Professional Documents
Culture Documents
يصعب جدا بل يستحيل اختصار حياة وفكر كونت في ورقة أو اختزلها في مقال
يصعب جدا بل يستحيل اختصار حياة وفكر كونت في ورقة أو اختزلها في مقال
يصعب جدا بل يستحيل اختصار حياة وفكر كونت في ورقة أو اختزلها في مق ال ،فحي اة الرج ل
وأفكاره تتجاوز حدود الوص ف وتص عب على ك ل تحدي د .فك ونت مؤس س الفلس فة الوض عية والفيزي اء
االجتماعي ،هو نفسه كونت النبي ،العالم ،المجنون ،المفكر...الخ ،تكثر أوصاف الرجل رغم أننا نتح دث
عن نفس الشخص ،عن تجربة عز نظيرها في الفكر اإلنساني .إننا إذن أم ام تجرب ة فري دة عرفه ا الفك ر
اإلنساني عبر تاريخه الطويل ،وهي التجربة ال تي جعلت لك ونت مكان ة ك برى بين عظم اء الفك ر والعلم
الذين عرفتهم اإلنسانية.
ولد كونت في 19يناير 1798بمدينة مونبولييه بفرنسا ،من أسرة كاثوليكي ة ت دافع عن الملكي ة،
لم تستطع إقناع طفلها الذي هو كونت بما تؤمن به من معتقدات ،إذ لم يكد يبلغ كونت من العمر 14س نة
حتى تخلى عن كل أشكال اإليمان الديني ،متجه ا نح و األفك ار الليبرالي ة والثوري ة على ع ادة الكث ير من
أبن اء جيل ه ،التح ق ك ونت بمدرس ة البولتيكني ك س نة 1814حيث ك ان األول على رأس قائم ة الطلب ة
المقبولبن بهذه المدرسة ،لكنها سرعان ما عاد أدراجه إلى مدينته األصلية بعدما قررت الحكومة الفرنسية
إغالق نفس المدرسة سنة 1816بسبب انخراط بعض طلبتها في بعض الجماعات الس رية ،وه و األم ر
الذي دفع كونت إلى االتجاه نحو دراسة الكب والفيزيولوجيا ،قبل أن يعود إلى باريس مدرسا ً للرياض يات
التي اشتهر بإجادتها بين أقرانه .س نة بع د ذل ك سيص بح ك ونت كاتب ا ً خاص ا ً لس ان س يمون ،ب ل معاون ا ً
وصديقا ً إلى غاية سنة 1824حيث سيقرر كونت االنفصال عن هذا األخير بعدما ش اركه في ت أليف أهم
نصوصه ( الصناعي ،المنظم ،السياسي ،في معنى النظام الصناعي...الخ) ،سنة 1819سيص در ك ونت
بالتع اون م ع ش ارلي ك ونت وش ارلي دين وير " الفص ل الع ام بين اآلراء والرغب ات Séparation
"générale entre les opinions et les désirsسنة بعد ذلك سيصدر كونت " رأي موجز في كل
الماضي الحديث ."sommaire appréciation sur l’ensemble du passé moderneستشكل
سنة 1822تاريخا ً مهما في الحياة العلمي ة لك ونت حيث سيص در ك ونت " بي ان ح ول األعم ال العلمي ة
الض رورية من أج ل إع ادة تنظيم المجتم ع prospectus des travaux scientifiques
" nécessaires pour réorganiser la sociétéقب ل أن يص در س نة 1824النس ق السياس ي
الوضعي ،système de politique positiveوهو العمل الذي سيعلن نهاية العالقة بين كونت وسان
1
سيمون ،إذ بعدما باع األول للثاني حقوق نشر النص ،سيقوم األخير بنشره في مؤلفه " عقيدة الصناعيين"
دون أن يشير باإلسم إلى كونت صاحب أهم جزء في ه ذا النص ،م ا سيغض ب ك ونت ال ذي أعلن حرب ا
كالمية على رئيسه واصفا إياه بأبشع األوصاف ،حيث جعل منها " المتالعب الفاسد " و وص ف ص داقته
ب" االرتباط المضر " كما أن شبه تأثره ب ه ب " الت أثر المش ؤوم ." Désastreuse influenceس نة
بعد ذلك سيصدر كونت " تأمالت فلس فية ح ول العل وم والعلم اء" و " ت أمالت ح ول الس لطة الروحي ة"،
ستكون سنة ،1825سنة أكبر خطأ ارتبكه كونت في حياته – حس ب تعب يره -عن دما س يتزوج ك ارولين
ماسان ،caroline massineالعاهرة التي تزوجها بناء على حساب خاطئ كما يقول ،بل إن ه اع ترف
في أكثر من مناسبة أن " إنه أول خطأ خطير حقيقة ارتكبت ه في حي اتي " .سيص اب ك ونت س نة 1826
بأزمة عقلية حادة بعد أول هروب لزوجته وبعد تعب عقلي كبير ،ما سيؤدي إلى وضع بالمسشتفى ،ال تي
لم يغادره إال بعد ثمانية أشهر ،دون أي تحسن على مستوى حالته الصحية ،م ا س يدفعه م دة قص يرة بع د
ذلك إلى محاولة االنتحار ،غير أنه سرعان ما س يتجاوز األم ر بع دما فطن إلى ض رورة االل تزام بنظ ام
فيزيقي وعقلي صارم من أجل تجنب هذه الحال ة .س يتجدد نش اط ك ونت الفك ر س نة 1929ب العودة إلى
دروس الفلسفة الوضعية التي سيصدر سنة بعد ذلك أو أجزاءها قب ل أن يلحقه ا الب اقي س نوات 1835و
1838و 1839و 1841إلى غاية .1842
ستشكل سنة 1857آخر لحظات كونت حيث س يموت في الخ امس من ش هر ش تنبر في ب اريس
وسط تالمذته ومريده ،مخلفا ً ورائه إرثا علميا ما يزال إلى حدود اليوم مصدرا لكثير من األعمال العلمي ة
والفلسفية التي تؤسس عليه نظرتها للطبيعة وللعالم واإلنسان.
2
مراحل تطور الفكر الكونتي
يمكن التمي يز في الحي اة الفكري ة لك ونت كم ا ذهب إلى ذل ك رايم ون آرون بين ثالث محط ات
كبرى ،تعكس التطور الذي عرفته فلسفة كونت وفكره ،فأما المرحل ة األولى فهي تل ك ال تي ابت دأت س نة
1820وانتهت سنة ،1826حيث أصدر كونت " رأي موجز في كل الماضي الحديث ،باإلض افة إلى "
بيان األعمال العلمية الضرورية إلعادة تنظيم المجتمع" وأخيرا تأمالت فلسفية حول العلوم والعلم اء س نة
.1826أم ا المرحل ة الثاني ة فق د ارتبطت بإص دار ك ونت ل دروس في الفلس فة الوض عية " 1830إلى
،"1842أما آخر مراحل تطور الفكر الكونتي فقد انتهت حسب رايمون آرون بإصدار كونت ل" النس ق
السياسي الوضعي أو مدخل إلى السوسيولوجيا المؤسسة لديانة اإلنسانية" ما بين سنتي 1851و.1854
تعكس هذه المراحل حسب آرون تطوراً نوعيا ًَ في الفك ر الكون تي ،ت دفع إلى التمي يز بين ش كلين
من اإلنتاجات الكونتية ،أولى تنتمي إلى مرحلة الشباب؛ حيث التفك ير في وض عية مجتمع ه وفي األس ئلة
الكبرى التي تواجه المجتمع الفرنسي وتواجه اإلنسانية بشكل عام ،وقد كان كونت في هذه المرحلة شبيها
بجل سوسيولوجيي عصره.
انتهت قراءة كونت التطورية لواقع بداية الق رن التاس ع ،بحقيق ة ص غيرة لكنه ا دال ة على جمي ع
المستويات ،لقد الحظ كونت أن نوعا ً جدي داً من المجتمع ات يتش كل أم ام عيني ه ،مقاب ل اتج اه آخ ر نح و
الموت ،فالمجتمع ال ثيولوجي العس كري ،ال ذي م يز الق رون الوس طى ،وال ذي ك انت تحت ل في ه الكنس ية
الكاثوليكية وتعاليمها ،والذي كانت تحتل فيه الق وة العس كرية مرك زاً مهم ا ً في المجتم ع ،أص بح تنس حب
تدريجيا من الحياة العامة ،مقابل السماح لنوع آخر من المجتمعات بالظهور ،فالمجتمع العلمي الص ناعي؛
الذي ولد في نهاية القرن الماضي ،استعاض عن األنبياء ورجال الدين بالعلماء ،إذ تحول المجتمع بع دما
كان يعتمد في بناء أسسه الفكرية واألخالقية على رج ال الكنس ية ،نح و العلم اء ال ذين أص بحوا المص در
األول لألفكار والقيم ،والورثة الشرعيون للسلطة الروحية بالمجتمع.
إن أهم خالصة يمكن استنتاجها من خالل قراءة الفكر الكونتي المرتبطة بالتفكير في هذه المرحلة
هي أن حالة الفوضى والالنظ ام ال تي تعيش على واقعه ا المجتمع ات الغربي ة ،ال يمكن تجاوزه ا إال من
خالل إصالح اجتماعي يقوم على إصالح فكري ،Réforme intellectuelleفالثورة والعنف ال يمكن
أبداً أن تخرج المجتمع من أزمته كما يق ول ك ونت ،ب ل إنن ا نحت اج إلى اس تدعاء مختل ف العل وم ،وبن اء
سياسة وضعية ،وحدها القادرة على انتشال المجتمعات الغربية من حالة الغربة والفوضى التي تعرفها.
3
إن األزم ة ال تي تعيش ها المجتمع ات المعاص رة ،واألم راض واالض طرابات ال تي تض رب
المجتمعات الغربية ،ال يمكن تفسيرها في نظر كونت إال من خالل النظر إلى التناقض الموجود بين نظام
ثيولوجي عسكري في طريقه نحو الزوال ،ونظام علمي صناعي في طريقه نحو الوالدة.
إن هذا التأويل الذي يقدمه كونت لألزمة التي تعيشها فرنسا و من خاللها كل المجتمعات الغربية،
تكشف عن وجه آخ ر من ك ونت ،ه و ك ونت المص لح ،Réformateurوليس ك ونت الم ذهبي ال داعي
للثورة كما الحال مع ماركس ،أو المذهبي المدافع عن المؤسسات الحرة ،مثلما ه و الش أن م ع مونتس كيو
وتوكفيل ،إن المذهب الوحيد الذي ينتصر له لحظة تفك يره في مص ير أوروب ا ه و العلم الوض عي والعلم
االجتماعي .في هذا اإلطار يرى ك ونت أن التن اقض ال ذي تعرف ه أوروب ا بين ه ذين النم وذجين ال يمكن
تجاوزه إال من خالل انتصار النموذج الذي يسميه كونت بالعلمي والصناعي ،وهو انتص ار حتمي ،يمكن
التسريع من وثيرته ،تأخيره لكنه سيحصل في النهاية ،أما وظيفة السوسيولوجيا فهي العمل على فهم ه ذا
المستقبل الحتمي الضروري والذي ال يمكن تجنبه ،على نحو يمكن من المساعدة على إتيان هذا الوض ع
األساسي.
تتميز المرحلة الثانية من الحياة الفكرية لكونت كما قلنا سابقا ً بإص دار دروس الفلس فة الوض عية،
وهي مرحلة لم تتغير فيها األفكار الكبرى لكونت ،بقدر ما اتس ع أفقه ا وم داها لتأخ ذ بع داً إنس انيا أش مل
وأكبر .يسهل على غير األوروبي كما يقول رايمون آرون أن يالحظ التردد الذي طبع كونت عن د حديث ه
عن مراحل تطور الفكر البشري ،في إضفاء طابع كوني على مشروعه الفك ري ،ف التطور ال ذي عاش ته
وتعيشه أوروبا على مس توى حياته ا الفكري ة ،يك اد يك ون ه و نفس ه التط ور ال ذي س تعرفه المجتمع ات
اإلنسانية األخرى آجال أم عاجال .ما يعني أن المرحلة الثانية من الحياة الفكرية لكونت لن تع رف تجدي داً
لإلشكاليات التي فكر فيها ،بقدر ما ستكون " دروس الفلسفة الوضعية " محاولة لتعميق أفكاره السابقة و"
تطبيقا ً لبرنامج وضع خطوطه الكبرى في مرحلة الشباب".1
لقد كانت دروس الفلسفة الوضعية في الحي اة الفكري ة ،فرص ة لمراجع ة ك ل العل وم وال دفاع عن
وتأكيد فكرة قانون الحاالت الثالث ،وتصنيف العلوم .فبالنس بة لق انون الح االت الثالث؛ يعت بر ك ونت أن
الفكر اإلنساني يخضع في تطوره لثالث أطوار كبرى ،أولى ثيولوجية؛ يفس ر الفك ر البش ري من خالله ا
كل الوقائع من خالل إسنادها إلى كائن ات وق وى ش بيهة باإلنس ان نفس ه ،وثاني ة يتج ه فيه ا نح و كائن ات
مجردة مثل الطبيعة ،أما الثالثة فهي المرحلة التي يقوم فيها اإلنسان بمالحظة الظواهر وتحدي د العالق ات
الثابتة والدائمة التي تجمع بينها في لحظة معينة أو عبر الزمن ،إن الفكر البشري في ه ذه المرحل ة يتج ه
نحو البحث عن أسباب األفعال والقوانين التي تنظمها.
1
Raymond, Aron, Les Étapes de la Penses Sociologique, Édition Gallimard, 1967, p.81.
4
إن االنتق ال من المرحل ة الثيولوجي ة إلى المرحل ة الميتافيزيقي ة ثم إلى المرحل ة الوض عية ال يتم
بنفس الطريق ة في ك ل المج االت الفكري ة ،أي أن االنتق ال من مرحل ة إلى أخ رى في تجرب ة معرفي ة
وإنس انية معين ة ال يتم ب الموازاة االنتق ال ال ذي تعرف ه مج االت أخ رى ،ب ل ق د يس بق أح دها اآلخ ر في
الوصول إلى مرحل ة معين ة ،كم ا ق د تت أخر تجرب ة معين ة قب ل اللح اق بمثيالته ا .فعلى س بيل المث ال ال
الحص ر ،تعت بر الرياض يات والفيزي اء والكيمي اء والبيولوجي ا أول أش كال المعرف ة ال تي اس تقبلت الفك ر
الوضعي ،بينما تأخر نفس الفكر في الوصول إلى مجاالت المعرفة التي تهتم بظواهر مركبة ،فكلما كانت
المادة أي موضوع العلم بسيطة ،كلما كان احتواءها وض عيا أس هل ،ب ل إن هن اك من الظ واهر من يق دم
نفسه بشكل مباشر للمالحظة ،وبالتالي المقاربة الوضعية.
إن ترتيب الحاالت الثالث وتصنيف العلوم له غاية واحدة وهي االستدالل على أن طريقة التفكير
السائدة في الرياضيات والفلك والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا ،س تنتقل إلى مج ال السياس ة وستس اهم في
بناء علمي وضعي للمجتمع هو السوسيولوجيا .غير أن الغاية من هذا الترتيب ال تقف عند ه ذا الح د ،أي
ضرورة خلق علم جديد هو السوسولوجيا ،وإنما تتجاوز ذلك إلى استبدال بعض المعطيات المنهجي ة كم ا
فعلت البيولوجيا في وقت سابق ،عندما كشفت على أن العلوم يجب أن تكون بالض رورة وأساس اً ،علوم ا
تركيبية وليست علوما ً تحليلية ،فإن هذا القلب هو الذي سيؤسس لتصور السوسيولوجيا لوحدة التاريخ.
يحمل مفهومي التركيب والتحليل في الفكر الكونتي دالالت واس عة ومتع ددة ،إذ في ال وقت ال ذي
الذي تعتبر فيه عل وم الطبيع ة غ ير العض وية inorganiqueمث ل الفيزي اء والكيمي اء ،علوم ا تحليلي ة،
بالمعنى الذي تتجه فيه هذه العلوم نح و إثب ات الق وانين الموج ودة بين ظ واهر معزول ة بالض رورة .ف إن
البيولوجيا يستحيل أن تفسر عضوا أو وظيفة دون االنتباه إلى الك ائن الحي بأكمل ه ،فالفع ل ال بيولوجي ال
يستمد داللته وبالتالي ال يمكن تفسيره إال من خالل التنظيم العضوي الذي يحتويه ،أما إذا ما حولنا عزل ه
بشمل تعسفي واصطناعي من الجسد الذي يحتويه ،فإننا ال يمكن أن نج د أنفس نا إال أم ام م ادة ميت ة ،أم ا
المادة الحية فإنها عامة وكلية.
إن هذه الفكرة األخيرة هي التي سيحاول كونت نقلها إلى السوسيولوجيا ،إذ من المستحيل أن نفهم
ظاهرة اجتماعية معينة ،إذا لم نقم بموضعتها في الكل االجتماعي ال ذي يحتويه ا ،ال يمكن أن نفهم مكان ة
الدين أو حالة الدولة في مجتمع معين ،ما لم نقم بالنظر إلى هذا المجتم ع في كليت ه .إن أولوي ة الك ل على
الجزء هذه التي يدافع عنها كونت ،ال ترتبط فق ط بحال ة داخ ل لحظ ة معين ة في الت اريخ اإلنس اني ،وإم ا
ترتبط بالتاريخ اإلنساني بأكمله .ال يمكن أن نفهم المجتمع الفرنس ي في بداي ة الق رن التاس ع عش ر ،إذا لم
نقم بموقعة هذه اللحظة في مستقبل التاريخ الفرنسي ،كما أن اإلص الح Restaurationال يمكن أن يفهم
إال من خالل الثورة ،والثورة ال يمكن أن تفهم ب دورها إال من خالل ق رون النظ ام الملكي .كم ا أن أف ول
5
الفك ر ال ثيولوجي والعس كري ال يمكن أن يفس ر إال من خالل البحث عن ج ذوره في الق رون الماض ية
،siècles écoulésوبالمثل ال يمكن أن نفهم عنصرا في الكل االجتم اعي ،إال إذا أخ ذنا بعين االعتب ار
هذا الكل بأكمله ،كما ال يمكن أن نفهم لحظة من لحظ ات التط ور الت اريخي ،إال إذا أخ ذنا بعين االعتب ار
التطور التاريخي بأكلمه.
يضع هذا النوع من القراءات المنطقية للواقع العقل العلمي أمام مجموعة من الصعوبات الكبرى،
وهي نفسها الصعوبات التي واجهت كونت نفسه ،خاصة في مس ألة أولوي ة الك ل على الج زء؛ فكلي نفهم
مثال لحظة من لحظات تطور المجتمع الفرنسي ،علينا أن ال نعود فقط إلى مجمل تاريخ ه ذا البل د ،وإنم ا
يجب أن نرج ع إلى ت اريخ اإلنس انية بأكمل ه ،م ادام ك ونت يق ر بوح دة الت اريخ اإلنس اني ،ويجع ل من
السوسيولوجيا علما لتاريخ النوع البشري .لقد كان كونت في رده على هذه الص عوبات واض حا ً ومنطقي ا
إلى أبعد الحدود ،فبما أنه وض ع ال تركيب في مرحل ة أولى قب ل التحلي ل ،فإن ه ك ان يعت بر أن العلم ال ذي
يرغب في تأسيسه يسعى إلى دراسة تاريخ النوع اإلنساني ،وهو تاريخ واحد ،وه ذه الفك رة بالض بط هي
ما ساعد كونت على تفسير وفهم الكثير من الوظائف الخاصة في الوجود البشري.
أما المرحلة الثالثة من حياة كونت الفكرية ،والتي تأسست على " النسق السياسي الوض عي" ،فق د
ح اول من خالل ه أن يثبت من خالل نظري ة في الطبيع ة اإلنس انية والطبيع ة االجتماعي ة وح دة الت اريخ
اإلنساني ،وقد حاول كونت أن يعطي بع داً فلس فيا ألطروحت ه ه ذه ح ول وح دة الت اريخ اإلنس اني ،فلكي
يك ون ه ذا االخ ير واح داً ،يجب أن يع ترف ك ل واح د من ا أن اإلنس ان س واء ع بر العص ور أو ع بر
المجتمعات يمتلك طبيعة معروفة ومحددة ،كما أنه يجب على كل المجتمع ات اإلنس انية أن تت وفر داخله ا
على نظام أساسي يمكننا من خالله معرفة وفهم التنوع الذي تعيشه التنظيمات االجتماعية.
إن أهم فكرة يمكن استخالصها من تجربة كونت الفكرية التي امتدت على أكثر من أربعين س نة،
ه و إيم ان ص احبها واعتق اده في وح دة الت اريخ اإلنس اني ،ال ذي يخض ع لق انون واح د ،تنتق ل بموجب ه
المجتمع ات اإلنس انية كله ا من الحال ة الثيولوجي ة العاطفي ة العس كرية ،إلى الحال ة الوض عية العلمي ة
الصناعية .أما العلم ال ذي س يمكننا من فهم ه ذه الق وانين في مرحل ة أولى وسيس اعدنا على إع ادة النظ ام
للمجتمع ،وتنظيم عناصره ،فهو السوسيولوجيا ،باعتبارها أوال علما وضعيا تركيبيا يقوم على فكرة وحدة
النوع البشري ووحدة تاريخه ،علما ً يهتم بالقضايا الكبرى واألسئلة األساس ية ال تي يواجهه ا المجتم ع ب ل
واإلنسانية بشكل عام ،أما التفاصيل فهي متروكة للتاريخ للبحث فيها وجمعها .وثانيا ألنها تم دنا باألفك ار
والقيم التي يجب أن يتأسس عليها كل إصالح اجتماعي.
6
هذا من جهة ،من جه ة أخ رى يمكن الق ول أن الفلس فة الكونتي ة تت وزع بين ثالث ة موض وعات
كبرى ،هي
أن المجتمع الصناعي الذي هو مجتمع أوربا الغربية ،يعتبر مثاال لما ستصير علي ه اإلنس انية .1
في المستقبل ،فالتنظيم العلمي والص ناعي للعم ل ال ذي وص لت إلي ه أوروب ا يعت بر في نظ ر
كونت نموذجا ً يجب أن تحاكيه باقي المجتمع ات األخ رى ،ألن ه النم وذج ال ذي أثبت نجاعت ه
وقوته مقارنة مع باقي النماذج.
البع د الم زدوج لكوني ة الفك ر العلمي ،ف الفكر الوض عي في الرياض يات والفيزي اء أو في .2
البيولوجية ،له بعد ك وني ،فطريق ة التفك ير الس ائدة في ه ذه العل وم ،ص الحة لك ل األوض اع
والمجتمعات اإلنسانية ،لهذا فالعلم الغربي أصبح علم ا ً إنس انياً ،م ا ينطب ق على العل وم ال تي
تهتم بموض وعات غ ير عض وية يمكن أن يتس ع ليص بح ص الحا ً من أج ل دراس ة ال دين أو
السياسة.
أنه إذا كانت الطبيعة اإلنسانية واحدة ،وإذا ك ان النظ ام االجتم اعي واح دا ،فكي ف يمكن فهم .3
االختالف والحفاظ على التنوع الذي نالحظه في الوجود اإلنساني.
بناء على ذلك يمكن القول أن الفكر الكونتي اتخذ ثالثة أشكال كبرى أولها أن
أن المجتمع ال ذي يتش كل في الغ رب يعت بر الي وم نموذجي ا ،وعلى ك ل اإلنس انية أن تح ذو نفس .1
الطريق التي اتبعها الغرب,
أن تاريخ اإلنسانية هو تاريخ الفكر الذي يتجه نحو الفكر الوضعي. .2
أن تاريخ اإلنسانية هو تطور وانفتاح الطبيعة البشرية .3
7
يحتل مفهوم المجتمع الصناعي مكانة مركزية في الفكر الكونتي ،بل يمكن القول إن ه من
المفاهيم والقضايا القليلة جداً التي اس تنفذت من ه ذا الرج ل وقت ا ط ويال وفك راً أط ول ،غ ير أن
كونت لم يكن غريبا في هذا الشأن عن المرحلة التي عاش فيها ه ذا األخ ير ،إذ أن الق ول بنهاي ة
الالهوت فكرة كانت متداولة في ه ذه الف ترة بش كل كب ير ج داً ،فق د ع بر عنه ا نيتش ه بم وت هللا
واتخذت نفس الفكرة م ع الفلس فة الوجودي ة والفلس فة المادي ة وم ع الماركس ية مع اني وتعب يرات
كثيرة جداً.
إن الحدث الجديد الذي عاشته أوروبا والذي أثار انتباه ك ل المالحظين عن د نهاي ة الق رن
التاسع عشر هو الصناعة ،حيث أجمع الكل على أن هناك شيئا م ا ق د ح دث أو في طريق ه نح و
ال والدة ،لكن م اهي خصوص يات ه ذا الح دث؟ وم اهي مظ اهره ومقومات ه؟ ب ل وم ا هي آث اره
وتناقضاته التي يمكن أن نقف عندها كلما تحدثنا عن الصناعة او المجتمع الصناعي؟
يتفق معظم المهتمين بمفهوم المجتمع الصناعي ،على أن الخصائص الك برى ال تي يمكن
مالحظتها تتوزع عند ست أساسية وهي:
تقوم الصناعة على تنظيم علمي للعمل ،بعدما كان هذا األخير يتأسس على األعراف كم ا أن .1
اإلنتاج أصبح يجند كل الموارد.
أدى التنظيم العلمي للعمل إلى الدفع باإلنسان نحو تطوير موارده .2
االنتاج الصناعي أضبح يتطلب تجميعا ً للعمال في مص انع ومعام ل ،وهي ظ اهرة اجتماعي ة .3
جديدة تمثلت في ظهور طبقة جديدة هي العمال.
تمركز العمال في وحدات ص ناعية ،أنتجت تناقض ا ً ظ اهراًَ م رة م ا وخفي ا م رة أخ رى بين .4
العمال وأرباب العمل ،بين البروليتاريا والمقاولين الرأسماليين.
أفرز التنظيم العلمي للعمل الثروة ،لكنه أنتج بالمقابل أزمات كث يرة ،ف وفرة اإلنت اج أدت إلى .5
خلق طبقات فقيرة في األوساط الهشة ،إذ بق در م ا هنال ك من ماليين من األش خاص يع انون
الفقر ،هناك مواد ال تجد من يشتريها.
النظ ام االقتص ادي المرتب ط ب التنظيم الص ناعي والعلمي للعم ل ،تم يز بحري ة المب ادالت .6
وبالبحث عن ال ربح من ط رف المق اولين والتج ار ،وق د اعت بر بعض المنظ رين أن الش رط
األساسي لنمو الثروة هو البحث عن الربح والمنافسة ،وأنه كلم ا ت دخلت الدول ة في الش ؤون
االقتصادية كلما تطور اإلنتاج وتطورت الثروة بسرعة.
من داخل كل ه ذه التوص يفات والت أويالت ال تي ارتبطت ب المجتمع الص ناعي ،يق ف ك ونت عن د الثالث
خصائص األولى ،تح دد الص ناعة ب التنظيم العلمي للعم ل ،وه ذا م ا ي ؤدي إلى النم و المتواص ل لل ثروة
8
وتمركز العمال في المعامل ،وهذه األخيرة تقابل بتمركز الرساميل ووسائل اإلنت اج في أي ادي مح دودة.
أما الخاصية الرابعة أي التعارض بين العمال والمقاولين ،فإنها في نظره خاص ية ثانوي ة ،secondaire
إنها نتيجة لسوء تنظيم المجتمع الصناعي ويمكن تصحيحها من خالل إصالحات .كما أن األزمات ليس ت
في نظره سوى ظواهر عابرة وسطحية ،في الوقت الذي تعت بر في ه الليبرالي ة أن ه ذه األزم ات ال تنتمي
للمجتمع الحديث ،إنها ظواهر مرضية ،كما أن لحظة األزمة ال يمكن أن تكون ثابتة إال إذا كانت مؤسس ة
على لعبة المنافسة الحرة .أما بالنسبة لالشتراكيين فإن الخاصية الرابعة هي ما تميز المجتم ع الص ناعي،
إن الفكر االشتراكي باعتباره فكر االقتصاديين المتش ائمين ال ذين ب رزوا خالل النص ف األول من الق رن
التاس ع عش ر ،تط ور من خالل الترك يز على عملي ة الص راع بين العم ال وأرب اب العم ل وعلى ت واتر
األزمات باعتبارها رجات وهزات ال يمكن تجنبها أبداً بفعل الفوضى التي تخلقها الرأسمالية؛ انطالق ا ًَ من
هاتين الخاصيتين عرف ماركس المجتمع الصناعي.
لم يجد التأويل الكونتي للمجتمع الصناعي حديث النشأة نفسه بين أي من التأويالت المتعددة التي
ارتبطت بهذا األخير ،فالنمو المالحظ في الثروات وتطبيق العلم في الصناعة ،ونم و التب ادل الح ر ،كله ا
ظ واهر وج د فيه ا اللي براليون واالش تراكيون عيوب ا ومقوم ات كث يرة ،لم يقب ل ك ونت ك ل م ا عاب ه
االشتراكيون على هذا المجتمع ،كم ا لم يستس لم لك ل المزاي ا ال تي وق ف عن دها اللي براليون في المجتم ع
الصناعي .لقد حاول كونت االقتراب من االقتصاديين الليبراليين من خالل البحث في القيم ،والعمل بشكل
مج رد وج اد على تحدي د نس ق وج ود الميت افيزيقيين ،ف الفكر الميت افيزيقي في نظ ره فك ر مج رد ،فك ر
مفاهيم ،إن فكر اقتصادي عصره.
9