You are on page 1of 390

‫العنوان‪ :‬هكذا تكلم زرداشت‬

‫المؤلف‪ :‬فريديريك نيتشه‬


‫ترجمة‪ :‬فليكس فارس‬
‫تمهيد‬
‫إخالصا من نيتشه؛ إذ لم يبلغ أح ٌد قبله ما وصل إليه‪ ،‬وهو‬
‫ً‬ ‫ما من مف ِّكر أش ُّد‬
‫يسرب األغوار يف طلب الحقيقة دون أن يبايل بما يعرتض سبيله من مصاعب؛‬
‫ألنه ما كان لريتاع من اصطدامه بالفجائع يف قراراتها أو من انتهائه إىل ال يشء‪.‬‬
‫إميل فاكيه‬
‫عضو املجمع العلمي الفرنيس‬

‫هذا هو نيتشه كما صوره فاكيه بعد أن درس عديد مؤلفاته واستعرض‬
‫فلسفته‪ ،‬وقد جاراه بهذا التقدير أنصار نيتشه وخصومه من كل شعوب أوروبا‬
‫فإنك لو استعرضت املؤلفات التي كتبها عنه العباقرة العديدون‪ ،‬ومنهم من يعتقد‬
‫بتخبُّطه عىل غري هدى‪ ،‬ومنهم من يرى وراء كل جملة من أقواله سورة ال تنجيل‬
‫معانيها إال للعقل النافذ والحس املرهف لرأيتهم قد أجمعوا عىل وصفه باملفكر‬
‫الجبار املتجه إىل الحقيقة يطلبها وراء كل يشء حتى وراء املبادئ التي يقول بها‪.‬‬
‫وما أجمع هؤالء املفكرون إال عىل الصواب يف هذا الوصف الذي ارتضاه نيتشه‬
‫لنفسه؛ إذ قال‪:‬‬
‫ً‬
‫مخلصا يف قصده بل عليه أن يرتصد إخالصه‬ ‫ال يكفي لطالب الحقيقة أن يكون‬
‫ويقف موقف املشكك فيه؛ ألن عاشق الحقيقة إنما يحبها ال لنفسه مجاراة‬
‫ً‬
‫مخالفا لعقيدته فإذا هو اعرتضته‬ ‫ألهوائه‪ ،‬بل يهيم بها لذاتها‪ ،‬ولو كان يف ذلك‬
‫فكرة ناقضت مبدأه وجب عليه أن يقف عندها فال يرتدد أن يأخذ بها‪.‬‬
‫ً‬
‫حائل بني فكرتك وبني ما ينافيها‪ ،‬فال يبلغ أو َل درجة من الحكمة‬ ‫إياك أن تقف‬
‫مَ ْن ال يعمل بهذه الوصية من املفكرين‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫عليك أن تُصيل نفسك كل يو ٍم حربًا‪ ،‬وليس لك أن تبايل بما تجنيه من نرص أو‬
‫تجني عليك جهودك من اندحار‪ ،‬فإن ذلك من شأن الحقيقة ال من شأنك‪.‬‬
‫وص َلف‪،‬‬ ‫قال نيتشه بهذا املبدأ وعمل به وبالرغم مما َّ‬
‫يتجل يف تعاليمه من غرور َ‬
‫فإنه كان يسري يف أبحاثه وال ه َّم له سوى استكشاف اآلفاق؛ فيورد اليوم فكرة‬
‫يكذِّبها غدًا‪ ،‬فكأنه بإنكاره الخري والرش لم يجد بدًّا من إنكار كل عقيدة ثابتة‪ ،‬فإذا‬
‫أنت أردت أن تسري وراء هذا الفيلسوف طلبًا للعقيدة فال تتعب نفسك باللحاق‬
‫به يف مراحل يقطعها بخطواته الجبارة؛ ألنه هو نفسه قد أصابه الخبل وبصريته‬
‫تائهة يف استلهام الحقيقة واستقرائها‪.‬‬
‫مكتشف لحقيقة ذاته َّإل من يهتف‪ :‬هذا هو خريي وهذا هو‬‫َ‬ ‫مَ ْن قال لك‪« :‬إن ال‬
‫رشي فيخرس الخلد والقزم القائلني بأن الخريَ خريٌ للكل والرشَّ رشٌ للجميع‪».‬‬
‫من قال لك هذا‪ ،‬ال تتوقع منه أن يأتيك برشعة تقوم مقام الرشائع التي يثور‬
‫عليها‪.‬‬
‫إن نيتشه املفكر الجبار الذي يفتح أمام الفرد ً‬
‫آفاقا وسيعة يف مجال القوة‬
‫والثقة بالنفس وتحرير الحياة من املسكنة والذل‪ًّ ،‬‬
‫تائقا إىل إيجاد إنسان يتفوق‬
‫عىل إنسانيته باملجاهدة والتغلب عىل العنارص والعادات والتقاليد وما توارثته‬
‫األجيال من العقائد املوهنة للعزم؛ يقف وقفة الحائر املرتدد عندما يحاول إقامة‬
‫مجتمع ألفراده املتفوقني بل هو يضطر إىل نقض أوليَّاته القائمة عىل احتقار‬ ‫ٍ‬
‫الرحمة والرحماء حتى ينتهي إىل قوله‪« :‬إن العالم الذي يتفوق عىل اإلنسانية إنما‬
‫يعود بها بعد هذا الجنوح إىل بذل حبه لألصاغر وا ُملتَّ ِضعني‪».‬‬
‫وهكذا ترى زرادشت الداعي إىل تحطيم ألواح الوصايا جميعها‪ ،‬وإىل إنكار‬
‫الرشيعة األدبية إلقامة رشعة جديدة ما وراء الخري والرش؛ يعود مفتِّ ًشا بني‬
‫أنقاض األلواح التي حطمها عىل كلمات قديمة يجعلها دستو ًرا إلنسانيته املتفوقة‪.‬‬
‫إن نيتشه الذي ذهب إىل أبعد مدًى يف تفحص رسائر اإلنسان وأهوائه يضيق به‬
‫املجال عندما يتجه إىل حل املعضالت االجتماعية؛ ألنه إذا أمكن للفرد املنعزل أن‬

‫‪5‬‬
‫ط لنفسه منهجً ا يوافق هواها باعتقاده أنه هو املبدع لذاته والحركة األوىل لها‪،‬‬ ‫يخت َّ‬
‫فإنه ليمتنع عليه أن يكون عضوًا حيًّا يف املجموع إذا هو لم يعرتف يف عالقته مع‬
‫إخوانه بأنه ليس مصد ًرا لذاته وال مآبًا لها‪.‬‬
‫إن من يطمح إىل مثل ما طمح إليه نيتشه من تكوين مجتمع منظم يسود فيه‬
‫ُوجد يف النهاية إال مجتمعً ا‬
‫املتفوقون‪ ،‬ولكل منهم رشُّه الخاص وخريه الخاص ال ي ِ‬
‫يتفاوت التفوق فيه بني أفراده فيقيض األقوى منهم عىل األقل قو ًة منه حتى يقف‬
‫آخ ُر الظافرين منتح ًرا بقوته وعنفه كما انتحر إله نيتشه برحمته‪.‬‬
‫تفتْه هذه الحقيقة‪ ،‬فعاد إىل الرشيعة األوىل يختلس‬‫غري أن املبدع لزرادشت لم ُ‬
‫منها آيتها الكربى ليوردها وصية لدنياه فقال‪:‬‬
‫ط ْفرة يف مسلك الفضيلة؛ فعىل كل فر ٍد أن يسري يف طريقه وإن جنح‬
‫حذار من ال ُ‬
‫َّ‬
‫يطمحن إىل بلوغ الذروة وحده؛ إذ عىل كل سائر أن يكون‬ ‫عن مسلك اآلخرين‪ ،‬فال‬
‫جرسا للمتقدمني وقدوة للمتأخرين‪.‬‬
‫ً‬
‫أين هذه الوصية مما دعا إليه زرادشت يف مفكراته نفسها؛ إذ قال‪:‬‬
‫عىل أهل السيادة يف اإلنسانية املتفوقة أن يمهدوا سبل السعادة ملن هم دونهم‬
‫بتضحية ملذاتهم وراحتهم‪ ،‬وعليهم ً‬
‫أيضا أن ينقذوا من ال يصلحون للحياة‬
‫بالقضاء عليهم دون إمهال‪.‬‬
‫بل كيف يتفق القسم األول من هذه الوصية مع قسمها الثاني؟! ومن له أن‬
‫ً‬
‫مقياسا يقيض به ملن يصلحون للحياة كما يقيض به عىل من ال يصلحون‬ ‫يضع‬
‫لها إذا اتبع القايض رشعة زرادشت القائل بأن عىل أتباعه أن تتجىل القوة فيهم‬
‫من الرأس حتى أخمص القدم‪.‬‬
‫ولو أن مذهب نيتشه هذا ُ‬
‫طبِّق قبل ميالده لكانت السلطة التي يراها ً‬
‫مثل أعىل‬
‫قضت عىل أبيه وأمه دون إمهال؛ فما كان له هو أن يظهر يف الوجود بدماغه‬
‫الجبار ُ‬
‫وبس ِّم الداء الذي جال من دمهما امللوَّث يف دمه …‬

‫‪6‬‬
‫ثم‪ ،‬أفليس هنالك غري هذه األدواء الطارئة والتي يمكن للعالم أن يكافحها‪ ،‬ما‬
‫يُقىض عىل اإلنسان بالرضوخ له من حالة يف جسمه ال قِ بَل له بتبديلها أو تعديلها؟‬
‫أفما تحقق الطب أن كل مولود يجيء الحياة إنما يدخلها مستصحبًا معه إليها من‬
‫ساللته الضعف الذي سيقيض عليه‪ ،‬أفليس يف كل دارج عىل هذه الغرباء علة أو‬
‫علل كامنة يف تكوين أعضائه ستورثه الردى حني تدنو ساعته؟ …‬
‫أي جسم مهما ظهر لك صحيحً ا ليس فيه عضو هو أضعف الحلقات يف سلسلة‬
‫أعضائه‪ ،‬ويف فراغ مناعته املحدودة انفصام العُ رى وبداية انحالل العنارص يف‬
‫هيكله الفاني؟!‬
‫أين هو الجسم املنيع الذي يتوق نيتشه إىل إيجاده مربعً ا من قمة الرأس إىل‬
‫أخمص القدم؟!‬
‫لقد عمل العالم املتمدن عىل إيجاده بالرياضة؛ فأوجد الرقاب الغليظة‬
‫والعضالت املتضخمة مسببًا منها تضخم القلب‪ ،‬وجفاء الطبع‪ ،‬وبالدة التفكري‪،‬‬
‫وانحطام أجنحة الخيال‪.‬‬
‫يريد نيتشه خلق اإلنسان املتفوق جبا ًرا كشمشون‪ ،‬وشاع ًرا كداود‪ ،‬وحكيمً ا‬
‫كسليمان‪ .‬فهو يكلف الطبيعة ما ال قبل لها به‪ ،‬ويطمح إىل إيجاد جبابرة ال‬
‫يصلحون ليشء يف املجتمع؛ ألن الحيوية ال تنرصف من مختلف نوافذها الجسمية‬
‫يف آن واحد دون أن تقبض عىل صاحبها لتوقفه من سلم االرتقاء عىل مرتبة‬
‫معلقة بني االعتالء واالنحطاط؛ فيكون منه ال اإلنسان املتفوق بل اإلنسان «التافه»‬
‫القصري الحياة والقارص يف كل عمل يبارشه‪.‬‬
‫إن املجتمع ال يقوم من الوجهة العملية عىل أفراد يحاولون اإلحاطة بكل يشء‬
‫فال ينالون منها شيئًا‪.‬‬
‫وليس الحال إال عىل هذا املنوال من الوجهة الروحية ً‬
‫أيضا‪ ،‬فإن من تبرص يف‬
‫أحوال الناس وطرائقهم يف الحياة‪ ،‬ال بد له أن يسلم أخريًا بأن لكل شخصية‬
‫حياتها بما كمن يف حوافزها‪ ،‬ولكل شخصية ميتتها بما خفي من أدواء جسمها‬

‫‪7‬‬
‫وعلل إرادتها‪ ،‬وبما وراءها من مقدمات وحولها من نتائج‪.‬‬
‫إن يف الحياة مسالك خطتها اإلرادة الكلية وليس لإلدارة الجزئية أن تتناولها‬
‫بتحوير‪ ،‬فمصاعد الرقي لألرواح منتصبة من كل مسلك يف عالم الظاهر نحو‬
‫العالم الخفي‪ ،‬وما خصت العناية أقوياء الجسوم باالرتقاء‪.‬‬
‫ولرب صعلوك يف نظر نيتشه ال يصلح للحياة‪ ،‬ويجب أن يُقىض عليه دون‬
‫إمهال تتفجر منه قوة ال تراها إال البصائر النرية‪.‬‬
‫رس التكامل يف الذات والحكمة يف حد‬
‫من لنا بسرب األغوار البعيدة القرار لندرك َّ‬
‫األشواط لكل روح لتقوم بقسطها من املقدور‪.‬‬
‫ومن لنا بإدراك رس الضعف والقوة‪ ،‬وقد يكون الضعف يف الجسم السليم‬
‫والقوة يف العليل من األجسام‪.‬‬
‫إن لكل مخلوق أن يبلو الحياة بما أُعطي من ظاهر الضعف أو ظاهر القوة؛‬
‫ألن للصحة محنتها كما للمرض محنته‪ ،‬واألنفس الطامحة إىل ُمثُلها العليا سوا ٌء‬
‫ً‬
‫ناحل‬ ‫أكانت هذه املثل يف هذه الحياة أم ما وراء الحياة؛ إنما تتغذى من الجسد‬
‫عليل كما تتغذى منه مليئًا بالنضارة والصحة والبهاء‪.‬‬
‫ً‬
‫إن للحكمة العليا مقياسها يف تقدير الجهاد األكرب عىل كل نفس‪ ،‬ومن يدري يف‬
‫أية لحظة وبأي مداد من قوة الجسد أو ضعفه تخ ُّ‬
‫ط الروح األسرية آخر سطر‬
‫من كتابها؟ …‬
‫•••‬
‫إن محور الدائرة يف فلسفة نيتشه إنما هو إيجاد إنسان يتفوق عىل اإلنسانية؛‬
‫لذلك تراه يهزأ بكل من عدَّه التاريخ عظيمً ا بني الناس ً‬
‫قائل‪ :‬إن الجيل الذي يلد‬
‫العظماء لم يُولد بعد‪ ،‬وأن ال رجل يف هذا الزمان يمكنه أن يتفوق عىل ذاته‪ ،‬وكل‬
‫ما بوسع الناس أن يفعلوه يف سبيل املثل األعىل هو أن يتشوقوا إليه ليخرج من‬
‫سالتهم يف مستقبل األزمان‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫وسوف يرى القارئ يف الفصول األخرية ما هو تقدير زرادشت للرجال الراقني‬
‫يف هذه الحقبة الشاملة لعرصه ولعرصنا‪ ،‬فهو يعتربهم نماذج فاشلة لإلنسان‬
‫الذي يتوقع نشوءه‪ ،‬غري أن زرادشت وهو يتكلم بلهجة اآلمر الناهي ويرسم‬
‫ً‬
‫حروفا منتثرة ال معنى‬ ‫للحياة طرقها بخطوط متفرقة إن لم تجمعها أنت بقيت‬
‫لها؛ ال يقول لنا برصاحة ما يجب أن نفعله لنصبح جدودًا ألحفاد تصلح بهم‬
‫الحياة‪ ،‬ولكن من يعوِّد بصريته عىل مجاراة نيتشه يف الرؤى التي يهيم فيها‬
‫يستوقفه قوله‪:‬‬
‫إن ما فطرنا عليه هو أن نخلق كائنًا يتفوق علينا‪ ،‬تلك هي غريزة الحركة‬
‫والعمل‪.‬‬
‫ثم يستوقفه يف موضع آخر قوله‪:‬‬
‫إنني لم أجد امرأة تصلح أمًّ ا ألبنائي إال املرأة التي أحبها‪.‬‬
‫فإذا ما وقف املفكر عند هذا يعرف ما هي تلك الفطرة التي يراها دافعة‬
‫لإلنسان إىل التفوق عىل ذاته وأَنساله‪.‬‬
‫وما تكون تلك الفطرة إن لم تكن حافز الحب الصحيح‪ ،‬ويف أعماقه غريزة‬
‫االنتخاب تجتذب الزوجني إىل اتصال يشدد أحدُهما فيه ما َ‬
‫وهن يف بنية اآلخر‪.‬‬
‫ولوال أننا درسنا مليًّا مسألة اعتالء األمم وانحطاطها نبحث صحة النسل‬
‫واعتالله يف فصل «منابت األطفال»‪ ،‬من كتابنا «رسالة املنرب إىل الرشق العربي»‬
‫لكنا نثبت هنا أن إيجاد اإلنسان الكامل يف إنسانيته‪ ،‬ال اإلنسان املتفوق عىل نوعه‬
‫كما يريد نيتشه‪ ،‬إنما يقوم عىل مجاراة حوافز االختيار الطبيعي يف الزواج باعتبار‬
‫كل شهوة جامحة وكل طمع يسكت هاتف االختيار سوا ٌء يف الرجل أو املرأة جناية‬
‫عىل اإلنسانية‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وإننا ال نجد بدًّا من نقل بعض فقرات من فصل منابت األطفال تأييدًا‬
‫لهذه الحقيقة‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫إن اإلنسان ال يريد االنقياد لالنتخاب الطبيعي فهو يطمح إىل تحكيم اختياره يف‬
‫ً‬
‫أطفال تتجىل فيهم كوامن‬ ‫حوافز ال يعلم منشأها‪ ،‬فيعمد الرجل إىل استيالد املرأة‬
‫علله وعلل املرأة التي يرغمها إرغامً ا ً‬
‫بدل من أن ينقاد إىل االنتخاب الطبيعي الذي‬
‫تتذرع به الطبيعة للغلبة عىل العاهات واألمراض وللقضاء عىل حوافز الخبل‬
‫واإلجرام‪.‬‬
‫•••‬
‫إن الولد املختل العليل إنما هو الضحية الربيئة تصفع الطبيعة به أوجه الرجال‬
‫الفاحشني والنساء الطامعات املضلالت‪.‬‬
‫•••‬
‫ومما ال ريب فيه ً‬
‫أيضا أن الطبيعة يف حرصها عىل طابع األبوين يف األبناء تطمح‬
‫دائمً ا إىل الجمع بني رجل وامرأة يصلح أحدهما ما أفسدت الحياة يف اآلخر‪ ،‬وال‬
‫يقف طموح الطبيعة عند حد إصالح األعضاء‪ ،‬بل هو يتجه خاصة يف اإلنسان إىل‬
‫إصالح ما تطرق من عيوب إىل صفاته األدبية العليا‪ ،‬ولعل يف هذا بعض التفسري‬
‫لسيادة اإليقاع بني رجل وامرأة تخالفت أشكالهما وأوضاع أعضائهما ومظاهر‬
‫قواهما األدبية والعقلية‪ ،‬فقد ال تجد مصارعً ا قوي العضالت يعشق مصارعة‬
‫ً‬
‫فيلسوفا يتو َّله بفيلسوفه‪ ،‬ول َك ْم وقف املفكرون مندهشني أمام امرأة‬ ‫مثله وال‬
‫فاضلة تحس بانجذاب نحو رجل متالعب محتال أو بارعة يف الجمال تندفع إىل‬
‫حنان خفي يف الطبيعة يشبه‬ ‫ٍ‬ ‫االلتصاق برجل قبيح‪ .‬إن بعض العشق ينشأ من‬
‫عطف الطبيب املداوي عىل العليل املستجدي الشفاء …‬
‫•••‬
‫إن املفكرين يثورون عىل الشبان الذين يقدمون عىل الزواج ويف دمائهم سموم‬
‫ويف مجاري نطفة الحياة منهم صديد‪ ،‬ومن األمم من سنَّت القوانني الصارمة ملنع‬
‫زواج املبتىل بالعلل الزهرية وبالجنون محافظة عىل صحة النسل‪ ،‬ولكنني لم أقر‬
‫ملفكر رأيًا يف الحيلولة دون الزواج اآليل املجرد عن كل عاطفة‪ ،‬ويرتاءى يل أن ً‬
‫طفل‬

‫‪10‬‬
‫يجني أبواه عليه بإيراثه دمً ا أفسدته األمراض لهو أقل شقاء بنفسه وأقل إرضا ًرا‬
‫باملجتمع من طفل يرث من أبويه عهر العاطفة وضالل الفطرة‪.‬‬
‫لقد تشفي العقاقري أبناء العلل ولكن أي دواء يشفي الطفل الذي زرعه توحش‬
‫الرجل املفرتس يف أحشاء املرأة املنكرسة الذليلة؟ إن مثل هذا الطفل لن يكون َّإل‬
‫ً‬
‫وحشا كأبيه أو عبدًا ً‬
‫ذليل كأمِّ ه‪.‬‬
‫•••‬
‫إن من الحب ما ينشأ عن الحياة الجسدية حاجة ملحَّ ة متقلبة كالحياة نفسها‪،‬‬
‫ويف النساء كما يف الرجال أناس حبهم أشبه بالجوع والظمأ يتهافتون عىل أية‬
‫مائدة ويرتوون من أي ينبوع‪ ،‬وماذا عساه يفهم من الحب من يرى املحبوب‬
‫مائدة وينبوعً ا؟ ق َّل من الناس من يدرك أن مَ ْن أنكر عىل املحبوب شخصيته التي‬
‫ال تُستبدل فقد أنكر هو ذاته شخصيته التي يحس بها‪.‬‬
‫•••‬
‫ال صالح ألمة فسدت منابت أطفالها‪ ،‬وهذه عِ َب التاريخ ماثلة لعيان من يريد‬
‫أن يرى‪.‬‬
‫أفما كانت كل األمم التي اندثرت واستُعبدت تمر ً‬
‫أول يف مرحلة تدني األخالق‬
‫وانطالق الشهوات عابثة بأرشف ما خلق الله يف اإلنسان‪.‬‬
‫•••‬
‫سوف يأتي يوم‪ ،‬وهو غري بعيد‪ ،‬تتنبَّه املدنية فيه إىل أن الرجل املتفوق الذي‬
‫ينشده العلماء يف الغرب لن يخلق لهم من التمرين لقوى العقل وقوى الجسد‪ ،‬وال‬
‫من فحص خاليا املتزوجني باملجهر حتى وال من تلقيحهم باملواد الكيماوية أو‬
‫تطعيمهم بغدد القرود‪.‬‬
‫إن الرجل الكامل أو األقرب إىل الكمال إنما هو ابن الحب الكامل‪ ،‬فاملحبة وحدها‬
‫هي السبيل املؤدي إىل إدراك الحق والقوة والجمال‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫لندع العالم املتمدن يفتش يف علومه ونهضة مفكريه عىل هذا الحب الذي تخيله‬
‫ماركس متجليًا يف الحرية التامة للناس يف أهوائهم فجاءت البلشفة تثبت انخداع‬
‫هذا الفيلسوف يف نظرياته‪ ،‬ليفتشوا أنهم لن يتصلوا يف تجاربهم إال إىل العرب‬
‫الزاجرة املؤملة‪.‬‬
‫أما نحن‪ ،‬أبناء هذا الرشق الذي انبثق الحق فيه انصبابًا من الداخل باإللهام ال‬
‫تلمسا من الخارج‪ ،‬فلنا املسلك املفتوح منفرجً ا أمامنا لالعتالء والخروج إىل النور‬
‫ً‬
‫بعد هذا الليل الطويل‪ ،‬إذا نحن أخذنا بروح ما أوحاه الحق إلينا‪.‬‬
‫ال برتقية الزراعة والصناعة‪ ،‬وال بنرش التعليم والتهذيب وال بجعل البالد ً‬
‫جنة‬
‫ثرا ًء وتنظيمً ا‪ ،‬تنشأ األمة ويخلق الشعب الحر السعيد‪.‬‬
‫إن الجنني الذي يحمل أسباب شقائه‪ ،‬وهو يف بطن أمه ال يمكنه أن يصري ً‬
‫رجل‬
‫ح ًّرا قويًّا يفهم حقيقة الحياة ويتمتع بالعظمة الكامنة فيها‪.‬‬
‫إن االهتمام بإيجاد الطفل الصالح أوىل من العمل إلعداد العلم والتهذيب لطفل‬
‫صقل وتنحطم كل محاولة للنفوذ إىل علته املستقرة فيه منذ‬‫ً‬ ‫نصقل مظاهره‬
‫تكوينه‪.‬‬
‫•••‬
‫ليس الفقري املتسول‪ ،‬وال العليل املتألم‪ ،‬وال الشيخ الهرم يتمىش بال سند إىل قربه‪،‬‬
‫ليست املرأة املستعبدة بلقمة‪ ،‬وال الفتاة املخدوعة املنطرحة عىل أقذار املواخري‪،‬‬
‫ليس كل هؤالء الناس األشقياء يف الحياة بأشقى من األطفال يجور عليهم آباؤهم‬
‫وأمهاتهم قبل أن يقذفوا بهم إىل الوجود‪ ،‬ويرهقونهم بالقطيعة واإلهمال بعد أن‬
‫يدرجوا عليها بأقدامهم الناحلة املتعثرة …‬
‫الرجل الذي يمسخ حبه الواحد شهوات متعددة‪ ،‬واملرأة التي تتقصف متهتكة‬
‫ماسخة هيكل نسمات الله مركعً ا لنفايات البرش من عباد الخيانة والطيش‪ ،‬إنما‬
‫هما آدم وحواء مطرودين من الجنان إىل أرض الجهود املضيَّعة واآلالم املحتمة‪،‬‬
‫ومَ ْن يدري أن حديث معصية األبوين ليس رم ًزا لخيانة الحب‪ ،‬تلك الخيانة التي‬

‫‪12‬‬
‫تنزل اللعنة بمرتكبيها وبأبنائهم من بعدهم …‬
‫وي ٌل للرجل الذي يهدم بيديه سعادته وسعادة أبنائه‪ ،‬وويل للمرأة التي تدنس‬
‫منبت أطفالها‪.‬‬
‫ليس يف تمهيد موجز كهذا مجال لبحث فلسفة نيتشه التي أشغلت كبار كتاب‬
‫القرن التاسع عرش‪ ،‬ولم يزل الفالسفة يكتبون عنها إىل اليوم‪ ،‬غري أن ما تناولناه‬
‫إملامً ا من نظريات نيتشه يكفينا لتحديد ما يجب أن نغفله منها دون أن ننتقص‬
‫من قدر هذا العبقري ألنه اقتحم أرسار الكون معتمدًا ذاته فعاد عن هذه األرسار‬
‫مدحو ًرا‪ ،‬وهل من كاتب قبله أو بعده تمكن من حل ألغاز الوجود والوقوف منها‬
‫عند عقيدة رصيحة تستغني عن اإليمان بالقوة الخفية املتعالية عن التعليل‬
‫والتحليل؟‬
‫حسبُ نيتشه يف موقف حريته‪ ،‬وما هي بالدرجة الوضيعة عىل سلم التفكري‪،‬‬ ‫ْ‬
‫أن يهتك رسيرته أمامك دون أن يلجأ إىل إعمال السفسطة إليجاد وحدة ظاهرية‬
‫وتناسب مزيف يف رصح تفكريه‪ ،‬حسبه أنه اندفع وراء املثل األعىل الكامن يف‬ ‫ٍ‬
‫«إرادة القوة» تبعً ا لتعبريه ويف نفس اإلنسان الخالدة تبعً ا لعقيدة املؤمنني‪ ،‬فبسط‬
‫أمام املفكرين من مشاهد املجتمع ومن مسالك األرواح عىل معابر األرض ما لم‬
‫يلمحه سواه من املنشئني‪.‬‬
‫•••‬
‫إن ما نرانا بحاجة إىل الوقوف عنده من فلسفة نيتشه يف كتاب زرادشت‪ ،‬الذي‬
‫لم تفته قضية اجتماعية لم يقل فيها ً‬
‫كلمة كان لها دويُّها يف العالم الغربي‪ ،‬إنما‬
‫ٍ‬
‫استكانة‬ ‫تجتث ما غرست قرون العبودية يف أوطاننا من‬ ‫ُّ‬ ‫هو هذه املبادئ التي‬
‫حولت إيمانها إىل استسالم يف حني أن روح رشعتها يهيب بالنفس إىل الجهادين‬
‫يف سبيل الوطن واإلنسانية جمعاء‪.‬‬
‫إن الدين الذي يهاجمه نيتشه إنما هو صورة ألصل شوهها الغرب‪ ،‬وما ع َّلم هذا‬
‫أن الحياة معرب عىل املؤمن اجتيازه‪ ،‬وهو مُعْ ِرض عن كل ما حوله مع ِّلق‬
‫الدين َّ‬

‫‪13‬‬
‫أن الحياة مرحلة من أشواط اآلزال واآلباد وما‬ ‫أبصاره عىل باب قربه‪ ،‬بل ع َّلم َّ‬
‫تطهر أنفس لم تحرتق بنار الحياة أجسادُها‪ ،‬ولم تُعِ َّد صالحً ا لباقياتها بإصالح‬
‫زائالتها‪.‬‬
‫ليس نيتشه إذن مبدع فكرة التكامل لإلنسان عىل األرض؛ فإن التكامل مبدأ ٌ‬
‫أساسا لكل وصية تأمر باملعروف وتنهى عن املنكر‪ ،‬غري‬‫ً‬ ‫جعلته األديان السماوية‬
‫ً‬
‫تكامل روحيًّا يهيئه إىل إدراك بارئه وراء املحسوس يف‬ ‫أن الدين قد أراد لإلنسان‬
‫حني أن نيتشه‪ ،‬وقد أنكر ما ال تقع الحواس عليه‪ ،‬أراد أن يفلت اإلنسان من حدود‬
‫إنسانيته عىل هذه األرض فيجعلها جنة خلد يستوي عليها بجربوته إلهً ا …‬
‫وقد غرب عن هذا الفيلسوف أن املخلوقات كلها يف سلسلة الوجود ال تملك‬
‫االنعتاق من حدود أنواعها‪ ،‬ومهما ك َّرت القرون وتعاقبت األجيال ال يمكن للجماد‬
‫أن يفلت من مملكته إىل مملكة النبات‪ ،‬وال للنبات أن يجتاز حدود مملكة الحيوان‪،‬‬
‫وال للحيوان أن يجتاح مملكة اإلنسانية‪.‬‬
‫لذلك كان الذاهب يف طلب إنسان يتفوق عىل اإلنسانية كاملحاول استنبات‬
‫الشجرة حيوانًا أو استبدال الحيوان إنسانًا‪.‬‬
‫حقب كرت ما‬
‫لقد كرت القرون عىل مبدأ التاريخ الذي نعلم وعىل ما ال نعلم من ٍ‬
‫وراءه‪ ،‬واإلنسان لم يزل هذا املخلوق الدائر أبدًا ضمن حلقة إنسانيته‪.‬‬
‫لقد كان نيتشه من املعتقدين باستحالة األنواع حني رصخ بلسان زرادشت وهو‬
‫يخاطب الحشد يف الساحة العمومية‪« :‬لقد كنتم من جنس القرود فيما مىض عىل‬
‫أن اإلنسان لم يفتأ حتى اليوم أعرق من القرود يف قرديته‪».‬‬
‫ولكنه بالرغم من هذا يرصح بأن هذا النوع القردي‪ ،‬وهو اإلنسان لم ينسلخ عن‬
‫أصله فكيف زيَّن له خياله أن يف هذا النوع إنسانًا ً‬
‫فائقا ال يزال كامنًا منذ البدء‬
‫ينتظر قدوم فيلسوف يف أواخر القرن التاسع عرش يستجيل هذا الجبار ويبعثه‬
‫بإرادة جديدة تتسلط ال عىل الحارض واملستقبل فحسب بل عىل ما م َّر وتوارى‬
‫أيضا يف عاصفات األحقاب؟ …‬ ‫ً‬

‫‪14‬‬
‫•••‬
‫نفس شعرت بأنها كانت‬ ‫إن بدعة اإلنسان املتفوق إنما هي يف تقديرنا تشوُّق ٍ‬
‫ً‬
‫نطاقا فتوهمت أنها ستبلغ يف هذه الحياة ما‬ ‫وستكون‪ ،‬وقد رضب اإللحاد حولها‬
‫ليس من هذه الحياة‪.‬‬
‫إن نيتشه يعلن إلحاده بكل رصاحة‪ ،‬ويباهي بكفره غري أننا ال نكتم القارئ‬
‫الكريم أن ما قرأناه بني سطوره‪ ،‬وقد مررنا بها كمن عليه أن يتفهم كل معنى‬
‫ويستجيل كل رمز‪ ،‬يحفز بنا إىل القول بأننا لم ن َر كف ًرا أقرب إىل اإليمان من‬
‫كفر هذا املفكر الجبار الثائر الذي ينادي بموت الله‪ ،‬ثم يراه متجليًا أمامه يف‬
‫كل نفس تخفق بني جوانح الناس من نسمته الخالدة‪ ،‬فإن هذا امللحد بالرغم‬
‫وبأن كال الروح‬ ‫َّ‬ ‫من اعتقاده بأن الجسد هو أصل الذات وأن الروح عَ َرض لها‬
‫والجسد فانيتان‪ ،‬ال يملك نفسه من الهتاف وهو يؤكد عودة كل يشء واستمرار‬
‫شوقا إىل خاتم الزواج‪ ،‬إىل‬‫كل يشء فيقول‪ :‬أوَّاه كيف ال أحن إىل األبدية وأضطرم ً‬
‫دائرة الدوائر حيث يصبح االنتهاء ابتداءً‪ .‬إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أمًّ ا‬
‫ألبنائي إال املرأة التي أحبها؛ ألنني أحبك أيتها األبدية‪.‬‬
‫إنني أحبك أيتها األبدية‪.‬‬
‫أين هذه الهتفة الرائعة تصدو يف أعماق روح تتطري من الزوال من ابتسامة‬
‫امللحد الصفراء‪ ،‬وهو ال يرى وراءه وأمامه إال العدم والزوال بل يكاد يرى وجوده‬
‫ً‬
‫وخيال كاذبًا‪.‬‬ ‫خدعة‬
‫إن فلسفة ال تستنيم لفكرة الفناء وال ترى يف النهاية إال عودة إىل بداية ليست‬
‫بالفلسفة الجاحدة‪ ،‬فاملفكر املؤمن بإنسانية عليا تتدرج إىل الكمال حتى ولو قال‬
‫بألوهية اإلنسان عىل األرض ال يمكنه إال أن يؤمن يف قرارة نفسه بكمال مطلق‬
‫تتشوق روحه إليه ما وراء هذا العالم‪.‬‬
‫•••‬
‫وال بد هنا من إيراد تاريخ موجز لحياة هذا الفيلسوف‪ ،‬وليس يف حياته القصرية‬

‫‪15‬‬
‫وهي مليئة باآلالم من الحوادث ما يستحق التدوين غري املراحل التي مر عليها‬
‫تفكريه فتأثر بها‪ ،‬وهل نيتشه إال فكرة وهل حياته إال وقائع ميادينها السطور‬
‫والصفحات‪.‬‬
‫ولد هذا العبقري الثائر سنة ‪ 1844‬يف بلدة روكن من أعمال أملانيا‪ ،‬وكان أبوه‬
‫ظا بروتستانيًّا من أرسة بولونية هجرت بالدها يف القرن الثامن عرش عىل أثر‬‫واع ً‬
‫اضطهاد رشَّد منها أشياع كنيسة اإلصالح‪.‬‬
‫وما بلغ فريدريك الخامسة من عمره حتى مات أبوه‪ ،‬فكفلت أمه تربيته وتربية‬
‫أخته فأرسلته إىل مدرسة نومبورغ‪ ،‬ثم انتقل منها سنة ‪ 1864‬إىل كليتي بون‬
‫وليبسيك حتى إذا بلغ الخامسة والعرشين من عمره سنة ‪ 1869‬تجىل نبوغه‬
‫فعُ ني أستاذًا للفلسفة يف كلية بال‪.‬‬
‫بعد سبع سنوات؛ أي سنة ‪ 1876‬ظهرت عليه أعراض «الزهري الوراثي»‬
‫فحكمه صدا ٌع شديد أضعف برصه فبقي يلقي الدروس حتى سنة ‪1879‬؛ إذ‬
‫متنقل بني روما وجنوا ونيس وسيل ماريا وهو ي ِ‬
‫ُعمل‬ ‫ً‬ ‫اضطر إىل االستعفاء ليذهب‬
‫الفكر ويكتب مصارعً ا علته عرش سنوات‪ ،‬فال هو يربأ منها فيحيا‪ ،‬وال هي تجتاح‬
‫دماغه الجبار فيموت إىل أن جاءته سنة ‪ 1889‬بالفالِج مقدمة للجنون فتوارى‬
‫سنة ‪ 1900‬بعد أن سبقته إىل املوت عبقريته العليلة وإرادته الوثَّابة الجبارة‪.‬‬
‫•••‬
‫ذلك كان فريدريك نيتشه‪ ،‬مجسم القوة املفكرة التي دارت بها النائبات‪،‬‬
‫وحارصتها األوجاع‪ ،‬وتصادمت مع تيارات الفلسفات التي كانت تهبُّ يف ذلك‬
‫العهد يف أملانيا ويف أوروبا بأرسها حاملة للعالم مبادئ تضعضع العقل وته ُّز‬
‫املجتمع بتقويضها كل عقيدة تقيم أمام اإلنسان غاية لحياته‪.‬‬
‫فقد كانت أفكار فيخته وشللينغ وهيغل وشوبنهور تهب جميعها نارشة يف‬
‫أوروبا مزيجً ا من مذاهب القدرية والعدمية ووحدة الوجود واإلرادة الحرة‪ ،‬فقال‬
‫شوبنهور‪ :‬إن روح الوجود قوة طائشة عمياء أدركت نفسها يف عقل اإلنسان‬

‫‪16‬‬
‫وشعوره فوجم حائ ًرا ويف نفسه ظماء يف صحراء ال ماء فيها غريُ وهج الرساب‪.‬‬
‫ولم يجد هذا الفيلسوف من عالج لهذه العلة غري التمرد عىل الحياة نفسها برتك‬
‫ملذاتها‪ ،‬وااللتجاء إىل الزهد وانتظار الفناء يف ما يشبه النريفانا وهي القوة التي‬
‫تتالىش كل شخصية فيها‪.‬‬
‫وكانت الفلسفة الدينية تقاوم هذه التيارات لالحتفاظ بالعقيدة املسيحية‬
‫ط من املفكرين كنويمن وكورليج‬ ‫بأبحاث الهوتية ينسجها حول تعاليم عيىس ره ٌ‬
‫وكارليل وشلري ماخر وبيارلرو وجان باينو وشارل سكريتان وأرضابهم فزجوا‬
‫باإلنجيل يف مآذق مجادالت ليست منه وليس منها يف يشء‪ ،‬وهل خطر لذلك املعلم‬
‫اإلنساني وهو يدعو إىل تطهري النفس ومقاومة الظلم واألخذ بالرحمة وإقامة‬
‫اإلخاء بني بني اإلنسان أن ينشئ مدرسة للتعليل عن مظاهر الكون ومنشأ الروح‬
‫واالنعكاسات من اآلفاق واالنطباعات يف الرسائر‪ ،‬بل هل خطر له أن يبحث عالقته‬
‫بالله وعالقته هو وحده أو هو وأب الخليقة كلها بروح القدس؟‬
‫•••‬
‫وأُخذ نيتشه بهذه التيارات تهب من كل جانب عىل فكره الوقاد تلهبه اآلالم‪،‬‬
‫وتثري تشوقه إىل حال يعلل فيها سبب وجوده وهدف صربه وجهاده‪.‬‬
‫إن الرجل املتمتع بصحة الجسم وبيشء من العزم يكتفي من هذه الحياة بما‬
‫تعطيه فإذا آمن بالله واليوم اآلخر وقف عند إيمانه هذا مرتاحً ا إىل ضمريه‪ ،‬وإذا‬
‫أخذ بفلسفة الجحود ريض بهذه املرحلة من شعوره بذاته وطلب أوفر تمتع بأقل‬
‫جهد‪.‬‬
‫وال يسطو القلق الفكري بخاصة يف حالة الحرية من أمر هذه الحياة إال عىل‬
‫ظا من أوجاعه لكل لذة يختلسها كالسارق من قوته‬ ‫اإلنسان الذي يؤدي ثمنًا باه ً‬
‫األسرية يف ضعفه الجائر‪.‬‬
‫إن مثل هذا اإلنسان‪ ،‬إذا عززته القوة الخفية بالحس املرهف‪ ،‬يطالب الدنيا‬
‫ببدل لِما يبذل فيها فيستنطق نفسه واآلفاق ليعلم ما إذا كان لهذه اإلنسانية‬
‫ٍ‬

‫‪17‬‬
‫املعذبة املجاهدة ما يربر محنتها وجهادها‪.‬‬
‫وفريدريك نيتشه كان ذلك اإلنسان فما أرضته من الفلسفة الالهوتية تلك‬
‫األحاجي التي أُحيطت املسيحية بها‪ ،‬وما كان لريىض من جهة أخرى بهذه القوة‬
‫الهوجاء التي صورها شوبنهور موجدة إلنسان لم يُعط له إال التصور إلقامة‬
‫أشباح ترتاقص حوله وهي غري كائنة إال يف وهمه‪.‬‬
‫ونظر نيتشه إىل الوجود فرأى وراء صوره املتحولة مادة تتعاىل عن االندثار‬
‫فنشأت فيه فكرة العودة املستمرة‪ ،‬وبدأت صورة زرادشت ترتسم يف ذهنه حتى‬
‫استكملها فأنشأ كتابه يف أوقات متقطعة من سنتي ‪ 1883‬و‪ 1885‬يف فرتات‬
‫كانت تسكن فيه ح َّد ُة دائه أو هو يس ِّكنها بما كان يتناوله من جرعات الكلورال‬
‫كل من األجزاء الثالثة األوىل من زرادشت يف‬‫املخدر‪ ،‬وهو نفسه يقول إنه كتب ًّ‬
‫مدى عرشة أيام كان فيها مأخوذًا بإلهامه خاضعً ا لقريحة تحكمت فيه فلم‬
‫ً‬
‫إرهاقا‪.‬‬ ‫يستطع مقاومتها حتى أرهقته‬
‫إذا نحن عرفنا هذا تجلت لنا العوامل التي ألقت عىل زرادشت وشاح األحالم‪،‬‬
‫فإن نيتشه يقبض يف فصوله عىل مشاعر قارئه ليمر به عىل رؤى يتسامى الخيال‬
‫فيها إىل أوجه مفلتًا من رقابة القوى الواعية‪ ،‬فكأنه يسري بمطالعه يف عالم أحال ٍم‬
‫تُبعث أشباحها من انطباعات القوى الواعية‪ ،‬ولكنها تتبع يف مرورها وحركاتها‬
‫ما نحسبه تضعضعً ا يف عالم القوى الساهية املجهولة‪.‬‬
‫•••‬
‫لقد ماشينا نيتشه يف حلمه وهو يستعري لعقله الباطن أو لرسيرته أو لفكرته‬
‫الساهية اسم زرادشت الفاريس الذي قال بالخري والرش كقوتني تتنازعان حياة‬
‫اإلنسان‪ ،‬فرأينا زرادشت املزيف ال يقلد األصيل باتخاذه أتباعً ا له وباقتباسه‬
‫لهجة حكماء الرشق إال ليعارض فكرة الخري والرش ً‬
‫قائل‪ :‬إنها نشأت دخيلة عىل‬
‫اإلنسانية َّ‬
‫وإن ليس لهذه اإلنسانية أن تتفوق عىل ذاتها إال بإنكار الخري والرش‬
‫وتحطيم ألواح الرشائع املقدِّرة لقيم األعمال؛ ألن كل شعب اشرتع لنفسه ما ال‬

‫‪18‬‬
‫يتوافق واشرتاع جاره‪.‬‬
‫ً‬
‫تناقضا‬ ‫ولكن نيتشه املتلبِّس خيال زرادشت يف رؤياه لم ينتبه إىل أنه يرتكب‬
‫بينًا يف دعوته؛ إذ ينكر ما يراه من خري ورش طلبًا لحالة جديدة يراها هو خريًا‬
‫يريد أن يتسلح به للقضاء عىل رش ينكر وجوده‪.‬‬
‫ولو كانت الحقيقة كامنة وراء الخري والرش كما يدعي زرادشت الجديد أو‬
‫بتعبري آخر لو أن هنالك حقيقة مجردة عن الخري فلماذا يطلب زرادشت هذه‬
‫الحقيقة‪ ،‬وهو يعلن أنها الخري كل الخري لإلنسانية إذا هي أدركتها؟‬
‫•••‬
‫ٍ‬
‫رشعة تكفل حق‬ ‫إن تحديد الخري والرش يف الكلمات العرش إنما هو أساس كل‬
‫الفرد ونظام املجموع‪.‬‬
‫لقد تتناقض األحكام التي تستنُّها الحكومات والجماعات يف مجال األزمان‬
‫ٌ‬
‫حاجة ملحَّ ة‪ ،‬فتُكتب ألواحٌ تُستبدل بتبدل‬ ‫مستوحاة من حالة مؤقتة تدفع إليها‬
‫السنن التي تُستلهم من الرشيعة املوحى بها ال يمكن‬ ‫الوضع واملالبسات‪ ،‬ولكن ُّ‬
‫ٍ‬
‫رشعة أصيلة‬ ‫أن تتعارض إذا هي سلمت من دخيالت األوضاع اإلنسانية‪ ،‬وكل‬
‫ٍ‬
‫رشيعة تحدرت مثلها من ذلك األصل‪.‬‬ ‫تحتفظ بطابع مصدرها تتوافق حتمً ا وكل‬
‫إن زرادشت الجديد لم يجُ ْل يف مسارح حلمه فاتحً ا لرسيرته مجاالت التفكري‬
‫ٍ‬
‫بانطباعات من تواريخ األمم القديمة الوثنية‪ ،‬وبصور متناقضة‬ ‫إال وهو يحتفظ‬
‫من القوانني التي أبدعتها حكومات الغرب وجماعاته ونقاباته الصناعية واملالية‬
‫ألواح ترتاقص عليها ألوا ُن ال ِبدَع‪ ،‬فما وسع زرادشت إال‬
‫ٍ‬ ‫السنَن أشباحَ‬
‫فتمثلت هذه ُّ‬
‫أن يثور عليها ويدعو أتباعه إىل تحطيمها‪.‬‬
‫أما اللوحان األوَّالن وكلمة عيىس بأن يعامل اإلنسا ُن أخاه بما يريد أن يعامله‬
‫أخوه به والرشيعة األحمدية التي جاءت عىل أساس هذا املبدأ بخري الكليات‬
‫تُستنبط منها األحكام لكل جماعة ولكل زمان‪ ،‬فإن زرادشت لم يبحثها مع أن‬
‫نفسه كانت تصبو إليها لشعوره بوجودها وراء أقنعة النظم التي أسدلها الغرب‬

‫‪19‬‬
‫عىل مجتمعاته‪ ،‬وإذ كان لم يتميزها فما ذلك إال ألن دماغه كان يتصدع بما حُ رش‬
‫فيه من فلسفة اليونان القديمة ومن مشاحنات أعالم عرصه الذين ُشغلوا بالجدل‬
‫واملماحكات املنطقية املجردة حتى أتوا بنظريات تورث الدوار وتبلبل الفكر‬
‫فيضطر من أل َّم بها إىل نبذها جميعً ا؛ ألنها كدود القبور يلتهم بعضها البعض‬
‫اآلخر بعد أن تتغذى من جيفة ال حياة فيها‪.‬‬
‫•••‬
‫ناموس ونظام؛ لينبئ الناس بالخلود‬
‫ٍ‬ ‫ويف هذا الحلم يسري زرادشت هادمً ا كل‬
‫وبقاء الذات يف وجو ٍد شبَّهه بالساعة الرملية ينقلب أبدًا قسمها املفرغ الستفراغ‬
‫قسمها املمتلئ‪.‬‬
‫يطمعن القارئ يف الظفر من زرادشت بما يثبت هذه العقيدة الراسية عىل‬‫َّ‬ ‫وال‬
‫خلود مبهم وعودة أشد إبهامً ا؛ ألنه لن يظفر منه بغري صور يلمحها ملحً ا يف‬
‫بيان شعري يتلبس الفلسفة دون أن يكون فيه أثر ألي استقراء أو ألي تعليل‬
‫فيخرج من استغراقه‪ ،‬وهو ال يدري أيقصد نيتشه من العودة املستمرة ما يتوهمه‬
‫امللحدون من خلود اآلباء يف األبناء‪ ،‬أم هو يرمي إىل عودة الشخصية بالذات ناسية‬
‫ماضيها تاركة يف كل مرحلة من مراحلها جثة تتلوها جثة عىل مدى األحقاب‪.‬‬
‫لقد تمرد نيتشه أمام العدم كما قلنا‪ ،‬وخفيت عنه حقيقة الدين الذي أخذ به‬
‫حقيقة ما أُنزل عىل مُحَ مَّ ٍد‬
‫ُ‬ ‫الغرب عن عيىس فأحاطه باملعميات‪ ،‬كما خفيت عنه‬
‫وجهل‪ ،‬فوقف مفك ًّرا جبا ًرا ال‬‫ً‬ ‫فشوَّهه هذا الغربُ باالفرتاء والتشنيع تعصبًا‬
‫يستسلم لفكرة العبث يف غاية الكون وال يرىض بالنظم االجتماعية التي أوجدتها‬
‫املدنية وأسندتها إىل الدين‪ ،‬وهكذا هب يطلب لإلنسانية إلهً ا منها يسودها ولألرض‬
‫معنى أبديًّا يحوِّل كل زوال فيها إىل خلود مستمر التجدد بني الخفاء والظهور يف‬
‫محدود غري محدود …‬
‫ولو تسنَّى لنيتشه أن ينفذ حقيقة اإليمان الذي دعا عيىس إليه مكمِّ ًل ما جاء‬
‫به موىس لكان تجىل له إيمانًا بالقوة ترفع الضعفاء ال بالضعف يُسلط عليهم‬

‫‪20‬‬
‫األقوياء‪ ،‬ولو تسنى له أن يستنري بما جاء به اإلسال ُم من مبادئ اجتماعيَّة عمليَّة‬
‫عُ ليا تمايش ما جاء به عيىس وال تنقضه ألدرك أن يف الدين الحق دستو ًرا يهدم كل‬
‫ما أراد هو هدمه من رصوح الفساد يف املجتمع ويوجد اإلنسان املتصف بمكارم‬
‫األخالق محبًّا للحياة والقوة والجمال والحرية‪ ،‬دون أن يكرس حلقة اإلنسانية‬
‫ويحاول االنطالق منها‪ ،‬وهو ال يزال يلبس تراب األرض ويرسف يف أغاللها‪.‬‬
‫ولكن نيتشه باندفاعه إىل معارضة الفالسفة من معارصيه وبثورته عىل‬
‫التفكري الديني والتفكري املطلق يف آن واحد؛ رأى أن التكامل لنوال عطف األلوهية‬
‫الراسخة يف األذهان‪ ،‬والتخلص من عقابها الصارم؛ يقتيض اإلعراض عن الزائالت‬
‫واالستكانة إىل السلطة واعتبار العاطفة الجنسية ملطخة بأوضار الخطيئة‬
‫األصلية فثار عىل هذه األلوهية املزيفة التي عرفها الرشق يف أي دور من أدوار‬
‫وحيه‪ ،‬وهكذا كفر نيتشه بالله فأعلن موته واختناقه برحمته …‬
‫هذا هو جحود نيتشه يف تعاليم زرادشت‪ ،‬وهو يف تقديرنا إذا نحن استنرنا‬
‫بالدين الحق كما تدركه ذهنيَّتُنا السامية جحود يتجه إىل غري اإلله الواحد األحد‬
‫ربِّ الناس أجمعني‪.‬‬
‫قول أو‬
‫للنبي الكري ِم عىل ٍ‬
‫ِّ‬ ‫ٍ‬
‫حديث‬ ‫بل إننا إذا ذكرنا القاعدة املثىل التي وردت يف‬
‫يف كلمة ألمري املؤمنني عمر عىل قول آخر‪ ،‬وهي‪« :‬اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا‪،‬‬
‫واعمل آلخرتك كأنك تموت غدًا‪».‬‬
‫إذا ذكرنا ذلك‪ ،‬يتضح َل َديْنا أن نيتشه قد ذهب إىل أبعد مدى يف االمتثال للوصية‬
‫ٌ‬
‫وصية راسخة يف أرواح أبناء هذه البالد‬ ‫األوىل وقد فاتته الوصي َُّة الثانية وهي‬
‫الرشقية العربية‪ ،‬فليس إذن يف عظات زرادشت ما يزعزع عقائدنا أو ينال من‬
‫ً‬
‫أساسا‬ ‫إيماننا‪ ،‬بل إن فيها ما َّ‬
‫يتمش واملبادئ َ العليا التي اتخذها السلف الصالح‬
‫إلقامة عظمة الدين عىل عظمة الحياة‪.‬‬
‫ويف اعتقادنا أن نيتشه قد فاق كل كاتب يف تصويره واجب اإلنسان نحو الحياة‬
‫الدنيا؛ ألن العلماء املاديني من جهة اعتربوا الحياة زائلة فما اهتموا لرقي اإلنسان‬

‫‪21‬‬
‫األدبي فيها قدر اهتمامهم بإطالة حياته وإيالئه التنعم األوفر بالجهد األقل‪ ،‬وألن‬
‫املفكرين املؤمنني‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬ما كان بوسعهم أن يفكروا لألرض ويحرصوا‬
‫قرار؛ ألن العمل لألرض ليس إيمانهم كله بل هو نصف‬ ‫كل جهد فيها كأنها دا ُر ٍ‬
‫إيمانهم‪ ،‬أما نيتشه فبعد أن أقفل عىل تفكريه وخياله كل نافذة يمكن للروح أن‬
‫تتطلع منها إىل السماء‪ ،‬وبعد أن تاقت نفسه إىل الخلود فاستنزله كمعنى لهذه‬
‫جاعل هذا الرتاب وطن اإلنسان الدائم‪ ،‬لم يسعه إال توجيه كل‬‫ً‬ ‫األرض كما يقول‬
‫إنسانية تتمتع بكل ما يمكن اعتصاره من الدنيا وتبلغ عليها من‬ ‫ٍ‬ ‫قواه لتصور‬
‫الرقي مرتبة األلوهية‪.‬‬
‫•••‬
‫ثالثة من أعالم الرشق العربي أهابوا بنا إىل ترجمة‬ ‫ً‬ ‫تلك حقائق لم تفت‬
‫زرادشت‪ ،‬ونرشه يف هذه البالد لتسديد عزم الشبيبة يف هذه املرحلة التي يتوقف‬
‫عىل نهضتنا فيها مستقبلنا واستعادة أمجاد تاريخنا‪ .‬أولئك الثالثة هم‪ :‬املغفور له‬
‫السيد مصطفى صادق الرافعي فقيد الرشق والعروبة واإلسالم‪ ،‬واألستاذ حافظ‬
‫عامر بك قنصل مرص العام يف اآلستانة مؤلف رسالة الحج التي كان لها دويٌّ يف‬
‫أوساط املفكرين‪ ،‬واألستاذ أحمد حسن الزيات القابض عىل آداب الغرب باطالعه‬
‫وتفكريه والرافع عَ َل َم اآلداب الرشقية بقلمه‪ ،‬وقد تفضل األستاذ املشار إليه فنرش‬
‫يف مجلته الرسالة أكثر من ربع الكتاب يف مدى سنة‪ ،‬ولوال تقديرنا أن الزمان‬
‫ًّ‬
‫مستقل‪.‬‬ ‫سيطول عىل نرشه برمته ملا كنا بادرنا إىل طبعه ً‬
‫كامل‬
‫•••‬
‫إن ما دعانا وأصحابنا املشار إليهم إىل تقرير ترجمة زرادشت هو أننا نظرنا‬
‫إىل فلسفته من الوجهة املالمسة للمبادئ الدينية االجتماعية التي تتجه إىل إحياء‬
‫حضارتنا القديمة عىل أساسها‪ ،‬وقد رأينا أن هذا املؤ َّلف الفريد يف نوعه ليس من‬
‫الكتب التي تُنقل إىل بياننا ملا لها من قيمة فلسفية وأدبية فحسب‪ ،‬بل هو من‬
‫الكتب التي يجدر بالناشئة العربية درسها كما يدرسها طالب الجامعات يف كل‬

‫‪22‬‬
‫قطر أوروبي‪ ،‬فإن كتاب زرادشت قد أثر التأثري األكرب عىل تطور الحركة الفكرية‬
‫يف أواخر القرن التاسع عرش يف عالم الغرب‪ ،‬واشتمل من املبادئ عىل ما كان وال‬
‫يزال محور الخالف املستحكم بني ذهنيته وذهنية الرشق العربي بوجه خاص‪،‬‬
‫ولقد مىض عىل ظهور هذا الكتاب زهاء نصف قرن‪ ،‬ولم يكن العالم العربي يف‬
‫ذلك العهد عىل اتصال وثيق بالحركة الفكرية الغربية؛ فلم يُسمع يف هذه البالد‬
‫بنيتشه وفلسفته إال بمقاالت موجزة‪ ،‬وكل ما عُ رف عنه هو أنه يدعو إىل التحرر‬
‫من ربقة األوهام واطراح الزهد واليأس واالتجاه إىل إيجاد اإلنسان املتفوق‪.‬‬
‫ولعل املفكرين يسلمون معنا بأن خل َّو املكتبة العربية من هذا املؤلف الفريد الذي‬
‫ترجم إىل جميع اللغات الحية؛ فاتُّخذ أنموذجً ا بني أبنائها للرصاحة واإلخالص يف‬
‫نقصا يف هذه املكتبة‪ ،‬وُيسجِّ ل قصو ًرا علينا‪ ،‬لذلك اقتحمنا‬‫طلب الحقيقة؛ يُع ُّد ً‬
‫إعارة بياننا لكتاب زرادشت الذي قالت فيه املوسوعة الكربى إنه ال يعد أروع ما‬
‫كتب نيتشه فحسب‪ ،‬بل أروع ما ُكتب يف اللغة األملانية عىل اإلطالق‪.‬‬
‫•••‬
‫وال بد يف ختام تمهيدنا من إِلفات املفكرين إىل فصل من كتاب زرادشت عنوانه‪:‬‬
‫«بني غادتني يف الصحراء» وفيه نشيد لخيال زارا فإننا وقفنا عنده مليًّا؛ ألنه من‬
‫نوع البيان املستغرق يف الرمزية فال يفهمه القارئ إال بحسه الكامن وقد ال يتفق‬
‫ً‬
‫تأويل واضحً ا جليًّا‪.‬‬ ‫اثنان عىل تأويله‬
‫ولو أننا ترجمناه بالحرف لجاء كأحد الرسوم التي ابتدعها أنصار التكعيب‬
‫أجبل يرى أم شجرة أم إنسانًا‪.‬‬
‫يقف املشاهد أمامها فال يدري ً‬
‫لذلك اضطررنا إىل إمالء بعض الفراغ بني الخطوط‪ ،‬وإىل االلتجاء لكرس‬
‫النتوءات عند نقل بعض املكعبات املبهمة الصارمة‪ ،‬فجاء هذا النشيد أقرب‬
‫إىل البيان املألوف دون أن يخرج عن أصله الرمزي الذي يحتاج إىل كثري من‬
‫االستغراق يف تفهم معانيه‪.‬‬
‫وحاذرنا أن نكون تجاوزنا حد الخطوط األصلية يف النقل فرجعنا إىل عالم‬

‫‪23‬‬
‫معروف من علماء الغرب ممن أحاطوا بفلسفة نيتشه وذهبوا إىل حد بعيد يف‬
‫تحليلها‪ ،‬وهو حرضة الدكتور روبرت ريننجر األستاذ يف جامعة فينا نعرض عليه‬
‫ما رأيناه يف رموز نشيد الصحراء‪ ،‬ونسأله إقرارنا عىل ما أصبنا فيه وتصحيح ما‬
‫ً‬
‫مؤرخا يف ‪ 19‬أبريل من هذه السنة وفيه‬ ‫قد نكون ضللنا يف تبيانه‪ ،‬ف َو َردَنا جوابُه‬
‫يقول‪:‬‬
‫إنني أرى خالصة معنى النشيد يف فقرته األوىل املكررة يف آخره وهي‪« :‬إن‬
‫الصحراء تتسع وتمتد فوي ٌل ملن يطمح إىل االستيالء عىل الصحراء‪ ».‬فإن نيتشه قد‬
‫رمز بالصحراء إىل الوجود القاحل الذي ال غاية له‪ ،‬وقد أتيت عىل بحث هذا الرمز‬
‫يف كتابي «جهاد نيتشه من أجل معنى الحياة وغايتها»‪.‬‬
‫أما سائر ما يف النشيد فأراه يرمي إىل وصف أجواء الصحراء املتمتعة بالحرية‪،‬‬
‫وهي بابتعادها عن املعمور تويل أبناءها الحياة الساذجة الطاهرة عىل نقيض ما‬
‫تورثه ثقافة أوروبا الشمالية من الخشونة والكثافة‪.‬‬
‫أما كلمة «صالة» فقد أصبتم يف ترجمتكم إياها‪« :‬حيَّا عىل الصالة‪».‬‬
‫النبي محم ٌد هو املرموز إليه بأسد الصحراء ونذيرها حسب‬
‫ُّ‬ ‫هذا‪ ،‬وقد يكون‬
‫تأويلكم‪.‬‬
‫رسنا وايم الله أن يوافقنا هذا العالم عىل تأويلنا‪ ،‬وإن يكن ذهب يف تفسري‬
‫لقد َّ‬
‫اتساع الصحراء وامتدادها إىل غري ما ذهبنا إليه فقد كنا صارحناه بأن ما فهمناه‬
‫ُ‬
‫انبعاث‬ ‫من اتساع الصحراء وامتدادها وتهديد مَ ْن يطمح لالستيالء عليها إنما هو‬
‫اإليمان الحق بالفضائل العليا وتم ُّردها عىل الجحود والتضعضع يف الحياة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫رصاحة تؤيدنا خاصة‬ ‫وقد كان دليلنا عىل صحة مذهبنا ما ورد يف النشيد من‬
‫يف الفقرة األخرية وهي‪:‬‬
‫ارتف ْع يا مظهر الجالل ولتهبَّ مرة أخرى نسمة الفضيلة‪.‬‬
‫ويا ليت أسد الفضائل يزأر ً‬
‫أيضا أمام غادات الصحراء فإنه أقوى ما ينبه‬

‫‪24‬‬
‫أوروبا ويحفز بها إىل النهوض‪.‬‬
‫وها أنذا ابن أوروبا ال يسعني إال الخشوع لدويِّ هذه اآليات البيِّنات‪.‬‬
‫للعالِم األوروبي تأويله ولنا تأويلنا‪ ،‬وللصحراء يف بالد العرب رموزها فلندع‬
‫لألزمان تأويلها ولنكرر ما جاء يف نشيد الجاحد الطامح إىل الخلود‪:‬‬
‫إن الصحراء تتسع وتمتد فويل ملن يطمح إىل االستيالء عىل الصحراء‪.‬‬
‫إن عبري الرشق ال يضوع من نشيد الصحراء فحسب‪ ،‬بل هو يفوح من كل‬
‫حكمة ينطق بها زرادشت أمام مشاهد التضعضع األوروبي‪ ،‬ولسوف يقف رجال‬
‫العلم من أبناء الضاد عند كثري من أقواله‪ ،‬فيعرفون فيها آية من اآليات التي‬
‫أُوحيت ألنبيائهم أو أُلهمت لحكمائهم أو حديثًا لذلك األُمِّ ِّي األعظم الذي تناول‬
‫أدق القضايا االجتماعية فردها إىل مكارم األخالق؛ ليح َّلها جميعً ا‪.‬‬
‫َّ‬
‫ط هذه األسطر نتذكر صديقنا فقيد الرشق املغفور له السيد‬ ‫إننا ونحن نخ ُّ‬
‫مصطفى صادق الرافعي‪ ،‬الذي ق َّل مَ ْن جاراه يف تفهم دين الله والشعور بالقومية‬
‫العربية ووحدة اإلنسانية‪ .‬إننا لنذكره ونحس بما كان يمكننا أن نستمده من‬
‫آيات وأحاديث وحكم يتجىل فيها ما أجمع‬ ‫ثقافته العريقة ومعارفه الواسعة من ٍ‬
‫مفكرو الغرب عىل الخشوع أمامه من نظرات زرادشت الصائبات يف اتجاهات‬
‫العالم املتمدن ويف طلب رقي اإلنسان واإلهابة به إىل العمل يف األرض كأنه خال ٌد‬
‫عليها ال يموت‪.‬‬
‫غري أننا إذا كنا حُ رمنا اآلن من هذه النجدة يف كتابة تمهيدنا هذا فلن تُحرم‬
‫البالد أعالمً ا يقومون بهذا الواجب نحو مهبط وحي الله ومنبت العباقرة من‬
‫السلف واملعارصين‪.‬‬
‫فليكس فارس‬
‫اإلسكندرية يف ‪1938 / 9 / 20‬‬
‫ً‬
‫تخفيفا‪ ،‬وأتينا يف سياق الرتجمة‬ ‫بدل من زرادشت‬ ‫لقد اخرتنا إيراد اسم زارا ً‬
‫بردود علقناها عىل الهامش حيث رأينا لزومً ا لذلك‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫إهداء‬

‫إىل حرضة صاحب السعادة أسعد باسييل باشا‬


‫سيدي األستاذ‬
‫ولجت منها إىل حياة األعمال َّملا تزل تسيطر عىل حوافزك‬
‫َ‬ ‫إن حياتك األدبية التي‬
‫وتراود تفكريك وعواطفك‪ ،‬فإنك وإن أصبحت من رجال املرشوعات التجارية‬
‫الكربى تُح ِك ُم إعدادَها وتنفيذها ما برحت تحتفظ بطابع الفيلسوف يف وضع‬
‫نظريات عملك وبطابع الشاعر يف تقدير الحياة والتمتع بها‪ ،‬يف حني أن عقم‬
‫التفكري وجفاف الطبع يسيطران عىل معظم رجال الثروة بخاصة يف هذه األقطار‬
‫التي لم تزل يف بدء نهضتها‪ ،‬ولم يجمع االرتقاء بعد يف طبقتها املورسة بني حكمة‬
‫إنماء الثروة وحكمة التمتع بما يف الحياة من مباهج التفكري والشعور والتضامن‬
‫اإلنساني‪.‬‬
‫لقد أردت أن أنرش يف بالد العرب كتاب «زرادشت» الذي صدم به نيتشه‬
‫تيارات الفلسفات املتناقضة منذ نصف قرن يف أوروبا‬ ‫ِ‬ ‫الفيلسوف األملاني األشهر‬
‫موجِّ هً ا اإلنسان إىل تلمس مواطن القوة يف نفسه إلنشاء الجبابرة يف املجتمع‪،‬‬
‫فرضا ألتوِّج به هذا الكتاب‪ ،‬وقد َّ‬
‫حق عيل َّ أن أورد‬ ‫فإذا باسمك يُفرض عىل قلمي ً‬
‫األسباب التي حفزت بي إىل تقديمه إليك‪ ،‬ال ألبرر عميل تجاه تواضعك‪ ،‬بل ألبرئ‬
‫نفيس من اختيار تعسفي قد يُحمل عىل محمل التزلف وما أنا مَ ْن يتدنى إليه وال‬
‫أنت من يؤخذ به‪.‬‬
‫بدأت حياتك يف شبابك بتعهد تعليم الناشئة وتهذيبها يف مسقط رأسك‪ ،‬ثم‬ ‫لقد َ‬
‫بارحت مطارح ِظالل األرز حيث كان الحكم املطلق الجائر يص ُّد العبقريات عن‬‫َ‬
‫َ‬
‫ولجأت إىل وادي امللوك أنت ورفيقك املرحوم فرح أنطون فقيد الوثبة‬ ‫مصاعدها‪،‬‬
‫َ‬
‫تحولت عن هذا الرفيق إىل مراكض‬ ‫األوىل نحو النور يف تطور التفكري الحديث‪ ،‬وما‬

‫‪26‬‬
‫جهودك حتى تركت يف جامعته طابع نفسك الحرة وتفكريك العميق‪ ،‬وإنك لتذكر‪،‬‬
‫وال ريب‪ ،‬تقريركما ترجمة «زرادشت» إىل العربية والصفحات املعدودة التي أعار‬
‫فيها فرح بيانه الجزل للفيلسوف األملاني فسايره يف أجوائه وأغواره‪ .‬فأنت وفرح‬
‫رأيتما قبل كل أحد يف فلسفة نيتشه ما تحتاج النفوس املتواكلة إليه من حزم‬
‫وانطالق‪ ،‬كما أدركتما أن إلحاد هذا الفيلسوف لن يؤثر يف إيمان الرشق؛ ألنه‬
‫ال يستند إال إىل شكوك نشأت من حالة خاصة بالغرب َّ‬
‫وأن القوة وحدها التي‬
‫نحتاج إليها يف نهضتنا ستنرسب من كتابه الخالد إىل بياننا يف كتاب تفتقر املكتبة‬
‫العربية إليه بعد أن تُرجم إىل لغات الدنيا وطالعه املفكرون من كل الشعوب‪.‬‬
‫أردت بهذا البيان أن أبرر تقديم ترجمتي لزرادشت إليك يف نظر القراء‬ ‫ُ‬ ‫لقد‬
‫ال يف نظرك؛ ألنك تعلم أن هذا الكتاب إنما هو تحقيق حلم رأيته أنت ورفيقك‬
‫مكبوتة يف خفايا رسيرتك‪ ،‬وإنني ألرى يف املرحلة‬ ‫ً‬ ‫القديم وتنفيذٌ لرغبة لم تزل‬
‫التي قطعتَها منذ ذلك العهد ما يزيدك رغبة يف نرش زرادشت يف بالدك بعد أن‬
‫وأثبت بحياتك نفسها وهي مجىل الثقة بالنفس واإليمان بالخري‬ ‫َّ‬ ‫تيقنت باختبارك‬
‫أن الجبار الذي حَ ل َم به نيتشه ً‬
‫عامل لدنياه كأنه ال يموت أبدًا إنما يستكمله الجبا ُر‬
‫اآلخر الذي يعمل آلخرته كأنه يموت غدًا‪.‬‬
‫اإلسكندرية يف ‪1938 / 9 / 20‬‬
‫فليكس فارس‬

‫‪27‬‬
‫كتب المؤلف‬
‫(‪ )1‬رسالة املنرب إىل الرشق العربي‪.‬‬
‫(‪ )2‬هكذا تكلم زرادشت‪ ،‬تأليف الفيلسوف األملاني فريدريك نيتشه‪ ،‬مرتجمة‪.‬‬
‫(‪ )3‬اعرتافات فتى العرص‪ ،‬تأليف ألفريد دي موسيه‪ ،‬مرتجمة‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواية الحب الصادق‪ ،‬نفدت‪.‬‬
‫(‪ )5‬رشف وهيام‪ ،‬نفدت‪.‬‬
‫(‪ )6‬النجوى إىل نساء سوريا‪ ،‬نفدت‪.‬‬
‫الكتب املعدة للطبع‪:‬‬
‫(‪ )7‬املراحل؛ سياسة وأدب واجتماع‪.‬‬
‫(‪) 8‬القيثارة‪ :‬ديوان شعر‪.‬‬
‫(‪ )9‬قلعة حلب وقصص أخرى‪.‬‬
‫(‪ )10‬األحرار يف الرشق‪ ،‬بالعربية‪.‬‬
‫األحرار يف الرشق‪ ،‬بالفرنسية‪.‬‬
‫(‪ )11‬رؤى متصوف عربي‪ ،‬بالفرنسية‪.‬‬
‫(‪ )12‬من إلهام الرشق‪ ،‬بالفرنسية‪.‬‬
‫(‪ )13‬من حدائق الغرب‪ :‬مختارات مرتجمة‪.‬‬
‫(‪ )14‬بني عهدين‪ :‬قبل االحتالل وبعده‪.‬‬
‫(‪ )15‬أمام املحاكم‪ :‬اإلجرام والقانون‪.‬‬
‫(‪ )16‬األغالل‪ :‬مرسحية مرتجمة‪.‬‬
‫(‪ )17‬ثورة أثينا‪ :‬مرسحية شعرية نثرية‪.‬‬
‫(‪ )18‬حديث األزهار‪ ،‬مرتجمة‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫الجزء األول‬

‫مستهل زرادشت‬
‫‪1‬‬
‫ملا بلغ زارا الثالثني من عمره هجر وطنه وبحريته وسار إىل الجبل حيث أقام‬
‫عرش سنوات يتمتع بعزلته وتفكريه إىل أن تبدلت رسيرته‪ ،‬فنهض يومً ا من رقاده‬
‫مع انبثاق الفجر وانتصب أمام الشمس يناجيها ً‬
‫قائل‪ :‬لو لم يكن لشعاعك مَ ن‬
‫غبطة أيها الكوكب العظيم؟ منذ عرش سنوات ما برحت ترشق‬ ‫ٌ‬ ‫يُنري أكان لك‬
‫عىل كهفي‪ ،‬فلوالي ولوال ن ِْسي وأ ُ ْفعُ واني‪ ،‬لكنت مللت أنوارك وسئمت ذرع هذا‬
‫السبيل‪ ،‬ولكننا كنا نرتقب بزوغك كل صباح لنتمتع بفيضك ونرسل بركتنا إليك‪،‬‬
‫كرهت نفيس حكمتي كالنحلة أتخمها ما جمعت‪ ،‬فمن يل باألكف‬ ‫ْ‬ ‫صغ إيل َّ‪ ،‬لقد‬‫َ‬
‫أ ِ‬
‫تنبسط أمامي ألهب وأغدق إىل أن يغتبط الحكماء من الناس بجنونهم ويسعد‬
‫الفقراء منهم بثروتهم‪.‬‬
‫تلك هي األمنية التي تهيب بي للجنوح إىل األعماق‪ ،‬كما تجنح أنت كل مساء‬
‫ً‬
‫حامل إشعاعك إىل الشقة السفىل من العالم‪ ،‬أيها الكوكب‬ ‫منحد ًرا وراء البحار‬
‫الطافح بالكنوز‪.‬‬
‫لقد وجب عيل َّ أن أتوارى أسوة بك‪ ،‬وجب عيل َّ أن أرقد عىل حد تعبري األنايس‬
‫الذين أهفو إليهم‪.‬‬
‫باركني — إذن — أيها الكوكب‪ ،‬فأنت املقلة املطمئنة التي يسعها أن تشهد ما‬
‫ال يُحد من السعادة دون أن تختلج كمقلة الحاسدين‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫ً‬
‫سلسبيل مذهبًا ينثر عىل اآلفاق وهجً ا من مرساتك‪.‬‬ ‫بارك الكأس الدهاق تسكب‬
‫انظر! إن هذه الكأس تريد أن تندفق ثانية‪ ،‬وزارا يريد أن يعود إنسانًا‪.‬‬
‫وهكذا بدأ جنوح زارا إىل املغيب‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫وانحدر زارا من الجبال فما لقي أحدًا حتى بلغ الغاب حيث انتصب أمامه ٌ‬
‫شيخ‬
‫خرج من كوخه بغتة ليفتش عن بعض الجذور واألعشاب‪ ،‬فقال الشيخ‪ :‬ليس هذا‬
‫الرحالة غريبًا عن ذاكرتي‪ ،‬لقد اجتاز هذا املكان منذ عرش سنوات‪ ،‬ولكنه اليوم‬
‫غريه باألمس‪.‬‬
‫لقد َ‬
‫كنت تحمل رمادك يف ذلك الحني إىل الجبل‪ ،‬يا زارا‪ ،‬فهل أنت تحمل اآلن‬
‫نارك إىل الوادي؟ أفما تحاذر يا هذا أن ينزل بك عقاب مَ ن يرضم النار؟‬
‫لقد عرفت زارا‪ ،‬هذه عينه الصافية‪ ،‬وليس عىل شفتيه لالشمئزاز أثر‪ ،‬أفما تراه‬
‫يتقدم بخطوات الراقصني؟‬
‫لقد تبدلت هيئة زارا؛ إذ رجع بنفسه إىل طفولته‪ ،‬لقد استيقظت يا زارا فماذا‬
‫أنت فاعل قرب النائمني؟‬
‫كنت تعيش يف العزلة كمن يعوم يف بحر والبحر يحمل أثقاله‪ ،‬وأراك اآلن تتجه‬
‫إىل اليابسة‪ ،‬أفرتيد االستغناء عمن حملك لتسحب هامتك عىل األرض بنفسك؟‬
‫فأجاب زارا‪ :‬إنني أحب الناس‪.‬‬
‫فقال الشيخ الحكيم‪ :‬إنني ما طلبت العزلة واتجهت إىل الغاب إال الستغراقي يف‬
‫حبهم‪ ،‬أما اآلن فقد حولت حبي إىل الله‪ ،‬وما اإلنسان يف نظري إال كائن ناقص‪،‬‬
‫فإذا ما أحببته قتلني حبه‪.‬‬
‫فأجاب زارا‪ :‬ومن يصف لك الحب اآلن! إنني ال أقصد الناس إال ألنفحهم‬
‫بالهدايا‪.‬‬
‫فقال الحكيم القديس‪ :‬إياك أن تعطيهم شيئًا‪ ،‬واألجدر بك أن تأخذ منهم ما‬

‫‪30‬‬
‫تساعدهم عىل حمله‪ ،‬ذلك أجدى لهم عىل أن تغنم سهمك من هذا الخري‪ ،‬وإذا كان‬
‫ال بد لك من العطاء فال تمنح الناس إال صدقة عىل أن يتقدموا إليك مستجدين‬
‫ً‬
‫أول‪.‬‬
‫فأجاب زارا‪ :‬أنا ال أتصدق؛ إذ لم أبلغ من الفقر ما يجيز يل أن أكون من‬
‫املتصدقني‪.‬‬
‫فضحك القديس مستهزئًا وقال‪ :‬حاول جهدك إذن إقناعهم بقبول كنوزك‪ ،‬إنهم‬
‫يحاذرون املنعزلني عن العالم‪ ،‬وال يصدقون بأننا نأتيهم بالهبات‪ ،‬إن لخطوات‬
‫الناسك يف الشارع وقعً ا مستغربًا يف آذان الناس‪ ،‬إنهم ليجفلون عىل مراقدهم؛ إذ‬
‫يسمعونها فيتساءلون‪ :‬إىل أين يزحف هذا اللص؟‬
‫ال تقرتب من هؤالء الناس‪ .‬ال تبارح مقامك يف الغاب‪ ،‬فاألجدر بك أن تعود إىل‬
‫مراتع الحيوان‪ ،‬أفال يرضيك أن تكون مثيل دبًّا بني الدببة وطريًا بني األطيار؟‬
‫فسأل زارا‪ :‬وما هو عمل القديس يف هذا الغاب؟‬
‫فأجاب القديس‪ :‬إنني أَن ْ ِظم األناشيد ألترنم بها‪ ،‬فأراني حمدت الله؛ إذ ُّ‬
‫أرس‬
‫نجواي فيها بني الضحك والبكاء؛ ألنني باإلنشاد والبكاء والضحك واملناجاة أسبِّح‬
‫الله ربي‪ ،‬ومع هذا‪ ،‬فما هي الهدية التي تحملها إلينا؟‬
‫فانحنى زارا مسلمً ا وقال للقديس‪ :‬أي يشء أعطيك؟ دعني أذهب عنك مرسعً ا‬
‫كيال آخذ منك شيئًا‪.‬‬
‫وهكذا افرتقا وهما يضحكان كأنهما طفالن‪.‬‬
‫وعندما انفرد زارا قال يف نفسه‪ :‬إنه ألمر جد مستغرب‪ ،‬أ َّملا يسمع هذا الشيخ يف‬
‫غابه أن اإلله قد مات‪1.‬‬
‫‪3‬‬
‫وإذ وصل زارا إىل املدينة املجاورة‪ ،‬وهي أقرب املدن إىل الغاب‪ ،‬رأى الساحة‬
‫مكتظة بخلق كثري أُعلنوا من قبل أن بهلوانًا سيقوم هناك باأللعاب‪ ،‬فوقف زارا يف‬

‫‪31‬‬
‫الحشد يخطبه ً‬
‫قائل‪ :‬إنني ٍ‬
‫آت إليكم بنبأ اإلنسان املتفوق‪ ،‬فما اإلنسان العادي إال‬
‫كائن يجب أن نفوقه‪ ،‬فماذا أعددتم للتفوق عليه؟‬
‫إن ًّ‬
‫كل من الكائنات أوجد من نفسه شيئًا يفوقه‪ ،‬وأنتم تريدون أن تكونوا جز ًرا‬
‫يصد املوجة الكربى يف مدها‪ ،‬بل إنكم تؤثرون التقهقر إىل حالة الحيوان بدل‬
‫اندفاعكم للتفوق عىل اإلنسان‪ ،‬وهل القرد من اإلنسان إال سخريته وعاره؟ لقد‬
‫اتجهتم عىل طريق مبدؤها الدودة ومنتهاها اإلنسان‪ ،‬غري أنكم أبقيتم عىل ج ِّل‬
‫ما إن الصحراء تتسع وتمتد فويل ملن يطتتصف به ديدان األرض‪ ،‬لقد كنتم من‬
‫جنس القرود فيما مىض‪ ،‬عىل أن اإلنسان لم يفتأ حتى اليوم أعرق من القرود يف‬
‫قرديته‪.‬‬
‫ليس أوفركم حكمة إال كائن مشوَّش ال يمت بنسبه إىل أصل رصيح‪ ،‬فهو مزيج‬
‫من النبات واألشباح‪ ،‬وما أدعو اإلنسان ليتحول إىل شبح أو إىل نبات‪.‬‬
‫لقد أتيتكم بنبأ اإلنسان املتفوق‪.‬‬
‫إنه من األرض كاملعنى من املبنى‪ ،‬فلتتجه إرادتكم إىل جعل اإلنسان املتفوق‬
‫معنى لهذه األرض وروحً ا لها‪.‬‬
‫أتوسل إليكم‪ ،‬أيها اإلخوة بأن تحتفظوا لألرض بإخالصكم فال تصدقوا مَ ن‬
‫ُّ‬
‫فيدسون لكم السم‪ ،‬سواء‬ ‫يمنونكم بآمال تتعاىل فوقها‪ ،‬إنهم يعللونكم باملحال‬
‫أجهلوا أم عرفوا ما يعملون أولئك هم املزدرون للحياة‪ ،‬لقد رعى السم أحشاءهم‬
‫فهم يحترضون‪ ،‬لقد تعبت األرض منهم فليقلعوا عنها‪.‬‬
‫لقد كانت الروح تنظر فيما مىض إىل الجسد نظرة االحتقار فلم يكن حينذاك‬
‫ً‬
‫ناحل قبيحً ا‬ ‫من مجد يطاول عظمة هذا االحتقار‪ .‬لقد كانت الروح تتمنى الجسد‬
‫جائعً ا متوهمة أنها تتمكن بذلك من االنعتاق منه ومن األرض التي يدبُّ عليها‪،‬‬
‫وما كانت تلك الروح إال عىل مثال ما تشتهي لجسدها ناحلة قبيحة جائعة‪ ،‬تتوهم‬
‫أن أقىص لذاتها إنما يكمن يف قسوتها وإرغامها‪.‬‬
‫أفليست روحكم‪ ،‬أيها اإلخوة‪ ،‬مثل هذه الروح؟ أفما تعلن لكم أجسادكم عنها‬

‫‪32‬‬
‫أنها مسكنة وقذارة وأنها غرور يسرتعي اإلشفاق؟‬
‫والحق ما اإلنسان إال غدي ٌر دنس‪ ،‬وليس إال ملن أصبح محي ً‬
‫طا أن يقتبل انصباب‬
‫مثل هذا الغدير يف عبابه دون أن يتدنس‪.‬‬
‫تعلموا من هو اإلنسان املتفوق‪.‬‬
‫إن هو إال ذلك املحيط تُغرقون احتقاركم يف أغواره‪.‬‬
‫وهل تتوقعون بلوغ معجزة أعظم من هذه املعجزة؟‬
‫لقد آن لالحتقار أن يبلغ أشده فيكم‪ ،‬بعد أن استحال رشفكم ذاته كما استحالت‬
‫عقولكم وفضائلكم إىل كره واشمئزاز‪.‬‬
‫لقد آن لكم أن تقولوا‪ :‬ما يهمني رشيف‪ ،‬وما هو إال مسكنة وقذارة وغرور‪ ،‬يف‬
‫حني أن عىل الرشف أن يربر الحياة نفسها‪.‬‬
‫لقد آن لكم أن تقولوا‪ :‬ما تهمني القوى العاقلة يف َّ‪ ،‬إذا لم تطلب الحكمة بجوع‬
‫األسد‪ ،‬وما هي اآلن إال مسكنة وقذارة وغرور‪.‬‬
‫لقد آن لكم أن تقولوا‪ :‬ما تهمني فضيلتي فإنها ملا تصل بي إىل االستغراق‪ ،‬وقد‬
‫أتعبني خريي ورشي‪ ،‬وما هما إال مسكنة وقذارة وغرور‪.‬‬
‫لقد آن لكم أن تقولوا‪ :‬ما يهمني عديل‪ ،‬إن العادل يقدح رش ًرا وملا اشتعل‪.‬‬
‫لقد آن لكم أن تقولوا‪ :‬ما تهمني رحمتي‪ ،‬أفليست الرحمة صليبًا يسمر عليه من‬
‫يحب البرش‪ ،‬ورحمتي َّملا ترفعني عىل الصليب‪.‬‬
‫أقلتم مثل هذا وناديتم به؟ ليتني سمعتكم تهتفون بمثله!‬
‫إن ما يرفع عقريته عىل السماء إن هو إال غروركم ال خطاياكم‪ ،‬إن هو إال‬
‫حرصكم حتى يف خطاياكم‪.‬‬
‫أين هو اللهب الذي يمتد إليكم ليطهركم؟ أين هو الجنون الذي يجب أن يستويل‬
‫عليكم؟‬
‫هأنذا أنبئكم عن اإلنسان املتفوق‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫إن هو إال ذلك اللهب وذلك الجنون‪.‬‬
‫وما فرغ زارا من كالمه حتى ارتفع صوت من الحشد ً‬
‫قائل‪« :‬لقد كفانا ما‬
‫سمعنا عن البهلوان‪ ،‬فليربز لنا اآلن لنراه‪».‬‬
‫فضحك الجميع مستهزئني بزارا‪ ،‬وتقدم البهلوان ليقوم بألعابه وهو يعتقد أنه‬
‫كان موضوع الحديث‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫ً‬
‫مجيل أنظاره يف القوم‪ ،‬ثم قال‪ :‬ما اإلنسان إال حبل منصوب بني‬ ‫وبهت زارا‬
‫الحيوان واإلنسان املتفوق فهو الحبل املشدود فوق الهاوية‪.‬‬
‫إن يف العبور للجهة املقابلة مخاطرة‪ ،‬ويف البقاء وسط الطريق خط ًرا‪ ،‬ويف‬
‫االلتفات إىل الوراء ويف كل تردد ويف كل توقف خطر يف خطر‪.‬‬
‫إن عظمة اإلنسان قائمة عىل أنه مَ عْ َبٌ وليس ً‬
‫هدفا‪ ،‬وما يستحب فيه هو أنه‬
‫سبيل وأفق غروب‪.‬‬
‫إنني أحب من ال غاية لهم يف الحياة إال الزوال‪ ،‬فهم يمرون إىل ما وراء الحياة‪.‬‬
‫أحب من عظم احتقارهم ألنهم عظماء‪ ،‬أحب املتعبدين يدفعهم الشوق إىل‬
‫املروق كالسهم إىل الضفة الثانية‪.‬‬
‫أحبُّ من ال يتطلبون وراء الكوكب معرفة ما يدعو إىل زوالهم أو ما يهيب بهم‬
‫إىل التضحية؛ ألنهم يقدمون ذاتهم قربانًا لألرض‪ ،‬لتصبح هذه األرض يومً ا مرياثًا‬
‫لإلنسان املتفوق‪.‬‬
‫أحب من يعيش ليتعلم‪ ،‬ومن يتوق إىل املعرفة ليحيا الرجل املتفوق بعده‪ ،‬فإن‬
‫هذا ما يقصد طالب املعرفة من زواله‪.‬‬
‫أحب من يعمل ويخرتع ليبني مسكنًا لإلنسان املتفوق فيهيئ ما يف األرض من‬
‫حيوان ونبات الستقباله‪ ،‬فإن هذا ما يقصد طالب املعرفة من زواله‪.‬‬
‫أحب من يحب فضيلته‪ ،‬فما الفضيلة إال الطموح إىل الزوال وإن هي إال السهم‬

‫‪34‬‬
‫تُنشبه أشواقه‪.‬‬
‫أحب من ال يحتفظ لنفسه برشارة واحدة من روحه‪ ،‬فيتجه إىل أن يكون بكليته‬
‫روحً ا لفضيلته؛ ألنه بهذا يجعل روحه تجتاز الرصاط‪.‬‬
‫أحب من يكون من فضيلته ميوله ومطمحه؛ ألنه بمثل هذه الفضيلة يتوق إىل‬
‫إطالة حياته كما يتوق إىل قرصها‪.‬‬
‫أحب من ال يريد االتصاف بعديد الفضائل؛ إذ يف الفضيلة الواحدة من الفضائل‬
‫أكثر مما يف فضيلتني‪ ،‬والفضيلة الواحدة حلقة ترتبط فيها الحياة‪.‬‬
‫أحب من يجود بروحه فال يطلب جزاء وال شكو ًرا‪ ،‬وال يسرتد‪ ،‬فهو يهب دائمً ا‬
‫وال يفكر يف االستبقاء عىل ذاته‪.‬‬
‫أحب من يخجل من سقوط زهر النرد لح ِّ‬
‫ظه فريتاب بغش يده‪ ،‬إن أمثاله هم‬
‫التائقون إىل الزوال‪.‬‬
‫أحب من يبذل الوعود وهاجة ثم يتجاوز عمله وعده‪ ،‬إن أمثاله هم التائقون‬
‫إىل الزوال‪.‬‬
‫أحب من يربر أعمال الخلف ويدافع عن السلف ألنه بذلك يسلم نفسه إىل نقمة‬
‫معارصيه‪ ،‬فهو ممن يتوقون إىل الزوال‪.‬‬
‫أحب من يعلن حبه لربه بتوجيه اللوم إليه؛ إذ يجب أن يهلك بغضب ربه‪.‬‬
‫أحب من يبلغ التأثر أعماق روحه يف جراحها فيعرضه أتفه حدث للفناء‪ ،‬إن‬
‫أمثاله يعربون الرصاط دون أن يرتددوا‪.‬‬
‫أحب من تفيض نفسه حتى يسهى عن ذاته؛ إذ تحتله جميع األشياء فيضمحل‬
‫فيها ويفنى بها‪.‬‬
‫أحب من تحرر قلبه وتحرر عقله حتى يصبح دماغه بمثابة أحشاء لقلبه‪ ،‬غري‬
‫أن قلبه يدفع به إىل الزوال‪.‬‬
‫أحب جميع من يشبهون القطرات الثقيلة التي تتساقط متتالية من الغيوم‬

‫‪35‬‬
‫السوداء املنترشة فوق الناس‪ ،‬فهي التي تنبئ بالربق وتتوارى‪.‬‬
‫ما أنا إال منبئ ٌ بالصاعقة‪ ،‬أنا القطرة الساقطة من الفضاء‪ ،‬وما الصاعقة التي‬
‫أبرش بها إال اإلنسان املتفوق‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫وبعد أن ألقى زارا هذه الكلمات أجال أنظاره يف الحشد وسكت ثم قال يف قلبه‪:‬‬
‫لقد تملكهم الضحك‪ ،‬فهم ال يفهمون ما أقول‪ ،‬وما أنا بالصوت الذي يالئم هذه‬
‫األسماع‪.‬‬
‫أعيل َّ أن أسد آذانهم ليتمرنوا عىل اإلصغاء بعيونهم؟ أم يجب أن أرضب الصنج‬
‫أسوة بوعاظ الصيام؟ لعل هؤالء القوم ال يتقون إال باأللكن من املتكلمني‪.‬‬
‫إن لهؤالء الناس ما يباهون به فما عساه أن يكون؟‬
‫إنهم يسمونه مدنية ليميزوا بها أنفسهم عىل الرعاة‪ ،‬فهم لذلك ينفرون من‬
‫لفظة االحتقار إذا ما ذُكرت يف معرض الكالم عنهم‪ ،‬فلسوف أخاطبهم إذن عن‬
‫غرورهم‪.‬‬
‫سأخاطبهم عن أحقر الكائنات‪ ،‬عن اإلنسان األخري‪ .‬وتوجه إىل الحشد ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫لقد آن لإلنسان أن يضع ً‬
‫هدفا نصب عينيه‪ ،‬لقد آن له أن يزرع ما يُنبت أسمى‬
‫رغباته ما دام لألرض بقية من ذخرها؛ إذ سيأتي يوم ينفذ هذا الذخر منها‬
‫فتجدب ويمتنع عىل أية دوحة أن تنمو فوقها‪.‬‬
‫ويل لنا! لقد اقرتبت األزمنة التي لن يفوق اإلنسان فيها سهام شوقه محلقة‬
‫فوق البرشية؛ إذ تخونه قوسه وترتاخى أوتارها‪.‬‬
‫الحق ما أقوله لن يخرج من اإلنسان كوكب وهاج للعالم حني تزول بقية السديم‬
‫من نفسه‪ ،‬وهذا السديم لم يزل فيكم‪.‬‬
‫ويل لنا! لقد اقرتبت األزمنة التي لن يدفع اإلنسان فيها بالكواكب للعالم‪ ،‬ويل‬
‫لنا؟ لقد اقرتب زمان اإلنسان الحقري الذي يمتنع عليه أن يحتقر نفسه‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫اسمعوا! هأنذا منبئكم عن الرجل األخري‪.‬‬
‫ٌ‬
‫أمحبة هي أم إبداع أم تشوق‪ ،‬أم توهج‬ ‫ً‬
‫متسائل عن نفسه فال يعلم‬ ‫إنه مَ ن يقف‬
‫كوكب‪.‬‬
‫وستصغر األرض يف ذلك الزمان فيطفر عىل سطحها الرجل األخري الذي يحول‬
‫إىل حضارة كل ما يدور به‪ ،‬إن ساللة هذا الرجل ال تباد‪ ،‬فهي أشبه بالرباغيث‪،‬‬
‫واإلنسان األخري أطول البرش عم ًرا‪.‬‬
‫ويقول أنايس الزمن األخري متغامزين‪ :‬لقد اخرتعنا السعادة اخرتاعً ا‪.‬‬
‫لقد هجر هؤالء البقاع التي تقسو عليها الحياة؛ ألنهم شعروا بحاجتهم إىل‬
‫الحرارة فأصبح كل واحد يحتك بجاره وقد احتاجوا إىل الدفء جميعً ا‪.‬‬
‫إنهم يقتحمون الحياة باحرتاس؛ ألن الوجل واملرض يف عينهم خطأ‪ ،‬وما سلم‬
‫من الجنون من يتعثر منهم بالحجارة وبالناس‪.‬‬
‫قليل من السموم حيث يجدونها طلبًا ملالذ األحالم ويكرعون منها‬ ‫إنهم يأخذون ً‬
‫ما يكفي دفعة واحدة طلبًا للذة املوت‪.‬‬
‫وإذا هم عملوا فإنما يعملون للتسلية محاذرين أن تذهب هذه التسلية بهم إىل‬
‫حدود اإلنهاك‪.‬‬
‫ليس بينهم من يصبح غنيًّا أو يميس فقريًا‪ ،‬وكال الفقر والغنى يُجلب الضنى‪،‬‬
‫ُحرج مُرهق‪.‬‬
‫وما منهم من يطمح إىل الحكم أو يرىض بالخضوع وكالهما م ِ‬
‫راع وليس هنالك إال قطيع واحد‪ .‬إن ًّ‬
‫كل من الناس يتجه إىل رغبة‬ ‫ليس هنالك ٍ‬
‫واحدة‪ ،‬فاملساواة سائدة بني الجميع‪ ،‬ومن اختلف شعوره عن شعور املجموع‬
‫يسري بنفسه مختا ًرا إىل مأوى املجانني‪.‬‬
‫ويغمز أمكر هؤالء الناس بعينهم ويقولون‪ :‬لقد كان الجميع مجانني فيما‬
‫مىض‪.‬‬
‫لقد ساد االحرتاس بني هؤالء القوم؛ ألنهم أخذوا بالعرب‪ ،‬فهم يتلقون الحادثات‬

‫‪37‬‬
‫متهكمني‪ ،‬وإذا نشأ بينهم خالف بادروا إىل حسمه صلحً ا؛ ألنهم يحاذرون أن‬
‫تصاب معدهم بالعلل واألدواء‪.‬‬
‫لهؤالء الناس لذات للنهار ولذات أخرى لليل‪ ،‬غري أنهم يراعون صحتهم ً‬
‫أول‪.‬‬
‫«لقد اخرتعنا السعادة اخرتاعً ا» ذلك ما يقوله أنايس الزمن األخري وهم يغمزون‪.‬‬
‫عند هذا أنهى زارا خطابه أو بالحري تمهيد خطابه فتعالت أصوات التهليل من‬
‫الحشد وهو يقول‪ :‬إلينا بهذا الرجل األخري يا زارا‪ ،‬اجعلنا عىل مثال أنايس الزمن‬
‫األخري فقد تخلينا لك عن اإلنسان املتفوق‪.‬‬
‫ولكن زارا وجم أمام هذا الحشد يسوده مثل هذا الروح فاستوىل الحزن عليه‬
‫وقال يف نفسه‪ :‬إنهم ال يفهمون كالمي‪ ،‬فلست بالصوت الذي تتطلبه هذه األسماع‪.‬‬
‫ً‬
‫طويل إىل هدير الغدران وحفيف‬ ‫ُّ‬
‫وأنصت‬ ‫ً‬
‫طويل يف هذه الجبال‬ ‫لقد عشت‬
‫األشجار‪ ،‬فأنا أكلم هؤالء الناس اآلن كأنني أخاطب رعاة املاعز‪.‬‬
‫إن روحي صافية تغمرها األنوار كما تغمر القم َم تباشريُ الصباح‪ ،‬ولكنهم‬
‫يحسون بالصقيع يف قلبي ويحسبونني مهرجً ا يأتيهم باملفجع من النكات‪.‬‬
‫إنهم يحدِجونني بأنظارهم ويتضاحكون‪ ،‬ففي قلبهم ثورة البغضاء وعىل‬
‫شفاههم بسمة الثلوج‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫وطرأ حادث ك َّم األفواه واسرتعى األبصار‪ ،‬وكان البهلوان بدأ بألعابه فاندفع‬
‫من النافذة وأخذ يتمىش عىل الحبل املمدود بني برجني فوق الساحة وما عليها من‬
‫املتفرجني‪ ،‬وما وصل إىل وسط الحبل حتى فتحت النافذة مرة ثانية‪ ،‬واندفع منها‬
‫ً‬
‫صارخا‪« :‬إىل األمام‬ ‫فتى مخطط باأللوان كاملهرجني وسار متَّبعً ا خطوات البهلوان‬
‫أيها األعرج! إىل األمام أيها الكسالن‪ ،‬أيها املرائي ذو الوجه الشاحب! اذهب لئال‬
‫تداعبك نعيل‪ ،‬ما هو عملك بني هذين الربجني؟ أفليس يف الربج مكان سجنك؟ أنك‬
‫تسد الطريق يف وجه من هو أفضل منك‪».‬‬

‫‪38‬‬
‫وكان الفتى يتقدم خطوة كلما قال كلمة حتى أصبح عىل قاب قوسني من‬
‫البهلوان‪ ،‬وعندئذ وقع الحادث الذي ك َّم األفواه واسرتعى األبصار؛ فإن الفتى لم‬
‫يلبث أن رصخ رصخة الجن وقفز فوق العقبة القائمة يف سبيله‪ ،‬وملا رأى البهلوان‬
‫انتصار خصمه عليه أخذه الدوار‪ ،‬وخلت رجله عن الحبل فرمى عارضة التوازن‬
‫من يديه وسقط يف الفضاء حيث الحت رجاله ويداه كعجلة تدور يف الهواء‪.‬‬
‫وماج الحشد عىل الساحة كالبحر اجتاحته العاصفة الهوجاء‪ ،‬وانفرط الناس‬
‫مو ِّلني اإلدبار‪ ،‬وانفرج املكان حيث كان يتجه الجسم بانحداره‪.‬‬
‫ولكن زارا لم يتحرك فوقع الجسم عىل مقربة منه حيث تقطعت أوصاله وتهشم‪،‬‬
‫غري أنه كان لم يزل حيًّا‪ ،‬وما عتم أن عاد روع الجريح إليه فرأى زارا جاثيًا قربه‬
‫فرفع رأسه وقال له‪ :‬ماذا تفعل هنا؟ ما كنت أجهل أن الشيطان سيُضل خطواتي‬
‫يومً ا وها هو ذا اآلن يجرني إىل جحيمه‪ ،‬أفرتيد أن تمنعه؟‬
‫فقال زارا‪ :‬ورشيف يا صديقي إن ما تذكره ال وجود له‪ ،‬فليس من شيطان وليس‬
‫من جحيم‪ ،‬إن روحك ستموت بأرسع من جسدك فال َ‬
‫تخش بعد اآلن شيئًا‪.‬‬
‫فرفع الرجل برصه مشك ًكا وقال‪ :‬إذا كان ما تقوله صحيحً ا فإنني ال أفقد شيئًا‬
‫صت بالرضب ُ‬
‫وغذِّ ُ‬
‫يت بأفخر غذاء‪.‬‬ ‫بفقد الحياة‪ ،‬فلست أنا إذن إال حيوانًا وقد ُر ِّق ُ‬
‫فقال زارا‪ :‬ال‪ ،‬ليس األمر كما تقول فإنك اتخذت املخاطرة مهنة لك ولم يكن‬
‫فيها ما يشني‪ ،‬أما اآلن فمهنتك هي أن تفنى‪ ،‬من أجل هذا سأدفنك بيديَّ ‪.‬‬
‫ولم يحر املدنف جوابًا بل حرك يده باحثًا عن يد زارا ليصافحها داللة عىل‬
‫شكره‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫وأمىس املساء مرخيًا سدوله عىل الساحة‪ ،‬فتفرق عنها املتفرجون وقد أرهقهم‬
‫ً‬
‫جالسا عىل األرض قرب امليت فاستغرق يف تفكريه‬ ‫الفضول والرعب‪ ،‬وبقي زارا‬
‫ناسيًّا مرور الزمان حتى هبت نفحات الليل عليه منفردًا‪ ،‬فناجى نفسه ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫‪39‬‬
‫ً‬
‫موفقا اليوم يا زارا! لقد أفلت الناس منك فاصطدت جثة هامدة‪.‬‬ ‫لقد كان صيدك‬
‫إن حياة اإلنسان محفوفة باألخطار‪ ،‬وهي فوق ذلك ال معنى لها … فإن مه ِّرجً ا‬
‫يمكنه أن يقيض عليها‪.‬‬
‫أريد أن أع ِّلم الناس معنى وجودهم؛ ليدركوا أن اإلنسان املتفوق إنما هو الربق‬
‫الساطع من الغيوم السوداء‪ :‬من اإلنسان‪.‬‬
‫ولكنني لم أزل بعيدًا عن هؤالء الناس وفكرتي بعيدة عن مداركهم‪ ،‬فأنا لم أزل‬
‫طا املدى بني مجنون وجثة هامدة‪.‬‬ ‫متوس ً‬
‫إن الليل مظلم ومسالك زارا مظلمة ً‬
‫أيضا‪ ،‬تعال أيها الرفيق املتيبِّس يف صقيعه!‬
‫إنني ذاهب بك إىل حيث أواريك الرتاب بيدي‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫ورفع زارا الجثة عىل كاهله وميش‪ ،‬ولكنه ما قطع مائة خطوة حتى زحمه رجل‪،‬‬
‫فأرس إليه‪ :‬اذهب من هذه املدينة يا زارا‪،‬‬
‫َّ‬ ‫وما كان هذا الرجل إال مهرج الربج‪،‬‬
‫فإن مبغضيك فيها كثريون‪ ،‬هنا يكرهك أهل الصالح والعدل‪ ،‬فيصفونك بالعدو‬
‫واملزدرى‪ ،‬ويكرهك املؤمنون بالدين الحق فريون بك خط ًرا عىل عامة الناس‪ ،‬وقد‬
‫كان من حظك أن هزأ الحشد بك؛ ألنك كنت تتكلم كاملهرجني‪ ،‬وكان من حظك‬
‫أيضا أن اشرتكت والكلب امليت‪ ،‬فقد كان خالصك هذه املرة يف إسفافك إىل هذه‬‫ً‬
‫املهاوي‪ ،‬ولكنك لن تسلم يف الثانية فاذهب من هذه املدينة وإال فإنني قافز غدًا‬
‫فوق جثة أخرى‪.‬‬
‫قال الرجل هذا وتوارى وتابع زارا سريه يف الشوارع املظلمة‪ ،‬وملا بلغ باب‬
‫املدينة التقى حُ َّفار القبور فوجهوا إىل رأسه أشعة مصابيحهم وإذ عرفوا فيه زارا‬
‫أشبعوه سخرية وهزءًا وقالوا‪ :‬مرحى يا زارا! لقد رصت اآلن حفا ًرا للقبور‪ ،‬إنك‬
‫تحمل الكلب امليت‪ .‬لقد أحسنت‪ ،‬فإن أيدينا أطهر من أن تدنس بجثته‪ ،‬أتريد يا‬
‫زارا أن تختلس من الشيطان طعامه؟ ُك ْل هنيئًا ولكن الشيطان أمهر منك‪ ،‬ولعله‬
‫يرسقكما كليكما فيلتهمكما التهامً ا‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫ودار حُ َّفار القبور بزارا يتفرسون فيه‪ ،‬أما هو فلزم الصمت وسار يف طريقه‪،‬‬
‫وبعد أن مىش ساعتني يقطع األحْ راج واملستنقعات‪ ،‬شعر بالجوع لكثرة ما عوت‬
‫حوله الذئاب الجائعة‪ ،‬فوقف أمام بيت منفرد الحت له األنوار من نوافذه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫لقد عضني الجوع وداهمني كاللص بني األحراج يف الليل البهيم‪.‬‬
‫إن لجوعي نزوات مستغربة وقد يداهمني حتى بعد الطعام‪ ،‬ولكنه اليوم ن َّد‬
‫عني منذ الصباح حتى املساء فأين كان هذا الجوع؟‬
‫ً‬
‫مشعل‪ ،‬وقال له‪ :‬من اآلتي إيل َّ‬ ‫وطرق زارا باب البيت فظهر له منه شيخ يحمل‬
‫وإىل رقادي املضطرب؟‬
‫ً‬
‫مأكل ومرشبًا فقد نسيت الغذاء‬ ‫فأجاب زارا‪ :‬أتيناك اثنني حي وميت‪ ،‬أعطني‬
‫النهار بطوله‪ ،‬إن من يشبع الجياع يويل نفسه قوة‪ ،‬هكذا قالت الحكمة‪.‬‬
‫فغاب الشيخ وعاد بخبز وخمر وقال‪ :‬إنها ألماكن موحشة للجياع‪ ،‬وذلك ما‬
‫دعاني إىل السكن هنا حيث يهرع إيل َّ البرش والحيوان يف وحدتي‪ ،‬أفال تدعو رفيقك‬
‫ليأكل ويرشب معك فهو أشد تعبًا منك‪.‬‬
‫فقال زارا‪ :‬إن رفيقي ميت وال يسهل عيل َّ إقناعه بتناول الطعام‪.‬‬
‫فتمتم الشيخ‪ :‬ذلك ال يهمني‪ ،‬إن من يطرق بابي عليه أن يأخذ ما أقدمه له‪،‬‬
‫ُكال هنيئًا‪.‬‬
‫أيضا وهو يهتدي إىل رسوم الطريق بنور‬‫وعاد زارا إىل السري فميش ساعتني ً‬
‫السى ويحب أن يتفرس يف كل ما يروق له‪ ،‬وعند ما‬ ‫النجوم‪ ،‬وقد كان معتادًا ُّ‬
‫الح الصباح كان زارا وصل إىل غابة كثيفة حيث انقطع كل طريق أمامه‪ ،‬فتوقف‬
‫ووضع الجثة يف فراغ شجرة حواها حتى رأسها ليقيها هجمات الذئاب‪ ،‬ورقد بعد‬
‫ذلك متوسدًا نبات األرض وما عتم حتى استغرق يف نومه منهوك الجسم مرتاح‬
‫الضمري‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫‪9‬‬
‫وطال نوم زارا حتى غمرت وجهه أنوار الضحى بعد أن داعبته تباشري الفجر‪،‬‬
‫ففتح عينيه مبهوتًا ورسح أبصاره عىل الغاب ثم حولها يستكشف نفسه ساكنًا‬
‫مستغربًا‪.‬‬
‫وهب من مجلسه فجأة كما يهب املالح تبدو لعينه األرض فهتف وقد ه َّزه املرح؛‬
‫قائل لقد انفتحت عيناي‪ .‬إنني بحاجة‬ ‫ألنه اكتشف حقيقة جديدة فخاطب قلبه ً‬
‫إىل رفاق أحياء ال إىل رفاق أموات وجثث أحملهم إىل حيث أريد‪.‬‬
‫رفاقا أحياء يتبعونني؛ ألنهم يريدون أن يتبعوا أنفسهم أيَّان‬ ‫ً‬ ‫إنني أطلب‬
‫توجهت‪.‬‬
‫لقد انفتحت عيناي؛ ليس عىل زارا أن يخاطب جماعات بل عليه أن يخاطب‬
‫ً‬
‫رفاقا‪ ،‬يجب أال يكون زارا راعيًا للقطيع وكلبًا له‪.‬‬
‫ً‬
‫خرافا عديدة من القطيع‪ ،‬وسوف يتمرد الشعب‬ ‫إنني ما جئت إال ألخلص‬
‫والقطيع عيلَّ‪ ،‬إن زارا يريد أن يعامله الرعاة معاملتهم للصوص‪.‬‬
‫قلت رعاة غري أنهم يُدعون بالصالحني والعادلني‪ ،‬قلت رعاة غري أنهم يدعون‬
‫باملؤمنني بالدين الحق‪.‬‬
‫انظروا إىل أهل الصالح والعدل لتعلموا من هو أل ُّد أعدائهم‪ ،‬إنه من يحطم‬
‫األلواح التي حفروا عليها ُسننهم‪ ،‬ذلك هو الهدام ذلك هو املجرم‪ ،‬غري أنه هو‬
‫املبدع‪.‬‬
‫انظروا إىل املؤمنني بجميع املعتقدات تعلموا من هو ألد أعدائهم إنه من يحطم‬
‫األلواح التي حفروا عليها سننهم‪ ،‬ذلك هو الهدام ذلك هو املجرم‪ ،‬غري أنه هو‬
‫املبدع‪.‬‬
‫إيل َّ بالرفاق‪ ،‬إنني أطلبهم مبدعني وال أطلبهم جثثًا وقطعانًا ومؤمنني‪.‬‬
‫إن املبدع ال يتخذ له ً‬
‫رفاقا إال من كانوا مثله مبدعني‪ ،‬إنه يتخذهم ممن يحفرون‬

‫‪42‬‬
‫سننًا جديدة عىل ألواح جديدة‪.‬‬
‫َّ‬
‫الحصاد يعاونونه يف الحصاد؛ ألن كل يشء قد‬ ‫إن من يطلب املبدع إنما هم‬
‫أصبح يف عينه ناضجً ا للحصاد‪ ،‬ولكن املائة منجل ليست بني يديه فهو يتميز‬
‫غضبًا ويقتلع السنابل من أصولها‪.‬‬
‫إن املبدع يطلب ً‬
‫رفاقا له بني من يعرفون أن يشحذوا مناجلهم‪ ،‬وسوف يدعوهم‬
‫الناس هدامني ومستهزئني بالخري والرش‪ ،‬غري أنهم يكونون هم الحاصدين‬
‫واملحتفلني بالعيد‪.‬‬
‫إن زارا يطلب من هم مثله مبدعون يشاركونه يف الحصاد ويف الراحة فال حاجة‬
‫له بالقطعان والرعاة وأشالء األموات‪.‬‬
‫وأنت يا رفيقي األول‪ ،‬ارقد بسالم لقد أحسنت دفنك يف فراغ الشجرة ووقيتك‬
‫افرتاس الذئاب‪.‬‬
‫غري أنني سأفرتق عنك ألن الزمان قد مر رسيعً ا‪ ،‬وقد انبثقت حقيقة جديدة يف‬
‫أفق نفيس ما بني فجرين‪.‬‬
‫لن أكون راعيًا‪ ،‬ولن أكون حفار قبور‪ ،‬ولسوف ال أقف بعد اآلن يف الجماعات‬
‫خطيبًا فقد وجهت آخر خطبي إىل ميت‪.‬‬
‫أريد أن أنضم إىل املبدعني‪ ،‬إىل أولئك الذين يحصدون ويرتاحون فأريهم قوس‬
‫قزح واملراتب التي يرقاها الواصلون إىل اإلنسانية املتفوقة‪.‬‬
‫سأهتف بنشيدي للمعتزلني وملن يشعرون بمثنويَّتهم يف انفرادهم‪ .‬إنني سأمأل‬
‫بغبطتي قلب كل من له أذنان تصغيان إىل ما لم تسمعه أذن بعد‪.‬‬
‫إنني أسري إىل هديف وأتبع طريقي فأقفز فوق املرتددين واملتأخرين‪ ،‬وهكذا‬
‫سيكون سريي جنوحً ا إىل الغروب‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫وكان زارا يناجي نفسه بهذا القول والشمس يف الهاجرة‪ ،‬وإذا به يسمع صوتًا‬

‫‪43‬‬
‫جارحً ا يف الفضاء والح له نرس يعقد حلقات يف طريانه‪ ،‬وقد تعلق به أفعوان‬
‫وما كان النرس يقبض عليه بمخلبيه كفريسة‪ ،‬بل كان األفعوان ًّ‬
‫ملتفا حول عنقه‬
‫التفاف املحب‪.‬‬
‫فهتف زارا والحبور يمأل فؤاده‪ :‬هذان نرسي وأفعواني؛ فالنرس أشد الحيوانات‬
‫ي يف‬ ‫َ‬
‫مستكشف ْ ِ‬ ‫افتخا ًرا‪ ،‬واألفعوان أشدها مك ًرا تحت الشمس‪ ،‬وكالهما ذاهبان‬
‫الفضاء؛ ليعلما ما إذا كان زارا لم يزل يف الحياة‪ ،‬فهل أنا لم أزل حيًّا بعد؟‬
‫لقد اعرتضني من املخاطر بني الناس ما لم أجد مثله بني الحيوانات‪ ،‬إنني أتبع‬
‫السبل املخطرة فألقتدين بنرسي وأفعواني‪.‬‬
‫وتذكر زارا القديس املنعزل يف الغاب فتنهد وقال‪ :‬ألكونن أوفر حكمة ألكونن‬
‫ماك ًرا كأفعواني‪ ،‬غري أنني أطلب املستحيل لذلك أتوسل إىل افتخاري أن يالزم‬
‫حكمتي وال ينفصل عنها‪.‬‬
‫وإذا ما تخلت حكمتي عني يومً ا وهي تتوق إىل الطريان وا أسفاه؛ فإنني ألرجو‬
‫أن يطري افتخاري مستصحبًا جنوني‪.‬‬
‫وهكذا بدا جنوح زارا إىل املغيب‪.‬‬

‫هوامش‪:‬‬
‫‪ 1‬هذه الخطوة األوىل‪ .‬وسنرى أي إله يقول نيتشه بموته وأي إله يتجه هذا‬
‫الفيلسوف إىل اكتشافه يف رسيرة اإلنسان‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫خطب زرادشت‬

‫التحول يف ثالث مراحل‬


‫سأرشح لكم تحول العقل يف مراحله الثالث فأنبئكم كيف استحال العقل جَ مال‪،‬‬
‫وكيف استحال الجمل أسدًا‪ ،‬وكيف استحال األسد أخريًا فصار ولدًا‪.‬‬
‫ما أوفر األحمال التي تثقل العقل الجَ ْلد الصليب وهو مجىل الوقار‪ ،‬فإن صالبته‬
‫تتوق إىل الحمل الثقيل بل إىل أثقل األحمال‪.‬‬
‫يفتش العقل السليم عن أثقل األحمال؛ فينيخ كالجمل ظهره متوقعً ا رفع‬
‫خري حُ ِمل إليه‪ .‬إن العقل السليم ينادي األبطال ً‬
‫قائل‪ :‬أي حمل هو األثقل ألرفعه‬
‫فتغتبط به قوتي؟ أفليس أثقل األحمال هو يف االتضاع إلنزال العذاب بالغرور؟‬
‫اختالل لتظهر حكمته جنونًا؟‬
‫ً‬ ‫أفليس أثقلها أن يبدي اإلنسان‬
‫أم أثقلها يف تخيل اإلنسان من مطلب حني يقرتن هذا املطلب بالنرص‪ ،‬أم يف‬
‫ارتقاء قمم الجبال لتحدي من يتحدى؟‬
‫أم أثقلها يف أن يتغذى اإلنسان بأقماع السنديان واألعشاب ويتحمل مجاعة‬
‫نفسه من أجل الحقيقة‪.‬‬
‫أم أثقلها يف احتمال املرض وطرد العوَّاد املع ِّزين‪ ،‬أم يف مخادنة الص ِّم الذين ال‬
‫يسمعون وال يعون ما تريد؟‬
‫أم أثقلها يف االنحدار إىل املياه القذرة إذا كانت الحقيقية فيها والرىض بمالمسة‬
‫الضفادع اللزجة والعقارب التي تقطر صديدًا‪.‬‬
‫أم أثقلها يف محبة من يحتقرنا ويف م ِّد يدنا ملصافحة شبح يقصد إدخال الرعب‬
‫إىل قلوبنا‪ .‬إن العقل السليم يحمِّ ل ذاته جميع هذه األثقال املرهقة‪ ،‬وكالجمل الذي‬
‫يسارع إىل طريق الصحراء عندما يُرفع الوقر عن ظهره هكذا يندفع هو ً‬
‫أيضا‬

‫‪45‬‬
‫نحو صحرائه‪.‬‬
‫وهنالك يف الصحراء القاحلة يتم التحول الثاني؛ إذ ينقلب العقل أسدًا؛ ألنه‬
‫يطمح إىل نيل حريته وبسط سيادته عىل صحرائه‪.‬‬
‫ويف هذه الصحراء يفتش عن سيده ليناصبه العداء كما ناصب سيده السابق‪،‬‬
‫فهو يستعد ملكافحة التنِّني والتغلب عليه‪.‬‬
‫ومن هو هذا التنني الذي يتمرد العقل عليه فال يريد بعد اآلن أن يرى فيه ربه‬
‫وسيده؟‬
‫إن التنني هو كلمة «يجب عليك» وعقل األسد يريد أن ينطق بكلمة «أريد» إن‬
‫كلمة «الواجب» ترتصد األسد عىل الطريق تنينًا يدرع بآالف األصداف وعىل كل‬
‫قطعة منها تتوهج بأحرف مذهبة كلمة «يجب عليك»‪.‬‬
‫وعىل هذه األصداف تشع رشائع ألف عام والتنني األعظم يعج ً‬
‫قائل إن جميع‬
‫الرشائع تتوهج عيلَّ‪.‬‬
‫كل ما هو سنَّة قد أوجد من قبل‪ ،‬وبي تتمثل جميع السنن الكائنة‪ ،‬والحق إن‬
‫كلمة «أريد» يجب أال ينطق بها أحد بعد! هكذا قال التنني‪.‬‬
‫فأية حاجة لكم أيها اإلخوة بأسد العقل؟ أفما يكفيكم الحيوان القوي الجليل‬
‫املمنَّع بامتناعه؟‬
‫من العبث أن تطمحوا إىل خلق سنن جديدة‪ ،‬إن األسد نفسه ليعجز عن هذا‬
‫الخلق؛ إذ ال يسعه إال أن يستعد بتحرير نفسه لخلق جديد‪ ،‬ألن قوته لن تتجاوز‬
‫هذا الحد‪.‬‬
‫أيها اإلخوة‪ ،‬إن العمل الذي تحتاجون فيه إىل األسد إنما هو تحرير أنفسكم‬
‫والوقوف ببطولة االمتناع يف وجه كل يشء حتى يف وجه الواجب‪ ،‬ذلك أيها اإلخوة‬
‫هو العمل الذي تحتاجون إىل األسد للقيام به‪.‬‬
‫إن االستيالء عىل حق إيجاد سنن جديدة يقيض بالجهاد العنيف عىل العقل‬

‫‪46‬‬
‫الخشوع الصبور‪ ،‬وال ريب أن يف هذا الجهاد قسوة ال يتصف بها إال الحيوانات‬
‫املفرتسة‪.‬‬
‫لقد كان العقل فيما مىض يتعشق كلمة «الواجب» كأنها أقدس حق له‪ ،‬وقد‬
‫أصبح عليه اآلن أن يجد حتى يف هذا الحق املفدَّى ما يحدو به إىل التعسف‬
‫والتوهم‪ ،‬ليتمكن بإرهاق عشقه أن يستويل عىل حريته وليس غري األسد من يقوم‬
‫بهذا الجهاد‪.‬‬
‫ولكن ما هو العمل الذي يقدر عليه الطفل بعد أن عجز األسد عنه؟ وملاذا يجب‬
‫أن يتحول األسد املكتسح إىل طفل؟‬
‫ذلك ألن الطفل طهر ونيسان؛ ألنه تجديد ولعب وعجلة تدور عىل ذاتها فهو‬
‫حركة البداية وعقيدة مقدسة‪.‬‬
‫أجل أيها اإلخوة إن العمل اإللهي لإلبداع يستلزم عقيدة مقدسة‪ ،‬فإن العقل‬
‫يطلب اآلن إرادته‪ ،‬ومن فقد الدنيا يريد اآلن أن يجد دنياه‪.‬‬
‫ً‬
‫جمل‬ ‫لقد ذكرت لكم تحوالت العقل الثالثة فأوضحت كيف استحال العقل‬
‫وكيف استحال أسدًا وكيف استحال أخريًا إىل طفل‪.‬‬
‫هكذا قال زارا‪ ،‬وكان يف ذلك الحني مقيمً ا يف مدينة اسمها البقرة العديدة األلوان‪.‬‬
‫منابر الفضيلة‬
‫وبلغ زارا خرب حكي ٍم أطنبَ الناس يف علمه ومقدرته يف التكلم عن الكرى وعن‬
‫الفضيلة فحبَوْه بالتكريم والتبجيل‪ ،‬واتَّبعه عدد من الشبان أصبحوا دعامة ملنربه‬
‫العايل‪ ،‬فذهب زارا وجلس معهم أمام املنرب مصغيًا إىل الحكيم فكان يقول‪:‬‬
‫مجِّ دوا الكرى وعظموه؛ ألن له املقام األول وتحاشوا مرافقة من ساء رقادهم‬
‫ومن استحوذ عليهم األرق‪.‬‬
‫ً‬
‫مخرسا وقع أقدامه‪ ،‬ولكن‬ ‫إن اللص ليقف خاشعً ا أمام الكرى فيدلج يف الليل‬
‫الساهر املجازف ال يتورع عن حمل بوقه‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫ليس بالسهل أن يعرف اإلنسان كيف يستسلم لسنة الكرى‪ ،‬وليس إال ملن عرف‬
‫كيف ينتبه طول النهار أن ينام ملء جفنيه‪.‬‬
‫يجب عليك أن تقاوم نفسك عرش مرات يف النهار فتغنم خري التعب وتهيئ‬
‫املخدِّر لروحك‪.‬‬
‫عليك أن تصالح نفسك عرش مرات يف النهار؛ ألنه إذا كان يف قهر النفس مرارة‬
‫فإن يف بقاء الشقاق بينك وبينها ما يزعج رقادك‪.‬‬
‫عليك أن تجد عرش حقائق يف يومك كيال تضطر إىل السعي وراءها يف نومك‬
‫فتبقى نفسك جائعة‪.‬‬
‫عليك أن تضحك عرش مرات يف يومك لتكون مرحً ا كيال تزعجك معدتك يف ليلك‬
‫واملعدة بيت الداء‪.‬‬
‫قليل من يعرف هذا من الناس‪ ،‬ولن يتمتع بالرقاد الهنيء إال من حاز جميع‬
‫الفضائل‪ ،‬فإذا ما املرء أدى شهادة زور أو تلطخ بالزنا وإذا هو اشتهى خادمة‬
‫قريبه فقد حُ رم وسائل الهناء يف نومه‪.‬‬
‫غري أن املرء يحتاج فوق فضائله إىل يشء آخر وهو أن يندفع إىل الرقاد بفضائله‬
‫نفسها يف الزمن املناسب‪.‬‬
‫ً‬
‫حائل كيال ينتهني‬ ‫َّ‬
‫بينهن‬ ‫إن من الفضائل من هي كالغانيات املتجنِّيات‪ ،‬فأقم‬
‫إىل عراكٍ تكون أنت ضحيته‪.‬‬
‫ليكن سالم بينك وبني ربك وبني األقربني‪ ،‬فال نوم هنيء بدون هذا السالم‪،‬‬
‫وسالم شيطان جارك ً‬
‫أيضا لئال يراودك يف رقادك‪.‬‬
‫أكرم السلطة واخضع لها حتى ولو كانت هذا السلطة عرجاء‪ .‬إن ذلك ما‬
‫يقتضيه النوم الهنيء‪.‬‬
‫وما أنا بالجاني إذا كان يحلو للسلطة أن تسري متعارجة‪.‬‬
‫إن خري الرعاة من يقود قطيعه إىل املروج الخرضاء ذلك ما يقتضيه الرقاد‬

‫‪48‬‬
‫الهنيء‪.‬‬
‫ال أطلب كثريًا من املجد وال وفريًا من املال وكالهما يؤدي إىل االضطراب‪ ،‬ولكن‬
‫املرء ال ينام هنيئًا ما لم يكن له يشء من الشهرة ولديه يشء من املال‪.‬‬
‫أفضل أن يزورني القليل من الناس عىل أن يرتاد مسكني عُ َشا ُء السوء‪ ،‬وهذا‬‫ِّ‬
‫العدد القليل يجب عليه أال يطيل السمر عندي لئال يعكر صفو رقادي‪.‬‬
‫ترسني مجالسة البلهاء؛ ألنهم يجلبون النعاس‪ ،‬ولشد ما يغتبطون عندما نحبِّذ‬
‫حماقاتهم ونشهد بإصابتهم‪.‬‬
‫عىل هذه الوترية يقيض فضالء الناس نهارهم‪ ،‬أما أنا فإنني إذا أمىس املساء‬
‫أحرتس من أن أراود النعاس؛ ألنه سيد الفضائل وال يرتاح إىل تحرش الساهرين‪.‬‬
‫وتحت جنح الظالم أستعرض ما فكرت فيه وما فعلته يف يومي‪ ،‬فأنطوي عىل‬
‫نفيس كالحيوان الصبور وأسائلها عما قهرت به أميالها عرش مرات وعما عقدت‬
‫به الصلح مع ذاتها عرش مرات‪ ،‬وعن الحقائق العرش واملرسات العرش التي أفعمت‬
‫بها‪.‬‬
‫ً‬
‫مستغرقا تهزني األربعون خاطرة‪ ،‬يستويل النعاس عيل َّ فجأة‪،‬‬ ‫وبينما أكون‬
‫وهكذا يسودني الكرى سيد الفضائل دون أن أتوجه بدعوة إليه‪.‬‬
‫جفني فتغمضان‪ ،‬ويلمس فمي فيبقى مفتوحً ا‪.‬‬
‫َّ‬ ‫يشغل النعاس‬
‫إنه يدلف إيل َّ كلص محبوب فيرسق أفكاري وأبقى أنا منتصبًا كعمود من‬
‫خشب‪ ،‬ثم ال تمر لحظات حتى أنطرح ممددًا عىل فرايش‪.‬‬
‫وبعد أن أصغى زارا إىل هذه األقوال يقرع الحكيم بها األسماع تم َّلك ضحكه‪،‬‬
‫وأرشق نور يف جوانب نفسه فناجاها ً‬
‫قائل‪ :‬يرتاءى يل أن هذا الحكيم قد جُ َّن‬
‫كخواطره األربعني‪.‬‬
‫ولكنه ج ُّد خبري بحاالت الكرى‪ ،‬فما أسعد من يجاور هذا الحكيم! ألن مثل هذا‬
‫النعاس شديد االنتقال بالعدوى حتى إىل ما وراء الجدران‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫إن شيئًا من السحر يفوح من منربه العايل‪ ،‬وما يجتمع هذا العدد من الشبان‬
‫عبثًا حول خطيب الفضائل‪.‬‬
‫إن قاعدة هذا الحكيم إنما هي‪ :‬اسهروا لتناموا‪ .‬ويف الحقيقة لو لم يكن للحياة‬
‫معناها ووجب أن أختار لها حكمة ال معنى لها ملا كنت أجد أفضل من هذه‬
‫القاعدة‪.‬‬
‫لقد أدركت اآلن ما كان يطلب الناس قبل كل يشء عندما كانوا يفتشون عىل‬
‫أوليات الفضائل‪ ،‬إنهم كانوا يطلبون النوم الهنيء والفضائل التي يتجىل عىل‬
‫مفرقها تاج املخدِّرات‪ ،‬وما كانت الحكمة يف عرف حكماء املنابر‪ ،‬وقد نالوا‬
‫اإلعجاب والثناء‪ ،‬إال قاعدة نوم ال تقلقه األحالم‪ .‬إنهم لم يكتشفوا معنى أفضل من‬
‫هذا املعنى للحياة‪.‬‬
‫وكم يف أيامنا هذه من أناس يشبهون هذا الواعظ يف دعوته إىل الفضيلة غري أنهم‬
‫إخالصا منه‪ ،‬ولكن هذا الزمان لم يعد زمانهم ولن يطول وقوفهم والكرى‬‫ً‬ ‫أقل‬
‫يراود أفكارهم فهم عن قريب سيُمددون‪.‬‬
‫طوبى ملن دب إىل عيونهم النعاس! إنهم عما قريب سريقدون‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫املأخوذون بالعالم الثاني‬


‫وترامى زارا يومً ا بخياله إىل ما وراء اإلنسانية‪ ،‬فرتاءى هذا العالم لديه كما يراه‬
‫خليقة ربٍّ متألم مضطرب‪ ،‬فقال‪ :‬رأيت الدنيا‬‫َ‬ ‫جميع املأخوذين بالعالم الثاني‬
‫كأنها أحالم نائم أبدعت أبخرة حوَّالة متلونة ترتد عنها ألوهية النفس عىل غري‬
‫رىض‪ ،‬وقد الح يل الخري والرش واألفراح واألحزان‪ ،‬وذاتي وذات اآلخرين كما تلوح‬
‫األبخرة امللونة لعني املبدع‪ ،‬ولعل املبدع أراد أن يتحول ببصريته عن ذاته فأوجد‬
‫العالم‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫ال ينتيش املتألم بمرسة أشد من مرسته حينما يُعرض عن آالمه وينىس نفسه‪،‬‬
‫ثمل ونسيانًا‪ ،‬وهو يتقلب أبدًا يف‬ ‫هكذا َّ‬
‫تكشف يل العالم يومً ا فرأيت مرسته ً‬
‫ً‬
‫معكسا للتناقض األبدي‪.‬‬ ‫نقائصه‬
‫نظرت إىل العالم يومً ا فالح يل مرسة مسكرة يتمتع بها مبدع غري كامل خلقتُه‬
‫أنا‪ ،‬فجاء ككل أعمال البرش ِجنَّة برشية‪.‬‬
‫ما كان هذا اإلله إال إنسانًا‪ ،‬بل جزءًا من شخصية إنسان؛ ألنه نشأ من ترابي‬
‫ومن لهبي‪ ،‬إنه لشبح من هذا العالم ال من وراء هذا العالم‪.‬‬
‫شهدت ذلك‪ ،‬أيها اإلخوة‪ ،‬فتفوقت عىل ذاتي بآالمي‪ ،‬وحملت ترابي إىل الجبل‬
‫حيث أوقدت نا ًرا تشع نو ًرا فإذا بالشبح يتوارى مبتعدًا عني‪.‬‬
‫فإذا ما آمنت اآلن بمثل هذا الشبح‪ ،‬فال يكون إيماني إال توجعً ا وصغا ًرا‪ ،‬ذلك ما‬
‫أقوله للمأخوذين بالعالم الثاني‪.‬‬
‫ما أوجد َِت العوالم األخرى يف هذا العالم سوى اآلالم والشعور بالعجز‪ ،‬ذلك ما‬
‫أوجدته تلك العوالم‪ ،‬فأوجدت معه هذا الجنون الرسيع الزوال بسعادة ما ذاقها‬
‫من الناس إال أشدُّهم آالمً ا‪.‬‬
‫إن املتعب الذي يطمح إىل اجتياز أبعد مدى بطفرة واحدة بطفرة قاتلة‪ ،‬وقد‬
‫بلغت به مسكنته وجهالته حدًّا ال يستطيع عنده أن يريد‪ ،‬إنما هو نفسه مبدع‬
‫جميع اآللهة وجميع العوالم األخرى‪.‬‬
‫ُّ‬
‫يجس‬ ‫صدقوني‪ ،‬أيها اإلخوة‪ ،‬إن الجسد قد قطع رجاءه من الجسد‪ ،‬فغدا‬
‫بأنامله مواضع الروح املضللة‪ ،‬وذهب يتلمسها من وراء الحواجز القائمة عىل‬
‫مسافة بعيدة‪.‬‬
‫صدقوني‪ ،‬أيها اإلخوة‪ ،‬إن الجسد قد تملكه اليأس من األرض فسمع صوتًا‬
‫يناديه من قلب الوجود‪ ،‬فأراد أن يخرتق برأسه أطراف الحواجز‪ ،‬بل حاول‬
‫العبور منها إىل العالم الثاني‪ ،‬غري أن العالم الثاني جد خفي عن الناس؛ ألنه‬

‫‪51‬‬
‫بتخنثه وابتعاده عن كل صفة إنسانية ليس إال سما ًء من العدم‪ .‬إن قلب الوجود‬
‫ال يخاطب الناس إذا لم يكلمهم كإنسان‪.‬‬
‫والحق إنه ليصعب علينا إثبات الوجود واستنطاقه‪ .‬أجيبوا أيها اإلخوة‪ ،‬أفما‬
‫يلوح لكم أن أغرب األمور أثبتها ً‬
‫دليل؟‬
‫أجل! إن هذه الذات عىل ما فيها من تناقض واختالل تثبت بكل جالء وجودها‬
‫فتبتدع وتعلن إرادتها لتضع املقاييس ِّ‬
‫وتعي قِ يَم األشياء‪ ،‬وما تطلب هذه الذات يف‬
‫إخالصها إال الجسد حتى يف حالة استغراقه يف أحالمه‪ ،‬وتحفزه للطريان بأجنحته‬
‫املحطمة‪.‬‬
‫إن هذه الذات تتدرب عىل اإلفصاح عن رغباتها بإخالص‪ ،‬وكلما ازدادت تدربًا‬
‫أُلهمت البيان لإلشادة بالجسد وباألرض‪.‬‬
‫لقد ع َّلمتني ذاتي عزة جديدة أعلمها اآلن للناس‪ :‬علمتني أال أخفي رأيس بعد‬
‫اآلن يف رمال األشياء السماوية‪ ،‬بل أرفعها ً‬
‫رأسا عزيزة ترابية تبتدع معنى األرض‪.‬‬
‫إنني أع ِّلم الناس إرادة جديدة يتخريون بها السري عىل الطريق التي اجتازها‬
‫الناس عن غباوة من قبلهم‪ ،‬أعلمهم أن يطمئنوا إىل هذه الطريق فال تنزلق‬
‫أرجلهم عنها كما انزلقت أرجل األعالء املتهكمني‪ ،‬وما هؤالء إال مَ ن ابتدعوا األشياء‬
‫السماوية واخرتعوا قطرات الدماء املراقة الفتداء البرش‪ ،‬عىل أن هذه السموم التي‬
‫أخذوا بلذتها ورهبتها لم يستخرجوها إال من الجسد ومن األرض‪.‬‬
‫لقد شاءوا الفرار من الشقاء وتراءت لهم الكواكب بعيدة صعبة املنال فوجموا‬
‫يدفعون بالزفرات قائلني‪ :‬وا أسفاه! ِل َم ال تنفتح أمامنا سبل يف السماء ننسحب‬
‫عليها إىل وجود آخر وسعادة أخرى‪.‬‬
‫يف ذلك الحني اخرتعوا أوهامهم وكئوسهم الصغرية املرتعة بالدماء … وحسب‬
‫هؤالء الناس يف عقوقهم أنهم فازوا بالنعيم بعيدًا عن جسدهم وعن األرض‪،‬‬
‫وتناسوا أن تنعمهم ورعشة ملذتهم إنما نشأت من جسدهم ومن هذه األرض‪1.‬‬

‫‪52‬‬
‫إن زارا ليشفق عىل األعالء فال يغضب ملا أوجدوه من وسائل السلوان وال‬
‫عقوا جسدهم وأرضهم‪ ،‬بل هو يرجو لهم الشفاء والتغلب عىل‬ ‫يتمرمر؛ ألنهم ُّ‬
‫أنفسهم ليوجدوا لهم أجسادًا أرقى من أجسادهم‪.‬‬
‫أيضا عىل النَّاقِ ه الذي يحن إىل وهمه فيذهب يف منتصف‬‫إن زارا ال يغضب ً‬
‫الليل ليطوف بقرب إلهه‪ ،‬ولكنه ال يرى يف دموع هذا الناقه إال أثر املرض والجسم‬
‫املريض‪.‬‬
‫لقد وجد يف كل زمان كثري من املرىض املستغرقني املتشوهني فهم يكرهون‬
‫إىل حد الهوس كل من يطلب املعرفة‪ ،‬ويكرهون أبسط الفضائل وهي فضيلة‬
‫اإلخالص‪.‬‬
‫أنهم يلتفتون دائمً ا إىل الوراء‪ ،‬إىل األزمنة املظلمة؛ إذ كان للجنون ولإليمان‬
‫ح َّلتهما الخاصة‪ ،‬فكان اإلله يتجىل يف هوس العقل‪ ،‬وكانت كل ريبة خطيئة‪.‬‬
‫لقد عرفتهم جد املعرفة‪ ،‬أولئك املتجلني عىل صورة الله ومثاله فتيقنت أن جميع‬
‫رغباتهم تتجه إىل أن يؤمن الناس بهم وأن يصبح كل شك فيهم خطيئة‪ ،‬وما فات‬
‫مداركي ذلك اإليمان الذي يدَّعون رسوخه فيهم‪ ،‬فإنهم ال يؤمنون ال بالعوالم‬
‫األخرى وال بقطرات الدماء تفتدي العالم‪ ،‬بل هم كسائر الناس يعتقدون بالجسد‪،‬‬
‫ويرون أن أجسادهم نفسها هي الكائن الواجب الوجود‪.‬‬
‫معتل‪ ،‬فيودون أن يبارحوا جلودهم‬ ‫ًّ‬ ‫غري أن هؤالء الناس يرون الجسد كائنًا‬
‫وذلك ما يدفعهم إىل اإلصغاء للمبرشين باملوت وما يهيب بهم إىل التبشري بالعوالم‬
‫األخرى‪.‬‬
‫أما أنتم‪ ،‬يا إخوتي‪ ،‬فأصغوا إىل صوت الجسد الذي أبل من دائه؛ ألن هذا الجسد‬
‫يخاطبكم بصوت أنقى وأخلص من تلك األصوات‪.‬‬
‫إن الجسد السليم يتكلم بكل إخالص وبكل صفاء‪ ،‬فهو كالدعامة املربعة من‬
‫الرأس حتى القدم وليس بيانه إال إفصاحً ا عن معنى األرض‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫املستهزئون بالجسد‬
‫ألقولن للمستهزئني بالجسد كلمتي فيهم‪ :‬إن واجبهم َّأل يغريوا طرائق‬
‫تعاليمهم‪ ،‬ولكن عليهم ً‬
‫أيضا أن يودِّعوا أجسادهم فيستويل عىل ألسنتهم الخرس‪.‬‬
‫يقول الطفل‪ :‬أنا جسد وروح‪ ،‬فلماذا ال يتكلم هؤالء الناس كاألطفال؟ أما‬
‫اإلنسان الذي انتبه وأدرك ذاته فيقول‪ :‬إنني بأرسي جسد ال غري‪ ،‬وما الروح إال‬
‫كلمة أطلقت لتعيني جزء من هذا الجسد‪.‬‬
‫ما الجسد إال مجموعة آالت مؤتلفة للعقل‪ ،‬ومظاهر متعددة ملعنى واحد‪ْ .‬‬
‫إن هو‬
‫إال ميدان حرب وسالم‪ ،‬فهو القطيع وهو الراعي‪.‬‬
‫إن آلة جسدك إنما هي أداة عقلك الذي تدعوه روحً ا‪ ،‬أيها األخ‪ ،‬إن هو إال أداة‬
‫صغرية وألعوبة صغرية لعقلك العظيم‪.‬‬
‫إنك تقول‪« :‬أنا»‪ ،‬وتنتفخ غرو ًرا بهذه الكلمة‪ ،‬غري أن هنالك ما هو أعظم منها‪،‬‬
‫أشئت أن تصدق أم لم تشأ‪ ،‬وهو جسدك وأداة تفكريه العظمى‪ ،‬وهذا الجسد ال‬
‫يتبجح بكلمة أنا ألنه هو «أنا»‪ ،‬هو مُضمر الشخصية الظاهرة‪.‬‬
‫إن ما تتأثر الحواس به وما يدركه العقل ال نهاية له يف ذاته‪ ،‬غري أن الحس‬
‫والعقل يحاوالن إقناعك بأن فيهما نهاية األشياء جميعها‪ ،‬فما أشد غرورهما!‬
‫ما الحس والعقل إال أدوات وألعوبة‪ ،‬والذات الحقيقية كامنة وراءهما مفتشة‬
‫بعيون الحس ومصغية بآذان العقل‪.‬‬
‫إن الذات ما تربح مفتشة مصغية‪ ،‬فهي تقابل وتستنتج‪ ،‬ثم تهدم متح ِّكمة يف‬
‫الشخصية سائدة عليها‪ ،‬فإن وراء إحساسك وتفكريك‪ ،‬يا أخي‪ ،‬يكمن سيد أعظم‬
‫منهما سلطانًا؛ ألنه الحكيم املجهول‪ ،‬وهذا الحكيم إنما هو الذات بعينها املستقرة‬
‫يف جسدك وهي جسدك بعينه ً‬
‫أيضا‪2.‬‬

‫‪54‬‬
‫إن يف جسدك من العقل ما يفوق خري حكمة فيك‪ ،‬ومَ ْن له أن يعلم السبب الذي‬
‫يجعل جسدك بحاجة إىل خري ما فيك من حكمة‪.‬‬
‫إن ذاتك تهزأ بشخصيتك وبألعابها قائلة‪ :‬ما هي خطرات الفكر وتساميه إن لم‬
‫تكن جنوحً ا إىل هديف‪ ،‬أفلست أنا رائدة الشخصية وملهمة أفكارها؟‬
‫تقول الذات للشخصية‪ :‬اشعري بألم‪ ،‬فتتألم وتفتكر بالتخلص من هذا األلم‬
‫وقد تحتم عليها أن تتجه إىل هذه الغاية‪.‬‬
‫وتقول الذات للشخصية‪ :‬اشعري بالرسور‪ ،‬فترس وتفتكر بإطالة أمد هذا‬
‫الرسور‪ ،‬وقد تحتم عليها أن تتجه إىل هذه الغاية‪.‬‬
‫يل كلمة أقولها للمستهزئني بالجسد‪ ،‬وهي أن احتقارهم إنما هو يف الحقيقة‬
‫حرمة واعتبار؛ إذ من هو يا ترى موجد االحرتام واالحتقار والتقدير واإلرادة؟‬
‫إن الذات املبدعة أوجدت لنفسها االحرتام واالحتقار كما أوجدت اللذة واأللم‪ ،‬إن‬
‫الجسم املبدع أوجد العقل لخدمته كساعد يتحرك بإرادته‪.‬‬
‫إنكم لتخدمون الذات الكامنة فيكم حتى يف جنونكم ويف احتقاركم‪ ،‬وأنا أقول‬
‫لكم أيها املستهزئون بالجسد إن ذاتكم نفسها تريد أن تموت‪ ،‬وقد تحولت عن‬
‫الحياة؛ ألنها عجزت عن القيام بما كانت تطمح إليه‪ ،‬وما أقىص رغباتها إال إبداع‬
‫من يتفوق عليها ولقد مىض زمن تحقيق هذه الرغبة‪ ،‬لذلك تطمح ذاتكم إىل‬
‫الزوال أيها املستهزئون باألجساد‪.‬‬
‫إن ذاتكم أصبحت تتوق إىل الزوال‪ ،‬وهذا ما يدفع بكم إىل االستهزاء باألجساد؛‬
‫إذ قد امتنع عليكم أن تخلقوا من هو أفضل منكم‪.‬‬
‫إن هذا العجز قد و َّلد فيكم النقمة عىل الحياة واألرض‪ ،‬وها هي ذي تتجىل‬
‫شهوة يف لحظاتكم املنحرفة دون أن تعلموا‪.‬‬
‫إنني ال أسري عىل طريقكم أيها املستهزئون باألجساد؛ ألنني ال أرى فيكم املعرب‬
‫الذي يؤدي إىل مطلع اإلنسان املتفوق‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫امللذات والشهوات‬
‫إذا كان لك فضيلة يا أخي‪ ،‬وكانت هذه الفضيلة خاصة بك فإنك ال تشارك فيها‬
‫أحدًا سواك‪ ،‬وال ريب يف أنك تريد أن تدعوها باسمها وتداعبها لتتسىل بها‪ ،‬ولكنك‬
‫بهذا أرشكت بها الناس بما أطلقت عليها من تعريف‪ ،‬فأصبحت أنت وفضيلتك‬
‫مندغمني يف القطيع‪.‬‬
‫خري لك يا أخي أن تقول‪ :‬إن ما تلذ به روحي وتتعذب به يتعاىل عن اإليضاح‪،‬‬
‫ويج ُّل عن أن يسمى‪ ،‬وهذا العجز عن إدراكي له يخلق املجاعة يف أحشائي‪.‬‬
‫لتكن فضيلتك أسمى من أن تستخف باألشياء عند تحديدها‪ ،‬وإذا ما اقتحمت‬
‫هذا التحديد‪ ،‬فال تستحي من أن تتلفظ به تمتمة‪ ،‬فقل وأنت تتمتم‪ :‬إن هذا هو‬
‫خريي الذي أحب‪ ،‬إن هذا ما يثري إعجابي‪ ،‬فأنا ال أريد الخري إال عىل هذه الصورة‪،‬‬
‫عمل بوصية أو رضورة برشية‪،‬‬ ‫ال أريد هذه األشياء تبعً ا إلرادة رب من األرباب وال ً‬
‫فأنا ال أريد أن يكون يل دليل يهديني إىل عوالم عليا وجنات خلود …‬
‫قل‪ :‬ما أحب سوى فضيلة هذه األرض‪ ،‬ألن ما فيها من الحكمة قليل‪ ،‬وأقل‬
‫منه ما فيه من صواب متفق عليه‪ ،‬إن هذا الطري قد بنى عشه عىل مقربة مني‪،‬‬
‫لذلك أحببته وعطفت عليه‪ ،‬وها هو ذا اآلن يحتضن عندي بيضه الذهبي عىل هذه‬
‫الوترية تكلم وأنت تتمتم ممتدحً ا فضيلتك‪.‬‬
‫لقد كان لك فيما مىض شهوات كنت تحسبها رشو ًرا‪ ،‬أما اآلن فليس فيك إال‬
‫الفضائل‪ ،‬وقد نشأت هذه الفضائل من شهواتك نفسها؛ ألنكم وضعت يف هذه‬
‫الشهوات أسمى مقاصدك فتحولت فيك إىل فضائل وملذات هي منك ولك‪ ،‬ولسوف‬
‫ترى جميع شهواتك تستحيل إىل فضائل‪ ،‬ولسوف ترى كل شيطان فيك يستحيل‬
‫مال ًكا حتى ولو كنت ممن يستسلمون للغيظ والشهوات وكنت من فئة الحاقدين‬
‫املتعصبني‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫لقد كانت الكالب املفرتسة تسكن دهاليزك من قبل‪ ،‬فها هي ذي اآلن أطيار‬
‫مغردة‪ ،‬لقد استقطرت بلسمً ا من سمومك وحلبت ناقة األوصاب‪ ،‬وأنت اآلن تكرع‬
‫لذيذ د ِّرها‪.‬‬
‫لن يخلق منك رشٌ بعد اآلن‪ ،‬غري أن هناك رشًّا قد ينشأ من تخاصم فضائلك‬
‫َ‬
‫فاصغ إيل َّ‪ ،‬يا أخي! إنك إذا شعرت بسعادة فما يكون ذلك إال لفضيلة مستقرة‬
‫فيك وهي تسهِّ ل اجتياز الرصاط عليك‪.‬‬
‫إنها ملزية أن تكون لإلنسان فضائل عديدة‪ ،‬غري أن تعدد الفضائل يرمي‬
‫باإلنسان إىل أشقى الحظوظ‪ ،‬وكم من مجاه ٍد أرهقه النزال يف ساحات الفضائل‬
‫فتوارى لينتحر يف الصحراء‪.‬‬
‫إذا كنت ترى املعارك والحروب رشو ًرا فاعلم يا أخي أنها رشوط ال بد منها؛‬
‫ألن للحسد والريبة والشتيمة مقامها املحرتم بني فضائلك نفسها‪َّ ،‬‬
‫تبص ت َر أن‬
‫ًّ‬
‫كل من فضائلك تطمح إىل املقام األسمى‪ ،‬وتطمع يف االستيالء عىل جميع أفكارك‬
‫لتستعبدها وتحرص بها وحدها كل ما يف غضبك وبغضائك وحبك من قوة‪.‬‬
‫إن ًّ‬
‫كل من فضائلك تحسد األخرى‪ ،‬والحسد هائل مريع يتناول الفضائل ً‬
‫أيضا‬
‫فيبيدها‪.‬‬
‫إن من يحيط به لهيب الحسد تنتهي به الحال إىل ما تنتهي العقرب إليه فيوجِّ ه‬
‫حُ مته املسمومة إىل نحره‪.‬‬
‫أفما رأيت‪ ،‬يا أخي‪ ،‬من الفضائل من تشتم نفسها وتنتحر؟‬
‫ليس اإلنسان إال كائنًا وجب عليه أن يتفوق عىل نفسه‪ ،‬لذلك حق عليك‪ ،‬يا أخي‪،‬‬
‫أن تحب فضائلك ألنك بها ستفنى‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬
‫املجرم الشاحب‬
‫أفما تريدون أن تُنزلوا القصاص‪ ،‬أيها القضاة واملضحُّ ون‪ ،‬ما لم يهز الحيوان‬

‫‪57‬‬
‫رأسه؟ إليكم رأس املجرم الشاحب‪ ،‬إنها لرتتعش‪ ،‬وها َّ‬
‫إن أفظع احتقار يتكلم يف‬
‫نظراته‪.‬‬
‫إن عيني املجرم تقوالن لكم‪ :‬ما الشخصية إال يشء وجب علينا أن نتسامى‬
‫فوقه‪ ،‬وما شخصيتي إال عظيم احتقاري للبرش‪.‬‬
‫لقد انتهى أجل هذا املجرم عندما أصدر حكمه عىل نفسه‪ ،‬فال ترتكوا لتساميه‬
‫سبيل يندفع منه إىل االنحطاط‪ .‬عاجلوه باملوت فهو ا َملن ْ َفذ الوحيد ملن بلغ عذابه‬
‫ً‬
‫بنفسه هذا الحد البعيد‪.‬‬
‫ليكن قصاصكم‪ ،‬أيها القضاة‪ ،‬رحمة ال انتقامً ا‪ ،‬وإذا ما حكمتم باملوت فلتكن‬
‫غايتكم تربير الحياة‪ .‬ال يكفيكم أن تقيموا السلم بينكم وبني من تقتلون‪ ،‬بل يجب‬
‫أن يكون حزنكم تعبريًا عن ولهكم باإلنسان املتفوق‪ ،‬وهكذا تربرون االستبقاء‬
‫عىل أنفسكم‪.‬‬
‫قولوا إن هذا الرجل عدوٌ‪ ،‬وال تقولوا إنه سافل‪ .‬صفوه باملرض ال بالدناءة‬
‫ًّ‬
‫مختل ال مجرمً ا‪ ،‬وأنت أيها القايض‪ ،‬لو أنك تعلن للمأل‪ ،‬وأنت يف برودك‬ ‫اعتربوه‬
‫مآت يف تفكريك‪ ،‬لكنت تسمع الناس يهتفون قائلني‪:‬‬ ‫الحمراء‪ ،‬ما ارتكبت من ٍ‬
‫اخلعوا هذا الرجل عن كرسيه فهو ممتلئ أقذا ًرا وسمومً ا‪.‬‬
‫ولكن الفكرة يشء والعمل يشء آخر‪ ،‬كما أن شبح العمل يشء مستقل بنفسه‬
‫ً‬
‫أيضا‪ ،‬فليس بني هذه األشياء الثالثة أية عالقة يصح أن تعترب عالقة العلة باملعلول‪.‬‬
‫إن شبح الجريمة كان صورة الحت لهذا الرجل فعال وجه االصفرار؛ ألنه عندما‬
‫ارتكب جرمه كانت قوته عىل مستواها‪ ،‬ولكنه ما أت َّم الجرم حتى وهنت تلك القوة‪،‬‬
‫فلم يستطع أن يتفرس يف شبح جرمه‪.‬‬
‫لقد الح لهذا الرجل أنه ارتكب فعلة واحدة ال غري‪ ،‬وبذلك يقوم جنونه ألن‬
‫الشواذ تحول إىل قاعدة يف كيانه‪ .‬إن الدائرة التي يرسمها املجرم تصبح قيدًا‬
‫لتفكريه كالفرخة يرسم املنوم حولها دائرة فال تستطيع اجتياز خ َّ‬
‫طها‪ ،‬وهكذا ال‬
‫يكاد املجرم يخرج من جرمه حتى يدخل يف دائرة جنونه‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫أصغوا إيل َّ‪ ،‬أيها القضاة‪ ،‬إن الجنون الذي يتلو العمل إنما تقدمه جنون آخر‬
‫قبله‪ ،‬وأنتم لم تسربوا روح املجرم إىل أقصاها‪.‬‬
‫إن القايض األحمر يتساءل عن سبب إقدام املجرم عىل القتل‪ ،‬فيقول يف نفسه‪:‬‬
‫أول‪ ،‬أما أنا فأقول‪ :‬إن نفس املجرم لم تقصد الرسقة بل‬‫إن القاتل أراد الرسقة ً‬
‫طلبت إراقة الدماء؛ ألنها كانت ظامئة إىل إغماد النصل‪ .‬إن عقلية املجرم لم تفهم‬
‫هذا الجنون فاندفع إىل ارتكاب جرمه‪ ،‬وعقليته تناجيه قائلة‪ :‬ما يهمك أن تريق‬
‫الدماء ما دام جرمك يوصلك إىل الرسقة أو االنتقام‪ ،‬لقد أصغى املجرم إىل صوت‬
‫ثقيل كالرصاص‪ ،‬فرسق بعد أن قتل‬ ‫أرست به إليه كان ً‬‫عقليته املسكينة؛ ألن ما َّ‬
‫ألنه أراد أن يربر جنونه وال يخجل منه‪.‬‬
‫وعاد جرمه فثقل عليه كالرصاص ً‬
‫أيضا‪ ،‬فثقل عقله املسكني فاستوىل عليه‬
‫التخدر والشلل‪ ،‬ولو أن هذا املجرم تمكن من أن ينتفض بهامته لكان تهاوى‬
‫حمله الثقيل عنه‪ ،‬ولكن من كان سيهز له رأسه يا ترى؟‬
‫لو أنك أنعمت النظر يف هذا اإلنسان‪َ ،‬ملا َّ‬
‫تجل لك إال مجموعة علل تتطلع بالعقل‬
‫إىل العالم الخارجي مفتشة عن غنيمة تظفر بها‪.‬‬
‫أفاع اشتبكت‪ ،‬وهي يف تدافع مستمر ال تسكن إال‬
‫ليس هذا اإلنسان إال كتلة ٍ‬
‫لتتفكك منسابة يف شعاب الدنيا تسعى وراء غنائمها‪.‬‬
‫انظروا إىل هذا الجسم املسكني! إن روحه الضعيفة طمحت إىل استكناه ما يف‬
‫الجسم من ألم ورغبات‪ ،‬فخيِّل لها أنها متشوقة إىل القتل‪.‬‬
‫إن من يتسلط عليه هذا املرض يف هذه األيام لتباغته رشورها فرييد أن يعذِّب‬
‫اآلخرين بما يتعذب هو به‪ ،‬غري أنه قد مر زمان من قبل كان له خري ورش هما غري‬
‫خري هذه األيام ورشها‪ .‬ذلك زمان كانت تحتسب فيه شكوك اإلنسان ومطامعه‬
‫ًّ‬
‫ومنشقا عن املجتمع‬ ‫جرائم عليه‪ ،‬فكان املبتىل بالشكوك واملطامع يع ُّد ساخ ًرا‬
‫فيعمد هو إىل تعذيب اآلخرين بعذابه‪.‬‬
‫إنكم ال تريدون اإلصغاء إىل أقوايل؛ إذ ترونها تلحق الرضر بالصالحني بينكم‪،‬‬

‫‪59‬‬
‫ولكنني ال أقيم وزنًا لرجالكم الصالحني‪.‬‬
‫إن يف هؤالء الرجال من تشمئز منه نفيس‪ ،‬وليس ما أكره فيهم ما يعد من‬
‫الرشور‪ ،‬فإنني أتمنى لهم جنونًا يوردهم الردى كجنون املجرم الشاحب‪.‬‬
‫إخالصا أو ً‬
‫عدل؛ ألن فضيلة‬ ‫ً‬ ‫والحق إنني أريد أن يدعى هذا الجنون حقيقة أو‬
‫هؤالء الناس ال تقوم إال عىل إطالة عمرهم لقضائه بامللذَّات السافلة وال ملذة لهم‬
‫إال باالرتياح إىل نفوسهم والرىض عنها‪.‬‬
‫ما أنا إال حاجز قائم عىل ضفة النهر‪ ،‬فمن له قدرة عىل التمسك بي فليفعل‪،‬‬
‫ومن ال طاقة له عىل ذلك فال يظن أني سأكون طوع يده يقبض عيل َّ كما يقبض‬
‫الكسيح عىل عصاه‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫القراءة والكتابة‬
‫إنني أستعرض جميع ما ُكتب‪ ،‬فال تميل نفيس إال إىل ما كتبه اإلنسان بقطرات‬
‫دمه‪ .‬اكتب بدمك فتعلم حينئذ أن الدم روح‪ ،‬وليس بالسهل أن يفهم اإلنسان دمً ا‬
‫غريبًا‪ ،‬إنني أبغض كل قارئ كسول؛ ألن من يقرأ ال يخدم القراءة بيشء‪ ،‬وإذا‬
‫مر قرن آخر عىل طغمة القارئني فال بد من أن تتصاعد روائح النتن من التفكري‪.‬‬
‫إذا أُعطي لكل إنسان الحق يف أن يتعلم القراءة‪ ،‬فلن تفسد الكتابة مع مرور‬
‫الزمان فحسب‪ ،‬بل إن الفكر نفسه سيفسد ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫لقد كان الفكر فيما مىض إلهً ا فتحول إىل رجل‪ ،‬وها هو ذا اآلن كتلة من الغوغاء‪.‬‬
‫إن من يكتب ُس َو ًرا بدمه ال يريد أن تُتىل تلك السور تالوة‪ ،‬بل يريد أن تستظهرها‬
‫القلوب‪.‬‬
‫إن أقرب الطرق بني الجبال إنما هو الخط املمتد من ذروة إىل ذروة‪ ،‬وال يمكنك‬
‫أن تتبع هذا السبيل؛ إذ لم تكن لك ِرجال مارد‪ .‬يجب أن تكون التعاليم شامخة‬

‫‪60‬‬
‫كهذه الذرى‪ ،‬وأن يكون ملن تُ َّلقن لهم قوة الجبابرة وعظمتهم‪.‬‬
‫رق النسيم وصفا‪ ،‬وهذه املخاطر تحدق بي عن كثب‪ ،‬وفكرتي تتخطر‬ ‫لقد َّ‬
‫ِّ‬
‫الجن أتباعً ا‪ ،‬أنا رب‬ ‫َّ‬
‫فألتخذن من‬ ‫مرحة يف قسوتها‪ ،‬أمامي الرصاط املمهد‬
‫الجسارة والعزم‪ ،‬ومن توصل بأقدامه إىل طرد األشباح ال يصعب عليه أن يخلق‬
‫من الجن له أتباعً ا‪.‬‬
‫لقد تاقت شجاعتي إىل الضحك‪ ،‬وقد انقطع كل حبل بيني وبينكم‪ .‬إن السحب‬
‫ِّ‬
‫املتمخضة بالعواصف لهي سحبكم السوداء الثقيلة وأنا أهزأ اآلن بها‪.‬‬
‫إنكم تنظرون إىل ما فوقكم عندما تتشوقون إىل االعتالء‪ ،‬أما أنا فقد علوت حتى‬
‫أصبحت أتطلع إىل ما تحت أقدامي‪ ،‬فهل فيكم من يمكنه أن يضحك وهو واقف‬
‫عىل الذرى؟‬
‫من يحوِّم فوق أعايل الجبال يستهزئ بجميع مآيس الحياة‪ ،‬ويستهزئ‬
‫بمسارحها‪ ،‬بل بالحياة نفسها‪.‬‬
‫تريدنا الحكمة شجعانًا ال نبايل بيشء‪ ،‬تريدنا أشداء مستهزئني؛ ألن الحكمة‬
‫أُنثى‪ ،‬وال تحب األنثى إال الرجل املكافح الصلب‪.‬‬
‫تقولون يل إن الحياة وق ٌر ثقيل‪ ،‬فقولوا يل ً‬
‫أيضا ملاذا تقابلون الصباح بغروركم‪،‬‬
‫ثم يجيء املساء فال يجد فيكم إال املذلة والخضوع؟‬
‫إن الحياة ج ُّد ثقيلة‪ ،‬ولكن ما هذا الخور الذي يبدو عليكم؟ أفلسنا كلنا دوابًّا‬
‫ً‬
‫متضايقا‬ ‫ولكل دابة منا وقرها؟ وهل من شبه بيننا وبني برعم الورد يرتجف‬
‫لسقوط قطرة الندى عليه!‬
‫ال ريب أننا نحب الحياة‪ ،‬وليس سبب ذلك ألننا تعودنا الحياة‪ ،‬بل السبب أننا‬
‫تعودنا حب الحياة‪.‬‬
‫إن يف الحب شيئًا من الجنون‪ ،‬ولكن يف الجنون شيئًا من الحكمة‪ ،‬وأنا نفيس‬
‫التائق إىل الحياة يرتاءى يل أن خري من يدرك السعادة إنما هي الفراشات وكرات‬

‫‪61‬‬
‫الصابون الفارغة‪ ،‬ومن يشبهها من الناس‪ ،‬وال يشء يُبكي زارا ويدفعه إىل اإلنشاد‬
‫كنظره إىل هذه األزواج الصغرية الخفيفة الرائعة الدائمة الخفقان يف جنونها‪.‬‬
‫إن اإلله الذي يمكنني أن أُومن به إنما هو اإلله الذي يمكنه أن يرقص‪.‬‬
‫ً‬
‫مستغرقا ملؤه الجد والجالل‪ ،‬فقلت هذا‬ ‫عندما تراءى يل الشيطان رأيته جامدًا‬
‫هو الروح الثقيل الذي تتساوى جميع الحاالت لديه‪.‬‬
‫إذا أردت القتل فال تستعن بالغضب‪ ،‬بل استعن بالضحك‪ .‬فهيَّا بنا نقتل الروح‬
‫الثقيل‪.‬‬
‫راكضا منذ تعلمت امليش‪ ،‬وهأنذا أطري اآلن ولست بحاجة إىل من‬ ‫ً‬ ‫إنني ما زلت‬
‫يدفعني ألتحرك‪.‬‬
‫وأن إلهً ا يرقص‬ ‫ً‬
‫خفيفا‪ ،‬فأنا أطري مشع ًرا بأنني أح ِّلق فوق ذاتي‪َّ ،‬‬ ‫لقد أصبحت‬
‫يف داخيل‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫دوحة الجبل‬
‫وارتقى زارا ذات مساء الربوة املرشفة عىل مدينة «البقرة امللونة» فالتقى هنالك‬
‫ً‬
‫جالسا إىل جذع دوحة‬ ‫فتًى كان يلحظ فيما مىض صدوده عنه‪ ،‬وكان هذا الفتى‬
‫نظرات ملؤها األىس‪ ،‬فتقدم زارا وطوَّق الدوحة بذراعيه وقال‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫يرسل إىل الوادي‬
‫لو أنني أردت ه َّز هذه الدوحة بيدي ملا تمكنت‪ ،‬غري أن الريح الخفية عن أعيننا‬
‫تهزها وتلويها كما تشاء‪ .‬هكذا نحن تلوينا وته ُّزنا أيادٍ ال تُرى‪.‬‬
‫فنهض الفتى مذعو ًرا وقال‪ :‬هذا زارا يتكلم! وقد كنت موجهً ا أفكاري إليه‪،‬‬
‫فقال زارا‪ :‬ما يخيفك يا هذا؟ أليس لإلنسان وللدوحة حالة واحدة؟ فكلما سما‬
‫اإلنسان إىل األعايل‪ ،‬إىل مطالع النور تذهب أصوله غائرة يف أعماق األرض‪ ،‬يف‬
‫الظلمات واملهاوي‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫فصاح الفتى‪ :‬أجل! إننا نغور يف الرشور‪ ،‬ولكن كيف تسنَّى لك أن تكشف‬
‫خفايا نفيس؟‬
‫فابتسم زارا وقال‪ :‬إن من النفوس من ال نتوصل إىل اكتشافها إال باخرتاعها‬
‫اخرتاعً ا‪.‬‬
‫قلت ًّ‬
‫حقا يا زارا‪ ،‬لقد تالشت‬ ‫وعاد الفتى يكرر قوله‪ :‬أجل إننا نغور يف الرشور‪َ .‬‬
‫أيضا ثقة الناس‪ ،‬فما هو‬ ‫ثقتي بنفيس منذ بدأت بالطموح إىل االرتقاء فحُ رمت ً‬
‫السبب يا ترى؟ إنني أتحول برسعة فيدحض حارضي ما مىض من أيامي‪ ،‬و َل َك ْم‬
‫ح َّلقت فوق املدارج أتخطاها وهي اآلن ال تغتفر يل إهمايل‪ ،‬إنني عندما أبلغ الذروة‬
‫الق ُّر يف وحدتي فرتتجف‬ ‫أراني دائمً ا منفردًا وليس قربي من يكلمني‪ ،‬ويلفحني َ‬
‫عظامي‪ ،‬وما أدري ماذا أتيت أطلب فوق الذرى!‬
‫إن احتقاري يساير رغباتي يف نموها‪ ،‬فكلما ازددت ارتفاعً ا زاد احتقاري‬
‫للمرتفعني فال أدري ما هم يف الذرى يقصدون‪ ،‬ولكم أخجلني سلوكي متعث ًرا‬
‫عىل املرتقى‪ ،‬ولكم هزأت بتهدج أنفايس‪ .‬إنني أكره املنتفضني للطريان‪ ،‬فما أتعبَ‬
‫الوقوف عىل الذرى العالية!‬
‫ونظر زارا إىل الدوحة يتكئ الفتى عليها ساكتًا فقال‪ :‬إن هذه الدوحة ترتفع‬
‫منفردة عىل القمة وقد نمت وتعالت فوق الناس وفوق الحيوانات‪ ،‬فإذا هي أرادت‬
‫أن تتكلم اآلن بعد بلوغها هذا العلو فلن يفهم أقوالها أحد‪ .‬إنها انتظرت ولم تزل‬
‫تتعلل بالصرب‪ ،‬ولعلها وقد بلغت مسارح السحاب تتوقع انقضاض أول صاعقة‬
‫عليها‪.‬‬
‫ً‬
‫متحمسا‪ :‬نطقت بالحق يا زارا‪ ،‬إنني اتجهت إىل األعماق وأنا أطلب‬ ‫فهتف الفتى‬
‫االعتالء‪ ،‬وما أنت إال الصاعقة التي توقعتها‪ .‬تفرس يف َّ‪ ،‬وانظر إىل ما آلت إليه‬
‫حالتي منذ تجليت لنا‪ ،‬فما أنا إال ضحية الحسد الذي استوىل عيلَّ‪.‬‬
‫وكانت الدموع تنهمر من مآقي الفتى وهو يتكلم‪ ،‬فتأبط زارا ذراعه وسار به‬
‫عىل الطريق‪ ،‬وبعد أن قطعا مسافة منها قال زارا‪ :‬لقد تف َّ‬
‫طر قلبي‪ ،‬إن يف عينيك ما‬

‫‪63‬‬
‫يفصح بأكثر من بيانك عما تقتحم من األخطار‪ .‬إنك َّملا تتحرر يا أخي‪ ،‬بل ما زلت‬
‫تسعى إىل الحرية‪ ،‬وقد أصبحت يف بحثك عنها مرهف الحس كالسائر يف منامه‪.‬‬
‫مطلقا من كل قيد نحو الذرى‪ ،‬فقد اشتاقت روحك إىل‬ ‫ً‬ ‫إنك تريد الصعود‬
‫مسارح النجوم‪ ،‬ولكن غرائزك السيئة نفسها تشتاق الحرية ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫إن كالبك العقورة تطلب حريتها‪ ،‬فهي تنبح مرحة يف رساديبها‪ ،‬عىل حني أن‬
‫عقلك يطمح إىل تحطيم أبواب سجونك كلها‪ ،‬وما أراك بالطليق الحر فأنت لم تزل‬
‫سجينًا يتوق إىل حريته‪ ،‬وأمثال هذا السجني تتصف أرواحهم بالحزم غري أنها‬
‫تصبح وا أسفاه مراوغة رشيرة‪.‬‬
‫عىل من ح َّرر عقله أن يتطهر مما تبقى فيه من عادة كب ِْت العواطف والتلطخ‬
‫باألقذار؛ لتصبح نظراته براقة صافية‪ .‬إنني ال أجهل الخطر املحدق بك؛ لذلك‬
‫طرح عنك ما فيك من حب ومن أمل‪.‬‬ ‫أستحلفك بحبي لك وأميل فيك أال ت َّ‬
‫إنك لم تزل تشعر بالكرامة ولم يزل الناس يرونك كريمً ا بالرغم من كرههم لك‬
‫وتوجيههم نظرات السوء إليك‪ .‬فاعلم أن الناس ال يبالون بالكرماء يمرون بهم‬
‫عىل الطريق‪ ،‬غري أن أهل الصالح يهتمون بهم‪ ،‬فإذا ما صادفوا يف سبيلهم من‬
‫يتشح الكرامة دعوه ً‬
‫رجل صالحً ا؛ ليتمكنوا من القبض عليه الستعباده‪.‬‬
‫إن الرجل الكريم يريد أن يبدع شيئًا جديدًا وفضيلة جديدة‪ ،‬عىل حني أن الرجل‬
‫يحن َّإل إىل األشياء القديمة‪ ،‬وجل رغبته تتجه إىل اإلبقاء عليها‪.‬‬
‫الصالح ال ُّ‬
‫صالح‪ ،‬بل كل الخطر عليه يف أن‬
‫ٍ‬ ‫ال خطر عىل الرجل الكريم من أن ينقلب رج َل‬
‫يصبح وقحً ا هدَّامً ا‪.‬‬
‫لقد عرفت من الناس كرامً ا د َّلت طالئعهم عىل أنهم سيبلغون أسمى األماني‪،‬‬
‫فما لبثوا حتى هزءوا بكل أمنية سامية‪ ،‬فعاشوا تسري الوقاحة أمامهم‪ ،‬وتموت‬
‫رغباتهم قبل أن تظهر فما أعلنوا يف صبيحتهم خطة إال شهدوا فشلها يف املساء‪.‬‬
‫قال هؤالء الناس‪ :‬ما الفكرة إال شهوة كغريها من الشهوات‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫وهكذا طوت الفكرة فيهم جناحيها فتحطما‪ ،‬وبقيت هي تزحف ً‬
‫زحفا وتدنَّس‬
‫جميع ما تتصل به‪.‬‬
‫ً‬
‫أبطال‪ ،‬فما تسنى لهم إال أن يصبحوا‬ ‫لقد فكر هؤالء الناس من قبل أن يصريوا‬
‫متنعمني‪ ،‬يحزنهم شبح البطولة ويلقي الخوف يف روعهم‪.‬‬
‫أستحلفك بحبي لك وأميل فيك َّأل تدفع عنك البطل الكامن يف نفسك؛ إذ عليك‬
‫أن تحقق أسمى أمانيك‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫املنذرون باملوت‬
‫ما أكثر املنذرين باملوت! والعالم ميلء بمن تجب دعوتهم إىل اإلعراض عن‬
‫الحياة‪.‬‬
‫إن األرض مكتظة بالدخالء وقد أفسدوا الحياة‪ ،‬فما أجدرهم بأن تستهويهم‬
‫الحياة األبدية ليخرجوا من هذه الدنيا‪.‬‬
‫لقد وُصف املنذرون باملوت بالرجال الصفر والسود‪ ،‬ولسوف أصفهم أنا‬
‫فينكشفون عن ألوان أخرى ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫إنهم ألشد الناس خط ًرا؛ إذ كمن الحيوان املفرتس فيهم‪ ،‬فغدوا وال خيار لهم‬
‫إال بني حالتني؛ حالة التحرق بالشهوة وحالة كبتها بالتعذيب‪ ،‬وما شهوتهم إال‬
‫التعذيب بعينه‪ .‬إن هؤالء املسوخ لم يبلغوا مرتبة اإلنسانية بعد‪ ،‬فليبرشوا ب ُكره‬
‫الحياة‪ ،‬وليقلعوا عن مرابعها‪.‬‬
‫هؤالء هم املصابون بس ِّل الروح‪ ،‬فإنهم ال يكادون يولدون للحياة حتى يبدأ‬
‫موتهم‪ ،‬وقد شاقتهم مبادئ الزهد واملالل‪.‬‬
‫يود هؤالء الناس أن يُد َرجوا يف عداد األموات‪ ،‬فعلينا أن نحبِّذ إرادتهم‪ ،‬ولنحرتس‬
‫من أن نعمل عىل بعث هؤالء األموات وعىل تشويه هذه النعوش املتحركة‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫مريضا أو ً‬
‫شيخا أو جثة ميت‪ ،‬فإنهم يقولون‪ :‬لقد انتفت الحياة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫إذا هم صادفوا‬
‫ٌ‬
‫دحض لها ألنها ال تتجه إال‬ ‫نفي للحياة‪ ،‬وإن عيونهم‬
‫ولو أنصفوا لقالوا إنهم هم ٌ‬
‫إىل مظهر واحد من مظاهر الوجود‪.‬‬
‫هم َّ‬
‫يتلفعون برداء وسيع من األىس ويتشوَّقون إىل الحوادث التي تجر وراءها‬
‫املوت‪ ،‬ولكنهم يتوقعون املوت وأسنانهم تصطك ف َر ًقا‪ ،‬غري أنهم يف الوقت نفسه‬
‫يمدون أيديهم إىل ما ل َّذ وطاب هازئني‪ ،‬فكأن الحياة قشة يهزءون بها ولكنهم‬
‫يحرصون عليها‪ .‬إن حكمة هؤالء الناس تهتف قائلة‪« :‬الحياة جنون‪ ،‬أفظع منه‬
‫التمسك بالحياة‪ ،‬وقد بلغ الجنون بنا هذا الح َّد الفظيع‪».‬‬
‫يقولون إن الحياة آالم‪ ،‬إنهم يقولون ًّ‬
‫حقا‪ ،‬فلماذا ال يضعون حدًّا لهذه الحياة إن‬
‫لم يكن فيها سوى العذاب؟ تلك تعاليم ترمي إىل وجوب االنتحار‪ ،‬فيقول البعض‬
‫وهو يدعو إىل املوت‪ :‬إن املالذَّ الجنسية خطيئة فيجب االمتناع عنها واإلرضاب عن‬
‫التوليد‪ .‬ويقول البعض اآلخر‪ :‬إن الوالدة مؤملة‪ ،‬فعال َم تلد النساء َّ‬
‫وهن ال يقذفن إىل‬
‫الوجود إال باألشقياء؟ وهذه الفئة هي ً‬
‫أيضا من املنذرين بالفناء‪.‬‬
‫وتقول لك فئة أخرى‪ :‬إن الرحمة الزمة فخذ ما نملك‪ ،‬بل خذ ما تتكوَّن‬
‫شخصيتنا منه‪ ،‬فإن فعلت فإنك تقطع من األسالك التي تشد بنا إىل الحياة‪.‬‬
‫ولو أن رحمة هذه الفئة من الناس تتغلغل يف صميم ذاتهم لكانوا يبذلون الجهد‬
‫يف سبيل دفع سواهم إىل كره الحياة‪ .‬ليستم َّر هؤالء الناس عىل ما هم عليه؛ ألن‬
‫رحمتهم الحقيقية كامنة يف إيقاع األذى‪.‬‬
‫إن ما يقصد هؤالء الناس إنما هو التملص من تكاليف البقاء فال يهمهم ْ‬
‫إن هم‬
‫ألقوا بأغاللهم عىل اآلخرين‪.‬‬
‫وأنتم ً‬
‫أيضا‪ ،‬أيها املتحمِّ لون من الدنيا همومها وجهودها املرهقة‪ ،‬أفما تعبتم من‬
‫الحياة؟ أفما أنضجت املح ُن نفوسكم لتقوم هي ً‬
‫أيضا منذرة باملوت؟‬
‫أنتم يا من تحبون األعمال الوحشية‪ ،‬وكل حادث يمتعكم بكل جديد وغريب‬
‫رسيع الزوال! لقد ضقتم ذرعً ا بأنفسكم‪ ،‬فما تتهالكون يف العمل إال تهربًا من‬

‫‪66‬‬
‫الحياة وطلبًا لالستغراق؛ لتصلوا بذاتكم إىل نسيان ذاتها‪ ،‬ولو كنتم أشد إيمانًا‬
‫بالحياة ملا كنتم تستسلمون هذا االستسالم الكامل لحارضكم‪ ،‬لقد َخ َل ْت رسائركم‬
‫من القوة الالزمة لالنتظار‪ ،‬بل خلت مما يستلزم كسلكم نفسه من جَ َلد‪.‬‬
‫إن صوت املنذرين باملوت يدوي يف كل مكان‪ ،‬والعالم مكتظ بمن وجبت دعوتهم‬
‫إىل املوت أو بالحري إىل الحياة األبدية‪ ،‬وال فرق عندي بني ذاك وهذه إذا كان هؤالء‬
‫الناس يسارعون إىل إخالء األرض‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫الحرب واملحاربون‬
‫ال نريد أن يراعينا خرية أعدائنا‪ ،‬كما ال نريد ً‬
‫أيضا أن يراعينا من نحبهم من‬
‫صميم الفؤاد‪.‬‬
‫دعوني أُعلن لكم الحقيقة‪.‬‬
‫إنني أحبكم من صميم الفؤاد‪ ،‬أيها الرفاق يف املعارك‪ ،‬فما أنا اآلن إال‪ ،‬كما كنت‬
‫يف األمس‪ ،‬جندي مثلكم‪ ،‬فأنا إذن من خيار أعدائكم‪ .‬دعوني أعلن الحقيقة لكم‪.‬‬
‫إنني عارف ما يف قلوبكم من حقد وحسد‪ ،‬فأنتم من العظمة بحيث ال يمكنكم‬
‫أن تتجاهلوا الحقد والحسد‪ ،‬فلتكن عظمتكم رادعة لكم عن الخجل بما يف قلوبكم‪،‬‬
‫وإذا امتنع عليكم أن تكونوا أولياء يف معرفة الحق فكونوا عىل األقل جنودًا‬
‫يكافحون من أجل هذه املعرفة‪ ،‬وما املكافحون إال طليعة األولياء‪.‬‬
‫لقد كثر عدد الجنود فليتني أرى مثل هذا العدد من املحاربني‪ ،‬وعىس أال تكون‬
‫رسائرهم عىل طراز واحد كاأللبسة التي يرتدونها‪.‬‬
‫لتكن أنظاركم منطلقة تفتش عىل عدو لكم‪ ،‬وقد الحت يف ملعاتها بوادر البغضاء‪.‬‬
‫عليكم أن تجدوا العدو لتصلوا معه حربًا تناضلون فيها من أجل أفكاركم‪ ،‬حتى‬
‫إذا سقطت هذه األفكار يف املعرتك‪ ،‬ينتصب إخالصكم ً‬
‫هاتفا بالظفر‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫أحبوا السالم كوسيلة لتجديد الحروب‪ ،‬وخري السالم ما قرصت مدته‪ .‬إنني ال‬
‫أشري عليكم بالسلم‪ ،‬بل بالظفر‪ ،‬فليكن عملكم كفاحً ا وليكن سلمكم ظف ًرا‪.‬‬
‫ال اطمئنان يف الراحة إذا لم تكن السهام مسددة عىل أقواسها‪ ،‬وما راحة األعزل‬
‫إال مدعاة للثرثرة والجدال‪ ،‬فليكن سلمكم ظف ًرا …‬
‫تقولون إن الغاية املثىل تربر الحرب‪ ،‬أما أنا فأقول لكم إن الحرب املثىل تربر‬
‫كل غاية‪ ،‬فقد أتت الحروب واإلقدام بعظائم لم تأت بمثلها محبة الناس‪ ،‬وما أنقذ‬
‫الضحايا حتى اآلن إال إقدامكم ال إشفاقكم‪.‬‬
‫إنكم تتساءلون عن الخري‪ ،‬وما الخري إال االتصاف بالشجاعة‪ ،‬فدعوا صغريات‬
‫األطفال يقلن‪« :‬إن الخري يف اللطف والجمال‪».‬‬
‫يقولون أن ال قلوب لكم‪ ،‬ذلك ألن قلوبكم تنبض باإلخالص‪ ،‬وأنا أحب تواضعكم‬
‫وإخالصكم‪ .‬إنكم تستحون ألن أمواجكم تندفع يف مدِّها‪ ،‬وسواكم يخجل من‬
‫تراجعها يف جزرها‪.‬‬
‫إن قبحكم مريع‪ ،‬فتدثروا به أيها اإلخوة؛ ألن يف دثار القبح ما ليس يف سواه من‬
‫الروعة والبهاء‪.‬‬
‫إن النفس لتقف صاخبة عندما تعتيل‪ ،‬والقسوة كامنة يف اعتالئكم‪ ،‬فما خفيت‬
‫حالكم عني‪ ،‬ففي ميدان القسوة يلتقي الشديد العزم بمنهوك القوى فال يمكنهما‬
‫أن يتفاهما‪ .‬إنني أعرف من أنتم‪.‬‬
‫بعدو فصبوا عليه بغضكم‪ ،‬وحاذروا أن تصبوا عليه احتقاركم‪ ،‬فما‬
‫ٍ‬ ‫إذا ظفرتم‬
‫عدوكم إال مدعاة مباهاتكم‪ ،‬فإذا عملتم بوصيتي يصبح انتصاره انتصا ًرا لكم‬
‫ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫إن الثورة مفخرة للعبيد‪ ،‬فليكن افتخاركم أنتم قائمً ا عىل طاعتكم‪ ،‬وليكن أمر‬
‫يفضل ما يجب‬‫اآلمر فيكم جزءًا من هذه الطاعة نفسها‪ .‬إن املحارب الصادق ِّ‬
‫عليه عىل ما يريده‪ .‬فعليكم أن توجهوا ما تؤمرون به إىل هدف رغباتكم‪ ،‬وليكن‬

‫‪68‬‬
‫حبكم للحياة تعبريًا عن أسمى أمانيكم‪ ،‬ولتكن هذه األماني عبارة عن أرفع فكرة‬
‫يف الحياة‪ .‬وما أرفع فكرة لكم‪ ،‬وأنا أستميحكم إبداءها لكم كأمر‪َّ ،‬إل هذه القاعدة‪:‬‬
‫«ما اإلنسان إال كائن يجب أن نتفوق عليه‪».‬‬
‫عىل هذا الوجه تمر حياتكم بالطاعة والجهاد‪ ،‬فما يهمكم أطالت الحياة أم‬
‫قرصت فليس من محارب يطلب أن يُعامل باملراعاة‪.‬‬
‫لقد قلت لكم الحق بال محاباة؛ ألنني أحبكم من صميم الفؤاد‪ ،‬أيها اإلخوة يف‬
‫السالح‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫الصنم الجديد‬
‫لم يزل يف بعض األماكن من األرض شعوب وجامعات‪ ،‬أما نحن فليس عندنا‬
‫سوى حكومات وما أدراكم ما هي الحكومات؟‬
‫أعريوني أسماعكم ألخاطبكم عن موت الشعوب‪ :‬ليست الحكومة إال أبرد مسخ‬
‫بني املسوخ الباردة‪ ،‬فهي تكذب بكل رصانة؛ إذ تقول‪« :‬أنا الحكومة أنا الشعب‪».‬‬
‫إياكم وتصديق ما تقول‪ ،‬فما كوَّن الشعوب إال املبدعون الذين نرشوا اإليمان‬
‫واملحبة‪ ،‬فأتوا بأجل خدمة للحياة‪ ،‬وما الناصبون األرشاك للجموع الغفرية إال مَ ن‬
‫نصل قاطعً ا فوق‬ ‫ً‬ ‫يهدمون كيانها؛ ليشيِّدوا الحكومات عىل أنقاضها‪ ،‬ويعلقوا‬
‫رأس الشعب‪ ،‬وينصبوا مئات الشهوات أمام عينه‪.‬‬
‫إن الشعب‪ ،‬حيث بقي له مرتع عىل األرض‪ ،‬ال يفهم ما هي الحكومة‪ ،‬بل هو‬
‫ينفر منها كما ينفر من العني الساحرة‪ ،‬ويراها شذوذًا هادمً ا للرشائع والتقاليد‪،‬‬
‫وإليكم الدليل‪ :‬إن لكل شعب بيانه عن الخري والرش‪ ،‬وجرية هذا الشعب ال تفهم‬
‫هذا البيان الذي أوجده لنفسه محددًا به رشائعه وتقاليده‪ ،‬عىل حني أن الحكومة‬
‫تكذب يف جميع تعابريها عن الخري والرش‪ ،‬فليس ما تقوله إال كذبًا‪ ،‬وليس ما‬

‫‪69‬‬
‫تملكه إال نتاج رسقتها واختالسها‪.‬‬
‫إن كل ما للحكومة مزيَّف‪ ،‬فهي تنهش بأسنان مستعارة‪ ،‬وأحشاؤها مخت َلقة‬
‫ً‬
‫اختالقا‪ ،‬وما شعارها إال‪« :‬البيان املبهم املشوش عن الخري والرش» فهي تتجه به‬
‫نحو الفناء‪ ،‬وتقوم بنرشه بدعوة رصيحة للمنذرين باملوت‪.‬‬
‫إن عدد من يدخلون الدنيا قد تجاوز الحد‪ ،‬وما أُوجدت الحكومة إال لخدمة‬
‫الفضوليني الدخالء عىل الحياة‪ .‬انظروا إىل هذه الحكومة كيف تجتذب إليها‬
‫ً‬
‫وتقبيل‪ .‬اسمعوها تهدر قائلة‪ :‬ليس‬ ‫الدخالء فتضمهم إىل صدرها وتشبعهم ً‬
‫عناقا‬
‫أعظم مني عىل وجه الغرباء‪ ،‬فأنا يد األلوهية املن ِّ‬
‫ظمة‪.‬‬
‫وعندما تهتف هذا الهتاف‪ ،‬تتهاوى الركاب جاثية‪ ،‬وبني الراكعني كثري من غري‬
‫طوال اآلذان وقصار النظر‪.‬‬
‫إن هذه األكاذيب تجد مصدِّقني لها‪ ،‬وا أسفاه‪ ،‬حتى بينكم أنتم‪ ،‬يا من تجول‬
‫فيكم النفوس األبيَّة؛ ألن الحكومة تعرف أن تدغدغ قلوبكم الطافحة باملكارم‬
‫الطامحة إىل الجود‪ ،‬إنها لتخرتق رسائركم‪ ،‬أنتم ً‬
‫أيضا‪ ،‬يا من تغلبتم عىل األلوهية‬
‫القديمة‪ ،‬فهي تعرف أنكم تعبتم من الكفاح فتستخدم مَ اللكم لعبادة الصنم‬
‫الجديد‪.‬‬
‫إنه لصنم يتمنى أن يحيط به األبطال وفضالء الرجال‪ ،‬إنه ملسخ بارد يريد أن‬
‫يدفأ بشمس الضمائر املشعة املرشقة‪.‬‬
‫إنه ليمنحكم كل يشء إذا أنتم سجدتم له‪ .‬فهذا الصنم الجديد يشرتي ملعان‬
‫فضائلكم وما يف لفتاتكم من عزة وكرامة‪ .‬إنه يف حاجة إليكم؛ ليجتذب إليه العدد‬
‫الفائض من الدخالء عىل الحياة‪ ،‬فهنالك الربج الجهنمي‪ ،‬وهنالك جياد املوت‬
‫تفرقع بعُ دَدِ ها حاملة شارات املراتب واألمجاد‪ ،‬أجل ذلك هو اخرتاع املوت أتى به‬
‫للجموع ليحصدها حصدًا وهو يباهي بأنه هو الحياة‪ ،‬واملنذرون باملوت يرون‬
‫بفعلته خري خدمة ملبادئهم‪.‬‬
‫حيث ي ْك َرع الجميع السموم ويضيِّع ك ُّل إنسان نفسه صالحً ا كان أو طالحً ا‪،‬‬

‫‪70‬‬
‫هنالك تقوم الحكومة؛ ألنها تسود كل مكان يوصف فيه االنتحار البطيء بالحياة‪.‬‬
‫انظروا إىل هؤالء الدخالء‪ .‬إنهم يختلسون ثمرة جهود املخرتعني وكنوز الحكماء‬
‫ويدعون هذا االختالس تمدنًا‪ ،‬غري أن كل يشء يصبح أدواء ومصاعب تحت‬
‫سلطانهم‪ .‬انظروا إىل هؤالء الدخالء وليس فيهم إال َّ‬
‫األعلء ينفثون غِ ْسلني مرائرهم‪،‬‬
‫وينتحلون صفة الصحافيني … إنهم يتناهشون ويلتهم بعضهم البعض اآلخر‪،‬‬
‫وليس لهم قوة عىل هضم ما يلتهمون‪.‬‬
‫انظروا إىل هؤالء الدخالء‪ .‬إنهم يحشدون األموال‪ ،‬وكلما ازدادت ذخائرهم زاد‬
‫فقرهم‪ ،‬فإنهم يطمحون إىل االستيالء عىل القوة فيبدءون بالقبض عىل محركها‬
‫األول‪ :‬عىل األموال الطائلة‪ ،‬وما هم إال الدخالء العاجزون‪.‬‬
‫انظروا إليهم! انظروا إىل هؤالء القرود يتس َّلق بعضهم البعض اآلخر فيتدافعون‬
‫كل منهم يطمح إىل التقرب من العرش‪ ،‬وقد‬ ‫متمرغني يف األوحال عىل الشفري‪ .‬إن ًّ‬
‫عراهم جنون التوصل إليه‪ ،‬فكأن ال سعادة إال عىل مقربة منه‪ ،‬وقد يرتفع رشاش‬
‫األوحال إىل العرش كما ينزلق العرش نفسه إىل األوحال‪3.‬‬
‫إنني أراهم وقد جُ َّن جنونهم؛ قرودًا ال تسكن لهم حركة وهم يتسلقون قاعدة‬
‫صنمهم البارد وقد انبعثت منه ومنهم أكره الروائح وأخبثها‪.‬‬
‫أفيَحْ لُو لكم‪ ،‬أيها اإلخوة‪ ،‬أن يخنقكم ما يتبخر من أشواق هؤالء املسوخ؟ حطموا‬
‫النوافذ واقفزوا منها لتنجوا بأنفسكم‪.‬‬
‫حاذروا هذه األبخرة الخانقة‪ ،‬وابتعدوا عن عبادة األصنام فإنها دين الدخالء‬
‫عىل الحياة‪ .‬حاذروا هذه األبخرة وأعرضوا عن هذه الضحايا البرشية‪.‬‬
‫لم يزل حتى اآلن مجال تسعى يف رحبه النفوس الكبرية نحو الحرية يف الحياة‪،‬‬
‫ولم تخ ُل األرض من أماكن يلجأ إليها املنعزل منفردًا أو مزدوجً ا حيث تهبُّ نسمات‬
‫البحر الهادئة‪ .‬فإن الحياة الحرة لم تزل تفتح أبوابها لكبار النفوس‪ ،‬والحق أن‬
‫من يملك القليل من حطام الدنيا ال يناله إال اليسري من تح ُّكم املتسلطني‪ .‬فطوبى‬
‫لصغار الفقراء!‬

‫‪71‬‬
‫ال يظهر اإلنسان األصيل يف الحياة إال حيث تنتهي حدود الحكومات‪ ،‬فهنالك‬
‫يتعاىل نشيد الرضورة بنغماته املحررة من كل مطاوعة وتقييد‪.‬‬
‫هنالك عند آخر حدود الحكومات‪ ،‬قفوا وتطلعوا‪ ،‬يا إخوتي‪ ،‬أفما ترون تحت‬
‫قوس قزح املعرب الذي يجتازه اإلنسان املتفوِّق؟‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫حرشات املجتمع‬
‫سارع إىل عزلتك‪ ،‬يا صديقي‪ ،‬فقد أورثك الصداع صخبُ عظماء الرجال‪ ،‬وآملتك‬
‫وخزات صغارهم‪ ،‬إن جالل الصمت يسود الغاب والصخور أمامك‪ ،‬فعد كما كنت‬
‫شبيهً ا بالدوحة التي تحب‪ ،‬الدوحة الوارفة الظل املرشفة عىل البحر مصغية يف‬
‫صمتها إىل هديره‪.‬‬
‫عىل أطراف حقول العزلة تبدأ حدود امليادين حيث يصخب كبار املمثلني ويطن‬
‫الذباب املسموم‪ .‬ال قيمة لخري األشياء يف العالم إن لم يكن لها مَ ن يمثِّلها‪ ،‬والشعب‬
‫رجال عظامً ا‪ ،‬إنه ييسء فهم العظمة املبدعة‪ ،‬فيبتدع من نفسه‬ ‫ً‬ ‫يدعو ممثليه‬
‫املعاني التي يجمِّ ل بها ممثليه والقائمني باألدوار الكربى عىل مرسح الحياة‪.‬‬
‫إن العالم يدور دورته الخفية حول موجدي السنن الجديدة‪ .‬وحول العبي‬
‫األدوار عىل مرسح الحياة يدور الشعب وتدور األمجاد‪ ،‬وعىل هذه الوترية يسري‬
‫العالم‪.‬‬
‫إن لالعب األدوار ذكاءَه‪ ،‬ولكنه ال يدرك حقيقة هذا الذكاء؛ النصباب عقيدته إىل‬
‫كل طريقة توصله لخري النتائج وإىل كل أمر يدفع بالناس إىل وضع ثقتهم به‪.‬‬
‫غدًا سيعتنق هذا الرجل عقيدة جديدة‪ ،‬وبعد غ ٍد سيستبدل بها أج َّد منها‪،‬‬
‫ففكرته تشبه الشعب تذبذبًا وتوقدًا وتقلبًا‪.‬‬
‫إن ممثل الشعب يرى بالتحطيم برهانه‪ ،‬وبإيقاد النار حجته‪ ،‬وبإراقة الدماء‬

‫‪72‬‬
‫أفضل حجة وأقوى دليل‪ .‬إنه ليعترب هبا ًء كل حقيقة ال تسمعها إال اآلذان املرهفة‪،‬‬
‫فهو عبد اآللهة الصاخبة يف الحياة‪.‬‬
‫إن ميدان الجماهري يغص بالغوغاء املهرجني‪ ،‬والشعب يفاخر بعظماء رجاله‬
‫فهم أسياد الساعة يف نظره‪ ،‬ولكن الساعة تتطلب الرسعة من هؤالء األسياد‪ ،‬فهم‬
‫يزاحمونك‪ ،‬يا أخي‪ ،‬طالبني منك إعالن رفضك أو قبولك‪ ،‬والويل لك إذا وقفت‬
‫حائ ًرا بني «نعم» وبني «ال»‪.‬‬
‫ً‬
‫عاشقا للحقيقة فال يغرنَّك أصحاب العقول الرعناء املتص ِّلبة‪ ،‬وما‬ ‫وإذا كنت‬
‫كانت الحقيقة لتستند يومً ا إىل ذراع أحد هؤالء املتص ِّلبني‪.‬‬
‫دع املشاغبني وارجع إىل مقرك‪ ،‬فما ميدان الجماهري إال معرتك يهدد سالمتك‬
‫بني خنوع «نعم» وتمرد «ال»‪ .‬إن تجمع املياه يف الينابيع ال يتم إال ببطء‪ ،‬وقد تمر‬
‫أزمان قبل أن تدرك املجاري ما استقر يف أغوارها‪.‬‬
‫ال تقوم عظمة إال بعيدًا عن ميدان الجماهري وبعيدًا عن األمجاد‪ ،‬وقد انتحى‬
‫األماكن القصيَّة عنها من أبدعوا السنن الجديدة يف كل زمان‪.‬‬
‫اهرب‪ ،‬يا صديقي‪ ،‬إىل عزلتك‪ .‬لقد طالت إقامتك قرب الصعاليك واألدنياء‪ ،‬ال‬
‫تقف حيث يصيبك انتقامهم َّ‬
‫الدساس وقد أصبح كل همهم أن ينتقموا منك‪.‬‬
‫ال ترفع يدك عليهم فإن عددهم ال يحىص‪ ،‬وما ُقدِّر عليك أن تكون صيادًا‬
‫للحرشات‪ .‬إنهم لصغار أدنياء ولكنهم كثرة‪ ،‬و َل َك ْم أسقطت قطرات املطر‬
‫رصوح شامخات‪ .‬ما أنت بالصخرة الصلدة‪ ،‬ولش َّد ما‬
‫ٍ‬ ‫وطفيليات األعشاب من‬
‫فعلت بك القطرات‪ ،‬ولسوف يتواىل ارتشاقها عليك فتصدعك وتحطمك تحطيمً ا‪.‬‬
‫لقد أرهقتك الحرشات السامة فخدشت جلدك وأسالت منه الدماء‪ ،‬وأنت‬
‫كبك لتكظم غيظك‪ ،‬وهي تو ُّد لو أنها تمتص كل دمك معتربة َّ‬
‫أن من‬ ‫تتحصن ِب ْ‬
‫حقها أن تفعل؛ ألن دمها الضعيف يطلب دمً ا ليتقوَّى‪ ،‬فهي ال ترى جُ ناحً ا عليها؛‬
‫إذ تُنشب حُ متها يف جلدك‪ .‬إن هذه الجروح الصغرية لتذهب باأللم إىل مدى بعيد‬
‫يف حسك املرهف‪ ،‬فتتدفق صديدًا يرتعيه الدود‪ .‬أراك تتعاىل عن أن تمد يدك لقتل‬

‫‪73‬‬
‫هذه الحرشات الجائعة‪ ،‬فحاذر أن يجول س ُّم استبدادها يف دمك‪.‬‬
‫إن هؤالء املشاغبني يدورون حولك بطنني الذباب‪ ،‬فهم يرفعون أناشيدهم ً‬
‫تزلفا‬
‫إليك ليتحكموا يف جلدك ودمك‪ .‬إنهم يتوسلون إليك ويداهنونك كما يداهنون‬
‫اآللهة والشياطني‪ ،‬فيحتالون عليك باملالطفة والثناء‪ ،‬وما يحتال غري الجبناء‪.‬‬
‫إنهم يفكرون بك كثريًا يف رسهم فيلقون الشكوك عليك‪ ،‬وكل من يفكر الناس‬
‫به كثريًا تحوم حوله الشبهات‪.‬‬
‫إنهم يعاقبونك عىل كل فضيلة فيك‪ ،‬وال يغتفرون لك من صميم فؤادهم إال‬
‫ما ترتكب من أخطاء‪ .‬إنك لكريم وعادل؛ لذلك تقول يف قلبك‪« :‬إن هؤالء الناس‬
‫أبرياء وقد ضاقت عليهم الحياة‪ ».‬ولكن نفوسهم الضيقة تقول يف نجواها‪« :‬إن‬
‫كل حياة عظيمة إنما هي حياة مجرمة‪ ».‬ويشعر هؤالء الناس بأنك تحتقرهم‬
‫عندما تشملهم بعطفك‪ ،‬فيبادلونك عطفك بالسيئات‪ .‬إنك لتصدعهم بفضيلتك‬
‫الصامتة فال يفرحون إال عندما يتناهى تواضعك فيستحيل غرو ًرا‪ .‬إن الناس‬
‫يحسون‬‫يطمحون بالطبع إىل إلهاب كل عاطفة تبدو لهم‪ ،‬فاحذر الصعاليك؛ ألنهم ُّ‬
‫بصغارهم أمامك فيتحمسون حتى ينقلب إحساسهم ً‬
‫كرها وانتقامً ا‪.‬‬
‫أفما شعرت أنهم يخرسون عندما تطلع عليهم‪ ،‬فتبارحهم قواهم كما يربح‬
‫الدخا ُن النار إذا همدت‪.‬‬
‫تبكيت يف ضمائر أبناء جلدتك؛ ألنهم ليسوا ً‬
‫أهل لك‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫أجل يا صديقي‪ ،‬ما أنت إال‬
‫فهم لذلك يكرهونك ويودون امتصاص دمك‪.‬‬
‫إن أبناء جلدتك لن يربحوا كالحرشات املسمومة؛ ألن العظمة فيك ستزيد أبدًا‬
‫يف كرههم لك‪.‬‬
‫إىل عزلتك‪ ،‬يا صديقي‪ ،‬إىل األعايل حيث تهب رصينات الرياح‪ ،‬فإنك لم تخلق‬
‫لتكون صيادًا للحرشات‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪74‬‬
‫العفة‬
‫أُحب الغاب‪ ،‬فما تسهل حياة املدن عيل َّ وقد كثر فيها عبيد الشهوات الثائرات‪.‬‬
‫سفاح من أن تحدق به أشواق امرأة جامحة‬
‫ٍ‬ ‫لخري أن يقع الرجل بني براثن‬
‫ملتهبة‪.‬‬
‫إنك إذا ما تفرست يف رجال املدن‪ ،‬لتشهد لك نظراتهم بأنهم ال يرون يف األرض‬
‫شيئًا يفضل مضاجعة امرأة …‬
‫يف أغوار أرواحهم ترسب األقذار‪ ،‬وأشقاهم من تم َّرغ عقله بأقذاره‪.‬‬
‫ليتك حيوان اكتملت حيوانيته عىل األقل‪ ،‬ولكن أين منك طهارة الحيوان؟ ما أنا‬
‫باملشري عليك بقتل حواسك‪ ،‬إن ما أوجبه إنما هو طهارة هذه الحواس‪.‬‬
‫ما أنا باملشري عليك بالعفة؛ ألنها إذا كانت فضيلة يف البعض فإنها لتكاد تكون‬
‫رذيلة يف اآلخرين‪ ،‬ولعل هؤالء يمسكون عن التمتع‪ ،‬غري أن شب ََقهم يتجىل يف كل‬
‫حركة من حركاتهم‪.‬‬
‫إن كالب الشهوة تتبع هؤالء املمسكني حتى إىل ذرى فضيلتهم فتنفذ إىل أعماق‬
‫تفكريهم الصارم لتشوش عليه سكينته‪ ،‬ولكالب الشهوة من مرونة الزلفى ما‬
‫تتوسل به إىل نيل قطعة من الدماغ املفكر إذا منعت قطعة اللحم عنها …‬
‫طر القلوب‪ ،‬أما أنا فال أثق بكالب شهواتكم؛ ألن‬ ‫إنكم تحبون املآيس وكل ما يف ِّ‬
‫نظراتكم الرصينة تمتلئ شهوة عندما تقع عىل املتأملني‪ ،‬وقد تن َّكر الشبق فيكم‬
‫مثل عىل هذا حالة العدد الوفري ممن أرادوا‬ ‫ً‬
‫إشفاقا‪ ،‬وإني ألرضب لكم ً‬ ‫فدعوتموه‬
‫طرد الشياطني فدخلوا هم يف الخنازير ً‬
‫بدل منها‪.‬‬
‫إذا ما ثقلت العفة عىل أحد منكم فعليه أن يعرض عنها كيال تنبسط أمامه‬
‫ً‬
‫سبيل إىل الجحيم‪ ،‬جحيم أقذار النفس ونريانها‪.‬‬
‫لعلكم ترون بذاءة يف كالمي‪ ،‬أما أنا فأرى البذاءة حيث ال ترونها أنتم‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫ليست البذاءة يف قذارة الحقيقة‪ ،‬بل هي يف تدنيها وإسفافها‪ ،‬وطالب املعرفة‬
‫يأنف من االنحدار إىل مهاويها‪.‬‬
‫إن من الناس من دخلت العفة قلوبهم فالنت هذه القلوب لها‪ .‬أولئك هم‬
‫الضاحكون ويف ابتسامهم ما ليس يف ابتسامكم من إخالص‪ .‬إنهم يهزءون بالعفة‬
‫ويتساءلون عما يمكن أن تكون‪.‬‬
‫أفليست العفة غرو ًرا؟ أفليست هي التي جاءت إلينا ولم نذهب نحن إليها؟‬
‫فليبق هذا الضيف ً‬
‫نازل فينا ما‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫ضيفا ً‬
‫ثقيل فيه‪،‬‬ ‫لقد فتحنا قلبنا لها فاستقرت‬
‫طاب له املقيل‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫الصديق‬
‫ً‬
‫محدقا يف‬ ‫يقول املنفرد يف نفسه‪« :‬ال أطيق وجود أحد بقربي‪ ».‬ولكثرة ما يقف‬
‫ذاته تظهر التثنية فيه‪ ،‬ويقوم الجدال بني شخصيته وبني ذاته فيشعر بالحاجة‬
‫إىل صديق‪ ،‬وما الصديق للمنفرد إال شخص ثالث يحول دون سقوط املتجاد َلني‬
‫إىل األغوار كما تمنع املنطقة املفرغة غرق العائمني‪.‬‬
‫إن أغوار املنفرد بعيدة القرار‪ ،‬فهو بحاجة إىل صديق له أنجاده العالية‪ ،‬فثقة‬
‫اإلنسان يف غريه تقوده إىل ثقته بنفسه‪ ،‬وتشوقه إىل الصديق يُنهض أفكاره من‬
‫كبواتها‪.‬‬
‫كثريًا ما يقود الحب إىل التغلب عىل الحسد‪ ،‬وكثريًا ما يطلب اإلنسان األعداء‬
‫ليسرت ضعفه ويتأكد إمكانه مهاجمة اآلخرين‪.‬‬
‫من يطمح إىل اكتساب الصديق وجب عليه أن يستعد للكفاح من أجله‪ ،‬وال‬
‫يصلح للكفاح إال من يمكنه أن يكون عدوًّا‪ .‬يجب عىل املرء أن يحرتم عِ داءَه يف‬
‫صديقه؛ إذ ال يمكن لك أن تقرتب من قلب صديقك إال حني تهاجمه وتحارب‬

‫‪76‬‬
‫شخصيته‪.‬‬
‫أنت تريد الظهور أمام صديقك عىل ما أنت عليه هات ًكا كل سرت عن خفايا‬
‫نفسك‪ ،‬فال تعجب إذا رأيت صديقك يعرض عنك ويقذف بك إىل بعيد‪.‬‬
‫من ال يعرف املصافعة يدفع بالناس إىل الثورة عليه‪ ،‬فاحذر العري‪ ،‬يا هذا‪ ،‬ألنك‬
‫لست إلهً ا‪ ،‬واآللهة دون سواهم يخجلون من االستتار‪.‬‬
‫عليك بارتداء خري لباس أمام صديقك‪ ،‬لتهيب به إىل طلب املثل األعىل‪ :‬اإلنسان‬
‫املتفوق‪.‬‬
‫أفما تفرست يومً ا يف وجه صديقك وهو نائم لرتى حقيقته؟ أفما رأيت مالمحه‬
‫إذ ذاك كأنها مالمحك أنت منعكسة عىل مرآة مربقعة معيبة؟ أفما ذعرت ملنظر‬
‫صديقك وهو مستسلم للكرى؟‬
‫ما اإلنسان‪ ،‬أيها الرفيق‪ ،‬إال كائن وجب عليه أن يتفوق عىل ذاته‪ ،‬وعىل الصديق‬
‫ً‬
‫كشافا صامتًا‪ ،‬فأمسك عن النظر علنًا إىل كل يشء ما دمت قاد ًرا يف‬ ‫أن يكون‬
‫غفلتك عىل كشف كل ما يفعله صديقك يف انتباهه‪ .‬عليك أن تحل الرموز قبل أن‬
‫تعلن إشفاقك‪ ،‬فقد ينفر صديقك من اإلشفاق ويفضل أن يراك مقنعً ا بالحديد‬
‫ويف عينيك ملعان الخلود‪.‬‬
‫ليكن عطفك عىل صديقك متشحً ا بالقسوة وفيه يشء من الحقد‪ ،‬فيبدو هذا‬
‫العطف مليئًا بالرقة والظرف‪.‬‬
‫كن لصديقك كالهواء الطلق والعزلة والغذاء والدواء‪ ،‬فإن من الناس من يعجز‬
‫عن التحرر من قيوده ولكنه قادر عىل تحرير أصدقائه‪.‬‬
‫دع الصداقة إذا كنت عبدًا‪ ،‬وإذا كنت عاتيًا فال تطمح إىل اكتساب األصدقاء‪.‬‬
‫لقد مرت أحقاب طويلة عىل املرأة كانت فيها مستبدَّة أو مستعبَدة فهي لم تزل‬
‫غري أهل للصداقة‪ ،‬فاملرأة ال تعرف غري الحب‪.‬‬
‫إن حب املرأة ينطوي عىل تعسف وعماية تجاه من ال تحب‪ ،‬وإذا ما اشتعل‬

‫‪77‬‬
‫بالحب قلبها فإن أنواره مع َّرضة أبدًا لخطف الربوق يف الظالم …‬
‫لم تبلغ املرأة بعد ما يؤهلها للوفاء كصديقة‪ ،‬فما هي إال ه َّرة‪ ،‬وقد تكون‬
‫عصفو ًرا‪ ،‬وإذا هي ارتقت أصبحت بقرة …‬
‫أهل للصداقة‪ ،‬ولكن ليقل يل الرجال من هو أهل للصداقة بينهم؟ إن‬ ‫ليست املرأة ً‬
‫فقر روحكم وخساستها يستحقان اللعنة أيها الرجال؛ ألن ما تبذلونه ألصدقائكم‬
‫يمكنني أن أبذله ألعدائي دون أن أزداد فق ًرا‪.‬‬
‫إنكم ال تتخذون إال األصحاب‪ ،‬فأي متى تسود الصداقة بينكم؟‬
‫ألف هدف وهدف‬
‫لقد شاهد زارا كثريًا من البلدان وكثريًا من الشعوب‪ ،‬فنفذ إىل حقيقة الخري‬
‫والرش‪ ،‬وعرف أن ال قوة يف العالم تفوق قوتهما‪.‬‬
‫تحقق أن ليس عىل األرض من شعب تحلو له الحياة دون أن يُخضع النظم‬
‫والسنن لتقديره‪ ،‬وأن كل شعب يرى من واجبه‪ ،‬إذا أراد الحياة‪ ،‬أن يجيء بتقدير‬‫ُّ‬
‫يختلف عن تقدير من يجاوره من الشعوب‪ ،‬وهكذا كان ما يراه أحدها خريًا يراه‬
‫اآلخر دناءة وعا ًرا‪.‬‬
‫ً‬
‫مجلل بالرشف والفخر‬ ‫ذلك ما عرفته‪ ،‬فكم من عمل اتشح العيب يف بلد‪ ،‬رأيته‬
‫يف بلد آخر‪.‬‬
‫لم أر جا ًرا تمكن من إدراك حقيقة جاره‪ ،‬بل رأيت ًّ‬
‫كل منهما يعجب لجنون‬
‫اآلخر وقسوته‪.‬‬
‫لقد علق كل شعب فوق رأسه لوح رشيعته‪ ،‬وس َّ‬
‫طر عليه ما اجتاز من عقبات‬
‫وما تضمر إرادته من عزم‪ ،‬فما تراءى له صعب املنال فهو موضوع تمجيده‪ ،‬وما‬
‫خريه إال حاجة ملحَّ ة ع َّز مطلبها‪ ،‬فهو يقدس كل وسيلة تمكنه من الظفر بهذه‬
‫الحاجة‪.‬‬
‫إن كل ما يوطد الحكم لهذا الشعب‪ ،‬وكل ما ينيله النرص واملجد ويلقي الرعب يف‬

‫‪78‬‬
‫روع جاره مثريًا حسده إنما هو يف نظره ذو املكانة األوىل‪ ،‬وما احتل املقام األول يف‬
‫مقياسا لجميع أموره ومعنًى لجميع ما يحيط به‪ ،‬فإذا ما تمكنت‬ ‫ً‬ ‫اعتباره يصبح‬
‫من االطالع عىل حاجات أي شعب‪ ،‬وخربت أرضه وجوَّه وحالة جاره‪ ،‬فإنك لتدرك‬
‫النواميس التي تتحكم فيه وتحفزه إىل املجالدة للغلبة عىل أهوائه‪ ،‬ولتعرف السبب‬
‫يف اختياره مراقيه الخاصة يتدرج عليها لبلوغ أمانيه‪.‬‬
‫«عليك أن تكون سب ًَّاقا مجليًا يف كل مضمار‪ ،‬فلتتلفع نفسك بغريتها كيال تبذل‬
‫الوالء إال للصديق‪».‬‬
‫إنها لكلمات إذا وقعت يف أذن يوناني ترتعش نفسه لها؛ فيندفع إىل اقتحام‬
‫الصعاب طلبًا للمجد‪.‬‬
‫«قل الحق‪ ،‬وكن ماه ًرا يف تفويق سهامك من قوسك‪».‬‬
‫إنها لوصية صعبت وع َّزت عىل الشعب الذي اقتبست اسمي منه‪ ،‬ويف هذا االسم‬
‫من املصاعب قدر ما فيه من أمجاد‪.‬‬
‫«أكرم أباك وأمك‪ ،‬ولتكن با ًّرا بهما من صميم قلبك‪».‬‬
‫وهذه الوصية القائمة عىل إرغام النفس قد عمل بها شعب آخر؛ فبلغ القوة‬
‫وأصبح خالدًا‪.‬‬
‫«كن أمينًا وابذل لألمانة دمك ورشفك حتى ولو كان جهادك يف سبيل ما يضري‬
‫وما يورد املهالك‪».‬‬
‫أيضا وصية عمل بها شعب آخر‪ ،‬فتغلب عىل ذاته وأصبح عظيمً ا تثقله‬ ‫وهذه ً‬
‫األماني الجسام‪.‬‬
‫لقد أقام الناس الخري والرش‪ ،‬فابتدعوهما ألنفسهم‪ ،‬وما اكتشفوهما وال أُنزال‬
‫عليهم بهاتف من السماء‪.‬‬
‫لقد وضع اإلنسان لألمور أقدارها ليحافظ عىل نفسه‪ ،‬فهو الذي أوجد لألشياء‬
‫معانيها اإلنسانية‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫ما التقدير إال اإليجاد بعينه‪ ،‬فأصغوا إيل َّ أيها املوجدون‪.‬‬
‫ما الكنوز والجواهر إال أشياء أرادها تقديركم جواهر وكنو ًزا‪ ،‬فما القيمة إال‬
‫املوجدون‪:‬‬
‫اعتبار‪ ،‬ولوال التقدير ملا كان الوجود إال قشو ًرا ال نواة فيها‪ .‬اسمعوا أيها ِ‬
‫إن قيمة األشياء تتغري تبعً ا لتحول اعتبار ِ‬
‫املوجد‪ ،‬وال بد لهذا املوجد من أن يَهدم‬
‫يف كل حني‪.‬‬
‫املوجدون‪ ،‬فما الفرد‬
‫لقد كانت الشعوب تتوىل اإليجاد يف البدء حتى ظهر األفراد ِ‬
‫يف الواقع إال أحدث هيئات الوجود‪.‬‬
‫لقد أقامت الشعوب لنفسها قِ دمً ا رشيعة خ ِ‬
‫ريها‪ ،‬وما نشأت هذه الرشيعة إال‬
‫باتفاق املحبة التي طمحت إىل السيادة‪ ،‬واملحبة التي رضيت باالمتثال‪.‬‬
‫إن هوى املجموع أقدم من أهواء الفرد‪ ،‬وإذا كان خري الضمائر ما يكمن يف‬
‫املجموع‪ ،‬فإن رشها ما يتجىل يف الفرد املعلن شخصيته‪.‬‬
‫والحق أن الشخصية املراوغة التي ال محبة فيها‪ ،‬الشخصية التي ترمي إىل‬
‫االستفادة من خري األكثرية‪ ،‬إنما هي عنوان انحطاط املجموع ال مبدأ كيانه‪.‬‬
‫ما خلق الخري والرش يف كل عرص إال املتهوسون املبدعون‪ ،‬وما أرضم نارهما إال‬
‫عاطفة الحب وعاطفة الغضب باسم الفضائل جمعاء!‬
‫لقد شاهد زارا كثريًا من الشعوب والبلدان فما رأى قوة عىل األرض تفوق قوة‬
‫املتهوسني‪ ،‬والقوة معنى لكلمتي الخري والرش‪.‬‬
‫ما أشبه ما يستدعي التمجيد ويستوجب العقاب باملسخ الهائل‪ ،‬فمن له بسحق‬
‫هذا املسخ‪ ،‬أيها اإلخوة؟ من سيشد باألغالل عىل ما يُت ِل ُع هذا الحيوان من آالف‬
‫األعناق؟‬
‫لقد بلغت األهداف األلف عدًّا؛ إذ بلغ عدد الشعوب ً‬
‫ألفا‪ ،‬فنحن بحاجة إىل قيد‬
‫واحد أللف عنق؛ ألننا بحاجة إىل هدف واحد‪ ،‬فالبرشية لم تعرف حتى اليوم‬
‫لها ً‬
‫هدفا‪ ،‬ولكن إذا كانت اإلنسانية تسري وال غاية لها‪ ،‬أفليس ذلك لقصورها‬

‫‪80‬‬
‫وضاللها؟‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫محبة القريب‬
‫إنكم لتعطفون عىل القريب‪ِّ ،‬‬
‫وتعبون عن عطفكم بتزويق الكالم‪ ،‬أما أنا فأقول‬
‫لكم إن محبتكم للقريب ْ‬
‫إن هي إال أنانية مضللة‪.‬‬
‫إنكم تلجأون للقريب هربًا من أنفسكم‪ ،‬وتريدون أن تعدوا هذا العمل فضيلة‪،‬‬
‫وهل يخفى عيل َّ كنه تجردكم هذا؟‬
‫إن املخا َ‬
‫طب أقدم من املتكلم؛ فاألول مقدَّس أما الثاني فلم يقدَّس بعد‪ .‬ذلك هو‬
‫السبب يف عطف اإلنسان عىل قريبه‪.‬‬
‫إن ما أشري به عليكم هو أن تنفروا من القريب ال أن تحبوه‪ ،‬وذلك لتتمكنوا من‬
‫محبة اإلنسان البعيد‪ ،‬فإن ما فوق محبة القريب محبة اإلنسان البعيد املنت َ‬
‫ظر‪،‬‬
‫وإني أضع فوق محبة اإلنسان محبة األشياء واألشباح‪.‬‬
‫إن الشبح الذي يعدو أمامك‪ ،‬يا صديقي‪ ،‬لهو أجمل منك‪ ،‬ف ِل َم ال تعريه لحمك‬
‫وعظمك؟‬
‫لقد استوىل الخوف عليكم فلذلك تفزعون إىل القريب‪ ،‬ال قِ بَل لكم باحتمال‬
‫أنفسكم وما حبكم بالحب الكامل؛ لذلك أراكم تطمحون إىل إغواء قريبكم لتتمتعوا‬
‫بضالله‪.‬‬
‫أتمنى أن تنفروا من جميع فئات األقربني‪ ،‬ومن جريتهم ً‬
‫أيضا لتضطروا إىل‬
‫إيجاد الصديق الذي يطفح قلبه باإلخالص‪ .‬إنكم لتدعون شهودًا عندما تريدون‬
‫أن تغدقوا الثناء عىل أنفسكم‪ ،‬وإذا ما توصلتم إىل تضليلهم ليحسنوا الظن بكم‬
‫تبدءون حينئذ بإحسان الظن بأنفسكم‪.‬‬
‫ما من أحد يرتكب الكذب إال إذا تكلم ضد ضمريه‪ ،‬فأصدق الناس من ال ضمري‬

‫‪81‬‬
‫له يحول دون قوله الصدق‪ .‬عىل هذه القاعدة تتكلمون عن أنفسكم بني الناس‬
‫لتضللوهم يف حقيقتكم‪.‬‬
‫يقول املجنون يف نفسه‪« :‬إن مخالطة الناس تفسد األخالق‪ ،‬بل هي تفسد‬
‫بخاصة من ال خالق لهم‪».‬‬
‫إن منكم من يهرع إىل جاره ليفتش عن نفسه‪ ،‬ومنكم من يذهب إليه لينساها‪.‬‬
‫سجن لكم‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫إنكم تسيئون محبة أنفسكم؛ لذلك يصبح انفرادكم بمثابة‬
‫خمسة يجتمعون منكم يقضون‬ ‫ً‬ ‫إن الغائبني يؤدون ثمن حبكم للقريب؛ ألن‬
‫دائمً ا عىل السادس الغائب‪.‬‬
‫إنني ال أحب أعيادكم؛ إذ رأيتها مليئة باملمثلني‪ ،‬ورأيت الن ُّ َّ‬
‫ظارة أبرع منهم‬
‫ً‬
‫تمثيل‪.‬‬
‫ال أدعوكم إىل محبة القريب‪ ،‬بل أدعوكم إىل محبة الصديق‪ ،‬فليكن الصديق لكم‬
‫مظهر حبور األرض‪ ،‬فتحسون بما ينبئكم باإلنسان املتفوق‪.‬‬
‫ً‬
‫إخالصا‪ ،‬غري أن من يطمح إىل الظفر بمثل هذا‬ ‫أوصيكم بالصديق يطفح قلبه‬
‫القلب يجب عليه أن يكون كاإلسفنجة قاد ًرا عىل ترشب السائل املتدفق‪ .‬أوصيكم‬
‫بالصديق الذي يحمل عا َلمً ا يف نفسه‪ ،‬فهو الصديق املبدع الذي يسعه أن يقدم لكم‬
‫هذا العالم يف كل حني‪ ،‬فيعرض عليكم ما م َّر به من عِ َب الحياة‪ ،‬فتشهدون كيف‬
‫يتحول الرش إىل خري‪ ،‬وكيف تنتهي الصدف بكم إىل غاياتكم‪.‬‬
‫ليكن املستقبل واملقاصد البعيدة ما تصبو إليه يف يومك‪ ،‬فتحب يف صديقك‬
‫اإلنسان املتفوق‪ ،‬وتضعه نصب عينيك كغاية لوجودك‪.‬‬
‫ال أشري عليكم بمحبة القريب‪ ،‬أيها اإلخوة‪ ،‬بل بمحبة اآلتي البعيد‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪82‬‬
‫طرق املبدع‬
‫أتقصد العزلة يا أخي لتجد الطريق التي توصلك إىل مكمن ذاتك؟ إذن‪ ،‬فقف‬
‫َ‬
‫واصغ إيل َّ‪ :‬لقد قال القطيع‪« :‬مَ ن فتش فقد تاه‪ ،‬ومَ ن انعزل فما أمن‬ ‫ً‬
‫قليل يف تردد‬
‫العثار‪».‬‬
‫طويل بني هذا القطيع‪ ،‬ولسوف يدوي صوته مليًّا يف داخلك‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وأنت قد عشت‬
‫فإذا قلت له‪ :‬لقد تغري ضمريي جانحً ا عن ضمريك‪ ،‬فلن تكن إال شاكيًّا متأ ًملا‪.‬‬
‫إن اشرتاكك بالشعور مع القطيع قد أورثك هذا األلم‪ ،‬وآخر و ََه ٍج من هذا‬
‫الضمري املشرتك ال يزال يلهب فجيعتك فيجددها‪ ،‬ولكنك ترغب يف اتباع هاتف‬
‫آالمك؛ ألنه يقودك إىل التوغل يف ذاتك‪ ،‬فأين برهانك عىل حقك يف امليض إليها وعىل‬
‫أنك قادر عىل هذا السفر‪ ،‬أفأنت قوة جديدة وحق جديد؟ أأنت حركة ابتدا ٍء؟ أأنت‬
‫عجلة تدور عىل ذاتها؟ أبوسعك أن تجعل النجوم تدور حولك؟‬
‫ْ‬
‫فأثبت يل‬ ‫ل َك ْم من طموح يتحفز نحو األعايل‪ ،‬ولكم من طمع يرتعش يف أمانيه‪،‬‬
‫أنك لست من الطامحني الطامعني‪.‬‬
‫إن كثريًا من ساميات األفكار ال تعمل إال عمل األُكر املنتفخة‪ ،‬فال تكاد تتضخم‬
‫حتى يحكمها الضمور‪.‬‬
‫ِ‬
‫تكتف‬ ‫إنك تدعو نفسك ح ًّرا‪ ،‬فقل يل ما هي الفكرة التي تقيمها مبدأ لك‪ ،‬وال‬
‫بقولك إنك خلعت نريك‪ ،‬فهل كنت يا ترى ذا حق بخلعه؟ إن من الناس من‬
‫يفقدون آخر مزيَّة لهم إذا هم انعتقوا من عبوديتهم‪.‬‬
‫ال يهم زارا أن تقول له من أية عبودية تحررت‪ ،‬فلتعلن له نظراتك الصافية‬
‫الغاية التي تحررت من أجلها‪.‬‬
‫تسن لنفسك خريها ورشها فرتفع إرادتك رشيعة تسود أعمالك‪،‬‬ ‫هل بوسعك أن َّ‬
‫أبوسعك أن تكون قاضيًا عىل نفسك وأن تكون منتقمً ا منها لرشيعتك؟ إنه ألمر‬
‫مريع أن يبقى اإلنسان منفردًا مع من أقامة قاضيًا عىل نفسه ومنتقمً ا منها‬

‫‪83‬‬
‫بالرشيعة التي أوجدها‪ .‬إن مثل هذا اإلنسان ليذهب يف الفضاء ذهاب الكوكب‬
‫ً‬
‫مقذوفا إىل فراغ الوحدة وصقيعها‪.‬‬
‫إنك وقد أصبحت منفردًا ال تزال تتألم من املجتمع؛ ألنك لم تطرح شجاعتك ولم‬
‫يزل لألمل مرتع فيك‪ ،‬غري أنك ستتعب من انفرادك يومً ا؛ إذ تلني قناتك وينحطم‬
‫غرورك فال تتمالك من الهتاف ً‬
‫قائل إنني أصبحت وحيدًا فريدًا‪.‬‬
‫سيأتي يوم تحتجب فيه عظمتك عنك فيلتصق صغارك فيك حتى لرتتجف ف َر ًقا‬
‫من تساميك نفسه؛ إذ يبدو أمامك كشبح مرعب فترصخ ً‬
‫قائل‪« :‬كل يشء باطل‪».‬‬
‫إن يف املنفرد عواطف تطمح إىل القضاء عليه‪ ،‬فإن لم تنل منه نالت من نفسها‬
‫وانتحرت‪ ،‬فهل أنت مستعد الرتكاب جريمة القتل؟‬
‫أتعرف‪ ،‬يا أخي‪ ،‬معنى كلمة االحتقار‪ ،‬وما ستكون آالمك إذا أنت أردت العدل‬
‫واضطررت إىل االقتصاص ممن يحتقرونك؟‬
‫إنك تُكره الكثريين عىل تغيري اعتقادهم فيك‪ ،‬فتثري حفيظتهم عليك‪ ،‬لقد اقرتبت‬
‫منهم ثم تجاوزتهم‪ ،‬فهم لذلك لن يغتفروا لك‪.‬‬
‫لقد تفوقت عليهم‪ ،‬فكلما اعتليت فوقهم ازددت صغا ًرا يف أعني الحاسدين‪ ،‬وما‬
‫كره الناس أحدًا كرههم للمح ِّلق فوق السحاب‪.‬‬
‫لقد وجب عليك أن تقول للناس‪ :‬إنني اخرتت ظلمكم نصيبًا حق يل منكم لذلك‬
‫عز إنصايف عليكم‪ .‬إن الناس يرشقون املنفرد باملظالم واملثالب‪ ،‬ولكنك إذا كنت‬
‫تريد أن تصبح كوكبًا فعليك أن ترسل أنوارك حتى إىل الراشقني‪.‬‬
‫يوجد‬
‫واحرتس بخاصة من أهل الصالح والعدل؛ ألنهم يتوقون إىل صلب من ِ‬
‫فضيلة لنفسه‪ .‬إنهم يكرهون املنفرد‪.‬‬
‫واحرتس ً‬
‫أيضا من السذاجة املتقية؛ ألنها ترى الكفر يف كل إنسان ال يلتصق‬
‫بها‪ ،‬وقد كان الساذجون يف كل مكان يتوقون إىل إيقاد النار واللعب بها‪.‬‬
‫كن عىل حذر من التطرف يف حبك‪ ،‬فإن املنفرد يمد يده مترسعً ا ملصافحة من‬

‫‪84‬‬
‫يلتقي يف طريقه‪ .‬إن من الناس من يجب عليك أال تمد إليهم يدًا‪ ،‬بل مخلبًا ناشبًا‪.‬‬
‫غري أن أشد من تصادف من األعداء خط ًرا إنما هو أنت‪ ،‬وما يرتصدك يف املغاور‬
‫والغابات إال نفسك‪.‬‬
‫لقد تبينت الطريق الذي يقودك إىل ذاتك‪ ،‬أيها املنفرد‪ ،‬وطريقك منبسط أمامك‬
‫وأمام شياطينك السبعة‪ ،‬فستصبح منذ اآلن جاحدًا لنفسك‪ ،‬ساح ًرا مجنونًا‬
‫مشك ًكا كاف ًرا شديدًا‪ .‬فيجب عليك أن ترىض باالحرتاق بلهبك؛ إذ ال يمكنك أن‬
‫تتجدد ما لم تشتعل حتى تصبح رمادًا‪.‬‬
‫إنك تتبع طريق الخالق‪ ،‬أيها املنفرد‪ ،‬فأنت تفتش عىل إله لك تقيمه من شياطينك‬
‫السبعة‪ .‬إنك تتبع طريق العاشق‪ ،‬أيها املنفرد‪ ،‬وقد عشقت نفسك‪ ،‬فأنت لذلك‬
‫تحتقرها احتقار العاشقني‪.‬‬
‫يريد العاشق أن يبتدع ألنه يحتقر‪ ،‬وما له أن يدعي الحب إذا كان لم يبدأ‬
‫باحتقار املحبوب‪.‬‬
‫ً‬
‫طويل‬ ‫توغل يف عزلتك يا أخي‪ْ ِ .‬‬
‫س فال رفيق لك إال حبك وإبداعك‪ .‬إنك ستسري‬
‫قبل أن تقفو العدالة أثرك متثاقلة متعارجة‪.‬‬
‫اذهب إىل عزلتك فإنني أشيِّعك بدموعي يا أخي؛ ألنني أحب من يتفانى ليوجد‬
‫يف فنائه من يتفوق عليه‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫الشيخة والفتاة‬
‫ملاذا تدلج مختفيًا يف الغسق يا زارا؟ وما هو الذي تخفيه بكل احرتاس تحت‬
‫ردائك؟ أكنز وُهِ بته أم طفل ُرزقته؟ وإىل أين تتجه عىل طريق اللصوص يا صديق‬
‫األرشار؟‬
‫فأجاب زارا‪ :‬والحق يا أخي‪ ،‬إن ما أحمل هو كنز وُهبته‪ ،‬فهو حقيقة صغرية‬

‫‪85‬‬
‫طائشة كالطفل‪ ،‬ولوال أنني كممت فمها لصاحت بملء شدقيها‪.‬‬
‫بينما كنت أسري اليوم منفردًا يف طريقي عند الغروب‪ ،‬التقيت بشيخة ناجتني‬
‫قائلة‪ :‬لقد كلمنا زارا مرا ًرا نحن النساء‪ ،‬ولكنه لم يتكلم عنا مرة واحدة‪.‬‬
‫قلت لها‪ :‬يجب أال يتكلم الرج ُل عن النساء إال للرجال‪.‬‬
‫فقالت‪ :‬لك أن تتكلم أمامي عن النساء؛ ألنني بلغت من العمر أرذله‪ ،‬فلن تستقر‬
‫أقوالك يف ذهني‪.‬‬
‫وقبلت رجاء املرأة العجوز فقلت لها‪ :‬كل ما يف املرأة لغز‪ ،‬وليس لهذا اللغز إال‬
‫مفتاح واحد وهو كلمة «الحَ بَل»‪.‬‬
‫ليس الرجل للمرأة إال وسيلة‪ ،‬أما غايتها فهي الولد‪ ،‬ولكن ما تكون املرأة للرجل‬
‫يا ترى؟ إن الرجل الحقيقي يطلب أمرين‪ :‬املخاطرة واللعب‪ ،‬وذلك ما يدعوه إىل‬
‫طلب املرأة‪ ،‬فهي أخطر األلعاب‪.‬‬
‫ُخلق الرجل للحرب‪ُ ،‬‬
‫وخلقت املرأة ليسكن الرجل إليها‪ ،‬وما عدا ذلك فجنون‪ ،‬وال‬
‫يحب املحارب الثمرة إذا تناهت حالوتها‪ ،‬فهو لذلك يتوق إىل املرأة ألنه يستطعم‬
‫املرارة يف أشد النساء حالوة‪.‬‬
‫تفهم املرأ ُة الطفل بأكثر مما يفهمه الرجل‪ ،‬غري أن الرجل أقرب إىل ُخلُق الطفل‬
‫من املرأة‪ ،‬ففي كل رجل حقيقي يحتجب طفل يتوق إىل اللعب‪ ،‬فلتعمل النساء‬
‫عىل اكتشاف الطفل يف الرجل‪.‬‬
‫لتكن املرأة لعبة صغرية طاهرة كاملاس تشع فيها فضائل العالم املنتظر‪.‬‬
‫َّ‬
‫ألضعن للعالم‬ ‫السني يف حبك أيتها املرأة‪ ،‬وليهتف شوقك ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫ليتوهج الكوكب‬
‫اإلنسان املتفوق‪ .‬ليكن يف حبك استبسال تتسلحني به القتحام من يثري الوجل يف‬
‫قلبك‪ .‬ضعي رشفك يف حبك‪ ،‬وما تعرف املرأة من الرشف إال يسريًا‪ ،‬غري أن الرشف‬
‫يف حبك هو ُ‬
‫الخلق الذي يجعلك تبادلني املحبة بأكثر منها فال تنحدرين إىل املقام‬
‫الثاني‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫ليحذر الرجل املرأة عندما يستويل الحب عليها‪ ،‬فهي تضحي بكل يشء يف سبيل‬
‫حبها؛ إذ تضمحل يف نظرها قِ يَم األشياء كلها تجاه قيمته‪ ،‬ليحذر الرجل املرأة‬
‫عندما تساورها البغضاء؛ ألنه إذا كان قلب الرجل مكمنًا للقسوة‪ ،‬فقلب املرأة‬
‫مكمن للرش‪.‬‬
‫إىل من توجه املرأة أشد بغضائها؟‬
‫والجواب يف قول الحديد للقوة الجاذبة‪ :‬إن أشد كرهي موجه إليكِ ألنك تجتذبني‬
‫وليس فيك من طاقة تربط عىل ما تجتذبني‪.‬‬
‫إن سعادة الرجل تابعة إلرادته‪ ،‬أما سعادة املرأة فمتوقفة عىل إرادة الرجل‪.‬‬
‫تقول املرأة وقد استسلمت لحبها العميم‪ :‬لقد اكتمل العالم‪.‬‬
‫ً‬
‫أعماقا عىل سطحها؛ ألن روح املرأة سطحية‬ ‫وال بد لها أن تخضع وأن ترى‬
‫ٌ‬
‫أعماق تزمجر‬ ‫فهي صفحة ماء متماوجة تداعبها الرياح‪ ،‬يف حني أن روح الرجل‬
‫أمواجها يف املغاور السحيقة القرار‪ ،‬وقد تشعر املرأة بقوة الرجل ولكنها لن‬
‫تفهمها‪.‬‬
‫عندئذ قالت العجوز‪ :‬لقد تكلم زارا عن أشياء طريفة أجدر بسماعها من النساء‬
‫مَ ن لم يزلن يف مقتبل العمر‪ ،‬ومن الغريب أن ينطق زارا بالحق عن النساء وهو ال‬
‫يعرفهن إال ً‬
‫قليل‪ ،‬أفتكون إصابته ناشئة عن أن ليس يف حالة املرأة يشء ممتنع‪.‬‬
‫واآلن أصغ إيل َّ يا زارا‪ ،‬فإنني سأعلن لك حقيقة صغرية مكافأة عىل ما قلت‪،‬‬
‫وكرب سني يجيز يل أن أعلنها لك‪ ،‬فاسرتعِها وأطبق شفتيك عليها لئال يتعاىل‬
‫رصاخها من فمك‪.‬‬
‫فقلت هاتها‪ ،‬هذه الحقيقة الصغرية أيتها املرأة‪ .‬وهذا ما قالت العجوز‪ :‬إذا ما‬
‫ذهبت إىل النساء فال َ‬
‫تنس السوط‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪87‬‬
‫لسعة األفعى‬
‫واستسلم زارا للكرى يومً ا تحت شجرة التني‪ ،‬وكان الحر شديدًا فسرت وجهه‬
‫ً‬
‫محدقا بها فعرفت‬ ‫بساعده فأتت أفعى ولسعته يف عنقه؛ فرصخ متأ ًملا وانتفض‬
‫عينيه وتململت لتنرصف‪ ،‬فقال لها زارا‪« :‬ال تذهبي قبل أن أقدم لك شكري؛ ألنك‬
‫نبهتني يف الزمن املناسب ألقوم بسفر بعيد‪».‬‬
‫فأجابت األفعى ويف صوتها غنة األىس‪ :‬بل سفرك قريب ف ُزعايف قاتل‪.‬‬
‫وابتسم زارا وقال‪ :‬وهل لزعاف األفعى أن يقتل تنينًا؟ خذي سمَّ ك‪ ،‬إنني أعيده‬
‫ِ‬
‫فلست من الغنى عىل ما يسمح لك بتقديمه هدية يل‪.‬‬ ‫إليك‬
‫وسارعت األفعى إىل االلتفاف حول عنق زارا تلحس جرحه‪.‬‬
‫وقص زارا هذه الحادثة يومً ا عىل أتباعه فقالوا له‪ :‬وما هو املغزى األدبي لهذه‬
‫القصة‪ ،‬فأجاب‪ :‬إن أهل الصالح والعدل يدعونني هدامً ا للمبادئ األدبية فقصتي‬
‫ال تتفق وهذه املبادئ‪.‬‬
‫إذا كان لكم عدو فال تقابلوا رشه بالخري؛ ألنه يستصغر بذلك نفسه‪ ،‬بل أكدوا‬
‫له أنه أحسن بعمله إليكم‪ ،‬واألجدر بكم أال تحتقروا أحدًا‪ ،‬تظاهروا بالغضب‪،‬‬
‫وإذا وجهت اللعنة إليكم‪ ،‬فال يرسني أن تمنحوا الربكة‪ ،‬إن ما يرسني هو أال تأبوا‬
‫أيضا‪ ،‬وإذا ما أُنزلت بكم مظلمة كبرية فبادلوا املعتدي مثلها‪ ،‬وأرفقوها‬
‫اللعن أنتم ً‬
‫بخمس مظالم صغرى؛ ألنه ما من مشهد أشد قبحً ا ِمن مشهد مَ ن ال يخضع إال‬
‫للظلم‪.‬‬
‫إن اقتسام املظالم بالتساوي إنما هو مساواة بالحق‪ ،‬فهل كنتم تعرفون هذا من‬
‫قبل؟ من يقدر عىل إرهاق الناس بظلمه فعليه أن يحتمل هو الظلم ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫قليل فذلك أدنى إىل املعروف‪ ،‬وليس من اإلنسانية أن َّ‬
‫يرتفع‬ ‫لنئ ينتقم اإلنسان ً‬
‫املظلوم عن االنتقام‪ .‬إنني ألنفر من اقتصاصكم إذا لم يكن عبارة عن حق تؤدونه‬
‫آن َّ‬
‫أن الحق‬ ‫للمعتدي‪ ،‬فإن من يسند الخطأ إىل نفسه ألنبل ممن يعلنون يف كل ٍ‬

‫‪88‬‬
‫يف جانبهم‪ ،‬وأخص من هؤالء من كانوا حقيقة عىل صواب‪ .‬إن أغنياء الروح ال‬
‫يفعلون هذا‪.‬‬
‫إنني أكره عدالتكم الباردة‪ ،‬فإن يف عيون قضاتكم ازورار َّ‬
‫الجلد وملعان سيفه‪،‬‬
‫فأين العدالة تلمح يف عينيها الصفاء‪ .‬أوجدوا يل الحب الذي ال يكتفي بحمل كل‬
‫أنواع العقاب‪ ،‬بل يحمل ً‬
‫أيضا جميع الخطايا‪.‬‬
‫أوجدوا يل العدل الذي يربئ الجميع ليحكم عىل اإلنسان الذي يدين‪.‬‬
‫أتريدون أن أذهب إىل أبعد مما قلت فأعلن لكم أن الكذب نفسه يصبح محبة‬
‫لإلنسانية يف نفس من يتوق إىل إقامة العدل؟‬
‫ولكن هل بوسعي أن أقيم العدل بكل إخالص؟ وكيف يمكني أن أتوصل إىل‬
‫إعطاء كل ذي حق حقه؟ إذن‪ ،‬ألكتف َّ‬
‫ني بأن أعطي أصحاب الحق حقي الخاص‪.‬‬
‫وأخريًا‪ ،‬حاذروا ظلم املنفرد؛ إذ ليس بوسعه أن ينىس وأن يبادل الظاملني ظلمً ا‪،‬‬
‫وما املنفرد إال برئ عميقة يسهل عىل من يشاء أن يلقي فيها حج ًرا‪ ،‬ولكن من يقدر‬
‫أن يستخرج هذا الحجر إذا بلغ قعر البرئ السحيق؟‬
‫احرتسوا من إهانة املنفرد‪ ،‬وإذا أنتم َّ‬
‫حقرتموه فأجهزوا عليه بقتله‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫الطفل والزواج‬
‫يل سؤال أخصك به ألسرب أعماق روحك يا أخي‪ :‬أنت يف مقتبل العمر وتتمنى‬
‫أن يكون لك زوجة وولد‪ ،‬ولكن قل يل هل أنت الرجل الذي يحق له هذا التمني؟‬
‫أأنت الظافر املنترص عىل نفسه‪ ،‬الحاكم عىل حواسه‪ ،‬السائد عىل فضائله؟ أم أن‬
‫تمنيك هذا ليس إال شهوة حيوان أو خشية منفرد أو اضطراب من قام النزاع بينه‬
‫وبني نفسه؟‬
‫إن ما أريده منك هو أن تتوق بانتصارك وحريتك إىل التجدد بالولد؛ إذ عليك أن‬

‫‪89‬‬
‫تقيم األنصاب إىل ما فوق مستواك‪ ،‬وهل بوسعك أن تفعل إذا لم تكن متني البنية‬
‫من رأسك إىل أخمص قدميك؟‬
‫ليس عليك أن ترسل ساللتك إىل األمام فحسب‪ ،‬بل عليك بخاصة أن ترفعها إىل‬
‫ما فوق‪ .‬فليكن عملك يف حقل الزواج منصبًّا إىل هذه الغاية‪.‬‬
‫عليك أن توجد جسدًا جوهره أنقى من جوهر جسدك؛ ليكون حركة أوىل وعجلة‬
‫تدور لنفسها عىل محورها‪ ،‬فواجبك إذن إنما هو إبداع من يبدع‪.‬‬
‫ما الزواج يف عريف إال اتحاد إرادتني إليجاد فرد يفوق من كانا ع َّلة وجوده‪،‬‬
‫فالزواج حرمة متبادلة ترسو عىل احرتام هذه اإلرادة‪.‬‬
‫ليكن هذا معنى زواجك وحقيقته‪ ،‬أما ما يدعوه الدخالء األغبياء زواجً ا فأمر‬
‫أحار يف تعريفه‪ ،‬فما هو إال مسكنة روحية يتقاسمها اثنان‪ ،‬ودنس يتم َّرغ به‬
‫اثنان‪ ،‬ولذة بائسة تتحكم يف اثنني‪ ،‬ولكن الدخالء يرون يف مثل هذا الزواج ربا ً‬
‫طا‬
‫عقدته السماء‪.‬‬
‫وما أنا باملرتيض بمثل هذه السماء‪ ،‬سماء الدخالء أطبقت شباكها عليهم‪ ،‬تبًّا‬
‫ً‬
‫وسحقا ملثل هذا اإلله الذي يتقدم مرتاجعً ا ليبارك اثنني لم يجمع هو بينهما‪.‬‬ ‫لها‪،‬‬
‫ال يضحكنكم هذا الزواج‪ ،‬فكم من طفل من حقه أن يبكي عىل أبويه!‬
‫رجل وقو ًرا فحسبته ً‬
‫بالغا من النضوج ما يدرك به معنى األرض‪ ،‬ولكنني‬ ‫رأيت ً‬
‫رأيت امرأته بعد ذلك فالحت يل األرض كأنها مأوى املجانني‪ ،‬أود لو تميد األرض‬
‫ً‬
‫فاضل يتخذ له زوجة حمقاء‪.‬‬ ‫بي عندما أرى ً‬
‫رجل‬
‫من الناس من يتجرد كاألبطال سعيًا وراء الحقائق‪ ،‬فال يلبث حتى يصطاد‬
‫ً‬
‫مزيفا يدعوه زواجً ا‪ .‬ومنهم من اشتهر بحذره يف عالقاته وبرصامته يف‬ ‫ربا ً‬
‫طا‬
‫اختياره‪ ،‬فإذا هو بني ليلة وضحاها قد أفسد حياته ووقف يدعو هذا اإلفساد‬
‫زواجً ا‪ .‬ومنهم ً‬
‫أيضا من كان يفتش عن خادمة لها فضائل املالئكة‪ ،‬فإذا هو ينقلب‬
‫فجأة خادمً ا المرأة وقد حق عليه أن يتصف هو بالفضائل املالئكية‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫فتشت يف كل مكان فما رأيت إال مشرتين يقلبون السلع وعيونهم تتدفق مك ًرا‪،‬‬
‫ولكن أمكر هؤالء الناس ال يتوصل يف آخر األمر إال إىل ابتياع ه َّرة يدسها يف جلبابه‪.‬‬
‫عشقا إنما هو جنون يتتاىل نوبة بعد نوبة حتى يجيء زواجكم‬ ‫ً‬ ‫إن ما تدعونه‬
‫خاتمً ا هذه الحماقات بالحماقة املستقرة الكربى‪ .‬ويا ليت حب الرجل للمرأة وحب‬
‫ً‬
‫إشفاقا يتبادله إلهان يتأملان‪ ،‬ولكن هذا الحب ال يتجىل يف الغالب‬ ‫املرأة للرجل كانا‬
‫إال تفاهمً ا بني إحساس حيوانني‪ .‬وما خري الحب لو تعلمون إال تحو ٌل واضطرام‬
‫إن هو إال املشعل ينري أمامكم مسالك االعتالء‪ ،‬وسيأتي يوم يتجه‬ ‫يف ألم وخشوع‪ْ ،‬‬
‫فيه حبكم إىل مقر أبعد وأرفع من مستقر ذاتكم‪ ،‬لقد بدأتم بتعلم الحب؛ لذلك‬
‫ترتشفون اآلن املرارة الطافية كالحبَب عىل كأسه‪.‬‬
‫إطالقا‪ ،‬وحتى يف كأس أرقى حب مرارة ال بد لكم من‬ ‫ً‬ ‫إن يف كأس كل حب‬
‫تجرعها‪ ،‬وهذه املرارة هي التي تنبه فيكم الشوق إىل اإلنسان املتفوق وتلهب فيكم‬
‫الظمأ إليه‪ ،‬أيها املبدعون‪ ،‬إذا كان هذا الظمأ هو الذي يدفع بك إىل طلب الزواج يا‬
‫أخي‪ ،‬وإذا كنت تشعر بشوقك يندفع كالسهم نحو اإلنسان املتفوق‪ ،‬فإنني أقدس‬
‫إرادتك وأقدس زواجك‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫تخري املوت‬
‫كثريٌ مَ ن يتأخرون يف موتهم‪ ،‬وكثري من يب ِّكرون‪ ،‬فإذا قال قائل للناس باملوت يف‬
‫الزمن املناسب؛ رفعوا عقريتهم مستغربني‪ ،‬وزارا يع ِّلم الناس أن يموتوا يف الزمن‬
‫َّ‬
‫يتخي املوت يف أوانه؟‬ ‫املناسب‪ ،‬ولكن أنَّى ملن يعرف الحياة أن‬
‫أفما كان خريًا للدخالء عىل الحياة لو أنهم لم يولدوا‪ ،‬ولكن هؤالء الدخالء يريدون‬
‫الناس أهمية كربى ملوتهم‪ ،‬وكم من نواة تباهي بأنها كرست وهي جوفاء‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أن يويل‬
‫إنهم يعلقون أهمية عىل املوت؛ ألنهم ما عرفوا بهجة املوت‪ ،‬فالناس لم يعرفوا‬

‫‪91‬‬
‫حتى اليوم كيف يقدِّسون أبهج األعياد‪ ،‬ولسوف أنبئكم باملوت الذي يُقدس‪ ،‬املوت‬
‫الذي يدفع األحياء ويجتذبهم بحوافزه وآماله‪ ،‬إن مَ ن أكمل عمله يموت ظاف ًرا‬
‫وحوله من يحفزهم األمل وتنطوي فيهم األماني‪ .‬تعلموا أن تموتوا هكذا‪ ،‬ولكن‬
‫اعلموا أن ال ظفر ملن يموت إذا هو لم يبارك ما أقسم األحياء بإتمامه‪.‬‬
‫تلك هي امليتة الفضىل‪ ،‬تليها يف املراتب ميتة من يسقط يف املعركة وهو ينرش‬
‫عليها عظمة روحه‪ ،‬غري أن ما يحتقره املجاهدون والظافرون عىل السواء إنما هو‬
‫لصا وتتقدم ِآم ًرا مطاعً ا‪.‬‬
‫ميتتكم الشوهاء التي تزحف ًّ‬
‫ما أجمل ميتتي إذا أنا تخريتها فجاءتني ألنني أطلبها‪.‬‬
‫ولكن متى يجدر باإلنسان أن يطلب املوت؟‬
‫إن من يتجه إىل مقصد يف الحياة وله وريث وجب عليه أن يتمنى املوت يف الزمن‬
‫املناسب لغايته ولوريثه؛ ألنه يأنف حرمة لهما من أن يلقي باألكاليل الذابلة عىل‬
‫هيكل الحياة‪.‬‬
‫إنني ال أريد أن أحبُك الخيوط‪ ،‬وأنسحب إىل الوراء كمن يفتلون الحبال‪.‬‬
‫من الناس من ال يتجاوزون بأعمارهم الحد الالئق بالحقائق والظفر‪ ،‬وخليق‬
‫بالفم املجرد عن أسنانه أال يتناول ببيانه جميع الحقائق‪ .‬عىل الطامحني إىل الظفر‬
‫أن يودِّعوا األمجاد يف الزمن املناسب ليتمرنوا عىل فن الرحيل عن الدنيا يف الزمن‬
‫أيضا‪ ،‬ومن واجب املرء أن يتوقف عن عرض نفسه لآلكلني عندما ُّ‬
‫يكفون‬ ‫املناسب ً‬
‫عن تذوقها‪ ،‬وال يعرف هذه الحقيقة إال من يود االحتفاظ بمحبة مَ ن حوله‪.‬‬
‫ولكن من األثمار كالتفاح من تقيض طبيعته الحامضة عليه أن ينتظر النضوج‬
‫إىل آخر أيام الخريف‪ ،‬فإذا هو ماثل للنظر باصفرار الشيخوخة وتجاعيد‬
‫أساريرها‪.‬‬
‫ومن الناس من يدب الهرم إىل قلوبهم ً‬
‫أول‪ ،‬ومنهم من يدب الهرم إىل عقولهم‪،‬‬
‫ومنهم من يشيخون يف ربيع الحياة‪ ،‬غري أن من يبلغ الشباب متأخ ًرا يحتفظ‬

‫‪92‬‬
‫ً‬
‫طويل‪.‬‬ ‫بشبابه أمدًا‬
‫ومن الناس من ضلوا السبيل يف حياتهم‪ ،‬فأضاعوا عمرهم‪ ،‬فعىل هؤالء أن‬
‫يعملوا عىل بلوغ التوفيق يف موتهم عىل األقل‪.‬‬
‫وهنالك أثمار ال تنضج ألنها تته َّرأ يف الصيف ولكنها تبقى معلقة بأغصانها؛‬
‫ً‬
‫التصاقا‬ ‫ألن جبنها يصدها عن السقوط‪ ،‬وهكذا نرى يف العالم ً‬
‫أناسا يلتصقون‬
‫بأغصانهم‪ ،‬فهل من عاصفة تهب عىل الشجرة لتسقط ما عليها من أثمار ته َّر ْ‬
‫أت‬
‫ورعى الدود قلبها؟ ليتقدم دعاة املوت العاجل وليهبوا كالعاصفة عىل دوحة‬
‫الحياة‪ ،‬غري أنني ال أرى غري دعاة للموت البطيء يعظون بالصرب واحتمال كل‬
‫مصائب األرض‪.‬‬
‫إنكم تدعون إىل مكابرة األرض ومجالدتها‪ ،‬أيها املجدِّفون واألرض صابرة‬
‫عليكم صربها الجميل‪.‬‬
‫والحق أن ذلك العرباني الذي يمجده املبرشون باملوت البطيء قد مات قبل‬
‫أوانه‪ ،‬ولم يزل ج ٌّم غفري يعتقد بأن ميتته املبكرة كانت مقدورة عليه‪.‬‬
‫وما كان هذا املسيح العرباني قد عرف غري دموع قومه وأحزانهم وكيد أهل‬
‫الصالح والعدل؛ لذلك راودته فجأة شهوة الفناء‪.‬‬
‫ولو أنه بقي يف الصحراء بعيدًا عن أهل الصالح والعدل لكان تع َّلم حب الحياة‬
‫وحب األرض‪ ،‬ولكان تعلم الضحك ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫صدقوني‪ ،‬أيها اإلخوة‪ ،‬إن املسيح قد مات قبل أوانه‪ ،‬ولو أنه بلغ العمر الذي‬
‫ُ‬
‫بلغت‪ ،‬لكان جحد تعاليمه‪ ،‬وقد كان له من النبل ما يكفيه القتحام العدول عنها‪،‬‬
‫ولكنه لم يبلغ النضوج‪ ،‬ولم تبلغه املحبة يف الشباب؛ فكره الناس وكره األرض‪،‬‬
‫وهكذا بقيت روحه مثقلة ولم ينرش جناحه املهيض‪4.‬‬
‫إن يف الرجل من الطفولة ما ليس يف الشاب‪ ،‬فالرجل الناضج أقل حزنًا وأقدر‬
‫عىل فهم الحياة واملوت؛ ألنه يشعر بحريته للموت وبحريته يف املوت‪ ،‬وإذا امتنع‬

‫‪93‬‬
‫عليه أن يُثبت شيئًا أنكره‪.‬‬
‫ً‬
‫تجديفا عىل األرض واإلنسان أيها الصحاب‪ .‬تلك هي‬ ‫حاذروا أن يكون موتكم‬
‫النعمة التي أستجديها من وداعة روحكم‪.‬‬
‫لريسل فكركم وفضيلتكم آخر أشعتهما يف احتضاركم كما ترسل الشمس‬
‫الغاربة آخر أنوارها عىل األرض‪ًّ ،‬‬
‫وإل فإن ميتتكم ستكون فاشلة‪ .‬إنني هكذا أريد‬
‫أن أموت ليزداد حبكم لألرض من أجيل‪ ،‬أيها األصحاب‪ ،‬أريد أن أعود إىل األرض‬
‫التي ُخلقت منها ألجد الراحة يف أحضانها‪.‬‬
‫لقد كان زارا يرمي إىل هدف وقد أطلق سهمه اآلن فارموا إىل هذا الهدف بعدي؛‬
‫ألنني من أجلكم أطلقت سهمي الذهبي‪ ،‬فما أشتهي شيئًا اشتهائي أن أراكم‬
‫قليل ألمتِّع عيني بهذا‬
‫أيضا‪ ،‬ولسوف أبقى عىل األرض ً‬
‫تطلقون سهامكم الذهبية ً‬
‫املشهد‪ ،‬فاغتفروا يل هذا التخلف إىل حني‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫الفضيلة الواهبة‬
‫‪1‬‬
‫وبعد أن ودَّع زارا مدينة «البقرة امللوَّنة» التي شغف قلبه بها؛ شيعه عدد غفري‬
‫مما كانوا يدعون أنفسهم أتباعه حتى بلغوا إىل منعطف الطريق فقال زارا إنه‬
‫يريد متابعة سريه وحده‪ ،‬فودَّعه أتباعه وقدموا إليه عصا قبضتها من ذهب‬
‫فس زارا من هذه الهدية واتكأ عىل العصا ً‬
‫قائل‬ ‫بشكل أفعى ملتفة حول الشمس‪َّ ُ ،‬‬
‫ألتباعه‪ :‬قولوا يل‪ ،‬ملاذا أصبح الذهب ذا قيمة؟ أليس ألنه نادر وال فائدة منه‪ ،‬وألنه‬
‫وديع يف ملعانه‪ ،‬ويبذل نفسه يف كل حني؟ لم يبلغ الذهب أسمى مراتب األشياء‬
‫القيمة إال ألنه رمز ألسمى الفضائل‪ ،‬فعني الواهب ب َّراقة كالذهب‪ ،‬ووهج الذهب‬
‫رسول سالم بني النريين‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫إن أسمى الفضائل نادرة وال نفع منها‪ ،‬فهي تتوهج بنورها الهادئ‪ ،‬وليس بني‬
‫الفضائل من يطاول فضيلة السخاء‪.‬‬
‫والحق أنني شاعر برغبتكم‪ ،‬أيها الصحاب‪ ،‬فإنكم تطمحون مثل طموحي إىل‬
‫الفضيلة الواهبة‪ ،‬فأنتم تريدون أن تحولوا نفوسكم إىل هبات وعطايا‪ ،‬وإال لكنتم‬
‫أشبه بالهررة والذئاب‪ ،‬ولهذا تتعطشون إىل حشد جميع الكنوز ألنها ظامئة أبدًا‬
‫ليترسب إىل داخلكم فينفجر ينبوعكم‬
‫َّ‬ ‫إىل العطاء‪ .‬إنكم تجتذبون كل ما حولكم‬
‫بها كأنها هبة من محبتكم‪.‬‬
‫إن املحبة السخية الواهبة تستحيل إىل لص يمد يده إىل جمع األشياء القيمة‪ ،‬وما‬
‫ً‬
‫مقدسا‪.‬‬ ‫أرى هذه األنانية إال ً‬
‫عمل صالحً ا‬
‫غري أن هنالك أنانية أخرى تدهورت إىل أدنى دركات املسكنة يف مجاعتها‬
‫املتحكمة أبدًا فيها‪ ،‬تلك هي األنانية التي تطمح إىل الرسقة يف كل آن‪ ،‬فهي أنانية‬
‫املرض بل هي األنانية املريضة‪ ،‬تحدج كل يشء بنظرات اللص وبنهم الجائع‪،‬‬
‫فتزن لقمات اآلكلني من أبناء النعمة وتدب أبدًا حول موائد الواهبني‪ ،‬وما مثل هذه‬
‫ض الداء الدفني ودليل االنحطاط الخفي‪ ،‬وما الطموح إىل الرسقة‬ ‫الشهوة إال عَ َر ُ‬
‫بمثل هذه األنانية إال نزعة من نزعات الجسوم العليلة‪.‬‬
‫أي يشء نراه أقبح األشياء‪ ،‬أيها اإلخوة‪ ،‬أفليس االنحطاط أقبحها؟ وهل يسعكم‬
‫إال أن تحكموا بانحطاط مجتمع ال أثر لروح السخاء والعطاء فيه‪.‬‬
‫إن سبيلنا يتجه إىل األعايل‪ ،‬وما نقصده إنما هو االرتقاء من نوع إىل نوع؛ لذلك‬
‫نرتعش عندما نسمع االنحطاط يهتف ً‬
‫قائل‪« :‬يل كل يشء‪».‬‬
‫وهل روحنا إال رمز لجسدنا وهي تطمح إىل االعتالء‪ ،‬وهل الصفات التي ندعوها‬
‫فضيلة إال عبارة عن هذه الرموز عينها؟‬
‫إن الجسد يقطع مسافات التاريخ بكفاحه‪ ،‬ولكن ما تكون الروح من الجسد‬
‫يا ترى إن لم تكن املذيع لكفاح الجسد وانتصاراته؟ ما الجسد إال الصوت‪ ،‬وما‬
‫الروح إال الصدى الناجم عنه والتابع له‪ .‬ليست الكلمات املوضوعة للداللة عىل‬

‫‪95‬‬
‫الخري والرش سوى رموز فهي تشري إىل األمور وال تعرب عنها‪ ،‬وال يطلب املعرفة‬
‫فيها ومنها إال املجانني‪.‬‬
‫انتبهوا‪ ،‬أيها اإلخوة‪ ،‬إىل الزمن الذي يطمح فكركم فيه إىل البيان بالرموز؛ ألن يف‬
‫هذا الحني تتكون الفضيلة فيكم‪ ،‬وعندئذ يُبعث جسدكم ويتجه إىل األعايل مجتذبًا‬
‫عقلكم من سكونه؛ ليدفع به إىل مراحل اإلبداع حتى إذا ما سار عليها عرف قيمة‬
‫األشياء وأحب فأجاد يف كل أعماله‪.‬‬
‫يف الزمن الذي يختلج فيه قلبكم تتكون فضيلتكم؛ ألن هذا القلب يفيض‬
‫باختالجه كالنهر العظيم فيغمر القائمني عىل ضفافه بالربكة كما يهددهم بأشد‬
‫األخطار‪.‬‬
‫إنما تنشأ فضيلتكم عندما يعجز املدح والذم عن بلوغ شعوركم‪ ،‬فتطمح إرادة‬
‫الرجولة فيكم إىل السيادة عىل كل يشء‪.‬‬
‫إنما تنشأ فضيلتكم عندما تحتقرون النِعَ م والفراش الوثري‪ ،‬وعندما ال تجدون‬
‫راحة إال بعيدًا عن مواطن الراحة‪.‬‬
‫إنما تنشأ فضيلتكم عندما تنصب إرادتكم عىل مقصد واحد‪ ،‬وعندما يصبح هذا‬
‫التحول يف آالمكم رضورة ال يسعكم التحول عنها‪.‬‬
‫أفليس هذا ً‬
‫شكل جديدًا للخري والرش؟ أفما تسمعون بهذا القول خرير الينبوع‬
‫العميق الذي غربت مسالكه من قب ُل عنكم؟‬
‫إنها لفضيلة جديدة تمنح اإلنسان قوة وتبعث فيه عزمً ا‪ ،‬هذه الفكرة املتحكمة‬
‫روح بلغت الحكمة؛ ألنها شمس َّ‬
‫مذهبة التفت عليها أفعى الحكمة‪.‬‬ ‫يف ٍ‬
‫‪2‬‬
‫ً‬
‫مرسل نظرات الحب إىل أتباعه‪ ،‬ثم ارتفع صوته بنربات جديدة‬ ‫وصمت زارا‬
‫ً‬
‫قائل‪ :‬أخلصوا لألرض‪ ،‬يا إخوتي‪ ،‬بكل قوى فضائلكم‪ .‬لتكن محبتكم الواهبة‬
‫ً‬
‫متوسل‪.‬‬ ‫ولتكن معرفتكم خادمتني لروح األرض‪ ،‬إنني أطلب هذا‬

‫‪96‬‬
‫ال تدعوا فضيلتكم تنسلخ عن حقائق األرض لتطري بأجنحتها ضاربة أسوار‬
‫األبدية‪ ،‬ول َك ْم ضلت من فضيلة من قبل عىل هذا السبيل‪.‬‬
‫ُ‬
‫رجعت بها أنا إىل مرتعها يف األرض‪ .‬عودوا بها إىل‬ ‫أرجعوا الفضيلة الضالة كما‬
‫الجسد وإىل الحياة لتنفخ يف األرض روحها روحً ا برشية‪.‬‬
‫لقد تاه العقل وتاهت الفضيلة فخدعتها آالف األمور‪ ،‬و َّملا يزل هذا الجنون‬
‫يتسلط عىل جسدنا حتى أصبح جزءًا منه فتحول فيه إىل إرادة‪.‬‬
‫فضل عىل ألف سبيل‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫لقد قام العقل وقامت الفضيلة معه بتجارب عديدة‬
‫وهكذا أصبح اإلنسان عبارة عن تجارب ومحاوالت ألصقت بنا الجهل والضالل‪.‬‬
‫وليس ما استقر فينا من التجارب حكمة األجيال فحسب‪ ،‬بل جنونها ً‬
‫أيضا‪ ،‬ول َك ْم‬
‫يتعرض الوارثون إىل أخطار‪.‬‬
‫إننا لم نزل نصارع جبار الصدف‪ ،‬ولم يزل العته سائدًا عىل اإلنسانية حتى‬
‫اليوم‪.‬‬
‫ليكن عقلكم وفضيلتكم بمثابة روح لألرض وعقل لها‪ ،‬أيها اإلخوة‪ ،‬فتتجدد‬
‫بكم قِ يَم األشياء جميعها‪ ،‬من أجل هذا وجب عليكم أن تبدعوا‪.‬‬
‫إن الجسد يطهر باملعرفة‪ ،‬فريتفع بمرانه عىل العلم؛ ألن من يطلب الحكمة‬
‫يطهر جميع غرائزه‪ ،‬ومن ارتقى فقد أدخل املرسة يف نفسه‪.‬‬
‫أعِ ْن نفسك‪ ،‬أيها الطبيب‪ ،‬لتتمكن من إعانة مريضك‪ ،‬إن خري ما تبذله من معونة‬
‫لهذا املريض هو أن يرى بعينه أنك قادر عىل شفاء نفسك‪.‬‬
‫إن يف األرض من السبل ما لم تطأها قدم بعد‪ ،‬فما أكثر مجاهلها وما أكثر‬
‫خفاياها!‬
‫اسهروا وانتبهوا أيها املنفردون؛ ألن من املستقبل تهبُّ نسمات رسية حاملة‬
‫بشائر ال تقرع إال اآلذان املرهفة‪.‬‬
‫إنكم يف عزلة عن العالم‪ ،‬أيها املنفردون‪ ،‬ولكنكم ستصبحون شعبًا يف آتي‬

‫‪97‬‬
‫الزمان‪ ،‬ومنكم سيقوم الشعب املختار؛ ألنكم اخرتتم نفسكم اليوم‪ ،‬ومِن هذا‬
‫الشعب سيولد اإلنسان املتفوق‪.‬‬
‫َّ‬
‫لألعلء‪ ،‬فإن يف نرشها عبريًا جديدًا‬ ‫والحق أن األرض ستصبح يومً ا مستشفى‬
‫هو عبري اإلخالص واألمل الجديد‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫ً‬
‫طويل بني‬ ‫وسكت زارا كمن يقف عند كلمة تتلجلج يف فمه‪ ،‬وبعد أن ق َّلب عصاه‬
‫يديه‪ ،‬أطلق صوته وقد تغريت نرباته فقال‪ :‬سأذهب وحدي اآلن‪ ،‬أيها الصحاب‪،‬‬
‫أيضا ستذهبون بعدي وحدكم ألنني هكذا أريد‪.‬‬ ‫وأنتم ً‬
‫هذه نصيحتي إليكم؛ ابتعدوا عني وقفوا موقف الدفاع عن أنفسكم تجاهي‪ ،‬بل‬
‫اذهبوا إىل أبعد من هذا؛ اخجلوا من انتسابكم إيل َّ فلقد أكون لكم خادعً ا‪.‬‬
‫عىل من يطلب الحكمة أال يتعلم محبة أعدائه فحسب‪ ،‬بل عليه ً‬
‫أيضا أن يتعلم‬
‫ً‬
‫اعرتافا تامًّ ا بفضل أستاذه إذا هو بقي أبدًا له‬ ‫بغض أصدقائه‪ ،‬وما يعرتف التلميذ‬
‫تلميذًا‪ .‬ملاذا ال تريدون أن تحطموا تاجي؟‬
‫إنكم تحوطونني باإلجالل‪ ،‬ولكن ما هي الكارثة التي تتوقعونها من إعراضكم‬
‫عني‪ ،‬إن يف رفع األنصاب لخط ًرا فاحرتسوا من أن يسقط عليكم التمثال املنصوب‬
‫فيقيض عليكم‪.‬‬
‫تقولون إنكم تؤمنون بزارا‪ ،‬ولكن أية أهمية له؟ تقولون إنكم مؤمنون‪ ،‬ولكن‬
‫ما أهمية جميع املؤمنني؟ ما كان أحد منهم فتش عن نفسه قبل أن وجدتموني‪،‬‬
‫وهكذا جميع املؤمنني‪ ،‬فليس اإليمان شيئًا عظيمً ا؛ لذلك آمركم اآلن أن تضيِّعوني‬
‫لتجدوا أنفسكم‪ ،‬ولن أعود إليكم إال عندما تكونون جحدتموني جميعكم‪.‬‬
‫والحق‪ ،‬يا إخوتي‪ ،‬إنني يف ذلك الحني‪ ،‬سأفتش عن خِ رايف الضالة بعني أخرى‬
‫فأبذل لكم حبًّا غري هذا الحب‪.‬‬
‫سيأتي يوم تصريون فيه أصحابًا يل إذا ما وحَّ د بينكم األمل الواحد‪ ،‬عندئذ‬

‫‪98‬‬
‫سأرغب يف اإلقامة بينكم للمرة الثالثة لالحتفاء بأنوار الهاجرة العظمى‪.‬‬
‫وستبلغ الشمس الهاجرة عندما يصل الناس إىل منتصف طريقهم بني الحيوان‬
‫واإلنسان املتفوق‪ ،‬وعندما يرون أملهم األسمى عىل منتهى السبيل الذي يقودهم‬
‫إىل الفجر الجديد‪.‬‬
‫يف ذلك الحني يتوارى من يسري إىل الجهة الثانية وهو يبارك نفسه؛ إذ ترتفع‬
‫شمس معرفته لتتكبد الهاجرة‪.‬‬
‫لقد مات جميع اآللهة‪ ،‬فلم يعد لنا من أمل إال ظهور اإلنسان املتفوق‪ ،‬فلتكن‬
‫هذه إرادتنا األخرية عندما تبلغ الشمس الهاجرة‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫هوامش‪:‬‬
‫‪ 1‬ليذكر القارئ الكريم ما وجَّ هْ نا انتباهه إليه يف مقدمتنا‪ ،‬فها هو ذا نيتشه‬
‫قد بدأ يوضح ع َّل َة جحودِه‪ ،‬فهو يرى معبود الناس قائمً ا من وهمهم أو بتعبري‬
‫آخر إن اإلنسان قد خلق الله فصوره من ترابه ونفخ فيه نسمة من لهبه‪ ،‬ولو أننا‬
‫وقفنا عند كل فكرة جانحة من أفكار نيتشه لنحللها ونرجع منها إىل إيماننا ا َملك ِ‬
‫ِني‬
‫الضطررنا إىل التحول من الرتجمة إىل البحث‪ ،‬غري أننا ال نجد بدًّا اآلن من دعوة‬
‫القارئ إىل اإلمعان يف الصفات ترتاءى لنيتشه كأنها هي األلوهية فيتأكد أن اإلله‬
‫الذي يهاجمه هذا الفيلسوف هو غري إلهنا‪ ،‬وعامله الثاني هو غري عاملنا الروحي‬
‫الذي يقيم فينا قبل أن نقيم فيه‪.‬‬
‫إن نيتشه كان قد خرج عىل الدين الذي اقتبستْه اآلرية عن السامية فشوهته‪،‬‬
‫فأصبح بعد ذلك طري َد ِ‬
‫فكره الجبار ينتقد آثار الدين يف املجتمع‪ ،‬وقد وقف موقفه‬
‫السلبي؛ فال هو يُسكت رصاخ نفسه املتمردة‪ ،‬وال هو يهتدي إىل الدين الحق الذي‬
‫تسكن الروح إليه‪ ،‬وينتظم املجتمع بأحكامه‪ ،‬وها نحن نورد كلمة لنيتشه قالها‬

‫‪99‬‬
‫وهو يكتب زرادشت وفيها عربة للمؤمنني وللجاحدين‪.‬‬
‫يف حديقة من حدائق لوزرن جلس نيتشه إىل السيدة «لو سالومه» وهي حسناء‬
‫روسية ملكت لبَّه‪ ،‬ويف حديثه معها ملكه الصمت‪ ،‬فرأت لو دموعه تنهمر وبدأ‬
‫يقص عليها تاريخ تطوره الفكري‪ ،‬فوصف لها سني فتوته التي قضاها يف‬
‫التعبد‪ ،‬ثم عرض مراحله يف شكوكه واضطرابه يف عالم ال بد من إمرار الحياة فيه‬
‫دون أن يكون لهذا العالم إله … فقال — والسيدة نفسها دونت قوله للتاريخ‪:‬‬
‫«هكذا بدأت مغامراتي الفكرية وما وصلت إىل محجة منها‪ ،‬فإىل أين أتجه … أفال‬
‫يجدر بي أن أعود إىل اإليمان‪ ،‬أو أن أ ُ َّ‬
‫وفق إىل إيمان جديد؟ عىل أنه خري يل إذا أنا‬
‫نقل عن‬‫لم أوفق إىل الوصول لهدف أن أعود أدراجي من أن أقف يف حريتي‪ ».‬ا‪.‬ﻫ‪ً .‬‬
‫كتاب دانيال هااليف‪.‬‬
‫‪ 2‬أفال يرى القارئ الكريم إثبات واجب الوجود يف محاولة إنكاره‪ ،‬وإثبات‬
‫اإليمان الفكري األسمى يف أضل منطق وأرصح جحود؟ ذلك هو رد الفعل الذي‬
‫أرشنا إليه يف مقدمتنا‪ ،‬فإن اإليمان الغربي قد اعترب الجسد آلة شهوة محتقرة‬
‫يجب إذاللها‪ ،‬فأنكر الحياة «وما الحياة يف نظر الرشق املؤمن إال مقدمة للخلود»‪،‬‬
‫وما ثار نيتشه إال عىل هذا التصور للكيان اإلنساني‪ ،‬فهبَّ يقلب ظاهره باطنًا‬
‫وباطنه ظاه ًرا‪ ،‬ويشطره إىل ذات وإىل شخصية معتربًا الشخصية ً‬
‫عقل وإدرا ًكا‬
‫وقائل بأن الجسم بما فيه من حوافز مجردة خفية إنما هو بنفسه الذات‬ ‫ً‬ ‫زائلني‪،‬‬
‫الواجبة الوجود التي تندفع إىل التكامل لتبلغ باإلنسان مرتبة األلوهية‪.‬‬
‫هذه كلمة لم نر بدًّا من اإلتيان بها وهي جد موجزة‪ ،‬ولكنها ستكون مدا ًرا‬
‫لبحث نتوق إىل تناوله عندما ننتهي من ترجمة فيلسوف الغرب الكبري لنأخذ من‬
‫إلحادة ً‬
‫دليل له شأنه عىل صحة إيمان الرشق بالواحد األحد وبما نفخ يف األجساد‬
‫من نسمة الحياة الخالدة‪.‬‬
‫‪ 3‬ال يغرب عن القارئ الكريم أن نيتشه يعالج يف هذا الفصل القضية الكربى‬
‫يف مدنية الغرب‪ ،‬وقد نشأت من استخدام أصحاب األموال لنتاج عبقرية املخرتعني‬

‫‪100‬‬
‫وجهود املكتشفني يف سبيل حشد الثروات الطائلة والتسلط بها عىل الحكومات‪،‬‬
‫وقد أصبحت مدنية الغرب من هذا الوضع الشاذ يف حلقة مفرغة تبتدئ حيث‬
‫تنتهي بني ملوك الحكومات وملوك املال وليس‪ ،‬والحمد لله‪ ،‬يف الرشق أمثال لهؤالء‬
‫امللوك‪.‬‬
‫‪ 4‬يعرتف زارا بأن عيىس عرف دموع الشعب املظلوم وغطرسة من يدعون‬
‫الصالح والعدل‪ ،‬فماذا يُراد منه أن يعرف بعدُ‪ ،‬وليس من قضية اجتماعية تخرج‬
‫عن حدي دمعة الضعيف وكيد املستقوين يف الحياة‪.‬‬
‫كان يريد زارا أن يبلغ عيىس ما بلغه هو من العمر؛ ليجحد تعاليمه ويطلق‬
‫جناحي نفسه فيحب اإلنسان واألرض‪ ،‬فهل بلغ أحد من مصلحي اإلنسانية‬
‫— باعتبار القضية االجتماعية مستقلة ً‬
‫جدل عن املسألة الروحية — ما بلغه‬
‫العرباني والعربي بعده من حب اإلنسانية والتضحيات يف سبيل إصالح الحياة‪.‬‬
‫وهل لنيتشه أن يدعي أنه أتى بيشء جديد يف فلسفته عند تصويره مبادئ‬
‫الحياة‪ ،‬أفليس كل ما أصاب فيه مستمدًا مما أُوحي إىل رسل الله وأنبيائه األطهار‪،‬‬
‫أفليس كل ما ضل فيه ناشئًا عن محاولته االستغناء عن أنوار هذا الوحي ‪..‬‬

‫‪101‬‬
‫الجزء الثاني‬

‫الطفل حامل المرآة‬

‫ورجع زارا إىل الجبال‪ ،‬إىل عُ زلة كهفه ليحتجب عن الناس كالزارع ألقى بذوره‬
‫يف أثالم أرضه وبات يتوقع نبتها‪ ،‬ولكنه ما لبث أن حنت جوارحه إىل أحبابه؛ إذ‬
‫كان عليه أن يمنحهم بع ُد كثريًا من الهبات‪ ،‬وأصعب ما يلقى املحب اضطراره إىل‬
‫قبض يده إجابة لداعي محبته وتفاديًا للمنة يف عطائه‪.‬‬
‫ومرت عىل املنفرد الشهور واألعوام وحكمته تزداد نموًّا فتزيده أ ًملا باتساع‬
‫آفاقها‪.‬‬
‫وأفاق يومً ا من نومه قبل انفالق الفجر‪ ،‬واستغرق يف تفكريه وهو ممدد عىل‬
‫قائل‪ :‬ملاذا أرعبني هذا الحلم حتى استفقت منه مذعو ًرا؟ رأيت‬‫فراشه وتساءل ً‬
‫كأن ولدًا «يحمل مرآة» اقرتب مني وهو يقول‪ :‬انظر يف هذه املرآة يا زارا‪.‬‬
‫ً‬
‫خفوقا شديدًا؛ ألن ما انعكس‬ ‫وما نظرت إىل املرآة حتى رصخت وخفق قلبي‬
‫يل يف املرآة لم يكن وجهي‪ ،‬بل وجهً ا تقطبت أساريره بضحكة شيطان ساخر‪.‬‬
‫والحق ما يفوتني تعبري هذا الحلم وإدراك ما نُبهت إليه‪ ،‬فإن تعاليمي م ُْشفة‬
‫عىل خطر‪ ،‬وال ُّزوان يريد أن ينتحل صفات الحنطة‪ .‬لقد استأسد أعدائي فشوهوا‬
‫تعاليمي حتى أصبح أتباعي يخجلون مما وهبتهم‪.‬‬
‫لقد فقدت صحبي وآن يل أن أفتش عمن فقدت‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫وانتفض زارا ال كمَ ِن استوىل الذعر عليه بل كمأخوذ برؤى وكشاعر ه َّزه‬
‫شيطانه؛ فوجم نرسه وأفعوانه وحدَّقا بوجهه وقد الحت بوادر السعادة عليه‬
‫كتباشري الفجر‪ ،‬فقال لهما‪ :‬ماذا حدث يل؟ أفما تريان أنني تغريت؟ أفما تحسان‬
‫أن الغبطة قد نزلت عيل َّ كأنها عصفات الرياح؟‬
‫جن شعوري بهذه السعادة فلن يسلم بياني من اختالل هذا الشعور‪ .‬إن‬ ‫لقد َّ‬
‫سعادتي لم تزل يف حداثتها فتذرعا بالصرب معي عليها‪.‬‬
‫لقد أوجعتني سعادتي فليكن أُساتي كل من أرهقتهم األوجاع‪.‬‬
‫إن يف وسعي اآلن أن أنحدر إىل مقر صحبي وإىل مقر أعدائي‪ ،‬فقد أصبح زارا‬
‫قاد ًرا عىل استطراد القول واإلحسان إىل من يحب‪.‬‬
‫لقد آن لحبي أن يتدفق كالنهر يندفع من األعايل إىل األعماق‪ ،‬ويتجه من املرشق‬
‫إىل املغرب‪.‬‬
‫إن نفيس تندفع مرغية مزيدة يف الوديان متملصة من الجبال الصامتة نصخب‬
‫فوقها عواصف اآلالم‪ ،‬ولطاملا تعللت بالصرب وعلقت أبصاري عىل بعيد اآلفاق‪ ،‬لقد‬
‫أرهقتني العزلة فما أطيق السكوت بعدُ‪.‬‬
‫أصبحت وكأنني بأجمعي ف ٌم أو هدير جدول يتحدر من شامخات الصخور‪،‬‬
‫أريد أن أقذف بكلماتي إىل األغوار‪ ،‬فيجري نهر حبي يف املفاوز البعيدة‪ ،‬ولن يضل‬
‫هذا النهر سبيله إىل مصبه يف البحار‪.‬‬
‫إن يف داخيل بحرية وحيدة قانعة بنفسها‪ ،‬غري أن نهر محبتي يجتذبها يف‬
‫مسريه؛ ليقطع معها السيول ويرتامى وإياها يف لجة البحر‪.‬‬
‫إنني أتبع مسالك لم أعرفها من قبل فأُلهمت بيانًا «جديدًا» بعد أن أتعبتني‬
‫اللهجات القديمة التي ترهق كل املبدعني‪ ،‬وقد امتنع عىل فكري أن يقتفي رواشم‬
‫النعال املقطعة‪.‬‬
‫ما من لغة إال وأراها بطيئة تقرص عن مجاراة بياني‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫سأقفز إىل صهوتك أيتها العاصفة فألهبك أنت ً‬
‫أيضا بسوط سخريتي‪.‬‬
‫أريد أن أقطع أجواء البحار كهتفة مرسة وحبور إىل أن أستقر عىل الجزائر السعيدة‬
‫أيضا‪ ،‬لشد ما أحب اآلن جميع من يتسنى يل أن‬‫حيث يقيم أحبابي‪ ،‬وبينهم أعدائي ً‬
‫أيضا قسطهم يف إيجاد غبطتي‪.‬‬ ‫أوجه إليهم الكالم‪ ،‬وسيكون لهؤالء األعداء ً‬
‫عندما أتحفز العتالء أشد جيادي جموحً ا ال أجد يل معينًا أصدق من رمحي متكأ‬
‫أرتفع عليه‪.‬‬
‫هو رمحي أهدد به أعدائي‪ ،‬ولكم يستحقون ثنائي إذا ما تمكنت من طرح هذا‬
‫الرمح من يدي‪.‬‬
‫لقد طال اصطبار غيومي بني قهقهة الرعود‪ ،‬وقد آن يل أن أرشق األعماق‬
‫بقذائف بردي‪.‬‬
‫إن صدري سيتعاظم بانتفاخه حتى يزفر بالعاصفة الهائلة عىل الشامخات‪،‬‬
‫وهكذا سأف ِّرج عنه‪.‬‬
‫إن سعادتي وحريتي سيندفعان اندفاع العواصف‪ ،‬ولكنني أتمنى لو يحسب‬
‫أعدائي أن ما يزمجر فوق رءوسهم إنما هو روح الرش ال روح سعادة وحرية‪.‬‬
‫وأنتم ً‬
‫أيضا أيها الصحاب سيتوالكم الرعب عندما تنزل عليكم حكمتي الكارسة‪،‬‬
‫ولعلكم تولون هاربني منها كما يهرب األعداء‪.‬‬
‫ليت يل أن أستدعيكم إيل َّ بحنني شبابة الرعاة‪ ،‬وليت تتعلم لبؤة حكمتي أن تزأر‬
‫بنربات العطف والحنان‪ ،‬فلطاملا وردنا سويًّا من مناهل العرفان‪ .‬ولكن حكمتي‬
‫الوحشية تمخضت بآخر صغارها يف الجبال السحيقة بني الجالمد الجرداء‪ ،‬وهي‬
‫اآلن تطوف بجنونها الصحاري القاحلة مفتشة عىل املروج النارضة‪.‬‬
‫إنها لشيخة وحشية هذه الكلمة التي تقصد إنزال أعز ما لديها يف مروج قلوبكم‬
‫النارضة‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا ‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫في الجزر السعيدة‬

‫ها إن التني يتساقط عن أشجاره عَ ِط َر النكهة حلو املذاق‪ ،‬وقشوره الحمراء‬


‫تتشقق بسقوطها‪ ،‬وأنا هو ريح الشمال يهب عىل هذه األثمار الناضجة‪ .‬إن‬
‫تعاليمي تتساقط إليكم أيها الصحاب كمثل هذه األثمار فتذوقوها اآلن عند ظهرية‬
‫من أيام الخريف وقد صفت فوقكم السماء‪.‬‬
‫رسحوا أبصاركم فيما حولكم من خريات األرض‪ ،‬ثم مدوا بها إىل آفاق البحر‬
‫البعيد فليس أجمل ملن فاض رزقه من أن يتطلع إىل األبعاد‪.‬‬
‫يرسحون أبصارهم عىل‬‫لقد كان الناس يتلفظون باسم الله عندما كانوا ِّ‬
‫شاسعات البحار‪ ،‬أما اآلن فقد تعلمتم الهتاف باسم اإلنسان املتفوق‪.‬‬
‫ٌ‬
‫افرتاض وأنا أريد أال يذهب بكم االفرتاض إىل أبعد مما تفرتض إرادتكم‬ ‫إن الله‬
‫املبدعة‪.‬‬
‫أفتستطيعون أن تخلقوا إلهً ا؟ إذن أقلعوا عن ذكر اآللهة جميعً ا‪ ،‬فليس لكم إال‬
‫إيجاد اإلنسان املتفوق‪.‬‬
‫ولعلكم لن تكونوا بنفسكم هذا اإلنسان‪ ،‬ولكن يف وسعكم أن تصبحوا آباء‬
‫وأجدادًا له‪ ،‬فليكن هذا التحول خري ما تعملون‪.‬‬
‫إن الله افرتاض وأنا أريد أال يتجاوز بكم االفرتاض حدود التصور‪ ،‬فهل‬
‫تستطيعون أن تتصوروا إلهً ا؟ فاعرفوا من هذا َّ‬
‫أن واجبكم هو طلب الحقيقة فال‬
‫تطمحوا إىل ما ال يبلغه تصور اإلنسان وبرصه وحسه‪ ،‬أمسكوا بتصوركم كيال‬
‫يتجاوز حدود حواسكم‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫يتحتم عليكم أن تبدءوا بخلق ما كنتم تسمونه عا ًملا من قبل؛ فيتكون عاملكم من‬
‫تفكريكم وتصوركم وإرادتكم ومحبتكم وعندئذ تبلغون السعادة يا من تطلبون‬
‫املعرفة‪ ،‬وكيف تطيقون الحياة إذا لم يكن لكم هذا الرجاء؟‬
‫عىل من يطلب املعرفة أال يتورط يف ما يريده العقل من املعميات‪.‬‬
‫لسوف أفتح لكم قلبي فال تخفى عنكم خافية فيه‪ ،‬فأقول لكم‪ :‬لو كان هنالك‬
‫ُ‬
‫أكنت أتحمَّ ل أال أكون ربًّا؟ إذن ليس يف الكون أرباب‪.‬‬ ‫أرباب‬
‫لقد استخرجت لذاتي هذه النتيجة‪ ،‬وها هي تستخرجني اآلن‪.‬‬
‫إن الله افرتاض ولكن من له بتحمل كل ما يضمر هذا االفرتاض من اضطراب‬
‫دون أن يالقي الفناء؟ أتريدون أن تأخذوا من الخالق إيمانه ومن النرس تحليقه‬
‫يف أجواز الفضاء؟‬
‫إن الله عبارة عن إيمان ينكرس به كل خط مستقيم ويميد عنده كل قائم‪،‬‬
‫فان يف عينيه بُ ْ‬
‫طل وخداع‪ ،‬فهل مثل هذه األفكار‬ ‫فالزمان لدى املؤمن وهم‪ ،‬وكل ٍ‬
‫إال أعاصري تتطاير فيها عظام البرش وتورث الدوار لشاهدها؟ تلك افرتاضات‬
‫يدور املبتىل بها عىل نفسه كالرحي حتى يموت‪.‬‬
‫أفليست من الرش واالفتيات عىل اإلنسانية كل هذه التعاليم تقيم الواحد املطلق‬
‫الذي ال يناله تحول وال تغيري؟‬
‫إن الرموز وحدها ال تتغري‪ ،‬وطاملا كذب الشعراء‪ ،‬غري أن خري ما يُرضب من‬
‫األمثال ما يصور الحارض وآتي الزمان فيأتي حجة لكل زائل ال ً‬
‫نقضا له‪.‬‬
‫ليس يف غري اإلبداع ما ينقذ من األوجاع ويخفف أثقال الحياة‪ ،‬غري أن والدة‬
‫املبدع تستدعي تحوالت كثرية وتستلزم كثريًا من اآلالم‪.‬‬
‫أيها املبدعون ستكون حياتكم مليئة بمرير امليتات؛ لتصبحوا مدافعني عن‬
‫جميع ما يزول‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫عىل املبدع إذا شاء أن يكون هو بنفسه طفل الوالدة الجديدة أن يتذرع بعزم‬
‫املرأة التي تلد فيتحمل أوجاع مخاضها‪.‬‬
‫واألرسة وأوجاع املخاض‪ ،‬غري أنني‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫طريقا يف مئات النفوس‬ ‫لقد اخرتقت يل‬
‫كثريًا ما نكصت عىل أعقابي؛ ألنني أعرف ما تق ِّ‬
‫طع الساعات األخرية من نياط‬
‫القلوب‪.‬‬
‫ولكن ذلك ما تطمح إرادتي املبدعة إليه‪ ،‬وبتعبري أشد رصاحة‪ :‬ذلك هو املقصد‬
‫الذي تريده إرادتي‪.‬‬
‫إن جميع ما يف َّ من شعور يتألم مقيدًا سجينًا‪ ،‬وليس غري إرادتي من بشري يؤذن‬
‫باملرسة‪ ،‬ويأتي باإلفراج عن الشعور‪.‬‬
‫إن اإلرادة وحدها تحرر‪ ،‬وما بغري هذه اآلية من رشعة صحيحة لإلرادة وللحرية‪،‬‬
‫عىل هذا تقوم تعاليم زارا‪.‬‬
‫يشلن اإلرادة‪ ،‬ويوقفان كل تقدير وإبداع‪.‬‬ ‫ً‬
‫وسحقا لكل و َْهن ومالل َّ‬ ‫بعدًا‬
‫إن طالب املعرفة يشعر بلذة اإلرادة واإليجاد‪ ،‬وبلذة استحالة الذات إىل ما تحس‬
‫به يف أعماقها‪ ،‬فإذا انطوى ضمريي عىل الصفاء فما ذلك إال الستقرار إرادة اإليجاد‬
‫فيه‪ ،‬وهذه اإلرادة هي ما أهاب بي لالبتعاد عن الله وعن اآللهة؛ إذ لو كان هنالك‬
‫آلهة ملا بقي يشء يمكن خلقه‪.‬‬
‫إن طموح إرادتي إىل اإليجاد يدفعني أبدًا نحو الناس اندفاع املطرقة فوق‬
‫الحجر‪.‬‬
‫تمثال كامنًا هو مثال األمثلة‪ ،‬أفيجدر أن يبقى‬
‫ً‬ ‫أيها الناس إنني أملح يف الحجر‬
‫ثاويًا يف أشد الصخور صالبة وقبحً ا‪.‬‬
‫إن مطرقتي تهوي برضباتها القاسية عىل هذا السجن فأرى حجره يتناثر‪.‬‬
‫أريد أن أكمل هذا التمثال‪ .‬إن ً‬
‫طيفا زارني‪ ،‬وألطف الكائنات وأعمقها سكوتًا‬

‫‪107‬‬
‫قد اقرتب مني‪.‬‬
‫لقد تجىل بها ُء اإلنسان املتفوق لعيني يف هذا الخيال الطارق فما يل ولآللهة‬
‫بعدُ‪1.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫هوامش‪:‬‬
‫‪ 1‬ونحن نقول بدورنا لنيتشه متخذين قياسنا من قياسه‪ :‬لو أمكن لإلنسان‬
‫أن يخلق شيئًا ملا كان هنالك إله‪ ،‬وبما أن اإلنسان يقرص عن إيجاد ذرة وخطرة‬
‫فكر يف عاملي املادة والروح‪ ،‬فالكائن األزيل مفروض ً‬
‫فرضا عىل العاقل‪ ،‬وكل قول‬
‫يخالف هذا القول ثرثرة وجنون‬

‫‪108‬‬
‫الرحماء‬

‫لقد بلغني‪ ،‬أيها الصحاب‪ ،‬قول الناس‪« :‬أفما ترون زارا يمر بنا كأنه يمر بني‬
‫قطيع من الحيوانات‪».‬‬
‫وكان أوىل بهم أن يقولوا‪ :‬إن من يطلب املعرفة يمر بالناس مروره بالحيوانات‪.‬‬
‫إن طالب املعرفة يرى اإلنسان حيوانًا له وجنتان حمراوان‪.‬‬
‫ولِ َم يراه هكذا؟ أفليس ألنه كثريًا ما علته حمرة الخجل؟‬
‫هذا ما يقوله طالب املعرفة أيها الصحاب‪ :‬إن تاريخ اإلنسان عار يف عار‪.‬‬
‫ولذلك يفرض الرجل النبيل عىل نفسه أال يلحق إهانة بأحد ألنه يستحيي جميع‬
‫املتأملني‪.‬‬
‫إنني والحق أكره الرحماء الذين يطلبون الغبطة يف رحمتهم‪ ،‬فإذا ما قيض عيل َّ‬
‫بأن أرحم تمنيت أن تُجهل رحمتي وأال أبذلها إال عن كثب‪ .‬أحب أن أسرت وجهي‬
‫عند إشفاقي وأن أسارع إىل الهرب دون أن أعرف‪ ،‬فتمثلوا بي أيها الصحاب‪.‬‬
‫ً‬
‫رجال ال يتأملون‪ ،‬ويف طاقتهم أن‬ ‫ليت حظي يسوقني أبدًا حيث ألتقي أمثالكم‬
‫يشاركوني آمايل ووالئمي وملذاتي‪.‬‬
‫لقد قمت بأعمال كثرية يف سبيل املتأملني‪ ،‬ولكن كنت أرى أن األفضل من هذا‬
‫يرس إال ً‬
‫قليل منذ وجوده‪ ،‬وما‬ ‫زيادة معرفتي يف تمتعي برسوري‪ .‬فإن اإلنسان لم َّ‬
‫من خطيئة حقيقية إال هذه الخطيئة‪.‬‬
‫إذا نحن تعلمنا كيف نزيد يف مرستنا فإننا نفقد معرفتنا باإلساءة إىل سوانا‬
‫وباخرتاع ما يسبب اآلالم‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫ذلك ما يدعوني إىل غسل يدي إذا أنا مددتها ملتألم‪ ،‬بل وإىل تطهري روحي ً‬
‫أيضا؛‬
‫ألنني أخجل لخجله وتؤملني مشاهدتي آلالمه‪ ،‬وألنني جرحت مع َّزة نفسه بال‬
‫رحمة عندما مددت له يدي‪.‬‬
‫إن عظيم اإلحسان ال يو ِّلد االمتنان بل يدعو إىل إيقاد الحقد‪ ،‬وإذا تغلب تافه‬
‫ً‬
‫ناهشا‪.‬‬ ‫اإلحسان عىل النسيان فإنه يصبح دودًا‬
‫ال تقبلوا شيئًا دون احرتاس‪ ،‬وحكموا تمييزكم عندما تأخذون‪ ،‬ذلك ما أشري به‬
‫عىل من ليس لهم ما يبذلونه للناس‪.‬‬
‫أما أنا فممن يبذلون العطاء‪ ،‬وأحب أن أعطي األصدقاء كصديق‪ ،‬أما األبعدون‬
‫فليتقدموا من أنفسهم القتطاف األثمار من دوحتي فليس يف إقدامهم عىل األخذ ما‬
‫يف قبولهم العطاء من مهانة لكرامتهم‪.‬‬
‫غري أنه من الالزب أن يُقطع دابر املتسولني؛ ألن يف الجود عليهم من الكدر ما‬
‫يوازي كدر انتهارهم وحرمانهم‪.‬‬
‫وكذلك هو حال الخطاة وأهل الضمائر املضللة؛ فإن تبكيت الضمري يحفز‬
‫اإلنسان إىل النهش وإيقاع األذى‪.‬‬
‫ورشٌ من كل هذا األفكار الحقرية‪ ،‬وخري لإلنسان أن ييسء ً‬
‫عمل من أن تستويل‬
‫املسكنة عىل تفكريه‪.‬‬
‫إنكم تقولون‪« :‬إن يف التفكري امللتوي كثريًا من االقتصاد يف رش األعمال‪ ».‬وما‬
‫يستحسن االقتصاد يف مثل هذا‪.‬‬
‫إن لرش العمل أ َكالنًا والتهابًا وطفحً ا كالقروح‪ ،‬فهو ح ٌّر ورصيح؛ ألنه يعلن‬
‫نفسه دا ًء كما تعلن القروح‪ ،‬يف حني أن الفكرة الدنيئة تختفي كنوامي الفطر‪،‬‬
‫وتظل منترشة حتى تودي بالجسم كله‪ ،‬ومع هذا فإني أ ُ ُّ‬
‫رس يف أذن من تم َّلكه‬
‫الوسواس الخناس‪« :‬إن من الخري أن تدع الوسواس يتعاظم فيك؛ ألن أمامك أنت‬

‫‪110‬‬
‫ً‬
‫سبيل يوصلك إىل االعتالء‪».‬‬ ‫ً‬
‫أيضا‬
‫مما يؤسف له أن يكون جهل بعض اليشء خريًا من إدراك كله‪ ،‬غري أن من‬
‫ُّ‬
‫يشف حتى تبدو بواطنه‪ ،‬ولكن ذلك ال يربر طموحنا إىل استكناه‬ ‫الناس من‬
‫مقاصده‪ ،‬ومن الصعب أن نعيش مع الناس ما دمنا نستصعب السكوت‪.‬‬
‫إن ظلمنا ال ينزل بمن تنفر منه أذواقنا‪ ،‬بل يسقط عىل مَ ن ال يعنينا أمره‪.‬‬
‫وبالرغم من هذا‪ ،‬إذا كان لك صديق يتألم فكن ملجأ آلالمه‪ ،‬ولكن ال تبسط له‬
‫فراشا وثريًا بل ً‬
‫فراشا خشنًا كالذي يتوسده املحاربون‪ ،‬وإال فما أنت مجديه نفعً ا‪.‬‬ ‫ً‬

‫وإذا أساء إليك صديق فقل له‪ :‬إنني أغتفر لك جنايتك عيلَّ‪ ،‬ولكن هل يسعني‬
‫أن أغفر لك ما جنيته عىل نفسك بما فعلت؟‬
‫هكذا يتكلم عظيم الحب؛ ألنه يتعاىل حتى عن املغفرة واإلشفاق‪.‬‬
‫علينا أن نكبح جماح قلوبنا؛ كيال تجر عقولنا معها إىل الضالل‪.‬‬
‫أين تجىل الجنون يف األرض بأشد مما تجىل بني املشفقني؟ بل أي رضر لحق‬
‫بالناس أشد من الرضر الناشئ عن جنون الرحماء؟‬
‫وي ٌل لكل محب ليس يف محبته ربوة ال يبلغها إشفاق الرحماء‪.‬‬
‫قال يل الشيطان يومً ا‪ :‬إن للرب جحيمً ا هو جحيم محبته للناس‪.‬‬
‫وقد سمعت هذا الشيطان يقول أخريًا‪ :‬لقد مات اإلله وما أماته غري رحمته‪.‬‬
‫احرتسوا من الرحمة؛ ألنها ال تلبث حتى تعقد فوق اإلنسان غمامً ا متلبدًا‪ ،‬وما‬
‫أنا بجاهل ما تنذر به األيام‪.‬‬
‫احفظوا هذه الكلمة ً‬
‫أيضا‪ :‬إن املحبة العظمى تتعامى عن رحمتها؛ ألن لها‬
‫هدفها األسمى وهو خلق من تحب‪.‬‬
‫إنني أقف نفيس عىل حبي‪ ،‬وكذلك يفعل أمثايل‪ :‬هذا ما يقوله كل مبدع‪،‬‬

‫‪111‬‬
‫واملبدعون قساة القلوب‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا … الرحماء‬
‫لقد بلغني‪ ،‬أيها الصحاب‪ ،‬قول الناس‪« :‬أفما ترون زارا يمر بنا كأنه يمر بني‬
‫قطيع من الحيوانات‪».‬‬
‫وكان أوىل بهم أن يقولوا‪ :‬إن من يطلب املعرفة يمر بالناس مروره بالحيوانات‪.‬‬
‫إن طالب املعرفة يرى اإلنسان حيوانًا له وجنتان حمراوان‪.‬‬
‫و ِل َم يراه هكذا؟ أفليس ألنه كثريًا ما علته حمرة الخجل؟‬
‫هذا ما يقوله طالب املعرفة أيها الصحاب‪ :‬إن تاريخ اإلنسان عار يف عار‪.‬‬
‫ولذلك يفرض الرجل النبيل عىل نفسه أال يلحق إهانة بأحد ألنه يستحيي جميع‬
‫املتأملني‪.‬‬
‫إنني والحق أكره الرحماء الذين يطلبون الغبطة يف رحمتهم‪ ،‬فإذا ما قيض عيل َّ‬
‫بأن أرحم تمنيت أن تُجهل رحمتي وأال أبذلها إال عن كثب‪ .‬أحب أن أسرت وجهي‬
‫عند إشفاقي وأن أسارع إىل الهرب دون أن أعرف‪ ،‬فتمثلوا بي أيها الصحاب‪.‬‬
‫ً‬
‫رجال ال يتأملون‪ ،‬ويف طاقتهم أن‬ ‫ليت حظي يسوقني أبدًا حيث ألتقي أمثالكم‬
‫يشاركوني آمايل ووالئمي وملذاتي‪.‬‬
‫لقد قمت بأعمال كثرية يف سبيل املتأملني‪ ،‬ولكن كنت أرى أن األفضل من هذا‬
‫يرس إال ً‬
‫قليل منذ وجوده‪ ،‬وما‬ ‫زيادة معرفتي يف تمتعي برسوري‪ .‬فإن اإلنسان لم َّ‬
‫من خطيئة حقيقية إال هذه الخطيئة‪.‬‬
‫إذا نحن تعلمنا كيف نزيد يف مرستنا فإننا نفقد معرفتنا باإلساءة إىل سوانا‬
‫وباخرتاع ما يسبب اآلالم‪.‬‬
‫ذلك ما يدعوني إىل غسل يدي إذا أنا مددتها ملتألم‪ ،‬بل وإىل تطهري روحي ً‬
‫أيضا؛‬

‫‪112‬‬
‫ألنني أخجل لخجله وتؤملني مشاهدتي آلالمه‪ ،‬وألنني جرحت مع َّزة نفسه بال‬
‫رحمة عندما مددت له يدي‪.‬‬
‫إن عظيم اإلحسان ال يو ِّلد االمتنان بل يدعو إىل إيقاد الحقد‪ ،‬وإذا تغلب تافه‬
‫ً‬
‫ناهشا‪.‬‬ ‫اإلحسان عىل النسيان فإنه يصبح دودًا‬
‫ال تقبلوا شيئًا دون احرتاس‪ ،‬وحكموا تمييزكم عندما تأخذون‪ ،‬ذلك ما أشري به‬
‫عىل من ليس لهم ما يبذلونه للناس‪.‬‬
‫أما أنا فممن يبذلون العطاء‪ ،‬وأحب أن أعطي األصدقاء كصديق‪ ،‬أما األبعدون‬
‫فليتقدموا من أنفسهم القتطاف األثمار من دوحتي فليس يف إقدامهم عىل األخذ ما‬
‫يف قبولهم العطاء من مهانة لكرامتهم‪.‬‬
‫غري أنه من الالزب أن يُقطع دابر املتسولني؛ ألن يف الجود عليهم من الكدر ما‬
‫يوازي كدر انتهارهم وحرمانهم‪.‬‬
‫وكذلك هو حال الخطاة وأهل الضمائر املضللة؛ فإن تبكيت الضمري يحفز‬
‫اإلنسان إىل النهش وإيقاع األذى‪.‬‬
‫ورشٌ من كل هذا األفكار الحقرية‪ ،‬وخري لإلنسان أن ييسء ً‬
‫عمل من أن تستويل‬
‫املسكنة عىل تفكريه‪.‬‬
‫إنكم تقولون‪« :‬إن يف التفكري امللتوي كثريًا من االقتصاد يف رش األعمال‪ ».‬وما‬
‫يستحسن االقتصاد يف مثل هذا‪.‬‬
‫إن لرش العمل أ َكالنًا والتهابًا وطفحً ا كالقروح‪ ،‬فهو ح ٌّر ورصيح؛ ألنه يعلن‬
‫نفسه دا ًء كما تعلن القروح‪ ،‬يف حني أن الفكرة الدنيئة تختفي كنوامي الفطر‪،‬‬
‫وتظل منترشة حتى تودي بالجسم كله‪ ،‬ومع هذا فإني أ ُ ُّ‬
‫رس يف أذن من تم َّلكه‬
‫الوسواس الخناس‪« :‬إن من الخري أن تدع الوسواس يتعاظم فيك؛ ألن أمامك أنت‬
‫ً‬
‫سبيل يوصلك إىل االعتالء‪».‬‬ ‫ً‬
‫أيضا‬

‫‪113‬‬
‫مما يؤسف له أن يكون جهل بعض اليشء خريًا من إدراك كله‪ ،‬غري أن من‬
‫ُّ‬
‫يشف حتى تبدو بواطنه‪ ،‬ولكن ذلك ال يربر طموحنا إىل استكناه‬ ‫الناس من‬
‫مقاصده‪ ،‬ومن الصعب أن نعيش مع الناس ما دمنا نستصعب السكوت‪.‬‬
‫إن ظلمنا ال ينزل بمن تنفر منه أذواقنا‪ ،‬بل يسقط عىل مَ ن ال يعنينا أمره‪.‬‬
‫وبالرغم من هذا‪ ،‬إذا كان لك صديق يتألم فكن ملجأ آلالمه‪ ،‬ولكن ال تبسط له‬
‫فراشا وثريًا بل ً‬
‫فراشا خشنًا كالذي يتوسده املحاربون‪ ،‬وإال فما أنت مجديه نفعً ا‪.‬‬ ‫ً‬
‫وإذا أساء إليك صديق فقل له‪ :‬إنني أغتفر لك جنايتك عيلَّ‪ ،‬ولكن هل يسعني‬
‫أن أغفر لك ما جنيته عىل نفسك بما فعلت؟‬
‫هكذا يتكلم عظيم الحب؛ ألنه يتعاىل حتى عن املغفرة واإلشفاق‪.‬‬
‫علينا أن نكبح جماح قلوبنا؛ كيال تجر عقولنا معها إىل الضالل‪.‬‬
‫أين تجىل الجنون يف األرض بأشد مما تجىل بني املشفقني؟ بل أي رضر لحق‬
‫بالناس أشد من الرضر الناشئ عن جنون الرحماء؟‬
‫وي ٌل لكل محب ليس يف محبته ربوة ال يبلغها إشفاق الرحماء‪.‬‬
‫قال يل الشيطان يومً ا‪ :‬إن للرب جحيمً ا هو جحيم محبته للناس‪.‬‬
‫وقد سمعت هذا الشيطان يقول أخريًا‪ :‬لقد مات اإلله وما أماته غري رحمته‪.‬‬
‫احرتسوا من الرحمة؛ ألنها ال تلبث حتى تعقد فوق اإلنسان غمامً ا متلبدًا‪ ،‬وما‬
‫أنا بجاهل ما تنذر به األيام‪.‬‬
‫احفظوا هذه الكلمة ً‬
‫أيضا‪ :‬إن املحبة العظمى تتعامى عن رحمتها؛ ألن لها‬
‫هدفها األسمى وهو خلق من تحب‪.‬‬
‫إنني أقف نفيس عىل حبي‪ ،‬وكذلك يفعل أمثايل‪ :‬هذا ما يقوله كل مبدع‪،‬‬
‫واملبدعون قساة القلوب‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪114‬‬
‫الكهنة‬

‫وتمثَّل زارا مرور رهط من الكهنة أمامه‪ ،‬فقال ألتباعه‪ :‬هؤالء هم الكهنة‪،‬‬
‫فعليكم — وإن كانوا أعدائي — أن تمروا أمامهم صامتني‪ ،‬وسيوفكم ساكنة يف‬
‫ً‬
‫أبطال ومن تحمَّ لوا شديد العذاب فهم لذلك يريدون أن يعذبوا‬ ‫أغمادها فإن بينهم‬
‫اآلخرين‪.‬‬
‫إنهم ألعداء خطرون‪ ،‬وما من حقد يوازي ما يف اتضاعهم من ضغينة‪ ،‬وقد‬
‫يتعرض من يهاجم إىل تلطيخ نفسه‪ ،‬ولكن بيني وبينهم صلة الدم وأنا أريد أن‬
‫ً‬
‫مرشفا حتى يف دمائهم‪.‬‬ ‫يبقى دمي‬
‫وعاد زارا يتمثل أنهم مروا وانرصفوا‪ ،‬فشعر بألم شديد قاومه لحظة حتى‬
‫سكن روعه‪ ،‬فقال‪ :‬إنني أشفق عىل هؤالء الكهنة‪ ،‬وأنا ال أزال أنفر منهم‪ ،‬ولكنني‬
‫تعودت اإلشفاق مرغمً ا نفوري منذ صحبت بني اإلنسان‪ ،‬ومع ذلك فأنا أتألم‬
‫مع الكهنة؛ ألنهم يف نظري سجناء يحملون وسم املنبوذين يف العالم‪ ،‬وما كبَّلهم‬
‫مخلصا لهم‪ ،‬وما أصفادهم إال الوصايا الكاذبة والكلمات‬ ‫ً‬ ‫باألصفاد إال من دعوه‬
‫الوهمية‪ ،‬فليت لهؤالء مَ ن يُخ ِّلصهم من مخ ِّلصهم‪.‬‬
‫لقد الحت لهؤالء الناس جزيرة يف البحر عىل حني ثارت عليهم زوبعة؛ فنزلوا‬
‫إليها فإذا هم عىل ظهر تنني نائم عىل العباب‪.‬‬
‫وهل من تنني أشد خط ًرا عىل أبناء الحياة من تنني الوصايا والكلمات الوهمية‪،‬‬
‫ً‬
‫مفرتسا‬ ‫طويل حتى حان وقت انتباه التنني؟ وها هو يهب‬ ‫ً‬ ‫وقد كمن فيها املقدور‬
‫جميع من بنوا مساكنهم عىل ظهره‪.‬‬
‫انظروا إىل املساكن التي بناها هؤالء الكهنة‪ ،‬وقد أسموها كنائس وما هي إال‬

‫‪115‬‬
‫كهوف تنبعث روائح التعفن منها‪ ،‬وهل للروح أن ترتفع إىل مستواها تحت ألالء‬
‫هذه األنوار الكاذبة ويف هذا الجو الكثيف‪ ،‬حيث ال يسود إال عقيدة تَ ِصم الناس‬
‫بالخطيئة وتأمرهم بصعود درجات الهيكل ً‬
‫زحفا عىل الركب‪.‬‬
‫إنني ألفضل أن أنظر إىل اللحظات الفاحشة من أن أرى هذه العيون أطبقت‬
‫أجفانها معلنة خشوعها واستغراقها‪.‬‬
‫من ذا الذي اخرتع هذه الكهوف وهذه الدرجات يرقاها النادمون زاحفني‪ ،‬أهي‬
‫من إيجاد من استحيوا من صفاء السماء فلجئوا إىل االستتار؟‬
‫لن أعود بقلبي أللج مساكن هذا اإلله إال إذا انثملت قبابها‪ ،‬واخرتقها نور السماء‬
‫الصافية لتتكشف عن الشقائق الحمراء النابتة عىل جدرانها املتهدمة‪.‬‬
‫لقد أراد هؤالء الكهنة أن يعيشوا كأشالء أموات؛ فرسبلوا جثثهم بالسواد فإذا‬
‫هم ألقوا مواعظهم انترشت منها رائحة اللحود‪.‬‬
‫إن من يجاور هؤالء الناس فكأنما هو ساكن عىل ضفة األنهار السوداء حيث ال‬
‫يسمع إال نقيق الضفادع الحزين‪.‬‬
‫ليسمعني هؤالء الناس نشيدًا غري هذا النشيد ألم ِّرن نفيس عىل االعتقاد‬
‫أن أتْباع هذا املخلص قد ظفروا بالخالص‪.‬‬
‫بمخ ِّلصهم؛ إذ ال يلوح يل َّ‬
‫لكم أتمنى أن أراهم عراة‪ ،‬وهل لغري الجمال أن يدعو الناس إىل التوبة‪ ،‬ولكنهم‬
‫عبارة عن فجائع مسترتة ال يسعها أن تجتذب إىل اإليمان أحدًا‪.‬‬
‫والحق أن مخليص هؤالء الكهنة نفسهم لم ينحدروا من سماء الحرية‪ ،‬وما‬
‫وطئوا مسالك املعرفة قط‪ ،‬فما كانت حكمتهم إال نسيجً ا مألته الخروق َّ‬
‫رقعوه بما‬
‫أوجد جنونهم من آلهة‪ ،‬لقد أغرقتهم حكمتهم يف بحرية اإلشفاق‪ ،‬فهم كلما زفروا‬
‫فيها أرسلوا بجثة عظمى تطفو عىل سطحها‪.‬‬
‫لقد زعق هؤالء الرعاة بقطعانهم فمضت متدافعة يف فجوة واحدة‪ ،‬وقد عال‬

‫‪116‬‬
‫رصاخها كأن التوصل إىل مخارج املستقبل ممتنع من غري هذه الفجوة الضيقة‪.‬‬
‫أما والحق ما هؤالء الرعاة إال فريق من هذه السائمة‪ ،‬وقد ضاقت عقولهم ورحبت‬
‫نفوسهم ورسعان ما تصغر العقول إذا كربت النفوس‪.‬‬
‫لقد تركوا عىل كل معرب اجتازته أرجلُهم آثار الدماء؛ إذ كانوا يستلهمون‬
‫جنونهم ليعلموا الناس أن الدماء تقوم شاهدة للحق‪ ،‬وقد جهلوا أن أفسد شهادة‬
‫تقوم للحق إنما هي شهادة الدم؛ ألن الدم يقطر سمًّ ا عىل أنقى التعاليم فيحولها‬
‫إىل جنون وإىل أحقاد‪.‬‬
‫دليل من اقتحام أحد الناس للهب يف سبيل تعاليمه‪ ،‬وهل ملثل‬‫أفتقيمون للحق ً‬
‫رأس بارد‬ ‫هذا التعليم ما للعقيدة التي تتولد متقدة من لهبها نفسه؟ إذا ما تالقى ٌ‬
‫بقلب مضطرم نشأت من التقائهما تلك العاصفة التي يدعوها الناس مخ ِّل ً‬
‫صا‪،‬‬
‫ول َك ْم وجد عىل األرض من رجل أعرق منشأ وأرفع مقامً ا ممن يدعوهم الشعب‬
‫مخلصني‪ ،‬وما كان هؤالء املخلصون إال عاصفات كاسحات تهب متوالية عىل‬
‫األرض‪.‬‬
‫إذا ما كنتم تنشدون سبل الحرية‪ ،‬أيها اإلخوة‪ ،‬فعليكم أن تنقذوا أنفسكم حتى‬
‫ممن يفوقون هؤالء املخلصني عظمة ومجدًا‪ ،‬فإن اإلنسان املتفوق لم يظهر عىل‬
‫رجل عن كثب وهما عاريان فظهرا‬ ‫األرض بعد‪ .‬لقد حدَّقت بأعظم رجل وبأحقر ٍ‬
‫ً‬
‫توغل يف املعائب البرشية من اآلخرين‪.‬‬ ‫لعياني متشابهني‪ ،‬بل رأيت أعظمهما أشد‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪117‬‬
‫الفضالء‬

‫ال ينبه الشعور الغافل إال اإلرعاء واإلبراق‪ ،‬وما تكلم الجمال إال بنربات هامسة‬
‫ً‬
‫انتباها‪.‬‬ ‫ال تنفذ إال إىل أشد األرواح‬
‫أسمعتني عصمتي اليوم ضحكة تعالت فيها قهقهة الجمال السامية‪ ،‬فجمايل‬
‫يسخر بكم أيها الفضالء؛ إذ سمعته يقول‪ :‬إنهم يطلبون لفضائلهم ثمنًا‪.‬‬
‫إنكم تتقاضون ثمن فضيلتكم وتطالبون بالجزاء‪ ،‬أيها الفضالء‪ ،‬طامحني إىل‬
‫بدل من أماكن يف األرض‪ ،‬وإىل الظفر باألبدية ً‬
‫بدل من‬ ‫امتالك أماكن يف السماء‪ً ،‬‬
‫الدهر الزائل‪.‬‬
‫إنكم لتحقدون عيلَّ؛ ألنني أعلم الناس أن ليس هنالك ال حسيب وال مثيب‪،‬‬
‫والحق أنني أمتنع عن القول بالثواب‪ ،‬بل أذهب إىل أبعد من هذا فأقول أن ليس‬
‫للفضيلة ما تجزي به نفسها جميل الجزاء‪.‬‬
‫دسا يف غاية كل أمر‪ ،‬بل حُ رشَا‬
‫إن ما يؤملني هو أن العقاب والثواب قد د َُّسا ًّ‬
‫حرشًا يف أعماق نفوسكم‪ ،‬أيها الفضالء‪ ،‬ولكن لكلمتي أن تَلِج هذه النفوس‬
‫كقرن الوعل وكالسكة تشق األرض لتحرثها‪ .‬فلتتكشف نفوسكم عن‬ ‫ِ‬ ‫ذاهبة فيها‬
‫خفاياها أمام النور؛ ألن الحقيقة لن تنفصل عن الضالل فيكم حتى تنطرحوا‬
‫عراة تحت شعاع الشمس‪ .‬ذلك ألن حقيقة ذاتكم إنما هي أطهر من أن تسمح‬
‫بتدنسكم بكلمات االنتقام والعقاب واملكافأة واملقابلة باملثل‪.‬‬
‫إنكم تحبون فضيلتكم كما تحب األم طفلها‪ ،‬وهل سمعتم أن أمًّ ا طلبت مكافأة‬
‫عىل عطف األمومة فيها؟‬
‫هل فضيلتكم إال ذاتكم نفسها وهي أعز ما لكم‪ ،‬وما أمنيتكم إال أمنية الحلقة‬

‫‪118‬‬
‫التي ال تلتوي وتستدير إال ليصبح آخرها ً‬
‫أول لها‪.‬‬
‫إن كل عمل ينشأ عن فضيلتكم إنما هو بمثابة نور كوكب يعروه االنطفاء‪ ،‬فما‬
‫يزال نوره يخرتق مجراه يف األفالك‪ ،‬وليس من حد ينتهي سريه إليه‪ ،‬وهكذا لن‬
‫تزال أشعة فضيلتكم سائرة يف سبيلها حتى بعد انتهاء عملها وتواريه يف عالم‬
‫النسيان؛ ألن إشعاع الفضيلة مستمر ال يعروه زوال‪.‬‬
‫لتكن فضيلتكم تعبريًا عن ذاتكم وما تلك غريبة عن هذه فال تحسبوا أنها ِج ْل ٌد‬
‫ورداء‪.‬‬
‫هذه هي حقيقة روحكم الكامنة أيها العقالء‪ ،‬ولكن من الناس من يخيل له‬
‫أن الفضيلة عبارة عن تشنج تحت السياط الجالدة‪ ،‬ولطاملا سمعتم صياح هؤالء‬
‫الواهمني‪.‬‬
‫ومن الناس من يرى الفضيلة يف الكسل والرذيلة‪ ،‬وما ينتبه عدلهم إال عند ما‬
‫يتثاءب حقدهم وحسدهم‪ ،‬عندئذ يفركون أجفانهم وقد أثقلها النعاس‪.‬‬
‫من الناس من تشدهم شياطينهم إىل أسفل فكلما تدهوروا عىل الدركات زادت‬
‫أحداقهم توهجً ا وتزايد شوقهم إىل ربهم‪ .‬إن صوت هؤالء املتدهورين يبلغ آذانكم‪،‬‬
‫أيها الفضالء‪ ،‬وهم يصيحون‪ :‬إن كل ما هو خارج عن كياني إنما هو الله وإنما‬
‫هو الفضيلة‪.‬‬
‫وهنالك آخرون يتقدمون مثقلني مقرقعني كأنهم عجالت تحمل صخو ًرا إىل‬
‫الوادي‪ ،‬وهؤالء الناس ال ينون يتكلمون عن الفضيلة‪ ،‬وما الفضيلة يف عرفهم إال‬
‫عبارة عن كابح عجالتهم‪.‬‬
‫وهنالك قوم أشبه بالساعات يربط زنربكها فتسمعك تكتكتها‪ ،‬وهم يريدون أن‬
‫تُدعى حركتهم اآللية فضيلة‪ .‬إنني ألهو بمشاهدة مثل هذه الساعات؛ ألنني ما‬
‫صادفتها مرة إال ربطت زنربكها بتهكمي وأكرهتها عىل تحريك رقاصها‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫وهنالك املغرتون بذرة من العدل ترتفع فيهم عىل جبل من الدعوى‪ ،‬فرتاهم‬
‫يجدفون عىل كل يشء إىل أن يغرقوا العالم بظلمهم‪ ،‬وما تخرج كلمة الفضيلة‬
‫من أفواه هؤالء الناس إال وتحسب أنهم يتجشئونها‪ ،‬وإذا قال أحدهم‪ :‬لقد عدلت‪.‬‬
‫فكأنه يقول‪ :‬انتقمت‪.‬‬
‫هؤالء من يريدون أن يفقئوا أعني أعدائهم بفضيلتهم‪ ،‬وما يطلبون من االعتالء‬
‫إال إسقاط سائر الناس‪.‬‬
‫وهنالك من يدب إليهم الفساد كأنهم ماء آسن يف املستنقعات‪ ،‬فهؤالء الناس‬
‫يعلنون أنهم ال ينهشون أحدًا ويتحاشون االلتقاء بالناهشني‪ ،‬فإذا عرض عليهم‬
‫أي رأيٍّ أخذوا به تفاديًا لكل أخذ ورد‪.‬‬
‫وهنالك عشاق الحركات املعتقدون بأن الفضيلة نوع من اإليمان‪ ،‬فرتاهم يف كل‬
‫حني جاثني عىل ركبهم وقد قبضت إحدى راحتيهما عىل األخرى تمجيدًا للفضيلة‪،‬‬
‫وما يدرك قلبهم منها شيئًا‪.‬‬
‫وهنالك من يرون الفضيلة يف القول بلزوم الفضيلة‪ ،‬وهم ال يعتقدون إال بلزوم‬
‫ردع الرش بالقوة‪.‬‬
‫وبعض من امتنع عليهم إدراك ما يف اإلنسان من صفات عليا ال يذكرون‬
‫الفضيلة إال عندما ما يحدقون بما فيه من دنايا‪ ،‬وهكذا ال تنشأ فضيلة هؤالء‬
‫القوم إال من عيوب عيونهم‪.‬‬
‫من الناس مَ ن يطلب املعرفة وتقويم ما التوى فيه فيدعو هذه النزعة فضيلة‪،‬‬
‫رأسا عىل عقب فيدعو هذه الرغبة فضيلة ً‬
‫أيضا‪،‬‬ ‫ومنهم مَ ن يطلب قلب كيانه ً‬
‫وهكذا ترى الجميع يعتقدون بوجود الفضيلة يف ناحية من نواحي كيانهم‪ ،‬وتراهم‬
‫يتجهون إىل معرفة ما فيهم من خري ورش‪ .‬غري أن زارا قد جاء إىل جميع هؤالء‬
‫املخادعني وإىل جميع هؤالء املجانني؛ ليقول لهم إنهم ال يعرفون عن الفضيلة‬
‫شيئًا وأن ليس يف وسعهم أن يعرفوها‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫ما أتى زارا إال ليشعركم بأنكم تعبتم من تكرار األقوال القديمة التي علمكم‬
‫إياها املخادعون واملجانني‪ ،‬فينفركم من كلمات املكافأة واملقابلة باملثل والعقاب‬
‫واالنتقام يف العدل؛ لتقلعوا عن القول بصالح األعمال عند تجردها عن الغايات‪.‬‬
‫لتكن ذاتكم متجلية يف عملكم كما تتجىل األم يف طفلها‪ ،‬وليكن هذا التعبري ما‬
‫تع ِّرفون الفضيلة به‪.‬‬
‫والحق أنني انتزعت منكم كثريًا من أقوالكم وسلبتكم أعز ما تتلهون بمضغه‬
‫عن الفضيلة؛ لذلك أراكم تزو ُّرون كاألطفال‪ ،‬وقد كنتم مثلهم تتسلون بألعابكم‬
‫عىل الشاطئ فطغت موجة انتزعتها من بني أيديكم وحملتها إىل العباب‪ ،‬فها أنتم‬
‫تعولون اآلن كهؤالء األطفال‪ ،‬غري أن األمواج ستكر راجعة حاملة إليهم ألعابًا‬
‫أيضا أيها الصحاب ستسلون‬ ‫جديدة ناثرة بني أيديهم األصداف املخططة‪ ،‬وأنتم ً‬
‫مثلهم حني تأتيكم التعزية ناثرة بني أيديكم األصداف املخططة‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪121‬‬
‫الوغد‬

‫ما الحياة إال ينبوع مرسة‪ ،‬ولكن أيان رشب الوغد فهنالك جدول مسموم أحب‬
‫كل ما هو نقي‪ ،‬ولكنني ال أحتمل رؤية األشداق تتثاءب معلنة ظمأ األرجاس‪ ،‬وقد‬
‫جاءوا يسربون أعماق البرئ بأنظارهم فانعكست يف قرارتها ابتسامتهم الشنعاء‬
‫توجه سخريتها إيل َّ‪.‬‬
‫لقد دنسوا املياه املقدسة بأرجاسهم‪ ،‬وما تورعوا فدعوا أحالمهم القذرة رسو ًرا‬
‫فدسوا سمومهم حتى يف البيان‪.‬‬
‫إن اللهب يتعاىل مشمئ ًزا عندما يعرضون قلوبهم املائعة عليه‪ ،‬والروح نفسها‬
‫تغيل وتتصاعد بخا ًرا عندما يقرتب األوغاد من النار‪ ،‬واألثمار نفسها يفسد طعمها‬
‫وترتاخى عندما يلمسونها بأيديهم‪ ،‬وإذا ما حدجوا بأنظارهم األشجار املثمرة‬
‫فإنها لتجف عىل أعراقها‪.‬‬
‫ل َك ْم من مُعرض عن الحياة لم ينفره منها سوي الوغد الزنيم‪ ،‬فعافها إذ لم يشأ‬
‫أن يقاسم هذا الوغد ما عليها من ماء ولهب وأثمار‪.‬‬
‫ً‬
‫عائشا بني الوحوش؛ كيال‬ ‫ً‬
‫متحمل السعار‬ ‫ل َك ْم من شارد لجأ إىل الصحراء‬
‫يجلس إىل برئ يدور بها حداة العِ يس بما عليهم من أقذار‪.‬‬
‫مكتسح أشبه بالربد املتساقط من السحاب‪ ،‬وال أمنية له‬
‫ٍ‬ ‫ول َكم جاء األرض من‬
‫سوى رضب قدمه يف أشداق األوغاد ليسد حناجرهم‪.‬‬
‫ما صعب عيل َّ االعتقاد باحتياج الحياة إىل العداء والقتل واالستشهاد كما صعب‬
‫عيل َّ التسليم برضورة وجود الوغد الزنيم فيها‪.‬‬
‫أمن رضورة الحياة هذه الينابيع املسممة والنريان املشبوبة تفوح بالروائح‬

‫‪122‬‬
‫الكريهة‪ ،‬وهذه األحالم الرجسة وهذه الديدان ترتعي يف خبز الحياة؟‬
‫ليس العداء ما قرض حياتي بل الكراهة واالشمئزاز‪ ،‬ول َكم استثقلت الفكر‬
‫نفسه عندما رأيت شيئًا من الفكر يف رأس الوغد الزنيم‪.‬‬
‫لقد وليت ظهري للحاكمني عندما أدركت معني الحكم يف هذه األزمان‪ ،‬وتأكدت‬
‫أنه متاجرة بالقوة ومساومة األوغاد عليها‪.‬‬
‫استوىل اليأس عيل َّ فاجتزت مراحل املايض واملستقبل وأنا أس ُّد أنفي؛ إذ انترشت‬
‫عيل َّ منهما روائح البيان السخيف‪.‬‬
‫طويل كالكسيح أصابه الصمم والعمى والخرس؛ كيال أعايش أوغاد‬‫ً‬ ‫لقد عشت‬
‫السلطة وزعانف األقالم واملرسات‪.‬‬
‫ارتفع فكري درجة فدرجة وهو يعاني من حذره ما يعاني وال عزاء له إال‬
‫بالغبطة‪ ،‬وهكذا مرت حياة األعمى وهو يتوكأ عىل عصاه‪.‬‬
‫ما حدث يل يا ترى؟ وما الذي أنقذني من اشمئزازي وأعاد النور إىل عيني؟‬
‫وكيف تمكنت من ارتقاء املرتفعات حيث الينبوع الذي ال يحيط به األوغاد؟‬
‫جناحي وأوجدت يل القوة لالهتداء إىل مفجر‬
‫َّ‬ ‫أهي الكراهة نفسها استنبتت‬
‫الينابيع؟ والحق أنني ارتقيت الذروة‪ ،‬ولو لم أبلغها ملا وجدت ينبوع الغبطة‬
‫والرسور‪.‬‬
‫لقد وجدته‪ ،‬أيها اإلخوة‪ ،‬فرأيته يتدفق عىل الذروة غبطة وحبو ًرا‪ ،‬فاهتديت إىل‬
‫املكان الذي يُتاح فيه لإلنسان أن يروي ظمأه دون أن يعكر عليه األوغاد األدنياء‪.‬‬
‫إنك لتسيل بشدة‪ ،‬أيها الينبوع املتفجر بالغبطة فتفرغ الكأس التي تملؤها‬
‫ً‬
‫دهاقا‪.‬‬
‫عيل َّ أن أتمرن عىل االقرتاب منك بتؤدة‪ ،‬أيها الينبوع‪ ،‬فإن قلبي يندفع بعنف إىل‬
‫مسيلك‪ .‬لقد استوىل اليأس مع الحبور عىل هذا القلب الذي تمر عليه بح ِّرها أيا ُم‬

‫‪123‬‬
‫صيفه‪ ،‬فهو يتشوَّق إىل مياهك تنزل عليه بردًا وسالمً ا‪.‬‬
‫لقد انقضت أحزان ترددي يف الربيع وأذاب الصيف ثلوج نقمتي‪ ،‬فأصبحت‬
‫وكل جوارحي تتوق إىل االصطياف‪ .‬إن خري الراحة ما تُنتجع يف أعايل الجبال قرب‬
‫الينابيع الباردة‪ .‬إيل َّ أيها األصحاب لنحول هذه الراحة إىل غبطة وحبور فهذه‬
‫ذروتنا‪ ،‬وهنا موطننا حيث نعتصم بالصخور فال يبلغها األرجاس وال يصل إليها‬
‫عطشهم املدنس‪.‬‬
‫أرسلوا أنظاركم الطاهرة عىل ينبوع مرستي‪ ،‬أيها األصحاب‪ ،‬فإنها لن تعكره‬
‫بل تُبقي عىل نقائه فيبتسم لكم‪.‬‬
‫فلنبن لنا ًّ‬
‫عشا بني أغصانها فتجيء إلينا العقبان‬ ‫ِ‬ ‫هنا تتعاىل دوحة املستقبل‪،‬‬
‫حاملة لنا الغذاء‪ ،‬نحن املنفردين‪.‬‬
‫ذلك عزاء ال يستطيع األرجاس مقاسمتنا إياه‪ ،‬فهو النار تحرق أشداقهم‪ ،‬وما‬
‫نعد هنا مساكن للمدنسني‪ ،‬فإن سعادتنا تلفح أجسادهم وأرواحهم‪ ،‬ونحن نريد‬
‫أن نحيا فوقهم فنهبُّ كالرياح يف مسارح العقبان ومطالع الشموس‪.‬‬
‫إنني سأعصف كالريح الرصرص عىل األرجاس فأُخمد أنفاسهم بأنفايس‪ ،‬ذلك‬
‫هو املقدور‪ .‬فما زارا إال ريح عاصفة ترهق األعماق‪ ،‬وهو ينصح أعداءه وكل‬
‫متقيئ نافث بأال يبصقوا يف وجه الرياح‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪124‬‬
‫العناكب‬

‫هذا هو العنكب‪ ،‬فإذا كنت ترغب يف مشاهدته فاملس نسيجه ليتحرك ويرسع‬
‫بالظهور‪ ،‬أهال بك أيها العنكب‪ ،‬إنني أرى عىل ظهرك شعا ًرا أسود مثلث الزوايا‪،‬‬
‫وما يخفى عني ً‬
‫أيضا ما تضمر من النقمة يف رسيرتك‪.‬‬
‫إن لسعادتك بقعً ا فاحمة عىل الجلود‪ ،‬ولها سمها املضلل يف النفوس‪ ،‬أيها‬
‫العنكب‪ ،‬إنني أخاطبكم بالرموز‪ ،‬أيها العناكب املضللون املبرشون باملساواة‪ ،‬فما‬
‫أنتم يف نظري إال مستودع لعواطف االنتقام‪.‬‬
‫سأكشف عن مكانكم وأنا أواجهكم بقهقهة تسقط عليكم من الذري التي‬
‫أتسنَّمها‪ ،‬وهأنذا أمزق نسيجكم حتى إذا تملككم الغضب خرجتم من مغاور‬
‫أكاذيبكم‪ ،‬وتدفقت نقمتكم بكلمة العدل التي تتفوهون بها‪.‬‬
‫لقد وجب عيل َّ أن أنقذ اإلنسان من عاطفة االنتقام‪ ،‬وهذا الواجب هو املعرب املؤدي‬
‫إىل أرشف اآلمال ينتصب فوقه قوس قزح بعد هبوب العواصف الكاسحات‪ .‬ولكن‬
‫إرادة العناكب ال تتجه إىل هذه الغاية‪ ،‬فهم يتناجون فيما بينهم قائلني‪ :‬ال عدل إال‬
‫يف عواصف انتقامنا تهبُّ عىل العالم لتلقي العار عىل كل من ليس منا‪.‬‬
‫وهم يقولون ً‬
‫أيضا‪ :‬ما من فضيلة إال يف طلب املساواة‪ ،‬فلنرفع عقريتنا ضد كل‬
‫سلطان‪.‬‬
‫آي كهَّ ان املساواة! لقد تسلط عليكم جنون عجزكم‪ ،‬فهتفتم بهذه املساواة وقد‬
‫كمنت شهوة عتوكم واستبدادكم وراء ما تعلنون من الفضائل‪.‬‬
‫إنني أرى فيكم الغرور املتمرمر والحسد املقيم‪ ،‬ولعل الحسد الذي رعى قلوب‬

‫‪125‬‬
‫أسالفكم يتعاىل منكم اآلن لهبًا يندلع بجنون االنتقام‪ ،‬وما األبناء إال مظهر ما‬
‫أضمر اآلباء‪ ،‬ول َكم أفىش االبن َّ‬
‫رس أبيه!‬
‫إن لهؤالء الناس مظهر املتحمسني‪ ،‬وما تلهب حماسهم املحبة بل االنتقام‪ ،‬وإذا‬
‫ما بدت لك منهم رصانة ومرونة‪ ،‬فما مصدرهما فيهم العقل بل الحسد املهيب‬
‫بهم إىل التفكري‪ ،‬ودليل حسدهم هو أنهم يندفعون دائمً ا إىل أبعد من مراميهم؛‬
‫فيطرحهم العياء عىل وساد الثلوج‪.‬‬
‫وما تسمع لهؤالء الناس أنينًا يخلو من نربات االنتقام‪ ،‬فكل ما يصدر عنهم من‬
‫مديح ينطوي عىل أذية‪ ،‬فهم يرون منتهي السعادة يف إقامة أنفسهم قضاة عىل‬
‫العاملني‪ ،‬فأصغوا إىل نصيحتي أيها األصدقاء‪ :‬احذروا من تغ َّلبت عليهم غريزة‬
‫إنزال العقاب؛ ألنهم متحدرون من أفسد األنواع وعىل وجوههم سيماء الجالدين‪.‬‬
‫احذروا من ال ينقطعون عن ذكر عدالتهم‪ ،‬فإن نفوسهم خالية من كل صفة‬
‫حميدة‪ ،‬وإذا ما هم ادعوا الصالح واإلنصاف فال تنسوا أنهم لم يتخذوا بني‬
‫الفريسيني مقامهم إال ملا يشعرون به من عجز‪.‬‬
‫إنني أربأ بنفيس‪ ،‬أيها الصحاب‪ ،‬أن تنزلوها بني هؤالء الناس فال تميزون بيني‬
‫وبينهم‪ .‬فهنالك من يذيعون تعاليمي عن الحياة‪ ،‬وهم يف الوقت نفسه ينادون‬
‫باملساواة وينتمون إىل العناكب املسمومة‪ ،‬هم يدافعون عن الحياة ولكنهم‬
‫يعرضون عنها قابعني يف مغاورهم؛ ليتمكنوا من اجرتاح الرشور واإليقاع بمن‬
‫يقبضون عىل زمام السلطة يف هذا الزمان‪ ،‬وقد تعودوا إنذارهم بالسقوط‪ ،‬ولو‬
‫ً‬
‫شكل آخر؛ ألنهم عرفوا‬ ‫أن السلطة كانت يف يد العناكب لكانت تعاليمهم تتخذ‬
‫فيما مىض أكثر مما عرف غريهم؛ كيف يوقدون املحارق ويرهقون مخالفيهم‬
‫اضطهادًا وتعذيبًا‪.‬‬
‫ال أريد أن أُحسب من هؤالء املنادين باملساواة ألن العدالة علمتني‪« :‬أن ال مساواة‬
‫بني الناس‪ ».‬وأنه من الواجب أال يتساووا‪ ،‬وليس يل أن أقول بغري هذا املبدأ وإال‬

‫‪126‬‬
‫فإن محبتي لإلنسان تصبح ادعا ًء ومينًا …‬
‫عىل الناس أن يسريوا عىل آالف الطرق وآالف املعابر مسارعني نحو آتي الزمان‪،‬‬
‫فتنشأ بينهم الحروب وتتسع شقة التفاوت بينهم عىل ممر السنني‪ ،‬ذلك ما ألهمني‬
‫إياه حبي العميم‪.‬‬
‫يجب أن يقيم الناس يف أعماق رسائرهم م ً‬
‫ُثل عليا وأشباحً ا يجاهدون يف سبيلها‪،‬‬
‫فيسري الصالح والطالح والغني والفقري والرفيع والوضيع إىل التصادم بجميع ما‬
‫يف األرض من نظم؛ فتضطرم الحروب سالحً ا لسالح ورم ًزا لرمز‪ ،‬ألن عىل الحياة‬
‫أن تتفوق أبدًا عىل ذاتها‪.‬‬
‫إن الحياة تتجه إىل االرتقاء بدعائمها ودرجاتها‪ ،‬فهي تتطلع إىل اآلفاق البعيدة‬
‫ما وراء الجمال املقتعد عرش غبطته‪ ،‬لتبلغ مستقرها يف أعايل الذرى‪.‬‬
‫إن الحياة بحاجة إىل ارتقاء املرتفعات‪ ،‬فال غنى لها عن الدرجات والدركات؛‬
‫ليعارض املنخفضون املرتفعني‪ ،‬إنها لفي حاجة إىل التفوق عىل ذاتها وهي‬
‫متجهة إىل االرتقاء‪.‬‬
‫انظروا‪ ،‬أيها الصحاب‪ ،‬ها هي مغارة العناكب وقد الحت فيها خرائب هيكل‬
‫قديم ِ‬
‫فأرسلوا عليه نظرات املستلهمني‪.‬‬
‫والحق أن من جمع أفكاره قديمً ا لريفعها رصحً ا من الصخر ينطح السحاب‬
‫كان كأحكم الحكماء ً‬
‫عارفا بأرسار الحياة‪.‬‬
‫إن الجمال نفسه ليقوم عىل التفاوت واملجالدة يف القوة والتفوق‪ ،‬وهذا ما يعلمنا‬
‫ً‬
‫إرشاقا‪.‬‬ ‫إياه هذا الحكيم بأشد الرموز‬
‫ُ‬
‫الظلمة النور ويهاجم النو ُر‬ ‫هنا تتدافع القباب والنوافذ يف عراك جلل فتهاجم‬
‫الظلمة كأنهما إلهان ينازل أحدهما اآلخر‪.‬‬
‫أيضا يف مجال الجمال والثقة بالنفس‪ .‬لنكن نحن ً‬
‫أيضا‬ ‫اقتدوا بهذا الرمز‪ ،‬أنتم ً‬

‫‪127‬‬
‫أعداء فيما بيننا أيها الصحاب‪.‬‬
‫وليحشد كل منا قواه ليحارب اآلخرين‪.‬‬
‫وياله‪ ،‬لقد أُصبت أنا ً‬
‫أيضا بلسعة العنكبة عدوتي القديمة‪ ،‬فقد توصلت بثقتها‬
‫بنفسها وبجمالها اإللهي إىل نوال بناني بلسعتها‪ ،‬وها هي تقول اآلن‪ :‬ال بد من‬
‫إنزال العقاب‪ ،‬ال بد من أن يأخذ العدل مجراه‪ ،‬فإنك تغنيت بعظمة الرسائر‪ ،‬فلن‬
‫ً‬
‫جزافا‪.‬‬ ‫يذهب إنشادك‬
‫أجل لقد َ‬
‫انتق ْ‬
‫مت‪ ،‬وياله إنها ستوجه نفيس إىل عاطفة االنتقام‪.‬‬
‫تقدموا أيها الصحاب وقيدوني بهذا العمود كيال أتحول عن مبدئي‪ ،‬فخري يل أن‬
‫ً‬
‫تمثال جامدًا من أن أهبَّ كعاصفة منتقمة‪.‬‬ ‫أصبح‬
‫لن يكون زارا عاصفة وإعصا ًرا‪ ،‬فما هو إال َّ‬
‫رق ٌ‬
‫اص ولكنه ليس رقاص عناكب‪1‬‬
‫…‬

‫هوامش‪:‬‬
‫‪ 1‬ما تخبط زارا بمثل تخبطه يف هذا الفصل؛ فهو القائل بسحق الضعفاء‬
‫وتطهري األرض من الدخالء أو الذين يدعوهم بهذا االسم‪ ،‬ولكنه اآلن ال يريد أن‬
‫اصا ال نتيجة لحركته عندما‬‫رق ً‬‫يكون عاصفة وإعصا ًرا‪ ،‬فهو يكتفي بأن يكون َّ‬
‫يقتحم مبدأه نرصة الضعفاء واملطالبة بحق الشعوب‪ ،‬غري أنه ال يصل إىل آخر‬
‫فصله حتى ي ُ‬
‫َنق َض بعبارة واحدة كل ما أراد إثباته‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫مشاهير الحكماء‬

‫جميعكم أيها الحكماء املتمتعون بالشهرة قد خدمتم الشعب وما يؤمن به من‬
‫خرافات‪ ،‬ولو أنكم خدمتم الحقيقة ملا ك َّرمكم أحد‪ ،‬ومن أجل هذا احتمل الشعب‬
‫شكوككم يف بيانكم املنمق؛ ألنها كانت السبيل امللتوي الذي يقودكم إليه‪ ،‬وهكذا‬
‫يوجد السيد لنفسه عبيدًا يلهو بضاللهم الصاخب‪ ،‬وما اإلنسان الذي يكرهه‬
‫الشعب كره الكالب للذئب إال صاحب الفكر الحر عدو القيود الذي ال يتعبَّد‪ ،‬وال‬
‫يلذ له إال ارتياد الغاب‪.‬‬
‫إن ما حسبه الشعب يف كل زمان روحً ا للعدل إنما هو العدو الكامن املرتصد‬
‫ً‬
‫افرتاسا‪ ،‬وقد قيل يف كل زمان‪« :‬ال حقيقة‬ ‫لروح الحرية يستنبح عليها أشد كالبه‬
‫إال يف الشعب‪ ،‬فويل ملن يطلبها خارجً ا عنه‪».‬‬
‫لقد أردتم أن تؤيدوا الشعب يف ما يبدي من خشوع وإجالل‪ ،‬فدعوتم هذه املذلة‬
‫«إرادة الحق» فيا لكم من حكماء‪.‬‬
‫غري أنكم كنتم تقولون يف أنفسكم‪ ،‬لقد نشأنا من الشعب وصوت الشعب هو‬
‫صوت الله‪ ،‬فكنتم كالحمار الصبور املراوغ تعرضون وساطتكم عىل الشعب‪،‬‬
‫ول َكم من ذي سلطان أراد أن توافق عجلتُه َ‬
‫ذوق الشعب فقطر لج ِّرها حما ًرا‬
‫صغريًا‪ ،‬حكيمً ا مشهو ًرا …‬
‫فيا مشاهري الحكماء‪ ،‬إنني أطلب منكم أن تخلعوا عنكم ما تتلبسون به من‬
‫جلود األسود‪ ،‬وجلود الوحوش الكارسة املخططة وفراء املستكشفني للمجاهل‬
‫والفاتحني؛ إذ ال يسعني أن أُومن بالحقائق التي تنادون بها ما لم تقلعوا عن‬
‫بذل التبجيل والتعظيم‪ ،‬فما رجل الحق إال الضارب يف القفار وال إله له؛ ألنه‬
‫حطم بني جنبيه التبجيل والتعظيم‪ ،‬وإذا هو تلفت ورمال الصحراء تحرق قدميه‬

‫‪129‬‬
‫إىل الواحات حيث يتدفق املاء الزالل‪ ،‬ويمتد وارف الظالل‪ ،‬وترتاح الحياة ملقية‬
‫عصا الرتحال‪ ،‬فال يقتاده الظمأ إىل االتجاه نحوها طلبًا لالغتباط بني املغتبطني؛‬
‫ألنه يعلم أن لكل واحة أصنامها‪ ،‬وما يريد األسد إال االنفراد محر ًرا من عبودية‬
‫األرباب ومن سعادة املستبدين‪ ،‬بعيدًا عن اآللهة واملتعبدين وعن الخوف و ُمنْزليه‬
‫يف القلوب‪ ،‬ذلك ما يصبو رجل الحق إليه‪ ،‬وما عاش رجال الحق إال يف القفار‬
‫يسودونها بانطالق تفكريهم يف مجالها الوسيع‪ ،‬وهل يف املدن إال مشاهري الحكماء‬
‫يتناولون خري الغذاء كذوات الرضع تُغذَّى لتُحلب‪ .‬إنهم يج ُّرون عجلة الشعب وقد‬
‫ُكدنوا بها كالحمري‪.‬‬
‫وما أنا بالناقم عليهم ولكن ليعلموا أنهم َخ َد ٌم مشدودون إىل عجلة‪ ،‬وما يرفع‬
‫من ذ ِّلهم توهج الذهب عىل العجلة التي يجرونها‪.‬‬
‫ولطاملا أخلص هؤالء الناس يف خدمتهم فاستحقوا الثناء؛ ألن الحكمة تقيض بأن‬
‫يفتش الخادم عن سيد يستفيد من خدماته‪.‬‬
‫لقد وجب أن يتسامي عقل سيدك وتعلو فضيلته؛ ألنك بهما تعلو أنت‪.‬‬
‫والحق أنكم قد علوتم بارتقاء عقل الشعب وفضيلته‪ ،‬أيها الحكماء الخادمون‬
‫للشعب كما اعتىل هو بكم‪ ،‬وما أُعلن هذا لتمجيدكم‪ ،‬فإنكم قد بقيتم أنتم شعبًا‬
‫حتى يف فضائلكم‪ ،‬وما تزالون شعبًا ال بصرية له وال يدرك للعقل معنى‪.‬‬
‫ً‬
‫تمزيقا‪ ،‬وما تزداد الحياة معرفة إال بما تتحمل‬ ‫إنما العقل حياة تمزق الحياة‬
‫من آالم‪ ،‬فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفني؟‬
‫ال يُسعَ د العقل إال إذا مُسح بالدموع وتُوج بالتضحية‪ ،‬فهل كنتم لهذه الحقيقة‬
‫عارفني؟‬
‫إن عماء الرضير وتلمسه لطريقه إنما هو شهادة لقوة الشمس‪ ،‬التي حدَّق بها‬
‫فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفني؟‬

‫‪130‬‬
‫عىل طالب املعرفة أن يتعلم البناء باستخدامه الجبال حجارة إلقامة رصحه‪ ،‬وما‬
‫يصعب عىل العقل أن ينقل الجبال‪ ،‬فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفني؟‬

‫إنكم ال تلمحون من العقل إال ما يقذف به من رشر‪ ،‬فال تعرفون أي ِسند ٍ‬


‫َان هو‬
‫هذا العقل‪ ،‬وال تعرفون ً‬
‫أيضا قساوة املطرقة التي تتهاوى عليه‪.‬‬
‫والحق أنكم تجهلون كرب العقل‪ ،‬ويصعب عليكم احتمال تواضعه لو أراد‬
‫تواضع العقل أن يعلن حقيقته‪.‬‬
‫إنكم ما تمكنتم يف أي زمان من إرسال عقلكم إىل مهاوي الثلوج‪ ،‬فما بكم‬
‫الحرارة الكافية القتحامها؛ ولذلك ال تدركون لذة من تنعشه لفحات هذه املهاوي‪،‬‬
‫غري أنني أراكم بالرغم من هذا تتقدمون عىل مداعبة التفكري‪ ،‬وقد جعلتم الحكمة‬
‫ملجأ ومستشفى للمتشاعرين …‬
‫لستم عقبانًا أيها الحكماء املشتهرون‪ ،‬فأنتم إذن ال تدركون ما يلد العقل من‬
‫لذة يف ارتياعه‪ ،‬فال يحق لغري املجنَّح أن يخرتق الهواء فوق الوهاد‪.‬‬
‫ما أنتم إال فاترون أيها الحكماء‪ ،‬ويف كل معرفة عميقة يهب تيا ٌر من الصقيع؛‬
‫ألن ينابيع العقل الخفية باردة كالثلج‪ ،‬وال تلذ بربدها غري األيدي امللتهبة بحرارة‬
‫جهادها‪.‬‬
‫ملفعني بقساوتكم جامدين عىل‬ ‫إنني أراكم أمامي أيها الحكماء املشتهرون َّ‬
‫غروركم‪ ،‬فما للريح أن تدفعكم وال لإلرادة أن تهيب بكم إىل اإلقدام‪.‬‬
‫ً‬
‫خفاقا يندفع وقد عصفت يف ثنياته‬ ‫أما رأيتم عىل مضطربات األمواج رشاعً ا‬
‫هوجا ُء الرياح‪ .‬إن حكمتي تجتاز العمر خافقة كهذا الرشاع‪ ،‬وقد مألتها عواصف‬
‫التفكري‪ ،‬تلك هي حكمتي الشاردة النفور‪ ،‬فهل لكم أن تجاروني يف اندفاعي أنتم‬
‫يا من تخدمون الشعب‪ ،‬أنتم مشاهري الحكماء‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪131‬‬
‫نشيد الليل‬

‫لقد أرخى الليل سدوله فتعاىل خرير املياه املتدفقة‪ ،‬ولنفيس ً‬


‫أيضا ينبوعها‬
‫املتفجر‪.‬‬
‫لقد أرخى الليل سدوله فتعالت األناشيد من أفواه جميع املغرمني‪ ،‬وما روحي‬
‫إال نشيد من هذه األناشيد‪ .‬إن يف داخيل قوة ثائرة تريد إطالق صوتها‪ ،‬وهي شوق‬
‫إىل الحب بيانه بيان املغرمني‪ .‬أنا نور وليتني كنت ظالمً ا‪ ،‬وما ُقيض عيل َّ بالعزلة‬
‫تلفعت باألنوار‪ ،‬ولو أنني كنت ظالمً ا‪ ،‬لكان يل أن أرسل بركتي‬ ‫واالنفراد إال ألنني َّ‬
‫إليكِ أيتها النجوم املتألقة كصغريات الحُ باحِ ب يف السماء فأتمتع بما تذ ِّرين عيل َّ‬
‫من شعاع‪ .‬غري أنني أحيا بأنواري فأترشَّب اللهب املندلع من ذاتي وقد حُ رمت لذة‬
‫اآلخذين‪ ،‬وقد خطر يل مرا ًرا أن يف الرسقة من اللذة ما ليس يف األخذ‪.‬‬
‫إن يدي ال تقف عن البذل‪ ،‬وذلك هو فقري فأنا أنظر أبدًا إىل العيون يملؤها‬
‫يقض مضجعي‪.‬‬ ‫االنتظار وإىل الليايل تلهبها األشواق‪ ،‬وذلك هو الحسد الذي ُّ‬

‫يا لشقاء الواهبني … يا لظلمة شميس ويا لشوقي إىل االشتياق ويا لشدة املجاعة‬
‫يف شبعي‪.‬‬
‫إنهم يأخذون ما أهبهم‪ ،‬ولكنني أبقى بعيدًا عن أرواحهم فإن بني الباذل واآلخذ‬
‫هوة عميقة‪ ،‬ولعل أقرب األغوار قع ًرا أصعبها ردمً ا‪.‬‬
‫إن نوعً ا من الجوع ينشأ يف أحشائي فيحفزني إىل إيالم من أرسل إليهم أنواري‪،‬‬
‫فأتوق إىل سلب من أغدق عليهم هباتي‪ ،‬وهكذا أتعطش إىل إيقاع األذية فأرد يدي‬
‫بعد أن أكون مددتها‪ ،‬وأتردد تردد َّ‬
‫الشلل يف تدفقه نحو مراميه‪.‬‬
‫إن مثل هذا االنتقام يراود عظمتي‪ ،‬ومثل هذا املكر ينشأ من عزلتي‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫لقد فقدت السعادة يف العطاء لوفرة ما أعطيت‪ ،‬وقد زهقت فضيلتي من نفسها‬
‫ومن جُ ودها‪ .‬إن من يستمر عىل بذل الهبات مُهدد بفقد الحياء‪ ،‬وال بد أن تتصلب‬
‫راحته ويتصلب قلبه‪.‬‬
‫مآقي تذوق الدموع عىل خجل املسرتحمني‪ ،‬وها إن يدي قست حتى‬
‫َّ‬ ‫لم تعد‬
‫امتنع عليها أن تشعر بارتعاش األيدي إذا امتألت‪.‬‬
‫عيني وأين رقة قلبي‪ ،‬فيا لوحدة جميع الواهبني ويا لصمت كل‬
‫َّ‬ ‫أين هي دموع‬
‫متلفع بالسناء‪.‬‬
‫ً‬
‫شموسا ال عداد لها تدور يف قفار األجواء مخاطبة بإشعاعها لبدات الظالم‪،‬‬ ‫إن‬
‫وأنا وحدي محروم من حديث هذه الشموس وبيانها‪.‬‬
‫وياله! أية عالقة يمكن أن تربط األنوار باألجرام املنرية من نفسها؟ فإن األنوار‬
‫تمر عليها وهي تحدجها بلفتات الجفاء وتميض ذاهبة يف سبيلها‪ ،‬وهكذا تسري‬
‫جميع الشموس يف أجوائها نافرة من كل جرم منري باردة ال تحس أخواتها‬
‫بحرارتها‪.‬‬
‫إن الشموس تندفع كالعاصفات يف أبراجها متبعة ما اختطته إرادتها الجبارة‪،‬‬
‫ويف ذلك كتمان حرارتها وبرودتها‪.‬‬
‫هل غريك أيتها األجرام امللفعة بظالم الليل من يخلق حرارة من اللمعان؟ أنت‬
‫وحدك ترضعني أفاويق القوة من أثداء النور‪.‬‬
‫وياله إن الصقيع يدور بي ويدي تحرتق من لفحات الجليد‪ ،‬فأنا مشتعل‬
‫بسعار ال يطفئ أواره غري عطشكم‪ ،‬لقد سادت الظلمة فلماذا قيض عيل َّ أن أكون‬
‫ً‬
‫متعطشا إىل الظالم؟‬ ‫نو ًرا منفردًا‬
‫لقد سادت الظلمة فتدفقت كالجداول أشواقي‪ ،‬وهي تريد أن تهتف بما تضمر‪.‬‬
‫لقد أرخى الليل سدوله‪ ،‬فتعاىل خرير املياه املتدفقة ولنفيس ً‬
‫أيضا ينبوعها‬

‫‪133‬‬
‫املتفجر‪.‬‬
‫لقد أرخى الليل سدوله فتعالت األناشيد من أفواه جميع املغرمني‪ ،‬وما روحي‬
‫إال نشيد من هذه األناشيد‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪134‬‬
‫نشيد الرقص‬

‫ومر زارا بالغاب يومً ا ومعه صحبه فاكتشف وهو يفتش عن ينبوع مرجً ا‬
‫طا بني األشجار واألدغال‪ ،‬وكان هنالك رهط من الصبايا يرقصن بعيدًا‬ ‫منبس ً‬
‫عن أعني الرقباء‪ ،‬وإذ ملحن القادم وعرفنه توقفن عن الرقص‪ ،‬ولكن زارا اقرتب‬
‫منهن وخاطبهن ً‬
‫قائل‪ :‬داومْ َن عىل رقصكن‪ ،‬أيتها اآلنسات الجميالت‪ ،‬فما القادم‬
‫بمزعج للفرحني وما هو بعدو للصبايا‪ .‬أنا من يدافع عن الله أمام الشيطان‪ ،‬وما‬
‫الشيطان إال الروح الثقيل‪ ،‬فهل يسعني أن أكون عدوًّا ملا فيكن من بهاء ورشاقة‬
‫وخفة روح؟‬
‫وهل يل أن أكون عدوًّا للرقص اإللهي ترسمه مثل هذه األقدام الضوامر‬
‫الرشيقات …؟‬
‫ال ريب يف أنني غابة اشتبكت فيها قاتمات األشجار‪ ،‬وساد الحلك عىل أرجائها‪،‬‬
‫ُّ‬
‫تحف‬ ‫ولكن من يقتحم ظلماتي بال خوف ليجدن تحت رسواتي الرهيبات ً‬
‫طرقا‬
‫بجانبيها الورود‪ ،‬وليجدن ً‬
‫أيضا اإلله الصغري الذي تشتاقه الصبايا منطرحً ا‬
‫بسكون قرب الينبوع وقد أغمض عينيه‪.‬‬
‫ً‬
‫طويل ليصطاد من‬ ‫لقد نام يف وقت الظهرية‪ ،‬هذا اإلله املرتاخي‪ ،‬ولعله سعى‬
‫الفراشات عددًا كبريًا‪.‬‬
‫ال يكدركن مني أيتها الراقصات الجميالت تأديبي لهذا اإلله الصغري‪ ،‬ولعله‬
‫يصيح ويبكي ولكنه إله يجلب املرسة حتى يف بكائه‪ ،‬فلسوف أقتاده إليكن‬
‫والدموع سائلة عىل خديه ليطلب إليكن أن ِّ‬
‫ترقصنه‪ ،‬وإذا ما رقص فسأرافقه أنا‬
‫بإنشادي فما تجيء نغماتي إال هزيجً ا أصفع به الروح الثقيل‪ ،‬روح الشيطان‬
‫املتعايل الذي يقول الناس إنه يسود العالم‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫وهذه هي األغنية التي رفع زارا صوته بها بينما كان «كوبيدون» إله الحب‬
‫يرقص مع الصبايا الفاتنات‪:‬‬
‫ُ‬
‫هويت إىل غور بعيد القرار‪،‬‬ ‫لقد حدَّقت يومً ا يف عينيكِ ‪ ،‬أيتها الحياة‪ ،‬فحسبتني‬
‫غري أنك سحبتني بشابك من ذهب وأطلقت قهقهة ساخرة عندما قلت إن غدرك ال‬
‫قرار له‪ ،‬وأجبتني‪ :‬هذا ما تقوله األسماك جميعها‪ ،‬فهي إذ تعجز عن سرب األغوار‬
‫تحسبها ال قرار لها‪ ،‬وهل أنا إال املتق ِّلبة النفور؟ وهل أنا إال امرأة‪ ،‬وامرأة ال فضيلة‬
‫لها‪ ،‬لقد تقوَّل الناس كثريًا عن صفاتي‪ ،‬ولكنهم أجمعوا عىل أنني غري املتناهية‪،‬‬
‫املليئة باألرسار‪.‬‬
‫أيها الناس‪ ،‬إنكم ترون فضائلكم يف َّ‪ ،‬فأنتم ال قبل لكم بإدراك يشء آخر غريها‬
‫أيها الفضالء …‬
‫هذا ما كانت تقهقه به يف سخريتها تلك الحياة‪ ،‬غري أنني ال أثق بها‪ ،‬وال أصدق‬
‫ضحكها عندما تهجو نفسها‪.‬‬
‫وناجيت يومً ا حكمتي النفورة فقالت يل غاضبة‪ :‬إنك تطلب الحياة وتشتاقها‬
‫وتحبها‪ ،‬وذلك ما يحفز بك إىل بذل الثناء عليها‪.‬‬
‫ولوال أنني تمالكت نفيس لكنت رددت بعنف عىل حكمتي‪ ،‬وأعلنت الحقيقة لها‬
‫وهي تغاضبني‪ ،‬وهل من جواب أشد وقعً ا عىل الحكمة من أن تهتك رسائرها‪.‬‬
‫ما أحب شيئًا من صميم الفؤاد إال الحياة‪ ،‬وال يبلغ حبي لها أشده إال حني‬
‫أكرهها‪ ،‬وإذا ما أنا اندفعت إىل الحكمة‪ ،‬وأغرقت يف االلتجاء إليها فما ذلك إال ألنها‬
‫تبالغ بتذكريي بالحياة‪ ،‬فإن للحكمة عيني الحياة ولها ابتسامتها‪ ،‬بل لها ً‬
‫أيضا‬
‫شابكها َّ‬
‫املذهب‪ ،‬فما حيلتي بهما إذا تشابهنا إىل هذا الحد؟‬
‫وعندما سألتني الحياة عن الحكمة أجبتها‪ :‬هي الحكمة يشتهيها اإلنسان بكل‬
‫قوته وال يشبع منها‪ ،‬فهو يحدِّق فيها ليتبني وجهها من وراء القناع ويمد أصابعه‬
‫ً‬
‫متسائل عن جمالها وما يدريه ما هو هذا الجمال‪ ،‬ومع هذا‬ ‫بني فرجات شباكها‬

‫‪136‬‬
‫فإن أقدم األسماك ال تنفك عن االنجذاب إىل طعمة شباكها فهي متقلبة شديدة‬
‫وترسح شعرها‪ ،‬ولعلها رشيرة ومخادعة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫املراس‪ ،‬ول َكم رأيتها تعض عىل شفتها‬
‫بل لعل لها صفات املرأة بأجمعها فهي ال تبلغ أبعد مداها يف اجتذاب القلوب إال‬
‫عندما تهجو ذاتها …‬
‫وبعد أن قلت هذا عن الحكمة للحياة‪ ،‬مرت عىل شفتيها ابتسامة رشيرة‪،‬‬
‫وغيَّضت من جفنيها قائلة‪ :‬عمَّ ن تتكلم … لعلك تتكلم عني أنا … وهل لإلنسان‬
‫أن يعلن مثل هذه األمور بوجه من تعنيه حتى ولو كان ًّ‬
‫محقا‪ ،‬فما قولك اآلن يف‬
‫حكمتك يا هذا …؟‬
‫وفتحت الحياة املحبوبة عينيها فحسبتني عدت إىل التدهور يف الهاوية البعيدة‬
‫القرار‪.‬‬
‫هذا ما تغنَّى به زارا وما انتهى الرقص وتوارت الصبايا عن أبصاره حتى تملكه‬
‫حزن عميق فقال‪ :‬لقد اختفت الشمس وترطب املرج وقد بدأ الغاب يرسل لفحاته‬
‫مجهول يدور حويل ويحدجني ً‬
‫قائل‪ :‬ألم تزل عىل قيد الحياة‬ ‫ً‬ ‫الياردات‪ .‬إن شيئًا‬
‫حي بعد؟ وما هي فائدة هذه الحياة؟ ما هو مصدرك وإىل أين‬
‫يا زارا؟ وملاذا أنت ٌّ‬
‫مصريك أفليس من الجنون أن تبقى يف الحياة؟‬
‫وياله أيها الصحاب‪ ،‬إن ما يتناجى يف َّ إنما هو َ‬
‫الغ َسق فاغتفروا يل شجوني لقد‬
‫جاء املساء فاغتفروا يل قدوم املساء …‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪137‬‬
‫نشيد القبور‬

‫هنالك جزيرة القبور‪ ،‬جزيرة الصمت والسكون‪ ،‬وهنالك ً‬


‫أيضا أجداث شبابي‪،‬‬
‫ً‬
‫إكليل من األزاهر الخالدات‪.‬‬ ‫َّ‬
‫فألحملن إليها‬
‫بهذا ناجيت نفيس‪ ،‬فقررت أن أقتحم الغمر‪.‬‬
‫يا لصور الشباب وأشباح أحالمه‪ ،‬يا للحظات الغرام! يا ألويقات الحياة اإللهية!‬
‫تراميت رسيعً ا إىل الزوال‪ ،‬فأصبحت أستعرض ذكرياتك كما أستعرض خيال‬ ‫ِ‬ ‫لقد‬
‫األحبة الراقدين يف القبور‪.‬‬
‫إن نفحات الطيب تهب منك يا أع َّز املضيَّعات فرتوِّح عن قلبي وتستقطر‬
‫مدامعي‪ ،‬إنها لنفحات تستنبض قلب العائم وحيدًا عىل العباب‪.‬‬
‫أنا املنفرد أراني أغنى الناس وأجدرهم بالغبطة؛ ألنك كنت يل يومً ا أيتها‬
‫الذكريات وملا أزل أنا لك‪ ،‬فقويل يل‪ :‬عال َم تساقطت ثمراتك الذهبية عن أغصانها؟‬
‫إنني لم أزل منبتًا لغرامك الذي أورثتنيه يا أيام الشباب‪ ،‬وبذكرك تنوِّر فضائيل‬
‫بعد وحشتها بعديد ألوانها الزاهية‪.‬‬
‫وا أسفاه‪ ،‬ما كان أوالك َّ‬
‫بأل تفارقينني أيتها األيام الساحرات‪ ،‬فقد اقرتبت إيل َّ‬
‫وإىل شهواتي ال كأطيار يسودها الذعر بل كأطيار تستأنس بالواثق بنفسه‪.‬‬
‫أجل لقد ِ‬
‫كنت معدة مثيل للبقاء عىل العهد إىل األبد‪ ،‬يا أويقات الشباب‪ ،‬وليس يل‬
‫أن أدعوك خائنة وقد وصفتك باألويقات اإللهية‪ .‬لقد مررت ِساعً ا أيتها األويقات‬
‫الهاربات وما هربت مني وال أنا هربت منك‪ ،‬فما أنا مسئول وال أنت ً‬
‫أيضا عن‬
‫خيانتك وعن خيانتي‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫لقد أماتوك طلبًا لقتيل يا أطيار آمايل‪ ،‬وصوبت الرشور سهامها نحوك لتصل‬
‫ً‬
‫مقتل مني؛ ألنك كنت أعز يشء‬ ‫ً‬
‫مخضبة بالدماء إىل قلبي فأصابت هذه السهام‬
‫لدي‪ ،‬بل كنت كل ما أملك‪ ،‬لذلك ُقيض عليك بالذبول يف صباك والزوال قبل أوانك‪.‬‬
‫لقد ُ‬
‫صوِّبت السهام إليك وأنت أنعم من الحرير‪ ،‬وأضعف من ابتسامة تمحوها‬
‫نظرة قاسية‪.‬‬
‫فليسمع أعدائي ما أقول‪ :‬إن القتل أخف جرمً ا من جنايتكم عيلَّ‪ ،‬فقد سلبتموني‬
‫ما ال قبل يل باالستعاضة عنه بيشء‪ ،‬ذلك ما أقوله لكم أيها األعداء‪ ،‬أفما قتلتم‬
‫أحالم شبابي وحلتم دون إتياني بمعجزاتي؟ لقد سلبتم مني تفكريي‪ ،‬وهأنذا‬
‫قصتم مدى‬ ‫ً‬
‫حامل معه لعنتي لكم أيها األعداء؛ ألنكم َّ‬ ‫أحمل هذا اإلكليل لتذكاره‬
‫أبديتي فانقطعت كأنها صوت ينقطع يف الزمهرير تحت جنح الظالم فما تسنَّى‬
‫يل أن أنظر إىل هذه األبدية َّإل ملحً ا؛ ألنها توارت عني بطرفة عني‪.‬‬
‫وأتت ساعة ناجتني فيها طهارتي قائلة‪ :‬يجب أن تكون جميع الكائنات إلهية‪،‬‬
‫ِ‬
‫أرسلت إيل َّ األشباح املدنسة‪ ،‬يا أيام الشباب‪ ،‬فانقضت تلك السانحة وعادت‬ ‫ِ‬
‫وأنت‬
‫حكمة الشباب تقول يل‪« :‬يجب أن تكون جميع األيام مقدسة يف نظري‪ ».‬وما هذه‬
‫الكلمة إال كلمة الحكمة املرحة‪ ،‬وعندئذ أتيتم أيها األعداء فحولتم ليايل راحتي إىل‬
‫أرق وهموم‪ ،‬فأين توارت هذه الحكمة املرحة؟‬
‫لقد كنت فيما مىض أتوقع السعادة فأرسلتم عىل طريقي بومة مروعة مشئومة؛‬
‫أماني العِ ذَاب‪.‬‬
‫َّ‬ ‫فتبددت‬
‫نذرت يومً ا أن أرجع عن كل كراهة‪ ،‬فحولتم كل ما حويل إىل قروح‪ ،‬فأين مضت‬
‫مُخلصات نذوري الطاهرات؟‬
‫لقد مررت عىل سبيل السعادة كفيف البرص‪ ،‬فرميتم عىل طريق األعمى كومً ا‬
‫ً‬
‫كارها للطريق القديم الذي تلمسته‪ ،‬وعندما توصلت إىل‬ ‫من األقذار؛ فأصبحت‬
‫القيام بأصعب أعمايل‪ ،‬عندما تمكنت من االحتفال باالنتصارات التي تغلبت فيها‬

‫‪139‬‬
‫عىل ذاتي أهبتم بمن يحبونني إىل الهتاف قائلني بأنني أوقعت بهم أشد اآلالم‪.‬‬
‫والحق أنكم لم تنقطعوا عن ترشيد خري العامالت يف قفريي وتحويل جناها إىل‬
‫علقم مرير‪ ،‬ول َكم أرسلتم إىل إحساني أشد املتسولني إلحاحً ا‪ ،‬ودفعتم أهل القحة‬
‫ليطوفوا بإشفاقي‪ ،‬وهكذا نلتم من فضيلتي وهي ممنعة بإيمانها‪.‬‬
‫َ‬
‫أقدس ما عندي محرقة للتضحية تسارعون يف تقواكم إىل‬ ‫وكنت كلما قد ُ‬
‫َّمت‬
‫ً‬
‫مدنسة خري ما قدست‪.‬‬ ‫إحراق أدسم ذبائحكم؛ لتتصاعد أبخرة شحمها‬
‫وطمحت يومً ا إىل الرقص متعاليًا بفني إىل ما وراء السبع الطباق‪ ،‬فأفسدتم عيل َّ‬
‫أعز املنشدين لديَّ ‪ ،‬فرفع عقريته بأفظع األناشيد وقرع أسماعي بنغمات األبواق‬
‫الحزينة الباكية‪.‬‬
‫لقد كنت ً‬
‫قاتل أيها املنشد الربيء‪ ،‬إذا غدوت آلة يف يد الغدر‪ ،‬فقضت نغماتك‬
‫عىل خشوعي بينما كنت أتهيأ للقيام بأروع رقيص‪.‬‬
‫راقصا؛ لذلك عجزت‬ ‫ً‬ ‫ما أنا باملعرب عن أسمى املعاني بالرموز إال عندما أدور‬
‫أعضائي عن رسم أروع الرموز بحركاتها‪ ،‬فأُرتج عيل َّ وامتنع عيل َّ أن أبوح برس‬
‫آمايل‪ .‬لقد ماتت أحالم شبابي وفقدت معانيها املعزيات‪.‬‬
‫إنني ألعجب لتحميل هذه الصدمات‪ ،‬وأعجب لصربي عىل ما فتحت يف َّ من جراح‪،‬‬
‫فكيف أمكن لروحي أن تُبعث من مثل هذه القبور؟‬
‫ً‬
‫مقتل‪ ،‬وال قِ بَل ألحد بدفنه؛ ألنه يزحزح‬ ‫أجل إن يف َّ شيئًا ال تنال منه السهام‬
‫الصخور عنه فتتحطم‪ ،‬وما هذا اليشء إال إرادتي‪ ،‬واإلرادة تجتاز مراحل السنني‬
‫صامتة ال يعرتيها تحول وتغري‪ .‬إن إرادتي قديمة ال تني تدفع قدمي إىل السري‬
‫فهي القوة املتصلبة املتعالية عن الفناء‪.‬‬
‫ليس يف َّ من عضو ال يصاب إال قدمي السائرة إىل األمام تدفعها هذه اإلرادة‬
‫الثابتة الصامدة املتجلدة‪ ،‬التي تخرتق املدافن دون أن تنطرح تحت لحودها‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫إن فيكِ وحدكِ يا إرادتي يصمد ما ال تبدده أيام الشباب‪ ،‬فأنت ال تزالني حية‬
‫وفتية تملؤك اآلمال‪ ،‬تجلسني عىل ركام املدافن وقد طبع الزمان عليها قبالته‬
‫الصفراء‪ .‬إنك لن تزايل أيتها اإلرادة هدَّامة لجميع القبور‪ ،‬فسالم عليك يا إرادتي؛‬
‫بعث إال حيث تكون القبور‪.‬‬ ‫ألنه ال َ‬

‫•••‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪141‬‬
‫االنتصار على الذات‬

‫ليست إرادة الحق يف عرفكم‪ ،‬أيها الحكماء‪ ،‬إال تلك القوة التي تحفزكم وتضطرم‬
‫فيكم‪ ،‬تلك هي إرادتكم التي أسميها أنا «إرادة تصوُّر الوجود» فإنكم تطمحون إىل‬
‫جعل كل موجود خاضعً ا لتصوركم‪ ،‬وأنتم تحاذرون بحق أن يكون هذا الوجود‬
‫قد أحاط به التصور من قبل‪ ،‬فرتيدون أن تُخضعوا إلرادتكم كل كائن لتتحكموا‬
‫فيه بالصقل ليصبح مرآة تنعكس عليها صورة العقل‪.‬‬
‫هذا ما تطمحون إليه‪ ،‬يا أحكم الحكماء‪ ،‬وتلك هي إرادتكم تجاه القوة والخري‬
‫والرش وتقدير قِ يَم األشياء‪.‬‬
‫إنكم تريدون خلق عالم يمكن لكم أن تجثوا أمامه‪ ،‬تلك هي نهاية نشوتكم‬
‫وآخر أمنية لكم‪ ،‬ولكن البسطاء الذين يدعون شعبًا يشبهون نه ًرا تخوضه أبدًا‬
‫ماخرة تق ُّل الرشائع‪ ،‬وقد جلسن عليها بعظمة وأنزلن عىل وجوههن الحجاب‪.‬‬
‫لقد أرسلتم إرادتكم ورشعتكم عىل نهر الزمان‪ ،‬ولكن إرادة القوة مثلت أمامي‬
‫وكشفت يل حقيقة الخري والرش يف اعتقاد الشعوب‪.‬‬
‫وهل سواكم‪ ،‬أيها الحكماء‪ ،‬من أنزل بإرادته املتسلطة هذه الرشائع يف هذه‬
‫َّ‬
‫حليتموهن بالجواهر وأسبغتم عليهن أروع األسماء‪.‬‬ ‫املاخرة‪ ،‬وقد‬
‫لقد سار النهر يحملهن بانسيابه وسهم املاخرة يشق أمواجه ومن يبايل باملوجة‬
‫تقاوم عبثًا يف إرغائها إزبادها‪.‬‬
‫إن الخطر الذي يتهدد خريكم ورشكم ال يكمن يف النهر‪ ،‬أيها الحكماء‪ ،‬بل الخطر‬
‫كل الخطر يف إرادة القوة نفسها؛ ألنها اإلرادة الحية الدائمة املبدعة‪.‬‬
‫إن ما سأقوله عن الحياة سيوضح لكم اعتقادي يف الخري والرش عندما أتناول‬

‫‪142‬‬
‫ببياني ما تفعل العادات يف األحياء‪.‬‬
‫الحي عىل معابره وأشواطه؛ ألتع َّرف إىل عادته‪ ،‬وعندما‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫سايرت الكائن‬ ‫لقد‬
‫كانت الحياة صامتة نصبت أمامها مرآة بألف ضلع؛ ألستنطق عينيها فكلمتني‬
‫لحاظها‪.‬‬
‫حي يتعاىل‬
‫حي‪ .‬طرقت أذني كلمات الطاعة فما من ٍّ‬
‫يف كل مكان عثرت فيه عىل ٍّ‬
‫عن الخضوع‪ ،‬وعرفت ً‬
‫أيضا أن ليس من محكوم يف الحياة سوى من ال قبل له‬
‫حي …‬
‫بإطاعة نفسه … تلك هي عادة كل ٍّ‬
‫إن ِّ‬
‫تول الحكم أصعب من الطاعة؛ ألن اآلمر يحمل أثقال‬ ‫وهذا ما سمعت أخريًا‪َّ :‬‬
‫جميع الخاضعني له‪ ،‬وكثريًا ما ترهق هذه األثقال كواهل اآلمرين‪.‬‬
‫الحي فيها أم ًرا يقتحم خط ًرا‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫إن يف كل أمر خط ًرا ومجاذفة‪ ،‬وكل مرة يصدر‬
‫وإذا ما تحكم الحي يف ذاته فإنه يؤدي جزية لسلطانه؛ إذ يصبح قاضيًا ِّ‬
‫ومنفذًا‬
‫وضحية للرشائع التي يستنُّها‪.‬‬
‫وتساءلت عن علة هذه األمور وعن القوة التي ترغم الحي عىل االنقياد والتحكم‬
‫فتجعله خاضعً ا حتى إذا حكم‪ ،‬ولعني توصلت إىل سرب قلب الحياة إىل الصميم‪،‬‬
‫فأصغوا إىل قويل أيها الحكماء‪.‬‬
‫حي‪ ،‬ورأيت الخاضعني أنفسهم يطمحون‬ ‫لقد تيقنت وجود إرادة القوة يف كل ٍّ‬
‫إىل السيادة؛ ألن يف إرادة الخاضع مبدأ سيادة القوي عىل الضعيف‪ ،‬فإرادة‬
‫الخاضع تطمح إىل السيادة ً‬
‫أيضا لتتحكم فيمن هو أضعف منها‪ ،‬وتلك هي اللذة‬
‫الوحيدة الباقية لها فال تتخىل عنها‪.‬‬
‫وبما أن األضعف يستسلم لألقوى واألقوى يتمتع بسيادته عىل هذا األضعف‪،‬‬
‫ً‬
‫مستهدفا‬ ‫فإن األقوى يعرض نفسه للخطر يف سبيل قوته؛ فهو يجاذف بحياته‬
‫لألخطار‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫إن إرادة القوة كامنة حتى يف مجال التضحية والخدمة املتبادلة وبني نظرات‬
‫العاشقني؛ لذلك يتجه األضعف إىل السبل امللتوية قاصدًا اجتياز الحصن والرتبع‬
‫يف قلب األقوى مستوليًا فيه عىل قوته‪.‬‬
‫لقد أودعتني الحياة رسها قائلة‪ :‬لقد تحتم عيل َّ أن أتفوق أبدًا عىل ذاتي‪ .‬وإنكم‬
‫لتحسبون هذا االندفاع إرادة إبداع أو غريزة تحفز بي إىل الهدف األسمى واألبعد‬
‫منال بعديد جهاته‪ ،‬يف حني أن ليس هنالك إال وجهة واحدة ورس واحد‪ ،‬وإنني‬ ‫ً‬
‫ِّ‬
‫ألفضل العدم عىل التحول عن هذه الوحدة‪.‬‬
‫والحق أنكم حيث تشهدون انحدا ًرا وسقوط أوراق من األدواح‪ ،‬فهنالك‬
‫تشهدون تضحية الحياة من أجل القوة‪.‬‬
‫لقد وجب عيل َّ أن أكون أنا الجهاد واملستقبل والهدف‪ ،‬وأن أكون يف الوقت‬
‫نفسه الحائل الذي يعرتضني يف انطالقي إىل هديف؛ لذلك ال يعرف اإلنسان الطريق‬
‫املتعرجة التي عليه أن يسلكها إذا هو لم يدرك حقيقة إرادتي‪.‬‬
‫مهما كان اليشء الذي أُبدعه‪ ،‬ومهما بلغ حبي له فإن عيل َّ أن أنقلب له خصمً ا‪،‬‬
‫وأتحوَّل عن حبي وحناني‪ ،‬ذلك ما قضته إرادتي عيلَّ‪.‬‬
‫وأنت‪ ،‬أنت يا من تطلب املعرفة ليس لك من سبيل غري سبييل‪ ،‬فعليك أن تقتفي‬
‫أثر إرادتي‪ ،‬وما تقتفي إرادتي إال آثار إرادة الحق‪.‬‬
‫ما عثر عىل الحقيقة من قال بإرادة الحياة؛ ألن مثل هذه اإلرادة ال وجود لها‪،‬‬
‫وليس للعدم إرادة كما أن املتمتع بالحياة ال يمكنه أن يطلب الحياة‪.‬‬
‫وال إرادة إال حيث تتجىل حياة‪ ،‬ومع هذا فإن ما أدعو إليه ْ‬
‫إن هو إال إرادة القوة‬
‫ال إرادة الحياة‪.‬‬
‫إن هنالك أمو ًرا كثرية يراها الحي أرفع من الحياة نفسها‪ ،‬وما كان لريى أشياء‬
‫أفضل من الحياة‪ ،‬لو لم تكن هنالك إرادة القوة‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫هذا ما علمتني إياه الحياة يومً ا‪ ،‬وأنا بهذا التعليم أهتك أرسار قلبكم‪ ،‬أيها‬
‫الحكماء‪ ،‬فأقول لكم‪ :‬إنه ليس هنالك من خري دائم ورش دائم؛ ألن عىل الخري والرش‬
‫كليهما أن يندفعا أبدًا إىل التفوق واالعتالء‪.‬‬
‫وأنتم أيها الواضعون للقيم أقدارها بمقاييسكم وموازينكم‪ ،‬وبما تقولونه عن‬
‫الخري والرش هل كان لكم أن تفعلوا هذا لو لم تكن لكم إرادة القوة؟ وما تطمحون‬
‫يف أعماق ضمائركم إال إىل الشهرة والشعور بتأثركم وفيضان أرواحكم‪ .‬إنكم‬
‫تجهلون أن يف األمور التي تخضعونها لتقديركم قوة أعظم من تقديركم تنمو‬
‫وتتفوق عىل ذاتها لتحطم غالفها وقشورها‪ ،‬فمن أراد أن يكون مبدعً ا سواء أكان‬
‫يف الخري أم يف الرش‪ ،‬فعليه أن يبدأ بهدم ما سبق تقديره وبتحطيمه تحطيمً ا‪.‬‬
‫وهكذا فإن أعظم الرش يبدو جزاء من أعظم الخري‪ ،‬ولكن هذا الخري لم يُع َ‬
‫ط‬
‫إدراكه إال للمبدعني‪.‬‬
‫لقد حق علينا القول‪ ،‬أيها الحكماء‪ ،‬مهما كلفنا الجهر به فإن الصمت أشد وطأة‬
‫علينا؛ ألن كل حقيقة نكتمها إنما تتحول إىل سم ُزعاف فينا‪ ،‬فلنحطم الحقائق‬
‫التي نجهر بها ما يمكنها أن تُح َّ‬
‫طم فإن هنالك أبنية عديدة يجب علينا أن نرفعها‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪145‬‬
‫العظماء‬

‫ً‬
‫مسوخا دأبها املزاح؟ إن أغواري‬ ‫إن يف َّ بح ًرا هدأت أعماقه‪ ،‬فمن يظن أنه يُخفي‬
‫صامدة ال تتزعزع‪ ،‬غري أنها تتماوج باملعميات وتتجاوب فيها من الضحك نربات‬
‫وأصداء‪.‬‬
‫يكفرون من أجل الروح؛ فاستغرقت‬ ‫رجل من العظماء األجالء الذين ِّ‬
‫رأيت اليوم ً‬
‫روحي يف ضحكها هازئة بقبحه‪ .‬غري أن هذا العظيم لم يُبد ولم يعد‪ ،‬بل انتفخ‬
‫صدره كمن يتنفس الصعداء‪ ،‬فالح يل بحقائقه املروعة وبأثوابه املمزقة غصنًا كله‬
‫أشواك وليس فيه ورود‪.‬‬
‫ما تع َّلم هذا القناص الضحك وال عرف الجمال‪ ،‬فإنه راج ٌع من غاب املعرفة‬
‫أغرب الوجه بعد أن صارع فيها الوحوش فانطبعت صورهم عىل سيمائه‪ ،‬فهو‬
‫كالنمر يتحفز للوثوب‪ ،‬وما أحب مثل هذه األرواح املنقبضة عىل ما تضمر‪.‬‬
‫تقولون‪ ،‬أيها الصحاب‪ ،‬إنه ال جدال يف الذوق ويف األلوان فكأنكم تجهلون أن‬
‫الحياة بأرسها نضال من أجل األذواق واأللوان‪.‬‬
‫حي يريد أن يعيش دون‬
‫ما الذوق إال املوزون وامليزان والوازن … فويل لكل ٍّ‬
‫نضال من أجل املوزونات واملوازين والوازنني‪.‬‬
‫ليت هذا الرجل العظيم يتعب من عظمته؛ ليظهر الجمال فيه فإنه يف مالله من‬
‫هذه العظمة يستحق أن أتذوقه فأجد له طعمً ا‪.‬‬
‫إذا لم يتحول العظيم عن نفسه فال يمكنه أن يقفز فوق خياله لتغمره أشعة‬
‫ً‬
‫طويل هذا املفك ُر من أجل الروح‪ ،‬فشحب وجهه وكاد‬ ‫شمسه‪ .‬لقد تفيَّأ الظ َّل‬
‫يف انتظاره أن يموت جوعً ا‪ ،‬وهذه عيناه تشعَّ ان باالحتقار وشفتاه تتربمان‬

‫‪146‬‬
‫باالشمئزاز‪ ،‬إنه يلتمس الراحة اآلن ولكنه لم ينطرح تحت الشمس بعد‪.‬‬
‫ليت هذا الرجل يتمثل بالثور فيفوح من سعادته عبق األرض ال احتقار األرض‪،‬‬
‫ليته كالثور األبيض يعج أمام املحراث فريتفع عجيجه تسبيحً ا لألرض وما عليها‪.‬‬
‫لقد اكفه َّر وجه هذا العظيم؛ إذ تالعبت عىل خديه أظالل يده فاختفت عيناه‪،‬‬
‫وأعماله لم تزل كالخيال تلوح وال تبدو عليه‪ ،‬فإن اليد ترسل ًّ‬
‫ظل قاتمً ا عىل‬
‫العامل إذا هو لم يتفوق عىل عمله‪.‬‬
‫إنني أقدِّر احتمال هذا الرجل لنري الثور‪ ،‬ولكنني أتمنى أن تش َّع نظرات املالك‬
‫يف عينيه‪ ،‬ولن تشع هذه النظرات ما لم ينس ما فيه من إرادة األبطال؛ ألن ما‬
‫رجل ساميًّا ال أن يبقى يف مرتبة الرجل العظيم حيث يفقد‬‫أريد له هو أن يصري ً‬
‫اإلنسان إرادته فتتالعب به أضعف النسمات‪.‬‬
‫َّ‬
‫وتوصل إىل حل الرموز‪ ،‬ولكن عليه اآلن أن‬ ‫لقد تغلب هذا العظيم عىل الجبابرة‪،‬‬
‫ينقذ هؤالء الجبابرة وهذه الرموز؛ ليحولها إىل طفولة األلوهية‪.‬‬
‫إن معرفة هذا الرجل لم تتعلم االبتسام وال الرتفع عن الحسد‪ ،‬كما أن موجة‬
‫شهواته لم تسكن يف خضم الجمال‪ ،‬وما عليه أن يدفع بهذه الشهوات إىل سكون‬
‫الشبع‪ ،‬بل عليه أن يغرقها يف الجمال؛ ألن اللطف ال ينفصل عن مكارم من بلغوا‬
‫األوج بتفكريهم‪.‬‬
‫عىل البطل أال يستسلم للراحة ما لم يضع يده عىل رأسه يتفوق عىل راحته‪ ،‬وما‬
‫يصعب عىل البطل يشء كإدراكه الجمال؛ ألن الجمال ال يستسلم ألبناء العنف‪.‬‬
‫إن بني اإلفراط والتفريط قيد أنملة‪ ،‬فال تحتقروا هذا املدى ألنه بعي ٌد وإن قرص‪،‬‬
‫وفيه األهمية الكربى‪ .‬ولكن عضالت العظماء ال تلجأ إىل السكون وإرادتهم ال‬
‫تنضب‪ ،‬وما من جمال إال يف تنازل القوة إىل الرحمة وحلولها يف املنظور‪.‬‬
‫إنني ال أطالب بالرحمة سواك‪ ،‬أيها املقتدر‪ ،‬فلتكن الرحمة آخر مرحلة تقطعها‬

‫‪147‬‬
‫يف انتصارك عىل ذاتك‪ ،‬وما كنت ألفرض الخري عليك لوال أنني أراك قاد ًرا عىل‬
‫ارتكاب كل الرشور‪ ،‬ول َكم أضحكني أولئك الصعاليك يعدُّون أنفسهم رحماء وقد‬
‫شلت يدهم وال حَ ول لهم وال َ‬
‫طول‪.‬‬
‫عليك أن تتمثل يف فضيلتك بفضيلة األعمدة التي تزداد بهاء ودقة وصالبة يف‬
‫لبابها كلما ازداد ارتفاعها‪.‬‬
‫أجل أيها الرجل العظيم إنك ستبلغ الجمال يومً ا‪ ،‬فرتفع املرآة إىل وجهك لتتمتع‬
‫برؤية جمالك وعندئذ تختلج روحك بالشهوات وعندئذ تتجىل العبادة يف غرورك‪.‬‬
‫ال يقرتب البطل يف أحالمه إىل مرتبة البطل الكامل ما لم يُغفل الروحَ ويتحول‬
‫عنها‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪148‬‬
‫في بالد المدنية‬

‫ذهبت بعيدًا طائ ًرا يف أجواء املستقبل فارتعشت وذعرت عندما نظرت ما حويل‬
‫فما وجدت من معارص يل غري الزمان‪ .‬و َّليت األدبار مرسعً ا حتى وصلت إليكم‪،‬‬
‫يا رجال اليوم‪ ،‬ونزلت بينكم يف بالد املدنية‪ ،‬فألقيت عليكم أول نظراتي بصفاء‬
‫نية؛ ألنني جئتكم بقلب مصدوع‪ ،‬وال أعلم ما أهاب بي إىل الضحك بالرغم من‬
‫ارتياعي‪ ،‬فإن عيني ما رأت من قبل مثل هذه الخطوط واأللوان‪.‬‬
‫ذهبت يف ضحكي وقد ارتعش قلبي واصطكت رجالي‪ ،‬فقلت يف نفيس‪« :‬لعل‬
‫هذه مصانع اآلنية امللونة‪».‬‬
‫لقد برزتم أمامي يا رجال اليوم‪ ،‬وعىل وجوهكم وأعضائكم من األلوان‬
‫عرشات األنواع‪ ،‬وحولكم عرشات املرايا تعكس تموجات ألوانكم‪ ،‬والحق أنكم ال‬
‫تستطيعون أن تجدوا ما تتقنعون به أشد غرابة من وجوهكم نفسها‪ ،‬فمن له أن‬
‫يعرف من أنتم؟‬
‫لقد حفر املايض يف وجوهكم آثاره فألقيتم فوقها آثا ًرا جديدة؛ لذلك خفيت‬
‫حقيقتكم عن كل معرب وأعجزت كل بيان‪.‬‬
‫ولو كان ألحد أن يفحص األحشاء فهل بوسعكم أن تثبتوا أن لكم أحشاء‪ ،‬وما‬
‫ً‬
‫إلصاقا‪ ،‬وهذه جميع األزمنة وجميع‬ ‫أنتم إال جبلة هباب وقطع أوراق ألصقت‬
‫الشعوب تتزاحم مرسلة نظراتها وراء قناعكم كما تفصح جميع حركاتكم عن‬
‫تراكم كل العادات واملعتقدات فيكم‪ ،‬فإذا ما نُزعت أقنعتكم وألقيت أحمالكم‬
‫ومسحت ألوانكم ووقفت حركاتكم فال يبقى منكم إال شبح يُنصب مفزعة للطيور‪.‬‬
‫والحق‪ ،‬ما أنا إال طائر مروع؛ ألنني رأيتكم يومً ا عراة ال تسرتكم ألوانكم؛‬

‫‪149‬‬
‫فاستوىل الذعر عيل َّ إذ انتصبتم أمامي هياكل عظام تومئ إيل َّ بإشارات العاشقني‪.‬‬
‫إنني أفضل أن أكون من عمَّ ال الجحيم وخدام األشباح؛ ألن لسكان الجحيم ما‬
‫ليس لكم من شخصية معينة‪ ،‬وأم ُّر ما ألقاه هو أن أنظر إليكم سواء استرتتم أو‬
‫تعريتم‪ ،‬يا رجال اليوم …‬
‫إن جميع ما يدعو إىل القلق يف آتي الزمان‪ ،‬وجميع ما ارتاعت له يف املايض‬
‫تائهات الطري‪ ،‬إنما هو أدعى إىل االطمئنان واالرتياح من حقيقتكم؛ ألنكم أنتم‬
‫القائلون‪« :‬إنما نحن الحقيقة املجردة عن كل خرافة واعتقاد‪ ».‬وبهذا تتبجحون‬
‫وتنتفخون دون أن يكون لكم صدور‪.‬‬
‫وهل من عقيدة لكم وأنتم املربقشون بجميع ما عرف الزمان من ألوان حتى‬
‫اليوم؟ وهل أنتم إال دحض رصيح لإليمان نفسه وتفكيك لألفكار جميعها؟ فأنتم‬
‫كائنات أوهام يا من تدَّعون أنكم رجال الحقائق‪.‬‬
‫لقد قامت العصور كلها تتعارك يف تفكريكم‪ ،‬وما كانت هذه العصور يف أحالمها‬
‫وهذيانها إال أقرب إىل الحقيقة من تفكريكم وأنتم منتبهون‪.‬‬
‫بليتم بالعقم ففقدتم اإليمان‪ ،‬وقد كانت للمبدع أحالمه وكواكبه قبلكم فوثق‬
‫من إيمانه‪.‬‬
‫ما أنتم إال أبواب فتحت مصاريعها لحفار القبور‪ ،‬وما حقيقتكم إال القول بأن‬
‫كل يشء يستحق الزوال‪.‬‬
‫إنكم تنتصبون أمامي كهياكل عظام متحركة‪ ،‬أيها املبتلون بالعقم‪ ،‬وال ريب يف‬
‫يخف عليه أمر عندما تساءل‪« :‬هل اختطف إل ٌه مني شيئًا وأنا نائم؟‬
‫َ‬ ‫أن أكثركم لم‬
‫والحق أن ما ُسلب مني يكفي إليجاد امرأة‪ ،‬فما أضعف أضالعي!» هكذا يتكلم‬
‫العدد الوفري من رجال هذا الزمان‪.‬‬
‫إن حالكم ليضحكني أيها الرجال‪ ،‬ويزيد يف ضحكي أنكم ألنفسكم مستغربون‪،‬‬

‫‪150‬‬
‫ولشد ما يكون وييل لو امتنع عيل َّ أن أضحك من استغرابكم ولو اضطررت إىل‬
‫ازدراد ما يف أوعيتكم من كريه الطعام‪.‬‬
‫ُّ‬
‫أستخف بكم ملا عىل عاتقي من ثقيل األحمال‪ ،‬فما يهمني لو نزل عليها‬ ‫إنني‬
‫ثقل‪ ،‬وما أنتم من يحم َّلني أشد األتعاب أيها‬
‫بعض الذباب فإنه لن يزيدها ً‬
‫املعارصون‪.‬‬
‫وا أسفاه! إىل أية ذروة يجب عيل َّ أن أرتقي بأشواقي؟ فإنني أدير لحاظي من‬
‫ً‬
‫مفتشا عبثًا عن مسقط رأيس وأوطاني‪ ،‬فأنا ال أزال يف أول مرحلتي‬ ‫أعايل الذرى‬
‫تائهً ا يف املدن أتنقل أمام أبوابها‪.‬‬
‫لقد اندفعت بعواطفي نحو رجال هذه األيام‪ ،‬ولكنني ما لبثت أن تبيَّنت فيهم‬
‫قومً ا غرباء عني ال يستحقون إال سخريتي‪ ،‬وهكذا أصبحت طريدًا يتشوق إىل‬
‫مسقط رأسه وأوطانه‪ ،‬وال وطن يل بعد اآلن إال وطن أبنائي يف األرض املجهولة‬
‫وسط البحار السحيقة؛ لذلك وجب عيل َّ أن اندفع برشاعي عىل صفحات املياه‬
‫ألفتش عن هذا الوطن‪.‬‬
‫عيل َّ أن أ ُ ِّ‬
‫كفر عن ذنبي أمام أبنائي؛ ألنني كنت ابنًا آلبائي‪ ،‬عيل َّ أن ِّ‬
‫أكفر عن حايل‬
‫العتيد بكل جهودي يف آتي الزمان‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪151‬‬
‫المعرفة الطاهرة‬

‫عندما أط َّل القمر عيل َّ ليلة أمس ُخيل إيل َّ أنه أُنثى أثقلها الحَ بْ ُل‪ ،‬وكأن يف أحشائها‬
‫كوكب النهار‪ ،‬وقد جاءها املخاض وأنا أَميل إىل تذكري القمر مني إىل تأنيثه وإن‬
‫خال من صفات الرجولة فإنه رائد ليل يمر عىل السطوح‪ ،‬وقد ساءت نواياه‪ ،‬فهو‬
‫كالراهب املتدفق شهوة وحسدًا يتمنى لو يتمتع بملذات جميع العاشقني‪.‬‬
‫ال‪ ،‬إنني ال أحب هذا اله َّر املتجول عىل مزاريب السطوح؛ ألنني أكره كل متلصص‬
‫أمام النوافذ التي لم يحكم إقفالها‪.‬‬
‫إن القمر ليمر خاشعً ا متعبدًا عىل بساط النجوم‪ ،‬وأنا أكره كل من ينساب يف‬
‫مشيته فال تسمع وقعً ا ألقدامه‪ ،‬فإن خطوات الرجل الرصيح تستنطق األرض‪،‬‬
‫متجس ًسا‪ ،‬وهذا القمر ال يتقدم إال بخطوات الغدر كالهر‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫وما يميش اله ُّر إال‬
‫ُ‬
‫إحساسكم لطلب‬ ‫ما أوردت هذا املثل إال لكم وعنكم يا أبناء الخبث‪ ،‬وقد َ‬
‫أرهقكم‬
‫املعرفة الصافية‪ ،‬وما أنتم يف نظري إال عبيد امللذات؛ ألنكم أنتم ً‬
‫أيضا تحبون‬
‫األرض وما عليها ومنها‪ .‬لقد عرفت طويتكم فإذا يف حبكم ما يخجل وما يفسد‬
‫األخالق‪ ،‬فما أشد شبهكم بكوكب الليل!‬
‫لقد أقنعوكم بأن تحتقروا كل ما ينشأ من الرتاب‪ ،‬ولكن هذا اإلقناع لم ينفذ إىل‬
‫أحشائكم‪ ،‬وأحشاؤكم هي أقوى ما فيكم‪ ،‬وهكذا أصبح عقلكم َخ ِج ًل من سيطرة‬
‫أحشائكم عليه‪ ،‬فهو يتبع الطرق الخفية املضللة فزعً ا من خجله‪ .‬أنصتوا إىل‬
‫مناجاة عقلكم لنفسه فهو يقول‪ :‬ليت يل أن أرتقي إىل حيث أنظر إىل الحياة محر ًرا‬
‫الس َغب من شهوته‪.‬‬ ‫من الشهوة‪ ،‬فال ألهث أمامها ككلب يديل لسانه وقد َّ‬
‫شفه َّ‬
‫ً‬
‫متفوقا عىل إرادتي متحر ًرا من خساسة األنانية‬ ‫ليت يل أن أسعد بالتأمل‬

‫‪152‬‬
‫ومطامحها؛ فيسود عيل َّ السالم وال يبقى لعيني سوى لحظات القمر الثملة‪.‬‬
‫َّ‬
‫يتعشق األرض كما‬ ‫إن عقلكم يطلب التملص من ذاته؛ ألنه طريد يشتهي أن‬
‫يتعشقها القمر فال تتمتع إال عيونكم بجمالها‪.‬‬
‫إن املعرفة الطاهرة ال تحت ُّل عقولكم ما لم ينبسط أمام األشياء دون امتالكها‬
‫مكتفيًا بانعكاس أشباحها عليه كما تنعكس األشباح عىل مرآة لها مئات العيون‪.‬‬
‫أيها الخبثاء املتح ِّرقون بالشهوات‪ ،‬لقد خلت شهوتكم من الطهارة؛ فلذلك‬
‫تجدِّفون عىل الشهوة‪ ،‬فأنتم ال تحبون األرض كما يحبها املبدعون واملجددون‬
‫الذين يرسون بما يبدعون وبما يجددون‪ ،‬فال طهارة إال حيث تتجىل إرادة اإلبداع‪،‬‬
‫فمن اتجه إىل خ ْلق من يتفوق عليه فذلك عندي صاحب أطهر إرادة وأنقاها‪.‬‬
‫طلبت الجمال فما وجدته إال حيث تنصبُّ اإلرادة بأكملها إىل املراد‪ ،‬وحيث‬
‫يرتيض اإلنسان بالزوال لتجديد الصور وتبديلها‪ ،‬فاملحبة واملوت صنوان متالزمان‬
‫منذ األزل‪ ،‬فمن أراد املحبة فقد ريض باملوت‪ .‬هذا ما أقوله لكم أيها الجبناء‪.‬‬
‫ولكن نظراتكم املنحرفة املؤنثة تحب االستغراق يف التأمل‪ ،‬فرتيدون أن يدعى‬
‫ً‬
‫جمال ما تحدجونه أنتم بعني الحذر والجبن‪ ،‬إنكم لتدنسون أرشف األسماء‪.‬‬
‫إن اللعنة التي تحل بكم‪ ،‬أيها السائرون‪ ،‬وراء املعرفة الطاهرة إنما هي عجزكم‬
‫عن التوليد يف حني أنكم تلوحون كالحباىل ا ُملثقالت عىل اآلفاق‪.‬‬
‫إنكم تحشون أفواهكم بأنبل الكلمات إليهامنا بأن قلبكم يتدفق ً‬
‫عطفا‪ ،‬وما أنتم‬
‫إال منافقون‪.‬‬
‫شنت القول لكم فكلماتي مشوهة ذرية‪ ،‬غري أنني أتناولها من الفتات‬ ‫أخ ُ‬‫لقد ْ‬
‫املتساقط من موائد والئمكم فأستعملها حني أعلن الحقيقة للخبثاء‪ ،‬وهذا ما بيدي‬
‫من حسك وأصداف يخدش آنافكم أيها الخبثاء‪.‬‬
‫إن الهواء الفاسد يهب بال انقطاع حولكم وحول مآدبكم؛ ألنه مشبع من‬

‫‪153‬‬
‫أفكاركم الدنسة وأكاذيبكم وخداعكم‪.‬‬
‫طراح خوركم؛ لتتوصلوا إىل الوثوق بأنفسكم‪ ،‬فما ينقطع‬‫عليكم أن تبدءوا با ِّ‬
‫عن الكذب من ال ثقة له بنفسه‪.‬‬
‫لقد أخفيتم وجوهكم بأقنعة اآللهة أيها الرجال األتقياء‪ ،‬فأنتم ديدان قبيحة‬
‫تتَّشح برداء األرباب‪.‬‬
‫إنكم لجد متبجحون يا رجال التأمل‪ ،‬حتى إن زارا نفسه أخذ بمظاهر جلودكم‬
‫ْ‬
‫فخفيت عنه األفاعي الكامنة وراءها‪.‬‬ ‫اإللهية‬
‫لقد كنت أرى يف عيونكم روح ٍ‬
‫إله أيها الطالبون املعرفة الطاهرة‪ ،‬قبل أن تكشف‬
‫يل تصنعكم فعرفت أنكم أمهر املتصنعني‪.‬‬
‫ْ‬
‫وصلت إيل َّ‬ ‫ُ‬
‫تميزت فيكم الثعبان القبيح‪ ،‬وال‬ ‫لقد بعد املجال بيني وبينكم فما‬
‫رائحته الكريهة‪ ،‬وما خطر يل أن أمامي حرباء تتلون بشهواتها‪ ،‬ولكنني عندما‬
‫اقرتبت منكم تبددت الظلمة حويل‪ ،‬وها إن الفجر يغمركم بأنواره فلكل قمر جنوح‬
‫إىل الغياب يف شهوته‪ .‬انظروا إىل هذا القمر فهو يف أ ُ ُفقِ ه شاحب مذعور‪ ،‬وقد باغته‬
‫الفجر بأنواره املرسلة‪ ،‬فكل شمس يتجىل حبها الطاهر يف تشوقها إىل اإلبداع‪.‬‬
‫أما ترون الفجر ينسحب عىل البحر وقد اهتاجه الشوق والحنني؟ إنما تشعرون‬
‫بظمئه يف حبه وح ِّر أنفاسه‪ ،‬فكأنه يريد ارتشاف اللجج‪ ،‬وها هي ذي تتعاىل نحوه‬
‫ً‬
‫ارتشافا‬ ‫بآالف نهودها‪ ،‬واللجة نفسها متشوقة إىل وصال كوكب النهار لريشفها‬
‫فتتحول إىل سحب ومسالك أنوار‪ ،‬بل هي نفسها تفنى يف النور متحولة إىل نور‪.‬‬
‫وأنا كوكب النهار أحب الحياة وكل لجة بعيدة األغوار‪ ،‬تلك هي معرفتي‪ .‬إنني‬
‫أجتذب كل غور ليتعاىل إيل َّ …‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪154‬‬
‫العلماء‬

‫ً‬
‫إكليل عىل رأيس‪ ،‬فكانت‬ ‫وكنت نائمً ا فإذا نعجة تتقدم فتقضم الغار املعقود‬
‫تعمل أنيابها فيه وتقول‪ :‬لم يعد زارا من العلماء‪.‬‬
‫وذهبت بعد ذلك مزدرية متفاخرة‪ ،‬ذلك ما أخربنيه أحد األوالد‪.‬‬
‫أحب أن أستلقي عىل األرض حيث يلعب األطفال تحت الجدار املتهدم‪ ،‬وقد نبت‬
‫يف شقوقه العوسج والشقائق الحمراء‪ ،‬فإنني لم أزل عا ًملا يف عيون الصغار ويف‬
‫عيون العوسج والشقائق الحمراء؛ ألنها طاهرة حتى يف أذيتها‪.‬‬
‫أنا لم أعد عا ًملا يف نظر النعاج‪ .‬تبارك حظي فهذا ما ُقيض به عيلَّ‪ ،‬والحقيقة هي‬
‫أنني هجرت مسكن العلماء فخرجت منه جاذبًا بابه بعنف ورائي‪.‬‬
‫ً‬
‫طويل إىل الخوان‪ ،‬وما أنا كالعلماء متطبع عىل‬ ‫لقد جلست روحي الجائعة‬
‫املعرفة كمن اتَّخذ كرس القشور مهنة له‪ ،‬فأنا عاشق الحرية والسري يف الهواء‬
‫الطلق عىل األرض الباردة‪ ،‬كما أفضل أن أتوسد جلود الثريان عىل افرتاش أمجاد‬
‫العلماء وألقابهم‪.‬‬
‫إن بي من الحماس ومن لهب الفكر ما يقطع عيل َّ أنفايس‪ ،‬فال يسعني إال‬
‫االندفاع إىل رحب الفضاء هاربًا من الغرف املكسوة بالغبار‪.‬‬
‫ولكن هؤالء العلماء يتفيَّئون الظالل فال يقتحمون السري عىل املسالك التي‬
‫تلهبها حرارة الشمس‪ ،‬بل يكتفون باالستكشاف كاملتفرجني يفتحون أشداقهم‬
‫وينظرون إىل املا َّرة يف الشارع‪ ،‬هكذا يفتح العلماء أشداقهم وينتظرون اتِّقاد‬
‫رشارة الفكر يف أدمغة املفكرين‪ ،‬وإذا ما ملستهم بيدك تطاير الغبار ما حولهم‬
‫َّ‬
‫يظنن أحد أن هذا الغبار املتطاير منهم هو‬ ‫كأنهم أكياس من الحنطة‪ ،‬ولكن ال‬

‫‪155‬‬
‫دقيق السنابل الصفراء التي يتشح بها الصيف يف زهوه‪.‬‬
‫إذا ما تظاهر العلماء بالحكمة‪ ،‬فإن حقائقهم وأحكامهم تهزني برعشة ُ‬
‫البَداء؛‬
‫إذ تنترش منها روائح املستنقعات‪ ،‬ول َكم أسمعتني حكمتهم نقيق الضفادع‪.‬‬
‫إن لهؤالء العلماء مهارتهم وألناملهم َلب ََاقتها‪ ،‬فليس من نسبة بني رصاحتي‬
‫وتعقيدهم‪ ،‬فأناملهم ال تني تغزل وتحيك ناسجة للعقل ما يسرته؛ فهم كالساعات‬
‫رقاصها دلت بضبط عىل سري الزمان وأسمعتك طقطقة خافتة‪.‬‬ ‫إذا ما أحكم ربط َّ‬
‫إنهم يعملون كحجر الرحى فيطحنون كل ما تلقي إليهم من حبوب‪ ،‬وكل منهم‬
‫يراقب حركة أنامل اآلخرين‪ ،‬وجميعهم يتلهون بالنكايات ويرتصدون من يتعارج‬
‫بعلومه‪ ،‬فهم أشبه بالعناكب يف تلصصهم‪ ،‬ول َكم رأيتهم يستقطرون سمومهم‬
‫بكل حذر ساترين أيديهم بقفازات من زجاج‪ ،‬ولهم مهارة خاصة بلعب النرد‬
‫املزوَّر‪ ،‬ول َكم انحنوا فوقه والع َرق يتصبب من وجوههم‪.‬‬
‫ال صلة بيني وبني هؤالء الناس؛ فإن فضائلهم تبعد عن فضائيل بأكثر مما تبعد‬
‫عنها أكاذيبهم ونردهم املزور‪.‬‬
‫وما وُجدت مرة بينهم إال وكنت فوقهم؛ لذلك أبغضني هؤالء العلماء‪ ،‬فإنهم ال‬
‫يطيقون أن يسمعوا بمرور أي كان فوق رءوسهم‪ ،‬ولذلك وضعوا األخشاب فوق‬
‫رءوسهم‪ ،‬وأهالوا فوقها الرتاب واألقذار ليخنقوا وقع أقدامي‪ ،‬ولم يزل حتى اليوم‬
‫أكثرهم علمً ا أق َّلهم إدرا ًكا ألقوايل‪.‬‬
‫ً‬
‫حائل كل ما يف اإلنسان من ضعف وضالل‪ ،‬وهم‬ ‫لقد نصبوا بيني وبينهم‬
‫يدعون هذا الحصن ملسكنهم بالسقف املستعار‪.‬‬
‫ولكني بالرغم من كل هذا ال أزال أميش فوق رءوسهم وأنا أنرش أفكاري‪ ،‬ولو‬
‫أنني مشيت عىل عيوبي فلن أزال ماشيًا فوق جباههم‪ ،‬ذلك ألنه ال مساواة بني‬
‫البرش‪ ،‬وهذا ما يهتف به العدل‪ ،‬فما أريده أنا ال حق لهم بأن يتناولوه بإرادتهم‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪156‬‬
‫الشعراء‬

‫وقال زارا ألحد أتباعه‪ :‬منذ بدأت أعرف حقيقة الجسد لم تعد الروح روحً ا يف‬
‫نظري إال عىل أضيق مقياس‪ ،‬وهكذا رصت أرى «كل ما ال يفنى» رم ًزا من الرموز‪.‬‬
‫فأجاب التابع ً‬
‫قائل‪ :‬لقد َ‬
‫قلت هذا من قبل يا زارا‪ ،‬ولكنك أضفت إليه قولك‪:‬‬
‫«وكثريًا ما يكذب الشعراء‪ ».‬فلماذا قلت هذا؟‬
‫فقال زارا‪ :‬أنت تسأل ملاذا‪ ،‬وما أنا ممن يحق عليهم أن يُسألوا‪ .‬ما أنا ابن األمس‬
‫وقد مر زمان طويل عىل إدراكي أسباب ما أَرتَئِيه‪ ،‬وهل أنا خزانة تذكارات ألحفظ‬
‫األسباب التي بنيت عليها آرائي؟ إنما يكفيني عناء أن أحفظ هذه اآلراء نفسها‪،‬‬
‫أفليس يف العالم عصافري ترشد من أماكنها‪ ،‬ول َكم وجدت يف قفيص من طري غريب‬
‫يرتجف إذا ما أمررت عليه يدي‪ ،‬ومع ذلك فماذا قال لك زارا يومً ا؟ لقد قال إن‬
‫الشعراء كثريًا ما يكذبون‪ ،‬وهل كان زارا نفسه إال واحدًا من هؤالء الشعراء؟‬
‫أفتحسب أنه بهذه الصفة قد أعلن الحق؟ وما الذي يُ ْك ِرهك عىل تصديقه؟‬
‫فقال التابع‪ :‬إنني مؤمن بزارا‪.‬‬
‫قائل‪ :‬ليس اإليمان مما يرضيني حتى ولو كان هذا‬ ‫أما زارا فهز رأسه وابتسم ً‬
‫اإليمان معقودًا عيلَّ‪ ،‬ولكن إذا قال إنسان بكل جد‪ :‬إن الشعراء يكذبون‪ ،‬فإنه‬
‫ليقول ًّ‬
‫حقا؛ ألننا نحن الشعراء نكذب كثريًا‪ ،‬وال بد لنا من الكذب ما دام ما نجده‬
‫يغش رشابه ويف رساديبنا تُستقطر‬ ‫قليل‪ ،‬ومَ ْن من الشعراء بيننا لم َّ‬
‫من العلم ً‬
‫السوائل املسمومة؟ ول َكم فيها من أمور يقرص عن وصفها البيان‪ .‬إن افتقارنا يف‬
‫املعرفة يهيب بنا إىل محبة مساكني العقول‪ ،‬وبخاصة إىل محبة مسكينات العقول‬
‫الفتيات … فنحن نعود بشهواتنا إىل األمور التي تتحدث عنها العجائز يف السمر‪،‬‬
‫ونقول إن ما نبحث فيه إنما هو قضية املرأة األبدية‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫ً‬
‫طريقا سويًّا يؤدي إىل املعرفة‪ ،‬وأن هذا الطريق ال ينكشف ملن‬ ‫يخيل لنا أن أمامنا‬
‫يدركون األمور بالعلم‪ ،‬فنحن ال نؤمن إال بالشعب وبحكمته‪ ،‬فالشعراء جميعهم‬
‫يتنصت إىل السكون يتوصل إىل‬‫َّ‬ ‫يعتقدون أن الجالس عىل منحدر جبل مقفر‬
‫معرفة ما يحدث بني األرض والسماء‪ ،‬وإذا هم ه َّزهم الشعور املرهف ُخيل لهم أن‬
‫الطبيعة نفسها أصبحت مغرمة بهم؛ فريونها تنحني عىل آذانهم لتلهمهم البيان‬
‫الساحر واألرسار‪ ،‬فيقفون مباهني بإلهامهم أمام كل كائن يزول‪.‬‬
‫وا أسفاه! إن بني األرض والسماء أمور كثرية ال يحلم بها إال الشعراء‪ ،‬وهنالك‬
‫أمور أخرى كثرية فوق السماء‪ ،‬فما جميع اآللهة إال رموز أبدعها الشعراء‪.‬‬
‫والحق أننا منجذبون أبدًا إىل العلياء‪ ،‬إىل مسارح الغيوم فنرسل إليها أك ًرا‬
‫منفوخة ملونة ندعوها آلهة وبرشًا متفوقني‪ ،‬والحق أنهم من الخفة عىل ما يجعلهم‬
‫ً‬
‫أهل القتعاد مثل هذه العروش‪.‬‬
‫وياله! لكم تعبت من كل قارص يطمح إىل جعل نفسه شيئًا معدودًا! ول َكم‬
‫أتعبني الشعراء!‬
‫وما نطق زارا بهذا الكالم حتى ثارت نفس تابعه‪ ،‬ولكنه كظم غيظه فسكت‬
‫أيضا وغيَّض نظره كأنه يسرت أقايص نفسه‪ ،‬ثم تنفس الصعداء‬ ‫وسكت زارا ً‬
‫وقال‪ :‬أنا من األمس ومن الزمن القديم ولكن يف َّ شيئًا من الغد وبعده ومن اآلتي‬
‫البعيد‪ ،‬فقد أتعبني الشعراء األقدمون منهم واملجددون‪ ،‬فما هم يف نظري إال رغوة‬
‫أرسة بحار جفت مياهها‪ .‬إن أفكارهم لم تنفذ إىل األغوار‪،‬‬
‫ال رصيح تحتها‪ ،‬بل هم َّ‬
‫وقد وقف شعورهم عند أول جُ ُرفها‪ ،‬وخري ما ترى يف تأمالتهم قليل من الشهوة‬
‫وقليل من الضجر‪ ،‬فليست بحورهم إال مجاالت تنزلق عىل تفاعيلها األشباح‪،‬‬
‫فهم لم يدركوا شيئًا بعد من القوى الكامنة يف النربات‪ .‬لم يبلغ الشعراء درجة‬
‫النقاء فهم يع ِّكرون جداولهم؛ ليخدعوا الناس ويوهموهم أنها بعيدة الغور‪ .‬إنهم‬
‫موفقني بني مختلف املعتقدات غري أنهم ال يزالون‬ ‫يريدون أن يقيموا أنفسهم ِّ‬

‫‪158‬‬
‫رجال العمل الناقص السائرين عىل السبل املتوسطة الحائرة فهم يعكرون املياه‬
‫بأقذارهم‪.‬‬
‫آمل اصطياد خري األسماك‪ ،‬ولكنني ما‬ ‫وا أسفاه لقد ألقيت شباكي يف بحارهم ً‬
‫سحبت هذه الشباك مرة إال وقد علق فيها رأس إله قديم‪ ،‬وهكذا كان يجود البحر‬
‫أيضا من البحر وفيهم‬ ‫بحجر عىل الجائع‪ .‬ولعل الشعراء أنفسهم خرجوا هم ً‬
‫وال ريب بعض الآللئ‪ ،‬فهم أشبه بنوع من املحار املمنَّع بأصدافه‪ ،‬ول َكم وجدت‬
‫يف داخلهم بدل الروح شيئًا من الرغوة املالحة‪ .‬إن الشعراء يقتبسون من البحر‬
‫غروره‪ ،‬وهل البحر إال أشد الطواويس غرو ًرا؟ فهو حتى أمام أقبح الجواميس‬
‫يدحرج أمواجه ويبسط أطالس مراوحه وأطراف وشاحه املفضض‪ ،‬فيحدجه‬
‫الجاموس بنظرات الغيظ؛ ألن روحه املقرتبة من الشاطئ ال تزال ملتصقة بمعلفه‬
‫رضبه‬‫ومرعاه فما يبايل بالجمال وبالبحر وببهاء الطواويس‪ .‬هذا هو املثل الذي أ َ ِ‬
‫للشعراء‪ ،‬والحق أن فكرهم لطاووس مغرور‪ ،‬بل هو بحر من الغرور‪ ،‬ففِ ْكر‬
‫ً‬
‫جاموسا‪.‬‬ ‫الشاعر يطلب من يشاهده حتى ولو كان املشاهِ د‬
‫لقد أتعبني هذا الفكر وسوف يأتي زمان — وهو قريب — يتعب فيه هذا‬
‫الفكر من ذاته‪.‬‬
‫رأيت بعض الشعراء يتحولون عن الشعر‪ ،‬ويوجهون النقمة إىل ما كانوا عليه‪،‬‬
‫املكفرون عن الضالل إال بني‬‫ِّ‬ ‫ورأيت من يقدِّمون َّ‬
‫كفارة للفكر‪ ،‬وما نشأ هؤالء‬
‫الشعراء‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪159‬‬
‫الحادثات الجسام‬

‫عىل مقربة من جزر زارا السعيدة‪ ،‬تقوم يف البحر جزيرة فوقها بركان يقذف‬
‫حُ مَ مه عليها بال انقطاع‪ ،‬ويقول الشعب وبخاصة العجائز فيه‪ :‬إن هذه الجزيرة‬
‫ً‬
‫ضيقا يخرتق الربكان‬ ‫منتصبة صخ ًرا يسد باب الجحيم‪ ،‬غري أن هنالك منفذًا‬
‫وينتهي إىل هذا الباب‪.‬‬
‫يف ذلك الزمان‪ ،‬حني كان زارا يسكن جزره السعيدة ألقى مركبٌ مرساته أمام‬
‫الجزيرة التي يعلوها الجبل املشتعل‪ ،‬ونزل بحارته إىل الرب ليقتنصوا بعض‬
‫األرانب‪ ،‬وما حان وقت الظهرية واجتمع القبطان برجاله بعد أن ملوا شعثهم حتى‬
‫رجل يخرتق الفضاء بغتة إليهم ثم اقرتب منهم وصاح بهم‬ ‫رأى هؤالء الناس ً‬
‫بصوت جيل ً‬
‫قائل‪ :‬لقد حان الزمن‪ ،‬لقد اقرتب كثريًا …‬
‫ومر بهم الشبح مرسعً ا وهو يتجه إىل الربكان‪ ،‬فتميزوا به شخص زارا؛ ألنهم‬
‫كانوا رأوه من قبل جميعهم ما عدا القبطان‪ ،‬وأحبوه كما يحب الشعب من يخىش‪.‬‬
‫فقال شيخ البحارة‪ :‬هذا زارا يسري إىل الجحيم‪.‬‬
‫ويف الزمن الذي نزل فيه البحارة إىل جزيرة اللهب‪ ،‬كان شاع اختفاء زارا بني‬
‫الناس وقال صحبه ملن سألوا عنه‪ :‬إنه أبحر عىل مركب تحت جنح الظالم‪ ،‬ولم‬
‫يعرف أحد الوجهة التي يقصدها‪.‬‬
‫هكذا ساد القلق من اختفاء زارا‪ ،‬وبعد ثالثة أيام زاد هذا القلق بعد أن أخرب‬
‫البحارة بما رأوا‪ ،‬وشاع بني الشعب أن إبليس قد اختطف زارا‪ ،‬ولكن صحب‬
‫زارا لم يأبهوا لهذه اإلشاعة بل ضحكوا منها وقالوا‪ :‬إن ما نعتقده هو أن زارا قد‬
‫اختطف الشيطان‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫غري أن اختفاء زارا كان يشغل بال صحبه‪ ،‬وما مضت خمسة أيام حتى عاد‬
‫إليهم‪ ،‬فكان رسورهم عظيمً ا‪.‬‬
‫وهذا ما نقله زارا لهم عن حديثه مع كلب النار‪ .‬قال‪ :‬إن لألرض جلدًا ولهذا‬
‫الجلد أمراضه‪ ،‬وأحد هذه األمراض اإلنسان وهنالك مرض آخر يُدعى كلب النار‪،‬‬
‫وقد كان هذا الكلب السبب يف تناقل الناس األكاذيب وتصديقهم لها‪ ،‬وما اجتزت‬
‫البحار إال ألكشف هذا الرس فرأيت الحقيقة عارية من أخمص قدميها حتى عنقها‪،‬‬
‫فما تخفى عني اآلن حقيقة كلب النار‪ ،‬وحقيقة جميع أبالسة التمرد واألقذار التي‬
‫ال تتف َّرد العجائز بالذعر منها‪.‬‬
‫لقد هتفت ً‬
‫قائل‪ :‬اخ ُرجْ من أغوارك أيها الكلب الناري وقل يل كم هي عميقة‬
‫أغوارك ومن أين تأتي بما تنفثه علينا؟ إنك تكرع من البحر برشاهة‪ ،‬وذلك ما تنم‬
‫عليه مرارة امللح يف ثرثرتك‪ ،‬والحق أنك وأنت كلب األغوار ال تستمد غذاءك إال من‬
‫األماكن السطحية‪ ،‬فما أنت إال كاملتكلم من بطنه؛ ألنني يف كل مرة سمعت فيها‬
‫أقوال أبالسة التمرد واألقذار تبينتهم أشبه بك يف دناءتك وأكاذيبك‪ ،‬لقد اتفقت‬
‫أنت معهم عىل النباح‪ ،‬واتفقتم جميعكم عىل ذر الرماد ونرش الظالم‪ ،‬فأنتم أعظم‬
‫املتفاخرين وتعرفون كيف تدفعون باألوحال إىل الفوران‪ ،‬وحيث تكونون ال بد‬
‫أن تحيط بكم الوحول وكل ما هو إسفنجي مضغوط ضيق املسام‪ ،‬وما يطلب‬
‫االنطالق إال من اتصف بهذه الصفات‪ .‬والحرية هي الرصخة التي تفضلونها‬
‫غري أنني فقدت إيماني بالحادثات الجسام منذ رأيت الرصاخ والدخان يتعاليان‬
‫حولها‪.‬‬
‫صدقني يا إبليس‪ ،‬الثورات الصاخبة الجهنمية ليست أعظم الحادثات يف أكثر‬
‫ساعاتنا ضجيجً ا بل هي يف أعمقها صمتًا‪ ،‬وما يدور حول موجدي الشغب الجديد‬
‫بل هو يدور عىل محور موجدي النظم الجديدة‪.‬‬
‫ال بد لك أيها الشيطان من اإلقرار بسخافة ما كانت تنقشع عنه قرقعتك وضباب‬

‫‪161‬‬
‫دخانك‪ ،‬وهل من جسام األمور أن تتحول مدينة إىل مومياء‪ ،‬وأن يتداعى عامود‬
‫إىل األوحال؟ وهذه كلمة أخرى أوجهها إىل هدَّامي األعمدة‪ :‬إن أقىص الجنون هو‬
‫يف إلقاء امللح إىل البحر ويف إسقاط األعمدة إىل الوحول؛ ألن هذه األعمدة كانت‬
‫مطروحة عىل أوحال احتقاركم‪ ،‬وها هي ذي تنهض بسيماء اآللهة وقد انطبع‬
‫عليها األلم الساحر‪ ،‬فهي والحق تدين لكم بالشكر؛ ألنكم أسقطتموها أيها‬
‫الهادمون‪.‬‬
‫وهأنذا اآلن أسدي النصح للملوك والكنائس‪ ،‬ولكل من أضعفته الفضيلة أو‬
‫أهرمه الزمان فأقول‪ :‬دع القوة تسقطك لتعود إىل الحياة فرتجع الفضيلة إليك‪.‬‬
‫قائل‪« :‬الكنيسة‪ ،‬وما هي هذه‬‫هكذا تكلمت أمام كلب النار‪ ،‬فقاطعني بهريره ً‬
‫الكنيسة؟» فقلت‪ :‬إن الكنيسة يشء أشبه بالدولة‪ ،‬بل هي من أكذب أنواع الدول‪،‬‬
‫ولكن صه أيها الكلب‪ ،‬فإنك أخرب بنوعك من أي كان‪ .‬إنما الدولة حيوان خبيث‬
‫عىل شاكلتك؛ فهي تحب أن تتكلم فرتسل بيانها دخانًا وهري ًرا‪ ،‬لتخدع الناس‬
‫وتجعلهم يعتقدون بأن أقوالها مستمدة من غور األمور‪ ،‬فهي تريد أن تكون‬
‫أعظم حيوان عىل وجه األرض والعالم يراها عىل ما تريد‪1.‬‬
‫وظهرت عىل وجه الكلب أفظع معاني الحسد فصاح‪ :‬ماذا تقول؟ وهل يعتقد‬
‫أحد أن الدولة هي أعظم حيوان عىل األرض؟‬
‫قال هذا وخرجت من بني شدقيه إعصار من الدخان‪ ،‬وازداد هريره حتى‬
‫مقتول بغيظه‪ ،‬ولكنه ما لبث حتى استعاد السكون فقلت له‪ :‬لقد تملكك‬ ‫ً‬ ‫حسبته‬
‫الغيظ يا كلب النار‪ ،‬وذلك دليل عىل أنني أقول الحق عنك‪ ،‬وهأنذا استمر يف إعالن‬
‫الحقائق فأحدثك عن كلب آخر من أتباع النار وهذا الكلب يتكلم حقيقة من قلب‬
‫األرض‪ ،‬فلهاثه من ذهب‪ ،‬وما يحسب حسابًا للرماد والدخان والزبد الحار فإن‬
‫حوله ترتفع قهقهة تنترش كأنها سحاب يزهو بعديد ألوانه‪ ،‬وهو عدو هريرك‬
‫وزبد شدقيك وما يف أحشائك من االختالل‪ .‬إن هذا الكلب يأخذ الذهب والضحك‬

‫‪162‬‬
‫من قلب األرض ألن قلب األرض من ذهب‪ ،‬فاعلم هذا أنت‪.‬‬
‫ً‬
‫خجل وبدأ يعوي‬ ‫ُ‬
‫وغلب الكلب عىل أمره عند سماعه هذه الكلمات؛ فأرخى ذيله‬
‫وهو يزحف ً‬
‫زحفا إىل مغارته‪.‬‬
‫هذا ما رسده زارا ألتباعه‪ ،‬ولكن أتباعه ما كانوا يبالون بما يقول وقد اشت َّد‬
‫شوقهم إىل إخباره عما حدث للبحارة والرجل الطائر يف الهواء‪.‬‬
‫قصوه عليه قال‪ :‬ماذا عساني أظن بما قلتم؟ أفأكون شبحً ا‬ ‫وملا سمع زارا ما ُّ‬
‫من األشباح؟ ولعل ما رأوه لم يكن سوى خيايل‪ ،‬ولعلكم سمعتم حكاية املسافر‬
‫وخياله‪ ،‬غري أنه من الواجب عيل َّ أن أشدِّد النكري عىل خيايل فال يذهب كما يشاء‬
‫نائل من شهرتي‪.‬‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫متسائل عما يقوله يف هذا الحادث‪ ،‬وهو ال يدري ملاذا‬ ‫وه َّز زارا رأسه بتعجب‬
‫هتف الخيال ً‬
‫قائل‪ :‬لقد اقرتب الزمان‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫هوامش‪:‬‬
‫‪ 1‬ال ريب يف أن زارا ال يقصد بهذا الوصف إال الدول القابضة عىل عنق الشعب‬
‫بالحكم املطلق‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫العراف‬
‫َّ‬

‫«… ورأيت الناس يستويل عليهم حزن عميق‪ ،‬وقد وهنت قوى خيارهم فيما‬
‫يعملون‪ ،‬فانترش تعليم يؤدي إىل اإليمان يف أن كل يشء باطل ومتشابه وقيد الزوال‪،‬‬
‫فتجاوبت األصداء يف الهضبات مرددة‪ :‬كل يشء باطل ومتشابه وقيد الزوال‪.‬‬
‫لقد حصدنا ولكن غاللنا أكمد لونها وتهرأت‪ ،‬فأي يشء تساقط تحت جنح‬
‫الظالم من وراء كوكبه اللئيم؟‬
‫لقد ذهبت جهودنا سدًى‪ ،‬وفسد خمرنا فاستحال سمًّ ا ُز ً‬
‫عافا‪ ،‬فكأن عينًا حاسدة‬
‫أصابت حقولنا وقلوبنا فأَذْ َوتْها‪.‬‬
‫جففنا جميعنا فإذا نزلت بنا حارقة فال يتطاير منا غري الرماد‪ ،‬لقد تعب منا‬
‫كل يشء حتى لسان اللهيب‪.‬‬
‫غاضت الينابيع أمامنا وتراجع البحر عنا‪ ،‬وقد زلزلت األرض تحت أقدامنا‪،‬‬
‫ولكنها لم تفغر فاها لتوارينا‪ ،‬فمن لنا ببحر نغرق فيه‪ ،‬إننا نرصخ طالبني البحر‬
‫فيذهب صوتنا بددًا عىل سطوح املستنقعات‪.‬‬
‫والحق أننا بذلنا أقىص جهودنا طلبًا للموت وملا نزل جثثًا تحيا وعيونها جاحظة‬
‫طي اللحود‪».‬‬
‫ً‬
‫تبديل‪ ،‬وأصبح زارا‬ ‫هذا ما قاله أحد العرافني‪ ،‬فذهب قوله نافذًا قلب زارا فبدَّله‬
‫حزينًا متعبًا يرضب يف األرض شبيهً ا بمن ذكرهم الع َّراف يف نبوءته‪.‬‬
‫وقال زارا ألتباعه‪ :‬لن يميض زمن طويل حتى ينسدل هذا الغسق القاتم عىل‬
‫وجه األرض‪ ،‬وأنا أحاذر أال أجد وسيلة للعبور بنوري إىل ما وراءه فأنقذه من‬
‫االنطفاء‪ .‬هل من حافظ له بني هذه األحزان وأنا قد أعددته لييضء يف العوالم‬

‫‪164‬‬
‫البعيدة ويش َّع يف طيَّات الظالم السحيق‪.‬‬
‫وسار زارا شاردًا يحمل همَّ ه يف قلبه‪ ،‬فأمىض ثالثة أيام ال يذوق فيها طعامً ا‬
‫وال رشابًا وال يعرف الراحة حتى وقف لسانه عن الكالم‪ ،‬فاستغرق يف نوم عميق‬
‫وجلس صحبه حوله يسودهم القلق طوال الليايل متوقعني أن يفيق لريدوه عن‬
‫أحزانه‪.‬‬
‫وأفاق أخريًا فخاطبهم بصوت كأنه ترديد صدًى بعي ٍد ً‬
‫قائل‪« :‬أصغوا إيل َّ‪ ،‬أيها‬
‫ألقص عليكم ما رأيت يف حلمي وساعدوني عىل تعبريه‪ ،‬فإن حلمي قد‬ ‫الصحاب‪َّ ،‬‬
‫أُغمض عيل َّ ولم يزل مَ عْ ناه كامنًا فيه‪.‬‬
‫رأيتني هجرت الحياة واخرتت مهنة حارس للقبور عىل الجبل املقفر حيث‬
‫يرتفع قرص املوت‪ ،‬فكنت أحرس النعوش وهي أسالب النرص تغص بها الدهاليز‬
‫املظلمة‪ ،‬فكنت أرى الساقطني يف معرتك الحياة املسجَّ ني يف التوابيت املغطاة‬
‫بالزجاج يحدجونني بنظراتهم املروعة‪ ،‬وهنالك نشقت عرف األبدية غبا ًرا يتطاير‬
‫عىل روحي فريهقها‪ ،‬وال أستطيع أن أنفض عنها هذا الغبار الثقيل‪.‬‬
‫وكانت أصداء الليل تدور بي ومعها شبح العزلة واالنفراد‪ ،‬فكان رفيقي سكون‬
‫املوت تتعاىل فيه من حني إىل حني حرشجة ا ُملدنَفني‪.‬‬
‫وكنت أحمل املفاتيح وقد عالها الصدأ أعالج بها أصلب األبواب؛ فترصف‬
‫مصاريعها برصاخ أبح لئيم يذهب مد ِّويًا يف الدهاليز كأن ال َّد َرفات أجنحة أطيار‬
‫تنكمش وتنعق متململة ممن يريد تنبيهها من رقادها‪.‬‬
‫وعندما كان يخيم السكوت بعد هذا الدوي كان يبلغ رعبي أشدَّه‪ ،‬فأبقى وحدي‬
‫محا ً‬
‫طا بهذا الصمت الرهيب‪.‬‬
‫ً‬
‫متمهل‪ ،‬لو صح أن يف مثل هذه الرؤى زمان‪ ،‬إىل أن وقع ما أفقت‬ ‫ومر الزمان‬
‫له مذعو ًرا‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫ُقرع الباب ثالث مرات بدويٍّ كأنه الرعد القاصف‪ ،‬فهتفت الدهاليز ثالث مرات‬
‫ُ‬
‫وتقدمت إىل القفل أعالجه فلم يتزحزح قيد أنملة‪ ،‬وهبت‬ ‫بصدًى كأنه الزئري‪،‬‬
‫العاصفة بشدة فدفعت باملرصاعني ورمت إيل َّ بنعش أسود‪ ،‬وقد تصدَّع الهواء‬
‫بالصفري والولولة وسقط النعش فانحطم وخرجت منه آالف من القهقهات‪،‬‬
‫آالفا من األطفال واملالئكة وطيور البوم واملجانني والفراشات الضخمة‬‫فرأيت ً‬
‫يطفِ رون حويل ساخرين‪.‬‬
‫ً‬
‫رصاخا مريعً ا‪ ،‬فانتبهت‬ ‫واستوىل الخوف عيل َّ فإذا أنا مطروح عىل األرض أرصخ‬
‫لصوتي مذعو ًرا‪.‬‬
‫وسكت زارا لحظة وهو حائر‪ ،‬فإذا بأحبِّ أتباعه إليه ينهض ويقبض عىل يده‬
‫قائل‪« :‬إن تعبري رؤياك إنما هو يف حياتك نفسها يا زارا‪ ،‬أفلست أنت النعش‪،‬‬ ‫ً‬
‫وقد حشدت الحياة فيها سيئاتها وعبوس مالئكتها؟ أفليس زارا يجتاح اللحود‬
‫مقهقهً ا كاألطفال ساخ ًرا بالساهرين عىل القبور الخافرين لها‪ ،‬مستهزئًا بكل من‬
‫تقرقع املفاتيح يف أيديهم‪.‬‬
‫لسوف يذعر هؤالء الناس منك فيطرحهم ضح ُكك ً‬
‫أرضا فيُغمى عليهم‪ ،‬ثم‬
‫ينتبهون وبذلك يثبت عليهم سلطانك‪.‬‬
‫لقد اطلعت لنا كواكب جديدة يف اآلفاق ونرشت من الليل ما كنا نجهله من‬
‫البهاء‪ ،‬والحق أنك مددت ضحك فوق رءوسنا فأظ َّلنا بعديد ألوانه‪ ،‬فمنذ اآلن‬
‫ستتعاىل قهقهة األطفال من النعوش وستعصف من الجهود القاتلة الريح التي‬
‫نتوقعها‪.‬‬
‫ً‬
‫منسلخا عنهم وعدت‬ ‫لقد مثَّلت ُ‬
‫نفسك أعداءَك فأزعجتك رؤياك‪ ،‬ولكنك انتبهت‬
‫إىل روعك‪ ،‬وهم ً‬
‫أيضا سينتبهون فريجعون إليك‪».‬‬
‫هكذا تكلم التابع‪ ،‬فدار سائر األتباع بزارا يشدون عىل يديه محاولني إقناعه‬
‫ً‬
‫جالسا‬ ‫بالنهوض من فراشه واالنسالخ عن أحزانه ليعود إليهم‪ ،‬غري أن زارا بقي‬

‫‪166‬‬
‫عىل فراشه وعيناه جاحظتان كأنه عائد من سفر بعيد ال يعرف ممن حوله أحدًا‪،‬‬
‫ولكن أتباعه رفعوه وأوقفوه؛ فانتبه فجأة وتغريت سحنته فمد يده يداعب شعر‬
‫قائل‪ :‬كل هذا سيكون عندما يحني زمانه‪ ،‬فأعدُّوا لنا غذاء‬‫لحيته ورفع عقريته ً‬
‫طيبًا اآلن ِّ‬
‫ألكفر عن الرؤيا التي رأيت‪ ،‬غري أن الع َّراف سيجلس إىل جنبي ليأكل‬
‫ويرشب معي وسأريه بح ًرا يغرق فيه نفسه‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬
‫ً‬
‫طويل وهو يه ُّز رأسه …‬ ‫ولكنه حدَّق يف وجه تابعه الذي عرب له حلمه‪ ،‬حدَّق به‬

‫‪167‬‬
‫الفداء‬

‫وسار زارا يومً ا عىل الجرس فأحاط به رهط من أهل العاهات واملتسولني‪ ،‬وتقدم‬
‫أيضا يستفيد من تعاليمك وقد‬‫إليه أحدب يقول له‪ :‬التفت إىل الشعب يا زارا‪ ،‬فهو ً‬
‫بدأ يؤمن بسنَّتك‪ ،‬ولكن الشعب بحاجة إىل أمر واحد ليتوطد إيمانه بك‪ :‬عليك يا‬
‫زارا أن تتوصل إىل إقناعنا نحن أهل العاهات‪ ،‬وأمامك اآلن نخبة منهم وما لك‬
‫بع ُد مثل هذه الفرصة تنتهزها لتقوم باختبارك عىل مثل هذا العدد من الرءوس‪،‬‬
‫بوسعك اآلن أن تشفي العميان واملقعدين فتخفف األثقال‪ ،‬وتريح املتعبني‪ ،‬تلك‬
‫هي الطريقة املثىل لهداية هؤالء القوم إىل اإليمان بزارا‪.‬‬
‫فأجاب زارا‪ :‬مَ ْن يرفع عن ظهر األحدب حدبته فقد نزع منه ذكاءه‪ .‬هذه هي‬
‫تعاليم الشعب‪ ،‬وإذا أُعيد النور إىل عيني األعمى فإنه لريى عىل األرض كثريًا من‬
‫قبيح األشياء فيلعن من سبَّب شفاءه‪ ،‬ومن يُطلق ِرج َل األعرج من قيدها فإنه‬
‫ركضا حتى تتحكم فيه رذائله فتدفعه إىل‬‫ً‬ ‫يورثه أَذيَّة كربى؛ إذ ال يكاد يسري‬
‫غايتها‪ .‬هذه هي التعاليم التي ينرشها الشعب‪ ،‬وهل عىل زارا إال أن يأخذ عن‬
‫الشعب ما أخذه الشعب عنه؟‬
‫غري أنني منذ نزلت بني الناس سهل عيل َّ أن أرى منهم مَ ن تنقصه عني‪ ،‬ومن‬
‫تنقصه إذن‪ ،‬وآخر فقد رجليه‪ ،‬وهنالك من فقدوا لسانهم أو أنفهم أو رأسهم‪.‬‬
‫ُ‬
‫أعرضت عن ذكرها فال‬ ‫وهكذا رأيت أقبح األمور‪ ،‬وهنالك أشياء أشد قبحً ا إن‬
‫يسعني السكوت عن أكثرها‪.‬‬
‫رجال فقدوا كل يشء‪ ،‬غري أنهم يملكون شيئًا يسوده اإلفراط‪ ،‬فهم رجال‬
‫ً‬ ‫رأيت‬
‫كأنهم عني عظيمة أو فم واسع أو بطن كبري أو عضو آخر كبري ال غري‪ ،‬وما هؤالء‬
‫الناس إال أهل العاهات املعكوسة‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫ً‬
‫مندهشا ال أصدق‬ ‫وعندما عدت من عزلتي ألجتاز هذا الجرس للمرة األوىل وقفت‬
‫فلحَ يل‬‫ما أرى فقلت‪ :‬هذه أذن‪ ،‬أذن وسيعة كأنها قامة رجل‪ ،‬وتقدمت إليها َ‬
‫وراءها يشء صغري لم يزل يتحرك‪ ،‬وهو ناحل ضعيف يستدعي اإلشفاق فإن‬
‫األذن الكربى كانت قائمة عىل ساق دقيق‪ ،‬وما كانت هذه الساق إال إنسانًا‪ ،‬ولو‬
‫ظارة لرأيت فوقه وجهً ا يتقطب بالحسد‪ ،‬وين ُّم عن‬ ‫أنك تفرست يف هذا اليشء بن َّ‬
‫روح صغرية تريد االنتفاخ وترتجف عىل قاعدتها‪.‬‬
‫رجل فحسب‪ ،‬بل هي ً‬
‫أيضا رجل عظيم‬ ‫وقال يل الشعب‪ :‬إن هذه األذن ليست ً‬
‫بل عبقري من عباقرة الزمان‪ ،‬غري أنني ما صدقت الشعب يومً ا إذا هو تكلم عن‬
‫عظماء الرجال‪ ،‬فاحتفظت بعقيدتي وهي أن هذا الرجل ذو عاهة معكوسة؛ إذ‬
‫ليس له إال القليل من كل يشء والكثري من يشء واحد‪.‬‬
‫وبعد أن وجه زارا هذا الخطاب إىل األحدب ومن تكلم بالوكالة عنهم اتجه نحو‬
‫أتباعه‪ ،‬وقد تحكم الكدر فيه فقال‪ :‬والحق أنني أسري بني الناس كأنني أميش بني‬
‫أنقاض وأعضاء منثورة عن أجسادها‪ ،‬وذلك أفظع ما تقع عليه عيناي فإنني أرى‬
‫ْ‬
‫لجأت عيني إىل املايض هاربة‬ ‫أشالء مقطعة كأنها بقايا مجزرة هائلة‪ ،‬وإذا ما‬
‫أيضا أنقاض وأعضاء أشالء‬ ‫من الحارض فإنها لتُصدم باملشهد نفسه‪ ،‬فهنالك ً‬
‫ً‬
‫رجال …‬ ‫وحادثات مروعة‪ ،‬ولكنني ال أرى‬
‫إن أشد ما يقع عيل َّ أيها الصحاب‪ ،‬إنما هو الحارض واملايض وما كنت ألطيق‬
‫ً‬
‫مستكشفا ما ال بد من وقوعه يف آتي الزمان‪ ،‬وما زارا إال بارصة‬ ‫الحياة لو لم أكن‬
‫تخرتق الغيب فهو رجل العزم وهو املبدع‪ ،‬هو املستقبل وا َملعْ َب املؤدي إىل‬
‫املستقبل‪ ،‬هو وا أسفاه ذو عاهة ينتصب عىل هذا املعرب‪.‬‬
‫أيضا تتساءلون مرا ًرا‪ :‬من هو زارا؟ وبماذا نسميه؟ فال تتلقون غري‬ ‫وأنتم ً‬
‫السؤال جوابًا كما أتلقاه أنا‪.‬‬
‫أهو من يَعِ ُد أم من ِّ‬
‫ينفذ الوعد؟ أهو فاتح أم وريث أهو الطبيب أم هو الناقه؟‬

‫‪169‬‬
‫أشاعر هو أم رجل حقيقة؟ أمحرر أم متسلط؟ أصالح أم رشير؟‬
‫ما أنا إال سائر بني الناس شطر ًة من املستقبل الذي يرتاءى لبصريتي وجميع‬
‫أفكاري تتجه إىل جمع وتوحيد كل ما تف َّرق عىل أرسار وتبدَّد عىل الصدف العمياء‪.‬‬
‫وما كنت ألحتمل أن أكون إنسانًا لو أن اإلنسان لم يكن شاع ًرا مح ِّل ًل لألرسار‬
‫ومفتديًا إلخوانه من ظلم ما تسمونه صدفة وده ًرا‪ ،‬وما الفداء إال يف إنقاذ من‬
‫ذهبوا‪ ،‬وتحويل كل ما كان إىل ما أريد لو أنه كان …‬
‫واملبش بالغبطة إال اإلرادة نفسها‪ ،‬وهذا ما أُع ِّلمكم إياه يا أصحابي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ما املخ ِّلص‬
‫أيضا أن هذه اإلرادة لم تزل سجينة مقيدة‪.‬‬ ‫ولكن اعلموا ً‬

‫إن اإلرادة تنقذ‪ ،‬ولكن ما هي القوة التي تقيد ا ُملنقِ ذ نفسه؟‬


‫إن داء اإلرادة الوحيد إنما هو كلمة «قد كان» تقف اإلرادة أمامها تحرق اإلرم‬
‫عاجزة عن النيل من كل ما كان‪ ،‬فاإلرادة تنظر بعني الرش إىل كل ما فات‪ ،‬وليس‬
‫لها أن تدفع بقوتها إىل الوراء‪ ،‬فهي أضعف من أن تحطم الزمان وما يريده‬
‫الزمان‪ ،‬وهذا داء اإلرادة الدفني‪.‬‬
‫إن اإلرادة تُنقذ‪ ،‬ولكن ما هو تصور اإلرادة يف عملها للتخلص من دائها وهدم‬
‫جدران سجنها؟‬
‫وا أسفاه! إن كل سجني يصبح مجنونًا‪ ،‬وما تنقذ اإلرادة السجينة نفسها إال‬
‫بالجنون‪.‬‬
‫إن الزمان ال يعود أدراجه‪ ،‬ذلك ما يثري غضب اإلرادة وكيدها‪ ،‬فهنالك صخر ال‬
‫طاقة لإلرادة برفعه‪ ،‬وهذا الصخر إنما هو األمر الواقع‪.‬‬
‫لذلك تهبُّ اإلرادة وقد تملكها الغيظ مقتلعة األحجار منتقمة من كل مَ ْن ال‬
‫يجاريها يف كيدها وثورتها‪ ،‬وهكذا تصبح اإلرادة املنقذة قوة رشيرة تصب جام‬
‫غضبها عىل كل قانع بعجزها عن الرجوع إىل ما فات‪ ،‬وهل انتقام اإلرادة إال عبارة‬

‫‪170‬‬
‫عن كرهها للزمان؛ ألنه أوقع ما ال قِ بَل لها بردِّه؟‬
‫والحق أن إرادتنا مصابة بالجنون‪ ،‬وقد نزلت لعنة عىل البرشية منذ تع َّلم‬
‫الجنون أن يتفكر‪ .‬إن خري ما طرأ عىل اإلنسان حتى اليوم إنما هو فكرة االنتقام‪،‬‬
‫وهكذا سيبقى العقاب مالزمً ا لأللم يف كل زمان ويف كل مكان‪ ،‬وهل فكرة االنتقام‬
‫إال العقاب بذاته‪ ،‬فما كلمة االنتقام إال كلمة مكذوبة يقصد بها التعبري عن الضمري‪.‬‬
‫إن كل مُري ٍد يتألم ألنه ال قبل له بالرجوع إىل املايض لر ِّد ما فات‪ ،‬ولهذا لزم أن‬
‫تكون اإلرادة بل كل حياة عىل اإلطالق كفارة وعقابًا‪.‬‬
‫بمثل هذه االعتقادات َّ‬
‫تلفع العقل بالغيوم فانبثق منه الجنون ً‬
‫هاتفا‪ :‬كل يشء‬
‫يزول‪ ،‬فكل يشء يستحق الزوال‪.‬‬
‫إن العدل نفسه يقيض بأن يفرتس الزمان أبناءه‪ ،‬هذا ما أعلنه الجنون‪.‬‬
‫لقد وُضع الناموس األدبي ً‬
‫وفقا للحقوق وللعقاب‪ ،‬فأين املفر من نهر الحياة‬
‫الجارف؟ وما الحياة إال عبارة عن عقاب‪ ،‬وهذا ً‬
‫أيضا ما أعلنه الجنون‪.‬‬
‫ليس من حادث واحد يمكننا أن نزيله من الوجود‪ ،‬فهل للعقاب أن يمحو‬
‫الحادثات؟ وهل من خلود لغري األعمال يف وجود ال ينفك يحول العمل عقابًا‬
‫والعقاب ً‬
‫عمل؟ وال مناص من هذه الحلقة املفرغة ما لم تتوصل اإلرادة إىل الفرار‬
‫من ذاتها فتصبح حينذاك إرادة منفية‪.‬‬
‫إنكم تعرفون‪ ،‬أيها اإلخوة‪ ،‬هذه األغاني التي يتشدَّق بها الجنون‪ ،‬وقد أقصيتكم‬
‫من سماعها عندما ع َّلمتكم أن اإلرادة مبدعة‪ ،‬كل ما فات يبقى مب َّددًا منثو ًرا كأنه‬
‫أرسار ومصادفات رائعة إىل أن تقول اإلرادة‪ :‬إنني أنا أردت هذا‪ ،‬ثم تقول‪ :‬وهذا‬
‫ما أريده اآلن وسأريده غدًا‪.‬‬
‫هل نطقت اإلرادة بمثل هذا حتى اليوم؟ وأي متى ستنطق به؟ هل هي تملصت‬
‫من قيود جنونها فأصبحت تفتدي الحادثات بعزمها وتبرش بالحبور؟ هل هي‬

‫‪171‬‬
‫طرحت فكرة االنتقام وتوقفت عن حرق األرم من كيدها؟ مَ ْن ترى تمكن من‬ ‫ا َّ‬
‫تعليمها مساملة الزمان بل ما يفوق هذه املساملة؟‬
‫يجب عىل اإلرادة وال أعني سوى إرادة االقتدار أن توجِّ ه مشيئتها إىل ما هو‬
‫أعظم من املساملة‪ ،‬ولكن أنَّى لها ذلك ومن سيع ِّلمها أن توجه هذه املشيئة إىل ما‬
‫فات؟‬
‫وتوقف زارا عن الكالم فجأة كأن رعبًا شديدًا حل به؛ فاتسعت حدقاته وشخص‬
‫بأتباعه ساب ًرا أفكارهم غري أنه ما لبث أن عاد إىل الضحك‪ ،‬فقال بكل هدوء‪ :‬ما‬
‫ً‬
‫وخاصة إذا كان ثرثا ًرا‪.‬‬ ‫تهون الحياة بني الناس ألن الصمت صعب عىل املرء‬
‫هكذا تكلم زارا …‬
‫ولكن األحدب الذي كان يصغي إىل هذا الحديث‪ ،‬وهو يسرت وجهه بيديه سمع‬
‫قهقهة زارا ففتح عينيه مستغربًا وقال‪ :‬ملاذا يخاطبنا زارا بغري ما يخاطب به‬
‫أتباعه‪.‬‬
‫فقال زارا‪ :‬وهل من عجب يف هذا؟ أفما يصح أن يُخاطب األحدب بأقوال لها‬
‫حدبتان‪.‬‬
‫فقال األحدب‪ :‬وال عجب ً‬
‫أيضا يف أن يخاطب زارا تالميذه كمعلم أوالد‪ ،‬ولكن‬
‫ملاذا يخاطب أتباعه بغري ما يخاطب به نفسه؟‬

‫‪172‬‬
‫حكمة البشر‬

‫ليست األعايل ما يخيف بل األعماق‪ ،‬فعىل الجرف تحدق العني يف الهاوية وتمتد‬
‫اليد نحو الذرى فيقبض الدوار باإلرادتني عىل القلب‪.‬‬
‫أفتعلمون أيها الصحاب ما هي إرادة قلبي املزدوجة؟ إن الخطر املحدق بي عىل‬
‫منحدري إنما هو اتجاه نظري إىل الذروة بينما تتلمس يدي مستندًا يف الفضاء‪،‬‬
‫وما أعلق إرادتي َّإل عىل اإلنسان فتشدني إليه مرهقات القيود؛ ألنني منجذب منه‬
‫إىل اإلنسان املتفوق فإليه تندفع إرادتي الثانية‪ ،‬إنما أنا أحيا بني الناس كالرضير‬
‫ال يعرف من حوله‪ ،‬كيال تفقد يدي ثقتها من الوقوع عىل مستند مكني‪.‬‬
‫أنا ال أعرفكم أيها الناس‪ ،‬تلك هي ظلمتي َّ‬
‫أتلفع بها وتعزيتي ألجأ إليها‪.‬‬
‫فأنا جالس أمام الباب متوجهً ا إىل األوغاد صائحً ا بهم‪ :‬إيل َّ يا من يريد أن‬
‫يخدعني‪.‬‬
‫إن أول حكمة برشية أعمل بها هي أن أستسلم لخداع الناس‪ ،‬فال أضطر إىل‬
‫الوقوف أبدًا موقف الحذر ألن يف الناس من يخدعون‪.‬‬
‫ولو أنني وقفت هذا املوقف يف العالم أكان يتسنَّى لإلنسان أن يثقل منطادي‬
‫فيمنعه من االنفالت واالنطالق إىل أبعد اآلفاق؟‬
‫إن إغفايل للحذر إنما هو عناية تسهر عيل َّ إليصايل إىل ما هو مقدور‪.‬‬
‫إذا أنت امتنعت عن الرشب من كل كأس فإنك هالك ظمأ‪ ،‬فإذا أردت أن تبقى‬
‫طاه ًرا بني الناس فعليك أن تتعود االغتسال باملاء القذر‪.‬‬
‫ل َكم ناجيت قلبي ألعزيه‪ ،‬فقلت له‪ :‬صربًا أيها القلب الهرم‪ ،‬إنك لم تفلح بهذه‬

‫‪173‬‬
‫النقمة فتنعَّ م بها كأنها نعمة‪.‬‬
‫وهذه حكمتي البرشية الثانية‪ :‬إنني أداري املغرور بأكثر مما أداري الفخور؛‬
‫ألن الغرور الجريح مبعث كل النائبات‪ ،‬يف حني أن العزة الجريحة تستنبت‬
‫جرحها ما هو خري منها‪.‬‬
‫إذا لم يحسن املمثلون لرواية الحياة أدوارهم فيها فخري لك أال تشهدها‪ ،‬وليس‬
‫أمهر من أهل الغرور يف التمثيل؛ ألنهم يقومون بأدوارهم وكل إرادتهم متجهة‬
‫إىل اكتساب رىض املشاهدين وإعجابهم‪ ،‬وهم ال يدخرون وسعً ا يف سبيل خلق‬
‫شخصيتهم وتمثيلها؛ لذلك يلذ يل أن أنظر من خاللهم إىل الحياة فهم خري دواء‬
‫ً‬
‫ممثل أمام‬ ‫للسوداء‪ ،‬أنني أداري أهل الغرور ألنهم أُساة أحزاني املقيمون اإلنسان‬
‫عياني‪.‬‬
‫وفوق ذلك فمن له أن يسرب األعماق يف تواضع املغرور؟ فأنا أريد الخري ملثله‬
‫وأشفق عليه بسبب اتضاعه‪ ،‬فهو يريد أن يقتبس منكم ثقته بنفسه متغذيًّا من‬
‫ً‬
‫متسول الثناء من تصدية أكفكم‪ ،‬إن املغرور ليصدق أكاذيبكم إذا ما‬ ‫نظراتكم‪،‬‬
‫أحسنتم إيرادها عنه‪ ،‬فما هو إال حائر يشك بأعماق نفسه يف قيمة نفسه‪.‬‬
‫إذا كانت الفضيلة الحقيقية تجهل ذاتها‪ ،‬فاملغرور كذلك ال يعرف شيئًا عن‬
‫تواضعه‪.‬‬
‫ً‬
‫سبيل إىل‬ ‫أما حكمتي البرشية الثالثة فقائمة عىل أنني ال أدع الستحيائكم‬
‫رس بالنظر إىل ما تخلق حرارة الشمس من‬ ‫تنفريي من مشاهدة األرشار‪ ،‬فأنا أ ُ ُّ‬
‫عجائب املخلوقات كالنمور وأشجار النخل واألفاعي ذوات األجراس‪ ،‬ولكم بني‬
‫الناس من أمثال لهذه املخلوقات العجيبة أفقستها حرارة الشمس ً‬
‫أيضا‪ ،‬ويف‬
‫األرشار من البدائع اليشء الكثري …‬
‫ً‬
‫مبالغا يف‬ ‫عقل ال يبلغ يف نظري منتهى الحكمة‪ ،‬كذلك ال أرى الرش إال‬‫إن أوفركم ً‬
‫وصفه‪ ،‬ولكم تساءلت مشك ًكا‪ :‬ملاذا ال تزال األفاعي ُّ‬
‫تطن بأجراسها؟‬

‫‪174‬‬
‫إن لكل يشء مستقبله حتى الرشور‪ ،‬فالظهرية البالغة التناهي يف إرشاقها لم‬
‫تنكشف لإلنسان حتى اليوم‪ ،‬لكم من أمور تُعترب رشو ًرا يف هذا الزمان وهي ال‬
‫تتجاوز الثالث عرشة قدمً ا حجمً ا‪ ،‬وال الثالثة أشهر بقاء‪ ،‬وغدًا سيولد ما هو أعظم‬
‫ً‬
‫خليقا باإلنسان املتفوق‪ ،‬فإن‬ ‫منها‪ ،‬وال بد من أن تخلق الحيا ُة التن َ‬
‫ني املتفوق‬
‫شموسا محرقة ستُدخل حرار َة اإلبداع يف الغابات الغضة الرطبة التي لم تمسسها‬ ‫ً‬
‫ي ٌد بعد‪.‬‬
‫ال بد من أن تصبح وحوشكم نمو ًرا وعقاربكم تماسيح‪ ،‬فيجد القنَّاص يف الغاب‬
‫ما يرضيه‪.‬‬
‫والحق أن فيكم كثريًا من املضحكات يا رجال العدل والصالح‪ ،‬ولشد ما‬
‫ً‬
‫إبليسا‪ ،‬لقد بعد املجال بني روحكم وكل عظيم‪،‬‬ ‫يضحكني خوفكم ممن دعوتموه‬
‫فإذا ما الح لكم اإلنسان املتفوق بصالحه أورثكم ً‬
‫خوفا ورعبًا‪ ،‬فإنكم أيها الحكماء‬
‫والعلماء‪ ،‬ستولون األدبار إذا ما لفحتكم الحكمة املشعة عىل اإلنسان املتفوق يف‬
‫غبطته وعريه‪.‬‬
‫لقد وقعت عيني عليكم‪ ،‬أيها العظماء‪ ،‬فأدركت هذا الرس‪ ،‬وهأنذا أُعلنه لكم‪:‬‬
‫إنكم ستصفون اإلنسان املتفوق الذي أنبئكم به بأنه شيطان الشياطني‪.‬‬
‫ً‬
‫إرهاقا يل أوفرهم عظمة‪ ،‬فأنا أتوقف إىل اجتياز‬ ‫أتعبني هؤالء العظماء‪ ،‬وأشدهم‬
‫مرتبتهم فأفوتها وأنا أتجه إىل اإلنسان املتفوق‪.‬‬
‫لقد عرتني هزة عندما شاهدت خيار العظماء يف عريهم‪ ،‬فشعرت بجناحني‬
‫استنبتهما ساعداي ألح ِّلق بعيدًا عنهم يف آفاق الدهور اآلتية‪ .‬إنني أتوجه إىل‬
‫الدهور البعيدة‪ ،‬إىل الظهريات الغارقة بأنوار لم يحلم بها الفن من قبل‪ ،‬فهنالك‬
‫تتجىل اآللهة خجولة من كل ما يقع من حادثات عىل األرض‪.‬‬
‫ليتني أراكم متنكرين‪ ،‬أيها اإلخوة واألقرباء‪ ،‬أهل الصالح والعدل‪ ،‬فتبدون‬
‫بحللكم وقد نفخها الغرور‪ ،‬وليتني أجلس بينكم متنك ًرا أنا ً‬
‫أيضا‪ ،‬كيال أعرف من‬

‫‪175‬‬
‫أنا؛ ألن هذه آخر حكمة يل من حكم البرش‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪176‬‬
‫أعمق الساعات صم ًتا‬

‫ماذا جرى يل يا صحابي؟ لقد سادني االضطراب؛ فأضعت هداي وأراني‬


‫مندفعً ا بالرغم مني إىل الرحيل واالبتعاد عنكم وا أسفاه‪.‬‬
‫أجل‪ ،‬عىل زارا أن يعود إىل عزلته‪ ،‬غري أن الدُّب يرجع إىل مغارته كئيبًا حزينًا‪،‬‬
‫ماذا جرى يل ومن تُرى يضطرني إىل الرحيل؟‬
‫إنها «هي» موالتي الغاضبة‪ ،‬لقد كلمتني فأعلنت يل إرادتها‪ ،‬وما كنت ذكرت‬
‫لكم اسمها حتى اليوم‪ ،‬هي أعمق ساعاتي صمتًا وهي نفسها موالتي القاهرة‪،‬‬
‫كلمتني أمس‪.‬‬
‫وسأقص عليكم ما جرى فال أخفي عنكم شيئًا؛ كيال يقسو قلبكم عيل َّ وأنا‬
‫أفاجئكم برحييل عنكم‪.‬‬
‫أتعلمون ما هي خشية من يستسلم للكرى؟ إنه الذعر يستويل عىل اإلنسان من‬
‫رأسه إىل أخمص قدميه؛ ألن أحالمه ال تبتدئ ما لم تنسحب األرض من تحته‪.‬‬
‫أمثال‪ ،‬فأصغوا إيل َّ‪ :‬أمس عند أعمق الساعات صمتًا خلت‬
‫ً‬ ‫إنني أرضب لكم‬
‫األرض من تحتي وبدأت أحالمي‪.‬‬
‫وكان العقرب يدبُّ عىل ساعة حياتي يف خفقانها‪ ،‬وما كنت سمعت من قبل مثل‬
‫هذا السكوت يسود حويل ويروع قلبي‪.‬‬
‫وسمعتها «هي» تقول يل‪ ،‬وال صوت لها‪ :‬إنك تعرف هذا يا زارا‪.‬‬
‫فصحت مذعو ًرا عند سماعي هذه النجوى‪ ،‬وتصاعد الدم إىل رأيس‪.‬‬
‫فعادت هي تقول‪ ،‬وال صوت لها‪ :‬أنت تعرف هذا يا زارا‪ ،‬ولكنك ال تعلنه‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫فانتفضت وأجبت بلهجة املتحدِّي‪ :‬أجل إنني أعرف هذا‪ ،‬ولكنني ال أريد أن‬
‫أعلن ما أعرف‪.‬‬
‫ِ‬
‫تخف نفسك وراء هذا‬ ‫فقالت «هي» وال صوت لها‪ :‬أصحيح أنك ال تريد؟ ال‬
‫التحدي يا زارا‪.‬‬
‫قائل‪ :‬وياله‪ ،‬أريد أن أُرصِّ ح‪ ،‬ولكن هل ذلك‬
‫فأخذت أبكي وأرتعش كالطفل ً‬
‫بإمكاني؟ أعفيني من هذه املهمة ألنها تفوق طاقتي‪.‬‬
‫فقالت‪ ،‬وال صوت لها‪ :‬وما أهميتك أنت يا زارا‪ ،‬قل كلمتك وتح َّ‬
‫طم‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬أهي كلمتي ما يهم‪ ،‬فمن أكون أنا؟ إنني أنتظر من هو أجدر مني‬
‫بإعالنها‪ ،‬وما أنا أهل ألصطدم باملنتظر فأنحطم عليه‪.‬‬
‫فقالت‪ ،‬وال صوت لها‪ :‬وما أهميتك أنت ما دمت لم تصل بعد إىل ما أريده من‬
‫االتضاع؟ وما أقىس ما يتشح االتضاع به‪ ،‬وما أصلب جلده!‬
‫فقلت‪ :‬لقد تحمَّ ل جَ َل ُد اتضاعي كثريًا‪ ،‬فأنا ساكن عند قاعدة ارتفاعي‪ ،‬ولم‬
‫يدلني أحد بعد عىل ذراه العاليات‪ ،‬ولكنني تمكنت من سرب أغواري ومعرفتها‪.‬‬
‫فقالت‪ ،‬وال صوت لها‪ :‬أي زارا‪ ،‬أنت املع ُّد لنقل الجبال من مكان إىل مكان‪ ،‬أفما‬
‫بوسعك أن تنقل أغوارك ومهاويك ً‬
‫أيضا؟‬
‫فقلت‪ :‬لم تنقل كلمتي الجبال بعد‪ ،‬فإن ما قلته لم يبلغ حتى آذان الناس‪ ،‬لقد‬
‫أتيت إىل العالم غري أنني لم أتصل به بعد‪.‬‬
‫فقالت‪ ،‬وال صوت لها‪ :‬وما يدريك …؟ إن الندى يتساقط عىل العشب يف أشد‬
‫أوقات الليل سكوتًا‪.‬‬
‫فأجبت‪ :‬لقد هزأ الناس بي عندما اكتشفت طريقي ومشيت عليها‪ ،‬والحق‬
‫أن رجيل َّ كانتا ترتجفان إذ ذاك‪ ،‬فقال يل الناس‪ :‬لقد ضللت سبيلك يا زارا‪ ،‬بل‬
‫أصبحت ال تعرف أن تنقل خطاك‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫فقالت‪ ،‬وال صوت لها‪ :‬وأية أهمية لسخريتهم؟ لقد تخ َّلصت من الطاعة يا‬
‫زارا‪ ،‬فوجب عليك أن تأمر اآلن‪ ،‬أفال تعلم أن من يحتاج الجميع إليه بأكثر من‬
‫احتياجهم إىل أي يشء إنما هو من يقيض يف عظائم األمور؟‬
‫إن القيام بالكبائر صعب‪ ،‬وأصعب من هذا أن يأمر اإلنسان بها‪ .‬إن ذنبك الذي‬
‫ال يغتفر هو أنك ذو سلطان وال تريد أن تتح َّكم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ليس يل صوت األسد ألُصدِر أوامري‪.‬‬
‫فقالت — كأنها تهمس ً‬
‫همسا‪ :‬ال يثري العاصفة إال الكلمات التي ال صوت لها‪.‬‬
‫إن من يدير العالم إنما هي األفكار التي تنترش كأنها محمولة عىل أجنحة الحمام‪.‬‬
‫عليك أن تسري يا زارا كأنك شبح ملا سيكون يومً ا يف آتي الزمان‪ ،‬هكذا تندفع يف‬
‫سبيلك إىل األمام وأنت تتوىل الحكم‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬إن الخجل يتوالني‪.‬‬
‫طفل فيذهب خجلك عنك‪ .‬إن غرور‬ ‫فعادت تقول‪ ،‬وال صوت لها‪ :‬عليك أن تعود ً‬
‫الشباب َّملا يزل مستوليًا عليك؛ ألنك بلغت الشباب متأخ ًرا‪ ،‬ولكن عىل من يريد‬
‫الرجوع إىل طفولته أن يتغلب عىل شبيبته‪.‬‬
‫واستغرقت يف تفكريي وأنا أرتجف‪ ،‬ثم عدت إىل تكرار كلمتي األوىل ً‬
‫قائل‪ :‬ال‬
‫أريد‪ ،‬وعندئذ ارتفع حويل صوت قهقهة مزقت قلبي وصدَّعت أحشائي‪.‬‬
‫وقالت «هي» للمرة األخرية‪ :‬أي زارا‪ ،‬إن أثمارك ناضجة‪ ،‬غري أنك لم تنضج أنت‬
‫ألثمارك‪ ،‬فعليك إذن أن تعود إىل العزلة لتزيد يف قساوتك لينًا‪.‬‬
‫وعاد الضحك يتعاىل‪ ،‬فشعرت أنها انرصفت عني «هي» وعاد الصمت يسود‬
‫بأعمق مما كان حويل‪ ،‬أما أنا فبقيت منطرحً ا عىل األرض سابحً ا يف عرقي‪.‬‬
‫واآلن‪ ،‬وقد أعلنت لكم كل يشء أيها الصحاب‪ ،‬فهأنذا أعود إىل عزلتي وما أخفيت‬
‫عنكم شيئًا‪ .‬أرحل عنكم بعد أن علمتكم أن تعرفوا من هو أشد الناس تكتمً ا‪ ،‬ومن‬

‫‪179‬‬
‫يريد أن يكون كتومً ا‪.‬‬
‫وا أسفاه‪ ،‬أيها الصحاب‪ ،‬إن لديَّ ما أقوله لكم ً‬
‫أيضا‪ ،‬ولديَّ ما أبذله‪ ،‬فلماذا ال‬
‫أبذله اآلن؟ ألعلني أصبحت شحيحً ا؟‬
‫وما نطق زارا بهذا حتى أرهقه سلطان حزنه الضطراره إىل الرحيل‪ ،‬فبكي‬
‫منتحبًا وما تمكن أحد من تعزيته‪ ،‬ومع هذا ما أرخى الليل سدوله حتى ذهب زارا‬
‫وحده تحت جنح الظالم متخليًا عن صحبه‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫الجزء الثالث‬

‫المسافر‬

‫وكان قد انتصف الليل عندما توجه زارا إىل أكمة الجزيرة‪ ،‬وهو يج ُّد يف السري‬
‫ليبلغ الشاطئ اآلخر عند بزوغ الفجر؛ إذ كان يقصد اإلبحار من هذه الجهة حيث‬
‫ترسو بعض املراكب لتق َّل طالب املهاجرة من الجزر السعيدة‪.‬‬
‫وتذ َّكر زارا الرحالت التي قام بها منفردًا منذ صباه‪ ،‬فمرت بمخيلته رسوم‬
‫الجبال والتالل والذرى التي تسلقها يف حياته‪ ،‬فقال‪« :‬ما أنا إال رحَّ الة ومتسلق‬
‫مرتفعات‪ ،‬وما تستهويني منبسطات األرض وال يستقر بي مقام‪ ،‬ومهما ُقدِّر عيل َّ‬
‫ومهما وقع يل فال تعدو الحوادث أن تكون يف نظري رحلة واعتالء‪ ،‬فما يل أن أرى‬
‫من اآلفاق إال ما انطبع منها يف نفيس‪ ،‬ولقد مىض الزمن الذي كان يل فيه أن أتوقع‬
‫الحوادث من خطرات الحظ‪ ،‬وهل يل أن أنال من الدهر شيئًا لم يستقر يف نفيس‬
‫من قبل؟‬
‫إن كل ما يطرأ عيل َّ بعد اآلن إنما هو ذاتي العائدة تكرا ًرا بعد انفراطها وتمازجها‬
‫يف األشياء وتصاريف الزمان‪ .‬غري أنني أصبحت اآلن عىل مدرج آخر الذرى أمام‬
‫أصعب مسلكٍ ما اقتحمت مثله يف حياتي‪ ،‬فأنا أبدأ اآلن أش َّد رحالتي عناء وأروعها‬
‫وحشة‪.‬‬
‫وأنَّى ملثيل أن يتجنَّب مثل هذه الساعة التي تهتف قائلة‪ :‬إنك عىل مبدأ طريق‬
‫املجد حيث تتداخل الذرى يف املهاوي‪ .‬أنت تسري عىل هذه الطريق‪ ،‬وكنت تراها‬

‫‪181‬‬
‫ً‬
‫قبل آخر ما تقتحم من أخطار‪ ،‬فأصبحت لديك آخر ملجأ تهرع إليه‪.‬‬
‫إنك تسري عىل طريق املجد فعليك أن تتذرع بالحزم األوىف؛ لتقطع بنفسك خط‬
‫الرجوع عىل نفسك‪.‬‬
‫إنك تسري عىل طريق املجد‪ ،‬فأنت منفرد عليها ال يزحمك أحد من ورائك‪ ،‬وقد‬
‫محت أقدامك آثار خطاك عىل ما وراءك من املسالك‪ ،‬والحت كلمة املستحيل‬
‫مخطوطة عىل آفاق هذه الطريق‪.‬‬
‫وال بد لك إذا ما خلت املدارج تحت أقدامك أن تتسلق قمة رأسك؛ إذ ال سبيل لك‬
‫لالعتالء إال إذا اتجهت إليه وإىل ما وراءه وأنت تدوس عىل قلبك‪ ،‬وهكذا سيُشقيك‬
‫ما كان يحلو لديك‪.‬‬
‫إن من أفرط يف ادخار جهوده ال يلبث حتى يُبتىل بالخمول‪ ،‬تبارك ك ُّل جهد‬
‫يشد العزم‪ ،‬فال خري يف أرض تد ُّر اللبن والعسل‪ ،‬ومن يطمح إىل اإلحاطة بأمور‬
‫كثرية فليتدرب عىل إرسال أبصاره إىل ما وراء حدود ذاته‪ ،‬وعىل كل متسلق للذرى‬
‫ً‬
‫متجسسا بفضوله إال‬ ‫أن يتعزز بمثل هذا الحزم؛ إذ ال يسع من يتحرى األمور‬
‫الوقوف عند أسهل األفكار ً‬
‫منال‪ ،‬وأنت يا زارا تطمح إىل اإلحاطة بالعلل وإىل نفوذ‬
‫خفايا األمور‪ ،‬فعليك أن تحلق فوق ذاتك فتجتازها متعاليًا حتى ترى ما فيك من‬
‫كواكب وهي تتصاغر يف كل أفق دون أفقك الرفيع‪.‬‬
‫أجل إن ذروتي إنما هي حيث أقف ناظ ًرا إىل األعماق فأرى فيها ذاتي وكواكبها‪،‬‬
‫تلك هي آخر هضبة أطمح إىل بلوغ قمتها‪».‬‬
‫ً‬
‫معلل بالتعاليم الصارمة ما يف‬ ‫بهذا كان يناجي زارا نفسه‪ ،‬وهو يصعد املرتفع‬
‫قلبه من جراح‪.‬‬
‫وعندما بلغ الذروة انبسط البحر أمام ناظريه‪ ،‬فوقف مبهوتًا واستغرق يف‬
‫صمت طويل‪ ،‬وكانت السماء ال تزال تتألق بالنجوم والهواء يهب باردًا عىل األكمة‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫وهتف زارا حزينًا‪« :‬لقد تبيَّنت ما ُقدِّر عيلَّ‪ ،‬وها أنا ذا مستعد لإلقدام فهذه آخر‬
‫عزلة أقتحمها‪.‬‬
‫سأنحدر إليك أيها البحر املظلم املنبسط عند أقدامي‪ ،‬أنت الليايل املفعمة‬
‫باألحزان‪ ،‬أنت القضاء والقدر أيها الخِ َضم البعيد‪.‬‬

‫إنني أقصد أرفع جبايل مقتحمً ا أبعد أسفاري فعيل َّ إذن أن أهبط إىل ٍ‬
‫مهاو أبعد‬
‫يف أغوارها من كل ذروة رقيتها حتى اآلن‪.‬‬
‫ُ‬
‫رسبت يف مثلها من قبل فأصل إىل قرارة ما‬ ‫عيل َّ أن أذهب من األىس إىل أغوار ما‬
‫ُ‬
‫يف األحزان من ظلمات‪ .‬ذلك ما ُقدر عيل َّ فأنا عىل أ ْهبة اقتحامه‪.‬‬
‫لقد تساءلت فيما مىض عن منشأ الجبال فعرفت أخريًا أنها نهدت من البحار‪،‬‬
‫كما تشهد صخورها وجروف ذرواتها‪ ،‬فما يبلغ األعىل مقامه إال النطالقه من‬
‫املقام األدنى‪».‬‬
‫هكذا تكلم زارا‪ ،‬وهو ماثل عىل قمة الجبل تدور به لفحات الصقيع‪ ،‬ولكنه ما‬
‫بلغ الشاطئ ووقف بني نتوءات صخوره حتى ح َّل عليه التعب وتزايدت أشواقه‪،‬‬
‫فقال‪« :‬إن البحر هاجع ً‬
‫أيضا فعينه الو َْسنى تحدجني بلفتات غريبة وأنفاسه‬
‫الح َّرى تهب عيلَّ‪ .‬إنه مستغرق يف أحالمه يتقلب مضطربًا عىل جافيات مسانده‪،‬‬
‫إنني أستمع لهديره كأنه ينئ بتذكارات مفجعات‪ ،‬وقد يكون هذا الهدير نذي ًرا‬
‫بالشؤم يف آتي الزمان‪.‬‬
‫إنني أشاطرك األىس أيها املدى املظلم الوسيع‪ ،‬فأنا بسببك ناقم عىل نفيس أتمنى‬
‫لو طالت يدي فأنقذك من أصفاد أحالمك‪».‬‬
‫وانتبه زارا‪ ،‬فإذا هو يضحك ساخ ًرا من ذاته فتمرمر وتساءل عما إذا كان سيبلغ‬
‫به حماسه إىل إطالق إنشاده لتعزية البحار‪ ،‬وعما إذا كان سيستمر مضعضعً ا‬
‫يف سكرة غرامه واستسالمه فقال‪« :‬لقد عرفتك يف كل زمان يا زارا تقتحم األمور‬
‫الخطرية بال كلفة وبال مباالة‪ ،‬وقد رأيتك طوال حياتك تدغدغ الوحوش املفرتسة‪،‬‬

‫‪183‬‬
‫فكان يكفيك منها أن تهتاج حبك بأنفاسها الح َّرى وبنعومة مخالبها لتجتذبك‬
‫إليها‪.‬‬
‫ليس من خطر أعظم من الحب يحدق باملستغرق يف عزلته‪ ،‬فإن املنفرد يحب‬
‫كل يشء يتنسم فيه الحياة‪ ،‬وما أعجب جنوني بالحب وتساهيل فيه!»‬
‫هكذا تكلم زارا وقد عاد إىل الهزء بنفسه‪ ،‬غري أنه تذكر مَ ن هجر من خالنه‪،‬‬
‫فخيل إليه أنه يُيسء إليهم بتفكريه فيهم‪ ،‬فنقم عىل نفسه وانقلب من ضحكه إىل‬
‫البكاء‪ ،‬فسالت دموعه مريرة يتمازج فيها الغضب والشوق‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫الرؤى واأللغاز‬

‫‪1‬‬
‫وعندما تناقل البحارة خرب وجود زارا بينهم — وكان بلغهم ذلك من رجل‬
‫دخل السفينة معه قادمً ا من الجزر السعيدة — ساد الجميع يشء من القلق‬
‫وباتوا يتوقعون حدثًا يف وجوده‪ ،‬غري أن زارا بقي يومني جامدًا تساوره أحزانه‪،‬‬
‫تحدق فيه األنظار فال يلتفت‪ ،‬وتوجَّ ه إليه األسئلة فال يجيب‪ ،‬وأخريًا أصغى ملا‬
‫أبحاث لها خطورتها تدور عىل هذه السفينة القادمة‬ ‫ٍ‬ ‫يقال حوله متوقعً ا سما َع‬
‫من بعيد واملتجهة إىل أماكن سحيقة‪ ،‬وما كان زارا لينفر من األسفار البعيدة‬
‫طويل حُ َّلت عقدة لسانه فانطلق يقول‪ :‬إليكم أيها‬
‫ً‬ ‫ومن األخطار‪ ،‬وبعد أن أصغى‬
‫الشذاذ الجريئون أيًّا كنتم‪ ،‬أيها املستسلمون للرشاع الغدار عىل هائجات األمواج‪.‬‬
‫إليكم أيها الثملون بخمرة األرسار‪ ،‬املنجذبون بني خيوط الظلمات واألنوار إىل‬
‫نغمات كل شبَّابة تنوح يف املجاهل الخفية‪ ،‬إنكم تنفرون من تَلمُّ س طريقكم بيد‬
‫مرتجفة عىل ما نُصب من دليالت الحبال؛ إذ تفضلون اإلدراك بالحس عىل اإلدراك‬
‫باالستقراء‪.‬‬
‫إليكم دون سواكم أوجه الخطاب أل ُ ْخ ِب بما تجىل من ألغاز وبما خطر من رؤى‬
‫ً‬
‫استغراقا يف عزلته‪.‬‬ ‫ألش ِّد الناس‬
‫لقد اجتزت الغسق يف أشد فرتاته وجومً ا‪ ،‬اقتحمته وقد تقلصت شفتاي وعال‬
‫ً‬
‫شموسا كثرية تجنح إىل الغروب‪.‬‬ ‫وجهي االغربار‪ ،‬وكنت شاهدت من قبل‬
‫ً‬
‫طريقا وع ًرا تعرى جانباه‬ ‫ً‬
‫طريقا يتسلل عىل جروف املرتفعات‪،‬‬ ‫رأيت أمامي‬
‫من كل نبات فدفعت عليه أقدامي أتحداه فأسمع رصيف حصاه تحتها‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫مشيت صامتًا أحاول تثبيت الحىص املتطايرة بخطواتي؛ ألنجو من االنزالق‬
‫عليها‪.‬‬
‫واعتليت فإذا بروح الكثافة وهو عدوي األلد يش ُّد بي إىل األعماق‪ ،‬واعتليت ً‬
‫أيضا‬
‫والخ ْلد من سكان األوجار يسكب يف‬‫فإذا بهذا الروح املطبق عيل َّ كالقزم من الناس ُ‬
‫متمهل هازئًا‪ :‬أيْ زارا‪،‬‬
‫ً‬ ‫أذني ودماغي كلمات ثقيلة كالرصاص‪ ،‬فسمعته يقول يل‬
‫أيها الحجر املدَّعي الحكمة‪ ،‬لقد رشقت نفسك إىل ما فوق‪ ،‬ولكن أي حجر ارتفع‬
‫ولم يسقط عائدًا إىل مصدره؟‬
‫أيْ زارا أيها الحجر الحكيم املنقذف إىل العال ليزعزع الكواكب يف مدارها ما أنت‬
‫إال القاذف واملقذوف معً ا‪ ،‬فال بد لك من السقوط ككل حجر يُرشق إىل ما فوق‪.‬‬
‫لقد حكمت بالرجم فكان حكمك به عىل نفسك‪ ،‬وهذا الحجر الذي فوَّقته سريجع‬
‫طا عليك‪.‬‬‫ساق ً‬
‫ً‬
‫طويل حتى ضاقت من سكوته أنفايس‪ ،‬فالرفيق الصامت يشعرك‬ ‫وسكت القزم‬
‫بوحشة االنفراد أكثر مما تشعر بها وأنت وحدك ال رفيق لك‪.‬‬
‫وارتقيت ً‬
‫أيضا وأنا تائه يف تفكريي وأحالمي شاعر بتزايد الضيق يف صدري‬
‫كأنني عليل نبهته أضغاث أحالمه فاستفاق ليشعر بأوجاعه‪.‬‬
‫غري أنني أعهد بنفيس قوة أسميها شجاعة‪ ،‬وهي القوة التي أرغمت بها كل وهن‬
‫يف نفيس‪ ،‬بهذه الشجاعة تذرعت فصحت بالقزم ً‬
‫قائل‪ :‬إن واحدًا منا يجب عليه‬
‫أن يتوارى‪.‬‬
‫ما من قاتل كالشجاعة التي تهاجم‪ ،‬وما من فيلق يتقدم إال ويف طليعته األنغام‬
‫الحاديات‪.‬‬
‫إن أوفر الحيوانات شجاعة إنما هو اإلنسان الذي قهر بشجاعته سائر‬
‫الحيوانات‪ ،‬وتغ َّلب عىل جميع األوجاع ماشيًا وراء حاديات األنغام بالرغم من أن‬
‫أوجاع اإلنسان أشد ما يف الكون من أوجاع‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫وللشجاعة ً‬
‫أيضا فضيلة ردع الدوار املستويل عىل الرءوس حني تحدق يف األعماق‪،‬‬
‫وما من موقف لإلنسان ال هاوية تحته وما عليه إال أن يحدق لريى املهاوي من أي‬
‫موقف يف مواقفه‪.‬‬
‫إن الشجاعة خري ما يقتل فإنها تقتل اإلشفاق ً‬
‫أيضا‪ ،‬وما من هاوية أبعد قرا ًرا‬
‫من اإلشفاق؛ ألن نظر اإلنسان ليذهب وهو يسرب اآلالم إىل أقىص مدى يبلغه عند‬
‫سربه الحياة نفسها‪.‬‬
‫إن خري ما يقتل إنما هي الشجاعة إذا هاجمت؛ ألنها ستتوصل أخريًا إىل قتل‬
‫املوت نفسه؛ ألنها تقول يف ذاتها‪« :‬يا للعجب! أهذا ما كانت الحياة؟ إذن ألرجعن‬
‫إليها مرة أخرى‪ ».‬إن يف مثل هذه العقيدة أش َّد حِ داء يدفع إىل اإلقدام‪ ،‬من له أذنان‬
‫سامعتان فليسمع‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫قائل‪ :‬يجب أن يبقى أحدنا ويفنى اآلخر‪ .‬إنني أنا األقوى؛‬ ‫واستوقفت القزم ً‬
‫ألنك ال تدرك أعمق أفكاري‪ ،‬وما أعمقها إال فكرة ال قِ بَل لك باحتمالها‪ .‬فارتمى‬
‫فخف حميل‪ ،‬فإذا بهذا القزم يجلس القرفصاء عىل حجر أمامي‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫القزم عن كتفي‬
‫وإذا نحن تجاه باب كأنه وجد صدفة هناك فقلت لرفيقي‪ :‬انظر إىل هذا الباب فإن‬
‫له واجهتني‪ ،‬وهنا ملتقى مسلكني لم يبلغ إنسان أقصاهما؛ أحدهما منحدر يمتد‬
‫إىل أبدية‪ ،‬واآلخر مرتفع يمتد إىل أبدية أخرى‪ ،‬واملسلكان يتعارضان متقاطعني‬
‫عند هذا الباب‪ ،‬وقد ُكتب اسمه عىل رتاج واحد «الحني»‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬أتعتقد أيها القزم أن من يتوغل يف أحد هذين املسلكني يبقى معتقدًا بأن‬
‫اتجاه أحدهما معارض التجاه اآلخر؟‬
‫فقال القزم بازدراء‪ :‬إن كل اتجاه عىل خط مستقيم إنما هو اتجاه مكذوب‬
‫فالحقيقة منحرفة؛ ألن الزمان نفسه خط مستدير أوله آخره‪.‬‬
‫فأجبته ً‬
‫قائل‪ :‬ال تستخف باألمر أيها الروح الكثيف‪ ،‬وإال غادرتك فتعطب رجلك‬

‫‪187‬‬
‫تنس أنني أنا حملتك إىل األعايل‪ .‬تفكر يف «الحني» الذي نحن فيه‬ ‫حيث أنت‪ ،‬وال َ‬
‫اآلن‪ ،‬فإن من بابه يمتد سلك أبدي ال نهاية له مرتاجعً ا إىل الوراء‪ ،‬فإن وراءنا أبدية‬
‫يا هذا‪.‬‬

‫أفما كان لزامً ا عىل كل يشء م ٍ‬


‫ُعزز بمعرفة السري أن يجتاز هذا املسلك فيما‬
‫الوصول أن يكون قد وصل فيما مىض‬
‫ِ‬ ‫مىض؟ أفما تحتم عىل كل يشء له طاقة‬
‫فأت َّم سريه وعرب؟‬
‫وإذا كان كل موجود اآلن قد وُجد من قبل فما هو اعتقادك يف هذا الحني؟ أفما‬
‫كان لهذا الباب وجود سابق؟‬
‫أفما ترى األشياء كلها متداخلة‪ ،‬وإن هذا «الحني» يجر وراءه كل ما سيكون‪،‬‬
‫بل يجر نفسه ً‬
‫أيضا؟‬
‫أفما يتحتم والحالة هذه عىل كل مع َّزز بقوة السري أن يندفع مرة أخرى عىل هذا‬
‫املسلك املتجه إىل ما فوق؟‬
‫انظر إىل هذه العنكبة التي تدب عىل مهل تحت شعاع القمر! انظر إىل شعاع‬
‫القمر نفسه وإىل ذاتي وذاتك مجتمعتني تحت هذا الباب تتهامسان بأرسار األبد!‬
‫أفما تعتقد أنه ال بد أن نكون وقفنا جميعً ا من قبل يف هذا املكان؟‬
‫أفليس علينا أن نعود لنندفع تكرا ًرا عىل املسلك اآلخر الذاهب أمامنا متصاعدًا‬
‫ً‬
‫مستطيل مروعً ا؟ أفما لزم علينا أن نعود تكرا ًرا وأبدًا؟‬
‫هكذا كنت أتكلم بصوت يتزايد انخفاضه‪ ،‬وقد أرعبتني أفكاري وما كمن وراء‬
‫أفكاري‪ ،‬فإذا بي أسمع فجأة نباح كلب عىل مقربة منا‪.‬‬
‫ُخيِّل إيل َّ أنني سمعت مثل هذا النباح من قبل‪ ،‬ورجعت بتذكاري إىل املايض‬
‫فإذا هو يسمعني هذا النباح يف أبعد أيام طفولتي‪ ،‬ويمثل يل مثل هذا الكلب الذي‬
‫ً‬
‫مرتجفا يف أشد الليايل سكونًا حيث يرتاءى‬ ‫أراه اآلن وقد وقف شعره‪ ،‬ومد رقبته‬

‫‪188‬‬
‫للكالب ً‬
‫أيضا أن يف العالم أشباحً ا‪.‬‬
‫ونبَّه نباح الكلب إشفاقي؛ إذ تذكرت أنه عندما عوى منذ هنيهة كان القمر يطل‬
‫من وراء البيت صامتًا كاملوت‪ ،‬ومنذ هنيهة كان هذا القمر يستقر فوق السطح‬
‫كقرص ملتهب يراود ما ليس له‪ ،‬وذلك ما أثار غضب الكلب؛ ألن الكالب تؤمن‬
‫بالسارقني واألشباح‪.‬‬
‫عندما سمعت هذا النباح للمرة الثانية عاودني اإلشفاق تكرا ًرا‪.‬‬
‫أين توارى القزم اآلن ومعه الباب والعنكبة وأحاديث املناجاة؟ أكنت يف حلم‬
‫فاستفقت‪ ،‬فأنا اآلن وحيد بني جرداء الصخور ال سمري يل غري شعاع القمر املنفرد‬
‫يف السماء‪.‬‬
‫لكنني رأيت ً‬
‫رجل مسجَّ ى عىل األرض‪ ،‬وكان الكلب يقفز وقد اقشع َّر جلده وهو‬
‫يهدر هدي ًرا‪ ،‬وإذ رآني قادمً ا نحوه بدأ بالنباح فتساءلت عما إذا كنت سمعت من‬
‫قبل كلبًا ينبح بمثل هذا الرصاخ املستغيث‪.‬‬
‫والحق أن ما رأيت يف ذلك املكان ما كنت رأيت مثله؛ ألنني شاهدت أمامي راعيًا‬
‫فتيًّا ينتفض محترضً ا‪ ،‬وقد ارتسم الروع عىل وجهه وتدلت من فمه أفعى حالكة‬
‫السواد‪ ،‬فتساءلت عما إذا كنت رأيت قبل اآلن مثل هذا االشمئزاز والشحوب عىل‬
‫ط يف رقاده عندما انسلت األفعى إىل‬‫وجه من الوجوه‪ ،‬لعل هذا الراعي كان يغ ُّ‬
‫حلقه وانشبكت فيه‪.‬‬
‫وبدأت أسحب األفعى بيدي‪ ،‬ولكنني شددت عبثًا‪ ،‬فسمعت من داخيل صوتًا‬
‫تن حتى تقطع رأسها‪ ،‬وهكذا‬ ‫عض عليها بأسنانك وال ِ‬ ‫قائل‪َّ :‬‬
‫يهيب بالراعي ً‬
‫سمعت بهذا الهتاف أصوات رعبي واشمئزازي وضغينتي وإشفاقي كأنها صوت‬
‫واحد يتعاىل مني‪.‬‬
‫فيا أيها الشجعان املحيطون بي‪ ،‬أيها الشذاذ املكتشفون‪ ،‬يا من تقتحمون‬
‫مجاهل البحار مستسلمني للرشاع الغدَّار‪ ،‬وأنتم ترسون باملعميات واأللغاز‪ِّ ،‬‬
‫عبوا‬

‫‪189‬‬
‫رؤى املنفرد وحلوا ما رأى من معميات وقد كمن فيها ما كان وما سيكون‪.‬‬
‫أي هذه الرموز يدل عىل ما فات وأيها يدل عىل ما هو آت؟‬
‫اندست األفعى يف فمه؟ ومن هو اإلنسان الذي سيصاب‬ ‫من هو الراعي الذي َّ‬
‫بمثل هذه الداهية الدهماء؟‬
‫عىل أن الراعي بدأ يشد بأسنانه منفذًا ما أرشت به‪ ،‬وما لبث أن تَ َفل دافعً ا برأس‬
‫األفعى إىل بعيد‪ ،‬ثم انتفض ووقف عىل قدميه‪.‬‬
‫وتبدلت هيئة الراعي فلم يعد راعيًا حتى وال إنسانًا؛ إذ جلله اإلشعاع وضحك‬
‫ضحكة ما سمعت حياتي مثلها‪.‬‬
‫لقد سمعت يا إخواني ضحكة ليست من عالم اإلنسان‪ ،‬ولم أزل منذ ذلك الحني‬
‫أحرتق بشهوة ال أجد ما يطفئها‪ .‬إن شهوة هذه الضحكة تنهش أحشائي فكيف‬
‫أرىض املوت بعد اآلن‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪190‬‬
‫الغبطة القاسرة‬

‫وسار زارا يقطع أبعاد البحر تساوره مثل هذه الهموم‪ ،‬وتدور به مثل هذه‬
‫األرسار‪ ،‬حتى إذا تخطى مجال أربعة أيام عن الجزر السعيدة وما ترك عليها‬
‫من صحبه‪ ،‬اشتدت عزيمته فتغلب عىل آالمه‪ ،‬وثبَّت قدميه يف موقفه متجهً ا إىل‬
‫مقدراته مناجيًا رسيرته وقد عاد إليها مرحها ورسورها ً‬
‫قائل‪ :‬لقد فزعت إىل‬
‫عزلتي؛ ألنني تقت إليها‪ ،‬فأنا اآلن منفرد أمام صفاء السماء ومدى البحار‪ ،‬وقد‬
‫خطا النهار إىل عرصه وما التقيت بأصحابي للمرة األوىل إال يف وقت العرص‪،‬‬
‫ويف مثل هذا اليوم اجتمعت بهم للمرة الثانية‪ ،‬والعرص هو الساعة التي يهدأ‬
‫فيها اضطراب األنوار جميعها؛ ألن السعادة الذاهبة بددًا منشورة عىل مسالكها‬
‫بني السماء واألرض تتجه إىل االستقرار يف روح الضياء‪ ،‬وها إن السعادة تحوِّل‬
‫اضطراب النور إىل سكون‪.‬‬
‫أيضا قد انحدرت يومً ا إىل الوادي تطلب‬ ‫فيا لعرص حياتي! إن سعادتي هي ً‬
‫مستق ًرا‪ ،‬فلقيت هذه األرواح النرية تفتح لها امللجأ األمني‪.‬‬
‫ً‬
‫توصل إىل مغارس أفكاري‬ ‫يا لعرص حياتي! ل َكم تخليت عن أشياء يف الحياة‬
‫أماني وآمايل‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الحية‪ ،‬وإىل أنوار الصباح تدور يف ذراتها أسمى‬
‫لقد طلب املبدع يومً ا ً‬
‫رفاقا له وفتش عن أبناء آماله‪ ،‬فأدرك أنه لن يجدهم إذا‬
‫هو لم يخلقهم ً‬
‫خلقا‪.‬‬
‫لقد أتممت نصف مهمتي باتجاهي نحو أبنائي وبعودتي إليهم‪ ،‬وقد وجب عىل‬
‫زارا أن يُبْلِغ نفسه الكما َل من أجل هؤالء األبناء‪ ،‬وما يحب اإلنسان من صميم قلبه‬
‫إال ابنه ونتيجة جهوده‪ ،‬وحيث يتجىل الحب األشد فهنالك تكمن القوة املو ِّلدة‪ ،‬ذلك‬
‫ما أدركته بتفكريي‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫إن أزهار أبنائي ال تزال تتفتق يف الربيع والريح تهب عىل صفوفهم فتهزها‪،‬‬
‫فأبنائي أشجار حديقتي ونبت خري أرايضَّ ‪.‬‬
‫إن هذه األشجار مرتاصة يف منابتها عىل الجزر السعيدة‪ ،‬ولسوف أقتلعها‬
‫واحدة فواحدة ألغرسها متفرقة فتتعلم احتمال العزلة وتنشأ فيها األنفة والحزم؛‬
‫لينتصب كل منها تجاه البحر وقد تصلبت جزوعها وتعقدت أغصانها كمنائر‬
‫حية للبقاء القاهر‪.‬‬
‫عىل كل شجرة أن تشخص يف مهب العواصف املرتامية إىل البحر حيث يتدافع‬
‫ليل ونها ًرا عن تفحص رسائرها‪ ،‬عليها أن‬‫الغمر إىل قاعدة الجبل‪ ،‬فال تغفل ً‬
‫تتحمل التجارب ليُعلم أنها من ساللتي وأنها تحدرت من أصيل تعززها اإلرادة‬
‫املجالدة‪ ،‬فتبدو صامتة حتى عندما تتكلم‪ ،‬وإذا ما استسلمت تبدو معطية وهي‬
‫آخذة‪ ،‬وهكذا يتحول من يميش عىل أثر زارا بأرضابه وبإبداعه إىل شخصية تحفر‬
‫رشيعتي عىل الواحي فيكتمل بذلك كل يشء‪.‬‬
‫وهأنذا من أجل هذه الشخصية وأمثالها أسعى إىل تكوين شخصيتي؛ فأمتنع‬
‫عن ورود السعادة مقتحمً ا كل شقاء يف آخر تجربة أتحملها ألدرك رسيرتي‪.‬‬
‫لقد آن األوان لرحييل وقد نبَّهني إىل وجوب الرحيل خيال املسافر وأطول األزمان‬
‫وأعمق الساعات صمتًا؛ إذ نفخ الريح يف فتحة القفل فرتاجعت درفة الباب قائلة‪:‬‬
‫هيَّا‪.‬‬
‫ولكنني كنت مقيدًا بحبي ألبنائي يأرسني تشوقي إىل هذا الحب ألصبح فريسة‬
‫لهؤالء األبناء فأضحي من أجلهم نفيس‪ ،‬وما الشوق عندي إال صورة ظاهرة‬
‫ً‬
‫مستحيل‬ ‫لحقيقة فنائي‪ .‬إن أبنائي يل ويف هذه التملك يجب أن يضمحل كل شوق‬
‫إىل عقيدة مكينة‪.‬‬
‫وكان رأيس يلتهب بشمس محبتي فأتح َّرق بحرارة دمي‪ ،‬فرأيت أشباح الشكوك‬
‫تدور بي من كل جهة فتمنيت أن يلفحني ق ُّر الشتاء حتى تصطك أسناني من‬

‫‪192‬‬
‫رعشة الصقيع‪ ،‬وما عتم أن اكتسح نفيس ضباب الجليد‪ ،‬فشق املايض لحوده‬
‫وبُعثت منه اآلال ُم التي دُفنت وهي حية فيها‪ ،‬وما تناولها الفناء ألنها كانت نائمة‬
‫عىل أكفانها‪.‬‬
‫وكان كل يشء يشري إيل َّ بأن قد حان زمن الرحيل‪ ،‬ولكنني كنت ال أنتبه إىل هذه‬
‫الدعوة حتى تحركت أعماقي ولسعتني ثائرات أفكاري‪ ،‬ويا ليت يل القوة للتغلب‬
‫عىل ارتعايش عندما أشعر بقوة التفكري يف أغواري تحاول أن تخرتق لها منفذًا‪،‬‬
‫فإنني ال أزال أحس باختالج قلبي عندما أتنصت لدبيب أفكاري وهي تحاول‬
‫االنجالء يل‪ .‬إن يف صمتكِ نفسه أيتها الفكرة ما يشد عىل عنقي وأنت أشد صمتًا‬
‫من أغواري‪ ،‬ول َكم حاولت أن أستخرجك من األعماق أيتها الفكرة فخانني العزم‬
‫واكتفيت بإضماري إياك يف ذاتي‪ .‬إنني لم أتصل بعد إىل جرأة األسد وإىل منتهى‬
‫إقدامه‪.‬‬
‫إنكِ لج ُّد ثقيلة يف أغواري أيتها الفكرة‪ ،‬ولسوف أجد يومً ا قوة األسد‪ ،‬وأتخذ‬
‫ُ‬
‫تغلبت بذلك عىل نفيس‬ ‫لصوتي زئريه فأرفعك من الغور إىل املنبسط‪ ،‬حتى إذا ما‬
‫تدرجت إىل انتصار أعظم أختتم به أعمايل‪ ،‬وإىل أن أبلغ هذا الظفر سأبقى تائهً ا‬
‫َّ‬
‫فأتلفت إىل ما ورائي وإىل‬ ‫ساحل تداعبني خطرات األحداث‬ ‫ً‬ ‫عىل بحار ال أعرف لها‬
‫ما أمامي وال أعلم أين املنتهى‪.‬‬
‫ألم تحِ ْن بعد ساعة جهادي األخري أم هي ماثلة أمامي اآلن؟ والحق أن البحر‬
‫والحياة يحيطان بي بجمالهما الفتَّان ويعلقان أبصارهما عيلَّ‪.‬‬
‫فيا لعرص حياتي‪ ،‬يا للسعادة تتقدم ساعة املساء‪ ،‬يا للمرىس يف وسط العباب‪،‬‬
‫أحاذركن وال أثق َّ‬
‫بكن جميعً ا‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫يا للسكون يف قلب االرتياب‪ ،‬إنني‬
‫أما والحق إنني أخىش جمالكن الغدَّار كما يخىش العاشق ابتسامة تجاوزت ح َّد‬
‫التلطف يف ْاف ِتارها‪ .‬إنني أدفع عني ساعة السعادة كالغيور يص ُّد عن محبوبته‪،‬‬
‫وملا يزل العطف يتجىل يف قسوته وجفائه‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫ٌ‬
‫غبطة قارسة‪ ،‬وأنا أتوقع‬ ‫بُعدًا لك أيتها الساعة السعيدة! فقد اجتاحتني بحلولك‬
‫أعمق األحزان‪ .‬لقد جئتني يف غري األوان‪.‬‬
‫بُعدًا لك أيتها السعادة السعيدة! اذهبي واطلبي لك ملجأ هنالك يف مقر أبنائي‪،‬‬
‫سارعي إليهم وباركيهم قبل حلول املساء وأَنِيليهم سعادتي‪.‬‬
‫لقد اقرتب الغسق وجنحت الشمس إىل الغروب فتوارت عني سعادتي‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬
‫وبات يتوقع نزول شقائه به طوال ليله‪ ،‬غري أنه انتظر عبثًا؛ إذ بقي الليل منريًا‬
‫ساكنًا‪ ،‬واستمرت السعادة تخطو مع الساعات متقربة إليه‪ ،‬وما الح الفجر حتى‬
‫قائل‪ :‬إن السعادة تتأثَّرني ألنني ال أتأثَّر النساء‪ ،‬وهل السعادة‬
‫بدا زارا يتضاحك ً‬
‫إال امرأة؟‬

‫‪194‬‬
‫قبل بزوغ الشمس‬

‫أيتها السماء الرافعة قبابها فوق رأيس نقية صافية‪ ،‬أيتها السماء السحيقة وقد‬
‫ُ‬
‫غادرت يف أبعادك األنوار‪ ،‬إنني أشخص إليك فتتملكني رعشة األشواق اإللهية‪.‬‬
‫أنا ال أسرب أغواري إال إذا َس ُ‬
‫موت إىل عليائك‪ ،‬وال أشعر بطهارتي إال حني يجللني‬
‫صفاؤك‪.‬‬
‫إنك تحجبني نجومك كما َّ‬
‫يتلفع اإلله بسنائه‪ .‬أنت صامتة وبصمتك تذيعني يل‬
‫حكمتك‪.‬‬
‫ِ‬
‫تجليت يل اليوم يف سكونك عىل زبد اآلفاق فأعلنت لروحي املزبدة ما فيك‬ ‫لقد‬
‫من حب وعفاف‪ِ .‬‬
‫جئت إيل َّ جميلة مقنعة بجمالك تخاطبينني بال كالم‪ ،‬وتعلنني‬
‫حكمتك وما كنت أعلم ما يف روحك من عفاف‪ .‬أتيت إيل َّ قبل بزوغ الشمس أنا‬
‫املنفرد يف عزلتي‪.‬‬
‫أنا وأنت صديقان منذ األزل فأحزاننا واحدة كارتياعنا‪ ،‬وعمق أغوارنا وشمسنا‬
‫واحدة ً‬
‫أيضا‪ ،‬وما نتناجى إال لوفرة ما نعلم‪ ،‬ثم يسودنا الصمت فنتبادل ما أعرف‬
‫وما تعرفني بلغة البسمات‪ ،‬أفما بُعثت أنوارك من مكمن أنواري؟ أفليست فكرتك‬
‫أختًا لفكرتي؟‬
‫لقد تعلمنا كل يشء سوية‪ ،‬وتدربنا سوية عىل االعتالء فوق ذاتنا متجهني إىل‬
‫صميمها مبتسمني بافرتار ال تعكره الغيوم‪ ،‬وبلفتات صافية نغرقها يف سحيق‬
‫األبعاد يف حني تتدافع كاألمطار تحتنا النزعات املكبوتة وأهداف الخطيئة‪.‬‬
‫إال َم كانت تتوق نفيس عندما كنت أذهب يف الليل شاردًا عىل مسالك الضالل؟‬
‫وماذا كنت أطلب يف تسلقي الجبال نحو قممها؟ أفما كنت أنت مقصدي أيتها‬

‫‪195‬‬
‫السماء؟ وهل كانت أسفاري جميعها إال ذهابًا مع حافز التدرب؟ وهل كان‬
‫إلرادتي من هدف غري التحليق يف األجواء؟ وهل أبغضت شيئًا بغيض الغمام وكل‬
‫نقاب يلفع الضياء؟ لقد كرهت بغيض نفسه؛ ألنه يعكر صفاءك أيتها السماء‪.‬‬
‫زحفا؛ ألنها تختلس‬‫إنني أنفر من هذه الغيوم تمر كأنها قطط برية تزحف ً‬
‫مني ومنك أيتها السماء الحقيقة اإليجابية الثابتة يف كل يشء‪ ،‬فأنا وأنت ننفر من‬
‫هذه الدخيالت املعكرات من هذه الغيوم الكاسحات‪ ،‬فما هي إال كائنات مختلطة‬
‫يف نوعها يسودها الرتدد‪ ،‬فال تعرف أن تلعن بإخالص وال أن تبارك بإخالص‪،‬‬
‫وخري يل أن ألجأ إىل مغارة أو أسقط يف هاوية من أن أقف أمامك يا سماء الضياء‪،‬‬
‫وقد عكرت صفاءك الغيوم الكاسحات‪ ،‬ولكم وددت لو أنني أُسمِّ ر أردانها عىل‬
‫آفاقك بسهام الربوق الذهبية‪ ،‬ثم أنزل عليها الرعود تهود قاصفة عىل مراجل‬
‫أحشائها أنني أود قرعها بعصا الغيظ؛ ألنها تحجب عني حقائقك أيتها السماء‬
‫املمتدة بأغوار أنوارها فوق رأيس كما تحجب حقيقتي عنك‪.‬‬
‫لخريٌ يل أن أسمع هزيم الرعود وولولة العواصف من أن أتنصت إىل مواء هذه‬
‫الهررة الزحَّ افة املرتددة‪ ،‬ففي املجتمع أمثال لهذه الغيوم يسريون مرتددين‬
‫بخطوات الذئاب‪ ،‬وقد وقفت أشد بغيض عليهم‪.‬‬
‫«عىل من ال يعرف أن يمنح الربكة أن يتعلم إنزال اللعنات‪ ».‬ذلك ما ألهمتنيه‬
‫السماء الصافية مبدأ ينري سمائي كالكواكب يف أشد الليايل قتامً ا‪.‬‬
‫دمت فوقي أيتها السماء الصافية املتألقة باألنوار فإنني ال أنقطع عن منح‬ ‫ما ِ‬
‫الربكة وإيراد بياني إيجابًا وتأكيدًا؛ ألنري بعقيدتي جميع األغوار املظلمة‪.‬‬
‫ذراعي‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫طويل حتى أصبحت مبار ًكا ومؤكدًا‪ ،‬وما ناضلت إال ألحرر‬ ‫لقد جاهدت‬
‫فأبسطهما للربكة‪ ،‬وتقوم بركتي عىل االعتالء فوق كل يشء كما تعتيل السماء‬
‫والسقوف املكورة وقباب األجراس والغبطة الدائمة‪ ،‬فطوبي ملن يبارك هكذا؛ ألن‬
‫كل األشياء قد تعمَّ دت من ينبوع األبدية وما وراء الخري والرش‪ ،‬وما الخري والرش‬

‫‪196‬‬
‫إال خياالت عابرة وأحزان بليلة وغيوم مرتاكضة إىل الفناء‪.‬‬
‫والحق أن من الربكة ال من اللعنة أن نعلم بأن فوق كل يشء تمتد سماء الصدفة‬
‫وسماء الرباءة وسماء الحرية وسماء االضطراب‪.‬‬
‫ُ‬
‫أرجعت كل األشياء‬ ‫إن كلمة الصدفة ألقد ُم ما يف العالم من نسب لألشياء‪ ،‬وقد‬
‫إىل هذا النسب النبيل فأنقذتها من عبودية املقصد والهدف‪ ،‬وهكذا رفعت الحرية‬
‫ُ‬
‫علمت أن ليس‬ ‫والغبطة السماوية عاليًا ونصبتها كالقباب فوق جميع األشياء؛ إذ‬
‫من إرادة أبدية تعلو بها لتبسط مقاصدها فوقها‪.‬‬
‫لقد وضعت حدًّا لهذه اإلرادة بل لهذا الجنون وهذا االضطراب عندما علمت أن‬
‫ً‬
‫مستحيل‪ ،‬فما هناك إال قليل من‬ ‫ً‬
‫مستحيل وسيبقى‬ ‫الوقوف عند الحقيقة كان‬
‫التعقل وذرات من الحكمة تتلقفها الكواكب كخمرية امتزحت باألشياء جميعها‬
‫ولوال الجنون ملا امتزجت بها‪.‬‬
‫ليس لإلنسان أن يُعطي من الحكمة إال ً‬
‫قليل‪ ،‬غري أنني وجدت يف كل مكان‬
‫عقيدة لها سعادتها‪ ،‬وهي تفضيل الرقص عىل أرجل الصدفة العمياء‪.‬‬
‫فيا أيتها السماء املمتدة فوق رأيس‪ ،‬أيتها السماء الصافية املتعالية‪ ،‬لقد أصبح‬
‫كل صفائك فيك قائمً ا عىل اعتقادي بأن ليس يف الكون عنكبة خالدة‪ ،‬وليس فيه‬
‫من الحكمة ما تنسجه العناكب‪ ،‬فلتكن مجاالتك أيتها السماء مرسحً ا لخطرات‬
‫الصدف اإللهية‪ ،‬أو فلتكن خوانًا يدحرج عليه اآللهة نردهم‪ ،‬فلماذا يعلو أديم‬
‫وجهك االحمرار؟ أترى جاء بياني مبهمً ا أم وردت بركتي لك لعنة عليك؟ أم‬
‫ِ‬
‫فأردت أن أتوارى‪ ،‬وأكف عن الكالم؛ ألن الفجر قد الح عىل‬ ‫أخجلك أن أنفرد بك‬
‫اآلفاق؟‬
‫إن يف العالم من األغوار ما ال يدركه النهار‪ ،‬ومن األشياء ما يجب كتمانه أمامه‪،‬‬
‫وقد باغتنا النهار‪ ،‬فلنفرتق‪.‬‬
‫أيتها السماء املمتدة فوق رأيس بطهرها واضطرامها‪ ،‬أيتها الغبطة املتجلية قبل‬

‫‪197‬‬
‫بزوغ الشمس‪ ،‬لقد باغتنا النهار فلنفرتق‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪198‬‬
‫الفضيلة المصغرة‬

‫‪1‬‬
‫وملا وطئ زارا اليابسة‪ ،‬لم يتجه توًّا إىل جبله وغاره‪ ،‬بل ذهب يرضب يف اآلفاق‬
‫مستفرسا عن كل ما يرى فكان يقول عن نفسه‪ :‬ما أنا إال الجدول يتلوَّى عىل‬
‫منعطفاته متجهً ا إىل مصدره ال إىل مصبِّه‪ ،‬وما قصد زارا من تجواله إال معرفة ما‬
‫آلت إليه حالة الناس أثناء غيابه‪ ،‬وهو ال يدري أتعاظم اإلنسان أم تصاغر‪ ،‬وسار‬
‫زارا حتى أدَّى به املطاف إىل مسلسل من األبنية الحديثة فوقف أمامها‪ ،‬وهو يعلن‬
‫دهشته بقوله‪ :‬إال َم ترمز هذه املساكن؟ والحق أنها ليست من صنع روح جبارة‬
‫تعلن ذاتها بما تصنع‪ ،‬ولعلها أُخرجت من حقيبة طفل‪ ،‬فريجعها طفل آخر إىل‬
‫مستودع األالعيب‪.‬‬
‫أبوسع الرجال أن يدخلوا هذه الحُ جَ ر ويخرجوا منها وهي كأنها مُعدَّة‬
‫لصغريات الدُّمى الرافالت بالحرير أو لصغار الهررة النهمة التي تحرش ذاتها‬
‫لتفرتس فتصبح فريسة‪.‬‬
‫وشخص زارا مليًّا‪ ،‬ثم قال والحزن يهدج صوته‪ :‬لقد أصبح كل يشء صغريًا‪،‬‬
‫فإنني حيثما أوجه أنظاري ال أرى غري أبواب ُخفضت أرتاجها فإذا شاء أمثايل أن‬
‫يجتازوها تحتَّم عليهم أن ينحنوا‪.‬‬
‫أيطول بي الزمان حتى أعود إىل وطني حيث ال أرغم عىل االنحناء أمام كل‬
‫صغري‪ .‬قال هذا وأرسل نظراته تخرتق اآلفاق البعيدة وهو يدفع بزفرة الشوق‬
‫العميق‪.‬‬
‫وتمالك زارا نفسه فوقف يلقي خطابه عن الفضيلة املصغرة‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫‪2‬‬
‫عيني منتبهً ا إىل نفيس‪ ،‬فإن رجاله ال يغتفرون يل‬
‫َّ‬ ‫أم ُّر بهذا الشعب مفتحً ا‬
‫وترفعي عن حسدهم عليها‪.‬‬‫إغضائي عن فضائلهم‪ُّ ،‬‬

‫ُ‬
‫صغريات‬ ‫إنهم يلحقون بي نابحني؛ إذ أقول لهم ال يليق بصغار الناس إال‬
‫الفضائل‪ .‬إنهم ينبحون إذ يقرص بي فهمي عن إدراك الفائدة من وجودهم يف‬
‫الحياة‪ ،‬وما أشبهني بدِيك غريب تثور الدجاجات عليه بمناقريها‪ ،‬فال أحقد عليها؛‬
‫ط سهامي نحو أي‬ ‫ألنني تعودت عىل احتمال التافه من املزعجات‪ ،‬وما فوَّقت ق ُّ‬
‫صغري حقري فما ينتفش بريشه ألية حركة إال القنافذ‪.‬‬
‫إن صغار الناس يتحدثون عني يف َسمَ رهم دون أن يفتكر أحدهم بي‪ ،‬فتذهب‬
‫ضجتهم تحوك دثا ًرا لتفكريي فأتمتع بنوع من السكون ما كنت أعرفه من قبل‪.‬‬
‫إن واحدهم يقول لرفيقه‪ :‬ما له ولنا‪ ،‬إنه الغمامة الربداء وقد تحمل بأهدابها‬
‫وبا ًء كاسحً ا ف ْلنحذرها‪.‬‬
‫وقد رأيت أمس امرأة تجتذب طفلها إليها لرتده عن االقرتاب مني‪ ،‬شدَّت به‬
‫َّ‬
‫الغضة‪.‬‬ ‫وهي تصيح‪ :‬أبعدوا األوالد فإن هاتني العينني تحرقان روحهم‬
‫ُ‬
‫تكلمت حاسبني أن سعالهم يقف بوجه العاصفات‬ ‫إنهم يتك َّلفون السعال إذا ما‬
‫فريدها‪ ،‬وقد خشنت آذانهم فامتنع عليها أن تحس بنربات السعادة يف صوتي‪.‬‬
‫يقولون ال وقت نَقِ ُفه عىل زارا‪ ،‬ولكن ما أهمية جيل ال يتسع وقته لزارا؟‬
‫وهبْ أن هؤالء الناس جاءوا إيل َّ لتمجيدي‪ ،‬فهل يسعني أن أستنيم إىل أمجادهم‪،‬‬
‫وليس ثناؤهم عيل َّ إال منطقة أشواك لو ملست حَ ْقويَّ ملا تخلصت من آثارها حتى‬
‫بعد طرحها عني‪.‬‬
‫لقد تعلمت بني هؤالء الناس حقيقة أخرى‪ ،‬وهي أن من يسدي الثناء يتظاهر‬
‫بإعادة ما بُذل له‪ ،‬وهو ال يرمي يف الواقع َّإل إىل االستزادة لنفسه من املديح‬

‫‪200‬‬
‫واإلطراء‪.‬‬
‫قدمي تمتنعان عن األخذ بأي وزن‬
‫َّ‬ ‫قدمي؛ هل غ َّرهما مثل هذا التزلف؟ إن‬
‫َّ‬ ‫سلوا‬
‫مقيد حني يحلو لهما الرقص كما تشتهيان‪ ،‬إنهم يصورون فضائلهم الصغرية‬
‫دف سعادتهم الحقرية استفزا ًزا‬ ‫بأروع بيان الجتذابي إليها‪ ،‬كما ينقرون عىل ِّ‬
‫عيني منتبهً ا إىل نفيس؛ ألنهم‬
‫َّ‬ ‫لرجيل َّ إىل الرقص‪ .‬وأنا أمر بهؤالء الناس مفتحً ا‬
‫صغروا وال يزالون يتصاغرون وما أ ْو َردهم هذا الصغار إال ما اتخذوه قاعدة‬
‫لسعادتهم وفضيلتهم؛ ألنهم طلبوا الراحة يف الفضيلة فحشدوها تواضعً ا‪ ،‬وهكذا‬
‫تمرنوا عىل اإلقدام كما يحلو لهم فمشوا متعارجني متماهلني‪ ،‬وأقاموا من زرافاتهم‬
‫عقبة يف سبيل من يقدمون عىل اإلرساع يف سريهم‪.‬‬
‫إن من هؤالء من يتجه إىل األمام‪ ،‬ولكنه ال يفتأ يتط َّلع إىل الوراء مُتلعً ا عنقه‬
‫ً‬
‫معرقل سري التابعني‪.‬‬
‫عىل األعني وعىل األرجل َّأل تكذِّب ذاتها‪ ،‬وما أكثر الكذابني بني الوضعاء!‬
‫ولقد يكون بني هؤالء الناس من يريد ولكن أكثرهم منقاد تعمل إرادة غريه‬
‫مخلصا غري أن أكثرهم من حُ ثالة املمثلني‪ ،‬فمنهم من يمثِّل‬
‫ً‬ ‫فيه‪ ،‬ولقد ترى بينهم‬
‫دون أن يدري‪ ،‬ومنهم من يمثل دون أن يريد‪ ،‬وما أق َّل املخلصني من هؤالء القوم‬
‫بخاصة بني فئة املمثلني منهم!‬
‫هنا تسرتجل النساء لقلة ما يتصف بالرجولة الرجال‪ ،‬وما يحرر املرأ َة من‬
‫ُ‬
‫الرجولة فيه‪.‬‬ ‫خاللها ليخلق فيها املرأة الحقيقية إال مَ ْن تكاملت‬
‫وأخبث ما رأيت بني هؤالء الناس تظاهر حاكمهم بفضيلة محكومهم‪ ،‬فال يزال‬
‫أولو األمر فيهم يرتنَّمون بترصيف مصدر الخدمة‪« :‬خدم‪ ،‬خدما‪ ،‬خدموا؛ نحن‬
‫نخدم‪ ».‬ووي ٌل للسيد األول بينهم إذا لم يقل إنه أول الخادمني‪.‬‬
‫لقد ذهب نظري املتجسس‪ ،‬وا أسفاه! يرود مكامن خبثهم فما خفيت عني‬
‫سعادتهم؛ فإذا هي سعادة ذباب يرتامى بطنينه إىل زجاج النوافذ تتكرس عليه‬

‫‪201‬‬
‫ً‬
‫إشفاقا إال وتبينت إزاءه ما يوازيه‬ ‫أشعة الشمس‪ ،‬وما رأيت بني هؤالء القوم‬
‫ضعفا‪ ،‬فرتاهم يتعاملون باإلنصاف والعطف كحبوب الرمال تعطف واحدتها‬ ‫ً‬
‫عىل األخرى‪.‬‬
‫وما رأيت ً‬
‫رجل فيهم إال وهو يدَّعي القناعة فيما أصاب من نذر السعادة‪ ،‬غري‬
‫أنه ال يني يف قناعته يحدج بعني الشهوة ً‬
‫قليل من السعادة يضيفها إىل ما يملك‪،‬‬
‫وما يطمع هؤالء الناس إال بأن يتقي بعضهم رشَّ البعض اآلخر‪ ،‬فهم لذلك يلجئون‬
‫إىل التعامل بالحسنى‪ ،‬أما أنا فال أرى إال َ‬
‫الخوَر والجبن يف هذه الطريقة‪ ،‬وإن‬
‫كانوا يع ِّرفونها بالفضيلة فيما بينهم‪.‬‬
‫وإذا صدف وتخاطب هؤالء الناس بيشء من الخشونة‪ ،‬فإنني ال أتميز يف نربات‬
‫صوتهم إال أثر التهاب الحلق‪ ،‬فإن أقل لفحة تصيب هذه األعناق تبح أصواتها‪،‬‬
‫وما أشد هؤالء القوم حني يحتالون ويمكرون! ففي أناملهم كل الرشاقة‪ ،‬ولكن يف‬
‫قبضة يدهم ً‬
‫شلل وليس ألصابعهم أن تنطوي عىل راحتها‪.‬‬
‫وما الفضيلة يف عرفهم إال ما يولد الضعة والتآلف‪ ،‬وبهذا املبدأ توصلوا إىل جعل‬
‫الذئب كلبًا‪ ،‬بل حتى إىل جعل اإلنسان خري الدواجن الخاضعة لتس ُّلط اإلنسان‪.‬‬
‫إنهم ملغتبطون‪ ،‬إنهم يضحكون قائلني‪ :‬لقد اتخذنا مقامنا عىل الحالة الوسطى‬
‫ً‬
‫سارحة ال تبايل‪.‬‬ ‫بني مصارعي الثريان ي َِردون املهالك وبني الخنازير‬
‫ً‬
‫اعتدال إال حالة انحطاط وخمول‪.‬‬ ‫وما هذه الحالة التي يدعونها‬
‫‪3‬‬
‫لقد ألقيت إىل هذا الشعب بكلمات كثرية‪ ،‬فما وسعه إدراك كنهها وال حفظها‪،‬‬
‫وكل ما بدا منه هو استغرابه َّأل أكون أتيت إليه باملواعظ ملكافحة الفحشاء‬
‫والرزائل‪ ،‬والحق إنني ما جئت نذي ًرا يدعو القوم إىل االحرتاس ممن ينشلون‬
‫األموال من الجيوب‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫لقد استغربوا َّأل أكون مستعدًّا لتنبيه الغافلني عن الحكمة وتسديد التفكري‬
‫يف الحكماء‪ ،‬فكأنهم ال يزالون بحاجة إىل مهرة املع ِّلمني تخدش أصواتهم اآلذان‬
‫كأنها رصيف أقالم الحجر عىل اللوحات السوداء‪.‬‬
‫فإذا رصخت بهم ً‬
‫قائل‪ :‬أنزلوا لعناتكم عىل ما فيكم من جبناء األبالسة الذين ال‬
‫يحلو لهم غري األنني وضم السواعد إىل الصدور للعبادة‪ .‬هبُّوا منادين بكفر زارا‬
‫وإلحاده‪ ،‬وارتفعت فوق أصواتهم أصوات من يع ِّلمونهم االستكانة والصرب‪ ،‬فال‬
‫أملك نفيس من أن أهمس يف آذان هؤالء املعلمني ألقول لهم‪ :‬أنا هو زارا الكافر‬
‫ًّ‬
‫سحقا؛ ألنهم أشبه بالقمل‬ ‫امللحد‪ ،‬ولوال شعوري باالشمئزاز منهم لكنت أسحقهم‬
‫ال يدبُّون إال حيث تبدو الحقارة وينترش الجَ َرب‪.‬‬
‫أجل لقد همست يف آذان هؤالء املع ِّلمني قويل إنني أنا زارا الكافر القائل‪:‬‬
‫أرشدوني إىل من هو أشد كف ًرا مني ألتمتع بتعاليمه وأ ُ َّ‬
‫رس بها‪.‬‬
‫أنا هو زارا الكافر‪ ،‬فأين أشباهي؟ وما أشباهي إال من يهبون من ذاتهم لذاتهم‬
‫طرحني الصرب كارهني االستسالم‪.‬‬ ‫إرادة م َّ‬

‫أنا هو زارا الكافر‪ ،‬أنا الصاهر يف مرجيل كل ما يُدعى صدفة‪ ،‬فال أزال به حتى‬
‫ينضج ليصلح يل غذاء‪ ،‬ول َكم رأيت الصدف تتقدم إيل َّ كأنها السيد املطاع فرتغمها‬
‫إرادتي عىل الركوع أمامي خاشعة مسرتحمة طالبة إيل َّ أن أجد لها مأوى عندي‬
‫قائلة‪ :‬ما يلجأ الصديق إال إىل صديق‪.‬‬
‫ولكن ملن أوجه الخطاب إذا كانت كلماتي ال تطرق أسماعً ا تشبه أسماعي؟ غري‬
‫أنني سأرسل صوتي يف الفضاء لتهب به الرياح ً‬
‫قائل‪ :‬أيها القوم الوضيع‪ ،‬إنك‬
‫لتزيد حقارة من يوم إىل يوم‪ ،‬إنك سائر إىل الذوبان فاالضمحالل‪ ،‬وما يوردك‬
‫ُ‬
‫صغريات فضائلك وتساهلك وصربك‪.‬‬ ‫الفنا َء إال‬
‫إنكم تدارون كثريًا أيها الناس‪ ،‬وتتخ َّلون عن الكثري‪ ،‬وما األرض التي تنمون‬
‫عليها إال من تراب املداراة والضعف وهل يشتد جزع الدوحة فتتعاىل إذا هي لم‬

‫‪203‬‬
‫تنشب أصولها يف األرض القاسية ملتفة حول صلب الصخور؟‬
‫إنكم تنسجون بإهمالكم كفنًا ملستقبل اإلنسانية‪ ،‬فأنتم العناكب العاملة فيما ال‬
‫يجدي وهي تتغذى من دم األنسال املقبلة‪ ،‬فيا لكم من لصوص بما تأخذون‪ ،‬أيها‬
‫املباهون بحقريات الفضائل‪ ،‬إنكم تسلبون وتهدمون يف حني أن للسارقني أنفسهم‬
‫بقية من الرشف تقف بهم عند حد السلب إذا لم يكن من موجب للهدم والتحطيم‪.‬‬
‫إنكم تأخذون بمبادئ صربكم فتقولون إن ما تستولون عليه هو مما يُعطى‪،‬‬
‫وأنا أقول لكم إنه مما يؤخذ ويُسلب‪ ،‬وما أنتم إال سالبو أنفسكم لو تعلمون‪.‬‬
‫فعال َم ال تقلعون عن هذا التذبذب يف إرادتكم؟ وملاذا ال تختارون الذهاب إىل‬
‫صميم الكسل أو إىل صميم العمل؟‬
‫ليتكم تفهمون ما أقوله لكم‪ :‬افعلوا ما تريدون‪ ،‬ولكن تع َّلموا ً‬
‫أول أن تريدوا‪.‬‬
‫حبوا قريبكم كأنفسكم‪ ،‬ولكن حبوا أنفسكم ً‬
‫أول‪.‬‬
‫وهل بينكم من يحب نفسه بالحب األعظم واالحتقار األعظم؟‬
‫وهل يجدي القول وليس لكم األذن التي أسمع بها أنا؟ إن ساعتي لم تحن‬
‫بعد‪ ،‬وقد جئت بينكم بشريًا لذاتي فأنا الصبح وأنا الديك الصائح وملا يزل الظالم‬
‫منترشًا عىل السبل‪.‬‬
‫إن ساعتكم تقرتب باقرتاب ساعتي‪ ،‬فإنكم تتصاغرون مع مرور الزمان فيزداد‬
‫فقركم وتزدادون عقمً ا‪ ،‬فما أنتم َّإل أعشاب مسكينة عىل أرض أشد مسكنة من‬
‫أعشابها‪.‬‬
‫لسوف ال يطول الزمان حتى تتعب هذه األعشاب من نفسها‪ ،‬فتحرتق وهي‬
‫عطىش إىل النار ال إىل املاء‪.‬‬
‫رس يستبق‬ ‫ُّ‬
‫تنقض الصاعقة فيها‪ ،‬ويا لها من ٍّ‬ ‫إنها ألسعد ساعة تلك الساعة التي‬
‫الظهرية‪ ،‬فإنني سأرسل من هذا الرس ومن تلك الصاعقة جداول من نار سأرسل‬

‫‪204‬‬
‫أنبياء يتكلمون بألسنة اللهيب منذرين بالظهرية العظمى‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪205‬‬
‫على جبل الزيتون‬

‫ً‬
‫ضيفا ماك ًرا عيلَّ‪ ،‬فمددت يديَّ يلوحهما اال ْز ِرقاق ملصافحته‪،‬‬ ‫لقد نزل الشتاء‬
‫ولكم أود أن أفلت من هذا الضيف بالرغم من محبتي له‪ ،‬وال سبيل يل لالنعتاق‬
‫منه إال بالجري عىل قدمي‪ ،‬فتدب الحرارة فيها ويف أفكاري‪ ،‬فأنا أتجه هاربًا من‬
‫الصقيع إىل حيث ينقطع هبوب الريح فأصل إىل جبل الزيتون‪ ،‬إىل مطرح شعاع‬
‫الشمس‪ ،‬وهنالك أستقر ضاح ًكا من ضيفي القايس الرابض يف مسكن يتلهى‬
‫بالقرقعة وقتل الذباب‪ ،‬وضيفي ينفر من طنني ذبابة واحدة أو ذبابتني فهو‬
‫يطمح إىل جعل كل مكان مقف ًرا حتى يرى أشعة القمر نفسها ترتاع من ظلمات‬
‫السبيل‪.‬‬
‫إنه لشديد الوطأة هذا الضيف‪ ،‬ولكنني أحرتمه وال أفزع منه إىل إله النار كما‬
‫يفعل املخنَّثون؛ ألنه خري لإلنسان أن تصطك أسنانه بردًا من أن يلجأ إىل األصنام‪،‬‬
‫ذلك ما تقول به غرائزي فأنا عدو كل صنم ناري يضطرم يف وجومه‪.‬‬
‫إذا ما أحببت أحدًا فإن حبي له يف الشتاء ألشد منه يف الصيف‪ ،‬ويف الشتاء أراني‬
‫أقوى عىل االستهزاء بأعدائي‪ ،‬فأشعر بالشجاعة عندما ُّ‬
‫ألتف بدثاري عىل فرايش؛‬
‫ألن سعادتي املولية تأخذ بالرتنم ضاحكة فتضحك معها كاذبات أحالمي‪.‬‬
‫أي يشء يكرهني عىل الزحف‪ ،‬وما زحفت يومً ا سعيًا إىل أقدام األقوياء؟‬
‫وإذا كنت لجأت أحيانًا إىل الكذب فما كان كذبي إال وليد محبتي‪ ،‬وذلك ما‬
‫يجعلني مرتاحً ا إىل نفيس حتى وأنا عىل فرايش والسماء معتكرة بالغيوم‪.‬‬
‫إنني ألدفأ عىل الفراش الوضيع البسيط بأكثر مما أدفأ عىل الفراش املزين‬
‫الوثري‪ ،‬فأنا حريص عىل فقري وما يخلص الفقر يل يف أي فصل إخالصه يل يف‬

‫‪206‬‬
‫الشتاء‪ ،‬أفيق كل صباح للمشاكسة فأبدأ باالستحمام باملاء البارد ألهزأ بالشتاء‬
‫فيزمجر بوجهي هذا الصديق القايس‪ ،‬وعندئذ يلذ يل أن أداعب ظالمه بأنوار‬
‫شمعة ضئيلة ألهيب به إىل إرسال رشر النور من رماد آفاقه‪.‬‬
‫إن روح األذية ال تنتبه بي يف أية ساعة انتباهها عند الفجر عندما تحتك اآلنية‬
‫باآلنية أمام سبيل املاء‪ ،‬وتصهل الخيل وهي ترضب بحوافرها أرض الشوارع‬
‫الدكناء‪.‬‬
‫شاخصا إىل السماء متوقعً ا انبثاق أنوارها‪ ،‬فتبدو كالشيخ تمازجَ‬
‫ً‬ ‫عندئذ أقف‬
‫السوا ُد بالبياض يف لحيته ونصعت بالشيب قمة رأسه‪.‬‬
‫فيا لسماء الشتاء من آفاق صامتة تتغلب أحيانًا عىل الشمس فتدعها ملفعة‬
‫ُ‬
‫اقتبست من هذه السماء االنقباض عىل النور يف السكون الطويل أم‬ ‫بصمتها‪ ،‬فهل‬
‫كل منا أوجد هذا الوجوم الصامت لنفسه؟‬ ‫هي تعلمت ذلك مني؟ ولعل ًّ‬

‫إن لألشياء الحسنة مصادرها املتعددة ألنها تطفِ ر مرحة يف الوجود فال يمكن‬
‫أن تلوح وشي ًكا وتتوارى‪.‬‬
‫وما الصمت الطويل إال يف عداد هذه األشياء الحسنة املرحة؛ لذلك صفا أديم‬
‫وجهي كأديم السماء بعد إمطارها واستقرت اللحظات الهادئة يف عيني‪ ،‬فأنا‬
‫أحجب شميس كما تحجب سماء الشتاء شمسها‪ ،‬فأخفي إرادتي وقد تعلمت هذا‬
‫املكر من الشتاء‪ ،‬فبلغت من فني مرتبة منعت بها صمتي أن يُفضح بالصمت‬
‫نفسه‪ ،‬فأصبحت ألهو بمخادعة املتعظمني وإشغال انتباههم الصارم بالتكلم‬
‫وباللعب بالنرد‪ ،‬وهكذا لن يتمكن أحد من سرب أعماق حكمتي وأقىص إرادتي‪،‬‬
‫وذلك ما رميت إليه عندما أوجدت السكون الطويل‪.‬‬
‫ولكم رأيت من رجل ماكر يضع نقابًا عىل وجهه‪ ،‬ويعكر املياه يف أعماقه كيال‬
‫يتمكن أحد من نفوذ أقىص رسيرته‪ ،‬فالتف حوله كبار املاكرين رواد املصاعب‬
‫فاصطادوا جميع ما أخفى من أسماك يف قعر مياهه‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫َّ‬
‫وشفت قلوبهم‪ ،‬غري‬ ‫إن من ال يفضحهم الصمت إنما هم من ن َ َق ْت نفوسهم‬
‫أن أقىص رسائرهم ال تنكشف للنظر وهي السحيقة األغوار تحت أطباق املياه‬
‫الشفافة الصافية‪.‬‬
‫إنك رمز لنفيس يا سماء الشتاء بأديمك األبيض وعيونك الرباقة الصافية‪،‬‬
‫وورائك مثل ما تضمر هذه النفس من ثورة واضطراب‪ ،‬ولقد حق عيل َّ أن أحتجب‬
‫كمن ابتلع الذهب كيال أع ِّرض روحي ملباضع املتجسسني‪ ،‬ولقد وجب عيل َّ أن‬
‫أنتعل القباقب املرتفعة؛ ألخفي طول قائمتي عن أعني من يدورون بي من لؤماء‬
‫الحاسدين‪ ،‬إنها لن تحتمل النظر إىل سعادتي هذه النفوس الجافة العتيقة‬
‫املتهرئة املفسخة …‬
‫من أجل هذا ال أظهر لهم غري شقائي والثلوج املكللة لذرواتي مخفيًا عنهم‬
‫أن جبيل تمنطقه الشمس بجميع أنوارها‪ ،‬وإذا هم سمعوا من مرتعي شيئًا فال‬
‫يسمعون إال ولولة الزوابع أدفع بها إليهم‪ ،‬فال يخطر لهم ببال أنني أم ُّر ً‬
‫أيضا عىل‬
‫األمواج الحارة فأحمل منها لفحات ريح الجنوب‪.‬‬
‫إن هؤالء الناس يشفقون عيل َّ ملا يطرأ يل من الحادثات ومن تصاريف الزمان‪ ،‬يف‬
‫حني أنني أهتف ً‬
‫قائل دعوا الصدفة تأتي إيل َّ فإنها طاهرة كاألطفال‪.‬‬
‫أكان لهؤالء الناس أن يطيقوا تمتعي بالسعادة لوال أنني لم أحط سعادتي‬
‫بحادثات الشتاء ومصائبه‪ ،‬ولم أتدثر بالفراء وعباءة الشتاء؟‬
‫إنني إن أشفقت إلشفاق هؤالء املتأملني يف كيدهم‪ ،‬وإن ارتجفت من الربد أمامهم‪،‬‬
‫ورضيت بأن تدور رحمتهم بي فما ذلك إال لحكمة مرحة يف نفيس‪ ،‬ال تخفي ما‬
‫يدور بها من عاصفات الشتاء وال تسرت ما أل َّم بها من قروح الصقيع‪.‬‬
‫إن بعض الناس يطلب العزلة بالهرب من املريض‪ ،‬والبعض اآلخر يطلبها‬
‫بالوقوف أمامه‪.‬‬
‫ألدعهم يصغون إىل أنيني وشكايتي لصقيع الشتاء‪ ،‬إنني بمثل هذا األنني أفزع‬

‫‪208‬‬
‫من غرفهم الدافئة‪ ،‬فليشفقوا عيل َّ وليقولوا إنني سأقيض بالصقيع يف برد معرفتي‪.‬‬
‫أما أنا فأركض برجيل َّ الدافئتني عىل جبل الزيتون‪ ،‬وأطلق صوتي باإلنشاد يف‬
‫مطارح شعاع الشمس هازئًا بكل إشفاق‪1.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫هوامش‪:‬‬
‫‪ 1‬لقد تكون هذه املبالغات يف الوصف‪ ،‬وهذه املغاالت يف االستعارات املبهمة من‬
‫محاسن البيان يف اللغة األملانية‪ ،‬غري أنها ليست عىل ما نرى من روح األدب العام‬
‫عىل بالغة يستسيغها كل بيان‪ ،‬وعندنا أن اللغة العربية خري ما تخترب به عبقرية‬
‫الكاتبني بكل لسان‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫على الطريق‬

‫ً‬
‫متمهل يف‬ ‫وكان زارا وهو يقصد كهفه وجباله يمر بشعوب عديدة ومدن كثرية‬
‫رحالته حتى وصل فجأة إىل مدينة عظيمة‪ ،‬وإذ دخلها انتصب بوجهه مجنو ٌن‬
‫فاتحً ا ذراعيه؛ ليصده عن التقدم وال َّزبد يُرغي عىل شدقيه‪ ،‬وما كان هذا املعرتض‬
‫لقبه أهل املدينة بسعدان زارا؛ ألنه كان يقلد حركاته ولهجته ويستعري‬ ‫إال من َّ‬
‫شيئًا من كنوز حكمته‪.‬‬
‫وخاطب املجنون زارا ً‬
‫قائل‪ :‬إن هنا املدينة العظمى‪ ،‬وما لك أن تظفر منها‬
‫بيشء‪ ،‬بل عليك أن تفقد فيها كثريًا‪.‬‬
‫ما الذي يضطرك يف االنغماس يف هذه األوحال‪ ،‬فأشفق عىل قدميك‪ ،‬وقف عند‬
‫بابها ً‬
‫تافل عليه وعُ ْد أدراجك‪.‬‬
‫هنا جحيم كل فكرة فريدة‪ ،‬هنا تُصهر األفكار السامية حتى تصبح مزيجً ا‬
‫مائعً ا‪.‬‬
‫َّ‬
‫الجافة بأن تعلن عن‬ ‫هنا تتهرأ كل عاطفة رشيفة‪ ،‬وال يسمح إال للعواطف‬
‫نفسها بخشيش اصطدامها‪.‬‬
‫بلغت أنفك رائحة املجازر حيث تُنحر األفكار ومطاعم السوقة حيث تباع‬
‫ْ‬ ‫أفما‬
‫بأبخس األثمان‪ ،‬أفما ترى أبخرة العقول املضحاة تتصاعد منترشة كالدخان فوق‬
‫هذه املدينة‪.‬‬
‫أفما تلوح لك األرواح معلقة معروضة كأنها خرق قذرة بالية‪ ،‬فإذا هي تنقلب‬
‫صحُ ًفا تنرش بني الناس‪.‬‬
‫ُ‬
‫ُّ‬
‫تغص بها‬ ‫أفال تسمع البيان الطيل يستحيل هنا إىل تالعب ألفاظ وسخائف‬

‫‪210‬‬
‫جداول الصحف‪ ،‬فإذا هي مصارف أقذار‪.‬‬
‫إن بعضهم يتحدَّى البعض اآلخر‪ ،‬وال يعلمون عىل ما يختلفون‪ ،‬يأخذ بهم‬
‫الغيظ كل مأخذ وقد غاب عنهم سببه‪ ،‬فال يسمعونك إال طقطقة فلوسهم ورنني‬
‫دنانريهم‪.‬‬
‫لقد استوىل عليهم الربد فال يدفئون إال بكرع الخمور‪ ،‬وإذا ما دبت الحرارة‬
‫فيهم لجئوا إىل مهب األفكار الباردة‪ ،‬فهم أبدًا مسوقون بالرأي العام مأخوذون‬
‫بدرجة غليانه‪.‬‬
‫هنا مقام جميع الرزائل والشهوات‪ ،‬وهنا ً‬
‫أيضا فضائل عديدة لها مهارتها ولها‬
‫مشاغلها‪ ،‬ولتلك الفضائل الجمة أنامل للكتابة وأرداف من رصاص للمتحلني‬
‫أيضا بنات هزلت أردافهن‬ ‫بها وسادات من الجلد علقت عليها األنواط‪ ،‬ولهم ً‬
‫ً‬
‫أردافا‪.‬‬ ‫فاصطنعن لهن من القش‬
‫وإنك لتجد هنا كثريًا من اإلشفاق واالحتشام وكثريًا من االتضاع أمام رب‬
‫الجيوش؛ ألن من مقامه األعىل تتهاوى الكواكب ومعها النفثات‪ ،‬وكل صدر عاطل‬
‫عن الكواكب يرسل نحو هذا املقام زفرات شوقه‪.‬‬
‫رت مع الفضائل‬ ‫إن للقمر جوَّه ويف هذا الجو تدور أتباعه‪ ،‬والشعب املتسول ال يف ُّ‬
‫املتسولة يرفع الصالة إىل كل ما يلتمع يف مدار القمر‪ ،‬وما الصالة إال كلمات‪َ :‬خ َدمَ‪،‬‬
‫خدما‪ ،‬خدموا‪ ،‬نحن نخدم‪ .‬يرتنَّم بها أهل الفضائل‪ ،‬وهم يتجهون إىل الحاكم‬
‫األعىل متوقعني سقوط األنواط املتوهجة عىل صدورهم الضيقة‪ ،‬غري أن القمر‬
‫أيضا يدور حول‬ ‫نفسه يدور حول األرض وما عليها من نتاج الرتاب‪ ،‬والحاكم ً‬
‫كل ما هو أريض‪ ،‬وما من يشء أعرق يف األرض من ذهب بائعي السلع‪ ،‬إن رب‬
‫الجيوش ليس ربًّا للسبائك فإذا ما الحاكم دبَّر‪ ،‬جاء بائع السلع فقرر‪.‬‬
‫أي زارا‪ ،‬أستحلفك بكل ما فيك من نور وقوة وصالح أن تتفل عىل هذه املدينة‪،‬‬
‫مدينة بائعي السلع وتك َّر راجعً ا إىل الوراء‪ .‬إن الذي يجري يف عروق سكانها إنما‬

‫‪211‬‬
‫هو دم مفسود‪ ،‬فاتْ ُفل عىل املدينة الكربى؛ ألنها املزبلة التي ترتاكم فيها األقذار‪.‬‬
‫اتْ ُفل عىل مدينة النفوس الضعيفة والصدور الضيقة‪ ،‬مدينة العيون الحاسدة‬
‫واألنامل اللزجة‪ ،‬مدينة الوقحني والفجار واملعربدين والطامعني اليائسني‪ ،‬املدينة‬
‫التي يتكدس فيها من تأ َّكلهم سوس الفساد من أهل الشهوات املرضوبني بالقروح‬
‫املتآمرين‪.‬‬
‫ابصق عىل هذه املدينة وعد أدراجك‪.‬‬
‫قائل له‪ :‬أمَ ا آن لك أن تصمت؟‬ ‫ً‬
‫مطبقا فم املجنون املزبد يف حدته ً‬ ‫وم َّد زارا يده‬
‫ً‬
‫طويل حركاتك وأقوالك‪ ،‬ما الذي دعا بك إىل اإلقامة عىل ضفاف هذا‬ ‫لقد تحملت‬
‫املستنقع حتى أصبحت أنت ً‬
‫أيضا ضفدعً ا وعقربًا؟‬
‫أفما تسيل يف عروقك أنت ً‬
‫أيضا دماء املستنقعات الفاسد؟ فها أنت تحسن‬
‫النقيق وتجيد اللعن‪.‬‬
‫ملاذا لم تطفر إىل الغاب‪ ،‬ملاذا لم تذهب لحرث األرض؟ أفليس يف كل جهة من‬
‫البحر جزيرة خرضاء؟‬
‫إنني أحتقر احتقارك‪ ،‬وقد كان عليك أن تبذل نصحك لنفسك قبل أن تجود به‬
‫عيلَّ‪ ،‬فإن احتقاري وهو الطائر النذير لن يتعاىل من أقذار املستنقعات‪ ،‬بل يهب‬
‫من مواطن الحب واألشواق‪.‬‬
‫لقبوك بسعدان زارا‪ ،‬أيها املجنون املزبد‪ ،‬أما أنا فأدعوك خنزيري‪ ،‬أال‬‫لقد َّ‬
‫ُ‬
‫مدحت به سكرات الجنون‪.‬‬ ‫وإل دفعت بي إىل استنكار ما‬‫فانقطع عن هذا الخوار َّ‬

‫ما الذي يهيب بك إىل رفع هذه األصوات املنكرة؟ إن الناس لم يوجِّ هوا إليك ما‬
‫ً‬
‫مفتشا فيها‬ ‫كنت تتوقع من ثناء؛ لذلك جلست إىل أكوام األقذار مزمج ًرا صاخبًا‪،‬‬
‫عىل ما تس ِّلح به انتقامك‪ ،‬أتظن أن أمرك قد خفي عيلَّ؟ وهل هذا اإلزباد إال من‬
‫إرغاء الضغينة يف قلبك؟‬

‫‪212‬‬
‫اصمت فإن كلماتك تلحق الرضر بي حتى ولو كمنت الحقيقة فيها‪ ،‬ولو انطوت‬
‫ألف حقيقة يف ما أقول؛ ألنك تيسء إيل َّ بأقوايل نفسها‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا‪ ،‬وهو َّ‬
‫يتلفت إىل املدينة متنهدًا‪ ،‬ثم رصخ بعد صمت طويل‪ :‬لقد‬
‫أيضا‪ ،‬وليس هذا املجنون من يثري كراهتي فحسب!‬‫كرهت هذه املدينة العظمى أنا ً‬
‫فهي مثله وهو مثلها وليس فيهما ما يقبل إصالحً ا أو زيادة فساد‪.‬‬
‫ويل لهذه املدينة العظمى‪ ،‬وليت تجتاحها أعاصري النار فتذريها رمادًا؛ إذ ال بد‬
‫من انطالق مثل هذه األعاصري منذرة بالظهرية العظمى‪ ،‬ولكن انطالقها مرهون‬
‫بزمانها ومقدراتها‪.‬‬
‫أمَّ ا أنت أيها املجنون‪ ،‬فإنني أستودعك بهذا التعليم‪ :‬إذا امتنع عىل اإلنسان أن‬
‫يبذل حبه فعليه أن يذهب يف سبيله!‬
‫هكذا تكلم زارا‪ ،‬وسار يف سبيله متجاو ًزا املجنون واملدينة العظمى‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫اآلبقون‬

‫‪1‬‬
‫ًّ‬
‫ُخضل وزاهيًا بعديد ألوانه عىل هذه املروج أصبح اآلن‬ ‫وا أسفاه! كل ما كان م‬
‫جنيت هنا فيما مىض من عسل اآلمال فحملته إىل‬ ‫ُ‬ ‫باهتًا وقد عراه الذبول‪ ،‬ول َكم‬
‫قفريي‪.‬‬
‫لقد سطا الهرم عىل جميع القلوب الفتية‪ ،‬وما آن للهرم أن يتحكم بهؤالء‬
‫الفتيان‪ ،‬فما هم إال متعبون يستسلمون للكسل وهم يربرون حالهم بقولهم‪ :‬لقد‬
‫عدنا إىل ممارسة التقوى‪.‬‬
‫ول َكم نظرت إليهم عندما كانوا يندفعون إىل السري بأقدامهم الجريئة‪ ،‬أما‬
‫اآلن فقد تراخت معرفتهم مع أقدامهم فأمسوا وهم يهزءون بما كانوا عليه من‬
‫الشجاعة يف صبيحتهم‪.‬‬
‫لقد كان أكثرهم يختالون كالراقصني معلنني بضحكهم أنهم من أتباع حكمتي‪،‬‬
‫فإذا هم يستغرقون فجأة بالتفكري‪ ،‬وها هم اآلن أمامي وقد انحنت ظهورهم‬
‫يزحفون عىل ركابهم نحو الصليب‪.‬‬
‫لقد كانوا فيما مىض يحومون حول النور والحرية كما تحوم الفراشات‬
‫والشعراء‪ ،‬ولكنهم ما شعروا بيشء يسري من وقر األيام ومن صقيعها حتى هرعوا‬
‫إىل املوقد يصطلون كأصحاب القالنس وأدعياء الحكمة‪.‬‬
‫َأف َق َد هؤالء الشجعان إقدامهم ألنني تواريت عنهم يف عزلتي فباتوا يتنصتون‬
‫عبثًا لدوي أبواقي وصيحات إنذاري؟‬
‫وا أسفاه! ما أقل القلوب التي تصمد بوجه الزمان! وليس يف سواها ما يعزز‬

‫‪214‬‬
‫الروح يف حني يسطو الخور عىل سائر القلوب‪ ،‬وما أكثر الجبناء! فهم السوقة‬
‫الدخالء عىل الحياة‪.‬‬
‫ال بد ملن كان عىل مثايل أن يصادف يف طريقه ما صادفت‪ ،‬وال مناص له من أن‬
‫يكون رفاقه األولون أشالء أموات ومتمرني ألعاب‪.‬‬
‫وإذا ما مر بهؤالء أتته الفئة الثانية من رهط املؤمنني يسودهم كثريٌ من الحب‬
‫وكثري من الجنون وإجالل الطفولة وخشوعها‪ .‬فليحرتس من كان عىل مثايل أن‬
‫يُويل هذه الفئة عواطفه؛ ألن العارف بضعف اإلنسانية وتقلبها ال يثق بدوام زهو‬
‫املروج أيام الربيع‪.‬‬
‫ولو كان هؤالء املؤمنون عىل غري ما هم عليه من غريزة لتبدلت إرادتهم‪ ،‬وليس‬
‫للنقص أن يجاري الكمال‪ ،‬فعال َم نشكو إذا صارت نارضات األوراق إىل الذبول؟‬
‫َّ‬
‫وكف عن الشكوى‪ ،‬فخري لك‬ ‫دع األوراق تنتثر‪ ،‬دعها تذهب مع الريح‪ ،‬أيْ زارا‪،‬‬
‫أن تساعد بزفريك الرياح الهابة عىل أغصانها‪.‬‬
‫انفخ عىل هذه األوراق‪ ،‬يا زارا‪ ،‬ليتبدد من حولك كل يشء عراه الذبول‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫يقول اآلبقون إنهم إىل التُّ َقى راجعون‪ ،‬وأكثرهم جبان ال يجرس حتى عىل التعلل‬
‫بتقواه يف خروجه‪ ،‬ولكنني أنظر إىل هؤالء الخائفني‪ ،‬وأعلن لهم بوجههم أنهم قد‬
‫عادوا إىل الركوع والصالة‪ ،‬فأقول لك ٍّل منهم‪ :‬إذا لم تكن إقامة الصالة عا ًرا عىل‬
‫الناس فهي عار عىل أمثالك وأمثايل ممن تنبه شعورهم يف تفكريهم‪ ،‬إن صالتك‬
‫تُعد منك ًرا عليك؛ ألنك تعلم أن الشيطان الكامن فيك الذي يحلو له كتف ذراعيه‬
‫قائل لك‪ :‬إن الله موجود‪ .‬فأنت آبق يهرب‬‫تائقا إىل حياة الرخاء يوسوس يف روعك ً‬ ‫ً‬
‫َّ‬
‫وتوغ ْل كل يوم‬ ‫من النور؛ ألن النور يشغل تفكريه فاذهب اآلن يف ضاللك ساد ًرا‪،‬‬
‫يف لبدات الظالم‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫بسطت طيور الليل أجنحتها‬ ‫ْ‬ ‫والحق أنك أحسنت اختيار الحني لالنطالق‪ ،‬وقد‬
‫فهذه ساعة أبناء الظالم املرضبني عن األعمال‪ .‬لقد حانت ساعة االصطياد وما هذا‬
‫ٌ‬
‫وصمت ال‬ ‫وتراخ‬
‫ٍ‬ ‫ً‬
‫مهاجمة وعرا ًكا بل هو انزواء يف كمني‬ ‫الصيد الذي تقدم عليه‬
‫يسمع فيه غري همسات الصالة‪ .‬ذلك هو صيد أدعياء الحكمة ينصبون فيه رشا ًكا‬
‫طا صغريًا ينطلق من ورائه‪ ،‬ولعله كان‬ ‫هتكت سرتًا رأيت وطوا ً‬
‫ُ‬ ‫للقلوب فكلما‬
‫مختفيًا مع وطواط صغري آخر؛ ألنني يف كل جهة أرى جماعات تسترت وما ينبعث‬
‫طا جديدًا من املتقني‪ ،‬فهم يجتمعون‬ ‫عنها من رائحة التقى يستجلب إليها ره ً‬
‫ناج اإلله الصالح‪ ،‬يقولون هذا بعد‬ ‫إلحياء الليايل قائلني فلنعد إىل حالة الطفولة و ْلن ُ ِ‬
‫أن تكون معدهم امتألت بالحلوى من صنع أهل التقى‪ ،‬وهم يجتمعون أحيانًا يف‬
‫أوقات السمر؛ ليشهدوا حركات عنكب محتال يقف وراء الكمني ملقيًا عىل رفاقه‬
‫قائل لهم‪ :‬إن خري ما يرتاح العناكب إليه إنما هو حَ بْ ُك‬‫العناكب مواعظ الحكمة ً‬
‫نسيجها يف ظالل الصليب‪.‬‬
‫أتُراهم يقضون أيامً ا طويلة يلقون الشباك يف املستنقعات معتقدين أنهم‬
‫يسربون األغوار‪ ،‬وال يعلمون أن من يميض الوقت بالصيد حيث ال أسماك ال يصح‬
‫أن يدعو عمله حتى محاولة سطحية؟‬
‫ً‬
‫دروسا للعزف عىل القيثارة‬ ‫وتراهم أحيانًا يمزجون تقواهم بالرسور فيتلقون‬
‫موسيقي يتلمس الطرق املوصلة إىل قلوب الصبايا وقد أتعبه ثناء العجائر‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫عند‬
‫أو يذهبون إىل حكيم لم يستكمل جنونه؛ ليتم َّرنوا عىل الرهبة والخوف فيقف‬
‫معهم يف غرفة مظلمة منتظرين ظهور األرواح وقد طارت أرواحهم َشعَ اعً ا‪.‬‬
‫يتنصتون إىل دجَّ ال هرم يتجول منشدًا بنربات لقنها الريح األنني‪ ،‬فهو‬
‫َّ‬ ‫أو هم‬
‫يقلد الريح داعيًا إىل الحزن بصوته الحزين‪.‬‬
‫ولقد اتخذ بعضهم مهنة الحراسة يف الليل‪ ،‬فتعلموا النفخ يف األبواق ليذهبوا يف‬
‫الظلمة ويبعثوا كل قديم طواه الزمان‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫مررت أمس قرب جدران الحديقة وقد أخلقها الدهر فسمعت من حارسني‬
‫خمس كلمات تدور عىل القديم البايل‪.‬‬
‫قال أحدهما‪ :‬إن هذا اإلله يعتني برعاية أبنائه‪ ،‬فاآلباء من البرش أشد عناية منه‬
‫بأبنائهم‪.‬‬
‫فأجاب اآلخر‪ :‬لقد أدركه الهرم فهو ال يهتم لهم‪.‬‬
‫– وهل لهذا اآلب من أوالد؟‬
‫– من سيثبت هذا إذا هو لم يثبته بنفسه‪ ،‬ولطاملا تُقت أن أراه آتيًا بربهانه عن‬
‫جد‪.‬‬
‫– أهو يأتي بالربهان؟ ويف أي زمان أقام شيئًا من األدلة؟ إنه ليستصعب‬
‫اإلثبات ولكنه يتمسك بأن يؤمن الناس به‪.‬‬
‫– أجل! إن اإليمان ينقذ هذا األب‪ ،‬وإذا قلت اإليمان فإنما أعني إيمانه هو بنفسه‪،‬‬
‫وتلك شيمة من بلغوا من العمر عتيًّا‪ ،‬أفما نحن شيوخ وكلنا أشباه؟‬
‫حارسا الليل‪ ،‬وح َّراس الليل أعدا ٌء للنور‪ ،‬ونفخ كل منهما يف‬
‫بهذا كان يتحدث ِ‬
‫بوقه بالنغم الحزين‪.‬‬
‫هذا ما شهدت أمس يف الليل‪ ،‬وأنا سائر قرب الجدار القديم‪ ،‬فكنت أحس بقلبي‬
‫ً‬
‫مختنقا بضحكي من‬ ‫يتفجر ضح ًكا ويه ُّز أحشائي ه ًّزا‪ ،‬والحق أنني سأموت‬
‫النظر إىل الحمري الثاملني ومن سماعي أمثال حراس الليل يرتابون بالله‪.‬‬
‫أفما انقىض منذ زمان طويل عه ُد الوقوف عند مثل هذه الشكوك؟ ومن يحق له‬
‫يا تُرى أن يتقدم إىل هذه األشياء املظلمة الثاوية ليبعثها من لحودها؟‬
‫لقد انقىض عهد قدماء اآللهة‪ ،‬فطوتهم األحقاب وقد كان لهم الفناء باملرح‬
‫اإللهي الذي يليق بهم؛ ألنهم لم يمروا َ‬
‫بالغ َسق ليرتاموا إىل ظلمة املوت‪ ،‬وقد كذب‬
‫من يدَّعي عكس ما أقول‪ ،‬فقدماء اآللهة انتحروا انتحا ًرا وهم بضحكهم يختنقون‪،‬‬

‫‪217‬‬
‫انتحروا عندما َّ‬
‫تلفظ أحدهم بآية الجحود الكربى ً‬
‫قائل‪ :‬أنا هو الرب إلهك ال يكن‬
‫لك آلهة أخرى أمامي‪ .‬فكأن هذا اإلله قد أُخذ بغضبه وغريته يف شيخوخته فذهل‬
‫هذا الذهول حتى أضحك جميع اآللهة‪ ،‬فتمايلوا عىل عروشهم هاتفني‪ :‬أفليس يف‬
‫ٌ‬
‫اعرتاف بأن هنالك ألوهية لعدة أرباب‪ ،‬وليس هنالك رب واحد‪.‬‬ ‫هذا النهي‬
‫من له آذان صاغية فليسمع‪1.‬‬
‫هكذا تكلم زارا يف مدينة «البقرة العديدة األلوان» التي يحبها‪ ،‬وكان لم يبق‬
‫أمامه سوى مسافة يومني سريًا ليصل إىل مغارته ويلتقي نرسه وأفعوانه‪ ،‬فامتألت‬
‫روحه مرسة وحبو ًرا‪.‬‬
‫‪ 1‬ورد يف اإلصحاح العرشين من سفر الخروج‪« :‬أنا الرب إلهك الذي أخرجك‬
‫من أرض مرص من بيت العبودية‪ ،‬ال يكن لك آلهة أخرى أمامي‪ ،‬ال تصنع لك‬
‫تمثال منحوتًا وال صور ًة ما ممَّ ا يف السماء من ُ‬
‫فوق وما يف األرض من تحت وما يف‬ ‫ً‬
‫املاء من تحت األرض‪ ،‬ال تسجد لهن وال تعبدهن …»‬
‫فيا ألمانة نيتشه يف وضعه أساس برهانه!‬
‫إن هذا الفيلسوف لم يتورع من برت الكالم لتحويل معناه إىل ما يريد‪ ،‬فما‬
‫الص َل َة وَأَنتُ ْم‬
‫أشبهه بمن ينادي املؤمنني إىل االمتناع عن الصالة بآية‪َ :‬ل تَ ْق َربُوا َّ‬
‫ً‬
‫إطالقا‪.‬‬ ‫ً‬
‫واقفا عند النهي‬ ‫ُس َكا َرىٰ‬
‫أفليس من الغريب أن يعمد فيلسوف إىل إثبات تعدد اآللهة من نهي الناس‬
‫عن الضالل وعن إقامة املعلول مقام العلة واتخاذ الفاني معبودًا أمام مبدأ اآلزال‬
‫واآلباد؟‬

‫‪218‬‬
‫العودة‬

‫ِ‬
‫أنت وطني‪ ،‬أيتها العزلة‪ ،‬لقد طال اغرتابي يف بالد املتوحشني فها أنذا أعود إليك‬
‫أيها الوطن وعيناي تذرفان الدموع‪.‬‬
‫ارفعي شاهدك وهدديني‪ ،‬أيتها العزلة‪ ،‬تهديد األ ُ ِّم وانظري إيل َّ مبتسمة‬
‫بابتسامتها‪ ،‬وسليني عن حال من هرب منك إىل بعيد كأنه العاصفة الجامحة‪،‬‬
‫من أفلت منك وهو يصيح‪ :‬لقد طال انفرادي فنسيت الصمت‪ ،‬سليني هل تعلمت‬
‫ٌ‬
‫خافية فقد كنت تشعر أنك‬ ‫تخف عنِّي منك‬
‫َ‬ ‫الصمت اآلن وقويل يل‪ :‬أيْ زارا‪ ،‬لم‬
‫وحيد بني الجميع؛ فيسودك من الوحشة ما لم تعرفه وأنت يف أحضاني‪.‬‬
‫إن الفرق بني الوحدة والوحشة لبعيد‪ ،‬هذه هي الحكمة التي تعلمتها اآلن‪،‬‬
‫فأدركت أنك ستبقى أبدًا الغريب املستوحش بني الناس‪ ،‬حتى ولو بذلوا حبهم لك؛‬
‫ألنهم يطمعون منك بمداراتهم قبل كل يشء‪.‬‬
‫إنك هنا تأوي إىل مسكنك فيمكنك أن تقول ما تريد‪ ،‬ففي العزلة ال يخجل‬
‫اإلنسان من خطرات رسيرته املتص ِّلبة‪.‬‬
‫كل يشء هنا ينقاد إىل بيانك متحببًا طائعً ا؛ ألن األشياء كلها تقصدك لتعتليك‬
‫وتعلو أنت رموزها كمطايا تذهب بك مطلوقة العنان نحو الحقائق جميعها‪.‬‬
‫ههنا‪ ،‬لك أن توجه خطابك إىل كل األشياء؛ ألن كل كلمة إخالص تقال لها تتلقاها‬
‫حمدًا لها وثنا ًء عليها‪.‬‬
‫وهل ذكرت يا زارا رصخة طريك فوق‬ ‫إن العزلة يشء والوحشة يشء آخر‪َّ ،‬‬
‫رأسك عندما كنت مضعضعً ا أمام جثة ميت يف الغاب وال تدري إىل أين املصري‪،‬‬
‫فتتمنى أن يأتي نرسك وأفعوانك لهدايتك بعد أن القيت بني الناس أخطا ًرا لم‬

‫‪219‬‬
‫تشهد بني الحيوان مثلها‪ ،‬تلك كانت الوحشة بعينها!‬
‫أفما تذكر يا زارا زمنًا توسطت فيه جزيرتك كأنك ينبوع خمر يتدفق بني‬
‫الدنان الفارغة‪ ،‬فيملؤها موزعً ا خمره عىل العطاش بال حساب‪ ،‬حتى أمسيت‬
‫ً‬
‫متسائل‬ ‫وحدك الظامئ بني املرتوين‪ ،‬فرفعت صوتك بالشكوى تحت جنح الليل‬
‫عما إذا لم يكن يف األخذ سعادة أوفر من سعادة العطاء‪ ،‬وإذا لم يكن من السعادة‬
‫يف الرسقة ما ليس يف األخذ‪ ،‬تلك كانت الوحشة بعينها‪.‬‬
‫أفما تذكر الزمن الذي طردتك فيه من نفسك ُ‬
‫أعمق الساعات صمتًا‪ ،‬وهي تقول‬
‫لك همسها‪ :‬تكلم واهدم‪ ،‬فدفعت بك إىل كره صربك وسكوتك َ‬
‫فق َض ْت عىل ما فيك‬
‫من شجاعة متواضعة‪ .‬تلك كانت الوحشة بعينها‪.‬‬
‫أيتها العزلة ل َكم يف صوتك من نربات السعادة يف عطفه وحنانه ليس بيني‬
‫وبينك من شكوى وال عتاب‪ ،‬فكالنا نم ُّر رصيحني من األبواب املرشعة؛ ألن كل‬
‫يشء لديك ميضء والساعات تمر فيك عجىل خفيفة‪ ،‬وما تتثاقل الساعات يف النور‬
‫تثاقلها يف الظالم‪.‬‬
‫إنني أشعر ههنا بأن لكل يشء روحه ومعناه‪ ،‬فكل كائن يريد أن يعرب عن‬
‫رسيرته وكل ما سيكون يطمح إىل تع ُّلم البيان مني‪ ،‬أما هنالك فكل قول عبث‬
‫وهراء وخري حكمة للناس هي النسيان والفناء‪ ،‬وهذا ما تعلمته منهم‪ ،‬وإذا ما أراد‬
‫أحدهم أن يفهم كل يشء وجب عليه أن يستويل عىل كل يشء‪ ،‬وما تمتد إىل األخذ‬
‫يداي الطاهرتان‪ .‬لقد توالني االشمئزاز من رائحة أنفاسهم‪ ،‬فوا أسفاه عىل زمن‬
‫طويل قضيته حيث يضجون ويتنفسون‪.‬‬
‫يا للعزلة السعيدة أتمتع بها‪ ،‬ويا للعرف الزكي يتضوَّع حويل‪ .‬إنني َ‬
‫أنش ُق‬
‫رئتي هذا الهواء النقي يف هذا السكون املتنصت‪ ،‬أما هنالك فكل يشء يتكلم‬
‫َّ‬ ‫بملء‬
‫وال سميع فإذا ما أذاع أحد فضائله بقرع األجراس خنق الدويَّ يف الساحات رن ُ‬
‫ني‬
‫الفلوس الكبرية تق ِّلبها أيدي البائعني‪ .‬هنالك يتكلم الكل وليس من أحد يفهم‬

‫‪220‬‬
‫ما يقال‪ ،‬فكل يشء يقع يف املياه الجارية وال ينرسب يشء إىل أعماق منابعها‪.‬‬
‫ً‬
‫تكامل‪ .‬ك ٌّل يصيح وليس من يرىض‬ ‫هنالك كل يشء يتكلم وال يشء يبلغ نجاحً ا أو‬
‫مرتاخ مديد وما كان يقسو‬
‫ٍ‬ ‫باحتضان البيوض يف األعشاش‪ ،‬ك ٌّل يتكلم وك ُّل كالم‬
‫من البيان عىل أفواه أبناء األمس أصبح لينًا تلوكه األشداق يف هذا الزمان‪.‬‬
‫رسا كمينًا‬
‫هنالك ك ٌل يتكلم ولم يبق من مستور لم يهتك؛ فما كان يعد باألمس ًّ‬
‫يف أعماق النفوس تتناوله اليوم مقارع الطبول وحناجر الصائحني‪ ،‬فيا للطبيعة‬
‫البرشية‪ ،‬ما أنت إال ضجة يف املسالك املظلمة‪ ،‬لقد تجاوزتك فرتكتك ورائي خط ًرا‬
‫ُ‬
‫تعرضت له من أخطار‪ ،‬وكل كائن‬ ‫أُنقذت منه‪ ،‬وقد كانت املداراة والرحمة أشد ما‬
‫يف البرش يطلب أن يتعامل باملداراة والرحمة‪ ،‬وما عشت بني الناس إال وأنا أحفظ‬
‫حقائقي يف قلبي ويداي وأحشائي ترتعش ارتعاش الجنون ألكاذيب الرحمة‬
‫واإلشفاق‪.‬‬
‫هكذا عشت بني الناس‪ ،‬جلست بينهم متنك ًرا أكاد أجحد ذاتي؛ ألحتملهم م ُْقنعً ا‬
‫نفيس بقويل إنني مجنون ال أدرك حقيقتهم‪.‬‬
‫إذا أنت عارشت الناس فإنك لتنىس ما تعرفه عنهم؛ ألن ما ينطح برصك من‬
‫املشاهد الخارجية يصده عن سرب أبعادهم وأعماقهم‪.‬‬
‫لقد جهلوا حقيقتي فدفعني جنوني إىل مداراتهم بأكثر من مداراة نفيس؛ ألنني‬
‫تعودت أن أقسو عليها فأصبحت هذه املراعاة انتقامً ا منها لها‪.‬‬
‫جلست بني الناس تلذعني حرشاتهم السامَّ ة‪ ،‬وتنال مني رشورهم نوال قطرات‬
‫املاء املتوالية االنسكاب عىل الحجر‪ ،‬فكنت أقول لنفيس‪« :‬إن الحقارة تحمل براءتها‬
‫يف ذاتها‪».‬‬
‫وما رأيت بني الناس حرشات أش َّد فت ًكا بسمومها من الصالحني؛ ألنهم يغرزون‬
‫ً‬
‫وإنصافا‪.‬‬ ‫حُ ماتهم بكل صالح‪ ،‬ويكذبون بكل صالح فكيف أتوقع منهم ً‬
‫عدل‬
‫إن الرحمة تعلم الكذب ملن يعيش بني أهل الصالح‪ ،‬وهي تضغط بجوها الثقيل‬

‫‪221‬‬
‫عىل األرواح الحرة؛ إذ يُمنع عنها أن تتفهَّ م جهل الصالحني‪.‬‬
‫غني بني‬
‫إن ما تعلمته هنالك هو أن أسرت نفيس وأخفي ثروتي؛ ألنني رأيت كل ٍّ‬
‫الناس فقريًا بعقله‪ ،‬وقد أضلني إشفاقي فقادني إىل النظر يف الخفايا وتقدير ما‬
‫زاد وما نقص يف عقل هذا وعقل ذاك‪ ،‬دعوت الحكماء املتعصبني حكماء ولم أزد‪،‬‬
‫فتعلمت أن أقتضب كما تعلمت استبدال الكلمات فدعوت حفاري القبور م ِّ‬
‫ُنقبني‬
‫وعلماء‪.‬‬
‫الحفارون باألمراض‪ ،‬ففي املثاوي ما ينبعث كريهً ا ً‬
‫قاتل‪ ،‬وخريٌ‬ ‫َّ‬ ‫ولطاملا مُني‬
‫َّأل نُثري من املستنقعات كوامنها‪ ،‬وما الحياة الحياة إال عىل القمم‪ ،‬وها أنذا أنشق‬
‫الهواء الطلق عىل أعايل الجبل حيث ال أشت ُّم روائح املجتمع اإلنساني‪.‬‬
‫إن الهواء الحي يدغدغ معاطيس فتتسع الستنشاق القوة والحياة‪.‬‬

‫‪222‬‬
‫الثالثة الشرور‬

‫‪1‬‬
‫ورأيت يف آخر أحالمي هذا الصباح أنني واقف عىل جرف ينهار إىل ما وراء هذا‬
‫العالم‪ ،‬وقد نصبت بيدي ميزانًا طرحت الدنيا بإحدى كفتيه‪.‬‬
‫أوَّاه! ليت الفجر لم يباغتني بعنفه‪ ،‬فإنه لغيور عيل َّ من أحالم صباحي وعنف‬
‫أشباحها‪.‬‬
‫لقد أراني حلمي أن َملن مل َك الزمان أن يقيس الدنيا‪ ،‬وملن أحسن الوزن أن‬
‫ي َِزنها‪ ،‬وملن له جناحان جباران أن يجتاز مداها‪ ،‬وكل بصرية حديدة تقتحم‬
‫املعضالت بوسعها أن تدرك ما تضمر هذه الدنيا‪.‬‬
‫بأي صرب تذ َّرع حلمي اليوم ليزن الدنيا‪ ،‬وهو ا َمل ْركب نصفه رشا ٌع ونصفه‬
‫ُّ‬
‫واملنقض متسارعً ا بمخالب الصقور؟‬ ‫عاصفة‪ ،‬وهو السابح صامتًا بجناح الفراش‬
‫أرست حكمة نهاري نجواها إىل هذا الحلم‪ ،‬وهي الحكمة الهازئة بكل‬ ‫هل َّ‬
‫«العوالم التي ال ح َّد لها‪ ».‬وأنا القائل‪ :‬حيث توجد القوة فهنالك يتسلط الك ُّم‬
‫فالعدد هو األقوى‪.‬‬
‫لقد أحاط حلمي بكل وثوق بهذا العالم املتناهي فما ذهب مع سائق الفضول‬
‫وال التجسس‪ ،‬وما ارتعد وال توسل‪.‬‬
‫رأيت الدنيا عىل متناول يدي كتفاحة ناضجة ذهبية نارضة املنظر ناعمة‬
‫امللمس‪.‬‬
‫رأيت الدنيا عىل الجرف العايل املرشف عىل البحر كأنها شجرة تومئ إيل َّ وقد‬

‫‪223‬‬
‫انبسطت أفنانها والتوى جزعها كمت َكأ للمسافر وقد أنهكه التعب‪.‬‬
‫رأيت العالم يتقدم ملالقاتي كأنه يدان تحمالن ً‬
‫طبقا نُثر عليه كل ما تشتهي‬
‫األعني املتعففة الخاشعة‪.‬‬
‫بغيضا مذمومً ا َّ‬
‫تجل يل اليوم طيبًا يف إنسانيته‪ ،‬فهو ال‬ ‫ً‬ ‫إن العالم الذي طاملا كان‬
‫يصد الناس بانكماشه عىل أرساره‪ ،‬وال يخدِّر حكمتهم باإلغراق يف إبهامه‪.‬‬
‫أنا مدين بالشكر لحلم صباحي؛ ألنه وزن العالم يف الساعة األوىل فبدأ يل العالم‬
‫طيبًا يف إنسانيته وهكذا جاء الحلم معزيًا لقلبي‪ ،‬وها أنذا أقتدي به وقد طلع‬
‫النهار فأضع يف امليزان الثالثة الرشور العظمى‪.‬‬
‫إن الذي ع َّلم الناس أن يباركوا ع َّلمهم ً‬
‫أيضا أن يلعنوا‪ ،‬فما هي األشياء الثالثة‬
‫املستحقة اللعنة يف األرض‪ .‬إنها الثالثة التي أريد وزنها‪ :‬الشهوة والتحكم واألنانية‪،‬‬
‫وهي التي استحقت أشد لعنات الناس حتى اليوم‪.‬‬
‫هذا هو الجرف الذي وقفت عليه يف حلمي‪ ،‬وهو يرشف عىل البحر املتدحرج‬
‫بقطعانه البيضاء نحوي‪ ،‬وما البحر إال ذلك الكلب الهرم األمني وذلك املسخ الرائع‬
‫يشمخ بمئات الرءوس‪.‬‬
‫هنا أريد أن أنصب ميزاني فوق البحر الهائج‪ ،‬وأختار شاهدًا عيل َّ هذه الشجرة‬
‫املنفردة الوارفة الظالل املالئة الفضاء بعبريها الشديد‪.‬‬
‫عىل أي جرس يتجه الحارض إىل املستقبل‪ ،‬وما هي القوة التي تُكره املرتفع إىل‬
‫االنخفاض إىل األدنى‪ ،‬وتدفع باألرفع إىل مرتبة أعىل‪.‬‬
‫تساوت كفتا ميزاني فقد طرحت يف إحداهما ثالث مسائل ثقيلة فإذا يف الكفة‬
‫األخرى ثالث أجوبة تضاهيها ً‬
‫ثقل‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫ِّ‬
‫واملحقرين للجسد؛ الحاف ُز‬ ‫الشهوة هي للمتقشفني املتقمصني الصوف الخشن‬

‫‪224‬‬
‫واملعذِّبُ يف وقت واحد‪ ،‬وهي للمستغرقني يف بحران العالم الثاني ُ‬
‫لعنة هذا العالم‬
‫األول؛ ألنها تهاجم أهل الضالل فتقصيهم وتطردهم طردًا‪.‬‬
‫الشهوة للئيم نا ٌر يتحرق فيها اللؤماء‪ ،‬نار بطيئة اإلحراق يتصاعد منها أشد‬
‫الروائح كراهة‪.‬‬
‫الشهوة للقلوب الحرة عاطفة بريئة حرة‪ ،‬فهي سعادة الجنة األرضية‪ ،‬وعرفان‬
‫املستقبل جميل الحارض‪.‬‬
‫الشهوة ُس ٌم حلو املذاق لكل من عراه الذبول‪ ،‬غري أنها رشاب القوة وخمرة‬
‫الخمر لآلساد يكرعونها بثمل الخاشعني‪.‬‬
‫الشهوة أعظم لذة ترمز إىل السعادة واألمل األسمى؛ ألن يف الحياة أشياء كثرية‬
‫حق لها أن تتمتع باالقرتان بل بأكثر منه‪ ،‬فهنالك أشياء بعدت شقة االنفصال‬ ‫َّ‬
‫بينها بأكثر من انفراجها بني الرجل واملرأة‪ ،‬ومن تُرى تم َّكن يومً ا من أن يدرك‬
‫حقيقة تباعد أحدهما عن اآلخر ومدى الشقة بينهما؟‬
‫إن الشهوة … سأضع حصونًا بني أفكاري‪ ،‬وأمتنع عن الكالم كيال يجتاح جنتي‬
‫الخنازير واملتهوسون‪.‬‬
‫ط يلهب أشد القلوب قسوة‪ ،‬وعذابُ استشهاد يُعد‬‫أما الطموح إىل التحكم فسو ٌ‬
‫للطغاة لهبًا قاتمً ا من محارق األحياء‪.‬‬
‫قاس تُراض به أشد الشعوب غرو ًرا‪ ،‬فهو املداعب‬
‫إن الطموح إىل التحكم لجا ٌم ٍ‬
‫للفضائل الحائرة املمتطية صهوات الخيالء‪.‬‬
‫متداع قديم‪ ،‬فهو الثائر املحطم للقبور‬
‫ٍ‬ ‫إن الطموح إىل التحكم زلزال هدام لكل‬
‫املك َّلسة يُزمجر وينزل العقاب‪ ،‬وهو نربة االستفهام تتعاىل تجاه كل جواب مُبترس‪.‬‬
‫نظرات تحني هام الرجال فتجعلهم يزحفون ً‬
‫زحفا‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫إن للطموح إىل التحكم‬
‫وتستعبدهم وتهوي بهم إىل دركة أحط من دركة الخنزير واألفعى إىل أن يأتيهم‬

‫‪225‬‬
‫االحتقار بالسكون‪.‬‬
‫ً‬
‫صارخا بوجه‬ ‫ما الطموح إىل الحكم إال املعلم املخوف يلقن االزدراء األعظم‬
‫املدن واملمالك‪ :‬أفسحي يل املجال وال يزال يهتف حتى تنادي قائلة‪ :‬إنني أفسح‬
‫ً‬
‫مجال‪.‬‬ ‫لك‬
‫إن الطموح إىل الحكم يتعاىل ً‬
‫أيضا نحو األتقياء واملنعزلني ليستهويهم فيذهب‬
‫إىل ذرى االعتزاز بالنفس كأنه غرام مشتعل يرسم يف الخيال املرسات الحمراء‬
‫الساحرة‪.‬‬
‫ومن له أن يدعو هذه الشهوة للتحكم طموحً ا‪ ،‬وما هي إال اندفاع من األعايل إىل‬
‫األعماق طلبًا للقوة‪ ،‬وما أرى يف مثل هذا االنحدار شيئًا من حرارة الحمَّ ى وال من‬
‫أعراض األدواء‪.‬‬
‫ليس للذُّري املنفردة أن تبقى أبدًا منقطعة إىل نفسها‪ ،‬فلتنحدر األنجاد إىل‬
‫األغوار ولتهب الرياح العالية يف مناسف األعماق‪.‬‬
‫إن مثل هذا الطموح ألسمى من أن يصفه بيان فهو «الفضيلة الواهبة» كما‬
‫دعاه زارا من قديم الزمان‪ ،‬فكان بوصفه هذا يوجه الثناء ألول مرة إىل األنانية‪،‬‬
‫روح جبَّارة اتحدت‬‫وما األنانية إال توكيد للذات يتفجر من الروح املقتدرة‪ ،‬من ٍ‬
‫بجسم متكامل يف جماله وانتصاره‪ ،‬فأصبح كل ما حولها يستمد القوة منها‬
‫ويعكس كاملرآة خيالها‪.‬‬
‫وما الجسم املرن الذي ينطوي عىل قوة اإلقناع إال كالراقص الذي يرمز بحركاته‬
‫عن مرسة نفسه‪ ،‬وهل املرح األناني يف مثل هذه األرواح والجسوم إال الفضيلة‬
‫بعينها‪.‬‬
‫ومهما يقل هذا املرح األناني عن الخري والرش فإنه يحوط نفسه بما يقول بغابة‬
‫مقدسة لوقايتها‪ ،‬فهو يتمتم بأسماء السعادة كتعويذة ترد عنه كل ما يستحق‬
‫االحتقار‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫َ‬
‫املحتقر لديه إال املتألم ال‬ ‫إنه ليقيص كل ما هو دنيء؛ إذ يعتربه رشًّا وما الدنيء‬
‫ينقطع عن الشكوى واألنني‪ ،‬وال يتأخر عن التقاط أية فائدة مهما صغرت‪.‬‬
‫وهذا املرح يكره كل حكمة معولة؛ ألن من الحكمة ما ال تنور إال يف الظالم‬
‫فتلوح كأشباح الليل هاتفة‪ :‬كل يشء باطل‪.‬‬
‫وهو ال يحرتم أبناء ال ِّريبة القلقة يطلبون من الناس األيمانات املغ َّلظة ً‬
‫بدل من‬
‫النظرة الرصيحة واليد املمتدة بإخالص‪ ،‬كما أنه ال يحرتم الحكمة املدَّعية الحزم‬
‫بسوء الظن؛ ألن بمثل هذا تن ُّم النفوس عن َخوَرها وجبنها‪.‬‬
‫وليست املجاملة بأقل دناءة يف عينه‪ ،‬فهي كالكلب ينطرح متصاغ ًرا عىل ظهره‪،‬‬
‫ول َكم من حكمة كهذا الكلب زحَّ افة خاشعة متالطفة‪.‬‬
‫ولكن ما يكرهه املرح األناني فوق كل كره الرج ُل املستنيم للضيم‪ ،‬املمتنع عن‬
‫الدفاع‪ ،‬املزدرد ما يتفل الناس عىل فمه من سموم وما يُلقى عليه من النظر الشذر‪،‬‬
‫الرج ُل املوغل يف صربه املتحمِّ ل لكل يشء والقانع بكل يشء‪ ،‬تلك شيمة املستعبَد‬
‫املأجور‪.‬‬
‫إن هذه األنانية السعيدة تتسفل يف وجه كل عبودية‪ ،‬فتزدري بكل متصاغر أمام‬
‫األرباب يركلونه بأرجلهم وأمام الناس ووراء الناس‪.‬‬
‫إن هذه األنانية تعد رشًّا كل متَد ٍَّن منكرس يستسلم للعبودية بعني منخفضة‬
‫وقلب منسحق‪ ،‬وكل مصانع ينحني مقب ًِّل الراحات بشفاه مرتاخية مرتجفة‪.‬‬
‫إنها لتدعو حكمة مض ِّللة كل كلمة ناعمة يتلفظ بها املستبعَ دون ومن دبَّ إليهم‬
‫أيضا ما يتفوه به الكهان يف‬‫الهرم ومن أرهقتهم العلل‪ ،‬وتدعو بهذا الوصف ً‬
‫جنونهم وادعائهم‪.‬‬
‫إنما الحكما ُء الكذبة جمي ُع الكهنة وجميع من سئموا الحياة‪ ،‬وكل من تجول‬
‫فيهم أرواح النساء واملستخدَمني‪ ،‬إن مثل هؤالء الناس يدسون لألنانية ويتآمرون‬

‫‪227‬‬
‫عليها‪ ،‬مدعني أن محاربتها هي الفضيلة بعينها‪ ،‬ولهذا طمح جميع الجبناء‬
‫والعناكب املتعبة من الحياة إىل االدعاء بالتنزه عن كل مأرب يف أعمالهم‪.‬‬
‫سيتدفق النور مكتسحً ا لهؤالء الناس جميعً ا‪ ،‬وعندئذ يلمع سيف الظهرية‬
‫الكربى‪ ،‬سيف الدينونة َّ‬
‫الفضاح‪.‬‬
‫أما من يمجد الذاتية وينادي باألنانية فذلك وحده يقول بما يعلم عندما يهتف‪:‬‬
‫لقد الحت تباشري الظهرية العظمى‪ ،‬ولن يطول الزمن حتى تتوهج أنوارها يف‬
‫اآلفاق‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪228‬‬
‫الروح الثقيل‬

‫‪1‬‬
‫ليس فمي إال فم الشعب‪ ،‬فكلماتي قاسية تخدش أسماع املتأنقني‪ ،‬وهي أشد‬
‫وطأ ًة عىل أسماع زعانف الكتاب املسلحني باألقالم‪.‬‬
‫ما يدي إال يد مجنون‪ ،‬فويل منها أللواح الرشائع ومنيعات الحصون‪ ،‬وويل لكل‬
‫ما يتسع لزخارف الجنون وغرائب سطوره‪.‬‬
‫قدمي إال حافرا جواد يرتاكضان عىل األنجاد ويف األغوار‪ ،‬فأحس بروح‬ ‫َّ‬ ‫وما‬
‫أبليس ينفخها املرح يف َّ وأنا أنهب أشواطي‪.‬‬
‫أما معدتي فلع َّلها حوصلة عقاب؛ ألن أفضل ما تشتهيه لحوم النعاج‪ ،‬وإن لم‬
‫تكن حوصلة عقاب فهي عىل ك ٍّل حوصلة مجنَّح من أبناء الفضاء؛ ألنني أتغذَّى‬
‫من كل طاهر لذيذ فأتوق أبدًا إىل االختطاف واالنخطاف‪ ،‬وكيف ال يكون يف َّ يشء‬
‫من الطري وأنا أهفو إىل هذه الحياة‪.‬‬
‫كفاني أن أعادي كل روح ثقيل ألكون شبيهً ا بالطيور‪ ،‬فأنا العدو األلد لروح‬
‫الكثافة‪ ،‬بل العدو املقسم َّأل يحول عن كرهه وقد تكوَّن معه يف رحم أمه‪ ،‬فتلك‬
‫العداوة لن تطري ولن تتبدد‪.‬‬
‫لسوف أُطلق صوتي باإلنشاد مرتنمً ا بهذه املعاني بالرغم من انفرادي يف‬
‫أغاني غري أذناي‪.‬‬
‫َّ‬ ‫مسكني املقفر حيث ال يسمع‬
‫ل َكم يف األرض من منشد ال ينطلق الصوت الشجي من حنجرته‪ ،‬وال تطابق‬
‫التوقيع حركة يده وال تشع عيناه وال ينتبه قلبه إال إذا غص البيت بالسامعني‪ ،‬وما‬
‫أنا من أمثال هذا املنشد‪.‬‬

‫‪229‬‬
‫‪2‬‬
‫إن من سيع ِّلم الطريان للناس يف آتي الزمان سيدفع كل ما رضب حولهم من‬
‫حدود‪ ،‬بل سيذري معاملها هباء ويبدِّل اسم األرض باس ٍم يدل عىل زوال كثافتها‬
‫وثقلها‪.‬‬
‫إن النعامة تعدو بأرسع ما تعدو الخيول الضوامر غري أنها ال تزال كاإلنسان‬
‫تغرس رأسها الثقيل يف الرتاب الثقيل‪ ،‬وما اإلنسان بأفضل منها ما زال يجهل‬
‫كيف يطري‪ ،‬وما زال يشعر أن الحياة ثقيلة كاألرض‪.‬‬
‫من يريد أن يشعر من نفسه بخفة الطري فعليه أن َّ‬
‫يتوسل باألنانية لالنعتاق من‬
‫كثافته‪ ،‬ليحبَّ اإلنسان نفسه‪ .‬هذا ما أعلم به أنا‪.‬‬
‫وما أدعو الناس إىل إثارة حب الذات بعاطفة املرىض واملحمومني‪ ،‬فإن رائحة‬
‫السقام تنبعث من أنانية املريض واملحموم‪.‬‬
‫تع َّلموا األنانية الصحيحة السليمة؛ لتتمكنوا من احتمال ذاتكم فال تضلكم‬
‫أنانيتكم‪ .‬هذا هو تعليمي‪.‬‬
‫وما ضالل األنانية إال بذهابها إىل «محبة الغري» فإن القائلني بالغريية قد أتوا‬
‫بأمهر تمويه‪ ،‬وما أرهق الغري أح ٌد بمثل إرهاقهم‪.‬‬
‫نفذ بني عشية‬ ‫وصية من الوصايا تُ َّ‬
‫ً‬ ‫ليس القول بوجوب التمرن عىل األنانية‬
‫وضحاها‪ ،‬فالتدرب عىل محبة الذات أدق الفنون وأصعبها‪ ،‬وما يملك زمامه إال‬
‫املتحيل الجلود؛ ألن روح الكثافة يجعل املالك يف غفلة عما يملك ويعمي صاحب‬
‫طويل عن مثاويها‪ ،‬فإننا ال نكاد نُطرح عىل الرسير حتى نُجهَّ ز بالكلمتني‬‫ً‬ ‫الكنوز‬
‫الثقيلتني‪« :‬الخري» و«الرش» ذلك هو مرياثنا‪ ،‬بل تلك هي الوصية التي ال تُغتفر‬
‫لنا الحياة إال باتباعها‪ ،‬وإذا ما قال قائل‪ :‬دعوا األوالد يأتون إيل َّ‪ ،‬فما يدعوهم إال‬
‫ليمنعهم يف الزمن املناسب من أن يحبوا ذاتهم‪ .‬تلك هي مآتي الروح الثقيل‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫أما نحن‪ ،‬فنذهب ساحبني ما أثقلت به كواهلنا الصلبة إىل الجبال الجرداء‪ ،‬حتى‬
‫والس َغب قيل لنا‪ :‬أنتم محقون بشكواكم فالحياة أعباء وأثقال‪.‬‬
‫إذا شكونا ال َّل َغب َّ‬
‫والحق ليس يف الحياة من أعباء عىل اإلنسان غريُ اإلنسان نفسه؛ ألنه يوقر كاهله‬
‫بما ال طائل تحته‪ ،‬فهو نفسه قد استناخ كالجمل مسلمً ا ظهره‪ ،‬فأُثقل بأشد‬
‫األحمال‪ ،‬وأكثر الناس استسالمً ا الرجل الصلب الجلود يرفع عىل كاهله جمًّ ا من‬
‫الكلمات والوصايا الثقيلة فتنبسط الدنيا أمامه صحراء قاحلة مرتامية األطراف‪.‬‬
‫وما يثقل كاهلكم ك ُّل دخيل عليكم فحسب‪ ،‬فهنالك ما يرهقكم وهو منكم وفيكم‬
‫فداخل اإلنسان شبيه بحشوة املحَ ار فهو ق ِذ ٌر مرتاخ لزجٌ ينزلق تحت أناملك إذا‬
‫حاولت إمساكه؛ لذلك تتكفل القشور والظواهر املزخرفة بسرت ما وراءها‪ ،‬وما‬
‫إن هذا إال‬‫يسهل عىل املرء أن يستنبت لنفسه قشو ًرا متعاميًا بحكمة عن دخائله‪ْ ،‬‬
‫فن ال بد من التدرب عليه‪ ،‬ول َكم عىل الناس من قشور تن ُّم عىل املسكنة وقد وضح‬ ‫ٌّ‬
‫عليها التمويه‪ ،‬ول َكم من قوة ومن صفة طيبة تبقى غائرة فال يلمحها أحد‪ ،‬و َكم‬
‫من طعام شهي ال يرغب أحد فيه‪ ،‬وما خفيت هذه الحقيقة عن النساء َّ‬
‫فهن يعلمن‬
‫َّ‬
‫حظهن من االستغواء‬ ‫مجال لتمني املتعنِّتني‪ ،‬وقد يتوقف‬
‫ً‬ ‫أن بني املرتهلة والنحيلة‬
‫عىل يشء من الرتهل ويشء من النحول‪.‬‬
‫إن اكتشاف خفايا اإلنسان ملن صعاب األمور‪ ،‬وأصعب األمور أن يكتشف‬
‫اإلنسان نفسه فكثريًا ما يضلل العق ُل الشعو َر‪ ،‬وما ذلك إال من تأثري الروح الثقيل‪.‬‬
‫ليس من مكتشف لحقيقة ذاته إال من يقول يف نفسه‪ :‬هذا هو خريي وهذا هو‬
‫رشي‪ ،‬وبهذا القول يُخرس الخلد والقزم القائلني بأن الخريَ خريٌ للكل والرشَّ رشٌّ‬
‫للجميع‪.‬‬
‫أيضا من يرون كل يشء حسنًا‪ ،‬ويرون هذا العالم خري‬ ‫والحق أنني أكره ً‬
‫إن هؤالء إال القانعون يرتاحون لكل يشء ويتذوقون كل يشء‪ ،‬وما بهذا‬ ‫العوالم‪ْ ،‬‬
‫يستدل عىل الذوق السليم‪ ،‬أما أنا فأُج ُّل الفم الحساس املتصعب الذي يعرف أن‬

‫‪231‬‬
‫يقول‪« :‬أنا» وأريد وال أريد‪.‬‬
‫وما من يلتهم كل يشء ويهضم كل يشء إال من قطيع الخنازير‪ ،‬فكل ناهق‬
‫بالرىض سائر حما ًرا بني الحمري‪.‬‬
‫أحب من األلوان األصفر القاتم واألحمر الفاقع؛ ألنهما يُدخالن لون الدم عىل‬
‫جميع األلوان‪ ،‬ومن موَّه جدران بيته باللون األبيض يدل عىل أنه موَّه نفسه بهذا‬
‫اللون ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫إنني أحب الدماء وما يتفق ذوقي وأذواق من يعشقون الجثث املحنطة من جهة‬
‫ومن يعشقون األشباح من جهة أخرى؛ ألن الفئتني معاديتان لكل ما هو لحم‬
‫ٌ‬
‫رشاش من بصاق الثرثارين‪ ،‬وما يسيل‬ ‫ودم‪ ،‬وأنا ال أريد الوقوف حيث يصيبني‬
‫النضا ُر من أشداقهم كما يدَّعون‪ ،‬وخري يل من املثول أمامهم أن أعارش اللصوص‬
‫والخونة‪.‬‬
‫َ‬
‫رشاش بصاقِ هم‪ ،‬وما‬ ‫وإذا ما كرهت الثرثارين فإنني أشد ً‬
‫كرها ملن يتلقون‬
‫رأيت يف الناس من تشمئز لهم نفيس كمن ال أجد لهم شبيهً ا غري الطفيليات‪ ،‬فمثل‬
‫هؤالء يطلبون الحياة من الحب وهم ال يشعرون به‪.‬‬
‫أيضا أشقياء يف الحياة هم األُىل ال خيا َر لهم إال بني حالتني‪ ،‬فإذا‬
‫إن مَ ن أدعوهم ً‬
‫لم يكونوا حيوانات مفرتسة كانوا مذللني لها‪ ،‬وما أنا بالضارب خيامي يف جوار‬
‫هؤالء الناس‪.‬‬
‫وأنا أدعو أشقياء ً‬
‫أيضا من يُك َرهون عىل االنتظار أبدًا‪ ،‬فما أحبِّذ حياة الجُ باة‬
‫حارسا لحانوت أو لقطر من األقطار‪.‬‬ ‫ً‬ ‫والتجار وامللوك وكل من يقف‬
‫أيضا تعلمت الصرب واالنتظار إىل زمان طويل‪ ،‬ولكن ما أنتظره إنما هو‬ ‫وأنا ً‬
‫«أنا» وما تمرنت عليه هو أن أقف وأميش وأركض وأقفز وأتسلق وأرقص؛ ألن‬
‫تعليمي هو هذا‪ :‬من يريد أن يتعلم الطريان يومً ا فعليه أن يتدرب ً‬
‫أول عىل الوقوف‬
‫فالركض فالقفز فالتسلق فالرقص‪ ،‬وليس ألحد أن يطفِ ر إىل الطريان ْ‬
‫طف ًرا‪.‬‬

‫‪232‬‬
‫ما تع َّلمت التسلق إىل النوافذ إال بنصب الحبال‪ ،‬وما ارتقيت مرتفعات الصواري‬
‫ساقي‪ ،‬إن أعظم اللذات هي اعتال ُء صارية املعرفة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫إال بعد أن تقوَّت عضالت‬
‫واالتقاد بلهب يتلوه لهب فإن يف هذا اإلشعاع املرتدد هداية السفن الجانحة وأمل‬
‫املرشفني عىل الهالك‪.‬‬
‫ط ُر ًقا عديدة واتخاذي وسائل جمَّ ًة‪ ،‬فما‬
‫لقد بلغت الحقيقة حقيقتي بسلوكي ُ‬
‫ارتقيت املدارج من ُسل ٍم واحدة ألبلغ القمة التي أتسنمها اآلن وأرسل منها نظراتي‬
‫إىل بعيد‪.‬‬
‫ً‬
‫مكرها؛ ألنني فضلت يف كل‬ ‫وإذا كنت سألت أحيانًا عن الطريق فما سألت إال‬
‫زمان أن أستنطق السبيل عن وجهته فأختربه بنفيس‪.‬‬
‫وتلمسا وما يتوصل اإلنسان إىل استنطاق نفسه‬ ‫ً‬ ‫وهكذا كان تقدمي سؤاال‬
‫وسبله إن لم يتمرن عىل ذلك‪ ،‬ولكل ذوقه وهذا هو ذوقي ال أراه خري األذواق‪ ،‬وال‬
‫أراه رشَّها عىل أنني ال أخجل به وال أخفيه‪.‬‬
‫هذا السبيل الذي أنتهج‪ ،‬فأين سبيلكم أنتم؟‬
‫بهذا االستفهام كنت أجاوب من يسألونني‪ :‬أين الطريق ألن لك ٍّل طريقه وليس‬
‫هنالك جادة للجميع؟‬

‫‪233‬‬
‫الوصايا القديمة والوصايا الجديدة‬

‫‪1‬‬
‫طمة واأللواح الجديدة‪ ،‬و َّملا‬
‫ها أنذا جالس أنتظر بني ركام األلواح القديمة املح َّ‬
‫تُستكمل كتابة الوصايا عليها‪.‬‬
‫ساعة انحداري وجنوحي‪ ،‬فإنني أريد أن أنحدر إىل‬ ‫ُ‬ ‫فأي متى تأتي ساعتي؟‬
‫الناس ثانية‪ ،‬وذلك هو سبب انتظاري؛ إذ ال بد أن تُعلن يل عالمة اقرتاب الساعة‬
‫فأرى األسد الضاحك ورسب الحمام الزاحف‪.‬‬
‫وإىل ذلك الحني أتكلم كمن له سعة من وقته فأخاطب نفيس وأقص عليها ما‬
‫أعلم؛ إذ ال يقص عيل َّ أح ٌد شيئًا جديدًا‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫جالسا عىل افرتاضات قديمة‪ً ،‬‬
‫واثقا أنه عرف كل‬ ‫ً‬ ‫عندما أتيت إىل العالم وجدته‬
‫يشء وميز بني خري الحياة ورشها‪.‬‬
‫ورأيت الناس يعتقدون أن كل بحث عن الفضيلة قد انقىض زمانه‪ ،‬وبالرغم‬
‫من هذه العقيدة كان كل منهم يأتي عىل ذكر الخري وهو متجه إىل رسيره طلبًا‬
‫للنوم الهنيء‪.‬‬
‫فوقفت أنبه الغافلني وأنا أعلن أن ليس من أحد عرف حقيقة الخري والرش؛‬
‫ً‬
‫أهدافا للناس ويويل األرض معناها‬ ‫ألن املبدع وحده يعرفها‪ ،‬وهو من يخلق‬
‫ومقدراتها‪ ،‬فليس سواه من يوجد لكل يشء خريه ورشه‪.‬‬
‫وأمرت الناس بأن يهدموا كل قديم‪ ،‬وأن يقفوا أمام كل عقيدة هرمة ضاحكني‬

‫‪234‬‬
‫مستهزئني بمعلميهم وقدِّيسيهم وشعرائهم ومخليص عاملهم‪.‬‬
‫أمرتهم بأن يهزءوا برصامة حكمائهم وحذرتهم من املفزعات السوداء املنصوبة‬
‫عىل شجرة الحياة‪.‬‬
‫أمرتهم‪ ،‬واتخذت يل مقعدًا عند حافة مضيقهم‪ ،‬وقد حفل بالنعوش واألشالء‬
‫وحامت فوقه الغربان‪ ،‬وبت أضحك هازئًا بماضيهم املتداعي وقد تناثرت أمجاده‪،‬‬
‫مسه الجنون صابًّا جام الغضب‬‫وأثور كمن أُعطي سلطانًا عىل الخري والرش وكمن َّ‬
‫واللعنة عىل كل كبائرهم وصغائرهم‪ ،‬وما هزئت إال بأحقر ما يف خريهم ورشهم‪.‬‬
‫لقد كانت أشواقي تتدفق مني ً‬
‫هتافا وضح ًكا‪ ،‬وما أشواقي إال الحكمة املتوحشة‬
‫التي نشأت يف أعايل الجبال بجناحني يمأل حفيفهما الفضاء‪ ،‬ول َكم تسامت هذه‬
‫األشواق بي إىل ما فوق الذرى‪ ،‬فاندفعت معها كالسهم املرتعش يهزه حنينه إىل‬
‫مصدر النور‪ ،‬إىل مجاهل املستقبل التي لم تبلغها األحالم‪ ،‬إىل الظهريات التي لم‬
‫يلمس الوهم حرارتها‪ ،‬إىل حيث يرقص اآللهة وقد استحيوا من االستتار بأي رداء‪.‬‬
‫ليس يل أن أصف ما هنالك بغري الرموز؛ لذلك أجدني محفو ًزا إىل تمتمة ما أقول‬
‫فأتذبذب كالشعراء‪ ،‬والحق أنني ألخجل من اضطراري إىل األخذ ببيانهم‪.‬‬
‫رقصا ونكات إلهية؛ ألن العالم قد انطلق هنالك من كل‬ ‫ً‬ ‫لقد الح يل كل يشء‬
‫قيد فالتجأ إىل نفسه‪ ،‬فازعً ا إليها كما يفزع اآللهة أبدًا إىل ذاتهم مفتشني عليها‬
‫بإنكارها وبتكرار العودة إليها‪.‬‬
‫هنالك الح يل الزمان سخرية باألزمان املج َّزأة‪ ،‬ورأيت واجب الوجود عبارة عن‬
‫حرية سعيدة تداعب الحرية نفسها‪.‬‬
‫هنالك وجدت شيطاني القديم وعدوي الحديث روح الكثافة‪ ،‬وما أبدع من قبور‬
‫ورشائع ورضورة ونتائج وأهداف وإرادة وخري ورش‪.‬‬
‫وجدت كل هذا ميدانًا ممهدًا ألقدام الراقصني‪ ،‬فليس من مرقص بال مرسح‪،‬‬

‫‪235‬‬
‫وليس من روح خفيفة ال تزحف عند أقدامها الخلدان واألقزام‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫هنالك ً‬
‫أيضا ظفرت بكلمة «اإلنسان املتفوق» وبالتعليم القائم عىل أن اإلنسان‬
‫كائن يجب أن ينشأ منه ما يجتازه‪ ،‬ليس اإلنسان ً‬
‫هدفا وغاية ْ‬
‫إن هو إال عابر يدَّعي‬
‫السعادة يف ظهريته ومسائه‪.‬‬
‫إن كلمات زارا عن الظهرية العظمى وجميع ما رفعه فوق العالم ْ‬
‫إن هو إال‬
‫ثان ينفلق من ورائه الفجر الجديد‪.‬‬
‫غروب أرجواني ٍ‬
‫ُ‬
‫ونثرت الضحك‬ ‫ُ‬
‫عرضت ألنظار الناس كواكب جديدة وليايل َ ال عهد لهم بها‪،‬‬ ‫لقد‬
‫عىل غيوم الليل والنهار فرضبت قبَّة زاهية بعديد ألوانها‪.‬‬
‫علمت الناس جميع أفكاري وأبنت لهم جميع رغباتي؛ إذ أردت أن أجمع‬
‫وأوحد ما يف اإلنسانية من بدد األرسار وتصاريف الحدثان‪ ،‬فقمت بينهم شاع ًرا‬
‫أحل الرموز وأفتديهم من الصدف العمياء؛ ألعلمهم أن يبدعوا املستقبل وينقذوا‬
‫بإبداعهم ما انرصم من األحقاب‪.‬‬
‫لقد وجهت الناس إىل إنقاذ اإلنسانية مما أدرج املايض يف أغوارها بتغيري كل «ما‬
‫كان» إىل أن تنتصب اإلرادات معلنة أن ما ت َّم هو ما كانت تريد أن يكون‪ ،‬وأن هذا‬
‫ما سرتيده يف كل زمان‪.‬‬
‫بهذا رأيت السالم للناس‪ ،‬وهذا ما ع َّلمتهم أن يدعوه سالمً ا‪.‬‬
‫وأنا اآلن أتوقع السالم يل ألعود للمرة األخرية للناس؛ ألنني أريد أن أذهب من‬
‫بينهم إىل الفناء‪ ،‬فأودعهم أثمن كنوزي أسوة بالشمس تلقي عىل البحار نضارها‬
‫وهي تتوارى يف الظالم‪ ،‬حتى ترى أفقر الصيادين يداعبون صفحة البحر‬
‫باملجاذيف املذهبة‪.‬‬
‫لقد تعلمت هذا الجود من الشمس عندما كنت أشخص إليها غاربة فتندفق‬

‫‪236‬‬
‫عيني‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الدموع من‬
‫هكذا يريد زارا أن يتوارى فيغرب كما تغرب الشمس‪ ،‬وها هو ذا جالس ينتظر‬
‫بني ركام األلواح القديمة املحطمة واأللواح الجديدة‪ ،‬و َّملا تُستكمل كتابة الوصايا‬
‫عليها‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫انتبهوا‪ ،‬إنني آتيكم بلوح جديد‪ ،‬ولكن أين هم إخوتي يحملون معي هذا اللوح‬
‫إىل الوادي؛ لتحفر وصاياه عىل أعشار القلوب‪.‬‬
‫إن محبتي ملن سيأتون فيما بعد تقيض بهذه الوصية‪ :‬ال تدار قريبك؛ ألن‬
‫اإلنسان معربٌ يجب علينا اجتيازه للتفوق عليه‪.‬‬
‫وقد أعطي لإلنسان أن يجتاز نفسه عىل طرق عديدة وبوسائل عديدة‪ ،‬فما‬
‫عليك إال أن تتجه للوصول‪ ،‬وليس غري املمثل املضحك من يقول بإمكان التفوق‬
‫عىل اإلنسان طف ًرا وقف ًزا‪.‬‬
‫تفوَّق عىل نفسك يف ذات قريبك‪ ،‬فال تدعه يُنيلك ًّ‬
‫حقا بوسعك أن تأخذه اقتدا ًرا‪،‬‬
‫فإن ما تفعله ال يبادلك إياه أحد؛ ألن ليس من مكافأة يف العالم‪ ،‬ومن ال قبل له‬
‫بحكم نفسه وجبت الطاعة عليه‪.‬‬
‫إن يف العالم كثريين يعرفون أن يتحكموا بأنفسهم‪ ،‬ولكنهم ال يعرفون كيف‬
‫يطاوعونها‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫إن النفوس النبيلة تأنف أن تأخذ شيئًا بال بدل فهي ترد الحياة قبل كل يشء إذا‬
‫هي لم تكتسب عيشها‪ ،‬أما القطيع البرشي فرييد أن يعيش دون أن يبذل شيئًا‪.‬‬
‫لقد وُهبت لنا الحياة فعلينا أن نفكر يف كل حني بخري ما يمكننا أن نبذل لقاء‬
‫هذه الحياة‪ ،‬وهل أرشف من أن نقول‪ :‬يجب أن نحقق للحياة ما وعدتنا به‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫ليس للمرء أن يتمتع بلذة إذا هو لم يبذل لذة‪ ،‬فما اللذة عبارة عن التوجه للتمتع‬
‫حيي ممنَّع‪ ،‬وليس ألحد أن يفتش عليها إذا هو لم‬
‫بها؛ ألن التلذذ كالطهارة كالهما ٌّ‬
‫يملكها امتال ًكا‪ ،‬وخري له أن يفتش يف هذه الحال عىل الدنس واألوجاع‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫كل طليعة تُضحَّ ى‪ ،‬أيها اإلخوة‪ ،‬وهل نحن إال طليعة مُنذِرة‪ ،‬تنزف جراحنا دمً ا‬
‫يف هيكل األرسار‪ ،‬ونُقدَّم محرقة يذوب لحمها تمجيدًا لألصنام القديمة‪.‬‬
‫غضا رطيبًا‪ ،‬وذلك ما يهيج شهوة األشداق الهرمة‪،‬‬ ‫إن خري ما فينا لم يزل ًّ‬
‫فلحمنا طريٌّ وجلودنا جلود حمالن‪ ،‬فكيف ال نثري جشع الكهان يف هياكل األوثان؟‬
‫إن كاهن األوثان الهرم لم يزل يسكن ذاتنا الخفية‪ ،‬وهو يتهيأ إلقامة وليمة‬
‫تس َلم الطليعة‪ ،‬أيها اإلخوة‪ ،‬من أن تصبح ضحية‬
‫يبتلع فيها خري ما فينا‪ ،‬فكيف َ‬
‫وقربانًا؟‬
‫ولكن بهذا تقيض مهمتنا وأنا أحب من ال يتمسك بالبقاء‪ ،‬ومن يتوارون أُرفقهم‬
‫بكل عطفي؛ ألنهم يذهبون إىل الجهة األخرى‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫ما أقل من يعرفون الصدق واإلخالص! والعارف لحقيقة الرصاحة ال يريد أن‬
‫يكون رصيحً ا‪ ،‬فأكثر الناس تمويهً ا هم املشفقون؛ ألنهم ال ينطقون أبدًا بالحق‪،‬‬
‫ومثل هذا اإلشفاق مرض كامن يف العقل‪.‬‬
‫إن الرحماء يرضخون ويستسلمون للقلب يميل إرادته فيهم عىل العقل والعقل‬
‫يمتثل دون تر ٍّو وإدراك‪ ،‬فما تتكون الحقيقة يف الرحماء إال من تراكم كل ما‬
‫هو رش يف عينهم‪ ،‬فهل لديكم من الرش ما يكفي إليجاد مثل هذه الحقيقة أيها‬
‫اإلخوة؟!‬
‫ال تولد الحقيقة إال من تزاوج الوقاحة وسوء الظن والرفض القايس والكره‬

‫‪238‬‬
‫والشقاق يف الحياة‪ ،‬وما أصعب أن تتوافق وتتحد جميع هذه املقدمات!‬
‫إن الضمري الشامل قد نشأ حتى اليوم قرب الضمري الرشير‪ ،‬فهيَّا أيها اإلخوة إىل‬
‫تحطيم األلواح القديمة إذا كنتم تفتشون عن مبدأ املعرفة‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫إذا رأيت املعابر منصوبة فوق مجاري املياه‪ ،‬والجسور معقودة فوق األنهار‪،‬‬
‫فهل تصدق من ينادي بالثبور وينذر بالغرق إذا كان الحكماء أنفسهم يكذبونه؟!‬
‫إن كل ما يعلو النهر من معابر‪ ،‬كل ما هو خري وكل ما هو رش ثابت مكني‪،‬‬
‫وعندما يجيء الشتاء املتسلط عىل األنهار يرتاب يف ثبات كل األشياء أش ُّد الناس‬
‫فطنة‪ ،‬غري أن من يحبون االستغراق يف نوم الشتاء واالستسالم إىل بطالته يحلو‬
‫لهم أن يعتقدوا برسوخ املعابر وسكون كل حركة يف األعماق‪ ،‬ولكن الهواء املذيب‬
‫للجليد يكذب هذه الطمأنينة؛ إذ يهب كأنه الثور الهائج ضاربًا الجليد بقرنيه‪ ،‬وإذ‬
‫يتحطم الجليد تتداعي الجسور‪ ،‬وعندئذ تغرق يف املياه كل املعابر فال يجد أحد ما‬
‫يستند إليه من الخري والرش‪.‬‬
‫يا لشقائنا‪ ،‬بل يا لسعادتنا! لقد هبت األرياح تذيب الجليد‪ ،‬فاذهبوا يا إخوتي‬
‫عىل الطرق مبرشين بهبوبه‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫إن من الجنون جنونًا قديمً ا عرف بالخري والرش‪ ،‬فدار حتى اليوم عىل محور‬
‫العرافني واملنجمني‪.‬‬
‫لقد ساد االعتقاد فيما مىض بالعرافة والتنجيم؛ لذلك آمن الناس بالقضاء‬
‫املحتوم فقالوا بالواقع وجوبًا‪ ،‬وداخلهم الشك يف الكشف فارتدوا إىل اإلرادة الحرة‬
‫ينادون بها قائلني‪ :‬إذا أنت أردت فقد قدرت‪.‬‬
‫أيها اإلخوة‪ ،‬كل ما بني حتى اليوم عىل استنطاق النجوم واملستقبل لم يكن إال‬

‫‪239‬‬
‫افرتاضا يقوم عىل افرتاض؛ لذلك لم يعرف أحد شيئًا عن الخري والرش‪ ،‬وما قيل‬
‫ً‬
‫عنهما لم يتع َّد حدود الرجم بالغيب‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫ال ترسق‪ ،‬ال تقتل‪ :‬تلك كلمات كانت مقدسة يف غابر الزمان‪ ،‬إذا سمعها إنسان‬
‫جثا عىل ركبتيه‪ ،‬وأحنى رأسه وخلع نعليه‪.‬‬
‫غري أنني أسألكم فأجيبوا‪ :‬هل وُجد يف الدنيا لصوص وقتلة أوفر رسقة وأشد‬
‫فت ًكا ممن استفزتهم هذه الكلمات املقدسة؟‬
‫أفليست الرسقة والقتل من طبيعة الحياة نفسها؟ وهل كان تقديس هذه‬
‫الكلمات النافية إال ً‬
‫قتل لحقيقة الحياة؟‬
‫أكان القصد من مغالطة الحياة والردع عنها إذن دعوة يف سبيل املوت والفناء‪.‬‬
‫أيْ إخوتي‪ ،‬ح ِّ‬
‫طموا هذه األلواح القديمة وال ترتددوا‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫ً‬
‫معرضا ملا سينشأ‬ ‫ً‬
‫مهمل‪،‬‬ ‫إنني ألشعر بإشفاق عىل املايض وقد أصبح مرتو ًكا‬
‫يف األجيال اآلتية من اعتبار وتفكري وجنون‪ ،‬فإن هذه األجيال ستصطنع لنفسها‬
‫جرسا من كل قديم مىض عهده‪.‬‬
‫ً‬
‫لقد يجيء طاغية له روح إبليس يتسلط عىل املايض بلطفه وعنفه فيعالجه‬
‫حتى يصبح معربًا إلقدامه وشعا ًرا له ومكانًا يصيح عليه ديك فجره‪.‬‬
‫غري أن إشفاقي ينطوي ً‬
‫أيضا عىل توقع الخطر‪ :‬ألن تفكري من ينشأ من الغوغاء‬
‫ال يذهب إىل عهد أبعد من عهد جده‪ ،‬وهنالك يتناهى يف تقديره الزمان القديم‪.‬‬
‫إال أن املايض أصبح مرتو ًكا‪ ،‬وقد تسود الغوغاء يومً ا فتدفع إىل اللجج بمرياث‬
‫العصور‪.‬‬

‫‪240‬‬
‫لذلك وجب أن تقوم فئة لها نبلها الحديث تناوئ الغوغاء وتصد الطغاة‪ ،‬فئة‬
‫نبيلة تُنزل الرشف وصية محفورة عىل ألواح جديدة‪.‬‬
‫ال يقوم النبل إن لم يكثر عدد النبالء‪ ،‬وقد أوردت هذا املبدأ ورمزت إليه عندما‬
‫قلت‪ :‬بتعدد اآللهة ال باإلله الواحد تقوم األلوهية‪.‬‬
‫‪12‬‬
‫إنني أوليكم النبل الجديد‪ ،‬أيها اإلخوة‪ ،‬عندما أقتيض منكم أن تبدعوا وتع ِّلموا‬
‫وتلقوا بذوركم آلتي الزمان‪.‬‬
‫تلك كرامة ال يسعكم ابتياعها بذهب التعامل كاملتاجرين‪ ،‬وما أزهد قيمة ما‬
‫يباع ويرشى!‬
‫ً‬
‫مرشِّفا لكم‪ ،‬بل الهدف الذي تتجهون إليه أن رشفكم‬ ‫لن يكون حَ َسبكم بعد اآلن‬
‫كامن يف إرادتكم ويف الخطوة التي تندفعون بها إىل التفوق عىل أنفسكم واجتياز‬
‫حدودها‪ ،‬ذلك هو رشفكم الجديد‪.‬‬
‫ري ال تُنيلكم ً‬
‫رشفا‪ ،‬وما هو قدر األمراء‪ ،‬وهل يرشفكم أن تقفوا‬ ‫إن خدمتكم ألم ٍ‬
‫كالحصون حول ما هو كائن لتزيدوا يف مناعته وتطيلوا بقاءه؟‬
‫انسحبوا من الساللة التي تعلمت التلون يف القصور‪ ،‬وتعودت الوقوف أبدًا أمام‬
‫املياه اآلسنة‪ ،‬إن علم الوقوف عىل القدمني يُعد فضيلة لخدام القصور‪ ،‬وهم ال‬
‫يتوقعون الحصول عىل لذة االسرتاحة إال إذا طرحهم املوت عن مواقفهم‪.‬‬
‫أيضا يف انتسابكم إىل أجداد قذف بهم روحٌ يدعونه روح القدس‬‫ليس رشفكم ً‬
‫ْ‬
‫أنبتت‬ ‫إىل أرض امليعاد‪ ،‬إىل األرض التي ال أجد فيها ما يُحمَ د‪ ،‬وهل تحمد تربة‬
‫أسوا َء األشجار‪ :‬عود الصليب‪1.‬‬
‫وهل سارت فيالق الفرسان أيان كان يدفعها هذا الروح القدس إال ومن ورائها‬
‫قطعان املاعز والبط ورهط املجانني واملعتوهني‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫أي إخوتي‪ ،‬ليس إىل ما ورائكم يجب أن يتطلع نُبْلكم‪ ،‬بل إىل ما هو خارج‬
‫عن سبيلكم‪ ،‬عليكم أن تنفوا نفوسكم من جميع البلدان واملواطن التي سكنها‬
‫أجدادكم‪.‬‬
‫ال تعلقوا قلوبكم إال عىل أوطان أبنائكم‪ ،‬وليكن هذا الحب حَ َسبكم النبيل‬
‫الجديد‪ ،‬تلك هي األوطان التي لم تطأها قدم بعد وراء البحار السحيقة‪ ،‬وأنا‬
‫آمركم بنرش رشاعكم للتفتيش عىل مراسيها‪.‬‬
‫عليكم أن ِّ‬
‫تكفروا أمام أبنائكم عن ذنب تحد ُِّركم من آبائكم‪ ،‬وبغري هذه الكفارة‬
‫لن تنقذوا املايض‪.‬‬
‫هذه هي الوصية الجديدة أع ِّلق لوحها فوق رءوسكم‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫ملاذا نحن نحيا‪ ،‬وكل يشء باطل! وهل الحياة إال عبارة عن دق سنابل واالصطالء‬
‫قرب نار تحرق وال تدفئ‪.‬‬
‫هذه هي الثرثرة القديمة ال تزال تُحسب حكمة‪ ،‬والناطقون بها شيوخ تفوح‬
‫منهم رائحة االنزواء‪ ،‬والتعفن يكسب ً‬
‫نبل فهؤالء الشيوخ لتعفنهم يك َّرمون وما‬
‫يقرص األطفال عن اإلتيان بمثل وصاياهم‪ ،‬لقد لذعتهم النار فهم يخافونها‪ ،‬إن‬
‫كتب الحكمة القديمة مشحونة بكثري من األوهام الصبيانية‪.‬‬
‫إن من يدق السنابل ال يحق له أن يهزأ بمن يستخرج القمح منها‪ ،‬إن هؤالء‬
‫املستهزئني ملجانني يجدر بنا تقييدهم‪ ،‬فأمثالهم يجلسون إىل املوائد دون أن‬
‫يأتوها بيشء حتى وال بشهية للطعام‪ ،‬فهم يجدفون قائلني‪ :‬إن كل يشء باطل‪.‬‬
‫ً‬
‫باطل حطموا‪،‬‬ ‫صدقوني أيها اإلخوة‪ ،‬إن من يحسن األكل والرشب ال يمتلك فناء‬
‫حطموا ألواح الوصايا التي كتبها من ال يزالون أبدًا ساخطني متذمرين‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫‪14‬‬
‫«إن الطاهر يرى كل يشء طاه ًرا‪ ».‬هذا ما يقول به الشعب‪.‬‬
‫أما أنا فأقول لكم إن كل يشء خنزيري يف عني الخنازير‪.‬‬
‫ولذلك يقف املأخوذون بالتواضع وانسحاق القلب داعني الناس إىل االعتقاد بأن‬
‫العالم مستنقع أوحال وأوضار‪ ،‬وما األوضار إال يف عقول هؤالء الوعاظ الذين ال‬
‫يحلو لهم أن ينظروا الدنيا إال مدبرة فما يستهويهم منها إال قفاها …‬
‫إال أنني أرصخ بوجه هؤالء املأخوذين وإن جنحت عن حدود اللياقة ألقول لهم‪:‬‬
‫أيضا قفاه‪ ،‬ويف هذا العالم كثري من األقذار ً‬
‫أيضا‪،‬‬ ‫إن العالم لشبيه باإلنسان فله ً‬
‫ولكنه ليس مستنقعً ا يغص باألوضار عىل رحبه‪.‬‬
‫لقد أرادت الحكمة أن يكون يف العالم أشياء كثرية تنبعث الروائح الكريهة منها‪،‬‬
‫فإن الكراهة تستنبت األجنحة وتولد الشوق إىل صافيات الينابيع‪.‬‬
‫إن خري مَ ن يف الحياة ال يخلون مما يوجب االشمئزاز‪ ،‬بل يف أرقاهم ما يجب‬
‫اجتيازه والتفوق عليه‪ ،‬فمن الحكمة إذن‪ ،‬يا إخوتي‪ ،‬أن تكون األقذار كثرية يف‬
‫هذا العالم‪.‬‬
‫‪15‬‬
‫ل َكم سمعت األتقياء املأخوذين بالعالم اآلخر يناجون ضمائرهم بأقوال سداها‬
‫الضالل ولحمتها الرش‪ ،‬يقولونها مصدقني بها ال مواربني وال مازحني‪.‬‬
‫«دع العالم عىل حاله وال تحرك إصبعً ا العرتاضه يف سبيله‪ ،‬دع الناس‬
‫يستسلمون ألية يد تشد عىل خناقهم‪ ،‬دعهم يتناحرون ويتضاربون ويتعاملون‬
‫بالسوء ويتسالخون‪ ،‬إياك أن تحرك إصبعً ا لردعهم‪ ،‬دعهم وما يفعلون فإنهم‬
‫بذلك ينتهون إىل الزهد بهذا العالم‪».‬‬
‫«احذر حكمتك؛ ألنها هي ً‬
‫أيضا من هذه الدنيا وعليك أن تكبتها وأن تنحرها‬

‫‪243‬‬
‫نح ًرا؛ ألنك بذلك تتعلم أنت ً‬
‫أيضا الزهد بهذا العالم‪».‬‬
‫أيْ إخوتي‪ ،‬تقدموا إىل هذه األلواح القديمة‪ ،‬ألواح وصايا األتقياء وحطموها‬
‫تحطيمً ا‪ ،‬بل اقضموا بأسنانكم هذه الوصايا فال تتفوه شفاهكم بها ألنها كلمات‬
‫املشنعني بالحياة‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫سمعت الناس يتهامسون يف األزقة املظلمة قائلني‪« :‬من يتعلم كثريًا يفقد‬
‫شهواته العنيفة كلها‪».‬‬
‫ورأيت ألواح وصية جديدة تعلق حتى يف الساحات العمومية وقد كتب عليها‪:‬‬
‫«الحكمة مرهقة‪ ،‬وال يشء يستحق العناء‪ ،‬فال تعلق شهوتك عىل يشء‪».‬‬
‫سارعوا أيها اإلخوة إىل تحطيم هذه األلواح الجديدة‪ ،‬وما علقها فوق الرءوس إال‬
‫من تعبوا من الحياة‪ ،‬ما علقها اإل كهان املوت وحراس املواخري‪ ،‬وهل هذه الوصية‬
‫إال دعوة إىل العبودية‪.‬‬
‫لقد تعلم هؤالء الكهنة والحراس ولكنهم اتبعوا منهجً ا سيئًا؛ فأغفلوا من العلوم‬
‫مترسعني‪ ،‬فازدردوا ما تناولوا حتى استحكم يف ِمعَ دهم‬
‫ِّ‬ ‫خيارها‪ ،‬تعلموا قبل األوان‬
‫الداء‪ ،‬وما عقلهم إال معدة عليلة ساء هضمها ولهذا ينادي عقلهم بالفناء‪.‬‬
‫إن الحياة ينبوع مرسة‪ ،‬ولكن املنتصت إىل عقله ا َملمْ عود وقد ساء التمثيل فيه‬
‫وحكمته السوداء يخيل له أن يف كل ينبوع سمومً ا‪.‬‬
‫إن املعرفة مرسة ملن تعززه إرادة األسد‪ ،‬وما املتعب تسريه إرادة سواه إال قطعة‬
‫عائمة تتقاذفها األمواج‪ ،‬وهل الضعفاء إال من أضلوا السبيل حتى إذا نفدت قواهم‬
‫وقفوا متسائلني عمن دفع بهم إىل السري قائلني أن ال يشء يستحق االهتمام‪ ،‬هؤالء‬
‫هم من يلذ لهم سماع الداعني إىل االستعباد بقولهم‪ :‬ال يشء يستحق االهتمام‪،‬‬
‫فعليكم أن تشلوا إرادتكم‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫ً‬
‫مدغدغا معاطس كل من أتعبهم السري‬ ‫أي إخوتي‪ ،‬إن زارا يهب كالهواء الالفح‬
‫عىل طرقهم‪ ،‬وهذا الهواء الطلق يخرتق حتى جدران السجون ويبلغ حتى سجناء‬
‫التفكري‪.‬‬
‫ال مخلص إال اإلرادة ألن اإلرادة مبدعة‪ ،‬هذا هو تعليمي‪ ،‬وعىل اإلنسان أن يتعلم‬
‫ليبدع‪ ،‬وعليه أن يأخذ عني دون سواي الطريقة التي تبلغه العلم‪.‬‬
‫من له أذنان سامعتان فليسمع‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫لقد أُعدَّت السفينة فهي متجه إىل بعيد‪ ،‬ولعلها سائرة إىل لجة العدم‪ ،‬فهل فيكم‬
‫من يريد السفر إىل املجهول املفرتض؟‬
‫ليس منكم واحد يريد أن يركب هذه العائمة‪ ،‬سفينة املوت فعال َم تريدون إذن‬
‫أن تسئموا الحياة؟‬
‫أيها املتعبون من الدنيا قبل أن يستعيدكم ترابها‪ ،‬ما عهدتكم إال متشوقني‬
‫لألرض عاشقني ملتاعبكم منها‪.‬‬
‫هذه شفتكم تتدىل بشهوة ترابية تعلقت فيها‪ ،‬وهذه نظراتكم تجول فيها‬
‫خياالت ملذات أرضية ملا نسيتموها بعد‪.‬‬
‫إن عىل األرض مُبدعات وفرية بعضها للفائدة والبعض اآلخر للتنعم‪ ،‬فأحبوا‬
‫األرض من أجل هذه املبدعات‪ ،‬وفيها ما جمع كنهود الكواعب بني ما يفيد الحياة‬
‫ويبهج الحياة‪.‬‬
‫أمَّ ا أنتم أيها املتعبون من العالم‪ ،‬أيها املتكاسلون‪ ،‬فقد حق عليكم أن تدغدغ‬
‫جلودكم السياط لتشتد عزائمكم وقوائمكم؛ ألنكم إذا لم تكونوا ممن نفدت قواهم‬
‫فتعبت األرض منهم‪ ،‬فأنتم وال ريب من فئة املحتالني املتكاسلني أو من املنتقمني‬
‫املنقطعني إىل اللذات كالهررة الجشعة الخبيثة‪ .‬إذا أنتم أرصرتم عىل اختيار‬

‫‪245‬‬
‫الجمود وامتنعتم عن الركض بفرح وحبور‪ ،‬فما لكم إال أن تتواروا عن الوجود‪.‬‬
‫ال دواء للداء العُ قام‪ ،‬هكذا يعلم زارا‪ ،‬فاغربوا إذن عن الحياة‪.‬‬
‫ولكن اإلتيان ببيت الختام يف قصيدة أصعب من نظم بيوت جديدة فيها‪،‬‬
‫ووضع حد للحياة يستلزم من الشجاعة ما ال يقتضيه البقاء فيها‪ ،‬وذلك ما يعرفه‬
‫الشعراء وال يجهله األطباء‪.‬‬
‫‪18‬‬
‫أي إخوتي‪ ،‬لقد كتب التعب وصاياه كما كتب الكسل وصاياه ً‬
‫أيضا‪ ،‬وبالرغم‬
‫من أن نص كليهما واحد فإن معنى ك ٍّل منهما يختلف عن اآلخر‪ ،‬وهل كالكسل ما‬
‫يدخل التعفن إىل النفوس‪.‬‬
‫انظروا إىل هذا الرجل وقد تراخت عزيمته‪ ،‬ولم يبق بينه وبني هدفه إال قيد‬
‫شرب واحد‪ ،‬ولكن التعب أضناه‪ ،‬فأصبح وهو الجسور املقدام منطرحً ا عىل الرمال‬
‫ً‬
‫حانقا‪.‬‬ ‫متربمً ا‬
‫ها هو ذا يتثاءب من لغبه‪ ،‬وقد سئم الطريق واألرض والهدف حتى سئم نفسه‪،‬‬
‫فهو ال يريد أن يخطو خطوة واحدة بعد‪.‬‬
‫إن الشمس ترشقه بسهامها وقد دارت به الكالب متحفزة؛ لتلغ ما تصبب من‬
‫ً‬
‫مفضل عىل النهوض أن تنثره الشمس‬ ‫عرقه وهو ال يزال ممددًا ممنَّعً ا بعناده‬
‫رمادًا‪.‬‬
‫يا للغرابة أن يفنى اإلنسان وهو عىل قيد شرب من هدفه! تقدموا وجروا البطل‬
‫بشعره إلبالغه الجنة التي تاق إليها‪.‬‬
‫ولكن ال! خريٌ لهذا الرجل أن تَدَعوه حيث انطرح ليأتيه الوسن املع ِّزي ويتساقط‬
‫عليه الرذاذ املربد من السحاب‪.‬‬
‫دعوه يغط يف نومه إىل أن ينتبه لنفسه‪ ،‬إىل أن يتغلب وحده عىل التعب وعىل كل‬

‫‪246‬‬
‫ما ع َّلمه أن يتعب‪.‬‬
‫ولكن اطردوا من حوله الكالب الخبيثة الكسولة وأرساب الذباب املالئة جوَّه‬
‫بالطنني‪ ،‬وما هي إال أرهاط املثقفني املتغذين مما تنضحه رءوس األبطال‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫طا وأنصب التخوم حدودًا مقدسة؛ لذلك يتناقص عدد‬ ‫إنني أرسم حويل خطو ً‬
‫من يتسلقون الجبال معي كلما ازددت ارتفاعً ا نحو الذرى‪ ،‬فحاذروا يا إخوتي‪،‬‬
‫َّ‬
‫يندس بينكم الطفيليون‪ ،‬إن الطفييل حرشة تتغذى من كل خلية‬ ‫يف أي مرتقى أن‬
‫عليلة فيكم‪ ،‬فهي تهتدي بالغريزة إىل مواطن ضعفكم وتدرك بسليقتها الزمن‬
‫الذي تهي فيه عزائمكم‪ ،‬فال تلبث أن تعشش يف مكامن استيائكم ووهن معزتكم‪.‬‬
‫إن مثل هذه الحرشة ال تتخذ مقرها الكريه إال يف مكامن الضعف من األقوياء‬
‫ويف مواطن اإلشفاق من النبالء‪ ،‬وحيث تلوح لها علة حقرية لعظيم فهنالك تتخذ‬
‫مسكنًا لها‪.‬‬
‫إن أدنى فئة وأحطها يف أي نوع إنما هم الطفيليون وما يغذِّي هذه الفئة الدنيئة‬
‫إال أرفع فئة وأرشفها يف ذلك النوع‪ ،‬وكيف ال يرتاكم العدد األوفر من الطفيليني‬
‫نفس طال سلمها فطال املدى بني أحط مدرج وأعىل مدرج فيها‪.‬‬ ‫عىل ٍ‬
‫كيف ال يرتاكمون عىل نفس رحب مداها؛ فرتاكضت فيه تائهة مستسلمة‬
‫للطارئات‪ ،‬عىل نفس تستغرق يف آتي الزمان وتندفع إىل أغوار اإلرادة والشوق‪،‬‬
‫عىل نفس تفزع من ذاتها وتفزع إىل ذاتها مندفعة منجذبة يف أفسح دائرة وأبعد‬
‫مجال‪ ،‬عىل نفس تناهت يف الحكمة فراودتها عىل مهل طالئع الجنون‪ ،‬وتلك هي‬
‫النفس التي أحبت ذاتها فوق كل حب فبدت فيها مصاعد ومنازل لكل األشياء‪،‬‬
‫واتسعت لكل جزر وم ٍّد فكيف ال تعلق بأكرب النفوس أحقر فئات الطفيليني …‬

‫‪247‬‬
‫‪20‬‬
‫ما أحسبني قاسيًا عاتيًا‪ ،‬ومع ذلك فإنني أقول لكم‪ :‬إذا ما رأيتم متداعيًا إىل‬
‫السقوط فادفعوه بأيديكم وأجهزوا عليه‪.‬‬
‫إن كل يشء يتفسخ ويتداعى يف هذا الزمان‪ ،‬فمن ترى يحاول دعم ما هوى؟ أما‬
‫أنا فإنني أريد سقوطه‪.‬‬
‫وإذا كنتم لم تتذوقوا لذة دفع الصخور من ذرى املنحدرات فانظروا إىل رجال‬
‫هذا الزمان يتدهورون إىل أغواري‪.‬‬
‫ما أنا إال أول املدحرجني وسيأتي بعدي من تفوق مهارته مهارتي‪ ،‬فاقتدوا اآلن‬
‫بي‪.‬‬
‫كل إنسان تعجزون عن تعليمه الطريان ع ِّلموه عىل األقل أن يرسع بالسقوط‪.‬‬
‫‪21‬‬
‫إنني أحب الشجعان‪ ،‬وما يقنع إعجابي منهم بإحكامهم رضب السيف؛ إذ‬
‫عليهم ً‬
‫أيضا أن يمهروا يف اختيار من يرضبون‪.‬‬
‫ولقد يكون اإلقدام األوىف يف اإلحجام أحيانًا ويف االحتفاظ بالقوة ملن يستحق أن‬
‫تبذل له‪.‬‬
‫ال تتخذوا لكم من األعداء إال من يستحق البغضاء‪ ،‬وتجاوزوا عن عداء من ال‬
‫يستحق إال االحتقار؛ إذ عليكم أن تباهوا بعدوكم وما هذه أول مرة آتيكم فيها‬
‫بهذه الوصية‪.‬‬
‫احتفظوا بقوتكم‪ ،‬وما أكثر من يجب أن تمروا بهم متغافلني! وأحقهم بإغفالكم‬
‫أوالئك الزعانف الذين يخدشون آذانكم بما يتصايحون به عن األمم والشعوب‪.‬‬
‫أعرضوا عما يهاجمون به من حُ جج‪ ،‬وعما يدافعون به من براهني‪ ،‬فما أقوالهم‬

‫‪248‬‬
‫إال مزيج توافر حقه وباطله‪ ،‬ومن أصغى إليها ال يأمن ثورة غضبه‪ ،‬فإذا هو‬
‫منقاد إىل إرسال رضباته يمنة ويرسة يف الجموع؛ لذلك سارعوا لاللتجاء إىل‬
‫الغابات ودعوا سيوفكم مرتاحة يف أغمادها‪.‬‬
‫سريوا يف طريقكم ودعوا األمم والشعوب تتبع مسالكها‪ ،‬إنها ملسالك ج َّللها‬
‫الظالم فلن يلوح عليها ٌ‬
‫بارق ألمل‪.‬‬
‫عىل تلك السبل ال يسود إال املتاجرون بالسلع؛ حيث ال بارقة إال من ملعان‬
‫دنانريهم‪ ،‬فقد انقىض عهد امللكية وما هذه الكتل التي يسمونها شعوبًا لتستحق‬
‫قيادة امللوك‪.‬‬
‫انظروا إىل هذه األمم وقد أصبحت تمثل دور بائع السلع بمجموعها تروها‬
‫تجمع حقريات األرباح من أقذار أية دمنة الحت لها‪ ،‬لقد انتصبت كل أمة ترتصد‬
‫األخرى وتق ِّلدها وتدَّعي جميعها حرمة الجوار‪ .‬فيا له عهدًا سعيدًا ذلك الزمان‬
‫الذي كان يهب فيه شعب معلنًا إرادته بأن يسود غريه من الشعوب‪.‬‬
‫أقول هذا يا إخوتي؛ ألن من حق األفضل أن يحكم‪ ،‬وألنه يريد أن يحكم‪ ،‬وال‬
‫تسود قاعدة غري هذه القاعدة إال حيث ال أفضل منها يعمل بها‪.‬‬
‫‪22‬‬
‫ويل لهؤالء الناس لو أن خبزهم يوزع مجانًا عليهم‪ ،‬فإنهم ال يجدون من‬
‫يصبُّون غضبهم عليه‪ ،‬بأي حديث يتحدثون إذا حُ رموا قساوة الحياة؟‬
‫ترصد واختطاف‪ ،‬ويف أرباحهم‬ ‫إن هؤالء الناس إال وحوش كارسة‪ ،‬يف أعمالهم ُّ‬ ‫ْ‬
‫مراوغة واحتيال‪ ،‬فكيف تلذ لهم الحياة إذا هي خلت من الشدة والقسوة‪ ،‬وهم‬
‫ً‬
‫افرتاسا ومراوغة؛ ألن اإلنسان يف اعتقادهم‬ ‫يرون االرتقاء يف التفوق عىل الحيوانات‬
‫أفضل حيوان كارس‪.‬‬
‫لقد اقتبس اإلنسان صفات جميع الحيوانات؛ لذلك كانت حياته أوفر شدة عليه‬

‫‪249‬‬
‫من حياة أية فئة منها‪ ،‬ولكن اإلنسان لم يرتفع فوق األطيار بعدُ‪ ،‬وويل له إذا هو‬
‫أيضا؛ إذ ال نعلم إىل أي ارتفاع سيندفع بجشعه وحرصه‪.‬‬‫تعلم الطريان ً‬

‫‪23‬‬
‫أهل للكفاح وأن تكون ً‬
‫أهل للتوليد وأن‬ ‫إن ما أريده للرجل وللمرأة هو أن يكون ً‬
‫يكونا كالهما ً‬
‫أهل للرقص برأسيهما وأرجلهما‪.‬‬
‫لنع َّد كل يوم يمر بنا دون أن نرقص فيه ولو مرة واحدة يومً ا مفقودًا‪ ،‬و ْلنعتربْ‬
‫ً‬
‫باطل‪.‬‬ ‫كل حقيقة ال تستدعي ولو قهقهة ضحك بيانًا‬
‫‪24‬‬
‫انتبهوا لكل زواج تعقدونه واحذوا العقود الفاسدة؛ ألنكم إذا ترسعتم بها ال‬
‫تجنون غري ح ِّلها‪ .‬عىل أن فسخ الزواج خريٌ من تحمله باملصانعة واملخادعة‪.‬‬
‫ْ‬
‫حطمت هذه القيود حياتي‪».‬‬ ‫ُ‬
‫حطمت قيود زواجي حتى‬ ‫قالت يل امرأة‪« :‬ما‬
‫ما رأيت زوجني ال تكافؤ بينهما إال وتبينت فيهما عاطفة االنتقام؛ إذ يتحول‬
‫ً‬
‫طليقا لوحده‪.‬‬ ‫نفور كل منهما إىل عداء للناس‪ ،‬وقد امتنع عليه أن يسري‬
‫لذلك وجب عىل أهل اإلخالص أن يثقوا بصدق ما يشعرون به‪ ،‬وأن يوجهوا‬
‫قواهم لالحتفاظ بعواطفهم؛ كيال ينخدعوا بما يعاهدون عليه‪ ،‬و ْليطالبوا باالتحاد‬
‫إىل حني ليثقوا من إمكان اتحادهم إىل أم ٍد طويل فليس من هيِّنات األمور أن‬
‫يجتمع اثنان إىل مدى العمر‪.‬‬
‫ذلك ما أويص به املخلصني؛ ألنني إن قلت بغري هذه الوصية عدمت محبتي‬
‫لإلنسان املتفوق ولكل ما أتوقعه آلتي الزمان‪.‬‬
‫ليس ما ُفرض عليكم أن تتناسلوا وتتكاثروا فحسب‪ ،‬بل عليكم أن ترتقوا ً‬
‫أيضا‪،‬‬
‫فلتكن جنة الزواج مدخلكم إىل املرتقى‪.‬‬

‫‪250‬‬
‫‪25‬‬
‫ليس إال ملن اخترب حادثات الزمان القديم أن يدرك يف الينابيع العتيدة ما‬
‫سيندفق منها من حادثات ملستقبل األزمان‪.‬‬
‫لن يطول الزمن‪ ،‬أيها اإلخوة‪ ،‬حتى تنشأ شعوب جديدة وتبدأ ينابيع جديدة‬
‫بالهدير يف مجاهل األغوار‪.‬‬
‫تزلزل األرض زلزالها فتكرع املياه الدافقة فيكثر عدد الظامئني‪ ،‬ولكنها يف‬
‫الوقت نفسه تقذف من باطنها إىل النور بالقوى الخفية وبكثري من األرسار‪،‬‬
‫وهنالك زالزل تفجر من األعماق عىل األرض ينابيع جديدة‪ ،‬فإذا ما انخسفت‬
‫البسيطة بالشعوب القديمة تدفقت تلك الينابيع‪.‬‬
‫يف ذلك الحني إذا ما وقف رجل يدعو الناس ً‬
‫هاتفا‪ :‬تعالوا! ههنا ع ٌ‬
‫ني تروي كثريًا‬
‫من العطاش فتشدد القلوب الواهية وتخلق العزم فيمن فقدوا إرادتهم‪ .‬يهرع‬
‫الشعب إليه طالبًا أن يجرب وما يطمح الناس يف تجاريبهم إال إىل التمييز بني من‬
‫له أن يأمر ومن عليه أن يطيع‪ ،‬ول َكم ستقتيض هذه املحاولة من تفتيش واستقراء‬
‫ومشاورة واختبار‪.‬‬
‫إن ما يرسو عليه املجتمع اإلنساني إنما هو املحاوالت ال النظام املربم بالعقود‪،‬‬
‫هذا ما أعلمه أنا‪ ،‬وما هدف هذه املحاوالت إال وجود من يحسن الحكم‪.‬‬
‫فأعرضوا يا إخوتي عن كل قول آخر مصدره القلوب الخائرة واألفكار العاجزة‬
‫عن وجود الطرق الحاسمة‪.‬‬
‫‪26‬‬
‫أين يكمن الخطر األعظم املهدد ملستقبل اإلنسانية يا إخوتي؟ إنني أراه كامنًا يف‬
‫نفوس أهل الصالح والعدل‪ ،‬وهم القائلون يف نفوسهم‪« :‬إننا نعرف ما هو صالحٌ‬
‫وعد ٌل وهو كائن فينا‪ ،‬فوي ٌل ملن يريدون أن يوجهوا أبحاثهم إليه‪».‬‬

‫‪251‬‬
‫إن ما يرتكبه األرشار من املآتي ال يوازي برضِّ ه ما يرتكبه األخيار‪ ،‬فإن وطأتهم‬
‫ألشد عىل العالم من وطأة املفرتين عليه‪.‬‬
‫أي إخوتي‪ ،‬لقد تط َّلع يومً ا أح ُد الناس إىل قلوب أهل الصالح والعدل ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫«هؤالء هم الفريسيون‪ ».‬فما فهم أح ٌد قوله‪ ،‬وما كان الصالحون العادلون ليفهموه‬
‫أيضا؛ ألن عقلهم سجني يف ضمريهم‪ .‬إن حماقة الصالحني حكمة ال يدرك كنهها‬ ‫ً‬
‫أحد‪ ،‬ولكن ال مفر لهم من وصفهم بالفرنسيني‪ ،‬وقد قيض عليهم أن يصلبوا كل‬
‫من يبتدع لنفسه فضيلتها‪ .‬تلك هي الحقيقة ال مرية فيها‪.‬‬
‫لقد جاء رجل آخر فاكتشف مواطن الصالحني والعادلني‪ ،‬وما خفيت عنه‬
‫أرضهم وال قلوبهم‪ ،‬فأورد سؤاله وأجاب عليه‪ :‬أي إنسان يصب عليه هؤالء الناس‬
‫أشد كرههم؟‬
‫إنهم ال يكرهون أحدًا كرههم للمبدع؛ ألنه يف نظرهم املجرم الهدَّام لتحطيمه‬
‫ألواح الوصايا القديمة‪.‬‬
‫ذلك ألن أهل الصالح عاجزون عن اإلبداع‪ ،‬وما هم إال بداية النهاية‪ ،‬فال بدع إذا‬
‫صلبوا من يحفر وصايا جديدة عىل ألواح جديدة‪ ،‬وإذا ضحَّ وا املستقبل ألنفسهم‪،‬‬
‫واملستقبل للعاملني أجمعني‪.‬‬
‫هل كان أهل الصالح يف كل حقبة من حقب الزمان إال بداية النهاية‪2.‬‬
‫‪27‬‬
‫أفهمتهم يا إخوتي هذه الكلمة‪ ،‬وما قلته لكم ً‬
‫أول عن اإلنسان األخري؟‬
‫أفما اتضح لكم أن الخطر األكرب املهدد مستقبل اإلنسانية إنما هو كامن يف‬
‫مبادئ أهل الصالح وأهل العدل‪.‬‬
‫هيا! حطموا الصالحني والعادلني‪.‬‬
‫وعساكم تدركون معنى هذه الكلمة ً‬
‫أيضا‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫‪28‬‬
‫أراكم تذهبون بددًا من حويل‪ ،‬أراكم ترتعشون فكأن كلمتي هذه أدخلت الرعب‬
‫إىل قلوبكم‪.‬‬
‫أيْ إخوتي‪ ،‬إنني ما دفعت بسفينة اإلنسان نحو الغمر إال عندما أهبت بكم إىل‬
‫ُ‬
‫دفعت‬ ‫تحطيم األلواح وإسقاط الصالحني‪ ،‬وها إن الرعب األعظم يستويل عىل من‬
‫إىل اجتياز الغمر فقد غارت عيناه وحَ َكمه دُوار البحار‪.‬‬
‫ِ‬
‫وجهات األمور الخادعة‪ ،‬وعللوكم بحاالت أمن كاذب‪،‬‬ ‫لقد أراكم أه ُل الصالح‬
‫وكنتم واجهتم أكاذيبهم وأنتم أطفال فما انقطعتم عن االلتجاء إليها‪.‬‬
‫لقد شوَّهوا كل يشء وأفسدوه حتى يف أصوله‪.‬‬
‫ولكن من اكتشف اإلنسان لم يفته اكتشاف مستقبل اإلنسانية‪ ،‬فكونوا يل أيها‬
‫اإلخوة البحارة الشجعان املجالدين‪ ،‬وهيا بنا إىل األمام نشق عباب البحر مقتحمني‬
‫أمواجه الصاخبة‪ ،‬تع َّلموا السري عىل الوجهة املستقيمة فإن كثريين يحتاجون إىل‬
‫االقتداء بكم‪.‬‬
‫البحر هائج ويف البحر كل يشء‪ ،‬فإىل األمام أيتها العزائم‪ ،‬عزائم البحارة القدماء‪.‬‬
‫ما يهمنا ما يدور بنا‪ ،‬إننا ننرش الرشاع قاصدين وطن أبنائنا ما وراء الغمر‬
‫حيث ترغي وتزبد أشواقنا الهائجات‪.‬‬
‫‪29‬‬
‫قال الفحم يومً ا للماس‪ :‬من أين لك هذه الصالبة؟ أفما نحن نسيبان‪.‬‬
‫وأنا أقول لكم‪ :‬أفما أنتم إخوتي‪ ،‬فمن أين جاءكم هذا َ‬
‫الخوَر؟‬
‫ِل َم هذه الليونة ِل َم هذا امليعان؟ أين توكيد الذات يف قلبكم وأين غارت سطور‬
‫مقدراتكم فال تلوح يف أحداقكم؟‬

‫‪253‬‬
‫إذا أنتم اطرحتم العزم الحاسم فكيف تتوقعون الظفر يومً ا إىل جانبي؟ وكيف‬
‫يتسنى لكم أن تشاركوني باإلبداع إذا لم يكن لعزمكم ملعان الجُ راز ومضاؤه؟‬
‫هل يكون املبدع إال صلبًا شديدًا؟ وهل من غبطة لكم أعظم من أن تطبعوا يدكم‬
‫عىل صفحات القرون فرتتسم عليها كارتسامها عىل قطعة من الشمع؟‬
‫إنها ألعظم غبطة أن يكتب اإلنسان عىل إرادة ألوف األجيال واألجيال أقوى من‬
‫الصلب وأسمى ً‬
‫رشفا؛ ألن أصلب األشياء أرشفها‪.‬‬
‫إنني أعلق فوق رءوسكم لوح هذه الوصية‪ :‬اتصفوا بالصالبة وتشددوا‪.‬‬
‫‪30‬‬
‫أيْ إرادتي‪ ،‬لقد آن لنا أن نضع حدًّا لكل الصغائر‪ ،‬وما يل من مطلب سواك؛ ألنك‬
‫وحدك سؤيل ومقصدي‪ .‬أنقذيني من كل انتصار حقري‪.‬‬
‫ِ‬
‫وأنت أيتها الصدفة التي أدعوها مقدراتي‪ ،‬أنت القائمة يف ذاتي فوق ذاتي‬
‫احفظيني وأعدي للعظائم نفيس‪.‬‬
‫احتفظي أيتها اإلرادة للخاتمة بآخر عظمة فيك‪ ،‬كيال يهي عزمك عند نوالك‬
‫الظفر؛ ألن ليس من أحد ال يسقط عندما يبلغ االنتصار‪.‬‬
‫وا أسفاه! أية عني لم يغشاها الظالم يف سكرة الظفر‪ ،‬سكرة َ‬
‫الغ َسق‪ ،‬وا أسفاه!‬
‫أية قدم لم تتعثر ولم تتحول عن مسلكها ساعة االنتصار‪.‬‬
‫إنني أع ُّد نفيس ألكون ناضجً ا للظهرية العظمى‪ ،‬فألقاها صلبًا أالنتْه النار‬
‫لالنطباع‪ ،‬وغمامة تتمخض بالربوق‪ ،‬ورضعً ا يتفجر بد ِّره‪.‬‬
‫ً‬
‫شوقا الحتضان‬ ‫أريد أن أهيِّئ ذاتي وصميم إرادتي فأصبح كالقوس ألتوي‬
‫سهمه‪ ،‬وكالسهم يطري ً‬
‫شوقا نحو كوكبه‪.‬‬
‫أريد أن أكون الكوكب املتألق بأنواره يف الظهرية العظمى‪ ،‬وقد هزته الغبطة‬

‫‪254‬‬
‫والسهم السماوي يخرتقه ليفنيه‪.‬‬
‫ً‬
‫شمسا وإرادة شمس ال تتزعزع‪ ،‬فأكون مهيَّأ لالندثار يف أفق‬ ‫أريد أن أتحول‬
‫االنتصار‪.‬‬
‫هذا ما أطمح إليه‪ ،‬فلنضع حدًّا يا إرادتي لكل الصغائر‪ ،‬أنت مقصدي‪،‬‬
‫فاحفظيني للظفر األعظم‪.‬‬

‫هوامش‪:‬‬
‫‪ 1‬إن كل ما أمكن للفلسفة املستغرقة يف اآلرية أن تدركه من حياة عيىس هو‬
‫ما حوَّله الغرب إىل معميات … وما كان أجدر بنيتشه وهو املتهم املسيح بإدخال‬
‫اإلشفاق القاتل للمجتمع َّأل يرى الصليب مقتطعً ا من شجرة السوء؛ ألنه قتل‬
‫املشفق األكرب ولكن التناقض رش باليا الفكر‪ ،‬وأسهل ما يقع املفكر فيه إذا هو مد‬
‫بمقياسه إىل ما يعلم وإىل ما ال يعلم دون تحقيق‪.‬‬
‫‪ 2‬ما لصاحبنا نيتشه يعرتف بتمرد عيىس عىل رش من يدعوهم أهل الصالح‬
‫والعدل‪ ،‬وما له يباهي باقتفاء أثر هذا السامي الضعيف‪ ،‬عىل أن عيىس ما جاء‬
‫ناقضا بل مكمِّ ًل وما جاء محطمً ا للوحي الوصايا وال مبتدعً ا فضيلة لنفسه عىل‬
‫ً‬
‫ما يقصد نيتشه‪ ،‬بل رفع منار فضيلة يهتدي بها الناس أجمعون‪.‬‬

‫‪255‬‬
‫النقاهة‬

‫‪1‬‬
‫وما كانت مضت أيام طويلة عىل عودة زارا واستقراره يف غاره‪ ،‬حتى هب يومً ا‬
‫شخصا‬‫ً‬ ‫من رقاده كالفاقد الرشد‪ ،‬وأخذ يصيح ويعربد مشريًا إىل مرقده كأن عليه‬
‫غريبًا يحاول طرده‪ ،‬وساد القلق حيوانَي زارا؛ فدارا حوله وحكم الرعب جميع‬
‫الحيوانات األخرى‪ ،‬فإذا هي تدب وتزحف وتتطاير هاربة إىل بعيد‪.‬‬
‫وبقي زارا يف موقفه ً‬
‫قائل‪ :‬هيا! انهيض أيتها الفكرة الرائعة املنبثقة من أعماق‬
‫ذاتي‪ ،‬لقد كنت لك فج ًرا وأعلنت انجالءك كالديك الصائح‪ِ ،‬‬
‫وأنت ال تزالني منطرحة‬
‫كالتنني‪ ،‬افتحي أذنيك واسمعي؛ ألنني أريد أن تطلقي صوتك أنت‪ ،‬انهيض فإن‬
‫هنا من الصواعق ما يع ِّلم حتى القبور أن تصيخ سمعً ا‪.‬‬
‫افركي أجفانك واسمعي بعينيك ما أقول لك‪ ،‬فإن صوتي يهب النظر حتى ملن‬
‫ِ‬
‫انتبهت مرة فلن يعاودك الرقاد؛ ألنني ما تعودت إيقاظ‬ ‫ولدوا عميانًا‪ ،‬فإذا ما‬
‫الجدود األقدمني ألسمح لهم بالرجوع إىل نومهم العميق‪.‬‬
‫أراك تتحركني وتتثاءبني‪ ،‬فانهيض وتكلمي‪ ،‬إن زارا يدعوك‪ ،‬إن مَ ْن يهيب بك‬
‫للنهوض إنما هو الكافر زارا‪.‬‬
‫أنا هو زارا مؤ ِّكد الحياة‪ ،‬مؤكد األلم‪ ،‬مؤكد الدائرة األبدية‪ ،‬أدعوك يا أعمق فكرة‬
‫بني أفكاري‪.‬‬
‫يا البتهاجي! إنني أراك قادمة‪ ،‬فها أنذا أسمع صوت هاويتي لقد نفضت نحو‬
‫النور آخر أغواري‪.‬‬
‫يا لرسوري! تقدمي إيل َّ … هاتي يدك‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫ال … ال … أرجعيها … يا للكراهة … ويا لشقائي!‬
‫‪2‬‬
‫وما نطق زارا بهذه الكلمات حتى سقط عىل األرض كامليت‪ ،‬وطالت غيبوبته‬
‫حتى إذا ثاب إليه روعه حكمه ارتعاش شديد‪ ،‬وشحب وجهه وانطرح سبعة أيام‬
‫عىل فراشه ال يتناول طعامً ا وال رشابًا‪ ،‬وكان تابعاه من الحيوانات ال يبارحانه‪،‬‬
‫ولكن نرسه كان يذهب يف طلب الغذاء ويعود حتى كدَّس أنواع البقول والفاكهة‬
‫حول املرقد‪ ،‬وطرح أمامه نعجتني اختطفهما بكل عناء من القطعان السارحة‬
‫وقد نام عنها رعاتها‪.‬‬
‫وبعد سبعة أيام جلس زارا عىل مرقده وأخذ تفاحة ينشق نكهتها‪ ،‬فخيل‬
‫لحيوانيه أن الزمن قد حان فقاال له‪ :‬لقد مرت سبعة أيام يا زارا‪ ،‬وأنت مثقل‬
‫األجفان أفما آن لك أن تنهض‪ ،‬اخرج من غارك فإن كل يشء يتشوق إليك؛ فالهواء‬
‫يهب بالعطور نحوك والغدران تتسارع إىل لقياك‪ ،‬وكل يشء يتوق إىل معالجتك‬
‫وشفائك‪.‬‬
‫وفعلت خمريتُه فعلها فيك؟ فقد رأيناك‬
‫ْ‬ ‫هل أتاك يقني جديد‪ ،‬فأرهقك بثقله‬
‫ساكنًا كالعجني املنتفخ باختماره‪ ،‬وشعرنا بروحك تتدفق من جنبيك‪.‬‬
‫حيواني ودعاني أ َ ْشدد عزمي باإلصغاء إىل‬
‫َّ‬ ‫فأجاب زارا‪ :‬اذهبا يف ثرثرتكما‪ ،‬يا‬
‫هذه الروح‪ .‬إن الثرثرة لتبسط العالم كله أمامي كحديقة مرتامية األطراف‪.‬‬
‫إن العذوبة كلها كامنة يف الكلمات واألصوات‪ ،‬فما هي إال جسور من الوهم‬
‫ممدودة بني الكائنات املنفصلة إىل األبد‪.‬‬
‫لكل نفس عاملها فهي تجد يف كل نفس أخرى عا ًملا آخر‪ ،‬وكلما ازداد التشابه بني‬
‫األشياء ازداد خداع الرساب بينها‪ ،‬وأصعب املآزق اجتيا ًزا أضيقها‪.‬‬
‫إنني ال أدرك كيف يمكن أن يوجد يشء ليس يف َّ أنا؛ ألن نفي الذات ممتنع‪ ،‬غري‬

‫‪257‬‬
‫أن جميع األصوات تنسينا هذه الحقيقة وخري لنا أن نتمكن من نسيانها‪.‬‬
‫ما أُعطيت األسماء واألصوات إال لتشديد عزم اإلنسان‪ ،‬وهل اللغة إال جنون له‬
‫لذته؟ أفما ترى اإلنسان يرقص بيانه عىل كل يشء‪.‬‬
‫ما ألذ الكلمات وما أحىل خداع األصوات! فإنها ترقص حبنا عىل جميع ما يف‬
‫قوس قزح من األلوان‪.‬‬
‫فأجاب الحيوانان قائ َلني‪« :‬إن من له عقليتنا يرى األشياء مرتاقصة لنفسها؛ ألن‬
‫كل األشياء تتقدم إىل مرسح الوجود فتتصافح وتضحك وتنسحب ثم تعود‪.‬‬
‫الكل يذهب والكل يرجع وعجلة الكون تدور إىل األبد‪ ،‬كل يشء يموت‪ ،‬وكل يشء‬
‫يعود فتنور أزهاره ودوائر الوجود ال انتهاء لها‪.‬‬
‫تتحطم األشياء فتتبدد‪ ،‬ثم تعود فتلتئم لتجديد بناء الوجود‪ ،‬يتفرق الشمل عىل‬
‫وداع‪ ،‬فإذا بعده تسليم فحلقة الكون أمينة لذاتها إىل األبد‪.‬‬
‫إن الوجود يبدأ يف كل لحظة‪ ،‬فعىل محور «هنا» تنفتح دوائر األجواء «هنالك»‬
‫فاملحور مرتكز يف كل مكان وطريق األبدية كله تعاريج‪».‬‬
‫قائل‪ :‬يا لطيشكما! إنكما تعلمان جيدًا ما وجب أن يتم‬‫وعاد زارا إىل ابتسامه ً‬
‫يف سبعة أيام‪ ،‬ويا للمسخ الذي زحف إىل داخل عنقي ليكتم أنفايس‪ ،‬غري أنني‬
‫قضمت عنقه بأسناني فقطعت رأسه ولفظته إىل بعيد‪ ،‬فأتيتما تعيدانه إىل نصابه‪.‬‬
‫ً‬
‫مريضا من إجهايض‪.‬‬ ‫أنا اآلن متعب مما قضمت ولفظت‪ ،‬وال أزال‬
‫لقد شهدتما كل هذا‪ ،‬فهل أردتما التلذذ بأشد أوجاعي أسوة بالناس؟ واإلنسان‬
‫أقىس حيوان يف الوجود؛ ألنه ال يجد ارتياحً ا عىل األرض إال بمشاهدة املآيس‬
‫ومصارعة الثريان والصلب‪ ،‬وما تمتع بلذة الجنان عىل أرضه إال يوم اخرتع‬
‫الجحيم‪.‬‬
‫إذا ما رصخ رجل عظيم سارع صغري إىل نجدته والحسد يكاد يديل لسانه من‬

‫‪258‬‬
‫ً‬
‫وإشفاقا‪.‬‬ ‫فمه‪ ،‬ولكنه يسمي هذا الحسد رحمة‬
‫خص منهم الشعراء بأي بيان ملتهب يشكون الدهر‬ ‫انظر إىل صغار الناس وأ ُ ُّ‬
‫أصغيت إىل هذا األنني الشاكي فال يفوتنَّك أن تنصت لنربات‬
‫َ‬ ‫وتصاريفه‪ ،‬وإذا ما‬
‫اللذة يف كل شكوى‪.‬‬
‫إن الحياة تقول ملن يشكو‪ ،‬وهي تتحكم فيه بغمزة من عينيها‪ :‬إنك عاشقي‬
‫فانتظرني لحظة ألتفرغ لك‪.‬‬
‫ما يقسو حيوان عىل نفسه قساوة اإلنسان‪ ،‬فإذا ما سمعت أنني من يدَّعون أنهم‬
‫فتنصت إىل أنينهم وشكواهم تسمع فيها‬ ‫َّ‬ ‫مرتكبو آثام وحَ مَ لة صلبان وتائبون‬
‫شهقات الشهوة املتلذذة‪.‬‬
‫وهل أقصد أنا اآلن بما أقول أن أشكو اإلنسان؟ أيْ نرسي وأفعواني‪ ،‬إن الرش‬
‫األعظم رضوري للخري األعظم بني الناس‪ .‬هذا ما تع َّلمته وما تع َّلمت سواه حتى‬
‫اآلن‪.‬‬
‫إن الرش األعظم لخريُ ما يف قوة اإلنسان؛ ألنه الحجر األشد صالبة لنحت املبدع‪،‬‬
‫وعىل اإلنسان أن يتكامل يف خريه ويف رشه‪.‬‬
‫ً‬
‫مفتشا عما إذا كان اإلنسان رشي ًرا‪ ،‬بل وقفت‬ ‫لم أحمل عىل عاتقي صليبًا ألذهب‬
‫ً‬
‫هاتفا بما لم يهتف سواي بمثله فقلت‪« :‬يا لألسف! أن يكون أعظم رش يف اإلنسان‬
‫وأعظم خري فيه ال يتجاوزان هذه الصغارة‪».‬‬
‫إن هذا االحتقار العظيم للناس هو الثعبان الذي تغلغل يف حلقي‪ ،‬فكاد يخنقني‬
‫كما كاد يخنقني ً‬
‫أيضا ما أنبأ به العراف إذ قال‪ :‬كل األشياء متساوية وال يشء‬
‫يستحق العناء‪ ،‬فاملعرفة تخنق طالبها‪.‬‬
‫الغ َسق ينسحب متعارجً ا أمامي‪ ،‬وسمعت صوتًا حزينًا متعبًا كأنه‬ ‫وهكذا رأيت َ‬
‫نربات سكران يراوده املوت يقول يل‪« :‬سيعود دو ًرا فدو ًرا إىل األبد اإلنسا ُن الذي‬

‫‪259‬‬
‫يرهقك؛ اإلنسان الصغري‪».‬‬
‫غسقا طال انسحابه؛ فأورثني األرق ورأيت أرض‬ ‫ً‬ ‫ذلك كان حزني املتعارج‬
‫البرش تستحيل أمامي إىل مغارة اتسع صدرها ضامًّ ا إليه كل حي‪ ،‬فالح يل كل‬
‫يشء ركام أقذار وأكوام عظام وردوم قرون‪.‬‬
‫ً‬
‫ملتصقا بها‪ ،‬وقد حُ كم‬ ‫ذهب زفريي يجول بني املدافن مرتاميًا عىل لحود الناس‬
‫عليه إال يغادرها؛ فبات هنالك منتحبًا يشكو ويردد ً‬
‫ليل ونها ًرا‪« :‬وا أسفاه إن‬
‫اإلنسان سيعود‪ ،‬سيعود اإلنسان الصغري دو ًرا فدو ًرا إىل األبد‪».‬‬
‫ولقد رأيت الناس من قب ُل‪ ،‬رأيت كبريهم وصغريهم‪ ،‬فما أشبه األكرب باألصغر‬
‫فيهم فكلهم مستغرق يف برشيته‪.‬‬
‫ما أصغر األكرب بني الناس! ويا للشقاء يف أن يعود الصغار أبدًا‪َّ .‬‬
‫إن هذا ما‬
‫يرهقني من الوجود‪.‬‬
‫واندفع زارا يردد قوله‪ :‬يا للكراهة … يا للكراهة‪ ،‬وهو يتنهد ويرتعش متذك ًرا‬
‫داءه وأوجاعه‪.‬‬
‫وقاطعه نرسه وأفعوانه قائلني‪ :‬توقف عن الكالم‪ ،‬أيها الناقه‪ ،‬اخرج من هنا‬
‫واذهب إىل حيث تنتظرك الدنيا يف حدائقها‪ ،‬إىل الورود والنحل والحمام‪ ،‬وقف‬
‫عند أرساب األطيار املرتنمة لتتع َّلم أناشيدها‪ ،‬وما أجدر الناقهني باإلنشاد! فإن‬
‫املتمتعني بالعافية يتكلمون وإذا هم تغنوا فبغري ما يتغنى به الناقهون‪.‬‬
‫فقال زارا‪ :‬اسكتا أيها األحمقان أراكما عرفتما السلوى التي أوجدتها لنفيس يف‬
‫سبعة أيام‪ ،‬ولسوف أعود إىل اإلنشاد الذي أوجدته للسلوى فيكون يل منه الشفاء‪،‬‬
‫أفرتيدان أن أعدل عن هذا ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫فصاح الحيوانان‪ :‬انقط ْع عن الكالم أنسيت أنك ناقه؟ أع َّد قيثارة جديدة‬
‫لنفسك‪ ،‬فما تجاري القيثار ُة القديمة إنشادًا جديدًا‪.‬‬

‫‪260‬‬
‫أطلق أغنيتك‪ ،‬يا زارا‪ ،‬ولتذهب داوية كالعواصف‪ِ ،‬‬
‫أشف نفسك بها لتنهض بما‬
‫ُقدِّر لك وما قدر ألحد قبلك‪.‬‬
‫إن حيوانيك يعرفان من أنت‪ ،‬يا زارا‪ ،‬وما ستكون‪ ،‬فما أنت إال النبي املعلن‬
‫تكرار عودة األشياء إىل األبد‪ ،‬وهذا ما قدر عليك القيام به منذ اآلن‪ :‬أن تكون أول‬
‫من ينرش هذا التعليم وكفاك بهذا العمل علة وأخطا ًرا‪.‬‬
‫ما غرب عنا تعليمك يا زارا‪ ،‬فأنت تقول بأن جميع األشياء تعود أبدًا‪ ،‬ونحن‬
‫معها عائدون وبأننا وُجدنا من قبل مرا ًرا ال عداد لها ومعنا جميع األشياء ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫بالسنة العظمى املتكررة‪ ،‬وهي كالساعة الرملية تنقلب كلما فرغ‬‫أنت تقول ُّ‬
‫أعالها ليعود أدناها إىل االنصباب مجددًا‪ ،‬وهكذا تتشابه السنوات كلها بإجمالها‬
‫ً‬
‫وتفصيل يف هذه السنة‬ ‫ً‬
‫إجمال‬ ‫وتفصيلها كما نعود نحن مشابهني ألنفسنا‬
‫العظمى‪.‬‬
‫إذا ما شئت أن تموت اآلن يا زارا‪ ،‬فإننا نعلم ما ستناجي به نفسك‪ ،‬ولكن نِرسك‬
‫وأفعوانك يرجوانك أال تضع حدًّا لحياتك اآلن‪.‬‬
‫إذا أنت عزمت عىل الرحيل‪ ،‬فإنك لتدفع بزفرة االرتياح ال بأنني األلم؛ إذ تطرح‬
‫عن عاتقك وأنت الصلب الجلود ِو ْق َرك الثقيل وكربتك املضنية‪ً ،‬‬
‫قائل‪ :‬ها أنذا أموت‬
‫وأتوارى‪ ،‬وعما قليل أصبح عَ دمً ا‪ ،‬فإن األرواح تفنى كما تفنى الجسوم‪ ،‬غري أن‬
‫شبكة العلل الدائرة بي ستعود يومً ا فتخلقني مجددًا‪ ،‬فما أنا إال جزء عن علل‬
‫العودة األبدية لكل يشء‪.‬‬
‫سأعود بعودة هذه الشمس وهذه األرض‪ ،‬ومعي هذا النرس وهذا األفعوان‬
‫سأعود ال لحياة جديدة وال لحياة أفضل وال لحياة مشابهة‪ ،‬بل إنني سأعود أبدًا‬
‫أيضا بعودة جميع األشياء تكرا ًرا‬‫وتفصيل‪ ،‬فأقول ً‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إجمال‬ ‫إىل هذه الحياة بعينها‬
‫وأبش ً‬
‫أيضا بظهرية األرض والناس وبقدوم اإلنسان املتفوق‪.‬‬ ‫وأبدًا‪ِّ ،‬‬

‫هذه هي كلمتي نطقت بها وقد حطمتني هذه الكلمة‪ ،‬ذلك ما ُقدِّر عيل َّ أبدًا‪ ،‬فأنا‬

‫‪261‬‬
‫أتوارى منذ ًرا وبشريًا‪.‬‬
‫لقد حانت الساعة اآلن‪ ،‬الساعة التي يبارك فيها نفسه من يتوارى‪ ،‬وهكذا‬
‫ينتهي جنوح زارا إىل املغيب‪.‬‬
‫قال النرس واألفعوان هذا وتوقعً ا أن يجيبهما زارا بيشء‪ ،‬ولكن زارا لم يعلم أن‬
‫حيواناه سكتا عن الكالم؛ ألنه كان قد استغرق يف مناجاة نفسه فظهر كأنه نائم‬
‫وما كان نائمً ا‪.‬‬
‫ووجم النرس واألفعوان أمام سكون زارا‪ ،‬وذهبا عىل مهل من قربه‪.‬‬

‫‪262‬‬
‫األمنية العظمى‬

‫أيْ نفيس! لقد علمتك أن تقويل كلمة «اليوم» كما تتلفظني بكلمتي «أمس وما‬
‫قبله» وأن ترقيص فوق كل مندثر أينما كان‪.‬‬
‫أي نفيس! لقد حررتك من كل قيد خفي وطهرتك من األدران‪ ،‬وأقصيت عنك‬
‫العناكب وكل نور يخالطه ظالم‪.‬‬
‫أي نفيس! لقد نفضت عنك صغائر حيائك وكمينات فضائلك‪ ،‬وأقنعتك بالخروج‬
‫عارية أمام عني الشمس‪.‬‬
‫لقد نفخت عاصفة الفكر عىل بحرك املضطرب‪ ،‬وجلوت الغيوم السوداء من‬
‫آفاقك‪ ،‬وقضيت فيك عىل اإلثم القاتل‪.‬‬
‫أيْ نفيس‪ ،‬لقد أوليتك الحق بأن تقويل «ال» كما تقول العاصفة‪ ،‬وأن تقويل‬
‫ِ‬
‫فأصبحت هادئة كالنور يجتاز العواصف‬ ‫«نعم» كما تقول صافيات اآلفاق‪،‬‬
‫النافيات املانعات‪.‬‬
‫أي نفيس‪ ،‬لقد أطلقت لك الحرية تتس َّلطني بها عىل ما هو كائن وعىل ما لم‬
‫يتكوَّن بعد‪ ،‬فما شعرت نفس بمثل ما تشعرين من ملذات آتي الزمان‪.‬‬
‫أي نفيس‪ ،‬لقد علمتك أن تحتقري احتقا ًرا ال ينخر كالسوس‪ ،‬علمتك االحتقار‬
‫الذاهب إىل أقىص املحبة أو إىل أقىص التحقري‪.‬‬
‫أي نفيس‪ ،‬لقد علمتك اإلقناع حتى خضعت األسباب واملقدمات ملا تَ ْرتئني‪،‬‬
‫فأصبحت كالشمس تُقنع البحار بأن تتعاىل إىل مدارها‪.‬‬
‫أي نفيس‪ ،‬لقد نزعت منك كل خضوع وخنوع ومتابعة واستعباد حتى رأيتك‬

‫‪263‬‬
‫سائدة لكل شقاء‪ ،‬ومتحكمة يف الدهر ألنك أنت هي املقدور‪.‬‬
‫أي نفيس‪ ،‬لقد منحتك أسماء جديدة‪ ،‬ومتعتك بألعاب متنوعة فدعوتك املقدور‬
‫ومحيط املحيط وقطب الزمان ومئذنة اآلفاق‪.‬‬
‫أي نفيس‪ ،‬لقد أغدقت الحكمة كلها عىل مملكتك األرضية‪ ،‬وأترعت كئوسها‬
‫بخمرة املعرفة املعتقة منذ أقدم العصور‪.‬‬
‫أي نفيس‪ ،‬لقد غمرتك بجميع األنوار والظلمات‪ ،‬وكل ما يف الكون من سكنات‬
‫وشهوات‪ ،‬فرأيتك تنمني أمامي كما تنمو الجفنة يف الكروم‪.‬‬
‫أي نفيس‪ ،‬ما أنت اآلن إال دالية يف الكرمة أثقلك جنيك‪ ،‬ونهدت أثداؤك عناقيد‬
‫يلوح سمرتها النضار‪ ،‬لقد أرهقتك السعادة الكامنة فيك فأنت صابرة خجولة‬
‫من صربك‪.‬‬
‫أي نفيس‪ ،‬ليس يف الكون من نفس أشد منك حبًّا ورحابة وحنانًا‪ ،‬فأين يتقارب‬
‫املايض واملستقبل إن لم يتقاربا يف مجالك‪.‬‬
‫أي نفيس‪ ،‬لقد وهبتك كل ما ملكت يدي‪ ،‬واآلن أراك تبتسمني قائلة‪ :‬عىل أي من‬
‫كلينا حقت كلمة الشكران؟‬
‫أفليس عىل الواهب أن يشكر من تفضل بقبول هبته؟ وهل العطاء إال حاجة يف‬
‫نفس من أعطوا‪ ،‬واألخذ إال إشفاق يف نفس اآلخذين؟‬
‫أي نفيس‪ ،‬إنني أدرك مغزى ابتسامتك ومعنى شجونك‪ ،‬فأنت اآلن تمدين‬
‫راحات إقبالك مرتعة بشهوة العطاء‪ ،‬وتمدين أبصارك عىل البحار املزبدة وقد‬
‫ابتسم يف عينيك صفاء السماء‪.‬‬
‫من له أن يرد دموعه عن الفيضان‪ ،‬إذا الحت له ابتسامتك يا نفيس؟ إن ما يف‬
‫هذه البسمة من العطف والحنان ليستهوي املالئكة للبكاء‪.‬‬
‫إن عطفكِ وقد تجاوز حدَّه يمتنع عن النواح والعويل يف حني أن ابتسامتك‬

‫‪264‬‬
‫تتشوق إىل البكاء ونحْ ُرك يتهدج بالنحيب‪.‬‬
‫إنك تتناجني قائلة‪ :‬إن كل دمعة فيها أنني ويف كل أنني شكاية؛ ولذلك تفضلني‬
‫االبتسام عىل الجهر بما تتحملني من خرياتك‪ ،‬ومن شوق يهز جوارحك بارتعاش‬
‫الكرمة تتوق إىل مقاطع القاطفني‪.‬‬
‫ً‬
‫ُغضية بأجفانك الحمراء‪ ،‬فعليك أن‬ ‫فإذا ما ِ‬
‫كنت تمتنعني عن البكاء‪ ،‬يا نفيس‪ ،‬م‬
‫ترفعي صوتك باإلنشاد‪.‬‬
‫انظري إيل َّ يف ابتسامي وأنا منبئك بأنك ستطلقني أناشيدك بصوت مرعد يجعل‬
‫البحار تتنصت لنربات شهوتك‪ ،‬إىل أن تسبح عليه العائمة املذهبة واملحالة بكل‬
‫ما هو حسن يف روغانه وغرابته‪ ،‬حيث ينتصب السيد املجمَّ ل بالعزم ويف يده‬
‫املقطع املايس لعناقيد الكروم‪ ،‬ذلك هو مخ ِّلصك ومحررك يا نفيس‪ ،‬ذلك هو‬
‫الكريم الذي أضمر اسمه يف أناشيد املستقبل‪ ،‬والحق أن يف أنفاسك شيئًا من أريج‬
‫هذه األناشيد‪ ،‬فأنت اآلن مستسلمة لألحالم تنقعني غليلك من اآلبار حيث يدوي‬
‫السكون وتلقني بأشجانك إىل أناشيد آتي الزمان لتجدي فيها الراحة من العناء‪.‬‬
‫أي نفيس‪ ،‬لقد وهبتك كل يشء حتى فرغت يداي‪ ،‬وآخر ما وهبتك إهابتي بك‬
‫لإلنشاد‪ ،‬فقويل يل اآلن مَ ن منا وجبت عليه كلمة الشكر؟‬
‫تغني يا نفيس «أطلقي أناشيدك من أجيل ودعيني أوجه إليك آيات شكراني‪».‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪265‬‬
‫نشيد آخر للرقص‬

‫‪1‬‬
‫أرسلت نظراتي إىل أعماق عينيك الساهدتني‪ ،‬أيتها الحياة‪ ،‬فوقف نبضان قلبي؛‬
‫إذ رأيت الذهب متوهجً ا فيهما ورأيت مركبًا ذهبيًّا يشع عىل بحر الظالم يش ُّد بمه ٍد‬
‫مذهب مرشف عىل الغرق‪.‬‬ ‫َّ‬
‫قدمي املصابتني بجنون الرقص بنظرة مسكرة مذيبة ضاحكة‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ورشقت‬
‫دفك حتى تحفزت قدماي‬ ‫مستفهمة‪ ،‬وما قرعت يداك الصغريتان رضبتني عىل ِّ‬
‫وتنصت عقب كل منهما ألوزانك‪ ،‬وأُذن كل راقص مفتوحة يف عقب قدمه‪.‬‬
‫َّ‬ ‫للوثوب‬
‫ُ‬
‫وثبت إليك‪ ،‬أيتها الحياة‪ ،‬ولكنك تراجعت عني وتوليت‪ ،‬فإذا بغدائر شعرك‬
‫ً‬
‫نصال‪.‬‬ ‫املتطاير تسمعني فحيح األفاعي وتريني من ألسنتها‬
‫قفزت مرتاجعً ا عنك وعن أفاعيك‪ ،‬فإذا بك متعالية تتحولني مقبلة عيلَّ‪ ،‬وقد‬
‫تدفقت بالشهوات عيناك‪ ،‬مشريتني إيل َّ بنظراتهما املنحرفة أن أتبع السبل امللتوية‪،‬‬
‫وهكذا تعلمت قدماي املراوغة عىل منعرجات الطريق‪.‬‬
‫قريبة وأحبك بعيدة‪ ،‬أيتها الحياة‪ ،‬فيجذبني إعراضك عني‬ ‫ً‬ ‫إنني أخشاك‬
‫ويوقفني إقبالك نحوي‪ ،‬فأنا معذب بك وأي عذاب ال أتحمله من أجلك‪ ،‬أنت‬
‫املحرقة بربدك‪ ،‬الساحرة بكيدك‪ ،‬الجاذبة بإدبارك املحرية بسخريتك‪.‬‬
‫أي إنسان ال يكرهك‪ ،‬أيتها اآلرسة الغامرة الساحرة التي ال يفوتها مقصد تتجه‬
‫إليه‪ ،‬ومن ال يحبك وأنت الربيئة ال َّرعْ ناء املسارعة إىل املعصية واإلثم ويف عينيك‬
‫لفتات األطفال؟‬
‫إىل أين تقودينني اآلن أيتها الطفلة املهذبة الشاردة؟ أراك تفرين من أمامي‬

‫‪266‬‬
‫ً‬
‫راقصا حتى إىل املآذق التي ال‬ ‫حلوة طائشة أيتها الجاحدة الفتية‪ ،‬وها أنذا أتبعك‬
‫أعرف لها منفذًا‪.‬‬
‫أين أنت؟ ُمدِّي إيل َّ يدك أو إصبعً ا من كفك‪ ،‬فليس أمامي إال مغاور ومضائق‪،‬‬
‫قفي … أفال ترين البوم والوطاويط تتطاير حولنا‪.‬‬
‫َ‬
‫تعلمت من الكالب‬ ‫ً‬
‫مهل يا طري الظالم‪ ،‬أفأنت ساخر بي؟ أين نحن اآلن؟ لقد‬
‫نباحهم فأراك تكرش عن أسنانك الصغرية‪ ،‬وتحدجني بنظراتك املتقدة من وراء‬
‫لبدتك الصغرية الجعداء‪.‬‬
‫أية رقصة تريد أن أرقص‪ ،‬أجبليَّة أم بحريَّة؟ أنا هو الصياد‪ ،‬أفما يحلو لك أن‬
‫تكون كلبي أم تفضل أن تكون طريدتي؟‬
‫أنت هذا الطري أيتها الحياة فتعايل إىل جنبي اآلن أيتها َّ‬
‫القفازة الرشيرة‪ ،‬ارتفعي‬ ‫ِ‬
‫وسريي إىل الجهة األخرى‪.‬‬
‫ُ‬
‫قفزت فوقعت‪ ،‬فانظري إيل َّ طريحً ا يتوسل إليك أفما كان خريًا يل أن‬ ‫وييل لقد‬
‫أتبعك عىل مسالك أجمل من هذه؟ عىل مسالك الحب بني الشجريات الزاهية بعديد‬
‫ألوانها أو عىل شاطئ البحرية حيث ترتاقص األسماك املذهبة‪.‬‬
‫لقد أضناك التعب اآلن وهنالك خرفان ترعى عند الغروب‪ ،‬أفال يلذ لك أن نرقد‬
‫حيث تصدو شبَّابة الراعي‪.‬‬
‫إنني سأحملك إىل هناك ف ُمدِّي معصميك إيل َّ‪ ،‬لعلك عطىش ولقد أجد ما أروي به‬
‫ظمأك ولكن شفتيك تتحوالن عن كل رشاب‪.‬‬
‫لقد انقلبت أفعى‪ ،‬هذه الساحرة الرشيقة الوثَّابة الزاحفة‪ ،‬فال أدري يف أي‬
‫األوكار تغلغلت‪ ،‬بعد أن صفعت وجهي وأبقت عليه طابع يدها الحمراء‪.‬‬
‫أغاني حتى‬
‫َّ‬ ‫لقد تعبت من رعايتك والسري وراءك أيتها الساحرة‪ ،‬لقد أسمعتك‬
‫اآلن فلسوف تسمعينني رصاخك‪ ،‬هيَّا ارقيص عىل نقرات سوطي ألهبك به‪ ،‬فإنني‬

‫‪267‬‬
‫ما نسيت سوطي‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫وسدت الحياة أذنيها‪ ،‬وأجابتني قائلة‪« :‬ال تقعقع بسوطك‪ ،‬يا زارا‪ ،‬فأنت تعلم‬
‫أن الضجة تشل التفكري‪ ،‬وقد بدأت تتوارد عيل َّ الخواطر‪ ،‬فما أنت وأنا إال من‬
‫زمرة املتكاسلني‪ ،‬لقد وجدنا جزيرتنا ومروجنا الخرضاء ما وراء الخري والرش‪،‬‬
‫وما اكتشفها معنا أحد؛ لذلك وجب علينا أن يحب أحدنا اآلخر‪ ،‬وهبْ أن حبنا ال‬
‫يخرج من صميم القلب‪ ،‬أفيحق لنا أن نتبادل من أجل هذا عاطفة النفور‪.‬‬
‫أنت تعلم أنني كثريًا ما أحبك وأتجاوز الحد يف حبك‪ ،‬وما ذلك إال لغريتي من‬
‫حكمتك فيا وياله من هذه الحكمة املجنونة الهرمة‪ ،‬ولكن إذا ما هجرتك هذه‬
‫الحكمة يومً ا فال يطول الزمن حتى تهجرك محبتي ً‬
‫أيضا‪».‬‬
‫وأدارت الحياة أنظارها ما وراءها وما حولها وقالت‪َ :‬‬
‫لست باألمني الويف يا زارا‪،‬‬
‫فمحبتك أبعد من أن تصل إىل الحد الذي تصف بأقوالك‪ ،‬وأنا أعلم أنك تفكر يف‬
‫هجري عما قليل‪.‬‬
‫جرسا ضخمً ا قديمً ا يدق ساعات الظالم فيصل رنينه إىل أعماق‬
‫ً‬ ‫إن عىل املرتفع‬
‫غارك‪ ،‬وعندما يؤذن بانتصاف الليل يخطر لك أن تغادر يف مدى الساعة األوىل من‬
‫الهزيع الثاني‪ ،‬إنني أعلم ذلك يا زارا‪ ،‬فأنت مصمم عىل هجراني‪.‬‬
‫أرس يف أذنها كلمة‬ ‫ُ‬
‫فأجبت مرتددًا‪« :‬أجل» ولكنك تعرفني أم ًرا آخر‪ ،‬وتقدمت ُّ‬
‫أخرى بني غدائر شعرها الذهبية املتطايرة‪ ،‬فقالت‪« :‬إذن‪ ،‬أنت تعرف هذا يا زارا!‬
‫وليس من يعرفه سواك‪».‬‬
‫وتراشقنا اللحظات وعدنا نرسحها عىل املروج الخرضاء‪ ،‬وقد دغدغها نسيم‬
‫املساء البليل واستخرطنا كالنا بالبكاء‪ ،‬وعندئذ شعرت أن الحياة أعز عيل َّ من‬
‫حكمتي‪.‬‬

‫‪268‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬
‫‪3‬‬
‫(‪ )1‬كن عىل حذر أيها اإلنسان‪.‬‬
‫(‪ )2‬ماذا يقول نصف الليل يف غوره؟‬
‫(‪« )3‬لقد ُ‬
‫نمت‪ ،‬لقد نمت‪».‬‬
‫(‪« )4‬ثم أفقت من حلم عميق‪».‬‬
‫(‪« )5‬إن العالم عميق‪».‬‬
‫(‪« )6‬فهو أعمق مما يعتقد النهار‪».‬‬
‫(‪« )7‬وآالمه عميقة‪».‬‬
‫(‪« )8‬وأعمق من أحزانه أفراحُ ه‪».‬‬
‫(‪« )9‬تقول اآلال ُم للعالم اعرب وانقض‪».‬‬
‫(‪« )10‬ولكن األفراح تطلب األبدية‪».‬‬
‫(‪« )11‬تطب األبدية العميقة‪».‬‬
‫(‪»!« )12‬‬

‫‪269‬‬
‫األختام السبعة أو نشيد البداية والنهاية‪ ،‬األلف‬
‫والياء‬

‫‪1‬‬
‫أنا العراف املمتلئ بالروح الكاشفة الذاهب ُ‬
‫صعدًا عىل السلسلة املتعالية بني‬
‫بحرين‪ ،‬السائر بني ما مىض وما سيأتي كغمامة كثيفة متملصة من جميع األعماق‬
‫متعب ليس له أن يحيا‪ ،‬وليس له أن يموت‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫الخانقة واملعادية لكل‬
‫أنا تلك الغمامة ا ُملعِ دَّة صدرها املظلم للمعات األنوار املنقذة‪ ،‬املتمخضة بالربق‬
‫املثبتة الضاحكة مما تثبت‪ ،‬أنا الغمامة الحاملة للصواعق الكاشفة‪ ،‬ويا لسعد من‬
‫ً‬
‫طويل بالذروة كما تلتصق‬ ‫تمخض بمثل هذه الصواعق! ولكنه ملزم بأن يلتصق‬
‫الغمامة املثقلة؛ إذ عليه أن يشعل يومً ا أنوار مستقبل الزمان‪.‬‬
‫ً‬
‫شوقا إىل خاتم الزواج إىل دائرة‬ ‫كيف ال أحن إىل األبدية؟! وكيف ال أضطرم‬
‫الدوائر حيث يصبح االنتهاء عودة إىل االبتداء؟!‬
‫إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أُمًّ ا ألبنائي إال املرأة التي أحبها؛ ألنني‬
‫أحبك أيتها األبدية!‬
‫إنني أحبكِ أيتها األبدية‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫كنت تهجمت بغضبي عىل القبور فانتهكت حرمتها‪ ،‬ونبذت قصيًّا معالم‬ ‫إذا ُ‬
‫الحدود‪ ،‬وألقيت بألواح الرشائع فحطمتها عىل مهاوي األغوار‪.‬‬
‫وإذا كنت بسخريتي نثرت الكلمات املتداعية‪ ،‬وهببت كالريح أكسح نسيج‬

‫‪270‬‬
‫العناكب‪ ،‬وأطهر مغاور املوت املتعفنة القديمة‪.‬‬
‫وإذا كنت جلست مرحً ا مرسو ًرا حيث دُفنت آلهة األزمان املنرصمة ألبارك‬
‫العالم وأغمره بالحب قرب أنصاب من افرتوا عليه‪ ،‬فما ذلك إال ألنني أتوق إىل‬
‫ني السماء الصافية قبابها املحطمة‪،‬‬ ‫رؤية املعابد ومدافن اآللهة عندما تخرتق ع ُ‬
‫فأجس عىل الركام املتهدمة كالعشب األخرض والشقائق الحمراء‪.‬‬
‫فكيف ال أحن إىل األبدية وال أضطرم ً‬
‫شوقا إىل خاتم الزواج! إىل دائرة الدوائر‬
‫حيث يصبح االنتهاء عودة إىل االبتداء‪.‬‬
‫إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أمًّ ا ألبنائي إال املرأة التي أحبها؛ ألنني‬
‫أحبك أيتها األبدية‪.‬‬
‫إنني أحبك أيتها األبدية‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫إذا كانت هبَّت عيل َّ نسمة من نسمات اإلبداع اإللهية التي تكره حتى الصدف‬
‫العمياء عىل الدوران راقصة كرتاقص الكواكب يف األفالك‪.‬‬
‫إذا كنت ضحكت بقهقهة الربق املبدع يصحبه إرعاء العمل‪.‬‬
‫وإذا كنت تراشقت الزهر مع اآللهة عىل نرد األرض حتى ارتجفت األرض‪،‬‬
‫وتشققت قاذفة لهاث النار يف األجواء‪ ،‬فما ذلك إال ألن األرض نرد إلهي يرتعش‬
‫لوقع الكلمات املبدعة الجديدة ولتساقط األزهار اإللهية‪.‬‬
‫فكيف ال أحن إىل األبدية‪ ،‬وال أضطرم ً‬
‫شوقا إىل خاتم الزواج‪ ،‬إىل دائرة الدوائر‬
‫حيث يصبح االنتهاء عود ًة إىل االبتداء‪.‬‬
‫إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أمًّ ا ألبنائي إال املرأة التي أحبها‪ ،‬ألنني‬
‫أحبك أيتها األبدية‪.‬‬

‫‪271‬‬
‫إنني أحبك أيتها األبدية‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫إذا كنت كرعت ما يف هذه الكأس من دواء تمازجت جميع العقاقري فيه‪ ،‬وإذا‬
‫كنت مددت يدي فضممت األبعد إىل األدنى وجمعت بني النار والتفكري‪ ،‬وبني‬
‫املرسات واألحزان مازجً ا أقبح األشياء بأحسنها‪.‬‬
‫وإذا كنت أنا ذرة مفتدية يف بحر الرمال أعمل عىل مزج األشياء يف كأس العقاقري‪،‬‬
‫فما ذلك إال ألن يف الوجود ِملحً ا يلتحم به الخري مع الرش‪ ،‬وما الرش إال أحد التوابل‬
‫التي تُزبد الكأس فرتغي طفاحً ا‪.‬‬
‫فكيف ال أحن إىل األبدية وال أضطرم ً‬
‫شوقا إىل خاتم الزواج‪ ،‬إىل دائرة الدوائر‬
‫حيث يصبح االنتهاء عود ًة إىل االبتداء‪.‬‬
‫إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أمًّ ا ألبنائي إال املرأة التي أحبها؛ ألنني‬
‫أحبك أيتها األبدية‪.‬‬
‫إنني أحبك أيتها األبدية‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫إذا كنت أحببت البحر وكل ما يشبه البحر وما اشتد هيامي به إال عند مقاومته‬
‫يل بزوابعه‪ ،‬وإذا كنت أحمل يف نفيس غبطة املستكشف‪ ،‬الغبطة التي تدفع بالرشاع‬
‫إىل املجاهل وتمأل روَّاد البحار حبو ًرا‪ ،‬وإذا كنت قد رصخت يف حبوري‪ :‬لقد توارت‬
‫حلقة من قيودي‪ ،‬فها أنذا‬ ‫ٍ‬ ‫أواخر الشواطئ عن عياني‪ ،‬فتحطمت بتواريها آخر‬
‫اآلن يف وسط املدى الفسيح الصاخب بعيدًا عن توايل األمكنة واألزمان‪ ،‬فهيَّا بنا‪،‬‬
‫يا قلبي الهرم إىل األمام!‬
‫أواه! كيف ال أتوق إىل األبدية وأضطرم ً‬
‫شوقا إىل خاتم الزواج‪ ،‬إىل دائرة الدوائر‬
‫حتى يصبح االنتهاء عودة إىل االبتداء‪.‬‬

‫‪272‬‬
‫إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أمًّ ا ألبنائي إال املرأة التي أحبها؛ ألنني‬
‫أحبك أيتها األبدية‪.‬‬
‫إنني أحبك أيتها األبدية‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫إذا ما كانت فضيلتي فضيلة الراقصني‪ ،‬وإذا كنت كثريًا ما رقصت مأخو ًذا‬
‫بإشعاع الزمرد والنضار وإذا كان رشي رشًّا ضاح ًكا يأنس إىل حقول الزنابق‬
‫وأغصان الورود‪ ،‬فذلك ألن كل ما هو رشير يتحد بالضحك ولكنه يتحد مرب ًرا‬
‫ومحر ًرا بغبطته نفسها‪.‬‬
‫إن األلف والياء عندي هما أن تتحول كل كثافة إىل لطافة فيصبح كل ثقيل‬
‫ً‬
‫راقصا وكل فكر طائ ًرا‪ ،‬والحق أن يف هذا كل بداية وكل نهاية‪.‬‬ ‫ً‬
‫خفيفا وكل جسم‬
‫ً‬
‫شوقا إىل خاتم الزواج‪ ،‬إىل دائرة الدوائر‬ ‫فكيف ال أتوق إىل األبدية وأضطرم‬
‫حيث يصبح االنتهاء ابتداء‪.‬‬
‫إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أمًّ ا ألبنائي إال املرأة التي أحبها؛ ألنني‬
‫أحبك أيتها األبدية‪.‬‬
‫إنني أحبك أيتها األبدية‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫وإذا ما كنت بسطت فوقي سماوات يسودها السكون‪ ،‬وأطلقت جناحي يف‬
‫مجاالت سماواتي‪ ،‬وإذا ما كنت سبحت يف أعماق مدى األنوار فملكت حكمة‬
‫الطيور يف حريتي‪ ،‬فما ذلك إال ألن حكمة الطيور تقول‪« :‬ليس يف الكون فوق وال‬
‫ً‬
‫خفيفا‪،‬‬ ‫ألق بنفسك هنا أوهناك‪ ،‬اذهب إىل األمام أو تراجع إىل الوراء ما دمت‬
‫تحت‪ِ ،‬‬
‫أطلق صوتك بالتغريد وال تتكلم بعد‪ ،‬أفليس التكلم شيمة أهل الكثافة والثقل‪،‬‬
‫قول إال نحو الخفيف اللطيف‪ ،‬غ ِّرد وال تتكلم بعد‪».‬‬
‫وهل يتصاعد كل ٍ‬

‫‪273‬‬
‫أواه! كيف ال أحن إىل األبدية‪ ،‬وأضطرم ً‬
‫شوقا إىل خاتم الزواج‪ ،‬إىل دائرة الدوائر‬
‫حيث يصبح االنتهاء ابتداء‪.‬‬
‫إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أمًّ ا ألبنائي إال املرأة التي أحبها؛ ألنني‬
‫أحبك أيتها األبدية‪.‬‬
‫إنني أحبك أيتها األبدية! …‬

‫‪274‬‬
‫الجزء الرابع‬

‫تقدمة العسل‬

‫وكرت األشهر وتوالت السنون عىل زارا وهو ال يشعر بها‪ ،‬مع أنها ج َّللت‬
‫بالبياض ناصيته َ‬
‫وف ْودَيه‪.‬‬
‫وجلس زارا يومً ا عىل حجر أمام غاره‪ ،‬وأرسل نظراته إىل بعيد ترود تعاريج‬
‫األودية وقد ظهر يشء من أفق البحر عند منتهاها السحيق‪ ،‬وبينما هو مستغرق‬
‫يف تفكريه دار حوله نرسه وأفعوانه ثم مثال أمامه قائلني له‪ :‬عال َم ترسل نظراتك‬
‫يا زارا‪ ،‬أتُراك تفتش عىل سعادتك؟‬
‫فأجاب‪ :‬ما يل وللسعادة‪ ،‬لقد انقىض الزمان الذي كنت أتوقع السعادة فيه‪ ،‬فما‬
‫أتشوق اآلن إال إىل أعمايل‪.‬‬
‫فقال الحيوانان‪ :‬إنك تتكلم كمن تغلغل الخري فيه‪ ،‬أفما أنت عائم عىل بحرية من‬
‫السعادة ينعكس عىل صفحتها أديم السماء؟‬
‫فأجاب زارا وهو يبتسم‪ :‬لقد أجدتما التشبيه‪ ،‬ولكنكما تعلمان ً‬
‫أيضا أن سعادتي‬
‫ثقيلة‪ ،‬وال شبه بينها وبني األمواج هجومً ا وتراجعً ا‪ ،‬فهي تزحمني وال تبتعد عني‬
‫وتلتصق بي كأنها ال َّراتنج املذوب‪.‬‬
‫ودار الحيوانان مرة ثانية حول زارا وعادا يتفرسان به قائلني له‪ :‬لقد عرفنا‬
‫السبب إذن يف اصفرار لونك واكمداده وتحول لون شعرك إىل لون القنَّب‪ ،‬أفال‬

‫‪275‬‬
‫ترى أنك غارق يف املادة الراتنجية اللزجة ويف شقائك؟‬
‫وتضاحك زارا ً‬
‫قائل‪ :‬والحق أنني جدفت عندما ذكرت املادة الراتنجية‪ ،‬فما‬
‫حدث يل إال ما يحدث لكل ثمرة يتداركها النضوج أن العسل هو ما يخثر دمي‪،‬‬
‫ً‬
‫استغراقا يف صمتها‪.‬‬ ‫ويزيد نفيس‬
‫وتقرب النرس واألفعوان من سيدهما وقاال‪ :‬إن األمر كما تقول ولكن أفال تريد‬
‫اليوم أن تصعد إىل الجبل العايل فالهواء نقي يشعرك بلذة الحياة‪.‬‬
‫فقال‪ :‬إنكما تعربان عن مشتهاي فأنا أتوق اليوم إىل تسلق املرتفع‪ ،‬ولكن‬
‫عسل أصفر وأبيض من أجوده‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫عسل من القفري الذهبي‪،‬‬ ‫عليكما أن تتداركا يل‬
‫وأبرده؛ ألنني أريد أن أبذله تقدمة إىل الذرى‪.‬‬
‫وملا وصل زارا إىل القمة وأطلق للحيوانني رساحهما رأى نفسه منفردًا‪ ،‬فابتسم‬
‫وأدار لحاظه ما حوله ً‬
‫قائل‪ :‬لقد تعللت بتقدمة العسل ألتمكن من االنفراد بنفيس‬
‫ً‬
‫طليقا عىل القمة بعيدًا عن منازل النساك وحيواناتهم‪.‬‬ ‫فأتكلم ح ًّرا‬
‫عندما كنت أذكر التضحية كنت أبدد ما وهِ ب يل بألف راحة منبسطة‪ ،‬فكيف‬
‫أجرس أن أدعو هذا العمل اليوم تضحية؟‬
‫إنني عندما طلبت العسل لم أطلب سوى طعمة َّ‬
‫للشَك‪ ،‬فأردت أخذها من‬
‫القفري املذهب الذي تتشوق إىل التلذذ به األطيار والدببة‪.‬‬
‫طلبت خري طعمة يستعملها الصائدون عىل اليابسة ويف البحر‪ ،‬فإن الدنيا‬
‫عبارة عن غابة تغص بالحيوانات وحديقة يتنعم بها كل صائد وحيش‪ ،‬ولعلها‬
‫أشبه ببحر زاخر ال قعر له‪ ،‬فهي والحق بحر محتشد باألسماك عىل أنواعها‬
‫وعديد ألوانها مما يثري شهية اآللهة أنفسهم حتى إنهم ليصبحوا صيادين يرمون‬
‫بشباكهم إىل هذا العالم امليلء بالعجائب والغرائب كبريها وصغريها‪ ،‬وأخص من‬
‫ً‬
‫هاتفا‪:‬‬ ‫الدنيا عالم الناس ب َّرهم وبحرهم فأنا أرسل يف مجاالته شبكتي املذهبة‬
‫انفتحي أيتها األغوار البرشية‪.‬‬

‫‪276‬‬
‫انفتحي واقذيف إيل َّ بأسماكك الالمعة‪ ،‬فلسوف أتمكن اليوم بخري طعمة أستهوي‬
‫بها األسماك البرشية من اصطياد خيارها‪ ،‬وما هذه الطعمة إال سعادتي نفسها‬
‫أنرشها إىل األبعاد بني املرشق والجنوب واملغرب‪ ،‬وأنظر ما إذا كان العدد الغفري‬
‫من األسماك البرشية يتعلمون تذوق سعادتي واالشتباك بها‪ ،‬حتى إذا تغلغلت‬
‫يف حناجرهم طعمتي يضطرون إىل االرتفاع نحو مستواي‪ ،‬وهكذا يرتقي أشد‬
‫األسماك ً‬
‫تعلقا باألغوار إىل قرب أرشِّ صياد يصطاد بني اإلنسان‪ ،‬وما أنا إال ذلك‬
‫الصياد منذ نشأتي ويف أعماق روحي فأنا الجاذب املستهوي املزحزح الرافع‬
‫واملثقف املعلم‪ .‬أنا من قال من قبل‪ :‬يجب عليك أن تصري مَ ن أنت‪.‬‬
‫فلريتفع الناس إيل َّ اآلن ألنني أنتظر اإلشارات التي تعلن يل أن زمن نزويل قد‬
‫حان‪ ،‬فإنني لم أنزل بني الناس بعد كما وجب عيل َّ أن أنزل؛ لذلك أنتظر هنا عىل‬
‫مراوغا مستهزئًا دون أن أعيل صربي ودون أن يعيل هو‪ ،‬أنتظر كمن‬ ‫ً‬ ‫قمة الجبل‬
‫نيس الصرب؛ ألنه ال شفقة فيه‪.‬‬
‫فشغلت باصطياد‬ ‫أوسعت مقدراتي مجال الزمان أمامي‪ ،‬فهل هي تناستني ُ‬
‫ْ‬ ‫لقد‬
‫الذباب مستظلة وراء صخر كبري؟ والحق أنني ممتن ملا قدر األبد عيلَّ؛ ألنه ال‬
‫يزحمني بل يرتك يل متسعً ا من الدهر ألتالعب وأرتكب الرشور حتى إنه أجاز يل‬
‫اليوم أن أتسلق هذا الجبل ألصطاد عليه األسماك‪ ،‬وهل سمعتم بإنسان يصطاد‬
‫األسماك عىل الذرى؟ لقد يكون ما طلبته جنونًا عىل أنه خري يل أن يحكمني الجنون‬
‫من أن يسودني الجمود فأتلوَّن باالخرضار واالصفرار وأنا ساكن عىل االنتظار يف‬
‫األعماق‪ ،‬فأنا ال أريد أن أكون كهؤالء املتحرقني يف غيظهم لطول انتظارهم كأنهم‬
‫عاصفة مقدسة تصيح بالوديان‪ :‬أصغي إيل َّ‪ ،‬وإال فإنني أجلدك بسياط الله‪.‬‬
‫ما يكيدني مثل هؤالء الثائرين فإنني أقف باعتباري لهم عند حد االستهزاء‪ ،‬وال‬
‫يفوتني سبب غضبهم؛ ألنني أعلم أنهم إن لم يقرعوا طبولهم اليوم فلن يقرعوها‬
‫إىل األبد‪.‬‬

‫‪277‬‬
‫أما أنا ومقدراتي فما نوجه خطابنا ال إىل اليوم وال إىل األبد‪ ،‬وبوسعنا أن نصرب‬
‫طويل وسيأتي زمن لن يكون فيه للقادم أن يعرب‬ ‫ً‬ ‫عىل الصمت؛ ألن أمامنا مدًى‬
‫إن هو إال الصدفة العظمى أي مُلك اإلنسان؛ إذ‬ ‫ويتوارى‪ ،‬ومن هو هذا القادم؟ ْ‬
‫يحكم فيه زارا ألف عام‪.‬‬
‫وإذا كان هذا امللك لم يزل بعيدًا‪ ،‬فما يهمني هذا البعد وأنا الواثق من أنه ال‬
‫بد قادم‪ .‬إنني أستند من هذه الثقة إىل األسس األبدية‪ ،‬إىل هذه الصخور والجبال‬
‫القديمة املنتصبة بني الرياح مرتصدة ما كان وما سيكون‪.‬‬
‫فاضح ْك أيها الرش الكامن يف َّ‪ ،‬وأرسل قهقهتك الهازئة من أعايل هذه الجبال‪،‬‬
‫وألق بشباكك الصطياد خري األسماك البرشية‪ ،‬اذهب رائدًا جميع البحار فإن كل‬ ‫ِ‬
‫ما فيها هو يل‪ ،‬التقط الجميع وارتفع به إيل َّ‪ .‬إن هذا ما يتوقعه أوفر املتصيدين‬
‫رشًّا‪.‬‬
‫اذهبي يف عرض البحار أيتها الطعمة وغوري يف األعماق الصطياد سعادتي‪،‬‬
‫طعمة شهية تحل يف أحشاء املصائب‬‫واقطر أحىل قطراتك املعسولة أيها القلب ُ‬
‫املروعة الدكناء‪.‬‬
‫إن أنظاري تمتد إىل أعمق اآلفاق فيا للبحار تتسع أمامي ويا ملستقبل اإلنسانية‬
‫يفلق الضحى وما فوقي ينبسط السكون عىل تورد اآلفاق‪ ،‬فيا للصفاء ال تكدره‬
‫الغيوم‪.‬‬

‫‪278‬‬
‫استنجاد‬

‫ويف صبيحة اليوم التايل‪ ،‬جلس زارا عىل مقعده الحجري أمام غاره‪ ،‬وسار نرسه‬
‫ً‬
‫وعسل جديدًا؛ ألن زارا كان بدد‬ ‫وأفعوانه يتجوالن يف األرض لتدارك أطعمة جديدة‬
‫حتى آخر قطرة من العسل القديم‪.‬‬
‫مستغرقا يف تفكريه وهو متكئ عىل عصاه يتفرس يف ظل جسده‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وبينما كان‬
‫انتفض فجأة؛ إذ الح له ظل آخر يرتسم قرب ظله‪ ،‬ووقف متلفتًا إىل ما وراءه فإذا‬
‫بالعراف ً‬
‫واقفا عىل مقربة منه‪ ،‬وهو من قاسمه الغذاء يومً ا عىل مائدته فأهاب‬
‫إىل الخمول ً‬
‫قائل‪« :‬إن كل األمور متشابهة وال يشء يستحق العناء؛ ألن ال معنى‬
‫للوجود‪ ،‬والحكمة خانقة قاتلة‪».‬‬
‫ولكن مالمح هذا العراف كانت تبدلت منذ ذلك العهد‪ ،‬وما أمعن زارا النظر فيه‬
‫حتى استوىل عليه زعر مما رأى عىل سحنته من طالئع الشؤم‪.‬‬
‫وأدرك العراف ما يمر يف خاطر زارا؛ فبسط كفه ماسحً ا وجهه كأنه يريد‬
‫محو ما ارتسم عليه‪ ،‬ومسح زارا وجهه ً‬
‫أيضا حتى إذا عاد االطمئنان إىل كليهما‬
‫أهل بك يا بشري الرتاخي والجمود‪ ،‬ولعلك استفدت شيئًا من‬‫تصافحا فقال زارا‪ً :‬‬
‫أيضا إىل مائدتي واسمح أن أجالسك‬ ‫ً‬
‫ضيفا عيل َّ فيما مىض‪ ،‬فاجلس اليوم ً‬ ‫نزولك‬
‫أنا الشيخ املمتلئ غبطة وحبو ًرا‪.‬‬
‫فهز العراف رأسه ً‬
‫قائل‪ :‬يخيل إليك أنك شيخ يتدفق غبطة وحبو ًرا‪ ،‬ولكنك عىل‬
‫أي حال كنت وأيًّا كنت يا زارا‪ ،‬لن يطول زمن حبورك عىل هذه الذرى فلسوف‬
‫ُ‬
‫العواصف عما قليل‪.‬‬ ‫تجتاح سفينتك‬
‫فقال زارا‪ :‬وهل أنا بمأمن من هبوبها؟‬

‫‪279‬‬
‫فقال العراف‪ :‬إن األمواج تدور بجبلك من كل جانب‪ ،‬فهي تعلو وترتفع دون‬
‫انقطاع وعما قليل ستبلغ هذه األمواج‪ ،‬أمواج الشقاء واآلالم‪ ،‬هذه الذرى فتذهب‬
‫بسفينتك وتذهب بك ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫وصمت زارا متعجبًا‪.‬‬
‫فاستطرد العراف‪ :‬أفال تسمع اآلن شيئًا؟ أفما يبلغ أذنيك صخب األغوار‬
‫وهديرها‪.‬‬
‫وبقي زارا باهتًا يتنصت فإذا به يسمع صوتًا مديدًا تتلقفه أصداء املهاوي كأن‬
‫ال هاوية منها تطيق االحتفاظ بمثل هذا النداء الفجيع!‬
‫فصاح زارا بالعراف‪ :‬أجل يا نذير الشؤم‪ ،‬إنني أسمع صوت استنجاد يرصخ‬
‫آت من بحر الظلمات‪ ،‬ولكن ما يل وملدد الناس! أفما تعلم ما هي‬‫به إنسان‪ ،‬ولعله ٍ‬
‫آخر خطيئة ُقدرت عيلَّ؟‬
‫فأجاب العراف‪ :‬بىل إنها الرحمة‪.‬‬
‫وتدفق قلبه رسو ًرا فرفع ذراعيه ً‬
‫هاتفا‪ :‬لقد جئت ألسقطك يف هذه الخطيئة‪.‬‬
‫وعاد الصوت يدوي أوسع امتدادًا وأشد ارتياعً ا‪ ،‬كأن مصدره يقرتب‪.‬‬
‫فقال العراف‪ :‬أتسمع يا زارا‪ ،‬إن النداء موجه إليك‪ ،‬تعال‪ ،‬تعال … فقد ال تصل‬
‫إال بعد فوات األوان‪.‬‬
‫وبقي محتف ً‬
‫ظا بصمته ولكنه شعر باضطراب زعزع إرادته فسأل مرتددًا‪ :‬ومن‬
‫ذا يناديني من بعيد؟‬
‫فأجاب العراف‪ :‬إنك تعرف فعال َم تتجاهل؟ ذلك هو اإلنسان الراقي يناديك‬
‫مستنجدًا‪.‬‬
‫وارتعش زارا ً‬
‫قائل‪ :‬ماذا يريد مني؟ ماذا يطلب اإلنسان الراقي هنا؟‬

‫‪280‬‬
‫وبدا جلده يتصبب ً‬
‫عرقا‪.‬‬
‫أما العراف فلم يأبه الضطراب زارا‪ ،‬بل انحنى فوق الهاوية متنصتًا‪ ،‬وإذ طال‬
‫السكوت يف الغور أدار ظهره فرأى زارا لم يزل منتصبًا مكانه وهو يرتجف فقال‬
‫له بصوت حزين‪ :‬ال يلوح يل أنك الرجل الراقص لسعادته‪ ،‬فارقص إذا شئت إال‬
‫تقع عىل األرض‪ ،‬ولو أنك رقصت بكل حركاتك أمامي اآلن فإنني ال أصدق أنك‬
‫آخر من يتمتع بالسعادة بني الناس‪ ،‬وإذا ما تسلق أحد هذه الذرى ً‬
‫آمل أن يجد‬
‫آخر السعداء فإنه ليفتش عبثًا عليه؛ إذ ال يجد سوى املغاور يختبئ فيها من‬
‫يحب االستتار‪ ،‬إن مكامن السعادة ليست يف هذه األرجاء‪ ،‬وهل من سعادة ترتجى‬
‫بني من دفنوا أنفسهم وتنسكوا؟ فهل وجب عيل َّ أن أفتش عىل السعادة يف الجزر‬
‫السعيدة بعيدًا وراء البحار؟‬
‫ولكن ما يل ولهذا ما دام ال يشء يف الوجود يستحق العناء واالهتمام‪ ،‬وعبثًا‬
‫نفتش فإن الجزر السعيدة قد توارت من الوجود‪.‬‬
‫وبعد أن أنهى العراف خطابه ودفع آخر زفرة من صدره عادت الغبطة إىل‬
‫زارا‪ ،‬فإذا به ينتفض كمن يخرج من الظلمة ليستقبل النور ويقول وهو يلعب‬
‫بلحيته‪.‬‬
‫ال وألف ال … إنني أعلم منك‪ ،‬فالجزر السعيدة ال تزال مكانها فاصمت أيها‬
‫النداب‪ ،‬ما أنت إال غمامة تمطر عىل بسمة الصباح وقد ب َّللتني دموعك‪ ،‬ولكنني‬
‫أنفضها عني وأفزع منك إىل بعيد‪ ،‬أفما تراني أعاملك بالحسنى؟ ال تعجب لهذا‬
‫ألنك نازل يف مملكتي‪.‬‬
‫ها أنذا ذاهب إىل مصدر صوت االستنجاد يف هذا الغاب؛ ألفتش عىل اإلنسان‬
‫الراقي فلعله معرض للخطر بني الوحوش الضارية‪ ،‬وأنا أحاذر أن يلحق به رضر‬
‫يف مملكتي‪ ،‬وما أكثر الضواري فيها!‬
‫وما َّ‬
‫تحفز زارا للسري حتى قهقه العراف ضاح ًكا وقال‪ :‬أيْ زارا‪ ،‬ما أنت إال‬

‫‪281‬‬
‫مراوغ محتال‪ ،‬إنك تقصد التخلص مني فتفضل مطاردة الوحوش‪ ،‬ولكن هربك‬
‫ًّ‬
‫محتل غارك عند رجوعك‪ ،‬سرتاني مرتبعً ا فيه‬ ‫لن يجديك شيئًا فلسوف تجدني‬
‫كحزمة حطب ثقيلة‪.‬‬
‫ليكن ما تريد إن كل ما يف غاري هو لك‬‫ْ‬ ‫فقال زارا وهو سائر نحو الغاب‪:‬‬
‫أيضا ألنك ضيفي‪ ،‬وإذا ما وجدت فيه شيئًا من العسل فلك أن تلحسه لتخفف‬ ‫ً‬
‫ما يف نفسك من املرارة أيها الدب املزمجر؛ ألننا سنفرح ونطرب سوية هذا املساء‬
‫ً‬
‫مثقفا‪.‬‬ ‫النقضاء هذا اليوم فتشرتك معي بالغناء والرقص دبًّا‬
‫أراك تهز رأسك كأنك ال تصدق ما أقول‪ ،‬فاذهب يف سبيلك إذن أيها الدب الهرم‪،‬‬
‫ولكن اعلم أنني عراف أنا ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪282‬‬
‫محادثة مع الملكين‬
‫‪1‬‬
‫وما مضت ساعة عىل سري زارا وتوغله يف جباله وأحراشه حتى اعرتضت طريقه‬
‫قافلة غريبة‪ ،‬فرأى ملكني كل منهما متوج وممنطق باألرجوان‪ ،‬يسوقان أمامهما‬
‫ً‬
‫محمل‪ ،‬فقال زارا يف نفسه‪ :‬ماذا يطلب هذان امللكان يف أرايضَّ ‪ ،‬وأرسع إىل‬ ‫حما ًرا‬
‫االختفاء وراء عوسجة حتى إذا اقرتبت القافلة من مكمنه تمتم بصوت خافت‪ :‬يا‬
‫للغرابة! إنني أرى ملكني وال أرى غري حمار واحد‪.‬‬
‫وتوقف امللكان وهما يبتسمان ويلتفتان إىل مصدر الصوت الخافت‪ ،‬فقال ملك‬
‫امليمنة‪ :‬إن مثل هذه األفكار تمر يف الخاطر عندنا ولكن ال يعرب أحد عنها‪.‬‬
‫ً‬
‫طويل بني‬ ‫راع أو ناس ٌك عاش‬
‫فهز ملك امليرسة كتفيه وقال‪ :‬لعل املتكلم ٍ‬
‫الصخور واألشجار فاالبتعاد عن املجتمع مفسد لألخالق املهذبة‪.‬‬
‫فقال امللك اآلخر — وقد ظهرت عليه إمارات الكدر‪ :‬األخالق املهذبة! وهل‬
‫غادرنا مجتمعنا إال هربًا من أخالقه املهذبة؟ لخريٌ لنا أن نعيش بني النساك‬
‫والرعاة من أن نعيش بني قومنا وقد اتشحوا املذهبات واستعادوا من الطالء‬
‫مالمحهم الكاذبات‪ ،‬ما تجدي األنساب العريقة إذا كان من يباهون بها قد تهرءوا‬
‫أمراض قديمة‪ ،‬و ِلما أدخله عليه األُساة‬
‫ٍ‬ ‫وغدا أفس َد ما فيهم دمُهم لِما عاث فيه من‬
‫الجاهلون‪.‬‬
‫لخري من هؤالء القوم َّ‬
‫الفلح السليم‪ ،‬فهو بخشونته واحتياله وصربه ومجالدته‬
‫أرشف أنواع اإلنسان يف هذا الزمان‪.‬‬
‫إن َّ‬
‫فلح هذا الزمان خريُ ما يف املجتمع‪ ،‬وطبقته أوىل بالحكم ولكن الشعب هو‬
‫الحاكم‪ ،‬وما أنخدع به بعد اآلن فهو عبارة عن غوغاء من جميع الطبقات يختلط‬

‫‪283‬‬
‫فيه القديس والسافل والصعلوك املغرور واليهودي‪ ،‬فكأنك منهم تجاه ما جمعت‬
‫ُ‬
‫سفينة نوح‪.‬‬
‫كيف نذكر العادات الحسنة وليس عندنا إال الرياء والفساد‪ ،‬وقد نيس الجميع‬
‫معنى االحرتام‪ .‬لقد أردنا أن نهرب من كل هذا فال نعود نرى الكالب يقتلها‬
‫الجشع والفضول وتبهرها السعف املذهبة‪.‬‬
‫لقد بلغ االشمئزاز مني مداه؛ ألننا نحن ً‬
‫أيضا أصبحنا كاذبني نرفل ِب ُبود‬
‫ً‬
‫احتيال‬ ‫أجدادنا وقد أخلقها الزمان‪ ،‬ونتقلد األنواط لنبهر أجهل القوم وأشدهم‬
‫ولنمالئ جميع من يتعاملون بالربا الفاحش مع كل سلطة‪.‬‬
‫لسنا أول املالكني فعلينا أال نكون عىل ما كانوا‪ ،‬لقد تعبنا وشبعنا مخادعة‬
‫ً‬
‫واحتيال‪.‬‬
‫لقد أعرضنا عن الشعوب وتولينا عن هؤالء املشاغبني وهذه الهوام القابضة عىل‬
‫األقالم‪ ،‬فهربنا من رائحة الحوانيت الكريهة ومن األنفاس الخانقة تحرشج يف‬
‫صدور الجهود القارصة‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫أف للحياة بني الشعوب ويا لشقاء من يمشون يف طالئعها‪ ،‬أية أهمية للملوك!‬
‫ما لك ولهم‪.‬‬
‫فقال ملك امليرسة‪ :‬لقد عاودك داؤك القديم‪ ،‬لقد استولت نوبة االشمئزاز عليك‬
‫يا أخي‪ ،‬ولكنك نسيت أن هنا من يسمع حديثنا‪.‬‬
‫وخرج زارا من مكمنه وقد سمع كل ما دار من حديث بني امللكني فتقدم إليهما‬
‫وقال‪ :‬إن من أصغى إليكما ف َر َاقه ما سمع إنما هو رج ٌل يُدعى زارا‪ ،‬وأنا هو زارا‬
‫القائل‪ :‬أية أهمية للملوك بعد‪.‬‬
‫فاغتفرا يل مرستي لسماعي منكما ما قلتُه من قبل‪.‬‬
‫أنتما اآلن يف مملكتي وتحت سلطاني‪ ،‬فماذا عساكما تطلبان فيها؟ لعلكما‬

‫‪284‬‬
‫وجدتما يف طريقكما من أُفتش عليه‪ ،‬فأنا أفتش عىل اإلنسان الراقي‪.‬‬
‫َ‬
‫اخرتقت بكلمتك هذه‬ ‫وقرع امللكان صدريهما قائلني‪ :‬لقد ُكشف أمرنا‪ ،‬فقد‬
‫أعماق قلبنا وأدركت سبب بلوانا‪ .‬نحن ذاهبون للعثور عىل اإلنسان الراقي‪،‬‬
‫اإلنسان الذي يفوقنا بالرغم من أننا يف مرتبة ا ُمللك‪ ،‬وقد أتينا إليه بهذا الحمار؛ ألن‬
‫عىل اإلنسان األعىل أن يكون املعلم األعىل‪.‬‬
‫إن أقىس ما يجتاح األرض من نوازل أن ال يكون أصحاب السلطان عىل الناس‬
‫أفضل الناس‪ ،‬كيال يسود الكذب والفظائع فتلتوي األمور ذاهبة عىل غري مجاريها؛‬
‫ألنه عندما يكون أرباب السلطان من زعانف القوم بل ومن حيواناته يتعاىل‬
‫الشعب ويتعاىل حتى ليسمعك صوته ً‬
‫قائل إنني أنا هو الفضيلة‪.‬‬
‫فهتف زارا‪ :‬ماذا أسمع أعند امللوك مثل هذه الحكمة؟! لقد أثارت هذه الكلمات‬
‫قريحتي‪ ،‬ولسوف أنظم مقطعً ا بما أوحته إيل َّ‪ ،‬ولعل ما سأنظم ال تقبله آذان‬
‫الكثريين‪ ،‬ولكنني منذ زمان طويل نسيت مداهنة اآلذان الطويلة‪.‬‬
‫ونهق الحمار كأنه يحتج‪ ،‬فقال زارا‪« :‬يف ذلك الزمان‪ ،‬يف السنة األوىل من التاريخ‬
‫الجديد‪ ،‬هتفت آلهة األقدمني دون أن تكرع خم ًرا‪ ،‬فقالت‪ :‬الويل … الويل … لقد‬
‫ساءت الحال!‬
‫يا لالنحطاط‪ ،‬إن العالم لم يسقط إىل مثل هذه الدركة قبل اآلن؟‬
‫فقد استحالت روما إىل عاهرة‪،‬‬
‫وتدنَّى قيرصها إىل مرتبة الحيوان‪،‬‬
‫حتى إن الله نفسه استحال يهوديًّا …»‬
‫‪2‬‬
‫واستحسن امللكان نشيد زارا‪ ،‬وقال ملك امليمنة‪ :‬لقد كان من حظنا أن خرجنا‬
‫عىل الطريق فلقيناك‪ ،‬وقد كان أعداؤك عكسوا لنا صورة منك عىل مرايا نفوسهم‬

‫‪285‬‬
‫فرأيناك شيطانًا ضاح ًكا ساخ ًرا أدخل الرعب إىل قلوبنا‪ ،‬ولكن كلماتك ومبادئك‬
‫كانت تخرتق آذاننا لتهز أحشائنا فتغ َّلبت عىل ما أدخلت صورة وجهك من‬
‫االضطراب يف روعنا‪ ،‬فقررنا أن نجيء إليك وأنت القائل‪« :‬عليكم أن تحبوا السلم‬
‫كوسيلة توصلكم إىل حروب جديدة‪ ،‬وأن تفضلوا فرتة السالم القصرية عىل الهدنة‬
‫الطويلة األمد‪ ».‬وما نطق أحد قبلك بآية حربية كقولك‪« :‬ال خري يضاهي الشجاعة‬
‫وغاية الحرب الحُ سنى تربر كل واسطة‪».‬‬
‫أيْ زارا‪ ،‬إن دم أجدادنا قد ثار يف عروقنا عندما سمعنا آيتك فكأنه الخمر املعتق‬
‫يغيل يف الدنان لسماعه همسات الربيع‪ ،‬وهل كان أجدادنا يشعرون بلذة الحياة‬
‫إال عند اشتباك النصال اشتباك األفاعي تقطر دمً ا‪ ،‬وهل كانت شمس السالم يف‬
‫أعينهم إال نو ًرا خاسئًا‪ ،‬فكل هدنة طويلة األمد كانت تلفعهم بالعار‪.‬‬
‫لكم من زفرة دفعها آباؤنا وهم ينظرون إىل النصال املرهفة تتدىل صابرة عىل‬
‫جدران القصور‪ ،‬فإنهم كانوا يشعرون يف أحشائهم بظمأ النصال نفسها‪ ،‬وما‬
‫ملعان الحديد إال وهج شهوته وتحرقه إىل رشب الدماء‪.‬‬
‫وبينما كان امللكان يتحدثان بحرارة عن سعادة آبائهما‪ ،‬ثارت عوامل التهكم‬
‫يف زارا وهو ينظر إىل مالمح امللكني التي تن ُّم عىل الدعة والسكون غري أنه امتلك‬
‫حوافزه وقال‪ :‬هيَّا بنا إىل الذروة‪ ،‬إىل غار زارا فسيعقب هذا النهار سم ٌر طويل‪،‬‬
‫وأنا مضطر ملغادرتكما؛ ألن صوت مستنجد يدعوني من املدى البعيد‪.‬‬
‫ستنال مغارتي الرشف من نزول ملكني فيها‪ ،‬حيث ال بد لهما من االنتظار‬
‫ً‬
‫طويل‪ ،‬ولن يصعب االنتظار عليكما وقد تعودتماه يف بالطيكما‪ ،‬وهل بقي للملوك‬
‫من فضيلة سوى فضيلة الصرب واالنتظار؟!‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪286‬‬
‫العلقة‬

‫وتابع زارا طريقه وهو مستغرق يف تفكريه فانحدر من األعايل حتى بلغ‬
‫املستنقعات‪ ،‬فإذا به يصطدم وهو ذاهل برجل ه َّزته الصدمة فرصخ متأ ًملا‪ ،‬وأتبع‬
‫رصخته بالشتائم تَ ْتى قبيحة سمجة‪ ،‬وبوغت زارا يف استغراقه فرفع عصاه عىل‬
‫الرجل‪ ،‬ولكن روعه عاد إليه فسخر من نفسه وقال‪ :‬أرجو عفوك وأستميحك أن‬
‫أرضب لك ً‬
‫مثل عما وقع لنا‪:‬‬
‫بينما كان رجل سائ ًرا يف طريق مقفر وقد رسحت أفكاره يف مجاالت بعيدة‬
‫َّين لدودين‬
‫عثر بكلب نائم تحت شعاع الشمس‪ ،‬فوقفا الواحد بوجه اآلخر كعدو ِ‬
‫خوفا وحذ ًرا‪ ،‬ولو أن الصدف تحولت قيد أنملة لكان تداعب الكلب‬‫يرتعشان ً‬
‫واملنفرد‪ ،‬أفما هما يف القفر فريدان‪.‬‬
‫فقال الرجل املصدوم والغضب ال يزال آخذًا منه مأخذه‪ُ :،‬ك ْن من تشاء يا هذا‪،‬‬
‫فما أنت إال معت ٍد عيل َّ بمثَلك بأكثر مما اعتديت بصدمتك‪ ،‬انظر إيل َّ‪ ،‬أفكلب أنا؟!‬
‫وكان هذا املتكلم جاثمً ا عىل األرض‪ ،‬وقد غرس ذراعه يف املستنقع كأنه يتصيد‬
‫منه شيئًا فنهض ساحبًا ذراعه العاري من األوحال‪.‬‬
‫ورأى زارا دمً ا غزي ًرا يقطر من ذراع الرجل فصاح به‪ :‬ماذا جرى لك أيها‬
‫التعس‪ ،‬هل لسعك حيوان‪.‬‬
‫فأجاب غضوبًا هازئًا وهو يدير ظهره ليذهب يف سبيله‪ :‬ما يعنيك يا هذا‪ ،‬إنني‬
‫مقيم يف ملكي وليس عيل َّ أن أرد عىل أهوج‪.‬‬
‫وأمسك زارا بالرجل وقد أشفق عليه فقال له‪ :‬لقد أخطأت فلست يف ملكك بل‬
‫أنت يف ملكي حيث يجب أن ال يضار أحد‪ .‬ادعني باالسم الذي تشاء فما أنا إال من‬

‫‪287‬‬
‫يجب أن أكون وقد أسميت ذاتي زارا‪ .‬تعال اتبعني إىل مغارتي ألضمِّ د جراحك‪،‬‬
‫فما أنت إال تعس خانك الحظ‪ ،‬لقد لسعك الحيوان ثم جاء اإلنسان بعد ذلك يدوس‬
‫عليك‪.‬‬
‫وما سمع الرجل اسم زارا حتى تبدلت سحنته وهتف ً‬
‫قائل‪ :‬أي يشء أهتم له يف‬
‫الحياة غري هذا اإلنسان الفريد «زارا» وغري هذا الحيوان الفريد الذي يعيش من‬
‫غب الدماء «العَ َلقة»‪.‬‬
‫ما انطرحت عىل األرض إال طلبًا لهذا الحيوان ُ‬
‫فقرصت يدي عرش مرات وإذا‬
‫بزارا نفسه يقرصني ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫يا لسعادتي؛ إذ قيض يل أن أكون اليوم يف هذا املستنقع ألبارك خري حجَّ ام بني‬
‫األحياء‪ ،‬ألبارك زارا أعظم من علق عىل الضمائر ليمتص منها‪.‬‬
‫وفرح زارا لسماعه هذه الكلمات‪ ،‬فقال للرجل وقد مد إليه يده ليصافحه‪ :‬من‬
‫أنت يا هذا؟ إن ما بيننا أمو ًرا كثرية يجب أن نجلوها‪ ،‬غري أنني ال أجد مشقة يف‬
‫اإليضاح وها قد وضح بيننا النهار‪.‬‬
‫فأجاب الرجل‪ :‬أنا «ضمري الفكر»‪ ،‬وليس من عامل أشد صالبة وأكثر تقيدًا مني‬
‫غري زارا معلمي‪ ،‬وقد تعلمت منه أنه خريٌ لإلنسان أن يكون مجنونًا يف عني نفسه‬
‫من أن يكون حكيمً ا يف نظر الناس‪.‬‬
‫أنا هو الذاهب إىل األعماق وال أبايل بضيق املدى أو باتساعه‪ ،‬وال فرق عندي‬
‫أكان الغور مستنقعً ا أم سماء‪ ،‬وإنه ليكفيني من األرض سعة الكف إذا جمدت‬
‫وصلحت مستق ًّرا للقدم فليس أمام العِ لم املوايل للضمري من يشء يعده صغريًا أو‬
‫كبريًا‪.‬‬
‫فقال زارا‪ :‬لعلك إذن من يحاول إدراك منشأ العلقة‪ ،‬فتذهب إىل الغور يف بحثها‬
‫حريًّا مع ضمريك‪.‬‬

‫‪288‬‬
‫فأجاب‪ :‬ال يا زارا‪ ،‬كيف يل أن أقوم بهذا العمل الفظيع وال معرفة يل إال بدماغ‬
‫العلقة‪ ،‬ويف دماغها ينحرص الكون يف نظري‪ ،‬أفليس هذا الحيز كونًا بنفسه؟ أرجو‬
‫ُ‬
‫أظهرت كربياء بقويل إنني أنا األستاذ يف هذا املطلب‪ ،‬ولذلك قلت لك‬ ‫عفوك إذا ما‬
‫إن هنا مُلكي‪ ،‬لقد م َّر عيل َّ زمان طويل وأنا أحرص اهتمامي يف بحث دماغ العلقة‬
‫كيال تفوتني الحقيقة يف دقائقها‪ ،‬إن يف هذا املطلب تمتد سلطتي وقد أعرضت‬
‫عن كل ما عداه؛ لذلك يتمىش علمي موازيًا لجهيل‪ ،‬وقد قىض عيل َّ ضمريُ تفكريي‬
‫ً‬
‫كارها لكل عمل فكري ال يتعدَّى‬ ‫أن أعرف شيئًا وأجهل سائر األشياء‪ ،‬فأصبحت‬
‫نصف مرحلته‪ ،‬ولكل إنسان اعتكر فكره يف حماسه وتردده‪.‬‬
‫راض بالعمى‪ ،‬وإذا ما‬
‫إن عماوتي تبدأ حيث يتناهى إخاليص لعقيدتي‪ ،‬وأنا ٍ‬
‫أردت معرفة يشء انرصفت إليه قاسيًا طالبًا متعصبًا ال ألوي عىل يشء يف سبيل‬
‫محجته‪.‬‬
‫أفما أنت القائل يا زارا‪ :‬إن الحياة نفسها مبضع يشق الحياة‪.‬‬
‫إن قولك هذا قد جعلني تابعً ا لتعليمك‪ ،‬فتمكنت بذلك من اكتساب معرفتي‬
‫ببذل دمي‪.‬‬
‫فقال زارا‪ :‬إن الواقع يثبت قولك‪.‬‬
‫وأشار إىل ساعد الرجل وهي تدمي‪ ،‬وعليها عرش علقات تمتص منها‪ ،‬وأردف‬
‫ً‬
‫قائل‪ :‬إن يف حالك عِ ربًا‪ ،‬أيها اإلنسان‪ ،‬فأنت بنفسك تعليمٌ‪ ،‬ولن أقدم عىل إسماعك‬
‫كل تعاليمي‪.‬‬
‫لنفرتق هنا‪ ،‬غري أنني أود أن ألقاك بعد اآلن‪ ،‬إن هذه الطريقة املرتفعة تؤدي إىل‬
‫أهل هذا املساء بني ضيويف؛ ألنني أريد أن أسرتضيك عما ألحقته‬‫غاري فانزل فيه ً‬
‫بك من إهانة عندما دست عليك بقدمي‪ ،‬فأنا أفكر بهذه الرتضية اآلن ولكنني‬
‫مضطر إىل مبارحتك إىل حيث يستنجدني الصوت البعيد‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪289‬‬
‫الساحر‬

‫‪1‬‬
‫وما دار زارا بالصخر عىل منعطف طريقه حتى الح له رجل يأتي بحركات‬
‫ً‬
‫زاحفا عىل األرض‪ ،‬فوقف وقال يف نفسه‪:‬‬ ‫غريبة‪ ،‬ثم يدور كاملجانني وينطرح‬
‫أوفق إىل نجدته‪ ،‬وإذ وصل‬‫لعل هذا هو اإلنسان الراقي الصارخ املدد‪ ،‬ولعلني َّ‬
‫ً‬
‫محاول رفعه عن‬ ‫شيخا ارتجفت أعضاؤه وجحظت عيناه‪ ،‬فهرع إليه‬ ‫ً‬ ‫إليه رآه‬
‫األرض ولكنه حاول عبثًا‪ ،‬فبقي هذا الشيخ كأنه يف غيبوبة ال يحس بوجود أحد‬
‫قربه‪ ،‬واستمر يتلفت إىل ما حوله ويبدي إشارت اليائس املرتوك‪ ،‬وبعد أن تململ‬
‫وانطوى عىل نفسه بدأ يرسل أنينه وشكواه ً‬
‫قائل‪ :‬من يدفئني؟ من يحبني بعد؟!‬
‫إيل َّ باأليادي الحا َّرة‪ ،‬إيل َّ بالقلوب املتقدة‪.‬‬
‫أنا املحترض املحتاج إىل ٍّ‬
‫أكف تفرك رجيل َّ الباردتني‪.‬‬
‫أنا املنتفض تتأكلني الحمَّ ى الخفية‪ ،‬املرتعش تهب عيل َّ الرياح اللوافح‪.‬‬
‫أنا طريدك أيها الفكر الذي ال اسم له‪ ،‬أيها املحجب املخوف َّ‬
‫امللفع بالغمام عينًا‬
‫تحدجني يف طيات الظالم‪.‬‬
‫ها أنذا طريحٌ أتلوى بعذاب األبد تحت رضباتك‪ ،‬أيها الصياد العاتي‪ ،‬أنت أيها‬
‫اإلله املجهول …‬
‫•••‬
‫انزل عيل َّ بأشد رضباتك‪ ،‬ارضب ً‬
‫أيضا‪ ،‬اخرق هذا القلب وقطع نياطه تقطيعً ا‪.‬‬
‫ما لك تطيل تعذيبي فال ترشقني إال بسهام ُف َّلت حرابها‪.‬‬

‫‪290‬‬
‫عال َم تطيل النظر‪ ،‬ويف عينيك الساخرة بريق األلوهية أفما مللت عذاب بني‬
‫اإلنسان؟‬
‫أنت تمتنع عن القتل وال تقصد إال التعذيب‪ ،‬ملاذا تعذبني أيها اإلله الساخر‬
‫املجهول؟‬
‫•••‬
‫ً‬
‫زاحفا يف الليل‪.‬‬ ‫آهٍ‪ ،‬أراك تقرتب مني‬
‫ماذا تريد؟ تكلم‪.‬‬
‫أراك تزحمني وتدفعني‪ ،‬ها أنت تالصقني‪.‬‬
‫إنك تتنصت إىل حرشجة أنفايس وخفقان قلبي‪.‬‬
‫فيا لك من حسود! وعال َم تحسدني؟‬
‫اذهب عني … اذهب عني …‬
‫ما هذه السلم تحملها إيل َّ؟ أتريد أن تعلو عليها لتلج قلبي؟‬
‫أتريد أن تنفذ إىل أغوار أفكاري؟‬
‫ارجع أيها املتطاول املجهول … أيها السارق‪.‬‬
‫•••‬
‫ما الذي تريد اختطافه؟ وما الذي تطلب سماعه؟‬
‫ما الذي تريد اختالسه‪ ،‬أنت أيها املعذِّب؟‬
‫أنت أيها اإلله َّ‬
‫الجلد؟‬
‫أتريد أن أترامى كالكلب عىل قدميك؟‬
‫ً‬
‫زاحفا أحمل إليك غرامي؟‬ ‫أتريد أن أتقدم ً‬
‫ثامل ال أعي‬

‫‪291‬‬
‫•••‬
‫إنك ترضب عبثًا‪ ،‬فارضب يا أقىس العُ تاة!‬
‫أنا لست كلبًا! أنا لست فريسة لك‪ ،‬أيها الصياد!‬
‫أنا لست أسريك‪ ،‬أيها اللص امللفع بالغمام‪.‬‬
‫تكلم أيها املتواري وراء السحب‪ ،‬تكلم أيها املجهول!‬
‫قل‪ ،‬ما الذي تطلبه مني‪ ،‬أيها الكامن لعابري السبيل؟‬
‫•••‬
‫أتطلب فدية؟ يا للغرابة!‬
‫وما هي الفدية التي تقتضيها؟‬
‫إن عزة نفيس تشري عليك بأن تطلب كثريًا‪.‬‬
‫غري أن عزتي الثانية تشري عليك باإليجاز فيما تقول‪.‬‬
‫آه! إن ما تطلبه هو أنا بكليتي!‬
‫•••‬
‫يا لجنونك! إنك ترهقني بتعذيبك‪ ،‬إنك تعذب عزتي‪.‬‬
‫أعطني املحبة … من يدفئني … من يحبني بعد؟‬
‫إيل َّ باأليادي الحارة … إيل َّ بالقلوب املتقدة‪.‬‬
‫أعطني … أنا املنفرد املتشوق يف الصقيع حتى إىل أعدائه‪.‬‬
‫أطلب إليك أن تستسلم يل‪ ،‬وأنت أقىس من يعاديني‪.‬‬
‫ولكنه توارى! توارى رفيقي الوحيد‪ ،‬أكرب أعدائي‪ ،‬الكائن املجهول‪ ،‬اإلله الجالد‬

‫‪292‬‬
‫…‬
‫•••‬
‫ال … ال تذهب‪ ،‬ارجع … عُ د إيل َّ بتعذيبك‪.‬‬
‫ً‬
‫شوقا إليك‪ ،‬وآخر أشعة من‬ ‫عد إىل آخر املنفردين فإن دموعي كلها تنهمر‬
‫فؤادي ترتامى نحوك‪.‬‬
‫آواه‪ .‬عد إيل َّ يا إلهي املجهول‪ ،‬يا أملي يا منتهى سعادتي!‬
‫‪2‬‬
‫وبلغت الثورة يف زارا حدها؛ فرفع عصاه وأخذ يقرع بها الرجل الذاهب بنواحه‬
‫وشكواه‪ً ،‬‬
‫قائل له بضحكة ملؤها الغضب‪ :‬توقف أيها املشعوذ‪ ،‬أيها املزيَّف‪ ،‬أيها‬
‫الكذاب‪ ،‬لقد عرفت من أنت‪.‬‬
‫سألهب ساقيك فأنا أعرف كيف أعامل أمثالك‪ ،‬فانتصب الشيخ وصاح‪ :‬توقف‬
‫عن رضبي يا زارا‪ ،‬فإن ما شهدته مني لم يكن إال مزاحً ا ولعبًا‪ ،‬وما اللعب إال ف ٌن‬
‫من فنوني‪ .‬لقد أردت أن أعرضك للتجربة‪ ،‬والحق أنك نفذت إىل أعماق رسيرتي‪،‬‬
‫قاس يا زارا‪ ،‬وعصاك ذات العقد‬ ‫أيضا ما تنطوي أنت عليه‪ ،‬إنك لحكيم ٍ‬ ‫فأبنت يل ً‬
‫تضطرني إىل أن أقول لك إنك تجلد الناس بحقائقك جلدًا‪.‬‬
‫فقال زارا — وهو ال يزال عىل حنقه‪ :‬ال تداهن يا مشعوذ األرواح‪ ،‬ما أنت إال‬
‫مظهر ال ين ُّم عىل حقيقته فليس لك أن تذكر الحقائق بفمك‪.‬‬
‫بأي دور كنت تقوم أمامي يا طاووس الطواويس‪ ،‬أيها البحر الزاخر باألباطيل‪،‬‬
‫ً‬
‫مصدقا أنينك وشكاياتك؟‬ ‫أيها الساحر املشئوم‪ ،‬أظننت أنني كنت‬
‫فقال الشيخ‪ :‬كنت أمثل دور كفارة العقل‪ ،‬أفما أنت املخرتع لهذا التعبري؟‬
‫فتكلمت بلسان الشاعر الساحر الذي ينقلب عليه عقله بعد تبدله إلدراكه فساد‬
‫عمله وفساد ضمريه‪.‬‬

‫‪293‬‬
‫تكشف لك خداعي قبل أن آمنت بشقائي‬ ‫أفما ُخدعت بتمثييل يا زارا؟ وهل َّ‬
‫وألقيت راحتيك عىل رأيس؟ وقد سمعتك تقول ً‬
‫آسفا‪« :‬لم يُمتع من الحب إال بالنذر‬
‫اليسري‪ ».‬فرقص رشِّي حبو ًرا يف داخيل‪.‬‬
‫َ‬
‫خدعت من قبيل مَ ن هم أقوى فراسة مني‪ ،‬وما أنا من‬ ‫فقال زارا‪ :‬ال ريب يف أنك‬
‫يتحوط لنفسه تجاه املخادعني؛ ألن من واجبي أال أحاذر أحدًا‪ ،‬هكذا ُقيض عيلَّ‪.‬‬
‫أما أنت فقد ُقيض عليك بأن تخدع الناس‪ ،‬فما يخفى أمرك عيل َّ فأنا أعرفك‬
‫معان‪ ،‬حتى إن ما‬ ‫ٍ‬ ‫وأعرف أن لكل كلمة من كلماتك معنيني بل ثالثة وأربعة‬
‫اعرتفت به اآلن ليس فيه الصدق كله وال الكذب كله‪.‬‬
‫وهل بوسعك أن تكون عىل غري ما أنت عليه أيها الرشير الكاذب أيها املزيف‪،‬‬
‫وأنت إذا ما وقفت عاريًا أمام طبيبك يومً ا‪ ،‬فإنك لتجعل داءَك نفسه يتنكر عليه‪،‬‬
‫َّهت أمامي كذبك نفسه ون َّكرته عندما قلت يل‪ :‬إن ما شهدته مني لم‬ ‫هكذا مو َ‬
‫يكن إال مزاحً ا ولعبًا‪ ،‬فقد ضمَّ نت كذبك شيئًا من الحقيقة وأنت شبيه من بعض‬
‫ِّ‬
‫باملكفر عن ذنوب العقل‪.‬‬ ‫الوجوه‬
‫لقد تكشفت يل رسيرتك‪ ،‬فأنا أراك بلغت من السحر ما تستهوي به الناس‪،‬‬
‫ولكنك ال تجد من الكذب والرياء ما تستهوي به نفسك‪ ،‬لقد انكرس خيالك وعثرت‬
‫َ‬
‫حقيقة لك سواها‪ ،‬فأصبحت وال كلمة‬ ‫ً‬
‫حقيقة ال‬ ‫تجن غري الكره‬
‫آمالك؛ ألنك لم ِ‬
‫صادقة عندك‪ ،‬فكل يشء مزيف فيك إال شفتاك أو باألحرى ما التصق بهما من‬
‫كره أو اشمئزاز‪.‬‬
‫وصاح الساحر بصوت جلجلت الكربياء فيه‪ :‬من أنت يا هذا ليحق لك أن توجه‬
‫إيل َّ مثل هذا الخطاب‪ ،‬وأنا أعظم األحياء يف هذا الزمان؟‬
‫ونزل الساحر عىل زارا بنظرة التمعت بأشعتها الخرضاء‪ ،‬ولكنه وجم بغتة‬
‫ُ‬
‫تعبت من كل هذا … لقد كرهت جميع‬ ‫وأردف ً‬
‫قائل بصوت حزين‪ :‬آي زارا … لقد‬
‫فنوني فما أنا بالعظيم وما يجدي التظاهر شيئًا‪ ،‬ولكنني طلبت العظمة كما‬

‫‪294‬‬
‫تعلم‪ ،‬أردت أن أمثل دور الرجل العظيم؛ فتمكنت من اكتساب ثقة الكثريين ولكن‬
‫حائل اصطدمت به فانحطمت‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أكاذيبي تجاوزت طاقتي ووقفت دوني‬
‫أي زارا … إن كل ما يف َّ أكاذيب بأكاذيب … وال حقيقة عندي سوى انحطامي‪.‬‬
‫ً‬
‫مرشِّفا لك وقد‬ ‫فأجاب زارا وهو ينكث األرض بنظراته‪ :‬لقد كان طلبك للعظمة‬
‫خانك مقصدك فما أنت بالعظيم‪.‬‬
‫إن ما أك ِّرم فيك وما أراه خري صفة لديك هو تعبك من نفسك وهتفتك‪« :‬إنني‬
‫ِّ‬
‫كمكف ٍر عن العقل‪ ،‬وهب أن تكفريك هذا لم يدم إال‬ ‫لست عظيمً ا‪ ».‬لذلك أكرمك‬
‫ً‬
‫صادقا‪.‬‬ ‫لحظة واحدة فإنك كنت يف هذه اللحظة‬
‫ولكن قل يل ما أتيت تطلب هنا يف غاباتي وبني صخوري‪ ،‬وإذا كنت انطرحت‬
‫عىل طريقي لتلقاني فأي برهان قصدت نواله مني؟ بأية وسيلة أردت أن تنصب‬
‫َشَك تجربتك يل؟‬
‫هكذا تكلم زارا وعيناه تقدحان رش ًرا‪ ،‬فوجم الساحر الشيخ‪ ،‬ثم قال‪ :‬وهل‬
‫حاولت تجربتك؟ ما كنت إال مفتِّ ًشا‪ ،‬وما أفتش عليه هو اإلنسان الصادق املستقيم‬
‫اإلنسان الذي ال يُظهر إال ما يضمر‪ ،‬إن ما أطلبه هو إناء الحكمة الصادقة هو‬
‫الرجل العظيم‪.‬‬
‫أفما تعلم يا زارا أنني أطلب زارا‪.‬‬
‫ً‬
‫مستغرقا بالتفكري‪ ،‬ثم‬ ‫وساد السكوت عىل املتخاطبني‪ ،‬وأغمض زارا عينيه‬
‫قبض عىل يد الساحر وقال له بكل تأدب‪ :‬هنالك عىل املرتفع الطريق املؤدي إىل‬
‫مغارتي‪ ،‬ويف هذه املغارة ستجد من تطلب‪ ،‬فإذا ما بلغتها س ْل نرسي وأفعواني‬
‫ليساعداك بالتفتيش يف طولها وعرضها‪.‬‬
‫ال أكتمك إنني ما رأيت الرجل العظيم حتى اآلن؛ ألن العيون ال تزال يف خشونتها‬
‫قارصة عن تفحص أية عظمة‪ ،‬فإننا يف عهد سيادة الشعوب‪.‬‬

‫‪295‬‬
‫طى وينتفخ‪ ،‬والشعب يصيح حوله هذا هو الرجل‬ ‫ول َكم رأيت من متعاظم يتم َّ‬
‫العظيم‪ ،‬ولكن ما يفيد منفخ الحداد تمدده إذا كان الهواء ال يلبث فيه‪.‬‬
‫أيضا من الضفدع حني ينتفخ لينشق‪ ،‬وليس من لعبة أشد‬ ‫هكذا يخرج الهواء ً‬
‫تسلية من غرز ِمنصل يف جلد منتفخ فاسمعوا هذا يا أبنائي‪ :‬إن يومنا هذا يوم‬
‫الشعوب فمن له أن يميز بني الكبري والصغري فيها‪ ،‬ومن له أن يطلب العظمة‬
‫فيظفر بها غري املجانني‪ ،‬وهل من ظافر غري من فقد رشده‪.‬‬
‫أراك تفتش عىل الرجل العظيم أيها املجنون الغريب‪ ،‬فمن ترى أوعز إليك بهذا؟‬
‫أيف مثل هذا الزمان يوجد العظيم‪ ،‬أيها املراوغ؟‬
‫ملاذا تحاول نصب رشاكك أمامي؟‬
‫هكذا تكلم زارا وقد سال همومه؛ فضحك وسار يف طريقه‪.‬‬

‫‪296‬‬
‫المعتزل‬

‫طا يف طريقه حتى الح له رج ٌل كبري الهامة يتشح السواد‬‫وما سار زارا شو ً‬
‫جالسا عىل جانب السبيل وعىل وجهه نحول وشحوب‪ ،‬فأزعجه هذا الشبح‪ ،‬وقال‬ ‫ً‬
‫يف نفسه ويل يل إنني أرى قناع األحزان‪ ،‬فهذا الرجل من طغمة الكهنة‪ ،‬وما يطلب‬
‫هؤالء الناس يف مملكتي؟‬
‫مناج لألموات‪ ،‬عىل ساحر آخر يأتي بالعجائب‬
‫لقد تخلصت من ساحر ألقع عىل ٍ‬
‫بنعمة الله وهو يذم الحياة! فليت الشيطان يختطفه‪ ،‬ولكن الشيطان متغيب أبدًا‬
‫عند الحاجة إليه‪ ،‬وإذا ما لبَّى هذا امللعون الطلب جاء متأخ ًرا‪.‬‬
‫وكان زارا يتمتم بهذه الكلمات وهو يفكر يف وسيلة تمكنه من املرور أمام الرجل‬
‫األسود دون أن تقع أنظاره عليه‪ ،‬ولكن هذا الرجل ملح زارا من بعيد فنهض كمن‬
‫قائل له‪ :‬أيها املسافر املتجول أيًّا كنت‪ ،‬أ َ ِ‬
‫نج ْد‬ ‫يظفر بما يتوقع‪ ،‬وأرسع إىل مالقاته ً‬
‫هذا التائه الشيخ املع َّرض للمخاطر يف هذه األرجاء‪ ،‬إنني أسمع زئري الوحوش من‬
‫كل جانب‪ ،‬وقد كان هنا رجل بوسعي أن ألجأ إليه ولكنه توارى وعبثًا فتشت عىل‬
‫مستقره‪ ،‬وهذا الرجل هو آخر األتقياء‪ ،‬هو الناسك الصالح الذي لم تبلغ أذنيه‬
‫الكلمات التي ذاعت بني الناس يف هذه األيام‪.‬‬
‫فقال زارا‪ :‬وما هي هذه الكلمات؟ لعلها قولهم بأن اإلله القديم الذي كانوا‬
‫يؤمنون به من قبل قد مات‪.‬‬
‫فأجاب الرجل بلهجة حزينة‪ :‬لقد قلتها وأنا قد خدمت هذا اإلله حتى الساعة‬
‫األخرية من حياته‪ ،‬وها أنذا أعتزل اآلن وال سيِّد يل ولكنني لم أنل حريتي؛ لذلك‬
‫أصبحت وال أمل يل بالسعادة إال إذا تلمستها بأيامي املاضيات‪ ،‬وقد أتيت إىل هذه‬
‫الجبال ألقيم شعائر الدين وأحتفل بالعيد عىل ما يليق برئيس أعىل وأب من آباء‬

‫‪297‬‬
‫الكنيسة األقدمني‪ ،‬فأنا هو آخر «البابوات»‪.‬‬
‫ولكن الناسك الذي كان هنا‪ ،‬القديس الذي كان يسبح الله بصلواته وأناشيده‬
‫قد مات‪ ،‬وقد فتشت عليه يف كوخه فما وجدت إال ذئبني يعويان أمام بابه نادبني‪،‬‬
‫فقد كانت جميع الحيوانات تحن إليه يف حياته‪ ،‬لذلك ذهبت يف طريقي تائهً ا وأنا‬
‫مصمم أال أعود بصفقة املغبون؛ فبدأت أفتش عىل رجل آخر هو يف تقديري أتقى‬
‫الجاحدين‪ ،‬بدأت أفتش عىل زارا‪.‬‬
‫قال الشيخ هذا وهو يحدج مُخاطبه بنظرات حادة‪ ،‬فمد زارا يده وقبض عىل‬
‫راحة الشيخ‪ ،‬وبعد أن قلبها وتفرس فيها مليًّا قال له‪ :‬ما أجمل يدك أيها املحرتم‬
‫فإنها والحق ي ٌد تعودت أن تبارك‪ ،‬وها هي ذي اآلن يف يد زارا نفسه‪.‬‬
‫أنا هو زارا الجاحد القائل‪ :‬أين أجد من يفوقني جحودًا ألفرح بتعاليمه‪.‬‬
‫وأرسل زارا نظ ًرا كالسهم يخرتق عيني الشيخ ساب ًرا أفكاره وما وراء أفكاره‬
‫إىل أن قال الشيخ‪ :‬ما فقد الله أح ٌد بأكثر مما فقده مَ ْن تناهى يف حبه له وفاق‬
‫الكل بامتالكه انظر إيل َّ‪ ،‬أفما ترى أنني أشد جحودًا منك‪ ،‬ولكن من منا أشد رسو ًرا‬
‫بذلك من اآلخر؟‬
‫وفكر زارا لحظة ثم قال‪ :‬أخدمتَه إىل آخر حياته؟ إذن قل يل بأية ميتة قىض‪،‬‬
‫ً‬
‫مخنوقا؛ إذ رأى‬ ‫أصحيح ما يقال من أن الرحمة قد قبضت عىل عنقه فأردته‬
‫اإلنسان ً‬
‫معلقا عىل الصليب فثقل عليه أن يصبح حبه للناس جحيمً ا يورده الفناء؟‬
‫ً‬
‫مرتعشا وقد اكفهر وجهه وبدت دالئل األلم‬ ‫وسكت الشيخ وهو يتلفت ما حوله‬
‫عليه‪.‬‬
‫فاستمر زارا يف كالمه‪ :‬دعه وشأنه‪ ،‬دعه يذهب‪ ،‬فإنه هالك ال محاله‪ ،‬وأنت تعلم‪،‬‬
‫وإن حق أال يذكر األموات إال بالخري‪ ،‬إنه كان يتبع مسل ًكا غريبًا‪.‬‬
‫فقال الشيخ‪ :‬إذا لزم أن نتكلم بني ثالثة عيون — وكان املتكلم أعور — عن‬

‫‪298‬‬
‫أحوال الله وأموره‪ ،‬فأنا أحق بذلك ألنني أ َ ْخ َب من زارا بهذه األمور بعد أن خدمت‬
‫الله سنوات طويلة واستسلمت ملشيئته‪ ،‬وكم يعلم الخدَّام من أحوال ساداتهم ما‬
‫يخفونها هم عن أنفسهم …‬
‫لقد كان إلهً ا خفيًّا َّ‬
‫ملفعً ا باألرسار‪ ،‬ويف الحقيقة إن ابنه لم يأت إليه إال عن‬
‫الطريق امللتوي‪ ،‬لذلك كان الزنا أول مرحلة من مراحل اإليمان به‪1.‬‬
‫من يسبح الله كأنه رب املحبة فقد قرصت مداركه عن بلوغ مرتبة الحب‬
‫السامية‪ ،‬أفما أراد هذه اإلله أن يقيم نفسه قاضيًا؟ واملحب يجتاز أي حد من‬
‫حدود العقاب والثواب‪.‬‬
‫لقد كان هذا اإلله الرشقي يف شبابه قاسيًا تجول فيه روح النقمة فأوجد جحيمً ا‬
‫لتسلية صحبه‪ ،‬ولكنه شاخ مع األيام فأصبح مرتاخيًا رحيمً ا وانقلب جدًّا بعد أن‬
‫كان أبًا‪ ،‬بل انقلب جدة هرمة تتداعى‪.‬‬
‫وجلس يومً ا قرب املوقد يصطيل وقد تجعدت أسارير وجهه وتقطب جبينه‬
‫لشعوره بوهن رجليه‪ ،‬فأحس بتعبه من إرادته ومن العالم وما عتم حتى قىض‬
‫ً‬
‫مختنقا بعميم رحمته‪.‬‬
‫فاستوقفه زارا ً‬
‫قائل‪ :‬أرأيت ذلك بعينك؟ فلقد يكون قىض عىل هذا الوجه كما‬
‫يكون قىض بصورة أخرى‪ ،‬فإن األرباب إذا ماتت تموت بأسباب متنوعة‪.‬‬
‫وعىل كل فأيًّا كان السبب‪ ،‬فإنه قد قىض‪ ،‬ورش ما أذكره به هو أنه كان يشوش‬
‫عيل َّ أبصاري وأسماعي‪ ،‬فأنا أحب كل من صفت نظراته وكلماته‪ ،‬وقد كان هو‬
‫— كما تعلم — عىل يشء مما تتصف به أنت أيها الكاهن الشيخ‪ ،‬وما يتصف به‬
‫ً‬
‫غامضا‪.‬‬ ‫كل كاهن‪ ،‬فقد كان مبهمً ا‬
‫أفما كان يف تفكريه كثري من اإلبهام؟ ول َكم ثار علينا بغضبه؛ ألننا لم ندرك‬
‫ً‬
‫تأويل‪.‬‬ ‫غوامض أقواله‪ ،‬وكان األجدر به أن يأتي ببيان رصيح ال يحتمل‬

‫‪299‬‬
‫وإذا كانت آذاننا هي التي أساءت سماع أقواله فعال َم جه َّزنا بآذان ال تحسن‬
‫السمع؟ وإذا كان يف آذاننا طني يسدها فمن ترى وضع هذا الطني فيها؟‬
‫ولكم انحطم من إناء تحت يد هذا الخ َّزاف الذي لم يتم تعلمه ولم يتقن صنعته‪،‬‬
‫فعال َم ينتقم من مخلوقاته التي أبدعها‪ ،‬إذا كانت خرجت مشوهة من بني يديه؟‬
‫أفما كان هذا العمل خارجً ا عىل ما يليق؟ حتى إن الالئق نفسه يف الرحمة هتف‬
‫ً‬
‫قائل‪ :‬أنقذوني من هذا اإلله فخري يل أال يكون يل إله فأتحكم يف مقدراتي‪ ،‬خري يل‬
‫أن أصاب بالجنون فأقيم نفيس إلهً ا …‬
‫قائل‪ :‬ما أسمع منك يا زارا والحق أنك بلغت من‬ ‫عندئذ صاح الحرب القديم ً‬
‫التقوى ما ال تدرك مداه‪ ،‬فال بد أن تكون لقيت إلهً ا هداك إىل كفرك؛ ألن إيمانك‬
‫نفسه قد صدك عن االعتقاد بالله‪ ،‬ولسوف يقودك إخالصك أخريًا إىل ما وراء‬
‫الخري والرش‪.‬‬
‫لقد ُقدر لك أن تأتي بالربكة األبدية بعينيك وبيدك وفمك‪ ،‬فليست اليد وحدها‬
‫أداة للربكة‪.‬‬
‫إنك تحاول الظهور أمامي كأشد الناس كف ًرا‪ ،‬ولكنني أشت ُّم منك عطر الربكة‬
‫املستمرة فأشعر منها بلذة يخامرها األلم‪ .‬دعني أنزل ً‬
‫ضيفا عليك ولو ليلة واحدة‬
‫فليس يف األرض مكان أرتاح فيه ارتياحي بقربك‪.‬‬
‫واستولت الدهشة عىل زارا فقال‪ :‬ليكن ما تريد‪ ،‬فهناك عىل القمة الطريق‬
‫املؤدي إىل مغارة زارا‪ ،‬وكنت أود أن أذهب بك إليها‪ ،‬أيها املحرتم‪ ،‬فإنني أحب‬
‫ٍ‬
‫صوت تعاىل مستنجدًا بي‪.‬‬ ‫جميع األتقياء ولكنني مضطر إىل اإلرساع نحو‬
‫اذهب إىل مغارتي حيث ال يتعرض أحد لرضر فهي ميناء السالم لكل قاصد‪،‬‬
‫وأنا أود أن يستقر عىل أرضها الجامدة كل حزين‪.‬‬
‫ولكنني أرى نفيس أضعف من أن أبدِّد أحزان روحك‪ ،‬ولقد يمر زمان طويل‬

‫‪300‬‬
‫قبل أن يجيء أحد بوسعه أن يقيم إلهك من املوت‪ ،‬وقد مات هذا اإلله القديم ولن‬
‫يحيا بعد‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا‪.‬‬

‫هوامش‪:‬‬
‫‪ 1‬إىل مثل هذه النتائج دفع الهوت الغرب وفلسفته الدينية عن رسالة عيىس‬
‫بالعدد الغفري من جبابرة التفكري بني شعوبه‪ ،‬أما والله إن ُك ْف َر نيتشه فيما يقول‬
‫عن هذه املرحلة من اإليمان إنما هو ُك ْف ٌر بالصورة املشوهة التي عُ ِر ْ‬
‫ضت عليه ال‬
‫باملسيح الذي عنى أمثاله بقوله‪« :‬اغفر لهم يا رب ألنهم ال يدرون ما يفعلون‪».‬‬

‫‪301‬‬
‫أقبح العالمين‬

‫ً‬
‫مرسل أبصاره إىل كل جهة دون أن‬ ‫وعاد زارا يتوغل يف األحراش وبني الجبال‬
‫يعثر عىل الصارخ املستنجد‪ ،‬غري أنه كان يقفز يف سريه فرحً ا وهو يقول‪ :‬لقد َّ‬
‫كفر‬
‫هذا النهار عن سيئات صباحه‪ ،‬فما أغرب من تحدثت إليهم يف طريقي‪ ،‬ولسوف‬
‫ألوك كلماتهم وأمضغها حتى أزدرها غذاء لنفيس‪.‬‬
‫سبيل تصدُّه صخرة عالية انكشف له مشهد جديد‬ ‫ٍ‬ ‫وملا وصل زارا إىل منعطف‬
‫مهاو حمراء دكناء ليس عليها‬
‫رأى فيه نفسه يف مملكة املوت؛ إذ صدمت أبصاره ٍ‬
‫شجرة وال نبتة وال يُسمع فيها صياح طري أو زقزقة عصفور‪ ،‬وقد نفر من ذلك‬
‫الوادي كل ذي حياة حتى الوحوش فما كان يرتاده من حني إىل حني إال األفاعي‬
‫الجسيمة الخرضاء عندما كانت تحس بالهرم وتطلب الفناء‪ ،‬ولذلك دعى الرعاة‬
‫هذا الوادي مقربة األفاعي‪.‬‬
‫وراودت مخيلة زارا تذكارات قديمة وشعر بأنه قد مر بهذا الوادي فيما مىض‪،‬‬
‫فأُثقل دماغه وبدا يتباطأ يف سريه حتى امتنع عليه نقل قدميه فإذا به يفتح عينيه‬
‫شخصا له وجه إنسان وليس له من هيئة البرش‬ ‫ً‬ ‫فجأة‪ ،‬فريى عىل حافة الطريق‬
‫يشء كائنًا ال اسم له بني أسماء الكائنات‪ ،‬واستوىل عىل زارا نوع غريب من الخجل‪،‬‬
‫َّ‬
‫فتول وأراد أن‬ ‫فاستحت عيناه مما رأتا فاحمر وجهه حتى منابت شعره األبيض‪،‬‬
‫يبارح هذا املكان فإذا به يسمع صوتًا كالهدير أو كبفية املياه إذا ُسدَّت مجاريها‪،‬‬
‫وما عتم حتى استحال هذا الصوت إىل نربات تشبه الكالم وهي تقول‪ :‬أيْ زارا …‬
‫أي زارا … ح َّل رمزي إذا قدرت وأعلن الحقيقة عن «االنتقام من الشاهد»‪.‬‬
‫قف مكانك وتراجع إىل الوراء فاألرض متجلدة أمامك‪ ،‬حاذر أن ينزلق غرورك‬
‫عليها فتنكرس قوائمه‪.‬‬

‫‪302‬‬
‫أنت تحسب نفسك حكيمً ا يا زارا‪ ،‬فحل الرمز املعروض عليك‪ ،‬إذا كان لك أن‬
‫تكرس أصلب القشور الكتشاف نواتها فقل يل من أنا‪.‬‬
‫وما سمع زارا هذه الكلمات حتى ه َّزه اإلشفاق ه ًّزا؛ فهوى عىل الحضيض‬
‫كشجرة توالت عىل جزعها رضبات الفئوس‪ ،‬ولكنه ما هوى حتى نهض وقد‬
‫ارتسمت القساوة عىل وجهه فقال‪ :‬لقد عرفتك يا هذا‪ ،‬فأنت قاتل اإلله‪ ،‬دعني منك‬
‫فأنا متو ٍّل عنك‪ ،‬لقد ثقل عليك أن يكون هنالك من ال يزال ينظر إليك ويتفرس يف‬
‫قبحك‪ ،‬وأنت أقبح العاملني‪ ،‬فأقدمت عىل االنتقام من هذا الشاهد‪.‬‬
‫وتحفز للسري‪ ،‬ولكن الكائن الذي ال اسم له تمسك برجليه‬ ‫َّ‬ ‫قال زارا هذه الكلمات‬
‫ابق هنا فقد عرفت ما هي الصدمة التي ألقتك رصيعً ا‪،‬‬ ‫وصاح به متمتمً ا‪ :‬ال تذهب‪َ ،‬‬
‫مرحى لك ألنك تمكنت من النهوض‪ ،‬لقد أدركت ما يشعر به قاتل إلهه‪ ،‬تعا َل‬
‫واجلس إىل جانبي‪ ،‬إنك لن تضيِّع أوقاتك معي سدًى؛ ألنني إذا لم أتوجه إليك فإىل‬
‫من أتجه‪ ،‬اجلس ولكن ال تنظر إيل َّ‪ ،‬فإنك لتك ِّرم قبحي بإغضائك عنه‪.‬‬
‫إنهم يطهدونني‪ ،‬وقد أصبحت أنت اآلن ملجئي األخري‪ ،‬إنهم يطهدونني ال‬
‫بحقدهم وال بقوة جندهم وما تهمني هذه القوة‪ ،‬بل إنني ألفخر بمصادمتها يل‬
‫املطارد ينتهي‬
‫ِ‬ ‫رس‪ ،‬وهل يف العالم نجاح يضاهي نجاح املطهَ دين مجدًا؟ إن‬ ‫وأ ُ ُّ‬
‫باملتابعة وهو الراكض دومً ا وراء متبوعة‪ .‬إن ما يؤملني منهم هو أنهم يطهدونني‬
‫بإشفاقهم‪ ،‬وما أهرب إال من هذا اإلشفاق طالبًا ملجأ يف أكنافك‪ ،‬فاحمني يا زارا!‬
‫وعرفت ما يشعر به قات ُل إلهه‪َ ،‬‬
‫ابق هنا‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫نفذت رسيرتي‬ ‫إنك ملجئي الوحيد وقد‬
‫وإذا ما أردت االرتحال أيها الرحالة اللجوج فال تنرصف من الطريق التي اتبعتها‬
‫أنا ألصل إىل هذا املكان‪ ،‬إنها لبئس الطريق‪.‬‬
‫لعلك ال تنقم عيل َّ لتوجيهي هذه الكلمات إليك وإلسدائك نصحي‪ْ .‬‬
‫إن أنا إال أقبح‬
‫ُ‬
‫مررت عىل طريق إال ودمرتها‪.‬‬ ‫العاملني‪ ،‬إن رجيل أضخم األرجل وأثقلها فما‬
‫لقد رأيتك متجهً ا نحوي وأنت تقصد املرور بي خلسة والح االحمرار عىل وجهك‬

‫‪303‬‬
‫فعرفت أنك أنت زارا‪ ،‬ولو أن غريك مر بي لكان نفحني بصدفة أو بذل يل إشفاقه‬
‫َ‬
‫عرفت لم أصل من التسول إىل درجة أرىض فيها‬ ‫بنظرة أو بكلمة‪ ،‬ولكنني كما‬
‫بتصدق الناس عيلَّ‪.‬‬
‫إن لديَّ ثروة وافرة من العظائم بل من أقبحها وأفظعها؛ لذلك رشفني خجلك‬
‫يا زارا‪.‬‬
‫وما توصلت إال بشق النفس إىل التخلص من إزعاج الرحماء ألجد اإلنسان‬
‫الوحيد القائل يف هذا الزمان بأن اإلشفاق نقمة وليس نعمة‪ ،‬وهل من قائل بهذا‬
‫سواك‪ ،‬يا زارا؟‬
‫إن اإلشفاق إهانة للكرامة سواء أصدر من الناس أم من إله الناس‪ ،‬ولعل يف‬
‫حبس املعونة من النبل ما ليس يف املسارعة إىل بذلها‪.‬‬
‫ولكن صغار البرش يحسبون أن يف هذه املسارعة إىل اإلشفاق فضيلة ال تضاهيها‬
‫فضيلة‪ ،‬فهم ال يحرتمون الشقاء إذا تعاظم وال القبح إذا تناهى وال التشويه إذا‬
‫ُبق ولم يذر‪.‬‬
‫لم ي ِ‬
‫إن أنظاري تمر عىل هؤالء الرحماء كما يمر نظر الكلب عىل ظهور األغنام‬
‫املتزاحمة‪ ،‬فما أراهم إال صعاليك ترمد صوفهم وامتألت رءوسهم بأفكار األنعام‪.‬‬
‫إنني أقف كالبجعة تحدج املستنقعات بنظرات االحتقار ألرسل أنظاري عىل‬
‫تدافع صغريات األمواج وكل إرادة واهية وكل نفس حقرية‪.‬‬
‫لقد طال زمن االعتقاد بهؤالء األصاغر‪ ،‬وأوالهم الناس الصواب حتى تولوا القوة‬
‫وأصبحوا يقولون بأن ال خري إال ما يرونه هم خريًا‪.‬‬
‫إن ما يُعترب حقيقة يف هذا الزمان ْ‬
‫إن هو إال ما علمه ذلك البشري الذي نشأ بني‬
‫هؤالء الصعاليك‪ ،‬ذلك القديس الغريب األطوار الذي وقف مدافعً ا عن قومه وهو‬
‫يشهد لنفسه ً‬
‫قائل‪« :‬أنا هو الحق‪».‬‬

‫‪304‬‬
‫إن هذا املدعي قد أفسح املجال منذ زمان طويل لهؤالء الصعاليك؛ فتطاولوا‬
‫ً‬
‫ضالل عظيمً ا‪.‬‬ ‫منتصبني عىل أظالفهم‪ ،‬إن هذا القائل أنا الحق قد علمهم‬
‫لقد أورد قوله هذا فما تلطف أحد تلطفك بالرد عليه يا زارا؛ إذ مررت أمامه‬
‫وصحت به‪ :‬ال … ال … وألف مرة ال …‬
‫لقد حذرت الناس من ضالله‪ ،‬فكنت أول املحذرين من اإلشفاق‪ ،‬وما وجهت‬
‫خطابك للمجتمع وال للفرد‪ ،‬بل وجهته لنفسك ومن هم من مرتبتك‪ ،‬فأنت تبدي‬
‫استحياءك من خجل اآلالم العظمى فتقول‪« :‬كونوا عىل حذر أيها الناس‪ ،‬إن‬
‫الغمامة الواسعة تمتد من منشأ اإلشفاق‪».‬‬
‫ثم تقول‪« :‬إن املبدعني قساة‪ ،‬واملحبة العظمى تتعاىل فوق إشفاقها‪».‬‬
‫أي زارا‪ ،‬لقد كنت مدر ًكا إنذارات زمانك عندما نطقت بهذا‪.‬‬
‫ولكن عليك أن تحاذر أنت ً‬
‫أيضا ما فيك من إشفاق؛ ألن كثريين خرجوا عىل‬
‫طريقهم يقصدونك‪ ،‬وما أكثر الغارقني ومن جمَّ دهم الصقيع!‬
‫وألدعونَّك حتى إىل االحرتاس مني‪ ،‬فإنك قد حللت لغزي من وجهتي حسنه‬
‫وقبحه‪ ،‬وعرفت من أنا وما فعلت فعرفت من ذلك ما يمكنه أن يصدمك ويرصعك‪.‬‬
‫وعىل كل‪ ،‬فقد وجب عىل اإلله أن يموت؛ ألنه كان يحدق بعني نافذة ال تخفى‬
‫ً‬
‫مستكشفا جميع ما كمن فيه من قبح‬ ‫عليها خافية فيسرب أعماق اإلنسان وأغواره‬
‫وعيوب‪.‬‬
‫لقد كان إشفاقه خاليًا من الحياء‪ ،‬فكان يذهب هات ًكا األستار عن قبائح ذاتي‪،‬‬
‫أفما حق عىل هذا الفضويل الرحيم أن يموت‪ ،‬أفما كان يل أن أنتقم ممن تحرش‬
‫ً‬
‫تخلصا منه‪.‬‬ ‫بخفاياي أو أختار املوت‬
‫إن إلهً ا يرى كل يشء حتى اإلنسان ألجدر به أن يفنى وما يحتمل اإلنسان مثله‬
‫شهيدًا‪.‬‬

‫‪305‬‬
‫هكذا تكلم أقبح العاملني‪ ،‬فنهض زارا وقد أحس بالصقيع يف أحشائه وقال‪ :‬يا‬
‫من ال يُعرف وال يُسمى‪ ،‬لقد حولتني عن اتباع طريقك وأنا أدعوك مكافأة لك إىل‬
‫اتباع طريقي‪ ،‬انظر إىل الذروة‪ ،‬هنالك مغارة زارا‪.‬‬
‫إن مغارتي متسعة مديدة كثرية الرساديب يجد فيها طالب الخفاء خباء‪ ،‬وعىل‬
‫مقربة منها حُ فر وأوجار لكل حيوان من الزحافات والدبابات واألطيار‪ ،‬فاقت ِد بي‬
‫يا من هجرت العالم وكرهت الحياة بني الناس‪ ،‬وأرهقك إشفاق الناس تع َّلم كما‬
‫تعلمت أنا فال يتعلم إال العامل املخترب‪.‬‬
‫ليكن أول ما تتعلمه التحدث مع نرسي وأفعواني؛ فاألول أعظم الحيوانات كربًا‪،‬‬
‫والثاني أشدهم مك ًرا‪ ،‬فليكونا لك ويل خري مَ ن نستشري‪.‬‬
‫ً‬
‫تمهل؛ إذ كان‬ ‫هكذا تكلم زارا وسار يف طريقه وقد ازداد تفكريه إرساعً ا ومشيته‬
‫يسائل نفسه عن أمور كثرية فال يجد لها جوابًا‪.‬‬
‫وقال يف قلبه‪ :‬ما أشقى اإلنسان وما أقبحه مليئًا بالضغينة والعيوب الخفية!‬
‫قيل يل إن اإلنسان محب لذاته‪ ،‬فأية درجة يجب أن تبلغ األنانية لتتغلب عىل ما‬
‫يف الذات من صفات حقرية؟‬
‫لقد مررت اآلن بكائن يحب ذاته وهو يحتقرها‪ ،‬فهو يف نظري متنا ٍه يف عشقه‬
‫واحتقاره؛ ألنني ما عثرت قط من قبل بمثله كائنًا يحتقر ذاته إىل هذا الحد‪ ،‬إن يف‬
‫مثل هذا االحتقار تعاليًا وسموًّا‪ ،‬ولعل هذا اإلنسان هو اإلنسان الراقي الذي أرسل‬
‫برصخة االستنجاد‪.‬‬
‫إنني أحب رجال االحتقار العظيم ألن عىل اإلنسان أن يفوت ذاته ويتفوق عليها‪.‬‬

‫‪306‬‬
‫مختار التسول‬

‫وعندما بارح زارا أقبح العاملني أحس بوحدته‪ ،‬ومىش الصقيع يف أعضائه ملا مر‬
‫يف رأسه من أفكار غريبة الفحة‪ ،‬ولكنه ذهب يج ُّد السري تارة عىل املراعي املخصبة‬
‫جف النهر‪ ،‬فانكشف مسيله املوحش‬ ‫املرشفة عىل البحر وطو ًرا وراء الجبل حيث َّ‬
‫تحف به الصخور‪ ،‬فتشددت عزيمته وعادت إليه حرارته فقال يف نفسه‪« :‬لعلني‬
‫عىل مقربة من إخوان ال أعرفهم يدورون يف هذه األرجاء‪ ،‬ولعل ما أحس به من‬
‫أنس بعد الوحشة ومن حرارة بعد الصقيع يهب من أنفاسهم فتهش لها نفيس‪».‬‬
‫وتطلع من موقفه إىل ما حوله فإذا به يرى قطيعً ا من األبقار عىل مرتفع‪ ،‬فأدرك‬
‫أن ما ضاع من لهاث هذه القطيع قد كان السبب يف إنعاش قلبه‪.‬‬
‫وما أحست األبقار بقدومه؛ إذ كانت موجهة انتباهها إىل خطاب كان يلقى‬
‫عليها‪ ،‬وما تقدم زارا بضع خطوات حتى سمع صوت إنسان يرتفع من وسط‬
‫الحلقة‪ ،‬وقد أدارت األبقار رءوسها إىل مصدر الصوت فأرسع زارا إىل اخرتاق‬
‫الحلقة‪ ،‬فإذا برجل جالس عىل الحضيض يتكلم محو ًِّل كل جهده إلقناع األبقار‬
‫بأال تنفر منه‪.‬‬
‫وكان املتكلم أحد أنصار السالم ومن وعَّ اظ الجبال املتصفني باللطف‪ ،‬وقد أشع‬
‫العطف من عينيه‪.‬‬
‫وتقدم زارا وسأله بدهشة عما يفعل‪ ،‬فأجاب الرجل‪ :‬إنني أطلب هنا ما تطلبه‬
‫أنت‪ ،‬فأنا أفتش عىل سعادة الحياة‪ ،‬وقد أردت أن تعلمني األبقار حكمتها‪ ،‬فمضت‬
‫نصف الصبيحة وأنا أهيب بها إىل التكلم حتى كادت تنطق فأتيت أنت تكدر‬
‫صفونا‪.‬‬

‫‪307‬‬
‫إذا نحن لم نرجع فنصري مثل هؤالء األبقار فلن ندخل ملكوت السماء … ألن‬
‫علينا أن نقتبس من األبقار اجرتارها‪.‬‬
‫والحق لو أن اإلنسان ربح العالم كله‪ ،‬ولم يتعلم اإلمعان يف تفكريه كما تُمعن‬
‫األبقار يف مضغها‪ ،‬فأية فائدة له من الحياة؟ ألنه إذا لم يجرتَّ بتفكريه فال شفاء له‬
‫من أشد أدوائه‪ ،‬وداء اإلنسان العقام اليوم إنما هو داء االشمئزاز‪ ،‬ومَ ْن من أبناء‬
‫هذا الزمان ال تتقزز نفسه وعيناه وفمه‪ ،‬أفما أنت كسائر الناس يا هذا؟ انظر إىل‬
‫األبقار‪.‬‬
‫قال واعظ الجبل هذه الكلمات ثم أمعن النظر يف زارا بعد أن كان يعلقه عىل‬
‫أبقاره‪ ،‬فتغريت سحنته وهتف ً‬
‫قائل‪ :‬من هو مَ ْن أخاطب؟‬
‫ونهض عن األرض فجأة وهو يقول‪ :‬هذا هو املتعايل عن كل اشمئزاز‪ ،‬هذا هو‬
‫زارا بعينه‪ ،‬هذه عينه وهذا فمه وهذا قلبه‪.‬‬
‫وسارع إىل تقبيل يدي زارا وعيناه تفيضان بالدموع كأنه لقي كن ًزا أرسلته‬
‫السماء‪ ،‬ووقفت األبقار تنظر إىل الرجلني مندهشة حائرة‪.‬‬
‫قائل‪ :‬ما لك والتكلم عني‪ ،‬تحدَّث عن نفسك‪ ،‬أفما أنت مَ ْن اختار‬ ‫وتباعد زارا ً‬
‫التسول متخليًا عن ثروته الكربى‪ ،‬أفما أنت من رأى العار يف الغنى وأربابه ففزع‬
‫إىل الفقراء ينرش عليهم نعمته‪ ،‬ويجود عليهم بقلبه‪ ،‬فردَّه الفقراء خائبًا؟‬
‫فأجاب املتسول‪ :‬أجل لقد عدت بالخيبة فلجأت إىل هذه األبقار‪ ،‬وأنت تعرف‬
‫ذلك يا زارا‪.‬‬
‫َ‬
‫تعلمت فعرفت أن اإلجادة يف العطاء أصعب من اإلجادة يف‬ ‫فقال زارا‪ :‬وهنا‬
‫األخذ‪ ،‬وأن العطاء فن يتوقف إتقانه عىل إدارة العطف والتحكم يف خطراته‪.‬‬
‫فقال املتسول‪ :‬بخاصة يف هذه األيام التي ثار فيها كل سافل نفور متكرب مباهيًا‬
‫بطبقة الغوغاء التي ينتمي إليها‪ ،‬وما خفي عليك أن الساعة قد دنت لثورة طبقات‬

‫‪308‬‬
‫املستبعدين وهي ثورة سيطول أمدها ومداها‪.‬‬
‫إن الصغار يتمردون عىل كل ما هو إحسان وتصدق‪ ،‬فلينتبه أرباب الثراء‬
‫وليحذروا‪.‬‬
‫الويل لكل وعاء متضخم ال يترسب ما فيه إال قطرة فقطرة من فوهته الضيقة‪،‬‬
‫فإن أعناق هذه اآلنية معرضة للكرس يف هذه األزمان‪ ،‬وقد اصطدمت بالحسد‬
‫الفاحش والشهوة الغاضبة والظمأ الدافع إىل االنتقام وبكل ما يف الغوغاء من‬
‫غرور‪ ،‬لقد كذب من قال‪ :‬إن السعادة سائدة بني الفقراء من الناس‪ ،‬فما يتمتع‬
‫غري األبقار بملكوت السماء‪.‬‬
‫وسأل زارا‪ :‬وملاذا ال يتمتع األغنياء بامللكوت‪.‬‬
‫ُ‬
‫فزعت إىل‬ ‫فأجاب املتسول‪ :‬ملاذا تجربني يا هذا وأنت أدرى باألمر مني‪ ،‬وهل‬
‫كرها ألغنيائنا؟ وهم أرسى أموالهم وعبيدها وهم ذوو العيون الباردة‬ ‫الفقراء إال ً‬
‫والقلوب التي تقرضها شهوة اإلثراء فتوحي إليهم بكل وسيلة يستغلون بها أية‬
‫كومة من كوم األقذار‪ ،‬أفما هربت من هؤالء الناس وسفالتهم الصارخة بوجه‬
‫السماء‪ ،‬كما هربت من الطبقة َّ‬
‫املوشاة بالذهب واملزوَّرة تزوي ًرا املتحدِّرة من جدود‬
‫كانت أصابعهم مخالب من حديد فعاشوا عقبانًا أو جامعي خرق‪ ،‬من الطبقة‬
‫فاحشات سائبات ال فرق بينهن‬‫ٍ‬ ‫التي ماتت النخوة يف رجالها فرسحت نساؤها‬
‫وبني البائحات يف املواخري‪.‬‬
‫لقد رأيت الغوغاء يف الطبقة العليا كما رأيتها يف الطبقة الدنيا‪ ،‬فال فرق بني‬
‫األغنياء والفقراء يف هذا الزمان؛ لذلك هربت وأمعنت يف الهرب حتى أدَّى بي‬
‫املطاف إىل هذه األبقار‪.‬‬
‫هكذا تكلم رسول السالم والعَ َرق يتصبب منه الندفاعه بتيار خطابه‪ ،‬فوجمت‬
‫األبقار مضطربة‪ ،‬غري أن زارا كان ال يزال يحدق باملتسول وهو يبتسم حتى إذا‬
‫َ‬
‫أجهدت نفسك بعنف خطابك فما لفمك أن يتفوَّه‬ ‫وقف عن الكالم قال له‪ :‬لقد‬

‫‪309‬‬
‫بهذه الكلمات الجافية وما ألذنيك أن تسمعاها‪ ،‬وما أرى معدتك نفسها قادرة‬
‫عىل هضمها وتحمُّ ل مثل هذا الغضب املتدفق‪ ،‬فمعدتك بحاجة إىل غذاء أخف وما‬
‫أنت بالرجل الرشه‪ ،‬ولعلك من أكلة األعشاب والبقول تحب مضغ الحبوب ولعق‬
‫العسل‪.‬‬
‫فقال املتسول‪ :‬لقد أصبت فأنا أحب العسل وأمضغ الحبوب فأفتش عىل ما لذَّ‬
‫طعمه وطابت نكهته‪ ،‬وما يساعد بمضغه عىل إمرار الزمان شأن الكساىل وليس‬
‫أمهر يف االجرتار من األبقار فهي التي اخرتعته كما اخرتعت التمدد تحت شعاع‬
‫الشمس فتخلصت من كل تفكري جدي عميق مضخم للقلب‪.‬‬
‫فقال زارا‪ :‬إذن عليك أن تشاهد نرسي وأفعواني فليس لهما عىل األرض نظري‪،‬‬
‫ً‬
‫ضيفا عيل َّ هذا املساء لتتحدث مع‬ ‫تلك هي الطريق املؤدية إىل مغارتي فانزل فيها‬
‫النرس واألفعواني عن سعادة الحيوانات‪ ،‬وهنالك تنتظرني إىل أن أعود ألن صوتًا‬
‫استنجدني من بعيد وأنا ذاهب إىل مصدره‪ ،‬ولسوف تجد يف املغارة ً‬
‫عسل جديدًا‬
‫أُخذ من القفران الذهبية وهو بارد كالثلج فلك أن تأكله‪.‬‬
‫استأذن أبقارك االنرصاف أيها الرجل الغريب‪ ،‬فإنها خري من أخلص لك‬
‫وأصدق من ع َّلمك الحكمة‪.‬‬
‫فقال املتسول‪ :‬ما هي أخلص وأصدق منك يا زارا‪ ،‬فأنت بطيبة قلبك خري من‬
‫األبقار‪.‬‬
‫ً‬
‫سحقا أيها املداهن! ملاذا تقصد إفسادي بمعسول القول والثناء؟‬ ‫فقال زارا‪:‬‬
‫اذهب بعيدًا عني‪.‬‬
‫ورفع زارا عصاه غاضبًا فأرسع املتسول بالهرب‪.‬‬
‫الظل‬
‫وما توارى املتسول وشعر زارا بانفراده‪ ،‬حتى سمع صوتًا آخر يهتف به من‬

‫‪310‬‬
‫ورائه ً‬
‫قائل له‪ :‬توقف وانتظرني‪ ،‬أنا ِظلك يا زارا‪.‬‬
‫ولكن زارا لم يصخ سمعً ا وقد أزعجه أن تكون جباله آهلة بمثل هذا العدد‬
‫من الناس‪ ،‬وتساءل عما آلت إليه عزلته فقال‪ :‬إن مملكتي ليست من هذا العالم‬
‫ً‬
‫مفتشا عىل جبال جديدة‪.‬‬ ‫فألذهبن‬
‫ها إن ظيل يدعوني‪ ،‬ولكن ما يهمني هذا الخيال وعليه هو أن يتبعني‪ ،‬أما أنا‬
‫فأهرب منه‪.‬‬
‫ومىش زارا فإذا به يرى املتسول يركض أمامه وظله يجد يف السري من ورائه‪،‬‬
‫غري أن زارا أدرك أن الجنون كاد يستويل عليه‪ ،‬فوقف فجأة ينفض عن نفسه ما‬
‫علق بها من كيد واحتقار‪ ،‬وهو يقول‪ :‬أفما يتعرض أمثايل القديسون الشيوخ إىل‬
‫أغرب الحادثات؟‬
‫والحق أن جنوني قد تزايد يف هذه الجبال‪ ،‬وها أنذا أسمع قرقعة ستة أقدام‬
‫حكمها الجنون‪.‬‬
‫ال حق لزارا أن يخاف من خيال فيسطو عليه الوهم حتى يرى رجيل خياله‬
‫أطول من رجليه‪.‬‬
‫ووقف بغتة والتفت إىل ورائه‪ ،‬فإذا بظله يصطدم به فيكاد يسقط إىل األرض‪،‬‬
‫وتف َّرس يف هذا الخيال فساده الرعب كأنه يرى شبحً ا من وراء القبور ملا رأى من‬
‫هزاله وهرمه‪ ،‬ورصخ ً‬
‫قائل‪ :‬من أنت؟ وملاذا تدَّعي أنك ظيل‪ ،‬ومنظرك ال يروقني؟‬
‫فأجاب الظل‪ :‬اعذرني إذا أرصرت عىل ما أدعي‪ ،‬وإذا كان حايل ال يروق لك‪،‬‬
‫فإنني أهنئك عىل حسن ذوقك‪ ،‬ما أنا إال جوَّابة آفاق أقتفي خطواتك منذ زمن بعيد‬
‫فأذهب عىل طريق ال تنتهي عند حدٍّ‪ ،‬وال مسكن يل فكأنني اليهودي التائه إىل األبد‬
‫بالرغم من أنني لست يهوديًّا وال خالدًا‪.‬‬
‫ملاذا قيض عيل َّ أن أبقى دائمً ا عىل سفر دون قرار فتحملني عواصف جميع‬

‫‪311‬‬
‫ُ‬
‫تعبت من ذرع هذه الكرة األرضية التي ال أول لها وال آخر‪.‬‬ ‫األرياح‪ ،‬حتى‬
‫ليس من سطح لم أنطرح عليه كالغبار املتهاوي بعد ثورته عىل املرايا وزجاج‬
‫النوافذ‪ ،‬وكل يشء أملسه يختلس مني‪ ،‬وال آخذ منه شيئًا فها أنذا ناحل وأكاد أكون‬
‫هباء‪.‬‬
‫رست وراءه ولم يرني‪ ،‬خفيت عنك ولكنني كنت‬ ‫ُ‬ ‫أنت يا زارا متبوعي الذي‬
‫ُ‬
‫وحططت قربك رحايل‪ ،‬ثم هببت معك‬ ‫َ‬
‫حططت رحالك مرة إال‬ ‫أصدق ظ ٍّل لك فما‬
‫أجول يف أبعد العوالم وأشدها صقيعً ا كاألشباح يلذ لها أن تنطرح عىل السطوح‬
‫املثقلة بالثلوج‪.‬‬
‫ُ‬
‫اكتسبت‬ ‫ً‬
‫متشوقا إىل كل محظور بعيد وإىل كل رش‪ ،‬فإذا كنت‬ ‫ذهبت يف إثرك‬
‫من الفضائل شيئًا فما اكتسبت إال اقتحامي كل ممنوع‪ ،‬ويف إثرك حطمت كل‬
‫ما كان يعبده القلب‪ ،‬وقلبت كل معالم الحدود ومحوت كل الصور وأنا أتهافت‬
‫عىل أشد الشهوات خط ًرا‪ ،‬والحق أنني ارتكبت هذه الجرائم كلها‪ ،‬ويف إثرك ً‬
‫أيضا‬
‫فقدت ثقتي يف معاني الكلمات ويف الرشائع املقدسة ويف األسماء العظمى‪ ،‬أفما‬
‫يبدل الشيطان اسمه كلما استبدل جلده‪ ،‬وهل األسماء إال جلود‪ ،‬بل لعل الشيطان‬
‫نفسه جل ٌد ليس إال‪.‬‬
‫وكنت أحث نفيس عىل السري فأقول‪« :‬ال حقيقة يف الوجود وكل يشء جائز‪».‬‬
‫فاندفعت أشق برأيس وقلبي أشد املياه صقيعً ا‪ ،‬ولكم خرجت بعدها عاريًا‪ ،‬وقد‬
‫لوح الصقيع جلدي بناره‪.‬‬
‫وياله! ماذا فعلت بالعطف وبالحياء وباإليمان بالصالحني؟ وأين توارى الطهر‬
‫الكاذب الذي كنت أتشح به من قبل‪ ،‬طهر الصالحني يف أكاذيبهم الرشيفة؟‬
‫أترسم خطاك فرجعت الحقيقة إيل َّ لتصفعني عىل‬ ‫َّ‬ ‫ل َكم اتبعت الحقيقة وأنا‬
‫وجهي‪ ،‬وما ملست الحقيقة حني ملستها إال عندما كان يلوح يل أنني أقول الكذب‪.‬‬
‫لقد انجلت أمور كثرية أمامي لذلك لم يعد يل يشء‪ ،‬وكل ما أحببته قد مات‬

‫‪312‬‬
‫فكيف يسعني أن أحب نفيس بعد؟!‬
‫إن ما أريده هو أن أعيش كما أشتهي وإال فخري يل َّأل أعيش‪ ،‬وتلك هي ً‬
‫أيضا‬
‫إرادة أقدس الناس ولكن أنَّى يل أن أجد لذَّة بعد‪ ،‬وقد اضمحلت مقاصدي وأهدايف‬
‫وليس أمامي من ميناء ينطلق إليه رشاعي‪.‬‬
‫ما تهمني الريح املناسبة؟ وهل ملن ال يعرف وجهته أن يراقب مهبَّ الرياح؟!‬
‫لم َ‬
‫يبق يل غري قلب متعب وقح‪ ،‬وإرادة ال قرار لها‪ ،‬وجناح مهيض‪ ،‬وظهر‬
‫تفككت فقراته‪.‬‬
‫لقد فتشت عىل مسكني فأشقتني محاولتي‪ ،‬وأنت تعلم يا زارا‪ ،‬أي شوق أكابده‬
‫من أجله!‬
‫أين هو هذا املقر؟ لقد طلبته فما وجدته‪ ،‬فهو أبدًا يف كل مكان وأبدًا ال مكان‬
‫له‪ ،‬بل هو العبث األبدي‪.‬‬
‫هكذا تكلم الظل فارتسم األىس عىل وجه زارا فقال‪ :‬أنت هو ظيل‪ ،‬وما الذي‬
‫ً‬
‫ثقيل‬ ‫تقتحمه من هينات املخاطر‪ ،‬أيها الروح املطلق املتجول‪ ،‬لقد كان يومك‬
‫ً‬
‫إرهاقا‪.‬‬ ‫عليك فاحذر أن يكون مساؤك أشد‬
‫إن التائهني أمثالك يعثرون عىل سعادتهم أخريًا ولو يف سجن من السجون‪ ،‬أفما‬
‫رأيت كيف يرقص السجناء عىل جرائمهم وقد بلغوا األمان‪.‬‬
‫احذر أن يتسلط عليك إيمان جديد يضيق عليك املجال بأوهامه القاسية؛ ألنك‬
‫منذ اآلن معرض الستهواء كل ضيق شديد‪.‬‬
‫لقد غاب هدفك عنك‪ ،‬فكيف تقدر عىل الذهاب يف حزنك أو بلوغ السلوان وقد‬
‫ضللت طريقك‪ ،‬فيا لك من خيال تائه وفكر رشيد‪ ،‬فإذا ما أردت الراحة يف ملجأ‬
‫هذا املساء‪ ،‬أيها الفراش املنهوك‪ ،‬فاصعد إىل مغارتي‪.‬‬
‫ذلك هو الطريق املرتفع املؤدي إليها‪ ،‬وها أنذا أبتعد عنك؛ ألنني أشعر بيشء‬

‫‪313‬‬
‫كالظل يثقل عيلَّ‪.‬‬
‫ً‬
‫راكضا وحدي ألتبني النور ما حويل‪ ،‬فإىل مغارتي هذا املساء؛ ألننا‬ ‫سأذهب‬
‫سنُحيي ليلة راقصة هناك‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا‪.‬‬

‫‪314‬‬
‫في الظهيرة‬

‫راكضا يف سبيله فلم يصادف عليه أحدًا‪ ،‬فلذَّ له االنفراد بنفسه‬


‫ً‬ ‫وذهب زارا‬
‫واستغرق مفك ًرا ساعات طويلة بما يرسه وإذ تكبدت الشمس السماء مرسلة‬
‫أشعتها عموديًّا عىل رأس زارا رأى أمامه شجرة هرمة تعقدت أغصانها وقد التفت‬
‫جفنة كر ٍم طوقتها من كل ناحية حتى اختفى جزعها‪ ،‬وتدلت من أعاليها‬ ‫ُ‬ ‫عليها‬
‫العناقيد صفراء ناضجة فأهاب الظمأ به ليمد يده ويقتطف عنقودًا يطفئ أواره‪،‬‬
‫ولكنه أحس بحافز آخر يدعوه إىل التمدد تحت ظل الدالية طلبًا للراحة والنوم‪،‬‬
‫فانطرح عىل العشب وما عتم حتى نيس ظمأه فاستسلم للوسن ولكن عينيه بقيتا‬
‫مفتوحتني تحدقان بجفنة الكرم والشجرة وقد شاقه عشقهما‪ ،‬فقال يف نفسه‪:‬‬
‫سكوتًا … لعل العالم قد أُكمل اآلن فإنني أشعر بما ال عهد يل به من قبل‪.‬‬
‫أحس بالوسن يهب عيل َّ كنسمات تخطر عىل مويجات البحر الالمعة‪ ،‬فهو‬
‫ال يغمض أجفاني بل يرتك لروحي انتباهتها‪ ،‬ولكنه يتوغل فيها فكأنها تتمدد‬
‫وتتسع مجاالتها وقد أضناها التعب فهل حان مسا ُء يومها السابع يف وسط‬
‫النهار؟‬
‫إن روحي الغريبة تنطرح ممددة بطولها فكأنها بعد أن ذاقت ألذ األشياء ال‬
‫يحلو لها األىس بع ُد فهي تبدي امتعاضها‪.‬‬
‫وها هي تلتصق بالرتاب كقارب دخل فرضته متعبًا من أسفاره عىل البحار‬
‫املجهولة‪ ،‬أفليست اليابسة أصدق من غادرات البحار؟‬
‫إنها تستغني عن حبل يشدها إىل مرساها فخيط عنكبة يكفيها ليصلقها برتابها‪.‬‬
‫ها أنذا كالقارب يف فرضته أرتاح عىل الرتاب األمني مشدودًا إليه‪ ،‬بأوهى الخيوط‪.‬‬

‫‪315‬‬
‫يا لسعادتي! عال َم ال ترفعني صوتك باإلنشاد يا نفيس وأنت منطرحة عىل‬
‫العشب يف الساعة التي ال يعزف فيها راع عىل شبَّابته؟‬
‫ال … ال تنشدي! إن حر الظهرية يرتاح عىل املروج فاحفظي الصمت يا نفيس؛‬
‫ألن العالم قد أُكمل‪.‬‬
‫ال … ال تنشدي! إن عصافري املروج نفسها صامتة ال تزقزق‪ ،‬انظري! هذه‬
‫الظهرية الهرمة راقدة تحرك شفيتها‪ ،‬أتراها ترتشف قطرة من السعادة؟ قطرة‬
‫معتقة من الخمر الذهبي تحمل السعادة إىل هذه الظهرية فتبتسم! سكوتًا‪ ،‬إنها‬
‫البتسامة اآللهة‪.‬‬
‫كنت أعتقد من قبل وأنا أحسبني حكيمً ا أن السعادة تنشأ من أقل األسباب‪،‬‬
‫ولكن الزمان علمني أنني كنت مجد ًِّفا وأن مجانني الحكماء ال يرتكبون مثل هذا‬
‫الخطأ‪.‬‬
‫لقد عرفت اآلن أن عىل األقل من القليل يتوقف خري الشعور بالسعادة؛ ألنها‬
‫تقوم عىل ألطف األشياء وأعمقها صمتًا‪ ،‬عىل حركة حرباء بني األعشاب‪ ،‬عىل لفحة‬
‫نسيم‪ ،‬عىل لحظة سكوت‪ ،‬عىل طرفة عني‪.‬‬
‫ماذا جرى يل؟ تنصتي يا نفيس؛ هل توارى الزمان؟ أتراني أهوي ساق ً‬
‫طا يف‬
‫غور األبد‪.‬‬
‫أحس بطعنة يف صميم قلبي‪ :‬فانحطم أيها القلب‪ ،‬خري لك أن تقف عن نبضاتك‬
‫بعد أن شعرت بهذه السعادة وبعد أن نزلت الطعنة النجالء عليك‪.‬‬
‫يا للعجب ألم يكتمل العالم اآلن أفما أت َّم استدارته ونضوجه؟ إىل أين تطري هذه‬
‫األكرة املذهبة؟ وهل أنا ذاهب وراءها؟‬
‫سكوتًا …!‬
‫وعندها أحس زارا بأنه نائم فتثاءب وشدت به عضالته‪ ،‬فقال يف نفسه‪ :‬انهض‬

‫‪316‬‬
‫أيها الكسالن النوَّام! ٍّ‬
‫أف لكما أيها الساقان الهرمان‪ ،‬لقد دهمنا الوقت وأمامكما‬
‫شقة طويلة بعد‪.‬‬
‫لقد نمت مدة تبلغ نصف األبد يا هذا فانهض‪ ،‬انهض أيها القلب الشيخ‪ ،‬فلقد‬
‫تحتاج إىل زمن طويل لتعود إىل انتباهك بعد هذه الرقدة‪.‬‬
‫وتسلط النعاس عىل زارا ثانيًا فانطرحت روحه بالرغم منه تطلب الراحة قائلة‪:‬‬
‫اسكت ودعني أفما أُكمل العالم! يا لجمال هذه الكرة املذهبة‪.‬‬
‫وصاح زارا بروحه‪ :‬انهيض أيتها الكسولة‪ ،‬أيتها املختلسة‪ ،‬ما لك تتثاءبني‬
‫وتزفرين وتتهاوين إىل األغوار‪.‬‬
‫مَ ن أنت أيتها الروح؟‬
‫وانتفض زارا مذعو ًرا؛ إذ وقعت أشعة من الشمس عىل وجهه‪.‬‬
‫وصاح‪ :‬أيتها السماء املنبسطة فوقي‪ ،‬إنك تنظرين إيل َّ وتصغني إىل روحي‬
‫الغريبة‪.‬‬
‫أي متى تترشَّبني قطرة الندى التي تساقطت عىل كل يشء يف هذا الوجود؟ أي‬
‫متى تترشبني هذه الروح الغريبة؟‬
‫أيتها األغوار األبدية‪ ،‬أيها القاع امليلء ً‬
‫جزل‪ ،‬أيتها الظهرية التي يرتعش لها كل‬
‫يشء‪ ،‬أما آن لك أن تترشبي روحي فتندغم فيك؟‬
‫هكذا تكلم زارا ونهض من مرقده تحت الشجرة كأنه يفيق من سكره‪ ،‬فإذا‬
‫بالشمس ال تزال يف كبد السماء فعرف أنه لم ينم إال زمنًا قصريًا‪.‬‬

‫‪317‬‬
‫السالم‬

‫وكان العرص قد خطا خطوة كربى نحو املساء عندما بلغ زارا مغارته بعد طول‬
‫املسري‪ ،‬وبعد أن ذهب جهده يف التفتيش عىل املستنجد عبثًا‪.‬‬
‫ولكنه ما أصبح عىل قاب عرشين قدمً ا من مسكنه حتى وقف مذعو ًرا؛ إذ سمع‬
‫صوت االستنجاد يدوي يف أذنيه وازدادت دهشته؛ إذ تأكد أن الصوت خارج من‬
‫مغارته نفسها‪ ،‬غري أن الهتاف كان يصل إليه كأنه هتافات عديدة يدفعها فم‬
‫واحد‪.‬‬
‫وأرسع زارا فولج مغارته فإذا هو ماثل أمام جميع من التقاهم يف طريقه‪ :‬ملك‬
‫ظل وضمري‬ ‫امليمنة وملك امليرسة والساحر الشيخ ورئيس األحبار واملتسول وال ِّ‬
‫العقل والعراف الحزين والحمار‪.‬‬
‫ًّ‬
‫وملتفا بدثارين من القرمز؛ ألن هذا‬ ‫وكان أقبح العاملني واضعً ا تاجً ا عىل رأسه‬
‫الرجل كان يحب أن يتنكر ويتجمل ككل قبيح‪.‬‬
‫وكان نرس زارا منتصبًا بني هذا الجمع‪ ،‬وقد انتفش ريشه والح االضطراب عليه‬
‫الضطراره إىل إبداء الجواب عىل مسائل تنال من غروره وكان األفعوان ًّ‬
‫ملتفا حول‬
‫عنقه‪.‬‬
‫ودهش زارا مما رأى وذهب نظره يتفرس يف كل وجه من وجوه ضيوفه ويطالع‬
‫صفحات نفوسهم‪ ،‬وكان هؤالء الضيوف وقفوا عن مقاعدهم وكل منهم ينتظر‬
‫بخشوع خطاب زارا‪.‬‬
‫وبعد صمت قصري قال زارا‪ :‬ما كان صوت االستنجاد إال صوتكم إذن … فأنا‬
‫أعلم اآلن أين يجب أن أفتش عىل اإلنسان الراقي‪.‬‬

‫‪318‬‬
‫إنه جالس يف مغارتي هذا اإلنسان‪ ،‬وما أعجب لهذا ألنني أنا دعوته‪ ،‬وأهبت به‬
‫للحضور وقد وعدته بالعسل والسعادة‪ ،‬ويلوح يل أنكم ال تتصلون إىل االتفاق‬
‫فيما بينكم‪ ،‬فكل منكم يسبب الكدر لرفاقه وأنتم مجتمعون هنا يف حني أنكم‬
‫تستنجدون بصوت واحد فأنتم بحاجة إىل من يعيد ضحككم إليكم‪ ،‬إىل رجل مرح‬
‫رقاص استوىل عليه الجنون‪.‬‬
‫اغتفروا يل هذه اللهجة التي ال تليق بضيوف مثلكم يستسلمون لليأس‪ ،‬ولكنكم‬
‫ال تعلمون ما يشدد العزم يف قلبي‪ ،‬إن مشهد اليائسني يدفع بكل إنسان إىل‬
‫محاولة مواساتهم وتعزيتهم وهذا ما أشعر به اآلن‪ ،‬وأنا مدين لكم بهذا الشعور؛‬
‫لذلك أقدم لكم ما أملك‪ ،‬فانزلوا عىل الرحب يف مغارتي هذا املساء وليقم نرسي‬
‫وأفعواني بخدمتكم‪.‬‬
‫ولكن عليكم أن تردوا عنكم كل يأس فأنتم يف منزيل حيث يسود االطمئنان‬
‫والسالم‪.‬‬
‫فأنا إذن أقدم لكم األمان ً‬
‫أول‪ ،‬ثم أقدم لكم خنرص يدي؛ ألنكم إذا ما قبضتم‬
‫ً‬
‫وسهل بكم‪.‬‬ ‫عليه تقبضون عىل ساعدي‪ ،‬فأنا ال أتردد يف تقديم قلبي لكم‪ً ،‬‬
‫فأهل‬
‫هكذا تكلم زارا وهو يضحك ضحكة الحب والرش‪ ،‬فانحنى الضيوف يردون‬
‫السالم بإجالل واحرتام وتكلم ملك امليمنة باسم الجميع ً‬
‫قائل‪ :‬لقد عرفنا أنك أنت‬
‫زارا من طريقة تقديم يدك‪ ،‬وإهداء سالمك لقد تواضعت أمامنا حتى كدت تُخجل‬
‫حرمتنا لك‪ ،‬وما سواك من يعرف التواضع فيقف منه عند حد العزة‪ ،‬فقد أتيتنا‬
‫بقدوة تُصلح من أخالقنا فتسدد نظرنا وتشدد قلبنا‪.‬‬
‫جبال أعىل من هذا الجبل؛ إذ كان من اعتالئنا ما يبسط‬
‫ٍ‬ ‫إننا لن نرتدد يف تسلق‬
‫أمامنا مشاهد تقشع الغشاء عن العيون وتجعل برصها حديدًا‪.‬‬
‫لقد انقطعنا اآلن عن الرصاخ يف طلب النجدة؛ ألن قلوبنا قد تفتحت وامتألت‬
‫حبو ًرا ونكاد نستعيد قوانا وشجاعتنا‪.‬‬

‫‪319‬‬
‫أي زارا‪ ،‬ليس يف األرض يشء أدعى إىل الرسور كاإلرادة القوية السامية‪ ،‬فهي‬
‫أرشف ما ينبت الرتاب‪ ،‬فإذا ما نمت دوحة واحدة من هذا النبات رست القوة يف‬
‫كل ما حولها من حدائق ومروج‪.‬‬
‫إن من يعلو مثلك يا زارا لشبيه بشجرة الصنوبر ترتفع صامتة فريدة صلبة‬
‫العود وتمد فروعها القوية الخرضاء كأنها تريد اللحاق بما تنرش من سيادة‪،‬‬
‫وكأنها تستنطق الرياح والعواصف وكل ما يبدو عىل الذرى العاليات‪ ،‬وإذا ما‬
‫أرسلت جوابًا أرسلته بنربة عالية ظافرة آمرة‪.‬‬
‫من يرتدد يف تسلق الذروة ليشاهد مثل هذه الدوحة؟ إن كل من يسوده األىس‬
‫القاتم يطرح عنه االستسالم إليه إذا هو نظر إىل دوحتك يا زارا‪ ،‬ويف النظر إليك‬
‫طمأنينة من ال قرار له وشفاء القلوب الحائرة‪.‬‬
‫والحق أن عيونًا كثرية تتجه اليوم نحو جبلك ودوحتك‪ ،‬وقد تنبهت األشواق‬
‫إليك وقد تساءل الكثريون عن حقيقة زارا‪ ،‬وجميع من وصلت معسوالت أناشيدك‬
‫إىل آذانهم‪ ،‬جميع املنفردين أفرادًا وأزواجً ا يقولون‪ :‬أترى لم يزل زارا يف الحياة؟‬
‫إذا نحن لم نعش معه كانت الحياة باطلة ال خري فيها‪ ،‬ملاذا ال يجيء إلينا بعد أن‬
‫طويل‪ ،‬أذَ َهب فريسة عزلته‪ ،‬أم علينا أن نسعى نحن إليه‪.‬‬‫ً‬ ‫أعلن قدومه‬
‫إن العزلة نفسها قد تراخت وتفككت يف هذا الزمان فكأنها قرب ينشق عمن ثوى‬
‫فيه‪ ،‬ففي كل بقعة بعث ونشور‪.‬‬
‫وها إن األمواج تتعاىل حول الجبل وبالرغم من ارتفاع ذروتك لقد حق عىل‬
‫الكثريين أن يرقوا إليك‪ ،‬وقد حان الزمن إلطالق سفينتك من مأواها‪.‬‬
‫إذا كنت ترانا اآلن أمامك نحن من حكمنا اليأس فتغلبنا عليه اآلن‪ ،‬فما ذلك‬
‫إال دليل عىل أن من هم خري منا قد خرجوا إىل طريقهم متجهني إليك‪ ،‬إن البقية‬
‫أيضا وهم مَ ن تناهى فيهم الشوق‬‫األخرية من أتباع الله بني الناس يسريون إليك ً‬
‫والكره والتخمة من الدنيا‪ ،‬هم من ال يريدون الحياة إال إذا أعطي لهم أن يتدربوا‬

‫‪320‬‬
‫عىل األمل‪ ،‬إال إذا تعلموا منك األمل األعظم يا زارا‪.‬‬
‫هكذا تكلم ملك امليمنة وقد قبض عىل راحة زارا قاصدًا تقبيلها‪ ،‬ولكن زارا‬
‫تراجع عنه‪ ،‬وابتعد عن الجميع يف صمته العميق‪ ،‬ثم عاد إليهم يحدجهم بلفتاته‬
‫الخارقة لرسائرهم فقال‪ :‬أيها الرجال الراقون‪ ،‬أيها الضيوف‪ ،‬أصغوا إيل َّ إنني‬
‫سأخاطبكم باألملانية وبكل رصاحة فأقول لكم‪ :‬إن من أنتظر قدومه إىل هذه‬
‫الجبال ليس أنتم‪.‬‬
‫فقال ملك امليرسة‪ :‬إنه سيخاطبنا باألملانية وبرصاحة … أفال يتضح أن هذا‬
‫الحكيم الرشقي ال يعرف من هم األملان‪ ،‬وكان األجدر به أن يقول سأخاطبكم‬
‫باألملانية الخشنة‪ ،‬وما هي بأقبح ما يف هذا الزمان‪.‬‬
‫ً‬
‫رجال راقني أما أنا فال أراكم بلغتم ما‬ ‫فأردف زارا ً‬
‫قائل‪ :‬لقد تكونون جميعكم‬
‫يستلزمه التفوق من العظمة والقوة‪ ،‬هكذا أنتم يف تقديري أو بالحري يف تقدير‬
‫اإلرادة الصارمة الكامنة يف نفيس وهي صامتة اآلن ولكنها لن تسكت أبدًا‪ .‬لقد‬
‫تكونون من أتباعي ولكنكم لستم مني يف مقام ساعدي األيمن؛ ألن من يميش عىل‬
‫أرجل مريضة كأرجلكم يحتاج إىل عناية ومداراة سواء أعرف نفسه أم خفيت‬
‫حاله عليه‪ ،‬وأنا ال أُداري ساعديَّ وال رجيل َّ وال أداري املجاهدين تحت إمرتي‪،‬‬
‫فكيف تقتحمون ما أصيل من معارك؟!‬
‫إذا أنا اعتمدت عليكم ع َّرضت للفشل انتصاري؛ ألن أكثركم ينطرح رصيعً ا ألول‬
‫قرعة تهدر بها طبويل‪.‬‬
‫ما أنتم من البهاء عىل ما أرجو‪ ،‬وال من الن َّ َسب عىل ما أطلب‪ ،‬وأنا أطلب املرايا‬
‫الصافية ألعكس عليها تعاليمي‪ ،‬فإذا ما انعكست صورتي عىل مراياكم جلتها‬
‫مشوَّهة للناظرين‪.‬‬
‫إن كواهلكم مثقلة بعديد األحمال وبخياالت الزمان املنرصم‪ ،‬ويف خباياكم رشور‬
‫كثرية ففيكم من الغوغاء خصا ٌل مسترتة‪ ،‬فأنتم وإن صلحتم وحسن أصلكم ال‬

‫‪321‬‬
‫تزال فيكم عيوب عديدة وأمهر حدَّاد ال يسعه تقويم اعوجاجكم‪.‬‬
‫ما أنتم إال جسور يعرب عليها من هم خري منكم‪ ،‬ما أنتم إال مدارج يرقاها املتجه‬
‫إىل االعتالء فوق ذاته‪ ،‬وعليكم أن تلينوا له ظهوركم‪ ،‬لقد يولد منكم يومً ا من‬
‫يصبح وارثًا يل‪ ،‬ولكن هذا اليوم ال يزال بعيدًا يف مجال الزمان‪ ،‬أما أنتم فما لكم‬
‫أن تحملوا اسمي وال أن ترثوا خرياتي يف هذه الحياة‪.‬‬
‫لستم أنتم من أنتظر هنا يف هذه الجبال‪ ،‬لستم أنتم من سأستصحب عندما‬
‫أهبط بني الناس للمرة األخرية‪ ،‬فما أنتم إال طليعة القادمني إيل َّ وهم أعظم منكم؛‬
‫ألنهم من غري من تناهى فيهم الشوق والكره والتخمة من الدنيا ومن غري الفئة‬
‫التي تدعونها البقية األخرية من أتباع الله عىل األرض‪.‬‬
‫ال … وألف ال … إنني أنتظر سواكم هنا عىل جبايل العالية‪ ،‬ولن أتحرك للخروج‬
‫إىل العالم قبل أن يصلوا إيل َّ‪ ،‬فهم أرفع منكم وأقوى‪ ،‬هم رجال املرح األصحاء من‬
‫رأسهم إىل أخمص أقدامهم‪ ،‬وال بد أن يأتي إيل َّ هؤالء األسود الضاحكون‪.‬‬
‫أفما بلغكم أيها الضيوف خرب أبنائي وهم قد خرجوا عىل طريقهم يقصدون‬
‫مقري؟‬
‫حدثوني عن حدائقي وجزري السعيدة‪ ،‬حدثوني عن نوعي الجديد‪ ،‬ملاذا ال‬
‫تحدثونني عن كل هذا؟‬
‫أستحلفكم بحق ضيافتي لكم أن تذكروا يل أبنائي‪ ،‬فما جمعت الثروة إال لهم‪،‬‬
‫وما تحملت للفقر إال من أجلهم فامتنعت عن العطاء‪.‬‬
‫إنني أفدي بكل يشء هؤالء األبناء وهم النبت الحي‪ ،‬أدواح الحياة املجسمة ألعز‬
‫آمايل‪.‬‬
‫وتوقف زارا فجأة عن الكالم لتغلب شوقه عليه فأغمض عينيه‪ ،‬وأطبق فمه‬
‫متنصتًا لخفقان فؤاده‪.‬‬

‫‪322‬‬
‫وساد الصمت جميع من يف الغار غري أن الع َّراف الشيخ أخذ يرسم بيديه‬
‫إشارات غريبة‪.‬‬

‫‪323‬‬
‫العشاء السري‬

‫قائل‪ :‬ولكن … أفما أنت‬‫وتقدم الع َّراف كمن عيل صربه وقبض عىل يد زارا ً‬
‫القائل‪ :‬إن بعض األمور مقدم عىل بعض‪ ،‬أفما دعوتني إىل تناول الطعام وهنا من‬
‫قطعوا شو ً‬
‫طا بعيدًا للوصول إليك‪ ،‬فهل ترى أن تشبعنا كالمً ا؟‬
‫ً‬
‫واختناقا‪ ،‬ولكن لم يذكر أحد منكم‬ ‫ً‬
‫وغرقا‬ ‫لقد تحدثتم كثريًا عن املوت بردًا‬
‫بليَّتي أنا وهي الخوف من املوت جوعً ا‪.‬‬
‫وما سمع النرس واألفعوان هذا الكالم حتى سادهما الرعب فهربا؛ إذ تأكدا أن‬
‫كل ما جمعاه منذ الصباح حتى املساء لن يكفي إلشباع العراف وحده‪.‬‬
‫ً‬
‫عطشا‪ ،‬أما أنا‬ ‫وأردف العراف ً‬
‫قائل‪ :‬ولم يذكر أحد منكم الخوف من املوت‬
‫فبالرغم من أنني سمعت تدفق الفصاحة كالنهر فإنني ال أرتوي منها بل أطلب‬
‫ً‬
‫ارتجال ويقيض عىل املرض بالشفاء‬ ‫خم ًرا؛ ألن الخمر وحده يرتجل الصحة‬
‫العاجل‪.‬‬
‫وبينما كان العراف ذاهبًا يف كالمه يطلب خم ًرا كان ملك امليرسة يقول‪ :‬لقد‬
‫تداركت الخمر فأحرضنا منه ً‬
‫حمل ولكن الخبز ينقصنا‪.‬‬
‫فضحك زارا وقال‪ :‬إن املنفردين ال خبز لديهم‪ ،‬ولكن ليس بالخبز وحده يحيا‬
‫اإلنسان بل بلحم الخراف ً‬
‫أيضا ولديَّ خروفان‪ ،‬فليُذبحا وليعدَّا ليعطرا فإنني‬
‫أيضا أعشاب وأثمار تكفي أهل الرشاهة‪ ،‬وأهل‬ ‫أحب لحم الخروف معط ًرا‪ ،‬ولدي ً‬
‫الذوق وعندي من الجوز وسائر ا ُملغلقات ما يشغلنا كرسه وكشف خفاياه‪.‬‬
‫سنجلس عما قليل لنتناول خري غذاء‪ ،‬ولكن عىل الجميع أن يمدوا سواعدهم‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫ً‬
‫طباخا ً‬ ‫للعمل وليشتغل امللكان كاآلخرين؛ ألن زارا وهو ملك يمكنه أن يكون‬

‫‪324‬‬
‫وفرح الجميع بهذا االقرتاح ما عدا املتسول املتطوع الذي كان يأنف من اللحوم‬
‫والخمور والتوابل‪ ،‬فقال‪ :‬اسمعوا ما يقول زارا يف رشاهته! فهل يتسلق اإلنسان‬
‫الجبال ليتنعم بوليمة؟ وإنني ألفهم اآلن ما كان يقصد بتعليمه؛ إذ قال‪ :‬ليكن‬
‫الفقر مبار ًكا‪ ،‬وأدرك ملاذا يريد إفناء املتسولني‪.‬‬
‫فقال زارا‪ :‬كن مرحً ا مثيل يا هذا واحتفظ بما تعودته امضغ حبوبك وارشب‬
‫ماءك وامتدح طبخك إذا كان هذا يورثك الحبور‪ ،‬فما أنا أمثل الرشيعة َّإل ألتباعي‬
‫ولست رشيعة للناس أجمعني‪ ،‬ولكن من أراد أن يتبعني فعليه أن تقسو‬ ‫ُ‬ ‫ويل‪،‬‬
‫طرح عنه الهموم ويبقى‬ ‫عظامه وتخف رجاله‪ ،‬عليه أن يكون فرحً ا يف الوالئم في َّ‬
‫مستعدًا القتحام الصعاب قويًّا صحيحً ا‪.‬‬
‫إن خري ما يف األرض يل وألتباعي وإذا مُنع عنا أخذناه عنوة واقتدا ًرا‪ ،‬لنا ألذُّ غذاء‬
‫وأنقى سماء وأقوى األفكار وأجمل النساء‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا‪ ،‬ولكن ملك امليمنة أجابه ً‬
‫قائل‪ :‬أليس من الغريب أن يقول حكيم‬
‫بمثل هذا القول الصواب؟! والحق ملن الغرابة بمكان أن يجمع الحكيم بني األمرين‬
‫وال يكون حما ًرا‪.‬‬
‫هذا ما قاله ملك امليمنة وهو يبدي دهشته فأمَّ ن الحمار عىل قوله بالنهيق‪،‬‬
‫وهكذا بدأت هذه الوليمة الطويلة التي دعيت بالعشاء الرسي يف كتب التاريخ‪ ،‬وما‬
‫ٌ‬
‫حديث أثناء هذا العشاء إال عىل اإلنسان الراقي‪.‬‬ ‫دار‬
‫اإلنسان الراقي‬
‫‪1‬‬
‫َ‬
‫الجنون األعظم الذي يرتكبه املنعزلون‪،‬‬ ‫ُ‬
‫جئت إىل الناس ألول مرة أتيت‬ ‫عندما‬
‫فوقفت عىل الساحة العمومية‪ ،‬ووجهت الخطاب إىل الكل فكأنني ما كلمت أحدًا‪،‬‬
‫ٍ‬
‫أموات‪ ،‬بل كنت أنا نفيس جثة باردة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وجثث‬ ‫غري أنني أمسيت ورفاقي حبا ٌل‬

‫‪325‬‬
‫ٌ‬
‫حقيقة جديدة علمتني أن‬ ‫ولكن عندما انبثق الصبح الجديد تب َّلجت لعيني‬
‫أقول‪« :‬ما يل وللساحة العمومية ولعامة الناس ولضجتهم وآذانهم الطويلة!»‬
‫أيها الرجال الراقون‪ ،‬تعلموا مني قويل‪ :‬ال يؤمن أحد يف الساحة العمومية‬
‫باإلنسان الراقي‪ ،‬وإذا شئتم أن تتكلموا عىل هذه الساحة كما تشتهون فإن العامة‬
‫تتغامز قائلة‪« :‬إننا جميعنا متساوون‪».‬‬
‫أيها الرجال الراقون‪ ،‬إن طبقة الشعب تنكر اإلنسان الراقي فهي ترى الناس‬
‫عىل اختالف طبقاتهم إنسانًا واحدًا أمام الله‪.‬‬
‫أما املساواة أمام الله فما لنا ولها ما دام هذا اإلله قد مات! ولكن العامة كائنة‬
‫ونحن نأبى املساواة أمامها‪ ،‬فأعرضوا عن العامة أيها الرجال الراقون‪ ،‬وابتعدوا‬
‫عن ساحاتها‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫أمام الله! … ولكن الله قد مات يف هذا الزمان أيها الرجال الراقون‪ ،‬وقد كان‬
‫عليكم الخطر األعظم‪ ،‬ولوال اندراجه يف لحده ملا كنتم أنتم تبعثون‪.‬‬
‫يف هذا الزمان تعود الظهرية إىل ذ ِّر أنوارها‪ ،‬ويصبح اإلنسان املتفوق سيدًا‪.‬‬
‫أفهمتم معنى كلمتي هذه يا إخوتي؟ أراكم ترتعشون فهل أصيب قلبكم‬
‫فاها أمامكم ً‬
‫أيضا؟ أيعوي كلب الجحيم يف إثركم‬ ‫بالدوار؟ وهل فغرت الهاوية ً‬
‫يا ترى؟‬
‫إىل األمام أيها الراقون‪ ،‬لقد آن لطود املستقبل اإلنساني أن يلد‪.‬‬
‫لقد مات الله‪ ،‬ونحن نريد اآلن أن يحيا اإلنسان املتفوق‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫إن أوفر الناس اهتمامً ا يف هذا الزمان يتساءلون عما يحفظ حياة اإلنسان‪ ،‬أما‬

‫‪326‬‬
‫زارا فهمُّ ه أن يعرف كيف يتفوق اإلنسان عىل إنسانيته‪.‬‬
‫إن اإلنسان املتفوق قبلة أنظاري وعواطفي‪ ،‬وما أهتم لإلنسان وال للقريب وال‬
‫للفقري وال للمحزون وال لخيار الناس‪.‬‬
‫أيْ إخوتي‪ ،‬أنا ال أحب من اإلنسان إال كونه مرحلة وجنوحً ا‪ ،‬وفيكم ً‬
‫أيضا أجد‬
‫ٍ‬
‫صفات عديدة تحببكم إيل َّ وتبعث اآلمال يف قلبي‪.‬‬
‫لقد عرفتم االحتقار أيها الراقون‪ ،‬وذلك ما يشدد بكم أميل ألن عظماء املحتقرين‬
‫أيضا عظماء الحرمة والجالل‪.‬‬‫هم ً‬

‫لقد بلوتم اليأس وذلك ما أُك ِّرمه فيكم؛ ألنكم لم تتمرنوا عىل االستسالم وعىل‬
‫دناءة االحتياط‪.‬‬
‫إن زعانف القوم هم سادة هذا الزمان الداعون إىل التجلد والصرب والتواضع‬
‫والتحذر والثبات وإىل ما هنالك من حقريات الفضائل‪.‬‬
‫إنهم ألشباه الرجال يتصفون بصفات النساء واملستخدمني ويقودون الغوغاء‬
‫وأف لهؤالء القوم أشباه‬‫طامحني إىل التسلط عىل مقدرات الدنيا‪ ،‬فيا للكراهة! … ٍّ‬
‫الرجال‪ ،‬فإنهم ال يَنون يتساءلون عما يطيل حياة اإلنسان متلذذًا متنعمً ا‪ ،‬وبهذا‬
‫يسودون هذا الزمان‪.‬‬
‫اعتلوا فوق هؤالء الناس يا إخوتي فإنهم أل ُّد أعداء اإلنسان املتفوق‪.‬‬
‫اعتلوا أيها الراقون فوق صغائر الفضائل واملحاذرات ومراعاة ذ َّرات الرمال‬
‫وأكوام النمل وملذات الذات وطلب السعادة للعدد األوفر بني الناس‪.‬‬
‫وخري لكم أن تتمنعوا بيأسكم من أن تستسلموا‪ ،‬إنني أحبكم ألنكم ال تعرفون‬
‫أن تحيوا يف هذا الزمان‪ ،‬أيها الراقون‪ ،‬وبذلك تتمتعون بأفضل ما يف الحياة‪.‬‬

‫‪327‬‬
‫‪4‬‬
‫أشجعا ٌن أنتم أيها اإلخوة؟ وال أعني تلك الشجاعة التي ال تنجيل يف اإلنسان إال‬
‫أمام شهود‪ ،‬بل شجاعة املنفرد الذي ال يراه أحد‪ :‬شجاعة النسور التي لم يعد لها‬
‫من إله شهيد!‬
‫إن األرواح الجامدة والبغال والعميان والسكارى ال تعرف ما هي قوة القلب وما‬
‫ثَب ُْت الجَ نان إال من عرف الخوف فتغ َّلب عليه ومَ ن سرب أعماق الهاوية‪ ،‬فما نالت‬
‫ٍ‬
‫بروعة واضطراب‪.‬‬ ‫األعماق جَ نانه‬
‫الشجاع من حدَّق يف القاع السحيق بمقلة النرس‪ ،‬ومن قبض عىل األغوار بمخلبه‪،‬‬
‫ذلك هو الشجاع‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫لقد قال الحكماء إن اإلنسان رشي ٌر طلبًا لتعزيتي‪ ،‬ويا ليت هذه الحقيقة تنطبق‬
‫عىل أحوال هذا الزمان‪ ،‬فإن الرش قد أصبح خريَ ما يف اإلنسان من قوة‪ ،‬فعىل املرء‬
‫أيضا‪ ،‬هذا هو تعليمي أنا … فإن أعظم رش إنما‬‫أن يزداد ارتقاء يف خريه ويف رشه ً‬
‫هو أعظم خري لإلنسان املتفوق‪.‬‬
‫إن الدعوة إىل احتمال العذاب وحمل خطايا العالم كانت تليق ببشري الطبقة‬
‫الحقرية بني البرش‪ ،‬أما أنا فإنني أرس بالخطيئة العظمى كأعظم تعزية‪.‬‬
‫عىل أن مثل هذه األقوال ال تُبذل ملن استطالت آذانهم‪ ،‬وما تليق كل الكلمات‬
‫بجميع األفواه‪ ،‬فإن من الحقائق ما تدق عن األفهام العادية فتتوارى وراء األبعاد‪،‬‬
‫وليس ألرجل الخرفان أن ترتاكض ل ِّلحاق بها‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫أيها الراقون‪ ،‬أتعتقدون أنني أتيت ألصلح ما شوهتم بأخطائكم؟ أو ألهتم‬
‫بتهيئة املراقد الوثرية للمتأملني منكم أو ألد َّل التائهني يف الجبل عىل املغاور‬

‫‪328‬‬
‫ليخرجوا من مآذقهم؟‬
‫ال … فليذهب إىل الفناء الخيا ُر يف نوعكم؛ إذ يقتيض أن يتزايد ضيقكم مع كرور‬
‫األيام؛ ألن بهذا الضيق وحده يتعاىل اإلنسان إىل الذرى حتى يبلغ مرامي الصاعقة‬
‫املحرقة القاتلة‪.‬‬
‫أنا ال أتوجه بتفكريي وأشواقي َّإل نحو العديد القليل ونحو الحادثات الدائمة‬
‫البعيدة يف مجال األزمان وما يهمني شقاؤكم وآالمكم الحقرية الزائلة‪.‬‬
‫إنكم ال تزالون مقرصين يف مجال الشقاء‪ ،‬وما بلغت آالمكم ما عليها أن تصل‬
‫إليه؛ ألنكم من أجل ذاتكم تتأملون ال من أجل اإلنسان‪ ،‬وإن ادعيتم بتحملكم هذا‬
‫العذاب فأنتم كاذبون‪ ،‬فليس بينكم واحد تحمل ما تحملت من أوصاب وآالم‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫إنني لن أرىض بتوقف الصاعقة عن إنزال األذى‪ ،‬وال أريد أن تتحول عن مسلكها‬
‫حني تنقض‪ ،‬بل أريد أن تسدد مرماها وتخدم مقاصدي‪.‬‬
‫ً‬
‫طويل‪ ،‬وتكاثفت غمامة يتزايد اربدادها وسكونها ذلك‬ ‫لقد تجمعت حكمتي‬
‫شأن الحكمة التي ُقدر لها أن تقذف بالصاعقة يومً ا من األيام‪.‬‬
‫أنا ال أريد أن أكون نو ًرا ألبناء هذا الزمان‪ ،‬وال أن أُدعى نو ًرا ما بينهم؛ ألنني أريد‬
‫إيراثهم العمى‪ ،‬فلتنزل عىل أعينهم صاعقة حكمتي‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫ال تطلبوا شيئًا يفوت قواكم إدراكه‪ ،‬فمن طلب ما ال طاقة له به فقد كذَّب نفسه؛‬
‫ألنه إذ يطلب العظائم وهو مزور ومقلد تنفر منه العظائم حتى يرى ذاته زائغ‬
‫البرص جمادًا مطليًّا يف فمه كلمات كربى وبني يديه قرقعة ال جدوى لها‪.‬‬
‫كونوا عىل حذر من طالب العظائم أيها الرجال الراقون‪ ،‬فالقناعة خري الكنوز‪.‬‬

‫‪329‬‬
‫أفليست العامة من يسود هذا الزمان؟ وهي مع ذلك ال تميز بني العظيم والحقري‬
‫والطريق السوي واملسلك امللتوي‪ ،‬فالعامة متقلبة كاذبة دون أن تشعر بجريمة‬
‫كذبها‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫تمنعوا بالحزم أيها الراقون‪ ،‬يا رجال الشجاعة وحرية الضمري فهذا الزمان‬
‫زمان العامة‪ ،‬وما تعلمته العامة وقبلت به دون تعليل ال يسعكم هدمه بالربهان‬
‫يف عقيدتهم‪.‬‬
‫إن اإلقناع ال يقوم يف الساحة العامة عىل املعقول بل عىل الحركات والنربات‪ ،‬وال‬
‫يشء يلقي بالنفور يف روع العامة كالربهان‪.‬‬
‫وإذا انترصت الحقيقة مرة هنالك فتساءلوا بكل ارتياب عن الضالل الذي دافع‬
‫عنها فأوالها انتصارها‪.‬‬
‫أيضا فإنهم يكرهونكم لعلة عقمهم‪ ،‬وعيون العلماء باردة‬ ‫احذروا العلماء ً‬
‫جافة ال تلقي نظرها عىل طري حتى تعريه عن ريشه‪ ،‬إنهم يباهون بامتناعهم‬
‫عن الكذب‪ ،‬فاحذروا من هذه املباهاة؛ ألن املجال بعيد بني من عجز عن اإلتيان‬
‫بالكذب ومن أحب الحقيقة‪.‬‬
‫إن فقد الحرارة يشء ورزانة الحكمة يشء آخر‪ ،‬وال ثقة يل بالعقول الباردة‪ ،‬فمن‬
‫ال يعرف أن يكذب ال يعرف ماهية الحقيقة وال كيفيتها‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫إذا أردتم بلوغ الذرى فتسلقوها بأرجلكم‪ ،‬وال تطلبوا أن تُحملوا إليها ً‬
‫حمل عىل‬
‫ظهور َ‬
‫الغري ورءوسهم‪.‬‬
‫تنس َّ‬
‫أن رجلك العرجاء راكبة‬ ‫قل ملن يمتطي جوادًا ويسري خببًا نحو هدفه‪ ،‬ال َ‬
‫معك‪ ،‬ولسوف ترتجل يف آخر الشوط فتهوي عىل ذروتك إىل الحضيض‪.‬‬

‫‪330‬‬
‫‪11‬‬
‫أيها الرجال الراقون‪ ،‬أنتم املبدعون وال تحمل املرأة يف أحشائها إال ابنها‪ ،‬ال‬
‫طا‪ ،‬اعلموا من هو القريب وال تظنوا أن بإمكانكم أن تفعلوا من أجله‬ ‫ترتكبوا شط ً‬
‫شيئًا كما ال يمكنكم أن تبدعوا بالنيابة عنه‪.‬‬
‫أعرضوا عن كلمة «من أجل» وتناسوها أيها املبدعون؛ ألن فضيلتكم تتوقف عىل‬
‫أال تفعلوا شيئًا من أجل أحد وبسبب أحد أو ألية علة‪ ،‬أصموا آذانكم دون هذه‬
‫األدوات الكاذبة‪.‬‬
‫إن العمل من أجل القريب فضيلة صغار القوم‪ ،‬وقد جرى بينهم القول بالتبادل‬
‫وبأن إحدى اليدين تغسل األخرى‪ ،‬ومثل هؤالء ال حق لهم بأنانيتكم وال قوة لهم‬
‫عىل االتصاف بها‪.‬‬
‫إن يف أنانيتكم‪ ،‬أيها املبدعون‪ ،‬حزم الحبىل ومحاذرتها؛ ألن محبتكم تحيط‬
‫بالثمرة التي لم ترها عني بعد‪ ،‬فتحفظها وتمدها بالغذاء‪ ،‬فإذا ما كان حبكم كله‬
‫منصبًّا عىل ولدكم تج َّلت يف ذلك كل فضيلتكم؛ ألنه هو واجبكم وإرادتكم فال‬
‫تضللكم كاذبات الرشائع‪.‬‬
‫‪12‬‬
‫ٌ‬
‫مريض‪ ،‬وأن كل من ولد قد‬ ‫اعلموا أيها الراقون املبدعون أن كل من سيل ِد‬
‫تنجَّ س‪.‬‬
‫سلوا النساء لتعلموا أن ال لذة يف التوليد؛ فالدجاج تبيض صائحة والشاعر يبدع‬
‫متأ ًملا‪.‬‬
‫لقد ح َّل بكم نجس الوالدات أيها املبدعون‪.‬‬
‫كل مولود جديد يأتي برجس إىل العالم‪ ،‬فعىل كل مبدع أن يطهر نفسه‪.‬‬

‫‪331‬‬
‫‪13‬‬
‫إياكم وممارسة الفضائل بما ال طاقة لكم به‪ ،‬وال تكلفوا نفوسكم ما يستحيل‬
‫حكمً ا‪.‬‬
‫اقتفوا ما أبقت فضائل آبائكم من آثار؛ إذ كيف يتسنى لكم االرتقاء إذا لم‬
‫ترتق معكم إرادة آبائكم‪ ،‬ولكن ليحذر الطامح إىل بلوغ الطليعة أن يصبح آخر‬ ‫ِ‬
‫السائرين‪ ،‬احذروا أن تدخلوا أية قداسة عىل رزائل آبائكم‪ ،‬فمن العبث أن يطالب‬
‫بالعفة من تمرغ آباؤه بالنساء وكرعوا الخمر والتهموا لحم الخنازير‪.‬‬
‫إنكم لتطلبون كثريًا إذا اقتضيتم العفاف من مثل هذا الرجل؛ فحددتم له امرأة‬
‫أو اثنتني أو ثالث‪ ،‬أما أنا فال أصدق بارعوائه حتى ولو أنشأ دي ًرا وكتب عىل بابه‪:‬‬
‫«هذه طريق القداسة‪ْ ».‬‬
‫إن هذا الدير إال ملجأ ومقر ملحاوالت الجنون‪ ،‬فما ينمو يف‬
‫العزلة من اإلنسان إال ما استصحبه إليها من حوافز‪ ،‬وهنالك املجال لنمو الحيوان‬
‫الكامن‪.‬‬
‫من الخري أن نردع الكثريين عن العزلة واالنفراد‪.‬‬
‫هل عىل وجه األرض يف هذا الزمان من يفوق ً‬
‫دنسا القديسني املتنسكني يف‬
‫الصحراء يدور حولهم الشيطان من جهة والخنزير من جهة أخرى؟ …‬
‫‪14‬‬
‫ما رأيتكم مرة تنتحون مكانًا قصيًّا عن الناس وقد بدت عليكم دالئل اليأس‬
‫والخجل‪ ،‬أيها الرجال الراقون‪ ،‬إال وتمثَّلتُكم كالنمر فات فريسته أو كالالعب خانه‬
‫الزهر عىل صفحة نرده‪.‬‬
‫ولكنكم ال تبالون فإنكم ما تعلمتم إجادة اللعب والتحدي! وهل نحن يف الحياة‬
‫إال جُ َّلس مائدة كربى للسخرية واملقامرة‪.‬‬
‫أألنكم أخطأتم وفاتتكم املقاصد العظمى تريدون أن تفوتوا أنفسكم‪ ،‬وألنكم‬

‫‪332‬‬
‫فشلتم تريدون أن يفشل اإلنسان؟‬
‫‪15‬‬
‫كلما تعالت ا ُملثل صعب تحقيقها‪ ،‬أفما أنتم أيها الرجال الراقون نماذج فاشلة‬
‫للمثل األعىل؟‬
‫ولكن ال تبالوا بهذا بل أقدموا واضحكوا من أنفسكم؛ إذ ال عجب يف أنكم نماذج‬
‫فاشلة أو نصف فاشلة؛ ألن نصفكم منحطم‪ ،‬ومستقبل اإلنسان يسري سريه‬
‫البطيء وهو يتكامل فيكم‪.‬‬
‫أفما يتدافع ويغيل يف مراجلكم أبعد وأعمق ما يف اإلنسان؟ أفما يكمن فيكم‬
‫اعتالؤه إىل السهى وقوته العظمى؟‬
‫وهل من عجب إذا تصدعت مراجل عديدة من بني البرش؟ فاضحكوا يا أهل‬
‫الرقي فما أكثر املمكنات يف مستقبل اإلنسان!‬
‫أفما نجحت محاوالت عديدة فيما مىض‪ ،‬ول َكم عىل األرض من أمور بلغت‬
‫كمالها وإن صغرت‪.‬‬
‫أحيطوا نفوسكم بهذه األشياء الصغرية املتكاملة فإنها تنيل قلوبكم الشفاء‬
‫بنضوجها‪ ،‬فال يشء يعلمنا األمل إال ما بلغ الكمال‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫إن أعظم ما ارتُكب يف العالم من أخطاء هو قول القائل‪« :‬ويل للضاحكني يف‬
‫هذه الدنيا‪ ».‬فإن من جاء بهذا اإلنذار قد َّ‬
‫قص يف التفتيش فما وجد عىل األرض‬
‫شيئًا يستحق الضحك يف حني أن األطفال يجدون ما يضحكهم‪.‬‬
‫لقد كان حب هذا النذير قصري املدى فما اتصل إلينا منه يشء نحن الضاحكني‪،‬‬
‫بل إنه أبغضنا ووجه إلينا لعنته وهو يتهددنا بالبكاء ورصيف األسنان‪.‬‬

‫‪333‬‬
‫أفليس من فساد الذوق أن يندفع اإلنسان إىل اللعن إذا هو لم يحب؟ هذا ما فعله‬
‫ذلك النذير ألنه ابن العامة املتعصب‪ ،‬ولو أنه عرف الحب ملا كان احتدم غضبًا ألنه‬
‫ً‬
‫محبة … بل تطلب أكثر من املحبة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫محبة تتناهى ال تطلب‬ ‫لم يحب‪ ،‬فك ُّل‬
‫ابتعدوا عن جميع هؤالء املتعصبني فهم نوع من اإلنسانية مريض فقري‪ ،‬هم من‬
‫العامة التي تزوغ نظراتها من الحياة وتصيب األرض بس ِّم أعينها‪.‬‬
‫ابتعدوا عمن ال يعرفون التساهل فإن خطواتهم ثقيلة عىل الرتاب‪ ،‬وقلوبهم‬
‫مثقلة يف الصدور‪ ،‬إنهم ال يعرفون الرقص فكيف ال يثقل عليهم الرتاب‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫إن جميع األشياء الحسنة تسري نحو أهدافها عىل منعرجات السبيل فرتفع‬
‫ظهورها كالهررة هادرة ملا تتوقع من سعادة قريبة املنال‪ ،‬فاألشياء الحسنة‬
‫تضحك أبدًا‪.‬‬
‫لك أن تعرف من خطوات الناس إذا كانوا ظفروا بطريقهم السوي‪ ،‬فانظر إىل‬
‫ً‬
‫راقصا فاعلم أنني اقرتبت من هديف‪.‬‬ ‫خطواتي تدرك حايل‪ ،‬وإذا رأيتني‬
‫ً‬
‫تمثال وال انقلبت عامودًا ال حياة وال حس فيه‪ ،‬فأنا‬ ‫والحق أنني ما استحلت‬
‫أحب الجري يف املجال البعيد؛ ألن يف األرض مستنقعات كثرية ومعاثر ال تجتازها‬
‫إال األرجل الراقصة املنزلقة‪.‬‬
‫ارفعوا قلوبكم إىل ما فوق أيها اإلخوة‪ ،‬ولكن ال تنسوا أرجلكم؛ إذ عليكم أن‬
‫أيضا وإذا أردتم إجادة الرقص فعليكم أال تأنفوا من االنقالب عىل‬‫ترفعوها ً‬
‫رءوسكم‪.‬‬
‫‪18‬‬
‫ض َفرتْه من الورود يداي‪ ،‬وليس‬
‫بإكليل َ‬
‫ٍ‬ ‫أنا املتوِّج نفيس مل ًكا عىل الضاحكني‬
‫سواي من يقوى عىل تطويب ضحكة كما فعلت‪.‬‬

‫‪334‬‬
‫الرقاص‪ ،‬الخفيف الخطوات الضارب بجناحيه متحف ًزا لالنتفاض إىل‬ ‫أنا زارا َّ‬
‫األعايل مشريًا إىل جميع الطيور بنرش أجنحتها‪ ،‬أنا من بلغ الرشاقة اإللهية‪.‬‬
‫أنا زارا العراف‪ ،‬أنا الضاحك الصبور املتسامح املحب للوثوب وتجاوز املحدود‪،‬‬
‫أنا املتوج نفيس بنفيس‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫ارفعوا قلوبكم إىل العال‪ ،‬إخوتي‪ ،‬وال تنسوا أن ترفعوا أرجلكم أيها الراقصون‬
‫املجيدون‪ ،‬بل انتصبوا عىل رءوسكم ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫إن بني طالب السعادة حيوانات ضخمة ثقلت حركتها‪ ،‬وبينهم من ولد كسيحً ا‬
‫فمثل هؤالء يحاولون الرشاقة كالفيل يجرب أن ينتصب عىل قمة رأسه‪ ،‬غري‬
‫ً‬
‫متثاقل أفضل ممن‬ ‫أن املجانني بالسعادة خري ممن يجنُّون بالشقاء‪ ،‬والراقص‬
‫يتعارج يف مشيته‪.‬‬
‫تعلموا الحكمة مني‪ ،‬إن ألقبح األشياء وجهتني لهما حسنهما‪ ،‬ولرش الناس‬
‫رجلني للرقص فتعلموا أيها الرجال الراقون أن تقفوا سويًّا عىل أقدامكم‪.‬‬
‫أعرضوا عن أشجان العامة وأحزانهم‪ ،‬فإن للمهرجني بينهم يف هذا الزمان‬
‫سيماء الغارقني يف األحزان؛ ذلك ألن هذا الزمان زمان العامة من بني اإلنسان‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫ً‬
‫راقصا عىل هواه فريتعش‬ ‫كونوا كالهواء املندفع من مغاور الجبال فهو يهب‬
‫ً‬
‫مرتاقصا لدغدغة نسماته‪.‬‬ ‫البحر‬
‫تبارك من يستنبت أجنحة للحمري ومن يمد أنامله لرضع اللبؤة فيحتلبها‪ْ ،‬‬
‫إن‬
‫هو إال الروح الطيب الثائر يهب كالعاصفة من أجل ما هو عتيد ومن أجل ما‬
‫إن هو إال عدو الرءوس الشائكة والرءوس املنثلمة عدو كل األعراش‬ ‫سيكون‪ْ ،‬‬
‫الذابلة وكل ما دبَّ فيها الفساد‪.‬‬

‫‪335‬‬
‫ً‬
‫طليقا يرقص عىل مستنقعات‬ ‫تبارك روح العاصفة روحً ا وحشيًّا طيبًا ح ًّرا‬
‫األحزان كأنه يتمايل منها عىل نارضات املروج‪ .‬تبارك من روح يكره الغوغاء‬
‫املستكلبني الفاقدين الصواب وكل ناقص يتعزز بالعبوس‪.‬‬
‫تهبُ الحيا َة لكل فكرة حرة‪ ،‬تبارك من زعزع‬ ‫تبارك روح العاصفة من قوة ِ‬
‫يذري الرمال وهو ضاحك عىل عيون مقروحة ال ترى يف الوجود إال قتامً ا‪.‬‬
‫أيها الرجال الراقون‪ ،‬إن رش ما فيكم هو أنكم لم تتعلموا الرقص عىل أصوله؛‬
‫لتتوصلوا إىل االنطالق بخطواتكم فوق رءوسكم‪ ،‬وما يضريكم َّأل تتوفقوا إذا‬
‫حاولتم‪.‬‬
‫إن املمكنات كثرية‪ ،‬أيها الراقون‪ ،‬فتعودوا أن تضحكوا ولو عال ضحككم فوق‬
‫رءوسكم‪.‬‬
‫ارفعوا قلوبكم أيها الراقصون املجيدون إىل ما فوق‪ ،‬وال تنسوا أن تضحكوا‬
‫ً‬
‫جميل‪.‬‬ ‫ضح ًكا‬
‫ُ‬
‫طوبت الضحك أيها‬ ‫إنني ألقي إليكم بإكليل الورود فهو تاج الضاحكني‪ ،‬لقد‬
‫الرجال الراقون فتعلموه …‬

‫‪336‬‬
‫نشيد األشجان‬

‫‪1‬‬
‫وعندما لفظ زارا الكلمات األخرية من خطابه رأى نفسه أمام مخرج غاره فرتك‬
‫ضيوفه وانطلق يستنشق الهواء النقي ً‬
‫هاتفا‪ :‬يا للنفحات الطيبات ويا للسكينة‬
‫السعيدة‪ ،‬تعاليا إيل َّ يا نرسي وأفعواني وقوال يل أراقتْكما رائحة هؤالء الرجال‬
‫الراقون‪ .‬إنني أشعر اآلن بمقدار حبي لكما‪.‬‬
‫إنني أحبكما يا نرسي وأفعواني‪.‬‬
‫طويل‪ ،‬وبقي الثالثة يستنشقان هواء ً‬
‫بليل‬ ‫ً‬ ‫ودار الحيوانان حول زارا وحدقا به‬
‫ال يظفرون بمثله يف مجلس الرجال الراقني‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫ً‬
‫مرسل نظرات التجسس ما‬ ‫وما خرج زارا من الغار حتى وقف الساحر الشيخ‬
‫حوله وهو يقول‪ :‬لقد أُخيل املكان‪.‬‬
‫فيا أيها الرجال الراقون وما أدعوكم بهذا النعت إال تشبهً ا بزارا يف ثنائه عليكم‪،‬‬
‫فإنه ما كاد يخرج هو حتى عاد فاستوىل عيل َّ روحي الخداع املاكر الساحر وما هو‬
‫إال شيطان أشجاني‪ .‬العدو اللدود لزارا فال تلوموا هذا الشيطان إذا طمح إىل إبداء‬
‫رضوب سحره أمامكم وقد اجتاحته نوبة من نوباته ولطاملا حاولت مقاومتها بال‬
‫جدوى‪.‬‬
‫إن روحي الرشير عد ٌّو لزارا وهو صديقكم جميعً ا‪ ،‬سواء أَدُعيتم رجال الفكر‬
‫الحر أم رجال الحق أم رجال كفارة العقل أم رجال الثورة أم رجال الشوق‬
‫األعظم أنتم املصابني بما أُصبت به من الكراهة العظمى‪ ،‬أنتم املؤمنني بأن الله قد‬

‫‪337‬‬
‫مات دون أن يكون عىل أحد األرسة إله آخر تشده األقمطة يف طفولته‪.‬‬
‫إنني أعرف من أنتم يا أهل الرقي‪ ،‬وأعرف ً‬
‫أيضا من هو زارا الذي أتوجه إليه‬
‫قديسا سينبثق منه‪ ،‬ويلوح يل أحيانًا أنه هيكل‬
‫ً‬ ‫بحبي مرغمً ا؛ ألنني أحس بأن‬
‫يسكن فيه شيطا ُن األشجان فأحبه ً‬
‫أيضا لحلول روحي الرشير يف رسيرته‪.‬‬
‫لقد أوشك هذا الروح أن يستويل عيلَّ‪ ،‬وها هو ذا يرصعني‪ ،‬فيا له من شيطان‬
‫يتقمص أشجان الغسق!‬
‫افتحوا أعينكم أيها الراقون‪ ،‬إن هذا الروح يتجسد وال أدري أيظهر عاريًا يف‬
‫هيئة رجل أم يف هيئة امرأة‪.‬‬
‫لقد بدأ ستار العتمة ينسدل حتى عىل خري األشياء‪.‬‬
‫أعريوا سمعكم وحدقوا‪ ،‬أهو رجل أم امرأة هذا الروح‪ ،‬روح أشجان املساء‪.‬‬
‫هكذا تكلم الساحر الشيخ‪ ،‬ثم أدار لحاظه فيمن حوله وقبض عىل قيثارته‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫عندما يعتل الهواء‪ ،‬ويتساقط الندى املعزي دون أن تراه العيون‪ ،‬وما تسقط‬
‫األنداء إال خفية ككل عزاء‪.‬‬
‫أفما تذكر أيها القلب امللتاع كم ظمئت إىل دمع السماء‪ ،‬إىل قطرات األنداء؟‬
‫لقد كنت منهو ًكا يرهقك السغب والشمس تلقي أشعتها عىل األعشاب الصفراء‬
‫مرتاكضة حولك من خالل األدواح القاتمة فتبهرك يف روغانها‪ ،‬وتلقي يف روعك‬
‫أنك تائق إىل الحقيقة‪ ،‬وما هي إال خادعة ساخرة‪.‬‬
‫ً‬
‫مشوقا‪.‬‬ ‫ال … ما أنت إال شاعر ولست إىل الحقيقة متطلعً ا‬
‫ما أنت إال حيوان وحيش زحاف عليه أن يتفوه بالكذب‪ ،‬حيوان مفجوع بالغنائم‪،‬‬
‫يُسدل عىل وجه قناعً ا تعددت ألوانه‪ ،‬وهو نفسه قناع لقناعه وغنيمة لفجعته‪.‬‬

‫‪338‬‬
‫أأنت يا هذا طالب حقيقة وحق؟‬
‫ال … ما أنت إال مجنون‪ ،‬ما أنت إال شاعر‪.‬‬
‫ً‬
‫مرتاكضا‬ ‫إنك تتكلم باالستعارات والتشابيه‪ ،‬وترتفع عقريتك مُقنعً ا بوجه معتوه‬
‫عىل معابر من كاذبات البيان تائهً ا عىل أقواس ُق َزح مزيفة تحت آفاق ال حقيقة‬
‫لها‪.‬‬
‫إنك تائه يرتاكض يف كل مكان‪.‬‬
‫ما أنت إال مجنون‪ ،‬ما أنت إال شاعر!‬
‫•••‬
‫أأنت طالب حقيقة وحق؟‬
‫تمثال إلهي يلتمع يف صقيعه‪ ،‬وليس له جالل هذا التمثال وال‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫مسخ‬ ‫ما أنت إال‬
‫صمته منصوبًا عىل مدخل بيت الله‪.‬‬
‫ما أنت إال عدو كل هيكل مشي ٍد للفضيلة فمرسحك القفار حيث تشب ح ًّرا‬
‫رصت يف مسكن قفزت من نوافذه مستسلمً ا لتصاريف الحدثان‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫طليقا‪ ،‬وإذا ما حُ‬
‫ذاهبًا بهدير شهوتك يف مجاهل الغاب بني الوحوش الكارسة الرقطاء الجميلة‬
‫متوحشا زحَّ ًافا كاذبًا‪.‬‬
‫ً‬ ‫كاملعصية وقد قطرت أشداقها َش ً‬
‫بقا ودماء فترسح بينها‬
‫ً‬
‫طويل يف األغوار حتى إذا الحت الخرفان‬ ‫أو أنت أشبه بالنسور التي تحدق‬
‫َّ‬
‫انقضت عليها‪ .‬إنها لعدوة الخراف وكل من له نظراتها وصوفها‬ ‫يف مراعيها‬
‫ووداعتها‪.‬‬
‫•••‬
‫ما شهوة الشاعر إال شهوة النرس والنمر‪.‬‬
‫تلك هي شهوتك املقنَّعة بألف ٍ‬
‫وجه أيها املجنون‪ ،‬أيها الشاعر!‬

‫‪339‬‬
‫نظرت إىل اإلنسان كأنه نعجة فم َّزقت الله فيه كما مزقت النعجة وأنت‬
‫َ‬ ‫لقد‬
‫تقهقه ضاح ًكا‪.‬‬
‫تلك هي لذتك‪ ،‬أيها الشاعر‪ْ ،‬‬
‫إن هي إال لذة نرس ونمر‪ ،‬لذة شاعر ومجنون‪.‬‬
‫ُ‬
‫جنحت يومً ا يف الهواء البليل جنوح الهالل الحسود عىل وهج أنوار الغروب‪،‬‬ ‫لقد‬
‫هاربًا من النهار عدوه اللدود متواريًا عن شجريات الورود إىل أن يغمرها الظالم‬
‫ماحيًا أشباحها‪.‬‬
‫ُ‬
‫جنحت فيما مىض جنوح الهالل هاربًا من جنون الحقيقة وشهوة‬ ‫أجل لقد‬
‫النور‪ ،‬تعبت من النهار ومن أضوائه فانحدرت ً‬
‫عليل نحو املغرب إىل مطارح‬
‫الظالم‪ ،‬وقد أحرقتني الحقيقة بسعارها‪.‬‬
‫أفما تذكر أيها القلب امللتاع ِم َ‬
‫حنة تع ُّ‬
‫طشك يف ذلك الحني؟‬
‫ً‬
‫سحقا لها‪.‬‬ ‫ما يل وللحقائق جميعها‪،‬‬
‫ما أنا إال مجنون ما أنا إال شاعر‪.‬‬

‫‪340‬‬
‫المعرفة‬

‫هذا ما أنشده الساحر‪ ،‬موقعً ا يف رشاك نغمه الغدَّار الحزين جمي َع من حوله ما‬
‫عدا صياد العلقة املقيَّد بضمري العقل‪ ،‬فإنه لم يقع كاآلخرين بل نهض واختطف‬
‫مت هواء الغار يا هذا‪.‬‬ ‫ً‬
‫صارخا‪ :‬لقد سمَّ َ‬ ‫القيثارة من يد الساحر‬
‫جددوا الهواء‪ ،‬أدخلوا زارا إلينا‪.‬‬
‫إن سحرك أيها املراوغ يدفع بالناس إىل الشهوات ومجاهل القفار‪ ،‬ويا لشقائنا‬
‫إذا كان أمثالك يتكلمون عن الحقيقة ويُولونها أهمية‪ ،‬وويل لألفكار الحرة إذا‬
‫كانت ال تحذر الساحرين‪ ،‬إنها لتفقد حريتها بإهمالها‪.‬‬
‫إنك تدعو للرجوع إىل السجون وتقتاد الناس إليها أيها الشيطان الحزين‪ ،‬ففي‬
‫أنينك دعو ٌة مسترتة‪ ،‬فما أشبهك بمن يمجدون العفاف فيجيء تمجيدهم دعوة‬
‫إىل امللذات!‬
‫هكذا تكلم صاحب ضمري العقل‪ ،‬غري أن الساحر كان يجيل أبصاره يف مَ ْن‬
‫حوله‪ ،‬وهو يتنعَّ م بظفره فتتغ َّلب لذته عىل حنقه من خصمه‪ ،‬وأخريًا نظر إليه‬
‫ً‬
‫قائل بلطف‪ :‬إن األغاني الجميلة تثري خري األصداء ولذلك يجب أن يعقبها السكوت‬
‫يتنصتون‪ ،‬ويلوح يل أنك لم تفهم شيئًا‬
‫َّ‬ ‫الطويل‪ ،‬أفما ترى هؤالء الرجال الراقني‬
‫من نشيدي؛ ألن تفكريك محصور يف دائرة السحر‪.‬‬
‫فأجاب صاحب الضمري‪ :‬إنك تثني عيل َّ باإلقرار بالفرق بينك وبيني‪ ،‬وحسنًا‬
‫فعلت‪ ،‬ولكن أنتم أيها الراقون‪ ،‬ما يل أراكم وأنتم ذوو النفوس الحرة ساكتني‬
‫ٍ‬
‫غانية عارية متهتكة‪ ،‬فإذا بروحه ترتقص يف داخله؟!‬ ‫ً‬
‫طويل إىل رقص‬ ‫كمن تطلع‬
‫أفليس فيكم أيها الراقون القوة التي ال تنال منها خزعبالت الساحرين؟!‬

‫‪341‬‬
‫ً‬
‫طويل قبل أن‬ ‫ولكنني أراكم يف وادٍ وأنا يف واد‪ ،‬لقد تسنى يل أن أتحدث إليكم‬
‫عاد زارا إىل مغارته فعرفت أنني معكم عىل خالف‪ ،‬فأنتم ال تطلبون ما أطلب عن‬
‫عقيدة راسخة‪ ،‬وما جئت إىل زارا إال ألنني أعلم أنه معقل اإلرادة الثابتة التي ال‬
‫تتزعزع يف هذه األزمان التي يتصدَّع فيها كل يشء ويتداعى‪.‬‬
‫أما أنتم فإن نظراتكم تدل عىل أنكم تطلبون الريبة وتتشوَّقون إىل الشك‪،‬‬
‫فتودون لو يزيد االرتعاش وتعم الزالزل األرض لتزداد حياتكم اضطرابًا‪ ،‬فما‬
‫أتخوف منه أنا تَتُوقون أنتم إليه فتستهويكم حياة الوحوش يف الغابات واملغاور‪.‬‬
‫إنكم لتنفرون ممن يدعوكم إىل اجتناب األخطار فال تأنسون إال إىل املضللني‬
‫الساحرين‪.‬‬
‫ولكن اعلموا أن هذه األماني الكامنة فيكم لن يكون لها أن تتحقق؛ ألن الخوف‬
‫شعور غريزي أويل ٌّ يف اإلنسان يفرس كل يشء‪ ،‬ويجلو حقيقة الخطيئة األصلية‬
‫والفضيلة األصلية‪ ،‬وفضيلتي أنا قد نشأت عن الخوف واسمها «العِ لمُ»‪.‬‬
‫طويل يسوده الفزع من الحيوانات الكارسة وبينها الوحش‬ ‫ً‬ ‫لقد عاش اإلنسان‬
‫الكامن فيه والذي يدعوه زارا «الحيوان الداخيل»‪ ،‬وقد استحال هذا الخوف مع‬
‫كرور الزمان إىل ذُعر روحي يدعى «عِ لمً ا»‪.‬‬
‫هكذا تكلم صاحب ضمري العلم‪ ،‬وكان زارا قد عاد إىل الغار وسمع نهاية‬
‫الخطاب‪ ،‬فأخذ ينثر أوراق الورد عىل رأس صاحب الضمري وهو يهزأ به ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫ماذا أسمع؟ والحق أنك مجنون َّ‬
‫وإل كنت أنا مجنونًا‪ ،‬لذلك أبادر إىل إنزال الحقيقة‬
‫عىل رأسك دفعة واحدة‪ ،‬فاعلم أن الخوف شذوذ يف اإلنسان؛ ألنه ما نشأ يف األصل‬
‫إال مفطو ًرا عىل الشجاعة طمَّ احً ا إىل تقلبات الحدثان مأخوذًا بلذة الشك‪ ،‬مدفوعً ا‬
‫القتحام املجهول‪ ،‬فالشجاعة أُوىل عواطف اإلنسان؛ إذ استهوته فضائل الضواري‬
‫وأشد الحيوانات عزمً ا وإقدامً ا‪ ،‬فما عتم حتى غنم هذه الفضائل منها وهكذا صار‬
‫إنسانًا‪.‬‬

‫‪342‬‬
‫ويلوح يل أن هذه الشجاعة الراقية الوثابة إنسانية بجناح النرس وروغان األفعى‬
‫تدعى اليوم …‬
‫فضحك جميع الحارضين وهتفوا بصوت واحد‪ :‬تدعى زارا‪.‬‬
‫وارتفع من بني الحشد يشء أشبه بالغمامة السوداء وتوارى‪ ،‬فبدأ الساحر‬
‫أيضا وهو يقول‪ :‬لقد خرج روح الرشير مني‪ ،‬أفما دعوتكم إىل الحذر‬ ‫بالضحك ً‬
‫منه عندما أعلنت لكم أنه روح م َّكار مخادع كذاب‪ ،‬ويتناهى مكره بخاصة عندما‬
‫يتجىل عاريًا‪ ،‬ولكنني أعجز من أن أقاوم سحره‪ ،‬فما أنا مَ ن َخ َلقه وما أنا مَ ن َخ َلق‬
‫العالم‪.‬‬
‫فلنعد اآلن إىل صالحنا ورسورنا‪ .‬انظروا إىل زارا فإن يف عينيه قتامً ا وأراه ناقمً ا‬
‫عيلَّ‪ ،‬غري أنه لن يثبت عىل نقمته حتى يجيء الظالم فسوف يسرتجع حبه ويعود‬
‫طويل دون أن يرتكب مثل هذا الجنون‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مثنيًا عيلَّ؛ ألنه ال يستطيع البقاء‬
‫ُ‬
‫صادفت يف حياتي أقدرهم يف هذا الفن‪ ،‬ولكنه‬ ‫إن زارا يحب أعداءه وهو بني مَ ن‬
‫يف سبيل حبه ألعدائه ينتقم من أصدقائه‪.‬‬
‫فصفق له الحارضون حتى اضطر زارا إىل الدوران‬ ‫َّ‬ ‫هكذا تكلم الساحر الشيخ‬
‫ٍ‬
‫بعاطفة تمازج رشُّها بحبها‪،‬‬ ‫يف غاره وهو ينفض راحتيه متربمً ا من أصحابه‬
‫فكأنه يحاول عذر الناس واالعتذار إليهم يف آن واحد‪ ،‬وعندما وصل إىل مخرج‬
‫الغار شاقه الهواء الطلق وتذكر نرسه وأفعوانه فاندفع طالبًا الخروج‪.‬‬

‫‪343‬‬
‫بين غادتين في الصحراء‬

‫‪1‬‬
‫قائل‪ :‬ال تذهب َ‬
‫ابق بيننا؛ لئال‬ ‫وعندئذ صاح املسافر الذي دعا نفسه خيال زارا ً‬
‫تك َّر علينا أحزاننا بعد أن تو َّلت عنا‪ ،‬فقد أغدق علينا الساحر رشَّ ما عنده حتى إن‬
‫رئيس األحبار الوافر التقوى بدا يسكب الدمع من عينيه ويتوه يف بحر الشجون‪،‬‬
‫وليس بيننا من احتفظ بحزمه غري هذين امللكني لتعودهما التحكم بسيمائهما‪،‬‬
‫ولو أنهما كانا عىل انفراد لكانت تبدو عليها أالعيب الغيوم وتعصف ريح الخريف‬
‫ً‬
‫إعوال ونواحً ا‪ .‬ابق هنا يا زارا‪ ،‬ال تذهب فهنا ويالت خفية‬ ‫باكية فوقهما فنسمع‬
‫تريد أن تتكلم‪ ،‬هنا ظلمات وغيوم وهواء كثيف يضغط عىل الصدور‪.‬‬
‫لقد بذلت لنا الغذاء اإلنساني وأتيتنا باآليات تتدفق قوة ً‬
‫وأمل‪ ،‬فال تسمح أن‬
‫تجتاحنا يف ختام هذه الوليمة روح الرتاخي والكسل‪.‬‬
‫ليس لسواك أن ينفخ حولنا هواء القوة والنقاء‪ ،‬فإنني ما نشقت يف العالم ما‬
‫يهب عيل َّ يف غارك من لفحات صافيات‪ ،‬وقد جبت األقطار ومررت بمعاطيس عىل‬
‫أجواء وأجواء فما راقني شمي ٌم إال حيث تقيم‪.‬‬
‫ألصدقن القول‪ ،‬لقد راقني مرة مثل هذا الشميم من قبل عندما أنشدت ما أُوحي‬
‫َّ‬
‫إيل َّ بني غادتني يف الصحراء حني مألت صدري من نسمات الرشق املشبعة عط ًرا‬
‫يف صفائها وأنا بعيد عن أوروبا الهرمة تكدر جوها الغيوم وترهقها رطوبتها‬
‫وأشجانها‪.‬‬
‫ذلك زمان عشقت فيه غادتي الرشق يف صحرائه‪ ،‬فهنالك سماء غري هذه السماء‬
‫ال تتلبد فيها الغيوم وال تعتكر عىل أديمها األفكار‪.‬‬

‫‪344‬‬
‫إنكم ألعجز من أن تتصوروا سحر هاتني الغادتني وهما معرضتان عن الرقص‬
‫جالستان ويف سكونهما أجمل حركات الفنون‪ ،‬وقد كمن الفكر يف صدرهما‬
‫أشكال وألوانًا فال يعروها قتام‪ ،‬وهكذا األلغاز‬
‫ً‬ ‫فكأنهما أرسا ٌر وألغاز تتماوج‬
‫املستسلمة ملن يحل مكنونها‪.‬‬
‫لقد أُوحي إيل َّ هذا النشيد للتشبيب بغادتي الصحراء‪.‬‬
‫ً‬
‫مجال ليجاوبه أحد فقبض عىل‬ ‫هكذا تكلم املسافر املدعو خيال زارا‪ ،‬ولم يدع‬
‫ساقا عىل ساق وهو يحدج من حوله بنظرات تشع حكمة‬ ‫ولف ً‬ ‫قيثارة الساحر‪َّ ،‬‬
‫ووقا ًرا‪ ،‬وقد انفتحت أرنبتا أنفه تنشقان الهواء مليًّا‪ ،‬فكأنه غريب يف بالد بعيدة‬
‫يتنسم أجواءها‪.‬‬
‫وبدأ ينشد بصوت يزأر زئريًا‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫إن الصحراء تتسع وتمتد فويل ملن يطمح إىل االستيالء عىل الصحراء‪.‬‬
‫يا للمهابة‪ :‬يا للبداية تليق بمهابة صحراء إفريقيا‪.‬‬
‫تليق بأسد أو بنذير يهيب بالناس إىل مكارم األخالق‪.‬‬
‫ط عليكما يا صديقتي عندما اتيح يل أنا ابن أوروبا أن أجلس‬ ‫إنها لروعة لم تس ُ‬
‫عند أقدامكما تحت ظالل النخيل‪ .‬حيَّا عىل الصالة!‬
‫•••‬
‫يا للعجب!‬
‫ماثل أمام الصحراء‪ ،‬ولكنني عنها ج ُّد بعيد‪ ،‬وما ابتلعتني الواحات‬‫ً‬ ‫أراني‬
‫الصغرية‪ ،‬بل انفرجت أمامي كأطيب الثغور نكهة فارتميت فيها‪ ،‬وها أنذا عند‬
‫صديقتي العزيزتني‪ .‬حيَّا عىل الصالة!‬
‫َّ‬ ‫أقدامكما يا‬

‫‪345‬‬
‫•••‬
‫إنني أمجد تلك الواحة إذا كانت ع َّززت مَ ن نزل فيها …‬
‫وأنتما تدركان ما يف رموزي من الحكمة‪.‬‬
‫طوبى ألحشائها إذا كانت كهذه الواحة‪ ،‬ولكنني أشك يف ذلك فأنا قادم من‬
‫أوروبا‪ ،‬أشد العرائس جحودًا‪.‬‬
‫أصلحها الله إنه السميع املجيب‪.‬‬
‫•••‬
‫ها أنذا جالس يف ظالل أصغر الواحات فما أشبهني بتمرة سمراء َّ‬
‫مذهبة‪،‬‬
‫تتشوَّق إىل ثغر كاعب يفرتُّ عن أسنان محددة ناصعة كالثلج‪ ،‬وهل تحلم قلوب‬
‫التمر امللتهبة إال بمثل هذه الثغور؟ حيَّا عىل الصالة‪.‬‬
‫•••‬
‫ما أشبهني بهذه التمور عند الظهر‪ ،‬تتطاير حولها الهوام املجنَّحات وتدور‬
‫بي شهوات أصغر من هذه الهوام وأشد منها جنونًا ورشًّا‪ ،‬وإىل جانبي «دودو‬
‫وزليخا» صامتتني كأبي الهول‪.‬‬
‫إنني أنشق نسمات الجنان والهواء حويل مفضض بأشعة ما أرسل القمر مثلها‬
‫يف األجواء‪ ،‬فهل أرسلها صدفة أم عن قص ٍد كما قال الشعراء األقدمون؟‬
‫أما أنا فأشك فيما قيل ألنني ٍ‬
‫آت من أوروبا‪ ،‬وهي أشد العرائس جحودًا أصلحها‬
‫الله إنه السميع املجيب‪.‬‬
‫إنني أنشق الهواء ملء معاطيس وليس يل أمس وال غد‪ ،‬فأجلس مع ِّل ًقا أبصاري‬
‫ً‬
‫طويل عىل ِرجل‬ ‫عىل النخلة وهي تتأوَّد وتتثنى وتهز ردفها‪ ،‬فكأنها راقصة دارت‬
‫واحدة‪ ،‬حتى ال يسع من يراها إال أن يقلدها‪ ،‬ولعلها نسيت أن لها ِر ً‬
‫جل ثانية‪.‬‬

‫‪346‬‬
‫فتشت عبثًا عىل هذه الرجل الصغرية الساحرة تحت األردان الخافقة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وقد‬
‫عزيزتي‪ ،‬إن هذه الرجل األخرى قد ذهبت يف سبيلها‪.‬‬
‫َّ‬ ‫صدقاني يا‬
‫وياله! أين استقرت تلك الرجل التائهة؟ وأين حطت رحالها؟ ولعلها اآلن‬
‫وحيدة منفردة ترتجف َف َر ًقا من هجمات وحش كارس أو أسد أصفر تجعَّ دت‬
‫لبدته ولعلها اآلن ممزقة إربًا‪ .‬حيَّا عىل الصالة!‬
‫•••‬
‫عزيزتي فقلبكما رقيق وصدركما يد ُّر حنانًا‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ال تبكيان يا‬
‫أيْ زليخا‪ ،‬كوني كالرجال وتشددي‪ ،‬وأنت دودو الشاحبة ال تذريف الدمع بعد‪.‬‬
‫ولكن ال بد يف هذه األرجاء من قوة تشدد القلوب‪ ،‬ال بد من ٍ‬
‫آيات تفوح عط ًرا‬
‫وتتسامى ً‬
‫جالل‪.‬‬
‫•••‬
‫ارتفع يا مظهر الجالل‪ ،‬ولتهب مرة أخرى نسمة الفضيلة‪.‬‬
‫ويا ليت أسد الفضائل يزأر ً‬
‫أيضا أمام غادات الصحراء فزئري الفضيلة يا بنات‬
‫الصحراء‪ ،‬أقوى ما ينبه أوروبا ويحفز بها إىل النهوض‪.‬‬
‫ها أنذا ابن أوروبا‪ ،‬ال يسعني إال الخشوع واالنتباه لدوي هذه اآليات البيِّنات‪.‬‬
‫وقد توكلت عىل الله‪.‬‬
‫إن الصحراء تتسع وتمتد‪ ،‬فويل ملن يطمح إىل االستيالء عىل الصحراء …‬

‫‪347‬‬
‫االنتباه‬

‫‪1‬‬
‫وبعد أن أنشد ك ٌّل من املسافر والخيال نشيده ضجَّ الغار بالحركة والضحك‪،‬‬
‫فأخذ الجميع يتكلمون يف آن واحد حتى الحمار نفسه‪ ،‬فوقف زارا غاضبًا ساخ ًرا‬
‫بضيوفه بالرغم من ترسب يشء من فرحهم إىل قلبه؛ إذ رأى يف هذا الحبور أول‬
‫أعراض الشفاء‪ ،‬فانسحب إىل خارج الغار‪ ،‬وبدأ يخاطب نرسه وأفعوانه ً‬
‫قائل‪ :‬أين‬
‫ذهب يأسهم‪ ،‬أراهم نسوا ذلك اليأس عندي ولكنهم لم ينسوا الرصاخ بعد‪.‬‬
‫وسد زارا أذنيه؛ إذ تعاىل نهيق الحمار يزيد يف جلبة هؤالء الرجال الراقني‪.‬‬
‫وقال‪ :‬إنهم فرحون ولعلهم تعلموا مني‪ ،‬ولكن ضحكتهم ليست ضحكتي‪.‬‬
‫ال بأس فهم شيوخ يمثلون إىل الشفاء بالذهاب عىل سبيل َّ‬
‫تخيوه‪ ،‬ولقد احتملت‬
‫أذناي من قبل أشد من هذه الجلبة وهذا الصخب‪.‬‬
‫إنه ليوم انتصار هذا اليوم؛ ألن الروح الكثيف يرتاجع إىل الوراء وهو عدوي‬
‫اللدود‪ ،‬لقد بدأ هذا النهار شؤمً ا ولعله ينتهي إىل خري‪.‬‬
‫ها إن املساء قادم ممتطيًا جواده قاطعً ا البحار عىل رسجه األرجواني‪.‬‬
‫إن السماء تحدجه بلفتات الحبور واألرض ترتاخى عىل أرسارها‪ ،‬فالحياة‬
‫ً‬
‫ضيوفا عيلَّ‪.‬‬ ‫تستحق االهتمام قربي أيها النازلون‬
‫وإذ دارت الجلبة يف الغار أردف زارا ً‬
‫قائل‪ :‬إنهم تعلموا الضحك لنفسهم فقد‬
‫فارقهم الروح الكثيف‪ ،‬وهذا تأثري غذائي وآياتي‪ ،‬والحق أنني ما قدمت لهم من‬
‫األغذية ما تنتفخ به األحشاء‪ ،‬بل ما يليق باملجاهدين فنبهت فيهم شهوات جديدة‪.‬‬

‫‪348‬‬
‫أمل جديدًا‪ ،‬وقد تمددت قلوبهم فوجدوا بيانًا‬
‫ها إن سواعدهم وأقدامهم تمتلئ ً‬
‫جديدًا يو ِّلد املرح يف تفكريهم‪.‬‬
‫وما أجهل أن مثل هذا الغذاء ال يُبذل لألطفال وال للنساء املرتاخيات سواء َّ‬
‫أكن‬
‫عجائز أم صبايا‪ ،‬فإن لألطفال والنساء عالجات غري هذا العالج إلقناع أمعائهم‬
‫وما أنا بطبيبهم وال بالقوَّام عليهم‪.‬‬
‫لقد تخىل هؤالء الراقون عن اشمئزازهم ويف ذلك ما أعده ظف ًرا يل‪ ،‬لقد أحسوا‬
‫أنهم يف مأمن عندي فتع َّروا عن كل حياء سخيف‪ ،‬وها هم يعربون بإخالص عما‬
‫يشعرون‪.‬‬
‫إنهم يفتحون قلوبهم ويعودون إىل أويقات الصفا‪ ،‬ويجرتُّون ممتنني واالمتنان‬
‫خري دليل عىل الرجوع إىل الصواب‪ ،‬فلن يطول الزمان حتى يرفعوا األنصاب‬
‫لذكرى أفراحهم القديمة‪.‬‬
‫ْ‬
‫إن هم إال ناقهون!‬
‫هكذا تكلم زارا وقد استوىل عليه الفرح ودار حوله نرسه وأفعوانه محرتمني‬
‫سعادته وسكونه‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫وبعد هنيهة اضطربت أُذنا زارا النقطاع الجلبة من الغار وقد ساد فيه سكوت‬
‫املوت‪ ،‬ولكن رائحة عطرية انترشت منه كأن هنالك مجمرة تُحرق فيها رءوس‬
‫الصنوبر‪.‬‬
‫وتساءل زارا عما يفعل القوم يف غاره‪ ،‬وتقدم نحو الباب فإذا به يشاهد أم ًرا‬
‫من أغرب األمور فصاح‪ :‬لقد عادوا إىل التقى‪ ،‬فهم يؤدون شعائر الدين ويصلون‪،‬‬
‫لقد جنوا!‬
‫وكان جميع من يف الغار جاثني عىل ركبهم كاألطفال والعجائز يعبدون الحمار‪.‬‬

‫‪349‬‬
‫وبدأ أقبح العاملني يهدر ويتلوى ويستعد للرتنم‪ ،‬وما عتم حتى بدأ ينشد ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫املجد والحكمة واملنة والثناء والقوة إللهنا إىل أبد اآلبدين‪.‬‬
‫فجاوبه الحمار بنهقة مستطيلة‪.‬‬
‫– إنه يحمل أثقالنا ويقوم بخدمتنا‪ ،‬فهو الجلود الصبور الذي ال يرد طلبًا‪ ،‬ومن‬
‫أحب إلهه أدَّبه برصامته‪.‬‬
‫فجاوبه الحمار بنهقة‪.‬‬
‫– إنه صموت ال ينهق إال إيجابًا لطلبات العالم الذي أبدع‪ ،‬فهو يمتدح عامله وإذا‬
‫سكت فما سكوته إال ملكره؛ ألنه ال يستهدف للخطأ‪.‬‬
‫فجاوبه الحمار بنهقة‪.‬‬
‫– إنه يمر وال من يأبه له يف الحياة‪ ،‬فلون جلده رمادي يسرت به فضيلته‪ ،‬وإذا‬
‫كان له عقل فهو يسرته لذلك يؤمن الجميع بأذنيه الطويلتني‪.‬‬
‫فجاوبه الحمار بنهقة‪.‬‬
‫– يا للحكمة الخفية! ويا لصاحب األذنني الطويلتني! ال يجيب إال باإليجاب‪،‬‬
‫وال يرد طلبًا أفما خلق العالم عىل صورته ومثاله فجاء العالم عىل أشد ما يكون‬
‫حماقة وسخافة؟‬
‫فأجاب الحمار بنهقة‪.‬‬
‫ً‬
‫وطرقا ملتوية‪ ،‬وما يهمك ما يدعوه الناس استقامة‬ ‫– إنك تتبع ً‬
‫طرقا مستقيمة‬
‫والتواء‪ ،‬فإن ملكوتك قائم ما وراء الخري والرش فرباءتك هي جهلك للرباءة‪.‬‬
‫فأجاب الحمار بنهقة‪.‬‬
‫– انظر كيف أنك ال تدفع أحدًا عنك‪ ،‬فتقبل الصعاليك كما تقبل امللوك‪ ،‬وتدع‬
‫األطفال يأتون إليك‪ ،‬وإذا ما جاءك الخطاة استقبلتهم بنهقة الرتحيب‪.‬‬

‫‪350‬‬
‫فأجاب الحمار بنهقة‪.‬‬
‫– إنك تحب األُنثى والتني الناضج فلست متصعِّ بًا يف غذائك فال تأنف من قضم‬
‫الشوك إذا جعت‪ ،‬ويف هذا كمنت حكمتك اإللهية‪.‬‬
‫ً‬
‫مصدقا بالنهيق‪.‬‬ ‫فأجاب الحمار‬

‫‪351‬‬
‫عيد حمار‬

‫‪1‬‬
‫وعند هذا املقطع من املدائح عيل صرب زارا؛ فبدأ ينهق هو ً‬
‫أيضا‪ ،‬واندفع إىل‬
‫ً‬
‫صارخا‪ :‬ماذا تفعلون يا أبناء الناس‪.‬‬ ‫وسط ضيوفه وقد استوىل عليهم الجنون‬
‫وتقدم يرفعهم الواحد بعد اآلخر عن الحضيض ً‬
‫قائل‪ :‬الويل لكم لو رآكم أحد‬
‫غري زارا‪ ،‬إذن لحكم الكل عليكم بأنكم يف دينكم الجديد من أفظع املجدِّفني أو من‬
‫ً‬
‫تخريفا وجنونًا‪.‬‬ ‫أشد العجائز‬
‫أنت يا رئيس األحبار كيف تسني لك دون أن تجحد نفسك وأن تعبد حما ًرا‬
‫كأنه إله؟!‬
‫فأجاب الحرب الكبري‪ :‬عفوك يا زارا‪ ،‬إنني أعرف منك بأمور الله‪ ،‬ومن الحق أن‬
‫ً‬
‫مطلقا‪ ،‬تمعَّ ن يف كلمتي‬ ‫أكون هكذا‪ ،‬وخري لنا أن نعبد الله يف حمار من َّأل نعبده‬
‫هذه أيها الصديق العظيم يتضح لك أن فيها كثريًا من الحكمة‪.‬‬
‫إن من قال‪« :‬إن الله روح‪ ».‬قد خطا الخطوة العظمى نحو الجحود‪ ،‬وليس من‬
‫السهل إصالح ما تفسده مثل هذه الكلمة يف العالم‪.‬‬
‫إن فؤادي يرتقص فرحً ا؛ إذ بقي عىل األرض يشء يمكننا أن نعبده‪.‬‬
‫تقي ما يشعر به‪.‬‬
‫اغتفر يا زارا لرئيس أحبار ٍّ‬
‫والتفت زارا إىل املسافر والخيال ً‬
‫قائل‪ :‬وأنت يا من تدعي الفكر الحر‪ ،‬بل من‬
‫تتصور إنك فكر حر‪ ،‬كيف تمثِّل هذا الدور الغريب وتتعبد للوثن؟!‬
‫إنك تفعل اآلن ما لم تفعله بني الغادات السمر ذوات الدالل يا من اتخذ لنفسه‬

‫‪352‬‬
‫عقيدة جديدة!‬
‫فأجاب املسافر والخيال‪ :‬األمر محزن وأنت مصيب‪ ،‬ولكنني عاجز عن اإلتيان‬
‫بأي عمل فإن اإلله القديم قد بُعث فقل ما تشاء يا زارا‪.‬‬
‫إن السبب يف هذا كله هو أقبح العاملني؛ فهو باعث اإلله ولو قال إنه هو قاتله‬
‫فليس موت اإلله إال عقيدة ال ترتكز عىل يشء‪.‬‬
‫فقال زارا‪ :‬وأنت أيها الساحر القديم املراوغ ماذا فعلت؟ من سيؤمن بك بعد‬
‫اآلن يف أزمنة الحرية هذه إذا كنت تؤمن بمثل هذه الحماريات اإللهية‪.‬‬
‫َ‬
‫أقدمت عليها وأنت عىل ما تعلم من املهارة واالحتيال؟!‬ ‫لقد أتيت حماقة فكيف‬
‫فأجاب الساحر‪ :‬لقد أصبت فما ُ‬
‫أتيت إال حماقة‪ ،‬ولقد كلفتني جهدًا كبريًا‪.‬‬
‫فقال زارا‪ :‬وأنت يا ضمري العقل‪ ،‬تفكر وضع إصبعك يف أنفك‪ ،‬أفما يبكتك‬
‫ضمريك عىل ما فعلت‪ ،‬أفما تدنس فكرك من هذه العبادة ومن هذا البخور‬
‫املتصاعد؟!‬
‫فوضع ضمري العقل إصبعه يف أنفه وأجاب‪ :‬إن يف هذا املشهد شيئًا يرتاح له‬
‫ضمريي‪ ،‬وقد ال يكون يل الحق بأن أعبد الله غري أنني أرى أن إلهً ا عىل هذه‬
‫الشاكلة يستحق اإليمان‪.‬‬
‫يجب أن يكون اإلله خالدًا بحسب ما شهد به األتقياء‪ ،‬فمن كان له مثل هذا‬
‫الزمان الطويل له أن يمنح نفسه خري األزمان‪ ،‬وأن يعيش عىل مهل وبالسخافة‬
‫التي تحلو له‪ ،‬فيبلغ الهدف الذي يريد ومن له الفكر املتجاوز حده يميل إىل‬
‫السخافات وإىل الجنون‪.‬‬
‫أفال ترى يا زارا أنك مع َّرض بإفراط حكمتك إىل أن تصري حما ًرا‪.‬‬
‫أفال يتجه الحكيم إىل السبل املتعرجة‪ ،‬وهال تجد يف نفسك ما يثبت هذه‬
‫الحقيقة؟‬

‫‪353‬‬
‫ونظر زارا إىل أقبح العاملني فإذا به لم يزل منطرحً ا عىل األرض وهو يقدم‬
‫للحمار خم ًرا ليرشب‪ ،‬فقال له‪ :‬ماذا أنت فاعل؟ لقد تبدلت يا هذا فعينك تشع‬
‫نو ًرا‪ ،‬وقد اتشح قبحك بُ ْرد الجالل‪ .‬أصحيح ما يقوله رفاقك؟ أأنت بعثته من‬
‫املوت؟ وما الذي أهاب بك إىل إحيائه؟ فهل َ‬
‫كنت عىل خطأ عندما قتلته وألحقته‬
‫بغابر الزمان؟‬
‫إنني أراك أنت راجعً ا إىل االنتباه بعد غفلتك‪ ،‬فماذا فعلت وملاذا هديت نفسك؟‬
‫تكلم أيها الرس الغامض‪.‬‬
‫فقال أقبح العاملني‪ :‬ما أنت إال لئيم يا زارا‪ ،‬وأنا أسألك فأجب من منا أعلم فيما‬
‫إذا كان هذا اإلله ال يزال حيًّا أم أنه مات حقيقة‪.‬‬
‫غري أنني أعلم كما علمتني فيما مىض أن من يريد أن يقتل ً‬
‫قتل ال حياة بعده‬
‫يلجأ إىل سالح الضحك فالغضب ال يقتل‪ ،‬أفما قلت هذا يا زارا أنت املسترت‪ ،‬أنت‬
‫الهادم بال غضب والقديس الخطر فما أنت إال لئيم‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫ودهش زارا ملا سمع من أجوبة فاندفع إىل باب غاره‪ ،‬ووقف هنالك يصيح‬
‫بأشد نرباته‪ :‬ملاذا تخفون رسائركم أمامي‪ ،‬أيها الطائشون‪ ،‬أفما ارتعشت قلوبكم‬
‫ً‬
‫أطفال أي من أهل التقى‪ ،‬ففعلتم فعل األطفال وضممتم‬ ‫يف صدوركم ألنكم عدتم‬
‫أكف الرضاعة قائلني‪« :‬أيها اإلله الصالح العزيز‪».‬‬
‫أال فاخرجوا اآلن من غرفة األطفال‪ ،‬إن مغارتي قد شهدت اليوم جميع أالعيبهم‪،‬‬
‫اذهبوا وتأملوا خارجً ا يف طيش طفولتكم ويف نبضات قلوبكم‪.‬‬
‫ً‬
‫أطفال فال تدخلون ملكوت السماوات (قال هذا‬ ‫ال ريب يف أنكم إذا لم تعودوا‬
‫ورفع إصبعه نحو السماء‪).‬‬
‫ً‬
‫رجال ال‬ ‫فقالوا‪ :‬ال … ال نريد أن ندخل ملكوت السماوات؛ ألننا وقد أصبحنا‬

‫‪354‬‬
‫نطلب يف غري األرض ملكوتًا‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫واستأنف زارا الخطاب فقال‪ :‬أيْ أصدقائي الجدد‪ ،‬أيها الرجال الغريبو‬
‫األطوار‪ ،‬أنتم أيها الراقون إنني ألعجب اآلن بكم‪ ،‬لقد عاد رسوركم إليكم فتوردت‬
‫وجوهكم‪ ،‬وقد حق لكم كأزهار جديدة أن تعيِّدوا فأقمتم للحمار حفلة؛ إذ أردتم‬
‫أن ترسوا وأن يجيء زارا املرح بجنون شيخوخته لينري أرواحكم‪.‬‬
‫ال تنسوا هذه الليلة وهذا العيد‪ ،‬أيها الرجال الراقون فقد أبدعتم فيما اخرتعتم‬
‫يوجد مثل هذه األعياد إال الناقهون؛ ألنها نذير الشفاء‪.‬‬
‫وما ِ‬
‫فإذا ما احتفلتم بهذا العيد عيد الحمار‪ ،‬فاصنعوا هذا محبة بأنفسكم ومحبة‬
‫بي‪ ،‬اصنعوا هذا لذكري …‬
‫هكذا تكلم زارا …‬

‫‪355‬‬
‫نشيد الثمل‬

‫‪1‬‬
‫وبينما كان يتكلم خرجوا الواحد تلو اآلخر إىل الهواء الطلق وقبض زارا عىل‬
‫ذراع أقبح العاملني‪ ،‬وخرج به لرييه مشاهد الليل والشالالت املتدفقة قرب غاره‬
‫مفضضة بشعاع القمر‪ ،‬وأمام هذه الشالالت وقف جميع هؤالء الشيوخ وقد‬
‫ترسب العزاء إىل قلوبهم فشدد عزائمهم‪ ،‬وكان كل منهم معجبًا بذاته‪ ،‬وقال زارا‬
‫يف نفسه‪ ،‬لكم تشوقني رؤية هؤالء الراقني اآلن‪.‬‬
‫وعندئذ وقع أغرب حادث شهده القوم طوال يومهم؛ إذ رأوا أقبح العاملني‬
‫ً‬
‫مفتشا عىل كلمات لبيانه‪ ،‬فإذا به يتناول مسألة خطرية ذهبت تهز أحشاء‬ ‫يهدر‬
‫السامعني‪.‬‬
‫قال‪ :‬أيها األصحاب‪ ،‬هذه ألول مرة أحيا فيها الحياة كلها بيوم واحد‪ ،‬فقد كفاني‬
‫هذا العيد بصحبة زارا ألتعلم محبة األرض‪ ،‬فيمكنني اآلن أن أقول للموت‪ :‬أهذه‬
‫هي الحياة؟ إذن أعدني إليها مرة أخرى‪.‬‬
‫أفال تريدون أيها األصحاب أن تقولوا للموت ما أقوله له أهذه هي الحياة إذن‬
‫أعدنا إليها من أجل محبة زارا مرة أخرى‪.‬‬
‫هكذا تكلم أقبح العاملني وكان الليل قد قارب االنتصاف‪.‬‬
‫وأحس الرجال الراقون عندئذ بأنهم تحولوا عما كانوا عليه‪ ،‬وقاربوا الشفاء‬
‫وعلموا أن زارا قد بدل من حالهم فأقبلوا عليه يلثمون راحتيه حبًّا واحرتامً ا‬
‫فضحك بعضهم وبكى البعض اآلخر‪ ،‬وكان الساحر القديم يرقص طربًا‪ ،‬ولعله‬
‫ثامل من‬‫كان مأخوذًا بالسكر‪ ،‬عىل ما ينقله بعض الرواة‪ ،‬ولكنه وال ريب كان ً‬

‫‪356‬‬
‫حياته الجديدة بعد أن تخىل عن حياة الرتاخي والكسل‪ ،‬وقال بعض الرواة‪ :‬إن‬
‫الحمار نفسه بدأ يرقص متأث ًرا مما سقاه أقبح العاملني‪ ،‬وقد ال يكون الحمار‬
‫استسلم للرقص يف ذلك املساء فليس لألمر أهمية ما دامت الحوادث الجسام التي‬
‫وقعت حينذاك تفوت ما لرقص الحمار من شأن‪.‬‬
‫إن من آيات زارا قوله‪ :‬وأية أهمية لهذا‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫وعندما نطق أقبح العاملني بما ذكرنا كان زارا يف حالة اضطراب شديد؛ إذ انعقد‬
‫لسانه وارتجفت ركبتاه وتماوت نظره‪ ،‬ومن يدري ما كان يدور حينذاك يف خلده‪،‬‬
‫فكأنه كان يذهب بفكره مدًّا وجز ًرا ويتحفز للطريان‪ ،‬وقد شخص إىل األبعاد‬
‫ًّ‬
‫مطل من الذروة عىل بحرين أو سائ ًرا كغمام كثيف بني الدابر واملقبل من الزمان‪.‬‬
‫وأحاط الراقون بزارا يسندونه بسواعدهم إىل أن ثاب رشده إليه فدفع عنه‬
‫القوم املسارعني إىل تمجيده دون أن يقول شيئًا‪ ،‬ولكنه شخص كما يسمع صوتًا‪،‬‬
‫فوضع سبَّابته عىل شفتيه ورصخ‪ :‬تعالوا …‬
‫وساد الصمت ودوت من بعيد رنَّة جرس‪ ،‬فتنصت زارا ومن معه‪ ،‬ثم عاد يقول‬
‫وقد وضع سبابته عىل شفتيه ثانية‪ :‬تعالوا … تعالوا … لقد اقرتب نصف الليل‪.‬‬
‫َّ‬
‫وتغيت نربات صوته‪ ،‬ولكنه ظل يف موقفه‪.‬‬
‫وعاد السكوت يثقل عىل الكل حتى عىل الحمار والنرس واألفعوان والغار والقمر‬
‫الباهت والليل نفسه‪.‬‬
‫ورفع زارا سبابته للمرة الثالثة إىل شفتيه وقال‪ :‬تعالوا … تعالوا … هيا فقد‬
‫دنت الساعة‪ ،‬هيا بنا إىل الليل‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫أيها الرجال الراقون لقد انتصف الليل‪ ،‬ولسوف أ ُ ِ ُّ‬
‫س إليكم بما أرسه إيل َّ الجرس‬

‫‪357‬‬
‫القديم يف رنينه‪.‬‬
‫ُ‬
‫جرس نصف الليل القديم‬ ‫سأناجيكم بالرهبة واإلخالص الذين ناجاني بهما‬
‫البالغ من العمر ما ال يبلغ اإلنسان الفرد‪.‬‬
‫لقد ع َّد هذا الجرس من قلوب آبائكم نبضاتها فهو يزفر ساعة نصف الليل‬
‫زفريًا‪ ،‬ويرسلها ضح ًكا يف قلب الظالم‪.‬‬
‫أنصتوا! إن من األشياء ما ال تُعلن يف نور النهار أما يف هذه الساعة وقد اعتل‬
‫الهواء‪ ،‬وسكنت ضوضاء قلوبكم فإن األشياء تتناجى وتتفاهم وتتسلل إىل أرواح‬
‫السمر فيمتد بها ويطول‪ ،‬فاسمعوا زفري ساعة الليل وضحكها يف أحالمها‪.‬‬
‫أفال تسمعها أنت تناجيك برهبة وإخالص‪ ،‬أفال تسمع ما تقول ساعة نصف‬
‫الليل يف قِ دَمها وعمقها؟‬
‫أيها اإلنسان كن عىل حذر!‬
‫‪4‬‬
‫ُ‬
‫وقعت يف آبار ال قعر لها‪.‬‬ ‫ترسب الزمان؟ أفما‬
‫ويل يل! أين َّ‬
‫لقد نامت الدنيا‪ ،‬وياله إنني أسمع هرير الكلب‪ ،‬وأرى ملعان القمر‪ ،‬إنني ِّ‬
‫ألفضل‬
‫املوت عىل أن أبوح لكم بما يعتقده فؤادي عن نصف الليل‪.‬‬
‫لقد مت ُ‬
‫وقيض أمري!‬
‫ملاذا تمدين نسيجك حويل أيتها العنكبة‪ ،‬أتطلبني دمً ا؟ وياله لقد تساقطت‬
‫األنداء ودنت الساعة‪ ،‬الساعة التي سأرتجف فيها بردًا وأتحول منها إىل جليد‪،‬‬
‫الساعة التي تسأل وتسأل وال تكف عن السؤال قائلة‪ :‬من سيجرأ عىل هذا؟ من‬
‫سيكون سيد العالم‪ ،‬من يرىض ويريد أن يهتف باألنهار كبريها وصغريها‪ِ ،‬سريي‬
‫عىل ما أقرر لك‪.‬‬

‫‪358‬‬
‫لقد دنت الساعة أيها اإلنسان الراقي‪ ،‬فكن عىل حذر إن هذا الخطاب موجه إىل‬
‫مرهفات األسماع‪ ،‬إىل أسماعك‪.‬‬
‫ماذا يقول نصف الليل يف أعماقه؟‬
‫‪5‬‬
‫إنني محمول إىل هنالك‪ ،‬وروحي ترقص يف كل يوم! من سيكون سيد العالم يا‬
‫ترى؟‬
‫لقد نور القمر وسكن الهواء‪ ،‬وا أسفاه‪ ،‬هل تسنى لكم أن ترتفعوا بطريانكم‪،‬‬
‫لقد رقصتم ولكن الساق ليست جناحً ا‪.‬‬
‫أيها املجيدون يف رقصكم‪ ،‬لقد انقىض زمن الحبور فاستحال الخمر إىل خمرية‪،‬‬
‫لقد فرغت الكئوس وعلت همسات القبور‪.‬‬
‫إنكم لم تبلغوا األعايل يف طريانكم لذلك تنادي القبور‪« :‬أنقذوا األموات‪ ،‬ملاذا طال‬
‫بنا الليل؟ فهل أسكرنا شعاع القمر؟»‬
‫َ‬
‫الديدان ما‬ ‫فيا أيها الراقون أنقذوا القبور‪ ،‬ما لكم ال تُنهضون األموات‪ ،‬كفى‬
‫رعت! لقد دنت الساعة‪.‬‬
‫ال يزال الجرس يدوي برنينه فالقلب يزفر زفرات االحتقار‪ ،‬إن سوس القلب‬
‫ينخر شغافه‪.‬‬
‫وياله! ما أعمق هذا العالم‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫أيتها القيثارة! ل َكم أُحب نغمات أوتارك كأنها تتعاىل من بعيد ومن الزمان‬
‫املنرصم عن ضفاف نهر الغرام‪.‬‬
‫قرعت قلبَك األحزا ُن‪ ،‬أحزان‬
‫ْ‬ ‫ما أنت أيها الجرس إال هذه القيثارة املشجية فل َكم‬

‫‪359‬‬
‫اآلباء واألجداد والسلفاء األقدمني‪ ،‬حتى أنضجت دعوتك األزمان فغدت كالخريف‬
‫املذهب وكقلبي املنفرد‪ ،‬فأصبح صوتك كالمً ا والعالم نفسه قد نضج كالعناقيد‬
‫لوَّحها االسمرار فهو يريد أن يموت َّ‬
‫مكفنًا بحبوره‪.‬‬
‫أفما تنشقون يا رجال الرقي عبريًا يضوع خفيًّا‪ْ ،‬‬
‫إن هو إال عبري األبد‪ ،‬رائحة‬
‫خمرة السعادة املعتَّقة‪ ،‬السعادة الثاملة بشوقها إىل املوت املطلقة إنشادها يف‬
‫نصف الليل قائلة‪ :‬إن العالم عميق‪ ،‬إن العالم أعمق مما كان يظن النهار‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫دعني … دعني‪ ،‬إنني أطهر من أن تمسني يدك وقد أُكمل عاملي‪ ،‬دعني أيها‬
‫ً‬
‫إرشاقا؟‬ ‫النهار األحمق العبوس الثقيل‪ ،‬أفليست ساعة نصف الليل أشد منك‬
‫يجب عىل األطهار أن يسودوا العالم وهم املجهولون األقوياء تكمن فيهم أرواح‬
‫نصف الليل املشعة بأنوار أعمق وأصفى من أنوار النهار‪.‬‬
‫أيها النهار‪ ،‬إنك حويل وتراود سعادتي؛ ألنك تجد يف َّ أنا املنفرد ينبوع كنوز ال‬
‫تفنى‪.‬‬
‫أنت تطلبني‪ ،‬أيها العالم‪ ،‬وما أنا بالعاملي وال بالديني وال باإللهي‪ ،‬ما أثقلك أيها‬
‫النهار وما أثقلك أيها العالم!‬
‫لتذهب أيديكما عىل هدًى‪ ،‬لتذهب قابضة عىل سعادة أعمق وشقاء أعمق‪،‬‬
‫لتذهب مستولية عىل أحد اآللهة ولتدعني وشأني‪.‬‬
‫أيها النهار‪ ،‬إن سعادتي عميقة وشقائي عميق‪ ،‬ولكنني لست إلهً ا ولست حتى‬
‫جحيم ٍ‬
‫إله‪ ،‬وما أعمق أوجاع العالم!‬
‫‪8‬‬
‫أيها العالم الغريب‪ ،‬إن أوجاع اإلله أعمق من أوجاعك فاقبض عىل أوجاع اإلله‬
‫ودعني وشأني‪ ،‬فما أنا إال قيثارة تفيض عذوبة وسح ًرا‪.‬‬

‫‪360‬‬
‫أنا قيثارة نصف الليل‪ ،‬أنا جرس ال يفهم أحد بيانه وعليه أن ينطق أمام الصم‪،‬‬
‫وأنتم أيها الراقون ال تفهمون ما أقول‪.‬‬
‫لقد ُقيض األمر وتوارى الشباب مع الظهرية والعرص‪ ،‬فحان وقت املساء وأقبل‬
‫الليل ونصف الليل‪ ،‬وهذا الكلب وهذا الريح كالهما يعوي‪.‬‬
‫وهل الريح إال كلب ي ُّ‬
‫نئ ويعوي‪ ،‬فيا لصوت الريح من زفري وضحك وحرشجة‬
‫عند انتصاف الليل‪.‬‬
‫إنها لشاعرة سكرى تجاوزت حدود النشوة وطال سهدها‪ ،‬هذه الساعة القديمة‬
‫تداعب أوجاعها عند نصف الليل وتداعب ً‬
‫أيضا مرساتها‪ ،‬واملرسة عند اشتداد األلم‬
‫ً‬
‫وعمقا‪.‬‬ ‫تفوق األلم شد ًة‬
‫‪9‬‬
‫ملاذا تمتدحينني‪ ،‬أيتها الكرمة‪ ،‬أفما قطعت جفنتك بقساوة؛ فقطرت دمً ا فما‬
‫لثنائك يتجه إىل قسوتي الثاملة؟‬
‫أسمعك تقولني‪ :‬كل يشء بلغ كماله ونضوجه يطلب املوت تبارك منجل الكرام‪،‬‬
‫فما يتمسك بالحياة إال ما لم يبلغ النضوج بعد‪.‬‬
‫وانقض‪ ،‬ولكن املتألم يطلب الحياة قاصدًا أن ينضج‬ ‫ِ‬ ‫إن األلم يقول لنفسه م َّر‬
‫متشوقا إىل األبعد واألعىل واألشد صفاء‪ ،‬فكل من‬‫ً‬ ‫ويصبح مرحً ا مليئًا بالشهوات‬
‫يتحمل العذاب يصيح‪« :‬أريد َو َرثة يل‪ ،‬إنما مقصدي هو أوالدي ال أنا‪ ».‬يف حني أن‬
‫املرسة ال تطلب ورثة وال أوالدًا‪ .‬ال تقصد املرسة إال ذاتها وال تتشوق إال إىل الخلود‪،‬‬
‫إىل عودة األشياء بعد عبورها وإىل كل ما يشبه ذاته مستق ًرا إىل األبد‪.‬‬
‫يقول األلم‪ :‬انحطم يا هذا‪ ،‬اقطر دمً ا أيها القلب اذهبي أيتها الساق وتطاير أيها‬
‫الجناح بعيدًا نحو األعايل فما أنت إال آالم وأوجاع‪.‬‬
‫ِ‬
‫وانته …‬ ‫فهيا إذن يا قلبي الهرم ما دامت اآلالم تقول لك م َّر‬

‫‪361‬‬
‫‪10‬‬
‫أنبي أنا أم متوهم أم ثامل أم معرب‬
‫أيها الرجال الراقون ما تراكم تحسبونني؟ ٌّ‬
‫أحالم أم جرس يدوي يف نصف الليل؟‬
‫أأنا ندى أم بخور من األبدية؟‬
‫أفما سمعتم؟ أفما شعرتم بأن عاملي قد اكتمل؟‬
‫إن نصف الليل هو الظهرية ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫إن األلم لذة واللعنة بركة والليل شمس مرشقة‪.‬‬
‫ابتعدوا كيال يقال عنكم ً‬
‫أيضا إن الحكيم مجنون‪.‬‬
‫إذا كنتم أحسستم بفرح فقد أحسستم ً‬
‫أيضا بجميع األتراح‪ ،‬فجميع األشياء‬
‫متسلسلة متداخلة متعاشقة‪.‬‬
‫أفما اشتهيتم أن تعود املرة مرتني فهتفتم ارتياحً ا للذة لحني من الدهر ولطرفة‬
‫عني؟ إنكم بهذا التمني وددتم لو تعود األشياء جميعها متسلسلة متداخلة‬
‫متعاشقة‪ ،‬وهكذا أحببتم العالم‪ ،‬أيها الخالدون‪ ،‬فكان حبكم أبديًّا ال نهاية له‪.‬‬
‫قلتم لآلالم أن تنقيض ولكنكم دعوتموها لتعود؛ ألن كل لذة تطلب الخلود‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫ً‬
‫عسل وخمريًا وساعة ثاملة يف نصف‬ ‫إن اللذات تطلب الخلود لكل يشء‪ ،‬فرتيد‬
‫الليل‪ ،‬تريد قبو ًرا وتريد الدموع تنسكب مؤاسية عىل القبور والشمس الجانحة‬
‫بنورها الذهبي إىل الغروب‪.‬‬
‫وأي يشء ال تتشوق اللذة إليه؟! فهي أشد ظمأ وجوعً ا من األلم وفيها ما ليس‬
‫فيه من روعة وأرسار‪ ،‬فاللذة تطلب ذاتها وتنهش ذاتها‪ ،‬فهي إرادة تناضل يف‬
‫بغضا‪ ،‬تتمتع بالسعة فتجود وتقذف بما تبذل‪،‬‬‫حلقة مفرغة‪ ،‬تريد حبًّا وتريد ً‬

‫‪362‬‬
‫تسول لتهب نفسها وتشكر من يأخذها‪ ،‬فهي تشتهي أن تُقابل بالبغضاء‪.‬‬
‫ً‬ ‫تتسول‬
‫اللذة املتمتعة تشتهي األوجاع واالحرتاق يف الجحيم والعار وكل ما عراه التشويه‪،‬‬
‫فهي تلتهب بظمأ الحياة‪ ،‬وما خفيت عنكم الحيا ُة يف هذا العالم‪.‬‬
‫إن اللذة الثائرة السعيدة تشتاقكم أيها الراقون‪ ،‬وتحن إىل آالمكم أيها الفاشلون؛‬
‫ألن اللذة األبدية تتشوق أبدًا إىل كل محاولة فاشلة‪ ،‬فهي تطلب ذاتها إذ تطلب‬
‫األلم‪.‬‬
‫انحطم أيها القلب فأنت اللذة وأنت األلم‪.‬‬
‫تعلموا هذا أيها الراقون‪ :‬إن اللذة تطلب الخلود‪.‬‬
‫إن اللذة تطلب الخلود لجميع األشياء‪ ،‬خلودًا ال نهاية له‪.‬‬
‫‪12‬‬
‫أتعلمتم نشيدي اآلن! أأدركتم مغزاه؟‬
‫هيا إذن أيها الرجال الراقون‪ ،‬ترنموا بهذا النشيد‪ ،‬فهو نشيدي وعنوانه «مرة‬
‫أخرى» ومعناه «مدى األبد»‪.‬‬
‫تغنوا جميعً ا بنشيد زارا‬
‫أيها اإلنسان‪ ،‬كن عىل حذر‬
‫ماذا يقول نصف الليل؟‬
‫ً‬
‫طويل للوسن‬ ‫لقد استسلمت‬
‫وها أنذا انتبه من رقادي‬
‫إن العالم جد عميق‬
‫فهو أعمق مما يعتقد النهار‬

‫‪363‬‬
‫وآالمه عميقة‬
‫واللذة أعمق من اآلالم‬
‫وانقض‬
‫ِ‬ ‫يقول األلم‪ :‬م َّر يا هذا‬
‫ولكن ليس من لذة ال تطلب الخلود‬
‫خلودًا ال نهاية له!‬

‫‪364‬‬
‫النذير‬

‫ويف صبيحة اليوم التايل نهض زارا من مرقده فش َّد حَ ْقويه بنطاق‪ ،‬وخرج من‬
‫غاره ملتهبًا قويًّا كالغزالة التي كانت حينذاك تذر قرنها من وراء الغمام‪.‬‬
‫وانتصب زارا يناجي الشمس كما ناجاها من قبل ً‬
‫قائل‪« :‬لو لم يكن لك من‬
‫تنريين‪ ،‬أكانت لك غبطة أيتها املقلة املتوهجة بأنوار السعادة‪».‬‬
‫أفما يعز عليك أيها الكوكب العظيم أن يبقى من تنري يف مكامنهم وأنت طالع‬
‫لتهب األنوار وتنرشها عىل العاملني‪.‬‬
‫لقد نهضت أنا أما هؤالء الرجال الراقون فال يزالون مستغرقني يف نومهم‪،‬‬
‫أفيكون هؤالء الرجال رفاقي الصادقني؟ ال ليسوا هم من أنتظر بني هذه الجبال‪.‬‬
‫أريد أن أبدأ عميل من أول نهاري وهم يجهلون نذير صباحي وصوت أقدامي‬
‫ال ينذرهم بالرشوق‪.‬‬
‫إنهم راقدون يف غاري ولم تزل أحالمهم ترتوي من نشيدي يف نصف الليل‪،‬‬
‫فليست آذانهم باآلذان املرهفة لسماع أقوايل‪.‬‬
‫وكان زارا ذاهبًا يف نجواه والشمس تصعد يف األفق فإذا به يسمع رصخة‬
‫نرسه عىل الذرى فقال‪ :‬لقد انتبه معي نرسي وأفعواني للتسبيح أمام الشمس يف‬
‫رشوقها‪ ،‬فالنرس يقبض بمخلبه عىل النور الجديد‪ ،‬إنني أحب الحيوان الصادق‬
‫ولكن أين رجايل الصادقون؟!‬
‫ويف ذلك الحني أحس زارا كأن زرافات من الطيور تدور به‪ ،‬واشتد حفيف‬
‫األجنحة حول رأسه حتى اضطر إىل إغماض عينيه‪ ،‬فإذا به يشعر بوقع سهام‬
‫عليه كأنها مفوقة من قوس عدو جديد‪ ،‬وما كانت تلك الوخزات إال مداعبة طغمات‬

‫‪365‬‬
‫الحب للحبيب الجديد‪.‬‬
‫فقال زارا يف نفسه وقد استولت الحرية عليه‪ :‬ما أل َّم بي يا ترى؟‬
‫وقعد باحرتاس عىل الحجر الكبري أمام باب غاره‪ ،‬وبدأ يلوِّح بيديه لريد عنه‬
‫الطيور املتدافعة بحنانها إليه‪ ،‬ولكنه شعر بأن راحتيه تغوران يف لبد ٍة وسمع من‬
‫ملمس يديه زئري أسد‪ ،‬زئريًا ملؤه اللطف والحنان‪.‬‬
‫فصاح زارا‪ :‬لقد جاء اإلنذار‪.‬‬
‫وأحس بقوة تبدِّل من قلبه‪ ،‬ففتح عينيه فإذا بوحش ضخم أصفر اللون ممدد‬
‫عند قدميه‪ ،‬وقد أسند رأسه عىل ركبتيه كأنه كلب وجد صاحبه القديم فالزمه ال‬
‫يريد عنه انفكا ًكا‪.‬‬
‫وكانت أرساب الحمام ال تزال تتطاير حول زارا‪ ،‬وإذا أصاب جناح أحدها َ‬
‫أنف‬
‫ً‬
‫مندهشا ويستغرق يف ضحكه‪.‬‬ ‫األسد كان األسد يهز رأسه‬
‫عند هذا املشهد لم يقل زارا غري كلمة واحدة‪« :‬لقد اقرتب أبنائي‪ ».‬وصمت‬
‫صمتًا عميقا‪ ،‬غري أنه أحس بسقوط حمل ثقيل عن قلبه فانهمرت دموعه غزيرة‬
‫تب ُّل راحتيه‪ ،‬وذهل عن كل ما حوله ال يبدي حرا ًكا فجاءت طيور الحمام تقع عىل‬
‫كتفيه وتداعب شعره األبيض وال تني تغدق عليه عطفها وحنانها‪ ،‬وكان األسد‬
‫ً‬
‫مجففا ما عليهما من دموعه وهو يزأر‬ ‫مستم ًرا يف إرسال لسانه عىل راحتي زارا‬
‫ً‬
‫متمهل خاشعً ا‪.‬‬
‫وطال هذا املوقف ولعله لم يطل فليس ملثله عىل األرض من زمان‪.‬‬
‫وكان الرجال الراقدون نهضوا من رقادهم يف هذه األثناء وتهيَّئوا للخروج إىل‬
‫زارا ليقدموا له تحية الصباح‪ ،‬ولكنهم ما أطلوا من باب الغار حتى وثب األسد‬
‫وهجم عليهم‪ ،‬وهو يزمجر فرصخوا جميعً ا والذعر يمأل روعهم وتراجعوا ثم‬
‫اختفوا عن العيان‪.‬‬
‫ونهض زارا عن معقده وقد استوىل عليه الذهول فأدار لحاظه يف كل جهة وهو‬

‫‪366‬‬
‫يتساءل عما جرى له وعما رأى وسمع‪ ،‬ثم ثاب إليه رشده فانجلت أمامه حوادث‬
‫ً‬
‫جالسا عىل هذا‬ ‫يومه فقال وهو يمر أنامله عىل لحيته‪ :‬يف صبيحة األمس كنت‬
‫الحجر فتقدم العراف إيل َّ‪ ،‬وسمعت ألول مرة رصاخ االستنجاد فيا أيها الرجال‬
‫الراقون‪ ،‬إن ما أنبأني العراف به أمس إنما كان فشلكم ال غري وقد أراد أن يقودني‬
‫نحوكم لتجربتي فقال يل‪ :‬أي زارا‪ ،‬لقد أتيت ألوقعك يف آخر أخطائك‪.‬‬
‫وقهقه زارا ضاح ًكا غاضبًا من كلمة «آخر أخطائك» وتساءل عما تحتفظ هذه‬
‫الخطيئة له!‬
‫وعاد فاستوى عىل الحجر الكبري واستغرق يف تفكريه‪ ،‬ثم نهض بغتة وهو‬
‫يهتف‪« :‬هي الرحمة! الرحمة للرجال الراقني!»‬
‫وظهرت قساوة الفوالذ عىل سيمائه فقال‪« :‬لقد كان للرحمة زمانها‪».‬‬
‫أية أهمية لشهواتي ورحمتي‪ ،‬ما أنا طالب سعادة‪ ،‬إن ما أسعى إليه هو املهمة‬
‫التي وضعتها نصب إرادتي‪.‬‬
‫واآلن وقد جاء األسد‪ ،‬فقد اقرتب زمان أبنائي‪ ،‬أما أنا فقد بلغت النضوج ودنت‬
‫ساعتي!‬
‫هذا هو الشفق يلوح عىل صبيحتي وقد طلع نهاري‪ ،‬فأرشقي بأنوارك أيتها‬
‫الظهرية العظمى‪.‬‬
‫هكذا تكلم زارا وهو يبارح مغارته مليئًا بالعزم والقوة كشمس الصباح املنبثقة‬
‫من وراء الغيوم‪.‬‬

‫‪367‬‬
‫ملحق‬

‫لقد أُخِ ذت الشذرات التي ُخصص هذا امللحق لها من مفكرات فريدريك نيتشه‬
‫الخاصة‪ ،‬ولعله دونها ليكتب رسالة يوضح فيها ما يجلو اإلبهام يف بعض أقوال‬
‫زرادشت‪ ،‬وقد رأينا إلحاقها بهذا الكتاب تكملة لها شأنها إلدراك نظريات هذا‬
‫الفيلسوف‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫لقد تزعزعت األهداف جميعها‪ ،‬وذهبت التقديرات يف ميادين التفكري متصادمة‬
‫متناقضة‪.‬‬
‫يُدعى صالحً ا مَ ن يتبع ما يوحي إليه قلبه‪ ،‬كما يُدعى صالحً ا ً‬
‫أيضا من ال يصيخ‬
‫إال لصوت الواجب‪.‬‬
‫يُدعى صالحً ا الرجل اللطيف املسالم‪ ،‬كما يُدعى صالحً ا ً‬
‫أيضا الرجل الجسور‬
‫العنيد القايس‪.‬‬
‫يُدعى صالحً ا من ال يكبت نزعاته‪ ،‬كما يُدعى صالحً ا ً‬
‫أيضا من يتح َّكم فيها‪.‬‬
‫أيضا من يموِّه‬ ‫ً‬
‫مطلقا‪ ،‬كما يُدعى صالحً ا ً‬ ‫يُدعى صالحً ا من يطمح إىل الحقائق‬
‫مظاهر األشياء‪.‬‬
‫يُدعى صالحً ا من يجاري نفسه كما يُدعى صالحً ا ً‬
‫أيضا من يتصف بالخشية‬
‫والتقوى‪.‬‬
‫يُدعى صالحً ا الرجل املمتاز النبيل‪ ،‬كما يُدعى صالحً ا ً‬
‫أيضا الرجل الذي ال‬

‫‪368‬‬
‫يحتقر أحدا وال يرتفع عيل أحد‬
‫يدعي صالحً ا الرجل الطيب الذي يتقي الجَ دَل‪ ،‬كما يدعي صالحً ا أيضا الرجل‬
‫املتشوق أبدًا إىل العراك والظفر‪.‬‬
‫يُدعى صالحً ا من يطمح إىل املقام األول‪ ،‬ويُدعى صالحً ا ً‬
‫أيضا من ال قبل له‬
‫باالنتفاع مما يُلحق الرضر بسواه‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫إن يف اإلنسان قو ًة عظمى من الحوافز األدبية غري أنها ال تجد لها ً‬
‫هدفا واحدًا‬
‫تتجه بأجمعها إليه‪ ،‬فهي تذهب متعاكسة متناقضة؛ ألنها نشأت من رشائع‬
‫تعددت ألواحها‪.‬‬
‫يف العالم قوة أدبية ال ح َّد لها‪ ،‬ولكن العالم قد حُ رم من مقصد واحد تُبذل هذه‬
‫القوة يف سبيله‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫لقد ُهدمت األهداف جميعها‪ ،‬فعىل اإلنسانية أن تقيم لها ً‬
‫هدفا‪ ،‬ومن الخطأ أن‬
‫نعتقد بوجود غاية ترمي اإلنسانية إليها حيث ال هدف‪ ،‬لقد أقامت جميع الفرق‬
‫ٍ‬
‫غايات غري أن هذه الغايات اضمحلت جميعها بتبدل حاالتها األصلية‪.‬‬ ‫لنفسها‬
‫إن العلم يهدي السبيل وال يدل عىل الهدف غري أنه يورد من املبادئ ما يصور‬
‫الغاية تصوي ًرا‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫عُ قم القرن التاسع عرش‪.‬‬
‫رجل أتى بمَ ثَل أعىل جديد‪ ،‬غري أن املوسيقى األملانية‬
‫ما صادفت حتى اليوم ً‬
‫ً‬
‫مجال آلمايل وأولتني االعتقاد بأنها ستوحد بني القوى‪.‬‬ ‫فتحت‬

‫‪369‬‬
‫إن نظرة واحدة تكفي املتأمل لريى أن كل يشء يتداعى‪ ،‬فيجب أن يعمل‬
‫ً‬
‫مجال إلقامة الحياة عىل شكل جديد‪.‬‬ ‫الهادمون بطريقة تدع لألقوياء‬
‫‪5‬‬
‫إن انحالل املبادئ األدبية ينتج عنه بالفعل تفكك الشخصية يف الفرد ويف‬
‫املجموع؛ فيسود االضطراب ك َّل يشء‪ ،‬لذلك ال بد من وجود غاية يتجه االستقرار‬
‫نحوها‪ ،‬ال ب َّد من محبة جديدة‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫لقد كنت أتنفس بحرشجة املختنق ومبادئكم األدبية مع َّلقة فوق رأيس فعمدت‬
‫إىل قتلها كما تُقتل األفاعي‪ ،‬أردت الحياة فوجب عيل َّ أن أموت‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫ما دمنا يف حاجة إىل العمل والقيادة‪ ،‬فليس لنا أن نستغني عن الشخصية‬
‫األدبية‪ ،‬وال بد لنا من الرىض بالواقع؛ ألن القائد ال يسري إىل ما وراء هدفه إذا هو‬
‫لم يجد لذة يف عمله‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫ليس من أحد يرىض بتحمل تبعة العمل‪ ،‬إذا لم يصدر به أمر‪ ،‬ولكن الناس‬
‫يهرعون جميعً ا إىل القيام بأصعب األعمال إذا أمرتهم أنت‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫ملن صعاب األمور أن يتغلب اإلنسان عىل ما كمن فيه من مايض الزمان فينظم‬
‫الحوافز لدفعها متحدة إىل هدف واحد‪ ،‬ذلك ألن هذا العمل ال يقوم عىل إلغاء‬
‫الغرائز الرشيرة فحسب بل يستدعي منك ً‬
‫أيضا أن تمحو الغرائز الطيبة لتعود‬
‫إىل بعثها‪.‬‬

‫‪370‬‬
‫‪10‬‬
‫حذار من الطفرة عىل مسلك الفضيلة‪ ،‬فعىل كل فرد أن يسري يف طريقه وإن‬
‫ِ‬
‫جنح عن طريق اآلخرين دون أن يطمح إىل بلوغ الذروة وحده؛ إذ عىل كل سائر‬
‫جرسا للمتقدمني وقدوة للمتأخرين‪.‬‬
‫ً‬ ‫أن يكون‬
‫‪11‬‬
‫قد يصبح اإلنسان العادي السطحي محتمَ ًل‪ ،‬وال بأس به إذا هو اتجه بإرادته‬
‫إىل إعانة سواه واإلشفاق عليه راضيًا بالطاعة مبتعدًا عن التهجم‪ ،‬فاحذر أن‬
‫تزعزع اعتقاد مثل هذا اإلنسان بأن هذه الصفات إنما هي الفضيلة بعينها‪.‬‬
‫‪12‬‬
‫إذا أمكن لإلنسان أن يجعل للعمل قيمة‪ ،‬فكيف يتسنى للعمل أن يجعل اإلنسان‬
‫ذا قيمة‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫إن املبادئ األدبية تشغل من ال قبل لهم باالستغناء عنها فهي جزء من أسباب‬
‫حياتهم‪ ،‬وال يمكن ألحد أن يدحض أسباب الحياة … إال إذا كانت معدومة ً‬
‫أصل‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫لو صحَّ أن ليس يف الحياة ما يستحق التمسك فيه‪ ،‬لكان ذو املبادئ األدبية‬
‫يلحق الرضر بأبناء جنسه من ج َّراء غرييته وفضيلة إحسانه ليستفيد من هذا‬
‫الرضر لنفسه‪.‬‬
‫‪15‬‬
‫إن األمر بمحبة القريب معناه ال تهتم لقريبك‪ ،‬وعدم االهتمام بالقريب إنما هو‬
‫أصعب ما تقيض به الفضيلة‪.‬‬

‫‪371‬‬
‫‪16‬‬
‫إن اإلنسان الرشير إنما هو طفييل‪ ،‬وليس من النبل َّأل يحيا اإلنسان َّإل ليتمتع‬
‫بامللذات‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫إن العاطفة النبيلة تصدنا عن أن نحيا للتمتع بامللذات فقط؛ إذ علينا أن نقوم‬
‫بيشء لقاءها‪ ،‬ولكن طبقة العامة تعتقد بأن لإلنسان أن يحيا دون أن يتقاىض‬
‫الحياة شيئًا ويف هذه العقيدة علة انحطاطها‪.‬‬
‫‪18‬‬
‫للسنن املتناقضة‪ ،‬فإذا شئت أن تزرع الفضيلة فيه‬‫إن اإلنسان املنحط يخضع ُّ‬
‫وجب عليك أن تسلخه عن حياته إرغامً ا وتسوده طغيانًا‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫الحق املطلوب‪ :‬يجب أن تتم الرشعة الجديدة‪ ،‬ولن تتم إال بزوال الرشائع العليا‬
‫وزرادشت ينتصب بوجهها إللغاء رشيعة الرشائع وهي اآلداب‪.‬‬
‫إن الرشائع يف مقام السلسلة الفقرية من املجتمع؛ لذلك وجب أن نوحِّ دها‬
‫بالقضاء منها عىل ما كان يخضع له اإلنسان حتى اليوم بسائق العبودية‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫يجب أن يكون زرادشت يف االنتصار عىل نفسه قدوة تتبعها اإلنسانية لالنتصار‬
‫عىل نفسها يف سبيل اإلنسان املتفوق لذلك وجب عىل اإلنسانية أن تتغلب عىل‬
‫املبادئ األدبية‪.‬‬
‫‪21‬‬
‫ما هي سيماء املشرتع وما هو ارتقاؤه وما هي آالمه؟ وما هو معنى االشرتاع‬

‫‪372‬‬
‫بوجه عام؟‬
‫ليس زرادشت إال نذي ًرا بمشرتعني عديدين‪.‬‬
‫‪22‬‬
‫عنارص مختلفة‪:‬‬
‫(‪)1‬الحاكمون‪ ،‬وهم مَ ن ال يتوقون إال إىل الصور التي يُبدعونها؛ ألنهم غزيرو‬
‫املادة مط َلقون يتفوقون عىل ما هو كائن‪.‬‬
‫(‪)2‬املطيعون‪ ،‬وهم املتحررون الذين يجدون سعادتهم يف الحب واالحرتام‬
‫ويدركون معنى الرقي‪ ،‬وعليهم أن يتجهوا بالتأمل إىل إلغاء ما فيهم من عيوب‪.‬‬
‫(‪)3‬املستعبدون‪ ،‬وهم الطبقة املستخدَمة‪ ،‬وعليهم تأمني رغد العيش وإيجاد‬
‫الرحمة بني أفرادهم‪.‬‬
‫‪23‬‬
‫الواهب واملبدع واملعلم ثالثة ينذرون بقدوم من سيسود‪.‬‬
‫‪24‬‬
‫كل فضيلة وكل انتصار عىل الذات ليسا إال تمهيدًا لطريق من سيسود‪.‬‬
‫‪25‬‬
‫كل ضحية يقوم بها السائد تُحتسب له مائة ضعف‪.‬‬
‫‪26‬‬
‫ٍ‬
‫بتضحية‪ ،‬فقد حق له أن‬ ‫إذا ما قام قائد الجند أو األمري أو املسئول تجاه نفسه‬
‫يُمجَّ د عىل مأل األشهاد‪.‬‬
‫‪27‬‬

‫‪373‬‬
‫إن خارقة السائد الذي يثقف نفسه هي أنه يقيم فيها صورة للشعب الذي‬
‫يطلب السيادة عليه‪ ،‬حتى إذا تجلت هذه الصورة للشعب أسلس له قياده‪.‬‬
‫‪28‬‬
‫ً‬
‫مجال‬ ‫يعمل املثقف الكبري عمل الطبيعة يف ما يعرتض سريها‪ ،‬فيدع للحوائل‬
‫للرتاكم حتى يتغلب عليها‪.‬‬
‫‪29‬‬
‫ليس املعلمون املجددون إال الخطوط األوىل يضعها الرسام األعظم فتبقى هذه‬
‫الخطوط مطبوعة عىل غرارهم‪.‬‬
‫‪30‬‬
‫مجسمً ا لشخصيتهم إىل أن ينمو ويأتي‬
‫ِّ‬ ‫إن ما يؤسسه عظماء األفراد يبقى‬
‫بثماره‪.‬‬
‫‪31‬‬
‫َّ‬
‫فيتوسلون بإنشاء الجمعيات‬ ‫يحاول الناس أبدًا أن يستغنوا عن األفراد والعظماء‬
‫ً‬
‫مطلقا تابعني لهؤالء األماثل فينسجون عىل منوالهم‪.‬‬ ‫والهيئات‪ ،‬ولكنهم يبقون‬
‫‪32‬‬
‫ً‬
‫طبقة عاملة‬ ‫إن األهداف االجتماعية ترجع باإلنسان َ‬
‫القهْ قرى‪ ،‬فهي توجد‬
‫وتخلق نوعً ا من الناس ال ب َّد من عبوديته يف املستقبل‪.‬‬
‫‪33‬‬
‫ليس من ظلم أروع من حق املساواة بني الجميع؛ ألنه يقيم نظامً ا ينزل اإلرهاق‬
‫األشد بأهل الرقي‪.‬‬
‫‪34‬‬

‫‪374‬‬
‫ليس يف الكون ما يصح أن يسمى حق األقوى‪ ،‬ألن األقوى واألضعف متساويان‬
‫يف أن ًّ‬
‫كل منهما يمد سلطانه عىل قدر استطاعته‪.‬‬
‫‪35‬‬
‫تقدي ٌر جدي ٌد لإلنسان‪ :‬السؤال ً‬
‫أول‪:‬‬
‫عن عدد القوى الكامنة فيه‪.‬‬
‫عن عدد الغرائز املختلفة‪.‬‬
‫عن مؤهالته املؤثرة ومؤهالته املتأثرة‪.‬‬
‫ما هي مميزات رب السيادة؟‬
‫‪36‬‬
‫إن زرادشت مرتاح إىل انتهاء العراك بني الطبقات واس ِتتْباب النظام عىل أساس‬
‫امليزة الفردية‪ ،‬وقد كانت الخطوات األوىل نحو التمهيد للشعبية مليئة باألحقاد‪،‬‬
‫فلم يبق اآلن بعد اجتياز هذه املرحلة َّ‬
‫املوفقة إال القيام بعمل آخر فيه ح ُّل املشكل‬
‫االجتماعي‪.‬‬
‫إن تعاليم زرادشت قد وجهت إىل الطبقة املعدَّة للسيادة يف آتي الزمان؛ ألن‬
‫عىل من سيحكمون األرض أن يقوموا مقام اآللهة ليخلقوا يف الطبقة املحكومة‬
‫أول أن يمهدوا سبل السعادة ملن هم دونهم بتضحية‬ ‫الثقة التامة األصيلة‪ ،‬فعليهم ً‬
‫لذَّاتهم وراحتهم وعليهم أن ينقذوا من ال يصلحون للحياة بالقضاء عليهم دون‬
‫إمهال‪ ،‬ثم ينرشون أديانًا وطرائق تتوافق وكل حلقة من سلسلة املجتمع‪.‬‬
‫‪37‬‬
‫إن جهاد السائد إنما يكون يف توفيقه بني محبته ملن حوله ومحبته ملن سيأتون‬
‫يف املستقبل البعيد‪.‬‬

‫‪375‬‬
‫إن صالح املبدع ال يتحمَّ ل التجزئة فهو صالح واحد‪ ،‬ولكنه يتناول األقربني من‬
‫جهة ويمتد إىل األبعدين من جهة أخرى‪.‬‬
‫‪38‬‬
‫يقوم الشعور بالسلطان عىل نضال بني أقانيم الذات لالهتداء إىل الفكرة التي‬
‫تتعاىل كالنجم عىل ُسهى اإلنسانية وما الذات إال األوَّلية املتحركة‪.‬‬
‫‪39‬‬
‫إن زرادشت يدعو إىل الكفاح لالستفادة من السلطان املتجيل يف البرشية‪.‬‬
‫‪40‬‬
‫إن بلوغ املثل األعىل إنما يقوم عىل الكفاح يف سبيل السلطان عىل منهج ال‬
‫يناقض هذا املثل‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫إن ُسنَّة الرجوع إنما هي مدار القطب للتاريخ‪.‬‬
‫‪42‬‬
‫إن مجال الحقيقة ينفرج بغتة أمام البصائر‪ ،‬فاملعرفة الصعبة املنال تتحصن‬
‫يف الرسيرة وتكفل مناعتها بالتحوط والتخفي‪ ،‬وقد عشت حتى اآلن ونفيس تواري‬
‫شيئًا عن نفيس‪ ،‬غري أن ما بذلته من جهد مستمر يف رفع الصخور أوىل غريزتي‬
‫قوة ال ح َّد لها‪ ،‬وها أنذا أقلب الصخر األخري‪ ،‬وها أنذا أمام الحقيقة وجهً ا لوجه‪.‬‬
‫استغاثة الحقيقة من أعماق اللحود‪ ،‬لقد أوجدنا الحقيقة ببعثها من مرقدها‬
‫فكان يف ذلك أشد مظهر للشعور بالسلطان فيجب علينا احتقار التشاؤم عىل ما‬
‫فهم الناس منه حتى اليوم‪.‬‬
‫إننا يف عراك مع الحقيقة‪ ،‬وقد رأينا أن ال سبيل للصرب عليها إال بإيجاد اإلنسان‬

‫‪376‬‬
‫الذي يقدر عىل احتمالها‪ ،‬وإال فال بد من أن نعود إىل الوقوف أمامها مبهورين‬
‫حتى تورثنا العمى‪ ،‬وليس بوسعنا أن نقف هذا املوقف بعد اآلن‪.‬‬
‫ُّ‬
‫يستخف‬ ‫فلنبدعن اآلن إنسانًا‬
‫َّ‬ ‫لقد أوجدنا الفكرة التي ك َّلفتنا أوفر الجهود‬
‫حملها فتوليه السعادة‪.‬‬
‫وإذا ما أردنا التمتع بسلطان اإلبداع وجب علينا أن نمنح أنفسنا من الحرية‬
‫ما لم تُمنَحه يف أي زمن من األزمان‪ ،‬ولن نبلغ ما نرجو ما لم نطرح عبء املبادئ‬
‫األدبية ونكتسب الرشاقة بالحبور‪ ،‬يجب علينا أن نشعر بما نتوقع آلتي الزمان‬
‫ونمجِّ د املستقبل دون املايض‪ ،‬علينا أن نصور بأجمل بيان شعري أسطورة‬
‫املستقبل فنحيا بجميل األمل نعيش به زمنًا رغدًا‪ ،‬ثم نسدل الستار ونحوِّل‬
‫تفكرينا إىل األهداف القريبة املعيَّنة‪.‬‬
‫‪43‬‬
‫عىل اإلنسانية أن تنصب هدفها ما وراء مجالها الحايل ال يف عالم األوهام بل يف‬
‫امتداد كيانها نفسه‪.‬‬
‫‪44‬‬

‫كلما أُوجدت إرادة تندفع إىل اآلتي ِ‬


‫وجدت حولها بيئتُها‪ ،‬ولزم أن نتوقع حدثًا‬
‫عظيمً ا‪.‬‬
‫‪45‬‬
‫إن ما ُفطرنا عليه هو أن نخلق كائنًا يتفوق علينا‪ ،‬تلك هي غريزة الحركة‬
‫ٍ‬
‫هدف لها هكذا يدعو وجود اإلنسان‬ ‫والعمل‪ ،‬وكما أن كل إرادة تستلزم افرتاض‬
‫إىل افرتاض كائن لم يوجد بعد وهو هدف حياة اإلنسان نفسه‪.‬‬
‫إن يف الهدف مستق ًّرا للحب ولالحرتام‪ ،‬وفيه مكمن للشوق ومنه تنبعث رؤى‬
‫الكمال‪.‬‬

‫‪377‬‬
‫‪46‬‬
‫أناس يعتلون فوق كل نوع إنساني‪ ،‬وعلينا أن نضحي‬
‫إن ما أطالب به هو خلق ٍ‬
‫يف هذا السبيل أنفسنا وأبناء جنسنا‪.‬‬
‫إن لآلداب التي سادت حتى اليوم حدودها يف مجال الزمان واملكان فقد كان لها‬
‫نفعها؛ ألنها سارت جميعها بالجنس البرشي إىل حالة االستقرار املطلق‪ ،‬ولهذا‬
‫وجب أن يقتلع الهدف لرتكيزه عىل موقع أرفع‪.‬‬
‫وال أجد فائدة من العمل عىل إيجاد املساواة بني الناس‪ ،‬بل أدعو بعكس ذلك إىل‬
‫تقوية الفروق وتعميق املهاوي إللغاء املساواة وخلق الرجال األشداء‪ ،‬وبهذا يولد‬
‫اإلنسان املتفوق‪.‬‬
‫وما نقصد أن تصري اإلنسانية إىل حالة يتس َّلط املتفوقون فيها عىل املتقهقرين‪،‬‬
‫بل يجب أن تبقى الفئتان مفرتقتني قدر املستطاع فال تهتم إحداهما باألخرى‪،‬‬
‫فيستتب األمر عىل مثال ما تصوره أبقراط آللهته‪.‬‬
‫‪47‬‬
‫إن لإلنسان املتفوق يف دائرته العليا ما يقابله يف الدائرة السفىل من جنسه‪ ،‬فقد‬
‫أوجدت املتفوق واملتقهقر يف آن واحد‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫كلما ازدادت حرية املرء وانجلت إرادته‪ ،‬ازدادت مطالب شوقه حتى تؤدي به‬
‫إىل مرتبة التفوق؛ إذ يصبح كل ما هو دون هذه املرتبة عاج ًزا عن إرضاء محبته‪.‬‬
‫‪49‬‬
‫يف وسط الشوط يولد اإلنسان املتفوق‪.‬‬
‫‪50‬‬

‫‪378‬‬
‫لقد سادني االضطراب بني الناس فكنت أود الحياة بينهم وال أجد ما يرضيني‬
‫فيهم‪ ،‬فذهبت إىل العزلة حث انفردت بنفيس وأبدعت اإلنسان املتفوق‪ ،‬ملقيًا عليه‬
‫ستار التحول تشع فوقه أنوار الظهرية‪.‬‬
‫‪51‬‬
‫إننا نريد أن نخلق كائنًا نحوطه بالحب جميعً ا ونحنو عليه‪ ،‬لذلك وجب علينا‬
‫أن نحرتم أنفسنا‪.‬‬
‫لنضع نصب أعيننا ً‬
‫هدفا نتبادل الحب من أجله‪ ،‬ولنُعرض عن سائر األهداف‬
‫فإنها أوىل بالهدم‪.‬‬
‫‪52‬‬
‫إن مبدأ زرادشت هو أن خري الناس أقواهم جسمً ا وروحً ا‪ ،‬فيجب أن نستثمر‬
‫منهم اآلداب العليا‪ :‬آداب املبدعني‪ .‬إن زرادشت يريد استعادة خلق اإلنسان عىل‬
‫صورته ومثاله‪ .‬وإرادتُه هذه تن ُّم عن إخالصه‪.‬‬
‫‪53‬‬
‫َّ‬
‫مجسم تفكريها‪.‬‬ ‫إن العبقرية لتجد يف زرادشت‬
‫‪54‬‬
‫إن العزلة إىل حني رضورية التساع الذات وامتالئها‪ ،‬فالعزلة تشفي أدواءها‬
‫وتشدد عزمها‪.‬‬
‫يجب أن تُبنى الجماعات عىل أساس العراك والنضال وإال فمصريها إىل اإلقدام‬
‫عىل املالهي والرتاجع أمام كل هجوم‪ .‬إنني أدعو إىل الحرب حربًا ال حديد فيها وال‬
‫نار تتقارع فيها املبادئ ويتبارى أصحاب األفكار يف ميدانها‪.‬‬
‫يجب إيجاد فئة النبالء بانتخاب األصلح واختيار مراسم جديدة لتأسيس‬

‫‪379‬‬
‫األرسة‪.‬‬
‫تقسيم النهار تقسيمً ا جديدًا‪ ،‬ونرش الرياضة بني الجميع كبا ًرا وصغا ًرا‪،‬‬
‫واعتبار النضال مبدأ ً أوليًّا‪.‬‬
‫النظر إىل املحبة الجنسية كجهاد من أجل من سيأتون بعدنا‪.‬‬
‫ً‬
‫ولطفا‪ ،‬وعند نوال قوة التحكم يف حالة‪ ،‬السعي إىل نوالها‬ ‫تعليم التسلط قساوة‬
‫يف الحالة التي تليها‪.‬‬
‫اقتباس ما يمكن اقتباسه عن األرشار وفتح مجال للنضال أمامهم؛ إذ يجب‬
‫استخدام املنحطني ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫يجب أن يرسو حق العقاب عىل اتخاذ املجرمني أدوات للتجارب العلمية —‬
‫ومنها التجارب إليجاد طريقة جديدة للتغذية — وبذلك يُربر استخدام الفرد‬
‫لخري املجموع‪.‬‬
‫إننا نعامل باملداراة مجتمعنا الجديد؛ ألنه معرب يؤدي إىل املثل األعىل يف آتي‬
‫الزمان‪ ،‬وما نعمل نحن وندفع باآلخرين إىل العمل إال يف سبيل هذا املثل األعىل‪.‬‬
‫‪55‬‬
‫وجود الطرق والوسائل لالندفاع إىل ما وراء اإلنسانية‪ ،‬وعلينا أن نجد من‬
‫اإلنسان نوعه األعىل واألشد‪.‬‬
‫يجب أن نتمثل أبدًا بما يف األصاغر من نزوع إىل األفضل‪ ،‬إىل التكامل والنضوج‪،‬‬
‫إىل الصحة وإشعاع القوة‪.‬‬
‫يجب أن يعمل كل واحد عمله اليومي بعاطفة الفنان؛ إلبالغ ما يقوم بصنعه‬
‫حد الكمال‪ ،‬والنظر إىل ما يجب صنعه بدون مغاالة كما يليق بأهل االقتدار‪.‬‬
‫‪56‬‬

‫‪380‬‬
‫تذرعوا بالصرب فإن اإلنسان املتفوق مرتبتكم التالية‪ ،‬فيجب عليكم أن تتصفوا‬
‫باالعتدال والرجولة‪.‬‬
‫لنرفعن اإلنسان فوق مستواه أُسوة باليونان‪ ،‬فال نطمح إىل الخوارق العقلية‪،‬‬
‫وخري لنا أن نستبعد العقل الراجح إذا قيده الخلق الضعيف واألعصاب املتهدمة‪،‬‬
‫وليكن هدفنا إنما َء الجسد كله ال الدماغ وحده‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫ما اإلنسان إال كائن يجب التفوق عليه‪ ،‬نظرة إىل خطوات اليونانيني املتزنة بال‬
‫تسارع وال إبطاء‪.‬‬
‫نظرة إىل طالئعي‪ :‬هرقليت وأمبيدوكل وسبينوزا وغوته‪.‬‬
‫‪58‬‬
‫(‪ )1‬التضجر من الذات‪ .‬ترياق ضد الندم‪ .‬تحول األمزجة «الوسائل الغري‬
‫العضوية»‪ .‬اإلرادة يف عدم االرتياح‪ .‬يجب أن يصل عطشنا إىل أشد حاالته قبل أن‬
‫نحاول اكتشاف ينبوع إلروائه‪.‬‬
‫(‪ )2‬تحويل املوت ليصبح وسيلة للظفر واملجد‪.‬‬
‫(‪ )3‬املرض وما يتخذ تجاهه‪ .‬حرية اختيار املوت‪.‬‬
‫(‪ )4‬الحب الجنيس كوسيلة لبلوغ املثل األعىل «التشوق إىل الفناء يف القوة‬
‫املعاكسة‪ ».‬محبة األلوهية املتأملة‪.‬‬
‫(‪ )5‬التوليد كأقدس األعمال‪ ،‬الحبل‪ .‬إبداع الرجل واملرأة الذين يتجهان بإيجاد‬
‫الطفل إىل التلذذ بوحدتهما ورفع هيكل التحادهما‪.‬‬
‫(‪ )6‬اإلشفاق كخطر‪ .‬إيجاد األحوال املالئمة ليتمكن كل فرد من معونة نفسه‬
‫ومن التمتع بحريته يف قبول املساعدة أو رفضها‪.‬‬

‫‪381‬‬
‫(‪ )7‬الثقافة يف اتجاه الرش ليثري اإلنسا ُن شيطانه الكامن‪.‬‬
‫(‪ )8‬الجهاد الداخيل كوسيلة للرقي‪.‬‬
‫(‪ )9‬حفظ النوع وفكرة العودة املستمرة‪.‬‬
‫‪59‬‬
‫ُسن َّ ٌة أوليَّة‪ :‬تخطي املراتب دون طفرة‪ ،‬وبلوغ الكمال يف كل مرتبة بالشعور‬
‫باالرتياح فيها‪.‬‬
‫العمل ً‬
‫أول يف الترشيع‪ .‬إن فكرة العودة املستمرة فكرة بعد الوعد باإلنسان‬
‫املتفوق مروعة ولكنها أصبحت مقبولة اآلن‪.‬‬
‫‪60‬‬
‫إن الحياة نفسها قد أوجدت فكر ًة هي أصعب ما تحتمل الحياة؛ ألنها تطمح‬
‫إىل تذليل أعظم عقباتها‪ ،‬وهي أن يطلب اإلنسان العدم ليتمكن من العودة إىل‬
‫الوجود يومً ا‪.‬‬
‫لتكن حياتك عبارة عن تحول يف ألف روح‪ ،‬وليكن هذا ما ُقدِّر عليك‪ ،‬فتصبح‬
‫إرادتك منصبة عىل قبول هذه الحلقات املتوالية‪.‬‬
‫‪61‬‬
‫إن أعظم ما نطمح إليه هو أن نرىض بخلودنا ونتحمَّ له‪.‬‬
‫‪62‬‬
‫إن الفرتة التي أتيت فيها بفكرة العودة املستمرة إنما هي فرتة خالدة‪ ،‬أحتمل‬
‫من أجلها هذه العودة‪.‬‬
‫‪63‬‬

‫‪382‬‬
‫إن مبدأ العودة املستمرة يرهق النبالء ألول وهلة؛ ألن هذه العودة تؤدي يف‬
‫الظاهر إىل القضاء عليهم لالستبقاء عىل مخلوقات سخيفة أقل رض ًرا‪ ،‬ولعل‬
‫النبالء يقولون‪« :‬يجب إبادة هذا املبدأ وقتل زرادشت‪».‬‬
‫‪64‬‬
‫يرتدد أتباع زرادشت ويقولون‪« :‬سنتوصل إىل االعتياد عىل هذا املبدأ‪ ،‬غري أنه‬
‫سيدفع بنا إىل القضاء عىل العدد األوفر من الناس‪».‬‬
‫يضحك زرادشت ويقول‪« :‬لقد وضعت املطرقة يف يدكم وعليكم أن تستعملوها‪».‬‬
‫‪65‬‬
‫إنني لن أخاطبكم كما أخاطب الشعوب؛ ألن كل شعب يقيض عىل نفسه‬
‫باحتقارها‪ ،‬ويتبادل الشعوب االحتقار فيُفني أحدهم اآلخر‪.‬‬
‫‪66‬‬
‫إن طموحي إىل فعل الخري يضطرني إىل الصمت غري أن إرادتي املتجهة إىل‬
‫إبداع اإلنسان املتفوق تأمرني بأن أتكلم وأضحِّ ي حتى مَ ن أحب‪.‬‬
‫عيل َّ أن أتطبع وأتحوَّل فأطبعكم وأحولكم‪ ،‬وال سبيل لنا بغري هذا إىل احتمال‬
‫هذا اإلنسان املتفوق‪.‬‬
‫‪67‬‬
‫منشأ اإلنسان الراقي‪ .‬إن ثقافة الرجل األفضل تقوم عىل األلم األشد‪ .‬بيان عن‬
‫املثل األعىل الذي يتجه إليه زرادشت ويستدعي ما تحمَّ ل من تضحية يف سبيله؛‬
‫إذ ترك مسقط الرأس واألرسة والوطن‪ .‬الحياة عرضة لتحقري الفضيلة السائدة‪.‬‬
‫آالم التجاريب وصدمات اليأس‪ ،‬التخيل عن املالذ التي تتاح لإلنسان عند اتجاهه‬
‫إىل املثل األعىل القديم‪ ،‬وهي مالذ يتذوق منها الح ُّر طعم األشياء املرضَّ ة أو يشتم‬
‫منها نكهة غريبة‪.‬‬

‫‪383‬‬
‫‪68‬‬
‫إن القلب املبدع قد أوىل األشياء قيمتها ومعناها‪ ،‬ثار شوقه فعمد إىل االبتداع‬
‫موجدًا اللذة واأللم‪ ،‬ثم طمح إىل إشباع شهوته أ ًملا‪.‬‬
‫فعلينا أن نتحمل كل ما أحس به اإلنسان والحيوان من آالم فيما مىض‪ ،‬وعلينا‬
‫أن نجعل لهذه اآلالم صفة مثبتة‪ ،‬وأن نقيم لنا ً‬
‫هدفا يربر احتمالنا لها‪.‬‬
‫‪69‬‬
‫من األوليَّات «إن بوسعنا أن نعترب األلم نعمة والسم غذاء‪ .‬نظرة يف إرادة األلم‪».‬‬
‫‪70‬‬
‫إن اإلعداد لآلتي يستلزم بطولة‪ ،‬وال سبيل ألن يحتمل اإلنسان نفسه إذا هو لم‬
‫يتشوق إىل الرقي املطلق‪.‬‬
‫علينا أال نكتفي باالتجاه نحو الرقي يف حالة واحدة؛ إذ من الواجب أن نطمح إىل‬
‫مجاراة الحياة فنصري إىل إعداد أنفسنا لتكرار الرجوع يف حاالت متعددة‪.‬‬
‫علينا أال نهتم بآراء الغري؛ ألننا نعرف ما هي مقاييسهم وموازينهم‪ ،‬وإذا كنا‬
‫نحن موضوع هذه اآلراء وجب علينا أن نتلقاها باإلشفاق عىل أربابها‪.‬‬
‫‪71‬‬
‫عىل األتباع العاملني لنرش املبادئ أن يتصفوا بثالث صفات‪ :‬اإلخالص والقدرة‬
‫عىل التفاهم والتساوي يف املعرفة‪.‬‬
‫‪72‬‬
‫وصف اإلنسان الراقي عىل مختلف أنواعه‪ ،‬وما يعتوره من انحطاط وما يهدده‬‫ُ‬
‫من عوامل الفناء‪ .‬إيراد أمثلة عديدة «كدوهرين» الذي أردته العزلة‪.‬‬
‫ذكر ما ُقدر عىل أهل الرقي يف هذا العرص واتجاههم إىل االنقراض‪ .‬صوت‬

‫‪384‬‬
‫االستنجاد املوجه إىل زرادشت‪ .‬أنواع التدني يف الرقي‪.‬‬
‫‪73‬‬
‫الرجال الراقون الالجئون يف محنتهم إىل زرادشت‬
‫محاولة التقهقر قبل األوان بالدعوة إىل اإلشفاق‪.‬‬
‫(‪)1‬جوَّابة اآلفاق التائه املضطرب املتنايس حبَّ شعبه يف حبه لشعوب عديدة؛‬
‫األوروبي الحقيقي‪.‬‬
‫(‪)2‬ابن الشعب العبوس الطموح الالجئ إىل العزلة كيال يعمل عىل الهدم؛ إنه‬
‫عِ َّد ٌة للعمل‪.‬‬
‫(‪)3‬أقبح العاملني‪ ،‬الذي يجد نفسه مضط ًّرا للتزيُّن والتفتيش أبدًا عىل أساس‬
‫جديد‪ ،‬فهو يطمح إىل الظهور بمظهر ال يورث النفرة‪ ،‬ولكنه يلجأ إىل العزلة أخريًا‬
‫كيال يراه أحد؛ إنه يستحيي نفسه‪.‬‬
‫(‪)4‬عاشق ما يقع تحت الحس‪« :‬دماغ العلقة» إنما هو الضمري الفكري املرهق‬
‫داؤه التطرف؛ فهو من يطلب إنقاذ نفسه من نفسه‪.‬‬
‫(‪)5‬الشاعر الطامح إىل لذة الحرية‪ ،‬يختار العزلة أخريًا طلبًا للمعرفة القاسية‪.‬‬
‫(‪)6‬مخرتع العقاقري املسكرة‪ ،‬إنه املوسيقي الساحر الذي ينتهي به حاله إىل‬
‫تأت إيل َّ فإنني أريد أن أقودك إىل غريي‪».‬‬ ‫ً‬
‫هاتفا‪« :‬ال ِ‬ ‫االنطراح أمام قلب محبٍّ‬
‫وهنالك ً‬
‫أيضا الزاهدون الذين يشتهون السكر وال قِ بَل لهم به؛ ألنهم قد تجاوزوا‬
‫حدود الزهد‪.‬‬
‫(‪)7‬العبقري — باعتبار العبقرية إغراق يف الجنون — إنه اإلنسان املستحيل‬
‫إىل جليد لفقدانه الحب‪.‬‬
‫«ما أنا بالعبقري وال باإلله‪».‬‬

‫‪385‬‬
‫الحنان األعظم بازدياد الحب‪.‬‬
‫(‪)8‬الغني الذي يهب كل ما يملك‪ ،‬ثم يدور ً‬
‫قائل ملن يصادف‪« :‬إذا كنت ثريًّا‬
‫فأعطني نصيبي‪ ».‬ذلك هو الغني املتسول‪.‬‬
‫(‪)9‬امللكان يتخليان عن امللك قائلني‪« :‬إننا نفتش عىل من هو أليق للحكم منا‪».‬‬
‫ال وجود للرجل العظيم فال وجود إذن للتعظيم‪.‬‬
‫(‪)10‬املتظاهر بالسعادة‪.‬‬
‫(‪)11‬العراف املتشائم الذي يرى الضيم أيان اتجه‪.‬‬
‫(‪)12‬مجنون املدينة العظمى‪.‬‬
‫(‪)13‬الشاب عىل الجبل‪.‬‬
‫(‪)14‬املرأة املفتشة عىل الرجل‪.‬‬
‫(‪)15‬العامل وحديث النعمة الناحل الحسود‪.‬‬
‫(‪)16‬الصالحون‪.‬‬
‫جنونهم يف سبيل الله أو بالحري يف سبيل أنفسهم‪.‬‬
‫(‪)17‬األتقياء‪.‬‬
‫جنونهم يف سبيل الله أو بالحري يف سبيل أنفسهم‪.‬‬
‫(‪)18‬القديسون‪.‬‬
‫جنونهم يف سبيل الله أو بالحري يف سبيل أنفسهم‪.‬‬
‫‪74‬‬
‫لقد بذلت لكم الفكرة الثقيلة املرهقة املؤدية إىل فناء اإلنسانية فهل تُبعث هذه‬
‫اإلنسانية يا ترى بعد تذليل عقباتها والقضاء عىل العنارص القاتلة للحياة؟‬

‫‪386‬‬
‫ال تذموا الحياة بل وجهوا الذ َّم إىل أنفسكم‪.‬‬
‫ما يجب أن يستقر عليه اإلنسان الراقي بصفته مبدعً ا تنظيم جماعة الراقني‬
‫وتثقيف من سيئول الحكم إىل يدهم يومً ا‪.‬‬
‫لتفوقكم أن ينعم بما يأتيه من تحكم ومن تبديل‪.‬‬
‫إن اإلنسان سيعود تكرا ًرا وأبدًا‪ ،‬وليس هو العائد فحسب بل اإلنسان املتفوق‬
‫ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫‪75‬‬
‫إن العزلة بأنواعها السبعة إنما هي املحنة الخاصة باملصلحني‪ ،‬وهي تعزيتهم‬
‫أيضا فاملصلح يتعاىل فوق األزمنة وارتفاعه يقيض له االتصال بجميع املصلحني‬‫ً‬
‫واملجهولني يف كل زمان‪ ،‬وليس له من وسيلة للدفاع عن نفسه إال جماله‪ ،‬فهو‬
‫يقبض عىل آالف السنني اآلتية ويزداد حبه كلما امتنع عليه أن يفعل الخري بدافع‬
‫هذا الحب نفسه‪.‬‬
‫‪76‬‬
‫إن زارا ال يتململ يف صربه وهو ينتظر قدوم اإلنسان املتفوق‪ ،‬بل يتوقع هذا‬
‫ٍ‬
‫حركة شط َر هدفها متكاملة مسددة الخطى‪.‬‬ ‫الحدث مطمئنًا وقد اتجهت كل‬
‫إن النهر العميق هادئ يف سريه‪ ،‬وألصغر األمور ما يربرها‪.‬‬
‫يف القسم الثالث من زرادشت‪ ،‬يجب استعراض كل اضطراب وكل شهوة‬
‫جامحة وكل اشمئزاز والتغلب عليها‪.‬‬
‫ما كان اللطف والحنان يف القسمني األول والثاني إال ً‬
‫دليل عىل القوة التي لم‬
‫تتوصل إىل الوثوق من ذاتها‪.‬‬
‫عند بلوغ زرادشت الشفاء‪ ،‬يتجىل «القيرص» بكل رصامته وكل خريه وحنانه‪،‬‬

‫‪387‬‬
‫وعندئذ يتهدم الحائل ما بني قوة اإلبداع والحنان والحكمة‪ ،‬فيسود الجالء‬
‫والطمأنينة وتضمحل الشهوات الجامحة وهكذا تبلغ السعاد ُة الخلودَ؛ إذ يُحسن‬
‫اإلنسا ُن التمتع بها‪.‬‬
‫‪77‬‬
‫زرادشت «القسم الثالث»‪.‬‬
‫ُ‬
‫بلغت السعادة بنفيس‪.‬‬ ‫لقد‬
‫عندما ابتعد عن الناس عاد إىل نفسه‪ ،‬فكأن غمامة انقشعت من جوِّه‪.‬‬
‫الحياة التي يجب عىل اإلنسان املتفوق أن يتمتع بها إنما هي حياة ٍ‬
‫إله «أبقراطي»‪.‬‬
‫إن ما يرد يف هذا القسم الثالث إنما هو وصف اآلالم اإللهية‪ ،‬ولم تُذكر أحوال‬
‫املشرتع اإلنسانية إال عىل سبيل املثال‪ ،‬فإنه يرى أخريًا أن محبته ألصحابه علة‬
‫يُشفى منها فيعود إىل الراحة والسكون‪ ،‬وعندما تأتيه الدعوة ينسحب عىل مهل‪.‬‬
‫‪78‬‬
‫مفصل عن سبب إرشاق الظهرية‬ ‫َّ‬ ‫يجب أن يُؤتى يف القسم الرابع بإيضاح‬
‫َّ‬
‫يتول‬ ‫العظمى يف حينها‪ ،‬فال بد إذن من وصف الحقبة املالئمة للظهور عىل أن‬
‫زرادشت تأويل هذا الوصف‪.‬‬
‫ويجب أن يبني يف الفصل الرابع السبب الحقيقي لوجوب خلق الشعب املختار‬
‫أول‪ ،‬وهو شعب يالئم رجالُه زمانَهم فيأتون أضدادًا ملن ال تتفق أحوالهم مع‬ ‫ً‬
‫الزمان‪ ،‬وال يعهد زرادشت بحل القضايا إال ملن يظهرون أخريًا فيدعوهم إىل العمل‬
‫عىل تحقيق نظرياته‪ ،‬وهي نظريات صحيحة وال محاباة فيها والنبل من أخص‬
‫مميزاتها‪.‬‬
‫وهكذا يتسلم هؤالء الناس املطرقة التي ستتوىل ا ُمللك يف العالم‪.‬‬

‫‪388‬‬
‫‪79‬‬
‫التكافؤ يف القدرة بني املبدع والعاشق والعارف‪.‬‬
‫‪80‬‬
‫«للحب وحده أن يتوىل القضاء‪ ».‬فالحب يُبدع ويجحد نفسه يف ما يبدع‪.‬‬
‫‪81‬‬
‫ال سعادة يف اتباع رشعة زرادشت إال حني يستتب نظام التسلسل‪ ،‬وهو ما‬
‫يجب تعليمه قبل كل يشء نظامً ا تقوم عليه الحكومة يف العالم؛ إذ توجد طائفة‬
‫جديدة للسيادة فيه‪ ،‬ومن هذه الطائفة يخلق يف كل مكان إله أبقراطي هو اإلنسان‬
‫ً‬
‫تبديل‪.‬‬ ‫املتفوق الذي يغري صفحة الوجود ويبدِّل الحياة‬
‫إن العالم الذي يتفوق عىل اإلنسانية إنما يعود بها بعد هذا الجنوح إىل بذل حبه‬
‫لألصاغر واملتضعني‪.‬‬
‫زرادشت يموت وهو يبارك جميع حوادث حياته‪.‬‬
‫‪82‬‬
‫ناسا يص ِّلون فعلينا أن نصبح أ ُ ً‬
‫ناسا يباركون‪.‬‬ ‫لقد كفانا أن نكون أ ُ ً‬

‫‪389‬‬
390

You might also like