You are on page 1of 50

‫‪1‬‬

‫جامعة صفوة‬
‫كلية العلوم الشرعية والعربية‬
‫مادة الفقه الحنبلي‬
‫المحاضرة الثامنة عشرة‬
‫الفرقة الثانية‬
‫من كتاب [فتح وهاب المآرب على دليل الطالب]‬
‫شرح الشيخ‪ /‬أحمد محروس‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وصلى هللا وسلم وبارك على عبد هللا ورسوله محمدٍ‪،‬‬
‫وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫ا‬
‫فأهًل ومرحباا بكم في لقاءٍ جدي ٍد متجد ٍد من لقاءات مقرر الفقه الحنبلي‪،‬‬ ‫وبعد؛‬
‫ومع المحاضرة الثامنة عشرة نلتقي‪ ،‬وهللا جل وعًل أسأل أن يعلمنا ما ينفعنا‪،‬‬
‫وأن ينفعنا بما علمنا‪ ،‬وأن يزيدنا عل اما‪ ،‬إنه ولي ذلك والقادر عليه‪.‬‬
‫موصوال حول أحكام صًلة الجماعة‪ ،‬وقد‬ ‫ا‬ ‫إخوتي في هللا‪ ،‬ال زال خيط كًلمنا‬
‫ا‬
‫فصًل عقده المؤلف رحمه هللا تعالى لبيان‪:‬‬ ‫بلغنا في أثناء ذلك‬

‫[[ أحكام متابعة المأموم لإلمام ]]‬

‫وال يخفى عليكم أن أحوال المأموم مع اإلمام أربعةٌ‪:‬‬


‫‪2‬‬

‫‪ -‬مسابقةٌ‪.‬‬
‫‪ -‬ومساواةٌ‪.‬‬
‫وتخلف‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬ومتابعة‪ ✓ .‬وهي ال ُّ‬
‫سنَة‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه هللا تعالى‪:‬‬


‫فص ٌل‪:‬‬
‫[ومن أحرم مع إمامه‪ ،‬أو قبل إتمامه لتكبيرة اإلحرام‪ ،‬لم تنعقد صًلته]‪.‬‬

‫هاتان مسألتان ال تنعقد فيهما صًلة المأموم‪ ،‬ال في الفرض وال في النفل‪:‬‬

‫ا‬
‫أصًل‪ ،‬وعندئذ لم‬ ‫األولى‪ :‬إذا كبر المأموم لإلحرام قبل أن يكبر اإلمام‬
‫تنعقد صًلة المأموم‪.‬‬

‫والثانية‪ :‬أن يكبر المأموم لإلحرام مع تكبير إمامه‪ ،‬أو قبل انتهاء تكبير‬
‫ضا ال تنعقد صًلة المأموم؛ وذلك ألن من شرط صحة تكبيرة‬ ‫إمامه‪ ،‬وهنا أي ا‬
‫اإلحرام في حق المأموم أن يوقعها بعد انتهاء تكبير إمامه‪.‬‬
‫️▪ وقد تقدمت معك المسألة عند الكًلم عن تكبيرة اإلحرام‪ ،‬ودليلها األثر‬
‫والنظر‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫أنس رضي هللا عنه أن رسول هللا‬‫أما األثر‪ :‬فما في الصحيحين من حديث ٍ‬
‫صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬إنما جعل اإلمام ليؤتم به‪ ،‬فإذا كبر فكبروا" الحديث‪.‬‬
‫والفاء في قوله "فكبروا" تفيد التعقيب‪.‬‬
‫إذن أمر النبي صلى هللا عليه وسلم المأموم أن يكبر عقب تكبير إمامه‪ ،‬واألمر‬
‫ي عن ضده‪ ،‬وإذا كان كذلك فمن كبر قبل إمامه لم تنعقد صًلته‪،‬‬ ‫بالشيء نه ٌ‬
‫وهذا قول أكثر أهل العلم‪.‬‬

‫وأما من جهة النظر‪:‬‬


‫بشخص معين‪ ،‬وهذا الشخص بعد لم يدخل‬
‫ٍ‬ ‫فألنه لما كبر لإلحرام نوى االئتمام‬
‫في الصًلة‪ ،‬فكان مؤت اما بغير مص ٍٍّل‪.‬‬

‫وقوله رحمه هللا تعالى‪" :‬ومن أحرم مع إمامه‪ ،‬أو قبل إمامه"‪.‬‬
‫سهوا‪ ،‬أو فعله خطأا‪ ،‬أو فعله عن‬
‫عمو ٌم؛ فيشمل من فعل ذلك عمداا‪ ،‬أو فعله ا‬
‫جه ٍل‪ ،‬فجميع هؤالء ال تنعقد صًلتهم‪ ،‬إذا وقعت منهم تكبيرة اإلحرام قبل دخول‬
‫سهوا وال ا‬
‫جهًل‪ ..‬كما‬ ‫اإلمام في الصًلة؛ وذلك ألن الشرط ال يسقط عمداا وال ا‬
‫تقدم‪.‬‬

‫وقوله رحمه هللا تعالى‪" :‬لم تنعقد صًلته" أولى بًل شك مما لو قال‪ :‬بطلت‬
‫صًلته؛ وذلك أن البطًلن إنما يتوجه لشيءٍ قد وجد‪ ،‬أما ها هنا فإنه لم يدخل‬
‫ببطًلن أو بصحة‪ ،‬على أن قوله رحمه‬
‫ٍ‬ ‫أصًل حتى توصف صًلته‬ ‫ا‬ ‫في الصًلة‬
‫مضاف‪ ،‬والمفرد إذا أضيف أفاد العموم سيما في‬
‫ٌ‬ ‫هللا تعالى‪( :‬صًلته) مفر ٌد‬
‫‪4‬‬

‫مذهبنا؛ وهذا دلي ٌل على أن جميع الصلوات في هذا سواء‪ ،‬فالفرض والنفل بل‬
‫حتى صًلة الجنازة في هذا الحكم سواء‪.‬‬

‫قال رحمه هللا‪" :‬واألولى للمأموم أن يشرع في أفعال الصًلة بعد إمامه"‪.‬‬
‫مسلم من حديث‬‫ٍ‬ ‫أنس المتقدم‪ ،‬وفي معناه كذلك عند‬
‫ظاهر؛ لحديث ٍ‬
‫ٌ‬ ‫وهذا‬
‫أبي هريرة أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬إنما جعل اإلمام ليؤتم به‪،‬‬
‫فًل تختلفوا عليه‪ ،‬فإذا كبر فكبروا‪ ،‬وإذا ركع فاركعوا‪ ،‬وإذا سجد فاسجدوا"‬
‫الحديث‪.‬‬
‫‪ -‬و"الفاء"‪ :‬حرف عطفٍ ‪ ،‬لكنه يفيد التعقيب والسرعة‪.‬‬
‫عقَيب فعل‬
‫‪ -‬فإذا قلنا‪ :‬التعقيب‪ ،‬فمعناه‪ :‬أن المأموم إنما يأتي بأفعال صًلته ُ‬
‫إمامه‪ ،‬فًل يسبقه وال يساويه‪.‬‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫ا‬ ‫‪ -‬وإذا قلنا‪ :‬والسرعة‪ ،‬فمعناه أنه ال يتخلف وال يتأخر عن إمامه‬
‫ويدل على هذا ما رواه مسل ٌم رحمه هللا في صحيحه من حديث البراء بن‬
‫ب قال‪" :‬كنا مع النبي صلى هللا عليه وسلم ال يحنو أح ٌد منا ظهره حتى نراه‬
‫عاز ٍ‬
‫قد سجد"‪.‬‬
‫ضا من حديث عمرو بن حريثٍ‪ ،‬ثم إن حقيقة االقتداء‬
‫مسلم أي ا‬
‫ٍ‬ ‫وفي معناه عند‬
‫واالئتمام إنما تحصل بذلك‪.‬‬

‫وقوله رحمه هللا تعالى‪" :‬في أفعال الصًلة"‪ :‬يخرج به أقوال الصًلة؛‬
‫فأقوال الصًلة ال حرج على المأموم أن يساوي فيها اإلمام‪ ،‬أو يسبقه بها‪.‬‬
‫‪5‬‬

‫فإن قرأ المأموم الفاتحة في السرية قبل إمامه‪،‬‬


‫أو ساواه فيها‪،‬‬
‫أو قرأها في الجهرية حال سكوت إمامه لدعاء االستفتاح؛‬
‫✓ فًل حرج عليه وال بأس‪.‬‬

‫لكن يستثنى من ذلك تكبيرة اإلحرام كما تقدم‪ ،‬فًل يسبق المأموم بها اإلمام‬
‫وال يساويه فيها‪،‬‬
‫ضا أن يسلم معه‪.‬‬
‫ضا التسليم‪ ،‬فًل يسلم قبل إمامه‪ ،‬ويكره له أي ا‬
‫وكذلك أي ا‬

‫قال المؤلف رحمه هللا‪" :‬فإن وافقه فيها أو في السًلم كره"‪.‬‬


‫فإن وافقه فيها‪ ،‬أي‪ :‬في أفعال الصًلة‪( ،‬أو في السًلم) يعني‪ :‬في التسليم من‬
‫الصًلة‪( ،‬فإن حصل هذا أو ذاك فالصًلة صحيحةٌ مع الكراهة)؛ وذلك ألنه‬
‫خًلف السنة‪.‬‬

‫لكن انتبه الكًلم هنا على من وافق إمامه في التسليم‪ ،‬وساواه فيه‪ ،‬فخرج‬
‫بذلك من سبقه إلى التسليم‪ ،‬والمسألة بتفصيلها قد تقدمت‪.‬‬

‫لكن كيف بمن سبق اإلمام إلى الركن أو بالركن؟‬


‫قال المؤلف رحمه هللا‪" :‬وإن سبقه َح ُر َم"‪.‬‬
‫‪6‬‬

‫أي إن سبق المأموم اإلمام في شيءٍ من أفعال الصًلة‪ ،‬كأن ركع قبله‪ ،‬أو رفع‬
‫ظاهر‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫حر َم وأَثم‪ ،‬وهذا‬
‫رأسه من الركوع قبل رفعه ونحو ذلك؛ ُ‬

‫عا أنه‬
‫مسلم من حديث أنس بن مالك رضي هللا عنه مرفو ا‬ ‫ٍ‬ ‫ففي صحيح‬
‫صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬ال تسبقوني بالركوع‪ ،‬وال بالسجود‪ ،‬وال بالقيام‪ ،‬فإني‬
‫أراكم من وراء ظهري‪ ،‬كما أراكم من بين يدي"‪.‬‬
‫ي والنهي للتحريم‪.‬‬
‫فهذا نه ٌ‬

‫وأبلغ من ذلك ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي هللا عنه أنه‬
‫صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل اإلمام أن يحول هللا‬
‫رأسه رأس حمار؟"‪.‬‬
‫وهذا التهديد الشديد دلي ٌل على الحرمة بًل شك‪.‬‬
‫‪ -‬وقوله رحمه هللا تعالى‪" :‬وإن سبقه حرم"‪.‬‬
‫ظاهره‪ :‬التسوية بين المتعمد والمخطئ‪ ،‬والعالم والجاهل‪ ،‬والناسي والذاكر‬
‫على ح ٍد سواء؛ إذ المؤلف لم يفصل‪ ،‬وإن كان المذهب في الحقيقة إنما يخص‬
‫التحريم بالمتعمد فقط‪ ،‬كما نص على ذلك في [اإلقناع] و[المنتهى]‪.‬‬

‫أما من حصل منه السبق لإلمام نسياناا أو ا‬


‫جهًل؛ فًل إثم عليه‪.‬‬
‫طأْنَا} [البقرة‪.]٢٨٦ :‬‬
‫اخ ْذنَا ِإن نَّ ِسينَا أ َ ْو أ َ ْخ َ‬
‫وذلك لقوله تعالى‪َ { :‬ربَّنَا َال ت ُ َؤ ِ‬
‫‪7‬‬

‫مسلم في الحديث القدسي أن هللا تعالى قال‪" :‬قد‬


‫ٍ‬ ‫وقد جاء في صحيح‬
‫فعلت"‪.‬‬

‫ع ِفي ألمتي عن الخطأ‪ ،‬والسهو‪،‬‬


‫وجاء عنه صلى هللا عليه وسلم أنه قال‪ُ " :‬‬
‫والنسيان‪ ،‬وما استكرهوا عليه"‪.‬‬

‫لكن هل تبطل الصًلة بسبق اإلمام إلى الركن أو ال؟‬


‫قال المؤلف‪" :‬فمن ركع‪ ،‬أو سجد‪ ،‬أو رفع قبل إمامه عمداا؛ لزمه أن يرجع‬
‫ناس وجاهل"‪.‬‬
‫ليأتي به مع إمامه‪ ،‬فإن أبى عال اما عمداا؛ بطلت صًلته‪ ،‬ال صًلة ٍ‬
‫فقرر رحمه هللا تعالى هنا أن السبق إلى الركن ال يخلو من حا ٍل من حالين‪:‬‬
‫َّ‬
‫الحال األول‪ :‬أن يكون عمداا‪.‬‬
‫سهوا‪ ،‬أو ا‬
‫جهًل‪.‬‬ ‫والحال الثاني‪ :‬أن يكون ا‬

‫فأما من سبق إمامه إلى الركوع‪ ،‬أو إلى السجود‪ ،‬أو إلى الرفع ا‬
‫مثًل‬
‫متعمداا؛ فإنه يقال له‪ :‬يلزمك أن ترجع لتأتي بالركن مرة ا أخرى بعد اإلمام‪،‬‬
‫وتدركه فيه؛ لتصح بذلك صًلتك‪ ،‬فإن استجاب ورجع وأدرك إمامه في الركن‬
‫يسير مغتفر‪ ،‬لكن إن أبى‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫سبق‬ ‫صحت صًلته‪ ،‬والسبق الذي حصل عندئ ٍذ‬
‫الرجوع وهو عال ٌم عام ٌد بطلت صًلته عندئذٍ؛ ألنه ترك المتابعة الواجبة عمداا‪،‬‬
‫وتارك الواجب عمداا تبطل صًلته‪.‬‬
‫‪8‬‬

‫جاهًل‪ ،‬فصًلته صحيحةٌ؛ وذلك‬


‫ا‬ ‫وأما من سبق اإلمام إلى الركن ناسياا أو‬
‫مغتفر كما تقدم‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ألن سبقه‬

‫ضا من سبق اإلمام إلى الركن متعمداا‪ ،‬ولم يرجع بسبب جه ٍل أو‬‫ومثله أي ا‬
‫يسير‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ضا؛ وذلك أن السبق هنا‬‫نسيان‪ ،‬فتصح صًلته أي ا‬

‫ٌ‬
‫وفرق بين السبق إلى الركن والسبق بالركن‪ ،‬كذا يقرر األصحاب رحمة هللا‬
‫تعالى عليهم‪.‬‬
‫ركن كالركوع‪ ،‬أو الرفع‪ ،‬أو السجود‪ ،‬وأدركه اإلمام‬
‫ٍ‬ ‫فمن سبق إمامه إلى‬
‫فيه؛ فالحكم ما تقدم‪.‬‬
‫تام‪ ،‬بمعنى أنه ركع ثم رفع‪ ،‬وال زال اإلمام قائ اما‬
‫بركن ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وأما من سبق اإلمام‬
‫يتلو القرآن‪،‬‬
‫أو سجد ورفع‪ ،‬واإلمام ال زال قائ اما بعد الرفع من الركوع‪،‬‬
‫أو رفع من الركوع ونزل بالسجود واإلمام لم يزل راكعاا‪،‬‬

‫فصًلة هذا باطلة إن كان متعمداا‪،‬‬


‫ضا ال تبطل لألدلة‬
‫وإن لم يكن متعمداا كالجاهل والناسي؛ فصًلته أي ا‬
‫المتقدمة‪.‬‬
‫‪9‬‬

‫فإن قيل‪ :‬ما الدليل على هذا التفريق؟ قلتم‪ :‬السبق إلى الركن يكره‪ ،‬وال‬
‫تبطل الصًلة بمجرده؛ بل باالمتناع عن العودة مع العلم والعمد على ما تقدم‪،‬‬
‫ا‬
‫جاهًل‪ ،‬أو ناسياا‪.‬‬ ‫وهنا تقولون من سبق بالركن بطلت صًلته إال أن يكون‬

‫أنس رضي هللا عنه أنه‬‫قيل‪ :‬الدليل على هذا ما في الصحيحين من حديث ٍ‬
‫صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬ال تسبقوني بالركوع‪ ،‬وال بالسجود‪ ،‬وال بالقيام‪ ،‬وال‬
‫باالنصراف‪ ،‬فإني أراكم من وراء ظهري"‪.‬‬
‫فنهى صلى هللا عليه وسلم عن السبق بالركن‪ ،‬والنهي يقتضي التحريم‬
‫والفساد‪.‬‬

‫إذا فهمت هذا فاعلم أن األصحاب رحمة هللا تعالى عليهم‪ ،‬ومعهم جماهير‬
‫العلماء في الجملة‪ ،‬يفرقون بين سبق المأموم لإلمام إلى الركن‪ ،‬وبين سبق‬
‫المأموم لإلمام بالركن؛‬
‫‪ -‬فمن سبق إمامه إلى الركن لم تبطل صًلته بمجرد ذلك‪ ،‬وإن كان متعمداا‪.‬‬
‫تام‪ ،‬فصًلته باطلةٌ إن تعمد ذلك‪ ،‬وإال لم‬
‫ي ٍ ٍّ‬ ‫بركن فعل ٍٍّ‬
‫ٍ‬ ‫‪ -‬وأما من سبق إمامه‬
‫تبطل؛ لما تقدم‪.‬‬

‫فإن قيل‪ :‬ما الدليل على هذا؟‬


‫أنس رضي هللا عنه أن النبي صلى هللا‬ ‫قيل‪ :‬ما في الصحيحين من حديث ٍ‬
‫عليه وسلم قال‪" :‬ال تسبقوني بالركوع‪ ،‬وال بالسجود‪ ،‬وال بالقيام‪ ،‬وال‬
‫باالنصراف؛ فإني أراكم من وراء ظهري"‪.‬‬
‫‪10‬‬

‫فنهى صلى هللا عليه وسلم عن السبق‪ ،‬والنهي يقتضي التحريم والفساد‪.‬‬

‫طالب نبيهٌ‪ :‬أريد التفريق بين المسألتين من جهة الصورة‪،‬‬


‫ٌ‬ ‫وهنا قد يقول‬
‫ومن جهة الحكم‪.‬‬
‫أقول‪ :‬ال بأس‪ .‬الفرق بين المسألتين من جهة الصورة ظاهر‪:‬‬

‫[فالسبق إلى الركن]‪:‬‬


‫كأن ينتهي اإلمام من قراءة القرآن ا‬
‫مثًل‪ ،‬ويتهيٍّأ للركوع‪ ،‬غير أنه قبل أن يركع‬
‫عقَي َبه‪ ،‬فيدركه راكعاا‪.‬‬
‫يركع قبله المأموم‪ ،‬ثم يركع اإلمام ُ‬

‫[وأما السبق بالركن]‪:‬‬


‫فكأن يركع المأموم ويرفع من الركوع‪ ،‬وإمامه ال زال قائ اما لم يركع‪ ،‬أو كأن‬
‫يرفع المأموم من الركوع فيعتدل قائ اما‪ ،‬ثم ينزل للسجود وإمامه ال زال راكعاا‪،‬‬
‫فهذا التفريق من جهة الصورة‪.‬‬

‫وأما التفريق من جهة الحكم فوجهه أنه صلى هللا عليه وسلم إنما قال‪" :‬ال‬
‫تسبقوني بالركوع"‪ ،‬ولم يقل‪'' :‬ال تسبقوني إلى الركوع''‪.‬‬

‫‪ -‬ومن ركع قبل اإلمام وأدركه اإلمام في الركوع‪ ،‬ال يقال‪ :‬سبق اإلمام‬
‫بالركوع‪ ،‬وإنما يقال‪ :‬سبقه إليه‪.‬‬
‫‪11‬‬

‫يسير‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫سبق‬ ‫ٌ‬
‫وفرق بين السبق بكل الركن والسبق ببعضه؛ فالسبق بالبعض‬ ‫‪-‬‬
‫مغتفر في مذهب أكثر أهل العلم‪ ،‬وإن كان عن إمامنا أحمد روايةٌ يختارها‬
‫ٌ‬
‫طائفةٌ من مشايخنا المعاصرين يقول فيها‪ :‬بالتسوية بين المسألتين‬

‫قال رحمه هللا تعالى‪" :‬ويسن لإلمام التخفيف مع اإلتمام‪ ،‬ما لم يؤثر‬
‫المأموم التطويل"‪.‬‬
‫أي‪ :‬يسن لإلمام أن يخفف صًلته‪ ،‬لكن من غير إخًل ٍل بشيءٍ منها‪ ،‬ال من‬
‫أركانها‪ ،‬وال من واجباتها‪ ،‬وال من سننها؛ ولذا قال‪( :‬مع اإلتمام)‪.‬‬

‫ويدل عليه قوله صلى هللا عليه وآله وسلم‪" :‬إذا صلى أحدكم للناس‬
‫فليخفف‪ ،‬وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء"‪.‬‬

‫وكذلك جاء في قصة معاذ بن جبل لما أطال وصلى العشاء بسورة البقرة؛‬
‫أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال له‪" :‬اقرأ بالشمس وضحاها‪ ،‬وبالضحى‪،‬‬
‫وبالليل إذا يغشى"‪.‬‬

‫والحاصل أن السنة لإلمام أن يخفف لكن مع اإلتمام‪ ،‬ومن ثم ال يُف َهم من‬
‫هذه العبارة أن المراد اإلسراع الذي يُضيٍّع على المأموم سنن الصًلة‪ ،‬فإن ذلك‬
‫مكروهٌ‪.‬‬
‫‪12‬‬

‫وهنا أنبه أن تخفيف اإلمام يكون من وجو ٍه أربعة‪:‬‬


‫األول‪ :‬التخفيف في وقت القيام إلى الصًلة‪ ،‬فإن اإلقامة حق اإلمام‪ ،‬ومن‬
‫السنة أال يؤخر اإلقامة حتى يشق على المأموم‪.‬‬
‫فإن النبي صلى هللا عليه وسلم لما أخر العشاء ليلةا حتى نامت النساء‬
‫والصبيان؛ خرج صلى هللا عليه وسلم يقول‪" :‬إنه لوقتها لوال أن أشق على‬
‫أمتي"‪.‬‬
‫ومن ثم تقدم معك أن السنة في العشاء التأخير ما لم يشق ذلك‪ ،‬ولو على بعض‬
‫المأمومين‪.‬‬
‫وكان هديه عليه الصًلة والسًلم أنه إذا رآهم عجلوا عجل‪ ،‬وإن رآهم‬
‫أبطأوا أبطأ‪.‬‬

‫واللون الثاني من التخفيف‪ :‬التخفيف في القراءة‪ ،‬فيقرأ بالشمس وضحاها‪،‬‬


‫وبالليل إذا يغشى‪ ،‬والضحى‪ ،‬على ما جاء في حديث معا ٍذ رضي هللا عنه‬
‫وأرضاه‪.‬‬

‫واللون الثالث‪ :‬التخفيف في األركان فًل يزيد في الركوع على عشر‬


‫تسبيحاتٍ‪ ،‬وكذلك الحال في السجود‪ ،‬وال يزيد في الجلوس بين السجدتين على‬
‫ا‬
‫مفصًل‪.‬‬ ‫قوله‪( :‬رب اغفر لي) ثًلثاا‪ ،‬على ما تقدم‬

‫تخفيف عارض إذا سمع بكاء صبي ٍ أو‬


‫ٌ‬ ‫واللون الرابع من التخفيف‪ :‬وهو‬
‫إتمام‪ ،‬كما كان هديه صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫نحوه؛ فالسنة أن يخفف مع‬
‫‪13‬‬

‫لكن لو رضي المأموم باإلطالة وأحبها‪ ،‬فهل يطيل اإلمام؟‬


‫قال المؤلف‪" :‬ما لم يؤثر المأموم التطويل"‪.‬‬
‫أي إذا اختار كل المأمومين ذلك‪ ،‬فًل يكره التطويل عندئذٍ؛ لزوال العلة التي هي‬
‫سبب المنع‪.‬‬
‫فإن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬إن منكم لمنفٍّرين‪ ،‬من صلى بالناس‬
‫فليخفف"‪.‬‬
‫فإن زالت علة التنفير بمحبة الناس لذلك؛ فًل حرج وال بأس‪ ،‬لكن هذا غالباا ال‬
‫يكون في الجماعات الكبيرة‪ ،‬وإنما يكون في األعداد المحصورة‪ ،‬فإذا كان‬
‫ا‬
‫حاصًل منهم‪ ،‬أما في األعداد‬ ‫الجمع ا‬
‫قليًل‪ ،‬فإنه يتصور أن يكون الرضا‬
‫معذور‪ ،‬أو من يكره الطول؛ لمشقته عليه‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫الكثيرة‪ ،‬فًل يخلو حالهم من وجود‬

‫قال رحمه هللا‪" :‬وانتظار داخ ٍل إن لم يشق على المأموم"‪.‬‬


‫ضا أن ينتظر الداخل إلى المسجد أو إلى الجماعة إن‬
‫أي‪ :‬ويستحب لإلمام أي ا‬
‫أحس به وهو قائ ٌم أو راكع؛ وذلك ألنه من باب التعاون على البر والتقوى‪.‬‬

‫وقد جاء هذا في صًلة الخوف أنه صلى هللا عليه وسلم كان يطيل القيام‬
‫في الركعة الثانية حتى يسلم من معه‪ ،‬ثم يذهبون إلى مواقعهم ويأتي إخوانهم‪،‬‬
‫فيدركونه صلى هللا عليه وسلم في الجماعة‪.‬‬
‫‪ -‬لكن قيد المؤلف رحمه هللا ذلك بقوله‪" :‬إذا لم يشق على المأموم"‪.‬‬
‫‪14‬‬

‫فَعُ ِل َم منه أنه إن شق االنتظار على المأموم كره ذلك لإلمام؛ ألن حق من مع‬
‫اإلمام آكد من حق هذا المسبوق‪.‬‬

‫قال رحمه هللا تعالى‪" :‬ومن استأذنته امرأته أو أمته إلى المسجد كره‬
‫منعها"‪.‬‬

‫في هذه العبارة مسائل‪:‬‬


‫األولى‪ :‬أنه ال يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها ال للمسجد وال لغيره إال‬
‫بإذن من زوجها‪ ،‬وهو صاحب الحق في هذا‪ ،‬يأذن أو يمنع‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ووجه هذا‪ :‬أنه صلى هللا عليه وسلم جاء عنه أنه قال كما في حديث ابن‬
‫عمر‪" :‬إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد‪ ،‬فًل يمنعها"‪.‬‬
‫فإن كانت تستأذن إلى المسجد فإذنها إلى غيره من باب أولى‪.‬‬

‫والثانية‪ :‬أن من استأذنته امرأته أو أمته لتأتي المسجد‪ ،‬فإنه يكره له منعها‪.‬‬
‫وذلك لما في الصحيح من حديث ابن عمر رضي هللا تعالى عنهما أنه‬
‫صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد‪ ،‬فًل يمنعها"‪.‬‬
‫‪ -‬وفي لفظٍ ‪" :‬ال تمنعوا إماء هللا مساجد هللا"‪.‬‬
‫لكن الكراهة إنما تحصل إذا أُمنت الفتنة‪ ،‬وذلك بأن تخرج تفلةا غير مزين ٍة وال‬
‫مطيبة‪ ،‬أما إن وجدت الزينة والطيب و ُخشيت الفتنة‪ ،‬فًل يكره له منعها عندئذٍ؛‬
‫إذ درء المفسدة مقد ٌم على جلب المنفعة‪.‬‬
‫‪15‬‬

‫خير لها"‪.‬‬
‫والمسألة الثالثة‪ :‬في قوله رحمه هللا تعالى‪" :‬وبيتها ٌ‬
‫خير لها‬
‫وهو جز ٌء من حديث ابن عمر المتقدم‪ ،‬وفيه أن صًلة المرأة في دارها ٌ‬
‫مطلقاا‪ ،‬أي سوا اء صلت دارها منفردةا‪ ،‬أو صلت في جماعة‪.‬‬
‫ضا ما رواه أصحاب السنن من حديث ابن مسعو ٍد مرفو ا‬
‫عا ‪:‬‬ ‫ويدل لذلك أي ا‬
‫"المرأة عورة إذا خرجت استشرفها الشيطان"‪.‬‬
‫خير للنساء أال يرين‬
‫وكانت عائشة رضي هللا عنها تقول‪" :‬أما إنه ٌ‬
‫الرجال‪ ،‬وال يراهن الرجال"‪.‬‬

‫ثم قال رحمه هللا تعالى‪:‬‬


‫فص ٌل في اإلمامة‬

‫أي في بيان طائف ٍة من أحكامها‪ ،‬وقد تكلم المؤلف في هذا الفصل عن أولى‬
‫الناس باإلمامة‪ ،‬وعمن تجوز إمامته‪ ،‬ومن ال تجوز‪.‬‬

‫يقول رحمه هللا‪:‬‬


‫"األولى بها ‪ -‬أي باإلمامة ‪ -‬األجود قراءة ا األفقه"‪.‬‬
‫أي‪ :‬أن أولى الناس بإمامة الصًلة عند التنازع األجود قراءة ا األفقه‪ ،‬بل‬
‫ويستحب تقديمه على غيره مطلقاا‪ ،‬كما يفهم من قوله رحمه هللا األولى‪ ،‬وال‬
‫‪16‬‬

‫يستثنى من هذا إال صاحب الدار واإلمام الراتب على ما يأتي بيانه إن شاء هللا‬
‫تعالى‪.‬‬

‫‪ -‬وقوله‪( :‬األجود قراءةا)‪.‬‬


‫ليس المراد به‪ :‬األكثر حف ا‬
‫ظا‪ ،‬بل المراد‪ :‬من يُ َج ٍّ ِود قراءته أكثر من غيره‪ ،‬فهو‬
‫يخرج كل حرفٍ من مخرجه مع إعطائه حقه ومستحقه‪ ،‬ويعرف أحكام المدود‪،‬‬
‫ويعرف الوقف واالبتداء ونحو ذلك‪ ،‬والوجه لتقديم هذا على غيره أنه األكثر‬
‫أجرا‪.‬‬
‫ا‬
‫ففي الحديث "قارئ القرآن الماهر به مع السفرة الكرام البررة"‪.‬‬
‫ضا ما رواه مسل ٌم رحمه هللا في الصحيح من حديث أبي مسعو ٍد‬ ‫ويدل له أي ا‬
‫البدري رضي هللا عنه‪ ،‬وفيه أنه صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬يؤم القوم أقرؤهم‬
‫لكتاب هللا"‪.‬‬
‫واألقرأ‪ :‬صيغة أفعل التفضيل يراد به األجود قراءة ا األتقن‪.‬‬

‫ومن ثم فاألصحاب ومعهم جماهير العلماء يقدمون من كان أجود قراءة ا‬


‫على من كان أكثر حف ا‬
‫ظا للقرآن إذا تعارضا‪.‬‬

‫‪ -‬وقوله رحمه هللا تعالى‪( :‬األفقه)‪.‬‬


‫أي األعلم بأحكام الفقه اإلسًلمي عمو اما‪ ،‬وبأحكام الصًلة على جهة‬
‫الخصوص‪.‬‬
‫‪17‬‬

‫ظاهر‪ ،‬فإنه قد يطرأ على اإلمام أو المأموم أو عليهما شي ٌء‬


‫ٌ‬ ‫ووجه تقديم هذا‬
‫ويصوبها بخًلف‬
‫ٍّ ِ‬ ‫في أثناء الصًلة‪ ،‬فيُحتاج إلى العالم الذي يصحح الصًلة‬
‫الجاهل‪.‬‬

‫ثم في حديث أبي مسعو ٍد البدري أي ا‬


‫ضا‪" :‬فإن كانوا في القراءة سواء‬
‫فأعلمهم بالسنة"‪.‬‬
‫فإذا اجتمع في اإلمام الوصفان جودة القراءة والفقه كان أولى بالتقديم‪.‬‬

‫لكن إن تعارض الوصفان‪ ،‬فتعارضت جودة القراءة مع الفقه‪ ،‬فأي ذلك‬


‫نقدم؟‬
‫ي" ‪.‬‬ ‫قال رحمه هللا‪" :‬ويقدم قار ٌ‬
‫ئ ال يعلم فقه صًلته على فقي ٍه أم ٍٍّ‬
‫أي‪ :‬ويقدم القارئ على الفقيه‪ ،‬وهذا هو المذهب إال أن شرط ذلك أن يكون‬
‫القارئ ممن يأتي بصًلته في العادة صحيحةا‪ ،‬وإن لم يكن عال اما بأحكامها‪ ،‬لكن‬
‫خبرنا صًلته‪ ،‬فوجدناه في الغالب األعم يصلي صًلة ا صحيحة‪.‬‬
‫ي‪ ،‬يعني‪ :‬ال يحسن قراءة‬‫نعم‪ ..‬يُقدم هذا على فقي ٍه بأحكام الصًلة إال أنه أم ٌ‬
‫الفاتحة كما تقدم‪ ،‬أو به مان ٌع ا‬
‫مثًل ككونه ألثغ يبدل حرفاا بحرفٍ ال يبدل به‪،‬‬
‫كالراء يبدله بالياء‪ ،‬فيقول‪( :‬يب العالمين)‪ ،‬ا‬
‫بدال من (رب العالمين)‪ ،‬أو يقول‪:‬‬
‫(رب العايمين)‪ ،‬ا‬
‫بدال من (العالمين)‪.‬‬

‫‪ -‬ويؤخذ من مفهوم عبارة المؤلف رحمه هللا‪ :‬أنهما إذا استويا في جودة القراءة‪،‬‬
‫انتقلنا إلى الفقه‪ ،‬والمذهب أنه إذا استويا في جودة القراءة‪ ،‬قدم أكثرهما قرآناا‪،‬‬
‫‪18‬‬

‫فإن استويا في ذلك قدم األفقه‪ ،‬ثم إن استويا في الفقه قدمنا أكبرهما سناا؛ ولذا‬
‫قال المؤلف رحمه هللا‪( :‬ثم األسن)‪.‬‬

‫وذلك لخبر مالك بن الحويرث رضي هللا تعالى عنه في الصحيحين وفيه‬
‫أنه صلى هللا عليه وسلم قال لهم‪" :‬إذا حضرت الصًلة فليؤذن لكم أحدكم‪،‬‬
‫وليؤمكم أكبركم"‪.‬‬
‫وألنه أقرب إلى الخشوع غالباا‪.‬‬

‫‪ -‬قال‪" :‬ثم األشرف"‪.‬‬


‫أي‪ :‬األشرف نسباا‪ ،‬وهو من كان قرشياا‪ ،‬فالقرشي يقدم على غيره‪ ،‬وإن استووا‬
‫قريش بني هاشم؛ وذلك من قبيل إلحاق اإلمامة الصغرى‬
‫ٍ‬ ‫في هذا قدمنا من‬
‫باإلمامة الكبرى‪.‬‬
‫شا وال تَقَ َد ُموهم"‪.‬‬
‫وقد جاء في الحديث المرسل‪" :‬ق ٍّدِموا قري ا‬

‫‪ -‬قال‪( :‬ثم األتقى واألورع)‪.‬‬


‫وذلك ألنه أقرب عند هللا تعالى‪.‬‬
‫َللا أَتْقَا ُك ْم} [الحجرات‪.]١٣ :‬‬
‫كما قال سبحانه‪ِ { :‬إ َّن أ َ ْك َر َم ُك ْم ِع ْن َد َّ ِ‬
‫وألنه أقرب إلى الخشوع وإجابة الدعاء كذلك‪ ،‬ومع هذا فاألشرف مقد ٌم عليه في‬
‫ظاهر عبارة المؤلف رحمه هللا تعالى‪ ،‬وهو المذهب‪.‬‬
‫‪19‬‬

‫وإن كان بعض األصحاب كأبي محمد بن قدامة رحمه هللا تعالى ذهب إلى‬
‫تقديم األتقى واألورع على األشرف نسباا‪ ،‬وهذا الذي انتصر له شيخ اإلسًلم‬
‫ابن تيمية رحمه هللا تعالى‪ ،‬وصوبه المرداوي كذلك في اإلنصاف‪.‬‬

‫ثم ها هنا مبحثان‪:‬‬

‫األول‪ :‬ما الفرق بين األتقى واألورع؟ فإن المؤلف عطف الثاني على‬
‫األول‪ ،‬فدل على المغايرة‪ ،‬والذي يظهر أن‪:‬‬
‫األتقى‪ :‬هو األكثر تقاى‪ ،‬والتقوى في اإلجمال فعل الواجبات وترك‬
‫المحرمات‪.‬‬
‫عا‪ ،‬والورع هو اتقاء الشبهات‪ ،‬أو هو ترك‬
‫وأما األورع‪ :‬فهو األكثر ور ا‬
‫ما ال بأس به؛ مخافة الوقوع فيما فيه بأس‪.‬‬

‫والمبحث الثاني‪ :‬أن ظاهر عبارة المؤلف وكًلم األصحاب رحمة هللا‬
‫عليهم أن األورع واألتقى سواء‪ ،‬فًل تقديم لهذا على هذا‪ ،‬وإن ذهب ابن حمدان‬
‫رحمه هللا تعالى من أصحابنا في كتاب الرعاية الكبرى إلى تقديم األتقى على‬
‫األورع‪ ،‬وعلى كل حا ٍل إذا استووا في كل ما تقدم من الصفات‪ ،‬ولم يؤثر‬
‫أحدهما صاحبه كانت القرعة‪.‬‬

‫ولذا قال رحمه هللا تعالى‪" :‬ثم يقرع"‪.‬‬


‫سا على األذان‪.‬‬
‫أي بين المتنازعين قيا ا‬
‫‪20‬‬

‫وقد تقدم معك الحديث "لو يعلم الناس ما في النداء والصف األول‪ ،‬ثم لم‬
‫يجدوا إال أن يستهموا عليه الستهموا عليه"‪.‬‬

‫قال رحمه هللا تعالى‪" :‬وصاحب البيت وإمام المسجد‪ ،‬ولو عبداا أحق"‪.‬‬
‫أي أن هذه المفاضلة التي ذكرت ال تشمل صاحب البيت‪ ،‬وإمام المسجد‪،‬‬
‫‪ -‬فصاحب البيت مقد ٌم على غيره في اإلمامة‪ ،‬وهو أحق بها‪ ،‬ولو كان دون من‬
‫حضره من الضيوف فيما تقدم من األوصاف‪ ،‬لكن شرط ذلك أن يكون ممن‬
‫يصلح لإلمامة‪ ،‬فيخرج بهذا المرأة‪ ،‬فلو كانت صاحبة الدار‪ ،‬فإنها ال تتقدم‬
‫الرجال‪ ،‬وكذلك يخرج الصبي في الفرض‪ ،‬إذ ال تصح إمامته‪ ،‬وكذلك األمي‬
‫الذي ال يحسن قراءة الفاتحة‪ ،‬ونحو هؤالء‪.‬‬

‫‪ -‬وكذلك إمام المسجد الراتب‪ :‬أي الدائم أحق باإلمامة مطلقاا‪ ،‬وإن حضره في‬
‫بعض الصلوات من هم أعلم منه‪ ،‬أو أجود قراءة ا منه‪.‬‬
‫ويدل لهذه المسألة والتي قبلها قوله صلى هللا عليه وسلم فيما رواه مسل ٌم‬
‫في الصحيح‪" :‬ال يَ ُؤ َّمن الرجل الرجل في بيته‪ ،‬وال في سلطانه إال بإذنه"‪.‬‬

‫ضا من قول جماع ٍة من الصحابة رضي هللا عنهم منهم‬


‫وقد صح هذا أي ا‬
‫عبد هللا بن عمر قال‪" :‬صاحب المسجد أحق"‪.‬‬
‫‪21‬‬

‫ويؤخذ من الحديث‪ :‬أن صاحب الدار واإلمام الراتب إن أذنا؛ انتقل الحق‬
‫لمن أذن له صاحب الدار أو اإلمام الراتب‪ ،‬وإن كان المأذون له كذلك دون‬
‫غيره في هذه الصفات‪.‬‬

‫وقوله رحمه هللا‪" :‬ولو عبداا"‪.‬‬


‫توكي ٌد للمسألة السابقة‪ ،‬فلو كان اإلمام الراتب عبداا؛ لم يجز للحر أن يتقدم عليه‬
‫إال بإذنه‪.‬‬
‫الر ُج ُل َ‬
‫الر ُج َل في سلطانه إال بإذنه"‪،‬‬ ‫ويدل عليه العموم المتقدم‪" :‬ال يؤمن َ‬
‫فالرجل باأللف والًلم عمو ٌم يشمل الحر والعبد‪.‬‬

‫ضا على جهة الخصوص أثر أبي سعي ٍد مولى أبي أُسي ٍد‬ ‫ويدل لذلك أي ا‬
‫"وكان عبداا مملو اكا فدعا جماعةا في عرسه كان فيهم أبو ٍ‬
‫ذر وابن مسعو ٍد‬
‫ذر ليؤمهم في الصًلة‪ ،‬فأمره ابن مسعو ٍد‬ ‫وحذيفة‪ ،‬فلما حانت الصًلة تقدم أبو ٍ‬
‫وحذيفة بالرجوع‪ ،‬وقدموا المولى"‪.‬‬

‫قال رحمه هللا‪" :‬والحر أولى من العبد"‪.‬‬


‫أي أن تقديم الحر إلى اإلمامة أولى من تقديم العبد عند االستواء في الصفات‬
‫المتقدمة؛ وذلك ألن الحر أكمل من العبد وأشرف‪ ،‬والغالب أن يكون أعلم‪.‬‬

‫ويؤخذ من فحوى كًلم المؤلف رحمه هللا تعالى في هذه العبارة‪ ،‬وفي التي‬
‫قبلها‪:‬‬
‫‪22‬‬

‫‪ -‬صحة إمامة العبد في الفرض والنفل على السواء من غير كراهة‪ ،‬وهو كما‬
‫قال‪.‬‬
‫‪ -‬إال أنه يستثنى من ذلك صًلة الجمعة وصًلة العيد‪ ،‬فإنها ال تصح إن كان‬
‫العبد إما اما فيها؛ ألنه ليس من أهل الوجوب كما يأتي إن شاء هللا تعالى في باب‬
‫صًلة الجمعة‪.‬‬

‫يقول رحمه هللا تعالى‪" :‬والحاضر والبصير والمتوضئ أولى من ضدهم"‪.‬‬

‫فذكر رحمه هللا ثًلث مسائل‪:‬‬


‫األولى‪ :‬أن المقيم الحاضر أولى من المسافر باإلمامة‪:‬‬
‫فوت على المأمومين بعض الصًلة‪ ،‬وإن أتم‬‫وذلك ألن المسافر إذا تقدم وقصر؛ ٍّ‬
‫وقع في الكراهة‪ ،‬فكان تقديم الحاضر أولى لذلك‪.‬‬

‫كذلك قال‪ :‬البصير أولى باإلمامة من األعمى‪:‬‬


‫المار بين‬
‫ٍّ‬ ‫وذلك ألن البصير أقدر على توقي النجاسة‪ ،‬واستقبال القبلة‪ ،‬ورد‬
‫يديه‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫قال‪ :‬والمتوضئ كذلك أولى من المتيمم؛ وذلك ألن الوضوء راف ٌع للحدث‪،‬‬
‫بخًلف التيمم فإنه مبي ٌح وليس برافع‪ ،‬فللمتوضئ زيادة فض ٍل على المتيمم‪.‬‬
‫وقوله رحمه هللا تعالى‪( :‬أولى)‪.‬‬
‫‪23‬‬

‫يفهم منه صحة إمامة العبد واألعمى والمسافر والمتيمم وهو كذلك‪.‬‬
‫جاء في إمامة العبد‪ :‬حديث أبي سعي ٍد مولى أبي أُسي ٍد المتقدم‪.‬‬
‫وجاء في إمامة األعمى‪ :‬استخًلف النبي صلى هللا عليه وسلم لعبد هللا بن‬
‫أم مكتوم على المدينة‪ ،‬وكان إمامهم في الصًلة‪.‬‬
‫ومنى‪.‬‬
‫وجاء في المسافر‪ :‬إمامته صلى هللا عليه وآله وسلم ألهل مكة بمكة ِ‬
‫وجاء في إمامة المتيمم‪ :‬حديث عمرو بن العاص رضي هللا عنه لما خاف‬
‫البرد في سرية ذات السًلسل‪.‬‬

‫قال رحمه هللا‪" :‬وتكره إمامة غير األولى بًل إذنه"‪.‬‬


‫أي‪ :‬وتكره إمامة المفضول بشيءٍ مما ذكرناه للفاضل من غير إذنه؛ ألن هذا‬
‫وتأخير لمن أمر الشارع بتقديمه‪ ،‬لكن لو أذن الفاضل للمفضول‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫افتيات عليه‪،‬‬
‫جاز بًل كراهة‪ ،‬وقد تقدم "ال يؤمن الرجل الرجل في بيته‪ ،‬وال في سلطانه إال‬
‫بإذنه"‪.‬‬

‫تعذرا‬
‫ا‬ ‫قال رحمه هللا تعالى‪" :‬وال تصح إمامة الفاسق إال في جمع ٍة وعي ٍد‬
‫خلف غيره"‪.‬‬
‫✓ هذا المذهب‪.‬‬
‫ا‬
‫رجًل‪،‬‬ ‫عا‪" :‬ال تؤ َّم َّن امرأة ٌ‬
‫جابر مرفو ا‬
‫ٍ‬ ‫وذلك لما رواه ابن ماجة من حديث‬
‫فاجر مؤمناا إال أن يقهره بسلطانه‪ ،‬أو يخاف سوطه أو سيفه"‪.‬‬‫ٌ‬ ‫وال‬
‫‪24‬‬

‫وقد سئل واثلة بن األسقع رضي هللا عنه عن الصًلة خلف القدري فقال‪:‬‬
‫"ال تص ِل خلفه‪ ،‬ثم قال واثلة‪ :‬أما أنا لو صليت خلفه ألعدت صًلتي"‪.‬‬

‫وقوله رحمه هللا‪( :‬الفاسق) باأللف والًلم‪ :‬عمو ٌم‪:‬‬


‫‪ -‬فيشمل من فسقه باعتقا ٍد كأهل البدع من المعتزلة والجهمية ونحوهما‪ ،‬سوا اء‬
‫دعوا إلى بدعتهم أو ال‪.‬‬
‫ضا من كان فسقه من جهة القول كالقاذف‪ ،‬أو من جهة الفعل‬
‫‪ -‬ويشمل أي ا‬
‫كالزاني ونحوه‪.‬‬
‫‪ -‬ويشمل كذلك عموم الفساق من المسلمين‪ ،‬سوا اء كانوا من العامة‪ ،‬أو من‬
‫األئمة‪.‬‬

‫وقوله رحمه هللا تعالى‪" :‬وال تصح إمامة الفاسق"‪.‬‬


‫إطًلق هذه العبارة؛ يشمل إمامته في الفرض وفي النفل على ح ٍد سواء‪.‬‬
‫ا‬
‫جاهًل‪ ،‬ولم يعلم بذلك إال بعد صًلته‪.‬‬ ‫‪-‬ويشمل من صلى وراءه عال اما بفسقه أو‬

‫إال أن األصحاب يقولون‪ :‬إن خاف السجن بترك الصًلة وراءه أو السوط‬
‫ونحو ذلك‪ ،‬فإنه يصلي ويعيد‪ ،‬وله أن يوافقه في الصورة الظاهرة فقط بأن‬
‫ينوي االنفراد‪ ،‬لكن يتابعه في الظاهر في األفعال‪.‬‬

‫تعذرا"‪.‬‬
‫ا‬ ‫وقوله‪" :‬إال في جمع ٍة وعي ٍد‬
‫‪25‬‬

‫فرض وال في‬


‫ٍ‬ ‫ق ال في‬ ‫هذا استثنا ٌء مما تقدم‪ ،‬فًل تصح صًلة ٌ مطلقاا خلف فاس ٍ‬
‫نف ٍل غير الجمعة والعيد؛ ألن من شرطهما الجماعة‪ ،‬لكن بشرطٍ ذكره المؤلف‬
‫كبيرا وفيه‬
‫ا‬ ‫المصر أو البلد‬
‫رحمه هللا وهو "التعذر خلف غيره"؛ فإذا كان ِ‬
‫جمعتان‪ ،‬أو فيه صًلتان للعيد‪ ،‬وأمكن للمسلم أن يصلي وراء العدل؛ لم تجز‬
‫منه عندئ ٍذ وراء الفاسق‪.‬‬

‫✓ وهذا الذي ذكرناه هو المذهب عند األصحاب رحمة هللا عليهم‪ ،‬وال شك أن‬
‫العدل أولى باإلمامة من الفاسق‪.‬‬
‫قال هللا تعالى‪{ :‬أَفَ َمن َكانَ ُمؤْ ِمناا َك َمن َكانَ فَا ِسقاا ۚ َّال يَ ْست َ ُوونَ } [السجدة‪:‬‬
‫‪.]١٨‬‬

‫لكن عن إمامنا أحمد رحمه هللا تعالى روايةٌ أخرى‪ ،‬يقول فيها‪ :‬بصحة‬
‫فاجرا‪ ،‬وفاقاا لجماهير أهل العلم‪.‬‬
‫ا‬ ‫برا كان أو‬
‫مسلم ا‬
‫ٍ‬ ‫الصًلة خلف كل‬
‫ذر أن النبي صلى هللا عليه وسلم "ذكر له أئمة الجور‬ ‫وذلك لحديث أبي ٍ‬
‫ذر‪ :‬يا رسول هللا فما تأمرني؟ فقال‬
‫الذين يؤخرون الصًلة عن وقتها‪ ،‬فقال أبو ٍ‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ :‬صل الصًلة لوقتها‪ ،‬فإن أدركتك معهم فص ٍِّل‪ ،‬وال تقل‪:‬‬
‫إني قد صليت"‪.‬‬

‫الشاهد في قوله "فص ٍِّل معهم"‪ ،‬فهذا دلي ٌل على صحة إمامتهم مع فسقهم‬
‫بتأخير الصًلة عن الوقت‪.‬‬
‫‪26‬‬

‫وقد كان ابن عمر رضي هللا تعالى عنهما يصلي وراء الحجاج‪ ،‬ويصلي‬
‫وراء الخشبية‪ ،‬ووراء الخوارج‪ ،‬ويقول‪" :‬من قال‪ :‬حي على الصًلة أجبته"‪.‬‬
‫وال شك أن هذه الرواية أقوى ا‬
‫دليًل إن شاء هللا تعالى‪ ،‬سيما إذا علمت أن حديث‬
‫ضعيف جداا‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫حديث‬ ‫فاجر مؤمناا"‬
‫ٌ‬ ‫جابر والذي فيه "ال يَ ُؤ َّمن‬
‫ٍ‬
‫فمعارض بقول عبد هللا بن عمر‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫وأما قول واثلة بن األسقع رضي هللا عنه‬
‫وفعل الحسن والحسين‪ ،‬وجماع ٍة من الصحابة رضي هللا تعالى عنهم أجمعين‪.‬‬

‫لحن‬
‫قال رحمه هللا تعالى‪" :‬وتصح إمامة األعمى األصم‪ ،‬واألقلف‪ ،‬وكثير ٍ‬
‫لم يحل المعنى‪ ،‬والتمتام الذي يكرر التاء مع الكراهة"‪.‬‬

‫أشخاص تصح إمامتهم لكن مع الكراهة‪.‬‬


‫ٍ‬ ‫فذكر هنا رحمه هللا تعالى أربعة‬

‫األول‪ :‬األعمى‪ ،‬األصم (على هذه النسخة التي بأيدينا) فقد جمع بين فقد‬
‫حاستين‪ :‬حاسة البصر‪ ،‬وحاسة السمع‪ ،‬ومع هذا إمامته صحيحة؛ ألن ذلك ال‬
‫يخل بشيءٍ من صًلته‪ ،‬لكن ال شك أن غيره أولى منه؛ وذلك أنه قد يطرأ‬
‫طار ٌ‬
‫ئ في الصًلة‪ ،‬فًل ينتبه له‪ ،‬فإنه ال يرى‪ ،‬ثم إنه إن سبح له المأموم‪ ،‬أو‬
‫صفقت له النساء‪ ،‬فإنه لن يسمع‪.‬‬
‫‪ -‬وفي بعض نسخ الدليل‪( :‬وتصح إمامة األعمى واألصم واألقلف) إلى آخره‪،‬‬
‫ففرق بين األصم واألعمى‪ ،‬أما األعمى فإمامته صحيحة‪ ،‬وقد جاء فيه حديث‬
‫ابن أم مكتوم رضي هللا عنه المتقدم‪ ،‬فقد كان صلى هللا عليه وسلم يستخلفه على‬
‫المدينة‪ ،‬وكان يؤم الناس خلفاا لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫‪27‬‬

‫وأما األصم‪ :‬فإنه يقاس على األعمى فإمامته صحيحة؛ إذ أن صًلته تامةٌ‪،‬‬
‫وأما الكراهة؛ فللمعنى الذي ذكرناه؛ وألجل االختًلف في صحة إمامته‪.‬‬
‫وفي الحديث‪" :‬دع ما يريبك إلى ما ال يريبك"‪.‬‬

‫قال‪( :‬واألقلف)‪.‬‬
‫واألقلف هو الذي لم يختتن‪ ،‬وإمامته صحيحةٌ؛ لعدم الدليل على المنع منها؛‬
‫وألنه ال يخل بشيءٍ من صًلته‪ ،‬لكن مع الكراهة خرو اجا من خًلف من منع‬
‫من إمامته‪.‬‬
‫وفي الحديث "دع ما يريبك إلى ما ال يريبك"‪.‬‬
‫‪ -‬لكن قوله رحمه هللا تعالى‪( :‬األقلف)‪ .‬باأللف والًلم عمو ٌم يشمل من ترك‬
‫عذر‪ ،‬وهذا ظاهر العبارة‪ ،‬لكن‬
‫مصرا من غير ٍ‬‫ا‬ ‫معذورا‪ ،‬ومن تركه‬
‫ا‬ ‫االختتان‬
‫قيد "الشيخ مرعي" رحمه هللا تعالى في [غاية المنتهى] كًلم األصحاب بمن‬
‫عذر أنه ال‬
‫مصرا من غير ٍ‬‫ا‬ ‫معذورا‪ ،‬حيث صرح هناك بأنه إن تركه‬ ‫ا‬ ‫تركه‬
‫تصح إمامته؛ لكونه فاسقاا عندئذ؛ إذ أنه يكون تار اكا للواجب مع اإلصرار من‬
‫واجب على الرجال والنساء‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫عذر‪ ،‬وتقدم في كتاب الطهارة أن الختان‬‫غير ٍ‬

‫لحن لم يُ ِح ِل المعنى"؛ أي وتصح إمامة من‬


‫قال رحمه هللا تعالى‪" :‬وكثير ٍ‬
‫يقع منه اللحن في القراءة‬
‫واللحن هو الخطأ وهو نوعان‪:‬‬
‫ٌ‬
‫لحن يُحي ُل المعنى‪:‬‬
‫‪28‬‬

‫كقول القائل في فاتحة الكتاب‪" :‬أهدنا الصراط المستقيم" بفتح الهمزة‬


‫فحولها من طلب الهداية إلى طلب الهدية‪.‬‬
‫إياك نعبد" فأنٍّث الضمير المذكر‪.‬‬
‫وكما لو قال‪ِ " :‬‬
‫أو قال‪" :‬صرا ُ‬
‫ط الذين أنعمتُ عليهم"‬
‫ب العالمين"‬ ‫ب العالمين" ا‬
‫بدال من " َر ٍّ ِ‬ ‫أو خفف الحرف المشدد فقال " َر ِ‬
‫أو أبدل حرفاا بحرفٍ كما يأتي في األلفق؛ فقال "يب العالمين" ا‬
‫بدال من‬
‫رب العالمين" فهذا ال تصح إمامته‪.‬‬

‫‪ -‬والقسم الثاني ٌ‬
‫لحن ال يحيل المعنى‪:‬‬
‫كمن جر الدال في الحمد؛ فقال "الحم ِد هلل"‬
‫ُ‬
‫الرحمن الرحي ُم" أو "مالكُ يوم الدين"‬ ‫أو رفع الرحمن والرحيم‪ ،‬فقال "‬
‫أو أبدل الصاد سيناا في (الصراط)‬
‫ونحو ذلك فهذا إمامته صحيحة؛ لكنه أيضا على قسمين‪:‬‬

‫األول‪ :‬من يندر منه اللحن ويقل‪ :‬وهذا تصح إمامته بًل كراهة؛ وذلك أنه‬
‫سبق على لسان‬ ‫ال يكاد َيسلم من ذلك اح ٌد إال نادرا‪ ،‬فهو كمن ُ‬
‫والثاني‪ :‬أن يكون كثير اللحن فهذا تصح إمامته لكن مع الكراهة‪.‬‬

‫قال رحمه هللا‪" :‬والتمتام الذي يكرر التاء"‬


‫‪29‬‬

‫فهذا أيضا إمامته صحيحة لتمام صًلته‪ ،‬وما وقع من الزيادة فإنما ُ‬
‫غلب عليه‪،‬‬
‫لكن مع هذا تكره إمامته؛ ألجل االختًلف في صحة إمامته‪.‬‬
‫مستحب‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ومن قواعد أصول الفقه أن الخروج من الخًلف‬

‫ولما بين رحمه هللا تعالى من تكره إمامتهم مع صحتها؛ ناسب أن يبين من‬
‫ال تصح إمامتهم‪:‬‬
‫ركن إال بمثله إال‬
‫ٍ‬ ‫فقال رحمه هللا‪" :‬وال تصح إمامة العاجز عن شرطٍ أو‬
‫سا ويجلسون خلفه وتصح‬ ‫اإلمام الراتب بمسج ٍد المرجو زوال علته؛ فيصلي جال ا‬
‫قياما"‪.‬‬
‫فقرر رحمه هللا تعالى في هذه الجملة أن العاجز عن شرطٍ ‪:‬‬
‫كفاقد الطهورين‪ :‬العاجز عن الوضوء والتيمم‪.‬‬
‫أو كالعريان‪ :‬العاجز عن ستر العورة ال تصح إمامته إال بمثله‪.‬‬
‫ا‬
‫عاجزا عن ركن كالعاجز عن القيام‪ :‬كاألش ٍِّل ونحوه‪.‬‬ ‫وكذا من كان‬
‫أو األخرس‪ :‬العاجز عن التحريمة وقراءة الفاتحة والتشهد والصًلة على‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم في آخر صًلته فإن صًلته أيضا وإن صحت لنفسه‬
‫إال أنه ال تصح إمامته إال بمثله؛ وذلك ألن اإلمام بمنزلة الشفيع لصًلة المأموم؛‬
‫ولذا فإنه يُقدم عليه في المكان ويُختار له أفضل الموجودين‪.‬‬

‫ركن؛ فإنه وإن صحت صًلته لنفسه‬


‫ٍ‬ ‫ا‬
‫عاجزا عن شرطٍ أو‬ ‫فإذا كان اإلمام‬
‫إال أنها ال تصح إال بمن هو على نفس حالته‪.‬‬
‫‪30‬‬

‫✓ وقد اتفق على هذا جماهير العلماء في شأن األمي العاجز عن قراءة الفاتحة‪.‬‬
‫سنَة أن ال يؤم الناس من ليس‬
‫وفيه قال الزهري رحمه هللا تعالى‪( :‬مضت ال ُّ‬
‫معه من القرآن شي ٌء)‬

‫وظاهر عبارة المؤلف رحمه هللا تعالى‪ :‬أن العاجز عن الواجب تصح‬
‫إمامته؛ إذ أنه استثنى العاجز عن الشرط أو عن الركن‪.‬‬
‫✓ والحق أن المذهب أن العاجز عن الواجب أيضا ال تصح صًلته إال بمثله؛‬
‫لكن لما كانت الواجبات من جنس األركان‪ ،‬اقتصر المؤلف على ذكر األركان؛‬
‫تنبي اها باألعلى على األدنى‪.‬‬

‫وقوله رحمه هللا تعالى‪" :‬إال اإلمام الراتب استثنا اء" فتصح إمامة اإلمام‬
‫ا‬
‫عاجزا عن القيام لكن بشرطين‪:‬‬ ‫الراتب إذا إن كان‬
‫األول‪ :‬أن يكون هو اإلمام الراتب الدائم للمسجد؛ فخرج بهذا من أ َّم الناس‬
‫حيناا دون حين‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن تكون العلة طارئةا يرجى زوالها؛ وأما إن كانت دائمةا كالشلل‬
‫ونحوه فإنه ال تصح إمامته ولو كان قبل هذا المرض إما اما راتباا في هذا‬
‫المسجد‪.‬‬

‫ويدل لهذا االستثناء‪:‬‬


‫أنس ومن‬
‫ما في الصحيحين من حديث عائشة‪ ،‬وما رواه مسل ٌم من حديث ٍ‬
‫حديث جابر رضي هللا تعالى عنهم أجمعين أن النبي صلى هللا عليه وسلم سقط‬
‫‪31‬‬

‫ناس من أصحابه‪،‬‬ ‫جحش شقه األيمن فحضرت الصًلة وعنده ٌ‬ ‫فرس فأ ُ ِ‬


‫من على ٍ‬
‫فصلى بهم صلى هللا عليه وسلم غير أنه قعد فراحوا يقومون وراءه‪ ،‬فأشار‬
‫إليهم صلى هللا عليه وسلم أن اقعدوا؛ فصلوا خلفه جلوسا‪ ،‬فلما قضى صلى هللا‬
‫عليه وسلم الصًلة قال‪" :‬إنما جعل اإلمام ليؤتم به إلى أن قال‪ :‬وإذا صلى قاعداا‬
‫فصلوا قعوداا أجمعون"‪.‬‬

‫والشاهد منه أن النبي صلى هللا عليه وسلم أ ٍّمهم في الفرض قاعداا؛ لعجزه‬
‫عن القيام وصحت صًلتهم من ورائه؛ لكن في هذا الحديث أن النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم أمر المأموم أن يجلس إذا جلس إمامه‪.‬‬

‫واجب أو ال؟‬
‫ٌ‬ ‫فهل هذا‬
‫قال المؤلف‪" :‬ويجلسون خلفه وتصح قياما"‪ :‬أي أن الجلوس أولى‬
‫وأفضل؛ ألجل هذا الحديث المتقدم‪ ،‬لكنه غير واجب‪.‬‬
‫مسلم في الصحيح وفيها أن الصحابة كبروا خلف النبي‬ ‫ٍ‬ ‫ويدل له رواية‬
‫عليه الصًلة والسًلم قيا اما؛ فالتفت إليهم صلى هللا عليه وسلم فلما رآهم قيا اما‬
‫أشار إليهم أن اقعدوا فقعدوا ولم يؤمروا باإلعادة فيما علمنا‪.‬‬

‫وهذه الصورة التي ذكر المؤلف رحمه هللا تعالى مقيدة ٌ عند األصحاب بما‬
‫إذا ابتدأ اإلمام الراتب الصًلة بهذه العلة‪.‬‬
‫وأما لو بدأ الصًلة قائ اما فعُذِر وجلس؛ فإنه يتعين على المأموم عندئ ٍذ أن يتم‬
‫صًلته قائما‪ ،‬وال يجوز له الجلوس عندئذٍ‪.‬‬
‫‪32‬‬

‫ويدل لهذا ما وقع في آخر حياة النبي صلى هللا عليه وآله وسلم؛ فإنه خرج‬
‫ب رضي هللا عنهما إلى‬ ‫صلى هللا عليه وسلم ُمهاداا بين العباس وبين بن أبي طال ٍ‬
‫بكر رضي هللا عنه وأرضاه‪ ،‬فقُ ٍّدِم صلى‬ ‫الصًلة‪ ،‬فوجد الناس تصلي خلف أبي ٍ‬
‫بكر قائ اما يأت ٍّم‬
‫بكر فصلى قاعداا وأبو ٍ‬
‫هللا عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي ٍ‬
‫بصًلة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم والناس قيا اما يأتمون كذلك بصًلة أبي‬
‫بكر رضي هللا عنهم أجمعين‪.‬‬

‫قال رحمه هللا‪" :‬وإن ترك اإلمام ركنا أو شر ا‬


‫طا مختلفا فيه مقلداا؛ صحت"‪.‬‬
‫‪ -‬ومعنى العبارة‪ :‬أنه إذا ترك اإلمام شيئا من الصًلة يعتقد المأموم ركنيته‬
‫كقراءة الفاتحة‪ ،‬أو التشهد األخير‪ ،‬أو الصًلة على النبي صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم فيه‪ ،‬أو التسليمة الثانية أو‪ ،‬الجلوس له‪ ،‬أو الطمأنينة؛ أي شيءٍ من هذه‬
‫األركان تركه اإلمام والمأموم يعتقد ركنيته؛ فإن الصًلة تصح لإلمام وتصح‬
‫للمأموم كذلك‪.‬‬
‫إال أن المؤلف رحمه هللا تعالى قيٍّد ذلك بشرطين‪:‬‬
‫‪ -‬األول‪ :‬أن يكون المتروك محل اختًلفٍ بين العلماء‪.‬‬
‫بركن‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫‪ -‬والثاني‪ :‬أن يكون ت َ َركه تقليداا لمن قال بسنيته‪ ،‬وأنه ليس‬

‫ويدل على هذا أن الصحابة رضي هللا عنهم وأرضاهم كانوا يختلفون في‬
‫بعض‪ ،‬ولم يُنقل أن أحداا منهم ترك‬
‫ٍ‬ ‫مسائل الفروع ويصلي بعضهم وراء‬
‫الصًلة وراء أح ٍد ألنه خالفه في حكم شيءٍ مما ذكرنا‪.‬‬
‫‪33‬‬

‫ومن أجل هذا ختم المؤلف رحمه هللا هذه المباحث بقوله‪" :‬وال إنكار في‬
‫مسائل االجتهاد"‪.‬‬
‫ومثل هذا أيضا إذا ترك اإلمام شر ا‬
‫طا مختلفاا فيه بين العلماء مقلداا من قال‬
‫بأنه ليس بشرط‪.‬‬
‫كما لو ترك الوضوء من مس الذكر‪.‬‬
‫أو توضأ بًل نية؛ تقليداا للحنفية في المسألتين‪.‬‬
‫أو أكل لحم اإلبل ثم صلى بًل وضوءٍ ؛ تقليداا لجماهير العلماء‪.‬‬
‫فصًلته عندئ ٍذ في نفسه صحيحة؛ إذ أنه فعل الواجب عليه فسأل أهل العلم‬
‫وقلدهم‪.‬‬
‫وكذلك تصح صًلة المأموم لنفس التعليل السابق‪.‬‬

‫وقوله رحمه هللا تعالى‪" :‬مقلداا"‬


‫هذا تنبيهٌ باألدنى على األعلى‪ ،‬أي‪ :‬إن ترك الشرط أو الركن تقليداا لمن قال‬
‫بعدم الشرطية أو عدم الركنية صحت صًلته‪.‬‬
‫وأولى من ذلك ما لو ترك شر ا‬
‫طا أو ركناا مجتهداا وهو أه ٌل لًلجتهاد‪.‬‬
‫وقد خرج بمفهوم عبارة المؤلف رحمه هللا تعالى مسألتين‪:‬‬
‫اختًلف بين‬
‫ٌ‬ ‫طا مجمعاا عليه ليس فيه‬‫‪ -‬األولى إذا ترك اإلمام ركناا أو شر ا‬
‫العلماء‪ :‬كالقيام‪ ،‬أو الركوع‪ ،‬أو السجود‪ ،‬أو الوضوء‪ ،‬أو التيمم؛ فعندئ ٍذ تبطل‬
‫صًلة اإلمام في نفسه وكذلك صًلة المأموم مطلقاا في المشهور من المذهب؛ إذ‬
‫أنه تبطل صًلة المأموم ببطًلن صًلة إمامه على ما قدمناه‪.‬‬
‫‪34‬‬

‫‪ -‬والثانية أنه إن ترك ركناا أو شر ا‬


‫طا مختلفاا فيه‪ ،‬لكن تركه بًل اجتها ٍد وال تقليدٍ؛‬
‫فإن صًلته كذلك باطلة‪ ،‬وكذلك صًلة المأموم‪.‬‬

‫لكن ما الحكم فيما إذا ترك اإلمام شر ا‬


‫طا أو ركناا مختلفاا فيه مقلداا؟‬
‫لكن اعتقد المأموم أن المسألة محل إجماعٍ وأن صًلة اإلمام باطلةٌ لتركه ركناا‬
‫أو شر ا‬
‫طا مجمعاا عليه‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه هللا تعالى‪" :‬ومن صلى خلفه معتقداا بطًلن صًلته‬
‫أعاد"‪.‬‬
‫أي‪ :‬أعاد وحده‪ ،‬يعني المأموم‪ ،‬وذلك أنه عندئ ٍذ ائت َّم بمن اعتقد أنه غير مص ٍل‪.‬‬

‫ثم قال رحمه هللا‪" :‬وال إنكار في مسائل الخًلف"‪.‬‬


‫أي‪ :‬ليس ألح ٍد أن ينكر على مجته ٍد وال على من قلد هذا المجتهد في ٍ‬
‫أمر يسوغ‬
‫فيه االجتهاد‪ ،‬وذلك ألن االجتهاد ال يُنقض باجتها ٍد مثله‪ .‬وألن المجتهد نصيب‬
‫لألجر في حالين‪،‬‬
‫أجر‬
‫كما في الحديث‪" :‬إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله ٌ‬
‫واحد"‪.‬‬
‫وألن القطع والجزم بأن فًلناا هو المصيب في هذه المسألة دون من خالفه غير‬
‫ممكن‪.‬‬
‫‪35‬‬

‫وقوله رحمه هللا تعالى‪" :‬وال إنكار في مسائل الخًلف" يفهم منه أن‬
‫اإلنكار إنما يكون في المسائل القطعية اإلجماعية؛ وذلك أن الخروج عن‬
‫اإلجماع شذوذٌ ال يلتفت إليه‪.‬‬

‫قال رحمه هللا‪" :‬وال تصح إمامة المرأة للرجال"‪.‬‬


‫وهذا واضح؛ لقوله صلى هللا عليه وسلم" ما أفلح قو ٌم ولوا أمرهم امرأة"‬
‫ولفظ امرأ ٍة في هذا الحديث جاء نكرة ا في سياق نفي ٍ فيفيد العموم؛ فيشمل القارئة‬
‫وغير القارئة على ح ٍد سواء‪.‬‬
‫وقد تقدم معك من حديث جابر وفيه ضعف "ال ت َ ُؤ َّم َّن امرأة ٌ رجًلن"‪.‬‬
‫وال فرق في هذا بين صًلة الفرض وصًلة النفل‪ ،‬فًل تكون المرأة إمامةا لرج ٍل‬
‫وال لصبي ٍ وال لخنثى؛ وإنما تصح إمامة المرأة للنساء فقط‪.‬‬

‫قال رحمه هللا‪" :‬وال إمامة المميز بالبالغ في الفرض وتصح إمامته في‬
‫النفل وفي الفرض بمثله"‪.‬‬
‫وحاصل ما ذكره المؤلف رحمه هللا تعالى في هذه الجملة؛ أن المميز إذا أ َّم‬
‫في الصًلة لم يخلو من حا ٍل من حالين‪:‬‬
‫‪ -‬إما أن يصلي بمثله‪.‬‬
‫‪ -‬أو يصلي بمن هو بالغ‪.‬‬
‫فإن صلى بمن هو مثله‪ ،‬أي‪ :‬دون البلوغ‪ ،‬سوا اء من الذكور أو اإلناث صحت‬
‫إمامته في الفرض والنفل على ح ٍد سواء‪.‬‬
‫‪36‬‬

‫ببالغ من الرجال أو من النساء فًل تصح إمامته‪ ،‬هذا في‬


‫ٍ‬ ‫‪ -‬وأما إن صلى‬
‫ٌ‬
‫ضامن كما جاء عنه صلى هللا عليه وآله وسلم؛‬ ‫الفريضة؛ وذلك ألن اإلمام‬
‫ع عنه القلم وال يؤمن منه‬
‫والصغير الذي لم يبلغ ال يضمن‪ ،‬إذ هو مرفو ٌ‬
‫اإلخًلل بأمر صًلته‪.‬‬
‫عباس رضي هللا تعالى‬
‫ٍ‬ ‫ي عن عبد هللا بن مسعو ٍد وابن‬ ‫‪ -‬ثم إن هذا القول مرو ٌ‬
‫عنهما‪ ،‬وبهذا قال جماهير العلماء من الحنابلة والحنفية والمالكية‪ :‬فإن احتج‬
‫محت ٌج بحديث عمرو بن سلمة رضي هللا عنه وأنه أ ٍّم قومه في زمن النبي صلى‬
‫سبع؛ فيجاب عن حديثه بأن هذا وإن حصل‬ ‫ٍ‬ ‫هللا عليه وسلم هو ابن س ٍ‬
‫ت أو ابن‬
‫في زمن النبي صلى هللا عليه وسلم إال أنه لم يُنقل أن النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫أقر ذلك‪.‬‬ ‫ٍّ‬
‫اطلع عليه أو أنه ٍّ‬

‫ومن ث َّم كان اإلمام أحمد رحمه هللا تعالى إذا قيل له هذا الحديث‪ ،‬كان‬
‫إيش هذا‪ ،‬ولربما نفض ثوبه! إشارة إلى أن هذا كان اجتهاداا‬‫إيش هذا‪ٍ ..‬‬ ‫يقول‪ٍ :‬‬
‫منهم في زمنه عليه الصًلة والسًلم من غير أن ٍّ‬
‫يطلع النبي صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم على ذلك‪ ،‬سيٍّما وفي هذا الحديث أيضا أن اإلمام انكشفت سوأته‪ ،‬حتى‬
‫قالت امرأة ٌ من النساء غطوا عنا إست قارئكم‪.‬‬
‫وعلى ك ٍٍّل‪ ..‬هذا في الفرض‪ ،‬ال تصح إمامة المميز بالبالغ ا‬
‫ذكرا كان أو أنثى‪.‬‬

‫وأما في النافلة فاألمر واسع؛ إذ صًلة المميز نافلةٌ بالنسبة له وصًلة البالغ‬
‫ضا نافلة‪ ،‬وال شك أن النافلة يُتسامح فيها بما ال يُتسامح بمثله في الفريضة‪.‬‬
‫أي ا‬

‫نجس يعلم ذلك"‪.‬‬ ‫قال رحمه هللا‪" :‬وال تصح إمامة محد ٍ‬
‫ث وال ٍ‬
‫‪37‬‬

‫وهذا واضح؛ فإذا صلى اإلمام محدثاا؛ فصًلته باطلة ال إشكال‪.‬‬


‫‪ -‬وإذا صلى وعلى ثوبه نجاسة أو على بدنه نجاسة أو في بقعته التي يًلقيها‬
‫نجاسة‪ ،‬وهو يعل ُم ذلك؛ فًل إشكال في بطًلن صًلته في نفسه‪.‬‬

‫لكن قال المؤلف بعد هذا‪" :‬وإن جهل هو والمأموم حتى انقضت؛ صحت‬
‫صًلة المأموم وحده"‪.‬‬
‫والمعنى‪ :‬أنه تبطل صًلة اإلمام لفوات الشرط كما تقدم‪ ،‬وأما صًلة‬
‫المأموم فإنها صحيحة‪.‬‬
‫وذلك أنه صح من فعل عمر رضي هللا عنه‪ ،‬أنه صلى الصبح بأصحابه ثم‬
‫بئر فدلٍّى رجليه في الماء ونظر إلى ثيابه فوجد أثر المني‪ ،‬فقال‪ :‬وهللا‬
‫ذهب إلى ٍ‬
‫ما أُراني إال أجنبت وصليت بأصحابي وأنا جنب؛ فاغتسل وأعاد الصًلة‪ ،‬ولم‬
‫يأمر من خلفه باإلعادة‪.‬‬
‫وروي مثل ذلك أيضا من فعل عثمان بن عفان وعلي ٍ رضي هللا تعالى‬
‫عن الجميع‪.‬‬
‫عا من قول النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وال يصح من‬
‫بل ويروى مرفو ا‬
‫جهة اإلسناد‪" :‬إذا صلى الجنب بالقوم أعاد صًلته وتمت للقوم صًلتهم"‪.‬‬

‫️▪ ومفهوم قوله رحمه هللا تعالى‪( :‬وإن جهل هو والمأموم حتى انقضت) أنه إذا‬
‫علم اإلمام فقط‪ ،‬أو المأموم فقط‪ ،‬قبل الصًلة أو فيها وفي أثنائها؛ بطلت الصًلة‬
‫في حق الكل‪.‬‬
‫‪38‬‬

‫أما في حق المأموم إذا علم بذلك من إمامه‪ ،‬فهذا ظاهر؛ ألنه أت ٍّم بمن ال تصح‬
‫صًلته‪.‬‬
‫وأما إذا كان العلم من اإلمام فقط دون المأموم؛ فتبطل في حق الكل أيضا فيما‬
‫هو المشهور من المذهب؛ إذ تبطل صًلة المأموم ببطًلن صًلة إمامه وال‬
‫ا‬
‫جاهًل حدثه‬ ‫يستثنى من هذا إال الصورة التي نُقلت عن السلف؛ إذا صلى اإلمام‬
‫ا‬
‫جاهًل بالنجس هو والمأموم جميعاا؛ ولم يكن العلم إال بعد الصًلة فتصح من‬ ‫أو‬
‫المأموم ال من اإلمام‪.‬‬

‫قال رحمه هللا تعالى‪" :‬وال تصح إمامة األ ُ ِ ٍّم ٍّ‬
‫ي ِ (وهو من ال يحسن الفاتحة)‬
‫إال بمثله"‪.‬‬
‫هذا ٌ‬
‫بيان من المؤلف رحمه هللا تعالى لحكم إمامة األمي‪.‬‬
‫️▪ واألمي في اللغة‪ ،‬وفي العرف‪ :‬هو من ال يحسن القراءة وال الكتابة‪.‬‬
‫️▪ وأما عند الفقهاء فهو من ال يحسن قراءة الفاتحة‪ ،‬وإن كان يعرف القراءة‬
‫والكتابة‪.‬‬

‫وعدم إحسان الفاتحة‪:‬‬


‫ب في اللسان‪ :‬كاأللفق الذي يدغم من الحروف ما ال يدغم‪.‬‬
‫قد يكون لعي ٍ‬
‫ت‪ :‬الذي يبدل حرفاا مكان حرفٍ آخر‪ ،‬ال يُب َدل به‪.‬‬
‫األر ٍّ ِ‬
‫أو َ‬
‫أو في لسانه عجمة‪ :‬ال يستطيع قراءتها بالعربية‪ ،‬أو ال يُتم قراءتها أو نحو‬
‫ذلك‪.‬‬
‫‪39‬‬

‫بقارئ باتفاق األئمة رحمة هللا تعالى عليهم‪،‬‬


‫ٍ‬ ‫فهذا األمي ال تصح إمامته‬
‫لكن إن صلى بمن هو على نفس حالته؛ صحت له وللمأموم‪.‬‬

‫قال رحمه هللا تعالى‪" :‬ويصح النفل خلف الفرض والعكس"‪.‬‬


‫هاتان مسألتان‪:‬‬
‫تصح صًلة النافلة خلف من يصلي الفريضة وهذا واضح؛ ألن األصل في‬
‫اإلمام أن يكون أعلى من المأموم‪ ،‬وذلك أنه الضامن وهو الذي يتحمل عن‬
‫المأموم‪ ،‬وقد أ ُ ِثر هذا في أحاديث كثيرة‪.‬‬
‫ذر المتقدم‪ ،‬قال له عليه الصًلة والسًلم‪" :‬صل الصًلة‬
‫ففي حديث أبي ٍ ٍّ‬
‫لوقتها‪ ،‬ثم إن أدركتك الصًلة معهم فص ٍّل فإنها لك نافلة"‪.‬‬
‫وقال للرجلين في مسجد خيف ِمنى "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما‬
‫مسجد جماعة فصلوا معهم فإنها لكم نافلة"‪ .‬فتصح للمتنقل وراء المفترض‪.‬‬

‫والمسألة الثانية‪ :‬هل تصح صًلة الفرض وراء النفل؟‬


‫ومذهبنا ومذهب الجماهير من الحنفية والمالكية أنه‪ :‬ال تصح صًلة الفرض‬
‫وراء النافلة‪ ،‬وذلك ِألَثَر ونظر‪.‬‬
‫أما األثر‪ :‬فقوله صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬في حديث أبي هريرة‪" :‬إنما‬
‫جعل اإلمام ليؤتم به؛ فًل تختلفوا عليه"‪ ،‬وهذا من االختًلف‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬صًلة المتنفل وراء المفترض هي أ َ ْي ا‬
‫ضا من االختًلف!‬
‫قلنا‪ :‬لكن جاء بها األثر ولم يأت بهذه أثر‪.‬‬
‫‪40‬‬

‫ٌ‬
‫ضامن ويتحمل عن المأموم أشياء‪ ،‬وإذا‬ ‫• واألمر الثاني (النظر)‪ :‬أن اإلمام‬
‫كان كذلك فينبغي أن يكون أغنى وأكمل من المأموم‪.‬‬

‫هذا وعن إمامنا أحمد رحمه هللا تعالى روايةٌ أخرى؛ يقول فيها‪( :‬فصحة‬
‫صًلة الفريضة وراء النافلة كصحة النافلة وراء الفريضة)‪ ،‬وهو مذهب‬
‫الشافعي رحمه هللا تعالى‪.‬‬
‫وقد اختار هذا القول من أصحابنا جماعة منهم‪ :‬شيخ اإلسًلم أبو محمد ابن‬
‫قدامة رحمه هللا تعالى‪ ،‬وابن تيمية وجماعة‪.‬‬
‫ويدل عليه ما في الصحيحين من حديث معاذ بن جب ٍل رضي هللا تعالى‬
‫عنه أنه كان يصلي العشاء اآلخرة مع النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ثم يعود‬
‫فيصلي بقومه صًلة العشاء‪ ..‬فتكون منه نافلة وهو اإلمام وتكون منهم فريضة‪.‬‬
‫على أن قوله صلى هللا عليه وسلم "إنما ُج ِعل اإلمام ليؤتم به فًل تختلفوا عليه"‬
‫يمكن أن يقيٍّد هذا اإلطًلق بما جاء بعد هذه الجملة‪ ،‬إذ أن رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم قال بعدها‪" :‬فإذا كبر كبروا وإذا قرأ فأنصتوا وإذا ركع فاركعوا وإذا‬
‫سجد فاسجدوا" الحديث؛ فجعل هذا متعلقاا باألقوال واألفعال دون النوايا‪.‬‬

‫قال رحمه هللا تعالى‪" :‬وتصح المقضية خلف الحاضرة وعكسه‪ ،‬حيث‬
‫تساوتا في االسم"‪.‬‬
‫ضا ها هنا مسألتين‪:‬‬
‫فذكر أي ا‬
‫‪41‬‬

‫بإنسان يصلي‬
‫ٍ‬ ‫األولى‪ :‬أن يصلي اإلنسان صًلة ا بعد وقتها قضا اء مقتدياا‬
‫نفس الصًلة في وقتها أدا اء‪ ،‬وهي صًلة المقضية وراء الحاضرة‪ ،‬وهنا تصح‬
‫الصًلة‪.‬‬
‫‪ -‬وكذا العكس‪ :‬إذا صلى اإلنسان الصًلة أدا اء في الوقت خلف من يصلي نفس‬
‫الصًلة بعد وقتها بالنسبة له قضا اء؛ ‪-‬فيصح القضاء وراء األداء ويصح األداء‬
‫ط بأن تتساوى الصًلتان في االسم‪.‬‬ ‫وراء القضاء؛ لكن ذلك مشرو ٌ‬
‫‪ -‬فأما إذا صلى اإلنسان الظهر قضا اء خلف من يصلي العصر أدا اء فًل‪.‬‬
‫‪ -‬وكذا لو صلى اإلنسان العصر أدا اء خلف من يصلي الظهر قضا اء فًل‪.‬‬
‫✓ وذلك ألن هذا من االختًلف المنهي عنه في قوله صلى هللا عليه وسلم "فًل‬
‫تختلفوا عليه" والنهي يقتضي الفساد وعلى كل حا ٍل هذا المذهب‪.‬‬

‫قال رحمه هللا تعالى‪" :‬فص ٌل يصح وقوف اإلمام وسط المأمومين‪ ،‬والسنة‬
‫وقوفه متقد اما عليهم"‪.‬‬
‫والمعنى‪ :‬أن لإلمام موضعين من المأموم‪:‬‬
‫• األول‪ :‬أن يقف اإلمام وسط المأمومين‪ ،‬فيكون المأمومين عن يمين اإلمام‬
‫وعن شماله‪.‬‬
‫ثابت من فعله صلى هللا عليه وآله وسلم فيما رواه عنه عبد هللا بن‬‫ٌ‬ ‫وهذا‬
‫مسعو ٍد رضي هللا تعالى عنه‪.‬‬

‫• والموقف الثاني‪ ،‬وهو السنة‪ :‬أن يقف اإلمام متقد اما عن المأمومين‪.‬‬
‫‪42‬‬

‫وهذا هو الذي جاء به النقل المتواتر عن رسول هللا صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم وعن الصحابة ومن بعدهم من األئمة‪.‬‬
‫‪ -‬لكن يستثنى من عبارة المؤلف رحمه هللا تعالى (إمامة النساء) فإنه يجوز لها‬
‫أن تتقدم على الصف‪ ،‬ويجوز أن تكون في وسطه‪ ،‬ووقوفها في وسط الصف‬
‫هو السنة وهو المنقول من فعل عائشة وأم سلمة رضي هللا تعالى عنهما‪.‬‬
‫‪ -‬كذلك يستثنى إمام العراة‪ ،‬فإن إمام العراة يكون في وسط الصف وجوباا إال أن‬
‫يكون من معه عميانا‪.‬‬
‫ٌ‬
‫ثالث لإلمام من المأموم‪ ،‬وهو أن يقوم على يسار الصف سوا اء‬ ‫موقف‬
‫ٌ‬ ‫‪ -‬وثم‬
‫كان المأموم واحداا أو اثنين أو أكثر‪.‬‬

‫قال رحمه هللا‪" :‬ويقف الرجل الواحد عن يمينه ُم َحا ِذياا له‪ ،‬وال تصح خلفه‬
‫وال عن يساره مع خلو يمينه"‪.‬‬
‫أي‪ :‬أن موقف المأموم الواحد من اإلمام إنما يكون عن يمينه ال عن شماله‪ ،‬وال‬
‫من قدامه وال من ورائه‪ ،‬فيقف عن يمين اإلمام محاذياا له‪ ،‬أي‪ :‬مساوياا له ال‬
‫خرا عنه‪.‬‬
‫متقد اما عليه وال متأ ا‬
‫عباس وما جاء في معناه وإن استحب بعض‬‫ٍ‬ ‫وهذا ألجل حديث ابن‬
‫األصحاب أن يتخلف المأموم عن اإلمام ا‬
‫قليًل خوفاا من أن يتقدم عليه ا‬
‫سهوا أو‬
‫كذا‪ ،‬إال أن ظاهر السنة ما قاله المؤلف رحمه هللا تعالى‪.‬‬
‫وقوله‪( :‬ويقف الرجل الواحد) يخرج بمفهومه المرأة الواحدة؛ فإن المرأة‬
‫الواحدة تقف وراء اإلمام وال تقف ال عن يمينه وال عن شماله‪ ،‬بل تنفرد وحدها‬
‫من وراء اإلمام على ما يأتي بيانه في كًلم المؤلف إن شاء هللا تعالى‪.‬‬
‫‪43‬‬

‫قال‪" :‬وال تصح خلفه"‪.‬‬


‫أي‪ :‬وال تصح صًلة الواحد إذا صلى خلف اإلمام‪ ،‬فإذا تصورنا جماعة من‬
‫إ َمام ومأموم‪ ،‬فتخلف المأموم عن اإلمام وصلى من ورائه؛ فإن صًلة المأموم‬
‫ال تصح‪.‬‬
‫وكذا لو صلى المأموم منفرداا وراء الصف وهذا من مفردات المذهب‪.‬‬
‫ويدل عليه ما رواه أبو داوود وأحمد من حديث وابصة بن معبد رضي هللا‬
‫ا‬
‫رجًل يصلي خلف الصف فأمره أن‬ ‫عنه أن النبي صلى هللا عليه وسلم رأى‬
‫يعيد الصًلة‪.‬‬

‫وظاهر كًلم األصحاب رحمة هللا تعالى عليهم‪ :‬أنه ال تصح صًلة من‬
‫صلى خلف اإلمام وحده أو منفرداا خلف الصف وحده مطلقاا‪.‬‬
‫عذر كاكتمال الصف أو ال‪ ،‬وسوا اء تخلف عال اما‬
‫أي‪ :‬سوا اء تخلف عن الصف ِل ٍ‬
‫جاهًل ذاكرا ا أو ناسياا‪.‬‬
‫ا‬ ‫أو‬
‫وذلك ألن النبي صلى هللا عليه وسلم لم يستفصل من هذا الرجل الذي رآه‬
‫يصلي وحده‪.‬‬
‫ضا أنه صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬ال صًلة‬‫وقد جاء في هذا المعنى أي ا‬
‫لمنفر ٍد خلف الصف" ومنفر ٍد هنا جاءت نكرة في سياق نفي ٍ فيفيد العموم‪.‬‬

‫قال رحمه هللا‪" :‬وال عن يساره مع خلو يمينه"‪.‬‬


‫أي‪ :‬وال تصح صًلة المأموم كذلك إذا صلى عن يسار اإلمام مع خلو اليمين‪.‬‬
‫‪44‬‬

‫وذلك أن ابن عباس رضي هللا عنهما كما في الصحيحين لما قام من الليل‬
‫يصلي مع النبي عليه الصًلة والسًلم قام عن شماله‪ ،‬فأخذه النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم فجعله عن يمينه‪.‬‬
‫️▪ فدل على أن مقام المأموم من اإلمام عن اليمين ال عن الشمال‪.‬‬
‫ضا من‬
‫️▪ فإن صلى عن شماله مع خلو يمينه فصًلته باطلة‪ ،‬وهذه المسألة أي ا‬
‫مسائل المفردات‪ ،‬وإال فعن إمامنا أحمد‪ :‬أن صًلته تصح وهو مذهب الجماهير‬
‫من األئمة‪ ،‬وذلك ألن ابن عباس رضي هللا عنهما بنى على الجزء الذي وقع‬
‫عن يسار اإلمام مع خلو يمينه‪.‬‬
‫إال أن األصحاب يجيبون عن هذا فيقولون ال تصح صًلة المأموم إن أتم‬
‫ركعةا عن يسار األمام مع خلو يمينه‪ ،‬أما إن وقع جزء الركعة عن يسار اإلمام‬
‫عباس رضي‬‫ٍ‬ ‫ثم تحول إلى اليمين فتصح صًلته‪ ،‬على ما جاء في حديث ابن‬
‫هللا تعالى عنهما‪.‬‬

‫وقوله رحمه هللا تعالى‪" :‬وال تصح خلفه" ال يُفهم منه أن المأموم إن تقدم‬
‫على اإلمام في المكان أنه تصح صًلته‪.‬‬
‫بل مذهبنا ومذهب الجماهير‪ :‬أنه ال تصح صًلة المأموم إذا تقدم على إمامه ولو‬
‫في بعض الصًلة في المكان‪.‬‬
‫وذلك لقوله صلى هللا عليه وسلم "إنما جعل اإلمام ليؤتم به"‪.‬‬
‫وال يتصور االئتمام مع تقدم المأموم على اإلمام‪ ،‬ثم إن السنة المنقولة بالتواتر‬
‫هي تقدم اإلمام وتأخر المأموم‪.‬‬
‫فرض أو في نف ٍل‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ت نق ٌل يفيد جواز تقدم المأموم على اإلمام في‬
‫ولم يأ ِ‬
‫‪45‬‬

‫✓ وعليه فمتى تقدم المأموم على اإلمام في المكان؛ بطلت صًلة المأموم‪ ،‬سوا اء‬
‫معذور‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ذورا بضيق المكان أو غير‬
‫تقدم عليه َم ْع ا‬

‫وإن كان شيخ اإلسًلم ابن تيمية رحمه هللا تعالى قد يُ َج ٍّوز التقدم على‬
‫اإلمام في المكان للعذر‪.‬‬
‫‪ -‬إال أنهم يستثنون من هذا صورتين فقط‪:‬‬
‫• األولى‪ :‬إذا تقابل اإلمام والمأموم وج اها لوج ٍه في الصفوف حول الكعبة‪.‬‬
‫• والثانية‪ :‬أن يتدابر اإلمام والمأموم في النافلة داخل الكعبة‪.‬‬
‫فاالعتبار في هذا التقدم والتأخر ‪ -‬حال القيام ‪ -‬بمؤخر القدم‪ ،‬وليس بالبطن وال‬
‫بأطراف األصابع‪.‬‬

‫قال رحمه هللا تعالى‪" :‬وتقف المرأة خلفه"‪.‬‬


‫أي ويصح وقوف المرأة وحدها خلف الرجل ولو كان محرما أو كان زوجا‪.‬‬
‫ويصح كذلك وقوف المرأة الواحدة خلف صفوف الرجال بل هو السنة‪.‬‬
‫ففي الصحيحين من حديث أنس ابن مالك رضي هللا عنه أن النبي صلى‬
‫عليه وسلم جاءهم في دارهم فقال‪" :‬قوموا فألص ٍِّل لكم"‪ .‬قال أنس‪ :‬فصففت أنا‬
‫واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا‪ .‬لكن هذا االنفراد إنما هو انفرا ٌد عن الرجال‪.‬‬
‫‪46‬‬

‫لكن كيف لو انفردت المرأة الواحدة خلف صف أو خلف إمامة النساء؟‬


‫والجواب‪ :‬أنه ال تصح صًلتها لعموم قوله عليه الصًلة والسًلم ال صًلة‬
‫لمنفر ٍد خلف الصف‪.‬‬

‫قال رحمه هللا تعالى‪" :‬وإن صلى الرجل ركعةا خلف الصف منفرداا‬
‫فصًلته باطلة" وهذا بحمد هللا تعالى ذكرناه‪.‬‬
‫ودليله ما تقدم من حديثه وابصة بن معبد‪ ،‬إال أن المؤلف رحمه هللا تعالى‬
‫أفادنا ها هنا أنه إن صلى بعد الركعة منفرداا ثم جاءه قبل الركوع أو في‬
‫الركوع من صار معه صفان‪ ،‬أو مشى هو حتى دخل في الصف إن صًلته‬
‫صحيحة‪.‬‬

‫ودل على هذا حديث أبي بكرة رضي هللا عنه‪ ،‬وهو في الصحيحين إذ‬
‫دخل مسجد النبي عليه الصًلة والسًلم فرأى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫راكعاا فما كان منه إال أن كبر وراء الصف وركع ومشى راكعا ا حتى دخل في‬
‫صا وال ت َعُد"‪ .‬فأوقع تكبيرة‬
‫الصف‪ ،‬فقال صلى هللا عليه وسلم "زادك هللا حر ا‬
‫ضا من الركعة منفرداا‪ ،‬لكن فانضم إلى الصف قبل رفع اإلمام من‬ ‫اإلحرام وبع ا‬
‫الركوع‪.‬‬

‫قال رحمه هللا‪" :‬وإن أمكن المأموم االقتداء بإمامه‪ ،‬ولو كان بينهما فوق‬
‫ثًلثمائة ذراعٍ؛ صح إن رأى اإلمام أو رأى من وراءه‪ ،‬وإن كان اإلمام‬
‫والمأموم في المسجد؛ لم تشترط الرؤية وكفى سماع التكبير"‪.‬‬
‫‪47‬‬

‫فذكر رحمه هللا تعالى في هذه الجملة مقدار التباعد بين اإلمام والصف أو بين‬
‫المأموم واإلمام‪:‬‬
‫وال يخلو المأموم مع اإلمام من حا ٍل من حالين‪:‬‬
‫‪ -‬فإما أن يكون معه في المسجد‪.‬‬
‫‪ -‬وإما أن يكون اإلمام في المسجد‪ ،‬والمأموم خارج المسجد‪.‬‬
‫فإن كان اإلمام والمأموم في المسجد معاا؛ فعندئ ٍذ ال تشترط رؤية المأموم لإلمام‬
‫وال لمن وراء اإلمام وإنما يكتفى بإمكان االقتداء‪ ،‬وهذا يكفي فيه سماع التكبير‪.‬‬
‫ويدل على هذا أن أبا هريرة رضي هللا تعالى عنه وأرضاه صلى وراء‬
‫اإلمام على ظهر المسجد؛ إذ كان بالكوفة‪ .‬ويروى عن غيره كذلك من أصحاب‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫لكن إن كان المأموم خارج المسجد وإمامه في المسجد‪ ،‬فلصحة االئتمام‬


‫شرطان‪:‬‬
‫األول‪ :‬إمكان االقتداء بأن صوت اإلمام أو يسمع صوت المبلغ عن اإلمام‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن يرى المأموم اإلمام أو يرى من يصلي وراء اإلمام في المسجد‬
‫ولو في بعض الصًلة؛ فإذا توفر الشرطان صح االقتداء وصحت الجماعة‪ ،‬ولو‬
‫بين المأموم وبين اإلمام فوق ثًلثمائة ذراعٍ‪:‬‬
‫لكن قال المؤلف رحمه هللا تعالى مستدركا‪ :‬وإن كان بينهما نهر تجري فيه‬
‫ٌ‬
‫طريق؛ لم يصح‪.‬‬ ‫السفن أو‬
‫إذن إذا كان المأموم خارج المسجد وأمامه في المسجد فًلبد من شرطين اآلن‬
‫انضم إليهما شر ٌ‬
‫ط ثالث‪:‬‬
‫‪48‬‬

‫‪ -‬األول‪ :‬إمكان االقتداء بسماع صوت اإلمام أو بسماع صوت المبلغ‪.‬‬


‫‪ -‬الثاني رؤية اإلمام أو رؤية من وراء اإلمام ولو في بعض الصًلة‪.‬‬
‫ٌ‬
‫طريق‬ ‫نهر تجر السفن أو‬
‫‪ -‬والثالث‪ :‬أال يفصل بين المأموم أو من وراء اإلمام ٌ‬
‫يمر منه الناس‪.‬‬

‫نهر تجري فيه السفن" يفهم منه أنه إذا كان‬


‫وقوله رحمه هللا تعالى‪ٌ " :‬‬
‫نهر أو قناة ٌ صغيرة ٌ ال تجري فيها السفن أن الصًلة تصح عندئ ٍذ‪.‬‬
‫بينهما ٌ‬
‫إال أن األصحاب رحمة هللا عليهم يستثنون من هذا الشرط الثالث‪ :‬صًلة الجمعة‬
‫والعيد والجنازة؛ ألجل ضرورة خوف الفوت‪.‬‬

‫قال رحمه هللا تعالى‪" :‬وكره علو اإلمام عن المأموم ال عكسه"‪.‬‬


‫يعني‪ :‬أن ارتفاع اإلمام عن المأموم قدر ذراع فأكثر؛ يكره‪.‬‬
‫لكن محل الكراهة في كًلم األصحاب إذا انفرد اإلمام بهذا االرتفاع‪ ،‬لكن لو‬
‫شارك اإلمام غيره من المأمومين في هذا االرتفاع‪ ،‬بمعنى‪ :‬لو كان اإلمام‬
‫مرتفع‬
‫ٍ‬ ‫مكان‬
‫ٍ‬ ‫والصف األول أو الصفوف األولى المقدمة من المسجد مثًلا في‬
‫عن بقية الصفوف فًل حرج وال بأس عندئذٍ‪.‬‬
‫كثيرا ألن كان‬
‫ا‬ ‫بمكان عا ٍل عن المأموم‪ ،‬وكان االرتفاع‬
‫ٍ‬ ‫لكن إذا خص اإلمام‬
‫ذراعا ا فأكثر؛ فإن ذلك يكره‪.‬‬
‫وذلك لما رواه أبو داوود من حديث حذيفة مرفوعا‪" :‬إذا أ ٍّم الرجل القوم‪،‬‬
‫مكان أرفع من مقامهم"‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫فًل يقومن في‬
‫يسيرا دون الذراع؛ فًل بأس‪.‬‬
‫ا‬ ‫لكن لو كان االرتفاع‬
‫‪49‬‬

‫إذ إن النبي صلى هللا عليه وسلم صلى بأصحابه مرة ا على المنبر يقوم‬
‫ويقرأ ويركع على المنبر‪ ،‬ثم إذا أراد أن يسجد رجع القهقرى فسجد عند أصل‬
‫المنبر وكان االرتفاع إذ ذاك يسيرا‪.‬‬

‫قول رحمه هللا‪" :‬ال عكسه"‪ :‬أي‪ :‬ال يكره علو المأموم عن اإلمام‪ ،‬ولو كان‬
‫هذا االرتفاع كثيرا‪.‬‬
‫لما تقدم أن أبا هريرة رضي هللا عنه وأرضاه صلى مأمو اما على ظهر‬
‫المسجد فكان مرتفعاا عن إمامه‪ ،‬ولم ينكر عليه‪.‬‬
‫بل ويروى هذا أيضا من فعل أنس ابن مالكٍ رضي هللا عنه‪.‬‬

‫ا‬
‫بصًل‬ ‫ثم ختم المؤلف رحمه هللا تعالى هذا الفصل‪ ،‬بقوله‪" :‬وكره لمن أكل‬
‫فجًل ونحوه حضور المسجد"‪.‬‬‫أو ا‬
‫بصًل يعني نيئاا أو ا‬
‫فجًل أو نحو الفجل كالثوم والكراث مما‬ ‫ا‬ ‫أي‪ :‬ويكره لمن أكل‬
‫له رائحةٌ كريهة حضور المسجد‪.‬‬
‫وذلك لقوله صلى هللا عليه وسلم‪َ " :‬من أكل ِمن هذه الشجرة الخبيثة فًل‬
‫يقربن مصًلنا"‪.‬‬
‫وفي لفظٍ قال‪" :‬من أكل الثوم والبصل والكراث فًل يقربن مساجدنا فإن المًلئكة‬
‫تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم"‪.‬‬
‫والمذهب‪ :‬أنه يكره له حضور جماع ٍة ولو في غير المسجد‪ ،‬إال أن يكونوا‬
‫جميعاا قد أكلوا البصل‪.‬‬
‫‪50‬‬

‫عا للمسلمين ولو لغير الصًلة؛ ألجل أال‬


‫كما يكره له كذلك أن يحضر اجتما ا‬
‫يؤذيهم‪.‬‬
‫وإذا كان هذا في البصل والثوم والفجل مع أنه حًلل‪ ،‬فما هو محرم كالسجائر‬
‫في أيامنا من باب أولى؛ فيمتنع من أكل شيئاا من هذا عن المسجد حتى يذهب‬
‫ريحه‪.‬‬
‫فعندئ ٍذ األمر ال يقيد بزمن؛ وإنما يقيد بعلة؛ إذ الحكم يدور مع علته وجوداا‬
‫وعد اما‪.‬‬

‫وختاما أقول‪ :‬هكذا منعت الشريعة من أكل ما يتأذى الناس بريحه عن المساجد‬
‫بمرض ربما‬
‫ٍ‬ ‫والمجامع؛ صيانةا للناس‪ ،‬وأولى من هذا بًل شك من يؤذي الناس‬
‫انتقل عن طريق المخالطة‪ ،‬من نحو البرص والجذام والكورونا في أيامنا هذه‪.‬‬
‫فنص أصحابنا على‪ :‬أنه ال يحل لألبرص وال للمجزوم أن يخالط الناس من‬
‫غير إذنهم‪ ،‬ويُخ ٍَّرج على هذا في أيامنا من به البرد ومن به الكورونا عافانا هللا‬
‫شر وكل وباء‪.‬‬‫وإياكم وصرف عنا وعنكم كل ٍ ٍّ‬
‫أقول قولي هذا وأستغفر هللا العظيم لي ولكم‪.‬‬
‫وصل اللهم وسلم وبارك على عبد هللا ورسوله محم ٍد‬
‫والحمد هلل رب العالمين‬

You might also like