Professional Documents
Culture Documents
المذكرة كاملة
المذكرة كاملة
إىل كل األحبة
فايزة
إه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــداء
أهدي هذا العمل:
إىل كل األحبة
أمينة
ّ
الشكر الجزيل ملن كان له الفضل الكبير بعد هللا سبحانه وتعالى في انجاز هذا
البحث وإتمامه.
ونخص به ألاستاذ املشرف "نبيل بوالسليو" الذي حمل أعباء إلاشراف على هذه
ّ
املذكرة ،والذي لم يبخل علينا بوقته وجهده رغم كثرة املشاغل وألاعمال.
ّ ّ
ويتفحص ما جمعناه ويختم فقد اقتطع جزءا من وقته الثمين لينظر فيما كتبناه
ذلك بتوجيهات وآراء سديدة ّ
يصوب بها ما أخطأنا فيه ،وي ّنبه ملا غفونا عنه.
ّ
فالشكر له على ّ
كل ذلك ،ونسأل هللا العظيم أن يجعل ذلك في ميزان حسناته.
كما نتوجه بفائق شكرنا واحترامنا لجميع أساتذتنا الكرام الذين رافقونا طوال
مشوارنا الدراس ي ولم يبخلوا علينا بش يء ،وأوصلونا إلى ما نحن عليه اليوم إليكم
فائق الاحترام والتقدير.
و ال ننس ى كذلك ألاخ الفاضل سعدة خلخال خير الدين الذي كانت له بصمة في
هذا الانجاز .كل الشكر و الاحترام و التقدير لك.
م ـق ـدم ـ ـ ـ ـة
مقدمة
مقدمة
الكتابة األدبية عبارة عن تعبري عن األفكار و اآلراء و املشاعر اإلنسانية ألهنا ليست جمرد سرد للخواطر
الشخصية ،بل حتمل يف صفحاهتا قيما و قضايا واقعية هامة ترصد هزائمه و سقطاته و انتصاراته على اختالفها،
فبعد أدب الثورة اجلزائرية عرف األدب اجلزائري قفزة نوعية يف جمال الكتابة االدبية بظهور أدب األزمة أو كما
يطلق عليه بعض الدارسني أدب احملنة ،و الذي تناوله العديد من األدباء والكتاب الذين عاصروا احلرب األهلية
اجلزائرية .و مبا أن الرواية من أكثر األجناس األدبية قدرة على التعبري عن الواقع االجتماعي و السياسي و
االقتصادي و الديين ...فقد ابدع الكتاب يف كتابة الرواية ملا متلكه من قدرة على تصوير الواقع بكل أبعاده و
تأثريها يف اجملتمع.
كما عرفت الرواية اجلزائرية تطورا كبريا و انتشارا واسعا حقق به مكانة هامة مقارنة بغريها من األجناس
األدبية كالقصة و الشعر ...و قد سخر العديد من املبدعني أقالمهم لتصوير الواقع االجتماعي بكل حاالته سواء
كانت حسنة أم سيئة ،و عمل على إجياد احللول لتكوين عامل أفضل يف جزائر البطوالت و الشهداء.
و مبا أن الفن الروائي أصبح يف اآلونة األخرية ميتاز بالدقة و احلرية يف التعبري عن القيم املوضوعية االجتماعية
و استشراف اآلفاق الشاسعة بتنويعه يف أدوات اإلبداع جاء اختيارنا يف هذه الدراسة للبحث يف بنية اخلطاب
السردي ،و قد ارتأينا أن تكون الرواية اجلزائرية املعاصرة منوذجا ملقاربتنا السوسيونصية ،و حتديدا رواية "يف كل قرب
حكاية" لـ "عبد الواحد هواري" ملا تزخر به من قيم فنية و موضوعية.
فكيف متكن "عبد الواحد هواري" يف روايته "يف كل قرب حكاية" من رصد الواقع اجلزائري بتجلياته املختلفة
-سياسية ،دينية ،اجتماعية -...؟ و قد ساهم كل من الزمان واملكان كـ بنيتان يف حتديد أبعاد الرواية ،فكيف
ذلك ؟ و كيف جتلت الرؤية السردية بتعدد وجهاهتا يف الرواية ؟
و يف حماولة منا لإلحاطة بكل جوانب املوضوع قمنا بتقسمه إىل مقدمة و ثالثة فصول؛ فصل نظري و
فصلني تطبيقيني ،و خامتة يف األخري.
أ
مقدمة
خصصنا الفصل األول لالجتاه السوسيونصي‘ و قسمنا الفصل بدوره إىل قسمني؛ أوهلما حتت عنوان
السوسيونصية يف الدراسات االدبية ،حاولنا من خالل دراسته البحث عن جذوره يف الدراسات الغربية و العربية،
و خصصنا الثاين للتطرق إىل مبادئ املقاربة السوسيونصية و البحث عن طبيعة العالقة بني الواقع االجتماعي و
النص الروائي ،راصدين بذلك أهم جتليات املنهج.
أما الفصل الثاين بعنوان "املوضوعات يف رواية يف كل قرب حكاية" و ذهبنا إىل تقسيمه على ثالثة مباحث؛
املبحث األول كان هبدف اكتشاف جتليات البعد السياسي يف الرواية ،أما الثاين فكان خمصصا لتجليات البعد
الدين يف الرواية ،و املبحث األخري تناولنا فيه جتليات الواقع االجتماعي.
مث انتقلتا إىل الفصل الثالث الذي كان بعنوان "مجالية التشكيل الفين يف رواية فب كل قرب حكاية" مقسمني
إياه إىل أربعة مباحث ،فكان االول بعنوان "الشخصية يف الرواية" ،والثاين بعنوان "بنية الزمن يف الرواية" ،أما
الثالث فتناولنا فيه بنية املكان يف الرواية ،أما املبحث الرابع و األخري فخصصناه للرؤية السردية يف الرواية.
و كانت خامتة حبثنا عبارة عن ذكر أهم النتائج اليت توصلنا إليها يف ظل مقاربتنا السوسيونصية.
وقد ذكرنا يف بسط اخلطة املنهج السوسيونصي الذي اتبعناه بالتحليل ،واستعنا مبناهج أخرى كلما دعت
احلاجة إليها مثل املنهج التارخيي.
و من أهم املراجع اليت اعتمدناها يف حبثنا هذا و ساعدتنا يف إزالة اإلهبام عن تساؤالتنا نذكر:
-بناء الرواية ( دراسة مقارنة يف ثالثية جنيب حمفوظ ) لـ "سيزا أمحد قاسم"
-النقد الروائي و األيديولوجي ( من سوسيولوجيا الرواية إىل سوسيولوجيا النص الروائي ) لـ "محيد احلمداين"
ب
مقدمة
لقد واجهتنا العديد من الصعوبات و العراقيل منها تشتت املوضوع و اتساعه و انعدام الدراسات السابقة
حول املدونة اليت تناولناها ،إضافة إىل الصعوبة اليت تلقيناها يف التعامل مع النص الروائي وفق املقاربة
السوسيونصية ،و ال ميكننا جتاهل الوضع الصحي املتدين الذي واجه العامل يف هذه السنة حيث منعنا من االتصال
املباشر باألستاذ املشرف منعنا أيضا من ارتياد املكتبات للبحث يف مراجعها املختلفة.
و يف اخلتام ال يسعنا إال أن نتقدم بشكرنا هلل عز وجل على توفيقه لنا مث إىل الدكتور "نبيل بو السليو" الذي
أشرف على هذا البحث بتقدميه مجلة من اإلرشادات و املالحظات اليت ساعدتنا كثريا يف العمل على املذكرة و له
منا فائق االحتام و التقدير ،كما يفوتنا التقدم بالشكر لوالدي الذي سعى جاهدا لتوفري املراجع اهلامة.
ج
الفصل األول
المنهج السوسيونصي الفصل األول
5
المنهج السوسيونصي الفصل األول
إن كتابات الناقد التشيكوسلوفاكي األصل "بيري فالريي زميا" دعمت تيار سوسيلوجيا النص الروائي فقد
استفاد من الكتابات النقدية حول نظرية الرواية عند خمتلف املدارس النقدية السوسيولوجية أو الشكالنية و البنيوية
حيث سعى إىل بناء تصور نظري جديد يتجاوز احلدود املنهجية السابقة فكتابه "من أجل سوسيولوجيا النص
األديب" يعترب اجملال الذي طرح فيه أهم تصوراته النقدية عن العالقة بني النصوص األدبية الروائية و القيم الفكرية و
اإليديولوجية اليت حتملها.
يدعو منهج الناقد "بيري زميا" « إىل التآلف بني األحباث الشكالنية و البنيوية احلديثة ،و بني النتائج اليت
توصلت إليها سوسيولوجيا األدب،كما قدمها غولد مان يف البنيوية التكوينية ،ألن هذا النوع من احلوار النظري
كان بإمكانه أن يغين سوسيولوجيا النص األديب ،و جيعل منها علما للنص قائما بذاته ».1
علم اجتماع النص أو املنهج السوسيونصي أو املنهج السوسيونقدي مسميات خمتلفة ملفهوم واحد و هو
املنهج الذي يسعى إىل دراسة اجملتمع داخل النصوص األدبية ،و حسب" بيري زميا" هو السعي « إىل مالئمة
النص األديب مع اجملتمع ،بتوسيط من البىن األلسنية » 2فبيري زميا يهدف إىل الرتكيز على توافق شروط النص
األديب مع اجملتمع ،فقد ركز جل اهتماماته على ابراز مجاليات اخلطاب األديب يف تفاعله مع اجملتمع ،و ذلك
بالرتكيز على عالقة النص األديب باجلانب االجتماعي و خمتلف السياقات اخلارجية ،و يركز علم اجتماع النص
على:
-1عمر عيالن :يف مناهج حتليل اخلطاب السردي ،دار الكتاب احلديث ،القاهرة ،ط ،1111 ،1ص .111
-2بيري زميا :النص و اجملتمع -آفاق علم اجتماع النقد ،-تر :أنطوان أبو زيد ،املنظمة العربية للرتمجة ،بريوت ،ط ،1112 ،1ص .161
6
المنهج السوسيونصي الفصل األول
يعد علم اجتماع النص من العلوم اليت تركز اهتماماهتا على الطريقة اليت يتفاعل هبا « النص األديب مع
املشكالت االجتماعية و التارخيية على مستوى اللغة » 1ألن علم امجاع االنص يركز على ضرورة معرفة طريقة
تفاعل النص األديب مع اجملتمع و التاريخ مبتعدا بذلك عن تفسري النصوص مبفهومها التقليدي للشكل.
و عليه فإن املنهج السوسيونقدي حياول « جتاوز اخلطاب الفلسفي و عرض خمتلف املستويات النصية
كبنيات لغوية و اجتماعية يف آن واحد ».2
ف سوسيولوجيا النص الروائي عليها التأكيد على قضايا تتجاوز اخلالف األيديولوجي بني (الكيف الشكالين
و اللمائية املاركسية) ،فنظام اللغة ال خيرج عن النظام األيديولوجي باعتباره جماال تتصادم فيه مصاحل اجتماعية
متعارضة.
« يؤكد زميا أن تفسري النصوص األدبية وفق منظور لوكاتش ال يقدم لنا تفسريا كامال للنص النه يضع يف
مقابلة مع أيديولوجيا مضادة و يلغي باقي األيديولوجيات اليت جيهلها الكاتب ،و لذلك هو واحد من
االحتماالت املمكنة للنص ،كما يؤكد أن النص يف التحليل البنيوي التكويين يتوازى وراء احلضور القوي للعناصر
اخلارجية سواء كانت هذه العناصر اقتصادية او اجتماعية و حىت ثقافية ».3
وعليه فإن "بيري زميا" ذهب إىل انتقاد "لوكاتش" مقرا أن اتباع نظريته يف حتليل النصوص ال يسمح لنا
بالوصول إىل املفهوم الشامل للنص فالتحليل البنيوي التكويين يصب اهتمامه يف العناصر اخلارجية عرب امليادين
االقتصادية و االجتماعية و الثقافية.
كما أن "بيري زميا" « قدم انتقادا لعلم اجتماع األدب الذي دعا إليه "روبريت اسكاربيت" والذي يهتم بدراسة
العناصر اخلارجية فقط الكاتب ،اجلمهور ،القارئ أي أنه حيوم حول الظاهرة األدبية دون الدخول إليها ».4
ف ـ "بيري زميا" مطالب يف بناء تصوراته حول سوسيولوجيا النص بأن يتجاوز الصراع القائم بني التوجه الشكالين و
التوجه املاركسي و أن نظام اللغة موحد تلتقي فيه خمتلف املصاحل االجتماعية.
-1بيري زميا :حنو سوسيولوجيا النص األديب ،تر :عمار بلحسن ،جملة العرب و الفكر العاملي ،ع ،1مركز االمناء العريب ،1191 ،ص .89
-2عمر عيالن :مناهج حتليل اخلطاب السردي ،ص .111
-3صاحلة عباسي :سوسيولوجيا النص األديب و تطبيقاته يف النقد العريب املعاصر ،مذكرة ماجستري ،جامعة العريب بن مهيدي ،أم البواقي،
،1322/1111ص .13
-4اجملع نفسه ،ص .13
7
المنهج السوسيونصي الفصل األول
من خالل هذا التقارب آراء "بيري زميا" من آراء باختني « فإن احملور األساسي الذي يدعو إليه يتحدد
بالدرجة األوىل يف النص الذي هو انعكاس للبنيات اللغوية السائدة يف اجملتمع ،إن الصراع األيديولوجي ذا الطابع
االجتماعي االقتصادي يتحول إىل بنيات لغوية تعرب عنه ،و متيزه يف مراحل تطور اجملتمع ،و تصبح كل فرتة مومسة
بطابع خاص هلا ،و هذه الوضعية السوسيو-لسانية هي اليت تدلنا حقيقتها األفكار و اإليديولوجيات املثبوثة يف
النص ».1
فاملنظور السوسيولغوي يهتم بالنص دون سواه ،فالنص هو انعكاس للبنية اللغوية السائدة يف اجملتمع ،فاللغة
هي اليت تعكس الصراعات األيديولوجية املوجودة يف اجملتمع .فالصراعات األيديولوجية تتسم بالطابع االقتصادي
و االجتماعي .كما أن "باختني" يركز يف حتليالته على اجلانب االقتصادي واالجتماعي.
فسوسيولوجيا النص تركز يف دراستها على « االنطالق من البنية النصية للوصول إىل البنية اجملتمعية اليت
أنتجته ،و لكن دائما من منظور سوسيو-لساين » 2فـ "بيري زميا" استغىن عن جهود كل من "لوكاتش" و
"غولدمان" حول طبيعة العالقة القائمة بني النصوص األدبية و النظام االقتصادي املصاحب هلا ألن هذه النتائج
-حسبه -جتعل البحث النقدي حماصرا بقوالب جامدة ال تتماشى مع حقيقة التفاعل اجملتمعي و متغرياته.
لذلك فإن النص األديب و الروائي بالنسبة "لبيري زميا" يشكالن موقفا أيديولوجيا متميزا فالرواية حتمل دالالت
أيديولوجية تنشكل بربطها بالواقع االجتماعي؛ ما يعين أن الرواية حتمل خمتلف التصورات الواقعية يف
اجملتمع،إضافة إىل تضمني ايديولوجيات تتصارع فيما بينها ،بإعتبارها قيما واقعية تعكس التناقضات االجتماعية،
كما جيب ان تكون أيديولوجية الرواية أكثر إقناعا للمتلقي ألهنا متثل رؤية العامل مبقابل الرؤى األخرى ،فـ "بيري
زميا" طور هذا الطرح من خالل كتابه "اإلزدواجية الروائية" حيث يقول محيد احلمداين « :كل نص حتليلي ميكن
أن يفهم كموقف أيديولوجي نقدي أو غري نقدي بالنسبة للنصوص التخيلية األخرى أو غريها من النصوص
املنطوقة أو املكتوبة .كما أن النص التخيلي يبدو كنسيج من أحكام قيمة ،اليت تؤكد على مشروعية بعض املصاحل
االجتماعية ،من أجل التشكيك يف مصاحل اآلخرين ».3
8
المنهج السوسيونصي الفصل األول
تدل "سوسيولوجيا الرواية" على املنهج النقدي يف الرواية حيث حتصر اهتمامها يف البحث عن سببية الظاهرة
الروائية مركزة على جوانبها املفسرة حلدوث النص الروائي ،فاحلديث عن العناصر اخلارجية للنص حيتل مكان
الصدارة يف التحليل ،أما "سوسيولوجيا النص األديب" فتعمل على حتليل املستوى الرتكييب حيث تكشف من خالله
عن العالقات االجتماعية و الثقافية السائدة يف فرتة تارخيية من جهة ،و البنية اللسانية املتحققة يف االنص الرووائي
املدروس من جهة ثانية ،ألهنا متلك الوسائل و التقنيات اليت تعمل على حتليل األعمال األدبية من الداخل.
فعلم اجتماع النص مل يكن بالنسبة لبيري زميا جمرد منهجية يف حتليل النصوص أو تقنية ذات مردود فكري
فهو علم يهتم بدراسة الضوابط اليت تفرضها بعض اللغات املهيمنة.
ظلت العالقة بني النص واجملتمع مبهمة إىل أن جاء "ميخائيل باختني" بنظريته "ازدواج القيم الكرنفايل"،
فهذه النظرية تعترب أساس علم اجتماع النص و من مسات القيم الكرنفايل :االزدواج القيمي و « تعدد األصوات
( )la polyhonieو الضحك( )le rireفالكرنفال هو الصوت الذي يقضي على األحادية الفردية ».1
وقد اعترب "بيري زميا" التناص مفهوما سوسيولوجيا ،ألنه من املنظور االجتماعي يأخذ عامل الفن و اخليال
توجها تناصيا ،فكل مكتوب يستجمع لغات خمتلفة و خطابات شفوية و خمطوطة و فضاءات خيالية « ،تسعى
سوسيولوجيا النص إىل الربط بني التوجه التجريدي للسوسيولوجيا احملتوى و بعض إمتيازات األساليب اجلدلية ،و
من بني هذه االمتيازات ميكن أن نذكر حماوالت "لوكاتش" املتعددة أو "دورنو" أو "غولدمان" ،للتعريف ببعض
األجناس األدبية كاألقصوصة (لوكاتش) أو الرواية (أدورنو و غولدمان) يف إطار اجتماعي و تارخيي يف الوقت
نفسه بينما يكمن إمتياز آخر يف البعد اجلمايل للمقاربات اجلدلية اليت ال تكتفي بوصف األحداث و تسجيلها و
لكنها تنتقد النصوص اليت مت حتليلها و السياق االجتماعي » 2إن االهتمام باجلانب االجتماعي للنص يعترب من
أولويات سوسيولوجيا النص و ذلك برتكيزه على إبراز اجلانب االجتماعي داخل البنية النصية.
-1بيري زميا :النص و اجملتمع آفاق علم اجتماع النص ،ص .118
-2نعيمة بو لكعيبات :املنهج االجتماعي يف النقد العريب املعاصر ،أطروحة دكتواه ،جامعة احلاج خلضر ،باتنة ،1116/1111 ،ص .212
9
المنهج السوسيونصي الفصل األول
كما يعود "بيري زميا" إىل مفهوم التناص عند "جوليا كرستيفا" و الذي استندت فيه على مفهوم احلوارية عند
"باختني" كما مسى "بيري زميا" « التناص الذي يأخد به تناصا خارجيا مقابل التناص الداخلي الذي أخدت به
"كرستيفا" ،كما أخذ به "باختني" ».1
كما أن "زميا" يويل مشروع "كرستيفا" أمهية كبرية بقرائتها ألعمال "باختني" « يربطهما اإلنتاج األديب
(الكتابة) بالتلقي (القراءة) و هي تتحدث عن النص بإعتباره حوار عدة نصوص و هي تكشف عن العالقة بني
الكتابة و الكالم يف النص الروائي يف القرون الوسطى ،لينتهي إىل إعتبار التناص مفهوما سوسيولسانيا تأخذ من
خالله املظاهر االجتماعية داخل النص و حياول "زميا" تفسري العالقة بني البنية النصية و البنية االجتماعية ».2
و يعد كتاب النص الروائي (مقاربة سيميولوجية لبنية خطابة حتويلية) سنة " 1186جلوليا كرستيفا"
كمحاولة لسوسيولوجيا النص الروائي الذي استخدمت فيه حتليال سيميولوجيا حتويليا ،مبعىن اهنا انطلقت يف حتليل
اخلطاب الروائي من جتزيئه إىل وحدات مدلولية رمزية و تعاملت مع هذه الوحدات كدوال تدخل يف عالقة مع
بعضها البعض ،لتكون بذلك كلية النص و هذا بواسطة دراسة هذه العالقة وفق نظرة حتويلية تساعد على فهم
تطور النص.3
و عليه فـ "جوليا كريستيفا" انطلقت يف منهجها التحويلي بعدم النظر إىل النص الروائء باعتبار انه وحدات
ميكن قراءهتا فقط و كوحدات تتداخل مع بعضها البعض حيث ال ميكن دراسة وحدة إال من خالل عالقتها مع
جمموع النص إذ ال ميكن األخذ بداللة واحدة و إقصاء الوحدات و الدالالت األخرى.
اعترب بيري زميا الطريقة األفضل للوصول إىل املشكالت االجتماعية املوجودة يف النص هو التحليل السردي،
حيث يعد مستوى من مستويات حتليل النصوص يف املنهج الذي أقر به.
مما سبق ذكره يتضح بأن سوسيولوجيا النص عند "بيري زميا" هي منهج يدرس النص و يتقصى املشكالت
االجتماعية و األيديولوجية ،حيث أن العالقة بني النص و اجملتمع ليست عالقة منفصلة بل هي عالقة متكاملة
فيما بينها ،حبيث ينطلق "بيري زميا" يف دراساته من حتليل اخلطاب اللغوي أو اللغوي االجتماعي أو من خالل
-1محيد احلمداين :النقد الروائي و األيديولوجيا –من سوسيولوجيا الرواية إىل سوسيولوجيا النص الروائي ،-ص .99
-2صاحلة عباسي :سوسيولوجيا النص األديب و تطبيقاته يف النقد العريب املعاصر ،مذكرة ماجستري ،جامعة العريب بن مهيدي ،أم البواقي،
،1322/1111ص .62
-3حممد عزام :حتليل اخلطاب األديب على ضوء املناهج النقددية احلديثة ،ص .211
01
المنهج السوسيونصي الفصل األول
اللهجة االجتماعية املوجودة يف النص ،اليت حتتوي على بىن اجتماعية ختتص باللحظة التارخيية اليت ينتمي اليها،
كما أن االختصاص الذي تبحث فيه سوسيولوجيا النص ينطلق من فرضيتني مها:
-القيم االجتماعية ال ميكن أن تكون مستقلة عن اللغة.
-الوحدات املعجمية و الداللية و الرتكيبية املوجودة يف النص تصور املصاحل االجتماعية كما ميكنها أن تصبح
مراهنات اجتماعي و اقتصادي و سياسي.
لقد كان النقد العريب مواكبا حلمالت االصالح و التطوير و التجاوز للمناهج التقليدية منذ القرون املاضية،
حيث شهد النقد العريب منذ بداية سبعينات القرت العشرين إجنذابا و جتاوبا مع املناهج النصية املعاصرة و آلياهتا
االجرائية كالبنيوية و التفكيكية والسيميولوجية و التكوينية و السوسيونصية ،حيث لقيت هذه األخرية هتافتا من
قبل النقاد من أجل التنظري و التطبيق على آلياته ،ألنه قد سعى لتجاوز البحث السوسيولوجي لألدب التقليدي،
حني ختلص نت سلطة املفاهيم األيديولوجية.
« إن اهلاجس النقدي هو الذي دفع عددا من النقاد العرب املعاصرين إىل العودة إىل اجنازات النقد
السوسيونصي الغريب لدى رواده أمثال لوسيان غولدمان الذي طرح مفهوم البنيوية التكوينية و ميخائيل باختني يف
أطروحاته املتميزة عن الكرنفال ،و احلوارية ،و بيري زميا الذي بلور سبقا منهجيا مساه :سوسيولوجيا النص األديب،
إضافة إىل جوليا كريستيفا ،و ب يار ماشري الذي عرف مفهوم النقد االجتماعي عنده أبعادا منهجية أكثر إجرائية
و علمية ».1
تعترب البنيوية التكوينية من أكثر املذاهب النقدية الغربية انتشارا يف العامل العريب ،كما يعود سبب هذا
االنتشار إىل تربع االجتاهات املاركسية أكثر يف البنيات النقدية العربية ضمن هذا السياق ،فقد جاءت حماولة
"مجال شحيد" يف دراسته البنيوية الرتكيبية :دراسة يف منهج "لوسيان غولدمان" ،حيث أوىل أول حماولة يف النهج
البنيوي التكويين ،نشره عام .1191بعد "مجال شحيد" جاء اجلزائري "حممد ساري" حيث أصدر كتابه "البحث
عن النقد األديب اجلديد" و خصصه للنقد البنيوي التكويين ،و من احملاوالت أيضا جند "طاهر لبيب" يف
سوسيولوجيا الغزل العريب (الشعز العذري أمنودجا) و "سعيد علوش" يف الرواية و األيديولوجيا ،و "حممد براءة" يف
-1عبد الوهاب شعالن :من سوسيولوجيا األدب إىل سوسيولوجيا النص -قراءة يف جتربة محيد احلمداين ،-املركز اجلامعي سوق أهراس ،ص .181
00
المنهج السوسيونصي الفصل األول
أطروحته "حممد مندور و تنظري النقد العريب" ،كما يشري "أمني العام" إىل أمهية املنهج البنيوي يف إعادة بناء تقومي
النقد األ ديب و ذلك من خالل التحرر من أفكار الشكالنية و بناء تصورات جديدة يوظفها يف تأسيس نقد أديب
قائم على أساس تكاملي ،يقول « :و يف هناية املقاالت أكدت على احلاجة على البحث عن منهج للنقد األديب،
ال جيمع بني هذه املدارس جتميعا سطحيا توفيقا ،بل يوجد بني الداللة و القيمة ،بني احلقيقة و اجلمال يف صيغة
سعيدة ».1
كما سامهت الناقدة "ميىن العيد" مبؤلفاهتا يف جمال النقد الروائي ،ومن أمهها نذكر:
-يف معرفة النص.
-تقنيات السرد الروائي يف ضوء النهج البنيوي.
-الكتابة :حتول يف التحول.
-فن الرواية العربية.
-الراوي :املوقع و الشكل.
و قد جاوزت الناقدة بني املنهجني؛ االجتماعي ،و البنيوي.
حصر الناقد العريب النص الروائي يف جانبه الشكلي مبتعدا عن السياقات اخلارجية له ،فكانت نظرة الناقد
للنص مادية و شكلية حمضة ،فهو عبارة عن كيان مادي و ملموس يتفاعل مع الواقع مبختلف بنياته اللغوية و
الرتكيبية و السردية معتمدا على مفاهيم "بيري زميا" و "ميخائيل باختني".
إن حماولة اإلملام جبميع احملاوالت النقدية املسامهة يف البحث السوسيولوجي أمر صعب ،فقد « شكلت
الكتابات النظرية و الدراسات التطبيقية اليت أجنزها محيد حلمداين حمطة هامة يف مسار النقد العريب املعاصر ،من
حيث التفاعل اإلجيايب يف تفصيل حمور املثاقفة يف ميدان النقد األديب عموما ،و النقد الروائي على وجه اخلصوص،
و قد كان لكتاباته النقدية أثرها يف مد النقد الروائي العريب اجلديد بأدوات و إجراءات مسحت بفسح اجملال أمام
الدراسات النقدية للرواية للتحرر من هيمنة منهج وحيد غطى الساحة النقدية و هو املنهج البنيوي ».2
كما يؤكد "سعيد يقطني" على العمق التطبيقي و ذلك من خالل اإلنطالق من الدراسات البنيوية و اإلنتقال إىل
الداللية ،حيث يقول « :هنا وجدتين مقيدا بالسرديات البنيوية ،و لتجنب التعسف يف اإلنتقال منهما إىل
01
المنهج السوسيونصي الفصل األول
سوسيولوجيا النص مع زميا ،وجدتين أعمل على توسيع جمال السرديات أفقيا و ليس عموديا كما بينت ذلك
عندما حتدثت عن حدود السرديات فكان علي جتاوز احلد النحوي إىل الداليل و بذلك وجدتين ألتقي مع زميا و
أنا مشدود إىل املظهر النحوي ،إن املظهر الداليل توسيع للمظهر النحوي و ليس إلغاء له أو قطيعة معه ».1
و يرى "سعيد يقطني" أن اهلدف من دراسته "انفتاح النص الروائي" هو حتليل النص بنية داللية حيث يقول:
« و يكمن طموحنا املركزي يف يف حماولتنا إقامة تصور متكامل يسعى إىل جتاوز الدراسات السوسيولوجية
التبسيطية ،و املضمونية اليت هيمنت طويال يف مضمار النقد األديب العريب ».2
يفضل "سعيد يقطني" استعمال مصطلح "التفاعل النصي" بدل "التناص" ألنه -يف رأيه -أعلم من التناص
حيث يقول « :نؤثر استعمال "التفاعل النصي" ألنه أعم من التناص ،و نفصله على التعاليات النصية اليت هي
مقابل عند جينيت لدالالهتا اإلحيائية البعيدة ،فبما أن النص ينتج ضمن بنية نصية سابقة فهو يتعالق هبا ،و
يتفاعل معها حتويال أو تضمينا أو خرقا ،و مبختلف األشكال اليت تتم هبا هذه التفاعالت ».3
وقد اعتمد "سعيد يقطني" يف حتديد مفهوم النص مميزا بينه و بني اخلطاب على آراء "كريستيفا" و "زميا"
بصفة خاصة كما اعتمد على آراء "هاليدي" و آخرون ،حيث ينطلق من حتديد النص على الوجه اآليت « النص
بنية داللية تنتجها ذات (فردية أو مجاعية) ،ضمن بنية نصية منتجة ،و يف إطار بنيات ثقافية و اجتماعية
حمددة » .4و يضيف قائال « :إن جتليات التعريف اليت قدمناها ل ـ النص من خالل احملاور الثالثة ،زتتزهلا يف هذه
املكونات الثالثة وفق الرتتيب التايل كما ورد يف التعريف:
- 1البناء النصي :النص بنية داللية تنتجها ذات.
- 1التفاعل النصي :ضمن بنية نصية منتجة.
- 2البنيات السوسيونصية :يف إطار بنيات ثقافية حمددة.5» .
-1سعيد يقطني :حتليل اخلطاب الروائي (الزمن ،السرد ،التبئري) ،املركز الثقايف العريب ،بريوت ،لبنان ،1118 ،ص .21
-2سعيد يقطني :انفتاح النص الروائي املركز الثقايف العريب ،بريوت ،لبنان ،ط ،1111 ،1ص .1
-3املرجع نفسه ،ص .19
-4املرجع نفسه ،ص .21
-5املرجع نفسه ،ص .21
01
المنهج السوسيونصي الفصل األول
فهذه املكونات الثالثة ما هي إال امتداد ملكونات اخلطاب الروائي (الزمن ،الصيغة ،الرؤية) و اليت تندرج ضمن
جمال السرديات و هلذا فالناقد "سعيد يقطني" انتقل من جمال السرديات إىل جمال السوسيوسرديات املكون من
البناء النصي ،التفاعل النصي ،البنيات السوسيونصية.
فاخلطاب و النص موضوعان سرديان ،حيث يقول « :هبذا التصور أمارس االنتقال من النص ،لكنه االنتقال
املؤسس على وعي مشاكل االنتقال من مستوى إىل آخر ،و من جمال (السرديات) الذي جند فيه أدبيات هامة
إىل جمال آخر (السوسيو-سرديات) الذي ال جند فيه إال إجابات مت اجنازها يف جماالت أخرى غري السرديات ».1
و قد أفصح "سعيد يقطني" يف كتابه "انفتاح النص الروائي" منذ الوهلة األوىل يف املقدمة على تبنيه منهج
"بيري زميا" ،كما ان الناقد زاوج بني الدراسات اللسانية للنص و الدراسات البنيوية حيث يقول يف هذا
الصدد « :هنا البد لنب يف هذا التقدمي من تأطري كالمنا ضمن ما يعرف بسوسيولوجيا النص األديب ،و باألخص
مع "بيري زميا" الذي استفدنا منه كثريا يف هذا النطاق ،و إن كنا نتعامل مع مقرتحاته ،اليت يبنيها بدوره انطالقا من
وجهات سعي بنوع من املرونة ألننا ال نشتغل يف االطار النظري نفسه .و ال باألدوات و املفاهيم نفسها ».2
يعد الناقد املغريب "محيد احلمداين" من النقاد املتميزين يف الفكر النقدي ،حيث يعترب صاحب مشروع فكري
و نقدي هيمنت فيه الدراسات بكل اجتاهاهتا فقد كانت كتاباته تندرج ضمن سياق عام يتمثل يف تطبيق املناهج
النقدية املعاصرة يف الدراسات العربية.
و قد اهتم يف حماولته السابقة املعنونة ب ـ "بنية النص السردي من منظور النقد األديب" بالطاقات املنهجية و
االجرائية للمنهج البنيوي و يف هذا اشارة إىل حرصه يف املمارسة النقدية على الصرامة املنهجية و الدقة العلمية
بالدرجة االوىل هلذه املمارسة ،فهو يرى أن حماولة « تطبيق معطيات املنهج البنائي على النص العريب مل يكن خيلو
من خصوصيته ،لذلك يصبح من مهام هذه الدراسة أن ترصد التغريات احلاصلة يف املقاربة البنائية للسرد سواء من
جانبها النظري أو من جانبها التطبيقي ».3
01
المنهج السوسيونصي الفصل األول
و من الذين ثاروا على املقاربات التارخيية و االنطباعية يف قراءة النص السردي جند الشكالنيني الروس و
"غرمياس" و "تودوروف" و "جريار جينيت" و غريهم ،...فقد قرب الناقد األسس املنهجية لتحليلي النص
السردي من خالل هؤالء « .تنحو هذه الدراسة منحى بنيويا حمايثا ،و لكنها تنفتح -يف بعض األحيان -على
رؤى نقدية أخرى ،مما احدث شيئا من االرباك املنهجي ،و هو امرا يبدو حاضرا يف أكثر من مقام ».1
و يعد حبثه املعنون ب ـ "النقد الروائي و األيديولوجي -من سوسيولوجيا الرواية إىل سوسيولوجيا النص الروائي"-
من احملاوالت اليت سعت إىل رصد مالمح و معامل تلقي النقد السوسيولوجي و كيفية تفاعل الناقد العريب معه ،و
ابراز جهود النقاد الذين سعوا لتمثيل هذا النقد و االستفادة منه ،و قد انفتح "محيد حلمداين" يف هذا الكتاب
على النقد السوسيونصي حيث كانت وجهته مركزة على نقد النقد يف التحليل و الدراسة ،حيث يقول « :و حنن
نتحدث هنا عن املغامرة يف البحث يف مفهوم األيديولوجيا ،و ال نعين ابدا اننا سنزاحم السوسيولوجيني يف هذا
اجملال ،و لكننا نعترب اقتحامنا هلذا العامل مغامرة بالنظر إىل طبيعة موقعنا يف حقل النقد االديب ال يف حقل
السوسيولوجي .وحىت ال تكون هذه املغامرة متهورة فغنه حيسن على الدوام االنطالق من احباث السوسيولوجيني
انفسهم عسى ان نتمكن من وضع خطاطة واضحة ميكن اعتمادها يف النظر إىل عالقة االيديولوجا بالرواية ».2
كما جند يف حبثه القصري "أسلوبية الرواية :مدخل نظري" كان "باختني" حاضرا من خالل تقدمي نظرية يف
الرواية و ما تعلق هبا من مفاهيم كاحلوارية و املونولوجية و الكرنفالية.
كما سعى يف دراسته "القراءة و توليد الداللة" بشكل موسع ان يؤسس لنظرية قراءة األدب و تاويله و نظرية
التلقي « مستثمرا ما قدمته احلداثة النقدية الغربية يف هذا الشان ،و معرجا -يف بعض احملطات -على املوروث
النقدي العريب ،بغية استنطاق مقوالته ،كما فعل مع مفهوم القصدية او الغرض عند "عبد القاهر اجلورجاين" ،و
مسالة تاويل األحالم يف الرتاث العريب ...و املهم يف كل ذلك هو حماورته نصوصا شعرية و سردية ،استنادا إىل
هذا املخزون النظري الذي بلوره ».3
هذا و ظل املنهج عند "محيد حلمداين" و غريه من النقاد العرب املعاصرين يتخبط بني التحليل البنيوي
الشكلي و البنيوية التكوينية و نظرية القراءة و التلقي ،و هبذا شكل عائقا و مشكلة يف املمارسة النقدية.
-1عبد الوهاب شعالن :من سوسيولوجيا األدب إىل سوسيولوجيا النص -قراءة يف جتربة محيد حلمداين ،-ص .181
-2محيد حلمداين :النقد الروائي و االيديولوجيا -من سوسيولوجيا الرواية إىل سوسيولوجيا النص الروائي ،-ص .19
-3عبد الوهاب شعالن :من سوسيولوجيا األدب إىل سوسيولوجيا النص -قراءة يف جتربة محيد احلمداين ،-ص .181
05
المنهج السوسيونصي الفصل األول
يصرح سعيد يقطني يف كتابه "إنفتاح النص الروائي" الذي يعتربه امتدادا لكتابه "حتليل اخلطاب الروائي" بأنه
يتعامل بشيء من املرونة مع االجتتاهات التوسيعية خاصة سوسيولوجيا النص األديب و عالقته بالقارء و السياق
االجتماعي الذب ظلم فيه.
و يبدو جليا لقارئ هذا الكتاب أن "سعيد يقطني" قد روج للقراءة املنفتحة املعاكسة للقراءة املنغلقة حيث
تكون هذه األخرية عادة « قراءة عليها أن ترى فيما ذاهتا » 1و هو ما جعلها قراءة « تقتل النص و حتجم
إنتاجاته البنائية الكامنة يف داخله ،بارمتائها إىل بناءات تقليدية و معاد انتاجها و هي يف سعييها إلسقاط (صورة
البناء -النموذج) ميتنع عليها النص و بناؤه و انتاجه ،لذلك فهي دالليا ال ميكن إال ان تكون اختزالية و تأويلية و
إسقاطية أليديولوجية الكاتب على النص » .2على عكس القراءة املنفتحة « فهي تسعى إىل أنتاج بناء النص
إنطالقا من حماولة الكشف عنه داخليا ،و من خالهلما تنتج بناء للنص و داللة تتماشى مع املنطلق ،و هي يف
ممارستها متلك اإلميان بتعدد القراءات و ضرورهتا ».3
« و كذلك استفاد يقطني من آراء "بيري زميا" و "بارث" و "كريستيفا" و نظريات سوسري و هاليدي ،يف
كيفية تليل النص حيث مل خيرج فيه عن هذه املكونات الثالثة و هي البناء و التفاعل و البنيات
السوسيونصية » 4و ذلك من خالل طرحه قضية غاية يف األمهية و هي قضية التناص الذي يعد مصطلحا طرحته
"جوليا كريستيفا" حيث « أعطى دفعة جديدة للدراسة األدبية و جعلها تنمو خمتلفة عما كانت فيه يف أواخر
الستينات ».5
يف النهاية يبني يقطني أن قراءته هي قراءة منفتحة ترى بأن تطور النص و غناه يستوجب قراءات موسعة،
كونه ينتقل بالسرديات إىل املستوى الداليل من خالل سوسيولوجيا النص و بالتايل يبقى كالمها (النص و
القراءة) منفتحان.
06
المنهج السوسيونصي الفصل األول
ج -محمد بنيس:
اهتم "حممد بنيس" باملنهج و اعتمد يف دراسته على توجهني مها املنهج البنيوي و املنهج اإلجتماعي اجلديل
املستمد من الفلسفة املاركسية و قد طبق هذه الدراسات من خالل كتابه ظاهرة الشعر املعاصر يف املغرب ،حيث
أراد "حممد بنيس" يف « املرحلة األوىل من دراسته -أن يكون نبويا شكليا -يهتم بطبيعة النص اللغوية و بأنساقها
و مستويات تكوهنا ،و يف املرحلة الثانية بنيويا تكوينيا أو إجتماعيا جدليا ،يهتم بطبيعة النص اإلجتماعية و
يبحث عن داللتها الوظيفية ».1
سار "حممد بنيس" على هنج "غولدمان" من حيث اهتماماته بالبنية اللغوية للنص ،ليستدل من خالهلا على
البنية اإلجتماعية أو الذهنية اللغوية الثقافية لطبيعة ما ،كما اهتم بتوضيح مقوالت املنهج من بينها :البنية الدالة
يف الشعر املغريب ،و كذا مفهوم الوعي و مرحليت الفهم و التفسري يف اإلبانة عن داللة النصوص الشعرية.
كما جند رؤيته التطبيقية للمنهج السوسيونصي معنونة باخلارج النصي و شرائط اإلنتاج بني املركز الشعري و
حميطه « ،حني راح يسائل فيه عن حدود اإلجتماعي يف هذا الشعر من منظور زميا ،كما ينتقد آراء أتباع علم
اإلجتماع التجرييب مثل اسكاربيت ألنه أوىل اهتمامه األكرب إلنتاجية النص و اختالف يف رؤيته عن مقاربات
لوكاتش و أدورونو و غولدمان فضال عن مقاربات باختني و لومتان و كرستيفا ».2
و يف هذا السياق يؤكد الكاتب على أمهية اخلارج نصي يف دراسة البنية النصية يف قوله « :إن احمليط الشعري
ال ميكن من اآلن فصاعدا إلغاؤه يف التأمل النظري و التحليل النصي ،ألنه أحد عناصر الالمفكر فيه الذي
تستدعيه كل قراءة نقدية » ،3ألن حبثه اهتم بالبحث عن العالقة املوجودة بني الداخل النصي و البنية اخلارجية
وقد خرج بنيس بعد دراسته للشعر املعاصر يف املغرب بنتائج حمايدة متثلت يف أن الشعر املغريب « هو شعر قاصر
يف قراءة الواقع يف حقيقته أي يف صراعه ،أنه شعر يقرأ جانبا واحدا من هذا الواقع ،أو طرفا واحدا فيه ،و هو إذ
يقرأ الواقع كذلك يقرأه يف ال صراعه أي يف ال واقعه » 4فهو مل يوضح التناظر القائم بني النص الشعري و الوضع
اإلجتماعي الواقعي.
-1حممد خرماش :إشكالية املناهج يف النقد العريب املعاصر ،مطبعة أنفوبرنت ،فاس ،ط،1111 ،1ص.61-11
-2حياة زروال :املنهج اإلجتماعي و السوسيونصي يف ميزان النقد العريب ،ص .226
-3حممد بنيس :الشعر العريب احلديث ،دار توبقال ،ع ،13ص .82-61
-4ميىن العبد :يف معرفة النص ،دار اآلداب ،لبنان ،ط1111 ،3م ،ص .11
07
المنهج السوسيونصي الفصل األول
و يبقى الناقد السوسيونصي ملتزما بأفكاره املادية اجلدلية ،فالقراءة اإلنتاجية تتحقق بفضل القارئ الفاحص
الذي يبحث يف النص و يفك شفراته فهو قارئ معريف يف جمتمعه ،و ناقد فعال ألنه خيول له القبول و الرفض و
إنتاج النصوص ،فهو يهتم بالقراءة اإلنتاجية و يتجاوز من خالهلا أبعاد النص إىل خمتلف السياقات الثقافية و
التارخيية و اإلجتماعية ،فهو حيول القراءة إىل نقد و النقد إىل قراءة.
لقد استطاع النقد السوسيونصي أن يربز مفاهيم سوسيولوجيا املضامني اليت جعلت العمل األديب عبارة عن
مرآة و صورة تعكس الواقع ،كما رفض التصور الغولدماين احملصور بني املفاهيم الفلسفية و املثالية ،ومن هنا دعا
إىل استكشاف النص و تفكيك مستوياته من خالل تزويد املقاربة السوسيولوجية بأدوات إجرائية ،و من مث أصبح
أساس النقد و مفتاحه هو املدخل السوسيولساين الذي مت اإلستغناء عنه يف املناهج السابقة و تكمن غايته
األساسية يف دراسته نظام اجملتمع املتعلق أصال بنظام النص ال نظام النص اإلجتماعي.
لقد استلهم نقاد املغرب العريب الذين تبنوا املنهج السوسيونصي مفاهيم "ميخائيل باختني" و "بري زميا"
املؤسسة على احلوارية و التعددية و اإلنفتاح ،فإقامة عالقة بني النص األديب و سياقه اإلجتماعي عند الناقد
املغريب"عبد احلميد عقار" من خالل كتابه "الرواية املغاربية حتوالت اللغة و اخلطاب" « ال ترتبط بالرؤية للعامل
بقدر ما ترتبط بقدرة النص على تقدمي العامل اإلجتماعي باعتباره حوارا و صراعا بني جمموع لغات مجاعية تظهر
يف البنيات الداللية للتخييل [ ]...فاللغة هي اليت متنح األدب متظهره اجملرد و مادته املدركة » 1حيث جند هنا عبد
"احلميد عقار" ينقل مفاهيم "بيري زميا" و يعيد بلورهتا من جديد ،هذه األخرية اليت تعترب اجملتمع عبارة عن تركيبات
متعادلة و متصارعة فيم ا بينها و اليت تولد يف الوقت نفسه لغات متصارعة فيما بينها فهو ينزاح عن األبعاد
اإلجتماعية يف النص اليت تدعو إليها الشكالنية الروسية.
و جند أيضا الناقد "حممد القاضي" قد جعل من الروالية نصا روائيا منفتحا و عمال أدبيا غري منجز حتاور
األفكار و تنفتح على اللغة و الثقافة فهو هنا يتبىن فكرة احلوارية الباحثية ،و قد شهدت الرواية عدة حتوالت
حطمت من خالهلا املركزية اللغوية و ابتعدت عن األيديولوجيات كوهنا تستهدف املستحيل دائما و ال ترضى
-1عبد احلميد عقار :الرواية املغاربية حتوالت اللغة و اخلطاب ،شركة النشر و التوزيع املدارس ،الدار البيضاء ،املغرب ،ط ،1111 ،1ص .91-81
08
المنهج السوسيونصي الفصل األول
باملوجود فاألدب املبدع يف تصور "حممد القاضي" ليس ذلك « الذي يلتصق بالواقع و يسعى إىل تقدمي صورة له
تسعى إىل أن تكون وفية إىل حدود التطابق ،و إمنا هو ذلك اإلبداع الذي ينبع من الواقع و لكنه يدفع به يف
مصفاة الفن ،فيطوره و يوظفه حىت ينأى به عن الفجاجة و السطحية و يدرجة يف سياق حركية األفكار و مسار
التاريخ ».1
مما تبني أن "حممد القاضي" يستمد تصوره للخطاب الروائي من فكرة احلوارية الباختينية حيث يقول « :فقوة
الروالية وضعفها يف آن واحد يتمثالن كوهنا جنسا بال قانون من جهة ،و يف إحتوائها سائر األجناس اجملاورة هلا
من جهة أخرى ،و هو ما يطلق عليه صفة احلوارية اليت جتعل الرواية جنسا أمربياليا ،آكال كل ما يعرتض سبيله،
و لعل هذه السمة هي اليت جعلت الرواية أقدر األجناس على تصوير التعقيد الذي بلغته احلياة العصرية و التعدد
الذي أصبح القيمة الرئسية فيها » 2غري أن هذا ليس معناه أن اخلطاب الروائي هو حشو جملموعة من األلوان ،بل
املقصود منه سبك تركييب متتزج فيه خمتلف األشكال و األصوات لتنسج بنية تركيبية لغوية و أسلوبية جتعل من
اجلنس الروائي حالة فريدة عما يندرج حتت ما يعرف ب ـ "األجناس األدبية" ،وهو األمر الذي ملح إليه "حممد
القاضي" حني قال « :هذا ال يعين أهنا مصب هلذه األساليب و اللغات و األصوات اليت جتتمع فيه ،و إمنا هي
على العكس من ذلك بوتقة تنصهر فيها هذه العناصر اليت ال تنقطع عن سياقها األول ،ولكنها تضطلع يف الرواية
بوظيفة تركيبية جديدة و تقوم بينها و بني العناصر األخرى عالقات تضفي على وجودها أبعادا مل تكن هلا يف
وضعها االول » ،3و السبب الذي من شأنه أن خيلق رواية بوليفونية ذات ألسنة متكنه من عرض كل ما قد خيطر
على البال أو يطرق الذهن من أفكار على مستوى متساو ،حبيث تكون احليادية مسة الراوي فاملهمة املنوطة به غري
مطالبة أن تتجاوز األطر و احلواجز اليت جتعل العالقات احلوارية املتبادلة بني خمتلف األشكال اللغوية منظمة
بالشكل املطلوب .
من الواضح أن "حممد القاضي" يؤسس دراساته على بعض املفاهيم االساسية عند "ميخائيل باختني" فيما
يتعلق باخلطاب الروائي حيث حدد للرواية ثالث خصائص أساسية متيزها عن غريها من األجناس األخرى و هي
كالتايل:
-1آنسة حممد احلاج :اإلجتاه اإلجتماعي يف النقد الروائي يف املغرب العريب ،دراسة يف نقد النقد ،أطروحة دكتوراه ،1116/1111 ،ص.113
-2املرجع نفسه ،ص.119-118
-3املرجع نفسه ،ص.119
09
المنهج السوسيونصي الفصل األول
« أوال :إمتالك الرواية خلصيصة ثالثية األ بعاد على الصعيد األسلويب متصلة بالوعي املتعدد اللغات حيقق ذاته يف
الرواية.
ثانيا :التحول اجلذري لالحداثيات الزمنية اخلاصة بالصورة األدبية يف الرواية.
ثالثا :املنطقة اجلديدة من بناء الصورة األدبية اليت أدخلتها فيها الرواية أي تلك املنطقة اليت حيدث فيها أقصى
متاس مع الراهن (الواقع املعاصر) املتحول غري القابل للتجديد ».1
حيث تعد الرواية من منظور "ميخائيل باختني" اللون األديب األوحد الذي ما ينفك يتطور و الذي مل يشهد
اكتماال بعد ،إذ أهنا تتهكم بغريها من األلوان األدبية و تقوم بإظهار جوانب النقص فيها خاصة الصيغة املتكلفة
اليت متيزت هبا أشكال و لغة هذه األنواع األدبية .هذه املسلمات و املبادئ الفلسفية اللغوية اليت آمن هبا "حممد
القاضي" يف مستهل دراسته مل تدم يف دائرة اعتقاداته طويال فقد أسقط منها يف واحدة ممن مقاالته ذلك أنه تبىن
املسلمات و املبادئ الفلسفية التارخيية اليت جاء هبا "لوكاتش" و "هيجل" ،و هو ما نستطيع ملسه بشكل جلي
حني استنتج بدقة أوجه اإلختالف بني القصة القصرية و الرواية يف قوله « :القصة القصرية مدارها على اللقطات
اخلاطفة و املواقف العابرة و النماذج الشاذة و الشخصيات اهلامشية ،و من مث فإهنا اجلنس األكثر تعبريا عن
اإلنعزال و اإلنطواء و الفردية ،أما الرواية فجنس حضري أساسا ،إهنا اجلنس األكثر تعبريا عن املدنية و ما يعتمل
فيها من أحداث و ما يعمرها من شخصيات و لذلك عدها لوكاتش ملحمة الربجوازية ».2وهذا حتديدا اإلعتقاد
الذي أىب "ميخائيل باخيت" لألخذ به فقد طفق هذا األخري يبتكر أصوال و أسسا غري معمودة للرواية املتموضعة
يف خمتلف األصناف الثقافية الشعبية ناهيك عن جمموعة من النصوص اليونانية و الرومانية غري مقص يف ذلك
رواية العصور الوسطى لكن يف الوقت نفسه غري آبه بالقيود اليت تنتمي إىل االبوتقة اإلجتماعية و التارخيية ،هذه
األخرية كانت من وضع "هيجل" و لوكاتش".
و حيدد الناقد اجلزائري "الشريف حبيلة" دور اخلطاب الروائي يف قوله « :و ليس بدعا أن حتكي الرواية واقع
االنسان ،فقد أصبحت منذ زمن تؤدي دورا مهما يف رصد تدفقاته الوجدانية و رسم إسرتاتيجيته الفكرية و
اجلمالية و إلتفت حوله هبدف احتواء مهومه و اهتماماته و آماله ،بفضل امتالكها تقنيات فنية و قيم مجالية تكفل
هلا استنطاق النوازع اإلنسانية الكامنة داخل الذات الواحدة أو الذوات املتحللة » ،3ما فحواه أن وظيفة اخلطاب
-1ينظر-ترفينان توردوف-ميخائيل باختني :املبدأ احلواري ،تر :فخري صاحل ،رجاء بن سالمة ،دار توبقال ،الدار البيضاء ،املغرب ،ط.1111 ،1
-2آنسة حممد احلاج :اإلجتاه اإلجتماعي يف النقد الروائي يف املغرب ،دراسة يف نقد النقد ،ص.119
-3الشريف حبيلة :الرواية و العنف ،دراسة سوسيونصية يف الرواية اجلزائرية املعاصرة ،علم الكتب احلديث ،األردن ،ط ،1111 ،1ص .11
11
المنهج السوسيونصي الفصل األول
الروائي ال تتجاوز حواجز ترقب فرد أو جمموعة أفراد أخرى متجزئة عنه اجلدير بالذكر أنه يف هذا املقام بىن رؤيته
مستوحيا إياها من نظريهتا لدى "لوسيان غولدمان" الذي جعل وظيفة القائم على اإلبداع و اإلبتكار الروائي
تتحدد يف اعطاء العامل نظرة ال يعرتيها شيء من الضبابية تتخطى التخمينات و التصورات و كل املكونات
الذهنية و الفكرية لت بلغ مكامن الوجدان من خمتلف العواطف اإلنسانية شرط عدم التقيد أو اإللتزام بإنسان واحد
بل تبين حبال وثيق الصلة بأقصى ما ترمي و هتدف إليه روح اجلماعة ،ضف إىل ذلك أن "الشريف حبيلة" استمد
إهلاما ليس بالقليل مما نظر له "باختني" ملتطلبات العمل الروائي حيث يقول يف هذا الصدد « :بقدر ما يكون
التعامل مع الواقع بعمق[ ]...يكون إنتاج مجاليات ذلك الواقع يف جمال الرواية أكثر اقناعا و أوفر تأصيل »،1
األمر الذي أوعز إليه "باختني" يف إحلاحه على فكرة أن « العمل الروائي اجليد يربز الواقع اإلجتماعي يف حواريته
اخلصبة و املتعدد ،إنه إنصات حي لواقع التناقضات اإلجتماعية ».2
و عند تقصينا عن البنية اإلجتماعة داخل النصوص املدرسية وجدنا أن الناقد "سعيد يقطني" يقف عندها
من خالل « :الشخصيات :فمعظم الشخصيت املعاجلة يف النوص احملللة مستقاة إما من واقع تارخيي [ ]...أو
من واقع إجتماعي من خالل أفعاهلا و أقواهلا و أمناط تفكريها ،فهي تعيش مع شخصيات أخرى ،تتفاعل معها و
تتعانق هبا ،هذه الشخصيات [ ]...صورة لغوية و تعبريات عن عامل إجتماعي متكامل ».3
و املالحظ أن مجيع هذه الشخصيات مثقفة كما أهنا تعيش حالة من التوتر و القلق املستمر ،و أغلبها ذات
أصول ريفية و بدوية.
حيث « نوقشت الشخصية يف الرواية كثريا ،و قيل الكثري عن بنائها ،و أشكاهلا وطبائعها ...عن كوهنا
صورا حية و واقعية ،أو جتسيدا ألمناط وعي إجتماعي و ثقايف و ما تزال الشخصية يف التحليل الروائي حتظى
باألمهية القصوى من خالل طرائق حتليلها اجلديدة ».4
و حنن لسنا يف هذا الصدد إزاء وضع وسم هلا متقيدين بنوع معني أو آخر و مل يكن مبتغانا ذلك أساسا،
بل ه دفنا هو فحص و معاينة روابط و أواصل الشخصيات اليت تشاركها سويا يف مفهوم العامل التصوري الذي
10
المنهج السوسيونصي الفصل األول
عرفت به إلظهار األثر السوسيولوجي الذي يقصده الؤلف يف طرحه إياها ،هذا املنحى السوسيولوجي و البنية
املعتمد عليها يف حبك الروايات و نسجها ال يتعارض و اجلمع بني املتناقضتني فبناؤه يرتكز على اإلتفاق و
التعارض ،اخلصام و التقبل لكن دون استبعاد فكرة االختالف و التأكيد عليها .
كما أن « الشخصيات الثقافية تقدم لنا صورا واقعية و تارخيية عن املثقف العريب احلديث و هو يعش التمزق
الداخلي بني عامل متناقض ،عامل قيم مرتسبة يف أعماقه ،و حياول التمرد عليه بوعيه هبا ،و عامل يتمسك هبذه
القيم و حياربه هبا و ينتج عن هذا التناقض القائم :اإلحساس بالتغرب و الرفض و بالتايل املعاناة ».1
األحداث و الزمن « :إن حضور البنية اإلجتماعية يف النص يشكل من خالل املادة احلكائية اليت يتفاعل
الكاتب معها يف إطار اجتماعي و اقتصادي و تارخيي خاص ،و تبدو عرب العناصر املرجعية إىل الفضاء [ ]...أو
الزمان [ ]...أو احلدث [ ]...أو العالقات [.2» ]...
و املؤلف حني حيني أجزاء حقيقية مستمدة من الواقع مستقاة من خلفية معينة ال يهدف بذلك إىل أن
يرسخ يف العقول فكرة فحواها أن أباءنا عاشوا بطريقة ما أو هذه هي طريقتنا يف احلياة ،بل يرمي من وراء ذلك
إىل حترير منتوج لغوي و خلق لسان تعبريي ينفرد مبميزاته و خصوصيته أو باألحرى ينفرد هبوية خاصة ليس
باستطاعة أحد فحص حيثياهتا و نصياهتا أو أشكال خمرجاهتا إال جبعلها تتموضع يف مفهوم سوسيونصي.
تبىن خصائص النص اإلجتماعية على نظرية نقدية حديثة غري تلك اليت سبقتها من نظريات بامكاهنا حتويل
املنتجات اللغوية "النصوص" األدبية اليت كانت قيد التصور شكال ملا حيدث من جتسيد و أخذ و فهم ملعتقدات
خمتلفة و متعارضة تلج إىل النص باعتبارها خمرجات و خطابات نصية ،و الغرض من ذلك كله هو جعلها تشكيلة
من وسائل توصل لغوية بل و أكثر من ذلك جعلها لغات حية جملموعات معتربة من البشر ،و عليه يكون
اخلطاب الروائي يف النقد السوسيونصي « مزدوج الشفرة [ ]...فهو حيقق ائتالفا بني املادة النسقية اليت متثلها اللغة
الطبيعية و املادة اخلارجة عن النسق و اخلارج-لغوية و اليت تتمثل يف السنن الثقافية و املعايري اإلتفاقية و التقاليد
11
المنهج السوسيونصي الفصل األول
األدبية و املوروثة [ ]...و األيديولوجيا املندجمة يف البنية اللغوية » 1ليس باإلمكان اختصاره أو تقزميه يف مقاييس
لغوية و يف مقاصده السوسيولوجية.
إذن تعد اللغة عند "عبد احلميد عقار" هي حجر األساس الذي ينطلق منه التحديد و لبنته األوىل و سبب
ذو قدر من األمهية يف تغريات اخلطاب الروائي و تطوره « فالتجريب و تكسري اخلطية و أحادية الصوت و
اخلطاب ميس اللغة و الشكل الروائيني على السواء فيطبعهما بالتحديد و التنوع و بالتوالد و انتشار و تالشي
احلدود بني األجناس و تعدد الدالالت و الرؤى احملتملة و حتل بذلك مغامرة الكتابة حمل كتابة املغامرة ».2
لقد بين هنا "عبد احلميد عقار" مفاهيم "ميخائيل باختني" حول احلوارية و النقد اللغوي فاخلطاب الروائي
يعد نص و فضاء مفتوح و عامل متعدد األبعاد و الدالالت ،و هبذا فاخلطاب الروائي يفقده حلظيته سيفتح جماله
الخرتاقات متنوعة و متعددة و بؤرة لعالمات أخرى خمتلفة.
نرى بأن "عبد احلميد عقار" « حاول التوفيق بني مفاهيم ميخائيل باختني و بيري زميا و آخرون و اليت
ختتلف يف نقاط عديدة ،و لكنها تتقاطع فيما بينها حول فكرة جوهرية جتعل من اخلطاب الروائي بؤرة مشحونة
باإليديولوجيات و الدالالت و القيم اليت يعرب عنها الكاتب و شخصياته ».3
هذا هو املنحى الذي سلكه الناقد املوريتاين "حممد سامل حممد األمني الطلبة" يف حبثه املوسوم ب ـ "مستويات
اللغة يف الشعر العريب املعاصر" و ذلك يف تشديده على فكرة أن النص هو « خطاب ممكن عن الواقع ،فهو ال
يتفق مع مراجعه املختلفة ألن هذه املراجع تغدو يف فضاءه احتمالية الداللة » ،4و هو يف هذا املقام يستقي إهلامه
من منظور "بيري زميا" ،هذا األخري جعل النسيج و الرتكيب السردي للنص كيانا خمتلط البنيات متوافقة مع بعضها
البعض على قدر ال بأس به إن صح التعبري ،إذ أنه يقلد و يضاهي بل و ينتج الواقع مرة أخرى حماوال أن يشابه
هذا الواقع و إن مل يكن بشكل ملموس ظاهر.
يقوم اإلعتقاد الذي تبناه "حممد سامل حممد األمني الطلبة" للمقاربة السوسيونصية على فكرتني رئيسيتني :
11
المنهج السوسيونصي الفصل األول
-األوىل تتمحور حول النظرية اليت جاء هبا "بريزميا" و تبناها "الطلبة" اليت تقول و تقر بأن املوضوع األقرب
لطبيعة النقد و املأثور من بني كل املواضيع هو التحقيق و البحث يف نوع العالقة اليت بني املعىن و طريقة صياغته
و سبكه و وصله ببعضه البعض ،مبعىن آخر بني "الداللة و الرتكيب" ،أما الفكرة الثانية فقد تبناها من مفهوم
الناقد "سيد البحراوي" و فحوى هذا املفهوم هو « جعل مضمون الشكل الطريق الوحيد للولوج إىل النص من
خالل جتاوز البحث فيما بعد الثنائية املعهودة إىل احملتوى و الصياغة أو الشكل و املضمون » 1فنحن حني منسك
مبحتوى شكل العمل الفين مدركني من خالله رؤية الفنان و املثل اجلمايل األعلى للمجتمع الذي يعيش فيه
نستطيع أن منسك -بدقة -يرقبه الصراع اجلمايل اإلجتماعي الدائر يف اجملتمع يف تلك اللحظة [ ]...فليس مثة
شكل و مضمون ،ألن املضمون ليس مضمون الشكل و ليس مثة نص و سياق ألن النص سياقي و إجتماعي و
ليس مثة داخل و خارج ،ألن اخلارج كامن يف الداخل و ألننا حني حنلل شكل النص فإننا حنلل يف الوقت ذاته
املضمون اإلجتماعي ألن هذا األخري كامن يف األول و جزء ال ميكن أن يفصل عنه.
لقد سعى الناقد السويونصي إىل تفكك مستويات النص و البحث يف طبيعة العالقة بني الداللة و الرتكيب،
و ذلك من خالل إلغائه جلميع األحكام القبلية اجلاهرة و استبداهلا مبدخل سوسيولساين ...ومنه انبثقت أطروحته
النقدية و اليت تقوم على نظريتني متكاملتني و مها:
ال ميكن لألدب أن يقبل بالنقد األحادي الذي ال يستطيع التغلغل يف ثنايا النص ،أو املقاربات الشكلية
اليت تبقيه يف قوقعة الشكل و تبعده عن امتداداته الداللية ...ذلك أنه يقوم يف االساس على احلوار و اإلنفتاح و
التفاعل و التعددية ...فالرواية مل تكن يوما جنسا أدبيا تقليديا ،و إمنا تعمل على كشف مكنوناهتا مناهج متنوعة
حتقق هلا اإلثراء و من هنا بدأ التحدي املعريف للناقد السوسيونصي خاصة مع التحوالت السريعة للخطاب النقدي
مبختلف مناهجه و اخلطاب الروائي املنفتح على املاضي و احلاضر و املستقبل.
-1سيد البحراوي :حمتوى الشكل يف الرواية العربية"النصوص املصرية األوىل" ،املكتبة العامة للكتاب ،مصر ،د/ط ،1116 ،ص.11
-2بريزميا :النقد اإلجتماعي حنو علم اجتماع النص األديب،تر:عايدة لطفي،م :أمينة رشدي ،د.حبراوي،دار الفكر ،القاهرة ،ط ،1111 ،1ص .188
11
المنهج السوسيونصي الفصل األول
و يف ظل البحث عن كيفية اشتغال اللغة ضمن السياقات اإلجتماعية و الثقافية و اللسانية متكن الناقد
السوسيونصي من االستعانة بالسيميائية و البنيوية و التحليل النفسي و نظريات القراءة ،كما دمج بني التوجه
الشكالين احملصور يف دائرة اللغة و التوجه اإلجتماعي اجلديل و هبذا مجع بني نقيضني ،و ميتلك النص الروائي
خاصية مميزة و هي ازدواجية الشفرة واللغة ،و هذا ما دفع "عبد احلميد عقار" إىل االستعانة مبفهوم الشعرية الذي
ال يأبه باإليديولوجيات ،وفيه ختطى الدراسة الشكلية لربط النص بسياقاته اخلارجية هبدف الوقف على البنيات
السردية و الداللية و اخلطابية املثقلة بالشحنات و اإليديولوجية فهو يدرس شعرية اللغة الروائية من زاويتني
متنافرتني « زاوية كوهنا جتريدا للخصائص البنيوية أو املالمح اللفظية املالزمة و املنتجة ألدبية النص الروائي ،ومن
زاوية أن اللغة ملفوظ اجتماي ملموس ألفاظه و تراكيبه تيش وسط الفضاءات الشاسعة للساحات العمومية و
األزقة و املدن و القرى و الفئات اإلجتماعية و األجيال و احلقب ».1
تبىن املقاربة النقدية عند "عبد احلميد عقار" على أسلوبية جديدة تتخطى حواجز البالغة القدمية و الوصف
اللساين اجملود ،مستوحيا ذلك من مفاهيم "باختني" و "يوري لومتان" ،و تنظريات "بيري زميا" حيث وجهت هذه
التنظريات نقدا صارما للبنيوية و الشكالنية و سامهت يف تغلغل فكرة حوارية النص الروائي « فالنص الروائي ليس
هو موضوع الشعرية بل جامع النص أي جمموع اخلصائص العامة أو املتعالية اليت ينتمي إليها كل نص على
حدة » 2و ألن « بنية التحدث بنية جمتمعية حمضة » ،3فإن "عبد احلميد عقار" يستند يف دراسته ملفاهيم
الشعرية عند "باختني" و اليت تسعى إىل تقريب اخلطاب الروائي من مبدأ أنه كالم غين باألبعاد اإليديولوجية و
السياقات التارخيية.
حبث "عبد احلميد عقار" حول موضوع املوازنة بني التحليل الشعري ذا املسعى التنظريي العام و بني التحليل
النقدي ذا املسعى اإلستقرائي و ذلك بغرض الوقوف على جوانب التطور و التحول يف اخلطاب الروائي هبدف
اجلمع بني مفاهيم و تنظريات كل من "بيري زميا" و "ميخائيل باختني" و دراسته حول اخلطاب الروائي و احلوارية.
من جهة أخرى قام "حممد القاضي" بكتابة بعض الدراسات على فرتات متباعدة مشلت جمموعة من
املقاالت النقدية ألقاها يف مقامات خمتلفة و متنوعة مجعها مبدأ فلسفي واحد متثل يف احلوارية الباختينية و هي
15
المنهج السوسيونصي الفصل األول
املبدأ األول للدخول و التوغل يف النص و استخراج كيفية التفاعل بني عناصره األساسية ،و هو هبذه الدراسة
يهدف إىل تغيري مقولة انغالق األثر األديب مبقولة األثر املفتوح على النصوص و القوانني اإلجتماعية و اإلقتصادية
و اإليديولوجية بأن العنصر اللغوي « حيمل آثار تلك النظم و األنساق حيثما حترك إال أن ما يتصف به من
استقاللية و مرونة قادر على االضطالع بوظائف أخرى ،و تلبس دالالت جديدة تتكون له من اجلدل املستمر
بني سياقه األصلي و سياقه اجلديد ».1
و تتأسس مقاربته النقدية يف مقالة "الكتابة عند املسعدي و مسألة األجناس" على مسألتني :األوىل تطرق
فيها إىل األجناس األدبية و أثرها يف النقد ،و املسألة الثانية هتدف إىل دراسة لنصوص املسعدي و كيفية حتقق
مقروئيتها.
فقد كانت املقاربة النقدية ل ـ "حممد القاضي" سطحية نوعا ما ذلك بسبب املساحة اللغوية املخصصة لكل
مقال نقدي اليت اقتصر فيها على أبسط أفكاره النظرية و نقصها لعدة عناصر و أبعاد إجرائية و تطبيقية و ذلك
بسبب عدم دخول الناقد إىل األبعاد العميقة و وقوفه عند البنية السطحية و اإلكتفاء هبا ما أدى إىل انتقائية
دراسته ،و ظهر لنا ذلك لنا يف مقاربته النقدية لرواية "التبيان يف وقائع الغربة و األشجان لفرج احلوار" و هذا ما
الحظناه يف قوله « و لئن كان منهجا يف املعاجلة انتقائيا فإن مرد ذلك إىل ضيق احليز الذي يندرج فيه عملنا،
ذلك أن رصد احلوارية ال تفين فيه قراء ة النص يف أقسامه الكربى ،إمنا يتطلب النفاذ إىل حقائق النص و
تفاصيله » 2و قد شكلت هذه الداسة اإلنتقائية يف معا جلة النصوص ميزة أساسية جلل أعماله النقدية اليت مشلتها
هذه الدرسة فهي مل ترتبط فقط بدراسة الرواية السابقة.
و مما سبق ذكره جيدر بنا اإلشارة إىل أن « ما مييز الناقد عن القارئ العادي هو اتساع اجملال التناصي الذي
يطرح الناقد العمل يف أفقه عن ذلك اجملال الذي يتعامل معه القارئ و كذلك حيوية العنصر احلواري فيه ،وهو
عنصر يزداد ثراء كلما زادت قدرة الناقد على استقراء البدائل احملذوفة و اإلفرتاضات املنفية اليت يفرضها النص أو
باألحرى ينطلق من املصادرة عليها ».3
-1حممد القاضي :يف حوارية الرواية -عن آنسة حممد احلاج ،اإلجتاه اإلجتماعي يف النقد الروائي يف املغرب ،دراسة يف نقد النقد ،-ص.121
-2املرجع نفسه ،ص .121
-3صربي حافظ ،أفق اخلطاب النقدي -عن آنسة حممد احلاج،اإلجتاه اإلجتماعي يف النقد الروائي يف املغرب ،دراسة يف نقد النقد ،-ص.122
16
المنهج السوسيونصي الفصل األول
تعد املستويات ا للغوية عنصرا رئيسيا يف تشكيل املقاالت الروائية اليت يتم من خالهلا تشكيل و تأسيس
املضمون الفين و السردي يف النص الروائي العريب و هو ما طمح "حممد األمني الطلبة" الوصول إليه و دراسته
بغرض الوقوف على عنصر التناص أو أحد عناصره ،فاملستويات اللغوية هي « األطر القولية اليت عربها و من
خالهلا صنفت املادة القصصية ،و مت التعامل مع الكالم األجنيب و غريه من عناصر التناص ».1
و سلك "حممد األمني الطلبة" الطريق عينه الذي اتبعه "سعيد يقطني" يف ختطيه من السرديات إىل
السوسيوسرديات وؤمن املنطلق إىل املقصود ،وؤهو هبذا ختطى احلاجز السكوين الذي مل تستطع و مل يتسىن
للسرديات جتاوزه ،و ختطاه إىل مقاربة حيوية بالنص الروائي ،هذا ما جتلى لنا حني وضع مسات و مالمح ملسلكه
النقدي يف قوله « نتبىن طريقة السرديات التوسعية العامة من اجلوانب املتعلقة بانفتاحها و حبثها الداليل التناصي،
فمنهجها هذا هو بعبارة أخرى عدول عن اللفظي إىل الداليل و عن اإللتصاق بالروائي و املروي له إىل آفاق
القارئ و نصوصه املغدية ،و عن املظاهر النحوية اإلرسالية إىل املظاهر الداللية اإلنتاجية ،حماولني يف ذلك
اإلعتدال و األخذ من آليات اخلارج و املزاوجة بني الداليل و التداويل دون اإلمهال التام للنحوي ».2
و تكون مراحل دراسته املنهجية املضبوطة السالفة هي حوصلة ملفهوم "سعيد يقطني" يف مقاربته
السوسيونصية اليت اعتمدت و قامت على ثالث شروط هي :الرتكيب النصي و التجاذب النصي و البنيات
السوسيونصية ،ذلك أن املرحلة األوىل جيتمع فيها كال من الطرفني "املؤلف و املتلقي" يف صنع مفهوم و معىن
النص من خالل أنتاجهما له ،أما املرحلة الثانية فيكون فيها التحري عن عالقات اليت يلج فيها النص مع بنيات
نصية آنفة أو حىت تشاركه حاضره و عصره ،أما املرحلة الثالثة فيحدث فيها اكساب النص الروائي بالدالالت
الثقافية و اإلجتاماعية اليت تتجلى هبا.
كما حتتاج دراسة "الشريف حبيلة" إىل ديباجة منهجية أو علمية توضح لنا املفاهيم اإلجتماعية األكثر أمهية
و املعتمدة يف البحث ،لكن األمر الذي يدعو للدهشة أن الناقد قد ملح يف مقدمته إىل أنه قد أفرد مدخال يف
مستهل دراسته للخوض يف املنهج السوسيونصي و أهم املراجع السوسيونصية اليت استقى منها أساسيات حبثه ،و
هو ما يؤكده بالفعل قوله « قسمت البحث إىل ثالث فصول قدمت هلا مبدخل أوجزت فيه احلديث عن املنهج
-1حممد سامل األمني الطلبة :مستويات اللغة يف السرد العريب املعاصر ،دراسة نظرية يف سيمانطيقا السرد ،دار االنتشار العريب ،بريوت ،لبنان ،ط،1
.1119
-2املرجع السابق ،ص .13
17
المنهج السوسيونصي الفصل األول
الذي اخرتته أداة هلذا البحث ،وهو املنهج السوسيونصي وجدته األنسب ملثل هذه الظاهرة و هي تتمحور داخل
النص اإلبداعي له خصوصيته مثل الرواية ،لذا كان علي أن أعرض هذا املنهج و كيفية تناوله للنصوص األدبية
بدءا من سوسيولوجيا األدب وصوال إىل الصيغة اليت صار عليها عند بيري زميا و كان اهلدف من هذا املدخل
حتديد اخللفية الفكرية للبحث و حتديد أدواته النقدية اليت يقرتحها املنهج املختار » 1غري أن التناص يكمن يف أن
ما ملح إليه يف مقدمته مل يتجسد حقية يف ديباجة داسته اليت أفردها للحديث يف مسألة العنف و صلتها باملثقف
و وسائل التواصل اللغوية أي اللغة و كذا اإلبداع .
من جهة أخرى مل يتحدث ولو بشكل مقتضب غري مستفيض يف املنهج السوسيونصي أو مشاربه ،ضف
إىل ذلك أن مدخله يفتقر إىل اإلشارة إىل جمموعة الكتب و املقاالت و الدراسات اليت قام هبا كل من "بيري زميا"
و "ميخائيل باختني" ،و هو األمر الذي حيزم القارئ أنه من نواقص الدراسة و البحث و من سقطات الباحث
الذي مل يراجع دراسته قبل طرحها.
إن دراسة "الشريف حبيلة" تبىن على مسألة أساسية عرفها كما يلي « :كيف حيضر العنف كمرجع مجايل
يف النص الروائي أو كيف نبين النص و هو يتفاعل مع واقع العنف » 2و هو هبذا حياول ختطي مفهوم األدبية
الذي يقول أن اخلطاب الروائي نسيج منطوق غري حيوي ليقتضى بذلك ثنائية املظهر و الرتكيب يف العمل الروائي
على أساس أنه خيلق معاينا و يعبأ باملقاصد املعتقداتية.
-1الشريف حبيلة :الرواية و العنف –دراسة سوسيونصية يف الرواية اجلزائرية املعاصرة ،-ص .11
-2املرجع نفسه،ص.13
18
الفصل الثاني
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
تمهيد.
03
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
تمهيد:
ما إن نذكر األدب اجلزائري حىت يتبادر إىل أذهاننا زمن االستعمار و الثورة اجلزائرية وتليها الفرتة املظلمة و
الصعبة اليت مرت بعد ذلك ،أال وهي العشرية السوداء أو احلمراء حيث عكست الرواية اجلزائرية هذا الواقع ،إذ
متي ز األدب اجلزائري بنزعته السياسية وجتلت هذه النزعة يف الرواية بشكل خاص متميزة هبا عن غريها من األجناس
األدبية األخرى ،كون الرواية من أكثر األجناس اهتماما باحلياة السياسية ،و جسدت هذه التجليات عرب مراحل
زمنية خمتلفة وصوال إىل الزمن املعاصر عرب روايات عديدة من بينها رواية الكاتب اجلزائري "عبد الواحد هواري"
"يف كل قرب حكاية" واليت غاصت يف أعماق العشرية السوداء وتقلباهتا فلقد « أصبحت السياسة حمورا فكريا يف
الرواية املعاصرة ،مهما تنوعت مواضيعها ،وتعددت أبعادها االجتماعية و الواقعية ،وجنحت إىل احلداثة الشكلية و
التنويع الفين ،فإن الرواية تعرب عن األطروحة السياسية إما بطريقة مباشرة و إما بطريقة غري مباشرة ،لذلك نقول:
إن السياسة حاضرة يف كل اخلطابات و الفنون واألجناس األدبية ،و تتمظهر جبالء و وضوح يف فن الرواية اليت
تعكس نثرية الواقع وصراع الذات مع املوضوع و الصراع الطبقي و السياسي والتفاوت االجتماعي تناحر العقائد و
األيديولوجيات و الرتكيز على الرهان السياسي ».1
وتتميز الرواية اجلزائرية مبعطيات مهمة متجسدة يف معظمها من السياسة و الدين من الواقع االجتماعي،
حيث تتطلب الرواية أفكارا إبداعية عميقة تتحلى بالواقعية إذا ما تعلق األمر باملعطيات السابقة خاصة السياسية
منها و الدينية ،معربة عن احلاضر بطريقة أدبية فنية مع طرح ِألفكار الكاتب الواقعية يف قوالب مجالية ،ومن
الكتاب اجلزائريني الذين جسدوا هذه األبعاد يف أعماهلم الروائية :أحالم مستغامني ،بشري مفيت ،رشيد بوجدرة،
أمني زاوي و عز الدين جالوجي ...و غريهم من الروائيني الذين غاصوا يف قضايا الدين و السياسة إىل جانب
موضوع الواقع االجتماعي.
03
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
فرضت احلياة السياسية نفسها على مستوى الساحة األدبية العربية ،و أثبتت وجودها جبدارة بسبب األوضاع
العامة اليت مرت و التزال متر هبا العديد من البلدان العربية؛ من فرتات االستعمار و بعض األزمات السياسية و
الصراعات بني أطراف عديدة اختلفت يف طرح أفكارها ،و تنافرت مساعيها ،و مل تبق دائرة الصراع مغلقة على
املوضوع اجلوهري بل امتدت وصوال إىل زعزعة استقرار الوطن ،و املساس باهلوية و القومية ،لذا فإن قلم األديب
العريب عموما و اجلزائري على وجه اخلصوص أىب إال أن خيوض جتربة الكتابة السياسية ،و يلج إىل عاملها و بني
ثناياها مع اال هتمام بأدق تفاصيلها خاصة تلك اليت متس الفرد وحياته االجتماعية عرب ربوع الوطن ،ليصبح
االدب هنا سالح الكاتب الذي جيهر به على كل من حاول االعتداء على مقوماته و أفكاره ،حيث يبدع املؤلف
نصوصا مجيلة حتمل يف طياهتا معاين النضال و الكفاح ،فيحاول الكاتب إعالء كلمته لتنشر صداها يف نطاق
أوسع بغرض عرض قضيته يف مجيع أحناء العامل ،و إيصال رسالة سواء للمستعمر أو أطراف الصراع مفادها أن
الوطن يضم شعبا مقاوما مناضال ال يأبه بالصعوبات.
لذا نرى أن معظم النقاد حياولون التوغل يف العمل األديب و التفتيش عن اآلراء السياسية اليت يضمنها املبدع
يف عمله جمسدا إياها يف شخصياته الروائية ،كما يسعى النقاد إىل إبراز عالقة املبدع باألوضاع السياسية و
الكشف عن آرائه املتوقعة يف النص ،سواء كانت هذه اآلراء بارزة بشكل واضح و مباشر أم ضمنية يسعى الناقد
إىل اكتشافها بالتحليل و التأويل.
لنقف عند "عبد الواحد هواري" الكاتب اجلزائري الذي أبدع يف روايته "يف كل قرب حكاية" حيث اخرتق
بقلمه فرتة العشرية السوداء اليت مرت هبا اجلزائر منذ 1991بعد إلغاء نتائج االنتخابات الربملانية اليت كانت
لصاحل "اجلماعة االسالمية لالنقاد"وسلط الضوء على الصراع السياسي املسلح بني اجلماعات املسلحة و احلكومة
اجلزائرية ،فاَتذت األوىل من اجلبال مقرا هلا.
فما كان "لعبد الواحد هواري" إال أن خيتار شخصيات صلبة وقوية تتصف بالصرب و احلزم و الشجاعة ،و
من هذه الشخصيات البطلة املناضلة "عمي العريب"و "نذير"و "فاطنة"و "خدجية"و "أمينة"و "عبري" ،فصفات
الشخصيات تلعب دورا هاما يف متانة الرواية و يف حتقيق واقعية االحداث املستمدة من اجملتمع .كما انقسمت
شخصيات الرواية بني أمية جاهلة متتاز بالضعف و يسهل استغالهلا و خداعها و التالعب بأفكارها و توجيهها
03
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
حسب ما خيدم مصاحل اجلماعات املسلحة ،و بني الفئة املثقفة اليت سعت جاهدة إىل طمس اجلهل و االمية و
ايقاف تلك االستغالالت السيئة.
بعد ارتياد اجلماعات املسلحة اإلرهابية اجلبال عقب الغاء نتائج االنتخابات الربملانية اليت كانت لصاحلها
بدأت هذه اجلماعات فورا مبمارسة أبشع اجلرائم على الشعب اجلزائري ككل ،و بشكل خاص على من كانت له
عالقة باحلكومة؛ من أفراد اجليش الوطين وكل من أدى اخلدمة الوطنية ،فعذبت الشعب أيا تعذيب و قتلت
أعداد كبرية جدا من الناس بسبب أو دون سبب ،فجسد "عبد الواحد هواري" يف روايته اجلرائم الشنيعة اليت
ارتكبتها هذه اجلماعات يف حق اجلزائريني من مذابح دامية و جمازر بأعداد هائلة مست ه ِدفة القرى و األحياء
الصغرية و البعيدة عن املدينة و األماكن اليت متوضع فيها اجليش ،فقد ذكر الراوي قرى و أحياء أبِيدت على
أيديها حني قامت بقتل كل شخص قاطن بتلك القرية ومل تفرق بني صغري وال كبري ،أو رجل و امرأة ،فزرعت
اخلوف و الرعب و الفزع يف قلوب اجلزائريني ،فصور "هواري" ذلك الرعب الذي اجتاح الشعب اجلزائري يف
العشرية السوداء حني وصفها ب « :زمن اخلوف و الرعب ،يف ذلك الوقت كان الفزع هو فطور الصباح لسكان
القرى ،و الرهبة و اهللع غذاءهم ،و الوجل و االرتعاب عشاءهم ،حىت الطيور يف السماء كانت بكماء خشية أن
يوقظ تغريدها رواد الغابة ».1
لقد جسدت الرواية عدة حمطات للممارسات اجلائرة اليت ارت ِكبت من طرف اجلماعات اإلرهابية ،منها
اهلجوم على القرى و هتديد سكاهنا بالقتل و التعذيب و التنكيل و كذا إجبارهم على اقتسام ممتلكاهتم معها
كاملواشي و احلقول و األموال مقابل احلفا على حياهتم و أهاليهم ،بقي يف القرى من استطاع اخلضوع ألوامرها
ومل يرض بالتنازل عن أرضه و اهلرب من املناطق اليت تسيطر عليها اجلماعات ،كما دفع اخلوف بعض السكان
باهلجرة حنو املدينة اليت متتاز باحلماية من قبل أفراد اجليش الوطين.
صور الراوي ثالث جمازر قامت هبا اجلماعات اإلرهابية؛ األوىل هي جمزرة "سيدي جماهد" اليت قتل جل
سكاهنا دون استثناء فلم يرتك أحد على قيد احلياة ،و الثانية جمزرة قرية البطل "عمي العريب" اليت ارت ِكبت يف حق
سكاهنا يف وجوده ،حيث كان خيتبئ يف أعلى شجرة كانت جبانب القرية ،فشاهد َتبط والدته "فاطنة" و حمبوبته
"خدجية" و كل فرد من أفراد القرية بني أيدي اجلماعات املسلحة و اليت تزرع الرهبة و اخلوف يف قلوب الناظرين
00
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
إليها ،فقتلت اجلميع ،مما أدى اىل تدهور حالة "العريب" بعد مشاهدته هذه اجلرية البشعة ،فوصف الراوي حالته
حني كان « :يضرب رأسه جبذع الشجرة ضربة تلوى األخرى ،و تزيد حدة التالية عن السابقة ،و ال يزال يضرب
رأسه و يصيح بأعلى صوت ...إىل أن وقع على األرض و أغ ِمي عليه » ،1و قد سبق ل "عمي العريب" يف إحدى
حماوالته للبحث عن شيخ حكيم بغية عالج أمه املريضة ،و القاطن بقرية "الزاوية" مبدينة "تلمسان" أن صعِق
مبنظر مرعب و خميف؛ عبارة عن قرية كاملة حولتها اجلماعات إىل أشالء مرتاكمة بعدما نكلت هبم تنكيال فظيعا،
وقد متظهر ذلك يف الرواية من خالل « :وجد سكان القرية مصروعني مذب ِ
وحني ،و جثث هم مكدسة جنبا إىل
جنب و قد بدأت رائحة العفن َترج منها ،مالمح أوجههم توحي بالصدمة و اخلوف و الوجل ،مشكلني كتلة
2
جبلية من الشيوخ و الرجال و النساء ،حىت األطفال يف عمر الزهور كانوا ساقطني مذبوحني» .
غنية هذه الرواية باملظاهر املظلمة ل "العشرية السوداء" و مبا مارسته اجلماعات املسلحة من أعمال قمعية
كالرتهيب و القتل و االغتصاب اجلماعي ...أما من أىب االنضمام إىل صفوفها طوعا ضمته إليها كراهية حتت
وابل من التهديدات و عندما مل ينفع التهديد استعملت الرتهيب و التخويف و التعذيب مث جلأت إىل القتل،
فتسلل اهللع و اخلوف إىل الناس و فقد اإلحساس باألمان .و يعد "عمي العريب" يف هذه الرواية منوذجا للعديد
ممن عانوا الويالت ،حيث يصف الكاتب اعتقاله بعدما وِجد مغمى عليه داخل أسوار قريته و وضع يف كوخ
خميف حقري حتت اشراف قتلة شرسني ،وقد دفعه اخلوف عند رؤيتهم إىل التبول على نفسه بعد ذلك أ ِخد إىل
قائد اجلماعة املكىن ب "املعلم األكرب" و يف طريقه ساقه مكب له عرب طريق خميف مليء بالكالب الشرسة كإنذار
وحتذير له ،وهذا ما جتلى يف الرواية « :فزاد هلعه عن السابق ...حيث رأى جمموعة من الكالب الشرسة مربوطة
حتت شجرة ضخمة ،تنبح يف وجهه حماولة قطع احلبل الذي يقيدها كأهنا تريد متزيقه إىل قطع صغرية » ،3فرسم
لنا الراوي هذه الصورة القوية معربا هبا عن قساوِة و مهجية هذه اجلماعة ،حيث كانت تزرع الرعب و اخلوف يف
نفس الرهينة هبدف االنصياع هلا خوفا من أن يصبح مصريها بني أنياب تلك الكالب املتوحشة ،صورة مروعة تعرب
عن بعض ما عاشه اجلزائريون يف مرحلة التسعينات.
03
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
سعت الرواية إىل فضح أبشع أشكال التعذيب اليت ألقتها اجلماعات على الشعب ،فربزت الطرق اخلسيسة
املتبعة إلخضاع الضعفاء يف شخصية "حسني" الذي الذ بالفرار من أيدي اجملرمني ،لكن احلظ مل يكن حليفه إذ
علقت قدمه يف فخ من فخاخ اخلنازير الربية ،فانتشله أحد األفراد من اجلماعة و دون تضميد جرحه ربِ طت عنقه
حببل و جر إىل املقر ككلب ذليل ،مث علق جسمه فوق شجرة و حتته مباشرة أشعِلت نار كبرية و كأنه قِدر
يطهى ،و أغلِق فمه كي ال يص ِدر أي صوت مزعج ،ظل على ذلك احلال إىل أن جف جسمه من الدم و
صعدت روحه إىل السماء ،ليكون عربة ملن حياول ِ
الفرار ،فكان التعذيب و القتل الذي مارسته اجلماعات
االرهابية مبثابة وصمة عار ضلت عالقة بتارخيها.
"عمي العريب" بدوره أيضا ذاق كل أنواع العذاب إىل أن أصبح جسده مغطى باجلروح و الندوب ،كاآلثار
النامجة عن غرز اإلبر يف الوريد و آثار الضرب ...كل هذا بسبب رفضه ارتكاب جرائم القتل و التعذيب و
االغتصاب فذكر الراوي ذلك بقوله « :كان يأمرِين أن أفعل ما يفعلون ،أذبح و أغت ِ
صب و أن هب األموال ،لكين
كنت أرفض كل مرة ف يم ِهلين مث ي ِهلين حىت صار لون الدم جزءا من حيايت ».1
ال يكن إقصاء التالعب باملشاعر الذي طبقته اجلماعات املسلحة يف حماولة هلا لغرس احلنق و احلقد جتاه
احلكومة ،حيث اهتمت احلكومة باقرتاف عدد من املذابح و اجملازر و كذا اختطاف عدد من أفراد الشعب كي
تست ِميل اجلماعات الشعب إىل صاحلها و تدمر ثقة هذا االخري باحلكومة و جيشها ،لكن احلكومة نفت هذه
التهم املوجهة إليها ،و قد جسد "عبد الواحد هواري" هذه الظاهرة يف منت الرواية « :دع ِين أطلِعك على ما مل
تكتشف بعد ،قاتلو عائلتك من احلكومة ،وهم فرقة نطاردها منذ زمن بعيد ،و عندما تواتينا الفرصة لالنقضاض
عليهم سننكل هبم تنكيال ال حتمد عقباه » ،2فعندما استشاط "عمي العريب" غضبا و هاجم قائد اجلماعة
املسلحة الذي قتل أهله و أفراد قريته تلقى النفي من هذه التهم ،حيث نسب "املعلم األكرب" اجملزرة إىل احلكومة
و كان ذلك النفي بغية استعطاف البطل و ضمه لصفوفه بعدما مأل احلقد قلبه .لكن حقيقة اجلماعة كشفت
أمام "عمي العريب" يف فرتة بقائه بينها ملدة ستة أشهر ما أيقظ يف قلبه روح املقاومة و النضال و االنتقام من أعداء
الوطن.
03
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
ساق لنا الكاتب حكاية "عمي العريب" كنموذج للشعب اجلزائري يف ظل الصراع السياسي الذي شهدته
اجلزائر أيام العشرية السوداء حني أصبح اجملتمع اجلزائري يعيش حالة من الرعب و ارتقاب األسوأ دائما.
شكلت هذه اجملازر مظهرا من أبشع مظاهر التعذيب اليت انتهجتها اجلماعات اإلرهابية يف تلك الفرتة
املظلمة اليت مرت هبا اجلزائر (العشرية السوداء) ،فكان القتل و النحر مصري كل من حاول االمتناع عن االنضمام
إليها أو اال نصياع ألوامرها ،و لكثرة أعماهلا املرعبة وقسوهتا علت مالمح أعضائها عالمات تغرس الوجل و
اخلوف يف نفس الناظر إليهم ف ت ِحيط هبم هالة سوداء تعكس الشر القاطن يف قلوهبم ،ولقد صبِغت سيوف هم
بدماء األبرياء وامتألت برائحة العفن و النتانة املنبعثة من دم األعناق املنحورة .وبسبب كل ذلك الظلم الذي القاه
اجلزائريون و من بينهم "عمي العريب" قرر هذا األخري خوض معركته من اجل الدفاع عن وطنه وشعبه من بطش
اجلماعات اإلرهابية و بعدما أشعلت اجلرية الشنيعة اليت ارت ِكبت أمام ناظره نار املقاومة و اجلهاد اجته صوب
اجليش وفضح كل مساعي اجلماعات و كذلك خمابئها وبعض خفاياها و خططها اجلهنمية.
ال يكن إنكار الدور اهلام الذي قا م به اجليش الوطين ،و موقفه الشهم مع الشعب باإلضافة إىل جهوده
اجلبارة للقضاء على اجلماعات اإلرهابية ،وكذا قيامه بعمليات التمشيط حنو القرى خاصة اليت سيطرت عليها
اجلماعات املسلحة و بثت فيها الرعب ،فكان النقيب "أسامة" خري مثال ضربه الكتاب عن أفراد اجليش الوطين
حيث قام خيطط بإحكام واضعا خططا متكنه من االنقضاض على أولئك اجملرمني داخل مقراهتم ،فعكس النقيب
وجنوده صورة حب الوطن املغروس يف قلوهبم مما دفعهم للتضحية بأنفسهم مقابل حتقيق السلم و األمان ،فهمهم
الوحيد هو النضال و القضاء على من عك ر هدوء البالد الذي سلبه الصراع السياسي ،وقد وردت هذه الصورة يف
الرواية عند قول النقيب « :سأنطلق رفقة اجلنود كي ندك معاقل األوباش ،وحنرق األرض اليت حتملهم عن بكرة
أبيها » 1فقسم اجلنود على شكل جمموعات؛ كل جمموعة حتمل جنودا أشداء بساىل و انطلقوا حنو اجلبال ،وبعد
اهلجوم العسكري الذي شنه النقيب "أسامة" قضى على كل إرهايب قاوم اجليش ،و اعتقل العشرات ممن رفعوا راية
االستسالم خوفا من املوت ،و حتررت النسوة األسريات و لذن بالفرار .فتعالت صيحات النصر بعد انتهاء املعركة
و تلقي املعسكر اإلرهايب هزية نكراء ،وعلت مالمح اجلنود الفرحة وهتافتوا بعبارات النصر ،فنجد هنا أن اجلنود
اجلزائريني قاوموا و ناضلوا بكل قوهتم من اجل محاية أراضيهم الطاهرة من مغتصبيها ،جاعلني من أرواحهم درعا
حيمي األرض اليت س ِقيت بدم الشهداء األبرار.
03
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
لقد ذكر الكاتب االنقسامات اليت طالت اجلماعات إىل فرق خمتلفة؛ كل فرقة منها تسعى ألخذ نفوذ الفئة
األخرى و االستيالء على السلطة و احلكم ،حىت لو كان ذلك بأشنع األساليب و أثرها بشاعة حيث سعت كل
مجاعة إىل تلفيق هتم دينية ال تتوافق مع معتقداهتم و التفتيش على مواطن التكفري يف الطرف اآلخر.
كما صورت الرواية استغالل املرأة يف أبشع الصور ملا القته من جرائم شنيعة كاالعتداء اجلنسي و االغتصاب
اجلماعي على أيدي اجلماعات املسلحة اخلارجة عن سيطرة احلكومة ،و تعد هذه اجلرائم انتهاك لألعراف
االسالمية و كذا الدولية .باإلضافة إىل ادعاء اجلماعات اإلسالمية بأن املرأة جيب أن تكون طاهرة عفيفة إال أهنا
مارست كل أنواع االعتداء و االغتصاب ضدها ،فضرب الراوي مثاال عن العقاب الذي القته كل من سولت هلا
نفسها الفرار ،حني حاولت فتاة مراهقة ابنة السبع عشرة سنة اهلرب من بطشها « :و ما إن ضبطوها حىت صار
كل واحد فيهم*يغتصبها مرات و مرات و هي تصرخ بكل ما أوتيت من قوة ،أما أحدهم فظل ممسكا هبا ويقهقه
كأنه يستمتع بعذاهبا » 1يف الفرتة املمتدة بني 1991إىل 1992مت اإلبالغ رمسيا عن 1000حالة اغتصاب
للنساء من قبل اجلماعات املسلحة ،ومن املؤكد أن الرقم مرتفع أكثر فكلنا نعلم أن املرأة تعرضت لإلمهال يف ظل
احتدام الصراع السياسي والعسكري بني اجلماعات املسلحة واحلكومة اجلزائرية.
كما سعت اجلماعات املسلحة إىل ترويج أفكارها اهلدامة وبثها يف صفوف اجلزائريني مدعية أهنا على حق
باستغالهلا اآليات القرآنية وتفسريها حسب أهوائها ومبا خيدم مصاحلها ،معتربة قضيتها قضية دينية ،فسعت
جاهدة لبناء دولة إسالمية قائمة على القتل والنهب وزراعة الرهبة يف نفوس الشعب الضعيف.
أثر تذبذب األوضاع السياسية على املعامل و املؤسسات احلكومية اليت قامت بتسريح عشرات العمال حبجة
األزمة املالية اليت متر هبا اجلزائر فتبنت الرواية هذا الوضع من خالل « :مل تكن األوضاع مبشرة باخلري .يف الشهر
املاضي سرح أكثر من عشرين عامال حبجة الضائقة املالية اليت متر هبا البالد » ،2كما قلت فرص العمل بشكل
كبري وهذا راجع إىل الصراع السياسي يف اجلزائر ،فيقول الراوي « :حىت األشغال الشاقة كانت حمجوزة
ألصحاهبا» ،3ما قاد املواطنني إىل االجتاه األعمال غري الشرعية كتجارة املخدرات وهتريب الوقود عرب احلدود،
03
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
وهذا ما حدث مع شخصية "نذير" الذي سرح من عمله يف معمل احلكومة فدفعته احلاجة إىل هتريب الوقود
العتباره جتارة مرحبة مع أهنا ال َتلو من املخاطر ،وقد رصدت الرواية ذلك « :كان يهرب الوقود عرب احلدود ألهنا
جتارة مرحبة جدا ،ويف نفس الوقت ِجد خطرية » 1مواجها خطر السجن عند وقوعه يف يد أفراد اجليش من جهة،
و خطر املوت إن هو وقع بني أيدي اجلماعات اإلرهابية ،فلخص الراوي هذا الوضع يف الرواية بقوله « :التقى
هبم صدفة عند أحد الوديان لتجد احلكومة يف الصباح رأسه مقطوعا ومعلقا إىل غصن شجرة عالية » 2فالتهم
صراع األحزاب كل شيء ومشلت كل اجملاالت؛ سياسية و اقتصادية ودينية وصوال إىل احلياة االجتماعية ،فأصبح
الوضع يف غاية احلساسية وفقد الفرد ثقته يف كل من حوله ،و اَتذ العنف طريقه يف الشوارع بكل أشكاله ،إىل أن
صار اإلنسان ال يأمن على نفسه حىت من أهله.
تطرق "عبد الواحد هواري" أيضا إىل قضية أخرى مهمة؛ وهي جتارة املخدرات وهتريبها عرب احلدود رغم
احلراسة الشديدة ،ألن املشكلة ال تكمن يف ضعف أو قوة احلراسة بل يف طبيعة احلراس املتواطئني مع هؤالء التجار
غري الشرعيني و تقديهم للمساعدات مقابل مبالغ مالية ضخمة ،فكلما حاولت احلكومة جبيشها مضاعفة
احلراسة أصبحت خطط املهربني أكثر دقة و إحكاما ،كرتقب األيام اليت تكون احلراسة فيها ضعيفة كي تسري
خطط التهريب بسالسة ،فتجلى ذلك يف الرواية من خالل « :سنخصص يوما من أيام األسبوع القادم حني
تكون احلراسة خفيفة على احلدود ،و نستغل اجملازر اليت يرتكبها األوباش يف الغابة كي نصرف عنا نظر احلكومة،
و ها هو ذا صديقي من حرس احلدود يأتينا بكل املعلومات مقابل سعر خاص به » 3فعكست الرواية املؤامرات
احملاكة يف ظهر احلكومة من طرف جتار املخدرات و مبساعدةٍ من بعض أعضاء احلكومة نفسها.
استغل الراوي صفحات روايته ليفضح الفساد الذي ساد احملاكم مبا فيها من حمامني و قضاة ،حيث انتشرا
بينهم احملسوبية و العمالة والرشوة ،ففقدت هذه اهليئة مصداقيتها لنقف أمام هذا احلوار الذي أبدعه الكاتب« :
_حان موعد اطالق سراحه ،اليكننا أن حنبسه هنا أكثر من الالزم ،قد يكتشف املالزم أمرنا.
_لكن اإلتفاق يطالبنا بإبقائه هنا ألكثر من أسبوع.
03
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
_يكفي هذا ،صحيح أن الثمن مغر لكن وظائفنا على احملك ،فإن جاء املالزم ووجده هنا ،اهلل أعلم ماذا يفعل
بنا » ،1كما نستحضر صورة أخرى من صور الفساد اليت وردت يف الرواية « :أما عن مدة حكمك فقد دبرت
لك خطة مع القاضي كي تكون أقصى عقوبة تقضيها يف السجن سبع سنوات » 2فبعدما كان القضاة منصفني و
عادلني يف اطالق أحكامهم ،انقلبت املوازين و أصبح هؤالء هم األكثر ظلما وجورا.
برز البعد السياسي يف الرواية أيضا من خالل تطرق املبدع إىل رصد ما امتازت به السجون -منذ سنة
1991م -من اكتظا شديد بسبب حساسية األوضاع السياسية و األمنية للجزائر ،فكل مدين اشتبه يف أمره
زج به يف السجن ،وقد ظهر ذلك يف الرواية من خالل « :ألنه زمن احلساب ،حيث صارت احلكومة جتر حنو
املعتقالت أي شخص يشتبه به ،فاألوضاع األمنية حساسة جدا » 3فامتألت املعتقالت باجملرمني وغري اجملرمني؛
الذين اشتبه هبم أو من كانت له عالقة مع اجلماعات اإلرهابية من قريب أو من بعيد ،متصدية لكل اخلونة الذين
باعوا وطنهم و أهلهم ليصبحوا عمالء لذى تلك الوحوش اليت التعرف الرمحة ،فأصبحت اإلعتقاالت التعسفية
تقام بصفة يوم ية تصحبها اعتقاالت باجلملة ،لذا امتألت السجون باملعتقلني من مدنيني وحىت بعض السياسيني
الذين تغلغلوا بني صفوف اإلرهابيني خفية .لقد حتدث الراوي عن اكتظا السجون « :شاركين الزنزانة ثالثة
رجال آخرين بسبب كثرة احملبوسني ...كان لنا أربعة ِ
أسرة حديدية حتدث أزيزا يوقظ امليت من قربه » 4فباإلضافة
إىل االكتظا ذكر الكاتب قدم و اهرتاء األثاث املتواجد داخل السجن.
إنه ال يكن انكار أن املعتقالت اجلزائرية خالل الفرتة الدموية اليت مرت هبا قد ع ِرفت بقساوة العيش فيها
مع عدم مالءمتها للشروط اإلنسانية و ال لكرامة الفرد باألخص بسبب ما حتمله املنفردة من أسرار أخفيت عن
احلكومة ،فرمست الرواية ذلك و فضحت البشاعة و الفظاعة الكامنة خلفها؛ حيث كانت ضيقة جدا التسمح
مساحتها للسجني باجللوس و ال النوم ،تفوح منها رائحة النتانة جراء تبول املعتقلني على أنفسهم طول فرتة
العقاب ما جعلها جد مقرفة « فقد كانت وسط حيز حجري مساحته ال تتجاوز مرتا مربعا ،حيتوي على عدة
زنزانات ضيقة جد ا ،حىت ال يتمكن السجني من اجللوس و يضل طوال مدة عقابه واقفا على رجليه يقضي
حاجته على نفسه إن اضطر إىل ذلك ،تنبع ث منها رائحة كريهة و اإلضاءة فيها شبه منعدمة ،اذا ما حل الصباح
03
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
بصقيعه جيمد قطرات الندى القابعة يف السقف املغلق بالزنك » 1فهو مكان مقرف و مظلم حيث اجتمعت به
كل صفات البؤس ،كما انعدمت فيه كل املقومات اإلنسانية فكان شبيها بقفص احليوانات ،فوضح الكاتب عمق
معاناة املعتقلني اجلزائريني ما عرضهم إىل أزمات نفسية متفاوتة اخلطورة.
مل يغفل الراوي عن ذكر نوع آخر من أنواع العنف ،و الذي مارسه حراس املعتقالت حني سلط هؤالء
احلراس جل حقدهم و غضبهم على املساجني ،فلم ييزوا بني ظامل أو مظلوم بل رموا اجلميع بنظرات حقرية
دونية ،معتربين كل سجني جمرم ال قيمة له بل جمرد عاهة اجتماعية ،فذكرت الرواية ذلك « :داخل هذا املكان،
هذا املكان احلقري ،جمرد جمرم القيمة له بني طبقات اإلنس ...مههم أن خيمدوا نار فشلهم يف خطئك أنت
كإنسان مغاير ».2
مث انتقل الراوي إىل ذكر بعض املمارسات التعسفية األخرى اليت انتهجها احلراس يف حق السجناء و أسرهم،
كمحاوالت االعتداء على الزائرات؛ سواء بلمس أماكن حساسة من أجسادهن أو رميهن بنظرات شزراء حيوانية
َترتق ثياهبن ،فكان هذا املوقف صعبا على أزواج و آباء و إخوان النسوة « :كان حوهلا حارسان يتغزالن هبا
ويتسامران حوهلا و الريق يسيل من أفواههما حني يعنان النظر يف طبقات جسدها ،ظل أحدهم يالمس يدها و
هي تبتسم غري مكرتثة لألمر ،و اآلخر يريد التهامها » ،3و يورد الراوي مقطعا آخر يظهر فيه عالمات الغضب
اليت اجتاحت السجني بعدما رأى مراودة احلارس لزوجته « بانت على مالحمه أمارات الغضب الشديد ،ملح
احلارس و هو يراودها عن نفسها » ،4و استمر استفزاز احلراس للزوج "الواسيين" حني جاءه أحدهم شاهرا أمامه
صورة خليعة لزوجته إبان ممارستها الرذيلة معه ،فذكر الراوي ذلك يف نصه « كان احلارس قد أشار إليه بصورة
خليعة لزوجته اليت مارست كل أنواع العقاب يف حقه إثر غيابه » 5ما دفع ب "الواسيين" إىل إهناء حياته « وجدنا
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
الواسيين معلقا حببل يف الركن األيسر من الزنزانة » 1و زاد انتحار "الواسيين" كره و حنق املساجني على احلراس «
حىت طعن أحدهم احلارس املعين مبا حصل للمنتحر و تركه صريعا مقتوال ».2
3
« فرق كبير بين أن تعيش في السجن و بين أن يعيش السجن فيك »
جنيب الكيالين
حيمل اجلزائري هويته أينما حل كبصمة أمل ال يحوها الظلم و ال التعسف فصور "عبد الواحد هواري"
شخصية "نذير" املقاوم و البطل الشجاع ،مسلحا بالصرب و الثبات رغم تكبيله بني جدران السجن ،يقف موقف
الرفض من تلك املمارسات اجلائرة ضد السجناء.
مبا أن األمية فرضت نفسها يف اجلزائر بعدما فرغت مقاعد الدراسة بسبب األوضاع السياسية الصعبة اليت
مشلت كل املستويات :اقتصاديا ،سياسيا ،اجتماعيا وحىت ثقافيا .لذا حاول "نذير" طمس معامل اجلهل و األمية
يف عقول السجناء بتعليمهم القراءة و الكتابة ،و تثقيفهم و إنارة عقوهلم ،فيقول « :اَتذنا حنن الثالثة من املكتبة
منزال جيمعنا ،كنت أوجههم حنو مطالعة ما يفيدهم فتجاوز اهلواري كل العقبات بإرادة و صرب شديد ،حارب
أزمته و صار يقرأ من الكتب و يسأل أسئلة النجباء ».4
فلم يكن النضال نضال سالح فقط ،بل تعدى ذلك إىل نضال عقول واعية ،و إنشاء فئة مثقفة التنخدع
باحليل و ال تنطلي عليها التلفيقات ،لتعي احلقائق بعقل واعي مدرك هلا .فأصبح السجن مالزما اجلسد ألن
العقول ال حتدها اجلدران ،ليعرب الراوي هنا عن عظماء خلدت أمساؤهم بني القضبان « :غري أين مل أكن
مستسلما وال يائسا ،كنت من الذين يبحثون عن نسمة أمل يف أحلك البقاع ،تذكرت أن شخصيات كبرية كتبت
يف السجن أسطرا خالدة يف التاريخ ،فابن سينا كتب رسالة حي بن يقضان و هو أسري خلف القضبان ،و ابن
اهليثم نبغ بنظرية الضوء بعد أن تأمل استقامة الشعاع املنبعث إىل زنزانته عرب فجوات الباب ،و هتلر سطر فلسفته
بكتابه كفاحي الذي أهلك به األمة ،وغريهم الكثري .5» ...فعكست هذه السطور الوعي الذي حتلى به الكثري
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
من اجلزائريني « :سجين مل يكن يف زنزانيت و حضري من اخلروج ،بل كان يف عدم احلفر يف ذايت و البحث عن
الكنوز املطموسة يف داخلي » 1فقد كان "نذير" ذا قلب شجاع شهم فتغلب على الصعاب يف أحلك الضروف.
رمست الرواية مناذج ألبطال و رجال كان النضال عنواهنم ،و الظلم عدوهم اللذود ،ومن بني الشخصيات
اليت برزت بقوة يف الرواية جند "نذير" و "عمي العريب" كعينة ملاليني الناس يف اجملتمع اجلزائري الذين حتلو
بالشجاعة و البسالة ،ناضال و حاربا مضحيان بنفسيهما ألجل الدفاع عن اجلزائر واحلفا على اهلوية ،فتحديا
كل الصعوبات كاجلرائم الوحشية اليت طبقتها اجلماعات املسلحة عليهما.
و لقد رصد "عبد الواحد هواري" املظاهر السياسية اليت سادت اجلزائر يف سنوات الدم بأشكاهلا املختلفة ،و
كذا واقع ا لصراع بني احلكومة و اجلماعات املسلحة من أجل الفوز بكرسي احلكم و نيل السلطة ،حني كان
الشعب اجلزائري هو اخلاسر الوحيد و األكرب يف ظل هذا الصراع ،فعمل الراوي على تقريب صورة الواقع إىل ذهن
القارئ مستمدا أحداثه من احلقيقة ،و تطرق إىل أبرز النقاط املهمة بصورة واقعية حية و دقيقة جسدت معاناة
الشعب اجلزائري يف خضم احتدام الصراع بني السلطة و اجلماعات اإلرهابية املتطرفة.
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
متيزت الرواية بتسلسل عدد من اخلطابات بني صفحاهتا ،فتنوعت بني خطاب سياسي و آخر اجتماعي و
ديين ،...إذ ال َتلو معظم الروايات منذ القدمي من جتلي هذا األخري -اخلطاب الديين -بشكل واضح ،ولقد
شغل البعد الديين يف الرواية بال العديد من النقاد من مثل" :إبراهيم عبد اجمليد" و "ودناين بوداود" ...و غريهم
من النقاد ،مولِينه اهتمامهم بالنقد و التحليل ،حيث أصبح الناقد يفتش و يقلب عن أفكار الكاتب الدينية و
توجهاته األيديولوجية من خالل أعماله األدبية ،كما هو احلال مع العديد من الروائيني اجلزائريني الذين شغِل
مبؤلفاهتم عدد كبري من النقاد ،مفتشني عن مواطن أفكارهم و منقبني عن األبعاد الدينية اليت تب ن وها عرب سطور
الرواية ،حيث أثارت كتاباهتم جدال واسعا نقديا و قِرائيا ،و من الروائيني اجلزائريني الذين جسدوا البعد اللديين يف
أعماهلم" :أمني زاوي" و "رشيد بوجدرة" و "واسيين األعرج" ،لكن "سيزا قاسم" رفضت نسب األيديولوجيا اليت
تتسم هبا الشخصية إىل الكاتب نفسه ،معقبة على ذلك بقوهلا « :و عندما نتحدث عن املنظور األيديولوجي هنا
فإننا نفرق بني الكاتب و العمل األديب .إذ أننا ننظر إىل العمل األديب ككائن له استقالله عن مؤلفه و حنرص
على عدم اخللط بينهما .و جيب أن ينسب املنظور األيديولوجي هنا إىل العمل نفسه ال إىل املؤلف سواء وافقه يف
الواقع أم خالفه ».1
لقد شغل موضوع الدين يف الرواية الكتاب و األدباء املبدعني ،إىل أن أصبح األديب نفسه يسعى جاهدا
إىل توضيف اجلانب الديين عن قصد ،كونه جزءا ال يتجزأ من الواقع املعاش الذي تتدرج حتته موضوعات الرواية،
و واقع احلياة االجتماعية ال ينفصل عن احلياة الدينية مببادئها و قيمها و مبا أن الرواية هي مرآة للمجتمع فالبد هلا
أن تعكس املظاهر االجتماعية الواقعية عرب صفحاهتا؛ من مبادئ و عادات و تقاليد و أفكار ضمن قوالب روائية
إبداعية ،و منه فإن النص الديين شكل ثراءا أدبيا واسعا عرب ممختلف الثقافات الغربية و العربية ،و كان كل من
القرآن و السنة أبرز األشكال الدينية ال متمظ ِهرِة يف الرواية العربية بشكل عام و اجلزائرية بشكل خاص ،باعتبار
الدين مصدرا ثريا من املصادر الداعمة للنص األديب ألن القرآن الكرمي نص مقدس و جمسد لكل مظاهر احلياة
العامة و اخلاصة.
-1سيزا قاسم :بناء الرواية-دراسة مقارنة يف ثالثية جنيب حمفو ،مكتبة األسرة ،د.ط ،7003 ،ص . 191
30
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
لقد سجل النص الديين حضوره الدائم يف الرواية العربية املعاصرة ،كما هو احلال يف رواية "يف كل قرب
حكاية" للجزائري "عبد الواحد هواري" ،الذي ذكر يف فصول روايته الطرق اخلسيسة اليت استغلتها اجلماعات
اإلرهابية امل سلحة للتأثري على الشعب اجلزائري بغية دعمه هلا و التفافه حوهلا ،و كان هذا كنتيجة لالنكسار الذي
حطم حاجز التوافق بني السلطة و اجلماعات املسلحة ،ولقد جنم عن هذا االنكسار اختالف اآلراء و
األيديولوجيا؛ فمن جهة كانت هناك سلطة يسعى جيشها إىل التحكم بزمام األمور ،و حماولة حتقيق االستقرار يف
البالد متفادية بذلك التشدد االسالمي و إقحام الدين يف السياسة ،و من جهة أخرى ظهرت اجلماعات املسلحة
اليت كان مهها الوحيد هو الوصول إىل السلطة و الرتبع على كرسي احلكم مع مطالبتها بتشكيل حكومة إسالمية،
لكنها اَتذت االسالم كذريعة التساع نفوذها و استقطاب اجلماهري الشعبية و كذلك مضاعفة عدد األصوات يف
االنتخابات لتحقيق الفرز ،فاستغلت اجلماعات اإلسالموية -اإلرهابية -اإلسالم استغالال بشعا ال يت للدين
احلقيقي بأي صلة ،و ذلك بتأويلها اآليات القرآنية حسب ما خيدم مصاحلها و ما يستميل نفس الشعب
اجلزائري ،و لقد بلورت الرواية ذلك على لسان شخص "عمي العريب" إبان اعرتافه للنقيب "أسامة" عن قائد فرقة
اجلماعة املسلحة املسمى ب "املعلم األكرب" قائال « :كان معلمهم يكلمهم عن أشياء حمددة يف االسالم ،و يتع
رغباهتم اجلنسية بقصص يفرتيها عن الدين ،يذكر ما خيدم مصاحلهم فقط و ي ؤول اآليات القرآنية على حسب
هواه » .1مما دفع باألحداث لتغيري جمراها من صراع فكري يهدف إىل إقامة دولة إسالمية خمالفة للغرب ،إىل صراع
سياسي متطرف يقوم على استخدام الدين كوسيلة مساعدة لتحقيق ما تصبوا إليه اجلماعة.
قامت اجلماعات اإلرهابية بتأويل النصوص القرآنية بشكل سطحي دون التوغل يف معانيها احلقيقية أو
التفتيش عن مقاصدها الشرعية احلقة ،فأدت هذه التأويالت الشاذة إىل الفهم اخلاطئ للقرآن ما ساق العديد من
الناس إىل ممارسة الرذائل حتت اسم الدين كعمليات اختطاف النساء باعتبارهن سبايا ،و االغتصاب حتت ما
يسمى االغتصاب اجلهادي ...و غريها من املمارسات العنيفة و البشعة بتوجيهها للدين حنو منحى منحرف و
متطرف.
مبا أن األمية مست غالبية اجلزائريني يف تلك الفرتة فقد سهل خداعهم من طرف تلك اجلماعات ،وقد برز
ذلك يف الرواية و يف العديد من احملطات منها « :دخل املعلم خيمته و تبعه وزيره و ابتسامة ماكرة تعلو حمي يهما،
قاما بتنبيه اجلميع.
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
إىل جانب خبث و مكر اجلماعة ب رز جانب آخر و هو ممارستها لطرق الرتهيب و التخويف و الوعيد
لكل من حاول االنسحاب من صفوفها أو االمتناع عن طاعتها و خرق أوامرها ،فجسد "عبد الواحد
هواري" هذه الطرق يف الرواية من خالل حماوالت "املعلم األكرب" استعطاف "عمي العريب" هبدف ضمه إىل
صفوف القيادة ،و ما إن حاول هذا األخري الرفض و جتنب االذعان ألوامره حىت تلقى إجابة صادمة دبت
الرعب يف أوصاله حني أجابه ب « :إن فعلت ذلك كنت عدوا لنا ،و يلزمنا القانون بنحر عنقك و رمي
جثتك للكالب كي تنهشها ألنك مبثابة مرتد و املرتد يقتل.
-مرتد! كيف أكون كذلك و أنا مل أغري ديين ؟
زاد املعلم من حدة كالمه و مسح من شفتيه تلك االبتسامة اخلبيثة ،و قال بلهجة احلزم و احلدة.
-ها أنت جتادل يف دين اهلل ،كفاك عنادا ،سلم لنا نفسك تسلم من خناجرنا .نرفع من شأنك و تصري
جنديا من جند اهلل ،هذه آخر فرصة لك.
وضع أحد األوباش طرف السيف أسفل عنق العريب.
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
-نعم ..نعم ..أنا معكم » .1فمارس قادة اجلماعات طرق التخويف و الوعيد ليؤازرهم الشعب.
كشفت الرواية عن املكونات النفسية و الفكرية للشخصيات ،فتجلت النفسية يف حالة الالوعي و البالدة
اليت اتسم هبا الشعب اجلزائري و استغلتها اجلماعات اإلرهابية ،مصوبة سهامها جتاه فئة الشعب الضعيفة و األمية
و كذلك بعض املنحرفني ،و قد رصدت الرواية بعض من التحق باجلبال و أسباب انضمامه للجماعات من
خالل « :كنت سكريا أهيم يف الشوارع و أتسول األغنياء قدر ما أروي به عطشي من اخلمر املعتقة و مل يكن
أحد يعريين أمهية حىت مسعت هبذه احلركة اجلهادية » 2اليت استدرجت املدمنني و أصحاب الثأر و غريهم...
أما التجلي الفكري فبلورته الرواية بوضوح تام من خالل ظن العديد من اجلزائريني أن هذه احلركة اجلهادية
تسري على خطى الدين احلق ،و معارضها يعتربه االسالم مرتدا و كافرا بدين اهلل ،و هذا سبب انضمامهم إىل
صفوفها لكن عندما اكتشف أحد أفراد احلركة حقيقة هذه اخلديعة و أزال اللثام عنها و أظهر احلقائق اخلفية
أصاب اجلميع الذهول يف حقيقة هذه احلركة « ،فبعد أن كان يعتقد أهنم جمموعة من العلمانيني (أفراد اجليش)
الذين ال يفقهون يف الدين شيئا ،ذهل إذ وجد نفسه غري واع بالدور الذي يؤديه » 3فاكتشف أن اجلماعات
أضلتهم و أخفت عنهم احلقائق بعد ممارستها التعتيم الديين ،و تربير أعماهلا الوحشية بطرق خسيسة.
بدأ نشاط التيار اإلسالمي باالزدياد ،فانتشر العنف و التعسف بكل الطرق؛ التعذيب و القتل ،...فرصد
الراوي مظاهر التعذيب و الظلم من خالل مشهد قوي يعكس الدموية و الوحشية اليت وصلت إليها اجلماعات
عندما عثرت على زوجني يف شاطئ البحر فاهتمتهما بالفاحشة و دون وجه حق « .أنظروا إىل أهل الطاغوت و
الفسق إهنما حياربان ديننا احلنيف و يتحديانه ،هلم بنا كي نستأصل حقارهتما...
-أال َتجل من نفسك يا هذا ؟ أحتارب ِدين اهلل بارتكاب الفاحشة ؟
-عن أي فاحشة تتحدث ؟ إهنا زوجيت...
-يالك من كاذب ،فاحشة الزنا و الكذب معا ،ما أحقرك! هيا يا رجال فلنطبق الشرع عليهما ،أمسكوا
هبما ».4
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
حاولت احلركات اجلهادية أن تظهر مبظهر إجيايب أمام اجملتمع فتبدو عفيفة خالية من الشوائب اليت نقلها
الغرب إىل اجلزائر ،فسعت إىل االنسالخ من املظاهر الغربية و إزالة مبادئها من اجملتمع اجلزائري ،كممارسة الضغط
على النساء و إجبارهن على ارتداء احلجاب ،و كذا إطالة اللحي لذى الرجال ...و غريها من املظاهر اخلارجية
السطحية اليت أفرغ باطنها و احتفظ باهليئة اخلارجية يف حماولة منها إىل إنقاذ اجملتمع اجلزائري من الكفر و الردة
-حسبهم -فاعترب أعضاء اجلماعات املسلحة أنفسهم خمريين و من أفضل خلق اهلل بقوهلم « :إننا فرسان اهلل
فوق األرض ،نرفع راية الدين عاليا » ،1وما رفعوا راية الدين بل شوهوه و أظهروه يف أبشع الصور للعامل ،إىل أن
أصبح الغرب يربط بني اإلسالم و اإلرهاب معتربين إياه واحدا « ،فكيف هلؤالء أن يسموا إسالميني ؟ ال واهلل إن
الدين بريء منهم و من أفعاهلم » ،2و من خال هذه التساؤالت اليت طرحها الراوي برزت توجهاته و اهتماماته
مبيله إىل إظهار اإلسالم احلقيقي و الدفاع عنه من التشويه الذي طاله.
واصل اجلهاديون استغالهلم للدين فمارسوا سياسة غسيل الدماغ على اجلزائريني باسم الدين ،فحطوا رحاهلم
يف املساجد و الزوايا و كذا الساحات العمومية ،إضافة إىل خطبهم أيام اجلمعة الداعية إىل العنف و التطرف
كخطبة علي بلحاج حني قال أن املصدر الوحيد للحكم هو القرآن و إذا كان اختيار الشعب منافيا للشريعة
اإلسالمية فهذا كفر و إحلاد.
اعتلت اجلماعات املنابر يف وقت كانت فيه مقدسا حيتل الصدارة يف قلوب الناس -فإقامة اخلطب مل تكن
مقتصرة على إمام املسجد فقط ،فمن أراد ذلك ما عليه إال استشارة اإلمام -فأقامت خطبا دينية هدفها األوحد
و الوحيد استعطاف الشعب و ضمه إىل صفوفها لتفوز باالنتخابات ،فلم يكن مههم التوعية و النصح و ال
الدعوة إىل اإلسالم .فما كان الراوي يغافل عن ذكر هذه النقطة احلساسة اليت لعبت دورا فعاال يف تضليل الناس و
انزياحهم عن الطريق الصحيح فيما خيص الدين ،فجاهد "عبد الواحد هواري" إىل تعرية األهداف احلقيقية اليت
تسعى اجلماعات إىل حتقيقها من خالل اخلطاب الديين الذي أثبت فعاليته على املدنيني فطلب "املعلم األكرب"
من "مصعب" كتابة خطبة يعمي هبا بصرية اجلزائريني يف الساحات العمومية اليت اشتهرت هبذا النوع من اخلطب:
« أكتب يل خطبة أشجع هبا هؤالء ،فأنت تدرك أن مستواي ضعيف يف خطاب كهذا ،و ال تنسى أن تشدد
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
على الفكرة اليت مفادها أن ما نفعله هنا يقودهم حنو اجلنة دون حساب و عقاب ينالون فيها ما يشاؤون مما
يشتهون » 1يف حماولة من القائد إىل استحواذ العقول.
مل يكتف اجلهاديون باالرتياد على املساجد و الزوايا ،فأنشؤوا اجلمعيات اخلريية و فرق للكشافة اإلسالمية،
و أقاموا نشاطات ت وع ِوية تتزين باإلسالم إضافة إىل استعمال شعارات زائفة و مغرية مثل" :البلدية اإلسالمية" و
هو أول شعار رفعت رايته و غريها من الشعارات األخرى .استهدفت اجلماعات الساحات العمومية لتوطيد
العالقة مع الشعب بالتواصل املباشر معه و مبختلف طبقاته خاصة الفقراء و املضطهدين ،فتحول الصراع من تيار
فكري إىل تيار سياسي مستغال الدين أيا استغالل.
رغم القوة اليت استحوذت عليها اجلماعات املسلحة و سيطرهتا على العديد من القرى و األحياء إال أن
هناك بعض النقاط اليت هتاهبا و َتشى على نفسها منها كاإلعالميني ،فبما أن اإلعالم كان الوسيلة األوىل اليت
تسعى إىل إنارة عقول الشعب و توعيته عرب نقل اإلخبار بدقة و موضوعية فبث هذا الوعي الذعر يف احلركات
اإلسالموية فأحست باخلطر ،لذا كانت ردة فعلها قاسية دموية و وحشية بعدما سعت إىل القضاء على هذه الفئة
اإلعالمية املثقفة بأبشع الطرق ،فاهتمتها بالعمالة لصاحل احلكومة و رمت عليها خمتلف التهم كالتكفري و الردة و
الكذب ،لتكون هذه ا لتهم مربرا هلم على ممارساهتم الوحشية جتاه اإلعالميني و الصحفيني ،و لقد جتلى ذلك يف
املنت الروائي من خالل « :داخل مطعم الثكنة العسكرية و على صوت التلفاز الذي أعلن بدأ أخبار املساء ،كان
اجلنود جالسني يربق من أعينهم شعاع التفاؤل على ما جاء فيها من أنباء جديدة قد تنقشع هبا سحابة احلرب
القذرة...،مل يتبق إال صوت املذيع الذي قام حيدث الناس ملدة قصرية حىت أجهش بالبكاء وسط البث
املباشر ...معربا عن أمله الشديد باملصاب الذي حل بزميله يف األخبار و الذي وجد مذبوحا قرب منزله حبجة أنه
طاغوت ».2
بعد حتول الصراع الفكري إىل صراع أيديولوجي تأزمت األوضاع الداخلية للبالد ،فوقف الشعب اجلزائري
حمتارا بني طريف الصراع ،أيهما صادق ؟ و ما هي احلقيقة خلف هذا الصراع ؟ و لقد انبثقت هذه اإلشكالية من
خالل حماولة كل منهما رمي التهمة على األخرى ،و رفضها و إقصائها وصوال إىل تشويهها ،و تكفري كل واحدة
لألخرى ،و لقد صور الراوي ذلك فيما يلي « :لقد أومهونا أنكم تبغون اخلراب لبالدنا و تريدون أن ِحتلوا احلرام،
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
و أنكم ال تفقهون يف الدين إال قوالب مائعة » 1و كذلك « ألبسوا األمر ثوب الدين و صارت كل فرقة منهم
تتهم األخرى بالكفر و َتتلق عنها شيئا غري متوافق مع اإلسالم » 2متخفية خلف قناع املصلحة اخلاصة فيقول
"عبد الواحد هواري" يف روايته « :صرت أدرك اآلن أهنا حرب مصاحل ،ال هي علمانية و ال إسالمية » ،3ومن
أبشع التجليات الدينية اليت سارت اجلماعات املسلحة على هنجها هي تعميمها فتوى القتل ،فلم يسلم أحد من
اآلخر و ال األخ من أخيه.
كما ظهر البعد الديين يف الرواية من خالل استهالل الكاتب الرواية باحلديث عن والده الذي يوقظه بشكل
دائم ألداء صالة الصبح مناديا إياه "حي على الصالة" و مل يطأ التعب قلبه ،و مل يضجر من إقامة أبرز شعائر
اإلسالم اليت أمر هبا اهلل و حث على االصطبار يف أدائها ،فقال الراوي « :ألكثر من عشرين سنة ،بعد كل أذان
صبح يقرع باب غرفيت ،يناديين هلم إىل الصالة ،دون ملل أو كلل » 4وكان هذا مظهرا من مظاهر العبادة و
التقرب إىل اهلل ،و ما إن أبدى الراوي نوعا من االمتعاض و االستغراب من صرب والده عليه مع مداومته على
إيقاظه يوميا حىت تلقى إجابة مفادها « :قال يل مرددا قوله تعاىل" :و أمر أهلك بِالصالةِ و اصطِرب علي ها"،
حينها كففت عن السؤال و رأيت مالمح العظمة يف مكامن السجود املشعة على جبهته » ،5فحققت الرواية
استجماعا لآلليات احلضارية للمجتمع املسلم املتمسك بدينه أيا متسك ،و أدائه شعائر اإلسالم حبذافريها و متثل
هذا يف تدريب األب أوالده على إقامة صالة الصبح يف وقتها ،و مبا أن الرواية هي صورة للمجتمع فانعكاس
اجلانب الديين فيها أمر البد منه.
و من مظاهر العبادة اليت تعرضت هلا الرواية صالة اجلماعة اليت جتمع بني الناس يف مكان واحد و حتت
اسم دين واحد ،ليجمعهم هذا اللقاء على حب اهلل و الرضوخ له ،و يواصل "عبد الواحد هواري" جتسيد هذه
املظاهر يف روايته و الدعوة إىل التمسك بالصالة و هي أهم شعائر اإلسالم فيتغلب هبا الفرد على املرض و احلزن
و تزيل آثار الرعب اليت دبت يف أوصاله « .مل أكن أهتم يوما بفكرة املرض ...فكنت أضل ساهرا متضرعا إىل
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
اهلل ...و ما إن يصبح الصباح حىت تستجاب دعويت و زيادة » ،1و يواصل الراوي إبرازه جتليات الدين من خالل
مظاهر الصالة ،باستحضار صورة صلوات خمتلفة كصالة اجلمعة و صالة اجلنازة و الفجر ...إىل جانب تالوة
القرآن الكرمي فكانت "عبري" حيب مساع تالوة اللقرآن من زوجها فكثريا ما تطالبه بقراءة سورة الرمح ' ن ألن هذه
السورة أشعرهتا باألمان الداخلي الذي خيفف مهومها.
كما يشكل احلجاب أهم نقطة دينية تطرقت إليها الرواية كونه عمادا من أعمدة اإلسالم و حتمية ال بد
منها ،و متحور ذلك مع شخصية "أمينة" حيث أظهرها الكاتب بلباس حمتشم مرتدية احلجاب « بلباس أسود
طويل الكمني ساتر جلسدها ،و مخار أزرق مائل إىل السواد خيفي شعرها األسود الفاحم ».2
فقد حتقق يف الرواية بروز اخلطاب الديين ما يقود الناقد إىل التقاط مظاهر اإلسالم يف الرواية و انعكاس
ثقافته اإلسالمية من خالل النص و حترك الشخصيات يف متنها ،فانعكست قوة اإليان و الصرب و الرضى بقضاء
و قدر اهلل الذي جسده كل من "عمي العريب" و "نذير" و "أمينة" و "عبري" حني كان إياهنم و متسكهم
باإلسالم أقوى من املصائب اليت أملت هبم.
لقد جسدت الرواية األزمة اجلزائرية بكل أبعادها و جتلياهتا و بكل واقعية و مصداقية ،فطرحت
األيديولوجيات املتضاربة و املتناقضة ،خطت الرواية بأسلوب مبدع تسيطر عليه الواقعية بكلمات فنية رمست
األعمال الوحشية اليت مارستها اجلماعات اإلسالمية على الشعب اجلزائري مستغلة يف ذلك الدين ،كانت العشرية
السوداء عبارة عن سنوات مل يكن يعبد فيها اهلل حيث اختفت كل معامل اإلسالم ،إرهاب إسالموي زرع بذوره يف
اجلزائر فانتشر الدمار و القتل و سفك وحشي للدماء حني انتهك حرمة الشعب؛ فاغتصب و دمر و قتل و حرم
اجلزائريني من حريتهم باسم الدين.
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
نالت املرأة نصيب وفريا من الدراسة و االهتمام من قبل النقاد و الدارسني و األدباء على حد سواء ،و نظرا
للدور اهلام الذي تؤديه يف اجملتمع أصبحت املرأة قضية حساسة ،و باعتبارها جزءا ال يتجزأ من اجملتمع فقد
أخذت على عاتقها مهمة التعبري عن قضاياها و آرائها و كذا نقل معاناهتا داخل اجملتمعات العربية و خاصة
اجلزائرية ،بسبب الوضع املتشظي الذي مرت به اجلزائر يف مراحل زمنية خمتلفة ،فربز صوت املرأة يف الرواية عرب
خمتلف امليادين :سياسية و ثقافية وحىت اجتماعية ،مما أدى إىل جتلي انعكاس املرأة يف الرواية بشكل كبري مع عدد
من املبدعني اجلزائريني من مثل " :أحالم مستغامني"" ،أمني زاوي" و "واسيين األعرج" ...وغريهم.
لقد تطرق الروائيون اجلزائريون إىل إظهار الدور الذي لعبته املرأة اجلزائرية يف فرتات االستعمار و كذا
الصراعات السياسية؛ متمسكة مببادئها مدافعة عن قضيتها الوطنية و مقوماهتا االسالمية جنبا إىل جنب مع
الرجل ،فكانت مقاتلة ،حكيمة ،مناضلة و مربية أجيال ،فاستخدمت يف الرواية كرمز حيمل أيديولوجيا معينة
بصورة فنية إبداعية.
باإلضافة إىل الدور الفعال الذي لعبته املرأة يف اجملتمع فقد كانت املرأة اجلزائرية و كغريها من العديد من
النساء العربيات تعاين تسلط النزعة الذكورية و ما يعقبه من ظلم و قهر و قمع ،من طرف األخ و األب و الزوج
وقد دأب هذا األخري بشكل خاص على ممارسة شىت أنواع الظلم عليها كالسب و الشتم و الضرب وحىت املوت
يف بعض األحيان ،فكان العنف من قِب ِل الزوج -حسب معتقداهتم -إثباتا لرجولته يف األسرة و اجملتمع ،فساقت
هذه املظاهر الكاتِب إىل إيراد أنواع عديدة من العنف املمارس على املرأة عرب روايته "يف كل قرب حكاية" ،فكانت
شخصية األم "فاطنة" عينة واقعية ،حيث رصدت الرواية صورة العنف الذي موِرس ضدها من طرف زوجها الذي
ك ان يضرهبا ضربا مربحا ملقيا عليها وابال من الشتائم اليت جترح كرامتها كامرأة « ،اليت اهنال عليها والده بالضرب
و األذى ،و السب و الشتم » ،1فحملت هذه الشخصية صفات املقاومة و القوة و الفطنة و مل تدع اجملال
للممارسات اجلائرة أن تكون نقطة تضعفها.
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
لكن العنف األسري له امتدادات نفسية و جسدية على األوالد ،و متحورت االثار اجلسدية يف "العريب"
حني حاول إنقاذ والدته من بني يدي والده املستبد فتلقى ضبة من هذا األخري تركت عينه مفقوءة ،فيورد الراوي
ذلك يف « :حني دافع عن أمه اليت اهنال عليها والده بالضرب واألذى ...فلطمه ذات يوم و تركه ساقطا على
األرض يناجي والدته بأمل احتد عليه ،و حني رفع رأسه تفاجأ بعينه مفقوءة بعد تلقيها ضربة بعصا خشبية
صلبة » 1فكانت أعمال العنف داخل األسرة خطرية من مجيع النواحي خاصة عندما يتمركز الضرر األكرب يف
تلك الفئة اهلشة من األطفال اليت حتطمها األعمال اجلائرة.
تضاعفت اجلرائم ضد املرأة يف تسعينات القرن العشرين من طرف اجلماعات اإلرهابية املسلحة ،حني
مارست أبشع اجلرائم يف حق النساء اجلزائريات دون اهتمام لسنهن و مكانتهن يف اجملتمع -ابنة ،زوجة ،أم،-
فتعرضت املرأة للضرب و االهانة و االغتصاب و حىت القتل بطرق وحشية.
ولقد ظهرت هذه املمارسات يف الرواية مع األم "فاطنة" أيضا -تعرضت للعنف األسري و اإلرهايب معا -لتكون
هي األخرى عينة من قلب اجملتمع الواقعي ،فعلى الرغم من كوهنا عجوزا مريضة طرحية الفراش ال تقوى على الدفاع
عن نفسها إال أن اجلماعات ببشاعتها مل تسمح هلا باملوت مرتاحة بل قامت مبعاملتها كاحليوانات -أعزكم اهلل،-
حيث جرها أحدهم من شعرها فاخرتقت األرض حبجارهتا و أشواكها جسد العجوز النحيل ،و ظهر ذلك يف
الرواية من خالل ... « :العجوز فاطنة و هي حتتظر بعد أن سحق املرض قلبها ،رغم ذلك ،مل حين قلب أحد
من أولئك السفلة عليها ليرتكوها تنام يف مرقدها األخري بسالم بل جروها من شعرها كحيوان بري ،و أسقطوها
أرضا ،ال يدري أحد يف الكون ما ذنب تلك العجوز املسكينة » ،2كانت هذه واحدة من أسوء مظاهر الظلم
اليت مارستها اجلماعات املسلحة ،لكن هذه االعمال البشعة مل تضعف املرأة و مل ينل اخلوف من قوهتا بل زادها
عزية و اصرارا على جماهبة األعداء ،فبعدما غرز أحد الطغاة السيف يف صدر العجوز رمته بكلمات قوية قوة
الرصاص هزت ثقته بنفسه ،رفعت اصبعها إىل السماء قائلة « :أنا سأموت عليها أما أنتم فتلتهبون بسببها.
-أشهد أن ال إله إال اهلل ،و أشهد أن حممدا رسول اهلل 3» -ما زاده غيظا و حقدا اذ كان وقع هذه الكلمات
على نفسه قويا ،ما جيعلنا نالحظ أن الراوي حاول رصد جتليات املرأة خاصة يف دائرة الظلم و العنف اليت
أحاطت هبا غري غافل عن جوانب قوهتا يف مقاومة الظاملني و لو بكلمة َتدش مسامعهم أو موقف حيط من
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
كياهنم ،اذ وقفت املرأة اجلزائرية شاخمة يف زمن كان يف الشموخ من شيم الرجال إال أهنا شاركته ذلك ،فدافعت
عن شرفها حىت املوت.
انتقلت املرأة من شخصية ضعيفة تعاين تسلط اجملتمع الذكوري مبمارساته التعسفية إىل شخصية حماربة و
مكافحة و متمسكة مببادئها و مقوماهتا ،فاملرأة « تعيش وضعا انتقاليًّا بني ذاهتا و بني وضعها و وضع آخر تتطلع
إليه و بني جمتمعها كما هو ،فهي تعي هذا االنتقال و تتقصده و تكافح من أجله » ،1وهذا االنتقال كان له
حضوره يف الرواية عندما حاول أحد أفراد احلركة اإلرهابية االعتداء على "خدجية" أمام مجيع سكان احلي إال أهنا
« وقفت صامدة ولطمته بيمناها مث بصقت على وجهه ...شهر بندقيته يف وجهها لتهابه و تنصاع ألمره فلم
يزدها ذلك إال شجاعة و هيبة ،مث أعادت البصق يف وجهه و ابتسامة االحتقار ترسم مبالحمها ،تركته خائبا مقهورا
منهزما أمامها رغم أهنا كانت عزالء ...ألقت الرعب فب قلبه لشجاعتها ،و على صورة بشاشة وجهها سحب
الزناد لتستقر الرصاصة بني عينيها ،فسقطت صريعة غالبة غري مغلوبة ،ألن املوت أمام عدوك ال يعين اهنزامك
دائما ،قد يكون انتصارا ساحقا لصاحلك ،حني ال َتون مبادئك » ،2فصور "عبد الواحد هواري" شخصية
"خدجية" كرمز للمرأ ة اجلزائرية العفيفة و اللبؤة اليت حتمي نفسها يف أصعب الظروف ،كانت رمز للمرأة البطلة
الصامدة و الشجاعة ،فما أثارت شجاعتها إال احلنق يف قلب املعتدي لذا قام بقتلها ،و ما كان ذلك إال دليال
على أن "خدجية" زرعت الرعب يف قلبه ،فكثريا ما كانت الكلمة أشد من القتل.
أوضح الراوي التحديات اليت واجهت املرأة يف هذه الفرتة الصعبة ،إضافة إىل القوة اليت حتلت هبا فنجد املرأة يف
الرواية وقفت موقف الشجاعة و الصمود و التحدي يف مواجهة كل من حاول املساس بوطنها أوال و بكرامتها و
شرفها ثانيا.
كما سلط الكاتب الضوء على أبشع الصور اليت عاشتها املرأة اجلزائرية يف فرتة االرهاب حني تعرضت
لالغتصاب بنوعيه؛ الفردي و اجلماعي من قِبل اجلماعات اإلرهابية املسلحة اليت ارتكبت جرائم االغتصاب و
االسرتقاق و االستعباد اجلنسي يف املناطق اليت سيطرت عليها ،حيث سعت هذه اجلماعات إىل طمس هوية
اجملتمع االسالمية احلقيقية باستعمال املرأة كآلة حرب ،فكانت تقوم بعمليات اختطاف مجاعية للنساء و الفتيات
خالل قتاهلم من أجل بناء "الدولة االسالمية".
-1حمي الدين صبحي :أبطال يف السريورة ،دراسات يف الرواية العربية و املعربة ،دار الطليعة ،بريوت ،ط ،1960 ،1ص .01
-2الرواية ،ص .19
30
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
يف الفرتة املمتدة ما بني 1991إىل 1992مت االبالغ رمسيا عن 1000حالة اغتصاب قامت هبا
اجلماعات فجعلت من النساء و الفتيات سبايا هلا لتشبع هبا رغبتها اجلنسية احليوانية فيما يسمى ب "االسرتقاق
اجلنسي" ،و بعد اشباع غرائزها تقوم بذبح النساء و ترميهم يف الغابات و الطرقات عاريات بعدما نكلت
بأجسادهن تنكيال بشعا.
كانت هذه االع تداءات اجلنسية من أقبح أشكال التعذيب اليت مارسها االرهابيون ،امتدت أضرارها من املرأة
إىل أسرهتا اليت مست اجلماعات املسلحة إحدى مقدساهتا و طابوهاهتا ،منتهكة بذلك أعراف اجملتمع اجلزائري يف
أعلى مستوياته ،و هذا ما نلمحه يف الرواية « :مث رأى فرقة من األوغاد يتبادلون األدوار على املرأة و هي صامتة
ال جترؤ حىت على إطالق صرخة تزيح أملها » ،1و كان هذا إقصاء حلرية املرأة بتعرضها هلذا النوع من العنف الذي
عاشته يف اجلبال مما جعل منها جسدا بال روح ،فأصبحت تكبت مشاعرها و صرخاهتا مستسلمة لظلم الطغاة
بعدما اعتادت على ا لعنف من جهة ،و خوفها إن أطلقت صرخاهتا فتتضاعف وترية االعتداء أو تتعرض للضرب
من جهة أخرى ،فقد دب الرعب قلوب النساء و أصبحن مكبالت يف جحيم اجلبال.
بينما هناك نساء مل يستسلمن للظلم يف اجلبال و حاولن الفرار من بني أيدي املعتدين؛ منهن من جنت و
حتررت من ق يود أولئك الوحوش ،و منهن من أمسكوا هبا فتلقني أقسى أنواع العقاب كالضرب و االعتداء
اجلماعي ،و هذا ما يعكسه هذا املقطع « :قضيت سنة كاملة يف جبل عصفور ،يعجز لساين عن وصف املظاهر
اليت رأيتها ،كانت أمامي فرص كثرية للهرب لكن الفزع نال مين ،سبقين إىل ذلك عدة أشخاص ،منهم تلك الفتاة
املراهقة صاحبة السبع عشرة سنة ،أمسكوها بعد أن طاردوها لساعات بكالهبم اهلائجة املتوحشة ،وما إن
ضبطوها حىت صار كل واحد فيهم يغتصبها مرات و مرات و هي تصرخ بكل ما أوتيت من قوة ،أما أحدهم فظل
ممسكا هبا و يقهقه كأنه يستمتع بعذاهبا ،أي وحش يستطيع أن يفعل هذا ؟ » 2و كانت هذه الفتاة الصغرية عينة
استمدها الراوي من اجملتمع سعيا منه لفضح وحشية اجلماعات املسلحة باالعتداءات اجلنسية كما ذكرا سابقا ،و
االعتداءات اجلسدية أيضا حيث يقول الراوي يف هذا الصدد « :حني أطلت عليه فتاة يف العشرينيات من عمرها،
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
بيدين عليهما كدماء زرقاء مائلة إىل السواد ،و ثياب بالية رثة مقطعة من جوانبها » ،1و نالحظ من خالل
الرواية أن معظم املختطفات أعمارهن صغرية جدا.
مل تقتصر االعتداءات اجلنسية ضد املرأة على اجلماعات االرهابية فقط بل امتدت جذورها إىل فئات أخرى
من اجملتمع ،و ما كان رصد الكاتب هلذه الظاهرة إال عن وعي منه و كمحاولة لتسليط الضوء على معاناة النساء
داخل اجملتمع بسبب تسرب بعض أنواع الفساد األخالقي يف األفراد -من الرجال -و أيضا لضعف املرأة و قلة
قوهتا البدنية .فمثلت "أمينة" هذه القضية عرب الرواية وقت تعرضها للتحرش اجلنسي من طرف رجل مغرتب ثري
تعمل يف منزله ،يقول الراوي يف هذا الصدد « :صار الرجل يصول و جيول يف املنزل مفكرا يف طريقة أو سبب
جيعله يتجه حنوها ،فاستجمع حقارته و صار يتأملها من ثقب باب الغرفة و هي جتفف الغسيل بعد أن تبللت
مالبسها قليال ،بدأ بفتح الباب حبذر شديد و ظل يشي حنوها خبطوات بطيئة حىت وضح يده على كتفها،
صرخت صرة شديدة و تراجعت عدة خطوات إىل الوراء وهي تضم يديها إىل صدرها و الدهشة أخذت منها كل
مأخذ.
-ال َتايف يا أمينة ،ماهي إال حلظات قصرية ومتر ،البد أنك الحظت أين أكن لك مشاعر قوية...
قامت أمينة تصرخ و تستنجد باجلريان حىت انقض عليها املغرتب و كمم فمها و صار حياول نزع حجاهبا عنها،
أراد أن جيردها من قميصها ».2
"أمينة" رمز للمرأة اجلزائرية املسلمة حيث سعت جاهدة للدفاع عن نفسها و حفظ شرفها ،تعالت صيحاهتا طالبة
النجدة من اجلريان و ضربت املعتدي يف مكان حساس بغية اضعافه و الفرار من قبضته « قامت أمينة تصرخ و
3
تستنجد باجلريان ، ...قاومت بشدة مث ضربته بني فخديه و دفعته حنو الدرج و فرت بسرعة الربق بثياب ممزقة »
و هذا يدل على أهنا امرأة شريفة ومقاومة ،فكانت منوذج للمناضلة اليت تدافع عن نفسها.
– 2الفقر:
كانت فرتة التسعينات من أصعب الفرتات اليت مرت على اجلزائريني بسبب األوضاع السياسية املرتدية و اليت
أدت إىل ظهور أزمات أخرى يف شىت اجملاالت؛ اقتصادية ،ثقافية و اجتماعية ،و كانت األوضاع االجتماعية مزرية
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
و عصيبة كان من مظاهرها انتشار الفقر و البؤس على نطاق واسع ،و هذا ما ملسناه خالل قراءتنا لرواية "يف كل
قرب حكاية" و املقاطع اآلتية توضح ذلك « :كان يلبس عمامة صفراء مربقعة بنقاط بنية ،نادرا ما كنت تفارقه،
يقي هبا نفسه من مطر الشتاء و يأخذ حيطته هبا من حرارة الصيف ،ثيابه رثة بالية جتسد فيه مظهر البؤس و
الفقر » 1و جند أيضا قوله « :رجل طويل القامة عريض املنكبني ،بشعر متجعد طويل و حلحية كثيفة ،يلبس
سرواال مقطعا من جهته اليمىن ،نصف عار بقميص ممزق ال يغطي من جسمه إال القليل » 2فلم يكن الفرد
اجلزائري يعيش يف رخاء ،بل كانت أوضاعه صعبة حيث احتل الفقر واقعه و مل جيد الناس ما يقيهم برد الشتاء و
ال ما حيميهم من املطر و الثلج إال أمور بسيطة كعمامة "العريب" .حىت منازهلم كانت مهرتئة تضمهم إليها
بصعوبة « :مل يكن لعمي العريب سوى أمه اليت كان يقامسها كوخا مبنيا بالطوب و األحجار و مغطى بالزنك،
بابه مهرتئ من خشب يسحب بسلك من حناس ،حيوي غرفة واحدة ،و حوشا صغريا ال سقف له ،و خلف
الباب زريبته صغرية فيها عنزة و خروف صغري و كلب للحراسة ...ذلك أن جل سكان القرية هربوا مستنجدين
حنو املدينة ،و مل يبقى منهم سوى من تعسرت أحواهلم » ،3باإلضافة إىل هذه الصورة اليت تظهر يف الرواية:
« كان هناك كوخ بأربعة جدران دون سطح يغطيه ،مبين بالنجارة و الطوب و بابه من حديد صدأ مغلق بسلسلة
فالذية » ، 4كذلك املنازل مل تكن مناسبة لعيش حياة هنيئة و مستقرة فاتصفت البيوت بالضيق و االهرتاء ،أبواهبا
مل تكن لتحمي ساكنيها من قاطعي الطرق و ال وحوش الغابة ،فوصف الراوي معانات الشعب خالل سنوات
اخلوف و الفقر و احلرمان فيقول« :جلسنا يف حوش املنزل الضيق فوق حصرية خشنة امللمس »« 5ومل ترتك هلم
إال البيت احلقري».6
جتلت مظاهر الفقر يف الرواية عرب حقارة املنازل و ضيقها الشديد ،و كذلك صغرها فينام مجيع أفراد األسرة
يف غرفة واحدة ،باإلضافة إىل الثياب الرثة و البالية اليت كانوا حيتمون هبا فتقيهم من العري لكن ال حتميهم من برد
الشتاء و حرارة الصيف ،كما مل جتد الكثري من العائالت لقمة تسد هبا جوعها و ال فتات خبز تسكت به جوع
أوالدها « :كنت رجال معوزا فقريا ال أجد قوت يومي ،و يل زوجة و أطفال مل يسعفين القدر كي أعيلهم،
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
فصراخهم ليال قطع أوتار قليب و مأل السأم فؤادي من البؤس الذي أعيشه ،ككنا إن وجدنا غذاءنا اليوم فالعشاء
لقمة أخرى علينا البحث عنها ».1
دفع الفقر النسوة إىل اخلروج ملمارسة أي عمل كرمي جتدنه ليكون مصدر رزق تقتنت منه ،فال تلجأن للتسول
و ال إىل األعمال الالأخالقية بل عملن بكرامة و عزة نفس ،فيقول الكاتب يف هذا الصدد « :ضاق احلال عليها
و صارت تعمل منظفة يف منازل أثرياء املدينة ،أما أمها فكانت َتبز خبز "املطلوع" املعروف يف املدينة و تقتات
على نفقاته ».2
أما الرجال فقادهتم احلاجة إىل ممارسة األعمال الصعبة و لو كانت ذات دخل قليل ،فنجد شخصية "العريب"
الذي كان « شغله مع األموات الذين ال يسمع منهم تذمرا و يسأهلم حاجة ،فقد كان مهندسا لديارهم ااألخرية،
حيفر هلم قربا يناسبهم و يدعو هلم بالرمحة و النوم اهلينء ،بأجر زهيد ينام ليال يف مقربة املدينة ،و يبين يف الصباح
بيتا أو بيتني ملن جاءه زائرا ،اَتذ من ذلك الثمن البخس مبلغا يعيل به ابنه الوحيد "زيدا" » ،3فوظف الراوي
صورة واقعية ملا كان الشعب اجل زائري يعيشه يف ظل تلك الظروف الصعبة ،و رسم معاناته من الفقر و البؤس
خالل تسعينات القرن املاضي بأسلوب فين ال خيلو من الواقعية ،فقد زاوج "عبد الواحد هواري" بني الفنية و
الواقعية برباعة ،لترتك الرواية أثرا بالغا يف نفوس القراء عرب نقله صورة جمتمعهم و واقع معيشتهم.
وردت يف الرواية العديد من املشاكل األخرى غري الفقر ،لكن هذه املشاكل و اآلفات االجتماعية ما هي إال
امتداد له-للفقر -و سنذكرها كاآليت :
أ – البطالة:
جسد الروائي اجلزائري "عبد الواحد هواري" عرب عمله الفين "يف كل قرب حكاية" صورة عن جزائر
التسعينات ،حيث بعض املالمح االجتماعية رامسا معانات الشعب خالل سنوات الرعب و اخلوف و الفقر مبي نا
املشاكل االجتماعية املنتشرة آنذاك ،كالبطالة و اهلجرة و السرقة ...و غريها.
انتشرت مشكلة البطالة داخل األوساط االجتماعية بسبب الصراع السياسي الذي أثر على توفري مناصب
العمل ،ما أدى إىل نذرته و صعوبة احلصول عليه ،حىت الطالب الذين َترجوا من جلامعات ظلوا عاطلني عن
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
العمل ،فلم جت ِد شهاداهتم نفعا ،و قد سلط الكاتب الضوء على هذا الوضع احلساس من خالل قولهَ « :ترجت
1
من اجلامعة و مل أجد وضيفة كي أعيل هبا نفسي ،مزقت شهاديت»...
أعطى الكاتب صورة للعمال الذين وجدوا أنفسهم مفصولني عن العمل دون أسباب واضحة ،مستعمال
تقنية احلوار و الذي دار بني "نذير" و "امليلود" - « :أهال ولدي ...كيف سيكون حالك إن استيقظت يوما و
وجدت نفسك يف الئحة املفصولني عن العمل من مكان قدمت له كل ما تستطيع ملدة ثالثني سنة » - « 2ال
عليك يا بين فرزق اهلل واسع ،فقدنا هذه لكن ستأيت أخرى بإذن اهلل.
يا إهلي لقد حتدث بضمري اجلمع ! قال :فقدنا ! يا ريب لقد صرت عاطال .قلت هذا خماطبا نفسي.
-يا عمي أيعقل أين...
-لألسف يا ولدي ،مصريك كمصريي.
أطفأ امليلود سيجارته و طأطأ رأسه و ظل يشي مبحاذاة احلائط كي ال تضربه أشعة الشمس احلارقة فتحرق قلبه
أكثر مما هو عليه.
و ضعت كلتا يدي على رأسي و صرت أتأمل السماء و احلسرة بادية على وجهي ،كنت يف أزمة حقيقية ،فالدين
يالحق رقبيت منذ مدة و مل أستطع سداده مع عملي ،فكيف بدونه ،أين يكن أن أجد وظيفة خالل هذه
األوضاع املزرية» 3ما أدى إىل تدهور احلالة النفسية للشعب و دخوله دائرة الفقر املدقع بعد ما القاه من استغالل
من قبل احلكومة اليت جلأت إىل جيوب املواطنني لسد العجز يف ميزانية الدولة ،ما جعل أزمة البطالة تتضخم فنجم
عن ذلك مئات اآلالف من الشباب الفارق يف هذه األزمة دون أي مصدر دخل يعيل به نفسه و عائلته ،ففي
سنة 1990كانت نسبة البطالة تبلغ %90لدى الشباب و هذا رقم جنوين ،فحدث تراجع حاد يف األجور و
ارتفعت أسعار املواد الغذائية ارتفاعا مريعا ،كما أن األسر اجلزائرية ال متلك قيمة شرائية عالية بل كانت ضعيفة
جدا بسبب الفقر الذي أحاط به ،كما كان احلصول على عمل ضرب من املستحيل ،و تتضح هذه املظاهر يف
الرواية من خالل « :أربعة أيام مرت على حمنيت الشديدة ،كل يوم أستيقض صباحا و أجته إىل موقف العمال لكن
دون جدوى ،حىت األشغال الشاقة كانت حمجوزة ألصحاهبا » ، 4فاجته الناس إىل البحث عن األعمال ذات
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
الدخل الضعيف جدا فيقول "نذير" يف ذلك « :كنت أجته أحيانا إىل السوق األسبوعي و أمحل البضاعة الثقيلة
للنساء و العجائز ،يدفعون يل لقاء تعيب تارة ،و يكثرون يل من الدعاء تارة أخرى ،لكن ذلك مل يكن كافيا ،كان
1
هوسي بأن أجد عمل كل ما يشغل بايل ،و الرقاد قد هجرين لعدة ليال ،وهن جسمي و شحب وجهي»...
تضخمت أزمة الزواج بسبب ارتفاع نسبة البطالة يف صفوف الشباب ،باإلضافة إىل ظهور أزمة سكن خانقة
جعلت اجلزائر صاحبة أكثر البيوت إكتضاضا يف العامل ،فلم يتمكن الشباب من توفري مساكن مرحية ،و أصبح
غري قادر على الزواج ،يوضح الراوي ذلك بقوله « :هبذا اخلرب أكون قد أعطيت كمية من الوقود بيدي حلمايت كي
تشعل النار يف جسدي ،و قدمت هلا حجة كي ترفض خطبيت .عاطل عن العمل ،أهذا ما َترب هبا*جرياهنا
السائلني عن زوج ابنتها ،حارت يب السبل و ضاقت يب األرض و انعدمت احليل أمامي ...أي رجل هذا أمسيه
نفسي جيرؤ على طلب يد فتاة دون أن يكون قادرا على إعالتها ».2
فكانت مشكلة البطالة حاجزا يقف دون حتقيق احلياة الطبيعية للشباب ،و يدفعهم للوقوع يف خطر اآلفات
االجتماعية اخلطرية ،و منها التسول « :كنت سكريا أهيم يف الشوارع أتسول األغنياء أن يعطوين قدر ما أروي به
عطشي » 3و اهلجرة غري الشرعية عرب زوارق املوت و هذا املقطع دليل على ذلك « :حني كان الناس يتدافعون
حنو قوارب املوت هربا من شبح خيطف أرواحهم ال يدرون كنهه » 4علهم جيدون مبتغاهم يف الدول األوروبية.
تطرق "عبد الواحد هواري" يف روايته -يف كل قرب حكاية -إىل املشاكل االقتصادية اليت أدت بدورها إىل
دخول اجلزائر يف أزمة خانقة ضيقت سبيل الرزق على اجلزائريني ،الذين وجدوا أنفسهم مرغمني على انتهاج طرق
غري قانونية من أجل إعادة أهاليهم و حتقيق االستقرار املادي ،و كانت ظاهرة التهريب من أكثر اآلفات
االجتماعية انتشارا .بعد ما أغلقت مجيع الطرق يف وجه الشعب اجلزائري ،اجته صنف منه جمربا إىل هتريب الوقود
عرب احلدود كحل أخري له حيميه من الفقر املدقع و التشرد ،...كما حدث مع "نذير" فبعد فصله من عمله يف
أحد معامل احلكومة حبث مطوال عن عمل آخر يعيل به نفسه و يكنه من حتمل مصاريف الزواج ،إال أن جهوده
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
مل جت ِد نفعا ،فدفعته احلاجة و الظروف اخلانقة إىل ممارسة هذا العمل غري الشرعي و اخلطري ،و مل ا ضاقت به
السبل يقول « :اجتهت صباح يوم من تلك األيام املظلمة إىل صديق يل يدعى :مصطفى ،كان مبثابة احلل األخري
يف الئحة خيارايت ،ليس لعيب فيه فقد كان من أصدق األصحاب و أحسنهم ،بل ألن عمله اخطري ،كان يهرب
الوقود عرب احلدود ألهنا جتارة مرحبة جدا ،و يف نفس الوقت جد خطرية ،وسط الليل بصرامته و شدة ظالمه
مسايرين بذلك موعد خروج أوباش الغابة ،و كانت الطرق حمفوفة باملخاطر و التهديدات ،فقبل شهر من ذلك
الوقت عثر االرهابيون على أحد املهربني ...و إلتقى هبم صدفة عند أحد الوديان لتجد احلكومة يف الصباح رأسه
مقطوعا و معلقا إىل غصن شجرة عالية ».1
عندما اَتد املهربون من الطرق الوعرة سبيال هلم ،بعيدا عن أعني الشرطة وجدوا أنفسهم حماصرين من طرف
اجلماعات اإلرهابية املسلحة األكثر بطشا من احلكومة ،فنكلت بأجساد املهربني تنكيال شنيعا ،لذا فإن مهنة
التهريب آفة منبوذة من اجملتمع من جهة ،و حمفوفة باملخاطر و الصعوبات من جهة أخرى ،إال أن اجلزائريني
متسكوا هبا بسبب األموال الطائلة اليت ينالوهنا يف مقابل هذا العمل.
وصف الراوي العديد من اآلفات االجتماعية األخرى اليت سادت جمتمع جزائر التسعينات ،كتهريب الوقود
كما ذكرنا سابقا إضافة إىل جتارة املخدرات .و اليت تعد عمال غري شرعي من الناحية القانونية و الدينية ،مع ذلك
سعت فئة من املنحرفني جاهدة على نشر هذا النوع من السموم يف اجملتمع خاصة يف صفوف الشباب ،كما
قامت بتهريبه عرب احلدود مبساعدة من بعض أفراد احلكومة ،و كانت اجلزائر يف هذه اآلونة من أكثر البلدان جتارة
باملخدرات -فاتساع مساحتها و تنوع مناخها جعل منها تربة خصبة لزراعة احلشيش ،-و كلما سعى اجليش
اجلزائري إىل إحباط التجار كلما زاد إصرارهم على متابعة عملهم ،و يوضح هذا املقطع ذلك « :األحوال يف
احلدود ليست على ما يرام ،لقد أمسكنا يوم أمس جمموعة من مهريب احلشيش و أمرنا الضابط أن نضاعف
احلراسة ...سنخصص يوما من أيام األسبوع القادم حني تكون احلراسة خفيفة على احلدود ،و نستغل اجملازر اليت
يرتكبها األوباش يف الغابة كي نصرف نظر احلكومة » ،2كما ساعد املهربني أيضا بعض اخلونة يف احلكومة و أفراد
اجليش ،و ظهر ذلك يف صفحات الرواية « :و هاهو صديقي من حرس احلدود يأتينا بكل املعلومات مقابل سعر
خاص ،و قد سبق و أن اتصلت باملوزع الذي أخربين أن الطرد جاهز » 3و قوله أيضا « :ستقوم أنت (و يشري
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
إىل الرجل الثاين) بالدخول عرب احلدود إىل اجلانب اآلخر ،تستلم الطرد يف مركبة جمهزة( ،بدون أوراق التسجيل أو
أي شيء من هذا القبيل) ،حتمل البضاعة و متر عرب املخرج الذي حترسه عناصر اجلمارك ...و ما إن تصل غلى
هناك حىت يأيت دور صديقي ذو رتبة عالية من احلكومة ،هذا سأمر فرقة من الدرك بنقلها إىل العاصمة دون أن
يكون لديهم أدىن فكرة عما حيملون ،و يكون سعر الربح مناصفة بيننا ».1
سلط "عبد الواحد هواري" الضوء على جانب مظلم آخر من واقع اجلزائريني أال وهو االدمان على شرب
اخلمر ،و الذي كان منتشرا يف اجلماعات اإلرهابية أكثر من غريها ،فقد سعت جاهدة إىل جعل أعضائها مدمنني
باستعمال القوة ،و إرغامهم على شربه هبدف تغييب عقوهلم ليكون إرتكاب اجلرائم سهال عليهم « :قد مترد
عليهم الكثري من الشباب الذين مل يستطيعوا القتل لكنهم أرغموهم على إدمان نوع من املخدرات حىت صاروا ال
خيافون شيئا » 2إضافة إىل قوله « :أخضعوين لكل أنواع االختبارات و أرغموين على تعاطي املخدرات و شرب
اخلمر كي يسرقوا وعيي و يقتلوا ضمريي » 3فإىل جانب اجلرائم انتشر تعاطي املخدرات و إدمان الكحول يف
صفوف اجلماعات املسلحة.
فيتبني لنا من خالل ما سبق أن اجملتمع اجلزائري عاش مأساة حقيقية إبان العشرية السوداء أدت إىل اهنيار
القيم األخالقية حيث انتشرت اآلفات االجتماعية ،املخدرات و عمليات التهريب -املخدرات و الوقود -و
االدمان على املشروبات الكحولية...
ج – األزمة االقتصادية:
تفاعلت الرواية مع األزمة االقتصادية اخلانقة اليت أصابت اجلزائر نتيجة ظاهرة اإلرهاب ،حيث دخلت
اجلزائر دوامة من العجز االقتصادي و تأزم الوضعية املالية للمؤسسات احلكومية بسبب القوانني املفروضة على
األسعار ،إضافة إىل تسريح آالف العمال ،و ظهر ذلك يف الرواية من خالل قول املبدع « ،كنت أعمل موضفا
يف معمل الذرة الذي متلكه احلكومة ،مل تكن األوضاع مبشرة باخلري .يف الشهر املاضي سرح أكثر من عشرين
عامال حبجة الضائقة املالية اليت متر هبا البالد ...هذه الثورة العارمة ،فاألوضاع يف البالد تشري إىل اخلطوط احلمراء،
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
ذلك الصراع بني األحزاب صار يلتهم كل شيء ،إال صانعي املشاكل أنفسهم » ،1فقد تناول الراوي هذه
التحوالت االجتماعية مستعينا بتقنيات سردية متباينة و متعددة ،كاحلوار الذي دار بني "نذير" و "امليلود" فيما
خيص قضية تسريح العمال من املعامل احلكومية ،و فقداهنما عملهما بعدما قدما كل ما يكن من أجل التمسك
به ،و كذلك استعماله تقنية السرد ،بسرده األوضاع اليت آلت إليها اجلزائر إبان العشرية السوداء ،فاستعان الراوي
بالعديد من التقنيات السردية حماوال االقرتاب من املشاكل االجتماعية و االقتصادية للبالد.
وقف "عبد الواحد هواري" عند قضايا الفساد السياسي و االقتصادي اليت اجتاحت اجلزائر ،و تدهور هذا
األخري بشكل ملحو مع مرور الزمن ،و جتسد ذلك عرب صفحات الرواية « :مع مرور األشهر ،زاد احلد عن ما
كان عليه من قبل ،صار العمل بأجر أقل من السابق » .2كانت ظاهرة اإلرهاب هي السبب يف عدم استقرار
اقتصاد البالد و ارتفاع املديونية ،ما أدى إىل ظهور بعض املمارسات غري األخالقية يف اجملال التجاري ،كاحتكار
السلع ،السرقة ،النهب ،االستغالل و كذا غالء األسعار ،و هذا دليل على أن اجلزائر كانت متر بأزمة اقتصادية
كبرية يف التسعينات و اليت تركت أثرا بالغا يف اجملتمع متسببة بارتفاع نسبة البطالة ،و انتشار الفقر إىل جانب
آفات اجتماعية خطرية.
د – األمية:
تعد األمية أحد أثر املشاكل االجتماعية خطورة على خمتلف امليادين ،سواء االجتماعية ،و السياسية و
االقتصادية للبالد ،إذ شهدت اجلزائر ارتفاعا كبريا لنسبة األمية أثناء العشرية السوداء ،و يعود هذا االرتفاع اخلطري
إىل الظروف الثقافية لألسر اجلزائرية؛ خاصة و أن اآلباء كانوا ال يهتمون بتعليم أبنائهم و بناهتم ،بالتحديد يف
املناطق الريفية اليت تسيطر عليها السلطة األبوية -الذكورية ،-و كذلك معاناة املرأة من العنف األسري املسلط من
طرف الرجل ،إضا فة إىل عدم اعرتاف اجملتمع حبقها يف التعليم ،و كان الزواج املبكر للفتيات عامال أساسيا يف
انتشار األمية؛ حيث ح ِ
صر عمل املرأة يف البيت فقط مما أدى إىل كسر الرابط بينها و بني التعليم.
أما بالنسبة للذكور فقد حرمهم العمل من التعلم نتيجة الفقر الذي طغى على اجملتمع اجلزائري فرتة
التسعينات ،فأدى هذا إىل ضعف عدد الدارسني الذكور ،و قد تطرقت الرواية اجلزائرية الواقعية إىل جل هذه
األسباب و املظاهر االجتماعية اليت سامهت يف توسيع نطاق األمية ،ليتطرق السارد إىل إحدى شخصياته
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
-العريب -الذي كان حمبًّا للفقراء و الكتابة لكن الظروف االجتماعية كالفقر منعته من ارتياد املدرسة ،يقول« :
حرمه الشقاء من التعلم يف صغره ،كنت أجده يرتمن بنغمة تقلب الصفحات و يسبح يف فضاء ذكريات ال
متوت» ،1فعكس الكاتب الواقع االجتماعي عرب صفحات روايته يف قالب فين مجايل ليطرح هذه القضية بأسلوب
جيذب القارئ فيتفاعل هذا األخري مع النص و يسقطه على واقعه.
كما أن مدخول األسر اجلزائرية الضئيل ال يسمح لألوالد بارتياد املدارس و ال حتمل نفقاهتا ،ألن األوساط
الفقرية عانت التهميش ،إضافة إىل خوف األسر من بطش اجلماعات اإلرهابية على أبنائها إن هم خرجوا من
منازهلم ،خاصة يف املناطق الريفية اليت تقع حتت سيطرهتا ،و كذا بعد املدارس عن األرياف.
تعرض األميون إىل االستغالل بسبب جهلهم و عجزهم عن القراءة و الكتابة كما عرضته الرواية بواسطة
شخصية "العريب" الذي استغلت زوجته جهله جاعلة إياه يوقع على أوراق حتول كل ممتلكاته و أمواله بامسها،
بعدما وجهت له إهانة كبرية حني خاطبته ب ...- « :أيها األمي » 2تاركة خلفها رسالة تقول « :لقد رحلت و
معي كل األموال ،مل تعد يل رغبة فيك ،ضيعت معك أمجل سنوات شبايب ،البيت هذا و املنزل الريفي و املعمل
كلها على امسي و سبق لك أن أمضيت على أوراق امللكية » 3فقد كانت « :تناديه أن أمضؤ أسفل الورق فيفعل
دون حول و ال قوة » 4ألنه كان يظن أن األوراق خاصة بالعمل .لقد تعرض "العريب" للعديد من االستغالالت
و االهانات اليت مست كرامته جراء جهله ،و من املواقف اليت تعرض إليها جند « :صار العريب يقلب امللف يينا و
مشاال مث فتتحه فوجده عبارة عن سطر مكتوب بلغة احلروف و األرقام ،مل يفهم منه شيئا ،مث هرول مسرعا باجتاه
السيد الصامت حىت أدركه و قد أهنكه التعب من شدة اجلري.
ما هذا ؟ أال تدرك أين ال أجيد القراءة و الكتابة ؟ » ،5فقد أعطى الكاتب صورة عن هذه الفئة املهمشة ،و اليت
ساهم الصراع السياسي يف تضخمها ،كما تطرق إىل بعض أسباب انتشارها ،و ذكر العديد من الصعوبات اليت
تواجهها.
30
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
كما أن "عبد الواحد هواري" سلط الضوء على املثقف اجلزائري الذي سعى إىل القضاء على األمية ولو كان
ذلك داخل السجن ،فلم ينع السجن "نذير" من تعليم "اهلواري" ذلك الرجل األمي الذي مل يدخل املدرسة قط،
فأصبح جييد القراءة و الكتابة ،ليقول الراوي يف هذا الصدر « :أما اهلواري فضل يعتربين معلمه اخلاص ،درسته
اللغة و الكتابة و قواعد االمالء ،مماجعلة سعيد فرحا ممتنا كل االمتنان ،فقد عاش حياته يتيما بعيدا عن مقاعد
التعليم ال جيد عونا و ال سندا و مل يسبق له أن ارتاد مدرسة يف حياته » « ،1صارت األيام اليت جتمعنا حنن
الثالثة خمصصة لتلقي العلم و املعرفة و االحبار يف أعماق الفكر ،و الرتمن بتشويق الروايات اجلميلة ،و جتاوز
اهلواري كل عقده و صار طليق اللسان يف قراءته للنصوص ،و كان ممتنا ملا فعلته معه كأين منحته تذكرة للجنة،
وما قدمت له سوى واجب فرض علي بصفيت إنسانا عاقال ».2
مع انتشار اآلفات االجتماعية يف االوساط اجلزائرية يف مرحلة التسعينات؛ كاالغتصاب و تعاطي املخدرات
و إدمان الكحول ،...و تفشي املظاهر املزرية؛ كالفقر و البطالة استغلت اجلماعات اإلرهابية الفرصة و قامت
بنهب ممتلكات سكان القرى و األحياء ،و استولت على مواشيهم حتت التهديد و زرع اخلوف و الرعب يف
أوساطهم ،ففي أحد األيام حطت جمموعة من أعضاء اإلرهابيني يف إحدى قرى "تلمسان" ،و قامت بتهديد
املواطنني و بث اخلوف يف قلوهبم ،حيث جاء على لسان شيخ القرية - « :ليلة أمس جاءين مجع من الرجال
قاطين جبل عصفور هذا الذي حييط بنا ،مدججني باألسلحة و اخلناجر ،ملثمني يربق من أعينهم دم أمحر كحمم
الرباكني ،توىل قائدهم احلديث فيما انطلق اآلخرون يفتشون حظرية املاعز و األبقار و خم الدجاج ،قال بلهجة
صارمة ال أثر فيها للمزاح أو التهاون مطلقا من فمه شرارات البصق اليت التصقت بلحيته الكثيفة ،مرددا على
شفتيه ما سأقوله باحلرف الواحد.
-يا أهل قرية بين بوسعيد حنن محاة جبلكم هذا ،و حاملوا لواء دينكم و ديننا ااحلنيف من بطش الطغاة و
احلكام املفسدين ،و هلذا آمركم بدفع ما يرتتب عليكم جراء تكلفنا حبمايتكم ،إن مزارع هذه القرية غنية
تسر الناظرين فشاركونا إياها ،و من يتخلف منكم عن دفع ما يرتتب عليه ،فهذا اخلنجر يف يدي اليمىن
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
يستقر يف حنجرته و يصلب رفقة عائلته كلها ،فمن ليس منا ،عدو لنا ،و من حيتم بالطواغيت الفاسدين
يلق حتفه بأيدينا...
وانصرف حبذر شديد ،محل أصدقاؤه عنزة و بضع دجاجات دوا أي سابق إنذار ».1
سلط الكاتب الضوء على آفة السرقة أيضا ،و اليت اكتسحت األوساط االجتماعية اجلزائرية آنذاك عرب
شخصيته "آمال" اليت سرقت كل ممتلكات زوجها هبدف االنتقام منه عما فعله مع صديقتها "عبري".
و – الطبقية:
يصف "عبد الواحد هواري" األوضاع االجتماعية املزرية جلزائر التسعينات ،مع ذكر ظهور التفاوت الطبقي؛
إذ تربز الطبقة الربجوازية و احنالهلا األخالقي من خالل شخصية "حممود" الثري و الذي يارس مهنة ال أخالقية
أال و هي جتارة املخدرات عرب احلدود اجلزائرية ال ٍ
مبال بالعواقب ،كما عرف بإدمانه على اخلمر ،و برز ذلك يف
الرواية حني « :اجتمع حممود رفقة جمموعة من أصدقائه األغنياء املشردين ،كانوا داخل مستودع خارج مناطق
احلضر ال حتده سوى األراضي الواسعة و إسطبالت املاشية ،انظم إليهم و يف يده زجاجة مخر من نوع
" ،"Pernord Ricardفصار يتبادل الرشفات مع أحبائه ...كانت ثياهبم باهظة الثمن فريدة الطراز ،و أما
عقوهلم فكانت عقيمة ».2
يف فرتة التسعينات انتشر االحنالل اخللقي وسط العائالت الثرية انتشار النار يف اهلشيم ،لقد فضحت الرواية
ذلك من خالل الرجل الغريب الثري الذي كانت تعمل "أمينة" يف بيته ،حيث حاول يف أحد األيام االعتداء
عليها يف غياب زوجته « :قامت أمينة تصرخ و تستنجد باجلريان حىت انقض عليها املغرتب و كمم فمها ،و صار
حياول نزع حجاهبا عنها ،أراد أن جيردها من قميصها ».3
وظفت الرواية مظاهر متعددة و خمتلفة لالحنالل اخللقي لدى األغنياء -الطبقة الربجوازية -بأساليب فنية
مجالية تعكس واقعية جمتمع التسعينات اجلزائري ،و حتقق ذلك من خالل محاة "أمينة" اليت تنحدر من عائلة
األثرياء لكنها ال تتصف بأي أخالق نبيلة ،و هذا ما نلمحه يف الرواية حني « :دخلت احلماة بيت عروستها،
وجلت و مالمح وجهها عابسة قانطة ،مل ِ
تلق حتية و مل تتأدب بأخالق الضيافة ،أول ما خطت خطوة داخل
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
املنزل انطلقت بلسان وقح و قبيح ،رددت كلمات قاسية مسيئة لزوجة ابنها ،شبهتها بالصبيات الصغريات اللوايت
ال حيسن فعل شيء مفيد ،زادت عن حدها و وصفتها باملتقاعسة إزاء زوجها ،عريهتا بعقمها و فقرها ،ذكرهتا أهنا
كانت سببا يف إخراجها من فاقة احلرمان و العوز » 1فرمت العجوز "أمينة" بوابل من الشتائم و التنابز باأللقاب
اليت تسيء لزوجة ابنها مصنفة إياها مع الفقراء املتشردين.
ز – ظاهرة العنف:
جتلى يف الرواية الصراع السياسي الذي طغى على اجلزائر إبان العشرية السوداء؛ حني ظهرت التعددية احلزبية
اليت أدت إىل قيام صراع سياسي بني تلك األحزاب فأصبح كل طرف حياول فرض وجوده ،و يسعى إىل
استقطاب اجلماهري الشعبية إىل صفه ،فاختلفت الطرق يف ذلك ،لكن مع مرور الوقت اَتذت منعرجا خطريا،
حيث أصبح العنف هو الطريق الذي انتهجته أطراف الصراع ،و بطبيعة احلال كان الشعب اجلزائري هو املتضرر
األكرب ،و مل يعرف سبيل النجاة من هول املصائب اليت الحقته بسبب تلك النزاعات على السلطة ،فغرق املواطن
اجلزائري يف دوامة من العنف الوحشي الذي مل يفرق بني رجل أو امرأة ،وال شيخ أو صغري ،و هذا ما حملناه يف كل
فصول الرواية ،حيث يصف "عبد الواحد هواري" الدموية اليت خلفها الصراع السياسي بطريقة مؤملة حترك مشاعر
القارئ ،و يذهب إىل املقارنة بني جزائر اليوم اآلمنة و جزائر التسعينات املؤملة ،فيقول « :اليوم صار الصباح حلما
مجيال ممزوجا برائحة الورد و عبري اليامسني ،لكنه كان كابوسا مظلما حقريا مكتوبا بصراخ األطفال و النساء ،و
مرسوما بدم األبرياء » 2و يضيف قائال « :اليوم يطري الطائر عاليا مغردا مبتهجا يرتمن بتغريده العاشق ،و يكتب
الشاعر قصيدته على رقة صوته ،و يرسم الفنان لوحة جلمال و تناسق ألوانه .أما أمس ،فكان الطائر أبكم خمتبئا
يف عشه ال جيد رشفة ماء إال بقعا بقعا من الدماء يرتوي هبا ،أو سربا من الغربان حتوم يف السماء حبثا عن جثة
تتخذها مرتعا لسواد مناقريها » .3و ال يقف الراوي عند هذه الصور البائسة بل يكمل وصفه لسوداوية اجلزائر يف
التسعينات فيقول ... « :أما البارحة ،فكان الليل القامت عاريا صارما ،جيفل فيه الرجل الشجاع ،و تبكي فيه
النسوة معانقات بناهتن و أوالدهن ،خشية أن يكون آخر ليل يضمهم حتت غطاء حضن واحد ،حىت القمر كان
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
ضوؤه أمحر كمرآة تعكس لون الدم فوق األرض ،كان إذا حل الليل بظالمه الفاحم ،و صمته العميق ،ال يسمع
حسيس سوى رعشة و ارجتاف اخلائفني املرتعبني الذين مأل الذعر قلوهبم ».1
ٌ صوت و ال
صور الراوي عري متنه الروائي العنف و الظلم الذي عاىن منه اجلزائريون خالل العشرية السوداء و ما طال البلد من
قتل و ترهيب و تدمري جبميع مستوياته ،فيالمس "عبد الواحد هواري" مجيع جوانب احلياة اليت سادت اجلزائر يف
تسعينات القرن املاضي يف حماولة منه ملقارنتها جبزائر القرن الواحد و العشرين ،ليمنح القارئ نظرة شاملة عن
أوضاع بالده و يرسم الصورة املرعبة اليت عاشها الشعب يف ظل الصراع السياسي ،و ما آلت إليه البالد اليوم بعد
انتهاء األزمة السياسية.
أشارت الرواية إىل ظاهرة العنف اليت امتدت يف مجيع أحناء الوطن ،و عمد إىل تصوير معاناة اجلزائريني و
خملفات العنف املادية و كذا املعنوية حيث بثت اجلماعات اإلرهابية الرعب و الفزع يف أوساطهم االجتماعية اليت
سادهتا مناظر الدماء و اجلرائم الدموية و رؤوس األبرياء املعلقة على األشجار ،و برز ذلك يف الرواية عندما:
« التقى هبم صدفة عند أحد الوديان لتجد احلكومة يف الصباح رأسه مقطوعا و معلقا إىل غصن شجرة عالية »،2
كما ذكرت الرواية عينة من اجملازر البشعة اليت ارتكبتها اجلماعات املسلحة خملفة بركا من الدماء يف القرى و
األحياء ،إىل أن غلبت رائحة املوت على أي رائحة أخرى و هذا املقطع خري مثال يوضح الوضع الذي آلت إليه
اجلزائر ،و بشاعة اجملازر اليت ارتكبت يف حق مواطنيها دون ذنب ... « :و أضحى جيري حنو كلبه فسقط عليه
املنظر كصاعقة من السماء ،أصابه اهللع الشديد و امتأل فؤاده رهبة و جزعا هلول املنظر املرعب الذي شهدته
عيناه .صورة روعت قلبه ،فصار يرتعش ارتعاشا كأن الريح تراقصه و حتركه ،وجد سكان القرية مصروعني
مذبوحني ،و جثثهم مكدسة جنبا إىل جنب و قد بدأت رائحة العفن َترج منها ،مالمح أوجههم توحي بالصدمة
و اخلوف و الوجل ،مشكلني كثلة جبلية من الشيوخ و الرجال و النساء ،حىت األطفال يف عمر الزهور كانوا
ساقطني مذبوحني غطى الدم أوجههم ».3
انتشرت مظاهر الفوضى يف العشرية السوداء؛ كاملظاهرات و االنفجارات و القتل ،...ففرض حضر التجوال
ألن اجلرائم أصبحت تنتشر بشكل خطري فكان املوت يهدد اجلميع ،و االغتيال مل يبق حكرا على الشخصيات
السياسية النافذة فقط ،بل طال املواطنني األبرياء أيضا دون استثناء ،فيقول الراوي يف هذا الصدد « :صار الوضع
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
حساسا جدا و فقد الفرد ثقته يف جاره الذي كان يأمتنه على منزله بكل ما فيه ،اَتذ العنف أشكاال يف العاصمة
باخلصوص ،و مل تعد ساعة غروب الشمس موعد البشر من أجل الدخول إىل منازهلم ،الرابعة يف املساء مبثابة
منتصف الليل بوحوشه و سكناته و صرامة ليله » 1و يقول أيضا على لسان "العريب" « :فالليل حالك و ال جيرؤ
أحد على اخلروج ».2
وكثرية هي أمثلة العنف يف الرواية منها - « :امحرت عينا املعلم و طار عقله من شدة احلنق و صارت
كلمات الغضب و الطيش تتطاير من فمه ،أما هي فكانت مكتوفة األيدي عاجزة أمامه عن الدفاع على نفسها،
حىت سحب خنجره و صار يطعن بطنها أكثر من عشر مرات ،ارتعب اجلميع بعد أن رأوا الوحش الكامن وراء
هذا الشخص » 3فكانت هذه عينة من مظاهر العنف اليت يتعرض هلا األبرياء من الشعب اجلزائري ،كما أهنا
صورة عن بشاعة جرائم اإلرهابيني.
ح – موضوع الحب:
من املعروف أن الروايات اليت عاجلت املظاهر االجتماعية و االقتصادية و السياسية ...يف تسعينات القرن
املاضي هيمنت عليها تيمة العنف الدموي ،فقد « متحورت الرواية اجلزائرية حول األشكال احمللية للصراع الطبقي،
و غاب هذا املوضوع اخلالد االنساين املتمثل يف احلب » 4و هذا راجع إىل طبيعة األوضاع الواقعية اليت كانت
منصبة على النزاعات و احلروب ،إال أن الروائيني املعاصرين الذين عاجلوا هذه القضايا مل يهملوا إضافة موضوع
احلب يف رواياهتم ،فلقد ظهر موضوع احلب و العاطفة الرومانسية عند "عبد الواحد هواري" يف روايته "يف كل قرب
عمد الكاتب على إدخال احلب يف متنه الروائي هبدف إخراج القارئ من جو احلزن و الرعب الذي حكاية" حني ِ
ساد جزائر التسعينات ،فاستعمل الراوي لغة شاعرية مليئة بالعبارات الرومانسية من خالل معاجلته قصص حب
عديدة من بينها قصة حب "عبري" و "نذير" ،يقول الراوي على لسان "نذير" « :عام كامل على الزواج ،أو كما
يقال على دخول القفص الذهيب ،تساءلت كثريا عن صاحب هذا القول :أي قفص هذا الذي يلم بيض قضبانه
سعادة روحي كلها؟ و أي سجن ذلك الذي أحييت فيه منبع حرييت و مزقت فوق مروجه أحبال*مشنقة سعاديت؟
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
تلك حلظات تذوقت طعمها فلم أجد ألذ منها ،و أحبرت يف أهنارها فلم أجد أصفى و أنقى من مياهها ،كنت
رائدا يف فضاء احلب مكتشفا لكوكب اهلناء ...ما أمجل دهاء هذه املرأة اآلرية ! و ما أروع فطنتها ! تضع كل
يوم حروفه اخلاصة به ،فتكتب يف األيام املشرقة أفصح شعر غزيل تراود به الطبيعة عن نفسها » 1فكان احلب
إحدى املظاهر االجتماعية اخلفية اليت غطت عليه األيام السوداوية يف اجلزائر.
كان موضوع احلب يف رواية "يف كل قرب حكاية" كهروب من زمن العنف و الظلم إىل مشاعر احلب اآلمن
الذي كان كنقطة أمل متحو ظلم الطغاة املستبدين ،و نالحظ ذلك يف قصة احلب العفيفة اليت منت يف قليب
"نذير" و "عبري" ،فتفوق حبهما على اخلوف و احلزن ليتحول الزمن من زمن الرعب و املوت إىل زمن السرور و
الفرح ،و جتسد ذلك من خالل الرواية « :عام سابق انشقت األرض من حويل و ابتلعت املآسي يف جوفها ،و
سحب الثقب األسود معه كل بؤس البالد و كآبتها من قليب ،مجيلة هي األقدار حني رمتين بني أحضان الشوق
يف زمن اخلوف ،و هبية تلك األيام حني تركتين ضائعا يف متاهات الفرح وسط دوامة النزح ،و شاء اهلل أن يذيقين
طعم اهلناء بعد أن أهنكين تعب التعاسة ».2
كما كان احلب سبيال خلروج "نذير" من ظلمة السجن و َتفيفا لوطأة العنف فينتقل الراوي باملتلقي من بؤرة
العذاب إىل فسحة احلب و التأمل ،و يف هذا املقطع دليل على ذلك « :كنت هائما يف صورة تلك الفتاة ،عبريا
يف تلك اللحظات ساحمت هتلر لرغبته يف االبقاء على اجلنس اآلري ،ألن اآلرية اجلالسة أمامي سالح فتاك
خيطف األنظار و يرد القلوب و يقطع أي صلة مع العلم ...الفتنة أشد من القتل خارجا ،و يف السجن هي
أفتك من التعذيب ...أعطتين تلك اآلرية دفعة حنو األمام ،ملسة عاشق دافئة يف شتاء األوهام ،رقصت ذايت تلك
الليلة على أنغام ا لرومانسيات و طربت بأحلان الشرقيات ،و سكرت بنشوة النسوة اجلميالت ،و ترددت يف
نعسي أحالم مثالية كثرية أنستين واقعي املهموم ،ما منعين اهلل سعادة األمس إال ليمتحنين أمام عقبات الغد ».3
جسدت الرواية صورة اجملتمع اجلزائري التسعيين الذي طغت عليه حالة من العنف و الظلم و القهر،
فأصبحت رائحة الدماء تنبعث من كل القرى و األحياء ،فتطرق "عبد الواحد هواري" إىل األزمة االجتماعية اليت
اجتاحت اجلزائر بسبب الصراع السياسي و ذكر خملفاته؛ كاآلفات االجتماعية اخلطرية اليت متثلت يف :السرقة،
33
الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثاني
االدمان على الكحول و املخدرات ،االستغالل ،النهب ،القتل ،التعذيب ،الشعودة و االغتصاب ...و انتشرت
مظاهر اجملتمع املزرية و كذا معاناة الشعب من الفقر و البطالة ،...و غريها من املظاهر اليت ال يكن حموها من
ذاكرة العشرية اليت مرت على اجلزائر خملفة وراءها الدمار و اخلراب للبالد.
33
الفصل الثالث
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
27
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
حظيت الشخصية باهتمام كبري من طرف النقاد و الباحثني ،إذ تعد أحد أهم مكونات الرواية ،فهي
« من أهم مكونات العمل احلكائي ،ألهنا متثل العنصر احليوي الذي يضطلع مبختلف األفعال اليت ترتابط و
تتكامل يف جمرى احلكي » 1فالرواية تستلزم حضور الشخصيات اليت حتدد مكونات الرواية و أفكارها ،لذا
عنصرا مهما و أساسيا يف كل عمل روائي؛ كوهنا منتقاة من اجملتمع الواقعي ،فال ميكن تصور
أصبحت الشخصية ً
خطاب سردي دون وجود شخصيات ألهنا عنصر هام يف هذا النوع من اخلطابات ،كما تعترب مرآة عاكسة
للمجتمع.
للرواية « قدرة خاصة على جعل شخصياهتا مقبولة ،كأهنم أشخاص واقعيون خيوضون جتربة معاشة ،أو ميكن أن
تعاش » ،2و مبا أن الشخصية متث ل اهليكل العام للرواية ،و هذه األخرية حتمل يف مضموهنا قيم اجتماعية واقعية
فالبد أن حتمل الشخصية بدورها قيما و مبادءًا اجتماعية أثناء تفاعلها مع األحداث.
رواية "يف كل قرب حكاية" تصنف ضمن الروايات التخييلية ذات األبعاد الواقعية ،يطغى عليها اجلانب
التارخيي حلقبة من حقب اجلزائر املريرة ،فكانت شخصييت "العريب" و "نذير" ضمن أبرز الشخصيات اليت رصدت
خملفات الصراع السياسي و مدى تأزم احلياة االج تماعية و اهنيارها ،كما صورت الرواية مظاهر العنف و الظلم و
الرهبة و اخلوف يف نفسه ،و انتشار رائحة الدماء و املوت
التعسف الذي حلق بالشعب اجلزائري ،و زرع الرعب و ا
يف كل الساحات و القرى و األحياء.
-1جويدة محاش :بناء الشخصية يف حكاية عبدو و اجلماجم و اجلبل ملصطفى قاسي- ،مقاربة يف السرديات -منشورات األوراس ،7002 ،د.ط،
ص .65
-2حسن البحراوي :بنية الشكل الروائي (الفضاء ،الزمن ،الشخصيية) ،املركز الثقايف ،بريوت ،لبنان ،ط ،1990 ،1ص .000
-3هداية مرزق :الشخصية الروائية عند الطاهر وطار ،رسالة ماجستري ،جامعة اجلزائر ،1992_1990 ،ص .7
27
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
كما دأب "عبد الواحد هواري" على فضح الطغاة من أفراد اجلماعات اإلرهابية املسلحة ،و بعض اخلونة من
أعضاء احلكومة يف حماوالهتم نيل احلكم و االستيالء على السلطة.
يربز الروائي مظاهر الصراع القائم بني احلكومة اليت تسعى إىل احلفاظ على استقرار البلد ،و اجلماعات
املسلحة اليت تقوم بنشر الرعب و اخلوف يف أوساط املواطنني جاعلة من الدين رداءًا خيدم مصاحلها ،و قد قدم
الروائي شخصياته وفق أيديولوجيات و أفكار منبثقة من الواقع ،و لكل شخصية دالالت و أبعاد معينة قد ختتلف
إحداها عن األخرى ،و قد متاثلها يف أحيان أخرى ،و لكل منها هدف معني هتدف إىل حتقيقه أثناء تفاعلها و
حتاورها مع الشخصيات األخرى.
تنقسم الشخصيات إىل نوعني أساسيني و أنواع أخرى ثانوية لنجد :شخصيات رئيسية تعد الركيزة األساسية
يف الرواية و احملرك الرئيسي لألحداث ،و شخصيات ثانوية تعمل كمكمل للشخصيات الرئيسية و مساعدة إياها
يف حتريك األحداث بسهولة « ،فإن هناك ضروب من الشخصيات حبيث نصادف الشخصية املركزية اليت
تصاديها الشخصية الثانوية ،اليت تصاديها الشخصية اخلالية من االعتبار )(personnage de compase؛
كما نصادف الشخصية املدورة و الشخصية املسطحة » 1فالشخصيات مالزمة للوجود الروائي.
عددا من الشخصيات يف عمله االبداعي "يف كل قرب حكاية" ،و برز االختالف
قدم "عبد الواحد هواري" ً
بينها بشكل ما؛ سواء كان هذا االختالف على املستوى االجتماعي أو النفسي و حىت الفكري .و قد تكون
هذه الشخصيات حقيقية ولدت من صلب الواقع ،أو خيالية ميثافيزيقية من صنع خيال الراوي ،حيث « تشكل
نقطة حتول فنية و ثقافية ،و قطعية مع تقاليد أدبية حكائية ،سادت لفرتات طويلة (األسطورة ،امللحمة ،احلكاية
الشعبية) ،انتقاال من البطولة و املثالية املطلقة إىل آفاق إنسانية و واقعية و إن جتاوزهتا يف بعض األحيان حنو
الغرائبية » .2و هذا ما دفعنا إىل استحضار أنواع الشخصيات رئيسية كانت أم ثانوية ،و حتما ستكون انطالقتنا
من الشخصيات الرئيسية.
-1عبد امللك مرتاض :يف نظرية الرواية ،عامل املعرفة ،الكويت1999 ،م ،ص .92
-2فيصل غازي النعيمي :العالمة و الرواية –دراسة سيميائية يف ثالثية أرض السواد لعبد الرمحان منيف ،دار جمد الوي للنشر و التوزيع ،عمان،
األردن ،ط7009 ،1م ،ص .156
27
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
تعد الشخصية الرئيسية هي احملور العام الذي تدور حوله األحداث ،سواء كانت هذه الشخصية بطال أو
منافسا للبطل ،و هذا األخري يكون جنبا إىل جنب مع البطل؛ موازيا إياه و مساعدا له يف سري األحداث إىل
النهاية.
أ – شخصية العربي:
شخصية "العريب" هي شخصية مناضلة صلبة و صبورة ،متتاز بطيبة القلب و صفائه ،و قد اختار الراوي
أمساء شخصياته بعناية يف حماولة منه لربط اسم البطل بصفاته الشخصية املتموضعة داخل الراوية ،فداللة اسم
العريب هي املاء الكثري الصايف ،إذ انعكس هذا الصفاء يف شخصيته من خالل أفعاله الطيبة اخلرية؛ من مساعدة
املتشردين كما فعل مع أحد اجملانني ،و كذا تأثره الشديد باحملن و املصائب اليت حلت على أصدقائه ومن حوله،
و ما هذا إال دليل على صفاء نفسه و متيزه بقلب مرهف حساس كما حيمله إمسه من هذه الصفاة ،فيقول الراوي:
« ال حيس بالبائس اإال البؤساء ،هذا ما تبادر إيل ،رغم قلة ما عنده و ما ميلك من زاد اإال أنه آثره على نفسه،
جديدا خيفي جنونه ».1
بتلك األموال الشحيحة اليت يكسبها من حفر القبور ،اقرر أن يشرتي له مظهرا ً
و من صفات حامل اسم "العريب" أيضا الشجاعة و اإلقدام حيث ظهرت يف الشخصية أثناء هجومها على
األعداء -اجلماعات اإلرهابية -بغية نصرة وطنها و متسكها الشديد هبويتها .و قد محلت شخصية "العريب"
العديد من القضايا منها :السياسية و الدينية و االجتماعية ،...و اليت حددت دورها اهلام يف تشكل أحداث
كونت مالمح شخصيته.
الرواية و َّ
تدور أحداث الرواية بشكل كبري حول شخصية "عمي العريب" إذ يعد من الشخصيات الرئيسية األصلية و
األساسية ،حيث فرضت نفسها و وجودها عرب املنت الروائي ،فـ "عمي العريب" حيمل يف جعبته قضية وطن و دين
مدافعا عن كليهما من التزييف و الكذب و الفنت .كان "عمي العريب" أميًّا ال جييد القراءة و ال الكتابة كونه نشأ
يف بيئة سادت فيها األمية و اجلهل ،و هذا راجع إىل الضروف السياسية اليت طرأت على اجلزائر؛ كاالستعمار
الفرنسي الذي نفض اجلزائريؤن غباره من مدة ليست بطويلة ،خملفا وراءه أزمة من الفقر املدقع و اجلهل ،و تلته
بعد ذلك فرتة أسوء بكثري حني جلأ قادة احلركات اجلهادية إىل اجلبال رفقة مؤيديهم ،فأحلاوا القتل و سفك الدماء
27
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
ما دفع األهايل إىل التقوقع داخل املنازل و مغادرة املدارس ،فكان هذا هو السبب الرئيسي يف تفاقم أزمة اجلهل و
انتشار األمية ،لكن و على الرغم من اجلهل الذي بث جذوره يف الشعب اجلزائري اإال أنه مل يبعدعقله عم حب
الوطن و التضحية بالنفس ألجله و قد جسد الراوي هذه الصورة يف روايته من خالل شخصية "عمي العريب"
جاهدا إىل إتالف بذور اجلهل
الذي يقي يناضل و يدافع عن وطنه إىل آخر الرواية ،و كذلك "نذير" الذي سعى ً
داخل السجن يف فرتة مكوثه به ،من خالل حماوالته توعية و تثقيف املساجني و إخراجهم من دائرة اجلهل و
األمية.
مل يتجاوز "عمي العريب" الثانية و اخلمسني من عمره ،أمسر البشرة و طويل القامة ،عينه اليسرى مطموسة
جراء حادث وقع له يف صغره ،كما يسكن يف منزل ضيق و حقري رفقة ابنه "زيد" مبدينة "تلمسان" ،يعمل "عمي
ا
ليال ،و يف النهار يصبح ح اف ًارا لبيوت املوتى الذين غادروا احلياة ،ف ـ « :شغله مع
العريب" كحارس ملقربة "مغنية" ً
قربا يناسبهم ».1
األموات ...فقد كان مهندسا لديارهم األخرية ،حيفر هلم ً
تعترب شخصية "عمي العريب" منوذجا للجزائري الذي غرق يف دوامة األزمات و ما تبعها من فقر و جهل و
تعذيب و خوف ،فبدأت رحلة "العريب" يف املعاناة مع والده املتوحش الذي أمطره و أمه بالضرب و السب و
الشتم ،فكانت أمه هي مالذه الوحيد يف هذا الوطن ،و اليت يضحي بنفسه من أجلها بعدما ُرمي والده يف
السجن بسبب طغيانه على زوجته "فاطنة" .اإال أن املنية وافت األم "فاطنة" بعد ما هامجت اجلماعة اإلرهابية
القرية اليت تقطن هبا ،و قتلت ُج َّل سكاهنا من بينهم والدة "العريب" و حبيبته "خدجية" اليت كان ينوي الزواج هبا
فور تقاضيه أجر عمله ،لذا اضطربت حالته النفسية كثريا.
27
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
ظل "عمي العريب" متمسكا بدينه و هويته االسالمية العربية ،فلم يكن أسره ذلك اإال نقطة مؤملة صنعت منه رجال
شهما ال خيش اخلطر ،إىل أن حطت شخصية "أمال" رحاهلا يف الرواية فقلبت موازين حياته ماحنة إياه طاقة
سرورا مل يعرفه من قبل ،وهبته هذه الزوجة حباها و عطفها و أظهرت له مالمح الوالء و
إجيابية كبرية و هبجة و ً
االخال ص ،لكن الراوي هنا وضعنا أمام شخصية تتصف بالغدر و اخليانة فيتعرض البطل إىل اخليانة مما يدمره و
يقربه من حبل اجلنون ،ليعتزل بعد ذلك الناس و العامل متجها صوب القبور؛ حيفرها لتنام األجداث هبا ،و يناجي
األموات بدل األحياء.
مع أن احلياة كانت قاسية على شخصية "عمي العريب" اإال أن صموده مل يُهزم و مل يُكسر ،و ثقته بربه و
متسكه بإسالمه كان احلبل الشديد الذي ال تقطعه املعاناة و املآسي اليت بثت مسها فيه ،فحقيقة الشخصية تظهر
من خالل سلوكاهتا و آرائها و حىت مواقفها.
ب – شخصية نذير:
"نذير" ليس جمرد شخصية رئيسية فحسب ،بل هي إحدى رموز الصرب مبقاومتها عراقيل احلياة الصعبة،
حيث ُع ِر َ
ف باملواضبة و الدقة مستقرا يف حياته ،يعمل يف معمل الذرة احلكومي ُ
ًّ فـ "نذير" كان شابًّا متزنا جديًّا
إزاء ممارسة عمله ،فكانت ل ـ "نذير" حياة عادية بسيطة تتخللها بعض التخوفات بسبب األوضاع السياسية غري
املستقرة يف البالد ،فيقول الكاتب على لسان "نذير" يف هذا الصدد « :كنت أعمل موظفا يف معمل الذرة الذي
متلكه احلكومة ،مل تكن األوضاع مبشرة باخلري .يف الشهر املاضي ُسارح أكثر من عشرين عامال حبجة الضائقة
املالية اليت متر هبا البالد ،لكنين كنت ال أزال واقفا حمافظا على وظيفيت ،مل أتغيب عن يوم واحد طيلة أربع
22
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
سنوات ،و كان املدير كلما ضرب مثاال يف اجلدية و املثابرة و اإلخالص يف العمل ذكر امسي » ،1ففي بادئ
تغري الحقا ،لتصبح حياهتا
األمر كانت هذه الشخصية عادية ال تتخللها أية قضايا أو آراء ،لكن هذا اجلمود َّ
صعبة مليئة باملخاطر ،حاملة لقضايا هامة.
موضوع احلب من أهم ما الزم "نذير" عرب الرواية ،فعرف حببه الشديد ل ـ "أمينة" و تعلقه هبا أاميا تعلق ،فقد
كانت يف نظره هي الفتاة الطاهرة النقية العفيفة اليت أحبها بابتسامتها العذبة املشرقة و « مجال عينيها ،لكن أمجل
ما فيها كان لطفها و حمبتها للخري و وفاءها الشديد للحب و أشواقه ».2يقول "نذير" يف حب "أمينة" « :دق
قليب دقات خفيفة متقطعة و مل يكن من عادته ذلك ،ارجتفت أوتار طبليت السمعية و ترمنت حبالوة الصوت و
دفء النفس املنبعث منه ،و ضعت عالمة حفضت هبا رقم الصفحة ،مث التفت إىل ذلك املخلوق الذي زلزل
حصن قليب قبل أن تراه عيين ،كنت أظن أن احملبة متنح إلينا بإيعاز من البشر ،لكن بعد أن التفت إليها أدركت
أهنا نعمة من اهلل يقذفها يف قلب عباده خالل رمشة عني ».3
حبه ل ـ "أمينة" كان دافعا قويا ليقوم خبطبتها على أمل أن تصبح زوجته املخلصة و أم أوالده احلنونة و
مصدر هبجته و سروره ،أ َِمل البطل أن تزيح خطيبته عنه الوحدة املوحشة اليت ابتلعته بعدما تويف والده و تركا
بداخله حربا ترتأسه الوحدة و احلزن ،لكننا جنده يقول « :أليس االرتباط بروح حرة طليقة تؤازر روحي املقيدة
بآالم الفراق هو سر التجاوز و النسيان ؟ لعلاي كنت خمطئا هبذا الشأن ،كنت وحيدا هائما متناقض املشاعر يف
دوامة األح اسيس املتنافرة ،أرسم لوحات بوجه بشوش مبتسم و أعني مألهتا العربات ،أقضي جل وقيت خماطبا
نفسي أراودها تارة و تراودين تارة أخرى » ،4فخطبته حلبيبته مل متنع عنه إحساس اليتم و الفراغ الذي أحاط
بروحه ،و هذا دليل على أن حالته النفسية مل تكن مستقرة ،بل تعرضت للتذبذب و التشويش.
تتصف شخصية "نذير" بالغرية الشديدة على أحبائها ،خاصة فيما يتعلق بشرف الفتاة اليت ستصبح زوجته
يوما ما « :مل أستطع تقبل فكرة مكوثي يف السجن بتهمة أين قمت حبماية عرضي و شريف ،هل تستحق احلرية
السكوت عن هذا ؟..ال ..و اهلل مل أكن ألرضى بذلك و لو بعد مائة عام ،و لو أهنم أخرجوين تلك اللحظة و
صادفت نفس ما حدث يل سابقا ألعدت ارتكاب ما فعلته أول مرة دون حسرة أو ندم ،الشرف حيتل صدارة
27
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
الفهرس يف كتاب قليب ،فإن تنازلت عليه مل تعد هناك قيمة هلذا الفؤاد البائس القابع يف جسمي » 1و هذا ما
ساقه إىل دخول السجن بعد ما هتجم على املعتدي حىت كاد يقتله .بعد خروجه من السجن وجد "نذير" نفسه
فاقدا لعمله ،و رغم البحث املضين عن غريه مل يوفق لذا احنرف عن اعتداله و خاطر بتهريب الوقود عرب احلدود.
حيمل اسم "نذير" مدلوالت عميقة إذ يتصف صاحبه بالقوة و البسالة ،كما يعد شخصا شديد االعتناء
بأسرته ،و هذا ما انعكس فعال على هذه الشخصية اليت أحاطت عائلتها باحلب و احلماية.
فعاش "نذير" أصعب أيامه يف السجن بسبب هتمة مل يقرتفها ،بل لفقت له من قبل "حممود" الذي كان
ينافسه يف حب "أمينة" ،قادته هذه املنافسة و اجلشع لوضع خطط شنيعة حتيل إىل إثبات هتمة املتاجرة باملخدرات
ل ـ "نذير" ،ما ترك يف هذا األخري إضطرابات نفسية تركته ضائعا أكل التشويش عقله ،لذا اجتمعت يف شخصيته
مجلة من التناقضات ،فنجده يف بعض األحيان متفائال ميلؤه األمل و التفاؤل ،اإال أننا جنده فجأة يتصرف بطيش
حني يدب اليأس إىل قلبه ،فعندما اشتد عليه احلنق جتاه "الواسيين" أبرحه ضربا إىل أن كاد يقتله هو اآلخر لكن
الندم أكل قلبه و حزن على حالته اليت وصل إليها بسببه معامال إياه بلطف.
لكن دوام احلال من احملال فسرعان ما فك أسر "نذير" و قذفه السجن خارج أسواره ،راميا إياه يف حضن
عائلة ثرية طيبة و متواضعة كان تعرف إىل إبنها يف السجن ،فأحب "عبري" أخت صديقه و تزوجها ،و كانت
عالقتهما مليئة باحلب و املودة و االخالص ،ألهنا كانت امرأة طاهرة نقية و وفية ،مل تتخل عنه رغم فقره و أمله
العميق الذي سكن أوصاله ملدة طويلة ،اإال أن السعادة مل تدم طويال فبعد موت "عبري" ُج َّن "نذير" و عاش
حياة صعبة ميلؤها احلزن و التشتت.
تركت له "عبري" لغزا صعبا تتحقق سعادته حبله فقط ،يف طريق البحث عن احللول توجهه عثرات و عراقيل
صعبة جعلت من حياته جحيما حيرق روحه ،لكن احلل يصله أخريا و يتزوج "أمينة" حبيبته األوىل ليعيشا يف
سعادة.
نستخلص من خالل تناولنا هلذه الشخصية البطلة "نذير" أهنا مرت بأربعة مراحل أساسية يف حياهتا داخل
الرواية:
27
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
املرحلة األوىل :و هي املرحلة اليت عاش فيها حياة مستقرة هادئة ميتلك عمال مقبوال يعيل به نفسه ،مث وقع يف
حب "أمينة" و قام خبطبتها ،و عاشا قصة حب مجيلة ميلؤها االخالص و الوفاء.
أما املرحلة الثانية :فكانت خمتلفة عن األوىل و أكثر قساوة منها ،فقد ساق حقد غرميه "حممود" إىل تلفيق هتم
خطرية له قلبت حياته رأسا على عقب ،فحل حمل استقراره اضطراب و حززن و ظلم شديد بدخوله السجن.
املرحلة الثالثة :كانت خبروجه من السجن املصاحب لعثوره على حب آخر أكثر طهرا و سعادة ،تزوج من "عبري"
معا أحلى أيام حياته أزاحت عنه ظلمة السنوات املاضية فيقول « :عام سابق ،انشقت األرض من حويل
و عاشا ً
و ابتلعت املآسي يف جوفها ،و سحبت الثقب األسود معه كل بؤس البالد و كآبتها من قليب ،مجيلة هي األقدار
ضائعا يف متاهات الفرح وسط
حني رمتين بني أحضان الشوق يف زمن اخلوف ،و هبية تلك األيام حني تركتين ً
دوامة الرتح ،و شاء اهلل أن يذيقين طعم اهلناء بعد أن أهنكين تعب التعاسة ».1
املرحلة الرابعة :عاودت حياته الغرق يف ظلمتها حني ماتت زوجته و رفيقة دربه "عبري" تاركة إياه ضائعا حائرا ال
هز كيانه و ذبذب أوضاعه
جييد العيش من دومها ،كما تركت له لغزا صعبا ال جيد طريق السعادة اإال حبله ،لغز ا
النفسية كثريا ،فلم جيد طريق الراحة اإال بعد كشف رموزه و ازاحة الغموض عنه ،و تزوج من حبيبته السابقة
"أمينة" و تبنَّا طفلة يتيمة أمسوها "عبري".
شخصية "أمينة" جديرة بأن تكون من الشخصيات األساسية للرواية لرتبعها على الفصول األوىل بشكل
كبري و واضح ،عاشت "أمينة" فقرية بعدما اعتُقل والدها بتهمة حيازة املخدرات و املتاجرة هبا ،فصادرت احلكومة
كل ممتلكاهتم ما عدى بيتا حقريا يأويها و والدهتا من وحشة الشارع ،خلَّف الزوج "أمينة" ابنته الوحيدة و
"حبيبة" زوجته اللتني جاهدتا من أجل البقاء بكرامة و اعتمدتا على نفسيهما فقد منعتهما عزة النفس من مد
يديهما للناس.
كانت هذه الشخصية صلبة قوية متارس بعض األعمال اليت تساعدها على العيش رغم دخلها القليل ،فيقول
الراوي « :تعمل منظفة يف منازل أثرياء املدينة » ،2و مبا أهنا تعيش يف جمتمع حمافظ يعيب اعتماد الفتاة على
غريب حىت لو كان خطيبها ،فقد رفضت هي األخرى أي مال أو إعالة من قبل خطيبها "نذير" قبل أن تستقر يف
78
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
صرح الكاتب
بيته ،فكانت "أمينة" متمسكة بعاداهتا ،حريصة على إعطاء صورة حسنة انفسها يف اجملتمع ،ليُ ِّ
بذلك يف منت الرواية بقول "نذير" « :كانت ال تعرتف بدوري يف إعالتها و أنا مل أتزوجها بعد ،هلذا كانت ترى يف
حماوليت مساندهتا شيئا من العيب ،و هذا ما كان معروفا يف قريتها » 1فهي عينة من النساء اجلزائريات الاليت
متلكن عزة النفس و متسك باهلوية ما مينعها من خرق عادات اجملتمع.
"أمينة" فتاة حمافظة على دينها و مقوماته ،مزينة نفسها حبجاب فضفاض يسرت جسدها و حيميها من
النظرات احلقرية ،ال تبدي زينتها اإال أمام زوجها و حمارمها ،و هذا ما جتلى يف الرواية « :ترتدي أحد األلبسة
الطويلة و حجابا فضفاضا بعد أن مسعت أصوات الضيوف وسط منزهلم » 2و يضيف قائال « :نزلت األدراج
بلباس أسود طويل و حجاب أبيض يعكس نضارة وجهها » 3فهي فتاة مسلمة مصرة على ارتداء حجاهبا يف
حضرة الغرباء ،فباإلضافة إىل كوهنا امرأة مناضلة هي امرأة مسلمة متدينة ،حتلت بأمجل صفات املرأة و تزينت
بأهبى حللها؛ حلة احلياء و احلشمة ،و هذا ما نقف عليه بني صفحات الرواية « :مشت أمينة على استحياء ».4
تتحلى هذه الشخصية بالقوة و الصرب و الثبات على املصائب اليت أل َّـمت هبا ،فقد دخل خطيبها "نذير"
السجن بعدما دافع عن شرفها الذي كاد يُؤخد منها ،و تلقت هجوما عنيفا من والدهتا اليت مل تكن موافقة متاما
بث سنها أما ابنتها و مقارنة حماسن
ف "حبيبة" عن ِّ
على خطبة ابنتها من رجل ال ميلك املال الكثري ،و مل تَ ُك َّ
"حممود" مبساوئ "نذير" ،فكانت البطلة « ختيط صربها بتأن و هدوء » 5اإال أن األمر مل يدم طويال فثارت
حفيضتها و « أخذت محم الربكان يف التساقط على شكل كلمات أحرقت معها األخضر و اليابس ،ضربت
الطاولة بيدها حىت سقطت منها جل األواين 6» ...كلبؤة تدافع عن ممتلكاهتا من أيدي املفرتسني ،لتتحول
"أمينة" الصبورة إىل وحش ال صرب له و ال قيود إىل أن أصبحت عبارة عن كثلة غضب تغشى املكان.
« لطاملا كانت قوية صلبة ترفض بشدة رؤييت هلا يف حالة وهن و ضعف،7» ...قد تكون الصالبة أحيانا
قاسية ،و تعد محال ثقيال على امرأة نقية مثل أمينة ،و انكسارها بسبب التعثرات اليت مرت هبا ليس ضعفا منها،
78
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
إمنا حال ال مفر منه ،فاالنكسار أمام من حنب ال يعد انكسارا بل نقطة قوة تأيت عقب التخلص من محوالت
احلزن ،و صرف األمل و العربات خارجا.
مل يكن احلظ حليف "أمينة" فقد دخل "نذير" السجن بتهمة حيازة املخدرات و هتريبها ،علمت يف قرارة
نفسها أنه مظلوم ألهنا تعلم من أي طينة صنع هذا االنسان ،اإال أن احلياة ليست عادلة دائما فأحيانا تكون
ظاملة حلكمة جنهلها ،لكنها سلمت نفسها لألمر الواقع و قبلت الزواج من éحممود" رغم أن قلبها بقي معلقا مع
حبيبها "نذير" .بقيت قوية تأىب االستسالم فسعت جاهدة إىل الوالء لزوجها و االعتناء به و إعطائه كل حقوقه و
تنفيذ كل واجباهتا كزوجة ،لكن هذا الزوج أذاقها أنواعا عديدة من الظلم ،منوال إياها جرعة من احلزن ليست
فكثريا ما تركها وحيدة يف أوقات تكون يف أمس احلاجة إليه ،و حىت إن ُوِجد ال
بالقليلة ،فأصبح وجوده كعدمه ً
يؤدي واجباته ليكون شفافا غري مرئي و بال فائدة ،و جتلى ذلك من خالل الرواية « :كانت ختاطب اجلماد ا
املصنوع من الفخار عله يؤنس وحشتها ،كان يف قلبها فراغ سحيقلم متأله األشهر األوىل من ارتباطها ،و أدانت
نفسها يف حمكمة وجداهنا ».1
ككل امرأة صبورة هتتم بزوجها و تصرب على أذاه حتلت "أمينة" بالصرب مع "حممود" و تقلبات مزاجه
املفاجئة « :و مل تفاجأ و مل تستغرب الختفاء ذلك الزوج املتقلب ،فكثريا ما كان ينسحب ليال دون التفوه بأدىن
2
دب اليأس
كلمة مث يعود بعد ذلك و مل يبق يف الشوارع حياة للعاقلني » ،فاعتادت هذه احلياة غري املنصفة ،و َّ
قلبها دبيب السم يف اجلسد من حتسن أحوال زوجها أو تعقل أمه و انصافها هلا ،و هذا ما توضحه الرواية « :و
قد علمتها األشهر القليلة اليت عاشتها حتت وطأة العذاب بني مترد زوجها و تسلط أمه أن تنسلخ من عباءة
املباالة ،فصارت ال تعطي أكثر من جهدها و ال ترفع من سقف آماهلا واضعة املثل الشعيب أمام عينيها :كيفاش
ماجات تجي ياك آخرتها الموت ».3
77
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
واحدة منها ،غاضبا حانقا من تصرفاهتا اليت يراها صبيانية ،يتهمها بالشك و أهنا تريد تقييده يف قفص و حترمه
حياة الرجال » ،1فكانت هذه الشخصية مظلومة من قبل الزوج ،تقبع حتت تسلط اجملتمع الذكوري الذي ال
يعرتف دور املرأة و ال قيمتها.
يف هذا العامل هناك نساء مناضالت متحديات للصعاب اليت تواجههن حبزم و شدة ،فتحلت هذه
الشخصية كغريها من النساء الصابرات بالقوة و الشجاعة ،صبورة صرب "أيوب" عليه السالم ،و مع حتطم آماهلا و
أحالمها فإهنا جترب انكساراهتا لتصبح أقوى مما سبق ،غري ساحمة بسرقة آماهلا و طموحاهتا فكانت « تدرك متاما
أنه وجب عليها أن تكون قوية صابرة يف هذا العامل ،فهذا الفضاء الشاسع ال مكان فيه للضعفاء فكيف باألحرى
جتد بقعة للضعيفات » 2و ما كانت شخصية "أمينة" ضعيفة بأي شكل من األشكال ،بل كانت مثاال حيًّا
للشجاعة و قدوة لكل امرأة كسر اليأس أملها.
تعرضت "أمينة" أيضا لظلم أم زوجها سليطة اللسان اليت حاصرهتا بأسئلة خادشة للحياء عن محلها ،حمرجة
إياها بشكل يومي عن سبب تأخره إىل اآلن ،و بعدما رمى زوج "أمينة" حقيقة عقمها يف وجهها ضاعفت
العجوز حدة طبعها ،و طلبت منها يف أحد األيام زيارة ر ٍاق -مل يكن ر ٍاق بل مشعوذ يغتصب النساء بعد
تنوميهن ،-و مبا أن "أمينة" امرأة مجيلة بقوام ممشوق فقد كانت فريسة سال لعاب املشعودهلا ،اغتصبها بعدما
ناوهلا ماءًا ادعى أنه مرقي ،لكنه كان حيتوي على منوم قوي ،فجسد الراوي ذلك من خالل قوله « :ارتشفت
أمينة عدة قطرات و وضعته جانبا ،و ما هي اإال حلظات حىت غطت يف نوم عميق ،أحكم املشعوذ إغالق باب
هم هبا بعد أن جردها من مالبسها ،كان شيطان يف هيئة بشر ،منحه الناس ثقة عمياء و كان هو ينزع
مكتبته و َّ
عن نسوهتم ثياهبن » 3فما كل هذا البالء الذي أملا بـ"أمينة" ؟ و كيف استطاعت كبت صرخاهتا اليت تكاد متزق
روحها ؟ أي قوة امتلكتها ؟
تركت هذه الشخصية زوجها بعدما ازداد طغيانه و أصبح كاجلمرة اليت سقطت يف قاع البحر ال أمل هلا من
االشتعال ،و متظهر ذلك من خالل « :منذ أن دخلت بيت أمها مل تسأل عن زوجها ،مل تتصل به و مل تبعث له
أي رسالة قصرية ،مخدت نار فؤادها و انطفأت لوعة شوقها ،صار وجوده من غريه ال يعنيها ،ماتت قيمته من
77
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
فؤادها يوم مل يقدر أنوثتها » .1مات زوجها و انتهت معاناهتا معه و مع أمه ،و بدأت مرحلة جديدة يف حياهتا،
أخريا و حققت حلمها يف الزواج من حبيبها "نذير".
و لكوهنا جوهرة نادرة أتاها الفرج ً
فصور لنا الراوي "عبد الواحد هواري" صالبة هذه الشخصية اليت مل تفقد األمل رغم الظالم الذي أحاط
هبا ،فهي ليست جمرد شخصية ورقية ،بل متتد جذورها إىل اجملتمع و الواقع ،إذ تعد مثاال و منوذجا للمرأة الصابرة
املقاومة لكل االنكسارات اليت عاشتها.
د – شخصية عبير:
"عبري" هي شخصية حمورية مركزية احتلت قسطا كبريا من املنت الروائي ،و قد رمسها لنا الراوي من خالل
السرد الذي طال الرواية متطرقا إىل صفاهتا الفيزيولوجية على لسان "نذير" الذي ُهبر جبماهلا و هبائها فيقول:
« كنت هائما يف صورة تلك الفتاة ،... ،عينان زرقوان صافيتان كسماء يف فصل ربيعي دافئ ،قامة معتدلة و
جسد غري ممتلئ وال حنيف ،و بشرة بيضاء إن خدشتها تركت أثرا ورديا بديعا ،و شعر ذهيب يصل إىل أسفل
2
اخلالب الذي يأسر قلوب الناظرين إليها.
ظهرها » ،فوصف لنا مجاهلا ا
كانت "عبري" إنسانة حمرتمة طيبة جدا ،كل منابع العطف و احلنان انبثقت من روحها الطاهرة النقية ،تعيش
يف منزل كبري و فخم ألهنا تنحدر من عائلة ثرية جدا رفقة والدهتا و أخيها و بعض اخلدم ،اإال أن ثراءها مل يزرع
الكرب و التعجرف يف نفسها ،بل زادها بساطة و عطفا على اآلخرين. ِ
لذا اختار هلا "عبد الواحد هواري" إمسا حيمل صفاهتا الشخصية ،فمعناه الرائحة الطيبة و العطر الزكي ،كانت
"عبري" ترتك رائحتها الطيبة يف كل مكان متر به ،و تعطر اجلميع بكلماهتا الرقيقة.
تظهر بطلة الرواية متفتحة يف تصرفاهتا ،جريئة يف انتقاء مالبسها ،فيقول الراوي « :كان شعرها منسدال حىت
يكاد يالمس ظهر احلصان ،ترتدي قميصا أبيض و سرواال جلديا أسود و جزمة تصل إىل ركبتيها» ،3و هذا ما ال
حيبذه اجملتمع اجلزائري احملافظ الذي ينبذ التحرر خاصة بالنسبة للمرأة ،ليكون قول "نذير" أصدق دليل و أوضح
مثال عن هذا املوقف « :مل أستطع املشاركة يف احلديث اللهم اإال لإلجابة عن األسئلة املوجهة إيل ،ألين مل أكن
77
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
مستعدا لفكرة االنفتاح هذه ،فمن املكان الذي أتيت منه ،كانت هذه الصورة لتكتب يف جرائد العيوب و لو
كانت يف السجن ،ألن صحافة جمتمعنا تقدس العيب أكثر من احلالل و احلرام ».1
تتميز هذه الشخصية جبانب غامض يطغى عليها ما دفع زوجها إىل فك رموز كلماهتا املشفرة ،ف ـ « كانت
نظرهتا للحياة غري تلك اليت يراها الفالسفة و الشعراء ،مميزة بفلسفو أنثوية غامضة و ثابثة ،كانت كشرنقة حتولت
فراشة قبل موعدها احملدد » ،4فاستمرت حياهتا برمي األلغاز على زوجها و أحبت هذه اللعبة كثريا ،يقول
"نذير" « :استمرت عالقتنا مزينة بفضول األلغاز و التحديات ،شرط أن يغسل اخلاسر األواين املساء أو بعد
فطور الصباح » ،5فكانت مرحة مشاكسة يف تصرفاهتا.
مل يغادر األمل روحها رغم ما أصاهبا من منغصات احلياة و مل ترفع راية االستسالم أبدا ،بل واصلت احملاربة
و املقاومة كجندي يدافع عن نفسه يف ساحة املعركة ،فحقيقة الشخصية تظهر من خالل تعبريها عن آرائها و
مواقفها و سلوكاهتا ،كما يتضح ذلك من خالل هذا املقطع من الرواية ... « :ستقولون أين أبادله املدح و إننا يف
عامل غري عاملكم املشؤوم و أنكم يف واقع بائس ال حيتوي أمثالنا إال يف أفالم السينما ،لكن ليس تلكم حجة
تدفعون هبا عنكم األماين و ترسلون أنفسكم يف غياهب الطيش و التذمر ،احلب ال جيري وراءنا إن مل نعبد له
77
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
طريق النفس الصادقة » 1و تضيف « :حريتين فلسفة الوجوديني إذ أهنم ظنوا يف مطلق حريتهم وجودا غري ذلك
الذي حيتوي بني أركانه قصة زوج ويف ،...فلسفيت مل تسطر بعد يف التاريخ ألن حروفها كتبت بلغة ال يفهمها
البائسون من بين البشر ،قد يرتمجها السعداء لكنهم لن يقفوا عند حسن تأويلها ،ألن أفكاري متشعبة رافضة
لفكرة املوت باستسالم ،و جعلت من قول العبقري تولستوي سنة حيايت" :سنموت جميعا فلماذا ال نكلف
أنفسنا بعض المشقة" ».2
تعرضت الشخصية حلادث زعزع استقرارها و أضاق فسحة أملها ،أصبح احلزن رفيق درهبا بعدما اعرتضتها و
زوجها فرقة من اجلماعة اإلرهابية ،و قتلت جنينها الذي مل يـََر النور بعد ،ذلك اجلنني كان مثرة حبها و منبت
سعادهتا ،لكن هؤالء اجملرمني مل يدعوا هلا اجملال لتفرح به و ال ليصبح امسه "زكريا" أو "مرمي" ،لتجسد الرواية ذلك
من خالل « :يومها خرجت من املستشفى أدفع كرسيا متحركا عليه زوجيت ،مل تفقد شيئا من مجاهلا ،لكن
مالحمها مالت إىل الكآبة و احلزن ،دون ابتسام ،اهتزت ثقتها بنفسها ،و هبت لون أحالمها ،كانت الصدمة
شديدة و التعايف منها حيتاج ألشهر مطولة من العناية ،حىت إن الطبيب أعطاين الئحة من األوامر ،تتضمن الئحة
أخرى من الكلمات ا ْحملظورة قوهلا أمامها » 3ألن نفسيتها ُحطمت و ابتسامتها هبتت هلذه املصيبة اليت أملت هبا،
و مل يطل احلال حىت غادرتنا البطلة صاحبة الست و العشرين سنة لتكون هنايتها تراجيدية ،ماتت بعدما هزمها
جسدا
املرض و مت اكن منها ،يقول "نذير" « :يومها خسرت زوجيت بعد أن سحبها املوت مبخالبه و مل يرتك يل اإال ً
هامدا ال روح فيه » 4ماتت و خلفت وراءها حزنا خيام على اجلميع و قاد زوجها و والدهتا للجنون.
جسدت "عبري" بذلك صورة املرأة اجلزائرية الطيبة ،الرقيقة ،فكانت رمز الزوجة املخلصة الصادقو و ِ
احملباة،
خرية ترتك األثر الطيب أينما حلات.
"عبري" هي رمز العطاء و التضحية و الوفاء ،شخصية إجيابية ِّ
- 2الشخصيات الثانوية.
الشخصية الثانوية هي املساعد األساسي و الرئيسي للشخصية الرئيسية و تعد مرافقا هلا ،فال ميكن الفصل
بني الشخصية الثانوية و األساسية ف ـ « ال ميكن أن تكون الشخصية املركزية يف العمل الروائي إال بفضل
77
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
الشخصيات العدمية االعتبار فكما أن الفقراء هم الذين يصنعون جمد األغنياء فكأن األمر كذلك هاهنا » 1فلها
عدة أدوار حبيث تربز كمساعدة أحيانا و يف أحيان أخرى تكون معارضة.
أ – شخصية محمود:
تعد شخصية حممود من الشخصيات الثانوية اليت ساعدت يف منو األحداث و توازهنا ،و هي مرافق
للشخصية الرئيسية « فهي اليت تضيء اجلوانب اخلفية أو اجملهولة للشخصية الرئيسية ».2
هي شخصية متثل تاجر خمدرات خطري ،يف هناية العشرينات من عمره يقول الراوي « :صديق والدها أيام
العمل ،كان شابا يف أواخر العشرينات و تاجر يف كل ما يباع » ،3و يضيف أنه « :قبل سنوات ألقت الشرطة
القبض على شبكة مهربة للمخدرات ...كان حممود عضوا فيها » 4فكانت هذه الشخصية ال أخالقية منحرفة،
صاحبة أعمال ال شرعية.
ميثل "حممود" دور اجلبَّار املتسلط املتباهي بأمواله و ممتلكاته اليت جناها من جتارة احلشيش ،و جتلى ذلك يف
الرواية من خالل هذا املقطع السردي « :ركن حممود سيارته الفرنسية " "Renault21و كان كل اجلالسني يف
املقهى يتأملون وصوله ألهنا كانت سيارة عصرية مبحرك قوي و هائل ال يقدر على شرائها سوى أثرياء املدينة »،5
باإلضافة إىل أنه كان سيء السمعة يف اجملتمع ،مكروها من قبل اجلميع بسبب أعماله النكراء اليت كان ميارسها ،و
قد أظهره الراوي يف طريقة السرد واصفا إياه بالوقاحة و العجرفة يف قوله « :كان شخصا مذموما من قبل الناس
لوقاحته و عجرفته اليت اكتسبها من أموال طائلة جناها من جتارة احلشيش ».6
"حممود" شخصية مزدوجة جتمع بني املكر و اخلبث و بني النبل و حسن اخلُلق مع "أمينة" فقط ،كما تعد
اخلريين و سلب حقوقهم و االستيالء على أحبائهم ،فتأخد كل ما
شخصية معادية للخري دورها إعاقة مسار ا
جورا دون مراعاة اجلانب النفسي و االجتماعي للغري ،هي شخصية تزعم مساعدة
زورا و ً
تطمح إليه نفسها ً
-1عبد امللك مرتاض :يف نظرية الرواية –حبث يف تقنيات الكتابة الروائية -دار الغرب وهران ،اجلزائر ،د.ط ،ص .100
2عبد القادر أبو شريفة :مدخل إىل حتليل النص األديب ،دار الفكر ،عمان ،األردن ،ط ،7000 ،0ص .106
-3الرواية ،ص .15
-4الرواية ،ص .15
-5الرواية ،ص .56
-6الرواية ،ص .15
72
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
األحبة و حتقيق مصاحلهم ،فتُظهر عكس ما تبطن ،يقول املبدع يف هذا الصدد باستعماله املزج بني أسلوب السرد
و احلوار « :فهم املذموم تلميحات محايت ،و سايرها.
-أي عنف هذا و أي قلب حديدي ميتلك ؟ مسعت أنه كان يصر على قتله لوال صرخات زوجته ،و يؤسفين يا
سيديت أن أخربك أنك أرسلت ابنتك يف رحلة حمفوفة باملخاطر.
قام حممود بإشعال سيجارة جديدة و استنشق دخاهنا حىت اسودت رئتاه ،مث تأفف بقوة كأن اهلم يعزف على
أوتار قلبه و استأنف قائال.
-غريب أمر فتيات هذا الزمن ،كيف ترتك ابنتك من يأويها يف القصور و يتوجها أمرية فوق كل الفتيات من أجل
رجل ال ميلك قوت يومه !؟ و املصيبة العظمى أنه صار سجينا بسبب عنفه ،كيف تأمنني أن ال يهشم أنف
طفلتك هذه يف يوم من األيام ،فرتجع ندمانة حني ال ينفع الندم » ،1فرمست لنا الرواية هذه الشخصية املاكرة و
املليئة باخلبث و الدهاء ،تُضهر عكس ما تبطن فما كان تصرف "حممود" هذا اإال ألجل بناء سعادته و اشباع
رغباته على حساب تعاسة اآلخرين ،فحرم "أمينة" من آماهلا و أمانيها و حبها ،ليحقق سعادته بإدخاله "نذير"
جورا ،فدفعه حقده إىل رسم خطة يتمكن من خالهلا على التفريق بني املرأة اليت يريدها و الرجل الذي
السجن ً
حتبه ،فخط هلذا األخري مسلكا يقوده إىل السجن خببث و مكر و غدر ،و كتب بعض الرسائل املزورة لكليهما
توحي باستنفار كل منهما لآلخر ،و قد جنح بذلك و متكن من الزواج ب ـ "أمينة" ،لكن بعد حصوله عليها حتول
مل معاشرهتا بعد أن فاز مبن رفضته ألعوام ».2
إىل « دجنواين حني ا
تقلبت حالته النفسية عندما علم أن زوجته عاقر ،و أصبح الشخص الذي مل يكن عليه يوما ،فلجأ إىل
ربه قائال « :ليس عليك أن تقلق ،فالقلب النابض باإلميان حييي املعجزات بالدعاء.
هذا ما تردد على لسان حممود يف حواره مع نفسه ،حني تشتد األمور و تغلق األبواب و تسد الطرق ،يظل باب
السماء مفتوحا لكل الناس ،أشقياء كانوا أم أتقياء ،كرماء أم خبالء صادقني أم كاذبني ،و هلل احلكم يف هذا
و ذاك » ،3فحني الت افت به اهلموم من كل جانب أمسك حبال من حبال اهلل عله خيفف لوعة قلبه.
77
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
لكن هذه احلالة مل تدم طويال و عاد حممود إىل طبيعته األوىل؛ شرب و ٍ
تعاط إىل أن أمسكت به احلكومة ٌ
ذات يوم و « رأى أنه لن حيتمل مشقة السجون فشنق نفسه » 1و أهنى حياته ،فكان هذا جزاء أعماله النكراء و
خبثه الذي غشى قلبه.
لقد جلأ الراوي إىل رسم و فضح صورة املكر و السوء الذي حتمله هذه الشخصية ،من حب امتالك كل
كمعيق و خط فصل بني حب "أمينة" و "نذير" ،استعماهلا كل
شيء غصبًا و بأبشع الطرق ،باإلضافة إىل عملها ُ
سفاهتها لتظفر باألوىل ،فحملت شخصيته كل الصفات السلبية.
هو شخصية ثانوية و املعيق األكرب لعدد من الشخصيات األخرى أساسية كانت أم ثانوية ،حتمل يف قلبها
بذور اخليانة و الغدر و اخلديعة" ،املعلم األكرب" أو "يعقوب" االسم الذي ذكر مرة واحدة يف الرواية فقد لُقب
"باملعلم األكرب" يف جل الفصول ،هو رجل جزائري عاش فرتة العشرية السوداء و كان من بني زارعي الرعب و
اخلوف يف نفوس املواطنني ،فكان قائد احدى اجلماعات اإلرهابية املسلحة اليت اختدت من جبل "عصفور" ب ـ
مقرا هلا.
"تلمسان" ً
كما أوردت الرواية وصفا يبني املالمح الفيزيولوجية له على لسان الراوي حيث يقول « :كان املعلم يرتدي
جالبة مغربية بنيةن له حلية تصل نصف صدره ،شعره طويل إىل كتفيه و يضع عصابة على جبينه كتب عليها
شهادة االسالم ،يرتدي جزمة عسكرية و ساعة سويسرية غالية الثمن يف يده اليمىن .خده األمين حيمل ندبة كأن
سكينا اخرتقت حلمه ،مرعب الشكل له نظرات قاسية ال ترحم و حييط جبسمه حزام عسكري مدجج باألسلحة
و اخلناجر و القنابل » ،2فذكر الراوي لباسه أيضا و كانت هيئته خميفة توحي بالشر الذي حيمله يف نفسه ،أما
مظهرا خيدع به الناس ،فيستغل املظاهر
العصابة اليت محلها على جبينه و اللحية اليت حتتل ذقنه فما هي اإال ً
االسالمية املقدسة لدى اجلزائريني لتكون وسيلة يستعطفهم هبا و ينال مراده املاكر.
فيحمل "املعلم األكرب" شخصية مزدوجة ،فتارة تظهر طيبة تسعى لنيل رضى اهلل أوال مث رضى الشعب ثانيا،
و تارة تصبح جمرمة ميلؤها الشر و القسوة و البطش.
77
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
اتصفت هذه الشخصية بالنفاق و الكذب و الدهاء ،فيقول "عبد الواحد هواري" يف ذلك « :ثار اجلمع
حوله شاهرين أسلحتهم يهددون بقتله منتظرين إشارة صغرية من معلمهم ،لكنه مل حيرك ساكنا ،كان بدهاء
اجملرمني الكبار.2» ...
يدعي أنه من فرسان اهلل ،قضيته لنصرة االسالم و املسلمني و ما هذا اإال شعار يهدف إىل ضم أعضاء
أكثر من املواطنني يف صفوفه ،فيقول - « :إننا فرسان اهلل فوق األرض ،نرفع راية الدين عاليا ،و نقتص إلخوتنا و
نرد الصاع صاعني لضحايا أصدقائنا ،و إين ألعرض عليك خيارا واحدا فقط.
-انضم إلينا و ساهم يف انتصارنا على الطغاة املستبدين ،و سننتقم لعائلتك من القتلة الكافرين » 3و كانوا هم
القتلة الكافرون.
لقد ظهر مدى رعبه و الوحش الكامن يف نفسه يف إحدى الليايل اليت خرج فيها كل األفراد إىل الشاطئ
قصد االستمتاع و اللهو حتت نشوة اخلمر ،رأى "املعلم األكرب" زوجان جيلسان بأمان يستمتعان هبواء البحر
العليل فاجته صوهبما متهما إيامها بارتكاب فاحشة الزنا و الكذب ،و ما إن راوغه الزوج "نذير" حىت غرس
السكني يف بطن زوجته "عبري" اليت حتمل جنينا مل َير النور بعد ،غرس هذا املشهد اخلوف و الرعب و اهللع يف
نفوس الرجال اآلخرين ،و ظهر ذلك يف الرواية من خالل « :امحرت عينا النعلم و طار عقله من شدة احلنق و
78
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
صارت كلمات الغضب و الطيش تتطاير من فمه ،أما هي فكانت مكنوفة األيدي عاجزة أمامه عن الدفاع عن
نفسها ،حىت سحب خنجره و صار يطعن بطنها أكثر من عشر مرات ،ارتعب اجلميع بعد أن رأوا الوحش
1
خطريا و رهيبًا ،ال تطال الرمحة و الرأفة قلبه قط.
الكامن وراء هذا الشخص » فكان جمرما دمويا ً
كما يعتدي "املعلم األكرب" على النساء و يعاملهم معاملة اجلاريات احلقريات ،خدش حياءهن و سرق
شرفهن و هبجتهن ،كان عبارة عن وحش يف جسد إنسان ،اإال أن احلال مل يدم طويال فلقد تلقى هزمية نكراء على
يد أفراد اجليش الوطين اجلزائري ،و َّفر هاربا كاجلبناء ،يقول الراوي « :استغل املعلم و وزيره حالة الذعر اليت
متلكت أفراد املعسكر ،رغبة منهما يف التسلل من بسالة اجلنةد و الفرار بعيدا ،فصعدا فوق شجرة البلوط العمالقة
و سكنا فيها دون أي حراك و استقرا هناك ».2
كانت هذه شخصية أخرى أعاقت عمل الطيبني و سرقت آمال الناس و حياهتم و أودت بأمانيهم ،تتصف
باإلجرام الوحشي دون رمحة أو شفقة غياتاها رديئة و ضعيفة حقرية و ملتوية فيسعى لنيل السلطة و احلكم على
حساب روح األبرياء.
ج – شخصية أسامة:
شخصية "أسامة" من بني أهم الشخصيات الثانوية يف هذه الرواية ،شخصية خلفت أثرا طيابا مبرورها عرب
الصفحات الروائية ،صادقة مناضلة ،حمبة للوطن حباا دفعها للتضحية حبياهتا ألجله.
"أسامة" هو الذي تذوق مرارة اليتم بعد ما سرق منه املوت أعز أحبائه ،ففي املاضي ماتت أمه اليت فقدها
« يف سن صغرية جدًّا » 3ما خلَّف حزنا شديدا يف نفسه ،أحس بالوحدة الشديدة و أذاقته احلياة من ظلمها،
كثريا ما كان يتذكر يتمه فيحزن لذلك ،يقول الراوي « :تذكر أنه يتيم و مل يشبع من حضن أمه ،و مل يشرب
ً
حىت الثمالة من كلمات منبع حنانه و مل يتلق صفعة حنونة لشغبه ...ظلت العربات تتساقط من عينيه ألنه عاش
يف الدنيا لكنه ُمنع من منبع احلياةُ ،حرم من ينبوع احلنان املتدفق عرب مهجة القلب املشع ولعا و حبا » ،4بعد
وفاة أمه تزوج واله باألم "فاطنة" اليت كثريا ما منحته حناهنا و حباها ،لكن األب مات هو أيضا و تركه وحيدا
78
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
يصارع احلياة دون سند أو عون ،ليقول الراوي يف هذا الصدد « :فقد أمه يف سن صغرية جدَّا مث حلق هبا أبوه
فظل وحيدا بعيدا عن باقي أفراد عائلته الذين هاجروا صوب أوروبا و مل يلتفتوا قط ».1
مل يتوقف ذلك الزائر غري املرغوب به عن قطف أرواح أحبائه فأخذ معه زوجة أبيه "فاطنة" اليت قتلها
األوباش قبل أن يهرع لنجدهتا ،فحزن حزنا بكت له اجلبال ،و امتأل قلبه غيظا و حقدا على أولئك الظاملني الذين
فسادا.
عاثوا يف األرض ً
أرادت شخصية "أسامة" اهلرب من االحساس باليتم الذي هز كياهنا إىل حب الوطن و االرتشاف من
عشقه ،فمأل نقص حنان األم حبنان أمه اجلزائر ،ف ـ "أسامة" هو البطل املناضل املفعم باحلب الصادق لوطنه فرفض
بقاءه حتت وطأة الظلم و اجلور و الدم الذي سفكه بعض مواطنيه الذين ماتت الرمحة يف قلوهبم املشبعة باحلقد و
اإلجرام.
كما ِ
عمد الراوي إىل ذكر كل اخلصال احلسنة هلذه الشخصية ،فقد كان "أسامة" إنسانا بسيطا متواضعا
مناضال و شجاعا ،و يف هذه الصورة أصدق دليل على تواضعه و حسن أخالقه « :غالبا ما كان أسامة
يستضيف يف مكان عمله رجاال ذوي رتب عالية يف اجليش فيع اد هلم طباخ الثكنة وليمة دمسة تليق هبم ،غري أنه
كان يعتذر منهم وقت اإلفطار و يتجه حنو املطعم العام و يتناول غذاءه رفقة اجلنود العاديني ،حىت غرس يف
2
التكرب و النفاق.
قلوهبم حبا عظيما له و للوطن الذي حيبه » ،فهي شخصية مثالية يف زمن َكثُر فيه ا
لقد أنفق جل حياته يف خدمة اجليش الوطين ،انضم إليه قبل أن يتجاوز السادسة عشرة من عمره ،و منذ
ذلك الوقت أصبح الدفاع عن وطنه اهلاجس الوحيد الذي يؤرقهِ .
عمل "أسامة" كنقيب يف مدينة "تلمسان" و
عُرف جبديته و تفانيه يف عمله.
أما عن صفاته الفيزيولوجية فلم يتطرق الراوي إىل تفصيلها ليرتك مالحمه غامضة خفية عن القارئ .يصف
"عبد الواحد هواري" حالته بعدما أتعبه صوت الرصاص و أهنكته املعارك اليت ال تنتهي ،فيقول « :دخل أسامة
مكتبه و جلس فوق أريكة كي يريح دما غه من صوت الرصاص الناجم عن املعركة الطاحنة اليت خاضها تلك
كثريا ،فالوقت ال
الليلة ...كان وجهه مرتهال من التعب و االرهاق ،تفوح منه رائحة غريبة و قد تعرق وجهه ًّ
77
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
يسعفه كي يستحم ،قد تعلن الثكنة حالة االستنفار يف أي دقيقة » ،1لذا بقي متأهبا جاهزا ألي تدخل طارئ.
وألن عمله مل يسمح له بعيش حياة طبيعية و ال الزواج و ال صرف أمواله فقد مجع ثروة مالية وهبها إىل أخيه غري
الشقيق "العريب" ،فباالضافة إىل كون "أسامة" ذا شخصية طيبة شجاعة فهو كرمي أيضا و رؤوف.
فهذه الشخصية صاحبة ضمري حي و قلب شجاع و عطوف يف اآلن نفسه ،يكسرها مشهد الدماء و
اجلثث اليت ختلفها اجلماعات اإلرهابية بشكل مستمر ،حتزن حلال بالدها و يؤرقها هذا الكابوس الذي مل يشأ
االنقشاع ،فوضعنا الكاتب أمام هذا املشهد الذي آلت إليه الشخصية « :اسند ظهره و راح يتأمل السقف و
عالمات األسى بادية عليه ،الزال يفكر يف كل ضحية مل يسعفه القدر إلنقادها ،و مل تعد شهيته للطعام كما
كانت من قبل ،صور اجلثث اليت جترها وديان الدماء سدت شهيته ،صار ضمريه كآلة حادة جترحه بعد
كل حادثة » 2و ما زادته هذه املشاهد الدامية اإال إصرارا لالنتقام و القصاص من كل جمرم قتل عن غري وجه
حق ،سعى إلهناء هذه احلرب اليت راح ضحيتها آالف املواطنني ف ـ « :وحدته و عزلته كانت من أجل إجياد نسمة
حيمل نفسه ما
أمل يتبعها إليقاف مسلسل الوحشية و احلرب القذرة ،صار يتأفف مع كل ثانية مترِّ ،
ال طاقة هلا ».3
الصعاب ،و
يربز "أسامة" رمز املقاومة متمسكا هبويته و انتمائه لوطنه ،كان بطال شجاعا و مغو ًارا ال يهاب ِّ
قد اختار له الراوي هذا االسم بالتحديد ملل حتمله شخصيته من صفات مالزمة له ،معناه األسد الذي يتصف
بالشجاعة و اإلقدام و القوة و السرعة ،جريء يقف دائما جبانب احلق و يدحض الباطل ،عاقل راجح يف معظم
آرائه.
وضع "أسامة" خطة حمكمة للنيل من أعداء الوطن و القضاء على ظلمهم و جورهم الذي خلَّف وراءه
وديانا من الدماء « ،أعاد أسامة شريط األحداث يف رأسه كي يضع خطة حمكمة متكنه من االنقضاض على
األوباش داخل أوكارهم ،...اختد قر ًارا بأن يتجه رفقة عدد من الرجال األشداء ،املعروفني حببهم لوطن آمن و
سامل ،و يدكوا معاقل أولئك األوغاد خمريب الوطن » ،4نفَّد البطل الشجاع خطته و ُكلِّلَت بالنجاح ،ف ُقتل كل من
حاول املقاومة و املراوغة ،أُسر من رفع راية االستسالم ،و أطلق سراح النساء األسريات الاليت عانني الويالت يف
77
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
اجلبال ،لكن الفرحة مل تكتمل فقد سقط "أسامة" شهيدا ،يقول الراوي « :و ما إن اقرتبوا من هناية حدود الغابة
حىت ُمسع دوي قنبلة ،إنه لغم ارتكزت عليه رجل القائد الشجاع فسقط أرضا و قد هتشم جسده ،هرع إليه اجلنود
ممسكني رؤوسهم و قد أخد اخلوف مبجامع قلوهبم ،نظراهتم احلزينة على قائدهم و والدهم الذي محاهم صريع بني
أيديهم و ليس بأيديهم حيلة ...مث قال
-شكرا لكم يا أبنائي.
رفع إصبعه إىل السماء و ردد الشهادتني و فاضت روحه إىل السماء ».1
كانت شخصية متميزة بالطيبة و القوة و النضال ،روحه تفيض باملقاومة و الدفاع عن وطنه بشرف ،كما
حتمل شخصيته العديد من امليزات احلسنة كالبساطة و البسالة و حب اآلخرين.
تعد شخصية "آمال" شخصية ثانوية ساعدت يف منو األحداث داخل اإلطار الروائي ،هي فتاة قوية صلبة،
مأل احلقد قلبها و منت فيه بذور االنتقام بعد ما فقدت صديقتها "عبري".
و قد مشل الوصف اجلانب الفيزيولوجي ل ـ "آمال" ،حيث قدمها الراوي على أهنا « فتاة ممشوقة القامة و
جسد حنيل و شعر أسود يصل إىل الكتفني » ،2إضافة إىل أن الراوي قدم وصفا للباسها أيضا ،و الذي يدل على
انفتاحها عكس معظم فتيات اجلزائر يف التسعينات ،احملافظات احملجبات ،فقد كانت "آمال" « ترتدي تنورة
سوداء تصل إىل ركبتيها مع قميص ذي أكمام قصرية ،و ساعة يد ذهبية اللون تعكس نور الشمس » 3فعُرفت
بتحررها و ال مباالهتا إزاء تصرفاهتا.
عاشت "آمال" يتيمة األم لذا احتضنتها عائلة والدهتا و رعتها حبب و حنان ،أما والدها فقد تركهما هي و
أمها و هاجر إىل فرنسا ،بعدها دخل السجن ،و يتجلى ذلك يف الرواية من خالل « :كان صهره قابعا يف فرنسا،
مل يعد إىل اجلزائر منذ مدة طويلة ،اختذ عشيقة أكلت ماله و أفكار عقله حىت فرقته على ابنته الوحيدة اليت توفيت
77
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
وقد كانت "آمال" شخصية مضطربة ضائعة بني احلقيقة و اخليال و احلقد ،فاجتمعت بداخلها مجلة من
الثنائيات املتناقضة ،إذ تعد « شخصية مركبة معقدة ال تستقر على حال ،و ال يستطيع القارئ أن يعرف مسبقا
ما سيؤول إليه أمرها ألهنا متغرية األحوال » ،2ففي بعض األحيان جندها تلك الفتاة الطيبة اليت حتب صديقتها
"عبري" حباا كبريا ،كما حتب زوجها ،اإال أننا جندها يف أحيان أخرى شريرة تسعى لإلنتقام ،خائنة حمتالة استولت
على كل ممتلكات زوجها و رمته خارجا هائما يف الشوارع.
هي شخصية مزدوجة حتمل امسني :أوهلما "آمال" ،و الثاين "ذلت الشعر األسود" كما أطلق عليها "نذير"
يف مذكراته كي ال يكشف شخصيتها و يدع القارئ يبحث عن كنهها و يتطلع إىل معرفتها ،لذا اتصف دورها
بالغموض إضافة إىل أهنا مثقفة ،فيقول "نذير" « :دقت الباب مرة ثانية و يف يدها اليسرى جمموعة من
3
كمؤلَف عمالق ال جييد كاتبه
الكتب » و يضيف « :مل تكن آمال كتابا مفتوحا يستطيع أي قارئ تصفحه ،بل ُ
إال العمق يف الكلمات فال يدرك تأويل نصه الكساىل ،يصح تسميتها إجلام العوام عن التحديق بآمال ،فهي من
النوع املثقف ذي النظرة البعيدة ».4
77
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
بشؤونه و أعماله برحابة صدر ،فعلت كل ذلك لتصبح وقعته بعد ما تغدر به أقوى و أشد ،ماكرة خبيثة و
خائنة.
فهي شخصية بأخالق سيئة ذليلة ،فضحتها جارهتا بعد ما رأهتا ختون زوجها مع احلالق "مروان" قائلة:
« -عزيزيت أنا أعلم ما حيدث بينك و بني احلالق مروان...
سحبت صورة التقطت داخل حمل احلالق ،تظهر من خالهلا الزوجة نصف عارية مرمية بني أحضان مروان ختدش
احلياء مبفاتنها ».1
وحيدا هائما ،سرقت كل ممتلكاته حىت املنزل مل ترتكه له ،فبقي
و لتحقق انتقامها على أكمل وجه تركت زوجها ً
حيارب اجلنون بعد ما قرأ رسالتها اليت تقول « :لقد رحلت و معي كل األموال ،مل تعد يل رغبة فيك ،ضيعت
معك أمجل سنوات شبايب ،البيت هذا و املنزل الريفي و املعمل كلها على امسي و سبق لك أن أمضيت على
أوراق امللكية ،هلذا أنصحك بالبحث عن مكان يأويك ألين سأعرض كل شيء للبيع ،و يف الدرج الثاين ستجد
2
كما هائال من
أوراق الطالق ،و ال أريدك أن تبحث عين أبدا » ،و هنا ظهر الوجه اآلخر للشخصية اليت حتمل ًّ
احلقد و الكره يف قلبها جتاه من قتل ابن صديقتها و سرق فرحتها ،فكان هذا انتقاما من "العريب" الذي كانت له
يد يف هذه اجلرمية.
« كان يف هلجتها اآلمرة شيء من القوة و الصالبة و كثري من املرارة و طعم لسخط احلياة ،ليمي هذا مل َأر
فتاة أقوى منها ،صلبة يف اختاذ القرارات متهورة إىل حد اجلنون » ،3فقتلت مبساعدة "نذير" الرجل الذي ساهم
يف اجملزرة اليت ارتُ ِكبت يف حق صديقتها ،و طلبت من آخر قتل الرجل الثاين ،و كان الثالث هو "العريب" الذي
انتقمت منه بنفسها.
تموا
أخريا ُكشف املستور و اتضحت األسرار و تبني أن "العريب" ما كان اإال ضحية استغلها اإلرهابيون ليُ ُّ
ً
أعماهلم ،فندمت "آمال" ندما شديدا عندما علمت أنه ال يد لزوجها يف تلك اجلرمية ،أدركت أهنا ظلمته ،و قد
جاء يف هذا الصدد « :و على نفس الشكل سقطت آمال باكية متضرعة طالبة الصفح و املساحمة ».4
77
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
إذن هي شخصية مزدوجة محلت يف داخلها متناقضات ،فيصورها الراوي أحيانا بصورة الطايبة و النبل و
أخريا هتتدي إىل الصواب و يصيبها
اإلخالص ،و أخرى جمرمة خائنة و حقودة أعمى اإلنتقام بصريهتا ،لكنها ً
الندم ملا فعلته.
ميكن القول يف األخري أن شخصيات "عبد الواحد هواري" قد كشفت عن وعيها الفكري و السياسي من
خالل حضورها املستقل ،فحملت كل شخصية رمزيتها داخل اجملتمع الواقعي ،لذا فإهنا لعبت دورا هاما يف حتريك
العمل الروائي ،فعكست بذلك الرواية واقع اجملتمع اجلزائري يف ظل العشرية السوداء اليت مرت هبا البالد ،فلعبت
كل شخصية دورها على أكمل وجه.
72
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
تمهيد:
يعرف الزمن بأنه العمود الفقري للرواية وأحد االشكاليات اهلامة اليت تواجه الباحث ،لذا أكد العديد من
الدارسني « أن الرواية هي تشكيل الزمان بامتياز »،1كونه يعد أحد العناصر األساسية « اليت يقوم عليها فن
الروائي يعين بلورة بنية النص » 2ألن طريقة بناء الزمن يف الرواية تكشف بنية النص ،ما جيعل شكل النص الروائي
يرتبط مبعاجلة الزمن.
البد للرواية أن ترتبط بزمن معني سواء كان ماضيا أو حاضرا أو مستقبال ،فال ميكن أن ُحتكى القصة
منفصلة عن الزمن ،ألن زمن اخلطاب « هو الزمن الذي يعطي القصة زمنيتها اخلاصة من خالل اخلطاب يف إطار
العالقة بني الراوي و املروي له ».3
يعد الشكالنيون الروس أول من أدرج الزمن يف نظرية األدب ،فلم تكن نقطة ارتكازهم طبيعة احلدث يف
ذاته؛ إمنا ارتكزوا على العالقات اليت جتمع بني تلك األحداث و تربط أجزاءها ،لذا « فإن عرض األحداث يف
العمل األديب ميكنه أن يقوم بطريقتني :فإما أن خيضع السرد ملبدأ السببية فتأيت متسلسلة وفق منطق خاص ،و إما
أن يتخلى عن االعتبارات الزمنية حبيث تتابع األحداث دون منطق داخلي ،ومن هنا جاء متييزهم بني املنت و
املبىن ،فاألول البد له من زمن و منطق ينظم األحداث اليت يتضمنها ،أما الثاين فال يأبه لتلك القرائن الزمنية و
املنطقية قدر اهتمامه بكيفية عرض األحداث و تقدميها للقارئ » 4و هذا األخري هو ما نالحظه بكثرة يف رواية
"يف كل قرب حكاية" لـ ـ " عبد الواحد هواري" اليت اختلطت أبعادها لتظهر املفارقات و اإليقاعات السردية بشكل
جلي ،ما دفعنا للقول بأن الرواية مبنية على الزمن.
-1مها حسن القصراوي :الزمن يف الرواية العربية ،املؤسسة العربية للدراسات و النشر ،بريوت ،ط ،7001 ،1ص .05
-2مها حسن القصراوي :الزمن يف الرواية العربية ،ص .02
-3سعيد يقطني :انفتاح النص الروائي -نص و سياق ،-املركز الثقايف العريب ،بريوت ،ط ،1999 ،1ص .19
-4حسن حبراوي :بنية الشكل الروائي -الفضاء ،الزمن ،الشخصية ،-املركز الثقايف العريب ،بريوت ،ط ،1990 ،1ص .102
77
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
ويندرج حتت هذه البنية زمن الكتابة وزمن القراءة و الزمن التارخيي ،و إمكانية تقسيم الزمن يف الرواية تعود
عموما إىل زمن الكتابة ،زمن القارئ ،و زمن الكاتب ،و غالبا ما ينعكس الزمن على زمن القارئ بواسطة زمن
الكاتب ،و هذا يربز العالقة بني هذه األزمنة ،لذا فالروائي يقدم لنا تلخيص قصة كاملة جرت يف شهر أو سنة
عرب فقرة قصرية تستغرق قراءهتا دقيقة أو دقيقتني.
و هذا ما نالحظه يف مواطن كثرية يف الرواية فنجد قول "نذير" « ثالثة أشهر مرت علي داخل زنزانة حقرية
رائحتها نتنة ،مل ُجيد صراخي و توسلي للحراس شيئا سوى بعض التهديدات من طرف اولئك الذين اعتادوا حياة
السجون » ،1فالراوي يف هذا املثال مل يفصل يف أحداث هذه االشهر اليت مرت على البطل ،بل قام بتلخيصها
يف أسطر قليلة حتمل معىن واضح أال و هو التعذيب و التهميش اللذان تعرض هلما املساجني يف حقبة الصراع
السياسي الذي خلف حياة اجتماعية غري عادلة ،فكانت العالقة بني الشعب والسلطة متذبذبة.
و حتمل البنية الزمنية اخلارجية نوعان من الزمن مها :زمن الكتابة و الزمن التارخيي ،وفصلنامها فيما يلي:
أ .1 -زمن الكتابة:
يقصد بزمن الكتابة العصر الذي عاش فيه املؤلف و تفاعل مع أحداثه ،و تأثر فيه باحلياة السياسية والثقافية
و االجتماعية ،...و اليت سامهت بدورها يف بلورة أفكاره و توجيه آرائه اليت انعكست على عمله اإلبداعي.
لزمن الكتابة عالقة بوجهة نظر الكاتب حيث « يؤشر زمن كتابة النص إىل الزمن الذي كتب يف القاص عمله ،و
معرفته ضرورية ،لوضع هذا العمل يف سياقه التارخيي ،و االجتماعي ،ألنه ال يوجد عمل فين قائم يف اهلواء ،مهما
كان خياليا .و الواقع أنه ال ميكن جتاهل هذا الزمن حىت و إن عد زمنا خارجي ،ذلك ألن الكاتب يضع
شخصياته و يتبىن أحداثا ،وفق رؤية متلبسة بوجهة نظر عصره ».2
ط الروائي "عبد الواحد هواري" رواية "يف كل قرب حكاية" لينقل للقارئ األحداث الدامية اليت مرت هبا
خا
اجلزائر يف التسعينات معربا عن مهوم و مواجع الشعب ،و مسطرا بأسلوب فين إبداعي معاناة اجلزائريني من ظلم و
تعسف و ترعيب زرع اخلوف و الوجل يف قلوهبم ،و قد كان "عبد الواحد هواري" ممن عاصروا تلك الفرتة الصعبة
77
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
من تاريخ اجلزائر ليكون هذا التعبري منطلقا من نفسه ،عاكسا بوضوح واقعه هو و الكثري من الناس الذين سردوا
بدورهم تفاصيل حياهتم يف ذلك الزمن املرعب ،فقام الروائي جتسيد تلك األحداث الواقعية عرب شخصياته.
لقد عاصر السارد آخر مثاين سنوات من تسعينات القرن املاضي الذي دارت حوله جل أحداث الرواية،
حيث شهدت اجلزائر حتوالت جذرية هزت البالد بأكملها من الناحية السياسية ،فظهرت التعددية احلزبية ما أدى
إىل اندثار احلزب الواحد الذي هيمن على الساحة السياسية لسنوات خلت ،و لقد ولادت هذه التعددية
صراعات دامية راح ضحيتها آالف املواطنني األبرياء و الذين كانوا اخلاسر األكرب يف ظل الصراع ،فتحولت حياهتم
االجتماعية من حياة مستقرة إىل حياة متألها الدماء و اخلراب ،يقول الراوي يف هذا الصدد « :فاألوضاع يف
البالد تشري إىل اخلطوط احلمراء ،ذلك الصراع بني األحزاب صار يلتهم كل شيء إال صانعي املشاكل
أنفسهم » ،1و من الواضح تأثر الروائي تأثرا كبريا هبذه األوضاع اليت عايشها من خالل انعكاسها على أحداث
الرواية اليت صورت املعاناة و الفقر و احلرمان و االستعباد الذي تعرض له املواطنون اجلزائيني.
مل يقتصر تأثر السارد على احلياة السياسية و االجتماعية فقط بل تع ادى ذلك إىل اجملال االقتصادي أيضا
حني ذكر انتقال اجلزائر إىل اقتصاد السوق بدل االقتصاد املوجه و تداعياته اليت عقبته.
نالحظ مما سبق أن "عبد الواحد هواري" قد تأثر باحلياة االجتماعية و السياسة و االقتصادية و حىت
الثقافية اليت عاصرها مضمنا إياها يف عمله األديب ،حماوال التطرق إىل بعض الثغرات اليت انتشرت يف تسعينات
القرن املاضي و اعطائه بعضا من احللول اليت قد تسد تلك الفجوات.
أ .2 -الزمن التاريخي:
إال أن هناك العديد من املبدعني الذين يفضلون االنطالق من أحداث تارخيية متثل املرجعية االساسية
لعملهم الفين ،و هذا ما جنده يف رواية "يف كل قرب حكاية" حني عمد الروائي على حتديد فرتة زمنية بأبعاد
888
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
حقيقية ،متتد من 1990إىل ،7019مضفيا عليها الطابع التخييلي كي يبتعد عن جعل نصه نصا تقريريا أو
كتابا تارخييا.
تنطلق الرواية من أحداث تارخيية واقعية مأساوية معتمدة على الزمن التارخيي كمرجع للمرحلة اليت تناولتها،
فيخرتق الروائي النص من زاوية أيديولوجية هتدف إىل بث قيم فكرية معينة سادت تلك الفرتة الدموية ،و البد من
االشارة إىل أن الرواية تناولت أزمنة تارخيية ذات أبعاد متباينة ،كما هو مبني هنا:
:1991 -إلغاء نتائج االنتخابات الربملانية اليت فازت هبا اجلبهة االسالمية لإلنقاذ.
:1996 -عقدت األحزاب السياسية مؤمترا يف العاصمة اإليطالية روما و إعالن العقد الوطين الذي مينع الوصول
إىل السلطة بواسطة العنف ،إال أن السلطة اجلزائرية رفضته ،و كذا فوز اليمني زروال باالنتخابات.
09 :1992 -ماي ذكرى اجلازر الدامية اليت ارتكبها االستعمار الفرنسي يف حق اجلزائريني و قد استحضر
الراوي هذه احلادثة ليقرهبا من اجملازر اليت ارتكبتها اجلماعات االرهابية يف حق املواطنني األبرياء حيث كانت هذه
السنة ( )1992هي اليت وصلت هبا اجملازر إىل الذروة.
10 :1999 -جوان تاريخ انتخاب رئيس جديد للبالد " عبد العزيز بوتفليقة".
تطرق الروائي إىل مراحل زمنية هامة من تاريخ اجلزائر متناوال الصراع السياسي التسعيين ،حيث انتشر القتل
و أصبح سفك الدماء لعبة من أجل نيل السلطة ،وبالتايل ف ـ "عبد الواحد هواري" قد جعل من روايته مرتعا يعج
باأليديولوجيا.
888
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
فأشارت الرواية إىل عدة أحداث و وقائع شهدهتا اجلزائر خالل زمن األزمة املعروف بالعشرية السوداء؛ بدءا
من إلغاء االنتخابات الربملانية سنة ،1991لذا فإن أحداث الرواية قد وقفت على التحوالت اليت مست اجملتمع
اجلزائري يف مستواها السياسي حني سعى كل حزب إىل نشر أفكاره و آراءه.
إن الرواية مليئة بالدالالت القصدية املعروضة يف متنها و املشبعة باخللفيات األيديولوجية ،و هذا واضح من
خالل الشعارات اليت تبنتها الشخصيات ،و تعد هذه األفكار و املواقف مبثابة املواضيع اليت تضمنها الزمن
التارخيي ،لذلك ميكننا أن نلمس اخلطاب األيديولوجي من خالل زمن الرواية الذي جسدته املدونة.
يهتم الزمن اخلارجي عموما بالسياقات اخلارجية للنص الروائي عكس الزمن الداخلي الذي أصبحت دراسته أكثر
أمهية؛ كونه يقبع داخل النص الروائي و يتشابك مع باقي املكونات األخرى للنص.
زمن القصة :و هو الزمن الذي وقعت فيه أحداث القصة املروية املمتد من .7019-1990
أ -االسترجاع (االستذكار):
و االسرتجاع هو العودة إىل االحداث املاضية اليت سبق حدوثها يف حلظة السرد ،حيث جند أن رواية "يف كل
قرب حكاية" حافلة بتقنية االسرتجاع ،فالسارد يكثر العودة إىل السنوات املاضية ليجسد الفقر و العنف و احلرمان
و األزمات اليت حلت على املواطنني اجلزائريني.
و البد من االشارة إىل أن الرواية عبارة عن قضيتني يف زمنني خمتلفني ،و كل قصة منهما حتمل أزمنة متعددة
تعرب عن الواقع و اجملتمع ،لتلتقي يف األخري كي تتضح خيوط الرواية.
حتتوي الرواية على مخس و عشرين فصال ،كل فصل يتناول فرتة زمنية حمددة ،فيبتدئ الراوي فصله األول بـ ـ
79مارس 7010الذي اسرتجع فيه أيام العشرية السوداء و ما محلته من رعب و خوف و هلع ،مع مقارنته
بالزمن احلايل الذي يسود فيه األمن و الطمأنينة ،فيقول « :زمن اخلوف و الرعب ،يف ذلك الوقت كان الفزع هو
فطور الصباح لسكان القرى ،و الرهبة و اهللع غذاءهم ،و الوجل و الرعب عشاءهم ،حىت الطيور يف السماء
كانت بكماء خشية أن يوقظ تغريدها رواد الغابة ،يزحفون فوق األرض ...ال يفرقون بني صغري أو كبري ،بني
887
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
شيخ أو رضيع ،و ال حىت النسوة و بناهتن كن حمميات منهم ... ،اليوم صار الصباح حلما مجيال ممزوجا برائحة
1
الورد و عبري اليامسني ،لكنه كان كابوسا مظلما حقريا مكتوبا بصراخ االطفال و النساء ،و مرسوما بدم األبرياء»
فاستذكر السارد األوضاع اليت كانت تعيشها اجلزائر يف املاضي ،مع مقارنتها هبدوء و استقرار احلاضر ،واصفا
احلالة االجتماعية اليت عاشها املواطن اجلزائري ،و حاالت االغتصاب و االعتداء على الفتيات و النسوة ،إضافة
إىل اخلوف و الوجل و الفقر و البطالة و غريها من اآلفات االجتماعية اليت حطمت الشعب ،و مقارنتها بأيام
اهلدوء و االستقرار يف فرتة ما بعد الصراع.
و لقد ورد اسرتجاع آخر بعودة السارد إىل نفس السنوات الدموية من خالل هذا املقطع « :اليوم صار الليل
بظالمه و نور قمره و ترمن أغصان األشجار على سيمفونية الرياح مأوى للمحبني و العاشقني و احلاملني ...أما
البارحة ،فكان الليل القامت عاريا صارما ،جيفل فيه الرجل الشجاع ...كان إذا حل الليل بظالمه الفاحم ،و صمته
العميق ،ال يُسمع صوت و ال حسيس سوى رعشة و ارجتاف املرتعبني الذين مأل الذعر قلوهبم » ،2فكان
اسرتجاع السارد هلذه الذكريات قصد توضيح الفرق بني ماضي اجلزائر الدموي ،و بني حاضرها اآلمن و الربيعي.
و يظهر اسرتجاع آخر ملاضي "عمي العريب" الذي يوضح سبب فقئ عينه اليت راحت ضحية دفاعه عن أمه
من أبيه « حني دافع عن أمه اليت اهنال عليها والده بالضرب و األذى ...و حني رفع رأسه تفاجأ بعينه مفقوءة
بعد تلقيها ضربة بعصا خشبية صلبة » ،3فكان هدف هذا االسرتجاع ابراز مظاهر العنف داخل األسرة من طرف
األب ،سواء كان العنف موجها للزوجة اليت تلقت أكرب قدر منه ،أو موجها لألوالد األبرياء بطرق بشعة ،وقد
فضح الراوي بعض مظاهره من خالل جتسيده ألحداث تعرب عن ممارسة العنف يف اجملتمع اجلزائري بشىت الطرق.
كما ظهر اسرتجاع آخر قصري املدى يوضح حني روى "عمي العريب" ل ـ "عبد الواحد" قصة املذكرات اليت
سقطت من جمنون أثناء زيارته قرب زوجته و مناجاته هلا قائال « :ليلة أمس يا ولدي مل تكن كباقي الليايل اليت
اعتدت قضاءها جالسا يف املقربة بني األجداث ...حىت تبادر إىل بصري ظل طويل و عريض فمشيت باحرتاس
شديد ،مث اختبأت خلف حلد منبطحا على صدري ...و إذ به رجل طويل القامة عريض املنكبني ،بشعر أسود
متجعد طويل و حلية كثيفة ،يلبس سرواال مقطعا من جهته اليمىن ،نصف عار بقميص ممزق ال يغطي من جسمه
887
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
إال القليل ،خطر يف بايل أنه مشرد فقد عقله ،ومل يبق يف ذكرياته إال ذلك القرب 1» ...فاسرتجاع الراوي هلذه
احلادثة استمر طيلة ست صفحات ،و مل يكن هذا االسرتجاع عبثا ألن املذكرات اليت عثر عليها "العريب" هي اليت
حددت مسار الرواية بأكملها.
فنالحظ من هذا االسرتجاع تطرق السارد إىل قضية الفقر و اجلنون اللذان حال على صاحب املذكرات ،و
رغم ذلك بقي وفيا حلبه خملصا و صادقا له فلم مينعه اجلنون من تذكر قرب حمبوبته.
« ليلة أمس جاءين مجع من الرجال قاطين جبل عصفور هذا الذي حييط بنا ،مدججني باألسلحة و
اخلناجر ،ملثمني يربق من أعينهم دم أمحر كحمم الرباكني ،توىل قائدهم احلديث فيما انطلق اآلخرون يفتشون
حظرية املاعز و األبقار و خم الدجاج ،قال بلهجة صارمة...
-يا أهل قرية بين بو سعيد حنن محاة جبلكم هذا ،و حاملوا لواء دينكم و ديننا احلنيف من بطش الطغاة و
احلكام املفسدين ،و هلذا آمركم بدفع ما يرتتب عليكم جراء تكفلنا حبمايتكم ...ومن يتخلف عن دفع ما يرتتب
عليه ،فهذا اخلنجر يف يدي اليمىن يستقر يف حنجرته و يصلب رفقة عائلته كلها » ،2و ينقل لنا السارد هبذا
املقطع السردي مظاهر اخلوف و الرعب اليت تعرض هلا املواطنون اجلزائيون من قبل اجلماعات اإلرهابية اليت هنبت
ممتلكاهتم و سرقت حماصيلهم و كذا حيواناهتم مقابل حياهتم املسروقة حتت ذريعة احلماية اليت كانوا هم منتهكيها
يف األساس ،فوضح الراوي سبب خوف املواطنني من هؤالء الطواغيت مفسدي نظام اجملتمع و استقراره ،فكان
الشعب هو اخلاسر األكرب يف ظل الصراع على السلطة.
يف الثامن عشر من ديسمرب سنة 1990كانت خطبة "نذير" ل ـ "أمينة" ،ما قاده إىل العودة بذكرياته إىل
زم ٍن مضى متذكرا بذلك والديه املتوفيني اللذان غابا عنه يف يومه السعيد هذا ،فنجد الراوي يقول « :ما أمجلهما
بذلك اللباس األبيض ! ؟ وكم هو أنيق بعباءته املغربية اليت زادت مظهره هيبة و وقار ! كانت صورهتما بعد أن
رجعا من أداء مناسك العمرة تزين الغرفة كلها ،مخس سنوات على فراقهما » 3نالحظ أنه اسرتجاع طويل املدى
يعود خلمس سنوات يوم كان والداه يزينان البيت بنورمها وحناهنما لكن املنية فرقت بينهم و منعته من رؤية
سعادهتما خبطبته ،فتجلى احلزن و األمل يف سطور الرواية بسبب هذا الفقدان.
887
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
يضيف السارد اسرتجاعا آخر عرب به عن اللحظات السعيدة اليت تعرف فيها على "أمينة" و أعجب هبا و
حبيائها و حجاهبا الذي انسدل على رأسها ،و هذا و إن دل فيدل على تعلق الراوي بالدين االسالمي و مظاهره
اليت عكسها على شخصيات روايته ،يقول « :نظرت إليها و التقطت صورة بعيين ال زالت حمفوظة يف دكان قليب،
كانت بلباس أسود طويل الكمني ساتر جلسدها ،و مخار أزرق مائل إىل السواد خيفي شعرها األسود الفاحم.
نظرت إيل و ابتسامة تعلو مالمح وجهها تسألين عن عنوان كتايب ،فقلت يف نفسي ،هو لك إن أردت ،و كذلك
قليب ».1
« عش ت يف البادية طيلة حيايت ،تربيت يف بيئة حتوم حول أطرافها أنواع شىت من الوحوش ،كانت األفاعي
عندنا جمرد حيوانات أليفة نتسلى هبا ،رأيت الذئاب املتوحشة و غدرها ،و رأيت العقارب و مسها الفتاك ،لكن مل
يسبق يل أن رأيت أبشع من اولئك اآلمثني » ،2لقد كان هذا االسرتجاع ملاضي "عمي العريب" انعكاس لطغيان
اجلماعات االرهابية على اجلزائريني ،حىت قادهم ذلك إىل الفزع منهم وزرع الرهبة يف قلوهبم أكثر من خوفهم من
احليوانات الضارية اليت حسبوها بعد املعاناة أليفة غري مؤذية ،فحياة الشعب غاب عنها االستقرار واهلدوء
والطمأنينة وحل حملها سفك الدماء وانتشار اجلثث يف كل مكان ،فعكست الرواية صورة الواقع االجتماعي يف
التسعينيات وما حل بالبالد من خراب ودمار تلقته من أبنائها القاطنني هبا.
كما حتمل الرواية بني طياهتا اسرتجاع "عمي العريب" للسنة اليت قضاها يف إحدى اجلبال رفقة اجلماعات
االرهاب ية اليت أخذته عنوة ،واصفا وحيتها و دمويتها وأهواهلا اليت شبهت أهوال يوم القيامة بسبب قساوة
اجلماعات الالمتناهية ،فروى على مسامع النقيب "أسامة" قصة فتاة حاولت الفرار من قبضتهم واصفا له
التعذيب الشنيع الذي تلقته بعدما أمسك هبا أحد األفراد ،بقول يف هذا الصدد «:قضيت سنة كاملة يف جبل
عصفور ،يعجز لساين عن وصف املظاهر اليت رأيتها ،كانت أمامي فرص كثرية للهرب لكن الفزع نال مين ،سبقين
إىل ذلك عدة أشخاص ،منهم تلك الفتاة املراهقة صاحبة السبع عشرة سنة ،أمسكوها بعد أن طاردوها بكالهبم
اهلائجة املتوحشة ،و ما إن ضبطوها حىت صار كل واحد فيهم يغتصبها مرات ومرات وهي تصرخ بكل ما أوتيت
من قوة ،أما أحدهم فظل ممسكا هبا ويقهقه كأنه يستمتع بعذاهبا ،أي وحش يستطيع أن يفعل هذا ؟ » ،3لقد
محل هذا املقطع العديد من مظاهر احلياة املخيفة يف اجلبال؛ كاالغتصاب واستعمال العنف ضد األسرى وترهيبهم
887
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
لقد قادت احلاجة الناس إىل سلك طرق مشكوكة خمالفة للقانون بعدما ساد الفقر ربوع البالد ،و أصبح
الكثري منهم ال جيد لقمة تسد جوع أوالده ،فلجأ بعضهم إىل جتارة املخدرات والبعض إىل هتريب الوقود عرب
احلدود كما فعل بطل الرواية "نذير" الذي قادته البطالة واحلاجة إىل هذا العمل الدينء ،إال أن الندم حط على
قلبه بعدما دخل السجن ،ويظهر هذا املقطع االسرتجاعي يف الرواية ليجسد احلادثة بدقة ومصداقية« :مرت علي
ذكريات كثرية كشريط سينمائي طوي ل ،رجعت فيه إىل املاضي القريب ،إىل تلك الليلة الصيفية اليت سرنا فيها
واحلمري يف مقدمتنا حاملة على أظهرها كميات من الوقود يف دالء حمكمة اإلغالق ،صرت أعاتب نفسي اليت
ساقتين إىل ذلك ،إهنا لعنة حلقت يب بسببا لك التهريب املشكوك يف أمره».2
وبعد تتبعنا لتقن ية االسرتجاع يف الرواية باعتبارها مفارقة زمنية سردية ،ميكن القول أن االسرتجاع ظهر بشكل
كبري وواسع عرب صفحات املدونة ،حيث حضر يف جل فصوهلا تقريبا بنوعيه "طويل املدى" و "قصري املدى" ،ما
يقودنا إىل استنتاج مفاده أن االسرتجاع مسة من مسات الرواية املعاصرة كوهنا األكثر اهتماما هبذه املفارقات الزمنية
وتفاعلها مع الزمن احلايل ،يهدف إىل ايصال األفكار واآلراء واملواقف بعمق ،كما زخرت الرواية بتنوع كبري يف
املقطع االسرتجاعية اليت لعبت دورا هاما يف تشكيل بنية النص وداللته.
887
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
ب -االستباق:
ويتمثل هذا النوع من املفارقات الزمنية يف إيراد حدث مل يقع بعد لكنه ٍ
آت ،وتتم اإلشارة إليه مسبقا ،ويعد
احلكي بضمري املتكلم أكثر مالءمة له من أي حكي آخر ،فيستعمل السارد تلميحات إىل املستقبل « ألن هذه
التلميحات تشكل جزءا من دوره نوعا ما» ،1كما ال تتصف هذه املفارقة باليقينية بل تتعدى ذلك إىل اخليال.
كما يدل االستباق على «الولوج إىل املستقبل ،إنه رؤية اهلدف أو مالحمه قبل الوصول الفعلي إليه».2
حتفل رواية "يف كل قرب حكاية" بالعديد من اإلستباقات اليت حتمل معاين وأفكار اجتماعية كانت أو
سياسية ،وقد تعرب أيضا على أفكار وأيديولوجيات.
جند هذا املقطع يف الرواية «فقرر بذلك العريب أن يتقدم خلطبتها فور أن يغنم حبصيلة من عمله يف حراسة حقل
من الزرع» 3والذي يعرب عن قرار مسبق اختذه "عمي العريب" بغية خطبة "خدجية" يف املستقبل القريب ،إال أنه
استباق غري ممكن التح قيق ألن هذه األخرية توفيت جراء طلق ناري من طرف اجلماعة االرهابية اليت حطمت
أحالم الكثريين من أمثال "عمي العريب" ،إضافة إىل االوضاع االقتصادية املزرية اليت وصلت إليها البالد بسبب
هؤالء اجملرمني حيث قلات فرص العمل وانتشرت البطالة ما ساق الشباب إىل اتباع اآلفات االجتماعية كتعاطي
املخدرات واإلدمان على اخلمر والسرقة والنهب ...وغريها من االحنرافات اليت ال حصر هلا.
« سقت نفسي إليه وكلي ظنون أين سأقوم مبا اعتدت على فعله دوما ،حني أجالسه وأمسع منه
القصص ،4»...يتكهن الراوي يف هذا القول حالة جلسته مع "عمي العريب" على أهنا ستكون كاملعتاد جيلسان يف
املقهى ويتجاذبان أطراف احلديث يف مواضيع خمتلفة ،لكن مل يتحقق تكهنه ألن اللقاء أخذ منحى آخر على غري
العادة؛ فقد قص عليه "عمي العريب" حادثة غريبة عاشها يف املقربة اليت يعمل حارسا هلا بعدما مسع العجب
العجاب من أحد اجملانني يف حني كان يظن أنه صوت األموات.
882
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
«وعندما تواتينا الفرصة لالنقضاض عليهم سننكل هبم تنكيال ال حتمد عقباه ...وسننتقم لعائلتك من القتلة
الكافرين» 1يظهر يف هذا االستباق تطلع قائد اجلماعة االرهابية إىل االنتقام ،رغبة منه يف استحواذ عقل "عمي
العريب" و خداعه بكلمات االنتقام لينضم إىل صفه ويصبح سنده يف حتقيق خططه املاكرة ضد احلكومة،
فاستغلت اجلماعات االرهابية الشعب الضعيف األمي للنجاح يف احلرب السياسية اليت شنتها ضد احلكومة
اجلزائرية ،وحاولت التأثري عليه خبطابات وشعارات مزيفة مستعينة بالدين والقرآن الكرمي الذي قامت بتحريفه
وتفسريه حيب أهوائها وما خيدم مصاحلها ،ومن مل ينخدع بشعاراهتا أخذته بالقوة والغصب مستعملة التهديد
والوعيد كما حدث مع "عمي العريب" ،ومن هنا نستنتج أن اجلماعات االرهابية بثت مسها يف الشعب بدهاء
ومكر مستعينة بشىت األساليب املتاحة غري الشرعية ،فكان الشعب ضعيفا ذليال ينخدع بالشعارات الدينية
االسالمية بسبب جهله مبا ينطوي حتتها كذب ونفاق.
يستبق "عمي العريب" األحداث يف تطلعه إىل الفرار من قبضة اإلرهابيني يف املستقبل القريب لكن الفرتة
الزمنية غري معلومة ،وفعال يتحقق مراده وينجح يف التخلص من قيودهم الجئًا إىل احلكومة ،فيقول «إين سأمتكن
من اإلبتعاد عنهم يوما ما بغض النظر عن الطريقة».2
كلما سعت اجلماعات االرهابية إىل بث أفكارها الشنيعة وارتكاب جرائم وجمازر أكثر وجدت اجليش الوطين
اجلزائري باملرصاد ،فقد حاول جاهدا إلحباط جرائمها البشعة ،لنجد النقيب "أسامة" يتوعدهم يف وقت قريب
معلوم -يوم غد -فيقول «:سأنطلق رفقة اجلنود كي ندك معاقل األوباش ،وحنرق األرض اليت حتملهم عن بكرة
بيها» ،3ولقد حتقق ذلك االستباق فعال وكان االنتصلر يف اهلجوم لصاحل السلطة.
«سأكون عندك بعد ساعة» 4وهذا استباق آخر يؤكد فيه "حممود" قدومه إىل املنزل بعد مدة زمنية قصرية
قدرها ساعة.
-1الرواية.01 ،
-2الرواية ،ص .66
-3الرواية ،ص .25
-4الرواية ،ص .119
887
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
أعرب السارد عن موافقته على املصاحلة الوطنية مضفيا رأيه املساند إلهناء الصراع الذي أهنك كاهل كل
األطراف ،واتضح ذلك من خالل شخصية "نذير" حني قال« :حني وضعت ورقيت ب ـ "نعم" للمصاحلة الوطنية
قلت حينها ،اليوم سيتحرر قليب».1
ومن هنا ميكن القول أن االستباق يعرب عن مقدرة الراوي على تفكيك السائد وإعادة تشكيله وفق رؤى
متقدمة وحيل فنية متسلسلة ،فهو« القفز على فرتة معينة بني زمن القصة وجتاوز النقطة اليت وصل إليها اخلطاب
الستشراف مستقبل األحداث والتطلع إىل ما سيحصل من مستجدات» ،2وحفلت رواية "عبد الواحد هواري"
هبذه املفارقات الزمنية عرب جل فصوهلا تقريبا ،فهذه السمة اليت متيز الزمان عبارة عن تقدمي بدائل للواقع املأساوي
الذي مرت به البالد بسبب الصراع السياسي بني السلطة واجلماعات اإلسالموية يف التسعينات والتطلع لواقع
أفضل آمن ٍ
خال من الدماء.
أ -تسريع السرد:
يعد تسريع احلكي من أهم مقتضيات الرواية ،فعلى السارد تقدمي بعض األحداث الروائية اليت يستغرق
وقوعها فرتة زمنية طويلة ضمن حيز ضيق على مستوى صفحات الرواية ،فريكز السارد على التيمة ال غري باعتماده
على تقنيتني متكناه من تسريع السرد وطي مراحل عدة من الزمن ،ومها :اخلالصة واحلذف.
أ – .1الخالصة (التلخيص):
ملخص زمن اخلطاب فيه أصغر من زمن الكتابة ألن الروائي يلجأ إىل« االستعراض السريغ لفرتة
ٌ سرد
وهي ٌ
من املاضي فالراوي بعد أن يكون قد لفت انتباهنا إىل شخصياته عن طريق تقدميها يف مشاهد يعود إىل الوراء مث
يقفز بنا إىل األمام لكي يقدم لنا ملخصا قصريا عن قصة شخصياته املاضية».3
لقد جلأ الراوي إىل هذه التقنية حني قام بتلخيص أحداث ماضية كذكر قصة حقيقة إطالق اسم "أبا
يعقوب" على "املعلم األكرب" موجزة يف سطرين « ،الزلت أذكر كيفية روايتك لتلك القصة ،وأن احلكومة قتلت
887
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
ابنك بني أحضانك بوحشية ،وقد زاد مجال املشهد تلك الدموع اليت ذرفتها على روايتك املختلقة» ،1فقام الراوي
برتهني هذا املقطع يف زمن السرد احلاضر كي يضيء اجلانب املظلم هلذا اللقب ،وعمل على فضح الكذب
واخلداع الذي حتايل هبما على الناس كي يستعطفهم وينحازوا إىل صفه.
كما ِ
عمد الراوي إىل وصف حالة الفقر واحلرمان اليت عانت منها األسر اجلزائرية يف التسعينات بسبب
األوضاع السياسية غري املستقرة يف ظل الصراع على كرسي السلطة ،فلخص الراوي هذه األحداث مع شخصيات
روايته يف أسطر ليلة قائال « :كانت أمينة تعيش رفقة والدهتا يف قرية جماورة للمدينة ،مل يكن حال معيشتهما مزينا
بالذهب و الفضة ،فقد سحبت احلكومة مجيع ممتلكات والدها ومل ترتك هلم إال البيت احلقري الذي تسكنه رفقة
أمها حبيبة» ،2فلم يذهب الراوي إىل التفصيل يف حياة "أمينة" ووالدهتا فقد ملح فقط على حالتهم االجتماعية
َّ
املزرية بعد حادثة سجن والدها.
كما حاول تلخيص املعركة الطاحنة اليت وقعت بني أفراد اجليش الوطين واجلماعة االرهابية املتمركزة يف "جبل
فعمل هذا التلخيص على تسريع السرد يف الرواية ،حيث اختزل الراوي عدة حمطات منذ عصفور" عرب أسطر قليلة ِ
بداية املعركة إىل هنايتها ،إضافة إىل تلخيصه حلدث طويل قدره أربعون يوما -تلخيص طويل املدى -يف مساحة
صغرية واصفا معاناة "نذير" يف السجن طوال هذه املدة ذاكرا مدى الظلم الذي ُسلاط على املساجني يف
الزوار وزوجات السجناء وممارسة الرذيلة معهن، التسعينيات من قِبل َّ
السجانني كالضرب والسب واالعتداء على َّ
ورميهم يف املنفردة اليت ال تسمح مساحتها هلم حىت باجللوس رغم أن القيادات العليا مل تسمح باستعمال هذا
النوع من العقوبات إال أهنا كانت موجودة خفية عنها ،وهنا يظهر الفساد الذي حل ببعض القطاعات الدولية.
« وقتها ،جاءت طائرة من املغرب األقصى حاملة نور رجاء يشع وسط ظلمة البالد ،خرج منها حممد
ب وضياف حبلته السوداء وجبهته املسطرة بتجاعيد اجلهاد ،رفع يده إىل السماء وحياه الشعب كله ،رأى فيه اجلميع
صورة الفارس املغوار املنقذ من قيود اخلوف والوجل ،استنشق عبري البالد وما إن حاول أن يزفر به حىت اقتنصته
رصاصة الرمحة ،رمحته من شقاء العامل وبؤسه ،وأبكت ماليني القلوب اليت تقطع حبل أملها الرفيع حبياة آمنة
3
سرعت السرد دون
طيبة» ،خلص السارد مدة 155يوما من حكم "حممد بوضياف" للجزائر يف سطور موجزة َّ
888
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
جتاهل آمال اجلزائريني اليت علقوها على هذا الرئيس ،ففرحوا باقرتاب خالصهم من اجلماعات االرهابية إال أن
فرحتهم مل تكتمل بسبب اغتياله ألنه مل خيدم مصاهلم.
أ – .2الحذف (القطع):
يعد احلذف « نوع من القفز على فرتات زمنية والسكوت على وقائعها من زمن القص ،ونوع يلحق القصة
والسرد معا يف حالة التنقل إىل فصل حيث حتدث فجوة يف القصة» ،1ويلجأ السارد إىل احلذف أو القطع
بصعوبة لسرد زمن معني بشكل متسلسل ودقيق.
استعمل "عبد الواحد هواري" يف روايته تقنية احلذف يف مقاطع عديدة منها« :ثالثة أشهر مرت علي
داخل زنزانة حقرية رائحتها نتنة» ،2لقد ورد احلذف هنا طويل املدى حمددا بثالثة أشهر عاىن فيها "نذير" الويالت
داخل جدران السجن الذي ُع ِرف يف تسعينات القرن املاضي بالظلم والتعسف.
اعتمد السارد حذفا آخر حني تطرق إىل فرتة من فرتات سجن "نذير"« :طيلة تسعني يوما مل تصلين رسالة
واحدة من أمينة» ، 3وهبذه القفزة الزمنية أسقط السارد أحداثا ال أمهية هلا متغاضيا عن ذكرها والتفصيل فيها
فيكتفي بذكر املدة الزمنية الطويلة اليت مل ترسل فيها "أمينة" أي رسالة اطمئنان ،مع حذف ذكر تفاصيل باقي
أحداث األيام األخرى.
ويضيف «:عدة سنوات بعد تلك األيام اليت قاسى فيها العريب وكل سكان البالد مرارة الشقاء» ،4وهذه
قفزة زمنية أخرى طويلة املدى متثلت يف سنوات غري معلومة ،كما حتمل القفزة الزمنية داللة يدركها الكاتب؛
فاألحداث السابقة والالحقة للحذف كافية لتعرب عن الرؤيا ألن الوقائع التارخيية هلذه الفرتة احملذوفة معلومة يف
الرواية سابقا حيث سلف ذكر احلياة املأساوية اليت عاشها الشعب اجلزائري وراح ضحيتها اآلالف من األبرياء
ضحية الصراع السياسي ،وآالف املرضى النفسيني الذين مل حيتملوا التعذيب ورؤية أحبائهم غارقني يف دمائهم.
قد حيذف الراوي مدة زمنية دون أن حيدد مداها ال يعلمها القارئ ما خيلف فراغا يف مسار احلكي ،وجتلى
ذلك يف قوله « :يوم تلقت رسالة نذير ،خرجت من غرفة منزهلا والغضب يطلق الشرر من مقلتيها دخلت املطبخ
888
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
وظلت تصرخ يف وجه أمها» ، 1فال علم للقارئ بأحداث هذا املشهد خالل الفرتة املسقطة من زمن احلكاية ألن
السارد مل يرتق لألحداث اليت وقعت هبا.
ميكننا القول أن نص رواية "يف كل قرب حكاية" يعج باحملذوفات اليت ال ميكن االستغناء عنها ألهنا تسهل
القفزات الزمنية وجتاوز األحداث غري اهلامة ،فتقنية احلذف تعمل على التالعب بالزمن الذي يضفي اجلمالية
والتشويق للرواية.
يلجأ السارد أثناء تقدميه للنص احلكائي إىل اإلبطاء يف تقدمي األحداث الروائية اليت تستغرق زمنا قصريا
ضمن حيز نصي واسع باعتماده تقنيتني مها :الوقفة الوصفية والسرد املشهدي.
ب – .1الوقفة الوصفية:
تعمل الوقفة الوصفية على إبطاء زمن السرد يف الرواية فيتخللها الوصف « إلضافة شيء يكون مفيدا للسرد
أو لتقوية اجلانب الشعري ،فال ننسى بأن الوصف هو وسيلة وليس هدفا أي أنه جزء من الكل وليس أجزاءا
مكونة للموضوع وملا كان الوصف تقنية سردية قدمية ال تكاد ختلو منها رواية ،فإن الوصف والسرد يتشاهبان يف
كوهنما يتكونان من الكلمات ،لكنهما خمتلفان يف اهلدف».2للوصف وظيفتان أساسيتان؛ أوالمها أنه مبثابة وقفة
يف مسار احلكي ،وثانيهما أنه ذا طبيعة تفسريية.
حتفل الرواية بالوقفات الوصفية اليت سامهت بكثرة يف إبطاء زمن احلكي ألسباب عديدة تصف كل
انعكاسات الصراع السياسي على نفسية الشعب وحتول حياته االجتماعية بشكل مأساوي.
جند الراوي بعدما كان يسرد األحداث بشكل متسلسل توقف فجأة ليصف لنا "صخرة األسد" أثناء ذهاب
"نذير" وزوجته إىل الشاطئ فيقول« :قبل أن نصل إىل وجهتنا ببضعة كيلو مرتات اجتزنا صخرة األسد املعروفة،
جبل صخري شاهق الطول عظيم اهليبة ،واجهته على شكل رأس أسد خيطف األنفاس ،كانت عبري مولعة بتلك
اللوحة الفنية الطبيعية حىت أهنا قررت التوقف لربهة والتقاط صورة مقابلها ،تلك الصورة اليت مل تفارقين قط ،و
887
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
هأنذا أمحلها بني يدي ،أضمها إىل صدري وأذرف دموع الشوق فوق هبائها» ،1وهبذا يكون الراوي قد أوقف
اندفاع الزمن واصفا ذلك املكان اجلميل الذي أحبته زوجته املتوفاة ،فحملت هذه الوقفة يف طياهتا دالالت احلب
واالشتياق للزوجة اليت خلَّفت وراءها حزنا كبريا يف قلب "نذير".
يصف الراوي علم اجلزائر بقوله « :عاليا بني السحب البيضاء رفرفت راية هبية مزينة السماء الزرقاء ،علم
طاهر بدم الشهداء على شكل جنمة وهالل ،نصفه األول أخضر يتبىن املروج والسهول ونضارة الطبيعة يف البالد،
والنصف الثاين أبيض كحمامة سالم حملقة يف العالء» ،2أظهرت الوقفة الوصفية اليت تناولتها الرواية حب الراوي
لعلم وطنه ،فسعادته واضحة أثناء وصف مجاله وداللة ألوانه ،فاجلزائري حيب كل شيء متعلق بوطنه الذي محاه
الشهداء األبرار بدمائهم الزكية الطاهرة.
توقف السارد مرة أخرة عن سرد األحداث ليصف مكان سكن "عمي العريب" الذي يدل على حالته
الصعبة والفقر الذي امتدت جذوره يف اجلزائر يف زمن الرعب واخلوف ،زمن احلرب األهلية ،يقول الراوي يف ذلك:
« مل يكن لعمي العريب سوى أمه اليت كان يقامسها كوخا مبنيا بالطوب واألحجار ومغطى بالزنك ،بابه مهرتئ من
خشب يسحب بسلك من حناس ،حيوي غرفة واحدة ،وحوشا صغريا ال سقف له ،وخلف الباب زريبة صغرية فيها
عنزة وخروف صغري وكلب للحراسة» ،3فتطرق الراوي هنا لوصف بيت "عمي العريب" ،ويسمى هذا النوع من
الوصف تعريفيا ألنه حدد جتليات املكان الدالة على طبيعة احلياة فيه.
ويضيف الراوي يف وصف األماكن « على بعد مخسة وعشرين كيلومرتا جنوب مدينة احلاجة مغنية ،بني
األكواخ املزخرفة بالطوب ،واملزارع املرتمنة بثغاء الشاء وصهيل اخليول ونباح الكالب ،قرب الواد الرابط بني املغرب
واجلزائر ،جتمع أهل قرية "بين بو سعيد" حول مسجد القرية» ،4فمن خالل هذه الوقفة الوصفية نالحظ طبيعة
ضمن الراوي األبعاد االجتماعية يف وصفه واصفا حياة الشعب يف زمن
احلياة يف تسعينات القرن املاضي ،حيث َّ
العشرية السوداء اليت امتازت بالفقر املدقع واإلعتماد على الزراعة واملواشي يف العيش.
887
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
وال يكتفي الراوي بوصفه لألمكنة ذات الدالالت واملعاين املتعددة ،وقد جتلى ذلك يف «:يف جوف غابة
جبل عصفور ،بني أشجار الصنوبر الطويلة ،وظالل السنديان العظيم ،سبحت الشمس حنو الغرب ،وتوارت
الطيور يف أعشاشها ،واحتمت األرانب يف جحورها ،تبدلت نغمات العصافري بزفري رياح خفيفة ممتزجة حبفيف
األغصان ،إن حل الظالم فترتدد يف األفق صدى نباح الكالب ،ونعيق البوم املتناغم مع خطوات األوباش»،1
دمج الراوي وصفه بأبعاد سياسية متثلت يف ذكره زمن التسعينات الذي عُ ِرف باخلوف والرعب والصراع.
األمر عينه عندما قطع الراوي سرده لألحداث وراح يصف النقيب "أسامة" « :أسامة نقيب متخرج من
املدرسة الطبية العسكرية ،واحد من القادة القالئل الذين يضرب هبم املثل يف التفاين واإلخالص ،كان من الذين
حاربوا مبدأ ميكيافيلي "الغاية تربر الوسيلة" مببدأ "السياسة واحلكم أخالق قبل كل شيء" ،متمرس يف عدة
جماالت وجييد عدة لغات ،معروف بتواضعه الشديد الذي جعله يرفض مناصب عالية يف الدولة يف حماولة منه
للحفاظ على مبدئه خاليا من الشوائب ،عُرف بدقته العالية يف التصويب مما جعل أصدقاءه وطالبه يطلقون عليه
لقب القناص» ،2فكان النقيب "أسامة" يف هذه الوقفة الوصفية حامال لدالالت سياسية نبيلة من خالل رفضة
استعمال القوة واخلداع والغدر ،يف مقابل اعتماده على نبالة األخالق والصدق يف عمله ،ألنه رجل فاضل يف زمن
الغدر والنفاق.
ننتقل مرة أخرى إىل وصف الراوي لشخصياته من خالل التطرق إىل مواصفات زعيم اجلماعة املسلحة
"املعلم األكرب" « كان املعلم يرتدي جالبة مغربية بنية ،له حلية تصل نصف صدره ،شعره طويل إىل كتفيه ويضع
عصابة على جبينه كتب عليها شهادة اإلسالم ...حيمل ندبة كأن سكينا اخرتقت حلمه ،مرعب الشكل له
نظرات قاسية ال ترحم وحييط جبسمه حزام عسكري مدجج باألسلحة واخلناجر والقنابل » ،3بوصف الراوي هذه
الشخصية أضاف عليها أبعادا تتماشى مع أفعاهلا اإلجرامية ،إذ يعد قاتال سفَّاحا نظرته غري سليمة ،وأفكاره
مهجية منحرفة ،حىت شكله يوحي عن صفاته الوحشية.
وأخريا ميكننا القول أن السارد تطرق إىل الوصف هبدف مواصلة تقدمي املادة احلكائية حسب إيقاع زمين
جديد يبعده عن الرتابة ليصبح أكثر قبوال لدى املتلقي ،فتميزت الوقفة الوصفية يف الرواية بأمهية بالغة لبَّت حاجة
887
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
احلكي الروائي إىل توسيع مساحته؛ وذلك بإيقاف الزمن يف الرواية ،كما أحالت الوقفة السردية إىل الواقع
السوسيولوجي للرواية فحمل الوصف داللة أيديولوجية وسياسية واجتماعية.
املشهد هو املقطع الذي يأيت يف كثري من الروايات لتبطيء السرد وتعطيله بإطالة احلوار بني الشخصيات
«من خالل تصويره فرتات كثيفة مشحونة» ،1وقد جتلى املشهد يف الرواية بصفة كبرية حامال يف معظمها دالالت
متعددة تصف الواقع االجتماعي جلزائر التسعينات ،ومن تلك املشاهد نذكر:
« -من أنت!؟من الطارق !؟
-أنا العريب جاركم
فتح الوالد الباب ونظر إليه بعني العجب والدهشة مث قال:
-خري إن شاء اهلل ! ما الذي أتى بك يف هذا الوقت املتأخر!
-جئتكم أستغيث لت يب السبل أمر حصل ألمي وقد حارت يب السبل يف ما أنا فاعل! فلصدرها أزيز خيدش
مسامعي وحرارهتا ملتهبة ،وإين جئت طالبا العون لعلكم أفقه مين مبصاهبا ،2» ...وميتد هذا احلوار لصفحات بغية
جتسيد احلالة املزرية اليت وصلت إليها األم "فاطنة" وعجز ابنها علة إجياد حل لعلتها ،وهكذا أدى املشهد إىل
جسد الراوي خوف اجلزائريني من اخلروج من منازهلم ليال ألن عذا التصرف قد يودي
إبطاء اإليقاع الزمين .كما َّ
حبياهتم إىل التهلكة بسبب متوضع اجلماعات اإلرهابية يف كل مكان وقتلها لكل من جتده يف طريقها دون رمحة أو
شفقة ،فلم تكن البالد آمنة على مواطنيها ،فرمست الرواية هذا الواقع االجتماعي املأساوي بأسلوب فين إبداعي.
كسر املشهد السرد من خالل احلوار الذي يعد من األساليب املهمة يف بناء الشخصية والتعبري عن أفكارها
وآراءها وحيدد عالقتها بغريها من الشخصيات ،ما حيفز املتلقي على مواصلة التوغل يف النص كأن املشاهد جمسدة
أمامه على أرض الواقع.
887
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
يعد املكان أحد مكونات الرواية ومن ضمن العناصر الضرورية اليت جيب توفرها فيها ،لذا اهتم النقاد
والدارسون حبضوره األديب الفين .ولتحديد مدلول هذا املصطلح البد أن نقف قليال على مفهومه اللغوي يف لسان
العرب حيث ورد « :و ال َـم َكا ُن :ال َـم ْو ِض ُع ،ج :أ َْم ِكنَةٌ أ ََماكِ ُن » ،1أما اصطالحا فإنه« ميثل مسرح األحداث
املركزي ،وحيتوي على فضاءات صغرى "جزئية" تتكاثف وتتكامل وظيفيا بداخلها لتعطي معىن للفضاء العام»2؛
أي أنه فضاء حكائي مرتامي األطراف حيمل يف طياته أمكنة ومعامل تدور األحداث فيها معطية نسيجا حكائيا
متكامال تتحرك فيه الشخصيات أثناء أداء أدوارها.
كما « يربط غرمياس مفهوم املكان باخلطاطة السردية ،إذ ال يعترب يف نظره جمرد فضاء فارغ تصب فيه
التجارب اإلنسانية ،إمنا يتعلق مبا متليه عليه اخلطاطة السردية .وبذلك يتوسع املكان كسلسلة من احملطات اليت ال
وظيفة هلا إال بتفاعلها مع رحلة البطل ...ويبقى لكل مكان يرتدد عليه أبطال الرواية دالالت خاصة؛ وبالتايل
خيرج املكان من كونه جمرد كلمات تتضمنها الرواية إىل مكان أوسع متصل بالعامل اخلارجي ».3
لقد أعطت الدراسات احلديثة أمهية كربى للمكان ملا يشكله من أبعاد ذات دالالت خمتلفة ،ألنه ليس جمرد
إطار (جدران وهندسة) تنطوي حتته أفعال الشخصيات وتواجدها واألحداث اليت تكتنفها ،ولكنه يشكل رمزا
وبعدا حسيا وماديا من خالل مجلة من العناصر املشكلة له ،حىت تلك اجلهات اليت حتدد وضعية الشخوص
وتقابالت األشياء.
املكان ليس جمرد مكان موضوعي حمايد؛ إمنا هو مكان روائي فين ،فلكل مكان مستوى معني خيتلف عن
غريه وتتغري صفته من شخص آلخر ،فنجد أماكن مفتوحة وأخرى مغلقة ،أماكن حمببة وأخرى منبوذة ...فضال
عن إمكانية انتحال املكان الواحد صفتني خمتلفتني تبعا الختالف املقام ،فلو قلنا مثال أن البيت مكان مغلق على
ما بداخله اإال أن هناك إمكانية انفتاحه على ذكريات أشخاص قضوا فيه فرتة من حياهتم ،وتوجد أماكن رحبة
واسعة منفتحة تبدوا آلخرين مغلقة موحشة بسبب بعض الظروف النفسية اليت مرت هبم فيه ،ومبا أن املكان يف
احلياة الواقعية خيتلف فهو كذلك يف الروايات واألعمال الفنية.
-1جمد الدين بن يعقوب الفريوز آبادي :القاموس احمليط ،دار احلديث ،القاهرة ،7009 /1179 ،ص .1660
-2إبراهيم عباس :تقنيات البنية السردية يف الرواية املغاربية ،منشورات املؤسسة الوطنية لالتصال ،اجلزائر ،د/ط ،7007 ،ص .90
-3كلثوم مدقن :داللة املكان يف رواية موسم اهلجرة إىل الشمال ،ضمن جملة األثر ،جامعة ورقلة ،عدد ،1ماي ،7006ص .117
887
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
ارتبط املكان املفتوح باحلرية من حيث الداللة على حرية احلركة دون حواجز خارجية حتدها كالبحر واملدينة
والصحراء ،أما املكان املغلق فإنه مقيد حبدود ال ميكن للشخص جتاوزها لوجود حدود معلومة حتده كالبيت والقبو
والغرفة ألن مجيعها حمدود جبدران «فهو ميثل غالب احليز الذي حيوي حدودا مكانية تعزله عن العامل اخلارجي،
ويكون حميطه أضيق بكثري من املكان املفتوح ،فقد تكون األماكن الضيقة مرفوضة ألهنا صعبة الولوج ،وقد تكون
مطلوبة ألهنا متثل امللجأ واحلماية اليت يأوي إليها االنسان بعيدا عن صخب احلياة».1
وتتعدد أبعاد األماكن املغلقة من شخص آلخر ،فالبيت ميثل الدفء واالستقرار النفسي واجلسدي،
والسجن ميثل االنغالق كبح احلريات ،وهذه األمكنة تنقسم إىل أمكنة إقامة اختيارية كالبيت واملقهى ،وأمكنة
إقامة إجبارية كالسجن.
كما حيمل املكان دالالت اجتماعية ألن املبدع ينطلق من اخللفية االجتماعية لإلنسان ومن واقعه
االجتماعي بشكل خاص ،فالسارد يرسم معامل املكان بدقة متناهية كي يتفق مع األحداث والشخصيات اليت
تتحرك وفقه ،فالروائي « يدخل العامل اخلارجي بتفاصيله الصغرية يف عامل الرواية التخيلي ويشعر القارئ أنه يعيش
يف عامل الواقع ال عامل اخليال» ،2وقد حتمل األمكنة يف الرواية الداللة التارخيية يف ين ارتباطها بأحداث غابرة
حدثت يف زمن ٍ
ماض ،ولعل أبرز الدالالت التارخيية للمكان يف الرواية اجلزائرية ما تعلق بالثورة على الظلم املسط
على األمة من طرف اآلخر.
أ -البيت:
تعد البي وت من األمكنة اليت حتقق فيها الشخصيات االستقرار ألهنا متثل منوذجا لأللفة ومظاهر احلياة
الداخلية ،فتحمل دالالت وأبعاد خمتلفة إذ أن «الرؤية التجزيئية اليت تكتفي بإيراد التفصيالت العينية لفضاء البيت
ستقوم عائقا أمام الفهم الشامل لوظيفة املكان وداللته لتصبح نتيجة لذلك ،عاجزة عن إدراك التعبريات اجملازية
اليت يتضمنها البيت باعتباره مصدرا لفيض من املعاين والقيم .فالبيوت واملنازل تشكل منوذجا مالئما لدراسة قيم
األلفة ومظاهر احلياة الداخلية اليت تعيشها الشخصيات ،وذلك ألن بيت االنسان امتداد له كما يقول ويليك:
-1عبود أوريدة :املكان يف القصة القصرية اجلزائرية الثورية -دراسة بنيوية لنفوس ثائرة ،-ص .69
-2سيزا قاسم :بناء الرواية ،ص .90
882
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
فإنك إذا وصفت البيت فقد وصفت االنسان ،فالبيوت تعرب عن أصحاهبا» ،1إذ ال يعد البيت مكانا للسكن
كون الشخصية « فمن اخلطأ مثال النظر إىل البيت كركام من اجلدران واالثاث
فقط بل هو امتداد ألجزاء هامة تُ ِّ
ميكن تطويقه بالوصف املوضوعي واالنتهاء من أمره بالرتكيز على مظهره اخلارجي وصفاته امللموسة مباشرة ،ألن
هذه الرؤية ستنتهي ،على األرجح ،إىل اإلجهاز على الداللة الكامنة فيه وتفرغه من كل حمتوى» ،2فال يعد البيت
جمرد مكان جغرايف بل هو مصدر الدفء واحلنان واالستقرار حيث جيد االنسان راحته وسكينته.
صور الراوي بيت "عمي العريب" بصفة عامة من خالل قوله« :جلسنا يف حوش املنزل الضيق فوق
لقد َّ
حصرية خشنة امللمس» ،3ثن يضيف يف نفس السياق بالتطرق إىل بعض أجزائه الداخلية« :مل يكن لعمي العريب
سوى أمه اليت كان يقامسها كوخا مبنيا بالطوب واألحجار ومغطى بالزنك ،بابه مهرتئ من خشب يسحب بسلك
من حناس ،حيوي غرفة واحدة ،وحوشا صغريا ال سقف له ،وخلف الباب زريبة صغرية فيها عنوة وخروف صغري
وكلب للحراسة» ،4لقد كانت هذه هي طبيعة البيوت اجلزائرية يف التسعينيات حيث امتازت بالضيق والبساطة
الشديدة ،فانعكست احلياة االجتماعية اجلزائرية يف إحدى فرتاهتا الصعبة -العشرية السوداء -على الرواية ،فكانت
البيوت مهرتئة وصغرية تضم مجيع أفراد العائلة يف غرفة واحدة ضيقة ،ومن خالل وصف السارد ملنزل هذه
الشخصية تبني لنا أهنا تنتمي إىل طبقة اجتماعية سفلى.
وعلى العكس من منزل "عمي العريب" تطرق الراوي إىل وصف بيت "أسامة" املنتمي إىل طبقة األغنياء من
خالل رسم مظهره اخلارجي « :وما جيذب النظر يف البيت هو شرفته املرصعة باآلجر األندلسي واملبنية على الطراز
املغريب البديع ،وأما باب املنزل فكان كبريا بلون أسود ، 5»...مث ينتقل السارد إىل وصف املنزل من الداخل
فيقول « :تسمرت عيناه مبا رأته من حتف معلقة وسط مدخل الدار ،وألوان هبية تزين اجلدران وأثاث مرتب بدقة
ليس عليها حفنة غبار ،كان املنزل هائال شاسعا منظما من كل النواحي ،حتول وسط غرفة وذهل من هندسة
السقف ذي الطراز املعماري املغريب املوروث عن احلضارة األندلسية» ،6فالبيت هو املكان الذي يشعر فيه
-1حسن حبراوي :بنية الشكل الروائي (الفضاء ،الزمن ،الشخصية) ،املركز الثقايف العريب ،بريوت ،1990 ،ط ،1ص.10
-2املرجع نفسه ،ص .10
-3الرواية ،ص .09
-4الرواية ،ص .17
-5الرواية ،ص .99
-6الرواية ،ص .100_107
887
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
االنسان بالراحة واألمان حيث حيمل داللة احلنان واهلدوء ،وهذا ما نلتمسه يف "عمي العريب" الذي ُسعِد كثريا
باملنزل الذي أٌ ِ
هدي له ومل يكن حيلم به أبدا ،استقر يف حنانه ودفئه وأمانه الذي فقده منذ صغره.
البيت هو مالذ للراحة واهلدوء وهذا ما الحظناه مع شخصية "نذير" وزوجته حني جعال من منزهلما مكانا
العتزال العامل اخلارجي ليحظيا بالسكينة فحمل البيت داللة االنفتاح عكس االنغالق الذي محله اخلارج املليء
بدماء األبرياء الذين حنرت أعناقهم اجلماعات االرهابية ،يقول الراوي « :اشرتينا بيتا ريفيا يف مدينة احلاجة مغنية
وخصصناه لرحالت نعتزل فيها صخب العامل والناس أمجعني » ،1ف ـ « حيتل بيت البطل مركز الصدارة يف هذا
النوع من األماكن يسمح خبلوة البطل ويطلق العنان ملخيلته كي تسرح بعيدا الستحضار الذكريات ».2
ميكننا القول أن البيت يرتبط بالشخصيات ارتباطا وثيقا فتتحدد ماهيته يف وجودها فيه وتفاعلها معه ،فهو
رمز اللقاء واالجتماع العائلي ومل الشمل ألن له خصوصيته وحريته ،فعلى الرغم من انغالقه حبدود هندسية حتده
كاجلدران واألبواب إال أنه منفتح نفسيا بسبب االستقرار الذي تعيشه الشخصيات بني جدرانه.
ب -السجن:
تتميز أماكن اإلقامة اإلجبارية بعدم الثبات ألهنا مغلقة ومقيدة للشخصيات ما جيعلها منطوية على نفسها،
السجن للتطلع إىل منفذ يرحيها ويفتك باألفكار السوداوية داخله ،فهو مكان تكبح فيه احلريات ألنه
فيقودها هذا َّ
« ليس فضاء انتقال أو حركة وإمنا هو بالتأكيد فضاء إقامة وثباث ،وإن كان ذلك بصفة مؤقتة ،وفضال عن ذلك
فإن اإلقامة يف السجن خالفا ملا سواها هي إقامة جربية».3
ونظرا لألحداث التارخيية اليت شهدهتا اجلزائر يف التسعينات؛ من صراع األحزاب وتفشي اإلرهاب وممارساته
القمعية الشنيعة وارتكابه جملازر مرعبة يف حق املواطنني األبرياء ،فقد أوىل الروائيون عناية خاصة بالسجون حلملها
دالالت متعددة فهو ذلك املكان املظلم البارد املهرتئ املليء باملعاناة واآلالم اجلسدية والنفسية ،لقد محل صورة
العنف وانتهاك احلريات ألنه مؤسسة للعقاب واملراقبة والتدمري ،يدخله "نذير" العامل البسيط املسامل حيث ُح ِكم
عليه ب عشر سنوات ،إال أنه بريء من التهمة اليت وجهت إليه ،فحمل السجن داللة القهر والظلم والسيطرة
والتعسف وانتهاك احلريات ،يقول الراوي يف هذا الصدد « :ثالثة أشهر مرت علي داخل زنزانة حقرية رائحتها
887
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
نتنة ،مل ُجي ِد صراخي وتوسلي للحراس شيئا سوى بعض التهديدات من طرف أولئك الذين اعتادوا حياة السجون
وما عاد يف إمكاهنم التفريق بني رائحة العبري ورائحة الننت ،كانت صرخات شديدة تدوي عمق روحي ومتزق قليب
مث تقطعه ألشالء وترمي به فوق بوابات اجلحيم فما أبشع الظلم» ،1فارتبط هذا الفضاء بالظلم واملعاناة.
ومن األماكن املغلقة األخرى اليت تطرق الراوي إىل وصفها "الزنزانة االنفرادية" فـ«يزداد التضييق على حركة
الشخصية عندما تكون نزيلة زنزانة ،انفرادية ،متناهية الضيق ،وسيئة التهوية ،مما جيعل قدرهتا على االنتقال ختتزل
الصفر» ،3فأطلق عليها الراوي اسم "البؤرة املهلكة" و "الزنزانة احلقرية" لضيقها الشديد الذي مينع السجني حىت
من اجللوس « فقد كانت وسط حيز حجري مساحته ال تتجاوز اخلمسني مرتا مربعا ،حيتوي على عدة زنزانات
ضيقة جدا ،حىت ال يتمكن السجني من اجللوس ويظل طوال مدة عقابه واقفا على رجليه يقضي حاجته على
نفسه إن اضطر إىل ذلك ،تنبعث منها رائحة كريهة واإلضاءة فيها شبه منعدمة ،إذا ما حل الصباح بصقيعه جيمد
قطرات الندى القابعة يف السقف املغلق بالزنك» ،4فهذه البؤرة شديدة االنغالق وحمط العذاب والعقاب والقمع
حيث تنعدم فيها الرمحة والرأفة ،فلم تنحصر معاناة اجلزائري يف اخلارج فقط بل امتدت إىل داخل السجون حني
878
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
ذاق أشنع وأبشع أنواع التعذيب« ،فالسجن أعد أصال لعزل االنسان ،وسلب قدرته ...إنه حالة سلبية على حنو
ما تؤكده الداللة املركزية»،1وهبذا أصبحت الشخصية املسجونة خمنوقة حمكوما عليها باملكوث االجباري.
إال أن الراوي ضمن داللة خمتلفة عن األوىل املنغلقة ،فكان السجن بانغالقه أرحم من ضيق اخلارج وظلمته،
يقول السارد يف هذا الصدد -« :احبسين داخل زنزانة آمنة ،فقد صار السجن أحب إيل من حرية زائفة»،2
فاحلرية واالنفتاح ال يتحققان دائما يف اخلارج –الصحراء ،البحر ،املدينة -فأحيانا يتحقق االنفتاح يف األماكن
املغلقة كالسجن ألهنا حتمي املسجون من التعرض للجماعات املسلحة اليت دمرت البالد ،لذا يضيف الراوي
قائال « :شكل صقيع ذلك الصيف جبليد أحداثه خنجرا زجاجيا طعن به أفئدة اجلزائريني ،تأزمت البالد ورفعت
راية الرعب عاليا ،ألول مرة يف حيايت أحسست باألمن داخل جدران احلبس ،ظل يراودين شبح امللثمني وهم
يقتصون مين دون سبب وال داع لذلك ،لكين كنت حمميا من بطشهم يف تلك البقعة الضيقة النتنة» ،3فأصبح
السجن هنا مكان محاية وأمن من اجلماعات املسلحة اليت عاثت يف البالد فسادا ،قتلت وخطفت وعذبت
واغتصبت أبناء شعبها.
حيمل السجن دالالت وأبعاد خمتلفة تنوعت من خاصية االنغالق والقمع والذل واإلهانة ،إىل خاصية
االنفتاح واألمن واالختباء من دموية اخلارج ورعبه ،فحمل السجن دالالته حسب األوضاع االجتماعية والسياسية
والنفسية ،وهبذا الوصف جعلنا الراوي ندرك الواقع املأساوي الذي آلت إليه اجلزائر يف ظل احتدام الصراع
السياسي.
ج -المكتبة:
ش اكلت املكتبة مكان سعادة للراوي فكان يقصدها كل يوم سبت ينهل من علمها ويغذي عقله بكتبها،
فأخذت صفة االنفتاح والتحرر من القيود رغم انغالقها جبدران وأبواب حمدودة املساحة ،يقول الراوي« :كان
ذلك يوم السبت ،يوم جعلته خمصصا الجتاه واحد ،املكتبة العمومية ،مكان يشعرين بإحساس نفيس ال يقدر
878
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
بثمن ،مربع عمالق ال جتد فيه إال شذا األوراق املنعشة ،خمدرات العقل اليت جتعلين أنتشي ،حيز يعم فيه
اهلدوء.1»...
كما برز صوت املثقف يف الرواية وهو "نذير" الذي نقل سجنه من االنغالق والتضييق إىل االنفتاح والراحة
بفضل املكتبة اليت كان يسافر يف كتبها ويتنفس هبا عبري احلرية واألمل ،فحاول حمو أمية السجناء الذين منعتهم
الصراعات من ارتياد املدارس ونزع عنهم حالة اإلجرام وأعاد رسم طريقهم بواسطة العلم ،فأنار عقوهلم ما جعل
من املكتبة مكانا منفتحا رحبا ،يقول الراوي يف هذا الصدد« :صارت األيام اليت جتمعنا حنن الثالثة خمصصة
لتلقي العلم واملعرفة واإلحبار يف أعماق الفكر ،والرتمن بتشويق الروايات اجلميلة ،وجتاوز اهلواري كل عقده وصار
طليق اللسان يف قراءة النصوص» ،2فكانت املكتبة فضاء حرر املساجني من سجنهم ليبحروا يف عوامل خمتلفة.
وأخريا ميكن القول أن األماكن متنوعة يف صفاهتا وأشكاهلا؛ فمنها ما هو متسع مفتوح ،ومنها ما هو ضيق
مغلق ،فلكل مكان خصوصية متفردة متيزه عن غريه ألن األدوار اليت تؤديها الشخصيات تتطلب تنقال بني أماكن
خمتلفة ،فارتبط املكان املفتوح باحلرية من حيث الداللة على حرية احلركة ،أما املكان املغلق فهو عكس املفتوح
كونه مقيد حبدود ال ميكن جتاوزها لذا يقول محيد حلمداين« :إن األمكنة باإلضافة إىل اختالفها من حيث طابعها
ونوعية األشياء اليت توجد فيها ختضع يف تشكالهتا أيضا إىل مقياس آخر مرتبط باالتساع والضيق أو االنفتاح
واالنغالق ...وكل هذه األشياء تقدم مادة أساسية للروائي لصياغة عامله احلكائي» ،3وقد حفلت رواية "يف كل قرب
حكاية" بتعدد دالالت األمكنة من منفتحة ومغلقة متيزه عن غريه من األمكنة األخرى.
أ -المقهى:
املقهى من األماكن اليت يرتادها معظم الرجال وعلى خمتلف األعمار؛ شيوخ وكهول و شباب ...على
اختالف نظرة كل منهم هلذا املكان ،فهو مكان للقاء األصدقاء وتبادل احلوار معهم باعتباره مكانا للراحة
ومتنفسا لإلنسان بعد يوم شاق بصحبة فنجان من القهوة ،هلذا لقي اهتماما واسعا يف النصوص السردية العريب
واجلزائرية اليت قامت بتوظيفه هبا.
877
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
يضم هذا املكان حكايات خمتلفة فلكل طاولة عاملها اخلاص ولكل شخص جالس هبا توجه ومقصد وفكر
خيالف اآلخر أو يوافقه ،تتن اقل األخبار وتفك نزاعات وتنشأ نزاعات وتوضع خطط ويف ظل ظروف البالد غري
املستقرة أصبحت املقهى مالذا لبائعي املخدرات حيث ميررون بضاعتهم بكل راحة وأمان « ،يف التشكيل
الظاهري لفكرة املقهى تكمن مقولة "الوعاء" ،حيث ال يركن ساكنيه املؤقتني ،بل يسوح هبم يف ربوع أمكنة أتوا
منها ،وسوف يرحلون إليها ،هي ذي املخيلة الشعبية اليت تتجمع أوصاهلا يف ذلك الوعاء ،فتكسبه تشكيلة مجالية
خاصة» ، 1ولعل ما مييز هذا املكان أن مرتاديه يغادرونه حتما تبعا لظروفهم ومزاجهم ،ومع ذلك نالحظ أن
بعضهم يتداول احلضور بشكل دائم ،وهذا ما جيعل منه مكانا اجتماعيا.
إن عامل املقاهي ال ميثل جمرد مكان روائي يف كتابات الرواة اجلزائريني ،بل هي مرجع وسيمة حتيل على عوامل
اجتماعية وجتربة حياتية ثرية للراوي.
جند أن املقهى يف رواية "عبد الواحد هواري" مكان للقاء بعض األصدقاء والزمالء ،ومكان لقاء الراوي ب
"عمي العريب" الذي اتفقا دائما على االلتقاء فيه -رغم أن الراوي مل يكن حيب هذا املكان أبدا وال يزوره إال جمربا
ما منحه داللة االنغالق -يتبادالن أطراف احلديث واألخبار ويلقي "عمي العريب" علة مسامع "عبد الواحد"
أخبارا عجيبة عن عامل القبور فيقول السارد« :حل املساء واجتهت صوب مقهى اهلدف ملبيا رغبة عمي العريب،
سقت نفسي إليه وكلي ظنون أين سأقوم مبا اعتدت على فعله دوما ،حني أجالسه وأمسع منه القصص ويأيت على
لسانه العجب العجاب يف عمله كوسيط بني األموات واألحياء».2
هناك حضور كبري للمقهى يف الرواية حيث جند السارد يصف املدينة احملاطة بعدد كبري من املقاهي من مجيع
جوانبها ،ومبا أنه فضاء لالجتماعات املختلفة فلذا كثرت أماكنه لكثرة زبائنه ،كما أن الكثري من الناس حيبون ذلك
املكان إال أن هناك فئة أخرى ال حتبذه ملا حيمله من سلبيات كالتدخني وتعاطي املخدرات ونشر الشائعات...
يقول الراوي « :عقدت اتفاقا معه كي ألتقي به مساء ذلك اليوم ،يف مقهى "اهلدف" وسط املدينة ،يقصده
املئات من الناس كل يوم ،كنت أنا منهم مع أين ال أقصد املقاهي إال مضطرا».3
-1ياسني النصري :الرواية و املكان ،سلسلة املوسوعة الصغرية ،دار الشؤون الثقافية العامة ،بغداد ،ع ،196 :ص .10
-2الرواية ،ص .19
-3الرواية ،ص .10
877
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
«وبقراءة سريعة لصورة املقهى يف الرواية املغربية ،سنجد أن أبرز الدالالت اليت تؤشر عليها حتمل طابعا سلبيا
يشي مبا يعانيه الفرد من ضياع وهتميش .ومما يؤكد ذلك أن فضاء املقهى سيكون مسرحا للعديد من املمارسات
املنحرفة ،سواء كانت دعارة أو قمارا أو جتارة خمدرات» ،1وقد حتقق هذا يف الرواية حيث جند جمموعة من
املنحرفني يتبادلون املخدرات يف املقهى وجمموعة أخرى تضع خططا جهنمية لتهريبها عرب احلدود بالتعاون مع أفراد
من حراس احلدود الذين خانوا وطنهم يف ظروفه الصعبة مقابل املال وهذا ما ورد يف الرواية حني يقول السارد:
« ...طلب من النادل أن يأتيهما باملشروبات الغازية وفنجان قهوة له .ظل احلديث بينهم حول األحوال يف
التجارة والبيع والشراء والصفقات اجلديدة اليت يسعون لعقدها مع جتار ومهربني من شرق البالد» ،2وهذه أحد
أهم سلبيات املقهى الذي أصبح موضع تواجد املنحرفني من خمتلف طبقات اجملتمع.
لذا ومما ال شك فيه أن للمقهى أمهية ومكانة خاصة يف نفوس الشعب اجلزائري على خمتلف األعمار
والنفسيات والطبقات ،ألنه ضم صغريها وكبريها ،سعيدها وحزينها ،فتختلف دالالته يف الرواية حبسب اختالف
رؤية الشخصيات هلذا املكان االجتماعي.
ب -مدينة تلمسان:
املدينة هي مكان جغرايف اجتماعي يتسم باحلرية واالنفتاح لغياب سلطة األعراف والتقاليد عنه ،تضم املدينة
أماكن عديدة منها السينما واملسارح واملتاحف والسجون ،...لذا فلكل كاتب نظرته وعالقته وموقفه من هذا
املكان ،فالبنسبة للرواية اجلزائرية يكون الرباط فيها بني الكاتب واملدينة مشدودا على عوامل عدة؛ تارخيية،
سياسية ،اجتماعية ،ثقافية ونفسية ،وجتلى هذا يف العديد من األعمال الروائية اجلزائرية مثل الرواية اليت بني أيدينا
-يف كل قرب حكاية -واليت جرت أحداثها يف مدينة "تلمسان" فهي املكان األساسي لألحداث ،تتميز املدينة
باالنفتاح واحلركية وتعترب مالذ سكان القرى من بطش اجلماعات املسلحة ،حيث فر السكان من منازهلم
باألرياف طالبني األمن واحلماية من جمرمي تسعينات القرن الفارط الذين قتلوا وعذبوا واختطفوا كل من تقاطعت
طرقهم به ،وهذه املقاطع أوردها الراوي لتكون تعبريا واقعيا عما حصل يف تلك اآلونة « :و لنرحل إىل املدينة رفقة
عائالتنا ،فقد مسعت أن احلضر منطقة حممية من طرف احلكومة وال يصلها اولئك األوباش» ،3ويضيف قوله:
-1حسن حبراوي :بنية الشكل الروائي (الفضاء ،الزمن ،الشخصية) ،ص .91
-2الرواية ،ص .55
-3الرواية ،ص .79
877
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
« كنا ذات ليلة يف شاطئ أقصى غرب املدينة ،كانت منطقة آمنة مل يصلها اإلرهاب بعد» ،1فلم يكن اهتمام
الراوي منصبا على مظاهر املدينة العمرانية بقرد انصبابه على مظاهر احلياة االجتماعية والسياسية ،فنقل لنا الواقع
كما هو حممال إياه برؤى فكرية أيديولوجية تعكس معيشة عصره.
املدينة كفضاء نصي أثرت على الشخصيات نظرا للخصوصية اليت حتملها حيث تعد مرآة عاكسة للواقع
املأساوي الذي عاشه الراوي رفقة شعبه يف العشرية السوداء للجزائر.
جـ -الريف/القرية:
يثري امل كان بطبيعته يف االنسان شعورا باالنتماء وأحيانا بالغربة والنفور فيوقظ ذكريات كانت مندثرة ،إال أن
وجود هذا املكان جيعلنا نسرتجع الذكريات اليت تبعث احلياة يف رفات من الصعب إحياؤه.
جند الريف كمكان مفتوح على الفضاء الرحب للعامل اخلارجي ،ميتاز باتساع أفقه الذي يرمي إىل االنفتاح
الفكري والنفسي وال ميكن انكار أن أغلب الروايات اجلزائرية قدمية كانت أم حديثة إال وكان الريف هو املكان
واملقصد الذي دارت فيه معظم األحداث.
إال أن الرواية اليت بني أيدينا صورت الريف بسوداوية حيث أصبحت ساحاته بلون دم األبرياء الذين راحوا
ضمن الروائي أبعادا سياسية يف هذا املكان املفتوح والذي اندثر انفتاحه فأصبح
ضحايا للصراع السياسي ،فقد ا
مغلقا دالليا بسبب اجلرائم واجملازر اليت ارتكبت فيه ،وجتلى ذلك يف الرواية من خالل« :زمن اخلوف والرعب ،يف
ذلك الوقت كان الفزع فطور الصباح لسكان القرى».2
«على بعد مخسة وعشرين كيلومرتا جنوب مدينة احلاجة مغنية ،بني األكواخ املزخرفة بالطوب ،واملزارع املرتمنة
بثغاء الشاء وصهيل اخليول ونباح الكالب ،قرب الوادي الرابط بني املغرب واجلزائر ،جتمع أهل قرية "بين بو
سعيد" حول مسجد القرية ، 3»...وما كان اجتماعهم هذا إالا لينذرهم شيخهم من اجملرمني الذين هددوه
وسكان قريته بالقتل إذ مل يطع السكان أوامرهم ،فلم يكن اهتمام الراوي منصبا حول طبيعة ونقاء اجلو وخضرة
877
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
الريف ،بل انصب حول مظاهر الدم واجلرائم مما محال الريف صورا مأساوية بثت الرعب يف نفوس املواطنني
والذي انعكس على الشخصيات.
يقول "عبد الواحد هواري" على لسان شخصية "عمي العريب"« :عشت يف البادية طيلة حيايت ،تربيت يف
بيئة حتوم حول أطرافها أنواع شىت من الوحوش ،كانت األفاعي عندنا جمرد حيوانات أليفة نتسلى هبا ،رأيت
الذئاب املتوحشة وغدرها ،ورأيت العقارب ومسها الفتاك ،لكن مل يسبق يل أن رأيت أبشع من أولئك اآلمثني ،مل
تكن تلك احليوانات اليت كنا نطلق عليها صفة الوحشية سوى كائنات رقيقة القلب مقارنة مبا يفعله أولئك
األوغاد» ،1نقل الراوي الصورة اليت آل إليها الريف ،فبعدما كان مكانا مفتوحا حيتضن الطبيعة والسكينة واألمان
أصبح مكانا مغلقا على أهله الذين حياولون الفرار منه بكل الطرق بسبب املفسدين الذين سفكوا دماء املواطنني،
فكانوا هم اخلاسر األكرب يف ظل الصراع السياسي وراحوا ضحية جرائم احلكومة واألحزاب السياسية.
«كانت قرية "الزاوية" على بعد بضعة كيلومرتات من قرية "سيدي جماهد" ،لكن حتتم عليه أن خيتار الطريق
األطول ليتجنب أولئك األوغاد ،واختار طريق الكالب الضالة...وامتأل فؤاده رهبة وجزعا هلول املنظر املرعب
الذي شهدته عيناه ،صورة روعت قلبه ،فصار يرتعش ارتعاشا كأن الريح تراقصه وحتركه ،وجد سكان القرية
مصروعني مذبوحني ،وجثثهم مكدسة جنبا إىل جنب وقد بدأت رائحة العفن خترج منها ،مالمح أوجههم توحي
بالصدمة واخلوف والوجل ،مشكلني كتلة جبلية من الشيوخ والرجال والنساء ،حىت األطفال يف عمر الزهور كانوا
ساقطني مذبوحني» ،2فنقلت لنا هذه القرية معاناة سكاهنا الذين غطتهم رائحة الدم وتعرضهم للقتل والتنكيل
حيث حولتهم اجلماعات املسلحة إىل جثث مكدسة ،فأصبحت القرية أداة التعبري عن السواد واخلوف والدموية
متحولة إىل جثة هامدة غادرهتا روحها بعدما ُحنرت أعناق سكاهنا ظلما.
عمدت الراوية إىل توظيف صورة الريف كمكان جتري فيه أحداثها وتتحرك فيه شخصياهتا رامسة الصراع
السياسي الذي مل يرتك االنفتاح هلذا املكان ،جعلت الرواية منه مكانا شديد االنغالق بسبب الدمار واخلراب
الذي طاله فأصبح عبارة عن كتلة دم ال فسحة أمل وراحة.
د -الجبل:
877
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
عند ذكر فضاء اجلبل يتبادر إىل أذهاننا ذلك املكان املنفتح الواسع ،إال أن يف أحيان أخرى حييل على
االنغالق والقهر والظلم ،فـ على الرغم من انفتاحه على العامل اخلارجي إال أنه ميثل سجنا ضيقا مغلقا للبعض.
اعتُرب اجلبل يف عشرية اجلزائر السوداء مكانا للقهر واملعاناة واإللغاء تأوي إليه اجلماعات املسلحة اليت تدعي
احقيتها يف تويل احلكم ،فجماعة "املعلم األكرب" االرهابية اختذت من جبل "عصفور" مركزا هلا ،تضم بني صفوفها
خمتلق شرائح اجملتمع فمنهم السكري والسبايا واملثقف واألمي ...وجتلى ذلك يف الرواية من خالل« :صار كل
واحد منهم يقص قصته اليت جعلته يصل إىل هذا املوقف.
-قال األول :كنت سكريا أهيم يف الشوارع...
-قال الثاين :جئت هنا كي أسرتجع ما أخذه مين أحد أبناء حيي ،وهي رفيقة عمري اليت أحبته وتركتين...
-و قال الثالث :التحقت هبذه احلركة بعد أن خترجت من اجلامعة ومل أجد وظيفة كي أعيل هبا نفسي،1» ...
فأصبح اجلبل حامال ملرتكيب اجلرائم واملنحرفني واملدمنني فقد ضم كل ما هو خميف ومرعب ،حيث أصبحت
داللته القتل واهللع واالغتصاب والتعذيب ،يقول السارد« :فزاد هلعه عن السابق حني وقع بصره على املكان
الذي حوله .حيث رأى جمموعة من الكالب الشرسة مربوطة حتت شجرة ضخمة ،تنبح يف وجهه حماولة قطع
احلبل الذي يقيدها كأهن ا تريد متزيقه إىل قطع صغرية ،مث رأى فرقة من األوغاد يتبادلون األدوار على امرأة وهي
صامتة ال جترؤ على إطالق صرخة تريح أملها ،وجمموعة أخرى مدججة باألسلحة واخلناجر والسيوف فوق
سيارات من النوع العسكري متجهني إىل معركة دامية».2
لقد تغريت قيمة اجلبل الرمزية وكذا داللته األيديولوجية؛ كان قدميا حيتضن اجملاهدين يف وقت الثورة للدفاع
عن الوطن ومحايته من بطش املستعمر ،أما يف زمن األزمة أصبح حيمل داللة سلبية وقيما أيديولوجية أصولية
يتخللها القهر والتسلط والتعسف واالنتقام ،متحوال إىل مكان للتصفية اجلسدية والقتل العمدي ،كما حصل مع
شخصية "حسن" حني حاول الفرار من ذلك املكان ،يقول الراوي « :متزقت رجله اليسرى يف فخ من الفخاخ
اليت تصطاد هبا اخلنازير الربية ،فلم يضمدوا جرحه ومل يعاجلوه بل ربطوا عنقه حببل وصاروا جيرونه ككلب ذليل ،وما
872
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
إن رجعوا إىل معسكرهم حىت علقوا جسمه فوق شجرة و وضعوا حتته نارا كلما أرادوا طهي شيء ما وأغلقوا فمه
كي ال يزعجهم صراخه ،حىت جف جسمه من الدم وصعدت روحه إىل السماء ».1
أصبح فضاء اجلبل خمصصا لنشر األفكار واأليديولوجيات املعبئة بالراديكالية اليت يقوم هبا اجلماعات
املسلحة .إنه فضاء واسع متعدد املهام والوظائف واملستويات االجتماعية والسياسية ،كما حيمل رموزا ودالالت
تنم عن أصحاهبا وتفضح حقيقتهم وإسالمويتهم األصولية القائمة على الذبح والتعذيب.
ه -المقبرة:
حييل فضاء املقربة على أنه ذلك املكان املوحش املظلم الذي جت تمع فيه األجساد اليت غادرت احلياة مصفوفة
يف مقابر ضيقة مغلقة ،فهي املكان احملتوم على مجيع البشر ،وقد كان حضور املقربة يف الرواية عالمة مكانية هلا
عالقة وطيدة بالبطل "عمي العريب" حيث ينطبق مع اسلوبه يف احلياة ففي النهار حيفر القبور ويف الليل حيرسها،
وهذا املقطع يوضح ذلك « :شغله مع األموات الذين ال يسمع منهم تذمرا وال يسأهلم حاجة ،فقد كان مهندسا
لديارهم األخرية ،حيفر هلم قربا يناسبهم ويدعو هلم بالرمحة والنوم اهلينء».2
فاملقربة بالنسبة لـ "عمي العريب" مبثابة بيته الذي جيد فيه راحته فهي مكان مفتوح بعيد عن بطش األحياء
وظلمهم ،فكانت حلمايته األموات من األحياء دليال على أن األوضاع ليست جيدة حيث أصبح األحياء -كناية
عن اجلماعات املسلحة -يقتلون االنسان احلي ويعذبون امليت أيضا ،يقول« :ليلة أمس يا ولدي مل تكن كباقي
الليايل اليت اعتدت قضاءها جالسا يف املقربة بني األجداث ،أمحي وأعس األموات من بطش األحياء» ،3لقد عني
نفسه حاكما على تلك املقربة اليت تضم يف رحاهبا األرواح الطيبة والشريرة معا ،فيعترب أن حمكمة القبور عادلة أكثر
من حمكمة األحياء اليت تتخللها الرشوة والظلم واجلور ،فرمز املقربة هنا خمتلف عن حقيقته املعروفة بالوحشة
واخلوف واجلزع ،إال أن الراوي نقلها بصورة العدل والراحة واحلماية عكس الواقع احلي املرير.
« بعد مثاين سنوات قررت أن أزور األجداث وأناجي أصحاهبا ،وجلت املقربة الكربى فرأيت شخصيات
رواييت منظمني مرتبني جيمعهم فراش واحد ،أال وهو الرتاب ،سربلهم مجيعا حتت غطاء العدل دون متييز أو
877
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
ظلم...حلظتها تذكرت أين شقي مثلهم حسن كانوا ينافسون عبث األيام » ،1فربط الراوي شخصياته باملوت
حىت نفسه هو أيضا ،فشكل املوت معادال موضوعيا للمقربة اليت أحالت للعجائيب.
فقد شحنت املقربة بسمة املوت والفجيعة وأحيانا الراحة واألمان ،وقد كان لعنوان الرواية ارتباط وثيق باملقربة
"يف كل قرب حكاية" فهي العتبة النصية اليت مثلت مفتاحا هلا ،حني كانت املقربة بداية القصة وانتهت فيها ،و
محل كل قرب من قبور الشخصيات حكاية خاصة ختتلف عن األخريات ،فاتسم هذا الفضاء باالنفتاح رغم
وحشته.
877
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
الرؤية السردية هي إحدى أبرز املكونات اخلطابية االساسية يف العمل الروائي ،حيث حتتل دورا هاما يف
حتديد الوضعية اليت يتخذها السارد ،إضافة إىل مدى عالقته بأحداث الرواية ،فالرؤية السردية هي « الطريقة اليت
عرب هبا السارد عن األحداث عند تقدميها فتتجسد من خ الل منظور الراوي ملادة القصة ،فهي ختضع إلرادته و
ا
الراوي الذي يقف خلفها ».1
ملوقفه الفكري و هو حيدد بواسطتها أي مبميزاهتا اخلاصة اليت حتدد صيغة ا
كما يطلق على الرؤية السردية مصطلح "وجهة النظر" و "زاوية التبئري" ،و أكد الباحثون أن هلا ارتباطا وثيقا
بنظرة الراوي الذي يسرد الرواية و ينقلها للقارئ.
و للرؤية السردية ثالث أنواع و هي :الرؤية من اخللف ،الرؤية املصاحبة و الرؤية من اخلارج ،و هذا ما جاء
به الباحث الفرنسي "جان بويون" (الرؤية مع ،الرؤية من خلف ،الرؤية من اخلارج) و ميكن تفصيل هذه الرؤى
كما يلي:
-1عبد اهلل إبراهيم :املخيل السردي ،املركز الثقايف العريب ،بريوت ،لبنان ،ط ،1990 ،1ص .57_51
-2سعيد علوش :معجم املصطلحات األدبية املعاصرة ،دار الكتاب اللبناين ،بريوت ،لبنان ،ط ،1996/1106 ،1/ص .771
878
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
- 1الرؤية مع :حيث ال يقول السارد إال ما تعرفه الشخصية ،فيقر "هنري جيمس" « بضرورة اختيار بؤرة مركزية
تشع منها املادة القصصية أو تنعكس عليها .و تعترب رواية "السفراء" هلنري جيمس مثاال منوذجيا هلذا النوع من
القص .فاأل حداث و الشخصيات و املكان و الزمان قدم كلها من خالل منظور شخصية بعينها من
الشخصيات .و هذه هي التقنية اليت أمساها جان بويون "الرؤية مع" ».1
-7الرؤية من خلف :حيث يعرف السارد أكثر مما تعرفه الشخصية « ،يتمثل يف القص التقليدي الكالسيكي و
يقوم على مفهوم الراوي العامل بكل شيء ( )Omniexient narratorاحمليط علما بالظاهر و الباطن الذي
يقدم مادته دون إشارة إىل مصدر معلوماته .و ميثل بلزاك هذا االجتاه أحسن متثيل يف الرواية الواقعية .فالرواية
(حىت و إن مل يظهر يف الرواية كشخصية من الشخصيا ) جيعل وجوده ملموسا من التعليقات اليت يسوقها و
األحكام العامة اليت يطلقها ،و من احلقائق اليت يدخلها على العامل التخييلي مستمدة من العامل احلقيق و اليت
تتجاوز حمور معرفة الشخصيات فكأنه يتنقل يف الزمان و املكان دون معاناة و يرفع أسقف املنازل فريى ما
بداخلها و أعنق اخللجات و تستوي يف ذلك عنده مجيع الشخصيات ».2
-0الرؤية من اخلارج :حيث يعلم السارد أقل ما تعرفه الشخصية « ،أما املنظور الثالث الذي مساه جان بويون
"الرؤية من اخلارج" فالراوي ال يقدم من خالله سوى ما يستطيع أن خيربه حبواسه أي ما ميكن أن يرى و يسمع
فال سبيل إىل معرفة ما جيول بنفوس الشخصيات فتقدم هذه الرؤية على خربة الراوي احلسية ».3
و قد فرضت وجهة النظر نفسها ألن « هناك شكول الروايات املمسرحة رواية األصوات ،و هي روايات
متنح شخوصها حرية تعبريية و تكافؤا يف الرأي مما جيعل الرواية حافلة بوجهات نظر داخلية نتيجة للتعددية
الصوتية اليت تشعل بدورها نوعا من التوتر املقصود داخل هذه الروايات فتعكس وجهات النظر التباين الفكري و
األيديولوجي و الفلسفي داخل جمتمع الرواية ».4
تنقسم رواية "يف كل قرب حكاية" إىل مخس و عشرين قسما يظهر صوت املؤلف يف معظمها مستعمال
ضمري املتكلم ،و ال خيتفي إال عند قراءته املذكرة اليت وجدها صديقه ،فسرد يف بادئ األمر حاضرة الذي جتلى يف
-1سيزا أمحد قاسم :بناء الرواية -دراسة مقارنة لثالثية جنيب حمفوظ ،-اهليئة املصرية العامة للكتاب ،1991 ،ص .100
-2املرجع نفسه ،ص .107
-3املرجع نفسه ،ص .100
-4حممد جنيب التالوي :وجهة النظر يف روايات األصوات العربية ،منشورات إحتاد الكتاب العرب ،دمشق ،7000 ،ص .01_00
878
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
« وقفت يف شرفة املنزل أراقب األطفال و هم يتقمصون شخصيات أبطال اجلزائر ،1» ...و جاء هذا املقطع
هبدف اإلشارة إىل الزمن احلاضر قبل انتقاله إىل سرد أحداث ماضية.
عرف بنفسه يف بداية اإلهداء و كذا املنت الروائي ذاكرا امسه "عبد
لقد كان لراوي ضمن الشخصيات حيث ا
الواحد هواري" ،من مواليد اخلامس سبتمرب ،1991مضيفا حبه الشديد للمطالعة مستعمال ضمري املتكلم قائال:
« كان من كتاب حيكي سرية رسولنا احلبيب ،حممد صلى اهلل عليه وسلم" :الرحيق املختوم" .كتاب طاملا أعدت
قراءته مرارا دون ملل ،ألنه حيكي سرة سيد اخللق » ،2مث ينتقل الراوي إىل التفاعل مع شخصية "عمي العريب"
فظهرت عالقة بينه و بني املؤلف ،و جتلت هذه العالقة من خالل الرواية « :آه ،إنه عمي العريب ،أجبت على
كلماته هبمهمة خفيفة كي ال أزعج القراء من حويل ،عقدت اتفاقا معه كي ألتقي به مساء ذلك اليوم ».3
ينتقل الراوي إىل وصف اهليئة اخلارجية لشخصية "عمي العريب" لتتحقق بذلك الرؤية من اخلارج ،إذ يقول:
« كان رجال يف الثانية و اخلمسني من عمره ،معهودا بني سكان املدينة "بعمي العريب" ،شخص حمبوب بني
الناس ،أمسر البشرة طويل القامة أشيب الشعر ،قسمات وجهه مألهتا التجاعيد و سطرت خطوطها مسودة تزين
جفنه ،عينه اليسرى مطموسة عدمية الرؤية حلادث أمل به يف صغره » ،4فالسارد هنا يعلم أقل مما تعرفه الشخصية
حني تطرق لوصف مظهره اخلارجي الذي رآه ليس إالا.
يعد الراوي جزءا من احلديث منذ بداية الفصل األول للرواية ،إذ طغى صوته فيها و تعددت الرؤى السردية
وفق متاشي األحداث يف الرواية ،فنجد أن الراوي نقل قصة فقئ عني "عمي العريب" بتطرقه ألحداث من طفولته،
فورد هذا املقطع يف السياق « :عينه اليسرى مطموسة عدمية الرؤية حلادث الـ َّم به يف صغره ،حني دافع عن أمه
اليت اهنال عليها والده ب الضرب واألذى ،و السب و الشتم ،فلطمه ذات يوم تركه ساقطا على األرض يناجي
والدته بأمل احتد عليه ،و حني رفع رأسه تفاجأ بعينه مفقوءة بعد تلقيها ضربة بعصا خشبية صلبة » ،5و يبدو أن
الفاصل الزمين بني الراوي املتكلم و الشخصية اليت تناوهلا بالتعريف جعله مفارقا لطفولته اليت مل يذكر عنها سوى
هذا احلادث األليم ،فالراوي هنا يعلم قدر ما تعلمه الشخصية.
877
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
يعود السارد مرة أخرى إىل املاضي البعيد لينقل للقارئ أحداثا من مرحلة شباب "عمي العريب" ،فتصبح
املسافة بني الراوي و الشخصية بعيدة حتدد ذاكرته ،ليسرد بذلك مرض والدة "عمي العريب" و عزمه على ختطي
املخاطر للعثور على شيخ يساعد يف شفائها ،إال أن وصوله زامن جمزرة بشعة ارتكبتها اجلماعات املسلحة يف حق
سكان القرية األبرياء ،و كان هذا احلدث نقطة حامسة يف حياة الشخصية ،و اليت يسقطها الراوي على نفسه ألنه
عايش تلك الفرتة من تاريخ اجلزا ئر املظلم ،فعاش أهواهلا و فجائعها ولعل هذا ما جعله يعود إىل تلك النقطة
بالذات ،فانطلق منها يف سرد أحداث الرواية ليتحقق علم السارد أكثر مما تعلمه الشخصية.
« حل املساء و اجتهت صوب مقهى اهلدف ملبيا رغبة عمي العريبُ ،سقت نفسي إليه و كلي ظنون أين
سأقوم مبا اعتدت على فعله دوما ،حني أجالسه و أمسع منه القصص و يأيت على لسانه العجب العجاب يف
عمله كوسيط بني األموات و األحياء » ،1و يؤكد هذا املقطع على وضع السارد "الرؤية مع" هي الرؤية السائدة،
فالراوي يعرف ما تعرفه الشخصية ،فهو جزء من احلدث منذ بداية الفضول األوىل ،فرصد حياة "عمي العريب" و
مكانته االجتماعية مبزاوجته بني ضمري الغائب و ضمري املتكلم فيقول « :حرمه الشقاء من التعلم يف صغره ،كنت
أجده يرتمن بنغمة تقلب الصفحات و يسبح يف فضاء ذكريات ال متوت ».2
لكن الرؤية تتغري مرة أخرى حني تسود "الرؤية من خلف" و يتذكر "عمي العريب" أحداثا مرت عليه قبل يوم
من لقائه بالراوي حني وجد مذكرات أحد اجملانني ،الذي كانت زيارته للمقربة اليت يعمل هبا "عمي العريب" حارسا
غريبة جدا ،و قد ناول املذكرات للراوي كي يقرأها على مسامعه ،و هذا ما ينفي انتماء بعض فصول الرواية اليت
تسرد فيها املذكرات إىل الراوي ،و يشري إىل أن صاحبها جمنون سقطت منه أثناء زيارته قرب زوجته « وقع بصري
على األرض املمدودة و إذ بدفرت ذي حجم كبري أزرق اللون مائل إىل السواد ،مغلف جبلد مسيك و إىل جانبه
صورة ،مل أجرؤ على فتحه فأنت أدرى بأمري ،ما أنا بقارئ.3» ...
كما ظهرت "الرؤية مع" يف السرد حني تطرق السارد إىل يدور يف نفسه يف املقطع التايل « :أصابين العجز
يف لساين و مل أعرف ما علي قوله ،أحسست أن هذه القصة اخرتقت طبقات قليب و طعنته بسكني حادة ،كنت
أرى نفسي صورة املخلص الذي مهما خذلته احلياة يظل وفيا للحب يف قلبه ،لكن بعد أن مسعت ما صدر من
877
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
لسان عمي العريب أدركت أن للهيام قوة تفوق حتمل االنسان ،كل عاشق و طاقته اليت يصرب عليها ،أخذين السهو
لعامل ساكن ثابت ال حيرك ،أسأل نفسي.
-أيعقل ان هذا النوع من احلب الزال حيا؟
-يا إهلي ،أمل ينس قربها رغم جنونه و مرور زمن طويل على فقداهنا؟
-أي حب هذا؟ ،1» ...يربز هذا املقطع املونولوج الداخلي للراوي الشخصية الذي تغريت حالته النفسية بعد
مساعه قصة اجملنون العاشق ،و قد ضمن هذا املقطع عرض أفكار السارد و مشاعره حني قال « :كنت أرى يف
نفسي صورة املخلص » ،2ما منح الراوي فسحة أكرب و جماال رحبا للتعبري عن مشاعره و آرائه متفاديا الرتابة.
تردد الراوي كثريا قبل اطالعه و اِطالع القارئ على حمتويات املذكرات ،لكنه أخريا قرر قراءهتا و اكتشاف
أسرارها و أسرار اجلنون الذي تعرض له صاحبها ،بعد ذلك قرأ على مسامعنا القصة دون ذكر األمساء ليرتك
مشوقا منجدبا حنو إمتام الرواية ليزيل اللبس عن عقله.
القارئ َّ
كما تضمنت الرواية العديد من الرؤى من خلف سواء باستخدام ضمري الغائب أو استذكار أحداث
مضت ،و حىت بإضافة املنولوج الداخلي للشخصيات و معرفة الراوي به و قد وردت يف هذا السياق هذه
املقاطع:
« -كانت أمينة مستلقية على سريرها و العربات متأل مقلتيها بقلب مشحون أذاقه الفجع مرارة االشتياق للبطل
الذي دافع عنها و هو قابع يف زنزانة ُمينع على أي أحد رؤيته » ،3فالراوي هنا يعلم أكثر مما تعلمه الشخصية
حيث استطاع االطالع على حالتها رغم أنه مل يكن إىل جانبها.
« -كلما تذكرت كلماته اليت ترتدد يف الغرفة كصدى الصوت من أعايل اجلبال أجهشت بالبكاء ،هي اآلن بال
حول و ال قوة ...إذ تقول خماطبة نفسها ،البد أن اجلوع قد نال منه و األمل اشتد عليه و ضاع قلبه مين » ،4و
ظهر هنا احلوار الداخلي لشخصية "أمينة" اليت كانت يف حالة ضعف تتمىن تغيري املاضي و ترضخ ألوامر خطيبها
الذي قاده عنادها إىل السجن.
877
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
يتواىل رصد الشخصيات و االشارة إليها من قِبل الراوي الذي حيمل وجهة نظر لكل شخصية يتطرق إىل
وصفها ،فربز ذلك من خالل وصفه و طريقة إظهارها للقارئ ،و من الشخصيات اليت كانت له رؤية مباشرة هلا
جند "عبري" فيقول « :بعدها قلبت الصفحة فسقطت من الدفرت صورة ،قمت أتفحصها فعظمت دهشيت ،فتاة
شقراء يكاد طول شعرها يبلغ ركبتيها ،ببشرة بيضاء صافية ليس عليها ذرة منش ،و عينني زرقاوين مرسومتني
بالكحل ما زادها حسنا و هباء ،تبتسم فتشكل أسناهنا البيضاء طبقات معمارية دقيقة ،و حتت شفتيها شامة
سوداء صغرية ،مجاهلا مزيج من رقة االتراك و سحر بنات األندلس ،فشكل هذا احلسن التلمساين » ،1فقد أطلعنا
الراوي على شكل و صفات شخصية "عبري" مشاركا برأيه جتاه مجاهلا اخلالب.
و من الشخصيات اليت نقلها الراوي دون أن تكون له صلة مباشرة هبا "املعلم األكرب" زعيم إحدى الفراق
املسلحة املتمركزة يف جبل "عصفور" ،يقول « :كان املعلم يرتدي جالبة مغربية بنية ،له حلية تصل نصف صدره،
شعره طويل إىل كتفيه و يضع عصابة على جبينه كتب عليها شهادة اإلسالم ...خده االمين حيمل ندبة كأن
سكينا اخرتقت حلمه ،مرعب الشكل له نظرات قاسية ال ترحم و أحيط جبسمه حزام عسكري مدجج باألسلحة
و اخلناجر و القنابل ،»2محل هذا املقطع وجهة نظر الراوي بكل وضوح جتاه "املعلم األكرب" حيث نقل صورته
بشكل بشع خميف ،يبث مظهره اخلارجي الرعب و اخلوف يف نفس الناظر له فكانت صورته انعكاس لشخصيته
اإلجرامية ،و كانت الراية املعلقة على جبينه عبارة عن مظهر خال من احلقيقة ألهنا كانت وسيلة الستعطاف
الشعب اجلزائري الذي رفض االنضمام إىل اجلماعات املسلحة.
يقول "عمي العريب" « :قضيت سنة كاملة يف جبل عصفور يعجز لساين عن وصف املظاهر اليت رأيتها،
كانت أمامي فرص كثرية للهرب لكن الفزع نال مين ،سبقين إىل ذلك عدة أشخاص » ،3فالراوي خيتفي وراء
شخصية "عمي العريب" فجعل من ضمري املتكلم متنفسا له ميكنه من التوغل إىل أعماق نفسه و الكشف عن
أسراره وخفايا حياته ،فينتقل الراوي ما يدور يف داخل الشخصية نقال ذاتيا فيقوم بإبراز مشاعرها و انطباعاهتا.
"عبد الواحد هواري" حاول إضفاء نوع من املصداقية على سرده يف الرواية ،فظهرت شخصية "عمي العريب"
اليت تعيش صراعا من الزمن املأساوي و مع نفسها كاشفة عن حالتها و أسرارها ،و جتلى ذلك منذ بداية الرواية
877
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
عندما شاهد جمزرة قريته و قرية جماورة هلا ،و انتقل بعدها إىل احلديث عن حياة الرعب و اخلوف اليت عاشها يف
اجلبال مع اإلرهابيني الذين حولوا حياته جلحيم ،لكنه مل يستسلم و واصل الصمود و الصرب إىل التخلص من
قبضتهم ،فجسد بذلك روح املقاومة كان رمزا للرجل اجلزائري املناضل و الرافض للظلم و الطغيان.
يربز انتماءه الديين يف الصراع بني احلكومة و اجلماعات املسلحة و واجبه الدفاع عن وطنه و دينه من التزييف و
التلفيق ،يقول « :كنت أظن سابقا أن قضيتهم عادلة و أهنم حيمون الدين و الوطن ،لكن اكتشفت أو تلك
املظاهر اليت ي ادعوهنا ما هي إال جللب املستضعفني و ملء عقوهلم باخلرافات ،كانوا يرفعون راية كتبت عليها
الش هادة و يكربون اهلل لكن مل تكن فيهم ذرة اإلسالم ،مظاهر خداعة و باطن يتكشف على حقيقته مبا
يقرتفون » ،1يوافق الراوي رأي "عمي العريب" فمن وجهة نظره أن اجلماعات اإلرهابية أساءت استغالل الدين ،و
هذا حييلنا على را ٍو كلي املعرفة بالدين و تعاليمه ،يعلم وجهة نظر القارئ إزاء أعمال اجلماعات املسلحة الشنيعة،
فالراوي هنا ليس خارجا عن العامل الروائي بل هو شخصية مركزية فيه و مشاركة يف صنع أحداثه ،و هذا ما
يسمح بتأويل خطابه بوصفه خطابا للراوي و حتديد وجهة نظر السارد نفسه.
يواصل الراوي ممارسة سرده عرب ضمري املتكلم على لسان شخصية "عمي العريب" الذي حييل على شخصية
الكاتب احلقيقي كما يوهم هبا ،فال يكتفي بسرد االحداث و تصويرها بل يشارك يف صنعها ،وهبذا يقف الراوي
معها ال خلفها.
لقد تعددت اشكال حضور الراوي بني املشارك واملتفرج ،وهذا التعدد يف صيغ الراوي الذي توافق مع تعدد
صيغ السرد ما بني النقل واإلخبار و هو ما أتاح للشخصيات حرية التعبري عن نفسها و آرائها.
إن رؤية الراوي الفكرية الصرحية انعكست على شخصياته خاصة شخصية "عمي العريب" املقاوم والرافض
للظلم وتشويه صورة اإلسالم ،وكذا استغالله برق بشعة و هذا ما جعل الشخصية ترتبط ارتباطا وثيقا مبا جيري
حوهلا ،فأصبحت مركزا حموريا يف سريورة األحداث و مهما حاول الراوي إبعاد الشخصية عنه فهي تربطه بالزمن،
وهي قضية احلرب األهلية اجلزائرية و الصراع حول السلطة و الدعوة إىل املقاومة والتصدي للعدو.
إن اخلطاب الروائي ليس إال نتاجا من نتاجات اخليال لدى املؤلف و ما هو إال ترمجة ذاتية خيالية من نسج
الراوي نفسه ،و "عمي العريب" و باقي الشخصيات متحدثة عن أفكاره و آرائه و مشاعره.
877
جمالية التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية الفصل الثالث
لذا فإن نقل مشاعر الشخصية و أفكارها من خالل اجتماع الصوت الداخلي باخلارجي يضفي على النص
مجالية فنية ،و هذا ما جسدته الرواية من خالل شخصية "أسامة" « أسند ظهره و راح يتأمل السقف و عالمات
األسى بادية عليه ،الزال يفكر يف كل ضحية مل يسعفه القدر إلنقاذها ...ظل النقيب يقلب عينيه يف الغرفة و
جل تفكريه منصب على إجياد حل يوقف تلك األزمة.
-إىل مىت هذا االقتتال و هذه الوحشية؟
ظل هذا السؤال يراوده ،مل جيد له إجابة بعد ،وحدته وعزلته كانت من أجل إجياد نسمة أمل يتبعها إليقاف
مسلسل الوحشية و احلرب القذرة ،صار يتأفف مع كل ثانية مترُ ،حي ِّمل نفسه ما ال طاقة هلا » ،1دخل "أسامة"
يف صراع مع نفسه فظهر ذلك من خالل احلوار الداخلي الذي وقع يف ذهنه.
سرد الراوي قصة مل يكن شاهدا تاما على أحداثها إال أن اختالط شخصياته الواقعية اليت روت له بدورها
األحداث الدموية يف حرب اجلزائر األهلية ،فكانت له مواقف و آراء من شخصياته الرئيسية بصورة مباشرة و
أخرى ضمنية ،فقد أطلق أحكاما على ِخلقتها و ُخلقها و أفكارها ،و رسم بينه و بينها مسافة ذات طبيعة
أخالقية و نفسية و فكرية.
872
خـ ـاتـمـ ــة
خاتمة
خاتمة
وصلنا يف النهاية إىل آخر حمطة نقف عندها لنختم حبثنا حبوصلة شاملة و خمتصرة ألهم النقاط اليت توصلنا
إليها يف مسرية إعدادنا هلذا البحث ،و قد خلصناها يف النقاط التالية:
-متكنت الرواية من أن تكون مرآة اجملتمع الذي انعكس يف سطورها ،معربة عن اهلموم و األفكار و
املشاعر و حىت القضايا السياسية و االجتماعية ،...و عملت الرواية علة رصد الصراع السياسي بني احلكومة
واجلماعات املسلحة ألجل نيل كرسي احلكم.
-وظف الراوي البعد الديين متناوال بذلك خمتلف املواضيع -التحريف الذي طال القرآن الكرمي ومن طرف
اجلماعات االرهابية ليستعطفوا الشعب -وأضاف البعد االجتماعي والسياسي أيضا.
-ذهب الروائي غلى توظيف جتليات الواقع االجتماعي يف الرواية متطرقا إىل األبعاد احلساسة كاملرأة اليت
راحت ضحي ة لالعتداءات االرهابية فتعرضت لالختطاف بأعداد كبرية ،و أضاف حياة الفقر و احلرمان و البطالة
و التجارة غري املشروعة اليت سادت اجملتمع اجلزائري يف ظل الصراع السياسي.
-كانت اجملازر اليت ارتكبتها اجلماعات املسلحة وتعذيبها الشنيع الذي مارسته على األبرياء املوضوع
األساسي يف الرواية ،و مدى انعكاس احلرب األهلية على الفرد اجلزائري الذي يعد اخلاسر األكرب يف ظل الصراع،
فسعى الروائي إىل تصوير األوضاع العامة انطالقا من رؤيته األيديولوجية و أفكاره اليت آمن هبا.
-عربت الشخصيات عن قناعات و أفكار الراوي و أيديولوجيته و وجهة نظره جتاه طبيعة الصراع السياسي
يف التسعينيات ،و لقد طغى اجلانب التارخيي على الشخصيات و األحداث يشكل واضح و جلي ،ألهنا عملت
على عكس الواقع االجتماعي فوظف السارد الشخصية بنوعيها؛ الرئيسية و الثانوية ،اليت كانت رمزا للحرب
االهلية بتفاصيلها.
-للزمن دور هام يف حتريك أحداث الرواية حيث يعرف بأنه العمود الفقري هلا ألنه يكشف بنية النص ،ما
جعل شكل النص الروائي يرتبط مبعاجلة الزمن ،و لقد تالعب الروائي بالقرائن الزمنية اليت سامهت يف بروز
املفارقات و اإليقاعات السردية بشكل كبري ،فساعدت تقنية االسرتجاع اليت كانت سائدة بكثرة يف الرواية على
931
خاتمة
سد ثغرات النص و التنويع يف طبيعة الزمن ما أضفى عليها مجالية فنية ،فأزال االسرتجاع اللثام عن جوانب
الشخصيات يف زم ٍن ٍ
ماض.
-للمكان حضور أديب و فين هام يف الرواية كونه العامل األساسي يف تطور األحداث و سريها ،فتعدى
خاصيته احملصورة يف إطار حمدود معلوم إىل التفاعل مع الشخصيات و التأثري على نفسيتها و قراراهتا و حىت
مشاعرها.
-تنوعت األمكنة يف الرواية بني املفتوحة و املغلقة ،و قد كانت هذه االخرية األكثر حضورا يف الرواية
فصورت نفسية و إحساس الشخصيات جتاهها ،و ال وظيفة للمكان إال بتفاعلها مع رحلة الشخصيات حيث
حيمل دالالت خاصة يف نفسيتها ،ليتوسع من كونه جمرد حيز مكاين يف الرواية إىل مكان متصل بالعامل اخلارجي و
الواقع االجتماعي.
-تنوعت االبعاد الداللية يف الرواية بتنوع املواضيع اليت عاجلتها كالسياسة و الدين و اجملتمع ...و امتزاجها
مع مواضيع الفقر و البطالة و كذا األمل و التحدي و التصدي للعقبات.
-و مبا أن الرؤية السردية هي إحدى أبرز املكونات اخلطابية يف العمل الروائي ،فقد هيمنت على الرواية
بأقسامها الثالثة؛ الرؤية مع ،الرؤية من خلف ،الرؤية من اخلارج ،فتعرب الرؤية السردية عن منظور السارد ملادة
الرواية ألهنا خاضعة ملوقفه الفكري و األيديولوجي.
-متكن راوي رواية احملنة اجلزائري "عبد الواحد هواري" من رصد الواقع اجلزائري املأساوي يف العشرية
فصور احلكومة و اجلماعات
السوداء بتحوالهتا املختلفة ،سواء كانت سياسية ،دينية ،اقتصادية و اجتماعيةّ ،
املسلحة.
941
قائمة المصادر و المراجع
قائمة المصادر والمراجع
عبد الواحد هواري :يف كل قرب حكاية ،املثقف للنشر و التوزيع ،ط.8112/1341 ،1.
.1إبراهيم سعدي :دراسات و مقاالت يف الرواية ،منشورات السهل اجلزائر ،د.ط.8111 ،
.8إبراهيم عباس :تقنيات البنية السردية يف الرواية املغاربية ،منشورات املؤسسة الوطنية لالتصال ،اجلزائر،
د.ط.8118 ،
.4أمحد محد النعيمي :إيقاع الزمن يف الرواية العربية املعاصرة ،املؤسسة العربية للنشر ،بريوت ،ط،1.
.8113
.3جويدة محاش :بناء الشخصية يف حكاية عبدو و اجلماجم و اجلبل ملصطفى قاسي -مقاربة يف
السرديات ،-منشورات األوراس ،د.ط.8112 ،
.5حسن حبراوي :بنية الشكل الروائي ( الفضاء ،الزمن ،الشخصية ) ،املركز الثقايف العريب ،بريوت ،لبنان،
ط.1111 ،1.
.6محيد احلمداين :بنية النص السردي من منظور النقد األديب ،املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء ،ط،8.
.1114
.2احلميد بورايو :منطق السرد – دراسات يف القصة اجلزائرية احلديثة ، -منشورات السهل ،اجلزائر ،د/ط،
،8111ص .121
.2محيد حلمداين :النقد الروائي و األيديولوجي -من سوسيولوجيا الرواية إىل سوسيولوجيا النص الروائي،-
املركز الثقايف العريب ،بريوت ،ط.1111 ،1.
.1سعيد يقطني :انفتاح النص الروائي -النص و السياق ،-املركز الثقايف العريب ،بريوت ،ط.1121 ،1.
.11سعيد يقطني :انفتاح النص الروائي ،املركز الثقايف العريب ،بريوت ،لبنان ،ط.8111 ،8.
.11سعيد يقطني :حتليل اخلطاب الروائي -الزمن ،السرد ،التبئري ،-املركز الثقايف العريب ،بريوت ،لبنان،
.1112
241
قائمة المصادر والمراجع
.18سيد حبراوي :حمتوى الشكل يف الرواية العربية ،النصوص املصرية األوىل ،املكتبة العامة للكتاب ،مصر،
ط.1116 ،1.
.14سيزا أمحد قاسم :بناء الرواية -دراسة مقارنة يف ثالثية جنيب حمفوظ ،-مكتبة األسرة ،د.ط.8113 ،
.13الشريف حبيلة :الرواية و العنف -دراسة سوسيونصية يف الرواية اجلزائرية املعاصرة ،-علم الكتب
احلديث ،األردن ،ط.8111 ،1.
.15صربي حافظ :أفق اخلطاب النقدي -عن آنسة أمحد احلاج ،االجتاه االجتماعي يف النقد الروائي يف
املغرب ،دراسة يف نقد النقد.-
.16عبد احلميد عقار :الرواية املغاربية حتوالت اللغة و اخلطاب ،شركة النشر و التوزيع املدارس ،الدار
البيضاء ،املغرب ،ط.8111 ،1.
.12عبد القادر أبو شريفة :مدخل إىل حتليل النص األديب ،دار الفكر ،عمان ،األردن ،ط.8111 ،4.
.12عبد اهلل إبراهيم :املخيل السردي ،املركز الثقايف العريب ،بريوت ،لبنان ،ط.1111 ،1.
.11عبد امللك مرتاض :يف نظرية الرواية -حبث يف تقنية الكتابة الروائية -دار الغرب وهران ،اجلزائر ،د.ط.
.81عبد امللك مرتاض :يف نظرية الرواية ،عامل املعرفة ،الكويت ،د.ط.1112 ،
.81عبد الوهاب شعالن :من سوسيولوجيا األدب إىل سوسيولوجيا النص -قراءة يف جتربة محيد حلمداين،-
املركز الثقايف اجلامعي ،سوق أهراس.
.88عمر عيالن :يف مناهج حتليل اخلطاب السردي ،دار الكاب احلديث ،القاهرة ،ط.8111 ،1
.84عمر عيالن :مناهج حتليل اخلطاب السردي ،دار الكتاب احلديث ،ط ،1.القاهرة.8111 ،
.83فيصل غازي النعيمي :العالمة و الرواية -دراسة سيميائية يف ثالثية أرض السواد لعبد الرمحان منيف،-
دار جمدالوي للنشر و التوزيع ،عمان ،األردن ،ط.8111 ،1.
.85كلثوم مدقن :داللة املكان يف رواية موسم اهلجرة إىل الشمال ،ضمن جملة األثر ،جامعة ورقلة ،عدد
،3ماي .8115
.86حممد القاضي :يف حوارية الرواية -عن آنسة حممد احلاج ،االجتاه االجتماعي يف النقد الروائي يف
املغرب ،دراسة يف نقد النقد.-
.82حممد بنيس :الشعر العريب احلديث ،دار توبقال ،ع.3
241
قائمة المصادر والمراجع
.82حممد خرماش :إشكالية املناهج يف النقد العريب املعاصر ،مطبعة أنفوبرنت ،فاس ،ط.8111 ،1.
.81حممد سامل األمني الطلبة :مستويات اللغة يف السرد العريب املعاصر-دراسة نظرية يف سيمانطيقا السرد،-
دار االنتشار العريب ،بريوت ،لبنان ،ط.8112 ،1.
.41حممد جنيب التالوي :وجهة النظر يف روايات األصوات العربية ،منشورات احتاد الكتاب العرب ،دمشق،
د.ط.8111 ،
.41حممد هالل غنيمي :النقد األديب احلديث ،هنضة مصر للطباعة و النشر ،ط.8115 ،6.
.48حمي الدين صبحي :أبطال يف السريورة -دراسات يف الرواية العربية و املعربة ،-دار الطليعة ،بريوت،
ط.1121 ،1.
.44مها حسن القصراوي :الزمن يف الرواية العربية ،املؤسسة الوطنية للدراسات و النشر ،بريوت ،ط،1.
.8116
.43نبيل بو السليو :بنية الزمن القصصي لدى مرزاق بقطاش ،دار أمواج للنشر ،سكيكدة ،ط،1.
.8113
.45ياسني النصري :الرواية و املكان ،سلسلة املوسوعة الصغرية ،دار الشؤون الثقافية العامة ،بغداد ،ع:
.115
.46ميىن العيد :يف معرفة النص ،دار اآلداب ،لبنان ،ط.1111 ،1.
.42بيري زميا :النص و اجملتمع -آفاق علم اجتماع النقد ،-تر :أنطوان أبو زيد ،املنظمة العاملية للرتمجة،
بريوت ،ط.8114 ،1.
.42بيري زميا :النقد االجتماعي حنو علم اجتماع النص األديب ،تر :عايدة لطفي ،م :أمينة رشيد ،د:
حبراوي ،دار الفكر ،ط.1111 ،1.
.41بيري زميا :حنو سوسيولوجيا النص األديب ،تر :عمار بلحسن ،جملة العرب و الفكر العاملي ،العدد،8:
مركز اإلمناء العريب.1121 ،
244
قائمة المصادر والمراجع
.31ترفينان تودروف :ميخائيل باختني :املبدأ احلواري ،تر :فخري صاحل و رجاء بن سالمة ،دار توبقال،
الدار البيضاء،املغرب ،ط.1111 ،8.
.31جريار جنيت :مدخل جلامع النص ،تر :عبد الرمحان أيوب ،دار الشؤون الثقافية العامة ،اآلفاق العربية،
عراق ،د/ط.
.38ميخائيل باختني :املاركسية و الفلسفة ،تر :حممد البكري و ميىن العيد ،دار توبقال ،الكدية ،منشورات
مكتبة املناهل ،املغرب.
.34سعيد علوش :معجم املصطلحات األدبية املعاصرة ،دار الكتاب اللبناين ،بريوت ،لبنان ،ط،1.
.1125/1315
.33جمد الدين بن يعقوب الفريوز آبادي :القاموس احمليط ،دار احلديث ،القاهرة ،8112-1381 ،ص
.1551
.35حياة زروال :املنهج االجتماعي و السوسيونصي يف ميزان النقد العريب ،جامعة باجي خمتار ،عنابة،
اجلزائر ،جملة منتدى األساتذة ،العدد ،12 :جوان .8116
.36آنسة حممد احلاج :االجتاه االجتماعي يف النقد الروائي يف املغرب –دراسة يف نقد النقد ،-أطروحة
دكتوراه.8116/8115 ،
.32صاحلة عباسي :سوسيولوجيا النص األديب و تطبيقاته يف النقد العريب املعاصر ،مذكرة ماجستري ،جامعة
العريب بن مهيدي ،أم البواقي.1344/8118 ،
.32نعيمة بولكعيبات :املنهج االجتماعي يف النقد العريب املعاصر ،أطروحة دكتوراه ،جامعة احلاج خلضر،
باتنة.8116/8115 ،
.31هداية مرزق :الشخصية الروائية عند الطاهر وطار ،رسالة ماجستري ،جامعة اجلزائر.1122/1121 ،
241
قائمة المصادر والمراجع
241
ملخص الدراسة
ملخص الدراسة
ملخص الدراسة:
جاءت دراستنا بعنوان "مقاربة سوسيونصية" يف رواية "يف كل قرب حكاية" لـ "عبد الواحد هواري" ،و اليت
صور من خالهلا واقع الشعب اجلزائري و اجلماعات املسلحة يف ظل الصراع السياسي التسعيين ،معربا عن احلياة
ّ
املأساوية اليت عاشها اجملتمع و ختبّط يف شباكها الربيء و الظامل على ح ّد سواء ،فحاولنا من خالل رصد جتليات
هذا الصراع اكتشاف و حتليل مكونات اخلطاب الروائي من منظور سوسيونصي.
فكانت دراستنا مقسمة يف مقدمة و ثالثة فصول و خامتة ،تضمن الفصل األول تطور املنهج السوسيونصي
يف الدراسات الغربية و العربية و طبيعة العالقة بني النص الروائي و الواقع االجتماعي ،إضافة إىل جتليات املنهج
السوسيونصي.
و تناولنا يف الفصل الثاين جتليات احلضور الديين و السياسي و االجتماعي يف املدونة ،و آخر فصل احتوى
على مجاليات التشكيل الفين مع الشخصية و الزمان و املكان و الرؤية السردية يف الرواية.
و جاءت خامتة حبثنا عبارة عن أهم النتائج اليت استنتجناها من دراستنا هلذا املوضوع.
841
فهرس المحتويات
فهرس المحتويات
شكر و عرفان.
اإلهداء.
أ-ج مقدمة.
الفصل األول :المنهج السوسيونصي.
6 أوال :السوسيونصية في الدراسات األدبية.
6 - 1يف الدراسات الغربية.
11 - 2يف الدراسات العربية.
11 ثانيا :مبادئ المقاربة السوسيونصية و تجليات المنهج.
11 - 1طبيعة العالقة بني النص الروائي و الواقع اإلجتماعي.
22 - 2ماهية اخلطاب الروائي و وظيفته.
22 - 3جتليات املنهج السوسيونصي.
الفصل الثاني :الموضوعات في رواية في كل قبر حكاية.
11 تمهيد.
12 المبحث األول :تجليات البعد السياسي في الرواية.
21 المبحث الثاني :تجليات البعد الديني في الرواية.
11 المبحث الثالث :تجليات الواقع االجتماعي في الرواية.
11 - 1جتليات املرأة.
11 - 2الفقر.
الفصل الثالث :جماليات التشكيل الفني في رواية في كل قبر حكاية.
31 المبحث األول :بنية الشخصية في الرواية.
31 - 1الشخصيات الرئيسية.
16 - 2الشخصيات الثانوية.
81 المبحث الثاني :بنية الزمن في الرواية.
81 - 1البنية الزمنية يف رواية "يف كل قرب حكاية".
102 - 2املفارقات الزمنية (الرتتيب الزمين).
108 - 3نظام السرد (اإليقاع).
941
فهرس المحتويات
951