Professional Documents
Culture Documents
َّ
قديما وحديثًا
ً
.تقديم
ال يمكن إعطاء إجابة شافية عن هذا السؤال دون تحديد طبيعة األهداف التي سعى مشروعُ'
"اإلصالح الديني" إلى تحقيقها .فاألهداف ،كما نعلم ،تمثل الركائز األساسية َلبْل َو َرة الوسائل التي
تصوغ ،بدورها ،المبادئ النظرية التي يمكن لنا أن نطلق عليها اسم "المنهج" .وال يستقيم في
نجاحا
ً حكمنا على مشروع' "اإلصالح الديني" –
منهج الفكر العلمي – التحليل النقدي – أن ينطلق ُ
إنجازها .في عبارة أخرى ،ال
نتصور نحن أن المشروع كان عليه ُ َّ أو إخفاقًا – من منظور' أهداف
الرواد على فشلهم
جيل َّ
يجوز أن نفترض أهدافًا من منظور' إشكالياتنا اإلصالحية اآلن ،ونحاسب َ
سقف المطالب
في تحقيقها .فالذي ال شك فيه أن مطالبنا' اإلصالحية اآلن تتجاوز' بدرجات َ
الرواد إلى تحقيقها ،وهي المطالب التي َّ
حددتْها طبيعةُ المرحلة اإلصالحية التي كان يطمح جي ُل َّ
التاريخية وتحدياتها' الداخلية والخارجية .نحن إزاء تحديات داخلية وخارجية تختلف ،كميًّا
خطاب اإلصالح الديني آنذاك.
ُ تعامل معها
وكيفيًّا ،عن تلك التحديات التي َ
من المطلوب في البداية كذلك إزالةُ االلتباس الذي يمكن أن ينتج عن كون الدعوة إلى تجديد
طرحها' اليوم بإلحاح بعد أحداث الحادي عشر من سپتمبر ،2001
ُ الخطاب الديني اإلسالمي ُيعاد
في سياق الضغوط األمريكية على العالم العربي واإلسالمي لتعديل برامجه التعليمية ،خاصة منها
الم ِع ِّدين لهذه الندوة كانت ِّ
تحركهم' دوافعُ االستجابة للضغط ما يرتبط' بتعليم اإلسالم .فال أظن أن ُ
األمريكي بطرح التساؤل عن أسباب فشل مشروع النهضة من زاوية مشروع' "اإلصالح الديني"
بصفة خاصة .لكن نفي هذا االرتباط بين الضغط السياسي' األمريكي وبين إعادة تقييم مشروع
حدث الحادي عشر من سپتمبر' من أصداء في
اإلصالح الديني ال يعني عدم االعتراف بما أثاره ُ
العالمين العربي واإلسالمي '،بعضها سلبي وبعضها إيجابي .وفي' تقديري أن بعض النتائج
اإليجابية تتمثَّل في الحاجة إلى إعادة النظر في صيغة "األنا" ،من حيث عالقتُها باآلخر ،من
منظور نقدي.
وال يحتاج الكاتب هنا إلى إبراز جهوده في مجال "نقد الخطاب الديني" خالل أكثر من ربع قرن،
هي مجمل حياته األكاديمية؛ وهي جهود صارت مكثَّفة خالل السنوات العشر األخيرة بصفة
خاصة .الكاتب هنا ال يتعامل مع األسئلة واإلشكاليات' التي يطرحها' علينا اآلخرون بقدر ما
يتعامل مع أسئلة الواقع الراهن – وكثير منها أسئلة مؤجَّلة .أكثر األسئلة المؤجَّلة تتعلق بحقوق
اإلنسان وحقوق' المرأة وحقوق األقلِّيات ،وهي الحقوق التي يمكن لنا تصنيفها تحت مفهوم
وثمة أسئلة تتعلق بقضايا التعليم والحرية والديموقراطية والتقدم والنهضة إلخ .إنها
"العدل"َّ .
قضايانا' وأسئلتنا منذ عصر النهضة ،الذي بدأناه في القرن التاسع عشر ،وتعثَّرت مسيرتُنا' معها
حسمها منذ أمد ليس بالقريب.
ألسباب عديدة ،فتأجَّلت القضايا وتوقف' ُ
ينبغي ،إذن ،أال نتقاعس عن التعامل مع هذه القضايا وغيرها لمجرد أنها تُثار وتنعكس علينا من
متصورين أننا بذلك ندافع عن "هويتنا" .ليست هويتنا هي "التخلف"'
ِّ مرايا اآلخرين ،فيركبنا' العناد،
ومقاومة "التطور" ،ومن العبث أن ننحاز إلى صفوف دعاة "التجمد"' باسم الدفاع عن الدين
وأخيرا ،فإن المعيار الذي على أساسه نقيس األمور' يجب أن يكون معيار حاجتنا إلى
ً والهوية.
أسس نهضتنا الحديثة ،والتي لم
التطور ،ومقاومة "الجمود" ،وهو المعيار الذي قامت على بنائه ُ
كثيرا من القضايا المؤجَّلة.
الكثير من طموحاتها ،فتركت وراءها ً
ُ يتحقق
.2تمهيد
لعله من المفيد أن نبدأ الكالم في هذا الموضوع' بتحليل العنوان الذي اخترناه لهذا البحث ،ذلك أنه
حد ذاته .وتحليل هذا العنوان يضعنا مباشرة في قلب الموضوع من حيث هو شكل في ِّ عنوان م ِ
ُ
بدوره إشكالية .وكلمة "إشكالية" ليست مقبولة عادة في الحديث عن القرآن ،وكذلك كلمة "تأويل"،
تقريبا ،أي العاشر الميالدي – ،باستثناء
ً حيث َد َر َج العلماء المسلمون منذ القرن الرابع الهجري
شائعا
الشيعة وبعض المتصوفة – على تفضيل مصطلح "التفسير" على مصطلح "التأويل" ،فصار ً
جنوح عن المقاصد والدالالت الموضوعية في القرآن ودخو ٌ'ل في إثبات عقائد
ٌ أن "التأويل"'
ٍ
مقصود لدالالت المفردات والتراكيب ٍ'
تحريف وأفكار' – أو باألحرى' "ضالالت" – من خالل
القرآنية ومعانيها.
صحيح أننا نجد عند جالل الدين السيوطي (القرن التاسع الهجري ،الخامس عشر الميالدي)
معا على قدم المساواة ،من حيث ارتباطُ
مصطلحي "التفسير"' و"التأويل"' يضعهما' ً
َ تمييزا دالليًّا بين
ً
معا ،وذلك على أساس أن "التفسير" هو ٍّ
المؤول – إليهما ً
ِّ كل منهما باآلخر ،وحاجة المفسِّر – أو
تتضمنه من
َّ شرح معاني الكلمات المفردة ،في حين أن "التأويل" هو استنباط' داللة التراكيب ،بما
حذف وإ ضمار' وتقديم وتأخير وكناية واستعارة ومجاز' إلخ .لكن ما يقوله السيوطي' في القرن
التاسع ليس في مجمله إال إعادة صياغة وترتيب لما سبق قولُه في القرون األربعة األولى وما
كثيرا من أقوال اإلمام الغزالي.
تالها بقليل ،وربما حتى نهاية القرن الخامس الهجري ،حيث ينقل ً
ومعنى' ذلك أن األقوال التي يرويها' السيوطي' عن السلف يمكن أن تؤخذ على أنها وصف []1
مصطلحا
ً للممارسة الفعلية في مجال التفسير في عصره ،وهو العصر الذي يعتبر "التأويل"
مشبوها ،إن لم يكن سيئ الداللة.
ً
ومن الضروري هنا اإلشارة إلى أن مصطلح "التأويل" اكتسب داللتَه غير الحسنة تدريجيًّا ،ومن
والنمو االجتماعيين وما يصاحبهما' عادة من صراع فكري' وسياسي.
ِّ خالل عمليات التطور
ت متناثرةً في كتب التاريخ والتفسير .من هذهويمكن لنا هنا أن نستشهد ببعض األقوال التي َو َر َد ْ
األقوال ما يروى' عن علي بن أبي طالب حين رفع األمويون المصاحف على ِ
أسَّنة الرماح ،عمالً ُ
بنصيحة الداهية عمرو بن العاص ،طالبين االحتكام إلى القرآن ،األمر الذي أحدث انشقاقًا في
صفوف جيشه ،فقال علي" :باألمس حاربناهم' على تنزيله ،واليوم نحاربهم' على تأويله" – وهي
عبارة تحاول أن تلفت أنظار الذين استجابوا' للتحكيم إلى أن هؤالء القوم من بني أمية يحاولون
اليوم التالعب بالتأويل ،بعد أن كانوا في سنوات سابقة يرفضون التنزيل .لكن عبارة علي ال
بعد قد تحولت إلى مصطلح ،بل هي عبارة تتضمن أية داللة معيبة لكلمة "تأويل" ،التي لم تكن ُ
ِّ
المحكمة كذلك" :القرآن واصفة لطبيعة الخالف .والذي يؤكد ذلك أنه هو نفسه الذي قال ًّ
ردا على
بين دفَّتي المصحف' ال ينطق وإ نما يتكلَّم به الرجال ]2[".وهو الذي قال البن عباس وهو بصدد
حمال ْأو ُجه ،بل حاجهم بالسَُّّنة".
الحجاج مع الخوارج" :ال تحاجهم بالقرآن ،فإن القرآن َّ
وفيما يورده محمد بن جرير الطبري' (القرن الثالث الهجري ،التاسع الميالدي) عن بعض
التابعين في شرح اآلية 7من سورة آل عمران ،هناك َمن يقول عن "الذين في قلوبهم' زيغٌ" الذين
يتَّبعون المتشابِه أن المقصود هم الخوارج ]3[.والعبارة ،في داللتها الحرفية ،تعني أنهم يقصدون
إلى تأويل المتشابِه من القرآن واتِّباعه "ابتغاء الفتنة" ،ألن المتشابِه "ما يعلم تأويلَه إال اهلل" ِّ
بنص
جميعا أن هذه اآلية صارت فيما بعد محور' جدال عميق بين المفسِّرين ً اآلية المذكورة .ولعلَّنا نعلم
والف َرق المختلفة ،ال حول تأويلها' وشرح معناها فقط ،بل حول عالمات الوقف من االتجاهات ِ
واالتصال فيها كذلك.
هذا السؤال يقودنا إلى كلمة "إشكالية" في العنوان؛ وهي بدورها كلمة ال تُتقبَّل في سهولة في
مجال الدراسات القرآنية الذي يبدو مجاالً شديد الوضوح ،وإ ن كان مجاالً عميقًا متسع األطراف،
مشدودا إلى جمال
ً "بحرا ال ساحل له عميق األغوار" ،إذا استخدمنا' لغة القدماء .ويعجب اإلنسان
ً
خاليا من األمواج المتالطمة على
"بحر ال ساحل له عميق األغوار" ً
االستعارة :كيف يكون ٌ
سطحه ومن الدوامات القاتلة في أعماقه! لكن هذا هو الفارق الواسع بين داللة أقوال القدماء
المجازية في الغالب وبين الفهم السطحي' المعاصر لتلك األقوال .في الفهم السطحي' المعاصر
معا. ِّ
ابتذا ٌل لألقوال نابعٌ من نزعها من سياقها الكلي ،المعرفي' واللغوي ً
ِّ
"األب" في قوله تعالى" :وفاكهة وأبًّا"[ ،]4وقبله في عصر منذ تساءل عمر بن الخطاب عن معنى
[
التنزيل تساءل المسلمون عن معنى "الظلم"' في قوله تعالى" :الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"
مستشهدا بما َو َر َد في نصيحة لقمان البنه
ً ،]5فشرحه لهم الرسول بأنه ِّ
"الشرك" في هذا السياق،
لظلم عظيم"[ – ]6منذ ذاك العصر والمسلمون ِّ
في القرآن" :يا بني ال تشرك باهلل إن الشرك ٌ
طا سهالً .وهذا اإلدراك إلشكالية التأويل هو الذي جعل أمرا بسي ً
يدركون أن شرح القرآن ليس ً
ابن أبي طالب ِّ
يحذر ابن عباس من االنزالق إلى هاوية "التأويل"' و"التأويل' المضاد" في نقاشه مع
الخوارج .بل إن هذا اإلحساس هو الذي يمكن لنا أن نتبيَّنه من َو َجل الجيل األول من الصحابة
الصديق' أبي بكر" :أي أرض تقلُّني وأي سماء تُ ِظلُّني إذا
ِّ من الدخول في عملية التأويل ،مثل قول
تم لألسف تحريف داللتها كذلك في سياق الطعن في التأويل
قلت في القرآن برأيي"؛ وهذه األقوال َّ
ومهاجمته.
لكن هذا الحذر لم يمنع القَ َدر .فالحياة تتقدم ،والمجتمع اإلسالمي ينمو ،وتتسع دائرةُ الثقافات التي
يتفاعل معها اإلسالم ،وتتعدد مرجعيات التأويل – وإ ْن كان ذلك التعدد ال ينفي وحدة المنظور
غريبا في سياق أمرا ِ
ً الذي يمكن لنا أن ُنطلق عليه مصطلح "رؤية العالم" اإلسالمية .وليس هذا ً
نص ديني م َنزل من اهلل بلغة القوم الذين أ ِ
ُرس َل فيهم الرسول .هنا تتعدد حضارة مركزها ٌّ
ُ
المرجعيات ،بين لغوية وفقهية وكالمية وفلسفية ،ويصبح "التأويل" أداةً من أهم أدوات التوافق' مع
النص القرآني ،مركز هذه الحضارة.
المرجع األولِّ ،
هل يمكن بعد ذلك النظر إلى التأويل تلك النظرة السطحية الساذجة إلى ٍّ
حد كبير؟ أم أن التأويل
قديما وحديثًا؟'
إشكالية اإلشكاليات في العقل المسلمً ،
قديما
.3اإلشكال ً
لكن المتأخرين بعد القرنين الرابع والخامس الهجريين (العاشر والحادي' عشر الميالديين) قد
تالعبوا بدالالت كالم القدماء ،كما يتالعب المحدثون بدالالت كالم هؤالء المتأخرين ،فقاموا
بإحداث ذلك الفارق المزعوم بين "الرأي المقبول" و"الرأي المذموم"' في مجال التأويل ،وذلك
ليضعوا اجتهادات المسلمين من غير فقهاء أهل َّ
السنة والجماعة داخل دائرة "الرأي المذموم"'
خالصا لهم .وانتشرت' في كتب المتأخرين ،وخاصة
ً المحرم ،بينما يصبح الوصف' "رأي مقبول" َّ
التحذيرات من التفاسير الضارة والتأويالت المنحرفة .وحين
ُ ابن تيمية وتلميذه ابن قيِّم الجوزية،
تسامحهم إزاء بعض تفسيرات المعتزلة ،يشيرون إلى تفسير الزمخشري َ يريدون أن ُيظ ِهروا'
ِّ
للمتمكنين من لقيمته البالغية ،مع التحذير من ضالالته االعتزالية ،وعدم السماح بمطالعته إال
براهين أهل َّ
السنة والجماعة .ومن الالفت لالنتباه أن الطبعة المشهورة للكتاب (طبعة مصطفى
البابي الحلبي بالقاهرة) تتضمن ردود' ابن المنير ِّ
السني وتعليقاته على انحرافات' الزمخشري'
بالهامش ]7[.واالختالف في التأويل بين أهل َّ
السنة والجماعة – ،وهو مصطلح إيديولوجي – '،من
جهة ،وبين المعتزلة ،من جهة أخرى ،أقدم من الزمخشري وابن المنير؛ وهو ،بالطبع ،أقدم من
ابن تيمية وتلميذه.
ولعل بعض النماذج يمكن لها أن تكشف الجذور التاريخية لهذا االختالف في منبعها األصلي.
ودون الدخول في التفاصيل ،يمكن القول إن تاريخ تأويل القرآن ،ومن ثََّم إشكاليته ،تنبع من تجدد
علماء
ُ النص في منطوقه .وهي اإلشكالية التي عبَّر عنها
الحياة بالحركة والصيرورة مع ثبات ِّ
أصول الفقه حين قالوا بندرة النصوص مع تكاثر الوقائع' وتجددها .وإ ذا كان علماء األصول قد
حلوا إشكاليتهم' بمقولة "خصوص السبب وعموم اللفظ" ،فجعلوا' من "عموم اللفظ" قاعدةً للفهم ومن
"خصوص السبب" قاعدةً للقياس ،فإن هذا َّ
الحل العبقري لم يتجاوز' حدود آيات األحكام والشرائع
التي تمثل أقل من ُسدس آيات القرآن كلِّه.
[]8
تحديا للعقل الفقهي إزاء ندرة النصوص؛ فكانت هكذا تمثل حقيقة ُّ
تجدد الوقائع' وتكاثرها' ً
واجهَها العقل المعتزلي،
االستجابة مزدوجة ،عقليًّا ولغويًّا .نفس الظاهرة – ظاهرة التحدي – َ
وإ ْن على مستوى آخر هو مستوى' فهم العقيدة ،فكانت استجابته ،بالمثل ،مزدوجة عقليًّا ولغويًّا.
على المستوى اللغويَ ،و َج َد المعتزلي في مقولة "المجاز"' – وهي مقولة لغوية – حالً إلشكالية
النص والعقل؛ وكان اعتماده في استجابته العقلية على قياس – "قياس
التعارض الظاهر بين ِّ
الغائب على الشاهد" – إدرا ًكا للمطلق في مخالفته للمحدود' من ِّ
كل وجه؛ فهو قياس مخالفة ال
وبناء على قياس المخالفة هذا بين اهلل ،من جهة،
ً
[]9
تصور' بعض الدارسين.
قياس مطابقة ،كما َّ
لمفهومي "التوحيد"' و"العدل"،
َ تم ِت الصياغةُ شبه الفلسفية
وبين العالم واإلنسان ،من جهة أخرىَّ ،
يقرره الخياط في كتاب وهما أساس مبادئهم' الخمسة المعروفة؛ بل "العدل" هو أساس التوحيد ،كما ِّ
االنتصار[.]10
لننظر في مسألة "استواء اهلل على العرش"" :الرحمن على العرش استوى"' (طه " ،)5إن ربكم اهلل
الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام ثم استوى على العرش" (األعراف ،)54التي يرى
المعتزلة أنها "مجاز" ،أو صورة تمثيلية (تمثيل) ،وأنه ليس هناك عرش وال استواء بمعنى
الجلوس :إنهم في هذا التأويل ينطلقون من استحالة المعنى الحرفي في حق اهلل الذي "ليس كمثله
مستويا على العرش فمعنى ذلك ،من منظور' المعتزلة،
ً شيء وهو اللطيف الخبير"[ .]11إذا كان اهلل
أنه محدود' في المكان ،وأنه جسم يقبل األعراض ،إلخ .واعتماد المعتزلة في مرجعية التأويل
النص القرآني كما
على القياس العقلي – قياس المخالفة – يجد له كذلك مرجعيةً في بنية ِّ
"المح َكم والمتشابِه" التي سنتناولها' بعد قليل.
تصوروها من خالل ثنائية ُ
في مقابل هذا التأويل االعتزالي لهذه اآلية وألمثالها مما ُيطلَق عليه آيات "الصفات" ،تمسَّك
"المشابهة"
َ الفقهاء بالمعنى الحرفي' لالستواء على العرش؛ لكنهم حاولوا' مع ذلك جهدهم في نفي
أحيانا
نسب إلى مالك بن أنس ً
التي يفضي إليها الفهم الحرفي ،فتوصَّلوا إلى تلك الصياغة التي تُ َ
أحيانا أخرى ،تلك هي العبارة التي صارت شائعة وتتكرر' عبر األجيال حتى
وإ لى أحمد بن حنبل ً
يومنا هذا" :االستواء معروف' والكيف مجهول والحديث عنه بدعة".
لو تأملنا قليالً هذه العبارة المتداولة في دوائر الفكر اإلسالمي كلِّها – والتي لم يتأملها أحد ،على
تناقضا' على أكثر من مستوى:
ً ما يبدو ،تأمالً عميقًا – لوجدنا أنها عبارة تتضمن
.2المستوى' الثاني أن "االستواء"' معطى لغوي ،ال تنكشف داللتُه إال من خالل سياق تركيبي'
النص الحد األدنى ،وما يسبقها وما يتلوها في ِّ
الحد األوسط ،ثم هو سياق ِّ هو الجملة في ِّ
في تركيبه في ِّ
الحد األعلى .وعلى ذلك ،فالقول إن "االستواء معروف"' قول يتناول
المفهوم الذهني ،الذي هو المدلول المباشر' ِّ
للدال اللغوي ،وال عالقة له بالعبارة القرآنية.
.3المستوى' الثالث من التناقض نفي "الحديث" بزعم أنه بدعة ،مع أن اآليات القرآنية
"حديث" عن االستواء ،من حيث هو فعل إلهي.
أمثال العبارة السابقة من أقوال الفقهاء تؤخذ هكذا ،دون تحقيق أو فحص عن محتواها .وال شك
أن إيقاعها الثالثي الذي يجعل الداللة الحرفية واضحة ("االستواء معروف") ،ويجعل التأويل
برمته في هاوية "البدعة" – و"كل بدعة
كاذبا ("الكيف مجهول") ،ثم يطرح األمر َّ
االعتزالي ً
ضاللة ،وكل ضاللة في النار"! – هذا اإليقاع الثالثي التنغيمي في تصاعده ،من "المعروف" إلى
تأثيرا شبه سحري' حين ُيتلى على العامة في المواعظ .وهكذا
"المجهول" إلى "البدعة" ،يمارس ً
تتم تعبئة عوام المسلمين وأشباه المتعلِّمين منهم ضد "التأويل"' لحساب "التفسير".
ولعل أهم تفسيرُ ،يشار إليه بوصفه أعظم التفاسير عند أهل َّ
السنة والجماعة – ،عدا كثرة
استشهاده بالمرويات اإلسرائيلية – ،هو كتاب ابن جرير الطبري جامع البيان .وإ ذا تفحَّصنا كتاب
جامع البيان في خصوص قضايا' التأويل العقلي ،وبصرف' النظر عن أن مصطلح "التأويل" هو
الدال على عملية الشرح كلِّها عند الطبري ،كما أسلفنا ،فسنالحظ غياب هذا النوع من التأويل،
َّ
وهو الغياب الذي يفسِّره الباحث الساذج َّ
ضد "التأويل" لصالح "التفسير" .والحقيقة أن غياب تلك
شرحا
ً القضايا عن كتاب الطبري' له داللة تستحق' التأمل .إن الطبري يشرح معنى "االستواء"'
جميعا ثم استوى إلى
ً وافيا في اآلية 29من سورة البقرة" :هو الذي خلق لكم ما في األرض
ً
فسواهن سبع سماوات وهو ِّ
بكل شيء عليم" – وهي آية ال تثير إشكالية االستواء على السماء َّ
العرش التي تثيرها اآليات األخرى المشار إليها فيما سلف ،وهي اآليات التي يمر عليها الطبري'
ما ومكتفيا بالقول" :لقد شرحنا االستواء فيما مضى فال حاجة إلعادته هنا".
[]12
ً متجاهالً اإلشكالية
معنى هذا التجاهل من جانب الطبري' إلشكالية ما تزال مستمرة حتى اآلن؟ بل هي إشكالية أنتجت
الرد على الجهمية والمعطِّلة بعد الطبري' بحوالى أربعة
المرسلة في ِّ
َ هاما هو الصواعق
كتابا ًّ
ً
كبيرا بعنوان "طاغوت المجاز" .فكيف يمر عليها الطبري'قرون؛ وهذا الكتاب يتضمن فصالً ً
هكذا مرور' الكرام في القرن الثالث الهجري؟!
ليس الغياب بالضرورة دليالً على عدم اتفاق الطبري' مع المعتزلة؛ كما أنه ليس ،بالمثل ،قرينة
على اتفاقه معهم – وال َّ
بد للصمت مع ذلك من داللة .لقد عاصر الطبري' عصر ازدهار' الحنابلة
وسيطرتهم ،من خالل التحالف مع السلطة السياسية في بغداد .والطبري' فقيه ،له اجتهاداتُه الفقهية
ومتنا ،كتاب هام لم
سندا ً
معا ،وله في مجال نقد المرويَّاتً ،
األصيلة على مستوى' النظر والتطبيق' ً
ينل ما يستحقه من اهتمام الباحثين بعد ،هو كتاب تهذيب اآلثار؛ وقد كان له رأي في ابن حنبل
ود ِفن .فهل كان لهذا الحدث
أثار عليه الحنابلة ،حتى أوشكوا أن يقتلوه ،فظل رهين بيته حتى مات ُ
تأثيره الذي جعل الطبري' يتحاشى الدخول في مناقشة هذه الموضوعات' الشائكة؟ ال يمكن لنا أن
ُ
نطرح إجابة دقيقة عن هذا السؤال ،خاصة وأن كتاب الطبري أ ُْمِل َي على طالبه؛ فال يمكن الجزم
يقينا بسبب هذا الغياب .لكن الغياب ،كما سبق القول ،ال يعني االتفاق مع تأويل المعتزلة؛ وهو
ً
يقينا ال يعني المخالفة التامة .هذا باإلضافة إلى أن كتاب الطبري' من أهم الكتب في حرصه
ً
تركيبا ،ال بين التفسير والتأويل' فقط ،بل بين علوم
ً الدائب على القيام بعمل تأويلي' حقيقي يمثل
القرآن النقلية كافة وبين العمل التأويلي' الحق.
والسؤال اآلن هو :هل ثمة وجود حقيقي للكتب في مجال التفسير تكتفي بشرح المفردات – أي
الترجمة – وتنبو' عن التأويل ،حتى بالمعنى االعتزالي؟ مثل هذه الكتب موجود بالفعل ،ولكنها ال
تدعي أنها تفسير ،بل هي شروح للمفردات ،مثل كتب غريب القرآن ،على سبيل المثال .إن َّ
عملية التأويل واحدة في جوهرها ،ألن الوصول إلى "الداللة" – التي هي ضالَّة المفسِّر – يتطلب
تصورا – ولو ضمني – لماهية
ً فهما أو
جهدا على درجة عالية من التركيب ،كما أنه يتطلب ً
ً
النص القرآني .لقد اعتمد المعتزلة على اآلية السابعة من سورة آل عمران التي تقول إن الكتاب
ِّ
متشابهات" ،وصاغوا' نظرية في التأويل
ٌ ُخر مات َّ
هن ُّأم الكتاب وأ َ آيات ُمح َك ٌ
– القرآن – "منه ٌ
المح َكم ،أي الواضح .ومن خالل تعتمد على فهم المتشابِه – الغامض – ً
قياسا على مرجعية ُ
نظريتهم' في المعرفة واللغة َّ
حددوا عدة مستويات' للوضوح ،ومثلها للغموض ،وصارت' نظريتُهم'
نموذجا ُمحتذى عند خصومهم.
ً في التأويل في قالبها النظري التجريدي' الخالص
وجود الواضح
َ ما هو موطن الخالف إذن؟ موطن الخالف أن اآلية المشار إليها أثبتت للجميع
ووجود' الغامض ،لكنها لم ِّ
تحدد ما هو الغامض وما هو الواضح – وليس ثمة في القرآن تحديد.
مقياسا :فما يتفق مع المفاهيم
ً لذلك صار من السهل على المعتزلة أن يجعلوا المعرفة العقلية
متناقضا معها فهو المتشابِه
ً المح َكم ،وما يبدو
العقلية بداللته اللغوية المباشرة فهو الواضح ُ
الغامض الذي ال سبيل إلى تقبُّل داللته اللغوية المباشرة .وهنا تتدخل أداة "المجاز"' لتزيل
والمح َكم .وتلك هي بالضبط' النظرية التي صاغها ابن ِ
الغموض وتنهي' َو ْه َم التناقض بين المتشابه ُ
[]13
رشد في التأويل على قانون الكالم العربي لنفي التعارض بين الشريعة والبرهان.
في كتابه متشابه القرآن يصوغ القاضي عبد الجبار األسدآبادي' المعتزلي (القرن الرابع الهجري،
نضجا .لكن كتاب ابن قتيبة تأويل مشكل
ً العاشر الميالدي) نظرية المعتزلة تلك في شكلها األكثر
القرآن في القرن الثالث الهجري (التاسع الميالدي) ِّ
يؤكد ،في ردوده على المعتزلة ،أنه َّ
يتبنى
نظريتهم ،حتى في قراءة نهاية اآلية على العطف وليس على الوقف' ثم االستئناف" ':وما يعلم
تأويلَه إال اهلل والراسخون في العلم يقولون َّ
آمنا به" .والخالف هنا يكمن في تحديد ما هو ُمح َكم
واضحا هو عند خصومهم' متشابِه غامض ،والعكس
ً وما هو متشابِه :فما يعتبره المعتزلة ُمح َك ًما
وهذا معنى قولنا' إن القالب النظري' التجريدي الخالص لنظرية المعتزلة صار هو صحيح.
[]14
واضحا ًّ
جدا في تعليقات ابن المنير ِّ
السني على ً المحتذى عند الخصوم .وهذا ما نجده
النموذج ُ
تفسير الزمخشري.
صحيح أن ابن تيمية – وهو من أهم ممثِّلي الفكر الحنبلي – يعلن نظريًّا "موافقة صريح المعقول
لصحيح المنقول" ،لكن مرجعية االتفاق عنده ليس "المعقول" بل "المنقول"! وفي عبارة أخرى ،إذا
كان المعتزلة والفالسفة يعتبرون "العقل" هو األصل الذي على أساسه يتم تأويل النقل وتفسيره،
فإن مدرسة ابن تيمية ترى أن صحيح المنقول هو األصل الذي على أساسه ُيرفَض المعقول أو
"المح َكم والمتشابِه"' هي العنصر' الجوهري في بنية النص
ُيقبل .ونتيجة لذلك ال تصير' ثنائية ُ
القرآني الذي على أساسه يقوم قانون "التأويل" ،بل يصير' "النقل" هو مرجعية التأويل.
منسوبا إلى الرسول في التفسير ،سواء بطريقة مباشرة – وهي حاالت قليلة – أو
ً .2ما َو َر َد
بطريقة غير مباشرة ،أي من خالل َّ
السنة.
.3ما َو َر َد عن الصحابة في الروايات الموثوق في صحَّتها ،ألنهم أقرب إلى عصر التنزيل،
وأعلم بأسباب النزول ،والناسخ والمنسوخ ،والمكي والمدني ،وقرائن األحوال المالزمة
للوحي ،إلخ.
وال مكان في هذا الترتيب ألصول التفسير للتفسير بالمجاز على اإلطالق! فالمجاز نوع من
"الكذب" في استخدام اللغة – أو "االدعاء" في أحسن األحوال ،إذا استخدمنا لغة عبد القاهر
منزه عنه .وإ ذا كان المتكلِّم العادي يلجأ إلى المجاز ألن الحقائق ال تسعفه،
الجرجاني – والقرآن َّ
فهذا ما ال يجوز' على العلم اإللهي في إطالقه .وما يرى المعتزلة واألشاعرة أنه "مجاز" في
ت في اللغة العادية .وتلك كلها قضايا القرآن ليس إال أسلوبا من أساليب التعبير الوضعية استُ ِ
خد َم ْ ً
المرسلة في الرد على
َ يصوغها ابن قيِّم – تلميذ ابن تيمية – في الكتاب الذي أشرنا إليه الصواعق
الجهمية والمعطلة في فصل عنوانه "طاغوت المجاز" ،وهو كتاب يستحق' دراسة مستقلة في ِّ
حد
[]16
ذاته.
من الطبيعي أن يقال هنا إن باب االجتهاد صار شبه مقفل ،ولم يلبث إال قليالً حتى أحكم رتاجه
في عصر الركود' واالنحطاط ،عصر التلخيصات وشرح التلخيصات والحواشي' وشروح
قادرا' على قبول
الحواشي في مجاالت المعرفة كافة .ذلك أن العقل اإلسالمي النشط ،الذي كان ً
التحديات واالستجابة لها ،صار عقالً يعيش على مخزونه – التراث – الذي أخذ يتناقص حتى
ردد وتلوكها األلسن ،مثل العبارة التي حلَّلناها َّ
اضمحل في وعي المتأخرين ،وتحول إلى أقوال تُ َّ
فيما سبق" :االستواء معروف والكيف' مجهول والحديث عنه بدعة" .وفتاوى ابن الصالح في
تعليما ،صار ُّ
القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميالدي) تؤكد أن تعاطي' المنطق ،تعل ًما أو ً
علم الكالم إلى علم العقائد التي تَ ِر ُد في الكتب وتحول ُ
َّ []17
جريمة ،وال مجال إطالقًا لذكر الفلسفة.
ث في المجاالت كلِّها منصوصا عليها ليحفظها المتعلِّم ،أو باألحرى' المتلقِّن .وما َح َد َ
ً المتأخرة
ث في مجال التفسير ،فصار' تفسير ابن عطية أفضل من الزمخشري ،ألنه تلخيص له دون َح َد َ
الوقوع في ضالالته ،وأصبح تفسير الزمخشري ال ُي َقرأ إال في ردود ابن المنير عليه .وبالمثل،
ِّ
المتقدم ،ألن األول يخلو من تعقيدات ث تفضي ٌل لتفسير ابن كثير المتأخر على تفسير الطبري
َح َد َ
الثاني ،كما يخلو من إسرائيلياته.
أردت علم التفسير فعليك بابن كثير في النقل وابن عطية في
َ هكذا تكاثرت النصائح للطالب :إذا
الرأي؛ وإ ن أردت النحو فعليك بشرح ابن عقيل؛ وإ ن أردت البالغة فعليك بالخطيب القزويني؛
ِ
وحذار من المنطق وعلم الكالم وإ ن أردت علم الفقه فهذا يتوقف على المذهب الذي تتَّبعه.
السنة ِّ
المتمكنين من عقائد أهل َّ والفلسفة؛ فإنها أضاليل ال ينجو من ضررها' إال الفحول من العلماء
والجماعة .وقد استمرت الحال هكذا ،حتى بدأ العقل اإلسالمي اإلفاقة تدريجيًّا والوعي بحالة
الركود واالنحطاط التي هو عليها .إنه الوعي بالهزيمة وليس الهزيمة ذاتها ،ألن الهزيمة كانت
مقومات واقعا ماثالً دون أن يعيها العقل ،ألنه كان قانعا بما يتغذى عليه من تراث ٍ
خال من ِّ ً ً
الحيوية والنضارة والتقدم كافة.
كتابي عبد
علم البالغة من َ
يدرس للطالب في األزهر َ
غريبا أن يكون محمد عبده َّأول َمن ِّ
ً لم يكن
القاهر الجرجاني' (القرن الخامس الهجري ،الحادي عشر الميالدي) أسرار البالغة ودالئل
غريبا أن تكون رسالة التوحيد استعادةً لعلم الكالم االعتزالي في مبدأ "العدل"
ً اإلعجاز؛ ولم يكن
واألشعري' في مبدأ "التوحيد" .وقد سبق أن أشرنا إلى التقارب الذي كان قد وقع بين األشاعرة
والمعتزلة في قضية "التوحيد" .هكذا يمثل محمد عبده ،على مستوى' الفكر اللغوي والالهوتي'،
إحياء للتراث في حيويته وقوته نضارته ،بنفس القدر الذي يمثل به محمود سامي البارودي
ً
عصر إحياء التراث الشعري في حيويته وقوته ونضارته.
َ الشاعر
الظروف
ُ' وال شك أن اإلحياء هنا يمثل شكالً من أشكال االستجابة للتحديات التي فرضتْها'
ممكنا للتراث ِّ
السني االجتماعية والسياسية الناشئة عن االحتكاك بأوروبا؛ وهي تحديات لم يكن ً
قادرا' على مواجهتها .فكان من ِ
المحافظ ،الذي أغلق باب االجتهاد وأحكم رتاجه ،أن يكون ً
الطبيعي استدعاء التراث ،في حيويته وقوته ونضارته ،ليثبت العقل اإلسالمي ِّ
نديته .ومن سوى
يمكنان محمد عبده من سجال بلنت ورينان وفرح' أنطون ،ويساعدانه ،في المعتزلة وابن رشد ِّ
تواصل هذا اإلحياء مع واحد من
َ الوقت نفسه ،على إثبات أن "اإلسالم دين العلم والمدنية"[ .]18وقد'
غريبا أن يبدأ عملَه األكاديمي بدراسة ٍّ
كل من أبي العالء ً تالميذ عبده هو طه حسين ،الذي لم يكن
المؤرخ ومبدع علم "العمران البشري"؛ ثم لم
ِّ المعري ،الشاعر الفيلسوف الضرير ،وابن خلدون،
غريبا أن يكون هو نفسه ،طه حسين ،على رأس البعثة التي كشفت عن كنوز' التراث ً يكن
ِّ
المتوكلية باليمن ،وأهمها موسوعة القاضي عبد الجبار المعتزلي التي كانت مدفونة في المكتبة
المغني في أبواب التوحيد' والعدل.
لكن ماذا عن تأثير هذا كلِّه في علم التأويل القرآني؟ وكيف كانت االستجابة توافقًا مع ِّ
النص
المركزي ،ال للثقافة وحدها بل للحضارة كلِّها ،في صيرورتها وارتفاعها وانخفاضها؟'
تفسير محمد عبده (الذي أكمله تلميذه رشيد رضا) أنه ،على اتساعه وحرصه
َ ولعل ما يميِّز
النص حتى يعود إليه؛ هذا باإلضافة إلى أنه –
على"إشباع' الداللة" ،تفسير يكاد أال يتجاوز نطاق ِّ
واسعا ،ال في دائرة المهتمين والطالب الذين
ً انتشارا
ً خالفًا لتفسير الطنطاوي' الجوهري – اكتسب
درس لهم عبده فقط ،بل في دائرة أوسع من القراء والمثقفين في العالم العربي واإلسالمي .ومن
َّ
المؤكد أن استجابة محمد عبده – في التفسير – للتحديات التي كانت مطروحة على العقل
تركيبا' من استجابة الطنطاوي الجوهري' في تفسيره؛ فلم يكن
ً اإلسالمي كانت استجابةً أكثر
النص
فتح داللة ِّ
مشغوالً بالبحث عن التطابق' بين حقائق العلم وداللة النص ،بقدر ما كان شاغلَه ُ
[]20
لمخاطبة العقل اإلسالمي الناهض وحثِّه على مواصلة النهوض.
لذلك كان من الطبيعي ،على المستوى' النظري للقواعد التي وضعها في خطوات التفسير ،أن
ديني هدفه
نص ٌّالنص القرآني ،بما هو ٌّ
قواعد عامة لتأويل النصوص ،دون إغفال طبيعة ِّ
َ تكون
"هداية" البشر إلى اإليمان .وعلى ذلك ،فالمقصد' من التفسير والهدف هو
المراد من القول ،وحكمة التشريع في العقائد واألحكام على الوجه الذي يجذب األرواح ،ويسوقها
فهم ُ
المودعة في الكالم ]...[ .فالمقصد الحقيقي من وراء ِّ
كل تلك الشروط والفنون هو َ إلى العمل والهداية
االهتداء بالقرآن.
[]21
لكن الشيخ الخولي ال يعتبر مقصد الهداية "الغرض األول من التفسير ،وليس هو أول ما يعنى به
ويقصد إليه" ،ويرى' أن
ًّ
جوهريا' وأساسيًّا هو "البيان"؛ وهو مصطلح يحتاج مقصدا
ً هذا المقصد الذي يعتبره الخولي
تناولها الخولي في مشروعه
لتحليل خاص وشرح دقيق' في سياق مجموعة المفاهيم التي َ
التجديدي في النحو والبالغة والتفسير' ِّ
وفن القول بصفة عامة .ويكفي هنا اإلشارة إلى أن ما يعنيه
حد كبير – إن لم يكن إلى ِّ
حد التطابق – بمفهوم "المنهج الخولي بمفهوم "البيان" قريب الصلة إلى ٍّ
اللغوي ِّ
الفني" الذي استخدمه طه حسين في إثبات صحة بعض قصائد الشعر الجاهلي في كتابه
المعروف في الشعر الجاهلي ،الذي سنتناول ما يربط بين ما َو َر َد فيه وما يقوله الخولي في فقرة
تالية.
.1فهم حقائق األلفاظ المفردة الموجودة في القرآن بحسب دالالتها التداولية في عصر
ٍ
مكتف بقول فالن وفهم' النزول" ،بحيث يحقِّق المفسِّر ذلك من استعماالت أهل اللغة ،غير
لم َع ٍ
ان ،ثم غلبت على غيرها ستعمل في زمن التنزيل َ
كثيرا من األلفاظ كانت تُ َ
عالن .فإن ً
رفض محمد عبده
ُ واضحا'
ً بعد ذلك بزمن قريب أو بعيد"[ .]24وفي' هذه الخطوة يبدو
لعملية "اإلسقاط" الداللي من الحاضر' على الماضي من خالل عدم االهتمام بالداللة
شائعا اآلن ،ويتجلَّى' في كثير من
التداولية لأللفاظ في عصر النزول – وهو إسقاط صار ً
المسمى بـ"التفسير' العلمي
َّ كتب التفسير المعاصرة .ولعل مجاله األوضح هو ذلك التفسير
للقرآن".
فهم األساليب ،و"يحتاج' في هذا
فهم داللة األلفاظ المفردة في سياق تداولها' اللغوي ُ
.2يلي َ
إلى علم اإلعراب وعلم األساليب (المعاني والبيان)"[.]25
النص من
أدوات التأويل االعتزالية (علم المعاني والبيان) لفتح داللة ِّ
ُ وهنا تسعف محمد عبده
علمي البالغة التقليديين
خالل "المنطوق"' الثابت .لكن محمد عبده – وهذا أمر الفت – يطلق على َ
تجاور ال يخلو في ِّ
حد ذاته ٍ ِ
مستبدالً' باللغة القديمة لغةً معاصرة في اسما حديثًا هو "علم األساليب"،
ً
من داللة .إن الجديد هنا ال يزيح القديم وال يحل محلَّه ،بل ِ
يجاو ُره في عالقة مقارنة واضحة.
وتلك بالضبط كانت استجابة عبده على مستوى تأويل القرآن .وهنا نشير إلى بعض األمثلة إشارةً
سريعة ،تاركين التحليل التفصيلي لسياق آخر.
تاريخا" ،وإ نما' المراد بها االعتبار والعظة من السياق"'[ .]29وليس
ً صص القرآني كله ليس
القَ َ
ستنبط منه
المهم في القصة ما تحكيه من وقائع وأحداث ،بل المهم هو أسلوب السرد ذاته الذي تُ َ
العظة.
وعلى ذلك ،فإن "اإلعجاز" في القصص القرآني "في اللفظ ،ال في القصص نفسها"[ ،]30أي في
طابقها مع وقائع' التاريخ.
بنائها اللغوي السردي ،وليس في مماثلة وقائعها المرويَّة للتاريخ أو في تَ ُ
يقرر محمد عبده أن ترتيب السرد في القرآن ال يتطابق مع الترتيب
باإلضافة إلى ذلكِّ ، []31
إذا تأملنا ما يحاوله عبده هنا ،فمن السهل أن نقرر أنه يحاول حماية القرآن من هجوم بعض
كتابا في
المستشرقين ،خاصة فيما يتصل بمسألة القصص القرآني والدقة التاريخية .ليس القرآن ً
التاريخ – هكذا يكرر عبده هذه العبارة – بل هو كتاب هداية وموعظة ِ
وع ْبرةِ ،
يورد' ما ُيروى'
اختصارا
ً تحويرا أو
ً وما ُيحكى عن األمم السابقة مورد' الحكاية لتحقيق هذه الغاية ،التي قد تتطلب
ترتيبا' سرديًّا مخالفًا للوقائع .باإلضافة إلى هذا ،يؤكد عبده أن ما ُيحكى من اعتقادات وما َي ِر ُد
أو ً
من عبارات ،إنما ُيحكى مطابِقًا لوعي المخا َ
طبين أو المحكي عنهم؛ ومن ثََّم ال مجال العتقاد
كل ما ورد عن السحر صحته أو صوابه لمجرد أنه ُذ ِكر في القرآن .وهنا يتمكن عبده من تأويل ِّ
َ
ومس الشيطان لإلنسان تأويالً عقالنيًّا.
والحسد ِّ
ق عليها ،هي أن اهلل يخاطب البشر على ٍ
حقيقة متفَ ٍ وإ ذا كان عبده ينطلق في كثير مما سبق من
ٍ
تأويل تطويرا' شامالً ،بحيث يجعل منه مرجعيةَ يطور' هذا المفهوم
قدر عقولهم وأفهامهم ،فإنه ِّ
ً
كثيرا في عملية التطوير' تلك؛ لكنه أفاد بالمثل من
أساسية .وال شك أن عبده قد أفاد من علم النفس ً
مفاهيم التمثيل والمجاز والكناية واالستعارة في التراث البالغي العربي .في عبارة أخرى ،يمكن
القول إن عبده قد جمع بين االستمداد' من التراث وبين العلوم العصرية في محاولته االستجابة
مرجعه األساسي .لذلك استند فعل التأويل
َ للتحدي المطروح على العقل المسلم الذي يعتبر القرآن
منهجي دقيق'
ٍّ عنده إلى مرجعية اللغة ،كما استند إلى مرجعية المعرفة العصرية في تركيب
حد كبير ،مع خطوات المنهج التي سبق تحليلُها. يتطابق ،إلى ٍّ
المالئكة وقتالهم' مع المسلمين في موقعة بدر الكبرى لم يكن حقيقة حرفية ،بل كان من قبيل
وهو في هذا التأويل يستند إلى نفس القاعدتين اللتين أشرنا إليهما: []37
البشرى والتأييد' المعنوي.
ُ
اللغة ،من جهة ،والخبرة اإلنسانية والمعرفة التراثية ،من جهة أخرى – وكالهما ينفي النزول
الحرفي للمالئكة .أما الدليل اللغوي فموجود في السرد القرآني" :وما جعله اهلل إال ُبشرى'
ولتطمئن به قلوبكم"؛ بينما يستند عبده في مرجعيته التراثية إلى تفسير محمد بن جرير الطبري' –
ُحد[ ،]38وسكت عن مرويات قتالهم' في بدر ألنها ،فيما يرى عبده،
الذي أنكر نزول المالئكة في أ ُ
"لم تكن َح ِريَّة بأن تُ َنقل"[ .]39ويستند كذلك إلى المعتزلي' أبي بكر بن األصم ،الذي أنكر قتال
"الملَك الواحد يكفي في إهالك أهل األرض،
المالئكة في بدر ،وقال – فيما يروي' عنه عبده – إن َ
كما فعل جبريل بمدائن قوم' لوط؛ فإذا حضر هو يوم أحد ،فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع
[]40
الكفار؟"
هكذا يجمع عبده بين النقل والعقل .وينتهي عبده إلى رفض النقل الذي يتعارض مع العقل ،قائالً:
نص القرآن
شوهت التفسير وقلبت الحقائق ،حتى إنها خالفت َّ
شر هذه الروايات الباطلة التي َّ
كفانا اهلل َّ
قلوبكم" .وهذه
ولتطمئن به ُ
َّ نفسه .فاهلل تعالى يقول في إمداد المالئكة" :وما جعله اهلل إال ُبشرى
الروايات تقول بل جعلها مقاتلة ،وإ ن هؤالء السبعين الذين قتلوا من المشركين لم يمكن قتلهم إال
خصهم اهلل بما ذكر من أسباب النصر
باجتماع ألف أو ألوف من المالئكة عليهم مع المسلمين الذين َّ
المتعددة .إال أن في هذا من شأن تعظيم المشركين ورفع شأنهم وتكبير شجاعتهم وتصغير شأن أفضل
سِل َب عقلَه لتصحيح روايات باطلة ال يصح
أصحاب الرسول وأشجعهم ،ما ال يصدر عن عاقل إال وقد ُ
[]41
لها سند.
على أساس هذا التمييز ،يمكن لنا أن نفهم ما يقوله عبده عن نفسه من أنه يجمع بين طريقة السلف
تماما
كمل تفسيره محمد رشيد رضا ،الذي يطمئن ً
وم ِّ
وطريقة الخلف ،وذلك على عكس تلميذه ُ
إلى طريقة أهل السلف ،ويؤكد' أن هذا االطمئنان الكامل لم يتحقق له تفصيالً إال بممارسة كتب
ِ
المناهضة ألية مرجعية في التأويل كل من ابن تيمية وابن القيم[ِ ،]44
حاملَي لواء السلفية الحنبلية ٍّ
سوى مرجعية اللغة ،المعزولة حتى عن صيرورتها' التاريخية وأفُقها االجتماعي.
تحول في أتباعه
لكن َج ْم َع عبده بين طريقتي السلف والخلف (مع التمييز بينهما في الوقت ذاته) َّ
أحيانا – في تاريخ الفكر
حينا ويشتد' ً
قطبي صراع – يهدأ ً
إلى تيارين ما يزاالن حتى اآلن يشكالن َ
اإلسالمي حتى يومنا هذا ،خاصة في مجال تأويل القرآن وتفسيره – وهو المجال الذي نركز عليه
َّست جماعة "اإلخوان
هنا :من طريقة السلف نهل رشيد رضا ،ومنه نقل حسن البنا ،فتأس ْ'
المسلمين"؛ ومن طريقة الخلف نهل علي عبد الرازق' وطه حسين وأمين الخولي ومحمد' أحمد
[]45 خلف اهلل – ٍّ
ولكل منهم قصة دامية مع تيار أهل السلف معروفة.
لن نتوقف هنا عند كتاب اإلسالم وأصول' الحكم لعلي عبد الرازق ،ألن اتصاله بعلم التأويل
لكن اتصال غير مباشر ،من جهة ،وألننا تناولناه تفصيالً في دراسة سابقة من جهة أخرى.
[]46
لماذا ُذ ِك َر اسم طه حسين من بين أتباع منهج الخلف ،وليس لطه حسين اتصا ٌل بعلم التأويل كذلك؟
تتضح العالقة بين طه حسين ومحمد' عبده – من زاوية تأويل القرآن – حين نتأمل سياق الفقرة
التي وردت في كتاب طه حسن في الشعر الجاهلي والتي أثارت ما أثارت من احتجاج وردود
ومناقشات' ومطالبة بفصل طه حسين من الجامعة – حتى حسم وكيل النائب العام محمد نور الدين
يجابا– ،
سلبا وإ ً
المشكلة من الناحية اإلدارية ،وإ ْن ظلت لها ،حتى اآلن ،امتداداتها' وتفاعالتهاً ،
هذا على الرغم من أن المؤلِّف نفسه – طه حسين – قام بسحب الكتاب ،وحذف' منه الفقرة التي
أثارت َّ
كل هذا الضجيج ،ثم أعاد نشره باسم في األدب الجاهلي الذي يماثل من حيث الحجم ثالثة
أضعاف الكتاب األول.
إن السياق األساسي' للكتاب هو مناقشة مدى انتساب هذا الشعر الذي يسمى "جاهليًّا" إلى عصر ما
قبل اإلسالم فعالً .ومن خالل بعض األدلة واألسانيد التاريخية واللغوية ،يرى طه حسين أن
"الصلة بين أصل اللغة العربية الفصحى التي كانت تتكلمها العدنانية (في الحجاز وشمال
الجزيرة) واللغة التي كانت تتكلمها القحطانية (في اليمن) ،إنما هي كالصلة بين اللغة العربية وأية
لغة أخرى من اللغات السامية المعروفة" .وبصرف النظر عن صحة هذه القضية أو خطئها ،فإن
المؤلِّف يستند إليها في الشك في صحة نسبة هذا الشعر المنسوب إلى شعراء أصلهم يمني
والمصوغ' بلغة عربية فصحى هي لغة الشمال .ويرى طه حسين أن هذا الشعر ال يمكن له أن
يكون قد ظهر قبل القرآن ،ألنه مكتوب بلغة قريبة ًّ
جدا من عربية القرآن ،التي لم تصبح لغة
وتأسيسا على ذلك ،يرى طه حسين أن القرآن يجب أن
ً الجزيرة كلِّها إال مع انتشار اإلسالم.
نسب إلى الجاهليين وهو ال ينتسب
يكون هو المرجع في فهم حياة الجاهلية ،ال هذا الشعر الذي ُي َ
لذاك العصر:
نسب إلى امرئ القيس أو إلى األعشى أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين ال
إن هذا الشعر الذي ُي َ
يمكن ،من الوجهة اللغوية والفنية ،أن يكون لهؤالء الشعراء وال أن يكون قد قيل وأذيع قبل أن يظهر
ستشهد بهذا الشعر على تفسير القرآن وتأويل الحديث ،وإ نما ينبغي أن
َ القرآن ...وال ينبغي أن ُي
شيئا وال تدل على
ستشهد بالقرآن والحديث على تفسير هذا الشعر وتأويله ...هذه األشعار ال تثبت ً
َ ُي
شيء ،وال ينبغي أن تُتَّخذ وسيل ًة إلى ما اتخذت إليه من علم بالقرآن والحديث؛ فهي إنما تُ ُكلِّفت
العلماء على ما كانوا يريدون أن يستشهدوا عليه.
[]47
ُ اختراعا ليستشهد بها
ً واختُ ِر َع ْت
في مقابل هذا الشك في الشعر الجاهلي والتقليل من شأنه في مسائل التفسير والتأويل ،نجد ثقةً
النص القرآني ،حتى ليغدو في نظر طه حسين المرآةَ األصدق' للحياة الجاهلية؛
مطلقة في صحة ِّ
وهو يرى أن هذه القضية بدهية ،على الرغم مما تبدو عليه من غرابة في نظر َمن يسمعها ألول
مرة .إنها قضية بدهية ألن "نص القرآن ثابت ال سبيل إلى الشك فيه" .لكن هذا النفي الحاسم
لصحة كثير من الشعر الجاهلي ،من حيث نسبتُه إلى ذلك العصر ،مع التأكيد الحاسم كذلك على
صحة النص القرآني وكونه هو المرآة الصادقة للعصر الجاهلي ،يفضي إلى مشكل ال َّ
بد من
حلِّه .ذلك أن الذين يقولون بوجود لغة موحدة يتكلمها العدنانيون والقحطانيون (أهل الشمال
والجنوب) يستندون إلى بعض المرويات في التفرقة بين "العرب العاربة" – أي العرب األقحاح
األصليون (وهم أهل الشمال) – وبين "العرب المستعربة" ،وهم أهل الجنوب الذين تعلَّموا العربية
ًّ
تاريخيا' وأتقنوها وتخلوا' عن لغتهم الحميرية منذ عصور بعيدة ،وهي لغة يربطها' هؤالء البعض
بهجرة إبراهيم ٍّ
بكل من إسماعيل وهاجر' إلى أرض الحجاز ،وهي القصة الواردة في القرآن
الكريم.
كان تأويل القصة القرآنية على أساس "التمثيل" بوصفها من "المتشابهات" '،وفقًا لمنهج اإلمام
محمد عبده ،هو الحل الذي َّ
قدمه طه حسين ِّ
لفض اإلشكالية؛ ولم يكن هذا الحل يتضمن بأية حال
كتابا في
ك في صحة القرآن :فالقرآن ليس ً
البعض من أتباع منهج السلف التشكي َ
ُ ما َّ
توهمه
التاريخ ،من جهة ،وهو يخاطب الناس على قدر عقولهم وأفهامهم ،من جهة أخرى .وخالصة
ذلك أن ما ُيروى' في القرآن من قصص يجب أال نبحث عن صدقه – أو عدم صدقه – في التاريخ
العلمي الموثَّق ،ألنه قصص كان معروفًا عند الناس وكان متداوالً .وهنا ال َّ
بد أن نشير إلى أن
طه حسين يؤكد – باإلضافة إلى تأكيده صحة النص وكونه أصدق مرآة للعصر – أن إعجاب
أصر على وثنيته – نابعٌ من وجود نوع من الصلة" ،هي هذه
الناس بالقرآن – من أسلم منهم ومن َّ
الصلة بين األثر الفني البديع وبين الذين يعجبون به حين يسمعونه أو ينظرون' إليه"[ .]48ومن
جديدا ،ال بمعنى الغرابة التامة التي تجعله عصيًّا على الفهم
شروط األثر الفني البديع أن يكون ً
وفوق' مستوى اإلدراك والتذوق ،بل بمعنى الجدة الالفتة والمتضمنة لعناصر' مألوفة في نفس
تماما بالنسبة للعرب
جديدا ً
الوقت .إذ لو كان القرآن ً
جديدا
بعضهم اآلخر .إنما كان القرآن ً
ضه وجادل فيه ُ
ناه َ
بعضهم وال َ
لما فهموه وال وعوه وال آمن به ُ
كتابا عربيًّا،
شرع للناس من دين وقانون .ولكنه كان ً
جديدا فيما َّ
جديدا فيما يدعو إليهً ،
في أسلوبهً ،
[]49
لغته هي اللغة العربية األدبية التي كان يصطنعها الناس في عصره ،أي في العصر الجاهلي.
إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البالد العربية ويبثون فيه المستعمرات.
حروبا عنيفة شبَّت بين هؤالء اليهود المستعمرين وبين العرب الذين كانوا يقيمون في
ً فنحن نعلم أن
هذه البالد ،وانتهت بشيء من المسالمة والمالينة ونوع من المحالفة والمهادنة .فليس يبعد أن يكون
الم ِغيرين وأصحاب البالد منشأ هذه القصة التي تجعل العرب واليهود
هذا الصلح الذي استقر بين ُ
شيئا من التشابه غير قليل :فأولئك
أبناء أعمام ،السيما وقد رأى أولئك وهؤالء أن بين الفريقين ً
وهؤالء ساميون ...وقد كانت قريش مستعدة َّ
كل االستعداد لقبول مثل هذه األسطورة في القرن
السابع للمسيح .فقد كانت في أول هذه القرن قد انتهت إلى ٍّ
حظ من النهضة السياسية واالقتصادية
ط سلطانها المعنوي على جزء غير قليل من البالد العربية
سَ َِ
وب ْ
ضم َن لها السيادة في مكة وما حولها َ
[
الوثنية .وكان مصدر هذه النهضة وهذا السلطان أمرين :التجارة من جهة ،والدين من جهة أخرى.
]50
وينتهي طه حسين من ذلك إلى أن قصة "العاربة والمستعربة" وتعلُّم' إسماعيل العربية من ُج ْرهم
– ذلك كله "حديث أساطير' ال خطر له وال عناء"[ .]51لكن ظهورها' في القرآن – الذي ال يعني
أهداف دينية يمكن أن تكون القصة ناجزة في تحقيقها .ذلك
ٌ صحتَها التاريخية – كانت وراءه
إن ظهور اإلسالم وما كان من الخصومة العنيفة بينه وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب قد اقتضى
أن تثبت الصل ُة الوثيقة بين الدين الجديد وبين الديانتين القديمتين :ديانة النصارى واليهود .فأما الصلة
الدينية فثابتة واضحة :فبين القرآن والتوراة واإلنجيل اشتراك في الموضوع والصورة والغرض – كلها
ترمي إلى التوحيد ،وتعتمد على أساس واحد ،هو هذا الذي تشترك فيه الديانات السماوية السامية.
ولكن هذه الصلة الدينية معنوية عقلية ،يحسن أن تؤيدها صل ٌة أخرى مادية ملموسة – أو كالملموسة –
بين العرب وأهل الكتاب .فما الذي يمنع أن تُست َغل هذه القصة ،قصة القرابة المادية بين العرب العدنانية
واليهود؟
[]52
غرضا دينيًّا،
ً هذا التأويل التاريخي/السياسي/االجتماعي لورود' القصة في القرآن لكي تؤدي
تتعمق من خالله الصلةُ الدينية المعنوية بين القرآن والنصوص' الدينية السابقة عليه – ،وهي صلة
َّ
معمقًا بإطار' ثقافي وأفُق معرفي'
امتدادا ألطروحة محمد عبدهَّ ،
ً ال مجال للتشكيك فيها – ،ليس إال
متاحا لمحمد عبده .ولعل هذا هو الذي يفسِّر مفارقة لغة طه حسين ِللُغة
أوسع من ذلك الذي كان ً
والعصابي' ضد كتاب في الشعر الجاهلي وضد رد الفعل العنيف ُمحمد عبده ،من جهة ،ويفسِّر َّ
طه حسين ،من جهة أخرى .إنها لغة جديدة ،وغير ِ
مهادنة في الوقت نفسه ،ألنها تستخدم مفردات
مثل "أسطورة" لوصف' القصة ومثل "استغالل" وصفًا لتوظيف' القرآن للقصة .وتبلغ لغة طه
تحديا للعقل النقلي – اللغة التي تعني عدم المهادنة مع لغة الوعظ والخطابة
حسين أقصى' درجاتها ً
– حين يقول:
أيضا .ولكن ورود هذين االسمينللتوراة أن تحدِّثنا عن إبراهيم وإ سماعيل ،وللقرآن أن يحدِّثنا عنهما ً
في التوراة والقرآن ال يكفي إلثبات وجودهما التاريخي ،فضالً عن إثبات هذه القصة التي تحدِّثنا
بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها.
[]53
قد يختلف الباحثون أو يتفقون مع ما يطرحه طه حسين في مشكلة "الشعر الجاهلي" ،وقد' يختلفون
معه أو يتفقون في الدالئل والبراهين التي استند إليها إلثبات اختالف لغة أهل الشمال عن لغة أهل
تعرض لتأويل
يشكك في صدق القرآن بأية حال من األحوال ،بل َّ الجنوب؛ لكن الرجل لم يكن ِّ
قصة من القصص القرآني تأويالً اجتماعيًّا تاريخيًّا ،منطلقًا دون شك من إنجاز محمد عبده بشأن
عدم التطابق بين القصص القرآني والتاريخ .لكن أتباع منهج السلف قرءوا الكتاب على طريقة
[]54
"وال تقربوا الصالة ،"...كما فعلوا ذلك مع كتاب اإلسالم وأصول' الحكم لعلي عبد الرازق.
من هنا يؤسِّس أمين الخولي اختالفَه الذي أشرنا إليه مع محمد عبده على غاية التفسير ،ويرى' أن
المقصد األسبق والغرض األول لعملية التفسير هو "البيان"؛ إذ هو الهدف الذي
تفسيرا – مثل محمد عبده – فقد كان انشغاله بقضية "المنهج" هو
ً وإ ذا كان أمين الخولي لم يترك
الحافز وراء القيام بدراسات وبحوث استكشافية عديدة ،خلَّ ْ
فت لنا تسعة كتب في اللغة واألدب
والبالغة والفكر واألديان المقارنة .واحد من هذه الكتب هو كتاب مناهج التجديد – ،الذي نعتمد
عليه هنا أساسا – ،ويضم' بين دفَّتيه عشر دراسات من تلك المجاالت المشار إليها ،وكلها ِّ
يركز ُ ً
على مشكلة المنهج .وانشغال الخولي هكذا بقضية المنهج في أكثر من مجال من المجاالت
مفهومه لمنهج التفسير والتأويل.
َ يعمق إلى ٍّ
حد كبير المشار إليها كان من شأنه ،دون شك ،أن ِّ
معاني ومرامي إنسانية اجتماعية بعيدة الهدف ،أبدية العمر ،لكن ذلك كلَّه إنما جاء اإلنسانية في ثوبه
المتعينة لفهم ذلك كلِّه والوصول
ِّ العربي وبذلك التعبير العربي؛ والتمثيل التام لهذه العروبة هو السبيل
[]59
إليه.
إن ترتيب القرآن في المصحف قد ترك وحدة الموضوع ،لم يلتزمها مطلقًا .وقد ترك الترتيب الزمني
فرق الحديث عن الشيء الواحد والموضوع الواحد في سياقات أبدا .وقد َّ
لظهور اآليات ،لم يحتفظ به ً
سر القرآن
متعددة ،ومقامات مختلفة ،ظهرت في ظروف مختلفة .وذلك كله يقتضي في وضوح بأن ُيفَ َّ
عرف
وي َ
جمعا إحصائيًّا مستقصيًّاُ ،
آيه الخاصة بالموضوع الواحد ً
جمع ُ
موضوعا ،وأن تُ َ
ً موضوعا
ً
فهم ،فيكون ذلك
فسر وتُ َ
ظر فيها بعد ذلك لتُ َّ
ترتيبها الزمني ومناسباتها ومالبساتها الحافة بها ،ثم ُين َ
ُ
[]60
التفسير أهدى إلى المعنى ،وأوثق في تحديده.
وصف
ٌ ِّ
المحددة لخصائصه من الضروري' االنتباه هنا إلى أن هذا الوصف' لبنية النص القرآني
دت بنيتُه َّ
وتحد ْ صحيح وصائب من الوجهة التاريخية ،أي من وجهة الكيفية التي َّ
تركب فيها النص
من خالل عمليتي الجمع األولى والثانية في عصر الخالفة األول .لكن هذه البنية ،بخصائصها
تلك ،هي التي تمارس فاعليتَها وتأثيرها' منذ ذلك العصر وحتى اآلن في قلوب المسلمين وغير
المسلمين وعقولهم .في عبارة أخرى ،كان المتوقَّع من الشيخ الخولي ،وقد انطلق من مفهوم أن
منهجا لدراسة النص دراسةً
ً القرآن هو "نص العربية األكبر" و"أثرها الفني األقدس" ،أن يطرح
فنية أدبية في بنيته الراهنة ،بصرف' النظر عن كيفية ُّ
تركبها من الوجهة التاريخية.
متوقعا '.فالشيخ
ً مطلبا مثل هذا ُي َعد مستحيالً بالنسبة للشيخ أمين الخولي ،فضالً عن أن يكون
لكن ً
خريج مدرسة "القضاء الشرعي" ،وتأثُّره بعلماء أصول الفقه واضح في المنهج الذي يطرحه: ِّ
ترتيبا' تاريخيًّا ،قبل القيام بعملية
جمعا إحصائيًّا ،ثم ترتيبها ً
جمع اآليات ذات الموضوع' الواحد ً
التفسير .لقد كان على علماء األصول أن يقوموا بذلك في دراسة األحكام الفقهية ،وذلك من أجل
"المجمل" من "المفصل" و"العام"' من "الخاص" – وذلك
َ فَ ْر ِز ناسخ األحكام من منسوخها ،وبيان
كله ال يتأتَّى إال بالجمع الموضوعي لآليات والترتيب التاريخي' لها كذلك .لكن الشيخ ِّ
يحول منهج
علماء األصول هذا – الخاص بدراسة األحكام والضروري' لها – إلى منهج صالح للتعامل مع
القرآن كلِّه .وال يمكن التقليل من شأن هذا المنهج حين تتعلق الدراسة بموضوعات القرآن
وقضاياه الفكرية والعقيدية واألخالقية؛ لكنه ليس المنهج األجدى في الدراسة األدبية للقرآن.
وليس ذلك كله من قبيل تناقُض في منهج الشيخ أمين الخولي ،ألن مفاهيمه للدراسة األدبية – التي
تحتاج إلى دراسة مستقلة ليس هاهنا مجالها – هي مفاهيم أقرب إلى المفاهيم الرومانسية المشبعة
النص األدبي من حيث الموضوعات والمضامين'
بمفاهيم الكالسيكية الجديدة؛ وهي مفاهيم تتناول َّ
تناولها له من حيث الشكل والبنية.
أكثر من ُ
وهذا هو الذي حدا بالشيخ إلى تقسيم الدراسات القرآنية إلى فرعين هما :دراسة "ما حول القرآن"،
التي تنقسم إلى "عامة" و"خاصة" :أما الخاصة فهي تلك الدراسات التي تُ َّ
سمى "علوم القرآن"،
كأسباب النزول ،والمكي والمدني ،والجمع والترتيب' والقراءة ،إلخ؛ والدراسات العامة حول
القرآن هي تلك الدراسات التي تتجاوز "علوم القرآن" التقليدية إلى ذلك النمط من الدراسة
التاريخية واالجتماعية الذي سبق أن تناوله محمد عبده .هذه الدراسة العامة تتناول عند الخولي
وح ِف َ
ظ ِ ِ
ما يتصل بالبيئة المادية والمعنوية التي ظهر فيها القرآن وعاش ،وفيها ُجم َع و ُكت َب وقُ ِرئ ُ
وخاطب أهلها أول َمن خاطب ،وإ ليهم ألقى رسالتَه لينهضوا بأدائها وإ بالغها شعوب الدنيا .فروح
القرآن عربية ،ومزاجه عربي ،وأسلوبه عربي ...والنفاذ إلى مقاصده إنما يقوم على التمثيل الكامل
واالستشفاف التام لهذه الروح العربية ،ولذلك المزاج العربي والذوق العربي .والتمثُّل التام لهذه
المتعينة لفهم ذلك كلِّه والوصول إليه .ومن هنا لزمت المعرف ُة الكاملة لهذه البيئة
ِّ العروبة هو السبيل
العربية المادية ...فكل ما يتصل بتلك الحياة المادية العربية وسائل ضرورية لفهم القرآن العربي
ٍ
ماض سحيق وتاريخ المبين – هذا مع ما يتصل بالبيئة المعنويةِّ ،
بكل ما تتسع له هذه الكلمة من
نت ،وفنون،
تلو ْ
بأي لون َّ
أي درجة كانت ،وعقيدةِّ ،
معروف ،ونظام أسرة أو قبيلة ،وحكومة ،في ِّ
وتتشعب .فكل ما تقوم به الحياة اإلنسانية لهذه العروبة وسائل
َّ مهما تنوعت ،وأعمال ،مهما تختلف
[]61
ضرورية كذلك لفهم هذا القرآن العربي المبين.
إن تلك الدراسات "حول القرآن" ،الخاص منها والعام ،تُعد بمثابة الدراسات الضرورية الممهِّدة
لدراسة النص ذاته ،أي للتأويل والتفسير .وليست هذه الدراسات ،في التحليل األخير ،إال دراسة
النص بالمعنى الشامل التاريخي' واالجتماعي والثقافي' والديني .وهنا يتجاوب فكر أمين
لسياق ِّ
تاما مع فكره األدبي ،خاصة في المنهج الذي طرحه في تجاوبا ًّ
ً الخولي في الدراسات القرآنية
كتابه عن األدب المصري' (ِّ ،)1943
مرك ًزا على أهمية "البيئة" بالمعنى الواسع الشامل لدرس
األدب.
ترتيبا ال يختلف
بعد هذه الدراسة األساسية الجوهرية ،تترتب خطوات عملية التأويل والتفسير' ً
كثيرا عن ترتيب تلك الخطوات عند محمد عبده ،مع إضافات تفصيلية شديدة األهمية .الخطوة
ً
األولى تبدأ بالنظر' في "المفردات" .ويؤكد الخولي ،مثل عبده ،أنه
لكن هذه المرحلة األولى من الخطوة األولى – خطوة النظر في المفردات – ال تعني أن داللة تلك
المفردات مرهونة فقط باالستخدام' اللغوي خارج النص .لذلك يضيف الخولي إلى هذه المرحلة
األولى مرحلةً ثانية في التحليل ،ال َّ
بد للمفسِّر من أن ينتقل إليها في تحليل المفردات :تلك هي
االنتقال من المعنى اللغوي إلى المعنى التداولي في القرآن .وعلى الباحث في هذه المرحلة الثانية
أن
ورودها [اللفظة المفردة] لينظر في ذلك ،فيخرج منه برأي عن استعمالها :هل كانت له وحدةَ يتتبَّع
اطَّردت في عصور القرآن المختلفة ومناسباته المتغيرة؟ وإ ن لم يكن األمر كذلك ،فما معانيها المتعددة
[]63
التي استعملها فيها في عصر نزول القرآن؟
وكما يؤكد الخولي أن عروبة القرآن – من حيث األسلوب والطابع والروح' – ال تتعارض مع
إن في
إنسانية مراميه وأهدافه وعالمية رسالته ،فإنه بالمثل يؤكد أن داللة األلفاظ المفردةْ ،
استعمالها اللغوي أو القرآني ،ليست داللة ساكنة ،بل هي داللة متحركة نامية .لكنه يحذر من
عمليات القفز واإلسقاط الدالليين ،التي يمكن أن يقع فيها المفسِّر ،ألن النمو أو التطور' الداللي
دائما في حركته بالداللة األصلية األولى وال يصح وال ينبغي أن يفارقها:
لأللفاظ مرهون ً
ال ين َكر أن خلود هذا الكتاب ورياضته الدائمة للحياة ،مع صلته الوثقى بها – كل ذلك يهيئ لفهم معاني
نسب إلى القرآن من هذه متجددة أو ناميةَّ .
لكنا ،مع عدم إنكار هذا القدر ،نرى أنه ال ينبغي أن تُ َ
المعاني إال ما كان طريق فهمه الحس اللغوي للعربية ،وسبيل االنتقال إليه هو داللة اللفظة األولى في
عصر نزول القرآن.
[]64
المفسر األدبي في المركبات؛ وهو في ذلك -وال مرية -مستعين بالعلوم األدبية ،من نحو
ِّ يكون نظر
وبالغة ...والنظر في اتفاق معاني القراءات المختلفة لآلية الواحدة ،والتقاء االستعماالت المتماثلة
في القرآن كلِّه ...على أن النظرة البالغية هي النظرة األدبية الفنية التي تتمثل الجمال القولي في
سماته ،في ذوق بارع قد استشف خصائص
األسلوب القرآني ،وتتبين معارف هذا الجمال وتستجلي قَ َ
نض ًّما إلى ذلك التأمالت العميقة في التراكيب واألساليب القرآنية لمعرفة مزاياها
التراكيب العربيةُ ،م َ
[]65
الخاصة بها بين آثار العربية.
نالحظ هنا أن "علم األساليب" عند محمد عبده يتحول عند الخولي إلى أداة للكشف عن أسرار
جمال األسلوب القرآني .إن علوم البالغة التقليدية التي حاول الخولي تطويرها' في كتابة الهام فن
كتابه مناهج التجديد ،هي أدوات المفسِّر القول ( ،)1947وفي' دراسات أخرى سابقة َّ
ضمها ُ
للكشف عن هذا الجمال – هذا باإلضافة إلى أن الغاية من تحليل أساليب القرآن والكشف عن
سر "اإلعجاز" الذي يرى الخولي أنه "نفسي" ،أي أنه قائم على
جمالياتها هي الوصول إلى ِّ
[]66
تأثيرا نفسيًّا.
"التأثير" في المتلقي ً
مردودا،
ً بد للخولي من أن يدرك أن ما يمارسه القرآن من تأثير نفسي م ِ
عجز ليس وهنا كان ال َّ
ُ
وال يمكن أن ُي َر َّد ،إلى القراءة الموضوعية بحسب ترتيب النزول ،بل هو تأثير ناتج عن البنية
للنص التي يطلق عليها القدماء "ترتيب التالوة" ،في مقابل "ترتيب النزول"' الذي يشير إلى
الحالية ِّ
ممكنا له أن يتحقق للخولي ،ألن الوعي به لم
ما قبل هذه البنية الحالية .لكن هذا اإلدراك لم يكن ً
بدءا من بنت الشاطئ'
ذلك أن تالميذ الخوليً ، يبدأ إال في الخمس والعشرين سنة األخيرة.
[]67
ومحمد أحمد خلف اهلل وشكري' عياد ،ظلوا متمسكين ،بدرجات متفاوتة بالطبع ،بمنهج وحدة
الموضوع' وترتيب النزول.
يبقى ،لكشف بعض الجوانب الهامة المتصلة بتصور' الخولي لإلعجاز النفسي ،أن نتناول بالتحليل
َّ
رده على أصحاب نظرية "اإلعجاز العلمي" للقرآن ،وهي نظرية تحظى بقبول وانتشار واسعين
جدا في السنوات األخيرة في بعض الدوائر األكاديمية ،فضالً عن سريانها سريان النار في الهشيم ًّ
الرد (الذي ُن ِح ُّس بأهمية إيراده
في وعي العوام وأشباه المثقفين من المسلمين .إن الخولي في هذا ِّ
كامالً هنا) ِّ
يشدد على ثالث نقاط جوهرية كاشفة عن مفهوم "اإلعجاز النفسي" عنده ،أو عن
بعض جوانبه على األقل.
-النقطة األولى :إن القرآن ،حين يتناول بعض حقائق الكون ومشاهده ،إنما يتناولها تناوالً
فنيًّا ،وال يتناولها من ناحية قوانين العلم الدقيقة أو نواميس الكون المنضبطة.
والمدرك' للناس
َ -النقطة الثانية :إن هذا التناول لحقائق الكون إنما يعتمد على المشهود
أيضا.
جميعا ،العامة والخاصة ،والعلماء وأنصاف' العلماء ،بل والجهالء ً
ً
جميعا من ناحية
ً المشاهدة والملموسة للناس
َ -النقطة الثالثة :إن القرآن يتناول هذه الحقائق
َو ْق ِعها على الحواس ،وانفعال الناس بها ،وما تثيره من روعة في نفوسهم.
ويمكن صوغ هذه النقاط الثالث بعبارة أخرى ،هي أن القرآن ،حين يتناول بعض حقائق الكون
قار في تصوراتهم،
معتمدا على ما هو ٍّ
ً والمدركة ،إنما يتناولها' ليثير مخيلة القارئ،
َ المشاهدة
َ
محر ًكا النفعاالتهم التي قد تكون خمدت بحكم األلفة ،وذلك كله في أسلوب أدبي مؤثر .وهكذا
ِّ
تناول القصص في القرآن
يمكن القول إن هذا التناول لظواهر الكون والطبيعة هو نفسه أسلوب ُ
ألهداف دينية وعظية ،وليس لرواية التاريخ .وهذا هو نص الشيخ أمين الخولي:
يحاول منهج الخولي أن يستعيد' لهذا التيار حيويته على مستوى قضايا' التجديد ،بصفة عامة،
وعلى مستوى' تأويل القرآن ،بصفة خاصة .من هنا يضيف إلى وعي محمد عبده بالتراث
ِ
إنجازات علماء أصول الفقه في مجال التحليل اللغوي ،الستثمار' األحكام من المعتزلي والرشدي
النصوص عن طريق وحدة الموضوع' وترتيب النزول؛ ويضيف' إلى منهج طه حسين "اللغوي
أبعادا من نظرية األدب عن تأثير البيئة وعن التأثير النفسي لألدب في القارئ .وفي ذلك الفني" ً
دفعت بها إلى السطح محنةُ الفن
ْ أبدا ،وإ ْن
وعي أمين الخولي ً كلِّه ،لم تُفارق محنةُ تيار "التأويل"
َ
ت تحت إشراف الخولي. القصصي في القرآن ،الرسالة التي أُن ِج َز ْ
الدراسة الفنية المتجددة للقرآن ،كتاب العربية األكبر ،والمستفيدة من التقدم الفني والعقلي
س ُبها أن
التفسير األدبي للقرآن خطوة لألمام بعيدة األثر ،خطوة َح ْ
ُ واالجتماعي ،تنتهي إلى أن يتقدَّم
مثقف باإلسالم ،واثقًا
ٌ ازدواج الشخصية في المتدين – ذلك االزدواج الذي يتجلَّى حين يتدين
َ تمنع
ويقرر :إن اإلسالم وكتابه القرآن يحدِّث عن األشياء والواقعات بما يشاء ،ويستغلها
مؤم ًنا ،ثم يدرك ِّ
ود ِف َع
وتقرر ُ في ترويج الدعوة اإلسالمية كما يشاء ،دون أن يكون حقًّا ُم ِ
لز ًما للمؤمنين .وهو ما أذيع َّ
[]69
به في مصر منذ ثلث قرن في أزمة الشعر الجاهلي.
المحمل بالتفسير ال التبرير ،لطه حسين وألطروحته عن
َّ هذا الوصف' المشبَّع بالنقد ،أو النقد
القرآن في كتاب في الشعر الجاهلي ،يكشف عن وجه ٍّ
هام من وجوه التحدي الذي يرى الخولي أن
منهج "التفسير األدبي" قادر' على مواجهته وعلى ِّ
حل مشكل "االزدواج"' في المثقف المتدين .وهنا
تتقدم أطروحة محمد عبده عن "القصص القرآني" والتاريخ ،مدعَّمةً بأدوات منهج التحليل األدبي
مشيرا بالطبع إلى الفن
ناجعا لمرض "االزدواج" .يقول الخولي – ً
وإ جراءاته ،لكي تكون دواء ً
ومدافعا' عنه حتى االستعداد لإللقاء في النار ،على ِّ
حد تعبيره في المقدمة نفسها: ً القصصي
وعلى هذا األساس ،يستطيع المثقف الراقي ،حين يتدين ،أن يعتقد في تسليم مطمئن بحديث القرآن
وأشخاص
َ الفني في قصصه ،ومع ذلك ،يحقِّق ويحلِّل في عمق ووضوح تاريخ هاتيك األحداث،
أصحابها ،وينفي في ذلك ويثبت ،مطمئ ًنا إلى أن هذا لن يصادم بحال ذلكم العرض الفني اآلخر ،وأن
يمس سالم َة القرآن وصدقَه .وهكذا ال يضطر
هذا العرض الفني ،مهما يقل التاريخ في أحداثه ،لن َّ
العالم المؤمن إلى أن يعالن العالم وأهله بأن للقرآن أن يقول ما يشاء ،وأن يستغل األحداث كما يشاء،
دون أن ُي ِ
لزمنا ذلك بشيء ،ألننا مؤمنون بوجداننا – ،ثم باحثون بعقلنا – ،وفي أنفسنا هذان التياران
معا .لن يقول المستنير ذلك ،بل سيقول ،بعد أن يفهم خطة الدرس الفني
المتخالفان والمتجاوران ً
السبل الفنية في عرضه لقصص السابقين ما يشاء،
لقصص القرآن الكريم :إن للقرآن أن يسلك من ُ
دون أن يقصد إلى مساس التاريخ بشيء ،ألنه إنما يعرضها العرض الفني الذي ال يقوم على
قرر أن يقصده بصراحة ،أال وهو ِ
الع ْبرة :لقد كان في التفاصيل أو الروايات والتحديات ،بل يقصد ما َّ
قصصهم عبرة ألولي األلباب.
[]70
.5خاتمة
لعل هذا العرض أن يكون محاولة لفتح باب الفكر وإ غالق أبواب القتل .ولعل تطوير منهج
الخولي ،وفقًا إلنجازات المعرفة المتنامية في مجال العلوم اإلنسانية (خاصة األلسنية والتأويلية)،
تجاو ًزا لحالة الركود' في مجال الدراسات القرآنية – ذلك الركود الذي لم تستطع جهود
أن يمثل ُ
تماما ألهل السلف المعاصرين مدرسة الخولي – ألسباب كثيرة – أن تتخطَّاه ،فأسلم' المجا ُل َ
قياده ً
– والبون بينهم وبين أسالفهم' شاسع ،كما هو البون بين اإلبداع والتكرار ،بين األصالة والنقل،
وبين اإلفادة واإلعادة.
*** *** ***
السابق ،المجلد الرابع ،ص 93-92؛ وانظر كذلك :المجلد التاسع ،ص .511-506 []37
إذا كانت قصة أمين الخولي ال تبدو لبعضهم داميةً ،فالحقيقة أنها كذلك :لقد كان األستاذ المشرف على رسالة []45
الدكتوراه الفن القصصي في القرآن للطالب محمد أحمد خلف اهلل ،وهي رسالة أثارت ً
نزاعا خرج من الجامعة إلى الحياة
الطالب من الجامعة سنة .1949وبعد خمس سنوات ،تم ُلغي ِت الرسالةُ وفُ ِ
ص َل ِ العامةَّ '،
ُ فتدخل األزهر والحكومة ،حتى أ َ
ف باسم "حركة التطهير" ،بعد أن كان قد ُح ِر َم من ِّ
حق أيضا ،فيما ُع ِر َ
فصل األستاذ الشيخ أمين الخولي من الجامعة ً
واحدا من
ً اإلشراف على الرسائل الجامعية' المتصلة بالدراسات القرآنية بقرار من إدارة الجامعة '.ومن الجدير بالذكر أن
طالب الخولي النابهين – هو شكري عياد – قد اضطر في دراسته للدكتوراه إلى تغيير التخصص من "الدراسات القرآنية"
إلى "الدراسات' البالغية" لكي يحظى بشرف االستمرار تحت إشراف أمين الخولي وتوجيهه.
انظر مقدمة المؤلِّف لكتاب الخالفة وسلطة األمة ،المترجم عن التركية ،طب ،2دار نهر ،القاهرة.1995 ، []46
في الشعر الجاهلي ،طب ،2دار نهر ،القاهرة ،1995 ،ص .20 []47
طُبِ َع طبعةً مستقلة في دار نهر بالقاهرة ،ثم طبعتْه مجلة القاهرة في أحد أعدادها (مايو .)1995 []55
هذا ما حدث مع التلميذة األولى من تالميذ الخولي (وزوجته بعد ذلك) ،د .بنت الشاطئ ،في التفسير البياني للقرآن، []58
الذي يكاد من الناحية المنهجية أال يتجاوز حدود علم البالغة الكالسيكي.
لعل دراسات محمد أركون خير تعبير عن هذا اإلدراك اآلن. []67
الفن القصصي في القرآن الكريم ،مكتبة األنجلو المصرية ،طب ( 1972 ،4المقدمة بقلم أمين الخولي) ،ص د. []69
***
السيوطي (عبد الرحمن جالل الدين) ،اإلتقان في علوم القرآن ،مكتبة مصطفى البابي الحلبي ،ط ،3القاهرة1370 ، []1
هـ 1951/م.
انظر :محمد بن جرير الطبري ،تاريخ الرسل والملوك ،بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ،دار المعارف ،القاهرة ،ط 4 []2
الطبري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،بتحقيق محمود محمد شاكر ،دار المعارف ،القاهرة ،1971 ،الجزء []3
ألحمد بن محمد اإلسكندراني المالكي ،مكتبة مصطفى البابي الحلبي ،ط .1966 ،3
انظر :محمد عابد الجابري ،بنية العقل العربي ،مركز دراسات الوحدة العربية ،بيروت ،ط .1989 ،4وفيما يتصل []9
بمنهج المعتزلة في التأويل ،انظر دراستنا :االتجاه العقلي في التفسير :دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة،
دار التنوير ،ط .1993 ،3
الخياط (أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد بن عثمان) ،االنتصار في الرد على ابن الراوندي ،بتحقيق نيبرج ،المطبعة []10
انظر :القاضي عبد الجبار أبو الحسن األسدآبادي :متشابه القرآن ،بتحقيق عبد الكريم عثمان ،مكتبة وهبة ،ط ،1 []11
انظر :الطبري :جامع البيان ،بتحقيق شاكر (سبقت اإلشارة إليه) ،الجزء األول ،ص 431-428؛ وانظر كذلك []12
المجلد الحادي عشر ،مطبعة الريان ،القاهرة (مصورة عن طبعة بوالق قديمة) ،ص .483-482
انظر :ابن رشد ،فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من االتصال ،بتحقيق محمد عمارة ،دار المعارف ،القاهرة، []13
،1972ص .32
انظر نماذج لهذا الخالف في كتابنا السابق اإلشارة إليه في الحاشية ،9ص .78 []14
ُن ِش َر الكتاب بتصحيح زكريا علي يوسف ،مطبعة اإلمام ،القاهرة 1380 ،هـ. []16
نقالً عن :مصطفى عبد الرزاق ،تمهيد لتاريخ الفلسفة اإلسالمية ،مكتبة النهضة المصرية ،ط ،1966 ،3ص -85 []17
.86
ما بين عالمات التنصيص أسماء كتب لمحمد عبده ،سنحيل إلى بعضها فيما يلي. []18
تفسير طنطاوي الجوهري ،تفسير الجواهر ،دار المعارف ،القاهرة ،دون تاريخ. []19
أمين الخولي ،مناهج التجديد في النحو والبالغة والتفسير واألدب ،دار المعرفة ،القاهرة ،ط .1961 ،3 []21