Professional Documents
Culture Documents
رواية قصر الجان لـ سعيد إسماعيل
رواية قصر الجان لـ سعيد إسماعيل
قصر اجلان
رواية
مقدمة
نحن منتلك الكثري عن أرسار الحضارات إال إننا ضللنا الطريق ،يا صديقي.
عليك أن تعلم أن عاملك ال يختلف كثريًا عن عامل الجان .فنحن نتعامل معهم يف
كل لحظة ،نحن نتعايش معهم بطريقتنا الخاصه .فقط احذر أن تخطئ طريقتك
يف التعامل معهم ،فلن ترحمك مملكة كوشيه بسجونها العنيدة ،وستكون قربانًا
لإللهة جوتار ،وإن نجوت فعليك التخلص من كبري الجان “سوجالر” نحن عىل
أعتاب القرص ،عليك أن تخفي أنفاسك جيدً ا ،تنفس ببطء ،فرائحة الدماء تعج
بأرجاء املكان ،ورؤوس األموات يخرج منها صدى صوت كرياح تعصف بكهوف
خاوية ،هنا كل يشء مباح ،يا صديقي .فقط ،أغمض عينيك ودع ما تشعر به
يالمسك .دعه فهو حقًا يالمسك .إنه يدور حولك كخيال خاطف ،ال تفتح عينيك،
أبقها مغمضتني ،ال تحاول ،ال تفتحها ،أنصت يل وال تخالف حديثي ،ابق هادئًا
وحافظ عىل ثباتك االنفعايل ،ال تجعلهم يشعرون بخوفك حتي ال يسكبوا دماءك
يف كؤوسهم .هنا الجميع يسكر بالدماء ،يا صديقي ،احذر أن تكون سلعتهم
الثمينة ،ال أحد يتعامل باملال هنا ،فقط عىل قدر املعرفة ستكون غن ًّيا أم فق ًريا.
مرحبا بك ...أنت يف قرص الجان..
5
إهداء
إىل الذي كان ينضح بوجهي املاء ليوقظين لصالة الفجر قائال:
“قم فالرزق ال يأتي للنائمني”..
إىل أبي -رمحة اهلل...
7
الكهف
10
-انظر! إنه تابوت! تابوت!
-أي تابوت ،يارجل أنا ال أرى شيئا.
-ها هو! انظر جيدا! لرمبا مشاهدة التلفاز أضاعت نظرك.
ضحك خالد ساخرا :وملا ال تقول إن قصص الخيال التي تقرأها هي التي
ذهبت بعقلك؟ آخر كلامت قالها مصطفى لخالد قبل أن تتخطفه الشياطني عيانا.
وبصوت مفزع وكأنه من داخل قرب :أين مخطوطة املؤرخ ،أيها األبله؟
-من أنا؟ هكذا أجاب مصطفى عىل سوجالر ملك الجان :ومن أنت؟
-ستعلم عندما نريد.
-وعن أي مخطوطة تتحدث؟
-يبدو أنه ليس أبله .هكذا قال (سوجالر) :املخطوطة التي تحوي طالسم أجدادي
“مخطوطة التابوت” .أين املخطوطة وإال وضعت صديقك خالدًا يف التابوت”.
-حسنا حسنا” سأتحدث ،أنا ما أردته هو الوصول إىل أعامق حضارتكم؛ ال
ليشء آخر .أجدادي أنتم كام قال يل معلمي ذات يوم .أردت أن أعرف أكرث عن
رس وجودكم لآلن ،رس وجود حضارتكم العظيمة ،رس عراقتكم.
-وماذا تريد من حضارتنا ،أيها الوغد؟! هكذا قالها ( صفرائيل) املتحكم يف
كوكب الزهرة ،وهو يرفع مصطفى بيد واحدة من طرف قميصه املمزق نتيجة
ما فعله مبخطوطة التابوت .أجاب مفزعا” بصوت يتقطع :أا اا أنا أنا ال أريد ال
أريد ،سيدي ،ال أريد .
11
-اهدأ ،يا فتى واجلس هنا -يقصد تحت قدم عرشه ،هكذا كان أسلوب
سوجالر الخبيث!
-ما أردناك بسوء ...ماذا تريد من حضارتنا؟
تحدث (برقان) “عاشق الدماء العزباء” الذي كان يقف بجوار ملك الجان،
مكر ًرا سؤال سوجالر :ماذا تريد من حضارتنا؟ أجاب مصطفى ناظ ًرا :أسفل قدميه
واضعا برصه عىل حوافر سوجالر التي تبدو كحوافر عنزة مشوهة خائفا :كنت
فقط أريد أن أعرف رس التحنيط!
-ها ها ها ها .تبعتها ضحكات متقطعه لـ ( رصفائيل) الذي كان يجلس هو
كأسا من دم فتاة عزباء؛ هذا ما كان يفضله.
اآلخر يرشب ً
-وأي تحنيط ،يا فتى .ما اسمك؟
-أنا؟
-نعم ،وهل لدينا من البرش غريك؟
-أنا (مصطفى).
-وماذا تريد تعرف عن التحنيط ،يا مصطفى.
-فقط ،سيدي ،رسكم.
-رسنا؟؟ مممممم سأجيبك ولكن بعد أن تجيبني.
“ هل أنت اآلن عىل قيد الحياة؟ أم إننا أموات وأنت حي ،أم إنك ميت ونحن
أحياء؟ يف مقابل هذا ،الرس لك واملخطوطة لنا.
كان مصطفى يرتقب بعني الحذر ،ألنه يعلم أن إجابته عن السؤال تساوي
حياته(هذا إن كان عىل قيد الحياة) .ترقب بنظرات بائسة أمام عيني رصفائيل
اللتني تبدوان باللون الربتقايل داخلها قطعة زرقاء ،وكأنها لهب بعد اشتعاله كثريا.
12
أجابه بصوت مهزوز:
-نحن أموات ،يا سيدي ،وأنتم أحياء.
تبعتها رضبات عىل كتفه بيد بها ثالثة أصابع تتخللها أظافر حمراء يتقطر منها
دم الفتاة العزباء ،قائال بصوت جبيل :هذا ما أردنا .أحسنت ،يا فتى .فاألموات هم
أموات حضارات .وضع سوجالر يده األخرى عىل كتفه األخرى حيث كان خلفه،
وباليد اليرسى رفع ذقنه ألعىل وو َّجه رأس مصطفى بإصبع من أصابعه الثالث-
التي لرمبا كاد أن ميوت فز ًعا منها -نحو فتحة يف السقف بداخل الكهف الذي
اختطف فيه ،قائلاً :انظر جيدً ا ؟ ماذا ترى؟ قال :ال أرى شي ًئا .تحدث (برقان) متبسماً
السخرية :لرمبا أضاع التلفاز برصه.
ناظ ًرا بوجه شاحب تظهر عليه عالمات ُ
تعجب مصطفى قائلاً وكان مرهقًا يحاول ابتالع ما تبقي من ريق :هل تعرف
خالدً ا؟ أجاب برقان يف سكون من الصوت للجميع وال صوت سوى صوت الرياح
املخيفة التي تتبعها حبات رمال كادت أن تعمي مصطفى لوال وجود سرتة من
القامش كان يرتديها حول رقبته ،وامراة تبيك عىل فتاتها العزباء املختطفة .هكذا
كان املشهد املخيف.
قائلاً :يا مصطفى ،أنا خالد .هال رأيت هذا الخاتم يف يدي من قبل؟؟ وكان
لديه خاتم به إشارة رأس مثلث .وكأنه مثلث املوت( برمودا) .نعم أنا هو ،وخاتم
خالد .ال ال ال ،مل يكن به هذه الطالسم العجيبة ،حيث كان الخاتم الذي يرتديه
برقان مدون ًة عليه أرقام ما؛ كلها تحمل الناتج نفسه وهو رقم .15إذا ليس هو
بخاتم خالد ولكن من كان معي؟
4 9 2
3 5 7
8 1 6
13
قاطعه صوت (صفرائيل) :وهل كان صديقك ذا حوافر كهذه .وكشف عن
ساقه إذ هي بحوافر تلك العنزة املشوهة التي ميتلكها الكثري منهم .فوقع مصطفى
مغش ًّيا عليه ،وال يدري إال عندما أفاق داخل قرص ملك الجان.
14
قصر سوجالر
مرح ًبا بك نحن عىل بعد أميال من غرفة الطبيب ( أيبي) ،مر مصطفى
مرس ًعا إال أنه توقف لربهة ناظ ًرا لجامل النقوش التي كانت مدونة عىل هذا
الباب .إذ بفتاة تأيت ويتبعها رجالن كل منهام أضخم من باب منزل مصطفى،
وأعرض من نافذة غرفته التي كانت تطل عىل بائع الخرضاوات .تتقدم الفتاة
عنهم خطوة ويتبعها الحارسان خلفها بخطوة .وقعت عيناه عىل تلك العيون
التي كانت تصحبها ملسات ساموية كلون سحاب ممطر وكأنه يغرق يف بحرها ،إال
أنه كان ينظر متمن ًيا لو أنها من البرش؛ إال أنه كان يعلم عكس ذلك ،ولكن يغلب
عىل ُحسنها طابع مالك.
هذه الغرفة للطبيب الذي كان متحفظا عىل أرسار غرفته.
-ماهذا بحق الجحيم؟ إنها جملة قالها مصطفى ،وكاد أن يجن جنونه .إنها
األرقام نفسها التي كان يحملها خاتم برقان برتتيبها نفسه.
-اجلس هنا وال تتحرك وإال أصابتك لعنة اإللهة ( جوتار).
-جوتار..؟ كان يتعجب مصطفى بعد سامع برقان يقولها .ذهب برقان إىل
غرفة التحنيط ،وبقي مصطفى بالخارج يف طرقة لها أبواب عديدة أكربها هذا
الباب الذي يحمل هذه األرقام .كان يفكر ويحدث نفسه .كيف أن خالدً ا مل ِ
يأت
معي..؟ لقد اصطحبته من منزله بنفيس .لقد كان يقول يل بضحكاته املعتادة
الساخرة التي كنت أحبها (:مش ناوي تتجوز بقي )..؟ من كان معي يف هذا
اليوم...؟ كان املوقف أشبه بكابوس بل بجحيم إال أن تلك النظرة التي اختطفها
مصطفى من هذه الفتاة جعلت له قسطًا من املشاعر يف هذا العامل املخيف.
17
.................................................
مرح ًبا سيد رصفائيل :مل يجب رصفائيل عىل كلامت برقان ،ألنه كان مشغولاً
يف وضع األرقام برتتيبها حيث كوكب الزهرة الذي كان ميثل الرقم ( )15األرقام
نفسها املوجودة عىل غرفة الطبيب أيبي وعىل خامته أيضً ا .لعل بهذا الرقم رس ما.
-اجلس يا برقان .ماذا فعلت مع اإلنيس املدعو مصطفى؟ هل وجدتم
مخطوطة املؤرخ؟ أجاب برقان عىل ملك الجان (سوجالر) مل نجد شي ًئا ،سيدي.
ولكن هناك أمر ما .خالد صديقه الذي تجسدنا بهيئته يف ذاك اليوم بالكهف،
واصطحبنا مصطفى إىل هنا .لرمبا تركها ذاك الفتى مع صديقه قبل أن يأيت إىل
الكهف .عمن تتحدث؟ اخترص ،يا برقان .ليس لدينا الوقت الكايف .أرقام الشهور
الفلكية تتقارب وكوكب الزهرة يتقارب من عاملنا السفيل ،وأنت -هنا -ما زلت
ترثثر بال فائدة.
-أنا أريد املخطوطة ال يشء ..عف ًوا ،سيدي ،نحن بحاجة لوجود مصطفى
معنا .هكذا أضاف برقان وأكمل لرمبا وجوده يفتح لنا ما نفقده من أرقام عامل
اإلنس ....جيد وماذا بعد......؟
عىل الجانب اآلخر ما زال مصطفى ينتظر هناك يف طرقة القرص املجاورة
لغرفة التحنيط...؟
بأنفاس مرتفعة ،وكأنه يحترض ..ألقى
ِ كان يقرتب من باب الغرفة مرتق ًبا
بعينيه عىل بصيص شعاع كان يخرج من األرقام املدونة عىل باب (أيبي) حيث
إنها كانت منحوتة ومفرغة من الداخل بشكل يتيح دخول أشعة الشمس من
قلبها إىل التابوت املوجود يف منتصف الغرفة.
-انتبهي ملا يف يديك .لقد تحدثت سابقًا يف هذا األمرِ .
أنت يف حرضة اإللهة
( جوتار) .ماذا حل ِ
بك ،يا لوجني؟
18
كانت كلامت الطبيب “أيبي” موجهة ملساعدته الخاصة والطبيبة املاهرة
لوجني ،حيث كان الطبيب يقوم مبراسيم تحنيط جثة ألحد النبالء.
أجابت لوجني :أجل ،سيدي ،ال تكن قلقًا ،سأعتني باألمر جيدً ا.
-حس ًنا ،ابنتي .علينا أن نفرغ املخ من خالل فتحتي األنف .أنا سأفعلِ .
وأنت،
عليك عمل فتحة يف البطن بالجانب األيرس ما بني 8لــ 12سم إلخراجيا لوجنيِ ،
األمعاء .ال تتعدِّ ي هذا الرقم حتي ال يغضب علينا الكاهن األعظم ال منتلك من
الوقت إال سبعني يو ًما ،يا لوجني .حيث كانت عملية التحنيط تستغرق من موت
الشخص إىل تحنيطه ثم إىل دفنة سبعني يو ًما.
-علينا اإلرساع ،يا لوجني ،قبل عودة نجم “الشعرى” وظهوره يف السامء مرة
أخرى.
-وما عالقة هذا النجم مبا نفعله ،أيها الطبيب أيبي؟ أجاب أيبي :يختفي نجم
الشعرى من بداية شهر مايو وملدة سبعني يو ًما ثم يعود تقري ًبا يوم 18يوليو.
ولضيق الوقت ،كان أيبي يعمل برسعة غري مسبوقة ،ومصطفى يتابع عرب بصيص
الشمس املؤدي للغرفة؛ إال حدث ما كان يخشاه؟
وقعت من جيبه عملة معدنية أحدثت صوتًا كان كاف ًيا بأن يطلق أيبي جرس
إنذار من غرفة التحنيط ممسكًا بحبل أعاله الجرس .أمسك الحراس مبصطفى
قائل :من أنت؟ وماذا
وأتوا به لداخل الغرفة .نظر إليه أحدهم وهو يعنفه ً
تفعل؟ وما هذه العملة املعدنية؟ طلب أيبي من الحراس أن يرتكوه حتى يستطيع
التحدث .وبينام يتحدث أيبي مع مصطفى ،أمسكت لوجني العملة التي أصدرت
صوتًا بالباب ،وقالت :إنها للملك توت عنخ أمون ،يا سيدي .نظر مصطفى إليها
وهي تتحدث وما كان جوابه إال أنه قال :نعم هي للملك.
-نعم هي له.
19
-من سيديت هذا امللك؟ وكأن مصطفى يف غفوة سكران؟ حيث كان ال يرى
سوى لوجني وكأنه ُسحر بعينيها .وظل ينظر إليها وال يدري ماذا يفعل .مل يفق إال
برضبات متتالية بجانبه من الحراس مهددينه بالقتل.
-ال تتحدث .احرتم عراقة هذا املكان .تبدو من عامل آخر.
كانت كلامت الطبيب موجهة ملصطفى الذي كان هو اآلخر ال يدري مبن
يرضب أو من يتحدث ،فقط ال يرى سوى تلك العينني اللتني كادت أن تسقط
الغيث من جاملها.
وإذ برضبة قوية تجعله يفقد عواطفه تجاه لوجني ،التي كادت أن تبتسم
إعجابًا بطريقته يف الال ُمباالة ،إال أنها صكت وجهها خوفًا من عقاب أيبي لها.
أدار نصف وجهه للحارس وقال :أنا باحث يف علم التحنيط .أدار الحارس
وجهه للطبيب أيبي فأجابه أيبي :هل أنت طبيب؟ قال :ال ،ولكن أنا باحث يف
علم التحنيط لدى قدماء املرصيني.
استمع إليه الطبيب الذي كاد أن يصدقه لوال أن العملة التي تحمل وجه
امللك توت عنخ أمون ما زالت بيد ( لوجني) .وما هذا ،يا فتى؟ قال :هي عملة
متدا .....ولة ..قاطعه الطبيب :لكنها لنا؟ يقصد لحضارتنا .فأجابت لوجني:
سيدي ،تبدو غري أصلية.
لك هذا ،يا لوجني؟ -وكيف ظهر ِ
قالت :ليست من الذهب وال من الفضة.
-لكنها حديد مخلوط بقليل من النحاس .وناد ًرا من الزنك .أعاد الطبيب
تفكريه ثانية وحاول تصديق ما قص عليه مصطفى .كان “ أيبي” يرى أن مصطفى
حقًا من عامل آخر وقصته تتطابق مع وجود العملة التي ال تنتمي لحضارتهم.
قائل :ستعمل معي ،ولكن بعد موافقة مجلس فكر الطبيب قليلاً ناظ ًرا للفتى ً ،
العرشة الكبار.
20
جملس العشرة الكبار
جالسا عىل عرشه وأمامه مجلس كبار العشرية وعن يساره امللك سوجالر ً
(برقان) وعىل ميينه (صفرائيل) .الجميع ينظر بعني الرتقب والحذر من أن يتفوه
البعض بحرف يودي بحياته إىل سجون ( كوشيه) حيث تشتهر بغرابة أطوارها
وبراعتهم يف فنون تعذيب النزالء.
-نحن ليس لدينا الوقت الكايف سيدي حتى تكتمل األرقام مع األيام القمرية.
نحن يف أشد الحاجة ملخطوطة املؤرخ التي أضعناها مع ذاك الساحر القاطن
بأرض الفريوز .هذا ما طرحه بعض أعضاء مجلس العرشة الكبار عىل امللك .إال أن
امللك نظر إليه شاخص البرص وكأن عىل رأسه الطري قائلاً بصوت رخيم به أنفاس
متسارعة من كرثة رشب الدماء :مصطفى .أين ذاك الفتى؟ أين فتى الكهف؟
أجاب سادو :لقد رأيته ،سيدي ،بالقرص بجوار غرفة التحنيط للطبيب أيبي.
كان سادو من أعوان امللك املخلصني ،وقري ًبا له.
أرسع سادو لغرفة التحنيط حيث فتى الكهف.
23
سادو وفتى الكهف
أرسع سادو ليأيت مبصطفى للملك داخل اجتامع العرشة الكبار ،حيث ال حل
آخر أمامهم سوى مخطوطة املؤرخ التي تحمل الرقم الناقص لأليام القمرية.
فالجان يستمد قوته من هذه الطالسم التي تتوافق مع علم الفلك.
وأيضً ا امللك يستمد قوته من هذه األرقام .وغياب جزء منها يعني انهيار
اململكة وسقوط “سوجالر” شخص ًّيا حتى انهيار مملكة كوشيه بسجونها وحراسها
وسكانها.
وصل سادو أمام غرفة التحنيط ،ولكنه سمع أن الطبيب يتفق مع مصطفى
عىل أن يعمل معه .لقد سمع سادو الحديث .سيخرب سوجالر ،وسيشتاط غض ًبا ،أو
إنه سيقتل الطبيب أو يرسله لسجون كوشيه .أكمل أيبي الحديث .وكانت لوجني
تحاول تغطية املومياء التي كادت ان تتعفن من طول االنتظار .أنت ستعمل معي
هنا ،ولكن بعد إخبار امللك .ر َّد مصطفى :وإن مل يوافق امللك ،سيدي الطبيب.
ماذا أنا فاعل؟ رد الطبيب :سأعلمك جلب املال بطريقتنا.
-مال ،أي مال؟
-سأعلمك حتى تكون كبريًا (كان يقصد أن يكون وزي ًرا) .فاملال هنا يعني
العلم واملعرفة ،يا فتى.
24
تبعت كلامته تنهيدة من خلف الباب الذي يفتح عىل البطيء ،حيث كان
سادو:
-وكيف يكون كب ًريا لدينا وهو من عامل آخر؟ وقعت األنظار عىل العملة التي
ألقتها لوجني فز ًعا من دخول سادو ،وعلمها أنه قريب للملك وأحد مستشاريه
املقربني ،وأنه سيبلغه مبا حدث ،ثم تالشت األنظار مرة أخرى نحو سادو.
-نحن كنا سنخربك بكل يشء ،سادو .نحن ك ّنـ...ـا...
-ال تكميل ..جونرت جوووونرت ..هكذا نادى سادو عىل الحاجب( حارس غرفة
الطبيب).
-خذ هذا -يقصد مصطفى ،واتبعني حيث امللك.
أخذه الحارس من يديه التي كانت متسك قطعة من ورق الربدي املمزوج
بزيت اللوتس .كان قد أخذها من لوجني سائلاً لها :وهل يل أن أكتب بلغتنا عىل
هذه القطعة املمزقة؟
جذبه الحارس وكاد أن يضيق الخناق عىل معصمه بحديدة تشبه أساور كرسى
إال أنها مؤملة .دفعه الحارس لألمام ،قائلاً له بسخرية :معي للملك ،يا كب ًريا.
يف الطريق ،رأى مصطفى نقوشً ا عىل الجدران تحمل رقم 6 ،7 ،2؛ وأسفلها
صورة امللك وطائر العقاب وهو يقف عىل كتفه.
تابع مصطفى السري وهو ال يدري ما يحدث له ،يتذكر كلامت والده ناد ًما:
-يا بني ،هذه تخاريف .ال تعبث يف الكهف .يا بني ،لن تصل ليشء من
شغفك .ال تكن مول ًعا بتجارب اآلخرين فالتحنيط رس ،وكيف تحصل عىل الرس؟
كلها أقاويل تالحقه وهو يسري خطوة تلو األخرى باتجاه غرفة امللك.
فرح باملوت ،يا فتى ..؟
قائل :وكأنك ٌ
كام أنه تبسم فجأة .نظر إليه سادو ً
25
ولكن سادو ال يعلم بأن هذه االبتسامة طيف تلك الفتاة التي تذكرها
مصطفى حيث كانت تالحقه بعبارات رنانة منذ أيام الجامعة ،وتقول له :ستموت
بحثًا عن يشء ليس له وجود .وكان يجيبها بهدوء وعمق :أنا أمتلك هدفًا أبحث
عنه بعيدً ا عن العامل ،يا بسمتي .كان ميازحها بهذا االسم دو ًما.
أكمل الطريق واألفكار تضارب حتى كاد أن يصل.
إىل أن رأى تلك العجوز ثاني ًة تبيك عىل ابنتها الضائعة .وقف مصطفى واض ًعا
عالمات استفهام كثرية حول أمر هذه العجوز التي باتت بشعر متناثر يعلوه
بياض ناصع وأسنان متفرقة وشفتان متشققتان وكأنها تعذب يف سجون كوشيه.
-ماخطبك؟ من ِ
أنت؟ ومن هذه الفتاة التي تبحثني عنها؟
-يا بني ،أنا هنا منذ ثالث سنوات فقط.
اندهش مصطفى سائلاً :ثالث سنوات؟ وملَ؟ أجابت العجوز :ابنتي خُطفت
بكهف مهجور يوما ما ،فذهبت إىل هناك وجدت نفيس هنا.
-ماذا؟ كهف مهجور؟ يف أي بلد هذا الكهف؟ ومن أي بلد ِ
أنت؟
نظرت العجوز إليه وكأنها تعرفه سابقًا ،وكان لديها ُحسن ترصف مل يخطر عىل
قلب مصطفى يو ًما ما.
-نحن من كوشيه.
أجاب مصطفى :كوشيه؟ ال أظن .وجهك مألوف برغم آثار التعذيب التي
باتت تالحقه.
أكمل مصطفى الطريق غري ملتفت .لرمبا كان يفكر يف أمر تلك العجوز
الشمطاء ،أو أن له رأيًا آخر يف صديقه خالد الذي اكتشف أنه مل يكن معه يف ليلة
26
الكهف .سيظهر كل يشء عندك ،يا سوجالر .هكذا فكر مصطفى بصوت خافت
كادت أن تصل الحروف لسمع سادو.
-ماذا؟ أجاب مصطفى:
-ال عليك ،ال تلتفت .ثرثرة حمقًاء تبدو كوجهك الشاحب .ال عليك ،أيها
األحمق .أكمل طريقك حيث سيدك.
سوجلار والمخطوطة
27
-نحن ال نعتقد أن هذا الفتى لديه كل يشء عن مخطوطة املؤرخ.
هذا ما قاله “أبا محرز األحمر” أرشس ملوك الجان بعد سوجالر واملُلقب
بأيب يعقوب.
علينا إحضار عائلته وأصدقائه حتى يأيت لنا بها .قاطعه الصمت قليلاً مصاح ًبا
صوت قرع النعال التي تسري عىل أرض يابسة أسفلها ماء متحرك ،وكأنه نهر يف
الجنة .سيدي ،أحرضت لك الفتى أنه بالخارج .حس ًنا أحرضه إىل هنا ،يا سادو،
دعنا نعرف ما مل نستطيع أن نعرفه أثناء وجودنا معه بالكهف.
نادى سادو عىل الحاجب حتى يحرض الفتى.
-سيدي سادو ،إنه ليس هنا.
-أين الفتى؟
-إنه ليس هنا.
ُصدم الجميع ،وكاد املجلس ان ينخلع من أظافره الشيطانية.
-وكيف يحدث هذا..؟
-صفرائيل ..صفرائيل ...أرقد لكوكبك تابع لنا ما حدث من خالله ِ
وأعط لنا
صورة كاملة عن القرص ،وأين اختفى الفتى.
كانت كلامت سوجالر كربق يف ليايل الشتاء أصاب صفرائيل فأخفاه.
-أين نحن؟ هل أحد يسمعني؟ نبضات القلوب ترتفع ،والفوىض عارمة يف
كل مكان .هذا يرقص وذاك يصدر صوت نهيق ،وآخر من يقرع الطبول .واملشهد
رهيب من خلف العصابة التي وضعت عىل عني مصطفى مختطفًا ألرض كوشيه.
يا لرهبة املوقف .كان مصطفى ال يرى شي ًئا ،ولكنه تخيل ما هو به .اقرتب
أحدهم إليه ،وهمس يف أذنه :ستكون قربانًا لإللهة “ جوتار”.
28
-حس ًنا ،إنه فتى قوي ،ووسيم .أحب هذا .كانت كلامت الكاهنة التي تبارك
القرابني.
ُرفعت عن عينه العصابة .نظر مصطفى مفز ًعا كاد فمه أن يسيل لُعابه ،وكاد
رشا بجسده .نظر مصطفى إىل جسمه أن يحرتق من هذا املسحوق الذي كان منت ً
يديه صارخًا :ما هذا؟؟ لونها أخرض مييل لل ُّزرقة .أين أنا؟ أين جسدي؟ إال أن هذا
الرصاخ صمت ويف الوقت ذاته كاد أن يتحدث الحجر عام رأه مصطفى .تقرب منه
هذا الشاب العمالق الذي لديه قرون كادت أن تفقأ عني مصطفى قائلاً :انظر.
وأشار بالسبابة إىل عرش عظيم كعرش ملكة سبأ “بلقيس”.
نظر مستنك ًرا :من ...من ..من هذه امللكة؟ يا رباه ،إنها العجوز الشمطاء.
“ -عجوز شمطاء”! اصمت ،أيها املتعجرف.
رضبة واحدة من الشاب ذي القرنني كانت كافية بسقوط قطرات دم من
مصطفى وانبطاحه أرضً ا .تبعتها ضحكات متقطعة:
-كيف حالك ،يا فتى؟ وكيف حال صديقك خالد؟ وصديقة الجامعة بسمة؟
ورفيق الفُكاهة جهاد؟
ِ -
أنت؟ كيف؟ وأين ابنتك؟
-ابنتي؟ ليست ابنتي بل إنها أحد القرابني لإللهة جوتار .حقًّا ،أنت ال تعرف
أننا عندما نفرح كثريًا نزرف دموعنا .فلم أكن أبيك يف ذاك اليوم بل كنت َفرِحة
بإنتصاري عىل فتاة عزباء ،بينام أنت ال تعرف طريقتنا.
تابعت :وعىل صفرائيل أن يبحث عنك يف مكان آخر ألن املسحوق الذي كان
داخل العباءة التي اختطفناك داخلها يخفي الجسد عن أعني ملوك الزهرة ،وال
يستطيع أحد أن يراك بفضل هذا املسحوق.
29
-وملَ اختطفتموين وأنتم تابعون للعالَم نفسه؟ أجابته العجوز الشمطاء :نحن
مملكة كوشيه ،وأنت كنت بقرص سوجالر .لكننا نتنافس عىل الزعامة امللكية إال
أننا نسري يف النهاية تحت مظلة واحدة.
أصبح مصطفى يف حرية من أمره .العجوز هي ملكة “ كوشيه” والفتاة التي
كان يتقطر دمها ليست ابنة العجوز ،بل هي قربانٌ لإللهة “جوتار” .رمبا أهلها
ما زالوا يبحثون عنها .أي ابتالء ،يا إلهي؟ إنها لعنة الكهف.
يف سجن كوشيه الذي كان سيئ السمعة ،أصبح أحد نزالئه داخل الغرفة .816
30
الغرفة 816
كان عىل مصطفى أن يجد حلاًّ ليخرج من هذا السجن الذي ُرسم عىل هيئة
عقرب.
-السجني .816احرض لهنا ...تابع السجان صاحب البرشة السمراء والجسد
النحيل والطول الفارع :رقم .816
يبدو أن مصطفى سينتهي اسمه هنا برقم ما.
-أنت ،أيها األبله .تابع السجان :هذا اسمك .816كن صام ًتا ،واتبعني.
واصل السجان السري حتى خرج لساحة كبرية .بها الصخب وكأنهم يف حفلة
قميصا يحمل رقم
ً ليلية .نظر مصطفى عىل هذا املصارع الفحل الذي يرتدي
.492حقًّا ،إنه مصارع بارع ،لقد أنهى الجولة برضبة قدم كانت كافية بكرس
ضلع املنافس .تابع مصطفى النظر .هناك فوق أسوار كوشيه املرتفعة حارس بيده
سوط مطاطي ميتد ألكرث من 50م ًرتا؛ وآخر لديه قوس وسهام مشتعلة.
حقًا ،إنه سجن كوشيه املنيع .هذا املشهد كاد أن يصيب مصطفى بنوبة
تتبعها دموع ندم.
تابع السجان :خذ هذا .كان صندوق به ثياب يحمل رقم ،816ومعه مداد
باللون األحمر وآخر باألسود ،وقلم من بوص ،وشفرة صغرية .لرمبا استعملها يف
جعل القلم مدب ًبا بانحناء.
-وما هذه .كان مصطفى يتساءل.
33
أجابه املصارع رقم 492بعد أن أنهى جولته من القتال ،ووجد ذاك الفتى
باك ًيا - .هذا ليس مدا ًدا كام تراه .وملَ تبيك؟
-ليس مدا ًدا؟ ما هذا ،يا رجل بحق الجحيم؟ قالها مصطفى وهو يكفكف
دموعه كعالمة عىل انتهاء الحزن.
أجابه املصارع :إنه مداد اإللهة “جوتار”.
-وماذا نفعل به؟
-علينا كتابة أرقامنا هنا.
وأشار إىل الصندوق ،كان به أوراق حمراء كورق الربدي ،ولكن سمكها
ُمضاعف.
مصطفى :وملَ نكتب أرقامنا؟
السجني :حتى تتمكن الكاهنة من متابعتنا عن طريق مداد اإللهة جوتار.
قاطعه مصطفى :وماذا لو تناسينا يو ًما أن نكتبه؟
-أرجو أن ال تفعل ،يا صديقي .إن أردت عدم كتابة رقمك كل يوم .عليك أن
تواجه عذابا لن تتحمله ،وستضاعف مدة وجودك يف هذا السجن املميت.
جلس مصطفى يفكر يف حديثه مع هذا السجني إىل أن جن عليه الليل.
مل يغمض له جفن يف تلك الليلة ،كان يفكر يف أشياء كثرية وتضارب األفكار
واألرقام ،وحديث السجني معه ،ومداد اإللهة ،وأسوار سجن “ كوشيه”
العمالق.
شاخصا البرص مفك ًرا يف تلك
ً -األرقام؟ نعم إنها لعنة األرقام .قالها مصطفى
األرقام التي تشابهت .تابع مصطفى محدثًا نفسه:
34
-نعم تذكرت .يوم أن كنت ذاه ًبا لغرفة “سوجالر” .نعم ،كانت غرفة الطبيب
أيبي تحمل األرقام نفسها ،والنقوش التي كانت عىل الجدار .6 ،7 ،2
الخاتم؟ الخاتم الذي كان يرتديه برقان .ما هذا بحق الجحيم؟ ال .ال .ال .كل
هذا مل يكن ُمصادفة .هناك دائرة مل تكتمل بعد.
35
ابن عبد البار
يف اليوم التايل ،خرج مصطفى من غرفته التي تحمل الرقم 816نفسه إىل
ساحة السجن .وكاملعتاد املصارعة تزداد اشتعالاً .
اقرتب أحد السجناء منه قائلاً :ملَ ال تشارك؟
-يف ماذا ،يارجل؟ رد السجني :يف هذا النزال ،فالفائز يحصل عىل قسط من
الراحة أسبو ًعا يف استضافة ابن عبد البار.
مصطفى :ومن ابن عبد البار هذا؟
-انه الوحيد يف هذا السجن الذي ال يكتب مبداد اإللهة جوتار.
مصطفى :وملَ؟
السجني بصوت خافت :إنه ميلك قدرة تجعل الشياطني يف قبضته.
مصطفى :وكيف ،يا رجل؟ كان عليه أن يخلص نفسه أولاً .
تابع السجني :ليس كام فهمت أنت .بل لديه قدرة عىل جعل لنفسه مكانة
مرموقة هنا .فنصف قوة مملكة “ كوشيه” معه ،والنصف اآلخر مع الكاهنة
وسوجالر.
-ممممممم ،القوة متساوية إ ًذا ،يا صديقي.
-اشكر اإللهة عىل تفهمك ،يا أبله .قالها السجني ضاحكًا.
تبسم مصطفى قائلاً :إ ًذا من ميتلك رس القوة الخفية سيسود هذا العامل .إ ًذا
سأقبل النزال وسأقاتل.
39
توجه مصطفى نحو ساحة القتال مستعدًّ ا للنزال .صاح أحد الجمهور :إنه
السجني القادم منذ يومني .ور ّد آخر :حقًا ،إنه صاحب عضالت مفتولة .لعلنا
نراهن عليه.
-إ ًذا نراهن عليه.
نزل مصطفى لساحة القتال يرتقب .الفتى املنافس ال يبدو هي ًنا؛ فلم يهزم من
قبل .مل يتجرأ أحد عىل هزميته.
اشتبك الطرفان .وجه الفتى ملصطفى عدة رضبات متتالية أشعرته بدوران
كدوار بحر .حاول مصطفى ان يستجمع قواه راقدً ا موج ًها رضبة ألسفل فك
املنافس لكنها أوجعته فقط!! كان املنافس قويًّا مبا يكفي أن يهزم مصطفى بدون
عناء .لذا شعر مصطفى بأنه يف حاجة إىل حيلة ما ،حيث أخذ حبات الرمل يف يده
ووضعها يف عني املنافس الذي مل ي َر بعدها ،فانهال عليه مصطفى رضبًا ُمرب ًحا،
ثم تابعه بلكمة قوية أسفل الضلع األمين جعله ينبطح أرضً ا ُمعل ًنا الحكم فوز
مصطفى.
-أحسنت ،يا رفيقي .ال أحد كان يصدق أنك ستفوز بهذه الجولة.
قالها السجني بعد أن عانق مصطفى مصطح ًبا إياه لغرفة النزالء.
40
ابن عبد البار والطالسم
تابع مصطفى السري مع السجان الذي يصطحبه إىل غرفة القائد (آب) الذي
بدوره سريسله البن عبد البار مكافأة له عىل ما قدمه يف النزال ،حيث أصبح
مصطفى بطال جديدً ا يُعتمد عليه يف سجون كوشيه إن أرادوا أن يستخدموه.
القائد آب:
-مرح ًبا ،يا فتى ،تبدو قويًّا كام تحدثوا عنك .سنبعث بك البن عبد البار تأخذ
قسطًا من الراحة ،وتتعرف عىل عظمته .هذا الرشف مل ينله من قبل غري اثنني
أنت ثالثهم.
-حس ًنا ،سيدي ،كام تريد .أجابه مصطفى خافضً ا رأسه ألسفل راف ًعا طرف
إحدى عينيه مرتق ًبا القائد آب.
-مشكور ،سيدي ،سأكون أداة طيعة يف أيديكم لرتىض عنا اإللهة.
رمبا مصطفى تفهم كيف يتعامل هنا مع قادة سجون كوشيه .إنه ميتلك من
املهارة والذكاء ما يؤهله للقيام بهذا.
تابع السري يف طريقه مع الحارس حيث ابن عبد البار .م َر من ساحة سجن
كوشيه املتسعة مجتازًا إياها؛ وصولاً إىل غرفة أخرية لها باب يكاد يكون باب
غرفة الطبيب أيبي .وقف الحارس يف منتصف الغرفة التي بها أسرِ ّة (كنبة) وأشار
بيده - :هنا.
41
-هنا؟؟؟؟ ماذا هنا ،أيها الحارس؟
أجابه :أسفل األسرِ ة.
-ومن أسفل األرسة ،يارجل؟ رد الحارس :ابن عبد البار .أزاح الحارس هذه
األسرِ ة ،ورفع عدد أربع قطع من الرخام كانت موضوعة كل قطعة بجانب األخرى
مكونة مرب ًعا كب ًريا ،إذ بأسفلها غطاء خشبي وسلَّم متصل بنفق ما ٍّر مبنتصف
كوشيه من األسفل ،أشبه باللعبة التي كان يفضلها مصطفى يف الصغر.
وصل مصطفى والحارس إىل نهاية النفق ،حيث صعد عىل سلم خشبي أعاله
غطاء خشبي يشبه ذلك الغطاء املوجود بالغرفة القادمني منها .طرق الحارس
الغطاء الخشبي مرتني ،ثم انتظر حتى رفع الغطاء.
-ياللهول ،أين نحن؟ رمبا قطعة من الفردوس هذه؟ أو أنها غرفة بلقيس؟
كلامت قالها مصطفى معج ًبا بالنقوش والزخارف املنحوتة عىل جدران غرفة
ابن عبد البار .قاطع إعجابه صوت رخيم كُهويل من الباب الخلفي للغرفة :مرح ًبا
بصاحب الرقم .816
التفت مصطفى .إذ برجل ذي لحية بيضاء وشوارب كثيفة ،وثياب بيضاء
وغطاء رأس أخرض يحمل يف يده ما يشبه املسبحة ،إال أنها تلمع باللون األزرق
كامسة زرقاء تشع ضوءا خاف ًتا ،وكأنها كوكب نبتون..
نظر مصطفى إليه نظرة إعجاب بعد أن تركه الحارس وذهب من حيث أىت.
-ما بك ،يا فتى؟
مصطفى :أأنت ابن عبد البار؟ قالها مصطفى للمرة الثانية معج ًبا بذاك الذي
وان تحدثت هيبته ألجلس نعليه فوق عرش امللوك من شدة هيبته وقوامه
املمشوق برغم كرب عمره.
42
-تشبه جدي كثريًا.
ضحك ابن عبد البار ماز ًحا :وهل كان جدك بهذا الجامل ،يا فتى؟ اسرتِح من
عناء األنفاق ،وخذ هذه؛ كأس بها قليل من املاء الحي.
-ماء حي؟ وهل هناك ماء ميت؟
ضحك ابن عبد البار :يا بني ،أقصد أنه من النهر مبارشة للكأس .أي مل يُخزن
ويفقد خواصه.
رشب مصطفى املاء متاب ًعا بتنهيدة وكأنها تخرج معها عناء سفر بعيد ومشقة
كبرية .نظر إليه ابن عبد البار:
-إنك محارب من طراز فريد .لديك أساليب قتالية بارعة.
-وكيف عرفت أنني محارب؟ رد ابن عبد البار:
-يا فتى ،ال يأيت هنا -يقصد يف هذه الغرفة -إال محاربني من نوع خاص.
ولكنك تحمل يف عينيك أم ًرا ما .سأستمع لك ولكن بعد أن تتناول الغداء الخاص
خصيصا لك .هيا ،يا فتى ،هيا .تبعها برضبات عىل كتفه
ً معي؛ فاملائدة ُأعدت
متالحقة وكأنه مصارع يحفز زميله.
خرج من الغرفة إىل ساحة تشبه الساحة التي كان بها مصطفى إال أنها متتاز
بالنقوش الرائعة ،وكأن النقوش تحيك قصة ما .هناك عىل هذا الجدار األبيض،
كأسا يرشب
رسمت فتاة تبدو جميلة يتقطر من فمها الدم؛ أمامها آخر يحمل ً
منها دم يسكب من عىل لحيته .يف الجدار املقابل نقوش لإللهة “جوتار” وهي
جالسة عىل العرش يقدم لها “سوجالر” القرابني.
جلس ابن عبد البار عىل طرف من الساحة إذا بوسائد مرتفعه قليلاً من
43
األرض؛ وضع عليها الطعام .كان ابن عبد البار يعامل معاملة امللوك .لذا أثار
فضول مصطفى سائلاً :
-هل أنت سجني أم ملك؟
أجابه :سجني ملك!! تبسم مصطفى متبلدً ا :كيف؟
قال ابن عبد البار :أنا هنا ألنني أمتلك نصف قوة “ كوشيه” ،والجميع هنا
حيث ميتلك النصف الباقي .ال أحد يستطيع أن يهرب من هنا ألن ما يزيد ميزان
القوى مل ِ
يأت بعد.
مل يفهم مصطفى عام يتحدث ابن عبد البار ،إال أنه كان يومئ برأسه متظاه ًرا
أن يفهم ما يقصده ،إال أن ابن عبد البار صمت قليلاً ،ثم قال :وماذا أىت بك إىل
سجون كوشيه .تبدو غري ًبا.
ضحك مصطفى وقال :أبدو غري ًبا مثلك متا ًما ،يا جدي.
ابتسم ابن عبد البار مستمعا له.
بدأ مصطفى يقص عليه قصته عندما كان بالجامعة مرو ًرا بصديقته بسمة
التي طاملًا ذكرها .وجد نفسه متبسماً ،حتى صديقه خالد الذي مل يكن معه يف
هذه الليلة؛ وصديقه جهاد الذي لرمبا لو رأى مصطفى يف سجون كوشيه لقال له
مازحا ( :بتتفسح من غريي ،يا درش؟).
أكمل مصطفى حديثه وابن عبد البار ينصت يف ذهول من أمره.
أنهى مصطفى حديثه وما زال ابن عبد البار منص ًتا.
-أنهيت حديثي ،يا جدي ،أيها العجوز الوسيم.
قالها مصطفى مرتني .نظر إليه ابن عبد البار قائلاً :
-هل تعرف أين مخطوطة املؤرخ؟
44
أجابه مصطفى :كانت بالتابوت .عندما فُتح مل أر شي ًئا.
رد ابن عبد البار :هل تتذكر ما نقش عليها؟
قال :نعم .ولكن ملاذا؟
أجاب ابن عبد البار :لرمبا ميزان القوى سيصبح يف صالحنا.
فرح مصطفى وكأنه يعرف هذا الرجل منذ زمن.
أكمل ابن عبد البار :أنا من هذا البلد التي يطلقون عليه “ أرض الفريوز”.
صاح مصطفى فر ًحا:
-إنه بلدي .أنا أيضً ا منه .أنا منه ،يا جدي .أنا منه.
كاد أن يطري عقله فرحا بابن عبد البار.
-اهدأ ،يا بني .أنا هنا منذ زمن بعييييد .أتيت باحثًا عن كنز ما .أمتلك
طالسم؛ هي من جعلت يل القدرة عىل البقاء .هنا كملك وليس كسجني .ولكن
ينقصنا مفاتيحها.
وكأن اللغز يتقارب بوجود مصطفى داخل غرفة ابن عبد البار.
صارحه مصطفى بكل يشء ،وكأن ابن عبد البار جده والد والده .لرمبا ابن
عبد البار بادره الشعور نفسه .واتفق معه عىل أن يساعد كل طرف منهام اآلخر.
45
الطريق لغرفة أييب
46
رأى ابن عبد البار أن الوقت يسمح له بالوقوف ضد سوجالر والبقية من
مملكة
كوشيه .اتفق مع مصطفى عىل تجميع الطالسم .أخذ ابن عبد البار يضع يديه
متحسسا ،ومصطفى يراقب بشغف حتى وصل ملنطقة وقال: ً عىل جدار الغرفة
هنا ...هنا .علينا أن نزيل هذه النقوش فبخلفها الطالسم ،يا فتى.
برفق أزال الحجارة التي تبدو كلوحة “موناليزا” بجوانبها نقواش كفن
الفسيفساء الروماين .أخرج ابن عبد البار ورقة تشبه الربدية ،أو كالتي أخذها
مصطفى يوم أن كان يف غرفة الطبيب من لوجني.
-علينا أن نجمع األرقام هنا ،ونعرف من حليفنا ومن عدونا.
وضع مصطفى األرقام وجمع ابن عبد البار الطالسم يف مخطوطة أخرى.
حريصا عىل وضع كل حرف بدقة داخل جدول الطالسم
ً كان ابن عبد البار
الذي أعدة خصيصا لهذا األمر.
أعطاه مصطفى األرقام التي كان يراها يف كل مكان
وبدأ كل منهام يحاول أن يصل إىل نتيجة.
4 9 2
3 5 7
8 1 6
رأى ابن عبد البار أن يستخدم املالك العلوي حتى يضمن السالمة .بينام قال
مصطفى :لو تحالفنا مع أعدائهم -يقصد “عدو عدوي صديقي” حتي يصل للمراد
من خاللهم.
رد ابن عبد البار :حس ًنا ،سرنى األصلح لنا.
أضاف مصطفى :لو أن رقم 2يساوي يوم اإلثنني ،فخادمه يف قرص “ سوجالر”
47
يكون هو “ ُمرة”؛ ولو أن رقم 7يساوي السبت ،فخادمه يكون “ميمون”؛ ولو أن
رقم 6يساوي الجمعه ،فخادمه زوبعة”.
أعجب ابن عبد البار بذكاء مصطفى مكملاً :ولو نطقناهم بالرسيانية الصحيحة
ألصبحوا يف قبضتنا .وألصبح نصف مجلس العرشة الكبار معنا.
-ا ًذا فلنستحرضهم اآلن إىل غرفتنا .هكذا رد مصطفى عىل ابن عبد البار.
-فليكن اآلن.
جلس ابن عبد البار يف منتصف الغرفة حيث أزال من عىل رأسه الغطاء الذي
كان يرتديه واضعا يديه عىل ركبتيه متمتماً بالرسيانية:
مهطهطيل
لخهططيل
جهلططيل
أقسمت عليكم باألسامء العليا وسيد األسامء العليا أن تحرضوا.
أقسمت عليكم برب جربائيل .أقسمت عليك برب عنيائيل.
أقسمت عليك برب كسفيائيل ..تحرضوا...
شعر مصطفى بأصوات كصوت خيل يف معركة ال فرار منها ،وأن الجو أصبح
أكرث حرارة مع صوت رياح كرياح الربع الخايل.
-ما هذا بحق الجحيم.
قالها مصطفى فز ًعا مام رأى .إال أن ابن عبد البار كان صامدً ا ،وكأنه أحرضهم
من قبل.
48
تحدث ُمرة وهو حاكم “القمر” :نحن ملك لك ،ما دامت الطالسم معك .ماذا
تريد؟
أجاب مصطفى مرس ًعا :رس التحنيط.
-صه ،يا فتى ،أرى أنك جننت فلنخرج من هنا أولاً .هكذا أجاب ابن عبد
البار مرتيثا.
-الطالسم تعني وجودنا .نحن نخدم الطالسم ال نخدم األشياء .أضاف” ُمرة”-
املتحكم يف القمر -هذه الجملة.
أجاب ابن عبد البار :نعلم ولكم منا األمان ،ولنا منكم األمان .أماننا ما دمتم
معنا ال يرضك املالك العلوي.
هذا كان أشبه مبعاهدة والجملة السابقة أشبه بنص املعاهدة.
-أحب هذا .بالطبع اإلثارة هي ميزان األشياء.
كانت كلامت مصطفى قبل أن يعودوا من النفق إىل سجون كوشيه ،ومنها إىل
قرص سوجالر ثم لغرفة التحنيط.
49
برقان خيطف ً
خالدا وجهادًا
خطأ فادح يكلف مصطفى وابن عبد البار الكثري من الوقت والجهد .نعم لقد
ذهبا من النفق بدون املسحوق الخفي الذي ما زال يحتفظ به ابن عبد البار يف
غرفته .رآهام “ عنيائيل” الذي كان عض ًوا مهماًّ مبجلس العرشة الكبار.
-سوجالر ...سوجالر ..انظر .هذا الفتى املختطف ..وذاك ....ذاك من؟
-إنه ابن عبد البار.
وماذا عن باقي مجلس العرشة؟ لقد متكنا من الحصول عىل الطالسم ،سيدي.
واآلن باقي املجلس يف قبضتهم.
صمت سوجالر طويلاً ثم واصل قائلاً :أقرناؤه.
-أقرناء من ،سيدي؟
-أيها األبله ،أقصد أصدقاء مصطفى ..خالدً ا ،وصديقه جها ًدا .نختطفهام حتى
نستطيع أن نلزمهام الحضور لدينا .هذا األمر عليك ،يا برقان.
هكذا كلف سوجالر برقان بخطف أصدقاء مصطفى.
تجسد برقان يف هيئة مصطفى ،وخرج حتى وصل منزل صديقه خالد .قابله
خالد بكل رسور فر ًحا بعودة مصطفى :أين كنت ،يا صديقي؟ أفتقدك كثريًا.
أجاب برقان :وأنا أكرث.
-أين كنت؟؟؟
برقان :كنت أعد البحث الذي حدثتك عنه“ -رس التحنيط”.
53
-ممممممم ستموت باحثًا عن يشء هو رس ،يا صديقي.
برقان :وأين جهاد؟ أفتقده كث ًريا .واصل خالد متبسماً :سحقًا لذالك الفتى
الذي ميتلك أكرث درجات الال ُمباالة يف الكون .ما زال يبيع طائرات من الورق
لألطفال .وما زال األطفال يصدقون أن الطائرة تطري ببرتول خفي يدفعون مثنه له.
-هيا نذهب إليه .أضافها برقان بعد أن كاد الحوار أن يطول خشية من أن
يكشف.
واصل املَسري حتى وصل برقان وخالد إىل منزل جهاد.
-جهااااااد ،أين أنت؟ كان خالد ينادي :أين أنت ،يا فتى؟ لقد وصل صديقنا
مصطفى بعد رحلة مع بحثه.
قميصا رسم عليه أوراق شجر.
ً خرج عليهام من رشفة منزله مرتديًا
ضحك خالد من لون القميص .تابع جهاد كعادته :وهل قلت لك إنك عصفو ٌر
لتقف عىل قمييص.
-ت ًّبا لك ،يا رجل .لقد افتقدناك .أضافها جهاد بعد مقابلته ملصطفى ومعانقته:
أين سنذهب؟
-عىل املقهى .تبقت معي سبعة عرش جني ًها من الطائرات التي أصنعها.
أضاف جهاد :سأرشب عىل حسابكام.
ضحك خالد :أنا موافق .أثناء تواجدهم وقبل الوصول إىل املقهى ،تحدث
برقان بلسان مصطفى :لقد ضاع بحثي هناك .يف الكهف الذي حدثتكم عنه.
لنذهب نأيت به أولاً .
“حيث كان مصطفى يدون معلوماته عن الحضارة املرصية واألماكن التي
يزورها”.
54
وصل الثالثة إىل املثلث الجبيل حيث الكهف .تقدم برقان يف هيئة مصطفى.
الحظ خالد أن ضوء القمر ال يعكس ظل صديقه مصطفى .حاول خالد أن يحدث
نفسه قائال :ما هذا الهراء؟ ليس هناك يشء.
إال وبعد عرشات األمتار داخل الكهف قال خالد :انظر ،يا جهاد ،انظر .إنه
تابوت.
قال برقان :حقًا ،تابوت املؤرخ .وهنا دفنت مخطوطته.
جهاد :أي مخطوطة ،يا صديقي .هل هي من الورق؟
برقان :وهل يفيدك إن كانت من الورق أو من غريه.
جهاد :نعم ،إن كانت من الورق ،سيزيد دخيل لرمبا لـ 50جنيه بتصنيعها
لطائرات ورقية.
مل يكرتث خالد لهراء جهاد الذي اعتاد عليه .مقاط ًعا إياه:
-وما أهمية املخطوطة ،يا صديقي -يقصد مصطفى؟
برقان :إنها تحمل طالسم ورموز حضارة بأكملها .تحدث عنها أجدادي .إنها
دفنت هنا بالكهف ،وال أحد يعرف مكانها تحديدً ا.
قاطع جهاد حديثهام :دعني أذهب للخالء ،يا رجل .فالغداء كان به كثري من
السوائل.
ذهب جهاد بعيدً ا مبا ال يقل عن عرشة أمتار ،وأدار وجهه لركن الكهف قائلاً :
كعادته ماز ًحا :ملاذا مهندس الكهف مل يضع حج ًرا يف هذه الزاوية التي تبدو كوجه
جديت بعد كرثة التجاعيد.
سمع جهاد صوت ريح شديد إال أنه مل يدر وجهه إال بعد أن شعر بحرارة
55
شديدة تقرتب منه .نظر إىل الخلف ،وحاول أن ال يصدق عينيه ،قائلاً :ما هذا
بحق الجحيم؟ لرمبا تأثري الغداء ما زال مستم ًّرا.
ضحك برقان :هل انتهيت عن طريقتك البهلوانية.
عندها فقط علم جهاد وخالد أنهام كانا مع “جن” وليس صديقهام مصطفى.
خاصة بعد أن تأكد له شكوك الظن بأن هذا الذي كان يسري معهام بال ظل؛ أي ال
يعكس ضوء القمر ظله.
لرمبا نظر االثنان لربقان نظرة استسالم عندما كان يحلق بجناحيه أمامهام
بارتفاع عن األرض ال يتعدى مرتًا واحدً ا ،حيث تم اختطافهم بحرفية شديدة.
56
لوجني
-مرح ًبا ،صاحب الجسد املتقلب والوجه املتلون.
-أين أصدقاء الفتى؟ تساءل سوجالر بعد انتهاء مهمة برقان بنجاح.
أجاب برقان :يف الغرفة املقابلة لغرفة الطبيب “أيبي”.
-حس ًنا سنعرف اآلن ماذا نفعل بهام.
أفاق خالد وجهاد بعد وقت طويل يكاد يتعدى 10ساعات .نظر جهاد بنصف
عني بعد أن كان منبط ًحا عىل األرض ُملقى عىل جانبه األيرس ،وأمامه خالد ملقى
عىل جانبه األمين .صاح جهاد :خالد ...خالد ...خالد.
-أين نحن؟ أفاق خالد بلحظات بعده فز ًعا.
-ال أعلم ..ال أعلم .ثم نظر إىل جهاد :نعم الكهف وأين مصطفى .ال مل يكن
مصطفى .مل يكن هو .تذكرت.
-لقد اختطفنا ،يا جهاد .ذاك الذي مل يكن له ظل.
-لقد حاولت أن أرشح لك بأن هناك أم ًرا ما يف عدم انعكاس ظله.
قاطعه جهاد قائلاً :وهل كان ع ّ
يل أن أركب له ظل؟ أم أسأله ملاذا ليس لديك
ظل مثلنا؟
-اصمت ،يا جهاد ،اصمت ...ثرثرتك والال ُمباالة يزيد الطني بلة.
عىل الجانب اآلخر مصطفى وابن عبد البار يف طريقهم للقرص ومعهم “ ُمرة”
الذي أصبح أداة طيعة يف يدهم بعد امتالك الطالسم وفك رموزه.
59
وصل مصطفى وابن عبد البار قرب من غرفة الطبيب”أيبي” ،وكأن مصطفى
يرتك شي ًئا مثي ًنا يف هذه الغرفة التي اصبحت جز ًءا من حياته الجديدة هنا .وتابعتها
تنهيدة ،وكأن املحب ملن أحب يشتاق .ناظ ًرا البن عبد البار يف عفوية قائلاً له:
-لو أن تنهيدة القلوب تكتب لكانت أوجعتني عشقًا ،وأرتويت أملًا ،يا لوجني.
غضب ابن عبد البار :ما زال الشباب ال يزن األمور عىل نصابها .فلنذهب ،يا
فتى قبل اكتامل القمر حتى نستطيع أن نقيض عىل سوجالر ،ونخرج من هنا.
فلو اكتمل القمر ستزداد قوته ،ولن نستطيع إيقافه.
اختفى مصطفى وابن عبد البار يف ملح البرص حيث كان سادو مير يف الطرقة
يتفقد الحراس .هكذا أخفاهم “ ُمرة” حتى ال يراهم سادو اللعني.
وجد نفسه داخل غرفة الطبيب وأمام التابوت ،وتذكر مصطفى لحظات أن
كان ُيرضب وال يكرتث .تبسم مصطفى متذك ًرا تلك اللحظات التي برغم مرارها
إال أنها ذكرى جميلة له.
نظر ابن عبد البار ملصطفى قائلاً :سأذهب مع “ ُمرة” لقرص سوجالر ،وأنت
هنا .استحرض باقي العشرية بالطالسم التي تركتها معك ،ثم اتبعني لسوجالر
ِ
ولنقض عليه.
-حس ًنا ،سيدي .حفظت من رشورهم .أضافها مصطفى مود ًعا ابن عبد البار.
فتح باب الغرفة بعد اختفاء ابن عبد البار :هذه “لوجني” أتت لتنظف الغرفة،
وتحرض أدوات التحنيط حتى يأيت الطبيب “أيبي”.
خرج مصطفى إليها من خلف التابوت الذي كان يختبئ عنده.
نظرت لوجني إليه نظرة ذهول :أ أ أ أنت ..أنت؟ أين كنت؟ ومن أىت بك إىل
هنا؟
60
جلس مصطفى ،وقص عليها ما حدث له .تبعتها لوجني بابتسامة ثغرها
كربيق جوهرة قائلة :مل أنس ذاك اليوم الذي كدت أن تقتل من الحارس ،وكانت
الرضبات رضبة تتبعها األخرى ،وأنت ما زلت ناظ ًرا إ ّيل.
ر ّد مصطفى :لرمبا خدرت عيناك جروحي ،و ُأثلج صدري برؤيتك .أتتذكرين
منك قبل أن أذهب؟ قطعة الورق التي تشبه الربدي التي أخذتها ِ
-نعم ،لقد حدثت نفيس عنك قائلة :من هذا الفتى الغريب؟ وماذا يفعل
بها؟ حقًا غريب األطوار أنت.
قاطعها مصطفى :لرمبا كنت هكذا ،ألنك سحرتني بعينيك هاتني .نظرت
لوجني لألسفل ب ُحمرة وجه :وماذا عن تلك القطعة من الورق ،أيها العاشق؟
أجاب مصطفى :هناك يف سجون كوشيه كان الوقت مير ببطءِ ،
وأنت أمام
عيني مت ّرين مرسعة ،يا لوجني .حتى كدت أن أمسك الوقت قائلاً :مر أنت كام
تشاء وقف عند لوجني يك أرتوي.
كانت كلامت مصطفى أشبه مبخدر تأخذه لوجني منتظرة ماذا كتب هذا
املجنون بقطعة الورق.
أخرج لها قطعة الورق التي أخذها يوم أن رآها بالغرفة للمرة األوىل قائلاً :
هي ِ
لك ،يا لوجني.
نظرت لوجني وكانت بها قصيدة ..كتبها حيث سجون كوشيه .بدأت لوجني يف
قراءتها ،وكان يشء ما يتحسس قلبها برجفة تشبه رجفة الربد يف شتاء ديسمرب.
..............................
حبيبتي ،هى سيدة تحيك عن ٍ
ماض يف هذا الزمان
*******************
61
حبيبتي ،هي امرأة تبوح بقصتها من الصغر يف ِحرمان
*******************
كانت أُنشُ ودة يف مستهلها بريق ويف خامتتها إنسان
**************
حبيبتي ،هي رواية جيل يعشق االبتسامة بخجالن
***********************
تتحدث ال ب ُعمرها ،وتعشق بقلبها وكأنها زهرة البستان
******************
تشعر بني أعناقي بطفولتها ،وترجف بالنبض يف كل مكان
***********************
قصتها تحىك عن سيدة وكأنها ملكة املشاعر وقلبها ريحان
********************
ُمدللة بهمسها ،أُسطورة النساء بنبضها ،فرصنا عشيقني
*********************
غيور بطبعها ،حنون بوصفها ،فقد متحو بحبها بركــان
********************
مجنونة حيث أصف حديثها ،تتحدث يل dوكأننا شــاطئــان
**************
السفن سابحة ببحران
وكأن املاء يسكن ُمنتصف قلبنا ،وكأن ُّ
*******************
62
بحرا يحوي عشقها ،وآخر به همسايت تتحدث عنها بال نسيان
***********
تُريد املوت يك أتسلق ُسلَّم الحياة ،وتعشق الحياة بقلبني
*****************
قلبي يك تنصت إليه ،وقلبها يك يروي قصة حب بال فقدان
************
حبيبتي هي ،من نقشت املعاين بأيامي وقالت :نحن طائران
********************
نعيش م ًعا ،أو منوت م ًعا ،فال حياة ملن ترك القلب والوجدان
****************
قلب واح ٌد إن نظرت له ترى به جنتني
فقلوبنا ُملتصقه ،وكأنها ٌ
أضاف مصطفى :ليست القصيدة األخرية ،يا لوجني ،فهناك الكثري .أجابت لوجني:
كل هذا من لقاء واحد فقط؟ قاطعها مصطفى :وهل يوجد مثل عينيك ،يا سيديت؟
أخربيني.
ِ
عينيك. لوجني :مباذا أخربك؟ أخربيني ،بسحابة تحمل مط ًرا كلون
لوجني :لرمبا جعلك السجن شاعرا ،يا مصطفى .أضاف مصطفى :هناك قصيدة
أخرى ما زلت أحتفظ بها .قالت :أين هي؟ أجاب عىل ظهر الورقة نفسها ،سيديت.
لرمبا عشقي أضاع برصك .قصيديت ِ
أنت عنوانها.
ابتسمت لوجني :ونظرت لخلف الورقة وما زال قلبها يخفق من كلامت القصيدة
63
السابقة كفراشة جاءت عىل زهر يف بستان الربيع؟
متنت لو أن الطبيب “أيبي” لن يأيت اليوم حتي تكتفي مبشاعر هذا العاشق املجنون.
هال غادرت األمواج يوما بحارها
*********************
أم تساقط الرشاع من السفن ىف ميائها
***********************
أسري والقلب يتغاىض عن جروح مثل ضفاف أنهارها
*************************
فالعشق وإن ذهب ال يتبقى منه سوى فواح عطرها
*************************
والقلب وإن ينبض ،مل يشعر به سوى رجف إحساسها
*************************
فالصحراء ال زاد بها وال راحلة ،فهكذا أكون يف بعادها
***********************
هكذا أسري بقلبني ،عشق قلبي ،ونبض قلبها
***********************
كالشجر كانت يف ريحان القلب ومتايل زرعها
**********************
كالعشق أنا يف صميم النبض أسري مثل ظلها
*********************
64
لست بعاشق الجاة ،ولكني عشقت قلبها
********************
لست مبتقلد مناصب ،ولكني تقلدت نبضها
*********************
أكون هنا حيث تكون ،أتواجد حيث طيفها
*********************
ال أتسلق ُّسلم الكربياء ،ولكني تسلقت حبها
*********************
كفاين عن الشعر تدوين ،فهذا يدون لها
***********************
وكفاين من القافية طولاً ..فاألوزان تقف يف ميزانها
*************************
فقصيديت تتألف من عدة أبيات ،وكانت هي عنوانها
-إنه الطبيب أيبي قادم .اذهب يا مصطفى حتى ال يراك .قالتها لوجني :فز ًعا
بعد سامعها الحارس يعطي التحية عىل باب الغرفة .قال مصطفى :وملَ أذهب؟
أنا هنا من أجله.
دخل الطبيب :لوجـــ يــ نــ .من؟ مصطفى؟ لقد ظننت أنك ُقتلت :أو أنك
لن تستطيع الخروج من سجون كوشيه إن كنت ُسجنت.
أجاب مصطفى ناظ ًرا إىل أعىل :إنني ُقتلت هنا.
65
-يا بُني ،أنا يف حرية من أمرك .أخربين كيف ميكن مساعدتك؟ أجاب مصطفى:
بعد معرفة رس التحنيط ،تكون قد أديت للعامل كل املساعدة.
أيبي :وماذا لو علم “سوجالر” بأمرنا.
أجاب مصطفى :ال عليك أنا سأتويل ذلك.
كان مصطفى واثقًا من اإلجابة وأيبي مستغربًا ومستنك ًرا هذه الثقة الكبرية
من أين أىت بها.
وافق الطبيب أيبي وال يعرف ملاذا يوافق .إال أن شي ًئا بداخله يحدثه عن
صدق هذا الفتى.
-إ ًذا سنبدأ العمل ،يا فتى.
-لوجنيِ ،
عليك أن تضعي هذا الفتى نُصب عينيك حتى ال يكلفنا األمر الكثري.
أجابت لوجني بصوت يحمل الرقة :نعم ،سيدي الطبيب سأهتم .إال أن
مصطفى شعر بها ،وكأنها تقول للطبيب سأضعه بقلبي حتى ال يذهب بعيدً ا.
-انتبه ،يا مصطفى .فالخطأ هنا يساوي حياتنا جمي ًعا .أنت داخل غرفة
امللوك ،وجميع الجثث هنا ألرسة ملك أو من الكتبة والنبالء.
قالتها لوجني متفقدة عينيه التي تبدو بلون القهوة وبريق النجوم.
قال الطبيب “أيبي” :كاملعتاد ،يا لوجنيِ ،
عليك عمل فتحه من 8إىل 12سم
يف الجنب األيرس حتى نخرج األمعاء بشكل سليم.
-وأنت ،يا مصطفى ،خذ هذا .أعطاه أيبي مطرقة وإزميلاً .
-وما هذا ،سيدي الطبيب؟
الطبيب أيبي :عليك عمل فتحة بجدار األنف لنصل إىل املخ ،ومن خالل
الفتحة نسحب املُخ بهذه األداة “التي تبدو كسنارة معقوفة”.
66
استمر مصطفى بعمل فتحة داخل جدار األنف ،وكأنه طبيب ماهر .كانت
لوجني تستخرج األمعاء من الفتحة التي أحدثتها يف الجنب األيرس من الجثة تاركة
القلب .تساءل مصطفى :ملاذا ال نخرج القلب؟
أجاب الطبيب أيبي :ألنه مركز الروح والعاطفة ،وألنه مصدر الحساب دون
غريه من األعضاء ،وألنه الذي سيعرض عىل اإللهة “ماعت”.
-إلهة الصدق والعدل .أكمل مصطفى عمله قائلاً :يبدو أن القلوب هي من
تحاسب يا لوجني .فعىل قلبي أن يلتزم الصمت بعشقه هذا.
كالعادة تبسمت لوجني ب ُحمرة وجه هامسة له :إال قلبك أنت .رمبا يحاسب
مرتني واحدة له ،والثانية ألنه أرسين.
الطبيب أيبي :الصمت ،يا لوجني.
وأنت أيها الفتى :خذ هذا .كان زيت الصنوبر الذي يتم حقنه عرب األحشاء
حتى ال تتبقى أي مواد رخوية فيتعفن الجسد.
أكمل الجميع عمله يف صمت حتي االنتهاء .وطلب منهم الطبيب أن يرتكوا
الجثة تجفف بوضعها يف “ملح النطرون” الجاف.
مصطفى سائلاً الطبيب :وملاذا نضعها يف هذا امللح؟
أجابه حتي يتم استخراج املياه املوجودة داخل الجسم واستخالص الدهون
وتجفيف األنسجة متاما.
ثم جاءت لوجني برمال .نظر مصطفى مستغربًا :وماذا نفعل ،يا لوجني ،بها؟
قالت له راقبني يف صمت ،ثم توجهت صوب الجثة ،حيث وضعت الرمال بني
العضل والجلد عن طريق فتحات كانت قد أعدتها لهذا األمر.
أعطى الطبيب ملصطفى إناء به قطع شمع العسل.
67
مصطفى :وماذا أفعل به؟
الطبيب :أكمل ،ما بدأته ضعه يف فتحته األنف والفم وأنت ،يا لوجني .راقبيه
ثم ضعي الباقي بفتحة البطن.
أكمل الطبيب :هذا الشمع لسد الفجوات.
قد تستغرق عملية التحنيط سبعني يو ًما أو أكرث .رأى مصطفى هذا بعينه.
كاد أن يحدث نفسه قائلاً :لقد عرف هؤالء رس املواد وأتقنوها .ليتهم اخرتعوا
التلفاز حتى كنا نشاهدهم كام أشاهد اآلن.
68
داخل غرفة سوجالر
اصطحب برقان خالد وجهاد لداخل غرفة سوجالر .وقف األخري أمام عرشه
ممشو ًقا ،وكان عرشه شيد عىل مكانة مرتفعة ،حيث تسمح له بأن يكون ذا
قامة أمام من يأيت .لرمبا هذا نوع من أنواع االنتصار الذايت لدى سوجالر املمزوج
بالتكرب والغطرسة.
وقف “سوجالر” بيده عصا تشبه عصا سليامن قائلاً :مرح ًبا بكام يف غرفة امللك
سوجالر وحرضة اإللهة جوتار .أنتام معنا هنا حتى تنتهي قصة صديقك .كان
سوجالر موج ًها كلامته لخالد.
خالد :أي صديق تقصد؟
سوجالر :مصطفى ،أيها الفتى .قاطعه جهاد :وماذ تريد منه؟
سوجالر :نريد فقط مخطوطة املؤرخ ،وكل يشء ميتلكه ابن عبد البار عن
طالسم القرص؟
-ابن عبد البار لرمبا وصلنا يف نهاية األمر ،يا خالد.
قالها جهاد مستنك ًرا حديث سوجالر ألنه ال يعرف من ابن عبد البار وعن أي
يشء يتحدث “سوجالر”.
وصل ابن عبد البار ومعه “ ُمرة” أمام غرفة سوجالر .كان ابن عبد البار يتلو
الطالسم حتى تنسج له هالة كهرومغناطيسية ليك تحميه من سوجالر إذ فكر يف
إيذائه .واصل ابن عبد البار الحديث لـ “ ُمرة”:
71
-نحن بحاجة إىل مصطفى .األرقام وكل يشء معه .أنا ال أتذكر الكثري.
أجاب “ ُمرة” :سيكون هنا اآلن.
عىل الجانب اآلخر ،كانت لوجني تحرض لفائف أربطة كتانية للمومياء ،وقد
أعطت ظهرها ملصطفى ،ألن صندوق املستحرضات كان باملقابل.
-انظر ،يا مصطفى .هذه لفائف كتانية نحفظ بها الجسد بعد وضع شمع
العسل والتجفيف حتى ال تدخل أي حرشات عن طريق الفتحات .أظن أنك
تعاملت معنا كطبيب ماهر.
كادت أن تكمل حديثها إال أن الصمت يسود املكان .التفتت باحثة عن
مصطفى مل تجده.
قد أخذه “ ُمرة”
نظر مصطفى البن عبد البار :قد أخذت جسدي وتركت قلبي هناك ،يا جدي.
قالها كعاشق ولهان مبتسماً .
نظر إليه “ ُمرة” قائلاً :لرمبا هذة العاطفة هي الفارق بيني وبينكم.
قاطعهم ابن عبد البار :علينا أن نستحرض الطالسم جيدً ا ،يا فتى ،وأن نحصل
عىل عصا سوجالر املجوفة .فقد سمعت عجوز كوشيه يو ًما تقول إن لديها طالسم
تساوي حياة سوجالر.
دخل مصطفى وابن عبد البار ومرة الباب حتى كاد أن ينخلع الباب من
مكانه.
كان سوجالر أمامهم وخالد وجهاد ناظرين باتجاه سوجالر.
72
رضب مصطفى الباب بكل ما ميتلك من قوة حتى فتح عىل مرصاعيه.
لقد فزع الجميع من كرس باب الغرفة الخاصة بسوجالر ،ومن يجرؤ عىل فعل
هذا؟
ويف حالة من السكون تحدث جهاد لصديقه خالد معج ًبا مبصطفى “ :دي
داخلة حكومه”.
سمع مصطفى هذه الجملة ،وبالطبع عرف من املتحدث .وعىل قدر فرحه
بلقاء أصدقائه عىل قدر حزنه بأن الجميع يف ورطة حقيقية.
نظر مصطفى إىل أصدقائه والبن عبد البار :مصطفى ..جهاد ..ماذا تفعالن؟
من أىت بكام وكيف؟
قاطعة برقان :يا رجل ،كام أتيت بك إىل هنا .عليك احرتام قدرايت.
عقَّب ابن عبد البار :وهل لديك القدرة عىل فعل يشء اآلن؟
كان يقولها بثقة ،نظر سوجالر إليه متبسماً خائفًا وماذا متتلك أنت وهذا
األبله ،يا ابن عبد البار؟
بالطبع جهاد قال :أشكرك ،فالجميع يناديني هكذا.
قاطعه مصطفى :كف عن مزاحك .سنموت ،يا أبله .إنه يقصدين أنا ،ومن
يعرفك هنا؟
نادى سوجالر يف الجميع قائلاً :
-أحرضوا لنا سجون كوشيه الخلفية -يقصد سجون تحت األنفاق ،وهي أسوأ
أنواع سجون كوشيه عىل اإلطالق.
جاء سادو ومعه الحراس .ألقوا القبض عليهم مشريًا بالسبابة إىل مصطفى
73
ومن معه .إال أن “ ُمرة” فاجأ مجلس العرشة بوقوفه وانضامه لهم .نظر سوجالر
إليه قائال :يبدو أنك مل تكن معنا من البداية ،يا “ ُمرة”؟
أجابه :أنا مع من ميتلك الطالسم.؟
شخص برص سوجالر ألنه يعلم أن الطالسم هي رس قوة من ميتلكها.
واذا برضبة قوية من ُمرة كانت كافية بسقوط سوجالر من أعىل عرشه ألسفل
مكان بغرفته .تابعتها رضبات خالد ومصطفى وجهاد للجميع.
إال أن عبد البار كان يرتل الطالسم حتى ينسج لهم هالة كهرومغناطيسية
تحميهم من مجلس العرشة .سقطت عصا سوجالر أمام جهاد ،الذي بدوره أخذ
يرضب بها كل من أمامه حتى أصدقائه ،وكأنه دخل يف حالة هيسرتيا؛ حتى وقع
الغطاء الذي كان بالعصا وظهر التجويف .كادت العصا أن تؤخذ منه إال أن خالدً ا
التقطها وهي يف الهواء ،وأخذ ما كتب بداخلها.
وأعطاه البن عبد البار الذي بدأ يربط األمور ببعضها ويجمع الطالسم ،حيث
امتلك القوى الكاملة ،وامتلك قوة القرص ،والجميع أصبح أداة طيعة يف يده.
قائل :لقد نجحنا ...لقد نجحنا.
نظر خالد فر ًحا إىل إبن عبد البار ً
يف تلك األثناء ظهر عىل سوجالر ومن معه الضعف ،حيث كاد العظم أن
يخرج من الوجوه لضعفهم وافتقارهم للقوى التي كانوا يتمتعون بها.
74
-وماذا تعرف عن سجون كوشيه يا جهاد؟
أجاب:
-أنا ال أعرف إال طائرات الورق ال أكرث ،لكني أعجبت بطريقته ،وهو يقولها،
فحاولت تقليده فقط.
يف هذه األثناء ،تذكر مصطفى كلمة الطبيب “أيبي” :يا فتى ،سوف يحدق بك
الجميع فاجعل األمر يستحق.
خرج مصطفى من غرفة سوجالر سابقًا وابن عبد البار الحقًا متج ًها إىل غرفة
الطبيب أيبي .كان مصطفى يسري والفرح ميأل قلبه ،ألنه سيخرب لوجني بأنه أصبح
من أصحاب القوى العظمى هنا ،وأن ال أحدً ا يستطيع منعه من مقابلتها.
واصل مصطفى املسري حتى وصل إىل باب الغرفة غري طارق للباب فات ًحا إياه.
لقد كانت الغرفة خاوية ال يشء بها .ال الطبيب ال لوجني ال تابوت ال يشء....
-أين؟ أين لوجييييييييييييييني؟ أين لوجني؟
نادى عىل الحارس الذي بدوره أنصت لحديث مصطفى ،ألن القوى كانت
تظهر عليه.
-أين لوجيييني ،أيها األحمق؟
أجاب الحارس :لقد اختطفت من أتباع سوجالر.
-ومن أتباع سوجالر؟ قالها مصطفى والدموع يف عينيه موج ًها رضبات
للحارس :تحدث ..تحدث...
أجاب الحارس وهو يقطر د ًما :كان “ميمون” ومعه عديد من الحراس.
تابع مصطفى :ميمون من مجلس العرشة الكبار؟ وأين ذهب؟
75
أجاب الحارس :ال أعرف.
قاطعه بصوت شجي يكاد يختنق بالدموع وبأوداج منتفخة :أنا لن أذهب إال
بلوجني .لن أذهب لن أذهب .تابعه صديقه خالد بعناق ،وحاول جهاد أن يهدئه
مبزاحه املعتاد(:ال تقلق ،يا عنرت ،سنجد عبلة) .ضحك مصطفى والدموع يف عينيه.
أجابه ابن عبد البار :اآلن ،علينا إدارة القرص بهذه الطالسم .وأشار للعىص
وللمخطوطة التي كانت معه .نظر مصطفى إىل ما بيده حيث كان أول مرة يرى
هذه املخطوطة .تبدو بشكل غري مألوف له :وما هذه املخطوطة؟ مل أرها معك
من قبل.
قال له :يا ولدي ،قبل أن آيت إىل هنا ،قابلت ساح ًرا كاد أن يتوب ،ولكنه يريد
أن ينتقم من عامل الجان ،لذا أعطاين إياها بعد علمه أنني أمتلك طالسم تشبهها
قائلاً :ستحتاجها يوما ما.
أخرجها ابن عبد البار وأعطاها ملصطفى ..ناظ ًرا إليها بتعجب .لقد رسمت بها
أنفاق كثرية وحروف وطالسم يف وسطها نجمة سداسية.
76
-ما هذا؟
-حقًا ،إنها طالسم مل متر عىل برصي من قبل.
نظر خالد إىل املخطوطة يتابعه جهاد من خلفه.
-لرمبا يقصد بالنجمة هذه كوكب ما .قالها خالد.
قاطعه جهاد :ولرمبا هذه النجمة هي غرفة كبري امللوك هنا .أعطني إياها ،يا
صديقي .فأنا مل أصنع طائرات ورق منذ أن قدمت لهذا املكان العبثي .قالها جهاد
الذي لرمبا كاد خالد أن يرسل له رضبة بوجهه حتى يصمت لألبد.
قاطعه مصطفى :نعم ،هي يا جهاد .نعم هي.
-أتقصد الطائرة ،يا صديقي ...أي طائرة ،يا معتوه؟
-النجمه هي الغرفة السداسية .واألنفاق هي سجون كوشيه الخلفية.
رأى ابن عبد البار أن حديث األبله هذا صائب .قائلاً :رب ضارة نافعة ،يا بني.
فلنعدَّ العدة للذهاب إىل هناك.
قاطعه خالد :رمبا يكلفنا األمر كثريًا ،يا صديقي .دعنا نعد من حيث أتينا أو
من حيث اختطفنا؟
مصطفى :ورمبا يكلفني ترك لوجني أكرث ،يا رفيقي.
-يا صديقي ،ومن منا ال يعرف الحب؟ ومن منا يسري بدون قلبه؟ يا صديقي،
لو قالوا يل قبل صداقتك إنك مريض لدعوت الله لك فقط ،ولكن لو قالوا يل اآلن
لتقطع قلبي عليك .رمبا خالد تفهم ما يقصده مصطفى بأن لوجني أصبحت جز ًءا
كبريًا ومهماًّ من وجوده فقط بعد رؤيتها.
اتفق ابن عبد البار عىل الذهاب هو وخالد من طريق ،بينام مصطفى وجهاد
من طريق آخر .لرمبا اختار ابن عبد البار خالدً ا ألنه أكرث هدو ًءا وثباتًا.
77
التفت ابن عبد البار ملصطفى :يا بني ،هذه من أجلك ،فحافظ عىل نفسك
من أجلنا.
عانق ابن عبد البار مصطفى ،وكأنها لحظات وداع .دمعت عينا مصطفى وكان
ابن عبد البار أن يذرف دمعه إال أنه تظاهر بالصالبة والتامسك قائلاً :إن حدث
يل يشء ،فخذين معك ألرض الفريوز .ففيها ولدت ومنها ترعرعت .فاجعل ترابها
غطاء وسرتا لجسدي -يقصد أن يدفن بها.
التفت خالد :دع عنك هذا ،فسنعود يا صاحب الوجه امليضء.
سلك مصطفى طريق األنفاق الخلفي ،بينام سلك ابن عبد البار طريق القرص،
ومنه ألسوار كوشيه ،ومن كوشيه لغرفة العجوز بها نفق مخترص لألسفل.
كان ابن عبد البار ميتلك قوة الطالسم التي متكنه من الذهاب يف طريق
كوشيه وال أحد يستطيع التعرض له.
دخل مصطفى ومعه جهاد الذي سأل بطبعه عن “ ُمرة” قائلاً :وأين ذاك الذي
يشبه “أفاتار”؟
رد مصطفى :سيتبعنا يف الوقت املناسب .فلديه قدرة كبرية عىل قطع مئات
الكيلومرتات يف دقائق.
-وهل كان أرسع من طائريت الورقية ،يا رفيقي؟ قالها جهاد ماز ًحا.
أجابه مصطفى متبسماً :
-ذكرين بأن نرتكك هنا بعد أن نجد لوجني.
واصل مصطفى السري.
78
ويف الطريق وجد اثنني من حراس السجون يقفان يف منتصف الطريق وكأنهام
يحرسان شي ًئا ما.
-وماذا نفعل ،يا رفيقي؟ قالها جهاد.
مصطفى :ال تقلق .سنصنع أشعة كهرومغناطيسية من الطالسم ،ولكن ابق
بجواري وال تبتعد يك تشملك األشعة ونستطيع املرور .بالفعل صنع مصطفى
األشعة التي مل ِّ
تغط ذراع جهاد اليرسى ،فرضبه الحارس رضبة أوجعته وكادت أن
تخلع كتفه .إال أن مصطفى وجه له رضبة بقوة اندفاع كهرومغناطيسية قضت
عليه .حني رأى الحارس اآلخر ما حل بصديقه فهرب متا ًما.
وصال إىل نهاية النفق.
-أين الغرفه؟ مل منر بها.
جهاد :وما هذا الباب؟ أجاب مصطفى :لرمبا باب الغرفة ،يا رفيقي؛ أو إنه
نهاية النفق والطريق .خيش مصطفى أن يخرج من الباب الذي كان أعىل رأسه
خوفًا من مواجهة العدد الكثري من الحراس والطالسم ال تنسج مجالاً مغناطيس ًّيا
بهذا القدر يغطي مساحات واسعة .فمصطفى يعتمد عىل املجال املمغنط الذي
يشمل املكان فيعطيه قوة مضاعفة ،ويأخذ من قوتهم يف حال املجال شمل عدد
األفراد املتواجدين.
الحظ مصطفى عىل ذراع جهاد من أعىل عالمة تشبه الوشم لنجمة سداسية.
-ما هذا ،يا جهاد؟ أجاب :ال أعرف ..ال أعرف .سأموت ،يا صديقي ،سأموت.
مصطفى صارخًا يف وجهه :لن متوت ،أيها األحمق ،قبل أن تقتلنا جمي ًعا
بترصفاتك الصبيانية.
ثم سأله :ماذا كان يحمل الحارس؟ أجاب :عصا.
79
مصطفى :أعلم أنها عصا .ماذا كان بالعصا؟
-كان بأسفلها عالمة تشبه النجمة السداسية.
-هي هناك ،هي هناك -يقصد الغرفة التي وجدت بالطالسم .قالها مصطفى
وهو يجر جهاد من يده مرس ًعا ليعودا ملنتصف النفق.
جهاد :دعني أنهض ،ثم نذهب .ال أستطيع أن أذهب زاحفًا ،فلست من
الربمائيات.
رصخ مصطفى يف وجهه غاض ًبا :انهض ،يا أبله ،وإال تركت لسجون كوشيه.
هناك يف منتصف النفق ،يبحث مصطفى عن أي مخرج .ال يوجد ..ال يوجد.
يائسا :أين ِ
أنت ،يا لوجييييني .ورضب بقدمه الحجر الصغري رصخ مصطفى ً
الذي كان ساندً ا إىل الجدار .وقع الحجر وظهرت قطعة حديدية حجمها مثل
كف اليد يف وسطها النجمة السداسية .ضغط مصطفى عليها ففتح باب مبنتصف
الهرم بالجهه الرشقية .دخل وتابعه جهاد الذي كان ينظر إىل كل يشء من حوله.
واصل مصطفى السري وال يعرف أين يذهب .هو فقط يبحث عن لوجني محدثًا
نفسه :هل هذا عشق أم جنون؟ أم أن تلك العيون التي تشبه قطرات الغيث من
السامء أخذته لطريق ما؟ كلها اشياء تذكرها مصطفى وهو يسري وكأنه يتذكر يوم
أن قبض عليه سادو ذاه ًبا لغرفة سوجالر .ولكن كان مصطفى ال يرى شي ًئا إال
لوجني ،حتى أن رس التحنيط وهو الهدف األسايس مل يعد مول ًعا به إال إذا وجد
لوجني .لرمبا تعلم من الطبيب أيبي ألجلها؛ لرمبا كتب الشعر أيضً ا ألجلها.
قطع تفكريه الخيايل جهاد :يا صديقي ،اختبئ .هناك الكثري من الحراس.
توقف مصطفى يفكر :ماذا يفعل طال ًبا من جهاد العصا.
80
-أي عصا ،يا صديقي؟
-عصا سوجالر .قالها مصطفى وهو يجز عىل أسنانه:
تركها هذا األبله قبل الدخول من الغرفة الرسية للنفق .كان مصطفى يريد
استحضار “ ُمرة” ملساعدته.
كاد مصطفى أن يجن جنونه .ماذا يفعل؟ الطالسم لن تنفعه مع هذا العدد
الكبري .جلس واض ًعا رأسه عىل جدار النفق مفك ًرا :ماذا يفعل؟ وكيف يصل البن
عبد البار وصديقه خالد أو “ ُمرة”
األمر أصبح أكرث خطورة.
نظر مصطفى إىل جهاد ناد ًما .مل يلتفت جهاد وقام بإخرج كرة صغرية من
جيبه عليها خيوط متكاثفة.
-ما هذا ،يا جهاد؟
أجابه :ال يشء .لقد جذبني لون خيوطها األرجوانية عندما رأيتها يف غرفة
سوجالر عند اختطايف أنا وخالد.
-أرين إياها.
أخذها مصطفى وبدأ يف إزالة الخيوط من عليها حيث وجد بآخرها مسحو ًقا.
إنه املسحوق السحري .كانوا يستخدمونه يف عملية التحنيط لحفظ الجثث أكرث.
فرح مصطفى قائلاً :سنمر بسالم من الحراس .بالطبع جهاد ال يعرف شي ًئا عن ما
يتحدث عنه مصطفى.
-وكيف نمً ُر ،يا رفيقي؟
أجابه مصطفى :هذا مسحوق أنا أعرفه جيدً ا .لديه القدرة عىل إخفاء الجسد.
81
هيا يك نذهب .إال أن مصطفى ُصدم ،حيث إن املسحوق ال يكفي إال واحد
فقط.
ماذا يفعل؟ وكيف مير؟
-ال تقلق ،يا صديقي ،أنا سأتوىل أمر نفيس .اذهب أنت.
قالها جهاد .ابتسم مصطفى ساخ ًرا :كيف وأنت تركت بنت أخيك الرضيعة
ره ًنا للد ّراجة التي كنت تستأجرها .اصمت .اصمت ،يا أبله.
-سأتوىل أنا حامية نفيس ببعض الطالسم التي أمتلكها ،وأنت ضع هذا
املسحوق عىل جسدك .وكن متذك ًرا هذا املسحوق يخفي الجسد .فال أحد من
الحراس يراك - .عليك مساعديت إن حدث يل مكروه.
-ال تخف وتذكر أن ال أحد يراك إال أنا.
كاد جهاد أن تظهر عىل مالمح وجهه الخوف إال أن مصطفى طأمنه.
-لن يراك اال إنسانًا مثلنا .هل تفهم؟
أخريًا تفهم جهاد املوقف .ذهب مصطفى إىل الساحة التي تؤدي إىل الغرفة
السداسية ،ومن خلفه جهاد.
أوقفه حارس :أين تذهب يا هذا؟ قال مصطفى :معي رسالة ،سيدي ،من
سجون كوشيه العلوية إليكم هنا يف سجون كوشيه السفلية.
-ملن هذه الرسالة؟
قال :ال أستطيع ان أخربك ألنها أمر خاص .إال أن الذي أرسلتها هي ملكة
كوشيه “السيدة العجوز”.
أذن له الحارس باملرور مرتق ًبا هيئته الغريبة.
واصل مصطفى السري ومن خلفه جهاد.
82
-حس ًنا ،يا صديقي .ملاذا أوقفك هذا الحارس؟
غريب عن مجتمعهم.
ٌ أجابه مصطفى :ألنني
غريب؟
ٌ -وملاذا مل يوقفني وأنا أيضً ا
متني مصطفى لو أن لديه سكي ًنا حا ًّدا ليقتل به هذا األحمق صانع الطائرات
الورقية حتى يقيض عىل الال ُمباالة التي ميتلكها.
أكمل مصطفى السري حتى وصل إىل باب الغرفة السداسية.
سأله الحراس :ماذا تريد ،يا فتى ،بهيئتك الغريبة هذه؟ أجابهم :أنا من
خارج أرض كوشيه السفىل ،وجئت لكم برسالة من ملكة كوشيه العليا “السيدة
العجوز”.
-إ ًذا ،انتظر هنا قليلاً حتى نخرب سيدي “شمهورش”.
انتظر مصطفى بالخارج ،وكان يقول لنفسه :لو أن هذا األبله الذي يرافقني
متتع بقدر من الذكاء يف هذه اللحظات .وكأن جهاد سمع ما يجول بخاطر مصطفى
فحدثه بهمس :لوجني ليست بهذه الغرفة.
قال له مصطفى :أنا سأختبئ بعيدً ا ،وحاول أن تنصت لهم حتى تتعرف عىل
مكانها.
خرج الحارس باحثًا عن الفتى إال أنه اختفى.
عندما فتح الباب ،دخل جهاد للغرفة السداسية ،ووجد عرشً ا يشبه عرش
جالسا معه بعض
سوجالر إال أن موضعه ليس مرتف ًعا .حيث كان “شمهورش” ً
قادة السجون؛ يتحدث يف أمر سوجالر وما حل به من ابن عبد البار وهذا الفتى.
إال أن قاطعه بعض الحضور :وماذا نفعل بالطبيب واملساعدة؟
أجابهم :أطلقوا رساح أيبي فال حاجة لنا به ،وشددوا الحراسة عىل الغرفة
83
816حيث املساعدة -يقصد مساعدة الطبيب .فنحن بحاجة إىل عصا سوجالر
التي اختطفها هذا الفتى.
عىل الجانب اآلخر ابن عبد البار مصطح ًبا خالد فقد قطعوا مسافة كبرية
من املسري وهام ال يعرفان أين يذهبان .أخرج ابن عبد البار الطالسم ،واستحرض
“ ُمرة” قائلاً :أين مصطفى وصاحبه؟ ابحث لنا عنهام.
دقائق وعاد “مرة” :هام يف سجون كوشيه السفلية حيث “شمهورش”.
-فلنذهب إىل هناك .تابع خالد :وهل مصطفى بخري؟ أجابه “ ُمرة” :لآلن
بخري .علينا اللحاق به حتى ال يصيبه أي مكروه .إال أن “ ُمرة” أوقفهم قائلاً :عصا
سوجالر ما زالت عالقة يف منتصف النفق الذي سلكه مصطفى وصاحبه.
عرف خالد أن صديقه جهاد هو الذي فقدها يف منتصف الطريق .ذهب
الجميع للحصول عىل العصا ،ألنها متثل لهم أهمية وقوى كربى إال أن ابن عبد
البار قال لــ “ ُمرة” استحرض لنا العصا أولاً حتى ال يأخذها غرينا .حس ًنا أكمل
انت وهذا الفتى الطريق املخترص لسجون كوشيه السفىل ،وأنا سأجلبها لك.
خيش ابن عبد البار أن يحصل “مرة” عىل العصا ويستغلها لصالحه .إال أن “ ُمرة”
أيضً ا كان يحتاج ابن عبد البار ألن دائرة الطالسم ال تكتمل إال به .هذا ما طأمن
ابن عبد البار قليلاً .
حصل “مرة” عىل العصا ،ووصل ابن عبد البار وخالد ألسوار كوشيه .التحق
بهام “ ُمرة” وجده ابن عبد البار قائلاً :أنت األن مصدر ثقة كبرية .ابتسم خالد
قائلاً :علينا أن نجد الرفقاء.
84
85
الغرفه 816سجن كوشيه السفلي
علم جهاد مبا يدور .خرج عندما فتح الباب مرس ًعا يبحث عن مصطفى .وصل
إىل ساحة السجون املكشوفة “الساحة الخارجية” .وجد مصطفى يحاول الهروب
من الحراس بإخفاء وجهه.
-يا صديقي ،لوجني يف الغرفة .816قالها جهاد لصديقه الذي وقف قليلاً
يتذكر هذا الرقم قائلاً :إنها الغرفة نفسها يف سجون كوشيه العلوية.
طلب من جهاد أن يبحث عن الغرفة جيدً ا واملداخل املؤدية إليها ،ثم ذهب
مصطفى مختب ًئا بعيدً ا عن الساحة حيث كرثة الحراس .إال أنه يف الطريق أوقفه
هذا الحارس الذي يحدق بالجميع .وقبل وصول الحارس إليه ،تذكر مصطفى
مقولة الطبيب أيبي ثانية“ :سوف يحدق بك الجميع لذلك اجعل األمر يستحق”.
ذهب مصطفى إىل الحارس وقال له :أين حارس هذا املكان؟ أجابه :أنا .ومن
أنت؟؟ أجابه مصطفى :أنا موكل من سيدك “شمهورش” بقيادة هذا املكان .لرمبا
أنصت إليه الحارس من فرط قوته التي كانت تظهر عليه واملجال املغناطييس
الذي كان يتمتع به.
-أجل ،سيدي ،أجل .قالها الحارس ملصطفى.
إال أن مصطفى طلب منه تفقد السجون .بالفعل ،أخذه الحارس ليتفقد
السجون حتى وصل غرفة .816قال :افتح هذه الغرفة .إال أن الحارس قال له:
86
سيدي ،هذا الغرفه ال تفتح إال بإذن “شمهورش” ،ألنه قال لنا هذا .رصخ مصطفى
به موج ًها له عدة رضبات قائال :وأنا موكل منه بقيادة السجون ،أيها األبله.
أجابه الحارس :أجل ،سيدي أجل .فتح الغرفة .دخل مصطفى وكانت رضبات
قلبه تزداد فز ًعا عىل “لوجني” .وجدها نامئة عىل األرض واضعة ذراعيها تحت
رأسها .أمسك بيدها .نظرت إليه باكية .اجتذبها بني ضلوعه حيث وضعت يدها
عىل صدره قائلة :لقد عذبت كثريًا .كان العناق حا ًّرا لدرجة أن مصطفى لن
يستطيع أن يبتلع ريقه أو أن يأخذ أنفاسه بانتظام .صاحب العناق تنهيدته
املعتادة ،وكادت تدمع عيناه لوال أنه أراد أن يبث يف نفسها القوة :سأجعل من
عذبك يندم حتى يتمنى املوت فال يجده.
رمبا وجود مصطفى طأمن “لوجني”.
عنك بيشء أو بآخر. -رمبا يستغرق األمر طويلاً ،حبيبتي .ولكن لن أستغني ِ
وسط كلامت متزاحمة ،ابتسمت لوجني وكأن وجهها مل يبتسم منذ فرتة ليست
بالقصرية قائله له وهي تنظر إىل عينيه التي تشبه فنجان القهوة :أ ِعدْ ها ..أ ِعدْ ها.
قال مصطفى :أعيد ماذا؟ قالت له“ :حبيبتي”.
ضحك مصطفى وقال :لرمبا كان العشق يف العينني أبلغ من الحديث هذا.
تابعته برضبة عىل صدره مازحة :وهل كان الصمت قاتل أم الحديث؟
أجابها :لعل الصمت موجع والحديث أوجع ،يا لوجني؟ فالصمت كل ما
يتمناه هو أن يتحدث بعشقه ،والحديث ال يكفيه العشق ،حبيبتي ..رمبا فهمت
لوجني أنه عشقها بجنون لدرجة أنه يخاطر بكل يشء من أجلها .هذا كان يكفي
قلب لوجني التي طاملا نظر إليها مصطفى .ارتوي كزرع يف صحراء يشتاق إىل املاء.
دخل جهاد السجن حيث كان يسري مختف ًيا .فزعت لوجني عند رؤيته .إال أنه
نظر إليهام قائلاً :لرمبا عبلة تستوجب مغامرة أخرى ،يا صديقي .حقًا ،لو كنت
87
أعرف حسنها حتى أغامر معك .أدارت لوجني وجهها ملصطفى :من هذا األحمق؟
وكيف وصل إىل هنا ومل مينعه الحراس؟
أجابها مصطفى :هذا جهاد صديقي .نظر جهاد إليها وقال :نعم ،جهاد صديقه
صانع طائرات ورقية ومدير رشكة إنتاج بنزين الطائرات .مل تلتفت كث ًريا لهراء
جهاد .حتى قطعه صوت السجان الذي جاء ليخرب الجميع بأن “شمهورش” مل
يجعل أحد نائبا عنه عىل سجون كوشيه.
حاول مصطفى الخروج من الغرفة مرس ًعا مصطح ًبا “لوجني” قابله السجان
والحراس .وضع مصطفى مجالاً مغناطيس ًّيا عىل لوجني ،وحاول الهروب بها من
الحراس إال أنه مل يستطع تحمل كم الرضبات التي واجهها فاألعداد كثرية ،وهو
مل يهتم بنفسه ،فوضع كل ما لديه لحامية “لوجني” .رمبا مصطفى كان يتعامل
بقلبه ال بعقله ،أو ألنه كان خائفًا عىل لوجني لدرجة أنه أراد أن يضحي من أجلها.
وقع مصطفى يف األرس .نظرت لوجني إليه وإىل الحراس صارخة بصوت يكاد
يختفي من الدموع :اتركوووووه ..اتركوه ..هو مل يفعل شي ًئا ..اتركووه .إال أن
مصطفى نظر إىل صديقه جهاد قائلاً “ :خذها واذهب آخر النفق” واحصل عىل
ابن عبد البار .إياك ،يا صديقي أن يحدث لها يشء .أنا أحذرك .إياك ،افدها
بعمرك ،يا جهاد.
ذهب جهاد ومعه لوجني التي مازال املجال املمغنط يحميها ،وما زال جهاد
يحتفظ برس جودة املسحوق.
سلك طريق ساحة القرص إال أن “مرة” استوقفهم وتبعه ابن عبد البار وخالد.
احتضن جهاد خالدً ا قائلاً :لقد ُسجِ ن مصطفى .لقد سجن.
-اهدأ ،يا فتى .وأخربنا مبا حدث؟ قالها ابن عبد البار.
قائل:ا
إال أن لوجني أخربته .نظر إليها ابن عبد البار وهو يومئ برأسه ً
88
-اآلن أقولها رصاحة .صديقكم هذا مجنون ..مجنون؟
خالد :ملاذا؟ أجابه ابن عبد البار :لقد وضع كل القوة الكهرومغناطيسيه يف
خدمة لوجني ،وترك نفسه بال حامية .أي عشق هذا ،يا فتى؟ بربك أي عشق؟
بكت لوجني ناظرة ألسفل :أنا ال أعلم ،سيدي بأنه أعطاين كل القوة .رمبا كان
يقول يل ِ
أنت كل ما أملك ،ولكن ال أعرف أن كل ما ميلك سيقتله يو ًما لينقذين؟
-ال ِ
عليك ،يا ابنتي ،فلنذهب ولنعيده .قالها ابن عبد البار مطمئ ًنا الجميع.
واصلوا املسري نحو السجون إال أن “ ُمرة” أخربهم أن مصطفى ليس بها؟
فزع خالد :أين؟
عرف ابن عبد البار أن “شمهورش” يتمتع بقدر من الذكاء الذي يجعله يضع
مصطفى بغرفته تحت سيطرته هو وقادته.
-أنا سأذهب إىل هناك فلدي مسحوق يخفي جسدي .قالها جهاد .إال أن عبد
البار أجابه :لن تستطيع املقاومة .فهي غرفة التحكم؟
لوجني :وماذا نفعل؟ رد خالد :ال نعرف فلنفكر قليلاً .
صاح جهاد :لدي فكرة ،لدي فكرة .رضبه خالد عىل ظهره :تحدث ،وال تكن
مزع ًجا .قال سنعطي “ ُمرة” عصا سوجالر يعطيها لــ “شمهورش”.
قاطعه خالد :غبي .أكمل جهاد :سنضع بها طالسم مضادة لقوة “شمهورش”.
هذه الطالسم بدورها ستتحول لقوة إشعاع عاكس ،ألن مصطفى يستمد قوته
من ضعفهم ،فتزداد قوته كلام كانت العصا موجودة.
أعجب ابن عبد البار بالفكرة إال أنه كان خائفًا من تطبيقها؟
وافقت لوجني :فكرة جيدة .تبعها خالد و” ُمرة” :ليست سيئة .ولكن كيف:
قال جهاد :سرنسل العصا مع “ ُمرة” ،وكأنه اختطفها منا ،وحاول إعادتها لــ
89
“شمهورش” .قاطعه ابن عبد البار :لكن قوة “ ُمرة” ستضعف يف الطريق حتى
يصل ،ألن العصا ستستنزف الكثري من طاقته .أضافت لوجني.
-لدي محلول كنا نستعمله يف عملية التحنيط حافظًا للجسد .كان معي عند
اختطايف أنا والطبيب أيبي .سنجربه عىل “مرة”.
وضع املحلول عىل ذراع مرة .وكتب ابن عبد البار الطالسم املضادة .انتظر
الجميع يشاهد ابن عبد البار سائلاً ُمرة :هل تأثرت؟ هل شعرت بيشء؟
أجابه :ال سيدي ،ما زلت بخري.
فرح الجميع بالفكرة .وقال ابن عبد البار لــ ُمرة:
-سنلحق بك .انطلق ُمرة حتى وصل لغرفة “شمهورش” أذن له الحارس
باملرور.
-مرح ًبا ،سيدي “شمهورش” .لقد تحصلت عىل عصا سوجالر التي ستعيد
للمملكة هيبتها .فرح “شمهورش” كثريًا مبا رآه .لكن غضب مصطفى الذي كان
مكبلاً بجوار عرش “شمهورش” ً
قائل :ال ثقة لكم ،ال ثقة لكم .أطلق “شمهورش”
ضحكات كانت تحدث صدى صوت بالغرفة ،وأمسك العصا .وحاول “مرة”
التحدث معه أطول فرتة وهو ماسك العصا .كان “شمهورش” ينظر إىل الجميع،
وكأنه أصيب بدوار بحر ،والجميع كذلك .حتى وصل ابن عبد البار والبقية.
دخلوا عليهم الباب بعد أن قضوا عىل كل من يف املكان .ذهبت “لوجني” إىل
مصطفى تفك قيوده ،حيث كان بجوار عرش “شمهورش” قائلة له:
-كل ما أملُك هو كل ما متلك .كانت تعني بأنهام أصبحا قل ًبا واحدً ا بجسد
واحد؛ ال أحد يستطيع فصل القلب عن الجسد إال باملوت.
عىل الجانب اآلخر ،يصيح “شمهورش” ممسكًا بعصا سوجالر :اقبضوا عليهم.
90
إال أن جهاد الذي يتمتع بقدر من الذكاء والغباء م ًعا قاطعه :العصا هي سبب
ضعفك ،أيها األبله؟
كاد الجميع أن يقتلوه ،فال يكمل شي ًئا آلخره كام هو.
قال مصطفى :وهل تنتظرون من هذا األحمق شي ًئا؟
استطاع مصطفى أن يخرجهم من الغرفة ساملني إال أن سوء الحظ الذي
يالحقهم قد يقتلهم جمي ًعا .فقد اكتمل القمر .هذا يعني زيادة قوة قرص سوجالر
و”شمهورش” وكوشيه ،وأيضً ا انتهاء مفعول املسحوق .إال أن اكتامل القمر يعني
قوة طالسم املخطوطة لو استعملت استعاملاً جيدً ا ،أو لو أن مصطفى وابن عبد
البار يعلم بهذا.
أصبح الجميع مرة أخرى يف قبضة القرص .األمر أصبح أشبه بعقدة لديهم.
فكل مخرج ينتهي بواقعة تفتح با ًبا آخر .انتهت بهم الحال يف سجون كوشيه
مرة أخرى .ابن عبد البار ومصطفى وجهاد داخل غرفة؛ مصطفى ولوجني يف
غرفة أخرى .رمبا وضعوا مصطفى مع لوجني حتى يضغطوا عليه بتعذيبها أو
يحصلوا عىل املخطوطة كاملة .وجد الجميع أنفسهم يف مأزق .أصبح ابن عبد
البار مسجونًا مرة أخرى إال أن هذه املرة مل يتمتع بصالحيات حيث أفقده هذا
األبله الجالس أمامه كل يشء .جلس ابن عبد البار بركن الغرفة منفر ًدا يفكر :هل
كنت أحمق عندما أنصت لذاك الفتى -يقصد مصطفى ،أم إن صديقه املعتوه هذا
سبب فيام نحن فيه ،أم إنها األقدار؟
ٌ
قاطع تفكريه جهاد معتذ ًرا عام بدر منه .واعرتف أنه مترسع نو ًعا ما ولن
تتكرر مثل هذه املواقف .إال أن خالدً ا نهره :وكيف ال تتكرر؟ ونحن هنا بالسجن.
مل يعد العتذارك قيمة ،يا صديقي .أنهيت كل يشء بعفويتك هذه .كن كام أنت
طفويل .تركه خالد ذاه ًبا لركن منفر ًدا إال أنه أدار وجهه قائلاً :رمبا كرثة تعاملك مع
91
األطفال جعلتك تسري عىل خطاهم بأفعالك الصبيانية .الجميع أصبح يشري لجهاد
بأصابع االتهام .وتناىس أن عىل قدر أفعاله هذه كان سب ًبا يف نجدتهم يف بعض
املواقف .جلس ثالثتهم منفردين؛ كل منهم يحاول أن يجد حلاًّ .
92
اجتماع جملس العشره وقادة سجون كوشيه
93
مل يكن ابن عبد البار مطمئ ًنا لهذا .كان يعلم أنهم أرادوا شي ًئا ما ،لكنه ال
يعرفه.
جلس يفكر حتي جاء إليه السجان بكرسات من الخبز اليابس ووضعها أمامه.
مل يقرتب منها ،حتى نظر إليه السجان قائلاً :ستموت جو ًعا ،يا رجل .تحسس
وجهك فالعظام كادت أن تربز منه.
مل يلتفت إىل حديث السجان .رمبا ما يفكر به أمثن من كرسات الخبز التي ال
يوجد غريها هنا.
اتفق “شمهورش” عىل أن يرسل البن عبد البار أقوى من ميتلك .إنه العظيم
بالنسبة إىل هذا املجلس العمالق.
إنه شيطان العقبة “الخيتعور” املراوغ الذي يتالىش كالرساب .حقًّا ،لن
يستطيع ابن عبد البار الصمود أمامه .إنه قوي بدرجة كبرية جدًّ ا.
وصل “الخيتعور” إىل غرفة ابن عبد البار الذي كان نامئًا ،فال يستطيع ابن عبد
البار رؤيته .دخل الغرفة ناظ ًرا إىل هذا العجوز الذي أثقلت املتاعب وجهه وأحنت
الهموم ظهره ،ومحت رونق برشته؛ محدثًا نفسه :هذا الكهل لن يستغرق كل
هذا .لِ َم سوجالر وشمهورش يشددون عليه الحراسة هذه؟ ولِ َم طلبوا حضوري؟
األمر بسيط جدًّ ا .حاول “ الخيتعور” الضغط عىل خاليا مخه ومنع وصول
الدم كاملاً إىل املخ حتى يدخله يف نوبة كسكرات املوت .كان ابن عبد البار
يتقلب كالشاة بعد ذبحها .يختنق .يحاول أن يستيقظ من نوبته هذه؛ كأن شي ًئا
يقبض عىل حنجرته ويداه مكبلتان .بالفعل هو الشعور نفسه الذي كان يشعر به
يف فرتات الصبا وهو نائم .إن شي ًئا يحاول قتله وال يستطيع الرصاخ .إال أن هذا
اليشء مل يفق منه .أنا نائم ،سأستيقظ .أنا نائم ،لكنني ال أستطيع االستيقاظ.
طالت نومته؟؟؟ نجح الخيتعور يف تحطيم بعض الخاليا البن عبد البار.
94
عىل الجانب اآلخر ،خالد وجهاد يحاول كل منهام أن يجد مخر ًجا ،خاصة بعد
وضع ابن عبد البار بسجن منفرد ،وال يعرفان ماذا حل به.
....
اتفق شمهورش مع باقي املجلس عىل إرسال رسالة لهذا الفتى بسجنه؛
بإفهامه أن الطالسم تساوي حياة “لوجني” أو أنها ستنقذ رقبته من اإلعدام غدً ا.
وصل السجان برسالته إىل مصطفى ،حيث كان يجلس “قرفصاء” بعيدً ا عن
لوجني واض ًعا رأسه عىل ركبتيه ،وكأن شي ًئا تغري .تقربت منه لوجني قليلاً :عليك
أن تنصت لعقلك اآلن ال لقلبك ،عليك أن تخرج من هنا .فال تهتم ألمري سأكون
بخري.
ِ
ستموت لوجني أو ميوت مصطفى .ألنه يعلم بأنهم لو األمر أكرث تعقيدً ا اآلن.
أخذوا الطالسم لن يرتكوها تعيش ،ألنها حاولت مساعدته من قبل .نظرت لوجني
إىل مصطفى بعينني براقتني المعتني قائلة :وكأنك مل ترين .افعل ما كنت تفعله
وكأنك مل ترين.
نظر مصطفى إليها بابتسامة اليأس.
-متنيت لو أنني مل أ َر ِك ،فقلبي ال يستطيع أن يرتكك وعقيل ال يفكر بعيدً ا
عنك .متنيت لو أنني يف هذا اليوم مل أمر عىل غرفة الطبيب “أيبي” فقط إين ِ
مريض بك ،يا لوجني ،وال شفاء إال وجودك معي.
بكت لوجني يف محاولة أخرية أن تجعله ينقذ نفسه من املوت ،وهو ثابت عىل
جملته“ :أنا مريض بك ،يا لوجني” .محدثًا نفسه :أي مرض هذا الذي تفىش بقلبي
ومل يرتك به نسيج دم إال ومتلكه؟ أي عشق هذا الذي جعلني ال أرى سواها؟ يا
لوجني .نحن ال نختار من نحب ..مهام نحاول التأقلم عىل طريقة اآلخرين عطفًا
ِ
تفهمت؟ ستهزم مشاعرنا أمام عىل مشاعرهم ستهزم مشاعرنا أمام من نحب .هل
95
من نحبِ .
عليك أن تجدي حلاًّ آخر بعيدً ا عن لوجني ،يا لوجني .فلن أسمح ألحد
مبسها ولو كانت نفسها.
كانت لوجني تتأكد من رد مصطفى إال أنها كانت تحدث نفسها يف محاولة
أخرية إلنقاذ هذا الذي ذهب عقله.
...................
أفاق ابن عبد البار بعد عناء شديد مام فعله به “الخيتعور” وكأنه يفقد شي ًئا
من ذاكرته ،محاولاً تذكر يشء فال يستطيع .كان يشعر بصداع يدق بعينيه ويشق
رأسه .أصبح ابن عبد البار أشبه بجسد بال روح ،بينام جلس خالد وجهاد اللذان
كانا يبكيان عىل اللنب املسكوب .فال فائدة من البكاء بفعلة جهاد األخرية التي
أصبحت عالقة باألذهان.
وجد جهاد الوقت بالسجن كث ًريا ،فاقرتح عىل خالد أن يبتكر لعبة حتى
يضيع الوقت أو مير الوقت بال ملل .رمبا كان االقرتاح مستف ًّزا شي ًئا ما من جهاد إال
أنه القى قبولاً من األخري الذي بدوره أصبح ينتظر املوت بالبطيء.
-حس ًنا ،وما اخرتاعك ،يا صاحب املصائب؟ قالها خالد لجهاد مستنك ًرا ألفعاله.
أجاب األخري :لعبة الشيطان واملالك .سأحاول خداعك كشيطان ،وكن أنت
كمالك ال يتأثر.
-كيف يا رجل؟ قالها خالد يف تساؤل املتعجب من أمر األخري .رد جهاد عليه
بإخراج ورقة من حقيبته الصغرية التي كان يحملها بداخل ثيابه .تبدو كحافظة
نقود كبرية .أخرج منها ورقة تبدو غريبة يف شكلها عن املألوف .سأله خالد وماذا
نفعل بهذه الورقة؟ قال له :سيد ِّون كل منا اسم ملالك واآلخر لشيطان ثم نرى كم
حرف للمالك وكم حرف للشيطان .فإن كانت األحرف لك أكرث ،فأنت فائز ولك
96
الحق يف رضيب ،وإن كانت يل أكرث فأنا الفائز ويل الحق يف رضبك .رمبا كانت اللعبة
سخيفة شيئا ما إال أن خالد مل يجد غريها.
-اتفقنا؟ فلنبدأ...
قبل بدء اللعب الحظ خالد أن الورقة مكتوب عىل ظهرها ما يشبه الطالسم
سائلاً جهاد :ما هذا ،يا صديقي؟ أجاب اآلخر :ال تكن ثرثا ًرا هي قطعة من الورق
وضعتها بحافظتي يوم أن قبض علينا سوجالر من داخل غرفته .رمبا تفهم خالد
قائل:ا وملاذا مل تخرب مصطفى أو ابن عبد البار؟ أجابه
أم ًرا ما .نظر إىل هذا األبله ً
جهاد :وهل كان ابن عبد البار صانع طائرات ورقية؟
حقًا ،ال يصدق هذا الفتى العبثي .إنها جزء من مخطوطة املؤرخ .كان خالد
ال يعرف ما بداخلها إال أنه تأكد بأن بها شي ًئا مهماًّ .
97
حُ
املاكمة
بات الجميع يف حالة من الذعر والهلع حيث قرر مجلس العرشة إعدام ابن
عبد البار ومصطفى ومن معهام .كان األمر أشبه بلحظات الوداع ،حيث كان كل
منهم ينظر إىل اآلخر حاملاً كلامت كثرية ،لكنه ال يستطيع الخروج من صمته
ألن األمر أصبح لزا ًما.
ويف اليوم األخري ،اجتمع سوجالر بأعوانه ،وقرروا محاكمة كل الخائنني يف
ساحة اململكة حتى يكونوا عربة للجميع؛ وتقدميهم كقرابني لإللهة جوتار.
حمل الحارس معه مالبس النحر ،لتقديم القرابني لإللهة .كان الحارس يسري
بخطى منتظمة ،حيث كان ممشوق القامة راف ًعا رأسه ألعىل .وصل إىل غرفة ابن
عبد البار ،ووضع مالبسه بغرفته .نظر ابن عبد البار إليها يف صمت؛ رمبا تفهم
ابن عبد البار األمر بأنهم أصبحوا قرابني لإللهة “جوتار” .أكمل الحارس مسريه
حتى وصل إىل غرفة جهاد وخالد .نظر خالد متسائلاً :ما هذا؟ إال أن شي ًئا بداخله
كان يقول له هذه تشبه “بدلة اإلعدام” .بينام عىل الطرف اآلخر جهاد الذي كان
يحاول تجميع أسامء الشياطني استعدا ًدا للعبته املصطنعة ،قام مهرولاً نحو باب
السجن :هذه مالبس جديدة .حقًّا ،مالبيس متسخة جدًّ ا.
نظر خالد إليه قائلاً :حتى ال تنام يف القرب متسخًا .إن كان هناك قربٌ يحويك ،يا
أبله .تفهم جهاد أخ ًريا أنه سيكون قربانًا لإللهة جوتار .نظر جهاد إىل خالد؛ كاد أن
يبيك إال أن خالدً ا وجه له كلامت أسكتته لليوم اآلخر قائلاً :وضعتنا من قبل يف يد
“سوجالر” ،ثم أدخلتنا السجن بفعلتك السابقة ،ثم اآلن اكتشف أن لديك جز ًءا
من يشء ما له عالقة بالطالسم وأنت ال تتحدث .ماذا تريد ،يا صانع الطائرات
101
الورقية؟ ماذا تريد أن تفعل بنا؟ لسنا من تركناك منذ الصغر وحيدً ا مبلجأ أيتام،
ثم تبناك أحدهم عطفا عليك ولكن مازالت الطفولة عالقة بعقلك.
الكلامت كانت قاسية جدًّ ا عىل جهاد؛ كالسيف يرضب وال يُبايل؛ كصاعق
كهربايئ بقلبه .كاد جهاد أن ميوت من كلامت صديقه .ذهب جهاد وبيده مالبس
القرابني ً آلخر الغرفة محدثًا نفسه :ملاذا ،يا صديقي؟ أعايرتني بذنب مل أُذنبه
أم أن ملجأ األيتام كان سب ًبا يف ذلك؟ فقط ما ينقصني هام والدان مثلك .رمبا أنا
هكذا ألنني خرجت إىل الدنيا بال أم تحويني وأب يناجيني .أنا لست طفول ًّيا ،فقط
أحاول استحضار نظرة حنني أو ابتسامة صبا .فقط أنا كام أنا أعمل بالطائرات
الورقية وأتعامل مع األطفال ،ألن قلبي ما زال هناك ،يا صديقي .حيث كان قلبي
طفلاً ،لكن عقيل أصبح كهلاً .فقط أنت تنظر إ ّيل من نافذتك أنت ،ال تحكم عىل
األشياء ،يا صديقي .ملجرد أنك تفهمت ما بها من الخارج ،رمبا ما بداخلها يجعلك
ناد ًما لباقي العمر .قف هنا بنافذيت كيتيم أم وأب ،وانظر حتى تحكم بكلامتك
هذه.
............
كان الحديث مع النفس طويال لجهاد الذي قتل قبل أن يكون قربانًا.
دخل الحارس الغرفة واضع الحديد بيد جهاد وخالد حيث ساقهام إىل غرفة
كبرية بآخر الطرقة .دخل خالد وجهاد الغرفة وجد طعا ًما كثريًا ،وكأنهم أرادوا
أن يحسنوا ضيافتهام األخرية .نادى عليهم الحارس عليكم األكل جيدً ا يك يقبل
قربانكام ،ألن اإللهة جوتار ال تقبل الجوعي.
جلس االثنان ال أحد يحدث اآلخر .رمبا ألن نهايتهام أصبحت محتومة أو أن
جها ًدا شعر بخنجر بصدره منذ الليلة املاضية.
102
واصل الحارس حتى جاء إىل غرفة مصطفى ولوجني .وضع املالبس لهام ،حيث
أبدت لوجني عدم اهتاممها باألمر ،ألنها كانت تعرف هذا جيدً ا .بينام نظر إليها
مصطفى قائلاً :مل يتبق لنا الكثري ،عزيزيت.
ردت لوجني :بيدك الكثري ،ولكنك ال تريد.
-ماذا؟ أي كثري ،يا لوجني؟
أجابت أن تتعاون مع سوجالر وتعطيهم املخطوطة ،فهي اآلن مل متثل خط ًرا
كبريا عليهم بينام متثل خط ًرا عىل حياتك أنت ومن معك.
كانت لوجني تحاول استدراج مصطفى ملحاولة أخرية قبل أن يصبحا قربانني
غدً ا؛ لعلها تنقذ هذا الذي خاض الصعاب من أجلها.
أجابها مصطفى :وماذا عن قلبي حتى يرتكك قربانًا؟ وماذا عن سوجالر الذي
لن يرتكنا مهام تعاوننا معه؟
فقط هي سويعات قليلة وسنصبح ذكرى تحت األرض وبداخل قرص الجان.
“إنها لعنة الكهف حقًا ،يا جدي” .كان مصطفى محدثًا نفسه يف لحظات ما
قبل القُربان.
نظر إليها قائلاً :أين ذهبت العينان السامويتان اللتان تحمالن غيثًا يك أرتوي
تبسم ِه؟ أجابت لوجني بوجه يحمل الكثري بهام؟ أين ذهب ثغر حبيبتي من ُّ
والكثري من الهموم وبشعر متناثر جاف يغطي جبهتها وجزء من يسار وجهها
واضعة يدها عليه حتى تتضح الرؤية كاملة :عليك أن ترى بوجهي هذا آثار
التعذيب التي خري شاهد عىل حبي لك .كنت ال أتحدث ولو فعلوا أكرث .فقط
انظر إىل وجهي جيدً ا لرمبا ترى تجاعيد صنعها املوقف أو أنني كربت حقًا ،يا من
ملكت القلب بريعان شبابه .ارحم قل ًبا أصبح رهن الكهولة بعشقه لك.
103
كانت كلامت “لوجني” كأنها دافع حقيقي يجعل هذا الفتى ال يفقد األمل يف
أن يحصل عىل حبيبته ،ويحاول تضميد ُجرحها العميق الذي بدأ من تلك الغرفة
كمساعدة للطبيب أيبي.
-سأكون حيث تكونني .آخر جملة قالها ناظ ًرا إىل لوجني قبل أن يأيت الحارس
يف صباح يوم املحاكمة .الجميع أصبح رهن الخوف والفزع .سيق الجميع مكبلاً .
فدخل ابن عبد البار بأغالل جاءت من قدمه لرأسه ثم مرة أخرى ليديه.
وهذا جهاد الذي يأيت ممشو ًقا كالنخل عن األنظار مرتف ًعا ألول مرة بحياته
يكون واثق الخطى “إال أن هذه املرة خُطاك ُقربانًا لجوتار ،يا صديقي”..
ثم جاء من الطرف اآلخر مصطفى ولوجني التي باتت بقلب مشبع باآلالم.
ومصطفى الذي يبدو عليه اإلرهاق إال أن شي ًئا يجعله غري فاقد األمل.
الجميع يرتقب فهناك يف آخر ساحة سجون اململكة مبكان مرتفع مبرتين تقري ًبا
جالسا سوجالر وبجواره السيدة العجوز”عجوز كوشيه” ومن الجوار اآلخر يجلس ً
امللك األحمر والخيتعور وبرقان .املجلس يكتمل ،يا صديقي .لقد تجمع الخصوم
يف يوم معلوم عىل فتى الكهف وأصدقائه.
قرعت الطبول كأنها طبول الحرب إال أن تابعها نفري البوق وصوت كعويل
الكالب .نعم إنها طقوس قرابني” جوتار”.
نظر ابن عبد البار إىل مصطفى ولوجني .بينام نظر جهاد إىل أعىل لرمبا يناجي
ربه .يتمتم بيشء ال أحد يفهمه .إال أنه ما زال محتفظًا بحقيبته الصغرية داخل
مالبس القرابني .تم فك قيودهم جمي ًعا .اصطفوا عىل خط واحد؛ أمامهم متثال
اإللهة “جوتار” الشموع مضاءة حوله .تم وضع قدر أمام كل واحد منهم .هذا
القدر سيسال فيه دم كل منهم ،ثم يجمع الدم ويوضع عند قد َمي التمثال.
104
الجميع يرتقب سوء العاقبة إال واحدً ا هناك ينظر إىل السامء مرتلاً شي ًئا ما .إنه
شخصا آخر غري الذي كان معهم .إنه جاد جهاد .نظر ابن عبد البار له وكأنه يرى ً
لدرجة تجعلك تهابه لعظمته صمته .ماذا حل بالفتى؟ كان يسأل ابن عبد البار
نفسه .اقرتب الجميع من بعضه ووضع رأس كل واحد عىل حامله من الخشب
تشبه تلك التي يقطع عليها الجزار ذبيحته.
كان رأس مصطفى متج ًها لرأس لوجني الذي كانت هي األخرى كذلك .رمبا
فضل كل منهم أن ميوت ناظ ًرا لآلخر ،أو أن األقدار جمعتهم بهذا الشكل.
“تلك النظرة التي رسقها يوم أن دخل قرص سوجالر اآلن سيعيدها” .نعم
سيعيدها لألبد.
-األمر مفزع ،يا صديقي وما زال جهاد شامخًا كنجم يف ليالٍ صيفية ساطع
للجميع.
نظر جهاد إىل ابن عبد البار قائلاً :هناك يشء ما بقميصك يا جدي .أخرجه
لعله ينفعنا.
فقد وضع جهاد ورقة بقميص ابن عبد البار عندما كانوا صفًا واحدً ا .وجد
ابن عبد البار الجزء اآلخر للمخطوطة يوم أن كان ميتلكه سوجالر .إال أن جها ًدا
كان ال يعرف استخدامه .وضعت الورقة أمام عني ابن عبد البار ،وكأنك وضعت
دليل براءته .إنه يبتسم ،ثم همس مناد ًيا عىل مصطفى الذي كان يستعد للموت
ناظ ًرا إىل من ال يرى غريها .قائلاً :صديقي ،ما زلت تحفظ بعض الطالسم .أجابه:
نعم ،ولكن مل يعد شي ًئا ينفع .فاملخطوطة ليست معنا .قال ابن عبد البار :أنا
أنصت لك .قل يل ما تحفظه .ردد مصطفى ما يحفظه عىل ابن عبد البار الذي كان
يستمع إليه وكأنه يأخذ كل حرف مبفرده.
جمع ابن عبد البار الطالسم ،وأخذ يتمتم بها حتي صار وجهه شا ًّبا ياف ًعا
105
وأيضً ا مصطفى عاد كام كان .وهناك لوجني بوجهها الشاحب قليلاً وشعرها
الجاف املتناثر.
-يعود الغيث لتلك العينني ،يا صديقي.
قاطعهم صوت جهاد قائلاً :عليكم أن تتعلموا من صانع الطائرات .فال تحسنب
الصبا جنون وطفولتي ما زالت عالقة .إال أنني ال أعطي ليشء أكرث من قدرة.
وبصوت به الفخر يختلط بالبكاء وبأوداج منتفخة .نادى :أين أنت يا “ ُمرة”.
فلتخرج يا صديقي ،لهؤالء األوغاد.
-ماذا؟
شخصا آخر أمامه غري ذاك الذي كان ال يلقي بالاً ليشء.
الجميع كاد أن يرى ً
-انظر .إنه جهاد يا رفيقي .قالها خالد ملصطفى وعيناه تدمعان .انظر أنه
صديقي .أعتذر منك ،يا رفيقي .أنا مل أقصد أن أيسء لك يف هذه الليلة.
قالها خالد لجهاد الذي كان يقف شامخًا ،ومن أمامه “ ُمرة” الذي حرض حني
استدعاه جهاد.
قائلاً له “ :ما زلت عىل العهد ،يا “ ُمرة” .يوم أن قرأت الطالسم ومل أستطع
أن أفعل شيئا وجئت يل ملب ًيا ندايئ.
فقد استحرضه جهاد يف هذه الليلة التي سبقت يوم القربان .لكنه مل يستطع
استخدامه؛ لذا أخذ منه الوعد أن يكون معه حتي يوم املحاكمة ،ويعطي الورقة
البن عبد البار الذي يُحسن استخدامها.
رضا من مجلس
سقطت عصا سوجالر ،وضعف الجميع لدرجة أن من كان حا ً
املحاكمة أصبح كهيكل عظمي ال حول له وال قوة.
106
احتضن الجميع جها ًدا معتذرين له .وعادت ثانية اململكة يف قبضتهم.
بينام اختطف مصطفى عنا ًقا من بني الزحام ملحبوبته لوجني .كادت أن تعانق
الضلوع بعضها لوال نظرة جهاد لهام قائلاً “ :ماذا كنت تفعل ،أيها األبله .لو مل أكن
معك.
تحول املوقف لرسور وعناق بعد أن كان حزن ودماء.
إال أن ابن عبد البار استعد للخروج ،وال مجال لطريق آخر .بينام طلب
مصطفى أن يكمل مسريته نحو التعرف أكرث عىل هذه العوامل الخفية وقصور
الجان.
107
عودة أييب
بعد انتهاء يوم املحاكمة والذي حوله جهاد ليوم عيد بالنسبة إىل الباقية قرر
الجميع العودة من حيث إن جاءوا.
إال أن لوجني قررت البحث عن الطبيب “أيبي” وما زال قلب مصطفى معلقًا،
وكاد أن ينطلق معها باحثًا عن أيبي .إال أن الجميع حذره من سوء العاقبة ،وأنهم
ال يضمنون العودة والبحث عن أيبي يف الوقت ذاته .حاول مصطفى أن يقنع
الباقية ،حيث كان يتحدث فقط بقلبه .إال أن الجميع هذه املرة رفض األمر بتاتًا.
فام كان عىل مصطفى إال محاولة التحدث معها إلقناعها بالبقاء ،لكنها تعلم
أن أيبي هو السبيل الوحيد لبقائها هنا آمنة .انتهي الحديث بذهاب لوجني
للبحث عن أيبي مودعة مصطفى بعناق حار ،وبورقة أخرى تشبه ورقة الربدي
األوىل قائلة له :إن التقينا ثانية أعدها ممتلئة بكلامتك التي يخفق القلب لها.
نادى ابن عبد البار عىل لوجني واض ًعا يده عىل رأسها متمتماً بيشء ما من
الطالسم .كام أعطاها سلسلة صغرية بها صندوق صغري ال يتعدى عقلة اإلصبع
حيث وضع داخل الصندوق ورقة بها طالسم؛ رمبا كانت تحتاجها لوجني يف طريق
بحثها عن “أيبي”.
108
ذهبت لوجني ومعها قلب هذا الفتى الذي كان ضعيفًا يف غيابها .إال إن خالد
وجهاد كانا يخففان عنه قليال ..
ذهبت يف طريق غري مألوف ..حيث بدا خال ًيا من جميع الكائنات .تسري
منفردة .أين تذهبني لوجني .الطريق ليس به يشء .كانت تحدث نفسها .إال إنها
واصلت املسري قليلاً حتى أرهقها املسري ،فجلست عىل يشء ما .وضعت يدها
بجوارها يك تستند إىل هذا اليشء إال أنه قرب منبوش ،والعظام متناثرة .نظرت
مفزعة أمامها وخلفها .وجدت قبو ًرا كثرية ،لكنها جميعها منبوشة ...عظام متآكل.
وأنصاف جثث أشالء .إال أنها سمعت صوتًا غري ًبا يشبه ذاك الصوت يوم املحاكمة.
إنه صوت عويل امرأة كعويل الكالب ...التفتت ال يشء إال أنها أحست شي ًئا ما
خلفها .شعرت بيشء يتحسس جسدها بهمس ال يكاد أن يرى أو يحس إال قليلاً .
فزعت ناظرة إىل الخلف لكن ال يشء.
أكملت طريقها مهرولة ،لذا فقدت قطعة صغرية من ثيابها التي قد تشابكت
بيشء كانت تجلس عليه .ولكن الوقت تأخر لبعد منتصف الليل والقمر ما زال
خاف ًتا ،والدخان كثري باملكان .كادت لوجني أن تختنق .إال أنها رأت شي ًئا مل يصدقه
العني.
كيف؟ هي؟ بالفعل هي؟ إنها العجوز الشمطاء.
109
كانت العجوز الشمطاء تنبش القبور وتأخذ الجثث وتضع بفمها طالسم
ورسومات ألشخاص.
ثم تأكل نصف الجثة وترتك البقية كأشالء بها الطالسم .كانت الدماء تسيل
من فم العجوز ،التي نظرت قائلة :نحن نضعف لكن ال منوت ،يا لوجني .ستدفعني
مثن انحيازك لهم كثريًا ،حني يعود القمر مكتملاً ،وتعود الطالسم لنا.
إال أن لوجني أدارت نصف وجهها قائلة :يستخدمونك السحرة يف إيذاء
الغري حتى يكونوا جثثًا هامدة أمامك وترشبني الدماء وتأكلني األشالء .يف مقابل
معلومات زائفة ،أيتها الشمطاء.
110
لن تنفعكم دماء الفتاة العزباء التي تسيل من فمكم ِ
أنت وباقي مجلس
العرشة ..ولن تنفعك أكاذبيك الزائفة واستدراج البعض إىل هنا بوهمهم ِ
إنك
تبحثني عن ابنتك املختطفة.
انكشف رسك ،أيتها الشمطاء ،وستسقط مملكتكم قري ًبا.
لن تسقط ..لن تسقط ...لن تسقط ...سنأخذكم جمي ًعا قربانًا ،وسأضع الدماء
بالكأس مستمتعة بتلك اللحظات ،يا لوجني .أمتنى أن تكوين كام ِ
أنت عزباء حتى
يكون دمك قربانا نق ًّيا لإللهة جوتار .سنعووود ،سنعود ،يا لوجني.
تركتها لوجني وأكملت طريقها ..حتى وصلت بعيدً ا عن اململكة .كانت
الشمس ترشق شعا ًعا برتقال ًّيا يعكس ضوءه عىل تلك العيون التي ما زال الفتى
عالقًا هناك بها.
وصلت لوجني إىل أناس يقطعون الحجارة من الجبال ،سألتهم عن الطبيب”
أيبي” .ال أحد يجيب.
أكملت باحثة حتى وصلت ألرض ال يعرف أحد بها أحد .غري إنهم يقدسون
العلم وصاحبه .تحدثت لوجني ألحدهم الذي أدار وجهه مبتسماً لها مرح ًبا
سيديت .وجدت لوجني نفسها الجميع ينعتها بــ “سيديت”.
-ماذا؟ هل تعرفونني؟
أجابها البعض :هنا ،ال أحد يعرف اآلخر .فقط أصحاب املعرفة لهم سامت
الجميع يراها عىل الجبني .كلام زاد علمك ،ظهر يف نقاء عينيك وجبينك الوردي.
تفهمت لوجني املوقف بعد عالمات استفهام كثرية .سألتهم عن طبيب يدعى
“أيبي” قالوا لها :ال نعرف األسامء سيديت ،ولكن يوجد هنا فقط أصحاب
111
الوجوه .مل تفهم لوجني .قال لها البعض :مثلاً ،سيديت وجهك الحسن .وهناك
الوجه الجميل واألنيق ،والقبيح ،والحادب ،واألجعد واألكحل ،واألبلج.
عىل قدر العلم يكون لون وجهكِ .
فأنت صاحبة الوجه الساموي وهي صفة ال
ميتلكها غري القليل هنا .لذا سرنسلك للمعلم األول صاحب الوجه الساموي .حس ًنا
فلنذهب .ذهبت لوجني وهي تنظر إىل الوجوه .ما بني الشاحب واألسود والجميل
والقبيح .أعجبت بهم قليلاً ،حيث إنهم يقدرون العلم فال مجال لجاهل أن يرتقي
ُسلم العلامء ،ألنه سكيشف عن وجهه القبيح.
أكملت حتى وصلت إىل تجمهر كحلقة علم وبأوسطها رجل جالس ممسكًا
بيده قارورة ماء ،ويضع عليها مادة أخرى حتى تحولت ملادة جيالتينية متامسكة
بعضً ا ما .نظرت إليه لوجني لكنها مل تعرفه ،حيث كان هناك يشء يغطي وجهه،
ومل تظهر منه سوى لحيته فقط.
انتظرت حتى انفض مجلس العلم ،وذهب إليه ،حيث حاول أن ينهض،
فأمسكت بيديه قائلة له :سأساعدك ،يا جدي.
-شك ًرا ،ابنتي.
نظر إليها غري مصدق.
-لوجني؟ أجابته :الطبيب أيبي؟ عانقها؟ أين ِ
كنت ،يا ابنتي .لقد افتقدتك
كث ًريا .التقى مرة أخرى بعد رحلة من العذاب بسجون كوشيه ومغامرة جنونية
من فتى الكهف .أخذها حيث خيمته .أدخلها ووضع أمامها بعض الطعام محدثًا
إياها عن رحلته ،وكيف جاء إىل هنا ،ثم استمع إليها لتقص عليه ما حدث .كادت
أن تفيض عني الطبيب أيبي مام حدث ملساعدته.
-لوجني.
112
لكنه نظر إليها بنظرته املعتادة الحادة قائلاً :ما زال الفتى يحبك ،يا لوجني.
ال أحد يفعل ما فعله إال عاشقًا .أجابته لوجني :اعلم ،سيدي .لكن وجودي أصبح
يسبب له املتاعب ،رمبا يستقيم طريقه يو ًما ما إن افرتقنا.
رد أيبي قائلاً :وملاذا مل يست ِقم طريقك منذ ذاك اليوم الذي ُسجنت به وافرتقنا.
بحثت عني ثاني ًة؟ سيدي الطبيب ،أنت ُمعلمي ووالدي الذي فقدته وكل ِ ملاذا
يشء.
الطبيب أيبي :القلوب التي ال ترتك معلمها الصنعة .كيف ترتك معلمها
املشاعر ،يا لوجني؟
ِ
بعينيك عشق يفوق هذه اململكة .أنا أعرفك جيدً ا .أعرف أن هذه أرى
العينني ال ترى إال جميلاً ،وهذا القلب ال يشعر إال بجميلِ .
عليك إعادة حساباتك
وستكونني عىل مايرام .نظرت لوجني للطبيب صاحبتها تنهيدة مغمضة عينيها.
أتعلم أنني منذ تركته وذهبت يف طريقي بحثًا عنك أشعر بيشء ما ينقصني،
فقط ،ال أشعر باألمان .كنت خائفة ألول مرة .وجودي بالسجن مل يكن هكذا.
بصيصا من األمل وكثري من األمان .سيدي الطبيب
ً فمجرد رؤيته ،كان يعطي يل
أشعرت من قبل أن أحدهم أن تحدث يجعل قلبك يتأمل ،وإن صمت جعله يتأمل
أكرث.
الطبيب أيبي :كيف ،يا لوجني .أجابته :األمل هنا له مذاق ما .وكأنني أدمنت
أمل قلبي وارتجافه عند رؤيته .والصمت يصاحبه أمل اشتياق.
قاطعها أيبي مبتسماً :وأي يشء تريدين ،يا ابنتي؟
لوجني :فقط األمان .أجابها أيبي :وهو يعني ِ
لك األمان إذا هو .أشارت برأسها:
نعم ،هو.
113
-إ ًذا ،فلنذهب له ،يا لوجني .علينا أن نذهب إليه.
نظرت لوجني إىل الطبيب أيبي قائلة :دعنا هنا قليلاً من الوقت حتى نسرتيح
من عناء السابق.
أيبي :كام تريدين ،يا ابنتي .هيا بنا نذهب إىل املخترب الكيميايئ الذي أعدته
هنا .وهل لديك هنا أيضً ا مخترب ،يا سيدي؟ أجابها العلم كالروح ال يفارق الجسد
إال باملوت ،يا ابنتي.
114
اللقاء األخري
ذهب مصطفى يف طريقه متع ًبا ،محملاً بآالم الفراق ،متسائلاً :هل أحصل
عىل لوجني مرة أخرى؟ أم إن القدر له رأي آخر .قاطع تفكريه جهاد قائلاً :يف أي
طريق نسري ،يا صديقي .نظر مصطفى إىل ابن عبد البار الذي قال لهم :ال أتذكر
الكثري ،ولكن سنمر من طريق األنفاق حتى نجتاز اململكة ،فإن وصلنا إىل طريق
الكهف فإننا بأمان .أجاب خالد :وإن مل نصل؟ علينا التحري جيدً ا .ليس لدينا
الوقت الكايف ،وال نعلم أي يشء سيحدث لنا يف هذه اململكة امللعونة.
-اهدأ ،يا رفيقي ،ال تكن متوت ًرا .سنصل .حتماً سنصل .قالها مصطفى وهو
يشري برأسه تأكيدً ا واطمئنانًا لخالد.
-إ ًذا علينا أن نتخذ طريق األنفاق ال يشء آخر.
أكمل الجميع السري ال يشء آخر أمامهم غري طريق األنفاق .الظالم يخيم عىل
املكان .يكاد مصطفى ال يرى من معه إال أن الجميع اتفقوا عىل أن كلاًّ منهم
ميسك بيد اآلخر .ذهب ابن عبد البار يف املقدمة ممسكًا به مصطفى وأمسك
مبصطفى كل من خالد وجهاد .تكاد تسمع رضبات القلوب من البعض خاصة
مصطفى الذي يشعر وألول مرة أنه خائف؛ ليس من الظالم لكنه خائف .فهل
كانت لوجني متثل له األمان أيضا؟ رمبا.
وصل ابن عبد البار حتي آخر النفق توقف قليلاً .
115
-ملَ توقفت؟ قالها مصطفى متسائلاً .أجابه :هل كان ع ّ
يل أن أنعطف إىل
الجهة الرشقية أم الغربية؟ ال أحد يعرف .يخاف ان يسري يف طريق مخالف،
فالجان كان ييضء األنفاق إال أن بعد هزميتهم أصبحت معتمة.
اتفق الجميع عىل السري نحو الجهة الرشقية .نظر خالد ممسكًا بيد جهاد.
تلق بالاً .
-يا صديقي ،سنسري .ولو داخل قرص الجان مرة أخرى ،فال ِ
كانت كلامت جهاد تطمنئ مصطفى ،ألنه شعر بخوفه حني أمسك بيده،
فكانت ترتجف شيئا ما.
نحو الجهة الرشقية ،انحدرت صخرة ضخمة من أعىل النفق كادت أن تقتلهم
جمي ًعا .إال أنها وقعت أمامهم مبا ال يزيد عن نصف مرت .أصبح الجميع يف حالة
ذعر وهلع؛ إال ابن عبد البار الذي صدم عندما وجد أن الصخرة الضخمة قد
أغلقت الطريق الرشقي.
جلسوا جمي ًعا يفكرون .ال يشء أمامهم سوى الذهاب من الطريق الغريب
حتى لو كلفهم األمر كثريًا .وصلوا إىل الطريق الغريب يف صباح اليوم التايل متعبني.
كل منهم حاول أن يسرتيح مبكان ما من عناء الطريق .حقًا كانوا متعبني ،ألنهم
ناموا كثريا ،لقد أفاقوا يف بادئ الليل .الجميع يتساءل :كم لبثنا.
-ليس بالكثري ،يا فتى الكهف .قالها جهاد .نحن فقط متعبون .أكملوا سريهم
نحو الغرب أكرث ،فوجئ الجميع بصوت يشبه صوت عويل الكالب اال أنه غري
ذلك .أخذ الجميع يرتقب مصدر الصوت .إال أن جها ًدا نظر بعيدً ا هناك خلف
مكان يشبه مقام األولياء؛ مرتف ًعا نو ًعا ما عن األرض؛ يغلب عليه اللون األخرض.
خلفه يشء ما يختبئ .لقد ظهر منه طرف الثياب الذي يبدو باللون األسود.
-انظر ،يا صديقي .انظر ،إنه هناك .قالها جهاد لصديقه مصطفى .ذهب كل
116
منهم يف اتجاه حتى يحارصوه .إىل أن وصلوا لهذا املكان املهجور ،وجدوا ال يشء
بداخله؛ سوى قرب مرتفع قليلاً عن األرض وحوله العظام املتناثرة .نظر ابن عبد
البار إىل الجميع قائلاً :ال يشء هنا .فلنذهب .غري أن جهاد رأى دماء بجانب هذا
املكان .تل َّمسها بيده .إنها دماء لشخص قتل اآلن.
نادى عىل ابن عبد البار والجميع يتحسسون املكان:
-نعم إنها دماء لشخص قتل اآلن ،لكن ال يوجد أحد.
نظر ابن عبدالبار حوله قائلاً :حاولوا الذهاب بعيدً ا .غري أن مصطفى قال:
فلنتفقد الغرفة من الداخل.
-أي غرفة ،يا رجل؟
-غرفة القرب هذه ،يا خالد.
نظر نحو الداخل وجد شي ًئا ما يأكل برشاهة ،وكأن الجوع يقتله .دقق النظر
إذ هي العجوز تأكل الجثة .نعم ،إنها العجوز الشمطاء .فزع مصطفى متقهق ًرا
للخلف .حيث خرجت ويتقاطر الدم من فمها وبيدها أشالء أخرى تتقاطر دماء،
ناظرة لهم وهي تبتلع الدماء.
-سنعيد مملكتنا .سنعيدها .فلن تسقط اململكة ،وستكونون قربانًا لإللهة
“جوتار”.
نظر مصطفى إىل ابن عبد البار حتى يقيض عليها .إال أنه مل ينصت له قائلاً :
رمبا تنفعنا.
-وكيف تنفعنا ،يا جدي؟
أجاب ابن عبد البار متمتماً برتانيم ما .والعجوز الشمطاء ترصخ وتلطم
وجهها ،ويزداد رصاخها مدويًا يف أرجاء املكان ،وكأنها تعذب بصاعق كهربايئ
117
أو باقتالع أظافرها كام يفعلون بسجون كوشيه .وتقول له :اتركني ..اتركني ..أنا
أحرتق ..أحرتق ..سأحرتق ..سأموت ...ماذا تريد مني؟ سأعطيك ما تريد.
ِ
يعطيك القوة حتى تستعيدي أجابها ابن عبد البار يف صوت صارخ :من
وجودك باململكة ،أيتها الشمطاء؟
-سيدي ،إنه ..إنه؟
-إنه َمن ،أيتها الشمطاء ،من؟ أجيبي.
-سيدي ،إنه ساحر أرض الفردوس؛ يعطينا القوة بكفره بربه وإميانه بنا
وبسوجالر .يف الحقيقة ،هو يعتقد أننا نقدم له خدمات ال أحد يستطيع تقدميها
له .إال أنه هو من يقدم لنا هذه الخدمات .وحقًّا ،ال أحد يستطيع تقدميها لنا
غريه ومن عىل شاكلته.
-كيف؟
-فقط هو مصدر وجودنا .نطلب منه متزيق كتابه املقدس فيفعل؛ نطلب
منه االغتسال باللنب فيفعل .لقد طلبنا منه ذات مرة أن يخلو بنفسه أربعني
يو ًما ال يحدث أحدً ا ،وأن يتغوط وال يغتسل ففعل .مقابل هذا خرج له سوجالر
وأعطى له قري ًنا من الجان يخدمه يف أمور تبدو غري مستحيلة .فقط يعرف اسم
فالن القادم إليه .أو يعرف ما مشكلته فيخربه بها .ثم يبني عىل ما أخربناه به كثري
من الكذب فيصدقه البرش ويجمع منهم األموال.
-وكيف تقدمون خدمات ملن يأيت لهذا الساحر؟ سألها ابن عبد البار.
أجابت العجوز الشمطاء قائلة :إن هذا الساحر يعمل بتغسيل األموات .إن أراد
إيذاء أحد فقط يأيت بيشء منه ،ويكتب عليه طالسم نحن نعطيها له ،فكل الطالسم
تناشد اإللهة جوتار وتكفر بربه ،ويتغوط عليها ثم يضعها بفم الجثة .فنسري عىل
خطى الطالسم هذه ،حتى نصل إىل الجثة نأكل منها ،وننفذ له ما طلبه.
118
قاطعها جهاد :وماذا لو أراد أن يعود لرشده؟ -يقصد أن يبتعد عن عامل الجان.
نظرت العجوز الشمطاء له بعينني تشعان نا ًرا :سنأكله مثلام نأكل هذه الجثة.
يف هذه اللحظة ،أنهى ابن عبد البار حديثه معها ،ثم أخذ يكمل ،ويتمتم مبا
يقول وهي تختنق حتى احرتقت متا ًما ،وأصبحت دخانًا.
انتهت العجوز الشمطاء هنا ،وانتهت معها أفعالها السابقة.
أكمل الجميع املسري نحو الجهة الغربية غري أنهم ال يعرفون عواقبها .وصل
الجميع عند مكان أشبه بالوادي املنحدر قليلاً كانت الشمس عىل وشك الرشوق.
الجميع متعب .نظر ابن عبد البار إليهم :سننام قليلاً فقط ساعتني أو ثالثًا ال
أكرث .وافق الجميع .إال أن جها ًدا برغم التعب أصبح يف أرق ومل تغمض عيناه .أخذ
جهاد يتفقد املكان املقابل للوادي ،وجلس مبكان يشبه التل متفقدً ا هذه اململكة
التي رمبا مل يسمع عنها إال يف خياله .أراد جهاد أن يرجع إال أنه وجد قطعة من
قامش صغرية .أخذها يتفقدها .تذكر هذه القطعة من ثياب لوجني.
كاد أن يجن :وهل كانت العجوز الشمطاء تأكلها؟
-ال ،ال .مل تكن هي.
-لكن القطعة أنا أثق أنها ترجع إىل ثياب لوجني .أخذ ينظر ويرتقب لعل
هناك طريقا ما.
وحاول أن يحدث مصطفى وخالدً ا وابن عبد البار ما حدث ،إال أنه وضعها
بحقيبته الصغرية .محدثًا نفسه :سيلقون عليك اللوم ،كام فعلوا بك يوم أن أخذت
جز ًءا من املخطوطة بقرص سوجالر.
-سيتهمونك بالتقاعس والتالعب .ال لن أفعل .كان جهاد يحدث نفسه .إال
أن مصطفى أفاق من النوم مبك ًرا فز ًعا .جرى إليه جهاد ساندً ا له واض ًعا يديه
خلف ظهره.
119
-ما بك؟ ما بك ،يا رفيقي؟ أجاب مصطفى :أنا بخري ،بخري .ال تقلق .فقط
كابوس - .أي كابوس ،يا رفيقي؟
نظر إليه مصطفى :ال يشء .أنا بخري .وأنت ملَ ال تخلد للنوم؟ قال له :ال بل
كنت نامئا ،لكن أفقت من قبل كابوسك هذا بدقائق .قالها جهاد مبتسماً .
حاول ابن عبد البار أن يكمل املسري نحو االتجاه املتفق عليه “الجهة الغربية”.
إال أن جها ًدا أرص عىل أن يكمل االتجاه يف الطريق املقابل للوادي.
نظر الجميع لجهاد.
-وماذا بهذا الطريق؟ أجاب :ال يشء ،ال يشء .فقط أشعر أنه الطريق الصحيح،
أرى ذلك ،ولكم ما ترون ،هل توافقوين الرأي؟
وافقه الجميع؛ رمبا إنه املنقذ لهم من الفرتة السابقة .وأكملوا السري يف اتجاه
الطريق املقابل الذي أشار إليه جهاد .غري أن خالدً ا نظر إىل جهاد قائلاً :ملَ هذا
االحمرار الذي بعينيك؟ ملْ تنم جيدً ا؟ أجابه :نعم ،كنت قلقًا نو ًعا ما.
-أرسعوا .الجميع يرتقب جهاد الذي عىل غري عادته يطالبهم بالتقدم.
وصل الجميع حيث األرض التي ال يعرف أحد بها هناك.
إنها أرض لوجني .كان جهاد يقولها من داخله .هناك ،تفاجأ ابن عبد البار
بصوت خالد يصيح :وصلنا .نعم ،لقد خرجنا من لعنة القرص.
إال أن ابن عبد البار قاطعه :ال يا بني تريث ..مل نصل ،حتى نصل إىل الكهف.
-إ ًذا ،ومن هؤالء؟ قالها مصطفى .أجاب ابن عبد البار :سنعرف .فقط متهل
قليلاً .دخل الجميع من باب منقوش عليه وجوه غري متطابقة .نظر مصطفى:
لعلها تشبه ذاك الفن يقصد”الكاريكاتري”.
120
-ماذا؟ أي فن؟ قالها خالد .أجاب مصطفى :ال يشء .قاطعهم رجل عمالق
القامة شديد السواد؛ تظهر عىل وجهه البالهة.
-تفضل سيدي .تفضل صاحب الوجه الساموي .تفضل صاحب التاج.
كلها ألقاب كانت تقال البن عبد البار .نظر مصطفى فوجد آخر يقول له :ماذا
تريد ،يا صاحب الوجه الساموي .غري أن األخري نظر إىل جهاد وخالد قائلاً :كيف
وجوه السامء تصاحب هذين الوجهني اللذين يبدو عليهام الفقر الشديد للعلم.
مل يعرف أي منهم املقصود بهذه األلقاب .ومن هم؟ إال أن خالدً ا استوقف
رجلاً كان يسري عىل حامره :يف أي بلد نحن؟ أجابه األخري :أنت مبملكة وجوه
العلم ،أيها الجاهل .نظر خالد إىل من معه متمتماً :مملكة وجوه العلم؟
لقد نُعت خالد بالجاهل؛ كام نُعت جهاد ..وابن عبد البار ومصطفى بالوجه
الساموي.
تفهم مصطفى ما يقصدونه ،كام أيضً ا تفهم ابن عبد البار ،حيث نظر
مصطفى إىل ابن عبد البار قائلاً :هنا أنت ملك هذه اململكة دون طالسم ،يا
جدي .ضحك ابن عبد البار معج ًبا بذكاء مصطفى الذي تفهم املوقف رسي ًعا.
قاطعهم جهاد :وملَ نحن جاهالن وأنتام من أهل العلم؟ ومن الذي أخربهم أين
بائع طائرات ورقية ،يا جدي؟ لقد فعلتها ،يا خالد؟ أجاب خالد :فعلت ماذا؟ أنا
أيضً ا نعتوين بالجاهل.
ضحك منهم مصطفى وابن عبد البار الذي أخذ يتقدم نحو هذا التجمهر
خطوة تلو األخرى .وكان مصطفى يتحسس قلبه وكأن شي ًئا يحدث؛ ناظ ًرا إليه
جهاد:
-ال عليك ،يا رفيقي .لعلنا نقرتب.
121
نظر إليه جهاد متعج ًبا :نقرتب من ماذا ،يا صديقي؟ غري أن جها ًدا قال له:
تأخر عن ابن عبد البار وخالد خطوات ألعطيك شي ًئا.
أخرج جهاد من حقيبته تلك القطعة من ثياب “لوجني” التي وجدها جهاد
أثناء وجودهم بالوادي .أخذها مصطفى يشم رائحتها ويتحسسها ويضعها عىل
وجهه.
-إنها لــ لوجني .إنها لها ،يا صديقي.
قال :نعم .لقد وجدتها عندما كنتم نيا ًما واألرق مل يدعني أنام .أمسك
مصطفى به متسائلاً :لذا سلكت بنا هذا الطريق ،يا صديقي؟ قال له جهاد :نعم.
فال أريد أن يذهب حبكم ُسدى ،يا صديقي .إين عاشق مثلك.
-عاشق َمن ،يا جهاد؟
أجاب جهاد :الطائرات الورقية ،يا صديقي .وهل هذا الوجه يعشق إال أطفالاً .
ضحك مصطفى وجهاد وتقدَّ ما نحو التجمهر .وجد الكثري يقفون مصطفًني،
شج
والجميع وكأنهم ينتظرون الدواء فالجميع مرىض .من به كرس أو ُجرح ،أو َّ
رأسه أو يشء آخر.
نظر الجميع يتفقد املوقف .قال ابن عبد البار :لنكمل .إال أن مصطفى قال:
نشاهد مل هذا االصطفاف؟
تساءل عن السبب .أجابه البعض :نحن هنا لنعالج من صاحب الوجه
الساموي ،يا صاحب الوجه الساموي.
لرمبا تفهم ابن عبد البار مرة أخرى ملاذا يصفونه بصاحب الوجه الساموي.
وقف مصطفى بهذا الطابور الذي يطول للناظر .غري أن الحارس أخرجه قائلاً :
ليس هذا مبقام لك ،سيدي .أنت صاحب وجه ساموي .إال أن مصطفى أرص قائلاً :
أنا هنا مع صديقي هذا .وأشار إىل جهاد الذي أجاب عنه كعادته القدمية:
122
-نعم ،فأنا جاهل وهو من قام عىل تربيتي.
تركهم الحارس .أخذ الطابور يقرتب من الخيمة حتى وصل جهاد ومن خلفه
مصطفى قري ًبا من الخيمة ،إال أن من بداخلها سمع صيحات البعض :أفسحوا
الطريق لصاحب الوجه الساموي .أفسحوا الطريق .وأخذ الجميع يتحسس
مصطفى كنوع من أنواع التربك به .نظر “طبيب الخيمة” يف ترقب :من؟ ثم قال:
ملَ هذا الصياح؟ ماذا حل بكم؟ قال الحارس :صاحب وجه ساموي ،سيدي ،يحرض
هنا .خرج الطبيب قليلاً حتى أول الغرفة :من؟ مل يصدق أيبي ما تراه عيناه .قام
واحتضن مصطفى وجهاد باك ًيا.
-كنت اشعر بأن هذا القلب لن يرتك من أحب .يا ولدي ،مل أر عشقًا مثلام
رأيته يف عينيك يوم أن جئت غرفتي بالقرص.
جلس ابن عبد البار ومصطفى وظل جهاد وخالد يرتقبون املوقف .نظر أيبي
إىل جهاد قائلاً :ما زال بائع الطائرات هنا ،يا فتى .ضحك مصطفى والجميع قائلاً :
لو مل يكن معنا بائع الطائرات ما كنا هنا.
نظر ابن عبد البار إىل مصطفى :كيف؟ قاطعهم جهاد :ال يشء .يقصد يوم
أنقذتكم من القربان ،يا جدي .تبسم ابن عبد البار ،إال أن مصطفى بلهفة العاشق
سائلاً :أين لوجني؟ كاد أن يجيبه الطبيب إال أنه تساءل يف رسع ٍة ثاني ًة :أين
لوجني؟ ابتسم الطبيب قائلاً :دع قلبك يأخذ قسطًا من الراحة .قال :ال راحة
لقلبي إال برؤيتها .أين لوجني؟ أشار إليه ابن عبد البار يف خيمة مقابلة قال له:
هناك تعد يل الدواء وبعض التجارب لنعالج بها من يف هذه املدينة .قام مصطفى
مرس ًعا نحو خيمتها .كانت لوجني تحرض الدواء وبيدها كأس زجاجية بها مادة
جيالتينية وأمامها إناء آخر تفرغ به هذه املادة .حاول مصطفى أن يتاملك نفسه
التي ترتجف ،وكأنه يقف فوق قمم جبال الهياماليا من شدة االرتجاف.
123
فأمل قلبه يتزايد بهذه الرجفة ،إال أنه كعادته يستمتع بهذا األمل الذي يصاحبه
وجود حبيبته .حاول مصطفى لفت االنتباه بإصدار صوت “نحنحة” إال أنها
قلت سابقًا إنني ما زلت أعد
أجابت غري ملتفتة قائلة :نعم ،ماذا تريد؟ لقد ُ
الدواء ،ومل أنت ِه .أجاب مصطفى:
-وهل يشفي القلب العليل دواء غري دوائك؟
لقد وقعت الجملة عىل مسمع لوجني كربق جعلها تشخص العينني حيث
أوقعت الكأس وسكبت املادة الجيالتينية ملتفتة بدموع عىل الخدين كمجرى
مايئ يصل نهر مبصبه ذاهبة إليه معانقة له قائلة:
-ال يشفي قلبي العليل سواك أنت ،يا من ملكته بجنونك .كنت أنتظرك .ال
يشء يستطيع أن يأخذك مني .صد ًقا ،حبيبي كنت أنتظرك.
حاول مصطفى أن يبعدها قليلاً حتى يتمكن من مسح دموعها إال أنها أبت
قائلة :دع أضلعي تعانق القلب الذي طاملا وجد وجدت لوجني .أحبك أكرث .أحبك
أكرث .أحبك أكرث مام كان وما سيكون .رمبا هذه اللحظات أعطت ملصطفى قوة
أحب عيدٌ .
رضا وقل ًبا فر ًحا .فلقاء املحب مبن َّ
إيجابية ووج ًها ن ً
ماذا لو القدر مل يجمعنا مرة أخرى ،يالوجني؟ ماذا لو سلكنا طريقًا آخر أو أن
جها ًدا مل يساعدنا عندما وجد قطعة من ثيابك تدل عىل وجودك مبكان قريب
م ّنا؟
-وهل تشعر بأنك ال تحبني؟ أجابها مصطفى :و َمل تقولني هذا؟
أجابت لوجني :عندما تشعر بأنك ال تحبني فقط سيبعدنا القدر .فالقدر شغف
املحبني ملن أحبوا .القدر هو عدم الكف عن من أحببت .فعندها يكون القدر
لك .هل تفهمت ،يا قدري ،عندها يكون لك؟ ابتسم مصطفى من كلامت حبيبته
التي هدأت من شوقه وشغفه إليها .نظرت لوجني إليه قائلة :دعنا نتفقد الرفقاء.
124
خرج مصطفى من خيمة استحضار الدواء مصطح ًبا لوجني ألصدقائه .فرح
الجميع بلقائها مرة أخرى .ابن عبد البار واض ًعا يده عىل رأسها شاك ًرا ربه لحفظها.
خالد :مرحبا ِ
بك مرة أخرى ،أختي.
جهاد :مرح ًبا مساعدة الطبيب أيبي .متى تكونني طبيبة وتتخلصني من وظيفة
املساعدة؟ ضحكت لوجني :عندما تتخلص أنت من طائراتك الورقية .رد جهاد :إ ًذا
ستعملني مساعدة باقي عمرك .ضحك الجميع ،فقد ُجمعت األرسة ثاني ًة يف تواد
وحب .ولكن لن يطول الجمع ،حيث الرفقاء من بني اإلنسان ،وأيبي ليس منهم
كام أن لوجني اختطفت طفلة صغرية ال تعرف شي ًئا ،وتربت عىل أن تكون واحدة
منهم وال تعرف غريهم ،والعودة بصحبة الرفقاء رمبا تكون لها عواقب وخيمة،
أو أنها لن تستطيع العيش مبجتمع آخر .فعادتنا مختلفة عن مملكتهم متا ًما .رمبا
هذا يتوقف عىل القدر مثلام قالت لوجني سابقًا.
واصل الجميع الحديث .اتفق ابن عبد البار عىل الجلوس أسبو ًعا أو أسبوعني
معهم ،ومن ثم العودة من حيث أتوا .رحب أيبي بالفكرة قائلاً :وملَ العجلة؟
دعونا نكمل مسريتنا هنا .أجاب ابن عبد البار :عاملنا يحتاج إلينا كام نحتاج
إليه .ورمبا لنا عودة مرة أخرى ،أيها الطبيب صاحب الوجه الساموي .ابتسم
أيبي :وأنت أيضً ا ،سيدي صاحب الوجه الساموي .فعلمك غزير انتفعنا به جمي ًعا
عىل مدار سنوات وسنوات .فقد أنقذت مملكتنا كث ًريا .حتى جاء لك هذا الفتى
ليكتمل الجمع .قاطعهام جهاد :وماذا نعمل هنا ،أيها الطبيب؟ نحن كام ترى
الجميع ينعتنا بصاحبا األفق الضيق ..ال معلومات ..ال معرفة ..ال يشء إال ما
اكتسبناه سابقًا .أجابه أيبي ناظ ًرا إىل الجميع :عليكم أن تكونا يف مجلسنا وتطلعا
أكرث عىل حضارتنا حتى يصبح وجه كل منكام سامو ًّيا أو تكونان من العلامء
املقربني .فهذه اململكة تختلف متا ًما عن كوشيه .إنها حضارة أهل العلم .نظر
125
إليه مصطفى متسائلاً :وماذا كانت الحضارات األخرى التي مررنا بها؟ أجاب :إنها
تابعة لحضارتنا ،يا بني ،لكن هي ماملك خاضعة لها ،حيث فرضت عليها حضارتنا
سيادتها وسيطرتها .بينام هنا أنت داخل حضارة أهل العلم أصحاب العقول؛
أصحاب العلوم .هنا مركز التاريخ ،يا بني .هنا شعاع الحضارات ينبعث من هنا.
هنا رشوق شمس العلم لتنرش نورها عىل باقي العامل.
أنت يف حرضة عظامء العامل ،يا فتى .هيا بنا ،يا بني ،حتى نعرف أكرث عن هذا
العامل .ال تخف هنا فقط التقدير واإلحرتام لصاحب املعرفة ال ملوك ال جاه ال
سلطان إال للمعرفة .فقط بثقافتك ستكون هنا ملكًا أو بافتقارك للمعرفة ستكون
عبدً ا .عبق التاريخ هنا ..فقط ،يا بني ،املعرفة التي تنفع بها املجتمع .أراد أن
يوضح لهم أيبي أكرث.
-أي نصنع شي ًئا يكون ذا قيمة للبرش ،وأن ال نكتم علماً من املمكن أن ننقذ
به آخرين ،ا ًذا.
تفهم الجميع ما يعنيه أيبي جيدً ا .حيث عمل كل منهم منذ اللحظات األوىل
عىل التوسع يف املعرفة وإفادة الجميع .ذهب مصطفى ولوجني نحو املخترب لصنع
الدواء ،بينام ابن عبد البار ومعه خالد وجهاد نحو علم الفلك ،حيث ابن عبد
البار كان لديه خربة كبرية به .كانت خربة ابن عبد البار بعلم الفلك كافية برتجمة
الكثري من الظواهر الكونية .تابع خالد وجهاد العمل مع ابن عبد البار الذي
اصطحبهم ملكان مرتفع مبنتصف املدينة ،حيث كان يتابع ابن عبد البار حركة
نجم “الشعرى” الذي ظهر مرة أخرى بعد اختفاء سبعني يو ًما ملدة 40دقيقة.
نعم إنه بداية شهر جديد .عاد ابن عبد البار ومعه مصطفى وجهاد من ترقبهم
لنجم “الشعرى” حيث أخذ ابن عبد البار قلماً من البوص ومدا ًدا أسود ورسم
قر ًدا واقفًا ويده متجهة للسامء ،واض ًعا إكليلاً عىل رأسه .قاطعه جهاد :ماذا
126
تفعل بقلمك هذا؟ هل هي طالسم جديدة أم ماذا؟ أجابه ابن عبد البار :هذه
بداية شهر جديد ،أيها األبله .نظر خالد متسائلاً :وكيف عرفت ذلك؟
أجابه ابن عبد البار :يا بني ،إن الساعة الشمسية تقيس أربع ساعات قبل
منتصف النهار وأربع ساعات بعد منتصف النهار ،ثم نضيف ساعتني قبل رشوق
الشمس وساعتني عند الليل ،ومن ثم يكون مجموع الساعات 12ساعة .تساءل
جهاد حيث يظهر عىل سؤاله الذكاء(هذا خالفًا عن مالمح البالهة التي يحملها):
وأين الساعة التي متر بعد املغرب والتي متر بعد الفجر؟ حقًا خالد تساءل سؤال
جهاد نفسه :نعم ،سيدي ،أين هي؟ أجاب ابن عبد البار :هذا ألن مدة طول الظل
شاخصا البرص فات ًحا لفمه قائلاً بإشارة من رأسه :أنا ال
ً هنا كبرية .وقف جهاد
أفهم .عليك أن تعيد رشح ما فهمته من ابن عبد البار ،يا خالد .حيث كان جهاد
خائفًا أن يقول البن عبد البار مل أفهم مبارشة ،فيغضب .ضحك ابن عبد البار قائلاً :
سأعيد لك أنا ،ولكن بعد الجلوس داخل الخيمة ،حتى يتسنى لنا التوضيح أكرث.
حس ًنا فنلذهب .جلس ابن عبد البار وعن يساره خالد وميينه جهاد.
-انظر ،يا بني ،تختلف الساعات باختالف فصول السنة.
الشهر األول النهار 16ساعة والليل 8ساعات
الشهر الثاين النهار 14ساعة والليل 10ساعات
الشهر الثالث النهار 12ساعة والليل 12ساعة
الشهر الرابع النهار 10ساعات والليل 14ساعة
هكذا يكون التقسيم عىل حسب فصول السنة ،وهكذا يكون الفصل األول من
السنة الزراعية ،حيث كانت ثالثة فصول لكل فصل أربعة أشهر.
تفهمت قليلاً .حس ًنا ،وما فائدة كل هذا؟ قالها جهاد ناظ ًرا لصديقه
ُ -رمبا
خالد كعادته خائفا من رد فعل ابن عبد البار.
127
-ال ،ليس له فائدة .عليك أن تذهب إىل الطبيب أيبي ،فأنا ال أحسن الترصف
مع أمثالك .قالها ابن عبد البار بعد نفاد صربه لجهاد .بينام نظر جهاد إليه نظرته
املعتادة راف ًعا عينيه :أنتم ال تقدرون العلم .سأذهب للطبيب أيبي .حس ًنا ،فهو
من يقدر هذا .ضحك خالد قائلاً البن عبد البار :دعنا منه ،وأكمل لقد تشوقت إىل
معرفة الكثري عن كيفية حساب األيام والشهور بهذه املدينة .ذهب جهاد حيث
جالسا
خيمة ابن عبد البار وبها مصطفى ومعه لوجني .كان ابن الطبيب”أيبي” ً
حيث أصبح مرهقًا لكرثة العمل بينام مصطفى ولوجني يقفان ليعدان الدواء.
دخل جهاد الذي بطبيعته أصدر صوت “نحنحة” :أنا هنا ،يا صديقي .ماذا أىت
بك؟ أجابه جهاد :حتى أساعدكم .نظر الطبيب أيبي إليه متسائلاً :وهال أعطيت
مساعدتك لألصدقاء وابن عبد البار؟ أجاب جهاد :لقد انتهينا وأتيت هنا حتى
ننتهي أيضً ا .نظر إليه مصطفى مبتسماً :نعم ،يا صديقي ،أنا أعرف كيف انتهيت.
فال أريد منك أن تكررها.
-حس ًنا ..حس ًنا .قالها جهاد ناظ ًرا إىل الطبيب أيبي الذي أعطى له مسحو ًقا
حتى يخلطه بآخر وطلب منه أن يقلبه جيدً ا.
-هذه وظيفتك ،يا فتى .إن فشلت فسنلقي بك خارج املدينة تأكلك العجوز
الشمطاء.
-حس ًنا ،يا طبيب لكن العجوز الشمطاء قد ماتت .هل جاء أحد غريها؟
-وهل يعنيك؟ قالها الطبيب يف غضب.
-ال ،سيدي .ولكن من يأكلني وهي ميتة؟
ضحك الجميع ،وأكمل جهاد تقليب باملسحوق ،ثم اصطحبه الطبيب خار ًجا
حتى يحمل معه بعض العشب لحاجتهم إليه يف تحضري الدواء .وجلس مصطفى
مع لوجني يكمالن عملهام ،حيث نظر إليها قائلاً :وماذا بعد لو غربت شمسنا،
128
يا لوجني؟ األيام متيض وستمر األيام وسيأيت ابن عبد البار لنعود .وماذا ِ
عنك؟
أجابت لوجني :سنميض حيث متيض .مل يصدق مصطفى ما سمعه منها .وهل
بالفعل تقصد أن تعود معه .أمسك بيدها فر ًحا :ماذا؟ ماذا تقولني ،حبيبتي؟
قالت له سنميض حيث متيض .أنا حيث تكون ،وأنت حيث أكون .ال يشء آخر،
حبيبي .ألقى مصطفى بالدواء الذي يف يده معانقًا لوجني فر ًحا بقرارها هذا ،حيث
قاطعهم جهاد الذي كان يحمل العشب مع الطبيب واقفًا عىل بداية الخيمة
ممسكًا ببعض العشب قائلاً :كنت أعرف أن الطبيب يخيل لكم الطريق .عليك
اللعنة ،يا أيبي .بالطبع ،كان الطبيب أيبي خلفه.
-ماذا تقول ،يا أبله؟ نظر جهاد إليه :ال ،سيدي ،مل أقل شي ًئا .فقط كنت أشكر
القدر الذي جاء يب لخيمتك .فأنت حقًا كأيب.
ابتسمت لوجني بسمة خجل هامسة ملصطفى :صديقك هذا أصبح جز ًءا من
عاملنا بعفويته هذه .نظر مصطفى إليها قائلاً :وأصبح مصدر مشاكلنا ،حبيبتي.
دعينا نجد له حلاًّ أو كان علينا أن نرتكه قربانًا لإللهة .قاطعهم الطبيب أيبي:
فليكمل كل منكم عمله..
أكمل الجميع عمله .ويف اليوم التايل ،خرج الطبيب مصاح ًبا مصطفى ولوجني
ومن خلفهم جها ًدا الذي كان مييش منفر ًدا واض ًعا يديه خلف ظهره ،وكأنه مراقب
مايل للمدينة.
يف طريقهم البن عبد البار وخالد :مرح ًبا بك ،أيها الطبيب العظيم صاحب
الوجه الساموي .قالها ابن عبد البار فات ًحا ذراعيه الستقبال الطبيب أيبي .كام
عانق مصطفى صديقه خالدً ا .بينام وجد جهاد نفسه وحيدً ا ،فنظر حيث لوجني
بك ،يا لوجني .ضحكت لوجني قائلة :حقًا ،لذا طردين قائلاً :بالطبع ال أحد يهتم ِ
ابن عبد البار والطبيب أيبي .إشارة منها ملا فعلوه معه .تبسم جهاد واض ًعا يده
129
أسفل حنجرته قائلاً :لقد كشف أمري .نظر إليه مصطفى :اجلس ،يا صديقي.
ونظر أيضً ا حيث لوجني :فلتجليس ،يا لوجني فجلست لوجني بجانب مصطفى
األيرس وجهاد عىل الجانب اآلخر .همست يف أذنه قائلة :أنا هنا حيث قلبك بهذا
الجانب الذي أعشقه أكرث منك .أجاب مصطفى واض ًعا يديه عىل قلبه قائلاً :ليتك
تشعر من املتحدث أنها لوجني .وضع جهاد يديه عىل رأس مصطفى قائلاً :أشعر
بأنك مريض ،يا صديقي .فضحكت لوجني.
جلس الجميع يتسامرون كام كانوا من قبل بالنهاية .تحدث ابن عبد البار
بصوت يسمعه الجميع قائلاً :علينا أن نفعل ما أردنا يف خالل هذا األسبوع ،ألننا
سنعود يف األسبوع املقبل .نظر إليه الطبيب أيبي :حس ًنا ،يا صديقي .رشف لنا ما
تعلمناه منك ،وما سنتعلمه يف األسبوع املقبل .فرح الجميع بالعودة بال استثناء.
وقال مصطفى :إ ًذا كام قال ابن عبدالبار .هناك عالمات استفهام وضعها الرفقاء
عىل حالة مصطفى الذي مل يعارض هذه املرة .فال يعلم أحد بالوعد الذي اقتطعه
من لوجني بالعودة معه .نظر خالد إىل صديقه مصطفى مكر ًرا كالم ابن عبد البار:
سنعود ،يا صديقي .رد مصطفى :حس ًنا ،يا رفيقي .إ ًذا العودة.
130
العودة
حمل الجميع أمتعته ،ومل يكن مصطفى أخربهم بأن لوجني ستعود معه.
دخل الطبيب عىل لوجني التي كانت تقوم بتحضري أمتعتها لتذهب مع مصطفى
متسائلاً :ما هذه ،يا لوجني؟ أخفضت لوجني وجهها ألسفل ،ومل تجِ ب الطبيب.
-أكرر ،يا لوجني ما هذه؟ نظرت إليه بنظرات متقطعة :سيدي ،سأذهب.
-إىل أين؟
-سيدي ،مع مصطفى .أعاد الطبيب أيبي تكرار سؤاله :مع َمن؟
أجابت مرة أخرى لوجني :مصطفى ،سيدي وابن عبدالبار.
-وهل تعلمني أين يذهب هذا الفتى ومن معه؟
-نعم ،إىل موطنهم ،سيدي الطبيب.
جلس أيبي عىل أريكة كانت بجواره واض ًعا يديه عىل ركبتيه ناظ ًرا إليها :نعم،
أنت؟ أين موطنك؟ وأنت ،يا لوجني؟ ِ
موطنهم بالفعل .هم يذهبون إىل موطنهمِ .
نشأت هنا .قاطعته لوجني بدموعها التي تتساقط ِ ِ
ترعرعت هنا. هنا موطنك.
نجرف :مل يكن موطني .مل تكن نشأيت .مل تكن حيايت .نعم أنا ال أعرف كسيل ُم ٍ
غريكم وال أعرف غريك .فأنت مل تكن مجرد طبيب وأنا أساعده .أنت كنت كل
يشء .أنت أيب ..أمي ...أنت عائلتي .ولكن أنا أشعر أنني لست من هذه الطينة.
131
أنا أشعر بأنني أمتلك شعو ًرا .والجميع هنا ال ميتلك شعو ًرا .أنا أشعر بأنني أمتلك
هدفًا وأعيش ألجله .قاطعها الطبيب قائلاً :
-أي هدف ،يالوجني؟ ذاك الفتى الذي ظهر لفرتة من الزمن ،وستمر الفرتة
وينتهي وجوده من حياتنا .أجابت لوجني صارخة ،وألول مرة تتحدث مع الطبيب
بهذه اللهجة:
-ال ،سيدي لن مي َّر كمرور العابرين .الجميع مر من حولنا ،سيدي ،إال هو مر
من هنا .وأشارت بيدها إىل قلبها .نعم ،مر من هنا .هل تعرف ماذا يعني ذلك؟
مل أكن كام تقول بأن حيايت كانت هادئة ،وسيمر وستعود حيايت .ال بكاء عىل اللنب
املسكوب ،سيدي .أقولها مرا ًرا وتكرا ًرا قبل وجوده .أنا ملك لكم ألنني مل أكن
أعرف سوى قانونكم .إال أن بعد وجوده ،أنا ملك له وال أعرف إال قانونه.
-انه قانون العشق ،يا لوجني .قالها الطبيب أيبي وكاد أن يختنق بدموعه.
-ال تحسبي أنني أعرتض طريقك ،يا ابنتي .لكني أردت أن أضع األمور نصب
ِ
عينيك .وستذهبني لعامل آخر ال تعرفني فيه غري هذا الفتى.
أجابت لوجني :سيدي ،أنني أشعر أن هذا العامل هو أنا وأنا منه .أرجوك،
سيدي ،اسمح يل أن أذهب .أنا ال أستطيع أن أذهب بغري موافقتك .فقط اسمح
يل ،سيدي .أدار الطبيب أيبي وجهه عن لوجني قائلاً :
-صاحبتك السالمة ،ابنتي.
تصلبت لوجني مكانها:
-سيدي ال تكن مرغماً ،أرجوك .أجاب أيبي :ال ِ
عليك ،ابنتي حينام تكون
سعادتك كوين .التفت إليها مكر ًرا :حينام تكون سعادتك كوين .فلنفعل ما
كنا نخشاه ،لرمبا متر الفرصة ،ومل تتكرر .فنصبح عىل ما فعلنا نادمني .الحقي
بهم ،يا ابنتي .رمبا تجمعنا األقدار مرة أخرى .الحقي بهم .خرجت لوجني من
132
خيمتها ،حيث كان الجميع يحمل أمتعته يف وداعهم للطبيب أيبي وملدينة
العلم.......................
نظرت حولها متفقدة هذه الوجوه التي رمبا لن تراها مره أخرى .هذا صاحب
الوجه الساموي ،وذاك صاحب الوجه الشاحب ،وآخر يرتقب بعينني المعتني،
والبعض يقف احرتا ًما البن عبد البار ومن معه شاكرين ما قدموه لهم من
خدمات ،وآخرون يبكون عىل رحيلهم.
-حقًا ،يا لوجني ،إنه موقف أشبه بطعنة يف قلب املدينة وقلب الطبيب أيبي،
الذي كاد أن يجن جنونه وهو ينظر لكم راحلني عن عامله .نظر أيبي إليهم حيث
ابتلت لحيته البيضاء بدموع الرحيل ،متذك ًرا صديق العلم ابن عبد البار كيف
سريحل نصف العلم من املدينة؟
-ستظلم السامء ،يا صديقي ،لرحيلك .أخذ يتجول بنظراته متفقدً ا هذا الفتى
مجنون العشق -مصطفى ،-الذي سيأخذ منه لوجني التي نشأت يف غرفته كابنته؛
بعد تفقد أيبي الطبيب ،عانق الجميع مود ًعا لهم ،حيث احتضنه صديق العلم
ابن عبدالبار قائلاً :رمبا نعود ،يا رفيقي ،ال تحزن .بينام مصطفى قدم اعتذاره.
-ملا تعتذر يا فتى؟ قالها الطبيب أيبي له متعج ًبا .أجاب مصطفى :من أجل
لوجني سيدي الطبيب .ليس أنا من وقفت بوجهك بل قلبي هذا إن شئت أطعنه.
فأنت تعلم أنني أحرتمك منذ قدومي للقرص .نظر إليه الطبيب قائلاً :
-ال عليك ،ياولدي .فقط من أجلها حافظ عليها .نظر جهاد للطبيب أيبي
حيث وضع أمتعته أرضا كاد أن يذرف دموعه قائلاً :
-إ ًذا ،أيها الطبيب تستغني عن خدمايت.
ضحك أيبي قائلاً :أنا ال أريدها ،ولكن أريد قلبك الطيب هذا ،يا جهاد.
احتضنه وهو يبيك قائال :لن أنساك ،سيدي .تابع خالد مرب ًتا عىل كتفه :حقًّا ،لن
133
ننساك ،أيها الطبيب .خرج من يف املدينة يودع ابن عبد البار ومن معه يف ليلة
خيمت عليها غيوم السامء .اصطحبهم الطبيب إىل سور املدينة معط ًيا ابن عبد
البار بردية تحوي بعضً ا من أرسار التحنيط كعالمة عىل صداقتهام .قبلها ابن عبد
البار بكل رسور ،حيث ذهب مود ًعا ،مدينة العلم ،واتخذ طريقه نحو العودة.
-نحو الطريق الصحيح ،أيها الرفقاء ،فلننعطف يسا ًرا قليلاً .قالها ابن عبد
البار بعد خروجهم من املدينة ،إال أنه بعد جملته هذه وضع يده عىل صدره.
كان يشعر بضيق تنفس ،لرمبا مير بوعكة صحية ،تساءل جهاد ناظ ًرا إىل خالد :ماذا
بابن عبد البار؟ أشعر وكأنه مريض .ذهب إليه خالد :ما بك سيدي؟ أجابه ابن
عبد البار :رمبا شعرت بضيق تنفس بسبب كرثة األتربة والدخان املنترش بالجو،
ولكن أنا بخري ،يابني .ال تقلق .شعر الجميع بتحسن ابن عبد البار قليلاً .ابتسم
مصطفى قائال :ما زلت شابًّا ،يا جدي .هيا نكمل الطريق.
اجتازوا نه ًرا ضيقًا تقطعه بعض الصخور بجانبه تل قليل االرتفاع .إال أن
األمطار الغزيرة استوقفتهم ،ومل يستطيعوا املُيض ،فلجأوا إىل كهف ضيق داخل
الجبل لالحتامء به من األمطار الغزيرة والربد القارص .قال ابن عبد البار للجميع:
حضرِّ وا الكهف هذا للمبيت ،فاألمطار غزيرة ،ولن نستطيع الخروج .أشعلت
لوجني فتيلاً من نار ،حيث كان معها زيت اإلضاءة بأمتعتها .بينام مصطفى أخذ
يسد الفجوات خشية من أن يخرج منها ثعبان أو يشء آخر .وخالد يساعد جها ًدا
بتجهيز مكانًا للنوم .نظر مصطفى متفقدً ا الكهف جيدً ا .وجد لوجني ترتعش رمبا
أصابتها نوبة صقيع .خلع رداءه من عليه ،وذهب إليها واض ًعا إياه عىل كتفها
مبتسام.
-أشعر بصقيع يتخلل جسدي .نظرت إليه قائلة :ومل خلعت رداءك وأنت
تشعر بصقيع؟ أجابها :أنا مل أخلعه .فقط وضعته عىل مكان الصقيع الذي شعرت
134
به .فاآلن أنا بخري .ابتسمت لوجني قائلة :كلامتك هذه تجعلني أسري خلفك بدون
أن أنظر .أجابها مصطفى واض ًعا يديه عىل صدره قائلاً :وقلبي هذا يخفق ِ
لك
ملجرد رؤيتك.
أكمل الجميع عمله حتى انتهى كل منهم ،وجلسوا قليلاً قبل النوم .وضع
جهاد فاصلاً من القامش بينهم وبني لوجني قائلاً كعادته ماز ًحا :يك ال يأيت العاشق،
يا عبلة .بالطبع تقبلت كلامته مبتسمة ألنها تفهمته أخريًا .بدأ املطر يسكن قليلاً
والصوت يهدأ والربق يزول .إال أن الجميع أفاق عىل رصخة لوجني.
قفز مصطفى تبعه خالد والجميع ممسكًا بالستار الفاصل منتز ًعا إياه :ما
بك؟ ما ِ
بك ،يا لوجني؟ رصخت مرة أخرى :إنه ثعبان كبري .لقد لدغها ثعبان .قتل ِ
مصطفى الثعبان وأخرجه جهاد من الكهف .نادى مصطفى عىل ابن عبد البار
فحرارتها ترتفع ،وهو ال يدري ماذا يفعل ،وليس معهم دواء.
قال جهاد :نحن بحاجة إىل الطبيب أيبي .نحن بحاجة إليه .ستموت إن مل
ِ
يأت .نظر مصطفى مفز ًعا من كلمة ستموت.
-ال ،يا رفيقي ،لن متوت سيأيت الطبيب سيأيت أو أنا الذي ميوت .ربط ابن عبد
البار رجلها جيدً ا حتى ال يتمكن السم من االنتشار بالجسد .نظر مصطفى إليه
قائلاً :نحن منتلك القوة ما زلنا منتلكها .أخرج لنا الطالسم وأحرض لنا برقان يأتينا
بالطبيب قبل خمس دقائق من اآلن ،وإال ماتت لوجني ..هل تسمعني ،سيدي.
ال وقت لدينا .سيدي سأموت أنا قبل لوجني ،سيدي ،أرجوك ...أرجوك ،سيدي.
فكر ابن عبد البار قليلاً يف استعامل القوة ،حيث إنه ال يريد استعاملها
والتعامل مع هؤالء مرة أخرى إال أن بكاء مصطفى وفزع من حوله والجميع ألح
عليه كث ًريا .أجابهم ابن عبد البار :حس ًنا ،حس ًنا ،سأفعل .أخذ ابن عبد البار جن ًبا
يستحرض الطالسم لقدوم “برقان” .أكمل ما كان يقرأه من طالسم وعىل وجه
135
الرسعه حرض برقان هو اآلخر مفز ًعا .قائلاً :كنت سأحرتق .إنك تستعمل طالسم
أقوى من وجودي.
قال مصطفى :فلتذهب إىل الجحيم أنت ووجودك .نريد الطبيب هنا .الوقت
يرسع ولوجني ترتفع درجة حرارتها .حس ًنا ..حس ًنا ..سأفعل ...نظر ابن عبد البار
إىل برقان قائلاً :أحرض لنا الطبيب أيبي بالدواء ،يا برقان .اختفى برقان وظهر
ومعه الطبيب أيبي الذي وقف داخل الكهف مفز ًعا :أين أنا ومن أنت .إال أنه
سمع صوت ابن عبد البار ال تقلق ،يا صديقي لوجني متعبة ونريد إسعافها .وال
نحسن الترصف يف مثل هذه األمور .أمسك الطبيب بيد لوجني قائلاً :ال تقلقي
يالوجني ستكونني بخري .أرسع ،سيدي الطبيب ،ال وقت لدينا.
قالها مصطفى وهو يختنق :اهدأ ،يا فتى ،ستكون عىل ما يرام .أخرج الطبيب
دواء من جيبه لترشبه لوجني ،حيث أخذه منه مصطفى ووضعها بفمها .وأخذ
الطبيب يضع سائلاً عىل رجلها ،وربط الرجل من قبل مكان لدغة الثعبان ،ومن
بعده جيدً ا ،ثم فتح جرح خفيف ما يساوي واحد سم الستخراج الدم الفاسد.
تبسم الطبيب قائلاً :التعرق
كانت لوجني تتعرق كثريًا ،مام أقلق مصطفى أكرث ُّ
يُعني أنها ستكون بخري ،ولكن دعوها تنام قليلاً حتى تفيق .شكر مصطفى الطبيب
قائلاً :مرسو ٌر بلقائك مرة أخرى ،سيدي .نظر الطبيب إليهم جمي ًعا :وأنا سرُ رت
بلقائكم بالطبع .بدأ الجميع يرحب بالطبيب مرة أخرى ،ولكن ظل مصطفى
بجوار لوجني واض ًعا قامشة بيضاء أعىل الجبني مجففًا عرقها وهو يقول لها:
-أنا أكون حيث وجودك ،يا لوجني .لن أتركك ،ولو كان املوت قدرك فلنذهب
م ًعا.
أخرب ابن عبد البار جها ًدا أن يأيت مبصطفى ليجلس معهم ،ولكن جهاد أجابه
ضاحكا :لن يرتك عبلته ،يا سيدي .أنا أعرفه أكرث منك ،ولكن رمبا.
136
ذهب إليه جهاد قائلاً :
-صديقي ،ابن عبد البار يريدك هو والطبيب .أجابه مصطفى وملا .قال :ال
ليشء فقط لتجلس معهم .رد مصطفى :حس ًنا ولكن بعد أن تفيق لوجني ،برغم
ما مروا به من ليلة مفزعة إال أن الجميع فرحوا بلقاء الطبيب ،حيث تحدث ابن
عبد البار إليه ،وقال له :رمبا تجمعنا األقدار ،يا صديقي .تبسم الطبيب :حقًّا ،يا
رفيقي .ال يشء فوق األقدار .بالفعل ،ال أحد يدري ما سيحدث بعد ساعة من
اآلن.
قاطعهم خالد قائلاً :نعم ،سيدي .أشعر وكأننا داخل متاهة حقيقية .نخرج
من مكان آلخر ،ولكن داخل املتاهة .أجابه ابن عبد البار :يا ولدي ،الجميع
يعيش هكذا .ففي عاملنا أيضً ا ،نتعايش م ًعا؛ نتغاىض عن أشياء ،نُجرب عىل فعل
أشياء .أو القيام بعمل أُكرهنا عليه .نجرب أن نعامل البعض معاملة حسنة برغم
معاملتهم السيئة لنا .رمبا ألننا نحتاج العامل املادي أكرث من العامل الروحي.
قاطعهم جهاد :ال أفهم.
أجابه ابن عبد البار :أي بني ،نحن ال نقدر املشاعر والعقل .نحن ال نقدر
العلم .فقط نقدس املال وحامل املال .لذا نحن بعامل مخيف .رد جهاد :إ ًذا نحن
هنا باملكان الصحيح .قاطعه أيبي :يا ولدي ،ليس كذلك ،ولكن ينقص عاملك
االعرتاف بالعلم مع بقاء عاملك كام هو .أي التوازن بني الجانب املادي والروحي
والعقيل .ينقص عاملك أن يأخذ كل ذي حق حقه يف كل يشء؛ أن يأخذ الطفل
قدره من اللعب واملعرفة واحتواء األم له؛ أن يأخذ األب قد ًرا من حنان االبن
بإطاعته إياه .أن يأخذ االبن قد ًرا من حنان األب بإرشاده لطريق الرشاد .فقط،
يا بني ،نحتاج لثورة داخلنا .نحتاج إىل ثورة عىل أنفس ًنا ..عىل فسادنا الداخيل.
يا بني ،نحن ال نحتاج مصلحني أكرث من أن نصلح أنفسنا .نحن ،فقط ،نحتاج من
137
يعطف علينا كعقالنيني .عندها فقط ستشعر بقيمتك .ستشعر أنك متتلك حق
التحدث بال خوف .نحتاج ملن ينصت ويُفند وينقد ويبني؛ ليس من ينصت ويفند
وينقد ويسجن .نحن ال نحتاج إىل سجون كوشيه .هل تفهمت ،يا ولدي؟ أجابه
جهاد :حقًا ،سيدي تفهمت ،وتعلمت الكثري منك .أشكرك عىل ما قدمته لنا.
-الشكر للموقف الذي يعلمك أنك مازلت بخري .مادمت تعتمد عىل نفسك.
حقًا ،يا صديقي .قالها ابن عبدالبار معج ًبا بكلامت الطبيب أيبي.
أثناء جلستهم املثمرة هذه ،سمع الطبيب صوت لوجني تتحدث .قام ليتفقدها
جالسا عند رأسها.
ومعه الجميع ،حيث وجدها بخري ،وما زال مصطفى ً
فرحت لوجني بقدوم الطبيب أيبي مقدمة له الشكر والعرفان عىل ما قدمه
لها سابقًا واآلن .أجابها الطبيب :ال ِ
عليك ،ابنتي ،أنا يف خدمتك دو ًما .والشكر
بك أكرث من أنفسهم ولصديقي ابن عبدالبار الذي أحرضينلهؤالء الذين اهتموا ِ
بقوته الخفية ،ولهذا العاشق الذي كاد أن يفارق الحياة من أجلك .قاطعهم جهاد:
لن ميوت عنرت يا عبلة .تبسم الجميع مرة أخرى .عادت إليهم ضحكاتهم السابقة
بفضل وجود هذا الشاب جهاد ،وأخذ ابن عبد البار يعد العدة ليكمل الطريق.
إال أنه أرص عىل أن يظل معهم الطبيب أيبي حتى قرب الكهف املعهود ليخرجوا
منه .بالطبع ،فرحت لوجني ،وقالت له :وافق ،أرجوك ،سيدي الطبيب .والجميع
طلب منه املوافقة .وافق أيبي بالطبع ،فلن يستطيع أن يرفض طلب الجميع.
أكملوا ليلتهم يف الكهف حتى انشق الصبح ،وقد أقلعت السامء عن مطرها
الغزير ،وبدأت السامء تعود صافية مرة أخرى .ذهب الجميع حاملني أمتعتهم
مرة أخرى؛ يف املقدمة ابن عبد البار والطبيب”أيبي” يتبعهم جهاد وخالد .ويف
األخري ،مصطفى ولوجني الذي كان يحمل أمتعته ،وأيضً ا أغراض لوجني ،وقفوا عند
مفرتق طرق قال ابن عبد البار :سنسلك طريق الهضبة رش ًقا ،لكن رأى الطبيب
138
أن يسلكوا طريقًا آم ًنا فاتخذوا الطريق املوازي للجبال والنهر حيث الجبل رشقهم
والنهر غربهم ،رمبا أراد أيبي أن يكون لهم نجاة بالنهر ،تحدث جهاد للطبيب
أيبي :هل تأيت معنا ،أيها الطبيب ملنزيل ،حتى أعلمك كيف تصنع الطائرات
الورقية؟
ابتسم أيبي قائلاً :
-وكيف تعلمني صنعها ،يا فتى.
أجابه جهاد لن تستغرق سوى ساعة ،وستكون بار ًعا ،سيدي .قاطعه خالد
قائلاً :أيها الطبيب دعك من جنونه فهو يعمل بهذه الصنعة من أجل فتاة .غضب
جهاد ناظ ًرا لصديقه خالد :ال تتحدث ،يا خالد ،ال أحد يعلم ،سيكشف أمرنا.
إال أن مصطفى كان يتابع الحوار ،والجميع يستمع إىل جهاد .فالطريق طويل
والجميع يريد أن يلهو ولو بقصة قصرية .ألح عىل خالد ان يتحدث .قال خالد:
سأخربهم ،يا رفيقي ،ولكن لن أتحدث عن تفاصيل .أجابه جهاد :وهل يرض الشاة
سلخها ،بعد الذبح .ضحك أيبي مستم ًعا لخالد ،الذي أخربهم بأن جهاد كان
عاشقًا لفتاة منذ الصغر.
-كانت هذه الفتاة تأخذ من مرصوفها ،وتذهب لبائع الحلوي الواقف بعربة
صغرية بالشارع نفسه الذي يسكن به جهاد .كان هذا البائع يصنع طائرات ورقية
بجانب الحلوي يبيعها لألطفال .ولكن لن يأخذ الطائرة الورقية إال الذي يشرتي
أكرث من ثالث قطع .فكانت هذه الفتاة تطلب منه الطائرة الورقية ،لكنه يرفض
لك ،لكن املرصوف مل يكن يكفي إال قائلاً لها :فقط ثالث قطع من الحلوي هي ِ
قطعة واحدة .كان جهاد يتابعها ،لكنه وجد حيلة ،وهي الوقوف بجوار البائع
عندما يصنع الطائرة الورقية ينظر إليه كيف يتم قص األوراق ثم تجميعها بطريقة
أخرى ،وصنع جناحني وذيل وحبل رفيع تسحب منه الطائرة عند اندفاعها بالهواء.
139
نقل جهاد الخربة بكل سهولة وتعلم كيفية صنع طائرة ورقية .ففي األسبوع
املقبل ،صنع لها طائرة ورقية حتى يعطيها لهذه الفتاة كهدية وكنوع من املحبة،
لكنه كان سيئ الحظ .لقد حصلت الفتاة عىل مرصوف مضاعف لتشرتي ثالث
قطع من الحلوي وتأخذ الطائرة كهدية .لكن جهاد مل ييأس وظل يراقبها حتى
رسق منها الطائرة.
وعادت يف اليوم التايل تشكو لصديقتها ،وكان جهاد يراقبها .ويستمع لهام إال
أنه قاطعها قائلاً :أنا معي طائرة ليس بحاجة إليها ،لكن الفتاة رفضت .إال أنه ألح
عليها قائلاً :أنا أصنع الطائرات الورقية .فرحت الفتاة قائلة إن كنت جا ًّدا فشاكرة
لك أن تعلمني .ومن هنا ،بدأت قصة عشق بني جهاد والفتاة.
قاطع ابن عبد البار حديث خالد قائلاً :عظيم ،يا فتى ،وهل حصلت عىل
الفتاة .أجابه جهاد بضحكات ساخرة :بيل ،سيدي ،لقد حصل عليها صاحب املحل
الذي كان صاحب العربة يقف أمامه .ضحك الجميع من ردة فعل جهاد الذي
كان ميزح حتي بلحظات الحزن .نظرت لوجني ملصطفى قائلة :صديقك هذا يحمل
الكثري من الحزن ،لذا نراه كثري الضحك؛ فخلفت ضحكاته هذه أوجا ًعا.
أجابها مصطفى :أعلم ،حبيبتي ،لكن نرتكه حتي يهدأ قليلاً ،فالعشق سم
قاتل .إن تجرعته يقتلك ،وإن تركته قتل غريك .تعجب الجميع مام قصه عليهم
خالد .فالجميع فطن أن جهاد مل يكن ماز ًحا إال لكرثة همومه ،لعله يريد أن
يخفف أثقال حملها بقصته هذه.
وبعد امليض قد ًما ،أصبح الجميع مرهقني من السري ،فاقرتح عليهم ابن عبد
البار أن يأخذوا قسطًا من الراحه ولكن عند أول مكان آمن .ذهبوا يف طريقهم
حتى وصلوا إىل مكان ما كشبه جزيرة .هنا قرر الجميع الجلوس للراحة .وضعوا
أمتعتهم وذهب كل منهم للامء لغسل وجهه من عناء الطريق .ذهب جهاد
140
جان ًبا شعر به خالد ،فذهب إليه واض ًعا يده عىل كتفه :ما بك ،يا صديقي .أعتذر
لك ملا حدث مني .حقًا ال أقصد .رد جهاد :ال عليك ،يا رفيقي .فقط تذكرت أيامي
بتلك البلدة البائسة التي حملتني ما ال أطيق .ذاك الذي نظر إ ّيل كفقري ذات
يوم ،فقط ألنه وجد آخر غن ًّيا يتزوج ابنته .يا رفيقي ،أنا ال ألتفت إىل مثل هذه
املواقف كثريًا .أنا فقط ال أريد أن أتذكر .جاء مصطفى إىل صديقه جهاد قائلاً :
ما بك ،يا بائع الطائرات الورقية؟ هل ما زالت طائرتك مل تقلع بعد أم إن األجواء
تنذر بربق ورعد؟
ابتسم جهاد قائلاً :الطائرة تحلق فوق رأس عبلتك ،يا عنرتة .فلتذهب إىل
الجحيم .رمبا استطاع مصطفى أن يخرج جهاد من كبته هذا بكلامته البسيطة.
نادى ابن عبد البار عليهم حتى يشرتكوا يف إعداد الطعام.
ذهب من البحرية الصغرية التي أمامهم وبصحبته خالد .كان جهاد قد أفرغ
يأت مصطفى وخالد بالطعام بعد .ذهب ليتفقدهم يف من تجهيز املكان ،لكن مل ِ
الطريق .وجد جهاد أرن ًبا بريًّا .أخذ يتعقبه لكنه أفلت منه .أمسك جهاد بحجر
أفلت من الحجر .وجد جهاد األرنب بأعىل صخرة ،نظر إليه حتى يرضبه إال أنه َ
قائلاً :لن تفلت مني هذه املرة .لكنه أفلت أيضً ا.
-ت ًّبا لك ،يا أرنوب .لن تفلت ،ولو كنت داخل كوشيه .قاطعه صوت خالد من
خلفه الذي كان يحمل بعض األسامك :سيفلت ،أيها األبله .ولو كان يف كوشيه،
لن نفلت نحن.
تابعه مصطفى بضحكات لطيفة قائلاً :ستظل تركض خلفه حتى متوت جو ًعا،
يا رفيقي .إال أن جها ًدا أمسك بحجر وأطلقه من يده صوب األرنب ،حيث ارتطم
به الحجر جعله كسكران .نظر جهاد حينها لصديقه مصطفى قائلاً :
141
-عليك أن تتعلم كيف تطلق الحجر ،يا رفيقي .أجابه مصطفى مبزاح يشبه
مزاحه :أصبحت أسدً ا عىل األرنب ،عندما حرضنا ،يا رفيقي.
ضحك جهاد قائلاً :وجودكام يعطيني داف ًعا ،ال تقلق سنأكل م ًعا لن أترككم
َج ْوعى .وكأن جها ًدا انترص لهم .أجابه خالد :ال عليك ،يا صديقي .معنا أسامك
تكفي الكثري .وصل الجميع إىل املكان .كان ابن عبد البار يرتقب الطريق لعودتهم.
نظر إليهم :ملَ كل هذا الوقت؟ أجابه خالد بأن جها ًدا كان يصطاد أرن ًبا .ضحك ابن
عبد البار قائلاً :لدينا بحرية بها أسامك ،وأنت تبحث عن أرنب .حقًّا ،إنك ال تسري
يف الطريق نفسه مهام يحدث .ضحك جهاد قائلاً :أنا ال آكل األسامك ،يا سيدي،
لذا بحثت عن يشء آخر .قاطعه مصطفى ماز ًحا :عليك أن تختار من قامئة الطعام
بالفندق ،سيدي .هيا ،يا صديقي .نحن ال نعرف أين نحن وأنت هنا ترثثر ..تأكل
ماذا؟
أحرضت لوجني األسامك ،وأشعل جهاد النار لشواء األرنب .فرغت لوجني
من إعداد األسامك ،يف حني ما زال جهاد يحاول شواء أرنبه املسكني .وضعت
لوجني الطعام مبساعدة مصطفى .وكأنهام بعش الزوجية ،وليسا بجزيرة مهجورة.
فالفرح ال يعرف مكانًا أو زمانًا حينام يأيت يوجد .قال مصطفى لها :حقًّاِ ،
أنت
طاهية جيدة .أجابته :وعلمت أنني طاهية جيدة ،عندما أكلت نصف السمكة.
سأخربهم أنك من أكلتها .أجابها مصطفى :وملا ال تأكلني النصف اآلخر لنشرتك
يف هذه الجرمية م ًعا؟ ضحكت لوجني قائلة :ليس كل من يرسق سار ًقا .فسارق
القلب يأخذ حقه من املشاعر بطريقته .أجابها مصطفى كام رسقت قلبي .وهل
كان قلبك مرسو ًقا أم سار ًقا ،دعنا نكمل الطعام فالجميع جوعى .وضعت لوجني
الطعام تبعها مصطفى .جلس الجميع حول مائدة الطعام إال جهاد ينظر إليهم
قائلاً :انتظروين قليلاً .سأنتهي من األرنب يف أقل من ساعة أو ساعتني .فالنار هنا
142
باردة ،سيدي .ضحك الجميع منه قائلني :عليك باالعتناء بأرنبك حتى ننام قليلاً .
وبعد ُميض ساعة ،انتهي جهاد من أرنبه هذا الذي رمبا يعاقبه بسبب املطاردة.
-فلنكمل الطريق ،أيها الطبيب أيبي .قالها ابن عبد البار ناظ ًرا إىل الطبيب
أيبي .طلب ابن عبد البار أن يجمع كل منهم أغراضه ليكملوا الطريق .حملوا
أمتعتهم بعدما أخذوا قسطًا من الراحة .ذهب الجميع تاركني البحريه خلفهم،
حيث أشار ابن عبد البار عىل الطبيب أن يذهبوا من فوق املرتفعات لتكون
الرؤية واضحة لهم .وجدها الطبيب فكرة جيدة ،فوافق عليها وتبعه الجميع.
استمر الجميع يف السري قاطعني الهضاب والتالل مجتازين األماكن املرتفعة.
كالعادة ابن عبد البار والطبيب أيبي يف املقدمة ،وخالد وجهاد خلفهام ،ويف األخري
مصطفى ولوجني.
الجميع يفكر يف كيفية العودة ،وهل سيعودون حقًّا ،أم إن هناك شي ًئا آخر .ما
زال ابن عبد البار ميتلك القوة الكافية ملواجهة أي اعتداء عليهم ،ومازال مصطفى
ميتلك حبيبته ليقوى بها ويواجه العامل من أجلها ،وأيضً ا خالد وجهاد متمسكني
بالصداقة ألبعد الحدود .الجميع يستجمع أهدافه ،والبعض يفكر عندما يعود
ماذا سيفعل؟
بالفعل ،هذا هو جهاد قالها لصديقه خالد قاط ًعا الصمت الذي حل بهم
مرة أخرى :أعتقد ،يا صديقي أننا هنا لدينا هدف .كنا نبحث عن مخطوطة ثم
مواجهة مع الجان وسوجالر ،ثم سجون كوشيه .ماذا سنفعل حينام نعود؟ أجابه
خالد بالطبع كام كنا نفعل ستبيع أنت الطائرات الورقية ،وسأبحث أنا عن عمل
أو أعمل يف حرف متعددة كام كنت.
-وماذا عن لوجني ومصطفى؟ صمت خالد .كرر جهاد :وماذا؟
أجابه :ال أعرف رمبا تتأقلم لوجني عىل عاملنا .فهي عىل ما أشعر منه .فوجود
143
مصطفى معها يجعلها بحالة جيدة ،أشعر أنها كاألكسجني بالنسبة إليه .وهو أيضً ا
كذلك .حقًا ،أمره غريب مصطفى .وماذا عن صديقة الجامعة؟ قالها جهاد لخالد.
أجابه خالد :كانت مجرد صداقة ،فأنت تعرف صديقك حينام يحب ،يظهر عىل
وجهه ،ويكون كالطري يف الفضاء .ونحن مل ن َره بهذه الحالة إال مع لوجني .قاطعه
جهاد :وكيف عرفت أنه عندما يحب يفعل هذا؟ أجابه خالد :أقصد عندما يتقبل
شي ًئا ما ،ليس بالرضورة فتاة ،يا رفيقي.
-مممممم نعم ،فهمت.
عىل الجانب اآلخر كالعادة يحمل مصطفى أمتعته وأيضً ا أمتعة لوجني،
يتسامران .التفت جهاد إىل الخلف ناظ ًرا إليهام قائلاً لصديقه خالد:
-انظر تشعر بأنه يفتقدها وهي معه.
أجابه خالد :وما يدريك؟ أجابه :يا صديقي ،العاشق يعرف العاشق .هل
فهمت؟ ابتسم خالد قائلاً :نعم ،يا صديقي الفيلسوف.
يف املقدمة ،يتحدث الطبيب أيبي مع ابن عبد البار يف أمورهم وكيفية الخروج
فهام القائدان .إال أن ابن عبد البار أثناء التحديث مع الطبيب أيبي شعر بإرهاق
شديد ودوار .توقف عن املسري ،حيث استند إىل الطبيب أيبي .هرع إليه الجميع.
-ما بك ،سيدي؟ سيدي ،ما بك؟ قالها مصطفى ممسكًا به .نادى عىل جهاد
بإحضار املاء .نظر ابن عبد البار إليه قائلاً :أنا بخري .فقط أكملوا السري .إال أن
مصطفى كان يشعر أنه ليس بخري ،وأن وعكته هذه لن متر مثلام مرت من قبل،
وأيضً ا شعر الطبيب أيبي بأنه ليس بخري فهو يعرف جيدً ا ما مدى تغيري لون وجه
ابن عبد البار ،فجاءه .قال ابن عبد البار للطبيب أيبي :ادن مني ،يا صديقي،
وأنت يا مصطفى استمع جيدً ا ،والجميع أيضً ا .ارتجف أيبي لكلامت ابن عبد البار
فهي كلامت وداع ،يا رفيقي .ولكن حاول أن يتاملك أنفاسه املتسارعة .إال أن ابن
144
عبد البار قال لهم :سينتهي كل يشء يف هذا املكان .احتضنه الطبيب أيبي باك ًيا :ال
ياصديقي ،لن ينتهي يشء .سنكمل الطريق حتى تصلوا .سنكمل ،هل تسمعني؟
سنكمل ،يا رفيقي .لكن ابن عبد البار كان يشعر بدنو أجله لذا طلب منهم أخ ًريا
أن ينصتوا قائلاً لصديقه الطبيب أيبي :بأمتعتي كل الطالسم التي تحمل القوة.
مصطفى يعرف الكثري منها إال أنه ال يعرف إال القليل .عليك أن تعلمه كيفية
استخدامها .فأنتم بحاجه إليها اآلن .وأنت ،يا صديقي ،ال ترتكهم إال عند الكهف
املعهود ليمروا لعاملهم .فعندما يكون الجميع بأمان ،الطالسم لك وملن معك.
احتفظ بها جيدً ا حتى تستطيع العيش هنا بسالم .أمسكت لوجني بيده قائلة:
لن تكون وحدك سيدي ،ستكمل معنا الطريق .نحن ال نستطيع أن نسري خطوة
عليك أن تستمعي إىل الطبيب أيبي بدونك .قاطعها :يا ابنتي ،أنا أعرف ما أقولِ .
وتتعلمي الطالسم جيدً ا .رمبا تكوين بحاجة إليها يو ًما ما .نظر ابن عبد البار إىل
مصطفى قائلاً :أنا أعلم قدر حبك لها ،لكن أطلب منك أن توزن األمور ،يا بني؛
وتحاول الحفاظ عليها مهام يكن عاملها ،فهي ال تعرف غريك هنا أو هناك .رمبا
ولدت من أجلك ،فكن من أجلها .ذرفت لوجني الدموع ،وهي تستمع لكلامت
ابن عبد البار .أحكم ابن عبد البار قبضة يديه عىل الطبيب أيبي وكأنه يعانقها
قائلاً :كن عىل العهد ،يا أيبي .أنا أثق بك .كن عىل العهد ،ولك مطلق الترصف.
أنت القائد حتى يصل الجميع بأمان .آخر كلامت قالها ابن عبد البار بعد أن لفظ
أنفاسه األخرية.
مل يتاملك جهاد أعصابه ،ومل يصدق املوقف .حاول احتضانه قائلاً :ال ،سيدي،
لن ترتكنا .انهض معي .انهض ،سيدي .ما زلت أحتاج إليك كأب وكصديق تحويني.
انهض.
إن حالة الهلع التي أصابتهم رمبا لن يفيقوا منها سوى بعد شهور .ال أحد
145
يصدق أن ابن عبد البار فارق الحياة .حتى أيبي الذي ذرف دموعه ،وابتلت
لحيته مل يصدق .قبله الطبيب أيبي من جبهته قائلاً :لقد مات نصف العلم.
لقد مات نصف العلم بعاملنا .جلس الجميع حزنًا؛ ال أحد يعرف ماذا يفعل؟ قرر
أيبي أن يدفن ابن عبد البار باملكان نفسه هنا .لكن مصطفى قال :سنصطحبه
معنا حتى نعود .أجابه أيبي :لن يحدث إال بالتحنيط ،وانت كام تعلمت سابقًا أن
عملية التحنيط تستغرق سبعني يو ًما .نظرت لوجني إىل مصطفى قائلة :فلنستمع
لحديث الطبيب أيبي كام قال لنا ابن عبد البار .بيك مصطفى قائلاً :حس ًنا .حس ًنا.
كام يريد الطبيب سنفعل .بالفعل ،تم دفن ابن عبد البار كام قال أيبي .أقاموا
عليه الطقوس والصلوات .نظر الطبيب أيبي إليهم قائلاً :سنسرتيح هنا قليلاً
حتى الصباح .طلب من جهاد وخالد تفقد مكان مناسب .بالفعل ،وجد جهاد
مكانًا آم ًنا بني الصخور يشبه التجويف الداخيل يحميهم من املطر والربد .رحب
الطبيب باملكان الذي وقع اختيار جهاد وخالد عليه قائلاً :اختيار جيد ،يا صديقي.
نظر خالد إىل جهاد :صديقي؟ َمن صديقك ،أيها الطبيب؟
مل يتاملك الطبيب دموعه وبيك بحرقه عىل صديقه ،فقد اعتاد لسانه عىل
التحدث معه .حاول الجميع أن يهدئ من روع الطبيب ،حيث جلس مصطفى
بجانبه األمين ولوجني بالجانب األيرس وأمامه خالد وجهاد .الجميع يهدئ الطبيب
ويهدئ نفسه أيضً ا؛ فالحزن يخيم عىل الجميع .قام جهاد وخالد إلخراج يشء من
أمتعتهم ليجعلوه كخيمة تحميهم من الربد.
ال أحد يستطيع النوم لن يغمض لهم جفن يف هذه الليلة.
جلست لوجني وحيدة منفردة كام جلس الجميع أيضً ا .ذهب جهاد إىل
الطبيب قائلاً له :كيف أصبحت الصداقة بينك وبني ابن عبد البار إىل هذا الحد؟
كيف أصبحت الفرتة القصرية هذه كامئة عام؟ أجابه الطبيب:
146
-أي بني ،وجودك فرتة طويلة مع أحدهم ال يعني أنك أحببته بدرجة
كافية .رمبا تكون الفرتة القصرية مبثابة حياة كامله لن يتمكن منها غري الصادقني.
فالصادقون يرحلون رسي ًعا ،يا بني؛ إما لصدقهم أو ألن اإلله يصطفيهم عن الباقني.
اعلم ،يا بني ،أن القلوب تتالقى كلها فتجتمع بعضها البعض .فعرف كل قلب ما
اجتمع به جيدً ا ،ثم تتقابل هذه القلوب مرة أخرى ،ولكن معها أصحابها ،فإن
نظر كل منكم لآلخر ،وجد قبولاً بذاك الشخص الذي يحمل القلب املتعارف عليه
سابقًا .فعندما رأيت ابن عبد البار شعرت وكأنني أعرفه منذ سنوات وسنوات.
قاطعه جهاد :نعم ،سيدي هذا يحدث معي بالضبط .أجابه الطبيب :فكن
عىل يقني بأن قلبك سيبحث عن الذي التقى به يف العامل الخلوي .كان الجميع
يستمع إىل الطبيب .وجدت لوجني أن كالم الطبيب حقيقة كام أيضً ا وجده
مصطفى كذلك .فتذكرت لوجني يوم أن مر مصطفى بغرفة الطبيب ونظر إليها.
تذكرت املوقف ولكن بتفاصيل أدق وأشمل بعد كالم الطبيب أيبي .تذكرت بأنها
أيضً ا كانت تبادله الشعور نفسه بالنظرات ،وكأنها رأته يف عامل آخر .حدثت
لوجني نفسها قائلة:
حقًا ،الطبيب حق .كيف يل أن أعشق هذا الفتى من نظرة واحدة ،وكأنه
طيف مر بالجميع إال أنا ،فتوقف بداخيل.
تابع حديثهم خالد :رمبا قلوبنا التقت بقلبك ،سيدي الطبيب .فنحن نكن لك
كل الشكر واالحرتام والتقدير .تبسم الطبيب بسمة حزن قائلاً :رمبا ،يا ولدي .رمبا.
أصبح الجميع يف أمر جديد بعد موت ابن عبد البار .جلسوا هكذا حتى
الصباح .طلب الطبيب أن يكمل كل منهم طريقه .حملوا أمتعتهم .الطبيب يف
املقدمة ،لكنه منفرد .يا لوجع القلب ،يا رفيقي وإن رافقني ألف رجل لن يأيت
147
مبقامك أي منهم .كانت كلامت يتمتم بها الطبيب أيبي .رمبا مل يصدق بعد أن
ابن عبد البار قد رحل.
او أن الطبيب يحاول استدعاء طيف صديقه حتى ال يشعر بالوحدة.
-إنها كلامت كلها كلامت .كلها كلامت لن تأتيني بك ،يا رفيقي .قالها الطبيب
مرة أخرى محدثًا نفسه .سار الجميع يف طريقهم خلف الطبيب فهم يثقون به
جيدً ا .وصل الطبيب إىل مكان ما وتوقف ،التفت إليهم وهو يشري إىل مكان ما
قائلاً :هنا سنجتاز هذا الجبل أمامكم ،وسنكون يف الكهف املعهود .لكن دعونا
نأخذ قسطًا من الراحة .نظر كل منهم إىل اآلخر؛ ال أحد يعرف شعور نفسه .هل
فرح بقرب العودة أم إن الحزن يسيطر عليهم بعد فقدان ابن عبد البار.
هو ٌ
لوجني تنظر إىل مصطفى بعد سامع كلمة العودة .تفهم مصطفى نظرتها قائلاً :
سيكون كل يشء عىل ما يرام ،حبيبتي .استدعي الطبيب الجميع ليستمع إليه
وخاصة مصطفى ليخرج الطالسم ،ويبدأ بطرحها عليه وكيفية استخدامها .أحرض
مصطفى جميع الطالسم .وضعها الطبيب أمامهم ،وأخذ الطبيب يرشح كل يشء
له وكيفية استخدامها وفك رموزها وكيفية استدعاء الجان ،وكيفية الحفاظ عىل
قوة الطالسم حني وجود الجان .كان الجميع يستمع جيدً ا يف مقدمتهم لوجني.
رمبا عرف الجميع كيفية استخدام الطالسم ،ولكن ستبقى بيد الطبيب ومصطفى
ولوجني ألنهم من يعرفون قدرها جيدا.
-حس ًنا ،سيدي ،علينا أن نستخدمها داخل الكهف .قالها مصطفى موج ًها
حديثه للطبيب أيبي .أجابه الطبيب لرمبا تحتاجها داخل الكهف ،ولكن ناد ًرا
فقط ال تعبث بيشء داخل الكهف حتى ال تستدعي قوة خفية ال تستطيع ردعها.
تفهم الجميع ما يقصده الطبيب أيبي ،حيث جلس الجميع يفكر .رمبا آخر ليلة
بهذا املكان وهذا العامل أيضً ا .كانت تفكر لوجني :رمبا سأنهي عالقتي بهذا العامل
148
لألبد أو أعيش فيه لألبد .كان يرتقب مصطفى عي َني لوجني ،وكأن شي ًئا يحدثه
خاف ًتا :هل ستكمل لوجني الطريق أم أن شي ًئا يحدث من قبل سوجالر ويختطفها
مرة أخري؟ أمسكت لوجني بقالدتها التي أهداها إياها ابن عبد البار متذكرة تلك
اللحظات مبتسمة بعينني المعتني .الحظ مصطفى يدها عىل القالدة قائلاً :لقد
أخذ ابن عبد البار قلبي ورحل .لكن لوجني قالت له :أنت تعلم بأن قلبي معك إال
أنه أخذ خاطري وما يجول به .أجابها مصطفى :رمبا هو اآلن مبأمن عام كان فيه.
طلب الطبيب منهم أن يسرتيحوا حتى يكملوا يف اليوم التايل .استمعوا إىل
الطبيب ،وحاول الجميع أن يسرتيح .ذهبت لوجني بعيدً ا عنهم قليلاً حيث
عيناها مل تغمضا هذه الليلة .تلك العينان اللتان أخذتا هذا الفتى كأسري يف
بحرها .ولكن هذه املرة ساهرة ليس من أجل ابن عبد البار ،بل من أجل العودة.
بك حبيبتي ،أشعر بأرقك ،قالت :ال يشء ،حبيبي. تحدث معها مصطفى قائلاً :ما ِ
وأنت تعلمني أن قلبك مليك ،وظني به صائب. قال لها ثانية لكني أشعر بقلبك ِ
نظرت إليه :حقًا ،حبيبي .أنا أعرف أنك تعرف ما بداخل هذا القلب .لذا أنا
قلقة قليلاً .رد مصطفى :قلقة؟ من أي يشء قلقة؟ أجابت لوجني :من العودة.
أنا معك يف أمان ،ولكن كيف ستعامل ،وكيف يكون التعامل .قال لها :ال تقلقي،
حبيبتي ،سيكون كل يشء عىل ما يرام .مثلام كنت أنا هنا ال أعرف كيف يكون
أنت كيف يكون التعامل هناك .وقعت هذه منك .ستتعلمني ِالتعامل ،وتعلمت ِ
الكلامت بقلب لوجني فطأمنتها قليلاً .فتبسمت قائلة :معك ،سأكون بخري وإال
سأقتلك .ضحك مصطفى قائلاً :وهل سأموت إن قتل ِتني أو متوتني أنت .قالت
له :حقًّا ،إ ًذا سأسجنك .قال مصطفى :وهل سنعود لسجون كوشيه .أجابته :بل
بقلبي.
رمبا كانت الليلة املاضية تحمل طابع الهدوء عن سابقتها .فالجميع بدأ يفكر
149
بعقله أكرث .أو ألن الظروف كانت هي التي تحتم عليهم التفكري بعيدً ا عن
العاطفة قليلاً .حمل الجميع أمتعته يف الصباح يكملون الطريق نحو الكهف.
أصبح الوقت بطي ًئا بالنسبة إىل الجميع منذ أن علموا بقرب الكهف .ما زال القائد
والطبيب أيبي يف املقدمة؛ كالعادة يسري وحيدً ا مفتقدً ا لصديقه ابن عبدالبار.
الجميع يرتقب .كاد الصمت أن يستمر لوال وجود رصخة جهاد التي قاطعتهم
والتف الجميع حوله حيث صديقه خالد قائلاً :ما بك؟ ماذا ترى؟ أمسك جهاد
بصديقه خالد قائال :هناك ،يا خالد ،هناك.
-نعم ،خرجنا من هذا املكان ،هناك ،يا صديقي .اهدأ قليلاً ،يا فتى .قالها
الطبيب أيبي لجهاد متسائلاً :ماذا ترى ،يا جهاد؟ أجابه :سيدي الطبيب ،إنه النفق
الذي يؤدي إىل الكهف من هذا االتجاه بجانب الجبل .نظر الطبيب أيبي له وأعاد
عليه السؤال :أي نفق ،يا جهاد؟ ليس هناك نفق .أنا أعرف الطريق جيدً ا .إال أن
خالد وافقه الرأي :نعم ،إن الطريق من هنا ،سيدي .أيضً ا تذكر مصطفى حني
قدومه ململكة سوجالر وألرض كوشيه أن رأي جهاد هو الصواب.
الجميع يتفق مع جهاد أو أن الجميع اتفق عىل أن الطريق املؤدي إىل الكهف
هو ما قاله جهاد باستثناء الطبيب أيبي.
-األمر به عالمات استفهام كثرية ،يا رفاق؟ قالها الطبيب أيبي ناظ ًرا إليهم.
قاطعته لوجني :أليس هذا الطريق ،سيدي ،املؤدي إىل قرص سوجالر؟ وافقها
الطبيب الرأي :نعم .إال أننا سننحرف رش ًقا قليلاً حتى نصل إىل طريق الكهف
املعهود .نحن قريبون جدًّ ا منه .التبست األمور ،وانقسم الرفقاء .الطبيب أيبي
ولوجني يريان أن هذا طريق مخترص لقرص سوجالر .بينام مصطفى ورفاقه يرون
أن الطريق هو طريق العودة .الشكوك تتزايد .نظر مصطفى إىل الطبيب وإىل
لوجني نظرة استفهام ،إال أن لوجني التي كانت تسكن قلبه وما زالت تفهمت
150
معنى النظرة قائلة :نظرة شك هذه ،يا فتى؟ أجابها مصطفى :ليس بشك ،حبيبتي،
ولست بفتى بل أنا حبيبك .قالت له :حبيبي يثق يب كام أثق به.
لكن نظرة مصطفى كانت استفهام فهو ميلك قل ًبا ال يجرؤ عىل الشك بحبيبته
مهام تكن الظروف .رمبا فهمت لوجني نظرته بطريقة خاطئة .ستكون أول مرة
يختصم بها مصطفى مع لوجني إن حدث.
وجد جهاد األمور تتطور وتسوء واالنقسام يسود بينهم .قال بصوت به نربة
الحزن :رمبا أخطأت .رمبا أخطأت .فالطبيب ولوجني يعرفان الطريق أكرث منا .نظر
خالد ومصطفى إليه قائلني :ما بك ،يا رفيقي .نحن نوافقك الرأي ،وهذا ما تبني
لنا .أجابهم جهاد :ال عليكم .األمور عىل ما يرام .لوجني ،هذا مصطفى الذي خاض
املاملك من أجلك هل تتذكرين؟ يف محاولة من جهاد إصالح سوء التفاهم الذي
حدث .أجابته لوجني قائلة :نختلف لكننا ال نتخاصم يا جهاد .نحن نعلم مدى
أهمية كل منا لآلخر .فال يستطيع قلبي أن يتخاصم معه لدقيقة واحدة .هل
فهمت؟ نظر مصطفى معتذ ًرا عىل نظرته السابقة قائلاً :وكأن العيون تتحدث،
حبيبتي .لغة العيون هي أصدق لغة ممكن أن يتحدثها العاشقان .إال أن نظريت
بك أو بالطبيب ،بل هي شك يف املوقف ذاته كيف كانت مبوضع شك ،ولكن ليس ِ
يحدث هذا .فقط كاستفهام حبيبتي .قاطعهم الطبيب :ال عليك ،يا ولدي .فنحن
نتفهم طبيعة املوقف .ولكن علينا الجلوس قليلاً حتى نضع حلاًّ ملا حدث .فهذا
يعني الكثري .هذا يعني أن لدينا رأيًا واحدً ا صاد ًقا فقط ال اثنني .إما أنا ولوجني
أو أنت والرفقاء .سيدي ،نحن ليس لنا رأي أمامكام .قالها جهاد :ناظ ًرا إىل أسفل.
أشار الطبيب بيده عالمة عىل السكوت قائال:
-ال يابني لك كامل الحرية يف طرح أسئلتك وتصديق اإلجابات أو نقدها.
151
لكن األمر ليس كام تتحدث أنت .لسنا بصدد َمن الصادق .بل كالنا صادق .فهناك
حيلة من سوجالر وأتباعه أحاول فهمها.
-سوجالر؟ وماذا يريد منا؟ لقد انتهينا منه .قالها مصطفى ناظ ًرا إىل الطبيب.
أجابه الطبيب :يا بني ،هو وأعوانه يعرفون أنكم سرتحلون مام ال شك فيه .كام،
أيضً ا ،يعرفون أنكم متتلكون القوة الكافية .لكنهم علموا بأمر موت ابن عبد البار،
وهذا يدل عىل أننا ال منتلك القوة بالنسبة التي كان ميتلكها ابن عبد البار .قاطعه
جهاد :وكيف علموا مبوته .أجابه أيبي :ابن عبد البار أصبح مقبو ًرا ،وهم يجوبون
املقابر ليلاً ،ويعرفون من الداخل إليها آخ ًرا .تابع جهاد سؤاله بسؤال آخر :وكيف
تقل قوتنا؟ أجابه الطبيب :ال تقلق .نحن ما زلنا نتحكم يف القدر األكرب من القوى
املوجودة هنا ،إال أن النسبة انخفضت بشكل مل يكن ملحوظًا إال قليلاً .فنحن
عىل قدر معرفتنا بالطالسم إال أننا ال نعرف عالقتها بعلم الفلك جيدً ا ،مثلام كان
يفعل ابن عبدالبار.
ولكن نحن ما زلنا منتلك القوة .تساءل مصطفى :وما حيلتهم التي يصنعونها
لنا هذه املرة؟ قال الطبيب :أشك أن سوجالر يختطف البعض من عاملكم،
حيث يأيت بهم عن طريق النفق الخلفي ،بينام داخل النفق طريق مغاير آخر.
فالطريق األول يخرجهم من الكهف مبارشة إىل املدينة ،والطريق الثاين يخرجهم
من الكهف إىل قرص سوجالر .حتى إن أدركوا العودة يدخلون من الطريق املؤدي
إىل قرص سوجالر .فبدلاً من أن يخرجوا أصبحوا رهن السجون بأنفسهم .يا لها
من حيلة جهنمية حقًّا :قالها جهاد واض ًعا يديه عىل رأسه ناظ ًرا ببرص شاخص إىل
صديقه خالد .تابع جهاد قائلاً :حقًا ،ال يفل الحديد إال الحديد ،أيها القائد .وما
العمل ،سيدي الطبيب؟ نحن بحاجة إىل أن نضع حدًّ ا ملا نحن فيه .أجاب الطبيب
أيبي :علينا أن ندرس النفق جيدً ا ،وأن ال نختار طريقًا مغاي ًرا .احذروا وأنتم داخل
152
الكهف .عليكم أن تختاروا الطريق الصواب .غري ذلك فإننا مبصيدة سوجالر.
تساءل مصطفى موج ًها كلامته إىل الطبيب :وهل تأيت معنا إىل داخل الكهف؟
أجابه الطبيب :ال ،يا بني ،بل لبداية الطريق كام عاهدت ابن عبدالبار.
-حس ًنا ،سيدي .هل سبق لك أن دخلت الكهف؟ أجابه الطبيب :يو ًما ما
نظرت إليه وأنا خارجه .رمبا أتذكر الطريق السليم .عليكم أن تكونوا عىل قدر
املسؤولية ،يا رفاق .جلس الطبيب يرشح لهم أمر الكهف جيدً ا ،كام كان يتذكره.
طلب الطبيب من مصطفى أن يكون القائد داخل الكهف .فهو يعرف مهارته
وقدرته عىل ترصيف األمور .وطلب من جهاد أن يبلغ مصطفى بكل ما يالحظه
حيث إن جهاد قوي املالحظة لدرجة الدقة .وطلب من خالد أن ال ينعطف يسا ًرا
مهام تكن األمور ،وأن يتذكر هذا األمر فقط ال يشء آخر حتى يستطيع الجميع
الخروج بسالم .نظر مصطفى إىل الطبيب .مل يفهم الطبيب .نظر إليه مرة أخرى
قائلاً :سيدي ،ولوجني؟ ماذا عنها؟ أجاب الطبيب :عليها أن تقرر مصريها.
-ماذا؟ ال أفهم ،سيدي .عليها أن تفعل ماذا؟
نظر الطبيب إليها قائلاً :أن تختار بني البقاء أو العودة معكم .قالت له:
سيدي ،لقد انتهى األمر ،منذ أن كنا مبدينة العلم.
-لقد وعدتني بالعودة .قال لها :حقًا ،ابنتي .ولكن اطرح ِ
عليك األمر ثانية
حتى تعطي مساحة لعقلك ليذكر قلبك .نظرت لوجني إىل مصطفى :سيدي
الطبيب ،عقيل وقلبي ميتلكهم هذا الفتى .دعني أذهب معه حتى أسرتدهام؟
تبسم الطبيب :إ ًذا ،فالعودة ،يا لوجني .أجابت لوجني بعينني المعتني :فالعودة،
أيها الطبيب.
اتفق الجميع عىل العودة .لعل هذه األمر هو أمر تأكيدي من الطبيب حتى
153
ال يندم البعض .وصل الطبيب ومعه الرفقاء إىل النفق؛ مجتازين املمر األول .كل
منهم يسري برفق خشية من أن ميروا من طريق خطأ .الطبيب يف املقدمة ،يليه
مصطفى ممسكًا بيد لوجني ،ثم جهاد وخالد .كل منهم يعرف ماذا سيفعل جيدً ا.
هيا ،يا رفقاء هيا .هي اللحظات األخرية .فلنفعلها ،يا رفاق .فلنفعلها .األنفاس
تتسارع ،والعرق يسكب من جبينهم؛ القلوب تنبض بصوت عالٍ .العيون شاخصة
ترتقب بكل اتجاه؛ األفكار تتصارع .الطبيب يحكم األمور جيدً ا :فقط عىل بعد
خطوات سنفعلها ،يارفاق ،سنفعلها ...سنفعلها ،يا رفاق .فقط الثقة .نتحيل بالثقة
والصرب وسنفعلها .مر الطبيب من الطريق املنعطف رش ًقا ،والجميع خلفه .كانت
أنفاس لوجني ترتفع تكاد تختنق .توقف مصطفى مناديًا عىل الطبيب :سيدي
الطبيب ،سيدي الطبيب .أرسع ،سيدي .جاء الطبيب :ماذا ،يا فتى .لوجني متعبة
نو ًعا ما .نظر الطبيب إىل مصطفى قائلاً :يا بني ،لقد تساءلت مرة أخرى مؤكدً ا
عىل العودة إال أنها ترص عىل خوض التجربة معك إال أنها لن تستطيع أن تكمل.
-ماذا؟ أنا ال أفهم .الجميع يرتقب ماذا حل بلوجني .إنها تصارع املوت .فباب
الكهف قريب .لقد انتهى األمر .ها هو الباب .هيا ،يا لوجني ،ادخيل عاملي .هيا،
حبيبتي ،لقد مررنا بالصعاب .ال يشء أمامنا سوى هذا الكهف اللعني .سنخرج
منه ساملني .هيا ،يا لوجييييييييني .انهيض ،حبيبتي .كلها كلامت يقولها مصطفى
وهو يبيك ،وكأن قلبه يطعن بسكني حاد .إال أن الطبيب هدأ منه قائلاً :إن لوجني
من عاملك ،لكنها اختطفت لعاملنا طفلة صغرية ال تعرف شي ًئا .نشأت داخل عاملنا
تشكلت بهيئتنا؛ تقلدت مناصبنا .فهي أصبحت منا .فالعودة تعني موتها ،حيث
إنها تحتاج إىل طالسم ال منتلكها حتي يتم تجريدها من هيئتها التي عاشت بها
بيننا .يا بني ،الطري ال يستطيع أن يصبح يف قاع املحيط .كذلك لوجني .لن تعود
إال إذا أحيينا ابن عبد البار ،فهو الذي كان يربط الطالسم بعلم الفلك ،ويستطيع
154
إعطاءها القوة الكافية عىل التعايش يف عاملك .حاولت أن أقص عليكم األمر
سابقًا ،لكن الجميع أىب ،فخشيت أن يتهمني البعض بالتقاعس .يا بني ،إن أنفاسها
تتصارع مثلام تتصارع أنفايس اآلن .لكنني أمتلك القدرة عىل البقاء وق ًتا أطول.
إال أنها ستموت لو عربت هذا الباب.
الجميع أصبح يف صدمة .يحاول مصطفى أن يكذب الطبيب ،والطبيب يحاول
أن يقنعه .لكنه يرفض التصديق بتاتًا .نظر جهاد إىل صديقه قائلاً :
-الطبيب يقول حقًّا ،صديقي .وأنت أتيت إىل هذا العامل ال تعرف لوجني.
فلتخرج وأنت ال تعرفها .التفت مصطفى إىل جهاد ناظ ًرا إليه بنظرات حادة كادت
أن تخرج الرشر من عينيه قائلاً له بصوت يختلط بالبكاء :وأنت أتيت إىل الدنيا،
وكانت دنياك داخل رحم أمك ،فلتعد إىل دنياك السابقة .فالطفل يف أحشاء أمه
ال يعرف عن العامل شي ًئا سوى هذه املساحة الضيقة جدًّ ا .فإن جاء إىل الدنيا وجد
عاملًا آخر ،فإن طلبت منه العودة إىل أحشاء أمه لرفض قائلاً :سأموت لو فعلت.
هكذا أنا ،يا رفيقي .سأموت إن تركتها .هل تفهم؟ سأموت ،رمبا رس التحنيط الذي
كنت أبحث عنه مل يعد هدفًا يل اآلن أكرث من الحصول عىل لوجني .انتهت كل
أهدايف عندها ،فال عيش بدونها.
أجابه خالد :بالطبع ،يا صديقي ،هو ال يقصد التخيل عنها إال أنها ستموت لو
اصطحبتها معنا .صمت مصطفى قليلاً ناظ ًرا إىل صديقيه قائلاً :
-عودوا ،فلن أعود .لن أترك لوجني وأخذ يرضب جها ًدا عىل كتفه ،ويدفع
خالد من ظهره وهو يقول برصاخ وكأنه يعذب :عودوووووا ...عودوووا ..عودوا،
فلن أعود بدونها.
كاد الطبيب أن يجن جنونه .هذا الفتى انتحاري بحق الجحيم .يفضل املوت
عىل العودة بدون حبيبته .هذا ال يصدق .لوال أنني أرى هذا ما كنت ألصدقه.
155
كان يتمتم الطبيب بكلامت تحمل التعجب .صاح جهاد إىل مصطفى :هيا،
يا رفيقي .هيا لن نرتكك .رفض مصطفى وأخذ لوجني عائدً ا بها بضع خطوات إىل
الخلف .فبدأت أنفاسها تتحسن قليلاً .الحظ مصطفى هذا كلام ابتعد عن باب
الكهف.
نظر إىل الطبيب متسائلاً ،لكن الطبيب قطع نظراته قائلاً :
-هل أيقنت اآلن بحديثي .جلس مصطفى ساندً ا ظهره إىل جدار الكهف،
قائل:
وعىل ركبتيه لوجني التي أرهقها التعب؛ واض ًعا يديه عىل شعرها ناظ ًرا إليها ً
وماذا يا لوجني؟ مل يتبق يشء إال وفعلته من أجل العودة معي .وماذا ،يا لوجني؟
نظرت إليه لوجني بعينني تحمالن العشق قائلة :إنها األقدار .إنها األقدار ،حبيبي.
أجابها مصطفى :رمبا هي األقدار .لكنك ستكون قدري حتماً .
-سأكون حيث تكونني ،يا لوجني .هل تذكرت؟
قالت له :نعم ،فأنا أتذكر كلامتك حتى أعيش عىل ذكراها ،لكن كن أنت
عندما تكون األقدار .فأنا أنتظرك .رمبا تجمعنا األقدار مرة أخرى .وما زلت أمتلك
قليلاً من القصائد التي كتبتها يل.
قالتها لوجني بابتسامة تحمل الوداع .قاطع الطبيب :عليك أن ترتكها ،يا بني.
أنا أعلم مدى أوجاع قلبك وقلبها ،لكنها حتماً ستموت إن عادت.
-رمبا مل يحن الوقت لعودة لوجني .انتهى األمر بتسليم مصطفى لألمر الواقع.
نظر مصطفى إىل الطبيب قائلاً :علينا أن ندع الطالسم لــ لوجني حتى يكون قلبي
مطمئ ًّنا أنها ستكون بخري .وافقه الطبيب الرأي .رمبا انتهز الطبيب هذه الفرصة
حتى ال يعود الفتى لجنون عشقه .أعطاها الطبيب كل يشء مام يجعلها ملكة
مملكة كوشيه .نعم ،لوجني ملكة مملكة كوشيه .عانقها مصطفى عناق الوداع
قائلاً :
156
-سنعود ،يا ملكة مملكة كوشيه ،فجزء من عاملك يعني يل كل العامل.
ابتسمت لوجني ،وستكون ملكًا لعرش البالد.
إما أن أكون ملكة بعاملك وبحياتك أو أن تكون ملكًا مبملكتي.
وجه الطبيب كلمته األخرية لفتى الكهف.
-رمبا مل يحن الوقت.
تمت
157