You are on page 1of 32

‫األسطورة‪ :‬التأويل الفلسفي‬

‫ِ‬
‫والحقيقة‪ ،‬وسنترك‬ ‫هم الفلسفة‪ ،‬أعني قضايا المعنى‬
‫لن نعتني هنا إالّ بالقضايا التي تَ ُّ‬
‫المقَ َار ِن‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫المعاصرة‪ .‬حول األسطور ِة في علم‬
‫تاريخ األديان ُ‬
‫ِ‬ ‫اإلناسة وفي‬ ‫جانبا المناقشات ُ‬
‫ِ‬
‫باألصل‪ ،‬والتطور‪ ،‬والوظيفة االجتماعيةً‪ .‬ال يتعلق األمر‬ ‫وسنترك أيضا األسئلة المتعلقة‬
‫المفتََر ِ‬
‫ض أن يكون الدين قد قطعها منذ‬ ‫ض ِع األسطور ِة على الطّري ِ‬
‫ق التي من ُ‬ ‫بو ْ‬
‫إذن َ‬
‫تساءل كيف تتموقع األسطورة‪،‬‬
‫َ‬ ‫َأن َن‬ ‫ِ‬
‫األديان المتقدمة‪ ،‬وال ْ‬ ‫أشكاله األكثر بدائية حتى‬
‫باعتبارها حقيقة اجتماعية ثقافية‪ ،‬ضمن مجموع الظواهر االجتماعية‪ .‬ولن نتناول أيضا‬
‫الحوار الذي فتحه مؤسسو اإلثنولوجيا الدينية الخاص بمعرفة ما إذا كانت األسطورة‬
‫تمثل مرحلة قبل‪-‬منطقية وما إذا كان شكل تفسير األشياء الذي تعتمده داال على عقلية‬
‫سينظر إلى األسطورة هنا باعتبارها شكل‬
‫ضرة‪ُ .‬‬‫تح َّ‬
‫الم َ‬
‫ق الشعوب ُ‬‫بدائية متمنعة عن منط ِ‬
‫ولما كانت الفلسفة هي الميدان اآلخر الذي يطرح‬ ‫ِ‬
‫خطاب ُيَن ِّمي ادعاء المعنى والحقيقة‪ّ .‬‬
‫فيه سؤال المعنى والحقيقة بشكل جذري كان السؤال عن ادعاء األسطورة هذا في‬
‫عالقته بالخطاب الفلسفي؟‬

‫أن األسطورة مهيأة‬


‫إن الواقعة األولية التي منها تنحدر كل النقاشات الالحقة هي ّ‬
‫لتقييمين متقابلين‪ ،‬وكأنما للعقل "غرضان" متضادان يتواجهان داخلها‪ .‬فالعقل من ناحية‬
‫يدين األسطورة‪ ،‬يقصيها ويطاردها؛ وقد بدأ أفالطون الكتاب الثاني للجمهورية بوجوب‬
‫االختيار بين الميتوس واللوغوس‪ ،‬وذلك قبل أن يبتكر هو نفسه أساطير‪ ،‬رغم أن األمر‬
‫ِ‬
‫الفلسفة‬ ‫لم يكن متعلقا إالّ بأساطير هوميروس وهزيود وبفن التراجيديا؛ غير أن عداء‬
‫لألسطورة عداء مبدئي‪ :‬إذ البحث عن األساس‪ ،‬وعن حكمة الوجود‪ ،‬يقصي حكاية‬
‫األخبار‪ .‬ينبغي إذن أخذ األساطير باعتبارها مجازا‪ ،‬أي أخذها باعتبارها لغة غير‬
‫مباشرة تختفي داخلها حقائق‪ .‬فيزيائية وأخالقية أصيلة؛ واإلمساك بهذه الحقائق‪ .‬من تحت‬

‫‪1‬‬
‫الكساء األسطوري يجعل هذا الكساء‪ ،‬وقد انخرم‪ ،‬غير ذي جدوى؛ هكذا صنع‬
‫السفسطائيون ردا على حماس أفالطون الشاب‪.‬‬

‫العقالني لألسطور ِة‪ ،‬وقد ظاهره المدافعون المسيحيون عن المسيحية‬


‫ِ‬ ‫الر ِ‬
‫فض‬ ‫هذا ّ‬
‫ضد الوثنيين‪ ،‬قد انقلب على المسيحية ذاتها بفعل عقالنيي القرن الثامن عشر‪:‬‬
‫إما أن تكون صبيانيات‪ ،‬وإ ّما أنها‪ ،‬على العكس من ذلك‪ ،‬أمثوالت محكمة‬
‫فـ"الخرافات"‪ّ .‬‬
‫اخترعها القساوسة لخداع الشعب‪ .‬إن تأويالت القرن التاسع عشر الوضعية تندرج‬
‫ضمن نفس التوجه‪ ،‬باعتبار أن العلم الحديث وريث اللوغوس اليوناني‪ .‬فاألساطير التي‬
‫اكتشفها علم األديان المقارن‪ ،‬وخصوصا في المجالين الكبيرين‪ :‬المجال السامي من‬
‫ناحية والمجال اآلري واإليراني من ناحية أخرى‪ ،‬واألساطير الحية التي اكتشفتها‬
‫اإلثنولوجيا كاألساطير األسترالية والبولونيزية والهندية‪ ،‬تندرج كلها تحت الميتوس‬
‫اإلغريقي‪ ،‬مثلما أن العقل الحديث يندرج تحت اللوغوس اإلغريقي‪ .‬لقد استعاد العقل‬
‫العلمي في مواجهة األساطير غير الكالسيكية حكم الفالسفة القديم حول هوميروس‬
‫وهزيود‪.‬‬

‫إن النقد الحديث سليل ماركس ونيتشة وفرويد‪ ،‬رغم اختالف استدالالته عن تلك‬
‫التي كانت للعقالنية الكالسيكية‪ ،‬يندرج ضمن امتداد تطهير العقل لألسطورة‪.‬‬

‫إن المفارقة في هذه المواجهة أنها لم تستطع أبدا القضاء على الخصم؛ فأفالطون‬
‫ّ‬
‫نفسه يكتب األساطير؛ وفلسفته تصدر عن األسطورة األورفية‪ 1‬وبطريقة ما‪ ،‬تعود إليها؛‬
‫شيء ما يقول لنا إن األسطورة ال تستنزفها وظيفتها التفسيرية‪ ،‬وإ نها ليست فحسب‬
‫طريقة قبل‪-‬علمية للبحث في األسباب‪ ،‬وإ ن الوظيفة التمثيلية نفسها لها قيمة أولية‬
‫استكشافية بخصوص بعض أبعاد الحقيقة التي ال تتماثل والحقيقة العلمية؛ فمن الواضح‬
‫أن األسطورة تعبر عن قوة خيال وعرض لم نقل عنهما شيئا بعد لشدة ما اقتصرنا على‬
‫اعتبار هذه القوة "سيدة الخطإ‪ .‬والبهتان"‪ .‬لقد تعامل الفالسفة العظماء‪ ،‬سواء كانط أو‬

‫نسبة إلى الشاعر والموسيقي الذي ذكرته األسطورة اليونانية (م)‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫شيلينغ أو هيجل أو برجسون أو هايدغر‪ ،‬مع قوة الخيال هذه‪ .‬ومهما كانت اإلجابة التي‬
‫يقدمونها عن التساؤل حول كون نوع الخيال األنطولوجي الذي تتضمنه األسطورة هو‬
‫في النهاية أق ّل درجة من الحقيقة القائمة على النظام المفاهيمي‪ ،‬فإن تفكيرهم المشترك‬
‫يهدف نحو غرابة متعالية ليست األسطورة إالّ انبثاقا عنها‪.‬‬

‫ليس الرهان تحديد وضع األسطورة فحسب بل تحديد وضع الحقيقة التي نقترح أن‬
‫نقيس األسطورة بها؛ فالسؤال في النهاية هو معرفة هل أن الحقيقة العلمية هي كل‬
‫الحقيقة‪ ،‬أم أن األسطورة تقول شيئا ال يمكن أن يقال بطريقة أخرى؛ ولن تكون‬
‫األسطورة عندئذ مجازا ‪ allé-gorique‬بل ستكون‪ ،‬حسب عبارة شيلينغ‪َ ،‬ع ْينًِّيا "‬
‫‪ 2:"tauté-gorique‬أي أن األسطورة تقول الشيء عينه وليس شيئا آخر‪ .‬وهكذا‪ ،‬وضمن‬
‫النقاش حول األسطورة‪ ،‬يبقى السؤالنفسه حول الحقيقة معلقا‪.‬‬

‫إن التناقض هو اآلتي‪ :‬فمن جهة يتعارض الميتوس واللوغوس‪ ،‬ومن جهة أخرى‬
‫يتالقيان‪ ،‬حسب اإليتيمولوجيا القديمة التي تماثل بين الميتوس والكالم‪.‬‬

‫‪ .1‬لغة األسطور ِة‬

‫ِ‬
‫الخطاب‪ .،‬فالواجب بادئ ذي بدء أن‬ ‫إذا كانت األسطورةَ قبل كل شيء شكال من‬
‫تدرج في إطار العلوم السيميولوجية‪ .‬هذه العلوم‪ ،‬والتي تمثل األلسنية فيها رأس الحربة‪،‬‬
‫ِ‬
‫اإلنسان نماذج ذات كفاءة عالية‪ .‬غير أنه يوجد طريقتان لوضع‬ ‫توفر فعال لكل علوم‬
‫"عيني"‪ .‬وقد ذكر شيلينغ هذه العبارة‪ ،‬على ما‬
‫ّ‬ ‫‪ 2‬لم نجد ترجمة لعبارة شيلينغ هذه ولذلك سعينا إلى ترجمتها بعبارة‬
‫وجدناه في الموسوعة الفلسفيّة العالميّة‪ ،‬في مدخل إلى فلسفة الميثولوجيا في مقابل التص ّور المجازي‪ ،‬وذلك‬
‫‪ 4‬فيه الظواهر األساسيّة للعنصر األسطوري‪ ،‬بذاتها‪ ،‬وليس بردّها‪ ،‬على طريقة المجاز‪ ،‬إلى ما‬ ‫لضبط مفهوم تتح ّدد‬
‫العيني بديال عن التأويل المجازي للعالم األسطوري‪ ،‬وهو ما يعني أنه تأويل ينظر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫هو أشمل منها‪ .‬ويمثل التأويل‬
‫خاص يعطيها‬ ‫ُ‬
‫إلى الصور األسطوريّة باعتبارها إنتاجا ذاتيا للعقل والتي يجب أن تف َهم بذاتها انطالقا من مبدإ ّ‬
‫"عيني" لترجمة عبارة شيلينغ إرجاع هذه العبارة األمر إلى "الذات" في‬‫ّ‬ ‫معنى وشكال‪ .‬وما دفعنا إلى اختيار كلمة‬
‫كليتها‪ ،‬من ناحية (وهو ما يفهم من السابقة ‪ )tauté‬وفي خصوصيّتها‪ ،‬من ناحية أخرى (وهو ما يفهم من تقابلها‬
‫‪( 4‬م)‪.‬‬‫مع طريقة الفهم المجازي)‪ ،‬فعين الشيء ذاته بقطع النظر عن عالقاته وامتداداته‪.‬‬
‫‪JACOB, André, Encyclopédie Philosophique Universelle, II, Les Notions‬‬
‫‪Philosophiques, P.U.F., p 2545.‬‬

‫‪3‬‬
‫األسطورة في الخط المتواصل لأللسنية‪ ،‬والطريقتان تعيدان‪ ،‬بوجه ما‪ ،‬وضمن المستوى‬
‫السيميولوجي‪ ،‬التناقض الذي قلنا منذ حين إنه يهيمن على مجموع العالقات بين‬
‫اللوغوس والميتوس‪ :‬هكذا سنطبق على األسطورة‪ ،‬تباعا‪ ،‬األنموذج البنيوي‪ ،‬النابع من‬
‫الصوتمية والعالئمية البنيوية والذي سيؤدي إلى التشديد على نسيج األسطورة التركيبي‪،‬‬
‫ثم أنموذج سيرورة المجاز‪ ،‬والذي يقود إلى إبراز اللعبة الداخلية للمحتويات السيميائية‬
‫ذاتها‪ .‬سنحاول جاهدين بيان أن هذين األنموذجين‪ ،‬ال يقصي أحدهما اآلخر‪ ،‬بل‬
‫يتكامالن؛ وسنبين طرق المرور من أحدهما إلى اآلخر‪.‬‬

‫* األنموذج بنائي‬

‫بالنسبة إلى كلود ليفي ستروس‪ ،‬أهم ممثلي هذه المدرسة في فرنسا‪ ،‬يجب أن‬
‫ننظر إلى الميثولوجيا باعتبارها "ميثو‪ -‬منطق"‪ ،‬أي باعتبارها واضعة نوع من المنطق‬
‫سمع إالّ إذا لجأنا إلى االفتراضات الرئيسية لألنموذج البنيوي للغة‪.‬‬
‫ال يمكن أن ُي ْ‬

‫وطبقاً لهذا األنموذج‪ ،‬الذي وسعه ف‪ .‬دي سوسير ‪ ، F. de Saussure‬ول‪ .‬ت‪.‬‬


‫يلمسالف ‪ L. T. Hjelmslev‬وبنيويو مدرسة براغ‪ ،‬والشكالنيون الروس‪ ،‬فإن األلسنية‬
‫ال يجب أن تأخذ بعين االعتبار أحداث اللغة بل قواعدها؛ ومع ذلك‪ ،‬وضمن هذا التقابل‬
‫بين اللسان والكالم‪ ،‬ال تنتبه النظريةُ البنيوية إالّ إلى حاالت النظام في فترة معينة‪،‬‬
‫بعبارة أخرى ال تنتبه إالّ إلى تكوين هذا النظام اآلني ال إلى تغيراته وتاريخه وزمانيته‬
‫(وهذه الفضيلة الممنوحة إلى النظام على حساب التاريخ ذات أهمية عظمى بالنسبة إلى‬
‫ما سيلي من نقاش)؛ والتحليل البنيوي‪ ،‬من جهة ثالثة‪ ،‬ال ينتبه في نظام اللسان إالّ إلى‬
‫عالقات التقابل والتوليف بين العناصر‪ ،‬أي ال ينتبه إالّ إلى "الشكل" سواء كان دالليا أو‬
‫صوتميا ال إلى "الجوهر"‪( .،‬ولهذا التوجه الشكالني للتفسير ثقل كبير في مسألة‬

‫‪4‬‬
‫األسطورة)؛ وأخيرا من جهة رابعة‪ ،‬يجب أن يؤخذ النظام باعتباره مجموعة مغلقة على‬
‫ذاتها‪ ،‬بغض النظر عن المرجع الواقعي‪ ،‬وعن نفسية المتكلمين واجتماعيتهم‪.‬‬

‫كيف نضع األسطورة في باديء األمر في عالقتها بالتقابل لسان‪-‬كالم؟ تأتي‬


‫األسطورة للوهلة األولى‪ ،‬في صف الكالم باعتبارها نوعا من السرد تتالحق أطواره في‬
‫زمن غير قابل للنكوص؛ ولكنها تأتي في صف اللسان عبر تنظيم عناصره‪ ،‬الذي يصنع‬
‫نظاما زمنيا واقعا ضمن زمن األنظمة القابل لالنعكاس‪ .‬إنها مهمة تفسير العبور من‬
‫األسطورة المحكية في زمن متعاقب إلى البنى الثابتة التي ال تحكم الوحدات المتعاقبة‬
‫لسرد أسطورة في رواية معينة فحسب‪ ،‬وإ نما تحكم كذلك المدونة الكاملة المكونة من‬
‫مجموع روايات األسطورة ذاتها وتنويعاتها‪.‬‬

‫هذا االختيار األول يرتكز على فرضية أن اللّغة‪ ،‬في كل مستوياتها‪ ،‬متجانسة؛‬
‫بعبارة أخرى‪ ،‬إن نفس قوانين التقابل والتوليف تحكم الوحدات األصغر من الجملة‬
‫(الصواتم ‪ ،phonèmes‬والصياغم ‪ ،morphèmes‬والمعانم ‪)sémantèmes‬‬
‫والوحدات األكبر من الجملة والتي سنسميها في اإلطار الخاص باألسطورة‪ ،‬المياثم‬
‫‪( mythèmes‬وذلك لتأكيد تجانس كل الوحدات المكونة للغة)‪.‬‬

‫ما هي هذه المياثم؟ إنها أقصر جمل ممكنة‪ ،‬أي أنها عالقات إسنادية؛ وهكذا فكل‬
‫قصة مصنوعة من سلسلة من هذه الجمل‪ .‬وإلظهار البنية الثابتة التي تربط بينها (ومن‬
‫ّ‬
‫ثمة لكي نطبق على األسطورة ثاني الفرضيات المذكورة أعاله) نصنع قوالب تمكن من‬
‫القراءة‪ ،‬على طريقة التقسيم األوركسترالي‪ ،‬لجدول المياثم المزدوج المدخل‪ :‬فقراءة‪.‬‬
‫الخانات العمودية تظهر "مجموعات العالقات" التي تضعها القراءة األفقية داخل تنوع‬
‫العالقات التوليفية‪.‬‬

‫وهكذا وفي إعادة بناء أسطورة أوديب تتوزع المياثم على أربع خانات عمودية‪:‬‬
‫ففي األولى‪ ،‬نضع العالقات العائلية التي يبالغ في تقديرها (يتزوج أوديب أمه‪ ،‬وتدفن‬

‫‪5‬‬
‫أنتجونة بولينيس)؛ وفي الثّانية‪ ،‬نضع العالقات العائلية غير المحترمة أو المضادة للقيم‬
‫(أوديب يقتل أباه‪ ،‬وإ يتوكل يقتل بولينيس)؛ وفي الثالثة‪ ،‬نضع المياثم التي تنكر انتساب‬
‫الرجل إلى األرض‪ ،‬أصله األول‪ ( ،‬جرائم قتل الوحوش)؛ وفي الرابعة أخيراً‪ ،‬نضع‬
‫‪3‬‬
‫المياثم التي تذكر بأن اإلنسان منغرس بشكل ما كأنه نبات (قدم أوديب المنتفخة)‪.‬‬

‫إذا اعتبرنا اآلن التوليف الذي يخرج من صالت التقابل بين مجموعات العالقات‪،‬‬
‫بأن الخانة العمودية الرابعة تمثل بالنسبة إلى الثالثة ما تمثله الثانية بالنسبة إلى‬
‫ظهر ّ‬
‫ت‬ ‫األولى‪ .‬يعلن هذا التوازن في النِس ِب القانون البنيوي لألسطورة المعنية؛ وهكذا ُأر ِ‬
‫ضَي ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫الفرضية الثالثة للتحليل البنيوي‪ :‬إذ أبعد "الجوهر" لصالح "الشكل"؛ تبدو األسطورة‪ ،‬حقاً‪.،‬‬
‫منطقية تقيم وساطات واتصاالت بين تعابير متناقضة؛ وهذه الوساطات ذاتها تمثل‬
‫ّ‬ ‫أداة‬
‫انقالبات واستبداالت‪ ،‬تدخل ضمن مجموعات التّ ِ‬
‫حويل؛ ويمكن القول إن األسطورة‪ ،‬في‬
‫المنطقية ( ويمكن منذ اآلن الحديث عن "فكر أسطوري") "يبدأ من الوعي‬
‫ّ‬ ‫وظيفتها‬
‫ببعض التقابالت وينحو نحو وساطتها المتنامية" (اإلناسة البنيوية)‪.‬‬

‫هذا البناء المنطقي َّ‬


‫يتهيأ لمعالجة رياضية بنفس القدر الذي تخضع فيه مجموعة‬
‫التحول المعنية لقانون المجموعة‪ .‬يجب أن نخلص إذن إلى "أن موضوع األسطورة هو‬
‫توفير أنموذج منطقي لحل تناقض" (المرجع نفسه)؛ وهذا المنطق ال يختلف في النهاية‬
‫عن منطقنا‪ ،‬إنه يطبق على أشياء أخرى ال غير‪ .‬ولقد أرضيت الفرضية الرابعة في‬
‫نفس اللحظة التي أرضيت فيها الفرضية الثالثة؛ فنظام األدلة نظام مغلق‪ ،‬كل العالقات‬
‫ِ‬
‫متكلم‪ ،‬ال يؤثر في فهمه‪ .‬ونحن‬ ‫فيه عالقات تبعية داخلية؛ واإلشارة إلى مرجع‪ ،‬أو ِإلى‬
‫جيد على ذلك هنا‪ :‬إن التحليل البنيوي لألسطور ِة ُي ْخرجنا‪ .‬تماما من النقاش‬
‫أمام المثال ال ّ‬
‫الكالسيكي الخاص بدرجة حقيقة األسطورة باعتبارها تفسيرا للواقع‪ .‬وهذا ال يعني أن‬
‫عالم اإلناسة منغلق في بنية هي بنية األسطورة؛ ولكنه يعني فقط أن ما نسميه "واقعا" ال‬
‫يظهر باعتباره مرجعا لألسطورة‪ ،‬أي باعتباره ذاك الذي قالت حوله األسطورة شيئا؛‬

‫هامش‪ :‬يستعمل ريكور عبارة ‪ plante‬وهي عبارة تدل على النبات وعلى باطن القدم في آن واحد‪( .‬م)‬ ‫‪3‬‬

‫‪6‬‬
‫مكون هو نفسه من سلسلة من البنى األخرى‪:‬‬
‫والواقع‪ ،‬وبدرجة أولى‪ ،‬الواقع االجتماعي َّ‬
‫النباتات‬
‫مثال ذلك‪ ،‬بنى القرابة‪ ،‬بنى الجماعات‪ .‬والطبقات االجتماعية‪ ،‬تصنيف ّ‬
‫والحيوانات واألشياء‪ ،‬واألحداث‪ ،‬والوظائف‪ .‬ويمكن أن تظهر‪ ،‬من بنية إلى أخرى‪،‬‬
‫عالقات تماثل ‪-‬بمعنى ترتيب متطابق للعناصر‪ .-‬ويمكن لنظام هذه البنى الكامل أن‬
‫يكون‪ ،‬في النهاية‪ ،‬الظاهرة االجتماعية الكلية‪ .‬وليس مستحيال‪ ،‬في مرحلة‪ .‬متقدمة من‬
‫ِّ‬
‫تطور العلم‪ ،‬أن نتصور أن تماثالت أخرى قد تظهر بين األنظمة التي بينتها العلوم‬
‫السيميولوجية واألنظمة التي ستكشف عنها الفيزيلوجيا اللحائية وعلم الوراثة‪ .‬وسيكون‬
‫هذا أبعد آفاق التفسير البنيوي لألساطير‪.‬‬

‫هكذا إذن تجد بعض الخطوط الهامة للـ"ميثو‪-‬منطق" تدعيما على أساس تفسير‬
‫بنيوي معمم‪ :‬أوال انتساب األسطورة‪ ،‬باعتبارها سردا‪ ،‬إلى مجموعة البنى‬
‫السيميولوجية‪ ،‬ثانيا‪ ،‬الخاصية الشكلية لنظام التقابالت والتوليفات الذي يهيمن على‬
‫مجموع المجال السيميولوجي‪ ،‬أخيرا‪ ،‬ولعل هذا هو األهم‪ ،‬وظيفة االنتظامات‪ ،‬وهي‬
‫وظيفة الشعورية قطعا‪ ،‬التي تضمن خاصية النظام المنطقية‪ .‬وإ ذا أصررنا على هذه‬
‫النقطة األخيرة‪ ،‬فال بد أن نقول إن األسطورة ليست مقول قول الناس‪ ،‬بل هم باألحرى‪،‬‬
‫ّ‬
‫بما هم متكلمون‪ ،‬يسكنون فيها وليس لهم عليها من سلطان إالّ ما بدا من سلطان كل‬
‫متكلم على آثار المعنى في األنظمة السيميولوجية‪.‬‬

‫ورغم إغراء هذا التفسير‪ ،‬وصالبته‪ ،‬وإ قناعه‪ ،‬فإن ما يمكن وضعه موضع سؤال‬
‫هو ادعاؤه استنزاف ذكاء األساطير؛ لقد أبعدنا من حقل اعتبارنا ادعاء األسطورة قول‬
‫شيء ما‪ ،‬وهو شيء قابل‪ ،‬باعتباره رؤية للعالم‪ ،‬أن يكون صحيحا أو خاطئا‪ .‬فما تقوله‬
‫األسطورة حول الكون وأصل اإلنسان وأصل اآللهة‪ ،‬ال يعنينا في شيء؛ إن األسطورة‬
‫ليست للفهم بل لفك رموزها (نفهم من هذا العملية التي تعاكس تلك التي نقوم بها عندما‬
‫نؤول رسالة ما انطالقا من شفرة معلومة؛ إننا هنا نستخرج الشفرة المجهولة من الرسالة‬
‫المعلومة)‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫ولكن هل يمكن أن نحذف قصد األسطورة وهو طموحها إلى أن تقول شيئا عن‬
‫الواقع‪ .‬يمكن أن نجد داخل التفسير البنيوي ذاته أثرا‪ ،‬كأنه الجرح‪ ،‬لوجهة النظر التي‬
‫يحذفها‪ .‬إنها ترتكز فعال على أنموذج جزئي للغة‪ .‬وإيميل بنفينيست ‪Emile‬‬
‫يصر في كل أعماله على ضرورة أن تُْبَنى اللغة على نظامين من‬
‫ّ‬ ‫‪Benveniste‬‬
‫الوحدات ال على نظام واحد‪ .‬وهذه الوحدات هي‪ ،‬من ناحية‪ ،‬وحدات اللسان‪ ،‬بمعنى‬
‫الصواتم ‪ phonèmes‬والصياغم ‪ ( morphèmes‬أو المعانم ‪ )sémantèmes‬وهي‪،‬‬
‫من ناحية أخرى‪ ،‬وحدات الخطاب‪ .‬التي هي الجمل؛ وهذا الصنف الثاني من الوحدات ال‬
‫األول‪ .‬حقا‪ ،‬إن وحدات اللسان تنتمي إلى أنظمة اإلمكان‬
‫يمكن رده إلى الصنف ّ‬
‫الخالص‪ ،‬في حين أن الوحدات الثانية هي قاعدة األحداث الواقعية التي هي ملفوظات‬
‫وتكون هذه الملفوظات ‪ -‬وبالعبارة النحوية الجمل‪ -‬اإلنتاج الحقيقي للغة‬
‫الخطاب؛ ّ‬
‫باعتبارها االستعمال الالمتناهي بوسائل متناهية؛ فبقدر ما كان النظام إمكانا بقدر ما كان‬
‫فعل الخطاب زمنيا وراهنا‪.‬‬

‫تحقق اللغة بهذه الوحدات التي من الدرجة الثانية تنويعا في العمليات‪ ،‬وهي‬
‫عمليات تكسر التجانس الذي يفترضه كل تحليل بنيوي بين تتابع الملفوظ ذي الحجم‬
‫الكبير وهو الجملة وبين الوحدات األقل حجما؛ فالجملة ترتكز على عمليات منيعة مثل‬
‫المرجع المعرف لألشياء المفردة‪ ،‬والعالقة اإلسنادية التي تتلقى‪ ،‬من خاللها‪ ،‬الوقائع‬

‫تصَّن ُ‬
‫ف ضمن طبقات وأنواع‪ .‬إن هذه الوظيفة‬ ‫َّ‬
‫المحد َدةُ خصائص أو سمات‪ ،‬أو َ‬
‫المضاعفة للمرجع المحدد وللعالقة اإلسنادية هي التي تضمن إرساء اللغة في الواقع‪.‬‬
‫ن الملفوظ بما هو ملفوظ‪،‬‬
‫وعبر هذه الوظائف‪ ،‬وهي وظائف خاصة بالجملة وهي ُتَكِّو ُ‬
‫ٍ‬
‫خطاب قادرةً على‬ ‫ذات‬
‫تقول اللغة شيئا ما عن شيء ما‪ ،‬في نفس الوقت الذي تُ ْحدِثُ فيه َ‬
‫أن تشير إلى نفسها باعتبارها األنا داخل الملفوظات ذاتها‪.‬‬

‫إن إبعاد هذه الخصائص للغة من األنموذج البنيوي له آثار هامة على تأويل‬
‫األساطير؛ ذلك أن المسار المجازي (انظر أسفله)‪ ،‬باعتباره تحويال للمعنى الذي يمثل‬

‫‪8‬‬
‫جذر كل لغة غير مباشرة‪ ،‬ينتمي إلى نفس مجموعة الخصائص التي ينتمي إليها‬
‫اإلبداع‪ ،‬والمرجع‪ ،‬واإلسناد واإلرجاع إلى ذات في الخطاب‪ .‬من خالل تعيينها‪ .‬إن‬
‫تحويل الداللة‪ ،‬وهي لب المجاز‪ .،‬ليست سمة من سمات البنية اللغوية‪ ،‬ولكنها سمة من‬
‫سمات عملية الخطاب‪..‬‬

‫يمكننا أن نتساءل ألم يلجأ التفسير البنيوي ضمنيا إلى معنى العناصر أو العالقات‪.‬‬
‫ألن غير ذلك سيكون غريبا‪ ،‬بما أن األسطورة خطاب بمعنى مجموعة ملفوظات‪ ،‬أي‬
‫جمل؛ فعال‪ ،‬إنه لمن الضروري أن نفهم كل عنصر في األسطورة باعتباره جملة حتى‬
‫ن الميثم‪ .‬ثم يجب علينا بعد ذلك أن نفهم‬
‫نستطيع دمجه في حزمة من العالقات التي ُتَكِّو ُ‬
‫ما ُيَوحُِّد في كل خانة الميثم فيجعله حزمة عالقات‪ :‬عالقات أسرية تدعو إلى اإلجالل‬
‫الصعوبة‬
‫وأخرى تدعو إلى اإلذالل‪ ،‬أصالة اإلنسان وعدم أصالته اإلنسان؛ أخيراً‪ ،‬إن " ّ‬
‫منطقية هي بدورها "معنى"؛ إنه‬
‫ّ‬ ‫" التي من المفترض أن تعالجها األسطورةُ باعتبارها آلة‬
‫ِ‬
‫مستوى االعتقادات‪ :‬االعتقادات في األصالة مع االعتراف بنشأة اإلنسان من‬ ‫تناقض في‬
‫ِ‬
‫اتحاد الر ِ‬
‫جل والمرأة‪ ،‬الخ‪ .‬إن السؤال الثاوي في األسطورة‪ ،‬حتى وإ ن صغناه الصياغة‬ ‫ّ‬
‫ل من المثل أم من اآلخر؟"‪ .،‬يبقى سؤاال يخص أصل اإلنسان‪،‬‬
‫المْث ُ‬
‫ولُد ِ‬
‫التالية‪" :‬هل ُي َ‬
‫سؤالا له معنى باعتباره‪ .‬سؤال وجود‪ ،‬وليس باعتباره فرصة للعبة منطقية ال غير؛ وإ الّ‬
‫فإن التقابالت المقترحة‪ .‬تفتقد في حد ذاتها كل معنى‪ .‬هل كان من الممكن أن نفهم‪ ،‬دون‬
‫أن نكون داخل مستوى المضامين ذاتها‪ ،‬هذه العبارة‪" :‬إن االعتناء الزائد بالقرابة الدموية‬
‫يكمن في تقييم ُدونِ ٍّي لهذه القرابة‪ ،‬مثلما أن مجهود الهروب من األصالة يكمن في‬
‫استحالة النجاح فيها" ؟ لن يكون ممكنا أن نجد بنية مضادة إذا لم تكن للجمل األولية‪،‬‬
‫وللجمل التي من درجة ثانية وهي مجموعات العالقات‪ ،‬وللجملة الحاوية والتي تمثل‬
‫القضية والمعضلة‪ ،‬في حد ذاتها‪ ،‬داللةٌ‪ ،‬بمعنى إذا لم تكن تقول شيئا عن شيء‪ .‬ويمكننا‬
‫عندئذ أن نتساءل إن لم يكن التحليل البنيوي يقوم على وضع الوظيفة الداللية الخاصة‬
‫باألسطورة باعتبارها حكاية البدايات بين قوسين‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫هذا النقد ال يعني أن التحليل البنيوي ال طائل من ورائه‪ ،‬بل على العكس‪ ،‬يمكننا‬
‫التأكيد‪ ،‬من اآلن‪ ،‬أنه يمثل‪ ،‬مرحلة أساسية إلظهار ما سنسميه بـعلم الداللة العميق‬
‫لألسطورة‪ ،‬هذا العلم الذي يفلت من قراءة تبقى على سطح المعنى‪ .‬فهنالك قصد للمعنى‬
‫موجود في مستوى مغاير من العمق ال يمكن إظهاره‪ .‬إالّ عبر لعبة التقابالت بين‬
‫العالقات األسرية الجليلة والعالقات األسرية المحتقرة‪ .،‬وبين اإلقرار باألصالة ونفيها‪.‬‬
‫أما علم الداللة العميق هذا فإنه يمكن أن نعتقد أنه ال يختلف جوهريا عن "األفكار" التي‬
‫ّ‬
‫يمكن أن نصوغها في المستوى الواضح من الوعي‪ .‬فكما أنه ال وجود‪ ،‬حسب ليفي‬
‫ستروس‪ ،‬إالّ لفكر منطقي واحد‪ ،‬فال وجود إالّ لعلم داللة واحد‪ ،‬هو هنا علم داللة‬
‫البداية‪.‬‬

‫* الأنموذج االستعاري‪:‬‬

‫َأن يرتبط باألول‪ .‬لقد كنا نقول إن الملفوظ‪ ،‬بما هو‬ ‫يمكن لألنموذج الثّاني للّ ِ‬
‫غة ْ‬
‫وعما نقُولُه‪ .‬ويجب اآلن أن‬
‫فعل خطابي‪ ،‬هو الذي َي ْحم ُل المعنى والمرجعية‪ :‬ما نقُولُه ّ‬
‫نضع السياق االستعاري الذي تستند عليه األسطورة داخل إطار علم الداللة هذا‪ .‬هذا‬
‫العلم الذي بيََّّنا منذ حين استحالة إخضاعه لـ"علم المعنى" (هذا المصطلح ِ‬
‫ُأخ َذ من‬
‫بينفينست الذي يربط بعلم المعنى ‪ sémiotique‬كل ما يخص وحدات اللسان وبعلم‬
‫الداللة ‪ sémantique‬كل ما يخص وحدات الخطاب‪ ،‬أي الملفوظات)‪.‬‬

‫لَن ْبن بشكل تدريجي هذا الأنموذج الجديد‪ :‬قبل الاستعارات التي َنجدها في لغتنا‬
‫والتي هي من مشموالت البالغة‪ ،‬هناك ما يسميه رومان جاكوبسون بـ"المسار‬
‫االستعاري"‪ .‬فنظرية المسار االستعاري تواصل تمييزا َبَّيَنهُ سوسير في إطار‪ .‬آلية‬
‫اللسان‪ .‬وتعني هذه اآللية في رأيه نوعين من التوليفات بين األدلة‪ :‬النوع األول ذو‬
‫خاصية تركيبية يرتكز على نظام تتالي الدوال ضمن سلسلة واحدة من الملفوظات‪ .‬إنه‬
‫اتصال بحسب الحضور ‪ ،in praesentia‬والنوع الثاني ذو خاصية استبدالية يرتكز‬
‫على عالقات التشابه المكونة لدائرة الترابط التي َْأنهَ ُل منها‪ .‬حقاً‪ ،‬إن لي‪ ،‬كلما تقدم بي‬

‫‪10‬‬
‫الخيار بين كل الكلمات التي يمكن أن تحت ّل نفس المكان من‬
‫َ‬ ‫الخطاب‪ ،‬وفي كل لحظة‪،‬‬
‫الخطاب‪ ،‬والتي تدفع‪ ،‬في المقابل‪ ،‬كل واحدة منها األخرى عنه‪ .‬إن العالقة بين التعابير‬
‫هنا ليست عالقة بحسب الحضور ‪ in praesentia‬بل هي عالقة بحسب الغياب ‪in‬‬
‫ِ‬
‫األول‬ ‫‪ .absentia‬يدفع جاكوبسون هذه الثنائية نحو معنى جذري‪ :‬إنه يرى في النوع‬
‫غة‪ ،‬وفي الثّاني‪ ،‬مبدأ كل السلاسل الداللية‪.‬‬ ‫من التوليف مبدأ كل السالسل التركيبية للّ ِ‬
‫ّ‬
‫والنوع األول من التوليف‪ ،‬الذي ُي َذ ِّك ُر بالترابط عبر االتصال‪ُ ،‬يقَابِلُهُ في المستوى‬
‫البالغي سياق الكناية‪ .‬والسلسلة الداللية التي ترتكز على التماثل ُيقَابِلُهَا ما كانت البالغة‬
‫القديمة تسميه االستعارة‪ .‬وهكذا ليست االستعارات في لغتنا إالّ تعبيرات‪ ،‬في مستويات‬
‫أرقى من الخطاب‪ ،‬عن مسار متضمن في كل العمليات اللغوية وهو مسار يمكن تسميته‬
‫بالمسار االستعاري‪ .‬وبهذا المعنى ليست االستعارة‪ .‬أمرا استثنائيا‪ ،‬إنها مرتبطة بعملية‬
‫أساسية في اللغة‪.‬‬

‫الخطوة الثّانية نحو المشكل الخاص باألسطورة يرتكز على إدراج ظاهرة َّ‬
‫أدق هي‬
‫ظاهرة المعنى المتعدد‪ ،‬والتي تسمى عادة بتعدد الداللة‪ .‬فعال إن كلمات اللغة العامية لها‬
‫أكثر من معنى‪ .‬ففي مقابل اللغات التقنية التي ترتكز على المعنى الواحد‪ ،‬أي وحدة‬
‫معنى الكلمات‪ ،‬وعلى استقاللية هذا المعنى بالنظر إلى السياق‪ ،‬فإن لكلمات اللغة العادية‬
‫أكثر من معنى وتجد في السياق ما يحدد لها تخوم قيمتها الداللية الراهنة‪ .‬هذه الخاصية‬
‫المزدوجة ليست "عيبا" في اللغة العادية أو "مرضا"‪ .‬بل هي شرط عملها‪ .‬فعلى اللغة‬
‫ُم َو َّح َدة المعنى أن تكون المتناهية لكي تقول التنويعات الالمتناهية لخبرتنا‪ .‬ومع ذلك فقد‬

‫تكون هذه اللغة لغة خاصة‪ ،‬بما أن كل هذا وذاك ّ‬


‫مما ينبغي تسميته ال يمثل خبرة‬
‫النهائية فحسب بل تعددا غير مضبوط للخبرات الفردية الخاصة‪ .‬ولذلك ال يمكن للغة‬
‫ُم َو َّح َدة المعنى أن تكون لغة تواصل بالنسبة إلى الخبرة اإلنسانية اإلجمالية‪ .‬أخيراً‪َّ ،‬‬
‫إن‬
‫لغة ُم َو َّح َدة المعنى بشكل كامل قد تكون لغة ظرفية ال تعكس المسار التراكمي الخاص‬
‫بثقافة فعلية‪ .‬إن الكلمات القادرة على اكتساب معاني جديدة من خالل االستعمال‪ ،‬دون‬

‫‪11‬‬
‫تضييع معانيها القديمة‪ ،‬هي وحدها التي تمثل هذه الخاصية التراكمية‪ ،‬اآلنية والزمانية‪،‬‬
‫التي تميز لغة الثقافة‪.‬‬

‫كيف يؤدي مشكل المعنى المتكاثر هذا إلى تَ َع ُّق ِل اللغة الرمزية؟ إن تعدد المعنى‪،‬‬
‫بالنظر إلى أن كلماتنا تحتمل أكثر من معنى‪ ،‬وإ لى أنها حقائق تاريخية وليست مجرد‬
‫ثم‪ ،‬قلب المسار التراكمي عبر الزمن‪،‬‬
‫اختالفات راهنة داخل نظام آني‪ ،‬وإ لى أنها‪ ،‬من َّ‬
‫يمثل أساس الظاهرة الخاصة‪ .‬التي تقوم على نقل المعنى والتي نسميها "االستعارة"‪ .‬إن‬
‫االستعارة ليست مجرد مسلك بالغي‪ ،‬فهنالك "استعارية"‪ .‬أساسية تدفع إلى تشكيل حقول‬
‫داللية‪.‬‬

‫لقد كان أرسطو في كتابه الشعر قد اعتبر أن االستعارة هي ذلك التجاوز‪ .‬الخاص‬
‫إما نقل من الجنس إلى‬
‫بالمقوالت والذي يمثله "نقل اسم شيء إلى شيء غيره‪ ،‬وهو ّ‬
‫النوع‪ ،‬أو من النوع إلى الجنس أو من النوع إلى النوع‪ ،‬أو من خالل القياس"‪ .‬إن‬
‫االستعارة تقتحم تصدعات التصنيفات‪ ،‬وهكذا نسمي الشيخوخة "مساء الحياة"‪ ،‬والشباب‬
‫"فجر‪ .‬العمر"‪ .‬واالستعارة ال تقتحم حدود األجناس واألنواع فحسب بل إنها تسبق عملية‬
‫التقطيع باعتبارها "مقارنة مجملة" مثلما الحظ ذلك كوينتيليان ‪ .Quintilien‬ثمة ما يمكن‬
‫تسميته بـ"التجريد االستعاري"‪ .‬الذي يرسم قبل كل مفهمة وتصنيف منطقي حدود محيط‬
‫داللة الكلمات‪ .‬وهكذا فإن االستعارة هي‪ ،‬كما رأى ذلك بدقة جاكبسون‪ ،‬وقبل أن يكون‬
‫هنالك معنى حقيقي ومعنى مجازي‪ ،‬المسار التكويني للحقول الداللية ذاتها‪.‬إننا إذ‬
‫نتحدث‪ ،‬في البالغة‪ ،‬عن نقل معنى من الحقيقي‪ .‬إلى المجازي‪ ،‬فإننا نتحدث عن معنى‬
‫فرعي‪ .‬فالتمييز بين الحقيقي‪ .‬والمجازي تمييز ثانوي بالنسبة إلى انتمائهما المشترك إلى‬
‫حقل داللي واحد‪.‬‬

‫لنقم بالخطوة الموالية‪ :‬كيف نمر من تعدد معاني كلماتنا إلى الخاصية الرمزية‬
‫لخطابنا‪ .‬عندما أستخدم كلمة لها معاني عديدة‪ ،‬فأنا ال أستعمل كل قدرات الكلمة‪ ،‬بل‬
‫أختار جزءا فقط من المعنى‪ .‬ولكن ما بقي من المعاني لم يختف‪ .‬إنه‪ ،‬إن أمكننا القول‪،‬‬

‫‪12‬‬
‫معوق ويحوم حول الكلمة‪ .‬وهنا نجد إمكان التالعب بالكلمات‪ ،‬وإ مكان الشعر‪ ،‬واللغة‬
‫الرمزية‪ .‬وبالفعل‪ ،‬فعوض أن ال نحتفظ من االتساع الداللي للكلمات التي تكون الجملة‬
‫إالّ بالبعد الذي يدعمه "موضوع الخطاب"‪ .-‬وهو ما يمكن أن نسميه بقطبه الداللي ‪ -‬فإنه‬
‫يدي تأثيرات سياقية من جنس آخر‪.‬‬
‫يمكنني أن أستخرج من الثراء الداللي الذي بين ّ‬
‫تعدد نغمات داللية‪.‬‬
‫وهكذا فإن كل أبعاد المعنى في اللغة الشعرية‪ ،‬تتشارك في نوع من ّ‬
‫مكون بشكل يجعل تكاثر معنى الكلمات‬ ‫فبدل أن ِّ‬
‫يمحص السياق بعدا معنويا واحدا‪ ،‬فإنه َّ‬
‫ال أمرا مباحا‪ .‬فحسب‪ ،‬بل مصانا ومنشودا‪.‬‬

‫هنالك‪ ،‬إذن‪ ،‬ثالثة أشياء ينبغي تمييزها في عمل اللغة الرمزية‪ :‬المسار االستعاري‬
‫العام للغة‪ ،‬وظاهرة المعنى المتكاثر أو تعدد الدالالت‪ ،‬ثم البنية السياقية التي‪ ،‬عوض أن‬
‫تعدد نغمات في مستوى الخطاب‪ .‬ذاته‪ .‬هكذا‬
‫تقدم نوعا من تمحيص المعاني‪ ،‬تؤسس ّ‬
‫تنشأ اللغة الشعرية التي هي األقدر على قول ما ال يمكن الوصول إليه مباشرة‪ ،‬وإ نما ال‬
‫نصل إليه إالّ عبر منعطف الدالالت غير المباشرة‪ .‬بقي أن نبين أن الرمزية الثاوية في‬
‫األسطورة تستند على هذا النوع من بناء المعاني وهو بناء ال يمكن أن تعتني به إالّ‬
‫نظرية في اللغة تعتبر اللغة خطابا ال مجرد نظام عالمات‪.‬‬

‫يفترض التأويل االستعاري لألسطورة أننا ال نتوجه مباشرة إلى شكل السرد‪ ،‬وإ نما‬
‫نركز على التركيبة الرمزية للتعابير المؤسسة للخطاب األسطوري‪ .‬وهو ما يقوم به‬
‫التحليل البنيوي عندما يقسم األسطورة إلى مياثم‪ .‬ولكن التحليل البنيوي يفترض مسبقا‬
‫أن وحدة تركيب ميثم هي بدورها واقعة بنيوية وهو ما يمكننا الشك فيه‪ .‬فالمسار‬
‫االستعاري كما ُي ْفهَ ُم من المثال َّ‬
‫المقدم أعاله‪ ،‬مورط في عملية التمييز بين حزم العالقات‬
‫التي يحيل عليها التحليل عبر المياثم‪ .‬وبذلك يمكن االفتراض أن الجانب البنيوي‬
‫والجانب االستعاري متالصقان بقوة في التعبير األسطوري‪ ،‬كما هو حال مسار الكناية‬
‫ومسار االستعارة في كل لغة‪ ،‬حسب جاكبسون‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫وكما أن هذين المسارين يمازج كل واحد منهما اآلخر‪ ،‬بنسب متفاوتة بكل‬
‫خطاب‪ ،‬بحيث يسود أحيانا مسار الكناية وأحيانا أخرى مسار االستعارة‪ ،‬فإن العالم‬
‫إما بحسب غلبة العامل‬
‫األسطوري يبدو قادرا كذلك على أن يتوزع على قطبين يتحددان ّ‬
‫النحوي أو بحسب غلبة العامل االستعاري‪ .‬وليس من الصدفة أن تؤخذ أمثلة ليفي‬
‫ستروس من الحقل الجغرافي الذي اعتبره علماء اإلناسة في الجيل السابق الحقل‬
‫الطوطمي‪ ،‬وليس من الحقول السامية أو الهيلينية أو الهندو‪-‬أوروبية‪ .‬يبدو الحقل الثقافي‬
‫الطوطمي مخصوصا بتكاثر التركيبات المنطقية ذات اللون التصنيفي‪ .‬فالطوطميون‪ ،‬كما‬
‫بين ذلك ليفي ستروس‪ ،‬بارعون في تمييز الحجارة‪ .،‬والنباتات والحيوانات وتصنيفها‪،‬‬
‫وهم بارعون أيضا في ُنظٍُم معقدة للقرابة‪ ،‬بل إن أنظمتهم االجتماعية ترتكز على‬
‫تصنيف المعامالت وعلى تحويالت دقيقة تشترك جميعها في الخاصية التصنيفية ذاتها‬
‫التي تقوم عليها األساطير نفسها‪ .‬والسؤال المطروح ألم تجد المقاربة البنيوية في الحقل‬
‫الطوطمي موضوعا مناسبا‪ ،‬نمطا من األسطورة تكون التقابالت والترابطات فيه أق ّل‬
‫أهمية من المضامين‪ .‬ولهذا السبب فإن اللجوء إلى المسار االستعاري‪ ،‬في هذا المثال‬
‫القيِّم‪ ،‬يمكن أن يبقى ضمنيا ومندمجا بطريقة ما داخل المسار النحوي‪.‬‬

‫وليس األمر كذلك بالنسبة إلى الطرف اآلخر من المدى األسطوري‪ :‬فاألساطير‬
‫ك‪ ،‬مثل غيرها‪ ،‬لنفس المعالجة‪.‬‬
‫السامية وأساطير ما قبل العصر الهيليني مستعدة‪ ،‬ال ش ّ‬
‫ّ‬
‫البنيوية‪ ،‬ولكن الصلة فيها بين المسار النحوي والمسار االستعاري تبدو مقلوبة فعال‪.‬‬
‫فالتنظيم النحوي فيها ضعيف‪ ،‬والتماسك بين التصنيفات الطبيعية واالجتماعية أكثر‬
‫مرونة‪ .‬وفي المقابل فإن ثراء هذه األساطير الداللي ِّ‬
‫يمكن من والدات جديدة‪ ،‬ومن‬
‫استئناف التأويل في سياقات اجتماعية مختلفة‪ .‬وفي نفس الوقت فإن عالقة هذه األساطير‬
‫اغ ٌم آني وهشاشة زمانية؛ فهي ال‬
‫بالزمن والتاريخ متباينة‪ .‬وهكذا فللنظم الطوطمية تََن ُ‬
‫المدمر‪ ،‬فاألحداث‪ ،‬بالنسبة إليها‪ ،‬تهديد‪ ،‬ولذلك توفر بصعوبة أسس‬
‫ّ‬ ‫تقاوم فعل الزمن‬
‫أما عالقة التنظيم الداخلي بالزمن في الطرف‬
‫تاريخ قابل ألن ينظر إليه على أنه كذلك‪ّ .‬‬
‫اآلخر من المدى األسطوري فمختلفة تماما‪ .‬فموضوع الخروج في العهد القديم غني‬

‫‪14‬‬
‫طاقَ ٍة رمزية المتناهية‪ .‬ولذلك كان قابال ألن يعاد في مستويات مختلفة من وجود‬
‫بِ َ‬
‫الشعب‪ ،‬بل وفي مستويات مختلفة من الخطاب‪ .‬كذلك‪ ،‬بما أنه قادر على أن ُي َمثَّ َل في‬
‫نوع من السرد التاريخي‪ .‬أو أن ُي ْحتََف َل به في نشيد‪ .‬وصلة موضوع الخروج باألنظمة‬
‫السَن ِن بالنسبة إلى شعب‬ ‫ٍ‬
‫التصنيفية أق ّل من صلته بتاريخ مَؤ ِّول‪ ،‬من ناحية‪ ،‬وبالهوت ُ‬
‫إسرائيل القديم‪ ،‬من ناحية أخرى‪ .‬فالرموز‪ .‬المهمة التي تنتمي إلى نفس المرحلة ال‬
‫ف معناها في توليفات راهنة‪ ،‬فمعناها كامن كمون معنى ٍ‬
‫حقل داللي متعددةٌ‬ ‫ِ‬
‫تستنز ُ‬
‫مورد ُيقَ َّد ُم الستعماالت ال تنقضي َّ‬
‫جدتُها ضمن‬ ‫ٌ‬ ‫تحديد ِه‪ .‬إنه في مح ّل َّ‬
‫مد َخ ٍر‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫جوانب‬
‫ُ‬
‫إطار ًبنى جديدة‪.‬‬

‫ال ينبغي رغم ذلك أن نوغل في هذه المقابلة؛ فكما أن المسار االستعاري ومسار‬
‫الكناية حاضران في كل خطاب‪ ،‬وإ ن بنسب متفاوتة‪ ،‬فإن التفسير الذي يعتمد البنية‬
‫بد من‬
‫والتأويل الرمزي‪ ،‬يقبالن التشابك بنسب متفاوتة في كل أسطورة‪ .‬ولذلك ال ّ‬
‫العناية عناية كبيرة بالطريقة التي يحيل من خاللها تفسير على آخر وفق ضرورة داخلية‬
‫خاصة‪ .‬ولقد بينا ذلك أعاله من خالل ربط التأويل الرمزي بالداللية العميقة التي ال‬
‫يمكن إبرازها إالّ عبر تحليل بنيوي مسبق‪.‬‬

‫‪ .2‬قصد األسطورة الداللي‪:‬‬

‫األسطورة باعتبارها حكاية البدايات‪.‬‬

‫إذا كانت األسطورة خطابا‪ .‬بمعنى تسلسل ملفوظات أو جمل تحمل معنى ومرجعا‪،‬‬
‫فال بد من اإلقرار بأن األسطورة تقول شيئا عن شيء‪ .‬ومقول القول هذا هو الذي ينبغي‬
‫عزله اآلن‪ .‬وسنتبنى هنا فرضية العمل القائلة بأن األسطورة هي "حكاية البدايات"‪ .‬هذه‬
‫الخاصية لم يبرزها التحليل البنيوي وال التأويل االستعاري وإ نما َّ‬
‫هيآ لبروزها‪ .‬وذلك‬
‫األول غير قادر على التمييز بين فولكلور وأسطورة‪ ،‬ألن هذا االختالف يتعلق‬
‫ألن ّ‬
‫أما المسار االستعاري فإنه ال يحدد مضمون االستعارة‬
‫بالمضمون نفسه وليس بالشكل‪ّ .‬‬

‫‪15‬‬
‫وهو بهذا المعنى يبقى شكليا جدا‪ .‬سنحتفظ هنا‪ ،‬مع مارسيا إلياد ‪،Mircea Eliade‬‬
‫بكون األسطورة‪ ،‬بما هي تاريخ البدايات‪ ،‬لها أساسا وظيفة تأسيسية؛ إذ ال توجد‬
‫األسطورة إالّ إذا كان الحدث المؤسس ال مكان له في التاريخ‪ ،‬وإ نما في زمن قبل‬
‫يكون األسطورة هو بالذات هذه الصلة التي بين زمننا‬ ‫التاريخ ‪ .in illo tempore‬إن ما ّ‬
‫–العالَ َم‪-‬‬ ‫َّ‬
‫الواقع ُكلهُ َ‬
‫َ‬ ‫وذلك الزمن‪ ،‬وليس صنف األشياء المعينة سواء كانت هذه األشياء‬
‫أو قطعة منه‪ ،‬قاعدة أخالقية‪ ،‬أو مؤسسة سياسية‪ ،‬أو نوع الوجود اإلنساني الذي يقتضيه‬
‫هذا الشرط أو ذاك‪ ،‬بريئا كان هذا الشرط أو ساقطا‪ .‬إن األسطورة تقول دائما كيف ولد‬
‫شيء ما‪.‬‬

‫تخص‬
‫ّ‬ ‫تترابط في هذا التعريف المركزي مجموعة من اللوازم‪ .‬الالزمة األولى‬
‫صلة "التمثيالت" بالوظيفة التأسيسية؛ فالوظيفة ثابتة والتمثيالت متغيرة‪ .‬ولذلك كان من‬
‫الممكن تحقيق هذه الوظيفة التأسيسية عبر كائنات خارقة ذات طبائع شديدة التباين‪:‬‬
‫كاآللهة‪ ،‬والرسل‪ ،‬واألبطال الخ؛ إن لصور هؤالء في خطاطة‪ .‬تاريخ البدايات وظيفةً من‬
‫درجة ثانية بالنسبة إلى الوظيفة التأسيسية؛ إنهم الشخوص الدرامية ‪dramatis‬‬
‫َّ‬
‫سيوجه وجهة‬ ‫‪ .personae‬إنهم هامون ألفعالهم ال ألعيانهم‪ .‬إن تاريخ األديان المقارن‬
‫سيئة إذا اعتنى بشكل مباشر بهذه "الصور"‪ ،‬وبهذه "التمثيالت"‪ ،‬فعاملها باعتبارها أشكاال‬
‫أنثروبومورفية محضة؛ ينبغي‪ ،‬إذن‪ ،‬اعتبار هذه الصور‪ ،‬انطالقا من حكاية البدايات‪،‬‬
‫وجها من وجوه الوظيفة التأسيسية‪.‬‬

‫إن ما أحدث االلتباس هو أن هذه الصور قابلة ألن تستقل بذاتها‪ .‬فنحن نروي‬
‫تاريخ اآللهة في أساطير متمفصلة ‪ articulées‬فنروي متى وكيف خلقوا‪ ،‬وتخلوا عن‬
‫مخلوقهم‪ ،‬وانسحبوا؛ ونحن نروي كذلك كيف يتصارعون فيما بينهم‪ ،‬أو مع الوحوش‪،‬‬
‫أو الكائنات الخارقة‪ ،‬أوالناس‪ .‬والحق أن األمر ال يخص اآللهة فقط‪ ،‬فكل الكائنات‬
‫المقدسة بما في ذلك األجرام أو عناصر كونية أخرى تستطيع هي أيضا االستقالل بذاتها‬
‫في عالقتها بتاريخ البدايات‪ .‬وهكذا يقدم الكون األسطوري أشكاال فوق طبيعية متكاثرة‪:‬‬

‫‪16‬‬
‫كائن فوق طبيعي‪ ،‬نصف إله‪ ،‬ونصف إنسان؛ وبطل‪ ،‬أمير متروك‪ ،‬أنقذته المياه؛‬
‫وأعمال‪ ،‬وآالم‪ ،‬واستغالل‪ ،‬ومحن؛ فالقصدية األسطورية نفسها يمكن استثمارها ضمن‬
‫تشكيالت لما هو فوق طبيعي تتاخم على التوالي علم العقيدة‪ ،‬وعلم الفلك‪ ،‬وعلم األبراج‪،‬‬
‫والملحمة‪ .‬يمكننا أن نتكلم في هذا الصدد عن امتداد مجازي أو تمثيلي للعالم‬
‫األسطوري؛ وعلى هذه الخاصية سيستند تقدير األسطورة الفلسفي باعتبارها "تمثيال" في‬
‫البد أن نربط منذ البداية الشكل المسرحي بالوظيفة‬
‫المثالية األلمانية؛ ولكن كان ّ‬
‫التأسيسية؛ إذ أن األسطورة ال تفقد تميزها عن بقية "النصوص" الخاضعة‪ .‬للتحليل‬
‫البنيوي إالّ عند تضخيم هذا الرابط أو قطعه‪.‬‬

‫تهم الوظيفة العملية لألسطورة؛ لقد أكدت عدة مدارس‬


‫الالزمة الثانية ّ‬
‫أنثروبولوجية على الرابط الدقيق بين األسطورة والطقس‪ .‬فاألسطورة‪ ،‬كما قالوا‪ ،‬ترسي‬
‫الطقس عبر َس ِّن نماذج لألفعال؛ وهكذا وفي الميدان الخاص بالعهد القديم‪ ،‬بينوا العالقة‬

‫المِل ُ‬
‫ك؛‬ ‫وي ْخلَعُ َ‬
‫بين حكاية الخلق الكبيرة وطقس السنة الجديدة الذي تُْق َرُأ أثناءه األسطورةُ ُ‬
‫وما سمته المدرسة اإلسكندينافية‪ ،‬بـ"إيديولوجيا الملك" يرتكز على هذا التعاقب بين‬
‫األسطورة والطقس والملكية‪ .‬هذا الرابط ينبغي النظر إليه ضمن مبدئه؛ لقد صار لحكاية‬
‫األصول قيمة األنموذج بالنسبة إلى الزمن الحاضر‪ .‬ألن األسطورة تنشئ العالقة بين‬
‫الزمن التاريخي والزمن األصلي‪ :‬إذ هكذا نشأت األمور في البداية‪ ،‬ومازالت اليوم على‬
‫النهج نفسه‪ .‬إن األسطورة‪ ،‬من خالل قصدها الداللي األساسي‪ ،‬تسمح بأن تعاد وأن‬
‫ث في الطقس‪ .‬وهذا الرابط‪ ،‬مثل سابقه‪ ،‬يتهيأ النتشار عبر أسلوب مخصوص‬
‫تُْب َع َ‬
‫سيجعل من الشعائرية مسارا مستقال بذاته‪ .‬وعندئذ سيبدو الطقس هو الذي يحتوي‬
‫األسطورة‪ ،‬أو على األق ّل لن تبدو األسطورة سوى ركيزة الحكاية التي تؤسس الطقس‪.‬‬
‫ونستطيع القول عندئذ إن األسطورة تنتمي إلى مجموع األسباب الموجدة للطقس‪ .‬فإذا‬
‫ث شعائريا فإنه يمكن أن ينظر إليها باعتبارها‬
‫كانت األسطورة قادرة‪ ،‬حقا‪ ،‬على أن تُْب َع َ‬
‫أمرا يسمح بالقيام بالطقس‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬بإعادة الفعل المبدع‪ .‬نجد هنا تسلسال ذا داللة‪ :‬ففي‬

‫‪17‬‬
‫البداية هنالك التاريخ األساسي‪ ،‬فاألنموذج‪ ،‬ثم التكرار الشعائري‪ .‬ولكن الصلة بين‬
‫الزمن األصلي والزمن التاريخي هي التي تؤسس هذا التسلسل‪.‬‬

‫تهم التطبيقات النفسية لألسطورة‪ ،‬مثلما اهتمت الالزمة السابقة‬


‫الالزمة الثالثة ّ‬
‫بالتطبيقات المؤسساتية‪ .‬يمكن فعال‪ ،‬أن ننتبه إلى قيم المقدس العاطفية من خالل الوظيفة‬
‫التأسيسية لحكاية البدايات‪ .‬فالصلة بين الزمن التاريخي والزمن األصلي تطور مشاعر‬
‫مخصوصة‪ ،‬هي تلك التي وصفها رودولف أوتو ‪ Rudolf OTTO‬في كتابه الشهير‬
‫المقدس‪ :‬لقد وضع أوتو أصال للمقدس هو الشعور المزدوج بالخوف والحب الذي يباشر‬
‫ظِم‪َ .‬وُي ْفهَ ُم هذا األسلوب الوجداني الخاص بالمقدس إذا‬
‫اَألع َ‬
‫ش ْ‬ ‫بالم ْد ِه ِ‬
‫به اإلنسان البدائي ُ‬
‫اعتبرنا أن اإلنسان ينبعث عبر حكاية البدايات‪ ،‬من الزمن التاريخي إلى الزمن األصلي‪،‬‬
‫وذلك‪ ،‬وفي‪ ،‬نفس الوقت‪ ،‬عبر فعل الحكاية الذي من خالله يصبح معاصرا لألصول‪،‬‬
‫وعبر إعادة إحياء معنى الحكاية ضمن الفعل الطقسي‪ .‬يمكننا أن نتكلم عن إعادة إحياء‬
‫وجدانية باعتبارها مكملة للعنصر التمثيلي والعنصر النفعي الموصوفين أعاله‪" .‬أن نحيى‬
‫حسب" أسطورة‪ ،‬هو أن َّ‬
‫نكف عن الوجود داخل اليومي فحسب؛ فاإلنشاد والطقس‬
‫يقدحان االستبطان الوجداني الذي ُي َولِّ ُد ما يمكن تسميته بالنواة األسطورية‪-‬الشعرية‬
‫للوجود اإلنساني‪.‬‬

‫يوفر تعريف األسطورة‪ ،‬من خالل هذه اللوازم الثالثة‪ ،‬باعتبارها حكاية البدايات‪،‬‬
‫تمييزا واضحا بين األسطورة واألمثولة‪ .‬فاألمثولة ال تؤسس شيئا ال داخل الحكاية وال‬
‫داخل الفعل‪ ،‬وال داخل العمق الوجداني‪ .‬األسطورة فقط هي التي تفعل ذلك‪.‬‬

‫إن تعريف األسطورة باعتبارها حكاية البدايات تعريف حصري رغم أشكال‬
‫التوسع التي ذكرناها‪ :‬التوسع المجازي أو التمثيلي‪ ،‬والتوسع النفعي‪ ،‬والتوسع االنفعالي‪.‬‬
‫وسنعمل اآلن على توضيح خاصية االنحصار هذه بمقارنة األسطورة بأشكال أخرى من‬
‫الخطاب‪ .‬تحقق هي أيضا وظيفة تأسيسية‪ ،‬ولكن بوسائل مختلفة عن حكاية البدايات‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫سنعتني على التوالي بالصلة بين األسطورة و"حكاية الخالص"‪ ،‬ما يعبر عنه األلمان بـ‬
‫‪ ،Heilgeschichte‬وبين األسطورة والحكمة‪ ،‬وبين األسطورة والحكاية األخروية‪.‬‬

‫* األسطورة وتاريخ الخالص‪:‬‬

‫يرتكز تاريخ الخالص‪ ،‬وهو أنموذج عن األدبيات العبرية وخاصة الكتب الستة‬
‫‪ ،L'Hexateuque‬على منظومة سردية قريبة من األسطورة‪ ،‬مع االختالف في البنية‬
‫والقصد‪ .‬ففي حين تربط األسطورة الزمن التاريخي بالزمن األساسي‪ ،‬يصل تاريخ‬
‫الخالص اإلعالن عن اإليمان بسرد وقائع اإلنقاذ‪ .‬وما ورد في سفر التثنية (‪XXVI, 5-‬‬
‫‪ )9‬مثال قوي على ذلك‪ .‬إنه قطعا ليس حكاية أسطورية في المعنى الدقيق الذي ذكرناه‬
‫‪-‬اعتراف" يغطي تاريخ إسرائيل منذ الهبوط إلى مصر إلى ِّ‬
‫المن‬ ‫ٌ‬ ‫منذ حين‪ ،‬إنه "حكايةٌ‬
‫عليهم باألرض مرورا بالحدث المؤسس وهو الخروج‪ .‬هذا المقطع الكبير‪ ،‬المنظم حول‬

‫حدث مركزي‪ ،‬والمحدود بحدثين ظاهرةٌ َز َمنَِّيتُهُ َما‪ِّ ،‬‬


‫يكون بنية متقبِّلة بالنسبة إلى حكايات‬
‫األم‪.‬‬
‫وأخبار من أصول مختلفة‪ ،‬وجدت نفسها‪ ،‬بشكل ما‪ ،‬مدسوسة‪ ،‬في فضاء الحكاية ّ‬
‫وهكذا جاءت قصة اآلباء البطولية‪ ،‬إضافة إلى وحي االسم في جبل حوريب ‪،Horeb‬‬
‫ووحي وثائق التشريع الكبرى في سينا‪ ،‬والمسيرة إلى الصحراء‪ ،‬لتحشر في البنية‬
‫األولى الممتدة إلى ما النهاية‪ .‬ويمكننا أن نالحظ مدى تنوع المواد غير السردية‪:‬‬
‫كالتجلِّي اإللهي والوثائق القانونية الخ‪ .‬لقد انجذب محررو التراث الياهوهي ‪yahwiste‬‬
‫واإللوهيمي ‪ élohiste‬إلى مدار جاذبية االعتقاد القديم الذي بدأه السلف اآلرامي‪ ،‬بطل‬
‫الهبوط إلى مصر‪ ،‬فوسعوا الخطاطة‪ .‬السردية إلى الخلف بطريقة تستوعب‪ ،‬عبر امتداد‬
‫متكرر للشكل ذاته‪ ،‬إشارة األجداد‪ ،‬ومجموع قصص اآلباء البطولية‪ ،‬وأخيرا أساطير‬
‫األصول‪.‬‬

‫إن خطابا‪ .‬يتميز جنسه تميزا كبيرا شأن حكايات الخلق‪ ،‬الواردة من العهد الثقافي‬
‫األكادي والسوميري والكنعاني‪ ،‬استطاع أن يندمج في تاريخ الخالص بفضل هذا‬
‫التضخم للخطاطة‪ .‬السردية‪ ،‬وللنصوص التي أغنته‪ ،‬وللجاذبية التي سلطها على وثائق‬

‫‪19‬‬
‫أخرى‪ .‬يمكن‪ ،‬من ناحية‪ ،‬أن نتكلم عن تحويل األسطورة إلى حدث تاريخي في عالقته‬
‫بتاريخ الخالص‪ :‬فحدث الخلق جاء على رأس أحداث اإلنقاذ باعتباره أول حدث‬
‫للخالص‪ .‬ونحن نفهم كيف أصبح هذا ممكنا‪ :‬إن قصص اآلباء البطولية‪ ،‬كانت تُ َم ِّك ُن‪ ،‬إذ‬
‫جد ّأول‪ ،‬من التعامل مع أساطير الخلق باعتبارها مقدمة لتاريخ الشعوب‬
‫تصعد نحو ّ‬
‫التي يصورها اآلباء‪ ،‬وهذا التاريخ نفسه‪ ،‬كان يشغل مح ّل المقدمة‪ ،‬في تالوة نص عقيدة‬
‫شكلي الخطاب‪ .‬في مستوى رسالة إبراهيم التي تغلق‬
‫ْ‬ ‫الخروج‪ .‬ويمكن أن نرى التحام‬
‫ِّ‬
‫وتدش ُن تاريخ اآلباء‪.‬‬ ‫تاريخ البدايات‬

‫لكننا نستطيع‪ ،‬من ناحية أخرى‪ ،‬أن نتحدث عن أسطرة تاريخ الخالص في‬
‫ارتباطه بحكايات األصل؛ فكل أسطورة هي‪ ،‬في المعنى الصارم للكلمة‪ ،‬أسطورة خلق‪:‬‬
‫فقديما‪ ،‬في األزمنة األولى‪ ،‬خلق اهلل‪ ،‬أو خلقت اآللهة؛ فاألصل ونشأة الكون متزامنان‬
‫إذن‪ .‬ولكن األسطورة تتوقف عن كونها نشكونية ‪ ،cosmogonique‬في المعنى الدقيق‬
‫للكلمة‪ ،‬إذا اعتبرنا أفعال الخلق والتأسيس والمؤسسات‪ ،‬وقد جاءت بعد الخلق‪ ،‬خلقا‪.‬‬
‫متواصال‪ ،‬إن حكاية النشأة اإلنسانية ‪ l'anthropogonie‬تواصل النشكونية‬
‫‪ cosmogonie‬المندمجة هي ذاتها في حكاية األصول‪ .‬وهذه النشكونية تمتد‪ ،‬بدورها‪،‬‬
‫إلى زمن الهدم‪ ،‬إلى زمن "الالخلق" الذي دشن هو أيضا أمرا‪ ،‬أال وهو وضع اإلنسان‬
‫الحالي‪[ .‬بما هو]‪ :‬شرير‪ ،‬متألم‪ ،‬فان؛ ومن هنا أساطير الكارثة الكونية‪ ،‬والتغيرات‬
‫العنيفة‪ ،‬والسقطات؛ ومن هنا كذلك ازدواج األصل‪ :‬إنسان كامل في األصل‪ ،‬أو اإلنسان‬
‫الحالي‪ .‬الذي ظهر عن الكارثة األولى‪.‬‬

‫إننا نفهم كيف اصطدم تاريخ الخالص‪ ،‬وإ ن كان له أصل مستقل مقارنة بالبنية‬
‫يكون خلقا‪ .‬جديدا‪ ،‬بداية‬
‫َ‬ ‫األسطورية‪ ،‬مع األسطورة التي يحتويها‪ .‬فالفعل المنقذ يمكن أن‬
‫من جديد‪ .‬وأسطورة الطوفان في هذا المجال‪ .‬مثال مفيد؛ إنها أسطورة خلق مرتبطة‬
‫تجد ٍد تغوص في قوة األسطورة‬
‫بأسطورة عجز‪ ،‬بأسطورة هدم‪ .‬وهكذا فكل حكاية ُّ‬
‫بفضل هذا التقارب العميق‪ :‬فكل شيء يبدأ في هذا العالم هو بداية عالم‪َّ .‬إننا ال نفهم‬

‫‪20‬‬
‫الخلق إالّ عبر إعادة الخلق‪ ،‬ولكن للخلق‪ ،‬في المقابل‪ ،‬هيبةَ ذلك الذي بدأ ذات مرة‪ ،‬في‬
‫الزمن األول ‪ .il illo tempore‬هذا سيؤدي إلى تحول كل القوة المجازية‪ .‬والخيالية‪،‬‬
‫وكل قوة األنموذج األول للطقس‪ ،‬وكل االنفعال العميق الخاص بالمقدس‪ ،‬نحو الخلق‬
‫الجديد‪ .‬إن أهم مسألة تطرح على نقد الكتاب المقدس هي فهم كيف تحملت البنية‬
‫الخاصة‪ .‬لتاريخ الخالص قوى األسطورة (قوى تمثيلية‪ ،‬واستبدالية‪ ،‬وانفعالية)‪ .‬إن تركيز‬
‫شعب عبر الفعل المنقذ يصبح إذن المفتاح التاريخي للخلق قبل التاريخي‪.‬‬

‫* األسطورة والحكاية األخروية ‪:Eschatologie‬‬

‫هنالك ٌّ‬
‫حد ثان لمجال األسطورة يحتاج إلى اكتشاف‪ :‬إنه الحد الذي يجمعه بالحكاية‬
‫األخروية؛ هنا أيضا نحن أمام شكلين من الخطاب‪ .‬متمايزين‪ ،‬موجهين بقصدين دالليين‬
‫ي سمات مختلفة‪ ،‬ولكنهما تَ َم َّكَنا من االندماج بفضل بعض الضروريات الداخلية‬‫ذو ْ‬
‫َ‬
‫مما أعطى ما يمكن تسميته باألساطير األخروية‪.‬‬ ‫لمحتوياتهما ّ‬

‫من حيث المبدإ‪ ،‬األسطورة والحكاية األخروية بنيتان مختلفتان‪ ،‬وارتباط األولى‬
‫بتاريخ الخالص والثانية بالنبوة يفهمنا ذلك بشكل أفضل‪ .‬ما تشترك فيه األسطورة مع‬
‫تاريخ الخالص هو التفاتهما المشترك نحو الماضي‪ ،‬ولذلك فهما يشتركان في شكل‬
‫مخصوص هو الحكاية‪ .‬ولقد استطاع ج‪ .‬فون راد ‪ G. von Rad‬أن يعتبر المهمة‬
‫الرئيسية لتيولوجيا العهد القديم هي االعتناء بفهم هذه الثنائية المتمثلة في خطابين كبيرين‬
‫تتوزع حولهما كل أشكال الخطاب األخرى‪.‬‬

‫هنالك‪ ،‬فعال‪ ،‬طريقتان مختلفتان جدا لتشكيل التراث‪ :‬فنحن‪ ،‬من ناحية‪ ،‬نعيد أفعاال‬
‫تأسيسية‪ ،‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬نعلن عن اقتصاد جديد للتاريخ‪ .‬فالنبوة تفترض زمن‬
‫الحكاية ولكن لتقطع معه‪ .‬إنها تفترضه على أساس أن زمن النبوة ال يمكن أن يكون إالّ‬
‫زمن المبادرات المقدسة‪ ،‬زمن تاريخ مع اهلل‪ .‬ولكن النبوة تقطع مع زمن الحكاية‪ََّ ،‬أوالً‬
‫من حيث أنها مشدودة إلى التاريخ الفعلي وليس إلى تقاليد مؤلفة‪ :‬إنها تقول الحدث‬

‫‪21‬‬
‫الوشيك (التهديد األشوري الذي يبدو في أفق رسالة عاموس ‪ Amos‬وإ شعيا ‪،Isaïe‬‬
‫وتهديد الشمال الذي يمثله البابليون الجدد عند إرمياء ‪ ،Jérémie‬وصعود فارس على‬
‫عهد سيروس ‪ Cyrus‬بالنسبة إلى إشعيا الثاني)؛ يطبق الرسل على هذه األحداث وعلى‬
‫وقوعها الوشيك‪ ،‬مقوالت تاريخ الخالص في شكله الرسمي‪ ،‬وذلك لكسر هذا التاريخ‬
‫ذاته‪ .‬فالنبوة تعمل على خرق الحكاية‪ :‬هنالك تدخل جديد وشيك للرب ‪ Jahvé‬سيحجب‬
‫التدخل القديم‪ .‬إنه إذن إله األفعال المحررة‪ .،‬ولكنه بصدد إرساء تاريخ جديد؛ هذا‬
‫ض قياسا على شاكلة خروج جديد‪ ،‬وحلف جديد‪.‬‬
‫التاريخ الذي ُي ْع َر ُ‬

‫هكذا‪ ،‬وبضربة واحدة‪ ،‬بدا كل الماضي "استعارةً"‪ :‬فاألرض الموعودة تصبح رمزا‬
‫نصل إليه‪ .‬هنالك نبرة مستقبلية تجديدية تفجر كل مقوالت الحكاية؛ فالقطيعة‬
‫ْ‬ ‫لما لم‬
‫ضرورية فعال لتأسيس تاريخ جديد‪ ،‬وهي قطيعة ُم َمثَّلَةٌ في الحساب الذي هو عالمة‬
‫على انهيار كل أنواع األمن؛ إن النبوة هي ّأوال التراث المكسور‪ ،‬واستنفاذ تاريخ الذي‬
‫ُأعِل َن عن إقحام‬
‫مضى للخالص‪ ،‬و"إبطال" الحادث؛ وعلى أساس هذا النسخ للماضي ْ‬
‫أفعال جديدة خارج عهد الخالص‪ ،‬وهي أفعال تحريرية تُْن َش ُد ضمن االعتراف الذي يأتي‬
‫في شكل روائي‪ .‬هذه هي النبوة‪ ،‬الضد بالنسبة إلى الحكاية‪ .‬ورغم ذلك فإن على النبوة‬
‫أن تعقد حلفا‪ .‬جديدا مع األسطورة وذلك في شكل هو شكل الحكاية األخروية‪.‬‬

‫لقد قلنا سابقا كيف اندمجت األسطورة وتاريخ الخالص ليعطيا فكرتين‪ ،‬األولى‬
‫فكرة الخلق مفهوما باعتبارها أول فعل تحريري‪ ،‬والثانية فكرة التحرير مفهوما باعتباره‬
‫فعال خالقا‪ .‬إن الحكاية األخروية‪ ،‬وخصوصا في األدب المتأخر للسنن العبري‪ ،‬تعرض‬
‫شكال للنبوة قادرا على عقد حلف جديد مع األسطورة‪ .‬فالحكاية‪ .‬األخروية باعتبارها‬
‫تمثيال للنهايات األخيرة‪ ،‬نوع من النبوة‪ ،‬ولكنها خارج‪ .‬التاريخ‪ ،‬في نهاية التاريخ‪ .‬وفي‬
‫تنشد النبوة إلى الحدث الوشيك داخل التاريخ‪ ،‬تعلن الحكاية األخروية عن خلق‬
‫حين ّ‬
‫جديد‪ ،‬آت من هناك‪ ،‬وذلك بمناسبة كارثة كونية‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫ولئن تمكنت هذه البنية الجديدة من أن تصبح هي بدورها أسطورية رغم التقابل‬
‫البيِّن بين الوعد بشيء مخالف‪ ،‬وتكرار الشيء نفسه‪ ،‬فهذا أمر نفهمه دون عناء‪ .‬فإذا‬
‫أصررنا‪ ،‬في المقابل‪ ،‬على َّ‬
‫جدة الخلق أكثر من إصرارنا على قدمه‪ ،‬فإن أسطورة‬
‫األصل يمكن أن تصبح ال أسطورة األساس الذي مضى‪ ،‬بل أسطورة كل أساس آت في‬
‫المستقبل؛ فلقد رأينا أن األسطورة يمكنها أن تروي نشأة األشياء الجديدة‪ ،‬وقبل ذلك نشأة‬
‫اإلنسان واإلنسان الجديد‪ ،‬في عالم موجود ها هنا‪ .‬وفي هذا اإلطار فإن الطقس هو بال‬
‫ريب عامل يجعل األسطورة مستقبليةً‪ .‬إن التأمل في األصل يمكن أن يتحول إلى‬
‫المستقبل بواسطة الفعل األنموذجي للطقس الذي يرجع الوضع األصل إلى الوجود‬
‫الحاضر‪ .‬وبهذا المعنى فإن ذاكرة الخلق هي من الوهلة األولى وعد بالمستقبل؛‬
‫واألسطورة من خالل خاصيتها األنموذجية‪ ،‬مثال عن كل فعل خلق وافد؛ فكل والدة‬
‫جديدة تلخص الوالدة األولى؛ وكل البدايات هي بدايات من جديد‪ .‬هكذا‪ ،‬وفي مهرجان‬
‫السنة الجديدة الكبير في بابل‪ ،‬كل سنة جديدة هي شريك في اليوم األول‪.‬‬

‫وبهذا يمكننا أن نفهم تولد المعنى بين أسطورة البداية وأسطورة النهاية كما يلي‪:‬‬
‫كل بدايات الماضي هي بدرجات معينة‪ ،‬أساطير نهاية وذلك حتى تكون أساطير بدايات‬
‫جديدة؛ هنالك خلفنا نهايات متعددة للعالم‪ ،‬وعودات كثيرة للعماء‪ ،‬وانبثاقات‪ .‬بل إننا نجد‪،‬‬
‫في حكايات والدة اآللهة وأنسابها‪ ،‬نهاية بعض اآللهة‪ ،‬و"ميتات اآللهة"؛ فخلع مردوخ‬
‫‪ Mardouk‬هو نهاية اآللهة القديمة؛‪ 4‬وزيوس ‪ Zeus‬يعني موت كرونوس‪Cronos‬؛‬
‫والتراجيديا تروي نهاية غضب اإليرينياس ‪ُّ Erinnyes‬‬
‫وتقد َم أبولو ‪ ،Apollon‬إله‬
‫النور؛ فكل خلق جديد هو نهاية خلق‪ ،‬نهاية عمر من أعمار العالم؛ وهكذا فمن الطوفان‬
‫وانبثاق آخر‪ .‬إضافة إلى ذلك فأساطير النهاية تبقى أساطير من حيث أنها‬
‫ُ‬ ‫نهايةُ عالم‬
‫تنقل إلى النهاية القوة االفتتاحية التي لألسطورة‪.‬‬

‫والحالة المعاكسة بديهية‪ :‬فبما أن الحكاية األخروية تأخذ نماذجها من أساطير‬


‫الخلق‪ ،‬فإنها تفشل في عرض افتتاح عهد جديد بشكل يختلف عن استعادة العهد‬
‫إن تنصيب مردوخ هو الذي مثّل نهاية اآللهة البابلية القديمة‬
‫‪ 4‬كما تخبرنا بذلك اإلينوماإيليش (م)‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪23‬‬
‫األصلي‪ .‬وفي هذا المعنى‪ ،‬يسمح بالقول إن أساطير النهاية تبقى أساطير طالما أنها‬
‫ظلت أساطير استعادة‪ .‬ويمكننا التساؤل عندئذ إن كانت الحكاية األخروية‪ ،‬حين تشحن‬
‫بقوة األسطورة‪ ،‬تفقد شيئا من قصدية معناها‪ ،‬هذا المعنى الذي يقابل بشكل جذري‬
‫الرب‪ ،‬ليس تكرارا‬
‫ّ‬ ‫األسطورة‪ .‬إن التبشير بملكوت الرب‪ ،‬باعتباره تنبؤا بقدوم‬
‫لألصول‪ ،‬بل هو شيء آخر تماما؛ وفي هذا الصدد فمن الشرعي أن نقول إننا ال‬
‫ِّ‬
‫الرب إالّ بواسطة إلغاء الثقل األسطوري‪ ،‬في‬ ‫نتوصَّل إلى ِّ‬
‫لب معنى التبشير بملكوت‬
‫المعنى الدقيق للكلمة‪ ،‬أي عبر العودة إلى لحظة بداية النبوة التي تضع فاصال‪ ،‬من‬
‫حساب وموت‪ ،‬بين تكرار الذات والوعد بما يخالفها‪..‬‬

‫* األسطورة والحكمة‪:‬‬

‫ليس من المؤكد أن هذه الصلة المضاعفة بين الفضاء األسطوري وفضاء تاريخ‬
‫الخالص من ناحية‪ ،‬وبين الفضاء األسطوري وفضاء النبوة والحكاية األخروية من‬
‫ناحية أخرى‪ ،‬تستنزف إمكانات التبادل بين األسطورة وأشكال أخرى من الخطاب‪.،‬‬
‫تحمل هي أيضا أنماطا مختلفة من التفكير‪ .‬إن حدود األسطورة مع األدب الحكمي‬
‫‪ ،sapientiale‬أو‪ ،‬باختصار‪ ،‬مع الحكمة‪ ،‬تحتاج إلى فحص بالعناية ذاتها التي فحصنا‬
‫بها َّ‬
‫الحذين السابقين‪ .‬ورغم أن هذا األدب في شكله المكتوب يبدو متأخرا عن تاريخ‬
‫الس ِ‬
‫ُّنن وعن النبوة‪ ،‬فإن له فيما يبدو وجودا خفيا داخل األسطورة ذاتها‪ .‬إن الحكمة‪ ،‬قبل‬
‫أن توزع نصائحها على اإلنسان‪ ،‬تمثل محاولة الكتشاف العالم حتى تباشر تنوعه الشديد‬
‫وتتحكم فيه‪ .‬وبهذا االعتبار‪ ،‬نتج عن عملية االكتشاف هذه جملة تصنيفات الحيوانات‪،‬‬
‫والنباتات‪ ،‬والحجارة‪ ،‬إضافة إلى تصنيفات الشعوب والحوادث‪ ،‬وخصوصا التصنيفات‬
‫الثنائية (ذكر‪ -‬أنثى‪ ،‬سماء – أرض‪ ،‬نور – ديجور‪ ،‬كائن حي – كائن جامد‪ ،‬روح –‬
‫جسد‪ ،‬أهلي – وحشي‪ ،‬طاهر – مدنس‪ ،‬جنة – صحراء‪ ،‬شجرة الحياة– نبات عقيم)؛‬
‫وبصفة عامة إن كل عمليات تسمية األشياء المخلوقة تعبر عن عالقة الكون بشكل‬
‫تفكيرنا‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫المثلية‪ ،‬شبيه في عدم يقينيته باألسطورة‪ .‬كما‬
‫ّ‬ ‫الحد بين األسطورة والحكمة‬
‫هذا ّ‬
‫بينها التحليل البنيوي؛ فهي تستند‪ ،‬في مستوى فكري الشعوري‪ ،‬على منطق في‬
‫التصنيف شبيه بهذا ولكننا يمكن أن نقول إن ما تفعله الحكمة‪ .‬بوعي تفعله األسطورة بال‬
‫وعي‪ .‬ونحن ال نستطيع احتقار هذا النشاط الـحكمي المثلي‪ :‬إن الوصفات الطقوسية ذاتها‬
‫تستند إلى تصنيفات من هذا النوع وهي تصنيفات تطبع األساس المشترك للفكر الديني‬
‫والفكر العلمي؛ فاإلنسان‪ ،‬من خالل إطالق االسم‪ ،‬يبحث عن داللة‪ ،‬عن نظام؛ ومن هذا‬
‫المثلية‪ ،‬ال تقف األسطورة مع األمثولة ‪ ،fable‬ولكنها ترتبط مباشرة‬
‫ّ‬ ‫جهة الحكمية‬
‫المثلية هامة‪ :‬فمن خالل‬
‫ّ‬ ‫بالبنية التحتية للتفكير‪ .‬إن نتائج هذه الدرجة األولى من الحكمة‪.‬‬
‫التصنيف يتخذ الفكر موقفا حيال غموض الواقع؛ إنه يقطع بين التشابه واالختالف‪ ،‬وبين‬
‫القرابة والتقابل‪ ،‬وبين التواصل والقطيعة‪ ،‬وبين نعم وال‪.‬‬

‫ويمكن لهذه المسارات االستكشافية أن تطبق‪ ،‬على أساس من هذا التنظيم‪ ،‬على‬
‫اإلنسان ذاته‪ ،‬في مواجهة الفوضى الظاهرة في الحياة اإلنسانية؛ فيتلقى البحث عن‬
‫المعنى هنا‪ ،‬بعدا وجوديا‪ ،‬ولكن دون تغيير وجهة البحث بشكل جذري‪ .‬وال تتخذ الحكمة‪.‬‬
‫َدا‪ :‬فأن تعرف العالم‪ ،‬هو‬‫مدى أخالقيا إالّ في حالة ظهر فيها العالم باعتباره معنى َّ‬
‫مهد ً‬ ‫ً‬
‫أن تكون قادرا على أن تعيش فيه وأنت تواجه العبث‪.‬‬

‫أن فهم‬ ‫ِ‬


‫وبهذا المعنى يمكننا أن نقول إن ألساطير األصل نفسها بعدا حكميا‪ ،‬إذ ّ‬
‫كيف بدأت األشياء‪ ،‬يعني معرفة ما تعنيه اآلن وأي مستقبل ستواصل فتحه أمام‬
‫اإلنسان‪ .‬إن أساطير السقوط تبدو حقا‪ .‬محققة‪ .‬وظيفة استعادة المعنى هذه‪ ،‬وذلك في‬
‫ظروف من الفوضى واليأس؛ فهي تعمل على تحقيق نوع من التوافق مع المناطق‬
‫المظلمة في التجربة اإلنسانية؛ وتمثل واجهة الليل التي ينبغي على اإلنسان أن يعيش‬
‫معها‪ .‬ولكن الحكمة تضيف دائما إلى إنشاد األصل‪ ،‬استرجاع المعنى في وضع راهن‬
‫ك‪ .‬والحكمة تُوِل ُج أيضا في قلب األسطورة قوةَ السؤال‪َ :‬لم لم تكن‬
‫مليء بالتهديد والش ّ‬
‫الحياة َب َر َكةً فحسب بل كانت لعنة أيضا؟ َلم ال نجد الجنة‪ ،‬بل الصحراء؟ َلم ال نجد‬

‫‪25‬‬
‫المتعة بل العمل؟ َلم ال تكون الطبيعة صديقة بل حيوانات وحشية؟ َلم ال نجد الحب‬
‫فحسب‪ ،‬بل نجد معه آالم المخاض؟‪َ .‬لم ال يكون جمال الجسد العاري‪ ،‬بل الحياء‬
‫قوانين تعطي الحياة‪ ،‬بل قوانين تولّد االنتهاك؟ َلم ال يكون فرح‬
‫ُ‬ ‫والطهر؟ َلم ال تكون‬
‫الحياة‪ ،‬بل االنتهاء إلى التراب؟ إن األسطورة‪ ،‬بإجابتها على هذه األسئلة‪ ،‬وبتقديمها‬
‫طور حكمة من أجل الحياة‪.‬‬
‫عالما ذا داللة للتجربة اإلنسانية‪ ،‬تُ ِّ‬

‫إذن بإعادة بناء تقابالت األسطورة وبقية أشكال الخطاب وبوضع تخطيط إجمالي‬
‫للعبة التبادالت بين كل أشكال الخطاب‪ .‬هذه‪ ،‬نستطيع أن نبرز أفقا لمعنى تسعى من‬
‫خالله الحكايات واألساطير والنبوات والحكمة معا إلى تأليف لغة كلية قد يتصالح فيها‬
‫الصوت واإلشارة‪ ،‬واإلنشاد والحركة الطقسية‪ ،‬ودقة التمييزات وعمق العاطفة‪ .،‬والذاكرة‬
‫واألمل‪ .‬إن األسطورة‪ ،‬بمتاخمتها‪ .‬بقية أشكال الخطاب‪ ،‬تحصل على داللتها العميقة‪،‬‬
‫المتمثلة في‪ ،‬حسب عبارة جان بول أودي ‪( Jean-Paul Audet‬الذي عمل‪ ،‬بجهد‪،‬‬
‫على إعادة الداللة لألدب الحكمي)‪ ،‬اقتراح "استبداد كلي" بكامل ميراث طائفة ما‪.‬‬

‫‪ .3‬األسطورة والفلسفة‪:‬‬

‫يمكن العودة‪ ،‬في نهايات هذا البحث‪ ،‬إلى السؤال الذي طُ ِر َح في المقدمة والخاص‬
‫بلقاء رؤية األسطورة للعالم بما تقتضيه الفلسفة‪ .‬سنكتفي هنا بالقضايا التي تطرحها‪.‬‬
‫األسطورة في الفلسفة الحديثة والمعاصرة‪ ،‬مع اإلبقاء رغم ذلك‪ ،‬على التعارض البدئي‬
‫بين الميتوس واللوغوس في الفلسفة اإلغريقية باعتبارها خيطا موصال‪ .‬حقا‪ .‬إن الفلسفة‬
‫الحديثة والمعاصرة‪ .‬تعيد ابتكار هذا التعارض ذاته في أشكال متعددة‪ .‬ومن وسائل بيان‬
‫هذا التعارض هو تأطيره في مستوى التمثيالت‪ ،‬في المعنى الذي أعطيناه عند تقديم‬
‫الالزمة األولى لتعريف األسطورة باعتبارها حكاية األصول‪ .‬فعال‪ ،‬إن الفلسفة تلتقي‬
‫باألسطورة وطموحها االبستيمولوجي‪ ،‬أوال باعتبارها تمثيال‪ .‬فتصبح عندئذ قضية‬
‫ميتوس‪-‬لوغوس قضية "تمثيل‪-‬مفهوم"‪ .‬فإذا كانت الفلسفة هي التفكير بالمفهوم فإن‬
‫السؤال هو أن نعرف إن كان التمثيل الذي تنقله األسطورة يمكن أخذه باعتباره‪ .‬صورة‬

‫‪26‬‬
‫إما أن التمثيل يمكن إرجاعه‪ .‬إلى المفهوم (وحينئذ‬
‫قبلية للمفهوم‪ .‬هنالك إجابتان ممكنتان‪ّ :‬‬
‫َلم كل هذا االلتفاف الذي أبرزت نظريات المجاز القديمة تفاهته؟)‪ ،‬أو على العكس إذا‬
‫تمسكنا بعدم إرجاع التمثيل إلى المفهوم‪ ،‬فماذا عن مهمة العقالنية؟‪.‬‬

‫إن إجابات كانط ‪ Kant‬وهيغل ‪ Hegel‬عن هذه المفارقة‪ .‬مفيدة بشكل قوي‪ .‬فهذان‬
‫الفيلسوفان‪ ،‬وبطريقتين مختلفتين‪ ،‬يحاوالن التمسك بأولية المفهوم (بمعان مختلفة للكلمة‪،‬‬
‫والحق يقال)‪ ،‬مع المحافظة على أهمية التمثيل‪ .‬والحالن اللذان اقترحاهما‪ .‬يمكن‬
‫بعد‪ .‬كل ما سنثيره من نقاشات أخرى‪،‬‬
‫جاوزا ُ‬‫اعتبارهما أنموذجين فلسفيين لم ُيتَ َ‬
‫يفترض‪ ،‬بطريقة أو بأخرى‪ ،‬التنازع الناشئ من التقابل بين كانط وهيغل‪.‬‬

‫‪ ‬التأويل الكانطي للميثولوجيا‪:‬‬

‫ال ينبغي أن نبحث‪ ،‬عن إجابة كانط عن سؤال وضع التمثيل في اقتصاد الفلسفة‪،‬‬
‫في الدين في حدود العقل البسيط فقط‪ .‬إن كامل مشروع فلسفة الحدود هو الذي يعطي‬
‫معناه لهذه اإلجابة الجزئية‪ .‬إن ادعاء معرفة أشياء مطلقة‪ ،‬في فلسفة الحدود‪ ،‬خارج‪.‬‬
‫دائرة التجربة الحسية والمعرفة العلمية متهم بالوهم؛ وبهذا المعنى يسقط العالم‬
‫األسطوري تحت نقد كانط لـ"الوهم المتعالي" الذي ال يشمل الحجج الكالسيكية للميتافيزيقا‬
‫فحسب‪ ،‬بل كل المواقف الخاصة بالخوارق التي تروجها ثقافة عظيمة‪.‬‬

‫ولكن فلسفة كانط ليست مجرد فلسفة وضعية‪ .‬فإذا كان هناك وهم متعال‪ ،‬فألن‬
‫ص ُر في الفاهمة ويفرض ما ال يخضع للشرط على رأس السلسلة الكاملة‬
‫العقل ال ُي ْختَ َ‬
‫من الشروط؛ وما ال يخضع للشرط هذا يمكن أن يكون "مفكرا‪ .‬فيه" ‪ ،pensé‬ال‬
‫"معروفا" "‪ ."connu‬هذا االختالف بين فكر وعرف‪ ،‬ملحقا‪ .‬بنقد الوهم المتعالي‪ ،‬يفتح‬
‫تأويال ممكنا لعالم األساطير‪ .‬فعال‪ ،‬فإذا أدينت األسطورة باعتبارها ميتافيزيقا ضمنية‪،‬‬
‫فإنها قابلة لتلقِّي معنى من خالل صلتها بما ال يخضع للشرط‪ .‬ولكن أي معنى‪.‬؟ بالنسبة‬

‫‪27‬‬
‫إلى كانط ال يمكن أن يكون هذا المعنى إالّ معنى أخالقيا‪ .‬إن خرق الحدود الوحيد الذي‬
‫ال يؤدي إلى العودة إلى "الوهم" المتعالي هو موقف حريتنا في صلتها باألخالق‪.‬‬

‫إنه على هذا األساس العملي فقط يمكن بسط "مسلمات" تخص اهلل والخلود‬
‫والحرية‪ .‬وعلى خلفية مسلمات العقل العملي هذه يمكن للفلسفة أن تفهم "في حدود العقل‬
‫البسيط" شيئا عن التمثيالت الدينية‪ .‬وهذا أمر ممكن للفلسفة بل واجب عليها‪ ،‬ما أن‬
‫الشر‪ .‬إن إمكانية التغلب على الشر هي إمكانية أن تكون الحرية حقيقة‬ ‫ِ‬
‫تَُواجهَ مشكلة ّ‬
‫تصو ُر‬
‫وليس مجرد إلزام أو حلم‪ .‬ومن هنا يصبح ارتكاز األمل العقالني على تمثيالت ِّ‬
‫انتصار "المبدإ الطيِّب" على "الخبيث" مقبوال‪ .‬فالفلسفة ال تفهم ما يمكن تسميته بالرسوم‬
‫البيانية لـ"النتصار على الشر" أو ما يسمى برموزه ال في حدودها فحسب بل في تخومها‬
‫كذلك‪ ،‬إالّ باعتبارها "مجازات"‪ .‬تدعم األمل العقالني‪.‬‬

‫طبعا‪ ،‬لم يفكر كانط في األساطير‪ ،‬بل في المسيحية؛ ولكنه ال مانع أن نوسع‬
‫تصور كانط لـ"رمزية"‪ .،‬في مستوى الخيال‪ ،‬وتصوره لطلب المعنى الذي يصدر عن‬
‫العقل ذاته‪ ،‬نحو مجمل رؤية العالم التي عرضناها سابقا‪ .‬يمكن أن نجد وخصوصا في‬
‫باريرغا ‪ Parerga‬الدين في حدود العقل البسيط لب التأويل الكانطي للميثولوجيا‪.‬‬
‫فعال‪ ،‬إن كانط يعني بالـباريرغا ‪ ،‬التمثيالت التي لم تعد في حدود العقل البسيط فحسب‬
‫بل في تخومه كذلك‪ .‬وهكذا فإن فلسفةً للحدود‪ ،‬وهي في نفس الوقت‪ ،‬فلسفةٌ عملية‪ ،‬ال‬
‫تستطيع مباشرة حقيقة الكون األسطوري إالّ باعتبارها معرفة للتخوم‪.‬‬

‫ولكن ثمن كل هذا باهض‪ ،‬إن األساطير ليست قابلة للفهم إالّ عند تجريدها من كل‬
‫مدى تأملي وعند ربطها بالوظيفة العملية للعقل‪ ،‬أي‪ ،‬في النهاية‪ ،‬عند ربطها بشروط‬
‫ً‬
‫تحقق الحرية اإلنسانية‪ .‬وبهذا المعنى يمكن القول إن كانط قد فتح الطريق أمام تأويل‬
‫وجودي لألساطير‪.‬‬

‫‪ ‬هيغل والتمثيالت الدينية‪:‬‬

‫‪28‬‬
‫يفتح هيغل إمكانية أخرى‪ ،‬فالتمثيالت الدينية ليست‪ ،‬بالنسبة إليه‪ ،‬ماوراء ‪au-‬‬
‫‪ delà‬حاجز‪َ .‬ح َّد َدهُ العقل الذي يراقب ذاته‪ .‬إنها‪ ،‬بالعكس‪ ،‬أمام ‪ en deçà‬اكتمال‬
‫للمعرفة‪ ،‬داخل وعي الروح المطلق بذاته‪ .‬إن التمثيالت الدينية ليست‪ ،‬إذن‪ ،‬في تخوم‬
‫الحد؛ إنها تنتمي إلى المرحلة‪ .‬قبل األخيرة لمسار ينتهي عند المعرفة المطلقة‪ .‬بل إن‬
‫ّ‬
‫األمر أكثر من هذا‪ ،‬إذ ال يمكن أن يكون محتوى الدين ومحتوى الفلسفة مختلفين‪ ،‬ألنه‬
‫ال يمكن أن يكون هنالك وعيان ذاتيان للروح المطلق‪ .‬إن الدين والفلسفة ال يختلفان في‬
‫أما الفلسفة فهي وحدها‬
‫المضمون بل في درجة المعرفة‪ .‬فالدين يبقى في مجال التمثيل؛ ّ‬
‫التي تلج مجال المفهوم‪ .‬وبهذا يكسر هيغل اإلطار الضيق للفلسفة العملية الكانطية ويعيد‬
‫للكون األسطوري‪ ،‬ضمنيا‪ ،‬صلته بالحقيقة التأملية‪.‬‬

‫إما أن يكون‬
‫ولكن أي صلة؟ كيف الخروج من التعارض المتمثل في أن التمثيل ّ‬
‫تصو ُر تنظيم هرمي لعالم‬
‫زائدا‪ ،‬وإ ّما أن يكون ضروريا؟‪ .‬ما يبقى من عمل هيغل هو ّ‬
‫التمثيل وديناميكية تحمل التمثيل نحو المفهوم بفعل حركة قهرية لـ"اإللغاء"‬
‫‪ .Aufhebung‬وما يقابل‪ ،‬في فلسفة الدين عند هيغل‪ ،‬العالم األسطوري هو الدرجتان‬
‫األوليان لما يسميه الدين‪" :‬الدين الطبيعي"‪ ،‬و"الدين الجمالي‪.-‬األخالقي"‪ ..‬وعالم التمثيل‬
‫في السجلَّْين مبرر تماما؛ ففي التمثيل يتلقَّى الروح المطلق حقيقة جوهرية‪ ،‬ال تنفك عن‬
‫بد من الرجوع دائما إلى نقطة االنطالق‬
‫التحول إلى وعي ذاتي وإ لى مفهوم‪ .‬لكن ال ّ‬
‫ّ‬
‫هذه حيث يكون الروح شيئا‪ ،‬حجرا؛ ذلك أننا نتثبت دائما‪ ،‬من خالل التصوير الحسي‪،‬‬
‫من أن الروح ليس بعيدا عنا‪َّ ،‬‬
‫وأن له القدرة على التعريف بنفسه‪ ،‬وأنه عرف بنفسه‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬وفي نفس الوقت‪ ،‬فإن مهمة بيان أن هذا االغتراب يحمل في ذاته لزوم تجاوزه‬
‫هي مهمة الفلسفة‪ .‬ويمكن إرجاع اإلقرار القائل "البد من أن يموت الوثن ليولد الرمز"‬
‫إلى التأثير هيغلي‪ .‬فموت األوثان هو الذي يضع فعال عالمات ارتقاء التمثيل نحو‬
‫المفهوم‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫هنالك‪ ،‬أوال‪ ،‬موت التمثيالت الطبيعية‪ ،‬أي ما يمكن تسميته اليوم‪ ،‬مع ميرسيا‬
‫إلياد‪ ،‬بـ"الرموز الكونية"‪ .‬ورغم ذلك فهذه الرموز هي التي تغذي بقوتها الدفينة فعل‬
‫اإلظهار حيال المطلق كل الرموز العليا التي تتمركز على أساسها‪ .‬إن موت الرموز‬
‫الطبيعية قد اكتمل في الفن اإلغريقي والديانة اإلغريقية؛ وخالفا للرموز الكونية‬
‫والحيوانية‪ ،‬بل خالفا لرمزية الهرم والمسلة الهندسية ‪ ،obélisque‬فإن التمثال‬
‫اإلغريقي ذات؛ على أنه يجب االتجاه‪ .‬نحو موت ثان‪ ،‬هو موت الصورة الهيلينية ذاتها‪.‬‬
‫لقد طُبِ َع موت "التمثال" اإلغريقي هذا بميالد الكوميديا‪ ،‬وبجوانية الذات في الشخصية‬
‫القانونية الرومانية‪ .‬ولقد رافقه شعور كبير بالتعاسة والفراغ‪ .‬وفي هذه المناسبة أعلن‬
‫هيغل الكلمة المشهورة "مات الرب" آخذا إياها من النشيد اللوثري ليوم الجمعة المقدس‪.‬‬

‫وعلى أساس الموت هذا تنبثق الظاهرة الوحيدة التي يقول عنها هيغل إنها "تجلي"‬
‫الروح بما هو هنا ‪ ،étant-là‬أي التجسيد المسيحي‪ .‬بيد أن سياق الموت‪ ،‬هنا أيضا‪،‬‬
‫ينتمي‪ ،‬ضرورة‪ ،‬إلى استئثار الطائفة بمعنى هذا التجلي المطلق‪ .‬فعال‪ ،‬إن سيادة التمثيل‬
‫لم يبطلها التجسيد؛ لقد أخذت هذه السيادة‪ ،‬فقط‪ ،‬شكل الحدث الجديد‪ ،‬من ناحية‪ ،‬وشكل‬
‫تأويل الطائفة له من ناحية أخرى‪ .‬ولهذا وجب إعادة تأويل كل المحتوى التأملي‬
‫للمسيحية في لغة المفهوم‪.‬‬

‫سيبقى التساؤل حول إن لم يكن هيغل‪ ،‬في الحقيقة‪ ،‬قد أذاب الكون األسطوري‬
‫للتمثيل بوضعه في المرحلة قبل األخيرة لمسار ينتهي في المعرفة المطلقة‪ ،‬مثلما فعل‬
‫ذلك كانط في فلسفة للحدود تترك خارج‪ .‬حقلها‪ .‬ما ال تستطيع إدخاله في دائرتها‪ ،‬وإ ن‬
‫أخذت عنها‪ ،‬بشكل ما‪ ،‬من الخارج‪ ،‬نظرة حدودية؛ سيبقى هذا التساؤل محل نقاش لمدة‬
‫طويلة‪.‬‬

‫يبدو‪ ،‬رغم كل ذلك‪ ،‬أن هيغل قد وضع‪ ،‬لعلم أصول التفسير ‪Herméneutique‬‬
‫المعاصر‪ ،‬جملة من القواعد لو يستطع هذا العلم تجاوزها‪ّ .‬أوال‪ :‬للتمثيل األسطوري‬
‫معنى‪ ،‬ويتمثل هذا المعنى في جعل المطلق ظاهرا بيننا‪ .‬ثانيا‪ :‬هذا المعنى يكمن‪ ،‬أساسا‪،‬‬

‫‪30‬‬
‫في التمثيالت األكثر مادية التي تعطي امتالء جوهريا لتعابير المطلق‪ .‬ثالثا‪ ،‬إن التمثيل‬
‫ليس رسما جامدا‪ ،‬بل هو حركية ٍ‬
‫فكر يسعى إلى إلغاء ذاته في المفهوم؛ وفي هذا‬
‫اإلطار‪ ،‬يمكن القول إن هيغل قد أرسى المبدأ القائل بأن التأويل ال يكون خارج‪.‬‬
‫المؤو ِل‪ ،‬وإ نما هو ما تقتضيه الرمزية ذاتها‪ ،‬والتي تباشر‪ ،‬بطريقة ما‪،‬‬
‫َّ‬ ‫الموضوع‬
‫"يؤول نفسه"‪ .‬رابعا‪،‬‬
‫تفسيرها الذاتي؛ فالتمثيل‪ ،‬كما يقول لوثر عن الكتاب المقدس‪ِّ ،‬‬
‫يحتوي فعل التأويل هذا على مرحلة فانية‪ ،‬وال ينبغي أن يدهشنا هذا‪ ،‬فلقد قابلنا‪ ،‬دون‬
‫انقطاع‪ ،‬موضوع الموت هذا‪ ،‬موت عالم بما هو شرط لكل خلق عهد جديد‪ .‬وهذا‬
‫الموت ليس هو ما يقوله التمثيل فحسب‪ ،‬و‪-‬المثال على ذلك في رمزية يوم الحساب‬
‫وغضب الرب التي تقلب حكاية األصول إلى نبوءة نهاية‪ ،-‬بل هذا الموت هو ما يعمل‬
‫ِّت باتجاه المفهوم‪ .‬أخيرا‪ ،‬إن الوجهة‬
‫داخل نسيج التمثيل ذاته‪ :‬إن الرمز هو تمثيل َمي ٌ‬
‫يشق كل هذه الحركيات‪ ،‬تهدف إلى انبثاق رمزية‬ ‫ذات الداللة‪ ،‬وسهم المعنى الذي ّ‬
‫ت الفلسفةُ‪ ،‬أو إن جاز القول‬
‫أنموذجية هي الوعي ذاته وقد سكنه المطلق‪ .‬هكذا َبَّر َر ْ‬
‫تولت الفلسفة‪ ،‬هذه الخاصية التي ينتهي بها هذا البحث حول قصد األسطورة الداللي‪،‬‬
‫وهذه الخاصية هي أن األسطورة ال يكون لها معنى إالّ في تعدد أصوات كل أشكال‬
‫الخطاب‪ .‬في أفق "استبداد كلي"‪.‬‬

‫إن التراوح بين كانط وهيغل محير؛ فنحن ال نستطيع قطعا أخذهما معا وإ ضافتهما‬
‫الحد من تناقضهما عبر نوع من التعديل‬
‫إلى بعضهما؛ ولكننا نستطيع على األقل ّ‬
‫المتبادل‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬يوشك تقليص كانط‪ ،‬عالم "العقائد" إلى الممارسة أن يربط‬
‫مصيرها بمذهب أخالقي؛ فال َّ‬
‫بد إذن من التذكير‪ ،‬مع نيتشة‪ ،‬بأن "رب األخالق فقط هو‬
‫الذي وقع دحضه"‪ .‬ولكن طموح هيغل إلى المعرفة المطلقة ال تخلو من شبهة‪ :‬فأين يقف‬
‫الفيلسوف فعال؟ وهل هو خارج‪ .‬لعبة التمثيل كلها؟‬

‫أليس من الممكن عندئذ إعادة اكتشاف معنى لألخالق ذاتها ينطلق ال من فكرة‬
‫الواجب والضرورة بقدر ما ينطلق من فكرة الدافع التي تحث العبد نحو الحرية‪ .‬فإذا‬

‫‪31‬‬
‫فهمنا األخالق بهذه الكيفية‪ ،‬باعتبارها مجموع شروط تحقيق الحرية‪ ،‬فكل فهم للذات‪،‬‬
‫إذن‪ ،‬فهم أخالقي ويمكن أن نجزم أن المعرفة الرمزية هي المنعطف الطويل الذي‬
‫تكتشف‪ ،‬من خالله‪ ،‬الذات شروط تََأس ِ‬
‫ُّسهَا الخاص‪ .‬أليست وظيفة األسطورة األولى هي‬
‫تأسيس الزمن التاريخي؟‪.‬‬

‫مما يبدو عليه من الوهلة األولى؛ فالعالم‬


‫إن كانط‪ ،‬من هذه الوجهة‪ ،‬أكثر غنى ّ‬
‫ضيف إليه شيئا؛ إنه ال‬
‫َ‬ ‫األسطوري ال ُّ‬
‫يمد من إحساسنا بالواجب الذي ال يمكن أن ُن‬
‫آمل؟"‪ ،‬وهو‬
‫أفعل؟" بل على السؤال‪" :‬ماذا يمكنني أن َ‬
‫علي أن َ‬
‫يجيب على السؤال‪" :‬ماذا َّ‬
‫سؤال يتقيد داخل ضرورة إنهاء كل موضوع اإلرادة‪ .‬وفي المقابل‪ ،‬أال يمكننا القول إن‬
‫كانط ِّ‬
‫يعدل من هيغل؟ إذ المعرفة المطلقة ليست خارج‪ .‬كل مسار التمثيل؛ إنها داخله‪،‬‬
‫تسقيه وتضمن له حركيته وعمل تدميره الذاتي‪ .‬وبهذا الفهم‪ ،‬ال يضاف المفهوم إلى‬
‫ث عن ذاتها ليست شيئا آخر‬
‫التمثيل‪ ،‬إنه نور التمثيل الداخلي؛ وهذه الحقيقة التي تَْب َح ُ‬
‫غير وعينا بالمطلق داخلنا‪ .‬وإ ذا كان األمر كذلك‪ ،‬فال مجال لالختيار بين التأويل العملي‬
‫الخالص للرمزية األسطورية وبين تأويلها التأملي‪ :‬إن األسطورة‪ ،‬من خالل قصدها‬
‫تصور وحدتهما‪ .‬وال مجال كذلك لالختيار بين التمثيل والمفهوم‪ :‬فالتمثيل‬
‫الداللي‪ّ ،‬‬
‫سماها‬
‫األسطوري‪ ،‬من خالل قصده الداللي دائما‪ ،‬يهدف إلى كلية المعنى هذه‪ ،‬التي َّ‬
‫سماه‬
‫هيغل بحق "مفهوما"‪ .،‬والتي تسعف‪ ،‬في نفس الوقت‪ ،‬المفهوم بهذا التبسيط الذي ّ‬
‫كانط‪" :‬فنا مخفيا في أعماق الطبيعة"‪.‬‬

‫‪32‬‬

You might also like