You are on page 1of 156

‫الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية‬

‫وزارة التعليم العالي والبحث العلمي‬


‫جـامعة ‪ 02‬أوت ‪ 5511‬سكيكـدة‬
‫كليّة اآلداب و اللّغات‪.‬‬
‫بي‪.‬‬
‫قسم اللّغة و األدب العر ّ‬
‫التخصص‪ :‬نقد أدبي حديث و معاصر‪.‬‬

‫مذ ّكرة مكملة لنيل شهادة الماستر‬


‫الموسومة بـ‪:‬‬

‫بنية الخطاب الروائي في رواية "في كل قبر حكاية" لـ‪:‬‬


‫"عبد الواحد هواري"‬
‫مقاربة سوسيونصية‬
‫إشراف األستا ‪:‬‬ ‫إعــداد الطّالبتين ‪:‬‬
‫د‪ .‬نبيل بوالسليو‬ ‫سعدة خلخال فائزة‬
‫سعد اهلل أمينة‬
‫أعضاء اللّجنة‬
‫المؤسسة‬ ‫الصفة‬
‫ّ‬ ‫الرتبة العلمية‬ ‫االسم و اللّقب‬
‫جامعة ‪ 02‬أوت ‪5511‬سكيكدة‬ ‫ئيسا‬
‫ر ً‬ ‫أ‪ .‬التعليم العايل‬ ‫د‪ /‬عبد القادر نطور‬
‫جامعة ‪ 02‬أوت ‪5511‬سكيكدة‬ ‫ومقررا‬
‫مشرفاً ً‬ ‫أ‪ .‬التعليم العايل‬ ‫د‪ /‬نبيل بوالسليو‬
‫جامعة ‪ 02‬أوت ‪5511‬سكيكدة‬ ‫ممتحناً‬ ‫أ‪ .‬حماضر‪ .‬ب‬ ‫د‪ /‬مصطفي بوبعيو‬

‫السنة الجامعية ‪1010-1029‬‬


‫إه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــداء‬
‫أهدي هذا العمل‪:‬‬

‫إىل أغلى األحبة والداي الكرميني‬

‫إىل جدي العزيز إىل إخويت األعزاء‬

‫و مجيع أفراد العائلة‬

‫إىل صديقايت احلميمات‬

‫إىل كل األحبة‬

‫شكرا لتواجدكم معي‬

‫فايزة‬
‫إه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــداء‬
‫أهدي هذا العمل‪:‬‬

‫إىل زوجي العزيز إىل إبين قرة عيين‬

‫إىل أمي العزيزة إىل روح أيب الطاهرة‬

‫و مجيع أفراد العائلة‬

‫إىل صديقايت احلميمات‬

‫إىل كل األحبة‬

‫شكرا لتواجدكم معي‬

‫أمينة‬
‫ّ‬
‫الشكر الجزيل ملن كان له الفضل الكبير بعد هللا سبحانه وتعالى في انجاز هذا‬
‫البحث وإتمامه‪.‬‬

‫ونخص به ألاستاذ املشرف "نبيل بوالسليو" الذي حمل أعباء إلاشراف على هذه‬
‫ّ‬
‫املذكرة‪ ،‬والذي لم يبخل علينا بوقته وجهده رغم كثرة املشاغل وألاعمال‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ويتفحص ما جمعناه ويختم‬ ‫فقد اقتطع جزءا من وقته الثمين لينظر فيما كتبناه‬
‫ذلك بتوجيهات وآراء سديدة ّ‬
‫يصوب بها ما أخطأنا فيه‪ ،‬وي ّنبه ملا غفونا عنه‪.‬‬
‫ّ‬
‫فالشكر له على ّ‬
‫كل ذلك‪ ،‬ونسأل هللا العظيم أن يجعل ذلك في ميزان حسناته‪.‬‬

‫كما نتوجه بفائق شكرنا واحترامنا لجميع أساتذتنا الكرام الذين رافقونا طوال‬
‫مشوارنا الدراس ي ولم يبخلوا علينا بش يء‪ ،‬وأوصلونا إلى ما نحن عليه اليوم إليكم‬
‫فائق الاحترام والتقدير‪.‬‬

‫و ال ننس ى كذلك ألاخ الفاضل سعدة خلخال خير الدين الذي كانت له بصمة في‬
‫هذا الانجاز‪ .‬كل الشكر و الاحترام و التقدير لك‪.‬‬
‫م ـق ـدم ـ ـ ـ ـة‬
‫مقدمة‬

‫مقدمة‬

‫الكتابة األدبية عبارة عن تعبري عن األفكار و اآلراء و املشاعر اإلنسانية ألهنا ليست جمرد سرد للخواطر‬
‫الشخصية‪ ،‬بل حتمل يف صفحاهتا قيما و قضايا واقعية هامة ترصد هزائمه و سقطاته و انتصاراته على اختالفها‪،‬‬
‫فبعد أدب الثورة اجلزائرية عرف األدب اجلزائري قفزة نوعية يف جمال الكتابة االدبية بظهور أدب األزمة أو كما‬
‫يطلق عليه بعض الدارسني أدب احملنة‪ ،‬و الذي تناوله العديد من األدباء والكتاب الذين عاصروا احلرب األهلية‬
‫اجلزائرية‪ .‬و مبا أن الرواية من أكثر األجناس األدبية قدرة على التعبري عن الواقع االجتماعي و السياسي و‬
‫االقتصادي و الديين‪ ...‬فقد ابدع الكتاب يف كتابة الرواية ملا متلكه من قدرة على تصوير الواقع بكل أبعاده و‬
‫تأثريها يف اجملتمع‪.‬‬

‫كما عرفت الرواية اجلزائرية تطورا كبريا و انتشارا واسعا حقق به مكانة هامة مقارنة بغريها من األجناس‬
‫األدبية كالقصة و الشعر‪ ...‬و قد سخر العديد من املبدعني أقالمهم لتصوير الواقع االجتماعي بكل حاالته سواء‬
‫كانت حسنة أم سيئة‪ ،‬و عمل على إجياد احللول لتكوين عامل أفضل يف جزائر البطوالت و الشهداء‪.‬‬

‫و مبا أن الفن الروائي أصبح يف اآلونة األخرية ميتاز بالدقة و احلرية يف التعبري عن القيم املوضوعية االجتماعية‬
‫و استشراف اآلفاق الشاسعة بتنويعه يف أدوات اإلبداع جاء اختيارنا يف هذه الدراسة للبحث يف بنية اخلطاب‬
‫السردي‪ ،‬و قد ارتأينا أن تكون الرواية اجلزائرية املعاصرة منوذجا ملقاربتنا السوسيونصية‪ ،‬و حتديدا رواية "يف كل قرب‬
‫حكاية" لـ "عبد الواحد هواري" ملا تزخر به من قيم فنية و موضوعية‪.‬‬

‫صور أكثر فتات اجلزائر ظلمة‪ ،‬و نزوال عند‬


‫و دفعنا إىل اختيار هذا املوضوع إعجابنا بأدب احملنة الذي ّ‬
‫رغبتنا يف رصد مكونا هذا النص السردي و معرفة جتلياته املختلفة و اكتشاف موضوعات اخلطاب الروائي و بنيته‬
‫و مجاليته‪ ،‬كما أن احلافز اآلخر هو أن هذه الرواية مل حتض بالدراسة باعتبار أن طباعتها كانت مؤخرا فقط‪.‬‬

‫فكيف متكن "عبد الواحد هواري" يف روايته "يف كل قرب حكاية" من رصد الواقع اجلزائري بتجلياته املختلفة‬
‫‪-‬سياسية‪ ،‬دينية‪ ،‬اجتماعية‪ -...‬؟ و قد ساهم كل من الزمان واملكان كـ بنيتان يف حتديد أبعاد الرواية‪ ،‬فكيف‬
‫ذلك ؟ و كيف جتلت الرؤية السردية بتعدد وجهاهتا يف الرواية ؟‬

‫و يف حماولة منا لإلحاطة بكل جوانب املوضوع قمنا بتقسمه إىل مقدمة و ثالثة فصول؛ فصل نظري و‬
‫فصلني تطبيقيني‪ ،‬و خامتة يف األخري‪.‬‬

‫‌أ‬
‫مقدمة‬

‫خصصنا الفصل األول لالجتاه السوسيونصي‘ و قسمنا الفصل بدوره إىل قسمني؛ أوهلما حتت عنوان‬
‫السوسيونصية يف الدراسات االدبية‪ ،‬حاولنا من خالل دراسته البحث عن جذوره يف الدراسات الغربية و العربية‪،‬‬
‫و خصصنا الثاين للتطرق إىل مبادئ املقاربة السوسيونصية و البحث عن طبيعة العالقة بني الواقع االجتماعي و‬
‫النص الروائي‪ ،‬راصدين بذلك أهم جتليات املنهج‪.‬‬

‫أما الفصل الثاين بعنوان "املوضوعات يف رواية يف كل قرب حكاية" و ذهبنا إىل تقسيمه على ثالثة مباحث؛‬
‫املبحث األول كان هبدف اكتشاف جتليات البعد السياسي يف الرواية‪ ،‬أما الثاين فكان خمصصا لتجليات البعد‬
‫الدين يف الرواية‪ ،‬و املبحث األخري تناولنا فيه جتليات الواقع االجتماعي‪.‬‬

‫مث انتقلتا إىل الفصل الثالث الذي كان بعنوان "مجالية التشكيل الفين يف رواية فب كل قرب حكاية" مقسمني‬
‫إياه إىل أربعة مباحث‪ ،‬فكان االول بعنوان "الشخصية يف الرواية"‪ ،‬والثاين بعنوان "بنية الزمن يف الرواية"‪ ،‬أما‬
‫الثالث فتناولنا فيه بنية املكان يف الرواية‪ ،‬أما املبحث الرابع و األخري فخصصناه للرؤية السردية يف الرواية‪.‬‬

‫و كانت خامتة حبثنا عبارة عن ذكر أهم النتائج اليت توصلنا إليها يف ظل مقاربتنا السوسيونصية‪.‬‬

‫وقد ذكرنا يف بسط اخلطة املنهج السوسيونصي الذي اتبعناه بالتحليل‪ ،‬واستعنا مبناهج أخرى كلما دعت‬
‫احلاجة إليها مثل املنهج التارخيي‪.‬‬

‫و من أهم املراجع اليت اعتمدناها يف حبثنا هذا و ساعدتنا يف إزالة اإلهبام عن تساؤالتنا نذكر‪:‬‬

‫‪ -‬رواية "يف كل قرب حكاية" لـ "عبد الواحد هواري"‬

‫‪ -‬بناء الرواية ( دراسة مقارنة يف ثالثية جنيب حمفوظ ) لـ "سيزا أمحد قاسم"‬

‫‪ -‬النقد الروائي و األيديولوجي ( من سوسيولوجيا الرواية إىل سوسيولوجيا النص الروائي ) لـ "محيد احلمداين"‬

‫‪ -‬النص واجملتمع ( آفاق علم اجتماع النقد ) لـ "بيري زميا"‬

‫‪ -‬حتليل اخلطاب الروائي ( الزمن‪ ،‬السرد‪ ،‬التبئري ) لـ "سعيد يقطني"‬

‫‪ -‬يف نظرية الرواية لـ "عبد امللك مرتاض"‬

‫‌ب‬
‫مقدمة‬

‫لقد واجهتنا العديد من الصعوبات و العراقيل منها تشتت املوضوع و اتساعه و انعدام الدراسات السابقة‬
‫حول املدونة اليت تناولناها‪ ،‬إضافة إىل الصعوبة اليت تلقيناها يف التعامل مع النص الروائي وفق املقاربة‬
‫السوسيونصية‪ ،‬و ال ميكننا جتاهل الوضع الصحي املتدين الذي واجه العامل يف هذه السنة حيث منعنا من االتصال‬
‫املباشر باألستاذ املشرف منعنا أيضا من ارتياد املكتبات للبحث يف مراجعها املختلفة‪.‬‬

‫و يف اخلتام ال يسعنا إال أن نتقدم بشكرنا هلل عز وجل على توفيقه لنا مث إىل الدكتور "نبيل بو السليو" الذي‬
‫أشرف على هذا البحث بتقدميه مجلة من اإلرشادات و املالحظات اليت ساعدتنا كثريا يف العمل على املذكرة و له‬
‫منا فائق االحتام و التقدير‪ ،‬كما يفوتنا التقدم بالشكر لوالدي الذي سعى جاهدا لتوفري املراجع اهلامة‪.‬‬

‫‌ج‬
‫الفصل األول‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫الفصل األول‪ :‬المنهج السوسيونصي‪.‬‬

‫أوال‪ :‬السوسيونصية في الدراسات األدبية‪.‬‬

‫‪ – 1‬في الدراسات الغربية‪.‬‬

‫‪ – 2‬في الدراسات العربية‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬مبادئ المقاربة السوسيونصية و تجليات المنهج‪.‬‬

‫‪ - 1‬طبيعة العالقة بين النص الروائي و الواقع اإلجتماعي‪.‬‬

‫‪ - 2‬ماهية الخطاب الروائي و وظيفته‪.‬‬

‫‪ - 3‬تجليات المنهج السوسيونصي‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫أوال‪ :‬السوسيونصية في الدراسات األدبية‪:‬‬

‫‪ - 1‬في الدراسات الغربية‪:‬‬

‫‪ -‬سوسيولوجيا النص "بيرزيما"‪:‬‬

‫إن كتابات الناقد التشيكوسلوفاكي األصل "بيري فالريي زميا" دعمت تيار سوسيلوجيا النص الروائي فقد‬
‫استفاد من الكتابات النقدية حول نظرية الرواية عند خمتلف املدارس النقدية السوسيولوجية أو الشكالنية و البنيوية‬
‫حيث سعى إىل بناء تصور نظري جديد يتجاوز احلدود املنهجية السابقة فكتابه "من أجل سوسيولوجيا النص‬
‫األديب" يعترب اجملال الذي طرح فيه أهم تصوراته النقدية عن العالقة بني النصوص األدبية الروائية و القيم الفكرية و‬
‫اإليديولوجية اليت حتملها‪.‬‬

‫يدعو منهج الناقد "بيري زميا" « إىل التآلف بني األحباث الشكالنية و البنيوية احلديثة‪ ،‬و بني النتائج اليت‬
‫توصلت إليها سوسيولوجيا األدب‪،‬كما قدمها غولد مان يف البنيوية التكوينية‪ ،‬ألن هذا النوع من احلوار النظري‬
‫كان بإمكانه أن يغين سوسيولوجيا النص األديب‪ ،‬و جيعل منها علما للنص قائما بذاته »‪.1‬‬

‫علم اجتماع النص أو املنهج السوسيونصي أو املنهج السوسيونقدي مسميات خمتلفة ملفهوم واحد و هو‬
‫املنهج الذي يسعى إىل دراسة اجملتمع داخل النصوص األدبية‪ ،‬و حسب" بيري زميا" هو السعي « إىل مالئمة‬
‫النص األديب مع اجملتمع‪ ،‬بتوسيط من البىن األلسنية »‪ 2‬فبيري زميا يهدف إىل الرتكيز على توافق شروط النص‬
‫األديب مع اجملتمع‪ ،‬فقد ركز جل اهتماماته على ابراز مجاليات اخلطاب األديب يف تفاعله مع اجملتمع‪ ،‬و ذلك‬
‫بالرتكيز على عالقة النص األديب باجلانب االجتماعي و خمتلف السياقات اخلارجية‪ ،‬و يركز علم اجتماع النص‬
‫على‪:‬‬

‫‪ -‬تفسري اخلطاب ضمن أطره املؤسساتية‪.‬‬

‫‪ -‬إعادة اخلطاب إىل سياقه االجتماعي و اللساين‪.‬‬

‫إعادة تفسري العالقة بني االجتماعي والنفسي داخل النص‪.‬‬

‫‪ -1‬عمر عيالن‪ :‬يف مناهج حتليل اخلطاب السردي‪ ،‬دار الكتاب احلديث‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،1111 ،1‬ص ‪.111‬‬
‫‪ -2‬بيري زميا‪ :‬النص و اجملتمع ‪-‬آفاق علم اجتماع النقد‪ ،-‬تر‪ :‬أنطوان أبو زيد‪ ،‬املنظمة العربية للرتمجة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،1112 ،1‬ص ‪.161‬‬

‫‪6‬‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫يعد علم اجتماع النص من العلوم اليت تركز اهتماماهتا على الطريقة اليت يتفاعل هبا « النص األديب مع‬
‫املشكالت االجتماعية و التارخيية على مستوى اللغة »‪ 1‬ألن علم امجاع االنص يركز على ضرورة معرفة طريقة‬
‫تفاعل النص األديب مع اجملتمع و التاريخ مبتعدا بذلك عن تفسري النصوص مبفهومها التقليدي للشكل‪.‬‬

‫و عليه فإن املنهج السوسيونقدي حياول « جتاوز اخلطاب الفلسفي و عرض خمتلف املستويات النصية‬
‫كبنيات لغوية و اجتماعية يف آن واحد »‪.2‬‬

‫ف سوسيولوجيا النص الروائي عليها التأكيد على قضايا تتجاوز اخلالف األيديولوجي بني (الكيف الشكالين‬
‫و اللمائية املاركسية) ‪ ،‬فنظام اللغة ال خيرج عن النظام األيديولوجي باعتباره جماال تتصادم فيه مصاحل اجتماعية‬
‫متعارضة‪.‬‬

‫« يؤكد زميا أن تفسري النصوص األدبية وفق منظور لوكاتش ال يقدم لنا تفسريا كامال للنص النه يضع يف‬
‫مقابلة مع أيديولوجيا مضادة و يلغي باقي األيديولوجيات اليت جيهلها الكاتب‪ ،‬و لذلك هو واحد من‬
‫االحتماالت املمكنة للنص‪ ،‬كما يؤكد أن النص يف التحليل البنيوي التكويين يتوازى وراء احلضور القوي للعناصر‬
‫اخلارجية سواء كانت هذه العناصر اقتصادية او اجتماعية و حىت ثقافية »‪.3‬‬

‫وعليه فإن "بيري زميا" ذهب إىل انتقاد "لوكاتش" مقرا أن اتباع نظريته يف حتليل النصوص ال يسمح لنا‬
‫بالوصول إىل املفهوم الشامل للنص فالتحليل البنيوي التكويين يصب اهتمامه يف العناصر اخلارجية عرب امليادين‬
‫االقتصادية و االجتماعية و الثقافية‪.‬‬

‫كما أن "بيري زميا" « قدم انتقادا لعلم اجتماع األدب الذي دعا إليه "روبريت اسكاربيت" والذي يهتم بدراسة‬
‫العناصر اخلارجية فقط الكاتب‪ ،‬اجلمهور‪ ،‬القارئ أي أنه حيوم حول الظاهرة األدبية دون الدخول إليها »‪.4‬‬

‫ف ـ "بيري زميا" مطالب يف بناء تصوراته حول سوسيولوجيا النص بأن يتجاوز الصراع القائم بني التوجه الشكالين و‬
‫التوجه املاركسي و أن نظام اللغة موحد تلتقي فيه خمتلف املصاحل االجتماعية‪.‬‬

‫‪ -1‬بيري زميا‪ :‬حنو سوسيولوجيا النص األديب‪ ،‬تر‪ :‬عمار بلحسن‪ ،‬جملة العرب و الفكر العاملي‪ ،‬ع ‪ ،1‬مركز االمناء العريب‪ ،1191 ،‬ص ‪.89‬‬
‫‪ -2‬عمر عيالن‪ :‬مناهج حتليل اخلطاب السردي‪ ،‬ص ‪.111‬‬
‫‪ -3‬صاحلة عباسي‪ :‬سوسيولوجيا النص األديب و تطبيقاته يف النقد العريب املعاصر‪ ،‬مذكرة ماجستري‪ ،‬جامعة العريب بن مهيدي‪ ،‬أم البواقي‪،‬‬
‫‪ ،1322/1111‬ص ‪.13‬‬
‫‪ -4‬اجملع نفسه‪ ،‬ص ‪.13‬‬

‫‪7‬‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫من خالل هذا التقارب آراء "بيري زميا" من آراء باختني « فإن احملور األساسي الذي يدعو إليه يتحدد‬
‫بالدرجة األوىل يف النص الذي هو انعكاس للبنيات اللغوية السائدة يف اجملتمع‪ ،‬إن الصراع األيديولوجي ذا الطابع‬
‫االجتماعي االقتصادي يتحول إىل بنيات لغوية تعرب عنه‪ ،‬و متيزه يف مراحل تطور اجملتمع‪ ،‬و تصبح كل فرتة مومسة‬
‫بطابع خاص هلا‪ ،‬و هذه الوضعية السوسيو‪-‬لسانية هي اليت تدلنا حقيقتها األفكار و اإليديولوجيات املثبوثة يف‬
‫النص »‪.1‬‬

‫فاملنظور السوسيولغوي يهتم بالنص دون سواه‪ ،‬فالنص هو انعكاس للبنية اللغوية السائدة يف اجملتمع‪ ،‬فاللغة‬
‫هي اليت تعكس الصراعات األيديولوجية املوجودة يف اجملتمع‪ .‬فالصراعات األيديولوجية تتسم بالطابع االقتصادي‬
‫و االجتماعي‪ .‬كما أن "باختني" يركز يف حتليالته على اجلانب االقتصادي واالجتماعي‪.‬‬

‫فسوسيولوجيا النص تركز يف دراستها على « االنطالق من البنية النصية للوصول إىل البنية اجملتمعية اليت‬
‫أنتجته‪ ،‬و لكن دائما من منظور سوسيو‪-‬لساين »‪ 2‬فـ "بيري زميا" استغىن عن جهود كل من "لوكاتش" و‬
‫"غولدمان" حول طبيعة العالقة القائمة بني النصوص األدبية و النظام االقتصادي املصاحب هلا ألن هذه النتائج‬
‫‪-‬حسبه‪ -‬جتعل البحث النقدي حماصرا بقوالب جامدة ال تتماشى مع حقيقة التفاعل اجملتمعي و متغرياته‪.‬‬

‫لذلك فإن النص األديب و الروائي بالنسبة "لبيري زميا" يشكالن موقفا أيديولوجيا متميزا فالرواية حتمل دالالت‬
‫أيديولوجية تنشكل بربطها بالواقع االجتماعي؛ ما يعين أن الرواية حتمل خمتلف التصورات الواقعية يف‬
‫اجملتمع‪،‬إضافة إىل تضمني ايديولوجيات تتصارع فيما بينها‪ ،‬بإعتبارها قيما واقعية تعكس التناقضات االجتماعية‪،‬‬
‫كما جيب ان تكون أيديولوجية الرواية أكثر إقناعا للمتلقي ألهنا متثل رؤية العامل مبقابل الرؤى األخرى‪ ،‬فـ "بيري‬
‫زميا" طور هذا الطرح من خالل كتابه "اإلزدواجية الروائية" حيث يقول محيد احلمداين‪ « :‬كل نص حتليلي ميكن‬
‫أن يفهم كموقف أيديولوجي نقدي أو غري نقدي بالنسبة للنصوص التخيلية األخرى أو غريها من النصوص‬
‫املنطوقة أو املكتوبة‪ .‬كما أن النص التخيلي يبدو كنسيج من أحكام قيمة‪ ،‬اليت تؤكد على مشروعية بعض املصاحل‬
‫االجتماعية‪ ،‬من أجل التشكيك يف مصاحل اآلخرين »‪.3‬‬

‫‪ -1‬عمر عيالن‪ :‬يف مناهج حتليل اخلطاب السردي‪.191 ،‬‬


‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.191‬‬
‫‪ -3‬محيد حلمداين‪ :‬النقد الروائي و األيديولوجيا ‪-‬من سوسيولوجيا الرواية إىل سوسيولوجيا النص الروائي‪ ،-‬املركز الثقايف العريب‪،‬ط‪ ،1111 ،1‬ص‪.98‬‬

‫‪8‬‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫تدل "سوسيولوجيا الرواية" على املنهج النقدي يف الرواية حيث حتصر اهتمامها يف البحث عن سببية الظاهرة‬
‫الروائية مركزة على جوانبها املفسرة حلدوث النص الروائي‪ ،‬فاحلديث عن العناصر اخلارجية للنص حيتل مكان‬
‫الصدارة يف التحليل‪ ،‬أما "سوسيولوجيا النص األديب" فتعمل على حتليل املستوى الرتكييب حيث تكشف من خالله‬
‫عن العالقات االجتماعية و الثقافية السائدة يف فرتة تارخيية من جهة‪ ،‬و البنية اللسانية املتحققة يف االنص الرووائي‬
‫املدروس من جهة ثانية‪ ،‬ألهنا متلك الوسائل و التقنيات اليت تعمل على حتليل األعمال األدبية من الداخل‪.‬‬

‫فعلم اجتماع النص مل يكن بالنسبة لبيري زميا جمرد منهجية يف حتليل النصوص أو تقنية ذات مردود فكري‬
‫فهو علم يهتم بدراسة الضوابط اليت تفرضها بعض اللغات املهيمنة‪.‬‬

‫ظلت العالقة بني النص واجملتمع مبهمة إىل أن جاء "ميخائيل باختني" بنظريته "ازدواج القيم الكرنفايل"‪،‬‬
‫فهذه النظرية تعترب أساس علم اجتماع النص و من مسات القيم الكرنفايل‪ :‬االزدواج القيمي و « تعدد األصوات‬
‫(‪ )la polyhonie‬و الضحك(‪ )le rire‬فالكرنفال هو الصوت الذي يقضي على األحادية الفردية »‪.1‬‬

‫وقد اعترب "بيري زميا" التناص مفهوما سوسيولوجيا‪ ،‬ألنه من املنظور االجتماعي يأخذ عامل الفن و اخليال‬
‫توجها تناصيا‪ ،‬فكل مكتوب يستجمع لغات خمتلفة و خطابات شفوية و خمطوطة و فضاءات خيالية‪ « ،‬تسعى‬
‫سوسيولوجيا النص إىل الربط بني التوجه التجريدي للسوسيولوجيا احملتوى و بعض إمتيازات األساليب اجلدلية‪ ،‬و‬
‫من بني هذه االمتيازات ميكن أن نذكر حماوالت "لوكاتش" املتعددة أو "دورنو" أو "غولدمان"‪ ،‬للتعريف ببعض‬
‫األجناس األدبية كاألقصوصة (لوكاتش) أو الرواية (أدورنو و غولدمان) يف إطار اجتماعي و تارخيي يف الوقت‬
‫نفسه بينما يكمن إمتياز آخر يف البعد اجلمايل للمقاربات اجلدلية اليت ال تكتفي بوصف األحداث و تسجيلها و‬
‫لكنها تنتقد النصوص اليت مت حتليلها و السياق االجتماعي »‪ 2‬إن االهتمام باجلانب االجتماعي للنص يعترب من‬
‫أولويات سوسيولوجيا النص و ذلك برتكيزه على إبراز اجلانب االجتماعي داخل البنية النصية‪.‬‬

‫‪ -1‬بيري زميا‪ :‬النص و اجملتمع آفاق علم اجتماع النص‪ ،‬ص ‪.118‬‬
‫‪ -2‬نعيمة بو لكعيبات‪ :‬املنهج االجتماعي يف النقد العريب املعاصر‪ ،‬أطروحة دكتواه‪ ،‬جامعة احلاج خلضر‪ ،‬باتنة‪ ،1116/1111 ،‬ص ‪.212‬‬

‫‪9‬‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫كما يعود "بيري زميا" إىل مفهوم التناص عند "جوليا كرستيفا" و الذي استندت فيه على مفهوم احلوارية عند‬
‫"باختني" كما مسى "بيري زميا" « التناص الذي يأخد به تناصا خارجيا مقابل التناص الداخلي الذي أخدت به‬
‫"كرستيفا"‪ ،‬كما أخذ به "باختني" »‪.1‬‬

‫كما أن "زميا" يويل مشروع "كرستيفا" أمهية كبرية بقرائتها ألعمال "باختني" « يربطهما اإلنتاج األديب‬
‫(الكتابة) بالتلقي (القراءة) و هي تتحدث عن النص بإعتباره حوار عدة نصوص و هي تكشف عن العالقة بني‬
‫الكتابة و الكالم يف النص الروائي يف القرون الوسطى‪ ،‬لينتهي إىل إعتبار التناص مفهوما سوسيولسانيا تأخذ من‬
‫خالله املظاهر االجتماعية داخل النص و حياول "زميا" تفسري العالقة بني البنية النصية و البنية االجتماعية »‪.2‬‬

‫و يعد كتاب النص الروائي (مقاربة سيميولوجية لبنية خطابة حتويلية) سنة ‪" 1186‬جلوليا كرستيفا"‬
‫كمحاولة لسوسيولوجيا النص الروائي الذي استخدمت فيه حتليال سيميولوجيا حتويليا‪ ،‬مبعىن اهنا انطلقت يف حتليل‬
‫اخلطاب الروائي من جتزيئه إىل وحدات مدلولية رمزية و تعاملت مع هذه الوحدات كدوال تدخل يف عالقة مع‬
‫بعضها البعض‪ ،‬لتكون بذلك كلية النص و هذا بواسطة دراسة هذه العالقة وفق نظرة حتويلية تساعد على فهم‬
‫تطور النص‪.3‬‬

‫و عليه فـ "جوليا كريستيفا" انطلقت يف منهجها التحويلي بعدم النظر إىل النص الروائء باعتبار انه وحدات‬
‫ميكن قراءهتا فقط و كوحدات تتداخل مع بعضها البعض حيث ال ميكن دراسة وحدة إال من خالل عالقتها مع‬
‫جمموع النص إذ ال ميكن األخذ بداللة واحدة و إقصاء الوحدات و الدالالت األخرى‪.‬‬

‫اعترب بيري زميا الطريقة األفضل للوصول إىل املشكالت االجتماعية املوجودة يف النص هو التحليل السردي‪،‬‬
‫حيث يعد مستوى من مستويات حتليل النصوص يف املنهج الذي أقر به‪.‬‬

‫مما سبق ذكره يتضح بأن سوسيولوجيا النص عند "بيري زميا" هي منهج يدرس النص و يتقصى املشكالت‬
‫االجتماعية و األيديولوجية‪ ،‬حيث أن العالقة بني النص و اجملتمع ليست عالقة منفصلة بل هي عالقة متكاملة‬
‫فيما بينها‪ ،‬حبيث ينطلق "بيري زميا" يف دراساته من حتليل اخلطاب اللغوي أو اللغوي االجتماعي أو من خالل‬

‫‪ -1‬محيد احلمداين‪ :‬النقد الروائي و األيديولوجيا –من سوسيولوجيا الرواية إىل سوسيولوجيا النص الروائي‪ ،-‬ص ‪.99‬‬
‫‪ -2‬صاحلة عباسي‪ :‬سوسيولوجيا النص األديب و تطبيقاته يف النقد العريب املعاصر‪ ،‬مذكرة ماجستري‪ ،‬جامعة العريب بن مهيدي‪ ،‬أم البواقي‪،‬‬
‫‪ ،1322/1111‬ص ‪.62‬‬
‫‪ -3‬حممد عزام‪ :‬حتليل اخلطاب األديب على ضوء املناهج النقددية احلديثة‪ ،‬ص ‪.211‬‬

‫‪01‬‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫اللهجة االجتماعية املوجودة يف النص‪ ،‬اليت حتتوي على بىن اجتماعية ختتص باللحظة التارخيية اليت ينتمي اليها‪،‬‬
‫كما أن االختصاص الذي تبحث فيه سوسيولوجيا النص ينطلق من فرضيتني مها‪:‬‬
‫‪ -‬القيم االجتماعية ال ميكن أن تكون مستقلة عن اللغة‪.‬‬
‫‪ -‬الوحدات املعجمية و الداللية و الرتكيبية املوجودة يف النص تصور املصاحل االجتماعية كما ميكنها أن تصبح‬
‫مراهنات اجتماعي و اقتصادي و سياسي‪.‬‬

‫‪ - 2‬في الدراسات العربية‪:‬‬

‫لقد كان النقد العريب مواكبا حلمالت االصالح و التطوير و التجاوز للمناهج التقليدية منذ القرون املاضية‪،‬‬
‫حيث شهد النقد العريب منذ بداية سبعينات القرت العشرين إجنذابا و جتاوبا مع املناهج النصية املعاصرة و آلياهتا‬
‫االجرائية كالبنيوية و التفكيكية والسيميولوجية و التكوينية و السوسيونصية‪ ،‬حيث لقيت هذه األخرية هتافتا من‬
‫قبل النقاد من أجل التنظري و التطبيق على آلياته‪ ،‬ألنه قد سعى لتجاوز البحث السوسيولوجي لألدب التقليدي‪،‬‬
‫حني ختلص نت سلطة املفاهيم األيديولوجية‪.‬‬

‫« إن اهلاجس النقدي هو الذي دفع عددا من النقاد العرب املعاصرين إىل العودة إىل اجنازات النقد‬
‫السوسيونصي الغريب لدى رواده أمثال لوسيان غولدمان الذي طرح مفهوم البنيوية التكوينية و ميخائيل باختني يف‬
‫أطروحاته املتميزة عن الكرنفال‪ ،‬و احلوارية‪ ،‬و بيري زميا الذي بلور سبقا منهجيا مساه‪ :‬سوسيولوجيا النص األديب‪،‬‬
‫إضافة إىل جوليا كريستيفا‪ ،‬و ب يار ماشري الذي عرف مفهوم النقد االجتماعي عنده أبعادا منهجية أكثر إجرائية‬
‫و علمية »‪.1‬‬

‫تعترب البنيوية التكوينية من أكثر املذاهب النقدية الغربية انتشارا يف العامل العريب‪ ،‬كما يعود سبب هذا‬
‫االنتشار إىل تربع االجتاهات املاركسية أكثر يف البنيات النقدية العربية ضمن هذا السياق‪ ،‬فقد جاءت حماولة‬
‫"مجال شحيد" يف دراسته البنيوية الرتكيبية‪ :‬دراسة يف منهج "لوسيان غولدمان"‪ ،‬حيث أوىل أول حماولة يف النهج‬
‫البنيوي التكويين‪ ،‬نشره عام ‪ .1191‬بعد "مجال شحيد" جاء اجلزائري "حممد ساري" حيث أصدر كتابه "البحث‬
‫عن النقد األديب اجلديد" و خصصه للنقد البنيوي التكويين‪ ،‬و من احملاوالت أيضا جند "طاهر لبيب" يف‬
‫سوسيولوجيا الغزل العريب (الشعز العذري أمنودجا) و "سعيد علوش" يف الرواية و األيديولوجيا‪ ،‬و "حممد براءة" يف‬

‫‪ -1‬عبد الوهاب شعالن‪ :‬من سوسيولوجيا األدب إىل سوسيولوجيا النص ‪-‬قراءة يف جتربة محيد احلمداين‪ ،-‬املركز اجلامعي سوق أهراس‪ ،‬ص ‪.181‬‬

‫‪00‬‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫أطروحته "حممد مندور و تنظري النقد العريب"‪ ،‬كما يشري "أمني العام" إىل أمهية املنهج البنيوي يف إعادة بناء تقومي‬
‫النقد األ ديب و ذلك من خالل التحرر من أفكار الشكالنية و بناء تصورات جديدة يوظفها يف تأسيس نقد أديب‬
‫قائم على أساس تكاملي‪ ،‬يقول‪ « :‬و يف هناية املقاالت أكدت على احلاجة على البحث عن منهج للنقد األديب‪،‬‬
‫ال جيمع بني هذه املدارس جتميعا سطحيا توفيقا‪ ،‬بل يوجد بني الداللة و القيمة‪ ،‬بني احلقيقة و اجلمال يف صيغة‬
‫سعيدة »‪.1‬‬

‫كما سامهت الناقدة "ميىن العيد" مبؤلفاهتا يف جمال النقد الروائي‪ ،‬ومن أمهها نذكر‪:‬‬
‫‪ -‬يف معرفة النص‪.‬‬
‫‪ -‬تقنيات السرد الروائي يف ضوء النهج البنيوي‪.‬‬
‫‪ -‬الكتابة‪ :‬حتول يف التحول‪.‬‬
‫‪ -‬فن الرواية العربية‪.‬‬
‫‪ -‬الراوي‪ :‬املوقع و الشكل‪.‬‬
‫و قد جاوزت الناقدة بني املنهجني؛ االجتماعي‪ ،‬و البنيوي‪.‬‬

‫حصر الناقد العريب النص الروائي يف جانبه الشكلي مبتعدا عن السياقات اخلارجية له‪ ،‬فكانت نظرة الناقد‬
‫للنص مادية و شكلية حمضة‪ ،‬فهو عبارة عن كيان مادي و ملموس يتفاعل مع الواقع مبختلف بنياته اللغوية و‬
‫الرتكيبية و السردية معتمدا على مفاهيم "بيري زميا" و "ميخائيل باختني"‪.‬‬

‫إن حماولة اإلملام جبميع احملاوالت النقدية املسامهة يف البحث السوسيولوجي أمر صعب‪ ،‬فقد « شكلت‬
‫الكتابات النظرية و الدراسات التطبيقية اليت أجنزها محيد حلمداين حمطة هامة يف مسار النقد العريب املعاصر‪ ،‬من‬
‫حيث التفاعل اإلجيايب يف تفصيل حمور املثاقفة يف ميدان النقد األديب عموما‪ ،‬و النقد الروائي على وجه اخلصوص‪،‬‬
‫و قد كان لكتاباته النقدية أثرها يف مد النقد الروائي العريب اجلديد بأدوات و إجراءات مسحت بفسح اجملال أمام‬
‫الدراسات النقدية للرواية للتحرر من هيمنة منهج وحيد غطى الساحة النقدية و هو املنهج البنيوي »‪.2‬‬

‫كما يؤكد "سعيد يقطني" على العمق التطبيقي و ذلك من خالل اإلنطالق من الدراسات البنيوية و اإلنتقال إىل‬
‫الداللية‪ ،‬حيث يقول‪ « :‬هنا وجدتين مقيدا بالسرديات البنيوية‪ ،‬و لتجنب التعسف يف اإلنتقال منهما إىل‬

‫‪ - 1‬نعيمة بولكعيبات‪ :‬املنهج االجتماعي يف النقد العريب املعاصر‪ ،‬ص ‪.111‬‬


‫‪ 2‬عمر عيالن‪ :‬النقد العريب اجلديد – مقاربة يف نقد النقد‪ ،-‬منشورات اإلختالف‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬ط‪ ،1111 ،1‬ص‪.111‬‬

‫‪01‬‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫سوسيولوجيا النص مع زميا‪ ،‬وجدتين أعمل على توسيع جمال السرديات أفقيا و ليس عموديا كما بينت ذلك‬
‫عندما حتدثت عن حدود السرديات فكان علي جتاوز احلد النحوي إىل الداليل و بذلك وجدتين ألتقي مع زميا و‬
‫أنا مشدود إىل املظهر النحوي‪ ،‬إن املظهر الداليل توسيع للمظهر النحوي و ليس إلغاء له أو قطيعة معه »‪.1‬‬

‫و يرى "سعيد يقطني" أن اهلدف من دراسته "انفتاح النص الروائي" هو حتليل النص بنية داللية حيث يقول‪:‬‬
‫« و يكمن طموحنا املركزي يف يف حماولتنا إقامة تصور متكامل يسعى إىل جتاوز الدراسات السوسيولوجية‬
‫التبسيطية‪ ،‬و املضمونية اليت هيمنت طويال يف مضمار النقد األديب العريب »‪.2‬‬

‫يفضل "سعيد يقطني" استعمال مصطلح "التفاعل النصي" بدل "التناص" ألنه ‪-‬يف رأيه‪ -‬أعلم من التناص‬
‫حيث يقول‪ « :‬نؤثر استعمال "التفاعل النصي" ألنه أعم من التناص‪ ،‬و نفصله على التعاليات النصية اليت هي‬
‫مقابل عند جينيت لدالالهتا اإلحيائية البعيدة‪ ،‬فبما أن النص ينتج ضمن بنية نصية سابقة فهو يتعالق هبا‪ ،‬و‬
‫يتفاعل معها حتويال أو تضمينا أو خرقا‪ ،‬و مبختلف األشكال اليت تتم هبا هذه التفاعالت »‪.3‬‬

‫وقد اعتمد "سعيد يقطني" يف حتديد مفهوم النص مميزا بينه و بني اخلطاب على آراء "كريستيفا" و "زميا"‬
‫بصفة خاصة كما اعتمد على آراء "هاليدي" و آخرون‪ ،‬حيث ينطلق من حتديد النص على الوجه اآليت « النص‬
‫بنية داللية تنتجها ذات (فردية أو مجاعية) ‪ ،‬ضمن بنية نصية منتجة‪ ،‬و يف إطار بنيات ثقافية و اجتماعية‬
‫حمددة »‪ .4‬و يضيف قائال‪ « :‬إن جتليات التعريف اليت قدمناها ل ـ النص من خالل احملاور الثالثة‪ ،‬زتتزهلا يف هذه‬
‫املكونات الثالثة وفق الرتتيب التايل كما ورد يف التعريف‪:‬‬
‫‪ - 1‬البناء النصي‪ :‬النص بنية داللية تنتجها ذات‪.‬‬
‫‪ - 1‬التفاعل النصي‪ :‬ضمن بنية نصية منتجة‪.‬‬
‫‪ - 2‬البنيات السوسيونصية‪ :‬يف إطار بنيات ثقافية حمددة‪.5» .‬‬

‫‪ -1‬سعيد يقطني‪ :‬حتليل اخلطاب الروائي (الزمن‪ ،‬السرد‪ ،‬التبئري)‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،1118 ،‬ص ‪.21‬‬
‫‪ -2‬سعيد يقطني‪ :‬انفتاح النص الروائي املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،1111 ،1‬ص ‪.1‬‬
‫‪ -3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.19‬‬
‫‪ -4‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.21‬‬
‫‪ -5‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.21‬‬

‫‪01‬‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫فهذه املكونات الثالثة ما هي إال امتداد ملكونات اخلطاب الروائي (الزمن‪ ،‬الصيغة‪ ،‬الرؤية) و اليت تندرج ضمن‬
‫جمال السرديات و هلذا فالناقد "سعيد يقطني" انتقل من جمال السرديات إىل جمال السوسيوسرديات املكون من‬
‫البناء النصي‪ ،‬التفاعل النصي‪ ،‬البنيات السوسيونصية‪.‬‬

‫فاخلطاب و النص موضوعان سرديان‪ ،‬حيث يقول‪ « :‬هبذا التصور أمارس االنتقال من النص‪ ،‬لكنه االنتقال‬
‫املؤسس على وعي مشاكل االنتقال من مستوى إىل آخر‪ ،‬و من جمال (السرديات) الذي جند فيه أدبيات هامة‬
‫إىل جمال آخر (السوسيو‪-‬سرديات) الذي ال جند فيه إال إجابات مت اجنازها يف جماالت أخرى غري السرديات »‪.1‬‬

‫و قد أفصح "سعيد يقطني" يف كتابه "انفتاح النص الروائي" منذ الوهلة األوىل يف املقدمة على تبنيه منهج‬
‫"بيري زميا" ‪ ،‬كما ان الناقد زاوج بني الدراسات اللسانية للنص و الدراسات البنيوية حيث يقول يف هذا‬
‫الصدد‪ « :‬هنا البد لنب يف هذا التقدمي من تأطري كالمنا ضمن ما يعرف بسوسيولوجيا النص األديب‪ ،‬و باألخص‬
‫مع "بيري زميا" الذي استفدنا منه كثريا يف هذا النطاق‪ ،‬و إن كنا نتعامل مع مقرتحاته‪ ،‬اليت يبنيها بدوره انطالقا من‬
‫وجهات سعي بنوع من املرونة ألننا ال نشتغل يف االطار النظري نفسه‪ .‬و ال باألدوات و املفاهيم نفسها »‪.2‬‬

‫أ – حميد لحمداني "اشكاليات المنهج"‪:‬‬

‫يعد الناقد املغريب "محيد احلمداين" من النقاد املتميزين يف الفكر النقدي‪ ،‬حيث يعترب صاحب مشروع فكري‬
‫و نقدي هيمنت فيه الدراسات بكل اجتاهاهتا فقد كانت كتاباته تندرج ضمن سياق عام يتمثل يف تطبيق املناهج‬
‫النقدية املعاصرة يف الدراسات العربية‪.‬‬
‫و قد اهتم يف حماولته السابقة املعنونة ب ـ "بنية النص السردي من منظور النقد األديب" بالطاقات املنهجية و‬
‫االجرائية للمنهج البنيوي و يف هذا اشارة إىل حرصه يف املمارسة النقدية على الصرامة املنهجية و الدقة العلمية‬
‫بالدرجة االوىل هلذه املمارسة‪ ،‬فهو يرى أن حماولة « تطبيق معطيات املنهج البنائي على النص العريب مل يكن خيلو‬
‫من خصوصيته‪ ،‬لذلك يصبح من مهام هذه الدراسة أن ترصد التغريات احلاصلة يف املقاربة البنائية للسرد سواء من‬
‫جانبها النظري أو من جانبها التطبيقي »‪.3‬‬

‫‪ -1‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.26‬‬


‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.122‬‬
‫‪ -3‬محيد حلمداين‪ :‬بنية النص السردي من منظور النقد األديب‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪ ،1112 ،1‬ص ‪.11‬‬

‫‪01‬‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫و من الذين ثاروا على املقاربات التارخيية و االنطباعية يف قراءة النص السردي جند الشكالنيني الروس و‬
‫"غرمياس" و "تودوروف" و "جريار جينيت" و غريهم‪ ،...‬فقد قرب الناقد األسس املنهجية لتحليلي النص‬
‫السردي من خالل هؤالء‪ « .‬تنحو هذه الدراسة منحى بنيويا حمايثا‪ ،‬و لكنها تنفتح ‪-‬يف بعض األحيان‪ -‬على‬
‫رؤى نقدية أخرى‪ ،‬مما احدث شيئا من االرباك املنهجي‪ ،‬و هو امرا يبدو حاضرا يف أكثر من مقام »‪.1‬‬

‫و يعد حبثه املعنون ب ـ "النقد الروائي و األيديولوجي ‪-‬من سوسيولوجيا الرواية إىل سوسيولوجيا النص الروائي‪"-‬‬
‫من احملاوالت اليت سعت إىل رصد مالمح و معامل تلقي النقد السوسيولوجي و كيفية تفاعل الناقد العريب معه‪ ،‬و‬
‫ابراز جهود النقاد الذين سعوا لتمثيل هذا النقد و االستفادة منه‪ ،‬و قد انفتح "محيد حلمداين" يف هذا الكتاب‬
‫على النقد السوسيونصي حيث كانت وجهته مركزة على نقد النقد يف التحليل و الدراسة‪ ،‬حيث يقول‪ « :‬و حنن‬
‫نتحدث هنا عن املغامرة يف البحث يف مفهوم األيديولوجيا‪ ،‬و ال نعين ابدا اننا سنزاحم السوسيولوجيني يف هذا‬
‫اجملال‪ ،‬و لكننا نعترب اقتحامنا هلذا العامل مغامرة بالنظر إىل طبيعة موقعنا يف حقل النقد االديب ال يف حقل‬
‫السوسيولوجي‪ .‬وحىت ال تكون هذه املغامرة متهورة فغنه حيسن على الدوام االنطالق من احباث السوسيولوجيني‬
‫انفسهم عسى ان نتمكن من وضع خطاطة واضحة ميكن اعتمادها يف النظر إىل عالقة االيديولوجا بالرواية »‪.2‬‬

‫كما جند يف حبثه القصري "أسلوبية الرواية‪ :‬مدخل نظري" كان "باختني" حاضرا من خالل تقدمي نظرية يف‬
‫الرواية و ما تعلق هبا من مفاهيم كاحلوارية و املونولوجية و الكرنفالية‪.‬‬

‫كما سعى يف دراسته "القراءة و توليد الداللة" بشكل موسع ان يؤسس لنظرية قراءة األدب و تاويله و نظرية‬
‫التلقي « مستثمرا ما قدمته احلداثة النقدية الغربية يف هذا الشان‪ ،‬و معرجا ‪-‬يف بعض احملطات‪ -‬على املوروث‬
‫النقدي العريب‪ ،‬بغية استنطاق مقوالته‪ ،‬كما فعل مع مفهوم القصدية او الغرض عند "عبد القاهر اجلورجاين"‪ ،‬و‬
‫مسالة تاويل األحالم يف الرتاث العريب‪ ...‬و املهم يف كل ذلك هو حماورته نصوصا شعرية و سردية‪ ،‬استنادا إىل‬
‫هذا املخزون النظري الذي بلوره »‪.3‬‬

‫هذا و ظل املنهج عند "محيد حلمداين" و غريه من النقاد العرب املعاصرين يتخبط بني التحليل البنيوي‬
‫الشكلي و البنيوية التكوينية و نظرية القراءة و التلقي‪ ،‬و هبذا شكل عائقا و مشكلة يف املمارسة النقدية‪.‬‬

‫‪ -1‬عبد الوهاب شعالن‪ :‬من سوسيولوجيا األدب إىل سوسيولوجيا النص ‪-‬قراءة يف جتربة محيد حلمداين‪ ،-‬ص ‪.181‬‬
‫‪ -2‬محيد حلمداين‪ :‬النقد الروائي و االيديولوجيا ‪-‬من سوسيولوجيا الرواية إىل سوسيولوجيا النص الروائي‪ ،-‬ص ‪.19‬‬
‫‪ -3‬عبد الوهاب شعالن‪ :‬من سوسيولوجيا األدب إىل سوسيولوجيا النص ‪-‬قراءة يف جتربة محيد احلمداين‪ ،-‬ص ‪.181‬‬

‫‪05‬‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫ب – سعيد يقطين "إنفتاح النص الروائي"‪:‬‬

‫يصرح سعيد يقطني يف كتابه "إنفتاح النص الروائي" الذي يعتربه امتدادا لكتابه "حتليل اخلطاب الروائي" بأنه‬
‫يتعامل بشيء من املرونة مع االجتتاهات التوسيعية خاصة سوسيولوجيا النص األديب و عالقته بالقارء و السياق‬
‫االجتماعي الذب ظلم فيه‪.‬‬

‫و يبدو جليا لقارئ هذا الكتاب أن "سعيد يقطني" قد روج للقراءة املنفتحة املعاكسة للقراءة املنغلقة حيث‬
‫تكون هذه األخرية عادة « قراءة عليها أن ترى فيما ذاهتا »‪ 1‬و هو ما جعلها قراءة « تقتل النص و حتجم‬
‫إنتاجاته البنائية الكامنة يف داخله‪ ،‬بارمتائها إىل بناءات تقليدية و معاد انتاجها و هي يف سعييها إلسقاط (صورة‬
‫البناء ‪-‬النموذج) ميتنع عليها النص و بناؤه و انتاجه‪ ،‬لذلك فهي دالليا ال ميكن إال ان تكون اختزالية و تأويلية و‬
‫إسقاطية أليديولوجية الكاتب على النص »‪ .2‬على عكس القراءة املنفتحة « فهي تسعى إىل أنتاج بناء النص‬
‫إنطالقا من حماولة الكشف عنه داخليا‪ ،‬و من خالهلما تنتج بناء للنص و داللة تتماشى مع املنطلق‪ ،‬و هي يف‬
‫ممارستها متلك اإلميان بتعدد القراءات و ضرورهتا »‪.3‬‬

‫« و كذلك استفاد يقطني من آراء "بيري زميا" و "بارث" و "كريستيفا" و نظريات سوسري و هاليدي‪ ،‬يف‬
‫كيفية تليل النص حيث مل خيرج فيه عن هذه املكونات الثالثة و هي البناء و التفاعل و البنيات‬
‫السوسيونصية »‪ 4‬و ذلك من خالل طرحه قضية غاية يف األمهية و هي قضية التناص الذي يعد مصطلحا طرحته‬
‫"جوليا كريستيفا" حيث « أعطى دفعة جديدة للدراسة األدبية و جعلها تنمو خمتلفة عما كانت فيه يف أواخر‬
‫الستينات »‪.5‬‬

‫يف النهاية يبني يقطني أن قراءته هي قراءة منفتحة ترى بأن تطور النص و غناه يستوجب قراءات موسعة‪،‬‬
‫كونه ينتقل بالسرديات إىل املستوى الداليل من خالل سوسيولوجيا النص و بالتايل يبقى كالمها (النص و‬
‫القراءة) منفتحان‪.‬‬

‫‪ -1‬سعيد يقطني‪ :‬انفتاح النص الروائي‪ ،‬ص ‪.91‬‬


‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.93‬‬
‫‪ -3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.93‬‬
‫‪ -4‬حياة زروال‪ :‬املنهج االجتماعي و السوسيو نصية يف ميزان النقد العريب‪ ،‬ص ‪.223‬‬
‫‪ -5‬سعيد يقطني‪ :‬إنفتاح النص الروائي‪ ،‬ص ‪.12‬‬

‫‪06‬‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫ج ‪ -‬محمد بنيس‪:‬‬

‫اهتم "حممد بنيس" باملنهج و اعتمد يف دراسته على توجهني مها املنهج البنيوي و املنهج اإلجتماعي اجلديل‬
‫املستمد من الفلسفة املاركسية و قد طبق هذه الدراسات من خالل كتابه ظاهرة الشعر املعاصر يف املغرب‪ ،‬حيث‬
‫أراد "حممد بنيس" يف « املرحلة األوىل من دراسته ‪-‬أن يكون نبويا شكليا‪ -‬يهتم بطبيعة النص اللغوية و بأنساقها‬
‫و مستويات تكوهنا ‪ ،‬و يف املرحلة الثانية بنيويا تكوينيا أو إجتماعيا جدليا‪ ،‬يهتم بطبيعة النص اإلجتماعية و‬
‫يبحث عن داللتها الوظيفية »‪.1‬‬

‫سار "حممد بنيس" على هنج "غولدمان" من حيث اهتماماته بالبنية اللغوية للنص‪ ،‬ليستدل من خالهلا على‬
‫البنية اإلجتماعية أو الذهنية اللغوية الثقافية لطبيعة ما‪ ،‬كما اهتم بتوضيح مقوالت املنهج من بينها‪ :‬البنية الدالة‬
‫يف الشعر املغريب‪ ،‬و كذا مفهوم الوعي و مرحليت الفهم و التفسري يف اإلبانة عن داللة النصوص الشعرية‪.‬‬

‫كما جند رؤيته التطبيقية للمنهج السوسيونصي معنونة باخلارج النصي و شرائط اإلنتاج بني املركز الشعري و‬
‫حميطه‪ « ،‬حني راح يسائل فيه عن حدود اإلجتماعي يف هذا الشعر من منظور زميا‪ ،‬كما ينتقد آراء أتباع علم‬
‫اإلجتماع التجرييب مثل اسكاربيت ألنه أوىل اهتمامه األكرب إلنتاجية النص و اختالف يف رؤيته عن مقاربات‬
‫لوكاتش و أدورونو و غولدمان فضال عن مقاربات باختني و لومتان و كرستيفا »‪.2‬‬

‫و يف هذا السياق يؤكد الكاتب على أمهية اخلارج نصي يف دراسة البنية النصية يف قوله‪ « :‬إن احمليط الشعري‬
‫ال ميكن من اآلن فصاعدا إلغاؤه يف التأمل النظري و التحليل النصي‪ ،‬ألنه أحد عناصر الالمفكر فيه الذي‬
‫تستدعيه كل قراءة نقدية »‪ ،3‬ألن حبثه اهتم بالبحث عن العالقة املوجودة بني الداخل النصي و البنية اخلارجية‬
‫وقد خرج بنيس بعد دراسته للشعر املعاصر يف املغرب بنتائج حمايدة متثلت يف أن الشعر املغريب « هو شعر قاصر‬
‫يف قراءة الواقع يف حقيقته أي يف صراعه‪ ،‬أنه شعر يقرأ جانبا واحدا من هذا الواقع‪ ،‬أو طرفا واحدا فيه‪ ،‬و هو إذ‬
‫يقرأ الواقع كذلك يقرأه يف ال صراعه أي يف ال واقعه »‪ 4‬فهو مل يوضح التناظر القائم بني النص الشعري و الوضع‬
‫اإلجتماعي الواقعي‪.‬‬

‫‪ -1‬حممد خرماش‪ :‬إشكالية املناهج يف النقد العريب املعاصر‪ ،‬مطبعة أنفوبرنت‪ ،‬فاس‪ ،‬ط‪،1111 ،1‬ص‪.61-11‬‬
‫‪ -2‬حياة زروال‪ :‬املنهج اإلجتماعي و السوسيونصي يف ميزان النقد العريب‪ ،‬ص ‪.226‬‬
‫‪ -3‬حممد بنيس‪ :‬الشعر العريب احلديث‪ ،‬دار توبقال‪ ،‬ع‪ ،13‬ص ‪.82-61‬‬
‫‪ -4‬ميىن العبد‪ :‬يف معرفة النص‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪1111 ،3‬م‪ ،‬ص ‪.11‬‬

‫‪07‬‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫و يبقى الناقد السوسيونصي ملتزما بأفكاره املادية اجلدلية‪ ،‬فالقراءة اإلنتاجية تتحقق بفضل القارئ الفاحص‬
‫الذي يبحث يف النص و يفك شفراته فهو قارئ معريف يف جمتمعه‪ ،‬و ناقد فعال ألنه خيول له القبول و الرفض و‬
‫إنتاج النصوص‪ ،‬فهو يهتم بالقراءة اإلنتاجية و يتجاوز من خالهلا أبعاد النص إىل خمتلف السياقات الثقافية و‬
‫التارخيية و اإلجتماعية‪ ،‬فهو حيول القراءة إىل نقد و النقد إىل قراءة‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬مبادئ المقاربة السوسيونصية و تجليات المنهج‪.‬‬

‫‪ - 1‬طبيعة العالقة بين النص الروائي و الواقع اإلجتماعي‪:‬‬

‫لقد استطاع النقد السوسيونصي أن يربز مفاهيم سوسيولوجيا املضامني اليت جعلت العمل األديب عبارة عن‬
‫مرآة و صورة تعكس الواقع‪ ،‬كما رفض التصور الغولدماين احملصور بني املفاهيم الفلسفية و املثالية‪ ،‬ومن هنا دعا‬
‫إىل استكشاف النص و تفكيك مستوياته من خالل تزويد املقاربة السوسيولوجية بأدوات إجرائية‪ ،‬و من مث أصبح‬
‫أساس النقد و مفتاحه هو املدخل السوسيولساين الذي مت اإلستغناء عنه يف املناهج السابقة و تكمن غايته‬
‫األساسية يف دراسته نظام اجملتمع املتعلق أصال بنظام النص ال نظام النص اإلجتماعي‪.‬‬

‫لقد استلهم نقاد املغرب العريب الذين تبنوا املنهج السوسيونصي مفاهيم "ميخائيل باختني" و "بري زميا"‬
‫املؤسسة على احلوارية و التعددية و اإلنفتاح ‪ ،‬فإقامة عالقة بني النص األديب و سياقه اإلجتماعي عند الناقد‬
‫املغريب"عبد احلميد عقار" من خالل كتابه "الرواية املغاربية حتوالت اللغة و اخلطاب" « ال ترتبط بالرؤية للعامل‬
‫بقدر ما ترتبط بقدرة النص على تقدمي العامل اإلجتماعي باعتباره حوارا و صراعا بني جمموع لغات مجاعية تظهر‬
‫يف البنيات الداللية للتخييل [‪ ]...‬فاللغة هي اليت متنح األدب متظهره اجملرد و مادته املدركة »‪ 1‬حيث جند هنا عبد‬
‫"احلميد عقار" ينقل مفاهيم "بيري زميا" و يعيد بلورهتا من جديد‪ ،‬هذه األخرية اليت تعترب اجملتمع عبارة عن تركيبات‬
‫متعادلة و متصارعة فيم ا بينها و اليت تولد يف الوقت نفسه لغات متصارعة فيما بينها فهو ينزاح عن األبعاد‬
‫اإلجتماعية يف النص اليت تدعو إليها الشكالنية الروسية‪.‬‬

‫و جند أيضا الناقد "حممد القاضي" قد جعل من الروالية نصا روائيا منفتحا و عمال أدبيا غري منجز حتاور‬
‫األفكار و تنفتح على اللغة و الثقافة فهو هنا يتبىن فكرة احلوارية الباحثية‪ ،‬و قد شهدت الرواية عدة حتوالت‬
‫حطمت من خالهلا املركزية اللغوية و ابتعدت عن األيديولوجيات كوهنا تستهدف املستحيل دائما و ال ترضى‬

‫‪ -1‬عبد احلميد عقار‪ :‬الرواية املغاربية حتوالت اللغة و اخلطاب‪ ،‬شركة النشر و التوزيع املدارس‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط‪ ،1111 ،1‬ص ‪.91-81‬‬

‫‪08‬‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫باملوجود فاألدب املبدع يف تصور "حممد القاضي" ليس ذلك « الذي يلتصق بالواقع و يسعى إىل تقدمي صورة له‬
‫تسعى إىل أن تكون وفية إىل حدود التطابق ‪ ،‬و إمنا هو ذلك اإلبداع الذي ينبع من الواقع و لكنه يدفع به يف‬
‫مصفاة الفن‪ ،‬فيطوره و يوظفه حىت ينأى به عن الفجاجة و السطحية و يدرجة يف سياق حركية األفكار و مسار‬
‫التاريخ »‪.1‬‬

‫مما تبني أن "حممد القاضي" يستمد تصوره للخطاب الروائي من فكرة احلوارية الباختينية حيث يقول‪ « :‬فقوة‬
‫الروالية وضعفها يف آن واحد يتمثالن كوهنا جنسا بال قانون من جهة‪ ،‬و يف إحتوائها سائر األجناس اجملاورة هلا‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬و هو ما يطلق عليه صفة احلوارية اليت جتعل الرواية جنسا أمربياليا‪ ،‬آكال كل ما يعرتض سبيله‪،‬‬
‫و لعل هذه السمة هي اليت جعلت الرواية أقدر األجناس على تصوير التعقيد الذي بلغته احلياة العصرية و التعدد‬
‫الذي أصبح القيمة الرئسية فيها »‪ 2‬غري أن هذا ليس معناه أن اخلطاب الروائي هو حشو جملموعة من األلوان‪ ،‬بل‬
‫املقصود منه سبك تركييب متتزج فيه خمتلف األشكال و األصوات لتنسج بنية تركيبية لغوية و أسلوبية جتعل من‬
‫اجلنس الروائي حالة فريدة عما يندرج حتت ما يعرف ب ـ "األجناس األدبية"‪ ،‬وهو األمر الذي ملح إليه "حممد‬
‫القاضي" حني قال‪ « :‬هذا ال يعين أهنا مصب هلذه األساليب و اللغات و األصوات اليت جتتمع فيه‪ ،‬و إمنا هي‬
‫على العكس من ذلك بوتقة تنصهر فيها هذه العناصر اليت ال تنقطع عن سياقها األول‪ ،‬ولكنها تضطلع يف الرواية‬
‫بوظيفة تركيبية جديدة و تقوم بينها و بني العناصر األخرى عالقات تضفي على وجودها أبعادا مل تكن هلا يف‬
‫وضعها االول »‪ ،3‬و السبب الذي من شأنه أن خيلق رواية بوليفونية ذات ألسنة متكنه من عرض كل ما قد خيطر‬
‫على البال أو يطرق الذهن من أفكار على مستوى متساو‪ ،‬حبيث تكون احليادية مسة الراوي فاملهمة املنوطة به غري‬
‫مطالبة أن تتجاوز األطر و احلواجز اليت جتعل العالقات احلوارية املتبادلة بني خمتلف األشكال اللغوية منظمة‬
‫بالشكل املطلوب ‪.‬‬

‫من الواضح أن "حممد القاضي" يؤسس دراساته على بعض املفاهيم االساسية عند "ميخائيل باختني" فيما‬
‫يتعلق باخلطاب الروائي حيث حدد للرواية ثالث خصائص أساسية متيزها عن غريها من األجناس األخرى و هي‬
‫كالتايل‪:‬‬

‫‪ -1‬آنسة حممد احلاج‪ :‬اإلجتاه اإلجتماعي يف النقد الروائي يف املغرب العريب‪ ،‬دراسة يف نقد النقد‪ ،‬أطروحة دكتوراه‪ ،1116/1111 ،‬ص‪.113‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.119-118‬‬
‫‪ -3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.119‬‬

‫‪09‬‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫« أوال‪ :‬إمتالك الرواية خلصيصة ثالثية األ بعاد على الصعيد األسلويب متصلة بالوعي املتعدد اللغات حيقق ذاته يف‬
‫الرواية‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬التحول اجلذري لالحداثيات الزمنية اخلاصة بالصورة األدبية يف الرواية‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬املنطقة اجلديدة من بناء الصورة األدبية اليت أدخلتها فيها الرواية أي تلك املنطقة اليت حيدث فيها أقصى‬
‫متاس مع الراهن (الواقع املعاصر) املتحول غري القابل للتجديد »‪.1‬‬

‫حيث تعد الرواية من منظور "ميخائيل باختني" اللون األديب األوحد الذي ما ينفك يتطور و الذي مل يشهد‬
‫اكتماال بعد‪ ،‬إذ أهنا تتهكم بغريها من األلوان األدبية و تقوم بإظهار جوانب النقص فيها خاصة الصيغة املتكلفة‬
‫اليت متيزت هبا أشكال و لغة هذه األنواع األدبية‪ .‬هذه املسلمات و املبادئ الفلسفية اللغوية اليت آمن هبا "حممد‬
‫القاضي" يف مستهل دراسته مل تدم يف دائرة اعتقاداته طويال فقد أسقط منها يف واحدة ممن مقاالته ذلك أنه تبىن‬
‫املسلمات و املبادئ الفلسفية التارخيية اليت جاء هبا "لوكاتش" و "هيجل"‪ ،‬و هو ما نستطيع ملسه بشكل جلي‬
‫حني استنتج بدقة أوجه اإلختالف بني القصة القصرية و الرواية يف قوله‪ « :‬القصة القصرية مدارها على اللقطات‬
‫اخلاطفة و املواقف العابرة و النماذج الشاذة و الشخصيات اهلامشية‪ ،‬و من مث فإهنا اجلنس األكثر تعبريا عن‬
‫اإلنعزال و اإلنطواء و الفردية‪ ،‬أما الرواية فجنس حضري أساسا‪ ،‬إهنا اجلنس األكثر تعبريا عن املدنية و ما يعتمل‬
‫فيها من أحداث و ما يعمرها من شخصيات و لذلك عدها لوكاتش ملحمة الربجوازية »‪.2‬وهذا حتديدا اإلعتقاد‬
‫الذي أىب "ميخائيل باخيت" لألخذ به فقد طفق هذا األخري يبتكر أصوال و أسسا غري معمودة للرواية املتموضعة‬
‫يف خمتلف األصناف الثقافية الشعبية ناهيك عن جمموعة من النصوص اليونانية و الرومانية غري مقص يف ذلك‬
‫رواية العصور الوسطى لكن يف الوقت نفسه غري آبه بالقيود اليت تنتمي إىل االبوتقة اإلجتماعية و التارخيية‪ ،‬هذه‬
‫األخرية كانت من وضع "هيجل" و لوكاتش"‪.‬‬

‫و حيدد الناقد اجلزائري "الشريف حبيلة" دور اخلطاب الروائي يف قوله‪ « :‬و ليس بدعا أن حتكي الرواية واقع‬
‫االنسان‪ ،‬فقد أصبحت منذ زمن تؤدي دورا مهما يف رصد تدفقاته الوجدانية و رسم إسرتاتيجيته الفكرية و‬
‫اجلمالية و إلتفت حوله هبدف احتواء مهومه و اهتماماته و آماله‪ ،‬بفضل امتالكها تقنيات فنية و قيم مجالية تكفل‬
‫هلا استنطاق النوازع اإلنسانية الكامنة داخل الذات الواحدة أو الذوات املتحللة »‪ ،3‬ما فحواه أن وظيفة اخلطاب‬

‫‪ -1‬ينظر‪-‬ترفينان توردوف‪-‬ميخائيل باختني‪ :‬املبدأ احلواري‪ ،‬تر‪ :‬فخري صاحل‪ ،‬رجاء بن سالمة‪ ،‬دار توبقال‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط‪.1111 ،1‬‬
‫‪ -2‬آنسة حممد احلاج‪ :‬اإلجتاه اإلجتماعي يف النقد الروائي يف املغرب‪ ،‬دراسة يف نقد النقد‪ ،‬ص‪.119‬‬
‫‪ -3‬الشريف حبيلة‪ :‬الرواية و العنف‪ ،‬دراسة سوسيونصية يف الرواية اجلزائرية املعاصرة‪ ،‬علم الكتب احلديث‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪ ،1111 ،1‬ص ‪.11‬‬

‫‪11‬‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫الروائي ال تتجاوز حواجز ترقب فرد أو جمموعة أفراد أخرى متجزئة عنه اجلدير بالذكر أنه يف هذا املقام بىن رؤيته‬
‫مستوحيا إياها من نظريهتا لدى "لوسيان غولدمان" الذي جعل وظيفة القائم على اإلبداع و اإلبتكار الروائي‬
‫تتحدد يف اعطاء العامل نظرة ال يعرتيها شيء من الضبابية تتخطى التخمينات و التصورات و كل املكونات‬
‫الذهنية و الفكرية لت بلغ مكامن الوجدان من خمتلف العواطف اإلنسانية شرط عدم التقيد أو اإللتزام بإنسان واحد‬
‫بل تبين حبال وثيق الصلة بأقصى ما ترمي و هتدف إليه روح اجلماعة‪ ،‬ضف إىل ذلك أن "الشريف حبيلة" استمد‬
‫إهلاما ليس بالقليل مما نظر له "باختني" ملتطلبات العمل الروائي حيث يقول يف هذا الصدد‪ « :‬بقدر ما يكون‬
‫التعامل مع الواقع بعمق[‪ ]...‬يكون إنتاج مجاليات ذلك الواقع يف جمال الرواية أكثر اقناعا و أوفر تأصيل »‪،1‬‬
‫األمر الذي أوعز إليه "باختني" يف إحلاحه على فكرة أن « العمل الروائي اجليد يربز الواقع اإلجتماعي يف حواريته‬
‫اخلصبة و املتعدد‪ ،‬إنه إنصات حي لواقع التناقضات اإلجتماعية »‪.2‬‬

‫و عند تقصينا عن البنية اإلجتماعة داخل النصوص املدرسية وجدنا أن الناقد "سعيد يقطني" يقف عندها‬
‫من خالل‪ « :‬الشخصيات‪ :‬فمعظم الشخصيت املعاجلة يف النوص احملللة مستقاة إما من واقع تارخيي [‪ ]...‬أو‬
‫من واقع إجتماعي من خالل أفعاهلا و أقواهلا و أمناط تفكريها‪ ،‬فهي تعيش مع شخصيات أخرى‪ ،‬تتفاعل معها و‬
‫تتعانق هبا‪ ،‬هذه الشخصيات [‪ ]...‬صورة لغوية و تعبريات عن عامل إجتماعي متكامل »‪.3‬‬

‫و املالحظ أن مجيع هذه الشخصيات مثقفة كما أهنا تعيش حالة من التوتر و القلق املستمر‪ ،‬و أغلبها ذات‬
‫أصول ريفية و بدوية‪.‬‬

‫حيث « نوقشت الشخصية يف الرواية كثريا‪ ،‬و قيل الكثري عن بنائها‪ ،‬و أشكاهلا وطبائعها‪ ...‬عن كوهنا‬
‫صورا حية و واقعية‪ ،‬أو جتسيدا ألمناط وعي إجتماعي و ثقايف و ما تزال الشخصية يف التحليل الروائي حتظى‬
‫باألمهية القصوى من خالل طرائق حتليلها اجلديدة »‪.4‬‬

‫و حنن لسنا يف هذا الصدد إزاء وضع وسم هلا متقيدين بنوع معني أو آخر و مل يكن مبتغانا ذلك أساسا‪،‬‬
‫بل ه دفنا هو فحص و معاينة روابط و أواصل الشخصيات اليت تشاركها سويا يف مفهوم العامل التصوري الذي‬

‫‪ -1‬ترفينان توردوف‪ :‬ميخائيل باختني‪ ،‬املبدأ احلواري‪ ،‬ص‪.19‬‬


‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.19‬‬
‫‪ -3‬سعيد يقطني‪ ،‬انفتاح النص الروائي‪ ،‬النص و السياق‪ ،‬ص‪.131‬‬
‫‪ -4‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.131‬‬

‫‪10‬‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫عرفت به إلظهار األثر السوسيولوجي الذي يقصده الؤلف يف طرحه إياها‪ ،‬هذا املنحى السوسيولوجي و البنية‬
‫املعتمد عليها يف حبك الروايات و نسجها ال يتعارض و اجلمع بني املتناقضتني فبناؤه يرتكز على اإلتفاق و‬
‫التعارض‪ ،‬اخلصام و التقبل لكن دون استبعاد فكرة االختالف و التأكيد عليها ‪.‬‬

‫كما أن « الشخصيات الثقافية تقدم لنا صورا واقعية و تارخيية عن املثقف العريب احلديث و هو يعش التمزق‬
‫الداخلي بني عامل متناقض‪ ،‬عامل قيم مرتسبة يف أعماقه‪ ،‬و حياول التمرد عليه بوعيه هبا‪ ،‬و عامل يتمسك هبذه‬
‫القيم و حياربه هبا و ينتج عن هذا التناقض القائم‪ :‬اإلحساس بالتغرب و الرفض و بالتايل املعاناة »‪.1‬‬

‫األحداث و الزمن‪ « :‬إن حضور البنية اإلجتماعية يف النص يشكل من خالل املادة احلكائية اليت يتفاعل‬
‫الكاتب معها يف إطار اجتماعي و اقتصادي و تارخيي خاص‪ ،‬و تبدو عرب العناصر املرجعية إىل الفضاء [‪ ]...‬أو‬
‫الزمان [‪ ]...‬أو احلدث [‪ ]...‬أو العالقات [‪.2» ]...‬‬

‫و املؤلف حني حيني أجزاء حقيقية مستمدة من الواقع مستقاة من خلفية معينة ال يهدف بذلك إىل أن‬
‫يرسخ يف العقول فكرة فحواها أن أباءنا عاشوا بطريقة ما أو هذه هي طريقتنا يف احلياة‪ ،‬بل يرمي من وراء ذلك‬
‫إىل حترير منتوج لغوي و خلق لسان تعبريي ينفرد مبميزاته و خصوصيته أو باألحرى ينفرد هبوية خاصة ليس‬
‫باستطاعة أحد فحص حيثياهتا و نصياهتا أو أشكال خمرجاهتا إال جبعلها تتموضع يف مفهوم سوسيونصي‪.‬‬

‫‪ - 2‬ماهية الخطاب الروائي و وظيفته‪:‬‬

‫تبىن خصائص النص اإلجتماعية على نظرية نقدية حديثة غري تلك اليت سبقتها من نظريات بامكاهنا حتويل‬
‫املنتجات اللغوية "النصوص" األدبية اليت كانت قيد التصور شكال ملا حيدث من جتسيد و أخذ و فهم ملعتقدات‬
‫خمتلفة و متعارضة تلج إىل النص باعتبارها خمرجات و خطابات نصية‪ ،‬و الغرض من ذلك كله هو جعلها تشكيلة‬
‫من وسائل توصل لغوية بل و أكثر من ذلك جعلها لغات حية جملموعات معتربة من البشر‪ ،‬و عليه يكون‬
‫اخلطاب الروائي يف النقد السوسيونصي « مزدوج الشفرة [‪ ]...‬فهو حيقق ائتالفا بني املادة النسقية اليت متثلها اللغة‬
‫الطبيعية و املادة اخلارجة عن النسق و اخلارج‪-‬لغوية و اليت تتمثل يف السنن الثقافية و املعايري اإلتفاقية و التقاليد‬

‫‪ -1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.131‬‬


‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.132‬‬

‫‪11‬‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫األدبية و املوروثة [‪ ]...‬و األيديولوجيا املندجمة يف البنية اللغوية »‪ 1‬ليس باإلمكان اختصاره أو تقزميه يف مقاييس‬
‫لغوية و يف مقاصده السوسيولوجية‪.‬‬

‫إذن تعد اللغة عند "عبد احلميد عقار" هي حجر األساس الذي ينطلق منه التحديد و لبنته األوىل و سبب‬
‫ذو قدر من األمهية يف تغريات اخلطاب الروائي و تطوره « فالتجريب و تكسري اخلطية و أحادية الصوت و‬
‫اخلطاب ميس اللغة و الشكل الروائيني على السواء فيطبعهما بالتحديد و التنوع و بالتوالد و انتشار و تالشي‬
‫احلدود بني األجناس و تعدد الدالالت و الرؤى احملتملة و حتل بذلك مغامرة الكتابة حمل كتابة املغامرة »‪.2‬‬

‫لقد بين هنا "عبد احلميد عقار" مفاهيم "ميخائيل باختني" حول احلوارية و النقد اللغوي فاخلطاب الروائي‬
‫يعد نص و فضاء مفتوح و عامل متعدد األبعاد و الدالالت‪ ،‬و هبذا فاخلطاب الروائي يفقده حلظيته سيفتح جماله‬
‫الخرتاقات متنوعة و متعددة و بؤرة لعالمات أخرى خمتلفة‪.‬‬

‫نرى بأن "عبد احلميد عقار" « حاول التوفيق بني مفاهيم ميخائيل باختني و بيري زميا و آخرون و اليت‬
‫ختتلف يف نقاط عديدة‪ ،‬و لكنها تتقاطع فيما بينها حول فكرة جوهرية جتعل من اخلطاب الروائي بؤرة مشحونة‬
‫باإليديولوجيات و الدالالت و القيم اليت يعرب عنها الكاتب و شخصياته »‪.3‬‬

‫هذا هو املنحى الذي سلكه الناقد املوريتاين "حممد سامل حممد األمني الطلبة" يف حبثه املوسوم ب ـ "مستويات‬
‫اللغة يف الشعر العريب املعاصر" و ذلك يف تشديده على فكرة أن النص هو « خطاب ممكن عن الواقع‪ ،‬فهو ال‬
‫يتفق مع مراجعه املختلفة ألن هذه املراجع تغدو يف فضاءه احتمالية الداللة »‪ ،4‬و هو يف هذا املقام يستقي إهلامه‬
‫من منظور "بيري زميا"‪ ،‬هذا األخري جعل النسيج و الرتكيب السردي للنص كيانا خمتلط البنيات متوافقة مع بعضها‬
‫البعض على قدر ال بأس به إن صح التعبري‪ ،‬إذ أنه يقلد و يضاهي بل و ينتج الواقع مرة أخرى حماوال أن يشابه‬
‫هذا الواقع و إن مل يكن بشكل ملموس ظاهر‪.‬‬

‫يقوم اإلعتقاد الذي تبناه "حممد سامل حممد األمني الطلبة" للمقاربة السوسيونصية على فكرتني رئيسيتني ‪:‬‬

‫‪ -1‬عبد احلميد عقار‪ :‬الرواية املغاربية حتوالت اللغة و اخلطاب‪ ،‬ص‪.11‬‬


‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.16‬‬
‫‪ -3‬آنسة حممد احلاج‪ ،‬اإلجتاه اإلجتماعي يف النقد الروائي يف املغرب‪ ،‬دراسة يف نقد النقد‪ ،‬ص‪.118‬‬
‫‪ -4‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.113‬‬

‫‪11‬‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫‪ -‬األوىل تتمحور حول النظرية اليت جاء هبا "بريزميا" و تبناها "الطلبة" اليت تقول و تقر بأن املوضوع األقرب‬
‫لطبيعة النقد و املأثور من بني كل املواضيع هو التحقيق و البحث يف نوع العالقة اليت بني املعىن و طريقة صياغته‬
‫و سبكه و وصله ببعضه البعض‪ ،‬مبعىن آخر بني "الداللة و الرتكيب"‪ ،‬أما الفكرة الثانية فقد تبناها من مفهوم‬
‫الناقد "سيد البحراوي" و فحوى هذا املفهوم هو « جعل مضمون الشكل الطريق الوحيد للولوج إىل النص من‬
‫خالل جتاوز البحث فيما بعد الثنائية املعهودة إىل احملتوى و الصياغة أو الشكل و املضمون »‪ 1‬فنحن حني منسك‬
‫مبحتوى شكل العمل الفين مدركني من خالله رؤية الفنان و املثل اجلمايل األعلى للمجتمع الذي يعيش فيه‬
‫نستطيع أن منسك ‪-‬بدقة‪ -‬يرقبه الصراع اجلمايل اإلجتماعي الدائر يف اجملتمع يف تلك اللحظة [‪ ]...‬فليس مثة‬
‫شكل و مضمون ‪ ،‬ألن املضمون ليس مضمون الشكل و ليس مثة نص و سياق ألن النص سياقي و إجتماعي و‬
‫ليس مثة داخل و خارج‪ ،‬ألن اخلارج كامن يف الداخل و ألننا حني حنلل شكل النص فإننا حنلل يف الوقت ذاته‬
‫املضمون اإلجتماعي ألن هذا األخري كامن يف األول و جزء ال ميكن أن يفصل عنه‪.‬‬

‫لقد سعى الناقد السويونصي إىل تفكك مستويات النص و البحث يف طبيعة العالقة بني الداللة و الرتكيب‪،‬‬
‫و ذلك من خالل إلغائه جلميع األحكام القبلية اجلاهرة و استبداهلا مبدخل سوسيولساين‪ ...‬ومنه انبثقت أطروحته‬
‫النقدية و اليت تقوم على نظريتني متكاملتني و مها‪:‬‬

‫«‪ )1‬أنه ليس للقيم اإلجتماعية وجود مستقل عن اللغة‪.‬‬


‫‪ )1‬أن الوحدات املعجمية‪ ،‬الداللية و الرتكيبية جتسد مصاحل مجاعية و ميكن أن تصبح مراهانات لصراعات‬
‫اجتماعية و اقتصادية و سياسية »‪.2‬‬

‫‪ - 3‬تجليات المنهج السوسيونصي‪:‬‬

‫ال ميكن لألدب أن يقبل بالنقد األحادي الذي ال يستطيع التغلغل يف ثنايا النص‪ ،‬أو املقاربات الشكلية‬
‫اليت تبقيه يف قوقعة الشكل و تبعده عن امتداداته الداللية‪ ...‬ذلك أنه يقوم يف االساس على احلوار و اإلنفتاح و‬
‫التفاعل و التعددية‪ ...‬فالرواية مل تكن يوما جنسا أدبيا تقليديا‪ ،‬و إمنا تعمل على كشف مكنوناهتا مناهج متنوعة‬
‫حتقق هلا اإلثراء و من هنا بدأ التحدي املعريف للناقد السوسيونصي خاصة مع التحوالت السريعة للخطاب النقدي‬
‫مبختلف مناهجه و اخلطاب الروائي املنفتح على املاضي و احلاضر و املستقبل‪.‬‬

‫‪ -1‬سيد البحراوي‪ :‬حمتوى الشكل يف الرواية العربية"النصوص املصرية األوىل"‪ ،‬املكتبة العامة للكتاب‪ ،‬مصر‪ ،‬د‪/‬ط‪ ،1116 ،‬ص‪.11‬‬
‫‪ -2‬بريزميا‪ :‬النقد اإلجتماعي حنو علم اجتماع النص األديب‪،‬تر‪:‬عايدة لطفي‪،‬م‪ :‬أمينة رشدي‪ ،‬د‪.‬حبراوي‪،‬دار الفكر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،1111 ،1‬ص ‪.188‬‬

‫‪11‬‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫و يف ظل البحث عن كيفية اشتغال اللغة ضمن السياقات اإلجتماعية و الثقافية و اللسانية متكن الناقد‬
‫السوسيونصي من االستعانة بالسيميائية و البنيوية و التحليل النفسي و نظريات القراءة‪ ،‬كما دمج بني التوجه‬
‫الشكالين احملصور يف دائرة اللغة و التوجه اإلجتماعي اجلديل و هبذا مجع بني نقيضني‪ ،‬و ميتلك النص الروائي‬
‫خاصية مميزة و هي ازدواجية الشفرة واللغة‪ ،‬و هذا ما دفع "عبد احلميد عقار" إىل االستعانة مبفهوم الشعرية الذي‬
‫ال يأبه باإليديولوجيات‪ ،‬وفيه ختطى الدراسة الشكلية لربط النص بسياقاته اخلارجية هبدف الوقف على البنيات‬
‫السردية و الداللية و اخلطابية املثقلة بالشحنات و اإليديولوجية فهو يدرس شعرية اللغة الروائية من زاويتني‬
‫متنافرتني « زاوية كوهنا جتريدا للخصائص البنيوية أو املالمح اللفظية املالزمة و املنتجة ألدبية النص الروائي‪ ،‬ومن‬
‫زاوية أن اللغة ملفوظ اجتماي ملموس ألفاظه و تراكيبه تيش وسط الفضاءات الشاسعة للساحات العمومية و‬
‫األزقة و املدن و القرى و الفئات اإلجتماعية و األجيال و احلقب »‪.1‬‬

‫تبىن املقاربة النقدية عند "عبد احلميد عقار" على أسلوبية جديدة تتخطى حواجز البالغة القدمية و الوصف‬
‫اللساين اجملود‪ ،‬مستوحيا ذلك من مفاهيم "باختني" و "يوري لومتان"‪ ،‬و تنظريات "بيري زميا" حيث وجهت هذه‬
‫التنظريات نقدا صارما للبنيوية و الشكالنية و سامهت يف تغلغل فكرة حوارية النص الروائي « فالنص الروائي ليس‬
‫هو موضوع الشعرية بل جامع النص أي جمموع اخلصائص العامة أو املتعالية اليت ينتمي إليها كل نص على‬
‫حدة »‪ 2‬و ألن « بنية التحدث بنية جمتمعية حمضة »‪ ،3‬فإن "عبد احلميد عقار" يستند يف دراسته ملفاهيم‬
‫الشعرية عند "باختني" و اليت تسعى إىل تقريب اخلطاب الروائي من مبدأ أنه كالم غين باألبعاد اإليديولوجية و‬
‫السياقات التارخيية‪.‬‬

‫حبث "عبد احلميد عقار" حول موضوع املوازنة بني التحليل الشعري ذا املسعى التنظريي العام و بني التحليل‬
‫النقدي ذا املسعى اإلستقرائي و ذلك بغرض الوقوف على جوانب التطور و التحول يف اخلطاب الروائي هبدف‬
‫اجلمع بني مفاهيم و تنظريات كل من "بيري زميا" و "ميخائيل باختني" و دراسته حول اخلطاب الروائي و احلوارية‪.‬‬

‫من جهة أخرى قام "حممد القاضي" بكتابة بعض الدراسات على فرتات متباعدة مشلت جمموعة من‬
‫املقاالت النقدية ألقاها يف مقامات خمتلفة و متنوعة مجعها مبدأ فلسفي واحد متثل يف احلوارية الباختينية و هي‬

‫‪ -1‬عبد احلميد عقار‪ :‬الرواية املغاربية ‪-‬حتوالت اللغة و اخلطاب‪ ،-‬ص‪.11‬‬


‫‪ -2‬جريار جينيت‪ :‬مدخل جلامع النص‪ ،‬تر‪:‬عبد الرمحان أيوب‪ ،‬دار الشؤون الثقافية العامة‪ ،‬اآلفاق العربية‪ ،‬عراق‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬ص‪.11‬‬
‫‪ -3‬ميخائيل باختني‪ :‬املاركسية و الفلسفة‪،‬تر‪:‬حممد البكري و ميين العيد‪ ،‬دار توبقال‪ ،‬الكدية‪ ،‬منشورات مكتبة املناهل‪ ،‬املغرب‪ ،‬ص‪.123‬‬

‫‪15‬‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫املبدأ األول للدخول و التوغل يف النص و استخراج كيفية التفاعل بني عناصره األساسية‪ ،‬و هو هبذه الدراسة‬
‫يهدف إىل تغيري مقولة انغالق األثر األديب مبقولة األثر املفتوح على النصوص و القوانني اإلجتماعية و اإلقتصادية‬
‫و اإليديولوجية بأن العنصر اللغوي « حيمل آثار تلك النظم و األنساق حيثما حترك إال أن ما يتصف به من‬
‫استقاللية و مرونة قادر على االضطالع بوظائف أخرى‪ ،‬و تلبس دالالت جديدة تتكون له من اجلدل املستمر‬
‫بني سياقه األصلي و سياقه اجلديد »‪.1‬‬

‫و تتأسس مقاربته النقدية يف مقالة "الكتابة عند املسعدي و مسألة األجناس" على مسألتني‪ :‬األوىل تطرق‬
‫فيها إىل األجناس األدبية و أثرها يف النقد‪ ،‬و املسألة الثانية هتدف إىل دراسة لنصوص املسعدي و كيفية حتقق‬
‫مقروئيتها‪.‬‬

‫فقد كانت املقاربة النقدية ل ـ "حممد القاضي" سطحية نوعا ما ذلك بسبب املساحة اللغوية املخصصة لكل‬
‫مقال نقدي اليت اقتصر فيها على أبسط أفكاره النظرية و نقصها لعدة عناصر و أبعاد إجرائية و تطبيقية و ذلك‬
‫بسبب عدم دخول الناقد إىل األبعاد العميقة و وقوفه عند البنية السطحية و اإلكتفاء هبا ما أدى إىل انتقائية‬
‫دراسته‪ ،‬و ظهر لنا ذلك لنا يف مقاربته النقدية لرواية "التبيان يف وقائع الغربة و األشجان لفرج احلوار" و هذا ما‬
‫الحظناه يف قوله « و لئن كان منهجا يف املعاجلة انتقائيا فإن مرد ذلك إىل ضيق احليز الذي يندرج فيه عملنا‪،‬‬
‫ذلك أن رصد احلوارية ال تفين فيه قراء ة النص يف أقسامه الكربى‪ ،‬إمنا يتطلب النفاذ إىل حقائق النص و‬
‫تفاصيله »‪ 2‬و قد شكلت هذه الداسة اإلنتقائية يف معا جلة النصوص ميزة أساسية جلل أعماله النقدية اليت مشلتها‬
‫هذه الدرسة فهي مل ترتبط فقط بدراسة الرواية السابقة‪.‬‬

‫و مما سبق ذكره جيدر بنا اإلشارة إىل أن « ما مييز الناقد عن القارئ العادي هو اتساع اجملال التناصي الذي‬
‫يطرح الناقد العمل يف أفقه عن ذلك اجملال الذي يتعامل معه القارئ و كذلك حيوية العنصر احلواري فيه‪ ،‬وهو‬
‫عنصر يزداد ثراء كلما زادت قدرة الناقد على استقراء البدائل احملذوفة و اإلفرتاضات املنفية اليت يفرضها النص أو‬
‫باألحرى ينطلق من املصادرة عليها »‪.3‬‬

‫‪ -1‬حممد القاضي‪ :‬يف حوارية الرواية ‪-‬عن آنسة حممد احلاج‪ ،‬اإلجتاه اإلجتماعي يف النقد الروائي يف املغرب‪ ،‬دراسة يف نقد النقد‪ ،-‬ص‪.121‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.121‬‬
‫‪ -3‬صربي حافظ‪ ،‬أفق اخلطاب النقدي ‪-‬عن آنسة حممد احلاج‪،‬اإلجتاه اإلجتماعي يف النقد الروائي يف املغرب‪ ،‬دراسة يف نقد النقد‪ ،-‬ص‪.122‬‬

‫‪16‬‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫تعد املستويات ا للغوية عنصرا رئيسيا يف تشكيل املقاالت الروائية اليت يتم من خالهلا تشكيل و تأسيس‬
‫املضمون الفين و السردي يف النص الروائي العريب و هو ما طمح "حممد األمني الطلبة" الوصول إليه و دراسته‬
‫بغرض الوقوف على عنصر التناص أو أحد عناصره‪ ،‬فاملستويات اللغوية هي « األطر القولية اليت عربها و من‬
‫خالهلا صنفت املادة القصصية‪ ،‬و مت التعامل مع الكالم األجنيب و غريه من عناصر التناص »‪.1‬‬

‫و سلك "حممد األمني الطلبة" الطريق عينه الذي اتبعه "سعيد يقطني" يف ختطيه من السرديات إىل‬
‫السوسيوسرديات وؤمن املنطلق إىل املقصود‪ ،‬وؤهو هبذا ختطى احلاجز السكوين الذي مل تستطع و مل يتسىن‬
‫للسرديات جتاوزه‪ ،‬و ختطاه إىل مقاربة حيوية بالنص الروائي‪ ،‬هذا ما جتلى لنا حني وضع مسات و مالمح ملسلكه‬
‫النقدي يف قوله « نتبىن طريقة السرديات التوسعية العامة من اجلوانب املتعلقة بانفتاحها و حبثها الداليل التناصي‪،‬‬
‫فمنهجها هذا هو بعبارة أخرى عدول عن اللفظي إىل الداليل و عن اإللتصاق بالروائي و املروي له إىل آفاق‬
‫القارئ و نصوصه املغدية‪ ،‬و عن املظاهر النحوية اإلرسالية إىل املظاهر الداللية اإلنتاجية‪ ،‬حماولني يف ذلك‬
‫اإلعتدال و األخذ من آليات اخلارج و املزاوجة بني الداليل و التداويل دون اإلمهال التام للنحوي »‪.2‬‬

‫و تكون مراحل دراسته املنهجية املضبوطة السالفة هي حوصلة ملفهوم "سعيد يقطني" يف مقاربته‬
‫السوسيونصية اليت اعتمدت و قامت على ثالث شروط هي‪ :‬الرتكيب النصي و التجاذب النصي و البنيات‬
‫السوسيونصية‪ ،‬ذلك أن املرحلة األوىل جيتمع فيها كال من الطرفني "املؤلف و املتلقي" يف صنع مفهوم و معىن‬
‫النص من خالل أنتاجهما له‪ ،‬أما املرحلة الثانية فيكون فيها التحري عن عالقات اليت يلج فيها النص مع بنيات‬
‫نصية آنفة أو حىت تشاركه حاضره و عصره ‪ ،‬أما املرحلة الثالثة فيحدث فيها اكساب النص الروائي بالدالالت‬
‫الثقافية و اإلجتاماعية اليت تتجلى هبا‪.‬‬

‫كما حتتاج دراسة "الشريف حبيلة" إىل ديباجة منهجية أو علمية توضح لنا املفاهيم اإلجتماعية األكثر أمهية‬
‫و املعتمدة يف البحث‪ ،‬لكن األمر الذي يدعو للدهشة أن الناقد قد ملح يف مقدمته إىل أنه قد أفرد مدخال يف‬
‫مستهل دراسته للخوض يف املنهج السوسيونصي و أهم املراجع السوسيونصية اليت استقى منها أساسيات حبثه‪ ،‬و‬
‫هو ما يؤكده بالفعل قوله « قسمت البحث إىل ثالث فصول قدمت هلا مبدخل أوجزت فيه احلديث عن املنهج‬

‫‪ -1‬حممد سامل األمني الطلبة‪ :‬مستويات اللغة يف السرد العريب املعاصر‪ ،‬دراسة نظرية يف سيمانطيقا السرد‪ ،‬دار االنتشار العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪.1119‬‬
‫‪ -2‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.13‬‬

‫‪17‬‬
‫المنهج السوسيونصي‬ ‫الفصل األول‬

‫الذي اخرتته أداة هلذا البحث‪ ،‬وهو املنهج السوسيونصي وجدته األنسب ملثل هذه الظاهرة و هي تتمحور داخل‬
‫النص اإلبداعي له خصوصيته مثل الرواية‪ ،‬لذا كان علي أن أعرض هذا املنهج و كيفية تناوله للنصوص األدبية‬
‫بدءا من سوسيولوجيا األدب وصوال إىل الصيغة اليت صار عليها عند بيري زميا و كان اهلدف من هذا املدخل‬
‫حتديد اخللفية الفكرية للبحث و حتديد أدواته النقدية اليت يقرتحها املنهج املختار »‪ 1‬غري أن التناص يكمن يف أن‬
‫ما ملح إليه يف مقدمته مل يتجسد حقية يف ديباجة داسته اليت أفردها للحديث يف مسألة العنف و صلتها باملثقف‬
‫و وسائل التواصل اللغوية أي اللغة و كذا اإلبداع ‪.‬‬

‫من جهة أخرى مل يتحدث ولو بشكل مقتضب غري مستفيض يف املنهج السوسيونصي أو مشاربه‪ ،‬ضف‬
‫إىل ذلك أن مدخله يفتقر إىل اإلشارة إىل جمموعة الكتب و املقاالت و الدراسات اليت قام هبا كل من "بيري زميا"‬
‫و "ميخائيل باختني"‪ ،‬و هو األمر الذي حيزم القارئ أنه من نواقص الدراسة و البحث و من سقطات الباحث‬
‫الذي مل يراجع دراسته قبل طرحها‪.‬‬

‫إن دراسة "الشريف حبيلة" تبىن على مسألة أساسية عرفها كما يلي‪ « :‬كيف حيضر العنف كمرجع مجايل‬
‫يف النص الروائي أو كيف نبين النص و هو يتفاعل مع واقع العنف »‪ 2‬و هو هبذا حياول ختطي مفهوم األدبية‬
‫الذي يقول أن اخلطاب الروائي نسيج منطوق غري حيوي ليقتضى بذلك ثنائية املظهر و الرتكيب يف العمل الروائي‬
‫على أساس أنه خيلق معاينا و يعبأ باملقاصد املعتقداتية‪.‬‬

‫‪ -1‬الشريف حبيلة‪ :‬الرواية و العنف –دراسة سوسيونصية يف الرواية اجلزائرية املعاصرة‪ ،-‬ص ‪.11‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪،‬ص‪.13‬‬

‫‪18‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫الفصل الثاني‪ :‬الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‪.‬‬

‫تمهيد‪.‬‬

‫المبحث األول‪ :‬تجليات البعد السياسي في الرواية‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬تجليات البعد الديني في الرواية‪.‬‬

‫المبحث الثالث‪ :‬تجليات الواقع االجتماعي في الرواية‪.‬‬

‫‪03‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫تمهيد‪:‬‬

‫ما إن نذكر األدب اجلزائري حىت يتبادر إىل أذهاننا زمن االستعمار و الثورة اجلزائرية وتليها الفرتة املظلمة و‬
‫الصعبة اليت مرت بعد ذلك‪ ،‬أال وهي العشرية السوداء أو احلمراء حيث عكست الرواية اجلزائرية هذا الواقع‪ ،‬إذ‬
‫متي ز األدب اجلزائري بنزعته السياسية وجتلت هذه النزعة يف الرواية بشكل خاص متميزة هبا عن غريها من األجناس‬
‫األدبية األخرى‪ ،‬كون الرواية من أكثر األجناس اهتماما باحلياة السياسية‪ ،‬و جسدت هذه التجليات عرب مراحل‬
‫زمنية خمتلفة وصوال إىل الزمن املعاصر عرب روايات عديدة من بينها رواية الكاتب اجلزائري "عبد الواحد هواري"‬
‫"يف كل قرب حكاية" واليت غاصت يف أعماق العشرية السوداء وتقلباهتا فلقد « أصبحت السياسة حمورا فكريا يف‬
‫الرواية املعاصرة‪ ،‬مهما تنوعت مواضيعها‪ ،‬وتعددت أبعادها االجتماعية و الواقعية‪ ،‬وجنحت إىل احلداثة الشكلية و‬
‫التنويع الفين‪ ،‬فإن الرواية تعرب عن األطروحة السياسية إما بطريقة مباشرة و إما بطريقة غري مباشرة‪ ،‬لذلك نقول‪:‬‬
‫إن السياسة حاضرة يف كل اخلطابات و الفنون واألجناس األدبية‪ ،‬و تتمظهر جبالء و وضوح يف فن الرواية اليت‬
‫تعكس نثرية الواقع وصراع الذات مع املوضوع و الصراع الطبقي و السياسي والتفاوت االجتماعي تناحر العقائد و‬
‫األيديولوجيات و الرتكيز على الرهان السياسي »‪.1‬‬

‫وتتميز الرواية اجلزائرية مبعطيات مهمة متجسدة يف معظمها من السياسة و الدين من الواقع االجتماعي‪،‬‬
‫حيث تتطلب الرواية أفكارا إبداعية عميقة تتحلى بالواقعية إذا ما تعلق األمر باملعطيات السابقة خاصة السياسية‬
‫منها و الدينية‪ ،‬معربة عن احلاضر بطريقة أدبية فنية مع طرح ِألفكار الكاتب الواقعية يف قوالب مجالية‪ ،‬ومن‬
‫الكتاب اجلزائريني الذين جسدوا هذه األبعاد يف أعماهلم الروائية‪ :‬أحالم مستغامني‪ ،‬بشري مفيت‪ ،‬رشيد بوجدرة‪،‬‬
‫أمني زاوي و عز الدين جالوجي‪ ...‬و غريهم من الروائيني الذين غاصوا يف قضايا الدين و السياسة إىل جانب‬
‫موضوع الواقع االجتماعي‪.‬‬

‫‪ ، www.diwanalarab.com -1‬مجيل احلمداوي‪ ،‬األحد ‪ 11‬آذار (مارس) ‪.7002‬‬

‫‪03‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫المبحث األول‪ :‬تجليات البعد السياسي في الرواية‬

‫فرضت احلياة السياسية نفسها على مستوى الساحة األدبية العربية‪ ،‬و أثبتت وجودها جبدارة بسبب األوضاع‬
‫العامة اليت مرت و التزال متر هبا العديد من البلدان العربية؛ من فرتات االستعمار و بعض األزمات السياسية و‬
‫الصراعات بني أطراف عديدة اختلفت يف طرح أفكارها‪ ،‬و تنافرت مساعيها‪ ،‬و مل تبق دائرة الصراع مغلقة على‬
‫املوضوع اجلوهري بل امتدت وصوال إىل زعزعة استقرار الوطن‪ ،‬و املساس باهلوية و القومية‪ ،‬لذا فإن قلم األديب‬
‫العريب عموما و اجلزائري على وجه اخلصوص أىب إال أن خيوض جتربة الكتابة السياسية‪ ،‬و يلج إىل عاملها و بني‬
‫ثناياها مع اال هتمام بأدق تفاصيلها خاصة تلك اليت متس الفرد وحياته االجتماعية عرب ربوع الوطن‪ ،‬ليصبح‬
‫االدب هنا سالح الكاتب الذي جيهر به على كل من حاول االعتداء على مقوماته و أفكاره‪ ،‬حيث يبدع املؤلف‬
‫نصوصا مجيلة حتمل يف طياهتا معاين النضال و الكفاح‪ ،‬فيحاول الكاتب إعالء كلمته لتنشر صداها يف نطاق‬
‫أوسع بغرض عرض قضيته يف مجيع أحناء العامل‪ ،‬و إيصال رسالة سواء للمستعمر أو أطراف الصراع مفادها أن‬
‫الوطن يضم شعبا مقاوما مناضال ال يأبه بالصعوبات‪.‬‬

‫لذا نرى أن معظم النقاد حياولون التوغل يف العمل األديب و التفتيش عن اآلراء السياسية اليت يضمنها املبدع‬
‫يف عمله جمسدا إياها يف شخصياته الروائية‪ ،‬كما يسعى النقاد إىل إبراز عالقة املبدع باألوضاع السياسية و‬
‫الكشف عن آرائه املتوقعة يف النص‪ ،‬سواء كانت هذه اآلراء بارزة بشكل واضح و مباشر أم ضمنية يسعى الناقد‬
‫إىل اكتشافها بالتحليل و التأويل‪.‬‬

‫لنقف عند "عبد الواحد هواري" الكاتب اجلزائري الذي أبدع يف روايته "يف كل قرب حكاية" حيث اخرتق‬
‫بقلمه فرتة العشرية السوداء اليت مرت هبا اجلزائر منذ ‪ 1991‬بعد إلغاء نتائج االنتخابات الربملانية اليت كانت‬
‫لصاحل "اجلماعة االسالمية لالنقاد"وسلط الضوء على الصراع السياسي املسلح بني اجلماعات املسلحة و احلكومة‬
‫اجلزائرية‪ ،‬فاَتذت األوىل من اجلبال مقرا هلا‪.‬‬

‫فما كان "لعبد الواحد هواري" إال أن خيتار شخصيات صلبة وقوية تتصف بالصرب و احلزم و الشجاعة‪ ،‬و‬
‫من هذه الشخصيات البطلة املناضلة "عمي العريب"و "نذير"و "فاطنة"و "خدجية"و "أمينة"و "عبري"‪ ،‬فصفات‬
‫الشخصيات تلعب دورا هاما يف متانة الرواية و يف حتقيق واقعية االحداث املستمدة من اجملتمع‪ .‬كما انقسمت‬
‫شخصيات الرواية بني أمية جاهلة متتاز بالضعف و يسهل استغالهلا و خداعها و التالعب بأفكارها و توجيهها‬

‫‪03‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫حسب ما خيدم مصاحل اجلماعات املسلحة‪ ،‬و بني الفئة املثقفة اليت سعت جاهدة إىل طمس اجلهل و االمية و‬
‫ايقاف تلك االستغالالت السيئة‪.‬‬

‫بعد ارتياد اجلماعات املسلحة اإلرهابية اجلبال عقب الغاء نتائج االنتخابات الربملانية اليت كانت لصاحلها‬
‫بدأت هذه اجلماعات فورا مبمارسة أبشع اجلرائم على الشعب اجلزائري ككل‪ ،‬و بشكل خاص على من كانت له‬
‫عالقة باحلكومة؛ من أفراد اجليش الوطين وكل من أدى اخلدمة الوطنية‪ ،‬فعذبت الشعب أيا تعذيب و قتلت‬
‫أعداد كبرية جدا من الناس بسبب أو دون سبب‪ ،‬فجسد "عبد الواحد هواري" يف روايته اجلرائم الشنيعة اليت‬
‫ارتكبتها هذه اجلماعات يف حق اجلزائريني من مذابح دامية و جمازر بأعداد هائلة مست ه ِدفة القرى و األحياء‬
‫الصغرية و البعيدة عن املدينة و األماكن اليت متوضع فيها اجليش‪ ،‬فقد ذكر الراوي قرى و أحياء أبِيدت على‬
‫أيديها حني قامت بقتل كل شخص قاطن بتلك القرية ومل تفرق بني صغري وال كبري‪ ،‬أو رجل و امرأة‪ ،‬فزرعت‬
‫اخلوف و الرعب و الفزع يف قلوب اجلزائريني‪ ،‬فصور "هواري" ذلك الرعب الذي اجتاح الشعب اجلزائري يف‬
‫العشرية السوداء حني وصفها ب ‪ « :‬زمن اخلوف و الرعب‪ ،‬يف ذلك الوقت كان الفزع هو فطور الصباح لسكان‬
‫القرى‪ ،‬و الرهبة و اهللع غذاءهم‪ ،‬و الوجل و االرتعاب عشاءهم‪ ،‬حىت الطيور يف السماء كانت بكماء خشية أن‬
‫يوقظ تغريدها رواد الغابة »‪.1‬‬

‫لقد جسدت الرواية عدة حمطات للممارسات اجلائرة اليت ارت ِكبت من طرف اجلماعات اإلرهابية‪ ،‬منها‬
‫اهلجوم على القرى و هتديد سكاهنا بالقتل و التعذيب و التنكيل و كذا إجبارهم على اقتسام ممتلكاهتم معها‬
‫كاملواشي و احلقول و األموال مقابل احلفا على حياهتم و أهاليهم‪ ،‬بقي يف القرى من استطاع اخلضوع ألوامرها‬
‫ومل يرض بالتنازل عن أرضه و اهلرب من املناطق اليت تسيطر عليها اجلماعات‪ ،‬كما دفع اخلوف بعض السكان‬
‫باهلجرة حنو املدينة اليت متتاز باحلماية من قبل أفراد اجليش الوطين‪.‬‬

‫صور الراوي ثالث جمازر قامت هبا اجلماعات اإلرهابية؛ األوىل هي جمزرة "سيدي جماهد" اليت قتل جل‬
‫سكاهنا دون استثناء فلم يرتك أحد على قيد احلياة‪ ،‬و الثانية جمزرة قرية البطل "عمي العريب" اليت ارت ِكبت يف حق‬
‫سكاهنا يف وجوده‪ ،‬حيث كان خيتبئ يف أعلى شجرة كانت جبانب القرية‪ ،‬فشاهد َتبط والدته "فاطنة" و حمبوبته‬
‫"خدجية" و كل فرد من أفراد القرية بني أيدي اجلماعات املسلحة و اليت تزرع الرهبة و اخلوف يف قلوب الناظرين‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.10‬‬

‫‪00‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫إليها‪ ،‬فقتلت اجلميع‪ ،‬مما أدى اىل تدهور حالة "العريب" بعد مشاهدته هذه اجلرية البشعة‪ ،‬فوصف الراوي حالته‬
‫حني كان‪ « :‬يضرب رأسه جبذع الشجرة ضربة تلوى األخرى‪ ،‬و تزيد حدة التالية عن السابقة‪ ،‬و ال يزال يضرب‬
‫رأسه و يصيح بأعلى صوت‪ ...‬إىل أن وقع على األرض و أغ ِمي عليه »‪ ،1‬و قد سبق ل "عمي العريب" يف إحدى‬
‫حماوالته للبحث عن شيخ حكيم بغية عالج أمه املريضة‪ ،‬و القاطن بقرية "الزاوية" مبدينة "تلمسان" أن صعِق‬
‫مبنظر مرعب و خميف؛ عبارة عن قرية كاملة حولتها اجلماعات إىل أشالء مرتاكمة بعدما نكلت هبم تنكيال فظيعا‪،‬‬
‫وقد متظهر ذلك يف الرواية من خالل‪ « :‬وجد سكان القرية مصروعني مذب ِ‬
‫وحني‪ ،‬و جثث هم مكدسة جنبا إىل‬
‫جنب و قد بدأت رائحة العفن َترج منها‪ ،‬مالمح أوجههم توحي بالصدمة و اخلوف و الوجل‪ ،‬مشكلني كتلة‬
‫‪2‬‬
‫جبلية من الشيوخ و الرجال و النساء‪ ،‬حىت األطفال يف عمر الزهور كانوا ساقطني مذبوحني‪» .‬‬

‫غنية هذه الرواية باملظاهر املظلمة ل "العشرية السوداء" و مبا مارسته اجلماعات املسلحة من أعمال قمعية‬
‫كالرتهيب و القتل و االغتصاب اجلماعي‪ ...‬أما من أىب االنضمام إىل صفوفها طوعا ضمته إليها كراهية حتت‬
‫وابل من التهديدات و عندما مل ينفع التهديد استعملت الرتهيب و التخويف و التعذيب مث جلأت إىل القتل‪،‬‬
‫فتسلل اهللع و اخلوف إىل الناس و فقد اإلحساس باألمان‪ .‬و يعد "عمي العريب" يف هذه الرواية منوذجا للعديد‬
‫ممن عانوا الويالت‪ ،‬حيث يصف الكاتب اعتقاله بعدما وِجد مغمى عليه داخل أسوار قريته و وضع يف كوخ‬
‫خميف حقري حتت اشراف قتلة شرسني‪ ،‬وقد دفعه اخلوف عند رؤيتهم إىل التبول على نفسه بعد ذلك أ ِخد إىل‬
‫قائد اجلماعة املكىن ب "املعلم األكرب" و يف طريقه ساقه مكب له عرب طريق خميف مليء بالكالب الشرسة كإنذار‬
‫وحتذير له‪ ،‬وهذا ما جتلى يف الرواية‪ « :‬فزاد هلعه عن السابق‪ ...‬حيث رأى جمموعة من الكالب الشرسة مربوطة‬
‫حتت شجرة ضخمة‪ ،‬تنبح يف وجهه حماولة قطع احلبل الذي يقيدها كأهنا تريد متزيقه إىل قطع صغرية »‪ ،3‬فرسم‬
‫لنا الراوي هذه الصورة القوية معربا هبا عن قساوِة و مهجية هذه اجلماعة‪ ،‬حيث كانت تزرع الرعب و اخلوف يف‬
‫نفس الرهينة هبدف االنصياع هلا خوفا من أن يصبح مصريها بني أنياب تلك الكالب املتوحشة‪ ،‬صورة مروعة تعرب‬
‫عن بعض ما عاشه اجلزائريون يف مرحلة التسعينات‪.‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.70‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.11‬‬

‫‪03‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫سعت الرواية إىل فضح أبشع أشكال التعذيب اليت ألقتها اجلماعات على الشعب‪ ،‬فربزت الطرق اخلسيسة‬
‫املتبعة إلخضاع الضعفاء يف شخصية "حسني" الذي الذ بالفرار من أيدي اجملرمني‪ ،‬لكن احلظ مل يكن حليفه إذ‬
‫علقت قدمه يف فخ من فخاخ اخلنازير الربية‪ ،‬فانتشله أحد األفراد من اجلماعة و دون تضميد جرحه ربِ طت عنقه‬
‫حببل و جر إىل املقر ككلب ذليل‪ ،‬مث علق جسمه فوق شجرة و حتته مباشرة أشعِلت نار كبرية و كأنه قِدر‬
‫يطهى‪ ،‬و أغلِق فمه كي ال يص ِدر أي صوت مزعج‪ ،‬ظل على ذلك احلال إىل أن جف جسمه من الدم و‬
‫صعدت روحه إىل السماء‪ ،‬ليكون عربة ملن حياول ِ‬
‫الفرار‪ ،‬فكان التعذيب و القتل الذي مارسته اجلماعات‬
‫االرهابية مبثابة وصمة عار ضلت عالقة بتارخيها‪.‬‬

‫"عمي العريب" بدوره أيضا ذاق كل أنواع العذاب إىل أن أصبح جسده مغطى باجلروح و الندوب‪ ،‬كاآلثار‬
‫النامجة عن غرز اإلبر يف الوريد و آثار الضرب‪ ...‬كل هذا بسبب رفضه ارتكاب جرائم القتل و التعذيب و‬
‫االغتصاب فذكر الراوي ذلك بقوله‪ « :‬كان يأمرِين أن أفعل ما يفعلون‪ ،‬أذبح و أغت ِ‬
‫صب و أن هب األموال‪ ،‬لكين‬
‫كنت أرفض كل مرة ف يم ِهلين مث ي ِهلين حىت صار لون الدم جزءا من حيايت »‪.1‬‬

‫ال يكن إقصاء التالعب باملشاعر الذي طبقته اجلماعات املسلحة يف حماولة هلا لغرس احلنق و احلقد جتاه‬
‫احلكومة ‪ ،‬حيث اهتمت احلكومة باقرتاف عدد من املذابح و اجملازر و كذا اختطاف عدد من أفراد الشعب كي‬
‫تست ِميل اجلماعات الشعب إىل صاحلها و تدمر ثقة هذا االخري باحلكومة و جيشها‪ ،‬لكن احلكومة نفت هذه‬
‫التهم املوجهة إليها‪ ،‬و قد جسد "عبد الواحد هواري" هذه الظاهرة يف منت الرواية‪ « :‬دع ِين أطلِعك على ما مل‬
‫تكتشف بعد‪ ،‬قاتلو عائلتك من احلكومة‪ ،‬وهم فرقة نطاردها منذ زمن بعيد‪ ،‬و عندما تواتينا الفرصة لالنقضاض‬
‫عليهم سننكل هبم تنكيال ال حتمد عقباه »‪ ،2‬فعندما استشاط "عمي العريب" غضبا و هاجم قائد اجلماعة‬
‫املسلحة الذي قتل أهله و أفراد قريته تلقى النفي من هذه التهم‪ ،‬حيث نسب "املعلم األكرب" اجملزرة إىل احلكومة‬
‫و كان ذلك النفي بغية استعطاف البطل و ضمه لصفوفه بعدما مأل احلقد قلبه‪ .‬لكن حقيقة اجلماعة كشفت‬
‫أمام "عمي العريب" يف فرتة بقائه بينها ملدة ستة أشهر ما أيقظ يف قلبه روح املقاومة و النضال و االنتقام من أعداء‬
‫الوطن‪.‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.15‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.13‬‬

‫‪03‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫ساق لنا الكاتب حكاية "عمي العريب" كنموذج للشعب اجلزائري يف ظل الصراع السياسي الذي شهدته‬
‫اجلزائر أيام العشرية السوداء حني أصبح اجملتمع اجلزائري يعيش حالة من الرعب و ارتقاب األسوأ دائما‪.‬‬

‫شكلت هذه اجملازر مظهرا من أبشع مظاهر التعذيب اليت انتهجتها اجلماعات اإلرهابية يف تلك الفرتة‬
‫املظلمة اليت مرت هبا اجلزائر (العشرية السوداء)‪ ،‬فكان القتل و النحر مصري كل من حاول االمتناع عن االنضمام‬
‫إليها أو اال نصياع ألوامرها‪ ،‬و لكثرة أعماهلا املرعبة وقسوهتا علت مالمح أعضائها عالمات تغرس الوجل و‬
‫اخلوف يف نفس الناظر إليهم ف ت ِحيط هبم هالة سوداء تعكس الشر القاطن يف قلوهبم‪ ،‬ولقد صبِغت سيوف هم‬
‫بدماء األبرياء وامتألت برائحة العفن و النتانة املنبعثة من دم األعناق املنحورة‪ .‬وبسبب كل ذلك الظلم الذي القاه‬
‫اجلزائريون و من بينهم "عمي العريب" قرر هذا األخري خوض معركته من اجل الدفاع عن وطنه وشعبه من بطش‬
‫اجلماعات اإلرهابية و بعدما أشعلت اجلرية الشنيعة اليت ارت ِكبت أمام ناظره نار املقاومة و اجلهاد اجته صوب‬
‫اجليش وفضح كل مساعي اجلماعات و كذلك خمابئها وبعض خفاياها و خططها اجلهنمية‪.‬‬

‫ال يكن إنكار الدور اهلام الذي قا م به اجليش الوطين‪ ،‬و موقفه الشهم مع الشعب باإلضافة إىل جهوده‬
‫اجلبارة للقضاء على اجلماعات اإلرهابية‪ ،‬وكذا قيامه بعمليات التمشيط حنو القرى خاصة اليت سيطرت عليها‬
‫اجلماعات املسلحة و بثت فيها الرعب‪ ،‬فكان النقيب "أسامة" خري مثال ضربه الكتاب عن أفراد اجليش الوطين‬
‫حيث قام خيطط بإحكام واضعا خططا متكنه من االنقضاض على أولئك اجملرمني داخل مقراهتم‪ ،‬فعكس النقيب‬
‫وجنوده صورة حب الوطن املغروس يف قلوهبم مما دفعهم للتضحية بأنفسهم مقابل حتقيق السلم و األمان‪ ،‬فهمهم‬
‫الوحيد هو النضال و القضاء على من عك ر هدوء البالد الذي سلبه الصراع السياسي‪ ،‬وقد وردت هذه الصورة يف‬
‫الرواية عند قول النقيب‪ « :‬سأنطلق رفقة اجلنود كي ندك معاقل األوباش‪ ،‬وحنرق األرض اليت حتملهم عن بكرة‬
‫أبيها »‪ 1‬فقسم اجلنود على شكل جمموعات؛ كل جمموعة حتمل جنودا أشداء بساىل و انطلقوا حنو اجلبال‪ ،‬وبعد‬
‫اهلجوم العسكري الذي شنه النقيب "أسامة" قضى على كل إرهايب قاوم اجليش‪ ،‬و اعتقل العشرات ممن رفعوا راية‬
‫االستسالم خوفا من املوت‪ ،‬و حتررت النسوة األسريات و لذن بالفرار‪ .‬فتعالت صيحات النصر بعد انتهاء املعركة‬
‫و تلقي املعسكر اإلرهايب هزية نكراء‪ ،‬وعلت مالمح اجلنود الفرحة وهتافتوا بعبارات النصر‪ ،‬فنجد هنا أن اجلنود‬
‫اجلزائريني قاوموا و ناضلوا بكل قوهتم من اجل محاية أراضيهم الطاهرة من مغتصبيها‪ ،‬جاعلني من أرواحهم درعا‬
‫حيمي األرض اليت س ِقيت بدم الشهداء األبرار‪.‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.25‬‬

‫‪03‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫لقد ذكر الكاتب االنقسامات اليت طالت اجلماعات إىل فرق خمتلفة؛ كل فرقة منها تسعى ألخذ نفوذ الفئة‬
‫األخرى و االستيالء على السلطة و احلكم‪ ،‬حىت لو كان ذلك بأشنع األساليب و أثرها بشاعة حيث سعت كل‬
‫مجاعة إىل تلفيق هتم دينية ال تتوافق مع معتقداهتم و التفتيش على مواطن التكفري يف الطرف اآلخر‪.‬‬

‫كما صورت الرواية استغالل املرأة يف أبشع الصور ملا القته من جرائم شنيعة كاالعتداء اجلنسي و االغتصاب‬
‫اجلماعي على أيدي اجلماعات املسلحة اخلارجة عن سيطرة احلكومة‪ ،‬و تعد هذه اجلرائم انتهاك لألعراف‬
‫االسالمية و كذا الدولية‪ .‬باإلضافة إىل ادعاء اجلماعات اإلسالمية بأن املرأة جيب أن تكون طاهرة عفيفة إال أهنا‬
‫مارست كل أنواع االعتداء و االغتصاب ضدها‪ ،‬فضرب الراوي مثاال عن العقاب الذي القته كل من سولت هلا‬
‫نفسها الفرار‪ ،‬حني حاولت فتاة مراهقة ابنة السبع عشرة سنة اهلرب من بطشها‪ « :‬و ما إن ضبطوها حىت صار‬
‫كل واحد فيهم*يغتصبها مرات و مرات و هي تصرخ بكل ما أوتيت من قوة‪ ،‬أما أحدهم فظل ممسكا هبا ويقهقه‬
‫كأنه يستمتع بعذاهبا »‪ 1‬يف الفرتة املمتدة بني ‪ 1991‬إىل ‪ 1992‬مت اإلبالغ رمسيا عن ‪ 1000‬حالة اغتصاب‬
‫للنساء من قبل اجلماعات املسلحة ‪ ،‬ومن املؤكد أن الرقم مرتفع أكثر فكلنا نعلم أن املرأة تعرضت لإلمهال يف ظل‬
‫احتدام الصراع السياسي والعسكري بني اجلماعات املسلحة واحلكومة اجلزائرية‪.‬‬

‫كما سعت اجلماعات املسلحة إىل ترويج أفكارها اهلدامة وبثها يف صفوف اجلزائريني مدعية أهنا على حق‬
‫باستغالهلا اآليات القرآنية وتفسريها حسب أهوائها ومبا خيدم مصاحلها‪ ،‬معتربة قضيتها قضية دينية‪ ،‬فسعت‬
‫جاهدة لبناء دولة إسالمية قائمة على القتل والنهب وزراعة الرهبة يف نفوس الشعب الضعيف‪.‬‬

‫أثر تذبذب األوضاع السياسية على املعامل و املؤسسات احلكومية اليت قامت بتسريح عشرات العمال حبجة‬
‫األزمة املالية اليت متر هبا اجلزائر فتبنت الرواية هذا الوضع من خالل‪ « :‬مل تكن األوضاع مبشرة باخلري‪ .‬يف الشهر‬
‫املاضي سرح أكثر من عشرين عامال حبجة الضائقة املالية اليت متر هبا البالد »‪ ،2‬كما قلت فرص العمل بشكل‬
‫كبري وهذا راجع إىل الصراع السياسي يف اجلزائر‪ ،‬فيقول الراوي‪ « :‬حىت األشغال الشاقة كانت حمجوزة‬
‫ألصحاهبا»‪ ،3‬ما قاد املواطنني إىل االجتاه األعمال غري الشرعية كتجارة املخدرات وهتريب الوقود عرب احلدود‪،‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.13‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.31‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.21‬‬
‫*‪ -‬منهم‪.‬‬

‫‪03‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫وهذا ما حدث مع شخصية "نذير" الذي سرح من عمله يف معمل احلكومة فدفعته احلاجة إىل هتريب الوقود‬
‫العتباره جتارة مرحبة مع أهنا ال َتلو من املخاطر‪ ،‬وقد رصدت الرواية ذلك‪ « :‬كان يهرب الوقود عرب احلدود ألهنا‬
‫جتارة مرحبة جدا‪ ،‬ويف نفس الوقت ِجد خطرية »‪ 1‬مواجها خطر السجن عند وقوعه يف يد أفراد اجليش من جهة‪،‬‬
‫و خطر املوت إن هو وقع بني أيدي اجلماعات اإلرهابية‪ ،‬فلخص الراوي هذا الوضع يف الرواية بقوله‪ « :‬التقى‬
‫هبم صدفة عند أحد الوديان لتجد احلكومة يف الصباح رأسه مقطوعا ومعلقا إىل غصن شجرة عالية »‪ 2‬فالتهم‬
‫صراع األحزاب كل شيء ومشلت كل اجملاالت؛ سياسية و اقتصادية ودينية وصوال إىل احلياة االجتماعية‪ ،‬فأصبح‬
‫الوضع يف غاية احلساسية وفقد الفرد ثقته يف كل من حوله‪ ،‬و اَتذ العنف طريقه يف الشوارع بكل أشكاله‪ ،‬إىل أن‬
‫صار اإلنسان ال يأمن على نفسه حىت من أهله‪.‬‬

‫تطرق "عبد الواحد هواري" أيضا إىل قضية أخرى مهمة؛ وهي جتارة املخدرات وهتريبها عرب احلدود رغم‬
‫احلراسة الشديدة‪ ،‬ألن املشكلة ال تكمن يف ضعف أو قوة احلراسة بل يف طبيعة احلراس املتواطئني مع هؤالء التجار‬
‫غري الشرعيني و تقديهم للمساعدات مقابل مبالغ مالية ضخمة‪ ،‬فكلما حاولت احلكومة جبيشها مضاعفة‬
‫احلراسة أصبحت خطط املهربني أكثر دقة و إحكاما‪ ،‬كرتقب األيام اليت تكون احلراسة فيها ضعيفة كي تسري‬
‫خطط التهريب بسالسة‪ ،‬فتجلى ذلك يف الرواية من خالل‪ « :‬سنخصص يوما من أيام األسبوع القادم حني‬
‫تكون احلراسة خفيفة على احلدود‪ ،‬و نستغل اجملازر اليت يرتكبها األوباش يف الغابة كي نصرف عنا نظر احلكومة‪،‬‬
‫و ها هو ذا صديقي من حرس احلدود يأتينا بكل املعلومات مقابل سعر خاص به »‪ 3‬فعكست الرواية املؤامرات‬
‫احملاكة يف ظهر احلكومة من طرف جتار املخدرات و مبساعدةٍ من بعض أعضاء احلكومة نفسها‪.‬‬

‫استغل الراوي صفحات روايته ليفضح الفساد الذي ساد احملاكم مبا فيها من حمامني و قضاة‪ ،‬حيث انتشرا‬
‫بينهم احملسوبية و العمالة والرشوة‪ ،‬ففقدت هذه اهليئة مصداقيتها لنقف أمام هذا احلوار الذي أبدعه الكاتب‪« :‬‬
‫_حان موعد اطالق سراحه‪ ،‬اليكننا أن حنبسه هنا أكثر من الالزم‪ ،‬قد يكتشف املالزم أمرنا‪.‬‬
‫_لكن اإلتفاق يطالبنا بإبقائه هنا ألكثر من أسبوع‪.‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.21‬‬

‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.23‬‬


‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.52‬‬

‫‪03‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫_يكفي هذا‪ ،‬صحيح أن الثمن مغر لكن وظائفنا على احملك‪ ،‬فإن جاء املالزم ووجده هنا‪ ،‬اهلل أعلم ماذا يفعل‬
‫بنا »‪ ،1‬كما نستحضر صورة أخرى من صور الفساد اليت وردت يف الرواية‪ « :‬أما عن مدة حكمك فقد دبرت‬
‫لك خطة مع القاضي كي تكون أقصى عقوبة تقضيها يف السجن سبع سنوات »‪ 2‬فبعدما كان القضاة منصفني و‬
‫عادلني يف اطالق أحكامهم‪ ،‬انقلبت املوازين و أصبح هؤالء هم األكثر ظلما وجورا‪.‬‬

‫برز البعد السياسي يف الرواية أيضا من خالل تطرق املبدع إىل رصد ما امتازت به السجون ‪-‬منذ سنة‬
‫‪1991‬م‪ -‬من اكتظا شديد بسبب حساسية األوضاع السياسية و األمنية للجزائر‪ ،‬فكل مدين اشتبه يف أمره‬
‫زج به يف السجن‪ ،‬وقد ظهر ذلك يف الرواية من خالل‪ « :‬ألنه زمن احلساب‪ ،‬حيث صارت احلكومة جتر حنو‬
‫املعتقالت أي شخص يشتبه به‪ ،‬فاألوضاع األمنية حساسة جدا »‪ 3‬فامتألت املعتقالت باجملرمني وغري اجملرمني؛‬
‫الذين اشتبه هبم أو من كانت له عالقة مع اجلماعات اإلرهابية من قريب أو من بعيد‪ ،‬متصدية لكل اخلونة الذين‬
‫باعوا وطنهم و أهلهم ليصبحوا عمالء لذى تلك الوحوش اليت التعرف الرمحة‪ ،‬فأصبحت اإلعتقاالت التعسفية‬
‫تقام بصفة يوم ية تصحبها اعتقاالت باجلملة‪ ،‬لذا امتألت السجون باملعتقلني من مدنيني وحىت بعض السياسيني‬
‫الذين تغلغلوا بني صفوف اإلرهابيني خفية‪ .‬لقد حتدث الراوي عن اكتظا السجون‪ « :‬شاركين الزنزانة ثالثة‬
‫رجال آخرين بسبب كثرة احملبوسني‪ ...‬كان لنا أربعة ِ‬
‫أسرة حديدية حتدث أزيزا يوقظ امليت من قربه »‪ 4‬فباإلضافة‬
‫إىل االكتظا ذكر الكاتب قدم و اهرتاء األثاث املتواجد داخل السجن‪.‬‬

‫إنه ال يكن انكار أن املعتقالت اجلزائرية خالل الفرتة الدموية اليت مرت هبا قد ع ِرفت بقساوة العيش فيها‬
‫مع عدم مالءمتها للشروط اإلنسانية و ال لكرامة الفرد باألخص بسبب ما حتمله املنفردة من أسرار أخفيت عن‬
‫احلكومة‪ ،‬فرمست الرواية ذلك و فضحت البشاعة و الفظاعة الكامنة خلفها؛ حيث كانت ضيقة جدا التسمح‬
‫مساحتها للسجني باجللوس و ال النوم‪ ،‬تفوح منها رائحة النتانة جراء تبول املعتقلني على أنفسهم طول فرتة‬
‫العقاب ما جعلها جد مقرفة « فقد كانت وسط حيز حجري مساحته ال تتجاوز مرتا مربعا‪ ،‬حيتوي على عدة‬
‫زنزانات ضيقة جد ا‪ ،‬حىت ال يتمكن السجني من اجللوس و يضل طوال مدة عقابه واقفا على رجليه يقضي‬
‫حاجته على نفسه إن اضطر إىل ذلك‪ ،‬تنبع ث منها رائحة كريهة و اإلضاءة فيها شبه منعدمة‪ ،‬اذا ما حل الصباح‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.51‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.56‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.107‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.107‬‬

‫‪03‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫بصقيعه جيمد قطرات الندى القابعة يف السقف املغلق بالزنك »‪ 1‬فهو مكان مقرف و مظلم حيث اجتمعت به‬
‫كل صفات البؤس‪ ،‬كما انعدمت فيه كل املقومات اإلنسانية فكان شبيها بقفص احليوانات‪ ،‬فوضح الكاتب عمق‬
‫معاناة املعتقلني اجلزائريني ما عرضهم إىل أزمات نفسية متفاوتة اخلطورة‪.‬‬

‫مل يغفل الراوي عن ذكر نوع آخر من أنواع العنف‪ ،‬و الذي مارسه حراس املعتقالت حني سلط هؤالء‬
‫احلراس جل حقدهم و غضبهم على املساجني‪ ،‬فلم ييزوا بني ظامل أو مظلوم بل رموا اجلميع بنظرات حقرية‬
‫دونية‪ ،‬معتربين كل سجني جمرم ال قيمة له بل جمرد عاهة اجتماعية‪ ،‬فذكرت الرواية ذلك‪ « :‬داخل هذا املكان‪،‬‬
‫هذا املكان احلقري‪ ،‬جمرد جمرم القيمة له بني طبقات اإلنس‪ ...‬مههم أن خيمدوا نار فشلهم يف خطئك أنت‬
‫كإنسان مغاير »‪.2‬‬

‫مث انتقل الراوي إىل ذكر بعض املمارسات التعسفية األخرى اليت انتهجها احلراس يف حق السجناء و أسرهم‪،‬‬
‫كمحاوالت االعتداء على الزائرات؛ سواء بلمس أماكن حساسة من أجسادهن أو رميهن بنظرات شزراء حيوانية‬
‫َترتق ثياهبن‪ ،‬فكان هذا املوقف صعبا على أزواج و آباء و إخوان النسوة‪ « :‬كان حوهلا حارسان يتغزالن هبا‬
‫ويتسامران حوهلا و الريق يسيل من أفواههما حني يعنان النظر يف طبقات جسدها‪ ،‬ظل أحدهم يالمس يدها و‬
‫هي تبتسم غري مكرتثة لألمر‪ ،‬و اآلخر يريد التهامها »‪ ،3‬و يورد الراوي مقطعا آخر يظهر فيه عالمات الغضب‬
‫اليت اجتاحت السجني بعدما رأى مراودة احلارس لزوجته « بانت على مالحمه أمارات الغضب الشديد‪ ،‬ملح‬
‫احلارس و هو يراودها عن نفسها »‪ ،4‬و استمر استفزاز احلراس للزوج "الواسيين" حني جاءه أحدهم شاهرا أمامه‬
‫صورة خليعة لزوجته إبان ممارستها الرذيلة معه‪ ،‬فذكر الراوي ذلك يف نصه « كان احلارس قد أشار إليه بصورة‬
‫خليعة لزوجته اليت مارست كل أنواع العقاب يف حقه إثر غيابه »‪ 5‬ما دفع ب "الواسيين" إىل إهناء حياته « وجدنا‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.111‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.107‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.111‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.117‬‬
‫‪ -5‬الرواية‪ ،‬ص ‪.112‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫الواسيين معلقا حببل يف الركن األيسر من الزنزانة »‪ 1‬و زاد انتحار "الواسيين" كره و حنق املساجني على احلراس «‬
‫حىت طعن أحدهم احلارس املعين مبا حصل للمنتحر و تركه صريعا مقتوال »‪.2‬‬
‫‪3‬‬
‫« فرق كبير بين أن تعيش في السجن و بين أن يعيش السجن فيك »‬
‫جنيب الكيالين‬

‫حيمل اجلزائري هويته أينما حل كبصمة أمل ال يحوها الظلم و ال التعسف فصور "عبد الواحد هواري"‬
‫شخصية "نذير" املقاوم و البطل الشجاع‪ ،‬مسلحا بالصرب و الثبات رغم تكبيله بني جدران السجن‪ ،‬يقف موقف‬
‫الرفض من تلك املمارسات اجلائرة ضد السجناء‪.‬‬

‫مبا أن األمية فرضت نفسها يف اجلزائر بعدما فرغت مقاعد الدراسة بسبب األوضاع السياسية الصعبة اليت‬
‫مشلت كل املستويات‪ :‬اقتصاديا‪ ،‬سياسيا‪ ،‬اجتماعيا وحىت ثقافيا‪ .‬لذا حاول "نذير" طمس معامل اجلهل و األمية‬
‫يف عقول السجناء بتعليمهم القراءة و الكتابة‪ ،‬و تثقيفهم و إنارة عقوهلم‪ ،‬فيقول‪ « :‬اَتذنا حنن الثالثة من املكتبة‬
‫منزال جيمعنا‪ ،‬كنت أوجههم حنو مطالعة ما يفيدهم فتجاوز اهلواري كل العقبات بإرادة و صرب شديد‪ ،‬حارب‬
‫أزمته و صار يقرأ من الكتب و يسأل أسئلة النجباء »‪.4‬‬

‫فلم يكن النضال نضال سالح فقط‪ ،‬بل تعدى ذلك إىل نضال عقول واعية‪ ،‬و إنشاء فئة مثقفة التنخدع‬
‫باحليل و ال تنطلي عليها التلفيقات‪ ،‬لتعي احلقائق بعقل واعي مدرك هلا‪ .‬فأصبح السجن مالزما اجلسد ألن‬
‫العقول ال حتدها اجلدران‪ ،‬ليعرب الراوي هنا عن عظماء خلدت أمساؤهم بني القضبان‪ « :‬غري أين مل أكن‬
‫مستسلما وال يائسا‪ ،‬كنت من الذين يبحثون عن نسمة أمل يف أحلك البقاع‪ ،‬تذكرت أن شخصيات كبرية كتبت‬
‫يف السجن أسطرا خالدة يف التاريخ‪ ،‬فابن سينا كتب رسالة حي بن يقضان و هو أسري خلف القضبان‪ ،‬و ابن‬
‫اهليثم نبغ بنظرية الضوء بعد أن تأمل استقامة الشعاع املنبعث إىل زنزانته عرب فجوات الباب‪ ،‬و هتلر سطر فلسفته‬
‫بكتابه كفاحي الذي أهلك به األمة‪ ،‬وغريهم الكثري‪ .5» ...‬فعكست هذه السطور الوعي الذي حتلى به الكثري‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.116‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.116‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.175‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.172‬‬
‫‪ -5‬الرواية‪ ،‬ص ‪.172‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫من اجلزائريني‪ « :‬سجين مل يكن يف زنزانيت و حضري من اخلروج‪ ،‬بل كان يف عدم احلفر يف ذايت و البحث عن‬
‫الكنوز املطموسة يف داخلي »‪ 1‬فقد كان "نذير" ذا قلب شجاع شهم فتغلب على الصعاب يف أحلك الضروف‪.‬‬

‫رمست الرواية مناذج ألبطال و رجال كان النضال عنواهنم‪ ،‬و الظلم عدوهم اللذود‪ ،‬ومن بني الشخصيات‬
‫اليت برزت بقوة يف الرواية جند "نذير" و "عمي العريب" كعينة ملاليني الناس يف اجملتمع اجلزائري الذين حتلو‬
‫بالشجاعة و البسالة‪ ،‬ناضال و حاربا مضحيان بنفسيهما ألجل الدفاع عن اجلزائر واحلفا على اهلوية‪ ،‬فتحديا‬
‫كل الصعوبات كاجلرائم الوحشية اليت طبقتها اجلماعات املسلحة عليهما‪.‬‬

‫و لقد رصد "عبد الواحد هواري" املظاهر السياسية اليت سادت اجلزائر يف سنوات الدم بأشكاهلا املختلفة‪ ،‬و‬
‫كذا واقع ا لصراع بني احلكومة و اجلماعات املسلحة من أجل الفوز بكرسي احلكم و نيل السلطة‪ ،‬حني كان‬
‫الشعب اجلزائري هو اخلاسر الوحيد و األكرب يف ظل هذا الصراع‪ ،‬فعمل الراوي على تقريب صورة الواقع إىل ذهن‬
‫القارئ مستمدا أحداثه من احلقيقة‪ ،‬و تطرق إىل أبرز النقاط املهمة بصورة واقعية حية و دقيقة جسدت معاناة‬
‫الشعب اجلزائري يف خضم احتدام الصراع بني السلطة و اجلماعات اإلرهابية املتطرفة‪.‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.111‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫المبحث الثاني‪ :‬تجليات البعد الديني في الرواية‬

‫متيزت الرواية بتسلسل عدد من اخلطابات بني صفحاهتا‪ ،‬فتنوعت بني خطاب سياسي و آخر اجتماعي و‬
‫ديين‪ ،...‬إذ ال َتلو معظم الروايات منذ القدمي من جتلي هذا األخري ‪-‬اخلطاب الديين‪ -‬بشكل واضح‪ ،‬ولقد‬
‫شغل البعد الديين يف الرواية بال العديد من النقاد من مثل‪" :‬إبراهيم عبد اجمليد" و "ودناين بوداود"‪ ...‬و غريهم‬
‫من النقاد‪ ،‬مولِينه اهتمامهم بالنقد و التحليل‪ ،‬حيث أصبح الناقد يفتش و يقلب عن أفكار الكاتب الدينية و‬
‫توجهاته األيديولوجية من خالل أعماله األدبية‪ ،‬كما هو احلال مع العديد من الروائيني اجلزائريني الذين شغِل‬
‫مبؤلفاهتم عدد كبري من النقاد‪ ،‬مفتشني عن مواطن أفكارهم و منقبني عن األبعاد الدينية اليت تب ن وها عرب سطور‬
‫الرواية‪ ،‬حيث أثارت كتاباهتم جدال واسعا نقديا و قِرائيا‪ ،‬و من الروائيني اجلزائريني الذين جسدوا البعد اللديين يف‬
‫أعماهلم‪" :‬أمني زاوي" و "رشيد بوجدرة" و "واسيين األعرج"‪ ،‬لكن "سيزا قاسم" رفضت نسب األيديولوجيا اليت‬
‫تتسم هبا الشخصية إىل الكاتب نفسه‪ ،‬معقبة على ذلك بقوهلا‪ « :‬و عندما نتحدث عن املنظور األيديولوجي هنا‬
‫فإننا نفرق بني الكاتب و العمل األديب‪ .‬إذ أننا ننظر إىل العمل األديب ككائن له استقالله عن مؤلفه و حنرص‬
‫على عدم اخللط بينهما‪ .‬و جيب أن ينسب املنظور األيديولوجي هنا إىل العمل نفسه ال إىل املؤلف سواء وافقه يف‬
‫الواقع أم خالفه »‪.1‬‬

‫لقد شغل موضوع الدين يف الرواية الكتاب و األدباء املبدعني‪ ،‬إىل أن أصبح األديب نفسه يسعى جاهدا‬
‫إىل توضيف اجلانب الديين عن قصد‪ ،‬كونه جزءا ال يتجزأ من الواقع املعاش الذي تتدرج حتته موضوعات الرواية‪،‬‬
‫و واقع احلياة االجتماعية ال ينفصل عن احلياة الدينية مببادئها و قيمها و مبا أن الرواية هي مرآة للمجتمع فالبد هلا‬
‫أن تعكس املظاهر االجتماعية الواقعية عرب صفحاهتا؛ من مبادئ و عادات و تقاليد و أفكار ضمن قوالب روائية‬
‫إبداعية‪ ،‬و منه فإن النص الديين شكل ثراءا أدبيا واسعا عرب ممختلف الثقافات الغربية و العربية‪ ،‬و كان كل من‬
‫القرآن و السنة أبرز األشكال الدينية ال متمظ ِهرِة يف الرواية العربية بشكل عام و اجلزائرية بشكل خاص‪ ،‬باعتبار‬
‫الدين مصدرا ثريا من املصادر الداعمة للنص األديب ألن القرآن الكرمي نص مقدس و جمسد لكل مظاهر احلياة‬
‫العامة و اخلاصة‪.‬‬

‫‪ -1‬سيزا قاسم‪ :‬بناء الرواية‪-‬دراسة مقارنة يف ثالثية جنيب حمفو ‪ ،‬مكتبة األسرة‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،7003 ،‬ص ‪. 191‬‬

‫‪30‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫لقد سجل النص الديين حضوره الدائم يف الرواية العربية املعاصرة‪ ،‬كما هو احلال يف رواية "يف كل قرب‬
‫حكاية" للجزائري "عبد الواحد هواري" ‪ ،‬الذي ذكر يف فصول روايته الطرق اخلسيسة اليت استغلتها اجلماعات‬
‫اإلرهابية امل سلحة للتأثري على الشعب اجلزائري بغية دعمه هلا و التفافه حوهلا‪ ،‬و كان هذا كنتيجة لالنكسار الذي‬
‫حطم حاجز التوافق بني السلطة و اجلماعات املسلحة‪ ،‬ولقد جنم عن هذا االنكسار اختالف اآلراء و‬
‫األيديولوجيا؛ فمن جهة كانت هناك سلطة يسعى جيشها إىل التحكم بزمام األمور‪ ،‬و حماولة حتقيق االستقرار يف‬
‫البالد متفادية بذلك التشدد االسالمي و إقحام الدين يف السياسة‪ ،‬و من جهة أخرى ظهرت اجلماعات املسلحة‬
‫اليت كان مهها الوحيد هو الوصول إىل السلطة و الرتبع على كرسي احلكم مع مطالبتها بتشكيل حكومة إسالمية‪،‬‬
‫لكنها اَتذت االسالم كذريعة التساع نفوذها و استقطاب اجلماهري الشعبية و كذلك مضاعفة عدد األصوات يف‬
‫االنتخابات لتحقيق الفرز‪ ،‬فاستغلت اجلماعات اإلسالموية ‪-‬اإلرهابية‪ -‬اإلسالم استغالال بشعا ال يت للدين‬
‫احلقيقي بأي صلة‪ ،‬و ذلك بتأويلها اآليات القرآنية حسب ما خيدم مصاحلها و ما يستميل نفس الشعب‬
‫اجلزائري‪ ،‬و لقد بلورت الرواية ذلك على لسان شخص "عمي العريب" إبان اعرتافه للنقيب "أسامة" عن قائد فرقة‬
‫اجلماعة املسلحة املسمى ب "املعلم األكرب" قائال‪ « :‬كان معلمهم يكلمهم عن أشياء حمددة يف االسالم‪ ،‬و يتع‬
‫رغباهتم اجلنسية بقصص يفرتيها عن الدين‪ ،‬يذكر ما خيدم مصاحلهم فقط و ي ؤول اآليات القرآنية على حسب‬
‫هواه »‪ .1‬مما دفع باألحداث لتغيري جمراها من صراع فكري يهدف إىل إقامة دولة إسالمية خمالفة للغرب‪ ،‬إىل صراع‬
‫سياسي متطرف يقوم على استخدام الدين كوسيلة مساعدة لتحقيق ما تصبوا إليه اجلماعة‪.‬‬

‫قامت اجلماعات اإلرهابية بتأويل النصوص القرآنية بشكل سطحي دون التوغل يف معانيها احلقيقية أو‬
‫التفتيش عن مقاصدها الشرعية احلقة‪ ،‬فأدت هذه التأويالت الشاذة إىل الفهم اخلاطئ للقرآن ما ساق العديد من‬
‫الناس إىل ممارسة الرذائل حتت اسم الدين كعمليات اختطاف النساء باعتبارهن سبايا‪ ،‬و االغتصاب حتت ما‬
‫يسمى االغتصاب اجلهادي‪ ...‬و غريها من املمارسات العنيفة و البشعة بتوجيهها للدين حنو منحى منحرف و‬
‫متطرف‪.‬‬

‫مبا أن األمية مست غالبية اجلزائريني يف تلك الفرتة فقد سهل خداعهم من طرف تلك اجلماعات‪ ،‬وقد برز‬
‫ذلك يف الرواية و يف العديد من احملطات منها‪ « :‬دخل املعلم خيمته و تبعه وزيره و ابتسامة ماكرة تعلو حمي يهما‪،‬‬
‫قاما بتنبيه اجلميع‪.‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.15‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫‪ -‬ال يدخل علينا أحد‪ ،‬و ال يزعجنا أي شخص‪.‬‬


‫ما أن جلس القائد حىت قام رجله الثاين حيدثه مبديا إعجابه بدهائه و حكمته‪.‬‬
‫‪ -‬مل أكن أعلم أنك هبذا العقل اخلبيث يا أبا يعقوب‪ ،‬كادت كذبتك املتقنة أن تنطلي علي‪.‬‬
‫‪ -‬دعك من التفاهة يا مصعب فال أحد يسمعنا‪ ،‬و اكتف مبنادايت يعقوب‪ ،‬فأنت أدرى الناس أن قصة‬
‫االبن تلك ليست إال قضية أراها عادلة لتحقيق ما نبتغي من مال و سلطة‪.‬‬
‫علت اجلو قهقهات الوزير و قال بسخرية‪:‬‬
‫‪ -‬الزلت أذكر كيفية روايتك لتلك القصة‪ ،‬و أن احلكومة قتلت ابنك بني أحضانك بوحشية‪...‬‬
‫‪ -‬إنك متساح حبق‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬إهنا قصة خيالية لكن أثرها بليغ على هؤالء احلمقى‪ ،‬فما اسهل خداعهم ! »‬
‫لقد صور هذا احلدث صورة الكذب و فضح مدى اخلبث الذي تضمره اجلماعات االسالموية‪ ،‬فاستعمال‬
‫كلمة يا أبا فالن عبارة عن سنة اتبعها الصحابة الكرام و قد استغلها القائد هنا لتكون نقطة ضعف تلني‬
‫قلوب باقي األفراد‪.‬‬

‫إىل جانب خبث و مكر اجلماعة ب رز جانب آخر و هو ممارستها لطرق الرتهيب و التخويف و الوعيد‬
‫لكل من حاول االنسحاب من صفوفها أو االمتناع عن طاعتها و خرق أوامرها‪ ،‬فجسد "عبد الواحد‬
‫هواري" هذه الطرق يف الرواية من خالل حماوالت "املعلم األكرب" استعطاف "عمي العريب" هبدف ضمه إىل‬
‫صفوف القيادة‪ ،‬و ما إن حاول هذا األخري الرفض و جتنب االذعان ألوامره حىت تلقى إجابة صادمة دبت‬
‫الرعب يف أوصاله حني أجابه ب ‪ « :‬إن فعلت ذلك كنت عدوا لنا‪ ،‬و يلزمنا القانون بنحر عنقك و رمي‬
‫جثتك للكالب كي تنهشها ألنك مبثابة مرتد و املرتد يقتل‪.‬‬
‫‪ -‬مرتد! كيف أكون كذلك و أنا مل أغري ديين ؟‬
‫زاد املعلم من حدة كالمه و مسح من شفتيه تلك االبتسامة اخلبيثة‪ ،‬و قال بلهجة احلزم و احلدة‪.‬‬
‫‪ -‬ها أنت جتادل يف دين اهلل‪ ،‬كفاك عنادا‪ ،‬سلم لنا نفسك تسلم من خناجرنا‪ .‬نرفع من شأنك و تصري‬
‫جنديا من جند اهلل‪ ،‬هذه آخر فرصة لك‪.‬‬
‫وضع أحد األوباش طرف السيف أسفل عنق العريب‪.‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص "‪.16_12‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫‪ -‬نعم ‪ ..‬نعم ‪ ..‬أنا معكم »‪ .1‬فمارس قادة اجلماعات طرق التخويف و الوعيد ليؤازرهم الشعب‪.‬‬

‫كشفت الرواية عن املكونات النفسية و الفكرية للشخصيات‪ ،‬فتجلت النفسية يف حالة الالوعي و البالدة‬
‫اليت اتسم هبا الشعب اجلزائري و استغلتها اجلماعات اإلرهابية‪ ،‬مصوبة سهامها جتاه فئة الشعب الضعيفة و األمية‬
‫و كذلك بعض املنحرفني‪ ،‬و قد رصدت الرواية بعض من التحق باجلبال و أسباب انضمامه للجماعات من‬
‫خالل‪ « :‬كنت سكريا أهيم يف الشوارع و أتسول األغنياء قدر ما أروي به عطشي من اخلمر املعتقة و مل يكن‬
‫أحد يعريين أمهية حىت مسعت هبذه احلركة اجلهادية »‪ 2‬اليت استدرجت املدمنني و أصحاب الثأر و غريهم‪...‬‬

‫أما التجلي الفكري فبلورته الرواية بوضوح تام من خالل ظن العديد من اجلزائريني أن هذه احلركة اجلهادية‬
‫تسري على خطى الدين احلق‪ ،‬و معارضها يعتربه االسالم مرتدا و كافرا بدين اهلل‪ ،‬و هذا سبب انضمامهم إىل‬
‫صفوفها لكن عندما اكتشف أحد أفراد احلركة حقيقة هذه اخلديعة و أزال اللثام عنها و أظهر احلقائق اخلفية‬
‫أصاب اجلميع الذهول يف حقيقة هذه احلركة‪ « ،‬فبعد أن كان يعتقد أهنم جمموعة من العلمانيني (أفراد اجليش)‬
‫الذين ال يفقهون يف الدين شيئا‪ ،‬ذهل إذ وجد نفسه غري واع بالدور الذي يؤديه »‪ 3‬فاكتشف أن اجلماعات‬
‫أضلتهم و أخفت عنهم احلقائق بعد ممارستها التعتيم الديين‪ ،‬و تربير أعماهلا الوحشية بطرق خسيسة‪.‬‬

‫بدأ نشاط التيار اإلسالمي باالزدياد‪ ،‬فانتشر العنف و التعسف بكل الطرق؛ التعذيب و القتل‪ ،...‬فرصد‬
‫الراوي مظاهر التعذيب و الظلم من خالل مشهد قوي يعكس الدموية و الوحشية اليت وصلت إليها اجلماعات‬
‫عندما عثرت على زوجني يف شاطئ البحر فاهتمتهما بالفاحشة و دون وجه حق‪ « .‬أنظروا إىل أهل الطاغوت و‬
‫الفسق إهنما حياربان ديننا احلنيف و يتحديانه‪ ،‬هلم بنا كي نستأصل حقارهتما‪...‬‬
‫‪ -‬أال َتجل من نفسك يا هذا ؟ أحتارب ِدين اهلل بارتكاب الفاحشة ؟‬
‫‪ -‬عن أي فاحشة تتحدث ؟ إهنا زوجيت‪...‬‬
‫‪ -‬يالك من كاذب‪ ،‬فاحشة الزنا و الكذب معا‪ ،‬ما أحقرك! هيا يا رجال فلنطبق الشرع عليهما‪ ،‬أمسكوا‬
‫هبما »‪.4‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.11‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.12‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.39‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.50_19‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫حاولت احلركات اجلهادية أن تظهر مبظهر إجيايب أمام اجملتمع فتبدو عفيفة خالية من الشوائب اليت نقلها‬
‫الغرب إىل اجلزائر‪ ،‬فسعت إىل االنسالخ من املظاهر الغربية و إزالة مبادئها من اجملتمع اجلزائري‪ ،‬كممارسة الضغط‬
‫على النساء و إجبارهن على ارتداء احلجاب‪ ،‬و كذا إطالة اللحي لذى الرجال‪ ...‬و غريها من املظاهر اخلارجية‬
‫السطحية اليت أفرغ باطنها و احتفظ باهليئة اخلارجية يف حماولة منها إىل إنقاذ اجملتمع اجلزائري من الكفر و الردة‬
‫‪-‬حسبهم‪ -‬فاعترب أعضاء اجلماعات املسلحة أنفسهم خمريين و من أفضل خلق اهلل بقوهلم‪ « :‬إننا فرسان اهلل‬
‫فوق األرض‪ ،‬نرفع راية الدين عاليا »‪ ،1‬وما رفعوا راية الدين بل شوهوه و أظهروه يف أبشع الصور للعامل‪ ،‬إىل أن‬
‫أصبح الغرب يربط بني اإلسالم و اإلرهاب معتربين إياه واحدا‪ « ،‬فكيف هلؤالء أن يسموا إسالميني ؟ ال واهلل إن‬
‫الدين بريء منهم و من أفعاهلم »‪ ،2‬و من خال هذه التساؤالت اليت طرحها الراوي برزت توجهاته و اهتماماته‬
‫مبيله إىل إظهار اإلسالم احلقيقي و الدفاع عنه من التشويه الذي طاله‪.‬‬

‫واصل اجلهاديون استغالهلم للدين فمارسوا سياسة غسيل الدماغ على اجلزائريني باسم الدين‪ ،‬فحطوا رحاهلم‬
‫يف املساجد و الزوايا و كذا الساحات العمومية‪ ،‬إضافة إىل خطبهم أيام اجلمعة الداعية إىل العنف و التطرف‬
‫كخطبة علي بلحاج حني قال أن املصدر الوحيد للحكم هو القرآن و إذا كان اختيار الشعب منافيا للشريعة‬
‫اإلسالمية فهذا كفر و إحلاد‪.‬‬

‫اعتلت اجلماعات املنابر يف وقت كانت فيه مقدسا حيتل الصدارة يف قلوب الناس ‪-‬فإقامة اخلطب مل تكن‬
‫مقتصرة على إمام املسجد فقط‪ ،‬فمن أراد ذلك ما عليه إال استشارة اإلمام‪ -‬فأقامت خطبا دينية هدفها األوحد‬
‫و الوحيد استعطاف الشعب و ضمه إىل صفوفها لتفوز باالنتخابات‪ ،‬فلم يكن مههم التوعية و النصح و ال‬
‫الدعوة إىل اإلسالم‪ .‬فما كان الراوي يغافل عن ذكر هذه النقطة احلساسة اليت لعبت دورا فعاال يف تضليل الناس و‬
‫انزياحهم عن الطريق الصحيح فيما خيص الدين‪ ،‬فجاهد "عبد الواحد هواري" إىل تعرية األهداف احلقيقية اليت‬
‫تسعى اجلماعات إىل حتقيقها من خالل اخلطاب الديين الذي أثبت فعاليته على املدنيني فطلب "املعلم األكرب"‬
‫من "مصعب" كتابة خطبة يعمي هبا بصرية اجلزائريني يف الساحات العمومية اليت اشتهرت هبذا النوع من اخلطب‪:‬‬
‫« أكتب يل خطبة أشجع هبا هؤالء‪ ،‬فأنت تدرك أن مستواي ضعيف يف خطاب كهذا‪ ،‬و ال تنسى أن تشدد‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.13‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.12‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫على الفكرة اليت مفادها أن ما نفعله هنا يقودهم حنو اجلنة دون حساب و عقاب ينالون فيها ما يشاؤون مما‬
‫يشتهون »‪ 1‬يف حماولة من القائد إىل استحواذ العقول‪.‬‬

‫مل يكتف اجلهاديون باالرتياد على املساجد و الزوايا‪ ،‬فأنشؤوا اجلمعيات اخلريية و فرق للكشافة اإلسالمية‪،‬‬
‫و أقاموا نشاطات ت وع ِوية تتزين باإلسالم إضافة إىل استعمال شعارات زائفة و مغرية مثل‪" :‬البلدية اإلسالمية" و‬
‫هو أول شعار رفعت رايته و غريها من الشعارات األخرى‪ .‬استهدفت اجلماعات الساحات العمومية لتوطيد‬
‫العالقة مع الشعب بالتواصل املباشر معه و مبختلف طبقاته خاصة الفقراء و املضطهدين‪ ،‬فتحول الصراع من تيار‬
‫فكري إىل تيار سياسي مستغال الدين أيا استغالل‪.‬‬

‫رغم القوة اليت استحوذت عليها اجلماعات املسلحة و سيطرهتا على العديد من القرى و األحياء إال أن‬
‫هناك بعض النقاط اليت هتاهبا و َتشى على نفسها منها كاإلعالميني‪ ،‬فبما أن اإلعالم كان الوسيلة األوىل اليت‬
‫تسعى إىل إنارة عقول الشعب و توعيته عرب نقل اإلخبار بدقة و موضوعية فبث هذا الوعي الذعر يف احلركات‬
‫اإلسالموية فأحست باخلطر‪ ،‬لذا كانت ردة فعلها قاسية دموية و وحشية بعدما سعت إىل القضاء على هذه الفئة‬
‫اإلعالمية املثقفة بأبشع الطرق‪ ،‬فاهتمتها بالعمالة لصاحل احلكومة و رمت عليها خمتلف التهم كالتكفري و الردة و‬
‫الكذب‪ ،‬لتكون هذه ا لتهم مربرا هلم على ممارساهتم الوحشية جتاه اإلعالميني و الصحفيني‪ ،‬و لقد جتلى ذلك يف‬
‫املنت الروائي من خالل‪ « :‬داخل مطعم الثكنة العسكرية و على صوت التلفاز الذي أعلن بدأ أخبار املساء‪ ،‬كان‬
‫اجلنود جالسني يربق من أعينهم شعاع التفاؤل على ما جاء فيها من أنباء جديدة قد تنقشع هبا سحابة احلرب‬
‫القذرة‪...،‬مل يتبق إال صوت املذيع الذي قام حيدث الناس ملدة قصرية حىت أجهش بالبكاء وسط البث‬
‫املباشر‪ ...‬معربا عن أمله الشديد باملصاب الذي حل بزميله يف األخبار و الذي وجد مذبوحا قرب منزله حبجة أنه‬
‫طاغوت »‪.2‬‬

‫بعد حتول الصراع الفكري إىل صراع أيديولوجي تأزمت األوضاع الداخلية للبالد‪ ،‬فوقف الشعب اجلزائري‬
‫حمتارا بني طريف الصراع‪ ،‬أيهما صادق ؟ و ما هي احلقيقة خلف هذا الصراع ؟ و لقد انبثقت هذه اإلشكالية من‬
‫خالل حماولة كل منهما رمي التهمة على األخرى‪ ،‬و رفضها و إقصائها وصوال إىل تشويهها‪ ،‬و تكفري كل واحدة‬
‫لألخرى‪ ،‬و لقد صور الراوي ذلك فيما يلي‪ « :‬لقد أومهونا أنكم تبغون اخلراب لبالدنا و تريدون أن ِحتلوا احلرام‪،‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.19‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.36‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫و أنكم ال تفقهون يف الدين إال قوالب مائعة »‪ 1‬و كذلك « ألبسوا األمر ثوب الدين و صارت كل فرقة منهم‬
‫تتهم األخرى بالكفر و َتتلق عنها شيئا غري متوافق مع اإلسالم »‪ 2‬متخفية خلف قناع املصلحة اخلاصة فيقول‬
‫"عبد الواحد هواري" يف روايته‪ « :‬صرت أدرك اآلن أهنا حرب مصاحل‪ ،‬ال هي علمانية و ال إسالمية »‪ ،3‬ومن‬
‫أبشع التجليات الدينية اليت سارت اجلماعات املسلحة على هنجها هي تعميمها فتوى القتل‪ ،‬فلم يسلم أحد من‬
‫اآلخر و ال األخ من أخيه‪.‬‬

‫كما ظهر البعد الديين يف الرواية من خالل استهالل الكاتب الرواية باحلديث عن والده الذي يوقظه بشكل‬
‫دائم ألداء صالة الصبح مناديا إياه "حي على الصالة" و مل يطأ التعب قلبه‪ ،‬و مل يضجر من إقامة أبرز شعائر‬
‫اإلسالم اليت أمر هبا اهلل و حث على االصطبار يف أدائها‪ ،‬فقال الراوي‪ « :‬ألكثر من عشرين سنة‪ ،‬بعد كل أذان‬
‫صبح يقرع باب غرفيت‪ ،‬يناديين هلم إىل الصالة‪ ،‬دون ملل أو كلل »‪ 4‬وكان هذا مظهرا من مظاهر العبادة و‬
‫التقرب إىل اهلل‪ ،‬و ما إن أبدى الراوي نوعا من االمتعاض و االستغراب من صرب والده عليه مع مداومته على‬
‫إيقاظه يوميا حىت تلقى إجابة مفادها‪ « :‬قال يل مرددا قوله تعاىل‪" :‬و أمر أهلك بِالصالةِ و اصطِرب علي ها"‪،‬‬
‫حينها كففت عن السؤال و رأيت مالمح العظمة يف مكامن السجود املشعة على جبهته »‪ ،5‬فحققت الرواية‬
‫استجماعا لآلليات احلضارية للمجتمع املسلم املتمسك بدينه أيا متسك‪ ،‬و أدائه شعائر اإلسالم حبذافريها و متثل‬
‫هذا يف تدريب األب أوالده على إقامة صالة الصبح يف وقتها‪ ،‬و مبا أن الرواية هي صورة للمجتمع فانعكاس‬
‫اجلانب الديين فيها أمر البد منه‪.‬‬

‫و من مظاهر العبادة اليت تعرضت هلا الرواية صالة اجلماعة اليت جتمع بني الناس يف مكان واحد و حتت‬
‫اسم دين واحد‪ ،‬ليجمعهم هذا اللقاء على حب اهلل و الرضوخ له‪ ،‬و يواصل "عبد الواحد هواري" جتسيد هذه‬
‫املظاهر يف روايته و الدعوة إىل التمسك بالصالة و هي أهم شعائر اإلسالم فيتغلب هبا الفرد على املرض و احلزن‬
‫و تزيل آثار الرعب اليت دبت يف أوصاله‪ « .‬مل أكن أهتم يوما بفكرة املرض‪ ...‬فكنت أضل ساهرا متضرعا إىل‬

‫‪- 1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.39‬‬


‫‪- 2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.12‬‬
‫‪- 3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.39‬‬
‫‪- 4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.01‬‬
‫‪- 5‬الرواية‪ ،‬ص ‪.01‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫اهلل‪ ...‬و ما إن يصبح الصباح حىت تستجاب دعويت و زيادة »‪ ،1‬و يواصل الراوي إبرازه جتليات الدين من خالل‬
‫مظاهر الصالة‪ ،‬باستحضار صورة صلوات خمتلفة كصالة اجلمعة و صالة اجلنازة و الفجر‪ ...‬إىل جانب تالوة‬
‫القرآن الكرمي فكانت "عبري" حيب مساع تالوة اللقرآن من زوجها فكثريا ما تطالبه بقراءة سورة الرمح ' ن ألن هذه‬
‫السورة أشعرهتا باألمان الداخلي الذي خيفف مهومها‪.‬‬

‫كما يشكل احلجاب أهم نقطة دينية تطرقت إليها الرواية كونه عمادا من أعمدة اإلسالم و حتمية ال بد‬
‫منها‪ ،‬و متحور ذلك مع شخصية "أمينة" حيث أظهرها الكاتب بلباس حمتشم مرتدية احلجاب « بلباس أسود‬
‫طويل الكمني ساتر جلسدها‪ ،‬و مخار أزرق مائل إىل السواد خيفي شعرها األسود الفاحم »‪.2‬‬

‫فقد حتقق يف الرواية بروز اخلطاب الديين ما يقود الناقد إىل التقاط مظاهر اإلسالم يف الرواية و انعكاس‬
‫ثقافته اإلسالمية من خالل النص و حترك الشخصيات يف متنها‪ ،‬فانعكست قوة اإليان و الصرب و الرضى بقضاء‬
‫و قدر اهلل الذي جسده كل من "عمي العريب" و "نذير" و "أمينة" و "عبري" حني كان إياهنم و متسكهم‬
‫باإلسالم أقوى من املصائب اليت أملت هبم‪.‬‬

‫لقد جسدت الرواية األزمة اجلزائرية بكل أبعادها و جتلياهتا و بكل واقعية و مصداقية‪ ،‬فطرحت‬
‫األيديولوجيات املتضاربة و املتناقضة‪ ،‬خطت الرواية بأسلوب مبدع تسيطر عليه الواقعية بكلمات فنية رمست‬
‫األعمال الوحشية اليت مارستها اجلماعات اإلسالمية على الشعب اجلزائري مستغلة يف ذلك الدين‪ ،‬كانت العشرية‬
‫السوداء عبارة عن سنوات مل يكن يعبد فيها اهلل حيث اختفت كل معامل اإلسالم‪ ،‬إرهاب إسالموي زرع بذوره يف‬
‫اجلزائر فانتشر الدمار و القتل و سفك وحشي للدماء حني انتهك حرمة الشعب؛ فاغتصب و دمر و قتل و حرم‬
‫اجلزائريني من حريتهم باسم الدين‪.‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.159‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.30‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫المبحث الثالث‪ :‬تجليات الواقع االجتماعي في الرواية‬

‫‪ 1‬ـ ـ ـ تجليات المرأة‪:‬‬

‫نالت املرأة نصيب وفريا من الدراسة و االهتمام من قبل النقاد و الدارسني و األدباء على حد سواء‪ ،‬و نظرا‬
‫للدور اهلام الذي تؤديه يف اجملتمع أصبحت املرأة قضية حساسة‪ ،‬و باعتبارها جزءا ال يتجزأ من اجملتمع فقد‬
‫أخذت على عاتقها مهمة التعبري عن قضاياها و آرائها و كذا نقل معاناهتا داخل اجملتمعات العربية و خاصة‬
‫اجلزائرية‪ ،‬بسبب الوضع املتشظي الذي مرت به اجلزائر يف مراحل زمنية خمتلفة‪ ،‬فربز صوت املرأة يف الرواية عرب‬
‫خمتلف امليادين ‪ :‬سياسية و ثقافية وحىت اجتماعية‪ ،‬مما أدى إىل جتلي انعكاس املرأة يف الرواية بشكل كبري مع عدد‬
‫من املبدعني اجلزائريني من مثل ‪" :‬أحالم مستغامني"‪" ،‬أمني زاوي" و "واسيين األعرج"‪ ...‬وغريهم‪.‬‬

‫لقد تطرق الروائيون اجلزائريون إىل إظهار الدور الذي لعبته املرأة اجلزائرية يف فرتات االستعمار و كذا‬
‫الصراعات السياسية؛ متمسكة مببادئها مدافعة عن قضيتها الوطنية و مقوماهتا االسالمية جنبا إىل جنب مع‬
‫الرجل‪ ،‬فكانت مقاتلة‪ ،‬حكيمة‪ ،‬مناضلة و مربية أجيال‪ ،‬فاستخدمت يف الرواية كرمز حيمل أيديولوجيا معينة‬
‫بصورة فنية إبداعية‪.‬‬

‫باإلضافة إىل الدور الفعال الذي لعبته املرأة يف اجملتمع فقد كانت املرأة اجلزائرية و كغريها من العديد من‬
‫النساء العربيات تعاين تسلط النزعة الذكورية و ما يعقبه من ظلم و قهر و قمع‪ ،‬من طرف األخ و األب و الزوج‬
‫وقد دأب هذا األخري بشكل خاص على ممارسة شىت أنواع الظلم عليها كالسب و الشتم و الضرب وحىت املوت‬
‫يف بعض األحيان‪ ،‬فكان العنف من قِب ِل الزوج ‪-‬حسب معتقداهتم‪ -‬إثباتا لرجولته يف األسرة و اجملتمع‪ ،‬فساقت‬
‫هذه املظاهر الكاتِب إىل إيراد أنواع عديدة من العنف املمارس على املرأة عرب روايته "يف كل قرب حكاية"‪ ،‬فكانت‬
‫شخصية األم "فاطنة" عينة واقعية‪ ،‬حيث رصدت الرواية صورة العنف الذي موِرس ضدها من طرف زوجها الذي‬
‫ك ان يضرهبا ضربا مربحا ملقيا عليها وابال من الشتائم اليت جترح كرامتها كامرأة‪ « ،‬اليت اهنال عليها والده بالضرب‬
‫و األذى‪ ،‬و السب و الشتم »‪ ،1‬فحملت هذه الشخصية صفات املقاومة و القوة و الفطنة و مل تدع اجملال‬
‫للممارسات اجلائرة أن تكون نقطة تضعفها‪.‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.10‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫لكن العنف األسري له امتدادات نفسية و جسدية على األوالد‪ ،‬و متحورت االثار اجلسدية يف "العريب"‬
‫حني حاول إنقاذ والدته من بني يدي والده املستبد فتلقى ضبة من هذا األخري تركت عينه مفقوءة‪ ،‬فيورد الراوي‬
‫ذلك يف‪ « :‬حني دافع عن أمه اليت اهنال عليها والده بالضرب واألذى‪ ...‬فلطمه ذات يوم و تركه ساقطا على‬
‫األرض يناجي والدته بأمل احتد عليه‪ ،‬و حني رفع رأسه تفاجأ بعينه مفقوءة بعد تلقيها ضربة بعصا خشبية‬
‫صلبة »‪ 1‬فكانت أعمال العنف داخل األسرة خطرية من مجيع النواحي خاصة عندما يتمركز الضرر األكرب يف‬
‫تلك الفئة اهلشة من األطفال اليت حتطمها األعمال اجلائرة‪.‬‬

‫تضاعفت اجلرائم ضد املرأة يف تسعينات القرن العشرين من طرف اجلماعات اإلرهابية املسلحة‪ ،‬حني‬
‫مارست أبشع اجلرائم يف حق النساء اجلزائريات دون اهتمام لسنهن و مكانتهن يف اجملتمع ‪-‬ابنة‪ ،‬زوجة‪ ،‬أم‪،-‬‬
‫فتعرضت املرأة للضرب و االهانة و االغتصاب و حىت القتل بطرق وحشية‪.‬‬
‫ولقد ظهرت هذه املمارسات يف الرواية مع األم "فاطنة" أيضا ‪-‬تعرضت للعنف األسري و اإلرهايب معا‪ -‬لتكون‬
‫هي األخرى عينة من قلب اجملتمع الواقعي‪ ،‬فعلى الرغم من كوهنا عجوزا مريضة طرحية الفراش ال تقوى على الدفاع‬
‫عن نفسها إال أن اجلماعات ببشاعتها مل تسمح هلا باملوت مرتاحة بل قامت مبعاملتها كاحليوانات ‪-‬أعزكم اهلل‪،-‬‬
‫حيث جرها أحدهم من شعرها فاخرتقت األرض حبجارهتا و أشواكها جسد العجوز النحيل‪ ،‬و ظهر ذلك يف‬
‫الرواية من خالل‪ ... « :‬العجوز فاطنة و هي حتتظر بعد أن سحق املرض قلبها‪ ،‬رغم ذلك‪ ،‬مل حين قلب أحد‬
‫من أولئك السفلة عليها ليرتكوها تنام يف مرقدها األخري بسالم بل جروها من شعرها كحيوان بري‪ ،‬و أسقطوها‬
‫أرضا‪ ،‬ال يدري أحد يف الكون ما ذنب تلك العجوز املسكينة »‪ ،2‬كانت هذه واحدة من أسوء مظاهر الظلم‬
‫اليت مارستها اجلماعات املسلحة‪ ،‬لكن هذه االعمال البشعة مل تضعف املرأة و مل ينل اخلوف من قوهتا بل زادها‬
‫عزية و اصرارا على جماهبة األعداء‪ ،‬فبعدما غرز أحد الطغاة السيف يف صدر العجوز رمته بكلمات قوية قوة‬
‫الرصاص هزت ثقته بنفسه‪ ،‬رفعت اصبعها إىل السماء قائلة‪ « :‬أنا سأموت عليها أما أنتم فتلتهبون بسببها‪.‬‬
‫‪-‬أشهد أن ال إله إال اهلل‪ ،‬و أشهد أن حممدا رسول اهلل‪ 3» -‬ما زاده غيظا و حقدا اذ كان وقع هذه الكلمات‬
‫على نفسه قويا‪ ،‬ما جيعلنا نالحظ أن الراوي حاول رصد جتليات املرأة خاصة يف دائرة الظلم و العنف اليت‬
‫أحاطت هبا غري غافل عن جوانب قوهتا يف مقاومة الظاملني و لو بكلمة َتدش مسامعهم أو موقف حيط من‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.10‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.16_12‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.16‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫كياهنم‪ ،‬اذ وقفت املرأة اجلزائرية شاخمة يف زمن كان يف الشموخ من شيم الرجال إال أهنا شاركته ذلك‪ ،‬فدافعت‬
‫عن شرفها حىت املوت‪.‬‬

‫انتقلت املرأة من شخصية ضعيفة تعاين تسلط اجملتمع الذكوري مبمارساته التعسفية إىل شخصية حماربة و‬
‫مكافحة و متمسكة مببادئها و مقوماهتا‪ ،‬فاملرأة « تعيش وضعا انتقاليًّا بني ذاهتا و بني وضعها و وضع آخر تتطلع‬
‫إليه و بني جمتمعها كما هو‪ ،‬فهي تعي هذا االنتقال و تتقصده و تكافح من أجله »‪ ،1‬وهذا االنتقال كان له‬
‫حضوره يف الرواية عندما حاول أحد أفراد احلركة اإلرهابية االعتداء على "خدجية" أمام مجيع سكان احلي إال أهنا‬
‫« وقفت صامدة ولطمته بيمناها مث بصقت على وجهه‪ ...‬شهر بندقيته يف وجهها لتهابه و تنصاع ألمره فلم‬
‫يزدها ذلك إال شجاعة و هيبة‪ ،‬مث أعادت البصق يف وجهه و ابتسامة االحتقار ترسم مبالحمها‪ ،‬تركته خائبا مقهورا‬
‫منهزما أمامها رغم أهنا كانت عزالء‪ ...‬ألقت الرعب فب قلبه لشجاعتها‪ ،‬و على صورة بشاشة وجهها سحب‬
‫الزناد لتستقر الرصاصة بني عينيها‪ ،‬فسقطت صريعة غالبة غري مغلوبة‪ ،‬ألن املوت أمام عدوك ال يعين اهنزامك‬
‫دائما‪ ،‬قد يكون انتصارا ساحقا لصاحلك‪ ،‬حني ال َتون مبادئك »‪ ،2‬فصور "عبد الواحد هواري" شخصية‬
‫"خدجية" كرمز للمرأ ة اجلزائرية العفيفة و اللبؤة اليت حتمي نفسها يف أصعب الظروف‪ ،‬كانت رمز للمرأة البطلة‬
‫الصامدة و الشجاعة‪ ،‬فما أثارت شجاعتها إال احلنق يف قلب املعتدي لذا قام بقتلها‪ ،‬و ما كان ذلك إال دليال‬
‫على أن "خدجية" زرعت الرعب يف قلبه‪ ،‬فكثريا ما كانت الكلمة أشد من القتل‪.‬‬
‫أوضح الراوي التحديات اليت واجهت املرأة يف هذه الفرتة الصعبة‪ ،‬إضافة إىل القوة اليت حتلت هبا فنجد املرأة يف‬
‫الرواية وقفت موقف الشجاعة و الصمود و التحدي يف مواجهة كل من حاول املساس بوطنها أوال و بكرامتها و‬
‫شرفها ثانيا‪.‬‬

‫كما سلط الكاتب الضوء على أبشع الصور اليت عاشتها املرأة اجلزائرية يف فرتة االرهاب حني تعرضت‬
‫لالغتصاب بنوعيه؛ الفردي و اجلماعي من قِبل اجلماعات اإلرهابية املسلحة اليت ارتكبت جرائم االغتصاب و‬
‫االسرتقاق و االستعباد اجلنسي يف املناطق اليت سيطرت عليها‪ ،‬حيث سعت هذه اجلماعات إىل طمس هوية‬
‫اجملتمع االسالمية احلقيقية باستعمال املرأة كآلة حرب‪ ،‬فكانت تقوم بعمليات اختطاف مجاعية للنساء و الفتيات‬
‫خالل قتاهلم من أجل بناء "الدولة االسالمية"‪.‬‬

‫‪ -1‬حمي الدين صبحي‪ :‬أبطال يف السريورة‪ ،‬دراسات يف الرواية العربية و املعربة‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،1960 ،1‬ص ‪.01‬‬
‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.19‬‬

‫‪30‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫يف الفرتة املمتدة ما بني ‪ 1991‬إىل ‪ 1992‬مت االبالغ رمسيا عن ‪ 1000‬حالة اغتصاب قامت هبا‬
‫اجلماعات فجعلت من النساء و الفتيات سبايا هلا لتشبع هبا رغبتها اجلنسية احليوانية فيما يسمى ب "االسرتقاق‬
‫اجلنسي" ‪ ،‬و بعد اشباع غرائزها تقوم بذبح النساء و ترميهم يف الغابات و الطرقات عاريات بعدما نكلت‬
‫بأجسادهن تنكيال بشعا‪.‬‬

‫كانت هذه االع تداءات اجلنسية من أقبح أشكال التعذيب اليت مارسها االرهابيون‪ ،‬امتدت أضرارها من املرأة‬
‫إىل أسرهتا اليت مست اجلماعات املسلحة إحدى مقدساهتا و طابوهاهتا‪ ،‬منتهكة بذلك أعراف اجملتمع اجلزائري يف‬
‫أعلى مستوياته‪ ،‬و هذا ما نلمحه يف الرواية ‪ « :‬مث رأى فرقة من األوغاد يتبادلون األدوار على املرأة و هي صامتة‬
‫ال جترؤ حىت على إطالق صرخة تزيح أملها »‪ ،1‬و كان هذا إقصاء حلرية املرأة بتعرضها هلذا النوع من العنف الذي‬
‫عاشته يف اجلبال مما جعل منها جسدا بال روح‪ ،‬فأصبحت تكبت مشاعرها و صرخاهتا مستسلمة لظلم الطغاة‬
‫بعدما اعتادت على ا لعنف من جهة‪ ،‬و خوفها إن أطلقت صرخاهتا فتتضاعف وترية االعتداء أو تتعرض للضرب‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬فقد دب الرعب قلوب النساء و أصبحن مكبالت يف جحيم اجلبال‪.‬‬

‫بينما هناك نساء مل يستسلمن للظلم يف اجلبال و حاولن الفرار من بني أيدي املعتدين؛ منهن من جنت و‬
‫حتررت من ق يود أولئك الوحوش‪ ،‬و منهن من أمسكوا هبا فتلقني أقسى أنواع العقاب كالضرب و االعتداء‬
‫اجلماعي‪ ،‬و هذا ما يعكسه هذا املقطع‪ « :‬قضيت سنة كاملة يف جبل عصفور‪ ،‬يعجز لساين عن وصف املظاهر‬
‫اليت رأيتها‪ ،‬كانت أمامي فرص كثرية للهرب لكن الفزع نال مين‪ ،‬سبقين إىل ذلك عدة أشخاص‪ ،‬منهم تلك الفتاة‬
‫املراهقة صاحبة السبع عشرة سنة‪ ،‬أمسكوها بعد أن طاردوها لساعات بكالهبم اهلائجة املتوحشة‪ ،‬وما إن‬
‫ضبطوها حىت صار كل واحد فيهم يغتصبها مرات و مرات و هي تصرخ بكل ما أوتيت من قوة‪ ،‬أما أحدهم فظل‬
‫ممسكا هبا و يقهقه كأنه يستمتع بعذاهبا‪ ،‬أي وحش يستطيع أن يفعل هذا ؟ »‪ 2‬و كانت هذه الفتاة الصغرية عينة‬
‫استمدها الراوي من اجملتمع سعيا منه لفضح وحشية اجلماعات املسلحة باالعتداءات اجلنسية كما ذكرا سابقا‪ ،‬و‬
‫االعتداءات اجلسدية أيضا حيث يقول الراوي يف هذا الصدد‪ « :‬حني أطلت عليه فتاة يف العشرينيات من عمرها‪،‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.11‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.13‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫بيدين عليهما كدماء زرقاء مائلة إىل السواد‪ ،‬و ثياب بالية رثة مقطعة من جوانبها »‪ ،1‬و نالحظ من خالل‬
‫الرواية أن معظم املختطفات أعمارهن صغرية جدا‪.‬‬

‫مل تقتصر االعتداءات اجلنسية ضد املرأة على اجلماعات االرهابية فقط بل امتدت جذورها إىل فئات أخرى‬
‫من اجملتمع‪ ،‬و ما كان رصد الكاتب هلذه الظاهرة إال عن وعي منه و كمحاولة لتسليط الضوء على معاناة النساء‬
‫داخل اجملتمع بسبب تسرب بعض أنواع الفساد األخالقي يف األفراد ‪-‬من الرجال‪ -‬و أيضا لضعف املرأة و قلة‬
‫قوهتا البدنية‪ .‬فمثلت "أمينة" هذه القضية عرب الرواية وقت تعرضها للتحرش اجلنسي من طرف رجل مغرتب ثري‬
‫تعمل يف منزله‪ ،‬يقول الراوي يف هذا الصدد ‪ « :‬صار الرجل يصول و جيول يف املنزل مفكرا يف طريقة أو سبب‬
‫جيعله يتجه حنوها‪ ،‬فاستجمع حقارته و صار يتأملها من ثقب باب الغرفة و هي جتفف الغسيل بعد أن تبللت‬
‫مالبسها قليال‪ ،‬بدأ بفتح الباب حبذر شديد و ظل يشي حنوها خبطوات بطيئة حىت وضح يده على كتفها‪،‬‬
‫صرخت صرة شديدة و تراجعت عدة خطوات إىل الوراء وهي تضم يديها إىل صدرها و الدهشة أخذت منها كل‬
‫مأخذ‪.‬‬
‫‪ -‬ال َتايف يا أمينة‪ ،‬ماهي إال حلظات قصرية ومتر‪ ،‬البد أنك الحظت أين أكن لك مشاعر قوية‪...‬‬
‫قامت أمينة تصرخ و تستنجد باجلريان حىت انقض عليها املغرتب و كمم فمها و صار حياول نزع حجاهبا عنها‪،‬‬
‫أراد أن جيردها من قميصها »‪.2‬‬
‫"أمينة" رمز للمرأة اجلزائرية املسلمة حيث سعت جاهدة للدفاع عن نفسها و حفظ شرفها‪ ،‬تعالت صيحاهتا طالبة‬
‫النجدة من اجلريان و ضربت املعتدي يف مكان حساس بغية اضعافه و الفرار من قبضته « قامت أمينة تصرخ و‬
‫‪3‬‬
‫تستنجد باجلريان‪ ، ...‬قاومت بشدة مث ضربته بني فخديه و دفعته حنو الدرج و فرت بسرعة الربق بثياب ممزقة »‬
‫و هذا يدل على أهنا امرأة شريفة ومقاومة‪ ،‬فكانت منوذج للمناضلة اليت تدافع عن نفسها‪.‬‬

‫‪ – 2‬الفقر‪:‬‬

‫كانت فرتة التسعينات من أصعب الفرتات اليت مرت على اجلزائريني بسبب األوضاع السياسية املرتدية و اليت‬
‫أدت إىل ظهور أزمات أخرى يف شىت اجملاالت؛ اقتصادية‪ ،‬ثقافية و اجتماعية‪ ،‬و كانت األوضاع االجتماعية مزرية‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.11‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.31‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.31‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫و عصيبة كان من مظاهرها انتشار الفقر و البؤس على نطاق واسع‪ ،‬و هذا ما ملسناه خالل قراءتنا لرواية "يف كل‬
‫قرب حكاية" و املقاطع اآلتية توضح ذلك ‪ « :‬كان يلبس عمامة صفراء مربقعة بنقاط بنية‪ ،‬نادرا ما كنت تفارقه‪،‬‬
‫يقي هبا نفسه من مطر الشتاء و يأخذ حيطته هبا من حرارة الصيف‪ ،‬ثيابه رثة بالية جتسد فيه مظهر البؤس و‬
‫الفقر »‪ 1‬و جند أيضا قوله‪ « :‬رجل طويل القامة عريض املنكبني‪ ،‬بشعر متجعد طويل و حلحية كثيفة‪ ،‬يلبس‬
‫سرواال مقطعا من جهته اليمىن‪ ،‬نصف عار بقميص ممزق ال يغطي من جسمه إال القليل »‪ 2‬فلم يكن الفرد‬
‫اجلزائري يعيش يف رخاء‪ ،‬بل كانت أوضاعه صعبة حيث احتل الفقر واقعه و مل جيد الناس ما يقيهم برد الشتاء و‬
‫ال ما حيميهم من املطر و الثلج إال أمور بسيطة كعمامة "العريب"‪ .‬حىت منازهلم كانت مهرتئة تضمهم إليها‬
‫بصعوبة‪ « :‬مل يكن لعمي العريب سوى أمه اليت كان يقامسها كوخا مبنيا بالطوب و األحجار و مغطى بالزنك‪،‬‬
‫بابه مهرتئ من خشب يسحب بسلك من حناس‪ ،‬حيوي غرفة واحدة‪ ،‬و حوشا صغريا ال سقف له‪ ،‬و خلف‬
‫الباب زريبته صغرية فيها عنزة و خروف صغري و كلب للحراسة‪ ...‬ذلك أن جل سكان القرية هربوا مستنجدين‬
‫حنو املدينة‪ ،‬و مل يبقى منهم سوى من تعسرت أحواهلم »‪ ،3‬باإلضافة إىل هذه الصورة اليت تظهر يف الرواية‪:‬‬
‫« كان هناك كوخ بأربعة جدران دون سطح يغطيه‪ ،‬مبين بالنجارة و الطوب و بابه من حديد صدأ مغلق بسلسلة‬
‫فالذية »‪ ، 4‬كذلك املنازل مل تكن مناسبة لعيش حياة هنيئة و مستقرة فاتصفت البيوت بالضيق و االهرتاء‪ ،‬أبواهبا‬
‫مل تكن لتحمي ساكنيها من قاطعي الطرق و ال وحوش الغابة‪ ،‬فوصف الراوي معانات الشعب خالل سنوات‬
‫اخلوف و الفقر و احلرمان فيقول‪« :‬جلسنا يف حوش املنزل الضيق فوق حصرية خشنة امللمس »‪« 5‬ومل ترتك هلم‬
‫إال البيت احلقري»‪.6‬‬

‫جتلت مظاهر الفقر يف الرواية عرب حقارة املنازل و ضيقها الشديد‪ ،‬و كذلك صغرها فينام مجيع أفراد األسرة‬
‫يف غرفة واحدة‪ ،‬باإلضافة إىل الثياب الرثة و البالية اليت كانوا حيتمون هبا فتقيهم من العري لكن ال حتميهم من برد‬
‫الشتاء و حرارة الصيف‪ ،‬كما مل جتد الكثري من العائالت لقمة تسد هبا جوعها و ال فتات خبز تسكت به جوع‬
‫أوالدها‪ « :‬كنت رجال معوزا فقريا ال أجد قوت يومي‪ ،‬و يل زوجة و أطفال مل يسعفين القدر كي أعيلهم‪،‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.10‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.71‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.17‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.79‬‬
‫‪ -5‬الرواية‪ ،‬ص ‪.16‬‬
‫‪ -6‬الرواية‪ ،‬ص ‪.31‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫فصراخهم ليال قطع أوتار قليب و مأل السأم فؤادي من البؤس الذي أعيشه‪ ،‬ككنا إن وجدنا غذاءنا اليوم فالعشاء‬
‫لقمة أخرى علينا البحث عنها »‪.1‬‬

‫دفع الفقر النسوة إىل اخلروج ملمارسة أي عمل كرمي جتدنه ليكون مصدر رزق تقتنت منه‪ ،‬فال تلجأن للتسول‬
‫و ال إىل األعمال الالأخالقية بل عملن بكرامة و عزة نفس‪ ،‬فيقول الكاتب يف هذا الصدد‪ « :‬ضاق احلال عليها‬
‫و صارت تعمل منظفة يف منازل أثرياء املدينة‪ ،‬أما أمها فكانت َتبز خبز "املطلوع" املعروف يف املدينة و تقتات‬
‫على نفقاته »‪.2‬‬
‫أما الرجال فقادهتم احلاجة إىل ممارسة األعمال الصعبة و لو كانت ذات دخل قليل‪ ،‬فنجد شخصية "العريب"‬
‫الذي كان « شغله مع األموات الذين ال يسمع منهم تذمرا و يسأهلم حاجة‪ ،‬فقد كان مهندسا لديارهم ااألخرية‪،‬‬
‫حيفر هلم قربا يناسبهم و يدعو هلم بالرمحة و النوم اهلينء‪ ،‬بأجر زهيد ينام ليال يف مقربة املدينة‪ ،‬و يبين يف الصباح‬
‫بيتا أو بيتني ملن جاءه زائرا‪ ،‬اَتذ من ذلك الثمن البخس مبلغا يعيل به ابنه الوحيد "زيدا" »‪ ،3‬فوظف الراوي‬
‫صورة واقعية ملا كان الشعب اجل زائري يعيشه يف ظل تلك الظروف الصعبة‪ ،‬و رسم معاناته من الفقر و البؤس‬
‫خالل تسعينات القرن املاضي بأسلوب فين ال خيلو من الواقعية‪ ،‬فقد زاوج "عبد الواحد هواري" بني الفنية و‬
‫الواقعية برباعة‪ ،‬لترتك الرواية أثرا بالغا يف نفوس القراء عرب نقله صورة جمتمعهم و واقع معيشتهم‪.‬‬

‫وردت يف الرواية العديد من املشاكل األخرى غري الفقر‪ ،‬لكن هذه املشاكل و اآلفات االجتماعية ما هي إال‬
‫امتداد له‪-‬للفقر‪ -‬و سنذكرها كاآليت ‪:‬‬

‫أ – البطالة‪:‬‬

‫جسد الروائي اجلزائري "عبد الواحد هواري" عرب عمله الفين "يف كل قرب حكاية" صورة عن جزائر‬
‫التسعينات‪ ،‬حيث بعض املالمح االجتماعية رامسا معانات الشعب خالل سنوات الرعب و اخلوف و الفقر مبي نا‬
‫املشاكل االجتماعية املنتشرة آنذاك‪ ،‬كالبطالة و اهلجرة و السرقة‪ ...‬و غريها‪.‬‬

‫انتشرت مشكلة البطالة داخل األوساط االجتماعية بسبب الصراع السياسي الذي أثر على توفري مناصب‬
‫العمل‪ ،‬ما أدى إىل نذرته و صعوبة احلصول عليه‪ ،‬حىت الطالب الذين َترجوا من جلامعات ظلوا عاطلني عن‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.66‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.37‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.10‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫العمل‪ ،‬فلم جت ِد شهاداهتم نفعا‪ ،‬و قد سلط الكاتب الضوء على هذا الوضع احلساس من خالل قوله‪َ « :‬ترجت‬
‫‪1‬‬
‫من اجلامعة و مل أجد وضيفة كي أعيل هبا نفسي‪ ،‬مزقت شهاديت‪»...‬‬

‫أعطى الكاتب صورة للعمال الذين وجدوا أنفسهم مفصولني عن العمل دون أسباب واضحة‪ ،‬مستعمال‬
‫تقنية احلوار و الذي دار بني "نذير" و "امليلود"‪ - « :‬أهال ولدي‪ ...‬كيف سيكون حالك إن استيقظت يوما و‬
‫وجدت نفسك يف الئحة املفصولني عن العمل من مكان قدمت له كل ما تستطيع ملدة ثالثني سنة »‪ - « 2‬ال‬
‫عليك يا بين فرزق اهلل واسع‪ ،‬فقدنا هذه لكن ستأيت أخرى بإذن اهلل‪.‬‬
‫يا إهلي لقد حتدث بضمري اجلمع ! قال‪ :‬فقدنا ! يا ريب لقد صرت عاطال‪ .‬قلت هذا خماطبا نفسي‪.‬‬
‫‪ -‬يا عمي أيعقل أين‪...‬‬
‫‪ -‬لألسف يا ولدي‪ ،‬مصريك كمصريي‪.‬‬
‫أطفأ امليلود سيجارته و طأطأ رأسه و ظل يشي مبحاذاة احلائط كي ال تضربه أشعة الشمس احلارقة فتحرق قلبه‬
‫أكثر مما هو عليه‪.‬‬
‫و ضعت كلتا يدي على رأسي و صرت أتأمل السماء و احلسرة بادية على وجهي‪ ،‬كنت يف أزمة حقيقية‪ ،‬فالدين‬
‫يالحق رقبيت منذ مدة و مل أستطع سداده مع عملي‪ ،‬فكيف بدونه‪ ،‬أين يكن أن أجد وظيفة خالل هذه‬
‫األوضاع املزرية»‪ 3‬ما أدى إىل تدهور احلالة النفسية للشعب و دخوله دائرة الفقر املدقع بعد ما القاه من استغالل‬
‫من قبل احلكومة اليت جلأت إىل جيوب املواطنني لسد العجز يف ميزانية الدولة‪ ،‬ما جعل أزمة البطالة تتضخم فنجم‬
‫عن ذلك مئات اآلالف من الشباب الفارق يف هذه األزمة دون أي مصدر دخل يعيل به نفسه و عائلته‪ ،‬ففي‬
‫سنة ‪ 1990‬كانت نسبة البطالة تبلغ ‪ %90‬لدى الشباب و هذا رقم جنوين‪ ،‬فحدث تراجع حاد يف األجور و‬
‫ارتفعت أسعار املواد الغذائية ارتفاعا مريعا‪ ،‬كما أن األسر اجلزائرية ال متلك قيمة شرائية عالية بل كانت ضعيفة‬
‫جدا بسبب الفقر الذي أحاط به‪ ،‬كما كان احلصول على عمل ضرب من املستحيل‪ ،‬و تتضح هذه املظاهر يف‬
‫الرواية من خالل ‪« :‬أربعة أيام مرت على حمنيت الشديدة‪ ،‬كل يوم أستيقض صباحا و أجته إىل موقف العمال لكن‬
‫دون جدوى‪ ،‬حىت األشغال الشاقة كانت حمجوزة ألصحاهبا »‪ ، 4‬فاجته الناس إىل البحث عن األعمال ذات‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.12‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.21‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.27‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.21‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫الدخل الضعيف جدا فيقول "نذير" يف ذلك‪ « :‬كنت أجته أحيانا إىل السوق األسبوعي و أمحل البضاعة الثقيلة‬
‫للنساء و العجائز‪ ،‬يدفعون يل لقاء تعيب تارة‪ ،‬و يكثرون يل من الدعاء تارة أخرى‪ ،‬لكن ذلك مل يكن كافيا‪ ،‬كان‬
‫‪1‬‬
‫هوسي بأن أجد عمل كل ما يشغل بايل‪ ،‬و الرقاد قد هجرين لعدة ليال‪ ،‬وهن جسمي و شحب وجهي‪»...‬‬

‫تضخمت أزمة الزواج بسبب ارتفاع نسبة البطالة يف صفوف الشباب‪ ،‬باإلضافة إىل ظهور أزمة سكن خانقة‬
‫جعلت اجلزائر صاحبة أكثر البيوت إكتضاضا يف العامل‪ ،‬فلم يتمكن الشباب من توفري مساكن مرحية‪ ،‬و أصبح‬
‫غري قادر على الزواج‪ ،‬يوضح الراوي ذلك بقوله‪ « :‬هبذا اخلرب أكون قد أعطيت كمية من الوقود بيدي حلمايت كي‬
‫تشعل النار يف جسدي‪ ،‬و قدمت هلا حجة كي ترفض خطبيت‪ .‬عاطل عن العمل‪ ،‬أهذا ما َترب هبا*جرياهنا‬
‫السائلني عن زوج ابنتها‪ ،‬حارت يب السبل و ضاقت يب األرض و انعدمت احليل أمامي‪ ...‬أي رجل هذا أمسيه‬
‫نفسي جيرؤ على طلب يد فتاة دون أن يكون قادرا على إعالتها »‪.2‬‬
‫فكانت مشكلة البطالة حاجزا يقف دون حتقيق احلياة الطبيعية للشباب‪ ،‬و يدفعهم للوقوع يف خطر اآلفات‬
‫االجتماعية اخلطرية‪ ،‬و منها التسول‪ « :‬كنت سكريا أهيم يف الشوارع أتسول األغنياء أن يعطوين قدر ما أروي به‬
‫عطشي »‪ 3‬و اهلجرة غري الشرعية عرب زوارق املوت و هذا املقطع دليل على ذلك‪ « :‬حني كان الناس يتدافعون‬
‫حنو قوارب املوت هربا من شبح خيطف أرواحهم ال يدرون كنهه »‪ 4‬علهم جيدون مبتغاهم يف الدول األوروبية‪.‬‬

‫ب – تهريب الوقود و تجارة المخدرات‪:‬‬

‫تطرق "عبد الواحد هواري" يف روايته ‪-‬يف كل قرب حكاية‪ -‬إىل املشاكل االقتصادية اليت أدت بدورها إىل‬
‫دخول اجلزائر يف أزمة خانقة ضيقت سبيل الرزق على اجلزائريني‪ ،‬الذين وجدوا أنفسهم مرغمني على انتهاج طرق‬
‫غري قانونية من أجل إعادة أهاليهم و حتقيق االستقرار املادي‪ ،‬و كانت ظاهرة التهريب من أكثر اآلفات‬
‫االجتماعية انتشارا‪ .‬بعد ما أغلقت مجيع الطرق يف وجه الشعب اجلزائري‪ ،‬اجته صنف منه جمربا إىل هتريب الوقود‬
‫عرب احلدود كحل أخري له حيميه من الفقر املدقع و التشرد‪ ،...‬كما حدث مع "نذير" فبعد فصله من عمله يف‬
‫أحد معامل احلكومة حبث مطوال عن عمل آخر يعيل به نفسه و يكنه من حتمل مصاريف الزواج‪ ،‬إال أن جهوده‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.21‬‬


‫* به‪.‬‬
‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.21_27‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.12‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.703‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫مل جت ِد نفعا‪ ،‬فدفعته احلاجة و الظروف اخلانقة إىل ممارسة هذا العمل غري الشرعي و اخلطري‪ ،‬و مل ا ضاقت به‬
‫السبل يقول‪ « :‬اجتهت صباح يوم من تلك األيام املظلمة إىل صديق يل يدعى‪ :‬مصطفى‪ ،‬كان مبثابة احلل األخري‬
‫يف الئحة خيارايت‪ ،‬ليس لعيب فيه فقد كان من أصدق األصحاب و أحسنهم‪ ،‬بل ألن عمله اخطري‪ ،‬كان يهرب‬
‫الوقود عرب احلدود ألهنا جتارة مرحبة جدا‪ ،‬و يف نفس الوقت جد خطرية‪ ،‬وسط الليل بصرامته و شدة ظالمه‬
‫مسايرين بذلك موعد خروج أوباش الغابة‪ ،‬و كانت الطرق حمفوفة باملخاطر و التهديدات‪ ،‬فقبل شهر من ذلك‬
‫الوقت عثر االرهابيون على أحد املهربني‪ ...‬و إلتقى هبم صدفة عند أحد الوديان لتجد احلكومة يف الصباح رأسه‬
‫مقطوعا و معلقا إىل غصن شجرة عالية »‪.1‬‬

‫عندما اَتد املهربون من الطرق الوعرة سبيال هلم‪ ،‬بعيدا عن أعني الشرطة وجدوا أنفسهم حماصرين من طرف‬
‫اجلماعات اإلرهابية املسلحة األكثر بطشا من احلكومة‪ ،‬فنكلت بأجساد املهربني تنكيال شنيعا‪ ،‬لذا فإن مهنة‬
‫التهريب آفة منبوذة من اجملتمع من جهة‪ ،‬و حمفوفة باملخاطر و الصعوبات من جهة أخرى‪ ،‬إال أن اجلزائريني‬
‫متسكوا هبا بسبب األموال الطائلة اليت ينالوهنا يف مقابل هذا العمل‪.‬‬

‫وصف الراوي العديد من اآلفات االجتماعية األخرى اليت سادت جمتمع جزائر التسعينات‪ ،‬كتهريب الوقود‬
‫كما ذكرنا سابقا إضافة إىل جتارة املخدرات‪ .‬و اليت تعد عمال غري شرعي من الناحية القانونية و الدينية‪ ،‬مع ذلك‬
‫سعت فئة من املنحرفني جاهدة على نشر هذا النوع من السموم يف اجملتمع خاصة يف صفوف الشباب‪ ،‬كما‬
‫قامت بتهريبه عرب احلدود مبساعدة من بعض أفراد احلكومة‪ ،‬و كانت اجلزائر يف هذه اآلونة من أكثر البلدان جتارة‬
‫باملخدرات ‪-‬فاتساع مساحتها و تنوع مناخها جعل منها تربة خصبة لزراعة احلشيش‪ ،-‬و كلما سعى اجليش‬
‫اجلزائري إىل إحباط التجار كلما زاد إصرارهم على متابعة عملهم‪ ،‬و يوضح هذا املقطع ذلك‪ « :‬األحوال يف‬
‫احلدود ليست على ما يرام‪ ،‬لقد أمسكنا يوم أمس جمموعة من مهريب احلشيش و أمرنا الضابط أن نضاعف‬
‫احلراسة‪ ...‬سنخصص يوما من أيام األسبوع القادم حني تكون احلراسة خفيفة على احلدود‪ ،‬و نستغل اجملازر اليت‬
‫يرتكبها األوباش يف الغابة كي نصرف نظر احلكومة »‪ ،2‬كما ساعد املهربني أيضا بعض اخلونة يف احلكومة و أفراد‬
‫اجليش‪ ،‬و ظهر ذلك يف صفحات الرواية‪ « :‬و هاهو صديقي من حرس احلدود يأتينا بكل املعلومات مقابل سعر‬
‫خاص‪ ،‬و قد سبق و أن اتصلت باملوزع الذي أخربين أن الطرد جاهز »‪ 3‬و قوله أيضا‪ « :‬ستقوم أنت (و يشري‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.23_21‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.52_55‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.52‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫إىل الرجل الثاين) بالدخول عرب احلدود إىل اجلانب اآلخر‪ ،‬تستلم الطرد يف مركبة جمهزة‪( ،‬بدون أوراق التسجيل أو‬
‫أي شيء من هذا القبيل)‪ ،‬حتمل البضاعة و متر عرب املخرج الذي حترسه عناصر اجلمارك‪ ...‬و ما إن تصل غلى‬
‫هناك حىت يأيت دور صديقي ذو رتبة عالية من احلكومة‪ ،‬هذا سأمر فرقة من الدرك بنقلها إىل العاصمة دون أن‬
‫يكون لديهم أدىن فكرة عما حيملون‪ ،‬و يكون سعر الربح مناصفة بيننا »‪.1‬‬

‫سلط "عبد الواحد هواري" الضوء على جانب مظلم آخر من واقع اجلزائريني أال وهو االدمان على شرب‬
‫اخلمر‪ ،‬و الذي كان منتشرا يف اجلماعات اإلرهابية أكثر من غريها‪ ،‬فقد سعت جاهدة إىل جعل أعضائها مدمنني‬
‫باستعمال القوة‪ ،‬و إرغامهم على شربه هبدف تغييب عقوهلم ليكون إرتكاب اجلرائم سهال عليهم‪ « :‬قد مترد‬
‫عليهم الكثري من الشباب الذين مل يستطيعوا القتل لكنهم أرغموهم على إدمان نوع من املخدرات حىت صاروا ال‬
‫خيافون شيئا »‪ 2‬إضافة إىل قوله‪ « :‬أخضعوين لكل أنواع االختبارات و أرغموين على تعاطي املخدرات و شرب‬
‫اخلمر كي يسرقوا وعيي و يقتلوا ضمريي »‪ 3‬فإىل جانب اجلرائم انتشر تعاطي املخدرات و إدمان الكحول يف‬
‫صفوف اجلماعات املسلحة‪.‬‬

‫فيتبني لنا من خالل ما سبق أن اجملتمع اجلزائري عاش مأساة حقيقية إبان العشرية السوداء أدت إىل اهنيار‬
‫القيم األخالقية حيث انتشرت اآلفات االجتماعية‪ ،‬املخدرات و عمليات التهريب ‪-‬املخدرات و الوقود‪ -‬و‬
‫االدمان على املشروبات الكحولية‪...‬‬

‫ج – األزمة االقتصادية‪:‬‬

‫تفاعلت الرواية مع األزمة االقتصادية اخلانقة اليت أصابت اجلزائر نتيجة ظاهرة اإلرهاب‪ ،‬حيث دخلت‬
‫اجلزائر دوامة من العجز االقتصادي و تأزم الوضعية املالية للمؤسسات احلكومية بسبب القوانني املفروضة على‬
‫األسعار‪ ،‬إضافة إىل تسريح آالف العمال‪ ،‬و ظهر ذلك يف الرواية من خالل قول املبدع ‪ « ،‬كنت أعمل موضفا‬
‫يف معمل الذرة الذي متلكه احلكومة‪ ،‬مل تكن األوضاع مبشرة باخلري‪ .‬يف الشهر املاضي سرح أكثر من عشرين‬
‫عامال حبجة الضائقة املالية اليت متر هبا البالد‪ ...‬هذه الثورة العارمة‪ ،‬فاألوضاع يف البالد تشري إىل اخلطوط احلمراء‪،‬‬

‫‪ - 1‬الرواية ‪ ،‬ص ‪.56_52‬‬


‫‪ - 2‬الرواية ‪ ،‬ص ‪.12‬‬
‫‪ - 3‬الرواية ‪ ،‬ص ‪.16‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫ذلك الصراع بني األحزاب صار يلتهم كل شيء‪ ،‬إال صانعي املشاكل أنفسهم »‪ ،1‬فقد تناول الراوي هذه‬
‫التحوالت االجتماعية مستعينا بتقنيات سردية متباينة و متعددة‪ ،‬كاحلوار الذي دار بني "نذير" و "امليلود" فيما‬
‫خيص قضية تسريح العمال من املعامل احلكومية‪ ،‬و فقداهنما عملهما بعدما قدما كل ما يكن من أجل التمسك‬
‫به‪ ،‬و كذلك استعماله تقنية السرد‪ ،‬بسرده األوضاع اليت آلت إليها اجلزائر إبان العشرية السوداء‪ ،‬فاستعان الراوي‬
‫بالعديد من التقنيات السردية حماوال االقرتاب من املشاكل االجتماعية و االقتصادية للبالد‪.‬‬

‫وقف "عبد الواحد هواري" عند قضايا الفساد السياسي و االقتصادي اليت اجتاحت اجلزائر‪ ،‬و تدهور هذا‬
‫األخري بشكل ملحو مع مرور الزمن‪ ،‬و جتسد ذلك عرب صفحات الرواية‪ « :‬مع مرور األشهر‪ ،‬زاد احلد عن ما‬
‫كان عليه من قبل‪ ،‬صار العمل بأجر أقل من السابق »‪ .2‬كانت ظاهرة اإلرهاب هي السبب يف عدم استقرار‬
‫اقتصاد البالد و ارتفاع املديونية‪ ،‬ما أدى إىل ظهور بعض املمارسات غري األخالقية يف اجملال التجاري‪ ،‬كاحتكار‬
‫السلع‪ ،‬السرقة‪ ،‬النهب‪ ،‬االستغالل و كذا غالء األسعار‪ ،‬و هذا دليل على أن اجلزائر كانت متر بأزمة اقتصادية‬
‫كبرية يف التسعينات و اليت تركت أثرا بالغا يف اجملتمع متسببة بارتفاع نسبة البطالة‪ ،‬و انتشار الفقر إىل جانب‬
‫آفات اجتماعية خطرية‪.‬‬

‫د – األمية‪:‬‬

‫تعد األمية أحد أثر املشاكل االجتماعية خطورة على خمتلف امليادين‪ ،‬سواء االجتماعية‪ ،‬و السياسية و‬
‫االقتصادية للبالد‪ ،‬إذ شهدت اجلزائر ارتفاعا كبريا لنسبة األمية أثناء العشرية السوداء‪ ،‬و يعود هذا االرتفاع اخلطري‬
‫إىل الظروف الثقافية لألسر اجلزائرية؛ خاصة و أن اآلباء كانوا ال يهتمون بتعليم أبنائهم و بناهتم‪ ،‬بالتحديد يف‬
‫املناطق الريفية اليت تسيطر عليها السلطة األبوية ‪-‬الذكورية‪ ،-‬و كذلك معاناة املرأة من العنف األسري املسلط من‬
‫طرف الرجل‪ ،‬إضا فة إىل عدم اعرتاف اجملتمع حبقها يف التعليم‪ ،‬و كان الزواج املبكر للفتيات عامال أساسيا يف‬
‫انتشار األمية؛ حيث ح ِ‬
‫صر عمل املرأة يف البيت فقط مما أدى إىل كسر الرابط بينها و بني التعليم‪.‬‬

‫أما بالنسبة للذكور فقد حرمهم العمل من التعلم نتيجة الفقر الذي طغى على اجملتمع اجلزائري فرتة‬
‫التسعينات‪ ،‬فأدى هذا إىل ضعف عدد الدارسني الذكور‪ ،‬و قد تطرقت الرواية اجلزائرية الواقعية إىل جل هذه‬
‫األسباب و املظاهر االجتماعية اليت سامهت يف توسيع نطاق األمية‪ ،‬ليتطرق السارد إىل إحدى شخصياته‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.31‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.37‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫‪ -‬العريب‪ -‬الذي كان حمبًّا للفقراء و الكتابة لكن الظروف االجتماعية كالفقر منعته من ارتياد املدرسة‪ ،‬يقول‪« :‬‬
‫حرمه الشقاء من التعلم يف صغره‪ ،‬كنت أجده يرتمن بنغمة تقلب الصفحات و يسبح يف فضاء ذكريات ال‬
‫متوت»‪ ،1‬فعكس الكاتب الواقع االجتماعي عرب صفحات روايته يف قالب فين مجايل ليطرح هذه القضية بأسلوب‬
‫جيذب القارئ فيتفاعل هذا األخري مع النص و يسقطه على واقعه‪.‬‬

‫كما أن مدخول األسر اجلزائرية الضئيل ال يسمح لألوالد بارتياد املدارس و ال حتمل نفقاهتا‪ ،‬ألن األوساط‬
‫الفقرية عانت التهميش‪ ،‬إضافة إىل خوف األسر من بطش اجلماعات اإلرهابية على أبنائها إن هم خرجوا من‬
‫منازهلم‪ ،‬خاصة يف املناطق الريفية اليت تقع حتت سيطرهتا‪ ،‬و كذا بعد املدارس عن األرياف‪.‬‬

‫تعرض األميون إىل االستغالل بسبب جهلهم و عجزهم عن القراءة و الكتابة كما عرضته الرواية بواسطة‬
‫شخصية "العريب" الذي استغلت زوجته جهله جاعلة إياه يوقع على أوراق حتول كل ممتلكاته و أمواله بامسها‪،‬‬
‫بعدما وجهت له إهانة كبرية حني خاطبته ب ‪ ...- « :‬أيها األمي »‪ 2‬تاركة خلفها رسالة تقول‪ « :‬لقد رحلت و‬
‫معي كل األموال‪ ،‬مل تعد يل رغبة فيك‪ ،‬ضيعت معك أمجل سنوات شبايب‪ ،‬البيت هذا و املنزل الريفي و املعمل‬
‫كلها على امسي و سبق لك أن أمضيت على أوراق امللكية »‪ 3‬فقد كانت‪ « :‬تناديه أن أمضؤ أسفل الورق فيفعل‬
‫دون حول و ال قوة »‪ 4‬ألنه كان يظن أن األوراق خاصة بالعمل‪ .‬لقد تعرض "العريب" للعديد من االستغالالت‬
‫و االهانات اليت مست كرامته جراء جهله‪ ،‬و من املواقف اليت تعرض إليها جند‪ « :‬صار العريب يقلب امللف يينا و‬
‫مشاال مث فتتحه فوجده عبارة عن سطر مكتوب بلغة احلروف و األرقام‪ ،‬مل يفهم منه شيئا‪ ،‬مث هرول مسرعا باجتاه‬
‫السيد الصامت حىت أدركه و قد أهنكه التعب من شدة اجلري‪.‬‬
‫ما هذا ؟ أال تدرك أين ال أجيد القراءة و الكتابة ؟ »‪ ،5‬فقد أعطى الكاتب صورة عن هذه الفئة املهمشة‪ ،‬و اليت‬
‫ساهم الصراع السياسي يف تضخمها‪ ،‬كما تطرق إىل بعض أسباب انتشارها‪ ،‬و ذكر العديد من الصعوبات اليت‬
‫تواجهها‪.‬‬

‫‪ - 1‬الرواية ‪ ،‬ص ‪.16‬‬


‫‪ - 2‬الرواية ‪ ،‬ص ‪.130‬‬
‫‪ - 3‬الرواية ‪ ،‬ص ‪.131_133‬‬
‫‪ - 4‬الرواية ‪ ،‬ص ‪.112‬‬
‫‪ - 5‬الرواية ‪ ،‬ص ‪.91‬‬

‫‪30‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫كما أن "عبد الواحد هواري" سلط الضوء على املثقف اجلزائري الذي سعى إىل القضاء على األمية ولو كان‬
‫ذلك داخل السجن‪ ،‬فلم ينع السجن "نذير" من تعليم "اهلواري" ذلك الرجل األمي الذي مل يدخل املدرسة قط‪،‬‬
‫فأصبح جييد القراءة و الكتابة‪ ،‬ليقول الراوي يف هذا الصدر‪ « :‬أما اهلواري فضل يعتربين معلمه اخلاص‪ ،‬درسته‬
‫اللغة و الكتابة و قواعد االمالء‪ ،‬مماجعلة سعيد فرحا ممتنا كل االمتنان‪ ،‬فقد عاش حياته يتيما بعيدا عن مقاعد‬
‫التعليم ال جيد عونا و ال سندا و مل يسبق له أن ارتاد مدرسة يف حياته »‪ « ،1‬صارت األيام اليت جتمعنا حنن‬
‫الثالثة خمصصة لتلقي العلم و املعرفة و االحبار يف أعماق الفكر‪ ،‬و الرتمن بتشويق الروايات اجلميلة‪ ،‬و جتاوز‬
‫اهلواري كل عقده و صار طليق اللسان يف قراءته للنصوص‪ ،‬و كان ممتنا ملا فعلته معه كأين منحته تذكرة للجنة‪،‬‬
‫وما قدمت له سوى واجب فرض علي بصفيت إنسانا عاقال »‪.2‬‬

‫ه – االستغالل و النهب و السرقة‪:‬‬

‫مع انتشار اآلفات االجتماعية يف االوساط اجلزائرية يف مرحلة التسعينات؛ كاالغتصاب و تعاطي املخدرات‬
‫و إدمان الكحول‪ ،...‬و تفشي املظاهر املزرية؛ كالفقر و البطالة استغلت اجلماعات اإلرهابية الفرصة و قامت‬
‫بنهب ممتلكات سكان القرى و األحياء‪ ،‬و استولت على مواشيهم حتت التهديد و زرع اخلوف و الرعب يف‬
‫أوساطهم‪ ،‬ففي أحد األيام حطت جمموعة من أعضاء اإلرهابيني يف إحدى قرى "تلمسان"‪ ،‬و قامت بتهديد‬
‫املواطنني و بث اخلوف يف قلوهبم‪ ،‬حيث جاء على لسان شيخ القرية‪ - « :‬ليلة أمس جاءين مجع من الرجال‬
‫قاطين جبل عصفور هذا الذي حييط بنا‪ ،‬مدججني باألسلحة و اخلناجر‪ ،‬ملثمني يربق من أعينهم دم أمحر كحمم‬
‫الرباكني‪ ،‬توىل قائدهم احلديث فيما انطلق اآلخرون يفتشون حظرية املاعز و األبقار و خم الدجاج‪ ،‬قال بلهجة‬
‫صارمة ال أثر فيها للمزاح أو التهاون مطلقا من فمه شرارات البصق اليت التصقت بلحيته الكثيفة‪ ،‬مرددا على‬
‫شفتيه ما سأقوله باحلرف الواحد‪.‬‬
‫‪ -‬يا أهل قرية بين بوسعيد حنن محاة جبلكم هذا‪ ،‬و حاملوا لواء دينكم و ديننا ااحلنيف من بطش الطغاة و‬
‫احلكام املفسدين‪ ،‬و هلذا آمركم بدفع ما يرتتب عليكم جراء تكلفنا حبمايتكم‪ ،‬إن مزارع هذه القرية غنية‬
‫تسر الناظرين فشاركونا إياها‪ ،‬و من يتخلف منكم عن دفع ما يرتتب عليه‪ ،‬فهذا اخلنجر يف يدي اليمىن‬

‫‪ - 1‬الرواية ‪ ،‬ص ‪.101‬‬


‫‪ - 2‬الرواية ‪ ،‬ص ‪.110‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫يستقر يف حنجرته و يصلب رفقة عائلته كلها‪ ،‬فمن ليس منا‪ ،‬عدو لنا‪ ،‬و من حيتم بالطواغيت الفاسدين‬
‫يلق حتفه بأيدينا‪...‬‬
‫وانصرف حبذر شديد‪ ،‬محل أصدقاؤه عنزة و بضع دجاجات دوا أي سابق إنذار »‪.1‬‬

‫سلط الكاتب الضوء على آفة السرقة أيضا‪ ،‬و اليت اكتسحت األوساط االجتماعية اجلزائرية آنذاك عرب‬
‫شخصيته "آمال" اليت سرقت كل ممتلكات زوجها هبدف االنتقام منه عما فعله مع صديقتها "عبري"‪.‬‬

‫و – الطبقية‪:‬‬

‫يصف "عبد الواحد هواري" األوضاع االجتماعية املزرية جلزائر التسعينات‪ ،‬مع ذكر ظهور التفاوت الطبقي؛‬
‫إذ تربز الطبقة الربجوازية و احنالهلا األخالقي من خالل شخصية "حممود" الثري و الذي يارس مهنة ال أخالقية‬
‫أال و هي جتارة املخدرات عرب احلدود اجلزائرية ال ٍ‬
‫مبال بالعواقب‪ ،‬كما عرف بإدمانه على اخلمر‪ ،‬و برز ذلك يف‬
‫الرواية حني‪ « :‬اجتمع حممود رفقة جمموعة من أصدقائه األغنياء املشردين‪ ،‬كانوا داخل مستودع خارج مناطق‬
‫احلضر ال حتده سوى األراضي الواسعة و إسطبالت املاشية‪ ،‬انظم إليهم و يف يده زجاجة مخر من نوع‬
‫"‪ ،"Pernord Ricard‬فصار يتبادل الرشفات مع أحبائه‪ ...‬كانت ثياهبم باهظة الثمن فريدة الطراز‪ ،‬و أما‬
‫عقوهلم فكانت عقيمة »‪.2‬‬

‫يف فرتة التسعينات انتشر االحنالل اخللقي وسط العائالت الثرية انتشار النار يف اهلشيم‪ ،‬لقد فضحت الرواية‬
‫ذلك من خالل الرجل الغريب الثري الذي كانت تعمل "أمينة" يف بيته‪ ،‬حيث حاول يف أحد األيام االعتداء‬
‫عليها يف غياب زوجته‪ « :‬قامت أمينة تصرخ و تستنجد باجلريان حىت انقض عليها املغرتب و كمم فمها‪ ،‬و صار‬
‫حياول نزع حجاهبا عنها‪ ،‬أراد أن جيردها من قميصها »‪.3‬‬

‫وظفت الرواية مظاهر متعددة و خمتلفة لالحنالل اخللقي لدى األغنياء ‪-‬الطبقة الربجوازية‪ -‬بأساليب فنية‬
‫مجالية تعكس واقعية جمتمع التسعينات اجلزائري‪ ،‬و حتقق ذلك من خالل محاة "أمينة" اليت تنحدر من عائلة‬
‫األثرياء لكنها ال تتصف بأي أخالق نبيلة‪ ،‬و هذا ما نلمحه يف الرواية حني‪ « :‬دخلت احلماة بيت عروستها‪،‬‬
‫وجلت و مالمح وجهها عابسة قانطة‪ ،‬مل ِ‬
‫تلق حتية و مل تتأدب بأخالق الضيافة‪ ،‬أول ما خطت خطوة داخل‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.72_75‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.136_132‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.31‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫املنزل انطلقت بلسان وقح و قبيح‪ ،‬رددت كلمات قاسية مسيئة لزوجة ابنها‪ ،‬شبهتها بالصبيات الصغريات اللوايت‬
‫ال حيسن فعل شيء مفيد‪ ،‬زادت عن حدها و وصفتها باملتقاعسة إزاء زوجها‪ ،‬عريهتا بعقمها و فقرها‪ ،‬ذكرهتا أهنا‬
‫كانت سببا يف إخراجها من فاقة احلرمان و العوز »‪ 1‬فرمت العجوز "أمينة" بوابل من الشتائم و التنابز باأللقاب‬
‫اليت تسيء لزوجة ابنها مصنفة إياها مع الفقراء املتشردين‪.‬‬

‫ز – ظاهرة العنف‪:‬‬

‫جتلى يف الرواية الصراع السياسي الذي طغى على اجلزائر إبان العشرية السوداء؛ حني ظهرت التعددية احلزبية‬
‫اليت أدت إىل قيام صراع سياسي بني تلك األحزاب فأصبح كل طرف حياول فرض وجوده‪ ،‬و يسعى إىل‬
‫استقطاب اجلماهري الشعبية إىل صفه‪ ،‬فاختلفت الطرق يف ذلك‪ ،‬لكن مع مرور الوقت اَتذت منعرجا خطريا‪،‬‬
‫حيث أصبح العنف هو الطريق الذي انتهجته أطراف الصراع‪ ،‬و بطبيعة احلال كان الشعب اجلزائري هو املتضرر‬
‫األكرب‪ ،‬و مل يعرف سبيل النجاة من هول املصائب اليت الحقته بسبب تلك النزاعات على السلطة‪ ،‬فغرق املواطن‬
‫اجلزائري يف دوامة من العنف الوحشي الذي مل يفرق بني رجل أو امرأة‪ ،‬وال شيخ أو صغري‪ ،‬و هذا ما حملناه يف كل‬
‫فصول الرواية‪ ،‬حيث يصف "عبد الواحد هواري" الدموية اليت خلفها الصراع السياسي بطريقة مؤملة حترك مشاعر‬
‫القارئ‪ ،‬و يذهب إىل املقارنة بني جزائر اليوم اآلمنة و جزائر التسعينات املؤملة‪ ،‬فيقول‪ « :‬اليوم صار الصباح حلما‬
‫مجيال ممزوجا برائحة الورد و عبري اليامسني‪ ،‬لكنه كان كابوسا مظلما حقريا مكتوبا بصراخ األطفال و النساء‪ ،‬و‬
‫مرسوما بدم األبرياء »‪ 2‬و يضيف قائال‪ « :‬اليوم يطري الطائر عاليا مغردا مبتهجا يرتمن بتغريده العاشق‪ ،‬و يكتب‬
‫الشاعر قصيدته على رقة صوته‪ ،‬و يرسم الفنان لوحة جلمال و تناسق ألوانه‪ .‬أما أمس‪ ،‬فكان الطائر أبكم خمتبئا‬
‫يف عشه ال جيد رشفة ماء إال بقعا بقعا من الدماء يرتوي هبا‪ ،‬أو سربا من الغربان حتوم يف السماء حبثا عن جثة‬
‫تتخذها مرتعا لسواد مناقريها »‪ .3‬و ال يقف الراوي عند هذه الصور البائسة بل يكمل وصفه لسوداوية اجلزائر يف‬
‫التسعينات فيقول‪ ... « :‬أما البارحة‪ ،‬فكان الليل القامت عاريا صارما‪ ،‬جيفل فيه الرجل الشجاع‪ ،‬و تبكي فيه‬
‫النسوة معانقات بناهتن و أوالدهن‪ ،‬خشية أن يكون آخر ليل يضمهم حتت غطاء حضن واحد‪ ،‬حىت القمر كان‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.111‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.11‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫ضوؤه أمحر كمرآة تعكس لون الدم فوق األرض‪ ،‬كان إذا حل الليل بظالمه الفاحم‪ ،‬و صمته العميق‪ ،‬ال يسمع‬
‫حسيس سوى رعشة و ارجتاف اخلائفني املرتعبني الذين مأل الذعر قلوهبم »‪.1‬‬
‫ٌ‬ ‫صوت و ال‬
‫صور الراوي عري متنه الروائي العنف و الظلم الذي عاىن منه اجلزائريون خالل العشرية السوداء و ما طال البلد من‬
‫قتل و ترهيب و تدمري جبميع مستوياته‪ ،‬فيالمس "عبد الواحد هواري" مجيع جوانب احلياة اليت سادت اجلزائر يف‬
‫تسعينات القرن املاضي يف حماولة منه ملقارنتها جبزائر القرن الواحد و العشرين‪ ،‬ليمنح القارئ نظرة شاملة عن‬
‫أوضاع بالده و يرسم الصورة املرعبة اليت عاشها الشعب يف ظل الصراع السياسي‪ ،‬و ما آلت إليه البالد اليوم بعد‬
‫انتهاء األزمة السياسية‪.‬‬

‫أشارت الرواية إىل ظاهرة العنف اليت امتدت يف مجيع أحناء الوطن‪ ،‬و عمد إىل تصوير معاناة اجلزائريني و‬
‫خملفات العنف املادية و كذا املعنوية حيث بثت اجلماعات اإلرهابية الرعب و الفزع يف أوساطهم االجتماعية اليت‬
‫سادهتا مناظر الدماء و اجلرائم الدموية و رؤوس األبرياء املعلقة على األشجار‪ ،‬و برز ذلك يف الرواية عندما‪:‬‬
‫« التقى هبم صدفة عند أحد الوديان لتجد احلكومة يف الصباح رأسه مقطوعا و معلقا إىل غصن شجرة عالية »‪،2‬‬
‫كما ذكرت الرواية عينة من اجملازر البشعة اليت ارتكبتها اجلماعات املسلحة خملفة بركا من الدماء يف القرى و‬
‫األحياء‪ ،‬إىل أن غلبت رائحة املوت على أي رائحة أخرى و هذا املقطع خري مثال يوضح الوضع الذي آلت إليه‬
‫اجلزائر‪ ،‬و بشاعة اجملازر اليت ارتكبت يف حق مواطنيها دون ذنب‪ ... « :‬و أضحى جيري حنو كلبه فسقط عليه‬
‫املنظر كصاعقة من السماء‪ ،‬أصابه اهللع الشديد و امتأل فؤاده رهبة و جزعا هلول املنظر املرعب الذي شهدته‬
‫عيناه‪ .‬صورة روعت قلبه‪ ،‬فصار يرتعش ارتعاشا كأن الريح تراقصه و حتركه‪ ،‬وجد سكان القرية مصروعني‬
‫مذبوحني‪ ،‬و جثثهم مكدسة جنبا إىل جنب و قد بدأت رائحة العفن َترج منها‪ ،‬مالمح أوجههم توحي بالصدمة‬
‫و اخلوف و الوجل‪ ،‬مشكلني كثلة جبلية من الشيوخ و الرجال و النساء‪ ،‬حىت األطفال يف عمر الزهور كانوا‬
‫ساقطني مذبوحني غطى الدم أوجههم »‪.3‬‬

‫انتشرت مظاهر الفوضى يف العشرية السوداء؛ كاملظاهرات و االنفجارات و القتل‪ ،...‬ففرض حضر التجوال‬
‫ألن اجلرائم أصبحت تنتشر بشكل خطري فكان املوت يهدد اجلميع‪ ،‬و االغتيال مل يبق حكرا على الشخصيات‬
‫السياسية النافذة فقط‪ ،‬بل طال املواطنني األبرياء أيضا دون استثناء‪ ،‬فيقول الراوي يف هذا الصدد‪ « :‬صار الوضع‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.11‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.23‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.11‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫حساسا جدا و فقد الفرد ثقته يف جاره الذي كان يأمتنه على منزله بكل ما فيه‪ ،‬اَتذ العنف أشكاال يف العاصمة‬
‫باخلصوص‪ ،‬و مل تعد ساعة غروب الشمس موعد البشر من أجل الدخول إىل منازهلم‪ ،‬الرابعة يف املساء مبثابة‬
‫منتصف الليل بوحوشه و سكناته و صرامة ليله »‪ 1‬و يقول أيضا على لسان "العريب"‪ « :‬فالليل حالك و ال جيرؤ‬
‫أحد على اخلروج »‪.2‬‬

‫وكثرية هي أمثلة العنف يف الرواية منها‪ - « :‬امحرت عينا املعلم و طار عقله من شدة احلنق و صارت‬
‫كلمات الغضب و الطيش تتطاير من فمه‪ ،‬أما هي فكانت مكتوفة األيدي عاجزة أمامه عن الدفاع على نفسها‪،‬‬
‫حىت سحب خنجره و صار يطعن بطنها أكثر من عشر مرات‪ ،‬ارتعب اجلميع بعد أن رأوا الوحش الكامن وراء‬
‫هذا الشخص »‪ 3‬فكانت هذه عينة من مظاهر العنف اليت يتعرض هلا األبرياء من الشعب اجلزائري‪ ،‬كما أهنا‬
‫صورة عن بشاعة جرائم اإلرهابيني‪.‬‬

‫ح – موضوع الحب‪:‬‬

‫من املعروف أن الروايات اليت عاجلت املظاهر االجتماعية و االقتصادية و السياسية‪ ...‬يف تسعينات القرن‬
‫املاضي هيمنت عليها تيمة العنف الدموي‪ ،‬فقد « متحورت الرواية اجلزائرية حول األشكال احمللية للصراع الطبقي‪،‬‬
‫و غاب هذا املوضوع اخلالد االنساين املتمثل يف احلب »‪ 4‬و هذا راجع إىل طبيعة األوضاع الواقعية اليت كانت‬
‫منصبة على النزاعات و احلروب‪ ،‬إال أن الروائيني املعاصرين الذين عاجلوا هذه القضايا مل يهملوا إضافة موضوع‬
‫احلب يف رواياهتم‪ ،‬فلقد ظهر موضوع احلب و العاطفة الرومانسية عند "عبد الواحد هواري" يف روايته "يف كل قرب‬
‫عمد الكاتب على إدخال احلب يف متنه الروائي هبدف إخراج القارئ من جو احلزن و الرعب الذي‬ ‫حكاية" حني ِ‬
‫ساد جزائر التسعينات‪ ،‬فاستعمل الراوي لغة شاعرية مليئة بالعبارات الرومانسية من خالل معاجلته قصص حب‬
‫عديدة من بينها قصة حب "عبري" و "نذير"‪ ،‬يقول الراوي على لسان "نذير"‪ « :‬عام كامل على الزواج‪ ،‬أو كما‬
‫يقال على دخول القفص الذهيب‪ ،‬تساءلت كثريا عن صاحب هذا القول ‪ :‬أي قفص هذا الذي يلم بيض قضبانه‬
‫سعادة روحي كلها؟ و أي سجن ذلك الذي أحييت فيه منبع حرييت و مزقت فوق مروجه أحبال*مشنقة سعاديت؟‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.31‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.19‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.51‬‬
‫‪ -4‬إبراهيم سعدي‪ :‬دراسات و مقاالت يف الرواية‪ ،‬منشورات السهل‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬د‪.‬ط‪ ، 7009 ،‬ص ‪.51‬‬
‫* حبال‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫تلك حلظات تذوقت طعمها فلم أجد ألذ منها‪ ،‬و أحبرت يف أهنارها فلم أجد أصفى و أنقى من مياهها‪ ،‬كنت‬
‫رائدا يف فضاء احلب مكتشفا لكوكب اهلناء‪ ...‬ما أمجل دهاء هذه املرأة اآلرية ! و ما أروع فطنتها ! تضع كل‬
‫يوم حروفه اخلاصة به‪ ،‬فتكتب يف األيام املشرقة أفصح شعر غزيل تراود به الطبيعة عن نفسها »‪ 1‬فكان احلب‬
‫إحدى املظاهر االجتماعية اخلفية اليت غطت عليه األيام السوداوية يف اجلزائر‪.‬‬

‫كان موضوع احلب يف رواية "يف كل قرب حكاية" كهروب من زمن العنف و الظلم إىل مشاعر احلب اآلمن‬
‫الذي كان كنقطة أمل متحو ظلم الطغاة املستبدين‪ ،‬و نالحظ ذلك يف قصة احلب العفيفة اليت منت يف قليب‬
‫"نذير" و "عبري" ‪ ،‬فتفوق حبهما على اخلوف و احلزن ليتحول الزمن من زمن الرعب و املوت إىل زمن السرور و‬
‫الفرح‪ ،‬و جتسد ذلك من خالل الرواية‪ « :‬عام سابق انشقت األرض من حويل و ابتلعت املآسي يف جوفها‪ ،‬و‬
‫سحب الثقب األسود معه كل بؤس البالد و كآبتها من قليب‪ ،‬مجيلة هي األقدار حني رمتين بني أحضان الشوق‬
‫يف زمن اخلوف‪ ،‬و هبية تلك األيام حني تركتين ضائعا يف متاهات الفرح وسط دوامة النزح‪ ،‬و شاء اهلل أن يذيقين‬
‫طعم اهلناء بعد أن أهنكين تعب التعاسة »‪.2‬‬

‫كما كان احلب سبيال خلروج "نذير" من ظلمة السجن و َتفيفا لوطأة العنف فينتقل الراوي باملتلقي من بؤرة‬
‫العذاب إىل فسحة احلب و التأمل‪ ،‬و يف هذا املقطع دليل على ذلك‪ « :‬كنت هائما يف صورة تلك الفتاة‪ ،‬عبريا‬
‫يف تلك اللحظات ساحمت هتلر لرغبته يف االبقاء على اجلنس اآلري‪ ،‬ألن اآلرية اجلالسة أمامي سالح فتاك‬
‫خيطف األنظار و يرد القلوب و يقطع أي صلة مع العلم‪ ...‬الفتنة أشد من القتل خارجا‪ ،‬و يف السجن هي‬
‫أفتك من التعذيب‪ ...‬أعطتين تلك اآلرية دفعة حنو األمام‪ ،‬ملسة عاشق دافئة يف شتاء األوهام‪ ،‬رقصت ذايت تلك‬
‫الليلة على أنغام ا لرومانسيات و طربت بأحلان الشرقيات‪ ،‬و سكرت بنشوة النسوة اجلميالت‪ ،‬و ترددت يف‬
‫نعسي أحالم مثالية كثرية أنستين واقعي املهموم‪ ،‬ما منعين اهلل سعادة األمس إال ليمتحنين أمام عقبات الغد »‪.3‬‬

‫جسدت الرواية صورة اجملتمع اجلزائري التسعيين الذي طغت عليه حالة من العنف و الظلم و القهر‪،‬‬
‫فأصبحت رائحة الدماء تنبعث من كل القرى و األحياء‪ ،‬فتطرق "عبد الواحد هواري" إىل األزمة االجتماعية اليت‬
‫اجتاحت اجلزائر بسبب الصراع السياسي و ذكر خملفاته؛ كاآلفات االجتماعية اخلطرية اليت متثلت يف‪ :‬السرقة‪،‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.155‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.155‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.111_117_111_110‬‬

‫‪33‬‬
‫الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثاني‬

‫االدمان على الكحول و املخدرات‪ ،‬االستغالل‪ ،‬النهب‪ ،‬القتل‪ ،‬التعذيب‪ ،‬الشعودة و االغتصاب‪ ...‬و انتشرت‬
‫مظاهر اجملتمع املزرية و كذا معاناة الشعب من الفقر و البطالة‪ ،...‬و غريها من املظاهر اليت ال يكن حموها من‬
‫ذاكرة العشرية اليت مرت على اجلزائر خملفة وراءها الدمار و اخلراب للبالد‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫الفصل الثالث‪ :‬جماليات التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‪.‬‬

‫المبحث األول‪ :‬بنية الشخصية في الرواية‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬بنية الزمن في الرواية‪.‬‬

‫المبحث الثالث‪ :‬بنية المكان في رواية "في كل قبر حكاية"‪.‬‬

‫المبحث الرابع‪ :‬الرؤية السردية في رواية "في كل قبر حكاية"‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫المبحث األول‪ :‬بنية الشخصية في الرواية‬

‫حظيت الشخصية باهتمام كبري من طرف النقاد و الباحثني‪ ،‬إذ تعد أحد أهم مكونات الرواية‪ ،‬فهي‬
‫« من أهم مكونات العمل احلكائي‪ ،‬ألهنا متثل العنصر احليوي الذي يضطلع مبختلف األفعال اليت ترتابط و‬
‫تتكامل يف جمرى احلكي »‪ 1‬فالرواية تستلزم حضور الشخصيات اليت حتدد مكونات الرواية و أفكارها‪ ،‬لذا‬
‫عنصرا مهما و أساسيا يف كل عمل روائي؛ كوهنا منتقاة من اجملتمع الواقعي‪ ،‬فال ميكن تصور‬
‫أصبحت الشخصية ً‬
‫خطاب سردي دون وجود شخصيات ألهنا عنصر هام يف هذا النوع من اخلطابات‪ ،‬كما تعترب مرآة عاكسة‬
‫للمجتمع‪.‬‬
‫للرواية « قدرة خاصة على جعل شخصياهتا مقبولة‪ ،‬كأهنم أشخاص واقعيون خيوضون جتربة معاشة‪ ،‬أو ميكن أن‬
‫تعاش »‪ ،2‬و مبا أن الشخصية متث ل اهليكل العام للرواية‪ ،‬و هذه األخرية حتمل يف مضموهنا قيم اجتماعية واقعية‬
‫فالبد أن حتمل الشخصية بدورها قيما و مبادءًا اجتماعية أثناء تفاعلها مع األحداث‪.‬‬

‫داال باستخدامها اللغة‪ ،‬و ألن‬


‫و الشخصية لدى "روالن بارث" هي كائنات من ورق تتخذ شكال ً‬
‫الشخصية الروائية تلعب دورا هاما يف العمل األديب فإهنا « جتسد فكرة الروائي و تؤثر يف سري األحداث و‬
‫توضحها‪ ،‬فمن خالل حتركها و العالقات القائمة بينها يستطيع الكاتب أن يبين عمله الفين و يطوره ليصل إىل‬
‫فكرة معينة يسعى إىل إيضاحها »‪ ،3‬فالشخصية ما هي اإال محوالت اجملتمع و الواقع و جزء ال يتجزأ منه‪ ،‬و من‬
‫خالل تفاعلها يف املنت الروائي يتضح أهنا حماكاة للشخصيات احلقيقية و انعكاس هلا‪ ،‬لذا على الراوي اختيار‬
‫شخصياته بعناية فائقة ألهنا جتسد فكرته‪.‬‬

‫رواية "يف كل قرب حكاية" تصنف ضمن الروايات التخييلية ذات األبعاد الواقعية‪ ،‬يطغى عليها اجلانب‬
‫التارخيي حلقبة من حقب اجلزائر املريرة‪ ،‬فكانت شخصييت "العريب" و "نذير" ضمن أبرز الشخصيات اليت رصدت‬
‫خملفات الصراع السياسي و مدى تأزم احلياة االج تماعية و اهنيارها‪ ،‬كما صورت الرواية مظاهر العنف و الظلم و‬
‫الرهبة و اخلوف يف نفسه‪ ،‬و انتشار رائحة الدماء و املوت‬
‫التعسف الذي حلق بالشعب اجلزائري‪ ،‬و زرع الرعب و ا‬
‫يف كل الساحات و القرى و األحياء‪.‬‬

‫‪ -1‬جويدة محاش‪ :‬بناء الشخصية يف حكاية عبدو و اجلماجم و اجلبل ملصطفى قاسي‪- ،‬مقاربة يف السرديات‪ -‬منشورات األوراس‪ ،7002 ،‬د‪.‬ط‪،‬‬
‫ص ‪.65‬‬
‫‪ -2‬حسن البحراوي‪ :‬بنية الشكل الروائي (الفضاء‪ ،‬الزمن‪ ،‬الشخصيية)‪ ،‬املركز الثقايف‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،1990 ،1‬ص ‪.000‬‬
‫‪ -3‬هداية مرزق‪ :‬الشخصية الروائية عند الطاهر وطار‪ ،‬رسالة ماجستري‪ ،‬جامعة اجلزائر‪ ،1992_1990 ،‬ص ‪.7‬‬

‫‪27‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫كما دأب "عبد الواحد هواري" على فضح الطغاة من أفراد اجلماعات اإلرهابية املسلحة‪ ،‬و بعض اخلونة من‬
‫أعضاء احلكومة يف حماوالهتم نيل احلكم و االستيالء على السلطة‪.‬‬

‫يربز الروائي مظاهر الصراع القائم بني احلكومة اليت تسعى إىل احلفاظ على استقرار البلد‪ ،‬و اجلماعات‬
‫املسلحة اليت تقوم بنشر الرعب و اخلوف يف أوساط املواطنني جاعلة من الدين رداءًا خيدم مصاحلها‪ ،‬و قد قدم‬
‫الروائي شخصياته وفق أيديولوجيات و أفكار منبثقة من الواقع‪ ،‬و لكل شخصية دالالت و أبعاد معينة قد ختتلف‬
‫إحداها عن األخرى‪ ،‬و قد متاثلها يف أحيان أخرى‪ ،‬و لكل منها هدف معني هتدف إىل حتقيقه أثناء تفاعلها و‬
‫حتاورها مع الشخصيات األخرى‪.‬‬

‫تنقسم الشخصيات إىل نوعني أساسيني و أنواع أخرى ثانوية لنجد‪ :‬شخصيات رئيسية تعد الركيزة األساسية‬
‫يف الرواية و احملرك الرئيسي لألحداث‪ ،‬و شخصيات ثانوية تعمل كمكمل للشخصيات الرئيسية و مساعدة إياها‬
‫يف حتريك األحداث بسهولة‪ « ،‬فإن هناك ضروب من الشخصيات حبيث نصادف الشخصية املركزية اليت‬
‫تصاديها الشخصية الثانوية‪ ،‬اليت تصاديها الشخصية اخلالية من االعتبار )‪(personnage de compase‬؛‬
‫كما نصادف الشخصية املدورة و الشخصية املسطحة »‪ 1‬فالشخصيات مالزمة للوجود الروائي‪.‬‬

‫عددا من الشخصيات يف عمله االبداعي "يف كل قرب حكاية"‪ ،‬و برز االختالف‬
‫قدم "عبد الواحد هواري" ً‬
‫بينها بشكل ما؛ سواء كان هذا االختالف على املستوى االجتماعي أو النفسي و حىت الفكري‪ .‬و قد تكون‬
‫هذه الشخصيات حقيقية ولدت من صلب الواقع‪ ،‬أو خيالية ميثافيزيقية من صنع خيال الراوي‪ ،‬حيث « تشكل‬
‫نقطة حتول فنية و ثقافية‪ ،‬و قطعية مع تقاليد أدبية حكائية‪ ،‬سادت لفرتات طويلة (األسطورة‪ ،‬امللحمة‪ ،‬احلكاية‬
‫الشعبية) ‪ ،‬انتقاال من البطولة و املثالية املطلقة إىل آفاق إنسانية و واقعية و إن جتاوزهتا يف بعض األحيان حنو‬
‫الغرائبية »‪ .2‬و هذا ما دفعنا إىل استحضار أنواع الشخصيات رئيسية كانت أم ثانوية‪ ،‬و حتما ستكون انطالقتنا‬
‫من الشخصيات الرئيسية‪.‬‬

‫‪ -1‬عبد امللك مرتاض‪ :‬يف نظرية الرواية‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬الكويت‪1999 ،‬م‪ ،‬ص ‪.92‬‬
‫‪ -2‬فيصل غازي النعيمي‪ :‬العالمة و الرواية –دراسة سيميائية يف ثالثية أرض السواد لعبد الرمحان منيف‪ ،‬دار جمد الوي للنشر و التوزيع‪ ،‬عمان‪،‬‬
‫األردن‪ ،‬ط‪7009 ،1‬م‪ ،‬ص ‪.156‬‬

‫‪27‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫‪ - 1‬الشخصيات الرئيسية )‪.(Personnages principales‬‬

‫تعد الشخصية الرئيسية هي احملور العام الذي تدور حوله األحداث‪ ،‬سواء كانت هذه الشخصية بطال أو‬
‫منافسا للبطل‪ ،‬و هذا األخري يكون جنبا إىل جنب مع البطل؛ موازيا إياه و مساعدا له يف سري األحداث إىل‬
‫النهاية‪.‬‬

‫أ – شخصية العربي‪:‬‬

‫شخصية "العريب" هي شخصية مناضلة صلبة و صبورة‪ ،‬متتاز بطيبة القلب و صفائه‪ ،‬و قد اختار الراوي‬
‫أمساء شخصياته بعناية يف حماولة منه لربط اسم البطل بصفاته الشخصية املتموضعة داخل الراوية‪ ،‬فداللة اسم‬
‫العريب هي املاء الكثري الصايف‪ ،‬إذ انعكس هذا الصفاء يف شخصيته من خالل أفعاله الطيبة اخلرية؛ من مساعدة‬
‫املتشردين كما فعل مع أحد اجملانني‪ ،‬و كذا تأثره الشديد باحملن و املصائب اليت حلت على أصدقائه ومن حوله‪،‬‬
‫و ما هذا إال دليل على صفاء نفسه و متيزه بقلب مرهف حساس كما حيمله إمسه من هذه الصفاة‪ ،‬فيقول الراوي‪:‬‬
‫« ال حيس بالبائس اإال البؤساء‪ ،‬هذا ما تبادر إيل‪ ،‬رغم قلة ما عنده و ما ميلك من زاد اإال أنه آثره على نفسه‪،‬‬
‫جديدا خيفي جنونه »‪.1‬‬
‫بتلك األموال الشحيحة اليت يكسبها من حفر القبور‪ ،‬اقرر أن يشرتي له مظهرا ً‬

‫و من صفات حامل اسم "العريب" أيضا الشجاعة و اإلقدام حيث ظهرت يف الشخصية أثناء هجومها على‬
‫األعداء ‪-‬اجلماعات اإلرهابية‪ -‬بغية نصرة وطنها و متسكها الشديد هبويتها‪ .‬و قد محلت شخصية "العريب"‬
‫العديد من القضايا منها‪ :‬السياسية و الدينية و االجتماعية‪ ،...‬و اليت حددت دورها اهلام يف تشكل أحداث‬
‫كونت مالمح شخصيته‪.‬‬
‫الرواية و َّ‬

‫تدور أحداث الرواية بشكل كبري حول شخصية "عمي العريب" إذ يعد من الشخصيات الرئيسية األصلية و‬
‫األساسية‪ ،‬حيث فرضت نفسها و وجودها عرب املنت الروائي‪ ،‬فـ "عمي العريب" حيمل يف جعبته قضية وطن و دين‬
‫مدافعا عن كليهما من التزييف و الكذب و الفنت‪ .‬كان "عمي العريب" أميًّا ال جييد القراءة و ال الكتابة كونه نشأ‬
‫يف بيئة سادت فيها األمية و اجلهل‪ ،‬و هذا راجع إىل الضروف السياسية اليت طرأت على اجلزائر؛ كاالستعمار‬
‫الفرنسي الذي نفض اجلزائريؤن غباره من مدة ليست بطويلة‪ ،‬خملفا وراءه أزمة من الفقر املدقع و اجلهل‪ ،‬و تلته‬
‫بعد ذلك فرتة أسوء بكثري حني جلأ قادة احلركات اجلهادية إىل اجلبال رفقة مؤيديهم‪ ،‬فأحلاوا القتل و سفك الدماء‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.779‬‬

‫‪27‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫ما دفع األهايل إىل التقوقع داخل املنازل و مغادرة املدارس‪ ،‬فكان هذا هو السبب الرئيسي يف تفاقم أزمة اجلهل و‬
‫انتشار األمية‪ ،‬لكن و على الرغم من اجلهل الذي بث جذوره يف الشعب اجلزائري اإال أنه مل يبعدعقله عم حب‬
‫الوطن و التضحية بالنفس ألجله و قد جسد الراوي هذه الصورة يف روايته من خالل شخصية "عمي العريب"‬
‫جاهدا إىل إتالف بذور اجلهل‬
‫الذي يقي يناضل و يدافع عن وطنه إىل آخر الرواية‪ ،‬و كذلك "نذير" الذي سعى ً‬
‫داخل السجن يف فرتة مكوثه به‪ ،‬من خالل حماوالته توعية و تثقيف املساجني و إخراجهم من دائرة اجلهل و‬
‫األمية‪.‬‬

‫مل يتجاوز "عمي العريب" الثانية و اخلمسني من عمره‪ ،‬أمسر البشرة و طويل القامة‪ ،‬عينه اليسرى مطموسة‬
‫جراء حادث وقع له يف صغره‪ ،‬كما يسكن يف منزل ضيق و حقري رفقة ابنه "زيد" مبدينة "تلمسان"‪ ،‬يعمل "عمي‬
‫ا‬
‫ليال‪ ،‬و يف النهار يصبح ح اف ًارا لبيوت املوتى الذين غادروا احلياة‪ ،‬ف ـ‪ « :‬شغله مع‬
‫العريب" كحارس ملقربة "مغنية" ً‬
‫قربا يناسبهم »‪.1‬‬
‫األموات‪ ...‬فقد كان مهندسا لديارهم األخرية‪ ،‬حيفر هلم ً‬
‫تعترب شخصية "عمي العريب" منوذجا للجزائري الذي غرق يف دوامة األزمات و ما تبعها من فقر و جهل و‬
‫تعذيب و خوف‪ ،‬فبدأت رحلة "العريب" يف املعاناة مع والده املتوحش الذي أمطره و أمه بالضرب و السب و‬
‫الشتم‪ ،‬فكانت أمه هي مالذه الوحيد يف هذا الوطن‪ ،‬و اليت يضحي بنفسه من أجلها بعدما ُرمي والده يف‬
‫السجن بسبب طغيانه على زوجته "فاطنة"‪ .‬اإال أن املنية وافت األم "فاطنة" بعد ما هامجت اجلماعة اإلرهابية‬
‫القرية اليت تقطن هبا‪ ،‬و قتلت ُج َّل سكاهنا من بينهم والدة "العريب" و حبيبته "خدجية" اليت كان ينوي الزواج هبا‬
‫فور تقاضيه أجر عمله‪ ،‬لذا اضطربت حالته النفسية كثريا‪.‬‬

‫أسريا و مارست عليه‬


‫و مل ينته ظلم احلياة ل ـ "عمي العريب" بل زادت شدهتا حني أخذته اجلماعات اإلرهابية ً‬
‫أبشع أنواع التعذيب‪ ،‬طالبة منه االنضمام إىل صفوفها‪ ،‬و إذ هو حاول الرفض هددته بنحر عنقه‪ ،‬فتعرضت هذه‬
‫الشخصية للضرب الشديد و الغصب على القيام بأعمال ال أخالقية‪ ،‬و إىل الرتهيب و التخويف‪ ...‬و غريها من‬
‫املمارسات الشنيعة‪ ،‬اإال أن شخصية "عمي العريب" متتاز بالقوة فلم تدع لالستسالم طريق إىل قلبها رغم الفجائع‬
‫اليت أملت هبا‪.‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.10‬‬

‫‪27‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫ظل "عمي العريب" متمسكا بدينه و هويته االسالمية العربية‪ ،‬فلم يكن أسره ذلك اإال نقطة مؤملة صنعت منه رجال‬
‫شهما ال خيش اخلطر‪ ،‬إىل أن حطت شخصية "أمال" رحاهلا يف الرواية فقلبت موازين حياته ماحنة إياه طاقة‬
‫سرورا مل يعرفه من قبل‪ ،‬وهبته هذه الزوجة حباها و عطفها و أظهرت له مالمح الوالء و‬
‫إجيابية كبرية و هبجة و ً‬
‫االخال ص‪ ،‬لكن الراوي هنا وضعنا أمام شخصية تتصف بالغدر و اخليانة فيتعرض البطل إىل اخليانة مما يدمره و‬
‫يقربه من حبل اجلنون‪ ،‬ليعتزل بعد ذلك الناس و العامل متجها صوب القبور؛ حيفرها لتنام األجداث هبا‪ ،‬و يناجي‬
‫األموات بدل األحياء‪.‬‬

‫مع أن احلياة كانت قاسية على شخصية "عمي العريب" اإال أن صموده مل يُهزم و مل يُكسر‪ ،‬و ثقته بربه و‬
‫متسكه بإسالمه كان احلبل الشديد الذي ال تقطعه املعاناة و املآسي اليت بثت مسها فيه‪ ،‬فحقيقة الشخصية تظهر‬
‫من خالل سلوكاهتا و آرائها و حىت مواقفها‪.‬‬

‫بروزا مع تطور األحداث‪ ،‬فكان "عمي العريب" رمزا‬


‫و أحداث الرواية تدور حول شخصية "العريب" اليت تزداد ً‬
‫للقوة و الشجاعة و املقاومة متحديا كل الصعوبات اليت مرت به‪ ،‬و بقي حمافظا على صفاء روحه و نقاء قلبه‪.‬‬
‫رمزا‬
‫حبه لوطنه و إخالصه لدينه االسالمي صورة حية للرجل اجلزائري املتشبث مبقوماته بكل ما أويت من قوة‪ ،‬كان ً‬
‫للعطاء و الكرم و منوذجا للشعب اجلزائري املتحلي بالبسالة و الطيبة حسب ما جسده الكاتب‪.‬‬

‫صامدا حماربًا من‬


‫فالراوي أجاد يف رسم صورة الشعب اجلزائري الذي عاىن الويالت عرب أزمنة خمتلفة‪ ،‬و ضل ً‬
‫ا‬
‫تدب بذرة االستسالم و اخلضوع إىل نفسه‪ ،‬و هذا هو مركز قوته و عزميته‪.‬‬
‫أجل حقوقه‪ ،‬و مل ا‬

‫ب – شخصية نذير‪:‬‬

‫"نذير" ليس جمرد شخصية رئيسية فحسب‪ ،‬بل هي إحدى رموز الصرب مبقاومتها عراقيل احلياة الصعبة‪،‬‬
‫حيث ُع ِر َ‬
‫ف باملواضبة و الدقة‬ ‫مستقرا يف حياته‪ ،‬يعمل يف معمل الذرة احلكومي ُ‬
‫ًّ‬ ‫فـ "نذير" كان شابًّا متزنا جديًّا‬
‫إزاء ممارسة عمله‪ ،‬فكانت ل ـ "نذير" حياة عادية بسيطة تتخللها بعض التخوفات بسبب األوضاع السياسية غري‬
‫املستقرة يف البالد‪ ،‬فيقول الكاتب على لسان "نذير" يف هذا الصدد‪ « :‬كنت أعمل موظفا يف معمل الذرة الذي‬
‫متلكه احلكومة‪ ،‬مل تكن األوضاع مبشرة باخلري‪ .‬يف الشهر املاضي ُسارح أكثر من عشرين عامال حبجة الضائقة‬
‫املالية اليت متر هبا البالد‪ ،‬لكنين كنت ال أزال واقفا حمافظا على وظيفيت‪ ،‬مل أتغيب عن يوم واحد طيلة أربع‬

‫‪22‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫سنوات‪ ،‬و كان املدير كلما ضرب مثاال يف اجلدية و املثابرة و اإلخالص يف العمل ذكر امسي »‪ ،1‬ففي بادئ‬
‫تغري الحقا‪ ،‬لتصبح حياهتا‬
‫األمر كانت هذه الشخصية عادية ال تتخللها أية قضايا أو آراء‪ ،‬لكن هذا اجلمود َّ‬
‫صعبة مليئة باملخاطر‪ ،‬حاملة لقضايا هامة‪.‬‬

‫موضوع احلب من أهم ما الزم "نذير" عرب الرواية‪ ،‬فعرف حببه الشديد ل ـ "أمينة" و تعلقه هبا أاميا تعلق‪ ،‬فقد‬
‫كانت يف نظره هي الفتاة الطاهرة النقية العفيفة اليت أحبها بابتسامتها العذبة املشرقة و « مجال عينيها‪ ،‬لكن أمجل‬
‫ما فيها كان لطفها و حمبتها للخري و وفاءها الشديد للحب و أشواقه »‪.2‬يقول "نذير" يف حب "أمينة"‪ « :‬دق‬
‫قليب دقات خفيفة متقطعة و مل يكن من عادته ذلك‪ ،‬ارجتفت أوتار طبليت السمعية و ترمنت حبالوة الصوت و‬
‫دفء النفس املنبعث منه‪ ،‬و ضعت عالمة حفضت هبا رقم الصفحة‪ ،‬مث التفت إىل ذلك املخلوق الذي زلزل‬
‫حصن قليب قبل أن تراه عيين‪ ،‬كنت أظن أن احملبة متنح إلينا بإيعاز من البشر‪ ،‬لكن بعد أن التفت إليها أدركت‬
‫أهنا نعمة من اهلل يقذفها يف قلب عباده خالل رمشة عني »‪.3‬‬

‫حبه ل ـ "أمينة" كان دافعا قويا ليقوم خبطبتها على أمل أن تصبح زوجته املخلصة و أم أوالده احلنونة و‬
‫مصدر هبجته و سروره‪ ،‬أ َِمل البطل أن تزيح خطيبته عنه الوحدة املوحشة اليت ابتلعته بعدما تويف والده و تركا‬
‫بداخله حربا ترتأسه الوحدة و احلزن‪ ،‬لكننا جنده يقول‪ « :‬أليس االرتباط بروح حرة طليقة تؤازر روحي املقيدة‬
‫بآالم الفراق هو سر التجاوز و النسيان ؟ لعلاي كنت خمطئا هبذا الشأن‪ ،‬كنت وحيدا هائما متناقض املشاعر يف‬
‫دوامة األح اسيس املتنافرة‪ ،‬أرسم لوحات بوجه بشوش مبتسم و أعني مألهتا العربات‪ ،‬أقضي جل وقيت خماطبا‬
‫نفسي أراودها تارة و تراودين تارة أخرى »‪ ،4‬فخطبته حلبيبته مل متنع عنه إحساس اليتم و الفراغ الذي أحاط‬
‫بروحه‪ ،‬و هذا دليل على أن حالته النفسية مل تكن مستقرة‪ ،‬بل تعرضت للتذبذب و التشويش‪.‬‬

‫تتصف شخصية "نذير" بالغرية الشديدة على أحبائها‪ ،‬خاصة فيما يتعلق بشرف الفتاة اليت ستصبح زوجته‬
‫يوما ما‪ « :‬مل أستطع تقبل فكرة مكوثي يف السجن بتهمة أين قمت حبماية عرضي و شريف‪ ،‬هل تستحق احلرية‬
‫السكوت عن هذا ؟‪..‬ال‪ ..‬و اهلل مل أكن ألرضى بذلك و لو بعد مائة عام‪ ،‬و لو أهنم أخرجوين تلك اللحظة و‬
‫صادفت نفس ما حدث يل سابقا ألعدت ارتكاب ما فعلته أول مرة دون حسرة أو ندم‪ ،‬الشرف حيتل صدارة‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.11‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.57‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.10‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.09‬‬

‫‪27‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫الفهرس يف كتاب قليب‪ ،‬فإن تنازلت عليه مل تعد هناك قيمة هلذا الفؤاد البائس القابع يف جسمي »‪ 1‬و هذا ما‬
‫ساقه إىل دخول السجن بعد ما هتجم على املعتدي حىت كاد يقتله‪ .‬بعد خروجه من السجن وجد "نذير" نفسه‬
‫فاقدا لعمله‪ ،‬و رغم البحث املضين عن غريه مل يوفق لذا احنرف عن اعتداله و خاطر بتهريب الوقود عرب احلدود‪.‬‬

‫حيمل اسم "نذير" مدلوالت عميقة إذ يتصف صاحبه بالقوة و البسالة‪ ،‬كما يعد شخصا شديد االعتناء‬
‫بأسرته‪ ،‬و هذا ما انعكس فعال على هذه الشخصية اليت أحاطت عائلتها باحلب و احلماية‪.‬‬

‫فعاش "نذير" أصعب أيامه يف السجن بسبب هتمة مل يقرتفها‪ ،‬بل لفقت له من قبل "حممود" الذي كان‬
‫ينافسه يف حب "أمينة"‪ ،‬قادته هذه املنافسة و اجلشع لوضع خطط شنيعة حتيل إىل إثبات هتمة املتاجرة باملخدرات‬
‫ل ـ "نذير" ‪ ،‬ما ترك يف هذا األخري إضطرابات نفسية تركته ضائعا أكل التشويش عقله‪ ،‬لذا اجتمعت يف شخصيته‬
‫مجلة من التناقضات‪ ،‬فنجده يف بعض األحيان متفائال ميلؤه األمل و التفاؤل‪ ،‬اإال أننا جنده فجأة يتصرف بطيش‬
‫حني يدب اليأس إىل قلبه‪ ،‬فعندما اشتد عليه احلنق جتاه "الواسيين" أبرحه ضربا إىل أن كاد يقتله هو اآلخر لكن‬
‫الندم أكل قلبه و حزن على حالته اليت وصل إليها بسببه معامال إياه بلطف‪.‬‬

‫لكن دوام احلال من احملال فسرعان ما فك أسر "نذير" و قذفه السجن خارج أسواره‪ ،‬راميا إياه يف حضن‬
‫عائلة ثرية طيبة و متواضعة كان تعرف إىل إبنها يف السجن‪ ،‬فأحب "عبري" أخت صديقه و تزوجها‪ ،‬و كانت‬
‫عالقتهما مليئة باحلب و املودة و االخالص‪ ،‬ألهنا كانت امرأة طاهرة نقية و وفية‪ ،‬مل تتخل عنه رغم فقره و أمله‬
‫العميق الذي سكن أوصاله ملدة طويلة‪ ،‬اإال أن السعادة مل تدم طويال فبعد موت "عبري" ُج َّن "نذير" و عاش‬
‫حياة صعبة ميلؤها احلزن و التشتت‪.‬‬

‫تركت له "عبري" لغزا صعبا تتحقق سعادته حبله فقط‪ ،‬يف طريق البحث عن احللول توجهه عثرات و عراقيل‬
‫صعبة جعلت من حياته جحيما حيرق روحه‪ ،‬لكن احلل يصله أخريا و يتزوج "أمينة" حبيبته األوىل ليعيشا يف‬
‫سعادة‪.‬‬

‫نستخلص من خالل تناولنا هلذه الشخصية البطلة "نذير" أهنا مرت بأربعة مراحل أساسية يف حياهتا داخل‬
‫الرواية‪:‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.57‬‬

‫‪27‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫املرحلة األوىل‪ :‬و هي املرحلة اليت عاش فيها حياة مستقرة هادئة ميتلك عمال مقبوال يعيل به نفسه‪ ،‬مث وقع يف‬
‫حب "أمينة" و قام خبطبتها‪ ،‬و عاشا قصة حب مجيلة ميلؤها االخالص و الوفاء‪.‬‬
‫أما املرحلة الثانية‪ :‬فكانت خمتلفة عن األوىل و أكثر قساوة منها‪ ،‬فقد ساق حقد غرميه "حممود" إىل تلفيق هتم‬
‫خطرية له قلبت حياته رأسا على عقب‪ ،‬فحل حمل استقراره اضطراب و حززن و ظلم شديد بدخوله السجن‪.‬‬
‫املرحلة الثالثة‪ :‬كانت خبروجه من السجن املصاحب لعثوره على حب آخر أكثر طهرا و سعادة‪ ،‬تزوج من "عبري"‬
‫معا أحلى أيام حياته أزاحت عنه ظلمة السنوات املاضية فيقول‪ « :‬عام سابق‪ ،‬انشقت األرض من حويل‬
‫و عاشا ً‬
‫و ابتلعت املآسي يف جوفها‪ ،‬و سحبت الثقب األسود معه كل بؤس البالد و كآبتها من قليب‪ ،‬مجيلة هي األقدار‬
‫ضائعا يف متاهات الفرح وسط‬
‫حني رمتين بني أحضان الشوق يف زمن اخلوف‪ ،‬و هبية تلك األيام حني تركتين ً‬
‫دوامة الرتح‪ ،‬و شاء اهلل أن يذيقين طعم اهلناء بعد أن أهنكين تعب التعاسة »‪.1‬‬
‫املرحلة الرابعة‪ :‬عاودت حياته الغرق يف ظلمتها حني ماتت زوجته و رفيقة دربه "عبري" تاركة إياه ضائعا حائرا ال‬
‫هز كيانه و ذبذب أوضاعه‬
‫جييد العيش من دومها‪ ،‬كما تركت له لغزا صعبا ال جيد طريق السعادة اإال حبله‪ ،‬لغز ا‬
‫النفسية كثريا‪ ،‬فلم جيد طريق الراحة اإال بعد كشف رموزه و ازاحة الغموض عنه‪ ،‬و تزوج من حبيبته السابقة‬
‫"أمينة" و تبنَّا طفلة يتيمة أمسوها "عبري"‪.‬‬

‫جـ ‪ -‬شخصية أمينة‪:‬‬

‫شخصية "أمينة" جديرة بأن تكون من الشخصيات األساسية للرواية لرتبعها على الفصول األوىل بشكل‬
‫كبري و واضح‪ ،‬عاشت "أمينة" فقرية بعدما اعتُقل والدها بتهمة حيازة املخدرات و املتاجرة هبا‪ ،‬فصادرت احلكومة‬
‫كل ممتلكاهتم ما عدى بيتا حقريا يأويها و والدهتا من وحشة الشارع‪ ،‬خلَّف الزوج "أمينة" ابنته الوحيدة و‬
‫"حبيبة" زوجته اللتني جاهدتا من أجل البقاء بكرامة و اعتمدتا على نفسيهما فقد منعتهما عزة النفس من مد‬
‫يديهما للناس‪.‬‬

‫كانت هذه الشخصية صلبة قوية متارس بعض األعمال اليت تساعدها على العيش رغم دخلها القليل‪ ،‬فيقول‬
‫الراوي‪ « :‬تعمل منظفة يف منازل أثرياء املدينة »‪ ،2‬و مبا أهنا تعيش يف جمتمع حمافظ يعيب اعتماد الفتاة على‬
‫غريب حىت لو كان خطيبها‪ ،‬فقد رفضت هي األخرى أي مال أو إعالة من قبل خطيبها "نذير" قبل أن تستقر يف‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.155‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.17‬‬

‫‪78‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫صرح الكاتب‬
‫بيته‪ ،‬فكانت "أمينة" متمسكة بعاداهتا‪ ،‬حريصة على إعطاء صورة حسنة انفسها يف اجملتمع‪ ،‬ليُ ِّ‬
‫بذلك يف منت الرواية بقول "نذير"‪ « :‬كانت ال تعرتف بدوري يف إعالتها و أنا مل أتزوجها بعد‪ ،‬هلذا كانت ترى يف‬
‫حماوليت مساندهتا شيئا من العيب‪ ،‬و هذا ما كان معروفا يف قريتها »‪ 1‬فهي عينة من النساء اجلزائريات الاليت‬
‫متلكن عزة النفس و متسك باهلوية ما مينعها من خرق عادات اجملتمع‪.‬‬

‫"أمينة" فتاة حمافظة على دينها و مقوماته‪ ،‬مزينة نفسها حبجاب فضفاض يسرت جسدها و حيميها من‬
‫النظرات احلقرية‪ ،‬ال تبدي زينتها اإال أمام زوجها و حمارمها‪ ،‬و هذا ما جتلى يف الرواية‪ « :‬ترتدي أحد األلبسة‬
‫الطويلة و حجابا فضفاضا بعد أن مسعت أصوات الضيوف وسط منزهلم »‪ 2‬و يضيف قائال‪ « :‬نزلت األدراج‬
‫بلباس أسود طويل و حجاب أبيض يعكس نضارة وجهها »‪ 3‬فهي فتاة مسلمة مصرة على ارتداء حجاهبا يف‬
‫حضرة الغرباء‪ ،‬فباإلضافة إىل كوهنا امرأة مناضلة هي امرأة مسلمة متدينة‪ ،‬حتلت بأمجل صفات املرأة و تزينت‬
‫بأهبى حللها؛ حلة احلياء و احلشمة‪ ،‬و هذا ما نقف عليه بني صفحات الرواية‪ « :‬مشت أمينة على استحياء »‪.4‬‬

‫تتحلى هذه الشخصية بالقوة و الصرب و الثبات على املصائب اليت أل َّـمت هبا‪ ،‬فقد دخل خطيبها "نذير"‬
‫السجن بعدما دافع عن شرفها الذي كاد يُؤخد منها‪ ،‬و تلقت هجوما عنيفا من والدهتا اليت مل تكن موافقة متاما‬
‫بث سنها أما ابنتها و مقارنة حماسن‬
‫ف "حبيبة" عن ِّ‬
‫على خطبة ابنتها من رجل ال ميلك املال الكثري‪ ،‬و مل تَ ُك َّ‬
‫"حممود" مبساوئ "نذير"‪ ،‬فكانت البطلة « ختيط صربها بتأن و هدوء »‪ 5‬اإال أن األمر مل يدم طويال فثارت‬
‫حفيضتها و « أخذت محم الربكان يف التساقط على شكل كلمات أحرقت معها األخضر و اليابس‪ ،‬ضربت‬
‫الطاولة بيدها حىت سقطت منها جل األواين‪ 6» ...‬كلبؤة تدافع عن ممتلكاهتا من أيدي املفرتسني‪ ،‬لتتحول‬
‫"أمينة" الصبورة إىل وحش ال صرب له و ال قيود إىل أن أصبحت عبارة عن كثلة غضب تغشى املكان‪.‬‬

‫« لطاملا كانت قوية صلبة ترفض بشدة رؤييت هلا يف حالة وهن و ضعف‪،7» ...‬قد تكون الصالبة أحيانا‬
‫قاسية‪ ،‬و تعد محال ثقيال على امرأة نقية مثل أمينة‪ ،‬و انكسارها بسبب التعثرات اليت مرت هبا ليس ضعفا منها‪،‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.17‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.15‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.59‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.15‬‬
‫‪ -5‬الرواية‪ ،‬ص ‪.19‬‬
‫‪ -6‬الرواية‪ ،‬ص ‪.19‬‬
‫‪ -7‬الرواية‪ ،‬ص ‪.59‬‬

‫‪78‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫إمنا حال ال مفر منه‪ ،‬فاالنكسار أمام من حنب ال يعد انكسارا بل نقطة قوة تأيت عقب التخلص من محوالت‬
‫احلزن‪ ،‬و صرف األمل و العربات خارجا‪.‬‬

‫مل يكن احلظ حليف "أمينة" فقد دخل "نذير" السجن بتهمة حيازة املخدرات و هتريبها‪ ،‬علمت يف قرارة‬
‫نفسها أنه مظلوم ألهنا تعلم من أي طينة صنع هذا االنسان‪ ،‬اإال أن احلياة ليست عادلة دائما فأحيانا تكون‬
‫ظاملة حلكمة جنهلها‪ ،‬لكنها سلمت نفسها لألمر الواقع و قبلت الزواج من ‪é‬حممود" رغم أن قلبها بقي معلقا مع‬
‫حبيبها "نذير"‪ .‬بقيت قوية تأىب االستسالم فسعت جاهدة إىل الوالء لزوجها و االعتناء به و إعطائه كل حقوقه و‬
‫تنفيذ كل واجباهتا كزوجة‪ ،‬لكن هذا الزوج أذاقها أنواعا عديدة من الظلم‪ ،‬منوال إياها جرعة من احلزن ليست‬
‫فكثريا ما تركها وحيدة يف أوقات تكون يف أمس احلاجة إليه‪ ،‬و حىت إن ُوِجد ال‬
‫بالقليلة‪ ،‬فأصبح وجوده كعدمه ً‬
‫يؤدي واجباته ليكون شفافا غري مرئي و بال فائدة‪ ،‬و جتلى ذلك من خالل الرواية‪ « :‬كانت ختاطب اجلماد‬ ‫ا‬
‫املصنوع من الفخار عله يؤنس وحشتها‪ ،‬كان يف قلبها فراغ سحيقلم متأله األشهر األوىل من ارتباطها‪ ،‬و أدانت‬
‫نفسها يف حمكمة وجداهنا »‪.1‬‬

‫ككل امرأة صبورة هتتم بزوجها و تصرب على أذاه حتلت "أمينة" بالصرب مع "حممود" و تقلبات مزاجه‬
‫املفاجئة‪ « :‬و مل تفاجأ و مل تستغرب الختفاء ذلك الزوج املتقلب‪ ،‬فكثريا ما كان ينسحب ليال دون التفوه بأدىن‬
‫‪2‬‬
‫دب اليأس‬
‫كلمة مث يعود بعد ذلك و مل يبق يف الشوارع حياة للعاقلني » ‪ ،‬فاعتادت هذه احلياة غري املنصفة‪ ،‬و َّ‬
‫قلبها دبيب السم يف اجلسد من حتسن أحوال زوجها أو تعقل أمه و انصافها هلا‪ ،‬و هذا ما توضحه الرواية‪ « :‬و‬
‫قد علمتها األشهر القليلة اليت عاشتها حتت وطأة العذاب بني مترد زوجها و تسلط أمه أن تنسلخ من عباءة‬
‫املباالة‪ ،‬فصارت ال تعطي أكثر من جهدها و ال ترفع من سقف آماهلا واضعة املثل الشعيب أمام عينيها‪ :‬كيفاش‬
‫ماجات تجي ياك آخرتها الموت »‪.3‬‬

‫بث حناهنا بقلبه عله يلني و يهتدي‪ ،‬اإال‬


‫حاولت "أمينة" تركيز اهتمامها على زوجها و برها به‪ ،‬سعت إىل ِّ‬
‫أن مثل هؤالء الرجال شر ال خري فيه و ال احساس‪ ،‬قابل قلقها عليه بالغضب و متظهر هذا يف الرواية إذ ورد أهنا‬
‫« كانت تتصل به و هتتم ألمره و تستفسر عنه إن هو تأخر يف العودة لبيته‪ ،‬فيأيت يف املساء دون الرد على مكاملة‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.115‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.112‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.112‬‬

‫‪77‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫واحدة منها‪ ،‬غاضبا حانقا من تصرفاهتا اليت يراها صبيانية‪ ،‬يتهمها بالشك و أهنا تريد تقييده يف قفص و حترمه‬
‫حياة الرجال »‪ ،1‬فكانت هذه الشخصية مظلومة من قبل الزوج‪ ،‬تقبع حتت تسلط اجملتمع الذكوري الذي ال‬
‫يعرتف دور املرأة و ال قيمتها‪.‬‬

‫يف هذا العامل هناك نساء مناضالت متحديات للصعاب اليت تواجههن حبزم و شدة‪ ،‬فتحلت هذه‬
‫الشخصية كغريها من النساء الصابرات بالقوة و الشجاعة‪ ،‬صبورة صرب "أيوب" عليه السالم‪ ،‬و مع حتطم آماهلا و‬
‫أحالمها فإهنا جترب انكساراهتا لتصبح أقوى مما سبق‪ ،‬غري ساحمة بسرقة آماهلا و طموحاهتا فكانت « تدرك متاما‬
‫أنه وجب عليها أن تكون قوية صابرة يف هذا العامل‪ ،‬فهذا الفضاء الشاسع ال مكان فيه للضعفاء فكيف باألحرى‬
‫جتد بقعة للضعيفات »‪ 2‬و ما كانت شخصية "أمينة" ضعيفة بأي شكل من األشكال‪ ،‬بل كانت مثاال حيًّا‬
‫للشجاعة و قدوة لكل امرأة كسر اليأس أملها‪.‬‬

‫تعرضت "أمينة" أيضا لظلم أم زوجها سليطة اللسان اليت حاصرهتا بأسئلة خادشة للحياء عن محلها‪ ،‬حمرجة‬
‫إياها بشكل يومي عن سبب تأخره إىل اآلن‪ ،‬و بعدما رمى زوج "أمينة" حقيقة عقمها يف وجهها ضاعفت‬
‫العجوز حدة طبعها‪ ،‬و طلبت منها يف أحد األيام زيارة ر ٍاق ‪-‬مل يكن ر ٍاق بل مشعوذ يغتصب النساء بعد‬
‫تنوميهن‪ ،-‬و مبا أن "أمينة" امرأة مجيلة بقوام ممشوق فقد كانت فريسة سال لعاب املشعودهلا‪ ،‬اغتصبها بعدما‬
‫ناوهلا ماءًا ادعى أنه مرقي‪ ،‬لكنه كان حيتوي على منوم قوي‪ ،‬فجسد الراوي ذلك من خالل قوله‪ « :‬ارتشفت‬
‫أمينة عدة قطرات و وضعته جانبا‪ ،‬و ما هي اإال حلظات حىت غطت يف نوم عميق‪ ،‬أحكم املشعوذ إغالق باب‬
‫هم هبا بعد أن جردها من مالبسها‪ ،‬كان شيطان يف هيئة بشر‪ ،‬منحه الناس ثقة عمياء و كان هو ينزع‬
‫مكتبته و َّ‬
‫عن نسوهتم ثياهبن »‪ 3‬فما كل هذا البالء الذي أملا بـ"أمينة" ؟ و كيف استطاعت كبت صرخاهتا اليت تكاد متزق‬
‫روحها ؟ أي قوة امتلكتها ؟‬

‫تركت هذه الشخصية زوجها بعدما ازداد طغيانه و أصبح كاجلمرة اليت سقطت يف قاع البحر ال أمل هلا من‬
‫االشتعال‪ ،‬و متظهر ذلك من خالل‪ « :‬منذ أن دخلت بيت أمها مل تسأل عن زوجها‪ ،‬مل تتصل به و مل تبعث له‬
‫أي رسالة قصرية‪ ،‬مخدت نار فؤادها و انطفأت لوعة شوقها‪ ،‬صار وجوده من غريه ال يعنيها‪ ،‬ماتت قيمته من‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.119_119‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.119‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.160‬‬

‫‪77‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫فؤادها يوم مل يقدر أنوثتها »‪ .1‬مات زوجها و انتهت معاناهتا معه و مع أمه‪ ،‬و بدأت مرحلة جديدة يف حياهتا‪،‬‬
‫أخريا و حققت حلمها يف الزواج من حبيبها "نذير"‪.‬‬
‫و لكوهنا جوهرة نادرة أتاها الفرج ً‬
‫فصور لنا الراوي "عبد الواحد هواري" صالبة هذه الشخصية اليت مل تفقد األمل رغم الظالم الذي أحاط‬
‫هبا‪ ،‬فهي ليست جمرد شخصية ورقية‪ ،‬بل متتد جذورها إىل اجملتمع و الواقع‪ ،‬إذ تعد مثاال و منوذجا للمرأة الصابرة‬
‫املقاومة لكل االنكسارات اليت عاشتها‪.‬‬

‫د – شخصية عبير‪:‬‬

‫"عبري" هي شخصية حمورية مركزية احتلت قسطا كبريا من املنت الروائي‪ ،‬و قد رمسها لنا الراوي من خالل‬
‫السرد الذي طال الرواية متطرقا إىل صفاهتا الفيزيولوجية على لسان "نذير" الذي ُهبر جبماهلا و هبائها فيقول‪:‬‬
‫« كنت هائما يف صورة تلك الفتاة‪ ،... ،‬عينان زرقوان صافيتان كسماء يف فصل ربيعي دافئ‪ ،‬قامة معتدلة و‬
‫جسد غري ممتلئ وال حنيف‪ ،‬و بشرة بيضاء إن خدشتها تركت أثرا ورديا بديعا‪ ،‬و شعر ذهيب يصل إىل أسفل‬
‫‪2‬‬
‫اخلالب الذي يأسر قلوب الناظرين إليها‪.‬‬
‫ظهرها » ‪ ،‬فوصف لنا مجاهلا ا‬

‫كانت "عبري" إنسانة حمرتمة طيبة جدا‪ ،‬كل منابع العطف و احلنان انبثقت من روحها الطاهرة النقية‪ ،‬تعيش‬
‫يف منزل كبري و فخم ألهنا تنحدر من عائلة ثرية جدا رفقة والدهتا و أخيها و بعض اخلدم‪ ،‬اإال أن ثراءها مل يزرع‬
‫الكرب و التعجرف يف نفسها‪ ،‬بل زادها بساطة و عطفا على اآلخرين‪.‬‬ ‫ِ‬
‫لذا اختار هلا "عبد الواحد هواري" إمسا حيمل صفاهتا الشخصية‪ ،‬فمعناه الرائحة الطيبة و العطر الزكي‪ ،‬كانت‬
‫"عبري" ترتك رائحتها الطيبة يف كل مكان متر به‪ ،‬و تعطر اجلميع بكلماهتا الرقيقة‪.‬‬

‫تظهر بطلة الرواية متفتحة يف تصرفاهتا‪ ،‬جريئة يف انتقاء مالبسها‪ ،‬فيقول الراوي‪ « :‬كان شعرها منسدال حىت‬
‫يكاد يالمس ظهر احلصان‪ ،‬ترتدي قميصا أبيض و سرواال جلديا أسود و جزمة تصل إىل ركبتيها»‪ ،3‬و هذا ما ال‬
‫حيبذه اجملتمع اجلزائري احملافظ الذي ينبذ التحرر خاصة بالنسبة للمرأة‪ ،‬ليكون قول "نذير" أصدق دليل و أوضح‬
‫مثال عن هذا املوقف‪ « :‬مل أستطع املشاركة يف احلديث اللهم اإال لإلجابة عن األسئلة املوجهة إيل‪ ،‬ألين مل أكن‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.161‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.101‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.151‬‬

‫‪77‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫مستعدا لفكرة االنفتاح هذه‪ ،‬فمن املكان الذي أتيت منه‪ ،‬كانت هذه الصورة لتكتب يف جرائد العيوب و لو‬
‫كانت يف السجن‪ ،‬ألن صحافة جمتمعنا تقدس العيب أكثر من احلالل و احلرام »‪.1‬‬

‫شخص الطبيب إصابتها‬


‫أبدا‪ ،‬فبعدما َّ‬
‫"عبري" امرأة قوية و صبورة إىل أبعد احلدود و هي ال ختشى املوت ً‬
‫ختوف من ردة فعلها فسحبها إىل غرفة ختلو من األدوات احلادة خمافة أن تلحق الضرر بنفسها‪،‬‬
‫بسرطان الدماغ َّ‬
‫اإال أن ردة فعلها كانت صادمة له فلم تتأثر باملرض بتاتا بل تقبلته بصدر رحب‪ ،‬و ما كان هذا اإال دليال على‬
‫مدى قوهتا و شجاعتها ف ـ‪ « :‬ليس املوت بالنسبة إليها اإال جتربة جنهل التعايش معها‪ ،‬تساءلت مرات كثرية عن‬
‫كنهه أو لونه أو رائحته فلم جتد جوابا لذلك‪ ،‬ما زادها إصر ًارا على ابتياع فرص للحياة »‪ ،2‬و يضيف الراوي على‬
‫لساهنا‪ « :‬ال يهم عدد السنوات اليت أعيشها‪ ،‬بل كمية االجنازات اليت حققتها‪ ،‬فغرس وردة تدب فيها احلياة وسام‬
‫شرف أمثن من سنة كاملة عجفاء »‪ ،3‬متتلك "عبري" شخصية قوية تواجه هبا كل تقلبات احلياة‪ ،‬فال يطال اخلوف‬
‫قلبها من فكرة املوت‪ ،‬حتب العيش بسعادة كما أهنا مليئة بالعطاء‪.‬‬

‫تتميز هذه الشخصية جبانب غامض يطغى عليها ما دفع زوجها إىل فك رموز كلماهتا املشفرة‪ ،‬ف ـ « كانت‬
‫نظرهتا للحياة غري تلك اليت يراها الفالسفة و الشعراء‪ ،‬مميزة بفلسفو أنثوية غامضة و ثابثة‪ ،‬كانت كشرنقة حتولت‬
‫فراشة قبل موعدها احملدد »‪ ،4‬فاستمرت حياهتا برمي األلغاز على زوجها و أحبت هذه اللعبة كثريا‪ ،‬يقول‬
‫"نذير"‪ « :‬استمرت عالقتنا مزينة بفضول األلغاز و التحديات‪ ،‬شرط أن يغسل اخلاسر األواين املساء أو بعد‬
‫فطور الصباح »‪ ،5‬فكانت مرحة مشاكسة يف تصرفاهتا‪.‬‬

‫مل يغادر األمل روحها رغم ما أصاهبا من منغصات احلياة و مل ترفع راية االستسالم أبدا‪ ،‬بل واصلت احملاربة‬
‫و املقاومة كجندي يدافع عن نفسه يف ساحة املعركة‪ ،‬فحقيقة الشخصية تظهر من خالل تعبريها عن آرائها و‬
‫مواقفها و سلوكاهتا‪ ،‬كما يتضح ذلك من خالل هذا املقطع من الرواية‪ ... « :‬ستقولون أين أبادله املدح و إننا يف‬
‫عامل غري عاملكم املشؤوم و أنكم يف واقع بائس ال حيتوي أمثالنا إال يف أفالم السينما‪ ،‬لكن ليس تلكم حجة‬
‫تدفعون هبا عنكم األماين و ترسلون أنفسكم يف غياهب الطيش و التذمر‪ ،‬احلب ال جيري وراءنا إن مل نعبد له‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.100‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.159‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.159‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.159‬‬
‫‪ -5‬الرواية‪ ،‬ص ‪.120‬‬

‫‪77‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫طريق النفس الصادقة »‪ 1‬و تضيف‪ « :‬حريتين فلسفة الوجوديني إذ أهنم ظنوا يف مطلق حريتهم وجودا غري ذلك‬
‫الذي حيتوي بني أركانه قصة زوج ويف‪ ،...‬فلسفيت مل تسطر بعد يف التاريخ ألن حروفها كتبت بلغة ال يفهمها‬
‫البائسون من بين البشر‪ ،‬قد يرتمجها السعداء لكنهم لن يقفوا عند حسن تأويلها‪ ،‬ألن أفكاري متشعبة رافضة‬
‫لفكرة املوت باستسالم‪ ،‬و جعلت من قول العبقري تولستوي سنة حيايت‪" :‬سنموت جميعا فلماذا ال نكلف‬
‫أنفسنا بعض المشقة" »‪.2‬‬

‫تعرضت الشخصية حلادث زعزع استقرارها و أضاق فسحة أملها‪ ،‬أصبح احلزن رفيق درهبا بعدما اعرتضتها و‬
‫زوجها فرقة من اجلماعة اإلرهابية‪ ،‬و قتلت جنينها الذي مل يـََر النور بعد‪ ،‬ذلك اجلنني كان مثرة حبها و منبت‬
‫سعادهتا‪ ،‬لكن هؤالء اجملرمني مل يدعوا هلا اجملال لتفرح به و ال ليصبح امسه "زكريا" أو "مرمي"‪ ،‬لتجسد الرواية ذلك‬
‫من خالل‪ « :‬يومها خرجت من املستشفى أدفع كرسيا متحركا عليه زوجيت‪ ،‬مل تفقد شيئا من مجاهلا‪ ،‬لكن‬
‫مالحمها مالت إىل الكآبة و احلزن‪ ،‬دون ابتسام‪ ،‬اهتزت ثقتها بنفسها‪ ،‬و هبت لون أحالمها‪ ،‬كانت الصدمة‬
‫شديدة و التعايف منها حيتاج ألشهر مطولة من العناية‪ ،‬حىت إن الطبيب أعطاين الئحة من األوامر‪ ،‬تتضمن الئحة‬
‫أخرى من الكلمات ا ْحملظورة قوهلا أمامها »‪ 3‬ألن نفسيتها ُحطمت و ابتسامتها هبتت هلذه املصيبة اليت أملت هبا‪،‬‬
‫و مل يطل احلال حىت غادرتنا البطلة صاحبة الست و العشرين سنة لتكون هنايتها تراجيدية‪ ،‬ماتت بعدما هزمها‬
‫جسدا‬
‫املرض و مت اكن منها‪ ،‬يقول "نذير"‪ « :‬يومها خسرت زوجيت بعد أن سحبها املوت مبخالبه و مل يرتك يل اإال ً‬
‫هامدا ال روح فيه »‪ 4‬ماتت و خلفت وراءها حزنا خيام على اجلميع و قاد زوجها و والدهتا للجنون‪.‬‬

‫جسدت "عبري" بذلك صورة املرأة اجلزائرية الطيبة‪ ،‬الرقيقة‪ ،‬فكانت رمز الزوجة املخلصة الصادقو و ِ‬
‫احملباة‪،‬‬
‫خرية ترتك األثر الطيب أينما حلات‪.‬‬
‫"عبري" هي رمز العطاء و التضحية و الوفاء‪ ،‬شخصية إجيابية ِّ‬

‫‪ - 2‬الشخصيات الثانوية‪.‬‬

‫الشخصية الثانوية هي املساعد األساسي و الرئيسي للشخصية الرئيسية و تعد مرافقا هلا‪ ،‬فال ميكن الفصل‬
‫بني الشخصية الثانوية و األساسية ف ـ « ال ميكن أن تكون الشخصية املركزية يف العمل الروائي إال بفضل‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.121‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.121‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.191‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.701‬‬

‫‪77‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫الشخصيات العدمية االعتبار فكما أن الفقراء هم الذين يصنعون جمد األغنياء فكأن األمر كذلك هاهنا »‪ 1‬فلها‬
‫عدة أدوار حبيث تربز كمساعدة أحيانا و يف أحيان أخرى تكون معارضة‪.‬‬

‫أ – شخصية محمود‪:‬‬

‫تعد شخصية حممود من الشخصيات الثانوية اليت ساعدت يف منو األحداث و توازهنا‪ ،‬و هي مرافق‬
‫للشخصية الرئيسية « فهي اليت تضيء اجلوانب اخلفية أو اجملهولة للشخصية الرئيسية »‪.2‬‬

‫هي شخصية متثل تاجر خمدرات خطري‪ ،‬يف هناية العشرينات من عمره يقول الراوي‪ « :‬صديق والدها أيام‬
‫العمل‪ ،‬كان شابا يف أواخر العشرينات و تاجر يف كل ما يباع »‪ ،3‬و يضيف أنه‪ « :‬قبل سنوات ألقت الشرطة‬
‫القبض على شبكة مهربة للمخدرات‪ ...‬كان حممود عضوا فيها »‪ 4‬فكانت هذه الشخصية ال أخالقية منحرفة‪،‬‬
‫صاحبة أعمال ال شرعية‪.‬‬

‫ميثل "حممود" دور اجلبَّار املتسلط املتباهي بأمواله و ممتلكاته اليت جناها من جتارة احلشيش‪ ،‬و جتلى ذلك يف‬
‫الرواية من خالل هذا املقطع السردي‪ « :‬ركن حممود سيارته الفرنسية "‪ "Renault21‬و كان كل اجلالسني يف‬
‫املقهى يتأملون وصوله ألهنا كانت سيارة عصرية مبحرك قوي و هائل ال يقدر على شرائها سوى أثرياء املدينة »‪،5‬‬
‫باإلضافة إىل أنه كان سيء السمعة يف اجملتمع‪ ،‬مكروها من قبل اجلميع بسبب أعماله النكراء اليت كان ميارسها‪ ،‬و‬
‫قد أظهره الراوي يف طريقة السرد واصفا إياه بالوقاحة و العجرفة يف قوله‪ « :‬كان شخصا مذموما من قبل الناس‬
‫لوقاحته و عجرفته اليت اكتسبها من أموال طائلة جناها من جتارة احلشيش »‪.6‬‬

‫"حممود" شخصية مزدوجة جتمع بني املكر و اخلبث و بني النبل و حسن اخلُلق مع "أمينة" فقط‪ ،‬كما تعد‬
‫اخلريين و سلب حقوقهم و االستيالء على أحبائهم‪ ،‬فتأخد كل ما‬
‫شخصية معادية للخري دورها إعاقة مسار ا‬
‫جورا دون مراعاة اجلانب النفسي و االجتماعي للغري‪ ،‬هي شخصية تزعم مساعدة‬
‫زورا و ً‬
‫تطمح إليه نفسها ً‬

‫‪ -1‬عبد امللك مرتاض‪ :‬يف نظرية الرواية –حبث يف تقنيات الكتابة الروائية‪ -‬دار الغرب وهران‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬ص ‪.100‬‬
‫‪2‬عبد القادر أبو شريفة‪ :‬مدخل إىل حتليل النص األديب‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬عمان‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪ ،7000 ،0‬ص ‪.106‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.15‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.15‬‬
‫‪ -5‬الرواية‪ ،‬ص ‪.56‬‬
‫‪ -6‬الرواية‪ ،‬ص ‪.15‬‬

‫‪72‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫األحبة و حتقيق مصاحلهم‪ ،‬فتُظهر عكس ما تبطن‪ ،‬يقول املبدع يف هذا الصدد باستعماله املزج بني أسلوب السرد‬
‫و احلوار‪ « :‬فهم املذموم تلميحات محايت‪ ،‬و سايرها‪.‬‬
‫‪ -‬أي عنف هذا و أي قلب حديدي ميتلك ؟ مسعت أنه كان يصر على قتله لوال صرخات زوجته‪ ،‬و يؤسفين يا‬
‫سيديت أن أخربك أنك أرسلت ابنتك يف رحلة حمفوفة باملخاطر‪.‬‬
‫قام حممود بإشعال سيجارة جديدة و استنشق دخاهنا حىت اسودت رئتاه‪ ،‬مث تأفف بقوة كأن اهلم يعزف على‬
‫أوتار قلبه و استأنف قائال‪.‬‬

‫‪ -‬غريب أمر فتيات هذا الزمن‪ ،‬كيف ترتك ابنتك من يأويها يف القصور و يتوجها أمرية فوق كل الفتيات من أجل‬
‫رجل ال ميلك قوت يومه !؟ و املصيبة العظمى أنه صار سجينا بسبب عنفه‪ ،‬كيف تأمنني أن ال يهشم أنف‬
‫طفلتك هذه يف يوم من األيام‪ ،‬فرتجع ندمانة حني ال ينفع الندم »‪ ،1‬فرمست لنا الرواية هذه الشخصية املاكرة و‬
‫املليئة باخلبث و الدهاء‪ ،‬تُضهر عكس ما تبطن فما كان تصرف "حممود" هذا اإال ألجل بناء سعادته و اشباع‬
‫رغباته على حساب تعاسة اآلخرين‪ ،‬فحرم "أمينة" من آماهلا و أمانيها و حبها‪ ،‬ليحقق سعادته بإدخاله "نذير"‬
‫جورا‪ ،‬فدفعه حقده إىل رسم خطة يتمكن من خالهلا على التفريق بني املرأة اليت يريدها و الرجل الذي‬
‫السجن ً‬
‫حتبه‪ ،‬فخط هلذا األخري مسلكا يقوده إىل السجن خببث و مكر و غدر‪ ،‬و كتب بعض الرسائل املزورة لكليهما‬
‫توحي باستنفار كل منهما لآلخر‪ ،‬و قد جنح بذلك و متكن من الزواج ب ـ "أمينة"‪ ،‬لكن بعد حصوله عليها حتول‬
‫مل معاشرهتا بعد أن فاز مبن رفضته ألعوام »‪.2‬‬
‫إىل « دجنواين حني ا‬
‫تقلبت حالته النفسية عندما علم أن زوجته عاقر‪ ،‬و أصبح الشخص الذي مل يكن عليه يوما‪ ،‬فلجأ إىل‬
‫ربه قائال‪ « :‬ليس عليك أن تقلق‪ ،‬فالقلب النابض باإلميان حييي املعجزات بالدعاء‪.‬‬

‫هذا ما تردد على لسان حممود يف حواره مع نفسه‪ ،‬حني تشتد األمور و تغلق األبواب و تسد الطرق‪ ،‬يظل باب‬
‫السماء مفتوحا لكل الناس‪ ،‬أشقياء كانوا أم أتقياء‪ ،‬كرماء أم خبالء صادقني أم كاذبني‪ ،‬و هلل احلكم يف هذا‬
‫و ذاك »‪ ،3‬فحني الت افت به اهلموم من كل جانب أمسك حبال من حبال اهلل عله خيفف لوعة قلبه‪.‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.12‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.176‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.111‬‬

‫‪77‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫لكن هذه احلالة مل تدم طويال و عاد حممود إىل طبيعته األوىل؛ شرب و ٍ‬
‫تعاط إىل أن أمسكت به احلكومة‬ ‫ٌ‬
‫ذات يوم و « رأى أنه لن حيتمل مشقة السجون فشنق نفسه »‪ 1‬و أهنى حياته‪ ،‬فكان هذا جزاء أعماله النكراء و‬
‫خبثه الذي غشى قلبه‪.‬‬

‫لقد جلأ الراوي إىل رسم و فضح صورة املكر و السوء الذي حتمله هذه الشخصية‪ ،‬من حب امتالك كل‬
‫كمعيق و خط فصل بني حب "أمينة" و "نذير"‪ ،‬استعماهلا كل‬
‫شيء غصبًا و بأبشع الطرق‪ ،‬باإلضافة إىل عملها ُ‬
‫سفاهتها لتظفر باألوىل‪ ،‬فحملت شخصيته كل الصفات السلبية‪.‬‬

‫ب – شخصية المعلم األكبر‪/‬يعقوب‪:‬‬

‫هو شخصية ثانوية و املعيق األكرب لعدد من الشخصيات األخرى أساسية كانت أم ثانوية‪ ،‬حتمل يف قلبها‬
‫بذور اخليانة و الغدر و اخلديعة‪" ،‬املعلم األكرب" أو "يعقوب" االسم الذي ذكر مرة واحدة يف الرواية فقد لُقب‬
‫"باملعلم األكرب" يف جل الفصول‪ ،‬هو رجل جزائري عاش فرتة العشرية السوداء و كان من بني زارعي الرعب و‬
‫اخلوف يف نفوس املواطنني‪ ،‬فكان قائد احدى اجلماعات اإلرهابية املسلحة اليت اختدت من جبل "عصفور" ب ـ‬
‫مقرا هلا‪.‬‬
‫"تلمسان" ً‬
‫كما أوردت الرواية وصفا يبني املالمح الفيزيولوجية له على لسان الراوي حيث يقول‪ « :‬كان املعلم يرتدي‬
‫جالبة مغربية بنيةن له حلية تصل نصف صدره‪ ،‬شعره طويل إىل كتفيه و يضع عصابة على جبينه كتب عليها‬
‫شهادة االسالم‪ ،‬يرتدي جزمة عسكرية و ساعة سويسرية غالية الثمن يف يده اليمىن‪ .‬خده األمين حيمل ندبة كأن‬
‫سكينا اخرتقت حلمه‪ ،‬مرعب الشكل له نظرات قاسية ال ترحم و حييط جبسمه حزام عسكري مدجج باألسلحة‬
‫و اخلناجر و القنابل »‪ ،2‬فذكر الراوي لباسه أيضا و كانت هيئته خميفة توحي بالشر الذي حيمله يف نفسه‪ ،‬أما‬
‫مظهرا خيدع به الناس‪ ،‬فيستغل املظاهر‬
‫العصابة اليت محلها على جبينه و اللحية اليت حتتل ذقنه فما هي اإال ً‬
‫االسالمية املقدسة لدى اجلزائريني لتكون وسيلة يستعطفهم هبا و ينال مراده املاكر‪.‬‬

‫فيحمل "املعلم األكرب" شخصية مزدوجة‪ ،‬فتارة تظهر طيبة تسعى لنيل رضى اهلل أوال مث رضى الشعب ثانيا‪،‬‬
‫و تارة تصبح جمرمة ميلؤها الشر و القسوة و البطش‪.‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.165‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.07‬‬

‫‪77‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫فبعدما قتل "املعلم األكرب" و َّ‬


‫نكل شر التنكيل بسكان قرية "العريب" الذي سعى الحقا الستعطافه ليصبح‬
‫خادما ملصاحلهم‪ ،‬دافع عن هذا األخري و أظهر له وجه احلماية و السالم عكس الشر الذي يبطنه‪ ،‬لريسم الرراوي‬
‫ً‬
‫هذا احلدث بأسلوب حواري إبداعي‪ ،‬فيقول على لسان " املعلم األكرب" بعدما أرعبه الرجال و أرادوا قتله‪:‬‬
‫« ‪ -‬تكلم و ال ختف‪ ،‬إنك يف محاييت اآلن‪ ،‬قال املعلم‪.‬‬
‫استعاد الضعيف بعضا من الشجاعة و طأطأ رأسه أرضا‪...‬‬
‫‪ -‬عليك األمان‪ ،‬فسكان تلك املنطقة حتت محايتنا‪ .‬فهم ال يعصوننا أبدا‪ ،‬و يقامسوننا خريات أراضيهم »‪،1‬‬
‫حاول استعطاف "العريب" و سعى لزرع بذور احلقد و االنتقام يف نفسه جتاه احلكومة‪ ،‬ليصبح فريسة ختدم‬
‫مصاحله و مساعيه الفاسدة و اجلائرة‪.‬‬

‫اتصفت هذه الشخصية بالنفاق و الكذب و الدهاء‪ ،‬فيقول "عبد الواحد هواري" يف ذلك‪ « :‬ثار اجلمع‬
‫حوله شاهرين أسلحتهم يهددون بقتله منتظرين إشارة صغرية من معلمهم‪ ،‬لكنه مل حيرك ساكنا‪ ،‬كان بدهاء‬
‫اجملرمني الكبار‪.2» ...‬‬

‫يدعي أنه من فرسان اهلل‪ ،‬قضيته لنصرة االسالم و املسلمني و ما هذا اإال شعار يهدف إىل ضم أعضاء‬
‫أكثر من املواطنني يف صفوفه‪ ،‬فيقول‪ - « :‬إننا فرسان اهلل فوق األرض‪ ،‬نرفع راية الدين عاليا‪ ،‬و نقتص إلخوتنا و‬
‫نرد الصاع صاعني لضحايا أصدقائنا‪ ،‬و إين ألعرض عليك خيارا واحدا فقط‪.‬‬

‫‪ -‬انضم إلينا و ساهم يف انتصارنا على الطغاة املستبدين‪ ،‬و سننتقم لعائلتك من القتلة الكافرين »‪ 3‬و كانوا هم‬
‫القتلة الكافرون‪.‬‬

‫لقد ظهر مدى رعبه و الوحش الكامن يف نفسه يف إحدى الليايل اليت خرج فيها كل األفراد إىل الشاطئ‬
‫قصد االستمتاع و اللهو حتت نشوة اخلمر‪ ،‬رأى "املعلم األكرب" زوجان جيلسان بأمان يستمتعان هبواء البحر‬
‫العليل فاجته صوهبما متهما إيامها بارتكاب فاحشة الزنا و الكذب‪ ،‬و ما إن راوغه الزوج "نذير" حىت غرس‬
‫السكني يف بطن زوجته "عبري" اليت حتمل جنينا مل َير النور بعد‪ ،‬غرس هذا املشهد اخلوف و الرعب و اهللع يف‬
‫نفوس الرجال اآلخرين‪ ،‬و ظهر ذلك يف الرواية من خالل‪ « :‬امحرت عينا النعلم و طار عقله من شدة احلنق و‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.00‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.00‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.01‬‬

‫‪78‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫صارت كلمات الغضب و الطيش تتطاير من فمه‪ ،‬أما هي فكانت مكنوفة األيدي عاجزة أمامه عن الدفاع عن‬
‫نفسها‪ ،‬حىت سحب خنجره و صار يطعن بطنها أكثر من عشر مرات‪ ،‬ارتعب اجلميع بعد أن رأوا الوحش‬
‫‪1‬‬
‫خطريا و رهيبًا‪ ،‬ال تطال الرمحة و الرأفة قلبه قط‪.‬‬
‫الكامن وراء هذا الشخص » فكان جمرما دمويا ً‬
‫كما يعتدي "املعلم األكرب" على النساء و يعاملهم معاملة اجلاريات احلقريات‪ ،‬خدش حياءهن و سرق‬
‫شرفهن و هبجتهن‪ ،‬كان عبارة عن وحش يف جسد إنسان‪ ،‬اإال أن احلال مل يدم طويال فلقد تلقى هزمية نكراء على‬
‫يد أفراد اجليش الوطين اجلزائري‪ ،‬و َّفر هاربا كاجلبناء‪ ،‬يقول الراوي‪ « :‬استغل املعلم و وزيره حالة الذعر اليت‬
‫متلكت أفراد املعسكر‪ ،‬رغبة منهما يف التسلل من بسالة اجلنةد و الفرار بعيدا‪ ،‬فصعدا فوق شجرة البلوط العمالقة‬
‫و سكنا فيها دون أي حراك و استقرا هناك »‪.2‬‬

‫كانت هذه شخصية أخرى أعاقت عمل الطيبني و سرقت آمال الناس و حياهتم و أودت بأمانيهم‪ ،‬تتصف‬
‫باإلجرام الوحشي دون رمحة أو شفقة غياتاها رديئة و ضعيفة حقرية و ملتوية فيسعى لنيل السلطة و احلكم على‬
‫حساب روح األبرياء‪.‬‬

‫ج – شخصية أسامة‪:‬‬

‫شخصية "أسامة" من بني أهم الشخصيات الثانوية يف هذه الرواية‪ ،‬شخصية خلفت أثرا طيابا مبرورها عرب‬
‫الصفحات الروائية‪ ،‬صادقة مناضلة‪ ،‬حمبة للوطن حباا دفعها للتضحية حبياهتا ألجله‪.‬‬

‫"أسامة" هو الذي تذوق مرارة اليتم بعد ما سرق منه املوت أعز أحبائه‪ ،‬ففي املاضي ماتت أمه اليت فقدها‬
‫« يف سن صغرية جدًّا »‪ 3‬ما خلَّف حزنا شديدا يف نفسه‪ ،‬أحس بالوحدة الشديدة و أذاقته احلياة من ظلمها‪،‬‬
‫كثريا ما كان يتذكر يتمه فيحزن لذلك‪ ،‬يقول الراوي‪ « :‬تذكر أنه يتيم و مل يشبع من حضن أمه‪ ،‬و مل يشرب‬
‫ً‬
‫حىت الثمالة من كلمات منبع حنانه و مل يتلق صفعة حنونة لشغبه‪ ...‬ظلت العربات تتساقط من عينيه ألنه عاش‬
‫يف الدنيا لكنه ُمنع من منبع احلياة‪ُ ،‬حرم من ينبوع احلنان املتدفق عرب مهجة القلب املشع ولعا و حبا »‪ ،4‬بعد‬
‫وفاة أمه تزوج واله باألم "فاطنة" اليت كثريا ما منحته حناهنا و حباها‪ ،‬لكن األب مات هو أيضا و تركه وحيدا‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.51‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.97‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.20‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.26‬‬

‫‪78‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫يصارع احلياة دون سند أو عون‪ ،‬ليقول الراوي يف هذا الصدد‪ « :‬فقد أمه يف سن صغرية جدَّا مث حلق هبا أبوه‬
‫فظل وحيدا بعيدا عن باقي أفراد عائلته الذين هاجروا صوب أوروبا و مل يلتفتوا قط »‪.1‬‬

‫مل يتوقف ذلك الزائر غري املرغوب به عن قطف أرواح أحبائه فأخذ معه زوجة أبيه "فاطنة" اليت قتلها‬
‫األوباش قبل أن يهرع لنجدهتا‪ ،‬فحزن حزنا بكت له اجلبال‪ ،‬و امتأل قلبه غيظا و حقدا على أولئك الظاملني الذين‬
‫فسادا‪.‬‬
‫عاثوا يف األرض ً‬

‫أرادت شخصية "أسامة" اهلرب من االحساس باليتم الذي هز كياهنا إىل حب الوطن و االرتشاف من‬
‫عشقه‪ ،‬فمأل نقص حنان األم حبنان أمه اجلزائر‪ ،‬ف ـ "أسامة" هو البطل املناضل املفعم باحلب الصادق لوطنه فرفض‬
‫بقاءه حتت وطأة الظلم و اجلور و الدم الذي سفكه بعض مواطنيه الذين ماتت الرمحة يف قلوهبم املشبعة باحلقد و‬
‫اإلجرام‪.‬‬

‫كما ِ‬
‫عمد الراوي إىل ذكر كل اخلصال احلسنة هلذه الشخصية‪ ،‬فقد كان "أسامة" إنسانا بسيطا متواضعا‬
‫مناضال و شجاعا‪ ،‬و يف هذه الصورة أصدق دليل على تواضعه و حسن أخالقه‪ « :‬غالبا ما كان أسامة‬
‫يستضيف يف مكان عمله رجاال ذوي رتب عالية يف اجليش فيع اد هلم طباخ الثكنة وليمة دمسة تليق هبم‪ ،‬غري أنه‬
‫كان يعتذر منهم وقت اإلفطار و يتجه حنو املطعم العام و يتناول غذاءه رفقة اجلنود العاديني‪ ،‬حىت غرس يف‬
‫‪2‬‬
‫التكرب و النفاق‪.‬‬
‫قلوهبم حبا عظيما له و للوطن الذي حيبه » ‪ ،‬فهي شخصية مثالية يف زمن َكثُر فيه ا‬

‫لقد أنفق جل حياته يف خدمة اجليش الوطين‪ ،‬انضم إليه قبل أن يتجاوز السادسة عشرة من عمره‪ ،‬و منذ‬
‫ذلك الوقت أصبح الدفاع عن وطنه اهلاجس الوحيد الذي يؤرقه‪ِ .‬‬
‫عمل "أسامة" كنقيب يف مدينة "تلمسان" و‬
‫عُرف جبديته و تفانيه يف عمله‪.‬‬

‫أما عن صفاته الفيزيولوجية فلم يتطرق الراوي إىل تفصيلها ليرتك مالحمه غامضة خفية عن القارئ‪ .‬يصف‬
‫"عبد الواحد هواري" حالته بعدما أتعبه صوت الرصاص و أهنكته املعارك اليت ال تنتهي‪ ،‬فيقول‪ « :‬دخل أسامة‬
‫مكتبه و جلس فوق أريكة كي يريح دما غه من صوت الرصاص الناجم عن املعركة الطاحنة اليت خاضها تلك‬
‫كثريا‪ ،‬فالوقت ال‬
‫الليلة‪ ...‬كان وجهه مرتهال من التعب و االرهاق‪ ،‬تفوح منه رائحة غريبة و قد تعرق وجهه ًّ‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.20‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.20‬‬

‫‪77‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫يسعفه كي يستحم‪ ،‬قد تعلن الثكنة حالة االستنفار يف أي دقيقة »‪ ،1‬لذا بقي متأهبا جاهزا ألي تدخل طارئ‪.‬‬
‫وألن عمله مل يسمح له بعيش حياة طبيعية و ال الزواج و ال صرف أمواله فقد مجع ثروة مالية وهبها إىل أخيه غري‬
‫الشقيق "العريب"‪ ،‬فباالضافة إىل كون "أسامة" ذا شخصية طيبة شجاعة فهو كرمي أيضا و رؤوف‪.‬‬

‫فهذه الشخصية صاحبة ضمري حي و قلب شجاع و عطوف يف اآلن نفسه‪ ،‬يكسرها مشهد الدماء و‬
‫اجلثث اليت ختلفها اجلماعات اإلرهابية بشكل مستمر‪ ،‬حتزن حلال بالدها و يؤرقها هذا الكابوس الذي مل يشأ‬
‫االنقشاع‪ ،‬فوضعنا الكاتب أمام هذا املشهد الذي آلت إليه الشخصية‪ « :‬اسند ظهره و راح يتأمل السقف و‬
‫عالمات األسى بادية عليه‪ ،‬الزال يفكر يف كل ضحية مل يسعفه القدر إلنقادها‪ ،‬و مل تعد شهيته للطعام كما‬
‫كانت من قبل‪ ،‬صور اجلثث اليت جترها وديان الدماء سدت شهيته‪ ،‬صار ضمريه كآلة حادة جترحه بعد‬
‫كل حادثة »‪ 2‬و ما زادته هذه املشاهد الدامية اإال إصرارا لالنتقام و القصاص من كل جمرم قتل عن غري وجه‬
‫حق‪ ،‬سعى إلهناء هذه احلرب اليت راح ضحيتها آالف املواطنني ف ـ‪ « :‬وحدته و عزلته كانت من أجل إجياد نسمة‬
‫حيمل نفسه ما‬
‫أمل يتبعها إليقاف مسلسل الوحشية و احلرب القذرة‪ ،‬صار يتأفف مع كل ثانية متر‪ِّ ،‬‬
‫ال طاقة هلا »‪.3‬‬

‫الصعاب‪ ،‬و‬
‫يربز "أسامة" رمز املقاومة متمسكا هبويته و انتمائه لوطنه‪ ،‬كان بطال شجاعا و مغو ًارا ال يهاب ِّ‬
‫قد اختار له الراوي هذا االسم بالتحديد ملل حتمله شخصيته من صفات مالزمة له‪ ،‬معناه األسد الذي يتصف‬
‫بالشجاعة و اإلقدام و القوة و السرعة‪ ،‬جريء يقف دائما جبانب احلق و يدحض الباطل‪ ،‬عاقل راجح يف معظم‬
‫آرائه‪.‬‬

‫وضع "أسامة" خطة حمكمة للنيل من أعداء الوطن و القضاء على ظلمهم و جورهم الذي خلَّف وراءه‬
‫وديانا من الدماء‪ « ،‬أعاد أسامة شريط األحداث يف رأسه كي يضع خطة حمكمة متكنه من االنقضاض على‬
‫األوباش داخل أوكارهم‪ ،...‬اختد قر ًارا بأن يتجه رفقة عدد من الرجال األشداء‪ ،‬املعروفني حببهم لوطن آمن و‬
‫سامل‪ ،‬و يدكوا معاقل أولئك األوغاد خمريب الوطن »‪ ،4‬نفَّد البطل الشجاع خطته و ُكلِّلَت بالنجاح‪ ،‬ف ُقتل كل من‬
‫حاول املقاومة و املراوغة‪ ،‬أُسر من رفع راية االستسالم‪ ،‬و أطلق سراح النساء األسريات الاليت عانني الويالت يف‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.60‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.60‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.60‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.27‬‬

‫‪77‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫اجلبال‪ ،‬لكن الفرحة مل تكتمل فقد سقط "أسامة" شهيدا‪ ،‬يقول الراوي‪ « :‬و ما إن اقرتبوا من هناية حدود الغابة‬
‫حىت ُمسع دوي قنبلة‪ ،‬إنه لغم ارتكزت عليه رجل القائد الشجاع فسقط أرضا و قد هتشم جسده‪ ،‬هرع إليه اجلنود‬
‫ممسكني رؤوسهم و قد أخد اخلوف مبجامع قلوهبم‪ ،‬نظراهتم احلزينة على قائدهم و والدهم الذي محاهم صريع بني‬
‫أيديهم و ليس بأيديهم حيلة‪ ...‬مث قال‬
‫‪ -‬شكرا لكم يا أبنائي‪.‬‬
‫رفع إصبعه إىل السماء و ردد الشهادتني و فاضت روحه إىل السماء »‪.1‬‬

‫كانت شخصية متميزة بالطيبة و القوة و النضال‪ ،‬روحه تفيض باملقاومة و الدفاع عن وطنه بشرف‪ ،‬كما‬
‫حتمل شخصيته العديد من امليزات احلسنة كالبساطة و البسالة و حب اآلخرين‪.‬‬

‫د – شخصية آمال‪/‬ذات الشعر األسود‪:‬‬

‫تعد شخصية "آمال" شخصية ثانوية ساعدت يف منو األحداث داخل اإلطار الروائي‪ ،‬هي فتاة قوية صلبة‪،‬‬
‫مأل احلقد قلبها و منت فيه بذور االنتقام بعد ما فقدت صديقتها "عبري"‪.‬‬

‫و قد مشل الوصف اجلانب الفيزيولوجي ل ـ "آمال"‪ ،‬حيث قدمها الراوي على أهنا « فتاة ممشوقة القامة و‬
‫جسد حنيل و شعر أسود يصل إىل الكتفني »‪ ،2‬إضافة إىل أن الراوي قدم وصفا للباسها أيضا‪ ،‬و الذي يدل على‬
‫انفتاحها عكس معظم فتيات اجلزائر يف التسعينات‪ ،‬احملافظات احملجبات‪ ،‬فقد كانت "آمال" « ترتدي تنورة‬
‫سوداء تصل إىل ركبتيها مع قميص ذي أكمام قصرية‪ ،‬و ساعة يد ذهبية اللون تعكس نور الشمس »‪ 3‬فعُرفت‬
‫بتحررها و ال مباالهتا إزاء تصرفاهتا‪.‬‬

‫عاشت "آمال" يتيمة األم لذا احتضنتها عائلة والدهتا و رعتها حبب و حنان‪ ،‬أما والدها فقد تركهما هي و‬
‫أمها و هاجر إىل فرنسا‪ ،‬بعدها دخل السجن‪ ،‬و يتجلى ذلك يف الرواية من خالل‪ « :‬كان صهره قابعا يف فرنسا‪،‬‬
‫مل يعد إىل اجلزائر منذ مدة طويلة‪ ،‬اختذ عشيقة أكلت ماله و أفكار عقله حىت فرقته على ابنته الوحيدة اليت توفيت‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.90‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.117‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.117‬‬

‫‪77‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫ع احلياة ولَّد الكره و احلقد يف قلبها‪ ،‬حىت إن احلديث‬


‫صا ِر ُ‬
‫‪1‬‬
‫أمها قبل سنوات خلت » فَـتَـ ْرُك والدها َهلَا وحيدة تُ َ‬
‫عنه يغضبها و يرتك يف نفسها غصة تسد حلقها‪.‬‬

‫وقد كانت "آمال" شخصية مضطربة ضائعة بني احلقيقة و اخليال و احلقد‪ ،‬فاجتمعت بداخلها مجلة من‬
‫الثنائيات املتناقضة‪ ،‬إذ تعد « شخصية مركبة معقدة ال تستقر على حال‪ ،‬و ال يستطيع القارئ أن يعرف مسبقا‬
‫ما سيؤول إليه أمرها ألهنا متغرية األحوال »‪ ،2‬ففي بعض األحيان جندها تلك الفتاة الطيبة اليت حتب صديقتها‬
‫"عبري" حباا كبريا‪ ،‬كما حتب زوجها‪ ،‬اإال أننا جندها يف أحيان أخرى شريرة تسعى لإلنتقام‪ ،‬خائنة حمتالة استولت‬
‫على كل ممتلكات زوجها و رمته خارجا هائما يف الشوارع‪.‬‬

‫هي شخصية مزدوجة حتمل امسني‪ :‬أوهلما "آمال"‪ ،‬و الثاين "ذلت الشعر األسود" كما أطلق عليها "نذير"‬
‫يف مذكراته كي ال يكشف شخصيتها و يدع القارئ يبحث عن كنهها و يتطلع إىل معرفتها‪ ،‬لذا اتصف دورها‬
‫بالغموض إضافة إىل أهنا مثقفة‪ ،‬فيقول "نذير"‪ « :‬دقت الباب مرة ثانية و يف يدها اليسرى جمموعة من‬
‫‪3‬‬
‫كمؤلَف عمالق ال جييد كاتبه‬
‫الكتب » و يضيف‪ « :‬مل تكن آمال كتابا مفتوحا يستطيع أي قارئ تصفحه‪ ،‬بل ُ‬
‫إال العمق يف الكلمات فال يدرك تأويل نصه الكساىل‪ ،‬يصح تسميتها إجلام العوام عن التحديق بآمال‪ ،‬فهي من‬
‫النوع املثقف ذي النظرة البعيدة »‪.4‬‬

‫عمدا لتجذب نظره هلا‬


‫كانت لطيفة عندما رآها "العريب" يف بيت العجوز "رمحة"‪ ،‬فأظهرت جانبها اللطيف ً‬
‫و يقع يف شباك حبها‪ ،‬حاولت إغواءه بطريقة سلسة غري واضحة ف ـ « كانت تلك الشابة متشي حنو املطبخ‬
‫خبطوات رشيقة ترج شعرها بني كتفيها »‪ ،5‬كما استولت على قلب العجوز "رمحة" اليت راحت متدحها أمام‬
‫"العريب" قائلة‪ - « :‬هادي يا ولدي بنت ناس و أصل‪ ،‬من يوم ما شافتين و هي جتي عندي حتكيلي قصة سيدنا‬
‫حممد صلى اهلل عليه و سلم‪ ،‬و راين نتعلم منها بزاف صواحل‪ ،‬اهلل يبارك فيك و فيها »‪ ،6‬و جنحت يف إصابة‬
‫جترعا فيها سعادة الدنيا و شربا من فرحها حىت الثمالة‪ ،‬اهتمت‬
‫هدفها فتزوجها "عمي العريب" و عاشا سنة كاملة َّ‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.119‬‬


‫‪ -2‬حممد هالل غنيمي‪ :‬النقد األديب احلديث‪ ،‬هنضة مصر للطباعة و النشر‪ ،‬ط‪.7006 ،5‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.117‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.116‬‬
‫‪ -5‬الرواية‪ ،‬ص ‪.111‬‬
‫‪ -6‬الرواية‪ ،‬ص ‪.111‬‬

‫‪77‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫بشؤونه و أعماله برحابة صدر‪ ،‬فعلت كل ذلك لتصبح وقعته بعد ما تغدر به أقوى و أشد‪ ،‬ماكرة خبيثة و‬
‫خائنة‪.‬‬

‫فهي شخصية بأخالق سيئة ذليلة‪ ،‬فضحتها جارهتا بعد ما رأهتا ختون زوجها مع احلالق "مروان" قائلة‪:‬‬
‫« ‪ -‬عزيزيت أنا أعلم ما حيدث بينك و بني احلالق مروان‪...‬‬
‫سحبت صورة التقطت داخل حمل احلالق‪ ،‬تظهر من خالهلا الزوجة نصف عارية مرمية بني أحضان مروان ختدش‬
‫احلياء مبفاتنها »‪.1‬‬
‫وحيدا هائما‪ ،‬سرقت كل ممتلكاته حىت املنزل مل ترتكه له‪ ،‬فبقي‬
‫و لتحقق انتقامها على أكمل وجه تركت زوجها ً‬
‫حيارب اجلنون بعد ما قرأ رسالتها اليت تقول‪ « :‬لقد رحلت و معي كل األموال‪ ،‬مل تعد يل رغبة فيك‪ ،‬ضيعت‬
‫معك أمجل سنوات شبايب‪ ،‬البيت هذا و املنزل الريفي و املعمل كلها على امسي و سبق لك أن أمضيت على‬
‫أوراق امللكية‪ ،‬هلذا أنصحك بالبحث عن مكان يأويك ألين سأعرض كل شيء للبيع‪ ،‬و يف الدرج الثاين ستجد‬
‫‪2‬‬
‫كما هائال من‬
‫أوراق الطالق‪ ،‬و ال أريدك أن تبحث عين أبدا » ‪ ،‬و هنا ظهر الوجه اآلخر للشخصية اليت حتمل ًّ‬
‫احلقد و الكره يف قلبها جتاه من قتل ابن صديقتها و سرق فرحتها‪ ،‬فكان هذا انتقاما من "العريب" الذي كانت له‬
‫يد يف هذه اجلرمية‪.‬‬

‫« كان يف هلجتها اآلمرة شيء من القوة و الصالبة و كثري من املرارة و طعم لسخط احلياة‪ ،‬ليمي هذا مل َأر‬
‫فتاة أقوى منها‪ ،‬صلبة يف اختاذ القرارات متهورة إىل حد اجلنون »‪ ،3‬فقتلت مبساعدة "نذير" الرجل الذي ساهم‬
‫يف اجملزرة اليت ارتُ ِكبت يف حق صديقتها‪ ،‬و طلبت من آخر قتل الرجل الثاين‪ ،‬و كان الثالث هو "العريب" الذي‬
‫انتقمت منه بنفسها‪.‬‬

‫تموا‬
‫أخريا ُكشف املستور و اتضحت األسرار و تبني أن "العريب" ما كان اإال ضحية استغلها اإلرهابيون ليُ ُّ‬
‫ً‬
‫أعماهلم‪ ،‬فندمت "آمال" ندما شديدا عندما علمت أنه ال يد لزوجها يف تلك اجلرمية‪ ،‬أدركت أهنا ظلمته‪ ،‬و قد‬
‫جاء يف هذا الصدد‪ « :‬و على نفس الشكل سقطت آمال باكية متضرعة طالبة الصفح و املساحمة »‪.4‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.117‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.115_116‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.711‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.716‬‬

‫‪77‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫إذن هي شخصية مزدوجة محلت يف داخلها متناقضات‪ ،‬فيصورها الراوي أحيانا بصورة الطايبة و النبل و‬
‫أخريا هتتدي إىل الصواب و يصيبها‬
‫اإلخالص‪ ،‬و أخرى جمرمة خائنة و حقودة أعمى اإلنتقام بصريهتا‪ ،‬لكنها ً‬
‫الندم ملا فعلته‪.‬‬

‫ميكن القول يف األخري أن شخصيات "عبد الواحد هواري" قد كشفت عن وعيها الفكري و السياسي من‬
‫خالل حضورها املستقل‪ ،‬فحملت كل شخصية رمزيتها داخل اجملتمع الواقعي‪ ،‬لذا فإهنا لعبت دورا هاما يف حتريك‬
‫العمل الروائي‪ ،‬فعكست بذلك الرواية واقع اجملتمع اجلزائري يف ظل العشرية السوداء اليت مرت هبا البالد‪ ،‬فلعبت‬
‫كل شخصية دورها على أكمل وجه‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫المبحث الثاني‪ :‬بنية الزمن في الرواية‬

‫تمهيد‪:‬‬

‫يعرف الزمن بأنه العمود الفقري للرواية وأحد االشكاليات اهلامة اليت تواجه الباحث‪ ،‬لذا أكد العديد من‬
‫الدارسني « أن الرواية هي تشكيل الزمان بامتياز »‪،1‬كونه يعد أحد العناصر األساسية « اليت يقوم عليها فن‬
‫الروائي يعين بلورة بنية النص »‪ 2‬ألن طريقة بناء الزمن يف الرواية تكشف بنية النص ‪ ،‬ما جيعل شكل النص الروائي‬
‫يرتبط مبعاجلة الزمن‪.‬‬

‫البد للرواية أن ترتبط بزمن معني سواء كان ماضيا أو حاضرا أو مستقبال‪ ،‬فال ميكن أن ُحتكى القصة‬
‫منفصلة عن الزمن‪ ،‬ألن زمن اخلطاب « هو الزمن الذي يعطي القصة زمنيتها اخلاصة من خالل اخلطاب يف إطار‬
‫العالقة بني الراوي و املروي له »‪.3‬‬

‫يعد الشكالنيون الروس أول من أدرج الزمن يف نظرية األدب‪ ،‬فلم تكن نقطة ارتكازهم طبيعة احلدث يف‬
‫ذاته؛ إمنا ارتكزوا على العالقات اليت جتمع بني تلك األحداث و تربط أجزاءها‪ ،‬لذا « فإن عرض األحداث يف‬
‫العمل األديب ميكنه أن يقوم بطريقتني‪ :‬فإما أن خيضع السرد ملبدأ السببية فتأيت متسلسلة وفق منطق خاص‪ ،‬و إما‬
‫أن يتخلى عن االعتبارات الزمنية حبيث تتابع األحداث دون منطق داخلي‪ ،‬ومن هنا جاء متييزهم بني املنت و‬
‫املبىن‪ ،‬فاألول البد له من زمن و منطق ينظم األحداث اليت يتضمنها‪ ،‬أما الثاين فال يأبه لتلك القرائن الزمنية و‬
‫املنطقية قدر اهتمامه بكيفية عرض األحداث و تقدميها للقارئ »‪ 4‬و هذا األخري هو ما نالحظه بكثرة يف رواية‬
‫"يف كل قرب حكاية" لـ ـ " عبد الواحد هواري" اليت اختلطت أبعادها لتظهر املفارقات و اإليقاعات السردية بشكل‬
‫جلي‪ ،‬ما دفعنا للقول بأن الرواية مبنية على الزمن‪.‬‬

‫‪ - 1‬البنية الزمنية في رواية "في كل قبر حكاية"‪.‬‬

‫أ ‪ -‬البنية الزمنية الخارجية (الزمن الخارجي)‪:‬‬

‫‪ -1‬مها حسن القصراوي‪ :‬الزمن يف الرواية العربية‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات و النشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،7001 ،1‬ص ‪.05‬‬
‫‪ -2‬مها حسن القصراوي‪ :‬الزمن يف الرواية العربية‪ ،‬ص ‪.02‬‬
‫‪ -3‬سعيد يقطني‪ :‬انفتاح النص الروائي ‪-‬نص و سياق‪ ،-‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،1999 ،1‬ص ‪.19‬‬
‫‪ -4‬حسن حبراوي‪ :‬بنية الشكل الروائي ‪-‬الفضاء‪ ،‬الزمن‪ ،‬الشخصية‪ ،-‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،1990 ،1‬ص ‪.102‬‬

‫‪77‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫ويندرج حتت هذه البنية زمن الكتابة وزمن القراءة و الزمن التارخيي‪ ،‬و إمكانية تقسيم الزمن يف الرواية تعود‬
‫عموما إىل زمن الكتابة‪ ،‬زمن القارئ‪ ،‬و زمن الكاتب‪ ،‬و غالبا ما ينعكس الزمن على زمن القارئ بواسطة زمن‬
‫الكاتب‪ ،‬و هذا يربز العالقة بني هذه األزمنة‪ ،‬لذا فالروائي يقدم لنا تلخيص قصة كاملة جرت يف شهر أو سنة‬
‫عرب فقرة قصرية تستغرق قراءهتا دقيقة أو دقيقتني‪.‬‬

‫و هذا ما نالحظه يف مواطن كثرية يف الرواية فنجد قول "نذير" « ثالثة أشهر مرت علي داخل زنزانة حقرية‬
‫رائحتها نتنة‪ ،‬مل ُجيد صراخي و توسلي للحراس شيئا سوى بعض التهديدات من طرف اولئك الذين اعتادوا حياة‬
‫السجون »‪ ،1‬فالراوي يف هذا املثال مل يفصل يف أحداث هذه االشهر اليت مرت على البطل‪ ،‬بل قام بتلخيصها‬
‫يف أسطر قليلة حتمل معىن واضح أال و هو التعذيب و التهميش اللذان تعرض هلما املساجني يف حقبة الصراع‬
‫السياسي الذي خلف حياة اجتماعية غري عادلة‪ ،‬فكانت العالقة بني الشعب والسلطة متذبذبة‪.‬‬

‫و حتمل البنية الزمنية اخلارجية نوعان من الزمن مها‪ :‬زمن الكتابة و الزمن التارخيي‪ ،‬وفصلنامها فيما يلي‪:‬‬

‫أ ‪ .1 -‬زمن الكتابة‪:‬‬

‫يقصد بزمن الكتابة العصر الذي عاش فيه املؤلف و تفاعل مع أحداثه‪ ،‬و تأثر فيه باحلياة السياسية والثقافية‬
‫و االجتماعية‪ ،...‬و اليت سامهت بدورها يف بلورة أفكاره و توجيه آرائه اليت انعكست على عمله اإلبداعي‪.‬‬
‫لزمن الكتابة عالقة بوجهة نظر الكاتب حيث « يؤشر زمن كتابة النص إىل الزمن الذي كتب يف القاص عمله‪ ،‬و‬
‫معرفته ضرورية‪ ،‬لوضع هذا العمل يف سياقه التارخيي‪ ،‬و االجتماعي‪ ،‬ألنه ال يوجد عمل فين قائم يف اهلواء‪ ،‬مهما‬
‫كان خياليا‪ .‬و الواقع أنه ال ميكن جتاهل هذا الزمن حىت و إن عد زمنا خارجي‪ ،‬ذلك ألن الكاتب يضع‬
‫شخصياته و يتبىن أحداثا‪ ،‬وفق رؤية متلبسة بوجهة نظر عصره »‪.2‬‬

‫ط الروائي "عبد الواحد هواري" رواية "يف كل قرب حكاية" لينقل للقارئ األحداث الدامية اليت مرت هبا‬
‫خا‬
‫اجلزائر يف التسعينات معربا عن مهوم و مواجع الشعب‪ ،‬و مسطرا بأسلوب فين إبداعي معاناة اجلزائريني من ظلم و‬
‫تعسف و ترعيب زرع اخلوف و الوجل يف قلوهبم‪ ،‬و قد كان "عبد الواحد هواري" ممن عاصروا تلك الفرتة الصعبة‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.101‬‬


‫‪ -2‬نبيل بو السليو‪ :‬بنية الزمن القصصي لدى مرزاق بقطاش‪ ،‬دار أمواج للنشر‪ ،‬ط‪ ،1‬سكيكدة‪ ،7001 ،‬ص‪.70‬‬

‫‪77‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫من تاريخ اجلزائر ليكون هذا التعبري منطلقا من نفسه‪ ،‬عاكسا بوضوح واقعه هو و الكثري من الناس الذين سردوا‬
‫بدورهم تفاصيل حياهتم يف ذلك الزمن املرعب‪ ،‬فقام الروائي جتسيد تلك األحداث الواقعية عرب شخصياته‪.‬‬

‫لقد عاصر السارد آخر مثاين سنوات من تسعينات القرن املاضي الذي دارت حوله جل أحداث الرواية‪،‬‬
‫حيث شهدت اجلزائر حتوالت جذرية هزت البالد بأكملها من الناحية السياسية‪ ،‬فظهرت التعددية احلزبية ما أدى‬
‫إىل اندثار احلزب الواحد الذي هيمن على الساحة السياسية لسنوات خلت‪ ،‬و لقد ولادت هذه التعددية‬
‫صراعات دامية راح ضحيتها آالف املواطنني األبرياء و الذين كانوا اخلاسر األكرب يف ظل الصراع‪ ،‬فتحولت حياهتم‬
‫االجتماعية من حياة مستقرة إىل حياة متألها الدماء و اخلراب‪ ،‬يقول الراوي يف هذا الصدد‪ « :‬فاألوضاع يف‬
‫البالد تشري إىل اخلطوط احلمراء‪ ،‬ذلك الصراع بني األحزاب صار يلتهم كل شيء إال صانعي املشاكل‬
‫أنفسهم »‪ ،1‬و من الواضح تأثر الروائي تأثرا كبريا هبذه األوضاع اليت عايشها من خالل انعكاسها على أحداث‬
‫الرواية اليت صورت املعاناة و الفقر و احلرمان و االستعباد الذي تعرض له املواطنون اجلزائيني‪.‬‬

‫مل يقتصر تأثر السارد على احلياة السياسية و االجتماعية فقط بل تع ادى ذلك إىل اجملال االقتصادي أيضا‬
‫حني ذكر انتقال اجلزائر إىل اقتصاد السوق بدل االقتصاد املوجه و تداعياته اليت عقبته‪.‬‬

‫نالحظ مما سبق أن "عبد الواحد هواري" قد تأثر باحلياة االجتماعية و السياسة و االقتصادية و حىت‬
‫الثقافية اليت عاصرها مضمنا إياها يف عمله األديب‪ ،‬حماوال التطرق إىل بعض الثغرات اليت انتشرت يف تسعينات‬
‫القرن املاضي و اعطائه بعضا من احللول اليت قد تسد تلك الفجوات‪.‬‬

‫أ ‪ .2 -‬الزمن التاريخي‪:‬‬

‫لتحمل املؤلَّف‬ ‫ِ‬


‫مهما حاول الكاتب جعل مؤلَّفه خياليا بعيدا عن الواقع اإال أن بعض الثغرات تَـْنـ َفل ُ‬
‫ت منه ُّ‬
‫أبعادا حقيقية تعرب عن حياته وعصره‪.‬‬

‫إال أن هناك العديد من املبدعني الذين يفضلون االنطالق من أحداث تارخيية متثل املرجعية االساسية‬
‫لعملهم الفين‪ ،‬و هذا ما جنده يف رواية "يف كل قرب حكاية" حني عمد الروائي على حتديد فرتة زمنية بأبعاد‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.11‬‬

‫‪888‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫حقيقية‪ ،‬متتد من ‪ 1990‬إىل ‪ ،7019‬مضفيا عليها الطابع التخييلي كي يبتعد عن جعل نصه نصا تقريريا أو‬
‫كتابا تارخييا‪.‬‬

‫تنطلق الرواية من أحداث تارخيية واقعية مأساوية معتمدة على الزمن التارخيي كمرجع للمرحلة اليت تناولتها‪،‬‬
‫فيخرتق الروائي النص من زاوية أيديولوجية هتدف إىل بث قيم فكرية معينة سادت تلك الفرتة الدموية‪ ،‬و البد من‬
‫االشارة إىل أن الرواية تناولت أزمنة تارخيية ذات أبعاد متباينة‪ ،‬كما هو مبني هنا‪:‬‬

‫‪ :1990 -‬فوز جبهة التحرير يف االنتخابات الربملانية‪.‬‬

‫‪ :1991 -‬إلغاء نتائج االنتخابات الربملانية اليت فازت هبا اجلبهة االسالمية لإلنقاذ‪.‬‬

‫‪ :1997 -‬بداية الصراع السياسي و اغتيال الرئيس حممد بوضياف‪.‬‬

‫‪ :1991 -‬اعالن احلرب على اجلبهة االسالمية لإلنقاذ‪.‬‬

‫‪ :1996 -‬عقدت األحزاب السياسية مؤمترا يف العاصمة اإليطالية روما و إعالن العقد الوطين الذي مينع الوصول‬
‫إىل السلطة بواسطة العنف‪ ،‬إال أن السلطة اجلزائرية رفضته‪ ،‬و كذا فوز اليمني زروال باالنتخابات‪.‬‬

‫‪ 09 :1992 -‬ماي ذكرى اجلازر الدامية اليت ارتكبها االستعمار الفرنسي يف حق اجلزائريني و قد استحضر‬
‫الراوي هذه احلادثة ليقرهبا من اجملازر اليت ارتكبتها اجلماعات االرهابية يف حق املواطنني األبرياء حيث كانت هذه‬
‫السنة (‪ )1992‬هي اليت وصلت هبا اجملازر إىل الذروة‪.‬‬

‫‪ 10 :1999 -‬جوان تاريخ انتخاب رئيس جديد للبالد " عبد العزيز بوتفليقة"‪.‬‬

‫‪ :7000 -‬املصادقة على مشروع الوئام املدين‪.‬‬

‫‪ :7019 -‬تاريخ نشر الرواية‪.‬‬

‫تطرق الروائي إىل مراحل زمنية هامة من تاريخ اجلزائر متناوال الصراع السياسي التسعيين‪ ،‬حيث انتشر القتل‬
‫و أصبح سفك الدماء لعبة من أجل نيل السلطة‪ ،‬وبالتايل ف ـ "عبد الواحد هواري" قد جعل من روايته مرتعا يعج‬
‫باأليديولوجيا‪.‬‬

‫‪888‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫فأشارت الرواية إىل عدة أحداث و وقائع شهدهتا اجلزائر خالل زمن األزمة املعروف بالعشرية السوداء؛ بدءا‬
‫من إلغاء االنتخابات الربملانية سنة ‪ ،1991‬لذا فإن أحداث الرواية قد وقفت على التحوالت اليت مست اجملتمع‬
‫اجلزائري يف مستواها السياسي حني سعى كل حزب إىل نشر أفكاره و آراءه‪.‬‬

‫إن الرواية مليئة بالدالالت القصدية املعروضة يف متنها و املشبعة باخللفيات األيديولوجية‪ ،‬و هذا واضح من‬
‫خالل الشعارات اليت تبنتها الشخصيات‪ ،‬و تعد هذه األفكار و املواقف مبثابة املواضيع اليت تضمنها الزمن‬
‫التارخيي‪ ،‬لذلك ميكننا أن نلمس اخلطاب األيديولوجي من خالل زمن الرواية الذي جسدته املدونة‪.‬‬

‫ب ‪ -‬البنية الزمنية الداخلية (الزمن الداخلي)‪:‬‬

‫يهتم الزمن اخلارجي عموما بالسياقات اخلارجية للنص الروائي عكس الزمن الداخلي الذي أصبحت دراسته أكثر‬
‫أمهية؛ كونه يقبع داخل النص الروائي و يتشابك مع باقي املكونات األخرى للنص‪.‬‬
‫زمن القصة‪ :‬و هو الزمن الذي وقعت فيه أحداث القصة املروية املمتد من ‪.7019-1990‬‬

‫‪ - 2‬المفارقات الزمنية (الترتيب الزمني)‪.‬‬

‫أ ‪ -‬االسترجاع (االستذكار)‪:‬‬

‫و االسرتجاع هو العودة إىل االحداث املاضية اليت سبق حدوثها يف حلظة السرد‪ ،‬حيث جند أن رواية "يف كل‬
‫قرب حكاية" حافلة بتقنية االسرتجاع‪ ،‬فالسارد يكثر العودة إىل السنوات املاضية ليجسد الفقر و العنف و احلرمان‬
‫و األزمات اليت حلت على املواطنني اجلزائريني‪.‬‬

‫و البد من االشارة إىل أن الرواية عبارة عن قضيتني يف زمنني خمتلفني‪ ،‬و كل قصة منهما حتمل أزمنة متعددة‬
‫تعرب عن الواقع و اجملتمع‪ ،‬لتلتقي يف األخري كي تتضح خيوط الرواية‪.‬‬

‫حتتوي الرواية على مخس و عشرين فصال‪ ،‬كل فصل يتناول فرتة زمنية حمددة‪ ،‬فيبتدئ الراوي فصله األول بـ ـ‬
‫‪ 79‬مارس ‪ 7010‬الذي اسرتجع فيه أيام العشرية السوداء و ما محلته من رعب و خوف و هلع‪ ،‬مع مقارنته‬
‫بالزمن احلايل الذي يسود فيه األمن و الطمأنينة‪ ،‬فيقول‪ « :‬زمن اخلوف و الرعب‪ ،‬يف ذلك الوقت كان الفزع هو‬
‫فطور الصباح لسكان القرى‪ ،‬و الرهبة و اهللع غذاءهم‪ ،‬و الوجل و الرعب عشاءهم‪ ،‬حىت الطيور يف السماء‬
‫كانت بكماء خشية أن يوقظ تغريدها رواد الغابة‪ ،‬يزحفون فوق األرض‪ ...‬ال يفرقون بني صغري أو كبري‪ ،‬بني‬

‫‪887‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫شيخ أو رضيع‪ ،‬و ال حىت النسوة و بناهتن كن حمميات منهم‪ ... ،‬اليوم صار الصباح حلما مجيال ممزوجا برائحة‬
‫‪1‬‬
‫الورد و عبري اليامسني‪ ،‬لكنه كان كابوسا مظلما حقريا مكتوبا بصراخ االطفال و النساء‪ ،‬و مرسوما بدم األبرياء»‬
‫فاستذكر السارد األوضاع اليت كانت تعيشها اجلزائر يف املاضي ‪ ،‬مع مقارنتها هبدوء و استقرار احلاضر‪ ،‬واصفا‬
‫احلالة االجتماعية اليت عاشها املواطن اجلزائري‪ ،‬و حاالت االغتصاب و االعتداء على الفتيات و النسوة‪ ،‬إضافة‬
‫إىل اخلوف و الوجل و الفقر و البطالة و غريها من اآلفات االجتماعية اليت حطمت الشعب‪ ،‬و مقارنتها بأيام‬
‫اهلدوء و االستقرار يف فرتة ما بعد الصراع‪.‬‬

‫و لقد ورد اسرتجاع آخر بعودة السارد إىل نفس السنوات الدموية من خالل هذا املقطع‪ « :‬اليوم صار الليل‬
‫بظالمه و نور قمره و ترمن أغصان األشجار على سيمفونية الرياح مأوى للمحبني و العاشقني و احلاملني‪ ...‬أما‬
‫البارحة‪ ،‬فكان الليل القامت عاريا صارما‪ ،‬جيفل فيه الرجل الشجاع‪ ...‬كان إذا حل الليل بظالمه الفاحم‪ ،‬و صمته‬
‫العميق‪ ،‬ال يُسمع صوت و ال حسيس سوى رعشة و ارجتاف املرتعبني الذين مأل الذعر قلوهبم »‪ ،2‬فكان‬
‫اسرتجاع السارد هلذه الذكريات قصد توضيح الفرق بني ماضي اجلزائر الدموي‪ ،‬و بني حاضرها اآلمن و الربيعي‪.‬‬

‫و يظهر اسرتجاع آخر ملاضي "عمي العريب" الذي يوضح سبب فقئ عينه اليت راحت ضحية دفاعه عن أمه‬
‫من أبيه « حني دافع عن أمه اليت اهنال عليها والده بالضرب و األذى‪ ...‬و حني رفع رأسه تفاجأ بعينه مفقوءة‬
‫بعد تلقيها ضربة بعصا خشبية صلبة »‪ ،3‬فكان هدف هذا االسرتجاع ابراز مظاهر العنف داخل األسرة من طرف‬
‫األب‪ ،‬سواء كان العنف موجها للزوجة اليت تلقت أكرب قدر منه‪ ،‬أو موجها لألوالد األبرياء بطرق بشعة‪ ،‬وقد‬
‫فضح الراوي بعض مظاهره من خالل جتسيده ألحداث تعرب عن ممارسة العنف يف اجملتمع اجلزائري بشىت الطرق‪.‬‬

‫كما ظهر اسرتجاع آخر قصري املدى يوضح حني روى "عمي العريب" ل ـ "عبد الواحد" قصة املذكرات اليت‬
‫سقطت من جمنون أثناء زيارته قرب زوجته و مناجاته هلا قائال‪ « :‬ليلة أمس يا ولدي مل تكن كباقي الليايل اليت‬
‫اعتدت قضاءها جالسا يف املقربة بني األجداث‪ ...‬حىت تبادر إىل بصري ظل طويل و عريض فمشيت باحرتاس‬
‫شديد‪ ،‬مث اختبأت خلف حلد منبطحا على صدري‪ ...‬و إذ به رجل طويل القامة عريض املنكبني‪ ،‬بشعر أسود‬
‫متجعد طويل و حلية كثيفة‪ ،‬يلبس سرواال مقطعا من جهته اليمىن‪ ،‬نصف عار بقميص ممزق ال يغطي من جسمه‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.11_10‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.10‬‬

‫‪887‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫إال القليل‪ ،‬خطر يف بايل أنه مشرد فقد عقله‪ ،‬ومل يبق يف ذكرياته إال ذلك القرب‪ 1» ...‬فاسرتجاع الراوي هلذه‬
‫احلادثة استمر طيلة ست صفحات‪ ،‬و مل يكن هذا االسرتجاع عبثا ألن املذكرات اليت عثر عليها "العريب" هي اليت‬
‫حددت مسار الرواية بأكملها‪.‬‬

‫فنالحظ من هذا االسرتجاع تطرق السارد إىل قضية الفقر و اجلنون اللذان حال على صاحب املذكرات‪ ،‬و‬
‫رغم ذلك بقي وفيا حلبه خملصا و صادقا له فلم مينعه اجلنون من تذكر قرب حمبوبته‪.‬‬

‫« ليلة أمس جاءين مجع من الرجال قاطين جبل عصفور هذا الذي حييط بنا‪ ،‬مدججني باألسلحة و‬
‫اخلناجر‪ ،‬ملثمني يربق من أعينهم دم أمحر كحمم الرباكني‪ ،‬توىل قائدهم احلديث فيما انطلق اآلخرون يفتشون‬
‫حظرية املاعز و األبقار و خم الدجاج‪ ،‬قال بلهجة صارمة‪...‬‬
‫‪ -‬يا أهل قرية بين بو سعيد حنن محاة جبلكم هذا‪ ،‬و حاملوا لواء دينكم و ديننا احلنيف من بطش الطغاة و‬
‫احلكام املفسدين‪ ،‬و هلذا آمركم بدفع ما يرتتب عليكم جراء تكفلنا حبمايتكم‪ ...‬ومن يتخلف عن دفع ما يرتتب‬
‫عليه‪ ،‬فهذا اخلنجر يف يدي اليمىن يستقر يف حنجرته و يصلب رفقة عائلته كلها »‪ ،2‬و ينقل لنا السارد هبذا‬
‫املقطع السردي مظاهر اخلوف و الرعب اليت تعرض هلا املواطنون اجلزائيون من قبل اجلماعات اإلرهابية اليت هنبت‬
‫ممتلكاهتم و سرقت حماصيلهم و كذا حيواناهتم مقابل حياهتم املسروقة حتت ذريعة احلماية اليت كانوا هم منتهكيها‬
‫يف األساس‪ ،‬فوضح الراوي سبب خوف املواطنني من هؤالء الطواغيت مفسدي نظام اجملتمع و استقراره‪ ،‬فكان‬
‫الشعب هو اخلاسر األكرب يف ظل الصراع على السلطة‪.‬‬

‫يف الثامن عشر من ديسمرب سنة ‪ 1990‬كانت خطبة "نذير" ل ـ "أمينة"‪ ،‬ما قاده إىل العودة بذكرياته إىل‬
‫زم ٍن مضى متذكرا بذلك والديه املتوفيني اللذان غابا عنه يف يومه السعيد هذا‪ ،‬فنجد الراوي يقول‪ « :‬ما أمجلهما‬
‫بذلك اللباس األبيض ! ؟ وكم هو أنيق بعباءته املغربية اليت زادت مظهره هيبة و وقار ! كانت صورهتما بعد أن‬
‫رجعا من أداء مناسك العمرة تزين الغرفة كلها‪ ،‬مخس سنوات على فراقهما »‪ 3‬نالحظ أنه اسرتجاع طويل املدى‬
‫يعود خلمس سنوات يوم كان والداه يزينان البيت بنورمها وحناهنما لكن املنية فرقت بينهم و منعته من رؤية‬
‫سعادهتما خبطبته‪ ،‬فتجلى احلزن و األمل يف سطور الرواية بسبب هذا الفقدان‪.‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.71_70‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.72_75‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.10_09‬‬

‫‪887‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫يضيف السارد اسرتجاعا آخر عرب به عن اللحظات السعيدة اليت تعرف فيها على "أمينة" و أعجب هبا و‬
‫حبيائها و حجاهبا الذي انسدل على رأسها‪ ،‬و هذا و إن دل فيدل على تعلق الراوي بالدين االسالمي و مظاهره‬
‫اليت عكسها على شخصيات روايته‪ ،‬يقول‪ « :‬نظرت إليها و التقطت صورة بعيين ال زالت حمفوظة يف دكان قليب‪،‬‬
‫كانت بلباس أسود طويل الكمني ساتر جلسدها‪ ،‬و مخار أزرق مائل إىل السواد خيفي شعرها األسود الفاحم‪.‬‬
‫نظرت إيل و ابتسامة تعلو مالمح وجهها تسألين عن عنوان كتايب‪ ،‬فقلت يف نفسي‪ ،‬هو لك إن أردت‪ ،‬و كذلك‬
‫قليب »‪.1‬‬

‫« عش ت يف البادية طيلة حيايت‪ ،‬تربيت يف بيئة حتوم حول أطرافها أنواع شىت من الوحوش‪ ،‬كانت األفاعي‬
‫عندنا جمرد حيوانات أليفة نتسلى هبا‪ ،‬رأيت الذئاب املتوحشة و غدرها‪ ،‬و رأيت العقارب و مسها الفتاك‪ ،‬لكن مل‬
‫يسبق يل أن رأيت أبشع من اولئك اآلمثني »‪ ،2‬لقد كان هذا االسرتجاع ملاضي "عمي العريب" انعكاس لطغيان‬
‫اجلماعات االرهابية على اجلزائريني‪ ،‬حىت قادهم ذلك إىل الفزع منهم وزرع الرهبة يف قلوهبم أكثر من خوفهم من‬
‫احليوانات الضارية اليت حسبوها بعد املعاناة أليفة غري مؤذية‪ ،‬فحياة الشعب غاب عنها االستقرار واهلدوء‬
‫والطمأنينة وحل حملها سفك الدماء وانتشار اجلثث يف كل مكان‪ ،‬فعكست الرواية صورة الواقع االجتماعي يف‬
‫التسعينيات وما حل بالبالد من خراب ودمار تلقته من أبنائها القاطنني هبا‪.‬‬

‫كما حتمل الرواية بني طياهتا اسرتجاع "عمي العريب" للسنة اليت قضاها يف إحدى اجلبال رفقة اجلماعات‬
‫االرهاب ية اليت أخذته عنوة‪ ،‬واصفا وحيتها و دمويتها وأهواهلا اليت شبهت أهوال يوم القيامة بسبب قساوة‬
‫اجلماعات الالمتناهية‪ ،‬فروى على مسامع النقيب "أسامة" قصة فتاة حاولت الفرار من قبضتهم واصفا له‬
‫التعذيب الشنيع الذي تلقته بعدما أمسك هبا أحد األفراد‪ ،‬بقول يف هذا الصدد‪ «:‬قضيت سنة كاملة يف جبل‬
‫عصفور‪ ،‬يعجز لساين عن وصف املظاهر اليت رأيتها‪ ،‬كانت أمامي فرص كثرية للهرب لكن الفزع نال مين‪ ،‬سبقين‬
‫إىل ذلك عدة أشخاص‪ ،‬منهم تلك الفتاة املراهقة صاحبة السبع عشرة سنة‪ ،‬أمسكوها بعد أن طاردوها بكالهبم‬
‫اهلائجة املتوحشة‪ ،‬و ما إن ضبطوها حىت صار كل واحد فيهم يغتصبها مرات ومرات وهي تصرخ بكل ما أوتيت‬
‫من قوة‪ ،‬أما أحدهم فظل ممسكا هبا ويقهقه كأنه يستمتع بعذاهبا‪ ،‬أي وحش يستطيع أن يفعل هذا ؟ »‪ ،3‬لقد‬
‫محل هذا املقطع العديد من مظاهر احلياة املخيفة يف اجلبال؛ كاالغتصاب واستعمال العنف ضد األسرى وترهيبهم‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.10‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.61‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.61‬‬

‫‪887‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫فار آخر تلقى جرعة‬


‫بالكالب املفرتسة والسالح وشىت طرق التعذيب الوحشية‪ ،‬حيث ذكر "عمي العريب" قصة ٍّ‬
‫مضاعفة من التعذيب والتنكيل‪ ،‬فيقول‪« :‬حني كان يلوذ بالفرار وسط الغابة والليل حالك‪ ،‬فلم يكن يدري أي‬
‫الطرق يسلك وصار جيري دون هوادة‪ ،...‬حىت أطلق صرخة مدوية بعد أن متزقت رجله اليسرى يف فخ من‬
‫الفخاخ‪ ...‬فلم يضمدوا جرحه ومل يعاجلوه بل ربطوا عنقه حببل وصاروا جيرونه ككلب ذليل‪ ،‬وما إن رجعوا به إىل‬
‫معسكرهم حىت علقوا جسمه فوق شجرة ووضعوا حتته نارا كلما أرادوا طهي شيء ما وأغلقوا فمه كي ال يزعجهم‬
‫صراخه‪ ،‬حىت جف جسمه من الدم وصعدت روحه إىل السماء‪ ،‬فرتكوه معلقا ورائحة الننت تفوح منه كعربة ملن‬
‫تسول له نفسه الفرار»‪ ،1‬فكان هذا االستذكار عبارة عن تعرية للواقع االجتماعي الذي آلت إليه اجلزائر‪ ،‬وكفضح‬
‫ملدى دموية اجلماعات االرهابية و وحشيتها وشناعة أساليبها يف التعذيب‪ ،‬فلقد تعرض الشعب إىل الظلم الشديد‬
‫واالعتداء على مبادئه الدينية واالخالقية‪ ،‬واقتص منه الصراع استقالليته وحقوقه كمواطن بريء‪.‬‬

‫لقد قادت احلاجة الناس إىل سلك طرق مشكوكة خمالفة للقانون بعدما ساد الفقر ربوع البالد‪ ،‬و أصبح‬
‫الكثري منهم ال جيد لقمة تسد جوع أوالده‪ ،‬فلجأ بعضهم إىل جتارة املخدرات والبعض إىل هتريب الوقود عرب‬
‫احلدود كما فعل بطل الرواية "نذير" الذي قادته البطالة واحلاجة إىل هذا العمل الدينء‪ ،‬إال أن الندم حط على‬
‫قلبه بعدما دخل السجن‪ ،‬ويظهر هذا املقطع االسرتجاعي يف الرواية ليجسد احلادثة بدقة ومصداقية‪« :‬مرت علي‬
‫ذكريات كثرية كشريط سينمائي طوي ل‪ ،‬رجعت فيه إىل املاضي القريب‪ ،‬إىل تلك الليلة الصيفية اليت سرنا فيها‬
‫واحلمري يف مقدمتنا حاملة على أظهرها كميات من الوقود يف دالء حمكمة اإلغالق‪ ،‬صرت أعاتب نفسي اليت‬
‫ساقتين إىل ذلك‪ ،‬إهنا لعنة حلقت يب بسببا لك التهريب املشكوك يف أمره»‪.2‬‬

‫وبعد تتبعنا لتقن ية االسرتجاع يف الرواية باعتبارها مفارقة زمنية سردية‪ ،‬ميكن القول أن االسرتجاع ظهر بشكل‬
‫كبري وواسع عرب صفحات املدونة‪ ،‬حيث حضر يف جل فصوهلا تقريبا بنوعيه "طويل املدى" و "قصري املدى"‪ ،‬ما‬
‫يقودنا إىل استنتاج مفاده أن االسرتجاع مسة من مسات الرواية املعاصرة كوهنا األكثر اهتماما هبذه املفارقات الزمنية‬
‫وتفاعلها مع الزمن احلايل‪ ،‬يهدف إىل ايصال األفكار واآلراء واملواقف بعمق‪ ،‬كما زخرت الرواية بتنوع كبري يف‬
‫املقطع االسرتجاعية اليت لعبت دورا هاما يف تشكيل بنية النص وداللته‪.‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.66_61‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.90‬‬

‫‪887‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫ب ‪ -‬االستباق‪:‬‬

‫ويتمثل هذا النوع من املفارقات الزمنية يف إيراد حدث مل يقع بعد لكنه ٍ‬
‫آت‪ ،‬وتتم اإلشارة إليه مسبقا‪ ،‬ويعد‬
‫احلكي بضمري املتكلم أكثر مالءمة له من أي حكي آخر‪ ،‬فيستعمل السارد تلميحات إىل املستقبل « ألن هذه‬
‫التلميحات تشكل جزءا من دوره نوعا ما»‪ ،1‬كما ال تتصف هذه املفارقة باليقينية بل تتعدى ذلك إىل اخليال‪.‬‬

‫كما يدل االستباق على «الولوج إىل املستقبل‪ ،‬إنه رؤية اهلدف أو مالحمه قبل الوصول الفعلي إليه»‪.2‬‬

‫حتفل رواية "يف كل قرب حكاية" بالعديد من اإلستباقات اليت حتمل معاين وأفكار اجتماعية كانت أو‬
‫سياسية‪ ،‬وقد تعرب أيضا على أفكار وأيديولوجيات‪.‬‬

‫جند هذا املقطع يف الرواية «فقرر بذلك العريب أن يتقدم خلطبتها فور أن يغنم حبصيلة من عمله يف حراسة حقل‬
‫من الزرع»‪ 3‬والذي يعرب عن قرار مسبق اختذه "عمي العريب" بغية خطبة "خدجية" يف املستقبل القريب‪ ،‬إال أنه‬
‫استباق غري ممكن التح قيق ألن هذه األخرية توفيت جراء طلق ناري من طرف اجلماعة االرهابية اليت حطمت‬
‫أحالم الكثريين من أمثال "عمي العريب"‪ ،‬إضافة إىل االوضاع االقتصادية املزرية اليت وصلت إليها البالد بسبب‬
‫هؤالء اجملرمني حيث قلات فرص العمل وانتشرت البطالة ما ساق الشباب إىل اتباع اآلفات االجتماعية كتعاطي‬
‫املخدرات واإلدمان على اخلمر والسرقة والنهب‪ ...‬وغريها من االحنرافات اليت ال حصر هلا‪.‬‬

‫« سقت نفسي إليه وكلي ظنون أين سأقوم مبا اعتدت على فعله دوما‪ ،‬حني أجالسه وأمسع منه‬
‫القصص‪ ،4»...‬يتكهن الراوي يف هذا القول حالة جلسته مع "عمي العريب" على أهنا ستكون كاملعتاد جيلسان يف‬
‫املقهى ويتجاذبان أطراف احلديث يف مواضيع خمتلفة‪ ،‬لكن مل يتحقق تكهنه ألن اللقاء أخذ منحى آخر على غري‬
‫العادة؛ فقد قص عليه "عمي العريب" حادثة غريبة عاشها يف املقربة اليت يعمل حارسا هلا بعدما مسع العجب‬
‫العجاب من أحد اجملانني يف حني كان يظن أنه صوت األموات‪.‬‬

‫‪ -1‬مها حسن القصراوي‪ :‬الزمن يف الرواية العربية‪ ،‬ص ‪.770‬‬


‫‪ -2‬أمحد محد النعيمي‪ :‬إيقاع الزمن يف الرواية العربية املعاصرة‪ ،‬املؤسسة العربية للنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،7001 ،1‬ص ‪.09‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.17‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.19‬‬

‫‪882‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫«وعندما تواتينا الفرصة لالنقضاض عليهم سننكل هبم تنكيال ال حتمد عقباه‪ ...‬وسننتقم لعائلتك من القتلة‬
‫الكافرين»‪ 1‬يظهر يف هذا االستباق تطلع قائد اجلماعة االرهابية إىل االنتقام‪ ،‬رغبة منه يف استحواذ عقل "عمي‬
‫العريب" و خداعه بكلمات االنتقام لينضم إىل صفه ويصبح سنده يف حتقيق خططه املاكرة ضد احلكومة‪،‬‬
‫فاستغلت اجلماعات االرهابية الشعب الضعيف األمي للنجاح يف احلرب السياسية اليت شنتها ضد احلكومة‬
‫اجلزائرية‪ ،‬وحاولت التأثري عليه خبطابات وشعارات مزيفة مستعينة بالدين والقرآن الكرمي الذي قامت بتحريفه‬
‫وتفسريه حيب أهوائها وما خيدم مصاحلها‪ ،‬ومن مل ينخدع بشعاراهتا أخذته بالقوة والغصب مستعملة التهديد‬
‫والوعيد كما حدث مع "عمي العريب"‪ ،‬ومن هنا نستنتج أن اجلماعات االرهابية بثت مسها يف الشعب بدهاء‬
‫ومكر مستعينة بشىت األساليب املتاحة غري الشرعية‪ ،‬فكان الشعب ضعيفا ذليال ينخدع بالشعارات الدينية‬
‫االسالمية بسبب جهله مبا ينطوي حتتها كذب ونفاق‪.‬‬

‫يستبق "عمي العريب" األحداث يف تطلعه إىل الفرار من قبضة اإلرهابيني يف املستقبل القريب لكن الفرتة‬
‫الزمنية غري معلومة‪ ،‬وفعال يتحقق مراده وينجح يف التخلص من قيودهم الجئًا إىل احلكومة‪ ،‬فيقول «إين سأمتكن‬
‫من اإلبتعاد عنهم يوما ما بغض النظر عن الطريقة»‪.2‬‬

‫كلما سعت اجلماعات االرهابية إىل بث أفكارها الشنيعة وارتكاب جرائم وجمازر أكثر وجدت اجليش الوطين‬
‫اجلزائري باملرصاد‪ ،‬فقد حاول جاهدا إلحباط جرائمها البشعة‪ ،‬لنجد النقيب "أسامة" يتوعدهم يف وقت قريب‬
‫معلوم ‪-‬يوم غد‪ -‬فيقول ‪ «:‬سأنطلق رفقة اجلنود كي ندك معاقل األوباش‪ ،‬وحنرق األرض اليت حتملهم عن بكرة‬
‫بيها»‪ ،3‬ولقد حتقق ذلك االستباق فعال وكان االنتصلر يف اهلجوم لصاحل السلطة‪.‬‬

‫«سأكون عندك بعد ساعة»‪ 4‬وهذا استباق آخر يؤكد فيه "حممود" قدومه إىل املنزل بعد مدة زمنية قصرية‬
‫قدرها ساعة‪.‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪.01 ،‬‬
‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.66‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.25‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.119‬‬

‫‪887‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫أعرب السارد عن موافقته على املصاحلة الوطنية مضفيا رأيه املساند إلهناء الصراع الذي أهنك كاهل كل‬
‫األطراف‪ ،‬واتضح ذلك من خالل شخصية "نذير" حني قال‪« :‬حني وضعت ورقيت ب ـ "نعم" للمصاحلة الوطنية‬
‫قلت حينها‪ ،‬اليوم سيتحرر قليب»‪.1‬‬

‫ومن هنا ميكن القول أن االستباق يعرب عن مقدرة الراوي على تفكيك السائد وإعادة تشكيله وفق رؤى‬
‫متقدمة وحيل فنية متسلسلة‪ ،‬فهو« القفز على فرتة معينة بني زمن القصة وجتاوز النقطة اليت وصل إليها اخلطاب‬
‫الستشراف مستقبل األحداث والتطلع إىل ما سيحصل من مستجدات»‪ ،2‬وحفلت رواية "عبد الواحد هواري"‬
‫هبذه املفارقات الزمنية عرب جل فصوهلا تقريبا‪ ،‬فهذه السمة اليت متيز الزمان عبارة عن تقدمي بدائل للواقع املأساوي‬
‫الذي مرت به البالد بسبب الصراع السياسي بني السلطة واجلماعات اإلسالموية يف التسعينات والتطلع لواقع‬
‫أفضل آمن ٍ‬
‫خال من الدماء‪.‬‬

‫‪ - 3‬نظام السرد (اإليقاع)‪:‬‬

‫أ ‪ -‬تسريع السرد‪:‬‬

‫يعد تسريع احلكي من أهم مقتضيات الرواية‪ ،‬فعلى السارد تقدمي بعض األحداث الروائية اليت يستغرق‬
‫وقوعها فرتة زمنية طويلة ضمن حيز ضيق على مستوى صفحات الرواية‪ ،‬فريكز السارد على التيمة ال غري باعتماده‬
‫على تقنيتني متكناه من تسريع السرد وطي مراحل عدة من الزمن‪ ،‬ومها‪ :‬اخلالصة واحلذف‪.‬‬

‫أ – ‪ .1‬الخالصة (التلخيص)‪:‬‬

‫ملخص زمن اخلطاب فيه أصغر من زمن الكتابة ألن الروائي يلجأ إىل« االستعراض السريغ لفرتة‬
‫ٌ‬ ‫سرد‬
‫وهي ٌ‬
‫من املاضي فالراوي بعد أن يكون قد لفت انتباهنا إىل شخصياته عن طريق تقدميها يف مشاهد يعود إىل الوراء مث‬
‫يقفز بنا إىل األمام لكي يقدم لنا ملخصا قصريا عن قصة شخصياته املاضية»‪.3‬‬

‫لقد جلأ الراوي إىل هذه التقنية حني قام بتلخيص أحداث ماضية كذكر قصة حقيقة إطالق اسم "أبا‬
‫يعقوب" على "املعلم األكرب" موجزة يف سطرين‪ « ،‬الزلت أذكر كيفية روايتك لتلك القصة‪ ،‬وأن احلكومة قتلت‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.701‬‬


‫‪ -2‬حسن حبراوي‪ :‬بنية الشكل الروائي‪ ،‬ص ‪.107‬‬
‫‪ -3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.115‬‬

‫‪887‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫ابنك بني أحضانك بوحشية‪ ،‬وقد زاد مجال املشهد تلك الدموع اليت ذرفتها على روايتك املختلقة»‪ ،1‬فقام الراوي‬
‫برتهني هذا املقطع يف زمن السرد احلاضر كي يضيء اجلانب املظلم هلذا اللقب‪ ،‬وعمل على فضح الكذب‬
‫واخلداع الذي حتايل هبما على الناس كي يستعطفهم وينحازوا إىل صفه‪.‬‬

‫كما ِ‬
‫عمد الراوي إىل وصف حالة الفقر واحلرمان اليت عانت منها األسر اجلزائرية يف التسعينات بسبب‬
‫األوضاع السياسية غري املستقرة يف ظل الصراع على كرسي السلطة‪ ،‬فلخص الراوي هذه األحداث مع شخصيات‬
‫روايته يف أسطر ليلة قائال‪ « :‬كانت أمينة تعيش رفقة والدهتا يف قرية جماورة للمدينة‪ ،‬مل يكن حال معيشتهما مزينا‬
‫بالذهب و الفضة‪ ،‬فقد سحبت احلكومة مجيع ممتلكات والدها ومل ترتك هلم إال البيت احلقري الذي تسكنه رفقة‬
‫أمها حبيبة»‪ ،2‬فلم يذهب الراوي إىل التفصيل يف حياة "أمينة" ووالدهتا فقد ملح فقط على حالتهم االجتماعية‬
‫َّ‬
‫املزرية بعد حادثة سجن والدها‪.‬‬

‫كما حاول تلخيص املعركة الطاحنة اليت وقعت بني أفراد اجليش الوطين واجلماعة االرهابية املتمركزة يف "جبل‬
‫فعمل هذا التلخيص على تسريع السرد يف الرواية‪ ،‬حيث اختزل الراوي عدة حمطات منذ‬ ‫عصفور" عرب أسطر قليلة ِ‬
‫بداية املعركة إىل هنايتها‪ ،‬إضافة إىل تلخيصه حلدث طويل قدره أربعون يوما ‪-‬تلخيص طويل املدى‪ -‬يف مساحة‬
‫صغرية واصفا معاناة "نذير" يف السجن طوال هذه املدة ذاكرا مدى الظلم الذي ُسلاط على املساجني يف‬
‫الزوار وزوجات السجناء وممارسة الرذيلة معهن‪،‬‬ ‫التسعينيات من قِبل َّ‬
‫السجانني كالضرب والسب واالعتداء على َّ‬
‫ورميهم يف املنفردة اليت ال تسمح مساحتها هلم حىت باجللوس رغم أن القيادات العليا مل تسمح باستعمال هذا‬
‫النوع من العقوبات إال أهنا كانت موجودة خفية عنها‪ ،‬وهنا يظهر الفساد الذي حل ببعض القطاعات الدولية‪.‬‬

‫« وقتها‪ ،‬جاءت طائرة من املغرب األقصى حاملة نور رجاء يشع وسط ظلمة البالد‪ ،‬خرج منها حممد‬
‫ب وضياف حبلته السوداء وجبهته املسطرة بتجاعيد اجلهاد‪ ،‬رفع يده إىل السماء وحياه الشعب كله‪ ،‬رأى فيه اجلميع‬
‫صورة الفارس املغوار املنقذ من قيود اخلوف والوجل‪ ،‬استنشق عبري البالد وما إن حاول أن يزفر به حىت اقتنصته‬
‫رصاصة الرمحة‪ ،‬رمحته من شقاء العامل وبؤسه‪ ،‬وأبكت ماليني القلوب اليت تقطع حبل أملها الرفيع حبياة آمنة‬
‫‪3‬‬
‫سرعت السرد دون‬
‫طيبة» ‪ ،‬خلص السارد مدة ‪ 155‬يوما من حكم "حممد بوضياف" للجزائر يف سطور موجزة َّ‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.09‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.17_11‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.119‬‬

‫‪888‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫جتاهل آمال اجلزائريني اليت علقوها على هذا الرئيس‪ ،‬ففرحوا باقرتاب خالصهم من اجلماعات االرهابية إال أن‬
‫فرحتهم مل تكتمل بسبب اغتياله ألنه مل خيدم مصاهلم‪.‬‬

‫أ – ‪ .2‬الحذف (القطع)‪:‬‬

‫يعد احلذف « نوع من القفز على فرتات زمنية والسكوت على وقائعها من زمن القص‪ ،‬ونوع يلحق القصة‬
‫والسرد معا يف حالة التنقل إىل فصل حيث حتدث فجوة يف القصة»‪ ،1‬ويلجأ السارد إىل احلذف أو القطع‬
‫بصعوبة لسرد زمن معني بشكل متسلسل ودقيق‪.‬‬

‫استعمل "عبد الواحد هواري" يف روايته تقنية احلذف يف مقاطع عديدة منها‪« :‬ثالثة أشهر مرت علي‬
‫داخل زنزانة حقرية رائحتها نتنة»‪ ،2‬لقد ورد احلذف هنا طويل املدى حمددا بثالثة أشهر عاىن فيها "نذير" الويالت‬
‫داخل جدران السجن الذي ُع ِرف يف تسعينات القرن املاضي بالظلم والتعسف‪.‬‬

‫اعتمد السارد حذفا آخر حني تطرق إىل فرتة من فرتات سجن "نذير"‪« :‬طيلة تسعني يوما مل تصلين رسالة‬
‫واحدة من أمينة»‪ ، 3‬وهبذه القفزة الزمنية أسقط السارد أحداثا ال أمهية هلا متغاضيا عن ذكرها والتفصيل فيها‬
‫فيكتفي بذكر املدة الزمنية الطويلة اليت مل ترسل فيها "أمينة" أي رسالة اطمئنان‪ ،‬مع حذف ذكر تفاصيل باقي‬
‫أحداث األيام األخرى‪.‬‬

‫ويضيف‪ «:‬عدة سنوات بعد تلك األيام اليت قاسى فيها العريب وكل سكان البالد مرارة الشقاء»‪ ،4‬وهذه‬
‫قفزة زمنية أخرى طويلة املدى متثلت يف سنوات غري معلومة‪ ،‬كما حتمل القفزة الزمنية داللة يدركها الكاتب؛‬
‫فاألحداث السابقة والالحقة للحذف كافية لتعرب عن الرؤيا ألن الوقائع التارخيية هلذه الفرتة احملذوفة معلومة يف‬
‫الرواية سابقا حيث سلف ذكر احلياة املأساوية اليت عاشها الشعب اجلزائري وراح ضحيتها اآلالف من األبرياء‬
‫ضحية الصراع السياسي‪ ،‬وآالف املرضى النفسيني الذين مل حيتملوا التعذيب ورؤية أحبائهم غارقني يف دمائهم‪.‬‬

‫قد حيذف الراوي مدة زمنية دون أن حيدد مداها ال يعلمها القارئ ما خيلف فراغا يف مسار احلكي‪ ،‬وجتلى‬
‫ذلك يف قوله‪ « :‬يوم تلقت رسالة نذير‪ ،‬خرجت من غرفة منزهلا والغضب يطلق الشرر من مقلتيها دخلت املطبخ‬

‫‪ -1‬حسن حبراوي‪ :‬بنية الشكل الروائي‪ ،‬ص ‪.165‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.101‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.100‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.109‬‬

‫‪888‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫وظلت تصرخ يف وجه أمها»‪ ، 1‬فال علم للقارئ بأحداث هذا املشهد خالل الفرتة املسقطة من زمن احلكاية ألن‬
‫السارد مل يرتق لألحداث اليت وقعت هبا‪.‬‬

‫ميكننا القول أن نص رواية "يف كل قرب حكاية" يعج باحملذوفات اليت ال ميكن االستغناء عنها ألهنا تسهل‬
‫القفزات الزمنية وجتاوز األحداث غري اهلامة‪ ،‬فتقنية احلذف تعمل على التالعب بالزمن الذي يضفي اجلمالية‬
‫والتشويق للرواية‪.‬‬

‫ب ‪ -‬تبطيء السرد (تعطيل السرد)‪:‬‬

‫يلجأ السارد أثناء تقدميه للنص احلكائي إىل اإلبطاء يف تقدمي األحداث الروائية اليت تستغرق زمنا قصريا‬
‫ضمن حيز نصي واسع باعتماده تقنيتني مها‪ :‬الوقفة الوصفية والسرد املشهدي‪.‬‬

‫ب – ‪ .1‬الوقفة الوصفية‪:‬‬

‫تعمل الوقفة الوصفية على إبطاء زمن السرد يف الرواية فيتخللها الوصف « إلضافة شيء يكون مفيدا للسرد‬
‫أو لتقوية اجلانب الشعري‪ ،‬فال ننسى بأن الوصف هو وسيلة وليس هدفا أي أنه جزء من الكل وليس أجزاءا‬
‫مكونة للموضوع وملا كان الوصف تقنية سردية قدمية ال تكاد ختلو منها رواية‪ ،‬فإن الوصف والسرد يتشاهبان يف‬
‫كوهنما يتكونان من الكلمات‪ ،‬لكنهما خمتلفان يف اهلدف»‪.2‬للوصف وظيفتان أساسيتان؛ أوالمها أنه مبثابة وقفة‬
‫يف مسار احلكي‪ ،‬وثانيهما أنه ذا طبيعة تفسريية‪.‬‬

‫حتفل الرواية بالوقفات الوصفية اليت سامهت بكثرة يف إبطاء زمن احلكي ألسباب عديدة تصف كل‬
‫انعكاسات الصراع السياسي على نفسية الشعب وحتول حياته االجتماعية بشكل مأساوي‪.‬‬

‫جند الراوي بعدما كان يسرد األحداث بشكل متسلسل توقف فجأة ليصف لنا "صخرة األسد" أثناء ذهاب‬
‫"نذير" وزوجته إىل الشاطئ فيقول‪« :‬قبل أن نصل إىل وجهتنا ببضعة كيلو مرتات اجتزنا صخرة األسد املعروفة‪،‬‬
‫جبل صخري شاهق الطول عظيم اهليبة‪ ،‬واجهته على شكل رأس أسد خيطف األنفاس‪ ،‬كانت عبري مولعة بتلك‬
‫اللوحة الفنية الطبيعية حىت أهنا قررت التوقف لربهة والتقاط صورة مقابلها‪ ،‬تلك الصورة اليت مل تفارقين قط‪ ،‬و‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.175‬‬


‫‪ -2‬مها حسن القصراوي‪ :‬الزمن يف الرواية العربية‪ ،‬ص ‪.760‬‬

‫‪887‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫هأنذا أمحلها بني يدي‪ ،‬أضمها إىل صدري وأذرف دموع الشوق فوق هبائها»‪ ،1‬وهبذا يكون الراوي قد أوقف‬
‫اندفاع الزمن واصفا ذلك املكان اجلميل الذي أحبته زوجته املتوفاة‪ ،‬فحملت هذه الوقفة يف طياهتا دالالت احلب‬
‫واالشتياق للزوجة اليت خلَّفت وراءها حزنا كبريا يف قلب "نذير"‪.‬‬

‫يصف الراوي علم اجلزائر بقوله‪ « :‬عاليا بني السحب البيضاء رفرفت راية هبية مزينة السماء الزرقاء‪ ،‬علم‬
‫طاهر بدم الشهداء على شكل جنمة وهالل‪ ،‬نصفه األول أخضر يتبىن املروج والسهول ونضارة الطبيعة يف البالد‪،‬‬
‫والنصف الثاين أبيض كحمامة سالم حملقة يف العالء»‪ ،2‬أظهرت الوقفة الوصفية اليت تناولتها الرواية حب الراوي‬
‫لعلم وطنه‪ ،‬فسعادته واضحة أثناء وصف مجاله وداللة ألوانه‪ ،‬فاجلزائري حيب كل شيء متعلق بوطنه الذي محاه‬
‫الشهداء األبرار بدمائهم الزكية الطاهرة‪.‬‬

‫توقف السارد مرة أخرة عن سرد األحداث ليصف مكان سكن "عمي العريب" الذي يدل على حالته‬
‫الصعبة والفقر الذي امتدت جذوره يف اجلزائر يف زمن الرعب واخلوف‪ ،‬زمن احلرب األهلية‪ ،‬يقول الراوي يف ذلك‪:‬‬
‫« مل يكن لعمي العريب سوى أمه اليت كان يقامسها كوخا مبنيا بالطوب واألحجار ومغطى بالزنك‪ ،‬بابه مهرتئ من‬
‫خشب يسحب بسلك من حناس‪ ،‬حيوي غرفة واحدة‪ ،‬وحوشا صغريا ال سقف له‪ ،‬وخلف الباب زريبة صغرية فيها‬
‫عنزة وخروف صغري وكلب للحراسة»‪ ،3‬فتطرق الراوي هنا لوصف بيت "عمي العريب"‪ ،‬ويسمى هذا النوع من‬
‫الوصف تعريفيا ألنه حدد جتليات املكان الدالة على طبيعة احلياة فيه‪.‬‬

‫ويضيف الراوي يف وصف األماكن « على بعد مخسة وعشرين كيلومرتا جنوب مدينة احلاجة مغنية‪ ،‬بني‬
‫األكواخ املزخرفة بالطوب‪ ،‬واملزارع املرتمنة بثغاء الشاء وصهيل اخليول ونباح الكالب‪ ،‬قرب الواد الرابط بني املغرب‬
‫واجلزائر‪ ،‬جتمع أهل قرية "بين بو سعيد" حول مسجد القرية»‪ ،4‬فمن خالل هذه الوقفة الوصفية نالحظ طبيعة‬
‫ضمن الراوي األبعاد االجتماعية يف وصفه واصفا حياة الشعب يف زمن‬
‫احلياة يف تسعينات القرن املاضي‪ ،‬حيث َّ‬
‫العشرية السوداء اليت امتازت بالفقر املدقع واإلعتماد على الزراعة واملواشي يف العيش‪.‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.129‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.02‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.17‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.76‬‬

‫‪887‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫وال يكتفي الراوي بوصفه لألمكنة ذات الدالالت واملعاين املتعددة‪ ،‬وقد جتلى ذلك يف‪ «:‬يف جوف غابة‬
‫جبل عصفور‪ ،‬بني أشجار الصنوبر الطويلة‪ ،‬وظالل السنديان العظيم‪ ،‬سبحت الشمس حنو الغرب‪ ،‬وتوارت‬
‫الطيور يف أعشاشها‪ ،‬واحتمت األرانب يف جحورها‪ ،‬تبدلت نغمات العصافري بزفري رياح خفيفة ممتزجة حبفيف‬
‫األغصان‪ ،‬إن حل الظالم فترتدد يف األفق صدى نباح الكالب‪ ،‬ونعيق البوم املتناغم مع خطوات األوباش»‪،1‬‬
‫دمج الراوي وصفه بأبعاد سياسية متثلت يف ذكره زمن التسعينات الذي عُ ِرف باخلوف والرعب والصراع‪.‬‬

‫األمر عينه عندما قطع الراوي سرده لألحداث وراح يصف النقيب "أسامة"‪ « :‬أسامة نقيب متخرج من‬
‫املدرسة الطبية العسكرية‪ ،‬واحد من القادة القالئل الذين يضرب هبم املثل يف التفاين واإلخالص‪ ،‬كان من الذين‬
‫حاربوا مبدأ ميكيافيلي "الغاية تربر الوسيلة" مببدأ "السياسة واحلكم أخالق قبل كل شيء"‪ ،‬متمرس يف عدة‬
‫جماالت وجييد عدة لغات‪ ،‬معروف بتواضعه الشديد الذي جعله يرفض مناصب عالية يف الدولة يف حماولة منه‬
‫للحفاظ على مبدئه خاليا من الشوائب‪ ،‬عُرف بدقته العالية يف التصويب مما جعل أصدقاءه وطالبه يطلقون عليه‬
‫لقب القناص»‪ ،2‬فكان النقيب "أسامة" يف هذه الوقفة الوصفية حامال لدالالت سياسية نبيلة من خالل رفضة‬
‫استعمال القوة واخلداع والغدر‪ ،‬يف مقابل اعتماده على نبالة األخالق والصدق يف عمله‪ ،‬ألنه رجل فاضل يف زمن‬
‫الغدر والنفاق‪.‬‬

‫ننتقل مرة أخرى إىل وصف الراوي لشخصياته من خالل التطرق إىل مواصفات زعيم اجلماعة املسلحة‬
‫"املعلم األكرب" « كان املعلم يرتدي جالبة مغربية بنية‪ ،‬له حلية تصل نصف صدره‪ ،‬شعره طويل إىل كتفيه ويضع‬
‫عصابة على جبينه كتب عليها شهادة اإلسالم‪ ...‬حيمل ندبة كأن سكينا اخرتقت حلمه‪ ،‬مرعب الشكل له‬
‫نظرات قاسية ال ترحم وحييط جبسمه حزام عسكري مدجج باألسلحة واخلناجر والقنابل »‪ ،3‬بوصف الراوي هذه‬
‫الشخصية أضاف عليها أبعادا تتماشى مع أفعاهلا اإلجرامية‪ ،‬إذ يعد قاتال سفَّاحا نظرته غري سليمة‪ ،‬وأفكاره‬
‫مهجية منحرفة‪ ،‬حىت شكله يوحي عن صفاته الوحشية‪.‬‬

‫وأخريا ميكننا القول أن السارد تطرق إىل الوصف هبدف مواصلة تقدمي املادة احلكائية حسب إيقاع زمين‬
‫جديد يبعده عن الرتابة ليصبح أكثر قبوال لدى املتلقي‪ ،‬فتميزت الوقفة الوصفية يف الرواية بأمهية بالغة لبَّت حاجة‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.79‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.05‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.07‬‬

‫‪887‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫احلكي الروائي إىل توسيع مساحته؛ وذلك بإيقاف الزمن يف الرواية‪ ،‬كما أحالت الوقفة السردية إىل الواقع‬
‫السوسيولوجي للرواية فحمل الوصف داللة أيديولوجية وسياسية واجتماعية‪.‬‬

‫ب – ‪ .2‬السرد المشهدي (المشهد)‪:‬‬

‫املشهد هو املقطع الذي يأيت يف كثري من الروايات لتبطيء السرد وتعطيله بإطالة احلوار بني الشخصيات‬
‫«من خالل تصويره فرتات كثيفة مشحونة»‪ ،1‬وقد جتلى املشهد يف الرواية بصفة كبرية حامال يف معظمها دالالت‬
‫متعددة تصف الواقع االجتماعي جلزائر التسعينات‪ ،‬ومن تلك املشاهد نذكر‪:‬‬
‫« ‪ -‬من أنت!؟من الطارق !؟‬
‫‪-‬أنا العريب جاركم‬
‫فتح الوالد الباب ونظر إليه بعني العجب والدهشة مث قال‪:‬‬
‫‪ -‬خري إن شاء اهلل ! ما الذي أتى بك يف هذا الوقت املتأخر!‬
‫‪ -‬جئتكم أستغيث لت يب السبل أمر حصل ألمي وقد حارت يب السبل يف ما أنا فاعل! فلصدرها أزيز خيدش‬
‫مسامعي وحرارهتا ملتهبة‪ ،‬وإين جئت طالبا العون لعلكم أفقه مين مبصاهبا‪ ،2» ...‬وميتد هذا احلوار لصفحات بغية‬
‫جتسيد احلالة املزرية اليت وصلت إليها األم "فاطنة" وعجز ابنها علة إجياد حل لعلتها‪ ،‬وهكذا أدى املشهد إىل‬
‫جسد الراوي خوف اجلزائريني من اخلروج من منازهلم ليال ألن عذا التصرف قد يودي‬
‫إبطاء اإليقاع الزمين‪ .‬كما َّ‬
‫حبياهتم إىل التهلكة بسبب متوضع اجلماعات اإلرهابية يف كل مكان وقتلها لكل من جتده يف طريقها دون رمحة أو‬
‫شفقة‪ ،‬فلم تكن البالد آمنة على مواطنيها‪ ،‬فرمست الرواية هذا الواقع االجتماعي املأساوي بأسلوب فين إبداعي‪.‬‬

‫كسر املشهد السرد من خالل احلوار الذي يعد من األساليب املهمة يف بناء الشخصية والتعبري عن أفكارها‬
‫وآراءها وحيدد عالقتها بغريها من الشخصيات‪ ،‬ما حيفز املتلقي على مواصلة التوغل يف النص كأن املشاهد جمسدة‬
‫أمامه على أرض الواقع‪.‬‬

‫‪ -1‬مها حسن القصراوي‪ :‬الزمن يف الرواية العربية‪ ،‬ص ‪.709‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.11_10‬‬

‫‪887‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫المبحث الثالث‪ :‬بنية المكان في رواية "في كل قبر حكاية"‬

‫يعد املكان أحد مكونات الرواية ومن ضمن العناصر الضرورية اليت جيب توفرها فيها‪ ،‬لذا اهتم النقاد‬
‫والدارسون حبضوره األديب الفين‪ .‬ولتحديد مدلول هذا املصطلح البد أن نقف قليال على مفهومه اللغوي يف لسان‬
‫العرب حيث ورد‪ « :‬و ال َـم َكا ُن‪ :‬ال َـم ْو ِض ُع‪ ،‬ج‪ :‬أ َْم ِكنَةٌ أ ََماكِ ُن »‪ ،1‬أما اصطالحا فإنه« ميثل مسرح األحداث‬
‫املركزي‪ ،‬وحيتوي على فضاءات صغرى "جزئية" تتكاثف وتتكامل وظيفيا بداخلها لتعطي معىن للفضاء العام»‪2‬؛‬
‫أي أنه فضاء حكائي مرتامي األطراف حيمل يف طياته أمكنة ومعامل تدور األحداث فيها معطية نسيجا حكائيا‬
‫متكامال تتحرك فيه الشخصيات أثناء أداء أدوارها‪.‬‬

‫كما « يربط غرمياس مفهوم املكان باخلطاطة السردية‪ ،‬إذ ال يعترب يف نظره جمرد فضاء فارغ تصب فيه‬
‫التجارب اإلنسانية‪ ،‬إمنا يتعلق مبا متليه عليه اخلطاطة السردية‪ .‬وبذلك يتوسع املكان كسلسلة من احملطات اليت ال‬
‫وظيفة هلا إال بتفاعلها مع رحلة البطل‪ ...‬ويبقى لكل مكان يرتدد عليه أبطال الرواية دالالت خاصة؛ وبالتايل‬
‫خيرج املكان من كونه جمرد كلمات تتضمنها الرواية إىل مكان أوسع متصل بالعامل اخلارجي »‪.3‬‬

‫لقد أعطت الدراسات احلديثة أمهية كربى للمكان ملا يشكله من أبعاد ذات دالالت خمتلفة‪ ،‬ألنه ليس جمرد‬
‫إطار (جدران وهندسة) تنطوي حتته أفعال الشخصيات وتواجدها واألحداث اليت تكتنفها‪ ،‬ولكنه يشكل رمزا‬
‫وبعدا حسيا وماديا من خالل مجلة من العناصر املشكلة له‪ ،‬حىت تلك اجلهات اليت حتدد وضعية الشخوص‬
‫وتقابالت األشياء‪.‬‬

‫املكان ليس جمرد مكان موضوعي حمايد؛ إمنا هو مكان روائي فين‪ ،‬فلكل مكان مستوى معني خيتلف عن‬
‫غريه وتتغري صفته من شخص آلخر‪ ،‬فنجد أماكن مفتوحة وأخرى مغلقة‪ ،‬أماكن حمببة وأخرى منبوذة‪ ...‬فضال‬
‫عن إمكانية انتحال املكان الواحد صفتني خمتلفتني تبعا الختالف املقام‪ ،‬فلو قلنا مثال أن البيت مكان مغلق على‬
‫ما بداخله اإال أن هناك إمكانية انفتاحه على ذكريات أشخاص قضوا فيه فرتة من حياهتم‪ ،‬وتوجد أماكن رحبة‬
‫واسعة منفتحة تبدوا آلخرين مغلقة موحشة بسبب بعض الظروف النفسية اليت مرت هبم فيه‪ ،‬ومبا أن املكان يف‬
‫احلياة الواقعية خيتلف فهو كذلك يف الروايات واألعمال الفنية‪.‬‬

‫‪ -1‬جمد الدين بن يعقوب الفريوز آبادي‪ :‬القاموس احمليط‪ ،‬دار احلديث‪ ،‬القاهرة‪ ،7009 /1179 ،‬ص ‪.1660‬‬
‫‪ -2‬إبراهيم عباس‪ :‬تقنيات البنية السردية يف الرواية املغاربية‪ ،‬منشورات املؤسسة الوطنية لالتصال‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬د‪/‬ط‪ ،7007 ،‬ص ‪.90‬‬
‫‪ -3‬كلثوم مدقن‪ :‬داللة املكان يف رواية موسم اهلجرة إىل الشمال‪ ،‬ضمن جملة األثر‪ ،‬جامعة ورقلة‪ ،‬عدد‪ ،1‬ماي ‪ ،7006‬ص ‪.117‬‬

‫‪887‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫ارتبط املكان املفتوح باحلرية من حيث الداللة على حرية احلركة دون حواجز خارجية حتدها كالبحر واملدينة‬
‫والصحراء‪ ،‬أما املكان املغلق فإنه مقيد حبدود ال ميكن للشخص جتاوزها لوجود حدود معلومة حتده كالبيت والقبو‬
‫والغرفة ألن مجيعها حمدود جبدران «فهو ميثل غالب احليز الذي حيوي حدودا مكانية تعزله عن العامل اخلارجي‪،‬‬
‫ويكون حميطه أضيق بكثري من املكان املفتوح‪ ،‬فقد تكون األماكن الضيقة مرفوضة ألهنا صعبة الولوج‪ ،‬وقد تكون‬
‫مطلوبة ألهنا متثل امللجأ واحلماية اليت يأوي إليها االنسان بعيدا عن صخب احلياة»‪.1‬‬

‫وتتعدد أبعاد األماكن املغلقة من شخص آلخر‪ ،‬فالبيت ميثل الدفء واالستقرار النفسي واجلسدي‪،‬‬
‫والسجن ميثل االنغالق كبح احلريات‪ ،‬وهذه األمكنة تنقسم إىل أمكنة إقامة اختيارية كالبيت واملقهى‪ ،‬وأمكنة‬
‫إقامة إجبارية كالسجن‪.‬‬

‫كما حيمل املكان دالالت اجتماعية ألن املبدع ينطلق من اخللفية االجتماعية لإلنسان ومن واقعه‬
‫االجتماعي بشكل خاص‪ ،‬فالسارد يرسم معامل املكان بدقة متناهية كي يتفق مع األحداث والشخصيات اليت‬
‫تتحرك وفقه‪ ،‬فالروائي « يدخل العامل اخلارجي بتفاصيله الصغرية يف عامل الرواية التخيلي ويشعر القارئ أنه يعيش‬
‫يف عامل الواقع ال عامل اخليال»‪ ،2‬وقد حتمل األمكنة يف الرواية الداللة التارخيية يف ين ارتباطها بأحداث غابرة‬
‫حدثت يف زمن ٍ‬
‫ماض‪ ،‬ولعل أبرز الدالالت التارخيية للمكان يف الرواية اجلزائرية ما تعلق بالثورة على الظلم املسط‬
‫على األمة من طرف اآلخر‪.‬‬

‫‪ - 1‬األماكن المغلقة في رواية "في كل قبر حكاية‪:‬‬

‫أ ‪ -‬البيت‪:‬‬

‫تعد البي وت من األمكنة اليت حتقق فيها الشخصيات االستقرار ألهنا متثل منوذجا لأللفة ومظاهر احلياة‬
‫الداخلية‪ ،‬فتحمل دالالت وأبعاد خمتلفة إذ أن «الرؤية التجزيئية اليت تكتفي بإيراد التفصيالت العينية لفضاء البيت‬
‫ستقوم عائقا أمام الفهم الشامل لوظيفة املكان وداللته لتصبح نتيجة لذلك‪ ،‬عاجزة عن إدراك التعبريات اجملازية‬
‫اليت يتضمنها البيت باعتباره مصدرا لفيض من املعاين والقيم‪ .‬فالبيوت واملنازل تشكل منوذجا مالئما لدراسة قيم‬
‫األلفة ومظاهر احلياة الداخلية اليت تعيشها الشخصيات‪ ،‬وذلك ألن بيت االنسان امتداد له كما يقول ويليك‪:‬‬

‫‪ -1‬عبود أوريدة‪ :‬املكان يف القصة القصرية اجلزائرية الثورية ‪-‬دراسة بنيوية لنفوس ثائرة‪ ،-‬ص ‪.69‬‬
‫‪ -2‬سيزا قاسم‪ :‬بناء الرواية‪ ،‬ص ‪.90‬‬

‫‪882‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫فإنك إذا وصفت البيت فقد وصفت االنسان‪ ،‬فالبيوت تعرب عن أصحاهبا»‪ ،1‬إذ ال يعد البيت مكانا للسكن‬
‫كون الشخصية « فمن اخلطأ مثال النظر إىل البيت كركام من اجلدران واالثاث‬
‫فقط بل هو امتداد ألجزاء هامة تُ ِّ‬
‫ميكن تطويقه بالوصف املوضوعي واالنتهاء من أمره بالرتكيز على مظهره اخلارجي وصفاته امللموسة مباشرة‪ ،‬ألن‬
‫هذه الرؤية ستنتهي‪ ،‬على األرجح‪ ،‬إىل اإلجهاز على الداللة الكامنة فيه وتفرغه من كل حمتوى»‪ ،2‬فال يعد البيت‬
‫جمرد مكان جغرايف بل هو مصدر الدفء واحلنان واالستقرار حيث جيد االنسان راحته وسكينته‪.‬‬

‫صور الراوي بيت "عمي العريب" بصفة عامة من خالل قوله‪« :‬جلسنا يف حوش املنزل الضيق فوق‬
‫لقد َّ‬
‫حصرية خشنة امللمس»‪ ،3‬ثن يضيف يف نفس السياق بالتطرق إىل بعض أجزائه الداخلية‪« :‬مل يكن لعمي العريب‬
‫سوى أمه اليت كان يقامسها كوخا مبنيا بالطوب واألحجار ومغطى بالزنك‪ ،‬بابه مهرتئ من خشب يسحب بسلك‬
‫من حناس ‪ ،‬حيوي غرفة واحدة‪ ،‬وحوشا صغريا ال سقف له‪ ،‬وخلف الباب زريبة صغرية فيها عنوة وخروف صغري‬
‫وكلب للحراسة»‪ ،4‬لقد كانت هذه هي طبيعة البيوت اجلزائرية يف التسعينيات حيث امتازت بالضيق والبساطة‬
‫الشديدة‪ ،‬فانعكست احلياة االجتماعية اجلزائرية يف إحدى فرتاهتا الصعبة ‪-‬العشرية السوداء‪ -‬على الرواية‪ ،‬فكانت‬
‫البيوت مهرتئة وصغرية تضم مجيع أفراد العائلة يف غرفة واحدة ضيقة‪ ،‬ومن خالل وصف السارد ملنزل هذه‬
‫الشخصية تبني لنا أهنا تنتمي إىل طبقة اجتماعية سفلى‪.‬‬

‫وعلى العكس من منزل "عمي العريب" تطرق الراوي إىل وصف بيت "أسامة" املنتمي إىل طبقة األغنياء من‬
‫خالل رسم مظهره اخلارجي‪ « :‬وما جيذب النظر يف البيت هو شرفته املرصعة باآلجر األندلسي واملبنية على الطراز‬
‫املغريب البديع‪ ،‬وأما باب املنزل فكان كبريا بلون أسود‪ ، 5»...‬مث ينتقل السارد إىل وصف املنزل من الداخل‬
‫فيقول‪ « :‬تسمرت عيناه مبا رأته من حتف معلقة وسط مدخل الدار‪ ،‬وألوان هبية تزين اجلدران وأثاث مرتب بدقة‬
‫ليس عليها حفنة غبار‪ ،‬كان املنزل هائال شاسعا منظما من كل النواحي‪ ،‬حتول وسط غرفة وذهل من هندسة‬
‫السقف ذي الطراز املعماري املغريب املوروث عن احلضارة األندلسية»‪ ،6‬فالبيت هو املكان الذي يشعر فيه‬

‫‪ -1‬حسن حبراوي‪ :‬بنية الشكل الروائي (الفضاء‪ ،‬الزمن‪ ،‬الشخصية)‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،1990 ،‬ط‪ ،1‬ص‪.10‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.10‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.09‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.17‬‬
‫‪ -5‬الرواية‪ ،‬ص ‪.99‬‬
‫‪ -6‬الرواية‪ ،‬ص ‪.100_107‬‬

‫‪887‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫االنسان بالراحة واألمان حيث حيمل داللة احلنان واهلدوء‪ ،‬وهذا ما نلتمسه يف "عمي العريب" الذي ُسعِد كثريا‬
‫باملنزل الذي أٌ ِ‬
‫هدي له ومل يكن حيلم به أبدا‪ ،‬استقر يف حنانه ودفئه وأمانه الذي فقده منذ صغره‪.‬‬

‫البيت هو مالذ للراحة واهلدوء وهذا ما الحظناه مع شخصية "نذير" وزوجته حني جعال من منزهلما مكانا‬
‫العتزال العامل اخلارجي ليحظيا بالسكينة فحمل البيت داللة االنفتاح عكس االنغالق الذي محله اخلارج املليء‬
‫بدماء األبرياء الذين حنرت أعناقهم اجلماعات االرهابية‪ ،‬يقول الراوي‪ « :‬اشرتينا بيتا ريفيا يف مدينة احلاجة مغنية‬
‫وخصصناه لرحالت نعتزل فيها صخب العامل والناس أمجعني »‪ ،1‬ف ـ « حيتل بيت البطل مركز الصدارة يف هذا‬
‫النوع من األماكن يسمح خبلوة البطل ويطلق العنان ملخيلته كي تسرح بعيدا الستحضار الذكريات »‪.2‬‬

‫ميكننا القول أن البيت يرتبط بالشخصيات ارتباطا وثيقا فتتحدد ماهيته يف وجودها فيه وتفاعلها معه‪ ،‬فهو‬
‫رمز اللقاء واالجتماع العائلي ومل الشمل ألن له خصوصيته وحريته‪ ،‬فعلى الرغم من انغالقه حبدود هندسية حتده‬
‫كاجلدران واألبواب إال أنه منفتح نفسيا بسبب االستقرار الذي تعيشه الشخصيات بني جدرانه‪.‬‬

‫ب ‪ -‬السجن‪:‬‬

‫تتميز أماكن اإلقامة اإلجبارية بعدم الثبات ألهنا مغلقة ومقيدة للشخصيات ما جيعلها منطوية على نفسها‪،‬‬
‫السجن للتطلع إىل منفذ يرحيها ويفتك باألفكار السوداوية داخله‪ ،‬فهو مكان تكبح فيه احلريات ألنه‬
‫فيقودها هذا َّ‬
‫« ليس فضاء انتقال أو حركة وإمنا هو بالتأكيد فضاء إقامة وثباث‪ ،‬وإن كان ذلك بصفة مؤقتة‪ ،‬وفضال عن ذلك‬
‫فإن اإلقامة يف السجن خالفا ملا سواها هي إقامة جربية»‪.3‬‬

‫ونظرا لألحداث التارخيية اليت شهدهتا اجلزائر يف التسعينات؛ من صراع األحزاب وتفشي اإلرهاب وممارساته‬
‫القمعية الشنيعة وارتكابه جملازر مرعبة يف حق املواطنني األبرياء‪ ،‬فقد أوىل الروائيون عناية خاصة بالسجون حلملها‬
‫دالالت متعددة فهو ذلك املكان املظلم البارد املهرتئ املليء باملعاناة واآلالم اجلسدية والنفسية‪ ،‬لقد محل صورة‬
‫العنف وانتهاك احلريات ألنه مؤسسة للعقاب واملراقبة والتدمري‪ ،‬يدخله "نذير" العامل البسيط املسامل حيث ُح ِكم‬
‫عليه ب عشر سنوات‪ ،‬إال أنه بريء من التهمة اليت وجهت إليه‪ ،‬فحمل السجن داللة القهر والظلم والسيطرة‬
‫والتعسف وانتهاك احلريات‪ ،‬يقول الراوي يف هذا الصدد‪ « :‬ثالثة أشهر مرت علي داخل زنزانة حقرية رائحتها‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.125‬‬


‫‪ -2‬احلميد بورايو‪ :‬منطق السرد –دراسات يف القصة اجلزائرية احلديثة‪ ،-‬منشورات السهل‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬د‪/‬ط‪ ،7009 ،‬ص ‪.191‬‬
‫‪ -3‬حسن حبراوي‪ :‬بنية الشكل الروائي‪ ،‬ص ‪.55‬‬

‫‪887‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫نتنة‪ ،‬مل ُجي ِد صراخي وتوسلي للحراس شيئا سوى بعض التهديدات من طرف أولئك الذين اعتادوا حياة السجون‬
‫وما عاد يف إمكاهنم التفريق بني رائحة العبري ورائحة الننت‪ ،‬كانت صرخات شديدة تدوي عمق روحي ومتزق قليب‬
‫مث تقطعه ألشالء وترمي به فوق بوابات اجلحيم فما أبشع الظلم»‪ ،1‬فارتبط هذا الفضاء بالظلم واملعاناة‪.‬‬

‫ضم يف العشرية السوداء اجملرم وغري اجملرم‪ ،‬حيث سيق‬


‫تطرق الراوي إىل وصف السجن من الداخل فقد َّ‬
‫بكل من اشتُبِه يف أمره فورد ذلك يف الرواية من خالل‪« :‬السجن مقسم لعدة فروع ترتب املساجني حسب التهم‬
‫املوجهة إليهم‪ ،‬وكنت مع جمرمي الدرجة األوىل رفقة جتار املخدرات واملزورين واإلرهابيني والقتلة وقراصنة األنرتنيت‬
‫احملرتفني‪ .‬شاركين الزنزانة ثالثة رجال آخرين بسبب كثرة احملبوسني‪ ،‬ألنه زمن احلساب‪ ،‬حيث صارت احلكومة جتر‬
‫حنو املعتقالت أي شخص يشتبه فيه‪ ،‬فاألوضاع األمنية حساسة جدا خاصة بعد األحداث اليت عرفتها العاصمة‬
‫من احتجاجات وانتفاضات»‪ ،2‬أصبح السجن يف سنوات العشرية السوداء مكتظا جدا حيث يتشارك العديد من‬
‫املساجني نفس الغرفة ويعاملون بسوء شديد فقد أصبح االرتياب مزروعا يف قلب اجلميع لذا ُرمي بكل من اشتُبه‬
‫فيه إىل السجن‪ ،‬هذا املكان الذي ينعدم فيه األمل فهو موطن االنغالق والتضييق الذي تعيشه الشخصيات‪.‬‬

‫ومن األماكن املغلقة األخرى اليت تطرق الراوي إىل وصفها "الزنزانة االنفرادية" فـ«يزداد التضييق على حركة‬
‫الشخصية عندما تكون نزيلة زنزانة‪ ،‬انفرادية‪ ،‬متناهية الضيق‪ ،‬وسيئة التهوية‪ ،‬مما جيعل قدرهتا على االنتقال ختتزل‬
‫الصفر»‪ ،3‬فأطلق عليها الراوي اسم "البؤرة املهلكة" و "الزنزانة احلقرية" لضيقها الشديد الذي مينع السجني حىت‬
‫من اجللوس « فقد كانت وسط حيز حجري مساحته ال تتجاوز اخلمسني مرتا مربعا‪ ،‬حيتوي على عدة زنزانات‬
‫ضيقة جدا‪ ،‬حىت ال يتمكن السجني من اجللوس ويظل طوال مدة عقابه واقفا على رجليه يقضي حاجته على‬
‫نفسه إن اضطر إىل ذلك‪ ،‬تنبعث منها رائحة كريهة واإلضاءة فيها شبه منعدمة‪ ،‬إذا ما حل الصباح بصقيعه جيمد‬
‫قطرات الندى القابعة يف السقف املغلق بالزنك»‪ ،4‬فهذه البؤرة شديدة االنغالق وحمط العذاب والعقاب والقمع‬
‫حيث تنعدم فيها الرمحة والرأفة‪ ،‬فلم تنحصر معاناة اجلزائري يف اخلارج فقط بل امتدت إىل داخل السجون حني‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.101‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.107‬‬
‫‪ -3‬حسن حبراوي‪ :‬بنية الشكل الروائي‪ ،‬ص ‪.55‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.100‬‬

‫‪878‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫ذاق أشنع وأبشع أنواع التعذيب‪« ،‬فالسجن أعد أصال لعزل االنسان‪ ،‬وسلب قدرته‪ ...‬إنه حالة سلبية على حنو‬
‫ما تؤكده الداللة املركزية»‪،1‬وهبذا أصبحت الشخصية املسجونة خمنوقة حمكوما عليها باملكوث االجباري‪.‬‬
‫إال أن الراوي ضمن داللة خمتلفة عن األوىل املنغلقة‪ ،‬فكان السجن بانغالقه أرحم من ضيق اخلارج وظلمته‪،‬‬
‫يقول السارد يف هذا الصدد‪ -« :‬احبسين داخل زنزانة آمنة‪ ،‬فقد صار السجن أحب إيل من حرية زائفة»‪،2‬‬
‫فاحلرية واالنفتاح ال يتحققان دائما يف اخلارج –الصحراء‪ ،‬البحر‪ ،‬املدينة‪ -‬فأحيانا يتحقق االنفتاح يف األماكن‬
‫املغلقة كالسجن ألهنا حتمي املسجون من التعرض للجماعات املسلحة اليت دمرت البالد‪ ،‬لذا يضيف الراوي‬
‫قائال‪ « :‬شكل صقيع ذلك الصيف جبليد أحداثه خنجرا زجاجيا طعن به أفئدة اجلزائريني‪ ،‬تأزمت البالد ورفعت‬
‫راية الرعب عاليا‪ ،‬ألول مرة يف حيايت أحسست باألمن داخل جدران احلبس‪ ،‬ظل يراودين شبح امللثمني وهم‬
‫يقتصون مين دون سبب وال داع لذلك‪ ،‬لكين كنت حمميا من بطشهم يف تلك البقعة الضيقة النتنة»‪ ،3‬فأصبح‬
‫السجن هنا مكان محاية وأمن من اجلماعات املسلحة اليت عاثت يف البالد فسادا‪ ،‬قتلت وخطفت وعذبت‬
‫واغتصبت أبناء شعبها‪.‬‬

‫حيمل السجن دالالت وأبعاد خمتلفة تنوعت من خاصية االنغالق والقمع والذل واإلهانة‪ ،‬إىل خاصية‬
‫االنفتاح واألمن واالختباء من دموية اخلارج ورعبه‪ ،‬فحمل السجن دالالته حسب األوضاع االجتماعية والسياسية‬
‫والنفسية‪ ،‬وهبذا الوصف جعلنا الراوي ندرك الواقع املأساوي الذي آلت إليه اجلزائر يف ظل احتدام الصراع‬
‫السياسي‪.‬‬

‫ج ‪ -‬المكتبة‪:‬‬

‫ش اكلت املكتبة مكان سعادة للراوي فكان يقصدها كل يوم سبت ينهل من علمها ويغذي عقله بكتبها‪،‬‬
‫فأخذت صفة االنفتاح والتحرر من القيود رغم انغالقها جبدران وأبواب حمدودة املساحة‪ ،‬يقول الراوي‪« :‬كان‬
‫ذلك يوم السبت‪ ،‬يوم جعلته خمصصا الجتاه واحد‪ ،‬املكتبة العمومية‪ ،‬مكان يشعرين بإحساس نفيس ال يقدر‬

‫‪ -1‬أوريدة عبود‪ :‬املكان يف القصة القصرية اجلزائرية الثورية‪ ،‬ص ‪.21‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.51‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.119‬‬

‫‪878‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫بثمن‪ ،‬مربع عمالق ال جتد فيه إال شذا األوراق املنعشة‪ ،‬خمدرات العقل اليت جتعلين أنتشي‪ ،‬حيز يعم فيه‬
‫اهلدوء‪.1»...‬‬

‫كما برز صوت املثقف يف الرواية وهو "نذير" الذي نقل سجنه من االنغالق والتضييق إىل االنفتاح والراحة‬
‫بفضل املكتبة اليت كان يسافر يف كتبها ويتنفس هبا عبري احلرية واألمل‪ ،‬فحاول حمو أمية السجناء الذين منعتهم‬
‫الصراعات من ارتياد املدارس ونزع عنهم حالة اإلجرام وأعاد رسم طريقهم بواسطة العلم‪ ،‬فأنار عقوهلم ما جعل‬
‫من املكتبة مكانا منفتحا رحبا ‪ ،‬يقول الراوي يف هذا الصدد‪« :‬صارت األيام اليت جتمعنا حنن الثالثة خمصصة‬
‫لتلقي العلم واملعرفة واإلحبار يف أعماق الفكر‪ ،‬والرتمن بتشويق الروايات اجلميلة‪ ،‬وجتاوز اهلواري كل عقده وصار‬
‫طليق اللسان يف قراءة النصوص»‪ ،2‬فكانت املكتبة فضاء حرر املساجني من سجنهم ليبحروا يف عوامل خمتلفة‪.‬‬

‫وأخريا ميكن القول أن األماكن متنوعة يف صفاهتا وأشكاهلا؛ فمنها ما هو متسع مفتوح‪ ،‬ومنها ما هو ضيق‬
‫مغلق‪ ،‬فلكل مكان خصوصية متفردة متيزه عن غريه ألن األدوار اليت تؤديها الشخصيات تتطلب تنقال بني أماكن‬
‫خمتلفة‪ ،‬فارتبط املكان املفتوح باحلرية من حيث الداللة على حرية احلركة ‪ ،‬أما املكان املغلق فهو عكس املفتوح‬
‫كونه مقيد حبدود ال ميكن جتاوزها لذا يقول محيد حلمداين‪« :‬إن األمكنة باإلضافة إىل اختالفها من حيث طابعها‬
‫ونوعية األشياء اليت توجد فيها ختضع يف تشكالهتا أيضا إىل مقياس آخر مرتبط باالتساع والضيق أو االنفتاح‬
‫واالنغالق‪ ...‬وكل هذه األشياء تقدم مادة أساسية للروائي لصياغة عامله احلكائي»‪ ،3‬وقد حفلت رواية "يف كل قرب‬
‫حكاية" بتعدد دالالت األمكنة من منفتحة ومغلقة متيزه عن غريه من األمكنة األخرى‪.‬‬

‫‪ - 2‬األماكن المفتوحة في الرواية‪:‬‬

‫أ ‪ -‬المقهى‪:‬‬

‫املقهى من األماكن اليت يرتادها معظم الرجال وعلى خمتلف األعمار؛ شيوخ وكهول و شباب‪ ...‬على‬
‫اختالف نظرة كل منهم هلذا املكان‪ ،‬فهو مكان للقاء األصدقاء وتبادل احلوار معهم باعتباره مكانا للراحة‬
‫ومتنفسا لإلنسان بعد يوم شاق بصحبة فنجان من القهوة‪ ،‬هلذا لقي اهتماما واسعا يف النصوص السردية العريب‬
‫واجلزائرية اليت قامت بتوظيفه هبا‪.‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.09‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.110‬‬
‫‪ -3‬محيد حلمداين‪ :‬بنية النص السردي‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،1991 ،1‬ص ‪.27‬‬

‫‪877‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫يضم هذا املكان حكايات خمتلفة فلكل طاولة عاملها اخلاص ولكل شخص جالس هبا توجه ومقصد وفكر‬
‫خيالف اآلخر أو يوافقه‪ ،‬تتن اقل األخبار وتفك نزاعات وتنشأ نزاعات وتوضع خطط ويف ظل ظروف البالد غري‬
‫املستقرة أصبحت املقهى مالذا لبائعي املخدرات حيث ميررون بضاعتهم بكل راحة وأمان‪ « ،‬يف التشكيل‬
‫الظاهري لفكرة املقهى تكمن مقولة "الوعاء" ‪ ،‬حيث ال يركن ساكنيه املؤقتني‪ ،‬بل يسوح هبم يف ربوع أمكنة أتوا‬
‫منها‪ ،‬وسوف يرحلون إليها‪ ،‬هي ذي املخيلة الشعبية اليت تتجمع أوصاهلا يف ذلك الوعاء‪ ،‬فتكسبه تشكيلة مجالية‬
‫خاصة»‪ ، 1‬ولعل ما مييز هذا املكان أن مرتاديه يغادرونه حتما تبعا لظروفهم ومزاجهم‪ ،‬ومع ذلك نالحظ أن‬
‫بعضهم يتداول احلضور بشكل دائم‪ ،‬وهذا ما جيعل منه مكانا اجتماعيا‪.‬‬

‫إن عامل املقاهي ال ميثل جمرد مكان روائي يف كتابات الرواة اجلزائريني‪ ،‬بل هي مرجع وسيمة حتيل على عوامل‬
‫اجتماعية وجتربة حياتية ثرية للراوي‪.‬‬

‫جند أن املقهى يف رواية "عبد الواحد هواري" مكان للقاء بعض األصدقاء والزمالء‪ ،‬ومكان لقاء الراوي ب‬
‫"عمي العريب" الذي اتفقا دائما على االلتقاء فيه ‪-‬رغم أن الراوي مل يكن حيب هذا املكان أبدا وال يزوره إال جمربا‬
‫ما منحه داللة االنغالق‪ -‬يتبادالن أطراف احلديث واألخبار ويلقي "عمي العريب" علة مسامع "عبد الواحد"‬
‫أخبارا عجيبة عن عامل القبور فيقول السارد‪« :‬حل املساء واجتهت صوب مقهى اهلدف ملبيا رغبة عمي العريب‪،‬‬
‫سقت نفسي إليه وكلي ظنون أين سأقوم مبا اعتدت على فعله دوما‪ ،‬حني أجالسه وأمسع منه القصص ويأيت على‬
‫لسانه العجب العجاب يف عمله كوسيط بني األموات واألحياء»‪.2‬‬

‫هناك حضور كبري للمقهى يف الرواية حيث جند السارد يصف املدينة احملاطة بعدد كبري من املقاهي من مجيع‬
‫جوانبها‪ ،‬ومبا أنه فضاء لالجتماعات املختلفة فلذا كثرت أماكنه لكثرة زبائنه‪ ،‬كما أن الكثري من الناس حيبون ذلك‬
‫املكان إال أن هناك فئة أخرى ال حتبذه ملا حيمله من سلبيات كالتدخني وتعاطي املخدرات ونشر الشائعات‪...‬‬
‫يقول الراوي‪ « :‬عقدت اتفاقا معه كي ألتقي به مساء ذلك اليوم‪ ،‬يف مقهى "اهلدف" وسط املدينة‪ ،‬يقصده‬
‫املئات من الناس كل يوم‪ ،‬كنت أنا منهم مع أين ال أقصد املقاهي إال مضطرا»‪.3‬‬

‫‪ -1‬ياسني النصري‪ :‬الرواية و املكان‪ ،‬سلسلة املوسوعة الصغرية‪ ،‬دار الشؤون الثقافية العامة‪ ،‬بغداد‪ ،‬ع‪ ،196 :‬ص ‪.10‬‬
‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.19‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.10‬‬

‫‪877‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫«وبقراءة سريعة لصورة املقهى يف الرواية املغربية‪ ،‬سنجد أن أبرز الدالالت اليت تؤشر عليها حتمل طابعا سلبيا‬
‫يشي مبا يعانيه الفرد من ضياع وهتميش‪ .‬ومما يؤكد ذلك أن فضاء املقهى سيكون مسرحا للعديد من املمارسات‬
‫املنحرفة‪ ،‬سواء كانت دعارة أو قمارا أو جتارة خمدرات»‪ ،1‬وقد حتقق هذا يف الرواية حيث جند جمموعة من‬
‫املنحرفني يتبادلون املخدرات يف املقهى وجمموعة أخرى تضع خططا جهنمية لتهريبها عرب احلدود بالتعاون مع أفراد‬
‫من حراس احلدود الذين خانوا وطنهم يف ظروفه الصعبة مقابل املال وهذا ما ورد يف الرواية حني يقول السارد‪:‬‬
‫«‪ ...‬طلب من النادل أن يأتيهما باملشروبات الغازية وفنجان قهوة له‪ .‬ظل احلديث بينهم حول األحوال يف‬
‫التجارة والبيع والشراء والصفقات اجلديدة اليت يسعون لعقدها مع جتار ومهربني من شرق البالد»‪ ،2‬وهذه أحد‬
‫أهم سلبيات املقهى الذي أصبح موضع تواجد املنحرفني من خمتلف طبقات اجملتمع‪.‬‬

‫لذا ومما ال شك فيه أن للمقهى أمهية ومكانة خاصة يف نفوس الشعب اجلزائري على خمتلف األعمار‬
‫والنفسيات والطبقات‪ ،‬ألنه ضم صغريها وكبريها‪ ،‬سعيدها وحزينها‪ ،‬فتختلف دالالته يف الرواية حبسب اختالف‬
‫رؤية الشخصيات هلذا املكان االجتماعي‪.‬‬

‫ب ‪ -‬مدينة تلمسان‪:‬‬

‫املدينة هي مكان جغرايف اجتماعي يتسم باحلرية واالنفتاح لغياب سلطة األعراف والتقاليد عنه‪ ،‬تضم املدينة‬
‫أماكن عديدة منها السينما واملسارح واملتاحف والسجون‪ ،...‬لذا فلكل كاتب نظرته وعالقته وموقفه من هذا‬
‫املكان‪ ،‬فالبنسبة للرواية اجلزائرية يكون الرباط فيها بني الكاتب واملدينة مشدودا على عوامل عدة؛ تارخيية‪،‬‬
‫سياسية‪ ،‬اجتماعية‪ ،‬ثقافية ونفسية‪ ،‬وجتلى هذا يف العديد من األعمال الروائية اجلزائرية مثل الرواية اليت بني أيدينا‬
‫‪-‬يف كل قرب حكاية‪ -‬واليت جرت أحداثها يف مدينة "تلمسان" فهي املكان األساسي لألحداث‪ ،‬تتميز املدينة‬
‫باالنفتاح واحلركية وتعترب مالذ سكان القرى من بطش اجلماعات املسلحة‪ ،‬حيث فر السكان من منازهلم‬
‫باألرياف طالبني األمن واحلماية من جمرمي تسعينات القرن الفارط الذين قتلوا وعذبوا واختطفوا كل من تقاطعت‬
‫طرقهم به‪ ،‬وهذه املقاطع أوردها الراوي لتكون تعبريا واقعيا عما حصل يف تلك اآلونة‪ « :‬و لنرحل إىل املدينة رفقة‬
‫عائالتنا‪ ،‬فقد مسعت أن احلضر منطقة حممية من طرف احلكومة وال يصلها اولئك األوباش»‪ ،3‬ويضيف قوله‪:‬‬

‫‪ -1‬حسن حبراوي‪ :‬بنية الشكل الروائي (الفضاء‪ ،‬الزمن‪ ،‬الشخصية)‪ ،‬ص ‪.91‬‬
‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.55‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.79‬‬

‫‪877‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫« كنا ذات ليلة يف شاطئ أقصى غرب املدينة‪ ،‬كانت منطقة آمنة مل يصلها اإلرهاب بعد»‪ ،1‬فلم يكن اهتمام‬
‫الراوي منصبا على مظاهر املدينة العمرانية بقرد انصبابه على مظاهر احلياة االجتماعية والسياسية‪ ،‬فنقل لنا الواقع‬
‫كما هو حممال إياه برؤى فكرية أيديولوجية تعكس معيشة عصره‪.‬‬

‫املدينة كفضاء نصي أثرت على الشخصيات نظرا للخصوصية اليت حتملها حيث تعد مرآة عاكسة للواقع‬
‫املأساوي الذي عاشه الراوي رفقة شعبه يف العشرية السوداء للجزائر‪.‬‬

‫جـ ‪ -‬الريف‪/‬القرية‪:‬‬

‫يثري امل كان بطبيعته يف االنسان شعورا باالنتماء وأحيانا بالغربة والنفور فيوقظ ذكريات كانت مندثرة‪ ،‬إال أن‬
‫وجود هذا املكان جيعلنا نسرتجع الذكريات اليت تبعث احلياة يف رفات من الصعب إحياؤه‪.‬‬

‫جند الريف كمكان مفتوح على الفضاء الرحب للعامل اخلارجي‪ ،‬ميتاز باتساع أفقه الذي يرمي إىل االنفتاح‬
‫الفكري والنفسي وال ميكن انكار أن أغلب الروايات اجلزائرية قدمية كانت أم حديثة إال وكان الريف هو املكان‬
‫واملقصد الذي دارت فيه معظم األحداث‪.‬‬

‫إال أن الرواية اليت بني أيدينا صورت الريف بسوداوية حيث أصبحت ساحاته بلون دم األبرياء الذين راحوا‬
‫ضمن الروائي أبعادا سياسية يف هذا املكان املفتوح والذي اندثر انفتاحه فأصبح‬
‫ضحايا للصراع السياسي‪ ،‬فقد ا‬
‫مغلقا دالليا بسبب اجلرائم واجملازر اليت ارتكبت فيه‪ ،‬وجتلى ذلك يف الرواية من خالل‪« :‬زمن اخلوف والرعب‪ ،‬يف‬
‫ذلك الوقت كان الفزع فطور الصباح لسكان القرى»‪.2‬‬

‫«على بعد مخسة وعشرين كيلومرتا جنوب مدينة احلاجة مغنية‪ ،‬بني األكواخ املزخرفة بالطوب‪ ،‬واملزارع املرتمنة‬
‫بثغاء الشاء وصهيل اخليول ونباح الكالب‪ ،‬قرب الوادي الرابط بني املغرب واجلزائر‪ ،‬جتمع أهل قرية "بين بو‬
‫سعيد" حول مسجد القرية‪ ، 3»...‬وما كان اجتماعهم هذا إالا لينذرهم شيخهم من اجملرمني الذين هددوه‬
‫وسكان قريته بالقتل إذ مل يطع السكان أوامرهم‪ ،‬فلم يكن اهتمام الراوي منصبا حول طبيعة ونقاء اجلو وخضرة‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.69‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.10‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.76‬‬

‫‪877‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫الريف‪ ،‬بل انصب حول مظاهر الدم واجلرائم مما محال الريف صورا مأساوية بثت الرعب يف نفوس املواطنني‬
‫والذي انعكس على الشخصيات‪.‬‬

‫يقول "عبد الواحد هواري" على لسان شخصية "عمي العريب"‪« :‬عشت يف البادية طيلة حيايت‪ ،‬تربيت يف‬
‫بيئة حتوم حول أطرافها أنواع شىت من الوحوش‪ ،‬كانت األفاعي عندنا جمرد حيوانات أليفة نتسلى هبا‪ ،‬رأيت‬
‫الذئاب املتوحشة وغدرها‪ ،‬ورأيت العقارب ومسها الفتاك‪ ،‬لكن مل يسبق يل أن رأيت أبشع من أولئك اآلمثني‪ ،‬مل‬
‫تكن تلك احليوانات اليت كنا نطلق عليها صفة الوحشية سوى كائنات رقيقة القلب مقارنة مبا يفعله أولئك‬
‫األوغاد»‪ ،1‬نقل الراوي الصورة اليت آل إليها الريف‪ ،‬فبعدما كان مكانا مفتوحا حيتضن الطبيعة والسكينة واألمان‬
‫أصبح مكانا مغلقا على أهله الذين حياولون الفرار منه بكل الطرق بسبب املفسدين الذين سفكوا دماء املواطنني‪،‬‬
‫فكانوا هم اخلاسر األكرب يف ظل الصراع السياسي وراحوا ضحية جرائم احلكومة واألحزاب السياسية‪.‬‬

‫«كانت قرية "الزاوية" على بعد بضعة كيلومرتات من قرية "سيدي جماهد"‪ ،‬لكن حتتم عليه أن خيتار الطريق‬
‫األطول ليتجنب أولئك األوغاد‪ ،‬واختار طريق الكالب الضالة‪...‬وامتأل فؤاده رهبة وجزعا هلول املنظر املرعب‬
‫الذي شهدته عيناه‪ ،‬صورة روعت قلبه‪ ،‬فصار يرتعش ارتعاشا كأن الريح تراقصه وحتركه‪ ،‬وجد سكان القرية‬
‫مصروعني مذبوحني‪ ،‬وجثثهم مكدسة جنبا إىل جنب وقد بدأت رائحة العفن خترج منها‪ ،‬مالمح أوجههم توحي‬
‫بالصدمة واخلوف والوجل‪ ،‬مشكلني كتلة جبلية من الشيوخ والرجال والنساء‪ ،‬حىت األطفال يف عمر الزهور كانوا‬
‫ساقطني مذبوحني»‪ ،2‬فنقلت لنا هذه القرية معاناة سكاهنا الذين غطتهم رائحة الدم وتعرضهم للقتل والتنكيل‬
‫حيث حولتهم اجلماعات املسلحة إىل جثث مكدسة‪ ،‬فأصبحت القرية أداة التعبري عن السواد واخلوف والدموية‬
‫متحولة إىل جثة هامدة غادرهتا روحها بعدما ُحنرت أعناق سكاهنا ظلما‪.‬‬

‫عمدت الراوية إىل توظيف صورة الريف كمكان جتري فيه أحداثها وتتحرك فيه شخصياهتا رامسة الصراع‬
‫السياسي الذي مل يرتك االنفتاح هلذا املكان‪ ،‬جعلت الرواية منه مكانا شديد االنغالق بسبب الدمار واخلراب‬
‫الذي طاله فأصبح عبارة عن كتلة دم ال فسحة أمل وراحة‪.‬‬

‫د ‪ -‬الجبل‪:‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.61‬‬


‫‪ -2‬الرواية ص ‪.16‬‬

‫‪877‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫عند ذكر فضاء اجلبل يتبادر إىل أذهاننا ذلك املكان املنفتح الواسع‪ ،‬إال أن يف أحيان أخرى حييل على‬
‫االنغالق والقهر والظلم‪ ،‬فـ على الرغم من انفتاحه على العامل اخلارجي إال أنه ميثل سجنا ضيقا مغلقا للبعض‪.‬‬

‫اعتُرب اجلبل يف عشرية اجلزائر السوداء مكانا للقهر واملعاناة واإللغاء تأوي إليه اجلماعات املسلحة اليت تدعي‬
‫احقيتها يف تويل احلكم‪ ،‬فجماعة "املعلم األكرب" االرهابية اختذت من جبل "عصفور" مركزا هلا‪ ،‬تضم بني صفوفها‬
‫خمتلق شرائح اجملتمع فمنهم السكري والسبايا واملثقف واألمي‪ ...‬وجتلى ذلك يف الرواية من خالل‪« :‬صار كل‬
‫واحد منهم يقص قصته اليت جعلته يصل إىل هذا املوقف‪.‬‬
‫‪-‬قال األول‪ :‬كنت سكريا أهيم يف الشوارع‪...‬‬
‫‪-‬قال الثاين‪ :‬جئت هنا كي أسرتجع ما أخذه مين أحد أبناء حيي‪ ،‬وهي رفيقة عمري اليت أحبته وتركتين‪...‬‬
‫‪-‬و قال الثالث‪ :‬التحقت هبذه احلركة بعد أن خترجت من اجلامعة ومل أجد وظيفة كي أعيل هبا نفسي‪،1» ...‬‬
‫فأصبح اجلبل حامال ملرتكيب اجلرائم واملنحرفني واملدمنني فقد ضم كل ما هو خميف ومرعب‪ ،‬حيث أصبحت‬
‫داللته القتل واهللع واالغتصاب والتعذيب‪ ،‬يقول السارد‪« :‬فزاد هلعه عن السابق حني وقع بصره على املكان‬
‫الذي حوله‪ .‬حيث رأى جمموعة من الكالب الشرسة مربوطة حتت شجرة ضخمة‪ ،‬تنبح يف وجهه حماولة قطع‬
‫احلبل الذي يقيدها كأهن ا تريد متزيقه إىل قطع صغرية‪ ،‬مث رأى فرقة من األوغاد يتبادلون األدوار على امرأة وهي‬
‫صامتة ال جترؤ على إطالق صرخة تريح أملها‪ ،‬وجمموعة أخرى مدججة باألسلحة واخلناجر والسيوف فوق‬
‫سيارات من النوع العسكري متجهني إىل معركة دامية»‪.2‬‬

‫لقد تغريت قيمة اجلبل الرمزية وكذا داللته األيديولوجية؛ كان قدميا حيتضن اجملاهدين يف وقت الثورة للدفاع‬
‫عن الوطن ومحايته من بطش املستعمر‪ ،‬أما يف زمن األزمة أصبح حيمل داللة سلبية وقيما أيديولوجية أصولية‬
‫يتخللها القهر والتسلط والتعسف واالنتقام‪ ،‬متحوال إىل مكان للتصفية اجلسدية والقتل العمدي‪ ،‬كما حصل مع‬
‫شخصية "حسن" حني حاول الفرار من ذلك املكان‪ ،‬يقول الراوي‪ « :‬متزقت رجله اليسرى يف فخ من الفخاخ‬
‫اليت تصطاد هبا اخلنازير الربية‪ ،‬فلم يضمدوا جرحه ومل يعاجلوه بل ربطوا عنقه حببل وصاروا جيرونه ككلب ذليل‪ ،‬وما‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.62_65‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.01‬‬

‫‪872‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫إن رجعوا إىل معسكرهم حىت علقوا جسمه فوق شجرة و وضعوا حتته نارا كلما أرادوا طهي شيء ما وأغلقوا فمه‬
‫كي ال يزعجهم صراخه‪ ،‬حىت جف جسمه من الدم وصعدت روحه إىل السماء »‪.1‬‬

‫أصبح فضاء اجلبل خمصصا لنشر األفكار واأليديولوجيات املعبئة بالراديكالية اليت يقوم هبا اجلماعات‬
‫املسلحة‪ .‬إنه فضاء واسع متعدد املهام والوظائف واملستويات االجتماعية والسياسية‪ ،‬كما حيمل رموزا ودالالت‬
‫تنم عن أصحاهبا وتفضح حقيقتهم وإسالمويتهم األصولية القائمة على الذبح والتعذيب‪.‬‬

‫ه ‪ -‬المقبرة‪:‬‬

‫حييل فضاء املقربة على أنه ذلك املكان املوحش املظلم الذي جت تمع فيه األجساد اليت غادرت احلياة مصفوفة‬
‫يف مقابر ضيقة مغلقة‪ ،‬فهي املكان احملتوم على مجيع البشر‪ ،‬وقد كان حضور املقربة يف الرواية عالمة مكانية هلا‬
‫عالقة وطيدة بالبطل "عمي العريب" حيث ينطبق مع اسلوبه يف احلياة ففي النهار حيفر القبور ويف الليل حيرسها‪،‬‬
‫وهذا املقطع يوضح ذلك‪ « :‬شغله مع األموات الذين ال يسمع منهم تذمرا وال يسأهلم حاجة‪ ،‬فقد كان مهندسا‬
‫لديارهم األخرية‪ ،‬حيفر هلم قربا يناسبهم ويدعو هلم بالرمحة والنوم اهلينء»‪.2‬‬

‫فاملقربة بالنسبة لـ "عمي العريب" مبثابة بيته الذي جيد فيه راحته فهي مكان مفتوح بعيد عن بطش األحياء‬
‫وظلمهم‪ ،‬فكانت حلمايته األموات من األحياء دليال على أن األوضاع ليست جيدة حيث أصبح األحياء ‪-‬كناية‬
‫عن اجلماعات املسلحة‪ -‬يقتلون االنسان احلي ويعذبون امليت أيضا‪ ،‬يقول‪« :‬ليلة أمس يا ولدي مل تكن كباقي‬
‫الليايل اليت اعتدت قضاءها جالسا يف املقربة بني األجداث‪ ،‬أمحي وأعس األموات من بطش األحياء»‪ ،3‬لقد عني‬
‫نفسه حاكما على تلك املقربة اليت تضم يف رحاهبا األرواح الطيبة والشريرة معا‪ ،‬فيعترب أن حمكمة القبور عادلة أكثر‬
‫من حمكمة األحياء اليت تتخللها الرشوة والظلم واجلور‪ ،‬فرمز املقربة هنا خمتلف عن حقيقته املعروفة بالوحشة‬
‫واخلوف واجلزع‪ ،‬إال أن الراوي نقلها بصورة العدل والراحة واحلماية عكس الواقع احلي املرير‪.‬‬

‫« بعد مثاين سنوات قررت أن أزور األجداث وأناجي أصحاهبا‪ ،‬وجلت املقربة الكربى فرأيت شخصيات‬
‫رواييت منظمني مرتبني جيمعهم فراش واحد‪ ،‬أال وهو الرتاب‪ ،‬سربلهم مجيعا حتت غطاء العدل دون متييز أو‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.66‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.10‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.70‬‬

‫‪877‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫ظلم‪...‬حلظتها تذكرت أين شقي مثلهم حسن كانوا ينافسون عبث األيام »‪ ،1‬فربط الراوي شخصياته باملوت‬
‫حىت نفسه هو أيضا‪ ،‬فشكل املوت معادال موضوعيا للمقربة اليت أحالت للعجائيب‪.‬‬

‫فقد شحنت املقربة بسمة املوت والفجيعة وأحيانا الراحة واألمان‪ ،‬وقد كان لعنوان الرواية ارتباط وثيق باملقربة‬
‫"يف كل قرب حكاية" فهي العتبة النصية اليت مثلت مفتاحا هلا‪ ،‬حني كانت املقربة بداية القصة وانتهت فيها‪ ،‬و‬
‫محل كل قرب من قبور الشخصيات حكاية خاصة ختتلف عن األخريات‪ ،‬فاتسم هذا الفضاء باالنفتاح رغم‬
‫وحشته‪.‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.719‬‬

‫‪877‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫المبحث الرابع‪ :‬الرؤية السردية في رواية "في كل قبر حكاية"‬

‫الرؤية السردية هي إحدى أبرز املكونات اخلطابية االساسية يف العمل الروائي‪ ،‬حيث حتتل دورا هاما يف‬
‫حتديد الوضعية اليت يتخذها السارد‪ ،‬إضافة إىل مدى عالقته بأحداث الرواية‪ ،‬فالرؤية السردية هي « الطريقة اليت‬
‫عرب هبا السارد عن األحداث عند تقدميها فتتجسد من خ الل منظور الراوي ملادة القصة‪ ،‬فهي ختضع إلرادته و‬
‫ا‬
‫الراوي الذي يقف خلفها »‪.1‬‬
‫ملوقفه الفكري و هو حيدد بواسطتها أي مبميزاهتا اخلاصة اليت حتدد صيغة ا‬
‫كما يطلق على الرؤية السردية مصطلح "وجهة النظر" و "زاوية التبئري"‪ ،‬و أكد الباحثون أن هلا ارتباطا وثيقا‬
‫بنظرة الراوي الذي يسرد الرواية و ينقلها للقارئ‪.‬‬

‫ذكر "سعيد علوش" أن وجهة النظر هي‪:‬‬


‫« ‪ )1‬طريقة يستعملها املرسل‪ ،‬لتنويع القراءة‪ ،‬اليت يقوم هبا املتلقي‪ ،‬للقصة يف جمموعها‪ ،‬و انطالقا من أجزائها‬
‫فقط‪.‬‬
‫‪ )7‬موقف يتخذه املؤلف‪ ،‬من موضوع أو شيء ما‪.‬‬
‫‪ )0‬و تعين (وجهة النظر) يف الرواية‪ :‬الوجدان‪ /‬املنطق‪ ،‬الذي يتوجه به القص‪ ،‬حنو القارئ‪.‬‬
‫‪ )1‬و تتم (وجهة النظر)‪ ،‬عرب ثالثة مواقف‪:‬‬
‫أ‪ -‬رواية الراوي بضمري املتكلم‪ ،‬مع خروج األحداث عن حيز التجارب‪.‬‬
‫ب‪ -‬رواية من منظور إحدى الشخصيات‪.‬‬
‫جـ‪ -‬رواية من جانب العلم باألشياء »‪ ،2‬و بناء على وجهة نظر الراوي يتضح لنا إىل أي نوع من أنواع الرؤية‬
‫السردية تنسب الرواية‪.‬‬

‫و للرؤية السردية ثالث أنواع و هي‪ :‬الرؤية من اخللف‪ ،‬الرؤية املصاحبة و الرؤية من اخلارج‪ ،‬و هذا ما جاء‬
‫به الباحث الفرنسي "جان بويون" (الرؤية مع‪ ،‬الرؤية من خلف‪ ،‬الرؤية من اخلارج) و ميكن تفصيل هذه الرؤى‬
‫كما يلي‪:‬‬

‫‪ -1‬عبد اهلل إبراهيم‪ :‬املخيل السردي‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،1990 ،1‬ص ‪.57_51‬‬
‫‪ -2‬سعيد علوش‪ :‬معجم املصطلحات األدبية املعاصرة‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،1996/1106 ،1/‬ص ‪.771‬‬

‫‪878‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫‪ - 1‬الرؤية مع‪ :‬حيث ال يقول السارد إال ما تعرفه الشخصية‪ ،‬فيقر "هنري جيمس" « بضرورة اختيار بؤرة مركزية‬
‫تشع منها املادة القصصية أو تنعكس عليها‪ .‬و تعترب رواية "السفراء" هلنري جيمس مثاال منوذجيا هلذا النوع من‬
‫القص‪ .‬فاأل حداث و الشخصيات و املكان و الزمان قدم كلها من خالل منظور شخصية بعينها من‬
‫الشخصيات‪ .‬و هذه هي التقنية اليت أمساها جان بويون "الرؤية مع" »‪.1‬‬

‫‪ -7‬الرؤية من خلف‪ :‬حيث يعرف السارد أكثر مما تعرفه الشخصية‪ « ،‬يتمثل يف القص التقليدي الكالسيكي و‬
‫يقوم على مفهوم الراوي العامل بكل شيء (‪ )Omniexient narrator‬احمليط علما بالظاهر و الباطن الذي‬
‫يقدم مادته دون إشارة إىل مصدر معلوماته‪ .‬و ميثل بلزاك هذا االجتاه أحسن متثيل يف الرواية الواقعية‪ .‬فالرواية‬
‫(حىت و إن مل يظهر يف الرواية كشخصية من الشخصيا ) جيعل وجوده ملموسا من التعليقات اليت يسوقها و‬
‫األحكام العامة اليت يطلقها‪ ،‬و من احلقائق اليت يدخلها على العامل التخييلي مستمدة من العامل احلقيق و اليت‬
‫تتجاوز حمور معرفة الشخصيات فكأنه يتنقل يف الزمان و املكان دون معاناة و يرفع أسقف املنازل فريى ما‬
‫بداخلها و أعنق اخللجات و تستوي يف ذلك عنده مجيع الشخصيات »‪.2‬‬

‫‪ -0‬الرؤية من اخلارج‪ :‬حيث يعلم السارد أقل ما تعرفه الشخصية‪ « ،‬أما املنظور الثالث الذي مساه جان بويون‬
‫"الرؤية من اخلارج" فالراوي ال يقدم من خالله سوى ما يستطيع أن خيربه حبواسه أي ما ميكن أن يرى و يسمع‬
‫فال سبيل إىل معرفة ما جيول بنفوس الشخصيات فتقدم هذه الرؤية على خربة الراوي احلسية »‪.3‬‬

‫و قد فرضت وجهة النظر نفسها ألن « هناك شكول الروايات املمسرحة رواية األصوات‪ ،‬و هي روايات‬
‫متنح شخوصها حرية تعبريية و تكافؤا يف الرأي مما جيعل الرواية حافلة بوجهات نظر داخلية نتيجة للتعددية‬
‫الصوتية اليت تشعل بدورها نوعا من التوتر املقصود داخل هذه الروايات فتعكس وجهات النظر التباين الفكري و‬
‫األيديولوجي و الفلسفي داخل جمتمع الرواية »‪.4‬‬

‫تنقسم رواية "يف كل قرب حكاية" إىل مخس و عشرين قسما يظهر صوت املؤلف يف معظمها مستعمال‬
‫ضمري املتكلم‪ ،‬و ال خيتفي إال عند قراءته املذكرة اليت وجدها صديقه‪ ،‬فسرد يف بادئ األمر حاضرة الذي جتلى يف‬

‫‪ -1‬سيزا أمحد قاسم‪ :‬بناء الرواية ‪-‬دراسة مقارنة لثالثية جنيب حمفوظ‪ ،-‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،1991 ،‬ص ‪.100‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.107‬‬
‫‪ -3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.100‬‬
‫‪ -4‬حممد جنيب التالوي‪ :‬وجهة النظر يف روايات األصوات العربية‪ ،‬منشورات إحتاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪ ،7000 ،‬ص ‪.01_00‬‬

‫‪878‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫« وقفت يف شرفة املنزل أراقب األطفال و هم يتقمصون شخصيات أبطال اجلزائر‪ ،1» ...‬و جاء هذا املقطع‬
‫هبدف اإلشارة إىل الزمن احلاضر قبل انتقاله إىل سرد أحداث ماضية‪.‬‬

‫عرف بنفسه يف بداية اإلهداء و كذا املنت الروائي ذاكرا امسه "عبد‬
‫لقد كان لراوي ضمن الشخصيات حيث ا‬
‫الواحد هواري"‪ ،‬من مواليد اخلامس سبتمرب ‪ ،1991‬مضيفا حبه الشديد للمطالعة مستعمال ضمري املتكلم قائال‪:‬‬
‫« كان من كتاب حيكي سرية رسولنا احلبيب‪ ،‬حممد صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬الرحيق املختوم"‪ .‬كتاب طاملا أعدت‬
‫قراءته مرارا دون ملل‪ ،‬ألنه حيكي سرة سيد اخللق »‪ ،2‬مث ينتقل الراوي إىل التفاعل مع شخصية "عمي العريب"‬
‫فظهرت عالقة بينه و بني املؤلف‪ ،‬و جتلت هذه العالقة من خالل الرواية‪ « :‬آه‪ ،‬إنه عمي العريب‪ ،‬أجبت على‬
‫كلماته هبمهمة خفيفة كي ال أزعج القراء من حويل‪ ،‬عقدت اتفاقا معه كي ألتقي به مساء ذلك اليوم »‪.3‬‬

‫ينتقل الراوي إىل وصف اهليئة اخلارجية لشخصية "عمي العريب" لتتحقق بذلك الرؤية من اخلارج‪ ،‬إذ يقول‪:‬‬
‫« كان رجال يف الثانية و اخلمسني من عمره‪ ،‬معهودا بني سكان املدينة "بعمي العريب"‪ ،‬شخص حمبوب بني‬
‫الناس‪ ،‬أمسر البشرة طويل القامة أشيب الشعر‪ ،‬قسمات وجهه مألهتا التجاعيد و سطرت خطوطها مسودة تزين‬
‫جفنه‪ ،‬عينه اليسرى مطموسة عدمية الرؤية حلادث أمل به يف صغره »‪ ،4‬فالسارد هنا يعلم أقل مما تعرفه الشخصية‬
‫حني تطرق لوصف مظهره اخلارجي الذي رآه ليس إالا‪.‬‬

‫يعد الراوي جزءا من احلديث منذ بداية الفصل األول للرواية‪ ،‬إذ طغى صوته فيها و تعددت الرؤى السردية‬
‫وفق متاشي األحداث يف الرواية‪ ،‬فنجد أن الراوي نقل قصة فقئ عني "عمي العريب" بتطرقه ألحداث من طفولته‪،‬‬
‫فورد هذا املقطع يف السياق‪ « :‬عينه اليسرى مطموسة عدمية الرؤية حلادث الـ َّم به يف صغره‪ ،‬حني دافع عن أمه‬
‫اليت اهنال عليها والده ب الضرب واألذى‪ ،‬و السب و الشتم‪ ،‬فلطمه ذات يوم تركه ساقطا على األرض يناجي‬
‫والدته بأمل احتد عليه‪ ،‬و حني رفع رأسه تفاجأ بعينه مفقوءة بعد تلقيها ضربة بعصا خشبية صلبة »‪ ،5‬و يبدو أن‬
‫الفاصل الزمين بني الراوي املتكلم و الشخصية اليت تناوهلا بالتعريف جعله مفارقا لطفولته اليت مل يذكر عنها سوى‬
‫هذا احلادث األليم‪ ،‬فالراوي هنا يعلم قدر ما تعلمه الشخصية‪.‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.09‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.09‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.10‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.10‬‬
‫‪ -5‬الرواية‪ ،‬ص ‪.10‬‬

‫‪877‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫يعود السارد مرة أخرى إىل املاضي البعيد لينقل للقارئ أحداثا من مرحلة شباب "عمي العريب"‪ ،‬فتصبح‬
‫املسافة بني الراوي و الشخصية بعيدة حتدد ذاكرته‪ ،‬ليسرد بذلك مرض والدة "عمي العريب" و عزمه على ختطي‬
‫املخاطر للعثور على شيخ يساعد يف شفائها‪ ،‬إال أن وصوله زامن جمزرة بشعة ارتكبتها اجلماعات املسلحة يف حق‬
‫سكان القرية األبرياء‪ ،‬و كان هذا احلدث نقطة حامسة يف حياة الشخصية‪ ،‬و اليت يسقطها الراوي على نفسه ألنه‬
‫عايش تلك الفرتة من تاريخ اجلزا ئر املظلم‪ ،‬فعاش أهواهلا و فجائعها ولعل هذا ما جعله يعود إىل تلك النقطة‬
‫بالذات‪ ،‬فانطلق منها يف سرد أحداث الرواية ليتحقق علم السارد أكثر مما تعلمه الشخصية‪.‬‬

‫« حل املساء و اجتهت صوب مقهى اهلدف ملبيا رغبة عمي العريب‪ُ ،‬سقت نفسي إليه و كلي ظنون أين‬
‫سأقوم مبا اعتدت على فعله دوما‪ ،‬حني أجالسه و أمسع منه القصص و يأيت على لسانه العجب العجاب يف‬
‫عمله كوسيط بني األموات و األحياء »‪ ،1‬و يؤكد هذا املقطع على وضع السارد "الرؤية مع" هي الرؤية السائدة‪،‬‬
‫فالراوي يعرف ما تعرفه الشخصية‪ ،‬فهو جزء من احلدث منذ بداية الفضول األوىل‪ ،‬فرصد حياة "عمي العريب" و‬
‫مكانته االجتماعية مبزاوجته بني ضمري الغائب و ضمري املتكلم فيقول‪ « :‬حرمه الشقاء من التعلم يف صغره‪ ،‬كنت‬
‫أجده يرتمن بنغمة تقلب الصفحات و يسبح يف فضاء ذكريات ال متوت »‪.2‬‬

‫لكن الرؤية تتغري مرة أخرى حني تسود "الرؤية من خلف" و يتذكر "عمي العريب" أحداثا مرت عليه قبل يوم‬
‫من لقائه بالراوي حني وجد مذكرات أحد اجملانني‪ ،‬الذي كانت زيارته للمقربة اليت يعمل هبا "عمي العريب" حارسا‬
‫غريبة جدا‪ ،‬و قد ناول املذكرات للراوي كي يقرأها على مسامعه‪ ،‬و هذا ما ينفي انتماء بعض فصول الرواية اليت‬
‫تسرد فيها املذكرات إىل الراوي‪ ،‬و يشري إىل أن صاحبها جمنون سقطت منه أثناء زيارته قرب زوجته « وقع بصري‬
‫على األرض املمدودة و إذ بدفرت ذي حجم كبري أزرق اللون مائل إىل السواد‪ ،‬مغلف جبلد مسيك و إىل جانبه‬
‫صورة‪ ،‬مل أجرؤ على فتحه فأنت أدرى بأمري‪ ،‬ما أنا بقارئ‪.3» ...‬‬

‫كما ظهرت "الرؤية مع" يف السرد حني تطرق السارد إىل يدور يف نفسه يف املقطع التايل‪ « :‬أصابين العجز‬
‫يف لساين و مل أعرف ما علي قوله‪ ،‬أحسست أن هذه القصة اخرتقت طبقات قليب و طعنته بسكني حادة‪ ،‬كنت‬
‫أرى نفسي صورة املخلص الذي مهما خذلته احلياة يظل وفيا للحب يف قلبه‪ ،‬لكن بعد أن مسعت ما صدر من‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.19‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.19‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.71‬‬

‫‪877‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫لسان عمي العريب أدركت أن للهيام قوة تفوق حتمل االنسان‪ ،‬كل عاشق و طاقته اليت يصرب عليها‪ ،‬أخذين السهو‬
‫لعامل ساكن ثابت ال حيرك‪ ،‬أسأل نفسي‪.‬‬
‫‪ -‬أيعقل ان هذا النوع من احلب الزال حيا؟‬
‫‪ -‬يا إهلي‪ ،‬أمل ينس قربها رغم جنونه و مرور زمن طويل على فقداهنا؟‬
‫‪ -‬أي حب هذا؟‪ ،1» ...‬يربز هذا املقطع املونولوج الداخلي للراوي الشخصية الذي تغريت حالته النفسية بعد‬
‫مساعه قصة اجملنون العاشق‪ ،‬و قد ضمن هذا املقطع عرض أفكار السارد و مشاعره حني قال‪ « :‬كنت أرى يف‬
‫نفسي صورة املخلص »‪ ،2‬ما منح الراوي فسحة أكرب و جماال رحبا للتعبري عن مشاعره و آرائه متفاديا الرتابة‪.‬‬

‫تردد الراوي كثريا قبل اطالعه و اِطالع القارئ على حمتويات املذكرات‪ ،‬لكنه أخريا قرر قراءهتا و اكتشاف‬
‫أسرارها و أسرار اجلنون الذي تعرض له صاحبها‪ ،‬بعد ذلك قرأ على مسامعنا القصة دون ذكر األمساء ليرتك‬
‫مشوقا منجدبا حنو إمتام الرواية ليزيل اللبس عن عقله‪.‬‬
‫القارئ َّ‬

‫كما تضمنت الرواية العديد من الرؤى من خلف سواء باستخدام ضمري الغائب أو استذكار أحداث‬
‫مضت‪ ،‬و حىت بإضافة املنولوج الداخلي للشخصيات و معرفة الراوي به و قد وردت يف هذا السياق هذه‬
‫املقاطع‪:‬‬

‫‪ « -‬كانت أمينة مستلقية على سريرها و العربات متأل مقلتيها بقلب مشحون أذاقه الفجع مرارة االشتياق للبطل‬
‫الذي دافع عنها و هو قابع يف زنزانة ُمينع على أي أحد رؤيته »‪ ،3‬فالراوي هنا يعلم أكثر مما تعلمه الشخصية‬
‫حيث استطاع االطالع على حالتها رغم أنه مل يكن إىل جانبها‪.‬‬

‫‪ « -‬كلما تذكرت كلماته اليت ترتدد يف الغرفة كصدى الصوت من أعايل اجلبال أجهشت بالبكاء‪ ،‬هي اآلن بال‬
‫حول و ال قوة‪ ...‬إذ تقول خماطبة نفسها‪ ،‬البد أن اجلوع قد نال منه و األمل اشتد عليه و ضاع قلبه مين »‪ ،4‬و‬
‫ظهر هنا احلوار الداخلي لشخصية "أمينة" اليت كانت يف حالة ضعف تتمىن تغيري املاضي و ترضخ ألوامر خطيبها‬
‫الذي قاده عنادها إىل السجن‪.‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.76_71‬‬


‫‪ -2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.71‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.16‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص ‪.16‬‬

‫‪877‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫يتواىل رصد الشخصيات و االشارة إليها من قِبل الراوي الذي حيمل وجهة نظر لكل شخصية يتطرق إىل‬
‫وصفها‪ ،‬فربز ذلك من خالل وصفه و طريقة إظهارها للقارئ‪ ،‬و من الشخصيات اليت كانت له رؤية مباشرة هلا‬
‫جند "عبري" فيقول‪ « :‬بعدها قلبت الصفحة فسقطت من الدفرت صورة‪ ،‬قمت أتفحصها فعظمت دهشيت‪ ،‬فتاة‬
‫شقراء يكاد طول شعرها يبلغ ركبتيها‪ ،‬ببشرة بيضاء صافية ليس عليها ذرة منش‪ ،‬و عينني زرقاوين مرسومتني‬
‫بالكحل ما زادها حسنا و هباء‪ ،‬تبتسم فتشكل أسناهنا البيضاء طبقات معمارية دقيقة‪ ،‬و حتت شفتيها شامة‬
‫سوداء صغرية‪ ،‬مجاهلا مزيج من رقة االتراك و سحر بنات األندلس‪ ،‬فشكل هذا احلسن التلمساين »‪ ،1‬فقد أطلعنا‬
‫الراوي على شكل و صفات شخصية "عبري" مشاركا برأيه جتاه مجاهلا اخلالب‪.‬‬

‫و من الشخصيات اليت نقلها الراوي دون أن تكون له صلة مباشرة هبا "املعلم األكرب" زعيم إحدى الفراق‬
‫املسلحة املتمركزة يف جبل "عصفور"‪ ،‬يقول‪ « :‬كان املعلم يرتدي جالبة مغربية بنية‪ ،‬له حلية تصل نصف صدره‪،‬‬
‫شعره طويل إىل كتفيه و يضع عصابة على جبينه كتب عليها شهادة اإلسالم‪ ...‬خده االمين حيمل ندبة كأن‬
‫سكينا اخرتقت حلمه‪ ،‬مرعب الشكل له نظرات قاسية ال ترحم و أحيط جبسمه حزام عسكري مدجج باألسلحة‬
‫و اخلناجر و القنابل ‪ ،»2‬محل هذا املقطع وجهة نظر الراوي بكل وضوح جتاه "املعلم األكرب" حيث نقل صورته‬
‫بشكل بشع خميف‪ ،‬يبث مظهره اخلارجي الرعب و اخلوف يف نفس الناظر له فكانت صورته انعكاس لشخصيته‬
‫اإلجرامية‪ ،‬و كانت الراية املعلقة على جبينه عبارة عن مظهر خال من احلقيقة ألهنا كانت وسيلة الستعطاف‬
‫الشعب اجلزائري الذي رفض االنضمام إىل اجلماعات املسلحة‪.‬‬

‫يقول "عمي العريب"‪ « :‬قضيت سنة كاملة يف جبل عصفور يعجز لساين عن وصف املظاهر اليت رأيتها‪،‬‬
‫كانت أمامي فرص كثرية للهرب لكن الفزع نال مين‪ ،‬سبقين إىل ذلك عدة أشخاص »‪ ،3‬فالراوي خيتفي وراء‬
‫شخصية "عمي العريب" فجعل من ضمري املتكلم متنفسا له ميكنه من التوغل إىل أعماق نفسه و الكشف عن‬
‫أسراره وخفايا حياته‪ ،‬فينتقل الراوي ما يدور يف داخل الشخصية نقال ذاتيا فيقوم بإبراز مشاعرها و انطباعاهتا‪.‬‬

‫"عبد الواحد هواري" حاول إضفاء نوع من املصداقية على سرده يف الرواية‪ ،‬فظهرت شخصية "عمي العريب"‬
‫اليت تعيش صراعا من الزمن املأساوي و مع نفسها كاشفة عن حالتها و أسرارها‪ ،‬و جتلى ذلك منذ بداية الرواية‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.75‬‬


‫‪ - 2‬الرواية‪ ،‬ص ‪.07‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص ‪.61‬‬

‫‪877‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫عندما شاهد جمزرة قريته و قرية جماورة هلا‪ ،‬و انتقل بعدها إىل احلديث عن حياة الرعب و اخلوف اليت عاشها يف‬
‫اجلبال مع اإلرهابيني الذين حولوا حياته جلحيم‪ ،‬لكنه مل يستسلم و واصل الصمود و الصرب إىل التخلص من‬
‫قبضتهم‪ ،‬فجسد بذلك روح املقاومة كان رمزا للرجل اجلزائري املناضل و الرافض للظلم و الطغيان‪.‬‬

‫يربز انتماءه الديين يف الصراع بني احلكومة و اجلماعات املسلحة و واجبه الدفاع عن وطنه و دينه من التزييف و‬
‫التلفيق‪ ،‬يقول‪ « :‬كنت أظن سابقا أن قضيتهم عادلة و أهنم حيمون الدين و الوطن‪ ،‬لكن اكتشفت أو تلك‬
‫املظاهر اليت ي ادعوهنا ما هي إال جللب املستضعفني و ملء عقوهلم باخلرافات‪ ،‬كانوا يرفعون راية كتبت عليها‬
‫الش هادة و يكربون اهلل لكن مل تكن فيهم ذرة اإلسالم‪ ،‬مظاهر خداعة و باطن يتكشف على حقيقته مبا‬
‫يقرتفون »‪ ،1‬يوافق الراوي رأي "عمي العريب" فمن وجهة نظره أن اجلماعات اإلرهابية أساءت استغالل الدين‪ ،‬و‬
‫هذا حييلنا على را ٍو كلي املعرفة بالدين و تعاليمه‪ ،‬يعلم وجهة نظر القارئ إزاء أعمال اجلماعات املسلحة الشنيعة‪،‬‬
‫فالراوي هنا ليس خارجا عن العامل الروائي بل هو شخصية مركزية فيه و مشاركة يف صنع أحداثه‪ ،‬و هذا ما‬
‫يسمح بتأويل خطابه بوصفه خطابا للراوي و حتديد وجهة نظر السارد نفسه‪.‬‬

‫يواصل الراوي ممارسة سرده عرب ضمري املتكلم على لسان شخصية "عمي العريب" الذي حييل على شخصية‬
‫الكاتب احلقيقي كما يوهم هبا‪ ،‬فال يكتفي بسرد االحداث و تصويرها بل يشارك يف صنعها‪ ،‬وهبذا يقف الراوي‬
‫معها ال خلفها‪.‬‬

‫لقد تعددت اشكال حضور الراوي بني املشارك واملتفرج‪ ،‬وهذا التعدد يف صيغ الراوي الذي توافق مع تعدد‬
‫صيغ السرد ما بني النقل واإلخبار و هو ما أتاح للشخصيات حرية التعبري عن نفسها و آرائها‪.‬‬

‫إن رؤية الراوي الفكرية الصرحية انعكست على شخصياته خاصة شخصية "عمي العريب" املقاوم والرافض‬
‫للظلم وتشويه صورة اإلسالم‪ ،‬وكذا استغالله برق بشعة و هذا ما جعل الشخصية ترتبط ارتباطا وثيقا مبا جيري‬
‫حوهلا‪ ،‬فأصبحت مركزا حموريا يف سريورة األحداث و مهما حاول الراوي إبعاد الشخصية عنه فهي تربطه بالزمن‪،‬‬
‫وهي قضية احلرب األهلية اجلزائرية و الصراع حول السلطة و الدعوة إىل املقاومة والتصدي للعدو‪.‬‬

‫إن اخلطاب الروائي ليس إال نتاجا من نتاجات اخليال لدى املؤلف و ما هو إال ترمجة ذاتية خيالية من نسج‬
‫الراوي نفسه‪ ،‬و "عمي العريب" و باقي الشخصيات متحدثة عن أفكاره و آرائه و مشاعره‪.‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.65‬‬

‫‪877‬‬
‫جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‬ ‫الفصل الثالث‬

‫لذا فإن نقل مشاعر الشخصية و أفكارها من خالل اجتماع الصوت الداخلي باخلارجي يضفي على النص‬
‫مجالية فنية‪ ،‬و هذا ما جسدته الرواية من خالل شخصية "أسامة" « أسند ظهره و راح يتأمل السقف و عالمات‬
‫األسى بادية عليه‪ ،‬الزال يفكر يف كل ضحية مل يسعفه القدر إلنقاذها‪ ...‬ظل النقيب يقلب عينيه يف الغرفة و‬
‫جل تفكريه منصب على إجياد حل يوقف تلك األزمة‪.‬‬
‫‪ -‬إىل مىت هذا االقتتال و هذه الوحشية؟‬
‫ظل هذا السؤال يراوده‪ ،‬مل جيد له إجابة بعد‪ ،‬وحدته وعزلته كانت من أجل إجياد نسمة أمل يتبعها إليقاف‬
‫مسلسل الوحشية و احلرب القذرة‪ ،‬صار يتأفف مع كل ثانية متر‪ُ ،‬حي ِّمل نفسه ما ال طاقة هلا »‪ ،1‬دخل "أسامة"‬
‫يف صراع مع نفسه فظهر ذلك من خالل احلوار الداخلي الذي وقع يف ذهنه‪.‬‬

‫سرد الراوي قصة مل يكن شاهدا تاما على أحداثها إال أن اختالط شخصياته الواقعية اليت روت له بدورها‬
‫األحداث الدموية يف حرب اجلزائر األهلية‪ ،‬فكانت له مواقف و آراء من شخصياته الرئيسية بصورة مباشرة و‬
‫أخرى ضمنية‪ ،‬فقد أطلق أحكاما على ِخلقتها و ُخلقها و أفكارها‪ ،‬و رسم بينه و بينها مسافة ذات طبيعة‬
‫أخالقية و نفسية و فكرية‪.‬‬

‫‪ -1‬الرواية‪ ،‬ص ‪.60‬‬

‫‪872‬‬
‫خـ ـاتـمـ ــة‬
‫خاتمة‬

‫خاتمة‬

‫وصلنا يف النهاية إىل آخر حمطة نقف عندها لنختم حبثنا حبوصلة شاملة و خمتصرة ألهم النقاط اليت توصلنا‬
‫إليها يف مسرية إعدادنا هلذا البحث‪ ،‬و قد خلصناها يف النقاط التالية‪:‬‬

‫‪ -‬متكنت الرواية من أن تكون مرآة اجملتمع الذي انعكس يف سطورها‪ ،‬معربة عن اهلموم و األفكار و‬
‫املشاعر و حىت القضايا السياسية و االجتماعية‪ ،...‬و عملت الرواية علة رصد الصراع السياسي بني احلكومة‬
‫واجلماعات املسلحة ألجل نيل كرسي احلكم‪.‬‬

‫‪ -‬وظف الراوي البعد الديين متناوال بذلك خمتلف املواضيع ‪ -‬التحريف الذي طال القرآن الكرمي ومن طرف‬
‫اجلماعات االرهابية ليستعطفوا الشعب‪ -‬وأضاف البعد االجتماعي والسياسي أيضا‪.‬‬

‫‪ -‬ذهب الروائي غلى توظيف جتليات الواقع االجتماعي يف الرواية متطرقا إىل األبعاد احلساسة كاملرأة اليت‬
‫راحت ضحي ة لالعتداءات االرهابية فتعرضت لالختطاف بأعداد كبرية‪ ،‬و أضاف حياة الفقر و احلرمان و البطالة‬
‫و التجارة غري املشروعة اليت سادت اجملتمع اجلزائري يف ظل الصراع السياسي‪.‬‬

‫‪ -‬كانت اجملازر اليت ارتكبتها اجلماعات املسلحة وتعذيبها الشنيع الذي مارسته على األبرياء املوضوع‬
‫األساسي يف الرواية‪ ،‬و مدى انعكاس احلرب األهلية على الفرد اجلزائري الذي يعد اخلاسر األكرب يف ظل الصراع‪،‬‬
‫فسعى الروائي إىل تصوير األوضاع العامة انطالقا من رؤيته األيديولوجية و أفكاره اليت آمن هبا‪.‬‬

‫‪ -‬عربت الشخصيات عن قناعات و أفكار الراوي و أيديولوجيته و وجهة نظره جتاه طبيعة الصراع السياسي‬
‫يف التسعينيات‪ ،‬و لقد طغى اجلانب التارخيي على الشخصيات و األحداث يشكل واضح و جلي‪ ،‬ألهنا عملت‬
‫على عكس الواقع االجتماعي فوظف السارد الشخصية بنوعيها؛ الرئيسية و الثانوية‪ ،‬اليت كانت رمزا للحرب‬
‫االهلية بتفاصيلها‪.‬‬

‫‪ -‬للزمن دور هام يف حتريك أحداث الرواية حيث يعرف بأنه العمود الفقري هلا ألنه يكشف بنية النص‪ ،‬ما‬
‫جعل شكل النص الروائي يرتبط مبعاجلة الزمن‪ ،‬و لقد تالعب الروائي بالقرائن الزمنية اليت سامهت يف بروز‬
‫املفارقات و اإليقاعات السردية بشكل كبري‪ ،‬فساعدت تقنية االسرتجاع اليت كانت سائدة بكثرة يف الرواية على‬

‫‪931‬‬
‫خاتمة‬

‫سد ثغرات النص و التنويع يف طبيعة الزمن ما أضفى عليها مجالية فنية‪ ،‬فأزال االسرتجاع اللثام عن جوانب‬
‫الشخصيات يف زم ٍن ٍ‬
‫ماض‪.‬‬

‫‪ -‬للمكان حضور أديب و فين هام يف الرواية كونه العامل األساسي يف تطور األحداث و سريها‪ ،‬فتعدى‬
‫خاصيته احملصورة يف إطار حمدود معلوم إىل التفاعل مع الشخصيات و التأثري على نفسيتها و قراراهتا و حىت‬
‫مشاعرها‪.‬‬

‫‪ -‬تنوعت األمكنة يف الرواية بني املفتوحة و املغلقة‪ ،‬و قد كانت هذه االخرية األكثر حضورا يف الرواية‬
‫فصورت نفسية و إحساس الشخصيات جتاهها‪ ،‬و ال وظيفة للمكان إال بتفاعلها مع رحلة الشخصيات حيث‬
‫حيمل دالالت خاصة يف نفسيتها‪ ،‬ليتوسع من كونه جمرد حيز مكاين يف الرواية إىل مكان متصل بالعامل اخلارجي و‬
‫الواقع االجتماعي‪.‬‬

‫‪ -‬تنوعت االبعاد الداللية يف الرواية بتنوع املواضيع اليت عاجلتها كالسياسة و الدين و اجملتمع‪ ...‬و امتزاجها‬
‫مع مواضيع الفقر و البطالة و كذا األمل و التحدي و التصدي للعقبات‪.‬‬

‫‪ -‬و مبا أن الرؤية السردية هي إحدى أبرز املكونات اخلطابية يف العمل الروائي‪ ،‬فقد هيمنت على الرواية‬
‫بأقسامها الثالثة؛ الرؤية مع‪ ،‬الرؤية من خلف‪ ،‬الرؤية من اخلارج‪ ،‬فتعرب الرؤية السردية عن منظور السارد ملادة‬
‫الرواية ألهنا خاضعة ملوقفه الفكري و األيديولوجي‪.‬‬

‫‪ -‬متكن راوي رواية احملنة اجلزائري "عبد الواحد هواري" من رصد الواقع اجلزائري املأساوي يف العشرية‬
‫فصور احلكومة و اجلماعات‬
‫السوداء بتحوالهتا املختلفة‪ ،‬سواء كانت سياسية‪ ،‬دينية‪ ،‬اقتصادية و اجتماعية‪ّ ،‬‬
‫املسلحة‪.‬‬

‫‪941‬‬
‫قائمة المصادر و المراجع‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫أوال‪ :‬المصادر ‪:‬‬

‫عبد الواحد هواري‪ :‬يف كل قرب حكاية‪ ،‬املثقف للنشر و التوزيع‪ ،‬ط‪.8112/1341 ،1.‬‬

‫ثانيا‪ :‬المراجع العربية ‪:‬‬

‫‪ .1‬إبراهيم سعدي‪ :‬دراسات و مقاالت يف الرواية‪ ،‬منشورات السهل اجلزائر‪ ،‬د‪.‬ط‪.8111 ،‬‬
‫‪ .8‬إبراهيم عباس‪ :‬تقنيات البنية السردية يف الرواية املغاربية‪ ،‬منشورات املؤسسة الوطنية لالتصال‪ ،‬اجلزائر‪،‬‬
‫د‪.‬ط‪.8118 ،‬‬
‫‪ .4‬أمحد محد النعيمي‪ :‬إيقاع الزمن يف الرواية العربية املعاصرة‪ ،‬املؤسسة العربية للنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪،1.‬‬
‫‪.8113‬‬
‫‪ .3‬جويدة محاش‪ :‬بناء الشخصية يف حكاية عبدو و اجلماجم و اجلبل ملصطفى قاسي ‪ -‬مقاربة يف‬
‫السرديات‪ ،-‬منشورات األوراس‪ ،‬د‪.‬ط‪.8112 ،‬‬
‫‪ .5‬حسن حبراوي‪ :‬بنية الشكل الروائي ( الفضاء‪ ،‬الزمن‪ ،‬الشخصية )‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫ط‪.1111 ،1.‬‬
‫‪ .6‬محيد احلمداين‪ :‬بنية النص السردي من منظور النقد األديب‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪،8.‬‬
‫‪.1114‬‬
‫‪ .2‬احلميد بورايو‪ :‬منطق السرد – دراسات يف القصة اجلزائرية احلديثة ‪ ، -‬منشورات السهل‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬د‪/‬ط‪،‬‬
‫‪ ،8111‬ص ‪.121‬‬
‫‪ .2‬محيد حلمداين‪ :‬النقد الروائي و األيديولوجي ‪-‬من سوسيولوجيا الرواية إىل سوسيولوجيا النص الروائي‪،-‬‬
‫املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.1111 ،1.‬‬
‫‪ .1‬سعيد يقطني‪ :‬انفتاح النص الروائي ‪-‬النص و السياق‪ ،-‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.1121 ،1.‬‬
‫‪ .11‬سعيد يقطني‪ :‬انفتاح النص الروائي‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪.8111 ،8.‬‬
‫‪ .11‬سعيد يقطني‪ :‬حتليل اخلطاب الروائي ‪-‬الزمن‪ ،‬السرد‪ ،‬التبئري‪ ،-‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫‪.1112‬‬

‫‪241‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫‪ .18‬سيد حبراوي‪ :‬حمتوى الشكل يف الرواية العربية‪ ،‬النصوص املصرية األوىل‪ ،‬املكتبة العامة للكتاب‪ ،‬مصر‪،‬‬
‫ط‪.1116 ،1.‬‬
‫‪ .14‬سيزا أمحد قاسم‪ :‬بناء الرواية ‪-‬دراسة مقارنة يف ثالثية جنيب حمفوظ‪ ،-‬مكتبة األسرة‪ ،‬د‪.‬ط‪.8113 ،‬‬
‫‪ .13‬الشريف حبيلة‪ :‬الرواية و العنف ‪-‬دراسة سوسيونصية يف الرواية اجلزائرية املعاصرة‪ ،-‬علم الكتب‬
‫احلديث‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪.8111 ،1.‬‬
‫‪ .15‬صربي حافظ‪ :‬أفق اخلطاب النقدي ‪-‬عن آنسة أمحد احلاج‪ ،‬االجتاه االجتماعي يف النقد الروائي يف‬
‫املغرب‪ ،‬دراسة يف نقد النقد‪.-‬‬
‫‪ .16‬عبد احلميد عقار‪ :‬الرواية املغاربية حتوالت اللغة و اخلطاب‪ ،‬شركة النشر و التوزيع املدارس‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط‪.8111 ،1.‬‬
‫‪ .12‬عبد القادر أبو شريفة‪ :‬مدخل إىل حتليل النص األديب‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬عمان‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪.8111 ،4.‬‬
‫‪ .12‬عبد اهلل إبراهيم‪ :‬املخيل السردي‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪.1111 ،1.‬‬
‫‪ .11‬عبد امللك مرتاض‪ :‬يف نظرية الرواية ‪ -‬حبث يف تقنية الكتابة الروائية‪ -‬دار الغرب وهران‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬د‪.‬ط‪.‬‬
‫‪ .81‬عبد امللك مرتاض‪ :‬يف نظرية الرواية‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬الكويت‪ ،‬د‪.‬ط‪.1112 ،‬‬
‫‪ .81‬عبد الوهاب شعالن‪ :‬من سوسيولوجيا األدب إىل سوسيولوجيا النص ‪-‬قراءة يف جتربة محيد حلمداين‪،-‬‬
‫املركز الثقايف اجلامعي‪ ،‬سوق أهراس‪.‬‬
‫‪ .88‬عمر عيالن‪ :‬يف مناهج حتليل اخلطاب السردي‪ ،‬دار الكاب احلديث‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.8111 ،1‬‬
‫‪ .84‬عمر عيالن‪ :‬مناهج حتليل اخلطاب السردي‪ ،‬دار الكتاب احلديث‪ ،‬ط‪ ،1.‬القاهرة‪.8111 ،‬‬
‫‪ .83‬فيصل غازي النعيمي‪ :‬العالمة و الرواية ‪-‬دراسة سيميائية يف ثالثية أرض السواد لعبد الرمحان منيف‪،-‬‬
‫دار جمدالوي للنشر و التوزيع‪ ،‬عمان‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪.8111 ،1.‬‬
‫‪ .85‬كلثوم مدقن‪ :‬داللة املكان يف رواية موسم اهلجرة إىل الشمال‪ ،‬ضمن جملة األثر‪ ،‬جامعة ورقلة‪ ،‬عدد‬
‫‪ ،3‬ماي ‪.8115‬‬
‫‪ .86‬حممد القاضي‪ :‬يف حوارية الرواية ‪-‬عن آنسة حممد احلاج‪ ،‬االجتاه االجتماعي يف النقد الروائي يف‬
‫املغرب‪ ،‬دراسة يف نقد النقد‪.-‬‬
‫‪ .82‬حممد بنيس‪ :‬الشعر العريب احلديث‪ ،‬دار توبقال‪ ،‬ع‪.3‬‬

‫‪241‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫‪ .82‬حممد خرماش‪ :‬إشكالية املناهج يف النقد العريب املعاصر‪ ،‬مطبعة أنفوبرنت‪ ،‬فاس‪ ،‬ط‪.8111 ،1.‬‬
‫‪ .81‬حممد سامل األمني الطلبة‪ :‬مستويات اللغة يف السرد العريب املعاصر‪-‬دراسة نظرية يف سيمانطيقا السرد‪،-‬‬
‫دار االنتشار العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪.8112 ،1.‬‬
‫‪ .41‬حممد جنيب التالوي‪ :‬وجهة النظر يف روايات األصوات العربية‪ ،‬منشورات احتاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪،‬‬
‫د‪.‬ط‪.8111 ،‬‬
‫‪ .41‬حممد هالل غنيمي‪ :‬النقد األديب احلديث‪ ،‬هنضة مصر للطباعة و النشر‪ ،‬ط‪.8115 ،6.‬‬
‫‪ .48‬حمي الدين صبحي‪ :‬أبطال يف السريورة ‪-‬دراسات يف الرواية العربية و املعربة‪ ،-‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫ط‪.1121 ،1.‬‬
‫‪ .44‬مها حسن القصراوي‪ :‬الزمن يف الرواية العربية‪ ،‬املؤسسة الوطنية للدراسات و النشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪،1.‬‬
‫‪.8116‬‬
‫‪ .43‬نبيل بو السليو‪ :‬بنية الزمن القصصي لدى مرزاق بقطاش‪ ،‬دار أمواج للنشر‪ ،‬سكيكدة‪ ،‬ط‪،1.‬‬
‫‪.8113‬‬
‫‪ .45‬ياسني النصري‪ :‬الرواية و املكان‪ ،‬سلسلة املوسوعة الصغرية‪ ،‬دار الشؤون الثقافية العامة‪ ،‬بغداد‪ ،‬ع‪:‬‬
‫‪.115‬‬
‫‪ .46‬ميىن العيد‪ :‬يف معرفة النص‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪.1111 ،1.‬‬

‫ثالثا‪ :‬المراجع المترجمة‪:‬‬

‫‪ .42‬بيري زميا‪ :‬النص و اجملتمع ‪-‬آفاق علم اجتماع النقد‪ ،-‬تر‪ :‬أنطوان أبو زيد‪ ،‬املنظمة العاملية للرتمجة‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬ط‪.8114 ،1.‬‬
‫‪ .42‬بيري زميا‪ :‬النقد االجتماعي حنو علم اجتماع النص األديب‪ ،‬تر‪ :‬عايدة لطفي‪ ،‬م‪ :‬أمينة رشيد‪ ،‬د‪:‬‬
‫حبراوي‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬ط‪.1111 ،1.‬‬
‫‪ .41‬بيري زميا‪ :‬حنو سوسيولوجيا النص األديب‪ ،‬تر‪ :‬عمار بلحسن‪ ،‬جملة العرب و الفكر العاملي‪ ،‬العدد‪،8:‬‬
‫مركز اإلمناء العريب‪.1121 ،‬‬

‫‪244‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫‪ .31‬ترفينان تودروف‪ :‬ميخائيل باختني‪ :‬املبدأ احلواري‪ ،‬تر‪ :‬فخري صاحل و رجاء بن سالمة‪ ،‬دار توبقال‪،‬‬
‫الدار البيضاء‪،‬املغرب‪ ،‬ط‪.1111 ،8.‬‬
‫‪ .31‬جريار جنيت‪ :‬مدخل جلامع النص‪ ،‬تر‪ :‬عبد الرمحان أيوب‪ ،‬دار الشؤون الثقافية العامة‪ ،‬اآلفاق العربية‪،‬‬
‫عراق‪ ،‬د‪/‬ط‪.‬‬
‫‪ .38‬ميخائيل باختني‪ :‬املاركسية و الفلسفة‪ ،‬تر‪ :‬حممد البكري و ميىن العيد‪ ،‬دار توبقال‪ ،‬الكدية‪ ،‬منشورات‬
‫مكتبة املناهل‪ ،‬املغرب‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬المعاجم والقواميس والموسوعات‪:‬‬

‫‪ .34‬سعيد علوش‪ :‬معجم املصطلحات األدبية املعاصرة‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪،1.‬‬
‫‪.1125/1315‬‬
‫‪ .33‬جمد الدين بن يعقوب الفريوز آبادي‪ :‬القاموس احمليط‪ ،‬دار احلديث‪ ،‬القاهرة‪ ،8112-1381 ،‬ص‬
‫‪.1551‬‬

‫خامسا‪ :‬المجالت والدوريات‪:‬‬

‫‪ .35‬حياة زروال‪ :‬املنهج االجتماعي و السوسيونصي يف ميزان النقد العريب‪ ،‬جامعة باجي خمتار‪ ،‬عنابة‪،‬‬
‫اجلزائر‪ ،‬جملة منتدى األساتذة‪ ،‬العدد‪ ،12 :‬جوان ‪.8116‬‬

‫سادسا‪ :‬الرسائل الجامعية‪:‬‬

‫‪ .36‬آنسة حممد احلاج‪ :‬االجتاه االجتماعي يف النقد الروائي يف املغرب –دراسة يف نقد النقد‪ ،-‬أطروحة‬
‫دكتوراه‪.8116/8115 ،‬‬
‫‪ .32‬صاحلة عباسي‪ :‬سوسيولوجيا النص األديب و تطبيقاته يف النقد العريب املعاصر‪ ،‬مذكرة ماجستري‪ ،‬جامعة‬
‫العريب بن مهيدي‪ ،‬أم البواقي‪.1344/8118 ،‬‬
‫‪ .32‬نعيمة بولكعيبات‪ :‬املنهج االجتماعي يف النقد العريب املعاصر‪ ،‬أطروحة دكتوراه‪ ،‬جامعة احلاج خلضر‪،‬‬
‫باتنة‪.8116/8115 ،‬‬
‫‪ .31‬هداية مرزق‪ :‬الشخصية الروائية عند الطاهر وطار‪ ،‬رسالة ماجستري‪ ،‬جامعة اجلزائر‪.1122/1121 ،‬‬

‫‪241‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫سابعا‪ :‬المواقع االلكترونية‪:‬‬

‫‪ :www.diwanalarab.com .51‬مجيل محداوي‪ ،‬األحد ‪ 11‬آذار (مارس)‪.8112 ،‬‬

‫‪241‬‬
‫ملخص الدراسة‬
‫ملخص الدراسة‬

‫ملخص الدراسة‪:‬‬

‫جاءت دراستنا بعنوان "مقاربة سوسيونصية" يف رواية "يف كل قرب حكاية" لـ "عبد الواحد هواري"‪ ،‬و اليت‬
‫صور من خالهلا واقع الشعب اجلزائري و اجلماعات املسلحة يف ظل الصراع السياسي التسعيين‪ ،‬معربا عن احلياة‬
‫ّ‬
‫املأساوية اليت عاشها اجملتمع و ختبّط يف شباكها الربيء و الظامل على ح ّد سواء‪ ،‬فحاولنا من خالل رصد جتليات‬
‫هذا الصراع اكتشاف و حتليل مكونات اخلطاب الروائي من منظور سوسيونصي‪.‬‬

‫فكانت دراستنا مقسمة يف مقدمة و ثالثة فصول و خامتة‪ ،‬تضمن الفصل األول تطور املنهج السوسيونصي‬
‫يف الدراسات الغربية و العربية و طبيعة العالقة بني النص الروائي و الواقع االجتماعي‪ ،‬إضافة إىل جتليات املنهج‬
‫السوسيونصي‪.‬‬

‫و تناولنا يف الفصل الثاين جتليات احلضور الديين و السياسي و االجتماعي يف املدونة‪ ،‬و آخر فصل احتوى‬
‫على مجاليات التشكيل الفين مع الشخصية و الزمان و املكان و الرؤية السردية يف الرواية‪.‬‬

‫و جاءت خامتة حبثنا عبارة عن أهم النتائج اليت استنتجناها من دراستنا هلذا املوضوع‪.‬‬

‫‪841‬‬
‫فهرس المحتويات‬

‫فهرس المحتويات‬
‫‪ ‬شكر و عرفان‪.‬‬
‫‪ ‬اإلهداء‪.‬‬
‫أ‪-‬ج‬ ‫‪ ‬مقدمة‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬المنهج السوسيونصي‪.‬‬
‫‪6‬‬ ‫أوال ‪:‬السوسيونصية في الدراسات األدبية‪.‬‬
‫‪6‬‬ ‫‪ - 1‬يف الدراسات الغربية‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫‪ - 2‬يف الدراسات العربية‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫ثانيا ‪:‬مبادئ المقاربة السوسيونصية و تجليات المنهج‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫‪ - 1‬طبيعة العالقة بني النص الروائي و الواقع اإلجتماعي‪.‬‬
‫‪22‬‬ ‫‪ - 2‬ماهية اخلطاب الروائي و وظيفته‪.‬‬
‫‪22‬‬ ‫‪ - 3‬جتليات املنهج السوسيونصي‪.‬‬
‫الفصل الثاني ‪:‬الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫تمهيد‪.‬‬
‫‪12‬‬ ‫المبحث األول ‪:‬تجليات البعد السياسي في الرواية‪.‬‬
‫‪21‬‬ ‫المبحث الثاني ‪:‬تجليات البعد الديني في الرواية‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫المبحث الثالث ‪:‬تجليات الواقع االجتماعي في الرواية‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫‪ - 1‬جتليات املرأة‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫‪ - 2‬الفقر‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬جماليات التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية‪.‬‬
‫‪31‬‬ ‫المبحث األول‪ :‬بنية الشخصية في الرواية‪.‬‬
‫‪31‬‬ ‫‪ - 1‬الشخصيات الرئيسية‪.‬‬
‫‪16‬‬ ‫‪ - 2‬الشخصيات الثانوية‪.‬‬
‫‪81‬‬ ‫المبحث الثاني‪ :‬بنية الزمن في الرواية‪.‬‬
‫‪81‬‬ ‫‪ - 1‬البنية الزمنية يف رواية "يف كل قرب حكاية"‪.‬‬
‫‪102‬‬ ‫‪ - 2‬املفارقات الزمنية (الرتتيب الزمين)‪.‬‬
‫‪108‬‬ ‫‪ - 3‬نظام السرد (اإليقاع)‪.‬‬

‫‪941‬‬
‫فهرس المحتويات‬

‫‪116‬‬ ‫المبحث الثالث‪ :‬بنية المكان في رواية" في كل قبر حكاية"‪.‬‬


‫‪113‬‬ ‫‪ - 1‬األماكن املغلقة يف رواية" يف كل قرب حكاية"‪.‬‬
‫‪122‬‬ ‫‪ - 2‬األماكن املفتوحة يف الرواية‪.‬‬
‫‪110‬‬ ‫المبحث الرابع‪ :‬الرؤية السردية في رواية" في كل قبر حكاية"‪.‬‬
‫‪118‬‬ ‫‪ ‬خاتمة‪.‬‬
‫‪122‬‬ ‫‪ ‬قائمة المصادر و المراجع‪.‬‬
‫‪121‬‬ ‫‪ ‬ملخص الدراسة‪.‬‬

‫‪951‬‬

You might also like