Professional Documents
Culture Documents
الحديث عن اآلخر يعني اكتشاف الذات،وعالقة هذه الذات مع اآلخر سياسيا واجتماعيا وحضاريا
وثقافيا ،و هذه العالقة قائمة على أساس أن الذات هي المكون األساسي في حركة الفكر و الثقافة
بشكل عام،وهي األصل ,وهي الصواب ,واألخر هو مجرد ظل لهذه الذات ,وهو فرع عنها ,
وهو الخطأ لكل تصوراتها, Iوتظل العالقة بين األنا و اآلخرة عالقة جديلة افتراضية ,فقد تكون
األنا على حساب األخر ,أو إلغاء األخر لصالح األنا ,وهذه العالقة قائمة على ثنائية
األشياء ,وعالقة التضاد القائمة بينهما ,واستحالة الدمج بين هذه الثنائيات ,مثل الحياة و الموت ,
والخير والشر ,و الصواب والخطأ ,والذكورة واألنوثة ,إلى غير ذلك من العالقات الثنائية
والضدية التي تحكم منطق األشياء .و الصراع بين األنا و األخر ,صراع طويل يرتد إلى
البدايات األولى لوجود Iاإلنسان على هذه البسيطة ,ويدخل في اخص العالقات اإلنسانية ،كما
تبدى ذلك واضحا في الصراع بين األخوين قابيل وهابيل ,وقد تقترب هذه الغيرية أو تبتعد بين
األطراف ,ولكنها ال تلغى بل تبقى قائمة ,الن العالقات اإلنسانية بطبيعتها Iقائمة على أساس
التغاير ال التمازج ,وفقا للمصالح الذاتية و االعتبارات الخاصة التي قد تقترب أو تبتعد من
مصالح اآلخرين واعتباراتهم الخاصة ,وقد عبر الشاعر األلماني "غوتة"عن ذلك وهو يتحدث
عن ذاتية اللغة األلمانية بالنسبة له ,وغيرية اللغات األخرى ,يقول :أنا أحب األلمانية وال يمكن
بأي حال من األحوال أن أحب الفرنسية ,ولكني أفهم حقيقة أن الفرنسي يحب الفرنسية ويعيشها ,
وال يمكن أن يحب األلمانية كما يحب لغته القومية .
وعادة ما ينظر األنا إلى نفسه على أنه األكمل و األصوب و األفضل ،و األخر هو الناقص و
الخاطئ و األسوأ ,وهذه النظرية العدائية أو الضدية بين األنا و األخر هي مصدر Iتعدد األنا و
الآخر في مجاالت السياسة و الفكر و الفلسفة و األدب ...إلى غير ذلك من مجاالت الحياة
والمعرفة .
و السؤال الذي يمكن أن يطرح ،من هو األنا ومن هو األخر ؟ و اإلجابة عن هذا السؤال قد تبدو
سهلة في جانبها المنطقي ,أو النظري ,ألن (األنا ) تعني ذات المسيطر على الوضع القائم ,
والذي يرى نفسه صاحب الحق في القيادة والسياسة وتمثيل Iاألمة والسيطرة عليها ,وماعدا ذلك
فهو األخر المرفوض ,ألنه ال ينسجم مع األنا المسيطرة .
أما في الجانب الواقعي Iفتبدو اإلجابة صعبة ,الن األنا و األخر جزء من تشكيلة اجتماعية و دينية
و ثقافية واحدة وال يمكن الفصل بينهما إال على مستوى الخالف القائم على أساس نظريات
ومصالح ،تجعل من صاحب النظرية أو المصلحة ندا لألخر أو خصما له .
وبقدر ما يبدو الصراع حادا بين األنا و األخر على مستوى الفعل وردات الفعل ,فأن ذلك ينعكس
بشكل أو بأخر على األدب بأنواعه المختلفة وهذا مدخل للموضوع Iالذي نريد أن نتحدث عنه ,و
هو العالقة بين األنا و األخر في قصيدة محمود درويش Iبعنوان سيناريو جاهز ,وقبل الحديث عن
جدلية العالقة نذكر القصيدة أوال .
1
سيناريو جاهز
محمود درويش
2
وعلى حافة الحفرة ِ -الهاوية ْ
إلي ما تب َّقى لنا من حياة ٍ
وحرب ٍ ...
إذا ما استطعنا النجاة !
كـر ٍ وتهنئة ٍ
ش ْولكننا لن نقول عبارة ُ
على ما فعلنا معا ً
ألنَّ الغريز َة ،ال نحن ،
كانت تدافع عن نفسها َو ْحدَ ها
والغريزة ُ ليست لها َأيديولوجيا ...
3
نتحاور ،
ْ ولم
ت ِف ْق َه الحوارات
تذ َّك ْر ُ
ش َت َر ْك
في ال َع َبث ِ المـ ُ ْ
عندما قال لي سابقا ً :
ُكل ُّ ما صار لي هو لي
وما هو لك ْ
هو لي
ولك ْ !
ُ
والوقت َر ْمل ٌ ورغوة ُ صابونة ٍ ومع الوقت ِ ،
َ
الصمت ما بيننا والمللْ كسر
قال لي :ما العملْ؟
قلت :ال شيء ...نستنزف االحتماالت
قال :من َأين يأتي األملْ ؟
الجو
قلت :يأتي من ّ
س َأني َد َف ْن ُت َك في حفرة ٍ
قال َ :ألم َت ْن َ
مثل هذى ؟
ت َأنسى ألنَّ غداً ُخـلَّبـا ً
فقلت له :كِدْ ُ
ش َّدني من يدي ...ومضى متعبا ً
قال لي :هل ُت َفاوضني اآلن ؟
ي شيء تفاوضني اآلن قلت :على َأ ّ
في هذه الحفر ِة القبر ِ ؟
حصتك
صتي وعلى ّ
قال :على ح َّ
ْ
المشترك س َدانا ومن قبرنا
من ُ
قلت :ما الفائدة ْ ؟
الوقت م ّنا
ُ هرب
وش َّذ المصي ُر عن القاعدة ْ
ههنا قاتل ٌ وقتيل ينامان في حفرة واحدة ْ
4
..وعلي شاعر آخر أن يتابع هذا السيناريو
إلى آخره ْ !
الفكرة التي تلح على خيال محمود درويش Iالشاعر هي كيف يحول الصراع مع اآلخر من صراع
غير إنساني إلى صراع Iإنساني ،أو من صراع يعتمد القوة إلى صراع يعتمد المنطق ,وهو
بذلك يركز Iعلى دور Iالمثقف الفلسطيني في إدارة الصراع الذي يريده محمود Iدرويش صراعا
ثقافيا أخالقيا بمعزل عن الصراع الحقيقي الحاصل على أرض الواقع .و محمود Iدرويش يؤسس
لمرحلة الحوار هذه منذ بدايات شعره ,كما في قصيدة "جندي يحلم بالزنابق البيضاء " المنشورة
في ديوانه أخر الليل عام , 1967وفيها يبدو محمود Iدرويش واضحا في محاورة اآلخر ومحاولة
فهم حقيقته ،وهو بذلك ينتقل من مرحلة الصراع مع اآلخر ،إلى مرحلة الحوار معه ,و تأخذ
القصيدة صفة الحوار المعتمد على السؤال و الجواب :
5
أجاب دعني
إنني أحلم بالزنابق البيضاء
بشارع Iمغر ومنزل مضاء
أريد قلبا طيبا،ال حشو بندقية
أريد يوما مشمسا ال لحظة انتصار
مجنونة فاشية
أريد طفال باسما يضحك للنهار
ال قطعة في اآللة الحربية()1
............
والوداع هنا نهاية مرحلة حوار عقيم بين األنا واآلخر،األنا Iالضعيف واآلخر القوي،ودرويش
يفترض في مرحلة الحوار هذه أنه يمكن أن يجرد اآلخر من عناصر القوة التي يتمسك
بها،ويحوله من خالل الحوار إلى طرف ضعيف،ويجعل الحوار لصالحه،أي لصالح الحق الذي
يتمسك به،ويحول ضعفه إلى قوة مستمدة من حقه في األرض التي يمتلكها.
وقد يعكس الحوار في القصيدة شيئا من الواقع الذي أصاب عالقة درويش باليهود Iبعد ،67فهو
يعترف أنه كتب هذه القصيدة عن أحد أفضل أصدقائه من اليهود،وقد جاءه بعد حرب 67ليقول
له،أنه قرر أن يترك البالد نهائيا ويرحل(. )3
ومحمود Iدرويش ينظر إلى اآلخر على أنه إنسان فيه الصواب وفيه الخطأ،وفيه الخير وفيه
الشر،وقد عبر عن رأيه هذا بشكل واضح،يقول في حوار معه":اليهود بينهم السئ وبينهم
الجيد،وهم ليسو مالئكة كما يريدون Iأن يقولوا عن أنفسهم،وليسو شياطين،وهذا ما يشير إلى أنهم
شعب طبيعي"(. )4
وإذا كان درويش Iيرى اآلخر شعبا طبيعيا Iله ماله وعليه ما عليه فال بأس أن يلتقيه من خالل
عالقة إنسانية طبيعية،وهذا ما حدث في لقائه مع ريتا التي قد تكون شخصية حقيقية أو
متخيلة،ولكنها في كل األحوال تبقى اآلخر الذي يريد أن يمتلكه الشاعر لنفسه،ولكن ال يستطيعI
الوصول إليه ألنه ال يستطيع أن يلغي ما بين األنا واآلخر من ثنائية قائمة على العداء المتأصل
بينهما،فبين ريتا والشاعر بندقية:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-1المرجع السابق42،
-2المرجع السابق43
-3انظر مجلة مشارف،العدد،3تموز،1995ص76
-4مجلة الكرمل،العدد ،1997،52ص 221
6
بين ريتا وعيوني بندقية()1
وبين الشاعر وريتا وردة حمراء تقف في الممر،كما قال في قصيدة شتاء ريتا الطويل
نامت موجة القمح النبيل على تنفسها البطئ
وردة حمراء نامت في الممر
ونام ليل ال يطول
والبحر نام أمام نافذتي Iعلى إيقاع ريتا()2
وفي هذه المرحلة التي يتصدى لها محمود Iدرويش يريد اآلخر( اليهودي) أن ينصهر مع األنا
الفلسطيني،تقول ريتا:
هل لبست سواي؟ هل سكنتك امرأة
لتجهش كلما التفت على جدعي فروعك
حك لي قدمي،وحك دمي لتعرف ما
تخلفه العواصف والسيولI
مني ومنك()3
وهنا يحاول اآلخر تجاوز Iمرحلة الحوار إلى مرحلة االنصهار مع األنا،وإلغاء كل الحواجز التي
تفص بينهما،إنها Iمرحلة االنصهار بالدم"إنها تريد للدم الفلسطيني Iأن يختلط بالدم اليهودي،لترى
ماذا يمكن أن ينتج عن هذا التفاعل ذي العناصر المتضادة،فهل يمكن لهذا التفاعل أن ينجب جيال
مدجنا يخضع لمتطلبات االستسالم؟ Iأن عناصر المفارقة في هذا المقطع واضحة أشد ما يكون
الوضوح بين القدم الذي يمثل أهبط شئ في اإلنسان،والدم Iالذي يمثل أغلى شئ في اإلنسان،وهو
عنصر من عناصر االفتراق Iوالتميز عن اآلخرين،بين ما يمكن ماهو مأمور لك وتابع
إلرادتك،وبين ما لم تقرره من حياتك ،وال تستطيع حكمه أو التحكم به،وإنما هو موروث Iفيك"(
)4
إنهما يحاوالن البحث عن حلمين يلتقيان معا في هذا المكان الضيق،وعلى هذه الوسادة التي تجمع
بينهما،ولكن الحلمين ال يلتقيان،بل يمران مرورا Iسريعا في تقاطع عابر،ثم يهربان،ألن أحدهما
يعتمد القوة،ويستل سكينا،واآلخر وادع يغني على الناي،وكالهما اليفهم اآلخر:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-1محمود Iدرويش،ديون آخر الليل33،
-2محمود Iدرويش،ديوان أحد عشر كوكبا،ط دار الجديد بيروت،ط،1993،3،ص.79
-3المرجع السابق ،ص.76
-4قطوس،بسام،عالئق الحضور Iوالغياب في شتاء ريتا الطويل،ص.213
7
وعن حلمين فوق وسادة يتقاطعان ويهربان،فواحدI
يستل سكينا،وآخر Iيودع الناي الوصايا()1
وإذا كان الحلم يتقاطع بينهما ويهرب ،فإن االنصهار بين األنا واآلخر محكوم عليها بالفشل،ألنه
ال يمكن أن يلتقي األنا المعتدى عليه مع اآلخر المعتدي.
فالحوار Iالقائم بين الطرفين حوار عبثي،ال يمكن أن يؤدي إلى تفاعل حضاري،إذ ال يمكن أن
يلتقي القتيل مع القاتل،على قاسم مشترك Iيوحد بينهما،ودرويش يحاول من خالل هذا الحوار
الهادئ أن يجرب إمكانية التوصل إلى لقاء حضاري Iمشترك،وهو Iيريد لهذا الحوار أن يأتي بشئ
جديد،ولهذا يجعل اآلخر قتا حستاء ويلقي عليها ألوانا من الجمال الحسي،دون المعنوي،ولكن
نتيجة الحوار تأتي من اآلخر،الذي ال يستطيع أن يواصل الحوار مع األنا،والنتيجة الحتمية لهذا
الكوار،هي انصراف كل طرف Iإلى المجهول
وضعت مسدسها Iالصغير على مسود ة القصيدة
ورمت جواربها Iعلى الكرسي،فانكسر الهديل
ومضت إلى المجهول حافية،وأدركني الرحيل()2
وهنا يأتي الرحيل الحتمي لحوار عبثي على أرض الواقع،بين األنا واآلخر،ويأتي Iالتأكيد مرة
أخرى في صيغة مشتركة تتوحد فيها األنا مع اآلخر،ويتحول فيها الكالم من المفرد إلى
الجمع"عبثا نغني-فلنرحل":
ال أرض للجسدين في جسد،وال منفى لمنفى
في هذه الغرف الصغيرة،والخروج Iهو الدخول
عبثا نغني بين هاويتين،فلنرحل،ليتضح السبيل()3
-1المرجع السابق،ص.79
-2المرجع السابق،ص.87
-3المرجع السابق،ص.86
8
الهاوية التي تدركها ريتا جيدا ويدركها الشاعر هي التي ظلت راسخة في مخيلة محمود Iدرويش
حتى أخريات حياته،والتي تمثل فيها صورة اللقاء األخير بينه وبين اآلخر،إنها الحفرة االفتراضية
التي تمثلها محمود درويش Iفي سقوطه مع اآلخر،ليشترك Iاالثنان في إيجاد حل للخروج من هذا
المأزق أو هذه الهاوية ،واألمر يتعلق بحدث افتراضي Iوسقوط من مكان بعيد عن األرض
المتنازع عليها.
فالحفرة التي نجمع األنا مع اآلخر في مصادفة قدرية تحتم عليهما التفكير في مخرج افتراضيI
أيضا والسناريوهات معدة وجاهزة في مخيلة كل واحد منهما.
السيناريو Iاألول:
في السيناريو Iاألول تالحظ أن محمود درويش يستخدم Iكلمة العدو،وهو Iاليستخدمها Iكثيرا ولكنه
يقرر هنا أن اآلخر هو العدو،والحل اليكون إال مع األعداء،ويلعب القدر دورا كبيرا في تفكير
محمود درويش والحلول المقترحة،فالسقوط Iال يكون على األرض،وإنما في حفرة وهذه قدرية
ثانية.
والسيناريو األول والمحتمل،هو لعبة الحظ،وحتى عندما يلعب الحظ دوره،ويأتي حبل
النجاة،يتجدد الصراع Iبين األنا واآلخر :
فيقول:أنا أوال
وأقول I:أنا أوال
ويشتمني Iثم أشتمه
فهذا الحبل االفتراضي الذي ينزل على األنا واآلخر،ال يلغي-حتى في اللحظات الحرجة
والصعبة-حدة الصراع بينهما،فكل واحد يريد لذاته ما اليريده لغيره.
ثم يكرر محمود درويش Iعبارة(أنا وهو) فاألنا يبقى هو األنا واآلخر Iيبقى هو اآلخر ،وكالهما
مشترك Iفي لعبة الحظ المفروضة عليهما،وكل واحد ينتظر الخالص لنفسه،والخروج اليعني
إنهاء الصراع،وإنما Iإعادته من جديد،فهو Iصراع حتمي الينتهي أو يتوقف،وكالهما Iيريد أن يكمل
حلقة الصراع القائم بينهما ،والنجاة ألحدهما أو كليهما التعنى وقف الصراع،فهما Iيريدان أن
9
يعودا إلى ما تبقى لهما من حياة وحرب
إلى ما تبقى لنا من حياة
وحرب
إذا ما استطعنا النجاة
فالنجاة االفتراضية بعد السقوط في الهاوية،التوصل Iإلى السالم المنشود،وإنما Iإلى دورة جديدة
من العداء والحرب.
ثم يعود درويش Iإلى التعبير ذاته(أنا وهو)ثم يعود إلى كلمة عدو من جديد(فنحن عدوان ال
يتبادالن أي حديث) فكل منهما خائف على نفسه،وعلى مصيره ،ومع ذلك ال يصارح اآلخر وال
يكشف عما في نفسه،إنها لغة األعداء،أو حوار الخائفين.
ثم يأتي السيناريو الثاني،أفعى Iتطل برأسها تريد أن تبتلع الخائفين(األنا واآلخر)(أنا وهو)،وهنا
يأتي التوحد أمام المصير Iالمشترك،سنكون شريكين في قتل أفعى طلبا للنجاة،وقد تكون النجاة معا
أو لكل طرف Iعلى حدة.
وقد يكون المقصود Iباألفعى العدو الخارجي الذي يتربص باالثنين معا،وعلى كل واحد منهما
أن يتعاون مع اآلخر لمواجهته والتغلب عليه وقتله،وهنا تبدو الشراكة واضحة بينهما"سنكون
شريكين في قتل أفعى".
وأيا ما كان األمر،فإن عبارات التهنئة والشكر لن تكون،ألن كل واحد منهما كان يتمنى الهالك
لآلخر،فقتل األفعي Iليس بارادتهما أو عن وعي منهما،وإنما كان بدافع الغريزة المطلقة في الدفاع
عن النفس،والغريزة ليس لها إطار سياسي Iأو فكري،وإنما هي عمل الشعوري محض.
فالحوار Iبين الطرفين Iعبث مشترك،ألنه ال يعتمد المنطق،وال أساس للعدل فيه،وإنما هو عبث
القوة وضعف الحق،واختالل موازين الحكم،فمنطق اآلخر يقوم على أساس سياسة األمر
الواقع(مالي هو لي وما لك مشترك بيني وبينك)
ويستخدم Iمحمود درويش كلمة( صار) كل ما صار لي هو لي،والصيرورة هنا ال تعتمد حقا،وإنما
تعتمد أمرا واقعا Iبحكم ما هو قائم،ومفروض بالقوة.
ثم يتسارع Iالوقت بينهما وهما في هذه الحفرة،والشاعر يجعل الوقت رمال،والرمل يتحرك
بسرعة،وكذلك Iرغوة الصابون التي تتالشى بسرعة،فالوقت سريع،وعليهما Iالتفكير بسرعة
الرمال المتحركة أو رغوة الصابون للتخلص من هذا المأزق االفتراضي Iالصعب،ويبدأ اآلخر
بكسر الصمت،ما العمل؟
10
ويأتي الجواب :نستنزف االحتماالت،وكأن حل الصراع بين األنا واآلخر،يعتمد Iفقط احتماالت
أو مفاجآت تخبئها األيام،وال يكون الحل من الطرفين المتصارعين والمحبطين،والحل من السماء
من القدر الذي ينتظره االثنان،ومعنى Iذلك أن االثنين ال يملكان مفتاح الحل،مع أن أمر الخروج
من الحفرة كان ممكنا لوال عبثية اآلخر الذي يفكر بأنانية مطلقة حتى وهو في هذه الحالة
الصعبة،ما صار لي هو لي،ومالك لي ولك،إنه منطق Iغريب،منطق من يريد ان يمتلك
اآلخر،ويقاسمه حتى فيما هو له،أو يعتقد األنا أنه له.
ثم يأتي االعتراف األسوأ من اآلخر،والشهادة القاتلة:
ألم تنس أني دفنتك في حفرة مثل هذي؟
ويأتي رد األنا واضحا Iصريحا كدت أنسى مع صعوبة الواقع الذي أعيشه،ولكن الماضي يشدنيI
إليه ،ويرفض أن يتركني كما أرفض أن أتركه.
ثم يتمالك اآلخر نفسه ويريد لألنا أن يفاوضه،وهو متعب في الحفرة،وفي حالة ضعف
وانكسار،ويكون الجواب في صورة استفهام إنكاري Iعلى أي شئ تفاوضني اآلن في هذه الحفرة
القبر،ووصف Iالحفر بالقبر إشارة واضحة إلى حالة الضعف والموات التي وصل إليها الفلسطيني
في ظل االحتالل والقمع،فمع االحتالل يتالشى األمل ويفقد اإلنسان إنسانيته،ويصبح ميتا في
حياته،والتفاوض في هذا القبر(االحتالل)ال يمكن أن يوصل اإلنسان إلى الحياة التي يريدها،أو
يتمناها،وصاحب Iالقبر يريد التفاوض على حصص وليس على حقوق"على حصتي وعلى
حصتك".
ثم تكون النتيجة الحتمية لهذا الحوار Iالمفترض بين القتيل والقاتل اللذين ينامان في حفرة
واحدة،كالهما يعاني وكالهما Iيريد أن يخرج من الحفرة،لكن الوقت غير مناسب،وكالهما غير
مستعد للخروج"هرب الوقت".والوقت Iليس مناسبا للخروج،والمرحلة ليست للحل أو
الحوار،والسيناريو Iما زال مفتوحا للبحث عن شاعر أخر يواصل لعبة االحتماالت التي ال تنتهي
من وجهة نظر الشاعر،ألنها مجرد افتراضات وحلول تداعب خيال الشعراء وال ترتقي إلى
مستوى أصحاب القرار:
وعلى شاعر آخر ،يتابع هذا السناريوI
إلى آخره.
11
ومحمود Iدرويش يعبر عن موقف Iأدبي في حواره مع اآلخر،مع أنه يكتم غيظه وألمه،ويحاولI
بحسه األدبيأن يرتقي إلى مستوى حوار حضاري،وإذا كان الحوار غير ممكن على أرض
الواقع،فهو Iيفترض حوارا قدريا يجمع بينه وبيت اآلخر،وهو بذلك يحاول أن يرتقي بحسه األدبي
والفكري والخيالي إلى ما نفكر به نحن اليوم،وهو Iحوار الحضارات،أو أن نجعل األدب منصة
للتفاعل الحضاري،ولكن النتيجة التي توصل إليها درويش هي عبثية هذا الحوار،بخاصة عندما
ال يكون اآلخر مؤهال لذلك.
فمحمود Iدرويش حاول أن يجعل من أدبه منصة للتفاعل الحضاري،وأراد Iأن يوصل لنا فكرة
مفادها أن هذا التفاعل ال يصلح إال مع وجود Iتكافؤ بين األطراف Iوإعطاء الحقوق ،فمهما كان
األديب ناضجا ،فإنه ال يستطيع توظيف أدبه لخدمة التفاعل الحضاري Iإال في حدود ما هو معقول
وممكن.
12