Professional Documents
Culture Documents
الأسطورة تأويل فلسفي185707266
الأسطورة تأويل فلسفي185707266
ِ
والحقيقة ،وسنترك هم الفلسفة ،أعني قضايا المعنى
لن نعتني هنا إالّ بالقضايا التي تَ ُّ
المقَ َار ِن، ِ المعاصرة .حول األسطور ِة في علم
تاريخ األديان ُ
ِ اإلناسة وفي جانبا المناقشات ُ
ِ
باألصل ،والتطور ،والوظيفة االجتماعيةً .ال يتعلق األمر وسنترك أيضا األسئلة المتعلقة
المفتََر ِ
ض أن يكون الدين قد قطعها منذ ض ِع األسطور ِة على الطّري ِ
ق التي من ُ بو ْ
إذن َ
تساءل كيف تتموقع األسطورة،
َ َأن َن ِ
األديان المتقدمة ،وال ْ أشكاله األكثر بدائية حتى
باعتبارها حقيقة اجتماعية ثقافية ،ضمن مجموع الظواهر االجتماعية .ولن نتناول أيضا
الحوار الذي فتحه مؤسسو اإلثنولوجيا الدينية الخاص بمعرفة ما إذا كانت األسطورة
تمثل مرحلة قبل-منطقية وما إذا كان شكل تفسير األشياء الذي تعتمده داال على عقلية
سينظر إلى األسطورة هنا باعتبارها شكل
ضرةُ .تح َّ
الم َ
ق الشعوب ُبدائية متمنعة عن منط ِ
ولما كانت الفلسفة هي الميدان اآلخر الذي يطرح ِ
خطاب ُيَن ِّمي ادعاء المعنى والحقيقةّ .
فيه سؤال المعنى والحقيقة بشكل جذري كان السؤال عن ادعاء األسطورة هذا في
عالقته بالخطاب الفلسفي؟
1
الكساء األسطوري يجعل هذا الكساء ،وقد انخرم ،غير ذي جدوى؛ هكذا صنع
السفسطائيون ردا على حماس أفالطون الشاب.
إن النقد الحديث سليل ماركس ونيتشة وفرويد ،رغم اختالف استدالالته عن تلك
التي كانت للعقالنية الكالسيكية ،يندرج ضمن امتداد تطهير العقل لألسطورة.
إن المفارقة في هذه المواجهة أنها لم تستطع أبدا القضاء على الخصم؛ فأفالطون
ّ
نفسه يكتب األساطير؛ وفلسفته تصدر عن األسطورة األورفية 1وبطريقة ما ،تعود إليها؛
شيء ما يقول لنا إن األسطورة ال تستنزفها وظيفتها التفسيرية ،وإ نها ليست فحسب
طريقة قبل-علمية للبحث في األسباب ،وإ ن الوظيفة التمثيلية نفسها لها قيمة أولية
استكشافية بخصوص بعض أبعاد الحقيقة التي ال تتماثل والحقيقة العلمية؛ فمن الواضح
أن األسطورة تعبر عن قوة خيال وعرض لم نقل عنهما شيئا بعد لشدة ما اقتصرنا على
اعتبار هذه القوة "سيدة الخطإ .والبهتان" .لقد تعامل الفالسفة العظماء ،سواء كانط أو
نسبة إلى الشاعر والموسيقي الذي ذكرته األسطورة اليونانية (م). 1
2
شيلينغ أو هيجل أو برجسون أو هايدغر ،مع قوة الخيال هذه .ومهما كانت اإلجابة التي
يقدمونها عن التساؤل حول كون نوع الخيال األنطولوجي الذي تتضمنه األسطورة هو
في النهاية أق ّل درجة من الحقيقة القائمة على النظام المفاهيمي ،فإن تفكيرهم المشترك
يهدف نحو غرابة متعالية ليست األسطورة إالّ انبثاقا عنها.
ليس الرهان تحديد وضع األسطورة فحسب بل تحديد وضع الحقيقة التي نقترح أن
نقيس األسطورة بها؛ فالسؤال في النهاية هو معرفة هل أن الحقيقة العلمية هي كل
الحقيقة ،أم أن األسطورة تقول شيئا ال يمكن أن يقال بطريقة أخرى؛ ولن تكون
األسطورة عندئذ مجازا allé-goriqueبل ستكون ،حسب عبارة شيلينغَ ،ع ْينًِّيا "
2:"tauté-goriqueأي أن األسطورة تقول الشيء عينه وليس شيئا آخر .وهكذا ،وضمن
النقاش حول األسطورة ،يبقى السؤالنفسه حول الحقيقة معلقا.
إن التناقض هو اآلتي :فمن جهة يتعارض الميتوس واللوغوس ،ومن جهة أخرى
يتالقيان ،حسب اإليتيمولوجيا القديمة التي تماثل بين الميتوس والكالم.
ِ
الخطاب .،فالواجب بادئ ذي بدء أن إذا كانت األسطورةَ قبل كل شيء شكال من
تدرج في إطار العلوم السيميولوجية .هذه العلوم ،والتي تمثل األلسنية فيها رأس الحربة،
ِ
اإلنسان نماذج ذات كفاءة عالية .غير أنه يوجد طريقتان لوضع توفر فعال لكل علوم
"عيني" .وقد ذكر شيلينغ هذه العبارة ،على ما
ّ 2لم نجد ترجمة لعبارة شيلينغ هذه ولذلك سعينا إلى ترجمتها بعبارة
وجدناه في الموسوعة الفلسفيّة العالميّة ،في مدخل إلى فلسفة الميثولوجيا في مقابل التص ّور المجازي ،وذلك
4فيه الظواهر األساسيّة للعنصر األسطوري ،بذاتها ،وليس بردّها ،على طريقة المجاز ،إلى ما لضبط مفهوم تتح ّدد
العيني بديال عن التأويل المجازي للعالم األسطوري ،وهو ما يعني أنه تأويل ينظر ّ ّ
هو أشمل منها .ويمثل التأويل
خاص يعطيها ُ
إلى الصور األسطوريّة باعتبارها إنتاجا ذاتيا للعقل والتي يجب أن تف َهم بذاتها انطالقا من مبدإ ّ
"عيني" لترجمة عبارة شيلينغ إرجاع هذه العبارة األمر إلى "الذات" فيّ معنى وشكال .وما دفعنا إلى اختيار كلمة
كليتها ،من ناحية (وهو ما يفهم من السابقة )tautéوفي خصوصيّتها ،من ناحية أخرى (وهو ما يفهم من تقابلها
( 4م).مع طريقة الفهم المجازي) ،فعين الشيء ذاته بقطع النظر عن عالقاته وامتداداته.
JACOB, André, Encyclopédie Philosophique Universelle, II, Les Notions
Philosophiques, P.U.F., p 2545.
3
األسطورة في الخط المتواصل لأللسنية ،والطريقتان تعيدان ،بوجه ما ،وضمن المستوى
السيميولوجي ،التناقض الذي قلنا منذ حين إنه يهيمن على مجموع العالقات بين
اللوغوس والميتوس :هكذا سنطبق على األسطورة ،تباعا ،األنموذج البنيوي ،النابع من
الصوتمية والعالئمية البنيوية والذي سيؤدي إلى التشديد على نسيج األسطورة التركيبي،
ثم أنموذج سيرورة المجاز ،والذي يقود إلى إبراز اللعبة الداخلية للمحتويات السيميائية
ذاتها .سنحاول جاهدين بيان أن هذين األنموذجين ،ال يقصي أحدهما اآلخر ،بل
يتكامالن؛ وسنبين طرق المرور من أحدهما إلى اآلخر.
* األنموذج بنائي
بالنسبة إلى كلود ليفي ستروس ،أهم ممثلي هذه المدرسة في فرنسا ،يجب أن
ننظر إلى الميثولوجيا باعتبارها "ميثو -منطق" ،أي باعتبارها واضعة نوع من المنطق
سمع إالّ إذا لجأنا إلى االفتراضات الرئيسية لألنموذج البنيوي للغة.
ال يمكن أن ُي ْ
4
األسطورة)؛ وأخيرا من جهة رابعة ،يجب أن يؤخذ النظام باعتباره مجموعة مغلقة على
ذاتها ،بغض النظر عن المرجع الواقعي ،وعن نفسية المتكلمين واجتماعيتهم.
هذا االختيار األول يرتكز على فرضية أن اللّغة ،في كل مستوياتها ،متجانسة؛
بعبارة أخرى ،إن نفس قوانين التقابل والتوليف تحكم الوحدات األصغر من الجملة
(الصواتم ،phonèmesوالصياغم ،morphèmesوالمعانم )sémantèmes
والوحدات األكبر من الجملة والتي سنسميها في اإلطار الخاص باألسطورة ،المياثم
( mythèmesوذلك لتأكيد تجانس كل الوحدات المكونة للغة).
ما هي هذه المياثم؟ إنها أقصر جمل ممكنة ،أي أنها عالقات إسنادية؛ وهكذا فكل
قصة مصنوعة من سلسلة من هذه الجمل .وإلظهار البنية الثابتة التي تربط بينها (ومن
ّ
ثمة لكي نطبق على األسطورة ثاني الفرضيات المذكورة أعاله) نصنع قوالب تمكن من
القراءة ،على طريقة التقسيم األوركسترالي ،لجدول المياثم المزدوج المدخل :فقراءة.
الخانات العمودية تظهر "مجموعات العالقات" التي تضعها القراءة األفقية داخل تنوع
العالقات التوليفية.
وهكذا وفي إعادة بناء أسطورة أوديب تتوزع المياثم على أربع خانات عمودية:
ففي األولى ،نضع العالقات العائلية التي يبالغ في تقديرها (يتزوج أوديب أمه ،وتدفن
5
أنتجونة بولينيس)؛ وفي الثّانية ،نضع العالقات العائلية غير المحترمة أو المضادة للقيم
(أوديب يقتل أباه ،وإ يتوكل يقتل بولينيس)؛ وفي الثالثة ،نضع المياثم التي تنكر انتساب
الرجل إلى األرض ،أصله األول ( ،جرائم قتل الوحوش)؛ وفي الرابعة أخيراً ،نضع
3
المياثم التي تذكر بأن اإلنسان منغرس بشكل ما كأنه نبات (قدم أوديب المنتفخة).
إذا اعتبرنا اآلن التوليف الذي يخرج من صالت التقابل بين مجموعات العالقات،
بأن الخانة العمودية الرابعة تمثل بالنسبة إلى الثالثة ما تمثله الثانية بالنسبة إلى
ظهر ّ
ت األولى .يعلن هذا التوازن في النِس ِب القانون البنيوي لألسطورة المعنية؛ وهكذا ُأر ِ
ضَي ْ ْ َ َ ُ
الفرضية الثالثة للتحليل البنيوي :إذ أبعد "الجوهر" لصالح "الشكل"؛ تبدو األسطورة ،حقاً.،
منطقية تقيم وساطات واتصاالت بين تعابير متناقضة؛ وهذه الوساطات ذاتها تمثل
ّ أداة
انقالبات واستبداالت ،تدخل ضمن مجموعات التّ ِ
حويل؛ ويمكن القول إن األسطورة ،في
المنطقية ( ويمكن منذ اآلن الحديث عن "فكر أسطوري") "يبدأ من الوعي
ّ وظيفتها
ببعض التقابالت وينحو نحو وساطتها المتنامية" (اإلناسة البنيوية).
هامش :يستعمل ريكور عبارة planteوهي عبارة تدل على النبات وعلى باطن القدم في آن واحد( .م) 3
6
مكون هو نفسه من سلسلة من البنى األخرى:
والواقع ،وبدرجة أولى ،الواقع االجتماعي َّ
النباتات
مثال ذلك ،بنى القرابة ،بنى الجماعات .والطبقات االجتماعية ،تصنيف ّ
والحيوانات واألشياء ،واألحداث ،والوظائف .ويمكن أن تظهر ،من بنية إلى أخرى،
عالقات تماثل -بمعنى ترتيب متطابق للعناصر .-ويمكن لنظام هذه البنى الكامل أن
يكون ،في النهاية ،الظاهرة االجتماعية الكلية .وليس مستحيال ،في مرحلة .متقدمة من
ِّ
تطور العلم ،أن نتصور أن تماثالت أخرى قد تظهر بين األنظمة التي بينتها العلوم
السيميولوجية واألنظمة التي ستكشف عنها الفيزيلوجيا اللحائية وعلم الوراثة .وسيكون
هذا أبعد آفاق التفسير البنيوي لألساطير.
هكذا إذن تجد بعض الخطوط الهامة للـ"ميثو-منطق" تدعيما على أساس تفسير
بنيوي معمم :أوال انتساب األسطورة ،باعتبارها سردا ،إلى مجموعة البنى
السيميولوجية ،ثانيا ،الخاصية الشكلية لنظام التقابالت والتوليفات الذي يهيمن على
مجموع المجال السيميولوجي ،أخيرا ،ولعل هذا هو األهم ،وظيفة االنتظامات ،وهي
وظيفة الشعورية قطعا ،التي تضمن خاصية النظام المنطقية .وإ ذا أصررنا على هذه
النقطة األخيرة ،فال بد أن نقول إن األسطورة ليست مقول قول الناس ،بل هم باألحرى،
ّ
بما هم متكلمون ،يسكنون فيها وليس لهم عليها من سلطان إالّ ما بدا من سلطان كل
متكلم على آثار المعنى في األنظمة السيميولوجية.
ورغم إغراء هذا التفسير ،وصالبته ،وإ قناعه ،فإن ما يمكن وضعه موضع سؤال
هو ادعاؤه استنزاف ذكاء األساطير؛ لقد أبعدنا من حقل اعتبارنا ادعاء األسطورة قول
شيء ما ،وهو شيء قابل ،باعتباره رؤية للعالم ،أن يكون صحيحا أو خاطئا .فما تقوله
األسطورة حول الكون وأصل اإلنسان وأصل اآللهة ،ال يعنينا في شيء؛ إن األسطورة
ليست للفهم بل لفك رموزها (نفهم من هذا العملية التي تعاكس تلك التي نقوم بها عندما
نؤول رسالة ما انطالقا من شفرة معلومة؛ إننا هنا نستخرج الشفرة المجهولة من الرسالة
المعلومة).
7
ولكن هل يمكن أن نحذف قصد األسطورة وهو طموحها إلى أن تقول شيئا عن
الواقع .يمكن أن نجد داخل التفسير البنيوي ذاته أثرا ،كأنه الجرح ،لوجهة النظر التي
يحذفها .إنها ترتكز فعال على أنموذج جزئي للغة .وإيميل بنفينيست Emile
يصر في كل أعماله على ضرورة أن تُْبَنى اللغة على نظامين من
ّ Benveniste
الوحدات ال على نظام واحد .وهذه الوحدات هي ،من ناحية ،وحدات اللسان ،بمعنى
الصواتم phonèmesوالصياغم ( morphèmesأو المعانم )sémantèmesوهي،
من ناحية أخرى ،وحدات الخطاب .التي هي الجمل؛ وهذا الصنف الثاني من الوحدات ال
األول .حقا ،إن وحدات اللسان تنتمي إلى أنظمة اإلمكان
يمكن رده إلى الصنف ّ
الخالص ،في حين أن الوحدات الثانية هي قاعدة األحداث الواقعية التي هي ملفوظات
وتكون هذه الملفوظات -وبالعبارة النحوية الجمل -اإلنتاج الحقيقي للغة
الخطاب؛ ّ
باعتبارها االستعمال الالمتناهي بوسائل متناهية؛ فبقدر ما كان النظام إمكانا بقدر ما كان
فعل الخطاب زمنيا وراهنا.
تحقق اللغة بهذه الوحدات التي من الدرجة الثانية تنويعا في العمليات ،وهي
عمليات تكسر التجانس الذي يفترضه كل تحليل بنيوي بين تتابع الملفوظ ذي الحجم
الكبير وهو الجملة وبين الوحدات األقل حجما؛ فالجملة ترتكز على عمليات منيعة مثل
المرجع المعرف لألشياء المفردة ،والعالقة اإلسنادية التي تتلقى ،من خاللها ،الوقائع
تصَّن ُ
ف ضمن طبقات وأنواع .إن هذه الوظيفة َّ
المحد َدةُ خصائص أو سمات ،أو َ
المضاعفة للمرجع المحدد وللعالقة اإلسنادية هي التي تضمن إرساء اللغة في الواقع.
ن الملفوظ بما هو ملفوظ،
وعبر هذه الوظائف ،وهي وظائف خاصة بالجملة وهي ُتَكِّو ُ
ٍ
خطاب قادرةً على ذات
تقول اللغة شيئا ما عن شيء ما ،في نفس الوقت الذي تُ ْحدِثُ فيه َ
أن تشير إلى نفسها باعتبارها األنا داخل الملفوظات ذاتها.
إن إبعاد هذه الخصائص للغة من األنموذج البنيوي له آثار هامة على تأويل
األساطير؛ ذلك أن المسار المجازي (انظر أسفله) ،باعتباره تحويال للمعنى الذي يمثل
8
جذر كل لغة غير مباشرة ،ينتمي إلى نفس مجموعة الخصائص التي ينتمي إليها
اإلبداع ،والمرجع ،واإلسناد واإلرجاع إلى ذات في الخطاب .من خالل تعيينها .إن
تحويل الداللة ،وهي لب المجاز .،ليست سمة من سمات البنية اللغوية ،ولكنها سمة من
سمات عملية الخطاب..
يمكننا أن نتساءل ألم يلجأ التفسير البنيوي ضمنيا إلى معنى العناصر أو العالقات.
ألن غير ذلك سيكون غريبا ،بما أن األسطورة خطاب بمعنى مجموعة ملفوظات ،أي
جمل؛ فعال ،إنه لمن الضروري أن نفهم كل عنصر في األسطورة باعتباره جملة حتى
ن الميثم .ثم يجب علينا بعد ذلك أن نفهم
نستطيع دمجه في حزمة من العالقات التي ُتَكِّو ُ
ما ُيَوحُِّد في كل خانة الميثم فيجعله حزمة عالقات :عالقات أسرية تدعو إلى اإلجالل
الصعوبة
وأخرى تدعو إلى اإلذالل ،أصالة اإلنسان وعدم أصالته اإلنسان؛ أخيراً ،إن " ّ
منطقية هي بدورها "معنى"؛ إنه
ّ " التي من المفترض أن تعالجها األسطورةُ باعتبارها آلة
ِ
مستوى االعتقادات :االعتقادات في األصالة مع االعتراف بنشأة اإلنسان من تناقض في
ِ
اتحاد الر ِ
جل والمرأة ،الخ .إن السؤال الثاوي في األسطورة ،حتى وإ ن صغناه الصياغة ّ
ل من المثل أم من اآلخر؟" .،يبقى سؤاال يخص أصل اإلنسان،
المْث ُ
ولُد ِ
التالية" :هل ُي َ
سؤالا له معنى باعتباره .سؤال وجود ،وليس باعتباره فرصة للعبة منطقية ال غير؛ وإ الّ
فإن التقابالت المقترحة .تفتقد في حد ذاتها كل معنى .هل كان من الممكن أن نفهم ،دون
أن نكون داخل مستوى المضامين ذاتها ،هذه العبارة" :إن االعتناء الزائد بالقرابة الدموية
يكمن في تقييم ُدونِ ٍّي لهذه القرابة ،مثلما أن مجهود الهروب من األصالة يكمن في
استحالة النجاح فيها" ؟ لن يكون ممكنا أن نجد بنية مضادة إذا لم تكن للجمل األولية،
وللجمل التي من درجة ثانية وهي مجموعات العالقات ،وللجملة الحاوية والتي تمثل
القضية والمعضلة ،في حد ذاتها ،داللةٌ ،بمعنى إذا لم تكن تقول شيئا عن شيء .ويمكننا
عندئذ أن نتساءل إن لم يكن التحليل البنيوي يقوم على وضع الوظيفة الداللية الخاصة
باألسطورة باعتبارها حكاية البدايات بين قوسين.
9
هذا النقد ال يعني أن التحليل البنيوي ال طائل من ورائه ،بل على العكس ،يمكننا
التأكيد ،من اآلن ،أنه يمثل ،مرحلة أساسية إلظهار ما سنسميه بـعلم الداللة العميق
لألسطورة ،هذا العلم الذي يفلت من قراءة تبقى على سطح المعنى .فهنالك قصد للمعنى
موجود في مستوى مغاير من العمق ال يمكن إظهاره .إالّ عبر لعبة التقابالت بين
العالقات األسرية الجليلة والعالقات األسرية المحتقرة .،وبين اإلقرار باألصالة ونفيها.
أما علم الداللة العميق هذا فإنه يمكن أن نعتقد أنه ال يختلف جوهريا عن "األفكار" التي
ّ
يمكن أن نصوغها في المستوى الواضح من الوعي .فكما أنه ال وجود ،حسب ليفي
ستروس ،إالّ لفكر منطقي واحد ،فال وجود إالّ لعلم داللة واحد ،هو هنا علم داللة
البداية.
* الأنموذج االستعاري:
َأن يرتبط باألول .لقد كنا نقول إن الملفوظ ،بما هو يمكن لألنموذج الثّاني للّ ِ
غة ْ
وعما نقُولُه .ويجب اآلن أن
فعل خطابي ،هو الذي َي ْحم ُل المعنى والمرجعية :ما نقُولُه ّ
نضع السياق االستعاري الذي تستند عليه األسطورة داخل إطار علم الداللة هذا .هذا
العلم الذي بيََّّنا منذ حين استحالة إخضاعه لـ"علم المعنى" (هذا المصطلح ِ
ُأخ َذ من
بينفينست الذي يربط بعلم المعنى sémiotiqueكل ما يخص وحدات اللسان وبعلم
الداللة sémantiqueكل ما يخص وحدات الخطاب ،أي الملفوظات).
لَن ْبن بشكل تدريجي هذا الأنموذج الجديد :قبل الاستعارات التي َنجدها في لغتنا
والتي هي من مشموالت البالغة ،هناك ما يسميه رومان جاكوبسون بـ"المسار
االستعاري" .فنظرية المسار االستعاري تواصل تمييزا َبَّيَنهُ سوسير في إطار .آلية
اللسان .وتعني هذه اآللية في رأيه نوعين من التوليفات بين األدلة :النوع األول ذو
خاصية تركيبية يرتكز على نظام تتالي الدوال ضمن سلسلة واحدة من الملفوظات .إنه
اتصال بحسب الحضور ،in praesentiaوالنوع الثاني ذو خاصية استبدالية يرتكز
على عالقات التشابه المكونة لدائرة الترابط التي َْأنهَ ُل منها .حقاً ،إن لي ،كلما تقدم بي
10
الخيار بين كل الكلمات التي يمكن أن تحت ّل نفس المكان من
َ الخطاب ،وفي كل لحظة،
الخطاب ،والتي تدفع ،في المقابل ،كل واحدة منها األخرى عنه .إن العالقة بين التعابير
هنا ليست عالقة بحسب الحضور in praesentiaبل هي عالقة بحسب الغياب in
ِ
األول .absentiaيدفع جاكوبسون هذه الثنائية نحو معنى جذري :إنه يرى في النوع
غة ،وفي الثّاني ،مبدأ كل السلاسل الداللية. من التوليف مبدأ كل السالسل التركيبية للّ ِ
ّ
والنوع األول من التوليف ،الذي ُي َذ ِّك ُر بالترابط عبر االتصالُ ،يقَابِلُهُ في المستوى
البالغي سياق الكناية .والسلسلة الداللية التي ترتكز على التماثل ُيقَابِلُهَا ما كانت البالغة
القديمة تسميه االستعارة .وهكذا ليست االستعارات في لغتنا إالّ تعبيرات ،في مستويات
أرقى من الخطاب ،عن مسار متضمن في كل العمليات اللغوية وهو مسار يمكن تسميته
بالمسار االستعاري .وبهذا المعنى ليست االستعارة .أمرا استثنائيا ،إنها مرتبطة بعملية
أساسية في اللغة.
الخطوة الثّانية نحو المشكل الخاص باألسطورة يرتكز على إدراج ظاهرة َّ
أدق هي
ظاهرة المعنى المتعدد ،والتي تسمى عادة بتعدد الداللة .فعال إن كلمات اللغة العامية لها
أكثر من معنى .ففي مقابل اللغات التقنية التي ترتكز على المعنى الواحد ،أي وحدة
معنى الكلمات ،وعلى استقاللية هذا المعنى بالنظر إلى السياق ،فإن لكلمات اللغة العادية
أكثر من معنى وتجد في السياق ما يحدد لها تخوم قيمتها الداللية الراهنة .هذه الخاصية
المزدوجة ليست "عيبا" في اللغة العادية أو "مرضا" .بل هي شرط عملها .فعلى اللغة
ُم َو َّح َدة المعنى أن تكون المتناهية لكي تقول التنويعات الالمتناهية لخبرتنا .ومع ذلك فقد
11
تضييع معانيها القديمة ،هي وحدها التي تمثل هذه الخاصية التراكمية ،اآلنية والزمانية،
التي تميز لغة الثقافة.
كيف يؤدي مشكل المعنى المتكاثر هذا إلى تَ َع ُّق ِل اللغة الرمزية؟ إن تعدد المعنى،
بالنظر إلى أن كلماتنا تحتمل أكثر من معنى ،وإ لى أنها حقائق تاريخية وليست مجرد
ثم ،قلب المسار التراكمي عبر الزمن،
اختالفات راهنة داخل نظام آني ،وإ لى أنها ،من َّ
يمثل أساس الظاهرة الخاصة .التي تقوم على نقل المعنى والتي نسميها "االستعارة" .إن
االستعارة ليست مجرد مسلك بالغي ،فهنالك "استعارية" .أساسية تدفع إلى تشكيل حقول
داللية.
لقد كان أرسطو في كتابه الشعر قد اعتبر أن االستعارة هي ذلك التجاوز .الخاص
إما نقل من الجنس إلى
بالمقوالت والذي يمثله "نقل اسم شيء إلى شيء غيره ،وهو ّ
النوع ،أو من النوع إلى الجنس أو من النوع إلى النوع ،أو من خالل القياس" .إن
االستعارة تقتحم تصدعات التصنيفات ،وهكذا نسمي الشيخوخة "مساء الحياة" ،والشباب
"فجر .العمر" .واالستعارة ال تقتحم حدود األجناس واألنواع فحسب بل إنها تسبق عملية
التقطيع باعتبارها "مقارنة مجملة" مثلما الحظ ذلك كوينتيليان .Quintilienثمة ما يمكن
تسميته بـ"التجريد االستعاري" .الذي يرسم قبل كل مفهمة وتصنيف منطقي حدود محيط
داللة الكلمات .وهكذا فإن االستعارة هي ،كما رأى ذلك بدقة جاكبسون ،وقبل أن يكون
هنالك معنى حقيقي ومعنى مجازي ،المسار التكويني للحقول الداللية ذاتها.إننا إذ
نتحدث ،في البالغة ،عن نقل معنى من الحقيقي .إلى المجازي ،فإننا نتحدث عن معنى
فرعي .فالتمييز بين الحقيقي .والمجازي تمييز ثانوي بالنسبة إلى انتمائهما المشترك إلى
حقل داللي واحد.
لنقم بالخطوة الموالية :كيف نمر من تعدد معاني كلماتنا إلى الخاصية الرمزية
لخطابنا .عندما أستخدم كلمة لها معاني عديدة ،فأنا ال أستعمل كل قدرات الكلمة ،بل
أختار جزءا فقط من المعنى .ولكن ما بقي من المعاني لم يختف .إنه ،إن أمكننا القول،
12
معوق ويحوم حول الكلمة .وهنا نجد إمكان التالعب بالكلمات ،وإ مكان الشعر ،واللغة
الرمزية .وبالفعل ،فعوض أن ال نحتفظ من االتساع الداللي للكلمات التي تكون الجملة
إالّ بالبعد الذي يدعمه "موضوع الخطاب" .-وهو ما يمكن أن نسميه بقطبه الداللي -فإنه
يدي تأثيرات سياقية من جنس آخر.
يمكنني أن أستخرج من الثراء الداللي الذي بين ّ
تعدد نغمات داللية.
وهكذا فإن كل أبعاد المعنى في اللغة الشعرية ،تتشارك في نوع من ّ
مكون بشكل يجعل تكاثر معنى الكلمات فبدل أن ِّ
يمحص السياق بعدا معنويا واحدا ،فإنه َّ
ال أمرا مباحا .فحسب ،بل مصانا ومنشودا.
هنالك ،إذن ،ثالثة أشياء ينبغي تمييزها في عمل اللغة الرمزية :المسار االستعاري
العام للغة ،وظاهرة المعنى المتكاثر أو تعدد الدالالت ،ثم البنية السياقية التي ،عوض أن
تعدد نغمات في مستوى الخطاب .ذاته .هكذا
تقدم نوعا من تمحيص المعاني ،تؤسس ّ
تنشأ اللغة الشعرية التي هي األقدر على قول ما ال يمكن الوصول إليه مباشرة ،وإ نما ال
نصل إليه إالّ عبر منعطف الدالالت غير المباشرة .بقي أن نبين أن الرمزية الثاوية في
األسطورة تستند على هذا النوع من بناء المعاني وهو بناء ال يمكن أن تعتني به إالّ
نظرية في اللغة تعتبر اللغة خطابا ال مجرد نظام عالمات.
يفترض التأويل االستعاري لألسطورة أننا ال نتوجه مباشرة إلى شكل السرد ،وإ نما
نركز على التركيبة الرمزية للتعابير المؤسسة للخطاب األسطوري .وهو ما يقوم به
التحليل البنيوي عندما يقسم األسطورة إلى مياثم .ولكن التحليل البنيوي يفترض مسبقا
أن وحدة تركيب ميثم هي بدورها واقعة بنيوية وهو ما يمكننا الشك فيه .فالمسار
االستعاري كما ُي ْفهَ ُم من المثال َّ
المقدم أعاله ،مورط في عملية التمييز بين حزم العالقات
التي يحيل عليها التحليل عبر المياثم .وبذلك يمكن االفتراض أن الجانب البنيوي
والجانب االستعاري متالصقان بقوة في التعبير األسطوري ،كما هو حال مسار الكناية
ومسار االستعارة في كل لغة ،حسب جاكبسون.
13
وكما أن هذين المسارين يمازج كل واحد منهما اآلخر ،بنسب متفاوتة بكل
خطاب ،بحيث يسود أحيانا مسار الكناية وأحيانا أخرى مسار االستعارة ،فإن العالم
إما بحسب غلبة العامل
األسطوري يبدو قادرا كذلك على أن يتوزع على قطبين يتحددان ّ
النحوي أو بحسب غلبة العامل االستعاري .وليس من الصدفة أن تؤخذ أمثلة ليفي
ستروس من الحقل الجغرافي الذي اعتبره علماء اإلناسة في الجيل السابق الحقل
الطوطمي ،وليس من الحقول السامية أو الهيلينية أو الهندو-أوروبية .يبدو الحقل الثقافي
الطوطمي مخصوصا بتكاثر التركيبات المنطقية ذات اللون التصنيفي .فالطوطميون ،كما
بين ذلك ليفي ستروس ،بارعون في تمييز الحجارة .،والنباتات والحيوانات وتصنيفها،
وهم بارعون أيضا في ُنظٍُم معقدة للقرابة ،بل إن أنظمتهم االجتماعية ترتكز على
تصنيف المعامالت وعلى تحويالت دقيقة تشترك جميعها في الخاصية التصنيفية ذاتها
التي تقوم عليها األساطير نفسها .والسؤال المطروح ألم تجد المقاربة البنيوية في الحقل
الطوطمي موضوعا مناسبا ،نمطا من األسطورة تكون التقابالت والترابطات فيه أق ّل
أهمية من المضامين .ولهذا السبب فإن اللجوء إلى المسار االستعاري ،في هذا المثال
القيِّم ،يمكن أن يبقى ضمنيا ومندمجا بطريقة ما داخل المسار النحوي.
وليس األمر كذلك بالنسبة إلى الطرف اآلخر من المدى األسطوري :فاألساطير
ك ،مثل غيرها ،لنفس المعالجة.
السامية وأساطير ما قبل العصر الهيليني مستعدة ،ال ش ّ
ّ
البنيوية ،ولكن الصلة فيها بين المسار النحوي والمسار االستعاري تبدو مقلوبة فعال.
فالتنظيم النحوي فيها ضعيف ،والتماسك بين التصنيفات الطبيعية واالجتماعية أكثر
مرونة .وفي المقابل فإن ثراء هذه األساطير الداللي ِّ
يمكن من والدات جديدة ،ومن
استئناف التأويل في سياقات اجتماعية مختلفة .وفي نفس الوقت فإن عالقة هذه األساطير
اغ ٌم آني وهشاشة زمانية؛ فهي ال
بالزمن والتاريخ متباينة .وهكذا فللنظم الطوطمية تََن ُ
المدمر ،فاألحداث ،بالنسبة إليها ،تهديد ،ولذلك توفر بصعوبة أسس
ّ تقاوم فعل الزمن
أما عالقة التنظيم الداخلي بالزمن في الطرف
تاريخ قابل ألن ينظر إليه على أنه كذلكّ .
اآلخر من المدى األسطوري فمختلفة تماما .فموضوع الخروج في العهد القديم غني
14
طاقَ ٍة رمزية المتناهية .ولذلك كان قابال ألن يعاد في مستويات مختلفة من وجود
بِ َ
الشعب ،بل وفي مستويات مختلفة من الخطاب .كذلك ،بما أنه قادر على أن ُي َمثَّ َل في
نوع من السرد التاريخي .أو أن ُي ْحتََف َل به في نشيد .وصلة موضوع الخروج باألنظمة
السَن ِن بالنسبة إلى شعب ٍ
التصنيفية أق ّل من صلته بتاريخ مَؤ ِّول ،من ناحية ،وبالهوت ُ
إسرائيل القديم ،من ناحية أخرى .فالرموز .المهمة التي تنتمي إلى نفس المرحلة ال
ف معناها في توليفات راهنة ،فمعناها كامن كمون معنى ٍ
حقل داللي متعددةٌ ِ
تستنز ُ
مورد ُيقَ َّد ُم الستعماالت ال تنقضي َّ
جدتُها ضمن ٌ تحديد ِه .إنه في مح ّل َّ
مد َخ ٍر، ِ جوانب
ُ
إطار ًبنى جديدة.
ال ينبغي رغم ذلك أن نوغل في هذه المقابلة؛ فكما أن المسار االستعاري ومسار
الكناية حاضران في كل خطاب ،وإ ن بنسب متفاوتة ،فإن التفسير الذي يعتمد البنية
بد من
والتأويل الرمزي ،يقبالن التشابك بنسب متفاوتة في كل أسطورة .ولذلك ال ّ
العناية عناية كبيرة بالطريقة التي يحيل من خاللها تفسير على آخر وفق ضرورة داخلية
خاصة .ولقد بينا ذلك أعاله من خالل ربط التأويل الرمزي بالداللية العميقة التي ال
يمكن إبرازها إالّ عبر تحليل بنيوي مسبق.
إذا كانت األسطورة خطابا .بمعنى تسلسل ملفوظات أو جمل تحمل معنى ومرجعا،
فال بد من اإلقرار بأن األسطورة تقول شيئا عن شيء .ومقول القول هذا هو الذي ينبغي
عزله اآلن .وسنتبنى هنا فرضية العمل القائلة بأن األسطورة هي "حكاية البدايات" .هذه
الخاصية لم يبرزها التحليل البنيوي وال التأويل االستعاري وإ نما َّ
هيآ لبروزها .وذلك
األول غير قادر على التمييز بين فولكلور وأسطورة ،ألن هذا االختالف يتعلق
ألن ّ
أما المسار االستعاري فإنه ال يحدد مضمون االستعارة
بالمضمون نفسه وليس بالشكلّ .
15
وهو بهذا المعنى يبقى شكليا جدا .سنحتفظ هنا ،مع مارسيا إلياد ،Mircea Eliade
بكون األسطورة ،بما هي تاريخ البدايات ،لها أساسا وظيفة تأسيسية؛ إذ ال توجد
األسطورة إالّ إذا كان الحدث المؤسس ال مكان له في التاريخ ،وإ نما في زمن قبل
يكون األسطورة هو بالذات هذه الصلة التي بين زمننا التاريخ .in illo temporeإن ما ّ
–العالَ َم- َّ
الواقع ُكلهُ َ
َ وذلك الزمن ،وليس صنف األشياء المعينة سواء كانت هذه األشياء
أو قطعة منه ،قاعدة أخالقية ،أو مؤسسة سياسية ،أو نوع الوجود اإلنساني الذي يقتضيه
هذا الشرط أو ذاك ،بريئا كان هذا الشرط أو ساقطا .إن األسطورة تقول دائما كيف ولد
شيء ما.
تخص
ّ تترابط في هذا التعريف المركزي مجموعة من اللوازم .الالزمة األولى
صلة "التمثيالت" بالوظيفة التأسيسية؛ فالوظيفة ثابتة والتمثيالت متغيرة .ولذلك كان من
الممكن تحقيق هذه الوظيفة التأسيسية عبر كائنات خارقة ذات طبائع شديدة التباين:
كاآللهة ،والرسل ،واألبطال الخ؛ إن لصور هؤالء في خطاطة .تاريخ البدايات وظيفةً من
درجة ثانية بالنسبة إلى الوظيفة التأسيسية؛ إنهم الشخوص الدرامية dramatis
َّ
سيوجه وجهة .personaeإنهم هامون ألفعالهم ال ألعيانهم .إن تاريخ األديان المقارن
سيئة إذا اعتنى بشكل مباشر بهذه "الصور" ،وبهذه "التمثيالت" ،فعاملها باعتبارها أشكاال
أنثروبومورفية محضة؛ ينبغي ،إذن ،اعتبار هذه الصور ،انطالقا من حكاية البدايات،
وجها من وجوه الوظيفة التأسيسية.
إن ما أحدث االلتباس هو أن هذه الصور قابلة ألن تستقل بذاتها .فنحن نروي
تاريخ اآللهة في أساطير متمفصلة articuléesفنروي متى وكيف خلقوا ،وتخلوا عن
مخلوقهم ،وانسحبوا؛ ونحن نروي كذلك كيف يتصارعون فيما بينهم ،أو مع الوحوش،
أو الكائنات الخارقة ،أوالناس .والحق أن األمر ال يخص اآللهة فقط ،فكل الكائنات
المقدسة بما في ذلك األجرام أو عناصر كونية أخرى تستطيع هي أيضا االستقالل بذاتها
في عالقتها بتاريخ البدايات .وهكذا يقدم الكون األسطوري أشكاال فوق طبيعية متكاثرة:
16
كائن فوق طبيعي ،نصف إله ،ونصف إنسان؛ وبطل ،أمير متروك ،أنقذته المياه؛
وأعمال ،وآالم ،واستغالل ،ومحن؛ فالقصدية األسطورية نفسها يمكن استثمارها ضمن
تشكيالت لما هو فوق طبيعي تتاخم على التوالي علم العقيدة ،وعلم الفلك ،وعلم األبراج،
والملحمة .يمكننا أن نتكلم في هذا الصدد عن امتداد مجازي أو تمثيلي للعالم
األسطوري؛ وعلى هذه الخاصية سيستند تقدير األسطورة الفلسفي باعتبارها "تمثيال" في
البد أن نربط منذ البداية الشكل المسرحي بالوظيفة
المثالية األلمانية؛ ولكن كان ّ
التأسيسية؛ إذ أن األسطورة ال تفقد تميزها عن بقية "النصوص" الخاضعة .للتحليل
البنيوي إالّ عند تضخيم هذا الرابط أو قطعه.
المِل ُ
ك؛ وي ْخلَعُ َ
بين حكاية الخلق الكبيرة وطقس السنة الجديدة الذي تُْق َرُأ أثناءه األسطورةُ ُ
وما سمته المدرسة اإلسكندينافية ،بـ"إيديولوجيا الملك" يرتكز على هذا التعاقب بين
األسطورة والطقس والملكية .هذا الرابط ينبغي النظر إليه ضمن مبدئه؛ لقد صار لحكاية
األصول قيمة األنموذج بالنسبة إلى الزمن الحاضر .ألن األسطورة تنشئ العالقة بين
الزمن التاريخي والزمن األصلي :إذ هكذا نشأت األمور في البداية ،ومازالت اليوم على
النهج نفسه .إن األسطورة ،من خالل قصدها الداللي األساسي ،تسمح بأن تعاد وأن
ث في الطقس .وهذا الرابط ،مثل سابقه ،يتهيأ النتشار عبر أسلوب مخصوص
تُْب َع َ
سيجعل من الشعائرية مسارا مستقال بذاته .وعندئذ سيبدو الطقس هو الذي يحتوي
األسطورة ،أو على األق ّل لن تبدو األسطورة سوى ركيزة الحكاية التي تؤسس الطقس.
ونستطيع القول عندئذ إن األسطورة تنتمي إلى مجموع األسباب الموجدة للطقس .فإذا
ث شعائريا فإنه يمكن أن ينظر إليها باعتبارها
كانت األسطورة قادرة ،حقا ،على أن تُْب َع َ
أمرا يسمح بالقيام بالطقس ،ومن ثم ،بإعادة الفعل المبدع .نجد هنا تسلسال ذا داللة :ففي
17
البداية هنالك التاريخ األساسي ،فاألنموذج ،ثم التكرار الشعائري .ولكن الصلة بين
الزمن األصلي والزمن التاريخي هي التي تؤسس هذا التسلسل.
يوفر تعريف األسطورة ،من خالل هذه اللوازم الثالثة ،باعتبارها حكاية البدايات،
تمييزا واضحا بين األسطورة واألمثولة .فاألمثولة ال تؤسس شيئا ال داخل الحكاية وال
داخل الفعل ،وال داخل العمق الوجداني .األسطورة فقط هي التي تفعل ذلك.
إن تعريف األسطورة باعتبارها حكاية البدايات تعريف حصري رغم أشكال
التوسع التي ذكرناها :التوسع المجازي أو التمثيلي ،والتوسع النفعي ،والتوسع االنفعالي.
وسنعمل اآلن على توضيح خاصية االنحصار هذه بمقارنة األسطورة بأشكال أخرى من
الخطاب .تحقق هي أيضا وظيفة تأسيسية ،ولكن بوسائل مختلفة عن حكاية البدايات.
18
سنعتني على التوالي بالصلة بين األسطورة و"حكاية الخالص" ،ما يعبر عنه األلمان بـ
،Heilgeschichteوبين األسطورة والحكمة ،وبين األسطورة والحكاية األخروية.
يرتكز تاريخ الخالص ،وهو أنموذج عن األدبيات العبرية وخاصة الكتب الستة
،L'Hexateuqueعلى منظومة سردية قريبة من األسطورة ،مع االختالف في البنية
والقصد .ففي حين تربط األسطورة الزمن التاريخي بالزمن األساسي ،يصل تاريخ
الخالص اإلعالن عن اإليمان بسرد وقائع اإلنقاذ .وما ورد في سفر التثنية (XXVI, 5-
)9مثال قوي على ذلك .إنه قطعا ليس حكاية أسطورية في المعنى الدقيق الذي ذكرناه
-اعتراف" يغطي تاريخ إسرائيل منذ الهبوط إلى مصر إلى ِّ
المن ٌ منذ حين ،إنه "حكايةٌ
عليهم باألرض مرورا بالحدث المؤسس وهو الخروج .هذا المقطع الكبير ،المنظم حول
إن خطابا .يتميز جنسه تميزا كبيرا شأن حكايات الخلق ،الواردة من العهد الثقافي
األكادي والسوميري والكنعاني ،استطاع أن يندمج في تاريخ الخالص بفضل هذا
التضخم للخطاطة .السردية ،وللنصوص التي أغنته ،وللجاذبية التي سلطها على وثائق
19
أخرى .يمكن ،من ناحية ،أن نتكلم عن تحويل األسطورة إلى حدث تاريخي في عالقته
بتاريخ الخالص :فحدث الخلق جاء على رأس أحداث اإلنقاذ باعتباره أول حدث
للخالص .ونحن نفهم كيف أصبح هذا ممكنا :إن قصص اآلباء البطولية ،كانت تُ َم ِّك ُن ،إذ
جد ّأول ،من التعامل مع أساطير الخلق باعتبارها مقدمة لتاريخ الشعوب
تصعد نحو ّ
التي يصورها اآلباء ،وهذا التاريخ نفسه ،كان يشغل مح ّل المقدمة ،في تالوة نص عقيدة
شكلي الخطاب .في مستوى رسالة إبراهيم التي تغلق
ْ الخروج .ويمكن أن نرى التحام
ِّ
وتدش ُن تاريخ اآلباء. تاريخ البدايات
لكننا نستطيع ،من ناحية أخرى ،أن نتحدث عن أسطرة تاريخ الخالص في
ارتباطه بحكايات األصل؛ فكل أسطورة هي ،في المعنى الصارم للكلمة ،أسطورة خلق:
فقديما ،في األزمنة األولى ،خلق اهلل ،أو خلقت اآللهة؛ فاألصل ونشأة الكون متزامنان
إذن .ولكن األسطورة تتوقف عن كونها نشكونية ،cosmogoniqueفي المعنى الدقيق
للكلمة ،إذا اعتبرنا أفعال الخلق والتأسيس والمؤسسات ،وقد جاءت بعد الخلق ،خلقا.
متواصال ،إن حكاية النشأة اإلنسانية l'anthropogonieتواصل النشكونية
cosmogonieالمندمجة هي ذاتها في حكاية األصول .وهذه النشكونية تمتد ،بدورها،
إلى زمن الهدم ،إلى زمن "الالخلق" الذي دشن هو أيضا أمرا ،أال وهو وضع اإلنسان
الحالي[ .بما هو] :شرير ،متألم ،فان؛ ومن هنا أساطير الكارثة الكونية ،والتغيرات
العنيفة ،والسقطات؛ ومن هنا كذلك ازدواج األصل :إنسان كامل في األصل ،أو اإلنسان
الحالي .الذي ظهر عن الكارثة األولى.
إننا نفهم كيف اصطدم تاريخ الخالص ،وإ ن كان له أصل مستقل مقارنة بالبنية
يكون خلقا .جديدا ،بداية
َ األسطورية ،مع األسطورة التي يحتويها .فالفعل المنقذ يمكن أن
من جديد .وأسطورة الطوفان في هذا المجال .مثال مفيد؛ إنها أسطورة خلق مرتبطة
تجد ٍد تغوص في قوة األسطورة
بأسطورة عجز ،بأسطورة هدم .وهكذا فكل حكاية ُّ
بفضل هذا التقارب العميق :فكل شيء يبدأ في هذا العالم هو بداية عالمَّ .إننا ال نفهم
20
الخلق إالّ عبر إعادة الخلق ،ولكن للخلق ،في المقابل ،هيبةَ ذلك الذي بدأ ذات مرة ،في
الزمن األول .il illo temporeهذا سيؤدي إلى تحول كل القوة المجازية .والخيالية،
وكل قوة األنموذج األول للطقس ،وكل االنفعال العميق الخاص بالمقدس ،نحو الخلق
الجديد .إن أهم مسألة تطرح على نقد الكتاب المقدس هي فهم كيف تحملت البنية
الخاصة .لتاريخ الخالص قوى األسطورة (قوى تمثيلية ،واستبدالية ،وانفعالية) .إن تركيز
شعب عبر الفعل المنقذ يصبح إذن المفتاح التاريخي للخلق قبل التاريخي.
هنالك ٌّ
حد ثان لمجال األسطورة يحتاج إلى اكتشاف :إنه الحد الذي يجمعه بالحكاية
األخروية؛ هنا أيضا نحن أمام شكلين من الخطاب .متمايزين ،موجهين بقصدين دالليين
ي سمات مختلفة ،ولكنهما تَ َم َّكَنا من االندماج بفضل بعض الضروريات الداخليةذو ْ
َ
مما أعطى ما يمكن تسميته باألساطير األخروية. لمحتوياتهما ّ
من حيث المبدإ ،األسطورة والحكاية األخروية بنيتان مختلفتان ،وارتباط األولى
بتاريخ الخالص والثانية بالنبوة يفهمنا ذلك بشكل أفضل .ما تشترك فيه األسطورة مع
تاريخ الخالص هو التفاتهما المشترك نحو الماضي ،ولذلك فهما يشتركان في شكل
مخصوص هو الحكاية .ولقد استطاع ج .فون راد G. von Radأن يعتبر المهمة
الرئيسية لتيولوجيا العهد القديم هي االعتناء بفهم هذه الثنائية المتمثلة في خطابين كبيرين
تتوزع حولهما كل أشكال الخطاب األخرى.
هنالك ،فعال ،طريقتان مختلفتان جدا لتشكيل التراث :فنحن ،من ناحية ،نعيد أفعاال
تأسيسية ،ومن ناحية أخرى ،نعلن عن اقتصاد جديد للتاريخ .فالنبوة تفترض زمن
الحكاية ولكن لتقطع معه .إنها تفترضه على أساس أن زمن النبوة ال يمكن أن يكون إالّ
زمن المبادرات المقدسة ،زمن تاريخ مع اهلل .ولكن النبوة تقطع مع زمن الحكايةََّ ،أوالً
من حيث أنها مشدودة إلى التاريخ الفعلي وليس إلى تقاليد مؤلفة :إنها تقول الحدث
21
الوشيك (التهديد األشوري الذي يبدو في أفق رسالة عاموس Amosوإ شعيا ،Isaïe
وتهديد الشمال الذي يمثله البابليون الجدد عند إرمياء ،Jérémieوصعود فارس على
عهد سيروس Cyrusبالنسبة إلى إشعيا الثاني)؛ يطبق الرسل على هذه األحداث وعلى
وقوعها الوشيك ،مقوالت تاريخ الخالص في شكله الرسمي ،وذلك لكسر هذا التاريخ
ذاته .فالنبوة تعمل على خرق الحكاية :هنالك تدخل جديد وشيك للرب Jahvéسيحجب
التدخل القديم .إنه إذن إله األفعال المحررة .،ولكنه بصدد إرساء تاريخ جديد؛ هذا
ض قياسا على شاكلة خروج جديد ،وحلف جديد.
التاريخ الذي ُي ْع َر ُ
هكذا ،وبضربة واحدة ،بدا كل الماضي "استعارةً" :فاألرض الموعودة تصبح رمزا
نصل إليه .هنالك نبرة مستقبلية تجديدية تفجر كل مقوالت الحكاية؛ فالقطيعة
ْ لما لم
ضرورية فعال لتأسيس تاريخ جديد ،وهي قطيعة ُم َمثَّلَةٌ في الحساب الذي هو عالمة
على انهيار كل أنواع األمن؛ إن النبوة هي ّأوال التراث المكسور ،واستنفاذ تاريخ الذي
ُأعِل َن عن إقحام
مضى للخالص ،و"إبطال" الحادث؛ وعلى أساس هذا النسخ للماضي ْ
أفعال جديدة خارج عهد الخالص ،وهي أفعال تحريرية تُْن َش ُد ضمن االعتراف الذي يأتي
في شكل روائي .هذه هي النبوة ،الضد بالنسبة إلى الحكاية .ورغم ذلك فإن على النبوة
أن تعقد حلفا .جديدا مع األسطورة وذلك في شكل هو شكل الحكاية األخروية.
لقد قلنا سابقا كيف اندمجت األسطورة وتاريخ الخالص ليعطيا فكرتين ،األولى
فكرة الخلق مفهوما باعتبارها أول فعل تحريري ،والثانية فكرة التحرير مفهوما باعتباره
فعال خالقا .إن الحكاية األخروية ،وخصوصا في األدب المتأخر للسنن العبري ،تعرض
شكال للنبوة قادرا على عقد حلف جديد مع األسطورة .فالحكاية .األخروية باعتبارها
تمثيال للنهايات األخيرة ،نوع من النبوة ،ولكنها خارج .التاريخ ،في نهاية التاريخ .وفي
تنشد النبوة إلى الحدث الوشيك داخل التاريخ ،تعلن الحكاية األخروية عن خلق
حين ّ
جديد ،آت من هناك ،وذلك بمناسبة كارثة كونية.
22
ولئن تمكنت هذه البنية الجديدة من أن تصبح هي بدورها أسطورية رغم التقابل
البيِّن بين الوعد بشيء مخالف ،وتكرار الشيء نفسه ،فهذا أمر نفهمه دون عناء .فإذا
أصررنا ،في المقابل ،على َّ
جدة الخلق أكثر من إصرارنا على قدمه ،فإن أسطورة
األصل يمكن أن تصبح ال أسطورة األساس الذي مضى ،بل أسطورة كل أساس آت في
المستقبل؛ فلقد رأينا أن األسطورة يمكنها أن تروي نشأة األشياء الجديدة ،وقبل ذلك نشأة
اإلنسان واإلنسان الجديد ،في عالم موجود ها هنا .وفي هذا اإلطار فإن الطقس هو بال
ريب عامل يجعل األسطورة مستقبليةً .إن التأمل في األصل يمكن أن يتحول إلى
المستقبل بواسطة الفعل األنموذجي للطقس الذي يرجع الوضع األصل إلى الوجود
الحاضر .وبهذا المعنى فإن ذاكرة الخلق هي من الوهلة األولى وعد بالمستقبل؛
واألسطورة من خالل خاصيتها األنموذجية ،مثال عن كل فعل خلق وافد؛ فكل والدة
جديدة تلخص الوالدة األولى؛ وكل البدايات هي بدايات من جديد .هكذا ،وفي مهرجان
السنة الجديدة الكبير في بابل ،كل سنة جديدة هي شريك في اليوم األول.
وبهذا يمكننا أن نفهم تولد المعنى بين أسطورة البداية وأسطورة النهاية كما يلي:
كل بدايات الماضي هي بدرجات معينة ،أساطير نهاية وذلك حتى تكون أساطير بدايات
جديدة؛ هنالك خلفنا نهايات متعددة للعالم ،وعودات كثيرة للعماء ،وانبثاقات .بل إننا نجد،
في حكايات والدة اآللهة وأنسابها ،نهاية بعض اآللهة ،و"ميتات اآللهة"؛ فخلع مردوخ
Mardoukهو نهاية اآللهة القديمة؛ 4وزيوس Zeusيعني موت كرونوسCronos؛
والتراجيديا تروي نهاية غضب اإليرينياس ُّ Erinnyes
وتقد َم أبولو ،Apollonإله
النور؛ فكل خلق جديد هو نهاية خلق ،نهاية عمر من أعمار العالم؛ وهكذا فمن الطوفان
وانبثاق آخر .إضافة إلى ذلك فأساطير النهاية تبقى أساطير من حيث أنها
ُ نهايةُ عالم
تنقل إلى النهاية القوة االفتتاحية التي لألسطورة.
23
األصلي .وفي هذا المعنى ،يسمح بالقول إن أساطير النهاية تبقى أساطير طالما أنها
ظلت أساطير استعادة .ويمكننا التساؤل عندئذ إن كانت الحكاية األخروية ،حين تشحن
بقوة األسطورة ،تفقد شيئا من قصدية معناها ،هذا المعنى الذي يقابل بشكل جذري
الرب ،ليس تكرارا
ّ األسطورة .إن التبشير بملكوت الرب ،باعتباره تنبؤا بقدوم
لألصول ،بل هو شيء آخر تماما؛ وفي هذا الصدد فمن الشرعي أن نقول إننا ال
ِّ
الرب إالّ بواسطة إلغاء الثقل األسطوري ،في نتوصَّل إلى ِّ
لب معنى التبشير بملكوت
المعنى الدقيق للكلمة ،أي عبر العودة إلى لحظة بداية النبوة التي تضع فاصال ،من
حساب وموت ،بين تكرار الذات والوعد بما يخالفها..
* األسطورة والحكمة:
ليس من المؤكد أن هذه الصلة المضاعفة بين الفضاء األسطوري وفضاء تاريخ
الخالص من ناحية ،وبين الفضاء األسطوري وفضاء النبوة والحكاية األخروية من
ناحية أخرى ،تستنزف إمكانات التبادل بين األسطورة وأشكال أخرى من الخطاب.،
تحمل هي أيضا أنماطا مختلفة من التفكير .إن حدود األسطورة مع األدب الحكمي
،sapientialeأو ،باختصار ،مع الحكمة ،تحتاج إلى فحص بالعناية ذاتها التي فحصنا
بها َّ
الحذين السابقين .ورغم أن هذا األدب في شكله المكتوب يبدو متأخرا عن تاريخ
الس ِ
ُّنن وعن النبوة ،فإن له فيما يبدو وجودا خفيا داخل األسطورة ذاتها .إن الحكمة ،قبل
أن توزع نصائحها على اإلنسان ،تمثل محاولة الكتشاف العالم حتى تباشر تنوعه الشديد
وتتحكم فيه .وبهذا االعتبار ،نتج عن عملية االكتشاف هذه جملة تصنيفات الحيوانات،
والنباتات ،والحجارة ،إضافة إلى تصنيفات الشعوب والحوادث ،وخصوصا التصنيفات
الثنائية (ذكر -أنثى ،سماء – أرض ،نور – ديجور ،كائن حي – كائن جامد ،روح –
جسد ،أهلي – وحشي ،طاهر – مدنس ،جنة – صحراء ،شجرة الحياة– نبات عقيم)؛
وبصفة عامة إن كل عمليات تسمية األشياء المخلوقة تعبر عن عالقة الكون بشكل
تفكيرنا.
24
المثلية ،شبيه في عدم يقينيته باألسطورة .كما
ّ الحد بين األسطورة والحكمة
هذا ّ
بينها التحليل البنيوي؛ فهي تستند ،في مستوى فكري الشعوري ،على منطق في
التصنيف شبيه بهذا ولكننا يمكن أن نقول إن ما تفعله الحكمة .بوعي تفعله األسطورة بال
وعي .ونحن ال نستطيع احتقار هذا النشاط الـحكمي المثلي :إن الوصفات الطقوسية ذاتها
تستند إلى تصنيفات من هذا النوع وهي تصنيفات تطبع األساس المشترك للفكر الديني
والفكر العلمي؛ فاإلنسان ،من خالل إطالق االسم ،يبحث عن داللة ،عن نظام؛ ومن هذا
المثلية ،ال تقف األسطورة مع األمثولة ،fableولكنها ترتبط مباشرة
ّ جهة الحكمية
المثلية هامة :فمن خالل
ّ بالبنية التحتية للتفكير .إن نتائج هذه الدرجة األولى من الحكمة.
التصنيف يتخذ الفكر موقفا حيال غموض الواقع؛ إنه يقطع بين التشابه واالختالف ،وبين
القرابة والتقابل ،وبين التواصل والقطيعة ،وبين نعم وال.
ويمكن لهذه المسارات االستكشافية أن تطبق ،على أساس من هذا التنظيم ،على
اإلنسان ذاته ،في مواجهة الفوضى الظاهرة في الحياة اإلنسانية؛ فيتلقى البحث عن
المعنى هنا ،بعدا وجوديا ،ولكن دون تغيير وجهة البحث بشكل جذري .وال تتخذ الحكمة.
َدا :فأن تعرف العالم ،هومدى أخالقيا إالّ في حالة ظهر فيها العالم باعتباره معنى َّ
مهد ً ً
أن تكون قادرا على أن تعيش فيه وأنت تواجه العبث.
25
المتعة بل العمل؟ َلم ال تكون الطبيعة صديقة بل حيوانات وحشية؟ َلم ال نجد الحب
فحسب ،بل نجد معه آالم المخاض؟َ .لم ال يكون جمال الجسد العاري ،بل الحياء
قوانين تعطي الحياة ،بل قوانين تولّد االنتهاك؟ َلم ال يكون فرح
ُ والطهر؟ َلم ال تكون
الحياة ،بل االنتهاء إلى التراب؟ إن األسطورة ،بإجابتها على هذه األسئلة ،وبتقديمها
طور حكمة من أجل الحياة.
عالما ذا داللة للتجربة اإلنسانية ،تُ ِّ
إذن بإعادة بناء تقابالت األسطورة وبقية أشكال الخطاب وبوضع تخطيط إجمالي
للعبة التبادالت بين كل أشكال الخطاب .هذه ،نستطيع أن نبرز أفقا لمعنى تسعى من
خالله الحكايات واألساطير والنبوات والحكمة معا إلى تأليف لغة كلية قد يتصالح فيها
الصوت واإلشارة ،واإلنشاد والحركة الطقسية ،ودقة التمييزات وعمق العاطفة .،والذاكرة
واألمل .إن األسطورة ،بمتاخمتها .بقية أشكال الخطاب ،تحصل على داللتها العميقة،
المتمثلة في ،حسب عبارة جان بول أودي ( Jean-Paul Audetالذي عمل ،بجهد،
على إعادة الداللة لألدب الحكمي) ،اقتراح "استبداد كلي" بكامل ميراث طائفة ما.
.3األسطورة والفلسفة:
يمكن العودة ،في نهايات هذا البحث ،إلى السؤال الذي طُ ِر َح في المقدمة والخاص
بلقاء رؤية األسطورة للعالم بما تقتضيه الفلسفة .سنكتفي هنا بالقضايا التي تطرحها.
األسطورة في الفلسفة الحديثة والمعاصرة ،مع اإلبقاء رغم ذلك ،على التعارض البدئي
بين الميتوس واللوغوس في الفلسفة اإلغريقية باعتبارها خيطا موصال .حقا .إن الفلسفة
الحديثة والمعاصرة .تعيد ابتكار هذا التعارض ذاته في أشكال متعددة .ومن وسائل بيان
هذا التعارض هو تأطيره في مستوى التمثيالت ،في المعنى الذي أعطيناه عند تقديم
الالزمة األولى لتعريف األسطورة باعتبارها حكاية األصول .فعال ،إن الفلسفة تلتقي
باألسطورة وطموحها االبستيمولوجي ،أوال باعتبارها تمثيال .فتصبح عندئذ قضية
ميتوس-لوغوس قضية "تمثيل-مفهوم" .فإذا كانت الفلسفة هي التفكير بالمفهوم فإن
السؤال هو أن نعرف إن كان التمثيل الذي تنقله األسطورة يمكن أخذه باعتباره .صورة
26
إما أن التمثيل يمكن إرجاعه .إلى المفهوم (وحينئذ
قبلية للمفهوم .هنالك إجابتان ممكنتانّ :
َلم كل هذا االلتفاف الذي أبرزت نظريات المجاز القديمة تفاهته؟) ،أو على العكس إذا
تمسكنا بعدم إرجاع التمثيل إلى المفهوم ،فماذا عن مهمة العقالنية؟.
إن إجابات كانط Kantوهيغل Hegelعن هذه المفارقة .مفيدة بشكل قوي .فهذان
الفيلسوفان ،وبطريقتين مختلفتين ،يحاوالن التمسك بأولية المفهوم (بمعان مختلفة للكلمة،
والحق يقال) ،مع المحافظة على أهمية التمثيل .والحالن اللذان اقترحاهما .يمكن
بعد .كل ما سنثيره من نقاشات أخرى،
جاوزا ُاعتبارهما أنموذجين فلسفيين لم ُيتَ َ
يفترض ،بطريقة أو بأخرى ،التنازع الناشئ من التقابل بين كانط وهيغل.
ال ينبغي أن نبحث ،عن إجابة كانط عن سؤال وضع التمثيل في اقتصاد الفلسفة،
في الدين في حدود العقل البسيط فقط .إن كامل مشروع فلسفة الحدود هو الذي يعطي
معناه لهذه اإلجابة الجزئية .إن ادعاء معرفة أشياء مطلقة ،في فلسفة الحدود ،خارج.
دائرة التجربة الحسية والمعرفة العلمية متهم بالوهم؛ وبهذا المعنى يسقط العالم
األسطوري تحت نقد كانط لـ"الوهم المتعالي" الذي ال يشمل الحجج الكالسيكية للميتافيزيقا
فحسب ،بل كل المواقف الخاصة بالخوارق التي تروجها ثقافة عظيمة.
ولكن فلسفة كانط ليست مجرد فلسفة وضعية .فإذا كان هناك وهم متعال ،فألن
ص ُر في الفاهمة ويفرض ما ال يخضع للشرط على رأس السلسلة الكاملة
العقل ال ُي ْختَ َ
من الشروط؛ وما ال يخضع للشرط هذا يمكن أن يكون "مفكرا .فيه" ،penséال
"معروفا" " ."connuهذا االختالف بين فكر وعرف ،ملحقا .بنقد الوهم المتعالي ،يفتح
تأويال ممكنا لعالم األساطير .فعال ،فإذا أدينت األسطورة باعتبارها ميتافيزيقا ضمنية،
فإنها قابلة لتلقِّي معنى من خالل صلتها بما ال يخضع للشرط .ولكن أي معنى.؟ بالنسبة
27
إلى كانط ال يمكن أن يكون هذا المعنى إالّ معنى أخالقيا .إن خرق الحدود الوحيد الذي
ال يؤدي إلى العودة إلى "الوهم" المتعالي هو موقف حريتنا في صلتها باألخالق.
إنه على هذا األساس العملي فقط يمكن بسط "مسلمات" تخص اهلل والخلود
والحرية .وعلى خلفية مسلمات العقل العملي هذه يمكن للفلسفة أن تفهم "في حدود العقل
البسيط" شيئا عن التمثيالت الدينية .وهذا أمر ممكن للفلسفة بل واجب عليها ،ما أن
الشر .إن إمكانية التغلب على الشر هي إمكانية أن تكون الحرية حقيقة ِ
تَُواجهَ مشكلة ّ
تصو ُر
وليس مجرد إلزام أو حلم .ومن هنا يصبح ارتكاز األمل العقالني على تمثيالت ِّ
انتصار "المبدإ الطيِّب" على "الخبيث" مقبوال .فالفلسفة ال تفهم ما يمكن تسميته بالرسوم
البيانية لـ"النتصار على الشر" أو ما يسمى برموزه ال في حدودها فحسب بل في تخومها
كذلك ،إالّ باعتبارها "مجازات" .تدعم األمل العقالني.
طبعا ،لم يفكر كانط في األساطير ،بل في المسيحية؛ ولكنه ال مانع أن نوسع
تصور كانط لـ"رمزية" .،في مستوى الخيال ،وتصوره لطلب المعنى الذي يصدر عن
العقل ذاته ،نحو مجمل رؤية العالم التي عرضناها سابقا .يمكن أن نجد وخصوصا في
باريرغا Parergaالدين في حدود العقل البسيط لب التأويل الكانطي للميثولوجيا.
فعال ،إن كانط يعني بالـباريرغا ،التمثيالت التي لم تعد في حدود العقل البسيط فحسب
بل في تخومه كذلك .وهكذا فإن فلسفةً للحدود ،وهي في نفس الوقت ،فلسفةٌ عملية ،ال
تستطيع مباشرة حقيقة الكون األسطوري إالّ باعتبارها معرفة للتخوم.
ولكن ثمن كل هذا باهض ،إن األساطير ليست قابلة للفهم إالّ عند تجريدها من كل
مدى تأملي وعند ربطها بالوظيفة العملية للعقل ،أي ،في النهاية ،عند ربطها بشروط
ً
تحقق الحرية اإلنسانية .وبهذا المعنى يمكن القول إن كانط قد فتح الطريق أمام تأويل
وجودي لألساطير.
28
يفتح هيغل إمكانية أخرى ،فالتمثيالت الدينية ليست ،بالنسبة إليه ،ماوراء au-
delàحاجزَ .ح َّد َدهُ العقل الذي يراقب ذاته .إنها ،بالعكس ،أمام en deçàاكتمال
للمعرفة ،داخل وعي الروح المطلق بذاته .إن التمثيالت الدينية ليست ،إذن ،في تخوم
الحد؛ إنها تنتمي إلى المرحلة .قبل األخيرة لمسار ينتهي عند المعرفة المطلقة .بل إن
ّ
األمر أكثر من هذا ،إذ ال يمكن أن يكون محتوى الدين ومحتوى الفلسفة مختلفين ،ألنه
ال يمكن أن يكون هنالك وعيان ذاتيان للروح المطلق .إن الدين والفلسفة ال يختلفان في
أما الفلسفة فهي وحدها
المضمون بل في درجة المعرفة .فالدين يبقى في مجال التمثيل؛ ّ
التي تلج مجال المفهوم .وبهذا يكسر هيغل اإلطار الضيق للفلسفة العملية الكانطية ويعيد
للكون األسطوري ،ضمنيا ،صلته بالحقيقة التأملية.
إما أن يكون
ولكن أي صلة؟ كيف الخروج من التعارض المتمثل في أن التمثيل ّ
تصو ُر تنظيم هرمي لعالم
زائدا ،وإ ّما أن يكون ضروريا؟ .ما يبقى من عمل هيغل هو ّ
التمثيل وديناميكية تحمل التمثيل نحو المفهوم بفعل حركة قهرية لـ"اإللغاء"
.Aufhebungوما يقابل ،في فلسفة الدين عند هيغل ،العالم األسطوري هو الدرجتان
األوليان لما يسميه الدين" :الدين الطبيعي" ،و"الدين الجمالي.-األخالقي" ..وعالم التمثيل
في السجلَّْين مبرر تماما؛ ففي التمثيل يتلقَّى الروح المطلق حقيقة جوهرية ،ال تنفك عن
بد من الرجوع دائما إلى نقطة االنطالق
التحول إلى وعي ذاتي وإ لى مفهوم .لكن ال ّ
ّ
هذه حيث يكون الروح شيئا ،حجرا؛ ذلك أننا نتثبت دائما ،من خالل التصوير الحسي،
من أن الروح ليس بعيدا عناَّ ،
وأن له القدرة على التعريف بنفسه ،وأنه عرف بنفسه.
ولكن ،وفي نفس الوقت ،فإن مهمة بيان أن هذا االغتراب يحمل في ذاته لزوم تجاوزه
هي مهمة الفلسفة .ويمكن إرجاع اإلقرار القائل "البد من أن يموت الوثن ليولد الرمز"
إلى التأثير هيغلي .فموت األوثان هو الذي يضع فعال عالمات ارتقاء التمثيل نحو
المفهوم.
29
هنالك ،أوال ،موت التمثيالت الطبيعية ،أي ما يمكن تسميته اليوم ،مع ميرسيا
إلياد ،بـ"الرموز الكونية" .ورغم ذلك فهذه الرموز هي التي تغذي بقوتها الدفينة فعل
اإلظهار حيال المطلق كل الرموز العليا التي تتمركز على أساسها .إن موت الرموز
الطبيعية قد اكتمل في الفن اإلغريقي والديانة اإلغريقية؛ وخالفا للرموز الكونية
والحيوانية ،بل خالفا لرمزية الهرم والمسلة الهندسية ،obélisqueفإن التمثال
اإلغريقي ذات؛ على أنه يجب االتجاه .نحو موت ثان ،هو موت الصورة الهيلينية ذاتها.
لقد طُبِ َع موت "التمثال" اإلغريقي هذا بميالد الكوميديا ،وبجوانية الذات في الشخصية
القانونية الرومانية .ولقد رافقه شعور كبير بالتعاسة والفراغ .وفي هذه المناسبة أعلن
هيغل الكلمة المشهورة "مات الرب" آخذا إياها من النشيد اللوثري ليوم الجمعة المقدس.
وعلى أساس الموت هذا تنبثق الظاهرة الوحيدة التي يقول عنها هيغل إنها "تجلي"
الروح بما هو هنا ،étant-làأي التجسيد المسيحي .بيد أن سياق الموت ،هنا أيضا،
ينتمي ،ضرورة ،إلى استئثار الطائفة بمعنى هذا التجلي المطلق .فعال ،إن سيادة التمثيل
لم يبطلها التجسيد؛ لقد أخذت هذه السيادة ،فقط ،شكل الحدث الجديد ،من ناحية ،وشكل
تأويل الطائفة له من ناحية أخرى .ولهذا وجب إعادة تأويل كل المحتوى التأملي
للمسيحية في لغة المفهوم.
سيبقى التساؤل حول إن لم يكن هيغل ،في الحقيقة ،قد أذاب الكون األسطوري
للتمثيل بوضعه في المرحلة قبل األخيرة لمسار ينتهي في المعرفة المطلقة ،مثلما فعل
ذلك كانط في فلسفة للحدود تترك خارج .حقلها .ما ال تستطيع إدخاله في دائرتها ،وإ ن
أخذت عنها ،بشكل ما ،من الخارج ،نظرة حدودية؛ سيبقى هذا التساؤل محل نقاش لمدة
طويلة.
يبدو ،رغم كل ذلك ،أن هيغل قد وضع ،لعلم أصول التفسير Herméneutique
المعاصر ،جملة من القواعد لو يستطع هذا العلم تجاوزهاّ .أوال :للتمثيل األسطوري
معنى ،ويتمثل هذا المعنى في جعل المطلق ظاهرا بيننا .ثانيا :هذا المعنى يكمن ،أساسا،
30
في التمثيالت األكثر مادية التي تعطي امتالء جوهريا لتعابير المطلق .ثالثا ،إن التمثيل
ليس رسما جامدا ،بل هو حركية ٍ
فكر يسعى إلى إلغاء ذاته في المفهوم؛ وفي هذا
اإلطار ،يمكن القول إن هيغل قد أرسى المبدأ القائل بأن التأويل ال يكون خارج.
المؤو ِل ،وإ نما هو ما تقتضيه الرمزية ذاتها ،والتي تباشر ،بطريقة ما،
َّ الموضوع
"يؤول نفسه" .رابعا،
تفسيرها الذاتي؛ فالتمثيل ،كما يقول لوثر عن الكتاب المقدسِّ ،
يحتوي فعل التأويل هذا على مرحلة فانية ،وال ينبغي أن يدهشنا هذا ،فلقد قابلنا ،دون
انقطاع ،موضوع الموت هذا ،موت عالم بما هو شرط لكل خلق عهد جديد .وهذا
الموت ليس هو ما يقوله التمثيل فحسب ،و-المثال على ذلك في رمزية يوم الحساب
وغضب الرب التي تقلب حكاية األصول إلى نبوءة نهاية ،-بل هذا الموت هو ما يعمل
ِّت باتجاه المفهوم .أخيرا ،إن الوجهة
داخل نسيج التمثيل ذاته :إن الرمز هو تمثيل َمي ٌ
يشق كل هذه الحركيات ،تهدف إلى انبثاق رمزية ذات الداللة ،وسهم المعنى الذي ّ
ت الفلسفةُ ،أو إن جاز القول
أنموذجية هي الوعي ذاته وقد سكنه المطلق .هكذا َبَّر َر ْ
تولت الفلسفة ،هذه الخاصية التي ينتهي بها هذا البحث حول قصد األسطورة الداللي،
وهذه الخاصية هي أن األسطورة ال يكون لها معنى إالّ في تعدد أصوات كل أشكال
الخطاب .في أفق "استبداد كلي".
إن التراوح بين كانط وهيغل محير؛ فنحن ال نستطيع قطعا أخذهما معا وإ ضافتهما
الحد من تناقضهما عبر نوع من التعديل
إلى بعضهما؛ ولكننا نستطيع على األقل ّ
المتبادل .فمن ناحية ،يوشك تقليص كانط ،عالم "العقائد" إلى الممارسة أن يربط
مصيرها بمذهب أخالقي؛ فال َّ
بد إذن من التذكير ،مع نيتشة ،بأن "رب األخالق فقط هو
الذي وقع دحضه" .ولكن طموح هيغل إلى المعرفة المطلقة ال تخلو من شبهة :فأين يقف
الفيلسوف فعال؟ وهل هو خارج .لعبة التمثيل كلها؟
أليس من الممكن عندئذ إعادة اكتشاف معنى لألخالق ذاتها ينطلق ال من فكرة
الواجب والضرورة بقدر ما ينطلق من فكرة الدافع التي تحث العبد نحو الحرية .فإذا
31
فهمنا األخالق بهذه الكيفية ،باعتبارها مجموع شروط تحقيق الحرية ،فكل فهم للذات،
إذن ،فهم أخالقي ويمكن أن نجزم أن المعرفة الرمزية هي المنعطف الطويل الذي
تكتشف ،من خالله ،الذات شروط تََأس ِ
ُّسهَا الخاص .أليست وظيفة األسطورة األولى هي
تأسيس الزمن التاريخي؟.
32