Professional Documents
Culture Documents
هذا هو نيتشه كما صوره فاكيه بعد أن درس عديد مؤلفاته واستعرض
فلسفته ،وقد جاراه بهذا التقدير أنصار نيتشه وخصومه من كل شعوب أوروبا
فإنك لو استعرضت املؤلفات التي كتبها عنه العباقرة العديدون ،ومنهم من يعتقد
بتخبُّطه عىل غري هدى ،ومنهم من يرى وراء كل جملة من أقواله سورة ال تنجيل
معانيها إال للعقل النافذ والحس املرهف لرأيتهم قد أجمعوا عىل وصفه باملفكر
الجبار املتجه إىل الحقيقة يطلبها وراء كل يشء حتى وراء املبادئ التي يقول بها.
وما أجمع هؤالء املفكرون إال عىل الصواب يف هذا الوصف الذي ارتضاه نيتشه
لنفسه؛ إذ قال:
ً
مخلصا يف قصده بل عليه أن يرتصد إخالصه ال يكفي لطالب الحقيقة أن يكون
ويقف موقف املشكك فيه؛ ألن عاشق الحقيقة إنما يحبها ال لنفسه مجاراة
ً
مخالفا لعقيدته فإذا هو اعرتضته ألهوائه ،بل يهيم بها لذاتها ،ولو كان يف ذلك
فكرة ناقضت مبدأه وجب عليه أن يقف عندها فال يرتدد أن يأخذ بها.
ً
حائل بني فكرتك وبني ما ينافيها ،فال يبلغ أو َل درجة من الحكمة إياك أن تقف
مَ ْن ال يعمل بهذه الوصية من املفكرين.
4
عليك أن تُصيل نفسك كل يو ٍم حربًا ،وليس لك أن تبايل بما تجنيه من نرص أو
تجني عليك جهودك من اندحار ،فإن ذلك من شأن الحقيقة ال من شأنك.
وص َلف، قال نيتشه بهذا املبدأ وعمل به وبالرغم مما َّ
يتجل يف تعاليمه من غرور َ
فإنه كان يسري يف أبحاثه وال ه َّم له سوى استكشاف اآلفاق؛ فيورد اليوم فكرة
يكذِّبها غدًا ،فكأنه بإنكاره الخري والرش لم يجد بدًّا من إنكار كل عقيدة ثابتة ،فإذا
أنت أردت أن تسري وراء هذا الفيلسوف طلبًا للعقيدة فال تتعب نفسك باللحاق
به يف مراحل يقطعها بخطواته الجبارة؛ ألنه هو نفسه قد أصابه الخبل وبصريته
تائهة يف استلهام الحقيقة واستقرائها.
مكتشف لحقيقة ذاته َّإل من يهتف :هذا هو خريي وهذا هوَ مَ ْن قال لك« :إن ال
رشي فيخرس الخلد والقزم القائلني بأن الخريَ خريٌ للكل والرشَّ رشٌ للجميع».
من قال لك هذا ،ال تتوقع منه أن يأتيك برشعة تقوم مقام الرشائع التي يثور
عليها.
إن نيتشه املفكر الجبار الذي يفتح أمام الفرد ً
آفاقا وسيعة يف مجال القوة
والثقة بالنفس وتحرير الحياة من املسكنة والذلًّ ،
تائقا إىل إيجاد إنسان يتفوق
عىل إنسانيته باملجاهدة والتغلب عىل العنارص والعادات والتقاليد وما توارثته
األجيال من العقائد املوهنة للعزم؛ يقف وقفة الحائر املرتدد عندما يحاول إقامة
مجتمع ألفراده املتفوقني بل هو يضطر إىل نقض أوليَّاته القائمة عىل احتقار ٍ
الرحمة والرحماء حتى ينتهي إىل قوله« :إن العالم الذي يتفوق عىل اإلنسانية إنما
يعود بها بعد هذا الجنوح إىل بذل حبه لألصاغر وا ُملتَّ ِضعني».
وهكذا ترى زرادشت الداعي إىل تحطيم ألواح الوصايا جميعها ،وإىل إنكار
الرشيعة األدبية إلقامة رشعة جديدة ما وراء الخري والرش؛ يعود مفتِّ ًشا بني
أنقاض األلواح التي حطمها عىل كلمات قديمة يجعلها دستو ًرا إلنسانيته املتفوقة.
إن نيتشه الذي ذهب إىل أبعد مدًى يف تفحص رسائر اإلنسان وأهوائه يضيق به
املجال عندما يتجه إىل حل املعضالت االجتماعية؛ ألنه إذا أمكن للفرد املنعزل أن
5
ط لنفسه منهجً ا يوافق هواها باعتقاده أنه هو املبدع لذاته والحركة األوىل لها، يخت َّ
فإنه ليمتنع عليه أن يكون عضوًا حيًّا يف املجموع إذا هو لم يعرتف يف عالقته مع
إخوانه بأنه ليس مصد ًرا لذاته وال مآبًا لها.
إن من يطمح إىل مثل ما طمح إليه نيتشه من تكوين مجتمع منظم يسود فيه
ُوجد يف النهاية إال مجتمعً ا
املتفوقون ،ولكل منهم رشُّه الخاص وخريه الخاص ال ي ِ
يتفاوت التفوق فيه بني أفراده فيقيض األقوى منهم عىل األقل قو ًة منه حتى يقف
آخ ُر الظافرين منتح ًرا بقوته وعنفه كما انتحر إله نيتشه برحمته.
تفتْه هذه الحقيقة ،فعاد إىل الرشيعة األوىل يختلسغري أن املبدع لزرادشت لم ُ
منها آيتها الكربى ليوردها وصية لدنياه فقال:
ط ْفرة يف مسلك الفضيلة؛ فعىل كل فر ٍد أن يسري يف طريقه وإن جنح
حذار من ال ُ
َّ
يطمحن إىل بلوغ الذروة وحده؛ إذ عىل كل سائر أن يكون عن مسلك اآلخرين ،فال
جرسا للمتقدمني وقدوة للمتأخرين.
ً
أين هذه الوصية مما دعا إليه زرادشت يف مفكراته نفسها؛ إذ قال:
عىل أهل السيادة يف اإلنسانية املتفوقة أن يمهدوا سبل السعادة ملن هم دونهم
بتضحية ملذاتهم وراحتهم ،وعليهم ً
أيضا أن ينقذوا من ال يصلحون للحياة
بالقضاء عليهم دون إمهال.
بل كيف يتفق القسم األول من هذه الوصية مع قسمها الثاني؟! ومن له أن
ً
مقياسا يقيض به ملن يصلحون للحياة كما يقيض به عىل من ال يصلحون يضع
لها إذا اتبع القايض رشعة زرادشت القائل بأن عىل أتباعه أن تتجىل القوة فيهم
من الرأس حتى أخمص القدم.
ولو أن مذهب نيتشه هذا ُ
طبِّق قبل ميالده لكانت السلطة التي يراها ً
مثل أعىل
قضت عىل أبيه وأمه دون إمهال؛ فما كان له هو أن يظهر يف الوجود بدماغه
الجبار ُ
وبس ِّم الداء الذي جال من دمهما امللوَّث يف دمه …
6
ثم ،أفليس هنالك غري هذه األدواء الطارئة والتي يمكن للعالم أن يكافحها ،ما
يُقىض عىل اإلنسان بالرضوخ له من حالة يف جسمه ال قِ بَل له بتبديلها أو تعديلها؟
أفما تحقق الطب أن كل مولود يجيء الحياة إنما يدخلها مستصحبًا معه إليها من
ساللته الضعف الذي سيقيض عليه ،أفليس يف كل دارج عىل هذه الغرباء علة أو
علل كامنة يف تكوين أعضائه ستورثه الردى حني تدنو ساعته؟ …
أي جسم مهما ظهر لك صحيحً ا ليس فيه عضو هو أضعف الحلقات يف سلسلة
أعضائه ،ويف فراغ مناعته املحدودة انفصام العُ رى وبداية انحالل العنارص يف
هيكله الفاني؟!
أين هو الجسم املنيع الذي يتوق نيتشه إىل إيجاده مربعً ا من قمة الرأس إىل
أخمص القدم؟!
لقد عمل العالم املتمدن عىل إيجاده بالرياضة؛ فأوجد الرقاب الغليظة
والعضالت املتضخمة مسببًا منها تضخم القلب ،وجفاء الطبع ،وبالدة التفكري،
وانحطام أجنحة الخيال.
يريد نيتشه خلق اإلنسان املتفوق جبا ًرا كشمشون ،وشاع ًرا كداود ،وحكيمً ا
كسليمان .فهو يكلف الطبيعة ما ال قبل لها به ،ويطمح إىل إيجاد جبابرة ال
يصلحون ليشء يف املجتمع؛ ألن الحيوية ال تنرصف من مختلف نوافذها الجسمية
يف آن واحد دون أن تقبض عىل صاحبها لتوقفه من سلم االرتقاء عىل مرتبة
معلقة بني االعتالء واالنحطاط؛ فيكون منه ال اإلنسان املتفوق بل اإلنسان «التافه»
القصري الحياة والقارص يف كل عمل يبارشه.
إن املجتمع ال يقوم من الوجهة العملية عىل أفراد يحاولون اإلحاطة بكل يشء
فال ينالون منها شيئًا.
وليس الحال إال عىل هذا املنوال من الوجهة الروحية ً
أيضا ،فإن من تبرص يف
أحوال الناس وطرائقهم يف الحياة ،ال بد له أن يسلم أخريًا بأن لكل شخصية
حياتها بما كمن يف حوافزها ،ولكل شخصية ميتتها بما خفي من أدواء جسمها
7
وعلل إرادتها ،وبما وراءها من مقدمات وحولها من نتائج.
إن يف الحياة مسالك خطتها اإلرادة الكلية وليس لإلدارة الجزئية أن تتناولها
بتحوير ،فمصاعد الرقي لألرواح منتصبة من كل مسلك يف عالم الظاهر نحو
العالم الخفي ،وما خصت العناية أقوياء الجسوم باالرتقاء.
ولرب صعلوك يف نظر نيتشه ال يصلح للحياة ،ويجب أن يُقىض عليه دون
إمهال تتفجر منه قوة ال تراها إال البصائر النرية.
رس التكامل يف الذات والحكمة يف حد
من لنا بسرب األغوار البعيدة القرار لندرك َّ
األشواط لكل روح لتقوم بقسطها من املقدور.
ومن لنا بإدراك رس الضعف والقوة ،وقد يكون الضعف يف الجسم السليم
والقوة يف العليل من األجسام.
إن لكل مخلوق أن يبلو الحياة بما أُعطي من ظاهر الضعف أو ظاهر القوة؛
ألن للصحة محنتها كما للمرض محنته ،واألنفس الطامحة إىل ُمثُلها العليا سوا ٌء
ً
ناحل أكانت هذه املثل يف هذه الحياة أم ما وراء الحياة؛ إنما تتغذى من الجسد
عليل كما تتغذى منه مليئًا بالنضارة والصحة والبهاء.
ً
إن للحكمة العليا مقياسها يف تقدير الجهاد األكرب عىل كل نفس ،ومن يدري يف
أية لحظة وبأي مداد من قوة الجسد أو ضعفه تخ ُّ
ط الروح األسرية آخر سطر
من كتابها؟ …
•••
إن محور الدائرة يف فلسفة نيتشه إنما هو إيجاد إنسان يتفوق عىل اإلنسانية؛
لذلك تراه يهزأ بكل من عدَّه التاريخ عظيمً ا بني الناس ً
قائل :إن الجيل الذي يلد
العظماء لم يُولد بعد ،وأن ال رجل يف هذا الزمان يمكنه أن يتفوق عىل ذاته ،وكل
ما بوسع الناس أن يفعلوه يف سبيل املثل األعىل هو أن يتشوقوا إليه ليخرج من
سالتهم يف مستقبل األزمان.
8
وسوف يرى القارئ يف الفصول األخرية ما هو تقدير زرادشت للرجال الراقني
يف هذه الحقبة الشاملة لعرصه ولعرصنا ،فهو يعتربهم نماذج فاشلة لإلنسان
الذي يتوقع نشوءه ،غري أن زرادشت وهو يتكلم بلهجة اآلمر الناهي ويرسم
ً
حروفا منتثرة ال معنى للحياة طرقها بخطوط متفرقة إن لم تجمعها أنت بقيت
لها؛ ال يقول لنا برصاحة ما يجب أن نفعله لنصبح جدودًا ألحفاد تصلح بهم
الحياة ،ولكن من يعوِّد بصريته عىل مجاراة نيتشه يف الرؤى التي يهيم فيها
يستوقفه قوله:
إن ما فطرنا عليه هو أن نخلق كائنًا يتفوق علينا ،تلك هي غريزة الحركة
والعمل.
ثم يستوقفه يف موضع آخر قوله:
إنني لم أجد امرأة تصلح أمًّ ا ألبنائي إال املرأة التي أحبها.
فإذا ما وقف املفكر عند هذا يعرف ما هي تلك الفطرة التي يراها دافعة
لإلنسان إىل التفوق عىل ذاته وأَنساله.
وما تكون تلك الفطرة إن لم تكن حافز الحب الصحيح ،ويف أعماقه غريزة
االنتخاب تجتذب الزوجني إىل اتصال يشدد أحدُهما فيه ما َ
وهن يف بنية اآلخر.
ولوال أننا درسنا مليًّا مسألة اعتالء األمم وانحطاطها نبحث صحة النسل
واعتالله يف فصل «منابت األطفال» ،من كتابنا «رسالة املنرب إىل الرشق العربي»
لكنا نثبت هنا أن إيجاد اإلنسان الكامل يف إنسانيته ،ال اإلنسان املتفوق عىل نوعه
كما يريد نيتشه ،إنما يقوم عىل مجاراة حوافز االختيار الطبيعي يف الزواج باعتبار
كل شهوة جامحة وكل طمع يسكت هاتف االختيار سوا ٌء يف الرجل أو املرأة جناية
عىل اإلنسانية.
هذا ،وإننا ال نجد بدًّا من نقل بعض فقرات من فصل منابت األطفال تأييدًا
لهذه الحقيقة:
9
إن اإلنسان ال يريد االنقياد لالنتخاب الطبيعي فهو يطمح إىل تحكيم اختياره يف
ً
أطفال تتجىل فيهم كوامن حوافز ال يعلم منشأها ،فيعمد الرجل إىل استيالد املرأة
علله وعلل املرأة التي يرغمها إرغامً ا ً
بدل من أن ينقاد إىل االنتخاب الطبيعي الذي
تتذرع به الطبيعة للغلبة عىل العاهات واألمراض وللقضاء عىل حوافز الخبل
واإلجرام.
•••
إن الولد املختل العليل إنما هو الضحية الربيئة تصفع الطبيعة به أوجه الرجال
الفاحشني والنساء الطامعات املضلالت.
•••
ومما ال ريب فيه ً
أيضا أن الطبيعة يف حرصها عىل طابع األبوين يف األبناء تطمح
دائمً ا إىل الجمع بني رجل وامرأة يصلح أحدهما ما أفسدت الحياة يف اآلخر ،وال
يقف طموح الطبيعة عند حد إصالح األعضاء ،بل هو يتجه خاصة يف اإلنسان إىل
إصالح ما تطرق من عيوب إىل صفاته األدبية العليا ،ولعل يف هذا بعض التفسري
لسيادة اإليقاع بني رجل وامرأة تخالفت أشكالهما وأوضاع أعضائهما ومظاهر
قواهما األدبية والعقلية ،فقد ال تجد مصارعً ا قوي العضالت يعشق مصارعة
ً
فيلسوفا يتو َّله بفيلسوفه ،ول َك ْم وقف املفكرون مندهشني أمام امرأة مثله وال
فاضلة تحس بانجذاب نحو رجل متالعب محتال أو بارعة يف الجمال تندفع إىل
حنان خفي يف الطبيعة يشبه ٍ االلتصاق برجل قبيح .إن بعض العشق ينشأ من
عطف الطبيب املداوي عىل العليل املستجدي الشفاء …
•••
إن املفكرين يثورون عىل الشبان الذين يقدمون عىل الزواج ويف دمائهم سموم
ويف مجاري نطفة الحياة منهم صديد ،ومن األمم من سنَّت القوانني الصارمة ملنع
زواج املبتىل بالعلل الزهرية وبالجنون محافظة عىل صحة النسل ،ولكنني لم أقر
ملفكر رأيًا يف الحيلولة دون الزواج اآليل املجرد عن كل عاطفة ،ويرتاءى يل أن ً
طفل
10
يجني أبواه عليه بإيراثه دمً ا أفسدته األمراض لهو أقل شقاء بنفسه وأقل إرضا ًرا
باملجتمع من طفل يرث من أبويه عهر العاطفة وضالل الفطرة.
لقد تشفي العقاقري أبناء العلل ولكن أي دواء يشفي الطفل الذي زرعه توحش
الرجل املفرتس يف أحشاء املرأة املنكرسة الذليلة؟ إن مثل هذا الطفل لن يكون َّإل
ً
وحشا كأبيه أو عبدًا ً
ذليل كأمِّ ه.
•••
إن من الحب ما ينشأ عن الحياة الجسدية حاجة ملحَّ ة متقلبة كالحياة نفسها،
ويف النساء كما يف الرجال أناس حبهم أشبه بالجوع والظمأ يتهافتون عىل أية
مائدة ويرتوون من أي ينبوع ،وماذا عساه يفهم من الحب من يرى املحبوب
مائدة وينبوعً ا؟ ق َّل من الناس من يدرك أن مَ ْن أنكر عىل املحبوب شخصيته التي
ال تُستبدل فقد أنكر هو ذاته شخصيته التي يحس بها.
•••
ال صالح ألمة فسدت منابت أطفالها ،وهذه عِ َب التاريخ ماثلة لعيان من يريد
أن يرى.
أفما كانت كل األمم التي اندثرت واستُعبدت تمر ً
أول يف مرحلة تدني األخالق
وانطالق الشهوات عابثة بأرشف ما خلق الله يف اإلنسان.
•••
سوف يأتي يوم ،وهو غري بعيد ،تتنبَّه املدنية فيه إىل أن الرجل املتفوق الذي
ينشده العلماء يف الغرب لن يخلق لهم من التمرين لقوى العقل وقوى الجسد ،وال
من فحص خاليا املتزوجني باملجهر حتى وال من تلقيحهم باملواد الكيماوية أو
تطعيمهم بغدد القرود.
إن الرجل الكامل أو األقرب إىل الكمال إنما هو ابن الحب الكامل ،فاملحبة وحدها
هي السبيل املؤدي إىل إدراك الحق والقوة والجمال.
11
لندع العالم املتمدن يفتش يف علومه ونهضة مفكريه عىل هذا الحب الذي تخيله
ماركس متجليًا يف الحرية التامة للناس يف أهوائهم فجاءت البلشفة تثبت انخداع
هذا الفيلسوف يف نظرياته ،ليفتشوا أنهم لن يتصلوا يف تجاربهم إال إىل العرب
الزاجرة املؤملة.
أما نحن ،أبناء هذا الرشق الذي انبثق الحق فيه انصبابًا من الداخل باإللهام ال
تلمسا من الخارج ،فلنا املسلك املفتوح منفرجً ا أمامنا لالعتالء والخروج إىل النور
ً
بعد هذا الليل الطويل ،إذا نحن أخذنا بروح ما أوحاه الحق إلينا.
ال برتقية الزراعة والصناعة ،وال بنرش التعليم والتهذيب وال بجعل البالد ً
جنة
ثرا ًء وتنظيمً ا ،تنشأ األمة ويخلق الشعب الحر السعيد.
إن الجنني الذي يحمل أسباب شقائه ،وهو يف بطن أمه ال يمكنه أن يصري ً
رجل
ح ًّرا قويًّا يفهم حقيقة الحياة ويتمتع بالعظمة الكامنة فيها.
إن االهتمام بإيجاد الطفل الصالح أوىل من العمل إلعداد العلم والتهذيب لطفل
صقل وتنحطم كل محاولة للنفوذ إىل علته املستقرة فيه منذً نصقل مظاهره
تكوينه.
•••
ليس الفقري املتسول ،وال العليل املتألم ،وال الشيخ الهرم يتمىش بال سند إىل قربه،
ليست املرأة املستعبدة بلقمة ،وال الفتاة املخدوعة املنطرحة عىل أقذار املواخري،
ليس كل هؤالء الناس األشقياء يف الحياة بأشقى من األطفال يجور عليهم آباؤهم
وأمهاتهم قبل أن يقذفوا بهم إىل الوجود ،ويرهقونهم بالقطيعة واإلهمال بعد أن
يدرجوا عليها بأقدامهم الناحلة املتعثرة …
الرجل الذي يمسخ حبه الواحد شهوات متعددة ،واملرأة التي تتقصف متهتكة
ماسخة هيكل نسمات الله مركعً ا لنفايات البرش من عباد الخيانة والطيش ،إنما
هما آدم وحواء مطرودين من الجنان إىل أرض الجهود املضيَّعة واآلالم املحتمة،
ومَ ْن يدري أن حديث معصية األبوين ليس رم ًزا لخيانة الحب ،تلك الخيانة التي
12
تنزل اللعنة بمرتكبيها وبأبنائهم من بعدهم …
وي ٌل للرجل الذي يهدم بيديه سعادته وسعادة أبنائه ،وويل للمرأة التي تدنس
منبت أطفالها.
ليس يف تمهيد موجز كهذا مجال لبحث فلسفة نيتشه التي أشغلت كبار كتاب
القرن التاسع عرش ،ولم يزل الفالسفة يكتبون عنها إىل اليوم ،غري أن ما تناولناه
إملامً ا من نظريات نيتشه يكفينا لتحديد ما يجب أن نغفله منها دون أن ننتقص
من قدر هذا العبقري ألنه اقتحم أرسار الكون معتمدًا ذاته فعاد عن هذه األرسار
مدحو ًرا ،وهل من كاتب قبله أو بعده تمكن من حل ألغاز الوجود والوقوف منها
عند عقيدة رصيحة تستغني عن اإليمان بالقوة الخفية املتعالية عن التعليل
والتحليل؟
حسبُ نيتشه يف موقف حريته ،وما هي بالدرجة الوضيعة عىل سلم التفكري، ْ
أن يهتك رسيرته أمامك دون أن يلجأ إىل إعمال السفسطة إليجاد وحدة ظاهرية
وتناسب مزيف يف رصح تفكريه ،حسبه أنه اندفع وراء املثل األعىل الكامن يف ٍ
«إرادة القوة» تبعً ا لتعبريه ويف نفس اإلنسان الخالدة تبعً ا لعقيدة املؤمنني ،فبسط
أمام املفكرين من مشاهد املجتمع ومن مسالك األرواح عىل معابر األرض ما لم
يلمحه سواه من املنشئني.
•••
إن ما نرانا بحاجة إىل الوقوف عنده من فلسفة نيتشه يف كتاب زرادشت ،الذي
لم تفته قضية اجتماعية لم يقل فيها ً
كلمة كان لها دويُّها يف العالم الغربي ،إنما
ٍ
استكانة تجتث ما غرست قرون العبودية يف أوطاننا من ُّ هو هذه املبادئ التي
حولت إيمانها إىل استسالم يف حني أن روح رشعتها يهيب بالنفس إىل الجهادين
يف سبيل الوطن واإلنسانية جمعاء.
إن الدين الذي يهاجمه نيتشه إنما هو صورة ألصل شوهها الغرب ،وما ع َّلم هذا
أن الحياة معرب عىل املؤمن اجتيازه ،وهو مُعْ ِرض عن كل ما حوله مع ِّلق
الدين َّ
13
أن الحياة مرحلة من أشواط اآلزال واآلباد وما أبصاره عىل باب قربه ،بل ع َّلم َّ
تطهر أنفس لم تحرتق بنار الحياة أجسادُها ،ولم تُعِ َّد صالحً ا لباقياتها بإصالح
زائالتها.
ليس نيتشه إذن مبدع فكرة التكامل لإلنسان عىل األرض؛ فإن التكامل مبدأ ٌ
أساسا لكل وصية تأمر باملعروف وتنهى عن املنكر ،غريً جعلته األديان السماوية
ً
تكامل روحيًّا يهيئه إىل إدراك بارئه وراء املحسوس يف أن الدين قد أراد لإلنسان
حني أن نيتشه ،وقد أنكر ما ال تقع الحواس عليه ،أراد أن يفلت اإلنسان من حدود
إنسانيته عىل هذه األرض فيجعلها جنة خلد يستوي عليها بجربوته إلهً ا …
وقد غرب عن هذا الفيلسوف أن املخلوقات كلها يف سلسلة الوجود ال تملك
االنعتاق من حدود أنواعها ،ومهما ك َّرت القرون وتعاقبت األجيال ال يمكن للجماد
أن يفلت من مملكته إىل مملكة النبات ،وال للنبات أن يجتاز حدود مملكة الحيوان،
وال للحيوان أن يجتاح مملكة اإلنسانية.
لذلك كان الذاهب يف طلب إنسان يتفوق عىل اإلنسانية كاملحاول استنبات
الشجرة حيوانًا أو استبدال الحيوان إنسانًا.
حقب كرت ما
لقد كرت القرون عىل مبدأ التاريخ الذي نعلم وعىل ما ال نعلم من ٍ
وراءه ،واإلنسان لم يزل هذا املخلوق الدائر أبدًا ضمن حلقة إنسانيته.
لقد كان نيتشه من املعتقدين باستحالة األنواع حني رصخ بلسان زرادشت وهو
يخاطب الحشد يف الساحة العمومية« :لقد كنتم من جنس القرود فيما مىض عىل
أن اإلنسان لم يفتأ حتى اليوم أعرق من القرود يف قرديته».
ولكنه بالرغم من هذا يرصح بأن هذا النوع القردي ،وهو اإلنسان لم ينسلخ عن
أصله فكيف زيَّن له خياله أن يف هذا النوع إنسانًا ً
فائقا ال يزال كامنًا منذ البدء
ينتظر قدوم فيلسوف يف أواخر القرن التاسع عرش يستجيل هذا الجبار ويبعثه
بإرادة جديدة تتسلط ال عىل الحارض واملستقبل فحسب بل عىل ما م َّر وتوارى
أيضا يف عاصفات األحقاب؟ … ً
14
•••
نفس شعرت بأنها كانت إن بدعة اإلنسان املتفوق إنما هي يف تقديرنا تشوُّق ٍ
ً
نطاقا فتوهمت أنها ستبلغ يف هذه الحياة ما وستكون ،وقد رضب اإللحاد حولها
ليس من هذه الحياة.
إن نيتشه يعلن إلحاده بكل رصاحة ،ويباهي بكفره غري أننا ال نكتم القارئ
الكريم أن ما قرأناه بني سطوره ،وقد مررنا بها كمن عليه أن يتفهم كل معنى
ويستجيل كل رمز ،يحفز بنا إىل القول بأننا لم ن َر كف ًرا أقرب إىل اإليمان من
كفر هذا املفكر الجبار الثائر الذي ينادي بموت الله ،ثم يراه متجليًا أمامه يف
كل نفس تخفق بني جوانح الناس من نسمته الخالدة ،فإن هذا امللحد بالرغم
وبأن كال الروح َّ من اعتقاده بأن الجسد هو أصل الذات وأن الروح عَ َرض لها
والجسد فانيتان ،ال يملك نفسه من الهتاف وهو يؤكد عودة كل يشء واستمرار
شوقا إىل خاتم الزواج ،إىلكل يشء فيقول :أوَّاه كيف ال أحن إىل األبدية وأضطرم ً
دائرة الدوائر حيث يصبح االنتهاء ابتداءً .إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أمًّ ا
ألبنائي إال املرأة التي أحبها؛ ألنني أحبك أيتها األبدية.
إنني أحبك أيتها األبدية.
أين هذه الهتفة الرائعة تصدو يف أعماق روح تتطري من الزوال من ابتسامة
امللحد الصفراء ،وهو ال يرى وراءه وأمامه إال العدم والزوال بل يكاد يرى وجوده
ً
وخيال كاذبًا. خدعة
إن فلسفة ال تستنيم لفكرة الفناء وال ترى يف النهاية إال عودة إىل بداية ليست
بالفلسفة الجاحدة ،فاملفكر املؤمن بإنسانية عليا تتدرج إىل الكمال حتى ولو قال
بألوهية اإلنسان عىل األرض ال يمكنه إال أن يؤمن يف قرارة نفسه بكمال مطلق
تتشوق روحه إليه ما وراء هذا العالم.
•••
وال بد هنا من إيراد تاريخ موجز لحياة هذا الفيلسوف ،وليس يف حياته القصرية
15
وهي مليئة باآلالم من الحوادث ما يستحق التدوين غري املراحل التي مر عليها
تفكريه فتأثر بها ،وهل نيتشه إال فكرة وهل حياته إال وقائع ميادينها السطور
والصفحات.
ولد هذا العبقري الثائر سنة 1844يف بلدة روكن من أعمال أملانيا ،وكان أبوه
ظا بروتستانيًّا من أرسة بولونية هجرت بالدها يف القرن الثامن عرش عىل أثرواع ً
اضطهاد رشَّد منها أشياع كنيسة اإلصالح.
وما بلغ فريدريك الخامسة من عمره حتى مات أبوه ،فكفلت أمه تربيته وتربية
أخته فأرسلته إىل مدرسة نومبورغ ،ثم انتقل منها سنة 1864إىل كليتي بون
وليبسيك حتى إذا بلغ الخامسة والعرشين من عمره سنة 1869تجىل نبوغه
فعُ ني أستاذًا للفلسفة يف كلية بال.
بعد سبع سنوات؛ أي سنة 1876ظهرت عليه أعراض «الزهري الوراثي»
فحكمه صدا ٌع شديد أضعف برصه فبقي يلقي الدروس حتى سنة 1879؛ إذ
متنقل بني روما وجنوا ونيس وسيل ماريا وهو ي ِ
ُعمل ً اضطر إىل االستعفاء ليذهب
الفكر ويكتب مصارعً ا علته عرش سنوات ،فال هو يربأ منها فيحيا ،وال هي تجتاح
دماغه الجبار فيموت إىل أن جاءته سنة 1889بالفالِج مقدمة للجنون فتوارى
سنة 1900بعد أن سبقته إىل املوت عبقريته العليلة وإرادته الوثَّابة الجبارة.
•••
ذلك كان فريدريك نيتشه ،مجسم القوة املفكرة التي دارت بها النائبات،
وحارصتها األوجاع ،وتصادمت مع تيارات الفلسفات التي كانت تهبُّ يف ذلك
العهد يف أملانيا ويف أوروبا بأرسها حاملة للعالم مبادئ تضعضع العقل وته ُّز
املجتمع بتقويضها كل عقيدة تقيم أمام اإلنسان غاية لحياته.
فقد كانت أفكار فيخته وشللينغ وهيغل وشوبنهور تهب جميعها نارشة يف
أوروبا مزيجً ا من مذاهب القدرية والعدمية ووحدة الوجود واإلرادة الحرة ،فقال
شوبنهور :إن روح الوجود قوة طائشة عمياء أدركت نفسها يف عقل اإلنسان
16
وشعوره فوجم حائ ًرا ويف نفسه ظماء يف صحراء ال ماء فيها غريُ وهج الرساب.
ولم يجد هذا الفيلسوف من عالج لهذه العلة غري التمرد عىل الحياة نفسها برتك
ملذاتها ،وااللتجاء إىل الزهد وانتظار الفناء يف ما يشبه النريفانا وهي القوة التي
تتالىش كل شخصية فيها.
وكانت الفلسفة الدينية تقاوم هذه التيارات لالحتفاظ بالعقيدة املسيحية
ط من املفكرين كنويمن وكورليج بأبحاث الهوتية ينسجها حول تعاليم عيىس ره ٌ
وكارليل وشلري ماخر وبيارلرو وجان باينو وشارل سكريتان وأرضابهم فزجوا
باإلنجيل يف مآذق مجادالت ليست منه وليس منها يف يشء ،وهل خطر لذلك املعلم
اإلنساني وهو يدعو إىل تطهري النفس ومقاومة الظلم واألخذ بالرحمة وإقامة
اإلخاء بني بني اإلنسان أن ينشئ مدرسة للتعليل عن مظاهر الكون ومنشأ الروح
واالنعكاسات من اآلفاق واالنطباعات يف الرسائر ،بل هل خطر له أن يبحث عالقته
بالله وعالقته هو وحده أو هو وأب الخليقة كلها بروح القدس؟
•••
وأُخذ نيتشه بهذه التيارات تهب من كل جانب عىل فكره الوقاد تلهبه اآلالم،
وتثري تشوقه إىل حال يعلل فيها سبب وجوده وهدف صربه وجهاده.
إن الرجل املتمتع بصحة الجسم وبيشء من العزم يكتفي من هذه الحياة بما
تعطيه فإذا آمن بالله واليوم اآلخر وقف عند إيمانه هذا مرتاحً ا إىل ضمريه ،وإذا
أخذ بفلسفة الجحود ريض بهذه املرحلة من شعوره بذاته وطلب أوفر تمتع بأقل
جهد.
وال يسطو القلق الفكري بخاصة يف حالة الحرية من أمر هذه الحياة إال عىل
ظا من أوجاعه لكل لذة يختلسها كالسارق من قوته اإلنسان الذي يؤدي ثمنًا باه ً
األسرية يف ضعفه الجائر.
إن مثل هذا اإلنسان ،إذا عززته القوة الخفية بالحس املرهف ،يطالب الدنيا
ببدل لِما يبذل فيها فيستنطق نفسه واآلفاق ليعلم ما إذا كان لهذه اإلنسانية
ٍ
17
املعذبة املجاهدة ما يربر محنتها وجهادها.
وفريدريك نيتشه كان ذلك اإلنسان فما أرضته من الفلسفة الالهوتية تلك
األحاجي التي أُحيطت املسيحية بها ،وما كان لريىض من جهة أخرى بهذه القوة
الهوجاء التي صورها شوبنهور موجدة إلنسان لم يُعط له إال التصور إلقامة
أشباح ترتاقص حوله وهي غري كائنة إال يف وهمه.
ونظر نيتشه إىل الوجود فرأى وراء صوره املتحولة مادة تتعاىل عن االندثار
فنشأت فيه فكرة العودة املستمرة ،وبدأت صورة زرادشت ترتسم يف ذهنه حتى
استكملها فأنشأ كتابه يف أوقات متقطعة من سنتي 1883و 1885يف فرتات
كانت تسكن فيه ح َّد ُة دائه أو هو يس ِّكنها بما كان يتناوله من جرعات الكلورال
كل من األجزاء الثالثة األوىل من زرادشت يفاملخدر ،وهو نفسه يقول إنه كتب ًّ
مدى عرشة أيام كان فيها مأخوذًا بإلهامه خاضعً ا لقريحة تحكمت فيه فلم
ً
إرهاقا. يستطع مقاومتها حتى أرهقته
إذا نحن عرفنا هذا تجلت لنا العوامل التي ألقت عىل زرادشت وشاح األحالم،
فإن نيتشه يقبض يف فصوله عىل مشاعر قارئه ليمر به عىل رؤى يتسامى الخيال
فيها إىل أوجه مفلتًا من رقابة القوى الواعية ،فكأنه يسري بمطالعه يف عالم أحال ٍم
تُبعث أشباحها من انطباعات القوى الواعية ،ولكنها تتبع يف مرورها وحركاتها
ما نحسبه تضعضعً ا يف عالم القوى الساهية املجهولة.
•••
لقد ماشينا نيتشه يف حلمه وهو يستعري لعقله الباطن أو لرسيرته أو لفكرته
الساهية اسم زرادشت الفاريس الذي قال بالخري والرش كقوتني تتنازعان حياة
اإلنسان ،فرأينا زرادشت املزيف ال يقلد األصيل باتخاذه أتباعً ا له وباقتباسه
لهجة حكماء الرشق إال ليعارض فكرة الخري والرش ً
قائل :إنها نشأت دخيلة عىل
اإلنسانية َّ
وإن ليس لهذه اإلنسانية أن تتفوق عىل ذاتها إال بإنكار الخري والرش
وتحطيم ألواح الرشائع املقدِّرة لقيم األعمال؛ ألن كل شعب اشرتع لنفسه ما ال
18
يتوافق واشرتاع جاره.
ً
تناقضا ولكن نيتشه املتلبِّس خيال زرادشت يف رؤياه لم ينتبه إىل أنه يرتكب
بينًا يف دعوته؛ إذ ينكر ما يراه من خري ورش طلبًا لحالة جديدة يراها هو خريًا
يريد أن يتسلح به للقضاء عىل رش ينكر وجوده.
ولو كانت الحقيقة كامنة وراء الخري والرش كما يدعي زرادشت الجديد أو
بتعبري آخر لو أن هنالك حقيقة مجردة عن الخري فلماذا يطلب زرادشت هذه
الحقيقة ،وهو يعلن أنها الخري كل الخري لإلنسانية إذا هي أدركتها؟
•••
ٍ
رشعة تكفل حق إن تحديد الخري والرش يف الكلمات العرش إنما هو أساس كل
الفرد ونظام املجموع.
لقد تتناقض األحكام التي تستنُّها الحكومات والجماعات يف مجال األزمان
ٌ
حاجة ملحَّ ة ،فتُكتب ألواحٌ تُستبدل بتبدل مستوحاة من حالة مؤقتة تدفع إليها
السنن التي تُستلهم من الرشيعة املوحى بها ال يمكن الوضع واملالبسات ،ولكن ُّ
ٍ
رشعة أصيلة أن تتعارض إذا هي سلمت من دخيالت األوضاع اإلنسانية ،وكل
ٍ
رشيعة تحدرت مثلها من ذلك األصل. تحتفظ بطابع مصدرها تتوافق حتمً ا وكل
إن زرادشت الجديد لم يجُ ْل يف مسارح حلمه فاتحً ا لرسيرته مجاالت التفكري
ٍ
بانطباعات من تواريخ األمم القديمة الوثنية ،وبصور متناقضة إال وهو يحتفظ
من القوانني التي أبدعتها حكومات الغرب وجماعاته ونقاباته الصناعية واملالية
ألواح ترتاقص عليها ألوا ُن ال ِبدَع ،فما وسع زرادشت إال
ٍ السنَن أشباحَ
فتمثلت هذه ُّ
أن يثور عليها ويدعو أتباعه إىل تحطيمها.
أما اللوحان األوَّالن وكلمة عيىس بأن يعامل اإلنسا ُن أخاه بما يريد أن يعامله
أخوه به والرشيعة األحمدية التي جاءت عىل أساس هذا املبدأ بخري الكليات
تُستنبط منها األحكام لكل جماعة ولكل زمان ،فإن زرادشت لم يبحثها مع أن
نفسه كانت تصبو إليها لشعوره بوجودها وراء أقنعة النظم التي أسدلها الغرب
19
عىل مجتمعاته ،وإذ كان لم يتميزها فما ذلك إال ألن دماغه كان يتصدع بما حُ رش
فيه من فلسفة اليونان القديمة ومن مشاحنات أعالم عرصه الذين ُشغلوا بالجدل
واملماحكات املنطقية املجردة حتى أتوا بنظريات تورث الدوار وتبلبل الفكر
فيضطر من أل َّم بها إىل نبذها جميعً ا؛ ألنها كدود القبور يلتهم بعضها البعض
اآلخر بعد أن تتغذى من جيفة ال حياة فيها.
•••
ناموس ونظام؛ لينبئ الناس بالخلود
ٍ ويف هذا الحلم يسري زرادشت هادمً ا كل
وبقاء الذات يف وجو ٍد شبَّهه بالساعة الرملية ينقلب أبدًا قسمها املفرغ الستفراغ
قسمها املمتلئ.
يطمعن القارئ يف الظفر من زرادشت بما يثبت هذه العقيدة الراسية عىلَّ وال
خلود مبهم وعودة أشد إبهامً ا؛ ألنه لن يظفر منه بغري صور يلمحها ملحً ا يف
بيان شعري يتلبس الفلسفة دون أن يكون فيه أثر ألي استقراء أو ألي تعليل
فيخرج من استغراقه ،وهو ال يدري أيقصد نيتشه من العودة املستمرة ما يتوهمه
امللحدون من خلود اآلباء يف األبناء ،أم هو يرمي إىل عودة الشخصية بالذات ناسية
ماضيها تاركة يف كل مرحلة من مراحلها جثة تتلوها جثة عىل مدى األحقاب.
لقد تمرد نيتشه أمام العدم كما قلنا ،وخفيت عنه حقيقة الدين الذي أخذ به
حقيقة ما أُنزل عىل مُحَ مَّ ٍد
ُ الغرب عن عيىس فأحاطه باملعميات ،كما خفيت عنه
وجهل ،فوقف مفك ًّرا جبا ًرا الً فشوَّهه هذا الغربُ باالفرتاء والتشنيع تعصبًا
يستسلم لفكرة العبث يف غاية الكون وال يرىض بالنظم االجتماعية التي أوجدتها
املدنية وأسندتها إىل الدين ،وهكذا هب يطلب لإلنسانية إلهً ا منها يسودها ولألرض
معنى أبديًّا يحوِّل كل زوال فيها إىل خلود مستمر التجدد بني الخفاء والظهور يف
محدود غري محدود …
ولو تسنَّى لنيتشه أن ينفذ حقيقة اإليمان الذي دعا عيىس إليه مكمِّ ًل ما جاء
به موىس لكان تجىل له إيمانًا بالقوة ترفع الضعفاء ال بالضعف يُسلط عليهم
20
األقوياء ،ولو تسنى له أن يستنري بما جاء به اإلسال ُم من مبادئ اجتماعيَّة عمليَّة
عُ ليا تمايش ما جاء به عيىس وال تنقضه ألدرك أن يف الدين الحق دستو ًرا يهدم كل
ما أراد هو هدمه من رصوح الفساد يف املجتمع ويوجد اإلنسان املتصف بمكارم
األخالق محبًّا للحياة والقوة والجمال والحرية ،دون أن يكرس حلقة اإلنسانية
ويحاول االنطالق منها ،وهو ال يزال يلبس تراب األرض ويرسف يف أغاللها.
ولكن نيتشه باندفاعه إىل معارضة الفالسفة من معارصيه وبثورته عىل
التفكري الديني والتفكري املطلق يف آن واحد؛ رأى أن التكامل لنوال عطف األلوهية
الراسخة يف األذهان ،والتخلص من عقابها الصارم؛ يقتيض اإلعراض عن الزائالت
واالستكانة إىل السلطة واعتبار العاطفة الجنسية ملطخة بأوضار الخطيئة
األصلية فثار عىل هذه األلوهية املزيفة التي عرفها الرشق يف أي دور من أدوار
وحيه ،وهكذا كفر نيتشه بالله فأعلن موته واختناقه برحمته …
هذا هو جحود نيتشه يف تعاليم زرادشت ،وهو يف تقديرنا إذا نحن استنرنا
بالدين الحق كما تدركه ذهنيَّتُنا السامية جحود يتجه إىل غري اإلله الواحد األحد
ربِّ الناس أجمعني.
قول أو
للنبي الكري ِم عىل ٍ
ِّ ٍ
حديث بل إننا إذا ذكرنا القاعدة املثىل التي وردت يف
يف كلمة ألمري املؤمنني عمر عىل قول آخر ،وهي« :اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا،
واعمل آلخرتك كأنك تموت غدًا».
إذا ذكرنا ذلك ،يتضح َل َديْنا أن نيتشه قد ذهب إىل أبعد مدى يف االمتثال للوصية
ٌ
وصية راسخة يف أرواح أبناء هذه البالد األوىل وقد فاتته الوصي َُّة الثانية وهي
الرشقية العربية ،فليس إذن يف عظات زرادشت ما يزعزع عقائدنا أو ينال من
ً
أساسا إيماننا ،بل إن فيها ما َّ
يتمش واملبادئ َ العليا التي اتخذها السلف الصالح
إلقامة عظمة الدين عىل عظمة الحياة.
ويف اعتقادنا أن نيتشه قد فاق كل كاتب يف تصويره واجب اإلنسان نحو الحياة
الدنيا؛ ألن العلماء املاديني من جهة اعتربوا الحياة زائلة فما اهتموا لرقي اإلنسان
21
األدبي فيها قدر اهتمامهم بإطالة حياته وإيالئه التنعم األوفر بالجهد األقل ،وألن
املفكرين املؤمنني ،من جهة أخرى ،ما كان بوسعهم أن يفكروا لألرض ويحرصوا
قرار؛ ألن العمل لألرض ليس إيمانهم كله بل هو نصف كل جهد فيها كأنها دا ُر ٍ
إيمانهم ،أما نيتشه فبعد أن أقفل عىل تفكريه وخياله كل نافذة يمكن للروح أن
تتطلع منها إىل السماء ،وبعد أن تاقت نفسه إىل الخلود فاستنزله كمعنى لهذه
جاعل هذا الرتاب وطن اإلنسان الدائم ،لم يسعه إال توجيه كلً األرض كما يقول
إنسانية تتمتع بكل ما يمكن اعتصاره من الدنيا وتبلغ عليها من ٍ قواه لتصور
الرقي مرتبة األلوهية.
•••
ثالثة من أعالم الرشق العربي أهابوا بنا إىل ترجمة ً تلك حقائق لم تفت
زرادشت ،ونرشه يف هذه البالد لتسديد عزم الشبيبة يف هذه املرحلة التي يتوقف
عىل نهضتنا فيها مستقبلنا واستعادة أمجاد تاريخنا .أولئك الثالثة هم :املغفور له
السيد مصطفى صادق الرافعي فقيد الرشق والعروبة واإلسالم ،واألستاذ حافظ
عامر بك قنصل مرص العام يف اآلستانة مؤلف رسالة الحج التي كان لها دويٌّ يف
أوساط املفكرين ،واألستاذ أحمد حسن الزيات القابض عىل آداب الغرب باطالعه
وتفكريه والرافع عَ َل َم اآلداب الرشقية بقلمه ،وقد تفضل األستاذ املشار إليه فنرش
يف مجلته الرسالة أكثر من ربع الكتاب يف مدى سنة ،ولوال تقديرنا أن الزمان
ًّ
مستقل. سيطول عىل نرشه برمته ملا كنا بادرنا إىل طبعه ً
كامل
•••
إن ما دعانا وأصحابنا املشار إليهم إىل تقرير ترجمة زرادشت هو أننا نظرنا
إىل فلسفته من الوجهة املالمسة للمبادئ الدينية االجتماعية التي تتجه إىل إحياء
حضارتنا القديمة عىل أساسها ،وقد رأينا أن هذا املؤ َّلف الفريد يف نوعه ليس من
الكتب التي تُنقل إىل بياننا ملا لها من قيمة فلسفية وأدبية فحسب ،بل هو من
الكتب التي يجدر بالناشئة العربية درسها كما يدرسها طالب الجامعات يف كل
22
قطر أوروبي ،فإن كتاب زرادشت قد أثر التأثري األكرب عىل تطور الحركة الفكرية
يف أواخر القرن التاسع عرش يف عالم الغرب ،واشتمل من املبادئ عىل ما كان وال
يزال محور الخالف املستحكم بني ذهنيته وذهنية الرشق العربي بوجه خاص،
ولقد مىض عىل ظهور هذا الكتاب زهاء نصف قرن ،ولم يكن العالم العربي يف
ذلك العهد عىل اتصال وثيق بالحركة الفكرية الغربية؛ فلم يُسمع يف هذه البالد
بنيتشه وفلسفته إال بمقاالت موجزة ،وكل ما عُ رف عنه هو أنه يدعو إىل التحرر
من ربقة األوهام واطراح الزهد واليأس واالتجاه إىل إيجاد اإلنسان املتفوق.
ولعل املفكرين يسلمون معنا بأن خل َّو املكتبة العربية من هذا املؤلف الفريد الذي
ترجم إىل جميع اللغات الحية؛ فاتُّخذ أنموذجً ا بني أبنائها للرصاحة واإلخالص يف
نقصا يف هذه املكتبة ،وُيسجِّ ل قصو ًرا علينا ،لذلك اقتحمناطلب الحقيقة؛ يُع ُّد ً
إعارة بياننا لكتاب زرادشت الذي قالت فيه املوسوعة الكربى إنه ال يعد أروع ما
كتب نيتشه فحسب ،بل أروع ما ُكتب يف اللغة األملانية عىل اإلطالق.
•••
وال بد يف ختام تمهيدنا من إِلفات املفكرين إىل فصل من كتاب زرادشت عنوانه:
«بني غادتني يف الصحراء» وفيه نشيد لخيال زارا فإننا وقفنا عنده مليًّا؛ ألنه من
نوع البيان املستغرق يف الرمزية فال يفهمه القارئ إال بحسه الكامن وقد ال يتفق
ً
تأويل واضحً ا جليًّا. اثنان عىل تأويله
ولو أننا ترجمناه بالحرف لجاء كأحد الرسوم التي ابتدعها أنصار التكعيب
أجبل يرى أم شجرة أم إنسانًا.
يقف املشاهد أمامها فال يدري ً
لذلك اضطررنا إىل إمالء بعض الفراغ بني الخطوط ،وإىل االلتجاء لكرس
النتوءات عند نقل بعض املكعبات املبهمة الصارمة ،فجاء هذا النشيد أقرب
إىل البيان املألوف دون أن يخرج عن أصله الرمزي الذي يحتاج إىل كثري من
االستغراق يف تفهم معانيه.
وحاذرنا أن نكون تجاوزنا حد الخطوط األصلية يف النقل فرجعنا إىل عالم
23
معروف من علماء الغرب ممن أحاطوا بفلسفة نيتشه وذهبوا إىل حد بعيد يف
تحليلها ،وهو حرضة الدكتور روبرت ريننجر األستاذ يف جامعة فينا نعرض عليه
ما رأيناه يف رموز نشيد الصحراء ،ونسأله إقرارنا عىل ما أصبنا فيه وتصحيح ما
ً
مؤرخا يف 19أبريل من هذه السنة وفيه قد نكون ضللنا يف تبيانه ،ف َو َردَنا جوابُه
يقول:
إنني أرى خالصة معنى النشيد يف فقرته األوىل املكررة يف آخره وهي« :إن
الصحراء تتسع وتمتد فوي ٌل ملن يطمح إىل االستيالء عىل الصحراء ».فإن نيتشه قد
رمز بالصحراء إىل الوجود القاحل الذي ال غاية له ،وقد أتيت عىل بحث هذا الرمز
يف كتابي «جهاد نيتشه من أجل معنى الحياة وغايتها».
أما سائر ما يف النشيد فأراه يرمي إىل وصف أجواء الصحراء املتمتعة بالحرية،
وهي بابتعادها عن املعمور تويل أبناءها الحياة الساذجة الطاهرة عىل نقيض ما
تورثه ثقافة أوروبا الشمالية من الخشونة والكثافة.
أما كلمة «صالة» فقد أصبتم يف ترجمتكم إياها« :حيَّا عىل الصالة».
النبي محم ٌد هو املرموز إليه بأسد الصحراء ونذيرها حسب
ُّ هذا ،وقد يكون
تأويلكم.
رسنا وايم الله أن يوافقنا هذا العالم عىل تأويلنا ،وإن يكن ذهب يف تفسري
لقد َّ
اتساع الصحراء وامتدادها إىل غري ما ذهبنا إليه فقد كنا صارحناه بأن ما فهمناه
ُ
انبعاث من اتساع الصحراء وامتدادها وتهديد مَ ْن يطمح لالستيالء عليها إنما هو
اإليمان الحق بالفضائل العليا وتم ُّردها عىل الجحود والتضعضع يف الحياة.
ٍ
رصاحة تؤيدنا خاصة وقد كان دليلنا عىل صحة مذهبنا ما ورد يف النشيد من
يف الفقرة األخرية وهي:
ارتف ْع يا مظهر الجالل ولتهبَّ مرة أخرى نسمة الفضيلة.
ويا ليت أسد الفضائل يزأر ً
أيضا أمام غادات الصحراء فإنه أقوى ما ينبه
24
أوروبا ويحفز بها إىل النهوض.
وها أنذا ابن أوروبا ال يسعني إال الخشوع لدويِّ هذه اآليات البيِّنات.
للعالِم األوروبي تأويله ولنا تأويلنا ،وللصحراء يف بالد العرب رموزها فلندع
لألزمان تأويلها ولنكرر ما جاء يف نشيد الجاحد الطامح إىل الخلود:
إن الصحراء تتسع وتمتد فويل ملن يطمح إىل االستيالء عىل الصحراء.
إن عبري الرشق ال يضوع من نشيد الصحراء فحسب ،بل هو يفوح من كل
حكمة ينطق بها زرادشت أمام مشاهد التضعضع األوروبي ،ولسوف يقف رجال
العلم من أبناء الضاد عند كثري من أقواله ،فيعرفون فيها آية من اآليات التي
أُوحيت ألنبيائهم أو أُلهمت لحكمائهم أو حديثًا لذلك األُمِّ ِّي األعظم الذي تناول
أدق القضايا االجتماعية فردها إىل مكارم األخالق؛ ليح َّلها جميعً ا.
َّ
ط هذه األسطر نتذكر صديقنا فقيد الرشق املغفور له السيد إننا ونحن نخ ُّ
مصطفى صادق الرافعي ،الذي ق َّل مَ ْن جاراه يف تفهم دين الله والشعور بالقومية
العربية ووحدة اإلنسانية .إننا لنذكره ونحس بما كان يمكننا أن نستمده من
آيات وأحاديث وحكم يتجىل فيها ما أجمع ثقافته العريقة ومعارفه الواسعة من ٍ
مفكرو الغرب عىل الخشوع أمامه من نظرات زرادشت الصائبات يف اتجاهات
العالم املتمدن ويف طلب رقي اإلنسان واإلهابة به إىل العمل يف األرض كأنه خال ٌد
عليها ال يموت.
غري أننا إذا كنا حُ رمنا اآلن من هذه النجدة يف كتابة تمهيدنا هذا فلن تُحرم
البالد أعالمً ا يقومون بهذا الواجب نحو مهبط وحي الله ومنبت العباقرة من
السلف واملعارصين.
فليكس فارس
اإلسكندرية يف 1938 / 9 / 20
ً
تخفيفا ،وأتينا يف سياق الرتجمة بدل من زرادشت لقد اخرتنا إيراد اسم زارا ً
بردود علقناها عىل الهامش حيث رأينا لزومً ا لذلك.
25
إهداء
26
جهودك حتى تركت يف جامعته طابع نفسك الحرة وتفكريك العميق ،وإنك لتذكر،
وال ريب ،تقريركما ترجمة «زرادشت» إىل العربية والصفحات املعدودة التي أعار
فيها فرح بيانه الجزل للفيلسوف األملاني فسايره يف أجوائه وأغواره .فأنت وفرح
رأيتما قبل كل أحد يف فلسفة نيتشه ما تحتاج النفوس املتواكلة إليه من حزم
وانطالق ،كما أدركتما أن إلحاد هذا الفيلسوف لن يؤثر يف إيمان الرشق؛ ألنه
ال يستند إال إىل شكوك نشأت من حالة خاصة بالغرب َّ
وأن القوة وحدها التي
نحتاج إليها يف نهضتنا ستنرسب من كتابه الخالد إىل بياننا يف كتاب تفتقر املكتبة
العربية إليه بعد أن تُرجم إىل لغات الدنيا وطالعه املفكرون من كل الشعوب.
أردت بهذا البيان أن أبرر تقديم ترجمتي لزرادشت إليك يف نظر القراء ُ لقد
ال يف نظرك؛ ألنك تعلم أن هذا الكتاب إنما هو تحقيق حلم رأيته أنت ورفيقك
مكبوتة يف خفايا رسيرتك ،وإنني ألرى يف املرحلة ً القديم وتنفيذٌ لرغبة لم تزل
التي قطعتَها منذ ذلك العهد ما يزيدك رغبة يف نرش زرادشت يف بالدك بعد أن
وأثبت بحياتك نفسها وهي مجىل الثقة بالنفس واإليمان بالخري َّ تيقنت باختبارك
أن الجبار الذي حَ ل َم به نيتشه ً
عامل لدنياه كأنه ال يموت أبدًا إنما يستكمله الجبا ُر
اآلخر الذي يعمل آلخرته كأنه يموت غدًا.
اإلسكندرية يف 1938 / 9 / 20
فليكس فارس
27
كتب المؤلف
( )1رسالة املنرب إىل الرشق العربي.
( )2هكذا تكلم زرادشت ،تأليف الفيلسوف األملاني فريدريك نيتشه ،مرتجمة.
( )3اعرتافات فتى العرص ،تأليف ألفريد دي موسيه ،مرتجمة.
( )4رواية الحب الصادق ،نفدت.
( )5رشف وهيام ،نفدت.
( )6النجوى إىل نساء سوريا ،نفدت.
الكتب املعدة للطبع:
( )7املراحل؛ سياسة وأدب واجتماع.
() 8القيثارة :ديوان شعر.
( )9قلعة حلب وقصص أخرى.
( )10األحرار يف الرشق ،بالعربية.
األحرار يف الرشق ،بالفرنسية.
( )11رؤى متصوف عربي ،بالفرنسية.
( )12من إلهام الرشق ،بالفرنسية.
( )13من حدائق الغرب :مختارات مرتجمة.
( )14بني عهدين :قبل االحتالل وبعده.
( )15أمام املحاكم :اإلجرام والقانون.
( )16األغالل :مرسحية مرتجمة.
( )17ثورة أثينا :مرسحية شعرية نثرية.
( )18حديث األزهار ،مرتجمة.
28
الجزء األول
مستهل زرادشت
1
ملا بلغ زارا الثالثني من عمره هجر وطنه وبحريته وسار إىل الجبل حيث أقام
عرش سنوات يتمتع بعزلته وتفكريه إىل أن تبدلت رسيرته ،فنهض يومً ا من رقاده
مع انبثاق الفجر وانتصب أمام الشمس يناجيها ً
قائل :لو لم يكن لشعاعك مَ ن
غبطة أيها الكوكب العظيم؟ منذ عرش سنوات ما برحت ترشق ٌ يُنري أكان لك
عىل كهفي ،فلوالي ولوال ن ِْسي وأ ُ ْفعُ واني ،لكنت مللت أنوارك وسئمت ذرع هذا
السبيل ،ولكننا كنا نرتقب بزوغك كل صباح لنتمتع بفيضك ونرسل بركتنا إليك،
كرهت نفيس حكمتي كالنحلة أتخمها ما جمعت ،فمن يل باألكف ْ صغ إيل َّ ،لقدَ
أ ِ
تنبسط أمامي ألهب وأغدق إىل أن يغتبط الحكماء من الناس بجنونهم ويسعد
الفقراء منهم بثروتهم.
تلك هي األمنية التي تهيب بي للجنوح إىل األعماق ،كما تجنح أنت كل مساء
ً
حامل إشعاعك إىل الشقة السفىل من العالم ،أيها الكوكب منحد ًرا وراء البحار
الطافح بالكنوز.
لقد وجب عيل َّ أن أتوارى أسوة بك ،وجب عيل َّ أن أرقد عىل حد تعبري األنايس
الذين أهفو إليهم.
باركني — إذن — أيها الكوكب ،فأنت املقلة املطمئنة التي يسعها أن تشهد ما
ال يُحد من السعادة دون أن تختلج كمقلة الحاسدين.
29
ً
سلسبيل مذهبًا ينثر عىل اآلفاق وهجً ا من مرساتك. بارك الكأس الدهاق تسكب
انظر! إن هذه الكأس تريد أن تندفق ثانية ،وزارا يريد أن يعود إنسانًا.
وهكذا بدأ جنوح زارا إىل املغيب.
2
وانحدر زارا من الجبال فما لقي أحدًا حتى بلغ الغاب حيث انتصب أمامه ٌ
شيخ
خرج من كوخه بغتة ليفتش عن بعض الجذور واألعشاب ،فقال الشيخ :ليس هذا
الرحالة غريبًا عن ذاكرتي ،لقد اجتاز هذا املكان منذ عرش سنوات ،ولكنه اليوم
غريه باألمس.
لقد َ
كنت تحمل رمادك يف ذلك الحني إىل الجبل ،يا زارا ،فهل أنت تحمل اآلن
نارك إىل الوادي؟ أفما تحاذر يا هذا أن ينزل بك عقاب مَ ن يرضم النار؟
لقد عرفت زارا ،هذه عينه الصافية ،وليس عىل شفتيه لالشمئزاز أثر ،أفما تراه
يتقدم بخطوات الراقصني؟
لقد تبدلت هيئة زارا؛ إذ رجع بنفسه إىل طفولته ،لقد استيقظت يا زارا فماذا
أنت فاعل قرب النائمني؟
كنت تعيش يف العزلة كمن يعوم يف بحر والبحر يحمل أثقاله ،وأراك اآلن تتجه
إىل اليابسة ،أفرتيد االستغناء عمن حملك لتسحب هامتك عىل األرض بنفسك؟
فأجاب زارا :إنني أحب الناس.
فقال الشيخ الحكيم :إنني ما طلبت العزلة واتجهت إىل الغاب إال الستغراقي يف
حبهم ،أما اآلن فقد حولت حبي إىل الله ،وما اإلنسان يف نظري إال كائن ناقص،
فإذا ما أحببته قتلني حبه.
فأجاب زارا :ومن يصف لك الحب اآلن! إنني ال أقصد الناس إال ألنفحهم
بالهدايا.
فقال الحكيم القديس :إياك أن تعطيهم شيئًا ،واألجدر بك أن تأخذ منهم ما
30
تساعدهم عىل حمله ،ذلك أجدى لهم عىل أن تغنم سهمك من هذا الخري ،وإذا كان
ال بد لك من العطاء فال تمنح الناس إال صدقة عىل أن يتقدموا إليك مستجدين
ً
أول.
فأجاب زارا :أنا ال أتصدق؛ إذ لم أبلغ من الفقر ما يجيز يل أن أكون من
املتصدقني.
فضحك القديس مستهزئًا وقال :حاول جهدك إذن إقناعهم بقبول كنوزك ،إنهم
يحاذرون املنعزلني عن العالم ،وال يصدقون بأننا نأتيهم بالهبات ،إن لخطوات
الناسك يف الشارع وقعً ا مستغربًا يف آذان الناس ،إنهم ليجفلون عىل مراقدهم؛ إذ
يسمعونها فيتساءلون :إىل أين يزحف هذا اللص؟
ال تقرتب من هؤالء الناس .ال تبارح مقامك يف الغاب ،فاألجدر بك أن تعود إىل
مراتع الحيوان ،أفال يرضيك أن تكون مثيل دبًّا بني الدببة وطريًا بني األطيار؟
فسأل زارا :وما هو عمل القديس يف هذا الغاب؟
فأجاب القديس :إنني أَن ْ ِظم األناشيد ألترنم بها ،فأراني حمدت الله؛ إذ ُّ
أرس
نجواي فيها بني الضحك والبكاء؛ ألنني باإلنشاد والبكاء والضحك واملناجاة أسبِّح
الله ربي ،ومع هذا ،فما هي الهدية التي تحملها إلينا؟
فانحنى زارا مسلمً ا وقال للقديس :أي يشء أعطيك؟ دعني أذهب عنك مرسعً ا
كيال آخذ منك شيئًا.
وهكذا افرتقا وهما يضحكان كأنهما طفالن.
وعندما انفرد زارا قال يف نفسه :إنه ألمر جد مستغرب ،أ َّملا يسمع هذا الشيخ يف
غابه أن اإلله قد مات1.
3
وإذ وصل زارا إىل املدينة املجاورة ،وهي أقرب املدن إىل الغاب ،رأى الساحة
مكتظة بخلق كثري أُعلنوا من قبل أن بهلوانًا سيقوم هناك باأللعاب ،فوقف زارا يف
31
الحشد يخطبه ً
قائل :إنني ٍ
آت إليكم بنبأ اإلنسان املتفوق ،فما اإلنسان العادي إال
كائن يجب أن نفوقه ،فماذا أعددتم للتفوق عليه؟
إن ًّ
كل من الكائنات أوجد من نفسه شيئًا يفوقه ،وأنتم تريدون أن تكونوا جز ًرا
يصد املوجة الكربى يف مدها ،بل إنكم تؤثرون التقهقر إىل حالة الحيوان بدل
اندفاعكم للتفوق عىل اإلنسان ،وهل القرد من اإلنسان إال سخريته وعاره؟ لقد
اتجهتم عىل طريق مبدؤها الدودة ومنتهاها اإلنسان ،غري أنكم أبقيتم عىل ج ِّل
ما إن الصحراء تتسع وتمتد فويل ملن يطتتصف به ديدان األرض ،لقد كنتم من
جنس القرود فيما مىض ،عىل أن اإلنسان لم يفتأ حتى اليوم أعرق من القرود يف
قرديته.
ليس أوفركم حكمة إال كائن مشوَّش ال يمت بنسبه إىل أصل رصيح ،فهو مزيج
من النبات واألشباح ،وما أدعو اإلنسان ليتحول إىل شبح أو إىل نبات.
لقد أتيتكم بنبأ اإلنسان املتفوق.
إنه من األرض كاملعنى من املبنى ،فلتتجه إرادتكم إىل جعل اإلنسان املتفوق
معنى لهذه األرض وروحً ا لها.
أتوسل إليكم ،أيها اإلخوة بأن تحتفظوا لألرض بإخالصكم فال تصدقوا مَ ن
ُّ
فيدسون لكم السم ،سواء يمنونكم بآمال تتعاىل فوقها ،إنهم يعللونكم باملحال
أجهلوا أم عرفوا ما يعملون أولئك هم املزدرون للحياة ،لقد رعى السم أحشاءهم
فهم يحترضون ،لقد تعبت األرض منهم فليقلعوا عنها.
لقد كانت الروح تنظر فيما مىض إىل الجسد نظرة االحتقار فلم يكن حينذاك
ً
ناحل قبيحً ا من مجد يطاول عظمة هذا االحتقار .لقد كانت الروح تتمنى الجسد
جائعً ا متوهمة أنها تتمكن بذلك من االنعتاق منه ومن األرض التي يدبُّ عليها،
وما كانت تلك الروح إال عىل مثال ما تشتهي لجسدها ناحلة قبيحة جائعة ،تتوهم
أن أقىص لذاتها إنما يكمن يف قسوتها وإرغامها.
أفليست روحكم ،أيها اإلخوة ،مثل هذه الروح؟ أفما تعلن لكم أجسادكم عنها
32
أنها مسكنة وقذارة وأنها غرور يسرتعي اإلشفاق؟
والحق ما اإلنسان إال غدي ٌر دنس ،وليس إال ملن أصبح محي ً
طا أن يقتبل انصباب
مثل هذا الغدير يف عبابه دون أن يتدنس.
تعلموا من هو اإلنسان املتفوق.
إن هو إال ذلك املحيط تُغرقون احتقاركم يف أغواره.
وهل تتوقعون بلوغ معجزة أعظم من هذه املعجزة؟
لقد آن لالحتقار أن يبلغ أشده فيكم ،بعد أن استحال رشفكم ذاته كما استحالت
عقولكم وفضائلكم إىل كره واشمئزاز.
لقد آن لكم أن تقولوا :ما يهمني رشيف ،وما هو إال مسكنة وقذارة وغرور ،يف
حني أن عىل الرشف أن يربر الحياة نفسها.
لقد آن لكم أن تقولوا :ما تهمني القوى العاقلة يف َّ ،إذا لم تطلب الحكمة بجوع
األسد ،وما هي اآلن إال مسكنة وقذارة وغرور.
لقد آن لكم أن تقولوا :ما تهمني فضيلتي فإنها ملا تصل بي إىل االستغراق ،وقد
أتعبني خريي ورشي ،وما هما إال مسكنة وقذارة وغرور.
لقد آن لكم أن تقولوا :ما يهمني عديل ،إن العادل يقدح رش ًرا وملا اشتعل.
لقد آن لكم أن تقولوا :ما تهمني رحمتي ،أفليست الرحمة صليبًا يسمر عليه من
يحب البرش ،ورحمتي َّملا ترفعني عىل الصليب.
أقلتم مثل هذا وناديتم به؟ ليتني سمعتكم تهتفون بمثله!
إن ما يرفع عقريته عىل السماء إن هو إال غروركم ال خطاياكم ،إن هو إال
حرصكم حتى يف خطاياكم.
أين هو اللهب الذي يمتد إليكم ليطهركم؟ أين هو الجنون الذي يجب أن يستويل
عليكم؟
هأنذا أنبئكم عن اإلنسان املتفوق.
33
إن هو إال ذلك اللهب وذلك الجنون.
وما فرغ زارا من كالمه حتى ارتفع صوت من الحشد ً
قائل« :لقد كفانا ما
سمعنا عن البهلوان ،فليربز لنا اآلن لنراه».
فضحك الجميع مستهزئني بزارا ،وتقدم البهلوان ليقوم بألعابه وهو يعتقد أنه
كان موضوع الحديث.
4
ً
مجيل أنظاره يف القوم ،ثم قال :ما اإلنسان إال حبل منصوب بني وبهت زارا
الحيوان واإلنسان املتفوق فهو الحبل املشدود فوق الهاوية.
إن يف العبور للجهة املقابلة مخاطرة ،ويف البقاء وسط الطريق خط ًرا ،ويف
االلتفات إىل الوراء ويف كل تردد ويف كل توقف خطر يف خطر.
إن عظمة اإلنسان قائمة عىل أنه مَ عْ َبٌ وليس ً
هدفا ،وما يستحب فيه هو أنه
سبيل وأفق غروب.
إنني أحب من ال غاية لهم يف الحياة إال الزوال ،فهم يمرون إىل ما وراء الحياة.
أحب من عظم احتقارهم ألنهم عظماء ،أحب املتعبدين يدفعهم الشوق إىل
املروق كالسهم إىل الضفة الثانية.
أحبُّ من ال يتطلبون وراء الكوكب معرفة ما يدعو إىل زوالهم أو ما يهيب بهم
إىل التضحية؛ ألنهم يقدمون ذاتهم قربانًا لألرض ،لتصبح هذه األرض يومً ا مرياثًا
لإلنسان املتفوق.
أحب من يعيش ليتعلم ،ومن يتوق إىل املعرفة ليحيا الرجل املتفوق بعده ،فإن
هذا ما يقصد طالب املعرفة من زواله.
أحب من يعمل ويخرتع ليبني مسكنًا لإلنسان املتفوق فيهيئ ما يف األرض من
حيوان ونبات الستقباله ،فإن هذا ما يقصد طالب املعرفة من زواله.
أحب من يحب فضيلته ،فما الفضيلة إال الطموح إىل الزوال وإن هي إال السهم
34
تُنشبه أشواقه.
أحب من ال يحتفظ لنفسه برشارة واحدة من روحه ،فيتجه إىل أن يكون بكليته
روحً ا لفضيلته؛ ألنه بهذا يجعل روحه تجتاز الرصاط.
أحب من يكون من فضيلته ميوله ومطمحه؛ ألنه بمثل هذه الفضيلة يتوق إىل
إطالة حياته كما يتوق إىل قرصها.
أحب من ال يريد االتصاف بعديد الفضائل؛ إذ يف الفضيلة الواحدة من الفضائل
أكثر مما يف فضيلتني ،والفضيلة الواحدة حلقة ترتبط فيها الحياة.
أحب من يجود بروحه فال يطلب جزاء وال شكو ًرا ،وال يسرتد ،فهو يهب دائمً ا
وال يفكر يف االستبقاء عىل ذاته.
أحب من يخجل من سقوط زهر النرد لح ِّ
ظه فريتاب بغش يده ،إن أمثاله هم
التائقون إىل الزوال.
أحب من يبذل الوعود وهاجة ثم يتجاوز عمله وعده ،إن أمثاله هم التائقون
إىل الزوال.
أحب من يربر أعمال الخلف ويدافع عن السلف ألنه بذلك يسلم نفسه إىل نقمة
معارصيه ،فهو ممن يتوقون إىل الزوال.
أحب من يعلن حبه لربه بتوجيه اللوم إليه؛ إذ يجب أن يهلك بغضب ربه.
أحب من يبلغ التأثر أعماق روحه يف جراحها فيعرضه أتفه حدث للفناء ،إن
أمثاله يعربون الرصاط دون أن يرتددوا.
أحب من تفيض نفسه حتى يسهى عن ذاته؛ إذ تحتله جميع األشياء فيضمحل
فيها ويفنى بها.
أحب من تحرر قلبه وتحرر عقله حتى يصبح دماغه بمثابة أحشاء لقلبه ،غري
أن قلبه يدفع به إىل الزوال.
أحب جميع من يشبهون القطرات الثقيلة التي تتساقط متتالية من الغيوم
35
السوداء املنترشة فوق الناس ،فهي التي تنبئ بالربق وتتوارى.
ما أنا إال منبئ ٌ بالصاعقة ،أنا القطرة الساقطة من الفضاء ،وما الصاعقة التي
أبرش بها إال اإلنسان املتفوق.
5
وبعد أن ألقى زارا هذه الكلمات أجال أنظاره يف الحشد وسكت ثم قال يف قلبه:
لقد تملكهم الضحك ،فهم ال يفهمون ما أقول ،وما أنا بالصوت الذي يالئم هذه
األسماع.
أعيل َّ أن أسد آذانهم ليتمرنوا عىل اإلصغاء بعيونهم؟ أم يجب أن أرضب الصنج
أسوة بوعاظ الصيام؟ لعل هؤالء القوم ال يتقون إال باأللكن من املتكلمني.
إن لهؤالء الناس ما يباهون به فما عساه أن يكون؟
إنهم يسمونه مدنية ليميزوا بها أنفسهم عىل الرعاة ،فهم لذلك ينفرون من
لفظة االحتقار إذا ما ذُكرت يف معرض الكالم عنهم ،فلسوف أخاطبهم إذن عن
غرورهم.
سأخاطبهم عن أحقر الكائنات ،عن اإلنسان األخري .وتوجه إىل الحشد ً
قائل:
لقد آن لإلنسان أن يضع ً
هدفا نصب عينيه ،لقد آن له أن يزرع ما يُنبت أسمى
رغباته ما دام لألرض بقية من ذخرها؛ إذ سيأتي يوم ينفذ هذا الذخر منها
فتجدب ويمتنع عىل أية دوحة أن تنمو فوقها.
ويل لنا! لقد اقرتبت األزمنة التي لن يفوق اإلنسان فيها سهام شوقه محلقة
فوق البرشية؛ إذ تخونه قوسه وترتاخى أوتارها.
الحق ما أقوله لن يخرج من اإلنسان كوكب وهاج للعالم حني تزول بقية السديم
من نفسه ،وهذا السديم لم يزل فيكم.
ويل لنا! لقد اقرتبت األزمنة التي لن يدفع اإلنسان فيها بالكواكب للعالم ،ويل
لنا؟ لقد اقرتب زمان اإلنسان الحقري الذي يمتنع عليه أن يحتقر نفسه.
36
اسمعوا! هأنذا منبئكم عن الرجل األخري.
ٌ
أمحبة هي أم إبداع أم تشوق ،أم توهج ً
متسائل عن نفسه فال يعلم إنه مَ ن يقف
كوكب.
وستصغر األرض يف ذلك الزمان فيطفر عىل سطحها الرجل األخري الذي يحول
إىل حضارة كل ما يدور به ،إن ساللة هذا الرجل ال تباد ،فهي أشبه بالرباغيث،
واإلنسان األخري أطول البرش عم ًرا.
ويقول أنايس الزمن األخري متغامزين :لقد اخرتعنا السعادة اخرتاعً ا.
لقد هجر هؤالء البقاع التي تقسو عليها الحياة؛ ألنهم شعروا بحاجتهم إىل
الحرارة فأصبح كل واحد يحتك بجاره وقد احتاجوا إىل الدفء جميعً ا.
إنهم يقتحمون الحياة باحرتاس؛ ألن الوجل واملرض يف عينهم خطأ ،وما سلم
من الجنون من يتعثر منهم بالحجارة وبالناس.
قليل من السموم حيث يجدونها طلبًا ملالذ األحالم ويكرعون منها إنهم يأخذون ً
ما يكفي دفعة واحدة طلبًا للذة املوت.
وإذا هم عملوا فإنما يعملون للتسلية محاذرين أن تذهب هذه التسلية بهم إىل
حدود اإلنهاك.
ليس بينهم من يصبح غنيًّا أو يميس فقريًا ،وكال الفقر والغنى يُجلب الضنى،
ُحرج مُرهق.
وما منهم من يطمح إىل الحكم أو يرىض بالخضوع وكالهما م ِ
راع وليس هنالك إال قطيع واحد .إن ًّ
كل من الناس يتجه إىل رغبة ليس هنالك ٍ
واحدة ،فاملساواة سائدة بني الجميع ،ومن اختلف شعوره عن شعور املجموع
يسري بنفسه مختا ًرا إىل مأوى املجانني.
ويغمز أمكر هؤالء الناس بعينهم ويقولون :لقد كان الجميع مجانني فيما
مىض.
لقد ساد االحرتاس بني هؤالء القوم؛ ألنهم أخذوا بالعرب ،فهم يتلقون الحادثات
37
متهكمني ،وإذا نشأ بينهم خالف بادروا إىل حسمه صلحً ا؛ ألنهم يحاذرون أن
تصاب معدهم بالعلل واألدواء.
لهؤالء الناس لذات للنهار ولذات أخرى لليل ،غري أنهم يراعون صحتهم ً
أول.
«لقد اخرتعنا السعادة اخرتاعً ا» ذلك ما يقوله أنايس الزمن األخري وهم يغمزون.
عند هذا أنهى زارا خطابه أو بالحري تمهيد خطابه فتعالت أصوات التهليل من
الحشد وهو يقول :إلينا بهذا الرجل األخري يا زارا ،اجعلنا عىل مثال أنايس الزمن
األخري فقد تخلينا لك عن اإلنسان املتفوق.
ولكن زارا وجم أمام هذا الحشد يسوده مثل هذا الروح فاستوىل الحزن عليه
وقال يف نفسه :إنهم ال يفهمون كالمي ،فلست بالصوت الذي تتطلبه هذه األسماع.
ً
طويل إىل هدير الغدران وحفيف ُّ
وأنصت ً
طويل يف هذه الجبال لقد عشت
األشجار ،فأنا أكلم هؤالء الناس اآلن كأنني أخاطب رعاة املاعز.
إن روحي صافية تغمرها األنوار كما تغمر القم َم تباشريُ الصباح ،ولكنهم
يحسون بالصقيع يف قلبي ويحسبونني مهرجً ا يأتيهم باملفجع من النكات.
إنهم يحدِجونني بأنظارهم ويتضاحكون ،ففي قلبهم ثورة البغضاء وعىل
شفاههم بسمة الثلوج.
6
وطرأ حادث ك َّم األفواه واسرتعى األبصار ،وكان البهلوان بدأ بألعابه فاندفع
من النافذة وأخذ يتمىش عىل الحبل املمدود بني برجني فوق الساحة وما عليها من
املتفرجني ،وما وصل إىل وسط الحبل حتى فتحت النافذة مرة ثانية ،واندفع منها
ً
صارخا« :إىل األمام فتى مخطط باأللوان كاملهرجني وسار متَّبعً ا خطوات البهلوان
أيها األعرج! إىل األمام أيها الكسالن ،أيها املرائي ذو الوجه الشاحب! اذهب لئال
تداعبك نعيل ،ما هو عملك بني هذين الربجني؟ أفليس يف الربج مكان سجنك؟ أنك
تسد الطريق يف وجه من هو أفضل منك».
38
وكان الفتى يتقدم خطوة كلما قال كلمة حتى أصبح عىل قاب قوسني من
البهلوان ،وعندئذ وقع الحادث الذي ك َّم األفواه واسرتعى األبصار؛ فإن الفتى لم
يلبث أن رصخ رصخة الجن وقفز فوق العقبة القائمة يف سبيله ،وملا رأى البهلوان
انتصار خصمه عليه أخذه الدوار ،وخلت رجله عن الحبل فرمى عارضة التوازن
من يديه وسقط يف الفضاء حيث الحت رجاله ويداه كعجلة تدور يف الهواء.
وماج الحشد عىل الساحة كالبحر اجتاحته العاصفة الهوجاء ،وانفرط الناس
مو ِّلني اإلدبار ،وانفرج املكان حيث كان يتجه الجسم بانحداره.
ولكن زارا لم يتحرك فوقع الجسم عىل مقربة منه حيث تقطعت أوصاله وتهشم،
غري أنه كان لم يزل حيًّا ،وما عتم أن عاد روع الجريح إليه فرأى زارا جاثيًا قربه
فرفع رأسه وقال له :ماذا تفعل هنا؟ ما كنت أجهل أن الشيطان سيُضل خطواتي
يومً ا وها هو ذا اآلن يجرني إىل جحيمه ،أفرتيد أن تمنعه؟
فقال زارا :ورشيف يا صديقي إن ما تذكره ال وجود له ،فليس من شيطان وليس
من جحيم ،إن روحك ستموت بأرسع من جسدك فال َ
تخش بعد اآلن شيئًا.
فرفع الرجل برصه مشك ًكا وقال :إذا كان ما تقوله صحيحً ا فإنني ال أفقد شيئًا
صت بالرضب ُ
وغذِّ ُ
يت بأفخر غذاء. بفقد الحياة ،فلست أنا إذن إال حيوانًا وقد ُر ِّق ُ
فقال زارا :ال ،ليس األمر كما تقول فإنك اتخذت املخاطرة مهنة لك ولم يكن
فيها ما يشني ،أما اآلن فمهنتك هي أن تفنى ،من أجل هذا سأدفنك بيديَّ .
ولم يحر املدنف جوابًا بل حرك يده باحثًا عن يد زارا ليصافحها داللة عىل
شكره.
7
وأمىس املساء مرخيًا سدوله عىل الساحة ،فتفرق عنها املتفرجون وقد أرهقهم
ً
جالسا عىل األرض قرب امليت فاستغرق يف تفكريه الفضول والرعب ،وبقي زارا
ناسيًّا مرور الزمان حتى هبت نفحات الليل عليه منفردًا ،فناجى نفسه ً
قائل:
39
ً
موفقا اليوم يا زارا! لقد أفلت الناس منك فاصطدت جثة هامدة. لقد كان صيدك
إن حياة اإلنسان محفوفة باألخطار ،وهي فوق ذلك ال معنى لها … فإن مه ِّرجً ا
يمكنه أن يقيض عليها.
أريد أن أع ِّلم الناس معنى وجودهم؛ ليدركوا أن اإلنسان املتفوق إنما هو الربق
الساطع من الغيوم السوداء :من اإلنسان.
ولكنني لم أزل بعيدًا عن هؤالء الناس وفكرتي بعيدة عن مداركهم ،فأنا لم أزل
طا املدى بني مجنون وجثة هامدة. متوس ً
إن الليل مظلم ومسالك زارا مظلمة ً
أيضا ،تعال أيها الرفيق املتيبِّس يف صقيعه!
إنني ذاهب بك إىل حيث أواريك الرتاب بيدي.
8
ورفع زارا الجثة عىل كاهله وميش ،ولكنه ما قطع مائة خطوة حتى زحمه رجل،
فأرس إليه :اذهب من هذه املدينة يا زارا،
َّ وما كان هذا الرجل إال مهرج الربج،
فإن مبغضيك فيها كثريون ،هنا يكرهك أهل الصالح والعدل ،فيصفونك بالعدو
واملزدرى ،ويكرهك املؤمنون بالدين الحق فريون بك خط ًرا عىل عامة الناس ،وقد
كان من حظك أن هزأ الحشد بك؛ ألنك كنت تتكلم كاملهرجني ،وكان من حظك
أيضا أن اشرتكت والكلب امليت ،فقد كان خالصك هذه املرة يف إسفافك إىل هذهً
املهاوي ،ولكنك لن تسلم يف الثانية فاذهب من هذه املدينة وإال فإنني قافز غدًا
فوق جثة أخرى.
قال الرجل هذا وتوارى وتابع زارا سريه يف الشوارع املظلمة ،وملا بلغ باب
املدينة التقى حُ َّفار القبور فوجهوا إىل رأسه أشعة مصابيحهم وإذ عرفوا فيه زارا
أشبعوه سخرية وهزءًا وقالوا :مرحى يا زارا! لقد رصت اآلن حفا ًرا للقبور ،إنك
تحمل الكلب امليت .لقد أحسنت ،فإن أيدينا أطهر من أن تدنس بجثته ،أتريد يا
زارا أن تختلس من الشيطان طعامه؟ ُك ْل هنيئًا ولكن الشيطان أمهر منك ،ولعله
يرسقكما كليكما فيلتهمكما التهامً ا.
40
ودار حُ َّفار القبور بزارا يتفرسون فيه ،أما هو فلزم الصمت وسار يف طريقه،
وبعد أن مىش ساعتني يقطع األحْ راج واملستنقعات ،شعر بالجوع لكثرة ما عوت
حوله الذئاب الجائعة ،فوقف أمام بيت منفرد الحت له األنوار من نوافذه ،وقال:
لقد عضني الجوع وداهمني كاللص بني األحراج يف الليل البهيم.
إن لجوعي نزوات مستغربة وقد يداهمني حتى بعد الطعام ،ولكنه اليوم ن َّد
عني منذ الصباح حتى املساء فأين كان هذا الجوع؟
ً
مشعل ،وقال له :من اآلتي إيل َّ وطرق زارا باب البيت فظهر له منه شيخ يحمل
وإىل رقادي املضطرب؟
ً
مأكل ومرشبًا فقد نسيت الغذاء فأجاب زارا :أتيناك اثنني حي وميت ،أعطني
النهار بطوله ،إن من يشبع الجياع يويل نفسه قوة ،هكذا قالت الحكمة.
فغاب الشيخ وعاد بخبز وخمر وقال :إنها ألماكن موحشة للجياع ،وذلك ما
دعاني إىل السكن هنا حيث يهرع إيل َّ البرش والحيوان يف وحدتي ،أفال تدعو رفيقك
ليأكل ويرشب معك فهو أشد تعبًا منك.
فقال زارا :إن رفيقي ميت وال يسهل عيل َّ إقناعه بتناول الطعام.
فتمتم الشيخ :ذلك ال يهمني ،إن من يطرق بابي عليه أن يأخذ ما أقدمه له،
ُكال هنيئًا.
أيضا وهو يهتدي إىل رسوم الطريق بنوروعاد زارا إىل السري فميش ساعتني ً
السى ويحب أن يتفرس يف كل ما يروق له ،وعند ما النجوم ،وقد كان معتادًا ُّ
الح الصباح كان زارا وصل إىل غابة كثيفة حيث انقطع كل طريق أمامه ،فتوقف
ووضع الجثة يف فراغ شجرة حواها حتى رأسها ليقيها هجمات الذئاب ،ورقد بعد
ذلك متوسدًا نبات األرض وما عتم حتى استغرق يف نومه منهوك الجسم مرتاح
الضمري.
41
9
وطال نوم زارا حتى غمرت وجهه أنوار الضحى بعد أن داعبته تباشري الفجر،
ففتح عينيه مبهوتًا ورسح أبصاره عىل الغاب ثم حولها يستكشف نفسه ساكنًا
مستغربًا.
وهب من مجلسه فجأة كما يهب املالح تبدو لعينه األرض فهتف وقد ه َّزه املرح؛
قائل لقد انفتحت عيناي .إنني بحاجة ألنه اكتشف حقيقة جديدة فخاطب قلبه ً
إىل رفاق أحياء ال إىل رفاق أموات وجثث أحملهم إىل حيث أريد.
رفاقا أحياء يتبعونني؛ ألنهم يريدون أن يتبعوا أنفسهم أيَّان ً إنني أطلب
توجهت.
لقد انفتحت عيناي؛ ليس عىل زارا أن يخاطب جماعات بل عليه أن يخاطب
ً
رفاقا ،يجب أال يكون زارا راعيًا للقطيع وكلبًا له.
ً
خرافا عديدة من القطيع ،وسوف يتمرد الشعب إنني ما جئت إال ألخلص
والقطيع عيلَّ ،إن زارا يريد أن يعامله الرعاة معاملتهم للصوص.
قلت رعاة غري أنهم يُدعون بالصالحني والعادلني ،قلت رعاة غري أنهم يدعون
باملؤمنني بالدين الحق.
انظروا إىل أهل الصالح والعدل لتعلموا من هو أل ُّد أعدائهم ،إنه من يحطم
األلواح التي حفروا عليها ُسننهم ،ذلك هو الهدام ذلك هو املجرم ،غري أنه هو
املبدع.
انظروا إىل املؤمنني بجميع املعتقدات تعلموا من هو ألد أعدائهم إنه من يحطم
األلواح التي حفروا عليها سننهم ،ذلك هو الهدام ذلك هو املجرم ،غري أنه هو
املبدع.
إيل َّ بالرفاق ،إنني أطلبهم مبدعني وال أطلبهم جثثًا وقطعانًا ومؤمنني.
إن املبدع ال يتخذ له ً
رفاقا إال من كانوا مثله مبدعني ،إنه يتخذهم ممن يحفرون
42
سننًا جديدة عىل ألواح جديدة.
َّ
الحصاد يعاونونه يف الحصاد؛ ألن كل يشء قد إن من يطلب املبدع إنما هم
أصبح يف عينه ناضجً ا للحصاد ،ولكن املائة منجل ليست بني يديه فهو يتميز
غضبًا ويقتلع السنابل من أصولها.
إن املبدع يطلب ً
رفاقا له بني من يعرفون أن يشحذوا مناجلهم ،وسوف يدعوهم
الناس هدامني ومستهزئني بالخري والرش ،غري أنهم يكونون هم الحاصدين
واملحتفلني بالعيد.
إن زارا يطلب من هم مثله مبدعون يشاركونه يف الحصاد ويف الراحة فال حاجة
له بالقطعان والرعاة وأشالء األموات.
وأنت يا رفيقي األول ،ارقد بسالم لقد أحسنت دفنك يف فراغ الشجرة ووقيتك
افرتاس الذئاب.
غري أنني سأفرتق عنك ألن الزمان قد مر رسيعً ا ،وقد انبثقت حقيقة جديدة يف
أفق نفيس ما بني فجرين.
لن أكون راعيًا ،ولن أكون حفار قبور ،ولسوف ال أقف بعد اآلن يف الجماعات
خطيبًا فقد وجهت آخر خطبي إىل ميت.
أريد أن أنضم إىل املبدعني ،إىل أولئك الذين يحصدون ويرتاحون فأريهم قوس
قزح واملراتب التي يرقاها الواصلون إىل اإلنسانية املتفوقة.
سأهتف بنشيدي للمعتزلني وملن يشعرون بمثنويَّتهم يف انفرادهم .إنني سأمأل
بغبطتي قلب كل من له أذنان تصغيان إىل ما لم تسمعه أذن بعد.
إنني أسري إىل هديف وأتبع طريقي فأقفز فوق املرتددين واملتأخرين ،وهكذا
سيكون سريي جنوحً ا إىل الغروب.
10
وكان زارا يناجي نفسه بهذا القول والشمس يف الهاجرة ،وإذا به يسمع صوتًا
43
جارحً ا يف الفضاء والح له نرس يعقد حلقات يف طريانه ،وقد تعلق به أفعوان
وما كان النرس يقبض عليه بمخلبيه كفريسة ،بل كان األفعوان ًّ
ملتفا حول عنقه
التفاف املحب.
فهتف زارا والحبور يمأل فؤاده :هذان نرسي وأفعواني؛ فالنرس أشد الحيوانات
ي يف َ
مستكشف ْ ِ افتخا ًرا ،واألفعوان أشدها مك ًرا تحت الشمس ،وكالهما ذاهبان
الفضاء؛ ليعلما ما إذا كان زارا لم يزل يف الحياة ،فهل أنا لم أزل حيًّا بعد؟
لقد اعرتضني من املخاطر بني الناس ما لم أجد مثله بني الحيوانات ،إنني أتبع
السبل املخطرة فألقتدين بنرسي وأفعواني.
وتذكر زارا القديس املنعزل يف الغاب فتنهد وقال :ألكونن أوفر حكمة ألكونن
ماك ًرا كأفعواني ،غري أنني أطلب املستحيل لذلك أتوسل إىل افتخاري أن يالزم
حكمتي وال ينفصل عنها.
وإذا ما تخلت حكمتي عني يومً ا وهي تتوق إىل الطريان وا أسفاه؛ فإنني ألرجو
أن يطري افتخاري مستصحبًا جنوني.
وهكذا بدا جنوح زارا إىل املغيب.
هوامش:
1هذه الخطوة األوىل .وسنرى أي إله يقول نيتشه بموته وأي إله يتجه هذا
الفيلسوف إىل اكتشافه يف رسيرة اإلنسان.
44
خطب زرادشت
45
نحو صحرائه.
وهنالك يف الصحراء القاحلة يتم التحول الثاني؛ إذ ينقلب العقل أسدًا؛ ألنه
يطمح إىل نيل حريته وبسط سيادته عىل صحرائه.
ويف هذه الصحراء يفتش عن سيده ليناصبه العداء كما ناصب سيده السابق،
فهو يستعد ملكافحة التنِّني والتغلب عليه.
ومن هو هذا التنني الذي يتمرد العقل عليه فال يريد بعد اآلن أن يرى فيه ربه
وسيده؟
إن التنني هو كلمة «يجب عليك» وعقل األسد يريد أن ينطق بكلمة «أريد» إن
كلمة «الواجب» ترتصد األسد عىل الطريق تنينًا يدرع بآالف األصداف وعىل كل
قطعة منها تتوهج بأحرف مذهبة كلمة «يجب عليك».
وعىل هذه األصداف تشع رشائع ألف عام والتنني األعظم يعج ً
قائل إن جميع
الرشائع تتوهج عيلَّ.
كل ما هو سنَّة قد أوجد من قبل ،وبي تتمثل جميع السنن الكائنة ،والحق إن
كلمة «أريد» يجب أال ينطق بها أحد بعد! هكذا قال التنني.
فأية حاجة لكم أيها اإلخوة بأسد العقل؟ أفما يكفيكم الحيوان القوي الجليل
املمنَّع بامتناعه؟
من العبث أن تطمحوا إىل خلق سنن جديدة ،إن األسد نفسه ليعجز عن هذا
الخلق؛ إذ ال يسعه إال أن يستعد بتحرير نفسه لخلق جديد ،ألن قوته لن تتجاوز
هذا الحد.
أيها اإلخوة ،إن العمل الذي تحتاجون فيه إىل األسد إنما هو تحرير أنفسكم
والوقوف ببطولة االمتناع يف وجه كل يشء حتى يف وجه الواجب ،ذلك أيها اإلخوة
هو العمل الذي تحتاجون إىل األسد للقيام به.
إن االستيالء عىل حق إيجاد سنن جديدة يقيض بالجهاد العنيف عىل العقل
46
الخشوع الصبور ،وال ريب أن يف هذا الجهاد قسوة ال يتصف بها إال الحيوانات
املفرتسة.
لقد كان العقل فيما مىض يتعشق كلمة «الواجب» كأنها أقدس حق له ،وقد
أصبح عليه اآلن أن يجد حتى يف هذا الحق املفدَّى ما يحدو به إىل التعسف
والتوهم ،ليتمكن بإرهاق عشقه أن يستويل عىل حريته وليس غري األسد من يقوم
بهذا الجهاد.
ولكن ما هو العمل الذي يقدر عليه الطفل بعد أن عجز األسد عنه؟ وملاذا يجب
أن يتحول األسد املكتسح إىل طفل؟
ذلك ألن الطفل طهر ونيسان؛ ألنه تجديد ولعب وعجلة تدور عىل ذاتها فهو
حركة البداية وعقيدة مقدسة.
أجل أيها اإلخوة إن العمل اإللهي لإلبداع يستلزم عقيدة مقدسة ،فإن العقل
يطلب اآلن إرادته ،ومن فقد الدنيا يريد اآلن أن يجد دنياه.
ً
جمل لقد ذكرت لكم تحوالت العقل الثالثة فأوضحت كيف استحال العقل
وكيف استحال أسدًا وكيف استحال أخريًا إىل طفل.
هكذا قال زارا ،وكان يف ذلك الحني مقيمً ا يف مدينة اسمها البقرة العديدة األلوان.
منابر الفضيلة
وبلغ زارا خرب حكي ٍم أطنبَ الناس يف علمه ومقدرته يف التكلم عن الكرى وعن
الفضيلة فحبَوْه بالتكريم والتبجيل ،واتَّبعه عدد من الشبان أصبحوا دعامة ملنربه
العايل ،فذهب زارا وجلس معهم أمام املنرب مصغيًا إىل الحكيم فكان يقول:
مجِّ دوا الكرى وعظموه؛ ألن له املقام األول وتحاشوا مرافقة من ساء رقادهم
ومن استحوذ عليهم األرق.
ً
مخرسا وقع أقدامه ،ولكن إن اللص ليقف خاشعً ا أمام الكرى فيدلج يف الليل
الساهر املجازف ال يتورع عن حمل بوقه.
47
ليس بالسهل أن يعرف اإلنسان كيف يستسلم لسنة الكرى ،وليس إال ملن عرف
كيف ينتبه طول النهار أن ينام ملء جفنيه.
يجب عليك أن تقاوم نفسك عرش مرات يف النهار فتغنم خري التعب وتهيئ
املخدِّر لروحك.
عليك أن تصالح نفسك عرش مرات يف النهار؛ ألنه إذا كان يف قهر النفس مرارة
فإن يف بقاء الشقاق بينك وبينها ما يزعج رقادك.
عليك أن تجد عرش حقائق يف يومك كيال تضطر إىل السعي وراءها يف نومك
فتبقى نفسك جائعة.
عليك أن تضحك عرش مرات يف يومك لتكون مرحً ا كيال تزعجك معدتك يف ليلك
واملعدة بيت الداء.
قليل من يعرف هذا من الناس ،ولن يتمتع بالرقاد الهنيء إال من حاز جميع
الفضائل ،فإذا ما املرء أدى شهادة زور أو تلطخ بالزنا وإذا هو اشتهى خادمة
قريبه فقد حُ رم وسائل الهناء يف نومه.
غري أن املرء يحتاج فوق فضائله إىل يشء آخر وهو أن يندفع إىل الرقاد بفضائله
نفسها يف الزمن املناسب.
ً
حائل كيال ينتهني َّ
بينهن إن من الفضائل من هي كالغانيات املتجنِّيات ،فأقم
إىل عراكٍ تكون أنت ضحيته.
ليكن سالم بينك وبني ربك وبني األقربني ،فال نوم هنيء بدون هذا السالم،
وسالم شيطان جارك ً
أيضا لئال يراودك يف رقادك.
أكرم السلطة واخضع لها حتى ولو كانت هذا السلطة عرجاء .إن ذلك ما
يقتضيه النوم الهنيء.
وما أنا بالجاني إذا كان يحلو للسلطة أن تسري متعارجة.
إن خري الرعاة من يقود قطيعه إىل املروج الخرضاء ذلك ما يقتضيه الرقاد
48
الهنيء.
ال أطلب كثريًا من املجد وال وفريًا من املال وكالهما يؤدي إىل االضطراب ،ولكن
املرء ال ينام هنيئًا ما لم يكن له يشء من الشهرة ولديه يشء من املال.
أفضل أن يزورني القليل من الناس عىل أن يرتاد مسكني عُ َشا ُء السوء ،وهذاِّ
العدد القليل يجب عليه أال يطيل السمر عندي لئال يعكر صفو رقادي.
ترسني مجالسة البلهاء؛ ألنهم يجلبون النعاس ،ولشد ما يغتبطون عندما نحبِّذ
حماقاتهم ونشهد بإصابتهم.
عىل هذه الوترية يقيض فضالء الناس نهارهم ،أما أنا فإنني إذا أمىس املساء
أحرتس من أن أراود النعاس؛ ألنه سيد الفضائل وال يرتاح إىل تحرش الساهرين.
وتحت جنح الظالم أستعرض ما فكرت فيه وما فعلته يف يومي ،فأنطوي عىل
نفيس كالحيوان الصبور وأسائلها عما قهرت به أميالها عرش مرات وعما عقدت
به الصلح مع ذاتها عرش مرات ،وعن الحقائق العرش واملرسات العرش التي أفعمت
بها.
ً
مستغرقا تهزني األربعون خاطرة ،يستويل النعاس عيل َّ فجأة، وبينما أكون
وهكذا يسودني الكرى سيد الفضائل دون أن أتوجه بدعوة إليه.
جفني فتغمضان ،ويلمس فمي فيبقى مفتوحً ا.
َّ يشغل النعاس
إنه يدلف إيل َّ كلص محبوب فيرسق أفكاري وأبقى أنا منتصبًا كعمود من
خشب ،ثم ال تمر لحظات حتى أنطرح ممددًا عىل فرايش.
وبعد أن أصغى زارا إىل هذه األقوال يقرع الحكيم بها األسماع تم َّلك ضحكه،
وأرشق نور يف جوانب نفسه فناجاها ً
قائل :يرتاءى يل أن هذا الحكيم قد جُ َّن
كخواطره األربعني.
ولكنه ج ُّد خبري بحاالت الكرى ،فما أسعد من يجاور هذا الحكيم! ألن مثل هذا
النعاس شديد االنتقال بالعدوى حتى إىل ما وراء الجدران.
49
إن شيئًا من السحر يفوح من منربه العايل ،وما يجتمع هذا العدد من الشبان
عبثًا حول خطيب الفضائل.
إن قاعدة هذا الحكيم إنما هي :اسهروا لتناموا .ويف الحقيقة لو لم يكن للحياة
معناها ووجب أن أختار لها حكمة ال معنى لها ملا كنت أجد أفضل من هذه
القاعدة.
لقد أدركت اآلن ما كان يطلب الناس قبل كل يشء عندما كانوا يفتشون عىل
أوليات الفضائل ،إنهم كانوا يطلبون النوم الهنيء والفضائل التي يتجىل عىل
مفرقها تاج املخدِّرات ،وما كانت الحكمة يف عرف حكماء املنابر ،وقد نالوا
اإلعجاب والثناء ،إال قاعدة نوم ال تقلقه األحالم .إنهم لم يكتشفوا معنى أفضل من
هذا املعنى للحياة.
وكم يف أيامنا هذه من أناس يشبهون هذا الواعظ يف دعوته إىل الفضيلة غري أنهم
إخالصا منه ،ولكن هذا الزمان لم يعد زمانهم ولن يطول وقوفهم والكرىً أقل
يراود أفكارهم فهم عن قريب سيُمددون.
طوبى ملن دب إىل عيونهم النعاس! إنهم عما قريب سريقدون.
هكذا تكلم زارا …
50
ال ينتيش املتألم بمرسة أشد من مرسته حينما يُعرض عن آالمه وينىس نفسه،
ثمل ونسيانًا ،وهو يتقلب أبدًا يف هكذا َّ
تكشف يل العالم يومً ا فرأيت مرسته ً
ً
معكسا للتناقض األبدي. نقائصه
نظرت إىل العالم يومً ا فالح يل مرسة مسكرة يتمتع بها مبدع غري كامل خلقتُه
أنا ،فجاء ككل أعمال البرش ِجنَّة برشية.
ما كان هذا اإلله إال إنسانًا ،بل جزءًا من شخصية إنسان؛ ألنه نشأ من ترابي
ومن لهبي ،إنه لشبح من هذا العالم ال من وراء هذا العالم.
شهدت ذلك ،أيها اإلخوة ،فتفوقت عىل ذاتي بآالمي ،وحملت ترابي إىل الجبل
حيث أوقدت نا ًرا تشع نو ًرا فإذا بالشبح يتوارى مبتعدًا عني.
فإذا ما آمنت اآلن بمثل هذا الشبح ،فال يكون إيماني إال توجعً ا وصغا ًرا ،ذلك ما
أقوله للمأخوذين بالعالم الثاني.
ما أوجد َِت العوالم األخرى يف هذا العالم سوى اآلالم والشعور بالعجز ،ذلك ما
أوجدته تلك العوالم ،فأوجدت معه هذا الجنون الرسيع الزوال بسعادة ما ذاقها
من الناس إال أشدُّهم آالمً ا.
إن املتعب الذي يطمح إىل اجتياز أبعد مدى بطفرة واحدة بطفرة قاتلة ،وقد
بلغت به مسكنته وجهالته حدًّا ال يستطيع عنده أن يريد ،إنما هو نفسه مبدع
جميع اآللهة وجميع العوالم األخرى.
ُّ
يجس صدقوني ،أيها اإلخوة ،إن الجسد قد قطع رجاءه من الجسد ،فغدا
بأنامله مواضع الروح املضللة ،وذهب يتلمسها من وراء الحواجز القائمة عىل
مسافة بعيدة.
صدقوني ،أيها اإلخوة ،إن الجسد قد تملكه اليأس من األرض فسمع صوتًا
يناديه من قلب الوجود ،فأراد أن يخرتق برأسه أطراف الحواجز ،بل حاول
العبور منها إىل العالم الثاني ،غري أن العالم الثاني جد خفي عن الناس؛ ألنه
51
بتخنثه وابتعاده عن كل صفة إنسانية ليس إال سما ًء من العدم .إن قلب الوجود
ال يخاطب الناس إذا لم يكلمهم كإنسان.
والحق إنه ليصعب علينا إثبات الوجود واستنطاقه .أجيبوا أيها اإلخوة ،أفما
يلوح لكم أن أغرب األمور أثبتها ً
دليل؟
أجل! إن هذه الذات عىل ما فيها من تناقض واختالل تثبت بكل جالء وجودها
فتبتدع وتعلن إرادتها لتضع املقاييس ِّ
وتعي قِ يَم األشياء ،وما تطلب هذه الذات يف
إخالصها إال الجسد حتى يف حالة استغراقه يف أحالمه ،وتحفزه للطريان بأجنحته
املحطمة.
إن هذه الذات تتدرب عىل اإلفصاح عن رغباتها بإخالص ،وكلما ازدادت تدربًا
أُلهمت البيان لإلشادة بالجسد وباألرض.
لقد ع َّلمتني ذاتي عزة جديدة أعلمها اآلن للناس :علمتني أال أخفي رأيس بعد
اآلن يف رمال األشياء السماوية ،بل أرفعها ً
رأسا عزيزة ترابية تبتدع معنى األرض.
إنني أع ِّلم الناس إرادة جديدة يتخريون بها السري عىل الطريق التي اجتازها
الناس عن غباوة من قبلهم ،أعلمهم أن يطمئنوا إىل هذه الطريق فال تنزلق
أرجلهم عنها كما انزلقت أرجل األعالء املتهكمني ،وما هؤالء إال مَ ن ابتدعوا األشياء
السماوية واخرتعوا قطرات الدماء املراقة الفتداء البرش ،عىل أن هذه السموم التي
أخذوا بلذتها ورهبتها لم يستخرجوها إال من الجسد ومن األرض.
لقد شاءوا الفرار من الشقاء وتراءت لهم الكواكب بعيدة صعبة املنال فوجموا
يدفعون بالزفرات قائلني :وا أسفاه! ِل َم ال تنفتح أمامنا سبل يف السماء ننسحب
عليها إىل وجود آخر وسعادة أخرى.
يف ذلك الحني اخرتعوا أوهامهم وكئوسهم الصغرية املرتعة بالدماء … وحسب
هؤالء الناس يف عقوقهم أنهم فازوا بالنعيم بعيدًا عن جسدهم وعن األرض،
وتناسوا أن تنعمهم ورعشة ملذتهم إنما نشأت من جسدهم ومن هذه األرض1.
52
إن زارا ليشفق عىل األعالء فال يغضب ملا أوجدوه من وسائل السلوان وال
عقوا جسدهم وأرضهم ،بل هو يرجو لهم الشفاء والتغلب عىل يتمرمر؛ ألنهم ُّ
أنفسهم ليوجدوا لهم أجسادًا أرقى من أجسادهم.
أيضا عىل النَّاقِ ه الذي يحن إىل وهمه فيذهب يف منتصفإن زارا ال يغضب ً
الليل ليطوف بقرب إلهه ،ولكنه ال يرى يف دموع هذا الناقه إال أثر املرض والجسم
املريض.
لقد وجد يف كل زمان كثري من املرىض املستغرقني املتشوهني فهم يكرهون
إىل حد الهوس كل من يطلب املعرفة ،ويكرهون أبسط الفضائل وهي فضيلة
اإلخالص.
أنهم يلتفتون دائمً ا إىل الوراء ،إىل األزمنة املظلمة؛ إذ كان للجنون ولإليمان
ح َّلتهما الخاصة ،فكان اإلله يتجىل يف هوس العقل ،وكانت كل ريبة خطيئة.
لقد عرفتهم جد املعرفة ،أولئك املتجلني عىل صورة الله ومثاله فتيقنت أن جميع
رغباتهم تتجه إىل أن يؤمن الناس بهم وأن يصبح كل شك فيهم خطيئة ،وما فات
مداركي ذلك اإليمان الذي يدَّعون رسوخه فيهم ،فإنهم ال يؤمنون ال بالعوالم
األخرى وال بقطرات الدماء تفتدي العالم ،بل هم كسائر الناس يعتقدون بالجسد،
ويرون أن أجسادهم نفسها هي الكائن الواجب الوجود.
معتل ،فيودون أن يبارحوا جلودهم ًّ غري أن هؤالء الناس يرون الجسد كائنًا
وذلك ما يدفعهم إىل اإلصغاء للمبرشين باملوت وما يهيب بهم إىل التبشري بالعوالم
األخرى.
أما أنتم ،يا إخوتي ،فأصغوا إىل صوت الجسد الذي أبل من دائه؛ ألن هذا الجسد
يخاطبكم بصوت أنقى وأخلص من تلك األصوات.
إن الجسد السليم يتكلم بكل إخالص وبكل صفاء ،فهو كالدعامة املربعة من
الرأس حتى القدم وليس بيانه إال إفصاحً ا عن معنى األرض.
53
هكذا تكلم زارا …
املستهزئون بالجسد
ألقولن للمستهزئني بالجسد كلمتي فيهم :إن واجبهم َّأل يغريوا طرائق
تعاليمهم ،ولكن عليهم ً
أيضا أن يودِّعوا أجسادهم فيستويل عىل ألسنتهم الخرس.
يقول الطفل :أنا جسد وروح ،فلماذا ال يتكلم هؤالء الناس كاألطفال؟ أما
اإلنسان الذي انتبه وأدرك ذاته فيقول :إنني بأرسي جسد ال غري ،وما الروح إال
كلمة أطلقت لتعيني جزء من هذا الجسد.
ما الجسد إال مجموعة آالت مؤتلفة للعقل ،ومظاهر متعددة ملعنى واحدْ .
إن هو
إال ميدان حرب وسالم ،فهو القطيع وهو الراعي.
إن آلة جسدك إنما هي أداة عقلك الذي تدعوه روحً ا ،أيها األخ ،إن هو إال أداة
صغرية وألعوبة صغرية لعقلك العظيم.
إنك تقول« :أنا» ،وتنتفخ غرو ًرا بهذه الكلمة ،غري أن هنالك ما هو أعظم منها،
أشئت أن تصدق أم لم تشأ ،وهو جسدك وأداة تفكريه العظمى ،وهذا الجسد ال
يتبجح بكلمة أنا ألنه هو «أنا» ،هو مُضمر الشخصية الظاهرة.
إن ما تتأثر الحواس به وما يدركه العقل ال نهاية له يف ذاته ،غري أن الحس
والعقل يحاوالن إقناعك بأن فيهما نهاية األشياء جميعها ،فما أشد غرورهما!
ما الحس والعقل إال أدوات وألعوبة ،والذات الحقيقية كامنة وراءهما مفتشة
بعيون الحس ومصغية بآذان العقل.
إن الذات ما تربح مفتشة مصغية ،فهي تقابل وتستنتج ،ثم تهدم متح ِّكمة يف
الشخصية سائدة عليها ،فإن وراء إحساسك وتفكريك ،يا أخي ،يكمن سيد أعظم
منهما سلطانًا؛ ألنه الحكيم املجهول ،وهذا الحكيم إنما هو الذات بعينها املستقرة
يف جسدك وهي جسدك بعينه ً
أيضا2.
54
إن يف جسدك من العقل ما يفوق خري حكمة فيك ،ومَ ْن له أن يعلم السبب الذي
يجعل جسدك بحاجة إىل خري ما فيك من حكمة.
إن ذاتك تهزأ بشخصيتك وبألعابها قائلة :ما هي خطرات الفكر وتساميه إن لم
تكن جنوحً ا إىل هديف ،أفلست أنا رائدة الشخصية وملهمة أفكارها؟
تقول الذات للشخصية :اشعري بألم ،فتتألم وتفتكر بالتخلص من هذا األلم
وقد تحتم عليها أن تتجه إىل هذه الغاية.
وتقول الذات للشخصية :اشعري بالرسور ،فترس وتفتكر بإطالة أمد هذا
الرسور ،وقد تحتم عليها أن تتجه إىل هذه الغاية.
يل كلمة أقولها للمستهزئني بالجسد ،وهي أن احتقارهم إنما هو يف الحقيقة
حرمة واعتبار؛ إذ من هو يا ترى موجد االحرتام واالحتقار والتقدير واإلرادة؟
إن الذات املبدعة أوجدت لنفسها االحرتام واالحتقار كما أوجدت اللذة واأللم ،إن
الجسم املبدع أوجد العقل لخدمته كساعد يتحرك بإرادته.
إنكم لتخدمون الذات الكامنة فيكم حتى يف جنونكم ويف احتقاركم ،وأنا أقول
لكم أيها املستهزئون بالجسد إن ذاتكم نفسها تريد أن تموت ،وقد تحولت عن
الحياة؛ ألنها عجزت عن القيام بما كانت تطمح إليه ،وما أقىص رغباتها إال إبداع
من يتفوق عليها ولقد مىض زمن تحقيق هذه الرغبة ،لذلك تطمح ذاتكم إىل
الزوال أيها املستهزئون باألجساد.
إن ذاتكم أصبحت تتوق إىل الزوال ،وهذا ما يدفع بكم إىل االستهزاء باألجساد؛
إذ قد امتنع عليكم أن تخلقوا من هو أفضل منكم.
إن هذا العجز قد و َّلد فيكم النقمة عىل الحياة واألرض ،وها هي ذي تتجىل
شهوة يف لحظاتكم املنحرفة دون أن تعلموا.
إنني ال أسري عىل طريقكم أيها املستهزئون باألجساد؛ ألنني ال أرى فيكم املعرب
الذي يؤدي إىل مطلع اإلنسان املتفوق.
55
هكذا تكلم زارا …
امللذات والشهوات
إذا كان لك فضيلة يا أخي ،وكانت هذه الفضيلة خاصة بك فإنك ال تشارك فيها
أحدًا سواك ،وال ريب يف أنك تريد أن تدعوها باسمها وتداعبها لتتسىل بها ،ولكنك
بهذا أرشكت بها الناس بما أطلقت عليها من تعريف ،فأصبحت أنت وفضيلتك
مندغمني يف القطيع.
خري لك يا أخي أن تقول :إن ما تلذ به روحي وتتعذب به يتعاىل عن اإليضاح،
ويج ُّل عن أن يسمى ،وهذا العجز عن إدراكي له يخلق املجاعة يف أحشائي.
لتكن فضيلتك أسمى من أن تستخف باألشياء عند تحديدها ،وإذا ما اقتحمت
هذا التحديد ،فال تستحي من أن تتلفظ به تمتمة ،فقل وأنت تتمتم :إن هذا هو
خريي الذي أحب ،إن هذا ما يثري إعجابي ،فأنا ال أريد الخري إال عىل هذه الصورة،
عمل بوصية أو رضورة برشية، ال أريد هذه األشياء تبعً ا إلرادة رب من األرباب وال ً
فأنا ال أريد أن يكون يل دليل يهديني إىل عوالم عليا وجنات خلود …
قل :ما أحب سوى فضيلة هذه األرض ،ألن ما فيها من الحكمة قليل ،وأقل
منه ما فيه من صواب متفق عليه ،إن هذا الطري قد بنى عشه عىل مقربة مني،
لذلك أحببته وعطفت عليه ،وها هو ذا اآلن يحتضن عندي بيضه الذهبي عىل هذه
الوترية تكلم وأنت تتمتم ممتدحً ا فضيلتك.
لقد كان لك فيما مىض شهوات كنت تحسبها رشو ًرا ،أما اآلن فليس فيك إال
الفضائل ،وقد نشأت هذه الفضائل من شهواتك نفسها؛ ألنكم وضعت يف هذه
الشهوات أسمى مقاصدك فتحولت فيك إىل فضائل وملذات هي منك ولك ،ولسوف
ترى جميع شهواتك تستحيل إىل فضائل ،ولسوف ترى كل شيطان فيك يستحيل
مال ًكا حتى ولو كنت ممن يستسلمون للغيظ والشهوات وكنت من فئة الحاقدين
املتعصبني.
56
لقد كانت الكالب املفرتسة تسكن دهاليزك من قبل ،فها هي ذي اآلن أطيار
مغردة ،لقد استقطرت بلسمً ا من سمومك وحلبت ناقة األوصاب ،وأنت اآلن تكرع
لذيذ د ِّرها.
لن يخلق منك رشٌ بعد اآلن ،غري أن هناك رشًّا قد ينشأ من تخاصم فضائلك
َ
فاصغ إيل َّ ،يا أخي! إنك إذا شعرت بسعادة فما يكون ذلك إال لفضيلة مستقرة
فيك وهي تسهِّ ل اجتياز الرصاط عليك.
إنها ملزية أن تكون لإلنسان فضائل عديدة ،غري أن تعدد الفضائل يرمي
باإلنسان إىل أشقى الحظوظ ،وكم من مجاه ٍد أرهقه النزال يف ساحات الفضائل
فتوارى لينتحر يف الصحراء.
إذا كنت ترى املعارك والحروب رشو ًرا فاعلم يا أخي أنها رشوط ال بد منها؛
ألن للحسد والريبة والشتيمة مقامها املحرتم بني فضائلك نفسهاَّ ،
تبص ت َر أن
ًّ
كل من فضائلك تطمح إىل املقام األسمى ،وتطمع يف االستيالء عىل جميع أفكارك
لتستعبدها وتحرص بها وحدها كل ما يف غضبك وبغضائك وحبك من قوة.
إن ًّ
كل من فضائلك تحسد األخرى ،والحسد هائل مريع يتناول الفضائل ً
أيضا
فيبيدها.
إن من يحيط به لهيب الحسد تنتهي به الحال إىل ما تنتهي العقرب إليه فيوجِّ ه
حُ مته املسمومة إىل نحره.
أفما رأيت ،يا أخي ،من الفضائل من تشتم نفسها وتنتحر؟
ليس اإلنسان إال كائنًا وجب عليه أن يتفوق عىل نفسه ،لذلك حق عليك ،يا أخي،
أن تحب فضائلك ألنك بها ستفنى.
هكذا تكلم زارا …
املجرم الشاحب
أفما تريدون أن تُنزلوا القصاص ،أيها القضاة واملضحُّ ون ،ما لم يهز الحيوان
57
رأسه؟ إليكم رأس املجرم الشاحب ،إنها لرتتعش ،وها َّ
إن أفظع احتقار يتكلم يف
نظراته.
إن عيني املجرم تقوالن لكم :ما الشخصية إال يشء وجب علينا أن نتسامى
فوقه ،وما شخصيتي إال عظيم احتقاري للبرش.
لقد انتهى أجل هذا املجرم عندما أصدر حكمه عىل نفسه ،فال ترتكوا لتساميه
سبيل يندفع منه إىل االنحطاط .عاجلوه باملوت فهو ا َملن ْ َفذ الوحيد ملن بلغ عذابه
ً
بنفسه هذا الحد البعيد.
ليكن قصاصكم ،أيها القضاة ،رحمة ال انتقامً ا ،وإذا ما حكمتم باملوت فلتكن
غايتكم تربير الحياة .ال يكفيكم أن تقيموا السلم بينكم وبني من تقتلون ،بل يجب
أن يكون حزنكم تعبريًا عن ولهكم باإلنسان املتفوق ،وهكذا تربرون االستبقاء
عىل أنفسكم.
قولوا إن هذا الرجل عدوٌ ،وال تقولوا إنه سافل .صفوه باملرض ال بالدناءة
ًّ
مختل ال مجرمً ا ،وأنت أيها القايض ،لو أنك تعلن للمأل ،وأنت يف برودك اعتربوه
مآت يف تفكريك ،لكنت تسمع الناس يهتفون قائلني: الحمراء ،ما ارتكبت من ٍ
اخلعوا هذا الرجل عن كرسيه فهو ممتلئ أقذا ًرا وسمومً ا.
ولكن الفكرة يشء والعمل يشء آخر ،كما أن شبح العمل يشء مستقل بنفسه
ً
أيضا ،فليس بني هذه األشياء الثالثة أية عالقة يصح أن تعترب عالقة العلة باملعلول.
إن شبح الجريمة كان صورة الحت لهذا الرجل فعال وجه االصفرار؛ ألنه عندما
ارتكب جرمه كانت قوته عىل مستواها ،ولكنه ما أت َّم الجرم حتى وهنت تلك القوة،
فلم يستطع أن يتفرس يف شبح جرمه.
لقد الح لهذا الرجل أنه ارتكب فعلة واحدة ال غري ،وبذلك يقوم جنونه ألن
الشواذ تحول إىل قاعدة يف كيانه .إن الدائرة التي يرسمها املجرم تصبح قيدًا
لتفكريه كالفرخة يرسم املنوم حولها دائرة فال تستطيع اجتياز خ َّ
طها ،وهكذا ال
يكاد املجرم يخرج من جرمه حتى يدخل يف دائرة جنونه.
58
أصغوا إيل َّ ،أيها القضاة ،إن الجنون الذي يتلو العمل إنما تقدمه جنون آخر
قبله ،وأنتم لم تسربوا روح املجرم إىل أقصاها.
إن القايض األحمر يتساءل عن سبب إقدام املجرم عىل القتل ،فيقول يف نفسه:
أول ،أما أنا فأقول :إن نفس املجرم لم تقصد الرسقة بلإن القاتل أراد الرسقة ً
طلبت إراقة الدماء؛ ألنها كانت ظامئة إىل إغماد النصل .إن عقلية املجرم لم تفهم
هذا الجنون فاندفع إىل ارتكاب جرمه ،وعقليته تناجيه قائلة :ما يهمك أن تريق
الدماء ما دام جرمك يوصلك إىل الرسقة أو االنتقام ،لقد أصغى املجرم إىل صوت
ثقيل كالرصاص ،فرسق بعد أن قتل أرست به إليه كان ًعقليته املسكينة؛ ألن ما َّ
ألنه أراد أن يربر جنونه وال يخجل منه.
وعاد جرمه فثقل عليه كالرصاص ً
أيضا ،فثقل عقله املسكني فاستوىل عليه
التخدر والشلل ،ولو أن هذا املجرم تمكن من أن ينتفض بهامته لكان تهاوى
حمله الثقيل عنه ،ولكن من كان سيهز له رأسه يا ترى؟
لو أنك أنعمت النظر يف هذا اإلنسانَ ،ملا َّ
تجل لك إال مجموعة علل تتطلع بالعقل
إىل العالم الخارجي مفتشة عن غنيمة تظفر بها.
أفاع اشتبكت ،وهي يف تدافع مستمر ال تسكن إال
ليس هذا اإلنسان إال كتلة ٍ
لتتفكك منسابة يف شعاب الدنيا تسعى وراء غنائمها.
انظروا إىل هذا الجسم املسكني! إن روحه الضعيفة طمحت إىل استكناه ما يف
الجسم من ألم ورغبات ،فخيِّل لها أنها متشوقة إىل القتل.
إن من يتسلط عليه هذا املرض يف هذه األيام لتباغته رشورها فرييد أن يعذِّب
اآلخرين بما يتعذب هو به ،غري أنه قد مر زمان من قبل كان له خري ورش هما غري
خري هذه األيام ورشها .ذلك زمان كانت تحتسب فيه شكوك اإلنسان ومطامعه
ًّ
ومنشقا عن املجتمع جرائم عليه ،فكان املبتىل بالشكوك واملطامع يع ُّد ساخ ًرا
فيعمد هو إىل تعذيب اآلخرين بعذابه.
إنكم ال تريدون اإلصغاء إىل أقوايل؛ إذ ترونها تلحق الرضر بالصالحني بينكم،
59
ولكنني ال أقيم وزنًا لرجالكم الصالحني.
إن يف هؤالء الرجال من تشمئز منه نفيس ،وليس ما أكره فيهم ما يعد من
الرشور ،فإنني أتمنى لهم جنونًا يوردهم الردى كجنون املجرم الشاحب.
إخالصا أو ً
عدل؛ ألن فضيلة ً والحق إنني أريد أن يدعى هذا الجنون حقيقة أو
هؤالء الناس ال تقوم إال عىل إطالة عمرهم لقضائه بامللذَّات السافلة وال ملذة لهم
إال باالرتياح إىل نفوسهم والرىض عنها.
ما أنا إال حاجز قائم عىل ضفة النهر ،فمن له قدرة عىل التمسك بي فليفعل،
ومن ال طاقة له عىل ذلك فال يظن أني سأكون طوع يده يقبض عيل َّ كما يقبض
الكسيح عىل عصاه.
هكذا تكلم زارا …
القراءة والكتابة
إنني أستعرض جميع ما ُكتب ،فال تميل نفيس إال إىل ما كتبه اإلنسان بقطرات
دمه .اكتب بدمك فتعلم حينئذ أن الدم روح ،وليس بالسهل أن يفهم اإلنسان دمً ا
غريبًا ،إنني أبغض كل قارئ كسول؛ ألن من يقرأ ال يخدم القراءة بيشء ،وإذا
مر قرن آخر عىل طغمة القارئني فال بد من أن تتصاعد روائح النتن من التفكري.
إذا أُعطي لكل إنسان الحق يف أن يتعلم القراءة ،فلن تفسد الكتابة مع مرور
الزمان فحسب ،بل إن الفكر نفسه سيفسد ً
أيضا.
لقد كان الفكر فيما مىض إلهً ا فتحول إىل رجل ،وها هو ذا اآلن كتلة من الغوغاء.
إن من يكتب ُس َو ًرا بدمه ال يريد أن تُتىل تلك السور تالوة ،بل يريد أن تستظهرها
القلوب.
إن أقرب الطرق بني الجبال إنما هو الخط املمتد من ذروة إىل ذروة ،وال يمكنك
أن تتبع هذا السبيل؛ إذ لم تكن لك ِرجال مارد .يجب أن تكون التعاليم شامخة
60
كهذه الذرى ،وأن يكون ملن تُ َّلقن لهم قوة الجبابرة وعظمتهم.
رق النسيم وصفا ،وهذه املخاطر تحدق بي عن كثب ،وفكرتي تتخطر لقد َّ
ِّ
الجن أتباعً ا ،أنا رب َّ
فألتخذن من مرحة يف قسوتها ،أمامي الرصاط املمهد
الجسارة والعزم ،ومن توصل بأقدامه إىل طرد األشباح ال يصعب عليه أن يخلق
من الجن له أتباعً ا.
لقد تاقت شجاعتي إىل الضحك ،وقد انقطع كل حبل بيني وبينكم .إن السحب
ِّ
املتمخضة بالعواصف لهي سحبكم السوداء الثقيلة وأنا أهزأ اآلن بها.
إنكم تنظرون إىل ما فوقكم عندما تتشوقون إىل االعتالء ،أما أنا فقد علوت حتى
أصبحت أتطلع إىل ما تحت أقدامي ،فهل فيكم من يمكنه أن يضحك وهو واقف
عىل الذرى؟
من يحوِّم فوق أعايل الجبال يستهزئ بجميع مآيس الحياة ،ويستهزئ
بمسارحها ،بل بالحياة نفسها.
تريدنا الحكمة شجعانًا ال نبايل بيشء ،تريدنا أشداء مستهزئني؛ ألن الحكمة
أُنثى ،وال تحب األنثى إال الرجل املكافح الصلب.
تقولون يل إن الحياة وق ٌر ثقيل ،فقولوا يل ً
أيضا ملاذا تقابلون الصباح بغروركم،
ثم يجيء املساء فال يجد فيكم إال املذلة والخضوع؟
إن الحياة ج ُّد ثقيلة ،ولكن ما هذا الخور الذي يبدو عليكم؟ أفلسنا كلنا دوابًّا
ً
متضايقا ولكل دابة منا وقرها؟ وهل من شبه بيننا وبني برعم الورد يرتجف
لسقوط قطرة الندى عليه!
ال ريب أننا نحب الحياة ،وليس سبب ذلك ألننا تعودنا الحياة ،بل السبب أننا
تعودنا حب الحياة.
إن يف الحب شيئًا من الجنون ،ولكن يف الجنون شيئًا من الحكمة ،وأنا نفيس
التائق إىل الحياة يرتاءى يل أن خري من يدرك السعادة إنما هي الفراشات وكرات
61
الصابون الفارغة ،ومن يشبهها من الناس ،وال يشء يُبكي زارا ويدفعه إىل اإلنشاد
كنظره إىل هذه األزواج الصغرية الخفيفة الرائعة الدائمة الخفقان يف جنونها.
إن اإلله الذي يمكنني أن أُومن به إنما هو اإلله الذي يمكنه أن يرقص.
ً
مستغرقا ملؤه الجد والجالل ،فقلت هذا عندما تراءى يل الشيطان رأيته جامدًا
هو الروح الثقيل الذي تتساوى جميع الحاالت لديه.
إذا أردت القتل فال تستعن بالغضب ،بل استعن بالضحك .فهيَّا بنا نقتل الروح
الثقيل.
راكضا منذ تعلمت امليش ،وهأنذا أطري اآلن ولست بحاجة إىل من ً إنني ما زلت
يدفعني ألتحرك.
وأن إلهً ا يرقص ً
خفيفا ،فأنا أطري مشع ًرا بأنني أح ِّلق فوق ذاتيَّ ، لقد أصبحت
يف داخيل.
هكذا تكلم زارا …
دوحة الجبل
وارتقى زارا ذات مساء الربوة املرشفة عىل مدينة «البقرة امللونة» فالتقى هنالك
ً
جالسا إىل جذع دوحة فتًى كان يلحظ فيما مىض صدوده عنه ،وكان هذا الفتى
نظرات ملؤها األىس ،فتقدم زارا وطوَّق الدوحة بذراعيه وقال: ٍ يرسل إىل الوادي
لو أنني أردت ه َّز هذه الدوحة بيدي ملا تمكنت ،غري أن الريح الخفية عن أعيننا
تهزها وتلويها كما تشاء .هكذا نحن تلوينا وته ُّزنا أيادٍ ال تُرى.
فنهض الفتى مذعو ًرا وقال :هذا زارا يتكلم! وقد كنت موجهً ا أفكاري إليه،
فقال زارا :ما يخيفك يا هذا؟ أليس لإلنسان وللدوحة حالة واحدة؟ فكلما سما
اإلنسان إىل األعايل ،إىل مطالع النور تذهب أصوله غائرة يف أعماق األرض ،يف
الظلمات واملهاوي.
62
فصاح الفتى :أجل! إننا نغور يف الرشور ،ولكن كيف تسنَّى لك أن تكشف
خفايا نفيس؟
فابتسم زارا وقال :إن من النفوس من ال نتوصل إىل اكتشافها إال باخرتاعها
اخرتاعً ا.
قلت ًّ
حقا يا زارا ،لقد تالشت وعاد الفتى يكرر قوله :أجل إننا نغور يف الرشورَ .
أيضا ثقة الناس ،فما هو ثقتي بنفيس منذ بدأت بالطموح إىل االرتقاء فحُ رمت ً
السبب يا ترى؟ إنني أتحول برسعة فيدحض حارضي ما مىض من أيامي ،و َل َك ْم
ح َّلقت فوق املدارج أتخطاها وهي اآلن ال تغتفر يل إهمايل ،إنني عندما أبلغ الذروة
الق ُّر يف وحدتي فرتتجف أراني دائمً ا منفردًا وليس قربي من يكلمني ،ويلفحني َ
عظامي ،وما أدري ماذا أتيت أطلب فوق الذرى!
إن احتقاري يساير رغباتي يف نموها ،فكلما ازددت ارتفاعً ا زاد احتقاري
للمرتفعني فال أدري ما هم يف الذرى يقصدون ،ولكم أخجلني سلوكي متعث ًرا
عىل املرتقى ،ولكم هزأت بتهدج أنفايس .إنني أكره املنتفضني للطريان ،فما أتعبَ
الوقوف عىل الذرى العالية!
ونظر زارا إىل الدوحة يتكئ الفتى عليها ساكتًا فقال :إن هذه الدوحة ترتفع
منفردة عىل القمة وقد نمت وتعالت فوق الناس وفوق الحيوانات ،فإذا هي أرادت
أن تتكلم اآلن بعد بلوغها هذا العلو فلن يفهم أقوالها أحد .إنها انتظرت ولم تزل
تتعلل بالصرب ،ولعلها وقد بلغت مسارح السحاب تتوقع انقضاض أول صاعقة
عليها.
ً
متحمسا :نطقت بالحق يا زارا ،إنني اتجهت إىل األعماق وأنا أطلب فهتف الفتى
االعتالء ،وما أنت إال الصاعقة التي توقعتها .تفرس يف َّ ،وانظر إىل ما آلت إليه
حالتي منذ تجليت لنا ،فما أنا إال ضحية الحسد الذي استوىل عيلَّ.
وكانت الدموع تنهمر من مآقي الفتى وهو يتكلم ،فتأبط زارا ذراعه وسار به
عىل الطريق ،وبعد أن قطعا مسافة منها قال زارا :لقد تف َّ
طر قلبي ،إن يف عينيك ما
63
يفصح بأكثر من بيانك عما تقتحم من األخطار .إنك َّملا تتحرر يا أخي ،بل ما زلت
تسعى إىل الحرية ،وقد أصبحت يف بحثك عنها مرهف الحس كالسائر يف منامه.
مطلقا من كل قيد نحو الذرى ،فقد اشتاقت روحك إىل ً إنك تريد الصعود
مسارح النجوم ،ولكن غرائزك السيئة نفسها تشتاق الحرية ً
أيضا.
إن كالبك العقورة تطلب حريتها ،فهي تنبح مرحة يف رساديبها ،عىل حني أن
عقلك يطمح إىل تحطيم أبواب سجونك كلها ،وما أراك بالطليق الحر فأنت لم تزل
سجينًا يتوق إىل حريته ،وأمثال هذا السجني تتصف أرواحهم بالحزم غري أنها
تصبح وا أسفاه مراوغة رشيرة.
عىل من ح َّرر عقله أن يتطهر مما تبقى فيه من عادة كب ِْت العواطف والتلطخ
باألقذار؛ لتصبح نظراته براقة صافية .إنني ال أجهل الخطر املحدق بك؛ لذلك
طرح عنك ما فيك من حب ومن أمل. أستحلفك بحبي لك وأميل فيك أال ت َّ
إنك لم تزل تشعر بالكرامة ولم يزل الناس يرونك كريمً ا بالرغم من كرههم لك
وتوجيههم نظرات السوء إليك .فاعلم أن الناس ال يبالون بالكرماء يمرون بهم
عىل الطريق ،غري أن أهل الصالح يهتمون بهم ،فإذا ما صادفوا يف سبيلهم من
يتشح الكرامة دعوه ً
رجل صالحً ا؛ ليتمكنوا من القبض عليه الستعباده.
إن الرجل الكريم يريد أن يبدع شيئًا جديدًا وفضيلة جديدة ،عىل حني أن الرجل
يحن َّإل إىل األشياء القديمة ،وجل رغبته تتجه إىل اإلبقاء عليها.
الصالح ال ُّ
صالح ،بل كل الخطر عليه يف أن
ٍ ال خطر عىل الرجل الكريم من أن ينقلب رج َل
يصبح وقحً ا هدَّامً ا.
لقد عرفت من الناس كرامً ا د َّلت طالئعهم عىل أنهم سيبلغون أسمى األماني،
فما لبثوا حتى هزءوا بكل أمنية سامية ،فعاشوا تسري الوقاحة أمامهم ،وتموت
رغباتهم قبل أن تظهر فما أعلنوا يف صبيحتهم خطة إال شهدوا فشلها يف املساء.
قال هؤالء الناس :ما الفكرة إال شهوة كغريها من الشهوات.
64
وهكذا طوت الفكرة فيهم جناحيها فتحطما ،وبقيت هي تزحف ً
زحفا وتدنَّس
جميع ما تتصل به.
ً
أبطال ،فما تسنى لهم إال أن يصبحوا لقد فكر هؤالء الناس من قبل أن يصريوا
متنعمني ،يحزنهم شبح البطولة ويلقي الخوف يف روعهم.
أستحلفك بحبي لك وأميل فيك َّأل تدفع عنك البطل الكامن يف نفسك؛ إذ عليك
أن تحقق أسمى أمانيك.
هكذا تكلم زارا …
املنذرون باملوت
ما أكثر املنذرين باملوت! والعالم ميلء بمن تجب دعوتهم إىل اإلعراض عن
الحياة.
إن األرض مكتظة بالدخالء وقد أفسدوا الحياة ،فما أجدرهم بأن تستهويهم
الحياة األبدية ليخرجوا من هذه الدنيا.
لقد وُصف املنذرون باملوت بالرجال الصفر والسود ،ولسوف أصفهم أنا
فينكشفون عن ألوان أخرى ً
أيضا.
إنهم ألشد الناس خط ًرا؛ إذ كمن الحيوان املفرتس فيهم ،فغدوا وال خيار لهم
إال بني حالتني؛ حالة التحرق بالشهوة وحالة كبتها بالتعذيب ،وما شهوتهم إال
التعذيب بعينه .إن هؤالء املسوخ لم يبلغوا مرتبة اإلنسانية بعد ،فليبرشوا ب ُكره
الحياة ،وليقلعوا عن مرابعها.
هؤالء هم املصابون بس ِّل الروح ،فإنهم ال يكادون يولدون للحياة حتى يبدأ
موتهم ،وقد شاقتهم مبادئ الزهد واملالل.
يود هؤالء الناس أن يُد َرجوا يف عداد األموات ،فعلينا أن نحبِّذ إرادتهم ،ولنحرتس
من أن نعمل عىل بعث هؤالء األموات وعىل تشويه هذه النعوش املتحركة.
65
مريضا أو ً
شيخا أو جثة ميت ،فإنهم يقولون :لقد انتفت الحياة. ً إذا هم صادفوا
ٌ
دحض لها ألنها ال تتجه إال نفي للحياة ،وإن عيونهم
ولو أنصفوا لقالوا إنهم هم ٌ
إىل مظهر واحد من مظاهر الوجود.
هم َّ
يتلفعون برداء وسيع من األىس ويتشوَّقون إىل الحوادث التي تجر وراءها
املوت ،ولكنهم يتوقعون املوت وأسنانهم تصطك ف َر ًقا ،غري أنهم يف الوقت نفسه
يمدون أيديهم إىل ما ل َّذ وطاب هازئني ،فكأن الحياة قشة يهزءون بها ولكنهم
يحرصون عليها .إن حكمة هؤالء الناس تهتف قائلة« :الحياة جنون ،أفظع منه
التمسك بالحياة ،وقد بلغ الجنون بنا هذا الح َّد الفظيع».
يقولون إن الحياة آالم ،إنهم يقولون ًّ
حقا ،فلماذا ال يضعون حدًّا لهذه الحياة إن
لم يكن فيها سوى العذاب؟ تلك تعاليم ترمي إىل وجوب االنتحار ،فيقول البعض
وهو يدعو إىل املوت :إن املالذَّ الجنسية خطيئة فيجب االمتناع عنها واإلرضاب عن
التوليد .ويقول البعض اآلخر :إن الوالدة مؤملة ،فعال َم تلد النساء َّ
وهن ال يقذفن إىل
الوجود إال باألشقياء؟ وهذه الفئة هي ً
أيضا من املنذرين بالفناء.
وتقول لك فئة أخرى :إن الرحمة الزمة فخذ ما نملك ،بل خذ ما تتكوَّن
شخصيتنا منه ،فإن فعلت فإنك تقطع من األسالك التي تشد بنا إىل الحياة.
ولو أن رحمة هذه الفئة من الناس تتغلغل يف صميم ذاتهم لكانوا يبذلون الجهد
يف سبيل دفع سواهم إىل كره الحياة .ليستم َّر هؤالء الناس عىل ما هم عليه؛ ألن
رحمتهم الحقيقية كامنة يف إيقاع األذى.
إن ما يقصد هؤالء الناس إنما هو التملص من تكاليف البقاء فال يهمهم ْ
إن هم
ألقوا بأغاللهم عىل اآلخرين.
وأنتم ً
أيضا ،أيها املتحمِّ لون من الدنيا همومها وجهودها املرهقة ،أفما تعبتم من
الحياة؟ أفما أنضجت املح ُن نفوسكم لتقوم هي ً
أيضا منذرة باملوت؟
أنتم يا من تحبون األعمال الوحشية ،وكل حادث يمتعكم بكل جديد وغريب
رسيع الزوال! لقد ضقتم ذرعً ا بأنفسكم ،فما تتهالكون يف العمل إال تهربًا من
66
الحياة وطلبًا لالستغراق؛ لتصلوا بذاتكم إىل نسيان ذاتها ،ولو كنتم أشد إيمانًا
بالحياة ملا كنتم تستسلمون هذا االستسالم الكامل لحارضكم ،لقد َخ َل ْت رسائركم
من القوة الالزمة لالنتظار ،بل خلت مما يستلزم كسلكم نفسه من جَ َلد.
إن صوت املنذرين باملوت يدوي يف كل مكان ،والعالم مكتظ بمن وجبت دعوتهم
إىل املوت أو بالحري إىل الحياة األبدية ،وال فرق عندي بني ذاك وهذه إذا كان هؤالء
الناس يسارعون إىل إخالء األرض.
هكذا تكلم زارا …
الحرب واملحاربون
ال نريد أن يراعينا خرية أعدائنا ،كما ال نريد ً
أيضا أن يراعينا من نحبهم من
صميم الفؤاد.
دعوني أُعلن لكم الحقيقة.
إنني أحبكم من صميم الفؤاد ،أيها الرفاق يف املعارك ،فما أنا اآلن إال ،كما كنت
يف األمس ،جندي مثلكم ،فأنا إذن من خيار أعدائكم .دعوني أعلن الحقيقة لكم.
إنني عارف ما يف قلوبكم من حقد وحسد ،فأنتم من العظمة بحيث ال يمكنكم
أن تتجاهلوا الحقد والحسد ،فلتكن عظمتكم رادعة لكم عن الخجل بما يف قلوبكم،
وإذا امتنع عليكم أن تكونوا أولياء يف معرفة الحق فكونوا عىل األقل جنودًا
يكافحون من أجل هذه املعرفة ،وما املكافحون إال طليعة األولياء.
لقد كثر عدد الجنود فليتني أرى مثل هذا العدد من املحاربني ،وعىس أال تكون
رسائرهم عىل طراز واحد كاأللبسة التي يرتدونها.
لتكن أنظاركم منطلقة تفتش عىل عدو لكم ،وقد الحت يف ملعاتها بوادر البغضاء.
عليكم أن تجدوا العدو لتصلوا معه حربًا تناضلون فيها من أجل أفكاركم ،حتى
إذا سقطت هذه األفكار يف املعرتك ،ينتصب إخالصكم ً
هاتفا بالظفر.
67
أحبوا السالم كوسيلة لتجديد الحروب ،وخري السالم ما قرصت مدته .إنني ال
أشري عليكم بالسلم ،بل بالظفر ،فليكن عملكم كفاحً ا وليكن سلمكم ظف ًرا.
ال اطمئنان يف الراحة إذا لم تكن السهام مسددة عىل أقواسها ،وما راحة األعزل
إال مدعاة للثرثرة والجدال ،فليكن سلمكم ظف ًرا …
تقولون إن الغاية املثىل تربر الحرب ،أما أنا فأقول لكم إن الحرب املثىل تربر
كل غاية ،فقد أتت الحروب واإلقدام بعظائم لم تأت بمثلها محبة الناس ،وما أنقذ
الضحايا حتى اآلن إال إقدامكم ال إشفاقكم.
إنكم تتساءلون عن الخري ،وما الخري إال االتصاف بالشجاعة ،فدعوا صغريات
األطفال يقلن« :إن الخري يف اللطف والجمال».
يقولون أن ال قلوب لكم ،ذلك ألن قلوبكم تنبض باإلخالص ،وأنا أحب تواضعكم
وإخالصكم .إنكم تستحون ألن أمواجكم تندفع يف مدِّها ،وسواكم يخجل من
تراجعها يف جزرها.
إن قبحكم مريع ،فتدثروا به أيها اإلخوة؛ ألن يف دثار القبح ما ليس يف سواه من
الروعة والبهاء.
إن النفس لتقف صاخبة عندما تعتيل ،والقسوة كامنة يف اعتالئكم ،فما خفيت
حالكم عني ،ففي ميدان القسوة يلتقي الشديد العزم بمنهوك القوى فال يمكنهما
أن يتفاهما .إنني أعرف من أنتم.
بعدو فصبوا عليه بغضكم ،وحاذروا أن تصبوا عليه احتقاركم ،فما
ٍ إذا ظفرتم
عدوكم إال مدعاة مباهاتكم ،فإذا عملتم بوصيتي يصبح انتصاره انتصا ًرا لكم
ً
أيضا.
إن الثورة مفخرة للعبيد ،فليكن افتخاركم أنتم قائمً ا عىل طاعتكم ،وليكن أمر
يفضل ما يجباآلمر فيكم جزءًا من هذه الطاعة نفسها .إن املحارب الصادق ِّ
عليه عىل ما يريده .فعليكم أن توجهوا ما تؤمرون به إىل هدف رغباتكم ،وليكن
68
حبكم للحياة تعبريًا عن أسمى أمانيكم ،ولتكن هذه األماني عبارة عن أرفع فكرة
يف الحياة .وما أرفع فكرة لكم ،وأنا أستميحكم إبداءها لكم كأمرَّ ،إل هذه القاعدة:
«ما اإلنسان إال كائن يجب أن نتفوق عليه».
عىل هذا الوجه تمر حياتكم بالطاعة والجهاد ،فما يهمكم أطالت الحياة أم
قرصت فليس من محارب يطلب أن يُعامل باملراعاة.
لقد قلت لكم الحق بال محاباة؛ ألنني أحبكم من صميم الفؤاد ،أيها اإلخوة يف
السالح.
هكذا تكلم زارا …
الصنم الجديد
لم يزل يف بعض األماكن من األرض شعوب وجامعات ،أما نحن فليس عندنا
سوى حكومات وما أدراكم ما هي الحكومات؟
أعريوني أسماعكم ألخاطبكم عن موت الشعوب :ليست الحكومة إال أبرد مسخ
بني املسوخ الباردة ،فهي تكذب بكل رصانة؛ إذ تقول« :أنا الحكومة أنا الشعب».
إياكم وتصديق ما تقول ،فما كوَّن الشعوب إال املبدعون الذين نرشوا اإليمان
واملحبة ،فأتوا بأجل خدمة للحياة ،وما الناصبون األرشاك للجموع الغفرية إال مَ ن
نصل قاطعً ا فوق ً يهدمون كيانها؛ ليشيِّدوا الحكومات عىل أنقاضها ،ويعلقوا
رأس الشعب ،وينصبوا مئات الشهوات أمام عينه.
إن الشعب ،حيث بقي له مرتع عىل األرض ،ال يفهم ما هي الحكومة ،بل هو
ينفر منها كما ينفر من العني الساحرة ،ويراها شذوذًا هادمً ا للرشائع والتقاليد،
وإليكم الدليل :إن لكل شعب بيانه عن الخري والرش ،وجرية هذا الشعب ال تفهم
هذا البيان الذي أوجده لنفسه محددًا به رشائعه وتقاليده ،عىل حني أن الحكومة
تكذب يف جميع تعابريها عن الخري والرش ،فليس ما تقوله إال كذبًا ،وليس ما
69
تملكه إال نتاج رسقتها واختالسها.
إن كل ما للحكومة مزيَّف ،فهي تنهش بأسنان مستعارة ،وأحشاؤها مخت َلقة
ً
اختالقا ،وما شعارها إال« :البيان املبهم املشوش عن الخري والرش» فهي تتجه به
نحو الفناء ،وتقوم بنرشه بدعوة رصيحة للمنذرين باملوت.
إن عدد من يدخلون الدنيا قد تجاوز الحد ،وما أُوجدت الحكومة إال لخدمة
الفضوليني الدخالء عىل الحياة .انظروا إىل هذه الحكومة كيف تجتذب إليها
ً
وتقبيل .اسمعوها تهدر قائلة :ليس الدخالء فتضمهم إىل صدرها وتشبعهم ً
عناقا
أعظم مني عىل وجه الغرباء ،فأنا يد األلوهية املن ِّ
ظمة.
وعندما تهتف هذا الهتاف ،تتهاوى الركاب جاثية ،وبني الراكعني كثري من غري
طوال اآلذان وقصار النظر.
إن هذه األكاذيب تجد مصدِّقني لها ،وا أسفاه ،حتى بينكم أنتم ،يا من تجول
فيكم النفوس األبيَّة؛ ألن الحكومة تعرف أن تدغدغ قلوبكم الطافحة باملكارم
الطامحة إىل الجود ،إنها لتخرتق رسائركم ،أنتم ً
أيضا ،يا من تغلبتم عىل األلوهية
القديمة ،فهي تعرف أنكم تعبتم من الكفاح فتستخدم مَ اللكم لعبادة الصنم
الجديد.
إنه لصنم يتمنى أن يحيط به األبطال وفضالء الرجال ،إنه ملسخ بارد يريد أن
يدفأ بشمس الضمائر املشعة املرشقة.
إنه ليمنحكم كل يشء إذا أنتم سجدتم له .فهذا الصنم الجديد يشرتي ملعان
فضائلكم وما يف لفتاتكم من عزة وكرامة .إنه يف حاجة إليكم؛ ليجتذب إليه العدد
الفائض من الدخالء عىل الحياة ،فهنالك الربج الجهنمي ،وهنالك جياد املوت
تفرقع بعُ دَدِ ها حاملة شارات املراتب واألمجاد ،أجل ذلك هو اخرتاع املوت أتى به
للجموع ليحصدها حصدًا وهو يباهي بأنه هو الحياة ،واملنذرون باملوت يرون
بفعلته خري خدمة ملبادئهم.
حيث ي ْك َرع الجميع السموم ويضيِّع ك ُّل إنسان نفسه صالحً ا كان أو طالحً ا،
70
هنالك تقوم الحكومة؛ ألنها تسود كل مكان يوصف فيه االنتحار البطيء بالحياة.
انظروا إىل هؤالء الدخالء .إنهم يختلسون ثمرة جهود املخرتعني وكنوز الحكماء
ويدعون هذا االختالس تمدنًا ،غري أن كل يشء يصبح أدواء ومصاعب تحت
سلطانهم .انظروا إىل هؤالء الدخالء وليس فيهم إال َّ
األعلء ينفثون غِ ْسلني مرائرهم،
وينتحلون صفة الصحافيني … إنهم يتناهشون ويلتهم بعضهم البعض اآلخر،
وليس لهم قوة عىل هضم ما يلتهمون.
انظروا إىل هؤالء الدخالء .إنهم يحشدون األموال ،وكلما ازدادت ذخائرهم زاد
فقرهم ،فإنهم يطمحون إىل االستيالء عىل القوة فيبدءون بالقبض عىل محركها
األول :عىل األموال الطائلة ،وما هم إال الدخالء العاجزون.
انظروا إليهم! انظروا إىل هؤالء القرود يتس َّلق بعضهم البعض اآلخر فيتدافعون
كل منهم يطمح إىل التقرب من العرش ،وقد متمرغني يف األوحال عىل الشفري .إن ًّ
عراهم جنون التوصل إليه ،فكأن ال سعادة إال عىل مقربة منه ،وقد يرتفع رشاش
األوحال إىل العرش كما ينزلق العرش نفسه إىل األوحال3.
إنني أراهم وقد جُ َّن جنونهم؛ قرودًا ال تسكن لهم حركة وهم يتسلقون قاعدة
صنمهم البارد وقد انبعثت منه ومنهم أكره الروائح وأخبثها.
أفيَحْ لُو لكم ،أيها اإلخوة ،أن يخنقكم ما يتبخر من أشواق هؤالء املسوخ؟ حطموا
النوافذ واقفزوا منها لتنجوا بأنفسكم.
حاذروا هذه األبخرة الخانقة ،وابتعدوا عن عبادة األصنام فإنها دين الدخالء
عىل الحياة .حاذروا هذه األبخرة وأعرضوا عن هذه الضحايا البرشية.
لم يزل حتى اآلن مجال تسعى يف رحبه النفوس الكبرية نحو الحرية يف الحياة،
ولم تخ ُل األرض من أماكن يلجأ إليها املنعزل منفردًا أو مزدوجً ا حيث تهبُّ نسمات
البحر الهادئة .فإن الحياة الحرة لم تزل تفتح أبوابها لكبار النفوس ،والحق أن
من يملك القليل من حطام الدنيا ال يناله إال اليسري من تح ُّكم املتسلطني .فطوبى
لصغار الفقراء!
71
ال يظهر اإلنسان األصيل يف الحياة إال حيث تنتهي حدود الحكومات ،فهنالك
يتعاىل نشيد الرضورة بنغماته املحررة من كل مطاوعة وتقييد.
هنالك عند آخر حدود الحكومات ،قفوا وتطلعوا ،يا إخوتي ،أفما ترون تحت
قوس قزح املعرب الذي يجتازه اإلنسان املتفوِّق؟
هكذا تكلم زارا …
حرشات املجتمع
سارع إىل عزلتك ،يا صديقي ،فقد أورثك الصداع صخبُ عظماء الرجال ،وآملتك
وخزات صغارهم ،إن جالل الصمت يسود الغاب والصخور أمامك ،فعد كما كنت
شبيهً ا بالدوحة التي تحب ،الدوحة الوارفة الظل املرشفة عىل البحر مصغية يف
صمتها إىل هديره.
عىل أطراف حقول العزلة تبدأ حدود امليادين حيث يصخب كبار املمثلني ويطن
الذباب املسموم .ال قيمة لخري األشياء يف العالم إن لم يكن لها مَ ن يمثِّلها ،والشعب
رجال عظامً ا ،إنه ييسء فهم العظمة املبدعة ،فيبتدع من نفسه ً يدعو ممثليه
املعاني التي يجمِّ ل بها ممثليه والقائمني باألدوار الكربى عىل مرسح الحياة.
إن العالم يدور دورته الخفية حول موجدي السنن الجديدة .وحول العبي
األدوار عىل مرسح الحياة يدور الشعب وتدور األمجاد ،وعىل هذه الوترية يسري
العالم.
إن لالعب األدوار ذكاءَه ،ولكنه ال يدرك حقيقة هذا الذكاء؛ النصباب عقيدته إىل
كل طريقة توصله لخري النتائج وإىل كل أمر يدفع بالناس إىل وضع ثقتهم به.
غدًا سيعتنق هذا الرجل عقيدة جديدة ،وبعد غ ٍد سيستبدل بها أج َّد منها،
ففكرته تشبه الشعب تذبذبًا وتوقدًا وتقلبًا.
إن ممثل الشعب يرى بالتحطيم برهانه ،وبإيقاد النار حجته ،وبإراقة الدماء
72
أفضل حجة وأقوى دليل .إنه ليعترب هبا ًء كل حقيقة ال تسمعها إال اآلذان املرهفة،
فهو عبد اآللهة الصاخبة يف الحياة.
إن ميدان الجماهري يغص بالغوغاء املهرجني ،والشعب يفاخر بعظماء رجاله
فهم أسياد الساعة يف نظره ،ولكن الساعة تتطلب الرسعة من هؤالء األسياد ،فهم
يزاحمونك ،يا أخي ،طالبني منك إعالن رفضك أو قبولك ،والويل لك إذا وقفت
حائ ًرا بني «نعم» وبني «ال».
ً
عاشقا للحقيقة فال يغرنَّك أصحاب العقول الرعناء املتص ِّلبة ،وما وإذا كنت
كانت الحقيقة لتستند يومً ا إىل ذراع أحد هؤالء املتص ِّلبني.
دع املشاغبني وارجع إىل مقرك ،فما ميدان الجماهري إال معرتك يهدد سالمتك
بني خنوع «نعم» وتمرد «ال» .إن تجمع املياه يف الينابيع ال يتم إال ببطء ،وقد تمر
أزمان قبل أن تدرك املجاري ما استقر يف أغوارها.
ال تقوم عظمة إال بعيدًا عن ميدان الجماهري وبعيدًا عن األمجاد ،وقد انتحى
األماكن القصيَّة عنها من أبدعوا السنن الجديدة يف كل زمان.
اهرب ،يا صديقي ،إىل عزلتك .لقد طالت إقامتك قرب الصعاليك واألدنياء ،ال
تقف حيث يصيبك انتقامهم َّ
الدساس وقد أصبح كل همهم أن ينتقموا منك.
ال ترفع يدك عليهم فإن عددهم ال يحىص ،وما ُقدِّر عليك أن تكون صيادًا
للحرشات .إنهم لصغار أدنياء ولكنهم كثرة ،و َل َك ْم أسقطت قطرات املطر
رصوح شامخات .ما أنت بالصخرة الصلدة ،ولش َّد ما
ٍ وطفيليات األعشاب من
فعلت بك القطرات ،ولسوف يتواىل ارتشاقها عليك فتصدعك وتحطمك تحطيمً ا.
لقد أرهقتك الحرشات السامة فخدشت جلدك وأسالت منه الدماء ،وأنت
كبك لتكظم غيظك ،وهي تو ُّد لو أنها تمتص كل دمك معتربة َّ
أن من تتحصن ِب ْ
حقها أن تفعل؛ ألن دمها الضعيف يطلب دمً ا ليتقوَّى ،فهي ال ترى جُ ناحً ا عليها؛
إذ تُنشب حُ متها يف جلدك .إن هذه الجروح الصغرية لتذهب باأللم إىل مدى بعيد
يف حسك املرهف ،فتتدفق صديدًا يرتعيه الدود .أراك تتعاىل عن أن تمد يدك لقتل
73
هذه الحرشات الجائعة ،فحاذر أن يجول س ُّم استبدادها يف دمك.
إن هؤالء املشاغبني يدورون حولك بطنني الذباب ،فهم يرفعون أناشيدهم ً
تزلفا
إليك ليتحكموا يف جلدك ودمك .إنهم يتوسلون إليك ويداهنونك كما يداهنون
اآللهة والشياطني ،فيحتالون عليك باملالطفة والثناء ،وما يحتال غري الجبناء.
إنهم يفكرون بك كثريًا يف رسهم فيلقون الشكوك عليك ،وكل من يفكر الناس
به كثريًا تحوم حوله الشبهات.
إنهم يعاقبونك عىل كل فضيلة فيك ،وال يغتفرون لك من صميم فؤادهم إال
ما ترتكب من أخطاء .إنك لكريم وعادل؛ لذلك تقول يف قلبك« :إن هؤالء الناس
أبرياء وقد ضاقت عليهم الحياة ».ولكن نفوسهم الضيقة تقول يف نجواها« :إن
كل حياة عظيمة إنما هي حياة مجرمة ».ويشعر هؤالء الناس بأنك تحتقرهم
عندما تشملهم بعطفك ،فيبادلونك عطفك بالسيئات .إنك لتصدعهم بفضيلتك
الصامتة فال يفرحون إال عندما يتناهى تواضعك فيستحيل غرو ًرا .إن الناس
يحسونيطمحون بالطبع إىل إلهاب كل عاطفة تبدو لهم ،فاحذر الصعاليك؛ ألنهم ُّ
بصغارهم أمامك فيتحمسون حتى ينقلب إحساسهم ً
كرها وانتقامً ا.
أفما شعرت أنهم يخرسون عندما تطلع عليهم ،فتبارحهم قواهم كما يربح
الدخا ُن النار إذا همدت.
تبكيت يف ضمائر أبناء جلدتك؛ ألنهم ليسوا ً
أهل لك، ٌ أجل يا صديقي ،ما أنت إال
فهم لذلك يكرهونك ويودون امتصاص دمك.
إن أبناء جلدتك لن يربحوا كالحرشات املسمومة؛ ألن العظمة فيك ستزيد أبدًا
يف كرههم لك.
إىل عزلتك ،يا صديقي ،إىل األعايل حيث تهب رصينات الرياح ،فإنك لم تخلق
لتكون صيادًا للحرشات.
هكذا تكلم زارا …
74
العفة
أُحب الغاب ،فما تسهل حياة املدن عيل َّ وقد كثر فيها عبيد الشهوات الثائرات.
سفاح من أن تحدق به أشواق امرأة جامحة
ٍ لخري أن يقع الرجل بني براثن
ملتهبة.
إنك إذا ما تفرست يف رجال املدن ،لتشهد لك نظراتهم بأنهم ال يرون يف األرض
شيئًا يفضل مضاجعة امرأة …
يف أغوار أرواحهم ترسب األقذار ،وأشقاهم من تم َّرغ عقله بأقذاره.
ليتك حيوان اكتملت حيوانيته عىل األقل ،ولكن أين منك طهارة الحيوان؟ ما أنا
باملشري عليك بقتل حواسك ،إن ما أوجبه إنما هو طهارة هذه الحواس.
ما أنا باملشري عليك بالعفة؛ ألنها إذا كانت فضيلة يف البعض فإنها لتكاد تكون
رذيلة يف اآلخرين ،ولعل هؤالء يمسكون عن التمتع ،غري أن شب ََقهم يتجىل يف كل
حركة من حركاتهم.
إن كالب الشهوة تتبع هؤالء املمسكني حتى إىل ذرى فضيلتهم فتنفذ إىل أعماق
تفكريهم الصارم لتشوش عليه سكينته ،ولكالب الشهوة من مرونة الزلفى ما
تتوسل به إىل نيل قطعة من الدماغ املفكر إذا منعت قطعة اللحم عنها …
طر القلوب ،أما أنا فال أثق بكالب شهواتكم؛ ألن إنكم تحبون املآيس وكل ما يف ِّ
نظراتكم الرصينة تمتلئ شهوة عندما تقع عىل املتأملني ،وقد تن َّكر الشبق فيكم
مثل عىل هذا حالة العدد الوفري ممن أرادوا ً
إشفاقا ،وإني ألرضب لكم ً فدعوتموه
طرد الشياطني فدخلوا هم يف الخنازير ً
بدل منها.
إذا ما ثقلت العفة عىل أحد منكم فعليه أن يعرض عنها كيال تنبسط أمامه
ً
سبيل إىل الجحيم ،جحيم أقذار النفس ونريانها.
لعلكم ترون بذاءة يف كالمي ،أما أنا فأرى البذاءة حيث ال ترونها أنتم.
75
ليست البذاءة يف قذارة الحقيقة ،بل هي يف تدنيها وإسفافها ،وطالب املعرفة
يأنف من االنحدار إىل مهاويها.
إن من الناس من دخلت العفة قلوبهم فالنت هذه القلوب لها .أولئك هم
الضاحكون ويف ابتسامهم ما ليس يف ابتسامكم من إخالص .إنهم يهزءون بالعفة
ويتساءلون عما يمكن أن تكون.
أفليست العفة غرو ًرا؟ أفليست هي التي جاءت إلينا ولم نذهب نحن إليها؟
فليبق هذا الضيف ً
نازل فينا ما َ ً
ضيفا ً
ثقيل فيه، لقد فتحنا قلبنا لها فاستقرت
طاب له املقيل.
هكذا تكلم زارا …
الصديق
ً
محدقا يف يقول املنفرد يف نفسه« :ال أطيق وجود أحد بقربي ».ولكثرة ما يقف
ذاته تظهر التثنية فيه ،ويقوم الجدال بني شخصيته وبني ذاته فيشعر بالحاجة
إىل صديق ،وما الصديق للمنفرد إال شخص ثالث يحول دون سقوط املتجاد َلني
إىل األغوار كما تمنع املنطقة املفرغة غرق العائمني.
إن أغوار املنفرد بعيدة القرار ،فهو بحاجة إىل صديق له أنجاده العالية ،فثقة
اإلنسان يف غريه تقوده إىل ثقته بنفسه ،وتشوقه إىل الصديق يُنهض أفكاره من
كبواتها.
كثريًا ما يقود الحب إىل التغلب عىل الحسد ،وكثريًا ما يطلب اإلنسان األعداء
ليسرت ضعفه ويتأكد إمكانه مهاجمة اآلخرين.
من يطمح إىل اكتساب الصديق وجب عليه أن يستعد للكفاح من أجله ،وال
يصلح للكفاح إال من يمكنه أن يكون عدوًّا .يجب عىل املرء أن يحرتم عِ داءَه يف
صديقه؛ إذ ال يمكن لك أن تقرتب من قلب صديقك إال حني تهاجمه وتحارب
76
شخصيته.
أنت تريد الظهور أمام صديقك عىل ما أنت عليه هات ًكا كل سرت عن خفايا
نفسك ،فال تعجب إذا رأيت صديقك يعرض عنك ويقذف بك إىل بعيد.
من ال يعرف املصافعة يدفع بالناس إىل الثورة عليه ،فاحذر العري ،يا هذا ،ألنك
لست إلهً ا ،واآللهة دون سواهم يخجلون من االستتار.
عليك بارتداء خري لباس أمام صديقك ،لتهيب به إىل طلب املثل األعىل :اإلنسان
املتفوق.
أفما تفرست يومً ا يف وجه صديقك وهو نائم لرتى حقيقته؟ أفما رأيت مالمحه
إذ ذاك كأنها مالمحك أنت منعكسة عىل مرآة مربقعة معيبة؟ أفما ذعرت ملنظر
صديقك وهو مستسلم للكرى؟
ما اإلنسان ،أيها الرفيق ،إال كائن وجب عليه أن يتفوق عىل ذاته ،وعىل الصديق
ً
كشافا صامتًا ،فأمسك عن النظر علنًا إىل كل يشء ما دمت قاد ًرا يف أن يكون
غفلتك عىل كشف كل ما يفعله صديقك يف انتباهه .عليك أن تحل الرموز قبل أن
تعلن إشفاقك ،فقد ينفر صديقك من اإلشفاق ويفضل أن يراك مقنعً ا بالحديد
ويف عينيك ملعان الخلود.
ليكن عطفك عىل صديقك متشحً ا بالقسوة وفيه يشء من الحقد ،فيبدو هذا
العطف مليئًا بالرقة والظرف.
كن لصديقك كالهواء الطلق والعزلة والغذاء والدواء ،فإن من الناس من يعجز
عن التحرر من قيوده ولكنه قادر عىل تحرير أصدقائه.
دع الصداقة إذا كنت عبدًا ،وإذا كنت عاتيًا فال تطمح إىل اكتساب األصدقاء.
لقد مرت أحقاب طويلة عىل املرأة كانت فيها مستبدَّة أو مستعبَدة فهي لم تزل
غري أهل للصداقة ،فاملرأة ال تعرف غري الحب.
إن حب املرأة ينطوي عىل تعسف وعماية تجاه من ال تحب ،وإذا ما اشتعل
77
بالحب قلبها فإن أنواره مع َّرضة أبدًا لخطف الربوق يف الظالم …
لم تبلغ املرأة بعد ما يؤهلها للوفاء كصديقة ،فما هي إال ه َّرة ،وقد تكون
عصفو ًرا ،وإذا هي ارتقت أصبحت بقرة …
أهل للصداقة ،ولكن ليقل يل الرجال من هو أهل للصداقة بينهم؟ إن ليست املرأة ً
فقر روحكم وخساستها يستحقان اللعنة أيها الرجال؛ ألن ما تبذلونه ألصدقائكم
يمكنني أن أبذله ألعدائي دون أن أزداد فق ًرا.
إنكم ال تتخذون إال األصحاب ،فأي متى تسود الصداقة بينكم؟
ألف هدف وهدف
لقد شاهد زارا كثريًا من البلدان وكثريًا من الشعوب ،فنفذ إىل حقيقة الخري
والرش ،وعرف أن ال قوة يف العالم تفوق قوتهما.
تحقق أن ليس عىل األرض من شعب تحلو له الحياة دون أن يُخضع النظم
والسنن لتقديره ،وأن كل شعب يرى من واجبه ،إذا أراد الحياة ،أن يجيء بتقديرُّ
يختلف عن تقدير من يجاوره من الشعوب ،وهكذا كان ما يراه أحدها خريًا يراه
اآلخر دناءة وعا ًرا.
ً
مجلل بالرشف والفخر ذلك ما عرفته ،فكم من عمل اتشح العيب يف بلد ،رأيته
يف بلد آخر.
لم أر جا ًرا تمكن من إدراك حقيقة جاره ،بل رأيت ًّ
كل منهما يعجب لجنون
اآلخر وقسوته.
لقد علق كل شعب فوق رأسه لوح رشيعته ،وس َّ
طر عليه ما اجتاز من عقبات
وما تضمر إرادته من عزم ،فما تراءى له صعب املنال فهو موضوع تمجيده ،وما
خريه إال حاجة ملحَّ ة ع َّز مطلبها ،فهو يقدس كل وسيلة تمكنه من الظفر بهذه
الحاجة.
إن كل ما يوطد الحكم لهذا الشعب ،وكل ما ينيله النرص واملجد ويلقي الرعب يف
78
روع جاره مثريًا حسده إنما هو يف نظره ذو املكانة األوىل ،وما احتل املقام األول يف
مقياسا لجميع أموره ومعنًى لجميع ما يحيط به ،فإذا ما تمكنت ً اعتباره يصبح
من االطالع عىل حاجات أي شعب ،وخربت أرضه وجوَّه وحالة جاره ،فإنك لتدرك
النواميس التي تتحكم فيه وتحفزه إىل املجالدة للغلبة عىل أهوائه ،ولتعرف السبب
يف اختياره مراقيه الخاصة يتدرج عليها لبلوغ أمانيه.
«عليك أن تكون سب ًَّاقا مجليًا يف كل مضمار ،فلتتلفع نفسك بغريتها كيال تبذل
الوالء إال للصديق».
إنها لكلمات إذا وقعت يف أذن يوناني ترتعش نفسه لها؛ فيندفع إىل اقتحام
الصعاب طلبًا للمجد.
«قل الحق ،وكن ماه ًرا يف تفويق سهامك من قوسك».
إنها لوصية صعبت وع َّزت عىل الشعب الذي اقتبست اسمي منه ،ويف هذا االسم
من املصاعب قدر ما فيه من أمجاد.
«أكرم أباك وأمك ،ولتكن با ًّرا بهما من صميم قلبك».
وهذه الوصية القائمة عىل إرغام النفس قد عمل بها شعب آخر؛ فبلغ القوة
وأصبح خالدًا.
«كن أمينًا وابذل لألمانة دمك ورشفك حتى ولو كان جهادك يف سبيل ما يضري
وما يورد املهالك».
أيضا وصية عمل بها شعب آخر ،فتغلب عىل ذاته وأصبح عظيمً ا تثقله وهذه ً
األماني الجسام.
لقد أقام الناس الخري والرش ،فابتدعوهما ألنفسهم ،وما اكتشفوهما وال أُنزال
عليهم بهاتف من السماء.
لقد وضع اإلنسان لألمور أقدارها ليحافظ عىل نفسه ،فهو الذي أوجد لألشياء
معانيها اإلنسانية.
79
ما التقدير إال اإليجاد بعينه ،فأصغوا إيل َّ أيها املوجدون.
ما الكنوز والجواهر إال أشياء أرادها تقديركم جواهر وكنو ًزا ،فما القيمة إال
املوجدون:
اعتبار ،ولوال التقدير ملا كان الوجود إال قشو ًرا ال نواة فيها .اسمعوا أيها ِ
إن قيمة األشياء تتغري تبعً ا لتحول اعتبار ِ
املوجد ،وال بد لهذا املوجد من أن يَهدم
يف كل حني.
املوجدون ،فما الفرد
لقد كانت الشعوب تتوىل اإليجاد يف البدء حتى ظهر األفراد ِ
يف الواقع إال أحدث هيئات الوجود.
لقد أقامت الشعوب لنفسها قِ دمً ا رشيعة خ ِ
ريها ،وما نشأت هذه الرشيعة إال
باتفاق املحبة التي طمحت إىل السيادة ،واملحبة التي رضيت باالمتثال.
إن هوى املجموع أقدم من أهواء الفرد ،وإذا كان خري الضمائر ما يكمن يف
املجموع ،فإن رشها ما يتجىل يف الفرد املعلن شخصيته.
والحق أن الشخصية املراوغة التي ال محبة فيها ،الشخصية التي ترمي إىل
االستفادة من خري األكثرية ،إنما هي عنوان انحطاط املجموع ال مبدأ كيانه.
ما خلق الخري والرش يف كل عرص إال املتهوسون املبدعون ،وما أرضم نارهما إال
عاطفة الحب وعاطفة الغضب باسم الفضائل جمعاء!
لقد شاهد زارا كثريًا من الشعوب والبلدان فما رأى قوة عىل األرض تفوق قوة
املتهوسني ،والقوة معنى لكلمتي الخري والرش.
ما أشبه ما يستدعي التمجيد ويستوجب العقاب باملسخ الهائل ،فمن له بسحق
هذا املسخ ،أيها اإلخوة؟ من سيشد باألغالل عىل ما يُت ِل ُع هذا الحيوان من آالف
األعناق؟
لقد بلغت األهداف األلف عدًّا؛ إذ بلغ عدد الشعوب ً
ألفا ،فنحن بحاجة إىل قيد
واحد أللف عنق؛ ألننا بحاجة إىل هدف واحد ،فالبرشية لم تعرف حتى اليوم
لها ً
هدفا ،ولكن إذا كانت اإلنسانية تسري وال غاية لها ،أفليس ذلك لقصورها
80
وضاللها؟
هكذا تكلم زارا …
محبة القريب
إنكم لتعطفون عىل القريبِّ ،
وتعبون عن عطفكم بتزويق الكالم ،أما أنا فأقول
لكم إن محبتكم للقريب ْ
إن هي إال أنانية مضللة.
إنكم تلجأون للقريب هربًا من أنفسكم ،وتريدون أن تعدوا هذا العمل فضيلة،
وهل يخفى عيل َّ كنه تجردكم هذا؟
إن املخا َ
طب أقدم من املتكلم؛ فاألول مقدَّس أما الثاني فلم يقدَّس بعد .ذلك هو
السبب يف عطف اإلنسان عىل قريبه.
إن ما أشري به عليكم هو أن تنفروا من القريب ال أن تحبوه ،وذلك لتتمكنوا من
محبة اإلنسان البعيد ،فإن ما فوق محبة القريب محبة اإلنسان البعيد املنت َ
ظر،
وإني أضع فوق محبة اإلنسان محبة األشياء واألشباح.
إن الشبح الذي يعدو أمامك ،يا صديقي ،لهو أجمل منك ،ف ِل َم ال تعريه لحمك
وعظمك؟
لقد استوىل الخوف عليكم فلذلك تفزعون إىل القريب ،ال قِ بَل لكم باحتمال
أنفسكم وما حبكم بالحب الكامل؛ لذلك أراكم تطمحون إىل إغواء قريبكم لتتمتعوا
بضالله.
أتمنى أن تنفروا من جميع فئات األقربني ،ومن جريتهم ً
أيضا لتضطروا إىل
إيجاد الصديق الذي يطفح قلبه باإلخالص .إنكم لتدعون شهودًا عندما تريدون
أن تغدقوا الثناء عىل أنفسكم ،وإذا ما توصلتم إىل تضليلهم ليحسنوا الظن بكم
تبدءون حينئذ بإحسان الظن بأنفسكم.
ما من أحد يرتكب الكذب إال إذا تكلم ضد ضمريه ،فأصدق الناس من ال ضمري
81
له يحول دون قوله الصدق .عىل هذه القاعدة تتكلمون عن أنفسكم بني الناس
لتضللوهم يف حقيقتكم.
يقول املجنون يف نفسه« :إن مخالطة الناس تفسد األخالق ،بل هي تفسد
بخاصة من ال خالق لهم».
إن منكم من يهرع إىل جاره ليفتش عن نفسه ،ومنكم من يذهب إليه لينساها.
سجن لكم.
ٍ إنكم تسيئون محبة أنفسكم؛ لذلك يصبح انفرادكم بمثابة
خمسة يجتمعون منكم يقضون ً إن الغائبني يؤدون ثمن حبكم للقريب؛ ألن
دائمً ا عىل السادس الغائب.
إنني ال أحب أعيادكم؛ إذ رأيتها مليئة باملمثلني ،ورأيت الن ُّ َّ
ظارة أبرع منهم
ً
تمثيل.
ال أدعوكم إىل محبة القريب ،بل أدعوكم إىل محبة الصديق ،فليكن الصديق لكم
مظهر حبور األرض ،فتحسون بما ينبئكم باإلنسان املتفوق.
ً
إخالصا ،غري أن من يطمح إىل الظفر بمثل هذا أوصيكم بالصديق يطفح قلبه
القلب يجب عليه أن يكون كاإلسفنجة قاد ًرا عىل ترشب السائل املتدفق .أوصيكم
بالصديق الذي يحمل عا َلمً ا يف نفسه ،فهو الصديق املبدع الذي يسعه أن يقدم لكم
هذا العالم يف كل حني ،فيعرض عليكم ما م َّر به من عِ َب الحياة ،فتشهدون كيف
يتحول الرش إىل خري ،وكيف تنتهي الصدف بكم إىل غاياتكم.
ليكن املستقبل واملقاصد البعيدة ما تصبو إليه يف يومك ،فتحب يف صديقك
اإلنسان املتفوق ،وتضعه نصب عينيك كغاية لوجودك.
ال أشري عليكم بمحبة القريب ،أيها اإلخوة ،بل بمحبة اآلتي البعيد.
هكذا تكلم زارا …
82
طرق املبدع
أتقصد العزلة يا أخي لتجد الطريق التي توصلك إىل مكمن ذاتك؟ إذن ،فقف
َ
واصغ إيل َّ :لقد قال القطيع« :مَ ن فتش فقد تاه ،ومَ ن انعزل فما أمن ً
قليل يف تردد
العثار».
طويل بني هذا القطيع ،ولسوف يدوي صوته مليًّا يف داخلك، ً وأنت قد عشت
فإذا قلت له :لقد تغري ضمريي جانحً ا عن ضمريك ،فلن تكن إال شاكيًّا متأ ًملا.
إن اشرتاكك بالشعور مع القطيع قد أورثك هذا األلم ،وآخر و ََه ٍج من هذا
الضمري املشرتك ال يزال يلهب فجيعتك فيجددها ،ولكنك ترغب يف اتباع هاتف
آالمك؛ ألنه يقودك إىل التوغل يف ذاتك ،فأين برهانك عىل حقك يف امليض إليها وعىل
أنك قادر عىل هذا السفر ،أفأنت قوة جديدة وحق جديد؟ أأنت حركة ابتدا ٍء؟ أأنت
عجلة تدور عىل ذاتها؟ أبوسعك أن تجعل النجوم تدور حولك؟
ْ
فأثبت يل ل َك ْم من طموح يتحفز نحو األعايل ،ولكم من طمع يرتعش يف أمانيه،
أنك لست من الطامحني الطامعني.
إن كثريًا من ساميات األفكار ال تعمل إال عمل األُكر املنتفخة ،فال تكاد تتضخم
حتى يحكمها الضمور.
ِ
تكتف إنك تدعو نفسك ح ًّرا ،فقل يل ما هي الفكرة التي تقيمها مبدأ لك ،وال
بقولك إنك خلعت نريك ،فهل كنت يا ترى ذا حق بخلعه؟ إن من الناس من
يفقدون آخر مزيَّة لهم إذا هم انعتقوا من عبوديتهم.
ال يهم زارا أن تقول له من أية عبودية تحررت ،فلتعلن له نظراتك الصافية
الغاية التي تحررت من أجلها.
تسن لنفسك خريها ورشها فرتفع إرادتك رشيعة تسود أعمالك، هل بوسعك أن َّ
أبوسعك أن تكون قاضيًا عىل نفسك وأن تكون منتقمً ا منها لرشيعتك؟ إنه ألمر
مريع أن يبقى اإلنسان منفردًا مع من أقامة قاضيًا عىل نفسه ومنتقمً ا منها
83
بالرشيعة التي أوجدها .إن مثل هذا اإلنسان ليذهب يف الفضاء ذهاب الكوكب
ً
مقذوفا إىل فراغ الوحدة وصقيعها.
إنك وقد أصبحت منفردًا ال تزال تتألم من املجتمع؛ ألنك لم تطرح شجاعتك ولم
يزل لألمل مرتع فيك ،غري أنك ستتعب من انفرادك يومً ا؛ إذ تلني قناتك وينحطم
غرورك فال تتمالك من الهتاف ً
قائل إنني أصبحت وحيدًا فريدًا.
سيأتي يوم تحتجب فيه عظمتك عنك فيلتصق صغارك فيك حتى لرتتجف ف َر ًقا
من تساميك نفسه؛ إذ يبدو أمامك كشبح مرعب فترصخ ً
قائل« :كل يشء باطل».
إن يف املنفرد عواطف تطمح إىل القضاء عليه ،فإن لم تنل منه نالت من نفسها
وانتحرت ،فهل أنت مستعد الرتكاب جريمة القتل؟
أتعرف ،يا أخي ،معنى كلمة االحتقار ،وما ستكون آالمك إذا أنت أردت العدل
واضطررت إىل االقتصاص ممن يحتقرونك؟
إنك تُكره الكثريين عىل تغيري اعتقادهم فيك ،فتثري حفيظتهم عليك ،لقد اقرتبت
منهم ثم تجاوزتهم ،فهم لذلك لن يغتفروا لك.
لقد تفوقت عليهم ،فكلما اعتليت فوقهم ازددت صغا ًرا يف أعني الحاسدين ،وما
كره الناس أحدًا كرههم للمح ِّلق فوق السحاب.
لقد وجب عليك أن تقول للناس :إنني اخرتت ظلمكم نصيبًا حق يل منكم لذلك
عز إنصايف عليكم .إن الناس يرشقون املنفرد باملظالم واملثالب ،ولكنك إذا كنت
تريد أن تصبح كوكبًا فعليك أن ترسل أنوارك حتى إىل الراشقني.
يوجد
واحرتس بخاصة من أهل الصالح والعدل؛ ألنهم يتوقون إىل صلب من ِ
فضيلة لنفسه .إنهم يكرهون املنفرد.
واحرتس ً
أيضا من السذاجة املتقية؛ ألنها ترى الكفر يف كل إنسان ال يلتصق
بها ،وقد كان الساذجون يف كل مكان يتوقون إىل إيقاد النار واللعب بها.
كن عىل حذر من التطرف يف حبك ،فإن املنفرد يمد يده مترسعً ا ملصافحة من
84
يلتقي يف طريقه .إن من الناس من يجب عليك أال تمد إليهم يدًا ،بل مخلبًا ناشبًا.
غري أن أشد من تصادف من األعداء خط ًرا إنما هو أنت ،وما يرتصدك يف املغاور
والغابات إال نفسك.
لقد تبينت الطريق الذي يقودك إىل ذاتك ،أيها املنفرد ،وطريقك منبسط أمامك
وأمام شياطينك السبعة ،فستصبح منذ اآلن جاحدًا لنفسك ،ساح ًرا مجنونًا
مشك ًكا كاف ًرا شديدًا .فيجب عليك أن ترىض باالحرتاق بلهبك؛ إذ ال يمكنك أن
تتجدد ما لم تشتعل حتى تصبح رمادًا.
إنك تتبع طريق الخالق ،أيها املنفرد ،فأنت تفتش عىل إله لك تقيمه من شياطينك
السبعة .إنك تتبع طريق العاشق ،أيها املنفرد ،وقد عشقت نفسك ،فأنت لذلك
تحتقرها احتقار العاشقني.
يريد العاشق أن يبتدع ألنه يحتقر ،وما له أن يدعي الحب إذا كان لم يبدأ
باحتقار املحبوب.
ً
طويل توغل يف عزلتك يا أخيْ ِ .
س فال رفيق لك إال حبك وإبداعك .إنك ستسري
قبل أن تقفو العدالة أثرك متثاقلة متعارجة.
اذهب إىل عزلتك فإنني أشيِّعك بدموعي يا أخي؛ ألنني أحب من يتفانى ليوجد
يف فنائه من يتفوق عليه.
هكذا تكلم زارا …
الشيخة والفتاة
ملاذا تدلج مختفيًا يف الغسق يا زارا؟ وما هو الذي تخفيه بكل احرتاس تحت
ردائك؟ أكنز وُهِ بته أم طفل ُرزقته؟ وإىل أين تتجه عىل طريق اللصوص يا صديق
األرشار؟
فأجاب زارا :والحق يا أخي ،إن ما أحمل هو كنز وُهبته ،فهو حقيقة صغرية
85
طائشة كالطفل ،ولوال أنني كممت فمها لصاحت بملء شدقيها.
بينما كنت أسري اليوم منفردًا يف طريقي عند الغروب ،التقيت بشيخة ناجتني
قائلة :لقد كلمنا زارا مرا ًرا نحن النساء ،ولكنه لم يتكلم عنا مرة واحدة.
قلت لها :يجب أال يتكلم الرج ُل عن النساء إال للرجال.
فقالت :لك أن تتكلم أمامي عن النساء؛ ألنني بلغت من العمر أرذله ،فلن تستقر
أقوالك يف ذهني.
وقبلت رجاء املرأة العجوز فقلت لها :كل ما يف املرأة لغز ،وليس لهذا اللغز إال
مفتاح واحد وهو كلمة «الحَ بَل».
ليس الرجل للمرأة إال وسيلة ،أما غايتها فهي الولد ،ولكن ما تكون املرأة للرجل
يا ترى؟ إن الرجل الحقيقي يطلب أمرين :املخاطرة واللعب ،وذلك ما يدعوه إىل
طلب املرأة ،فهي أخطر األلعاب.
ُخلق الرجل للحربُ ،
وخلقت املرأة ليسكن الرجل إليها ،وما عدا ذلك فجنون ،وال
يحب املحارب الثمرة إذا تناهت حالوتها ،فهو لذلك يتوق إىل املرأة ألنه يستطعم
املرارة يف أشد النساء حالوة.
تفهم املرأ ُة الطفل بأكثر مما يفهمه الرجل ،غري أن الرجل أقرب إىل ُخلُق الطفل
من املرأة ،ففي كل رجل حقيقي يحتجب طفل يتوق إىل اللعب ،فلتعمل النساء
عىل اكتشاف الطفل يف الرجل.
لتكن املرأة لعبة صغرية طاهرة كاملاس تشع فيها فضائل العالم املنتظر.
َّ
ألضعن للعالم السني يف حبك أيتها املرأة ،وليهتف شوقك ً
قائل: ُّ ليتوهج الكوكب
اإلنسان املتفوق .ليكن يف حبك استبسال تتسلحني به القتحام من يثري الوجل يف
قلبك .ضعي رشفك يف حبك ،وما تعرف املرأة من الرشف إال يسريًا ،غري أن الرشف
يف حبك هو ُ
الخلق الذي يجعلك تبادلني املحبة بأكثر منها فال تنحدرين إىل املقام
الثاني.
86
ليحذر الرجل املرأة عندما يستويل الحب عليها ،فهي تضحي بكل يشء يف سبيل
حبها؛ إذ تضمحل يف نظرها قِ يَم األشياء كلها تجاه قيمته ،ليحذر الرجل املرأة
عندما تساورها البغضاء؛ ألنه إذا كان قلب الرجل مكمنًا للقسوة ،فقلب املرأة
مكمن للرش.
إىل من توجه املرأة أشد بغضائها؟
والجواب يف قول الحديد للقوة الجاذبة :إن أشد كرهي موجه إليكِ ألنك تجتذبني
وليس فيك من طاقة تربط عىل ما تجتذبني.
إن سعادة الرجل تابعة إلرادته ،أما سعادة املرأة فمتوقفة عىل إرادة الرجل.
تقول املرأة وقد استسلمت لحبها العميم :لقد اكتمل العالم.
ً
أعماقا عىل سطحها؛ ألن روح املرأة سطحية وال بد لها أن تخضع وأن ترى
ٌ
أعماق تزمجر فهي صفحة ماء متماوجة تداعبها الرياح ،يف حني أن روح الرجل
أمواجها يف املغاور السحيقة القرار ،وقد تشعر املرأة بقوة الرجل ولكنها لن
تفهمها.
عندئذ قالت العجوز :لقد تكلم زارا عن أشياء طريفة أجدر بسماعها من النساء
مَ ن لم يزلن يف مقتبل العمر ،ومن الغريب أن ينطق زارا بالحق عن النساء وهو ال
يعرفهن إال ً
قليل ،أفتكون إصابته ناشئة عن أن ليس يف حالة املرأة يشء ممتنع.
واآلن أصغ إيل َّ يا زارا ،فإنني سأعلن لك حقيقة صغرية مكافأة عىل ما قلت،
وكرب سني يجيز يل أن أعلنها لك ،فاسرتعِها وأطبق شفتيك عليها لئال يتعاىل
رصاخها من فمك.
فقلت هاتها ،هذه الحقيقة الصغرية أيتها املرأة .وهذا ما قالت العجوز :إذا ما
ذهبت إىل النساء فال َ
تنس السوط.
هكذا تكلم زارا …
87
لسعة األفعى
واستسلم زارا للكرى يومً ا تحت شجرة التني ،وكان الحر شديدًا فسرت وجهه
ً
محدقا بها فعرفت بساعده فأتت أفعى ولسعته يف عنقه؛ فرصخ متأ ًملا وانتفض
عينيه وتململت لتنرصف ،فقال لها زارا« :ال تذهبي قبل أن أقدم لك شكري؛ ألنك
نبهتني يف الزمن املناسب ألقوم بسفر بعيد».
فأجابت األفعى ويف صوتها غنة األىس :بل سفرك قريب ف ُزعايف قاتل.
وابتسم زارا وقال :وهل لزعاف األفعى أن يقتل تنينًا؟ خذي سمَّ ك ،إنني أعيده
ِ
فلست من الغنى عىل ما يسمح لك بتقديمه هدية يل. إليك
وسارعت األفعى إىل االلتفاف حول عنق زارا تلحس جرحه.
وقص زارا هذه الحادثة يومً ا عىل أتباعه فقالوا له :وما هو املغزى األدبي لهذه
القصة ،فأجاب :إن أهل الصالح والعدل يدعونني هدامً ا للمبادئ األدبية فقصتي
ال تتفق وهذه املبادئ.
إذا كان لكم عدو فال تقابلوا رشه بالخري؛ ألنه يستصغر بذلك نفسه ،بل أكدوا
له أنه أحسن بعمله إليكم ،واألجدر بكم أال تحتقروا أحدًا ،تظاهروا بالغضب،
وإذا وجهت اللعنة إليكم ،فال يرسني أن تمنحوا الربكة ،إن ما يرسني هو أال تأبوا
أيضا ،وإذا ما أُنزلت بكم مظلمة كبرية فبادلوا املعتدي مثلها ،وأرفقوها
اللعن أنتم ً
بخمس مظالم صغرى؛ ألنه ما من مشهد أشد قبحً ا ِمن مشهد مَ ن ال يخضع إال
للظلم.
إن اقتسام املظالم بالتساوي إنما هو مساواة بالحق ،فهل كنتم تعرفون هذا من
قبل؟ من يقدر عىل إرهاق الناس بظلمه فعليه أن يحتمل هو الظلم ً
أيضا.
قليل فذلك أدنى إىل املعروف ،وليس من اإلنسانية أن َّ
يرتفع لنئ ينتقم اإلنسان ً
املظلوم عن االنتقام .إنني ألنفر من اقتصاصكم إذا لم يكن عبارة عن حق تؤدونه
آن َّ
أن الحق للمعتدي ،فإن من يسند الخطأ إىل نفسه ألنبل ممن يعلنون يف كل ٍ
88
يف جانبهم ،وأخص من هؤالء من كانوا حقيقة عىل صواب .إن أغنياء الروح ال
يفعلون هذا.
إنني أكره عدالتكم الباردة ،فإن يف عيون قضاتكم ازورار َّ
الجلد وملعان سيفه،
فأين العدالة تلمح يف عينيها الصفاء .أوجدوا يل الحب الذي ال يكتفي بحمل كل
أنواع العقاب ،بل يحمل ً
أيضا جميع الخطايا.
أوجدوا يل العدل الذي يربئ الجميع ليحكم عىل اإلنسان الذي يدين.
أتريدون أن أذهب إىل أبعد مما قلت فأعلن لكم أن الكذب نفسه يصبح محبة
لإلنسانية يف نفس من يتوق إىل إقامة العدل؟
ولكن هل بوسعي أن أقيم العدل بكل إخالص؟ وكيف يمكني أن أتوصل إىل
إعطاء كل ذي حق حقه؟ إذن ،ألكتف َّ
ني بأن أعطي أصحاب الحق حقي الخاص.
وأخريًا ،حاذروا ظلم املنفرد؛ إذ ليس بوسعه أن ينىس وأن يبادل الظاملني ظلمً ا،
وما املنفرد إال برئ عميقة يسهل عىل من يشاء أن يلقي فيها حج ًرا ،ولكن من يقدر
أن يستخرج هذا الحجر إذا بلغ قعر البرئ السحيق؟
احرتسوا من إهانة املنفرد ،وإذا أنتم َّ
حقرتموه فأجهزوا عليه بقتله.
هكذا تكلم زارا …
الطفل والزواج
يل سؤال أخصك به ألسرب أعماق روحك يا أخي :أنت يف مقتبل العمر وتتمنى
أن يكون لك زوجة وولد ،ولكن قل يل هل أنت الرجل الذي يحق له هذا التمني؟
أأنت الظافر املنترص عىل نفسه ،الحاكم عىل حواسه ،السائد عىل فضائله؟ أم أن
تمنيك هذا ليس إال شهوة حيوان أو خشية منفرد أو اضطراب من قام النزاع بينه
وبني نفسه؟
إن ما أريده منك هو أن تتوق بانتصارك وحريتك إىل التجدد بالولد؛ إذ عليك أن
89
تقيم األنصاب إىل ما فوق مستواك ،وهل بوسعك أن تفعل إذا لم تكن متني البنية
من رأسك إىل أخمص قدميك؟
ليس عليك أن ترسل ساللتك إىل األمام فحسب ،بل عليك بخاصة أن ترفعها إىل
ما فوق .فليكن عملك يف حقل الزواج منصبًّا إىل هذه الغاية.
عليك أن توجد جسدًا جوهره أنقى من جوهر جسدك؛ ليكون حركة أوىل وعجلة
تدور لنفسها عىل محورها ،فواجبك إذن إنما هو إبداع من يبدع.
ما الزواج يف عريف إال اتحاد إرادتني إليجاد فرد يفوق من كانا ع َّلة وجوده،
فالزواج حرمة متبادلة ترسو عىل احرتام هذه اإلرادة.
ليكن هذا معنى زواجك وحقيقته ،أما ما يدعوه الدخالء األغبياء زواجً ا فأمر
أحار يف تعريفه ،فما هو إال مسكنة روحية يتقاسمها اثنان ،ودنس يتم َّرغ به
اثنان ،ولذة بائسة تتحكم يف اثنني ،ولكن الدخالء يرون يف مثل هذا الزواج ربا ً
طا
عقدته السماء.
وما أنا باملرتيض بمثل هذه السماء ،سماء الدخالء أطبقت شباكها عليهم ،تبًّا
ً
وسحقا ملثل هذا اإلله الذي يتقدم مرتاجعً ا ليبارك اثنني لم يجمع هو بينهما. لها،
ال يضحكنكم هذا الزواج ،فكم من طفل من حقه أن يبكي عىل أبويه!
رجل وقو ًرا فحسبته ً
بالغا من النضوج ما يدرك به معنى األرض ،ولكنني رأيت ً
رأيت امرأته بعد ذلك فالحت يل األرض كأنها مأوى املجانني ،أود لو تميد األرض
ً
فاضل يتخذ له زوجة حمقاء. بي عندما أرى ً
رجل
من الناس من يتجرد كاألبطال سعيًا وراء الحقائق ،فال يلبث حتى يصطاد
ً
مزيفا يدعوه زواجً ا .ومنهم من اشتهر بحذره يف عالقاته وبرصامته يف ربا ً
طا
اختياره ،فإذا هو بني ليلة وضحاها قد أفسد حياته ووقف يدعو هذا اإلفساد
زواجً ا .ومنهم ً
أيضا من كان يفتش عن خادمة لها فضائل املالئكة ،فإذا هو ينقلب
فجأة خادمً ا المرأة وقد حق عليه أن يتصف هو بالفضائل املالئكية.
90
فتشت يف كل مكان فما رأيت إال مشرتين يقلبون السلع وعيونهم تتدفق مك ًرا،
ولكن أمكر هؤالء الناس ال يتوصل يف آخر األمر إال إىل ابتياع ه َّرة يدسها يف جلبابه.
عشقا إنما هو جنون يتتاىل نوبة بعد نوبة حتى يجيء زواجكم ً إن ما تدعونه
خاتمً ا هذه الحماقات بالحماقة املستقرة الكربى .ويا ليت حب الرجل للمرأة وحب
ً
إشفاقا يتبادله إلهان يتأملان ،ولكن هذا الحب ال يتجىل يف الغالب املرأة للرجل كانا
إال تفاهمً ا بني إحساس حيوانني .وما خري الحب لو تعلمون إال تحو ٌل واضطرام
إن هو إال املشعل ينري أمامكم مسالك االعتالء ،وسيأتي يوم يتجه يف ألم وخشوعْ ،
فيه حبكم إىل مقر أبعد وأرفع من مستقر ذاتكم ،لقد بدأتم بتعلم الحب؛ لذلك
ترتشفون اآلن املرارة الطافية كالحبَب عىل كأسه.
إطالقا ،وحتى يف كأس أرقى حب مرارة ال بد لكم من ً إن يف كأس كل حب
تجرعها ،وهذه املرارة هي التي تنبه فيكم الشوق إىل اإلنسان املتفوق وتلهب فيكم
الظمأ إليه ،أيها املبدعون ،إذا كان هذا الظمأ هو الذي يدفع بك إىل طلب الزواج يا
أخي ،وإذا كنت تشعر بشوقك يندفع كالسهم نحو اإلنسان املتفوق ،فإنني أقدس
إرادتك وأقدس زواجك.
هكذا تكلم زارا …
تخري املوت
كثريٌ مَ ن يتأخرون يف موتهم ،وكثري من يب ِّكرون ،فإذا قال قائل للناس باملوت يف
الزمن املناسب؛ رفعوا عقريتهم مستغربني ،وزارا يع ِّلم الناس أن يموتوا يف الزمن
َّ
يتخي املوت يف أوانه؟ املناسب ،ولكن أنَّى ملن يعرف الحياة أن
أفما كان خريًا للدخالء عىل الحياة لو أنهم لم يولدوا ،ولكن هؤالء الدخالء يريدون
الناس أهمية كربى ملوتهم ،وكم من نواة تباهي بأنها كرست وهي جوفاء. ُ أن يويل
إنهم يعلقون أهمية عىل املوت؛ ألنهم ما عرفوا بهجة املوت ،فالناس لم يعرفوا
91
حتى اليوم كيف يقدِّسون أبهج األعياد ،ولسوف أنبئكم باملوت الذي يُقدس ،املوت
الذي يدفع األحياء ويجتذبهم بحوافزه وآماله ،إن مَ ن أكمل عمله يموت ظاف ًرا
وحوله من يحفزهم األمل وتنطوي فيهم األماني .تعلموا أن تموتوا هكذا ،ولكن
اعلموا أن ال ظفر ملن يموت إذا هو لم يبارك ما أقسم األحياء بإتمامه.
تلك هي امليتة الفضىل ،تليها يف املراتب ميتة من يسقط يف املعركة وهو ينرش
عليها عظمة روحه ،غري أن ما يحتقره املجاهدون والظافرون عىل السواء إنما هو
لصا وتتقدم ِآم ًرا مطاعً ا.
ميتتكم الشوهاء التي تزحف ًّ
ما أجمل ميتتي إذا أنا تخريتها فجاءتني ألنني أطلبها.
ولكن متى يجدر باإلنسان أن يطلب املوت؟
إن من يتجه إىل مقصد يف الحياة وله وريث وجب عليه أن يتمنى املوت يف الزمن
املناسب لغايته ولوريثه؛ ألنه يأنف حرمة لهما من أن يلقي باألكاليل الذابلة عىل
هيكل الحياة.
إنني ال أريد أن أحبُك الخيوط ،وأنسحب إىل الوراء كمن يفتلون الحبال.
من الناس من ال يتجاوزون بأعمارهم الحد الالئق بالحقائق والظفر ،وخليق
بالفم املجرد عن أسنانه أال يتناول ببيانه جميع الحقائق .عىل الطامحني إىل الظفر
أن يودِّعوا األمجاد يف الزمن املناسب ليتمرنوا عىل فن الرحيل عن الدنيا يف الزمن
أيضا ،ومن واجب املرء أن يتوقف عن عرض نفسه لآلكلني عندما ُّ
يكفون املناسب ً
عن تذوقها ،وال يعرف هذه الحقيقة إال من يود االحتفاظ بمحبة مَ ن حوله.
ولكن من األثمار كالتفاح من تقيض طبيعته الحامضة عليه أن ينتظر النضوج
إىل آخر أيام الخريف ،فإذا هو ماثل للنظر باصفرار الشيخوخة وتجاعيد
أساريرها.
ومن الناس من يدب الهرم إىل قلوبهم ً
أول ،ومنهم من يدب الهرم إىل عقولهم،
ومنهم من يشيخون يف ربيع الحياة ،غري أن من يبلغ الشباب متأخ ًرا يحتفظ
92
ً
طويل. بشبابه أمدًا
ومن الناس من ضلوا السبيل يف حياتهم ،فأضاعوا عمرهم ،فعىل هؤالء أن
يعملوا عىل بلوغ التوفيق يف موتهم عىل األقل.
وهنالك أثمار ال تنضج ألنها تته َّرأ يف الصيف ولكنها تبقى معلقة بأغصانها؛
ً
التصاقا ألن جبنها يصدها عن السقوط ،وهكذا نرى يف العالم ً
أناسا يلتصقون
بأغصانهم ،فهل من عاصفة تهب عىل الشجرة لتسقط ما عليها من أثمار ته َّر ْ
أت
ورعى الدود قلبها؟ ليتقدم دعاة املوت العاجل وليهبوا كالعاصفة عىل دوحة
الحياة ،غري أنني ال أرى غري دعاة للموت البطيء يعظون بالصرب واحتمال كل
مصائب األرض.
إنكم تدعون إىل مكابرة األرض ومجالدتها ،أيها املجدِّفون واألرض صابرة
عليكم صربها الجميل.
والحق أن ذلك العرباني الذي يمجده املبرشون باملوت البطيء قد مات قبل
أوانه ،ولم يزل ج ٌّم غفري يعتقد بأن ميتته املبكرة كانت مقدورة عليه.
وما كان هذا املسيح العرباني قد عرف غري دموع قومه وأحزانهم وكيد أهل
الصالح والعدل؛ لذلك راودته فجأة شهوة الفناء.
ولو أنه بقي يف الصحراء بعيدًا عن أهل الصالح والعدل لكان تع َّلم حب الحياة
وحب األرض ،ولكان تعلم الضحك ً
أيضا.
صدقوني ،أيها اإلخوة ،إن املسيح قد مات قبل أوانه ،ولو أنه بلغ العمر الذي
ُ
بلغت ،لكان جحد تعاليمه ،وقد كان له من النبل ما يكفيه القتحام العدول عنها،
ولكنه لم يبلغ النضوج ،ولم تبلغه املحبة يف الشباب؛ فكره الناس وكره األرض،
وهكذا بقيت روحه مثقلة ولم ينرش جناحه املهيض4.
إن يف الرجل من الطفولة ما ليس يف الشاب ،فالرجل الناضج أقل حزنًا وأقدر
عىل فهم الحياة واملوت؛ ألنه يشعر بحريته للموت وبحريته يف املوت ،وإذا امتنع
93
عليه أن يُثبت شيئًا أنكره.
ً
تجديفا عىل األرض واإلنسان أيها الصحاب .تلك هي حاذروا أن يكون موتكم
النعمة التي أستجديها من وداعة روحكم.
لريسل فكركم وفضيلتكم آخر أشعتهما يف احتضاركم كما ترسل الشمس
الغاربة آخر أنوارها عىل األرضًّ ،
وإل فإن ميتتكم ستكون فاشلة .إنني هكذا أريد
أن أموت ليزداد حبكم لألرض من أجيل ،أيها األصحاب ،أريد أن أعود إىل األرض
التي ُخلقت منها ألجد الراحة يف أحضانها.
لقد كان زارا يرمي إىل هدف وقد أطلق سهمه اآلن فارموا إىل هذا الهدف بعدي؛
ألنني من أجلكم أطلقت سهمي الذهبي ،فما أشتهي شيئًا اشتهائي أن أراكم
قليل ألمتِّع عيني بهذا
أيضا ،ولسوف أبقى عىل األرض ً
تطلقون سهامكم الذهبية ً
املشهد ،فاغتفروا يل هذا التخلف إىل حني.
هكذا تكلم زارا …
الفضيلة الواهبة
1
وبعد أن ودَّع زارا مدينة «البقرة امللوَّنة» التي شغف قلبه بها؛ شيعه عدد غفري
مما كانوا يدعون أنفسهم أتباعه حتى بلغوا إىل منعطف الطريق فقال زارا إنه
يريد متابعة سريه وحده ،فودَّعه أتباعه وقدموا إليه عصا قبضتها من ذهب
فس زارا من هذه الهدية واتكأ عىل العصا ً
قائل بشكل أفعى ملتفة حول الشمسَّ ُ ،
ألتباعه :قولوا يل ،ملاذا أصبح الذهب ذا قيمة؟ أليس ألنه نادر وال فائدة منه ،وألنه
وديع يف ملعانه ،ويبذل نفسه يف كل حني؟ لم يبلغ الذهب أسمى مراتب األشياء
القيمة إال ألنه رمز ألسمى الفضائل ،فعني الواهب ب َّراقة كالذهب ،ووهج الذهب
رسول سالم بني النريين.
94
إن أسمى الفضائل نادرة وال نفع منها ،فهي تتوهج بنورها الهادئ ،وليس بني
الفضائل من يطاول فضيلة السخاء.
والحق أنني شاعر برغبتكم ،أيها الصحاب ،فإنكم تطمحون مثل طموحي إىل
الفضيلة الواهبة ،فأنتم تريدون أن تحولوا نفوسكم إىل هبات وعطايا ،وإال لكنتم
أشبه بالهررة والذئاب ،ولهذا تتعطشون إىل حشد جميع الكنوز ألنها ظامئة أبدًا
ليترسب إىل داخلكم فينفجر ينبوعكم
َّ إىل العطاء .إنكم تجتذبون كل ما حولكم
بها كأنها هبة من محبتكم.
إن املحبة السخية الواهبة تستحيل إىل لص يمد يده إىل جمع األشياء القيمة ،وما
ً
مقدسا. أرى هذه األنانية إال ً
عمل صالحً ا
غري أن هنالك أنانية أخرى تدهورت إىل أدنى دركات املسكنة يف مجاعتها
املتحكمة أبدًا فيها ،تلك هي األنانية التي تطمح إىل الرسقة يف كل آن ،فهي أنانية
املرض بل هي األنانية املريضة ،تحدج كل يشء بنظرات اللص وبنهم الجائع،
فتزن لقمات اآلكلني من أبناء النعمة وتدب أبدًا حول موائد الواهبني ،وما مثل هذه
ض الداء الدفني ودليل االنحطاط الخفي ،وما الطموح إىل الرسقة الشهوة إال عَ َر ُ
بمثل هذه األنانية إال نزعة من نزعات الجسوم العليلة.
أي يشء نراه أقبح األشياء ،أيها اإلخوة ،أفليس االنحطاط أقبحها؟ وهل يسعكم
إال أن تحكموا بانحطاط مجتمع ال أثر لروح السخاء والعطاء فيه.
إن سبيلنا يتجه إىل األعايل ،وما نقصده إنما هو االرتقاء من نوع إىل نوع؛ لذلك
نرتعش عندما نسمع االنحطاط يهتف ً
قائل« :يل كل يشء».
وهل روحنا إال رمز لجسدنا وهي تطمح إىل االعتالء ،وهل الصفات التي ندعوها
فضيلة إال عبارة عن هذه الرموز عينها؟
إن الجسد يقطع مسافات التاريخ بكفاحه ،ولكن ما تكون الروح من الجسد
يا ترى إن لم تكن املذيع لكفاح الجسد وانتصاراته؟ ما الجسد إال الصوت ،وما
الروح إال الصدى الناجم عنه والتابع له .ليست الكلمات املوضوعة للداللة عىل
95
الخري والرش سوى رموز فهي تشري إىل األمور وال تعرب عنها ،وال يطلب املعرفة
فيها ومنها إال املجانني.
انتبهوا ،أيها اإلخوة ،إىل الزمن الذي يطمح فكركم فيه إىل البيان بالرموز؛ ألن يف
هذا الحني تتكون الفضيلة فيكم ،وعندئذ يُبعث جسدكم ويتجه إىل األعايل مجتذبًا
عقلكم من سكونه؛ ليدفع به إىل مراحل اإلبداع حتى إذا ما سار عليها عرف قيمة
األشياء وأحب فأجاد يف كل أعماله.
يف الزمن الذي يختلج فيه قلبكم تتكون فضيلتكم؛ ألن هذا القلب يفيض
باختالجه كالنهر العظيم فيغمر القائمني عىل ضفافه بالربكة كما يهددهم بأشد
األخطار.
إنما تنشأ فضيلتكم عندما يعجز املدح والذم عن بلوغ شعوركم ،فتطمح إرادة
الرجولة فيكم إىل السيادة عىل كل يشء.
إنما تنشأ فضيلتكم عندما تحتقرون النِعَ م والفراش الوثري ،وعندما ال تجدون
راحة إال بعيدًا عن مواطن الراحة.
إنما تنشأ فضيلتكم عندما تنصب إرادتكم عىل مقصد واحد ،وعندما يصبح هذا
التحول يف آالمكم رضورة ال يسعكم التحول عنها.
أفليس هذا ً
شكل جديدًا للخري والرش؟ أفما تسمعون بهذا القول خرير الينبوع
العميق الذي غربت مسالكه من قب ُل عنكم؟
إنها لفضيلة جديدة تمنح اإلنسان قوة وتبعث فيه عزمً ا ،هذه الفكرة املتحكمة
روح بلغت الحكمة؛ ألنها شمس َّ
مذهبة التفت عليها أفعى الحكمة. يف ٍ
2
ً
مرسل نظرات الحب إىل أتباعه ،ثم ارتفع صوته بنربات جديدة وصمت زارا
ً
قائل :أخلصوا لألرض ،يا إخوتي ،بكل قوى فضائلكم .لتكن محبتكم الواهبة
ً
متوسل. ولتكن معرفتكم خادمتني لروح األرض ،إنني أطلب هذا
96
ال تدعوا فضيلتكم تنسلخ عن حقائق األرض لتطري بأجنحتها ضاربة أسوار
األبدية ،ول َك ْم ضلت من فضيلة من قبل عىل هذا السبيل.
ُ
رجعت بها أنا إىل مرتعها يف األرض .عودوا بها إىل أرجعوا الفضيلة الضالة كما
الجسد وإىل الحياة لتنفخ يف األرض روحها روحً ا برشية.
لقد تاه العقل وتاهت الفضيلة فخدعتها آالف األمور ،و َّملا يزل هذا الجنون
يتسلط عىل جسدنا حتى أصبح جزءًا منه فتحول فيه إىل إرادة.
فضل عىل ألف سبيل، َّ لقد قام العقل وقامت الفضيلة معه بتجارب عديدة
وهكذا أصبح اإلنسان عبارة عن تجارب ومحاوالت ألصقت بنا الجهل والضالل.
وليس ما استقر فينا من التجارب حكمة األجيال فحسب ،بل جنونها ً
أيضا ،ول َك ْم
يتعرض الوارثون إىل أخطار.
إننا لم نزل نصارع جبار الصدف ،ولم يزل العته سائدًا عىل اإلنسانية حتى
اليوم.
ليكن عقلكم وفضيلتكم بمثابة روح لألرض وعقل لها ،أيها اإلخوة ،فتتجدد
بكم قِ يَم األشياء جميعها ،من أجل هذا وجب عليكم أن تبدعوا.
إن الجسد يطهر باملعرفة ،فريتفع بمرانه عىل العلم؛ ألن من يطلب الحكمة
يطهر جميع غرائزه ،ومن ارتقى فقد أدخل املرسة يف نفسه.
أعِ ْن نفسك ،أيها الطبيب ،لتتمكن من إعانة مريضك ،إن خري ما تبذله من معونة
لهذا املريض هو أن يرى بعينه أنك قادر عىل شفاء نفسك.
إن يف األرض من السبل ما لم تطأها قدم بعد ،فما أكثر مجاهلها وما أكثر
خفاياها!
اسهروا وانتبهوا أيها املنفردون؛ ألن من املستقبل تهبُّ نسمات رسية حاملة
بشائر ال تقرع إال اآلذان املرهفة.
إنكم يف عزلة عن العالم ،أيها املنفردون ،ولكنكم ستصبحون شعبًا يف آتي
97
الزمان ،ومنكم سيقوم الشعب املختار؛ ألنكم اخرتتم نفسكم اليوم ،ومِن هذا
الشعب سيولد اإلنسان املتفوق.
َّ
لألعلء ،فإن يف نرشها عبريًا جديدًا والحق أن األرض ستصبح يومً ا مستشفى
هو عبري اإلخالص واألمل الجديد.
3
ً
طويل بني وسكت زارا كمن يقف عند كلمة تتلجلج يف فمه ،وبعد أن ق َّلب عصاه
يديه ،أطلق صوته وقد تغريت نرباته فقال :سأذهب وحدي اآلن ،أيها الصحاب،
أيضا ستذهبون بعدي وحدكم ألنني هكذا أريد. وأنتم ً
هذه نصيحتي إليكم؛ ابتعدوا عني وقفوا موقف الدفاع عن أنفسكم تجاهي ،بل
اذهبوا إىل أبعد من هذا؛ اخجلوا من انتسابكم إيل َّ فلقد أكون لكم خادعً ا.
عىل من يطلب الحكمة أال يتعلم محبة أعدائه فحسب ،بل عليه ً
أيضا أن يتعلم
ً
اعرتافا تامًّ ا بفضل أستاذه إذا هو بقي أبدًا له بغض أصدقائه ،وما يعرتف التلميذ
تلميذًا .ملاذا ال تريدون أن تحطموا تاجي؟
إنكم تحوطونني باإلجالل ،ولكن ما هي الكارثة التي تتوقعونها من إعراضكم
عني ،إن يف رفع األنصاب لخط ًرا فاحرتسوا من أن يسقط عليكم التمثال املنصوب
فيقيض عليكم.
تقولون إنكم تؤمنون بزارا ،ولكن أية أهمية له؟ تقولون إنكم مؤمنون ،ولكن
ما أهمية جميع املؤمنني؟ ما كان أحد منهم فتش عن نفسه قبل أن وجدتموني،
وهكذا جميع املؤمنني ،فليس اإليمان شيئًا عظيمً ا؛ لذلك آمركم اآلن أن تضيِّعوني
لتجدوا أنفسكم ،ولن أعود إليكم إال عندما تكونون جحدتموني جميعكم.
والحق ،يا إخوتي ،إنني يف ذلك الحني ،سأفتش عن خِ رايف الضالة بعني أخرى
فأبذل لكم حبًّا غري هذا الحب.
سيأتي يوم تصريون فيه أصحابًا يل إذا ما وحَّ د بينكم األمل الواحد ،عندئذ
98
سأرغب يف اإلقامة بينكم للمرة الثالثة لالحتفاء بأنوار الهاجرة العظمى.
وستبلغ الشمس الهاجرة عندما يصل الناس إىل منتصف طريقهم بني الحيوان
واإلنسان املتفوق ،وعندما يرون أملهم األسمى عىل منتهى السبيل الذي يقودهم
إىل الفجر الجديد.
يف ذلك الحني يتوارى من يسري إىل الجهة الثانية وهو يبارك نفسه؛ إذ ترتفع
شمس معرفته لتتكبد الهاجرة.
لقد مات جميع اآللهة ،فلم يعد لنا من أمل إال ظهور اإلنسان املتفوق ،فلتكن
هذه إرادتنا األخرية عندما تبلغ الشمس الهاجرة.
هكذا تكلم زارا …
هوامش:
1ليذكر القارئ الكريم ما وجَّ هْ نا انتباهه إليه يف مقدمتنا ،فها هو ذا نيتشه
قد بدأ يوضح ع َّل َة جحودِه ،فهو يرى معبود الناس قائمً ا من وهمهم أو بتعبري
آخر إن اإلنسان قد خلق الله فصوره من ترابه ونفخ فيه نسمة من لهبه ،ولو أننا
وقفنا عند كل فكرة جانحة من أفكار نيتشه لنحللها ونرجع منها إىل إيماننا ا َملك ِ
ِني
الضطررنا إىل التحول من الرتجمة إىل البحث ،غري أننا ال نجد بدًّا اآلن من دعوة
القارئ إىل اإلمعان يف الصفات ترتاءى لنيتشه كأنها هي األلوهية فيتأكد أن اإلله
الذي يهاجمه هذا الفيلسوف هو غري إلهنا ،وعامله الثاني هو غري عاملنا الروحي
الذي يقيم فينا قبل أن نقيم فيه.
إن نيتشه كان قد خرج عىل الدين الذي اقتبستْه اآلرية عن السامية فشوهته،
فأصبح بعد ذلك طري َد ِ
فكره الجبار ينتقد آثار الدين يف املجتمع ،وقد وقف موقفه
السلبي؛ فال هو يُسكت رصاخ نفسه املتمردة ،وال هو يهتدي إىل الدين الحق الذي
تسكن الروح إليه ،وينتظم املجتمع بأحكامه ،وها نحن نورد كلمة لنيتشه قالها
99
وهو يكتب زرادشت وفيها عربة للمؤمنني وللجاحدين.
يف حديقة من حدائق لوزرن جلس نيتشه إىل السيدة «لو سالومه» وهي حسناء
روسية ملكت لبَّه ،ويف حديثه معها ملكه الصمت ،فرأت لو دموعه تنهمر وبدأ
يقص عليها تاريخ تطوره الفكري ،فوصف لها سني فتوته التي قضاها يف
التعبد ،ثم عرض مراحله يف شكوكه واضطرابه يف عالم ال بد من إمرار الحياة فيه
دون أن يكون لهذا العالم إله … فقال — والسيدة نفسها دونت قوله للتاريخ:
«هكذا بدأت مغامراتي الفكرية وما وصلت إىل محجة منها ،فإىل أين أتجه … أفال
يجدر بي أن أعود إىل اإليمان ،أو أن أ ُ َّ
وفق إىل إيمان جديد؟ عىل أنه خري يل إذا أنا
نقل عنلم أوفق إىل الوصول لهدف أن أعود أدراجي من أن أقف يف حريتي ».ا.ﻫً .
كتاب دانيال هااليف.
2أفال يرى القارئ الكريم إثبات واجب الوجود يف محاولة إنكاره ،وإثبات
اإليمان الفكري األسمى يف أضل منطق وأرصح جحود؟ ذلك هو رد الفعل الذي
أرشنا إليه يف مقدمتنا ،فإن اإليمان الغربي قد اعترب الجسد آلة شهوة محتقرة
يجب إذاللها ،فأنكر الحياة «وما الحياة يف نظر الرشق املؤمن إال مقدمة للخلود»،
وما ثار نيتشه إال عىل هذا التصور للكيان اإلنساني ،فهبَّ يقلب ظاهره باطنًا
وباطنه ظاه ًرا ،ويشطره إىل ذات وإىل شخصية معتربًا الشخصية ً
عقل وإدرا ًكا
وقائل بأن الجسم بما فيه من حوافز مجردة خفية إنما هو بنفسه الذات ً زائلني،
الواجبة الوجود التي تندفع إىل التكامل لتبلغ باإلنسان مرتبة األلوهية.
هذه كلمة لم نر بدًّا من اإلتيان بها وهي جد موجزة ،ولكنها ستكون مدا ًرا
لبحث نتوق إىل تناوله عندما ننتهي من ترجمة فيلسوف الغرب الكبري لنأخذ من
إلحادة ً
دليل له شأنه عىل صحة إيمان الرشق بالواحد األحد وبما نفخ يف األجساد
من نسمة الحياة الخالدة.
3ال يغرب عن القارئ الكريم أن نيتشه يعالج يف هذا الفصل القضية الكربى
يف مدنية الغرب ،وقد نشأت من استخدام أصحاب األموال لنتاج عبقرية املخرتعني
100
وجهود املكتشفني يف سبيل حشد الثروات الطائلة والتسلط بها عىل الحكومات،
وقد أصبحت مدنية الغرب من هذا الوضع الشاذ يف حلقة مفرغة تبتدئ حيث
تنتهي بني ملوك الحكومات وملوك املال وليس ،والحمد لله ،يف الرشق أمثال لهؤالء
امللوك.
4يعرتف زارا بأن عيىس عرف دموع الشعب املظلوم وغطرسة من يدعون
الصالح والعدل ،فماذا يُراد منه أن يعرف بعدُ ،وليس من قضية اجتماعية تخرج
عن حدي دمعة الضعيف وكيد املستقوين يف الحياة.
كان يريد زارا أن يبلغ عيىس ما بلغه هو من العمر؛ ليجحد تعاليمه ويطلق
جناحي نفسه فيحب اإلنسان واألرض ،فهل بلغ أحد من مصلحي اإلنسانية
— باعتبار القضية االجتماعية مستقلة ً
جدل عن املسألة الروحية — ما بلغه
العرباني والعربي بعده من حب اإلنسانية والتضحيات يف سبيل إصالح الحياة.
وهل لنيتشه أن يدعي أنه أتى بيشء جديد يف فلسفته عند تصويره مبادئ
الحياة ،أفليس كل ما أصاب فيه مستمدًا مما أُوحي إىل رسل الله وأنبيائه األطهار،
أفليس كل ما ضل فيه ناشئًا عن محاولته االستغناء عن أنوار هذا الوحي ..
101
الجزء الثاني
ورجع زارا إىل الجبال ،إىل عُ زلة كهفه ليحتجب عن الناس كالزارع ألقى بذوره
يف أثالم أرضه وبات يتوقع نبتها ،ولكنه ما لبث أن حنت جوارحه إىل أحبابه؛ إذ
كان عليه أن يمنحهم بع ُد كثريًا من الهبات ،وأصعب ما يلقى املحب اضطراره إىل
قبض يده إجابة لداعي محبته وتفاديًا للمنة يف عطائه.
ومرت عىل املنفرد الشهور واألعوام وحكمته تزداد نموًّا فتزيده أ ًملا باتساع
آفاقها.
وأفاق يومً ا من نومه قبل انفالق الفجر ،واستغرق يف تفكريه وهو ممدد عىل
قائل :ملاذا أرعبني هذا الحلم حتى استفقت منه مذعو ًرا؟ رأيتفراشه وتساءل ً
كأن ولدًا «يحمل مرآة» اقرتب مني وهو يقول :انظر يف هذه املرآة يا زارا.
ً
خفوقا شديدًا؛ ألن ما انعكس وما نظرت إىل املرآة حتى رصخت وخفق قلبي
يل يف املرآة لم يكن وجهي ،بل وجهً ا تقطبت أساريره بضحكة شيطان ساخر.
والحق ما يفوتني تعبري هذا الحلم وإدراك ما نُبهت إليه ،فإن تعاليمي م ُْشفة
عىل خطر ،وال ُّزوان يريد أن ينتحل صفات الحنطة .لقد استأسد أعدائي فشوهوا
تعاليمي حتى أصبح أتباعي يخجلون مما وهبتهم.
لقد فقدت صحبي وآن يل أن أفتش عمن فقدت.
102
وانتفض زارا ال كمَ ِن استوىل الذعر عليه بل كمأخوذ برؤى وكشاعر ه َّزه
شيطانه؛ فوجم نرسه وأفعوانه وحدَّقا بوجهه وقد الحت بوادر السعادة عليه
كتباشري الفجر ،فقال لهما :ماذا حدث يل؟ أفما تريان أنني تغريت؟ أفما تحسان
أن الغبطة قد نزلت عيل َّ كأنها عصفات الرياح؟
جن شعوري بهذه السعادة فلن يسلم بياني من اختالل هذا الشعور .إن لقد َّ
سعادتي لم تزل يف حداثتها فتذرعا بالصرب معي عليها.
لقد أوجعتني سعادتي فليكن أُساتي كل من أرهقتهم األوجاع.
إن يف وسعي اآلن أن أنحدر إىل مقر صحبي وإىل مقر أعدائي ،فقد أصبح زارا
قاد ًرا عىل استطراد القول واإلحسان إىل من يحب.
لقد آن لحبي أن يتدفق كالنهر يندفع من األعايل إىل األعماق ،ويتجه من املرشق
إىل املغرب.
إن نفيس تندفع مرغية مزيدة يف الوديان متملصة من الجبال الصامتة نصخب
فوقها عواصف اآلالم ،ولطاملا تعللت بالصرب وعلقت أبصاري عىل بعيد اآلفاق ،لقد
أرهقتني العزلة فما أطيق السكوت بعدُ.
أصبحت وكأنني بأجمعي ف ٌم أو هدير جدول يتحدر من شامخات الصخور،
أريد أن أقذف بكلماتي إىل األغوار ،فيجري نهر حبي يف املفاوز البعيدة ،ولن يضل
هذا النهر سبيله إىل مصبه يف البحار.
إن يف داخيل بحرية وحيدة قانعة بنفسها ،غري أن نهر محبتي يجتذبها يف
مسريه؛ ليقطع معها السيول ويرتامى وإياها يف لجة البحر.
إنني أتبع مسالك لم أعرفها من قبل فأُلهمت بيانًا «جديدًا» بعد أن أتعبتني
اللهجات القديمة التي ترهق كل املبدعني ،وقد امتنع عىل فكري أن يقتفي رواشم
النعال املقطعة.
ما من لغة إال وأراها بطيئة تقرص عن مجاراة بياني.
103
سأقفز إىل صهوتك أيتها العاصفة فألهبك أنت ً
أيضا بسوط سخريتي.
أريد أن أقطع أجواء البحار كهتفة مرسة وحبور إىل أن أستقر عىل الجزائر السعيدة
أيضا ،لشد ما أحب اآلن جميع من يتسنى يل أنحيث يقيم أحبابي ،وبينهم أعدائي ً
أيضا قسطهم يف إيجاد غبطتي. أوجه إليهم الكالم ،وسيكون لهؤالء األعداء ً
عندما أتحفز العتالء أشد جيادي جموحً ا ال أجد يل معينًا أصدق من رمحي متكأ
أرتفع عليه.
هو رمحي أهدد به أعدائي ،ولكم يستحقون ثنائي إذا ما تمكنت من طرح هذا
الرمح من يدي.
لقد طال اصطبار غيومي بني قهقهة الرعود ،وقد آن يل أن أرشق األعماق
بقذائف بردي.
إن صدري سيتعاظم بانتفاخه حتى يزفر بالعاصفة الهائلة عىل الشامخات،
وهكذا سأف ِّرج عنه.
إن سعادتي وحريتي سيندفعان اندفاع العواصف ،ولكنني أتمنى لو يحسب
أعدائي أن ما يزمجر فوق رءوسهم إنما هو روح الرش ال روح سعادة وحرية.
وأنتم ً
أيضا أيها الصحاب سيتوالكم الرعب عندما تنزل عليكم حكمتي الكارسة،
ولعلكم تولون هاربني منها كما يهرب األعداء.
ليت يل أن أستدعيكم إيل َّ بحنني شبابة الرعاة ،وليت تتعلم لبؤة حكمتي أن تزأر
بنربات العطف والحنان ،فلطاملا وردنا سويًّا من مناهل العرفان .ولكن حكمتي
الوحشية تمخضت بآخر صغارها يف الجبال السحيقة بني الجالمد الجرداء ،وهي
اآلن تطوف بجنونها الصحاري القاحلة مفتشة عىل املروج النارضة.
إنها لشيخة وحشية هذه الكلمة التي تقصد إنزال أعز ما لديها يف مروج قلوبكم
النارضة.
هكذا تكلم زارا .
104
في الجزر السعيدة
105
يتحتم عليكم أن تبدءوا بخلق ما كنتم تسمونه عا ًملا من قبل؛ فيتكون عاملكم من
تفكريكم وتصوركم وإرادتكم ومحبتكم وعندئذ تبلغون السعادة يا من تطلبون
املعرفة ،وكيف تطيقون الحياة إذا لم يكن لكم هذا الرجاء؟
عىل من يطلب املعرفة أال يتورط يف ما يريده العقل من املعميات.
لسوف أفتح لكم قلبي فال تخفى عنكم خافية فيه ،فأقول لكم :لو كان هنالك
ُ
أكنت أتحمَّ ل أال أكون ربًّا؟ إذن ليس يف الكون أرباب. أرباب
لقد استخرجت لذاتي هذه النتيجة ،وها هي تستخرجني اآلن.
إن الله افرتاض ولكن من له بتحمل كل ما يضمر هذا االفرتاض من اضطراب
دون أن يالقي الفناء؟ أتريدون أن تأخذوا من الخالق إيمانه ومن النرس تحليقه
يف أجواز الفضاء؟
إن الله عبارة عن إيمان ينكرس به كل خط مستقيم ويميد عنده كل قائم،
فان يف عينيه بُ ْ
طل وخداع ،فهل مثل هذه األفكار فالزمان لدى املؤمن وهم ،وكل ٍ
إال أعاصري تتطاير فيها عظام البرش وتورث الدوار لشاهدها؟ تلك افرتاضات
يدور املبتىل بها عىل نفسه كالرحي حتى يموت.
أفليست من الرش واالفتيات عىل اإلنسانية كل هذه التعاليم تقيم الواحد املطلق
الذي ال يناله تحول وال تغيري؟
إن الرموز وحدها ال تتغري ،وطاملا كذب الشعراء ،غري أن خري ما يُرضب من
األمثال ما يصور الحارض وآتي الزمان فيأتي حجة لكل زائل ال ً
نقضا له.
ليس يف غري اإلبداع ما ينقذ من األوجاع ويخفف أثقال الحياة ،غري أن والدة
املبدع تستدعي تحوالت كثرية وتستلزم كثريًا من اآلالم.
أيها املبدعون ستكون حياتكم مليئة بمرير امليتات؛ لتصبحوا مدافعني عن
جميع ما يزول.
106
عىل املبدع إذا شاء أن يكون هو بنفسه طفل الوالدة الجديدة أن يتذرع بعزم
املرأة التي تلد فيتحمل أوجاع مخاضها.
واألرسة وأوجاع املخاض ،غري أنني
َّ ً
طريقا يف مئات النفوس لقد اخرتقت يل
كثريًا ما نكصت عىل أعقابي؛ ألنني أعرف ما تق ِّ
طع الساعات األخرية من نياط
القلوب.
ولكن ذلك ما تطمح إرادتي املبدعة إليه ،وبتعبري أشد رصاحة :ذلك هو املقصد
الذي تريده إرادتي.
إن جميع ما يف َّ من شعور يتألم مقيدًا سجينًا ،وليس غري إرادتي من بشري يؤذن
باملرسة ،ويأتي باإلفراج عن الشعور.
إن اإلرادة وحدها تحرر ،وما بغري هذه اآلية من رشعة صحيحة لإلرادة وللحرية،
عىل هذا تقوم تعاليم زارا.
يشلن اإلرادة ،ويوقفان كل تقدير وإبداع. ً
وسحقا لكل و َْهن ومالل َّ بعدًا
إن طالب املعرفة يشعر بلذة اإلرادة واإليجاد ،وبلذة استحالة الذات إىل ما تحس
به يف أعماقها ،فإذا انطوى ضمريي عىل الصفاء فما ذلك إال الستقرار إرادة اإليجاد
فيه ،وهذه اإلرادة هي ما أهاب بي لالبتعاد عن الله وعن اآللهة؛ إذ لو كان هنالك
آلهة ملا بقي يشء يمكن خلقه.
إن طموح إرادتي إىل اإليجاد يدفعني أبدًا نحو الناس اندفاع املطرقة فوق
الحجر.
تمثال كامنًا هو مثال األمثلة ،أفيجدر أن يبقى
ً أيها الناس إنني أملح يف الحجر
ثاويًا يف أشد الصخور صالبة وقبحً ا.
إن مطرقتي تهوي برضباتها القاسية عىل هذا السجن فأرى حجره يتناثر.
أريد أن أكمل هذا التمثال .إن ً
طيفا زارني ،وألطف الكائنات وأعمقها سكوتًا
107
قد اقرتب مني.
لقد تجىل بها ُء اإلنسان املتفوق لعيني يف هذا الخيال الطارق فما يل ولآللهة
بعدُ1.
هكذا تكلم زارا …
هوامش:
1ونحن نقول بدورنا لنيتشه متخذين قياسنا من قياسه :لو أمكن لإلنسان
أن يخلق شيئًا ملا كان هنالك إله ،وبما أن اإلنسان يقرص عن إيجاد ذرة وخطرة
فكر يف عاملي املادة والروح ،فالكائن األزيل مفروض ً
فرضا عىل العاقل ،وكل قول
يخالف هذا القول ثرثرة وجنون
108
الرحماء
لقد بلغني ،أيها الصحاب ،قول الناس« :أفما ترون زارا يمر بنا كأنه يمر بني
قطيع من الحيوانات».
وكان أوىل بهم أن يقولوا :إن من يطلب املعرفة يمر بالناس مروره بالحيوانات.
إن طالب املعرفة يرى اإلنسان حيوانًا له وجنتان حمراوان.
ولِ َم يراه هكذا؟ أفليس ألنه كثريًا ما علته حمرة الخجل؟
هذا ما يقوله طالب املعرفة أيها الصحاب :إن تاريخ اإلنسان عار يف عار.
ولذلك يفرض الرجل النبيل عىل نفسه أال يلحق إهانة بأحد ألنه يستحيي جميع
املتأملني.
إنني والحق أكره الرحماء الذين يطلبون الغبطة يف رحمتهم ،فإذا ما قيض عيل َّ
بأن أرحم تمنيت أن تُجهل رحمتي وأال أبذلها إال عن كثب .أحب أن أسرت وجهي
عند إشفاقي وأن أسارع إىل الهرب دون أن أعرف ،فتمثلوا بي أيها الصحاب.
ً
رجال ال يتأملون ،ويف طاقتهم أن ليت حظي يسوقني أبدًا حيث ألتقي أمثالكم
يشاركوني آمايل ووالئمي وملذاتي.
لقد قمت بأعمال كثرية يف سبيل املتأملني ،ولكن كنت أرى أن األفضل من هذا
يرس إال ً
قليل منذ وجوده ،وما زيادة معرفتي يف تمتعي برسوري .فإن اإلنسان لم َّ
من خطيئة حقيقية إال هذه الخطيئة.
إذا نحن تعلمنا كيف نزيد يف مرستنا فإننا نفقد معرفتنا باإلساءة إىل سوانا
وباخرتاع ما يسبب اآلالم.
109
ذلك ما يدعوني إىل غسل يدي إذا أنا مددتها ملتألم ،بل وإىل تطهري روحي ً
أيضا؛
ألنني أخجل لخجله وتؤملني مشاهدتي آلالمه ،وألنني جرحت مع َّزة نفسه بال
رحمة عندما مددت له يدي.
إن عظيم اإلحسان ال يو ِّلد االمتنان بل يدعو إىل إيقاد الحقد ،وإذا تغلب تافه
ً
ناهشا. اإلحسان عىل النسيان فإنه يصبح دودًا
ال تقبلوا شيئًا دون احرتاس ،وحكموا تمييزكم عندما تأخذون ،ذلك ما أشري به
عىل من ليس لهم ما يبذلونه للناس.
أما أنا فممن يبذلون العطاء ،وأحب أن أعطي األصدقاء كصديق ،أما األبعدون
فليتقدموا من أنفسهم القتطاف األثمار من دوحتي فليس يف إقدامهم عىل األخذ ما
يف قبولهم العطاء من مهانة لكرامتهم.
غري أنه من الالزب أن يُقطع دابر املتسولني؛ ألن يف الجود عليهم من الكدر ما
يوازي كدر انتهارهم وحرمانهم.
وكذلك هو حال الخطاة وأهل الضمائر املضللة؛ فإن تبكيت الضمري يحفز
اإلنسان إىل النهش وإيقاع األذى.
ورشٌ من كل هذا األفكار الحقرية ،وخري لإلنسان أن ييسء ً
عمل من أن تستويل
املسكنة عىل تفكريه.
إنكم تقولون« :إن يف التفكري امللتوي كثريًا من االقتصاد يف رش األعمال ».وما
يستحسن االقتصاد يف مثل هذا.
إن لرش العمل أ َكالنًا والتهابًا وطفحً ا كالقروح ،فهو ح ٌّر ورصيح؛ ألنه يعلن
نفسه دا ًء كما تعلن القروح ،يف حني أن الفكرة الدنيئة تختفي كنوامي الفطر،
وتظل منترشة حتى تودي بالجسم كله ،ومع هذا فإني أ ُ ُّ
رس يف أذن من تم َّلكه
الوسواس الخناس« :إن من الخري أن تدع الوسواس يتعاظم فيك؛ ألن أمامك أنت
110
ً
سبيل يوصلك إىل االعتالء». ً
أيضا
مما يؤسف له أن يكون جهل بعض اليشء خريًا من إدراك كله ،غري أن من
ُّ
يشف حتى تبدو بواطنه ،ولكن ذلك ال يربر طموحنا إىل استكناه الناس من
مقاصده ،ومن الصعب أن نعيش مع الناس ما دمنا نستصعب السكوت.
إن ظلمنا ال ينزل بمن تنفر منه أذواقنا ،بل يسقط عىل مَ ن ال يعنينا أمره.
وبالرغم من هذا ،إذا كان لك صديق يتألم فكن ملجأ آلالمه ،ولكن ال تبسط له
فراشا وثريًا بل ً
فراشا خشنًا كالذي يتوسده املحاربون ،وإال فما أنت مجديه نفعً ا. ً
وإذا أساء إليك صديق فقل له :إنني أغتفر لك جنايتك عيلَّ ،ولكن هل يسعني
أن أغفر لك ما جنيته عىل نفسك بما فعلت؟
هكذا يتكلم عظيم الحب؛ ألنه يتعاىل حتى عن املغفرة واإلشفاق.
علينا أن نكبح جماح قلوبنا؛ كيال تجر عقولنا معها إىل الضالل.
أين تجىل الجنون يف األرض بأشد مما تجىل بني املشفقني؟ بل أي رضر لحق
بالناس أشد من الرضر الناشئ عن جنون الرحماء؟
وي ٌل لكل محب ليس يف محبته ربوة ال يبلغها إشفاق الرحماء.
قال يل الشيطان يومً ا :إن للرب جحيمً ا هو جحيم محبته للناس.
وقد سمعت هذا الشيطان يقول أخريًا :لقد مات اإلله وما أماته غري رحمته.
احرتسوا من الرحمة؛ ألنها ال تلبث حتى تعقد فوق اإلنسان غمامً ا متلبدًا ،وما
أنا بجاهل ما تنذر به األيام.
احفظوا هذه الكلمة ً
أيضا :إن املحبة العظمى تتعامى عن رحمتها؛ ألن لها
هدفها األسمى وهو خلق من تحب.
إنني أقف نفيس عىل حبي ،وكذلك يفعل أمثايل :هذا ما يقوله كل مبدع،
111
واملبدعون قساة القلوب.
هكذا تكلم زارا … الرحماء
لقد بلغني ،أيها الصحاب ،قول الناس« :أفما ترون زارا يمر بنا كأنه يمر بني
قطيع من الحيوانات».
وكان أوىل بهم أن يقولوا :إن من يطلب املعرفة يمر بالناس مروره بالحيوانات.
إن طالب املعرفة يرى اإلنسان حيوانًا له وجنتان حمراوان.
و ِل َم يراه هكذا؟ أفليس ألنه كثريًا ما علته حمرة الخجل؟
هذا ما يقوله طالب املعرفة أيها الصحاب :إن تاريخ اإلنسان عار يف عار.
ولذلك يفرض الرجل النبيل عىل نفسه أال يلحق إهانة بأحد ألنه يستحيي جميع
املتأملني.
إنني والحق أكره الرحماء الذين يطلبون الغبطة يف رحمتهم ،فإذا ما قيض عيل َّ
بأن أرحم تمنيت أن تُجهل رحمتي وأال أبذلها إال عن كثب .أحب أن أسرت وجهي
عند إشفاقي وأن أسارع إىل الهرب دون أن أعرف ،فتمثلوا بي أيها الصحاب.
ً
رجال ال يتأملون ،ويف طاقتهم أن ليت حظي يسوقني أبدًا حيث ألتقي أمثالكم
يشاركوني آمايل ووالئمي وملذاتي.
لقد قمت بأعمال كثرية يف سبيل املتأملني ،ولكن كنت أرى أن األفضل من هذا
يرس إال ً
قليل منذ وجوده ،وما زيادة معرفتي يف تمتعي برسوري .فإن اإلنسان لم َّ
من خطيئة حقيقية إال هذه الخطيئة.
إذا نحن تعلمنا كيف نزيد يف مرستنا فإننا نفقد معرفتنا باإلساءة إىل سوانا
وباخرتاع ما يسبب اآلالم.
ذلك ما يدعوني إىل غسل يدي إذا أنا مددتها ملتألم ،بل وإىل تطهري روحي ً
أيضا؛
112
ألنني أخجل لخجله وتؤملني مشاهدتي آلالمه ،وألنني جرحت مع َّزة نفسه بال
رحمة عندما مددت له يدي.
إن عظيم اإلحسان ال يو ِّلد االمتنان بل يدعو إىل إيقاد الحقد ،وإذا تغلب تافه
ً
ناهشا. اإلحسان عىل النسيان فإنه يصبح دودًا
ال تقبلوا شيئًا دون احرتاس ،وحكموا تمييزكم عندما تأخذون ،ذلك ما أشري به
عىل من ليس لهم ما يبذلونه للناس.
أما أنا فممن يبذلون العطاء ،وأحب أن أعطي األصدقاء كصديق ،أما األبعدون
فليتقدموا من أنفسهم القتطاف األثمار من دوحتي فليس يف إقدامهم عىل األخذ ما
يف قبولهم العطاء من مهانة لكرامتهم.
غري أنه من الالزب أن يُقطع دابر املتسولني؛ ألن يف الجود عليهم من الكدر ما
يوازي كدر انتهارهم وحرمانهم.
وكذلك هو حال الخطاة وأهل الضمائر املضللة؛ فإن تبكيت الضمري يحفز
اإلنسان إىل النهش وإيقاع األذى.
ورشٌ من كل هذا األفكار الحقرية ،وخري لإلنسان أن ييسء ً
عمل من أن تستويل
املسكنة عىل تفكريه.
إنكم تقولون« :إن يف التفكري امللتوي كثريًا من االقتصاد يف رش األعمال ».وما
يستحسن االقتصاد يف مثل هذا.
إن لرش العمل أ َكالنًا والتهابًا وطفحً ا كالقروح ،فهو ح ٌّر ورصيح؛ ألنه يعلن
نفسه دا ًء كما تعلن القروح ،يف حني أن الفكرة الدنيئة تختفي كنوامي الفطر،
وتظل منترشة حتى تودي بالجسم كله ،ومع هذا فإني أ ُ ُّ
رس يف أذن من تم َّلكه
الوسواس الخناس« :إن من الخري أن تدع الوسواس يتعاظم فيك؛ ألن أمامك أنت
ً
سبيل يوصلك إىل االعتالء». ً
أيضا
113
مما يؤسف له أن يكون جهل بعض اليشء خريًا من إدراك كله ،غري أن من
ُّ
يشف حتى تبدو بواطنه ،ولكن ذلك ال يربر طموحنا إىل استكناه الناس من
مقاصده ،ومن الصعب أن نعيش مع الناس ما دمنا نستصعب السكوت.
إن ظلمنا ال ينزل بمن تنفر منه أذواقنا ،بل يسقط عىل مَ ن ال يعنينا أمره.
وبالرغم من هذا ،إذا كان لك صديق يتألم فكن ملجأ آلالمه ،ولكن ال تبسط له
فراشا وثريًا بل ً
فراشا خشنًا كالذي يتوسده املحاربون ،وإال فما أنت مجديه نفعً ا. ً
وإذا أساء إليك صديق فقل له :إنني أغتفر لك جنايتك عيلَّ ،ولكن هل يسعني
أن أغفر لك ما جنيته عىل نفسك بما فعلت؟
هكذا يتكلم عظيم الحب؛ ألنه يتعاىل حتى عن املغفرة واإلشفاق.
علينا أن نكبح جماح قلوبنا؛ كيال تجر عقولنا معها إىل الضالل.
أين تجىل الجنون يف األرض بأشد مما تجىل بني املشفقني؟ بل أي رضر لحق
بالناس أشد من الرضر الناشئ عن جنون الرحماء؟
وي ٌل لكل محب ليس يف محبته ربوة ال يبلغها إشفاق الرحماء.
قال يل الشيطان يومً ا :إن للرب جحيمً ا هو جحيم محبته للناس.
وقد سمعت هذا الشيطان يقول أخريًا :لقد مات اإلله وما أماته غري رحمته.
احرتسوا من الرحمة؛ ألنها ال تلبث حتى تعقد فوق اإلنسان غمامً ا متلبدًا ،وما
أنا بجاهل ما تنذر به األيام.
احفظوا هذه الكلمة ً
أيضا :إن املحبة العظمى تتعامى عن رحمتها؛ ألن لها
هدفها األسمى وهو خلق من تحب.
إنني أقف نفيس عىل حبي ،وكذلك يفعل أمثايل :هذا ما يقوله كل مبدع،
واملبدعون قساة القلوب.
هكذا تكلم زارا …
114
الكهنة
وتمثَّل زارا مرور رهط من الكهنة أمامه ،فقال ألتباعه :هؤالء هم الكهنة،
فعليكم — وإن كانوا أعدائي — أن تمروا أمامهم صامتني ،وسيوفكم ساكنة يف
ً
أبطال ومن تحمَّ لوا شديد العذاب فهم لذلك يريدون أن يعذبوا أغمادها فإن بينهم
اآلخرين.
إنهم ألعداء خطرون ،وما من حقد يوازي ما يف اتضاعهم من ضغينة ،وقد
يتعرض من يهاجم إىل تلطيخ نفسه ،ولكن بيني وبينهم صلة الدم وأنا أريد أن
ً
مرشفا حتى يف دمائهم. يبقى دمي
وعاد زارا يتمثل أنهم مروا وانرصفوا ،فشعر بألم شديد قاومه لحظة حتى
سكن روعه ،فقال :إنني أشفق عىل هؤالء الكهنة ،وأنا ال أزال أنفر منهم ،ولكنني
تعودت اإلشفاق مرغمً ا نفوري منذ صحبت بني اإلنسان ،ومع ذلك فأنا أتألم
مع الكهنة؛ ألنهم يف نظري سجناء يحملون وسم املنبوذين يف العالم ،وما كبَّلهم
مخلصا لهم ،وما أصفادهم إال الوصايا الكاذبة والكلمات ً باألصفاد إال من دعوه
الوهمية ،فليت لهؤالء مَ ن يُخ ِّلصهم من مخ ِّلصهم.
لقد الحت لهؤالء الناس جزيرة يف البحر عىل حني ثارت عليهم زوبعة؛ فنزلوا
إليها فإذا هم عىل ظهر تنني نائم عىل العباب.
وهل من تنني أشد خط ًرا عىل أبناء الحياة من تنني الوصايا والكلمات الوهمية،
ً
مفرتسا طويل حتى حان وقت انتباه التنني؟ وها هو يهب ً وقد كمن فيها املقدور
جميع من بنوا مساكنهم عىل ظهره.
انظروا إىل املساكن التي بناها هؤالء الكهنة ،وقد أسموها كنائس وما هي إال
115
كهوف تنبعث روائح التعفن منها ،وهل للروح أن ترتفع إىل مستواها تحت ألالء
هذه األنوار الكاذبة ويف هذا الجو الكثيف ،حيث ال يسود إال عقيدة تَ ِصم الناس
بالخطيئة وتأمرهم بصعود درجات الهيكل ً
زحفا عىل الركب.
إنني ألفضل أن أنظر إىل اللحظات الفاحشة من أن أرى هذه العيون أطبقت
أجفانها معلنة خشوعها واستغراقها.
من ذا الذي اخرتع هذه الكهوف وهذه الدرجات يرقاها النادمون زاحفني ،أهي
من إيجاد من استحيوا من صفاء السماء فلجئوا إىل االستتار؟
لن أعود بقلبي أللج مساكن هذا اإلله إال إذا انثملت قبابها ،واخرتقها نور السماء
الصافية لتتكشف عن الشقائق الحمراء النابتة عىل جدرانها املتهدمة.
لقد أراد هؤالء الكهنة أن يعيشوا كأشالء أموات؛ فرسبلوا جثثهم بالسواد فإذا
هم ألقوا مواعظهم انترشت منها رائحة اللحود.
إن من يجاور هؤالء الناس فكأنما هو ساكن عىل ضفة األنهار السوداء حيث ال
يسمع إال نقيق الضفادع الحزين.
ليسمعني هؤالء الناس نشيدًا غري هذا النشيد ألم ِّرن نفيس عىل االعتقاد
أن أتْباع هذا املخلص قد ظفروا بالخالص.
بمخ ِّلصهم؛ إذ ال يلوح يل َّ
لكم أتمنى أن أراهم عراة ،وهل لغري الجمال أن يدعو الناس إىل التوبة ،ولكنهم
عبارة عن فجائع مسترتة ال يسعها أن تجتذب إىل اإليمان أحدًا.
والحق أن مخليص هؤالء الكهنة نفسهم لم ينحدروا من سماء الحرية ،وما
وطئوا مسالك املعرفة قط ،فما كانت حكمتهم إال نسيجً ا مألته الخروق َّ
رقعوه بما
أوجد جنونهم من آلهة ،لقد أغرقتهم حكمتهم يف بحرية اإلشفاق ،فهم كلما زفروا
فيها أرسلوا بجثة عظمى تطفو عىل سطحها.
لقد زعق هؤالء الرعاة بقطعانهم فمضت متدافعة يف فجوة واحدة ،وقد عال
116
رصاخها كأن التوصل إىل مخارج املستقبل ممتنع من غري هذه الفجوة الضيقة.
أما والحق ما هؤالء الرعاة إال فريق من هذه السائمة ،وقد ضاقت عقولهم ورحبت
نفوسهم ورسعان ما تصغر العقول إذا كربت النفوس.
لقد تركوا عىل كل معرب اجتازته أرجلُهم آثار الدماء؛ إذ كانوا يستلهمون
جنونهم ليعلموا الناس أن الدماء تقوم شاهدة للحق ،وقد جهلوا أن أفسد شهادة
تقوم للحق إنما هي شهادة الدم؛ ألن الدم يقطر سمًّ ا عىل أنقى التعاليم فيحولها
إىل جنون وإىل أحقاد.
دليل من اقتحام أحد الناس للهب يف سبيل تعاليمه ،وهل ملثلأفتقيمون للحق ً
رأس بارد هذا التعليم ما للعقيدة التي تتولد متقدة من لهبها نفسه؟ إذا ما تالقى ٌ
بقلب مضطرم نشأت من التقائهما تلك العاصفة التي يدعوها الناس مخ ِّل ً
صا،
ول َك ْم وجد عىل األرض من رجل أعرق منشأ وأرفع مقامً ا ممن يدعوهم الشعب
مخلصني ،وما كان هؤالء املخلصون إال عاصفات كاسحات تهب متوالية عىل
األرض.
إذا ما كنتم تنشدون سبل الحرية ،أيها اإلخوة ،فعليكم أن تنقذوا أنفسكم حتى
ممن يفوقون هؤالء املخلصني عظمة ومجدًا ،فإن اإلنسان املتفوق لم يظهر عىل
رجل عن كثب وهما عاريان فظهرا األرض بعد .لقد حدَّقت بأعظم رجل وبأحقر ٍ
ً
توغل يف املعائب البرشية من اآلخرين. لعياني متشابهني ،بل رأيت أعظمهما أشد
هكذا تكلم زارا …
117
الفضالء
ال ينبه الشعور الغافل إال اإلرعاء واإلبراق ،وما تكلم الجمال إال بنربات هامسة
ً
انتباها. ال تنفذ إال إىل أشد األرواح
أسمعتني عصمتي اليوم ضحكة تعالت فيها قهقهة الجمال السامية ،فجمايل
يسخر بكم أيها الفضالء؛ إذ سمعته يقول :إنهم يطلبون لفضائلهم ثمنًا.
إنكم تتقاضون ثمن فضيلتكم وتطالبون بالجزاء ،أيها الفضالء ،طامحني إىل
بدل من أماكن يف األرض ،وإىل الظفر باألبدية ً
بدل من امتالك أماكن يف السماءً ،
الدهر الزائل.
إنكم لتحقدون عيلَّ؛ ألنني أعلم الناس أن ليس هنالك ال حسيب وال مثيب،
والحق أنني أمتنع عن القول بالثواب ،بل أذهب إىل أبعد من هذا فأقول أن ليس
للفضيلة ما تجزي به نفسها جميل الجزاء.
دسا يف غاية كل أمر ،بل حُ رشَا
إن ما يؤملني هو أن العقاب والثواب قد د َُّسا ًّ
حرشًا يف أعماق نفوسكم ،أيها الفضالء ،ولكن لكلمتي أن تَلِج هذه النفوس
كقرن الوعل وكالسكة تشق األرض لتحرثها .فلتتكشف نفوسكم عن ِ ذاهبة فيها
خفاياها أمام النور؛ ألن الحقيقة لن تنفصل عن الضالل فيكم حتى تنطرحوا
عراة تحت شعاع الشمس .ذلك ألن حقيقة ذاتكم إنما هي أطهر من أن تسمح
بتدنسكم بكلمات االنتقام والعقاب واملكافأة واملقابلة باملثل.
إنكم تحبون فضيلتكم كما تحب األم طفلها ،وهل سمعتم أن أمًّ ا طلبت مكافأة
عىل عطف األمومة فيها؟
هل فضيلتكم إال ذاتكم نفسها وهي أعز ما لكم ،وما أمنيتكم إال أمنية الحلقة
118
التي ال تلتوي وتستدير إال ليصبح آخرها ً
أول لها.
إن كل عمل ينشأ عن فضيلتكم إنما هو بمثابة نور كوكب يعروه االنطفاء ،فما
يزال نوره يخرتق مجراه يف األفالك ،وليس من حد ينتهي سريه إليه ،وهكذا لن
تزال أشعة فضيلتكم سائرة يف سبيلها حتى بعد انتهاء عملها وتواريه يف عالم
النسيان؛ ألن إشعاع الفضيلة مستمر ال يعروه زوال.
لتكن فضيلتكم تعبريًا عن ذاتكم وما تلك غريبة عن هذه فال تحسبوا أنها ِج ْل ٌد
ورداء.
هذه هي حقيقة روحكم الكامنة أيها العقالء ،ولكن من الناس من يخيل له
أن الفضيلة عبارة عن تشنج تحت السياط الجالدة ،ولطاملا سمعتم صياح هؤالء
الواهمني.
ومن الناس من يرى الفضيلة يف الكسل والرذيلة ،وما ينتبه عدلهم إال عند ما
يتثاءب حقدهم وحسدهم ،عندئذ يفركون أجفانهم وقد أثقلها النعاس.
من الناس من تشدهم شياطينهم إىل أسفل فكلما تدهوروا عىل الدركات زادت
أحداقهم توهجً ا وتزايد شوقهم إىل ربهم .إن صوت هؤالء املتدهورين يبلغ آذانكم،
أيها الفضالء ،وهم يصيحون :إن كل ما هو خارج عن كياني إنما هو الله وإنما
هو الفضيلة.
وهنالك آخرون يتقدمون مثقلني مقرقعني كأنهم عجالت تحمل صخو ًرا إىل
الوادي ،وهؤالء الناس ال ينون يتكلمون عن الفضيلة ،وما الفضيلة يف عرفهم إال
عبارة عن كابح عجالتهم.
وهنالك قوم أشبه بالساعات يربط زنربكها فتسمعك تكتكتها ،وهم يريدون أن
تُدعى حركتهم اآللية فضيلة .إنني ألهو بمشاهدة مثل هذه الساعات؛ ألنني ما
صادفتها مرة إال ربطت زنربكها بتهكمي وأكرهتها عىل تحريك رقاصها.
119
وهنالك املغرتون بذرة من العدل ترتفع فيهم عىل جبل من الدعوى ،فرتاهم
يجدفون عىل كل يشء إىل أن يغرقوا العالم بظلمهم ،وما تخرج كلمة الفضيلة
من أفواه هؤالء الناس إال وتحسب أنهم يتجشئونها ،وإذا قال أحدهم :لقد عدلت.
فكأنه يقول :انتقمت.
هؤالء من يريدون أن يفقئوا أعني أعدائهم بفضيلتهم ،وما يطلبون من االعتالء
إال إسقاط سائر الناس.
وهنالك من يدب إليهم الفساد كأنهم ماء آسن يف املستنقعات ،فهؤالء الناس
يعلنون أنهم ال ينهشون أحدًا ويتحاشون االلتقاء بالناهشني ،فإذا عرض عليهم
أي رأيٍّ أخذوا به تفاديًا لكل أخذ ورد.
وهنالك عشاق الحركات املعتقدون بأن الفضيلة نوع من اإليمان ،فرتاهم يف كل
حني جاثني عىل ركبهم وقد قبضت إحدى راحتيهما عىل األخرى تمجيدًا للفضيلة،
وما يدرك قلبهم منها شيئًا.
وهنالك من يرون الفضيلة يف القول بلزوم الفضيلة ،وهم ال يعتقدون إال بلزوم
ردع الرش بالقوة.
وبعض من امتنع عليهم إدراك ما يف اإلنسان من صفات عليا ال يذكرون
الفضيلة إال عندما ما يحدقون بما فيه من دنايا ،وهكذا ال تنشأ فضيلة هؤالء
القوم إال من عيوب عيونهم.
من الناس مَ ن يطلب املعرفة وتقويم ما التوى فيه فيدعو هذه النزعة فضيلة،
رأسا عىل عقب فيدعو هذه الرغبة فضيلة ً
أيضا، ومنهم مَ ن يطلب قلب كيانه ً
وهكذا ترى الجميع يعتقدون بوجود الفضيلة يف ناحية من نواحي كيانهم ،وتراهم
يتجهون إىل معرفة ما فيهم من خري ورش .غري أن زارا قد جاء إىل جميع هؤالء
املخادعني وإىل جميع هؤالء املجانني؛ ليقول لهم إنهم ال يعرفون عن الفضيلة
شيئًا وأن ليس يف وسعهم أن يعرفوها.
120
ما أتى زارا إال ليشعركم بأنكم تعبتم من تكرار األقوال القديمة التي علمكم
إياها املخادعون واملجانني ،فينفركم من كلمات املكافأة واملقابلة باملثل والعقاب
واالنتقام يف العدل؛ لتقلعوا عن القول بصالح األعمال عند تجردها عن الغايات.
لتكن ذاتكم متجلية يف عملكم كما تتجىل األم يف طفلها ،وليكن هذا التعبري ما
تع ِّرفون الفضيلة به.
والحق أنني انتزعت منكم كثريًا من أقوالكم وسلبتكم أعز ما تتلهون بمضغه
عن الفضيلة؛ لذلك أراكم تزو ُّرون كاألطفال ،وقد كنتم مثلهم تتسلون بألعابكم
عىل الشاطئ فطغت موجة انتزعتها من بني أيديكم وحملتها إىل العباب ،فها أنتم
تعولون اآلن كهؤالء األطفال ،غري أن األمواج ستكر راجعة حاملة إليهم ألعابًا
أيضا أيها الصحاب ستسلون جديدة ناثرة بني أيديهم األصداف املخططة ،وأنتم ً
مثلهم حني تأتيكم التعزية ناثرة بني أيديكم األصداف املخططة.
هكذا تكلم زارا …
121
الوغد
ما الحياة إال ينبوع مرسة ،ولكن أيان رشب الوغد فهنالك جدول مسموم أحب
كل ما هو نقي ،ولكنني ال أحتمل رؤية األشداق تتثاءب معلنة ظمأ األرجاس ،وقد
جاءوا يسربون أعماق البرئ بأنظارهم فانعكست يف قرارتها ابتسامتهم الشنعاء
توجه سخريتها إيل َّ.
لقد دنسوا املياه املقدسة بأرجاسهم ،وما تورعوا فدعوا أحالمهم القذرة رسو ًرا
فدسوا سمومهم حتى يف البيان.
إن اللهب يتعاىل مشمئ ًزا عندما يعرضون قلوبهم املائعة عليه ،والروح نفسها
تغيل وتتصاعد بخا ًرا عندما يقرتب األوغاد من النار ،واألثمار نفسها يفسد طعمها
وترتاخى عندما يلمسونها بأيديهم ،وإذا ما حدجوا بأنظارهم األشجار املثمرة
فإنها لتجف عىل أعراقها.
ل َك ْم من مُعرض عن الحياة لم ينفره منها سوي الوغد الزنيم ،فعافها إذ لم يشأ
أن يقاسم هذا الوغد ما عليها من ماء ولهب وأثمار.
ً
عائشا بني الوحوش؛ كيال ً
متحمل السعار ل َك ْم من شارد لجأ إىل الصحراء
يجلس إىل برئ يدور بها حداة العِ يس بما عليهم من أقذار.
مكتسح أشبه بالربد املتساقط من السحاب ،وال أمنية له
ٍ ول َكم جاء األرض من
سوى رضب قدمه يف أشداق األوغاد ليسد حناجرهم.
ما صعب عيل َّ االعتقاد باحتياج الحياة إىل العداء والقتل واالستشهاد كما صعب
عيل َّ التسليم برضورة وجود الوغد الزنيم فيها.
أمن رضورة الحياة هذه الينابيع املسممة والنريان املشبوبة تفوح بالروائح
122
الكريهة ،وهذه األحالم الرجسة وهذه الديدان ترتعي يف خبز الحياة؟
ليس العداء ما قرض حياتي بل الكراهة واالشمئزاز ،ول َكم استثقلت الفكر
نفسه عندما رأيت شيئًا من الفكر يف رأس الوغد الزنيم.
لقد وليت ظهري للحاكمني عندما أدركت معني الحكم يف هذه األزمان ،وتأكدت
أنه متاجرة بالقوة ومساومة األوغاد عليها.
استوىل اليأس عيل َّ فاجتزت مراحل املايض واملستقبل وأنا أس ُّد أنفي؛ إذ انترشت
عيل َّ منهما روائح البيان السخيف.
طويل كالكسيح أصابه الصمم والعمى والخرس؛ كيال أعايش أوغادً لقد عشت
السلطة وزعانف األقالم واملرسات.
ارتفع فكري درجة فدرجة وهو يعاني من حذره ما يعاني وال عزاء له إال
بالغبطة ،وهكذا مرت حياة األعمى وهو يتوكأ عىل عصاه.
ما حدث يل يا ترى؟ وما الذي أنقذني من اشمئزازي وأعاد النور إىل عيني؟
وكيف تمكنت من ارتقاء املرتفعات حيث الينبوع الذي ال يحيط به األوغاد؟
جناحي وأوجدت يل القوة لالهتداء إىل مفجر
َّ أهي الكراهة نفسها استنبتت
الينابيع؟ والحق أنني ارتقيت الذروة ،ولو لم أبلغها ملا وجدت ينبوع الغبطة
والرسور.
لقد وجدته ،أيها اإلخوة ،فرأيته يتدفق عىل الذروة غبطة وحبو ًرا ،فاهتديت إىل
املكان الذي يُتاح فيه لإلنسان أن يروي ظمأه دون أن يعكر عليه األوغاد األدنياء.
إنك لتسيل بشدة ،أيها الينبوع املتفجر بالغبطة فتفرغ الكأس التي تملؤها
ً
دهاقا.
عيل َّ أن أتمرن عىل االقرتاب منك بتؤدة ،أيها الينبوع ،فإن قلبي يندفع بعنف إىل
مسيلك .لقد استوىل اليأس مع الحبور عىل هذا القلب الذي تمر عليه بح ِّرها أيا ُم
123
صيفه ،فهو يتشوَّق إىل مياهك تنزل عليه بردًا وسالمً ا.
لقد انقضت أحزان ترددي يف الربيع وأذاب الصيف ثلوج نقمتي ،فأصبحت
وكل جوارحي تتوق إىل االصطياف .إن خري الراحة ما تُنتجع يف أعايل الجبال قرب
الينابيع الباردة .إيل َّ أيها األصحاب لنحول هذه الراحة إىل غبطة وحبور فهذه
ذروتنا ،وهنا موطننا حيث نعتصم بالصخور فال يبلغها األرجاس وال يصل إليها
عطشهم املدنس.
أرسلوا أنظاركم الطاهرة عىل ينبوع مرستي ،أيها األصحاب ،فإنها لن تعكره
بل تُبقي عىل نقائه فيبتسم لكم.
فلنبن لنا ًّ
عشا بني أغصانها فتجيء إلينا العقبان ِ هنا تتعاىل دوحة املستقبل،
حاملة لنا الغذاء ،نحن املنفردين.
ذلك عزاء ال يستطيع األرجاس مقاسمتنا إياه ،فهو النار تحرق أشداقهم ،وما
نعد هنا مساكن للمدنسني ،فإن سعادتنا تلفح أجسادهم وأرواحهم ،ونحن نريد
أن نحيا فوقهم فنهبُّ كالرياح يف مسارح العقبان ومطالع الشموس.
إنني سأعصف كالريح الرصرص عىل األرجاس فأُخمد أنفاسهم بأنفايس ،ذلك
هو املقدور .فما زارا إال ريح عاصفة ترهق األعماق ،وهو ينصح أعداءه وكل
متقيئ نافث بأال يبصقوا يف وجه الرياح.
هكذا تكلم زارا …
124
العناكب
هذا هو العنكب ،فإذا كنت ترغب يف مشاهدته فاملس نسيجه ليتحرك ويرسع
بالظهور ،أهال بك أيها العنكب ،إنني أرى عىل ظهرك شعا ًرا أسود مثلث الزوايا،
وما يخفى عني ً
أيضا ما تضمر من النقمة يف رسيرتك.
إن لسعادتك بقعً ا فاحمة عىل الجلود ،ولها سمها املضلل يف النفوس ،أيها
العنكب ،إنني أخاطبكم بالرموز ،أيها العناكب املضللون املبرشون باملساواة ،فما
أنتم يف نظري إال مستودع لعواطف االنتقام.
سأكشف عن مكانكم وأنا أواجهكم بقهقهة تسقط عليكم من الذري التي
أتسنَّمها ،وهأنذا أمزق نسيجكم حتى إذا تملككم الغضب خرجتم من مغاور
أكاذيبكم ،وتدفقت نقمتكم بكلمة العدل التي تتفوهون بها.
لقد وجب عيل َّ أن أنقذ اإلنسان من عاطفة االنتقام ،وهذا الواجب هو املعرب املؤدي
إىل أرشف اآلمال ينتصب فوقه قوس قزح بعد هبوب العواصف الكاسحات .ولكن
إرادة العناكب ال تتجه إىل هذه الغاية ،فهم يتناجون فيما بينهم قائلني :ال عدل إال
يف عواصف انتقامنا تهبُّ عىل العالم لتلقي العار عىل كل من ليس منا.
وهم يقولون ً
أيضا :ما من فضيلة إال يف طلب املساواة ،فلنرفع عقريتنا ضد كل
سلطان.
آي كهَّ ان املساواة! لقد تسلط عليكم جنون عجزكم ،فهتفتم بهذه املساواة وقد
كمنت شهوة عتوكم واستبدادكم وراء ما تعلنون من الفضائل.
إنني أرى فيكم الغرور املتمرمر والحسد املقيم ،ولعل الحسد الذي رعى قلوب
125
أسالفكم يتعاىل منكم اآلن لهبًا يندلع بجنون االنتقام ،وما األبناء إال مظهر ما
أضمر اآلباء ،ول َكم أفىش االبن َّ
رس أبيه!
إن لهؤالء الناس مظهر املتحمسني ،وما تلهب حماسهم املحبة بل االنتقام ،وإذا
ما بدت لك منهم رصانة ومرونة ،فما مصدرهما فيهم العقل بل الحسد املهيب
بهم إىل التفكري ،ودليل حسدهم هو أنهم يندفعون دائمً ا إىل أبعد من مراميهم؛
فيطرحهم العياء عىل وساد الثلوج.
وما تسمع لهؤالء الناس أنينًا يخلو من نربات االنتقام ،فكل ما يصدر عنهم من
مديح ينطوي عىل أذية ،فهم يرون منتهي السعادة يف إقامة أنفسهم قضاة عىل
العاملني ،فأصغوا إىل نصيحتي أيها األصدقاء :احذروا من تغ َّلبت عليهم غريزة
إنزال العقاب؛ ألنهم متحدرون من أفسد األنواع وعىل وجوههم سيماء الجالدين.
احذروا من ال ينقطعون عن ذكر عدالتهم ،فإن نفوسهم خالية من كل صفة
حميدة ،وإذا ما هم ادعوا الصالح واإلنصاف فال تنسوا أنهم لم يتخذوا بني
الفريسيني مقامهم إال ملا يشعرون به من عجز.
إنني أربأ بنفيس ،أيها الصحاب ،أن تنزلوها بني هؤالء الناس فال تميزون بيني
وبينهم .فهنالك من يذيعون تعاليمي عن الحياة ،وهم يف الوقت نفسه ينادون
باملساواة وينتمون إىل العناكب املسمومة ،هم يدافعون عن الحياة ولكنهم
يعرضون عنها قابعني يف مغاورهم؛ ليتمكنوا من اجرتاح الرشور واإليقاع بمن
يقبضون عىل زمام السلطة يف هذا الزمان ،وقد تعودوا إنذارهم بالسقوط ،ولو
ً
شكل آخر؛ ألنهم عرفوا أن السلطة كانت يف يد العناكب لكانت تعاليمهم تتخذ
فيما مىض أكثر مما عرف غريهم؛ كيف يوقدون املحارق ويرهقون مخالفيهم
اضطهادًا وتعذيبًا.
ال أريد أن أُحسب من هؤالء املنادين باملساواة ألن العدالة علمتني« :أن ال مساواة
بني الناس ».وأنه من الواجب أال يتساووا ،وليس يل أن أقول بغري هذا املبدأ وإال
126
فإن محبتي لإلنسان تصبح ادعا ًء ومينًا …
عىل الناس أن يسريوا عىل آالف الطرق وآالف املعابر مسارعني نحو آتي الزمان،
فتنشأ بينهم الحروب وتتسع شقة التفاوت بينهم عىل ممر السنني ،ذلك ما ألهمني
إياه حبي العميم.
يجب أن يقيم الناس يف أعماق رسائرهم م ً
ُثل عليا وأشباحً ا يجاهدون يف سبيلها،
فيسري الصالح والطالح والغني والفقري والرفيع والوضيع إىل التصادم بجميع ما
يف األرض من نظم؛ فتضطرم الحروب سالحً ا لسالح ورم ًزا لرمز ،ألن عىل الحياة
أن تتفوق أبدًا عىل ذاتها.
إن الحياة تتجه إىل االرتقاء بدعائمها ودرجاتها ،فهي تتطلع إىل اآلفاق البعيدة
ما وراء الجمال املقتعد عرش غبطته ،لتبلغ مستقرها يف أعايل الذرى.
إن الحياة بحاجة إىل ارتقاء املرتفعات ،فال غنى لها عن الدرجات والدركات؛
ليعارض املنخفضون املرتفعني ،إنها لفي حاجة إىل التفوق عىل ذاتها وهي
متجهة إىل االرتقاء.
انظروا ،أيها الصحاب ،ها هي مغارة العناكب وقد الحت فيها خرائب هيكل
قديم ِ
فأرسلوا عليه نظرات املستلهمني.
والحق أن من جمع أفكاره قديمً ا لريفعها رصحً ا من الصخر ينطح السحاب
كان كأحكم الحكماء ً
عارفا بأرسار الحياة.
إن الجمال نفسه ليقوم عىل التفاوت واملجالدة يف القوة والتفوق ،وهذا ما يعلمنا
ً
إرشاقا. إياه هذا الحكيم بأشد الرموز
ُ
الظلمة النور ويهاجم النو ُر هنا تتدافع القباب والنوافذ يف عراك جلل فتهاجم
الظلمة كأنهما إلهان ينازل أحدهما اآلخر.
أيضا يف مجال الجمال والثقة بالنفس .لنكن نحن ً
أيضا اقتدوا بهذا الرمز ،أنتم ً
127
أعداء فيما بيننا أيها الصحاب.
وليحشد كل منا قواه ليحارب اآلخرين.
وياله ،لقد أُصبت أنا ً
أيضا بلسعة العنكبة عدوتي القديمة ،فقد توصلت بثقتها
بنفسها وبجمالها اإللهي إىل نوال بناني بلسعتها ،وها هي تقول اآلن :ال بد من
إنزال العقاب ،ال بد من أن يأخذ العدل مجراه ،فإنك تغنيت بعظمة الرسائر ،فلن
ً
جزافا. يذهب إنشادك
أجل لقد َ
انتق ْ
مت ،وياله إنها ستوجه نفيس إىل عاطفة االنتقام.
تقدموا أيها الصحاب وقيدوني بهذا العمود كيال أتحول عن مبدئي ،فخري يل أن
ً
تمثال جامدًا من أن أهبَّ كعاصفة منتقمة. أصبح
لن يكون زارا عاصفة وإعصا ًرا ،فما هو إال َّ
رق ٌ
اص ولكنه ليس رقاص عناكب1
…
هوامش:
1ما تخبط زارا بمثل تخبطه يف هذا الفصل؛ فهو القائل بسحق الضعفاء
وتطهري األرض من الدخالء أو الذين يدعوهم بهذا االسم ،ولكنه اآلن ال يريد أن
اصا ال نتيجة لحركته عندمارق ًيكون عاصفة وإعصا ًرا ،فهو يكتفي بأن يكون َّ
يقتحم مبدأه نرصة الضعفاء واملطالبة بحق الشعوب ،غري أنه ال يصل إىل آخر
فصله حتى ي ُ
َنق َض بعبارة واحدة كل ما أراد إثباته.
128
مشاهير الحكماء
جميعكم أيها الحكماء املتمتعون بالشهرة قد خدمتم الشعب وما يؤمن به من
خرافات ،ولو أنكم خدمتم الحقيقة ملا ك َّرمكم أحد ،ومن أجل هذا احتمل الشعب
شكوككم يف بيانكم املنمق؛ ألنها كانت السبيل امللتوي الذي يقودكم إليه ،وهكذا
يوجد السيد لنفسه عبيدًا يلهو بضاللهم الصاخب ،وما اإلنسان الذي يكرهه
الشعب كره الكالب للذئب إال صاحب الفكر الحر عدو القيود الذي ال يتعبَّد ،وال
يلذ له إال ارتياد الغاب.
إن ما حسبه الشعب يف كل زمان روحً ا للعدل إنما هو العدو الكامن املرتصد
ً
افرتاسا ،وقد قيل يف كل زمان« :ال حقيقة لروح الحرية يستنبح عليها أشد كالبه
إال يف الشعب ،فويل ملن يطلبها خارجً ا عنه».
لقد أردتم أن تؤيدوا الشعب يف ما يبدي من خشوع وإجالل ،فدعوتم هذه املذلة
«إرادة الحق» فيا لكم من حكماء.
غري أنكم كنتم تقولون يف أنفسكم ،لقد نشأنا من الشعب وصوت الشعب هو
صوت الله ،فكنتم كالحمار الصبور املراوغ تعرضون وساطتكم عىل الشعب،
ول َكم من ذي سلطان أراد أن توافق عجلتُه َ
ذوق الشعب فقطر لج ِّرها حما ًرا
صغريًا ،حكيمً ا مشهو ًرا …
فيا مشاهري الحكماء ،إنني أطلب منكم أن تخلعوا عنكم ما تتلبسون به من
جلود األسود ،وجلود الوحوش الكارسة املخططة وفراء املستكشفني للمجاهل
والفاتحني؛ إذ ال يسعني أن أُومن بالحقائق التي تنادون بها ما لم تقلعوا عن
بذل التبجيل والتعظيم ،فما رجل الحق إال الضارب يف القفار وال إله له؛ ألنه
حطم بني جنبيه التبجيل والتعظيم ،وإذا هو تلفت ورمال الصحراء تحرق قدميه
129
إىل الواحات حيث يتدفق املاء الزالل ،ويمتد وارف الظالل ،وترتاح الحياة ملقية
عصا الرتحال ،فال يقتاده الظمأ إىل االتجاه نحوها طلبًا لالغتباط بني املغتبطني؛
ألنه يعلم أن لكل واحة أصنامها ،وما يريد األسد إال االنفراد محر ًرا من عبودية
األرباب ومن سعادة املستبدين ،بعيدًا عن اآللهة واملتعبدين وعن الخوف و ُمنْزليه
يف القلوب ،ذلك ما يصبو رجل الحق إليه ،وما عاش رجال الحق إال يف القفار
يسودونها بانطالق تفكريهم يف مجالها الوسيع ،وهل يف املدن إال مشاهري الحكماء
يتناولون خري الغذاء كذوات الرضع تُغذَّى لتُحلب .إنهم يج ُّرون عجلة الشعب وقد
ُكدنوا بها كالحمري.
وما أنا بالناقم عليهم ولكن ليعلموا أنهم َخ َد ٌم مشدودون إىل عجلة ،وما يرفع
من ذ ِّلهم توهج الذهب عىل العجلة التي يجرونها.
ولطاملا أخلص هؤالء الناس يف خدمتهم فاستحقوا الثناء؛ ألن الحكمة تقيض بأن
يفتش الخادم عن سيد يستفيد من خدماته.
لقد وجب أن يتسامي عقل سيدك وتعلو فضيلته؛ ألنك بهما تعلو أنت.
والحق أنكم قد علوتم بارتقاء عقل الشعب وفضيلته ،أيها الحكماء الخادمون
للشعب كما اعتىل هو بكم ،وما أُعلن هذا لتمجيدكم ،فإنكم قد بقيتم أنتم شعبًا
حتى يف فضائلكم ،وما تزالون شعبًا ال بصرية له وال يدرك للعقل معنى.
ً
تمزيقا ،وما تزداد الحياة معرفة إال بما تتحمل إنما العقل حياة تمزق الحياة
من آالم ،فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفني؟
ال يُسعَ د العقل إال إذا مُسح بالدموع وتُوج بالتضحية ،فهل كنتم لهذه الحقيقة
عارفني؟
إن عماء الرضير وتلمسه لطريقه إنما هو شهادة لقوة الشمس ،التي حدَّق بها
فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفني؟
130
عىل طالب املعرفة أن يتعلم البناء باستخدامه الجبال حجارة إلقامة رصحه ،وما
يصعب عىل العقل أن ينقل الجبال ،فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفني؟
131
نشيد الليل
يا لشقاء الواهبني … يا لظلمة شميس ويا لشوقي إىل االشتياق ويا لشدة املجاعة
يف شبعي.
إنهم يأخذون ما أهبهم ،ولكنني أبقى بعيدًا عن أرواحهم فإن بني الباذل واآلخذ
هوة عميقة ،ولعل أقرب األغوار قع ًرا أصعبها ردمً ا.
إن نوعً ا من الجوع ينشأ يف أحشائي فيحفزني إىل إيالم من أرسل إليهم أنواري،
فأتوق إىل سلب من أغدق عليهم هباتي ،وهكذا أتعطش إىل إيقاع األذية فأرد يدي
بعد أن أكون مددتها ،وأتردد تردد َّ
الشلل يف تدفقه نحو مراميه.
إن مثل هذا االنتقام يراود عظمتي ،ومثل هذا املكر ينشأ من عزلتي.
132
لقد فقدت السعادة يف العطاء لوفرة ما أعطيت ،وقد زهقت فضيلتي من نفسها
ومن جُ ودها .إن من يستمر عىل بذل الهبات مُهدد بفقد الحياء ،وال بد أن تتصلب
راحته ويتصلب قلبه.
مآقي تذوق الدموع عىل خجل املسرتحمني ،وها إن يدي قست حتى
َّ لم تعد
امتنع عليها أن تشعر بارتعاش األيدي إذا امتألت.
عيني وأين رقة قلبي ،فيا لوحدة جميع الواهبني ويا لصمت كل
َّ أين هي دموع
متلفع بالسناء.
ً
شموسا ال عداد لها تدور يف قفار األجواء مخاطبة بإشعاعها لبدات الظالم، إن
وأنا وحدي محروم من حديث هذه الشموس وبيانها.
وياله! أية عالقة يمكن أن تربط األنوار باألجرام املنرية من نفسها؟ فإن األنوار
تمر عليها وهي تحدجها بلفتات الجفاء وتميض ذاهبة يف سبيلها ،وهكذا تسري
جميع الشموس يف أجوائها نافرة من كل جرم منري باردة ال تحس أخواتها
بحرارتها.
إن الشموس تندفع كالعاصفات يف أبراجها متبعة ما اختطته إرادتها الجبارة،
ويف ذلك كتمان حرارتها وبرودتها.
هل غريك أيتها األجرام امللفعة بظالم الليل من يخلق حرارة من اللمعان؟ أنت
وحدك ترضعني أفاويق القوة من أثداء النور.
وياله إن الصقيع يدور بي ويدي تحرتق من لفحات الجليد ،فأنا مشتعل
بسعار ال يطفئ أواره غري عطشكم ،لقد سادت الظلمة فلماذا قيض عيل َّ أن أكون
ً
متعطشا إىل الظالم؟ نو ًرا منفردًا
لقد سادت الظلمة فتدفقت كالجداول أشواقي ،وهي تريد أن تهتف بما تضمر.
لقد أرخى الليل سدوله ،فتعاىل خرير املياه املتدفقة ولنفيس ً
أيضا ينبوعها
133
املتفجر.
لقد أرخى الليل سدوله فتعالت األناشيد من أفواه جميع املغرمني ،وما روحي
إال نشيد من هذه األناشيد.
هكذا تكلم زارا …
134
نشيد الرقص
ومر زارا بالغاب يومً ا ومعه صحبه فاكتشف وهو يفتش عن ينبوع مرجً ا
طا بني األشجار واألدغال ،وكان هنالك رهط من الصبايا يرقصن بعيدًا منبس ً
عن أعني الرقباء ،وإذ ملحن القادم وعرفنه توقفن عن الرقص ،ولكن زارا اقرتب
منهن وخاطبهن ً
قائل :داومْ َن عىل رقصكن ،أيتها اآلنسات الجميالت ،فما القادم
بمزعج للفرحني وما هو بعدو للصبايا .أنا من يدافع عن الله أمام الشيطان ،وما
الشيطان إال الروح الثقيل ،فهل يسعني أن أكون عدوًّا ملا فيكن من بهاء ورشاقة
وخفة روح؟
وهل يل أن أكون عدوًّا للرقص اإللهي ترسمه مثل هذه األقدام الضوامر
الرشيقات …؟
ال ريب يف أنني غابة اشتبكت فيها قاتمات األشجار ،وساد الحلك عىل أرجائها،
ُّ
تحف ولكن من يقتحم ظلماتي بال خوف ليجدن تحت رسواتي الرهيبات ً
طرقا
بجانبيها الورود ،وليجدن ً
أيضا اإلله الصغري الذي تشتاقه الصبايا منطرحً ا
بسكون قرب الينبوع وقد أغمض عينيه.
ً
طويل ليصطاد من لقد نام يف وقت الظهرية ،هذا اإلله املرتاخي ،ولعله سعى
الفراشات عددًا كبريًا.
ال يكدركن مني أيتها الراقصات الجميالت تأديبي لهذا اإلله الصغري ،ولعله
يصيح ويبكي ولكنه إله يجلب املرسة حتى يف بكائه ،فلسوف أقتاده إليكن
والدموع سائلة عىل خديه ليطلب إليكن أن ِّ
ترقصنه ،وإذا ما رقص فسأرافقه أنا
بإنشادي فما تجيء نغماتي إال هزيجً ا أصفع به الروح الثقيل ،روح الشيطان
املتعايل الذي يقول الناس إنه يسود العالم.
135
وهذه هي األغنية التي رفع زارا صوته بها بينما كان «كوبيدون» إله الحب
يرقص مع الصبايا الفاتنات:
ُ
هويت إىل غور بعيد القرار، لقد حدَّقت يومً ا يف عينيكِ ،أيتها الحياة ،فحسبتني
غري أنك سحبتني بشابك من ذهب وأطلقت قهقهة ساخرة عندما قلت إن غدرك ال
قرار له ،وأجبتني :هذا ما تقوله األسماك جميعها ،فهي إذ تعجز عن سرب األغوار
تحسبها ال قرار لها ،وهل أنا إال املتق ِّلبة النفور؟ وهل أنا إال امرأة ،وامرأة ال فضيلة
لها ،لقد تقوَّل الناس كثريًا عن صفاتي ،ولكنهم أجمعوا عىل أنني غري املتناهية،
املليئة باألرسار.
أيها الناس ،إنكم ترون فضائلكم يف َّ ،فأنتم ال قبل لكم بإدراك يشء آخر غريها
أيها الفضالء …
هذا ما كانت تقهقه به يف سخريتها تلك الحياة ،غري أنني ال أثق بها ،وال أصدق
ضحكها عندما تهجو نفسها.
وناجيت يومً ا حكمتي النفورة فقالت يل غاضبة :إنك تطلب الحياة وتشتاقها
وتحبها ،وذلك ما يحفز بك إىل بذل الثناء عليها.
ولوال أنني تمالكت نفيس لكنت رددت بعنف عىل حكمتي ،وأعلنت الحقيقة لها
وهي تغاضبني ،وهل من جواب أشد وقعً ا عىل الحكمة من أن تهتك رسائرها.
ما أحب شيئًا من صميم الفؤاد إال الحياة ،وال يبلغ حبي لها أشده إال حني
أكرهها ،وإذا ما أنا اندفعت إىل الحكمة ،وأغرقت يف االلتجاء إليها فما ذلك إال ألنها
تبالغ بتذكريي بالحياة ،فإن للحكمة عيني الحياة ولها ابتسامتها ،بل لها ً
أيضا
شابكها َّ
املذهب ،فما حيلتي بهما إذا تشابهنا إىل هذا الحد؟
وعندما سألتني الحياة عن الحكمة أجبتها :هي الحكمة يشتهيها اإلنسان بكل
قوته وال يشبع منها ،فهو يحدِّق فيها ليتبني وجهها من وراء القناع ويمد أصابعه
ً
متسائل عن جمالها وما يدريه ما هو هذا الجمال ،ومع هذا بني فرجات شباكها
136
فإن أقدم األسماك ال تنفك عن االنجذاب إىل طعمة شباكها فهي متقلبة شديدة
وترسح شعرها ،ولعلها رشيرة ومخادعة، ِّ املراس ،ول َكم رأيتها تعض عىل شفتها
بل لعل لها صفات املرأة بأجمعها فهي ال تبلغ أبعد مداها يف اجتذاب القلوب إال
عندما تهجو ذاتها …
وبعد أن قلت هذا عن الحكمة للحياة ،مرت عىل شفتيها ابتسامة رشيرة،
وغيَّضت من جفنيها قائلة :عمَّ ن تتكلم … لعلك تتكلم عني أنا … وهل لإلنسان
أن يعلن مثل هذه األمور بوجه من تعنيه حتى ولو كان ًّ
محقا ،فما قولك اآلن يف
حكمتك يا هذا …؟
وفتحت الحياة املحبوبة عينيها فحسبتني عدت إىل التدهور يف الهاوية البعيدة
القرار.
هذا ما تغنَّى به زارا وما انتهى الرقص وتوارت الصبايا عن أبصاره حتى تملكه
حزن عميق فقال :لقد اختفت الشمس وترطب املرج وقد بدأ الغاب يرسل لفحاته
مجهول يدور حويل ويحدجني ً
قائل :ألم تزل عىل قيد الحياة ً الياردات .إن شيئًا
حي بعد؟ وما هي فائدة هذه الحياة؟ ما هو مصدرك وإىل أين
يا زارا؟ وملاذا أنت ٌّ
مصريك أفليس من الجنون أن تبقى يف الحياة؟
وياله أيها الصحاب ،إن ما يتناجى يف َّ إنما هو َ
الغ َسق فاغتفروا يل شجوني لقد
جاء املساء فاغتفروا يل قدوم املساء …
هكذا تكلم زارا …
137
نشيد القبور
138
لقد أماتوك طلبًا لقتيل يا أطيار آمايل ،وصوبت الرشور سهامها نحوك لتصل
ً
مقتل مني؛ ألنك كنت أعز يشء ً
مخضبة بالدماء إىل قلبي فأصابت هذه السهام
لدي ،بل كنت كل ما أملك ،لذلك ُقيض عليك بالذبول يف صباك والزوال قبل أوانك.
لقد ُ
صوِّبت السهام إليك وأنت أنعم من الحرير ،وأضعف من ابتسامة تمحوها
نظرة قاسية.
فليسمع أعدائي ما أقول :إن القتل أخف جرمً ا من جنايتكم عيلَّ ،فقد سلبتموني
ما ال قبل يل باالستعاضة عنه بيشء ،ذلك ما أقوله لكم أيها األعداء ،أفما قتلتم
أحالم شبابي وحلتم دون إتياني بمعجزاتي؟ لقد سلبتم مني تفكريي ،وهأنذا
قصتم مدى ً
حامل معه لعنتي لكم أيها األعداء؛ ألنكم َّ أحمل هذا اإلكليل لتذكاره
أبديتي فانقطعت كأنها صوت ينقطع يف الزمهرير تحت جنح الظالم فما تسنَّى
يل أن أنظر إىل هذه األبدية َّإل ملحً ا؛ ألنها توارت عني بطرفة عني.
وأتت ساعة ناجتني فيها طهارتي قائلة :يجب أن تكون جميع الكائنات إلهية،
ِ
أرسلت إيل َّ األشباح املدنسة ،يا أيام الشباب ،فانقضت تلك السانحة وعادت ِ
وأنت
حكمة الشباب تقول يل« :يجب أن تكون جميع األيام مقدسة يف نظري ».وما هذه
الكلمة إال كلمة الحكمة املرحة ،وعندئذ أتيتم أيها األعداء فحولتم ليايل راحتي إىل
أرق وهموم ،فأين توارت هذه الحكمة املرحة؟
لقد كنت فيما مىض أتوقع السعادة فأرسلتم عىل طريقي بومة مروعة مشئومة؛
أماني العِ ذَاب.
َّ فتبددت
نذرت يومً ا أن أرجع عن كل كراهة ،فحولتم كل ما حويل إىل قروح ،فأين مضت
مُخلصات نذوري الطاهرات؟
لقد مررت عىل سبيل السعادة كفيف البرص ،فرميتم عىل طريق األعمى كومً ا
ً
كارها للطريق القديم الذي تلمسته ،وعندما توصلت إىل من األقذار؛ فأصبحت
القيام بأصعب أعمايل ،عندما تمكنت من االحتفال باالنتصارات التي تغلبت فيها
139
عىل ذاتي أهبتم بمن يحبونني إىل الهتاف قائلني بأنني أوقعت بهم أشد اآلالم.
والحق أنكم لم تنقطعوا عن ترشيد خري العامالت يف قفريي وتحويل جناها إىل
علقم مرير ،ول َكم أرسلتم إىل إحساني أشد املتسولني إلحاحً ا ،ودفعتم أهل القحة
ليطوفوا بإشفاقي ،وهكذا نلتم من فضيلتي وهي ممنعة بإيمانها.
َ
أقدس ما عندي محرقة للتضحية تسارعون يف تقواكم إىل وكنت كلما قد ُ
َّمت
ً
مدنسة خري ما قدست. إحراق أدسم ذبائحكم؛ لتتصاعد أبخرة شحمها
وطمحت يومً ا إىل الرقص متعاليًا بفني إىل ما وراء السبع الطباق ،فأفسدتم عيل َّ
أعز املنشدين لديَّ ،فرفع عقريته بأفظع األناشيد وقرع أسماعي بنغمات األبواق
الحزينة الباكية.
لقد كنت ً
قاتل أيها املنشد الربيء ،إذا غدوت آلة يف يد الغدر ،فقضت نغماتك
عىل خشوعي بينما كنت أتهيأ للقيام بأروع رقيص.
راقصا؛ لذلك عجزت ً ما أنا باملعرب عن أسمى املعاني بالرموز إال عندما أدور
أعضائي عن رسم أروع الرموز بحركاتها ،فأُرتج عيل َّ وامتنع عيل َّ أن أبوح برس
آمايل .لقد ماتت أحالم شبابي وفقدت معانيها املعزيات.
إنني ألعجب لتحميل هذه الصدمات ،وأعجب لصربي عىل ما فتحت يف َّ من جراح،
فكيف أمكن لروحي أن تُبعث من مثل هذه القبور؟
ً
مقتل ،وال قِ بَل ألحد بدفنه؛ ألنه يزحزح أجل إن يف َّ شيئًا ال تنال منه السهام
الصخور عنه فتتحطم ،وما هذا اليشء إال إرادتي ،واإلرادة تجتاز مراحل السنني
صامتة ال يعرتيها تحول وتغري .إن إرادتي قديمة ال تني تدفع قدمي إىل السري
فهي القوة املتصلبة املتعالية عن الفناء.
ليس يف َّ من عضو ال يصاب إال قدمي السائرة إىل األمام تدفعها هذه اإلرادة
الثابتة الصامدة املتجلدة ،التي تخرتق املدافن دون أن تنطرح تحت لحودها.
140
إن فيكِ وحدكِ يا إرادتي يصمد ما ال تبدده أيام الشباب ،فأنت ال تزالني حية
وفتية تملؤك اآلمال ،تجلسني عىل ركام املدافن وقد طبع الزمان عليها قبالته
الصفراء .إنك لن تزايل أيتها اإلرادة هدَّامة لجميع القبور ،فسالم عليك يا إرادتي؛
بعث إال حيث تكون القبور. ألنه ال َ
•••
هكذا تكلم زارا …
141
االنتصار على الذات
ليست إرادة الحق يف عرفكم ،أيها الحكماء ،إال تلك القوة التي تحفزكم وتضطرم
فيكم ،تلك هي إرادتكم التي أسميها أنا «إرادة تصوُّر الوجود» فإنكم تطمحون إىل
جعل كل موجود خاضعً ا لتصوركم ،وأنتم تحاذرون بحق أن يكون هذا الوجود
قد أحاط به التصور من قبل ،فرتيدون أن تُخضعوا إلرادتكم كل كائن لتتحكموا
فيه بالصقل ليصبح مرآة تنعكس عليها صورة العقل.
هذا ما تطمحون إليه ،يا أحكم الحكماء ،وتلك هي إرادتكم تجاه القوة والخري
والرش وتقدير قِ يَم األشياء.
إنكم تريدون خلق عالم يمكن لكم أن تجثوا أمامه ،تلك هي نهاية نشوتكم
وآخر أمنية لكم ،ولكن البسطاء الذين يدعون شعبًا يشبهون نه ًرا تخوضه أبدًا
ماخرة تق ُّل الرشائع ،وقد جلسن عليها بعظمة وأنزلن عىل وجوههن الحجاب.
لقد أرسلتم إرادتكم ورشعتكم عىل نهر الزمان ،ولكن إرادة القوة مثلت أمامي
وكشفت يل حقيقة الخري والرش يف اعتقاد الشعوب.
وهل سواكم ،أيها الحكماء ،من أنزل بإرادته املتسلطة هذه الرشائع يف هذه
َّ
حليتموهن بالجواهر وأسبغتم عليهن أروع األسماء. املاخرة ،وقد
لقد سار النهر يحملهن بانسيابه وسهم املاخرة يشق أمواجه ومن يبايل باملوجة
تقاوم عبثًا يف إرغائها إزبادها.
إن الخطر الذي يتهدد خريكم ورشكم ال يكمن يف النهر ،أيها الحكماء ،بل الخطر
كل الخطر يف إرادة القوة نفسها؛ ألنها اإلرادة الحية الدائمة املبدعة.
إن ما سأقوله عن الحياة سيوضح لكم اعتقادي يف الخري والرش عندما أتناول
142
ببياني ما تفعل العادات يف األحياء.
الحي عىل معابره وأشواطه؛ ألتع َّرف إىل عادته ،وعندما
َّ ُ
سايرت الكائن لقد
كانت الحياة صامتة نصبت أمامها مرآة بألف ضلع؛ ألستنطق عينيها فكلمتني
لحاظها.
حي يتعاىل
حي .طرقت أذني كلمات الطاعة فما من ٍّ
يف كل مكان عثرت فيه عىل ٍّ
عن الخضوع ،وعرفت ً
أيضا أن ليس من محكوم يف الحياة سوى من ال قبل له
حي …
بإطاعة نفسه … تلك هي عادة كل ٍّ
إن ِّ
تول الحكم أصعب من الطاعة؛ ألن اآلمر يحمل أثقال وهذا ما سمعت أخريًاَّ :
جميع الخاضعني له ،وكثريًا ما ترهق هذه األثقال كواهل اآلمرين.
الحي فيها أم ًرا يقتحم خط ًرا.
ُّ إن يف كل أمر خط ًرا ومجاذفة ،وكل مرة يصدر
وإذا ما تحكم الحي يف ذاته فإنه يؤدي جزية لسلطانه؛ إذ يصبح قاضيًا ِّ
ومنفذًا
وضحية للرشائع التي يستنُّها.
وتساءلت عن علة هذه األمور وعن القوة التي ترغم الحي عىل االنقياد والتحكم
فتجعله خاضعً ا حتى إذا حكم ،ولعني توصلت إىل سرب قلب الحياة إىل الصميم،
فأصغوا إىل قويل أيها الحكماء.
حي ،ورأيت الخاضعني أنفسهم يطمحون لقد تيقنت وجود إرادة القوة يف كل ٍّ
إىل السيادة؛ ألن يف إرادة الخاضع مبدأ سيادة القوي عىل الضعيف ،فإرادة
الخاضع تطمح إىل السيادة ً
أيضا لتتحكم فيمن هو أضعف منها ،وتلك هي اللذة
الوحيدة الباقية لها فال تتخىل عنها.
وبما أن األضعف يستسلم لألقوى واألقوى يتمتع بسيادته عىل هذا األضعف،
ً
مستهدفا فإن األقوى يعرض نفسه للخطر يف سبيل قوته؛ فهو يجاذف بحياته
لألخطار.
143
إن إرادة القوة كامنة حتى يف مجال التضحية والخدمة املتبادلة وبني نظرات
العاشقني؛ لذلك يتجه األضعف إىل السبل امللتوية قاصدًا اجتياز الحصن والرتبع
يف قلب األقوى مستوليًا فيه عىل قوته.
لقد أودعتني الحياة رسها قائلة :لقد تحتم عيل َّ أن أتفوق أبدًا عىل ذاتي .وإنكم
لتحسبون هذا االندفاع إرادة إبداع أو غريزة تحفز بي إىل الهدف األسمى واألبعد
منال بعديد جهاته ،يف حني أن ليس هنالك إال وجهة واحدة ورس واحد ،وإنني ً
ِّ
ألفضل العدم عىل التحول عن هذه الوحدة.
والحق أنكم حيث تشهدون انحدا ًرا وسقوط أوراق من األدواح ،فهنالك
تشهدون تضحية الحياة من أجل القوة.
لقد وجب عيل َّ أن أكون أنا الجهاد واملستقبل والهدف ،وأن أكون يف الوقت
نفسه الحائل الذي يعرتضني يف انطالقي إىل هديف؛ لذلك ال يعرف اإلنسان الطريق
املتعرجة التي عليه أن يسلكها إذا هو لم يدرك حقيقة إرادتي.
مهما كان اليشء الذي أُبدعه ،ومهما بلغ حبي له فإن عيل َّ أن أنقلب له خصمً ا،
وأتحوَّل عن حبي وحناني ،ذلك ما قضته إرادتي عيلَّ.
وأنت ،أنت يا من تطلب املعرفة ليس لك من سبيل غري سبييل ،فعليك أن تقتفي
أثر إرادتي ،وما تقتفي إرادتي إال آثار إرادة الحق.
ما عثر عىل الحقيقة من قال بإرادة الحياة؛ ألن مثل هذه اإلرادة ال وجود لها،
وليس للعدم إرادة كما أن املتمتع بالحياة ال يمكنه أن يطلب الحياة.
وال إرادة إال حيث تتجىل حياة ،ومع هذا فإن ما أدعو إليه ْ
إن هو إال إرادة القوة
ال إرادة الحياة.
إن هنالك أمو ًرا كثرية يراها الحي أرفع من الحياة نفسها ،وما كان لريى أشياء
أفضل من الحياة ،لو لم تكن هنالك إرادة القوة.
144
هذا ما علمتني إياه الحياة يومً ا ،وأنا بهذا التعليم أهتك أرسار قلبكم ،أيها
الحكماء ،فأقول لكم :إنه ليس هنالك من خري دائم ورش دائم؛ ألن عىل الخري والرش
كليهما أن يندفعا أبدًا إىل التفوق واالعتالء.
وأنتم أيها الواضعون للقيم أقدارها بمقاييسكم وموازينكم ،وبما تقولونه عن
الخري والرش هل كان لكم أن تفعلوا هذا لو لم تكن لكم إرادة القوة؟ وما تطمحون
يف أعماق ضمائركم إال إىل الشهرة والشعور بتأثركم وفيضان أرواحكم .إنكم
تجهلون أن يف األمور التي تخضعونها لتقديركم قوة أعظم من تقديركم تنمو
وتتفوق عىل ذاتها لتحطم غالفها وقشورها ،فمن أراد أن يكون مبدعً ا سواء أكان
يف الخري أم يف الرش ،فعليه أن يبدأ بهدم ما سبق تقديره وبتحطيمه تحطيمً ا.
وهكذا فإن أعظم الرش يبدو جزاء من أعظم الخري ،ولكن هذا الخري لم يُع َ
ط
إدراكه إال للمبدعني.
لقد حق علينا القول ،أيها الحكماء ،مهما كلفنا الجهر به فإن الصمت أشد وطأة
علينا؛ ألن كل حقيقة نكتمها إنما تتحول إىل سم ُزعاف فينا ،فلنحطم الحقائق
التي نجهر بها ما يمكنها أن تُح َّ
طم فإن هنالك أبنية عديدة يجب علينا أن نرفعها.
هكذا تكلم زارا …
145
العظماء
ً
مسوخا دأبها املزاح؟ إن أغواري إن يف َّ بح ًرا هدأت أعماقه ،فمن يظن أنه يُخفي
صامدة ال تتزعزع ،غري أنها تتماوج باملعميات وتتجاوب فيها من الضحك نربات
وأصداء.
يكفرون من أجل الروح؛ فاستغرقت رجل من العظماء األجالء الذين ِّ
رأيت اليوم ً
روحي يف ضحكها هازئة بقبحه .غري أن هذا العظيم لم يُبد ولم يعد ،بل انتفخ
صدره كمن يتنفس الصعداء ،فالح يل بحقائقه املروعة وبأثوابه املمزقة غصنًا كله
أشواك وليس فيه ورود.
ما تع َّلم هذا القناص الضحك وال عرف الجمال ،فإنه راج ٌع من غاب املعرفة
أغرب الوجه بعد أن صارع فيها الوحوش فانطبعت صورهم عىل سيمائه ،فهو
كالنمر يتحفز للوثوب ،وما أحب مثل هذه األرواح املنقبضة عىل ما تضمر.
تقولون ،أيها الصحاب ،إنه ال جدال يف الذوق ويف األلوان فكأنكم تجهلون أن
الحياة بأرسها نضال من أجل األذواق واأللوان.
حي يريد أن يعيش دون
ما الذوق إال املوزون وامليزان والوازن … فويل لكل ٍّ
نضال من أجل املوزونات واملوازين والوازنني.
ليت هذا الرجل العظيم يتعب من عظمته؛ ليظهر الجمال فيه فإنه يف مالله من
هذه العظمة يستحق أن أتذوقه فأجد له طعمً ا.
إذا لم يتحول العظيم عن نفسه فال يمكنه أن يقفز فوق خياله لتغمره أشعة
ً
طويل هذا املفك ُر من أجل الروح ،فشحب وجهه وكاد شمسه .لقد تفيَّأ الظ َّل
يف انتظاره أن يموت جوعً ا ،وهذه عيناه تشعَّ ان باالحتقار وشفتاه تتربمان
146
باالشمئزاز ،إنه يلتمس الراحة اآلن ولكنه لم ينطرح تحت الشمس بعد.
ليت هذا الرجل يتمثل بالثور فيفوح من سعادته عبق األرض ال احتقار األرض،
ليته كالثور األبيض يعج أمام املحراث فريتفع عجيجه تسبيحً ا لألرض وما عليها.
لقد اكفه َّر وجه هذا العظيم؛ إذ تالعبت عىل خديه أظالل يده فاختفت عيناه،
وأعماله لم تزل كالخيال تلوح وال تبدو عليه ،فإن اليد ترسل ًّ
ظل قاتمً ا عىل
العامل إذا هو لم يتفوق عىل عمله.
إنني أقدِّر احتمال هذا الرجل لنري الثور ،ولكنني أتمنى أن تش َّع نظرات املالك
يف عينيه ،ولن تشع هذه النظرات ما لم ينس ما فيه من إرادة األبطال؛ ألن ما
رجل ساميًّا ال أن يبقى يف مرتبة الرجل العظيم حيث يفقدأريد له هو أن يصري ً
اإلنسان إرادته فتتالعب به أضعف النسمات.
َّ
وتوصل إىل حل الرموز ،ولكن عليه اآلن أن لقد تغلب هذا العظيم عىل الجبابرة،
ينقذ هؤالء الجبابرة وهذه الرموز؛ ليحولها إىل طفولة األلوهية.
إن معرفة هذا الرجل لم تتعلم االبتسام وال الرتفع عن الحسد ،كما أن موجة
شهواته لم تسكن يف خضم الجمال ،وما عليه أن يدفع بهذه الشهوات إىل سكون
الشبع ،بل عليه أن يغرقها يف الجمال؛ ألن اللطف ال ينفصل عن مكارم من بلغوا
األوج بتفكريهم.
عىل البطل أال يستسلم للراحة ما لم يضع يده عىل رأسه يتفوق عىل راحته ،وما
يصعب عىل البطل يشء كإدراكه الجمال؛ ألن الجمال ال يستسلم ألبناء العنف.
إن بني اإلفراط والتفريط قيد أنملة ،فال تحتقروا هذا املدى ألنه بعي ٌد وإن قرص،
وفيه األهمية الكربى .ولكن عضالت العظماء ال تلجأ إىل السكون وإرادتهم ال
تنضب ،وما من جمال إال يف تنازل القوة إىل الرحمة وحلولها يف املنظور.
إنني ال أطالب بالرحمة سواك ،أيها املقتدر ،فلتكن الرحمة آخر مرحلة تقطعها
147
يف انتصارك عىل ذاتك ،وما كنت ألفرض الخري عليك لوال أنني أراك قاد ًرا عىل
ارتكاب كل الرشور ،ول َكم أضحكني أولئك الصعاليك يعدُّون أنفسهم رحماء وقد
شلت يدهم وال حَ ول لهم وال َ
طول.
عليك أن تتمثل يف فضيلتك بفضيلة األعمدة التي تزداد بهاء ودقة وصالبة يف
لبابها كلما ازداد ارتفاعها.
أجل أيها الرجل العظيم إنك ستبلغ الجمال يومً ا ،فرتفع املرآة إىل وجهك لتتمتع
برؤية جمالك وعندئذ تختلج روحك بالشهوات وعندئذ تتجىل العبادة يف غرورك.
ال يقرتب البطل يف أحالمه إىل مرتبة البطل الكامل ما لم يُغفل الروحَ ويتحول
عنها.
هكذا تكلم زارا …
148
في بالد المدنية
ذهبت بعيدًا طائ ًرا يف أجواء املستقبل فارتعشت وذعرت عندما نظرت ما حويل
فما وجدت من معارص يل غري الزمان .و َّليت األدبار مرسعً ا حتى وصلت إليكم،
يا رجال اليوم ،ونزلت بينكم يف بالد املدنية ،فألقيت عليكم أول نظراتي بصفاء
نية؛ ألنني جئتكم بقلب مصدوع ،وال أعلم ما أهاب بي إىل الضحك بالرغم من
ارتياعي ،فإن عيني ما رأت من قبل مثل هذه الخطوط واأللوان.
ذهبت يف ضحكي وقد ارتعش قلبي واصطكت رجالي ،فقلت يف نفيس« :لعل
هذه مصانع اآلنية امللونة».
لقد برزتم أمامي يا رجال اليوم ،وعىل وجوهكم وأعضائكم من األلوان
عرشات األنواع ،وحولكم عرشات املرايا تعكس تموجات ألوانكم ،والحق أنكم ال
تستطيعون أن تجدوا ما تتقنعون به أشد غرابة من وجوهكم نفسها ،فمن له أن
يعرف من أنتم؟
لقد حفر املايض يف وجوهكم آثاره فألقيتم فوقها آثا ًرا جديدة؛ لذلك خفيت
حقيقتكم عن كل معرب وأعجزت كل بيان.
ولو كان ألحد أن يفحص األحشاء فهل بوسعكم أن تثبتوا أن لكم أحشاء ،وما
ً
إلصاقا ،وهذه جميع األزمنة وجميع أنتم إال جبلة هباب وقطع أوراق ألصقت
الشعوب تتزاحم مرسلة نظراتها وراء قناعكم كما تفصح جميع حركاتكم عن
تراكم كل العادات واملعتقدات فيكم ،فإذا ما نُزعت أقنعتكم وألقيت أحمالكم
ومسحت ألوانكم ووقفت حركاتكم فال يبقى منكم إال شبح يُنصب مفزعة للطيور.
والحق ،ما أنا إال طائر مروع؛ ألنني رأيتكم يومً ا عراة ال تسرتكم ألوانكم؛
149
فاستوىل الذعر عيل َّ إذ انتصبتم أمامي هياكل عظام تومئ إيل َّ بإشارات العاشقني.
إنني أفضل أن أكون من عمَّ ال الجحيم وخدام األشباح؛ ألن لسكان الجحيم ما
ليس لكم من شخصية معينة ،وأم ُّر ما ألقاه هو أن أنظر إليكم سواء استرتتم أو
تعريتم ،يا رجال اليوم …
إن جميع ما يدعو إىل القلق يف آتي الزمان ،وجميع ما ارتاعت له يف املايض
تائهات الطري ،إنما هو أدعى إىل االطمئنان واالرتياح من حقيقتكم؛ ألنكم أنتم
القائلون« :إنما نحن الحقيقة املجردة عن كل خرافة واعتقاد ».وبهذا تتبجحون
وتنتفخون دون أن يكون لكم صدور.
وهل من عقيدة لكم وأنتم املربقشون بجميع ما عرف الزمان من ألوان حتى
اليوم؟ وهل أنتم إال دحض رصيح لإليمان نفسه وتفكيك لألفكار جميعها؟ فأنتم
كائنات أوهام يا من تدَّعون أنكم رجال الحقائق.
لقد قامت العصور كلها تتعارك يف تفكريكم ،وما كانت هذه العصور يف أحالمها
وهذيانها إال أقرب إىل الحقيقة من تفكريكم وأنتم منتبهون.
بليتم بالعقم ففقدتم اإليمان ،وقد كانت للمبدع أحالمه وكواكبه قبلكم فوثق
من إيمانه.
ما أنتم إال أبواب فتحت مصاريعها لحفار القبور ،وما حقيقتكم إال القول بأن
كل يشء يستحق الزوال.
إنكم تنتصبون أمامي كهياكل عظام متحركة ،أيها املبتلون بالعقم ،وال ريب يف
يخف عليه أمر عندما تساءل« :هل اختطف إل ٌه مني شيئًا وأنا نائم؟
َ أن أكثركم لم
والحق أن ما ُسلب مني يكفي إليجاد امرأة ،فما أضعف أضالعي!» هكذا يتكلم
العدد الوفري من رجال هذا الزمان.
إن حالكم ليضحكني أيها الرجال ،ويزيد يف ضحكي أنكم ألنفسكم مستغربون،
150
ولشد ما يكون وييل لو امتنع عيل َّ أن أضحك من استغرابكم ولو اضطررت إىل
ازدراد ما يف أوعيتكم من كريه الطعام.
ُّ
أستخف بكم ملا عىل عاتقي من ثقيل األحمال ،فما يهمني لو نزل عليها إنني
ثقل ،وما أنتم من يحم َّلني أشد األتعاب أيها
بعض الذباب فإنه لن يزيدها ً
املعارصون.
وا أسفاه! إىل أية ذروة يجب عيل َّ أن أرتقي بأشواقي؟ فإنني أدير لحاظي من
ً
مفتشا عبثًا عن مسقط رأيس وأوطاني ،فأنا ال أزال يف أول مرحلتي أعايل الذرى
تائهً ا يف املدن أتنقل أمام أبوابها.
لقد اندفعت بعواطفي نحو رجال هذه األيام ،ولكنني ما لبثت أن تبيَّنت فيهم
قومً ا غرباء عني ال يستحقون إال سخريتي ،وهكذا أصبحت طريدًا يتشوق إىل
مسقط رأسه وأوطانه ،وال وطن يل بعد اآلن إال وطن أبنائي يف األرض املجهولة
وسط البحار السحيقة؛ لذلك وجب عيل َّ أن اندفع برشاعي عىل صفحات املياه
ألفتش عن هذا الوطن.
عيل َّ أن أ ُ ِّ
كفر عن ذنبي أمام أبنائي؛ ألنني كنت ابنًا آلبائي ،عيل َّ أن ِّ
أكفر عن حايل
العتيد بكل جهودي يف آتي الزمان.
هكذا تكلم زارا …
151
المعرفة الطاهرة
عندما أط َّل القمر عيل َّ ليلة أمس ُخيل إيل َّ أنه أُنثى أثقلها الحَ بْ ُل ،وكأن يف أحشائها
كوكب النهار ،وقد جاءها املخاض وأنا أَميل إىل تذكري القمر مني إىل تأنيثه وإن
خال من صفات الرجولة فإنه رائد ليل يمر عىل السطوح ،وقد ساءت نواياه ،فهو
كالراهب املتدفق شهوة وحسدًا يتمنى لو يتمتع بملذات جميع العاشقني.
ال ،إنني ال أحب هذا اله َّر املتجول عىل مزاريب السطوح؛ ألنني أكره كل متلصص
أمام النوافذ التي لم يحكم إقفالها.
إن القمر ليمر خاشعً ا متعبدًا عىل بساط النجوم ،وأنا أكره كل من ينساب يف
مشيته فال تسمع وقعً ا ألقدامه ،فإن خطوات الرجل الرصيح تستنطق األرض،
متجس ًسا ،وهذا القمر ال يتقدم إال بخطوات الغدر كالهر.
ِّ وما يميش اله ُّر إال
ُ
إحساسكم لطلب ما أوردت هذا املثل إال لكم وعنكم يا أبناء الخبث ،وقد َ
أرهقكم
املعرفة الصافية ،وما أنتم يف نظري إال عبيد امللذات؛ ألنكم أنتم ً
أيضا تحبون
األرض وما عليها ومنها .لقد عرفت طويتكم فإذا يف حبكم ما يخجل وما يفسد
األخالق ،فما أشد شبهكم بكوكب الليل!
لقد أقنعوكم بأن تحتقروا كل ما ينشأ من الرتاب ،ولكن هذا اإلقناع لم ينفذ إىل
أحشائكم ،وأحشاؤكم هي أقوى ما فيكم ،وهكذا أصبح عقلكم َخ ِج ًل من سيطرة
أحشائكم عليه ،فهو يتبع الطرق الخفية املضللة فزعً ا من خجله .أنصتوا إىل
مناجاة عقلكم لنفسه فهو يقول :ليت يل أن أرتقي إىل حيث أنظر إىل الحياة محر ًرا
الس َغب من شهوته. من الشهوة ،فال ألهث أمامها ككلب يديل لسانه وقد َّ
شفه َّ
ً
متفوقا عىل إرادتي متحر ًرا من خساسة األنانية ليت يل أن أسعد بالتأمل
152
ومطامحها؛ فيسود عيل َّ السالم وال يبقى لعيني سوى لحظات القمر الثملة.
َّ
يتعشق األرض كما إن عقلكم يطلب التملص من ذاته؛ ألنه طريد يشتهي أن
يتعشقها القمر فال تتمتع إال عيونكم بجمالها.
إن املعرفة الطاهرة ال تحت ُّل عقولكم ما لم ينبسط أمام األشياء دون امتالكها
مكتفيًا بانعكاس أشباحها عليه كما تنعكس األشباح عىل مرآة لها مئات العيون.
أيها الخبثاء املتح ِّرقون بالشهوات ،لقد خلت شهوتكم من الطهارة؛ فلذلك
تجدِّفون عىل الشهوة ،فأنتم ال تحبون األرض كما يحبها املبدعون واملجددون
الذين يرسون بما يبدعون وبما يجددون ،فال طهارة إال حيث تتجىل إرادة اإلبداع،
فمن اتجه إىل خ ْلق من يتفوق عليه فذلك عندي صاحب أطهر إرادة وأنقاها.
طلبت الجمال فما وجدته إال حيث تنصبُّ اإلرادة بأكملها إىل املراد ،وحيث
يرتيض اإلنسان بالزوال لتجديد الصور وتبديلها ،فاملحبة واملوت صنوان متالزمان
منذ األزل ،فمن أراد املحبة فقد ريض باملوت .هذا ما أقوله لكم أيها الجبناء.
ولكن نظراتكم املنحرفة املؤنثة تحب االستغراق يف التأمل ،فرتيدون أن يدعى
ً
جمال ما تحدجونه أنتم بعني الحذر والجبن ،إنكم لتدنسون أرشف األسماء.
إن اللعنة التي تحل بكم ،أيها السائرون ،وراء املعرفة الطاهرة إنما هي عجزكم
عن التوليد يف حني أنكم تلوحون كالحباىل ا ُملثقالت عىل اآلفاق.
إنكم تحشون أفواهكم بأنبل الكلمات إليهامنا بأن قلبكم يتدفق ً
عطفا ،وما أنتم
إال منافقون.
شنت القول لكم فكلماتي مشوهة ذرية ،غري أنني أتناولها من الفتات أخ ُلقد ْ
املتساقط من موائد والئمكم فأستعملها حني أعلن الحقيقة للخبثاء ،وهذا ما بيدي
من حسك وأصداف يخدش آنافكم أيها الخبثاء.
إن الهواء الفاسد يهب بال انقطاع حولكم وحول مآدبكم؛ ألنه مشبع من
153
أفكاركم الدنسة وأكاذيبكم وخداعكم.
طراح خوركم؛ لتتوصلوا إىل الوثوق بأنفسكم ،فما ينقطععليكم أن تبدءوا با ِّ
عن الكذب من ال ثقة له بنفسه.
لقد أخفيتم وجوهكم بأقنعة اآللهة أيها الرجال األتقياء ،فأنتم ديدان قبيحة
تتَّشح برداء األرباب.
إنكم لجد متبجحون يا رجال التأمل ،حتى إن زارا نفسه أخذ بمظاهر جلودكم
ْ
فخفيت عنه األفاعي الكامنة وراءها. اإللهية
لقد كنت أرى يف عيونكم روح ٍ
إله أيها الطالبون املعرفة الطاهرة ،قبل أن تكشف
يل تصنعكم فعرفت أنكم أمهر املتصنعني.
ْ
وصلت إيل َّ ُ
تميزت فيكم الثعبان القبيح ،وال لقد بعد املجال بيني وبينكم فما
رائحته الكريهة ،وما خطر يل أن أمامي حرباء تتلون بشهواتها ،ولكنني عندما
اقرتبت منكم تبددت الظلمة حويل ،وها إن الفجر يغمركم بأنواره فلكل قمر جنوح
إىل الغياب يف شهوته .انظروا إىل هذا القمر فهو يف أ ُ ُفقِ ه شاحب مذعور ،وقد باغته
الفجر بأنواره املرسلة ،فكل شمس يتجىل حبها الطاهر يف تشوقها إىل اإلبداع.
أما ترون الفجر ينسحب عىل البحر وقد اهتاجه الشوق والحنني؟ إنما تشعرون
بظمئه يف حبه وح ِّر أنفاسه ،فكأنه يريد ارتشاف اللجج ،وها هي ذي تتعاىل نحوه
ً
ارتشافا بآالف نهودها ،واللجة نفسها متشوقة إىل وصال كوكب النهار لريشفها
فتتحول إىل سحب ومسالك أنوار ،بل هي نفسها تفنى يف النور متحولة إىل نور.
وأنا كوكب النهار أحب الحياة وكل لجة بعيدة األغوار ،تلك هي معرفتي .إنني
أجتذب كل غور ليتعاىل إيل َّ …
هكذا تكلم زارا …
154
العلماء
ً
إكليل عىل رأيس ،فكانت وكنت نائمً ا فإذا نعجة تتقدم فتقضم الغار املعقود
تعمل أنيابها فيه وتقول :لم يعد زارا من العلماء.
وذهبت بعد ذلك مزدرية متفاخرة ،ذلك ما أخربنيه أحد األوالد.
أحب أن أستلقي عىل األرض حيث يلعب األطفال تحت الجدار املتهدم ،وقد نبت
يف شقوقه العوسج والشقائق الحمراء ،فإنني لم أزل عا ًملا يف عيون الصغار ويف
عيون العوسج والشقائق الحمراء؛ ألنها طاهرة حتى يف أذيتها.
أنا لم أعد عا ًملا يف نظر النعاج .تبارك حظي فهذا ما ُقيض به عيلَّ ،والحقيقة هي
أنني هجرت مسكن العلماء فخرجت منه جاذبًا بابه بعنف ورائي.
ً
طويل إىل الخوان ،وما أنا كالعلماء متطبع عىل لقد جلست روحي الجائعة
املعرفة كمن اتَّخذ كرس القشور مهنة له ،فأنا عاشق الحرية والسري يف الهواء
الطلق عىل األرض الباردة ،كما أفضل أن أتوسد جلود الثريان عىل افرتاش أمجاد
العلماء وألقابهم.
إن بي من الحماس ومن لهب الفكر ما يقطع عيل َّ أنفايس ،فال يسعني إال
االندفاع إىل رحب الفضاء هاربًا من الغرف املكسوة بالغبار.
ولكن هؤالء العلماء يتفيَّئون الظالل فال يقتحمون السري عىل املسالك التي
تلهبها حرارة الشمس ،بل يكتفون باالستكشاف كاملتفرجني يفتحون أشداقهم
وينظرون إىل املا َّرة يف الشارع ،هكذا يفتح العلماء أشداقهم وينتظرون اتِّقاد
رشارة الفكر يف أدمغة املفكرين ،وإذا ما ملستهم بيدك تطاير الغبار ما حولهم
َّ
يظنن أحد أن هذا الغبار املتطاير منهم هو كأنهم أكياس من الحنطة ،ولكن ال
155
دقيق السنابل الصفراء التي يتشح بها الصيف يف زهوه.
إذا ما تظاهر العلماء بالحكمة ،فإن حقائقهم وأحكامهم تهزني برعشة ُ
البَداء؛
إذ تنترش منها روائح املستنقعات ،ول َكم أسمعتني حكمتهم نقيق الضفادع.
إن لهؤالء العلماء مهارتهم وألناملهم َلب ََاقتها ،فليس من نسبة بني رصاحتي
وتعقيدهم ،فأناملهم ال تني تغزل وتحيك ناسجة للعقل ما يسرته؛ فهم كالساعات
رقاصها دلت بضبط عىل سري الزمان وأسمعتك طقطقة خافتة. إذا ما أحكم ربط َّ
إنهم يعملون كحجر الرحى فيطحنون كل ما تلقي إليهم من حبوب ،وكل منهم
يراقب حركة أنامل اآلخرين ،وجميعهم يتلهون بالنكايات ويرتصدون من يتعارج
بعلومه ،فهم أشبه بالعناكب يف تلصصهم ،ول َكم رأيتهم يستقطرون سمومهم
بكل حذر ساترين أيديهم بقفازات من زجاج ،ولهم مهارة خاصة بلعب النرد
املزوَّر ،ول َكم انحنوا فوقه والع َرق يتصبب من وجوههم.
ال صلة بيني وبني هؤالء الناس؛ فإن فضائلهم تبعد عن فضائيل بأكثر مما تبعد
عنها أكاذيبهم ونردهم املزور.
وما وُجدت مرة بينهم إال وكنت فوقهم؛ لذلك أبغضني هؤالء العلماء ،فإنهم ال
يطيقون أن يسمعوا بمرور أي كان فوق رءوسهم ،ولذلك وضعوا األخشاب فوق
رءوسهم ،وأهالوا فوقها الرتاب واألقذار ليخنقوا وقع أقدامي ،ولم يزل حتى اليوم
أكثرهم علمً ا أق َّلهم إدرا ًكا ألقوايل.
ً
حائل كل ما يف اإلنسان من ضعف وضالل ،وهم لقد نصبوا بيني وبينهم
يدعون هذا الحصن ملسكنهم بالسقف املستعار.
ولكني بالرغم من كل هذا ال أزال أميش فوق رءوسهم وأنا أنرش أفكاري ،ولو
أنني مشيت عىل عيوبي فلن أزال ماشيًا فوق جباههم ،ذلك ألنه ال مساواة بني
البرش ،وهذا ما يهتف به العدل ،فما أريده أنا ال حق لهم بأن يتناولوه بإرادتهم.
هكذا تكلم زارا …
156
الشعراء
وقال زارا ألحد أتباعه :منذ بدأت أعرف حقيقة الجسد لم تعد الروح روحً ا يف
نظري إال عىل أضيق مقياس ،وهكذا رصت أرى «كل ما ال يفنى» رم ًزا من الرموز.
فأجاب التابع ً
قائل :لقد َ
قلت هذا من قبل يا زارا ،ولكنك أضفت إليه قولك:
«وكثريًا ما يكذب الشعراء ».فلماذا قلت هذا؟
فقال زارا :أنت تسأل ملاذا ،وما أنا ممن يحق عليهم أن يُسألوا .ما أنا ابن األمس
وقد مر زمان طويل عىل إدراكي أسباب ما أَرتَئِيه ،وهل أنا خزانة تذكارات ألحفظ
األسباب التي بنيت عليها آرائي؟ إنما يكفيني عناء أن أحفظ هذه اآلراء نفسها،
أفليس يف العالم عصافري ترشد من أماكنها ،ول َكم وجدت يف قفيص من طري غريب
يرتجف إذا ما أمررت عليه يدي ،ومع ذلك فماذا قال لك زارا يومً ا؟ لقد قال إن
الشعراء كثريًا ما يكذبون ،وهل كان زارا نفسه إال واحدًا من هؤالء الشعراء؟
أفتحسب أنه بهذه الصفة قد أعلن الحق؟ وما الذي يُ ْك ِرهك عىل تصديقه؟
فقال التابع :إنني مؤمن بزارا.
قائل :ليس اإليمان مما يرضيني حتى ولو كان هذا أما زارا فهز رأسه وابتسم ً
اإليمان معقودًا عيلَّ ،ولكن إذا قال إنسان بكل جد :إن الشعراء يكذبون ،فإنه
ليقول ًّ
حقا؛ ألننا نحن الشعراء نكذب كثريًا ،وال بد لنا من الكذب ما دام ما نجده
يغش رشابه ويف رساديبنا تُستقطر قليل ،ومَ ْن من الشعراء بيننا لم َّ
من العلم ً
السوائل املسمومة؟ ول َكم فيها من أمور يقرص عن وصفها البيان .إن افتقارنا يف
املعرفة يهيب بنا إىل محبة مساكني العقول ،وبخاصة إىل محبة مسكينات العقول
الفتيات … فنحن نعود بشهواتنا إىل األمور التي تتحدث عنها العجائز يف السمر،
ونقول إن ما نبحث فيه إنما هو قضية املرأة األبدية.
157
ً
طريقا سويًّا يؤدي إىل املعرفة ،وأن هذا الطريق ال ينكشف ملن يخيل لنا أن أمامنا
يدركون األمور بالعلم ،فنحن ال نؤمن إال بالشعب وبحكمته ،فالشعراء جميعهم
يتنصت إىل السكون يتوصل إىلَّ يعتقدون أن الجالس عىل منحدر جبل مقفر
معرفة ما يحدث بني األرض والسماء ،وإذا هم ه َّزهم الشعور املرهف ُخيل لهم أن
الطبيعة نفسها أصبحت مغرمة بهم؛ فريونها تنحني عىل آذانهم لتلهمهم البيان
الساحر واألرسار ،فيقفون مباهني بإلهامهم أمام كل كائن يزول.
وا أسفاه! إن بني األرض والسماء أمور كثرية ال يحلم بها إال الشعراء ،وهنالك
أمور أخرى كثرية فوق السماء ،فما جميع اآللهة إال رموز أبدعها الشعراء.
والحق أننا منجذبون أبدًا إىل العلياء ،إىل مسارح الغيوم فنرسل إليها أك ًرا
منفوخة ملونة ندعوها آلهة وبرشًا متفوقني ،والحق أنهم من الخفة عىل ما يجعلهم
ً
أهل القتعاد مثل هذه العروش.
وياله! لكم تعبت من كل قارص يطمح إىل جعل نفسه شيئًا معدودًا! ول َكم
أتعبني الشعراء!
وما نطق زارا بهذا الكالم حتى ثارت نفس تابعه ،ولكنه كظم غيظه فسكت
أيضا وغيَّض نظره كأنه يسرت أقايص نفسه ،ثم تنفس الصعداء وسكت زارا ً
وقال :أنا من األمس ومن الزمن القديم ولكن يف َّ شيئًا من الغد وبعده ومن اآلتي
البعيد ،فقد أتعبني الشعراء األقدمون منهم واملجددون ،فما هم يف نظري إال رغوة
أرسة بحار جفت مياهها .إن أفكارهم لم تنفذ إىل األغوار،
ال رصيح تحتها ،بل هم َّ
وقد وقف شعورهم عند أول جُ ُرفها ،وخري ما ترى يف تأمالتهم قليل من الشهوة
وقليل من الضجر ،فليست بحورهم إال مجاالت تنزلق عىل تفاعيلها األشباح،
فهم لم يدركوا شيئًا بعد من القوى الكامنة يف النربات .لم يبلغ الشعراء درجة
النقاء فهم يع ِّكرون جداولهم؛ ليخدعوا الناس ويوهموهم أنها بعيدة الغور .إنهم
موفقني بني مختلف املعتقدات غري أنهم ال يزالون يريدون أن يقيموا أنفسهم ِّ
158
رجال العمل الناقص السائرين عىل السبل املتوسطة الحائرة فهم يعكرون املياه
بأقذارهم.
آمل اصطياد خري األسماك ،ولكنني ما وا أسفاه لقد ألقيت شباكي يف بحارهم ً
سحبت هذه الشباك مرة إال وقد علق فيها رأس إله قديم ،وهكذا كان يجود البحر
أيضا من البحر وفيهم بحجر عىل الجائع .ولعل الشعراء أنفسهم خرجوا هم ً
وال ريب بعض الآللئ ،فهم أشبه بنوع من املحار املمنَّع بأصدافه ،ول َكم وجدت
يف داخلهم بدل الروح شيئًا من الرغوة املالحة .إن الشعراء يقتبسون من البحر
غروره ،وهل البحر إال أشد الطواويس غرو ًرا؟ فهو حتى أمام أقبح الجواميس
يدحرج أمواجه ويبسط أطالس مراوحه وأطراف وشاحه املفضض ،فيحدجه
الجاموس بنظرات الغيظ؛ ألن روحه املقرتبة من الشاطئ ال تزال ملتصقة بمعلفه
رضبهومرعاه فما يبايل بالجمال وبالبحر وببهاء الطواويس .هذا هو املثل الذي أ َ ِ
للشعراء ،والحق أن فكرهم لطاووس مغرور ،بل هو بحر من الغرور ،ففِ ْكر
ً
جاموسا. الشاعر يطلب من يشاهده حتى ولو كان املشاهِ د
لقد أتعبني هذا الفكر وسوف يأتي زمان — وهو قريب — يتعب فيه هذا
الفكر من ذاته.
رأيت بعض الشعراء يتحولون عن الشعر ،ويوجهون النقمة إىل ما كانوا عليه،
املكفرون عن الضالل إال بنيِّ ورأيت من يقدِّمون َّ
كفارة للفكر ،وما نشأ هؤالء
الشعراء.
هكذا تكلم زارا …
159
الحادثات الجسام
عىل مقربة من جزر زارا السعيدة ،تقوم يف البحر جزيرة فوقها بركان يقذف
حُ مَ مه عليها بال انقطاع ،ويقول الشعب وبخاصة العجائز فيه :إن هذه الجزيرة
ً
ضيقا يخرتق الربكان منتصبة صخ ًرا يسد باب الجحيم ،غري أن هنالك منفذًا
وينتهي إىل هذا الباب.
يف ذلك الزمان ،حني كان زارا يسكن جزره السعيدة ألقى مركبٌ مرساته أمام
الجزيرة التي يعلوها الجبل املشتعل ،ونزل بحارته إىل الرب ليقتنصوا بعض
األرانب ،وما حان وقت الظهرية واجتمع القبطان برجاله بعد أن ملوا شعثهم حتى
رجل يخرتق الفضاء بغتة إليهم ثم اقرتب منهم وصاح بهم رأى هؤالء الناس ً
بصوت جيل ً
قائل :لقد حان الزمن ،لقد اقرتب كثريًا …
ومر بهم الشبح مرسعً ا وهو يتجه إىل الربكان ،فتميزوا به شخص زارا؛ ألنهم
كانوا رأوه من قبل جميعهم ما عدا القبطان ،وأحبوه كما يحب الشعب من يخىش.
فقال شيخ البحارة :هذا زارا يسري إىل الجحيم.
ويف الزمن الذي نزل فيه البحارة إىل جزيرة اللهب ،كان شاع اختفاء زارا بني
الناس وقال صحبه ملن سألوا عنه :إنه أبحر عىل مركب تحت جنح الظالم ،ولم
يعرف أحد الوجهة التي يقصدها.
هكذا ساد القلق من اختفاء زارا ،وبعد ثالثة أيام زاد هذا القلق بعد أن أخرب
البحارة بما رأوا ،وشاع بني الشعب أن إبليس قد اختطف زارا ،ولكن صحب
زارا لم يأبهوا لهذه اإلشاعة بل ضحكوا منها وقالوا :إن ما نعتقده هو أن زارا قد
اختطف الشيطان.
160
غري أن اختفاء زارا كان يشغل بال صحبه ،وما مضت خمسة أيام حتى عاد
إليهم ،فكان رسورهم عظيمً ا.
وهذا ما نقله زارا لهم عن حديثه مع كلب النار .قال :إن لألرض جلدًا ولهذا
الجلد أمراضه ،وأحد هذه األمراض اإلنسان وهنالك مرض آخر يُدعى كلب النار،
وقد كان هذا الكلب السبب يف تناقل الناس األكاذيب وتصديقهم لها ،وما اجتزت
البحار إال ألكشف هذا الرس فرأيت الحقيقة عارية من أخمص قدميها حتى عنقها،
فما تخفى عني اآلن حقيقة كلب النار ،وحقيقة جميع أبالسة التمرد واألقذار التي
ال تتف َّرد العجائز بالذعر منها.
لقد هتفت ً
قائل :اخ ُرجْ من أغوارك أيها الكلب الناري وقل يل كم هي عميقة
أغوارك ومن أين تأتي بما تنفثه علينا؟ إنك تكرع من البحر برشاهة ،وذلك ما تنم
عليه مرارة امللح يف ثرثرتك ،والحق أنك وأنت كلب األغوار ال تستمد غذاءك إال من
األماكن السطحية ،فما أنت إال كاملتكلم من بطنه؛ ألنني يف كل مرة سمعت فيها
أقوال أبالسة التمرد واألقذار تبينتهم أشبه بك يف دناءتك وأكاذيبك ،لقد اتفقت
أنت معهم عىل النباح ،واتفقتم جميعكم عىل ذر الرماد ونرش الظالم ،فأنتم أعظم
املتفاخرين وتعرفون كيف تدفعون باألوحال إىل الفوران ،وحيث تكونون ال بد
أن تحيط بكم الوحول وكل ما هو إسفنجي مضغوط ضيق املسام ،وما يطلب
االنطالق إال من اتصف بهذه الصفات .والحرية هي الرصخة التي تفضلونها
غري أنني فقدت إيماني بالحادثات الجسام منذ رأيت الرصاخ والدخان يتعاليان
حولها.
صدقني يا إبليس ،الثورات الصاخبة الجهنمية ليست أعظم الحادثات يف أكثر
ساعاتنا ضجيجً ا بل هي يف أعمقها صمتًا ،وما يدور حول موجدي الشغب الجديد
بل هو يدور عىل محور موجدي النظم الجديدة.
ال بد لك أيها الشيطان من اإلقرار بسخافة ما كانت تنقشع عنه قرقعتك وضباب
161
دخانك ،وهل من جسام األمور أن تتحول مدينة إىل مومياء ،وأن يتداعى عامود
إىل األوحال؟ وهذه كلمة أخرى أوجهها إىل هدَّامي األعمدة :إن أقىص الجنون هو
يف إلقاء امللح إىل البحر ويف إسقاط األعمدة إىل الوحول؛ ألن هذه األعمدة كانت
مطروحة عىل أوحال احتقاركم ،وها هي ذي تنهض بسيماء اآللهة وقد انطبع
عليها األلم الساحر ،فهي والحق تدين لكم بالشكر؛ ألنكم أسقطتموها أيها
الهادمون.
وهأنذا اآلن أسدي النصح للملوك والكنائس ،ولكل من أضعفته الفضيلة أو
أهرمه الزمان فأقول :دع القوة تسقطك لتعود إىل الحياة فرتجع الفضيلة إليك.
قائل« :الكنيسة ،وما هي هذههكذا تكلمت أمام كلب النار ،فقاطعني بهريره ً
الكنيسة؟» فقلت :إن الكنيسة يشء أشبه بالدولة ،بل هي من أكذب أنواع الدول،
ولكن صه أيها الكلب ،فإنك أخرب بنوعك من أي كان .إنما الدولة حيوان خبيث
عىل شاكلتك؛ فهي تحب أن تتكلم فرتسل بيانها دخانًا وهري ًرا ،لتخدع الناس
وتجعلهم يعتقدون بأن أقوالها مستمدة من غور األمور ،فهي تريد أن تكون
أعظم حيوان عىل وجه األرض والعالم يراها عىل ما تريد1.
وظهرت عىل وجه الكلب أفظع معاني الحسد فصاح :ماذا تقول؟ وهل يعتقد
أحد أن الدولة هي أعظم حيوان عىل األرض؟
قال هذا وخرجت من بني شدقيه إعصار من الدخان ،وازداد هريره حتى
مقتول بغيظه ،ولكنه ما لبث حتى استعاد السكون فقلت له :لقد تملكك ً حسبته
الغيظ يا كلب النار ،وذلك دليل عىل أنني أقول الحق عنك ،وهأنذا استمر يف إعالن
الحقائق فأحدثك عن كلب آخر من أتباع النار وهذا الكلب يتكلم حقيقة من قلب
األرض ،فلهاثه من ذهب ،وما يحسب حسابًا للرماد والدخان والزبد الحار فإن
حوله ترتفع قهقهة تنترش كأنها سحاب يزهو بعديد ألوانه ،وهو عدو هريرك
وزبد شدقيك وما يف أحشائك من االختالل .إن هذا الكلب يأخذ الذهب والضحك
162
من قلب األرض ألن قلب األرض من ذهب ،فاعلم هذا أنت.
ً
خجل وبدأ يعوي ُ
وغلب الكلب عىل أمره عند سماعه هذه الكلمات؛ فأرخى ذيله
وهو يزحف ً
زحفا إىل مغارته.
هذا ما رسده زارا ألتباعه ،ولكن أتباعه ما كانوا يبالون بما يقول وقد اشت َّد
شوقهم إىل إخباره عما حدث للبحارة والرجل الطائر يف الهواء.
قصوه عليه قال :ماذا عساني أظن بما قلتم؟ أفأكون شبحً ا وملا سمع زارا ما ُّ
من األشباح؟ ولعل ما رأوه لم يكن سوى خيايل ،ولعلكم سمعتم حكاية املسافر
وخياله ،غري أنه من الواجب عيل َّ أن أشدِّد النكري عىل خيايل فال يذهب كما يشاء
نائل من شهرتي. ً
ً
متسائل عما يقوله يف هذا الحادث ،وهو ال يدري ملاذا وه َّز زارا رأسه بتعجب
هتف الخيال ً
قائل :لقد اقرتب الزمان.
هكذا تكلم زارا …
هوامش:
1ال ريب يف أن زارا ال يقصد بهذا الوصف إال الدول القابضة عىل عنق الشعب
بالحكم املطلق.
163
العراف
َّ
«… ورأيت الناس يستويل عليهم حزن عميق ،وقد وهنت قوى خيارهم فيما
يعملون ،فانترش تعليم يؤدي إىل اإليمان يف أن كل يشء باطل ومتشابه وقيد الزوال،
فتجاوبت األصداء يف الهضبات مرددة :كل يشء باطل ومتشابه وقيد الزوال.
لقد حصدنا ولكن غاللنا أكمد لونها وتهرأت ،فأي يشء تساقط تحت جنح
الظالم من وراء كوكبه اللئيم؟
لقد ذهبت جهودنا سدًى ،وفسد خمرنا فاستحال سمًّ ا ُز ً
عافا ،فكأن عينًا حاسدة
أصابت حقولنا وقلوبنا فأَذْ َوتْها.
جففنا جميعنا فإذا نزلت بنا حارقة فال يتطاير منا غري الرماد ،لقد تعب منا
كل يشء حتى لسان اللهيب.
غاضت الينابيع أمامنا وتراجع البحر عنا ،وقد زلزلت األرض تحت أقدامنا،
ولكنها لم تفغر فاها لتوارينا ،فمن لنا ببحر نغرق فيه ،إننا نرصخ طالبني البحر
فيذهب صوتنا بددًا عىل سطوح املستنقعات.
والحق أننا بذلنا أقىص جهودنا طلبًا للموت وملا نزل جثثًا تحيا وعيونها جاحظة
طي اللحود».
ً
تبديل ،وأصبح زارا هذا ما قاله أحد العرافني ،فذهب قوله نافذًا قلب زارا فبدَّله
حزينًا متعبًا يرضب يف األرض شبيهً ا بمن ذكرهم الع َّراف يف نبوءته.
وقال زارا ألتباعه :لن يميض زمن طويل حتى ينسدل هذا الغسق القاتم عىل
وجه األرض ،وأنا أحاذر أال أجد وسيلة للعبور بنوري إىل ما وراءه فأنقذه من
االنطفاء .هل من حافظ له بني هذه األحزان وأنا قد أعددته لييضء يف العوالم
164
البعيدة ويش َّع يف طيَّات الظالم السحيق.
وسار زارا شاردًا يحمل همَّ ه يف قلبه ،فأمىض ثالثة أيام ال يذوق فيها طعامً ا
وال رشابًا وال يعرف الراحة حتى وقف لسانه عن الكالم ،فاستغرق يف نوم عميق
وجلس صحبه حوله يسودهم القلق طوال الليايل متوقعني أن يفيق لريدوه عن
أحزانه.
وأفاق أخريًا فخاطبهم بصوت كأنه ترديد صدًى بعي ٍد ً
قائل« :أصغوا إيل َّ ،أيها
ألقص عليكم ما رأيت يف حلمي وساعدوني عىل تعبريه ،فإن حلمي قد الصحابَّ ،
أُغمض عيل َّ ولم يزل مَ عْ ناه كامنًا فيه.
رأيتني هجرت الحياة واخرتت مهنة حارس للقبور عىل الجبل املقفر حيث
يرتفع قرص املوت ،فكنت أحرس النعوش وهي أسالب النرص تغص بها الدهاليز
املظلمة ،فكنت أرى الساقطني يف معرتك الحياة املسجَّ ني يف التوابيت املغطاة
بالزجاج يحدجونني بنظراتهم املروعة ،وهنالك نشقت عرف األبدية غبا ًرا يتطاير
عىل روحي فريهقها ،وال أستطيع أن أنفض عنها هذا الغبار الثقيل.
وكانت أصداء الليل تدور بي ومعها شبح العزلة واالنفراد ،فكان رفيقي سكون
املوت تتعاىل فيه من حني إىل حني حرشجة ا ُملدنَفني.
وكنت أحمل املفاتيح وقد عالها الصدأ أعالج بها أصلب األبواب؛ فترصف
مصاريعها برصاخ أبح لئيم يذهب مد ِّويًا يف الدهاليز كأن ال َّد َرفات أجنحة أطيار
تنكمش وتنعق متململة ممن يريد تنبيهها من رقادها.
وعندما كان يخيم السكوت بعد هذا الدوي كان يبلغ رعبي أشدَّه ،فأبقى وحدي
محا ً
طا بهذا الصمت الرهيب.
ً
متمهل ،لو صح أن يف مثل هذه الرؤى زمان ،إىل أن وقع ما أفقت ومر الزمان
له مذعو ًرا.
165
ُقرع الباب ثالث مرات بدويٍّ كأنه الرعد القاصف ،فهتفت الدهاليز ثالث مرات
ُ
وتقدمت إىل القفل أعالجه فلم يتزحزح قيد أنملة ،وهبت بصدًى كأنه الزئري،
العاصفة بشدة فدفعت باملرصاعني ورمت إيل َّ بنعش أسود ،وقد تصدَّع الهواء
بالصفري والولولة وسقط النعش فانحطم وخرجت منه آالف من القهقهات،
آالفا من األطفال واملالئكة وطيور البوم واملجانني والفراشات الضخمةفرأيت ً
يطفِ رون حويل ساخرين.
ً
رصاخا مريعً ا ،فانتبهت واستوىل الخوف عيل َّ فإذا أنا مطروح عىل األرض أرصخ
لصوتي مذعو ًرا.
وسكت زارا لحظة وهو حائر ،فإذا بأحبِّ أتباعه إليه ينهض ويقبض عىل يده
قائل« :إن تعبري رؤياك إنما هو يف حياتك نفسها يا زارا ،أفلست أنت النعش، ً
وقد حشدت الحياة فيها سيئاتها وعبوس مالئكتها؟ أفليس زارا يجتاح اللحود
مقهقهً ا كاألطفال ساخ ًرا بالساهرين عىل القبور الخافرين لها ،مستهزئًا بكل من
تقرقع املفاتيح يف أيديهم.
لسوف يذعر هؤالء الناس منك فيطرحهم ضح ُكك ً
أرضا فيُغمى عليهم ،ثم
ينتبهون وبذلك يثبت عليهم سلطانك.
لقد اطلعت لنا كواكب جديدة يف اآلفاق ونرشت من الليل ما كنا نجهله من
البهاء ،والحق أنك مددت ضحك فوق رءوسنا فأظ َّلنا بعديد ألوانه ،فمنذ اآلن
ستتعاىل قهقهة األطفال من النعوش وستعصف من الجهود القاتلة الريح التي
نتوقعها.
ً
منسلخا عنهم وعدت لقد مثَّلت ُ
نفسك أعداءَك فأزعجتك رؤياك ،ولكنك انتبهت
إىل روعك ،وهم ً
أيضا سينتبهون فريجعون إليك».
هكذا تكلم التابع ،فدار سائر األتباع بزارا يشدون عىل يديه محاولني إقناعه
ً
جالسا بالنهوض من فراشه واالنسالخ عن أحزانه ليعود إليهم ،غري أن زارا بقي
166
عىل فراشه وعيناه جاحظتان كأنه عائد من سفر بعيد ال يعرف ممن حوله أحدًا،
ولكن أتباعه رفعوه وأوقفوه؛ فانتبه فجأة وتغريت سحنته فمد يده يداعب شعر
قائل :كل هذا سيكون عندما يحني زمانه ،فأعدُّوا لنا غذاءلحيته ورفع عقريته ً
طيبًا اآلن ِّ
ألكفر عن الرؤيا التي رأيت ،غري أن الع َّراف سيجلس إىل جنبي ليأكل
ويرشب معي وسأريه بح ًرا يغرق فيه نفسه.
هكذا تكلم زارا …
ً
طويل وهو يه ُّز رأسه … ولكنه حدَّق يف وجه تابعه الذي عرب له حلمه ،حدَّق به
167
الفداء
وسار زارا يومً ا عىل الجرس فأحاط به رهط من أهل العاهات واملتسولني ،وتقدم
أيضا يستفيد من تعاليمك وقدإليه أحدب يقول له :التفت إىل الشعب يا زارا ،فهو ً
بدأ يؤمن بسنَّتك ،ولكن الشعب بحاجة إىل أمر واحد ليتوطد إيمانه بك :عليك يا
زارا أن تتوصل إىل إقناعنا نحن أهل العاهات ،وأمامك اآلن نخبة منهم وما لك
بع ُد مثل هذه الفرصة تنتهزها لتقوم باختبارك عىل مثل هذا العدد من الرءوس،
بوسعك اآلن أن تشفي العميان واملقعدين فتخفف األثقال ،وتريح املتعبني ،تلك
هي الطريقة املثىل لهداية هؤالء القوم إىل اإليمان بزارا.
فأجاب زارا :مَ ْن يرفع عن ظهر األحدب حدبته فقد نزع منه ذكاءه .هذه هي
تعاليم الشعب ،وإذا أُعيد النور إىل عيني األعمى فإنه لريى عىل األرض كثريًا من
قبيح األشياء فيلعن من سبَّب شفاءه ،ومن يُطلق ِرج َل األعرج من قيدها فإنه
ركضا حتى تتحكم فيه رذائله فتدفعه إىلً يورثه أَذيَّة كربى؛ إذ ال يكاد يسري
غايتها .هذه هي التعاليم التي ينرشها الشعب ،وهل عىل زارا إال أن يأخذ عن
الشعب ما أخذه الشعب عنه؟
غري أنني منذ نزلت بني الناس سهل عيل َّ أن أرى منهم مَ ن تنقصه عني ،ومن
تنقصه إذن ،وآخر فقد رجليه ،وهنالك من فقدوا لسانهم أو أنفهم أو رأسهم.
ُ
أعرضت عن ذكرها فال وهكذا رأيت أقبح األمور ،وهنالك أشياء أشد قبحً ا إن
يسعني السكوت عن أكثرها.
رجال فقدوا كل يشء ،غري أنهم يملكون شيئًا يسوده اإلفراط ،فهم رجال
ً رأيت
كأنهم عني عظيمة أو فم واسع أو بطن كبري أو عضو آخر كبري ال غري ،وما هؤالء
الناس إال أهل العاهات املعكوسة.
168
ً
مندهشا ال أصدق وعندما عدت من عزلتي ألجتاز هذا الجرس للمرة األوىل وقفت
فلحَ يلما أرى فقلت :هذه أذن ،أذن وسيعة كأنها قامة رجل ،وتقدمت إليها َ
وراءها يشء صغري لم يزل يتحرك ،وهو ناحل ضعيف يستدعي اإلشفاق فإن
األذن الكربى كانت قائمة عىل ساق دقيق ،وما كانت هذه الساق إال إنسانًا ،ولو
ظارة لرأيت فوقه وجهً ا يتقطب بالحسد ،وين ُّم عن أنك تفرست يف هذا اليشء بن َّ
روح صغرية تريد االنتفاخ وترتجف عىل قاعدتها.
رجل فحسب ،بل هي ً
أيضا رجل عظيم وقال يل الشعب :إن هذه األذن ليست ً
بل عبقري من عباقرة الزمان ،غري أنني ما صدقت الشعب يومً ا إذا هو تكلم عن
عظماء الرجال ،فاحتفظت بعقيدتي وهي أن هذا الرجل ذو عاهة معكوسة؛ إذ
ليس له إال القليل من كل يشء والكثري من يشء واحد.
وبعد أن وجه زارا هذا الخطاب إىل األحدب ومن تكلم بالوكالة عنهم اتجه نحو
أتباعه ،وقد تحكم الكدر فيه فقال :والحق أنني أسري بني الناس كأنني أميش بني
أنقاض وأعضاء منثورة عن أجسادها ،وذلك أفظع ما تقع عليه عيناي فإنني أرى
ْ
لجأت عيني إىل املايض هاربة أشالء مقطعة كأنها بقايا مجزرة هائلة ،وإذا ما
أيضا أنقاض وأعضاء أشالء من الحارض فإنها لتُصدم باملشهد نفسه ،فهنالك ً
ً
رجال … وحادثات مروعة ،ولكنني ال أرى
إن أشد ما يقع عيل َّ أيها الصحاب ،إنما هو الحارض واملايض وما كنت ألطيق
ً
مستكشفا ما ال بد من وقوعه يف آتي الزمان ،وما زارا إال بارصة الحياة لو لم أكن
تخرتق الغيب فهو رجل العزم وهو املبدع ،هو املستقبل وا َملعْ َب املؤدي إىل
املستقبل ،هو وا أسفاه ذو عاهة ينتصب عىل هذا املعرب.
أيضا تتساءلون مرا ًرا :من هو زارا؟ وبماذا نسميه؟ فال تتلقون غري وأنتم ً
السؤال جوابًا كما أتلقاه أنا.
أهو من يَعِ ُد أم من ِّ
ينفذ الوعد؟ أهو فاتح أم وريث أهو الطبيب أم هو الناقه؟
169
أشاعر هو أم رجل حقيقة؟ أمحرر أم متسلط؟ أصالح أم رشير؟
ما أنا إال سائر بني الناس شطر ًة من املستقبل الذي يرتاءى لبصريتي وجميع
أفكاري تتجه إىل جمع وتوحيد كل ما تف َّرق عىل أرسار وتبدَّد عىل الصدف العمياء.
وما كنت ألحتمل أن أكون إنسانًا لو أن اإلنسان لم يكن شاع ًرا مح ِّل ًل لألرسار
ومفتديًا إلخوانه من ظلم ما تسمونه صدفة وده ًرا ،وما الفداء إال يف إنقاذ من
ذهبوا ،وتحويل كل ما كان إىل ما أريد لو أنه كان …
واملبش بالغبطة إال اإلرادة نفسها ،وهذا ما أُع ِّلمكم إياه يا أصحابي،
ِّ ما املخ ِّلص
أيضا أن هذه اإلرادة لم تزل سجينة مقيدة. ولكن اعلموا ً
170
عن كرهها للزمان؛ ألنه أوقع ما ال قِ بَل لها بردِّه؟
والحق أن إرادتنا مصابة بالجنون ،وقد نزلت لعنة عىل البرشية منذ تع َّلم
الجنون أن يتفكر .إن خري ما طرأ عىل اإلنسان حتى اليوم إنما هو فكرة االنتقام،
وهكذا سيبقى العقاب مالزمً ا لأللم يف كل زمان ويف كل مكان ،وهل فكرة االنتقام
إال العقاب بذاته ،فما كلمة االنتقام إال كلمة مكذوبة يقصد بها التعبري عن الضمري.
إن كل مُري ٍد يتألم ألنه ال قبل له بالرجوع إىل املايض لر ِّد ما فات ،ولهذا لزم أن
تكون اإلرادة بل كل حياة عىل اإلطالق كفارة وعقابًا.
بمثل هذه االعتقادات َّ
تلفع العقل بالغيوم فانبثق منه الجنون ً
هاتفا :كل يشء
يزول ،فكل يشء يستحق الزوال.
إن العدل نفسه يقيض بأن يفرتس الزمان أبناءه ،هذا ما أعلنه الجنون.
لقد وُضع الناموس األدبي ً
وفقا للحقوق وللعقاب ،فأين املفر من نهر الحياة
الجارف؟ وما الحياة إال عبارة عن عقاب ،وهذا ً
أيضا ما أعلنه الجنون.
ليس من حادث واحد يمكننا أن نزيله من الوجود ،فهل للعقاب أن يمحو
الحادثات؟ وهل من خلود لغري األعمال يف وجود ال ينفك يحول العمل عقابًا
والعقاب ً
عمل؟ وال مناص من هذه الحلقة املفرغة ما لم تتوصل اإلرادة إىل الفرار
من ذاتها فتصبح حينذاك إرادة منفية.
إنكم تعرفون ،أيها اإلخوة ،هذه األغاني التي يتشدَّق بها الجنون ،وقد أقصيتكم
من سماعها عندما ع َّلمتكم أن اإلرادة مبدعة ،كل ما فات يبقى مب َّددًا منثو ًرا كأنه
أرسار ومصادفات رائعة إىل أن تقول اإلرادة :إنني أنا أردت هذا ،ثم تقول :وهذا
ما أريده اآلن وسأريده غدًا.
هل نطقت اإلرادة بمثل هذا حتى اليوم؟ وأي متى ستنطق به؟ هل هي تملصت
من قيود جنونها فأصبحت تفتدي الحادثات بعزمها وتبرش بالحبور؟ هل هي
171
طرحت فكرة االنتقام وتوقفت عن حرق األرم من كيدها؟ مَ ْن ترى تمكن من ا َّ
تعليمها مساملة الزمان بل ما يفوق هذه املساملة؟
يجب عىل اإلرادة وال أعني سوى إرادة االقتدار أن توجِّ ه مشيئتها إىل ما هو
أعظم من املساملة ،ولكن أنَّى لها ذلك ومن سيع ِّلمها أن توجه هذه املشيئة إىل ما
فات؟
وتوقف زارا عن الكالم فجأة كأن رعبًا شديدًا حل به؛ فاتسعت حدقاته وشخص
بأتباعه ساب ًرا أفكارهم غري أنه ما لبث أن عاد إىل الضحك ،فقال بكل هدوء :ما
ً
وخاصة إذا كان ثرثا ًرا. تهون الحياة بني الناس ألن الصمت صعب عىل املرء
هكذا تكلم زارا …
ولكن األحدب الذي كان يصغي إىل هذا الحديث ،وهو يسرت وجهه بيديه سمع
قهقهة زارا ففتح عينيه مستغربًا وقال :ملاذا يخاطبنا زارا بغري ما يخاطب به
أتباعه.
فقال زارا :وهل من عجب يف هذا؟ أفما يصح أن يُخاطب األحدب بأقوال لها
حدبتان.
فقال األحدب :وال عجب ً
أيضا يف أن يخاطب زارا تالميذه كمعلم أوالد ،ولكن
ملاذا يخاطب أتباعه بغري ما يخاطب به نفسه؟
172
حكمة البشر
ليست األعايل ما يخيف بل األعماق ،فعىل الجرف تحدق العني يف الهاوية وتمتد
اليد نحو الذرى فيقبض الدوار باإلرادتني عىل القلب.
أفتعلمون أيها الصحاب ما هي إرادة قلبي املزدوجة؟ إن الخطر املحدق بي عىل
منحدري إنما هو اتجاه نظري إىل الذروة بينما تتلمس يدي مستندًا يف الفضاء،
وما أعلق إرادتي َّإل عىل اإلنسان فتشدني إليه مرهقات القيود؛ ألنني منجذب منه
إىل اإلنسان املتفوق فإليه تندفع إرادتي الثانية ،إنما أنا أحيا بني الناس كالرضير
ال يعرف من حوله ،كيال تفقد يدي ثقتها من الوقوع عىل مستند مكني.
أنا ال أعرفكم أيها الناس ،تلك هي ظلمتي َّ
أتلفع بها وتعزيتي ألجأ إليها.
فأنا جالس أمام الباب متوجهً ا إىل األوغاد صائحً ا بهم :إيل َّ يا من يريد أن
يخدعني.
إن أول حكمة برشية أعمل بها هي أن أستسلم لخداع الناس ،فال أضطر إىل
الوقوف أبدًا موقف الحذر ألن يف الناس من يخدعون.
ولو أنني وقفت هذا املوقف يف العالم أكان يتسنَّى لإلنسان أن يثقل منطادي
فيمنعه من االنفالت واالنطالق إىل أبعد اآلفاق؟
إن إغفايل للحذر إنما هو عناية تسهر عيل َّ إليصايل إىل ما هو مقدور.
إذا أنت امتنعت عن الرشب من كل كأس فإنك هالك ظمأ ،فإذا أردت أن تبقى
طاه ًرا بني الناس فعليك أن تتعود االغتسال باملاء القذر.
ل َكم ناجيت قلبي ألعزيه ،فقلت له :صربًا أيها القلب الهرم ،إنك لم تفلح بهذه
173
النقمة فتنعَّ م بها كأنها نعمة.
وهذه حكمتي البرشية الثانية :إنني أداري املغرور بأكثر مما أداري الفخور؛
ألن الغرور الجريح مبعث كل النائبات ،يف حني أن العزة الجريحة تستنبت
جرحها ما هو خري منها.
إذا لم يحسن املمثلون لرواية الحياة أدوارهم فيها فخري لك أال تشهدها ،وليس
أمهر من أهل الغرور يف التمثيل؛ ألنهم يقومون بأدوارهم وكل إرادتهم متجهة
إىل اكتساب رىض املشاهدين وإعجابهم ،وهم ال يدخرون وسعً ا يف سبيل خلق
شخصيتهم وتمثيلها؛ لذلك يلذ يل أن أنظر من خاللهم إىل الحياة فهم خري دواء
ً
ممثل أمام للسوداء ،أنني أداري أهل الغرور ألنهم أُساة أحزاني املقيمون اإلنسان
عياني.
وفوق ذلك فمن له أن يسرب األعماق يف تواضع املغرور؟ فأنا أريد الخري ملثله
وأشفق عليه بسبب اتضاعه ،فهو يريد أن يقتبس منكم ثقته بنفسه متغذيًّا من
ً
متسول الثناء من تصدية أكفكم ،إن املغرور ليصدق أكاذيبكم إذا ما نظراتكم،
أحسنتم إيرادها عنه ،فما هو إال حائر يشك بأعماق نفسه يف قيمة نفسه.
إذا كانت الفضيلة الحقيقية تجهل ذاتها ،فاملغرور كذلك ال يعرف شيئًا عن
تواضعه.
ً
سبيل إىل أما حكمتي البرشية الثالثة فقائمة عىل أنني ال أدع الستحيائكم
رس بالنظر إىل ما تخلق حرارة الشمس من تنفريي من مشاهدة األرشار ،فأنا أ ُ ُّ
عجائب املخلوقات كالنمور وأشجار النخل واألفاعي ذوات األجراس ،ولكم بني
الناس من أمثال لهذه املخلوقات العجيبة أفقستها حرارة الشمس ً
أيضا ،ويف
األرشار من البدائع اليشء الكثري …
ً
مبالغا يف عقل ال يبلغ يف نظري منتهى الحكمة ،كذلك ال أرى الرش إالإن أوفركم ً
وصفه ،ولكم تساءلت مشك ًكا :ملاذا ال تزال األفاعي ُّ
تطن بأجراسها؟
174
إن لكل يشء مستقبله حتى الرشور ،فالظهرية البالغة التناهي يف إرشاقها لم
تنكشف لإلنسان حتى اليوم ،لكم من أمور تُعترب رشو ًرا يف هذا الزمان وهي ال
تتجاوز الثالث عرشة قدمً ا حجمً ا ،وال الثالثة أشهر بقاء ،وغدًا سيولد ما هو أعظم
ً
خليقا باإلنسان املتفوق ،فإن منها ،وال بد من أن تخلق الحيا ُة التن َ
ني املتفوق
شموسا محرقة ستُدخل حرار َة اإلبداع يف الغابات الغضة الرطبة التي لم تمسسها ً
ي ٌد بعد.
ال بد من أن تصبح وحوشكم نمو ًرا وعقاربكم تماسيح ،فيجد القنَّاص يف الغاب
ما يرضيه.
والحق أن فيكم كثريًا من املضحكات يا رجال العدل والصالح ،ولشد ما
ً
إبليسا ،لقد بعد املجال بني روحكم وكل عظيم، يضحكني خوفكم ممن دعوتموه
فإذا ما الح لكم اإلنسان املتفوق بصالحه أورثكم ً
خوفا ورعبًا ،فإنكم أيها الحكماء
والعلماء ،ستولون األدبار إذا ما لفحتكم الحكمة املشعة عىل اإلنسان املتفوق يف
غبطته وعريه.
لقد وقعت عيني عليكم ،أيها العظماء ،فأدركت هذا الرس ،وهأنذا أُعلنه لكم:
إنكم ستصفون اإلنسان املتفوق الذي أنبئكم به بأنه شيطان الشياطني.
ً
إرهاقا يل أوفرهم عظمة ،فأنا أتوقف إىل اجتياز أتعبني هؤالء العظماء ،وأشدهم
مرتبتهم فأفوتها وأنا أتجه إىل اإلنسان املتفوق.
لقد عرتني هزة عندما شاهدت خيار العظماء يف عريهم ،فشعرت بجناحني
استنبتهما ساعداي ألح ِّلق بعيدًا عنهم يف آفاق الدهور اآلتية .إنني أتوجه إىل
الدهور البعيدة ،إىل الظهريات الغارقة بأنوار لم يحلم بها الفن من قبل ،فهنالك
تتجىل اآللهة خجولة من كل ما يقع من حادثات عىل األرض.
ليتني أراكم متنكرين ،أيها اإلخوة واألقرباء ،أهل الصالح والعدل ،فتبدون
بحللكم وقد نفخها الغرور ،وليتني أجلس بينكم متنك ًرا أنا ً
أيضا ،كيال أعرف من
175
أنا؛ ألن هذه آخر حكمة يل من حكم البرش.
هكذا تكلم زارا …
176
أعمق الساعات صم ًتا
177
فانتفضت وأجبت بلهجة املتحدِّي :أجل إنني أعرف هذا ،ولكنني ال أريد أن
أعلن ما أعرف.
ِ
تخف نفسك وراء هذا فقالت «هي» وال صوت لها :أصحيح أنك ال تريد؟ ال
التحدي يا زارا.
قائل :وياله ،أريد أن أُرصِّ ح ،ولكن هل ذلك
فأخذت أبكي وأرتعش كالطفل ً
بإمكاني؟ أعفيني من هذه املهمة ألنها تفوق طاقتي.
فقالت ،وال صوت لها :وما أهميتك أنت يا زارا ،قل كلمتك وتح َّ
طم.
فقلت :أهي كلمتي ما يهم ،فمن أكون أنا؟ إنني أنتظر من هو أجدر مني
بإعالنها ،وما أنا أهل ألصطدم باملنتظر فأنحطم عليه.
فقالت ،وال صوت لها :وما أهميتك أنت ما دمت لم تصل بعد إىل ما أريده من
االتضاع؟ وما أقىس ما يتشح االتضاع به ،وما أصلب جلده!
فقلت :لقد تحمَّ ل جَ َل ُد اتضاعي كثريًا ،فأنا ساكن عند قاعدة ارتفاعي ،ولم
يدلني أحد بعد عىل ذراه العاليات ،ولكنني تمكنت من سرب أغواري ومعرفتها.
فقالت ،وال صوت لها :أي زارا ،أنت املع ُّد لنقل الجبال من مكان إىل مكان ،أفما
بوسعك أن تنقل أغوارك ومهاويك ً
أيضا؟
فقلت :لم تنقل كلمتي الجبال بعد ،فإن ما قلته لم يبلغ حتى آذان الناس ،لقد
أتيت إىل العالم غري أنني لم أتصل به بعد.
فقالت ،وال صوت لها :وما يدريك …؟ إن الندى يتساقط عىل العشب يف أشد
أوقات الليل سكوتًا.
فأجبت :لقد هزأ الناس بي عندما اكتشفت طريقي ومشيت عليها ،والحق
أن رجيل َّ كانتا ترتجفان إذ ذاك ،فقال يل الناس :لقد ضللت سبيلك يا زارا ،بل
أصبحت ال تعرف أن تنقل خطاك.
178
فقالت ،وال صوت لها :وأية أهمية لسخريتهم؟ لقد تخ َّلصت من الطاعة يا
زارا ،فوجب عليك أن تأمر اآلن ،أفال تعلم أن من يحتاج الجميع إليه بأكثر من
احتياجهم إىل أي يشء إنما هو من يقيض يف عظائم األمور؟
إن القيام بالكبائر صعب ،وأصعب من هذا أن يأمر اإلنسان بها .إن ذنبك الذي
ال يغتفر هو أنك ذو سلطان وال تريد أن تتح َّكم.
قلت :ليس يل صوت األسد ألُصدِر أوامري.
فقالت — كأنها تهمس ً
همسا :ال يثري العاصفة إال الكلمات التي ال صوت لها.
إن من يدير العالم إنما هي األفكار التي تنترش كأنها محمولة عىل أجنحة الحمام.
عليك أن تسري يا زارا كأنك شبح ملا سيكون يومً ا يف آتي الزمان ،هكذا تندفع يف
سبيلك إىل األمام وأنت تتوىل الحكم.
فقلت :إن الخجل يتوالني.
طفل فيذهب خجلك عنك .إن غرور فعادت تقول ،وال صوت لها :عليك أن تعود ً
الشباب َّملا يزل مستوليًا عليك؛ ألنك بلغت الشباب متأخ ًرا ،ولكن عىل من يريد
الرجوع إىل طفولته أن يتغلب عىل شبيبته.
واستغرقت يف تفكريي وأنا أرتجف ،ثم عدت إىل تكرار كلمتي األوىل ً
قائل :ال
أريد ،وعندئذ ارتفع حويل صوت قهقهة مزقت قلبي وصدَّعت أحشائي.
وقالت «هي» للمرة األخرية :أي زارا ،إن أثمارك ناضجة ،غري أنك لم تنضج أنت
ألثمارك ،فعليك إذن أن تعود إىل العزلة لتزيد يف قساوتك لينًا.
وعاد الضحك يتعاىل ،فشعرت أنها انرصفت عني «هي» وعاد الصمت يسود
بأعمق مما كان حويل ،أما أنا فبقيت منطرحً ا عىل األرض سابحً ا يف عرقي.
واآلن ،وقد أعلنت لكم كل يشء أيها الصحاب ،فهأنذا أعود إىل عزلتي وما أخفيت
عنكم شيئًا .أرحل عنكم بعد أن علمتكم أن تعرفوا من هو أشد الناس تكتمً ا ،ومن
179
يريد أن يكون كتومً ا.
وا أسفاه ،أيها الصحاب ،إن لديَّ ما أقوله لكم ً
أيضا ،ولديَّ ما أبذله ،فلماذا ال
أبذله اآلن؟ ألعلني أصبحت شحيحً ا؟
وما نطق زارا بهذا حتى أرهقه سلطان حزنه الضطراره إىل الرحيل ،فبكي
منتحبًا وما تمكن أحد من تعزيته ،ومع هذا ما أرخى الليل سدوله حتى ذهب زارا
وحده تحت جنح الظالم متخليًا عن صحبه.
180
الجزء الثالث
المسافر
وكان قد انتصف الليل عندما توجه زارا إىل أكمة الجزيرة ،وهو يج ُّد يف السري
ليبلغ الشاطئ اآلخر عند بزوغ الفجر؛ إذ كان يقصد اإلبحار من هذه الجهة حيث
ترسو بعض املراكب لتق َّل طالب املهاجرة من الجزر السعيدة.
وتذ َّكر زارا الرحالت التي قام بها منفردًا منذ صباه ،فمرت بمخيلته رسوم
الجبال والتالل والذرى التي تسلقها يف حياته ،فقال« :ما أنا إال رحَّ الة ومتسلق
مرتفعات ،وما تستهويني منبسطات األرض وال يستقر بي مقام ،ومهما ُقدِّر عيل َّ
ومهما وقع يل فال تعدو الحوادث أن تكون يف نظري رحلة واعتالء ،فما يل أن أرى
من اآلفاق إال ما انطبع منها يف نفيس ،ولقد مىض الزمن الذي كان يل فيه أن أتوقع
الحوادث من خطرات الحظ ،وهل يل أن أنال من الدهر شيئًا لم يستقر يف نفيس
من قبل؟
إن كل ما يطرأ عيل َّ بعد اآلن إنما هو ذاتي العائدة تكرا ًرا بعد انفراطها وتمازجها
يف األشياء وتصاريف الزمان .غري أنني أصبحت اآلن عىل مدرج آخر الذرى أمام
أصعب مسلكٍ ما اقتحمت مثله يف حياتي ،فأنا أبدأ اآلن أش َّد رحالتي عناء وأروعها
وحشة.
وأنَّى ملثيل أن يتجنَّب مثل هذه الساعة التي تهتف قائلة :إنك عىل مبدأ طريق
املجد حيث تتداخل الذرى يف املهاوي .أنت تسري عىل هذه الطريق ،وكنت تراها
181
ً
قبل آخر ما تقتحم من أخطار ،فأصبحت لديك آخر ملجأ تهرع إليه.
إنك تسري عىل طريق املجد فعليك أن تتذرع بالحزم األوىف؛ لتقطع بنفسك خط
الرجوع عىل نفسك.
إنك تسري عىل طريق املجد ،فأنت منفرد عليها ال يزحمك أحد من ورائك ،وقد
محت أقدامك آثار خطاك عىل ما وراءك من املسالك ،والحت كلمة املستحيل
مخطوطة عىل آفاق هذه الطريق.
وال بد لك إذا ما خلت املدارج تحت أقدامك أن تتسلق قمة رأسك؛ إذ ال سبيل لك
لالعتالء إال إذا اتجهت إليه وإىل ما وراءه وأنت تدوس عىل قلبك ،وهكذا سيُشقيك
ما كان يحلو لديك.
إن من أفرط يف ادخار جهوده ال يلبث حتى يُبتىل بالخمول ،تبارك ك ُّل جهد
يشد العزم ،فال خري يف أرض تد ُّر اللبن والعسل ،ومن يطمح إىل اإلحاطة بأمور
كثرية فليتدرب عىل إرسال أبصاره إىل ما وراء حدود ذاته ،وعىل كل متسلق للذرى
ً
متجسسا بفضوله إال أن يتعزز بمثل هذا الحزم؛ إذ ال يسع من يتحرى األمور
الوقوف عند أسهل األفكار ً
منال ،وأنت يا زارا تطمح إىل اإلحاطة بالعلل وإىل نفوذ
خفايا األمور ،فعليك أن تحلق فوق ذاتك فتجتازها متعاليًا حتى ترى ما فيك من
كواكب وهي تتصاغر يف كل أفق دون أفقك الرفيع.
أجل إن ذروتي إنما هي حيث أقف ناظ ًرا إىل األعماق فأرى فيها ذاتي وكواكبها،
تلك هي آخر هضبة أطمح إىل بلوغ قمتها».
ً
معلل بالتعاليم الصارمة ما يف بهذا كان يناجي زارا نفسه ،وهو يصعد املرتفع
قلبه من جراح.
وعندما بلغ الذروة انبسط البحر أمام ناظريه ،فوقف مبهوتًا واستغرق يف
صمت طويل ،وكانت السماء ال تزال تتألق بالنجوم والهواء يهب باردًا عىل األكمة.
182
وهتف زارا حزينًا« :لقد تبيَّنت ما ُقدِّر عيلَّ ،وها أنا ذا مستعد لإلقدام فهذه آخر
عزلة أقتحمها.
سأنحدر إليك أيها البحر املظلم املنبسط عند أقدامي ،أنت الليايل املفعمة
باألحزان ،أنت القضاء والقدر أيها الخِ َضم البعيد.
إنني أقصد أرفع جبايل مقتحمً ا أبعد أسفاري فعيل َّ إذن أن أهبط إىل ٍ
مهاو أبعد
يف أغوارها من كل ذروة رقيتها حتى اآلن.
ُ
رسبت يف مثلها من قبل فأصل إىل قرارة ما عيل َّ أن أذهب من األىس إىل أغوار ما
ُ
يف األحزان من ظلمات .ذلك ما ُقدر عيل َّ فأنا عىل أ ْهبة اقتحامه.
لقد تساءلت فيما مىض عن منشأ الجبال فعرفت أخريًا أنها نهدت من البحار،
كما تشهد صخورها وجروف ذرواتها ،فما يبلغ األعىل مقامه إال النطالقه من
املقام األدنى».
هكذا تكلم زارا ،وهو ماثل عىل قمة الجبل تدور به لفحات الصقيع ،ولكنه ما
بلغ الشاطئ ووقف بني نتوءات صخوره حتى ح َّل عليه التعب وتزايدت أشواقه،
فقال« :إن البحر هاجع ً
أيضا فعينه الو َْسنى تحدجني بلفتات غريبة وأنفاسه
الح َّرى تهب عيلَّ .إنه مستغرق يف أحالمه يتقلب مضطربًا عىل جافيات مسانده،
إنني أستمع لهديره كأنه ينئ بتذكارات مفجعات ،وقد يكون هذا الهدير نذي ًرا
بالشؤم يف آتي الزمان.
إنني أشاطرك األىس أيها املدى املظلم الوسيع ،فأنا بسببك ناقم عىل نفيس أتمنى
لو طالت يدي فأنقذك من أصفاد أحالمك».
وانتبه زارا ،فإذا هو يضحك ساخ ًرا من ذاته فتمرمر وتساءل عما إذا كان سيبلغ
به حماسه إىل إطالق إنشاده لتعزية البحار ،وعما إذا كان سيستمر مضعضعً ا
يف سكرة غرامه واستسالمه فقال« :لقد عرفتك يف كل زمان يا زارا تقتحم األمور
الخطرية بال كلفة وبال مباالة ،وقد رأيتك طوال حياتك تدغدغ الوحوش املفرتسة،
183
فكان يكفيك منها أن تهتاج حبك بأنفاسها الح َّرى وبنعومة مخالبها لتجتذبك
إليها.
ليس من خطر أعظم من الحب يحدق باملستغرق يف عزلته ،فإن املنفرد يحب
كل يشء يتنسم فيه الحياة ،وما أعجب جنوني بالحب وتساهيل فيه!»
هكذا تكلم زارا وقد عاد إىل الهزء بنفسه ،غري أنه تذكر مَ ن هجر من خالنه،
فخيل إليه أنه يُيسء إليهم بتفكريه فيهم ،فنقم عىل نفسه وانقلب من ضحكه إىل
البكاء ،فسالت دموعه مريرة يتمازج فيها الغضب والشوق.
184
الرؤى واأللغاز
1
وعندما تناقل البحارة خرب وجود زارا بينهم — وكان بلغهم ذلك من رجل
دخل السفينة معه قادمً ا من الجزر السعيدة — ساد الجميع يشء من القلق
وباتوا يتوقعون حدثًا يف وجوده ،غري أن زارا بقي يومني جامدًا تساوره أحزانه،
تحدق فيه األنظار فال يلتفت ،وتوجَّ ه إليه األسئلة فال يجيب ،وأخريًا أصغى ملا
أبحاث لها خطورتها تدور عىل هذه السفينة القادمة ٍ يقال حوله متوقعً ا سما َع
من بعيد واملتجهة إىل أماكن سحيقة ،وما كان زارا لينفر من األسفار البعيدة
طويل حُ َّلت عقدة لسانه فانطلق يقول :إليكم أيها
ً ومن األخطار ،وبعد أن أصغى
الشذاذ الجريئون أيًّا كنتم ،أيها املستسلمون للرشاع الغدار عىل هائجات األمواج.
إليكم أيها الثملون بخمرة األرسار ،املنجذبون بني خيوط الظلمات واألنوار إىل
نغمات كل شبَّابة تنوح يف املجاهل الخفية ،إنكم تنفرون من تَلمُّ س طريقكم بيد
مرتجفة عىل ما نُصب من دليالت الحبال؛ إذ تفضلون اإلدراك بالحس عىل اإلدراك
باالستقراء.
إليكم دون سواكم أوجه الخطاب أل ُ ْخ ِب بما تجىل من ألغاز وبما خطر من رؤى
ً
استغراقا يف عزلته. ألش ِّد الناس
لقد اجتزت الغسق يف أشد فرتاته وجومً ا ،اقتحمته وقد تقلصت شفتاي وعال
ً
شموسا كثرية تجنح إىل الغروب. وجهي االغربار ،وكنت شاهدت من قبل
ً
طريقا وع ًرا تعرى جانباه ً
طريقا يتسلل عىل جروف املرتفعات، رأيت أمامي
من كل نبات فدفعت عليه أقدامي أتحداه فأسمع رصيف حصاه تحتها.
185
مشيت صامتًا أحاول تثبيت الحىص املتطايرة بخطواتي؛ ألنجو من االنزالق
عليها.
واعتليت فإذا بروح الكثافة وهو عدوي األلد يش ُّد بي إىل األعماق ،واعتليت ً
أيضا
والخ ْلد من سكان األوجار يسكب يففإذا بهذا الروح املطبق عيل َّ كالقزم من الناس ُ
متمهل هازئًا :أيْ زارا،
ً أذني ودماغي كلمات ثقيلة كالرصاص ،فسمعته يقول يل
أيها الحجر املدَّعي الحكمة ،لقد رشقت نفسك إىل ما فوق ،ولكن أي حجر ارتفع
ولم يسقط عائدًا إىل مصدره؟
أيْ زارا أيها الحجر الحكيم املنقذف إىل العال ليزعزع الكواكب يف مدارها ما أنت
إال القاذف واملقذوف معً ا ،فال بد لك من السقوط ككل حجر يُرشق إىل ما فوق.
لقد حكمت بالرجم فكان حكمك به عىل نفسك ،وهذا الحجر الذي فوَّقته سريجع
طا عليك.ساق ً
ً
طويل حتى ضاقت من سكوته أنفايس ،فالرفيق الصامت يشعرك وسكت القزم
بوحشة االنفراد أكثر مما تشعر بها وأنت وحدك ال رفيق لك.
وارتقيت ً
أيضا وأنا تائه يف تفكريي وأحالمي شاعر بتزايد الضيق يف صدري
كأنني عليل نبهته أضغاث أحالمه فاستفاق ليشعر بأوجاعه.
غري أنني أعهد بنفيس قوة أسميها شجاعة ،وهي القوة التي أرغمت بها كل وهن
يف نفيس ،بهذه الشجاعة تذرعت فصحت بالقزم ً
قائل :إن واحدًا منا يجب عليه
أن يتوارى.
ما من قاتل كالشجاعة التي تهاجم ،وما من فيلق يتقدم إال ويف طليعته األنغام
الحاديات.
إن أوفر الحيوانات شجاعة إنما هو اإلنسان الذي قهر بشجاعته سائر
الحيوانات ،وتغ َّلب عىل جميع األوجاع ماشيًا وراء حاديات األنغام بالرغم من أن
أوجاع اإلنسان أشد ما يف الكون من أوجاع.
186
وللشجاعة ً
أيضا فضيلة ردع الدوار املستويل عىل الرءوس حني تحدق يف األعماق،
وما من موقف لإلنسان ال هاوية تحته وما عليه إال أن يحدق لريى املهاوي من أي
موقف يف مواقفه.
إن الشجاعة خري ما يقتل فإنها تقتل اإلشفاق ً
أيضا ،وما من هاوية أبعد قرا ًرا
من اإلشفاق؛ ألن نظر اإلنسان ليذهب وهو يسرب اآلالم إىل أقىص مدى يبلغه عند
سربه الحياة نفسها.
إن خري ما يقتل إنما هي الشجاعة إذا هاجمت؛ ألنها ستتوصل أخريًا إىل قتل
املوت نفسه؛ ألنها تقول يف ذاتها« :يا للعجب! أهذا ما كانت الحياة؟ إذن ألرجعن
إليها مرة أخرى ».إن يف مثل هذه العقيدة أش َّد حِ داء يدفع إىل اإلقدام ،من له أذنان
سامعتان فليسمع.
2
قائل :يجب أن يبقى أحدنا ويفنى اآلخر .إنني أنا األقوى؛ واستوقفت القزم ً
ألنك ال تدرك أعمق أفكاري ،وما أعمقها إال فكرة ال قِ بَل لك باحتمالها .فارتمى
فخف حميل ،فإذا بهذا القزم يجلس القرفصاء عىل حجر أمامي، َّ القزم عن كتفي
وإذا نحن تجاه باب كأنه وجد صدفة هناك فقلت لرفيقي :انظر إىل هذا الباب فإن
له واجهتني ،وهنا ملتقى مسلكني لم يبلغ إنسان أقصاهما؛ أحدهما منحدر يمتد
إىل أبدية ،واآلخر مرتفع يمتد إىل أبدية أخرى ،واملسلكان يتعارضان متقاطعني
عند هذا الباب ،وقد ُكتب اسمه عىل رتاج واحد «الحني».
فقلت :أتعتقد أيها القزم أن من يتوغل يف أحد هذين املسلكني يبقى معتقدًا بأن
اتجاه أحدهما معارض التجاه اآلخر؟
فقال القزم بازدراء :إن كل اتجاه عىل خط مستقيم إنما هو اتجاه مكذوب
فالحقيقة منحرفة؛ ألن الزمان نفسه خط مستدير أوله آخره.
فأجبته ً
قائل :ال تستخف باألمر أيها الروح الكثيف ،وإال غادرتك فتعطب رجلك
187
تنس أنني أنا حملتك إىل األعايل .تفكر يف «الحني» الذي نحن فيه حيث أنت ،وال َ
اآلن ،فإن من بابه يمتد سلك أبدي ال نهاية له مرتاجعً ا إىل الوراء ،فإن وراءنا أبدية
يا هذا.
188
للكالب ً
أيضا أن يف العالم أشباحً ا.
ونبَّه نباح الكلب إشفاقي؛ إذ تذكرت أنه عندما عوى منذ هنيهة كان القمر يطل
من وراء البيت صامتًا كاملوت ،ومنذ هنيهة كان هذا القمر يستقر فوق السطح
كقرص ملتهب يراود ما ليس له ،وذلك ما أثار غضب الكلب؛ ألن الكالب تؤمن
بالسارقني واألشباح.
عندما سمعت هذا النباح للمرة الثانية عاودني اإلشفاق تكرا ًرا.
أين توارى القزم اآلن ومعه الباب والعنكبة وأحاديث املناجاة؟ أكنت يف حلم
فاستفقت ،فأنا اآلن وحيد بني جرداء الصخور ال سمري يل غري شعاع القمر املنفرد
يف السماء.
لكنني رأيت ً
رجل مسجَّ ى عىل األرض ،وكان الكلب يقفز وقد اقشع َّر جلده وهو
يهدر هدي ًرا ،وإذ رآني قادمً ا نحوه بدأ بالنباح فتساءلت عما إذا كنت سمعت من
قبل كلبًا ينبح بمثل هذا الرصاخ املستغيث.
والحق أن ما رأيت يف ذلك املكان ما كنت رأيت مثله؛ ألنني شاهدت أمامي راعيًا
فتيًّا ينتفض محترضً ا ،وقد ارتسم الروع عىل وجهه وتدلت من فمه أفعى حالكة
السواد ،فتساءلت عما إذا كنت رأيت قبل اآلن مثل هذا االشمئزاز والشحوب عىل
ط يف رقاده عندما انسلت األفعى إىلوجه من الوجوه ،لعل هذا الراعي كان يغ ُّ
حلقه وانشبكت فيه.
وبدأت أسحب األفعى بيدي ،ولكنني شددت عبثًا ،فسمعت من داخيل صوتًا
تن حتى تقطع رأسها ،وهكذا عض عليها بأسنانك وال ِ قائلَّ :
يهيب بالراعي ً
سمعت بهذا الهتاف أصوات رعبي واشمئزازي وضغينتي وإشفاقي كأنها صوت
واحد يتعاىل مني.
فيا أيها الشجعان املحيطون بي ،أيها الشذاذ املكتشفون ،يا من تقتحمون
مجاهل البحار مستسلمني للرشاع الغدَّار ،وأنتم ترسون باملعميات واأللغازِّ ،
عبوا
189
رؤى املنفرد وحلوا ما رأى من معميات وقد كمن فيها ما كان وما سيكون.
أي هذه الرموز يدل عىل ما فات وأيها يدل عىل ما هو آت؟
اندست األفعى يف فمه؟ ومن هو اإلنسان الذي سيصاب من هو الراعي الذي َّ
بمثل هذه الداهية الدهماء؟
عىل أن الراعي بدأ يشد بأسنانه منفذًا ما أرشت به ،وما لبث أن تَ َفل دافعً ا برأس
األفعى إىل بعيد ،ثم انتفض ووقف عىل قدميه.
وتبدلت هيئة الراعي فلم يعد راعيًا حتى وال إنسانًا؛ إذ جلله اإلشعاع وضحك
ضحكة ما سمعت حياتي مثلها.
لقد سمعت يا إخواني ضحكة ليست من عالم اإلنسان ،ولم أزل منذ ذلك الحني
أحرتق بشهوة ال أجد ما يطفئها .إن شهوة هذه الضحكة تنهش أحشائي فكيف
أرىض املوت بعد اآلن.
هكذا تكلم زارا …
190
الغبطة القاسرة
وسار زارا يقطع أبعاد البحر تساوره مثل هذه الهموم ،وتدور به مثل هذه
األرسار ،حتى إذا تخطى مجال أربعة أيام عن الجزر السعيدة وما ترك عليها
من صحبه ،اشتدت عزيمته فتغلب عىل آالمه ،وثبَّت قدميه يف موقفه متجهً ا إىل
مقدراته مناجيًا رسيرته وقد عاد إليها مرحها ورسورها ً
قائل :لقد فزعت إىل
عزلتي؛ ألنني تقت إليها ،فأنا اآلن منفرد أمام صفاء السماء ومدى البحار ،وقد
خطا النهار إىل عرصه وما التقيت بأصحابي للمرة األوىل إال يف وقت العرص،
ويف مثل هذا اليوم اجتمعت بهم للمرة الثانية ،والعرص هو الساعة التي يهدأ
فيها اضطراب األنوار جميعها؛ ألن السعادة الذاهبة بددًا منشورة عىل مسالكها
بني السماء واألرض تتجه إىل االستقرار يف روح الضياء ،وها إن السعادة تحوِّل
اضطراب النور إىل سكون.
أيضا قد انحدرت يومً ا إىل الوادي تطلب فيا لعرص حياتي! إن سعادتي هي ً
مستق ًرا ،فلقيت هذه األرواح النرية تفتح لها امللجأ األمني.
ً
توصل إىل مغارس أفكاري يا لعرص حياتي! ل َكم تخليت عن أشياء يف الحياة
أماني وآمايل.
َّ الحية ،وإىل أنوار الصباح تدور يف ذراتها أسمى
لقد طلب املبدع يومً ا ً
رفاقا له وفتش عن أبناء آماله ،فأدرك أنه لن يجدهم إذا
هو لم يخلقهم ً
خلقا.
لقد أتممت نصف مهمتي باتجاهي نحو أبنائي وبعودتي إليهم ،وقد وجب عىل
زارا أن يُبْلِغ نفسه الكما َل من أجل هؤالء األبناء ،وما يحب اإلنسان من صميم قلبه
إال ابنه ونتيجة جهوده ،وحيث يتجىل الحب األشد فهنالك تكمن القوة املو ِّلدة ،ذلك
ما أدركته بتفكريي.
191
إن أزهار أبنائي ال تزال تتفتق يف الربيع والريح تهب عىل صفوفهم فتهزها،
فأبنائي أشجار حديقتي ونبت خري أرايضَّ .
إن هذه األشجار مرتاصة يف منابتها عىل الجزر السعيدة ،ولسوف أقتلعها
واحدة فواحدة ألغرسها متفرقة فتتعلم احتمال العزلة وتنشأ فيها األنفة والحزم؛
لينتصب كل منها تجاه البحر وقد تصلبت جزوعها وتعقدت أغصانها كمنائر
حية للبقاء القاهر.
عىل كل شجرة أن تشخص يف مهب العواصف املرتامية إىل البحر حيث يتدافع
ليل ونها ًرا عن تفحص رسائرها ،عليها أنالغمر إىل قاعدة الجبل ،فال تغفل ً
تتحمل التجارب ليُعلم أنها من ساللتي وأنها تحدرت من أصيل تعززها اإلرادة
املجالدة ،فتبدو صامتة حتى عندما تتكلم ،وإذا ما استسلمت تبدو معطية وهي
آخذة ،وهكذا يتحول من يميش عىل أثر زارا بأرضابه وبإبداعه إىل شخصية تحفر
رشيعتي عىل الواحي فيكتمل بذلك كل يشء.
وهأنذا من أجل هذه الشخصية وأمثالها أسعى إىل تكوين شخصيتي؛ فأمتنع
عن ورود السعادة مقتحمً ا كل شقاء يف آخر تجربة أتحملها ألدرك رسيرتي.
لقد آن األوان لرحييل وقد نبَّهني إىل وجوب الرحيل خيال املسافر وأطول األزمان
وأعمق الساعات صمتًا؛ إذ نفخ الريح يف فتحة القفل فرتاجعت درفة الباب قائلة:
هيَّا.
ولكنني كنت مقيدًا بحبي ألبنائي يأرسني تشوقي إىل هذا الحب ألصبح فريسة
لهؤالء األبناء فأضحي من أجلهم نفيس ،وما الشوق عندي إال صورة ظاهرة
ً
مستحيل لحقيقة فنائي .إن أبنائي يل ويف هذه التملك يجب أن يضمحل كل شوق
إىل عقيدة مكينة.
وكان رأيس يلتهب بشمس محبتي فأتح َّرق بحرارة دمي ،فرأيت أشباح الشكوك
تدور بي من كل جهة فتمنيت أن يلفحني ق ُّر الشتاء حتى تصطك أسناني من
192
رعشة الصقيع ،وما عتم أن اكتسح نفيس ضباب الجليد ،فشق املايض لحوده
وبُعثت منه اآلال ُم التي دُفنت وهي حية فيها ،وما تناولها الفناء ألنها كانت نائمة
عىل أكفانها.
وكان كل يشء يشري إيل َّ بأن قد حان زمن الرحيل ،ولكنني كنت ال أنتبه إىل هذه
الدعوة حتى تحركت أعماقي ولسعتني ثائرات أفكاري ،ويا ليت يل القوة للتغلب
عىل ارتعايش عندما أشعر بقوة التفكري يف أغواري تحاول أن تخرتق لها منفذًا،
فإنني ال أزال أحس باختالج قلبي عندما أتنصت لدبيب أفكاري وهي تحاول
االنجالء يل .إن يف صمتكِ نفسه أيتها الفكرة ما يشد عىل عنقي وأنت أشد صمتًا
من أغواري ،ول َكم حاولت أن أستخرجك من األعماق أيتها الفكرة فخانني العزم
واكتفيت بإضماري إياك يف ذاتي .إنني لم أتصل بعد إىل جرأة األسد وإىل منتهى
إقدامه.
إنكِ لج ُّد ثقيلة يف أغواري أيتها الفكرة ،ولسوف أجد يومً ا قوة األسد ،وأتخذ
ُ
تغلبت بذلك عىل نفيس لصوتي زئريه فأرفعك من الغور إىل املنبسط ،حتى إذا ما
تدرجت إىل انتصار أعظم أختتم به أعمايل ،وإىل أن أبلغ هذا الظفر سأبقى تائهً ا
َّ
فأتلفت إىل ما ورائي وإىل ساحل تداعبني خطرات األحداث ً عىل بحار ال أعرف لها
ما أمامي وال أعلم أين املنتهى.
ألم تحِ ْن بعد ساعة جهادي األخري أم هي ماثلة أمامي اآلن؟ والحق أن البحر
والحياة يحيطان بي بجمالهما الفتَّان ويعلقان أبصارهما عيلَّ.
فيا لعرص حياتي ،يا للسعادة تتقدم ساعة املساء ،يا للمرىس يف وسط العباب،
أحاذركن وال أثق َّ
بكن جميعً ا. َّ يا للسكون يف قلب االرتياب ،إنني
أما والحق إنني أخىش جمالكن الغدَّار كما يخىش العاشق ابتسامة تجاوزت ح َّد
التلطف يف ْاف ِتارها .إنني أدفع عني ساعة السعادة كالغيور يص ُّد عن محبوبته،
وملا يزل العطف يتجىل يف قسوته وجفائه.
193
ٌ
غبطة قارسة ،وأنا أتوقع بُعدًا لك أيتها الساعة السعيدة! فقد اجتاحتني بحلولك
أعمق األحزان .لقد جئتني يف غري األوان.
بُعدًا لك أيتها السعادة السعيدة! اذهبي واطلبي لك ملجأ هنالك يف مقر أبنائي،
سارعي إليهم وباركيهم قبل حلول املساء وأَنِيليهم سعادتي.
لقد اقرتب الغسق وجنحت الشمس إىل الغروب فتوارت عني سعادتي.
هكذا تكلم زارا …
وبات يتوقع نزول شقائه به طوال ليله ،غري أنه انتظر عبثًا؛ إذ بقي الليل منريًا
ساكنًا ،واستمرت السعادة تخطو مع الساعات متقربة إليه ،وما الح الفجر حتى
قائل :إن السعادة تتأثَّرني ألنني ال أتأثَّر النساء ،وهل السعادة
بدا زارا يتضاحك ً
إال امرأة؟
194
قبل بزوغ الشمس
أيتها السماء الرافعة قبابها فوق رأيس نقية صافية ،أيتها السماء السحيقة وقد
ُ
غادرت يف أبعادك األنوار ،إنني أشخص إليك فتتملكني رعشة األشواق اإللهية.
أنا ال أسرب أغواري إال إذا َس ُ
موت إىل عليائك ،وال أشعر بطهارتي إال حني يجللني
صفاؤك.
إنك تحجبني نجومك كما َّ
يتلفع اإلله بسنائه .أنت صامتة وبصمتك تذيعني يل
حكمتك.
ِ
تجليت يل اليوم يف سكونك عىل زبد اآلفاق فأعلنت لروحي املزبدة ما فيك لقد
من حب وعفافِ .
جئت إيل َّ جميلة مقنعة بجمالك تخاطبينني بال كالم ،وتعلنني
حكمتك وما كنت أعلم ما يف روحك من عفاف .أتيت إيل َّ قبل بزوغ الشمس أنا
املنفرد يف عزلتي.
أنا وأنت صديقان منذ األزل فأحزاننا واحدة كارتياعنا ،وعمق أغوارنا وشمسنا
واحدة ً
أيضا ،وما نتناجى إال لوفرة ما نعلم ،ثم يسودنا الصمت فنتبادل ما أعرف
وما تعرفني بلغة البسمات ،أفما بُعثت أنوارك من مكمن أنواري؟ أفليست فكرتك
أختًا لفكرتي؟
لقد تعلمنا كل يشء سوية ،وتدربنا سوية عىل االعتالء فوق ذاتنا متجهني إىل
صميمها مبتسمني بافرتار ال تعكره الغيوم ،وبلفتات صافية نغرقها يف سحيق
األبعاد يف حني تتدافع كاألمطار تحتنا النزعات املكبوتة وأهداف الخطيئة.
إال َم كانت تتوق نفيس عندما كنت أذهب يف الليل شاردًا عىل مسالك الضالل؟
وماذا كنت أطلب يف تسلقي الجبال نحو قممها؟ أفما كنت أنت مقصدي أيتها
195
السماء؟ وهل كانت أسفاري جميعها إال ذهابًا مع حافز التدرب؟ وهل كان
إلرادتي من هدف غري التحليق يف األجواء؟ وهل أبغضت شيئًا بغيض الغمام وكل
نقاب يلفع الضياء؟ لقد كرهت بغيض نفسه؛ ألنه يعكر صفاءك أيتها السماء.
زحفا؛ ألنها تختلسإنني أنفر من هذه الغيوم تمر كأنها قطط برية تزحف ً
مني ومنك أيتها السماء الحقيقة اإليجابية الثابتة يف كل يشء ،فأنا وأنت ننفر من
هذه الدخيالت املعكرات من هذه الغيوم الكاسحات ،فما هي إال كائنات مختلطة
يف نوعها يسودها الرتدد ،فال تعرف أن تلعن بإخالص وال أن تبارك بإخالص،
وخري يل أن ألجأ إىل مغارة أو أسقط يف هاوية من أن أقف أمامك يا سماء الضياء،
وقد عكرت صفاءك الغيوم الكاسحات ،ولكم وددت لو أنني أُسمِّ ر أردانها عىل
آفاقك بسهام الربوق الذهبية ،ثم أنزل عليها الرعود تهود قاصفة عىل مراجل
أحشائها أنني أود قرعها بعصا الغيظ؛ ألنها تحجب عني حقائقك أيتها السماء
املمتدة بأغوار أنوارها فوق رأيس كما تحجب حقيقتي عنك.
لخريٌ يل أن أسمع هزيم الرعود وولولة العواصف من أن أتنصت إىل مواء هذه
الهررة الزحَّ افة املرتددة ،ففي املجتمع أمثال لهذه الغيوم يسريون مرتددين
بخطوات الذئاب ،وقد وقفت أشد بغيض عليهم.
«عىل من ال يعرف أن يمنح الربكة أن يتعلم إنزال اللعنات ».ذلك ما ألهمتنيه
السماء الصافية مبدأ ينري سمائي كالكواكب يف أشد الليايل قتامً ا.
دمت فوقي أيتها السماء الصافية املتألقة باألنوار فإنني ال أنقطع عن منح ما ِ
الربكة وإيراد بياني إيجابًا وتأكيدًا؛ ألنري بعقيدتي جميع األغوار املظلمة.
ذراعي
َّ ً
طويل حتى أصبحت مبار ًكا ومؤكدًا ،وما ناضلت إال ألحرر لقد جاهدت
فأبسطهما للربكة ،وتقوم بركتي عىل االعتالء فوق كل يشء كما تعتيل السماء
والسقوف املكورة وقباب األجراس والغبطة الدائمة ،فطوبي ملن يبارك هكذا؛ ألن
كل األشياء قد تعمَّ دت من ينبوع األبدية وما وراء الخري والرش ،وما الخري والرش
196
إال خياالت عابرة وأحزان بليلة وغيوم مرتاكضة إىل الفناء.
والحق أن من الربكة ال من اللعنة أن نعلم بأن فوق كل يشء تمتد سماء الصدفة
وسماء الرباءة وسماء الحرية وسماء االضطراب.
ُ
أرجعت كل األشياء إن كلمة الصدفة ألقد ُم ما يف العالم من نسب لألشياء ،وقد
إىل هذا النسب النبيل فأنقذتها من عبودية املقصد والهدف ،وهكذا رفعت الحرية
ُ
علمت أن ليس والغبطة السماوية عاليًا ونصبتها كالقباب فوق جميع األشياء؛ إذ
من إرادة أبدية تعلو بها لتبسط مقاصدها فوقها.
لقد وضعت حدًّا لهذه اإلرادة بل لهذا الجنون وهذا االضطراب عندما علمت أن
ً
مستحيل ،فما هناك إال قليل من ً
مستحيل وسيبقى الوقوف عند الحقيقة كان
التعقل وذرات من الحكمة تتلقفها الكواكب كخمرية امتزحت باألشياء جميعها
ولوال الجنون ملا امتزجت بها.
ليس لإلنسان أن يُعطي من الحكمة إال ً
قليل ،غري أنني وجدت يف كل مكان
عقيدة لها سعادتها ،وهي تفضيل الرقص عىل أرجل الصدفة العمياء.
فيا أيتها السماء املمتدة فوق رأيس ،أيتها السماء الصافية املتعالية ،لقد أصبح
كل صفائك فيك قائمً ا عىل اعتقادي بأن ليس يف الكون عنكبة خالدة ،وليس فيه
من الحكمة ما تنسجه العناكب ،فلتكن مجاالتك أيتها السماء مرسحً ا لخطرات
الصدف اإللهية ،أو فلتكن خوانًا يدحرج عليه اآللهة نردهم ،فلماذا يعلو أديم
وجهك االحمرار؟ أترى جاء بياني مبهمً ا أم وردت بركتي لك لعنة عليك؟ أم
ِ
فأردت أن أتوارى ،وأكف عن الكالم؛ ألن الفجر قد الح عىل أخجلك أن أنفرد بك
اآلفاق؟
إن يف العالم من األغوار ما ال يدركه النهار ،ومن األشياء ما يجب كتمانه أمامه،
وقد باغتنا النهار ،فلنفرتق.
أيتها السماء املمتدة فوق رأيس بطهرها واضطرامها ،أيتها الغبطة املتجلية قبل
197
بزوغ الشمس ،لقد باغتنا النهار فلنفرتق.
هكذا تكلم زارا …
198
الفضيلة المصغرة
1
وملا وطئ زارا اليابسة ،لم يتجه توًّا إىل جبله وغاره ،بل ذهب يرضب يف اآلفاق
مستفرسا عن كل ما يرى فكان يقول عن نفسه :ما أنا إال الجدول يتلوَّى عىل
منعطفاته متجهً ا إىل مصدره ال إىل مصبِّه ،وما قصد زارا من تجواله إال معرفة ما
آلت إليه حالة الناس أثناء غيابه ،وهو ال يدري أتعاظم اإلنسان أم تصاغر ،وسار
زارا حتى أدَّى به املطاف إىل مسلسل من األبنية الحديثة فوقف أمامها ،وهو يعلن
دهشته بقوله :إال َم ترمز هذه املساكن؟ والحق أنها ليست من صنع روح جبارة
تعلن ذاتها بما تصنع ،ولعلها أُخرجت من حقيبة طفل ،فريجعها طفل آخر إىل
مستودع األالعيب.
أبوسع الرجال أن يدخلوا هذه الحُ جَ ر ويخرجوا منها وهي كأنها مُعدَّة
لصغريات الدُّمى الرافالت بالحرير أو لصغار الهررة النهمة التي تحرش ذاتها
لتفرتس فتصبح فريسة.
وشخص زارا مليًّا ،ثم قال والحزن يهدج صوته :لقد أصبح كل يشء صغريًا،
فإنني حيثما أوجه أنظاري ال أرى غري أبواب ُخفضت أرتاجها فإذا شاء أمثايل أن
يجتازوها تحتَّم عليهم أن ينحنوا.
أيطول بي الزمان حتى أعود إىل وطني حيث ال أرغم عىل االنحناء أمام كل
صغري .قال هذا وأرسل نظراته تخرتق اآلفاق البعيدة وهو يدفع بزفرة الشوق
العميق.
وتمالك زارا نفسه فوقف يلقي خطابه عن الفضيلة املصغرة.
199
2
عيني منتبهً ا إىل نفيس ،فإن رجاله ال يغتفرون يل
َّ أم ُّر بهذا الشعب مفتحً ا
وترفعي عن حسدهم عليها.إغضائي عن فضائلهمُّ ،
ُ
صغريات إنهم يلحقون بي نابحني؛ إذ أقول لهم ال يليق بصغار الناس إال
الفضائل .إنهم ينبحون إذ يقرص بي فهمي عن إدراك الفائدة من وجودهم يف
الحياة ،وما أشبهني بدِيك غريب تثور الدجاجات عليه بمناقريها ،فال أحقد عليها؛
ط سهامي نحو أي ألنني تعودت عىل احتمال التافه من املزعجات ،وما فوَّقت ق ُّ
صغري حقري فما ينتفش بريشه ألية حركة إال القنافذ.
إن صغار الناس يتحدثون عني يف َسمَ رهم دون أن يفتكر أحدهم بي ،فتذهب
ضجتهم تحوك دثا ًرا لتفكريي فأتمتع بنوع من السكون ما كنت أعرفه من قبل.
إن واحدهم يقول لرفيقه :ما له ولنا ،إنه الغمامة الربداء وقد تحمل بأهدابها
وبا ًء كاسحً ا ف ْلنحذرها.
وقد رأيت أمس امرأة تجتذب طفلها إليها لرتده عن االقرتاب مني ،شدَّت به
َّ
الغضة. وهي تصيح :أبعدوا األوالد فإن هاتني العينني تحرقان روحهم
ُ
تكلمت حاسبني أن سعالهم يقف بوجه العاصفات إنهم يتك َّلفون السعال إذا ما
فريدها ،وقد خشنت آذانهم فامتنع عليها أن تحس بنربات السعادة يف صوتي.
يقولون ال وقت نَقِ ُفه عىل زارا ،ولكن ما أهمية جيل ال يتسع وقته لزارا؟
وهبْ أن هؤالء الناس جاءوا إيل َّ لتمجيدي ،فهل يسعني أن أستنيم إىل أمجادهم،
وليس ثناؤهم عيل َّ إال منطقة أشواك لو ملست حَ ْقويَّ ملا تخلصت من آثارها حتى
بعد طرحها عني.
لقد تعلمت بني هؤالء الناس حقيقة أخرى ،وهي أن من يسدي الثناء يتظاهر
بإعادة ما بُذل له ،وهو ال يرمي يف الواقع َّإل إىل االستزادة لنفسه من املديح
200
واإلطراء.
قدمي تمتنعان عن األخذ بأي وزن
َّ قدمي؛ هل غ َّرهما مثل هذا التزلف؟ إن
َّ سلوا
مقيد حني يحلو لهما الرقص كما تشتهيان ،إنهم يصورون فضائلهم الصغرية
دف سعادتهم الحقرية استفزا ًزا بأروع بيان الجتذابي إليها ،كما ينقرون عىل ِّ
عيني منتبهً ا إىل نفيس؛ ألنهم
َّ لرجيل َّ إىل الرقص .وأنا أمر بهؤالء الناس مفتحً ا
صغروا وال يزالون يتصاغرون وما أ ْو َردهم هذا الصغار إال ما اتخذوه قاعدة
لسعادتهم وفضيلتهم؛ ألنهم طلبوا الراحة يف الفضيلة فحشدوها تواضعً ا ،وهكذا
تمرنوا عىل اإلقدام كما يحلو لهم فمشوا متعارجني متماهلني ،وأقاموا من زرافاتهم
عقبة يف سبيل من يقدمون عىل اإلرساع يف سريهم.
إن من هؤالء من يتجه إىل األمام ،ولكنه ال يفتأ يتط َّلع إىل الوراء مُتلعً ا عنقه
ً
معرقل سري التابعني.
عىل األعني وعىل األرجل َّأل تكذِّب ذاتها ،وما أكثر الكذابني بني الوضعاء!
ولقد يكون بني هؤالء الناس من يريد ولكن أكثرهم منقاد تعمل إرادة غريه
مخلصا غري أن أكثرهم من حُ ثالة املمثلني ،فمنهم من يمثِّل
ً فيه ،ولقد ترى بينهم
دون أن يدري ،ومنهم من يمثل دون أن يريد ،وما أق َّل املخلصني من هؤالء القوم
بخاصة بني فئة املمثلني منهم!
هنا تسرتجل النساء لقلة ما يتصف بالرجولة الرجال ،وما يحرر املرأ َة من
ُ
الرجولة فيه. خاللها ليخلق فيها املرأة الحقيقية إال مَ ْن تكاملت
وأخبث ما رأيت بني هؤالء الناس تظاهر حاكمهم بفضيلة محكومهم ،فال يزال
أولو األمر فيهم يرتنَّمون بترصيف مصدر الخدمة« :خدم ،خدما ،خدموا؛ نحن
نخدم ».ووي ٌل للسيد األول بينهم إذا لم يقل إنه أول الخادمني.
لقد ذهب نظري املتجسس ،وا أسفاه! يرود مكامن خبثهم فما خفيت عني
سعادتهم؛ فإذا هي سعادة ذباب يرتامى بطنينه إىل زجاج النوافذ تتكرس عليه
201
ً
إشفاقا إال وتبينت إزاءه ما يوازيه أشعة الشمس ،وما رأيت بني هؤالء القوم
ضعفا ،فرتاهم يتعاملون باإلنصاف والعطف كحبوب الرمال تعطف واحدتها ً
عىل األخرى.
وما رأيت ً
رجل فيهم إال وهو يدَّعي القناعة فيما أصاب من نذر السعادة ،غري
أنه ال يني يف قناعته يحدج بعني الشهوة ً
قليل من السعادة يضيفها إىل ما يملك،
وما يطمع هؤالء الناس إال بأن يتقي بعضهم رشَّ البعض اآلخر ،فهم لذلك يلجئون
إىل التعامل بالحسنى ،أما أنا فال أرى إال َ
الخوَر والجبن يف هذه الطريقة ،وإن
كانوا يع ِّرفونها بالفضيلة فيما بينهم.
وإذا صدف وتخاطب هؤالء الناس بيشء من الخشونة ،فإنني ال أتميز يف نربات
صوتهم إال أثر التهاب الحلق ،فإن أقل لفحة تصيب هذه األعناق تبح أصواتها،
وما أشد هؤالء القوم حني يحتالون ويمكرون! ففي أناملهم كل الرشاقة ،ولكن يف
قبضة يدهم ً
شلل وليس ألصابعهم أن تنطوي عىل راحتها.
وما الفضيلة يف عرفهم إال ما يولد الضعة والتآلف ،وبهذا املبدأ توصلوا إىل جعل
الذئب كلبًا ،بل حتى إىل جعل اإلنسان خري الدواجن الخاضعة لتس ُّلط اإلنسان.
إنهم ملغتبطون ،إنهم يضحكون قائلني :لقد اتخذنا مقامنا عىل الحالة الوسطى
ً
سارحة ال تبايل. بني مصارعي الثريان ي َِردون املهالك وبني الخنازير
ً
اعتدال إال حالة انحطاط وخمول. وما هذه الحالة التي يدعونها
3
لقد ألقيت إىل هذا الشعب بكلمات كثرية ،فما وسعه إدراك كنهها وال حفظها،
وكل ما بدا منه هو استغرابه َّأل أكون أتيت إليه باملواعظ ملكافحة الفحشاء
والرزائل ،والحق إنني ما جئت نذي ًرا يدعو القوم إىل االحرتاس ممن ينشلون
األموال من الجيوب.
202
لقد استغربوا َّأل أكون مستعدًّا لتنبيه الغافلني عن الحكمة وتسديد التفكري
يف الحكماء ،فكأنهم ال يزالون بحاجة إىل مهرة املع ِّلمني تخدش أصواتهم اآلذان
كأنها رصيف أقالم الحجر عىل اللوحات السوداء.
فإذا رصخت بهم ً
قائل :أنزلوا لعناتكم عىل ما فيكم من جبناء األبالسة الذين ال
يحلو لهم غري األنني وضم السواعد إىل الصدور للعبادة .هبُّوا منادين بكفر زارا
وإلحاده ،وارتفعت فوق أصواتهم أصوات من يع ِّلمونهم االستكانة والصرب ،فال
أملك نفيس من أن أهمس يف آذان هؤالء املعلمني ألقول لهم :أنا هو زارا الكافر
ًّ
سحقا؛ ألنهم أشبه بالقمل امللحد ،ولوال شعوري باالشمئزاز منهم لكنت أسحقهم
ال يدبُّون إال حيث تبدو الحقارة وينترش الجَ َرب.
أجل لقد همست يف آذان هؤالء املع ِّلمني قويل إنني أنا زارا الكافر القائل:
أرشدوني إىل من هو أشد كف ًرا مني ألتمتع بتعاليمه وأ ُ َّ
رس بها.
أنا هو زارا الكافر ،فأين أشباهي؟ وما أشباهي إال من يهبون من ذاتهم لذاتهم
طرحني الصرب كارهني االستسالم. إرادة م َّ
أنا هو زارا الكافر ،أنا الصاهر يف مرجيل كل ما يُدعى صدفة ،فال أزال به حتى
ينضج ليصلح يل غذاء ،ول َكم رأيت الصدف تتقدم إيل َّ كأنها السيد املطاع فرتغمها
إرادتي عىل الركوع أمامي خاشعة مسرتحمة طالبة إيل َّ أن أجد لها مأوى عندي
قائلة :ما يلجأ الصديق إال إىل صديق.
ولكن ملن أوجه الخطاب إذا كانت كلماتي ال تطرق أسماعً ا تشبه أسماعي؟ غري
أنني سأرسل صوتي يف الفضاء لتهب به الرياح ً
قائل :أيها القوم الوضيع ،إنك
لتزيد حقارة من يوم إىل يوم ،إنك سائر إىل الذوبان فاالضمحالل ،وما يوردك
ُ
صغريات فضائلك وتساهلك وصربك. الفنا َء إال
إنكم تدارون كثريًا أيها الناس ،وتتخ َّلون عن الكثري ،وما األرض التي تنمون
عليها إال من تراب املداراة والضعف وهل يشتد جزع الدوحة فتتعاىل إذا هي لم
203
تنشب أصولها يف األرض القاسية ملتفة حول صلب الصخور؟
إنكم تنسجون بإهمالكم كفنًا ملستقبل اإلنسانية ،فأنتم العناكب العاملة فيما ال
يجدي وهي تتغذى من دم األنسال املقبلة ،فيا لكم من لصوص بما تأخذون ،أيها
املباهون بحقريات الفضائل ،إنكم تسلبون وتهدمون يف حني أن للسارقني أنفسهم
بقية من الرشف تقف بهم عند حد السلب إذا لم يكن من موجب للهدم والتحطيم.
إنكم تأخذون بمبادئ صربكم فتقولون إن ما تستولون عليه هو مما يُعطى،
وأنا أقول لكم إنه مما يؤخذ ويُسلب ،وما أنتم إال سالبو أنفسكم لو تعلمون.
فعال َم ال تقلعون عن هذا التذبذب يف إرادتكم؟ وملاذا ال تختارون الذهاب إىل
صميم الكسل أو إىل صميم العمل؟
ليتكم تفهمون ما أقوله لكم :افعلوا ما تريدون ،ولكن تع َّلموا ً
أول أن تريدوا.
حبوا قريبكم كأنفسكم ،ولكن حبوا أنفسكم ً
أول.
وهل بينكم من يحب نفسه بالحب األعظم واالحتقار األعظم؟
وهل يجدي القول وليس لكم األذن التي أسمع بها أنا؟ إن ساعتي لم تحن
بعد ،وقد جئت بينكم بشريًا لذاتي فأنا الصبح وأنا الديك الصائح وملا يزل الظالم
منترشًا عىل السبل.
إن ساعتكم تقرتب باقرتاب ساعتي ،فإنكم تتصاغرون مع مرور الزمان فيزداد
فقركم وتزدادون عقمً ا ،فما أنتم َّإل أعشاب مسكينة عىل أرض أشد مسكنة من
أعشابها.
لسوف ال يطول الزمان حتى تتعب هذه األعشاب من نفسها ،فتحرتق وهي
عطىش إىل النار ال إىل املاء.
رس يستبق ُّ
تنقض الصاعقة فيها ،ويا لها من ٍّ إنها ألسعد ساعة تلك الساعة التي
الظهرية ،فإنني سأرسل من هذا الرس ومن تلك الصاعقة جداول من نار سأرسل
204
أنبياء يتكلمون بألسنة اللهيب منذرين بالظهرية العظمى.
هكذا تكلم زارا …
205
على جبل الزيتون
ً
ضيفا ماك ًرا عيلَّ ،فمددت يديَّ يلوحهما اال ْز ِرقاق ملصافحته، لقد نزل الشتاء
ولكم أود أن أفلت من هذا الضيف بالرغم من محبتي له ،وال سبيل يل لالنعتاق
منه إال بالجري عىل قدمي ،فتدب الحرارة فيها ويف أفكاري ،فأنا أتجه هاربًا من
الصقيع إىل حيث ينقطع هبوب الريح فأصل إىل جبل الزيتون ،إىل مطرح شعاع
الشمس ،وهنالك أستقر ضاح ًكا من ضيفي القايس الرابض يف مسكن يتلهى
بالقرقعة وقتل الذباب ،وضيفي ينفر من طنني ذبابة واحدة أو ذبابتني فهو
يطمح إىل جعل كل مكان مقف ًرا حتى يرى أشعة القمر نفسها ترتاع من ظلمات
السبيل.
إنه لشديد الوطأة هذا الضيف ،ولكنني أحرتمه وال أفزع منه إىل إله النار كما
يفعل املخنَّثون؛ ألنه خري لإلنسان أن تصطك أسنانه بردًا من أن يلجأ إىل األصنام،
ذلك ما تقول به غرائزي فأنا عدو كل صنم ناري يضطرم يف وجومه.
إذا ما أحببت أحدًا فإن حبي له يف الشتاء ألشد منه يف الصيف ،ويف الشتاء أراني
أقوى عىل االستهزاء بأعدائي ،فأشعر بالشجاعة عندما ُّ
ألتف بدثاري عىل فرايش؛
ألن سعادتي املولية تأخذ بالرتنم ضاحكة فتضحك معها كاذبات أحالمي.
أي يشء يكرهني عىل الزحف ،وما زحفت يومً ا سعيًا إىل أقدام األقوياء؟
وإذا كنت لجأت أحيانًا إىل الكذب فما كان كذبي إال وليد محبتي ،وذلك ما
يجعلني مرتاحً ا إىل نفيس حتى وأنا عىل فرايش والسماء معتكرة بالغيوم.
إنني ألدفأ عىل الفراش الوضيع البسيط بأكثر مما أدفأ عىل الفراش املزين
الوثري ،فأنا حريص عىل فقري وما يخلص الفقر يل يف أي فصل إخالصه يل يف
206
الشتاء ،أفيق كل صباح للمشاكسة فأبدأ باالستحمام باملاء البارد ألهزأ بالشتاء
فيزمجر بوجهي هذا الصديق القايس ،وعندئذ يلذ يل أن أداعب ظالمه بأنوار
شمعة ضئيلة ألهيب به إىل إرسال رشر النور من رماد آفاقه.
إن روح األذية ال تنتبه بي يف أية ساعة انتباهها عند الفجر عندما تحتك اآلنية
باآلنية أمام سبيل املاء ،وتصهل الخيل وهي ترضب بحوافرها أرض الشوارع
الدكناء.
شاخصا إىل السماء متوقعً ا انبثاق أنوارها ،فتبدو كالشيخ تمازجَ
ً عندئذ أقف
السوا ُد بالبياض يف لحيته ونصعت بالشيب قمة رأسه.
فيا لسماء الشتاء من آفاق صامتة تتغلب أحيانًا عىل الشمس فتدعها ملفعة
ُ
اقتبست من هذه السماء االنقباض عىل النور يف السكون الطويل أم بصمتها ،فهل
كل منا أوجد هذا الوجوم الصامت لنفسه؟ هي تعلمت ذلك مني؟ ولعل ًّ
إن لألشياء الحسنة مصادرها املتعددة ألنها تطفِ ر مرحة يف الوجود فال يمكن
أن تلوح وشي ًكا وتتوارى.
وما الصمت الطويل إال يف عداد هذه األشياء الحسنة املرحة؛ لذلك صفا أديم
وجهي كأديم السماء بعد إمطارها واستقرت اللحظات الهادئة يف عيني ،فأنا
أحجب شميس كما تحجب سماء الشتاء شمسها ،فأخفي إرادتي وقد تعلمت هذا
املكر من الشتاء ،فبلغت من فني مرتبة منعت بها صمتي أن يُفضح بالصمت
نفسه ،فأصبحت ألهو بمخادعة املتعظمني وإشغال انتباههم الصارم بالتكلم
وباللعب بالنرد ،وهكذا لن يتمكن أحد من سرب أعماق حكمتي وأقىص إرادتي،
وذلك ما رميت إليه عندما أوجدت السكون الطويل.
ولكم رأيت من رجل ماكر يضع نقابًا عىل وجهه ،ويعكر املياه يف أعماقه كيال
يتمكن أحد من نفوذ أقىص رسيرته ،فالتف حوله كبار املاكرين رواد املصاعب
فاصطادوا جميع ما أخفى من أسماك يف قعر مياهه.
207
َّ
وشفت قلوبهم ،غري إن من ال يفضحهم الصمت إنما هم من ن َ َق ْت نفوسهم
أن أقىص رسائرهم ال تنكشف للنظر وهي السحيقة األغوار تحت أطباق املياه
الشفافة الصافية.
إنك رمز لنفيس يا سماء الشتاء بأديمك األبيض وعيونك الرباقة الصافية،
وورائك مثل ما تضمر هذه النفس من ثورة واضطراب ،ولقد حق عيل َّ أن أحتجب
كمن ابتلع الذهب كيال أع ِّرض روحي ملباضع املتجسسني ،ولقد وجب عيل َّ أن
أنتعل القباقب املرتفعة؛ ألخفي طول قائمتي عن أعني من يدورون بي من لؤماء
الحاسدين ،إنها لن تحتمل النظر إىل سعادتي هذه النفوس الجافة العتيقة
املتهرئة املفسخة …
من أجل هذا ال أظهر لهم غري شقائي والثلوج املكللة لذرواتي مخفيًا عنهم
أن جبيل تمنطقه الشمس بجميع أنوارها ،وإذا هم سمعوا من مرتعي شيئًا فال
يسمعون إال ولولة الزوابع أدفع بها إليهم ،فال يخطر لهم ببال أنني أم ُّر ً
أيضا عىل
األمواج الحارة فأحمل منها لفحات ريح الجنوب.
إن هؤالء الناس يشفقون عيل َّ ملا يطرأ يل من الحادثات ومن تصاريف الزمان ،يف
حني أنني أهتف ً
قائل دعوا الصدفة تأتي إيل َّ فإنها طاهرة كاألطفال.
أكان لهؤالء الناس أن يطيقوا تمتعي بالسعادة لوال أنني لم أحط سعادتي
بحادثات الشتاء ومصائبه ،ولم أتدثر بالفراء وعباءة الشتاء؟
إنني إن أشفقت إلشفاق هؤالء املتأملني يف كيدهم ،وإن ارتجفت من الربد أمامهم،
ورضيت بأن تدور رحمتهم بي فما ذلك إال لحكمة مرحة يف نفيس ،ال تخفي ما
يدور بها من عاصفات الشتاء وال تسرت ما أل َّم بها من قروح الصقيع.
إن بعض الناس يطلب العزلة بالهرب من املريض ،والبعض اآلخر يطلبها
بالوقوف أمامه.
ألدعهم يصغون إىل أنيني وشكايتي لصقيع الشتاء ،إنني بمثل هذا األنني أفزع
208
من غرفهم الدافئة ،فليشفقوا عيل َّ وليقولوا إنني سأقيض بالصقيع يف برد معرفتي.
أما أنا فأركض برجيل َّ الدافئتني عىل جبل الزيتون ،وأطلق صوتي باإلنشاد يف
مطارح شعاع الشمس هازئًا بكل إشفاق1.
هكذا تكلم زارا …
هوامش:
1لقد تكون هذه املبالغات يف الوصف ،وهذه املغاالت يف االستعارات املبهمة من
محاسن البيان يف اللغة األملانية ،غري أنها ليست عىل ما نرى من روح األدب العام
عىل بالغة يستسيغها كل بيان ،وعندنا أن اللغة العربية خري ما تخترب به عبقرية
الكاتبني بكل لسان.
209
على الطريق
ً
متمهل يف وكان زارا وهو يقصد كهفه وجباله يمر بشعوب عديدة ومدن كثرية
رحالته حتى وصل فجأة إىل مدينة عظيمة ،وإذ دخلها انتصب بوجهه مجنو ٌن
فاتحً ا ذراعيه؛ ليصده عن التقدم وال َّزبد يُرغي عىل شدقيه ،وما كان هذا املعرتض
لقبه أهل املدينة بسعدان زارا؛ ألنه كان يقلد حركاته ولهجته ويستعري إال من َّ
شيئًا من كنوز حكمته.
وخاطب املجنون زارا ً
قائل :إن هنا املدينة العظمى ،وما لك أن تظفر منها
بيشء ،بل عليك أن تفقد فيها كثريًا.
ما الذي يضطرك يف االنغماس يف هذه األوحال ،فأشفق عىل قدميك ،وقف عند
بابها ً
تافل عليه وعُ ْد أدراجك.
هنا جحيم كل فكرة فريدة ،هنا تُصهر األفكار السامية حتى تصبح مزيجً ا
مائعً ا.
َّ
الجافة بأن تعلن عن هنا تتهرأ كل عاطفة رشيفة ،وال يسمح إال للعواطف
نفسها بخشيش اصطدامها.
بلغت أنفك رائحة املجازر حيث تُنحر األفكار ومطاعم السوقة حيث تباع
ْ أفما
بأبخس األثمان ،أفما ترى أبخرة العقول املضحاة تتصاعد منترشة كالدخان فوق
هذه املدينة.
أفما تلوح لك األرواح معلقة معروضة كأنها خرق قذرة بالية ،فإذا هي تنقلب
صحُ ًفا تنرش بني الناس.
ُ
ُّ
تغص بها أفال تسمع البيان الطيل يستحيل هنا إىل تالعب ألفاظ وسخائف
210
جداول الصحف ،فإذا هي مصارف أقذار.
إن بعضهم يتحدَّى البعض اآلخر ،وال يعلمون عىل ما يختلفون ،يأخذ بهم
الغيظ كل مأخذ وقد غاب عنهم سببه ،فال يسمعونك إال طقطقة فلوسهم ورنني
دنانريهم.
لقد استوىل عليهم الربد فال يدفئون إال بكرع الخمور ،وإذا ما دبت الحرارة
فيهم لجئوا إىل مهب األفكار الباردة ،فهم أبدًا مسوقون بالرأي العام مأخوذون
بدرجة غليانه.
هنا مقام جميع الرزائل والشهوات ،وهنا ً
أيضا فضائل عديدة لها مهارتها ولها
مشاغلها ،ولتلك الفضائل الجمة أنامل للكتابة وأرداف من رصاص للمتحلني
أيضا بنات هزلت أردافهن بها وسادات من الجلد علقت عليها األنواط ،ولهم ً
ً
أردافا. فاصطنعن لهن من القش
وإنك لتجد هنا كثريًا من اإلشفاق واالحتشام وكثريًا من االتضاع أمام رب
الجيوش؛ ألن من مقامه األعىل تتهاوى الكواكب ومعها النفثات ،وكل صدر عاطل
عن الكواكب يرسل نحو هذا املقام زفرات شوقه.
رت مع الفضائل إن للقمر جوَّه ويف هذا الجو تدور أتباعه ،والشعب املتسول ال يف ُّ
املتسولة يرفع الصالة إىل كل ما يلتمع يف مدار القمر ،وما الصالة إال كلماتَ :خ َدمَ،
خدما ،خدموا ،نحن نخدم .يرتنَّم بها أهل الفضائل ،وهم يتجهون إىل الحاكم
األعىل متوقعني سقوط األنواط املتوهجة عىل صدورهم الضيقة ،غري أن القمر
أيضا يدور حول نفسه يدور حول األرض وما عليها من نتاج الرتاب ،والحاكم ً
كل ما هو أريض ،وما من يشء أعرق يف األرض من ذهب بائعي السلع ،إن رب
الجيوش ليس ربًّا للسبائك فإذا ما الحاكم دبَّر ،جاء بائع السلع فقرر.
أي زارا ،أستحلفك بكل ما فيك من نور وقوة وصالح أن تتفل عىل هذه املدينة،
مدينة بائعي السلع وتك َّر راجعً ا إىل الوراء .إن الذي يجري يف عروق سكانها إنما
211
هو دم مفسود ،فاتْ ُفل عىل املدينة الكربى؛ ألنها املزبلة التي ترتاكم فيها األقذار.
اتْ ُفل عىل مدينة النفوس الضعيفة والصدور الضيقة ،مدينة العيون الحاسدة
واألنامل اللزجة ،مدينة الوقحني والفجار واملعربدين والطامعني اليائسني ،املدينة
التي يتكدس فيها من تأ َّكلهم سوس الفساد من أهل الشهوات املرضوبني بالقروح
املتآمرين.
ابصق عىل هذه املدينة وعد أدراجك.
قائل له :أمَ ا آن لك أن تصمت؟ ً
مطبقا فم املجنون املزبد يف حدته ً وم َّد زارا يده
ً
طويل حركاتك وأقوالك ،ما الذي دعا بك إىل اإلقامة عىل ضفاف هذا لقد تحملت
املستنقع حتى أصبحت أنت ً
أيضا ضفدعً ا وعقربًا؟
أفما تسيل يف عروقك أنت ً
أيضا دماء املستنقعات الفاسد؟ فها أنت تحسن
النقيق وتجيد اللعن.
ملاذا لم تطفر إىل الغاب ،ملاذا لم تذهب لحرث األرض؟ أفليس يف كل جهة من
البحر جزيرة خرضاء؟
إنني أحتقر احتقارك ،وقد كان عليك أن تبذل نصحك لنفسك قبل أن تجود به
عيلَّ ،فإن احتقاري وهو الطائر النذير لن يتعاىل من أقذار املستنقعات ،بل يهب
من مواطن الحب واألشواق.
لقبوك بسعدان زارا ،أيها املجنون املزبد ،أما أنا فأدعوك خنزيري ،أاللقد َّ
ُ
مدحت به سكرات الجنون. وإل دفعت بي إىل استنكار مافانقطع عن هذا الخوار َّ
ما الذي يهيب بك إىل رفع هذه األصوات املنكرة؟ إن الناس لم يوجِّ هوا إليك ما
ً
مفتشا فيها كنت تتوقع من ثناء؛ لذلك جلست إىل أكوام األقذار مزمج ًرا صاخبًا،
عىل ما تس ِّلح به انتقامك ،أتظن أن أمرك قد خفي عيلَّ؟ وهل هذا اإلزباد إال من
إرغاء الضغينة يف قلبك؟
212
اصمت فإن كلماتك تلحق الرضر بي حتى ولو كمنت الحقيقة فيها ،ولو انطوت
ألف حقيقة يف ما أقول؛ ألنك تيسء إيل َّ بأقوايل نفسها.
هكذا تكلم زارا ،وهو َّ
يتلفت إىل املدينة متنهدًا ،ثم رصخ بعد صمت طويل :لقد
أيضا ،وليس هذا املجنون من يثري كراهتي فحسب!كرهت هذه املدينة العظمى أنا ً
فهي مثله وهو مثلها وليس فيهما ما يقبل إصالحً ا أو زيادة فساد.
ويل لهذه املدينة العظمى ،وليت تجتاحها أعاصري النار فتذريها رمادًا؛ إذ ال بد
من انطالق مثل هذه األعاصري منذرة بالظهرية العظمى ،ولكن انطالقها مرهون
بزمانها ومقدراتها.
أمَّ ا أنت أيها املجنون ،فإنني أستودعك بهذا التعليم :إذا امتنع عىل اإلنسان أن
يبذل حبه فعليه أن يذهب يف سبيله!
هكذا تكلم زارا ،وسار يف سبيله متجاو ًزا املجنون واملدينة العظمى.
213
اآلبقون
1
ًّ
ُخضل وزاهيًا بعديد ألوانه عىل هذه املروج أصبح اآلن وا أسفاه! كل ما كان م
جنيت هنا فيما مىض من عسل اآلمال فحملته إىل ُ باهتًا وقد عراه الذبول ،ول َكم
قفريي.
لقد سطا الهرم عىل جميع القلوب الفتية ،وما آن للهرم أن يتحكم بهؤالء
الفتيان ،فما هم إال متعبون يستسلمون للكسل وهم يربرون حالهم بقولهم :لقد
عدنا إىل ممارسة التقوى.
ول َكم نظرت إليهم عندما كانوا يندفعون إىل السري بأقدامهم الجريئة ،أما
اآلن فقد تراخت معرفتهم مع أقدامهم فأمسوا وهم يهزءون بما كانوا عليه من
الشجاعة يف صبيحتهم.
لقد كان أكثرهم يختالون كالراقصني معلنني بضحكهم أنهم من أتباع حكمتي،
فإذا هم يستغرقون فجأة بالتفكري ،وها هم اآلن أمامي وقد انحنت ظهورهم
يزحفون عىل ركابهم نحو الصليب.
لقد كانوا فيما مىض يحومون حول النور والحرية كما تحوم الفراشات
والشعراء ،ولكنهم ما شعروا بيشء يسري من وقر األيام ومن صقيعها حتى هرعوا
إىل املوقد يصطلون كأصحاب القالنس وأدعياء الحكمة.
َأف َق َد هؤالء الشجعان إقدامهم ألنني تواريت عنهم يف عزلتي فباتوا يتنصتون
عبثًا لدوي أبواقي وصيحات إنذاري؟
وا أسفاه! ما أقل القلوب التي تصمد بوجه الزمان! وليس يف سواها ما يعزز
214
الروح يف حني يسطو الخور عىل سائر القلوب ،وما أكثر الجبناء! فهم السوقة
الدخالء عىل الحياة.
ال بد ملن كان عىل مثايل أن يصادف يف طريقه ما صادفت ،وال مناص له من أن
يكون رفاقه األولون أشالء أموات ومتمرني ألعاب.
وإذا ما مر بهؤالء أتته الفئة الثانية من رهط املؤمنني يسودهم كثريٌ من الحب
وكثري من الجنون وإجالل الطفولة وخشوعها .فليحرتس من كان عىل مثايل أن
يُويل هذه الفئة عواطفه؛ ألن العارف بضعف اإلنسانية وتقلبها ال يثق بدوام زهو
املروج أيام الربيع.
ولو كان هؤالء املؤمنون عىل غري ما هم عليه من غريزة لتبدلت إرادتهم ،وليس
للنقص أن يجاري الكمال ،فعال َم نشكو إذا صارت نارضات األوراق إىل الذبول؟
َّ
وكف عن الشكوى ،فخري لك دع األوراق تنتثر ،دعها تذهب مع الريح ،أيْ زارا،
أن تساعد بزفريك الرياح الهابة عىل أغصانها.
انفخ عىل هذه األوراق ،يا زارا ،ليتبدد من حولك كل يشء عراه الذبول.
2
يقول اآلبقون إنهم إىل التُّ َقى راجعون ،وأكثرهم جبان ال يجرس حتى عىل التعلل
بتقواه يف خروجه ،ولكنني أنظر إىل هؤالء الخائفني ،وأعلن لهم بوجههم أنهم قد
عادوا إىل الركوع والصالة ،فأقول لك ٍّل منهم :إذا لم تكن إقامة الصالة عا ًرا عىل
الناس فهي عار عىل أمثالك وأمثايل ممن تنبه شعورهم يف تفكريهم ،إن صالتك
تُعد منك ًرا عليك؛ ألنك تعلم أن الشيطان الكامن فيك الذي يحلو له كتف ذراعيه
قائل لك :إن الله موجود .فأنت آبق يهربتائقا إىل حياة الرخاء يوسوس يف روعك ً ً
َّ
وتوغ ْل كل يوم من النور؛ ألن النور يشغل تفكريه فاذهب اآلن يف ضاللك ساد ًرا،
يف لبدات الظالم.
215
بسطت طيور الليل أجنحتها ْ والحق أنك أحسنت اختيار الحني لالنطالق ،وقد
فهذه ساعة أبناء الظالم املرضبني عن األعمال .لقد حانت ساعة االصطياد وما هذا
ٌ
وصمت ال وتراخ
ٍ ً
مهاجمة وعرا ًكا بل هو انزواء يف كمني الصيد الذي تقدم عليه
يسمع فيه غري همسات الصالة .ذلك هو صيد أدعياء الحكمة ينصبون فيه رشا ًكا
طا صغريًا ينطلق من ورائه ،ولعله كان هتكت سرتًا رأيت وطوا ً
ُ للقلوب فكلما
مختفيًا مع وطواط صغري آخر؛ ألنني يف كل جهة أرى جماعات تسترت وما ينبعث
طا جديدًا من املتقني ،فهم يجتمعون عنها من رائحة التقى يستجلب إليها ره ً
ناج اإلله الصالح ،يقولون هذا بعد إلحياء الليايل قائلني فلنعد إىل حالة الطفولة و ْلن ُ ِ
أن تكون معدهم امتألت بالحلوى من صنع أهل التقى ،وهم يجتمعون أحيانًا يف
أوقات السمر؛ ليشهدوا حركات عنكب محتال يقف وراء الكمني ملقيًا عىل رفاقه
قائل لهم :إن خري ما يرتاح العناكب إليه إنما هو حَ بْ ُكالعناكب مواعظ الحكمة ً
نسيجها يف ظالل الصليب.
أتُراهم يقضون أيامً ا طويلة يلقون الشباك يف املستنقعات معتقدين أنهم
يسربون األغوار ،وال يعلمون أن من يميض الوقت بالصيد حيث ال أسماك ال يصح
أن يدعو عمله حتى محاولة سطحية؟
ً
دروسا للعزف عىل القيثارة وتراهم أحيانًا يمزجون تقواهم بالرسور فيتلقون
موسيقي يتلمس الطرق املوصلة إىل قلوب الصبايا وقد أتعبه ثناء العجائر.
ٍّ عند
أو يذهبون إىل حكيم لم يستكمل جنونه؛ ليتم َّرنوا عىل الرهبة والخوف فيقف
معهم يف غرفة مظلمة منتظرين ظهور األرواح وقد طارت أرواحهم َشعَ اعً ا.
يتنصتون إىل دجَّ ال هرم يتجول منشدًا بنربات لقنها الريح األنني ،فهو
َّ أو هم
يقلد الريح داعيًا إىل الحزن بصوته الحزين.
ولقد اتخذ بعضهم مهنة الحراسة يف الليل ،فتعلموا النفخ يف األبواق ليذهبوا يف
الظلمة ويبعثوا كل قديم طواه الزمان.
216
مررت أمس قرب جدران الحديقة وقد أخلقها الدهر فسمعت من حارسني
خمس كلمات تدور عىل القديم البايل.
قال أحدهما :إن هذا اإلله يعتني برعاية أبنائه ،فاآلباء من البرش أشد عناية منه
بأبنائهم.
فأجاب اآلخر :لقد أدركه الهرم فهو ال يهتم لهم.
– وهل لهذا اآلب من أوالد؟
– من سيثبت هذا إذا هو لم يثبته بنفسه ،ولطاملا تُقت أن أراه آتيًا بربهانه عن
جد.
– أهو يأتي بالربهان؟ ويف أي زمان أقام شيئًا من األدلة؟ إنه ليستصعب
اإلثبات ولكنه يتمسك بأن يؤمن الناس به.
– أجل! إن اإليمان ينقذ هذا األب ،وإذا قلت اإليمان فإنما أعني إيمانه هو بنفسه،
وتلك شيمة من بلغوا من العمر عتيًّا ،أفما نحن شيوخ وكلنا أشباه؟
حارسا الليل ،وح َّراس الليل أعدا ٌء للنور ،ونفخ كل منهما يف
بهذا كان يتحدث ِ
بوقه بالنغم الحزين.
هذا ما شهدت أمس يف الليل ،وأنا سائر قرب الجدار القديم ،فكنت أحس بقلبي
ً
مختنقا بضحكي من يتفجر ضح ًكا ويه ُّز أحشائي ه ًّزا ،والحق أنني سأموت
النظر إىل الحمري الثاملني ومن سماعي أمثال حراس الليل يرتابون بالله.
أفما انقىض منذ زمان طويل عه ُد الوقوف عند مثل هذه الشكوك؟ ومن يحق له
يا تُرى أن يتقدم إىل هذه األشياء املظلمة الثاوية ليبعثها من لحودها؟
لقد انقىض عهد قدماء اآللهة ،فطوتهم األحقاب وقد كان لهم الفناء باملرح
اإللهي الذي يليق بهم؛ ألنهم لم يمروا َ
بالغ َسق ليرتاموا إىل ظلمة املوت ،وقد كذب
من يدَّعي عكس ما أقول ،فقدماء اآللهة انتحروا انتحا ًرا وهم بضحكهم يختنقون،
217
انتحروا عندما َّ
تلفظ أحدهم بآية الجحود الكربى ً
قائل :أنا هو الرب إلهك ال يكن
لك آلهة أخرى أمامي .فكأن هذا اإلله قد أُخذ بغضبه وغريته يف شيخوخته فذهل
هذا الذهول حتى أضحك جميع اآللهة ،فتمايلوا عىل عروشهم هاتفني :أفليس يف
ٌ
اعرتاف بأن هنالك ألوهية لعدة أرباب ،وليس هنالك رب واحد. هذا النهي
من له آذان صاغية فليسمع1.
هكذا تكلم زارا يف مدينة «البقرة العديدة األلوان» التي يحبها ،وكان لم يبق
أمامه سوى مسافة يومني سريًا ليصل إىل مغارته ويلتقي نرسه وأفعوانه ،فامتألت
روحه مرسة وحبو ًرا.
1ورد يف اإلصحاح العرشين من سفر الخروج« :أنا الرب إلهك الذي أخرجك
من أرض مرص من بيت العبودية ،ال يكن لك آلهة أخرى أمامي ،ال تصنع لك
تمثال منحوتًا وال صور ًة ما ممَّ ا يف السماء من ُ
فوق وما يف األرض من تحت وما يف ً
املاء من تحت األرض ،ال تسجد لهن وال تعبدهن …»
فيا ألمانة نيتشه يف وضعه أساس برهانه!
إن هذا الفيلسوف لم يتورع من برت الكالم لتحويل معناه إىل ما يريد ،فما
الص َل َة وَأَنتُ ْم
أشبهه بمن ينادي املؤمنني إىل االمتناع عن الصالة بآيةَ :ل تَ ْق َربُوا َّ
ً
إطالقا. ً
واقفا عند النهي ُس َكا َرىٰ
أفليس من الغريب أن يعمد فيلسوف إىل إثبات تعدد اآللهة من نهي الناس
عن الضالل وعن إقامة املعلول مقام العلة واتخاذ الفاني معبودًا أمام مبدأ اآلزال
واآلباد؟
218
العودة
ِ
أنت وطني ،أيتها العزلة ،لقد طال اغرتابي يف بالد املتوحشني فها أنذا أعود إليك
أيها الوطن وعيناي تذرفان الدموع.
ارفعي شاهدك وهدديني ،أيتها العزلة ،تهديد األ ُ ِّم وانظري إيل َّ مبتسمة
بابتسامتها ،وسليني عن حال من هرب منك إىل بعيد كأنه العاصفة الجامحة،
من أفلت منك وهو يصيح :لقد طال انفرادي فنسيت الصمت ،سليني هل تعلمت
ٌ
خافية فقد كنت تشعر أنك تخف عنِّي منك
َ الصمت اآلن وقويل يل :أيْ زارا ،لم
وحيد بني الجميع؛ فيسودك من الوحشة ما لم تعرفه وأنت يف أحضاني.
إن الفرق بني الوحدة والوحشة لبعيد ،هذه هي الحكمة التي تعلمتها اآلن،
فأدركت أنك ستبقى أبدًا الغريب املستوحش بني الناس ،حتى ولو بذلوا حبهم لك؛
ألنهم يطمعون منك بمداراتهم قبل كل يشء.
إنك هنا تأوي إىل مسكنك فيمكنك أن تقول ما تريد ،ففي العزلة ال يخجل
اإلنسان من خطرات رسيرته املتص ِّلبة.
كل يشء هنا ينقاد إىل بيانك متحببًا طائعً ا؛ ألن األشياء كلها تقصدك لتعتليك
وتعلو أنت رموزها كمطايا تذهب بك مطلوقة العنان نحو الحقائق جميعها.
ههنا ،لك أن توجه خطابك إىل كل األشياء؛ ألن كل كلمة إخالص تقال لها تتلقاها
حمدًا لها وثنا ًء عليها.
وهل ذكرت يا زارا رصخة طريك فوق إن العزلة يشء والوحشة يشء آخرَّ ،
رأسك عندما كنت مضعضعً ا أمام جثة ميت يف الغاب وال تدري إىل أين املصري،
فتتمنى أن يأتي نرسك وأفعوانك لهدايتك بعد أن القيت بني الناس أخطا ًرا لم
219
تشهد بني الحيوان مثلها ،تلك كانت الوحشة بعينها!
أفما تذكر يا زارا زمنًا توسطت فيه جزيرتك كأنك ينبوع خمر يتدفق بني
الدنان الفارغة ،فيملؤها موزعً ا خمره عىل العطاش بال حساب ،حتى أمسيت
ً
متسائل وحدك الظامئ بني املرتوين ،فرفعت صوتك بالشكوى تحت جنح الليل
عما إذا لم يكن يف األخذ سعادة أوفر من سعادة العطاء ،وإذا لم يكن من السعادة
يف الرسقة ما ليس يف األخذ ،تلك كانت الوحشة بعينها.
أفما تذكر الزمن الذي طردتك فيه من نفسك ُ
أعمق الساعات صمتًا ،وهي تقول
لك همسها :تكلم واهدم ،فدفعت بك إىل كره صربك وسكوتك َ
فق َض ْت عىل ما فيك
من شجاعة متواضعة .تلك كانت الوحشة بعينها.
أيتها العزلة ل َكم يف صوتك من نربات السعادة يف عطفه وحنانه ليس بيني
وبينك من شكوى وال عتاب ،فكالنا نم ُّر رصيحني من األبواب املرشعة؛ ألن كل
يشء لديك ميضء والساعات تمر فيك عجىل خفيفة ،وما تتثاقل الساعات يف النور
تثاقلها يف الظالم.
إنني أشعر ههنا بأن لكل يشء روحه ومعناه ،فكل كائن يريد أن يعرب عن
رسيرته وكل ما سيكون يطمح إىل تع ُّلم البيان مني ،أما هنالك فكل قول عبث
وهراء وخري حكمة للناس هي النسيان والفناء ،وهذا ما تعلمته منهم ،وإذا ما أراد
أحدهم أن يفهم كل يشء وجب عليه أن يستويل عىل كل يشء ،وما تمتد إىل األخذ
يداي الطاهرتان .لقد توالني االشمئزاز من رائحة أنفاسهم ،فوا أسفاه عىل زمن
طويل قضيته حيث يضجون ويتنفسون.
يا للعزلة السعيدة أتمتع بها ،ويا للعرف الزكي يتضوَّع حويل .إنني َ
أنش ُق
رئتي هذا الهواء النقي يف هذا السكون املتنصت ،أما هنالك فكل يشء يتكلم
َّ بملء
وال سميع فإذا ما أذاع أحد فضائله بقرع األجراس خنق الدويَّ يف الساحات رن ُ
ني
الفلوس الكبرية تق ِّلبها أيدي البائعني .هنالك يتكلم الكل وليس من أحد يفهم
220
ما يقال ،فكل يشء يقع يف املياه الجارية وال ينرسب يشء إىل أعماق منابعها.
ً
تكامل .ك ٌّل يصيح وليس من يرىض هنالك كل يشء يتكلم وال يشء يبلغ نجاحً ا أو
مرتاخ مديد وما كان يقسو
ٍ باحتضان البيوض يف األعشاش ،ك ٌّل يتكلم وك ُّل كالم
من البيان عىل أفواه أبناء األمس أصبح لينًا تلوكه األشداق يف هذا الزمان.
رسا كمينًا
هنالك ك ٌل يتكلم ولم يبق من مستور لم يهتك؛ فما كان يعد باألمس ًّ
يف أعماق النفوس تتناوله اليوم مقارع الطبول وحناجر الصائحني ،فيا للطبيعة
البرشية ،ما أنت إال ضجة يف املسالك املظلمة ،لقد تجاوزتك فرتكتك ورائي خط ًرا
ُ
تعرضت له من أخطار ،وكل كائن أُنقذت منه ،وقد كانت املداراة والرحمة أشد ما
يف البرش يطلب أن يتعامل باملداراة والرحمة ،وما عشت بني الناس إال وأنا أحفظ
حقائقي يف قلبي ويداي وأحشائي ترتعش ارتعاش الجنون ألكاذيب الرحمة
واإلشفاق.
هكذا عشت بني الناس ،جلست بينهم متنك ًرا أكاد أجحد ذاتي؛ ألحتملهم م ُْقنعً ا
نفيس بقويل إنني مجنون ال أدرك حقيقتهم.
إذا أنت عارشت الناس فإنك لتنىس ما تعرفه عنهم؛ ألن ما ينطح برصك من
املشاهد الخارجية يصده عن سرب أبعادهم وأعماقهم.
لقد جهلوا حقيقتي فدفعني جنوني إىل مداراتهم بأكثر من مداراة نفيس؛ ألنني
تعودت أن أقسو عليها فأصبحت هذه املراعاة انتقامً ا منها لها.
جلست بني الناس تلذعني حرشاتهم السامَّ ة ،وتنال مني رشورهم نوال قطرات
املاء املتوالية االنسكاب عىل الحجر ،فكنت أقول لنفيس« :إن الحقارة تحمل براءتها
يف ذاتها».
وما رأيت بني الناس حرشات أش َّد فت ًكا بسمومها من الصالحني؛ ألنهم يغرزون
ً
وإنصافا. حُ ماتهم بكل صالح ،ويكذبون بكل صالح فكيف أتوقع منهم ً
عدل
إن الرحمة تعلم الكذب ملن يعيش بني أهل الصالح ،وهي تضغط بجوها الثقيل
221
عىل األرواح الحرة؛ إذ يُمنع عنها أن تتفهَّ م جهل الصالحني.
غني بني
إن ما تعلمته هنالك هو أن أسرت نفيس وأخفي ثروتي؛ ألنني رأيت كل ٍّ
الناس فقريًا بعقله ،وقد أضلني إشفاقي فقادني إىل النظر يف الخفايا وتقدير ما
زاد وما نقص يف عقل هذا وعقل ذاك ،دعوت الحكماء املتعصبني حكماء ولم أزد،
فتعلمت أن أقتضب كما تعلمت استبدال الكلمات فدعوت حفاري القبور م ِّ
ُنقبني
وعلماء.
الحفارون باألمراض ،ففي املثاوي ما ينبعث كريهً ا ً
قاتل ،وخريٌ َّ ولطاملا مُني
َّأل نُثري من املستنقعات كوامنها ،وما الحياة الحياة إال عىل القمم ،وها أنذا أنشق
الهواء الطلق عىل أعايل الجبل حيث ال أشت ُّم روائح املجتمع اإلنساني.
إن الهواء الحي يدغدغ معاطيس فتتسع الستنشاق القوة والحياة.
222
الثالثة الشرور
1
ورأيت يف آخر أحالمي هذا الصباح أنني واقف عىل جرف ينهار إىل ما وراء هذا
العالم ،وقد نصبت بيدي ميزانًا طرحت الدنيا بإحدى كفتيه.
أوَّاه! ليت الفجر لم يباغتني بعنفه ،فإنه لغيور عيل َّ من أحالم صباحي وعنف
أشباحها.
لقد أراني حلمي أن َملن مل َك الزمان أن يقيس الدنيا ،وملن أحسن الوزن أن
ي َِزنها ،وملن له جناحان جباران أن يجتاز مداها ،وكل بصرية حديدة تقتحم
املعضالت بوسعها أن تدرك ما تضمر هذه الدنيا.
بأي صرب تذ َّرع حلمي اليوم ليزن الدنيا ،وهو ا َمل ْركب نصفه رشا ٌع ونصفه
ُّ
واملنقض متسارعً ا بمخالب الصقور؟ عاصفة ،وهو السابح صامتًا بجناح الفراش
أرست حكمة نهاري نجواها إىل هذا الحلم ،وهي الحكمة الهازئة بكل هل َّ
«العوالم التي ال ح َّد لها ».وأنا القائل :حيث توجد القوة فهنالك يتسلط الك ُّم
فالعدد هو األقوى.
لقد أحاط حلمي بكل وثوق بهذا العالم املتناهي فما ذهب مع سائق الفضول
وال التجسس ،وما ارتعد وال توسل.
رأيت الدنيا عىل متناول يدي كتفاحة ناضجة ذهبية نارضة املنظر ناعمة
امللمس.
رأيت الدنيا عىل الجرف العايل املرشف عىل البحر كأنها شجرة تومئ إيل َّ وقد
223
انبسطت أفنانها والتوى جزعها كمت َكأ للمسافر وقد أنهكه التعب.
رأيت العالم يتقدم ملالقاتي كأنه يدان تحمالن ً
طبقا نُثر عليه كل ما تشتهي
األعني املتعففة الخاشعة.
بغيضا مذمومً ا َّ
تجل يل اليوم طيبًا يف إنسانيته ،فهو ال ً إن العالم الذي طاملا كان
يصد الناس بانكماشه عىل أرساره ،وال يخدِّر حكمتهم باإلغراق يف إبهامه.
أنا مدين بالشكر لحلم صباحي؛ ألنه وزن العالم يف الساعة األوىل فبدأ يل العالم
طيبًا يف إنسانيته وهكذا جاء الحلم معزيًا لقلبي ،وها أنذا أقتدي به وقد طلع
النهار فأضع يف امليزان الثالثة الرشور العظمى.
إن الذي ع َّلم الناس أن يباركوا ع َّلمهم ً
أيضا أن يلعنوا ،فما هي األشياء الثالثة
املستحقة اللعنة يف األرض .إنها الثالثة التي أريد وزنها :الشهوة والتحكم واألنانية،
وهي التي استحقت أشد لعنات الناس حتى اليوم.
هذا هو الجرف الذي وقفت عليه يف حلمي ،وهو يرشف عىل البحر املتدحرج
بقطعانه البيضاء نحوي ،وما البحر إال ذلك الكلب الهرم األمني وذلك املسخ الرائع
يشمخ بمئات الرءوس.
هنا أريد أن أنصب ميزاني فوق البحر الهائج ،وأختار شاهدًا عيل َّ هذه الشجرة
املنفردة الوارفة الظالل املالئة الفضاء بعبريها الشديد.
عىل أي جرس يتجه الحارض إىل املستقبل ،وما هي القوة التي تُكره املرتفع إىل
االنخفاض إىل األدنى ،وتدفع باألرفع إىل مرتبة أعىل.
تساوت كفتا ميزاني فقد طرحت يف إحداهما ثالث مسائل ثقيلة فإذا يف الكفة
األخرى ثالث أجوبة تضاهيها ً
ثقل.
2
ِّ
واملحقرين للجسد؛ الحاف ُز الشهوة هي للمتقشفني املتقمصني الصوف الخشن
224
واملعذِّبُ يف وقت واحد ،وهي للمستغرقني يف بحران العالم الثاني ُ
لعنة هذا العالم
األول؛ ألنها تهاجم أهل الضالل فتقصيهم وتطردهم طردًا.
الشهوة للئيم نا ٌر يتحرق فيها اللؤماء ،نار بطيئة اإلحراق يتصاعد منها أشد
الروائح كراهة.
الشهوة للقلوب الحرة عاطفة بريئة حرة ،فهي سعادة الجنة األرضية ،وعرفان
املستقبل جميل الحارض.
الشهوة ُس ٌم حلو املذاق لكل من عراه الذبول ،غري أنها رشاب القوة وخمرة
الخمر لآلساد يكرعونها بثمل الخاشعني.
الشهوة أعظم لذة ترمز إىل السعادة واألمل األسمى؛ ألن يف الحياة أشياء كثرية
حق لها أن تتمتع باالقرتان بل بأكثر منه ،فهنالك أشياء بعدت شقة االنفصال َّ
بينها بأكثر من انفراجها بني الرجل واملرأة ،ومن تُرى تم َّكن يومً ا من أن يدرك
حقيقة تباعد أحدهما عن اآلخر ومدى الشقة بينهما؟
إن الشهوة … سأضع حصونًا بني أفكاري ،وأمتنع عن الكالم كيال يجتاح جنتي
الخنازير واملتهوسون.
ط يلهب أشد القلوب قسوة ،وعذابُ استشهاد يُعدأما الطموح إىل التحكم فسو ٌ
للطغاة لهبًا قاتمً ا من محارق األحياء.
قاس تُراض به أشد الشعوب غرو ًرا ،فهو املداعب
إن الطموح إىل التحكم لجا ٌم ٍ
للفضائل الحائرة املمتطية صهوات الخيالء.
متداع قديم ،فهو الثائر املحطم للقبور
ٍ إن الطموح إىل التحكم زلزال هدام لكل
املك َّلسة يُزمجر وينزل العقاب ،وهو نربة االستفهام تتعاىل تجاه كل جواب مُبترس.
نظرات تحني هام الرجال فتجعلهم يزحفون ً
زحفا، ٍ إن للطموح إىل التحكم
وتستعبدهم وتهوي بهم إىل دركة أحط من دركة الخنزير واألفعى إىل أن يأتيهم
225
االحتقار بالسكون.
ً
صارخا بوجه ما الطموح إىل الحكم إال املعلم املخوف يلقن االزدراء األعظم
املدن واملمالك :أفسحي يل املجال وال يزال يهتف حتى تنادي قائلة :إنني أفسح
ً
مجال. لك
إن الطموح إىل الحكم يتعاىل ً
أيضا نحو األتقياء واملنعزلني ليستهويهم فيذهب
إىل ذرى االعتزاز بالنفس كأنه غرام مشتعل يرسم يف الخيال املرسات الحمراء
الساحرة.
ومن له أن يدعو هذه الشهوة للتحكم طموحً ا ،وما هي إال اندفاع من األعايل إىل
األعماق طلبًا للقوة ،وما أرى يف مثل هذا االنحدار شيئًا من حرارة الحمَّ ى وال من
أعراض األدواء.
ليس للذُّري املنفردة أن تبقى أبدًا منقطعة إىل نفسها ،فلتنحدر األنجاد إىل
األغوار ولتهب الرياح العالية يف مناسف األعماق.
إن مثل هذا الطموح ألسمى من أن يصفه بيان فهو «الفضيلة الواهبة» كما
دعاه زارا من قديم الزمان ،فكان بوصفه هذا يوجه الثناء ألول مرة إىل األنانية،
روح جبَّارة اتحدتوما األنانية إال توكيد للذات يتفجر من الروح املقتدرة ،من ٍ
بجسم متكامل يف جماله وانتصاره ،فأصبح كل ما حولها يستمد القوة منها
ويعكس كاملرآة خيالها.
وما الجسم املرن الذي ينطوي عىل قوة اإلقناع إال كالراقص الذي يرمز بحركاته
عن مرسة نفسه ،وهل املرح األناني يف مثل هذه األرواح والجسوم إال الفضيلة
بعينها.
ومهما يقل هذا املرح األناني عن الخري والرش فإنه يحوط نفسه بما يقول بغابة
مقدسة لوقايتها ،فهو يتمتم بأسماء السعادة كتعويذة ترد عنه كل ما يستحق
االحتقار.
226
َ
املحتقر لديه إال املتألم ال إنه ليقيص كل ما هو دنيء؛ إذ يعتربه رشًّا وما الدنيء
ينقطع عن الشكوى واألنني ،وال يتأخر عن التقاط أية فائدة مهما صغرت.
وهذا املرح يكره كل حكمة معولة؛ ألن من الحكمة ما ال تنور إال يف الظالم
فتلوح كأشباح الليل هاتفة :كل يشء باطل.
وهو ال يحرتم أبناء ال ِّريبة القلقة يطلبون من الناس األيمانات املغ َّلظة ً
بدل من
النظرة الرصيحة واليد املمتدة بإخالص ،كما أنه ال يحرتم الحكمة املدَّعية الحزم
بسوء الظن؛ ألن بمثل هذا تن ُّم النفوس عن َخوَرها وجبنها.
وليست املجاملة بأقل دناءة يف عينه ،فهي كالكلب ينطرح متصاغ ًرا عىل ظهره،
ول َكم من حكمة كهذا الكلب زحَّ افة خاشعة متالطفة.
ولكن ما يكرهه املرح األناني فوق كل كره الرج ُل املستنيم للضيم ،املمتنع عن
الدفاع ،املزدرد ما يتفل الناس عىل فمه من سموم وما يُلقى عليه من النظر الشذر،
الرج ُل املوغل يف صربه املتحمِّ ل لكل يشء والقانع بكل يشء ،تلك شيمة املستعبَد
املأجور.
إن هذه األنانية السعيدة تتسفل يف وجه كل عبودية ،فتزدري بكل متصاغر أمام
األرباب يركلونه بأرجلهم وأمام الناس ووراء الناس.
إن هذه األنانية تعد رشًّا كل متَد ٍَّن منكرس يستسلم للعبودية بعني منخفضة
وقلب منسحق ،وكل مصانع ينحني مقب ًِّل الراحات بشفاه مرتاخية مرتجفة.
إنها لتدعو حكمة مض ِّللة كل كلمة ناعمة يتلفظ بها املستبعَ دون ومن دبَّ إليهم
أيضا ما يتفوه به الكهان يفالهرم ومن أرهقتهم العلل ،وتدعو بهذا الوصف ً
جنونهم وادعائهم.
إنما الحكما ُء الكذبة جمي ُع الكهنة وجميع من سئموا الحياة ،وكل من تجول
فيهم أرواح النساء واملستخدَمني ،إن مثل هؤالء الناس يدسون لألنانية ويتآمرون
227
عليها ،مدعني أن محاربتها هي الفضيلة بعينها ،ولهذا طمح جميع الجبناء
والعناكب املتعبة من الحياة إىل االدعاء بالتنزه عن كل مأرب يف أعمالهم.
سيتدفق النور مكتسحً ا لهؤالء الناس جميعً ا ،وعندئذ يلمع سيف الظهرية
الكربى ،سيف الدينونة َّ
الفضاح.
أما من يمجد الذاتية وينادي باألنانية فذلك وحده يقول بما يعلم عندما يهتف:
لقد الحت تباشري الظهرية العظمى ،ولن يطول الزمن حتى تتوهج أنوارها يف
اآلفاق.
هكذا تكلم زارا …
228
الروح الثقيل
1
ليس فمي إال فم الشعب ،فكلماتي قاسية تخدش أسماع املتأنقني ،وهي أشد
وطأ ًة عىل أسماع زعانف الكتاب املسلحني باألقالم.
ما يدي إال يد مجنون ،فويل منها أللواح الرشائع ومنيعات الحصون ،وويل لكل
ما يتسع لزخارف الجنون وغرائب سطوره.
قدمي إال حافرا جواد يرتاكضان عىل األنجاد ويف األغوار ،فأحس بروح َّ وما
أبليس ينفخها املرح يف َّ وأنا أنهب أشواطي.
أما معدتي فلع َّلها حوصلة عقاب؛ ألن أفضل ما تشتهيه لحوم النعاج ،وإن لم
تكن حوصلة عقاب فهي عىل ك ٍّل حوصلة مجنَّح من أبناء الفضاء؛ ألنني أتغذَّى
من كل طاهر لذيذ فأتوق أبدًا إىل االختطاف واالنخطاف ،وكيف ال يكون يف َّ يشء
من الطري وأنا أهفو إىل هذه الحياة.
كفاني أن أعادي كل روح ثقيل ألكون شبيهً ا بالطيور ،فأنا العدو األلد لروح
الكثافة ،بل العدو املقسم َّأل يحول عن كرهه وقد تكوَّن معه يف رحم أمه ،فتلك
العداوة لن تطري ولن تتبدد.
لسوف أُطلق صوتي باإلنشاد مرتنمً ا بهذه املعاني بالرغم من انفرادي يف
أغاني غري أذناي.
َّ مسكني املقفر حيث ال يسمع
ل َكم يف األرض من منشد ال ينطلق الصوت الشجي من حنجرته ،وال تطابق
التوقيع حركة يده وال تشع عيناه وال ينتبه قلبه إال إذا غص البيت بالسامعني ،وما
أنا من أمثال هذا املنشد.
229
2
إن من سيع ِّلم الطريان للناس يف آتي الزمان سيدفع كل ما رضب حولهم من
حدود ،بل سيذري معاملها هباء ويبدِّل اسم األرض باس ٍم يدل عىل زوال كثافتها
وثقلها.
إن النعامة تعدو بأرسع ما تعدو الخيول الضوامر غري أنها ال تزال كاإلنسان
تغرس رأسها الثقيل يف الرتاب الثقيل ،وما اإلنسان بأفضل منها ما زال يجهل
كيف يطري ،وما زال يشعر أن الحياة ثقيلة كاألرض.
من يريد أن يشعر من نفسه بخفة الطري فعليه أن َّ
يتوسل باألنانية لالنعتاق من
كثافته ،ليحبَّ اإلنسان نفسه .هذا ما أعلم به أنا.
وما أدعو الناس إىل إثارة حب الذات بعاطفة املرىض واملحمومني ،فإن رائحة
السقام تنبعث من أنانية املريض واملحموم.
تع َّلموا األنانية الصحيحة السليمة؛ لتتمكنوا من احتمال ذاتكم فال تضلكم
أنانيتكم .هذا هو تعليمي.
وما ضالل األنانية إال بذهابها إىل «محبة الغري» فإن القائلني بالغريية قد أتوا
بأمهر تمويه ،وما أرهق الغري أح ٌد بمثل إرهاقهم.
نفذ بني عشية وصية من الوصايا تُ َّ
ً ليس القول بوجوب التمرن عىل األنانية
وضحاها ،فالتدرب عىل محبة الذات أدق الفنون وأصعبها ،وما يملك زمامه إال
املتحيل الجلود؛ ألن روح الكثافة يجعل املالك يف غفلة عما يملك ويعمي صاحب
طويل عن مثاويها ،فإننا ال نكاد نُطرح عىل الرسير حتى نُجهَّ ز بالكلمتنيً الكنوز
الثقيلتني« :الخري» و«الرش» ذلك هو مرياثنا ،بل تلك هي الوصية التي ال تُغتفر
لنا الحياة إال باتباعها ،وإذا ما قال قائل :دعوا األوالد يأتون إيل َّ ،فما يدعوهم إال
ليمنعهم يف الزمن املناسب من أن يحبوا ذاتهم .تلك هي مآتي الروح الثقيل.
230
أما نحن ،فنذهب ساحبني ما أثقلت به كواهلنا الصلبة إىل الجبال الجرداء ،حتى
والس َغب قيل لنا :أنتم محقون بشكواكم فالحياة أعباء وأثقال.
إذا شكونا ال َّل َغب َّ
والحق ليس يف الحياة من أعباء عىل اإلنسان غريُ اإلنسان نفسه؛ ألنه يوقر كاهله
بما ال طائل تحته ،فهو نفسه قد استناخ كالجمل مسلمً ا ظهره ،فأُثقل بأشد
األحمال ،وأكثر الناس استسالمً ا الرجل الصلب الجلود يرفع عىل كاهله جمًّ ا من
الكلمات والوصايا الثقيلة فتنبسط الدنيا أمامه صحراء قاحلة مرتامية األطراف.
وما يثقل كاهلكم ك ُّل دخيل عليكم فحسب ،فهنالك ما يرهقكم وهو منكم وفيكم
فداخل اإلنسان شبيه بحشوة املحَ ار فهو ق ِذ ٌر مرتاخ لزجٌ ينزلق تحت أناملك إذا
حاولت إمساكه؛ لذلك تتكفل القشور والظواهر املزخرفة بسرت ما وراءها ،وما
إن هذا إاليسهل عىل املرء أن يستنبت لنفسه قشو ًرا متعاميًا بحكمة عن دخائلهْ ،
فن ال بد من التدرب عليه ،ول َكم عىل الناس من قشور تن ُّم عىل املسكنة وقد وضح ٌّ
عليها التمويه ،ول َكم من قوة ومن صفة طيبة تبقى غائرة فال يلمحها أحد ،و َكم
من طعام شهي ال يرغب أحد فيه ،وما خفيت هذه الحقيقة عن النساء َّ
فهن يعلمن
َّ
حظهن من االستغواء مجال لتمني املتعنِّتني ،وقد يتوقف
ً أن بني املرتهلة والنحيلة
عىل يشء من الرتهل ويشء من النحول.
إن اكتشاف خفايا اإلنسان ملن صعاب األمور ،وأصعب األمور أن يكتشف
اإلنسان نفسه فكثريًا ما يضلل العق ُل الشعو َر ،وما ذلك إال من تأثري الروح الثقيل.
ليس من مكتشف لحقيقة ذاته إال من يقول يف نفسه :هذا هو خريي وهذا هو
رشي ،وبهذا القول يُخرس الخلد والقزم القائلني بأن الخريَ خريٌ للكل والرشَّ رشٌّ
للجميع.
أيضا من يرون كل يشء حسنًا ،ويرون هذا العالم خري والحق أنني أكره ً
إن هؤالء إال القانعون يرتاحون لكل يشء ويتذوقون كل يشء ،وما بهذا العوالمْ ،
يستدل عىل الذوق السليم ،أما أنا فأُج ُّل الفم الحساس املتصعب الذي يعرف أن
231
يقول« :أنا» وأريد وال أريد.
وما من يلتهم كل يشء ويهضم كل يشء إال من قطيع الخنازير ،فكل ناهق
بالرىض سائر حما ًرا بني الحمري.
أحب من األلوان األصفر القاتم واألحمر الفاقع؛ ألنهما يُدخالن لون الدم عىل
جميع األلوان ،ومن موَّه جدران بيته باللون األبيض يدل عىل أنه موَّه نفسه بهذا
اللون ً
أيضا.
إنني أحب الدماء وما يتفق ذوقي وأذواق من يعشقون الجثث املحنطة من جهة
ومن يعشقون األشباح من جهة أخرى؛ ألن الفئتني معاديتان لكل ما هو لحم
ٌ
رشاش من بصاق الثرثارين ،وما يسيل ودم ،وأنا ال أريد الوقوف حيث يصيبني
النضا ُر من أشداقهم كما يدَّعون ،وخري يل من املثول أمامهم أن أعارش اللصوص
والخونة.
َ
رشاش بصاقِ هم ،وما وإذا ما كرهت الثرثارين فإنني أشد ً
كرها ملن يتلقون
رأيت يف الناس من تشمئز لهم نفيس كمن ال أجد لهم شبيهً ا غري الطفيليات ،فمثل
هؤالء يطلبون الحياة من الحب وهم ال يشعرون به.
أيضا أشقياء يف الحياة هم األُىل ال خيا َر لهم إال بني حالتني ،فإذا
إن مَ ن أدعوهم ً
لم يكونوا حيوانات مفرتسة كانوا مذللني لها ،وما أنا بالضارب خيامي يف جوار
هؤالء الناس.
وأنا أدعو أشقياء ً
أيضا من يُك َرهون عىل االنتظار أبدًا ،فما أحبِّذ حياة الجُ باة
حارسا لحانوت أو لقطر من األقطار. ً والتجار وامللوك وكل من يقف
أيضا تعلمت الصرب واالنتظار إىل زمان طويل ،ولكن ما أنتظره إنما هو وأنا ً
«أنا» وما تمرنت عليه هو أن أقف وأميش وأركض وأقفز وأتسلق وأرقص؛ ألن
تعليمي هو هذا :من يريد أن يتعلم الطريان يومً ا فعليه أن يتدرب ً
أول عىل الوقوف
فالركض فالقفز فالتسلق فالرقص ،وليس ألحد أن يطفِ ر إىل الطريان ْ
طف ًرا.
232
ما تع َّلمت التسلق إىل النوافذ إال بنصب الحبال ،وما ارتقيت مرتفعات الصواري
ساقي ،إن أعظم اللذات هي اعتال ُء صارية املعرفة،
َّ إال بعد أن تقوَّت عضالت
واالتقاد بلهب يتلوه لهب فإن يف هذا اإلشعاع املرتدد هداية السفن الجانحة وأمل
املرشفني عىل الهالك.
ط ُر ًقا عديدة واتخاذي وسائل جمَّ ًة ،فما
لقد بلغت الحقيقة حقيقتي بسلوكي ُ
ارتقيت املدارج من ُسل ٍم واحدة ألبلغ القمة التي أتسنمها اآلن وأرسل منها نظراتي
إىل بعيد.
ً
مكرها؛ ألنني فضلت يف كل وإذا كنت سألت أحيانًا عن الطريق فما سألت إال
زمان أن أستنطق السبيل عن وجهته فأختربه بنفيس.
وتلمسا وما يتوصل اإلنسان إىل استنطاق نفسه ً وهكذا كان تقدمي سؤاال
وسبله إن لم يتمرن عىل ذلك ،ولكل ذوقه وهذا هو ذوقي ال أراه خري األذواق ،وال
أراه رشَّها عىل أنني ال أخجل به وال أخفيه.
هذا السبيل الذي أنتهج ،فأين سبيلكم أنتم؟
بهذا االستفهام كنت أجاوب من يسألونني :أين الطريق ألن لك ٍّل طريقه وليس
هنالك جادة للجميع؟
233
الوصايا القديمة والوصايا الجديدة
1
طمة واأللواح الجديدة ،و َّملا
ها أنذا جالس أنتظر بني ركام األلواح القديمة املح َّ
تُستكمل كتابة الوصايا عليها.
ساعة انحداري وجنوحي ،فإنني أريد أن أنحدر إىل ُ فأي متى تأتي ساعتي؟
الناس ثانية ،وذلك هو سبب انتظاري؛ إذ ال بد أن تُعلن يل عالمة اقرتاب الساعة
فأرى األسد الضاحك ورسب الحمام الزاحف.
وإىل ذلك الحني أتكلم كمن له سعة من وقته فأخاطب نفيس وأقص عليها ما
أعلم؛ إذ ال يقص عيل َّ أح ٌد شيئًا جديدًا.
2
جالسا عىل افرتاضات قديمةً ،
واثقا أنه عرف كل ً عندما أتيت إىل العالم وجدته
يشء وميز بني خري الحياة ورشها.
ورأيت الناس يعتقدون أن كل بحث عن الفضيلة قد انقىض زمانه ،وبالرغم
من هذه العقيدة كان كل منهم يأتي عىل ذكر الخري وهو متجه إىل رسيره طلبًا
للنوم الهنيء.
فوقفت أنبه الغافلني وأنا أعلن أن ليس من أحد عرف حقيقة الخري والرش؛
ً
أهدافا للناس ويويل األرض معناها ألن املبدع وحده يعرفها ،وهو من يخلق
ومقدراتها ،فليس سواه من يوجد لكل يشء خريه ورشه.
وأمرت الناس بأن يهدموا كل قديم ،وأن يقفوا أمام كل عقيدة هرمة ضاحكني
234
مستهزئني بمعلميهم وقدِّيسيهم وشعرائهم ومخليص عاملهم.
أمرتهم بأن يهزءوا برصامة حكمائهم وحذرتهم من املفزعات السوداء املنصوبة
عىل شجرة الحياة.
أمرتهم ،واتخذت يل مقعدًا عند حافة مضيقهم ،وقد حفل بالنعوش واألشالء
وحامت فوقه الغربان ،وبت أضحك هازئًا بماضيهم املتداعي وقد تناثرت أمجاده،
مسه الجنون صابًّا جام الغضبوأثور كمن أُعطي سلطانًا عىل الخري والرش وكمن َّ
واللعنة عىل كل كبائرهم وصغائرهم ،وما هزئت إال بأحقر ما يف خريهم ورشهم.
لقد كانت أشواقي تتدفق مني ً
هتافا وضح ًكا ،وما أشواقي إال الحكمة املتوحشة
التي نشأت يف أعايل الجبال بجناحني يمأل حفيفهما الفضاء ،ول َكم تسامت هذه
األشواق بي إىل ما فوق الذرى ،فاندفعت معها كالسهم املرتعش يهزه حنينه إىل
مصدر النور ،إىل مجاهل املستقبل التي لم تبلغها األحالم ،إىل الظهريات التي لم
يلمس الوهم حرارتها ،إىل حيث يرقص اآللهة وقد استحيوا من االستتار بأي رداء.
ليس يل أن أصف ما هنالك بغري الرموز؛ لذلك أجدني محفو ًزا إىل تمتمة ما أقول
فأتذبذب كالشعراء ،والحق أنني ألخجل من اضطراري إىل األخذ ببيانهم.
رقصا ونكات إلهية؛ ألن العالم قد انطلق هنالك من كل ً لقد الح يل كل يشء
قيد فالتجأ إىل نفسه ،فازعً ا إليها كما يفزع اآللهة أبدًا إىل ذاتهم مفتشني عليها
بإنكارها وبتكرار العودة إليها.
هنالك الح يل الزمان سخرية باألزمان املج َّزأة ،ورأيت واجب الوجود عبارة عن
حرية سعيدة تداعب الحرية نفسها.
هنالك وجدت شيطاني القديم وعدوي الحديث روح الكثافة ،وما أبدع من قبور
ورشائع ورضورة ونتائج وأهداف وإرادة وخري ورش.
وجدت كل هذا ميدانًا ممهدًا ألقدام الراقصني ،فليس من مرقص بال مرسح،
235
وليس من روح خفيفة ال تزحف عند أقدامها الخلدان واألقزام.
3
هنالك ً
أيضا ظفرت بكلمة «اإلنسان املتفوق» وبالتعليم القائم عىل أن اإلنسان
كائن يجب أن ينشأ منه ما يجتازه ،ليس اإلنسان ً
هدفا وغاية ْ
إن هو إال عابر يدَّعي
السعادة يف ظهريته ومسائه.
إن كلمات زارا عن الظهرية العظمى وجميع ما رفعه فوق العالم ْ
إن هو إال
ثان ينفلق من ورائه الفجر الجديد.
غروب أرجواني ٍ
ُ
ونثرت الضحك ُ
عرضت ألنظار الناس كواكب جديدة وليايل َ ال عهد لهم بها، لقد
عىل غيوم الليل والنهار فرضبت قبَّة زاهية بعديد ألوانها.
علمت الناس جميع أفكاري وأبنت لهم جميع رغباتي؛ إذ أردت أن أجمع
وأوحد ما يف اإلنسانية من بدد األرسار وتصاريف الحدثان ،فقمت بينهم شاع ًرا
أحل الرموز وأفتديهم من الصدف العمياء؛ ألعلمهم أن يبدعوا املستقبل وينقذوا
بإبداعهم ما انرصم من األحقاب.
لقد وجهت الناس إىل إنقاذ اإلنسانية مما أدرج املايض يف أغوارها بتغيري كل «ما
كان» إىل أن تنتصب اإلرادات معلنة أن ما ت َّم هو ما كانت تريد أن يكون ،وأن هذا
ما سرتيده يف كل زمان.
بهذا رأيت السالم للناس ،وهذا ما ع َّلمتهم أن يدعوه سالمً ا.
وأنا اآلن أتوقع السالم يل ألعود للمرة األخرية للناس؛ ألنني أريد أن أذهب من
بينهم إىل الفناء ،فأودعهم أثمن كنوزي أسوة بالشمس تلقي عىل البحار نضارها
وهي تتوارى يف الظالم ،حتى ترى أفقر الصيادين يداعبون صفحة البحر
باملجاذيف املذهبة.
لقد تعلمت هذا الجود من الشمس عندما كنت أشخص إليها غاربة فتندفق
236
عيني.
َّ الدموع من
هكذا يريد زارا أن يتوارى فيغرب كما تغرب الشمس ،وها هو ذا جالس ينتظر
بني ركام األلواح القديمة املحطمة واأللواح الجديدة ،و َّملا تُستكمل كتابة الوصايا
عليها.
4
انتبهوا ،إنني آتيكم بلوح جديد ،ولكن أين هم إخوتي يحملون معي هذا اللوح
إىل الوادي؛ لتحفر وصاياه عىل أعشار القلوب.
إن محبتي ملن سيأتون فيما بعد تقيض بهذه الوصية :ال تدار قريبك؛ ألن
اإلنسان معربٌ يجب علينا اجتيازه للتفوق عليه.
وقد أعطي لإلنسان أن يجتاز نفسه عىل طرق عديدة وبوسائل عديدة ،فما
عليك إال أن تتجه للوصول ،وليس غري املمثل املضحك من يقول بإمكان التفوق
عىل اإلنسان طف ًرا وقف ًزا.
تفوَّق عىل نفسك يف ذات قريبك ،فال تدعه يُنيلك ًّ
حقا بوسعك أن تأخذه اقتدا ًرا،
فإن ما تفعله ال يبادلك إياه أحد؛ ألن ليس من مكافأة يف العالم ،ومن ال قبل له
بحكم نفسه وجبت الطاعة عليه.
إن يف العالم كثريين يعرفون أن يتحكموا بأنفسهم ،ولكنهم ال يعرفون كيف
يطاوعونها.
5
إن النفوس النبيلة تأنف أن تأخذ شيئًا بال بدل فهي ترد الحياة قبل كل يشء إذا
هي لم تكتسب عيشها ،أما القطيع البرشي فرييد أن يعيش دون أن يبذل شيئًا.
لقد وُهبت لنا الحياة فعلينا أن نفكر يف كل حني بخري ما يمكننا أن نبذل لقاء
هذه الحياة ،وهل أرشف من أن نقول :يجب أن نحقق للحياة ما وعدتنا به.
237
ليس للمرء أن يتمتع بلذة إذا هو لم يبذل لذة ،فما اللذة عبارة عن التوجه للتمتع
حيي ممنَّع ،وليس ألحد أن يفتش عليها إذا هو لم
بها؛ ألن التلذذ كالطهارة كالهما ٌّ
يملكها امتال ًكا ،وخري له أن يفتش يف هذه الحال عىل الدنس واألوجاع.
6
كل طليعة تُضحَّ ى ،أيها اإلخوة ،وهل نحن إال طليعة مُنذِرة ،تنزف جراحنا دمً ا
يف هيكل األرسار ،ونُقدَّم محرقة يذوب لحمها تمجيدًا لألصنام القديمة.
غضا رطيبًا ،وذلك ما يهيج شهوة األشداق الهرمة، إن خري ما فينا لم يزل ًّ
فلحمنا طريٌّ وجلودنا جلود حمالن ،فكيف ال نثري جشع الكهان يف هياكل األوثان؟
إن كاهن األوثان الهرم لم يزل يسكن ذاتنا الخفية ،وهو يتهيأ إلقامة وليمة
تس َلم الطليعة ،أيها اإلخوة ،من أن تصبح ضحية
يبتلع فيها خري ما فينا ،فكيف َ
وقربانًا؟
ولكن بهذا تقيض مهمتنا وأنا أحب من ال يتمسك بالبقاء ،ومن يتوارون أُرفقهم
بكل عطفي؛ ألنهم يذهبون إىل الجهة األخرى.
7
ما أقل من يعرفون الصدق واإلخالص! والعارف لحقيقة الرصاحة ال يريد أن
يكون رصيحً ا ،فأكثر الناس تمويهً ا هم املشفقون؛ ألنهم ال ينطقون أبدًا بالحق،
ومثل هذا اإلشفاق مرض كامن يف العقل.
إن الرحماء يرضخون ويستسلمون للقلب يميل إرادته فيهم عىل العقل والعقل
يمتثل دون تر ٍّو وإدراك ،فما تتكون الحقيقة يف الرحماء إال من تراكم كل ما
هو رش يف عينهم ،فهل لديكم من الرش ما يكفي إليجاد مثل هذه الحقيقة أيها
اإلخوة؟!
ال تولد الحقيقة إال من تزاوج الوقاحة وسوء الظن والرفض القايس والكره
238
والشقاق يف الحياة ،وما أصعب أن تتوافق وتتحد جميع هذه املقدمات!
إن الضمري الشامل قد نشأ حتى اليوم قرب الضمري الرشير ،فهيَّا أيها اإلخوة إىل
تحطيم األلواح القديمة إذا كنتم تفتشون عن مبدأ املعرفة.
8
إذا رأيت املعابر منصوبة فوق مجاري املياه ،والجسور معقودة فوق األنهار،
فهل تصدق من ينادي بالثبور وينذر بالغرق إذا كان الحكماء أنفسهم يكذبونه؟!
إن كل ما يعلو النهر من معابر ،كل ما هو خري وكل ما هو رش ثابت مكني،
وعندما يجيء الشتاء املتسلط عىل األنهار يرتاب يف ثبات كل األشياء أش ُّد الناس
فطنة ،غري أن من يحبون االستغراق يف نوم الشتاء واالستسالم إىل بطالته يحلو
لهم أن يعتقدوا برسوخ املعابر وسكون كل حركة يف األعماق ،ولكن الهواء املذيب
للجليد يكذب هذه الطمأنينة؛ إذ يهب كأنه الثور الهائج ضاربًا الجليد بقرنيه ،وإذ
يتحطم الجليد تتداعي الجسور ،وعندئذ تغرق يف املياه كل املعابر فال يجد أحد ما
يستند إليه من الخري والرش.
يا لشقائنا ،بل يا لسعادتنا! لقد هبت األرياح تذيب الجليد ،فاذهبوا يا إخوتي
عىل الطرق مبرشين بهبوبه.
9
إن من الجنون جنونًا قديمً ا عرف بالخري والرش ،فدار حتى اليوم عىل محور
العرافني واملنجمني.
لقد ساد االعتقاد فيما مىض بالعرافة والتنجيم؛ لذلك آمن الناس بالقضاء
املحتوم فقالوا بالواقع وجوبًا ،وداخلهم الشك يف الكشف فارتدوا إىل اإلرادة الحرة
ينادون بها قائلني :إذا أنت أردت فقد قدرت.
أيها اإلخوة ،كل ما بني حتى اليوم عىل استنطاق النجوم واملستقبل لم يكن إال
239
افرتاضا يقوم عىل افرتاض؛ لذلك لم يعرف أحد شيئًا عن الخري والرش ،وما قيل
ً
عنهما لم يتع َّد حدود الرجم بالغيب.
10
ال ترسق ،ال تقتل :تلك كلمات كانت مقدسة يف غابر الزمان ،إذا سمعها إنسان
جثا عىل ركبتيه ،وأحنى رأسه وخلع نعليه.
غري أنني أسألكم فأجيبوا :هل وُجد يف الدنيا لصوص وقتلة أوفر رسقة وأشد
فت ًكا ممن استفزتهم هذه الكلمات املقدسة؟
أفليست الرسقة والقتل من طبيعة الحياة نفسها؟ وهل كان تقديس هذه
الكلمات النافية إال ً
قتل لحقيقة الحياة؟
أكان القصد من مغالطة الحياة والردع عنها إذن دعوة يف سبيل املوت والفناء.
أيْ إخوتي ،ح ِّ
طموا هذه األلواح القديمة وال ترتددوا.
11
ً
معرضا ملا سينشأ ً
مهمل، إنني ألشعر بإشفاق عىل املايض وقد أصبح مرتو ًكا
يف األجيال اآلتية من اعتبار وتفكري وجنون ،فإن هذه األجيال ستصطنع لنفسها
جرسا من كل قديم مىض عهده.
ً
لقد يجيء طاغية له روح إبليس يتسلط عىل املايض بلطفه وعنفه فيعالجه
حتى يصبح معربًا إلقدامه وشعا ًرا له ومكانًا يصيح عليه ديك فجره.
غري أن إشفاقي ينطوي ً
أيضا عىل توقع الخطر :ألن تفكري من ينشأ من الغوغاء
ال يذهب إىل عهد أبعد من عهد جده ،وهنالك يتناهى يف تقديره الزمان القديم.
إال أن املايض أصبح مرتو ًكا ،وقد تسود الغوغاء يومً ا فتدفع إىل اللجج بمرياث
العصور.
240
لذلك وجب أن تقوم فئة لها نبلها الحديث تناوئ الغوغاء وتصد الطغاة ،فئة
نبيلة تُنزل الرشف وصية محفورة عىل ألواح جديدة.
ال يقوم النبل إن لم يكثر عدد النبالء ،وقد أوردت هذا املبدأ ورمزت إليه عندما
قلت :بتعدد اآللهة ال باإلله الواحد تقوم األلوهية.
12
إنني أوليكم النبل الجديد ،أيها اإلخوة ،عندما أقتيض منكم أن تبدعوا وتع ِّلموا
وتلقوا بذوركم آلتي الزمان.
تلك كرامة ال يسعكم ابتياعها بذهب التعامل كاملتاجرين ،وما أزهد قيمة ما
يباع ويرشى!
ً
مرشِّفا لكم ،بل الهدف الذي تتجهون إليه أن رشفكم لن يكون حَ َسبكم بعد اآلن
كامن يف إرادتكم ويف الخطوة التي تندفعون بها إىل التفوق عىل أنفسكم واجتياز
حدودها ،ذلك هو رشفكم الجديد.
ري ال تُنيلكم ً
رشفا ،وما هو قدر األمراء ،وهل يرشفكم أن تقفوا إن خدمتكم ألم ٍ
كالحصون حول ما هو كائن لتزيدوا يف مناعته وتطيلوا بقاءه؟
انسحبوا من الساللة التي تعلمت التلون يف القصور ،وتعودت الوقوف أبدًا أمام
املياه اآلسنة ،إن علم الوقوف عىل القدمني يُعد فضيلة لخدام القصور ،وهم ال
يتوقعون الحصول عىل لذة االسرتاحة إال إذا طرحهم املوت عن مواقفهم.
أيضا يف انتسابكم إىل أجداد قذف بهم روحٌ يدعونه روح القدسليس رشفكم ً
ْ
أنبتت إىل أرض امليعاد ،إىل األرض التي ال أجد فيها ما يُحمَ د ،وهل تحمد تربة
أسوا َء األشجار :عود الصليب1.
وهل سارت فيالق الفرسان أيان كان يدفعها هذا الروح القدس إال ومن ورائها
قطعان املاعز والبط ورهط املجانني واملعتوهني.
241
أي إخوتي ،ليس إىل ما ورائكم يجب أن يتطلع نُبْلكم ،بل إىل ما هو خارج
عن سبيلكم ،عليكم أن تنفوا نفوسكم من جميع البلدان واملواطن التي سكنها
أجدادكم.
ال تعلقوا قلوبكم إال عىل أوطان أبنائكم ،وليكن هذا الحب حَ َسبكم النبيل
الجديد ،تلك هي األوطان التي لم تطأها قدم بعد وراء البحار السحيقة ،وأنا
آمركم بنرش رشاعكم للتفتيش عىل مراسيها.
عليكم أن ِّ
تكفروا أمام أبنائكم عن ذنب تحد ُِّركم من آبائكم ،وبغري هذه الكفارة
لن تنقذوا املايض.
هذه هي الوصية الجديدة أع ِّلق لوحها فوق رءوسكم.
13
ملاذا نحن نحيا ،وكل يشء باطل! وهل الحياة إال عبارة عن دق سنابل واالصطالء
قرب نار تحرق وال تدفئ.
هذه هي الثرثرة القديمة ال تزال تُحسب حكمة ،والناطقون بها شيوخ تفوح
منهم رائحة االنزواء ،والتعفن يكسب ً
نبل فهؤالء الشيوخ لتعفنهم يك َّرمون وما
يقرص األطفال عن اإلتيان بمثل وصاياهم ،لقد لذعتهم النار فهم يخافونها ،إن
كتب الحكمة القديمة مشحونة بكثري من األوهام الصبيانية.
إن من يدق السنابل ال يحق له أن يهزأ بمن يستخرج القمح منها ،إن هؤالء
املستهزئني ملجانني يجدر بنا تقييدهم ،فأمثالهم يجلسون إىل املوائد دون أن
يأتوها بيشء حتى وال بشهية للطعام ،فهم يجدفون قائلني :إن كل يشء باطل.
ً
باطل حطموا، صدقوني أيها اإلخوة ،إن من يحسن األكل والرشب ال يمتلك فناء
حطموا ألواح الوصايا التي كتبها من ال يزالون أبدًا ساخطني متذمرين.
242
14
«إن الطاهر يرى كل يشء طاه ًرا ».هذا ما يقول به الشعب.
أما أنا فأقول لكم إن كل يشء خنزيري يف عني الخنازير.
ولذلك يقف املأخوذون بالتواضع وانسحاق القلب داعني الناس إىل االعتقاد بأن
العالم مستنقع أوحال وأوضار ،وما األوضار إال يف عقول هؤالء الوعاظ الذين ال
يحلو لهم أن ينظروا الدنيا إال مدبرة فما يستهويهم منها إال قفاها …
إال أنني أرصخ بوجه هؤالء املأخوذين وإن جنحت عن حدود اللياقة ألقول لهم:
أيضا قفاه ،ويف هذا العالم كثري من األقذار ً
أيضا، إن العالم لشبيه باإلنسان فله ً
ولكنه ليس مستنقعً ا يغص باألوضار عىل رحبه.
لقد أرادت الحكمة أن يكون يف العالم أشياء كثرية تنبعث الروائح الكريهة منها،
فإن الكراهة تستنبت األجنحة وتولد الشوق إىل صافيات الينابيع.
إن خري مَ ن يف الحياة ال يخلون مما يوجب االشمئزاز ،بل يف أرقاهم ما يجب
اجتيازه والتفوق عليه ،فمن الحكمة إذن ،يا إخوتي ،أن تكون األقذار كثرية يف
هذا العالم.
15
ل َكم سمعت األتقياء املأخوذين بالعالم اآلخر يناجون ضمائرهم بأقوال سداها
الضالل ولحمتها الرش ،يقولونها مصدقني بها ال مواربني وال مازحني.
«دع العالم عىل حاله وال تحرك إصبعً ا العرتاضه يف سبيله ،دع الناس
يستسلمون ألية يد تشد عىل خناقهم ،دعهم يتناحرون ويتضاربون ويتعاملون
بالسوء ويتسالخون ،إياك أن تحرك إصبعً ا لردعهم ،دعهم وما يفعلون فإنهم
بذلك ينتهون إىل الزهد بهذا العالم».
«احذر حكمتك؛ ألنها هي ً
أيضا من هذه الدنيا وعليك أن تكبتها وأن تنحرها
243
نح ًرا؛ ألنك بذلك تتعلم أنت ً
أيضا الزهد بهذا العالم».
أيْ إخوتي ،تقدموا إىل هذه األلواح القديمة ،ألواح وصايا األتقياء وحطموها
تحطيمً ا ،بل اقضموا بأسنانكم هذه الوصايا فال تتفوه شفاهكم بها ألنها كلمات
املشنعني بالحياة.
16
سمعت الناس يتهامسون يف األزقة املظلمة قائلني« :من يتعلم كثريًا يفقد
شهواته العنيفة كلها».
ورأيت ألواح وصية جديدة تعلق حتى يف الساحات العمومية وقد كتب عليها:
«الحكمة مرهقة ،وال يشء يستحق العناء ،فال تعلق شهوتك عىل يشء».
سارعوا أيها اإلخوة إىل تحطيم هذه األلواح الجديدة ،وما علقها فوق الرءوس إال
من تعبوا من الحياة ،ما علقها اإل كهان املوت وحراس املواخري ،وهل هذه الوصية
إال دعوة إىل العبودية.
لقد تعلم هؤالء الكهنة والحراس ولكنهم اتبعوا منهجً ا سيئًا؛ فأغفلوا من العلوم
مترسعني ،فازدردوا ما تناولوا حتى استحكم يف ِمعَ دهم
ِّ خيارها ،تعلموا قبل األوان
الداء ،وما عقلهم إال معدة عليلة ساء هضمها ولهذا ينادي عقلهم بالفناء.
إن الحياة ينبوع مرسة ،ولكن املنتصت إىل عقله ا َملمْ عود وقد ساء التمثيل فيه
وحكمته السوداء يخيل له أن يف كل ينبوع سمومً ا.
إن املعرفة مرسة ملن تعززه إرادة األسد ،وما املتعب تسريه إرادة سواه إال قطعة
عائمة تتقاذفها األمواج ،وهل الضعفاء إال من أضلوا السبيل حتى إذا نفدت قواهم
وقفوا متسائلني عمن دفع بهم إىل السري قائلني أن ال يشء يستحق االهتمام ،هؤالء
هم من يلذ لهم سماع الداعني إىل االستعباد بقولهم :ال يشء يستحق االهتمام،
فعليكم أن تشلوا إرادتكم.
244
ً
مدغدغا معاطس كل من أتعبهم السري أي إخوتي ،إن زارا يهب كالهواء الالفح
عىل طرقهم ،وهذا الهواء الطلق يخرتق حتى جدران السجون ويبلغ حتى سجناء
التفكري.
ال مخلص إال اإلرادة ألن اإلرادة مبدعة ،هذا هو تعليمي ،وعىل اإلنسان أن يتعلم
ليبدع ،وعليه أن يأخذ عني دون سواي الطريقة التي تبلغه العلم.
من له أذنان سامعتان فليسمع.
17
لقد أُعدَّت السفينة فهي متجه إىل بعيد ،ولعلها سائرة إىل لجة العدم ،فهل فيكم
من يريد السفر إىل املجهول املفرتض؟
ليس منكم واحد يريد أن يركب هذه العائمة ،سفينة املوت فعال َم تريدون إذن
أن تسئموا الحياة؟
أيها املتعبون من الدنيا قبل أن يستعيدكم ترابها ،ما عهدتكم إال متشوقني
لألرض عاشقني ملتاعبكم منها.
هذه شفتكم تتدىل بشهوة ترابية تعلقت فيها ،وهذه نظراتكم تجول فيها
خياالت ملذات أرضية ملا نسيتموها بعد.
إن عىل األرض مُبدعات وفرية بعضها للفائدة والبعض اآلخر للتنعم ،فأحبوا
األرض من أجل هذه املبدعات ،وفيها ما جمع كنهود الكواعب بني ما يفيد الحياة
ويبهج الحياة.
أمَّ ا أنتم أيها املتعبون من العالم ،أيها املتكاسلون ،فقد حق عليكم أن تدغدغ
جلودكم السياط لتشتد عزائمكم وقوائمكم؛ ألنكم إذا لم تكونوا ممن نفدت قواهم
فتعبت األرض منهم ،فأنتم وال ريب من فئة املحتالني املتكاسلني أو من املنتقمني
املنقطعني إىل اللذات كالهررة الجشعة الخبيثة .إذا أنتم أرصرتم عىل اختيار
245
الجمود وامتنعتم عن الركض بفرح وحبور ،فما لكم إال أن تتواروا عن الوجود.
ال دواء للداء العُ قام ،هكذا يعلم زارا ،فاغربوا إذن عن الحياة.
ولكن اإلتيان ببيت الختام يف قصيدة أصعب من نظم بيوت جديدة فيها،
ووضع حد للحياة يستلزم من الشجاعة ما ال يقتضيه البقاء فيها ،وذلك ما يعرفه
الشعراء وال يجهله األطباء.
18
أي إخوتي ،لقد كتب التعب وصاياه كما كتب الكسل وصاياه ً
أيضا ،وبالرغم
من أن نص كليهما واحد فإن معنى ك ٍّل منهما يختلف عن اآلخر ،وهل كالكسل ما
يدخل التعفن إىل النفوس.
انظروا إىل هذا الرجل وقد تراخت عزيمته ،ولم يبق بينه وبني هدفه إال قيد
شرب واحد ،ولكن التعب أضناه ،فأصبح وهو الجسور املقدام منطرحً ا عىل الرمال
ً
حانقا. متربمً ا
ها هو ذا يتثاءب من لغبه ،وقد سئم الطريق واألرض والهدف حتى سئم نفسه،
فهو ال يريد أن يخطو خطوة واحدة بعد.
إن الشمس ترشقه بسهامها وقد دارت به الكالب متحفزة؛ لتلغ ما تصبب من
ً
مفضل عىل النهوض أن تنثره الشمس عرقه وهو ال يزال ممددًا ممنَّعً ا بعناده
رمادًا.
يا للغرابة أن يفنى اإلنسان وهو عىل قيد شرب من هدفه! تقدموا وجروا البطل
بشعره إلبالغه الجنة التي تاق إليها.
ولكن ال! خريٌ لهذا الرجل أن تَدَعوه حيث انطرح ليأتيه الوسن املع ِّزي ويتساقط
عليه الرذاذ املربد من السحاب.
دعوه يغط يف نومه إىل أن ينتبه لنفسه ،إىل أن يتغلب وحده عىل التعب وعىل كل
246
ما ع َّلمه أن يتعب.
ولكن اطردوا من حوله الكالب الخبيثة الكسولة وأرساب الذباب املالئة جوَّه
بالطنني ،وما هي إال أرهاط املثقفني املتغذين مما تنضحه رءوس األبطال.
19
طا وأنصب التخوم حدودًا مقدسة؛ لذلك يتناقص عدد إنني أرسم حويل خطو ً
من يتسلقون الجبال معي كلما ازددت ارتفاعً ا نحو الذرى ،فحاذروا يا إخوتي،
َّ
يندس بينكم الطفيليون ،إن الطفييل حرشة تتغذى من كل خلية يف أي مرتقى أن
عليلة فيكم ،فهي تهتدي بالغريزة إىل مواطن ضعفكم وتدرك بسليقتها الزمن
الذي تهي فيه عزائمكم ،فال تلبث أن تعشش يف مكامن استيائكم ووهن معزتكم.
إن مثل هذه الحرشة ال تتخذ مقرها الكريه إال يف مكامن الضعف من األقوياء
ويف مواطن اإلشفاق من النبالء ،وحيث تلوح لها علة حقرية لعظيم فهنالك تتخذ
مسكنًا لها.
إن أدنى فئة وأحطها يف أي نوع إنما هم الطفيليون وما يغذِّي هذه الفئة الدنيئة
إال أرفع فئة وأرشفها يف ذلك النوع ،وكيف ال يرتاكم العدد األوفر من الطفيليني
نفس طال سلمها فطال املدى بني أحط مدرج وأعىل مدرج فيها. عىل ٍ
كيف ال يرتاكمون عىل نفس رحب مداها؛ فرتاكضت فيه تائهة مستسلمة
للطارئات ،عىل نفس تستغرق يف آتي الزمان وتندفع إىل أغوار اإلرادة والشوق،
عىل نفس تفزع من ذاتها وتفزع إىل ذاتها مندفعة منجذبة يف أفسح دائرة وأبعد
مجال ،عىل نفس تناهت يف الحكمة فراودتها عىل مهل طالئع الجنون ،وتلك هي
النفس التي أحبت ذاتها فوق كل حب فبدت فيها مصاعد ومنازل لكل األشياء،
واتسعت لكل جزر وم ٍّد فكيف ال تعلق بأكرب النفوس أحقر فئات الطفيليني …
247
20
ما أحسبني قاسيًا عاتيًا ،ومع ذلك فإنني أقول لكم :إذا ما رأيتم متداعيًا إىل
السقوط فادفعوه بأيديكم وأجهزوا عليه.
إن كل يشء يتفسخ ويتداعى يف هذا الزمان ،فمن ترى يحاول دعم ما هوى؟ أما
أنا فإنني أريد سقوطه.
وإذا كنتم لم تتذوقوا لذة دفع الصخور من ذرى املنحدرات فانظروا إىل رجال
هذا الزمان يتدهورون إىل أغواري.
ما أنا إال أول املدحرجني وسيأتي بعدي من تفوق مهارته مهارتي ،فاقتدوا اآلن
بي.
كل إنسان تعجزون عن تعليمه الطريان ع ِّلموه عىل األقل أن يرسع بالسقوط.
21
إنني أحب الشجعان ،وما يقنع إعجابي منهم بإحكامهم رضب السيف؛ إذ
عليهم ً
أيضا أن يمهروا يف اختيار من يرضبون.
ولقد يكون اإلقدام األوىف يف اإلحجام أحيانًا ويف االحتفاظ بالقوة ملن يستحق أن
تبذل له.
ال تتخذوا لكم من األعداء إال من يستحق البغضاء ،وتجاوزوا عن عداء من ال
يستحق إال االحتقار؛ إذ عليكم أن تباهوا بعدوكم وما هذه أول مرة آتيكم فيها
بهذه الوصية.
احتفظوا بقوتكم ،وما أكثر من يجب أن تمروا بهم متغافلني! وأحقهم بإغفالكم
أوالئك الزعانف الذين يخدشون آذانكم بما يتصايحون به عن األمم والشعوب.
أعرضوا عما يهاجمون به من حُ جج ،وعما يدافعون به من براهني ،فما أقوالهم
248
إال مزيج توافر حقه وباطله ،ومن أصغى إليها ال يأمن ثورة غضبه ،فإذا هو
منقاد إىل إرسال رضباته يمنة ويرسة يف الجموع؛ لذلك سارعوا لاللتجاء إىل
الغابات ودعوا سيوفكم مرتاحة يف أغمادها.
سريوا يف طريقكم ودعوا األمم والشعوب تتبع مسالكها ،إنها ملسالك ج َّللها
الظالم فلن يلوح عليها ٌ
بارق ألمل.
عىل تلك السبل ال يسود إال املتاجرون بالسلع؛ حيث ال بارقة إال من ملعان
دنانريهم ،فقد انقىض عهد امللكية وما هذه الكتل التي يسمونها شعوبًا لتستحق
قيادة امللوك.
انظروا إىل هذه األمم وقد أصبحت تمثل دور بائع السلع بمجموعها تروها
تجمع حقريات األرباح من أقذار أية دمنة الحت لها ،لقد انتصبت كل أمة ترتصد
األخرى وتق ِّلدها وتدَّعي جميعها حرمة الجوار .فيا له عهدًا سعيدًا ذلك الزمان
الذي كان يهب فيه شعب معلنًا إرادته بأن يسود غريه من الشعوب.
أقول هذا يا إخوتي؛ ألن من حق األفضل أن يحكم ،وألنه يريد أن يحكم ،وال
تسود قاعدة غري هذه القاعدة إال حيث ال أفضل منها يعمل بها.
22
ويل لهؤالء الناس لو أن خبزهم يوزع مجانًا عليهم ،فإنهم ال يجدون من
يصبُّون غضبهم عليه ،بأي حديث يتحدثون إذا حُ رموا قساوة الحياة؟
ترصد واختطاف ،ويف أرباحهم إن هؤالء الناس إال وحوش كارسة ،يف أعمالهم ُّ ْ
مراوغة واحتيال ،فكيف تلذ لهم الحياة إذا هي خلت من الشدة والقسوة ،وهم
ً
افرتاسا ومراوغة؛ ألن اإلنسان يف اعتقادهم يرون االرتقاء يف التفوق عىل الحيوانات
أفضل حيوان كارس.
لقد اقتبس اإلنسان صفات جميع الحيوانات؛ لذلك كانت حياته أوفر شدة عليه
249
من حياة أية فئة منها ،ولكن اإلنسان لم يرتفع فوق األطيار بعدُ ،وويل له إذا هو
أيضا؛ إذ ال نعلم إىل أي ارتفاع سيندفع بجشعه وحرصه.تعلم الطريان ً
23
أهل للكفاح وأن تكون ً
أهل للتوليد وأن إن ما أريده للرجل وللمرأة هو أن يكون ً
يكونا كالهما ً
أهل للرقص برأسيهما وأرجلهما.
لنع َّد كل يوم يمر بنا دون أن نرقص فيه ولو مرة واحدة يومً ا مفقودًا ،و ْلنعتربْ
ً
باطل. كل حقيقة ال تستدعي ولو قهقهة ضحك بيانًا
24
انتبهوا لكل زواج تعقدونه واحذوا العقود الفاسدة؛ ألنكم إذا ترسعتم بها ال
تجنون غري ح ِّلها .عىل أن فسخ الزواج خريٌ من تحمله باملصانعة واملخادعة.
ْ
حطمت هذه القيود حياتي». ُ
حطمت قيود زواجي حتى قالت يل امرأة« :ما
ما رأيت زوجني ال تكافؤ بينهما إال وتبينت فيهما عاطفة االنتقام؛ إذ يتحول
ً
طليقا لوحده. نفور كل منهما إىل عداء للناس ،وقد امتنع عليه أن يسري
لذلك وجب عىل أهل اإلخالص أن يثقوا بصدق ما يشعرون به ،وأن يوجهوا
قواهم لالحتفاظ بعواطفهم؛ كيال ينخدعوا بما يعاهدون عليه ،و ْليطالبوا باالتحاد
إىل حني ليثقوا من إمكان اتحادهم إىل أم ٍد طويل فليس من هيِّنات األمور أن
يجتمع اثنان إىل مدى العمر.
ذلك ما أويص به املخلصني؛ ألنني إن قلت بغري هذه الوصية عدمت محبتي
لإلنسان املتفوق ولكل ما أتوقعه آلتي الزمان.
ليس ما ُفرض عليكم أن تتناسلوا وتتكاثروا فحسب ،بل عليكم أن ترتقوا ً
أيضا،
فلتكن جنة الزواج مدخلكم إىل املرتقى.
250
25
ليس إال ملن اخترب حادثات الزمان القديم أن يدرك يف الينابيع العتيدة ما
سيندفق منها من حادثات ملستقبل األزمان.
لن يطول الزمن ،أيها اإلخوة ،حتى تنشأ شعوب جديدة وتبدأ ينابيع جديدة
بالهدير يف مجاهل األغوار.
تزلزل األرض زلزالها فتكرع املياه الدافقة فيكثر عدد الظامئني ،ولكنها يف
الوقت نفسه تقذف من باطنها إىل النور بالقوى الخفية وبكثري من األرسار،
وهنالك زالزل تفجر من األعماق عىل األرض ينابيع جديدة ،فإذا ما انخسفت
البسيطة بالشعوب القديمة تدفقت تلك الينابيع.
يف ذلك الحني إذا ما وقف رجل يدعو الناس ً
هاتفا :تعالوا! ههنا ع ٌ
ني تروي كثريًا
من العطاش فتشدد القلوب الواهية وتخلق العزم فيمن فقدوا إرادتهم .يهرع
الشعب إليه طالبًا أن يجرب وما يطمح الناس يف تجاريبهم إال إىل التمييز بني من
له أن يأمر ومن عليه أن يطيع ،ول َكم ستقتيض هذه املحاولة من تفتيش واستقراء
ومشاورة واختبار.
إن ما يرسو عليه املجتمع اإلنساني إنما هو املحاوالت ال النظام املربم بالعقود،
هذا ما أعلمه أنا ،وما هدف هذه املحاوالت إال وجود من يحسن الحكم.
فأعرضوا يا إخوتي عن كل قول آخر مصدره القلوب الخائرة واألفكار العاجزة
عن وجود الطرق الحاسمة.
26
أين يكمن الخطر األعظم املهدد ملستقبل اإلنسانية يا إخوتي؟ إنني أراه كامنًا يف
نفوس أهل الصالح والعدل ،وهم القائلون يف نفوسهم« :إننا نعرف ما هو صالحٌ
وعد ٌل وهو كائن فينا ،فوي ٌل ملن يريدون أن يوجهوا أبحاثهم إليه».
251
إن ما يرتكبه األرشار من املآتي ال يوازي برضِّ ه ما يرتكبه األخيار ،فإن وطأتهم
ألشد عىل العالم من وطأة املفرتين عليه.
أي إخوتي ،لقد تط َّلع يومً ا أح ُد الناس إىل قلوب أهل الصالح والعدل ً
قائل:
«هؤالء هم الفريسيون ».فما فهم أح ٌد قوله ،وما كان الصالحون العادلون ليفهموه
أيضا؛ ألن عقلهم سجني يف ضمريهم .إن حماقة الصالحني حكمة ال يدرك كنهها ً
أحد ،ولكن ال مفر لهم من وصفهم بالفرنسيني ،وقد قيض عليهم أن يصلبوا كل
من يبتدع لنفسه فضيلتها .تلك هي الحقيقة ال مرية فيها.
لقد جاء رجل آخر فاكتشف مواطن الصالحني والعادلني ،وما خفيت عنه
أرضهم وال قلوبهم ،فأورد سؤاله وأجاب عليه :أي إنسان يصب عليه هؤالء الناس
أشد كرههم؟
إنهم ال يكرهون أحدًا كرههم للمبدع؛ ألنه يف نظرهم املجرم الهدَّام لتحطيمه
ألواح الوصايا القديمة.
ذلك ألن أهل الصالح عاجزون عن اإلبداع ،وما هم إال بداية النهاية ،فال بدع إذا
صلبوا من يحفر وصايا جديدة عىل ألواح جديدة ،وإذا ضحَّ وا املستقبل ألنفسهم،
واملستقبل للعاملني أجمعني.
هل كان أهل الصالح يف كل حقبة من حقب الزمان إال بداية النهاية2.
27
أفهمتهم يا إخوتي هذه الكلمة ،وما قلته لكم ً
أول عن اإلنسان األخري؟
أفما اتضح لكم أن الخطر األكرب املهدد مستقبل اإلنسانية إنما هو كامن يف
مبادئ أهل الصالح وأهل العدل.
هيا! حطموا الصالحني والعادلني.
وعساكم تدركون معنى هذه الكلمة ً
أيضا.
252
28
أراكم تذهبون بددًا من حويل ،أراكم ترتعشون فكأن كلمتي هذه أدخلت الرعب
إىل قلوبكم.
أيْ إخوتي ،إنني ما دفعت بسفينة اإلنسان نحو الغمر إال عندما أهبت بكم إىل
ُ
دفعت تحطيم األلواح وإسقاط الصالحني ،وها إن الرعب األعظم يستويل عىل من
إىل اجتياز الغمر فقد غارت عيناه وحَ َكمه دُوار البحار.
ِ
وجهات األمور الخادعة ،وعللوكم بحاالت أمن كاذب، لقد أراكم أه ُل الصالح
وكنتم واجهتم أكاذيبهم وأنتم أطفال فما انقطعتم عن االلتجاء إليها.
لقد شوَّهوا كل يشء وأفسدوه حتى يف أصوله.
ولكن من اكتشف اإلنسان لم يفته اكتشاف مستقبل اإلنسانية ،فكونوا يل أيها
اإلخوة البحارة الشجعان املجالدين ،وهيا بنا إىل األمام نشق عباب البحر مقتحمني
أمواجه الصاخبة ،تع َّلموا السري عىل الوجهة املستقيمة فإن كثريين يحتاجون إىل
االقتداء بكم.
البحر هائج ويف البحر كل يشء ،فإىل األمام أيتها العزائم ،عزائم البحارة القدماء.
ما يهمنا ما يدور بنا ،إننا ننرش الرشاع قاصدين وطن أبنائنا ما وراء الغمر
حيث ترغي وتزبد أشواقنا الهائجات.
29
قال الفحم يومً ا للماس :من أين لك هذه الصالبة؟ أفما نحن نسيبان.
وأنا أقول لكم :أفما أنتم إخوتي ،فمن أين جاءكم هذا َ
الخوَر؟
ِل َم هذه الليونة ِل َم هذا امليعان؟ أين توكيد الذات يف قلبكم وأين غارت سطور
مقدراتكم فال تلوح يف أحداقكم؟
253
إذا أنتم اطرحتم العزم الحاسم فكيف تتوقعون الظفر يومً ا إىل جانبي؟ وكيف
يتسنى لكم أن تشاركوني باإلبداع إذا لم يكن لعزمكم ملعان الجُ راز ومضاؤه؟
هل يكون املبدع إال صلبًا شديدًا؟ وهل من غبطة لكم أعظم من أن تطبعوا يدكم
عىل صفحات القرون فرتتسم عليها كارتسامها عىل قطعة من الشمع؟
إنها ألعظم غبطة أن يكتب اإلنسان عىل إرادة ألوف األجيال واألجيال أقوى من
الصلب وأسمى ً
رشفا؛ ألن أصلب األشياء أرشفها.
إنني أعلق فوق رءوسكم لوح هذه الوصية :اتصفوا بالصالبة وتشددوا.
30
أيْ إرادتي ،لقد آن لنا أن نضع حدًّا لكل الصغائر ،وما يل من مطلب سواك؛ ألنك
وحدك سؤيل ومقصدي .أنقذيني من كل انتصار حقري.
ِ
وأنت أيتها الصدفة التي أدعوها مقدراتي ،أنت القائمة يف ذاتي فوق ذاتي
احفظيني وأعدي للعظائم نفيس.
احتفظي أيتها اإلرادة للخاتمة بآخر عظمة فيك ،كيال يهي عزمك عند نوالك
الظفر؛ ألن ليس من أحد ال يسقط عندما يبلغ االنتصار.
وا أسفاه! أية عني لم يغشاها الظالم يف سكرة الظفر ،سكرة َ
الغ َسق ،وا أسفاه!
أية قدم لم تتعثر ولم تتحول عن مسلكها ساعة االنتصار.
إنني أع ُّد نفيس ألكون ناضجً ا للظهرية العظمى ،فألقاها صلبًا أالنتْه النار
لالنطباع ،وغمامة تتمخض بالربوق ،ورضعً ا يتفجر بد ِّره.
ً
شوقا الحتضان أريد أن أهيِّئ ذاتي وصميم إرادتي فأصبح كالقوس ألتوي
سهمه ،وكالسهم يطري ً
شوقا نحو كوكبه.
أريد أن أكون الكوكب املتألق بأنواره يف الظهرية العظمى ،وقد هزته الغبطة
254
والسهم السماوي يخرتقه ليفنيه.
ً
شمسا وإرادة شمس ال تتزعزع ،فأكون مهيَّأ لالندثار يف أفق أريد أن أتحول
االنتصار.
هذا ما أطمح إليه ،فلنضع حدًّا يا إرادتي لكل الصغائر ،أنت مقصدي،
فاحفظيني للظفر األعظم.
هوامش:
1إن كل ما أمكن للفلسفة املستغرقة يف اآلرية أن تدركه من حياة عيىس هو
ما حوَّله الغرب إىل معميات … وما كان أجدر بنيتشه وهو املتهم املسيح بإدخال
اإلشفاق القاتل للمجتمع َّأل يرى الصليب مقتطعً ا من شجرة السوء؛ ألنه قتل
املشفق األكرب ولكن التناقض رش باليا الفكر ،وأسهل ما يقع املفكر فيه إذا هو مد
بمقياسه إىل ما يعلم وإىل ما ال يعلم دون تحقيق.
2ما لصاحبنا نيتشه يعرتف بتمرد عيىس عىل رش من يدعوهم أهل الصالح
والعدل ،وما له يباهي باقتفاء أثر هذا السامي الضعيف ،عىل أن عيىس ما جاء
ناقضا بل مكمِّ ًل وما جاء محطمً ا للوحي الوصايا وال مبتدعً ا فضيلة لنفسه عىل
ً
ما يقصد نيتشه ،بل رفع منار فضيلة يهتدي بها الناس أجمعون.
255
النقاهة
1
وما كانت مضت أيام طويلة عىل عودة زارا واستقراره يف غاره ،حتى هب يومً ا
شخصاً من رقاده كالفاقد الرشد ،وأخذ يصيح ويعربد مشريًا إىل مرقده كأن عليه
غريبًا يحاول طرده ،وساد القلق حيوانَي زارا؛ فدارا حوله وحكم الرعب جميع
الحيوانات األخرى ،فإذا هي تدب وتزحف وتتطاير هاربة إىل بعيد.
وبقي زارا يف موقفه ً
قائل :هيا! انهيض أيتها الفكرة الرائعة املنبثقة من أعماق
ذاتي ،لقد كنت لك فج ًرا وأعلنت انجالءك كالديك الصائحِ ،
وأنت ال تزالني منطرحة
كالتنني ،افتحي أذنيك واسمعي؛ ألنني أريد أن تطلقي صوتك أنت ،انهيض فإن
هنا من الصواعق ما يع ِّلم حتى القبور أن تصيخ سمعً ا.
افركي أجفانك واسمعي بعينيك ما أقول لك ،فإن صوتي يهب النظر حتى ملن
ِ
انتبهت مرة فلن يعاودك الرقاد؛ ألنني ما تعودت إيقاظ ولدوا عميانًا ،فإذا ما
الجدود األقدمني ألسمح لهم بالرجوع إىل نومهم العميق.
أراك تتحركني وتتثاءبني ،فانهيض وتكلمي ،إن زارا يدعوك ،إن مَ ْن يهيب بك
للنهوض إنما هو الكافر زارا.
أنا هو زارا مؤ ِّكد الحياة ،مؤكد األلم ،مؤكد الدائرة األبدية ،أدعوك يا أعمق فكرة
بني أفكاري.
يا البتهاجي! إنني أراك قادمة ،فها أنذا أسمع صوت هاويتي لقد نفضت نحو
النور آخر أغواري.
يا لرسوري! تقدمي إيل َّ … هاتي يدك.
256
ال … ال … أرجعيها … يا للكراهة … ويا لشقائي!
2
وما نطق زارا بهذه الكلمات حتى سقط عىل األرض كامليت ،وطالت غيبوبته
حتى إذا ثاب إليه روعه حكمه ارتعاش شديد ،وشحب وجهه وانطرح سبعة أيام
عىل فراشه ال يتناول طعامً ا وال رشابًا ،وكان تابعاه من الحيوانات ال يبارحانه،
ولكن نرسه كان يذهب يف طلب الغذاء ويعود حتى كدَّس أنواع البقول والفاكهة
حول املرقد ،وطرح أمامه نعجتني اختطفهما بكل عناء من القطعان السارحة
وقد نام عنها رعاتها.
وبعد سبعة أيام جلس زارا عىل مرقده وأخذ تفاحة ينشق نكهتها ،فخيل
لحيوانيه أن الزمن قد حان فقاال له :لقد مرت سبعة أيام يا زارا ،وأنت مثقل
األجفان أفما آن لك أن تنهض ،اخرج من غارك فإن كل يشء يتشوق إليك؛ فالهواء
يهب بالعطور نحوك والغدران تتسارع إىل لقياك ،وكل يشء يتوق إىل معالجتك
وشفائك.
وفعلت خمريتُه فعلها فيك؟ فقد رأيناك
ْ هل أتاك يقني جديد ،فأرهقك بثقله
ساكنًا كالعجني املنتفخ باختماره ،وشعرنا بروحك تتدفق من جنبيك.
حيواني ودعاني أ َ ْشدد عزمي باإلصغاء إىل
َّ فأجاب زارا :اذهبا يف ثرثرتكما ،يا
هذه الروح .إن الثرثرة لتبسط العالم كله أمامي كحديقة مرتامية األطراف.
إن العذوبة كلها كامنة يف الكلمات واألصوات ،فما هي إال جسور من الوهم
ممدودة بني الكائنات املنفصلة إىل األبد.
لكل نفس عاملها فهي تجد يف كل نفس أخرى عا ًملا آخر ،وكلما ازداد التشابه بني
األشياء ازداد خداع الرساب بينها ،وأصعب املآزق اجتيا ًزا أضيقها.
إنني ال أدرك كيف يمكن أن يوجد يشء ليس يف َّ أنا؛ ألن نفي الذات ممتنع ،غري
257
أن جميع األصوات تنسينا هذه الحقيقة وخري لنا أن نتمكن من نسيانها.
ما أُعطيت األسماء واألصوات إال لتشديد عزم اإلنسان ،وهل اللغة إال جنون له
لذته؟ أفما ترى اإلنسان يرقص بيانه عىل كل يشء.
ما ألذ الكلمات وما أحىل خداع األصوات! فإنها ترقص حبنا عىل جميع ما يف
قوس قزح من األلوان.
فأجاب الحيوانان قائ َلني« :إن من له عقليتنا يرى األشياء مرتاقصة لنفسها؛ ألن
كل األشياء تتقدم إىل مرسح الوجود فتتصافح وتضحك وتنسحب ثم تعود.
الكل يذهب والكل يرجع وعجلة الكون تدور إىل األبد ،كل يشء يموت ،وكل يشء
يعود فتنور أزهاره ودوائر الوجود ال انتهاء لها.
تتحطم األشياء فتتبدد ،ثم تعود فتلتئم لتجديد بناء الوجود ،يتفرق الشمل عىل
وداع ،فإذا بعده تسليم فحلقة الكون أمينة لذاتها إىل األبد.
إن الوجود يبدأ يف كل لحظة ،فعىل محور «هنا» تنفتح دوائر األجواء «هنالك»
فاملحور مرتكز يف كل مكان وطريق األبدية كله تعاريج».
قائل :يا لطيشكما! إنكما تعلمان جيدًا ما وجب أن يتموعاد زارا إىل ابتسامه ً
يف سبعة أيام ،ويا للمسخ الذي زحف إىل داخل عنقي ليكتم أنفايس ،غري أنني
قضمت عنقه بأسناني فقطعت رأسه ولفظته إىل بعيد ،فأتيتما تعيدانه إىل نصابه.
ً
مريضا من إجهايض. أنا اآلن متعب مما قضمت ولفظت ،وال أزال
لقد شهدتما كل هذا ،فهل أردتما التلذذ بأشد أوجاعي أسوة بالناس؟ واإلنسان
أقىس حيوان يف الوجود؛ ألنه ال يجد ارتياحً ا عىل األرض إال بمشاهدة املآيس
ومصارعة الثريان والصلب ،وما تمتع بلذة الجنان عىل أرضه إال يوم اخرتع
الجحيم.
إذا ما رصخ رجل عظيم سارع صغري إىل نجدته والحسد يكاد يديل لسانه من
258
ً
وإشفاقا. فمه ،ولكنه يسمي هذا الحسد رحمة
خص منهم الشعراء بأي بيان ملتهب يشكون الدهر انظر إىل صغار الناس وأ ُ ُّ
أصغيت إىل هذا األنني الشاكي فال يفوتنَّك أن تنصت لنربات
َ وتصاريفه ،وإذا ما
اللذة يف كل شكوى.
إن الحياة تقول ملن يشكو ،وهي تتحكم فيه بغمزة من عينيها :إنك عاشقي
فانتظرني لحظة ألتفرغ لك.
ما يقسو حيوان عىل نفسه قساوة اإلنسان ،فإذا ما سمعت أنني من يدَّعون أنهم
فتنصت إىل أنينهم وشكواهم تسمع فيها َّ مرتكبو آثام وحَ مَ لة صلبان وتائبون
شهقات الشهوة املتلذذة.
وهل أقصد أنا اآلن بما أقول أن أشكو اإلنسان؟ أيْ نرسي وأفعواني ،إن الرش
األعظم رضوري للخري األعظم بني الناس .هذا ما تع َّلمته وما تع َّلمت سواه حتى
اآلن.
إن الرش األعظم لخريُ ما يف قوة اإلنسان؛ ألنه الحجر األشد صالبة لنحت املبدع،
وعىل اإلنسان أن يتكامل يف خريه ويف رشه.
ً
مفتشا عما إذا كان اإلنسان رشي ًرا ،بل وقفت لم أحمل عىل عاتقي صليبًا ألذهب
ً
هاتفا بما لم يهتف سواي بمثله فقلت« :يا لألسف! أن يكون أعظم رش يف اإلنسان
وأعظم خري فيه ال يتجاوزان هذه الصغارة».
إن هذا االحتقار العظيم للناس هو الثعبان الذي تغلغل يف حلقي ،فكاد يخنقني
كما كاد يخنقني ً
أيضا ما أنبأ به العراف إذ قال :كل األشياء متساوية وال يشء
يستحق العناء ،فاملعرفة تخنق طالبها.
الغ َسق ينسحب متعارجً ا أمامي ،وسمعت صوتًا حزينًا متعبًا كأنه وهكذا رأيت َ
نربات سكران يراوده املوت يقول يل« :سيعود دو ًرا فدو ًرا إىل األبد اإلنسا ُن الذي
259
يرهقك؛ اإلنسان الصغري».
غسقا طال انسحابه؛ فأورثني األرق ورأيت أرض ً ذلك كان حزني املتعارج
البرش تستحيل أمامي إىل مغارة اتسع صدرها ضامًّ ا إليه كل حي ،فالح يل كل
يشء ركام أقذار وأكوام عظام وردوم قرون.
ً
ملتصقا بها ،وقد حُ كم ذهب زفريي يجول بني املدافن مرتاميًا عىل لحود الناس
عليه إال يغادرها؛ فبات هنالك منتحبًا يشكو ويردد ً
ليل ونها ًرا« :وا أسفاه إن
اإلنسان سيعود ،سيعود اإلنسان الصغري دو ًرا فدو ًرا إىل األبد».
ولقد رأيت الناس من قب ُل ،رأيت كبريهم وصغريهم ،فما أشبه األكرب باألصغر
فيهم فكلهم مستغرق يف برشيته.
ما أصغر األكرب بني الناس! ويا للشقاء يف أن يعود الصغار أبدًاَّ .
إن هذا ما
يرهقني من الوجود.
واندفع زارا يردد قوله :يا للكراهة … يا للكراهة ،وهو يتنهد ويرتعش متذك ًرا
داءه وأوجاعه.
وقاطعه نرسه وأفعوانه قائلني :توقف عن الكالم ،أيها الناقه ،اخرج من هنا
واذهب إىل حيث تنتظرك الدنيا يف حدائقها ،إىل الورود والنحل والحمام ،وقف
عند أرساب األطيار املرتنمة لتتع َّلم أناشيدها ،وما أجدر الناقهني باإلنشاد! فإن
املتمتعني بالعافية يتكلمون وإذا هم تغنوا فبغري ما يتغنى به الناقهون.
فقال زارا :اسكتا أيها األحمقان أراكما عرفتما السلوى التي أوجدتها لنفيس يف
سبعة أيام ،ولسوف أعود إىل اإلنشاد الذي أوجدته للسلوى فيكون يل منه الشفاء،
أفرتيدان أن أعدل عن هذا ً
أيضا.
فصاح الحيوانان :انقط ْع عن الكالم أنسيت أنك ناقه؟ أع َّد قيثارة جديدة
لنفسك ،فما تجاري القيثار ُة القديمة إنشادًا جديدًا.
260
أطلق أغنيتك ،يا زارا ،ولتذهب داوية كالعواصفِ ،
أشف نفسك بها لتنهض بما
ُقدِّر لك وما قدر ألحد قبلك.
إن حيوانيك يعرفان من أنت ،يا زارا ،وما ستكون ،فما أنت إال النبي املعلن
تكرار عودة األشياء إىل األبد ،وهذا ما قدر عليك القيام به منذ اآلن :أن تكون أول
من ينرش هذا التعليم وكفاك بهذا العمل علة وأخطا ًرا.
ما غرب عنا تعليمك يا زارا ،فأنت تقول بأن جميع األشياء تعود أبدًا ،ونحن
معها عائدون وبأننا وُجدنا من قبل مرا ًرا ال عداد لها ومعنا جميع األشياء ً
أيضا.
بالسنة العظمى املتكررة ،وهي كالساعة الرملية تنقلب كلما فرغأنت تقول ُّ
أعالها ليعود أدناها إىل االنصباب مجددًا ،وهكذا تتشابه السنوات كلها بإجمالها
ً
وتفصيل يف هذه السنة ً
إجمال وتفصيلها كما نعود نحن مشابهني ألنفسنا
العظمى.
إذا ما شئت أن تموت اآلن يا زارا ،فإننا نعلم ما ستناجي به نفسك ،ولكن نِرسك
وأفعوانك يرجوانك أال تضع حدًّا لحياتك اآلن.
إذا أنت عزمت عىل الرحيل ،فإنك لتدفع بزفرة االرتياح ال بأنني األلم؛ إذ تطرح
عن عاتقك وأنت الصلب الجلود ِو ْق َرك الثقيل وكربتك املضنيةً ،
قائل :ها أنذا أموت
وأتوارى ،وعما قليل أصبح عَ دمً ا ،فإن األرواح تفنى كما تفنى الجسوم ،غري أن
شبكة العلل الدائرة بي ستعود يومً ا فتخلقني مجددًا ،فما أنا إال جزء عن علل
العودة األبدية لكل يشء.
سأعود بعودة هذه الشمس وهذه األرض ،ومعي هذا النرس وهذا األفعوان
سأعود ال لحياة جديدة وال لحياة أفضل وال لحياة مشابهة ،بل إنني سأعود أبدًا
أيضا بعودة جميع األشياء تكرا ًراوتفصيل ،فأقول ً
ً ً
إجمال إىل هذه الحياة بعينها
وأبش ً
أيضا بظهرية األرض والناس وبقدوم اإلنسان املتفوق. وأبدًاِّ ،
هذه هي كلمتي نطقت بها وقد حطمتني هذه الكلمة ،ذلك ما ُقدِّر عيل َّ أبدًا ،فأنا
261
أتوارى منذ ًرا وبشريًا.
لقد حانت الساعة اآلن ،الساعة التي يبارك فيها نفسه من يتوارى ،وهكذا
ينتهي جنوح زارا إىل املغيب.
قال النرس واألفعوان هذا وتوقعً ا أن يجيبهما زارا بيشء ،ولكن زارا لم يعلم أن
حيواناه سكتا عن الكالم؛ ألنه كان قد استغرق يف مناجاة نفسه فظهر كأنه نائم
وما كان نائمً ا.
ووجم النرس واألفعوان أمام سكون زارا ،وذهبا عىل مهل من قربه.
262
األمنية العظمى
أيْ نفيس! لقد علمتك أن تقويل كلمة «اليوم» كما تتلفظني بكلمتي «أمس وما
قبله» وأن ترقيص فوق كل مندثر أينما كان.
أي نفيس! لقد حررتك من كل قيد خفي وطهرتك من األدران ،وأقصيت عنك
العناكب وكل نور يخالطه ظالم.
أي نفيس! لقد نفضت عنك صغائر حيائك وكمينات فضائلك ،وأقنعتك بالخروج
عارية أمام عني الشمس.
لقد نفخت عاصفة الفكر عىل بحرك املضطرب ،وجلوت الغيوم السوداء من
آفاقك ،وقضيت فيك عىل اإلثم القاتل.
أيْ نفيس ،لقد أوليتك الحق بأن تقويل «ال» كما تقول العاصفة ،وأن تقويل
ِ
فأصبحت هادئة كالنور يجتاز العواصف «نعم» كما تقول صافيات اآلفاق،
النافيات املانعات.
أي نفيس ،لقد أطلقت لك الحرية تتس َّلطني بها عىل ما هو كائن وعىل ما لم
يتكوَّن بعد ،فما شعرت نفس بمثل ما تشعرين من ملذات آتي الزمان.
أي نفيس ،لقد علمتك أن تحتقري احتقا ًرا ال ينخر كالسوس ،علمتك االحتقار
الذاهب إىل أقىص املحبة أو إىل أقىص التحقري.
أي نفيس ،لقد علمتك اإلقناع حتى خضعت األسباب واملقدمات ملا تَ ْرتئني،
فأصبحت كالشمس تُقنع البحار بأن تتعاىل إىل مدارها.
أي نفيس ،لقد نزعت منك كل خضوع وخنوع ومتابعة واستعباد حتى رأيتك
263
سائدة لكل شقاء ،ومتحكمة يف الدهر ألنك أنت هي املقدور.
أي نفيس ،لقد منحتك أسماء جديدة ،ومتعتك بألعاب متنوعة فدعوتك املقدور
ومحيط املحيط وقطب الزمان ومئذنة اآلفاق.
أي نفيس ،لقد أغدقت الحكمة كلها عىل مملكتك األرضية ،وأترعت كئوسها
بخمرة املعرفة املعتقة منذ أقدم العصور.
أي نفيس ،لقد غمرتك بجميع األنوار والظلمات ،وكل ما يف الكون من سكنات
وشهوات ،فرأيتك تنمني أمامي كما تنمو الجفنة يف الكروم.
أي نفيس ،ما أنت اآلن إال دالية يف الكرمة أثقلك جنيك ،ونهدت أثداؤك عناقيد
يلوح سمرتها النضار ،لقد أرهقتك السعادة الكامنة فيك فأنت صابرة خجولة
من صربك.
أي نفيس ،ليس يف الكون من نفس أشد منك حبًّا ورحابة وحنانًا ،فأين يتقارب
املايض واملستقبل إن لم يتقاربا يف مجالك.
أي نفيس ،لقد وهبتك كل ما ملكت يدي ،واآلن أراك تبتسمني قائلة :عىل أي من
كلينا حقت كلمة الشكران؟
أفليس عىل الواهب أن يشكر من تفضل بقبول هبته؟ وهل العطاء إال حاجة يف
نفس من أعطوا ،واألخذ إال إشفاق يف نفس اآلخذين؟
أي نفيس ،إنني أدرك مغزى ابتسامتك ومعنى شجونك ،فأنت اآلن تمدين
راحات إقبالك مرتعة بشهوة العطاء ،وتمدين أبصارك عىل البحار املزبدة وقد
ابتسم يف عينيك صفاء السماء.
من له أن يرد دموعه عن الفيضان ،إذا الحت له ابتسامتك يا نفيس؟ إن ما يف
هذه البسمة من العطف والحنان ليستهوي املالئكة للبكاء.
إن عطفكِ وقد تجاوز حدَّه يمتنع عن النواح والعويل يف حني أن ابتسامتك
264
تتشوق إىل البكاء ونحْ ُرك يتهدج بالنحيب.
إنك تتناجني قائلة :إن كل دمعة فيها أنني ويف كل أنني شكاية؛ ولذلك تفضلني
االبتسام عىل الجهر بما تتحملني من خرياتك ،ومن شوق يهز جوارحك بارتعاش
الكرمة تتوق إىل مقاطع القاطفني.
ً
ُغضية بأجفانك الحمراء ،فعليك أن فإذا ما ِ
كنت تمتنعني عن البكاء ،يا نفيس ،م
ترفعي صوتك باإلنشاد.
انظري إيل َّ يف ابتسامي وأنا منبئك بأنك ستطلقني أناشيدك بصوت مرعد يجعل
البحار تتنصت لنربات شهوتك ،إىل أن تسبح عليه العائمة املذهبة واملحالة بكل
ما هو حسن يف روغانه وغرابته ،حيث ينتصب السيد املجمَّ ل بالعزم ويف يده
املقطع املايس لعناقيد الكروم ،ذلك هو مخ ِّلصك ومحررك يا نفيس ،ذلك هو
الكريم الذي أضمر اسمه يف أناشيد املستقبل ،والحق أن يف أنفاسك شيئًا من أريج
هذه األناشيد ،فأنت اآلن مستسلمة لألحالم تنقعني غليلك من اآلبار حيث يدوي
السكون وتلقني بأشجانك إىل أناشيد آتي الزمان لتجدي فيها الراحة من العناء.
أي نفيس ،لقد وهبتك كل يشء حتى فرغت يداي ،وآخر ما وهبتك إهابتي بك
لإلنشاد ،فقويل يل اآلن مَ ن منا وجبت عليه كلمة الشكر؟
تغني يا نفيس «أطلقي أناشيدك من أجيل ودعيني أوجه إليك آيات شكراني».
هكذا تكلم زارا …
265
نشيد آخر للرقص
1
أرسلت نظراتي إىل أعماق عينيك الساهدتني ،أيتها الحياة ،فوقف نبضان قلبي؛
إذ رأيت الذهب متوهجً ا فيهما ورأيت مركبًا ذهبيًّا يشع عىل بحر الظالم يش ُّد بمه ٍد
مذهب مرشف عىل الغرق. َّ
قدمي املصابتني بجنون الرقص بنظرة مسكرة مذيبة ضاحكة َّ ِ
ورشقت
دفك حتى تحفزت قدماي مستفهمة ،وما قرعت يداك الصغريتان رضبتني عىل ِّ
وتنصت عقب كل منهما ألوزانك ،وأُذن كل راقص مفتوحة يف عقب قدمه.
َّ للوثوب
ُ
وثبت إليك ،أيتها الحياة ،ولكنك تراجعت عني وتوليت ،فإذا بغدائر شعرك
ً
نصال. املتطاير تسمعني فحيح األفاعي وتريني من ألسنتها
قفزت مرتاجعً ا عنك وعن أفاعيك ،فإذا بك متعالية تتحولني مقبلة عيلَّ ،وقد
تدفقت بالشهوات عيناك ،مشريتني إيل َّ بنظراتهما املنحرفة أن أتبع السبل امللتوية،
وهكذا تعلمت قدماي املراوغة عىل منعرجات الطريق.
قريبة وأحبك بعيدة ،أيتها الحياة ،فيجذبني إعراضك عني ً إنني أخشاك
ويوقفني إقبالك نحوي ،فأنا معذب بك وأي عذاب ال أتحمله من أجلك ،أنت
املحرقة بربدك ،الساحرة بكيدك ،الجاذبة بإدبارك املحرية بسخريتك.
أي إنسان ال يكرهك ،أيتها اآلرسة الغامرة الساحرة التي ال يفوتها مقصد تتجه
إليه ،ومن ال يحبك وأنت الربيئة ال َّرعْ ناء املسارعة إىل املعصية واإلثم ويف عينيك
لفتات األطفال؟
إىل أين تقودينني اآلن أيتها الطفلة املهذبة الشاردة؟ أراك تفرين من أمامي
266
ً
راقصا حتى إىل املآذق التي ال حلوة طائشة أيتها الجاحدة الفتية ،وها أنذا أتبعك
أعرف لها منفذًا.
أين أنت؟ ُمدِّي إيل َّ يدك أو إصبعً ا من كفك ،فليس أمامي إال مغاور ومضائق،
قفي … أفال ترين البوم والوطاويط تتطاير حولنا.
َ
تعلمت من الكالب ً
مهل يا طري الظالم ،أفأنت ساخر بي؟ أين نحن اآلن؟ لقد
نباحهم فأراك تكرش عن أسنانك الصغرية ،وتحدجني بنظراتك املتقدة من وراء
لبدتك الصغرية الجعداء.
أية رقصة تريد أن أرقص ،أجبليَّة أم بحريَّة؟ أنا هو الصياد ،أفما يحلو لك أن
تكون كلبي أم تفضل أن تكون طريدتي؟
أنت هذا الطري أيتها الحياة فتعايل إىل جنبي اآلن أيتها َّ
القفازة الرشيرة ،ارتفعي ِ
وسريي إىل الجهة األخرى.
ُ
قفزت فوقعت ،فانظري إيل َّ طريحً ا يتوسل إليك أفما كان خريًا يل أن وييل لقد
أتبعك عىل مسالك أجمل من هذه؟ عىل مسالك الحب بني الشجريات الزاهية بعديد
ألوانها أو عىل شاطئ البحرية حيث ترتاقص األسماك املذهبة.
لقد أضناك التعب اآلن وهنالك خرفان ترعى عند الغروب ،أفال يلذ لك أن نرقد
حيث تصدو شبَّابة الراعي.
إنني سأحملك إىل هناك ف ُمدِّي معصميك إيل َّ ،لعلك عطىش ولقد أجد ما أروي به
ظمأك ولكن شفتيك تتحوالن عن كل رشاب.
لقد انقلبت أفعى ،هذه الساحرة الرشيقة الوثَّابة الزاحفة ،فال أدري يف أي
األوكار تغلغلت ،بعد أن صفعت وجهي وأبقت عليه طابع يدها الحمراء.
أغاني حتى
َّ لقد تعبت من رعايتك والسري وراءك أيتها الساحرة ،لقد أسمعتك
اآلن فلسوف تسمعينني رصاخك ،هيَّا ارقيص عىل نقرات سوطي ألهبك به ،فإنني
267
ما نسيت سوطي.
2
وسدت الحياة أذنيها ،وأجابتني قائلة« :ال تقعقع بسوطك ،يا زارا ،فأنت تعلم
أن الضجة تشل التفكري ،وقد بدأت تتوارد عيل َّ الخواطر ،فما أنت وأنا إال من
زمرة املتكاسلني ،لقد وجدنا جزيرتنا ومروجنا الخرضاء ما وراء الخري والرش،
وما اكتشفها معنا أحد؛ لذلك وجب علينا أن يحب أحدنا اآلخر ،وهبْ أن حبنا ال
يخرج من صميم القلب ،أفيحق لنا أن نتبادل من أجل هذا عاطفة النفور.
أنت تعلم أنني كثريًا ما أحبك وأتجاوز الحد يف حبك ،وما ذلك إال لغريتي من
حكمتك فيا وياله من هذه الحكمة املجنونة الهرمة ،ولكن إذا ما هجرتك هذه
الحكمة يومً ا فال يطول الزمن حتى تهجرك محبتي ً
أيضا».
وأدارت الحياة أنظارها ما وراءها وما حولها وقالتَ :
لست باألمني الويف يا زارا،
فمحبتك أبعد من أن تصل إىل الحد الذي تصف بأقوالك ،وأنا أعلم أنك تفكر يف
هجري عما قليل.
جرسا ضخمً ا قديمً ا يدق ساعات الظالم فيصل رنينه إىل أعماق
ً إن عىل املرتفع
غارك ،وعندما يؤذن بانتصاف الليل يخطر لك أن تغادر يف مدى الساعة األوىل من
الهزيع الثاني ،إنني أعلم ذلك يا زارا ،فأنت مصمم عىل هجراني.
أرس يف أذنها كلمة ُ
فأجبت مرتددًا« :أجل» ولكنك تعرفني أم ًرا آخر ،وتقدمت ُّ
أخرى بني غدائر شعرها الذهبية املتطايرة ،فقالت« :إذن ،أنت تعرف هذا يا زارا!
وليس من يعرفه سواك».
وتراشقنا اللحظات وعدنا نرسحها عىل املروج الخرضاء ،وقد دغدغها نسيم
املساء البليل واستخرطنا كالنا بالبكاء ،وعندئذ شعرت أن الحياة أعز عيل َّ من
حكمتي.
268
هكذا تكلم زارا …
3
( )1كن عىل حذر أيها اإلنسان.
( )2ماذا يقول نصف الليل يف غوره؟
(« )3لقد ُ
نمت ،لقد نمت».
(« )4ثم أفقت من حلم عميق».
(« )5إن العالم عميق».
(« )6فهو أعمق مما يعتقد النهار».
(« )7وآالمه عميقة».
(« )8وأعمق من أحزانه أفراحُ ه».
(« )9تقول اآلال ُم للعالم اعرب وانقض».
(« )10ولكن األفراح تطلب األبدية».
(« )11تطب األبدية العميقة».
(»!« )12
269
األختام السبعة أو نشيد البداية والنهاية ،األلف
والياء
1
أنا العراف املمتلئ بالروح الكاشفة الذاهب ُ
صعدًا عىل السلسلة املتعالية بني
بحرين ،السائر بني ما مىض وما سيأتي كغمامة كثيفة متملصة من جميع األعماق
متعب ليس له أن يحيا ،وليس له أن يموت.
ٍ الخانقة واملعادية لكل
أنا تلك الغمامة ا ُملعِ دَّة صدرها املظلم للمعات األنوار املنقذة ،املتمخضة بالربق
املثبتة الضاحكة مما تثبت ،أنا الغمامة الحاملة للصواعق الكاشفة ،ويا لسعد من
ً
طويل بالذروة كما تلتصق تمخض بمثل هذه الصواعق! ولكنه ملزم بأن يلتصق
الغمامة املثقلة؛ إذ عليه أن يشعل يومً ا أنوار مستقبل الزمان.
ً
شوقا إىل خاتم الزواج إىل دائرة كيف ال أحن إىل األبدية؟! وكيف ال أضطرم
الدوائر حيث يصبح االنتهاء عودة إىل االبتداء؟!
إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أُمًّ ا ألبنائي إال املرأة التي أحبها؛ ألنني
أحبك أيتها األبدية!
إنني أحبكِ أيتها األبدية.
2
كنت تهجمت بغضبي عىل القبور فانتهكت حرمتها ،ونبذت قصيًّا معالم إذا ُ
الحدود ،وألقيت بألواح الرشائع فحطمتها عىل مهاوي األغوار.
وإذا كنت بسخريتي نثرت الكلمات املتداعية ،وهببت كالريح أكسح نسيج
270
العناكب ،وأطهر مغاور املوت املتعفنة القديمة.
وإذا كنت جلست مرحً ا مرسو ًرا حيث دُفنت آلهة األزمان املنرصمة ألبارك
العالم وأغمره بالحب قرب أنصاب من افرتوا عليه ،فما ذلك إال ألنني أتوق إىل
ني السماء الصافية قبابها املحطمة، رؤية املعابد ومدافن اآللهة عندما تخرتق ع ُ
فأجس عىل الركام املتهدمة كالعشب األخرض والشقائق الحمراء.
فكيف ال أحن إىل األبدية وال أضطرم ً
شوقا إىل خاتم الزواج! إىل دائرة الدوائر
حيث يصبح االنتهاء عودة إىل االبتداء.
إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أمًّ ا ألبنائي إال املرأة التي أحبها؛ ألنني
أحبك أيتها األبدية.
إنني أحبك أيتها األبدية.
3
إذا كانت هبَّت عيل َّ نسمة من نسمات اإلبداع اإللهية التي تكره حتى الصدف
العمياء عىل الدوران راقصة كرتاقص الكواكب يف األفالك.
إذا كنت ضحكت بقهقهة الربق املبدع يصحبه إرعاء العمل.
وإذا كنت تراشقت الزهر مع اآللهة عىل نرد األرض حتى ارتجفت األرض،
وتشققت قاذفة لهاث النار يف األجواء ،فما ذلك إال ألن األرض نرد إلهي يرتعش
لوقع الكلمات املبدعة الجديدة ولتساقط األزهار اإللهية.
فكيف ال أحن إىل األبدية ،وال أضطرم ً
شوقا إىل خاتم الزواج ،إىل دائرة الدوائر
حيث يصبح االنتهاء عود ًة إىل االبتداء.
إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أمًّ ا ألبنائي إال املرأة التي أحبها ،ألنني
أحبك أيتها األبدية.
271
إنني أحبك أيتها األبدية.
4
إذا كنت كرعت ما يف هذه الكأس من دواء تمازجت جميع العقاقري فيه ،وإذا
كنت مددت يدي فضممت األبعد إىل األدنى وجمعت بني النار والتفكري ،وبني
املرسات واألحزان مازجً ا أقبح األشياء بأحسنها.
وإذا كنت أنا ذرة مفتدية يف بحر الرمال أعمل عىل مزج األشياء يف كأس العقاقري،
فما ذلك إال ألن يف الوجود ِملحً ا يلتحم به الخري مع الرش ،وما الرش إال أحد التوابل
التي تُزبد الكأس فرتغي طفاحً ا.
فكيف ال أحن إىل األبدية وال أضطرم ً
شوقا إىل خاتم الزواج ،إىل دائرة الدوائر
حيث يصبح االنتهاء عود ًة إىل االبتداء.
إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أمًّ ا ألبنائي إال املرأة التي أحبها؛ ألنني
أحبك أيتها األبدية.
إنني أحبك أيتها األبدية.
5
إذا كنت أحببت البحر وكل ما يشبه البحر وما اشتد هيامي به إال عند مقاومته
يل بزوابعه ،وإذا كنت أحمل يف نفيس غبطة املستكشف ،الغبطة التي تدفع بالرشاع
إىل املجاهل وتمأل روَّاد البحار حبو ًرا ،وإذا كنت قد رصخت يف حبوري :لقد توارت
حلقة من قيودي ،فها أنذا ٍ أواخر الشواطئ عن عياني ،فتحطمت بتواريها آخر
اآلن يف وسط املدى الفسيح الصاخب بعيدًا عن توايل األمكنة واألزمان ،فهيَّا بنا،
يا قلبي الهرم إىل األمام!
أواه! كيف ال أتوق إىل األبدية وأضطرم ً
شوقا إىل خاتم الزواج ،إىل دائرة الدوائر
حتى يصبح االنتهاء عودة إىل االبتداء.
272
إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أمًّ ا ألبنائي إال املرأة التي أحبها؛ ألنني
أحبك أيتها األبدية.
إنني أحبك أيتها األبدية.
6
إذا ما كانت فضيلتي فضيلة الراقصني ،وإذا كنت كثريًا ما رقصت مأخو ًذا
بإشعاع الزمرد والنضار وإذا كان رشي رشًّا ضاح ًكا يأنس إىل حقول الزنابق
وأغصان الورود ،فذلك ألن كل ما هو رشير يتحد بالضحك ولكنه يتحد مرب ًرا
ومحر ًرا بغبطته نفسها.
إن األلف والياء عندي هما أن تتحول كل كثافة إىل لطافة فيصبح كل ثقيل
ً
راقصا وكل فكر طائ ًرا ،والحق أن يف هذا كل بداية وكل نهاية. ً
خفيفا وكل جسم
ً
شوقا إىل خاتم الزواج ،إىل دائرة الدوائر فكيف ال أتوق إىل األبدية وأضطرم
حيث يصبح االنتهاء ابتداء.
إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أمًّ ا ألبنائي إال املرأة التي أحبها؛ ألنني
أحبك أيتها األبدية.
إنني أحبك أيتها األبدية.
7
وإذا ما كنت بسطت فوقي سماوات يسودها السكون ،وأطلقت جناحي يف
مجاالت سماواتي ،وإذا ما كنت سبحت يف أعماق مدى األنوار فملكت حكمة
الطيور يف حريتي ،فما ذلك إال ألن حكمة الطيور تقول« :ليس يف الكون فوق وال
ً
خفيفا، ألق بنفسك هنا أوهناك ،اذهب إىل األمام أو تراجع إىل الوراء ما دمت
تحتِ ،
أطلق صوتك بالتغريد وال تتكلم بعد ،أفليس التكلم شيمة أهل الكثافة والثقل،
قول إال نحو الخفيف اللطيف ،غ ِّرد وال تتكلم بعد».
وهل يتصاعد كل ٍ
273
أواه! كيف ال أحن إىل األبدية ،وأضطرم ً
شوقا إىل خاتم الزواج ،إىل دائرة الدوائر
حيث يصبح االنتهاء ابتداء.
إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أمًّ ا ألبنائي إال املرأة التي أحبها؛ ألنني
أحبك أيتها األبدية.
إنني أحبك أيتها األبدية! …
274
الجزء الرابع
تقدمة العسل
وكرت األشهر وتوالت السنون عىل زارا وهو ال يشعر بها ،مع أنها ج َّللت
بالبياض ناصيته َ
وف ْودَيه.
وجلس زارا يومً ا عىل حجر أمام غاره ،وأرسل نظراته إىل بعيد ترود تعاريج
األودية وقد ظهر يشء من أفق البحر عند منتهاها السحيق ،وبينما هو مستغرق
يف تفكريه دار حوله نرسه وأفعوانه ثم مثال أمامه قائلني له :عال َم ترسل نظراتك
يا زارا ،أتُراك تفتش عىل سعادتك؟
فأجاب :ما يل وللسعادة ،لقد انقىض الزمان الذي كنت أتوقع السعادة فيه ،فما
أتشوق اآلن إال إىل أعمايل.
فقال الحيوانان :إنك تتكلم كمن تغلغل الخري فيه ،أفما أنت عائم عىل بحرية من
السعادة ينعكس عىل صفحتها أديم السماء؟
فأجاب زارا وهو يبتسم :لقد أجدتما التشبيه ،ولكنكما تعلمان ً
أيضا أن سعادتي
ثقيلة ،وال شبه بينها وبني األمواج هجومً ا وتراجعً ا ،فهي تزحمني وال تبتعد عني
وتلتصق بي كأنها ال َّراتنج املذوب.
ودار الحيوانان مرة ثانية حول زارا وعادا يتفرسان به قائلني له :لقد عرفنا
السبب إذن يف اصفرار لونك واكمداده وتحول لون شعرك إىل لون القنَّب ،أفال
275
ترى أنك غارق يف املادة الراتنجية اللزجة ويف شقائك؟
وتضاحك زارا ً
قائل :والحق أنني جدفت عندما ذكرت املادة الراتنجية ،فما
حدث يل إال ما يحدث لكل ثمرة يتداركها النضوج أن العسل هو ما يخثر دمي،
ً
استغراقا يف صمتها. ويزيد نفيس
وتقرب النرس واألفعوان من سيدهما وقاال :إن األمر كما تقول ولكن أفال تريد
اليوم أن تصعد إىل الجبل العايل فالهواء نقي يشعرك بلذة الحياة.
فقال :إنكما تعربان عن مشتهاي فأنا أتوق اليوم إىل تسلق املرتفع ،ولكن
عسل أصفر وأبيض من أجوده ً ً
عسل من القفري الذهبي، عليكما أن تتداركا يل
وأبرده؛ ألنني أريد أن أبذله تقدمة إىل الذرى.
وملا وصل زارا إىل القمة وأطلق للحيوانني رساحهما رأى نفسه منفردًا ،فابتسم
وأدار لحاظه ما حوله ً
قائل :لقد تعللت بتقدمة العسل ألتمكن من االنفراد بنفيس
ً
طليقا عىل القمة بعيدًا عن منازل النساك وحيواناتهم. فأتكلم ح ًّرا
عندما كنت أذكر التضحية كنت أبدد ما وهِ ب يل بألف راحة منبسطة ،فكيف
أجرس أن أدعو هذا العمل اليوم تضحية؟
إنني عندما طلبت العسل لم أطلب سوى طعمة َّ
للشَك ،فأردت أخذها من
القفري املذهب الذي تتشوق إىل التلذذ به األطيار والدببة.
طلبت خري طعمة يستعملها الصائدون عىل اليابسة ويف البحر ،فإن الدنيا
عبارة عن غابة تغص بالحيوانات وحديقة يتنعم بها كل صائد وحيش ،ولعلها
أشبه ببحر زاخر ال قعر له ،فهي والحق بحر محتشد باألسماك عىل أنواعها
وعديد ألوانها مما يثري شهية اآللهة أنفسهم حتى إنهم ليصبحوا صيادين يرمون
بشباكهم إىل هذا العالم امليلء بالعجائب والغرائب كبريها وصغريها ،وأخص من
ً
هاتفا: الدنيا عالم الناس ب َّرهم وبحرهم فأنا أرسل يف مجاالته شبكتي املذهبة
انفتحي أيتها األغوار البرشية.
276
انفتحي واقذيف إيل َّ بأسماكك الالمعة ،فلسوف أتمكن اليوم بخري طعمة أستهوي
بها األسماك البرشية من اصطياد خيارها ،وما هذه الطعمة إال سعادتي نفسها
أنرشها إىل األبعاد بني املرشق والجنوب واملغرب ،وأنظر ما إذا كان العدد الغفري
من األسماك البرشية يتعلمون تذوق سعادتي واالشتباك بها ،حتى إذا تغلغلت
يف حناجرهم طعمتي يضطرون إىل االرتفاع نحو مستواي ،وهكذا يرتقي أشد
األسماك ً
تعلقا باألغوار إىل قرب أرشِّ صياد يصطاد بني اإلنسان ،وما أنا إال ذلك
الصياد منذ نشأتي ويف أعماق روحي فأنا الجاذب املستهوي املزحزح الرافع
واملثقف املعلم .أنا من قال من قبل :يجب عليك أن تصري مَ ن أنت.
فلريتفع الناس إيل َّ اآلن ألنني أنتظر اإلشارات التي تعلن يل أن زمن نزويل قد
حان ،فإنني لم أنزل بني الناس بعد كما وجب عيل َّ أن أنزل؛ لذلك أنتظر هنا عىل
مراوغا مستهزئًا دون أن أعيل صربي ودون أن يعيل هو ،أنتظر كمن ً قمة الجبل
نيس الصرب؛ ألنه ال شفقة فيه.
فشغلت باصطياد أوسعت مقدراتي مجال الزمان أمامي ،فهل هي تناستني ُ
ْ لقد
الذباب مستظلة وراء صخر كبري؟ والحق أنني ممتن ملا قدر األبد عيلَّ؛ ألنه ال
يزحمني بل يرتك يل متسعً ا من الدهر ألتالعب وأرتكب الرشور حتى إنه أجاز يل
اليوم أن أتسلق هذا الجبل ألصطاد عليه األسماك ،وهل سمعتم بإنسان يصطاد
األسماك عىل الذرى؟ لقد يكون ما طلبته جنونًا عىل أنه خري يل أن يحكمني الجنون
من أن يسودني الجمود فأتلوَّن باالخرضار واالصفرار وأنا ساكن عىل االنتظار يف
األعماق ،فأنا ال أريد أن أكون كهؤالء املتحرقني يف غيظهم لطول انتظارهم كأنهم
عاصفة مقدسة تصيح بالوديان :أصغي إيل َّ ،وإال فإنني أجلدك بسياط الله.
ما يكيدني مثل هؤالء الثائرين فإنني أقف باعتباري لهم عند حد االستهزاء ،وال
يفوتني سبب غضبهم؛ ألنني أعلم أنهم إن لم يقرعوا طبولهم اليوم فلن يقرعوها
إىل األبد.
277
أما أنا ومقدراتي فما نوجه خطابنا ال إىل اليوم وال إىل األبد ،وبوسعنا أن نصرب
طويل وسيأتي زمن لن يكون فيه للقادم أن يعرب ً عىل الصمت؛ ألن أمامنا مدًى
إن هو إال الصدفة العظمى أي مُلك اإلنسان؛ إذ ويتوارى ،ومن هو هذا القادم؟ ْ
يحكم فيه زارا ألف عام.
وإذا كان هذا امللك لم يزل بعيدًا ،فما يهمني هذا البعد وأنا الواثق من أنه ال
بد قادم .إنني أستند من هذه الثقة إىل األسس األبدية ،إىل هذه الصخور والجبال
القديمة املنتصبة بني الرياح مرتصدة ما كان وما سيكون.
فاضح ْك أيها الرش الكامن يف َّ ،وأرسل قهقهتك الهازئة من أعايل هذه الجبال،
وألق بشباكك الصطياد خري األسماك البرشية ،اذهب رائدًا جميع البحار فإن كل ِ
ما فيها هو يل ،التقط الجميع وارتفع به إيل َّ .إن هذا ما يتوقعه أوفر املتصيدين
رشًّا.
اذهبي يف عرض البحار أيتها الطعمة وغوري يف األعماق الصطياد سعادتي،
طعمة شهية تحل يف أحشاء املصائبواقطر أحىل قطراتك املعسولة أيها القلب ُ
املروعة الدكناء.
إن أنظاري تمتد إىل أعمق اآلفاق فيا للبحار تتسع أمامي ويا ملستقبل اإلنسانية
يفلق الضحى وما فوقي ينبسط السكون عىل تورد اآلفاق ،فيا للصفاء ال تكدره
الغيوم.
278
استنجاد
ويف صبيحة اليوم التايل ،جلس زارا عىل مقعده الحجري أمام غاره ،وسار نرسه
ً
وعسل جديدًا؛ ألن زارا كان بدد وأفعوانه يتجوالن يف األرض لتدارك أطعمة جديدة
حتى آخر قطرة من العسل القديم.
مستغرقا يف تفكريه وهو متكئ عىل عصاه يتفرس يف ظل جسده، ً وبينما كان
انتفض فجأة؛ إذ الح له ظل آخر يرتسم قرب ظله ،ووقف متلفتًا إىل ما وراءه فإذا
بالعراف ً
واقفا عىل مقربة منه ،وهو من قاسمه الغذاء يومً ا عىل مائدته فأهاب
إىل الخمول ً
قائل« :إن كل األمور متشابهة وال يشء يستحق العناء؛ ألن ال معنى
للوجود ،والحكمة خانقة قاتلة».
ولكن مالمح هذا العراف كانت تبدلت منذ ذلك العهد ،وما أمعن زارا النظر فيه
حتى استوىل عليه زعر مما رأى عىل سحنته من طالئع الشؤم.
وأدرك العراف ما يمر يف خاطر زارا؛ فبسط كفه ماسحً ا وجهه كأنه يريد
محو ما ارتسم عليه ،ومسح زارا وجهه ً
أيضا حتى إذا عاد االطمئنان إىل كليهما
أهل بك يا بشري الرتاخي والجمود ،ولعلك استفدت شيئًا منتصافحا فقال زاراً :
أيضا إىل مائدتي واسمح أن أجالسك ً
ضيفا عيل َّ فيما مىض ،فاجلس اليوم ً نزولك
أنا الشيخ املمتلئ غبطة وحبو ًرا.
فهز العراف رأسه ً
قائل :يخيل إليك أنك شيخ يتدفق غبطة وحبو ًرا ،ولكنك عىل
أي حال كنت وأيًّا كنت يا زارا ،لن يطول زمن حبورك عىل هذه الذرى فلسوف
ُ
العواصف عما قليل. تجتاح سفينتك
فقال زارا :وهل أنا بمأمن من هبوبها؟
279
فقال العراف :إن األمواج تدور بجبلك من كل جانب ،فهي تعلو وترتفع دون
انقطاع وعما قليل ستبلغ هذه األمواج ،أمواج الشقاء واآلالم ،هذه الذرى فتذهب
بسفينتك وتذهب بك ً
أيضا.
وصمت زارا متعجبًا.
فاستطرد العراف :أفال تسمع اآلن شيئًا؟ أفما يبلغ أذنيك صخب األغوار
وهديرها.
وبقي زارا باهتًا يتنصت فإذا به يسمع صوتًا مديدًا تتلقفه أصداء املهاوي كأن
ال هاوية منها تطيق االحتفاظ بمثل هذا النداء الفجيع!
فصاح زارا بالعراف :أجل يا نذير الشؤم ،إنني أسمع صوت استنجاد يرصخ
آت من بحر الظلمات ،ولكن ما يل وملدد الناس! أفما تعلم ما هيبه إنسان ،ولعله ٍ
آخر خطيئة ُقدرت عيلَّ؟
فأجاب العراف :بىل إنها الرحمة.
وتدفق قلبه رسو ًرا فرفع ذراعيه ً
هاتفا :لقد جئت ألسقطك يف هذه الخطيئة.
وعاد الصوت يدوي أوسع امتدادًا وأشد ارتياعً ا ،كأن مصدره يقرتب.
فقال العراف :أتسمع يا زارا ،إن النداء موجه إليك ،تعال ،تعال … فقد ال تصل
إال بعد فوات األوان.
وبقي محتف ً
ظا بصمته ولكنه شعر باضطراب زعزع إرادته فسأل مرتددًا :ومن
ذا يناديني من بعيد؟
فأجاب العراف :إنك تعرف فعال َم تتجاهل؟ ذلك هو اإلنسان الراقي يناديك
مستنجدًا.
وارتعش زارا ً
قائل :ماذا يريد مني؟ ماذا يطلب اإلنسان الراقي هنا؟
280
وبدا جلده يتصبب ً
عرقا.
أما العراف فلم يأبه الضطراب زارا ،بل انحنى فوق الهاوية متنصتًا ،وإذ طال
السكوت يف الغور أدار ظهره فرأى زارا لم يزل منتصبًا مكانه وهو يرتجف فقال
له بصوت حزين :ال يلوح يل أنك الرجل الراقص لسعادته ،فارقص إذا شئت إال
تقع عىل األرض ،ولو أنك رقصت بكل حركاتك أمامي اآلن فإنني ال أصدق أنك
آخر من يتمتع بالسعادة بني الناس ،وإذا ما تسلق أحد هذه الذرى ً
آمل أن يجد
آخر السعداء فإنه ليفتش عبثًا عليه؛ إذ ال يجد سوى املغاور يختبئ فيها من
يحب االستتار ،إن مكامن السعادة ليست يف هذه األرجاء ،وهل من سعادة ترتجى
بني من دفنوا أنفسهم وتنسكوا؟ فهل وجب عيل َّ أن أفتش عىل السعادة يف الجزر
السعيدة بعيدًا وراء البحار؟
ولكن ما يل ولهذا ما دام ال يشء يف الوجود يستحق العناء واالهتمام ،وعبثًا
نفتش فإن الجزر السعيدة قد توارت من الوجود.
وبعد أن أنهى العراف خطابه ودفع آخر زفرة من صدره عادت الغبطة إىل
زارا ،فإذا به ينتفض كمن يخرج من الظلمة ليستقبل النور ويقول وهو يلعب
بلحيته.
ال وألف ال … إنني أعلم منك ،فالجزر السعيدة ال تزال مكانها فاصمت أيها
النداب ،ما أنت إال غمامة تمطر عىل بسمة الصباح وقد ب َّللتني دموعك ،ولكنني
أنفضها عني وأفزع منك إىل بعيد ،أفما تراني أعاملك بالحسنى؟ ال تعجب لهذا
ألنك نازل يف مملكتي.
ها أنذا ذاهب إىل مصدر صوت االستنجاد يف هذا الغاب؛ ألفتش عىل اإلنسان
الراقي فلعله معرض للخطر بني الوحوش الضارية ،وأنا أحاذر أن يلحق به رضر
يف مملكتي ،وما أكثر الضواري فيها!
وما َّ
تحفز زارا للسري حتى قهقه العراف ضاح ًكا وقال :أيْ زارا ،ما أنت إال
281
مراوغ محتال ،إنك تقصد التخلص مني فتفضل مطاردة الوحوش ،ولكن هربك
ًّ
محتل غارك عند رجوعك ،سرتاني مرتبعً ا فيه لن يجديك شيئًا فلسوف تجدني
كحزمة حطب ثقيلة.
ليكن ما تريد إن كل ما يف غاري هو لكْ فقال زارا وهو سائر نحو الغاب:
أيضا ألنك ضيفي ،وإذا ما وجدت فيه شيئًا من العسل فلك أن تلحسه لتخفف ً
ما يف نفسك من املرارة أيها الدب املزمجر؛ ألننا سنفرح ونطرب سوية هذا املساء
ً
مثقفا. النقضاء هذا اليوم فتشرتك معي بالغناء والرقص دبًّا
أراك تهز رأسك كأنك ال تصدق ما أقول ،فاذهب يف سبيلك إذن أيها الدب الهرم،
ولكن اعلم أنني عراف أنا ً
أيضا.
هكذا تكلم زارا …
282
محادثة مع الملكين
1
وما مضت ساعة عىل سري زارا وتوغله يف جباله وأحراشه حتى اعرتضت طريقه
قافلة غريبة ،فرأى ملكني كل منهما متوج وممنطق باألرجوان ،يسوقان أمامهما
ً
محمل ،فقال زارا يف نفسه :ماذا يطلب هذان امللكان يف أرايضَّ ،وأرسع إىل حما ًرا
االختفاء وراء عوسجة حتى إذا اقرتبت القافلة من مكمنه تمتم بصوت خافت :يا
للغرابة! إنني أرى ملكني وال أرى غري حمار واحد.
وتوقف امللكان وهما يبتسمان ويلتفتان إىل مصدر الصوت الخافت ،فقال ملك
امليمنة :إن مثل هذه األفكار تمر يف الخاطر عندنا ولكن ال يعرب أحد عنها.
ً
طويل بني راع أو ناس ٌك عاش
فهز ملك امليرسة كتفيه وقال :لعل املتكلم ٍ
الصخور واألشجار فاالبتعاد عن املجتمع مفسد لألخالق املهذبة.
فقال امللك اآلخر — وقد ظهرت عليه إمارات الكدر :األخالق املهذبة! وهل
غادرنا مجتمعنا إال هربًا من أخالقه املهذبة؟ لخريٌ لنا أن نعيش بني النساك
والرعاة من أن نعيش بني قومنا وقد اتشحوا املذهبات واستعادوا من الطالء
مالمحهم الكاذبات ،ما تجدي األنساب العريقة إذا كان من يباهون بها قد تهرءوا
أمراض قديمة ،و ِلما أدخله عليه األُساة
ٍ وغدا أفس َد ما فيهم دمُهم لِما عاث فيه من
الجاهلون.
لخري من هؤالء القوم َّ
الفلح السليم ،فهو بخشونته واحتياله وصربه ومجالدته
أرشف أنواع اإلنسان يف هذا الزمان.
إن َّ
فلح هذا الزمان خريُ ما يف املجتمع ،وطبقته أوىل بالحكم ولكن الشعب هو
الحاكم ،وما أنخدع به بعد اآلن فهو عبارة عن غوغاء من جميع الطبقات يختلط
283
فيه القديس والسافل والصعلوك املغرور واليهودي ،فكأنك منهم تجاه ما جمعت
ُ
سفينة نوح.
كيف نذكر العادات الحسنة وليس عندنا إال الرياء والفساد ،وقد نيس الجميع
معنى االحرتام .لقد أردنا أن نهرب من كل هذا فال نعود نرى الكالب يقتلها
الجشع والفضول وتبهرها السعف املذهبة.
لقد بلغ االشمئزاز مني مداه؛ ألننا نحن ً
أيضا أصبحنا كاذبني نرفل ِب ُبود
ً
احتيال أجدادنا وقد أخلقها الزمان ،ونتقلد األنواط لنبهر أجهل القوم وأشدهم
ولنمالئ جميع من يتعاملون بالربا الفاحش مع كل سلطة.
لسنا أول املالكني فعلينا أال نكون عىل ما كانوا ،لقد تعبنا وشبعنا مخادعة
ً
واحتيال.
لقد أعرضنا عن الشعوب وتولينا عن هؤالء املشاغبني وهذه الهوام القابضة عىل
األقالم ،فهربنا من رائحة الحوانيت الكريهة ومن األنفاس الخانقة تحرشج يف
صدور الجهود القارصة.
ٍّ
أف للحياة بني الشعوب ويا لشقاء من يمشون يف طالئعها ،أية أهمية للملوك!
ما لك ولهم.
فقال ملك امليرسة :لقد عاودك داؤك القديم ،لقد استولت نوبة االشمئزاز عليك
يا أخي ،ولكنك نسيت أن هنا من يسمع حديثنا.
وخرج زارا من مكمنه وقد سمع كل ما دار من حديث بني امللكني فتقدم إليهما
وقال :إن من أصغى إليكما ف َر َاقه ما سمع إنما هو رج ٌل يُدعى زارا ،وأنا هو زارا
القائل :أية أهمية للملوك بعد.
فاغتفرا يل مرستي لسماعي منكما ما قلتُه من قبل.
أنتما اآلن يف مملكتي وتحت سلطاني ،فماذا عساكما تطلبان فيها؟ لعلكما
284
وجدتما يف طريقكما من أُفتش عليه ،فأنا أفتش عىل اإلنسان الراقي.
َ
اخرتقت بكلمتك هذه وقرع امللكان صدريهما قائلني :لقد ُكشف أمرنا ،فقد
أعماق قلبنا وأدركت سبب بلوانا .نحن ذاهبون للعثور عىل اإلنسان الراقي،
اإلنسان الذي يفوقنا بالرغم من أننا يف مرتبة ا ُمللك ،وقد أتينا إليه بهذا الحمار؛ ألن
عىل اإلنسان األعىل أن يكون املعلم األعىل.
إن أقىس ما يجتاح األرض من نوازل أن ال يكون أصحاب السلطان عىل الناس
أفضل الناس ،كيال يسود الكذب والفظائع فتلتوي األمور ذاهبة عىل غري مجاريها؛
ألنه عندما يكون أرباب السلطان من زعانف القوم بل ومن حيواناته يتعاىل
الشعب ويتعاىل حتى ليسمعك صوته ً
قائل إنني أنا هو الفضيلة.
فهتف زارا :ماذا أسمع أعند امللوك مثل هذه الحكمة؟! لقد أثارت هذه الكلمات
قريحتي ،ولسوف أنظم مقطعً ا بما أوحته إيل َّ ،ولعل ما سأنظم ال تقبله آذان
الكثريين ،ولكنني منذ زمان طويل نسيت مداهنة اآلذان الطويلة.
ونهق الحمار كأنه يحتج ،فقال زارا« :يف ذلك الزمان ،يف السنة األوىل من التاريخ
الجديد ،هتفت آلهة األقدمني دون أن تكرع خم ًرا ،فقالت :الويل … الويل … لقد
ساءت الحال!
يا لالنحطاط ،إن العالم لم يسقط إىل مثل هذه الدركة قبل اآلن؟
فقد استحالت روما إىل عاهرة،
وتدنَّى قيرصها إىل مرتبة الحيوان،
حتى إن الله نفسه استحال يهوديًّا …»
2
واستحسن امللكان نشيد زارا ،وقال ملك امليمنة :لقد كان من حظنا أن خرجنا
عىل الطريق فلقيناك ،وقد كان أعداؤك عكسوا لنا صورة منك عىل مرايا نفوسهم
285
فرأيناك شيطانًا ضاح ًكا ساخ ًرا أدخل الرعب إىل قلوبنا ،ولكن كلماتك ومبادئك
كانت تخرتق آذاننا لتهز أحشائنا فتغ َّلبت عىل ما أدخلت صورة وجهك من
االضطراب يف روعنا ،فقررنا أن نجيء إليك وأنت القائل« :عليكم أن تحبوا السلم
كوسيلة توصلكم إىل حروب جديدة ،وأن تفضلوا فرتة السالم القصرية عىل الهدنة
الطويلة األمد ».وما نطق أحد قبلك بآية حربية كقولك« :ال خري يضاهي الشجاعة
وغاية الحرب الحُ سنى تربر كل واسطة».
أيْ زارا ،إن دم أجدادنا قد ثار يف عروقنا عندما سمعنا آيتك فكأنه الخمر املعتق
يغيل يف الدنان لسماعه همسات الربيع ،وهل كان أجدادنا يشعرون بلذة الحياة
إال عند اشتباك النصال اشتباك األفاعي تقطر دمً ا ،وهل كانت شمس السالم يف
أعينهم إال نو ًرا خاسئًا ،فكل هدنة طويلة األمد كانت تلفعهم بالعار.
لكم من زفرة دفعها آباؤنا وهم ينظرون إىل النصال املرهفة تتدىل صابرة عىل
جدران القصور ،فإنهم كانوا يشعرون يف أحشائهم بظمأ النصال نفسها ،وما
ملعان الحديد إال وهج شهوته وتحرقه إىل رشب الدماء.
وبينما كان امللكان يتحدثان بحرارة عن سعادة آبائهما ،ثارت عوامل التهكم
يف زارا وهو ينظر إىل مالمح امللكني التي تن ُّم عىل الدعة والسكون غري أنه امتلك
حوافزه وقال :هيَّا بنا إىل الذروة ،إىل غار زارا فسيعقب هذا النهار سم ٌر طويل،
وأنا مضطر ملغادرتكما؛ ألن صوت مستنجد يدعوني من املدى البعيد.
ستنال مغارتي الرشف من نزول ملكني فيها ،حيث ال بد لهما من االنتظار
ً
طويل ،ولن يصعب االنتظار عليكما وقد تعودتماه يف بالطيكما ،وهل بقي للملوك
من فضيلة سوى فضيلة الصرب واالنتظار؟!
هكذا تكلم زارا …
286
العلقة
وتابع زارا طريقه وهو مستغرق يف تفكريه فانحدر من األعايل حتى بلغ
املستنقعات ،فإذا به يصطدم وهو ذاهل برجل ه َّزته الصدمة فرصخ متأ ًملا ،وأتبع
رصخته بالشتائم تَ ْتى قبيحة سمجة ،وبوغت زارا يف استغراقه فرفع عصاه عىل
الرجل ،ولكن روعه عاد إليه فسخر من نفسه وقال :أرجو عفوك وأستميحك أن
أرضب لك ً
مثل عما وقع لنا:
بينما كان رجل سائ ًرا يف طريق مقفر وقد رسحت أفكاره يف مجاالت بعيدة
َّين لدودين
عثر بكلب نائم تحت شعاع الشمس ،فوقفا الواحد بوجه اآلخر كعدو ِ
خوفا وحذ ًرا ،ولو أن الصدف تحولت قيد أنملة لكان تداعب الكلبيرتعشان ً
واملنفرد ،أفما هما يف القفر فريدان.
فقال الرجل املصدوم والغضب ال يزال آخذًا منه مأخذهُ :،ك ْن من تشاء يا هذا،
فما أنت إال معت ٍد عيل َّ بمثَلك بأكثر مما اعتديت بصدمتك ،انظر إيل َّ ،أفكلب أنا؟!
وكان هذا املتكلم جاثمً ا عىل األرض ،وقد غرس ذراعه يف املستنقع كأنه يتصيد
منه شيئًا فنهض ساحبًا ذراعه العاري من األوحال.
ورأى زارا دمً ا غزي ًرا يقطر من ذراع الرجل فصاح به :ماذا جرى لك أيها
التعس ،هل لسعك حيوان.
فأجاب غضوبًا هازئًا وهو يدير ظهره ليذهب يف سبيله :ما يعنيك يا هذا ،إنني
مقيم يف ملكي وليس عيل َّ أن أرد عىل أهوج.
وأمسك زارا بالرجل وقد أشفق عليه فقال له :لقد أخطأت فلست يف ملكك بل
أنت يف ملكي حيث يجب أن ال يضار أحد .ادعني باالسم الذي تشاء فما أنا إال من
287
يجب أن أكون وقد أسميت ذاتي زارا .تعال اتبعني إىل مغارتي ألضمِّ د جراحك،
فما أنت إال تعس خانك الحظ ،لقد لسعك الحيوان ثم جاء اإلنسان بعد ذلك يدوس
عليك.
وما سمع الرجل اسم زارا حتى تبدلت سحنته وهتف ً
قائل :أي يشء أهتم له يف
الحياة غري هذا اإلنسان الفريد «زارا» وغري هذا الحيوان الفريد الذي يعيش من
غب الدماء «العَ َلقة».
ما انطرحت عىل األرض إال طلبًا لهذا الحيوان ُ
فقرصت يدي عرش مرات وإذا
بزارا نفسه يقرصني ً
أيضا.
يا لسعادتي؛ إذ قيض يل أن أكون اليوم يف هذا املستنقع ألبارك خري حجَّ ام بني
األحياء ،ألبارك زارا أعظم من علق عىل الضمائر ليمتص منها.
وفرح زارا لسماعه هذه الكلمات ،فقال للرجل وقد مد إليه يده ليصافحه :من
أنت يا هذا؟ إن ما بيننا أمو ًرا كثرية يجب أن نجلوها ،غري أنني ال أجد مشقة يف
اإليضاح وها قد وضح بيننا النهار.
فأجاب الرجل :أنا «ضمري الفكر» ،وليس من عامل أشد صالبة وأكثر تقيدًا مني
غري زارا معلمي ،وقد تعلمت منه أنه خريٌ لإلنسان أن يكون مجنونًا يف عني نفسه
من أن يكون حكيمً ا يف نظر الناس.
أنا هو الذاهب إىل األعماق وال أبايل بضيق املدى أو باتساعه ،وال فرق عندي
أكان الغور مستنقعً ا أم سماء ،وإنه ليكفيني من األرض سعة الكف إذا جمدت
وصلحت مستق ًّرا للقدم فليس أمام العِ لم املوايل للضمري من يشء يعده صغريًا أو
كبريًا.
فقال زارا :لعلك إذن من يحاول إدراك منشأ العلقة ،فتذهب إىل الغور يف بحثها
حريًّا مع ضمريك.
288
فأجاب :ال يا زارا ،كيف يل أن أقوم بهذا العمل الفظيع وال معرفة يل إال بدماغ
العلقة ،ويف دماغها ينحرص الكون يف نظري ،أفليس هذا الحيز كونًا بنفسه؟ أرجو
ُ
أظهرت كربياء بقويل إنني أنا األستاذ يف هذا املطلب ،ولذلك قلت لك عفوك إذا ما
إن هنا مُلكي ،لقد م َّر عيل َّ زمان طويل وأنا أحرص اهتمامي يف بحث دماغ العلقة
كيال تفوتني الحقيقة يف دقائقها ،إن يف هذا املطلب تمتد سلطتي وقد أعرضت
عن كل ما عداه؛ لذلك يتمىش علمي موازيًا لجهيل ،وقد قىض عيل َّ ضمريُ تفكريي
ً
كارها لكل عمل فكري ال يتعدَّى أن أعرف شيئًا وأجهل سائر األشياء ،فأصبحت
نصف مرحلته ،ولكل إنسان اعتكر فكره يف حماسه وتردده.
راض بالعمى ،وإذا ما
إن عماوتي تبدأ حيث يتناهى إخاليص لعقيدتي ،وأنا ٍ
أردت معرفة يشء انرصفت إليه قاسيًا طالبًا متعصبًا ال ألوي عىل يشء يف سبيل
محجته.
أفما أنت القائل يا زارا :إن الحياة نفسها مبضع يشق الحياة.
إن قولك هذا قد جعلني تابعً ا لتعليمك ،فتمكنت بذلك من اكتساب معرفتي
ببذل دمي.
فقال زارا :إن الواقع يثبت قولك.
وأشار إىل ساعد الرجل وهي تدمي ،وعليها عرش علقات تمتص منها ،وأردف
ً
قائل :إن يف حالك عِ ربًا ،أيها اإلنسان ،فأنت بنفسك تعليمٌ ،ولن أقدم عىل إسماعك
كل تعاليمي.
لنفرتق هنا ،غري أنني أود أن ألقاك بعد اآلن ،إن هذه الطريقة املرتفعة تؤدي إىل
أهل هذا املساء بني ضيويف؛ ألنني أريد أن أسرتضيك عما ألحقتهغاري فانزل فيه ً
بك من إهانة عندما دست عليك بقدمي ،فأنا أفكر بهذه الرتضية اآلن ولكنني
مضطر إىل مبارحتك إىل حيث يستنجدني الصوت البعيد.
هكذا تكلم زارا …
289
الساحر
1
وما دار زارا بالصخر عىل منعطف طريقه حتى الح له رجل يأتي بحركات
ً
زاحفا عىل األرض ،فوقف وقال يف نفسه: غريبة ،ثم يدور كاملجانني وينطرح
أوفق إىل نجدته ،وإذ وصللعل هذا هو اإلنسان الراقي الصارخ املدد ،ولعلني َّ
ً
محاول رفعه عن شيخا ارتجفت أعضاؤه وجحظت عيناه ،فهرع إليه ً إليه رآه
األرض ولكنه حاول عبثًا ،فبقي هذا الشيخ كأنه يف غيبوبة ال يحس بوجود أحد
قربه ،واستمر يتلفت إىل ما حوله ويبدي إشارت اليائس املرتوك ،وبعد أن تململ
وانطوى عىل نفسه بدأ يرسل أنينه وشكواه ً
قائل :من يدفئني؟ من يحبني بعد؟!
إيل َّ باأليادي الحا َّرة ،إيل َّ بالقلوب املتقدة.
أنا املحترض املحتاج إىل ٍّ
أكف تفرك رجيل َّ الباردتني.
أنا املنتفض تتأكلني الحمَّ ى الخفية ،املرتعش تهب عيل َّ الرياح اللوافح.
أنا طريدك أيها الفكر الذي ال اسم له ،أيها املحجب املخوف َّ
امللفع بالغمام عينًا
تحدجني يف طيات الظالم.
ها أنذا طريحٌ أتلوى بعذاب األبد تحت رضباتك ،أيها الصياد العاتي ،أنت أيها
اإلله املجهول …
•••
انزل عيل َّ بأشد رضباتك ،ارضب ً
أيضا ،اخرق هذا القلب وقطع نياطه تقطيعً ا.
ما لك تطيل تعذيبي فال ترشقني إال بسهام ُف َّلت حرابها.
290
عال َم تطيل النظر ،ويف عينيك الساخرة بريق األلوهية أفما مللت عذاب بني
اإلنسان؟
أنت تمتنع عن القتل وال تقصد إال التعذيب ،ملاذا تعذبني أيها اإلله الساخر
املجهول؟
•••
ً
زاحفا يف الليل. آهٍ ،أراك تقرتب مني
ماذا تريد؟ تكلم.
أراك تزحمني وتدفعني ،ها أنت تالصقني.
إنك تتنصت إىل حرشجة أنفايس وخفقان قلبي.
فيا لك من حسود! وعال َم تحسدني؟
اذهب عني … اذهب عني …
ما هذه السلم تحملها إيل َّ؟ أتريد أن تعلو عليها لتلج قلبي؟
أتريد أن تنفذ إىل أغوار أفكاري؟
ارجع أيها املتطاول املجهول … أيها السارق.
•••
ما الذي تريد اختطافه؟ وما الذي تطلب سماعه؟
ما الذي تريد اختالسه ،أنت أيها املعذِّب؟
أنت أيها اإلله َّ
الجلد؟
أتريد أن أترامى كالكلب عىل قدميك؟
ً
زاحفا أحمل إليك غرامي؟ أتريد أن أتقدم ً
ثامل ال أعي
291
•••
إنك ترضب عبثًا ،فارضب يا أقىس العُ تاة!
أنا لست كلبًا! أنا لست فريسة لك ،أيها الصياد!
أنا لست أسريك ،أيها اللص امللفع بالغمام.
تكلم أيها املتواري وراء السحب ،تكلم أيها املجهول!
قل ،ما الذي تطلبه مني ،أيها الكامن لعابري السبيل؟
•••
أتطلب فدية؟ يا للغرابة!
وما هي الفدية التي تقتضيها؟
إن عزة نفيس تشري عليك بأن تطلب كثريًا.
غري أن عزتي الثانية تشري عليك باإليجاز فيما تقول.
آه! إن ما تطلبه هو أنا بكليتي!
•••
يا لجنونك! إنك ترهقني بتعذيبك ،إنك تعذب عزتي.
أعطني املحبة … من يدفئني … من يحبني بعد؟
إيل َّ باأليادي الحارة … إيل َّ بالقلوب املتقدة.
أعطني … أنا املنفرد املتشوق يف الصقيع حتى إىل أعدائه.
أطلب إليك أن تستسلم يل ،وأنت أقىس من يعاديني.
ولكنه توارى! توارى رفيقي الوحيد ،أكرب أعدائي ،الكائن املجهول ،اإلله الجالد
292
…
•••
ال … ال تذهب ،ارجع … عُ د إيل َّ بتعذيبك.
ً
شوقا إليك ،وآخر أشعة من عد إىل آخر املنفردين فإن دموعي كلها تنهمر
فؤادي ترتامى نحوك.
آواه .عد إيل َّ يا إلهي املجهول ،يا أملي يا منتهى سعادتي!
2
وبلغت الثورة يف زارا حدها؛ فرفع عصاه وأخذ يقرع بها الرجل الذاهب بنواحه
وشكواهً ،
قائل له بضحكة ملؤها الغضب :توقف أيها املشعوذ ،أيها املزيَّف ،أيها
الكذاب ،لقد عرفت من أنت.
سألهب ساقيك فأنا أعرف كيف أعامل أمثالك ،فانتصب الشيخ وصاح :توقف
عن رضبي يا زارا ،فإن ما شهدته مني لم يكن إال مزاحً ا ولعبًا ،وما اللعب إال ف ٌن
من فنوني .لقد أردت أن أعرضك للتجربة ،والحق أنك نفذت إىل أعماق رسيرتي،
قاس يا زارا ،وعصاك ذات العقد أيضا ما تنطوي أنت عليه ،إنك لحكيم ٍ فأبنت يل ً
تضطرني إىل أن أقول لك إنك تجلد الناس بحقائقك جلدًا.
فقال زارا — وهو ال يزال عىل حنقه :ال تداهن يا مشعوذ األرواح ،ما أنت إال
مظهر ال ين ُّم عىل حقيقته فليس لك أن تذكر الحقائق بفمك.
بأي دور كنت تقوم أمامي يا طاووس الطواويس ،أيها البحر الزاخر باألباطيل،
ً
مصدقا أنينك وشكاياتك؟ أيها الساحر املشئوم ،أظننت أنني كنت
فقال الشيخ :كنت أمثل دور كفارة العقل ،أفما أنت املخرتع لهذا التعبري؟
فتكلمت بلسان الشاعر الساحر الذي ينقلب عليه عقله بعد تبدله إلدراكه فساد
عمله وفساد ضمريه.
293
تكشف لك خداعي قبل أن آمنت بشقائي أفما ُخدعت بتمثييل يا زارا؟ وهل َّ
وألقيت راحتيك عىل رأيس؟ وقد سمعتك تقول ً
آسفا« :لم يُمتع من الحب إال بالنذر
اليسري ».فرقص رشِّي حبو ًرا يف داخيل.
َ
خدعت من قبيل مَ ن هم أقوى فراسة مني ،وما أنا من فقال زارا :ال ريب يف أنك
يتحوط لنفسه تجاه املخادعني؛ ألن من واجبي أال أحاذر أحدًا ،هكذا ُقيض عيلَّ.
أما أنت فقد ُقيض عليك بأن تخدع الناس ،فما يخفى أمرك عيل َّ فأنا أعرفك
معان ،حتى إن ما ٍ وأعرف أن لكل كلمة من كلماتك معنيني بل ثالثة وأربعة
اعرتفت به اآلن ليس فيه الصدق كله وال الكذب كله.
وهل بوسعك أن تكون عىل غري ما أنت عليه أيها الرشير الكاذب أيها املزيف،
وأنت إذا ما وقفت عاريًا أمام طبيبك يومً ا ،فإنك لتجعل داءَك نفسه يتنكر عليه،
َّهت أمامي كذبك نفسه ون َّكرته عندما قلت يل :إن ما شهدته مني لم هكذا مو َ
يكن إال مزاحً ا ولعبًا ،فقد ضمَّ نت كذبك شيئًا من الحقيقة وأنت شبيه من بعض
ِّ
باملكفر عن ذنوب العقل. الوجوه
لقد تكشفت يل رسيرتك ،فأنا أراك بلغت من السحر ما تستهوي به الناس،
ولكنك ال تجد من الكذب والرياء ما تستهوي به نفسك ،لقد انكرس خيالك وعثرت
َ
حقيقة لك سواها ،فأصبحت وال كلمة ً
حقيقة ال تجن غري الكره
آمالك؛ ألنك لم ِ
صادقة عندك ،فكل يشء مزيف فيك إال شفتاك أو باألحرى ما التصق بهما من
كره أو اشمئزاز.
وصاح الساحر بصوت جلجلت الكربياء فيه :من أنت يا هذا ليحق لك أن توجه
إيل َّ مثل هذا الخطاب ،وأنا أعظم األحياء يف هذا الزمان؟
ونزل الساحر عىل زارا بنظرة التمعت بأشعتها الخرضاء ،ولكنه وجم بغتة
ُ
تعبت من كل هذا … لقد كرهت جميع وأردف ً
قائل بصوت حزين :آي زارا … لقد
فنوني فما أنا بالعظيم وما يجدي التظاهر شيئًا ،ولكنني طلبت العظمة كما
294
تعلم ،أردت أن أمثل دور الرجل العظيم؛ فتمكنت من اكتساب ثقة الكثريين ولكن
حائل اصطدمت به فانحطمت. ً أكاذيبي تجاوزت طاقتي ووقفت دوني
أي زارا … إن كل ما يف َّ أكاذيب بأكاذيب … وال حقيقة عندي سوى انحطامي.
ً
مرشِّفا لك وقد فأجاب زارا وهو ينكث األرض بنظراته :لقد كان طلبك للعظمة
خانك مقصدك فما أنت بالعظيم.
إن ما أك ِّرم فيك وما أراه خري صفة لديك هو تعبك من نفسك وهتفتك« :إنني
ِّ
كمكف ٍر عن العقل ،وهب أن تكفريك هذا لم يدم إال لست عظيمً ا ».لذلك أكرمك
ً
صادقا. لحظة واحدة فإنك كنت يف هذه اللحظة
ولكن قل يل ما أتيت تطلب هنا يف غاباتي وبني صخوري ،وإذا كنت انطرحت
عىل طريقي لتلقاني فأي برهان قصدت نواله مني؟ بأية وسيلة أردت أن تنصب
َشَك تجربتك يل؟
هكذا تكلم زارا وعيناه تقدحان رش ًرا ،فوجم الساحر الشيخ ،ثم قال :وهل
حاولت تجربتك؟ ما كنت إال مفتِّ ًشا ،وما أفتش عليه هو اإلنسان الصادق املستقيم
اإلنسان الذي ال يُظهر إال ما يضمر ،إن ما أطلبه هو إناء الحكمة الصادقة هو
الرجل العظيم.
أفما تعلم يا زارا أنني أطلب زارا.
ً
مستغرقا بالتفكري ،ثم وساد السكوت عىل املتخاطبني ،وأغمض زارا عينيه
قبض عىل يد الساحر وقال له بكل تأدب :هنالك عىل املرتفع الطريق املؤدي إىل
مغارتي ،ويف هذه املغارة ستجد من تطلب ،فإذا ما بلغتها س ْل نرسي وأفعواني
ليساعداك بالتفتيش يف طولها وعرضها.
ال أكتمك إنني ما رأيت الرجل العظيم حتى اآلن؛ ألن العيون ال تزال يف خشونتها
قارصة عن تفحص أية عظمة ،فإننا يف عهد سيادة الشعوب.
295
طى وينتفخ ،والشعب يصيح حوله هذا هو الرجل ول َكم رأيت من متعاظم يتم َّ
العظيم ،ولكن ما يفيد منفخ الحداد تمدده إذا كان الهواء ال يلبث فيه.
أيضا من الضفدع حني ينتفخ لينشق ،وليس من لعبة أشد هكذا يخرج الهواء ً
تسلية من غرز ِمنصل يف جلد منتفخ فاسمعوا هذا يا أبنائي :إن يومنا هذا يوم
الشعوب فمن له أن يميز بني الكبري والصغري فيها ،ومن له أن يطلب العظمة
فيظفر بها غري املجانني ،وهل من ظافر غري من فقد رشده.
أراك تفتش عىل الرجل العظيم أيها املجنون الغريب ،فمن ترى أوعز إليك بهذا؟
أيف مثل هذا الزمان يوجد العظيم ،أيها املراوغ؟
ملاذا تحاول نصب رشاكك أمامي؟
هكذا تكلم زارا وقد سال همومه؛ فضحك وسار يف طريقه.
296
المعتزل
طا يف طريقه حتى الح له رج ٌل كبري الهامة يتشح السوادوما سار زارا شو ً
جالسا عىل جانب السبيل وعىل وجهه نحول وشحوب ،فأزعجه هذا الشبح ،وقال ً
يف نفسه ويل يل إنني أرى قناع األحزان ،فهذا الرجل من طغمة الكهنة ،وما يطلب
هؤالء الناس يف مملكتي؟
مناج لألموات ،عىل ساحر آخر يأتي بالعجائب
لقد تخلصت من ساحر ألقع عىل ٍ
بنعمة الله وهو يذم الحياة! فليت الشيطان يختطفه ،ولكن الشيطان متغيب أبدًا
عند الحاجة إليه ،وإذا ما لبَّى هذا امللعون الطلب جاء متأخ ًرا.
وكان زارا يتمتم بهذه الكلمات وهو يفكر يف وسيلة تمكنه من املرور أمام الرجل
األسود دون أن تقع أنظاره عليه ،ولكن هذا الرجل ملح زارا من بعيد فنهض كمن
قائل له :أيها املسافر املتجول أيًّا كنت ،أ َ ِ
نج ْد يظفر بما يتوقع ،وأرسع إىل مالقاته ً
هذا التائه الشيخ املع َّرض للمخاطر يف هذه األرجاء ،إنني أسمع زئري الوحوش من
كل جانب ،وقد كان هنا رجل بوسعي أن ألجأ إليه ولكنه توارى وعبثًا فتشت عىل
مستقره ،وهذا الرجل هو آخر األتقياء ،هو الناسك الصالح الذي لم تبلغ أذنيه
الكلمات التي ذاعت بني الناس يف هذه األيام.
فقال زارا :وما هي هذه الكلمات؟ لعلها قولهم بأن اإلله القديم الذي كانوا
يؤمنون به من قبل قد مات.
فأجاب الرجل بلهجة حزينة :لقد قلتها وأنا قد خدمت هذا اإلله حتى الساعة
األخرية من حياته ،وها أنذا أعتزل اآلن وال سيِّد يل ولكنني لم أنل حريتي؛ لذلك
أصبحت وال أمل يل بالسعادة إال إذا تلمستها بأيامي املاضيات ،وقد أتيت إىل هذه
الجبال ألقيم شعائر الدين وأحتفل بالعيد عىل ما يليق برئيس أعىل وأب من آباء
297
الكنيسة األقدمني ،فأنا هو آخر «البابوات».
ولكن الناسك الذي كان هنا ،القديس الذي كان يسبح الله بصلواته وأناشيده
قد مات ،وقد فتشت عليه يف كوخه فما وجدت إال ذئبني يعويان أمام بابه نادبني،
فقد كانت جميع الحيوانات تحن إليه يف حياته ،لذلك ذهبت يف طريقي تائهً ا وأنا
مصمم أال أعود بصفقة املغبون؛ فبدأت أفتش عىل رجل آخر هو يف تقديري أتقى
الجاحدين ،بدأت أفتش عىل زارا.
قال الشيخ هذا وهو يحدج مُخاطبه بنظرات حادة ،فمد زارا يده وقبض عىل
راحة الشيخ ،وبعد أن قلبها وتفرس فيها مليًّا قال له :ما أجمل يدك أيها املحرتم
فإنها والحق ي ٌد تعودت أن تبارك ،وها هي ذي اآلن يف يد زارا نفسه.
أنا هو زارا الجاحد القائل :أين أجد من يفوقني جحودًا ألفرح بتعاليمه.
وأرسل زارا نظ ًرا كالسهم يخرتق عيني الشيخ ساب ًرا أفكاره وما وراء أفكاره
إىل أن قال الشيخ :ما فقد الله أح ٌد بأكثر مما فقده مَ ْن تناهى يف حبه له وفاق
الكل بامتالكه انظر إيل َّ ،أفما ترى أنني أشد جحودًا منك ،ولكن من منا أشد رسو ًرا
بذلك من اآلخر؟
وفكر زارا لحظة ثم قال :أخدمتَه إىل آخر حياته؟ إذن قل يل بأية ميتة قىض،
ً
مخنوقا؛ إذ رأى أصحيح ما يقال من أن الرحمة قد قبضت عىل عنقه فأردته
اإلنسان ً
معلقا عىل الصليب فثقل عليه أن يصبح حبه للناس جحيمً ا يورده الفناء؟
ً
مرتعشا وقد اكفهر وجهه وبدت دالئل األلم وسكت الشيخ وهو يتلفت ما حوله
عليه.
فاستمر زارا يف كالمه :دعه وشأنه ،دعه يذهب ،فإنه هالك ال محاله ،وأنت تعلم،
وإن حق أال يذكر األموات إال بالخري ،إنه كان يتبع مسل ًكا غريبًا.
فقال الشيخ :إذا لزم أن نتكلم بني ثالثة عيون — وكان املتكلم أعور — عن
298
أحوال الله وأموره ،فأنا أحق بذلك ألنني أ َ ْخ َب من زارا بهذه األمور بعد أن خدمت
الله سنوات طويلة واستسلمت ملشيئته ،وكم يعلم الخدَّام من أحوال ساداتهم ما
يخفونها هم عن أنفسهم …
لقد كان إلهً ا خفيًّا َّ
ملفعً ا باألرسار ،ويف الحقيقة إن ابنه لم يأت إليه إال عن
الطريق امللتوي ،لذلك كان الزنا أول مرحلة من مراحل اإليمان به1.
من يسبح الله كأنه رب املحبة فقد قرصت مداركه عن بلوغ مرتبة الحب
السامية ،أفما أراد هذه اإلله أن يقيم نفسه قاضيًا؟ واملحب يجتاز أي حد من
حدود العقاب والثواب.
لقد كان هذا اإلله الرشقي يف شبابه قاسيًا تجول فيه روح النقمة فأوجد جحيمً ا
لتسلية صحبه ،ولكنه شاخ مع األيام فأصبح مرتاخيًا رحيمً ا وانقلب جدًّا بعد أن
كان أبًا ،بل انقلب جدة هرمة تتداعى.
وجلس يومً ا قرب املوقد يصطيل وقد تجعدت أسارير وجهه وتقطب جبينه
لشعوره بوهن رجليه ،فأحس بتعبه من إرادته ومن العالم وما عتم حتى قىض
ً
مختنقا بعميم رحمته.
فاستوقفه زارا ً
قائل :أرأيت ذلك بعينك؟ فلقد يكون قىض عىل هذا الوجه كما
يكون قىض بصورة أخرى ،فإن األرباب إذا ماتت تموت بأسباب متنوعة.
وعىل كل فأيًّا كان السبب ،فإنه قد قىض ،ورش ما أذكره به هو أنه كان يشوش
عيل َّ أبصاري وأسماعي ،فأنا أحب كل من صفت نظراته وكلماته ،وقد كان هو
— كما تعلم — عىل يشء مما تتصف به أنت أيها الكاهن الشيخ ،وما يتصف به
ً
غامضا. كل كاهن ،فقد كان مبهمً ا
أفما كان يف تفكريه كثري من اإلبهام؟ ول َكم ثار علينا بغضبه؛ ألننا لم ندرك
ً
تأويل. غوامض أقواله ،وكان األجدر به أن يأتي ببيان رصيح ال يحتمل
299
وإذا كانت آذاننا هي التي أساءت سماع أقواله فعال َم جه َّزنا بآذان ال تحسن
السمع؟ وإذا كان يف آذاننا طني يسدها فمن ترى وضع هذا الطني فيها؟
ولكم انحطم من إناء تحت يد هذا الخ َّزاف الذي لم يتم تعلمه ولم يتقن صنعته،
فعال َم ينتقم من مخلوقاته التي أبدعها ،إذا كانت خرجت مشوهة من بني يديه؟
أفما كان هذا العمل خارجً ا عىل ما يليق؟ حتى إن الالئق نفسه يف الرحمة هتف
ً
قائل :أنقذوني من هذا اإلله فخري يل أال يكون يل إله فأتحكم يف مقدراتي ،خري يل
أن أصاب بالجنون فأقيم نفيس إلهً ا …
قائل :ما أسمع منك يا زارا والحق أنك بلغت من عندئذ صاح الحرب القديم ً
التقوى ما ال تدرك مداه ،فال بد أن تكون لقيت إلهً ا هداك إىل كفرك؛ ألن إيمانك
نفسه قد صدك عن االعتقاد بالله ،ولسوف يقودك إخالصك أخريًا إىل ما وراء
الخري والرش.
لقد ُقدر لك أن تأتي بالربكة األبدية بعينيك وبيدك وفمك ،فليست اليد وحدها
أداة للربكة.
إنك تحاول الظهور أمامي كأشد الناس كف ًرا ،ولكنني أشت ُّم منك عطر الربكة
املستمرة فأشعر منها بلذة يخامرها األلم .دعني أنزل ً
ضيفا عليك ولو ليلة واحدة
فليس يف األرض مكان أرتاح فيه ارتياحي بقربك.
واستولت الدهشة عىل زارا فقال :ليكن ما تريد ،فهناك عىل القمة الطريق
املؤدي إىل مغارة زارا ،وكنت أود أن أذهب بك إليها ،أيها املحرتم ،فإنني أحب
ٍ
صوت تعاىل مستنجدًا بي. جميع األتقياء ولكنني مضطر إىل اإلرساع نحو
اذهب إىل مغارتي حيث ال يتعرض أحد لرضر فهي ميناء السالم لكل قاصد،
وأنا أود أن يستقر عىل أرضها الجامدة كل حزين.
ولكنني أرى نفيس أضعف من أن أبدِّد أحزان روحك ،ولقد يمر زمان طويل
300
قبل أن يجيء أحد بوسعه أن يقيم إلهك من املوت ،وقد مات هذا اإلله القديم ولن
يحيا بعد.
هكذا تكلم زارا.
هوامش:
1إىل مثل هذه النتائج دفع الهوت الغرب وفلسفته الدينية عن رسالة عيىس
بالعدد الغفري من جبابرة التفكري بني شعوبه ،أما والله إن ُك ْف َر نيتشه فيما يقول
عن هذه املرحلة من اإليمان إنما هو ُك ْف ٌر بالصورة املشوهة التي عُ ِر ْ
ضت عليه ال
باملسيح الذي عنى أمثاله بقوله« :اغفر لهم يا رب ألنهم ال يدرون ما يفعلون».
301
أقبح العالمين
ً
مرسل أبصاره إىل كل جهة دون أن وعاد زارا يتوغل يف األحراش وبني الجبال
يعثر عىل الصارخ املستنجد ،غري أنه كان يقفز يف سريه فرحً ا وهو يقول :لقد َّ
كفر
هذا النهار عن سيئات صباحه ،فما أغرب من تحدثت إليهم يف طريقي ،ولسوف
ألوك كلماتهم وأمضغها حتى أزدرها غذاء لنفيس.
سبيل تصدُّه صخرة عالية انكشف له مشهد جديد ٍ وملا وصل زارا إىل منعطف
مهاو حمراء دكناء ليس عليها
رأى فيه نفسه يف مملكة املوت؛ إذ صدمت أبصاره ٍ
شجرة وال نبتة وال يُسمع فيها صياح طري أو زقزقة عصفور ،وقد نفر من ذلك
الوادي كل ذي حياة حتى الوحوش فما كان يرتاده من حني إىل حني إال األفاعي
الجسيمة الخرضاء عندما كانت تحس بالهرم وتطلب الفناء ،ولذلك دعى الرعاة
هذا الوادي مقربة األفاعي.
وراودت مخيلة زارا تذكارات قديمة وشعر بأنه قد مر بهذا الوادي فيما مىض،
فأُثقل دماغه وبدا يتباطأ يف سريه حتى امتنع عليه نقل قدميه فإذا به يفتح عينيه
شخصا له وجه إنسان وليس له من هيئة البرش ً فجأة ،فريى عىل حافة الطريق
يشء كائنًا ال اسم له بني أسماء الكائنات ،واستوىل عىل زارا نوع غريب من الخجل،
َّ
فتول وأراد أن فاستحت عيناه مما رأتا فاحمر وجهه حتى منابت شعره األبيض،
يبارح هذا املكان فإذا به يسمع صوتًا كالهدير أو كبفية املياه إذا ُسدَّت مجاريها،
وما عتم حتى استحال هذا الصوت إىل نربات تشبه الكالم وهي تقول :أيْ زارا …
أي زارا … ح َّل رمزي إذا قدرت وأعلن الحقيقة عن «االنتقام من الشاهد».
قف مكانك وتراجع إىل الوراء فاألرض متجلدة أمامك ،حاذر أن ينزلق غرورك
عليها فتنكرس قوائمه.
302
أنت تحسب نفسك حكيمً ا يا زارا ،فحل الرمز املعروض عليك ،إذا كان لك أن
تكرس أصلب القشور الكتشاف نواتها فقل يل من أنا.
وما سمع زارا هذه الكلمات حتى ه َّزه اإلشفاق ه ًّزا؛ فهوى عىل الحضيض
كشجرة توالت عىل جزعها رضبات الفئوس ،ولكنه ما هوى حتى نهض وقد
ارتسمت القساوة عىل وجهه فقال :لقد عرفتك يا هذا ،فأنت قاتل اإلله ،دعني منك
فأنا متو ٍّل عنك ،لقد ثقل عليك أن يكون هنالك من ال يزال ينظر إليك ويتفرس يف
قبحك ،وأنت أقبح العاملني ،فأقدمت عىل االنتقام من هذا الشاهد.
وتحفز للسري ،ولكن الكائن الذي ال اسم له تمسك برجليه َّ قال زارا هذه الكلمات
ابق هنا فقد عرفت ما هي الصدمة التي ألقتك رصيعً ا، وصاح به متمتمً ا :ال تذهبَ ،
مرحى لك ألنك تمكنت من النهوض ،لقد أدركت ما يشعر به قاتل إلهه ،تعا َل
واجلس إىل جانبي ،إنك لن تضيِّع أوقاتك معي سدًى؛ ألنني إذا لم أتوجه إليك فإىل
من أتجه ،اجلس ولكن ال تنظر إيل َّ ،فإنك لتك ِّرم قبحي بإغضائك عنه.
إنهم يطهدونني ،وقد أصبحت أنت اآلن ملجئي األخري ،إنهم يطهدونني ال
بحقدهم وال بقوة جندهم وما تهمني هذه القوة ،بل إنني ألفخر بمصادمتها يل
املطارد ينتهي
ِ رس ،وهل يف العالم نجاح يضاهي نجاح املطهَ دين مجدًا؟ إن وأ ُ ُّ
باملتابعة وهو الراكض دومً ا وراء متبوعة .إن ما يؤملني منهم هو أنهم يطهدونني
بإشفاقهم ،وما أهرب إال من هذا اإلشفاق طالبًا ملجأ يف أكنافك ،فاحمني يا زارا!
وعرفت ما يشعر به قات ُل إلههَ ،
ابق هنا َ َ
نفذت رسيرتي إنك ملجئي الوحيد وقد
وإذا ما أردت االرتحال أيها الرحالة اللجوج فال تنرصف من الطريق التي اتبعتها
أنا ألصل إىل هذا املكان ،إنها لبئس الطريق.
لعلك ال تنقم عيل َّ لتوجيهي هذه الكلمات إليك وإلسدائك نصحيْ .
إن أنا إال أقبح
ُ
مررت عىل طريق إال ودمرتها. العاملني ،إن رجيل أضخم األرجل وأثقلها فما
لقد رأيتك متجهً ا نحوي وأنت تقصد املرور بي خلسة والح االحمرار عىل وجهك
303
فعرفت أنك أنت زارا ،ولو أن غريك مر بي لكان نفحني بصدفة أو بذل يل إشفاقه
َ
عرفت لم أصل من التسول إىل درجة أرىض فيها بنظرة أو بكلمة ،ولكنني كما
بتصدق الناس عيلَّ.
إن لديَّ ثروة وافرة من العظائم بل من أقبحها وأفظعها؛ لذلك رشفني خجلك
يا زارا.
وما توصلت إال بشق النفس إىل التخلص من إزعاج الرحماء ألجد اإلنسان
الوحيد القائل يف هذا الزمان بأن اإلشفاق نقمة وليس نعمة ،وهل من قائل بهذا
سواك ،يا زارا؟
إن اإلشفاق إهانة للكرامة سواء أصدر من الناس أم من إله الناس ،ولعل يف
حبس املعونة من النبل ما ليس يف املسارعة إىل بذلها.
ولكن صغار البرش يحسبون أن يف هذه املسارعة إىل اإلشفاق فضيلة ال تضاهيها
فضيلة ،فهم ال يحرتمون الشقاء إذا تعاظم وال القبح إذا تناهى وال التشويه إذا
ُبق ولم يذر.
لم ي ِ
إن أنظاري تمر عىل هؤالء الرحماء كما يمر نظر الكلب عىل ظهور األغنام
املتزاحمة ،فما أراهم إال صعاليك ترمد صوفهم وامتألت رءوسهم بأفكار األنعام.
إنني أقف كالبجعة تحدج املستنقعات بنظرات االحتقار ألرسل أنظاري عىل
تدافع صغريات األمواج وكل إرادة واهية وكل نفس حقرية.
لقد طال زمن االعتقاد بهؤالء األصاغر ،وأوالهم الناس الصواب حتى تولوا القوة
وأصبحوا يقولون بأن ال خري إال ما يرونه هم خريًا.
إن ما يُعترب حقيقة يف هذا الزمان ْ
إن هو إال ما علمه ذلك البشري الذي نشأ بني
هؤالء الصعاليك ،ذلك القديس الغريب األطوار الذي وقف مدافعً ا عن قومه وهو
يشهد لنفسه ً
قائل« :أنا هو الحق».
304
إن هذا املدعي قد أفسح املجال منذ زمان طويل لهؤالء الصعاليك؛ فتطاولوا
ً
ضالل عظيمً ا. منتصبني عىل أظالفهم ،إن هذا القائل أنا الحق قد علمهم
لقد أورد قوله هذا فما تلطف أحد تلطفك بالرد عليه يا زارا؛ إذ مررت أمامه
وصحت به :ال … ال … وألف مرة ال …
لقد حذرت الناس من ضالله ،فكنت أول املحذرين من اإلشفاق ،وما وجهت
خطابك للمجتمع وال للفرد ،بل وجهته لنفسك ومن هم من مرتبتك ،فأنت تبدي
استحياءك من خجل اآلالم العظمى فتقول« :كونوا عىل حذر أيها الناس ،إن
الغمامة الواسعة تمتد من منشأ اإلشفاق».
ثم تقول« :إن املبدعني قساة ،واملحبة العظمى تتعاىل فوق إشفاقها».
أي زارا ،لقد كنت مدر ًكا إنذارات زمانك عندما نطقت بهذا.
ولكن عليك أن تحاذر أنت ً
أيضا ما فيك من إشفاق؛ ألن كثريين خرجوا عىل
طريقهم يقصدونك ،وما أكثر الغارقني ومن جمَّ دهم الصقيع!
وألدعونَّك حتى إىل االحرتاس مني ،فإنك قد حللت لغزي من وجهتي حسنه
وقبحه ،وعرفت من أنا وما فعلت فعرفت من ذلك ما يمكنه أن يصدمك ويرصعك.
وعىل كل ،فقد وجب عىل اإلله أن يموت؛ ألنه كان يحدق بعني نافذة ال تخفى
ً
مستكشفا جميع ما كمن فيه من قبح عليها خافية فيسرب أعماق اإلنسان وأغواره
وعيوب.
لقد كان إشفاقه خاليًا من الحياء ،فكان يذهب هات ًكا األستار عن قبائح ذاتي،
أفما حق عىل هذا الفضويل الرحيم أن يموت ،أفما كان يل أن أنتقم ممن تحرش
ً
تخلصا منه. بخفاياي أو أختار املوت
إن إلهً ا يرى كل يشء حتى اإلنسان ألجدر به أن يفنى وما يحتمل اإلنسان مثله
شهيدًا.
305
هكذا تكلم أقبح العاملني ،فنهض زارا وقد أحس بالصقيع يف أحشائه وقال :يا
من ال يُعرف وال يُسمى ،لقد حولتني عن اتباع طريقك وأنا أدعوك مكافأة لك إىل
اتباع طريقي ،انظر إىل الذروة ،هنالك مغارة زارا.
إن مغارتي متسعة مديدة كثرية الرساديب يجد فيها طالب الخفاء خباء ،وعىل
مقربة منها حُ فر وأوجار لكل حيوان من الزحافات والدبابات واألطيار ،فاقت ِد بي
يا من هجرت العالم وكرهت الحياة بني الناس ،وأرهقك إشفاق الناس تع َّلم كما
تعلمت أنا فال يتعلم إال العامل املخترب.
ليكن أول ما تتعلمه التحدث مع نرسي وأفعواني؛ فاألول أعظم الحيوانات كربًا،
والثاني أشدهم مك ًرا ،فليكونا لك ويل خري مَ ن نستشري.
ً
تمهل؛ إذ كان هكذا تكلم زارا وسار يف طريقه وقد ازداد تفكريه إرساعً ا ومشيته
يسائل نفسه عن أمور كثرية فال يجد لها جوابًا.
وقال يف قلبه :ما أشقى اإلنسان وما أقبحه مليئًا بالضغينة والعيوب الخفية!
قيل يل إن اإلنسان محب لذاته ،فأية درجة يجب أن تبلغ األنانية لتتغلب عىل ما
يف الذات من صفات حقرية؟
لقد مررت اآلن بكائن يحب ذاته وهو يحتقرها ،فهو يف نظري متنا ٍه يف عشقه
واحتقاره؛ ألنني ما عثرت قط من قبل بمثله كائنًا يحتقر ذاته إىل هذا الحد ،إن يف
مثل هذا االحتقار تعاليًا وسموًّا ،ولعل هذا اإلنسان هو اإلنسان الراقي الذي أرسل
برصخة االستنجاد.
إنني أحب رجال االحتقار العظيم ألن عىل اإلنسان أن يفوت ذاته ويتفوق عليها.
306
مختار التسول
وعندما بارح زارا أقبح العاملني أحس بوحدته ،ومىش الصقيع يف أعضائه ملا مر
يف رأسه من أفكار غريبة الفحة ،ولكنه ذهب يج ُّد السري تارة عىل املراعي املخصبة
جف النهر ،فانكشف مسيله املوحش املرشفة عىل البحر وطو ًرا وراء الجبل حيث َّ
تحف به الصخور ،فتشددت عزيمته وعادت إليه حرارته فقال يف نفسه« :لعلني
عىل مقربة من إخوان ال أعرفهم يدورون يف هذه األرجاء ،ولعل ما أحس به من
أنس بعد الوحشة ومن حرارة بعد الصقيع يهب من أنفاسهم فتهش لها نفيس».
وتطلع من موقفه إىل ما حوله فإذا به يرى قطيعً ا من األبقار عىل مرتفع ،فأدرك
أن ما ضاع من لهاث هذه القطيع قد كان السبب يف إنعاش قلبه.
وما أحست األبقار بقدومه؛ إذ كانت موجهة انتباهها إىل خطاب كان يلقى
عليها ،وما تقدم زارا بضع خطوات حتى سمع صوت إنسان يرتفع من وسط
الحلقة ،وقد أدارت األبقار رءوسها إىل مصدر الصوت فأرسع زارا إىل اخرتاق
الحلقة ،فإذا برجل جالس عىل الحضيض يتكلم محو ًِّل كل جهده إلقناع األبقار
بأال تنفر منه.
وكان املتكلم أحد أنصار السالم ومن وعَّ اظ الجبال املتصفني باللطف ،وقد أشع
العطف من عينيه.
وتقدم زارا وسأله بدهشة عما يفعل ،فأجاب الرجل :إنني أطلب هنا ما تطلبه
أنت ،فأنا أفتش عىل سعادة الحياة ،وقد أردت أن تعلمني األبقار حكمتها ،فمضت
نصف الصبيحة وأنا أهيب بها إىل التكلم حتى كادت تنطق فأتيت أنت تكدر
صفونا.
307
إذا نحن لم نرجع فنصري مثل هؤالء األبقار فلن ندخل ملكوت السماء … ألن
علينا أن نقتبس من األبقار اجرتارها.
والحق لو أن اإلنسان ربح العالم كله ،ولم يتعلم اإلمعان يف تفكريه كما تُمعن
األبقار يف مضغها ،فأية فائدة له من الحياة؟ ألنه إذا لم يجرتَّ بتفكريه فال شفاء له
من أشد أدوائه ،وداء اإلنسان العقام اليوم إنما هو داء االشمئزاز ،ومَ ْن من أبناء
هذا الزمان ال تتقزز نفسه وعيناه وفمه ،أفما أنت كسائر الناس يا هذا؟ انظر إىل
األبقار.
قال واعظ الجبل هذه الكلمات ثم أمعن النظر يف زارا بعد أن كان يعلقه عىل
أبقاره ،فتغريت سحنته وهتف ً
قائل :من هو مَ ْن أخاطب؟
ونهض عن األرض فجأة وهو يقول :هذا هو املتعايل عن كل اشمئزاز ،هذا هو
زارا بعينه ،هذه عينه وهذا فمه وهذا قلبه.
وسارع إىل تقبيل يدي زارا وعيناه تفيضان بالدموع كأنه لقي كن ًزا أرسلته
السماء ،ووقفت األبقار تنظر إىل الرجلني مندهشة حائرة.
قائل :ما لك والتكلم عني ،تحدَّث عن نفسك ،أفما أنت مَ ْن اختار وتباعد زارا ً
التسول متخليًا عن ثروته الكربى ،أفما أنت من رأى العار يف الغنى وأربابه ففزع
إىل الفقراء ينرش عليهم نعمته ،ويجود عليهم بقلبه ،فردَّه الفقراء خائبًا؟
فأجاب املتسول :أجل لقد عدت بالخيبة فلجأت إىل هذه األبقار ،وأنت تعرف
ذلك يا زارا.
َ
تعلمت فعرفت أن اإلجادة يف العطاء أصعب من اإلجادة يف فقال زارا :وهنا
األخذ ،وأن العطاء فن يتوقف إتقانه عىل إدارة العطف والتحكم يف خطراته.
فقال املتسول :بخاصة يف هذه األيام التي ثار فيها كل سافل نفور متكرب مباهيًا
بطبقة الغوغاء التي ينتمي إليها ،وما خفي عليك أن الساعة قد دنت لثورة طبقات
308
املستبعدين وهي ثورة سيطول أمدها ومداها.
إن الصغار يتمردون عىل كل ما هو إحسان وتصدق ،فلينتبه أرباب الثراء
وليحذروا.
الويل لكل وعاء متضخم ال يترسب ما فيه إال قطرة فقطرة من فوهته الضيقة،
فإن أعناق هذه اآلنية معرضة للكرس يف هذه األزمان ،وقد اصطدمت بالحسد
الفاحش والشهوة الغاضبة والظمأ الدافع إىل االنتقام وبكل ما يف الغوغاء من
غرور ،لقد كذب من قال :إن السعادة سائدة بني الفقراء من الناس ،فما يتمتع
غري األبقار بملكوت السماء.
وسأل زارا :وملاذا ال يتمتع األغنياء بامللكوت.
ُ
فزعت إىل فأجاب املتسول :ملاذا تجربني يا هذا وأنت أدرى باألمر مني ،وهل
كرها ألغنيائنا؟ وهم أرسى أموالهم وعبيدها وهم ذوو العيون الباردة الفقراء إال ً
والقلوب التي تقرضها شهوة اإلثراء فتوحي إليهم بكل وسيلة يستغلون بها أية
كومة من كوم األقذار ،أفما هربت من هؤالء الناس وسفالتهم الصارخة بوجه
السماء ،كما هربت من الطبقة َّ
املوشاة بالذهب واملزوَّرة تزوي ًرا املتحدِّرة من جدود
كانت أصابعهم مخالب من حديد فعاشوا عقبانًا أو جامعي خرق ،من الطبقة
فاحشات سائبات ال فرق بينهنٍ التي ماتت النخوة يف رجالها فرسحت نساؤها
وبني البائحات يف املواخري.
لقد رأيت الغوغاء يف الطبقة العليا كما رأيتها يف الطبقة الدنيا ،فال فرق بني
األغنياء والفقراء يف هذا الزمان؛ لذلك هربت وأمعنت يف الهرب حتى أدَّى بي
املطاف إىل هذه األبقار.
هكذا تكلم رسول السالم والعَ َرق يتصبب منه الندفاعه بتيار خطابه ،فوجمت
األبقار مضطربة ،غري أن زارا كان ال يزال يحدق باملتسول وهو يبتسم حتى إذا
َ
أجهدت نفسك بعنف خطابك فما لفمك أن يتفوَّه وقف عن الكالم قال له :لقد
309
بهذه الكلمات الجافية وما ألذنيك أن تسمعاها ،وما أرى معدتك نفسها قادرة
عىل هضمها وتحمُّ ل مثل هذا الغضب املتدفق ،فمعدتك بحاجة إىل غذاء أخف وما
أنت بالرجل الرشه ،ولعلك من أكلة األعشاب والبقول تحب مضغ الحبوب ولعق
العسل.
فقال املتسول :لقد أصبت فأنا أحب العسل وأمضغ الحبوب فأفتش عىل ما لذَّ
طعمه وطابت نكهته ،وما يساعد بمضغه عىل إمرار الزمان شأن الكساىل وليس
أمهر يف االجرتار من األبقار فهي التي اخرتعته كما اخرتعت التمدد تحت شعاع
الشمس فتخلصت من كل تفكري جدي عميق مضخم للقلب.
فقال زارا :إذن عليك أن تشاهد نرسي وأفعواني فليس لهما عىل األرض نظري،
ً
ضيفا عيل َّ هذا املساء لتتحدث مع تلك هي الطريق املؤدية إىل مغارتي فانزل فيها
النرس واألفعواني عن سعادة الحيوانات ،وهنالك تنتظرني إىل أن أعود ألن صوتًا
استنجدني من بعيد وأنا ذاهب إىل مصدره ،ولسوف تجد يف املغارة ً
عسل جديدًا
أُخذ من القفران الذهبية وهو بارد كالثلج فلك أن تأكله.
استأذن أبقارك االنرصاف أيها الرجل الغريب ،فإنها خري من أخلص لك
وأصدق من ع َّلمك الحكمة.
فقال املتسول :ما هي أخلص وأصدق منك يا زارا ،فأنت بطيبة قلبك خري من
األبقار.
ً
سحقا أيها املداهن! ملاذا تقصد إفسادي بمعسول القول والثناء؟ فقال زارا:
اذهب بعيدًا عني.
ورفع زارا عصاه غاضبًا فأرسع املتسول بالهرب.
الظل
وما توارى املتسول وشعر زارا بانفراده ،حتى سمع صوتًا آخر يهتف به من
310
ورائه ً
قائل له :توقف وانتظرني ،أنا ِظلك يا زارا.
ولكن زارا لم يصخ سمعً ا وقد أزعجه أن تكون جباله آهلة بمثل هذا العدد
من الناس ،وتساءل عما آلت إليه عزلته فقال :إن مملكتي ليست من هذا العالم
ً
مفتشا عىل جبال جديدة. فألذهبن
ها إن ظيل يدعوني ،ولكن ما يهمني هذا الخيال وعليه هو أن يتبعني ،أما أنا
فأهرب منه.
ومىش زارا فإذا به يرى املتسول يركض أمامه وظله يجد يف السري من ورائه،
غري أن زارا أدرك أن الجنون كاد يستويل عليه ،فوقف فجأة ينفض عن نفسه ما
علق بها من كيد واحتقار ،وهو يقول :أفما يتعرض أمثايل القديسون الشيوخ إىل
أغرب الحادثات؟
والحق أن جنوني قد تزايد يف هذه الجبال ،وها أنذا أسمع قرقعة ستة أقدام
حكمها الجنون.
ال حق لزارا أن يخاف من خيال فيسطو عليه الوهم حتى يرى رجيل خياله
أطول من رجليه.
ووقف بغتة والتفت إىل ورائه ،فإذا بظله يصطدم به فيكاد يسقط إىل األرض،
وتف َّرس يف هذا الخيال فساده الرعب كأنه يرى شبحً ا من وراء القبور ملا رأى من
هزاله وهرمه ،ورصخ ً
قائل :من أنت؟ وملاذا تدَّعي أنك ظيل ،ومنظرك ال يروقني؟
فأجاب الظل :اعذرني إذا أرصرت عىل ما أدعي ،وإذا كان حايل ال يروق لك،
فإنني أهنئك عىل حسن ذوقك ،ما أنا إال جوَّابة آفاق أقتفي خطواتك منذ زمن بعيد
فأذهب عىل طريق ال تنتهي عند حدٍّ ،وال مسكن يل فكأنني اليهودي التائه إىل األبد
بالرغم من أنني لست يهوديًّا وال خالدًا.
ملاذا قيض عيل َّ أن أبقى دائمً ا عىل سفر دون قرار فتحملني عواصف جميع
311
ُ
تعبت من ذرع هذه الكرة األرضية التي ال أول لها وال آخر. األرياح ،حتى
ليس من سطح لم أنطرح عليه كالغبار املتهاوي بعد ثورته عىل املرايا وزجاج
النوافذ ،وكل يشء أملسه يختلس مني ،وال آخذ منه شيئًا فها أنذا ناحل وأكاد أكون
هباء.
رست وراءه ولم يرني ،خفيت عنك ولكنني كنت ُ أنت يا زارا متبوعي الذي
ُ
وحططت قربك رحايل ،ثم هببت معك َ
حططت رحالك مرة إال أصدق ظ ٍّل لك فما
أجول يف أبعد العوالم وأشدها صقيعً ا كاألشباح يلذ لها أن تنطرح عىل السطوح
املثقلة بالثلوج.
ُ
اكتسبت ً
متشوقا إىل كل محظور بعيد وإىل كل رش ،فإذا كنت ذهبت يف إثرك
من الفضائل شيئًا فما اكتسبت إال اقتحامي كل ممنوع ،ويف إثرك حطمت كل
ما كان يعبده القلب ،وقلبت كل معالم الحدود ومحوت كل الصور وأنا أتهافت
عىل أشد الشهوات خط ًرا ،والحق أنني ارتكبت هذه الجرائم كلها ،ويف إثرك ً
أيضا
فقدت ثقتي يف معاني الكلمات ويف الرشائع املقدسة ويف األسماء العظمى ،أفما
يبدل الشيطان اسمه كلما استبدل جلده ،وهل األسماء إال جلود ،بل لعل الشيطان
نفسه جل ٌد ليس إال.
وكنت أحث نفيس عىل السري فأقول« :ال حقيقة يف الوجود وكل يشء جائز».
فاندفعت أشق برأيس وقلبي أشد املياه صقيعً ا ،ولكم خرجت بعدها عاريًا ،وقد
لوح الصقيع جلدي بناره.
وياله! ماذا فعلت بالعطف وبالحياء وباإليمان بالصالحني؟ وأين توارى الطهر
الكاذب الذي كنت أتشح به من قبل ،طهر الصالحني يف أكاذيبهم الرشيفة؟
أترسم خطاك فرجعت الحقيقة إيل َّ لتصفعني عىل َّ ل َكم اتبعت الحقيقة وأنا
وجهي ،وما ملست الحقيقة حني ملستها إال عندما كان يلوح يل أنني أقول الكذب.
لقد انجلت أمور كثرية أمامي لذلك لم يعد يل يشء ،وكل ما أحببته قد مات
312
فكيف يسعني أن أحب نفيس بعد؟!
إن ما أريده هو أن أعيش كما أشتهي وإال فخري يل َّأل أعيش ،وتلك هي ً
أيضا
إرادة أقدس الناس ولكن أنَّى يل أن أجد لذَّة بعد ،وقد اضمحلت مقاصدي وأهدايف
وليس أمامي من ميناء ينطلق إليه رشاعي.
ما تهمني الريح املناسبة؟ وهل ملن ال يعرف وجهته أن يراقب مهبَّ الرياح؟!
لم َ
يبق يل غري قلب متعب وقح ،وإرادة ال قرار لها ،وجناح مهيض ،وظهر
تفككت فقراته.
لقد فتشت عىل مسكني فأشقتني محاولتي ،وأنت تعلم يا زارا ،أي شوق أكابده
من أجله!
أين هو هذا املقر؟ لقد طلبته فما وجدته ،فهو أبدًا يف كل مكان وأبدًا ال مكان
له ،بل هو العبث األبدي.
هكذا تكلم الظل فارتسم األىس عىل وجه زارا فقال :أنت هو ظيل ،وما الذي
ً
ثقيل تقتحمه من هينات املخاطر ،أيها الروح املطلق املتجول ،لقد كان يومك
ً
إرهاقا. عليك فاحذر أن يكون مساؤك أشد
إن التائهني أمثالك يعثرون عىل سعادتهم أخريًا ولو يف سجن من السجون ،أفما
رأيت كيف يرقص السجناء عىل جرائمهم وقد بلغوا األمان.
احذر أن يتسلط عليك إيمان جديد يضيق عليك املجال بأوهامه القاسية؛ ألنك
منذ اآلن معرض الستهواء كل ضيق شديد.
لقد غاب هدفك عنك ،فكيف تقدر عىل الذهاب يف حزنك أو بلوغ السلوان وقد
ضللت طريقك ،فيا لك من خيال تائه وفكر رشيد ،فإذا ما أردت الراحة يف ملجأ
هذا املساء ،أيها الفراش املنهوك ،فاصعد إىل مغارتي.
ذلك هو الطريق املرتفع املؤدي إليها ،وها أنذا أبتعد عنك؛ ألنني أشعر بيشء
313
كالظل يثقل عيلَّ.
ً
راكضا وحدي ألتبني النور ما حويل ،فإىل مغارتي هذا املساء؛ ألننا سأذهب
سنُحيي ليلة راقصة هناك.
هكذا تكلم زارا.
314
في الظهيرة
315
يا لسعادتي! عال َم ال ترفعني صوتك باإلنشاد يا نفيس وأنت منطرحة عىل
العشب يف الساعة التي ال يعزف فيها راع عىل شبَّابته؟
ال … ال تنشدي! إن حر الظهرية يرتاح عىل املروج فاحفظي الصمت يا نفيس؛
ألن العالم قد أُكمل.
ال … ال تنشدي! إن عصافري املروج نفسها صامتة ال تزقزق ،انظري! هذه
الظهرية الهرمة راقدة تحرك شفيتها ،أتراها ترتشف قطرة من السعادة؟ قطرة
معتقة من الخمر الذهبي تحمل السعادة إىل هذه الظهرية فتبتسم! سكوتًا ،إنها
البتسامة اآللهة.
كنت أعتقد من قبل وأنا أحسبني حكيمً ا أن السعادة تنشأ من أقل األسباب،
ولكن الزمان علمني أنني كنت مجد ًِّفا وأن مجانني الحكماء ال يرتكبون مثل هذا
الخطأ.
لقد عرفت اآلن أن عىل األقل من القليل يتوقف خري الشعور بالسعادة؛ ألنها
تقوم عىل ألطف األشياء وأعمقها صمتًا ،عىل حركة حرباء بني األعشاب ،عىل لفحة
نسيم ،عىل لحظة سكوت ،عىل طرفة عني.
ماذا جرى يل؟ تنصتي يا نفيس؛ هل توارى الزمان؟ أتراني أهوي ساق ً
طا يف
غور األبد.
أحس بطعنة يف صميم قلبي :فانحطم أيها القلب ،خري لك أن تقف عن نبضاتك
بعد أن شعرت بهذه السعادة وبعد أن نزلت الطعنة النجالء عليك.
يا للعجب ألم يكتمل العالم اآلن أفما أت َّم استدارته ونضوجه؟ إىل أين تطري هذه
األكرة املذهبة؟ وهل أنا ذاهب وراءها؟
سكوتًا …!
وعندها أحس زارا بأنه نائم فتثاءب وشدت به عضالته ،فقال يف نفسه :انهض
316
أيها الكسالن النوَّام! ٍّ
أف لكما أيها الساقان الهرمان ،لقد دهمنا الوقت وأمامكما
شقة طويلة بعد.
لقد نمت مدة تبلغ نصف األبد يا هذا فانهض ،انهض أيها القلب الشيخ ،فلقد
تحتاج إىل زمن طويل لتعود إىل انتباهك بعد هذه الرقدة.
وتسلط النعاس عىل زارا ثانيًا فانطرحت روحه بالرغم منه تطلب الراحة قائلة:
اسكت ودعني أفما أُكمل العالم! يا لجمال هذه الكرة املذهبة.
وصاح زارا بروحه :انهيض أيتها الكسولة ،أيتها املختلسة ،ما لك تتثاءبني
وتزفرين وتتهاوين إىل األغوار.
مَ ن أنت أيتها الروح؟
وانتفض زارا مذعو ًرا؛ إذ وقعت أشعة من الشمس عىل وجهه.
وصاح :أيتها السماء املنبسطة فوقي ،إنك تنظرين إيل َّ وتصغني إىل روحي
الغريبة.
أي متى تترشَّبني قطرة الندى التي تساقطت عىل كل يشء يف هذا الوجود؟ أي
متى تترشبني هذه الروح الغريبة؟
أيتها األغوار األبدية ،أيها القاع امليلء ً
جزل ،أيتها الظهرية التي يرتعش لها كل
يشء ،أما آن لك أن تترشبي روحي فتندغم فيك؟
هكذا تكلم زارا ونهض من مرقده تحت الشجرة كأنه يفيق من سكره ،فإذا
بالشمس ال تزال يف كبد السماء فعرف أنه لم ينم إال زمنًا قصريًا.
317
السالم
وكان العرص قد خطا خطوة كربى نحو املساء عندما بلغ زارا مغارته بعد طول
املسري ،وبعد أن ذهب جهده يف التفتيش عىل املستنجد عبثًا.
ولكنه ما أصبح عىل قاب عرشين قدمً ا من مسكنه حتى وقف مذعو ًرا؛ إذ سمع
صوت االستنجاد يدوي يف أذنيه وازدادت دهشته؛ إذ تأكد أن الصوت خارج من
مغارته نفسها ،غري أن الهتاف كان يصل إليه كأنه هتافات عديدة يدفعها فم
واحد.
وأرسع زارا فولج مغارته فإذا هو ماثل أمام جميع من التقاهم يف طريقه :ملك
ظل وضمري امليمنة وملك امليرسة والساحر الشيخ ورئيس األحبار واملتسول وال ِّ
العقل والعراف الحزين والحمار.
ًّ
وملتفا بدثارين من القرمز؛ ألن هذا وكان أقبح العاملني واضعً ا تاجً ا عىل رأسه
الرجل كان يحب أن يتنكر ويتجمل ككل قبيح.
وكان نرس زارا منتصبًا بني هذا الجمع ،وقد انتفش ريشه والح االضطراب عليه
الضطراره إىل إبداء الجواب عىل مسائل تنال من غروره وكان األفعوان ًّ
ملتفا حول
عنقه.
ودهش زارا مما رأى وذهب نظره يتفرس يف كل وجه من وجوه ضيوفه ويطالع
صفحات نفوسهم ،وكان هؤالء الضيوف وقفوا عن مقاعدهم وكل منهم ينتظر
بخشوع خطاب زارا.
وبعد صمت قصري قال زارا :ما كان صوت االستنجاد إال صوتكم إذن … فأنا
أعلم اآلن أين يجب أن أفتش عىل اإلنسان الراقي.
318
إنه جالس يف مغارتي هذا اإلنسان ،وما أعجب لهذا ألنني أنا دعوته ،وأهبت به
للحضور وقد وعدته بالعسل والسعادة ،ويلوح يل أنكم ال تتصلون إىل االتفاق
فيما بينكم ،فكل منكم يسبب الكدر لرفاقه وأنتم مجتمعون هنا يف حني أنكم
تستنجدون بصوت واحد فأنتم بحاجة إىل من يعيد ضحككم إليكم ،إىل رجل مرح
رقاص استوىل عليه الجنون.
اغتفروا يل هذه اللهجة التي ال تليق بضيوف مثلكم يستسلمون لليأس ،ولكنكم
ال تعلمون ما يشدد العزم يف قلبي ،إن مشهد اليائسني يدفع بكل إنسان إىل
محاولة مواساتهم وتعزيتهم وهذا ما أشعر به اآلن ،وأنا مدين لكم بهذا الشعور؛
لذلك أقدم لكم ما أملك ،فانزلوا عىل الرحب يف مغارتي هذا املساء وليقم نرسي
وأفعواني بخدمتكم.
ولكن عليكم أن تردوا عنكم كل يأس فأنتم يف منزيل حيث يسود االطمئنان
والسالم.
فأنا إذن أقدم لكم األمان ً
أول ،ثم أقدم لكم خنرص يدي؛ ألنكم إذا ما قبضتم
ً
وسهل بكم. عليه تقبضون عىل ساعدي ،فأنا ال أتردد يف تقديم قلبي لكمً ،
فأهل
هكذا تكلم زارا وهو يضحك ضحكة الحب والرش ،فانحنى الضيوف يردون
السالم بإجالل واحرتام وتكلم ملك امليمنة باسم الجميع ً
قائل :لقد عرفنا أنك أنت
زارا من طريقة تقديم يدك ،وإهداء سالمك لقد تواضعت أمامنا حتى كدت تُخجل
حرمتنا لك ،وما سواك من يعرف التواضع فيقف منه عند حد العزة ،فقد أتيتنا
بقدوة تُصلح من أخالقنا فتسدد نظرنا وتشدد قلبنا.
جبال أعىل من هذا الجبل؛ إذ كان من اعتالئنا ما يبسط
ٍ إننا لن نرتدد يف تسلق
أمامنا مشاهد تقشع الغشاء عن العيون وتجعل برصها حديدًا.
لقد انقطعنا اآلن عن الرصاخ يف طلب النجدة؛ ألن قلوبنا قد تفتحت وامتألت
حبو ًرا ونكاد نستعيد قوانا وشجاعتنا.
319
أي زارا ،ليس يف األرض يشء أدعى إىل الرسور كاإلرادة القوية السامية ،فهي
أرشف ما ينبت الرتاب ،فإذا ما نمت دوحة واحدة من هذا النبات رست القوة يف
كل ما حولها من حدائق ومروج.
إن من يعلو مثلك يا زارا لشبيه بشجرة الصنوبر ترتفع صامتة فريدة صلبة
العود وتمد فروعها القوية الخرضاء كأنها تريد اللحاق بما تنرش من سيادة،
وكأنها تستنطق الرياح والعواصف وكل ما يبدو عىل الذرى العاليات ،وإذا ما
أرسلت جوابًا أرسلته بنربة عالية ظافرة آمرة.
من يرتدد يف تسلق الذروة ليشاهد مثل هذه الدوحة؟ إن كل من يسوده األىس
القاتم يطرح عنه االستسالم إليه إذا هو نظر إىل دوحتك يا زارا ،ويف النظر إليك
طمأنينة من ال قرار له وشفاء القلوب الحائرة.
والحق أن عيونًا كثرية تتجه اليوم نحو جبلك ودوحتك ،وقد تنبهت األشواق
إليك وقد تساءل الكثريون عن حقيقة زارا ،وجميع من وصلت معسوالت أناشيدك
إىل آذانهم ،جميع املنفردين أفرادًا وأزواجً ا يقولون :أترى لم يزل زارا يف الحياة؟
إذا نحن لم نعش معه كانت الحياة باطلة ال خري فيها ،ملاذا ال يجيء إلينا بعد أن
طويل ،أذَ َهب فريسة عزلته ،أم علينا أن نسعى نحن إليه.ً أعلن قدومه
إن العزلة نفسها قد تراخت وتفككت يف هذا الزمان فكأنها قرب ينشق عمن ثوى
فيه ،ففي كل بقعة بعث ونشور.
وها إن األمواج تتعاىل حول الجبل وبالرغم من ارتفاع ذروتك لقد حق عىل
الكثريين أن يرقوا إليك ،وقد حان الزمن إلطالق سفينتك من مأواها.
إذا كنت ترانا اآلن أمامك نحن من حكمنا اليأس فتغلبنا عليه اآلن ،فما ذلك
إال دليل عىل أن من هم خري منا قد خرجوا إىل طريقهم متجهني إليك ،إن البقية
أيضا وهم مَ ن تناهى فيهم الشوقاألخرية من أتباع الله بني الناس يسريون إليك ً
والكره والتخمة من الدنيا ،هم من ال يريدون الحياة إال إذا أعطي لهم أن يتدربوا
320
عىل األمل ،إال إذا تعلموا منك األمل األعظم يا زارا.
هكذا تكلم ملك امليمنة وقد قبض عىل راحة زارا قاصدًا تقبيلها ،ولكن زارا
تراجع عنه ،وابتعد عن الجميع يف صمته العميق ،ثم عاد إليهم يحدجهم بلفتاته
الخارقة لرسائرهم فقال :أيها الرجال الراقون ،أيها الضيوف ،أصغوا إيل َّ إنني
سأخاطبكم باألملانية وبكل رصاحة فأقول لكم :إن من أنتظر قدومه إىل هذه
الجبال ليس أنتم.
فقال ملك امليرسة :إنه سيخاطبنا باألملانية وبرصاحة … أفال يتضح أن هذا
الحكيم الرشقي ال يعرف من هم األملان ،وكان األجدر به أن يقول سأخاطبكم
باألملانية الخشنة ،وما هي بأقبح ما يف هذا الزمان.
ً
رجال راقني أما أنا فال أراكم بلغتم ما فأردف زارا ً
قائل :لقد تكونون جميعكم
يستلزمه التفوق من العظمة والقوة ،هكذا أنتم يف تقديري أو بالحري يف تقدير
اإلرادة الصارمة الكامنة يف نفيس وهي صامتة اآلن ولكنها لن تسكت أبدًا .لقد
تكونون من أتباعي ولكنكم لستم مني يف مقام ساعدي األيمن؛ ألن من يميش عىل
أرجل مريضة كأرجلكم يحتاج إىل عناية ومداراة سواء أعرف نفسه أم خفيت
حاله عليه ،وأنا ال أُداري ساعديَّ وال رجيل َّ وال أداري املجاهدين تحت إمرتي،
فكيف تقتحمون ما أصيل من معارك؟!
إذا أنا اعتمدت عليكم ع َّرضت للفشل انتصاري؛ ألن أكثركم ينطرح رصيعً ا ألول
قرعة تهدر بها طبويل.
ما أنتم من البهاء عىل ما أرجو ،وال من الن َّ َسب عىل ما أطلب ،وأنا أطلب املرايا
الصافية ألعكس عليها تعاليمي ،فإذا ما انعكست صورتي عىل مراياكم جلتها
مشوَّهة للناظرين.
إن كواهلكم مثقلة بعديد األحمال وبخياالت الزمان املنرصم ،ويف خباياكم رشور
كثرية ففيكم من الغوغاء خصا ٌل مسترتة ،فأنتم وإن صلحتم وحسن أصلكم ال
321
تزال فيكم عيوب عديدة وأمهر حدَّاد ال يسعه تقويم اعوجاجكم.
ما أنتم إال جسور يعرب عليها من هم خري منكم ،ما أنتم إال مدارج يرقاها املتجه
إىل االعتالء فوق ذاته ،وعليكم أن تلينوا له ظهوركم ،لقد يولد منكم يومً ا من
يصبح وارثًا يل ،ولكن هذا اليوم ال يزال بعيدًا يف مجال الزمان ،أما أنتم فما لكم
أن تحملوا اسمي وال أن ترثوا خرياتي يف هذه الحياة.
لستم أنتم من أنتظر هنا يف هذه الجبال ،لستم أنتم من سأستصحب عندما
أهبط بني الناس للمرة األخرية ،فما أنتم إال طليعة القادمني إيل َّ وهم أعظم منكم؛
ألنهم من غري من تناهى فيهم الشوق والكره والتخمة من الدنيا ومن غري الفئة
التي تدعونها البقية األخرية من أتباع الله عىل األرض.
ال … وألف ال … إنني أنتظر سواكم هنا عىل جبايل العالية ،ولن أتحرك للخروج
إىل العالم قبل أن يصلوا إيل َّ ،فهم أرفع منكم وأقوى ،هم رجال املرح األصحاء من
رأسهم إىل أخمص أقدامهم ،وال بد أن يأتي إيل َّ هؤالء األسود الضاحكون.
أفما بلغكم أيها الضيوف خرب أبنائي وهم قد خرجوا عىل طريقهم يقصدون
مقري؟
حدثوني عن حدائقي وجزري السعيدة ،حدثوني عن نوعي الجديد ،ملاذا ال
تحدثونني عن كل هذا؟
أستحلفكم بحق ضيافتي لكم أن تذكروا يل أبنائي ،فما جمعت الثروة إال لهم،
وما تحملت للفقر إال من أجلهم فامتنعت عن العطاء.
إنني أفدي بكل يشء هؤالء األبناء وهم النبت الحي ،أدواح الحياة املجسمة ألعز
آمايل.
وتوقف زارا فجأة عن الكالم لتغلب شوقه عليه فأغمض عينيه ،وأطبق فمه
متنصتًا لخفقان فؤاده.
322
وساد الصمت جميع من يف الغار غري أن الع َّراف الشيخ أخذ يرسم بيديه
إشارات غريبة.
323
العشاء السري
قائل :ولكن … أفما أنتوتقدم الع َّراف كمن عيل صربه وقبض عىل يد زارا ً
القائل :إن بعض األمور مقدم عىل بعض ،أفما دعوتني إىل تناول الطعام وهنا من
قطعوا شو ً
طا بعيدًا للوصول إليك ،فهل ترى أن تشبعنا كالمً ا؟
ً
واختناقا ،ولكن لم يذكر أحد منكم ً
وغرقا لقد تحدثتم كثريًا عن املوت بردًا
بليَّتي أنا وهي الخوف من املوت جوعً ا.
وما سمع النرس واألفعوان هذا الكالم حتى سادهما الرعب فهربا؛ إذ تأكدا أن
كل ما جمعاه منذ الصباح حتى املساء لن يكفي إلشباع العراف وحده.
ً
عطشا ،أما أنا وأردف العراف ً
قائل :ولم يذكر أحد منكم الخوف من املوت
فبالرغم من أنني سمعت تدفق الفصاحة كالنهر فإنني ال أرتوي منها بل أطلب
ً
ارتجال ويقيض عىل املرض بالشفاء خم ًرا؛ ألن الخمر وحده يرتجل الصحة
العاجل.
وبينما كان العراف ذاهبًا يف كالمه يطلب خم ًرا كان ملك امليرسة يقول :لقد
تداركت الخمر فأحرضنا منه ً
حمل ولكن الخبز ينقصنا.
فضحك زارا وقال :إن املنفردين ال خبز لديهم ،ولكن ليس بالخبز وحده يحيا
اإلنسان بل بلحم الخراف ً
أيضا ولديَّ خروفان ،فليُذبحا وليعدَّا ليعطرا فإنني
أيضا أعشاب وأثمار تكفي أهل الرشاهة ،وأهل أحب لحم الخروف معط ًرا ،ولدي ً
الذوق وعندي من الجوز وسائر ا ُملغلقات ما يشغلنا كرسه وكشف خفاياه.
سنجلس عما قليل لنتناول خري غذاء ،ولكن عىل الجميع أن يمدوا سواعدهم
أيضا. ً
طباخا ً للعمل وليشتغل امللكان كاآلخرين؛ ألن زارا وهو ملك يمكنه أن يكون
324
وفرح الجميع بهذا االقرتاح ما عدا املتسول املتطوع الذي كان يأنف من اللحوم
والخمور والتوابل ،فقال :اسمعوا ما يقول زارا يف رشاهته! فهل يتسلق اإلنسان
الجبال ليتنعم بوليمة؟ وإنني ألفهم اآلن ما كان يقصد بتعليمه؛ إذ قال :ليكن
الفقر مبار ًكا ،وأدرك ملاذا يريد إفناء املتسولني.
فقال زارا :كن مرحً ا مثيل يا هذا واحتفظ بما تعودته امضغ حبوبك وارشب
ماءك وامتدح طبخك إذا كان هذا يورثك الحبور ،فما أنا أمثل الرشيعة َّإل ألتباعي
ولست رشيعة للناس أجمعني ،ولكن من أراد أن يتبعني فعليه أن تقسو ُ ويل،
طرح عنه الهموم ويبقى عظامه وتخف رجاله ،عليه أن يكون فرحً ا يف الوالئم في َّ
مستعدًا القتحام الصعاب قويًّا صحيحً ا.
إن خري ما يف األرض يل وألتباعي وإذا مُنع عنا أخذناه عنوة واقتدا ًرا ،لنا ألذُّ غذاء
وأنقى سماء وأقوى األفكار وأجمل النساء.
هكذا تكلم زارا ،ولكن ملك امليمنة أجابه ً
قائل :أليس من الغريب أن يقول حكيم
بمثل هذا القول الصواب؟! والحق ملن الغرابة بمكان أن يجمع الحكيم بني األمرين
وال يكون حما ًرا.
هذا ما قاله ملك امليمنة وهو يبدي دهشته فأمَّ ن الحمار عىل قوله بالنهيق،
وهكذا بدأت هذه الوليمة الطويلة التي دعيت بالعشاء الرسي يف كتب التاريخ ،وما
ٌ
حديث أثناء هذا العشاء إال عىل اإلنسان الراقي. دار
اإلنسان الراقي
1
َ
الجنون األعظم الذي يرتكبه املنعزلون، ُ
جئت إىل الناس ألول مرة أتيت عندما
فوقفت عىل الساحة العمومية ،ووجهت الخطاب إىل الكل فكأنني ما كلمت أحدًا،
ٍ
أموات ،بل كنت أنا نفيس جثة باردة. ُ
وجثث غري أنني أمسيت ورفاقي حبا ٌل
325
ٌ
حقيقة جديدة علمتني أن ولكن عندما انبثق الصبح الجديد تب َّلجت لعيني
أقول« :ما يل وللساحة العمومية ولعامة الناس ولضجتهم وآذانهم الطويلة!»
أيها الرجال الراقون ،تعلموا مني قويل :ال يؤمن أحد يف الساحة العمومية
باإلنسان الراقي ،وإذا شئتم أن تتكلموا عىل هذه الساحة كما تشتهون فإن العامة
تتغامز قائلة« :إننا جميعنا متساوون».
أيها الرجال الراقون ،إن طبقة الشعب تنكر اإلنسان الراقي فهي ترى الناس
عىل اختالف طبقاتهم إنسانًا واحدًا أمام الله.
أما املساواة أمام الله فما لنا ولها ما دام هذا اإلله قد مات! ولكن العامة كائنة
ونحن نأبى املساواة أمامها ،فأعرضوا عن العامة أيها الرجال الراقون ،وابتعدوا
عن ساحاتها.
2
أمام الله! … ولكن الله قد مات يف هذا الزمان أيها الرجال الراقون ،وقد كان
عليكم الخطر األعظم ،ولوال اندراجه يف لحده ملا كنتم أنتم تبعثون.
يف هذا الزمان تعود الظهرية إىل ذ ِّر أنوارها ،ويصبح اإلنسان املتفوق سيدًا.
أفهمتم معنى كلمتي هذه يا إخوتي؟ أراكم ترتعشون فهل أصيب قلبكم
فاها أمامكم ً
أيضا؟ أيعوي كلب الجحيم يف إثركم بالدوار؟ وهل فغرت الهاوية ً
يا ترى؟
إىل األمام أيها الراقون ،لقد آن لطود املستقبل اإلنساني أن يلد.
لقد مات الله ،ونحن نريد اآلن أن يحيا اإلنسان املتفوق.
3
إن أوفر الناس اهتمامً ا يف هذا الزمان يتساءلون عما يحفظ حياة اإلنسان ،أما
326
زارا فهمُّ ه أن يعرف كيف يتفوق اإلنسان عىل إنسانيته.
إن اإلنسان املتفوق قبلة أنظاري وعواطفي ،وما أهتم لإلنسان وال للقريب وال
للفقري وال للمحزون وال لخيار الناس.
أيْ إخوتي ،أنا ال أحب من اإلنسان إال كونه مرحلة وجنوحً ا ،وفيكم ً
أيضا أجد
ٍ
صفات عديدة تحببكم إيل َّ وتبعث اآلمال يف قلبي.
لقد عرفتم االحتقار أيها الراقون ،وذلك ما يشدد بكم أميل ألن عظماء املحتقرين
أيضا عظماء الحرمة والجالل.هم ً
لقد بلوتم اليأس وذلك ما أُك ِّرمه فيكم؛ ألنكم لم تتمرنوا عىل االستسالم وعىل
دناءة االحتياط.
إن زعانف القوم هم سادة هذا الزمان الداعون إىل التجلد والصرب والتواضع
والتحذر والثبات وإىل ما هنالك من حقريات الفضائل.
إنهم ألشباه الرجال يتصفون بصفات النساء واملستخدمني ويقودون الغوغاء
وأف لهؤالء القوم أشباهطامحني إىل التسلط عىل مقدرات الدنيا ،فيا للكراهة! … ٍّ
الرجال ،فإنهم ال يَنون يتساءلون عما يطيل حياة اإلنسان متلذذًا متنعمً ا ،وبهذا
يسودون هذا الزمان.
اعتلوا فوق هؤالء الناس يا إخوتي فإنهم أل ُّد أعداء اإلنسان املتفوق.
اعتلوا أيها الراقون فوق صغائر الفضائل واملحاذرات ومراعاة ذ َّرات الرمال
وأكوام النمل وملذات الذات وطلب السعادة للعدد األوفر بني الناس.
وخري لكم أن تتمنعوا بيأسكم من أن تستسلموا ،إنني أحبكم ألنكم ال تعرفون
أن تحيوا يف هذا الزمان ،أيها الراقون ،وبذلك تتمتعون بأفضل ما يف الحياة.
327
4
أشجعا ٌن أنتم أيها اإلخوة؟ وال أعني تلك الشجاعة التي ال تنجيل يف اإلنسان إال
أمام شهود ،بل شجاعة املنفرد الذي ال يراه أحد :شجاعة النسور التي لم يعد لها
من إله شهيد!
إن األرواح الجامدة والبغال والعميان والسكارى ال تعرف ما هي قوة القلب وما
ثَب ُْت الجَ نان إال من عرف الخوف فتغ َّلب عليه ومَ ن سرب أعماق الهاوية ،فما نالت
ٍ
بروعة واضطراب. األعماق جَ نانه
الشجاع من حدَّق يف القاع السحيق بمقلة النرس ،ومن قبض عىل األغوار بمخلبه،
ذلك هو الشجاع.
5
لقد قال الحكماء إن اإلنسان رشي ٌر طلبًا لتعزيتي ،ويا ليت هذه الحقيقة تنطبق
عىل أحوال هذا الزمان ،فإن الرش قد أصبح خريَ ما يف اإلنسان من قوة ،فعىل املرء
أيضا ،هذا هو تعليمي أنا … فإن أعظم رش إنماأن يزداد ارتقاء يف خريه ويف رشه ً
هو أعظم خري لإلنسان املتفوق.
إن الدعوة إىل احتمال العذاب وحمل خطايا العالم كانت تليق ببشري الطبقة
الحقرية بني البرش ،أما أنا فإنني أرس بالخطيئة العظمى كأعظم تعزية.
عىل أن مثل هذه األقوال ال تُبذل ملن استطالت آذانهم ،وما تليق كل الكلمات
بجميع األفواه ،فإن من الحقائق ما تدق عن األفهام العادية فتتوارى وراء األبعاد،
وليس ألرجل الخرفان أن ترتاكض ل ِّلحاق بها.
6
أيها الراقون ،أتعتقدون أنني أتيت ألصلح ما شوهتم بأخطائكم؟ أو ألهتم
بتهيئة املراقد الوثرية للمتأملني منكم أو ألد َّل التائهني يف الجبل عىل املغاور
328
ليخرجوا من مآذقهم؟
ال … فليذهب إىل الفناء الخيا ُر يف نوعكم؛ إذ يقتيض أن يتزايد ضيقكم مع كرور
األيام؛ ألن بهذا الضيق وحده يتعاىل اإلنسان إىل الذرى حتى يبلغ مرامي الصاعقة
املحرقة القاتلة.
أنا ال أتوجه بتفكريي وأشواقي َّإل نحو العديد القليل ونحو الحادثات الدائمة
البعيدة يف مجال األزمان وما يهمني شقاؤكم وآالمكم الحقرية الزائلة.
إنكم ال تزالون مقرصين يف مجال الشقاء ،وما بلغت آالمكم ما عليها أن تصل
إليه؛ ألنكم من أجل ذاتكم تتأملون ال من أجل اإلنسان ،وإن ادعيتم بتحملكم هذا
العذاب فأنتم كاذبون ،فليس بينكم واحد تحمل ما تحملت من أوصاب وآالم.
7
إنني لن أرىض بتوقف الصاعقة عن إنزال األذى ،وال أريد أن تتحول عن مسلكها
حني تنقض ،بل أريد أن تسدد مرماها وتخدم مقاصدي.
ً
طويل ،وتكاثفت غمامة يتزايد اربدادها وسكونها ذلك لقد تجمعت حكمتي
شأن الحكمة التي ُقدر لها أن تقذف بالصاعقة يومً ا من األيام.
أنا ال أريد أن أكون نو ًرا ألبناء هذا الزمان ،وال أن أُدعى نو ًرا ما بينهم؛ ألنني أريد
إيراثهم العمى ،فلتنزل عىل أعينهم صاعقة حكمتي.
8
ال تطلبوا شيئًا يفوت قواكم إدراكه ،فمن طلب ما ال طاقة له به فقد كذَّب نفسه؛
ألنه إذ يطلب العظائم وهو مزور ومقلد تنفر منه العظائم حتى يرى ذاته زائغ
البرص جمادًا مطليًّا يف فمه كلمات كربى وبني يديه قرقعة ال جدوى لها.
كونوا عىل حذر من طالب العظائم أيها الرجال الراقون ،فالقناعة خري الكنوز.
329
أفليست العامة من يسود هذا الزمان؟ وهي مع ذلك ال تميز بني العظيم والحقري
والطريق السوي واملسلك امللتوي ،فالعامة متقلبة كاذبة دون أن تشعر بجريمة
كذبها.
9
تمنعوا بالحزم أيها الراقون ،يا رجال الشجاعة وحرية الضمري فهذا الزمان
زمان العامة ،وما تعلمته العامة وقبلت به دون تعليل ال يسعكم هدمه بالربهان
يف عقيدتهم.
إن اإلقناع ال يقوم يف الساحة العامة عىل املعقول بل عىل الحركات والنربات ،وال
يشء يلقي بالنفور يف روع العامة كالربهان.
وإذا انترصت الحقيقة مرة هنالك فتساءلوا بكل ارتياب عن الضالل الذي دافع
عنها فأوالها انتصارها.
أيضا فإنهم يكرهونكم لعلة عقمهم ،وعيون العلماء باردة احذروا العلماء ً
جافة ال تلقي نظرها عىل طري حتى تعريه عن ريشه ،إنهم يباهون بامتناعهم
عن الكذب ،فاحذروا من هذه املباهاة؛ ألن املجال بعيد بني من عجز عن اإلتيان
بالكذب ومن أحب الحقيقة.
إن فقد الحرارة يشء ورزانة الحكمة يشء آخر ،وال ثقة يل بالعقول الباردة ،فمن
ال يعرف أن يكذب ال يعرف ماهية الحقيقة وال كيفيتها.
10
إذا أردتم بلوغ الذرى فتسلقوها بأرجلكم ،وال تطلبوا أن تُحملوا إليها ً
حمل عىل
ظهور َ
الغري ورءوسهم.
تنس َّ
أن رجلك العرجاء راكبة قل ملن يمتطي جوادًا ويسري خببًا نحو هدفه ،ال َ
معك ،ولسوف ترتجل يف آخر الشوط فتهوي عىل ذروتك إىل الحضيض.
330
11
أيها الرجال الراقون ،أنتم املبدعون وال تحمل املرأة يف أحشائها إال ابنها ،ال
طا ،اعلموا من هو القريب وال تظنوا أن بإمكانكم أن تفعلوا من أجله ترتكبوا شط ً
شيئًا كما ال يمكنكم أن تبدعوا بالنيابة عنه.
أعرضوا عن كلمة «من أجل» وتناسوها أيها املبدعون؛ ألن فضيلتكم تتوقف عىل
أال تفعلوا شيئًا من أجل أحد وبسبب أحد أو ألية علة ،أصموا آذانكم دون هذه
األدوات الكاذبة.
إن العمل من أجل القريب فضيلة صغار القوم ،وقد جرى بينهم القول بالتبادل
وبأن إحدى اليدين تغسل األخرى ،ومثل هؤالء ال حق لهم بأنانيتكم وال قوة لهم
عىل االتصاف بها.
إن يف أنانيتكم ،أيها املبدعون ،حزم الحبىل ومحاذرتها؛ ألن محبتكم تحيط
بالثمرة التي لم ترها عني بعد ،فتحفظها وتمدها بالغذاء ،فإذا ما كان حبكم كله
منصبًّا عىل ولدكم تج َّلت يف ذلك كل فضيلتكم؛ ألنه هو واجبكم وإرادتكم فال
تضللكم كاذبات الرشائع.
12
ٌ
مريض ،وأن كل من ولد قد اعلموا أيها الراقون املبدعون أن كل من سيل ِد
تنجَّ س.
سلوا النساء لتعلموا أن ال لذة يف التوليد؛ فالدجاج تبيض صائحة والشاعر يبدع
متأ ًملا.
لقد ح َّل بكم نجس الوالدات أيها املبدعون.
كل مولود جديد يأتي برجس إىل العالم ،فعىل كل مبدع أن يطهر نفسه.
331
13
إياكم وممارسة الفضائل بما ال طاقة لكم به ،وال تكلفوا نفوسكم ما يستحيل
حكمً ا.
اقتفوا ما أبقت فضائل آبائكم من آثار؛ إذ كيف يتسنى لكم االرتقاء إذا لم
ترتق معكم إرادة آبائكم ،ولكن ليحذر الطامح إىل بلوغ الطليعة أن يصبح آخر ِ
السائرين ،احذروا أن تدخلوا أية قداسة عىل رزائل آبائكم ،فمن العبث أن يطالب
بالعفة من تمرغ آباؤه بالنساء وكرعوا الخمر والتهموا لحم الخنازير.
إنكم لتطلبون كثريًا إذا اقتضيتم العفاف من مثل هذا الرجل؛ فحددتم له امرأة
أو اثنتني أو ثالث ،أما أنا فال أصدق بارعوائه حتى ولو أنشأ دي ًرا وكتب عىل بابه:
«هذه طريق القداسةْ ».
إن هذا الدير إال ملجأ ومقر ملحاوالت الجنون ،فما ينمو يف
العزلة من اإلنسان إال ما استصحبه إليها من حوافز ،وهنالك املجال لنمو الحيوان
الكامن.
من الخري أن نردع الكثريين عن العزلة واالنفراد.
هل عىل وجه األرض يف هذا الزمان من يفوق ً
دنسا القديسني املتنسكني يف
الصحراء يدور حولهم الشيطان من جهة والخنزير من جهة أخرى؟ …
14
ما رأيتكم مرة تنتحون مكانًا قصيًّا عن الناس وقد بدت عليكم دالئل اليأس
والخجل ،أيها الرجال الراقون ،إال وتمثَّلتُكم كالنمر فات فريسته أو كالالعب خانه
الزهر عىل صفحة نرده.
ولكنكم ال تبالون فإنكم ما تعلمتم إجادة اللعب والتحدي! وهل نحن يف الحياة
إال جُ َّلس مائدة كربى للسخرية واملقامرة.
أألنكم أخطأتم وفاتتكم املقاصد العظمى تريدون أن تفوتوا أنفسكم ،وألنكم
332
فشلتم تريدون أن يفشل اإلنسان؟
15
كلما تعالت ا ُملثل صعب تحقيقها ،أفما أنتم أيها الرجال الراقون نماذج فاشلة
للمثل األعىل؟
ولكن ال تبالوا بهذا بل أقدموا واضحكوا من أنفسكم؛ إذ ال عجب يف أنكم نماذج
فاشلة أو نصف فاشلة؛ ألن نصفكم منحطم ،ومستقبل اإلنسان يسري سريه
البطيء وهو يتكامل فيكم.
أفما يتدافع ويغيل يف مراجلكم أبعد وأعمق ما يف اإلنسان؟ أفما يكمن فيكم
اعتالؤه إىل السهى وقوته العظمى؟
وهل من عجب إذا تصدعت مراجل عديدة من بني البرش؟ فاضحكوا يا أهل
الرقي فما أكثر املمكنات يف مستقبل اإلنسان!
أفما نجحت محاوالت عديدة فيما مىض ،ول َكم عىل األرض من أمور بلغت
كمالها وإن صغرت.
أحيطوا نفوسكم بهذه األشياء الصغرية املتكاملة فإنها تنيل قلوبكم الشفاء
بنضوجها ،فال يشء يعلمنا األمل إال ما بلغ الكمال.
16
إن أعظم ما ارتُكب يف العالم من أخطاء هو قول القائل« :ويل للضاحكني يف
هذه الدنيا ».فإن من جاء بهذا اإلنذار قد َّ
قص يف التفتيش فما وجد عىل األرض
شيئًا يستحق الضحك يف حني أن األطفال يجدون ما يضحكهم.
لقد كان حب هذا النذير قصري املدى فما اتصل إلينا منه يشء نحن الضاحكني،
بل إنه أبغضنا ووجه إلينا لعنته وهو يتهددنا بالبكاء ورصيف األسنان.
333
أفليس من فساد الذوق أن يندفع اإلنسان إىل اللعن إذا هو لم يحب؟ هذا ما فعله
ذلك النذير ألنه ابن العامة املتعصب ،ولو أنه عرف الحب ملا كان احتدم غضبًا ألنه
ً
محبة … بل تطلب أكثر من املحبة. ٍ
محبة تتناهى ال تطلب لم يحب ،فك ُّل
ابتعدوا عن جميع هؤالء املتعصبني فهم نوع من اإلنسانية مريض فقري ،هم من
العامة التي تزوغ نظراتها من الحياة وتصيب األرض بس ِّم أعينها.
ابتعدوا عمن ال يعرفون التساهل فإن خطواتهم ثقيلة عىل الرتاب ،وقلوبهم
مثقلة يف الصدور ،إنهم ال يعرفون الرقص فكيف ال يثقل عليهم الرتاب.
17
إن جميع األشياء الحسنة تسري نحو أهدافها عىل منعرجات السبيل فرتفع
ظهورها كالهررة هادرة ملا تتوقع من سعادة قريبة املنال ،فاألشياء الحسنة
تضحك أبدًا.
لك أن تعرف من خطوات الناس إذا كانوا ظفروا بطريقهم السوي ،فانظر إىل
ً
راقصا فاعلم أنني اقرتبت من هديف. خطواتي تدرك حايل ،وإذا رأيتني
ً
تمثال وال انقلبت عامودًا ال حياة وال حس فيه ،فأنا والحق أنني ما استحلت
أحب الجري يف املجال البعيد؛ ألن يف األرض مستنقعات كثرية ومعاثر ال تجتازها
إال األرجل الراقصة املنزلقة.
ارفعوا قلوبكم إىل ما فوق أيها اإلخوة ،ولكن ال تنسوا أرجلكم؛ إذ عليكم أن
أيضا وإذا أردتم إجادة الرقص فعليكم أال تأنفوا من االنقالب عىلترفعوها ً
رءوسكم.
18
ض َفرتْه من الورود يداي ،وليس
بإكليل َ
ٍ أنا املتوِّج نفيس مل ًكا عىل الضاحكني
سواي من يقوى عىل تطويب ضحكة كما فعلت.
334
الرقاص ،الخفيف الخطوات الضارب بجناحيه متحف ًزا لالنتفاض إىل أنا زارا َّ
األعايل مشريًا إىل جميع الطيور بنرش أجنحتها ،أنا من بلغ الرشاقة اإللهية.
أنا زارا العراف ،أنا الضاحك الصبور املتسامح املحب للوثوب وتجاوز املحدود،
أنا املتوج نفيس بنفيس.
19
ارفعوا قلوبكم إىل العال ،إخوتي ،وال تنسوا أن ترفعوا أرجلكم أيها الراقصون
املجيدون ،بل انتصبوا عىل رءوسكم ً
أيضا.
إن بني طالب السعادة حيوانات ضخمة ثقلت حركتها ،وبينهم من ولد كسيحً ا
فمثل هؤالء يحاولون الرشاقة كالفيل يجرب أن ينتصب عىل قمة رأسه ،غري
ً
متثاقل أفضل ممن أن املجانني بالسعادة خري ممن يجنُّون بالشقاء ،والراقص
يتعارج يف مشيته.
تعلموا الحكمة مني ،إن ألقبح األشياء وجهتني لهما حسنهما ،ولرش الناس
رجلني للرقص فتعلموا أيها الرجال الراقون أن تقفوا سويًّا عىل أقدامكم.
أعرضوا عن أشجان العامة وأحزانهم ،فإن للمهرجني بينهم يف هذا الزمان
سيماء الغارقني يف األحزان؛ ذلك ألن هذا الزمان زمان العامة من بني اإلنسان.
20
ً
راقصا عىل هواه فريتعش كونوا كالهواء املندفع من مغاور الجبال فهو يهب
ً
مرتاقصا لدغدغة نسماته. البحر
تبارك من يستنبت أجنحة للحمري ومن يمد أنامله لرضع اللبؤة فيحتلبهاْ ،
إن
هو إال الروح الطيب الثائر يهب كالعاصفة من أجل ما هو عتيد ومن أجل ما
إن هو إال عدو الرءوس الشائكة والرءوس املنثلمة عدو كل األعراش سيكونْ ،
الذابلة وكل ما دبَّ فيها الفساد.
335
ً
طليقا يرقص عىل مستنقعات تبارك روح العاصفة روحً ا وحشيًّا طيبًا ح ًّرا
األحزان كأنه يتمايل منها عىل نارضات املروج .تبارك من روح يكره الغوغاء
املستكلبني الفاقدين الصواب وكل ناقص يتعزز بالعبوس.
تهبُ الحيا َة لكل فكرة حرة ،تبارك من زعزع تبارك روح العاصفة من قوة ِ
يذري الرمال وهو ضاحك عىل عيون مقروحة ال ترى يف الوجود إال قتامً ا.
أيها الرجال الراقون ،إن رش ما فيكم هو أنكم لم تتعلموا الرقص عىل أصوله؛
لتتوصلوا إىل االنطالق بخطواتكم فوق رءوسكم ،وما يضريكم َّأل تتوفقوا إذا
حاولتم.
إن املمكنات كثرية ،أيها الراقون ،فتعودوا أن تضحكوا ولو عال ضحككم فوق
رءوسكم.
ارفعوا قلوبكم أيها الراقصون املجيدون إىل ما فوق ،وال تنسوا أن تضحكوا
ً
جميل. ضح ًكا
ُ
طوبت الضحك أيها إنني ألقي إليكم بإكليل الورود فهو تاج الضاحكني ،لقد
الرجال الراقون فتعلموه …
336
نشيد األشجان
1
وعندما لفظ زارا الكلمات األخرية من خطابه رأى نفسه أمام مخرج غاره فرتك
ضيوفه وانطلق يستنشق الهواء النقي ً
هاتفا :يا للنفحات الطيبات ويا للسكينة
السعيدة ،تعاليا إيل َّ يا نرسي وأفعواني وقوال يل أراقتْكما رائحة هؤالء الرجال
الراقون .إنني أشعر اآلن بمقدار حبي لكما.
إنني أحبكما يا نرسي وأفعواني.
طويل ،وبقي الثالثة يستنشقان هواء ً
بليل ً ودار الحيوانان حول زارا وحدقا به
ال يظفرون بمثله يف مجلس الرجال الراقني.
2
ً
مرسل نظرات التجسس ما وما خرج زارا من الغار حتى وقف الساحر الشيخ
حوله وهو يقول :لقد أُخيل املكان.
فيا أيها الرجال الراقون وما أدعوكم بهذا النعت إال تشبهً ا بزارا يف ثنائه عليكم،
فإنه ما كاد يخرج هو حتى عاد فاستوىل عيل َّ روحي الخداع املاكر الساحر وما هو
إال شيطان أشجاني .العدو اللدود لزارا فال تلوموا هذا الشيطان إذا طمح إىل إبداء
رضوب سحره أمامكم وقد اجتاحته نوبة من نوباته ولطاملا حاولت مقاومتها بال
جدوى.
إن روحي الرشير عد ٌّو لزارا وهو صديقكم جميعً ا ،سواء أَدُعيتم رجال الفكر
الحر أم رجال الحق أم رجال كفارة العقل أم رجال الثورة أم رجال الشوق
األعظم أنتم املصابني بما أُصبت به من الكراهة العظمى ،أنتم املؤمنني بأن الله قد
337
مات دون أن يكون عىل أحد األرسة إله آخر تشده األقمطة يف طفولته.
إنني أعرف من أنتم يا أهل الرقي ،وأعرف ً
أيضا من هو زارا الذي أتوجه إليه
قديسا سينبثق منه ،ويلوح يل أحيانًا أنه هيكل
ً بحبي مرغمً ا؛ ألنني أحس بأن
يسكن فيه شيطا ُن األشجان فأحبه ً
أيضا لحلول روحي الرشير يف رسيرته.
لقد أوشك هذا الروح أن يستويل عيلَّ ،وها هو ذا يرصعني ،فيا له من شيطان
يتقمص أشجان الغسق!
افتحوا أعينكم أيها الراقون ،إن هذا الروح يتجسد وال أدري أيظهر عاريًا يف
هيئة رجل أم يف هيئة امرأة.
لقد بدأ ستار العتمة ينسدل حتى عىل خري األشياء.
أعريوا سمعكم وحدقوا ،أهو رجل أم امرأة هذا الروح ،روح أشجان املساء.
هكذا تكلم الساحر الشيخ ،ثم أدار لحاظه فيمن حوله وقبض عىل قيثارته.
3
عندما يعتل الهواء ،ويتساقط الندى املعزي دون أن تراه العيون ،وما تسقط
األنداء إال خفية ككل عزاء.
أفما تذكر أيها القلب امللتاع كم ظمئت إىل دمع السماء ،إىل قطرات األنداء؟
لقد كنت منهو ًكا يرهقك السغب والشمس تلقي أشعتها عىل األعشاب الصفراء
مرتاكضة حولك من خالل األدواح القاتمة فتبهرك يف روغانها ،وتلقي يف روعك
أنك تائق إىل الحقيقة ،وما هي إال خادعة ساخرة.
ً
مشوقا. ال … ما أنت إال شاعر ولست إىل الحقيقة متطلعً ا
ما أنت إال حيوان وحيش زحاف عليه أن يتفوه بالكذب ،حيوان مفجوع بالغنائم،
يُسدل عىل وجه قناعً ا تعددت ألوانه ،وهو نفسه قناع لقناعه وغنيمة لفجعته.
338
أأنت يا هذا طالب حقيقة وحق؟
ال … ما أنت إال مجنون ،ما أنت إال شاعر.
ً
مرتاكضا إنك تتكلم باالستعارات والتشابيه ،وترتفع عقريتك مُقنعً ا بوجه معتوه
عىل معابر من كاذبات البيان تائهً ا عىل أقواس ُق َزح مزيفة تحت آفاق ال حقيقة
لها.
إنك تائه يرتاكض يف كل مكان.
ما أنت إال مجنون ،ما أنت إال شاعر!
•••
أأنت طالب حقيقة وحق؟
تمثال إلهي يلتمع يف صقيعه ،وليس له جالل هذا التمثال وال
ٍ ُ
مسخ ما أنت إال
صمته منصوبًا عىل مدخل بيت الله.
ما أنت إال عدو كل هيكل مشي ٍد للفضيلة فمرسحك القفار حيث تشب ح ًّرا
رصت يف مسكن قفزت من نوافذه مستسلمً ا لتصاريف الحدثان َ ً
طليقا ،وإذا ما حُ
ذاهبًا بهدير شهوتك يف مجاهل الغاب بني الوحوش الكارسة الرقطاء الجميلة
متوحشا زحَّ ًافا كاذبًا.
ً كاملعصية وقد قطرت أشداقها َش ً
بقا ودماء فترسح بينها
ً
طويل يف األغوار حتى إذا الحت الخرفان أو أنت أشبه بالنسور التي تحدق
َّ
انقضت عليها .إنها لعدوة الخراف وكل من له نظراتها وصوفها يف مراعيها
ووداعتها.
•••
ما شهوة الشاعر إال شهوة النرس والنمر.
تلك هي شهوتك املقنَّعة بألف ٍ
وجه أيها املجنون ،أيها الشاعر!
339
نظرت إىل اإلنسان كأنه نعجة فم َّزقت الله فيه كما مزقت النعجة وأنت
َ لقد
تقهقه ضاح ًكا.
تلك هي لذتك ،أيها الشاعرْ ،
إن هي إال لذة نرس ونمر ،لذة شاعر ومجنون.
ُ
جنحت يومً ا يف الهواء البليل جنوح الهالل الحسود عىل وهج أنوار الغروب، لقد
هاربًا من النهار عدوه اللدود متواريًا عن شجريات الورود إىل أن يغمرها الظالم
ماحيًا أشباحها.
ُ
جنحت فيما مىض جنوح الهالل هاربًا من جنون الحقيقة وشهوة أجل لقد
النور ،تعبت من النهار ومن أضوائه فانحدرت ً
عليل نحو املغرب إىل مطارح
الظالم ،وقد أحرقتني الحقيقة بسعارها.
أفما تذكر أيها القلب امللتاع ِم َ
حنة تع ُّ
طشك يف ذلك الحني؟
ً
سحقا لها. ما يل وللحقائق جميعها،
ما أنا إال مجنون ما أنا إال شاعر.
340
المعرفة
هذا ما أنشده الساحر ،موقعً ا يف رشاك نغمه الغدَّار الحزين جمي َع من حوله ما
عدا صياد العلقة املقيَّد بضمري العقل ،فإنه لم يقع كاآلخرين بل نهض واختطف
مت هواء الغار يا هذا. ً
صارخا :لقد سمَّ َ القيثارة من يد الساحر
جددوا الهواء ،أدخلوا زارا إلينا.
إن سحرك أيها املراوغ يدفع بالناس إىل الشهوات ومجاهل القفار ،ويا لشقائنا
إذا كان أمثالك يتكلمون عن الحقيقة ويُولونها أهمية ،وويل لألفكار الحرة إذا
كانت ال تحذر الساحرين ،إنها لتفقد حريتها بإهمالها.
إنك تدعو للرجوع إىل السجون وتقتاد الناس إليها أيها الشيطان الحزين ،ففي
أنينك دعو ٌة مسترتة ،فما أشبهك بمن يمجدون العفاف فيجيء تمجيدهم دعوة
إىل امللذات!
هكذا تكلم صاحب ضمري العقل ،غري أن الساحر كان يجيل أبصاره يف مَ ْن
حوله ،وهو يتنعَّ م بظفره فتتغ َّلب لذته عىل حنقه من خصمه ،وأخريًا نظر إليه
ً
قائل بلطف :إن األغاني الجميلة تثري خري األصداء ولذلك يجب أن يعقبها السكوت
يتنصتون ،ويلوح يل أنك لم تفهم شيئًا
َّ الطويل ،أفما ترى هؤالء الرجال الراقني
من نشيدي؛ ألن تفكريك محصور يف دائرة السحر.
فأجاب صاحب الضمري :إنك تثني عيل َّ باإلقرار بالفرق بينك وبيني ،وحسنًا
فعلت ،ولكن أنتم أيها الراقون ،ما يل أراكم وأنتم ذوو النفوس الحرة ساكتني
ٍ
غانية عارية متهتكة ،فإذا بروحه ترتقص يف داخله؟! ً
طويل إىل رقص كمن تطلع
أفليس فيكم أيها الراقون القوة التي ال تنال منها خزعبالت الساحرين؟!
341
ً
طويل قبل أن ولكنني أراكم يف وادٍ وأنا يف واد ،لقد تسنى يل أن أتحدث إليكم
عاد زارا إىل مغارته فعرفت أنني معكم عىل خالف ،فأنتم ال تطلبون ما أطلب عن
عقيدة راسخة ،وما جئت إىل زارا إال ألنني أعلم أنه معقل اإلرادة الثابتة التي ال
تتزعزع يف هذه األزمان التي يتصدَّع فيها كل يشء ويتداعى.
أما أنتم فإن نظراتكم تدل عىل أنكم تطلبون الريبة وتتشوَّقون إىل الشك،
فتودون لو يزيد االرتعاش وتعم الزالزل األرض لتزداد حياتكم اضطرابًا ،فما
أتخوف منه أنا تَتُوقون أنتم إليه فتستهويكم حياة الوحوش يف الغابات واملغاور.
إنكم لتنفرون ممن يدعوكم إىل اجتناب األخطار فال تأنسون إال إىل املضللني
الساحرين.
ولكن اعلموا أن هذه األماني الكامنة فيكم لن يكون لها أن تتحقق؛ ألن الخوف
شعور غريزي أويل ٌّ يف اإلنسان يفرس كل يشء ،ويجلو حقيقة الخطيئة األصلية
والفضيلة األصلية ،وفضيلتي أنا قد نشأت عن الخوف واسمها «العِ لمُ».
طويل يسوده الفزع من الحيوانات الكارسة وبينها الوحش ً لقد عاش اإلنسان
الكامن فيه والذي يدعوه زارا «الحيوان الداخيل» ،وقد استحال هذا الخوف مع
كرور الزمان إىل ذُعر روحي يدعى «عِ لمً ا».
هكذا تكلم صاحب ضمري العلم ،وكان زارا قد عاد إىل الغار وسمع نهاية
الخطاب ،فأخذ ينثر أوراق الورد عىل رأس صاحب الضمري وهو يهزأ به ً
قائل:
ماذا أسمع؟ والحق أنك مجنون َّ
وإل كنت أنا مجنونًا ،لذلك أبادر إىل إنزال الحقيقة
عىل رأسك دفعة واحدة ،فاعلم أن الخوف شذوذ يف اإلنسان؛ ألنه ما نشأ يف األصل
إال مفطو ًرا عىل الشجاعة طمَّ احً ا إىل تقلبات الحدثان مأخوذًا بلذة الشك ،مدفوعً ا
القتحام املجهول ،فالشجاعة أُوىل عواطف اإلنسان؛ إذ استهوته فضائل الضواري
وأشد الحيوانات عزمً ا وإقدامً ا ،فما عتم حتى غنم هذه الفضائل منها وهكذا صار
إنسانًا.
342
ويلوح يل أن هذه الشجاعة الراقية الوثابة إنسانية بجناح النرس وروغان األفعى
تدعى اليوم …
فضحك جميع الحارضين وهتفوا بصوت واحد :تدعى زارا.
وارتفع من بني الحشد يشء أشبه بالغمامة السوداء وتوارى ،فبدأ الساحر
أيضا وهو يقول :لقد خرج روح الرشير مني ،أفما دعوتكم إىل الحذر بالضحك ً
منه عندما أعلنت لكم أنه روح م َّكار مخادع كذاب ،ويتناهى مكره بخاصة عندما
يتجىل عاريًا ،ولكنني أعجز من أن أقاوم سحره ،فما أنا مَ ن َخ َلقه وما أنا مَ ن َخ َلق
العالم.
فلنعد اآلن إىل صالحنا ورسورنا .انظروا إىل زارا فإن يف عينيه قتامً ا وأراه ناقمً ا
عيلَّ ،غري أنه لن يثبت عىل نقمته حتى يجيء الظالم فسوف يسرتجع حبه ويعود
طويل دون أن يرتكب مثل هذا الجنون. ً مثنيًا عيلَّ؛ ألنه ال يستطيع البقاء
ُ
صادفت يف حياتي أقدرهم يف هذا الفن ،ولكنه إن زارا يحب أعداءه وهو بني مَ ن
يف سبيل حبه ألعدائه ينتقم من أصدقائه.
فصفق له الحارضون حتى اضطر زارا إىل الدوران َّ هكذا تكلم الساحر الشيخ
ٍ
بعاطفة تمازج رشُّها بحبها، يف غاره وهو ينفض راحتيه متربمً ا من أصحابه
فكأنه يحاول عذر الناس واالعتذار إليهم يف آن واحد ،وعندما وصل إىل مخرج
الغار شاقه الهواء الطلق وتذكر نرسه وأفعوانه فاندفع طالبًا الخروج.
343
بين غادتين في الصحراء
1
قائل :ال تذهب َ
ابق بيننا؛ لئال وعندئذ صاح املسافر الذي دعا نفسه خيال زارا ً
تك َّر علينا أحزاننا بعد أن تو َّلت عنا ،فقد أغدق علينا الساحر رشَّ ما عنده حتى إن
رئيس األحبار الوافر التقوى بدا يسكب الدمع من عينيه ويتوه يف بحر الشجون،
وليس بيننا من احتفظ بحزمه غري هذين امللكني لتعودهما التحكم بسيمائهما،
ولو أنهما كانا عىل انفراد لكانت تبدو عليها أالعيب الغيوم وتعصف ريح الخريف
ً
إعوال ونواحً ا .ابق هنا يا زارا ،ال تذهب فهنا ويالت خفية باكية فوقهما فنسمع
تريد أن تتكلم ،هنا ظلمات وغيوم وهواء كثيف يضغط عىل الصدور.
لقد بذلت لنا الغذاء اإلنساني وأتيتنا باآليات تتدفق قوة ً
وأمل ،فال تسمح أن
تجتاحنا يف ختام هذه الوليمة روح الرتاخي والكسل.
ليس لسواك أن ينفخ حولنا هواء القوة والنقاء ،فإنني ما نشقت يف العالم ما
يهب عيل َّ يف غارك من لفحات صافيات ،وقد جبت األقطار ومررت بمعاطيس عىل
أجواء وأجواء فما راقني شمي ٌم إال حيث تقيم.
ألصدقن القول ،لقد راقني مرة مثل هذا الشميم من قبل عندما أنشدت ما أُوحي
َّ
إيل َّ بني غادتني يف الصحراء حني مألت صدري من نسمات الرشق املشبعة عط ًرا
يف صفائها وأنا بعيد عن أوروبا الهرمة تكدر جوها الغيوم وترهقها رطوبتها
وأشجانها.
ذلك زمان عشقت فيه غادتي الرشق يف صحرائه ،فهنالك سماء غري هذه السماء
ال تتلبد فيها الغيوم وال تعتكر عىل أديمها األفكار.
344
إنكم ألعجز من أن تتصوروا سحر هاتني الغادتني وهما معرضتان عن الرقص
جالستان ويف سكونهما أجمل حركات الفنون ،وقد كمن الفكر يف صدرهما
أشكال وألوانًا فال يعروها قتام ،وهكذا األلغاز
ً فكأنهما أرسا ٌر وألغاز تتماوج
املستسلمة ملن يحل مكنونها.
لقد أُوحي إيل َّ هذا النشيد للتشبيب بغادتي الصحراء.
ً
مجال ليجاوبه أحد فقبض عىل هكذا تكلم املسافر املدعو خيال زارا ،ولم يدع
ساقا عىل ساق وهو يحدج من حوله بنظرات تشع حكمة ولف ً قيثارة الساحرَّ ،
ووقا ًرا ،وقد انفتحت أرنبتا أنفه تنشقان الهواء مليًّا ،فكأنه غريب يف بالد بعيدة
يتنسم أجواءها.
وبدأ ينشد بصوت يزأر زئريًا:
2
إن الصحراء تتسع وتمتد فويل ملن يطمح إىل االستيالء عىل الصحراء.
يا للمهابة :يا للبداية تليق بمهابة صحراء إفريقيا.
تليق بأسد أو بنذير يهيب بالناس إىل مكارم األخالق.
ط عليكما يا صديقتي عندما اتيح يل أنا ابن أوروبا أن أجلس إنها لروعة لم تس ُ
عند أقدامكما تحت ظالل النخيل .حيَّا عىل الصالة!
•••
يا للعجب!
ماثل أمام الصحراء ،ولكنني عنها ج ُّد بعيد ،وما ابتلعتني الواحاتً أراني
الصغرية ،بل انفرجت أمامي كأطيب الثغور نكهة فارتميت فيها ،وها أنذا عند
صديقتي العزيزتني .حيَّا عىل الصالة!
َّ أقدامكما يا
345
•••
إنني أمجد تلك الواحة إذا كانت ع َّززت مَ ن نزل فيها …
وأنتما تدركان ما يف رموزي من الحكمة.
طوبى ألحشائها إذا كانت كهذه الواحة ،ولكنني أشك يف ذلك فأنا قادم من
أوروبا ،أشد العرائس جحودًا.
أصلحها الله إنه السميع املجيب.
•••
ها أنذا جالس يف ظالل أصغر الواحات فما أشبهني بتمرة سمراء َّ
مذهبة،
تتشوَّق إىل ثغر كاعب يفرتُّ عن أسنان محددة ناصعة كالثلج ،وهل تحلم قلوب
التمر امللتهبة إال بمثل هذه الثغور؟ حيَّا عىل الصالة.
•••
ما أشبهني بهذه التمور عند الظهر ،تتطاير حولها الهوام املجنَّحات وتدور
بي شهوات أصغر من هذه الهوام وأشد منها جنونًا ورشًّا ،وإىل جانبي «دودو
وزليخا» صامتتني كأبي الهول.
إنني أنشق نسمات الجنان والهواء حويل مفضض بأشعة ما أرسل القمر مثلها
يف األجواء ،فهل أرسلها صدفة أم عن قص ٍد كما قال الشعراء األقدمون؟
أما أنا فأشك فيما قيل ألنني ٍ
آت من أوروبا ،وهي أشد العرائس جحودًا أصلحها
الله إنه السميع املجيب.
إنني أنشق الهواء ملء معاطيس وليس يل أمس وال غد ،فأجلس مع ِّل ًقا أبصاري
ً
طويل عىل ِرجل عىل النخلة وهي تتأوَّد وتتثنى وتهز ردفها ،فكأنها راقصة دارت
واحدة ،حتى ال يسع من يراها إال أن يقلدها ،ولعلها نسيت أن لها ِر ً
جل ثانية.
346
فتشت عبثًا عىل هذه الرجل الصغرية الساحرة تحت األردان الخافقة،
ُ وقد
عزيزتي ،إن هذه الرجل األخرى قد ذهبت يف سبيلها.
َّ صدقاني يا
وياله! أين استقرت تلك الرجل التائهة؟ وأين حطت رحالها؟ ولعلها اآلن
وحيدة منفردة ترتجف َف َر ًقا من هجمات وحش كارس أو أسد أصفر تجعَّ دت
لبدته ولعلها اآلن ممزقة إربًا .حيَّا عىل الصالة!
•••
عزيزتي فقلبكما رقيق وصدركما يد ُّر حنانًا.
َّ ال تبكيان يا
أيْ زليخا ،كوني كالرجال وتشددي ،وأنت دودو الشاحبة ال تذريف الدمع بعد.
ولكن ال بد يف هذه األرجاء من قوة تشدد القلوب ،ال بد من ٍ
آيات تفوح عط ًرا
وتتسامى ً
جالل.
•••
ارتفع يا مظهر الجالل ،ولتهب مرة أخرى نسمة الفضيلة.
ويا ليت أسد الفضائل يزأر ً
أيضا أمام غادات الصحراء فزئري الفضيلة يا بنات
الصحراء ،أقوى ما ينبه أوروبا ويحفز بها إىل النهوض.
ها أنذا ابن أوروبا ،ال يسعني إال الخشوع واالنتباه لدوي هذه اآليات البيِّنات.
وقد توكلت عىل الله.
إن الصحراء تتسع وتمتد ،فويل ملن يطمح إىل االستيالء عىل الصحراء …
347
االنتباه
1
وبعد أن أنشد ك ٌّل من املسافر والخيال نشيده ضجَّ الغار بالحركة والضحك،
فأخذ الجميع يتكلمون يف آن واحد حتى الحمار نفسه ،فوقف زارا غاضبًا ساخ ًرا
بضيوفه بالرغم من ترسب يشء من فرحهم إىل قلبه؛ إذ رأى يف هذا الحبور أول
أعراض الشفاء ،فانسحب إىل خارج الغار ،وبدأ يخاطب نرسه وأفعوانه ً
قائل :أين
ذهب يأسهم ،أراهم نسوا ذلك اليأس عندي ولكنهم لم ينسوا الرصاخ بعد.
وسد زارا أذنيه؛ إذ تعاىل نهيق الحمار يزيد يف جلبة هؤالء الرجال الراقني.
وقال :إنهم فرحون ولعلهم تعلموا مني ،ولكن ضحكتهم ليست ضحكتي.
ال بأس فهم شيوخ يمثلون إىل الشفاء بالذهاب عىل سبيل َّ
تخيوه ،ولقد احتملت
أذناي من قبل أشد من هذه الجلبة وهذا الصخب.
إنه ليوم انتصار هذا اليوم؛ ألن الروح الكثيف يرتاجع إىل الوراء وهو عدوي
اللدود ،لقد بدأ هذا النهار شؤمً ا ولعله ينتهي إىل خري.
ها إن املساء قادم ممتطيًا جواده قاطعً ا البحار عىل رسجه األرجواني.
إن السماء تحدجه بلفتات الحبور واألرض ترتاخى عىل أرسارها ،فالحياة
ً
ضيوفا عيلَّ. تستحق االهتمام قربي أيها النازلون
وإذ دارت الجلبة يف الغار أردف زارا ً
قائل :إنهم تعلموا الضحك لنفسهم فقد
فارقهم الروح الكثيف ،وهذا تأثري غذائي وآياتي ،والحق أنني ما قدمت لهم من
األغذية ما تنتفخ به األحشاء ،بل ما يليق باملجاهدين فنبهت فيهم شهوات جديدة.
348
أمل جديدًا ،وقد تمددت قلوبهم فوجدوا بيانًا
ها إن سواعدهم وأقدامهم تمتلئ ً
جديدًا يو ِّلد املرح يف تفكريهم.
وما أجهل أن مثل هذا الغذاء ال يُبذل لألطفال وال للنساء املرتاخيات سواء َّ
أكن
عجائز أم صبايا ،فإن لألطفال والنساء عالجات غري هذا العالج إلقناع أمعائهم
وما أنا بطبيبهم وال بالقوَّام عليهم.
لقد تخىل هؤالء الراقون عن اشمئزازهم ويف ذلك ما أعده ظف ًرا يل ،لقد أحسوا
أنهم يف مأمن عندي فتع َّروا عن كل حياء سخيف ،وها هم يعربون بإخالص عما
يشعرون.
إنهم يفتحون قلوبهم ويعودون إىل أويقات الصفا ،ويجرتُّون ممتنني واالمتنان
خري دليل عىل الرجوع إىل الصواب ،فلن يطول الزمان حتى يرفعوا األنصاب
لذكرى أفراحهم القديمة.
ْ
إن هم إال ناقهون!
هكذا تكلم زارا وقد استوىل عليه الفرح ودار حوله نرسه وأفعوانه محرتمني
سعادته وسكونه.
2
وبعد هنيهة اضطربت أُذنا زارا النقطاع الجلبة من الغار وقد ساد فيه سكوت
املوت ،ولكن رائحة عطرية انترشت منه كأن هنالك مجمرة تُحرق فيها رءوس
الصنوبر.
وتساءل زارا عما يفعل القوم يف غاره ،وتقدم نحو الباب فإذا به يشاهد أم ًرا
من أغرب األمور فصاح :لقد عادوا إىل التقى ،فهم يؤدون شعائر الدين ويصلون،
لقد جنوا!
وكان جميع من يف الغار جاثني عىل ركبهم كاألطفال والعجائز يعبدون الحمار.
349
وبدأ أقبح العاملني يهدر ويتلوى ويستعد للرتنم ،وما عتم حتى بدأ ينشد ً
قائل:
املجد والحكمة واملنة والثناء والقوة إللهنا إىل أبد اآلبدين.
فجاوبه الحمار بنهقة مستطيلة.
– إنه يحمل أثقالنا ويقوم بخدمتنا ،فهو الجلود الصبور الذي ال يرد طلبًا ،ومن
أحب إلهه أدَّبه برصامته.
فجاوبه الحمار بنهقة.
– إنه صموت ال ينهق إال إيجابًا لطلبات العالم الذي أبدع ،فهو يمتدح عامله وإذا
سكت فما سكوته إال ملكره؛ ألنه ال يستهدف للخطأ.
فجاوبه الحمار بنهقة.
– إنه يمر وال من يأبه له يف الحياة ،فلون جلده رمادي يسرت به فضيلته ،وإذا
كان له عقل فهو يسرته لذلك يؤمن الجميع بأذنيه الطويلتني.
فجاوبه الحمار بنهقة.
– يا للحكمة الخفية! ويا لصاحب األذنني الطويلتني! ال يجيب إال باإليجاب،
وال يرد طلبًا أفما خلق العالم عىل صورته ومثاله فجاء العالم عىل أشد ما يكون
حماقة وسخافة؟
فأجاب الحمار بنهقة.
ً
وطرقا ملتوية ،وما يهمك ما يدعوه الناس استقامة – إنك تتبع ً
طرقا مستقيمة
والتواء ،فإن ملكوتك قائم ما وراء الخري والرش فرباءتك هي جهلك للرباءة.
فأجاب الحمار بنهقة.
– انظر كيف أنك ال تدفع أحدًا عنك ،فتقبل الصعاليك كما تقبل امللوك ،وتدع
األطفال يأتون إليك ،وإذا ما جاءك الخطاة استقبلتهم بنهقة الرتحيب.
350
فأجاب الحمار بنهقة.
– إنك تحب األُنثى والتني الناضج فلست متصعِّ بًا يف غذائك فال تأنف من قضم
الشوك إذا جعت ،ويف هذا كمنت حكمتك اإللهية.
ً
مصدقا بالنهيق. فأجاب الحمار
351
عيد حمار
1
وعند هذا املقطع من املدائح عيل صرب زارا؛ فبدأ ينهق هو ً
أيضا ،واندفع إىل
ً
صارخا :ماذا تفعلون يا أبناء الناس. وسط ضيوفه وقد استوىل عليهم الجنون
وتقدم يرفعهم الواحد بعد اآلخر عن الحضيض ً
قائل :الويل لكم لو رآكم أحد
غري زارا ،إذن لحكم الكل عليكم بأنكم يف دينكم الجديد من أفظع املجدِّفني أو من
ً
تخريفا وجنونًا. أشد العجائز
أنت يا رئيس األحبار كيف تسني لك دون أن تجحد نفسك وأن تعبد حما ًرا
كأنه إله؟!
فأجاب الحرب الكبري :عفوك يا زارا ،إنني أعرف منك بأمور الله ،ومن الحق أن
ً
مطلقا ،تمعَّ ن يف كلمتي أكون هكذا ،وخري لنا أن نعبد الله يف حمار من َّأل نعبده
هذه أيها الصديق العظيم يتضح لك أن فيها كثريًا من الحكمة.
إن من قال« :إن الله روح ».قد خطا الخطوة العظمى نحو الجحود ،وليس من
السهل إصالح ما تفسده مثل هذه الكلمة يف العالم.
إن فؤادي يرتقص فرحً ا؛ إذ بقي عىل األرض يشء يمكننا أن نعبده.
تقي ما يشعر به.
اغتفر يا زارا لرئيس أحبار ٍّ
والتفت زارا إىل املسافر والخيال ً
قائل :وأنت يا من تدعي الفكر الحر ،بل من
تتصور إنك فكر حر ،كيف تمثِّل هذا الدور الغريب وتتعبد للوثن؟!
إنك تفعل اآلن ما لم تفعله بني الغادات السمر ذوات الدالل يا من اتخذ لنفسه
352
عقيدة جديدة!
فأجاب املسافر والخيال :األمر محزن وأنت مصيب ،ولكنني عاجز عن اإلتيان
بأي عمل فإن اإلله القديم قد بُعث فقل ما تشاء يا زارا.
إن السبب يف هذا كله هو أقبح العاملني؛ فهو باعث اإلله ولو قال إنه هو قاتله
فليس موت اإلله إال عقيدة ال ترتكز عىل يشء.
فقال زارا :وأنت أيها الساحر القديم املراوغ ماذا فعلت؟ من سيؤمن بك بعد
اآلن يف أزمنة الحرية هذه إذا كنت تؤمن بمثل هذه الحماريات اإللهية.
َ
أقدمت عليها وأنت عىل ما تعلم من املهارة واالحتيال؟! لقد أتيت حماقة فكيف
فأجاب الساحر :لقد أصبت فما ُ
أتيت إال حماقة ،ولقد كلفتني جهدًا كبريًا.
فقال زارا :وأنت يا ضمري العقل ،تفكر وضع إصبعك يف أنفك ،أفما يبكتك
ضمريك عىل ما فعلت ،أفما تدنس فكرك من هذه العبادة ومن هذا البخور
املتصاعد؟!
فوضع ضمري العقل إصبعه يف أنفه وأجاب :إن يف هذا املشهد شيئًا يرتاح له
ضمريي ،وقد ال يكون يل الحق بأن أعبد الله غري أنني أرى أن إلهً ا عىل هذه
الشاكلة يستحق اإليمان.
يجب أن يكون اإلله خالدًا بحسب ما شهد به األتقياء ،فمن كان له مثل هذا
الزمان الطويل له أن يمنح نفسه خري األزمان ،وأن يعيش عىل مهل وبالسخافة
التي تحلو له ،فيبلغ الهدف الذي يريد ومن له الفكر املتجاوز حده يميل إىل
السخافات وإىل الجنون.
أفال ترى يا زارا أنك مع َّرض بإفراط حكمتك إىل أن تصري حما ًرا.
أفال يتجه الحكيم إىل السبل املتعرجة ،وهال تجد يف نفسك ما يثبت هذه
الحقيقة؟
353
ونظر زارا إىل أقبح العاملني فإذا به لم يزل منطرحً ا عىل األرض وهو يقدم
للحمار خم ًرا ليرشب ،فقال له :ماذا أنت فاعل؟ لقد تبدلت يا هذا فعينك تشع
نو ًرا ،وقد اتشح قبحك بُ ْرد الجالل .أصحيح ما يقوله رفاقك؟ أأنت بعثته من
املوت؟ وما الذي أهاب بك إىل إحيائه؟ فهل َ
كنت عىل خطأ عندما قتلته وألحقته
بغابر الزمان؟
إنني أراك أنت راجعً ا إىل االنتباه بعد غفلتك ،فماذا فعلت وملاذا هديت نفسك؟
تكلم أيها الرس الغامض.
فقال أقبح العاملني :ما أنت إال لئيم يا زارا ،وأنا أسألك فأجب من منا أعلم فيما
إذا كان هذا اإلله ال يزال حيًّا أم أنه مات حقيقة.
غري أنني أعلم كما علمتني فيما مىض أن من يريد أن يقتل ً
قتل ال حياة بعده
يلجأ إىل سالح الضحك فالغضب ال يقتل ،أفما قلت هذا يا زارا أنت املسترت ،أنت
الهادم بال غضب والقديس الخطر فما أنت إال لئيم.
2
ودهش زارا ملا سمع من أجوبة فاندفع إىل باب غاره ،ووقف هنالك يصيح
بأشد نرباته :ملاذا تخفون رسائركم أمامي ،أيها الطائشون ،أفما ارتعشت قلوبكم
ً
أطفال أي من أهل التقى ،ففعلتم فعل األطفال وضممتم يف صدوركم ألنكم عدتم
أكف الرضاعة قائلني« :أيها اإلله الصالح العزيز».
أال فاخرجوا اآلن من غرفة األطفال ،إن مغارتي قد شهدت اليوم جميع أالعيبهم،
اذهبوا وتأملوا خارجً ا يف طيش طفولتكم ويف نبضات قلوبكم.
ً
أطفال فال تدخلون ملكوت السماوات (قال هذا ال ريب يف أنكم إذا لم تعودوا
ورفع إصبعه نحو السماء).
ً
رجال ال فقالوا :ال … ال نريد أن ندخل ملكوت السماوات؛ ألننا وقد أصبحنا
354
نطلب يف غري األرض ملكوتًا.
3
واستأنف زارا الخطاب فقال :أيْ أصدقائي الجدد ،أيها الرجال الغريبو
األطوار ،أنتم أيها الراقون إنني ألعجب اآلن بكم ،لقد عاد رسوركم إليكم فتوردت
وجوهكم ،وقد حق لكم كأزهار جديدة أن تعيِّدوا فأقمتم للحمار حفلة؛ إذ أردتم
أن ترسوا وأن يجيء زارا املرح بجنون شيخوخته لينري أرواحكم.
ال تنسوا هذه الليلة وهذا العيد ،أيها الرجال الراقون فقد أبدعتم فيما اخرتعتم
يوجد مثل هذه األعياد إال الناقهون؛ ألنها نذير الشفاء.
وما ِ
فإذا ما احتفلتم بهذا العيد عيد الحمار ،فاصنعوا هذا محبة بأنفسكم ومحبة
بي ،اصنعوا هذا لذكري …
هكذا تكلم زارا …
355
نشيد الثمل
1
وبينما كان يتكلم خرجوا الواحد تلو اآلخر إىل الهواء الطلق وقبض زارا عىل
ذراع أقبح العاملني ،وخرج به لرييه مشاهد الليل والشالالت املتدفقة قرب غاره
مفضضة بشعاع القمر ،وأمام هذه الشالالت وقف جميع هؤالء الشيوخ وقد
ترسب العزاء إىل قلوبهم فشدد عزائمهم ،وكان كل منهم معجبًا بذاته ،وقال زارا
يف نفسه ،لكم تشوقني رؤية هؤالء الراقني اآلن.
وعندئذ وقع أغرب حادث شهده القوم طوال يومهم؛ إذ رأوا أقبح العاملني
ً
مفتشا عىل كلمات لبيانه ،فإذا به يتناول مسألة خطرية ذهبت تهز أحشاء يهدر
السامعني.
قال :أيها األصحاب ،هذه ألول مرة أحيا فيها الحياة كلها بيوم واحد ،فقد كفاني
هذا العيد بصحبة زارا ألتعلم محبة األرض ،فيمكنني اآلن أن أقول للموت :أهذه
هي الحياة؟ إذن أعدني إليها مرة أخرى.
أفال تريدون أيها األصحاب أن تقولوا للموت ما أقوله له أهذه هي الحياة إذن
أعدنا إليها من أجل محبة زارا مرة أخرى.
هكذا تكلم أقبح العاملني وكان الليل قد قارب االنتصاف.
وأحس الرجال الراقون عندئذ بأنهم تحولوا عما كانوا عليه ،وقاربوا الشفاء
وعلموا أن زارا قد بدل من حالهم فأقبلوا عليه يلثمون راحتيه حبًّا واحرتامً ا
فضحك بعضهم وبكى البعض اآلخر ،وكان الساحر القديم يرقص طربًا ،ولعله
ثامل منكان مأخوذًا بالسكر ،عىل ما ينقله بعض الرواة ،ولكنه وال ريب كان ً
356
حياته الجديدة بعد أن تخىل عن حياة الرتاخي والكسل ،وقال بعض الرواة :إن
الحمار نفسه بدأ يرقص متأث ًرا مما سقاه أقبح العاملني ،وقد ال يكون الحمار
استسلم للرقص يف ذلك املساء فليس لألمر أهمية ما دامت الحوادث الجسام التي
وقعت حينذاك تفوت ما لرقص الحمار من شأن.
إن من آيات زارا قوله :وأية أهمية لهذا.
2
وعندما نطق أقبح العاملني بما ذكرنا كان زارا يف حالة اضطراب شديد؛ إذ انعقد
لسانه وارتجفت ركبتاه وتماوت نظره ،ومن يدري ما كان يدور حينذاك يف خلده،
فكأنه كان يذهب بفكره مدًّا وجز ًرا ويتحفز للطريان ،وقد شخص إىل األبعاد
ًّ
مطل من الذروة عىل بحرين أو سائ ًرا كغمام كثيف بني الدابر واملقبل من الزمان.
وأحاط الراقون بزارا يسندونه بسواعدهم إىل أن ثاب رشده إليه فدفع عنه
القوم املسارعني إىل تمجيده دون أن يقول شيئًا ،ولكنه شخص كما يسمع صوتًا،
فوضع سبَّابته عىل شفتيه ورصخ :تعالوا …
وساد الصمت ودوت من بعيد رنَّة جرس ،فتنصت زارا ومن معه ،ثم عاد يقول
وقد وضع سبابته عىل شفتيه ثانية :تعالوا … تعالوا … لقد اقرتب نصف الليل.
َّ
وتغيت نربات صوته ،ولكنه ظل يف موقفه.
وعاد السكوت يثقل عىل الكل حتى عىل الحمار والنرس واألفعوان والغار والقمر
الباهت والليل نفسه.
ورفع زارا سبابته للمرة الثالثة إىل شفتيه وقال :تعالوا … تعالوا … هيا فقد
دنت الساعة ،هيا بنا إىل الليل.
3
أيها الرجال الراقون لقد انتصف الليل ،ولسوف أ ُ ِ ُّ
س إليكم بما أرسه إيل َّ الجرس
357
القديم يف رنينه.
ُ
جرس نصف الليل القديم سأناجيكم بالرهبة واإلخالص الذين ناجاني بهما
البالغ من العمر ما ال يبلغ اإلنسان الفرد.
لقد ع َّد هذا الجرس من قلوب آبائكم نبضاتها فهو يزفر ساعة نصف الليل
زفريًا ،ويرسلها ضح ًكا يف قلب الظالم.
أنصتوا! إن من األشياء ما ال تُعلن يف نور النهار أما يف هذه الساعة وقد اعتل
الهواء ،وسكنت ضوضاء قلوبكم فإن األشياء تتناجى وتتفاهم وتتسلل إىل أرواح
السمر فيمتد بها ويطول ،فاسمعوا زفري ساعة الليل وضحكها يف أحالمها.
أفال تسمعها أنت تناجيك برهبة وإخالص ،أفال تسمع ما تقول ساعة نصف
الليل يف قِ دَمها وعمقها؟
أيها اإلنسان كن عىل حذر!
4
ُ
وقعت يف آبار ال قعر لها. ترسب الزمان؟ أفما
ويل يل! أين َّ
لقد نامت الدنيا ،وياله إنني أسمع هرير الكلب ،وأرى ملعان القمر ،إنني ِّ
ألفضل
املوت عىل أن أبوح لكم بما يعتقده فؤادي عن نصف الليل.
لقد مت ُ
وقيض أمري!
ملاذا تمدين نسيجك حويل أيتها العنكبة ،أتطلبني دمً ا؟ وياله لقد تساقطت
األنداء ودنت الساعة ،الساعة التي سأرتجف فيها بردًا وأتحول منها إىل جليد،
الساعة التي تسأل وتسأل وال تكف عن السؤال قائلة :من سيجرأ عىل هذا؟ من
سيكون سيد العالم ،من يرىض ويريد أن يهتف باألنهار كبريها وصغريهاِ ،سريي
عىل ما أقرر لك.
358
لقد دنت الساعة أيها اإلنسان الراقي ،فكن عىل حذر إن هذا الخطاب موجه إىل
مرهفات األسماع ،إىل أسماعك.
ماذا يقول نصف الليل يف أعماقه؟
5
إنني محمول إىل هنالك ،وروحي ترقص يف كل يوم! من سيكون سيد العالم يا
ترى؟
لقد نور القمر وسكن الهواء ،وا أسفاه ،هل تسنى لكم أن ترتفعوا بطريانكم،
لقد رقصتم ولكن الساق ليست جناحً ا.
أيها املجيدون يف رقصكم ،لقد انقىض زمن الحبور فاستحال الخمر إىل خمرية،
لقد فرغت الكئوس وعلت همسات القبور.
إنكم لم تبلغوا األعايل يف طريانكم لذلك تنادي القبور« :أنقذوا األموات ،ملاذا طال
بنا الليل؟ فهل أسكرنا شعاع القمر؟»
َ
الديدان ما فيا أيها الراقون أنقذوا القبور ،ما لكم ال تُنهضون األموات ،كفى
رعت! لقد دنت الساعة.
ال يزال الجرس يدوي برنينه فالقلب يزفر زفرات االحتقار ،إن سوس القلب
ينخر شغافه.
وياله! ما أعمق هذا العالم.
6
أيتها القيثارة! ل َكم أُحب نغمات أوتارك كأنها تتعاىل من بعيد ومن الزمان
املنرصم عن ضفاف نهر الغرام.
قرعت قلبَك األحزا ُن ،أحزان
ْ ما أنت أيها الجرس إال هذه القيثارة املشجية فل َكم
359
اآلباء واألجداد والسلفاء األقدمني ،حتى أنضجت دعوتك األزمان فغدت كالخريف
املذهب وكقلبي املنفرد ،فأصبح صوتك كالمً ا والعالم نفسه قد نضج كالعناقيد
لوَّحها االسمرار فهو يريد أن يموت َّ
مكفنًا بحبوره.
أفما تنشقون يا رجال الرقي عبريًا يضوع خفيًّاْ ،
إن هو إال عبري األبد ،رائحة
خمرة السعادة املعتَّقة ،السعادة الثاملة بشوقها إىل املوت املطلقة إنشادها يف
نصف الليل قائلة :إن العالم عميق ،إن العالم أعمق مما كان يظن النهار.
7
دعني … دعني ،إنني أطهر من أن تمسني يدك وقد أُكمل عاملي ،دعني أيها
ً
إرشاقا؟ النهار األحمق العبوس الثقيل ،أفليست ساعة نصف الليل أشد منك
يجب عىل األطهار أن يسودوا العالم وهم املجهولون األقوياء تكمن فيهم أرواح
نصف الليل املشعة بأنوار أعمق وأصفى من أنوار النهار.
أيها النهار ،إنك حويل وتراود سعادتي؛ ألنك تجد يف َّ أنا املنفرد ينبوع كنوز ال
تفنى.
أنت تطلبني ،أيها العالم ،وما أنا بالعاملي وال بالديني وال باإللهي ،ما أثقلك أيها
النهار وما أثقلك أيها العالم!
لتذهب أيديكما عىل هدًى ،لتذهب قابضة عىل سعادة أعمق وشقاء أعمق،
لتذهب مستولية عىل أحد اآللهة ولتدعني وشأني.
أيها النهار ،إن سعادتي عميقة وشقائي عميق ،ولكنني لست إلهً ا ولست حتى
جحيم ٍ
إله ،وما أعمق أوجاع العالم!
8
أيها العالم الغريب ،إن أوجاع اإلله أعمق من أوجاعك فاقبض عىل أوجاع اإلله
ودعني وشأني ،فما أنا إال قيثارة تفيض عذوبة وسح ًرا.
360
أنا قيثارة نصف الليل ،أنا جرس ال يفهم أحد بيانه وعليه أن ينطق أمام الصم،
وأنتم أيها الراقون ال تفهمون ما أقول.
لقد ُقيض األمر وتوارى الشباب مع الظهرية والعرص ،فحان وقت املساء وأقبل
الليل ونصف الليل ،وهذا الكلب وهذا الريح كالهما يعوي.
وهل الريح إال كلب ي ُّ
نئ ويعوي ،فيا لصوت الريح من زفري وضحك وحرشجة
عند انتصاف الليل.
إنها لشاعرة سكرى تجاوزت حدود النشوة وطال سهدها ،هذه الساعة القديمة
تداعب أوجاعها عند نصف الليل وتداعب ً
أيضا مرساتها ،واملرسة عند اشتداد األلم
ً
وعمقا. تفوق األلم شد ًة
9
ملاذا تمتدحينني ،أيتها الكرمة ،أفما قطعت جفنتك بقساوة؛ فقطرت دمً ا فما
لثنائك يتجه إىل قسوتي الثاملة؟
أسمعك تقولني :كل يشء بلغ كماله ونضوجه يطلب املوت تبارك منجل الكرام،
فما يتمسك بالحياة إال ما لم يبلغ النضوج بعد.
وانقض ،ولكن املتألم يطلب الحياة قاصدًا أن ينضج ِ إن األلم يقول لنفسه م َّر
متشوقا إىل األبعد واألعىل واألشد صفاء ،فكل منً ويصبح مرحً ا مليئًا بالشهوات
يتحمل العذاب يصيح« :أريد َو َرثة يل ،إنما مقصدي هو أوالدي ال أنا ».يف حني أن
املرسة ال تطلب ورثة وال أوالدًا .ال تقصد املرسة إال ذاتها وال تتشوق إال إىل الخلود،
إىل عودة األشياء بعد عبورها وإىل كل ما يشبه ذاته مستق ًرا إىل األبد.
يقول األلم :انحطم يا هذا ،اقطر دمً ا أيها القلب اذهبي أيتها الساق وتطاير أيها
الجناح بعيدًا نحو األعايل فما أنت إال آالم وأوجاع.
ِ
وانته … فهيا إذن يا قلبي الهرم ما دامت اآلالم تقول لك م َّر
361
10
أنبي أنا أم متوهم أم ثامل أم معرب
أيها الرجال الراقون ما تراكم تحسبونني؟ ٌّ
أحالم أم جرس يدوي يف نصف الليل؟
أأنا ندى أم بخور من األبدية؟
أفما سمعتم؟ أفما شعرتم بأن عاملي قد اكتمل؟
إن نصف الليل هو الظهرية ً
أيضا.
إن األلم لذة واللعنة بركة والليل شمس مرشقة.
ابتعدوا كيال يقال عنكم ً
أيضا إن الحكيم مجنون.
إذا كنتم أحسستم بفرح فقد أحسستم ً
أيضا بجميع األتراح ،فجميع األشياء
متسلسلة متداخلة متعاشقة.
أفما اشتهيتم أن تعود املرة مرتني فهتفتم ارتياحً ا للذة لحني من الدهر ولطرفة
عني؟ إنكم بهذا التمني وددتم لو تعود األشياء جميعها متسلسلة متداخلة
متعاشقة ،وهكذا أحببتم العالم ،أيها الخالدون ،فكان حبكم أبديًّا ال نهاية له.
قلتم لآلالم أن تنقيض ولكنكم دعوتموها لتعود؛ ألن كل لذة تطلب الخلود.
11
ً
عسل وخمريًا وساعة ثاملة يف نصف إن اللذات تطلب الخلود لكل يشء ،فرتيد
الليل ،تريد قبو ًرا وتريد الدموع تنسكب مؤاسية عىل القبور والشمس الجانحة
بنورها الذهبي إىل الغروب.
وأي يشء ال تتشوق اللذة إليه؟! فهي أشد ظمأ وجوعً ا من األلم وفيها ما ليس
فيه من روعة وأرسار ،فاللذة تطلب ذاتها وتنهش ذاتها ،فهي إرادة تناضل يف
بغضا ،تتمتع بالسعة فتجود وتقذف بما تبذل،حلقة مفرغة ،تريد حبًّا وتريد ً
362
تسول لتهب نفسها وتشكر من يأخذها ،فهي تشتهي أن تُقابل بالبغضاء.
ً تتسول
اللذة املتمتعة تشتهي األوجاع واالحرتاق يف الجحيم والعار وكل ما عراه التشويه،
فهي تلتهب بظمأ الحياة ،وما خفيت عنكم الحيا ُة يف هذا العالم.
إن اللذة الثائرة السعيدة تشتاقكم أيها الراقون ،وتحن إىل آالمكم أيها الفاشلون؛
ألن اللذة األبدية تتشوق أبدًا إىل كل محاولة فاشلة ،فهي تطلب ذاتها إذ تطلب
األلم.
انحطم أيها القلب فأنت اللذة وأنت األلم.
تعلموا هذا أيها الراقون :إن اللذة تطلب الخلود.
إن اللذة تطلب الخلود لجميع األشياء ،خلودًا ال نهاية له.
12
أتعلمتم نشيدي اآلن! أأدركتم مغزاه؟
هيا إذن أيها الرجال الراقون ،ترنموا بهذا النشيد ،فهو نشيدي وعنوانه «مرة
أخرى» ومعناه «مدى األبد».
تغنوا جميعً ا بنشيد زارا
أيها اإلنسان ،كن عىل حذر
ماذا يقول نصف الليل؟
ً
طويل للوسن لقد استسلمت
وها أنذا انتبه من رقادي
إن العالم جد عميق
فهو أعمق مما يعتقد النهار
363
وآالمه عميقة
واللذة أعمق من اآلالم
وانقض
ِ يقول األلم :م َّر يا هذا
ولكن ليس من لذة ال تطلب الخلود
خلودًا ال نهاية له!
364
النذير
ويف صبيحة اليوم التايل نهض زارا من مرقده فش َّد حَ ْقويه بنطاق ،وخرج من
غاره ملتهبًا قويًّا كالغزالة التي كانت حينذاك تذر قرنها من وراء الغمام.
وانتصب زارا يناجي الشمس كما ناجاها من قبل ً
قائل« :لو لم يكن لك من
تنريين ،أكانت لك غبطة أيتها املقلة املتوهجة بأنوار السعادة».
أفما يعز عليك أيها الكوكب العظيم أن يبقى من تنري يف مكامنهم وأنت طالع
لتهب األنوار وتنرشها عىل العاملني.
لقد نهضت أنا أما هؤالء الرجال الراقون فال يزالون مستغرقني يف نومهم،
أفيكون هؤالء الرجال رفاقي الصادقني؟ ال ليسوا هم من أنتظر بني هذه الجبال.
أريد أن أبدأ عميل من أول نهاري وهم يجهلون نذير صباحي وصوت أقدامي
ال ينذرهم بالرشوق.
إنهم راقدون يف غاري ولم تزل أحالمهم ترتوي من نشيدي يف نصف الليل،
فليست آذانهم باآلذان املرهفة لسماع أقوايل.
وكان زارا ذاهبًا يف نجواه والشمس تصعد يف األفق فإذا به يسمع رصخة
نرسه عىل الذرى فقال :لقد انتبه معي نرسي وأفعواني للتسبيح أمام الشمس يف
رشوقها ،فالنرس يقبض بمخلبه عىل النور الجديد ،إنني أحب الحيوان الصادق
ولكن أين رجايل الصادقون؟!
ويف ذلك الحني أحس زارا كأن زرافات من الطيور تدور به ،واشتد حفيف
األجنحة حول رأسه حتى اضطر إىل إغماض عينيه ،فإذا به يشعر بوقع سهام
عليه كأنها مفوقة من قوس عدو جديد ،وما كانت تلك الوخزات إال مداعبة طغمات
365
الحب للحبيب الجديد.
فقال زارا يف نفسه وقد استولت الحرية عليه :ما أل َّم بي يا ترى؟
وقعد باحرتاس عىل الحجر الكبري أمام باب غاره ،وبدأ يلوِّح بيديه لريد عنه
الطيور املتدافعة بحنانها إليه ،ولكنه شعر بأن راحتيه تغوران يف لبد ٍة وسمع من
ملمس يديه زئري أسد ،زئريًا ملؤه اللطف والحنان.
فصاح زارا :لقد جاء اإلنذار.
وأحس بقوة تبدِّل من قلبه ،ففتح عينيه فإذا بوحش ضخم أصفر اللون ممدد
عند قدميه ،وقد أسند رأسه عىل ركبتيه كأنه كلب وجد صاحبه القديم فالزمه ال
يريد عنه انفكا ًكا.
وكانت أرساب الحمام ال تزال تتطاير حول زارا ،وإذا أصاب جناح أحدها َ
أنف
ً
مندهشا ويستغرق يف ضحكه. األسد كان األسد يهز رأسه
عند هذا املشهد لم يقل زارا غري كلمة واحدة« :لقد اقرتب أبنائي ».وصمت
صمتًا عميقا ،غري أنه أحس بسقوط حمل ثقيل عن قلبه فانهمرت دموعه غزيرة
تب ُّل راحتيه ،وذهل عن كل ما حوله ال يبدي حرا ًكا فجاءت طيور الحمام تقع عىل
كتفيه وتداعب شعره األبيض وال تني تغدق عليه عطفها وحنانها ،وكان األسد
ً
مجففا ما عليهما من دموعه وهو يزأر مستم ًرا يف إرسال لسانه عىل راحتي زارا
ً
متمهل خاشعً ا.
وطال هذا املوقف ولعله لم يطل فليس ملثله عىل األرض من زمان.
وكان الرجال الراقدون نهضوا من رقادهم يف هذه األثناء وتهيَّئوا للخروج إىل
زارا ليقدموا له تحية الصباح ،ولكنهم ما أطلوا من باب الغار حتى وثب األسد
وهجم عليهم ،وهو يزمجر فرصخوا جميعً ا والذعر يمأل روعهم وتراجعوا ثم
اختفوا عن العيان.
ونهض زارا عن معقده وقد استوىل عليه الذهول فأدار لحاظه يف كل جهة وهو
366
يتساءل عما جرى له وعما رأى وسمع ،ثم ثاب إليه رشده فانجلت أمامه حوادث
ً
جالسا عىل هذا يومه فقال وهو يمر أنامله عىل لحيته :يف صبيحة األمس كنت
الحجر فتقدم العراف إيل َّ ،وسمعت ألول مرة رصاخ االستنجاد فيا أيها الرجال
الراقون ،إن ما أنبأني العراف به أمس إنما كان فشلكم ال غري وقد أراد أن يقودني
نحوكم لتجربتي فقال يل :أي زارا ،لقد أتيت ألوقعك يف آخر أخطائك.
وقهقه زارا ضاح ًكا غاضبًا من كلمة «آخر أخطائك» وتساءل عما تحتفظ هذه
الخطيئة له!
وعاد فاستوى عىل الحجر الكبري واستغرق يف تفكريه ،ثم نهض بغتة وهو
يهتف« :هي الرحمة! الرحمة للرجال الراقني!»
وظهرت قساوة الفوالذ عىل سيمائه فقال« :لقد كان للرحمة زمانها».
أية أهمية لشهواتي ورحمتي ،ما أنا طالب سعادة ،إن ما أسعى إليه هو املهمة
التي وضعتها نصب إرادتي.
واآلن وقد جاء األسد ،فقد اقرتب زمان أبنائي ،أما أنا فقد بلغت النضوج ودنت
ساعتي!
هذا هو الشفق يلوح عىل صبيحتي وقد طلع نهاري ،فأرشقي بأنوارك أيتها
الظهرية العظمى.
هكذا تكلم زارا وهو يبارح مغارته مليئًا بالعزم والقوة كشمس الصباح املنبثقة
من وراء الغيوم.
367
ملحق
لقد أُخِ ذت الشذرات التي ُخصص هذا امللحق لها من مفكرات فريدريك نيتشه
الخاصة ،ولعله دونها ليكتب رسالة يوضح فيها ما يجلو اإلبهام يف بعض أقوال
زرادشت ،وقد رأينا إلحاقها بهذا الكتاب تكملة لها شأنها إلدراك نظريات هذا
الفيلسوف.
1
لقد تزعزعت األهداف جميعها ،وذهبت التقديرات يف ميادين التفكري متصادمة
متناقضة.
يُدعى صالحً ا مَ ن يتبع ما يوحي إليه قلبه ،كما يُدعى صالحً ا ً
أيضا من ال يصيخ
إال لصوت الواجب.
يُدعى صالحً ا الرجل اللطيف املسالم ،كما يُدعى صالحً ا ً
أيضا الرجل الجسور
العنيد القايس.
يُدعى صالحً ا من ال يكبت نزعاته ،كما يُدعى صالحً ا ً
أيضا من يتح َّكم فيها.
أيضا من يموِّه ً
مطلقا ،كما يُدعى صالحً ا ً يُدعى صالحً ا من يطمح إىل الحقائق
مظاهر األشياء.
يُدعى صالحً ا من يجاري نفسه كما يُدعى صالحً ا ً
أيضا من يتصف بالخشية
والتقوى.
يُدعى صالحً ا الرجل املمتاز النبيل ،كما يُدعى صالحً ا ً
أيضا الرجل الذي ال
368
يحتقر أحدا وال يرتفع عيل أحد
يدعي صالحً ا الرجل الطيب الذي يتقي الجَ دَل ،كما يدعي صالحً ا أيضا الرجل
املتشوق أبدًا إىل العراك والظفر.
يُدعى صالحً ا من يطمح إىل املقام األول ،ويُدعى صالحً ا ً
أيضا من ال قبل له
باالنتفاع مما يُلحق الرضر بسواه.
2
إن يف اإلنسان قو ًة عظمى من الحوافز األدبية غري أنها ال تجد لها ً
هدفا واحدًا
تتجه بأجمعها إليه ،فهي تذهب متعاكسة متناقضة؛ ألنها نشأت من رشائع
تعددت ألواحها.
يف العالم قوة أدبية ال ح َّد لها ،ولكن العالم قد حُ رم من مقصد واحد تُبذل هذه
القوة يف سبيله.
3
لقد ُهدمت األهداف جميعها ،فعىل اإلنسانية أن تقيم لها ً
هدفا ،ومن الخطأ أن
نعتقد بوجود غاية ترمي اإلنسانية إليها حيث ال هدف ،لقد أقامت جميع الفرق
ٍ
غايات غري أن هذه الغايات اضمحلت جميعها بتبدل حاالتها األصلية. لنفسها
إن العلم يهدي السبيل وال يدل عىل الهدف غري أنه يورد من املبادئ ما يصور
الغاية تصوي ًرا.
4
عُ قم القرن التاسع عرش.
رجل أتى بمَ ثَل أعىل جديد ،غري أن املوسيقى األملانية
ما صادفت حتى اليوم ً
ً
مجال آلمايل وأولتني االعتقاد بأنها ستوحد بني القوى. فتحت
369
إن نظرة واحدة تكفي املتأمل لريى أن كل يشء يتداعى ،فيجب أن يعمل
ً
مجال إلقامة الحياة عىل شكل جديد. الهادمون بطريقة تدع لألقوياء
5
إن انحالل املبادئ األدبية ينتج عنه بالفعل تفكك الشخصية يف الفرد ويف
املجموع؛ فيسود االضطراب ك َّل يشء ،لذلك ال بد من وجود غاية يتجه االستقرار
نحوها ،ال ب َّد من محبة جديدة.
6
لقد كنت أتنفس بحرشجة املختنق ومبادئكم األدبية مع َّلقة فوق رأيس فعمدت
إىل قتلها كما تُقتل األفاعي ،أردت الحياة فوجب عيل َّ أن أموت.
7
ما دمنا يف حاجة إىل العمل والقيادة ،فليس لنا أن نستغني عن الشخصية
األدبية ،وال بد لنا من الرىض بالواقع؛ ألن القائد ال يسري إىل ما وراء هدفه إذا هو
لم يجد لذة يف عمله.
8
ليس من أحد يرىض بتحمل تبعة العمل ،إذا لم يصدر به أمر ،ولكن الناس
يهرعون جميعً ا إىل القيام بأصعب األعمال إذا أمرتهم أنت.
9
ملن صعاب األمور أن يتغلب اإلنسان عىل ما كمن فيه من مايض الزمان فينظم
الحوافز لدفعها متحدة إىل هدف واحد ،ذلك ألن هذا العمل ال يقوم عىل إلغاء
الغرائز الرشيرة فحسب بل يستدعي منك ً
أيضا أن تمحو الغرائز الطيبة لتعود
إىل بعثها.
370
10
حذار من الطفرة عىل مسلك الفضيلة ،فعىل كل فرد أن يسري يف طريقه وإن
ِ
جنح عن طريق اآلخرين دون أن يطمح إىل بلوغ الذروة وحده؛ إذ عىل كل سائر
جرسا للمتقدمني وقدوة للمتأخرين.
ً أن يكون
11
قد يصبح اإلنسان العادي السطحي محتمَ ًل ،وال بأس به إذا هو اتجه بإرادته
إىل إعانة سواه واإلشفاق عليه راضيًا بالطاعة مبتعدًا عن التهجم ،فاحذر أن
تزعزع اعتقاد مثل هذا اإلنسان بأن هذه الصفات إنما هي الفضيلة بعينها.
12
إذا أمكن لإلنسان أن يجعل للعمل قيمة ،فكيف يتسنى للعمل أن يجعل اإلنسان
ذا قيمة.
13
إن املبادئ األدبية تشغل من ال قبل لهم باالستغناء عنها فهي جزء من أسباب
حياتهم ،وال يمكن ألحد أن يدحض أسباب الحياة … إال إذا كانت معدومة ً
أصل.
14
لو صحَّ أن ليس يف الحياة ما يستحق التمسك فيه ،لكان ذو املبادئ األدبية
يلحق الرضر بأبناء جنسه من ج َّراء غرييته وفضيلة إحسانه ليستفيد من هذا
الرضر لنفسه.
15
إن األمر بمحبة القريب معناه ال تهتم لقريبك ،وعدم االهتمام بالقريب إنما هو
أصعب ما تقيض به الفضيلة.
371
16
إن اإلنسان الرشير إنما هو طفييل ،وليس من النبل َّأل يحيا اإلنسان َّإل ليتمتع
بامللذات.
17
إن العاطفة النبيلة تصدنا عن أن نحيا للتمتع بامللذات فقط؛ إذ علينا أن نقوم
بيشء لقاءها ،ولكن طبقة العامة تعتقد بأن لإلنسان أن يحيا دون أن يتقاىض
الحياة شيئًا ويف هذه العقيدة علة انحطاطها.
18
للسنن املتناقضة ،فإذا شئت أن تزرع الفضيلة فيهإن اإلنسان املنحط يخضع ُّ
وجب عليك أن تسلخه عن حياته إرغامً ا وتسوده طغيانًا.
19
الحق املطلوب :يجب أن تتم الرشعة الجديدة ،ولن تتم إال بزوال الرشائع العليا
وزرادشت ينتصب بوجهها إللغاء رشيعة الرشائع وهي اآلداب.
إن الرشائع يف مقام السلسلة الفقرية من املجتمع؛ لذلك وجب أن نوحِّ دها
بالقضاء منها عىل ما كان يخضع له اإلنسان حتى اليوم بسائق العبودية.
20
يجب أن يكون زرادشت يف االنتصار عىل نفسه قدوة تتبعها اإلنسانية لالنتصار
عىل نفسها يف سبيل اإلنسان املتفوق لذلك وجب عىل اإلنسانية أن تتغلب عىل
املبادئ األدبية.
21
ما هي سيماء املشرتع وما هو ارتقاؤه وما هي آالمه؟ وما هو معنى االشرتاع
372
بوجه عام؟
ليس زرادشت إال نذي ًرا بمشرتعني عديدين.
22
عنارص مختلفة:
()1الحاكمون ،وهم مَ ن ال يتوقون إال إىل الصور التي يُبدعونها؛ ألنهم غزيرو
املادة مط َلقون يتفوقون عىل ما هو كائن.
()2املطيعون ،وهم املتحررون الذين يجدون سعادتهم يف الحب واالحرتام
ويدركون معنى الرقي ،وعليهم أن يتجهوا بالتأمل إىل إلغاء ما فيهم من عيوب.
()3املستعبدون ،وهم الطبقة املستخدَمة ،وعليهم تأمني رغد العيش وإيجاد
الرحمة بني أفرادهم.
23
الواهب واملبدع واملعلم ثالثة ينذرون بقدوم من سيسود.
24
كل فضيلة وكل انتصار عىل الذات ليسا إال تمهيدًا لطريق من سيسود.
25
كل ضحية يقوم بها السائد تُحتسب له مائة ضعف.
26
ٍ
بتضحية ،فقد حق له أن إذا ما قام قائد الجند أو األمري أو املسئول تجاه نفسه
يُمجَّ د عىل مأل األشهاد.
27
373
إن خارقة السائد الذي يثقف نفسه هي أنه يقيم فيها صورة للشعب الذي
يطلب السيادة عليه ،حتى إذا تجلت هذه الصورة للشعب أسلس له قياده.
28
ً
مجال يعمل املثقف الكبري عمل الطبيعة يف ما يعرتض سريها ،فيدع للحوائل
للرتاكم حتى يتغلب عليها.
29
ليس املعلمون املجددون إال الخطوط األوىل يضعها الرسام األعظم فتبقى هذه
الخطوط مطبوعة عىل غرارهم.
30
مجسمً ا لشخصيتهم إىل أن ينمو ويأتي
ِّ إن ما يؤسسه عظماء األفراد يبقى
بثماره.
31
َّ
فيتوسلون بإنشاء الجمعيات يحاول الناس أبدًا أن يستغنوا عن األفراد والعظماء
ً
مطلقا تابعني لهؤالء األماثل فينسجون عىل منوالهم. والهيئات ،ولكنهم يبقون
32
ً
طبقة عاملة إن األهداف االجتماعية ترجع باإلنسان َ
القهْ قرى ،فهي توجد
وتخلق نوعً ا من الناس ال ب َّد من عبوديته يف املستقبل.
33
ليس من ظلم أروع من حق املساواة بني الجميع؛ ألنه يقيم نظامً ا ينزل اإلرهاق
األشد بأهل الرقي.
34
374
ليس يف الكون ما يصح أن يسمى حق األقوى ،ألن األقوى واألضعف متساويان
يف أن ًّ
كل منهما يمد سلطانه عىل قدر استطاعته.
35
تقدي ٌر جدي ٌد لإلنسان :السؤال ً
أول:
عن عدد القوى الكامنة فيه.
عن عدد الغرائز املختلفة.
عن مؤهالته املؤثرة ومؤهالته املتأثرة.
ما هي مميزات رب السيادة؟
36
إن زرادشت مرتاح إىل انتهاء العراك بني الطبقات واس ِتتْباب النظام عىل أساس
امليزة الفردية ،وقد كانت الخطوات األوىل نحو التمهيد للشعبية مليئة باألحقاد،
فلم يبق اآلن بعد اجتياز هذه املرحلة َّ
املوفقة إال القيام بعمل آخر فيه ح ُّل املشكل
االجتماعي.
إن تعاليم زرادشت قد وجهت إىل الطبقة املعدَّة للسيادة يف آتي الزمان؛ ألن
عىل من سيحكمون األرض أن يقوموا مقام اآللهة ليخلقوا يف الطبقة املحكومة
أول أن يمهدوا سبل السعادة ملن هم دونهم بتضحية الثقة التامة األصيلة ،فعليهم ً
لذَّاتهم وراحتهم وعليهم أن ينقذوا من ال يصلحون للحياة بالقضاء عليهم دون
إمهال ،ثم ينرشون أديانًا وطرائق تتوافق وكل حلقة من سلسلة املجتمع.
37
إن جهاد السائد إنما يكون يف توفيقه بني محبته ملن حوله ومحبته ملن سيأتون
يف املستقبل البعيد.
375
إن صالح املبدع ال يتحمَّ ل التجزئة فهو صالح واحد ،ولكنه يتناول األقربني من
جهة ويمتد إىل األبعدين من جهة أخرى.
38
يقوم الشعور بالسلطان عىل نضال بني أقانيم الذات لالهتداء إىل الفكرة التي
تتعاىل كالنجم عىل ُسهى اإلنسانية وما الذات إال األوَّلية املتحركة.
39
إن زرادشت يدعو إىل الكفاح لالستفادة من السلطان املتجيل يف البرشية.
40
إن بلوغ املثل األعىل إنما يقوم عىل الكفاح يف سبيل السلطان عىل منهج ال
يناقض هذا املثل.
41
إن ُسنَّة الرجوع إنما هي مدار القطب للتاريخ.
42
إن مجال الحقيقة ينفرج بغتة أمام البصائر ،فاملعرفة الصعبة املنال تتحصن
يف الرسيرة وتكفل مناعتها بالتحوط والتخفي ،وقد عشت حتى اآلن ونفيس تواري
شيئًا عن نفيس ،غري أن ما بذلته من جهد مستمر يف رفع الصخور أوىل غريزتي
قوة ال ح َّد لها ،وها أنذا أقلب الصخر األخري ،وها أنذا أمام الحقيقة وجهً ا لوجه.
استغاثة الحقيقة من أعماق اللحود ،لقد أوجدنا الحقيقة ببعثها من مرقدها
فكان يف ذلك أشد مظهر للشعور بالسلطان فيجب علينا احتقار التشاؤم عىل ما
فهم الناس منه حتى اليوم.
إننا يف عراك مع الحقيقة ،وقد رأينا أن ال سبيل للصرب عليها إال بإيجاد اإلنسان
376
الذي يقدر عىل احتمالها ،وإال فال بد من أن نعود إىل الوقوف أمامها مبهورين
حتى تورثنا العمى ،وليس بوسعنا أن نقف هذا املوقف بعد اآلن.
ُّ
يستخف فلنبدعن اآلن إنسانًا
َّ لقد أوجدنا الفكرة التي ك َّلفتنا أوفر الجهود
حملها فتوليه السعادة.
وإذا ما أردنا التمتع بسلطان اإلبداع وجب علينا أن نمنح أنفسنا من الحرية
ما لم تُمنَحه يف أي زمن من األزمان ،ولن نبلغ ما نرجو ما لم نطرح عبء املبادئ
األدبية ونكتسب الرشاقة بالحبور ،يجب علينا أن نشعر بما نتوقع آلتي الزمان
ونمجِّ د املستقبل دون املايض ،علينا أن نصور بأجمل بيان شعري أسطورة
املستقبل فنحيا بجميل األمل نعيش به زمنًا رغدًا ،ثم نسدل الستار ونحوِّل
تفكرينا إىل األهداف القريبة املعيَّنة.
43
عىل اإلنسانية أن تنصب هدفها ما وراء مجالها الحايل ال يف عالم األوهام بل يف
امتداد كيانها نفسه.
44
377
46
أناس يعتلون فوق كل نوع إنساني ،وعلينا أن نضحي
إن ما أطالب به هو خلق ٍ
يف هذا السبيل أنفسنا وأبناء جنسنا.
إن لآلداب التي سادت حتى اليوم حدودها يف مجال الزمان واملكان فقد كان لها
نفعها؛ ألنها سارت جميعها بالجنس البرشي إىل حالة االستقرار املطلق ،ولهذا
وجب أن يقتلع الهدف لرتكيزه عىل موقع أرفع.
وال أجد فائدة من العمل عىل إيجاد املساواة بني الناس ،بل أدعو بعكس ذلك إىل
تقوية الفروق وتعميق املهاوي إللغاء املساواة وخلق الرجال األشداء ،وبهذا يولد
اإلنسان املتفوق.
وما نقصد أن تصري اإلنسانية إىل حالة يتس َّلط املتفوقون فيها عىل املتقهقرين،
بل يجب أن تبقى الفئتان مفرتقتني قدر املستطاع فال تهتم إحداهما باألخرى،
فيستتب األمر عىل مثال ما تصوره أبقراط آللهته.
47
إن لإلنسان املتفوق يف دائرته العليا ما يقابله يف الدائرة السفىل من جنسه ،فقد
أوجدت املتفوق واملتقهقر يف آن واحد.
48
كلما ازدادت حرية املرء وانجلت إرادته ،ازدادت مطالب شوقه حتى تؤدي به
إىل مرتبة التفوق؛ إذ يصبح كل ما هو دون هذه املرتبة عاج ًزا عن إرضاء محبته.
49
يف وسط الشوط يولد اإلنسان املتفوق.
50
378
لقد سادني االضطراب بني الناس فكنت أود الحياة بينهم وال أجد ما يرضيني
فيهم ،فذهبت إىل العزلة حث انفردت بنفيس وأبدعت اإلنسان املتفوق ،ملقيًا عليه
ستار التحول تشع فوقه أنوار الظهرية.
51
إننا نريد أن نخلق كائنًا نحوطه بالحب جميعً ا ونحنو عليه ،لذلك وجب علينا
أن نحرتم أنفسنا.
لنضع نصب أعيننا ً
هدفا نتبادل الحب من أجله ،ولنُعرض عن سائر األهداف
فإنها أوىل بالهدم.
52
إن مبدأ زرادشت هو أن خري الناس أقواهم جسمً ا وروحً ا ،فيجب أن نستثمر
منهم اآلداب العليا :آداب املبدعني .إن زرادشت يريد استعادة خلق اإلنسان عىل
صورته ومثاله .وإرادتُه هذه تن ُّم عن إخالصه.
53
َّ
مجسم تفكريها. إن العبقرية لتجد يف زرادشت
54
إن العزلة إىل حني رضورية التساع الذات وامتالئها ،فالعزلة تشفي أدواءها
وتشدد عزمها.
يجب أن تُبنى الجماعات عىل أساس العراك والنضال وإال فمصريها إىل اإلقدام
عىل املالهي والرتاجع أمام كل هجوم .إنني أدعو إىل الحرب حربًا ال حديد فيها وال
نار تتقارع فيها املبادئ ويتبارى أصحاب األفكار يف ميدانها.
يجب إيجاد فئة النبالء بانتخاب األصلح واختيار مراسم جديدة لتأسيس
379
األرسة.
تقسيم النهار تقسيمً ا جديدًا ،ونرش الرياضة بني الجميع كبا ًرا وصغا ًرا،
واعتبار النضال مبدأ ً أوليًّا.
النظر إىل املحبة الجنسية كجهاد من أجل من سيأتون بعدنا.
ً
ولطفا ،وعند نوال قوة التحكم يف حالة ،السعي إىل نوالها تعليم التسلط قساوة
يف الحالة التي تليها.
اقتباس ما يمكن اقتباسه عن األرشار وفتح مجال للنضال أمامهم؛ إذ يجب
استخدام املنحطني ً
أيضا.
يجب أن يرسو حق العقاب عىل اتخاذ املجرمني أدوات للتجارب العلمية —
ومنها التجارب إليجاد طريقة جديدة للتغذية — وبذلك يُربر استخدام الفرد
لخري املجموع.
إننا نعامل باملداراة مجتمعنا الجديد؛ ألنه معرب يؤدي إىل املثل األعىل يف آتي
الزمان ،وما نعمل نحن وندفع باآلخرين إىل العمل إال يف سبيل هذا املثل األعىل.
55
وجود الطرق والوسائل لالندفاع إىل ما وراء اإلنسانية ،وعلينا أن نجد من
اإلنسان نوعه األعىل واألشد.
يجب أن نتمثل أبدًا بما يف األصاغر من نزوع إىل األفضل ،إىل التكامل والنضوج،
إىل الصحة وإشعاع القوة.
يجب أن يعمل كل واحد عمله اليومي بعاطفة الفنان؛ إلبالغ ما يقوم بصنعه
حد الكمال ،والنظر إىل ما يجب صنعه بدون مغاالة كما يليق بأهل االقتدار.
56
380
تذرعوا بالصرب فإن اإلنسان املتفوق مرتبتكم التالية ،فيجب عليكم أن تتصفوا
باالعتدال والرجولة.
لنرفعن اإلنسان فوق مستواه أُسوة باليونان ،فال نطمح إىل الخوارق العقلية،
وخري لنا أن نستبعد العقل الراجح إذا قيده الخلق الضعيف واألعصاب املتهدمة،
وليكن هدفنا إنما َء الجسد كله ال الدماغ وحده.
57
ما اإلنسان إال كائن يجب التفوق عليه ،نظرة إىل خطوات اليونانيني املتزنة بال
تسارع وال إبطاء.
نظرة إىل طالئعي :هرقليت وأمبيدوكل وسبينوزا وغوته.
58
( )1التضجر من الذات .ترياق ضد الندم .تحول األمزجة «الوسائل الغري
العضوية» .اإلرادة يف عدم االرتياح .يجب أن يصل عطشنا إىل أشد حاالته قبل أن
نحاول اكتشاف ينبوع إلروائه.
( )2تحويل املوت ليصبح وسيلة للظفر واملجد.
( )3املرض وما يتخذ تجاهه .حرية اختيار املوت.
( )4الحب الجنيس كوسيلة لبلوغ املثل األعىل «التشوق إىل الفناء يف القوة
املعاكسة ».محبة األلوهية املتأملة.
( )5التوليد كأقدس األعمال ،الحبل .إبداع الرجل واملرأة الذين يتجهان بإيجاد
الطفل إىل التلذذ بوحدتهما ورفع هيكل التحادهما.
( )6اإلشفاق كخطر .إيجاد األحوال املالئمة ليتمكن كل فرد من معونة نفسه
ومن التمتع بحريته يف قبول املساعدة أو رفضها.
381
( )7الثقافة يف اتجاه الرش ليثري اإلنسا ُن شيطانه الكامن.
( )8الجهاد الداخيل كوسيلة للرقي.
( )9حفظ النوع وفكرة العودة املستمرة.
59
ُسن َّ ٌة أوليَّة :تخطي املراتب دون طفرة ،وبلوغ الكمال يف كل مرتبة بالشعور
باالرتياح فيها.
العمل ً
أول يف الترشيع .إن فكرة العودة املستمرة فكرة بعد الوعد باإلنسان
املتفوق مروعة ولكنها أصبحت مقبولة اآلن.
60
إن الحياة نفسها قد أوجدت فكر ًة هي أصعب ما تحتمل الحياة؛ ألنها تطمح
إىل تذليل أعظم عقباتها ،وهي أن يطلب اإلنسان العدم ليتمكن من العودة إىل
الوجود يومً ا.
لتكن حياتك عبارة عن تحول يف ألف روح ،وليكن هذا ما ُقدِّر عليك ،فتصبح
إرادتك منصبة عىل قبول هذه الحلقات املتوالية.
61
إن أعظم ما نطمح إليه هو أن نرىض بخلودنا ونتحمَّ له.
62
إن الفرتة التي أتيت فيها بفكرة العودة املستمرة إنما هي فرتة خالدة ،أحتمل
من أجلها هذه العودة.
63
382
إن مبدأ العودة املستمرة يرهق النبالء ألول وهلة؛ ألن هذه العودة تؤدي يف
الظاهر إىل القضاء عليهم لالستبقاء عىل مخلوقات سخيفة أقل رض ًرا ،ولعل
النبالء يقولون« :يجب إبادة هذا املبدأ وقتل زرادشت».
64
يرتدد أتباع زرادشت ويقولون« :سنتوصل إىل االعتياد عىل هذا املبدأ ،غري أنه
سيدفع بنا إىل القضاء عىل العدد األوفر من الناس».
يضحك زرادشت ويقول« :لقد وضعت املطرقة يف يدكم وعليكم أن تستعملوها».
65
إنني لن أخاطبكم كما أخاطب الشعوب؛ ألن كل شعب يقيض عىل نفسه
باحتقارها ،ويتبادل الشعوب االحتقار فيُفني أحدهم اآلخر.
66
إن طموحي إىل فعل الخري يضطرني إىل الصمت غري أن إرادتي املتجهة إىل
إبداع اإلنسان املتفوق تأمرني بأن أتكلم وأضحِّ ي حتى مَ ن أحب.
عيل َّ أن أتطبع وأتحوَّل فأطبعكم وأحولكم ،وال سبيل لنا بغري هذا إىل احتمال
هذا اإلنسان املتفوق.
67
منشأ اإلنسان الراقي .إن ثقافة الرجل األفضل تقوم عىل األلم األشد .بيان عن
املثل األعىل الذي يتجه إليه زرادشت ويستدعي ما تحمَّ ل من تضحية يف سبيله؛
إذ ترك مسقط الرأس واألرسة والوطن .الحياة عرضة لتحقري الفضيلة السائدة.
آالم التجاريب وصدمات اليأس ،التخيل عن املالذ التي تتاح لإلنسان عند اتجاهه
إىل املثل األعىل القديم ،وهي مالذ يتذوق منها الح ُّر طعم األشياء املرضَّ ة أو يشتم
منها نكهة غريبة.
383
68
إن القلب املبدع قد أوىل األشياء قيمتها ومعناها ،ثار شوقه فعمد إىل االبتداع
موجدًا اللذة واأللم ،ثم طمح إىل إشباع شهوته أ ًملا.
فعلينا أن نتحمل كل ما أحس به اإلنسان والحيوان من آالم فيما مىض ،وعلينا
أن نجعل لهذه اآلالم صفة مثبتة ،وأن نقيم لنا ً
هدفا يربر احتمالنا لها.
69
من األوليَّات «إن بوسعنا أن نعترب األلم نعمة والسم غذاء .نظرة يف إرادة األلم».
70
إن اإلعداد لآلتي يستلزم بطولة ،وال سبيل ألن يحتمل اإلنسان نفسه إذا هو لم
يتشوق إىل الرقي املطلق.
علينا أال نكتفي باالتجاه نحو الرقي يف حالة واحدة؛ إذ من الواجب أن نطمح إىل
مجاراة الحياة فنصري إىل إعداد أنفسنا لتكرار الرجوع يف حاالت متعددة.
علينا أال نهتم بآراء الغري؛ ألننا نعرف ما هي مقاييسهم وموازينهم ،وإذا كنا
نحن موضوع هذه اآلراء وجب علينا أن نتلقاها باإلشفاق عىل أربابها.
71
عىل األتباع العاملني لنرش املبادئ أن يتصفوا بثالث صفات :اإلخالص والقدرة
عىل التفاهم والتساوي يف املعرفة.
72
وصف اإلنسان الراقي عىل مختلف أنواعه ،وما يعتوره من انحطاط وما يهددهُ
من عوامل الفناء .إيراد أمثلة عديدة «كدوهرين» الذي أردته العزلة.
ذكر ما ُقدر عىل أهل الرقي يف هذا العرص واتجاههم إىل االنقراض .صوت
384
االستنجاد املوجه إىل زرادشت .أنواع التدني يف الرقي.
73
الرجال الراقون الالجئون يف محنتهم إىل زرادشت
محاولة التقهقر قبل األوان بالدعوة إىل اإلشفاق.
()1جوَّابة اآلفاق التائه املضطرب املتنايس حبَّ شعبه يف حبه لشعوب عديدة؛
األوروبي الحقيقي.
()2ابن الشعب العبوس الطموح الالجئ إىل العزلة كيال يعمل عىل الهدم؛ إنه
عِ َّد ٌة للعمل.
()3أقبح العاملني ،الذي يجد نفسه مضط ًّرا للتزيُّن والتفتيش أبدًا عىل أساس
جديد ،فهو يطمح إىل الظهور بمظهر ال يورث النفرة ،ولكنه يلجأ إىل العزلة أخريًا
كيال يراه أحد؛ إنه يستحيي نفسه.
()4عاشق ما يقع تحت الحس« :دماغ العلقة» إنما هو الضمري الفكري املرهق
داؤه التطرف؛ فهو من يطلب إنقاذ نفسه من نفسه.
()5الشاعر الطامح إىل لذة الحرية ،يختار العزلة أخريًا طلبًا للمعرفة القاسية.
()6مخرتع العقاقري املسكرة ،إنه املوسيقي الساحر الذي ينتهي به حاله إىل
تأت إيل َّ فإنني أريد أن أقودك إىل غريي». ً
هاتفا« :ال ِ االنطراح أمام قلب محبٍّ
وهنالك ً
أيضا الزاهدون الذين يشتهون السكر وال قِ بَل لهم به؛ ألنهم قد تجاوزوا
حدود الزهد.
()7العبقري — باعتبار العبقرية إغراق يف الجنون — إنه اإلنسان املستحيل
إىل جليد لفقدانه الحب.
«ما أنا بالعبقري وال باإلله».
385
الحنان األعظم بازدياد الحب.
()8الغني الذي يهب كل ما يملك ،ثم يدور ً
قائل ملن يصادف« :إذا كنت ثريًّا
فأعطني نصيبي ».ذلك هو الغني املتسول.
()9امللكان يتخليان عن امللك قائلني« :إننا نفتش عىل من هو أليق للحكم منا».
ال وجود للرجل العظيم فال وجود إذن للتعظيم.
()10املتظاهر بالسعادة.
()11العراف املتشائم الذي يرى الضيم أيان اتجه.
()12مجنون املدينة العظمى.
()13الشاب عىل الجبل.
()14املرأة املفتشة عىل الرجل.
()15العامل وحديث النعمة الناحل الحسود.
()16الصالحون.
جنونهم يف سبيل الله أو بالحري يف سبيل أنفسهم.
()17األتقياء.
جنونهم يف سبيل الله أو بالحري يف سبيل أنفسهم.
()18القديسون.
جنونهم يف سبيل الله أو بالحري يف سبيل أنفسهم.
74
لقد بذلت لكم الفكرة الثقيلة املرهقة املؤدية إىل فناء اإلنسانية فهل تُبعث هذه
اإلنسانية يا ترى بعد تذليل عقباتها والقضاء عىل العنارص القاتلة للحياة؟
386
ال تذموا الحياة بل وجهوا الذ َّم إىل أنفسكم.
ما يجب أن يستقر عليه اإلنسان الراقي بصفته مبدعً ا تنظيم جماعة الراقني
وتثقيف من سيئول الحكم إىل يدهم يومً ا.
لتفوقكم أن ينعم بما يأتيه من تحكم ومن تبديل.
إن اإلنسان سيعود تكرا ًرا وأبدًا ،وليس هو العائد فحسب بل اإلنسان املتفوق
ً
أيضا.
75
إن العزلة بأنواعها السبعة إنما هي املحنة الخاصة باملصلحني ،وهي تعزيتهم
أيضا فاملصلح يتعاىل فوق األزمنة وارتفاعه يقيض له االتصال بجميع املصلحنيً
واملجهولني يف كل زمان ،وليس له من وسيلة للدفاع عن نفسه إال جماله ،فهو
يقبض عىل آالف السنني اآلتية ويزداد حبه كلما امتنع عليه أن يفعل الخري بدافع
هذا الحب نفسه.
76
إن زارا ال يتململ يف صربه وهو ينتظر قدوم اإلنسان املتفوق ،بل يتوقع هذا
ٍ
حركة شط َر هدفها متكاملة مسددة الخطى. الحدث مطمئنًا وقد اتجهت كل
إن النهر العميق هادئ يف سريه ،وألصغر األمور ما يربرها.
يف القسم الثالث من زرادشت ،يجب استعراض كل اضطراب وكل شهوة
جامحة وكل اشمئزاز والتغلب عليها.
ما كان اللطف والحنان يف القسمني األول والثاني إال ً
دليل عىل القوة التي لم
تتوصل إىل الوثوق من ذاتها.
عند بلوغ زرادشت الشفاء ،يتجىل «القيرص» بكل رصامته وكل خريه وحنانه،
387
وعندئذ يتهدم الحائل ما بني قوة اإلبداع والحنان والحكمة ،فيسود الجالء
والطمأنينة وتضمحل الشهوات الجامحة وهكذا تبلغ السعاد ُة الخلودَ؛ إذ يُحسن
اإلنسا ُن التمتع بها.
77
زرادشت «القسم الثالث».
ُ
بلغت السعادة بنفيس. لقد
عندما ابتعد عن الناس عاد إىل نفسه ،فكأن غمامة انقشعت من جوِّه.
الحياة التي يجب عىل اإلنسان املتفوق أن يتمتع بها إنما هي حياة ٍ
إله «أبقراطي».
إن ما يرد يف هذا القسم الثالث إنما هو وصف اآلالم اإللهية ،ولم تُذكر أحوال
املشرتع اإلنسانية إال عىل سبيل املثال ،فإنه يرى أخريًا أن محبته ألصحابه علة
يُشفى منها فيعود إىل الراحة والسكون ،وعندما تأتيه الدعوة ينسحب عىل مهل.
78
مفصل عن سبب إرشاق الظهرية َّ يجب أن يُؤتى يف القسم الرابع بإيضاح
َّ
يتول العظمى يف حينها ،فال بد إذن من وصف الحقبة املالئمة للظهور عىل أن
زرادشت تأويل هذا الوصف.
ويجب أن يبني يف الفصل الرابع السبب الحقيقي لوجوب خلق الشعب املختار
أول ،وهو شعب يالئم رجالُه زمانَهم فيأتون أضدادًا ملن ال تتفق أحوالهم مع ً
الزمان ،وال يعهد زرادشت بحل القضايا إال ملن يظهرون أخريًا فيدعوهم إىل العمل
عىل تحقيق نظرياته ،وهي نظريات صحيحة وال محاباة فيها والنبل من أخص
مميزاتها.
وهكذا يتسلم هؤالء الناس املطرقة التي ستتوىل ا ُمللك يف العالم.
388
79
التكافؤ يف القدرة بني املبدع والعاشق والعارف.
80
«للحب وحده أن يتوىل القضاء ».فالحب يُبدع ويجحد نفسه يف ما يبدع.
81
ال سعادة يف اتباع رشعة زرادشت إال حني يستتب نظام التسلسل ،وهو ما
يجب تعليمه قبل كل يشء نظامً ا تقوم عليه الحكومة يف العالم؛ إذ توجد طائفة
جديدة للسيادة فيه ،ومن هذه الطائفة يخلق يف كل مكان إله أبقراطي هو اإلنسان
ً
تبديل. املتفوق الذي يغري صفحة الوجود ويبدِّل الحياة
إن العالم الذي يتفوق عىل اإلنسانية إنما يعود بها بعد هذا الجنوح إىل بذل حبه
لألصاغر واملتضعني.
زرادشت يموت وهو يبارك جميع حوادث حياته.
82
ناسا يص ِّلون فعلينا أن نصبح أ ُ ً
ناسا يباركون. لقد كفانا أن نكون أ ُ ً
389
390