ .‬إنها لها‪ ،‬يا صديقي‪.‬‬
‫قال‪ :‬نعم‪ .‬لقد وجدتها عندما كنتم نيا ًما واألرق مل يدعني أنام‪ .‬أمسك‬
‫مصطفى به متسائلاً ‪ :‬لذا سلكت بنا هذا الطريق‪ ،‬يا صديقي؟ قال له جهاد‪ :‬نعم‪.‬‬
‫فال أريد أن يذهب حبكم ُسدى‪ ،‬يا صديقي‪ .‬إين عاشق مثلك‪.‬‬
‫‪ -‬عاشق َمن‪ ،‬يا جهاد؟‬
‫أجاب جهاد‪ :‬الطائرات الورقية‪ ،‬يا صديقي‪ .‬وهل هذا الوجه يعشق إال أطفالاً ‪.‬‬
‫ضحك مصطفى وجهاد وتقدَّ ما نحو التجمهر‪ .‬وجد الكثري يقفون مصطفًني‪،‬‬
‫شج‬
‫والجميع وكأنهم ينتظرون الدواء فالجميع مرىض‪ .‬من به كرس أو ُجرح‪ ،‬أو َّ‬
‫رأسه أو يشء آخر‪.‬‬
‫نظر الجميع يتفقد املوقف‪ .‬قال ابن عبد البار‪ :‬لنكمل‪ .‬إال أن مصطفى قال‪:‬‬
‫نشاهد مل هذا االصطفاف؟‬
‫تساءل عن السبب‪ .‬أجابه البعض‪ :‬نحن هنا لنعالج من صاحب الوجه‬
‫الساموي‪ ،‬يا صاحب الوجه الساموي‪.‬‬
‫لرمبا تفهم ابن عبد البار مرة أخرى ملاذا يصفونه بصاحب الوجه الساموي‪.‬‬
‫وقف مصطفى بهذا الطابور الذي يطول للناظر‪ .‬غري أن الحارس أخرجه قائلاً ‪:‬‬
‫ليس هذا مبقام لك‪ ،‬سيدي‪ .‬أنت صاحب وجه ساموي‪ .‬إال أن مصطفى أرص قائلاً ‪:‬‬
‫أنا هنا مع صديقي هذا‪ .‬وأشار إىل جهاد الذي أجاب عنه كعادته القدمية‪:‬‬

‫‪122‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬فأنا جاهل وهو من قام عىل تربيتي‪.‬‬
‫تركهم الحارس‪ .‬أخذ الطابور يقرتب من الخيمة حتى وصل جهاد ومن خلفه‬
‫مصطفى قري ًبا من الخيمة‪ ،‬إال أن من بداخلها سمع صيحات البعض‪ :‬أفسحوا‬
‫الطريق لصاحب الوجه الساموي‪ .‬أفسحوا الطريق‪ .‬وأخذ الجميع يتحسس‬
‫مصطفى كنوع من أنواع التربك به‪ .‬نظر “طبيب الخيمة” يف ترقب‪ :‬من؟ ثم قال‪:‬‬
‫ملَ هذا الصياح؟ ماذا حل بكم؟ قال الحارس‪ :‬صاحب وجه ساموي‪ ،‬سيدي‪ ،‬يحرض‬
‫هنا‪ .‬خرج الطبيب قليلاً حتى أول الغرفة‪ :‬من؟ مل يصدق أيبي ما تراه عيناه‪ .‬قام‬
‫واحتضن مصطفى وجهاد باك ًيا‪.‬‬
‫‪ -‬كنت اشعر بأن هذا القلب لن يرتك من أحب‪ .‬يا ولدي‪ ،‬مل أر عشقًا مثلام‬
‫رأيته يف عينيك يوم أن جئت غرفتي بالقرص‪.‬‬
‫جلس ابن عبد البار ومصطفى وظل جهاد وخالد يرتقبون املوقف‪ .‬نظر أيبي‬
‫إىل جهاد قائلاً ‪ :‬ما زال بائع الطائرات هنا‪ ،‬يا فتى ‪ .‬ضحك مصطفى والجميع قائلاً ‪:‬‬
‫لو مل يكن معنا بائع الطائرات ما كنا هنا‪.‬‬
‫نظر ابن عبد البار إىل مصطفى‪ :‬كيف؟ قاطعهم جهاد‪ :‬ال يشء‪ .‬يقصد يوم‬
‫أنقذتكم من القربان‪ ،‬يا جدي‪ .‬تبسم ابن عبد البار‪ ،‬إال أن مصطفى بلهفة العاشق‬
‫سائلاً ‪ :‬أين لوجني؟ كاد أن يجيبه الطبيب إال أنه تساءل يف رسع ٍة ثاني ًة‪ :‬أين‬
‫لوجني؟ ابتسم الطبيب قائلاً ‪ :‬دع قلبك يأخذ قسطًا من الراحة‪ .‬قال‪ :‬ال راحة‬
‫لقلبي إال برؤيتها‪ .‬أين لوجني؟ أشار إليه ابن عبد البار يف خيمة مقابلة قال له‪:‬‬
‫هناك تعد يل الدواء وبعض التجارب لنعالج بها من يف هذه املدينة‪ .‬قام مصطفى‬
‫مرس ًعا نحو خيمتها‪ .‬كانت لوجني تحرض الدواء وبيدها كأس زجاجية بها مادة‬
‫جيالتينية وأمامها إناء آخر تفرغ به هذه املادة‪ .‬حاول مصطفى أن يتاملك نفسه‬
‫التي ترتجف‪ ،‬وكأنه يقف فوق قمم جبال الهياماليا من شدة االرتجاف‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫فأمل قلبه يتزايد بهذه الرجفة‪ ،‬إال أنه كعادته يستمتع بهذا األمل الذي يصاحبه‬
‫وجود حبيبته‪ .‬حاول مصطفى لفت االنتباه بإصدار صوت “نحنحة” إال أنها‬
‫قلت سابقًا إنني ما زلت أعد‬
‫أجابت غري ملتفتة قائلة‪ :‬نعم‪ ،‬ماذا تريد؟ لقد ُ‬
‫الدواء‪ ،‬ومل أنت ِه‪ .‬أجاب مصطفى‪:‬‬
‫‪ -‬وهل يشفي القلب العليل دواء غري دوائك؟‬
‫لقد وقعت الجملة عىل مسمع لوجني كربق جعلها تشخص العينني حيث‬
‫أوقعت الكأس وسكبت املادة الجيالتينية ملتفتة بدموع عىل الخدين كمجرى‬
‫مايئ يصل نهر مبصبه ذاهبة إليه معانقة له قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬ال يشفي قلبي العليل سواك أنت‪ ،‬يا من ملكته بجنونك‪ .‬كنت أنتظرك‪ .‬ال‬
‫يشء يستطيع أن يأخذك مني‪ .‬صد ًقا‪ ،‬حبيبي كنت أنتظرك‪.‬‬
‫حاول مصطفى أن يبعدها قليلاً حتى يتمكن من مسح دموعها إال أنها أبت‬
‫قائلة‪ :‬دع أضلعي تعانق القلب الذي طاملا وجد وجدت لوجني‪ .‬أحبك أكرث‪ .‬أحبك‬
‫أكرث‪ .‬أحبك أكرث مام كان وما سيكون‪ .‬رمبا هذه اللحظات أعطت ملصطفى قوة‬
‫أحب عيدٌ ‪.‬‬
‫رضا وقل ًبا فر ًحا‪ .‬فلقاء املحب مبن َّ‬
‫إيجابية ووج ًها ن ً‬
‫ماذا لو القدر مل يجمعنا مرة أخرى‪ ،‬يالوجني؟ ماذا لو سلكنا طريقًا آخر أو أن‬
‫جها ًدا مل يساعدنا عندما وجد قطعة من ثيابك تدل عىل وجودك مبكان قريب‬
‫م ّنا؟‬
‫‪ -‬وهل تشعر بأنك ال تحبني؟ أجابها مصطفى‪ :‬و َمل تقولني هذا؟‬
‫أجابت لوجني‪ :‬عندما تشعر بأنك ال تحبني فقط سيبعدنا القدر‪ .‬فالقدر شغف‬
‫املحبني ملن أحبوا‪ .‬القدر هو عدم الكف عن من أحببت‪ .‬فعندها يكون القدر‬
‫لك‪ .‬هل تفهمت‪ ،‬يا قدري‪ ،‬عندها يكون لك؟ ابتسم مصطفى من كلامت حبيبته‬
‫التي هدأت من شوقه وشغفه إليها‪ .‬نظرت لوجني إليه قائلة‪ :‬دعنا نتفقد الرفقاء‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫خرج مصطفى من خيمة استحضار الدواء مصطح ًبا لوجني ألصدقائه‪ .‬فرح‬
‫الجميع بلقائها مرة أخرى‪ .‬ابن عبد البار واض ًعا يده عىل رأسها شاك ًرا ربه لحفظها‪.‬‬
‫خالد‪ :‬مرحبا ِ‬
‫بك مرة أخرى‪ ،‬أختي‪.‬‬
‫جهاد‪ :‬مرح ًبا مساعدة الطبيب أيبي‪ .‬متى تكونني طبيبة وتتخلصني من وظيفة‬
‫املساعدة؟ ضحكت لوجني‪ :‬عندما تتخلص أنت من طائراتك الورقية‪ .‬رد جهاد‪ :‬إ ًذا‬
‫ستعملني مساعدة باقي عمرك‪ .‬ضحك الجميع‪ ،‬فقد ُجمعت األرسة ثاني ًة يف تواد‬
‫وحب‪ .‬ولكن لن يطول الجمع‪ ،‬حيث الرفقاء من بني اإلنسان‪ ،‬وأيبي ليس منهم‬
‫كام أن لوجني اختطفت طفلة صغرية ال تعرف شي ًئا‪ ،‬وتربت عىل أن تكون واحدة‬
‫منهم وال تعرف غريهم‪ ،‬والعودة بصحبة الرفقاء رمبا تكون لها عواقب وخيمة‪،‬‬
‫أو أنها لن تستطيع العيش مبجتمع آخر‪ .‬فعادتنا مختلفة عن مملكتهم متا ًما‪ .‬رمبا‬
‫هذا يتوقف عىل القدر مثلام قالت لوجني سابقًا‪.‬‬
‫واصل الجميع الحديث‪ .‬اتفق ابن عبد البار عىل الجلوس أسبو ًعا أو أسبوعني‬
‫معهم‪ ،‬ومن ثم العودة من حيث أتوا‪ .‬رحب أيبي بالفكرة قائلاً ‪ :‬وملَ العجلة؟‬
‫دعونا نكمل مسريتنا هنا‪ .‬أجاب ابن عبد البار‪ :‬عاملنا يحتاج إلينا كام نحتاج‬
‫إليه‪ .‬ورمبا لنا عودة مرة أخرى‪ ،‬أيها الطبيب صاحب الوجه الساموي‪ .‬ابتسم‬
‫أيبي‪ :‬وأنت أيضً ا‪ ،‬سيدي صاحب الوجه الساموي‪ .‬فعلمك غزير انتفعنا به جمي ًعا‬
‫عىل مدار سنوات وسنوات‪ .‬فقد أنقذت مملكتنا كث ًريا‪ .‬حتى جاء لك هذا الفتى‬
‫ليكتمل الجمع‪ .‬قاطعهام جهاد‪ :‬وماذا نعمل هنا‪ ،‬أيها الطبيب؟ نحن كام ترى‬
‫الجميع ينعتنا بصاحبا األفق الضيق‪ ..‬ال معلومات‪ ..‬ال معرفة‪ ..‬ال يشء إال ما‬
‫اكتسبناه سابقًا‪ .‬أجابه أيبي ناظ ًرا إىل الجميع‪ :‬عليكم أن تكونا يف مجلسنا وتطلعا‬
‫أكرث عىل حضارتنا حتى يصبح وجه كل منكام سامو ًّيا أو تكونان من العلامء‬
‫املقربني‪ .‬فهذه اململكة تختلف متا ًما عن كوشيه‪ .‬إنها حضارة أهل العلم‪ .‬نظر‬

‫‪125‬‬
‫إليه مصطفى متسائلاً ‪ :‬وماذا كانت الحضارات األخرى التي مررنا بها؟ أجاب‪ :‬إنها‬
‫تابعة لحضارتنا‪ ،‬يا بني‪ ،‬لكن هي ماملك خاضعة لها‪ ،‬حيث فرضت عليها حضارتنا‬
‫سيادتها وسيطرتها‪ .‬بينام هنا أنت داخل حضارة أهل العلم أصحاب العقول؛‬
‫أصحاب العلوم‪ .‬هنا مركز التاريخ‪ ،‬يا بني‪ .‬هنا شعاع الحضارات ينبعث من هنا‪.‬‬
‫هنا رشوق شمس العلم لتنرش نورها عىل باقي العامل‪.‬‬
‫أنت يف حرضة عظامء العامل‪ ،‬يا فتى‪ .‬هيا بنا‪ ،‬يا بني‪ ،‬حتى نعرف أكرث عن هذا‬
‫العامل‪ .‬ال تخف هنا فقط التقدير واإلحرتام لصاحب املعرفة ال ملوك ال جاه ال‬
‫سلطان إال للمعرفة‪ .‬فقط بثقافتك ستكون هنا ملكًا أو بافتقارك للمعرفة ستكون‬
‫عبدً ا‪ .‬عبق التاريخ هنا‪ ..‬فقط‪ ،‬يا بني‪ ،‬املعرفة التي تنفع بها املجتمع‪ .‬أراد أن‬
‫يوضح لهم أيبي أكرث‪.‬‬
‫‪ -‬أي نصنع شي ًئا يكون ذا قيمة للبرش‪ ،‬وأن ال نكتم علماً من املمكن أن ننقذ‬
‫به آخرين‪ ،‬ا ًذا‪.‬‬
‫تفهم الجميع ما يعنيه أيبي جيدً ا‪ .‬حيث عمل كل منهم منذ اللحظات األوىل‬
‫عىل التوسع يف املعرفة وإفادة الجميع‪ .‬ذهب مصطفى ولوجني نحو املخترب لصنع‬
‫الدواء‪ ،‬بينام ابن عبد البار ومعه خالد وجهاد نحو علم الفلك‪ ،‬حيث ابن عبد‬
‫البار كان لديه خربة كبرية به‪ .‬كانت خربة ابن عبد البار بعلم الفلك كافية برتجمة‬
‫الكثري من الظواهر الكونية‪ .‬تابع خالد وجهاد العمل مع ابن عبد البار الذي‬
‫اصطحبهم ملكان مرتفع مبنتصف املدينة‪ ،‬حيث كان يتابع ابن عبد البار حركة‬
‫نجم “الشعرى” الذي ظهر مرة أخرى بعد اختفاء سبعني يو ًما ملدة ‪ 40‬دقيقة‪.‬‬
‫نعم إنه بداية شهر جديد‪ .‬عاد ابن عبد البار ومعه مصطفى وجهاد من ترقبهم‬
‫لنجم “الشعرى” حيث أخذ ابن عبد البار قلماً من البوص ومدا ًدا أسود ورسم‬
‫قر ًدا واقفًا ويده متجهة للسامء‪ ،‬واض ًعا إكليلاً عىل رأسه‪ .‬قاطعه جهاد‪ :‬ماذا‬

‫‪126‬‬
‫تفعل بقلمك هذا؟ هل هي طالسم جديدة أم ماذا؟ أجابه ابن عبد البار‪ :‬هذه‬
‫بداية شهر جديد‪ ،‬أيها األبله‪ .‬نظر خالد متسائلاً ‪ :‬وكيف عرفت ذلك؟‬
‫أجابه ابن عبد البار‪ :‬يا بني‪ ،‬إن الساعة الشمسية تقيس أربع ساعات قبل‬
‫منتصف النهار وأربع ساعات بعد منتصف النهار‪ ،‬ثم نضيف ساعتني قبل رشوق‬
‫الشمس وساعتني عند الليل‪ ،‬ومن ثم يكون مجموع الساعات ‪ 12‬ساعة‪ .‬تساءل‬
‫جهاد حيث يظهر عىل سؤاله الذكاء(هذا خالفًا عن مالمح البالهة التي يحملها)‪:‬‬
‫وأين الساعة التي متر بعد املغرب والتي متر بعد الفجر؟ حقًا خالد تساءل سؤال‬
‫جهاد نفسه‪ :‬نعم‪ ،‬سيدي‪ ،‬أين هي؟ أجاب ابن عبد البار‪ :‬هذا ألن مدة طول الظل‬
‫شاخصا البرص فات ًحا لفمه قائلاً بإشارة من رأسه‪ :‬أنا ال‬
‫ً‬ ‫هنا كبرية‪ .‬وقف جهاد‬
‫أفهم‪ .‬عليك أن تعيد رشح ما فهمته من ابن عبد البار‪ ،‬يا خالد‪ .‬حيث كان جهاد‬
‫خائفًا أن يقول البن عبد البار مل أفهم مبارشة‪ ،‬فيغضب‪ .‬ضحك ابن عبد البار قائلاً ‪:‬‬
‫سأعيد لك أنا‪ ،‬ولكن بعد الجلوس داخل الخيمة‪ ،‬حتى يتسنى لنا التوضيح أكرث‪.‬‬
‫حس ًنا فنلذهب‪ .‬جلس ابن عبد البار وعن يساره خالد وميينه جهاد‪.‬‬
‫‪ -‬انظر‪ ،‬يا بني‪ ،‬تختلف الساعات باختالف فصول السنة‪.‬‬
‫الشهر األول النهار ‪ 16‬ساعة والليل ‪ 8‬ساعات‬
‫الشهر الثاين النهار ‪ 14‬ساعة والليل ‪ 10‬ساعات‬
‫الشهر الثالث النهار ‪ 12‬ساعة والليل ‪ 12‬ساعة‬
‫الشهر الرابع النهار ‪ 10‬ساعات والليل ‪ 14‬ساعة‬
‫هكذا يكون التقسيم عىل حسب فصول السنة‪ ،‬وهكذا يكون الفصل األول من‬
‫السنة الزراعية‪ ،‬حيث كانت ثالثة فصول لكل فصل أربعة أشهر‪.‬‬
‫تفهمت قليلاً ‪ .‬حس ًنا‪ ،‬وما فائدة كل هذا؟ قالها جهاد ناظ ًرا لصديقه‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬رمبا‬
‫خالد كعادته خائفا من رد فعل ابن عبد البار‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬ليس له فائدة‪ .‬عليك أن تذهب إىل الطبيب أيبي‪ ،‬فأنا ال أحسن الترصف‬
‫مع أمثالك‪ .‬قالها ابن عبد البار بعد نفاد صربه لجهاد‪ .‬بينام نظر جهاد إليه نظرته‬
‫املعتادة راف ًعا عينيه‪ :‬أنتم ال تقدرون العلم‪ .‬سأذهب للطبيب أيبي‪ .‬حس ًنا‪ ،‬فهو‬
‫من يقدر هذا‪ .‬ضحك خالد قائلاً البن عبد البار‪ :‬دعنا منه‪ ،‬وأكمل لقد تشوقت إىل‬
‫معرفة الكثري عن كيفية حساب األيام والشهور بهذه املدينة‪ .‬ذهب جهاد حيث‬
‫جالسا‬
‫خيمة ابن عبد البار وبها مصطفى ومعه لوجني‪ .‬كان ابن الطبيب”أيبي” ً‬
‫حيث أصبح مرهقًا لكرثة العمل بينام مصطفى ولوجني يقفان ليعدان الدواء‪.‬‬
‫دخل جهاد الذي بطبيعته أصدر صوت “نحنحة”‪ :‬أنا هنا‪ ،‬يا صديقي‪ .‬ماذا أىت‬
‫بك؟ أجابه جهاد‪ :‬حتى أساعدكم‪ .‬نظر الطبيب أيبي إليه متسائلاً ‪ :‬وهال أعطيت‬
‫مساعدتك لألصدقاء وابن عبد البار؟ أجاب جهاد‪ :‬لقد انتهينا وأتيت هنا حتى‬
‫ننتهي أيضً ا‪ .‬نظر إليه مصطفى مبتسماً ‪ :‬نعم‪ ،‬يا صديقي‪ ،‬أنا أعرف كيف انتهيت‪.‬‬
‫فال أريد منك أن تكررها‪.‬‬
‫‪ -‬حس ًنا‪ ..‬حس ًنا‪ .‬قالها جهاد ناظ ًرا إىل الطبيب أيبي الذي أعطى له مسحو ًقا‬
‫حتى يخلطه بآخر وطلب منه أن يقلبه جيدً ا‪.‬‬
‫‪ -‬هذه وظيفتك‪ ،‬يا فتى‪ .‬إن فشلت فسنلقي بك خارج املدينة تأكلك العجوز‬
‫الشمطاء‪.‬‬
‫‪ -‬حس ًنا‪ ،‬يا طبيب لكن العجوز الشمطاء قد ماتت‪ .‬هل جاء أحد غريها؟‬
‫‪ -‬وهل يعنيك؟ قالها الطبيب يف غضب‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬سيدي‪ .‬ولكن من يأكلني وهي ميتة؟‬
‫ضحك الجميع‪ ،‬وأكمل جهاد تقليب باملسحوق‪ ،‬ثم اصطحبه الطبيب خار ًجا‬
‫حتى يحمل معه بعض العشب لحاجتهم إليه يف تحضري الدواء‪ .‬وجلس مصطفى‬
‫مع لوجني يكمالن عملهام‪ ،‬حيث نظر إليها قائلاً ‪ :‬وماذا بعد لو غربت شمسنا‪،‬‬

‫‪128‬‬
‫يا لوجني؟ األيام متيض وستمر األيام وسيأيت ابن عبد البار لنعود‪ .‬وماذا ِ‬
‫عنك؟‬
‫أجابت لوجني‪ :‬سنميض حيث متيض‪ .‬مل يصدق مصطفى ما سمعه منها‪ .‬وهل‬
‫بالفعل تقصد أن تعود معه‪ .‬أمسك بيدها فر ًحا‪ :‬ماذا؟ ماذا تقولني‪ ،‬حبيبتي؟‬
‫قالت له سنميض حيث متيض‪ .‬أنا حيث تكون‪ ،‬وأنت حيث أكون‪ .‬ال يشء آخر‪،‬‬
‫حبيبي‪ .‬ألقى مصطفى بالدواء الذي يف يده معانقًا لوجني فر ًحا بقرارها هذا‪ ،‬حيث‬
‫قاطعهم جهاد الذي كان يحمل العشب مع الطبيب واقفًا عىل بداية الخيمة‬
‫ممسكًا ببعض العشب قائلاً ‪ :‬كنت أعرف أن الطبيب يخيل لكم الطريق‪ .‬عليك‬
‫اللعنة‪ ،‬يا أيبي‪ .‬بالطبع‪ ،‬كان الطبيب أيبي خلفه‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تقول‪ ،‬يا أبله؟ نظر جهاد إليه‪ :‬ال‪ ،‬سيدي‪ ،‬مل أقل شي ًئا‪ .‬فقط كنت أشكر‬
‫القدر الذي جاء يب لخيمتك‪ .‬فأنت حقًا كأيب‪.‬‬
‫ابتسمت لوجني بسمة خجل هامسة ملصطفى‪ :‬صديقك هذا أصبح جز ًءا من‬
‫عاملنا بعفويته هذه‪ .‬نظر مصطفى إليها قائلاً ‪ :‬وأصبح مصدر مشاكلنا‪ ،‬حبيبتي‪.‬‬
‫دعينا نجد له حلاًّ أو كان علينا أن نرتكه قربانًا لإللهة‪ .‬قاطعهم الطبيب أيبي‪:‬‬
‫فليكمل كل منكم عمله‪..‬‬
‫أكمل الجميع عمله‪ .‬ويف اليوم التايل‪ ،‬خرج الطبيب مصاح ًبا مصطفى ولوجني‬
‫ومن خلفهم جها ًدا الذي كان مييش منفر ًدا واض ًعا يديه خلف ظهره‪ ،‬وكأنه مراقب‬
‫مايل للمدينة‪.‬‬
‫يف طريقهم البن عبد البار وخالد‪ :‬مرح ًبا بك‪ ،‬أيها الطبيب العظيم صاحب‬
‫الوجه الساموي‪ .‬قالها ابن عبد البار فات ًحا ذراعيه الستقبال الطبيب أيبي‪ .‬كام‬
‫عانق مصطفى صديقه خالدً ا‪ .‬بينام وجد جهاد نفسه وحيدً ا‪ ،‬فنظر حيث لوجني‬
‫بك‪ ،‬يا لوجني‪ .‬ضحكت لوجني قائلة‪ :‬حقًا‪ ،‬لذا طردين‬ ‫قائلاً ‪ :‬بالطبع ال أحد يهتم ِ‬
‫ابن عبد البار والطبيب أيبي‪ .‬إشارة منها ملا فعلوه معه‪ .‬تبسم جهاد واض ًعا يده‬

‫‪129‬‬
‫أسفل حنجرته قائلاً ‪ :‬لقد كشف أمري‪ .‬نظر إليه مصطفى‪ :‬اجلس‪ ،‬يا صديقي‪.‬‬
‫ونظر أيضً ا حيث لوجني‪ :‬فلتجليس‪ ،‬يا لوجني فجلست لوجني بجانب مصطفى‬
‫األيرس وجهاد عىل الجانب اآلخر‪ .‬همست يف أذنه قائلة‪ :‬أنا هنا حيث قلبك بهذا‬
‫الجانب الذي أعشقه أكرث منك‪ .‬أجاب مصطفى واض ًعا يديه عىل قلبه قائلاً ‪ :‬ليتك‬
‫تشعر من املتحدث أنها لوجني‪ .‬وضع جهاد يديه عىل رأس مصطفى قائلاً ‪ :‬أشعر‬
‫بأنك مريض‪ ،‬يا صديقي‪ .‬فضحكت لوجني‪.‬‬
‫جلس الجميع يتسامرون كام كانوا من قبل بالنهاية‪ .‬تحدث ابن عبد البار‬
‫بصوت يسمعه الجميع قائلاً ‪ :‬علينا أن نفعل ما أردنا يف خالل هذا األسبوع‪ ،‬ألننا‬
‫سنعود يف األسبوع املقبل‪ .‬نظر إليه الطبيب أيبي‪ :‬حس ًنا‪ ،‬يا صديقي‪ .‬رشف لنا ما‬
‫تعلمناه منك‪ ،‬وما سنتعلمه يف األسبوع املقبل‪ .‬فرح الجميع بالعودة بال استثناء‪.‬‬
‫وقال مصطفى‪ :‬إ ًذا كام قال ابن عبدالبار‪ .‬هناك عالمات استفهام وضعها الرفقاء‬
‫عىل حالة مصطفى الذي مل يعارض هذه املرة‪ .‬فال يعلم أحد بالوعد الذي اقتطعه‬
‫من لوجني بالعودة معه‪ .‬نظر خالد إىل صديقه مصطفى مكر ًرا كالم ابن عبد البار‪:‬‬
‫سنعود‪ ،‬يا صديقي‪ .‬رد مصطفى‪ :‬حس ًنا‪ ،‬يا رفيقي‪ .‬إ ًذا العودة‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫العودة‬

‫حمل الجميع أمتعته‪ ،‬ومل يكن مصطفى أخربهم بأن لوجني ستعود معه‪.‬‬
‫دخل الطبيب عىل لوجني التي كانت تقوم بتحضري أمتعتها لتذهب مع مصطفى‬
‫متسائلاً ‪ :‬ما هذه‪ ،‬يا لوجني؟ أخفضت لوجني وجهها ألسفل‪ ،‬ومل تجِ ب الطبيب‪.‬‬
‫‪ -‬أكرر‪ ،‬يا لوجني ما هذه؟ نظرت إليه بنظرات متقطعة‪ :‬سيدي‪ ،‬سأذهب‪.‬‬
‫‪ -‬إىل أين؟‬
‫‪ -‬سيدي‪ ،‬مع مصطفى‪ .‬أعاد الطبيب أيبي تكرار سؤاله‪ :‬مع َمن؟‬
‫أجابت مرة أخرى لوجني‪ :‬مصطفى‪ ،‬سيدي وابن عبدالبار‪.‬‬
‫‪ -‬وهل تعلمني أين يذهب هذا الفتى ومن معه؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬إىل موطنهم‪ ،‬سيدي الطبيب‪.‬‬
‫جلس أيبي عىل أريكة كانت بجواره واض ًعا يديه عىل ركبتيه ناظ ًرا إليها‪ :‬نعم‪،‬‬
‫أنت؟ أين موطنك؟‬ ‫وأنت‪ ،‬يا لوجني؟ ِ‬
‫موطنهم بالفعل‪ .‬هم يذهبون إىل موطنهم‪ِ .‬‬
‫نشأت هنا‪ .‬قاطعته لوجني بدموعها التي تتساقط‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ترعرعت هنا‪.‬‬ ‫هنا موطنك‪.‬‬
‫نجرف‪ :‬مل يكن موطني‪ .‬مل تكن نشأيت‪ .‬مل تكن حيايت‪ .‬نعم أنا ال أعرف‬ ‫كسيل ُم ٍ‬
‫غريكم وال أعرف غريك‪ .‬فأنت مل تكن مجرد طبيب وأنا أساعده‪ .‬أنت كنت كل‬
‫يشء‪ .‬أنت أيب‪ ..‬أمي‪ ...‬أنت عائلتي‪ .‬ولكن أنا أشعر أنني لست من هذه الطينة‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫أنا أشعر بأنني أمتلك شعو ًرا‪ .‬والجميع هنا ال ميتلك شعو ًرا‪ .‬أنا أشعر بأنني أمتلك‬
‫هدفًا وأعيش ألجله‪ .‬قاطعها الطبيب قائلاً ‪:‬‬
‫‪ -‬أي هدف‪ ،‬يالوجني؟ ذاك الفتى الذي ظهر لفرتة من الزمن‪ ،‬وستمر الفرتة‬
‫وينتهي وجوده من حياتنا‪ .‬أجابت لوجني صارخة‪ ،‬وألول مرة تتحدث مع الطبيب‬
‫بهذه اللهجة‪:‬‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬سيدي لن مي َّر كمرور العابرين‪ .‬الجميع مر من حولنا‪ ،‬سيدي‪ ،‬إال هو مر‬
‫من هنا‪ .‬وأشارت بيدها إىل قلبها‪ .‬نعم‪ ،‬مر من هنا‪ .‬هل تعرف ماذا يعني ذلك؟‬
‫مل أكن كام تقول بأن حيايت كانت هادئة‪ ،‬وسيمر وستعود حيايت‪ .‬ال بكاء عىل اللنب‬
‫املسكوب‪ ،‬سيدي‪ .‬أقولها مرا ًرا وتكرا ًرا قبل وجوده‪ .‬أنا ملك لكم ألنني مل أكن‬
‫أعرف سوى قانونكم‪ .‬إال أن بعد وجوده‪ ،‬أنا ملك له وال أعرف إال قانونه‪.‬‬
‫‪ -‬انه قانون العشق‪ ،‬يا لوجني‪ .‬قالها الطبيب أيبي وكاد أن يختنق بدموعه‪.‬‬
‫‪ -‬ال تحسبي أنني أعرتض طريقك‪ ،‬يا ابنتي‪ .‬لكني أردت أن أضع األمور نصب‬
‫ِ‬
‫عينيك‪ .‬وستذهبني لعامل آخر ال تعرفني فيه غري هذا الفتى‪.‬‬
‫أجابت لوجني‪ :‬سيدي‪ ،‬أنني أشعر أن هذا العامل هو أنا وأنا منه‪ .‬أرجوك‪،‬‬
‫سيدي‪ ،‬اسمح يل أن أذهب‪ .‬أنا ال أستطيع أن أذهب بغري موافقتك‪ .‬فقط اسمح‬
‫يل‪ ،‬سيدي‪ .‬أدار الطبيب أيبي وجهه عن لوجني قائلاً ‪:‬‬
‫‪ -‬صاحبتك السالمة‪ ،‬ابنتي‪.‬‬
‫تصلبت لوجني مكانها‪:‬‬
‫‪ -‬سيدي ال تكن مرغماً ‪ ،‬أرجوك‪ .‬أجاب أيبي‪ :‬ال ِ‬
‫عليك‪ ،‬ابنتي حينام تكون‬
‫سعادتك كوين‪ .‬التفت إليها مكر ًرا‪ :‬حينام تكون سعادتك كوين‪ .‬فلنفعل ما‬
‫كنا نخشاه‪ ،‬لرمبا متر الفرصة‪ ،‬ومل تتكرر‪ .‬فنصبح عىل ما فعلنا نادمني‪ .‬الحقي‬
‫بهم‪ ،‬يا ابنتي‪ .‬رمبا تجمعنا األقدار مرة أخرى‪ .‬الحقي بهم‪ .‬خرجت لوجني من‬

‫‪132‬‬
‫خيمتها‪ ،‬حيث كان الجميع يحمل أمتعته يف وداعهم للطبيب أيبي وملدينة‬
‫العلم‪.......................‬‬
‫نظرت حولها متفقدة هذه الوجوه التي رمبا لن تراها مره أخرى‪ .‬هذا صاحب‬
‫الوجه الساموي‪ ،‬وذاك صاحب الوجه الشاحب‪ ،‬وآخر يرتقب بعينني المعتني‪،‬‬
‫والبعض يقف احرتا ًما البن عبد البار ومن معه شاكرين ما قدموه لهم من‬
‫خدمات‪ ،‬وآخرون يبكون عىل رحيلهم‪.‬‬
‫‪ -‬حقًا‪ ،‬يا لوجني‪ ،‬إنه موقف أشبه بطعنة يف قلب املدينة وقلب الطبيب أيبي‪،‬‬
‫الذي كاد أن يجن جنونه وهو ينظر لكم راحلني عن عامله‪ .‬نظر أيبي إليهم حيث‬
‫ابتلت لحيته البيضاء بدموع الرحيل‪ ،‬متذك ًرا صديق العلم ابن عبد البار كيف‬
‫سريحل نصف العلم من املدينة؟‬
‫‪ -‬ستظلم السامء‪ ،‬يا صديقي‪ ،‬لرحيلك‪ .‬أخذ يتجول بنظراته متفقدً ا هذا الفتى‬
‫مجنون العشق‪ -‬مصطفى‪ ،-‬الذي سيأخذ منه لوجني التي نشأت يف غرفته كابنته؛‬
‫بعد تفقد أيبي الطبيب‪ ،‬عانق الجميع مود ًعا لهم‪ ،‬حيث احتضنه صديق العلم‬
‫ابن عبدالبار قائلاً ‪ :‬رمبا نعود‪ ،‬يا رفيقي‪ ،‬ال تحزن‪ .‬بينام مصطفى قدم اعتذاره‪.‬‬
‫‪ -‬ملا تعتذر يا فتى؟ قالها الطبيب أيبي له متعج ًبا‪ .‬أجاب مصطفى‪ :‬من أجل‬
‫لوجني سيدي الطبيب‪ .‬ليس أنا من وقفت بوجهك بل قلبي هذا إن شئت أطعنه‪.‬‬
‫فأنت تعلم أنني أحرتمك منذ قدومي للقرص‪ .‬نظر إليه الطبيب قائلاً ‪:‬‬
‫‪ -‬ال عليك‪ ،‬ياولدي‪ .‬فقط من أجلها حافظ عليها‪ .‬نظر جهاد للطبيب أيبي‬
‫حيث وضع أمتعته أرضا كاد أن يذرف دموعه قائلاً ‪:‬‬
‫‪ -‬إ ًذا‪ ،‬أيها الطبيب تستغني عن خدمايت‪.‬‬
‫ضحك أيبي قائلاً ‪ :‬أنا ال أريدها‪ ،‬ولكن أريد قلبك الطيب هذا‪ ،‬يا جهاد‪.‬‬
‫احتضنه وهو يبيك قائال‪ :‬لن أنساك‪ ،‬سيدي‪ .‬تابع خالد مرب ًتا عىل كتفه‪ :‬حقًّا‪ ،‬لن‬

‫‪133‬‬
‫ننساك‪ ،‬أيها الطبيب‪ .‬خرج من يف املدينة يودع ابن عبد البار ومن معه يف ليلة‬
‫خيمت عليها غيوم السامء‪ .‬اصطحبهم الطبيب إىل سور املدينة معط ًيا ابن عبد‬
‫البار بردية تحوي بعضً ا من أرسار التحنيط كعالمة عىل صداقتهام‪ .‬قبلها ابن عبد‬
‫البار بكل رسور‪ ،‬حيث ذهب مود ًعا‪ ،‬مدينة العلم‪ ،‬واتخذ طريقه نحو العودة‪.‬‬
‫‪ -‬نحو الطريق الصحيح‪ ،‬أيها الرفقاء‪ ،‬فلننعطف يسا ًرا قليلاً ‪ .‬قالها ابن عبد‬
‫البار بعد خروجهم من املدينة‪ ،‬إال أنه بعد جملته هذه وضع يده عىل صدره‪.‬‬
‫كان يشعر بضيق تنفس‪ ،‬لرمبا مير بوعكة صحية‪ ،‬تساءل جهاد ناظ ًرا إىل خالد‪ :‬ماذا‬
‫بابن عبد البار؟ أشعر وكأنه مريض‪ .‬ذهب إليه خالد‪ :‬ما بك سيدي؟ أجابه ابن‬
‫عبد البار‪ :‬رمبا شعرت بضيق تنفس بسبب كرثة األتربة والدخان املنترش بالجو‪،‬‬
‫ولكن أنا بخري‪ ،‬يابني‪ .‬ال تقلق‪ .‬شعر الجميع بتحسن ابن عبد البار قليلاً ‪ .‬ابتسم‬
‫مصطفى قائال‪ :‬ما زلت شابًّا‪ ،‬يا جدي‪ .‬هيا نكمل الطريق‪.‬‬
‫اجتازوا نه ًرا ضيقًا تقطعه بعض الصخور بجانبه تل قليل االرتفاع‪ .‬إال أن‬
‫األمطار الغزيرة استوقفتهم‪ ،‬ومل يستطيعوا املُيض‪ ،‬فلجأوا إىل كهف ضيق داخل‬
‫الجبل لالحتامء به من األمطار الغزيرة والربد القارص‪ .‬قال ابن عبد البار للجميع‪:‬‬
‫حضرِّ وا الكهف هذا للمبيت‪ ،‬فاألمطار غزيرة‪ ،‬ولن نستطيع الخروج‪ .‬أشعلت‬
‫لوجني فتيلاً من نار‪ ،‬حيث كان معها زيت اإلضاءة بأمتعتها‪ .‬بينام مصطفى أخذ‬
‫يسد الفجوات خشية من أن يخرج منها ثعبان أو يشء آخر‪ .‬وخالد يساعد جها ًدا‬
‫بتجهيز مكانًا للنوم‪ .‬نظر مصطفى متفقدً ا الكهف جيدً ا‪ .‬وجد لوجني ترتعش رمبا‬
‫أصابتها نوبة صقيع‪ .‬خلع رداءه من عليه‪ ،‬وذهب إليها واض ًعا إياه عىل كتفها‬
‫مبتسام‪.‬‬
‫‪ -‬أشعر بصقيع يتخلل جسدي‪ .‬نظرت إليه قائلة‪ :‬ومل خلعت رداءك وأنت‬
‫تشعر بصقيع؟ أجابها‪ :‬أنا مل أخلعه‪ .‬فقط وضعته عىل مكان الصقيع الذي شعرت‬

‫‪134‬‬
‫به‪ .‬فاآلن أنا بخري‪ .‬ابتسمت لوجني قائلة‪ :‬كلامتك هذه تجعلني أسري خلفك بدون‬
‫أن أنظر‪ .‬أجابها مصطفى واض ًعا يديه عىل صدره قائلاً ‪ :‬وقلبي هذا يخفق ِ‬
‫لك‬
‫ملجرد رؤيتك‪.‬‬
‫أكمل الجميع عمله حتى انتهى كل منهم‪ ،‬وجلسوا قليلاً قبل النوم‪ .‬وضع‬
‫جهاد فاصلاً من القامش بينهم وبني لوجني قائلاً كعادته ماز ًحا‪ :‬يك ال يأيت العاشق‪،‬‬
‫يا عبلة‪ .‬بالطبع تقبلت كلامته مبتسمة ألنها تفهمته أخريًا‪ .‬بدأ املطر يسكن قليلاً‬
‫والصوت يهدأ والربق يزول‪ .‬إال أن الجميع أفاق عىل رصخة لوجني‪.‬‬
‫قفز مصطفى تبعه خالد والجميع ممسكًا بالستار الفاصل منتز ًعا إياه‪ :‬ما‬
‫بك؟ ما ِ‬
‫بك‪ ،‬يا لوجني؟ رصخت مرة أخرى‪ :‬إنه ثعبان كبري‪ .‬لقد لدغها ثعبان‪ .‬قتل‬ ‫ِ‬
‫مصطفى الثعبان وأخرجه جهاد من الكهف‪ .‬نادى مصطفى عىل ابن عبد البار‬
‫فحرارتها ترتفع‪ ،‬وهو ال يدري ماذا يفعل‪ ،‬وليس معهم دواء‪.‬‬
‫قال جهاد‪ :‬نحن بحاجة إىل الطبيب أيبي‪ .‬نحن بحاجة إليه‪ .‬ستموت إن مل‬
‫ِ‬
‫يأت‪ .‬نظر مصطفى مفز ًعا من كلمة ستموت‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬يا رفيقي‪ ،‬لن متوت سيأيت الطبيب سيأيت أو أنا الذي ميوت‪ .‬ربط ابن عبد‬
‫البار رجلها جيدً ا حتى ال يتمكن السم من االنتشار بالجسد‪ .‬نظر مصطفى إليه‬
‫قائلاً ‪ :‬نحن منتلك القوة ما زلنا منتلكها‪ .‬أخرج لنا الطالسم وأحرض لنا برقان يأتينا‬
‫بالطبيب قبل خمس دقائق من اآلن‪ ،‬وإال ماتت لوجني‪ ..‬هل تسمعني‪ ،‬سيدي‪.‬‬
‫ال وقت لدينا‪ .‬سيدي سأموت أنا قبل لوجني‪ ،‬سيدي‪ ،‬أرجوك‪ ...‬أرجوك‪ ،‬سيدي‪.‬‬
‫فكر ابن عبد البار قليلاً يف استعامل القوة‪ ،‬حيث إنه ال يريد استعاملها‬
‫والتعامل مع هؤالء مرة أخرى إال أن بكاء مصطفى وفزع من حوله والجميع ألح‬
‫عليه كث ًريا‪ .‬أجابهم ابن عبد البار‪ :‬حس ًنا‪ ،‬حس ًنا‪ ،‬سأفعل‪ .‬أخذ ابن عبد البار جن ًبا‬
‫يستحرض الطالسم لقدوم “برقان”‪ .‬أكمل ما كان يقرأه من طالسم وعىل وجه‬

‫‪135‬‬
‫الرسعه حرض برقان هو اآلخر مفز ًعا‪ .‬قائلاً ‪ :‬كنت سأحرتق‪ .‬إنك تستعمل طالسم‬
‫أقوى من وجودي‪.‬‬
‫قال مصطفى‪ :‬فلتذهب إىل الجحيم أنت ووجودك‪ .‬نريد الطبيب هنا‪ .‬الوقت‬
‫يرسع ولوجني ترتفع درجة حرارتها‪ .‬حس ًنا‪ ..‬حس ًنا‪ ..‬سأفعل‪ ...‬نظر ابن عبد البار‬
‫إىل برقان قائلاً ‪ :‬أحرض لنا الطبيب أيبي بالدواء‪ ،‬يا برقان‪ .‬اختفى برقان وظهر‬
‫ومعه الطبيب أيبي الذي وقف داخل الكهف مفز ًعا‪ :‬أين أنا ومن أنت‪ .‬إال أنه‬
‫سمع صوت ابن عبد البار ال تقلق‪ ،‬يا صديقي لوجني متعبة ونريد إسعافها‪ .‬وال‬
‫نحسن الترصف يف مثل هذه األمور‪ .‬أمسك الطبيب بيد لوجني قائلاً ‪ :‬ال تقلقي‬
‫يالوجني ستكونني بخري‪ .‬أرسع‪ ،‬سيدي الطبيب‪ ،‬ال وقت لدينا‪.‬‬
‫قالها مصطفى وهو يختنق‪ :‬اهدأ‪ ،‬يا فتى‪ ،‬ستكون عىل ما يرام‪ .‬أخرج الطبيب‬
‫دواء من جيبه لترشبه لوجني‪ ،‬حيث أخذه منه مصطفى ووضعها بفمها‪ .‬وأخذ‬
‫الطبيب يضع سائلاً عىل رجلها‪ ،‬وربط الرجل من قبل مكان لدغة الثعبان‪ ،‬ومن‬
‫بعده جيدً ا‪ ،‬ثم فتح جرح خفيف ما يساوي واحد سم الستخراج الدم الفاسد‪.‬‬
‫تبسم الطبيب قائلاً ‪ :‬التعرق‬
‫كانت لوجني تتعرق كثريًا‪ ،‬مام أقلق مصطفى أكرث ُّ‬
‫يُعني أنها ستكون بخري‪ ،‬ولكن دعوها تنام قليلاً حتى تفيق‪ .‬شكر مصطفى الطبيب‬
‫قائلاً ‪ :‬مرسو ٌر بلقائك مرة أخرى‪ ،‬سيدي‪ .‬نظر الطبيب إليهم جمي ًعا‪ :‬وأنا سرُ رت‬
‫بلقائكم بالطبع‪ .‬بدأ الجميع يرحب بالطبيب مرة أخرى‪ ،‬ولكن ظل مصطفى‬
‫بجوار لوجني واض ًعا قامشة بيضاء أعىل الجبني مجففًا عرقها وهو يقول لها‪:‬‬
‫‪ -‬أنا أكون حيث وجودك‪ ،‬يا لوجني‪ .‬لن أتركك‪ ،‬ولو كان املوت قدرك فلنذهب‬
‫م ًعا‪.‬‬
‫أخرب ابن عبد البار جها ًدا أن يأيت مبصطفى ليجلس معهم‪ ،‬ولكن جهاد أجابه‬
‫ضاحكا‪ :‬لن يرتك عبلته‪ ،‬يا سيدي‪ .‬أنا أعرفه أكرث منك‪ ،‬ولكن رمبا‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫ذهب إليه جهاد قائلاً ‪:‬‬
‫‪ -‬صديقي‪ ،‬ابن عبد البار يريدك هو والطبيب‪ .‬أجابه مصطفى وملا‪ .‬قال‪ :‬ال‬
‫ليشء فقط لتجلس معهم‪ .‬رد مصطفى‪ :‬حس ًنا ولكن بعد أن تفيق لوجني‪ ،‬برغم‬
‫ما مروا به من ليلة مفزعة إال أن الجميع فرحوا بلقاء الطبيب‪ ،‬حيث تحدث ابن‬
‫عبد البار إليه‪ ،‬وقال له‪ :‬رمبا تجمعنا األقدار‪ ،‬يا صديقي‪ .‬تبسم الطبيب‪ :‬حقًّا‪ ،‬يا‬
‫رفيقي‪ .‬ال يشء فوق األقدار‪ .‬بالفعل‪ ،‬ال أحد يدري ما سيحدث بعد ساعة من‬
‫اآلن‪.‬‬
‫قاطعهم خالد قائلاً ‪ :‬نعم‪ ،‬سيدي‪ .‬أشعر وكأننا داخل متاهة حقيقية‪ .‬نخرج‬
‫من مكان آلخر‪ ،‬ولكن داخل املتاهة‪ .‬أجابه ابن عبد البار‪ :‬يا ولدي‪ ،‬الجميع‬
‫يعيش هكذا‪ .‬ففي عاملنا أيضً ا‪ ،‬نتعايش م ًعا؛ نتغاىض عن أشياء‪ ،‬نُجرب عىل فعل‬
‫أشياء‪ .‬أو القيام بعمل أُكرهنا عليه‪ .‬نجرب أن نعامل البعض معاملة حسنة برغم‬
‫معاملتهم السيئة لنا‪ .‬رمبا ألننا نحتاج العامل املادي أكرث من العامل الروحي‪.‬‬
‫قاطعهم جهاد‪ :‬ال أفهم‪.‬‬
‫أجابه ابن عبد البار‪ :‬أي بني‪ ،‬نحن ال نقدر املشاعر والعقل‪ .‬نحن ال نقدر‬
‫العلم‪ .‬فقط نقدس املال وحامل املال‪ .‬لذا نحن بعامل مخيف‪ .‬رد جهاد‪ :‬إ ًذا نحن‬
‫هنا باملكان الصحيح‪ .‬قاطعه أيبي‪ :‬يا ولدي‪ ،‬ليس كذلك‪ ،‬ولكن ينقص عاملك‬
‫االعرتاف بالعلم مع بقاء عاملك كام هو‪ .‬أي التوازن بني الجانب املادي والروحي‬
‫والعقيل‪ .‬ينقص عاملك أن يأخذ كل ذي حق حقه يف كل يشء؛ أن يأخذ الطفل‬
‫قدره من اللعب واملعرفة واحتواء األم له؛ أن يأخذ األب قد ًرا من حنان االبن‬
‫بإطاعته إياه‪ .‬أن يأخذ االبن قد ًرا من حنان األب بإرشاده لطريق الرشاد‪ .‬فقط‪،‬‬
‫يا بني‪ ،‬نحتاج لثورة داخلنا‪ .‬نحتاج إىل ثورة عىل أنفس ًنا‪ ..‬عىل فسادنا الداخيل‪.‬‬
‫يا بني‪ ،‬نحن ال نحتاج مصلحني أكرث من أن نصلح أنفسنا‪ .‬نحن‪ ،‬فقط‪ ،‬نحتاج من‬

‫‪137‬‬
‫يعطف علينا كعقالنيني‪ .‬عندها فقط ستشعر بقيمتك‪ .‬ستشعر أنك متتلك حق‬
‫التحدث بال خوف‪ .‬نحتاج ملن ينصت ويُفند وينقد ويبني؛ ليس من ينصت ويفند‬
‫وينقد ويسجن‪ .‬نحن ال نحتاج إىل سجون كوشيه‪ .‬هل تفهمت‪ ،‬يا ولدي؟ أجابه‬
‫جهاد‪ :‬حقًا‪ ،‬سيدي تفهمت‪ ،‬وتعلمت الكثري منك‪ .‬أشكرك عىل ما قدمته لنا‪.‬‬
‫‪ -‬الشكر للموقف الذي يعلمك أنك مازلت بخري‪ .‬مادمت تعتمد عىل نفسك‪.‬‬
‫حقًا‪ ،‬يا صديقي‪ .‬قالها ابن عبدالبار معج ًبا بكلامت الطبيب أيبي‪.‬‬
‫أثناء جلستهم املثمرة هذه‪ ،‬سمع الطبيب صوت لوجني تتحدث‪ .‬قام ليتفقدها‬
‫جالسا عند رأسها‪.‬‬
‫ومعه الجميع‪ ،‬حيث وجدها بخري‪ ،‬وما زال مصطفى ً‬
‫فرحت لوجني بقدوم الطبيب أيبي مقدمة له الشكر والعرفان عىل ما قدمه‬
‫لها سابقًا واآلن‪ .‬أجابها الطبيب‪ :‬ال ِ‬
‫عليك‪ ،‬ابنتي‪ ،‬أنا يف خدمتك دو ًما‪ .‬والشكر‬
‫بك أكرث من أنفسهم ولصديقي ابن عبدالبار الذي أحرضين‬‫لهؤالء الذين اهتموا ِ‬
‫بقوته الخفية‪ ،‬ولهذا العاشق الذي كاد أن يفارق الحياة من أجلك‪ .‬قاطعهم جهاد‪:‬‬
‫لن ميوت عنرت يا عبلة‪ .‬تبسم الجميع مرة أخرى‪ .‬عادت إليهم ضحكاتهم السابقة‬
‫بفضل وجود هذا الشاب جهاد‪ ،‬وأخذ ابن عبد البار يعد العدة ليكمل الطريق‪.‬‬
‫إال أنه أرص عىل أن يظل معهم الطبيب أيبي حتى قرب الكهف املعهود ليخرجوا‬
‫منه‪ .‬بالطبع‪ ،‬فرحت لوجني‪ ،‬وقالت له‪ :‬وافق‪ ،‬أرجوك‪ ،‬سيدي الطبيب‪ .‬والجميع‬
‫طلب منه املوافقة‪ .‬وافق أيبي بالطبع‪ ،‬فلن يستطيع أن يرفض طلب الجميع‪.‬‬
‫أكملوا ليلتهم يف الكهف حتى انشق الصبح‪ ،‬وقد أقلعت السامء عن مطرها‬
‫الغزير‪ ،‬وبدأت السامء تعود صافية مرة أخرى‪ .‬ذهب الجميع حاملني أمتعتهم‬
‫مرة أخرى؛ يف املقدمة ابن عبد البار والطبيب”أيبي” يتبعهم جهاد وخالد‪ .‬ويف‬
‫األخري‪ ،‬مصطفى ولوجني الذي كان يحمل أمتعته‪ ،‬وأيضً ا أغراض لوجني‪ ،‬وقفوا عند‬
‫مفرتق طرق قال ابن عبد البار‪ :‬سنسلك طريق الهضبة رش ًقا‪ ،‬لكن رأى الطبيب‬

‫‪138‬‬
‫أن يسلكوا طريقًا آم ًنا فاتخذوا الطريق املوازي للجبال والنهر حيث الجبل رشقهم‬
‫والنهر غربهم‪ ،‬رمبا أراد أيبي أن يكون لهم نجاة بالنهر‪ ،‬تحدث جهاد للطبيب‬
‫أيبي‪ :‬هل تأيت معنا‪ ،‬أيها الطبيب ملنزيل‪ ،‬حتى أعلمك كيف تصنع الطائرات‬
‫الورقية؟‬
‫ابتسم أيبي قائلاً ‪:‬‬
‫‪ -‬وكيف تعلمني صنعها‪ ،‬يا فتى‪.‬‬
‫أجابه جهاد لن تستغرق سوى ساعة‪ ،‬وستكون بار ًعا‪ ،‬سيدي‪ .‬قاطعه خالد‬
‫قائلاً ‪ :‬أيها الطبيب دعك من جنونه فهو يعمل بهذه الصنعة من أجل فتاة‪ .‬غضب‬
‫جهاد ناظ ًرا لصديقه خالد‪ :‬ال تتحدث‪ ،‬يا خالد‪ ،‬ال أحد يعلم‪ ،‬سيكشف أمرنا‪.‬‬
‫إال أن مصطفى كان يتابع الحوار‪ ،‬والجميع يستمع إىل جهاد‪ .‬فالطريق طويل‬
‫والجميع يريد أن يلهو ولو بقصة قصرية‪ .‬ألح عىل خالد ان يتحدث‪ .‬قال خالد‪:‬‬
‫سأخربهم‪ ،‬يا رفيقي‪ ،‬ولكن لن أتحدث عن تفاصيل‪ .‬أجابه جهاد‪ :‬وهل يرض الشاة‬
‫سلخها‪ ،‬بعد الذبح‪ .‬ضحك أيبي مستم ًعا لخالد‪ ،‬الذي أخربهم بأن جهاد كان‬
‫عاشقًا لفتاة منذ الصغر‪.‬‬
‫‪ -‬كانت هذه الفتاة تأخذ من مرصوفها‪ ،‬وتذهب لبائع الحلوي الواقف بعربة‬
‫صغرية بالشارع نفسه الذي يسكن به جهاد‪ .‬كان هذا البائع يصنع طائرات ورقية‬
‫بجانب الحلوي يبيعها لألطفال‪ .‬ولكن لن يأخذ الطائرة الورقية إال الذي يشرتي‬
‫أكرث من ثالث قطع‪ .‬فكانت هذه الفتاة تطلب منه الطائرة الورقية‪ ،‬لكنه يرفض‬
‫لك‪ ،‬لكن املرصوف مل يكن يكفي إال‬ ‫قائلاً لها‪ :‬فقط ثالث قطع من الحلوي هي ِ‬
‫قطعة واحدة‪ .‬كان جهاد يتابعها‪ ،‬لكنه وجد حيلة‪ ،‬وهي الوقوف بجوار البائع‬
‫عندما يصنع الطائرة الورقية ينظر إليه كيف يتم قص األوراق ثم تجميعها بطريقة‬
‫أخرى‪ ،‬وصنع جناحني وذيل وحبل رفيع تسحب منه الطائرة عند اندفاعها بالهواء‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫نقل جهاد الخربة بكل سهولة وتعلم كيفية صنع طائرة ورقية‪ .‬ففي األسبوع‬
‫املقبل‪ ،‬صنع لها طائرة ورقية حتى يعطيها لهذه الفتاة كهدية وكنوع من املحبة‪،‬‬
‫لكنه كان سيئ الحظ‪ .‬لقد حصلت الفتاة عىل مرصوف مضاعف لتشرتي ثالث‬
‫قطع من الحلوي وتأخذ الطائرة كهدية‪ .‬لكن جهاد مل ييأس وظل يراقبها حتى‬
‫رسق منها الطائرة‪.‬‬
‫وعادت يف اليوم التايل تشكو لصديقتها‪ ،‬وكان جهاد يراقبها‪ .‬ويستمع لهام إال‬
‫أنه قاطعها قائلاً ‪ :‬أنا معي طائرة ليس بحاجة إليها‪ ،‬لكن الفتاة رفضت‪ .‬إال أنه ألح‬
‫عليها قائلاً ‪ :‬أنا أصنع الطائرات الورقية‪ .‬فرحت الفتاة قائلة إن كنت جا ًّدا فشاكرة‬
‫لك أن تعلمني‪ .‬ومن هنا‪ ،‬بدأت قصة عشق بني جهاد والفتاة‪.‬‬
‫قاطع ابن عبد البار حديث خالد قائلاً ‪ :‬عظيم‪ ،‬يا فتى‪ ،‬وهل حصلت عىل‬
‫الفتاة‪ .‬أجابه جهاد بضحكات ساخرة‪ :‬بيل‪ ،‬سيدي‪ ،‬لقد حصل عليها صاحب املحل‬
‫الذي كان صاحب العربة يقف أمامه‪ .‬ضحك الجميع من ردة فعل جهاد الذي‬
‫كان ميزح حتي بلحظات الحزن‪ .‬نظرت لوجني ملصطفى قائلة‪ :‬صديقك هذا يحمل‬
‫الكثري من الحزن‪ ،‬لذا نراه كثري الضحك؛ فخلفت ضحكاته هذه أوجا ًعا‪.‬‬
‫أجابها مصطفى‪ :‬أعلم‪ ،‬حبيبتي‪ ،‬لكن نرتكه حتي يهدأ قليلاً ‪ ،‬فالعشق سم‬
‫قاتل‪ .‬إن تجرعته يقتلك‪ ،‬وإن تركته قتل غريك‪ .‬تعجب الجميع مام قصه عليهم‬
‫خالد‪ .‬فالجميع فطن أن جهاد مل يكن ماز ًحا إال لكرثة همومه‪ ،‬لعله يريد أن‬
‫يخفف أثقال حملها بقصته هذه‪.‬‬
‫وبعد امليض قد ًما‪ ،‬أصبح الجميع مرهقني من السري‪ ،‬فاقرتح عليهم ابن عبد‬
‫البار أن يأخذوا قسطًا من الراحه ولكن عند أول مكان آمن‪ .‬ذهبوا يف طريقهم‬
‫حتى وصلوا إىل مكان ما كشبه جزيرة‪ .‬هنا قرر الجميع الجلوس للراحة‪ .‬وضعوا‬
‫أمتعتهم وذهب كل منهم للامء لغسل وجهه من عناء الطريق‪ .‬ذهب جهاد‬

‫‪140‬‬
‫جان ًبا شعر به خالد‪ ،‬فذهب إليه واض ًعا يده عىل كتفه‪ :‬ما بك‪ ،‬يا صديقي‪ .‬أعتذر‬
‫لك ملا حدث مني‪ .‬حقًا ال أقصد‪ .‬رد جهاد‪ :‬ال عليك‪ ،‬يا رفيقي‪ .‬فقط تذكرت أيامي‬
‫بتلك البلدة البائسة التي حملتني ما ال أطيق‪ .‬ذاك الذي نظر إ ّيل كفقري ذات‬
‫يوم‪ ،‬فقط ألنه وجد آخر غن ًّيا يتزوج ابنته‪ .‬يا رفيقي‪ ،‬أنا ال ألتفت إىل مثل هذه‬
‫املواقف كثريًا‪ .‬أنا فقط ال أريد أن أتذكر‪ .‬جاء مصطفى إىل صديقه جهاد قائلاً ‪:‬‬
‫ما بك‪ ،‬يا بائع الطائرات الورقية؟ هل ما زالت طائرتك مل تقلع بعد أم إن األجواء‬
‫تنذر بربق ورعد؟‬
‫ابتسم جهاد قائلاً ‪ :‬الطائرة تحلق فوق رأس عبلتك‪ ،‬يا عنرتة‪ .‬فلتذهب إىل‬
‫الجحيم‪ .‬رمبا استطاع مصطفى أن يخرج جهاد من كبته هذا بكلامته البسيطة‪.‬‬
‫نادى ابن عبد البار عليهم حتى يشرتكوا يف إعداد الطعام‪.‬‬
‫ذهب من البحرية الصغرية التي أمامهم وبصحبته خالد‪ .‬كان جهاد قد أفرغ‬
‫يأت مصطفى وخالد بالطعام بعد‪ .‬ذهب ليتفقدهم يف‬ ‫من تجهيز املكان‪ ،‬لكن مل ِ‬
‫الطريق‪ .‬وجد جهاد أرن ًبا بريًّا‪ .‬أخذ يتعقبه لكنه أفلت منه‪ .‬أمسك جهاد بحجر‬
‫أفلت من الحجر‪ .‬وجد جهاد األرنب بأعىل صخرة‪ ،‬نظر إليه‬ ‫حتى يرضبه إال أنه َ‬
‫قائلاً ‪ :‬لن تفلت مني هذه املرة‪ .‬لكنه أفلت أيضً ا‪.‬‬
‫‪ -‬ت ًّبا لك‪ ،‬يا أرنوب‪ .‬لن تفلت‪ ،‬ولو كنت داخل كوشيه‪ .‬قاطعه صوت خالد من‬
‫خلفه الذي كان يحمل بعض األسامك‪ :‬سيفلت‪ ،‬أيها األبله‪ .‬ولو كان يف كوشيه‪،‬‬
‫لن نفلت نحن‪.‬‬
‫تابعه مصطفى بضحكات لطيفة قائلاً ‪ :‬ستظل تركض خلفه حتى متوت جو ًعا‪،‬‬
‫يا رفيقي‪ .‬إال أن جها ًدا أمسك بحجر وأطلقه من يده صوب األرنب‪ ،‬حيث ارتطم‬
‫به الحجر جعله كسكران‪ .‬نظر جهاد حينها لصديقه مصطفى قائلاً ‪:‬‬

‫‪141‬‬
‫‪ -‬عليك أن تتعلم كيف تطلق الحجر‪ ،‬يا رفيقي‪ .‬أجابه مصطفى مبزاح يشبه‬
‫مزاحه‪ :‬أصبحت أسدً ا عىل األرنب‪ ،‬عندما حرضنا‪ ،‬يا رفيقي‪.‬‬
‫ضحك جهاد قائلاً ‪ :‬وجودكام يعطيني داف ًعا‪ ،‬ال تقلق سنأكل م ًعا لن أترككم‬
‫َج ْوعى‪ .‬وكأن جها ًدا انترص لهم‪ .‬أجابه خالد‪ :‬ال عليك‪ ،‬يا صديقي‪ .‬معنا أسامك‬
‫تكفي الكثري‪ .‬وصل الجميع إىل املكان‪ .‬كان ابن عبد البار يرتقب الطريق لعودتهم‪.‬‬
‫نظر إليهم‪ :‬ملَ كل هذا الوقت؟ أجابه خالد بأن جها ًدا كان يصطاد أرن ًبا‪ .‬ضحك ابن‬
‫عبد البار قائلاً ‪ :‬لدينا بحرية بها أسامك‪ ،‬وأنت تبحث عن أرنب‪ .‬حقًّا‪ ،‬إنك ال تسري‬
‫يف الطريق نفسه مهام يحدث‪ .‬ضحك جهاد قائلاً ‪ :‬أنا ال آكل األسامك‪ ،‬يا سيدي‪،‬‬
‫لذا بحثت عن يشء آخر‪ .‬قاطعه مصطفى ماز ًحا‪ :‬عليك أن تختار من قامئة الطعام‬
‫بالفندق‪ ،‬سيدي‪ .‬هيا‪ ،‬يا صديقي‪ .‬نحن ال نعرف أين نحن وأنت هنا ترثثر‪ ..‬تأكل‬
‫ماذا؟‬
‫أحرضت لوجني األسامك‪ ،‬وأشعل جهاد النار لشواء األرنب‪ .‬فرغت لوجني‬
‫من إعداد األسامك‪ ،‬يف حني ما زال جهاد يحاول شواء أرنبه املسكني‪ .‬وضعت‬
‫لوجني الطعام مبساعدة مصطفى‪ .‬وكأنهام بعش الزوجية‪ ،‬وليسا بجزيرة مهجورة‪.‬‬
‫فالفرح ال يعرف مكانًا أو زمانًا حينام يأيت يوجد‪ .‬قال مصطفى لها‪ :‬حقًّا‪ِ ،‬‬
‫أنت‬
‫طاهية جيدة‪ .‬أجابته‪ :‬وعلمت أنني طاهية جيدة‪ ،‬عندما أكلت نصف السمكة‪.‬‬
‫سأخربهم أنك من أكلتها‪ .‬أجابها مصطفى‪ :‬وملا ال تأكلني النصف اآلخر لنشرتك‬
‫يف هذه الجرمية م ًعا؟ ضحكت لوجني قائلة‪ :‬ليس كل من يرسق سار ًقا‪ .‬فسارق‬
‫القلب يأخذ حقه من املشاعر بطريقته‪ .‬أجابها مصطفى كام رسقت قلبي‪ .‬وهل‬
‫كان قلبك مرسو ًقا أم سار ًقا‪ ،‬دعنا نكمل الطعام فالجميع جوعى‪ .‬وضعت لوجني‬
‫الطعام تبعها مصطفى‪ .‬جلس الجميع حول مائدة الطعام إال جهاد ينظر إليهم‬
‫قائلاً ‪ :‬انتظروين قليلاً ‪ .‬سأنتهي من األرنب يف أقل من ساعة أو ساعتني‪ .‬فالنار هنا‬

‫‪142‬‬
‫باردة‪ ،‬سيدي‪ .‬ضحك الجميع منه قائلني‪ :‬عليك باالعتناء بأرنبك حتى ننام قليلاً ‪.‬‬
‫وبعد ُميض ساعة‪ ،‬انتهي جهاد من أرنبه هذا الذي رمبا يعاقبه بسبب املطاردة‪.‬‬
‫‪ -‬فلنكمل الطريق‪ ،‬أيها الطبيب أيبي‪ .‬قالها ابن عبد البار ناظ ًرا إىل الطبيب‬
‫أيبي‪ .‬طلب ابن عبد البار أن يجمع كل منهم أغراضه ليكملوا الطريق‪ .‬حملوا‬
‫أمتعتهم بعدما أخذوا قسطًا من الراحة‪ .‬ذهب الجميع تاركني البحريه خلفهم‪،‬‬
‫حيث أشار ابن عبد البار عىل الطبيب أن يذهبوا من فوق املرتفعات لتكون‬
‫الرؤية واضحة لهم‪ .‬وجدها الطبيب فكرة جيدة‪ ،‬فوافق عليها وتبعه الجميع‪.‬‬
‫استمر الجميع يف السري قاطعني الهضاب والتالل مجتازين األماكن املرتفعة‪.‬‬
‫كالعادة ابن عبد البار والطبيب أيبي يف املقدمة‪ ،‬وخالد وجهاد خلفهام‪ ،‬ويف األخري‬
‫مصطفى ولوجني‪.‬‬
‫الجميع يفكر يف كيفية العودة‪ ،‬وهل سيعودون حقًّا‪ ،‬أم إن هناك شي ًئا آخر‪ .‬ما‬
‫زال ابن عبد البار ميتلك القوة الكافية ملواجهة أي اعتداء عليهم‪ ،‬ومازال مصطفى‬
‫ميتلك حبيبته ليقوى بها ويواجه العامل من أجلها‪ ،‬وأيضً ا خالد وجهاد متمسكني‬
‫بالصداقة ألبعد الحدود‪ .‬الجميع يستجمع أهدافه‪ ،‬والبعض يفكر عندما يعود‬
‫ماذا سيفعل؟‬
‫بالفعل‪ ،‬هذا هو جهاد قالها لصديقه خالد قاط ًعا الصمت الذي حل بهم‬
‫مرة أخرى‪ :‬أعتقد‪ ،‬يا صديقي أننا هنا لدينا هدف‪ .‬كنا نبحث عن مخطوطة ثم‬
‫مواجهة مع الجان وسوجالر‪ ،‬ثم سجون كوشيه‪ .‬ماذا سنفعل حينام نعود؟ أجابه‬
‫خالد بالطبع كام كنا نفعل ستبيع أنت الطائرات الورقية‪ ،‬وسأبحث أنا عن عمل‬
‫أو أعمل يف حرف متعددة كام كنت‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا عن لوجني ومصطفى؟ صمت خالد‪ .‬كرر جهاد‪ :‬وماذا؟‬
‫أجابه‪ :‬ال أعرف رمبا تتأقلم لوجني عىل عاملنا‪ .‬فهي عىل ما أشعر منه‪ .‬فوجود‬

‫‪143‬‬
‫مصطفى معها يجعلها بحالة جيدة‪ ،‬أشعر أنها كاألكسجني بالنسبة إليه‪ .‬وهو أيضً ا‬
‫كذلك‪ .‬حقًا‪ ،‬أمره غريب مصطفى‪ .‬وماذا عن صديقة الجامعة؟ قالها جهاد لخالد‪.‬‬
‫أجابه خالد‪ :‬كانت مجرد صداقة‪ ،‬فأنت تعرف صديقك حينام يحب‪ ،‬يظهر عىل‬
‫وجهه‪ ،‬ويكون كالطري يف الفضاء‪ .‬ونحن مل ن َره بهذه الحالة إال مع لوجني‪ .‬قاطعه‬
‫جهاد‪ :‬وكيف عرفت أنه عندما يحب يفعل هذا؟ أجابه خالد‪ :‬أقصد عندما يتقبل‬
‫شي ًئا ما‪ ،‬ليس بالرضورة فتاة‪ ،‬يا رفيقي‪.‬‬
‫‪ -‬مممممم نعم‪ ،‬فهمت‪.‬‬
‫عىل الجانب اآلخر كالعادة يحمل مصطفى أمتعته وأيضً ا أمتعة لوجني‪،‬‬
‫يتسامران‪ .‬التفت جهاد إىل الخلف ناظ ًرا إليهام قائلاً لصديقه خالد‪:‬‬
‫‪ -‬انظر تشعر بأنه يفتقدها وهي معه‪.‬‬
‫أجابه خالد‪ :‬وما يدريك؟ أجابه‪ :‬يا صديقي‪ ،‬العاشق يعرف العاشق‪ .‬هل‬
‫فهمت؟ ابتسم خالد قائلاً ‪ :‬نعم‪ ،‬يا صديقي الفيلسوف‪.‬‬
‫يف املقدمة‪ ،‬يتحدث الطبيب أيبي مع ابن عبد البار يف أمورهم وكيفية الخروج‬
‫فهام القائدان‪ .‬إال أن ابن عبد البار أثناء التحديث مع الطبيب أيبي شعر بإرهاق‬
‫شديد ودوار‪ .‬توقف عن املسري‪ ،‬حيث استند إىل الطبيب أيبي‪ .‬هرع إليه الجميع‪.‬‬
‫‪ -‬ما بك‪ ،‬سيدي؟ سيدي‪ ،‬ما بك؟ قالها مصطفى ممسكًا به‪ .‬نادى عىل جهاد‬
‫بإحضار املاء‪ .‬نظر ابن عبد البار إليه قائلاً ‪ :‬أنا بخري‪ .‬فقط أكملوا السري‪ .‬إال أن‬
‫مصطفى كان يشعر أنه ليس بخري‪ ،‬وأن وعكته هذه لن متر مثلام مرت من قبل‪،‬‬
‫وأيضً ا شعر الطبيب أيبي بأنه ليس بخري فهو يعرف جيدً ا ما مدى تغيري لون وجه‬
‫ابن عبد البار‪ ،‬فجاءه‪ .‬قال ابن عبد البار للطبيب أيبي‪ :‬ادن مني‪ ،‬يا صديقي‪،‬‬
‫وأنت يا مصطفى استمع جيدً ا‪ ،‬والجميع أيضً ا‪ .‬ارتجف أيبي لكلامت ابن عبد البار‬
‫فهي كلامت وداع‪ ،‬يا رفيقي‪ .‬ولكن حاول أن يتاملك أنفاسه املتسارعة‪ .‬إال أن ابن‬

‫‪144‬‬
‫عبد البار قال لهم‪ :‬سينتهي كل يشء يف هذا املكان‪ .‬احتضنه الطبيب أيبي باك ًيا‪ :‬ال‬
‫ياصديقي‪ ،‬لن ينتهي يشء‪ .‬سنكمل الطريق حتى تصلوا‪ .‬سنكمل‪ ،‬هل تسمعني؟‬
‫سنكمل‪ ،‬يا رفيقي‪ .‬لكن ابن عبد البار كان يشعر بدنو أجله لذا طلب منهم أخ ًريا‬
‫أن ينصتوا قائلاً لصديقه الطبيب أيبي‪ :‬بأمتعتي كل الطالسم التي تحمل القوة‪.‬‬
‫مصطفى يعرف الكثري منها إال أنه ال يعرف إال القليل‪ .‬عليك أن تعلمه كيفية‬
‫استخدامها‪ .‬فأنتم بحاجه إليها اآلن‪ .‬وأنت‪ ،‬يا صديقي‪ ،‬ال ترتكهم إال عند الكهف‬
‫املعهود ليمروا لعاملهم‪ .‬فعندما يكون الجميع بأمان‪ ،‬الطالسم لك وملن معك‪.‬‬
‫احتفظ بها جيدً ا حتى تستطيع العيش هنا بسالم‪ .‬أمسكت لوجني بيده قائلة‪:‬‬
‫لن تكون وحدك سيدي‪ ،‬ستكمل معنا الطريق‪ .‬نحن ال نستطيع أن نسري خطوة‬
‫عليك أن تستمعي إىل الطبيب أيبي‬ ‫بدونك‪ .‬قاطعها‪ :‬يا ابنتي‪ ،‬أنا أعرف ما أقول‪ِ .‬‬
‫وتتعلمي الطالسم جيدً ا‪ .‬رمبا تكوين بحاجة إليها يو ًما ما‪ .‬نظر ابن عبد البار إىل‬
‫مصطفى قائلاً ‪ :‬أنا أعلم قدر حبك لها‪ ،‬لكن أطلب منك أن توزن األمور‪ ،‬يا بني؛‬
‫وتحاول الحفاظ عليها مهام يكن عاملها‪ ،‬فهي ال تعرف غريك هنا أو هناك‪ .‬رمبا‬
‫ولدت من أجلك‪ ،‬فكن من أجلها‪ .‬ذرفت لوجني الدموع‪ ،‬وهي تستمع لكلامت‬
‫ابن عبد البار‪ .‬أحكم ابن عبد البار قبضة يديه عىل الطبيب أيبي وكأنه يعانقها‬
‫قائلاً ‪ :‬كن عىل العهد‪ ،‬يا أيبي‪ .‬أنا أثق بك‪ .‬كن عىل العهد‪ ،‬ولك مطلق الترصف‪.‬‬
‫أنت القائد حتى يصل الجميع بأمان‪ .‬آخر كلامت قالها ابن عبد البار بعد أن لفظ‬
‫أنفاسه األخرية‪.‬‬
‫مل يتاملك جهاد أعصابه‪ ،‬ومل يصدق املوقف‪ .‬حاول احتضانه قائلاً ‪ :‬ال‪ ،‬سيدي‪،‬‬
‫لن ترتكنا‪ .‬انهض معي‪ .‬انهض‪ ،‬سيدي‪ .‬ما زلت أحتاج إليك كأب وكصديق تحويني‪.‬‬
‫انهض‪.‬‬
‫إن حالة الهلع التي أصابتهم رمبا لن يفيقوا منها سوى بعد شهور‪ .‬ال أحد‬

‫‪145‬‬
‫يصدق أن ابن عبد البار فارق الحياة‪ .‬حتى أيبي الذي ذرف دموعه‪ ،‬وابتلت‬
‫لحيته مل يصدق‪ .‬قبله الطبيب أيبي من جبهته قائلاً ‪ :‬لقد مات نصف العلم‪.‬‬
‫لقد مات نصف العلم بعاملنا‪ .‬جلس الجميع حزنًا؛ ال أحد يعرف ماذا يفعل؟ قرر‬
‫أيبي أن يدفن ابن عبد البار باملكان نفسه هنا‪ .‬لكن مصطفى قال‪ :‬سنصطحبه‬
‫معنا حتى نعود‪ .‬أجابه أيبي‪ :‬لن يحدث إال بالتحنيط‪ ،‬وانت كام تعلمت سابقًا أن‬
‫عملية التحنيط تستغرق سبعني يو ًما‪ .‬نظرت لوجني إىل مصطفى قائلة‪ :‬فلنستمع‬
‫لحديث الطبيب أيبي كام قال لنا ابن عبد البار‪ .‬بيك مصطفى قائلاً ‪ :‬حس ًنا‪ .‬حس ًنا‪.‬‬
‫كام يريد الطبيب سنفعل‪ .‬بالفعل‪ ،‬تم دفن ابن عبد البار كام قال أيبي‪ .‬أقاموا‬
‫عليه الطقوس والصلوات‪ .‬نظر الطبيب أيبي إليهم قائلاً ‪ :‬سنسرتيح هنا قليلاً‬
‫حتى الصباح‪ .‬طلب من جهاد وخالد تفقد مكان مناسب‪ .‬بالفعل‪ ،‬وجد جهاد‬
‫مكانًا آم ًنا بني الصخور يشبه التجويف الداخيل يحميهم من املطر والربد‪ .‬رحب‬
‫الطبيب باملكان الذي وقع اختيار جهاد وخالد عليه قائلاً ‪ :‬اختيار جيد‪ ،‬يا صديقي‪.‬‬
‫نظر خالد إىل جهاد‪ :‬صديقي؟ َمن صديقك‪ ،‬أيها الطبيب؟‬
‫مل يتاملك الطبيب دموعه وبيك بحرقه عىل صديقه‪ ،‬فقد اعتاد لسانه عىل‬
‫التحدث معه‪ .‬حاول الجميع أن يهدئ من روع الطبيب‪ ،‬حيث جلس مصطفى‬
‫بجانبه األمين ولوجني بالجانب األيرس وأمامه خالد وجهاد‪ .‬الجميع يهدئ الطبيب‬
‫ويهدئ نفسه أيضً ا؛ فالحزن يخيم عىل الجميع‪ .‬قام جهاد وخالد إلخراج يشء من‬
‫أمتعتهم ليجعلوه كخيمة تحميهم من الربد‪.‬‬
‫ال أحد يستطيع النوم لن يغمض لهم جفن يف هذه الليلة‪.‬‬
‫جلست لوجني وحيدة منفردة كام جلس الجميع أيضً ا‪ .‬ذهب جهاد إىل‬
‫الطبيب قائلاً له‪ :‬كيف أصبحت الصداقة بينك وبني ابن عبد البار إىل هذا الحد؟‬
‫كيف أصبحت الفرتة القصرية هذه كامئة عام؟ أجابه الطبيب‪:‬‬

‫‪146‬‬
‫‪ -‬أي بني‪ ،‬وجودك فرتة طويلة مع أحدهم ال يعني أنك أحببته بدرجة‬
‫كافية‪ .‬رمبا تكون الفرتة القصرية مبثابة حياة كامله لن يتمكن منها غري الصادقني‪.‬‬
‫فالصادقون يرحلون رسي ًعا‪ ،‬يا بني؛ إما لصدقهم أو ألن اإلله يصطفيهم عن الباقني‪.‬‬
‫اعلم‪ ،‬يا بني‪ ،‬أن القلوب تتالقى كلها فتجتمع بعضها البعض‪ .‬فعرف كل قلب ما‬
‫اجتمع به جيدً ا‪ ،‬ثم تتقابل هذه القلوب مرة أخرى‪ ،‬ولكن معها أصحابها‪ ،‬فإن‬
‫نظر كل منكم لآلخر‪ ،‬وجد قبولاً بذاك الشخص الذي يحمل القلب املتعارف عليه‬
‫سابقًا‪ .‬فعندما رأيت ابن عبد البار شعرت وكأنني أعرفه منذ سنوات وسنوات‪.‬‬
‫قاطعه جهاد‪ :‬نعم‪ ،‬سيدي هذا يحدث معي بالضبط‪ .‬أجابه الطبيب‪ :‬فكن‬
‫عىل يقني بأن قلبك سيبحث عن الذي التقى به يف العامل الخلوي‪ .‬كان الجميع‬
‫يستمع إىل الطبيب‪ .‬وجدت لوجني أن كالم الطبيب حقيقة كام أيضً ا وجده‬
‫مصطفى كذلك‪ .‬فتذكرت لوجني يوم أن مر مصطفى بغرفة الطبيب ونظر إليها‪.‬‬
‫تذكرت املوقف ولكن بتفاصيل أدق وأشمل بعد كالم الطبيب أيبي‪ .‬تذكرت بأنها‬
‫أيضً ا كانت تبادله الشعور نفسه بالنظرات‪ ،‬وكأنها رأته يف عامل آخر‪ .‬حدثت‬
‫لوجني نفسها قائلة‪:‬‬
‫حقًا‪ ،‬الطبيب حق‪ .‬كيف يل أن أعشق هذا الفتى من نظرة واحدة‪ ،‬وكأنه‬
‫طيف مر بالجميع إال أنا‪ ،‬فتوقف بداخيل‪.‬‬
‫تابع حديثهم خالد‪ :‬رمبا قلوبنا التقت بقلبك‪ ،‬سيدي الطبيب‪ .‬فنحن نكن لك‬
‫كل الشكر واالحرتام والتقدير‪ .‬تبسم الطبيب بسمة حزن قائلاً ‪ :‬رمبا‪ ،‬يا ولدي‪ .‬رمبا‪.‬‬
‫أصبح الجميع يف أمر جديد بعد موت ابن عبد البار‪ .‬جلسوا هكذا حتى‬
‫الصباح‪ .‬طلب الطبيب أن يكمل كل منهم طريقه‪ .‬حملوا أمتعتهم‪ .‬الطبيب يف‬
‫املقدمة‪ ،‬لكنه منفرد‪ .‬يا لوجع القلب‪ ،‬يا رفيقي وإن رافقني ألف رجل لن يأيت‬

‫‪147‬‬
‫مبقامك أي منهم‪ .‬كانت كلامت يتمتم بها الطبيب أيبي‪ .‬رمبا مل يصدق بعد أن‬
‫ابن عبد البار قد رحل‪.‬‬
‫او أن الطبيب يحاول استدعاء طيف صديقه حتى ال يشعر بالوحدة‪.‬‬
‫‪ -‬إنها كلامت كلها كلامت‪ .‬كلها كلامت لن تأتيني بك‪ ،‬يا رفيقي‪ .‬قالها الطبيب‬
‫مرة أخرى محدثًا نفسه‪ .‬سار الجميع يف طريقهم خلف الطبيب فهم يثقون به‬
‫جيدً ا‪ .‬وصل الطبيب إىل مكان ما وتوقف‪ ،‬التفت إليهم وهو يشري إىل مكان ما‬
‫قائلاً ‪ :‬هنا سنجتاز هذا الجبل أمامكم‪ ،‬وسنكون يف الكهف املعهود‪ .‬لكن دعونا‬
‫نأخذ قسطًا من الراحة‪ .‬نظر كل منهم إىل اآلخر؛ ال أحد يعرف شعور نفسه‪ .‬هل‬
‫فرح بقرب العودة أم إن الحزن يسيطر عليهم بعد فقدان ابن عبد البار‪.‬‬
‫هو ٌ‬
‫لوجني تنظر إىل مصطفى بعد سامع كلمة العودة‪ .‬تفهم مصطفى نظرتها قائلاً ‪:‬‬
‫سيكون كل يشء عىل ما يرام‪ ،‬حبيبتي‪ .‬استدعي الطبيب الجميع ليستمع إليه‬
‫وخاصة مصطفى ليخرج الطالسم‪ ،‬ويبدأ بطرحها عليه وكيفية استخدامها‪ .‬أحرض‬
‫مصطفى جميع الطالسم‪ .‬وضعها الطبيب أمامهم‪ ،‬وأخذ الطبيب يرشح كل يشء‬
‫له وكيفية استخدامها وفك رموزها وكيفية استدعاء الجان‪ ،‬وكيفية الحفاظ عىل‬
‫قوة الطالسم حني وجود الجان‪ .‬كان الجميع يستمع جيدً ا يف مقدمتهم لوجني‪.‬‬
‫رمبا عرف الجميع كيفية استخدام الطالسم‪ ،‬ولكن ستبقى بيد الطبيب ومصطفى‬
‫ولوجني ألنهم من يعرفون قدرها جيدا‪.‬‬
‫‪ -‬حس ًنا‪ ،‬سيدي‪ ،‬علينا أن نستخدمها داخل الكهف‪ .‬قالها مصطفى موج ًها‬
‫حديثه للطبيب أيبي‪ .‬أجابه الطبيب لرمبا تحتاجها داخل الكهف‪ ،‬ولكن ناد ًرا‬
‫فقط ال تعبث بيشء داخل الكهف حتى ال تستدعي قوة خفية ال تستطيع ردعها‪.‬‬
‫تفهم الجميع ما يقصده الطبيب أيبي‪ ،‬حيث جلس الجميع يفكر‪ .‬رمبا آخر ليلة‬
‫بهذا املكان وهذا العامل أيضً ا‪ .‬كانت تفكر لوجني‪ :‬رمبا سأنهي عالقتي بهذا العامل‬

‫‪148‬‬
‫لألبد أو أعيش فيه لألبد‪ .‬كان يرتقب مصطفى عي َني لوجني‪ ،‬وكأن شي ًئا يحدثه‬
‫خاف ًتا‪ :‬هل ستكمل لوجني الطريق أم أن شي ًئا يحدث من قبل سوجالر ويختطفها‬
‫مرة أخري؟ أمسكت لوجني بقالدتها التي أهداها إياها ابن عبد البار متذكرة تلك‬
‫اللحظات مبتسمة بعينني المعتني‪ .‬الحظ مصطفى يدها عىل القالدة قائلاً ‪ :‬لقد‬
‫أخذ ابن عبد البار قلبي ورحل‪ .‬لكن لوجني قالت له‪ :‬أنت تعلم بأن قلبي معك إال‬
‫أنه أخذ خاطري وما يجول به‪ .‬أجابها مصطفى‪ :‬رمبا هو اآلن مبأمن عام كان فيه‪.‬‬
‫طلب الطبيب منهم أن يسرتيحوا حتى يكملوا يف اليوم التايل‪ .‬استمعوا إىل‬
‫الطبيب‪ ،‬وحاول الجميع أن يسرتيح‪ .‬ذهبت لوجني بعيدً ا عنهم قليلاً حيث‬
‫عيناها مل تغمضا هذه الليلة‪ .‬تلك العينان اللتان أخذتا هذا الفتى كأسري يف‬
‫بحرها‪ .‬ولكن هذه املرة ساهرة ليس من أجل ابن عبد البار‪ ،‬بل من أجل العودة‪.‬‬
‫بك حبيبتي‪ ،‬أشعر بأرقك‪ ،‬قالت‪ :‬ال يشء‪ ،‬حبيبي‪.‬‬ ‫تحدث معها مصطفى قائلاً ‪ :‬ما ِ‬
‫وأنت تعلمني أن قلبك مليك‪ ،‬وظني به صائب‪.‬‬ ‫قال لها ثانية لكني أشعر بقلبك ِ‬
‫نظرت إليه‪ :‬حقًا‪ ،‬حبيبي‪ .‬أنا أعرف أنك تعرف ما بداخل هذا القلب‪ .‬لذا أنا‬
‫قلقة قليلاً ‪ .‬رد مصطفى‪ :‬قلقة؟ من أي يشء قلقة؟ أجابت لوجني‪ :‬من العودة‪.‬‬
‫أنا معك يف أمان‪ ،‬ولكن كيف ستعامل‪ ،‬وكيف يكون التعامل‪ .‬قال لها‪ :‬ال تقلقي‪،‬‬
‫حبيبتي‪ ،‬سيكون كل يشء عىل ما يرام‪ .‬مثلام كنت أنا هنا ال أعرف كيف يكون‬
‫أنت كيف يكون التعامل هناك‪ .‬وقعت هذه‬ ‫منك‪ .‬ستتعلمني ِ‬‫التعامل‪ ،‬وتعلمت ِ‬
‫الكلامت بقلب لوجني فطأمنتها قليلاً ‪ .‬فتبسمت قائلة‪ :‬معك‪ ،‬سأكون بخري وإال‬
‫سأقتلك‪ .‬ضحك مصطفى قائلاً ‪ :‬وهل سأموت إن قتل ِتني أو متوتني أنت‪ .‬قالت‬
‫له‪ :‬حقًّا‪ ،‬إ ًذا سأسجنك‪ .‬قال مصطفى‪ :‬وهل سنعود لسجون كوشيه‪ .‬أجابته‪ :‬بل‬
‫بقلبي‪.‬‬
‫رمبا كانت الليلة املاضية تحمل طابع الهدوء عن سابقتها‪ .‬فالجميع بدأ يفكر‬

‫‪149‬‬
‫بعقله أكرث‪ .‬أو ألن الظروف كانت هي التي تحتم عليهم التفكري بعيدً ا عن‬
‫العاطفة قليلاً ‪ .‬حمل الجميع أمتعته يف الصباح يكملون الطريق نحو الكهف‪.‬‬
‫أصبح الوقت بطي ًئا بالنسبة إىل الجميع منذ أن علموا بقرب الكهف‪ .‬ما زال القائد‬
‫والطبيب أيبي يف املقدمة؛ كالعادة يسري وحيدً ا مفتقدً ا لصديقه ابن عبدالبار‪.‬‬
‫الجميع يرتقب‪ .‬كاد الصمت أن يستمر لوال وجود رصخة جهاد التي قاطعتهم‬
‫والتف الجميع حوله حيث صديقه خالد قائلاً ‪ :‬ما بك؟ ماذا ترى؟ أمسك جهاد‬
‫بصديقه خالد قائال‪ :‬هناك‪ ،‬يا خالد‪ ،‬هناك‪.‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬خرجنا من هذا املكان‪ ،‬هناك‪ ،‬يا صديقي‪ .‬اهدأ قليلاً ‪ ،‬يا فتى‪ .‬قالها‬
‫الطبيب أيبي لجهاد متسائلاً ‪ :‬ماذا ترى‪ ،‬يا جهاد؟ أجابه‪ :‬سيدي الطبيب‪ ،‬إنه النفق‬
‫الذي يؤدي إىل الكهف من هذا االتجاه بجانب الجبل‪ .‬نظر الطبيب أيبي له وأعاد‬
‫عليه السؤال‪ :‬أي نفق‪ ،‬يا جهاد؟ ليس هناك نفق‪ .‬أنا أعرف الطريق جيدً ا‪ .‬إال أن‬
‫خالد وافقه الرأي‪ :‬نعم‪ ،‬إن الطريق من هنا‪ ،‬سيدي‪ .‬أيضً ا تذكر مصطفى حني‬
‫قدومه ململكة سوجالر وألرض كوشيه أن رأي جهاد هو الصواب‪.‬‬
‫الجميع يتفق مع جهاد أو أن الجميع اتفق عىل أن الطريق املؤدي إىل الكهف‬
‫هو ما قاله جهاد باستثناء الطبيب أيبي‪.‬‬
‫‪ -‬األمر به عالمات استفهام كثرية‪ ،‬يا رفاق؟ قالها الطبيب أيبي ناظ ًرا إليهم‪.‬‬
‫قاطعته لوجني‪ :‬أليس هذا الطريق‪ ،‬سيدي‪ ،‬املؤدي إىل قرص سوجالر؟ وافقها‬
‫الطبيب الرأي‪ :‬نعم‪ .‬إال أننا سننحرف رش ًقا قليلاً حتى نصل إىل طريق الكهف‬
‫املعهود‪ .‬نحن قريبون جدًّ ا منه‪ .‬التبست األمور‪ ،‬وانقسم الرفقاء‪ .‬الطبيب أيبي‬
‫ولوجني يريان أن هذا طريق مخترص لقرص سوجالر‪ .‬بينام مصطفى ورفاقه يرون‬
‫أن الطريق هو طريق العودة‪ .‬الشكوك تتزايد‪ .‬نظر مصطفى إىل الطبيب وإىل‬
‫لوجني نظرة استفهام‪ ،‬إال أن لوجني التي كانت تسكن قلبه وما زالت تفهمت‬

‫‪150‬‬
‫معنى النظرة قائلة‪ :‬نظرة شك هذه‪ ،‬يا فتى؟ أجابها مصطفى‪ :‬ليس بشك‪ ،‬حبيبتي‪،‬‬
‫ولست بفتى بل أنا حبيبك‪ .‬قالت له‪ :‬حبيبي يثق يب كام أثق به‪.‬‬
‫لكن نظرة مصطفى كانت استفهام فهو ميلك قل ًبا ال يجرؤ عىل الشك بحبيبته‬
‫مهام تكن الظروف‪ .‬رمبا فهمت لوجني نظرته بطريقة خاطئة‪ .‬ستكون أول مرة‬
‫يختصم بها مصطفى مع لوجني إن حدث‪.‬‬
‫وجد جهاد األمور تتطور وتسوء واالنقسام يسود بينهم‪ .‬قال بصوت به نربة‬
‫الحزن‪ :‬رمبا أخطأت‪ .‬رمبا أخطأت‪ .‬فالطبيب ولوجني يعرفان الطريق أكرث منا‪ .‬نظر‬
‫خالد ومصطفى إليه قائلني‪ :‬ما بك‪ ،‬يا رفيقي‪ .‬نحن نوافقك الرأي‪ ،‬وهذا ما تبني‬
‫لنا‪ .‬أجابهم جهاد‪ :‬ال عليكم‪ .‬األمور عىل ما يرام‪ .‬لوجني‪ ،‬هذا مصطفى الذي خاض‬
‫املاملك من أجلك هل تتذكرين؟ يف محاولة من جهاد إصالح سوء التفاهم الذي‬
‫حدث‪ .‬أجابته لوجني قائلة‪ :‬نختلف لكننا ال نتخاصم يا جهاد‪ .‬نحن نعلم مدى‬
‫أهمية كل منا لآلخر‪ .‬فال يستطيع قلبي أن يتخاصم معه لدقيقة واحدة‪ .‬هل‬
‫فهمت؟ نظر مصطفى معتذ ًرا عىل نظرته السابقة قائلاً ‪ :‬وكأن العيون تتحدث‪،‬‬
‫حبيبتي‪ .‬لغة العيون هي أصدق لغة ممكن أن يتحدثها العاشقان‪ .‬إال أن نظريت‬
‫بك أو بالطبيب‪ ،‬بل هي شك يف املوقف ذاته كيف‬ ‫كانت مبوضع شك‪ ،‬ولكن ليس ِ‬
‫يحدث هذا‪ .‬فقط كاستفهام حبيبتي‪ .‬قاطعهم الطبيب‪ :‬ال عليك‪ ،‬يا ولدي‪ .‬فنحن‬
‫نتفهم طبيعة املوقف‪ .‬ولكن علينا الجلوس قليلاً حتى نضع حلاًّ ملا حدث‪ .‬فهذا‬
‫يعني الكثري‪ .‬هذا يعني أن لدينا رأيًا واحدً ا صاد ًقا فقط ال اثنني‪ .‬إما أنا ولوجني‬
‫أو أنت والرفقاء‪ .‬سيدي‪ ،‬نحن ليس لنا رأي أمامكام‪ .‬قالها جهاد‪ :‬ناظ ًرا إىل أسفل‪.‬‬
‫أشار الطبيب بيده عالمة عىل السكوت قائال‪:‬‬
‫‪ -‬ال يابني لك كامل الحرية يف طرح أسئلتك وتصديق اإلجابات أو نقدها‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫لكن األمر ليس كام تتحدث أنت‪ .‬لسنا بصدد َمن الصادق‪ .‬بل كالنا صادق‪ .‬فهناك‬
‫حيلة من سوجالر وأتباعه أحاول فهمها‪.‬‬
‫‪ -‬سوجالر؟ وماذا يريد منا؟ لقد انتهينا منه‪ .‬قالها مصطفى ناظ ًرا إىل الطبيب‪.‬‬
‫أجابه الطبيب‪ :‬يا بني‪ ،‬هو وأعوانه يعرفون أنكم سرتحلون مام ال شك فيه‪ .‬كام‪،‬‬
‫أيضً ا‪ ،‬يعرفون أنكم متتلكون القوة الكافية‪ .‬لكنهم علموا بأمر موت ابن عبد البار‪،‬‬
‫وهذا يدل عىل أننا ال منتلك القوة بالنسبة التي كان ميتلكها ابن عبد البار‪ .‬قاطعه‬
‫جهاد‪ :‬وكيف علموا مبوته‪ .‬أجابه أيبي‪ :‬ابن عبد البار أصبح مقبو ًرا‪ ،‬وهم يجوبون‬
‫املقابر ليلاً ‪ ،‬ويعرفون من الداخل إليها آخ ًرا‪ .‬تابع جهاد سؤاله بسؤال آخر‪ :‬وكيف‬
‫تقل قوتنا؟ أجابه الطبيب‪ :‬ال تقلق‪ .‬نحن ما زلنا نتحكم يف القدر األكرب من القوى‬
‫املوجودة هنا‪ ،‬إال أن النسبة انخفضت بشكل مل يكن ملحوظًا إال قليلاً ‪ .‬فنحن‬
‫عىل قدر معرفتنا بالطالسم إال أننا ال نعرف عالقتها بعلم الفلك جيدً ا‪ ،‬مثلام كان‬
‫يفعل ابن عبدالبار‪.‬‬
‫ولكن نحن ما زلنا منتلك القوة‪ .‬تساءل مصطفى‪ :‬وما حيلتهم التي يصنعونها‬
‫لنا هذه املرة؟ قال الطبيب‪ :‬أشك أن سوجالر يختطف البعض من عاملكم‪،‬‬
‫حيث يأيت بهم عن طريق النفق الخلفي‪ ،‬بينام داخل النفق طريق مغاير آخر‪.‬‬
‫فالطريق األول يخرجهم من الكهف مبارشة إىل املدينة‪ ،‬والطريق الثاين يخرجهم‬
‫من الكهف إىل قرص سوجالر‪ .‬حتى إن أدركوا العودة يدخلون من الطريق املؤدي‬
‫إىل قرص سوجالر‪ .‬فبدلاً من أن يخرجوا أصبحوا رهن السجون بأنفسهم‪ .‬يا لها‬
‫من حيلة جهنمية حقًّا‪ :‬قالها جهاد واض ًعا يديه عىل رأسه ناظ ًرا ببرص شاخص إىل‬
‫صديقه خالد‪ .‬تابع جهاد قائلاً ‪ :‬حقًا‪ ،‬ال يفل الحديد إال الحديد‪ ،‬أيها القائد‪ .‬وما‬
‫العمل‪ ،‬سيدي الطبيب؟ نحن بحاجة إىل أن نضع حدًّ ا ملا نحن فيه‪ .‬أجاب الطبيب‬
‫أيبي‪ :‬علينا أن ندرس النفق جيدً ا‪ ،‬وأن ال نختار طريقًا مغاي ًرا‪ .‬احذروا وأنتم داخل‬

‫‪152‬‬
‫الكهف‪ .‬عليكم أن تختاروا الطريق الصواب‪ .‬غري ذلك فإننا مبصيدة سوجالر‪.‬‬
‫تساءل مصطفى موج ًها كلامته إىل الطبيب‪ :‬وهل تأيت معنا إىل داخل الكهف؟‬
‫أجابه الطبيب‪ :‬ال‪ ،‬يا بني‪ ،‬بل لبداية الطريق كام عاهدت ابن عبدالبار‪.‬‬
‫‪ -‬حس ًنا‪ ،‬سيدي‪ .‬هل سبق لك أن دخلت الكهف؟ أجابه الطبيب‪ :‬يو ًما ما‬
‫نظرت إليه وأنا خارجه‪ .‬رمبا أتذكر الطريق السليم‪ .‬عليكم أن تكونوا عىل قدر‬
‫املسؤولية‪ ،‬يا رفاق‪ .‬جلس الطبيب يرشح لهم أمر الكهف جيدً ا‪ ،‬كام كان يتذكره‪.‬‬
‫طلب الطبيب من مصطفى أن يكون القائد داخل الكهف‪ .‬فهو يعرف مهارته‬
‫وقدرته عىل ترصيف األمور‪ .‬وطلب من جهاد أن يبلغ مصطفى بكل ما يالحظه‬
‫حيث إن جهاد قوي املالحظة لدرجة الدقة‪ .‬وطلب من خالد أن ال ينعطف يسا ًرا‬
‫مهام تكن األمور‪ ،‬وأن يتذكر هذا األمر فقط ال يشء آخر حتى يستطيع الجميع‬
‫الخروج بسالم‪ .‬نظر مصطفى إىل الطبيب‪ .‬مل يفهم الطبيب‪ .‬نظر إليه مرة أخرى‬
‫قائلاً ‪ :‬سيدي‪ ،‬ولوجني؟ ماذا عنها؟ أجاب الطبيب‪ :‬عليها أن تقرر مصريها‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا؟ ال أفهم‪ ،‬سيدي‪ .‬عليها أن تفعل ماذا؟‬
‫نظر الطبيب إليها قائلاً ‪ :‬أن تختار بني البقاء أو العودة معكم‪ .‬قالت له‪:‬‬
‫سيدي‪ ،‬لقد انتهى األمر‪ ،‬منذ أن كنا مبدينة العلم‪.‬‬
‫‪ -‬لقد وعدتني بالعودة‪ .‬قال لها‪ :‬حقًا‪ ،‬ابنتي‪ .‬ولكن اطرح ِ‬
‫عليك األمر ثانية‬
‫حتى تعطي مساحة لعقلك ليذكر قلبك‪ .‬نظرت لوجني إىل مصطفى‪ :‬سيدي‬
‫الطبيب‪ ،‬عقيل وقلبي ميتلكهم هذا الفتى‪ .‬دعني أذهب معه حتى أسرتدهام؟‬
‫تبسم الطبيب‪ :‬إ ًذا‪ ،‬فالعودة‪ ،‬يا لوجني‪ .‬أجابت لوجني بعينني المعتني‪ :‬فالعودة‪،‬‬
‫أيها الطبيب‪.‬‬
‫اتفق الجميع عىل العودة‪ .‬لعل هذه األمر هو أمر تأكيدي من الطبيب حتى‬

‫‪153‬‬
‫ال يندم البعض‪ .‬وصل الطبيب ومعه الرفقاء إىل النفق؛ مجتازين املمر األول‪ .‬كل‬
‫منهم يسري برفق خشية من أن ميروا من طريق خطأ‪ .‬الطبيب يف املقدمة‪ ،‬يليه‬
‫مصطفى ممسكًا بيد لوجني‪ ،‬ثم جهاد وخالد‪ .‬كل منهم يعرف ماذا سيفعل جيدً ا‪.‬‬
‫هيا‪ ،‬يا رفقاء هيا‪ .‬هي اللحظات األخرية‪ .‬فلنفعلها‪ ،‬يا رفاق‪ .‬فلنفعلها‪ .‬األنفاس‬
‫تتسارع‪ ،‬والعرق يسكب من جبينهم؛ القلوب تنبض بصوت عالٍ ‪ .‬العيون شاخصة‬
‫ترتقب بكل اتجاه؛ األفكار تتصارع‪ .‬الطبيب يحكم األمور جيدً ا‪ :‬فقط عىل بعد‬
‫خطوات سنفعلها‪ ،‬يارفاق‪ ،‬سنفعلها‪ ...‬سنفعلها‪ ،‬يا رفاق‪ .‬فقط الثقة‪ .‬نتحيل بالثقة‬
‫والصرب وسنفعلها‪ .‬مر الطبيب من الطريق املنعطف رش ًقا‪ ،‬والجميع خلفه‪ .‬كانت‬
‫أنفاس لوجني ترتفع تكاد تختنق‪ .‬توقف مصطفى مناديًا عىل الطبيب‪ :‬سيدي‬
‫الطبيب‪ ،‬سيدي الطبيب‪ .‬أرسع‪ ،‬سيدي‪ .‬جاء الطبيب‪ :‬ماذا‪ ،‬يا فتى‪ .‬لوجني متعبة‬
‫نو ًعا ما‪ .‬نظر الطبيب إىل مصطفى قائلاً ‪ :‬يا بني‪ ،‬لقد تساءلت مرة أخرى مؤكدً ا‬
‫عىل العودة إال أنها ترص عىل خوض التجربة معك إال أنها لن تستطيع أن تكمل‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا؟ أنا ال أفهم‪ .‬الجميع يرتقب ماذا حل بلوجني‪ .‬إنها تصارع املوت‪ .‬فباب‬
‫الكهف قريب‪ .‬لقد انتهى األمر‪ .‬ها هو الباب‪ .‬هيا‪ ،‬يا لوجني‪ ،‬ادخيل عاملي‪ .‬هيا‪،‬‬
‫حبيبتي‪ ،‬لقد مررنا بالصعاب‪ .‬ال يشء أمامنا سوى هذا الكهف اللعني‪ .‬سنخرج‬
‫منه ساملني‪ .‬هيا‪ ،‬يا لوجييييييييني‪ .‬انهيض‪ ،‬حبيبتي‪ .‬كلها كلامت يقولها مصطفى‬
‫وهو يبيك‪ ،‬وكأن قلبه يطعن بسكني حاد‪ .‬إال أن الطبيب هدأ منه قائلاً ‪ :‬إن لوجني‬
‫من عاملك‪ ،‬لكنها اختطفت لعاملنا طفلة صغرية ال تعرف شي ًئا‪ .‬نشأت داخل عاملنا‬
‫تشكلت بهيئتنا؛ تقلدت مناصبنا‪ .‬فهي أصبحت منا‪ .‬فالعودة تعني موتها‪ ،‬حيث‬
‫إنها تحتاج إىل طالسم ال منتلكها حتي يتم تجريدها من هيئتها التي عاشت بها‬
‫بيننا‪ .‬يا بني‪ ،‬الطري ال يستطيع أن يصبح يف قاع املحيط‪ .‬كذلك لوجني‪ .‬لن تعود‬
‫إال إذا أحيينا ابن عبد البار‪ ،‬فهو الذي كان يربط الطالسم بعلم الفلك‪ ،‬ويستطيع‬
‫‪154‬‬
‫إعطاءها القوة الكافية عىل التعايش يف عاملك‪ .‬حاولت أن أقص عليكم األمر‬
‫سابقًا‪ ،‬لكن الجميع أىب‪ ،‬فخشيت أن يتهمني البعض بالتقاعس‪ .‬يا بني‪ ،‬إن أنفاسها‬
‫تتصارع مثلام تتصارع أنفايس اآلن‪ .‬لكنني أمتلك القدرة عىل البقاء وق ًتا أطول‪.‬‬
‫إال أنها ستموت لو عربت هذا الباب‪.‬‬
‫الجميع أصبح يف صدمة‪ .‬يحاول مصطفى أن يكذب الطبيب‪ ،‬والطبيب يحاول‬
‫أن يقنعه‪ .‬لكنه يرفض التصديق بتاتًا‪ .‬نظر جهاد إىل صديقه قائلاً ‪:‬‬
‫‪ -‬الطبيب يقول حقًّا‪ ،‬صديقي‪ .‬وأنت أتيت إىل هذا العامل ال تعرف لوجني‪.‬‬
‫فلتخرج وأنت ال تعرفها‪ .‬التفت مصطفى إىل جهاد ناظ ًرا إليه بنظرات حادة كادت‬
‫أن تخرج الرشر من عينيه قائلاً له بصوت يختلط بالبكاء‪ :‬وأنت أتيت إىل الدنيا‪،‬‬
‫وكانت دنياك داخل رحم أمك‪ ،‬فلتعد إىل دنياك السابقة‪ .‬فالطفل يف أحشاء أمه‬
‫ال يعرف عن العامل شي ًئا سوى هذه املساحة الضيقة جدًّ ا‪ .‬فإن جاء إىل الدنيا وجد‬
‫عاملًا آخر‪ ،‬فإن طلبت منه العودة إىل أحشاء أمه لرفض قائلاً ‪ :‬سأموت لو فعلت‪.‬‬
‫هكذا أنا‪ ،‬يا رفيقي‪ .‬سأموت إن تركتها‪ .‬هل تفهم؟ سأموت‪ ،‬رمبا رس التحنيط الذي‬
‫كنت أبحث عنه مل يعد هدفًا يل اآلن أكرث من الحصول عىل لوجني‪ .‬انتهت كل‬
‫أهدايف عندها‪ ،‬فال عيش بدونها‪.‬‬
‫أجابه خالد‪ :‬بالطبع‪ ،‬يا صديقي‪ ،‬هو ال يقصد التخيل عنها إال أنها ستموت لو‬
‫اصطحبتها معنا‪ .‬صمت مصطفى قليلاً ناظ ًرا إىل صديقيه قائلاً ‪:‬‬
‫‪ -‬عودوا‪ ،‬فلن أعود‪ .‬لن أترك لوجني وأخذ يرضب جها ًدا عىل كتفه‪ ،‬ويدفع‬
‫خالد من ظهره وهو يقول برصاخ وكأنه يعذب‪ :‬عودوووووا‪ ...‬عودوووا‪ ..‬عودوا‪،‬‬
‫فلن أعود بدونها‪.‬‬
‫كاد الطبيب أن يجن جنونه‪ .‬هذا الفتى انتحاري بحق الجحيم‪ .‬يفضل املوت‬
‫عىل العودة بدون حبيبته‪ .‬هذا ال يصدق‪ .‬لوال أنني أرى هذا ما كنت ألصدقه‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫كان يتمتم الطبيب بكلامت تحمل التعجب‪ .‬صاح جهاد إىل مصطفى‪ :‬هيا‪،‬‬
‫يا رفيقي‪ .‬هيا لن نرتكك‪ .‬رفض مصطفى وأخذ لوجني عائدً ا بها بضع خطوات إىل‬
‫الخلف‪ .‬فبدأت أنفاسها تتحسن قليلاً ‪ .‬الحظ مصطفى هذا كلام ابتعد عن باب‬
‫الكهف‪.‬‬
‫نظر إىل الطبيب متسائلاً ‪ ،‬لكن الطبيب قطع نظراته قائلاً ‪:‬‬
‫‪ -‬هل أيقنت اآلن بحديثي‪ .‬جلس مصطفى ساندً ا ظهره إىل جدار الكهف‪،‬‬
‫قائل‪:‬‬
‫وعىل ركبتيه لوجني التي أرهقها التعب؛ واض ًعا يديه عىل شعرها ناظ ًرا إليها ً‬
‫وماذا يا لوجني؟ مل يتبق يشء إال وفعلته من أجل العودة معي‪ .‬وماذا‪ ،‬يا لوجني؟‬
‫نظرت إليه لوجني بعينني تحمالن العشق قائلة‪ :‬إنها األقدار‪ .‬إنها األقدار‪ ،‬حبيبي‪.‬‬
‫أجابها مصطفى‪ :‬رمبا هي األقدار‪ .‬لكنك ستكون قدري حتماً ‪.‬‬
‫‪ -‬سأكون حيث تكونني‪ ،‬يا لوجني‪ .‬هل تذكرت؟‬
‫قالت له‪ :‬نعم‪ ،‬فأنا أتذكر كلامتك حتى أعيش عىل ذكراها‪ ،‬لكن كن أنت‬
‫عندما تكون األقدار‪ .‬فأنا أنتظرك‪ .‬رمبا تجمعنا األقدار مرة أخرى‪ .‬وما زلت أمتلك‬
‫قليلاً من القصائد التي كتبتها يل‪.‬‬
‫قالتها لوجني بابتسامة تحمل الوداع‪ .‬قاطع الطبيب‪ :‬عليك أن ترتكها‪ ،‬يا بني‪.‬‬
‫أنا أعلم مدى أوجاع قلبك وقلبها‪ ،‬لكنها حتماً ستموت إن عادت‪.‬‬
‫‪ -‬رمبا مل يحن الوقت لعودة لوجني‪ .‬انتهى األمر بتسليم مصطفى لألمر الواقع‪.‬‬
‫نظر مصطفى إىل الطبيب قائلاً ‪ :‬علينا أن ندع الطالسم لــ لوجني حتى يكون قلبي‬
‫مطمئ ًّنا أنها ستكون بخري‪ .‬وافقه الطبيب الرأي‪ .‬رمبا انتهز الطبيب هذه الفرصة‬
‫حتى ال يعود الفتى لجنون عشقه‪ .‬أعطاها الطبيب كل يشء مام يجعلها ملكة‬
‫مملكة كوشيه‪ .‬نعم‪ ،‬لوجني ملكة مملكة كوشيه‪ .‬عانقها مصطفى عناق الوداع‬
‫قائلاً ‪:‬‬

‫‪156‬‬
‫‪ -‬سنعود‪ ،‬يا ملكة مملكة كوشيه‪ ،‬فجزء من عاملك يعني يل كل العامل‪.‬‬
‫ابتسمت لوجني‪ ،‬وستكون ملكًا لعرش البالد‪.‬‬
‫إما أن أكون ملكة بعاملك وبحياتك أو أن تكون ملكًا مبملكتي‪.‬‬
‫وجه الطبيب كلمته األخرية لفتى الكهف‪.‬‬
‫‪ -‬رمبا مل يحن الوقت‪.‬‬
‫تمت‬

‫‪157‬‬

You might also like