You are on page 1of 36

‫إشكالية تأويل القرآن‬

‫َّ‬
‫قديما وحديثًا‬
‫ً‬

‫‪ .‬تقديم‬

‫اإلعداد لهذه الندوة الهامة في الذكرى المئوية األولى لرحيل أحد‬


‫ُ‬ ‫لعل االفتراض الذي ينطلق منه‬
‫رواد الفكر النهضوي' – عبد الرحمن الكواكبي' – في حاجة إلى مراجعة‪ :‬هل صحيح أن مشروع‬
‫َّ‬
‫"اإلصالح الديني" في منظومة فكر النهضة العربي قد فشل في تحقيق أهدافه؟‬

‫ال يمكن إعطاء إجابة شافية عن هذا السؤال دون تحديد طبيعة األهداف التي سعى مشروعُ'‬
‫"اإلصالح الديني" إلى تحقيقها‪ .‬فاألهداف‪ ،‬كما نعلم‪ ،‬تمثل الركائز األساسية َلبْل َو َرة الوسائل التي‬
‫تصوغ‪ ،‬بدورها‪ ،‬المبادئ النظرية التي يمكن لنا أن نطلق عليها اسم "المنهج"‪ .‬وال يستقيم في‬
‫نجاحا‬
‫ً‬ ‫حكمنا على مشروع' "اإلصالح الديني" –‬
‫منهج الفكر العلمي – التحليل النقدي – أن ينطلق ُ‬
‫إنجازها‪ .‬في عبارة أخرى‪ ،‬ال‬
‫نتصور نحن أن المشروع كان عليه ُ‬ ‫َّ‬ ‫أو إخفاقًا – من منظور' أهداف‬
‫الرواد على فشلهم‬
‫جيل َّ‬
‫يجوز أن نفترض أهدافًا من منظور' إشكالياتنا اإلصالحية اآلن‪ ،‬ونحاسب َ‬
‫سقف المطالب‬
‫في تحقيقها‪ .‬فالذي ال شك فيه أن مطالبنا' اإلصالحية اآلن تتجاوز' بدرجات َ‬
‫الرواد إلى تحقيقها‪ ،‬وهي المطالب التي َّ‬
‫حددتْها طبيعةُ المرحلة‬ ‫اإلصالحية التي كان يطمح جي ُل َّ‬
‫التاريخية وتحدياتها' الداخلية والخارجية‪ .‬نحن إزاء تحديات داخلية وخارجية تختلف‪ ،‬كميًّا‬
‫خطاب اإلصالح الديني آنذاك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫تعامل معها‬
‫وكيفيًّا‪ ،‬عن تلك التحديات التي َ‬

‫من المطلوب في البداية كذلك إزالةُ االلتباس الذي يمكن أن ينتج عن كون الدعوة إلى تجديد‬
‫طرحها' اليوم بإلحاح بعد أحداث الحادي عشر من سپتمبر ‪،2001‬‬
‫ُ‬ ‫الخطاب الديني اإلسالمي ُيعاد‬
‫في سياق الضغوط األمريكية على العالم العربي واإلسالمي لتعديل برامجه التعليمية‪ ،‬خاصة منها‬
‫الم ِع ِّدين لهذه الندوة كانت ِّ‬
‫تحركهم' دوافعُ االستجابة للضغط‬ ‫ما يرتبط' بتعليم اإلسالم‪ .‬فال أظن أن ُ‬
‫األمريكي بطرح التساؤل عن أسباب فشل مشروع النهضة من زاوية مشروع' "اإلصالح الديني"‬
‫بصفة خاصة‪ .‬لكن نفي هذا االرتباط بين الضغط السياسي' األمريكي وبين إعادة تقييم مشروع‬
‫حدث الحادي عشر من سپتمبر' من أصداء في‬
‫اإلصالح الديني ال يعني عدم االعتراف بما أثاره ُ‬
‫العالمين العربي واإلسالمي‪ '،‬بعضها سلبي وبعضها إيجابي‪ .‬وفي' تقديري أن بعض النتائج‬
‫اإليجابية تتمثَّل في الحاجة إلى إعادة النظر في صيغة "األنا"‪ ،‬من حيث عالقتُها باآلخر‪ ،‬من‬
‫منظور نقدي‪.‬‬

‫وال يحتاج الكاتب هنا إلى إبراز جهوده في مجال "نقد الخطاب الديني" خالل أكثر من ربع قرن‪،‬‬
‫هي مجمل حياته األكاديمية؛ وهي جهود صارت مكثَّفة خالل السنوات العشر األخيرة بصفة‬
‫خاصة‪ .‬الكاتب هنا ال يتعامل مع األسئلة واإلشكاليات' التي يطرحها' علينا اآلخرون بقدر ما‬
‫يتعامل مع أسئلة الواقع الراهن – وكثير منها أسئلة مؤجَّلة‪ .‬أكثر األسئلة المؤجَّلة تتعلق بحقوق‬
‫اإلنسان وحقوق' المرأة وحقوق األقلِّيات‪ ،‬وهي الحقوق التي يمكن لنا تصنيفها تحت مفهوم‬
‫وثمة أسئلة تتعلق بقضايا التعليم والحرية والديموقراطية والتقدم والنهضة إلخ‪ .‬إنها‬
‫"العدل"‪َّ .‬‬
‫قضايانا' وأسئلتنا منذ عصر النهضة‪ ،‬الذي بدأناه في القرن التاسع عشر‪ ،‬وتعثَّرت مسيرتُنا' معها‬
‫حسمها منذ أمد ليس بالقريب‪.‬‬
‫ألسباب عديدة‪ ،‬فتأجَّلت القضايا وتوقف' ُ‬

‫ينبغي‪ ،‬إذن‪ ،‬أال نتقاعس عن التعامل مع هذه القضايا وغيرها لمجرد أنها تُثار وتنعكس علينا من‬
‫متصورين أننا بذلك ندافع عن "هويتنا"‪ .‬ليست هويتنا هي "التخلف"'‬
‫ِّ‬ ‫مرايا اآلخرين‪ ،‬فيركبنا' العناد‪،‬‬
‫ومقاومة "التطور"‪ ،‬ومن العبث أن ننحاز إلى صفوف دعاة "التجمد"' باسم الدفاع عن الدين‬
‫وأخيرا‪ ،‬فإن المعيار الذي على أساسه نقيس األمور' يجب أن يكون معيار حاجتنا إلى‬
‫ً‬ ‫والهوية‪.‬‬
‫أسس نهضتنا الحديثة‪ ،‬والتي لم‬
‫التطور‪ ،‬ومقاومة "الجمود"‪ ،‬وهو المعيار الذي قامت على بنائه ُ‬
‫كثيرا من القضايا المؤجَّلة‪.‬‬
‫الكثير من طموحاتها‪ ،‬فتركت وراءها ً‬
‫ُ‬ ‫يتحقق‬

‫أسس أكثر متانة إال أن نبحث عن أسباب‬


‫ال سبيل أمامنا إلى استئناف مشروع' النهضة على ُ‬
‫إخفاقها ونواجه في شجاعة أسئلتها‪ ،‬أو باألحرى أسئلتنا المؤجَّلة‪ ،‬وعلى رأس هذه القضايا قضية‬
‫"تجديد الخطاب الديني"‪ .‬وقد اخترت في هذا البحث أن أتناول قضية "التأويل"' بوصفها واحدة من‬
‫المهمشة في الخطاب‬
‫َّ‬ ‫أخطر قضايا الفكر الديني‪ ،‬وإ ْن تكن‪ ،‬على الرغم من ذلك‪ ،‬من أكثر القضايا‬
‫الديني الراهن؛ لذلك حرصت على إثارتها بوصفها' "إشكالية"‪ .‬هذا باإلضافة إلى أنها واحدة من‬
‫قضايا مشروع' اإلصالح الديني المتعثِّرة ألسباب سنتناولها في سياق تحليلنا للمشكلة في تطورها'‬
‫التاريخي‪.‬‬

‫‪ .2‬تمهيد‬

‫لعله من المفيد أن نبدأ الكالم في هذا الموضوع' بتحليل العنوان الذي اخترناه لهذا البحث‪ ،‬ذلك أنه‬
‫حد ذاته‪ .‬وتحليل هذا العنوان يضعنا مباشرة في قلب الموضوع من حيث هو‬ ‫شكل في ِّ‬ ‫عنوان م ِ‬
‫ُ‬
‫بدوره إشكالية‪ .‬وكلمة "إشكالية" ليست مقبولة عادة في الحديث عن القرآن‪ ،‬وكذلك كلمة "تأويل"‪،‬‬
‫تقريبا‪ ،‬أي العاشر الميالدي‪ – ،‬باستثناء‬
‫ً‬ ‫حيث َد َر َج العلماء المسلمون منذ القرن الرابع الهجري‬
‫شائعا‬
‫الشيعة وبعض المتصوفة – على تفضيل مصطلح "التفسير" على مصطلح "التأويل"‪ ،‬فصار ً‬
‫جنوح عن المقاصد والدالالت الموضوعية في القرآن ودخو ٌ'ل في إثبات عقائد‬
‫ٌ‬ ‫أن "التأويل"'‬
‫ٍ‬
‫مقصود لدالالت المفردات والتراكيب‬ ‫ٍ'‬
‫تحريف‬ ‫وأفكار' – أو باألحرى' "ضالالت" – من خالل‬
‫القرآنية ومعانيها‪.‬‬

‫صحيح أننا نجد عند جالل الدين السيوطي (القرن التاسع الهجري‪ ،‬الخامس عشر الميالدي)‬
‫معا على قدم المساواة‪ ،‬من حيث ارتباطُ‬
‫مصطلحي "التفسير"' و"التأويل"' يضعهما' ً‬
‫َ‬ ‫تمييزا دالليًّا بين‬
‫ً‬
‫معا‪ ،‬وذلك على أساس أن "التفسير" هو‬ ‫ٍّ‬
‫المؤول – إليهما ً‬
‫ِّ‬ ‫كل منهما باآلخر‪ ،‬وحاجة المفسِّر – أو‬
‫تتضمنه من‬
‫َّ‬ ‫شرح معاني الكلمات المفردة‪ ،‬في حين أن "التأويل" هو استنباط' داللة التراكيب‪ ،‬بما‬
‫حذف وإ ضمار' وتقديم وتأخير وكناية واستعارة ومجاز' إلخ‪ .‬لكن ما يقوله السيوطي' في القرن‬
‫التاسع ليس في مجمله إال إعادة صياغة وترتيب لما سبق قولُه في القرون األربعة األولى وما‬
‫كثيرا من أقوال اإلمام الغزالي‪.‬‬
‫تالها بقليل‪ ،‬وربما حتى نهاية القرن الخامس الهجري‪ ،‬حيث ينقل ً‬
‫ومعنى' ذلك أن األقوال التي يرويها' السيوطي' عن السلف يمكن أن تؤخذ على أنها وصف‬ ‫[‪]1‬‬

‫مصطلحا‬
‫ً‬ ‫للممارسة الفعلية في مجال التفسير في عصره‪ ،‬وهو العصر الذي يعتبر "التأويل"‬
‫مشبوها‪ ،‬إن لم يكن سيئ الداللة‪.‬‬
‫ً‬

‫ومن الضروري هنا اإلشارة إلى أن مصطلح "التأويل" اكتسب داللتَه غير الحسنة تدريجيًّا‪ ،‬ومن‬
‫والنمو االجتماعيين وما يصاحبهما' عادة من صراع فكري' وسياسي‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫خالل عمليات التطور‬
‫ت متناثرةً في كتب التاريخ والتفسير‪ .‬من هذه‬‫ويمكن لنا هنا أن نستشهد ببعض األقوال التي َو َر َد ْ‬
‫األقوال ما يروى' عن علي بن أبي طالب حين رفع األمويون المصاحف على ِ‬
‫أسَّنة الرماح‪ ،‬عمالً‬ ‫ُ‬
‫بنصيحة الداهية عمرو بن العاص‪ ،‬طالبين االحتكام إلى القرآن‪ ،‬األمر الذي أحدث انشقاقًا في‬
‫صفوف جيشه‪ ،‬فقال علي‪" :‬باألمس حاربناهم' على تنزيله‪ ،‬واليوم نحاربهم' على تأويله" – وهي‬
‫عبارة تحاول أن تلفت أنظار الذين استجابوا' للتحكيم إلى أن هؤالء القوم من بني أمية يحاولون‬
‫اليوم التالعب بالتأويل‪ ،‬بعد أن كانوا في سنوات سابقة يرفضون التنزيل‪ .‬لكن عبارة علي ال‬
‫بعد قد تحولت إلى مصطلح‪ ،‬بل هي عبارة‬ ‫تتضمن أية داللة معيبة لكلمة "تأويل"‪ ،‬التي لم تكن ُ‬
‫ِّ‬
‫المحكمة كذلك‪" :‬القرآن‬ ‫واصفة لطبيعة الخالف‪ .‬والذي يؤكد ذلك أنه هو نفسه الذي قال ًّ‬
‫ردا على‬
‫بين دفَّتي المصحف' ال ينطق وإ نما يتكلَّم به الرجال‪ ]2[".‬وهو الذي قال البن عباس وهو بصدد‬
‫حمال ْأو ُجه‪ ،‬بل حاجهم بالسَُّّنة‪".‬‬
‫الحجاج مع الخوارج‪" :‬ال تحاجهم بالقرآن‪ ،‬فإن القرآن َّ‬
‫وفيما يورده محمد بن جرير الطبري' (القرن الثالث الهجري‪ ،‬التاسع الميالدي) عن بعض‬
‫التابعين في شرح اآلية ‪ 7‬من سورة آل عمران‪ ،‬هناك َمن يقول عن "الذين في قلوبهم' زيغٌ" الذين‬
‫يتَّبعون المتشابِه أن المقصود هم الخوارج‪ ]3[.‬والعبارة‪ ،‬في داللتها الحرفية‪ ،‬تعني أنهم يقصدون‬
‫إلى تأويل المتشابِه من القرآن واتِّباعه "ابتغاء الفتنة"‪ ،‬ألن المتشابِه "ما يعلم تأويلَه إال اهلل" ِّ‬
‫بنص‬
‫جميعا أن هذه اآلية صارت فيما بعد محور' جدال عميق بين المفسِّرين‬ ‫ً‬ ‫اآلية المذكورة‪ .‬ولعلَّنا نعلم‬
‫والف َرق المختلفة‪ ،‬ال حول تأويلها' وشرح معناها فقط‪ ،‬بل حول عالمات الوقف‬ ‫من االتجاهات ِ‬
‫واالتصال فيها كذلك‪.‬‬

‫بدءا من‬ ‫تماما من ُّ‬


‫تعدد التأويالت واختالف' التفاسير ً‬ ‫ولعلنا ال نحتاج هنا إلى شرح ما هو معروف ً‬
‫"المؤولة"‬
‫ِّ‬ ‫القرن األول الهجري؛ وهو أمر نما واتسع في القرون التالية‪ ،‬حتى صار مصطلح‬
‫نمو‬
‫يضم‪ ،‬إلى جانب الخوارج‪ ،‬الشيعة والمعتزلة والمتصوفة‪ .‬ولعل القرن الرابع‪ ،‬الذي شهد َّ‬
‫الفكر الشيعي على مستوى' الصياغة الفلسفية والالهوتية‪ ،‬هو نفسه القرن الذي شهد قمة العداء‬
‫بين الدولة ِّ‬
‫السنية‪ ،‬ممثلةً في دولة الخالفة العباسية‪ ،‬وبين الدولة الشيعية التي امتد سلطانها' حتى‬
‫بدءا من‬
‫القاهرة‪ .‬وهو كذلك القرن الذي كان قد شهد االنتصار السياسي‪ ،‬ممثالً في تأييد الدولة‪ً ،‬‬
‫ِ‬
‫المحافظ‪ ،‬بعد أن كانت الدولة في عصر المأمون والمعتصم‬ ‫عصر المتوكل‪ ،‬للفكر الفقهي ِّ‬
‫السني‬
‫الموقف الفقهي ِّ‬
‫السني‪ .‬من الطبيعي' أن يكون لهذا المشهد‪ ،‬الذي‬ ‫َ'‬ ‫الفكر االعتزالي وتعادي‬ ‫َّ‬
‫تتبنى َ‬
‫تأثيره في إلصاق داللة‬
‫يصعب فيه التمييز بين السياسي' والفكري‪ ،‬أو بين الدنيوي' والديني‪ُ ،‬‬
‫ًّ‬
‫تدريجيا' ليكون هو‬ ‫"التحريف"' بداللة "التأويل"؛ األمر الذي جعل مصطلح "التفسير" َّ‬
‫يتقدم‬
‫المصطلح الدال على البراءة الموضوعية‪.‬‬

‫أبعاد هذا اإلحالل لمصطلح "التفسير" َّ‬


‫محل مصطلح "التأويل"‪ ،‬ينبغي العودة إلى‬ ‫ولكي تتضح ُ‬
‫كلمة "تفسير" في مجال التداول اللغوي‪ .‬ومن الجدير بالذكر أن كلمة "تفسير" لم تَ ِر ْد في القرآن‬
‫كلِّه سوى مرة واحدة‪ ،‬بينما وردت كلمة "تأويل"' أكثر من عشر مرات‪ .‬وإ ذا أخذنا َّ‬
‫النص القرآني‬
‫"مع َّدل‬
‫سمى في الدراسات اللغوية َ‬
‫نموذجا لما ُي َّ‬
‫ً‬ ‫عاما –‬
‫– الذي طالت فترة نزوله أكثر من عشرين ً‬
‫االنتشار"‪ ،‬لجاز لنا أن نقول إن كلمة "تأويل"' تنتشر في اللغة العربية في عصر القرآن عشرة‬
‫أضعاف انتشار' كلمة "تفسير"؛ هذا باإلضافة إلى أن كلمة "التفسير"' – وهناك خالف حول جذرها‬
‫اللغوي‪ ،‬هل هي من "الفسر" أم من "السفر" – تعني في الغالب ما يقترب إلى ٍّ‬
‫حد كبير من معنى‬
‫"الترجمة" اآلن‪ ،‬وإ ن كانت "ترجمةً" داخل النظام اللغوي نفسه‪ .‬من هنا نفهم لماذا أطلق ابن جني‬
‫(أبو الفتح عثمان‪ ،‬القرن الرابع الهجري‪ ،‬العاشر الميالدي) على شرحه لديوان المتنبِّي اسم‬
‫"الفَسر"‪ ،‬وهو مجرد شرح لمعاني المفردات‪.‬‬
‫ضم داخله َّ‬
‫كل ما‬ ‫أما أول كتاب كبير في شرح القرآن‪ ،‬وهو كتاب محمد بن جرير الطبري‪ ،‬الذي َّ‬
‫سبقه في مجال شرح النص القرآني‪ ،‬فقد أطلق عليه اسم جامع البيان عن تأويل آي القرآن؛ وهو‬
‫يبدأ َّ‬
‫كل آية بالشرح قائالً‪" :‬تأويل قوله تعالى‪ ."...‬وخالصة ذلك أن ما يقوله السيوطي' عن الفرق‬
‫كالم صحيح في‬
‫ضروري له‪ٌ ،‬‬
‫ٍّ‬ ‫بين "التفسير" و"التأويل"‪ ،‬من حيث إن أولهما بمثابة تمهيد للثاني‬
‫مجمله؛ وفي' الممارسة الفعلية لعملية الشرح‪ ،‬التي هي "التأويل"‪ ،‬ال َّ‬
‫بد من المرور' بالتفسير‪ .‬لكن‬
‫وصف الممارسة العملية ال يكفي لبيان ما حدث من تفضيل لمصطلح "التفسير" على مصطلح‬
‫"التأويل"‪ ،‬وهو األمر الذي حاولنا شرحه باختصار' فيما مضى‪ .‬ولكن أال يفضي هذا الشرح الذي‬
‫َّ‬
‫قدمناه إلى إبراز أن ثمة إشكالية في المصطلحات' ذاتها‪ ،‬فضالً عن عملية التأويل في الممارسة‬
‫العملية؟‬

‫هذا السؤال يقودنا إلى كلمة "إشكالية" في العنوان؛ وهي بدورها كلمة ال تُتقبَّل في سهولة في‬
‫مجال الدراسات القرآنية الذي يبدو مجاالً شديد الوضوح‪ ،‬وإ ن كان مجاالً عميقًا متسع األطراف‪،‬‬
‫مشدودا إلى جمال‬
‫ً‬ ‫"بحرا ال ساحل له عميق األغوار"‪ ،‬إذا استخدمنا' لغة القدماء‪ .‬ويعجب اإلنسان‬
‫ً‬
‫خاليا من األمواج المتالطمة على‬
‫"بحر ال ساحل له عميق األغوار" ً‬
‫االستعارة‪ :‬كيف يكون ٌ‬
‫سطحه ومن الدوامات القاتلة في أعماقه! لكن هذا هو الفارق الواسع بين داللة أقوال القدماء‬
‫المجازية في الغالب وبين الفهم السطحي' المعاصر لتلك األقوال‪ .‬في الفهم السطحي' المعاصر‬
‫معا‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫ابتذا ٌل لألقوال نابعٌ من نزعها من سياقها الكلي‪ ،‬المعرفي' واللغوي ً‬

‫ِّ‬
‫"األب" في قوله تعالى‪" :‬وفاكهة وأبًّا"[‪ ،]4‬وقبله في عصر‬ ‫منذ تساءل عمر بن الخطاب عن معنى‬
‫[‬
‫التنزيل تساءل المسلمون عن معنى "الظلم"' في قوله تعالى‪" :‬الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"‬
‫مستشهدا بما َو َر َد في نصيحة لقمان البنه‬
‫ً‬ ‫‪ ،]5‬فشرحه لهم الرسول بأنه ِّ‬
‫"الشرك" في هذا السياق‪،‬‬
‫لظلم عظيم"[‪ – ]6‬منذ ذاك العصر والمسلمون‬ ‫ِّ‬
‫في القرآن‪" :‬يا بني ال تشرك باهلل إن الشرك ٌ‬
‫طا سهالً‪ .‬وهذا اإلدراك إلشكالية التأويل هو الذي جعل‬ ‫أمرا بسي ً‬
‫يدركون أن شرح القرآن ليس ً‬
‫ابن أبي طالب ِّ‬
‫يحذر ابن عباس من االنزالق إلى هاوية "التأويل"' و"التأويل' المضاد" في نقاشه مع‬
‫الخوارج‪ .‬بل إن هذا اإلحساس هو الذي يمكن لنا أن نتبيَّنه من َو َجل الجيل األول من الصحابة‬
‫الصديق' أبي بكر‪" :‬أي أرض تقلُّني وأي سماء تُ ِظلُّني إذا‬
‫ِّ‬ ‫من الدخول في عملية التأويل‪ ،‬مثل قول‬
‫تم لألسف تحريف داللتها كذلك في سياق الطعن في التأويل‬
‫قلت في القرآن برأيي"؛ وهذه األقوال َّ‬
‫ومهاجمته‪.‬‬

‫لكن هذا الحذر لم يمنع القَ َدر‪ .‬فالحياة تتقدم‪ ،‬والمجتمع اإلسالمي ينمو‪ ،‬وتتسع دائرةُ الثقافات التي‬
‫يتفاعل معها اإلسالم‪ ،‬وتتعدد مرجعيات التأويل – وإ ْن كان ذلك التعدد ال ينفي وحدة المنظور‬
‫غريبا في سياق‬ ‫أمرا‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫الذي يمكن لنا أن ُنطلق عليه مصطلح "رؤية العالم" اإلسالمية‪ .‬وليس هذا ً‬
‫نص ديني م َنزل من اهلل بلغة القوم الذين أ ِ‬
‫ُرس َل فيهم الرسول‪ .‬هنا تتعدد‬ ‫حضارة مركزها ٌّ‬
‫ُ‬
‫المرجعيات‪ ،‬بين لغوية وفقهية وكالمية وفلسفية‪ ،‬ويصبح "التأويل" أداةً من أهم أدوات التوافق' مع‬
‫النص القرآني‪ ،‬مركز هذه الحضارة‪.‬‬
‫المرجع األول‪ِّ ،‬‬

‫هل يمكن بعد ذلك النظر إلى التأويل تلك النظرة السطحية الساذجة إلى ٍّ‬
‫حد كبير؟ أم أن التأويل‬
‫قديما وحديثًا؟'‬
‫إشكالية اإلشكاليات في العقل المسلم‪ً ،‬‬

‫قديما‬
‫‪ .3‬اإلشكال ً‬

‫أبدا ما أشرنا إليه من إحساس الجيل‬


‫قديما‪ ،‬يجب أال يغيب عن بالنا ً‬
‫لكي نتناول إشكالية التأويل ً‬
‫األول من المسلمين – جيل الصحابة – بثقل المهمة ومشقَّتها‪ ،‬حتى أوشك بعضهم' أن يقترب بها‬
‫هربا من "التأويل"'‬
‫من مجال التحريم‪ .‬ولم يكن األمر‪ ،‬كما يحلو لبعض المعاصرين أن يفهموا‪ً ،‬‬
‫مؤخرا' بين التفسير‬
‫ً‬ ‫اكتفاء بالتفسير‪ – ،‬إذ لم يكن قد تََبْل َور' هذا "التضاد"' الذي حدث‬
‫ً‬ ‫وخشية منه‬
‫والتأويل‪ – ،‬بل كان األمر ما صاغه علي بن أبي طالب عن "احتمال الوجوه" الذي ُيفضي إلى‬
‫قرر' أن القرآن "بين دفَّتَي‬
‫إمكانية التضارب والتضاد‪ '.‬لكنه هو نفسه‪ ،‬أي عليًّا بن أبي طالب‪ ،‬الذي َّ‬
‫أمرا‬
‫مفر منه‪ ،‬لكنه ليس ً‬
‫قرر أن "التأويل" ال َّ‬‫المصحف ال ينطق وإ نما يتكلَّم به الرجال"‪ ،‬أي َّ‬
‫موضوعا' للتالعب السياسي‪.‬‬
‫ً‬ ‫سهالً‪ ،‬ويجب‪ ،‬من ثََّم‪ ،‬أال يكون‬

‫لكن المتأخرين بعد القرنين الرابع والخامس الهجريين (العاشر والحادي' عشر الميالديين) قد‬
‫تالعبوا بدالالت كالم القدماء‪ ،‬كما يتالعب المحدثون بدالالت كالم هؤالء المتأخرين‪ ،‬فقاموا‬
‫بإحداث ذلك الفارق المزعوم بين "الرأي المقبول" و"الرأي المذموم"' في مجال التأويل‪ ،‬وذلك‬
‫ليضعوا اجتهادات المسلمين من غير فقهاء أهل َّ‬
‫السنة والجماعة داخل دائرة "الرأي المذموم"'‬
‫خالصا لهم‪ .‬وانتشرت' في كتب المتأخرين‪ ،‬وخاصة‬
‫ً‬ ‫المحرم‪ ،‬بينما يصبح الوصف' "رأي مقبول"‬ ‫َّ‬
‫التحذيرات من التفاسير الضارة والتأويالت المنحرفة‪ .‬وحين‬
‫ُ‬ ‫ابن تيمية وتلميذه ابن قيِّم الجوزية‪،‬‬
‫تسامحهم إزاء بعض تفسيرات المعتزلة‪ ،‬يشيرون إلى تفسير الزمخشري‬ ‫َ‬ ‫يريدون أن ُيظ ِهروا'‬
‫ِّ‬
‫للمتمكنين من‬ ‫لقيمته البالغية‪ ،‬مع التحذير من ضالالته االعتزالية‪ ،‬وعدم السماح بمطالعته إال‬
‫براهين أهل َّ‬
‫السنة والجماعة‪ .‬ومن الالفت لالنتباه أن الطبعة المشهورة للكتاب (طبعة مصطفى‬
‫البابي الحلبي بالقاهرة) تتضمن ردود' ابن المنير ِّ‬
‫السني وتعليقاته على انحرافات' الزمخشري'‬
‫بالهامش‪ ]7[.‬واالختالف في التأويل بين أهل َّ‬
‫السنة والجماعة‪ – ،‬وهو مصطلح إيديولوجي‪ – '،‬من‬
‫جهة‪ ،‬وبين المعتزلة‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬أقدم من الزمخشري وابن المنير؛ وهو‪ ،‬بالطبع‪ ،‬أقدم من‬
‫ابن تيمية وتلميذه‪.‬‬

‫ولعل بعض النماذج يمكن لها أن تكشف الجذور التاريخية لهذا االختالف في منبعها األصلي‪.‬‬
‫ودون الدخول في التفاصيل‪ ،‬يمكن القول إن تاريخ تأويل القرآن‪ ،‬ومن ثََّم إشكاليته‪ ،‬تنبع من تجدد‬
‫علماء‬
‫ُ‬ ‫النص في منطوقه‪ .‬وهي اإلشكالية التي عبَّر عنها‬
‫الحياة بالحركة والصيرورة مع ثبات ِّ‬
‫أصول الفقه حين قالوا بندرة النصوص مع تكاثر الوقائع' وتجددها‪ .‬وإ ذا كان علماء األصول قد‬
‫حلوا إشكاليتهم' بمقولة "خصوص السبب وعموم اللفظ"‪ ،‬فجعلوا' من "عموم اللفظ" قاعدةً للفهم ومن‬
‫"خصوص السبب" قاعدةً للقياس‪ ،‬فإن هذا َّ‬
‫الحل العبقري لم يتجاوز' حدود آيات األحكام والشرائع‬
‫التي تمثل أقل من ُسدس آيات القرآن كلِّه‪.‬‬
‫[‪]8‬‬

‫تحديا للعقل الفقهي إزاء ندرة النصوص؛ فكانت‬ ‫هكذا تمثل حقيقة ُّ‬
‫تجدد الوقائع' وتكاثرها' ً‬
‫واجهَها العقل المعتزلي‪،‬‬
‫االستجابة مزدوجة‪ ،‬عقليًّا ولغويًّا‪ .‬نفس الظاهرة – ظاهرة التحدي – َ‬
‫وإ ْن على مستوى آخر هو مستوى' فهم العقيدة‪ ،‬فكانت استجابته‪ ،‬بالمثل‪ ،‬مزدوجة عقليًّا ولغويًّا‪.‬‬
‫على المستوى اللغوي‪َ ،‬و َج َد المعتزلي في مقولة "المجاز"' – وهي مقولة لغوية – حالً إلشكالية‬
‫النص والعقل؛ وكان اعتماده في استجابته العقلية على قياس – "قياس‬
‫التعارض الظاهر بين ِّ‬
‫الغائب على الشاهد" – إدرا ًكا للمطلق في مخالفته للمحدود' من ِّ‬
‫كل وجه؛ فهو قياس مخالفة ال‬
‫وبناء على قياس المخالفة هذا بين اهلل‪ ،‬من جهة‪،‬‬
‫ً‬
‫[‪]9‬‬
‫تصور' بعض الدارسين‪.‬‬
‫قياس مطابقة‪ ،‬كما َّ‬
‫لمفهومي "التوحيد"' و"العدل"‪،‬‬
‫َ‬ ‫تم ِت الصياغةُ شبه الفلسفية‬
‫وبين العالم واإلنسان‪ ،‬من جهة أخرى‪َّ ،‬‬
‫يقرره الخياط في كتاب‬ ‫وهما أساس مبادئهم' الخمسة المعروفة؛ بل "العدل" هو أساس التوحيد‪ ،‬كما ِّ‬
‫االنتصار[‪.]10‬‬

‫أسباب كثيرة‪ ،‬ليس هاهنا مجال‬


‫ٌ‬ ‫لنفور أهل الحديث والفقهاء من فكر المعتزلة وطرائق' استداللهم‬
‫عموما من التعمق المعرفي في‬
‫ً‬ ‫لشرحها‪ .‬ويكفي فقط القول إن أهل الحديث والفقهاء كانوا ينفرون‬
‫أسرار النص القرآني؛ ذلك أن نفورهم من المعتزلة والفالسفة لم يكن أكثر من نفورهم من‬
‫المتصوفة‪ ،‬خاصة من هؤالء الذين يتفوهون بعبارات غريبة أو يقيمون زهدهم على أساس‬
‫غيرهم من‬
‫غاليا من حياتهم‪ ،‬ودفعه ُ‬
‫عرفاني‪ .‬لهذا دفع الحالج‪ ،‬وكذلك السهروردي‪ ،‬الثمن ً‬
‫اتهاما باإللحاد والزندقة‪ .‬وربما كان لقبول علماء أصول الفقه التحدي في مجال آيات‬
‫سمعتهم ً‬
‫نظرا التصال تلك القضايا بالحياة اليومية والمصالح المباشرة؛‬
‫أسباب عملية‪ً ،‬‬
‫ٌ‬ ‫التشريع واألحكام‬
‫طا' من الوجهة العقلية‪ ،‬ألنه ببساطة‬
‫قياسا بسي ً‬
‫هذا باإلضافة إلى أن القياس الذي اعتمدوه كان ً‬
‫تطابق ال مخالفة‪ .‬وبصرف النظر عن أسباب االختالف بين أهل الحديث والفقهاء وبين‬
‫قياس ُ‬
‫غيرهم من الفالسفة والمتكلِّمين والصوفية‪ ،‬فإن استجابة هؤالء األخيرين للتحدي نفسه على‬
‫مستوى العقيدة والفكر واألخالق' لم تكن مقبولة من الفقهاء‪.‬‬

‫لننظر في مسألة "استواء اهلل على العرش"‪" :‬الرحمن على العرش استوى"' (طه ‪" ،)5‬إن ربكم اهلل‬
‫الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام ثم استوى على العرش" (األعراف ‪ ،)54‬التي يرى‬
‫المعتزلة أنها "مجاز"‪ ،‬أو صورة تمثيلية (تمثيل)‪ ،‬وأنه ليس هناك عرش وال استواء بمعنى‬
‫الجلوس‪ :‬إنهم في هذا التأويل ينطلقون من استحالة المعنى الحرفي في حق اهلل الذي "ليس كمثله‬
‫مستويا على العرش فمعنى ذلك‪ ،‬من منظور' المعتزلة‪،‬‬
‫ً‬ ‫شيء وهو اللطيف الخبير"[‪ .]11‬إذا كان اهلل‬
‫أنه محدود' في المكان‪ ،‬وأنه جسم يقبل األعراض‪ ،‬إلخ‪ .‬واعتماد المعتزلة في مرجعية التأويل‬
‫النص القرآني كما‬
‫على القياس العقلي – قياس المخالفة – يجد له كذلك مرجعيةً في بنية ِّ‬
‫"المح َكم والمتشابِه" التي سنتناولها' بعد قليل‪.‬‬
‫تصوروها من خالل ثنائية ُ‬

‫في مقابل هذا التأويل االعتزالي لهذه اآلية وألمثالها مما ُيطلَق عليه آيات "الصفات"‪ ،‬تمسَّك‬
‫"المشابهة"‬
‫َ‬ ‫الفقهاء بالمعنى الحرفي' لالستواء على العرش؛ لكنهم حاولوا' مع ذلك جهدهم في نفي‬
‫أحيانا‬
‫نسب إلى مالك بن أنس ً‬
‫التي يفضي إليها الفهم الحرفي‪ ،‬فتوصَّلوا إلى تلك الصياغة التي تُ َ‬
‫أحيانا أخرى‪ ،‬تلك هي العبارة التي صارت شائعة وتتكرر' عبر األجيال حتى‬
‫وإ لى أحمد بن حنبل ً‬
‫يومنا هذا‪" :‬االستواء معروف' والكيف مجهول والحديث عنه بدعة"‪.‬‬

‫لو تأملنا قليالً هذه العبارة المتداولة في دوائر الفكر اإلسالمي كلِّها – والتي لم يتأملها أحد‪ ،‬على‬
‫تناقضا' على أكثر من مستوى‪:‬‬
‫ً‬ ‫ما يبدو‪ ،‬تأمالً عميقًا – لوجدنا أنها عبارة تتضمن‬

‫بالحس أو بالعقل أو بالخيال‪،‬‬


‫ِّ‬ ‫مدر ًكا‬ ‫‪     .1‬المستوى' األول أن ما هو "معروف"' ال َّ‬
‫بد أن يكون َ‬
‫وهو‪ ،‬في ِّ‬
‫كل حالة من تلك الحاالت‪ ،‬ال يكون مجهول الكيفية؛ إذ ما هو مجهول من حيث‬
‫كيفيته – والكيف أحد األعراض التي يتحدد بها الشيء – ال يكون معروفًا‪.‬‬

‫‪     .2‬المستوى' الثاني أن "االستواء"' معطى لغوي‪ ،‬ال تنكشف داللتُه إال من خالل سياق تركيبي'‬
‫النص‬ ‫الحد األدنى‪ ،‬وما يسبقها وما يتلوها في ِّ‬
‫الحد األوسط‪ ،‬ثم هو سياق ِّ‬ ‫هو الجملة في ِّ‬
‫في تركيبه في ِّ‬
‫الحد األعلى‪ .‬وعلى ذلك‪ ،‬فالقول إن "االستواء معروف"' قول يتناول‬
‫المفهوم الذهني‪ ،‬الذي هو المدلول المباشر' ِّ‬
‫للدال اللغوي‪ ،‬وال عالقة له بالعبارة القرآنية‪.‬‬

‫‪     .3‬المستوى' الثالث من التناقض نفي "الحديث" بزعم أنه بدعة‪ ،‬مع أن اآليات القرآنية‬
‫"حديث" عن االستواء‪ ،‬من حيث هو فعل إلهي‪.‬‬
‫أمثال العبارة السابقة من أقوال الفقهاء تؤخذ هكذا‪ ،‬دون تحقيق أو فحص عن محتواها‪ .‬وال شك‬
‫أن إيقاعها الثالثي الذي يجعل الداللة الحرفية واضحة ("االستواء معروف")‪ ،‬ويجعل التأويل‬
‫برمته في هاوية "البدعة" – و"كل بدعة‬
‫كاذبا ("الكيف مجهول")‪ ،‬ثم يطرح األمر َّ‬
‫االعتزالي ً‬
‫ضاللة‪ ،‬وكل ضاللة في النار"! – هذا اإليقاع الثالثي التنغيمي في تصاعده‪ ،‬من "المعروف" إلى‬
‫تأثيرا شبه سحري' حين ُيتلى على العامة في المواعظ‪ .‬وهكذا‬
‫"المجهول" إلى "البدعة"‪ ،‬يمارس ً‬
‫تتم تعبئة عوام المسلمين وأشباه المتعلِّمين منهم ضد "التأويل"' لحساب "التفسير"‪.‬‬

‫ولعل أهم تفسير‪ُ ،‬يشار إليه بوصفه أعظم التفاسير عند أهل َّ‬
‫السنة والجماعة‪ – ،‬عدا كثرة‬
‫استشهاده بالمرويات اإلسرائيلية‪ – ،‬هو كتاب ابن جرير الطبري جامع البيان‪ .‬وإ ذا تفحَّصنا كتاب‬
‫جامع البيان في خصوص قضايا' التأويل العقلي‪ ،‬وبصرف' النظر عن أن مصطلح "التأويل" هو‬
‫الدال على عملية الشرح كلِّها عند الطبري‪ ،‬كما أسلفنا‪ ،‬فسنالحظ غياب هذا النوع من التأويل‪،‬‬
‫َّ‬
‫وهو الغياب الذي يفسِّره الباحث الساذج َّ‬
‫ضد "التأويل" لصالح "التفسير"‪ .‬والحقيقة أن غياب تلك‬
‫شرحا‬
‫ً‬ ‫القضايا عن كتاب الطبري' له داللة تستحق' التأمل‪ .‬إن الطبري يشرح معنى "االستواء"'‬
‫جميعا ثم استوى إلى‬
‫ً‬ ‫وافيا في اآلية ‪ 29‬من سورة البقرة‪" :‬هو الذي خلق لكم ما في األرض‬
‫ً‬
‫فسواهن سبع سماوات وهو ِّ‬
‫بكل شيء عليم" – وهي آية ال تثير إشكالية االستواء على‬ ‫السماء َّ‬
‫العرش التي تثيرها اآليات األخرى المشار إليها فيما سلف‪ ،‬وهي اآليات التي يمر عليها الطبري'‬
‫ما‬ ‫ومكتفيا بالقول‪" :‬لقد شرحنا االستواء فيما مضى فال حاجة إلعادته هنا‪".‬‬
‫[‪]12‬‬
‫ً‬ ‫متجاهالً اإلشكالية‬
‫معنى هذا التجاهل من جانب الطبري' إلشكالية ما تزال مستمرة حتى اآلن؟ بل هي إشكالية أنتجت‬
‫الرد على الجهمية والمعطِّلة بعد الطبري' بحوالى أربعة‬
‫المرسلة في ِّ‬
‫َ‬ ‫هاما هو الصواعق‬
‫كتابا ًّ‬
‫ً‬
‫كبيرا بعنوان "طاغوت المجاز"‪ .‬فكيف يمر عليها الطبري'‬‫قرون؛ وهذا الكتاب يتضمن فصالً ً‬
‫هكذا مرور' الكرام في القرن الثالث الهجري؟!‬

‫ليس الغياب بالضرورة دليالً على عدم اتفاق الطبري' مع المعتزلة؛ كما أنه ليس‪ ،‬بالمثل‪ ،‬قرينة‬
‫على اتفاقه معهم – وال َّ‬
‫بد للصمت مع ذلك من داللة‪ .‬لقد عاصر الطبري' عصر ازدهار' الحنابلة‬
‫وسيطرتهم‪ ،‬من خالل التحالف مع السلطة السياسية في بغداد‪ .‬والطبري' فقيه‪ ،‬له اجتهاداتُه الفقهية‬
‫ومتنا‪ ،‬كتاب هام لم‬
‫سندا ً‬
‫معا‪ ،‬وله في مجال نقد المرويَّات‪ً ،‬‬
‫األصيلة على مستوى' النظر والتطبيق' ً‬
‫ينل ما يستحقه من اهتمام الباحثين بعد‪ ،‬هو كتاب تهذيب اآلثار؛ وقد كان له رأي في ابن حنبل‬
‫ود ِفن‪ .‬فهل كان لهذا الحدث‬
‫أثار عليه الحنابلة‪ ،‬حتى أوشكوا أن يقتلوه‪ ،‬فظل رهين بيته حتى مات ُ‬
‫تأثيره الذي جعل الطبري' يتحاشى الدخول في مناقشة هذه الموضوعات' الشائكة؟ ال يمكن لنا أن‬
‫ُ‬
‫نطرح إجابة دقيقة عن هذا السؤال‪ ،‬خاصة وأن كتاب الطبري أ ُْمِل َي على طالبه؛ فال يمكن الجزم‬
‫يقينا بسبب هذا الغياب‪ .‬لكن الغياب‪ ،‬كما سبق القول‪ ،‬ال يعني االتفاق مع تأويل المعتزلة؛ وهو‬
‫ً‬
‫يقينا ال يعني المخالفة التامة‪ .‬هذا باإلضافة إلى أن كتاب الطبري' من أهم الكتب في حرصه‬
‫ً‬
‫تركيبا‪ ،‬ال بين التفسير والتأويل' فقط‪ ،‬بل بين علوم‬
‫ً‬ ‫الدائب على القيام بعمل تأويلي' حقيقي يمثل‬
‫القرآن النقلية كافة وبين العمل التأويلي' الحق‪.‬‬

‫والسؤال اآلن هو‪ :‬هل ثمة وجود حقيقي للكتب في مجال التفسير تكتفي بشرح المفردات – أي‬
‫الترجمة – وتنبو' عن التأويل‪ ،‬حتى بالمعنى االعتزالي؟ مثل هذه الكتب موجود بالفعل‪ ،‬ولكنها ال‬
‫تدعي أنها تفسير‪ ،‬بل هي شروح للمفردات‪ ،‬مثل كتب غريب القرآن‪ ،‬على سبيل المثال‪ .‬إن‬ ‫َّ‬
‫عملية التأويل واحدة في جوهرها‪ ،‬ألن الوصول إلى "الداللة" – التي هي ضالَّة المفسِّر – يتطلب‬
‫تصورا – ولو ضمني – لماهية‬
‫ً‬ ‫فهما أو‬
‫جهدا على درجة عالية من التركيب‪ ،‬كما أنه يتطلب ً‬
‫ً‬
‫النص القرآني‪ .‬لقد اعتمد المعتزلة على اآلية السابعة من سورة آل عمران التي تقول إن الكتاب‬
‫ِّ‬
‫متشابهات"‪ ،‬وصاغوا' نظرية في التأويل‬
‫ٌ‬ ‫ُخر‬ ‫مات َّ‬
‫هن ُّأم الكتاب وأ َ‬ ‫آيات ُمح َك ٌ‬
‫– القرآن – "منه ٌ‬
‫المح َكم‪ ،‬أي الواضح‪ .‬ومن خالل‬ ‫تعتمد على فهم المتشابِه – الغامض – ً‬
‫قياسا على مرجعية ُ‬
‫نظريتهم' في المعرفة واللغة َّ‬
‫حددوا عدة مستويات' للوضوح‪ ،‬ومثلها للغموض‪ ،‬وصارت' نظريتُهم'‬
‫نموذجا ُمحتذى عند خصومهم‪.‬‬
‫ً‬ ‫في التأويل في قالبها النظري التجريدي' الخالص‬

‫وجود الواضح‬
‫َ‬ ‫ما هو موطن الخالف إذن؟ موطن الخالف أن اآلية المشار إليها أثبتت للجميع‬
‫ووجود' الغامض‪ ،‬لكنها لم ِّ‬
‫تحدد ما هو الغامض وما هو الواضح – وليس ثمة في القرآن تحديد‪.‬‬
‫مقياسا‪ :‬فما يتفق مع المفاهيم‬
‫ً‬ ‫لذلك صار من السهل على المعتزلة أن يجعلوا المعرفة العقلية‬
‫متناقضا معها فهو المتشابِه‬
‫ً‬ ‫المح َكم‪ ،‬وما يبدو‬
‫العقلية بداللته اللغوية المباشرة فهو الواضح ُ‬
‫الغامض الذي ال سبيل إلى تقبُّل داللته اللغوية المباشرة‪ .‬وهنا تتدخل أداة "المجاز"' لتزيل‬
‫والمح َكم‪ .‬وتلك هي بالضبط' النظرية التي صاغها ابن‬ ‫ِ‬
‫الغموض وتنهي' َو ْه َم التناقض بين المتشابه ُ‬
‫[‪]13‬‬
‫رشد في التأويل على قانون الكالم العربي لنفي التعارض بين الشريعة والبرهان‪.‬‬

‫في كتابه متشابه القرآن يصوغ القاضي عبد الجبار األسدآبادي' المعتزلي (القرن الرابع الهجري‪،‬‬
‫نضجا‪ .‬لكن كتاب ابن قتيبة تأويل مشكل‬
‫ً‬ ‫العاشر الميالدي) نظرية المعتزلة تلك في شكلها األكثر‬
‫القرآن في القرن الثالث الهجري (التاسع الميالدي) ِّ‬
‫يؤكد‪ ،‬في ردوده على المعتزلة‪ ،‬أنه َّ‬
‫يتبنى‬
‫نظريتهم‪ ،‬حتى في قراءة نهاية اآلية على العطف وليس على الوقف' ثم االستئناف‪" ':‬وما يعلم‬
‫تأويلَه إال اهلل والراسخون في العلم يقولون َّ‬
‫آمنا به"‪ .‬والخالف هنا يكمن في تحديد ما هو ُمح َكم‬
‫واضحا هو عند خصومهم' متشابِه غامض‪ ،‬والعكس‬
‫ً‬ ‫وما هو متشابِه‪ :‬فما يعتبره المعتزلة ُمح َك ًما‬
‫وهذا معنى قولنا' إن القالب النظري' التجريدي الخالص لنظرية المعتزلة صار هو‬ ‫صحيح‪.‬‬
‫[‪]14‬‬
‫واضحا ًّ‬
‫جدا في تعليقات ابن المنير ِّ‬
‫السني على‬ ‫ً‬ ‫المحتذى عند الخصوم‪ .‬وهذا ما نجده‬
‫النموذج ُ‬
‫تفسير الزمخشري‪.‬‬

‫وألن خالف األشاعرة مع المعتزلة َّ‬


‫تركز في النهاية حول قضايا العدل – وفي القلب منها قضية‬
‫"خلق األفعال" – فقد حدث اتفاق في تأويل آيات الصفات‪ ،‬وهي اآليات المتصلة بقضية التوحيد'‬
‫النمو والتواصل في الفكر اإلسالمي ألسباب عديدة‪ ،‬لعل من‬
‫والتنزيه‪ .‬لكن هذا االتفاق لم ُيتَ ْح له ُّ‬
‫أهمها حالة التمزق السياسي' التي أصابت اإلمبراطورية اإلسالمية‪ ،‬وما أدت إليه من ضعف‬
‫تهدد األقاليم' اإلسالمية كلَّها‪ .‬ومن شأن ذلك‬
‫انتهى باكتساح المغول لبغداد‪ ،‬وصارت' المخاطر ِّ‬
‫نمو نزعة االحتماء بما تتصور الجماعة أنه خصائصها الذاتية‪.‬‬
‫الخطر الخارجي أن يؤدي إلى ِّ‬
‫لذلك كان من الطبيعي' نمو الفكر الحنبلي وسيطرته في كثير من مجاالت الفكر اإلسالمي‪ .‬وهنا‬
‫سنالحظ أنه حتى تأويالت األشاعرة آليات الصفات‪ ،‬انطالقًا' من اتفاقهم مع المعتزلة في محور'‬
‫ِ‬
‫المحافظ‪.‬‬ ‫"التوحيد"‪ ،‬صارت تأويالت غير مشروعة من منظور الفكر الحنبلي‬

‫صحيح أن ابن تيمية – وهو من أهم ممثِّلي الفكر الحنبلي – يعلن نظريًّا "موافقة صريح المعقول‬
‫لصحيح المنقول"‪ ،‬لكن مرجعية االتفاق عنده ليس "المعقول" بل "المنقول"! وفي عبارة أخرى‪ ،‬إذا‬
‫كان المعتزلة والفالسفة يعتبرون "العقل" هو األصل الذي على أساسه يتم تأويل النقل وتفسيره‪،‬‬
‫فإن مدرسة ابن تيمية ترى أن صحيح المنقول هو األصل الذي على أساسه ُيرفَض المعقول أو‬
‫"المح َكم والمتشابِه"' هي العنصر' الجوهري في بنية النص‬
‫ُيقبل‪ .‬ونتيجة لذلك ال تصير' ثنائية ُ‬
‫القرآني الذي على أساسه يقوم قانون "التأويل"‪ ،‬بل يصير' "النقل" هو مرجعية التأويل‪.‬‬

‫ترتيبا' يبدأ باألعلى في مقدمة ابن تيمية ألصول التفسير‪ ،‬وذلك‬


‫من هنا يتم ترتيب األصول النقلية ً‬
‫تقريبا‪:‬‬
‫ً‬ ‫على النحو التالي‬

‫مفصالً في موضع آخر‪.‬‬ ‫بعضا‪ :‬فما َو َر َد مجمالً في موضع َي ِر ُد َّ‬


‫بعضه ً‬
‫‪     .1‬القرآن يفسِّر ُ‬
‫أح َدثَه القرآن في كثير‬
‫تطورا دالليًّا ْ‬ ‫كل األحوال‪ ،‬ألن ثمة‬ ‫صحيحا في ِّ‬
‫ً‬ ‫(هذا المبدأ ليس‬
‫ً‬
‫نص استمر نزولُه أكثر من‬
‫من األلفاظ‪ ،‬بحيث يصعب أن تكون الداللة هي هي في ٍّ‬
‫عاما؛ وتلك مالحظة سيوردها محمد عبده وكذلك أمين الخولي في العصر‬
‫عشرين ً‬
‫الحديث‪).‬‬

‫منسوبا إلى الرسول في التفسير‪ ،‬سواء بطريقة مباشرة – وهي حاالت قليلة – أو‬
‫ً‬ ‫‪     .2‬ما َو َر َد‬
‫بطريقة غير مباشرة‪ ،‬أي من خالل َّ‬
‫السنة‪.‬‬
‫‪     .3‬ما َو َر َد عن الصحابة في الروايات الموثوق في صحَّتها‪ ،‬ألنهم أقرب إلى عصر التنزيل‪،‬‬
‫وأعلم بأسباب النزول‪ ،‬والناسخ والمنسوخ‪ ،‬والمكي والمدني‪ ،‬وقرائن األحوال المالزمة‬
‫للوحي‪ ،‬إلخ‪.‬‬

‫كثيرا من اختالفاتهم في‬


‫وي َترك‪ ،‬مع العلم أن ً‬
‫يؤخذ منه ُ‬
‫‪     .4‬ما َو َر َد من تفسير عن التابعين َ‬
‫تنوع وليس اختالف تضاد‪.‬‬
‫التفسير هي اختالف ُّ‬

‫اجتهاد المفسِّر بالشروط' الالزمة من العلم باللغة والفقه‬


‫ُ‬ ‫‪     .5‬يأتي في هذه المرحلة األخيرة‬
‫وعلوم القرآن‪ ،‬أي العلوم النقلية كافة‪.‬‬
‫[‪]15‬‬

‫وال مكان في هذا الترتيب ألصول التفسير للتفسير بالمجاز على اإلطالق! فالمجاز نوع من‬
‫"الكذب" في استخدام اللغة – أو "االدعاء" في أحسن األحوال‪ ،‬إذا استخدمنا لغة عبد القاهر‬
‫منزه عنه‪ .‬وإ ذا كان المتكلِّم العادي يلجأ إلى المجاز ألن الحقائق ال تسعفه‪،‬‬
‫الجرجاني – والقرآن َّ‬
‫فهذا ما ال يجوز' على العلم اإللهي في إطالقه‪ .‬وما يرى المعتزلة واألشاعرة أنه "مجاز" في‬
‫ت في اللغة العادية‪ .‬وتلك كلها قضايا‬ ‫القرآن ليس إال أسلوبا من أساليب التعبير الوضعية استُ ِ‬
‫خد َم ْ‬ ‫ً‬
‫المرسلة في الرد على‬
‫َ‬ ‫يصوغها ابن قيِّم – تلميذ ابن تيمية – في الكتاب الذي أشرنا إليه الصواعق‬
‫الجهمية والمعطلة في فصل عنوانه "طاغوت المجاز"‪ ،‬وهو كتاب يستحق' دراسة مستقلة في ِّ‬
‫حد‬
‫[‪]16‬‬
‫ذاته‪.‬‬

‫‪ .4‬اإلشكال في العصر الحديث‬

‫من الطبيعي أن يقال هنا إن باب االجتهاد صار شبه مقفل‪ ،‬ولم يلبث إال قليالً حتى أحكم رتاجه‬
‫في عصر الركود' واالنحطاط‪ ،‬عصر التلخيصات وشرح التلخيصات والحواشي' وشروح‬
‫قادرا' على قبول‬
‫الحواشي في مجاالت المعرفة كافة‪ .‬ذلك أن العقل اإلسالمي النشط‪ ،‬الذي كان ً‬
‫التحديات واالستجابة لها‪ ،‬صار عقالً يعيش على مخزونه – التراث – الذي أخذ يتناقص حتى‬
‫ردد وتلوكها األلسن‪ ،‬مثل العبارة التي حلَّلناها‬ ‫َّ‬
‫اضمحل في وعي المتأخرين‪ ،‬وتحول إلى أقوال تُ َّ‬
‫فيما سبق‪" :‬االستواء معروف والكيف' مجهول والحديث عنه بدعة"‪ .‬وفتاوى ابن الصالح في‬
‫تعليما‪ ،‬صار‬ ‫ُّ‬
‫القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميالدي) تؤكد أن تعاطي' المنطق‪ ،‬تعل ًما أو ً‬
‫علم الكالم إلى علم العقائد التي تَ ِر ُد في الكتب‬ ‫وتحول ُ‬
‫َّ‬ ‫[‪]17‬‬
‫جريمة‪ ،‬وال مجال إطالقًا لذكر الفلسفة‪.‬‬
‫ث في المجاالت كلِّها‬ ‫منصوصا عليها ليحفظها المتعلِّم‪ ،‬أو باألحرى' المتلقِّن‪ .‬وما َح َد َ‬
‫ً‬ ‫المتأخرة‬
‫ث في مجال التفسير‪ ،‬فصار' تفسير ابن عطية أفضل من الزمخشري‪ ،‬ألنه تلخيص له دون‬ ‫َح َد َ‬
‫الوقوع في ضالالته‪ ،‬وأصبح تفسير الزمخشري ال ُي َقرأ إال في ردود ابن المنير عليه‪ .‬وبالمثل‪،‬‬
‫ِّ‬
‫المتقدم‪ ،‬ألن األول يخلو من تعقيدات‬ ‫ث تفضي ٌل لتفسير ابن كثير المتأخر على تفسير الطبري‬
‫َح َد َ‬
‫الثاني‪ ،‬كما يخلو من إسرائيلياته‪.‬‬

‫أردت علم التفسير فعليك بابن كثير في النقل وابن عطية في‬
‫َ‬ ‫هكذا تكاثرت النصائح للطالب‪ :‬إذا‬
‫الرأي؛ وإ ن أردت النحو فعليك بشرح ابن عقيل؛ وإ ن أردت البالغة فعليك بالخطيب القزويني؛‬
‫ِ‬
‫وحذار من المنطق وعلم الكالم‬ ‫وإ ن أردت علم الفقه فهذا يتوقف على المذهب الذي تتَّبعه‪.‬‬
‫السنة‬ ‫ِّ‬
‫المتمكنين من عقائد أهل َّ‬ ‫والفلسفة؛ فإنها أضاليل ال ينجو من ضررها' إال الفحول من العلماء‬
‫والجماعة‪ .‬وقد استمرت الحال هكذا‪ ،‬حتى بدأ العقل اإلسالمي اإلفاقة تدريجيًّا والوعي بحالة‬
‫الركود واالنحطاط التي هو عليها‪ .‬إنه الوعي بالهزيمة وليس الهزيمة ذاتها‪ ،‬ألن الهزيمة كانت‬
‫مقومات‬ ‫واقعا ماثالً دون أن يعيها العقل‪ ،‬ألنه كان قانعا بما يتغذى عليه من تراث ٍ‬
‫خال من ِّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الحيوية والنضارة والتقدم كافة‪.‬‬

‫كتابي عبد‬
‫علم البالغة من َ‬
‫يدرس للطالب في األزهر َ‬
‫غريبا أن يكون محمد عبده َّأول َمن ِّ‬
‫ً‬ ‫لم يكن‬
‫القاهر الجرجاني' (القرن الخامس الهجري‪ ،‬الحادي عشر الميالدي) أسرار البالغة ودالئل‬
‫غريبا أن تكون رسالة التوحيد استعادةً لعلم الكالم االعتزالي في مبدأ "العدل"‬
‫ً‬ ‫اإلعجاز؛ ولم يكن‬
‫واألشعري' في مبدأ "التوحيد"‪ .‬وقد سبق أن أشرنا إلى التقارب الذي كان قد وقع بين األشاعرة‬
‫والمعتزلة في قضية "التوحيد"‪ .‬هكذا يمثل محمد عبده‪ ،‬على مستوى' الفكر اللغوي والالهوتي‪'،‬‬
‫إحياء للتراث في حيويته وقوته نضارته‪ ،‬بنفس القدر الذي يمثل به محمود سامي البارودي‬
‫ً‬
‫عصر إحياء التراث الشعري في حيويته وقوته ونضارته‪.‬‬
‫َ‬ ‫الشاعر‬

‫الظروف‬
‫ُ'‬ ‫وال شك أن اإلحياء هنا يمثل شكالً من أشكال االستجابة للتحديات التي فرضتْها'‬
‫ممكنا للتراث ِّ‬
‫السني‬ ‫االجتماعية والسياسية الناشئة عن االحتكاك بأوروبا؛ وهي تحديات لم يكن ً‬
‫قادرا' على مواجهتها‪ .‬فكان من‬ ‫ِ‬
‫المحافظ‪ ،‬الذي أغلق باب االجتهاد وأحكم رتاجه‪ ،‬أن يكون ً‬
‫الطبيعي استدعاء التراث‪ ،‬في حيويته وقوته ونضارته‪ ،‬ليثبت العقل اإلسالمي ِّ‬
‫نديته‪ .‬ومن سوى‬
‫يمكنان محمد عبده من سجال بلنت ورينان وفرح' أنطون‪ ،‬ويساعدانه‪ ،‬في‬ ‫المعتزلة وابن رشد ِّ‬
‫تواصل هذا اإلحياء مع واحد من‬
‫َ‬ ‫الوقت نفسه‪ ،‬على إثبات أن "اإلسالم دين العلم والمدنية"[‪ .]18‬وقد'‬
‫غريبا أن يبدأ عملَه األكاديمي بدراسة ٍّ‬
‫كل من أبي العالء‬ ‫ً‬ ‫تالميذ عبده هو طه حسين‪ ،‬الذي لم يكن‬
‫المؤرخ ومبدع علم "العمران البشري"؛ ثم لم‬
‫ِّ‬ ‫المعري‪ ،‬الشاعر الفيلسوف الضرير‪ ،‬وابن خلدون‪،‬‬
‫غريبا أن يكون هو نفسه‪ ،‬طه حسين‪ ،‬على رأس البعثة التي كشفت عن كنوز' التراث‬ ‫ً‬ ‫يكن‬
‫ِّ‬
‫المتوكلية باليمن‪ ،‬وأهمها موسوعة القاضي عبد الجبار‬ ‫المعتزلي التي كانت مدفونة في المكتبة‬
‫المغني في أبواب التوحيد' والعدل‪.‬‬
‫لكن ماذا عن تأثير هذا كلِّه في علم التأويل القرآني؟ وكيف كانت االستجابة توافقًا مع ِّ‬
‫النص‬
‫المركزي‪ ،‬ال للثقافة وحدها بل للحضارة كلِّها‪ ،‬في صيرورتها وارتفاعها وانخفاضها؟'‬

‫من المهم هنا أن نشير إلى َّ‬


‫أن تفسير الطنطاوي الجوهري' من هذه الناحية يمثل استجابةً كاملة‬
‫مازجا بين النظريات التي َع َرفَها وما‬
‫ً‬ ‫للعلوم الطبيعية واالجتماعية‪ ،‬كما استوعبها بالطبع‪،‬‬
‫يشابهها أو يقاربها في التراث‪ .‬لكنه‪ ،‬مثله كمثل سلفه الرازي‪ ،‬صاحب التفسير الكبير‪ ،‬حرص‬
‫النص في مساحات شاسعة‪ .‬لذلك‬
‫سمى "إشباع الداللة" حتى تفيض خارج ِّ‬
‫على ما يمكن أن ُي َّ‬
‫القدماء على التفسير الكبير للرازي‬
‫ُ‬ ‫صدق عليه – أي على تفسير الطنطاوي الجوهري' – ما قاله‬
‫َي ُ‬
‫أنه "فيه من ِّ‬
‫كل شيء إال التفسير"[‪!]19‬‬

‫تفسير محمد عبده (الذي أكمله تلميذه رشيد رضا) أنه‪ ،‬على اتساعه وحرصه‬
‫َ‬ ‫ولعل ما يميِّز‬
‫النص حتى يعود إليه؛ هذا باإلضافة إلى أنه –‬
‫على"إشباع' الداللة"‪ ،‬تفسير يكاد أال يتجاوز نطاق ِّ‬
‫واسعا‪ ،‬ال في دائرة المهتمين والطالب الذين‬
‫ً‬ ‫انتشارا‬
‫ً‬ ‫خالفًا لتفسير الطنطاوي' الجوهري – اكتسب‬
‫درس لهم عبده فقط‪ ،‬بل في دائرة أوسع من القراء والمثقفين في العالم العربي واإلسالمي‪ .‬ومن‬
‫َّ‬
‫المؤكد أن استجابة محمد عبده – في التفسير – للتحديات التي كانت مطروحة على العقل‬
‫تركيبا' من استجابة الطنطاوي الجوهري' في تفسيره؛ فلم يكن‬
‫ً‬ ‫اإلسالمي كانت استجابةً أكثر‬
‫النص‬
‫فتح داللة ِّ‬
‫مشغوالً بالبحث عن التطابق' بين حقائق العلم وداللة النص‪ ،‬بقدر ما كان شاغلَه ُ‬
‫[‪]20‬‬
‫لمخاطبة العقل اإلسالمي الناهض وحثِّه على مواصلة النهوض‪.‬‬

‫لذلك كان من الطبيعي‪ ،‬على المستوى' النظري للقواعد التي وضعها في خطوات التفسير‪ ،‬أن‬
‫ديني هدفه‬
‫نص ٌّ‬‫النص القرآني‪ ،‬بما هو ٌّ‬
‫قواعد عامة لتأويل النصوص‪ ،‬دون إغفال طبيعة ِّ‬
‫َ‬ ‫تكون‬
‫"هداية" البشر إلى اإليمان‪ .‬وعلى ذلك‪ ،‬فالمقصد' من التفسير والهدف هو‬

‫المراد من القول‪ ،‬وحكمة التشريع في العقائد واألحكام على الوجه الذي يجذب األرواح‪ ،‬ويسوقها‬
‫فهم ُ‬
‫المودعة في الكالم‪ ]...[ .‬فالمقصد الحقيقي من وراء ِّ‬
‫كل تلك الشروط والفنون هو‬ ‫َ‬ ‫إلى العمل والهداية‬
‫االهتداء بالقرآن‪.‬‬
‫[‪]21‬‬

‫هدف التفسير وغايتَه "االهتداء بالقرآن"‪ ،‬يقصد تنوير'‬


‫من الواضح هنا أن محمد عبده‪ ،‬حين يجعل َ‬
‫العقل اإلسالمي ذاته مما ران عليه من إظالم عصور الركود واالنحطاط‪ .‬وربما' يكون القصد‬
‫مضم ًرا في كالم محمد عبده؛ ولعل األقرب إلى السياق أن نقول إن‬
‫َ‬ ‫إلى هداية "غير المسلمين"‬
‫المقصود بالهداية – في حالة غير المسلمين – شرح القرآن وإ براز دالالته لمن أساؤوا فهمه من‬
‫غير المسلمين‪ ،‬فهاجموا اإلسالم‪ .‬وأيًّا كان تأويل مقصد "الهداية" عند عبده‪ ،‬فال شك أنه مقصد‬
‫بنص عبارة الشيخ أمين‬
‫ديني في جوهره‪ ،‬و"هو' مقصد جليل وال شك يحتاج المسلمون لتحقيقه"‪ِّ ،‬‬
‫[‪]22‬‬
‫الخولي‪.‬‬

‫لكن الشيخ الخولي ال يعتبر مقصد الهداية "الغرض األول من التفسير‪ ،‬وليس هو أول ما يعنى به‬
‫ويقصد إليه"‪ ،‬ويرى' أن‬

‫األغراض المختلفة وتقوم عليه المقاصد‬


‫ُ‬ ‫وغرضا أبعد تنشعب منه‬
‫ً‬ ‫مقصدا أسبق‬
‫ً‬ ‫قبل ذلك كلِّه‬
‫أي مقصد آخر‪ ،‬سواء كان ذلك المقصد اآلخر علميًّا أم‬ ‫المتعددة‪ .‬وال َّ‬
‫بد من الوفاء به قبل تحقيق ِّ‬
‫عمليًّا‪ ،‬دينيًّا أم دنيويًّا‪.‬‬
‫[‪]23‬‬

‫ًّ‬
‫جوهريا' وأساسيًّا هو "البيان"؛ وهو مصطلح يحتاج‬ ‫مقصدا‬
‫ً‬ ‫هذا المقصد الذي يعتبره الخولي‬
‫تناولها الخولي في مشروعه‬
‫لتحليل خاص وشرح دقيق' في سياق مجموعة المفاهيم التي َ‬
‫التجديدي في النحو والبالغة والتفسير' ِّ‬
‫وفن القول بصفة عامة‪ .‬ويكفي هنا اإلشارة إلى أن ما يعنيه‬
‫حد كبير – إن لم يكن إلى ِّ‬
‫حد التطابق – بمفهوم "المنهج‬ ‫الخولي بمفهوم "البيان" قريب الصلة إلى ٍّ‬
‫اللغوي ِّ‬
‫الفني" الذي استخدمه طه حسين في إثبات صحة بعض قصائد الشعر الجاهلي في كتابه‬
‫المعروف في الشعر الجاهلي‪ ،‬الذي سنتناول ما يربط بين ما َو َر َد فيه وما يقوله الخولي في فقرة‬
‫تالية‪.‬‬

‫الهدف من التفسير في معزل عن "المنهج اللغوي‬


‫َ‬ ‫وليس مقصد "الهداية" الذي يعتبره محمد عبده‬
‫ِّ‬
‫الفني"‪ ،‬ألن هذا األخير هو األداة والوسيلة التي من دونها' ال يمكن الوصول إلى الهدف والمقصد‪.‬‬
‫وهذا المنهج ِّ‬
‫يحدده محمد عبده في الخطوات التالية‪:‬‬

‫‪     .1‬فهم حقائق األلفاظ المفردة الموجودة في القرآن بحسب دالالتها التداولية في عصر‬
‫ٍ‬
‫مكتف بقول فالن وفهم'‬ ‫النزول‪" ،‬بحيث يحقِّق المفسِّر ذلك من استعماالت أهل اللغة‪ ،‬غير‬
‫لم َع ٍ‬
‫ان‪ ،‬ثم غلبت على غيرها‬ ‫ستعمل في زمن التنزيل َ‬
‫كثيرا من األلفاظ كانت تُ َ‬
‫عالن‪ .‬فإن ً‬
‫رفض محمد عبده‬
‫ُ‬ ‫واضحا'‬
‫ً‬ ‫بعد ذلك بزمن قريب أو بعيد"[‪ .]24‬وفي' هذه الخطوة يبدو‬
‫لعملية "اإلسقاط" الداللي من الحاضر' على الماضي من خالل عدم االهتمام بالداللة‬
‫شائعا اآلن‪ ،‬ويتجلَّى' في كثير من‬
‫التداولية لأللفاظ في عصر النزول – وهو إسقاط صار ً‬
‫المسمى بـ"التفسير' العلمي‬
‫َّ‬ ‫كتب التفسير المعاصرة‪ .‬ولعل مجاله األوضح هو ذلك التفسير‬
‫للقرآن"‪.‬‬
‫فهم األساليب‪ ،‬و"يحتاج' في هذا‬
‫فهم داللة األلفاظ المفردة في سياق تداولها' اللغوي ُ‬
‫‪     .2‬يلي َ‬
‫إلى علم اإلعراب وعلم األساليب (المعاني والبيان)"[‪.]25‬‬

‫‪     .3‬الخطوة الثالثة في المنهج هي "علم أحوال البشر"‪ :‬إذ ال َّ‬


‫بد للناظر في هذا الكتاب من‬
‫"النظر في أحوال البشر في أطوارهم وأدوارهم ومناشئ' اختالف أحوالهم‪ ،‬من قوة‬
‫وضعف‪ٍّ ،‬‬
‫وعز و ُذل‪ ،‬وعلم وجهل‪ ،‬وإ يمان وكفر‪ ،‬ومن العلم بأحوال العالَم الكبير‪ ،‬علويِّه‬
‫أهمها التاريخ بأنواعه"[‪.]26‬‬
‫وسفليِّه‪ .‬ويحتاج في هذا إلى فنون كثيرة‪ ،‬من ِّ‬

‫تفريعا لها‪ :‬إذ العلم بأحوال‬


‫ً‬ ‫امتدادا للخطوة الثالثة‪ ،‬أو‬
‫ً‬ ‫‪     .4‬والخطوة الرابعة في المنهج تُ َع ُّد‬
‫النبوة‪ ،‬من العرب وغيرهم‪]...[ .‬‬‫البشر يندرج فيه العلم بما "كان عليه الناس في عصر َّ‬
‫اآليات من عوائدهم على وجه الحقيقة‪ ،‬أو ما يقترب منها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وكيف يفهم المفسِّر ما قبَّحتْه‬
‫إذا لم يكن عارفًا بأحوالهم وما كانوا عليه؟"‬
‫[‪]27‬‬

‫تفريعا للخطوة الرابعة‪ :‬فالعلم بما كان عليه الناس في عصر‬


‫ً‬ ‫‪     .5‬كذلك تُ َع ُّد الخطوة الخامسة‬
‫النبوة من العرب وغيرهم يتضمن "العلم بسيرة النبي صلعم وأصحابه‪ ،‬وما كانوا عليه‬
‫َّ‬
‫من علم وعمل وتصرف' في الشؤون‪ ،‬دنيويِّها' وأُخرويِّها"[‪.]28‬‬

‫طا‬ ‫أبدا أن نقول هنا إن الخطوات التي يرتِّبها عبده ً‬


‫منهجا للتفسير تربط رب ً‬ ‫وليس من الصعب ً‬
‫لتداولها' (عصر النزول)‪،‬‬
‫وثيقًا ُمح َك ًما بين مرجعيَّتين متجاوبتين‪ :‬اللغة في السياق التاريخي ُ‬
‫النص هنا‪،‬‬
‫المحركة له طبيعيًّا واجتماعيًّا في صيرورته في التاريخ‪ .‬إن َّ‬
‫ِّ‬ ‫والعالَم من حيث القوانين‬
‫بناء لغوي ٌّ‬
‫دال في سياق اجتماعي‬ ‫في فهم عبده الضمني من خالل تحديده لخطوات المنهج‪ٌ ،‬‬
‫تاريخي بعينه‪ ،‬غير معزول‪ ،‬في الوقت نفسه‪ ،‬عن القدرة على إنتاج الداللة خارج إطار هذا‬
‫السياق‪ .‬لكن الداللة المنتَجة خارج السياق االجتماعي التاريخي' الخالص يجب أال تكون مفروضة‬
‫طا" على البناء اللغوي ِّ‬
‫الدال للنص؛ أو لنقل‪ ،‬في عبارة أخرى أقرب إلى لغة التراث‪ ،‬إن‬ ‫"إسقا ً‬
‫"المفهوم" يجب أال يفارق "المنطوق"‪ '،‬على الرغم من ثبات الثاني وحركيَّة األول‪.‬‬

‫النص من‬
‫أدوات التأويل االعتزالية (علم المعاني والبيان) لفتح داللة ِّ‬
‫ُ‬ ‫وهنا تسعف محمد عبده‬
‫علمي البالغة التقليديين‬
‫خالل "المنطوق"' الثابت‪ .‬لكن محمد عبده – وهذا أمر الفت – يطلق على َ‬
‫تجاور ال يخلو في ِّ‬
‫حد ذاته‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫مستبدالً' باللغة القديمة لغةً معاصرة في‬ ‫اسما حديثًا هو "علم األساليب"‪،‬‬
‫ً‬
‫من داللة‪ .‬إن الجديد هنا ال يزيح القديم وال يحل محلَّه‪ ،‬بل ِ‬
‫يجاو ُره في عالقة مقارنة واضحة‪.‬‬
‫وتلك بالضبط كانت استجابة عبده على مستوى تأويل القرآن‪ .‬وهنا نشير إلى بعض األمثلة إشارةً‬
‫سريعة‪ ،‬تاركين التحليل التفصيلي لسياق آخر‪.‬‬
‫تاريخا‪" ،‬وإ نما' المراد بها االعتبار والعظة من السياق"'[‪ .]29‬وليس‬
‫ً‬ ‫صص القرآني كله ليس‬
‫القَ َ‬
‫ستنبط منه‬
‫المهم في القصة ما تحكيه من وقائع وأحداث‪ ،‬بل المهم هو أسلوب السرد ذاته الذي تُ َ‬
‫العظة‪.‬‬

‫وعلى ذلك‪ ،‬فإن "اإلعجاز" في القصص القرآني "في اللفظ‪ ،‬ال في القصص نفسها"[‪ ،]30‬أي في‬
‫طابقها مع وقائع' التاريخ‪.‬‬
‫بنائها اللغوي السردي‪ ،‬وليس في مماثلة وقائعها المرويَّة للتاريخ أو في تَ ُ‬
‫يقرر محمد عبده أن ترتيب السرد في القرآن ال يتطابق مع الترتيب‬
‫باإلضافة إلى ذلك‪ِّ ،‬‬ ‫[‪]31‬‬

‫ومن البديهي فيما‬ ‫[‪]32‬‬


‫المنطقي الطبيعي للوقائع‪ ،‬بل هو ترتيب لتأدية وظائف' الوعظ واالعتبار‪.‬‬
‫يؤكد عبده أن‬

‫صحيحا‪ .‬فذكر السحر في هذه‬


‫ً‬ ‫ذكر القصة في القرآن ال يقتضي أن يكون ُّ‬
‫كل ما ُيحكى فيها عن الناس‬
‫اآليات [البقرة ‪ ]102‬ال يستلزم إثبات ما يعتقد الناس منه‪ ...‬إن القصص جاءت في القرآن ألجل‬
‫للح ْمل على االعتقاد بجزئيات األخبار عند الغابرين‪ .‬وإ نه‬
‫الموعظة واالعتبار‪ ،‬ال لبيان التاريخ وال َ‬
‫َّ‬
‫الحق والباطل‪ ،‬ومن تقاليدهم الصادق والكاذب‪ ،‬ومن عاداتهم النافع والضار‪،‬‬ ‫ليحكي من عقائدهم‬
‫ألجل الموعظة واالعتبار‪ .‬فحكاية القرآن ال تعدو موضع ِ‬
‫العبرة‪ ،‬وال تتجاوز موطن الهداية‪ ،‬وال َّ‬
‫بد أن‬
‫سن واستهجان القبيح‪ .‬وقد يأتي‬
‫الح َ‬
‫يأتي في العبارة أو السياق وأسلوب النظم ما يدل على استحسان َ‬
‫المحكي عنهم‪ ،‬وإ ن لم تكن صحيح ًة في نفسها‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫طبين أو‬
‫المستعملة عند المخا َ‬
‫َ‬ ‫في الحكاية بالتعبيرات‬
‫الشيطان من المس" [البقرة ‪ ،]275‬وكقوله‪" :‬بلغ مطلع الشمس"‬
‫ُ‬ ‫كقوله‪" :‬كما يقوم الذي يتخبَّطه‬
‫كثيرا من كتَّاب العربية وكتَّاب اإلفرنج يذكرون آلهة‬
‫[الكهف ‪ .]90‬وهذا األسلوب مألوف‪ .‬فإننا نرى ً‬
‫والشر في خطبهم ومقاالتهم‪ ،‬والسيما في سياق كالمهم عن اليونان والمصريين القدماء‪ ،‬وال‬
‫ِّ‬ ‫الخير‬
‫شيئا من تلك الخرافات الوثنية‪.‬‬
‫[‪]33‬‬
‫واحد منهم ً‬
‫ٌ‬ ‫يعتقد‬

‫إذا تأملنا ما يحاوله عبده هنا‪ ،‬فمن السهل أن نقرر أنه يحاول حماية القرآن من هجوم بعض‬
‫كتابا في‬
‫المستشرقين‪ ،‬خاصة فيما يتصل بمسألة القصص القرآني والدقة التاريخية‪ .‬ليس القرآن ً‬
‫التاريخ – هكذا يكرر عبده هذه العبارة – بل هو كتاب هداية وموعظة ِ‬
‫وع ْبرة‪ِ ،‬‬
‫يورد' ما ُيروى'‬
‫اختصارا‬
‫ً‬ ‫تحويرا أو‬
‫ً‬ ‫وما ُيحكى عن األمم السابقة مورد' الحكاية لتحقيق هذه الغاية‪ ،‬التي قد تتطلب‬
‫ترتيبا' سرديًّا مخالفًا للوقائع‪ .‬باإلضافة إلى هذا‪ ،‬يؤكد عبده أن ما ُيحكى من اعتقادات وما َي ِر ُد‬
‫أو ً‬
‫من عبارات‪ ،‬إنما ُيحكى مطابِقًا لوعي المخا َ‬
‫طبين أو المحكي عنهم؛ ومن ثََّم ال مجال العتقاد‬
‫كل ما ورد عن السحر‬ ‫صحته أو صوابه لمجرد أنه ُذ ِكر في القرآن‪ .‬وهنا يتمكن عبده من تأويل ِّ‬
‫َ‬
‫ومس الشيطان لإلنسان تأويالً عقالنيًّا‪.‬‬
‫والحسد ِّ‬
‫ق عليها‪ ،‬هي أن اهلل يخاطب البشر على‬ ‫ٍ‬
‫حقيقة متفَ ٍ‬ ‫وإ ذا كان عبده ينطلق في كثير مما سبق من‬
‫ٍ‬
‫تأويل‬ ‫تطويرا' شامالً‪ ،‬بحيث يجعل منه مرجعيةَ‬ ‫يطور' هذا المفهوم‬
‫قدر عقولهم وأفهامهم‪ ،‬فإنه ِّ‬
‫ً‬
‫كثيرا في عملية التطوير' تلك؛ لكنه أفاد بالمثل من‬
‫أساسية‪ .‬وال شك أن عبده قد أفاد من علم النفس ً‬
‫مفاهيم التمثيل والمجاز والكناية واالستعارة في التراث البالغي العربي‪ .‬في عبارة أخرى‪ ،‬يمكن‬
‫القول إن عبده قد جمع بين االستمداد' من التراث وبين العلوم العصرية في محاولته االستجابة‬
‫مرجعه األساسي‪ .‬لذلك استند فعل التأويل‬
‫َ‬ ‫للتحدي المطروح على العقل المسلم الذي يعتبر القرآن‬
‫منهجي دقيق'‬
‫ٍّ‬ ‫عنده إلى مرجعية اللغة‪ ،‬كما استند إلى مرجعية المعرفة العصرية في تركيب‬
‫حد كبير‪ ،‬مع خطوات المنهج التي سبق تحليلُها‪.‬‬ ‫يتطابق‪ ،‬إلى ٍّ‬

‫تضمنتْه من تفاصيل َخْل ِقه وأمر المالئكة بالسجود' له‪ ،‬ومخالفة‬


‫هكذا تصبح قصة آدم وحواء‪ ،‬بما َّ‬
‫إبليس‪ ،‬وتعليمه األسماء‪ ،‬ثم إغراء إبليس‪ ،‬فالمعصية‪ ،‬فالخروج من الجنة – يصبح ذلك كله من‬
‫قبيل "التمثيل" و"التصوير"[‪ .]34‬وبالمثل‪ ،‬فإن "آدم" – فيما يرى عبده في تفسيره لكلمة "خليفة" –‬
‫"ليس أول األحياء التي سكنت األرض"[‪ .]35‬وهكذا يستجيب العقل المسلم لنظرية "النشوء‬
‫مباشرا' النسجام العقل المتدين عامة والعقل المسلم خاصة‪.‬‬
‫ً‬ ‫تهديدا‬
‫ً‬ ‫واالرتقاء" التي مثَّلت آنذاك‬
‫ٍ‬
‫بتأويل ال سند له من اللغة أو التراث؛ ذلك أن كلمة‬ ‫قفزا في الفراغ‬
‫لكن استجابة عبده هنا ليست ً‬
‫"خليفة" – كما فهمها بعض المفسِّرين القدماء – يمكن أن تعني "خلفًا" لقبيل سابق من األحياء كان‬
‫يسكن األرض‪" ،‬يفسد فيها ويسفك الدماء"‪.‬‬

‫ابني آدم – قابيل وهابيل – تمثيالً لنوازع الخير والشر‪،‬‬


‫وبتطبيق' المنهج نفسه‪ ،‬تصبح قصة َ‬
‫وتصبح قصة إبراهيم مع الطير‪ ،‬الواردة في القرآن إثباتًا لقدرة اهلل على إحياء الموتى‪ ،‬تمثيالً‬
‫"مرنهن على طاعتك"‪ .‬وهكذا‪ ،‬إذا كان‬ ‫كذلك‪ ،‬ألن معنى "فصرهن' إليك" ليس قطِّعهن أجزاء‪ ،‬بل ِّ‬
‫الطير بالتمرين يستجيب لإلنسان ويطيعه‪ ،‬أليس ُّ‬
‫كل ما في الوجود' رهن مشيئة اهلل بما هو الخالق؟‬
‫بل يذهب محمد عبده – في جرأة غير مسبوقة إال في أقوال بعض المعتزلة – إلى أن نزول‬ ‫[‪]36‬‬

‫المالئكة وقتالهم' مع المسلمين في موقعة بدر الكبرى لم يكن حقيقة حرفية‪ ،‬بل كان من قبيل‬
‫وهو في هذا التأويل يستند إلى نفس القاعدتين اللتين أشرنا إليهما‪:‬‬ ‫[‪]37‬‬
‫البشرى والتأييد' المعنوي‪.‬‬
‫ُ‬
‫اللغة‪ ،‬من جهة‪ ،‬والخبرة اإلنسانية والمعرفة التراثية‪ ،‬من جهة أخرى – وكالهما ينفي النزول‬
‫الحرفي للمالئكة‪ .‬أما الدليل اللغوي فموجود في السرد القرآني‪" :‬وما جعله اهلل إال ُبشرى'‬
‫ولتطمئن به قلوبكم"؛ بينما يستند عبده في مرجعيته التراثية إلى تفسير محمد بن جرير الطبري' –‬
‫ُحد[‪ ،]38‬وسكت عن مرويات قتالهم' في بدر ألنها‪ ،‬فيما يرى عبده‪،‬‬
‫الذي أنكر نزول المالئكة في أ ُ‬
‫"لم تكن َح ِريَّة بأن تُ َنقل"[‪ .]39‬ويستند كذلك إلى المعتزلي' أبي بكر بن األصم‪ ،‬الذي أنكر قتال‬
‫"الملَك الواحد يكفي في إهالك أهل األرض‪،‬‬
‫المالئكة في بدر‪ ،‬وقال – فيما يروي' عنه عبده – إن َ‬
‫كما فعل جبريل بمدائن قوم' لوط؛ فإذا حضر هو يوم أحد‪ ،‬فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع‬
‫[‪]40‬‬
‫الكفار؟"‬

‫هكذا يجمع عبده بين النقل والعقل‪ .‬وينتهي عبده إلى رفض النقل الذي يتعارض مع العقل‪ ،‬قائالً‪:‬‬

‫نص القرآن‬
‫شوهت التفسير وقلبت الحقائق‪ ،‬حتى إنها خالفت َّ‬
‫شر هذه الروايات الباطلة التي َّ‬
‫كفانا اهلل َّ‬
‫قلوبكم"‪ .‬وهذه‬
‫ولتطمئن به ُ‬
‫َّ‬ ‫نفسه‪ .‬فاهلل تعالى يقول في إمداد المالئكة‪" :‬وما جعله اهلل إال ُبشرى‬
‫الروايات تقول بل جعلها مقاتلة‪ ،‬وإ ن هؤالء السبعين الذين قتلوا من المشركين لم يمكن قتلهم إال‬
‫خصهم اهلل بما ذكر من أسباب النصر‬
‫باجتماع ألف أو ألوف من المالئكة عليهم مع المسلمين الذين َّ‬
‫المتعددة‪ .‬إال أن في هذا من شأن تعظيم المشركين ورفع شأنهم وتكبير شجاعتهم وتصغير شأن أفضل‬
‫سِل َب عقلَه لتصحيح روايات باطلة ال يصح‬
‫أصحاب الرسول وأشجعهم‪ ،‬ما ال يصدر عن عاقل إال وقد ُ‬
‫[‪]41‬‬
‫لها سند‪.‬‬

‫تركيبا أعقد من تركيب‬


‫ً‬ ‫هكذا يمكن القول إن مرجعية التأويل عند محمد عبده مرجعية مركبة‬
‫مرجعية التأويل عند المعتزلة؛ بل األحرى القول إن مرجعية عبده هي مرجعية معتزلي يعيش في‬
‫النص المركزي‬
‫نهاية القرن التاسع عشر‪ ،‬محاوالً اإلفادة من ثمار الفكر اإلنساني' والتوافق' مع ِّ‬
‫في حضارته وثقافته‪ .‬لذلك نراه يضع "القصص القرآني" في إطار "المتشابهات"' التي تحتاج‬
‫لكنه‪ ،‬على الرغم من ذلك‪ ،‬ال‬ ‫[‪]42‬‬
‫للتأويل وفق مقتضيات العقل‪ ،‬دون التسليم بدالالتها' الحرفية‪.‬‬
‫يدخل في عراك ضد "طريقة السلف" – أهل َّ‬
‫السنة والجماعة – كما فعل أسالفُه من المعتزلة‪ ،‬بل‬
‫يحاول أن يميِّز بين "تفويض" أهل السلف وبين "تأويل" المعتزلة أو الخلف‪ ،‬ويرى' أن التفويض‬
‫واجب ضروري على مستوى' "االعتقاد" القلبي الداخلي‪ ،‬لكن "التأويل" كذلك واجب ضروري'‬
‫عز َّ‬
‫وجل – لم يخاطبنا' بما ال‬ ‫بد للكالم من فائدة يحمل عليها‪ ،‬ألن اهلل – َّ‬
‫للكالم اإللهي "ألنه ال َّ‬
‫نستفيد منه معنى"[‪.]43‬‬

‫على أساس هذا التمييز‪ ،‬يمكن لنا أن نفهم ما يقوله عبده عن نفسه من أنه يجمع بين طريقة السلف‬
‫تماما‬
‫كمل تفسيره محمد رشيد رضا‪ ،‬الذي يطمئن ً‬
‫وم ِّ‬
‫وطريقة الخلف‪ ،‬وذلك على عكس تلميذه ُ‬
‫إلى طريقة أهل السلف‪ ،‬ويؤكد' أن هذا االطمئنان الكامل لم يتحقق له تفصيالً إال بممارسة كتب‬
‫ِ‬
‫المناهضة ألية مرجعية في التأويل‬ ‫كل من ابن تيمية وابن القيم[‪ِ ،]44‬‬
‫حاملَي لواء السلفية الحنبلية‬ ‫ٍّ‬
‫سوى مرجعية اللغة‪ ،‬المعزولة حتى عن صيرورتها' التاريخية وأفُقها االجتماعي‪.‬‬

‫تحول في أتباعه‬
‫لكن َج ْم َع عبده بين طريقتي السلف والخلف (مع التمييز بينهما في الوقت ذاته) َّ‬
‫أحيانا – في تاريخ الفكر‬
‫حينا ويشتد' ً‬
‫قطبي صراع – يهدأ ً‬
‫إلى تيارين ما يزاالن حتى اآلن يشكالن َ‬
‫اإلسالمي حتى يومنا هذا‪ ،‬خاصة في مجال تأويل القرآن وتفسيره – وهو المجال الذي نركز عليه‬
‫َّست جماعة "اإلخوان‬
‫هنا‪ :‬من طريقة السلف نهل رشيد رضا‪ ،‬ومنه نقل حسن البنا‪ ،‬فتأس ْ'‬
‫المسلمين"؛ ومن طريقة الخلف نهل علي عبد الرازق' وطه حسين وأمين الخولي ومحمد' أحمد‬
‫[‪]45‬‬ ‫خلف اهلل – ٍّ‬
‫ولكل منهم قصة دامية مع تيار أهل السلف معروفة‪.‬‬

‫لن نتوقف هنا عند كتاب اإلسالم وأصول' الحكم لعلي عبد الرازق‪ ،‬ألن اتصاله بعلم التأويل‬
‫لكن‬ ‫اتصال غير مباشر‪ ،‬من جهة‪ ،‬وألننا تناولناه تفصيالً في دراسة سابقة من جهة أخرى‪.‬‬
‫[‪]46‬‬

‫لماذا ُذ ِك َر اسم طه حسين من بين أتباع منهج الخلف‪ ،‬وليس لطه حسين اتصا ٌل بعلم التأويل كذلك؟‬
‫تتضح العالقة بين طه حسين ومحمد' عبده – من زاوية تأويل القرآن – حين نتأمل سياق الفقرة‬
‫التي وردت في كتاب طه حسن في الشعر الجاهلي والتي أثارت ما أثارت من احتجاج وردود‬
‫ومناقشات' ومطالبة بفصل طه حسين من الجامعة – حتى حسم وكيل النائب العام محمد نور الدين‬
‫يجابا‪– ،‬‬
‫سلبا وإ ً‬
‫المشكلة من الناحية اإلدارية‪ ،‬وإ ْن ظلت لها‪ ،‬حتى اآلن‪ ،‬امتداداتها' وتفاعالتها‪ً ،‬‬
‫هذا على الرغم من أن المؤلِّف نفسه – طه حسين – قام بسحب الكتاب‪ ،‬وحذف' منه الفقرة التي‬
‫أثارت َّ‬
‫كل هذا الضجيج‪ ،‬ثم أعاد نشره باسم في األدب الجاهلي الذي يماثل من حيث الحجم ثالثة‬
‫أضعاف الكتاب األول‪.‬‬

‫طه حسين (‪)1973-1889‬‬

‫إن السياق األساسي' للكتاب هو مناقشة مدى انتساب هذا الشعر الذي يسمى "جاهليًّا" إلى عصر ما‬
‫قبل اإلسالم فعالً‪ .‬ومن خالل بعض األدلة واألسانيد التاريخية واللغوية‪ ،‬يرى طه حسين أن‬
‫"الصلة بين أصل اللغة العربية الفصحى التي كانت تتكلمها العدنانية (في الحجاز وشمال‬
‫الجزيرة) واللغة التي كانت تتكلمها القحطانية (في اليمن)‪ ،‬إنما هي كالصلة بين اللغة العربية وأية‬
‫لغة أخرى من اللغات السامية المعروفة"‪ .‬وبصرف النظر عن صحة هذه القضية أو خطئها‪ ،‬فإن‬
‫المؤلِّف يستند إليها في الشك في صحة نسبة هذا الشعر المنسوب إلى شعراء أصلهم يمني‬
‫والمصوغ' بلغة عربية فصحى هي لغة الشمال‪ .‬ويرى طه حسين أن هذا الشعر ال يمكن له أن‬
‫يكون قد ظهر قبل القرآن‪ ،‬ألنه مكتوب بلغة قريبة ًّ‬
‫جدا من عربية القرآن‪ ،‬التي لم تصبح لغة‬
‫وتأسيسا على ذلك‪ ،‬يرى طه حسين أن القرآن يجب أن‬
‫ً‬ ‫الجزيرة كلِّها إال مع انتشار اإلسالم‪.‬‬
‫نسب إلى الجاهليين وهو ال ينتسب‬
‫يكون هو المرجع في فهم حياة الجاهلية‪ ،‬ال هذا الشعر الذي ُي َ‬
‫لذاك العصر‪:‬‬

‫نسب إلى امرئ القيس أو إلى األعشى أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين ال‬
‫إن هذا الشعر الذي ُي َ‬
‫يمكن‪ ،‬من الوجهة اللغوية والفنية‪ ،‬أن يكون لهؤالء الشعراء وال أن يكون قد قيل وأذيع قبل أن يظهر‬
‫ستشهد بهذا الشعر على تفسير القرآن وتأويل الحديث‪ ،‬وإ نما ينبغي أن‬
‫َ‬ ‫القرآن‪ ...‬وال ينبغي أن ُي‬
‫شيئا وال تدل على‬
‫ستشهد بالقرآن والحديث على تفسير هذا الشعر وتأويله‪ ...‬هذه األشعار ال تثبت ً‬
‫َ‬ ‫ُي‬
‫شيء‪ ،‬وال ينبغي أن تُتَّخذ وسيل ًة إلى ما اتخذت إليه من علم بالقرآن والحديث؛ فهي إنما تُ ُكلِّفت‬
‫العلماء على ما كانوا يريدون أن يستشهدوا عليه‪.‬‬
‫[‪]47‬‬
‫ُ‬ ‫اختراعا ليستشهد بها‬
‫ً‬ ‫واختُ ِر َع ْت‬

‫في مقابل هذا الشك في الشعر الجاهلي والتقليل من شأنه في مسائل التفسير والتأويل‪ ،‬نجد ثقةً‬
‫النص القرآني‪ ،‬حتى ليغدو في نظر طه حسين المرآةَ األصدق' للحياة الجاهلية؛‬
‫مطلقة في صحة ِّ‬
‫وهو يرى أن هذه القضية بدهية‪ ،‬على الرغم مما تبدو عليه من غرابة في نظر َمن يسمعها ألول‬
‫مرة‪ .‬إنها قضية بدهية ألن "نص القرآن ثابت ال سبيل إلى الشك فيه"‪ .‬لكن هذا النفي الحاسم‬
‫لصحة كثير من الشعر الجاهلي‪ ،‬من حيث نسبتُه إلى ذلك العصر‪ ،‬مع التأكيد الحاسم كذلك على‬
‫صحة النص القرآني وكونه هو المرآة الصادقة للعصر الجاهلي‪ ،‬يفضي إلى مشكل ال َّ‬
‫بد من‬
‫حلِّه‪ .‬ذلك أن الذين يقولون بوجود لغة موحدة يتكلمها العدنانيون والقحطانيون (أهل الشمال‬
‫والجنوب) يستندون إلى بعض المرويات في التفرقة بين "العرب العاربة" – أي العرب األقحاح‬
‫األصليون (وهم أهل الشمال) – وبين "العرب المستعربة"‪ ،‬وهم أهل الجنوب الذين تعلَّموا العربية‬
‫ًّ‬
‫تاريخيا'‬ ‫وأتقنوها وتخلوا' عن لغتهم الحميرية منذ عصور بعيدة‪ ،‬وهي لغة يربطها' هؤالء البعض‬
‫بهجرة إبراهيم ٍّ‬
‫بكل من إسماعيل وهاجر' إلى أرض الحجاز‪ ،‬وهي القصة الواردة في القرآن‬
‫الكريم‪.‬‬

‫كان تأويل القصة القرآنية على أساس "التمثيل" بوصفها من "المتشابهات"‪ '،‬وفقًا لمنهج اإلمام‬
‫محمد عبده‪ ،‬هو الحل الذي َّ‬
‫قدمه طه حسين ِّ‬
‫لفض اإلشكالية؛ ولم يكن هذا الحل يتضمن بأية حال‬
‫كتابا في‬
‫ك في صحة القرآن‪ :‬فالقرآن ليس ً‬
‫البعض من أتباع منهج السلف التشكي َ‬
‫ُ‬ ‫ما َّ‬
‫توهمه‬
‫التاريخ‪ ،‬من جهة‪ ،‬وهو يخاطب الناس على قدر عقولهم وأفهامهم‪ ،‬من جهة أخرى‪ .‬وخالصة‬
‫ذلك أن ما ُيروى' في القرآن من قصص يجب أال نبحث عن صدقه – أو عدم صدقه – في التاريخ‬
‫العلمي الموثَّق‪ ،‬ألنه قصص كان معروفًا عند الناس وكان متداوالً‪ .‬وهنا ال َّ‬
‫بد أن نشير إلى أن‬
‫طه حسين يؤكد – باإلضافة إلى تأكيده صحة النص وكونه أصدق مرآة للعصر – أن إعجاب‬
‫أصر على وثنيته – نابعٌ من وجود نوع من الصلة‪" ،‬هي هذه‬
‫الناس بالقرآن – من أسلم منهم ومن َّ‬
‫الصلة بين األثر الفني البديع وبين الذين يعجبون به حين يسمعونه أو ينظرون' إليه"[‪ .]48‬ومن‬
‫جديدا‪ ،‬ال بمعنى الغرابة التامة التي تجعله عصيًّا على الفهم‬
‫شروط األثر الفني البديع أن يكون ً‬
‫وفوق' مستوى اإلدراك والتذوق‪ ،‬بل بمعنى الجدة الالفتة والمتضمنة لعناصر' مألوفة في نفس‬
‫تماما بالنسبة للعرب‬
‫جديدا ً‬
‫الوقت‪ .‬إذ لو كان القرآن ً‬

‫جديدا‬
‫بعضهم اآلخر‪ .‬إنما كان القرآن ً‬
‫ضه وجادل فيه ُ‬
‫ناه َ‬
‫بعضهم وال َ‬
‫لما فهموه وال وعوه وال آمن به ُ‬
‫كتابا عربيًّا‪،‬‬
‫شرع للناس من دين وقانون‪ .‬ولكنه كان ً‬
‫جديدا فيما َّ‬
‫جديدا فيما يدعو إليه‪ً ،‬‬
‫في أسلوبه‪ً ،‬‬
‫[‪]49‬‬
‫لغته هي اللغة العربية األدبية التي كان يصطنعها الناس في عصره‪ ،‬أي في العصر الجاهلي‪.‬‬

‫ليس من الغريب في ِّ‬


‫ظل هذا التصور' – المستند إلى أطروحة عبده عن القصص القرآني – أن‬
‫تكون هجرة إبراهيم بإسماعيل وهاجر للكعبة معروفة عند العرب قبل نزول القرآن‪ .‬وليس‬
‫ورودها' في القرآن دليل على صحتها التاريخية بقدر ما هو دليل على وجودها في وعي‬
‫طبين بالقرآن وفي ضمائرهم‪ .‬ويرى' طه حسين أن أقدم عصر يمكن أن تكون قد انتشرت‬
‫المخا َ‬
‫فيه هذه القصة‬

‫إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البالد العربية ويبثون فيه المستعمرات‪.‬‬
‫حروبا عنيفة شبَّت بين هؤالء اليهود المستعمرين وبين العرب الذين كانوا يقيمون في‬
‫ً‬ ‫فنحن نعلم أن‬
‫هذه البالد‪ ،‬وانتهت بشيء من المسالمة والمالينة ونوع من المحالفة والمهادنة‪ .‬فليس يبعد أن يكون‬
‫الم ِغيرين وأصحاب البالد منشأ هذه القصة التي تجعل العرب واليهود‬
‫هذا الصلح الذي استقر بين ُ‬
‫شيئا من التشابه غير قليل‪ :‬فأولئك‬
‫أبناء أعمام‪ ،‬السيما وقد رأى أولئك وهؤالء أن بين الفريقين ً‬
‫وهؤالء ساميون‪ ...‬وقد كانت قريش مستعدة َّ‬
‫كل االستعداد لقبول مثل هذه األسطورة في القرن‬
‫السابع للمسيح‪ .‬فقد كانت في أول هذه القرن قد انتهت إلى ٍّ‬
‫حظ من النهضة السياسية واالقتصادية‬
‫ط سلطانها المعنوي على جزء غير قليل من البالد العربية‬
‫سَ‬ ‫َِ‬
‫وب ْ‬
‫ضم َن لها السيادة في مكة وما حولها َ‬
‫[‬
‫الوثنية‪ .‬وكان مصدر هذه النهضة وهذا السلطان أمرين‪ :‬التجارة من جهة‪ ،‬والدين من جهة أخرى‪.‬‬
‫‪]50‬‬

‫وينتهي طه حسين من ذلك إلى أن قصة "العاربة والمستعربة" وتعلُّم' إسماعيل العربية من ُج ْرهم‬
‫– ذلك كله "حديث أساطير' ال خطر له وال عناء"[‪ .]51‬لكن ظهورها' في القرآن – الذي ال يعني‬
‫أهداف دينية يمكن أن تكون القصة ناجزة في تحقيقها‪ .‬ذلك‬
‫ٌ‬ ‫صحتَها التاريخية – كانت وراءه‬

‫إن ظهور اإلسالم وما كان من الخصومة العنيفة بينه وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب قد اقتضى‬
‫أن تثبت الصل ُة الوثيقة بين الدين الجديد وبين الديانتين القديمتين‪ :‬ديانة النصارى واليهود‪ .‬فأما الصلة‬
‫الدينية فثابتة واضحة‪ :‬فبين القرآن والتوراة واإلنجيل اشتراك في الموضوع والصورة والغرض – كلها‬
‫ترمي إلى التوحيد‪ ،‬وتعتمد على أساس واحد‪ ،‬هو هذا الذي تشترك فيه الديانات السماوية السامية‪.‬‬
‫ولكن هذه الصلة الدينية معنوية عقلية‪ ،‬يحسن أن تؤيدها صل ٌة أخرى مادية ملموسة – أو كالملموسة –‬
‫بين العرب وأهل الكتاب‪ .‬فما الذي يمنع أن تُست َغل هذه القصة‪ ،‬قصة القرابة المادية بين العرب العدنانية‬
‫واليهود؟‬
‫[‪]52‬‬

‫غرضا دينيًّا‪،‬‬
‫ً‬ ‫هذا التأويل التاريخي‪/‬السياسي‪/‬االجتماعي لورود' القصة في القرآن لكي تؤدي‬
‫تتعمق من خالله الصلةُ الدينية المعنوية بين القرآن والنصوص' الدينية السابقة عليه‪ – ،‬وهي صلة‬
‫َّ‬
‫معمقًا بإطار' ثقافي وأفُق معرفي'‬
‫امتدادا ألطروحة محمد عبده‪َّ ،‬‬
‫ً‬ ‫ال مجال للتشكيك فيها‪ – ،‬ليس إال‬
‫متاحا لمحمد عبده‪ .‬ولعل هذا هو الذي يفسِّر مفارقة لغة طه حسين ِللُغة‬
‫أوسع من ذلك الذي كان ً‬
‫والعصابي' ضد كتاب في الشعر الجاهلي وضد‬ ‫رد الفعل العنيف ُ‬‫محمد عبده‪ ،‬من جهة‪ ،‬ويفسِّر َّ‬
‫طه حسين‪ ،‬من جهة أخرى‪ .‬إنها لغة جديدة‪ ،‬وغير ِ‬
‫مهادنة في الوقت نفسه‪ ،‬ألنها تستخدم مفردات‬
‫مثل "أسطورة" لوصف' القصة ومثل "استغالل" وصفًا لتوظيف' القرآن للقصة‪ .‬وتبلغ لغة طه‬
‫تحديا للعقل النقلي – اللغة التي تعني عدم المهادنة مع لغة الوعظ والخطابة‬
‫حسين أقصى' درجاتها ً‬
‫– حين يقول‪:‬‬

‫أيضا‪ .‬ولكن ورود هذين االسمين‬‫للتوراة أن تحدِّثنا عن إبراهيم وإ سماعيل‪ ،‬وللقرآن أن يحدِّثنا عنهما ً‬
‫في التوراة والقرآن ال يكفي إلثبات وجودهما التاريخي‪ ،‬فضالً عن إثبات هذه القصة التي تحدِّثنا‬
‫بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها‪.‬‬
‫[‪]53‬‬

‫قد يختلف الباحثون أو يتفقون مع ما يطرحه طه حسين في مشكلة "الشعر الجاهلي"‪ ،‬وقد' يختلفون‬
‫معه أو يتفقون في الدالئل والبراهين التي استند إليها إلثبات اختالف لغة أهل الشمال عن لغة أهل‬
‫تعرض لتأويل‬
‫يشكك في صدق القرآن بأية حال من األحوال‪ ،‬بل َّ‬ ‫الجنوب؛ لكن الرجل لم يكن ِّ‬
‫قصة من القصص القرآني تأويالً اجتماعيًّا تاريخيًّا‪ ،‬منطلقًا دون شك من إنجاز محمد عبده بشأن‬
‫عدم التطابق بين القصص القرآني والتاريخ‪ .‬لكن أتباع منهج السلف قرءوا الكتاب على طريقة‬
‫[‪]54‬‬
‫"وال تقربوا الصالة‪ ،"...‬كما فعلوا ذلك مع كتاب اإلسالم وأصول' الحكم لعلي عبد الرازق‪.‬‬

‫الشيخ أمين الخولي في مجال الدراسات‬


‫ُ‬ ‫واصلَه‬
‫لكن ما أضافه طه حسين إلى إنجاز محمد عبده‪َ ،‬‬
‫القرآنية‪ ،‬وذلك على الرغم من أن طه حسين نفسه – كما سلفت اإلشارة – سحب الكتاب وأزال‬
‫مصرا على عدم طبع كتابه‪– ،‬‬ ‫تماما كما فعل علي عبد الرازق الذي ظل‬ ‫ِ‬
‫ًّ‬ ‫منه لغتَه غير المهادنة‪ً ،‬‬
‫على الرغم من تغيُّر المناخ العام‪ – ،‬حتى طُبِ َع مرة ثانية في منتصف' السبعينات بعد وفاته‪ .‬أما‬
‫[‪]55‬‬
‫طبع طبعته الثانية إال في سياق المأساة الرابعة في بداية العام ‪.1995‬‬
‫كتاب طه حسين فلم ُي َ‬
‫إن حديث محمد عبده عن أسلوب السرد في قصص القرآن‪ ،‬وكيف' أنه أسلوب يتحدد من خالل‬
‫الغ َرض الديني الوعظي للقص‪ ،‬وال عالقة له بالتتابع الطبيعي المنطقي أو التاريخي للوقائع'‬
‫َ‬
‫تماما‬ ‫خارج القرآن‪ ،‬كان مقدمة أساسية َّ‬
‫نت طه حسين من أن يبني عليها مقدمة أخرى معروفة ً‬ ‫مك ْ‬
‫"جدة القرآن من حيث األسلوب"‪ .‬واستنبط طه حسين من المقدمتين نتيجة‬ ‫ومتفقًا عليها‪ ،‬هي َّ‬
‫فحواها أن القرآن "أثر فني بالغ"‪ ،‬وأنه مارس تأثيره في معاصريه من خالل كونه كذلك‪ .‬وهذا‬
‫النص القرآني‪ :‬إنه كتاب العربية‬
‫بالتحديد هو المفهوم الذي ينطلق منه الشيخ أمين الخولي عن ِّ‬
‫الناظر على‬
‫ُ‬ ‫وأثرها' الفني األقدس‪" :‬فالقرآن كتاب ِّ‬
‫الفن العربي األقدس‪ ،‬سواء نظر إليه‬ ‫األكبر‪ُ ،‬‬
‫أنه كذلك في الدين أم ال"[‪.]56‬‬

‫من هنا يؤسِّس أمين الخولي اختالفَه الذي أشرنا إليه مع محمد عبده على غاية التفسير‪ ،‬ويرى' أن‬
‫المقصد األسبق والغرض األول لعملية التفسير هو "البيان"؛ إذ هو الهدف الذي‬

‫المقاصد المتعددة [ومنها قصد الهداية عند محمد عبده]‪،‬‬


‫ُ‬ ‫األغراض المختلفة وتقوم عليه‬
‫ُ‬ ‫تنشعب منه‬
‫أي مقصد آخر‪ ،‬سواء كان ذلك المقصد اآلخر علميًّا أم عمليًّا‪ ،‬دينيًّا أم‬ ‫وال َّ‬
‫بد من الوفاء به قبل تحقيق ِّ‬
‫[‪]57‬‬
‫دنيويًّا‪.‬‬

‫علمي البالغة التقليديين (المعاني والبيان)‬


‫وإ ذا كان محمد عبده – كما سلفت اإلشارة – يشير إلى َ‬
‫باسم "علم األسلوب"‪ ،‬فليس منطقيًّا أن تُفهَم كلمة "البيان" – التي هي المقصد األساسي' والجوهري'‬
‫من عملية التأويل والتفسير' – بداللتها البالغية عند القدماء‪.‬‬
‫[‪]58‬‬

‫تفسيرا – مثل محمد عبده – فقد كان انشغاله بقضية "المنهج" هو‬
‫ً‬ ‫وإ ذا كان أمين الخولي لم يترك‬
‫الحافز وراء القيام بدراسات وبحوث استكشافية عديدة‪ ،‬خلَّ ْ‬
‫فت لنا تسعة كتب في اللغة واألدب‬
‫والبالغة والفكر واألديان المقارنة‪ .‬واحد من هذه الكتب هو كتاب مناهج التجديد‪ – ،‬الذي نعتمد‬
‫عليه هنا أساسا‪ – ،‬ويضم' بين دفَّتيه عشر دراسات من تلك المجاالت المشار إليها‪ ،‬وكلها ِّ‬
‫يركز‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫على مشكلة المنهج‪ .‬وانشغال الخولي هكذا بقضية المنهج في أكثر من مجال من المجاالت‬
‫مفهومه لمنهج التفسير والتأويل‪.‬‬
‫َ‬ ‫يعمق إلى ٍّ‬
‫حد كبير‬ ‫المشار إليها كان من شأنه‪ ،‬دون شك‪ ،‬أن ِّ‬

‫قلنا إن المنهج ينطلق من مفهوم َّ‬


‫محدد للقرآن‪ ،‬بوصفه أثر العربية الخالد األقدس‪ ،‬هو كذلك‬
‫ملحدا‪ .‬وليس المقصود بـ"العروبة"' عند الخولي عروبة‬
‫مسلما كان أم مسيحيًّا أم يهوديًّا أم ً‬
‫ً‬ ‫للعربي‪،‬‬
‫العرق والجنس والعصب والدم‪ ،‬بل العروبة هي عروبة اللسان والثقافة والعقل‪ .‬وليس معنى أن‬
‫منزالً من عند اهلل على نبيِّه محمد‪ ،‬بل المعنى أنه‬
‫مقدسا َ‬
‫ً‬ ‫كتابا دينيًّا‬
‫القرآن أثر فني عربي أنه ليس ً‬
‫نص يمارس تأثيره وفعاليته‪ ،‬على المسلم وعلى غير المسلم كذلك‪ ،‬من خالل خصائصه األدبية‬
‫والفنية‪ ،‬المميِّزة له والفارقة له عما سواه من النصوص؛ وهو التمييز والتفريق' الذي أطلق عليه‬
‫القدماء اسم "اإلعجاز" – هذا من ناحية‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬فليس معنى القول بأنه "عربي" أنه ال‬
‫يخاطب غير العرب في مراميه وأهدافه؛ كما أن هذا الوصف ال يعني انحسار' داللته في المدى‬
‫القصير لزمن نزوله أو بعده بقليل‪ .‬ال شيء من هذا يتضمنه مفهوم أن القرآن "أثر فني عربي" أو‬
‫أنه "كتاب العربية األكبر"‪ ،‬ألن للقرآن‪ ،‬بما هو أثر فني‪،‬‬

‫معاني ومرامي إنسانية اجتماعية بعيدة الهدف‪ ،‬أبدية العمر‪ ،‬لكن ذلك كلَّه إنما جاء اإلنسانية في ثوبه‬
‫المتعينة لفهم ذلك كلِّه والوصول‬
‫ِّ‬ ‫العربي وبذلك التعبير العربي؛ والتمثيل التام لهذه العروبة هو السبيل‬
‫[‪]59‬‬
‫إليه‪.‬‬

‫من هنا ال َّ‬


‫بد أن نفهم أن "البيان" الذي يعنيه الخولي‪ ،‬بوصفه مقصد المقاصد وغرض األغراض‬
‫من عملية التفسير والتأويل‪ ،‬هو منهج التحليل األدبي القادر على التعامل مع األثر الفني الخالد‪.‬‬
‫النص ذاته – من حيث البنية‬
‫خطوات هذا المنهج انطالقًا من خصائص ِّ‬
‫ُ‬ ‫وال َّ‬
‫بد أن تتحدد‬
‫والتركيب العام – ألنه ليس هناك منهج واحد ذو خطوات محددة سلفًا للتعامل مع أنماط النصوص‬
‫كلِّها‪ ،‬وليس هناك منهج مصمت‪ ،‬ثابت القالب‪ُ ،‬ي َفرض على هذا النص أو ذاك‪ ،‬ألن وحدة المنهج‬
‫نص‬
‫كل ٍّ‬‫المستخدمة مع ِّ‬
‫َ‬ ‫األدبي ال تنفي تنوع اإلجراءات – ومن ثََّم اختالف خطوات التطبيق –‬
‫انطالقًا من طبيعته الخاصة‪ .‬لهذا يبدأ أمين الخولي بوصف' بنية النص القرآني وتحديد'‬
‫خصائصها‪:‬‬

‫إن ترتيب القرآن في المصحف قد ترك وحدة الموضوع‪ ،‬لم يلتزمها مطلقًا‪ .‬وقد ترك الترتيب الزمني‬
‫فرق الحديث عن الشيء الواحد والموضوع الواحد في سياقات‬ ‫أبدا‪ .‬وقد َّ‬
‫لظهور اآليات‪ ،‬لم يحتفظ به ً‬
‫سر القرآن‬
‫متعددة‪ ،‬ومقامات مختلفة‪ ،‬ظهرت في ظروف مختلفة‪ .‬وذلك كله يقتضي في وضوح بأن ُيفَ َّ‬
‫عرف‬
‫وي َ‬
‫جمعا إحصائيًّا مستقصيًّا‪ُ ،‬‬
‫آيه الخاصة بالموضوع الواحد ً‬
‫جمع ُ‬
‫موضوعا‪ ،‬وأن تُ َ‬
‫ً‬ ‫موضوعا‬
‫ً‬
‫فهم‪ ،‬فيكون ذلك‬
‫فسر وتُ َ‬
‫ظر فيها بعد ذلك لتُ َّ‬
‫ترتيبها الزمني ومناسباتها ومالبساتها الحافة بها‪ ،‬ثم ُين َ‬
‫ُ‬
‫[‪]60‬‬
‫التفسير أهدى إلى المعنى‪ ،‬وأوثق في تحديده‪.‬‬

‫وصف‬
‫ٌ‬ ‫ِّ‬
‫المحددة لخصائصه‬ ‫من الضروري' االنتباه هنا إلى أن هذا الوصف' لبنية النص القرآني‬
‫دت بنيتُه‬ ‫َّ‬
‫وتحد ْ‬ ‫صحيح وصائب من الوجهة التاريخية‪ ،‬أي من وجهة الكيفية التي َّ‬
‫تركب فيها النص‬
‫من خالل عمليتي الجمع األولى والثانية في عصر الخالفة األول‪ .‬لكن هذه البنية‪ ،‬بخصائصها‬
‫تلك‪ ،‬هي التي تمارس فاعليتَها وتأثيرها' منذ ذلك العصر وحتى اآلن في قلوب المسلمين وغير‬
‫المسلمين وعقولهم‪ .‬في عبارة أخرى‪ ،‬كان المتوقَّع من الشيخ الخولي‪ ،‬وقد انطلق من مفهوم أن‬
‫منهجا لدراسة النص دراسةً‬
‫ً‬ ‫القرآن هو "نص العربية األكبر" و"أثرها الفني األقدس"‪ ،‬أن يطرح‬
‫فنية أدبية في بنيته الراهنة‪ ،‬بصرف' النظر عن كيفية ُّ‬
‫تركبها من الوجهة التاريخية‪.‬‬

‫متوقعا‪ '.‬فالشيخ‬
‫ً‬ ‫مطلبا مثل هذا ُي َعد مستحيالً بالنسبة للشيخ أمين الخولي‪ ،‬فضالً عن أن يكون‬
‫لكن ً‬
‫خريج مدرسة "القضاء الشرعي"‪ ،‬وتأثُّره بعلماء أصول الفقه واضح في المنهج الذي يطرحه‪:‬‬ ‫ِّ‬
‫ترتيبا' تاريخيًّا‪ ،‬قبل القيام بعملية‬
‫جمعا إحصائيًّا‪ ،‬ثم ترتيبها ً‬
‫جمع اآليات ذات الموضوع' الواحد ً‬
‫التفسير‪ .‬لقد كان على علماء األصول أن يقوموا بذلك في دراسة األحكام الفقهية‪ ،‬وذلك من أجل‬
‫"المجمل" من "المفصل" و"العام"' من "الخاص" – وذلك‬
‫َ‬ ‫فَ ْر ِز ناسخ األحكام من منسوخها‪ ،‬وبيان‬
‫كله ال يتأتَّى إال بالجمع الموضوعي لآليات والترتيب التاريخي' لها كذلك‪ .‬لكن الشيخ ِّ‬
‫يحول منهج‬
‫علماء األصول هذا – الخاص بدراسة األحكام والضروري' لها – إلى منهج صالح للتعامل مع‬
‫القرآن كلِّه‪ .‬وال يمكن التقليل من شأن هذا المنهج حين تتعلق الدراسة بموضوعات القرآن‬
‫وقضاياه الفكرية والعقيدية واألخالقية؛ لكنه ليس المنهج األجدى في الدراسة األدبية للقرآن‪.‬‬
‫وليس ذلك كله من قبيل تناقُض في منهج الشيخ أمين الخولي‪ ،‬ألن مفاهيمه للدراسة األدبية – التي‬
‫تحتاج إلى دراسة مستقلة ليس هاهنا مجالها – هي مفاهيم أقرب إلى المفاهيم الرومانسية المشبعة‬
‫النص األدبي من حيث الموضوعات والمضامين'‬
‫بمفاهيم الكالسيكية الجديدة؛ وهي مفاهيم تتناول َّ‬
‫تناولها له من حيث الشكل والبنية‪.‬‬
‫أكثر من ُ‬

‫وهذا هو الذي حدا بالشيخ إلى تقسيم الدراسات القرآنية إلى فرعين هما‪ :‬دراسة "ما حول القرآن"‪،‬‬
‫التي تنقسم إلى "عامة" و"خاصة"‪ :‬أما الخاصة فهي تلك الدراسات التي تُ َّ‬
‫سمى "علوم القرآن"‪،‬‬
‫كأسباب النزول‪ ،‬والمكي والمدني‪ ،‬والجمع والترتيب' والقراءة‪ ،‬إلخ؛ والدراسات العامة حول‬
‫القرآن هي تلك الدراسات التي تتجاوز "علوم القرآن" التقليدية إلى ذلك النمط من الدراسة‬
‫التاريخية واالجتماعية الذي سبق أن تناوله محمد عبده‪ .‬هذه الدراسة العامة تتناول عند الخولي‬

‫وح ِف َ‬
‫ظ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ما يتصل بالبيئة المادية والمعنوية التي ظهر فيها القرآن وعاش‪ ،‬وفيها ُجم َع و ُكت َب وقُ ِرئ ُ‬
‫وخاطب أهلها أول َمن خاطب‪ ،‬وإ ليهم ألقى رسالتَه لينهضوا بأدائها وإ بالغها شعوب الدنيا‪ .‬فروح‬
‫القرآن عربية‪ ،‬ومزاجه عربي‪ ،‬وأسلوبه عربي‪ ...‬والنفاذ إلى مقاصده إنما يقوم على التمثيل الكامل‬
‫واالستشفاف التام لهذه الروح العربية‪ ،‬ولذلك المزاج العربي والذوق العربي‪ .‬والتمثُّل التام لهذه‬
‫المتعينة لفهم ذلك كلِّه والوصول إليه‪ .‬ومن هنا لزمت المعرف ُة الكاملة لهذه البيئة‬
‫ِّ‬ ‫العروبة هو السبيل‬
‫العربية المادية‪ ...‬فكل ما يتصل بتلك الحياة المادية العربية وسائل ضرورية لفهم القرآن العربي‬
‫ٍ‬
‫ماض سحيق وتاريخ‬ ‫المبين – هذا مع ما يتصل بالبيئة المعنوية‪ِّ ،‬‬
‫بكل ما تتسع له هذه الكلمة من‬
‫نت‪ ،‬وفنون‪،‬‬
‫تلو ْ‬
‫بأي لون َّ‬
‫أي درجة كانت‪ ،‬وعقيدة‪ِّ ،‬‬
‫معروف‪ ،‬ونظام أسرة أو قبيلة‪ ،‬وحكومة‪ ،‬في ِّ‬
‫وتتشعب‪ .‬فكل ما تقوم به الحياة اإلنسانية لهذه العروبة وسائل‬
‫َّ‬ ‫مهما تنوعت‪ ،‬وأعمال‪ ،‬مهما تختلف‬
‫[‪]61‬‬
‫ضرورية كذلك لفهم هذا القرآن العربي المبين‪.‬‬

‫إن تلك الدراسات "حول القرآن"‪ ،‬الخاص منها والعام‪ ،‬تُعد بمثابة الدراسات الضرورية الممهِّدة‬
‫لدراسة النص ذاته‪ ،‬أي للتأويل والتفسير‪ .‬وليست هذه الدراسات‪ ،‬في التحليل األخير‪ ،‬إال دراسة‬
‫النص بالمعنى الشامل التاريخي' واالجتماعي والثقافي' والديني‪ .‬وهنا يتجاوب فكر أمين‬
‫لسياق ِّ‬
‫تاما مع فكره األدبي‪ ،‬خاصة في المنهج الذي طرحه في‬ ‫تجاوبا ًّ‬
‫ً‬ ‫الخولي في الدراسات القرآنية‬
‫كتابه عن األدب المصري' (‪ِّ ،)1943‬‬
‫مرك ًزا على أهمية "البيئة" بالمعنى الواسع الشامل لدرس‬
‫األدب‪.‬‬

‫ترتيبا ال يختلف‬
‫بعد هذه الدراسة األساسية الجوهرية‪ ،‬تترتب خطوات عملية التأويل والتفسير' ً‬
‫كثيرا عن ترتيب تلك الخطوات عند محمد عبده‪ ،‬مع إضافات تفصيلية شديدة األهمية‪ .‬الخطوة‬
‫ً‬
‫األولى تبدأ بالنظر' في "المفردات"‪ .‬ويؤكد الخولي‪ ،‬مثل عبده‪ ،‬أنه‬

‫فهما ال يقوم على‬


‫النص القرآني األدبي الجليل ً‬
‫البين أن يعمد متأدِّب إلى فهم ألفاظ هذا ِّ‬
‫من الخطأ ِّ‬
‫مس حياة األلفاظ وداللتَها‪ ،‬وال على التنبُّه إلى أنه إنما يريد ذلك‬ ‫تام لهذا التدرج والتغير الذي َّ‬
‫تقدير ٍّ‬
‫ليفهم هذه األلفاظ في الوقت الذي ظهرت فيه وتُِل َي ْت أول ما تُِل َي ْت على َمن حول تاليها األول عليه‬
‫[‪]62‬‬
‫السالم‪.‬‬

‫لكن هذه المرحلة األولى من الخطوة األولى – خطوة النظر في المفردات – ال تعني أن داللة تلك‬
‫المفردات مرهونة فقط باالستخدام' اللغوي خارج النص‪ .‬لذلك يضيف الخولي إلى هذه المرحلة‬
‫األولى مرحلةً ثانية في التحليل‪ ،‬ال َّ‬
‫بد للمفسِّر من أن ينتقل إليها في تحليل المفردات‪ :‬تلك هي‬
‫االنتقال من المعنى اللغوي إلى المعنى التداولي في القرآن‪ .‬وعلى الباحث في هذه المرحلة الثانية‬
‫أن‬

‫ورودها [اللفظة المفردة] لينظر في ذلك‪ ،‬فيخرج منه برأي عن استعمالها‪ :‬هل كانت له وحدة‬‫َ‬ ‫يتتبَّع‬
‫اطَّردت في عصور القرآن المختلفة ومناسباته المتغيرة؟ وإ ن لم يكن األمر كذلك‪ ،‬فما معانيها المتعددة‬
‫[‪]63‬‬
‫التي استعملها فيها في عصر نزول القرآن؟‬

‫وكما يؤكد الخولي أن عروبة القرآن – من حيث األسلوب والطابع والروح' – ال تتعارض مع‬
‫إن في‬
‫إنسانية مراميه وأهدافه وعالمية رسالته‪ ،‬فإنه بالمثل يؤكد أن داللة األلفاظ المفردة‪ْ ،‬‬
‫استعمالها اللغوي أو القرآني‪ ،‬ليست داللة ساكنة‪ ،‬بل هي داللة متحركة نامية‪ .‬لكنه يحذر من‬
‫عمليات القفز واإلسقاط الدالليين‪ ،‬التي يمكن أن يقع فيها المفسِّر‪ ،‬ألن النمو أو التطور' الداللي‬
‫دائما في حركته بالداللة األصلية األولى وال يصح وال ينبغي أن يفارقها‪:‬‬
‫لأللفاظ مرهون ً‬

‫ال ين َكر أن خلود هذا الكتاب ورياضته الدائمة للحياة‪ ،‬مع صلته الوثقى بها – كل ذلك يهيئ لفهم معاني‬
‫نسب إلى القرآن من هذه‬ ‫متجددة أو نامية‪َّ .‬‬
‫لكنا‪ ،‬مع عدم إنكار هذا القدر‪ ،‬نرى أنه ال ينبغي أن تُ َ‬
‫المعاني إال ما كان طريق فهمه الحس اللغوي للعربية‪ ،‬وسبيل االنتقال إليه هو داللة اللفظة األولى في‬
‫عصر نزول القرآن‪.‬‬
‫[‪]64‬‬

‫وإ ذ تتحقق الخطوة األولى‪ ،‬بمرحلتيها' السالفتين‪،‬‬

‫المفسر األدبي في المركبات؛ وهو في ذلك ‪ -‬وال مرية‪ -‬مستعين بالعلوم األدبية‪ ،‬من نحو‬
‫ِّ‬ ‫يكون نظر‬
‫وبالغة‪ ...‬والنظر في اتفاق معاني القراءات المختلفة لآلية الواحدة‪ ،‬والتقاء االستعماالت المتماثلة‬
‫في القرآن كلِّه‪ ...‬على أن النظرة البالغية هي النظرة األدبية الفنية التي تتمثل الجمال القولي في‬
‫سماته‪ ،‬في ذوق بارع قد استشف خصائص‬
‫األسلوب القرآني‪ ،‬وتتبين معارف هذا الجمال وتستجلي قَ َ‬
‫نض ًّما إلى ذلك التأمالت العميقة في التراكيب واألساليب القرآنية لمعرفة مزاياها‬
‫التراكيب العربية‪ُ ،‬م َ‬
‫[‪]65‬‬
‫الخاصة بها بين آثار العربية‪.‬‬

‫نالحظ هنا أن "علم األساليب" عند محمد عبده يتحول عند الخولي إلى أداة للكشف عن أسرار‬
‫جمال األسلوب القرآني‪ .‬إن علوم البالغة التقليدية التي حاول الخولي تطويرها' في كتابة الهام فن‬
‫كتابه مناهج التجديد‪ ،‬هي أدوات المفسِّر‬ ‫القول (‪ ،)1947‬وفي' دراسات أخرى سابقة َّ‬
‫ضمها ُ‬
‫للكشف عن هذا الجمال – هذا باإلضافة إلى أن الغاية من تحليل أساليب القرآن والكشف عن‬
‫سر "اإلعجاز" الذي يرى الخولي أنه "نفسي"‪ ،‬أي أنه قائم على‬
‫جمالياتها هي الوصول إلى ِّ‬
‫[‪]66‬‬
‫تأثيرا نفسيًّا‪.‬‬
‫"التأثير" في المتلقي ً‬

‫مردودا‪،‬‬
‫ً‬ ‫بد للخولي من أن يدرك أن ما يمارسه القرآن من تأثير نفسي م ِ‬
‫عجز ليس‬ ‫وهنا كان ال َّ‬
‫ُ‬
‫وال يمكن أن ُي َر َّد‪ ،‬إلى القراءة الموضوعية بحسب ترتيب النزول‪ ،‬بل هو تأثير ناتج عن البنية‬
‫للنص التي يطلق عليها القدماء "ترتيب التالوة"‪ ،‬في مقابل "ترتيب النزول"' الذي يشير إلى‬
‫الحالية ِّ‬
‫ممكنا له أن يتحقق للخولي‪ ،‬ألن الوعي به لم‬
‫ما قبل هذه البنية الحالية‪ .‬لكن هذا اإلدراك لم يكن ً‬
‫بدءا من بنت الشاطئ'‬
‫ذلك أن تالميذ الخولي‪ً ،‬‬ ‫يبدأ إال في الخمس والعشرين سنة األخيرة‪.‬‬
‫[‪]67‬‬

‫ومحمد أحمد خلف اهلل وشكري' عياد‪ ،‬ظلوا متمسكين‪ ،‬بدرجات متفاوتة بالطبع‪ ،‬بمنهج وحدة‬
‫الموضوع' وترتيب النزول‪.‬‬
‫يبقى‪ ،‬لكشف بعض الجوانب الهامة المتصلة بتصور' الخولي لإلعجاز النفسي‪ ،‬أن نتناول بالتحليل‬
‫َّ‬
‫رده على أصحاب نظرية "اإلعجاز العلمي" للقرآن‪ ،‬وهي نظرية تحظى بقبول وانتشار واسعين‬
‫جدا في السنوات األخيرة في بعض الدوائر األكاديمية‪ ،‬فضالً عن سريانها سريان النار في الهشيم‬ ‫ًّ‬
‫الرد (الذي ُن ِح ُّس بأهمية إيراده‬
‫في وعي العوام وأشباه المثقفين من المسلمين‪ .‬إن الخولي في هذا ِّ‬
‫كامالً هنا) ِّ‬
‫يشدد على ثالث نقاط جوهرية كاشفة عن مفهوم "اإلعجاز النفسي" عنده‪ ،‬أو عن‬
‫بعض جوانبه على األقل‪.‬‬

‫‪       -‬النقطة األولى‪ :‬إن القرآن‪ ،‬حين يتناول بعض حقائق الكون ومشاهده‪ ،‬إنما يتناولها تناوالً‬
‫فنيًّا‪ ،‬وال يتناولها من ناحية قوانين العلم الدقيقة أو نواميس الكون المنضبطة‪.‬‬

‫والمدرك' للناس‬
‫َ‬ ‫‪       -‬النقطة الثانية‪ :‬إن هذا التناول لحقائق الكون إنما يعتمد على المشهود‬
‫أيضا‪.‬‬
‫جميعا‪ ،‬العامة والخاصة‪ ،‬والعلماء وأنصاف' العلماء‪ ،‬بل والجهالء ً‬
‫ً‬

‫جميعا من ناحية‬
‫ً‬ ‫المشاهدة والملموسة للناس‬
‫َ‬ ‫‪       -‬النقطة الثالثة‪ :‬إن القرآن يتناول هذه الحقائق‬
‫َو ْق ِعها على الحواس‪ ،‬وانفعال الناس بها‪ ،‬وما تثيره من روعة في نفوسهم‪.‬‬

‫ويمكن صوغ هذه النقاط الثالث بعبارة أخرى‪ ،‬هي أن القرآن‪ ،‬حين يتناول بعض حقائق الكون‬
‫قار في تصوراتهم‪،‬‬
‫معتمدا على ما هو ٍّ‬
‫ً‬ ‫والمدركة‪ ،‬إنما يتناولها' ليثير مخيلة القارئ‪،‬‬
‫َ‬ ‫المشاهدة‬
‫َ‬
‫محر ًكا النفعاالتهم التي قد تكون خمدت بحكم األلفة‪ ،‬وذلك كله في أسلوب أدبي مؤثر‪ .‬وهكذا‬
‫ِّ‬
‫تناول القصص في القرآن‬
‫يمكن القول إن هذا التناول لظواهر الكون والطبيعة هو نفسه أسلوب ُ‬
‫ألهداف دينية وعظية‪ ،‬وليس لرواية التاريخ‪ .‬وهذا هو نص الشيخ أمين الخولي‪:‬‬

‫لف لفَّهم من أن يتجهوا إليه‪ ،‬ليدفعوا مناقض َة الدين للعلم‪k،‬‬


‫بد ألصحاب هذه النوايا ومن َّ‬
‫إن كان ال َّ‬
‫البحث أنها‬
‫ُ‬ ‫نص صريح يصادم حقيق ًة علمي ًة يكشف‬
‫فلعله يكفي في هذا ويفي أال يكون في كتاب الدين ٌّ‬
‫وحسب كتاب الدين بهذا القدر صالحي ًة للحياة‪ ،‬ومسايرةً للعلم‪k،‬‬
‫ُ‬ ‫من نواميس الكون و ُنظُم وجوده –‬
‫الطيبي النية‪ ،‬ال‬
‫وخالصا من النقد‪ .‬على أني‪ ،‬حين أتسامح بهذا القدر في سبيل إرضاء رغبات هؤالء ِّ‬
‫ً‬
‫ومشاهده هو التناول الذي يقصد به الدين رياض َة‬ ‫أنسى أن ِّ‬
‫أذكرهم بأن التناول الفني لحقائق الكون َ‬
‫أيضا‪ ،‬كما‬
‫وي َوجَّه لعامتهم وخاصتهم‪ ،‬وعلمائهم وأنصاف علمائهم‪ ،‬بل لجهالئهم ً‬
‫وجدانات الناس‪ُ ،‬‬
‫جميعا‪ .‬وهذا التناول إنما يقوم على المشهود البادي من‬
‫ً‬ ‫هي مهمة الدين والغاية من تالوة كتابه بينهم‬
‫النفس‪ ،‬ووقعه على الحواس‪ ،‬وانفعال الناس به‪ ،‬ال من ناحية دقائق قوانينه‬ ‫ناحية روعته في َّ‬
‫ومنض ِبط نواميسه في معادالت جبرية أو أرقام حسابية أو بيان ٍّ‬
‫جاف لخصائصه وحقائقه‪ .‬وبقيام هذا‬
‫التناول على المشاهد والمدرك بادئ الرأي‪ ،‬والمؤثر في َّ‬
‫النفس المثير لالنفعال‪ ،‬ال يجب الوفاء به‬
‫المجربة لهذه العوالم الموصوفة والمناظر التي ال ُيراد من‬
‫َّ‬ ‫بحماية الحقائق العلمية والخصائص‬
‫المدبرة لها‪ ،‬المحقِّقة لنظامها‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫تناولها إال إثارة الشعور بجاللها وجمالها وداللتها على عظمة القوة‬
‫ُ‬
‫كثيرا باألهداف‬
‫االلتزام ً‬ ‫المقررات العلمية َّ‬
‫ألخل هذا‬ ‫المفسر في شيء من هذا لتصحيح َّ‬
‫ِّ‬ ‫ولو التزم‬
‫ُ‬
‫ونفع الحياة بها عن طريق التأمل المتدين واالعتبار النفسي‬
‫َ‬ ‫الفنية الوجدانية التي يريد الدين تحقيقَها‬
‫[‪]68‬‬
‫العاطفي المريح‪ ،‬قبل ِّ‬
‫كل شيء آخر‪.‬‬

‫واضحا أن الشيخ أمين الخولي هو االمتداد المعرفي' التركيبي ٍّ‬


‫لكل من محمد عبده‬ ‫ً‬ ‫اآلن‪ ،‬وقد' صار‬
‫وطه حسين على مستوى المنهج‪ ،‬فمن الالزم بيان طبيعة التحدي الذي ُي َع ُّد منهج الخولي استجابةً‬
‫له‪ :‬لم يعد التحدي‪ ،‬في نظر الخولي‪ ،‬هو التحدي الخارجي المتمثل في الوجود األوروبي – ماديًّا‬
‫وعقليًّا – في قلب العالم العربي واإلسالمي‪ ،‬وما يطرحه هذا الوجود' من قضايا ومشكالت‪ ،‬بل‬
‫نمو التيار السلفي‪ ،‬الذي بلغ ْأو َجه منذ إنشاء "جماعة‬
‫أضيف إليه التحدي الداخلي المتمثل في ِّ‬
‫َ‬
‫اإلخوان المسلمين"‪ ،‬والذي كان استطاع قبل ذلك كبح جماح مدرسة "التأويل"' على مذهب الخلف‬
‫في معركتَي اإلسالم وأصول' الحكم وفي' الشعر الجاهلي‪.‬‬

‫يحاول منهج الخولي أن يستعيد' لهذا التيار حيويته على مستوى قضايا' التجديد‪ ،‬بصفة عامة‪،‬‬
‫وعلى مستوى' تأويل القرآن‪ ،‬بصفة خاصة‪ .‬من هنا يضيف إلى وعي محمد عبده بالتراث‬
‫ِ‬
‫إنجازات علماء أصول الفقه في مجال التحليل اللغوي‪ ،‬الستثمار' األحكام من‬ ‫المعتزلي والرشدي‬
‫النصوص عن طريق وحدة الموضوع' وترتيب النزول؛ ويضيف' إلى منهج طه حسين "اللغوي‬
‫أبعادا من نظرية األدب عن تأثير البيئة وعن التأثير النفسي لألدب في القارئ‪ .‬وفي ذلك‬ ‫الفني" ً‬
‫دفعت بها إلى السطح محنةُ الفن‬
‫ْ‬ ‫أبدا‪ ،‬وإ ْن‬
‫وعي أمين الخولي ً‬ ‫كلِّه‪ ،‬لم تُفارق محنةُ تيار "التأويل"‬
‫َ‬
‫ت تحت إشراف الخولي‪.‬‬ ‫القصصي في القرآن‪ ،‬الرسالة التي أُن ِج َز ْ‬

‫رفضت الجامعة منح صاحبه درجة‬


‫ْ'‬ ‫في مقدمته للطبعة األولى لكتاب الفن القصصي‪ ،‬الذي‬
‫الدكتوراه‪ – ،‬بل وفصلتْه من السلك الجامعي‪ – ،‬يكشف الخولي لنا عن أهمية منهجه في القضاء‬
‫على "االزدواج" في شخصية المثقف المسلم‪ ،‬الذي يؤمن بالقرآن وصحته من ناحية عواطفه‬
‫ومشاعره الدينية‪ ،‬وهو كذلك يثق في العلم وإ نجازاته من ناحية الفكر والعقل‪ .‬وفي' إشارة واضحة‬
‫صريحة إلى كتاب في الشعر الجاهلي‪ ،‬ومن ثََّم إلى طه حسين‪ِّ ،‬‬
‫يقرر الخولي أن‬

‫الدراسة الفنية المتجددة للقرآن‪ ،‬كتاب العربية األكبر‪ ،‬والمستفيدة من التقدم الفني والعقلي‬
‫س ُبها أن‬
‫التفسير األدبي للقرآن خطوة لألمام بعيدة األثر‪ ،‬خطوة َح ْ‬
‫ُ‬ ‫واالجتماعي‪ ،‬تنتهي إلى أن يتقدَّم‬
‫مثقف باإلسالم‪ ،‬واثقًا‬
‫ٌ‬ ‫ازدواج الشخصية في المتدين – ذلك االزدواج الذي يتجلَّى حين يتدين‬
‫َ‬ ‫تمنع‬
‫ويقرر‪ :‬إن اإلسالم وكتابه القرآن يحدِّث عن األشياء والواقعات بما يشاء‪ ،‬ويستغلها‬
‫مؤم ًنا‪ ،‬ثم يدرك ِّ‬
‫ود ِف َع‬
‫وتقرر ُ‬ ‫في ترويج الدعوة اإلسالمية كما يشاء‪ ،‬دون أن يكون حقًّا ُم ِ‬
‫لز ًما للمؤمنين‪ .‬وهو ما أذيع َّ‬
‫[‪]69‬‬
‫به في مصر منذ ثلث قرن في أزمة الشعر الجاهلي‪.‬‬
‫المحمل بالتفسير ال التبرير‪ ،‬لطه حسين وألطروحته عن‬
‫َّ‬ ‫هذا الوصف' المشبَّع بالنقد‪ ،‬أو النقد‬
‫القرآن في كتاب في الشعر الجاهلي‪ ،‬يكشف عن وجه ٍّ‬
‫هام من وجوه التحدي الذي يرى الخولي أن‬
‫منهج "التفسير األدبي" قادر' على مواجهته وعلى ِّ‬
‫حل مشكل "االزدواج"' في المثقف المتدين‪ .‬وهنا‬
‫تتقدم أطروحة محمد عبده عن "القصص القرآني" والتاريخ‪ ،‬مدعَّمةً بأدوات منهج التحليل األدبي‬
‫مشيرا بالطبع إلى الفن‬
‫ناجعا لمرض "االزدواج"‪ .‬يقول الخولي – ً‬
‫وإ جراءاته‪ ،‬لكي تكون دواء ً‬
‫ومدافعا' عنه حتى االستعداد لإللقاء في النار‪ ،‬على ِّ‬
‫حد تعبيره في المقدمة نفسها‪:‬‬ ‫ً‬ ‫القصصي‬

‫وعلى هذا األساس‪ ،‬يستطيع المثقف الراقي‪ ،‬حين يتدين‪ ،‬أن يعتقد في تسليم مطمئن بحديث القرآن‬
‫وأشخاص‬
‫َ‬ ‫الفني في قصصه‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬يحقِّق ويحلِّل في عمق ووضوح تاريخ هاتيك األحداث‪،‬‬
‫أصحابها‪ ،‬وينفي في ذلك ويثبت‪ ،‬مطمئ ًنا إلى أن هذا لن يصادم بحال ذلكم العرض الفني اآلخر‪ ،‬وأن‬
‫يمس سالم َة القرآن وصدقَه‪ .‬وهكذا ال يضطر‬
‫هذا العرض الفني‪ ،‬مهما يقل التاريخ في أحداثه‪ ،‬لن َّ‬
‫العالم المؤمن إلى أن يعالن العالم وأهله بأن للقرآن أن يقول ما يشاء‪ ،‬وأن يستغل األحداث كما يشاء‪،‬‬
‫دون أن ُي ِ‬
‫لزمنا ذلك بشيء‪ ،‬ألننا مؤمنون بوجداننا‪ – ،‬ثم باحثون بعقلنا‪ – ،‬وفي أنفسنا هذان التياران‬
‫معا‪ .‬لن يقول المستنير ذلك‪ ،‬بل سيقول‪ ،‬بعد أن يفهم خطة الدرس الفني‬
‫المتخالفان والمتجاوران ً‬
‫السبل الفنية في عرضه لقصص السابقين ما يشاء‪،‬‬
‫لقصص القرآن الكريم‪ :‬إن للقرآن أن يسلك من ُ‬
‫دون أن يقصد إلى مساس التاريخ بشيء‪ ،‬ألنه إنما يعرضها العرض الفني الذي ال يقوم على‬
‫قرر أن يقصده بصراحة‪ ،‬أال وهو ِ‬
‫الع ْبرة‪ :‬لقد كان في‬ ‫التفاصيل أو الروايات والتحديات‪ ،‬بل يقصد ما َّ‬
‫قصصهم عبرة ألولي األلباب‪.‬‬
‫[‪]70‬‬

‫‪ .5‬خاتمة‬

‫دائما قانون "التحدي واالستجابة"' في سياق التطور االجتماعي‬ ‫ًّ‬


‫ألسنا حقا بإزاء "إشكالية" يحكمها ً‬
‫والثقافي والفكري للعقل اإلسالمي؟ ثم أليست تلك إشكالية "تأويل"‪ ،‬ال مجرد مشكل شرح مفردات‬
‫تعقيدا‪ ،‬والصراع' بين طرفي "السلف"'‬
‫وأخيرا‪ ،‬أليست اإلشكالية تزداد ً‬
‫ً‬ ‫بالترجمة والتفسير؟‬
‫صراعا ًّ‬
‫فكريا' ثقافيًّا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كثيرا عن تاريخه الطويل بوصفه‬
‫و"الخلف" يزداد حدة وضراوة‪ ،‬ويرحل ً‬
‫ليتحول إلى صراع دموي؟!‬

‫لعل هذا العرض أن يكون محاولة لفتح باب الفكر وإ غالق أبواب القتل‪ .‬ولعل تطوير منهج‬
‫الخولي‪ ،‬وفقًا إلنجازات المعرفة المتنامية في مجال العلوم اإلنسانية (خاصة األلسنية والتأويلية)‪،‬‬
‫تجاو ًزا لحالة الركود' في مجال الدراسات القرآنية – ذلك الركود الذي لم تستطع جهود‬
‫أن يمثل ُ‬
‫تماما ألهل السلف المعاصرين‬ ‫مدرسة الخولي – ألسباب كثيرة – أن تتخطَّاه‪ ،‬فأسلم' المجا ُل َ‬
‫قياده ً‬
‫– والبون بينهم وبين أسالفهم' شاسع‪ ،‬كما هو البون بين اإلبداع والتكرار‪ ،‬بين األصالة والنقل‪،‬‬
‫وبين اإلفادة واإلعادة‪.‬‬
‫*** *** ***‬

‫تنضيد‪ :‬نسرين األحمد‬

‫‪ ‬‬

‫السابق‪ ،‬المجلد األول‪ ،‬ص ‪.271‬‬ ‫[‪]29‬‬

‫السابق‪ ،‬المجلد الرابع‪ ،‬ص ‪.42‬‬ ‫[‪]30‬‬

‫السابق‪ ،‬المجلد الرابع‪ ،‬ص ‪.7‬‬ ‫[‪]31‬‬

‫السابق‪ ،‬المجلد األول‪ ،‬ص ‪.271‬‬ ‫[‪]32‬‬

‫السابق‪ ،‬المجلد األول‪ ،‬ص ‪.330-329‬‬ ‫[‪]33‬‬

‫السابق‪ ،‬المجلد األول‪ ،‬ص ‪.234-233‬‬ ‫[‪]34‬‬

‫السابق‪ ،‬المجلد األول‪ ،‬ص ‪.215‬‬ ‫[‪]35‬‬

‫السابق‪ ،‬المجلد الثالث‪ ،‬ص ‪.48-47‬‬ ‫[‪]36‬‬

‫السابق‪ ،‬المجلد الرابع‪ ،‬ص ‪93-92‬؛ وانظر كذلك‪ :‬المجلد التاسع‪ ،‬ص ‪.511-506‬‬ ‫[‪]37‬‬

‫السابق‪ ،‬المجلد الرابع‪ ،‬ص ‪.93‬‬ ‫[‪]38‬‬

‫السابق‪ ،‬المجلد التاسع‪ ،‬ص ‪.511‬‬ ‫[‪]39‬‬

‫السابق‪ ،‬المجلد الرابع‪ ،‬ص ‪.93‬‬ ‫[‪]40‬‬

‫السابق‪ ،‬المجلد التاسع‪ ،‬ص ‪.511‬‬ ‫[‪]41‬‬

‫السابق‪ ،‬المجلد‪ ،‬األول‪ ،‬ص ‪.210‬‬ ‫[‪]42‬‬

‫السابق‪ ،‬المجلد األول‪ ،‬ص ‪.211‬‬ ‫[‪]43‬‬

‫السابق نفسه‪.‬‬ ‫[‪]44‬‬

‫إذا كانت قصة أمين الخولي ال تبدو لبعضهم داميةً‪ ،‬فالحقيقة أنها كذلك‪ :‬لقد كان األستاذ المشرف على رسالة‬ ‫[‪]45‬‬

‫الدكتوراه الفن القصصي في القرآن للطالب محمد أحمد خلف اهلل‪ ،‬وهي رسالة أثارت ً‬
‫نزاعا خرج من الجامعة إلى الحياة‬
‫الطالب من الجامعة سنة ‪ .1949‬وبعد خمس سنوات‪ ،‬تم‬ ‫ُلغي ِت الرسالةُ وفُ ِ‬
‫ص َل‬ ‫ِ‬ ‫العامة‪َّ '،‬‬
‫ُ‬ ‫فتدخل األزهر والحكومة‪ ،‬حتى أ َ‬
‫ف باسم "حركة التطهير"‪ ،‬بعد أن كان قد ُح ِر َم من ِّ‬
‫حق‬ ‫أيضا‪ ،‬فيما ُع ِر َ‬
‫فصل األستاذ الشيخ أمين الخولي من الجامعة ً‬
‫واحدا من‬
‫ً‬ ‫اإلشراف على الرسائل الجامعية' المتصلة بالدراسات القرآنية بقرار من إدارة الجامعة‪ '.‬ومن الجدير بالذكر أن‬
‫طالب الخولي النابهين – هو شكري عياد – قد اضطر في دراسته للدكتوراه إلى تغيير التخصص من "الدراسات القرآنية"‬
‫إلى "الدراسات' البالغية" لكي يحظى بشرف االستمرار تحت إشراف أمين الخولي وتوجيهه‪.‬‬

‫انظر مقدمة المؤلِّف لكتاب الخالفة وسلطة األمة‪ ،‬المترجم عن التركية‪ ،‬طب ‪ ،2‬دار نهر‪ ،‬القاهرة‪.1995 ،‬‬ ‫[‪]46‬‬

‫في الشعر الجاهلي‪ ،‬طب ‪ ،2‬دار نهر‪ ،‬القاهرة‪ ،1995 ،‬ص ‪.20‬‬ ‫[‪]47‬‬

‫السابق‪ ،‬ص ‪.26‬‬ ‫[‪]48‬‬

‫السابق نفسه‪.‬‬ ‫[‪]49‬‬

‫السابق‪ .‬ص ‪.33‬‬ ‫[‪]50‬‬

‫السابق‪ ،‬ص ‪.35‬‬ ‫[‪]51‬‬

‫السابق‪ ،‬ص ‪.33‬‬ ‫[‪]52‬‬

‫السابق نفسه‪.‬‬ ‫[‪]53‬‬

‫عاما – مع رسالة محمد أحمد خلف اهلل الفن القصصي في القرآن‪.‬‬


‫وكما سيفعلون ذلك مرة ثالثة – ولكن بعد عشرين ً‬
‫[‪]54‬‬

‫عاما على المأساة' الثالثة!‬


‫ثم تتكرر المأساة مرة رابعة بعد حوالى خمسة' وأربعين ً‬

‫طُبِ َع طبعةً مستقلة في دار نهر بالقاهرة‪ ،‬ثم طبعتْه مجلة القاهرة في أحد أعدادها (مايو ‪.)1995‬‬ ‫[‪]55‬‬

‫مناهج التجديد‪ ،‬ص ‪.304‬‬ ‫[‪]56‬‬

‫مناهج التجديد‪ ،‬ص ‪.303-302‬‬ ‫[‪]57‬‬

‫هذا ما حدث مع التلميذة األولى من تالميذ الخولي (وزوجته بعد ذلك)‪ ،‬د‪ .‬بنت الشاطئ‪ ،‬في التفسير البياني للقرآن‪،‬‬ ‫[‪]58‬‬

‫الذي يكاد من الناحية المنهجية أال يتجاوز حدود علم البالغة الكالسيكي‪.‬‬

‫مناهج التجديد‪ ،‬ص ‪( 310‬الحاشية)‪.‬‬ ‫[‪]59‬‬

‫السابق‪ ،‬ص ‪.306‬‬ ‫[‪]60‬‬

‫السابق‪ ،‬ص ‪.310‬‬ ‫[‪]61‬‬

‫السابق‪ ،‬ص ‪.310‬‬ ‫[‪]62‬‬


‫السابق‪ ،‬ص ‪.314-313‬‬ ‫[‪]63‬‬

‫السابق‪ ،‬ص ‪( 312‬الحاشية)‪.‬‬ ‫[‪]64‬‬

‫السابق‪ ،‬ص ‪.315-314‬‬ ‫[‪]65‬‬

‫انظر‪ :‬ص ‪ 203‬من المصدر السابق‪.‬‬ ‫[‪]66‬‬

‫لعل دراسات محمد أركون خير تعبير عن هذا اإلدراك اآلن‪.‬‬ ‫[‪]67‬‬

‫انظر‪ :‬ص ‪ 295-294‬من المصدر السابق‪.‬‬ ‫[‪]68‬‬

‫الفن القصصي في القرآن الكريم‪ ،‬مكتبة األنجلو المصرية‪ ،‬طب ‪( 1972 ،4‬المقدمة بقلم أمين الخولي)‪ ،‬ص د‪.‬‬ ‫[‪]69‬‬

‫السابق‪ ،‬ص هـ‪.‬‬ ‫[‪]70‬‬

‫***‬

‫تنضيد‪ :‬نسرين أحمد‬

‫عن موقع معابر‬

‫‪ ‬‬

‫السيوطي (عبد الرحمن جالل الدين)‪ ،‬اإلتقان في علوم القرآن‪ ،‬مكتبة مصطفى البابي الحلبي‪ ،‬ط ‪ ،3‬القاهرة‪1370 ،‬‬ ‫[‪]1‬‬

‫هـ‪ 1951/‬م‪.‬‬

‫انظر‪ :‬محمد بن جرير الطبري‪ ،‬تاريخ الرسل والملوك‪ ،‬بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط ‪4‬‬ ‫[‪]2‬‬

‫‪ ،1979‬الجزء الخامس‪ ،‬ص ‪ ،49-48‬وكذلك ص ‪.66‬‬

‫الطبري‪ ،‬جامع البيان عن تأويل آي القرآن‪ ،‬بتحقيق محمود محمد شاكر‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،1971 ،‬الجزء‬ ‫[‪]3‬‬

‫السادس‪ ،‬ص ‪.198‬‬

‫سورة عبس (رقم ‪ ،)80‬اآلية ‪.31‬‬ ‫[‪]4‬‬

‫سورة األنعام (رقم ‪ ،)6‬اآلية ‪.82‬‬ ‫[‪]5‬‬

‫سورة لقمان (رقم ‪ ،)31‬اآلية ‪.13‬‬ ‫[‪]6‬‬


‫تضمنه الكشاف من االعتزال"‬
‫الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون األقاويل في وجوه التأويل‪ ،‬وبهامشه "االنتصاف فيما َّ‬ ‫[‪]7‬‬

‫ألحمد بن محمد اإلسكندراني المالكي‪ ،‬مكتبة مصطفى البابي الحلبي‪ ،‬ط ‪.1966 ،3‬‬

‫انظر‪ :‬السيوطي‪ ،‬اإلتقان في علوم القرآن‪ ،‬نوع "أسباب النزول"‪.‬‬ ‫[‪]8‬‬

‫انظر‪ :‬محمد عابد الجابري‪ ،‬بنية العقل العربي‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ .1989 ،4‬وفيما يتصل‬ ‫[‪]9‬‬

‫بمنهج المعتزلة في التأويل‪ ،‬انظر دراستنا‪ :‬االتجاه العقلي في التفسير‪ :‬دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة‪،‬‬
‫دار التنوير‪ ،‬ط ‪.1993 ،3‬‬

‫الخياط (أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد بن عثمان)‪ ،‬االنتصار في الرد على ابن الراوندي‪ ،‬بتحقيق نيبرج‪ ،‬المطبعة‬ ‫[‪]10‬‬

‫الكاثوليكية‪ ،‬بيروت‪ ،1957 ،‬ص ‪.14-13‬‬

‫انظر‪ :‬القاضي عبد الجبار أبو الحسن األسدآبادي‪ :‬متشابه القرآن‪ ،‬بتحقيق عبد الكريم عثمان‪ ،‬مكتبة وهبة‪ ،‬ط ‪،1‬‬ ‫[‪]11‬‬

‫القاهرة‪ ،1966 ،‬ص ‪.36-35‬‬

‫انظر‪ :‬الطبري‪ :‬جامع البيان‪ ،‬بتحقيق شاكر (سبقت اإلشارة إليه)‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص ‪431-428‬؛ وانظر كذلك‬ ‫[‪]12‬‬

‫المجلد الحادي عشر‪ ،‬مطبعة الريان‪ ،‬القاهرة (مصورة عن طبعة بوالق قديمة)‪ ،‬ص ‪.483-482‬‬

‫انظر‪ :‬ابن رشد‪ ،‬فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من االتصال‪ ،‬بتحقيق محمد عمارة‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪،‬‬ ‫[‪]13‬‬

‫‪ ،1972‬ص ‪.32‬‬

‫انظر نماذج لهذا الخالف في كتابنا السابق اإلشارة إليه في الحاشية ‪ ،9‬ص ‪.78‬‬ ‫[‪]14‬‬

‫انظر‪ :‬ابن تيمية‪ ،‬مقدمة في أصول التفسير‪.‬‬ ‫[‪]15‬‬

‫ُن ِش َر الكتاب بتصحيح زكريا علي يوسف‪ ،‬مطبعة اإلمام‪ ،‬القاهرة‪ 1380 ،‬هـ‪.‬‬ ‫[‪]16‬‬

‫نقالً عن‪ :‬مصطفى عبد الرزاق‪ ،‬تمهيد لتاريخ الفلسفة اإلسالمية‪ ،‬مكتبة النهضة المصرية‪ ،‬ط ‪ ،1966 ،3‬ص ‪-85‬‬ ‫[‪]17‬‬

‫‪.86‬‬

‫ما بين عالمات التنصيص أسماء كتب لمحمد عبده‪ ،‬سنحيل إلى بعضها فيما يلي‪.‬‬ ‫[‪]18‬‬

‫تفسير طنطاوي الجوهري‪ ،‬تفسير الجواهر‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دون تاريخ‪.‬‬ ‫[‪]19‬‬

‫تفسير المنار‪ ،‬المجلد األول‪ ،‬ص ‪.21‬‬ ‫[‪]20‬‬

‫أمين الخولي‪ ،‬مناهج التجديد في النحو والبالغة والتفسير واألدب‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط ‪.1961 ،3‬‬ ‫[‪]21‬‬

‫مناهج التجديد‪ ،‬ص ‪.302‬‬ ‫[‪]22‬‬

‫مناهج التجديد‪ ،‬ص ‪.303-302‬‬ ‫[‪]23‬‬


‫تفسير المنار‪ ،‬المجلد األول‪ ،‬ص ‪.19‬‬ ‫[‪]24‬‬

‫السابق‪ ،‬ص ‪.20‬‬ ‫[‪]25‬‬

‫السابق‪ ،‬ص ‪.21-20‬‬ ‫[‪]26‬‬

‫السابق‪ ،‬ص ‪.21‬‬ ‫[‪]27‬‬

‫السابق نفسه‪.‬‬ ‫[‪]28‬‬

You might also like