You are on page 1of 12

‫جدلية العالقة بين األنا واآلخر‬

‫في سيناريو جاهز لمحمود درويش‬


‫أ‪.‬د‪.‬خليل عوده‬
‫جامعة النجاح‬

‫الحديث عن اآلخر يعني اكتشاف الذات‪،‬وعالقة هذه الذات مع اآلخر سياسيا واجتماعيا وحضاريا‬
‫وثقافيا‪ ،‬و هذه العالقة قائمة على أساس أن الذات هي المكون األساسي في حركة الفكر و الثقافة‬
‫بشكل عام‪،‬وهي األصل ‪,‬وهي الصواب ‪,‬واألخر هو مجرد ظل لهذه الذات ‪ ,‬وهو فرع عنها ‪,‬‬
‫وهو الخطأ لكل تصوراتها‪, I‬وتظل العالقة بين األنا و اآلخرة عالقة جديلة افتراضية ‪ ,‬فقد تكون‬
‫األنا على حساب األخر ‪,‬أو إلغاء األخر لصالح األنا ‪,‬وهذه العالقة قائمة على ثنائية‬
‫األشياء ‪,‬وعالقة التضاد القائمة بينهما ‪ ,‬واستحالة الدمج بين هذه الثنائيات ‪ ,‬مثل الحياة و الموت ‪,‬‬
‫والخير والشر ‪ ,‬و الصواب والخطأ ‪,‬والذكورة واألنوثة ‪ ,‬إلى غير ذلك من العالقات الثنائية‬
‫والضدية التي تحكم منطق األشياء‪ .‬و الصراع بين األنا و األخر ‪ ,‬صراع طويل يرتد إلى‬
‫البدايات األولى لوجود‪ I‬اإلنسان على هذه البسيطة ‪ ,‬ويدخل في اخص العالقات اإلنسانية ‪،‬كما‬
‫تبدى ذلك واضحا في الصراع بين األخوين قابيل وهابيل ‪ ,‬وقد تقترب هذه الغيرية أو تبتعد بين‬
‫األطراف ‪ ,‬ولكنها ال تلغى بل تبقى قائمة ‪,‬الن العالقات اإلنسانية بطبيعتها‪ I‬قائمة على أساس‬
‫التغاير ال التمازج ‪ ,‬وفقا للمصالح الذاتية و االعتبارات الخاصة التي قد تقترب أو تبتعد من‬
‫مصالح اآلخرين واعتباراتهم الخاصة ‪ ,‬وقد عبر الشاعر األلماني "غوتة"عن ذلك وهو يتحدث‬
‫عن ذاتية اللغة األلمانية بالنسبة له ‪ ,‬وغيرية اللغات األخرى ‪ ,‬يقول ‪:‬أنا أحب األلمانية وال يمكن‬
‫بأي حال من األحوال أن أحب الفرنسية ‪ ,‬ولكني أفهم حقيقة أن الفرنسي يحب الفرنسية ويعيشها ‪,‬‬
‫وال يمكن أن يحب األلمانية كما يحب لغته القومية ‪.‬‬

‫وعادة ما ينظر األنا إلى نفسه على أنه األكمل و األصوب و األفضل‪ ،‬و األخر هو الناقص و‬
‫الخاطئ و األسوأ ‪ ,‬وهذه النظرية العدائية أو الضدية بين األنا و األخر هي مصدر‪ I‬تعدد األنا و‬
‫الآخر في مجاالت السياسة و الفكر و الفلسفة و األدب ‪ ...‬إلى غير ذلك من مجاالت الحياة‬
‫والمعرفة ‪.‬‬

‫و السؤال الذي يمكن أن يطرح‪ ،‬من هو األنا ومن هو األخر ؟ و اإلجابة عن هذا السؤال قد تبدو‬
‫سهلة في جانبها المنطقي ‪ ,‬أو النظري ‪ ,‬ألن (األنا ) تعني ذات المسيطر على الوضع القائم ‪,‬‬
‫والذي يرى نفسه صاحب الحق في القيادة والسياسة وتمثيل‪ I‬األمة والسيطرة عليها ‪,‬وماعدا ذلك‬
‫فهو األخر المرفوض ‪ ,‬ألنه ال ينسجم مع األنا المسيطرة ‪.‬‬
‫أما في الجانب الواقعي‪ I‬فتبدو اإلجابة صعبة ‪,‬الن األنا و األخر جزء من تشكيلة اجتماعية و دينية‬
‫و ثقافية واحدة وال يمكن الفصل بينهما إال على مستوى الخالف القائم على أساس نظريات‬
‫ومصالح‪ ،‬تجعل من صاحب النظرية أو المصلحة ندا لألخر أو خصما له ‪.‬‬

‫وبقدر ما يبدو الصراع حادا بين األنا و األخر على مستوى الفعل وردات الفعل ‪,‬فأن ذلك ينعكس‬
‫بشكل أو بأخر على األدب بأنواعه المختلفة وهذا مدخل للموضوع‪ I‬الذي نريد أن نتحدث عنه ‪ ,‬و‬
‫هو العالقة بين األنا و األخر في قصيدة محمود درويش‪ I‬بعنوان سيناريو جاهز ‪,‬وقبل الحديث عن‬
‫جدلية العالقة نذكر القصيدة أوال ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫سيناريو جاهز‬
‫محمود درويش‬

‫لنفترض اآلن َأ َّنا سقطنا ‪،‬‬


‫ِ‬
‫َأنا َ‬
‫والعد ُُّو ‪،‬‬
‫الجو‬
‫سقطنا من ِّ‬
‫في ُح ْفرة ٍ ‪...‬‬
‫ُ‬
‫سيحدث ؟ ‪/‬‬ ‫فماذا‬

‫سيناريو جاه ٌز ‪:‬‬


‫في البداية ننتظ ُر الح َّظ ‪...‬‬
‫قد يع ُث ُر المنقذونَ علينا هنا‬
‫ويمدّونَ َح ْبل َ النجاة لنا‬
‫فيقول ‪َ :‬أنا َأ َّوالً‬
‫وَأقول ‪َ :‬أنا َأ َّوالً‬
‫ش ُتمني ثم َأشت ُم ُه‬
‫َوي ْ‬
‫دون جدوى ‪،‬‬
‫الح ْبل ُ بعد ‪/ ...‬‬
‫فلم يصل َ‬

‫يقول السيناريو ‪:‬‬


‫السر ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫سأهمس في‬
‫س َّمي َأنان َّي َة المتفائل ِ‬
‫تلك ُت َ‬
‫دون التساؤل ع َّما يقول َعد ُِّوي‬

‫َأنا َوه َُو ‪،‬‬


‫شريكان في َ‬
‫ش َرك ٍ واحد ٍ‬
‫وشريكان في لعبة االحتماالت ِ‬
‫ننتظر الحبل َ ‪َ ...‬ح ْبل َ النجاة‬
‫لنمضي على حِدَ ة ٍ‬

‫‪2‬‬
‫وعلى حافة الحفرة ِ ‪ -‬الهاوية ْ‬
‫إلي ما تب َّقى لنا من حياة ٍ‬
‫وحرب ٍ ‪...‬‬
‫إذا ما استطعنا النجاة !‬

‫َأنا َوه َُو ‪،‬‬


‫خائفان معا ً‬
‫وال نتبادل َأ َّ‬
‫ي حديث ٍ‬
‫عن الخوف ‪َ ...‬أو ِ‬
‫غير ِه‬
‫ان ‪/ ...‬‬
‫فنحن َعد َُّو ِ‬

‫ماذا سيحدث لو َأنَّ َأفعى‬


‫أطلَّ ْت علينا هنا‬
‫من مشاهد هذا السيناريو‬
‫و َف َّح ْت لتبتلع الخاِئ َف ْين ِ معا ً‬
‫َأنا َوه َُو ؟‬

‫يقول السيناريو ‪:‬‬


‫َأنا َوه َُو‬
‫سنكون شريكين في قتل َأفعى‬
‫لننجو معا ً‬
‫َأو على ِح َدة ٍ ‪...‬‬

‫كـر ٍ وتهنئة ٍ‬
‫ش ْ‬‫ولكننا لن نقول عبارة ُ‬
‫على ما فعلنا معا ً‬
‫ألنَّ الغريز َة ‪ ،‬ال نحن ‪،‬‬
‫كانت تدافع عن نفسها َو ْحدَ ها‬
‫والغريزة ُ ليست لها َأيديولوجيا ‪...‬‬

‫‪3‬‬
‫نتحاور ‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ولم‬
‫ت ِف ْق َه الحوارات‬
‫تذ َّك ْر ُ‬
‫ش َت َر ْك‬
‫في ال َع َبث ِ المـ ُ ْ‬
‫عندما قال لي سابقا ً ‪:‬‬
‫ُكل ُّ ما صار لي هو لي‬
‫وما هو لك ْ‬
‫هو لي‬
‫ولك ْ !‬

‫ُ‬
‫والوقت َر ْمل ٌ ورغوة ُ صابونة ٍ‬ ‫ومع الوقت ِ ‪،‬‬
‫َ‬
‫الصمت ما بيننا والمللْ‬ ‫كسر‬
‫قال لي ‪ :‬ما العملْ؟‬
‫قلت ‪ :‬ال شيء ‪ ...‬نستنزف االحتماالت‬
‫قال ‪ :‬من َأين يأتي األملْ ؟‬
‫الجو‬
‫قلت ‪ :‬يأتي من ّ‬
‫س َأني َد َف ْن ُت َك في حفرة ٍ‬
‫قال ‪َ :‬ألم َت ْن َ‬
‫مثل هذى ؟‬
‫ت َأنسى ألنَّ غداً ُخـلَّبـا ً‬
‫فقلت له ‪ :‬كِدْ ُ‬
‫ش َّدني من يدي ‪ ...‬ومضى متعبا ً‬
‫قال لي ‪ :‬هل ُت َفاوضني اآلن ؟‬
‫ي شيء تفاوضني اآلن‬ ‫قلت ‪ :‬على َأ ّ‬
‫في هذه الحفر ِة القبر ِ ؟‬
‫حصتك‬
‫صتي وعلى ّ‬
‫قال ‪ :‬على ح َّ‬
‫ْ‬
‫المشترك‬ ‫س َدانا ومن قبرنا‬
‫من ُ‬
‫قلت ‪ :‬ما الفائدة ْ ؟‬
‫الوقت م ّنا‬
‫ُ‬ ‫هرب‬
‫وش َّذ المصي ُر عن القاعدة ْ‬
‫ههنا قاتل ٌ وقتيل ينامان في حفرة واحدة ْ‬

‫‪4‬‬
‫‪ ..‬وعلي شاعر آخر أن يتابع هذا السيناريو‬
‫إلى آخره ْ !‬

‫الفكرة التي تلح على خيال محمود درويش‪ I‬الشاعر هي كيف يحول الصراع مع اآلخر من صراع‬
‫غير إنساني إلى صراع‪ I‬إنساني ‪ ،‬أو من صراع يعتمد القوة إلى صراع يعتمد المنطق ‪ ,‬وهو‬
‫بذلك يركز‪ I‬على دور‪ I‬المثقف الفلسطيني في إدارة الصراع الذي يريده محمود‪ I‬درويش صراعا‬
‫ثقافيا أخالقيا بمعزل عن الصراع الحقيقي الحاصل على أرض الواقع ‪ .‬و محمود‪ I‬درويش يؤسس‬
‫لمرحلة الحوار هذه منذ بدايات شعره ‪ ,‬كما في قصيدة "جندي يحلم بالزنابق البيضاء " المنشورة‬
‫في ديوانه أخر الليل عام ‪ , 1967‬وفيها يبدو محمود‪ I‬درويش واضحا في محاورة اآلخر ومحاولة‬
‫فهم حقيقته‪ ،‬وهو بذلك ينتقل من مرحلة الصراع مع اآلخر‪ ،‬إلى مرحلة الحوار معه ‪,‬و تأخذ‬
‫القصيدة صفة الحوار المعتمد على السؤال و الجواب ‪:‬‬

‫سألته‪ :‬و األرض‬


‫قال ال أعرفها‬
‫و ال أحس أنها جلدي ونبضي‬
‫‪....‬‬
‫سألته ‪:‬تحبها‬
‫أجاب‪:‬حبي نزهة قصيرة (‪)1‬‬
‫وتتوالى أسئلة محمود‪ I‬درويش للجندي‪:‬‬

‫وكيف كان حبها؟‬


‫وما رأيت؟‬
‫وكم قتلت‬
‫سألته معذبا نفسي‪،‬إذن‬
‫صف لي قتيال واحدا‬
‫سألته حزنت؟‬
‫سألته‪،‬أنلتقي؟‬
‫قلت مازحا‪ :‬ترحل‪،‬والوطن؟(‪)2‬‬

‫ثم تأتي إجابات اآلخر في صورة اعترافات مكشوفة واستسالم واضح‪:‬‬

‫‪ -1‬محمود‪ I‬درويش‪،‬ديوان آخر الليل‪،‬ط دار العودة‪-‬بيروت‪،‬ص‪37‬‬


‫‪ -2‬المرجع السابق‪،‬ص ‪40،38‬‬

‫‪5‬‬
‫أجاب دعني‬
‫إنني أحلم بالزنابق البيضاء‬
‫بشارع‪ I‬مغر ومنزل مضاء‬
‫أريد قلبا طيبا‪،‬ال حشو بندقية‬
‫أريد يوما مشمسا ال لحظة انتصار‬
‫مجنونة فاشية‬
‫أريد طفال باسما يضحك للنهار‬
‫ال قطعة في اآللة الحربية(‪)1‬‬
‫‪............‬‬

‫ودعني ألنه يبحث عن زنابق بيضاء(‪)2‬‬

‫والوداع هنا نهاية مرحلة حوار عقيم بين األنا واآلخر‪،‬األنا‪ I‬الضعيف واآلخر القوي‪،‬ودرويش‬
‫يفترض في مرحلة الحوار هذه أنه يمكن أن يجرد اآلخر من عناصر القوة التي يتمسك‬
‫بها‪،‬ويحوله من خالل الحوار إلى طرف ضعيف‪،‬ويجعل الحوار لصالحه‪،‬أي لصالح الحق الذي‬
‫يتمسك به‪،‬ويحول ضعفه إلى قوة مستمدة من حقه في األرض التي يمتلكها‪.‬‬
‫وقد يعكس الحوار في القصيدة شيئا من الواقع الذي أصاب عالقة درويش باليهود‪ I‬بعد ‪،67‬فهو‬
‫يعترف أنه كتب هذه القصيدة عن أحد أفضل أصدقائه من اليهود‪،‬وقد جاءه بعد حرب ‪ 67‬ليقول‬
‫له‪،‬أنه قرر أن يترك البالد نهائيا ويرحل(‪. )3‬‬
‫ومحمود‪ I‬درويش ينظر إلى اآلخر على أنه إنسان فيه الصواب وفيه الخطأ‪،‬وفيه الخير وفيه‬
‫الشر‪،‬وقد عبر عن رأيه هذا بشكل واضح‪،‬يقول في حوار معه‪":‬اليهود بينهم السئ وبينهم‬
‫الجيد‪،‬وهم ليسو مالئكة كما يريدون‪ I‬أن يقولوا عن أنفسهم‪،‬وليسو شياطين‪،‬وهذا ما يشير إلى أنهم‬
‫شعب طبيعي"(‪. )4‬‬
‫وإذا كان درويش‪ I‬يرى اآلخر شعبا طبيعيا‪ I‬له ماله وعليه ما عليه فال بأس أن يلتقيه من خالل‬
‫عالقة إنسانية طبيعية‪،‬وهذا ما حدث في لقائه مع ريتا التي قد تكون شخصية حقيقية أو‬
‫متخيلة‪،‬ولكنها في كل األحوال تبقى اآلخر الذي يريد أن يمتلكه الشاعر لنفسه‪،‬ولكن ال يستطيع‪I‬‬
‫الوصول إليه ألنه ال يستطيع أن يلغي ما بين األنا واآلخر من ثنائية قائمة على العداء المتأصل‬
‫بينهما‪،‬فبين ريتا والشاعر بندقية‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪-1‬المرجع السابق‪42،‬‬
‫‪-2‬المرجع السابق‪43‬‬
‫‪ -3‬انظر مجلة مشارف‪،‬العدد‪،3‬تموز‪،1995‬ص‪76‬‬
‫‪ -4‬مجلة الكرمل‪،‬العدد ‪،1997،52‬ص ‪221‬‬

‫‪6‬‬
‫بين ريتا وعيوني بندقية(‪)1‬‬
‫وبين الشاعر وريتا وردة حمراء تقف في الممر‪،‬كما قال في قصيدة شتاء ريتا الطويل‬
‫نامت موجة القمح النبيل على تنفسها البطئ‬
‫وردة حمراء نامت في الممر‬
‫ونام ليل ال يطول‬
‫والبحر نام أمام نافذتي‪ I‬على إيقاع ريتا(‪)2‬‬
‫وفي هذه المرحلة التي يتصدى لها محمود‪ I‬درويش يريد اآلخر( اليهودي) أن ينصهر مع األنا‬
‫الفلسطيني‪،‬تقول ريتا‪:‬‬
‫هل لبست سواي؟ هل سكنتك امرأة‬
‫لتجهش كلما التفت على جدعي فروعك‬
‫حك لي قدمي‪،‬وحك دمي لتعرف ما‬
‫تخلفه العواصف والسيول‪I‬‬
‫مني ومنك(‪)3‬‬
‫وهنا يحاول اآلخر تجاوز‪ I‬مرحلة الحوار إلى مرحلة االنصهار مع األنا‪،‬وإلغاء كل الحواجز التي‬
‫تفص بينهما‪،‬إنها‪ I‬مرحلة االنصهار بالدم"إنها تريد للدم الفلسطيني‪ I‬أن يختلط بالدم اليهودي‪،‬لترى‬
‫ماذا يمكن أن ينتج عن هذا التفاعل ذي العناصر المتضادة‪،‬فهل يمكن لهذا التفاعل أن ينجب جيال‬
‫مدجنا يخضع لمتطلبات االستسالم؟‪ I‬أن عناصر المفارقة في هذا المقطع واضحة أشد ما يكون‬
‫الوضوح بين القدم الذي يمثل أهبط شئ في اإلنسان‪،‬والدم‪ I‬الذي يمثل أغلى شئ في اإلنسان‪،‬وهو‬
‫عنصر من عناصر االفتراق‪ I‬والتميز عن اآلخرين‪،‬بين ما يمكن ماهو مأمور لك وتابع‬
‫إلرادتك‪،‬وبين ما لم تقرره من حياتك‪ ،‬وال تستطيع حكمه أو التحكم به‪،‬وإنما هو موروث‪ I‬فيك"(‬
‫‪)4‬‬
‫إنهما يحاوالن البحث عن حلمين يلتقيان معا في هذا المكان الضيق‪،‬وعلى هذه الوسادة التي تجمع‬
‫بينهما‪،‬ولكن الحلمين ال يلتقيان‪،‬بل يمران مرورا‪ I‬سريعا في تقاطع عابر‪،‬ثم يهربان‪،‬ألن أحدهما‬
‫يعتمد القوة‪،‬ويستل سكينا‪،‬واآلخر وادع يغني على الناي‪،‬وكالهما اليفهم اآلخر‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ -1‬محمود‪ I‬درويش‪،‬ديون آخر الليل‪33،‬‬
‫‪ -2‬محمود‪ I‬درويش‪،‬ديوان أحد عشر كوكبا‪،‬ط دار الجديد بيروت‪،‬ط‪،1993،3،‬ص‪.79‬‬
‫‪-3‬المرجع السابق ‪،‬ص‪.76‬‬
‫‪ -4‬قطوس‪،‬بسام‪،‬عالئق الحضور‪ I‬والغياب في شتاء ريتا الطويل‪،‬ص‪.213‬‬

‫‪7‬‬
‫وعن حلمين فوق وسادة يتقاطعان ويهربان‪،‬فواحد‪I‬‬
‫يستل سكينا‪،‬وآخر‪ I‬يودع الناي الوصايا(‪)1‬‬

‫وإذا كان الحلم يتقاطع بينهما ويهرب‪ ،‬فإن االنصهار بين األنا واآلخر محكوم عليها بالفشل‪،‬ألنه‬
‫ال يمكن أن يلتقي األنا المعتدى عليه مع اآلخر المعتدي‪.‬‬
‫فالحوار‪ I‬القائم بين الطرفين حوار عبثي‪،‬ال يمكن أن يؤدي إلى تفاعل حضاري‪،‬إذ ال يمكن أن‬
‫يلتقي القتيل مع القاتل‪،‬على قاسم مشترك‪ I‬يوحد بينهما‪،‬ودرويش يحاول من خالل هذا الحوار‬
‫الهادئ أن يجرب إمكانية التوصل إلى لقاء حضاري‪ I‬مشترك‪،‬وهو‪ I‬يريد لهذا الحوار أن يأتي بشئ‬
‫جديد‪،‬ولهذا يجعل اآلخر قتا حستاء ويلقي عليها ألوانا من الجمال الحسي‪،‬دون المعنوي‪،‬ولكن‬
‫نتيجة الحوار تأتي من اآلخر‪،‬الذي ال يستطيع أن يواصل الحوار مع األنا‪،‬والنتيجة الحتمية لهذا‬
‫الكوار‪،‬هي انصراف كل طرف‪ I‬إلى المجهول‬
‫وضعت مسدسها‪ I‬الصغير على مسود ة القصيدة‬
‫ورمت جواربها‪ I‬على الكرسي‪،‬فانكسر الهديل‬
‫ومضت إلى المجهول حافية‪،‬وأدركني الرحيل(‪)2‬‬

‫وهنا يأتي الرحيل الحتمي لحوار عبثي على أرض الواقع‪،‬بين األنا واآلخر‪،‬ويأتي‪ I‬التأكيد مرة‬
‫أخرى في صيغة مشتركة تتوحد فيها األنا مع اآلخر‪،‬ويتحول فيها الكالم من المفرد إلى‬
‫الجمع"عبثا نغني‪-‬فلنرحل"‪:‬‬
‫ال أرض للجسدين في جسد‪،‬وال منفى لمنفى‬
‫في هذه الغرف الصغيرة‪،‬والخروج‪ I‬هو الدخول‬
‫عبثا نغني بين هاويتين‪،‬فلنرحل‪،‬ليتضح السبيل(‪)3‬‬

‫‪ -1‬المرجع السابق‪،‬ص‪.79‬‬
‫‪ -2‬المرجع السابق‪،‬ص‪.87‬‬
‫‪ -3‬المرجع السابق‪،‬ص‪.86‬‬

‫‪8‬‬
‫الهاوية التي تدركها ريتا جيدا ويدركها الشاعر هي التي ظلت راسخة في مخيلة محمود‪ I‬درويش‬
‫حتى أخريات حياته‪،‬والتي تمثل فيها صورة اللقاء األخير بينه وبين اآلخر‪،‬إنها الحفرة االفتراضية‬
‫التي تمثلها محمود درويش‪ I‬في سقوطه مع اآلخر‪،‬ليشترك‪ I‬االثنان في إيجاد حل للخروج من هذا‬
‫المأزق أو هذه الهاوية ‪،‬واألمر يتعلق بحدث افتراضي‪ I‬وسقوط من مكان بعيد عن األرض‬
‫المتنازع عليها‪.‬‬
‫فالحفرة التي نجمع األنا مع اآلخر في مصادفة قدرية تحتم عليهما التفكير في مخرج افتراضي‪I‬‬
‫أيضا والسناريوهات معدة وجاهزة في مخيلة كل واحد منهما‪.‬‬
‫السيناريو‪ I‬األول‪:‬‬
‫في السيناريو‪ I‬األول تالحظ أن محمود درويش يستخدم‪ I‬كلمة العدو‪،‬وهو‪ I‬اليستخدمها‪ I‬كثيرا ولكنه‬
‫يقرر هنا أن اآلخر هو العدو‪،‬والحل اليكون إال مع األعداء‪،‬ويلعب القدر دورا كبيرا في تفكير‬
‫محمود درويش والحلول المقترحة‪،‬فالسقوط‪ I‬ال يكون على األرض‪،‬وإنما في حفرة وهذه قدرية‬
‫ثانية‪.‬‬

‫والسيناريو األول والمحتمل‪،‬هو لعبة الحظ‪،‬وحتى عندما يلعب الحظ دوره‪،‬ويأتي حبل‬
‫النجاة‪،‬يتجدد الصراع‪ I‬بين األنا واآلخر ‪:‬‬
‫فيقول‪:‬أنا أوال‬
‫وأقول‪ I:‬أنا أوال‬
‫ويشتمني‪ I‬ثم أشتمه‬

‫فهذا الحبل االفتراضي الذي ينزل على األنا واآلخر‪،‬ال يلغي‪-‬حتى في اللحظات الحرجة‬
‫والصعبة‪-‬حدة الصراع بينهما‪،‬فكل واحد يريد لذاته ما اليريده لغيره‪.‬‬
‫ثم يكرر محمود درويش‪ I‬عبارة(أنا وهو) فاألنا يبقى هو األنا واآلخر‪ I‬يبقى هو اآلخر‪ ،‬وكالهما‬
‫مشترك‪ I‬في لعبة الحظ المفروضة عليهما‪،‬وكل واحد ينتظر الخالص لنفسه‪،‬والخروج اليعني‬
‫إنهاء الصراع‪،‬وإنما‪ I‬إعادته من جديد‪،‬فهو‪ I‬صراع حتمي الينتهي أو يتوقف‪،‬وكالهما‪ I‬يريد أن يكمل‬
‫حلقة الصراع القائم بينهما‪ ،‬والنجاة ألحدهما أو كليهما التعنى وقف الصراع‪،‬فهما‪ I‬يريدان أن‬

‫‪9‬‬
‫يعودا إلى ما تبقى لهما من حياة وحرب‬
‫إلى ما تبقى لنا من حياة‬
‫وحرب‬
‫إذا ما استطعنا النجاة‬
‫فالنجاة االفتراضية بعد السقوط في الهاوية‪،‬التوصل‪ I‬إلى السالم المنشود‪،‬وإنما‪ I‬إلى دورة جديدة‬
‫من العداء والحرب‪.‬‬
‫ثم يعود درويش‪ I‬إلى التعبير ذاته(أنا وهو)ثم يعود إلى كلمة عدو من جديد(فنحن عدوان ال‬
‫يتبادالن أي حديث) فكل منهما خائف على نفسه‪،‬وعلى مصيره ‪،‬ومع ذلك ال يصارح اآلخر وال‬
‫يكشف عما في نفسه‪،‬إنها لغة األعداء‪،‬أو حوار الخائفين‪.‬‬
‫ثم يأتي السيناريو الثاني‪،‬أفعى‪ I‬تطل برأسها تريد أن تبتلع الخائفين(األنا واآلخر)(أنا وهو)‪،‬وهنا‬
‫يأتي التوحد أمام المصير‪ I‬المشترك‪،‬سنكون شريكين في قتل أفعى طلبا للنجاة‪،‬وقد تكون النجاة معا‬
‫أو لكل طرف‪ I‬على حدة‪.‬‬
‫وقد يكون المقصود‪ I‬باألفعى العدو الخارجي الذي يتربص باالثنين معا‪،‬وعلى كل واحد منهما‬
‫أن يتعاون مع اآلخر لمواجهته والتغلب عليه وقتله‪،‬وهنا تبدو الشراكة واضحة بينهما"سنكون‬
‫شريكين في قتل أفعى"‪.‬‬

‫وأيا ما كان األمر‪،‬فإن عبارات التهنئة والشكر لن تكون‪،‬ألن كل واحد منهما كان يتمنى الهالك‬
‫لآلخر‪،‬فقتل األفعي‪ I‬ليس بارادتهما أو عن وعي منهما‪،‬وإنما كان بدافع الغريزة المطلقة في الدفاع‬
‫عن النفس‪،‬والغريزة ليس لها إطار سياسي‪ I‬أو فكري‪،‬وإنما هي عمل الشعوري محض‪.‬‬
‫فالحوار‪ I‬بين الطرفين‪ I‬عبث مشترك‪،‬ألنه ال يعتمد المنطق‪،‬وال أساس للعدل فيه‪،‬وإنما هو عبث‬
‫القوة وضعف الحق‪،‬واختالل موازين الحكم‪،‬فمنطق اآلخر يقوم على أساس سياسة األمر‬
‫الواقع(مالي هو لي وما لك مشترك بيني وبينك)‬

‫ويستخدم‪ I‬محمود درويش كلمة( صار) كل ما صار لي هو لي‪،‬والصيرورة هنا ال تعتمد حقا‪،‬وإنما‬
‫تعتمد أمرا واقعا‪ I‬بحكم ما هو قائم‪،‬ومفروض بالقوة‪.‬‬
‫ثم يتسارع‪ I‬الوقت بينهما وهما في هذه الحفرة‪،‬والشاعر يجعل الوقت رمال‪،‬والرمل يتحرك‬
‫بسرعة‪،‬وكذلك‪ I‬رغوة الصابون التي تتالشى بسرعة‪،‬فالوقت سريع‪،‬وعليهما‪ I‬التفكير بسرعة‬
‫الرمال المتحركة أو رغوة الصابون للتخلص من هذا المأزق االفتراضي‪ I‬الصعب‪،‬ويبدأ اآلخر‬
‫بكسر الصمت‪،‬ما العمل؟‬

‫‪10‬‬
‫ويأتي الجواب ‪ :‬نستنزف االحتماالت‪،‬وكأن حل الصراع بين األنا واآلخر‪،‬يعتمد‪ I‬فقط احتماالت‬
‫أو مفاجآت تخبئها األيام‪،‬وال يكون الحل من الطرفين المتصارعين والمحبطين‪،‬والحل من السماء‬
‫من القدر الذي ينتظره االثنان‪،‬ومعنى‪ I‬ذلك أن االثنين ال يملكان مفتاح الحل‪،‬مع أن أمر الخروج‬
‫من الحفرة كان ممكنا لوال عبثية اآلخر الذي يفكر بأنانية مطلقة حتى وهو في هذه الحالة‬
‫الصعبة‪،‬ما صار لي هو لي‪،‬ومالك لي ولك‪،‬إنه منطق‪ I‬غريب‪،‬منطق من يريد ان يمتلك‬
‫اآلخر‪،‬ويقاسمه حتى فيما هو له‪،‬أو يعتقد األنا أنه له‪.‬‬
‫ثم يأتي االعتراف األسوأ من اآلخر‪،‬والشهادة القاتلة‪:‬‬
‫ألم تنس أني دفنتك في حفرة مثل هذي؟‬
‫ويأتي رد األنا واضحا‪ I‬صريحا كدت أنسى مع صعوبة الواقع الذي أعيشه‪،‬ولكن الماضي يشدني‪I‬‬
‫إليه‪ ،‬ويرفض أن يتركني كما أرفض أن أتركه‪.‬‬
‫ثم يتمالك اآلخر نفسه ويريد لألنا أن يفاوضه‪،‬وهو متعب في الحفرة‪،‬وفي حالة ضعف‬
‫وانكسار‪،‬ويكون الجواب في صورة استفهام إنكاري‪ I‬على أي شئ تفاوضني اآلن في هذه الحفرة‬
‫القبر‪،‬ووصف‪ I‬الحفر بالقبر إشارة واضحة إلى حالة الضعف والموات التي وصل إليها الفلسطيني‬
‫في ظل االحتالل والقمع‪،‬فمع االحتالل يتالشى األمل ويفقد اإلنسان إنسانيته‪،‬ويصبح ميتا في‬
‫حياته‪،‬والتفاوض في هذا القبر(االحتالل)ال يمكن أن يوصل اإلنسان إلى الحياة التي يريدها‪،‬أو‬
‫يتمناها‪،‬وصاحب‪ I‬القبر يريد التفاوض على حصص وليس على حقوق"على حصتي وعلى‬
‫حصتك"‪.‬‬

‫ثم تكون النتيجة الحتمية لهذا الحوار‪ I‬المفترض بين القتيل والقاتل اللذين ينامان في حفرة‬
‫واحدة‪،‬كالهما يعاني وكالهما‪ I‬يريد أن يخرج من الحفرة‪،‬لكن الوقت غير مناسب‪،‬وكالهما غير‬
‫مستعد للخروج"هرب الوقت"‪.‬والوقت‪ I‬ليس مناسبا للخروج‪،‬والمرحلة ليست للحل أو‬
‫الحوار‪،‬والسيناريو‪ I‬ما زال مفتوحا للبحث عن شاعر أخر يواصل لعبة االحتماالت التي ال تنتهي‬
‫من وجهة نظر الشاعر‪،‬ألنها مجرد افتراضات وحلول تداعب خيال الشعراء وال ترتقي إلى‬
‫مستوى أصحاب القرار‪:‬‬
‫وعلى شاعر آخر ‪ ،‬يتابع هذا السناريو‪I‬‬
‫إلى آخره‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫ومحمود‪ I‬درويش يعبر عن موقف‪ I‬أدبي في حواره مع اآلخر‪،‬مع أنه يكتم غيظه وألمه‪،‬ويحاول‪I‬‬
‫بحسه األدبيأن يرتقي إلى مستوى حوار حضاري‪،‬وإذا كان الحوار غير ممكن على أرض‬
‫الواقع‪،‬فهو‪ I‬يفترض حوارا قدريا يجمع بينه وبيت اآلخر‪،‬وهو بذلك يحاول أن يرتقي بحسه األدبي‬
‫والفكري والخيالي إلى ما نفكر به نحن اليوم‪،‬وهو‪ I‬حوار الحضارات‪،‬أو أن نجعل األدب منصة‬
‫للتفاعل الحضاري‪،‬ولكن النتيجة التي توصل إليها درويش هي عبثية هذا الحوار‪،‬بخاصة عندما‬
‫ال يكون اآلخر مؤهال لذلك‪.‬‬

‫فمحمود‪ I‬درويش حاول أن يجعل من أدبه منصة للتفاعل الحضاري‪،‬وأراد‪ I‬أن يوصل لنا فكرة‬
‫مفادها أن هذا التفاعل ال يصلح إال مع وجود‪ I‬تكافؤ بين األطراف‪ I‬وإعطاء الحقوق‪ ،‬فمهما كان‬
‫األديب ناضجا‪ ،‬فإنه ال يستطيع توظيف أدبه لخدمة التفاعل الحضاري‪ I‬إال في حدود ما هو معقول‬
‫وممكن‪.‬‬

‫‪12‬‬

You might also like