You are on page 1of 9

‫كونت‬

‫من الفلسفة الوضعية إلى ديانة اإلنسانية‬

‫يصعب جدا بل يستحيل اختصار حياة وفكر كونت في ورقة أو اختزلها في مق ال‪ ،‬فحي اة الرج ل‬
‫وأفكاره تتجاوز حدود الوص ف وتص عب على ك ل تحدي د‪ .‬فك ونت مؤس س الفلس فة الوض عية والفيزي اء‬
‫االجتماعي‪ ،‬هو نفسه كونت النبي‪ ،‬العالم‪ ،‬المجنون‪ ،‬المفكر‪...‬الخ‪ ،‬تكثر أوصاف الرجل رغم أننا نتح دث‬
‫عن نفس الشخص‪ ،‬عن تجربة عز نظيرها في الفكر اإلنساني‪ .‬إننا إذن أم ام تجرب ة فري دة عرفه ا الفك ر‬
‫اإلنساني عبر تاريخه الطويل‪ ،‬وهي التجربة ال تي جعلت لك ونت مكان ة ك برى بين عظم اء الفك ر والعلم‬
‫الذين عرفتهم اإلنسانية‪.‬‬

‫حياة كونت وأعماله‬ ‫‪‬‬

‫ولد كونت في ‪ 19‬يناير‪ 1798‬بمدينة مونبولييه بفرنسا‪ ،‬من أسرة كاثوليكي ة ت دافع عن الملكي ة‪،‬‬
‫لم تستطع إقناع طفلها الذي هو كونت بما تؤمن به من معتقدات‪ ،‬إذ لم يكد يبلغ كونت من العمر ‪ 14‬س نة‬
‫حتى تخلى عن كل أشكال اإليمان الديني‪ ،‬متجه ا نح و األفك ار الليبرالي ة والثوري ة على ع ادة الكث ير من‬
‫أبن اء جيل ه‪ ،‬التح ق ك ونت بمدرس ة البولتيكني ك س نة ‪ 1814‬حيث ك ان األول على رأس قائم ة الطلب ة‬
‫المقبولبن بهذه المدرسة‪ ،‬لكنها سرعان ما عاد أدراجه إلى مدينته األصلية بعدما قررت الحكومة الفرنسية‬
‫إغالق نفس المدرسة سنة ‪ 1816‬بسبب انخراط بعض طلبتها في بعض الجماعات الس رية‪ ،‬وه و األم ر‬
‫الذي دفع كونت إلى االتجاه نحو دراسة الكب والفيزيولوجيا‪ ،‬قبل أن يعود إلى باريس مدرسا ً للرياض يات‬
‫التي اشتهر بإجادتها بين أقرانه‪ .‬س نة بع د ذل ك سيص بح ك ونت كاتب ا ً خاص ا ً لس ان س يمون‪ ،‬ب ل معاون ا ً‬
‫وصديقا ً إلى غاية سنة ‪ 1824‬حيث سيقرر كونت االنفصال عن هذا األخير بعدما ش اركه في ت أليف أهم‬
‫نصوصه ( الصناعي‪ ،‬المنظم‪ ،‬السياسي‪ ،‬في معنى النظام الصناعي‪...‬الخ)‪ ،‬سنة ‪ 1819‬سيص در ك ونت‬
‫بالتع اون م ع ش ارلي ك ونت وش ارلي دين وير " الفص ل الع ام بين اآلراء والرغب ات ‪Séparation‬‬
‫‪ "générale entre les opinions et les désirs‬سنة بعد ذلك سيصدر كونت " رأي موجز في كل‬
‫الماضي الحديث ‪ ."sommaire appréciation sur l’ensemble du passé moderne‬ستشكل‬
‫سنة ‪ 1822‬تاريخا ً مهما في الحياة العلمي ة لك ونت حيث سيص در ك ونت " بي ان ح ول األعم ال العلمي ة‬
‫الض رورية من أج ل إع ادة تنظيم المجتم ع ‪prospectus des travaux scientifiques‬‬
‫‪ " nécessaires pour réorganiser la société‬قب ل أن يص در س نة ‪ 1824‬النس ق السياس ي‬
‫الوضعي ‪ ،système de politique positive‬وهو العمل الذي سيعلن نهاية العالقة بين كونت وسان‬

‫‪1‬‬
‫سيمون‪ ،‬إذ بعدما باع األول للثاني حقوق نشر النص‪ ،‬سيقوم األخير بنشره في مؤلفه " عقيدة الصناعيين"‬
‫دون أن يشير باإلسم إلى كونت صاحب أهم جزء في ه ذا النص‪ ،‬م ا سيغض ب ك ونت ال ذي أعلن حرب ا‬
‫كالمية على رئيسه واصفا إياه بأبشع األوصاف‪ ،‬حيث جعل منها " المتالعب الفاسد " و وص ف ص داقته‬
‫ب" االرتباط المضر " كما أن شبه تأثره ب ه ب " الت أثر المش ؤوم ‪ ." Désastreuse influence‬س نة‬
‫بعد ذلك سيصدر كونت " تأمالت فلس فية ح ول العل وم والعلم اء" و " ت أمالت ح ول الس لطة الروحي ة"‪،‬‬
‫ستكون سنة ‪ ،1825‬سنة أكبر خطأ ارتبكه كونت في حياته – حس ب تعب يره‪ -‬عن دما س يتزوج ك ارولين‬
‫ماسان ‪ ،caroline massine‬العاهرة التي تزوجها بناء على حساب خاطئ كما يقول‪ ،‬بل إن ه اع ترف‬
‫في أكثر من مناسبة أن " إنه أول خطأ خطير حقيقة ارتكبت ه في حي اتي "‪ .‬سيص اب ك ونت س نة ‪1826‬‬
‫بأزمة عقلية حادة بعد أول هروب لزوجته وبعد تعب عقلي كبير‪ ،‬ما سيؤدي إلى وضع بالمسشتفى‪ ،‬ال تي‬
‫لم يغادره إال بعد ثمانية أشهر‪ ،‬دون أي تحسن على مستوى حالته الصحية‪ ،‬م ا س يدفعه م دة قص يرة بع د‬
‫ذلك إلى محاولة االنتحار‪ ،‬غير أنه سرعان ما س يتجاوز األم ر بع دما فطن إلى ض رورة االل تزام بنظ ام‬
‫فيزيقي وعقلي صارم من أجل تجنب هذه الحال ة‪ .‬س يتجدد نش اط ك ونت الفك ر س نة ‪ 1929‬ب العودة إلى‬
‫دروس الفلسفة الوضعية التي سيصدر سنة بعد ذلك أو أجزاءها قب ل أن يلحقه ا الب اقي س نوات ‪ 1835‬و‬
‫‪ 1838‬و‪ 1839‬و‪ 1841‬إلى غاية ‪.1842‬‬

‫يصف كونت س نة ‪ 1845‬بالس نة ال تي ال مثي ل له ا‪ ،‬حيث أعلن لكلوتيل د دو ف و ‪Clotilde de‬‬


‫‪ Vaux‬بحبه لها‪ ،‬التي لم توافقه على دعوته‪ ،‬لتطلب منه أن يظال صديقين‪ ،‬ألنها مشاعرها اتجاهه عاجزة‬
‫عن أن تتجاوز حدود الصداقة‪ ،‬وألن مصائب كونت ال تنتهي شاءت األقدار أن تموت دو فو أم ام ك ونت‬
‫دون أن يستطيع القي ام ب أي ش يء س وى التح ول نح و جعله ا دين ا ً حقيقي ا ً ‪ .Véritable Culte‬في س نة‬
‫‪ 1847‬أي سنة بعد وفاة دو فو سيعلن كونت عن ديانة اإلنسانية التي أرادها دين ا وض عيا ب ديال عن ك ل‬
‫أشكال اإليمان األخرى التي تجعل اإلنسان آخر الكائنات المفكر فيها‪.‬‬

‫ستشكل سنة ‪ 1857‬آخر لحظات كونت حيث س يموت في الخ امس من ش هر ش تنبر في ب اريس‬
‫وسط تالمذته ومريده‪ ،‬مخلفا ً ورائه إرثا علميا ما يزال إلى حدود اليوم مصدرا لكثير من األعمال العلمي ة‬
‫والفلسفية التي تؤسس عليه نظرتها للطبيعة وللعالم واإلنسان‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫مراحل تطور الفكر الكونتي‬ ‫‪‬‬

‫يمكن التمي يز في الحي اة الفكري ة لك ونت كم ا ذهب إلى ذل ك رايم ون آرون بين ثالث محط ات‬
‫كبرى‪ ،‬تعكس التطور الذي عرفته فلسفة كونت وفكره‪ ،‬فأما المرحل ة األولى فهي تل ك ال تي ابت دأت س نة‬
‫‪ 1820‬وانتهت سنة ‪ ،1826‬حيث أصدر كونت " رأي موجز في كل الماضي الحديث‪ ،‬باإلض افة إلى "‬
‫بيان األعمال العلمية الضرورية إلعادة تنظيم المجتمع" وأخيرا تأمالت فلسفية حول العلوم والعلم اء س نة‬
‫‪ .1826‬أم ا المرحل ة الثاني ة فق د ارتبطت بإص دار ك ونت ل دروس في الفلس فة الوض عية " ‪ 1830‬إلى‬
‫‪ ،"1842‬أما آخر مراحل تطور الفكر الكونتي فقد انتهت حسب رايمون آرون بإصدار كونت ل" النس ق‬
‫السياسي الوضعي أو مدخل إلى السوسيولوجيا المؤسسة لديانة اإلنسانية" ما بين سنتي ‪ 1851‬و‪.1854‬‬

‫تعكس هذه المراحل حسب آرون تطوراً نوعيا ًَ في الفك ر الكون تي‪ ،‬ت دفع إلى التمي يز بين ش كلين‬
‫من اإلنتاجات الكونتية‪ ،‬أولى تنتمي إلى مرحلة الشباب؛ حيث التفك ير في وض عية مجتمع ه وفي األس ئلة‬
‫الكبرى التي تواجه المجتمع الفرنسي وتواجه اإلنسانية بشكل عام‪ ،‬وقد كان كونت في هذه المرحلة شبيها‬
‫بجل سوسيولوجيي عصره‪.‬‬

‫انتهت قراءة كونت التطورية لواقع بداية الق رن التاس ع‪ ،‬بحقيق ة ص غيرة لكنه ا دال ة على جمي ع‬
‫المستويات‪ ،‬لقد الحظ كونت أن نوعا ً جدي داً من المجتمع ات يتش كل أم ام عيني ه‪ ،‬مقاب ل اتج اه آخ ر نح و‬
‫الموت‪ ،‬فالمجتمع ال ثيولوجي العس كري‪ ،‬ال ذي م يز الق رون الوس طى‪ ،‬وال ذي ك انت تحت ل في ه الكنس ية‬
‫الكاثوليكية وتعاليمها‪ ،‬والذي كانت تحتل فيه الق وة العس كرية مرك زاً مهم ا ً في المجتم ع‪ ،‬أص بح تنس حب‬
‫تدريجيا من الحياة العامة‪ ،‬مقابل السماح لنوع آخر من المجتمعات بالظهور‪ ،‬فالمجتمع العلمي الص ناعي؛‬
‫الذي ولد في نهاية القرن الماضي‪ ،‬استعاض عن األنبياء ورجال الدين بالعلماء‪ ،‬إذ تحول المجتمع بع دما‬
‫كان يعتمد في بناء أسسه الفكرية واألخالقية على رج ال الكنس ية‪ ،‬نح و العلم اء ال ذين أص بحوا المص در‬
‫األول لألفكار والقيم‪ ،‬والورثة الشرعيون للسلطة الروحية بالمجتمع‪.‬‬

‫إن أهم خالصة يمكن استنتاجها من خالل قراءة الفكر الكونتي المرتبطة بالتفكير في هذه المرحلة‬
‫هي أن حالة الفوضى والالنظ ام ال تي تعيش على واقعه ا المجتمع ات الغربي ة‪ ،‬ال يمكن تجاوزه ا إال من‬
‫خالل إصالح اجتماعي يقوم على إصالح فكري ‪ ،Réforme intellectuelle‬فالثورة والعنف ال يمكن‬
‫أبداً أن تخرج المجتمع من أزمته كما يق ول ك ونت‪ ،‬ب ل إنن ا نحت اج إلى اس تدعاء مختل ف العل وم‪ ،‬وبن اء‬
‫سياسة وضعية‪ ،‬وحدها القادرة على انتشال المجتمعات الغربية من حالة الغربة والفوضى التي تعرفها‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫إن األزم ة ال تي تعيش ها المجتمع ات المعاص رة‪ ،‬واألم راض واالض طرابات ال تي تض رب‬
‫المجتمعات الغربية‪ ،‬ال يمكن تفسيرها في نظر كونت إال من خالل النظر إلى التناقض الموجود بين نظام‬
‫ثيولوجي عسكري في طريقه نحو الزوال‪ ،‬ونظام علمي صناعي في طريقه نحو الوالدة‪.‬‬

‫إن هذا التأويل الذي يقدمه كونت لألزمة التي تعيشها فرنسا و من خاللها كل المجتمعات الغربية‪،‬‬
‫تكشف عن وجه آخ ر من ك ونت‪ ،‬ه و ك ونت المص لح ‪ ،Réformateur‬وليس ك ونت الم ذهبي ال داعي‬
‫للثورة كما الحال مع ماركس‪ ،‬أو المذهبي المدافع عن المؤسسات الحرة‪ ،‬مثلما ه و الش أن م ع مونتس كيو‬
‫وتوكفيل‪ ،‬إن المذهب الوحيد الذي ينتصر له لحظة تفك يره في مص ير أوروب ا ه و العلم الوض عي والعلم‬
‫االجتماعي‪ .‬في هذا اإلطار يرى ك ونت أن التن اقض ال ذي تعرف ه أوروب ا بين ه ذين النم وذجين ال يمكن‬
‫تجاوزه إال من خالل انتصار النموذج الذي يسميه كونت بالعلمي والصناعي‪ ،‬وهو انتص ار حتمي‪ ،‬يمكن‬
‫التسريع من وثيرته‪ ،‬تأخيره لكنه سيحصل في النهاية‪ ،‬أما وظيفة السوسيولوجيا فهي العمل على فهم ه ذا‬
‫المستقبل الحتمي الضروري والذي ال يمكن تجنبه‪ ،‬على نحو يمكن من المساعدة على إتيان هذا الوض ع‬
‫األساسي‪.‬‬

‫تتميز المرحلة الثانية من الحياة الفكرية لكونت كما قلنا سابقا ً بإص دار دروس الفلس فة الوض عية‪،‬‬
‫وهي مرحلة لم تتغير فيها األفكار الكبرى لكونت‪ ،‬بقدر ما اتس ع أفقه ا وم داها لتأخ ذ بع داً إنس انيا أش مل‬
‫وأكبر‪ .‬يسهل على غير األوروبي كما يقول رايمون آرون أن يالحظ التردد الذي طبع كونت عن د حديث ه‬
‫عن مراحل تطور الفكر البشري‪ ،‬في إضفاء طابع كوني على مشروعه الفك ري‪ ،‬ف التطور ال ذي عاش ته‬
‫وتعيشه أوروبا على مس توى حياته ا الفكري ة‪ ،‬يك اد يك ون ه و نفس ه التط ور ال ذي س تعرفه المجتمع ات‬
‫اإلنسانية األخرى آجال أم عاجال‪ .‬ما يعني أن المرحلة الثانية من الحياة الفكرية لكونت لن تع رف تجدي داً‬
‫لإلشكاليات التي فكر فيها‪ ،‬بقدر ما ستكون " دروس الفلسفة الوضعية " محاولة لتعميق أفكاره السابقة و"‬
‫تطبيقا ً لبرنامج وضع خطوطه الكبرى في مرحلة الشباب"‪.1‬‬

‫لقد كانت دروس الفلسفة الوضعية في الحي اة الفكري ة‪ ،‬فرص ة لمراجع ة ك ل العل وم وال دفاع عن‬
‫وتأكيد فكرة قانون الحاالت الثالث‪ ،‬وتصنيف العلوم‪ .‬فبالنس بة لق انون الح االت الثالث؛ يعت بر ك ونت أن‬
‫الفكر اإلنساني يخضع في تطوره لثالث أطوار كبرى‪ ،‬أولى ثيولوجية؛ يفس ر الفك ر البش ري من خالله ا‬
‫كل الوقائع من خالل إسنادها إلى كائن ات وق وى ش بيهة باإلنس ان نفس ه‪ ،‬وثاني ة يتج ه فيه ا نح و كائن ات‬
‫مجردة مثل الطبيعة‪ ،‬أما الثالثة فهي المرحلة التي يقوم فيها اإلنسان بمالحظة الظواهر وتحدي د العالق ات‬
‫الثابتة والدائمة التي تجمع بينها في لحظة معينة أو عبر الزمن‪ ،‬إن الفكر البشري في ه ذه المرحل ة يتج ه‬
‫نحو البحث عن أسباب األفعال والقوانين التي تنظمها‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪Raymond, Aron, Les Étapes de la Penses Sociologique, Édition Gallimard, 1967, p.81.‬‬

‫‪4‬‬
‫إن االنتق ال من المرحل ة الثيولوجي ة إلى المرحل ة الميتافيزيقي ة ثم إلى المرحل ة الوض عية ال يتم‬
‫بنفس الطريق ة في ك ل المج االت الفكري ة‪ ،‬أي أن االنتق ال من مرحل ة إلى أخ رى في تجرب ة معرفي ة‬
‫وإنس انية معين ة ال يتم ب الموازاة االنتق ال ال ذي تعرف ه مج االت أخ رى‪ ،‬ب ل ق د يس بق أح دها اآلخ ر في‬
‫الوصول إلى مرحل ة معين ة‪ ،‬كم ا ق د تت أخر تجرب ة معين ة قب ل اللح اق بمثيالته ا‪ .‬فعلى س بيل المث ال ال‬
‫الحص ر‪ ،‬تعت بر الرياض يات والفيزي اء والكيمي اء والبيولوجي ا أول أش كال المعرف ة ال تي اس تقبلت الفك ر‬
‫الوضعي‪ ،‬بينما تأخر نفس الفكر في الوصول إلى مجاالت المعرفة التي تهتم بظواهر مركبة‪ ،‬فكلما كانت‬
‫المادة أي موضوع العلم بسيطة‪ ،‬كلما كان احتواءها وض عيا أس هل‪ ،‬ب ل إن هن اك من الظ واهر من يق دم‬
‫نفسه بشكل مباشر للمالحظة‪ ،‬وبالتالي المقاربة الوضعية‪.‬‬

‫إن ترتيب الحاالت الثالث وتصنيف العلوم له غاية واحدة وهي االستدالل على أن طريقة التفكير‬
‫السائدة في الرياضيات والفلك والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا‪ ،‬س تنتقل إلى مج ال السياس ة وستس اهم في‬
‫بناء علمي وضعي للمجتمع هو السوسيولوجيا‪ .‬غير أن الغاية من هذا الترتيب ال تقف عند ه ذا الح د‪ ،‬أي‬
‫ضرورة خلق علم جديد هو السوسولوجيا‪ ،‬وإنما تتجاوز ذلك إلى استبدال بعض المعطيات المنهجي ة كم ا‬
‫فعلت البيولوجيا في وقت سابق‪ ،‬عندما كشفت على أن العلوم يجب أن تكون بالض رورة وأساس اً‪ ،‬علوم ا‬
‫تركيبية وليست علوما ً تحليلية‪ ،‬فإن هذا القلب هو الذي سيؤسس لتصور السوسيولوجيا لوحدة التاريخ‪.‬‬

‫يحمل مفهومي التركيب والتحليل في الفكر الكونتي دالالت واس عة ومتع ددة‪ ،‬إذ في ال وقت ال ذي‬
‫الذي تعتبر فيه عل وم الطبيع ة غ ير العض وية ‪ inorganique‬مث ل الفيزي اء والكيمي اء‪ ،‬علوم ا تحليلي ة‪،‬‬
‫بالمعنى الذي تتجه فيه هذه العلوم نح و إثب ات الق وانين الموج ودة بين ظ واهر معزول ة بالض رورة‪ .‬ف إن‬
‫البيولوجيا يستحيل أن تفسر عضوا أو وظيفة دون االنتباه إلى الك ائن الحي بأكمل ه‪ ،‬فالفع ل ال بيولوجي ال‬
‫يستمد داللته وبالتالي ال يمكن تفسيره إال من خالل التنظيم العضوي الذي يحتويه‪ ،‬أما إذا ما حولنا عزل ه‬
‫بشمل تعسفي واصطناعي من الجسد الذي يحتويه‪ ،‬فإننا ال يمكن أن نج د أنفس نا إال أم ام م ادة ميت ة‪ ،‬أم ا‬
‫المادة الحية فإنها عامة وكلية‪.‬‬

‫إن هذه الفكرة األخيرة هي التي سيحاول كونت نقلها إلى السوسيولوجيا‪ ،‬إذ من المستحيل أن نفهم‬
‫ظاهرة اجتماعية معينة‪ ،‬إذا لم نقم بموضعتها في الكل االجتماعي ال ذي يحتويه ا‪ ،‬ال يمكن أن نفهم مكان ة‬
‫الدين أو حالة الدولة في مجتمع معين‪ ،‬ما لم نقم بالنظر إلى هذا المجتم ع في كليت ه‪ .‬إن أولوي ة الك ل على‬
‫الجزء هذه التي يدافع عنها كونت‪ ،‬ال ترتبط فق ط بحال ة داخ ل لحظ ة معين ة في الت اريخ اإلنس اني‪ ،‬وإم ا‬
‫ترتبط بالتاريخ اإلنساني بأكمله‪ .‬ال يمكن أن نفهم المجتمع الفرنس ي في بداي ة الق رن التاس ع عش ر‪ ،‬إذا لم‬
‫نقم بموقعة هذه اللحظة في مستقبل التاريخ الفرنسي‪ ،‬كما أن اإلص الح‪ Restauration‬ال يمكن أن يفهم‬
‫إال من خالل الثورة‪ ،‬والثورة ال يمكن أن تفهم ب دورها إال من خالل ق رون النظ ام الملكي‪ .‬كم ا أن أف ول‬
‫‪5‬‬
‫الفك ر ال ثيولوجي والعس كري ال يمكن أن يفس ر إال من خالل البحث عن ج ذوره في الق رون الماض ية‬
‫‪ ،siècles écoulés‬وبالمثل ال يمكن أن نفهم عنصرا في الكل االجتم اعي‪ ،‬إال إذا أخ ذنا بعين االعتب ار‬
‫هذا الكل بأكمله‪ ،‬كما ال يمكن أن نفهم لحظة من لحظ ات التط ور الت اريخي‪ ،‬إال إذا أخ ذنا بعين االعتب ار‬
‫التطور التاريخي بأكلمه‪.‬‬

‫يضع هذا النوع من القراءات المنطقية للواقع العقل العلمي أمام مجموعة من الصعوبات الكبرى‪،‬‬
‫وهي نفسها الصعوبات التي واجهت كونت نفسه‪ ،‬خاصة في مس ألة أولوي ة الك ل على الج زء؛ فكلي نفهم‬
‫مثال لحظة من لحظات تطور المجتمع الفرنسي‪ ،‬علينا أن ال نعود فقط إلى مجمل تاريخ ه ذا البل د‪ ،‬وإنم ا‬
‫يجب أن نرج ع إلى ت اريخ اإلنس انية بأكمل ه‪ ،‬م ادام ك ونت يق ر بوح دة الت اريخ اإلنس اني‪ ،‬ويجع ل من‬
‫السوسيولوجيا علما لتاريخ النوع البشري‪ .‬لقد كان كونت في رده على هذه الص عوبات واض حا ً ومنطقي ا‬
‫إلى أبعد الحدود‪ ،‬فبما أنه وض ع ال تركيب في مرحل ة أولى قب ل التحلي ل‪ ،‬فإن ه ك ان يعت بر أن العلم ال ذي‬
‫يرغب في تأسيسه يسعى إلى دراسة تاريخ النوع اإلنساني‪ ،‬وهو تاريخ واحد‪ ،‬وه ذه الفك رة بالض بط هي‬
‫ما ساعد كونت على تفسير وفهم الكثير من الوظائف الخاصة في الوجود البشري‪.‬‬

‫أما المرحلة الثالثة من حياة كونت الفكرية‪ ،‬والتي تأسست على " النسق السياسي الوض عي"‪ ،‬فق د‬
‫ح اول من خالل ه أن يثبت من خالل نظري ة في الطبيع ة اإلنس انية والطبيع ة االجتماعي ة وح دة الت اريخ‬
‫اإلنساني‪ ،‬وقد حاول كونت أن يعطي بع داً فلس فيا ألطروحت ه ه ذه ح ول وح دة الت اريخ اإلنس اني‪ ،‬فلكي‬
‫يك ون ه ذا االخ ير واح داً‪ ،‬يجب أن يع ترف ك ل واح د من ا أن اإلنس ان س واء ع بر العص ور أو ع بر‬
‫المجتمعات يمتلك طبيعة معروفة ومحددة‪ ،‬كما أنه يجب على كل المجتمع ات اإلنس انية أن تت وفر داخله ا‬
‫على نظام أساسي يمكننا من خالله معرفة وفهم التنوع الذي تعيشه التنظيمات االجتماعية‪.‬‬

‫إن أهم فكرة يمكن استخالصها من تجربة كونت الفكرية التي امتدت على أكثر من أربعين س نة‪،‬‬
‫ه و إيم ان ص احبها واعتق اده في وح دة الت اريخ اإلنس اني‪ ،‬ال ذي يخض ع لق انون واح د‪ ،‬تنتق ل بموجب ه‬
‫المجتمع ات اإلنس انية كله ا من الحال ة الثيولوجي ة العاطفي ة العس كرية‪ ،‬إلى الحال ة الوض عية العلمي ة‬
‫الصناعية‪ .‬أما العلم ال ذي س يمكننا من فهم ه ذه الق وانين في مرحل ة أولى وسيس اعدنا على إع ادة النظ ام‬
‫للمجتمع‪ ،‬وتنظيم عناصره‪ ،‬فهو السوسيولوجيا‪ ،‬باعتبارها أوال علما وضعيا تركيبيا يقوم على فكرة وحدة‬
‫النوع البشري ووحدة تاريخه‪ ،‬علما ً يهتم بالقضايا الكبرى واألسئلة األساس ية ال تي يواجهه ا المجتم ع ب ل‬
‫واإلنسانية بشكل عام‪ ،‬أما التفاصيل فهي متروكة للتاريخ للبحث فيها وجمعها‪ .‬وثانيا ألنها تم دنا باألفك ار‬
‫والقيم التي يجب أن يتأسس عليها كل إصالح اجتماعي‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫هذا من جهة‪ ،‬من جه ة أخ رى يمكن الق ول أن الفلس فة الكونتي ة تت وزع بين ثالث ة موض وعات‬
‫كبرى‪ ،‬هي‬

‫أن المجتمع الصناعي الذي هو مجتمع أوربا الغربية‪ ،‬يعتبر مثاال لما ستصير علي ه اإلنس انية‬ ‫‪.1‬‬
‫في المستقبل‪ ،‬فالتنظيم العلمي والص ناعي للعم ل ال ذي وص لت إلي ه أوروب ا يعت بر في نظ ر‬
‫كونت نموذجا ً يجب أن تحاكيه باقي المجتمع ات األخ رى‪ ،‬ألن ه النم وذج ال ذي أثبت نجاعت ه‬
‫وقوته مقارنة مع باقي النماذج‪.‬‬
‫البع د الم زدوج لكوني ة الفك ر العلمي‪ ،‬ف الفكر الوض عي في الرياض يات والفيزي اء أو في‬ ‫‪.2‬‬
‫البيولوجية‪ ،‬له بعد ك وني‪ ،‬فطريق ة التفك ير الس ائدة في ه ذه العل وم‪ ،‬ص الحة لك ل األوض اع‬
‫والمجتمعات اإلنسانية‪ ،‬لهذا فالعلم الغربي أصبح علم ا ً إنس انياً‪ ،‬م ا ينطب ق على العل وم ال تي‬
‫تهتم بموض وعات غ ير عض وية يمكن أن يتس ع ليص بح ص الحا ً من أج ل دراس ة ال دين أو‬
‫السياسة‪.‬‬
‫أنه إذا كانت الطبيعة اإلنسانية واحدة‪ ،‬وإذا ك ان النظ ام االجتم اعي واح دا‪ ،‬فكي ف يمكن فهم‬ ‫‪.3‬‬
‫االختالف والحفاظ على التنوع الذي نالحظه في الوجود اإلنساني‪.‬‬

‫بناء على ذلك يمكن القول أن الفكر الكونتي اتخذ ثالثة أشكال كبرى أولها أن‬

‫أن المجتمع ال ذي يتش كل في الغ رب يعت بر الي وم نموذجي ا‪ ،‬وعلى ك ل اإلنس انية أن تح ذو نفس‬ ‫‪.1‬‬
‫الطريق التي اتبعها الغرب‪,‬‬
‫أن تاريخ اإلنسانية هو تاريخ الفكر الذي يتجه نحو الفكر الوضعي‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫أن تاريخ اإلنسانية هو تطور وانفتاح الطبيعة البشرية‬ ‫‪.3‬‬

‫في معنى المجتمع الصناعي في الفكر الكونتي‪:‬‬

‫‪7‬‬
‫يحتل مفهوم المجتمع الصناعي مكانة مركزية في الفكر الكونتي‪ ،‬بل يمكن القول إن ه من‬
‫المفاهيم والقضايا القليلة جداً التي اس تنفذت من ه ذا الرج ل وقت ا ط ويال وفك راً أط ول‪ ،‬غ ير أن‬
‫كونت لم يكن غريبا في هذا الشأن عن المرحلة التي عاش فيها ه ذا األخ ير‪ ،‬إذ أن الق ول بنهاي ة‬
‫الالهوت فكرة كانت متداولة في ه ذه الف ترة بش كل كب ير ج داً‪ ،‬فق د ع بر عنه ا نيتش ه بم وت هللا‬
‫واتخذت نفس الفكرة م ع الفلس فة الوجودي ة والفلس فة المادي ة وم ع الماركس ية مع اني وتعب يرات‬
‫كثيرة جداً‪.‬‬
‫إن الحدث الجديد الذي عاشته أوروبا والذي أثار انتباه ك ل المالحظين عن د نهاي ة الق رن‬
‫التاسع عشر هو الصناعة‪ ،‬حيث أجمع الكل على أن هناك شيئا م ا ق د ح دث أو في طريق ه نح و‬
‫ال والدة‪ ،‬لكن م اهي خصوص يات ه ذا الح دث؟ وم اهي مظ اهره ومقومات ه؟ ب ل وم ا هي آث اره‬
‫وتناقضاته التي يمكن أن نقف عندها كلما تحدثنا عن الصناعة او المجتمع الصناعي؟‬
‫يتفق معظم المهتمين بمفهوم المجتمع الصناعي‪ ،‬على أن الخصائص الك برى ال تي يمكن‬
‫مالحظتها تتوزع عند ست أساسية وهي‪:‬‬
‫تقوم الصناعة على تنظيم علمي للعمل‪ ،‬بعدما كان هذا األخير يتأسس على األعراف كم ا أن‬ ‫‪.1‬‬
‫اإلنتاج أصبح يجند كل الموارد‪.‬‬
‫أدى التنظيم العلمي للعمل إلى الدفع باإلنسان نحو تطوير موارده‬ ‫‪.2‬‬
‫االنتاج الصناعي أضبح يتطلب تجميعا ً للعمال في مص انع ومعام ل‪ ،‬وهي ظ اهرة اجتماعي ة‬ ‫‪.3‬‬
‫جديدة تمثلت في ظهور طبقة جديدة هي العمال‪.‬‬
‫تمركز العمال في وحدات ص ناعية‪ ،‬أنتجت تناقض ا ً ظ اهراًَ م رة م ا وخفي ا م رة أخ رى بين‬ ‫‪.4‬‬
‫العمال وأرباب العمل‪ ،‬بين البروليتاريا والمقاولين الرأسماليين‪.‬‬
‫أفرز التنظيم العلمي للعمل الثروة‪ ،‬لكنه أنتج بالمقابل أزمات كث يرة‪ ،‬ف وفرة اإلنت اج أدت إلى‬ ‫‪.5‬‬
‫خلق طبقات فقيرة في األوساط الهشة‪ ،‬إذ بق در م ا هنال ك من ماليين من األش خاص يع انون‬
‫الفقر‪ ،‬هناك مواد ال تجد من يشتريها‪.‬‬
‫النظ ام االقتص ادي المرتب ط ب التنظيم الص ناعي والعلمي للعم ل‪ ،‬تم يز بحري ة المب ادالت‬ ‫‪.6‬‬
‫وبالبحث عن ال ربح من ط رف المق اولين والتج ار‪ ،‬وق د اعت بر بعض المنظ رين أن الش رط‬
‫األساسي لنمو الثروة هو البحث عن الربح والمنافسة‪ ،‬وأنه كلم ا ت دخلت الدول ة في الش ؤون‬
‫االقتصادية كلما تطور اإلنتاج وتطورت الثروة بسرعة‪.‬‬

‫من داخل كل ه ذه التوص يفات والت أويالت ال تي ارتبطت ب المجتمع الص ناعي‪ ،‬يق ف ك ونت عن د الثالث‬
‫خصائص األولى‪ ،‬تح دد الص ناعة ب التنظيم العلمي للعم ل‪ ،‬وه ذا م ا ي ؤدي إلى النم و المتواص ل لل ثروة‬

‫‪8‬‬
‫وتمركز العمال في المعامل‪ ،‬وهذه األخيرة تقابل بتمركز الرساميل ووسائل اإلنت اج في أي ادي مح دودة‪.‬‬
‫أما الخاصية الرابعة أي التعارض بين العمال والمقاولين‪ ،‬فإنها في نظره خاص ية ثانوي ة ‪،secondaire‬‬
‫إنها نتيجة لسوء تنظيم المجتمع الصناعي ويمكن تصحيحها من خالل إصالحات‪ .‬كما أن األزمات ليس ت‬
‫في نظره سوى ظواهر عابرة وسطحية‪ ،‬في الوقت الذي تعت بر في ه الليبرالي ة أن ه ذه األزم ات ال تنتمي‬
‫للمجتمع الحديث‪ ،‬إنها ظواهر مرضية‪ ،‬كما أن لحظة األزمة ال يمكن أن تكون ثابتة إال إذا كانت مؤسس ة‬
‫على لعبة المنافسة الحرة‪ .‬أما بالنسبة لالشتراكيين فإن الخاصية الرابعة هي ما تميز المجتم ع الص ناعي‪،‬‬
‫إن الفكر االشتراكي باعتباره فكر االقتصاديين المتش ائمين ال ذين ب رزوا خالل النص ف األول من الق رن‬
‫التاس ع عش ر‪ ،‬تط ور من خالل الترك يز على عملي ة الص راع بين العم ال وأرب اب العم ل وعلى ت واتر‬
‫األزمات باعتبارها رجات وهزات ال يمكن تجنبها أبداً بفعل الفوضى التي تخلقها الرأسمالية؛ انطالق ا ًَ من‬
‫هاتين الخاصيتين عرف ماركس المجتمع الصناعي‪.‬‬

‫لم يجد التأويل الكونتي للمجتمع الصناعي حديث النشأة نفسه بين أي من التأويالت المتعددة التي‬
‫ارتبطت بهذا األخير‪ ،‬فالنمو المالحظ في الثروات وتطبيق العلم في الصناعة‪ ،‬ونم و التب ادل الح ر‪ ،‬كله ا‬
‫ظ واهر وج د فيه ا اللي براليون واالش تراكيون عيوب ا ومقوم ات كث يرة‪ ،‬لم يقب ل ك ونت ك ل م ا عاب ه‬
‫االشتراكيون على هذا المجتمع‪ ،‬كم ا لم يستس لم لك ل المزاي ا ال تي وق ف عن دها اللي براليون في المجتم ع‬
‫الصناعي‪ .‬لقد حاول كونت االقتراب من االقتصاديين الليبراليين من خالل البحث في القيم‪ ،‬والعمل بشكل‬
‫مج رد وج اد على تحدي د نس ق وج ود الميت افيزيقيين ‪ ،‬ف الفكر الميت افيزيقي في نظ ره فك ر مج رد‪ ،‬فك ر‬
‫مفاهيم‪ ،‬إن فكر اقتصادي عصره‪.‬‬

‫‪9‬‬

You might also like